الفقه موسوعة استدلالية في الفقه الإسلامي من فقه الزهراء (علیها السلام)

هوية الكتاب

الفقه موسوعة استدلالية في الفقه الإسلامي من فقه الزهراء (علیها السلام)

المرجع الديني الراحل آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (أعلى الله درجاته)

الطبعة الأولى - 1439 ه 2018م

تهميش وتعليق: مؤسسة المجتبى للتحقيق والنشر - كربلاء المقدسة

ص: 1

المجلد الأول : حدیث الکساء

اشارة

الطبعة الأولى

1439 ه 2018م

تهميش وتعليق:

مؤسسة المجتبى للتحقيق والنشر

كربلاء المقدسة

ص: 2

الفقه

من فقه الزهراء (علیها السلام)

المجلد الأول

حدیث الکساء

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

ولعنة الله على أعدائهم أجمعين

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الصِّدِيقَةُ الشَّهِيدَةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الرَّضِيَةُ المَرْضِيَّةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الفَاضِلةُ الزَّكِيَةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الحَوْراءُ الإِنْسِيَّةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا التَّقِيَّةُ النَّقِيَّةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا المُحَدَّثَةُ العَليمَةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا المَظْلومَةُ المَغْصُوبَةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا المُضْطَهَدَةُ المَقْهُورَةُ

السَّلامُ عَليْكِ يا فاطِمَةُ بِنْتَ رَسُول اللهِ

وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ

البلد الأمين ص278. مصباح المتهجد ص711

بحار الأنوار ج97 ص195 ب12 ح5 ط بيروت

ص: 4

المقدمة

اشارة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين، سيما المحدّثة العليمة، التقيّة النقيّة، الرضيّة المرضيّة، الصدّيقة الكبرى، فاطمة الزهراء (صلوات الله عليها)، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.

إن سيدة النساء فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) مجهولةٌ قدراً، ومهضومةٌ حقاً، ولعلّ من مصاديق مجهولية قدرها: عدمَ الاستفادة من كلماتها وخطبها في (الفقه) وعدمَ إدراجها ضمن الأدلة أو المؤيدات التي يُعتمد عليها في استنباط الأحكام الشرعية، ولذلك فقد استعنتُ بالباري جل وعلا في الكتابةحول ذلك(1) رجاءَ المثوبة، وأداءً لبعض الواجب، والله الموفِّق.

ص: 5


1- لقد قام الإمام المؤلف (قدس سره) باستخدام أسلوب (فقه الحديث) في تحليل كلماتها (علیها السلام) حيث تناول كل كلمة بالبحث والدراسة وربما في العديد من جوانبها،وقد ورد في الحديث الشريف: «أنتم أفقه الناس ما عرفتم معاني كلامنا» - الاختصاص: ص288 حديث في زيارة المؤمن لله -. ومن الواضح أن للكلمات دلالات جلية وأخرى خفية، كما أن لها ظهراً وبطناً، ويظهر ذلك بجلاء أكبر في آيات الذكر الحكيم وفي القواعد الفقهية.

والروايات المذكورة في هذا الكتاب بعضها صحيح من حيث السند، وبعضها حسن أو موثق، وبعضها الآخر وإن لم يطلق عليها ذلك اصطلاحاً - حسب ما جرى عليه علماء الدراية والرجال - إلاّ أن الغالب منها قد ورد في باب المستحبات والآداب، مما يشمله حديث: «من بلغه ... »(1) وغيره.

بالإضافة إلى الشواهد الكثيرة المؤيدة لها في الآيات والروايات الأُخر، وهي قرينة خارجية، إضافة على قوة المضمون في بعضها - وهي قرينة داخلية - مما يجعل للأحكام المذكورة قوة، بحيث تصلح للاستدلال بها أو لاعتبارها مؤيداً على الأقل.كما أن بعضها يؤيد بنحو الملاكات(2)..

وقد ذكرنا في بعض المباحث(3) أن الحجية قد تكون من جهة تمامية السند بمقتضى بناء العقلاء والآيات والروايات، ومنها: قوله (علیه السلام): «لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنا ثقاتنا»(4) الحديث.

وقد تكون من جهة قوة المتن، مما تكون دليلاً على الورود عنهم (علیهم السلام) وإن لم يكن قوي السند، لبناء العقلاء أيضاً، ولشمول ملاك (ثقاتنا) له(5).

ص: 6


1- راجع وسائل الشيعة: ج1 ص80 ب18 ح182.
2- ربما يكون المراد تنقيح المناط، أو كون الحكم المذكور صغرى لكبرى كلية، ويكون المراد من الشواهد: المعاضد الموافق.
3- راجع (الأصول) و(الوصول إلى كفاية الأصول) للإمام المؤلف (قدس سره).
4- وسائل الشيعة: ج149-150 27 ب11 ح33455.
5- الملاك: (الوثاقة) كما تطرق له الإمام المؤلف (قدس سره) في (الأصول).

وقد تكون من جهة قوة المؤلف، فيما كان بناء العقلاء الاعتماد على إسناده أو أفاد الاطمينان وذلك كالشريف الرضي (رحمة الله)(1)، ونحن نرى حجية (نهجالبلاغة) وإن لم يتسلسل إسناد العديد من الخطب والكلمات الواردة فيها - لمجموعة من القرائن الخارجية والداخلية -.

وقد تكون من جهة القرائن الخارجية(2)، كما ذكر ذلك العديد من علماء الأصول.

وقد تكون من جهة الشهرةالمضمونية، لشمول قوله (علیه السلام): «خذ بما اشتهر بين أصحابك(3)... فإن المجمع عليه لا ريب فيه»(4).

ص: 7


1- الشريف الرضي أبو الحسن محمد بن أبي أحمد الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن الإمام موسى الكاظم (علیه السلام)، ولد في بغداد عام 359ه من أسرة شريفة وأصيلة، يصل نسبه إلى الأئمة المعصومين (علیهم السلام). يعود نسبه من أبيه إلى الإمام الكاظم (علیه السلام)، ومن أمه إلى الإمام السجاد (علیه السلام). وهو عالم مفكر ذو ذكاء خارق وفهم عالٍ، أسس مدرسة علمية في بغداد قام فيها بتربية وتدريس طلاب العلوم الدينية وفيها مكتبة كبيرة. لقبه بهاء الدولة سنة 388ه ب «الشريف الجليل»، ولقب سنة 398ه ب «ذي المنقبتين»، وفي تلك السنة لقبه بهاء الدولة ب «الرضي ذي الحسبين»، ولقبه أيضاً قوام الدين ب «الشريف الأجل». له مؤلفات قيمة وعلى رأسها جمعه كلام الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) في كتاب أسماه (نهج البلاغة). توفي عام 406ه في السابعة والأربعين من عمره، بعد عمر قضاه في خدمة الإسلام والتشيع، ودفن في الكاظمية بجوار قبر الإمامين الكاظم والجواد (علیهما السلام).
2- بعض ما سبق وسيأتي من مصاديق ذلك كما لا يخفى، فهو من باب ذكر الخاص بعد العام أو قبله.
3- حيث يستفاد الشمول للشهرة الفتوائية أيضاً.
4- راجع وسائل الشيعة: ج106- 107 27 ب9 ح33334.

وربما يُقال بالحجية، أو يتعامل مع الحديث التعامل مع الحجة من حيث ترتيب الآثار أو بعضها - على تفصيل مذكور في الفقه والأصول - من جهة التسامح في أدلة السنن.

وقد كتبنا حول هذه القاعدة رسالة مستقلة(1) أدرجناها في شرح الرسائل للشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره)(2).

ص: 8


1- راجع الوصائل إلى الرسائل: ج 6.
2- الشيخ مرتضى بن الشيخ محمد أمين بن الشيخ مرتضى المعروف بالأنصاري، والأنصاري نسبة إلى الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري (رضوان الله عليه) لانتهاء نسبه إليه. ولد (رحمة الله) يوم عيد الغدير سنة 1214 ه في مدينة دزفول الواقعة في الجنوب الغربي من إيران. كان أبوه من العلماء العاملين ومن وجهاء مدينة دزفول، وأما أمه فهي بنت الشيخ يعقوب بن الشيخ أحمد الأنصاري، وكانت من النساء الصالحات العابدات في زمانها بحيث لم تترك نوافل الليل إلى آخر عمرها. قرأ الشيخ الأنصاري دروسه الأولى في مدينة دزفول على الشيخ حسين الدزفولي، وفي كاشان حضر درس الملا أحمد النراقي، وتتملذ على السيد محمد المجاهد وشريف العلماء في كربلاء المقدسة، وفي النجف الأشرف حضر درس المحقق الفقيه موسى كاشف الغطاء، والشيخ علي بن الشيخ جعفر كاشف الغطاء، ودرس الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر، والشيخ علي كاشف الغطاء وهو آخر أستاذ درس عنده. يعتبر أكثر المجتهدين والعلماء المحققين في الفترة ما بين أواسط القرن الثالث عشر وأوائل القرن الرابع عشر هم من تلامذته، فقد بلغ عدد تلاميذه البارزين المئات منهم: السيد أحمد التفريشي، المتوفى في حدود سنة 1309 ه، والشيخ جعفر الشوشتري، المتوفى سنة 1303 ه، والسيد جعفر القزويني، المتوفى سنة 1316 ه، والشيخ جعفر كاشف الغطاء، المتوفى سنة 1290 ه، والسيد جمال الدين أسد آبادي، المتوفى سنة 1314 ه، وعلى رأسهم الميرزا محمد حسن المجدد الشيرازي صاحب ثورة التبغ، والميرزا حبيب الله الرشتي، وغيرهم. ألف (رحمة الله) كتباً كثيرة مشتهرة عليها مدار التدريس في الحوزات العلمية، وذلك لما تحويه مؤلفاته من دقة وإمعان نظر وتحقيقات جديدة، منها: رسالة في إجازة الشيخ الأنصاري، والاجتهاد والتقليد، وإثبات التسامح في أدلة السنن، والإرث، وأصول الفقه، والرسائل، والمكاسب، وغيرها، وقد بلغت الأربعين، كما استنسخ القرآن الكريم بخطه المبارك. توفي (رحمة الله) في النجف الأشرف بداره في محلة الحويش، بعد مضي ست ساعات من ليلة السبت الثامن عشر من جمادى الثانية سنة 1281 ه وعمره 67 سنة، ودفن في صحن أمير المؤمنين (علیه السلام) في الحجرة المتصلة بباب القبلة وقبره معروف لحد الآن وعليه شباك.

أما سند حديث الكساء: فقد رواه والدي (رحمة الله) (1) في رسالة مخطوطةله

ص: 9


1- هو آية الله العظمى السيد الميرزا مهدي بن الميرزا حبيب الله بن السيد آقا بزرك بن السيد ميرزا محمود بن السيد إسماعيل الحسيني الشيرازي، من مشاهير الفقهاء المجتهدين ومراجع التقليد في زمانه. ولد في كربلاء المقدسة سنة 1304ه، ودرس على أساتذتها مقدمات العلوم، ثم سافر إلى سامراء فاشتغل فيها بالبحث والتحقيق والتدريس لفترة طويلة، ثم توجه إلى مدينة الكاظمية المقدسة وبقى فيها ما يقرب من سنتين، عاد بعدها إلى كربلاء المقدسة، وبقي فيها فترة من الزمن مواصلاً الدرس والبحث إلى أن انتقل إلى النجف الأشرف، وأقام بها ما يقرب من عشرين عاماً. درس الخارج على أيدي كبار العلماء والمراجع في عصره أمثال: السيد الميرزا علي آغا نجل المجدد الشيرازي، والميرزا الشيخ محمد تقي الشيرازي صاحب ثورة العشرين، والعلامة الآغا رضا الهمداني صاحب (مصباح الفقيه)، والسيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي صاحب (العروة الوثقى) وغيرهم. وكان (رحمة الله) يحضر في كربلاء المقدسة بحثاً علمياً عميقاً يسمى ببحث ال (كمباني) تحت رعاية المرحوم السيد الحاج آغا حسين القمي، وكان البحث يضم جمعاً من أكابر ومشاهير المجتهدين في كربلاء المقدسة. بعد وفاة السيد القمي سنة 1366ه استقل بالبحث والتدريس، واضطلع بمسؤولية المرجعية الدينية، ورجع الناس إليه في أمر التقليد. في عهد حكومة عبد الكريم قاسم في العراق، وفي أثناء فترة تنامي المد الشيوعي، بادر إلى استنهاض همم مراجع الدين الكبار في النجف الأشرف لاتخاذ موقف جماعي قوي إزاء الخطر الإلحادي على العراق، فالتقى بالمرجع الكبير السيد محسن الحكيم (قدس سره) وأصدر الأخير فتواه الشهيرة بتكفير الشيوعية. توفي (رحمة الله) في الثامن والعشرين من شهر شعبان سنة 1380ه، وشيع جثمانه في موكب مهيب قلما شهدت كربلاء مثله، ودفن في مقبرة العالم المجاهد الشيخ الميرزا محمد تقي الشيرازي في صحن الروضة الحسينية الشريفة، وأقيمت على روحه الطاهرة مجالس الفاتحة والتأبين بمشاركة مختلف الفئات والطبقات واستمرت لعدة أشهر. من مؤلفاته المطبوعة: ذخيرة العباد، الوجيزة، ذخيرة الصلحاء، تعليقة العروة الوثقى، تعليقة الوسيلة، بداية الأحكام، مناسك الحج، أعمال مكة والمدينة، ديوان شعر، وقد طبع بعض أشعاره متفرقة.

بسند صحيح متصل الإسناد، وكل واحد منهم من الأعلام(1)..

وكذلك سند خطبتها (عليها الصلاة والسلام)، فقد رُويت بما لا يدع للشك مجالاً، كما لا يخفى على من راجع ذلك في مظانِّه.

وسيأتي إن شاء الله تعالى.

بالإضافة على انطباق مضمونها معالآيات والروايات ووجود القرائن الداخلية والخارجية.

ص: 10


1- ولهذا الحديث أسناد كثيرة، وسيأتي بعد المقدمة - أول الفصل الأول - الإشارة إلى بعض المصادر في الهامش.

لمحة عن عظمة الزهراء (علیها السلام)

ومن نافلة القول في المقام الإشارة إلى أننا لم نقم في هذا الكتاب إلاّ بالإلماع إلى هذا البُعد الفقهي مع شيء موجز من الشرح والتوضيح، وإلاّ فهي (صلوات الله عليها) أعلى وأجلّ من أن أتمكن أنا الفقير العاجز عن ذكر بعض ما يليق بمن دارت على معرفتها القرون الأولى(1)، ومن هي قطب دائرة الإمكان، كما دل على ذلك قوله تعالى في حديث الكساء:

«فاطمة وأبوها وبعلها وبنوها».

فإن مكانتها وعظمتها (صلوات الله عليها) لا يمكن أن يستوعبها أي واحد من المخلوقات إلاّ النبي (صلی الله علیه و آله) والوصي (علیه السلام) ..

فإن الضيق لا يمكن أن يحيط بالواسع..وأنى للذرة أن تحيط بالمجرة؟!

وأنى للمغرفة أن تستوعب المحيط؟!..

كما قالوا بالنسبة إلى استحالة إدراكنا لله سبحانه؛ لأن اللامتناهي يستحيل أن يحيط به المتناهي المحدود أو يدرك كنهه.

ولاشك أنهم (علیهم السلام) ليسوا كالله سبحانه في اللاتناهي واللامحدودية إلاّ أنه

ص: 11


1- إشارة إلى الحديث المروي عن الإمام الصادق (علیه السلام): «هي الصديقة الكبرى وعلى معرفتها دارت القرون الأولى» - الأمالي للطوسي: ص668 مجلس36 ح1399 -.

لاشك أنهم (علیهم السلام) أوسع من الناس الضيقين، بما قد يُلغي النسبة بين الطرفين ويجعلها أبعد من نسبة القطرة إلى المحيطات..

وقد «سميت فاطمة؛ لأن الخلق فُطموا عن معرفتها» كما في الحديث الشريف(1)..

فإنها (عليها الصلاة والسلام) أفضل من الأنبياء كافة (2) باستثناء الرسول (صلی الله علیه و آله) كما دلت على ذلك أدلة متعددة، وسيأتي ذلك.

وهي (عليها الصلاة والسلام) حُجّة على كل أولادها الأئمة الطاهرين (علیهم السلام) وهم (علیهم السلام) أفضل من الأنبياء والملائكة (علیهم السلام) كافة، ولذاقال الإمام العسكري (علیه السلام): «وهي حجة علينا»(3)..

وقال الإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه الشريف): «وفي ابنة رسول الله (صلی الله علیه و آله) لي أسوةٌ حسنة»(4)..

وقد قال الإمام الحسين (علیه السلام): «أُمي خيرٌ مني»(5)..

ولها (علیها السلام) الولاية التكوينية بتفويض الله سبحانه لها، كتفويضه الولاية لهم (علیهم السلام).

أما كونها (علیها السلام) كسائرهم (علیهم السلام) في حجية قولها وفعلها وتقريرها، فمما قام عليه الإجماع، بالإضافة إلى الأدلة الثلاثة الأُخر..

ص: 12


1- تفسير فرات الكوفي: ص581 ومن سورة القدر ح747.
2- سيأتي بعد قليل الحديث عن أفضليتها (علیها السلام).
3- تفسير أطيب البيان: ج13 ص225.
4- بحار الانوار: ج53 ص180 ب31 ح9.
5- الإرشاد، للشيخ المفيد: ج2 ص94 باب ذكر الإمام بعد الحسن بن علي (علیه السلام).

وسنذكر شيئاً من الأدلة على ما لهم (علیهم السلام) من الولاية التكوينية والتشريعية، كما نشير إلى بعض مصاديقها حسب ما ذكرناه في كتاب البيع من (الفقه)(1).

الولاية التكوينية والتشريعية و...

اشارة

إن الصديقة الطاهرة (علیها السلام) كسائر المعصومين (علیهم السلام) لها الولاية التكوينية والتشريعية، وهي (صلوات الله عليها) وكذلك سائر أهل البيت (علیهم السلام) قد جعلهم الله الوسائط في خلق العالم، والعلة الغائية له(2).

كما أنها (علیها السلام) وأنهم (علیهم السلام) سبب لطف الله تعالى وإفاضته على العالم، واستمرار قيام العالم بها (علیها السلام) وبهم (علیهم السلام) .. وقد صُرح بذلك في الأدلة الشرعية(3)..

فلولاهم لساخت الأرض(4)..وكونهم (علیهم السلام) سبب القيام، كما أن الجاذبية والقوة الطاردة أو العناصر الأربعة سبب القيام المادي بحيث لولاها لساخت الأرض وانهدم العالم..

ص: 13


1- موسوعة الفقه: كتاب البيع، الجزء الرابع والخامس.
2- سيأتي هذا البحث تفصيلاً، فراجع ما سيأتي من بحث (لأجلهم) و(محبتهم) وغيرهما.
3- سيأتي الحديث عن الأدلة على ذلك بعد صفحات كما سيتطرق الإمام المؤلف (قدس سره) لذلك في مطاوي الكتاب، وراجع أيضا (العقبات)، و(البحار) - عند الحديث عنهم (علیهم السلام) وكذا عن خلق العالم -، و(كفاية الموحدين)، و(نهج الحق وكشف الصدق) للعلامة الحلي، و(دلائل الصدق) للمرحوم المظفر، إلى غيرها من الكتب الكلاميه.
4- راجع الكافي: ج1 ص179 باب أن الأرض لا تخلو من حجة ح10.

وكونهم (علیهم السلام) واسطة الفيض كما في حديث الكساء(1) وغيره، وأنه لولاهم لم يجر فيض الله سبحانه على هذا العالم القائم فرضاً.

كما أنها (صلوات الله عليها) تعلم الغيب كسائر المعصومين (علیهم السلام) حسب مشيئته سبحانه..

ولها (علیها السلام) ولهم (علیهم السلام) الولايات التكوينية، ومعناها:

إن زمام العالم بأيديهم (علیهم السلام) .. ومنهم فاطمة (سلام الله عليها) حسب جعل الله سبحانه، كما أن زمام الإماتة بيد عزرائيل (علیه السلام)..

فلهم (علیهم السلام) التصرف فيه إيجاداً وإعداماً..

لكن من الواضح أن قلوبهم (علیهم السلام) أوعية مشيئة الله تعالى(2)، فكمامنح الله سبحانه القدرة للإنسان على الأفعال الاختيارية، منحهم (علیهم السلام) القدرة على التصرف في الكون.

وما نذكره يشمل كل المعصومين (علیهم السلام) ،فإن كل الصلاحيات التي كانت للأنبياء (علیهم السلام) ثابتة للمعصومين (علیهم السلام) أيضاً؛ لأنهم أفضل منهم (علیهم السلام) وفاطمة (صلوات الله عليها) أفضل من جميع الأنبياء (علیهم السلام) إلاّ الرسول (صلی الله علیه و آله)؛ لأنها (سلام الله عليها) بضعة منه(3)، لا البضعة المادية فقط، بل المعنوية أيضاً، إذ لا يترتب على المادية تلك الآثار التي رتبها الرسول (صلی الله علیه و آله) عليها، وإذا كان (صلی الله علیه و آله) أفضل جميع الأنبياء (علیهم السلام) فبضعته (علیها السلام) كذلك، فتأمل.

ص: 14


1- راجع (الدعاء والزيارة) للإمام المؤلف (قدس سره): ص 1050 فصل في حديث الكساء، و(مفاتيح الجنان) للشيخ عباس القمي (رحمة الله)، وسائر المصادر المذكورة في هذا الكتاب.
2- راجع بحار الأنوار: ج25 ص337 ب10 فصل في بيان التفويض ومعانيه ح16.
3- مستدرك الوسائل: ج14 ص183 ب21 ح16452.

وهناك روايات عديدة يمكن القول بأنها متواترة ولو إجمالاً، ومحتفة بالقرائن المعتبرة تدل على أفضليتها (صلوات الله عليها) من جميع الأنبياء (علیهم السلام) إلا الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) وهي على طوائف:

فمنها: ما دل على كون طاعتها(علیها السلام) مفروضة على جميع الخلائق والأنبياء (علیهم السلام).

فعن أبي جعفر الباقر (علیه السلام): «ولقد كانت (علیها السلام) مفروضة الطاعة على جميع من خلق الله من الجن والإنس والطير والوحش والأنبياء والملائكة ... »(1).

ومنها: ما دل على اطلاع الله تعالى على الخلق واختيارهم.

فقد قال الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام): «إن الله عزوجل أشرف على الدنيا فاختارني منها على رجال العالمين، ثم اطلع الثانية فاختارك على رجال العالمين، ثم اطلع الثالثة فاختار الأئمة من وُلدِك على رجال العالمين، ثم اطلع الرابعة فاختار فاطمة على نساء العالمين»(2)، مع ملاحظة وحدة السياق معه (صلی الله علیه و آله) مما يفيد عمومية الأفضلية من كل الأنبياء (علیهم السلام)، وبضميمه ما دل على أنها (علیها السلام) أفضل من أبنائها (علیهم السلام).

وفي (كمال الدين): «... ثم اطلعإلى الأرض اطلاعة ثالثة فاختاركِ وولديكِ ... »(3).

ونظيره قوله تعالى: «... يا محمد، إني خلقتك وخلقتُ علياً وفاطمة والحسن والحسين من سنخ نوري، وعرضت ولايتكم على أهل السماوات

ص: 15


1- دلائل الإمامة: ص28 خبر مصحفها.
2- راجع من لا يحضره الفقيه: ج4 ص374 باب النوادر وهو آخر أبواب الكتاب ح5762.
3- كمال الدين: ص263 ب24 ح10.

والأرضين، فمن قبلهما كان عندي من المؤمنين ... »(1)، ووحدة السياق معه (صلی الله علیه و آله) والإطلاق يفيد المطلوب.

ومنها: ما دل بالصراحة على الأفضلية، مثلاً قوله (صلی الله علیه و آله): «ما تكاملت النبوة لنبي حتى أقر بفضلها (علیها السلام) ومحبتها»(2) فتأمل.

وكذلك الأحاديث الدالة على أنه لولا أن الله تعالى خلق أمير المؤمنين (علیه السلام) لم يكن لفاطمة (علیها السلام) كفو على وجه الأرض آدم فمن دونه، وهيعديدة(3).

ومنها: ما يدل بالالتزام على الأفضلية، مثل:

أ: الكتابة على ساق العرش والجنة

فمثلاً قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «ليلة عُرج بي إلى السماء رأيت على باب الجنة مكتوباً: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي حبيب الله، والحسن والحسين صفوة الله، فاطمة خيرة الله، على باغضهم لعنة الله»(4).

ص: 16


1- راجع الغيبة للشيخ الطوسي: ص148 أخبار المعمرين من العرب والعجم، تأويل الآيات الظاهرة: ص105 سورة البقرة وما فيها من الآيات البينات في الأئمة الهداة.
2- راجع بحار الأنوار: ج26 ص281 ب6 ح27، بصائر الدرجات: ص73 ب8 ح7، وفيه: «ما تكاملت النبوة لنبي في الأظلة حتى عرضت عليه ولايتي وولاية أهل بيتي ومثلوا له فأقروا بطاعتهم وولايتهم».
3- راجع بحار الأنوار: ج43 ص107 ب5 ضمن ح22، المناقب: ج2 ص181 فصل في المصاهرة مع النبي (صلی الله علیه و آله).
4- تاريخ بغداد: ج1 ص274 ح88.

وقال (صلی الله علیه و آله): «أنا وعلي وفاطمة والحسن والحسين كنا في سرادق العرش نسبح الله، فسبحت الملائكة بتسبيحنا قبل أن يخلق الله عزوجل آدم بألفي عام، فلما خلق الله عزوجل آدم أمر الملائكة أن يسجدوا له ولم يؤمروا بالسجود إلا لأجلنا ... »(1).

وقال (صلی الله علیه و آله): «لماخلق الله إبراهيم كشف عن بصره فنظر في جانب العرش نوراً فقال: إلهي وسيدي ما هذا النور؟.

قال: يا إبراهيم هذا نور محمد صفوتي.

قال: إلهي وسيدي وأرى نوراً إلى جانبه؟.

قال: يا إبراهيم هذا نور علي ناصر ديني.

قال: إلهي وسيدي وأرى نوراً ثالثاً يلي النورين؟.

قال: يا إبراهيم هذا نور فاطمة تلي أباها وبعلها ... »(2).

ب: والخلقة قبل آدم (علیه السلام)

فعن الإمام الصادق (علیه السلام) قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «خلق نور فاطمة (علیها السلام) قبل أن تخلق الأرض والسماء ... خلقها الله عزوجل من نوره قبل أن يخلقآدم ... »(3).

ص: 17


1- تأويل الآيات الظاهرة: ص498 سورة ص وما فيها من الآيات في الأئمة الهداة.
2- راجع الفضائل: ص158 وفي ذكر اللوح المحفوظ الذي نزل به جبرئيل على النبي (صلی الله علیه و آله)، بحار الأنوار: ج36 ص213-214 ب40 ح15.
3- راجع معاني الأخبار: ص396 باب نوادر المعاني ح53.
ج: قصة سفينة نوح

حيث «... سمر (علیه السلام) المسامير كلها في السفينة إلى أن بقيت خمسة مسامير، فضرب بيده إلى مسمار منها فأشرق في يده وأضاء كما يضيء الكوكب الدري في أُفق السماء... »، وكان المسمار الأول باسم الرسول (صلی الله علیه و آله) والثاني باسم الإمام علي (علیه السلام) والبقية باسم السيدة الزهراء (علیها السلام) والحسنين (علیهما السلام)، ثم قال (صلی الله علیه و آله): «ولولانا ما سارت السفينة بأهلها»(1).

د: تعليم أسمائهم (علیهم السلام) للأنبياء (علیهم السلام)

فمثلاً: ورد عن الإمام الحجة (عجل الله فرجه الشريف): إن زكريا (علیه السلام) سأل ربه أن يعلمه الأسماء الخمسة ... الحديث(2)..

وكذلك ما ورد عن الإمام الباقر (علیه السلام) في قوله تعالى: «وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ»(3) «كلمات في محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة من ذريتهم (علیهم السلام) »(4).

ص: 18


1- راجع الأمان، للسيد ابن طاووس: ص118-119 ب9 ف4، ولا يخفى ما له من الدلالة على أن ببركتهم (علیهم السلام) وعناية الله بهم نجى نوحاً (علیه السلام) وأصحابه.
2- راجع بحار الأنوار: ج 52 ص 84 ب19 ح1.
3- سورة طه: 115.
4- المناقب لابن شهر آشوب: ج3 ص320 فصل في تفضيلها على النساء.
ه: ما ورد في يوم القيامة ومقامها (علیها السلام)

مثل قوله (صلی الله علیه و آله): «... والذي بعثني بالحق إن جهنم لتزفر زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلاّ صعق، فينادي إليها: أن يا جهنم يقول لكِ الجبار: أسكني بعزي واستقري حتى تجوز فاطمة بنت محمد(صلی الله علیه و آله) إلى الجنان ... »(1).

و: وما أشبه ذلك.

مثل ما دل على أفضليتها (علیها السلام) من الأئمة (علیهم السلام)

كقول الإمام الحسين (علیه السلام): «أُمي خير مني»(2) وغير ذلك.

وسائر الأئمة (علیهم السلام) أيضاً كذلك، فهم (علیهم السلام) في الأفضلية سواء من هذه الجهة(3)، ويؤيده روايات مثل صلاة عيسى (علیه السلام) خلف الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف)(4).

ص: 19


1- بحار الأنوار: ج22 ص491 ب1 ح36.
2- الإرشاد، للشيخ المفيد: ج2 ص94 باب ذكر الإمام بعد الحسن بن علي (علیه السلام).
3- أي: على جميع الأنبياء (علیهم السلام) إلا الرسول (صلی الله علیه و آله).
4- بحار الأنوار: ج14 ص349 ب24 ح12.

الولايات التكوينية للأنبياء والصالحين (علیهم السلام)

وقد دل القرآن العظيم على ثبوت الولاية التكوينية لعدة من الأنبياء (علیهم السلام) وغيرهم، فتثبت لها (صلوات الله عليها) ولسائر أهل البيت (علیهم السلام) بطريق أولى:

كقصة آصف وعرش بلقيس(1)..

وسليمان (علیه السلام) والريح والشياطين وغيرهم(2)..

وقصة الجبال والطير مع داوود (علیه السلام) (3)..

وقصة عيسى (علیه السلام) وتكلمه في المهد(4)، وإبرائه الأكمه والأبرص، وإحيائه الموتى، وخلقه الطير(5)..

إلى غيرها مما ورد في القرآن الكريم.

وقد وردت طائفة كبيرة منها في السنة المطهرة.بل من أطاع الله تعالى إطاعة كاملةً يكون قادراً على العديد من ذلك كرامةً، كسلمان (رحمة الله) الذي تكلم مع الميت.. وزينب (علیها السلام) بنت الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) التي أومأت إلى الناس - في سوق الكوفة - فهدأت الأصوات وسكنت الأجراس(6)، وغيرهما.

ص: 20


1- سورة النمل: 40.
2- سورة ص: 36-37.
3- سورة الأنبياء: 79.
4- سورة مريم: 19-30.
5- سورة آل عمران: 49.
6- راجع بحار الأنوار: ج45 ص162 ب39 ح7.

كما أن الأنبياء والأئمة (عليهم الصلاة والسلام) يأتون بها معجزة أو خرقاً للعادة، ويطلق على أحدهم الخارق باعتبار خرقه سنن الكون الأولية بأمر خالقه سبحانه.

وفي الحديث: «أطعني تكن مثلي» (1) - على وزن حبر أو فرس - والأول معناه اسم المصدر والثاني المصدر من قبيل شِبه وشَبه وحُسن وحَسن.

والمثل يطلق على (وينسب إلى) التابع وعلى المتبوع أو المشابه، مثل: «مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ»(2) وقد يستعمل في المتبوع مثل «وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِيإِسْرَائِيلَ»(3)، فإن معناه الشبه تابعاً أو متبوعاً.

ومن الواضح: إن قدرتهم (علیهم السلام) التكوينية ليست ذاتية من عند أنفسهم، بل هي منحة الله تعالى وعطاؤه لهم (علیهم السلام)، ولذا قال سبحانه: «قُلْ لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرًّا»(4)..

فقدرتهم (علیهم السلام) في طول قدرة الله سبحانه وحاصلة بإرادته تعالى. ولذا لاينافي علمهم (علیهم السلام) بالغيب حسب «إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ»(5) عدم علمهم (علیهم السلام) الذاتي حسب قوله سبحانه: «وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ»(6)..

ص: 21


1- راجع بحار الأنوار: ج90 ص376 ب24 ضمن ح16.
2- سورة النور: 35.
3- سورة الزخرف: 59.
4- سورة الأعراف: 188.
5- سورة الجن: 27.
6- سورة الأعراف:188.

فهما كالشفاعة، لا يملكها أحد بذاته «قُلْ للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً»(1) وإن ملكها غير واحد فهو بأمره سبحانه «لاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى»(2).

فقوله: «تكن مثلي» لا ينافي «فَلاَتَضْرِبُوا للهِ الأَمْثَالَ» (3)، و«لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ»(4) ف «مثلي» طولي لا عرضي، وفي بعض الأمور بقرينة الوضوح..

والذيل «أقول للشيء كن فيكون وتقول للشيء ... »(5)، فإن الخبر يعمم ويخصص الموضوع، كالعكس.

أما ما سبق من كونهم (علیهم السلام) بما فيهم فاطمة (صلوات الله عليها) علة غائية للتكوين، فلأدلة ومؤيدات عديدة،

منها: ما ورد من: «ما خلقت سماءً مبنيةً ... إلا لأجل هؤلاء الخمسة»(6).

وفي حديث آخر: «لولاك لما خلقت الأفلاك، ولولا علي لما خلقتك، ولولا فاطمة لما خلقتكما»(7).

ولعل الوجه في ذلك أن عدم خلق الكمال من جميع الحيثيات، مع خلق

ص: 22


1- سورة الزمر:44.
2- سورة الأنبياء: 28.
3- سورة النحل:74.
4- سورة الشورى: 11.
5- راجع بحار الأنوار: ج90 ص376 ب24 ضمن ح16.
6- بحار الأنوار: ج35 ص23 ب1 ح15.
7- راجع مستدرك سفينة البحار: ج3 ص168-169، مستدرك سفينة البحار: ج8 ص243، مجمع النورين: ص14و187.

ماعداه دليل على عدم قدرة الخالق أوبخُله، تعالى عن ذلك علواً كبيراً، فلولاهم (علیهم السلام) كان الخلق على خلاف الحكمة.

العلة للحدوث والبقاء

وقد ذهب بعض العلماء، إلى كونهم (علیهم السلام) العلة حدوثاً، بمعنى أن الكون منهم ككون الوفاة من عزرائيل..

وعن الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف): «نحن صنائع ربنا والخلق بعدُ صنائعنا»(1).

ص: 23


1- راجع الغيبة، الشيخ الطوسي: ص285 ف4. وفي (بحارالأنوار): ج53 ص178 ب31 ح9. ذهب بعض علماء الكلام إلى ذلك مستندين إلى أدلة وشواهد ومؤيدات كثيرة نشير إلى بعضها، قالوا: ومما يشهد على كونهم (علیهم السلام) وسائط الله سبحانه وتعالى في خلق العالم بعد وضوح إمكان ذلك، بل وضوح رجحانه بالنظر لحكمة الله تعالى كما فصل في محله، ما ورد في الحديث القدسي: «... وهي فاطمة، وبنورها ظهر الوجود من الفاتحة إلى الخاتمة» - الخصائص الفاطمية للمحقق الشهير الملا محمد باقر (رحمة الله): ص1 - والظاهر أن المراد ظهورها من كتم العدم إلى نور الوجود والباء للسببية، فليتأمل. كما قالت السيدة فاطمة (علیها السلام): «... ونحن وسيلته في خلقه، ونحن خاصته ومحل قدسه، ونحن حجته في غيبه ... » - شرح نهج البلاغة: ج16 ص211 ف1 - وإطلاق (وسيلته) يقتضي الأعم من الحدوث والبقاء، وهذا بناء على كون المراد ب (الوسيلة) ما يتوصل به إلى الشيء - كما هو الأصل في معناها، راجع لسان العرب مادة (وسل) وباقي المعاني مشتقة منه - فهم (علیهم السلام) الوسيلة في الإيجاد وهم (علیهم السلام) الوسيلة في الإفاضة بعد الإيجاد. ويقول العلامة المجلسي (قدس سره): ورد في أخبار كثيرة: «لا تقولوا فينا رباً وقولوا ما شئتم ولن تبلغوا» باب نفي الغلو عن النبي (صلی الله علیه و آله) والأئمة (علیهم السلام) - بحار الأنوار: ج25 ص347 ب10 فذلكة - مع وضوح أن (رب) عَلَم لله سبحانه وتعالى أي للواجب الوجود فلايقال فيهم(علیهم السلام) أنهم إله واجب الوجود، بل هم ممكنو الوجود، وبعد ذلك «قولوا فينا ما شئتم» ومن مصاديقه كونهم (علیهم السلام) الوسائط في الخلق خاصة مع ملاحظة «ولن تبلغوا» والأمر واضح بملاحظة العقد السلبي والعقد الايجابي للكلام، وبملاحظة أن المتكلم معصوم حكيم ملتفت لدقائق الكلام ومنها هذا الإطلاق الواسع والمؤكد. وورد كما أشار المصنف (قدس سره): «نحن صنايع ربنا والناس بعدُ صنايعنا» - كتاب الغيبة الشيخ الطوسي: ص285 ف4. وفي (بحارالأنوار): ج53 ص178 ب31 ح9 - ووحدة النسق والسياق يشير إلى أن الناس مصنوعون لهم (علیهم السلام) كما أنهم (علیهم السلام) مصنوعون لله تعالى، فالله سبحانه علة العلة. وفي (نهج البلاغة) الرسائل: 28 ومن كتاب له (علیه السلام) إلى معاوية جواباً -: «إنا صنائع ربنا والناس بعدُ صنائع لنا» واللام في (لنا) للتقوية، خاصة مع ورود (صنائعنا) الذي يشهد لذلك. وفي (البحار)، عن (الخصال): قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «إياكم والغلو فينا! قولوا إنا عبيد مربوبون وقولوا في فضلنا ما شئتم» - بحار الأنوار: ج25 ص270 ب10 ح15 -. وكونهم (علیهم السلام) بإذن الله العلة الفاعلية من مصاديق الفضل كما لا يخفى. وقوله (علیه السلام): «ولو خلت الأرض ساعة واحدة من حجة لساخت بأهلها» - بحار الأنوار: ج51 ص112-113 ب2 ح8 -. وهذا ونظائره يدل على كون استمرار الإفاضة منوطاً بهم (علیهم السلام). وأما الروايات التي يتوهم منها نفي ذلك، فهي إما محمولة على التقية، أو أن المراد بها نفي كونهم (علیهم السلام) بالاستقلال وفي عرض الله سبحانه علة الخلائق، لا نفي كونهم (علیهم السلام) في طوله تعالى وبالإستناد إليه وبقدرته وإذنه العلة للخلقة، فلاحظ هذه الرواية مثلاً: روي عن زرارة أنه قال: قلت للصادق (علیه السلام): إن رجلاً يقول بالتفويض فقال: «وما التفويض؟». قلت: إن الله تبارك وتعالى خلق محمداً وعلياً (صلوات الله عليهما) ففوض إليهما فخلقا ورزقا وأماتا وأحييا؟. فقال: «كذب عدو الله، إذا انصرفت إليه فاتل عليه هذه الآية التي في سورة الرعد: «أَمْ جَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ» » سورة الرعد: 16 - بحار الأنوار: ج25 ص343344 ب10 ضمن ح25 -. فلاحظ أن الإمام (علیه السلام) نفى التفويض بمعنى اعتبارهم (شركاء لله خلقوا كخلقه) أي في عرض الله لا باستناد إليه ... وهكذا سائر الأحاديث كما يظهر بالتتبع والتأمل، خاصة مع لحاظ أن إطلاق السؤال يشمل المقام (وهو كونهم (علیهم السلام) الخالقين في طول الله سبحانه) وهو محل الإبتلاء أيضاً، بل لعل السؤال كان عن خصوص كونهم (علیهم السلام) العلة في طول الله بقرينة (خلق... ففوض...) ومع ذلك لم ينف الإمام (علیه السلام) هذا الشق، بل نقل الحديث لنفي الشق الآخر وهو كونهم (علیهم السلام) شركاء الله تعالى وفي عرضه. كما أن التفويض بمعنى أن أمور الكون إليهم (علیهم السلام) بقاءً دون مدخلية لله تعالى أصلاً أيضاً باطل، ولهذا البحث مقام آخر تطرقنا له هنا إشارة فقط. ونموذج آخر يوضحه قوله (علیه السلام): «اللهم أني بريء من الغلاة كبراءة عيسى بن مريم من النصارى» - بحار الأنوار: ج25 ص266 ب10 ح7 -. فهذا التشبيه دليل على المتبرى منه، إذ النصارى يرون فيه رباً وشريكاً، لا مخلوقأً مستند القدرة إلى الله سبحانه، وهذا التقييد ب (كبراءة) في العديد من الأحاديث شاهد كبير على المطلب. ولذا جاء في الرواية: «وإنا لنبرأ إلى الله عزوجل ممن يغلو فينا فيرفعنا فوق حدنا كبراءة عيسى بن مريم من النصارى، قال الله عزوجل: «وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ» » سورة المائدة: 116 - بحار الأنوار: ج25 ص272 ب10 ح17 -. وكذلك قول صاحب الزمان (عجل الله تعال فرجه الشريف): «... ليس نحن شركاءه في علمه ولا في قدرته بل لا يعلم الغيب غيره ... » - بحار الأنوار: ج25 ص266 ب10 ح9 - مع وضوح علمهم (علیهم السلام) بالغيب بإذنه تعالى وكذلك قدرتهم. ويوضحه أكثر قوله (عجل الله فرجه الشريف): «إني بريء إلى الله وإلى رسوله ممن يقول إنا نعلم الغيب أو نشارك الله في ملكه ... » - بحار الأنوار: ج25 ص267 ب10 ح9. فالمنفي هو مشاركة الله في ملكه وهو الند ومن هو في العرض، لا من يقوم بعمل استناداً إليه تعالى وبإفاضته وفي طوله. وما يوضح المطلب أكثر فأكثر مراجعة الرواية المطولة المذكورة في بحار الأنوار: ج25 ص273278 ب10 ح20، حيث إن الأئمة كانوا يواجهون من يدعي أن علياً (علیه السلام) هو الله تعالى والعياذ بالله ويردون عليه بكل شدة وصراحة.

ص: 24

وأما كونهم (علیهم السلام) علته(1) بقاءً؛ فلأن البقاء بحاجة إلى استمرار العلة،

ص: 25


1- أي: علة الكون.

كالمصباح حيث إن دوامه بحاجة إلى الاتصال المستمر بالقوة الكهربائية، وهم بإرادة الله وفي طوله تعالى علةٌ كما أن الكهرباء بإرادته تعالى وفي طوله علة للإنارة.

وقد قيل للصادق (علیه السلام): الله بمقدوره أن يخلق الكون الباقي أبداً في أقل من الساعة(1) فلا عمل له سبحانه بعد ذلك، كما قالت اليهود «يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ»(2) فأجاب - ما معناه -: بأن الكون قائم به سبحانه على سبيلالاستمرار.

فالكون بالنسبة إليه كالصور الذهنية بالنسبة إلينا بحيث إن مجرد عدم الالتفات يوجب انعدامها، ولذا ورد: «لولا الحجة لساخت»(3) والمراد الانعدام لا الانهدام، فليس من قبيل انهدام الكون إذا فقدت الجاذبية.

وفي دعاء رجب: «فبكم يجبر المهيض، ويشفى المريض، وما تزداد الأرحام وما تغيض»(4)..

إلى غير ذلك مما دل على هذه المراتب الثلاثة في الولاية التكوينية.

ص: 26


1- الساعة - لغة - الفترة من الزمن فتشمل حتى الدقيقة مثلاً.
2- سورة المائدة: 64.
3- راجع بحار الأنوار: ج51 ص113ب2 ح8، بصائر الدرجات: ص489 ب12 ح8.
4- بحار الأنوار: ج99 ص195 ب 8 الزيارة العاشرة.

الولاية التشريعية

وكذلك لفاطمة (صلوات الله عليها) الولاية التشريعية، إذ هم (علیهم السلام) علة التشريع، فإن علة الملازم علةٌ للملازم الآخر، وعلة الملزوم علةٌ للازمه أيضاً، مثل كون علة وجود الكتب المتعددة علة وجود الزوجية أو الفردية التي هي وصف لتلك الكتب، إذ التشريع من لوازم التكوين - بالمعنى الأعم -.

إضافةً إلى ما ورد من «إنهم (علیهم السلام) نور واحد»، وما ورد من «إن فاطمة (علیها السلام) حجة علينا»(1) وغير ذلك.

كما أنهم (علیهم السلام) علة، فعلية التشريع وبقاء التشريع حيث إن الدين باق بصورة أو أخرى، فلا يقال لدين موسى (علیه السلام) مثلاً: لم يبق بقول مطلق، إذ جوهر الدين بقي بصورة أخرى في زمن عيسى (علیه السلام)، وزمن الرسول (صلی الله علیه و آله) «قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ»(2).

ص: 27


1- راجع تفسير أطيب البيان: ج13 ص225 عن الإمام الحسن العسكري (علیه السلام).
2- سورة البقرة: 136.

الأمر بين الأمرين في التشريع

لا يقال: كيف يجمع بين تشريعهم (علیهم السلام) المستفاد من «ففوض إليه دينه»(1) ومِن «المفوض إليه دين الله»(2) ومِن (سنة النبي (صلی الله علیه و آله) في قبال فرض الله)، وبين «مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى»(3) المراد به الأعم من القول والفعل والتقرير، ولذا ورد «هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ»(4) فإن كل مظهر نطق، مثل «يُسَبِّحُ للهِ»(5) المراد به التكوين أو اللسان أو بُعد آخر لا تدركه عقولنا؟.

لأنه يقال: إن قلوبهم (علیهم السلام) أوعية مشيئة الله سبحانه، كما أن الله ينبت لكن محل إنباته الأرض أو الرحم كما قال: «وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً»(6).ثم إن الله سبحانه نسب الأمور التكوينية تارة إلى نفسه، وأخرى إليهم (علیهم السلام)، وثالثة إليهما: فمرة قال تعالى: «وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ»(7)..

وتارة قال سبحانه: «ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا

ص: 28


1- تهذيب الأحكام: ج9 ص397 ب46 ح24.
2- بحار الأنوار: ج91 ص81 ب30 ح2.
3- سورة النجم: 3.
4- سورة الجاثية: 29.
5- سورة الجمعة: 1، سورة التغابن: 1.
6- سورة آل عمران: 37.
7- سورة الإسراء: 4. والقضاء يأتي بمعنى الإخبار والتقدير والحكم وغير ذلك - راجع شرح التجريد بحث القضاء - وربما يكون المراد بالآية أن التقدير كان حسب السنن الكونية إفسادهم مرتين، فمن السنن الكونية أن التكبر يفسد وهذا تقدير كوني.

قَضَيْتَ»(1)..

وقال تعالى ثالثة: «رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ»(2)، «سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ»(3) - ماضياً ومستقبلاً - كما استدل بها الصادق (علیه السلام) على أبي حنيفة الذي قال: أشركت بالله(4).

فمعنى أنهم (علیهم السلام) المكوِّنين بأمره تعالى، وبأنهم (علیهم السلام) مجرى إرادته وأوعية مشيئته،مثل أن عزرائيل (علیه السلام) يُميت بأمره سبحانه وإرادته، وإسرافيل (علیه السلام) ينفخ، وجبرائيل (علیه السلام) ينزل الوحي، وميكائيل (علیه السلام) يقسم الرزق، وهكذا. ومن المعلوم أن المعصومين (علیهم السلام) جميعاً أفضل من الملائكة، ولذا سجدت الملائكة لآدم (علیه السلام).. وهم (علیهم السلام) أفضل من آدم (علیه السلام).

وكشاهد على ما نحن فيه ترى في القرآن الكريم يقول سبحانه تارة: «اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ»(5) . وأخرى: «يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ»(6).

وثالثة: «تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا»(7).

فالثالث(8) في طول الثاني الذي هو طول الله سبحانه.

ص: 29


1- سورة النساء: 65.
2- سورة التوبة: 59.
3- سورة التوبة: 59.
4- راجع وسائل الشيعة: ج24 ص351 ب56 ح30752.
5- سورة الزمر: 42.
6- سورة السجدة: 11.
7- سورة الأنعام: 61.
8- للروايات الدالة على أن لملك الموت أعواناً يقبضون الروح بأمره.

من الأدلة على ولايتهم (علیهم السلام)

ثم إنه يدل على ولايتها (علیها السلام) خصوصاً، أو ضمن سائر المعصومين (علیهم السلام) أدلة كثيرة، وقد سبق أو سيأتي بعضها كدليلٍ أو مؤيّد، منها:

قوله (علیه السلام): «فاطمة حجة الله علينا»(1).

و:حديث الكساء، كما سيأتي بيان ذلك.

وقوله (صلی الله علیه و آله): «لولا علي لما كان لفاطمة كفؤ آدم فمن دونه»(2).

وما دل على تساويها (علیها السلام) مع الإمام علي (علیه السلام).

وما دل على الأفضلية من الأنبياء (علیهم السلام) .. مع قيام الأدلة على ثبوت الولاية لهم (علیهم السلام) - على درجات -.

والأولوية القطعية من أمثال: «عبدي أطعني تكن مثلي»(3).

وقوله (علیه السلام): «الخلق بعدُصنائعنا»(4).

و: «فبكم يجبر المهيض ويُشفى المريض وما تزداد الأرحام وما تغيض»(5).

و: «فوّض إليه دينه»(6).

ص: 30


1- راجع كتاب تفسير أطيب البيان: ج13 ص225، عن الإمام الحسن العسكري (علیه السلام).
2- تهذيب الأحكام: ج7 ص470 ح90ب41.
3- راجع مستدرك الوسائل: ج11 ص258 ب18 ح12928.
4- الاحتجاج: ج2 ص466 احتجاج القائم المنتظر المهدي (علیه السلام).
5- الإقبال: ص631، مصباح المتهجد: ص821.
6- تهذيب الأحكام: ج9 ص397 ب46 ح24.

و: «كونهم (علیهم السلام) أوعية مشيئة الله»(1).

و: صدور الخوارق منهم.

و:التوقيع المروي عن صاحب الزمان (عجل الله تعالى فرجه الشريف) كما سيأتي(2).

إلى غير ذلك من الأدلة الكثيرة.

كما يدل على ولايتهم (علیهم السلام) عموماً قوله تعالى: «النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ»(3).

بالإضافة إلى الآيات والروايات المتواترات، لما قد ثبت من أنهم (علیهم السلام) نور واحد، وأن لأولهمما لآخرهم كما في الروايات(4)، وقال سبحانه: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ»(5) الآية، فهم (علیهم السلام) كالنبي (صلی الله علیه و آله) في مرتبة الولاية وإن اختلفوا في مراتب الفضل، فبعد الرسول (صلی الله علیه و آله) عليٌ (علیه السلام) وبعده أو مقارناً له - كما يظهر من جملة من الأحاديث - فاطمة (سلام الله عليها)، ثم الحسن (علیه السلام)، ثم الحسين (علیه السلام)، ثم القائم (علیه السلام)، ثم الأئمة الثمانية (علیهم السلام) قبله، كما يظهر من الأحاديث.

ص: 31


1- انظر بحار الأنوار: ج25 ص336 فصل في بيان معنى التفويض ومعانيه ح16.
2- وسيأتي ذكر مصادر تلك الأحاديث تفصيلاً بإذنه تعالى.
3- سورة الاحزاب: 6.
4- انظر الكافي: ج7 ص85 باب علة كيف صار للذكر سمهان...ح2، ومستدرك الوسائل: ج10 ص399 ب85 ح12254. وفي بحار الأنوار: ج25 ص360 ب12 ح16 عن الاختصاص: قال أبوجعفر (علیه السلام): لا يستكمل عبد الإيمان حتى يعرف أنه يجري لآخرنا ما يجري لأولنا، وهم في الطاعة والحجة والحلال والحرام سواء، ولمحمد (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (علیه السلام) فضلهما».
5- سورة المائدة: 55.

ماذا تعني الأولوية؟

وهل المراد الأولوية التكوينية؟ (1)..

أو في صورة التدافع؟أو أن له (صلی الله علیه و آله) سلطة فوق سلطة الإنسان، كما في سلطة الله تعالى على السيد المسلّط على العبد؟.

أو الحكومة؟.

أو الثلاثة الأخيرة؟.

أو الخمسة جميعاً؛ لجامع السلطوية، فليس من استعمال اللفظ في أكثر من معنى؟.

احتمالات، وإن كان بعضها أقرب.

نعم ،إذا كان (أولى) بمعنى التفضيل العرفي، يكون الثاني فقط، لكنه خلاف الظاهر حيث الاحتفاف بالقرائن الداخلية والخارجية، فتأمل.

سلطة الهدم والبناء

والظاهر أن لهم (علیهم السلام) سلطة الهدم، كما لهم سلطة البناء، من قبيل الزوج الذي له سلطة النكاح والطلاق، أو الشركة حيث العقد الجائز للشريك كلاهما(2)، بخلاف مثل البيع اللازم حيث البناء فقط، ومثل ثالثٍ جعل الخيار

ص: 32


1- بمعنى إنه أولى لأنه كونه.
2- أي: الإمضاء والفسخ.

بيده حيث له الهدم فقط.فكما إنه سبحانه له حق طلاق نساء الناس أو تزويجهنّ ولو بدون رغبتهم، كذلك لهم (علیهم السلام) هذا الحق خلافةً منه تعالى.

لكن من الواضح أنهم (علیهم السلام) في طوله سبحانه، وأنهم (علیهم السلام) أوعية مشيئته(1) كما تقدم، وإن كانوا (علیهم السلام) لا يقومون بإعمال أمثال هذه القدرة عادةً كما سيأتي.

ص: 33


1- انظر بحار الأنوار: ج25 ص336 فصل في بيان معنى التفويض ومعانيه ح16.

من معاني التفويض

ثم إن التفويض التكويني إليهم (علیهم السلام) هو بالمعنى الذي ذكرناه، ودل عليه النص مثل: «فيما إليكم التفويض وعليكم التعويض»(1) والإجماع.

والتشريعي أيضاً كما ذكرناه، ودل عليه:

«المفوض إليه دين الله»(2)..

و: «أنَّ الله أدَّب نبيه بآدابه ففوّض إليه دينه»(3)..

إلى غيرها من الروايات المتواترة.

وفي قباله تفويضان باطلان:

الأول: عزل الله سبحانه عن أي شيء، وإنما يكون كمن أشغل مصنعاً وفوضه إلى آخر واعتزل هو عن العمل إطلاقاً، وهذا يخالفه النص والإجماع، بل الكتاب والعقل أيضاً.

الثاني: تفويض الأمور وتركها وسائر الكون لا إلى أحد، بأن يكون الله سبحانهقد خلق الكون وهو يدور بنفسه، كمن يشغل مصنعاً ويتركه يدور بدون قيام أحد مقامه..

وهذا هو الذي قالته اليهود مما ذكره سبحانه: «وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا»(4).

ص: 34


1- مصباح المتهجد: ص821 زيارة رواها ابن عياش.
2- الغيبة للطوسي: ص278 ف3.
3- راجع وسائل الشيعة: ج26 ص142 ب20 ح32682.
4- سورة المائدة: 64.

وهذا التفويض الباطل بالمعنى الثاني هو نقطة النقيض لفكرة الجبر التي تقول: إن الله سبحانه يفعل كل شيء، بينما الأول بمعنى أنه تعالى لا يفعل أي شيء، والحقيقة أنه أمر بين الأمرين(1)، فالآلات منه سبحانه والعمل من الإنسان ولذا يُثاب ويُعاقب.

عود على بدء

ولما سبق من أن الله سبحانه جعل بيدهم (علیهم السلام) الكون، تصدر منهم (علیهم السلام) الخوارق معجزة وكرامة، بما أنهم أوعية مشيئة الله تعالى، وكذلك ما سبق من أنه تعالى فوض إليهم (علیهم السلام) التشريع كماورد «المفوَّض إليه دين الله»(2).

والأول يشمل:

الهدم والبناء، كإماتة الإمام الرضا (علیه السلام) الساحر(3)، وإحياء عيسى (علیه السلام) الأموات(4)..

والتبديل والتحويل، قال سبحانه: «فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً»(5)، ومن سنة الله جعله تعالى التكوين والتشريع

ص: 35


1- انظر الكافي: ج1 ص155 باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين.
2- الغيبة للطوسي: ص278 ف3.
3- راجع بحار الأنوار: ج49 ص184 ب14 ح16.
4- إشارة إلى قوله تعالى: «وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَْكْمَهَ وَالأَْبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ» - سورة آل عمران: 49 -.
5- سورة فاطر: 43.

بأيديهم (علیهم السلام) وذلك كأن يجعل الشام عراقاً وبالعكس، وكأن يجعل الرجل امرأة وبالعكس، كما في قصة الإمام الحسن (علیه السلام) (1).

بين التصرُّف والصلاحية

ولم نجد تصرفهم (علیهم السلام) في التشريع، وإن كان لهم صلاحية ذلك، ولعلّ السبب في ذلك أن لا يتخذ الحكّام ذلك ذريعةً للتصرف في الأحكام، وبالرغم من ذلك ترى الحكّام قد تصرفوا في أحكام الله تعالى كما في المتعتين(2)، وكما في صلاة التمام في عرفات(3) وغير ذلك، فكيف بما إذا كانوا يرون الرسول (صلی الله علیه و آله) يفعل ذلك، ولذا قالوا باستحباب البول في المزبلة لكذب نسبوه إلى النبي (صلی الله علیه و آله)(4).

ومما تقدم ثبتت الولاية بمعانيها السبعة: كونهم (علیهم السلام) للتكوين علة، وطريقاً كطريقية عزرائيل للموت، وأنه قائم بهم (علیهم السلام)، وكذلك التشريع: علة، وطريقاً، وقياماً، بإضافة أن لهم (علیهم السلام) الحكومة، حيث لا تلازم بين الأخير وسائر أقسام التشريع.

ص: 36


1- راجع بحار الأنوار: ج43 ص327 ب15 ضمن ح6.
2- راجع مستدرك الوسائل: ج14 ص483 ب32 ح17359.
3- راجع مستدرك الوسائل: ج6 ص548 ب20 ح7484.
4- راجع صحيح البخاري: ج1 ص62 كتاب الوضوء، مسند أحمد: ج4 ص246 حديث المغيرة بن شعبة، وتجده في غيره من كتب العامة أيضا.

التوقيع الشريف

ويؤيد ذلك - بل يدل عليه - التوقيع المروي عن صاحب الزمان (أرواحنا فداه) في دعائه:

«أسألك بما نطق فيهم من مشيتك، فجعلتهم معادن لكلماتك، وأركاناً لتوحيدك وآياتك، ومقاماتك التي لا تعطيل لها في كل مكان، يعرفك بها من عرفك، لا فرق بينك وبينها إلاّ أنهم عبادك وخلقك، فتقها ورقتها بيدك، بدؤها منك وعودها إليك، أعضاد وأشهاد، ومناة وأذواد، وحفظة ورواد، فبهم ملأت سماءك وأرضك حتى ظهر أن لا إله إلا أنت»(1) إلى آخر الدعاء.

و(مُناة): - على وزن دُعاة جمع داعي - من منى الله تعالى فلاناً بخير، أي أعطاه له.

و(أذواد): - جمع ذائد، كأصحاب جمع صاحب - من ذاد بمعنى طرد.

فالمعنى: من ينال خيراً أو يطرد عن شيء لا يكون إلاّ بهم (علیهم السلام) لا علة بل فعلية.

وملأ السماء والأرض: كالشمس تملأ الكون وإن كان جسمها الظاهر صغيراً.ولعلّ سرّ ورود الزيارة الجامعة والدعاءين لرجب عنهم (علیهم السلام) لبيان الطريق الوسط بين مادية الخلفاء الذين استهتروا فيها، وإفراط المتصوفة القائلين بوحدة الوجود أو الموجود في تلك الأزمنة المتأخرة.

ص: 37


1- البلد الأمين: ص179 شهر رجب.

ومن الواضح أن ظهور (لا إله إلا الله) بسببهم (علیهم السلام) من جهة امتلاء العالم بالشرك الوثني أو المسيحي أو اليهودي، بل والعامة القائلين بالتجسيم ونحوه، وقد قال علي (علیه السلام): «فمن وصف الله فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثناه، ومن ثناه فقد جزّأه»(1)، الحديث.

ولا يخفي أن ما ذكرناه في الجملة، يظهر من مئات الآيات والروايات مما ذكر في مباحث أصول الدين فراجع.

لا فرق بين حياتهم ومماتهم (علیهم السلام)

ثم إنهم (علیهم السلام) وهم أموات كالأحياء من جهة التكوين وجهة التشريع، لإطلاق الأدلة، إلاّ في الأمر السابع الذي هو فعلية الحكومة.

لا يقال: إنهم (علیهم السلام) كيفيتصرفون في التكوين وهم أموات؟.

لأنه يقال:

أولاً: لا موت(2) لهم (علیهم السلام) فإنهم «أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ»(3) وإنما بدّلوا الملبس، بل كل حي إذا مات كان كذلك، فقد خلقهم للبقاء لا للفناء، وقد قال الرسول (صلی الله علیه و آله) - لمن اعترض عليه حينما خاطب قتلى المشركين يوم بدر -: «ما أنت بأسمع منهم»(4).

ص: 38


1- نهج البلاغة، الخطب: 1 ومن خطبة له (علیه السلام) يذكر فيها ابتداء خلق السماء والأرض وخلق آدم.
2- بمعنى الانعدام أو الآثار المترتبة على الموت من العجز عن التأثير في الكون وما أشبه.
3- سورة آل عمران: 169.
4- راجع بحار الأنوار: ج6 ص207 ب8، وفيه: «إنهم أسمع منكم».

وفي الزيارة: «وأنك حي»(1) إلى غير ذلك.

وثانياً: على فرض كونهم (علیهم السلام) أمواتاً ما المانع من أن يعطي الله سبحانه للميت الحياة، كالرزق والشفاء وغير ذلك(2)؟! وفي القرآنالحكيم: «وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ»(3).. ومن المعلوم أن الماء بالمعنى المتعارف ليس حياً فإن الله تعالى هو علة العلل، ولا فرق عنده في الإحياء بسببٍ بين أن يكون حياً أو ميتاً.

وفي آية أخرى: «يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ»(4).

وفي بقرة بني إسرائيل المذبوحة أنها سبّبت حياة المقتول(5).

كما سبّب أثر الرسول حياة عجل السامري(6).

وكذلك رش الماء على الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف فماتوا فعادواأحياءً في قصة ارميا(7)، المذكورات في القرآن الكريم.

ص: 39


1- راجع كامل الزيارات: ص220 زيارة أخرى ح13، وفيه: «أشهد أنك حي شهيد ترزق عند ربك».
2- بأن يكون الميت سبباً لما فيه الحياة بإذن الله تعالى، فيكون سببا للرزق والشفاء وما أشبه.
3- سورة الأنبياء: 30.
4- سورة الأنعام: 95، سوة يونس: 31، سورة الروم: 19.
5- إشارة إلى قوله تعالى: «فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» - سورة البقرة: 73 -.
6- إشارة إلى قوله تعالى: «قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي» سورة طه: 96. وقوله سبحانه: فَكَذَلِكَ أَلْقَى السّامِرِيّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لّهُ خُوَارٌ فَقَالُواْ هَ-َذَآ إِلَ-َهُكُمْ وَإِلَ-َهُ مُوسَىَ فَنَسِيَ سورة طه 87-88.
7- إشارة إلى قوله تعالى: «أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ» - سورة البقرة: 243 -.

ولذا لم تكن قصة البقرة مثلاً مجرد سرد تاريخ، بل لعبر، منها: أن الله سبحانه يحيي الميت من الميت، كما لم تكن آية النجوى(1) مجرد قصة منسوخة، بل لإفادة أن الناس - عادة ً- يقومون بأداء العبادات التي تتعلق بالجوارح، أما إذا وصل الأمر إلى المال ظهر عمق إيمانهم، فلا يقال: ما فائدة الآية المذكورة تتلى إلاّ فضيلة علي (علیه السلام).

رفعة منزلتهم (علیهم السلام) ذاتية

ثم إن رفعة المعصوم (علیه السلام) أمر جوهري كرفعة الذهب على التراب، وقد دلت على ذلك الأدلة الأربعة.

والمراد بدلالة العقل: الدليل الإنِّيحيث يكشف أعمالهم عن ذلك، واللِّمّي بالنسبة إلى الكبرى حيث إن القدرة المطلقة بدون محذور في الخلق يعطي خلق الأرفع أيضاً، نعم الانطباق على الأشخاص الخاصين - أي الصغرى - نقلي.

قال سبحانه: «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ»(2).

وقال تعالى: «انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ»(3).

وقال سبحانه: «وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ»(4)..

ص: 40


1- وهي قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» - سورة المجادلة: 12 -.
2- سورة البقرة: 253.
3- سورة الإسراء: 21.
4- سورة الرعد: 4.

إلى غيرها من الآيات والروايات المتواترة، وقد دلت على ذلك الكرامات الخاصة أيضاً.

ولا يستشكل بأنه لو كان(1) خَلَق زيداً أو عمرواً مثلهم لكان يستحق الدرجات الرفيعة؛ لوضوح أنه يلزم في الحكمة خلق كل مهية ممكنة لا محذور في خلقها، وإلاّ لزم العجز أو الجهل أو الخبثتعالى عن ذلك علواً كبيراً(2).

نعم، ما في ذاته محذور عدم القابلية كخلق المتناقضين مثل أن يخلق شيئاً واحداً نملةً وفيلاً، أو زوجاً وفرداً، أو وجوداً وعدماً، أو ما هو خلاف المصلحة، لا يكون الأول للاستحالة الذاتية والثاني للاستحالة العرضية، إذ القبيح محال على الحكيم تعالى.

مجالات ستة للرسول (صلی الله علیه و آله)

ثم إن القرآن الحكيم ذكر الأسوة برسول الله (صلی الله علیه و آله)(3)، وفي كلام علي (علیه السلام): «فتأسى متأسٍّ بنبيه وإلاّ فلا يأمن الهلكة»(4)، وفي الزيارات قد ورد التأسي بالأئمة (علیهم السلام) حجج الله تعالى..

هذا فيما لم يكن من مناصبهم ومختصاتهم.

والظاهر أنه (صلی الله علیه و آله)تتوفر لديه وفي حيطته أمور ستة:

ص: 41


1- أي الله سبحانه وتعالى.
2- في مطاوي الكتاب أجوبة أخرى عديدة عن ذلك فليراجع.
3- وهي قوله تعالى: «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآْخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً» - سورة الأحزاب: 21 -.
4- نهج البلاغة: الخطب 160 ومن خطبة له (علیه السلام). خبر يريد به الطلب.

1. الأحكام الأولية: قولاً أو فعلاً أو تقريراً، كوجوب الصلاة وحرمة الخمر إلى سائر الأحكام التكليفية والوضعية، والمراد بها أعم مما ذكر، ومن مثل الصيام في الحضر والإفطار في السفر، فإن الثاني وإن كان ربما يقال له الحكم الثانوي باعتبار أن التشريع أولاً وبالذات هو الصيام، إلاّ أنه أيضاً حكم أولي باعتبار أن المكلف مخير بينهما، فهما موضوعان عرضيان.

2. الأحكام الثانوية: وهي الطولية، مثل أحكام الاضطرار ونحوها، والرسول (صلی الله علیه و آله) أسوة فيهما، كل في مورده، فقد اضطر الرسول (صلی الله علیه و آله) إلى الدخول إلى مكة بقوة السلاح، وإلى الصلاة جالساً في مرضه وهذا من مختصاته، كما أنه (صلی الله علیه و آله) لم يعمل حسب «ما لا يعلمون»(1)، وما «أخطأوا»، و«ما سهوا»، و«ما نسوا»؛ لأنه (صلی الله علیه و آله) منزه عنها.

أما إنه هل عَمِلَ حَسَب «ما أُكرهوا» بنفسه الشريفة (صلی الله علیه و آله)؟

فلم أجده.والعامة يقولون: بالسهو والنسيان فيه (صلی الله علیه و آله) لكن إجماع الشيعة على خلاف ذلك، وكذلك العقل والنقل.

3. الأمور العامة: كشرائه (صلی الله علیه و آله) ناقة، أو زواجه (صلی الله علیه و آله) من ثيّب عمرها كذا، وأكله (صلی الله علیه و آله) وشربه كذا، فإنه لا يلزم الإقتداء به (صلی الله علیه و آله) هاهنا بحيث إن التارك لا يأمن الهلكة.

نعم، إن عمله (صلی الله علیه و آله) يدل على الجواز، وقول بعض العامة القائلين باللزوم - ولذا قال بوجوب البول في المزبلة ولو في السنة مرة - باطل البناء والمبنى، ولذا لا

ص: 42


1- الكافي: ج2 ص463 باب ما رفع عن الأمة ح2.

يقولون بمثل ذلك في ما نسبوا إليه من حمله زوجته ونظرها إلى الطبالين(1)، وهذا أيضاً باطل عندنا مفترىً عليه (صلی الله علیه و آله).

4. الحكوميات: التي هي عبارة عن تطبيقه (صلی الله علیه و آله) كبرى المصلحة على صغرى خارجية في شؤونالناس، كنصب أسامة أميراً، أو فلاناً والياً على البحرين، أو ما أشبه ذلك، فإنه لا يجب على علي (علیه السلام) في زمان حكومته أن يفعل ذلك بعينه، وإن فرض أن المنصوب بقي على العدالة.

5. التصرفات الولائية بالمعنى الأعم: فإنها وإن كانت جائزة له (صلی الله علیه و آله) خلافة عن الله سبحانه إلاّ أنا لم نجد أنه (صلی الله علیه و آله) عمل بها، كجعل حر عبداً أو عكسه، أو إبطال زواج أو جعله، أو إبطال ملك أو عكسه، إلى ما أشبه ذلك.

وروي تهديد علي (علیه السلام) (2)جعل الأحرار عبيداً في قصة طغيان الفرات(3)، كما لم نجد مثل هذا التصرف عن الأئمة (عليهم الصلاة والسلام).

وما ذكره بعضهم من قصة سمرة(4) وأن القلع كان بالولاية محل نظر، بل هو جائز حتى للفقيه حيث يلجؤه الأمر إلى ذلك، كما بيناه في (الأصول) فإنه حكم قضائي في أمثال هذا التنازع.

6. الاختصاصات: كزواجه (صلی الله علیهو آله) أكثر من أربع، وغيره مما ذكره

ص: 43


1- راجع سنن النسائي:ج3 ص195 ضرب الدف يوم العيد، السنن الكبرى للنسائي: ج1 ص553 اللعب في المسجد يوم العيد ح1798، وغيرهما من كتب العامة.
2- مجرد تهديد دون تطبيق.
3- راجع اليقين، للسيد ابن طاووس: ص416-418 ب155.
4- راجع الكافي: ج5 ص292 باب الضرار ح2.

الشرائع(1) والجواهر(2) وغيرهما في باب النكاح، وهي خاصة به (صلی الله علیه و آله) وإن كان ربما يوجد نحو منه في بعض المعصومين (علیهم السلام) مثل:

حرمة زواج علي (علیه السلام) امرأة مادامت فاطمة (سلام الله عليها) في بيته مما يكون من مختصات فاطمة (سلام الله عليها)..

وحرمة أن يخاطب غير علي (علیه السلام) بإمرة المؤمنين مما كان من خصائصه..

وما يظهر من اختصاص بعض الأحكام بالإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) كما يظهر من بعض الأخبار.

ص: 44


1- راجع شرائع الإسلام: ج2 ص497 في خصائص النبي (صلی الله علیه و آله).
2- راجع جواهر الكلام: ج29 ص119 في خصائص النبي (صلی الله علیه و آله).

شمولية علمهم وقدراتهم (علیهم السلام)

ثم إنهم (علیهم السلام) ومنهم فاطمة (صلوات الله عليها) يحيطون علماً وقدرةً - بإذن الله تعالى - بالكائنات جميعاً إلاّ ما استثني(1)..

وقد تقدم في الزيارة الرجبية ما يدل على ذلك، كما في جملة من الأحاديث: «يعلمون ما كان وما يكون وما هو كائن»(2).

فإنه ليس بمحال عقلاً، ويشبه ذلك في الماديات الهواء والحرارة والجاذبية وغيرها، كما أن عزرائيل (علیه السلام) يحيط علماً وقدرةً في بُعْد الإماتة بكل إنسان، بل بالملائكة أيضاً - كما ورد في الأحاديث -.

وقد قال الله سبحانه في إبراهيم (علیه السلام): وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَمَلَكُوتَ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ (3).

وفي يعقوب (علیه السلام): «وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ»(4).

وهم (علیهم السلام) أفضل من الملائكة والأنبياء (علیهم السلام) كما دلت على ذلك النصوص وإجماعنا، وقد سبق الإشارة إلى ذلك.

ص: 45


1- كالاسم الأعظم الثالث والسبعين مثلاً على رواية.
2- راجع الكافي: ج1 ص260 باب أن الأئمة (علیهم السلام) يعلمون علم ما كان وما يكون وأنه لا يخفى عليهم الشيء (صلوات الله عليهم).
3- سورة الأنعام:75.
4- سورة يوسف: 94.

وفي رسول الإسلام (صلی الله علیه و آله) قال الله تعالى: «إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً»(1) فإطلاق الشاهد(2) وقرينية إطلاق الصفات الأخرى يدل على العموم، ومن المعلوم أن الشاهد لا يكون إلاّ من حضر.

وقال سبحانه: «وَجِئْنَا بِكَ عَلى هؤُلاَءِ شَهِيداً»(3).

ويؤيده قوله تعالى بعد ذلك: «يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْتُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً»(4).

وفي الروايات: «لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماوات»(5)، فإذا كان لبني آدم هذه القدرة - لولا المنع - فأهل البيت (علیهم السلام) أولى.

وتقول في تشهد الصلاة: «السلام عليك أيها النبي» وفيه ظهور الحضور.

وفي الحديث: «نزهونا عن الربوبية وقولوا فينا ما شئتم»(6)، حيث إن جماعة اتخذوهم (علیهم السلام) آلهة فنهوا عن ذلك، أما بَعد الألوهية ففيهم (علیهم السلام) كل خير، والتي منها عموم العلم والقدرة، وفي جملة من زيارات الحسين (علیه السلام)،

ص: 46


1- سورة الأحزاب: 45 - 46.
2- وحذف المتعلق يفيد العموم.
3- سورة النساء:41.
4- سورة النساء: 42.
5- بحار الأنوار: ج56 ص163 ب23.
6- راجع بحار الأنوار: ج25 ص347 ب10 ضمن ح25. وفيه: قد ورد في أخبار كثيرة: «لاتقولوا فينا رباً وقولوا ما شئتم ولن تبلغوا».

كما في بعض فقرات (الزيارة الجامعة) دلالة على ذلك.

وما ورد من إبلاغ الملَك السلام إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) لا ينافي ما تقدم، فهو كإبلاغ الملَك صحيفةالأعمال إليه سبحانه، وسؤالهم (علیهم السلام) عن أشياء كسؤال الله في قوله تعالى: «وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسى»(1) إلى غير ذلك، مما لا يخفى على من راجع الروايات المتواترة.

بين العلم الغيبي والسلوك العملي

ثم الظاهر أن علمهم (علیهم السلام) الغيبي لا يؤثر في سلوكهم العملي:

فالحسن (علیه السلام) يشرب السم مع أنه لم يكن مجبوراً..

والرسول (صلی الله علیه و آله) مضغ اللحم المسموم الذي أثر فيه، وأخيراً انتهى إلى الموت.

وعلي(علیه السلام) كان يعلم بوقت موته، ومع ذلك خرج إلى المسجد مع إمكانه أن يستنيب في صلاة الجماعة ذلك اليوم، أو يستصحب معه حراساً، أو يسجن ابن ملجم، أو يخرجه من المسجد، أو يجعل عليه حراساً، أو ما أشبه ذلك.

أما القول بأنهم (علیهم السلام) لا يعلمون عند نزول الموت، أو أنهم مضطرون كما في دس هارون والمأمون السمّ إلى الإمامين الكاظم والرضا (علیهما السلام) أو ما أشبه ذلك منالأجوبة، فليست بمقنعة وخلاف ظاهر الأدلة.

بل لو كان العلم الغيبي يؤثر لما بكى الرسول (صلی الله علیه و آله) لفقد ولده إبراهيم، ولما بكى الحسين (علیه السلام) لفقد أولاده وأصحابه، مع أنهم (علیهم السلام) يعلمون بل ويرون

ص: 47


1- سورة طه: 17.

انتقالهم إلى جنات النعيم، هل يبكي أحدنا لذهاب ولده إلى مكان حسن جداً وهو يراه عين اليقين؟ بل لم يكن يعقوب (علیه السلام) يبكي من فراق يوسف (علیه السلام) وهو يعلم أنه حي وسيرجع إليه بعد مدة ملكاً.

لا يقال: حتى على فرض موت يوسف (علیه السلام) فلماذا هذا البكاء من يعقوب (علیه السلام) حتى ابيضت عيناه وخيف عليه أن يكون حَرضاً أو يكون من الهالكين؟.

لأنه يقال: كما أن العيون والشمس منبع الماء والنور، كذلك جعل الله سبحانه للمعنويات منابع، فيعقوب (علیه السلام) منبع العاطفة ليتأس الناس به ويستمدونها منه، ولولا ذلك لم يكن لهم ما يتأسون به.

فعلمهم الغيبي (صلوات الله عليهم أجمعين) لا يؤثر في عواطفهم الإنسانية كي يكونوا أسوة، وإلاّ لقال الناس أن علياً (علیه السلام) كان يخوض الحروب لعلمهبأنه لايُقتل ونحن لا نعلم ذلك.

بل ميثم التمار جاء إلى الكوفة وقد كان يتمكن من الفرار من مكة إلى موضع لا يصله سلطان ابن زياد، إلى غيرها من الأمثلة الكثيرة.

وكذلك حال القدرة الغيبية، إذ لا يستعملونها إلاّ حال الإعجاز، فلقد كانوا قادرين على رفع الضيق عنهم وعن المؤمنين، فهم (علیهم السلام) - ولا مناقشة في المثال - كوكيل الإنسان الغني لا يتصرف في أمواله إلاّ بإذن الموكّل وإن كان قادراً على التصرف، والله سبحانه العالم.

ص: 48

الأحكام المستفادة

وقد أشرنا أن إلى الأحكام التي ذكرت في الكتاب(1) مما يستفاد من كلماتها (علیها السلام) إنما ذكرناها بإيجاز، دون التطرق لمختلف الأدلة والأقوال وشبه ذلك، وإلاّ فالتفصيل يحتاج إلى مجلدات ضخمة، حسب قولهم (علیهم السلام): «علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع»(2) ولعلّ الله سبحانه يوفّق بعض مواليها (علیها السلام) من الفقهاء كي يتشرف بتفصيل ذلك، وهو المستعان.

ولا يخفى أن الأحكام التي استفدناها قد تستخرج استناداً إلى الدلالة المطابقية أو التضمنية أو الالتزامية، وقد يتم استخراجها استناداً إلى دلالة الاقتضاء(3)، وربما الدلالة العرفيةأيضاً، وإن لم تكن من الأربع المذكورة. وربما

ص: 49


1- أي في هذا الكتاب، وهو (من فقه الزهراء (علیها السلام)).
2- وسائل الشيعة: ج27 ص61-62 ب6 ح33201، وفيه: «إنما علينا أن نلقي عليكم الأصول وعليكم أن تفرعوا».
3- ما يتوقف صحة أو صدق الكلام عليه وذلك نظير: «وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ» - سورة يوسف: 82 - وكذا استكشاف أمير المؤمنين علي (علیه السلام) لأدنى مدة الحمل من ضم قوله تعالى: «وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً» - سورة الأحقاف: 15- إلى قوله تعالى: «وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ» - سورة البقرة: 233 - ومن ذلك: إلغاء الخصوصية حيث يكتشف بذلك أن ما ذكر إنما كان بعنوان المصداق وكصغرى لكبرى كلية للقطع أو الإطمينان بالملاك، وقد تكون الاستفادة والاستنباط مستندة إلى (مبنى) الكلام، أو إلى مقدمات مطوية أو شرائط أو موانع كذلك، وإذا لاحظنا عصمتها (علیها السلام) وإحاطتها العلمية ظهر بوضوح أن كلامها بشتى دلالاته حجة، فلو توقف صحة الكلام أو صدقه مثلاً على مقدمة مطوية وإن كانت بعيدة، كان ذلك دليلاً على حجيتها وصدقها وأمكن الاستناد إليها كذلك. والقارئ الكريم سيرى إن المؤلف (قدس سره) قام بملاحظة شتى الجهات السابقة الذكر وربما يكون من ذلك أيضاً: استكشاف الإنشاء من الأخبار وبالعكس عبر بعض الدلالات السابقة.

كان الحكم أو العلم به منشأ لتعليل أو توضيح بعض كلماتها (علیها السلام)(1).

وقد استطردنا أحياناً إلى ذكر بعض الأمور الأُخَر، بالإضافة إلى الاعتقاديات وفلسفة الأحكام والأحكام الخمسة.

وهذا الكتاب يتطرق غالباً للحديث عما يستنبط من أقوالها (علیهاالسلام)، أما فعلها وتقريرها: فبحاجة إلى كتاب ضخم ويكفي أن نشير هنا إشارة عابرة إلى بعض النماذج من فعلها وسيرتها (علیها السلام).

دروسٌ من سيرتها (علیها السلام)

ففي سيرة وحياة الزهراء (علیها السلام) مواضع كثيرة للتعلّم، إذا تعلمها المسلمون بل البشرية سعدوا في الدنيا قبل الآخرة وأسعدوا الآخرين.

نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:

زواجها الميمون، حيث زوّجها الرسول (صلی الله علیه و آله) في أول بلوغها (علیها السلام)(2).

وكذلك إذا زُوّجت البنات في أوائل البلوغ سعدن، وانقطعت إلى حد بعيد جذور الفساد في المجتمع، إذ معنى زواجهنّ في ذلك السن زواج الأولاد الذكور أيضاً في سن البلوغ، فلا ترغب النفس أو تهم بالحرام.

وقد رأينا جملة من العشائر في البلاد الإسلامية تجري على ذلك، وبذلك

ص: 50


1- اللف والنشر مرتب كما لا يخفى.
2- راجع عوالم العلوم: ج11 ص287 ب3 ح2 الطبعة2، تحقيق مؤسسة الأمام المهدي (علیه السلام).

تشذ الجريمة وتتضاءل أرقامها إلى ما يقارب الصفر، بخلاف ما لو لم يتبع هذا المنهج حيث تتصاعد تصاعداً كبيراً، وذلك يؤدي إلى الأمراض والعُقَد النفسية والتوترات العصبية وهدم العوائل وكثرة المشاكل.. إلى غيرها.

كما أن في الجهاز البسيط لزواجها (صلوات الله عليها) أكبر الدرس لتخفيف المهور والقناعة بالميسور، وقد قال (صلی الله علیه و آله): «أفضل نساء أمتي أصبحهن وجهاً(1) وأقلهن مهراً»(2).

وقال (صلی الله علیه و آله): «القناعة مال لا ينفد»(3).

وعن علي (علیه السلام): «لا كنز أغنى من القناعة»(4).

وذلك من أسرار السعادة وتحرّك الشباب بشكل أكثر جدية نحو الأمام،فإن الزوجين يتعاونان على التقدم في الحياة - بعد الزواج - إلى الأمام، وربما يكون ذلك مما يوضح بعض السر في قوله تعالى: «إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ»(5) بينما غلاء المهور وتعقيد مقدمات وبرامج الزواج وزيادة التشريفات يوجب التأخير في الزواج، أو يؤدي بالكثير إلى البقاء عزاباً وعوانس مدى الحياة بما يستلزم ذلك من أضرار وأخطار.

ص: 51


1- قد يكون المراد بالصباحة ها هنا: الطلاقة والإشراق لا الجمال، والوجه يكتسي بالصباحة والإشراق بتأثير الحالة المعنوية والروحية والأخلاقية للإنسان، قال في (مجمع البحرين): «وقد صَبُحَ الوجه صباحة: أشرق وأنار»، وقال في (لسان العرب): «الصبيح: الوضيء الوجه».
2- تهذيب الأحكام: ج7 ص404 ب34 ح24.
3- مستدرك الوسائل: ج15 ص226 ب9 ح18072.
4- نهج البلاغة، قصار الحكم: رقم 371.
5- سورة النور: 32.

وكذلك إدارتها (صلوات الله عليها) لشؤون البيت، حيث فُوِّضت إليها الأمور الداخلية، والخارجية إلى علي (علیه السلام) (1)؛ فإنها توجب الراحة النفسية والصحة الجسدية، إذ إن الأعمال الشاقة - وإن كانت مقرونة بالتعب والنصب - توجب الصحة والسلامة، بينما الراحة والدعة تؤديان إلى مختلف الأمراض.

ومما يؤيد هذا المعنى هو أن التاريخ - حسب الاستقراء الناقص - لم يسجل لها (صلوات الله عليها) تمرضاً إلاّ مرةواحدة(2).

أما مرضها الأخير فهو وليد الصدمة التي تعرضت لها بين الحائط والباب والتي انتهت إلى شهادتها ووفاتها (صلوات الله عليها).

ولعلّه لأجل تعليم الأمة على الكدح والعمل لم يمنحها الرسول (صلی الله علیه و آله) خادمةً عندما طلبت منه ذلك، مع أنه (صلی الله علیه و آله) الكريم الرؤوف، وذلك حتى تكون (علیها السلام) أسوة في العمل بنفسها لنساء المسلمين، وربما كان طلبها (علیها السلام) وعدم تلبيته (صلی الله علیه و آله) بمجمله تعليماً(3).

أما حصولها (علیها السلام) على فضة(4) فهو مما دعت إليه الضرورة، حيثتراكمت عليها الأعمال اليدوية الشاقة من الطحن والخبز والغسل وغير ذلك، بالإضافة إلى أطفالها الصغار وضرورة الاهتمام بشؤونهم، إلى جانب أن النساء

ص: 52


1- راجع مستدرك الوسائل: ج13 ص48 ب17 ح14705.
2- راجع بحار الأنوار: ج43 ص77-78 ب3 ح64، وفيه: عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: إن فاطمة (علیها السلام) بنت محمد (صلی الله علیه و آله) وجدت علة فجاءها رسول الله (صلی الله علیه و آله) عائدا فجلس عندها وسألها عن حالها... الحديث.
3- راجع من لا يحضره الفقيه: ج1 ص320-321 باب وصف الصلاة من فاتحتها إلى خاتمتها ح947.
4- خادمتها المعروفة، وقد أهديت إلى النبي (صلی الله علیه و آله) وأهداها إلى الصديقة فاطمة (علیها السلام).

كن يرجعن إليها في كثير من شؤونهن ومسائلهن(1)، ثم نجد بعد حصولها على فضة أن النبي (صلی الله علیه و آله) قد قسم العمل بينهما، يوماً لها ويوماً لفضة كما في النص(2) وهذا أيضاً بالإضافة إلى كونه تعليماً للأُمة على مشاطرة من هم أدنى منزلة في الهموم والمهام، يتضمن تأكيداً للالتزام بالعمل والكد والكدح رغم وجود البديل.

والجدير بالذكر أن فضة (علیها السلام) كانت متزوجة ذات أسرة، وقد يظهر هذا من خبر قراءتها للقرآن في سفرة الحج وتلقي أولادها لها في المنزل(3)، كما هو شأن الإسلام حيث لا يدع بنتاً بلا زواج، حتى قال سلمان المحمدي (رحمة الله) وهو حاكم فيالمدائن عندما تزوج امرأة هناك فوجد عندها بنتاً - من زوجها السابق - غير متزوجة: سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول - ما مضمونه -: لو لم تزوج البنت في الدار فزنت كان عقاب الزنا على أهل الدار(4).

أما طحنها (علیها السلام) وعجنها وخبزها وطبخها وغزلها وغسل الملابس

ص: 53


1- راجع مستدرك الوسائل: ج17 ص317 ب11 ح21460.
2- راجع الخرائج والجرائح: ج2 ص530-531 ب14 فصل في ذكر أعلام فاطمة البتول (علیها السلام).
3- راجع المناقب: ج3 ص343-344 فصل في سيرتها (علیها السلام).
4- راجع بحار الأنوار: ج22 ص383 ب11 ح19. وفيه: (عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «تزوج سلمان امرأة من كندة، فدخل عليها فإذا لها خادمة وعلى بابها عباءة، فقال سلمان: إن في بيتكم هذا لمريضا أو قد تحولت الكعبة فيه، فقيل: إن المرأة أرادت أن تستر على نفسها فيه، قال فما هذه الجارية؟ قالوا: كان لها شي ء فأرادت أن تخدم، قال: إني سمت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: أيما رجل كانت عنده جارية فلم يأتها أو لم يزوجها من يأتيها ثم فجرت كان عليه وزر مثلها، ومن أقرض قرضا فكأنما تصدق بشطره، فإذا أقرضه الثانية كان برأس المال وأداء الحق إلى صاحبه أن يأتيه في بيته أو في رحله فيقول ها خذه».

ورعاية الأولاد، وقيامها (علیها السلام) بإنجاز العشرات من الحاجات البيتية بنفسها (صلوات الله عليها) أو بمساعدة فضة، ففي كل ذلك تعليم لكيفية سلوك الزوجة في الحياة الزوجية.

ولو راج مثل ذلك في بيوتنا فهلبعد ذلك كنا نحتاج إلى استيراد كل شيء من الغرب والشرق حتى اللحم وغيره من الأوليات والضروريات؟.

كما أن قولها (سلام الله عليها) لعلي (علیه السلام): «ما عهدتني كاذبة ولا خائنة»(1) تعليم لكيفية سلوك الزوجات مع الأزواج، وإلاّ فعلي (علیه السلام) كان يعلم ذلك.

وهكذا نجد في عدم دخول النبي (صلی الله علیه و آله) دارها لما رأى ستراً على الباب(2) تعليماً آخر لنا، ولعلّ الزهراء (علیها السلام) تعمدت وضع الستر حتى تكون مدعاة للتعليم؛ كي لا ترفل النساء في النعيم، بينما كثير من الناس يعانون شظف العيش، وقد قال (صلی الله علیه و آله): «ما آمن بي من بات شبعاناً وجاره جائع»(3).

إلى غير ذلك من النقاط المشرقة في سيرتها (علیها السلام) الوضاءة، وكلها عِبَر وبرامج تربوية ومناهج للسعادة الدنيوية والأخروية.

ص: 54


1- روضة الواعظين: ص181 مجلس في ذكر وفاة فاطمة (علیها السلام).
2- راجع الأمالي للصدوق: ص234 المجلس41 ح7.
3- الكافي: ج2 ص668 باب حق الجوار ح14.

وفي الختام

وفي الختام نشير إلى أننا قد قسمنا الكتاب إلى ثلاثة فصول(1):

الأول: أحكام مستفادة من حديث الكساء.

الثاني: أحكام مستفادة من الخطبة الشريفة(2).

الثالث: أحكام مستفادة من سائر ما روي عنها (علیها السلام).

والله المسؤول أن يقرنه برضاه، وأن ينفع به إنه قريب مجيب..

والحمد لله أولاً وأخراً وظاهراً وباطناً.

محمد الشيرازيقم المقدسة

1414 ه

ص: 55


1- قام الإمام المؤلف (قدس سره) بتأليف هذا الكتاب في شهرين ونصف، هما جمادى الثانية ثم رمضان المبارك وقسم من شوال من عام 1414 ه، علماً بأن فهرس بعض الأحكام المستفادة من حديث الكساء كان قد كتبها من قبل.
2- أي خطبة الصديقة الطاهرة (علیها السلام) في المسجد، ويليها بعد ذلك خطبة الدار التي تحدثت بها على نساء المهاجرين والأنصار عندما جئن لعيادتها (صلوات الله عليها).

ص: 56

الفصل الأول: أحكام مستفادة من حديث الكساء

اشارة

ص: 57

ص: 58

متن حديث الكساء

بسم الله الرحمن الرحيم

عَنْ جَابر بن عَبْدِ اللهِ الأنْصَاري، عَنْ فَاطِمَةَ الزَّهراءِ (علیها السلام) بِنتِ رَسُول اللهِ (صلی الله علیه و آله)، قَالَ: سَمِعْتُ فاطِمَةَ (علیها السلام) أَنِّها قالَت:

«دَخَلَ عَلَيَّ أبي رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله) فِي بَعضِ الأيَّامِ. فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيكِ يا فاطِمَةُ.

فَقُلتُ: عَلَيكَ السَّلامُ.

قالَ: إنّي أَجِدُ في بَدَني ضُعفاً.

فَقُلتُله: أُعِيذُكَ باللهِ يا أَبَتاهُ مِنَ الضُّعفِ.

فَقَالَ: يَا فَاطِمَةُ، إِيتيني بِالكِساءِ اليَمانِيِّ فَغَطّينِي بهِ.

فَأَتَيتُهُ بِالكِساءِ اليَمانِيِّ فَغَطّيتُهُ بِهِ، وَصِرتُ أَنظُرُ إِلَيهِ وَإِذا وَجهُهُ يَتَلألأُكَأَنَّهُ البَدرُ فِي لَيلَةِ تمامِهِ وَكَمالِهِ.

ص: 59

فَما كَانَت إِلاَّ ساعَةً وإذا بوَلَدِيَ الحَسَنِ (علیه السلام) قَد أَقبَلَ وَقالَ: السَّلامُ عَلَيكِ يا أُمّاهُ.

فَقُلتُ: وَعَلَيكَ السَّلامُ يا قُرَّةَ عَيِني وَثَمَرَةَ فُؤادِي.

فَقالَ: يَا أُمّاهُ، إِنّي أَشَمُّ عِندَكِ رائِحَةً طَيِّبَةً كَأَنَّها رائِحَةُ جَدِي رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله).

فَقُلتُ: نَعَم، إِنَّ جَدَّكَ تَحتَ الكِساءِ.

فَأَقبَلَ الحَسَنُ (علیه السلام) نَحوَ الكِساءِ وَقالَ: السَّلامُ عَلَيكَ يا جَدَّاهُ يا رَسُولَ اللهِ، أَتَأذَنُ لي أَن أَدخُلَ مَعَكَ تَحتَ الكِساءِ؟.

فَقالَ: وَعَلَيكَ السَّلامُ يا وَلَدِي وَيا صَاحِبَ حَوضِي قَد أَذِنتُ لَكَ.

فَدَخَلَ مَعَهُ تَحتَ الكِساءِ..

فَما كانَت إِلاَّ سَاعَةً وَإِذا بِوَلَدِيَ الحُسَينِ (علیه السلام) قَدْ أَقبَلَ وَقال: السَّلامُ عَلَيكِ يا أُمّاهُ.

فَقُلتُ: وَعَلَيكَ السَّلامُ يا قُرَّةَ عَيِني وَثَمَرَةَ فُؤادِي.

فَقالَ لِي: يا أُمّاهُ، إِنّي أَشَمُّ عِندَكِ رائِحَةً طَيِّبَةً كَأَنَّها رائِحَةُ جَدِي رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله)؟.

فَقُلتُ: نَعَم، إِنَّ جَدَّكَ وَأَخاكَ تَحتَ الكِساءِ.فَدَنَا الحُسَينُ (علیه السلام) نحوَ الكِساءِ وَقالَ: السَّلامُ عَلَيكَ يا جَدَّاهُ، السَّلامُ

ص: 60

عَلَيكَ يا مَنِ اختارَهُ اللهُ، أَتَأذَنُ لي أَن أَكونَ مَعَكُما تَحتَ الكِساءِ؟.

فَقالَ: وَعَلَيكَ السَّلامُ يا وَلَدِي وَيا شافِع أُمَّتِي قَد أَذِنتُ لَكَ.

فَدَخَلَ مَعَهُما تَحتَ الكِساء..

فَأَقبَلَ عِندَ ذلِكَ أَبو الحَسَنِ عَلِيُّ بنُ أَبي طالِبٍ (علیه السلام) وَقال: السَّلامُ عَلَيكِ يا بِنتَ رَسُولِ اللهِ.

فَقُلتُ: وَعَلَيكَ السَّلامُ يا أَبَا الحَسَن وَيا أَمِيرَ المُؤمِنينَ.

فَقالَ: يا فاطِمَةُ، إِنّي أَشَمُّ عِندَكِ رائِحَةً طَيِّبَةً كَأَنَّها رائِحَةُ أَخي وَابِنِ عَمّي رَسُولِ اللهِ؟.

فَقُلتُ: نَعَم، هَا هُوَ مَعَ وَلَدَيكَ تَحتَ الكِساءِ.

فَأقبَلَ عَلِيٌّ (علیه السلام) نَحوَ الكِساءِ وَقالَ: السَّلامُ عَلَيكَ يا رَسُولَ اللهِ، أَتَأذَنُ لي أَن أَكُونَ مَعَكُم تَحتَ الكِساءِ؟.

قالَ له: وَعَلَيكَ السَّلامُ يا أَخِي وَيا وَصِيّيِ وَخَلِيفَتِي وَصاحِبَ لِوائِي قَد أَذِنتُ لَكَ.

فَدَخَلَ عَلِيٌّ (علیه السلام) تَحتَ الكِساءِ..

ثُمَّ أَتَيتُ نَحوَ الكِساءِ وَقُلتُ: السَّلامُعَلَيكَ يا أبَتاهُ يا رَسُولَ الله، أَتأذَنُ لي أَن أَكونَ مَعَكُم تَحتَ الكِساءِ؟.

قالَ: وَعَليكِ السَّلامُ يا بِنتِي وَيا بَضعَتِي قَد أَذِنتُ لَكِ.

ص: 61

فَدَخَلتُ تَحتَ الكِساءِ..

فَلَمَّا اكتَمَلنا جَمِيعاً تَحتَ الكِساءِ أَخَذَ أَبي رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله) بِطَرَفَيِ الكِساءِ وَأَومَأَ بِيَدِهِ اليُمنى إِلىَ السَّماءِ وقالَ:

اللّهُمَّ إِنَّ هؤُلاءِ أَهلُ بَيتِي، وَخَاصَّتِي وَحَامَّتي، لَحمُهُم لَحمِي وَدَمُهُم دَمِي، يُؤلِمُني ما يُؤلِمُهُم، ويَحزُنُني ما يُحزِنُهُم، أَنَا حَربٌ لِمَن حارَبَهُم، وَسِلمٌ لِمَن سالَمَهُم، وَعَدوٌّ لِمَن عاداهُم، وَمُحِبٌّ لِمَن أَحَبَّهُم، إنًّهُم مِنّي وَأَنا مِنهُم، فَاجعَل صَلَواتِكَ وَبَرَكاتِكَ، وَرَحمَتكَ وغُفرانَكَ، وَرِضوانَكَ عَلَيَّ وَعَلَيهِم، وَأَذهِب عَنهُمْ الرِّجسَ وَطَهِّرهُم تَطهِيراً.

فَقالَ اللهُ عَزَّوَجَلَّ: يَا مَلائِكَتي وَيا سُكَّانَ سَماواتي، إِنّي ما خَلَقتُ سَماءً مَبنَّيةً، وَلاَ أرضاً مَدحيَّةً، وَلاَ قَمَراً مُنيراً، وَلاَ شَمساً مُضيِئةً، وَلاَ فَلَكاً يَدُورُ، وَلاَ بَحراً يَجري، وَلاَ فُلكاً يَسري، إِلاَّ في مَحَبَّةِ هؤُلاءِ الخَمسَةِ الَّذينَ هُم تَحتَ الكِساءِ.

فَقالَ الأَمِينُ جِبرائِيلُ: يا رَبِّ، وَمَنْ تَحتَ الكِساءِ؟.

فَقالَ عَزَّوَجَلَّ: هُم أَهلُ بَيتِ النُّبُوَّةِ وَمَعدِنُ الرِّسالَةِ، هُم فاطِمَةُ وَأَبُوها،وَبَعلُها وَبَنوها.

فَقالَ جِبرائِيلُ: يا رَبِّ، أَتَأذَنُ لي أَن أَهبِطَ إلَى الأَرضِ لأِكُونَ مَعَهُم سادِساً؟.

ص: 62

فَقالَ اللهُ: نَعَم، قَد أَذِنتُ لَكَ.

فَهَبَطَ الأَمِينُ جِبرائِيلُ وَقالَ: السَّلامُ عَلَيكَ يا رَسُولَ اللهِ، العَلِيُّ الأَعلَى يُقرِئُكَ السَّلام، وَيَخُصُّكَ بِالتًّحِيَّةِ وَالإِكرَامِ، وَيَقُولُ لَكَ:

وَعِزَّتي وَجَلالي إِنّي ما خَلَقتُ سَماءً مَبنيَّةً، ولاَ أَرضاً مَدحِيَّةً، وَلاَ قَمَراً مُنِيراً، وَلاَ شَمساً مُضِيئَةً، ولاَ فَلَكاً يَدُورُ، ولاَ بَحراً يَجري، وَلاَ فُلكاً يَسري، إِلاَّ لأَجلِكُم وَمَحَبَّتِكُم، وَقَد أَذِنَ لِي أَن أَدخُلَ مَعَكُم، فَهَل تَأذَنُ لِي يِا رَسُول اللهِ؟.

فَقالَ رَسُولُ الله (صلی الله علیه و آله): وَعَلَيكَ السَّلامُ يَا أَمِينَ وَحيِ اللهِ، إِنَّهُ نَعَم قَد أَذِنتُ لَكَ.

فَدَخَلَ جِبرائِيلُ مَعَنا تَحتَ الكِساءِ، فَقالَ لأِبي: إِنَّ اللهَ قَد أَوحى إِلَيكُم يَقولُ:

«إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً»(1).

فَقالَ عَلِيٌّ (علیه السلام) لأَبِي: يا رَسُولَ اللهِ، أَخبِرنِي مَا لِجُلُوسِنا هَذَا تَحتَالكِساءِ مِنَ الفَضلِ عِندَ اللهِ؟.

ص: 63


1- سورة الأحزاب: 33.

فَقالَ النَّبيُّ (صلی الله علیه و آله): وَالَّذي بَعَثَنِي بِالحَقِّ نَبِيّاً وَاصطَفانِي بِالرِّسالَةِ نَجِيّاً، ما ذُكِرَ خَبَرُنا هذا فِي مَحفِلٍ مِن مَحافِل أَهلِ الأَرَضِ وَفِيهِ جَمعٌ مِن شِيعَتِنا وَمُحِبِيِّنا إِلاَّ وَنَزَلَت عَلَيهِمُ الرَّحمَةُ، وَحَفَّت بِهِمُ المَلائِكَةُ وَاستَغفَرَتلهم إِلى أَن يَتَفَرَّقُوا.

فَقالَ عَلِيٌّ (علیه السلام): إذَاً وَاللهِ فُزنا وَفازَ شِيعَتنُا وَرَبِّ الكَعبَةِ.

فَقالَ أَبي رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله): يَا عَلِيُّ، وَالَّذي بَعَثَني بِالحَقِّ نَبِيّاً وَاصطَفاني بِالرِّسالَةِ نَجِيّاً، ما ذُكِرَ خَبَرُنا هذا في مَحفِلٍ مِن مَحافِلِ أَهلِ الأَرضِ وَفِيهِ جَمعٌ مِن شِيعَتِنا وَمُحِبّيِنا وَفِيهِم مَهمُومٌ إِلاَّ وَفَرَّجَ اللهُ هَمَّهُ، وَلاَ مَغمُومٌ إِلاَّ وَكَشَفَ اللهُ غَمَّهُ، وَلاَ طالِبُ حاجَةٍ إِلاَّ وَقَضى اللهُ حاجَتَهُ.

فَقالَ عَلِيٌّ (علیه السلام): إذَاً وَاللهِ فُزنا وَسُعِدنا، وَكَذلِكَ شِيعَتُنا فَازوا وَسُعِدوا في الدُّنيا وَالآخِرَةِ وَرَبِّ الكَعبَةِ».

ص: 64

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين.

وبعد: فقد روى والدي (رحمه الله تعالى) حديث الكساء في مجموعة له، بسند صحيح إلى فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)، كما رواه غيره(1):

ص: 65


1- وإليك نص حديث الكساء سنداً - على ما في (عوالم العلوم والمعارف والأحوال)، تحقيق وطبع مؤسسة الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) قم -: رأيت بخط الشيخ الجليل السيد هاشم، عن شيخه السيد ماجد البحراني، عن الحسن بن زين الدين الشهيد الثاني، عن شيخه المقدس الأردبيلي، عن شيخه علي بن عبد العالي الكركي، عن الشيخ علي بن هلال الجزائري، عن الشيخ أحمد بن فهد الحلي، عن الشيخ علي بن الخازن الحائري، عن الشيخ ضياء الدين علي بن الشهيد الأول، عن أبيه، عن فخر المحققين، عن شيخه العلامة الحلي، عن شيخه المحقق، عن شيخه ابن نما الحلي، عن شيخه محمد بن إدريس الحلي، عن ابن حمزة الطوسي صاحب (ثاقب المناقب)، عن شيخه الجليل الحسن بن محمد بن الحسن الطوسي، عن الشيخ الجليل محمد بن شهر آشوب، عن الطبرسي صاحب (الاحتجاج)، عن أبيه شيخ الطائفة، عن شيخه المفيد، عن شيخه ابن قولويه القمي، عن شيخه الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه إبراهيم بن هاشم، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي، عن قاسم بن يحيى الجلاء الكوفي، عن أبي بصير، عن أبان بن تغلب البكري، عن جابر بن يزيد الجعفي، عن جابر بن عبد الله الأنصاري، عن فاطمة الزهراء (علیها السلام) بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) ... وهذا السند في منتهى الجلالة ورجاله من كبار ومشاهير العلماء، أما القاسم بن يحيى فالصحيح عندنا تبعاً لجمع منهم صاحب (الجواهر) و(العديد) وغيره، اعتباره إذ هو من شيوخ البزنطي، والبزنطي صح أنه لا يروي إلاّ عن ثقة، وأما جابر ففيه قولان، وقد اعتبره جمع وهو الأصح. وقد نقل متن حديث الكساء أيضاً العلامة الثقة فخر الدين الطريحي الأسدي صاحب (مجمع البحرين) في كتاب (المنتخب الكبير)، وكذلك نقل ما يقرب من نصفه الديلمي صاحب (الإرشاد) في (الغرر والدرر)، وكذلك نقله كله الحسين العلوي الدمشقي الحنفي، وكذلك آخرون، وهو من الإشتهار بحيث يغني عن تتبع السند، وقد سبق في المقدمة وسيأتي في البحث عن سند خطبتها (علیها السلام) في المسجد ما ينفع في المقام جداً، فليراجع.

عَنْ جَابر بن عَبْدِ اللهِ الأنْصَاري، عَنْ فَاطِمَةَ الزَّهراءِ (علیها السلام)

اشارة

------------------------------

استحباب الرواية

استحباب الرواية(1)مسألة: تستحب رواية الأحاديث، كما روت (صلوات الله عليها) هذا الحديث لجابر، وكما روى جابر لغيره وقررتها الزهراء (علیها السلام) بحكايتهاله، وبلحاظ العلة الغائية لحكايتهاله(2).

وهذا وإن لم يكن من التقرير الاصطلاحي لكنه نوع من التقرير بالمعنى الأعم، إذ التقرير عبارة عن: الإقرار لشيء(3) أو بشيء لفظاً أو قلباً أو إشارةً، فلا فرق بين أن يعمل الإنسان عملاً ويسكت عليه الطرف الآخر، حيث إنه يقرره إذا لم يكن هناك محذور في سكوته، أو أن يقرأ إنسان على إنسان شيئاً آخر فإنه تقرير أيضاً، لكنه ليس تقريراً سكوتياً وإنما تقريراً بالقراءة، فتأمل.

ص: 66


1- راجع حول هذا المبحث والبحوث اللاحقة: (الفقه: الآداب والسنن) و(الفقه: الواجبات والمحرمات).
2- إذ كان الهدف من حكايتهاله أن ينقل هذا الحديث الشريف للآخرين.
3- الإقرار لغة يأتي بمعان: التثبيت والتحقيق والإذعان والتبيين وغير ذلك.

..............................

وهناك تقرير ثالث وهو: التقرير العملي، كما إذا جعل الإشارة بالرأس أو باليد أو العين أو ما أشبه، علامةً لشيء، سواء سكت في قبال تلك أو فعلتلك فإنه أيضاً تقرير.

ومن المعلوم إن كل ذلك بالنسبة إلى المعصوم (صلوات الله عليه) دليل على الصحة، بل لا يبعد أن يكون مثل ذلك شهادة أيضاً، فتأمل(1).

مثلاً: لو أن إنساناً شاهد زيداً وهو يسرق أو يقوم بغيرها مما يوجب الحد، لكنه امتنع من إقامة الشهادة عليه عند الحاكم خوفاً من ذلك السارق، فيتفق سراً مع الحاكم أنه إذا سكت أو أشار إشارة حال قراءة الحاكم للدعوى فإنه يكون دليلاً على السرقة أو ما أشبه ذلك.

وهل هذا يجري في الزنا أيضاً؟.

احتمالان، والأقرب العدم؛ لأن مقتضى أن (الحدود تدرأ بالشبهات)(2) وأشدية الأمر في الزنا لزوم أن يكون بإقراره أربعاً، أو بالشهود الذين يتلفظون بالزنا تلفظاً لا بمثل الإشارة والكتابة، ولا يخفى أنه يجري هذا الوجه في كل الحدود(3).

ص: 67


1- التأمل قد يكون بلحاظ درء الحدود بالشبهات كما سيأتي.
2- راجع وسائل الشيعة: ج28 ص47 ب24 باب أنه لا يمين في حد وأن الحدود تدرأ بالشبهات.
3- راجع (الفقه: القواعد الفقهية) و(الفقه: الحدود والتعزيزات) للإمام الشيرازي (رحمة الله).

بِنتِ رَسُول اللهِ (صلی الله علیه و آله)، قَالَ: سَمِعْتُ فاطِمَةَ أَنِّها قالَت:

اشارة

------------------------------

رواية النساء

مسألة: يستحب للنساء أيضاً رواية الأحاديث(1)، لأنها (صلوات الله عليها) أسوة، فإنها (علیها السلام) وإن كانت معصومةً ولها خصائص مثل حرمة زواج علي (علیه السلام) عليها ما دامت في قيد الحياة، إلاّ أن الظاهر من الأدلة أنهم (علیهم السلام) أسوة إلاّ فيما خرج بالدليل، وليس المقام من المستثنى.

ويدل على كونها (سلام الله عليها) أسوة:

إنها (علیها السلام) معصومة نصاً وإجماعاً وعقلاً، والمعصومة لا تفعل إلاّما يطابق رضى الله سبحانه، كما ورد في الأحاديث ما يدل على أنها (علیها السلام) أسوة (2)، وكذلك حال مريم الطاهرة (علیها السلام).

وفي بعض الروايات: إنها (صلوات الله عليها) تعادل علياً (علیه السلام) (3)، وفي جملة

ص: 68


1- قد يذكر الخاص بعد العام أو قبلة، والصغرى بعد الكبرى لأهميتها، أو لطرد احتمال الاستثناء أو لغير ذلك من الجهات، وعلى ذلك جرى ديدن الكتاب، كما قد يتكرر ذكر المسألة تمهيداً لذكر فوائد جديدة وإضافات عديدة، وقد تذكر بعض المسائل باعتبارها كبرى لصغرى مذكورة في كلماتها (علیها السلام).
2- راجع الاحتجاج: ج2 ص467 احتجاج الحجة القائم المنتظر المهدي صاحب الزمان صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين.
3- راجع المناقب لابن شهر آشوب: ج3 ص349 فصل في تزويجها (علیها السلام).

..............................

من الروايات: إنها (سلام الله عليها) أفضل من غير أبيها (صلی الله علیه و آله) (1)، كما يشهد به: «لم يكن لفاطمة كفو على وجه الأرض آدم فمن دونه»(2)، وقال الحسين (علیهالسلام): «أمي خير مني»(3)، إلى غيرها من الروايات(4).

ومن الواضح أن ذلك ليس فقط لأجل علمها (علیها السلام) وإن كان علمها في غاية السمو والرفعة، بل لأن الله سبحانه خلقها (علیها السلام) رفيعة كما خلق الماء الحلو والذهب والشمس أرفع من المر والصخر والقمر، حيث إن نوره مستفاد من نور الشمس، وفي الحديث: «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة»(5).

لا يقال: فإذا خلقها الله كذلك فما هو فضلها (علیها السلام)؟.

لأنه يقال:

نقضاً: فما هو فضل الذهب والماء الحلو والأذكياء والعباقرة؟.

وحلاً: بأن حكمة الخلق تقتضي خلق كل ما يمكن - من المجرة إلى الذرة - فإذا لم يخلق الله كذلك فلماذا؟.

وإذا خلق كل شيء هكذا، فلماذا لايخلق الأدون فالأدون وهكذا؟(6).

ص: 69


1- راجع دلائل الإمامة للطبري: ص28 خبر مصحفها (علیها السلام). ويستفاد من حديث المصحف وفيه: «كانت مفروضة الطاعة على جميع من خلق الله ... والأنبياء والملائكة».
2- الكافي: ج1 ص461 باب مولد الزهراء فاطمة (علیها السلام) ح10.
3- الإرشاد للشيخ المفيد: ج2 ص94 باب ذكر الإمام بعد الحسن بن علي (علیه السلام).
4- والحديث عن ذلك تفصيلاً تجده في ثنايا الكتاب وقد أشرنا إلى ذلك في المقدمة.
5- من لا يحضره الفقيه: ج4 ص380 ومن ألفاظ رسول الله (صلی الله علیه و آله) الموجزة التي لم يسبق إليها ح5821.
6- أشار الإمام المؤلف (قدس سره) إلى أجوبة أخرى على هذا السؤال في العديد من كتبه ومنها: (الفقه: حول القرآن الحكيم) و(القول السديد في شرح التجريد) و(شرح المنظومة) وغير ذلك. ولعل مما يجاب به عن الإشكال: إن الله تعالى لعلمه بأن الأئمة والأنبياء (علیهم السلام) سيكونون - في دار الدنيا - خير من سيخرج من الامتحان الإلهي لذلك أفاض عليهم المزيد من لطفه وفضله وجعلهم من معدن أسمى، وذلك كما أن الاستاذ لو اكتشف أن أحد تلامذته سيكون أشد الجميع اجتهاداً ومثابرة فإن من الطبيعي ومن العدل أيضاً أن يوليه الأستاذ مزيداً من الاهتمام ويخصه - دون سائر التلاميذ - بمقدار أكبر من الوقت والتوجيه والعطاء قال تعالى: «أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا» - الرعد: 17 - وربما يفسر الأمر أيضاً بالنجاح في عالم الذر أو عوالم أخرى أسبق، مما سبب مزيداً من الإفاضة على الناجح في العوالم اللاحقة.

..............................

ولا شك أن رفعة علمها (علیها السلام) أيضاً من أسباب رفعتها، وكذلك حال الأنبياء والأوصياء (علیهم السلام) «خلقكم الله أنواراً»(1)،(2).

رواية الرجال عن النساء

مسألة: يجوز رواية الرجال عن النساء في الجملة، لإطلاق الأدلة، بالإضافة إلى ما في هذا الحديث، كما يجوز العكس أيضاً.

وهكذا رواية النساء عن النساء، والرجال عن الرجال بالضرورة.

والمراد بالجواز: الأعم من المباح والواجب والمستحب، كل حسب الموازين المقررة.

ص: 70


1- من لا يحضره الفقيه: ج2 ص613 زيارة جامعة لجميع الأئمة (علیهم السلام) ح3213.
2- حول هذا المبحث راجع (الفقه: البيع) و(القول السديد في شرح التجريد) للإمام المؤلف (قدس سره)، و(عبقات الأنوار) لمير حامد حسين الموسوي الهندي، و(إحقاق الحق) للتستري، و(بحارالأنوار) للعلامة المجلسي (رحمهم الله).

..............................

والإسلام إنما منع ما منع لفلسفة، ولم يمنع مثل ذلك، وبذلك يظهر أن ما ورد في بعض الروايات: «صوت المرأة عورة»(1) إنما هو مثل ما ورد من: «إن المرأة عورة»(2) يراد به المنع عنالاختلاط والمفاسد، ولذا قال سبحانه: «فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ»(3) ولم يقل: فلا تتكلمن.

وتكلم الرجال مع النساء وبالعكس قامت عليه السيرة، والروايات دلت على ذلك أيضاً..

وذلك هو المراد بحديث: «أن لا ترى رجلاً ولا يراها رجل»(4). فإن المراد من «أن لا يراها رجل» رؤية جسمها العاري وما أشبه مما منعه الإسلام، كما أن المراد من «أن لا ترى رجلاً» رؤيتها الجسم العاري من الرجل، وإلاّ فمن الواضح حضور النساء مجالس الرسول (صلی الله علیه و آله) وتحدثهن معه (صلی الله علیه و آله) وكذلك بالنسبة إلى علي (علیه السلام) وسائر الأئمة (علیهم السلام) مما هو كثير.

ومن المعلوم أن أمثال هذه الإطلاقات - كسائر الإطلاقات - تُقَيَّد بما عُلم من الشريعة، وذكرها الفقهاء في الكتب الاستدلالية والرسائل العملية.

ص: 71


1- راجع مستدرك الوسائل: ج14 ص280 ب90 ح16718، وفيه أنه (صلی الله علیه و آله): «نهى النساء عن إظهار الصوت إلاّ من ضرورة».
2- راجع الكافي: ج5 ص511 باب حق المرأة على الزوج ح3، وفيه عن الإمام الصادق (علیه السلام): «اتقوا الله في الضعيفين، يعني بذلك اليتيم والنساء وإنما هن عورة».
3- سورة الأحزاب: 32.
4- المناقب لابن شهر آشوب: ج3 ص341 فصل في سيرتها.

..............................

رواية حديث الكساء

مسألة: يستحب رواية حديث الكساء بصورة خاصة، وقد جرت عادة كثير من المؤمنين منذ مئات السنين على رواية هذا الحديث، في المحافل والمجامع، بقصد التبرك وقضاء الحوائج.

تسمية المرأة

مسألة: يجوز للرجل تسمية المرأة في الجملة، فإن جابراً سمى الزهراء (علیها السلام) بالاسم، وكذلك كان الرسول (صلی الله علیه و آله) والأئمة (علیهم السلام) يسمون النساء، من خديجة (علیها السلام) ومن سبقتها، من فضليات النساء أو شرارهن، إلى آخر أم من أمهات الأئمة (علیهم السلام) وهي السيدة نرجس (علیها السلام) ، أمام الأقارب والأجانب.

وقبل ذلك سمى الله سبحانه مريم الطاهرة (علیها السلام) في القرآن الحكيم، وهو يُتلى آناء الليل وأطراف النهار.

ومن الواضح أن ذلك ليس خاصاً بالله وبهم (علیهم السلام) ولذا ذكرهنعلماؤنا الأعلام على المنابر وفي الكتب وغيرها.

كما لا يحرم ذكر بعض الخصوصياتلهن، كارتفاع القامة والعمر ونحوهما، وإنما يستثنى (التشبيب) كما ذكر في (الفقه).

وكذلك لا إشكال في العكس بأن تسمي المرأة الرجل - محرماً أو غير محرم - لإطلاق الأدلة وعدم دليل على الحرمة، بل ولا كراهة.

ص: 72

..............................

نعم الظاهر حرمة التشبيب أيضاً منها بالنسبة إليه، للملاك وإن لم يتعرض له المشهور من الفقهاء. وكذلك ما إذا كان ذكر الاسم إغراءاً لا من جهة كونه ذكراً للاسم بل من جهة العارض.

وهل الاسم يعد من حقها، بحيث إذا كرهت ذلك لم يجز الذكر، حيث إنه تصرف في حق الغير، أو لا؟.

لا يبعد الثاني، وكذلك بالنسبة إلى من لم يرض ذكر اسمه من الرجال، إلاّ إذا كان هناك محذور خارجي، فالمنع بسببه، لا بسبب ذكر الاسم.

صوت الأجنبية

مسألة:

يجوز سماع صوت الأجنبية حتى في غير مورد الضرورة في الجملة، وإلا لما كانت فاطمة (سلام الله عليها) تروي لجابر (رحمة الله).

أما الجواز، فللأصل والسيرة والروايات المتعددة في مكالمة النساء للرجال في غير مورد الضرورة.

أما الضرورة فإنها تبيح المحرمات، كما ورد: «إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ»(1) وفي الحديث: «ليس شيء مما حرم الله إلاّ وقد أحله لمن اضطر إليه»(2)، والمراد بالاضطرار هنا الأعم من الإكراه، فإنهما يطلقان على كليهما في غير مورد المقابلة كالفقير والمسكين (إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا).

ص: 73


1- سورة الأنعام: 119.
2- وسائل الشيعة: ج23 ص228 ب12 ح29442.

..............................

نعم، قد تقدم أن المحرّم هو الخضوع بالقول للآية والرواية.

ولا يبعد أن يكون ذلك أيضاً مقيداً بقوله سبحانه: «فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ»(1) فإذا لم يكن هناك من كان كذلك لم يتم دليل على الحرمة حتى في صورةالخضوع.

وعليه يحمل جعل الإمام الباقر (علیه السلام) مالاً للنوادب يندبنه في منى(2) مع وضوح أن صوتهن كان مسموعاً من خلف الخيام.

أما أن يكون ذلك استثناءً من الخضوع حتى عند من يطمع من مرضى القلب فبعيد جداً.

ولذا لم أجد من الفقهاء من منع قراءة النساء في مجالس العزاء وإن كان الصوت يصل إلى مسامع الرجال، والمسألة بعدُ بحاجة إلى التأمل والتتبع.

وهل العكس - بأن يخضع الرجل بالقول فتطمع أنثى في قلبها مرض - كذلك، أم بالنسبة إلى الذكور في من يطمع شذوذاً جنسياً؟.

لا يبعد الثاني ملاكاً، أما الأول فبعيد، فتأمل.

ص: 74


1- سورة الأحزاب: 32.
2- الكافي: ج5 ص117 باب كسب النائحة ح1، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «قال لي أبي: يا جعفر أوقف لي من مالي كذا وكذا لنوادب تندبني عشر سنين بمنى أيام منى».

دَخَلَ عَلَيَّ أبي رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله)

اشارة

------------------------------

استحباب التلقيب

مسألة: يستحب التلقيب؛ لأنه نوع من التكريم وللأسوة، حيث قالت (سلام الله عليها): «دخل عليَّ أبي رسول الله (صلی الله علیه و آله)».

وهل يدل على الاستحباب، أو الجواز؟.

الظاهر الأول للقرينة الداخلية، كما أن قرينة جعل الإسلام احترام الناس أصلاً للآيات والروايات و... وقد قال سبحانه: «كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ»(1)، وما أشبه يدل عليه.

وفي الأحاديث أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان يكنّي أصحابه(2).

ولا يبعد أن يكون اللقب أو الكنيةبالنسبة إلى الأقرباء - خصوصاً الكبار منهم كالأب والأم - آكد استحباباً، ويلمع إليه ما سبق(3) وأن الرسول (صلی الله علیه و آله) كان أباًلها (علیها السلام).

ص: 75


1- سورة الإسراء: 70.
2- راجع كتاب (من حياة الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله)) للإمام المؤلف (قدس سره)، وكتاب (منية المريد) للشهيد (رحمة الله): ص193 وفيه: فلقد كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يكني أصحابه إكرامالهم فإن ذلك ونحوه أشرح لصدورهم وأبسط لسؤالهم وأجلب لمحبتهم.
3- قد يكون المراد أن الاحترام مشكك ذو درجات، وكلما كان الآخر أقرب للإنسان رحماً أو أقوى عليه حقاً تأكد الاحترام أكثر فأكثر.

..............................

وهنا سؤال لابدّ من الإجابة عليه، وهو أن القرآن قد يمدح الإنسان مثل:

«كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ»(1).

و: «فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ»(2).

و: «فَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا»(3)..

إلى غير ذلك.

وقد يذمه، مثل: «إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً»(4).و: «خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ»(5).

و: «إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً»(6)..

إلى غير ذلك.

فكيف الجمع؟.

والجواب:

إن الأول بالنظر إلى الذات، والثاني بالنظر إلى فعل الإنسان بنفسه،

ص: 76


1- سورة الإسراء:70.
2- سورة المؤمنون: 14.
3- سورة الإسراء: 70.
4- سورة المعارج: 19.
5- سورة الأنبياء: 37.
6- سورة الأحزاب: 72.

..............................

ومعنى (خلق) أنه كذلك(1) لا أنه في طينته الجبرية، كما هو واضح.

وذكرها (علیها السلام) الكنية واللقب من جهة التلذذ بتكرار اسم المحبوب، كما قاله أهل البلاغة.

قال المتنبي:

أسامي لم تزده معرفة *** وإنما لذة ذكرناها

وتقديم الكنية من جهة الإلماع أولاً إلى القرابة القريبة، وإلاّ فالرسول (صلی الله علیه و آله) كان يدخل في كثيرمن البيوت.

ص: 77


1- ف (هلوعاً) مثلاً حال، وهو إشارة إلى ما عليه الإنسان في فعله، وإخبار عما سيكون عليه نفسياً أو عملياً بما هو داخل في دائرة الاختيار أو بنحو الاقتضاء.

فِي بَعضِ الأيَّامِ

اشارة

------------------------------

توقيت الأمور

مسألة: يستحب التوقيت، ومن مصاديقة كون الحادث ليلاً أو نهاراً، حيث قالت (علیها السلام): «في بعض الأيام» حتى لا يظن أو يحتمل أن الحادث كان في بعض الليالي، لانصراف اليوم في المقام إلى النهار، وإن صح إطلاقه على مجموعة الليل والنهار، أو النهار كاملاً، كما يقال: أقام في البلد الفلاني عشرة أيام، أو درسنا التفسير في خمسة أيام.

وكذلك حال الأسبوع والشهر والسنة.

أما إذا قيل الليل فلا يشمل النهار، كما أن النهار لا يشمل الليل.

وإنما استفدنا الاستحباب؛ لأنه لولا ذلك لكان قولها (علیها السلام): «في بعض الأيام» لغواً والعياذ بالله(1) فتأمل.

وقد ورد عن رسول الله (صلی الله علیه وآله): «إذا عمل أحدكم عملاً فليتقن»(2). والكلام عن العمل، وذكر الوقت من الإتقان، ولعله داخل في: «كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ» (3).

ص: 78


1- والأصل في كل كلمة من كلام الحكيم - فكيف إذا كان قمة في الحكمة والبلاغة - أنها جيء بها لغرض وفائدة.
2- الكافي: ج3 ص263 باب النوادر ح45.
3- سورة الحجر: 19.

..............................

وقوله (علیه السلام): «إني أعلم أنها نزلت في ليل أنزلت أو نهار»(1) ولو بالملاك وتنقيح المناط.

وقد سبق الإسلامُ الحضارةَ الحديثة في ذكر التوقيت وربط الأعمال به، ولذا وضع لكل من ساعات الليل وساعات النهار دعاءً، بالإضافة إلى مواقيت الصلاة والحج والصوم والعيد وغير ذلك مما هو كثير.

ولا يخفى أن (الساعة) قد تطلق على جزء من الوقت، كما تطلق على المحدد بستين دقيقة، وعلى تقسيم النهار من الطلوع إلى الغروب إلى اثني عشر قسماً، كل منها يسمى ساعة أيضاً، وكذلك الليل، على تفصيل ذكره علماءالفلك(2).

ص: 79


1- الأمالي للصدوق: ص342 المجلس55 ح1، وفيه: «لو سألتموني عن آية آية في ليل أنزلت أو في نهار أنزلت ... أخبرتكم».
2- وسيأتي مزيد من الحديث عن (التوقيت) عند قولها (علیها السلام): «فما كانت إلا ساعة».

فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيكِ يا فاطِمَةُ

ترتيب المطالب

مسألة: يُرجّح ترتيب المطالب على وجه يفيد مطابقة مرحلة الإثبات لمرحلة الثبوت، كما قالت (علیها السلام): «دخل عليَّ أبي ... فقال»، فجاءت (سلام الله عليها) بفاء التفريع ولم تقل: (وقال)، وفرقهما واضح. فإن في اللغة العربية خصوصيات حتى بالنسبة إلى الكلمة وجزء الكلمة.

كما قالوا: قوله سبحانه وتعالى: «ذلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ»(1) مع أنه لا وجه - كما قد يتوهم - لحذف الياء، قالوا: لأنه حكاية عن سرعة كلامه، حيث إن المسرع في كلامه يحذف بعض الكلمة، ولغتهم وإن لم تكن لغة العرب، لكن الله سبحانه وتعالى حذف الياء علامة على ذلك في لغتهم.

ومثلاً: قال علي (عليه الصلاة والسلام) فيما يروى عنه:أنا

الذي سمتني أمي حيدرة*** ضرغام آجام وليث قسورة (2)

فإن الإمام (علیه السلام) لم يرد ذكر المرادفات للأسد لمجرد التكرار والجمال، وإنما أراد خصوصيات الأسد في أحواله المختلفة، فإن كل أسم وضع لخصوصية من خصوصيات الأسد.

ص: 80


1- سورة الكهف: 64.
2- المناقب: ج3 ص129 فصل في مقامه (علیه السلام) في غزاة خيبر.

..............................

فالأسد يسمى: (حيدراً وحيدرة) حينما ينزل من مكان مرتفع كالجبل ونحوه حيث يستلزم المهابة الشديدة.

ويسمى: (ضرغام آجام)؛ لأن الضرغام في الآجام يزأر فيملأ الأجمة بصوته المرعب.

ويقال له: (ليث)، باعتبار تلوثه بالفريسة، وهذا منظر مخيف جداً للفريسة وللإنسان الذي يشاهدها.

ويسمى: (قسورة)، فيما إذا كان يطارد حيواناً أو قطيعاً من الحيوانات، فلذا قال سبحانه: «كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ»(1).

وورد في بعض كتب العرب أن امرؤ القيس قال قصيدة مطلعها: (دنت الساعةوانشق القمر)، ثم نزل قوله تعالى: «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ»(2)، فقال بعض أدباء الجاهليين: إن هذه الآية تمتاز بسبعين نكتة من حيث الفصاحة والبلاغة على كلام امرؤ القيس.

استحباب الابتداء بالسلام

مسألة: يستحب الابتداء بالسلام حتى من الكبير على من دونه(3). ولذا سلم الرسول وعليٌّ (علیهما السلام) على فاطمة (علیها السلام) .

ص: 81


1- سورة المدثر: 5051.
2- سورة القمر: 1.
3- راجع (الفقه: الآداب والسنن) للإمام الشيرازي (رحمة الله).

..............................

بل في بعض الروايات: استحباب سلام الكبير على الصغير(1)، وقد كان (صلی الله علیه و آله) يسلّم على الأطفال(2)، وفيه من التواضع والتعليم ما ليس في عكسه.

وكذا الأمر في سلام الراكب على الراجل، إلى غير ذلك من أحكام السلام الكثيرة (3)، وقد جمعها ابن العم السيد عبد الهادي (قدس سره)(4) في رسالة مستقلة أنهاها إلى ألف مسألة.

وقد ذهبنا في (الفقه) إلى كفايةلفظ (سلام) و(سلاماً) في تحقق السلام،

ص: 82


1- راجع مستدرك الوسائل: ج8 ص364 ب34.
2- راجع مستدرك الوسائل: ج8 ص364 ب34 ح9685 وفيه: «إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) مر على صبيان فسلّم عليهم»، ومستدرك الوسائل: ج8 ص364 ب34 ح9686 وفيه: «كان (صلی الله علیه و آله) يسلّم على الصغير والكبير».
3- راجع (الفقه: أحكام التحية والسلام)، للإمام الشيرازي (رحمة الله).
4- هو آية الله العظمى السيد عبد الهادي بن السيد ميرزا إسماعيل بن السيد رضي الدين الشيرازي النجفي. وُلد في سر من رأى عام 1305ه في السنة التي توفي بها والده الحجة، وهو ابن عم آية الله العظمى الميرزا مهدي الشيرازي (قدس سره). هاجر إلى كربلاء وحضر على بعض علمائها، تخرج على الشيخ ملا محمد كاظم الآخوند الخراساني والميرزا محمد تقي الشيرازي وشيخ الشريعة الأصفهاني. كان عالماً محققاً منقباً، ذا رأي صائب، قوي الحافظة أديباً شاعراً، آلت إليه المرجعية الدينية بعد وفاة السيد أبو الحسن الأصفهاني (قدس سره)، فكان من مراجع الشيعة الكبار،.له مواقف مشرفة ضد الاستعمار البريطاني، اشترك مع الشيخ الشيرازي (رحمة الله) في ثورة العشرين، ووقف بوجه المد الشيوعي وأصدر فتواه الشهيرة بضلالتهم، توفي عام 1382ه. من مؤلفاته: كتاب الطهارة ، كتاب الصوم، كتاب الزكاة، رسالة في اللباس المشكوك، رسالة في الاستصحاب، رسالة في اجتماع الأمر والنهي، دار السلام في فروع السلام وأحكامه، أنهاها إلى ألف فرع، كتاب الحوالة، رسالة في الرضاع، الوسيلة، الذخيرة، تعليقة العروة الوثقى، الرسالة العملية العربية، الرسالة العملية الفارسية.

..............................

كما يدل على ذلك الإطلاقات والآية: «قَالُوا سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ»(1) ويؤيده الاعتبار، وسيأتي تفصيل ذلك.

فالمستفاد من الحديث استحباب السلام الكامل؛ لأنهم سلّموا عليها (علیهم السلام) بالصيغة الكاملة(2)، بالإضافة إلى أنه نوع احترام، واحترام المؤمن فكيف أمثالهم (علیهم السلام) من آكد المستحبات.

كما أن سلامهما (علیهما السلام) عليها (علیها السلام) وجوابها (علیها السلام) لهما (علیهما السلام) دليل على استحباب سلام الصغير أيضاً، فليس خاصاً بالكبير، بل ربما يقال: بوجوبجواب الكبير لغير البالغ أيضاً، كما تقتضيه الإطلاقات آيةً وروايةً، فتأمل(3).

نعم حديث الكساء لا يدل على أزيد من الرجحان.

السلام على فاطمة (علیها السلام)

مسألة: يستحب السلام على فاطمة (صلوات الله عليها) حيث قال (صلی الله علیه و آله): «السلام عليكِ»، وقد دل عليه بعض الأحاديث أيضاً.

ص: 83


1- سورة هود: 69.
2- لأصالة الأسوة والإلتزام بأن أفعالهم (علیهم السلام) داخلة في دائرة الواجب أو المستحب لا غير، ومما يشهد له وصية الرسول (صلی الله علیه و آله) لأبي ذر (رحمة الله) بأن تكون كل أفعاله لله - انظر مكارم الأخلاق: ص464 ب12 ف5 - وذلك في المباح ممكن أيضاً عبر النية ف (إنما الأعمال بالنيات) - وسائل الشيعة: ج1 ص48 ب5 ح89 -.
3- قد يكون الوجه رفع التكاليف عنه وبالنسبة إليه مطلقاً إلاّ ما خرج.

..............................

ولا فرق في ذلك - فيها (علیها السلام) وفي سائر المعصومين (علیهم السلام) - بين حيّهم وميّتهم، فهم (علیهم السلام) حاضرون ناظرون «أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ»(1).

سلام الرجل على المرأة

مسألة: يستحب سلام الرجل علىالمرأة إذا كانت من محارمه، ولذا سلّم الرسول (صلی الله علیه و آله) وعلي (علیه السلام) على فاطمة (سلام الله عليها).

أما في المحارم فلا إشكال.

وأما في غير المحارم فإذا لم يكن بتلذذ وريبة، ولذا ورد أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان يسلّم على النساء، وعليٌّ (علیه السلام) كان يسلّم على غير الشابة منهن(2)، والسر كي لا يتخذ أسوة؛ لأن مجتمع مكة كان يختلف عن مجتمع الكوفة حيث تجمع فيه أخلاط من الناس، وكان من مظان افتتان الناس.

ومنه يعلم: وجه سلام الصحابة على نساء النبي (صلی الله علیه و آله) كما في بعض التواريخ، وعلى الزهراء (علیها السلام).

والظاهر: الحرمة في سلام المرأة على الرجل الأجنبي إذا كان عن تلذذ أو خوف ريبة، أما بدونهما فلا إشكال، ولذا كنّ يسلمنّ على الرسول (صلی الله علیه و آله) والأئمة (علیهم السلام) كما في بعض التواريخ.

ص: 84


1- سورة آل عمران: 169.
2- راجع الكافي: ج2 ص648 باب التسليم على النساء ح،1 والكافي: ج5 ص535 باب التسليم على النساء ح3.

..............................

نعم إذا سلّم أحدهما على جماعة من مثله وفيه الجنس المخالف، مثل الرجل على مجموعة من النساء والرجال - في قافلة مثلاً - أو المرأة على جماعة من الرجال والنساء، فهو أبعد من الفتنة والريبة.

وإذا لم يحرم السلام في موضع، كان مستحباً إلاّ في الموارد المكروهة، كما ورد في موارد خاصة مذكورة في كتب الأحاديث.

ثم إذا حرم السلام، فالظاهر عدم وجوب الجواب، لانصراف أدلة الوجوب إلى السلام غير المحرَّم.

ص: 85

فَقُلتُ: عَلَيكَ السَّلامُ. قالَ: إنّي أَجِدُ في بَدَني ضُعفاً

اشارة

------------------------------

رد السلام

مسألة: يجب رد السلام، ولذا قالت (علیها السلام): «عليك السلام»، والفعل وإن كان أعم، إلاّ أن استفادة الوجوب إنما هي من الأدلة الأخرى.

الإخبار عن الحالة الجسدية والنفسية

مسألة: يجوز التشكي والإخبار عن الحالة الجسدية والنفسية، ويرجّح إن كان لفائدة كالتعليم أو دفع التوهم أو شبه ذلك، حيث قال (صلی الله علیه و آله): «إني أجد في بدني ضعفاً».

أما النفسية فبالملاك.

ولا إشكال في جواز الإخبار، وربما يقال بالاستحباب، لأنه (صلی الله علیه و آله) أسوة، والمنصرف من مثله (صلی الله علیه و آله) أنه يأتي بالراجح.

ويؤيده ما ورد من أن الشكاية إلى المؤمن شكاية إلى الله سبحانه(1)، وبذلكيقيّد ما ورد من كراهة التشكي(2).

ولعل قوله (صلی الله علیه و آله): «في بدني» لدفع توهم أنه في النفس تألماً مما يقوم به المشركون والأعداء، فيكون المراد به ما أراد إبراهيم (علیه السلام) حيث قال: «إِنِّي

ص: 86


1- راجع مستدرك الوسائل: ج2 ص72 ب5 ح1446.
2- راجع بحار الأنوار: ج13 ص348 ب11 ح35.

..............................

سَقِيمٌ»(1) - على إشكال - أو أنه في قبال الضعف في جزء من الجسد كالعين والأذن وما أشبه.

ويحتمل أن قوله (صلی الله علیه و آله): «إني أجد ... » كان تمهيداً لأمره بإتيانها (علیها السلام) بالكساء إليه، وكأنه لدفع توهم من إنسان - غيرها (علیها السلام) - إنه لماذا يريد المنام في النهار، وإذا كان كذلك كان دليلاً على رجحان دفع التوهم، و«رحم الله من جب الغيبة عن نفسه».

ويؤيده ما روي عنه (صلی الله علیه و آله) أنه كان يتكلم مع زوجة من زوجاته في الطريق فلما مر بهما إنسان، قال (صلی الله علیه و آله) له:يا فلان هذه زوجتي فلانة - دفعاً لتوهمه -.

فقال الصحابي: أومنك يا رسول الله (صلی الله علیه و آله) - يريد أنه لا يتوهم عن مثله (صلی الله علیه و آله) -.

فقال (صلی الله علیه و آله): «نعم، إن إبليس عدو الله ... يجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق»(2).

ولا يخفى أن قول إبراهيم (علیه السلام): «إِنِّي سَقِيمٌ»(3) لم يرد به المرض حتى يكون خلاف الواقع، بل أراد سقم النفس من كفرهم وشركهم، كما هو كذلك في كل متدين في مجتمع غير ديني.

ص: 87


1- سورة الصافات: 89.
2- تفسير العياشي: ج1 ص309 من سورة المائدة ح78، وفيه آخر الحديث فقط.
3- سورة الصافات: 89.

فَقُلتُ له: أُعِيذُكَ باللهِ يا أَبَتاهُ مِنَ الضُّعفِ

اشارة

------------------------------

الدعاء للمريض

مسألة: يستحب الدعاء للمريض(1) حيث قالت (سلام الله عليها): «أعيذك بالله يا أبتاه»، ولذلك كان دعاؤها (علیها السلام)(2). واستحبابه قد ورد في جملة من الروايات، سواء كان بحضرته(3) أم غائباً، وسواء بهذه اللفظة الواردة في هذا الخبر أم بلفظ آخر، وسواء كان المرض مؤلماً أم لا.

وهل من ذلك المرض القلبي قال سبحانه: «فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً»(4)؟.

الظاهر ذلك(5) ولذا كان(صلی الله علیه و آله) يقول: «اللهم اهدِ قومي فإنهم لايعلمون»(6) و(لا يعلمون) يراد به على طبق الواقع عملاً (7) وإن كانوا علموا، كما قال سبحانه:

ص: 88


1- راجع (الفقه: الآداب والسنن).
2- العديد من كلماتها (علیها السلام) - ومنها هذه الكلمة - تصلح أن تكون مؤيداً أو دليلاً على الحكم في مرحلة الإثبات، كما تصلح أن تكون معلولاً لوجود الحكم في مرحلة الثبوت، وها هنا (حيث) إشارة للقول و(لذلك) إشارة للثاني فليدقق.
3- أي بحضرة المريض.
4- سورة البقرة: 10.
5- سيأتي تقييده بالدعاء بالهداية وشبهها.
6- بحار الأنوار: ج20 ص21 ب12.
7- قد يكون المراد (العلم المؤدي للعمل والمحرك للجوارح) وقد يكون المراد (علم اليقين)، وقد يكون إشارة لمن لايعلم منهم، فتأمل.

..............................

«وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ»(1).

وهل يجوز الدعاء للمريض المؤذي للمسلمين كفراً أو نفاقاً أو ظلماً؟.

لا إشكال في جوازه في الهداية وكفّ الظلم.

والكلام في جواز الدعاء له بالعمر الطويل والمال الكثير والعافية البدنية؟.

الظاهر العدم؛ لأنه بملاك الدعاء على المؤمن.

وفي قول الصادق (علیه السلام) لإبراهيم الجمال دلالة عليه(2).ثم لا يخفى أن الأمور كلها بيد الله سبحانه، قال تعالى: «وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ»(3)، وإذا كان كذلك فما شأن الدواء؟.

ص: 89


1- سورة النمل: 14.
2- ربما أراد المؤلف (رحمة الله) قول الإمام موسى بن جعفر (علیه السلام) لصفوان الجمال كما في الحديث التالي: عن صفوان بن مهران الجمال قال: دخلت على أبي الحسن الأول (علیه السلام) فقال لي: يا صفوان كل شي ء منك حسن جميل ما خلا شيئاً واحدا، قلت: جُعلت فداك أي شي ء؟ قال: إكراءك جمالك من هذا الرجل يعني هارون، قلت: والله ما أكريته أشرا ولا بطرا ولا للصيد ولا للهو ولكن أكريته لهذا الطريق يعني طريق مكة ولا أتولاه بنفسي ولكني أبعث معه غلماني، فقال لي: يا صفوان أيقع كراك عليهم؟ قلت: نعم جعلت فداك، قال: فقال لي: أتحب بقاءهم حتى يخرج كراك؟ قلت: نعم، قال: فمن أحب بقاءهم فهو منهم ومن كان منهم فهو ورد النار، قال صفوان: فذهبت وبعت جمالي عن آخرها، فبلغ ذلك إلى هارون فدعاني فقال لي: يا صفوان بلغني أنك بعت جمالك؟ قلت: نعم، فقال: ولم؟ فقلت: أنا شيخ كبير وإن الغلمان لا يقوون بالأعمال، فقال: هيهات هيهات إني لأعلم من أشار عليك بهذا، أشار عليك بهذا موسى بن جعفر، قلت: ما لي ولموسى بن جعفر! فقال: دع هذا عنك فو الله لولا حسن صحبتك لقتلتك. بحار الأنوار: ج72 ص376 –377 ب82 ح34.
3- سورة الشعراء: 80.

..............................

وإذا كان بالدواء فما شأن الدعاء؟.

والجواب: إن الأمور كلها بيده سبحانه، لكنه جعل الدنيا دار أسباب،وأمر بالأخذ بها، فالدواء لما بأيدينا، والدعاء لما ليس بأيدينا..

ولذا قال (صلی الله علیه و آله): «اعقلها وتوكل»(1).

وفي حديث: إنه تعالى قال لموسى (علیه السلام): «أتريد أن تبطل حكمتي في الأشياء؟».

الاستعاذة بالله تعالى

مسألة: يستحب الاستعاذة بالله سبحانه حتى من مثل الضعف فكيف بالمرض.

أما الاستحباب فلأنه دعاء، فيظهر منه ذلك، والضعف يسبب تأخر الإنسان عن حوائجه الدينية والدنيوية.

ولا نعلم هل كان ضعف جوع أو ضعف تعب، أو ضعف مشكلة أثرت على الجسد.

إذ النفس إذا وقعت في المشكلة أثرت على الجسد أيضاً، إذ كل منهما يؤثر في الآخر صحةً وسقماً، ونشاطاً وخمولاً، وقوةً وضعفاً.

ص: 90


1- إرشاد القلوب: ج1 ص121 ب35.

..............................

ولذا ورد في الدعاء: «قوّ على خدمتك جوارحي، واشدد على العزيمة

جوانحي»(1).

وكذلك في أدعية أخرى(2).

وفي القرآن الحكيم: «لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ»(3). إلى غير ذلك.

رفع الضعف الجسمي والنفسي

مسألة: ومنه يعلم أنه ينبغي أن لا يقوم الإنسان بما يسبّب ضعف جسده، وأنه إذا ضعف استحب له رفعه. وكذلك حال ضعف النفس وقوتها، فإن الشجاعة ممدوحة كما ورد في الحديث: «إن الله ...يحب الشجاعة ولو على قتل حية»(4).

ص: 91


1- البلد الأمين: ص191 شهر شعبان، دعاء كميل.
2- مثل ما ورد من قوله: «واستعمل به بدني، وقوّني على ذلك، وأعني عليه...» الكافي: ج2 ص577 باب الدعاء في حفظ القرآن ح2. وكقول رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعمار: «وقل اللهم بجاه محمد وآله الطيبين قوني».. بحار الأنوار: ج91 ص16 ب28 ح12. وفي الدعاء أيضا: «وقوّني بسلطانك». بحار الأنوار: ج91 ص217 ب38 ح17. وأيضا: «اللهم قوني على ما خلقتني له». بحار الأنوار: ج92 ص297 ب110 ح14. وأيضا: «وقوّني في سبيلك». بحار الأنوار: ج94 ص215. وأيضا: «اللهم قوّني فيه على إقامة أمرك» بحار الأنوار: ج95 ص19.
3- سورة الكهف: 39.
4- مستدرك الوسائل: ج8 ص297 ب39 ح9490.

..............................

وكما أن الجسد يتقوى بالرياضة والمقويات وما أشبه، كذلك النفس تتقوى بالرياضة النفسية، وهي ترويض النفس على القيام بما تكره، وكذلك تركيز الفكر في شيء خاص في أوقات كثيرة، فإن النفس حينئذ تكون كمثل المجهر، حيث إن مقدار كف منه تحت أشعة الشمس يحرق، بينما مقدار ألف فرسخ من أشعة الشمس - متشتتة ومتوزعة - لا يحرق.

ثم إن التضعيف الموجب لعدم التمكن من القيام بالواجبات محرم؛ لأنه مقدمة له فيجب رفعة، وذلك فيما إذا علمنا من الشارع أنه أراد ذلك الواجب - وكان شرطه شرط الوجود لا الوجوب - كما في ماء الغُسل والوضوء، ولهذا فإن الفاقد للماء يجب عليه أن يمشي غلوة سهم أو سهمين، على تفصيل مذكور في الفقه، وأما إذا لم يعلم من الشارع ذلك لم يجب، كما إذا كان مريضاً قبل شهر رمضان وتمكن - قبل حلوله - من علاج نفسه بحيث يتمكن من الصوم معحلول الشهر المبارك، فإنه لا دليل على وجوب العلاج حينئذ.

ص: 92

فَقَالَ: يَا فَاطِمَةُ، إِيتيني بِالكِساءِ اليَمانِيِّ فَغَطّينِي بهِ.

اشارة

------------------------------

أمر الغير بإنجاز الحاجة

مسألة: يجوز - بالمعنى الأعم - أمر الغير بالحاجة، خصوصاً إذا كان الآمر أعلى، حيث قال (صلی الله علیه و آله): «إيتيني بالكساء اليماني» و«غطّيني به».

ثم إن في بعض الروايات النهي عن طلب الحاجة من الغير، لكن الظاهر أن أمثال تلك إنما يراد بها الإفراط، كما هي عادة بعض الناس في إلقاء كَلّهم على الناس لا القدر المتوسط العقلاني، فإنه كان متعارفاً منذ صدر الإسلام إلى هذا اليوم، ولم يقل أحد من الفقهاء - فيما أعلم - بكراهته، وبعد ذلك لا مجال لأن يقال: إن قول النبي (صلی الله علیه و آله) لفاطمة (علیها السلام) إنما هو من باب التخصيص لذلك المطلق، واستثناء طلب الأب من أولاده منه. وعلى أي حال فهذا في الحاجة التي تتأتى من الإنسان ومن غيره، أما في ما لا يتأتى إلاّ من غيره كالبِناء والحدادة والنجارة وما أشبه فلا يحتمل الكراهة إطلاقاً.

ولعل تخصيصه (صلی الله علیه و آله)الكساء اليماني؛ لأنه كان أكبر أو أوسع، ولذا فسره صاحب كتاب (نصاب الصبيان) بال (كَليم) وهو نوع من الفرش والبساط، بينما سائر الكساءات لم تكن كذلك، أو لم تكن متوفرة، ولعله (صلی الله علیه و آله) أراده ليسع أهل بيته (علیهم السلام) عند مجيئهم لعلمه (صلی الله علیه و آله) وعلمهم (علیهم السلام) بما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة (1).

ص: 93


1- راجع بحار الأنوار: ج26 ص194 ب15ح1.

فَأَتَيتُهُ بِالكِساءِ اليَمانِيِّ فَغَطّيتُهُ بِهِ

اشارة

------------------------------

قضاء الحاجة

مسألة: يستحب قضاء حاجة الغير، سواء طلبها من أخيه أم لم يطلب، ويتأكد في صورة الطلب(1) لجملة من الروايات الدالة على استحباب قضاء حاجة المؤمن.

بل لا يبعد استحباب قضاء حاجة الإنسان ولو لم يكن مسلماً، للملاك فيسقي علي (علیه السلام) (2) والحسين (علیه السلام) (3) الماء لمن حاربوهما..

ولقوله (صلی الله علیه و آله): «لكل كبد حرى أجر»(4)، إذا فهم الملاك بالنسبة إلى كل الحاجات، سواء أظهرها أم تبين عنه تطلبه لها.

ثم إن فاطمة (عليها الصلاة والسلام) هي التي غطّت الرسول (صلی الله علیه و آله) مما تكون أسوة في استحباب تغطية الرحم، بل وغير الرحم أيضاً؛ لأن الملاك عام حتى في غير الرحم.

ص: 94


1- راجع (الفضيلة الإسلامية) و(الفقه: الآداب والسنن).
2- راجع وقعة صفين: ص161 استيلاء أهل العراق على الماء ثم سماحهم به لأهل الشام.
3- راجع بحار الأنوار: ج44 ص376 ب37، وفيه: فقال الحسين (علیه السلام) لفتيانه: «اسقوا القوم وارووهم من الماء».
4- بحار الأنوار: ج71 ص370 ب23 ح63 بيان.

..............................

طاعة الأب

مسألة: يستحب إطاعة الأب وقد يجب، كما فعلت الزهراء (علیها السلام).والآمر إذا اجتمعت فيه جهات يصلح كل واحد منها سبباً لرجحان الإطاعة يحمل أمره على إحدى الجهات حسب ما تقتضي القرينة إذا لم يمكن الجمع.

والظاهر أن طاعة غير الأب من الأقرباء كذلك أيضاً، مع اختلاف المرتبة، بل يستحب للإنسان إطاعة سائر المؤمنين في حوائجهم، فإن قضاء حاجة المؤمن يشمل حتى مثل ذلك، وإن كان المؤمنون يختلفون في شدة الاستحباب وعدمها.

بل ولعله يستحب حتى لغير المؤمن - كما أشرنا إليه - لقول الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام): «إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق»(1)..

ولأن الإمام الحسين (علیه السلام) نزل عن جواده بنفسه وسقى ذلك المحارب الذي جاء لقتله في قصة مشهورة..

ولغير ذلك من الأدلة أو المؤيدات.

ص: 95


1- نهج البلاغة، الرسائل: رقم53 ومن كتاب له (علیه السلام) كتبه للأشتر النخعي لما ولاه على مصر وأعمالها حين اضطرب أمر أميرها محمد بن أبي بكر.

وَصِرتُ أَنظُرُ إِلَيهِ

اشارة

------------------------------

النظر إلى وجه الأب

مسألة: يستحب النظر إلى وجه الأب، بل وإدامة النظر إليه والإكثار منه، لما ورد من الروايات الدالة على استحباب النظر إلى وجه الأبوين، خصوصاً إذا كان الأب كالرسول (صلی الله علیه و آله) أو كان عالماً، فقد ورد أن النظر إلى باب دار العالم عبادة، ولا بعد، إذ النظر بلطف نحو ذي الكمال وما يتعلق به يقرب الإنسان على الكمال، إذ إنه يستلزم التحنن والعطف نحو المنظور إليه وما يتعلق به(1) وله أثر وضعي أيضاً، ولعله لذا - ولو كجزء العلة - ارتد يعقوب (علیه السلام) بصيراً بسبب ثوب ولده، فإذا كان ثوب الولد كذلك يكون باب دار العالم والمراقد المطهرة وما أشبه بذلك الحكم أيضاً.

بل في قصة السامري «فَقَبَضْتُ قَبْضَةًمِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ»(2)، فإذا كان تراب قدم فرس جبرائيل كذلك، أفلا يكون ما يتعلق بهم (علیهم السلام) بهذه الحيثية؟. بل وبطريق أولى، لأنه خادمهم (علیهم السلام)، وذلك ليس خاصاً بالنظر، بل التحسس بما أمكن من الحواس الخمس كذلك، فقد أخذت الزهراء (سلام الله عليها) حفنة من تراب القبر المطهر وأنشدت: «ماذا على من شم تربة أحمد (صلی الله علیه و آله)» الأبيات(3).

ص: 96


1- كما هو من مقدمات الإقتداء به، وهو نوع من التشجيع على العمل الصالح.
2- سورة طه: 96.
3- المناقب لابن شهر آشوب: ج1 ص242 فصل في وفاته (صلی الله علیه و آله)، أولها: «قل للمغيب تحت أطباق الثرى».

..............................

وورد أن من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان عن الله فقد عبد الله، وإن كان عن الشيطان فقد عبد الشيطان (1).

فإن الحواس الخمس، بالإضافة إلى الفكر، لها أحكام اقتضائية ولا اقتضائية، ولذا ورد «تفكر ساعةخير من عبادة سنة»(2)..

إلى غير ذلك مما يجده المتتبع في كتب الأحاديث والأخلاق.

النظر إلى وجه المعصوم (علیه السلام)

مسألة: يستحب النظر إلى وجه الرسول (صلی الله علیه و آله)، بل إلى وجه مطلق المعصوم (علیه السلام).

وفي الحديث: «النظر إلى وجه علي عبادة»(3)..

وبحكمه: النظر إلى آثاره كخط يده أو ما أشبه ذلك.

ويشهد لذلك روايات استحباب النظر للكعبة ولباب دار العالم بطريق أولى.

ص: 97


1- قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق عن الله عزوجل فقد عبد الله، وإن كان الناطق عن إبليس فقد عبد إبليس» انظر بحار الأنوار: ج26 ص239 ب4 ح1.
2- بحار الأنوار: ج68 ص327 ب80 ح22.
3- راجع وسائل الشيعة: ج6 ص205 ب19 ح7738، وفيه: «النظر إلى علي بن أبي طالب (علیه السلام) عبادة».

وَإِذا وَجهُهُ يَتَلألأُ كَأَنَّهُ البَدرُ

اشارة

------------------------------

ذكر الكرامات

مسألة: يستحب ذكر ما يشهده الإنسان من كرامات المؤمنين بالله، كما ذكرت (سلام الله عليها) ذلك بقولها: «وإذا وجهه (صلی الله علیه و آله) يتلألأ».

وهل كان وجهه (صلی الله علیه و آله) يتلألأ بنور مادي خارق للعادة إعجازاً، أم أن هذا الكلام منها (عليها الصلاة والسلام) على وجه التشبيه؟.

احتمالان، ولا يبعد الأول.

وهكذا يستحب ذكر مطلق كرامات ومعاجز المعصومين (علیهم السلام) لما فيه من الفائدة العظيمة والتي من أهمها جمع الناس حولهم، فإن القائد إذا التف الناس حوله تكون كلمته أكثر نفوذاً، وقيادته أكثر استحكاماً، وبذلك يسعد الناس في دنياهم وآخرتهم..

بالإضافة إلى أن ذكر الكرامات والمعاجز يوجب قلع الناس عن المادية البحتة، فإن الماديين يتصورون أن المادة هي كل شيء، والمعاجزوالكرامات لما كانت خلاف المعادلات المادية فإنها تدل على أن (الماورائيات) وعالم الغيب أيضاً شيء له تأثيره الخارجي الكبير، ولذلك لا يرتطم الإنسان في أوحال المادة التي تودي بدنياه وآخرته.

ص: 98

..............................

التشبيه في الكلام

مسألة: يجوز التشبيه في الكلام.

ويرجح فيما لو تضمن حثاً على الخير، أو كان عمن هو من أولياء الله، كما قالت (علیها السلام): «كأنه البدر في ليلة ... ».

وكما في قوله تعالى:

«ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ» (1).

ص: 99


1- سورة إبراهيم: 24.

فِي لَيلَةِ تمامِهِ وَكَمالِهِ،

اشارة

------------------------------

مزيد البيان

مسألة: ينبغي تكثير اللفظ لمزيد البيان والفائدة، كما في قولها (علیها السلام): «تمامه وكماله» وهو من صغريات الإتقان، كما ورد عن النبي (صلی الله علیه و آله): «إذا عمل أحدكم عملاً فليتقن»(1).

فإن القمر يقال له: (البدر) قبل الليلة الرابعة عشر وبعدها، حيث إنه في الثالثة عشر والخامسة عشر يُرى كاملاً أيضا(2) وإن كان في الحقيقة يطرأ عليه شيء من النقص من هذا الجانب، أو من ذلك الجانب، كما لا يخفى.

والظاهر أن الفرق بين التمام والكمال:

أن التمام بالنسبة إلى الكمّ، والكمال بالنسبة إلى الكيف.

مثلاً: المائدة قد تكون تامة وليست كاملة، وقد تكون كاملة وليست تامة،أما إذا كملت وتمت من حيث الكم والكيف تسمى تامة كاملة، وتمام القمر مثلاً بالليلة الرابعة عشرة، وكماله أن لا يكون هنالك غيم رقيق أو عجاج أو ما أشبه يحول دون كمال نوره للناظرين.

وربما كان المراد: شدة نوره.

فالكمال على هذا ثبوتي، وعلى ذلك إثباتي.

ص: 100


1- الكافي: ج3 ص263 باب النوادر ح45.
2- راجع لسان العرب مادة بدر حيث يقول: (والبدر: القمر إذا امتلأ) و(سمي بدراً لتمامه).

فَما كَانَت إِلاَّ ساعَةً

اشارة

------------------------------

تحديد الأحداث

مسألة: يستحب التوقيت - كما سبق - حيث قالت (سلام الله عليها): «فما كانت إلاّ ساعة ... »، إذ إن الإخبار عن الوقت الماضي أو الآتي ومقداره داخل في «نظم أمركم»(1) - كما قاله علي (علیه السلام) - فإن النظم يشمل الزمان والمكان وسائر المزايا والخصوصيات كالكم والكيف وغيرهما من المقولات.

ويؤيده قوله سبحانه: «لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ»(2).

وقوله سبحانه: «مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ»(3).

والظاهر أن المراد ب (الساعة): القطعة من الزمان، لا الساعات المستوية أو المعوجة الفلكية وإن أُطلق عليها جميعاً، للانصراف.

وليس تواليهم (علیهم السلام) فيالمجيء بعيداً - مع قطع النظر عن الجانب الغيبي ومعرفتهم مسبقاً بالأمر - فإن بيت الزهراء (علیها السلام) كان له بابان، باب إلى المسجد ولم يغلقه الرسول (صلی الله علیه و آله) حيث سدّ الأبواب بأمر الله سبحانه إلاّ بابها(4) وباب إلى الشارع، وكان هؤلاء الأطهار (علیهم السلام) غالباً في المسجد أو حواليه.

ص: 101


1- نهج البلاغة، الرسائل: رقم47 ومن وصية له (علیه السلام) للحسن والحسين (علیهما السلام) لما ضربه ابن ملجم (لعنه الله).
2- سورة يونس: 5، سورة الإسراء: 12.
3- سورة البقرة: 189.
4- راجع تفسير الإمام العسكري (علیه السلام): ص17 سد الأبواب عن المسجد دون باب علي (علیه السلام) ح4.

..............................

ويدل على وجود البابين أنهم أحرقوا باب دارها (عليها الصلاة والسلام) الذي كان إلى الخارج لا الذي كان إلى المسجد، وسحبوا علياً (عليه الصلاة والسلام) من ذلك الباب إلى المسجد لا من الباب الذي كان في المسجد.

وقد كانت (سلام الله عليها) تبكي، فتسمع من في المسجد، مما رأوا أن بكاءها يفضحهم - على تفصيل مذكور في التواريخ -.

ولا يخفى أن عادةً ضبط الوقت مما يزيد في إقبال الناس على العمل الجاد؛ لأن الضابط يلتفت أكثر فأكثر إلى انقضاء عمره تدريجياً، وأن ماانقضى لا يعود وهذا يشجع أكثر على العمل الصالح.

ما هي حقيقة الزمان؟

وهنا نقاط حول الزمان نذكرها بالمناسبة:

هل الزمان والمكان انتزاعيان أو حقيقيان؟. ومن أية مقولة؟. بل هل هما شيئان أو شيء واحد كما ذهب إليه بعض المعاصرين؟.

إن ذلك من أغمض الأشياء قديماً وحديثاً كسائر حقائق الأشياء، فالمفهوم من أظهر الأشياء ولكنه في غاية الخفاء، ومن الطريف أن الزمان متعاكس ومتخالف طولاً وعرضاً، ففي بعض الروايات أن السلطان إذا كان عادلاً أمر الله الفلك ببطء الدوران، وإذا كان ظالماً أمر الله الفلك بسرعة الدوران(1).

ص: 102


1- انظر بحارالأنوار: ج4 ص103 ب3 ح16، وفيه: عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «إن الله عزوجل جعل لمن جعل له سلطانا مدة من ليالي وأيام وسنين وشهور، فإن عدلوا في الناس أمر الله عزوجل صاحب الفلك أن يبطئ بإدارته، فطالت أيامهم ولياليهم وسنوهم وشهورهم، وإن هم جاروا في الناس ولم يعدلوا أمر الله عزوجل صاحب الفلك، فأسرع إدارته وأسرع فناء لياليهم وأيامهم و سنيهم وشهورهم، وقد وفى تبارك وتعالى لهم بعدد الليالي والأيام والشهور.

..............................

وقد ذكرنا في (الفقه: الآداب والسنن) كيفية اختلاف الزمان في قطعتين من الأرض في إحداهما الملك العادل وفي الأخرى الملك الظالم.

هذا من ناحية العرض(1).

أما من ناحية الطول فهناك ما يثير الاستغراب:

فقد ورد أن الرسول (صلی الله علیه و آله) عُرج به إلى السماء، وجرت قضايا ومشاهدات كثيرة ما يستوعب - حسب الظاهر - ربما مقدار شهر من الزمان أو أكثر، بينما لما رجع لم يكن قد انقضى من الزمن في الأرض إلاّ مقدار دقيقة أو أقل(2) مما يدل على أن الأمر في الأرض أقل من المكان أو البعد الذي دخل فيه الرسول (صلی الله علیه و آله) حتى بالنسبة إلى ذهابه إلى المسجد الأقصى.

وقد التزم جماعة(3) بامتداد الزمانوتقلصه حسب سرعة الحركة(4)، فإذا كان الشخص عمره عشرون سنة وتحرك دون سرعة الضوء - بحد معين - إلى مجرة أخرى مما استغرق ذهابه وإيابه خمسين سنة، فإنه إذا رجع إلى الأرض يكون

ص: 103


1- المراد زمن واحد ممتد على مساحتين.
2- إحدى الروايات تفيد أنه (صلی الله علیه و آله) ذهب ورجع وحركة حلقة الباب لم تتوقف بعد! مما لا يتجاوز ثوان معدودات.
3- منهم: انيشتاين.
4- من الأقوال القديمة عند الفلاسفة في حقيقة الزمن أنه مقدار الحركة، أو مقدار حركة الفلك.

..............................

عمره سبعون سنة، بينما سيرى أنه قد انقضى من عمر الأرض أربعة ملايين سنة (1)!.

وربما يؤيد هذا قوله سبحانه: «فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ»(2) على بعض التفاسير، وكذلك «خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ»(3).

ومن الطريف في العرض ما ورد في بعض المكاشفات: إن إنسانين ماتا أحدهما مجرم والآخر محسن، فإن الأول مر عليه في ساعة واحدة مقدار ألف سنة، والثاني مر عليه في مقدار ألف سنة مقدار ساعة، ولا ينافي هذا ما سبقفليدقق(4).

ولعله يأتي يوم ينكشف فيه حقيقة الأمر بإذن الله سبحانه.

ص: 104


1- انظر مجلة العربي: العدد 400.
2- سورة السجدة: 5.
3- سورة المعارج: 4.
4- يتضح ذلك بمراجعة توجيهه (قدس سره) في (الآداب والسنن) لتلك الرواية الشريفة.

وإذا بوَلَدِيَ الحَسَنِ (علیه السلام) قَد أَقبَلَ وَقالَ: السَّلامُ عَلَيكِ

اشارة

-------------------------------------------

السلام على الأُم و...

مسألة: يستحب السلام على الأم والبنت والزوجة، كما فعله أولئك الأطهار الثلاثة (عليهم أفضل الصلاة والسلام)، وقد أشرنا إلى المسألة سابقاً ونضيف:

لا يقال: إن ذلك من البديهيات.

لأنه يقال: إنما صارت هذه الأمور بديهية بسبب قولهم وفعلهم وتقريرهم (علیهم السلام)، وإلاّ فالمرأة - مثلاً - لم تكن لها كرامة في الجاهلية، بل حتى يومنا هذا ترى بعض الجهال ينزلون المرأة إلى مرتبة الحيوان أو أدنى، كما أن الغربيين يعدون المرأة آله لترويج البضائع وترفيه الرجل، وقد رأيت أنا من يقول - وهو يذكر شيئاً عن زوجته -: (تِكرم ... زوجتي)، كما يقول في نفس الوقت: (تِكرم كلبي) فهو يعتقد بحقارتها.

لا يقال: إن الإسلام أيضاً أهان المرأة حيث قال (علیه السلام):«ناقصات»(1) وما أشبه ذلك.

لأنه يقال: قد ذكرنا في بعض كتبنا أن الإسلام أراد أن يجعل المرأة في مكانتها الطبيعية، فلا إفراط ولا تفريط، فالمراد بالنقص الإشارة إلى الحدود

ص: 105


1- راجع تهذيب الأحكام: ج7 ص404 ب34 ح21.

..............................

التكوينية للمرأة، ونوعية وظائفها، وأنها ليست مثل الرجل، من قبيل أن السيارة الصغيرة لها أربع عجلات في قبال السيارة الكبيرة حيث لها ثمان عجلات أو أكثر، لا النقص بمعنى النقيصة كإنسان لا يد له، ولذا أكرمها الله بقوله تعالى: «لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ»(1).

وقال (علیه السلام): «فإن المرأة ريحانة»(2).

فالطائفتان من قبيل: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ»(3) و«إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً»(4) وقد تقدم الإلماع إلى مثل ذلك(5).

ص: 106


1- سورة البقرة: 228.
2- وسائل الشيعة: ج20 ص168 ب87 ح25327.
3- سورة الإسراء: 70.
4- سورة الأحزاب 72.
5- للتفصيل راجع: (فاطمة الزهراء (علیها السلام) أفضل أسوة للنساء) و(المرأة في المنظار الإسلامي) و(المرأة في المجتمع المعاصر) و(المرأة في ظل الإسلام) و(العقل يرى هذه القوانين) للإمام المؤلف (قدس سره).

يا أُمّاهُ

اشارة

-------------------------------------------

التسمية

مسألة: يستحب تسمية المسلَّم عليه بعد السلام مباشرة، كما قال (صلی الله علیه و آله): «السلام عليك يا فاطمة». وقال الإمام الحسن (علیه السلام): «السلام عليك يا أماه» إلى آخره.

بل يستحب تسمية كل من المسلِّم والمسَلَّم عليه الآخر، ولذا سمى الرسول (صلی الله علیه و آله) وعلي (علیه السلام) والحسنان (علیهما السلام) فاطمة (صلوات الله عليها)(1). والمراد بالاسم: الأعم من الكنية واللقب، وكما سمت فاطمة (سلام الله عليها) أولئك الأطهار (علیهم السلام).

وقد ذكر علماء النفس أن الإنسان يهش إذا ذكر اسمه في مقام التعظيم،كما يوجب ذكر اسم المحبوب الفرح للمسمي أيضاً.

وبذلك يظهر أنه لا خصوصية في السلام والجواب، بل ملاكه - مثل الأدلة الأخرى كما هَنّأ بذكر اسم أولئك الأطهار (علیهم السلام) الرسولُ الأعظم (صلی الله علیه و آله) في قصة تلقيهم التمر، قائلا: «هنيئاً مريئاً يا حسن»(2) وهكذا - يشمل كل مكان يناسب ذكر الاسم.

وفي أحاديث المعراج: إن الله سبحانه كرّر في خطاباته له (صلی الله علیه و آله) ذكر

ص: 107


1- جرى ذكر أدلة ومؤيدات أخرى للاستحباب سابقاً في مسألة (استحباب التلقيب) فليراجع.
2- بحار الأنوار: ج43 ص311 ب12 ح73.

..............................

(يا أحمد)(1)، وكذلك في خطاباته لبعض الأنبياء (علیهم السلام) كرر، سواء في القرآن مثل: «وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسى»(2)و«نَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْراهِيمُ»(3) وهكذا، أو فيما روي من الأحاديث القدسية.

نعم، إذا كانت التسمية إهانة - في بعض الأعراف الاجتماعية - فلا يكون من المستحب، بل من المكروه، وأحياناً الحرام، كل في مورده.

خطاب الأم

مسألة: يستحب خطاب الأم بكلمة (يا أماه) أو ما شابه مما يُعدّ احتراماً لها.

ص: 108


1- عوالم العلوم: ج11ص26 ب3 ح1. تحقيق مؤسسة الإمام المهدي (علیه السلام). نقلاً عن (الجنة العاصمة)، عن (كشف اللآلي) لابن العرندس بإسناده، عن جابر الأنصاري، عن النبي (صلی الله علیه و آله) عن الله تعالى، أنه قال: «يا أحمد، لولاك لما خلقت الأفلاك، ولولا علي لما خلقتك، ولولا فاطمة لما خلقتكما».
2- سورة طه: 17.
3- سورة الصافات: 104.

فَقُلتُ: وَعَلَيكَ السَّلامُ

اشارة

-------------------------------------------

صيغ السلام المختلفة

مسألة: قد سبق أنه يجب رد السلام، وقد سبق حكم ما لو كان المسلِّم غير بالغ، ويجوز أن يجيب بأية صيغة مثل: (عليك السلام)، و(عليكم السلام)، و(عليكم السلامات)، و(عليك السلامات)، و(عليك سلام الله)، و(عليكم سلام الله)، وكذلك إذا قدّم (السلام) على (عليك).

والظاهر أنه يكفي في كل من التسليم والرد لفظ: (السلام) فقط، ولذا قال في القرآن الحكيم: «قَالُوا سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ»(1)، وجعل هذا إشارة إلى أنهما سلّما بصيغة كاملة لا ظهورله، إذ هو مَجاز والمجاز خلاف الأصل.

وهل يكون من السلام الصيغ الأخرى مثل: (عليك التسليم)، أو (التسليم عليك)، أو (أنا مسلِّم)، أو يقول في الجواب: (أنا مسلِّم) أو ما أشبه ذلك؟.

لا يبعد ذلك، للإطلاقات، وكونه تحية وداخلاً في قوله سبحانه: «وَإِذَا حُيِّيتُمْبِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا»(2).

ولو لم يكن في السلام ذكر الله تعالى لا لفظاً ولا تقديراً، كما لو قال: (عليك سلام الملائكة) فهل يجب الجواب؟.

ص: 109


1- سورة هود: 69.
2- سورة النساء: 86.

..............................

لا يُعلم الوجوب.

وكذلك لا يعلم الكفاية إذا قال المجيب: (عليك سلام الملائكة).

والحاصل أنه كلما عرف ولو بالملاك المطمئن به أنه داخل في السلام والجواب أخذ به، وكلما شك فالأصل العدم.

ولربما يُسأل: لماذا قدمت فاطمة (عليها الصلاة والسلام) الخبر على المبتدأ، بينما العادة جارية على تقديم المبتدأ على الخبر مثل: (السلام عليك أيها النبي)، و(السلام علينا)، و(السلام عليكم)؟.

الجواب: لعل السبب أن تقديم (عليك) أدل على المحبوبية، كما ذكروه في علم البلاغة من أن المقام إذا كان مقام هذا أو ذاك قدّم ما كان المقام مقامه.

ولا يبعد جواز تغيير (عليك) إلى سائر الصيغ التي تفيد هذا المعنىمثل: (السلام لك)، ولذا ورد في بعض السلامات: «اللهم أنت السلام، ومنك السلام، وإليك يعود السلام، ودارك دار السلام، حَيِّنا ربنا منك بالسلام»(1).

والملاك هنا أيضاً هو ما ذكرناه من الملاك الآنف وجوباً وعدماً، ولابن العم (رحمة الله) (2) رسالة سلامية(3) ذكر فيها ألف مسألة حول السلام لكنها لم تطبع حتى الآن.

ص: 110


1- مستدرك الوسائل: ج6 ص345 ب36 ح6962.
2- وهو آية الله العظمى السيد عبد الهادي الشيرازي (قدس سره).
3- تحت عنوان: دار السلام في فروع السلام وأحكامه.

يا قُرَّةَ عَيِني وَثَمَرَةَ فُؤادِي

اشارة

-------------------------------------------

مدح المؤمن وتوقيره

مسألة: يستحب مدح الطرف الآخر بالحق وتوقيره، سواء في السلام أم في أثناء الكلام، أم في سائر الموارد، ومنه الإشارة بالفعل وما أشبه، ولذا قالت (سلام الله عليها): «يا قرة عيني وثمرة فؤادي».

ووجه هذه الكلمة أن الإنسان الذي فقد شيئاً أو خاف محذوراً تأخذ عينه في النظر هنا وهناك بدون استقرار، فإذا وجده أو أَمِنَ استقرت عينه، وفاقد الولد شاردة عينه فإذا جاءه الولد استقرت، ف (قرة عيني) من القرار والاستقرار.

كما أن في بعض تعابيرهم (علیهم السلام): «ثمرة فؤادي» وكأنه بمناسبة أنَّ الشجرة كما تتزين بالثمرة كذلك يتزين الإنسان بالولد، ويمكن أن تكون المناسبة غير ذلك(1).ومن المعلوم أن المدح يوجب قوة التجمع وتماسكه سواء في المجتمع الصغير من قبيل العائلة، أم الوسط كالقبيلة، والتجمعات المهنية، أو الثقافية، أو الاقتصادية، أو ما أشبه، أم الكبير كاهل البلد والقطر، أم الأكبر كالأمة.

لكن المدح يجب أن يكون بمقدار يطابق الواقع وأن لا يكون فيه محذور،

ص: 111


1- الثمرة امتداد للشجرة كماً وكيفاً وزمناً وكذلك الولد، كما أنها علة غائية لها في الجملة وهي بالفعل لما هو في الشجرة بالقوة.

..............................

وإلاّ فقد قال (صلی الله علیه و آله): «احثوا في وجوه المداحين التراب»(1) وذلك فيما كان تملقاً، أو ما كان من مصاديق مدح الظالم، أو ما أشبه ذلك.

وكما يستحب المدح في مورده يكره القدح - مع المنع من النقيض حرمة أو بدونه كراهة - فيما إذا انطبق عليه محرم أو مكروه.

إظهار المحبة للأولاد والأقرباء

مسألة: يستحب إظهار الأم المحبةلأولادها، كما في قولها (علیها السلام): «يا قرة عيني وثمرة فؤادي».

وهذا ليس خاصا ًبالأم بل كذلك حال الأب، والأولاد بالنسبة إلى الأبوين، وهكذا سائر الأقرباء، فإن إظهار المحبة نوع من الإجلال والاحترام، وهكذا حال إظهار المحبة بالنسبة إلى سائر المؤمنين.

وكما يمكن إظهار المحبة بالكلام، كذلك يمكن بالكتابة والإشارة. والفرق بين (المودة) و(المحبة) إذا اجتمعا أن (المودة) هي الظاهرة و(المحبة) هي القلبية، أما إذا افترقا فكلٌ يشمل الآخر.

ص: 112


1- بحار الأنوار: ج70 ص294 ب134 ح1.

فَقالَ: يَا أُمّاهُ، إِنّي أَشَمُّ عِندَكِ رائِحَةً طَيِّبَةً

اشارة

-------------------------------------------

استحباب السؤال والتحقيق

استحباب السؤال والتحقيق(1)

مسألة: يستحب السؤال والاستعلام عن المجهول(2)، ومنه السؤال عن أهل الدار عما يُستجد فيه، كما سأل الحسن ثم الحسين ثم علي (عليهم الصلاة والسلام) بقولهم: «إني أشم عندكِ رائحة طيبة».

ثم لا يخفى أن السؤال ينقسم إلى الأحكام الخمسة:

فقد يكونه واجباً كما في السؤال عن الأمور الدينية الواجبة، قال تعالى: «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ»(3).

وقد يكون مستحباً كالسؤال عن الأمور الدينية أو الدنيوية المستحبة ذاتاً، أو الراجح الإطلاع عليها.

وقد يكون مكروهاً كما إذا كان مزعجاً في الجملة، أو مستلزماً للوقوعفي المكروه.

وقد يكون حراماً.

قال سبحانه: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْئَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ

ص: 113


1- راجع (الفقه: العقل).
2- إذ السؤال طريق المعرفة، كما أن التفكير والتدبير طريقلها.
3- سورة النحل: 43، سورة الأنبياء: 7.

..............................

تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ»(1).

وقد يكون مباحاً كغير موارد الأحكام الأخرى(2).

لكن لا يخفى أن السؤال المحرم - كالسؤال الواجب - ليس محرماً بذاته وإنما يحرّم لعارض، مثل أن يكون موجباً لهدر حق، أو مستلزماً ضرراً بالغاً للسائل، أو ما أشبه ذلك، وإن قال بعض بالواجب النفسي في بعض الموارد.

أما الآية المباركة فهل هي محمولة على الحرمة أو الكراهة؟. احتمالان، وإن كان الظاهر من أخيرها أنها على نحو الإرشاد والكراهة.

أما ما ورد من أن (السؤال ذل)(3)فالمراد - على تقدير كون المعنى المراد هو السؤال بمعنى الاستعلام(4) - الإشارة إلى حقيقة تكوينية وهي أنزلية مرتبة السائل من حيث هو سائل من المسئول منه بما هو كذلك، إضافة إلى أن كونه ذلاً لايستلزم كراهته مطلقاً، بل يدخل الأمر في باب التزاحم، ولذا ورد في الحديث: «ما ضل من استرشد»(5)..

ص: 114


1- سورة المائدة: 101.
2- ربما يكون المقصود: السؤال عن ما لا يضر جهله ولا ينفع علمه بوجه.
3- راجع من لا يحضره الفقيه: ج4 ص375 باب النوادر وهو آخر أبواب الكتاب ح5762، وقال علي (علیه السلام): «السؤال مذلة» - بحار الأنوار: ج75 ص12 تتمة ب15 ح70 -.
4- إذ يحتمل كون المراد به الاستجداء، فعن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه قال لأبي ذر: «يا أبا ذر، إياك والسؤال! فإنه ذل حاضر، وفقر تتعجله، وفيه حساب طويل يوم القيامة» - من لا يحضره الفقيه: ج4 ص375 باب النوادر وهو آخر أبواب الكتاب ح5762 -.
5- بحار الأنوار: ج75 ص12 تتمة ب15 ح70.

..............................

وورد: «ولا يستحيَنَّ أحد إذا لم يعلم الشيء أن يتعلمه»(1).

ولذا قالوا: «اسأل عن أمور دينك حتى يقال: إنك مجنون»، بمعنى كثرة السؤال.

استعمال الطيب

استعمال الطيب(2)

مسألة: يستحب استعمال الطيب خصوصاً المتزايد منه، كما كانوا يجدونه فيه (صلی الله علیه و آله) وكما دل عليه حديث الكساء، حيث كان النبي (صلی الله علیه و آله) يكثر من الطيب، بالإضافة إلى ما كان له من الحسن والطيب الذاتي، ولعل استعماله الطيب مع عدم حاجته إليه بدنياً، كان بغية أن يتساقط منه في الطريق(3) كما في الأحاديث، وأن يكون أُسوة فلا يقولون إنه طيب ذاتاً، فما لي وله؟.

وقد ورد في الحديث أنه (صلی الله علیه و آله) أمر بأن يشترى بثلثي مهر الزهراء (سلام الله عليها) الطيب(4).

وفائدة الطيب لا تنحصر في الرائحة الحسنة فقط، بل له فوائد أخرى منها: إنه منشط للأعصاب، وموجب لعدم نفرة بعض عن بعض، بل موجب

ص: 115


1- نهج البلاغة، قصار الحكم: 82.
2- راجع (الفقه: الآداب والسنن).
3- إذ أن قسماً من الطيب المائع، وهناك قسم جامد كالطحين يذر على الملابس ونحوها مثل: الذريرة والسعوط والمسك.
4- راجع المناقب لابن شهر آشوب: ج3 ص352 فصل في تزويجها (علیها السلام).

..............................

للتقارب أكثر فأكثر، فإن الإنسان ينفر من الروائح الخبيثة، بينما ينتعش ويستأنس بالروائح الطيبة. إذ الإنسان مفطور على حب النظافة، و«النظافة من الإيمان»(1) في كل شيء، في الدار والأثاث والبدن والدكان واللباس وغير ذلك.

وللطيب بحوث كثيرة مذكورة في كتب الحديث والطب وغيرهما(2).

أما استعمال الروائح المنفرة وما يستلزمها كالتدخين فهو من أسوأ الأشياء، حيث يستلزم القذارة والوساخة في الإنسان وغيره، كما يستلزم تنفير الناس خصوصا ً الزوجة من الزوج المدخن وبالعكس، وكذلك يستلزم الأمراض كالسرطان والتدرن الرئوي وغيرهما.

ثم إن الروائح الكريهة مكروهة استعمالاً، إلاّ إذا سببت إيذاءً للناس فإنها عندئذ محرمة(3).

ولا يخفى أن الجوارح لها أحكام، فللأذن أحكام، وللعين أحكام، وللسان والذوق أحكام، وللمس أحكام، وأماالأنف فلم نجد له حكماً إلاّ في الحج، حيث يحرم إمساك الأنف عن الروائح الكريهة.

ومن المحتمل أن يكون من المكروه أيضاً استشمام رائحة المرأة الأجنبية، ولذا قالت (سلام الله عليها) - في قصة ابن أم مكتوم -: «وأشم ريحه»(4)، حيث إن

ص: 116


1- مستدرك الوسائل: ج16 ص319 ب92 ح20016.
2- تطرق الإمام المؤلف (قدس سره) لذلك في العديد من كتبه ومنها: (الفقه: الآداب والسنن)، و(الفقه: الحج).
3- الإ في صورة التزاحم، ويستثنى أيضاً ما كان متعارفاً.
4- راجع مستدرك الوسائل: ج14 ص289 ب100 ح16740.

..............................

الكراهة في الجانبين أي: شم الرجل رائحة المرأة، وشم المرأة رائحة الرجل، أما إذا كان موضع ريبة وافتتان فلا يبعد الحرمة.

كما أن استعمال المرأة التي تخرج من البيت للطيب بحيث يشم ريحها الأجانب مكروه جداً، وقد قال بعضهم بالحرمة ولو لم يكن موضع ريبة وتلذذ وخوف افتتان.

ولا يبعد استحباب شم الأطفال رحمة ورأفة بهم كما ورد بالنسبة إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) حيث كان يشم علياً (علیه السلام) في طفولته، وهناك بعض الروايات الأخرى بالنسبة إلى استشمامه للحسنين (عليهما الصلاة والسلام) وكذلك فاطمة (صلوات الله عليها).وأحكام الطيب في الحج واضحة.

ص: 117

كَأَنَّها رائِحَةُ جَدِي رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله)

اشارة

-------------------------------------------

عدم التسرع في الحكم

مسألة: يرجح عدم التسرع في الحكم على شيء قبل استظهاره، كما في قول الحسن (علیه السلام) ثم الحسين (علیه السلام): «كأنها رائحة جدي».. وقول علي (علیه السلام): «كأنها رائحة أخي وابن عمي».

والجاهل غالباً يتسرع في إصدار أحكامه بشكل قطعي، كما نشاهد ذلك في كثير من العوام والأطفال.

بينما العاقل لا يقطع ثبوتاً، ولا يتسرع في ذكره إثباتاً، إلاّ بعد التأكد والتفحص والتثبُّت، وحتى بالنسبة إلى القطعيات العرفية فإن كثيراً منها يشك فيها لدى التأمل، فيلزم على الإنسان أن لا يقطع بها فوراً، بمعنى أن تكون له حالة من التساؤل والتردد وطرح شتى الاحتمالات، ولذا ذكروا: إن أخطاء الحواس - من العين والأذن وغيرهما - تصل إلى ثمانمائة قسم، ومن قرأ علم الفلسفة والفيزياء وما أشبه، ظهر لهكثرة أخطائه حتى في القطعيات(1).

وهل كانت رائحة الرسول (صلی الله علیه و آله) رائحته الذاتية المنبعثة من جسده المبارك، أو رائحة طيبة مكتسبة؟.

احتمالان.

ص: 118


1- حول الجوانب المختلفة لهذا المبحث راجع (الفقه: العقل)، و(الأصول: مبحث القطع).

..............................

فإن كانت تلك الرائحة رائحة طيبة مكتسبة دل هذا الكلام - ونحوه مما ورد في الروايات - على أنه (صلی الله علیه و آله) كان يستعمل عطراً خاصاً دائماً أو غالباً حتى عُرف به.

الإتيان باللقب

مسألة: قد سبق أنه يستحب الإتيان باللقب، كما في قوله (علیه السلام): «جدي رسول الله».. وكذلك في قول علي (علیه السلام): «أخي».

بحث في مؤاخاته (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام)

ثم لا يخفى أن الرسول (صلی الله علیه و آله) آخى بين أهل مكة رجالاً ونساءً، الرجال للرجال، والنساء للنساء مرة، وآخى بين المهاجرين والأنصار - رجالاّ ونساءً كذلك - في المدينة المنورة مرة ثانية(1) وفي كلتا المرتين اتخذ علياً (علیه السلام) أخاً لنفسه دون غيره.

أما في مكة فهو واضح(2)..

ص: 119


1- حول هذا المبحث راجع (لأول مرة في تاريخ العالم) للإمام المؤلف (قدس سره).
2- لوجود المقتضى وانتفاء المانع، وأما في المدينة فلربما يتوهم أن فلسفة الإخاء فيها كانت مانعاً من اتخاذه أخاً وسبباً ليتخذ أحد الأنصار أخاً، ولذلك تصدى الإمام المؤلف (قدس سره) للإجابة عن ذلك.

..............................

وأما في المدينة - مع أن فلسفة الإخاء فيها كانت تقتضي أن تكون بين المهاجرين ومثله من الأنصار - فلإفادة أنه (صلی الله علیه و آله) لا يمكن أن يكون له أخ في مستواه، كما أن علياً (علیه السلام) لا يمكن أن يكون له أخ في مستواه، وإنما هما نور واحد وأحدهما أخ الآخر، وإن كان الرسول(صلی الله علیه و آله) في المرتبة الأولى وعلي (علیه السلام) في المرتبة الثانية.

ولعلّ من أسباب هذا التآخي إفادة أنه (صلی الله علیه و آله) مع علي (علیه السلام) كموسى وهارون (علیهما السلام) اعتباراً، وإن لم يكن أخاه حقيقة كما كان هارون (علیه السلام) أخاً لموسى (علیه السلام) حقيقة.

ويدل عليه حديث المنزلة المشهور بين الشيعة والسنة، حيث قال (صلی الله علیه و آله):

«يا علي، أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبي بعدي»(1).

ص: 120


1- بحار الأنوار: ج32 ص487 ب12 ح420.

فَقُلتُ: نَعَم، إِنَّ جَدَّكَ تَحتَ الكِساءِ

اشارة

-------------------------------------------

الإجابة على الأسئلة

مسألة: تستحب الإجابة على سؤال السائل فإنه من مصاديق (قضاء الحوائج)، وقد يكون من صغريات (إرشاد الجاهل)، و(تنبيه الغافل)، ومن مصاديق (المعروف).

وهذا أيضاً ينقسم إلى الأحكام الخمسة، كما ذكرناه في باب السؤال، على تلك الوتيرة.

ويصح أن تكون الإجابة باللفظ أو الكتابة أو الإشارة؛ لأن الكل يفيد شيئاً واحداً.

نعم قد يكون بعضها أولى من بعضها الآخر، فإن في الجواب لفظاً احتراماً لا يتحقق - عادةً - مثله في الإشارة.

الوضوح والتعجيل والإيجاز

ويستحب أيضاً التعجيل في الإجابة وبدون لبس أو إبهام(1) ولذا نرى أنها (علیها السلام) فور سؤال الحسنوالحسين وعلي (علیهم السلام) قالت: «نعم إن جدك تحت الكساء»، و«ها هو مع ولديك تحت الكساء».

ص: 121


1- إذ ذلك من مصاديق (الإتقان)، والتعجيل تعجيل في قضاء حوائج الإخوان.

..............................

كما يرجح أن يكون الجواب على قدر السؤال(1)، ولكن قد يكون تطويل الجواب وتفصيله مطلوباً وإن كان أكثر من حدود سؤال السائل كما أنها (عليها الصلاة والسلام) قالت: «تحت الكساء» زيادة على المسئول عنه(2) لمحبوبية التكلم مع المحبوب كما ذكره علماء البلاغة في قوله سبحانه: «هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرى»(3) حيث كان تكلمه مع الله سبحانه وتعالى محبوباً لموسى (علیه السلام) مع أن في إجابته: «هِيَ عَصَايَ» كفايةٌ في مقام الجواب على سؤال الله سبحانه وتعالى.

ولكن قد يكون السبب في إطالة الجواب على سؤال الله جهة أخرى غير هذه الجهة التي ذكرها علماء البلاغة منمحبوبية إطالة الكلام مع السائل وهي:

إن موسى (علیه السلام) أراد أن يعدد الفوائد كي يستكشف أن الله سبحانه وتعالى أراد أية فائدة منها، حيث لم يكن هناك قرينة مقامية تعين المراد والهدف المقصود، كما إذا قال إنسان لشخص آخر بيده كتاب: ما هذا الذي بيدك؟.

فيقول: كتاب فيه مختلف العلوم الأدبية من النحو والصرف والبلاغة والاشتقاق ونحوها، وهو بهذا يحاول أن يطلع السائل على محتويات الكتاب حتى إذا كان مراده النحو أو الصرف أو البلاغة أو الاشتقاق اشتراه أو استعاره أو ما أشبه ذلك، وإذا كان مراده اللغة أو التفسير مثلاً أو ما أشبه ذلك لم يأخذه.

ص: 122


1- وذلك من (الحكمة).
2- إذ ظاهر السؤال كان عن أصل وجوده (صلی الله علیه و آله).
3- سورة طه: 18.

..............................

إلى غير ذلك من الفوائد المحتملة في إطالة السؤال أو الجواب، ولربما كان في إجابتها (علیها السلام) «تحت الكساء» جهة أخرى غير صرف محبوبية الكلام مع المحبوب فليدقق.

ثم إن الأفضل في الجواب - كما أشير إليه - أن يكون حسب مقتضى الحال من الإجمال أو التفصيل، كما أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أجاب: «نحن منماء» في القصة المشهورة (1)؛ لأنه (صلی الله علیه و آله) لم يرد أن يبين الخصوصيات، وقد صدق (صلی الله علیه و آله) لأن الإنسان مخلوق من الماء.

وقد لا يمكن التفصيل؛ لأن ذهن الطرف المقابل لا يستوعبه أو يتحمله كما قال سبحانه: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي»(2)، فإن الإنسان لا يستوعب حقيقة الروح كما أنه لا يستوعب حقيقة النفس والعقل وكثير من الصفات النفسية كالغضب والحزن والصفات الأخرى، بل إن الإنسان يجهل حتى حقيقة نفسه(3)، وقد يكون من حِكَم ذلك: أن يعترف الإنسان بعجزه فيعدل عن غروره وكبريائه.

ولذا نحن نعيش سبعين أو ثمانين أو مائة وربما مائة وخمسين سنة، وبعد ذلك كله لا نعرف كثيراً من حقائقنا الداخلية إلاّ على نحو مجمل جداً، فما هو المخ؟ وما هو الكبد؟ وما هي الرئة؟ إلى غير ذلك.

ص: 123


1- شرح نهج البلاغة: ج14 ص114 الفصل الثالث قصة غزوة بدر.
2- سورة الإسراء: 85.
3- كتب أحد علماء الغرب كتاباً أسماه: (الإنسان ذلك المجهول).

..............................

نعم، أنبياء الله والمعصومون (صلوات الله عليهم أجمعين) يعرفون الشيء الكثير الكثير الذي لا نعرف منه حتى القليل القليل، وهذا بحث طويل مذكور في كتب علم (النفس الإنسانية) وفي كتب سائر العلوم المرتبطة بحقائق الأشياء.

وقد خاطب الله سبحانه وتعالى رسوله (صلی الله علیه و آله) الذي هو في أعلى مراتب العلم قائلاً: «وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً»(1).

وأخيراً فإنه يمكن الاسترشاد بهذه الرواية - حديث الكساء - ونظائرها لضرورة اهتمام الأبوين والأمهات بما يسأله الطفل، وعدم إهمال الإجابة على أسئلته - كما يفعله كثير من الآباء والأمهات - ..

وقد ثبت علمياً ما لذلك من التأثير الكبير على شخصية الطفل وفكره وسلوكه الحالي والمستقبلي.

ص: 124


1- سورة طه: 114.

فَأَقبَلَ الحَسَنُ (علیه السلام) نَحوَ الكِساءِ

اشارة

-------------------------------------------

التوجه نحو العظيم

مسألة: يستحب الإقبال والتوجه نحو العظيم، والوفود إليه، كما صنع الحسن والحسين وعلي وفاطمة (علیهم السلام).

فإن العظيم يُزار ولا يزور(1) إلا إذا كان مأموراً بالزيارة بنفسه، كما في رسول الله (صلی الله علیه و آله) حيث كان يزور لتبليغ رسالات الله أو للحسبة، وكذلك كان علي (عليه الصلاة والسلام) يدور في الأسواق للحسبة فيأمر وينهى، وقد وردت بذلك روايات متعددة.

وقد ورد في وصف رسول الله (صلی الله علیه و آله): «طبيب دوار بطبه، قد أحكم مراهمه وأحمى مياسمه»(2)..فإن كثيراً من الأطباء في العصور السابقة وفي عصرنا الحاضر في بعض البلاد كالهند والصين يدورون في الأسواق والأزقة وعلى البيوت والمحلات وغيرها لأجل معالجة المرضى.

ص: 125


1- أي من شأنه - إكراماً لمكانته - أن يزوره الناس، وليس من الصحيح أن يتعامل الآخرون معه كمعاملتهم للأفراد العاديين، ولكن ذلك ليس بمعنى أن يتكبر على الناس فإن التكبر مذموم، بل هذا الكلام للإرشاد إلى ضرورة إكرامه وتعظيمه وعدم التوقع منه كما يتوقع من الآخرين.
2- نهج البلاغة، الخطب: رقم108 ومن خطبة له (علیه السلام) وهي من خطب الملاحم. وفيه: أحمى مواسمه.

..............................

وكذلك كان الأنبياء والرسل (علیهم السلام) يدورون في أماكن مختلفة، وكان عيسى (علیه السلام) ينتقل من بلد إلى بلد ومن قرية إلى قرية، وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يعرض نفسه على القبائل قبيلة قبيلة ويذهب إلى هنا وهناك.

ومن المعلوم أن الوفود على العظيم والاستماع له سواء كانت عظمته معنوية أو علمية أو نحو ذلك يوجب استفادة الإنسان من معنوياته وعلومه وما أشبه، ولذا ورد: من مشى إلى العالم خطوتين، وجلس عنده لحظتين، وتعلم منه مسألتين، بنى الله له جنتين، كل جنة أكبر من الدنيا مرتين.

وقد ذكرنا في بعض كتبنا أن الله سبحانه وتعالى لا منتهى لرحمته، كما أن الإنسان الذي يدخل الجنة لا منتهى لوجوده هناك زماناً، ولهذا فأمثال هذهالأحاديث ليست مستبعدة إطلاقاً.

وعدم تصديق بعض الناس لمثل هذه الأمور أو زعمهم أنها غير مجدية لا يغير هذه الحقيقة، فإن مَثل الآخرة بالنسبة إلى الدنيا كمثل الدنيا بالنسبة إلى الطفل الذي في الرحم، فإذا قيل للطفل الذي في الرحم: إن الدنيا بهذه السعة وهذه الألوان والكيفيات والخصوصيات والمزايا لا يكاد يصدق، بل ليس بمقدوره أن (يتصور) ذلك فضلاً عن (التصديق)؛ لأن الإنسان إنما يصدق ما ألفه واستأنس به، ولذا ورد أن الإنسان يرى في الآخرة: «ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر»(1).

ثم إن استحباب الإقبال نحو العظيم - بالإضافة إلى أنه عقلي - مشمول لمثل

ص: 126


1- راجع من لا يحضره الفقيه: ج4 ص17 باب ذكر جمل من مناهي النبي (صلی الله علیه و آله) 4968.

..............................

قوله (عليه الصلاة والسلام): «ولم يوقر صغيركم كبيركم»(1) كما قال العكس مشموللقوله (عليه الصلاة والسلام): «ولم يرحم كبيركم صغيركم»(2)، إلى غير ذلك من الأدلة في الجانبين.

ثم إن الإقبال نحو المعصوم (علیه السلام) والوفود إليه وزيارته هو أجلى مصاديق هذا الأمر الراجح، ولا فرق في ذلك بين حالة حياتهم (علیهم السلام) وحالة مماتهم (علیهم السلام) .. وقد وردت روايات متواترة في فضل زيارة قبورهم (علیهم السلام)(3) خاصة زيارة قبر الإمام الحسين (علیه السلام) فراجع.

ص: 127


1- مستدرك الوسائل: ج12 ص333 ب39 ح14216.
2- مستدرك الوسائل: ج12 ص333 ب39 ح14216.
3- راجع الكافي: ج4 ص579 باب فضل الزيارات وثوابها.

وَقالَ: السَّلامُ عَلَيكَ يا جَدَّاهُ يا رَسُولَ اللهِ

اشارة

-------------------------------------------

بحث في معنى السلام و...

مسألة: يستحب سلام الوارد على المورود عليه، وكذلك يستحب سلام الصغير على الكبير.

ولا يخفى أن السلام بمعنى أن يكون الطرف سالماً عن الآفات والعاهات وغيرها، وقد كان السلام تحية الأنبياء (علیهم السلام) كما يدل على ذلك قوله سبحانه: «قَالُوا سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ»(1)..

كما أن البسملة كانت معهودة متداولة لدى الأنبياء السابقين (علیهم السلام) أيضاً، كما ورد في قصة الهدهد: «إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ»(2) وذلك لأن الأحكام بالنسبة إلى الأنبياء (علیهم السلام) واحدة(3) إلاّ فيبعض الخصوصيات، ولذا قال (صلی الله علیه و آله): «إني بعثت لأُتمم مكارم الأخلاق»(4).

أما السلام بالنسبة إلى الأموات، فالظاهر أنه إما تحية محضة منسلخة عن معناها اللغوي، وإما بمعنى: السلامة في الآخرة؛ لأن السلامة في الآخرة أيضاً

ص: 128


1- سورة هود: 69.
2- سورة النمل: 30.
3- ولذلك جرى استصحاب الشرائع السابقة فيما لم يثبت فيه النسخ، بل كان ذلك للإطلاقات راجع (الأصول) للإمام المؤلف (قدس سره).
4- راجع مستدرك الوسائل: ج11 ص187 ب6 ح12701.

..............................

مطلوبة للإنسان، بل المطلوب الواقعي له ذلك إذا قيس إلى الدنيا، إذ الدنيا مؤقتة وزائلة، بينما الآخرة باقية ودائمة، ولذا قال (علیه السلام) كما يحكيه القرآن الحكيم: «وَالسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا»(1)، فسلامة الولادة تمتد إلى ساعة الموت، كما أن سلامة الموت تمتد إلى الحشر، وسلامة الحشر تمتد إلى الأبد، لوضوح أن الطفل إذا ولد ناقصاً كما إذا كان أعمى أو أعرج أو أصم أو أبكم أو ما أشبه ذلك بقي كذلك إلى حين موته على الأغلب الأغلب، وكذلك الأمر إذا كان الإنسان مبتلى حال موته فإنه يبقىكذلك - في الجملة -. كما ورد: «إن القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران»(2).

نعم، قد تنال الإنسان الشفاعة وهو في القبر أو في يوم القيامة.

لا يقال: لا يحتاج الأمر إلى السلامة يوم يبعث حياً؛ لأن الإنسان الذي يسلم في القبر يسلم في الحشر.

لأنه يقال: ليس كذلك لأنه ورد في روايات متعددة: إن القبر إما روضة من رياض الجنة وإما حفرة من حفر النيران، وإما يلهى عن بعضهم إلى الحشر، فمن الممكن أن يكون الإنسان سالماً حين الموت - فترة القبر - ولا يكون سالما في الآخرة، كما لو جرى له امتحان إلهي هناك، بسبب أنه كان يعيش في الفترة بين الرسل وما أشبه ذلك وخرج من الامتحان فاشلاً فإنه سيعاقب حينئذ.

وهذا بحث كلامي ذكرناه استطراداً.

ص: 129


1- سورة مريم: 33.
2- بحار الأنوار: ج6 ص214 ب8 ضمن ح2.

أَتَأذَنُ لي أَن أَدخُلَ مَعَكَ

اشارة

-------------------------------------------

الاستئذان

مسألة: يستحب وقد يجب الاستئذان من العظيم للحضور بمحضره، كما استأذنوا (علیهم السلام) من النبي (صلی الله علیه و آله).

فإنه مستحب إذا كان في مكان مباح ونحوه..

وواجب إذا كان المكان خاصاً بالعظيم على نحو آكد، فإنه يجب الاستئذان حين الدخول في مكان الغير فكيف بما إذا كان عظيماً.

وربما يقال:

مِن جمع الواجب والمستحب كالصلاة الواجبة في المسجد مما يوجب التأكد، كما ذكروا في الواجبات المصادفة للمستحبات، وبالعكس.

والمراد بالعظيم - هاهنا -: هو العظيم معنوياً، أما العظيم المادي كالأكثر مالاً أو سلاحاً أو عشيرة فليس له هذا الحكم، قال سبحانه: «وَمَا أَمْوالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى»(1).

نعم، إذا صدق عليه الكريم يشمله قوله (عليه الصلاة والسلام): «أكرموا كريمكل قوم»(2).

ص: 130


1- سورة سبأ: 37.
2- مستدرك الوسائل: ج8 ص395 ب57 ح9780.

..............................

ولو استأذن فأذن له فلا إشكال.

وإن استأذن فلم يأذن له، فإذا كان المحل مباحاً جاز الدخول وإن كان لايبعد الكراهة حينئذ؛ لأنه نوع هتك له، لكن الهتك لا يصل إلى حد الحرمة.

أما إذا كان في المحل الخاص به حَرُم.

ولو استأذن فلم يعلم أنه أذن له أم لم يأذن؟

لم يجز الدخول للأصل.

ص: 131

تَحتَ الكِساءِ؟.

اشارة

-------------------------------------------

حق السبق

حق السبق(1)

مسألة: يستحب استئذان المتأخر من المتقدم في الاستفادة مما يعد حقاً للسابق، ومن صغرياته ما ورد ها هنا حيث استأذنوا (علیهم السلام) من الرسول (صلی الله علیه و آله) في الدخول معه تحت الكساء.

وحق السبق قد تجب مراعاته، وقد تستحب، كل في موضعه.

فإذا تحقق الحق عرفاً وجب المراعاة لما في جملة من الروايات من أنه: «لا يبطل حق مسلم»(2)، مثل حق التحجير وحق المسجد والمدرسة والسوق وما أشبه، مما ذكر في كتاب إحياء الموات(3).

وإلاّ (4) كان من الأفضل المراعاة؛ لأنهمن الأدب والأخلاق، فيشمله دليلهما، مثل حق الكلام وحق السؤال عن العالم وحق السوم وما أشبه ذلك.

ولو شك أنه من الحق الواجب أو المستحب كان الأصل عدم الوجوب؛ لأنهما شريكان في الرجحان، فالزائد يحتاج إلى الدليل، وإلاّ فالأصل البراءة.

ص: 132


1- راجع لهذا الفصل (الفقه: القواعد الفقهية).
2- بحار الأنوار: ج101 ص397 ب3 ح44.
3- موسوعة (الفقه): ج80 كتاب إحياء الموات.
4- بأن لم يكن حقاً عرفاً بحيث يتحقق معه موضوع الروايات وإن أطلق عليه الحق لغة كحق الأسبق في السؤال وشبهه.

..............................

ولو لم يعلم أيهما السابق، فالمحكَّم القرعة؛ لأنها لكل أمر مشكل.

نعم، في الأمور المالية يجب الرجوع إلى (قاعدة العدل) المستفادة من مستفيض الروايات على ما ذكره (الجواهر)(1)، وفي كتاب الخمس، وكذلك ذكرناه في موارد متعددة من (الفقه) وخصوصاً في كتاب (القواعد الفقهية).

ولا يخفى أنه في بعض الموارد لا تجري القرعة ولا قاعدة الماليات، وإنما تجري قاعدة ثانوية، كما إذا لم يعلم الوالي أيهما قتل والده، حيث لا يجوز له قتلهما ولا قتل أحدهما على سبيل البدل؛ لأن الحدود تدرأبالشبهات.

وكما إذا لم يعلم الزوج أيتهما زوجته، أو زوجها، لم يجز له ولها الاقتراع، ولا تجري قاعدة العدل بالتقسيم بينهما، إلى غير ذلك من الموارد التي ذُكرت في الفقه.

لا يقال: التحاكم إلى القرعة تحكيم لغير العاقل على العاقل، وليس ذلك من عمل العاقل؟.

لأنه يقال: بل هو تحكيم للعقلاء، فإن العقلاء جعلوا القرعة حاكماً عند التحير - في مواردها -.

لا يقال: يعود المحذور إذ العقلاء حكّموا غير العاقل؟.

لأنه يقال: حيث لم يجد العقلاء أفضل من هذا الطريق لحل المنازعات منحوه الاعتبار، فهو من ترجيح الراجح على المرجوح(2).

ص: 133


1- تأليف العلامة الشيخ محمد حسن النجفي (رحمة الله) المتوفي سنة 1266ه.
2- إضافة إلى ما ورد من أن الله تعالى يجعل الرشد أو الخير في الاقتراع، وإن بدى في بادي النظر غير ذلك، فكثيراً ما يكون الخير عكس ما يتصوره الإنسان خيراً.. «ولعل الذي أبطأ عني هو خير لي لعلمك بعاقبه الأمور» - دعاء الافتتاح - قال تعالى: «عَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ» - سورة البقرة: 216 - . وأما قوله عزوجل «فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ» - سورة الصافات: 141 - فلقد كان ذلك خيراً ليونس (علیه السلام) امتحاناً وترفيعاً للمكانة وللدرجات ولغير ذلك: كالاعتبار مثلاً.

..............................

وعلى أي حال فحيث كان الحق خاصاً بالرسول (صلی الله علیه و آله) لم يستأذن ثالثهم (علیهم السلام) منهما، بل من الرسول (صلی الله علیه و آله) وحده، وهكذا بالنسبة إلى رابعهم وخامسهم (صلوات الله عليهم أجمعين).

ص: 134

فَقالَ: وَعَلَيكَ السَّلامُ يا وَلَدِي

اشارة

-------------------------------------------

شمول الولد للسبط

مسألة: ولد البنت يعتبر (ولداً).. كما قال (صلی الله علیه و آله): «يا ولدي».

وهذا واضح لأن من يخلق من ماء الإنسان ابتداءً أو استدامة يكون ولداً، ويكون المخلوق منه والداً، سواء بالنسبة إلى الوالدين أو إلى الأجداد والجدات.

نعم بعض الأحكام الشرعية خاصة بمن يولد من الرجل لا المرأة، كباب الخمس والزكاة، كما ذكرها الفقهاء في كتبهم الفقهية.

ولذا ذكر جمع من الفقهاء - وليس بمستبعد - بالنسبة إلى ولد الزنا أنه ولد عقلاً وعرفاً ولغةً بل وشرعاً أيضاً، وإنما المخصص بعض الأحكام كالإرث، وإن كان صاحب المستند (قدس سره)(1) وسّع في التخصيص كما لا يخفى لمن راجعه.والشاعر(2) الذي قال:

بنونا بنو أبنائنا وبناتنا *** بنوهن أبناء الرجال الأباعد

استعمل نوعاً من المغالطة؛ لأنه لا منافاة بين أن يكون ولد الرجل الأبعد

ص: 135


1- العلامة الفقيه المولى أحمد بن محمد مهدي النراقي (رحمة الله) المتوفى سنة 1245ه.
2- الشاعر مجهول، وقيل هو لعمر بن الخطاب على ما ذكره جامع الشواهد فصل الباء بعده النون، وأما الكرماني فقد نسبه إلى الفرزدق في شرحه لشواهد شرح الكافية.

..............................

وولده أيضاً، إذ الولد مخلوق من ماء الرجل والمرأة معاً فهو ولدلهما.

وكما يشمله الولد كذلك يشمله الذرية، كما في قصة عيسى (علیه السلام) حيث ألحقه الله بنوح (علیه السلام) من جهة أمه مريم (علیها السلام).

أما شمول الخاصة والعامة والحامة ونحو ذلك أولاد البنت فلا غبار عليه إطلاقاً.

وكما أن ولد البنت ولد، كذلك بنت الولد، ولذا فقوله سبحانه: «وَوَالِدٍ وَمَاوَلَدَ»(1) يشمل كليهما كما يشمل الوالدين أيضاً.

مسألة: يستحب بيان أن الرسول (صلی الله علیه و آله) كان يقول لكل من الحسن والحسين (علیهما السلام): «يا ولدي»، إذ في ذلك إحقاق للحق ورد لمن زعم أن ولد البنت ليس ولداً، وذكر لإحدى فضائلهم (علیهم السلام).

ص: 136


1- سورة البلد: 3.

وَيا صَاحِبَ حَوضِي

اشارة

-------------------------------------------

إظهار العطف للسبط

مسألة: يستحب إظهار الجدّ عطفه ومحبته وعنايته بأسباطه، كما قال النبي (صلی الله علیه و آله): «يا ولدي ويا صاحب حوضي».

بحث عن حوض الكوثر

ولا يخفى أنه لا منافاة بين أن يكون الحوض للرسول (صلی الله علیه و آله) في المحشر، وبين أن يكون علي (علیه السلام) هو الساقي، وبين أن يكون الحسن (علیه السلام) صاحبه، إذ قد تكون للشيء الواحد إضافات ونسب متعددة، وقد تختلف الأحكام بالاعتبارات المختلفة، فالله سبحانه وتعالى منح الحوض للرسول (صلی الله علیه و آله) وجعل الساقي العام عليه علياً (عليه الصلاة والسلام) وجعل الحسن (علیه السلام) صاحبه، بمعنى اختصاصه به بعد الرسول (صلی الله علیه و آله) طولياً، كما أن العبد مملوك لسيده في طول ملكية اللهتعالى له.

كما أن الظاهر أنهم جميعاً (عليهم الصلاة والسلام) يسقون الناس من ذلك الحوض.

لا يقال: لما خص الحوض بالذكر في الأحاديث الشريفة - عادة - مع أن الإنسان بحاجة إلى الطعام أيضاً في يوم القيامة إذ أنه خمسون ألف سنة؟.

ص: 137

..............................

لأنه يقال: إن حاجة الإنسان إلى الماء أشد - يومئذ - منه إلى الطعام، وذلك نظراً إلى العطش الشديد الذي يستولي على الناس من الحرّ وغيره، ولذلك تركزت العناية على ذكره.

ولقد ورد في بعض الأحاديث: إن أرض المحشر تتحول - بإذن الله - إلى شيء من المأكول كالخبز يأكل منه الناس، كما أنه لا يستبعد أن يكون هناك مختلف أنواع الفواكه والمآكل والمشارب تحت ظل العرش للمؤمنين.

وكذلك من المحتمل أن يكون هناك الزواج أيضاً لوضوح أن الإنسان يحتاج حسب طبيعته إلى الزوج والزوجة طيلة خمسين ألف سنة، ويؤيده ما ورد من وجود الحور العين في القبر وفي الجنة، فتأمل.

وربما يقال: إن القبر إذا كانكذلك فالمحشر يكون بطريق أولى، وإن كانت هذه تقريبات لا يمكن القول بها إلاّ بعد ورود الدليل بالنسبة إلى الزواج.

وكذلك لم ترد الإشارة إلى كثير من شؤون الإنسان في المحشر، وربما تكون قد ذكرت في الروايات ولم تصل إلينا (1).

توقير الطفل وذكر فضائله

مسألة: يستحب احترام الطفل وتوقيره وذكر فضائله، لطريقيته ومقدميته، وقال تعالى: «وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ»(2).

ص: 138


1- حول هذه المباحث راجع (كفاية الموحدين) وكتاب (حق اليقين).
2- سورة الضحى: 11، واطلاقه يشمل النعمة للشخص ولغيره.

..............................

فإن إعطاء الشخصية للطفل يوجد حالة معنوية في نفسه تنتهي بالنتيجة - في كثير من الأحيان - إلى تكوين شخصية أكثر تكاملية للطفل، كما ثبت ذلك في علم النفس، فإن ذكر فضائل الطفل يكرسها في نفسه، كما أن الإيحاءوالإغراء له مقام في نفس المغرى - بالفتح - سواء كان الإغراء بالباطل أم بالحق، بالحرام أم بالحلال، بالكبر أم بالدناءة، وإن كان في طرف الفضائل أشد تأثيراً؛ لأن الإغراء بالفضائل فطري أيضاً، فتساعد الفضيلة الفطرة، وليس كذلك في جانب الرذائل إذ الرذائل ليست فطرية.

وما نجد في بعض الآيات من ذم الإنسان مثل قوله سبحانه: «إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً»(1) وقوله سبحانه: «إِنَّ الإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً»(2) وما أشبه ذلك، فالظاهر إنها بالأمور العارضة (3)، وإنما الأصل قوله سبحانه: «مَا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفَاوُتٍ»(4) وقوله سبحانه: «فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا»(5) وقوله سبحانه: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ» (6) وما أشبه ذلك.

ص: 139


1- سورة الأحزاب: 72.
2- سورة المعارج: 19.
3- ومقام الفعل وضمن دائرة الإدارة كما سبق فليراجع.
4- سورة الملك: 3.
5- سورة الروم:30.
6- سورة الإسراء: 70.

..............................

... والكبير أيضاً

وهذا ليس خاصاً بالطفل وإنما الكبير كذلك مع اختلافهما في أن الطفل أكثر تأثيراً بالإيحاء والإغراء، بينما الكبير ليس كذلك، ولهذا قال الشاعر(1):

إن الغصون إذا قوّمتها اعتدلت *** وليس ينفعك التقويم للحطب

مع أنا نرى أن كثيراً من الكبار أيضاً يرضخون للحق أو للباطل إذا حُرِّضوا عليهما، أو أُغروا بهما، ولذا نجد كثيراً من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) دخلوا الإسلام طوعاً مع أنهم كانوا في مرحلة الكهولة أو بعدها، وهكذا العكس في بعض الموارد الأخرى.

فالاحترام والإهانة والتربية والتعلم والتشجيع وما أشبه ذلك - مما يرد إلى النفس من الخارج - كلها مؤثرة في النفس، من غير فرق بين أن يكون كل ذلك عن طريق السمع أو البصر أو اللمس أو ما أشبه ذلك، بل وحتى الفكر، ولذا كان اللازم التفكر بالخير دون الشر.ولذا ورد: «فكر ساعة خير من عبادة سنة»(2)، أو «ستين سنة»(3)، أو «سبعين سنة».

وقال الله سبحانه وتعالى قبل ذلك: «قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا للهِ مَثْنى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا»(4)، فإن كان الإنسان بمفرده وتمكن من

ص: 140


1- هو سابق بن عبد الله البربري الرقي، فقيه ومحدث من أهل خراسان سكن الرقة، توفي سنة 132ه.
2- مستدرك الوسائل: ج2 ص105 ب17 ح1551.
3- روى الطريحي في (مجمع البحرين) في لفظ (فكر): «تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة».
4- سورة سبأ: 46.

..............................

التفكر السليم فليتفكر هو بنفسه، وإلاّ فليكونوا اثنين أو أكثر ويتفكروا، وقوله سبحانه: أَنْ تَقُومُوا للهِ مَثْنى وَفُرَادَى (1) الظاهر فيه أن مثنى من باب المثال إذ لا خصوصية للعدد، فمن الممكن أن يكونوا ثلاثة وأربعة وخمسة وأكثر.

ذكر فضائل المعصومين (علیهم السلام)

مسألة: يستحب بيان فضائل الإمام الحسن (علیه السلام)، كما يستحب ذكرفضائل أهل البيت (علیهم السلام) بصورة عامة، للروايات المتكاثرة، وقد جاء في الحديث:

«أحيوا أمرنا، إن من أحيى أمرنا لا يموت قلبه يوم تموت فيه القلوب، رحم الله من أحيا أمرنا»(2).

إضافة إلى ما لذكر فضائلهم (علیهم السلام) من التأثير الإيجابي التربوي على الناس.

ص: 141


1- سورة سبأ: 46.
2- راجع وسائل الشيعة: ج12 ص20 ب10 ح15532.

قَد أَذِنتُ لَكَ

اشارة

-------------------------------------------

الاستجابة للطفل ولغير المسلم

مسألة: يستحب الإجابة للطفل وقضاء حاجته.

فإنه يستحب - كما سبق - إجابة المؤمن، كبيراً كان أم صغيراً، رجلاً أم امرأة.

بل قد ألمعنا في بعض المباحث السابقة إلى أن هذا جار في غير المسلم أيضاً، وحتى في المحارب - إلاّ ما خرج بالدليل - كما سمح علي (علیه السلام) لأهل صفين أن يأخذوا حاجتهم من ماء الفرات(1)، وأمر الحسين (علیه السلام) أصحابه بسقي الذين جاءوا لقتاله وقتلوه أخيراً (2).

ولا فرق بين أن تكون الحاجة معنوية أو مادية، فقد يسأل عن مسألة شرعية أو عقلية أو عرفية أو عادية أو غيرها، وقد يطلب حاجة مثل أن يطلبماءً أو خبزاً أو غير ذلك، فإن هذه الموارد تندرج في الأدلة العامة.

نعم، إذا كانت الحاجة أو الإجابة محرمة لم يجز؛ لأن الإقتضائي مقدم على اللا إقتضائي كما ذكره الفقهاء.

أما إذا كانت مستحبة أو واجبة أو مباحة جاز بالمعنى الأعم، حيث إن

ص: 142


1- راجع وقعة صفين: ص161 استيلاء أهل العراق على الماء ثم سماحهم به لأهل الشام.
2- راجع بحار الأنوار: ج44 ص376 ب37.

..............................

قضاء الحاجة الواجبة واجب، والمستحبة مستحب(1)، والمباحة مستحب أيضاً باعتبار أنه قضاء الحاجة.

ولو طلب حاجة لا نعلم إنها من أيهما، فإن أمكن حمل الفعل على الصحة جاز، بل استحب، وإلاّ لم يجز.

نعم، إذا دار الأمر بين الواجب والحرام ولم يمكن الفحص أو فحص ولم يعرف الواقع ولم يكن هناك ما يشخص الموضوع ولو بإحدى الأصول كان من موارد التخيير.

وفي المورد المشكوك إنما يكون حراماً في ما يجب فيه الاحتياط مثل: الدماء والفروج والأموال الكثيرة،وأما إذا جرى أصل الحلية كان جائزاً(2).

رجحان التأكيد

مسألة: التأكيد يرجح في مقام الإجابة على السؤال، ويتأكد في المسائل الهامة، كما قال النبي (صلی الله علیه و آله) للحسنين (علیهما السلام): «قد أذنت لك»، بل يرجح مطلق التأكيد إذا كان فيه الفائدة. فإنه لم تكن حاجة إلى أن يقول (صلی الله علیه و آله): «قد» و«لك»، إذ «أذنتُ» معناها الإذن له، لكنه تأكيد ونوع احترام للطرف،مثل قوله سبحانه: «رَحْمَةٍ مِنْهُ»(3)..

ص: 143


1- لجهتين: كونه مقدمة لمستحب، وانطباق عنوان قضاء الحاجة عليه.
2- حول هذا المبحث راجع (الأصول: مبحث الأصول العملية).
3- سورة النساء: 175.

..............................

إذ من الواضح أن الرحمة منه قطعاً كما في الآية الكريمة، وكذلك في الدعاء حينما نقول: «اللَّهُمَّ اهْدِنِي مِنْ عِنْدِكَ»(1)، إذ لا حاجة إلى (من عندك) وكذلك: «وَأَفِضْ عَلَيَّ مِنْ فَضْلِكَ، وَانْشُرْ عَلَيَّمِنْ رَحْمَتِكَ»(2).

وهكذا في قوله سبحانه: «وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ»(3) وهذا كثير.

ومن المعلوم أنه في المورد الحسن يكون احتراماً، كما أنه في المورد السيئ يسبب مزيداً من الإهانة، كما إذا خاطب مدمناً للخمر: أنت أنت الخمّار، أو ما أشبه ذلك، وهذا باب من أبواب البلاغة.

ومن المعلوم أن التأكيد لا ينحصر في هاتين الفائدتين فقط، بل له فوائد كثيرة لا مجال لذكرها.

ص: 144


1- من لا يحضره الفقيه: ج1 ص324-325 باب التعقيب ح951.
2- من لا يحضره الفقيه: ج1 ص324-325 باب التعقيب ح951.
3- سورة المجادلة: 22.

فَدَخَلَ مَعَهُ تَحتَ الكِساءِ،

اشارة

-------------------------------------------

اجتماع الأقرباء

مسألة: يستحب اجتماع الأقرباء، ويؤيده روايات اجتماعات المؤمنين، وكان من مصاديق ذلك دخولهم (علیهم السلام) تحت الكساء(1)، فإن جمع الأجسام في غير المكروه والحرام من أهم ما يستلزم صحة الجسم وسلامة النفس.

أما النفس: فلأنه مما يوجب السرور والارتياح، ومن المعلوم أن النفس تؤثر في البدن صحةً وسقماً.

وأما البدن: فلأنه ثبت في علم الطب أن الله تعالى جعل البدن من المعقمات - في غير المرضى - ولذا كان سؤر المؤمن شفاءً، وقد قرأت في بعض المطبوعات الرسمية: إن السؤر من أهم ما يزيل قسماً من الأمراض، والمراد به أعم من سؤر الفم أو سائر البدن كالاستحمام في الأنهار والأحواض وغيرها.ولعلّ من أسباب توفر الصحة في الأزمنة السابقة هو تطبيق هذه التعاليم في الأطعمة والأشربة والحمامات وغيرها، لكن بشرط مراعاة النظافة الكاملة.

وعلى أي حال فتجمّع الأبوين والأولاد يوجب الحبّ المتزايد بين الأب وبنيه، وبين الزوجين، وبين الإخوة.

ص: 145


1- من الواضح أن الفعل الواحد قد تنطبق عليه عناوين متعددة وقد يكون مجمعاً لجهات رجحان متشابهة أو مختلفة (وجوباً واستحباباً).

..............................

ولربما لم تكن زينب وأم كلثوم (علیهما السلام) قد ولدتا بعدُ وإلاّ لأمكن أن يكون لهما نصيب أيضاً في هذه الفضيلة، فتأمل، وإن احتمل عدم اشتراكهما نظراً للاختصاص.

ثم إنه لم يذكر في هذا الحديث ولا في شيء من الروايات التي رأيتها أنهم - عندما اجتمعوا تحت الكساء عند رسول الله (صلی الله علیه و آله) - اجتمعوا في جانب واحد على تقدير أو في الجانبين؟.

كما أنه لم يُذكر أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) بعد اجتماعهم عنده بقي نائماً - أي مستلقياً - وهم كذلك معه؟.أم أنهم جميعاً جلسوا معه، أو بالاختلاف، فكان الوالدان إلى جانب الرسول (صلی الله علیه و آله) والولدانفي حِجر الرسول (صلی الله علیه و آله) مثلاً، نعم في آخر الحديث قال علي (علیه السلام): «ما لجلوسنا هذا».

ص: 146

فَما كانَت إِلاَّ سَاعَةً وَإِذا بِوَلَدِيَ الحُسَينِ (علیه السلام) قَدْ أَقبَلَ

اشارة

-------------------------------------------

استيفاء البيان

مسألة: يستحب استيفاء البيان وإكمال الإفادة، ومنه: إتمام ذكر الحديث أو القصة وعدم تركها ناقصة، كما فعلت الزهراء (سلام الله عليها) حيث ذكرت الحديث من أوله إلى آخره؛ فإن ذلك من الإتقان، إضافةً إلى ما له من الرجحان بلحاظ الفائدة، وقد سبق نظيره.

نعم، قد يقتضي بعض الأمور الخارجية أو الداخلية عدم ذكر القصة بكاملها، كما نجد ذلك في القصص القرآنية، حيث إن الله سبحانه وتعالى وزع القصة في أماكن متعددة، وذكر في كل مرة جانباً من جوانب القصة.

مثلاً: في قصة النبي موسى (علیه السلام) والسحرة ذكر مرة: «كَأَنَّهَا جَانٌّ» (1) وذكر مرة: «حَيَّةٌ»(2) وأخرى «ثُعْبَانٌ»(3) وما أشبه ذلك باعتبار أحوال الحيةالمختلفة، فالجان حية صغيرة سريعة الحركة كأنها الجن، بينما ليست الحيّة كذلك، والثعبان يقال بلحاظ (ابتلاعها).

وهكذا في سائر قصص القرآن الحكيم، كقصة إبراهيم (علیه السلام) ونوح (علیه السلام) وعيسى (علیه السلام) وغيرهم.

ص: 147


1- سورة النمل: 10، سورة القصص: 31.
2- سورة طه: 20.
3- سورة الأعراف: 107، سورة الشعراء: 32.

..............................

وقد يكون عدم البيان الكامل بسبب مانع خارجي، كما أن علياً (عليه الصلاة والسلام) لم يكمل الخطبة الشقشقية، حيث دفع إليه شخص كتاباً فجعل ينظر فيه، فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين، لو اطردت في خطبتك من حيث أفضيت. فقال (علیه السلام): «هيهات إنها شقشقة هدرت ثم قرت»(1).

لا يقال: لقد استنفد الإمام (علیه السلام) غرضه من الخطبة، فلم يكن هناك مجال لطلب ابن عباس منه كي يواصل الحديث؛ لأنه (علیه السلام) تحدث عن عهد الحكام الثلاثة الذين كانوا قبله.

لأنه يقال: هذا الكلام غير صحيح لإمكان أن يكون الإمام (علیه السلام)بصدد بيان الأحداث الأخرى، أو الملاحم التي سوف تقع بعده، أو تفصيل ما ذكره.

أما لماذا سكت الإمام (علیه السلام) ؟

فلأنه رأى فوت الفرصة بسبب قطع خطبته، إذ لابد أن يكون للخطبة موالاة ومتابعة، فإذا فاتت الموالاة كان الاستمرار في الكلام خلاف البلاغة.

ولربما كانت جهة أخرى لذلك، والله العالم.

ص: 148


1- نهج البلاغة، الخطب: رقم3 ومن خطبة له (علیه السلام) وهي المعروفة بالشقشقية.

وَقال: السَّلامُ عَلَيكِ يا أُمّاهُ. فَقُلتُ: وَعَلَيكَ السَّلامُ يا قُرَّةَ عَيِني وَثَمَرَةَ فُؤادِي.

اشارة

-------------------------------------------

تفضيل الولد الأصغر

مسألة: يستحب تقديم الأصغر على الأكبر، وتفضيله في إبراز المحبة، في الجملة، ولعله لذلك أضافت (علیها السلام) للحسين (علیه السلام) كلمة: «يا ولدي».

وذلك لحاجة الأصغر إلى المزيد من العطف والحنان، ولعلّ في كلامها (عليها الصلاة والسلام) تنبيها على ذلك.

نعم، يجب أن لا يؤدي ذلك إلى أن يشعر الأكبر بأنه موضع ازدراء وقلة اهتمام، وأن الوالد أو الوالدة يعطيه أقل من حقه؛ لأن ذلك ربما أوجب عداءً وحسداً.

وقد قال بعض: إن تفضيل يعقوب (علیه السلام) ولده يوسف (علیه السلام) على سائر إخوته كان السبب في إثارة عدائهم وحسدهم، قال سبحانه: «لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (علیهم السلام) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍمُبِينٍ (علیهم السلام) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ»(1).

ص: 149


1- سورة يوسف: 7 - 9.

..............................

لكن هذا الكلام غير تام إن أريد به الاستشكال عليه (علیه السلام)؛ لأن يعقوب (علیه السلام) كان يفضّل يوسف (علیه السلام) لفضله وكونه نبياً وما أشبه ذلك، وهذا وإن أثار العداء إلاّ أنه لابدّ منه من باب الأهم والمهم، كما كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) ينوه بفضل علي (عليه الصلاة والسلام) مما أثار عداء وحسد جملة من الأصحاب، كما هو معروف في التاريخ.

والحاصل أن هنالك حالتين:

الحالة الأولى: أن لا يفعل الإنسان شيئاً اعتباطاً يثير الحسد والكراهية.

والحالة الثانية: أن يقوم الإنسان ببيان الحق الواجب عليه بيانه وإن أثار الحسد، ولذا قال سبحانه: «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ»(1)، وكان الأنبياء محسودين وكذلك الأئمة الطاهرون (عليهم الصلاة والسلام).

ص: 150


1- سورة النساء:54.

فَقالَ لِي: يا أُمّاهُ، إِنّي أَشَمُّ عِندَكِ رائِحَةً طَيِّبَةً

اشارة

-------------------------------------------

اشارة

كَأَنَّها رائِحَةُ جَدِي رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله)؟.

فَقُلتُ: نَعَم، إِنَّ جَدَّكَ وَأَخاكَ تَحتَ الكِساءِ.

الإعلام بالواقع

مسألة: يستحب الإخبار عن الواقع فيما كان مفيداً، وإخبار السائل عن الأكثر من حدود سؤاله إذا كان فيه فائدة، وفي ذلك قضاء للحاجة، كما قالت (سلام الله عليها) للحسين (علیه السلام): «إن جدك وأخاك تحت الكساء»، وقالت لعلي (علیه السلام): «ها هو مع ولديك تحت الكساء».

وهذا وإن كان بالنسبة إلى المقارن، إلاّ أنه يتعدى إلى السابق واللاحق بالملاك وبالإطلاقات..

لكن من الواضح أن ذلك(1) فيما إذا لم يكن ضاراً أو محتمل الضرر، كإخبار الغاصب بملك المغصوب(2)، وإخبار مريدالشر بمن يريد به الشر، وما أشبه ذلك. ففي المورد الضار حرام قطعاً، أما في مورد احتمال الضرر فالظاهر الحرمة أيضاً؛ لأن احتماله كقطعه، نعم إذا ظهر الخلاف كان من التجري وقد التزمنا في (الأصول) بأنه قبيح فاعلاً لا فعلاً.

ص: 151


1- أي استحباب الإخبار.
2- أي بملك يريد غصبه، فيرشد الغاصب إلى ملك الناس ليغصبه.

..............................

كما أن الإخبار عن الواجب والمستحب والمكروه يلحقه حكمها، كإخبار المستفتي عن الواجب والمستحب بالفتوى كفاية ًأو عيناً في صورة الانحصار؛ لأنه من التعاون على البر والتقوى، إلى غير ذلك. ومنه يعلم حال الاستفتاء عن المكروه، وقد ذكر تفصيله في بحث وجوب التعليم ومقدمة الواجب وغيرهما.

ثم لو أخبر المستخبر المريد إيقاع الشر بمال أو عرض أو نفس، فالضمان تابع لإقوائية السبب أو المباشر كما ذكر في الفقه، وقد احتملنا - في بابه - أنه لو تساويا كان الضمان عليهما كمن يدفع السيارة إلى جاهل بالقيادة فيصطدم بإنسان فيقتله، حيث إن المحتمل أنه عليهما لا على السائق فقط، فتأمل(1).ولا يخفى أن قولها (عليها الصلاة والسلام): «وأخاك» من زيادة الكلام لمزيد الفائدة وإلاّ فقد كان السؤال عن الجد فقط.

ومن المحتمل أن الحسن (عليه الصلاة والسلام) أيضاً كانت له رائحة طيبة، فكانت الرائحتان ممتزجتين، وهذا غير بعيد؛ لأن الأئمة (عليهم الصلاة والسلام) كان دأبهم استعمال العطر كما يفهم من متواتر الروايات، فإن الطيب - بالإضافة إلى رائحته الزكية - يقوي الأعصاب ويشرح الصدر، ولهذا ورد عن الإمام الرضا (علیه السلام): «الطيب من أخلاق الأنبياء»(2)، وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «ما طابت رائحة عبد إلا زاد عقله»(3).

ص: 152


1- راجع (الفقه: كتاب الضمان).
2- الكافي: ج6 ص510 باب الطيب ح1.
3- دعائم الإسلام: ج2 ص165 ف4 ح593.

فَدَنَا الحُسَينُ (علیه السلام) نحوَ الكِساءِ،

اشارة

-------------------------------------------

اشارة

وَقالَ: السَّلامُ عَلَيكَ يا جَدَّاهُ، السَّلامُ عَلَيكَ يا مَنِ اختارَهُ اللهُ،

تكرار السلام

مسألة: يستحب تكرار السلام خاصة على العظيم، كما قال الحسين (علیه السلام):

«السلام عليك يا جداه، السلام عليك ... ».. وكما ورد في الزيارات: «السلام عليك يا .. السلام عليك يا .. السلام عليك يا .. ».

فإن تكرار السلام يوجب تأكيد التحية وتشديد أواصر الصداقة، ولذا نشاهد تكرره في الزيارات ونحوها مثل: «السلام عليك يا أبا عبد الله، السلام عليك يا خيرة الله، السلام عليك يا صفوة الله»، وما أشبه ذلك.

وإنما لم يسلّم الحسين (علیه السلام) على الحسن (علیه السلام) - بعد السلام على جدّه (صلی الله علیه و آله) - لأنه نوع تأدب بالنسبة إلى الرسول (صلی الله علیه و آله) ولذا لم يأتِ بصيغة التثنية أو الجمع أيضاً كما هو واضح في باب الآداب، فإنه إذا كان كبير في المجلس وجاء إنسان خصّص السلام بذلك الكبير، فإذا شرك معه الصغير أو جمعهما في صيغة واحدة لم يكن بتلك المرتبة من الاحترام للكبير، ولذا يكون الإقتداء بهم (عليهم الصلاة والسلام) حتى في مثل هذه الخصوصية.

ص: 153

..............................

ولعل وجه تقديمه (عليه الصلاة والسلام) «جداه» على «من اختاره الله» باعتبار أن كونه «جداً» سابقاً على كونه «ممن اختاره الله سبحانه وتعالى»؛ لأن اختيار الله وقع على الجد لا أن الجد وقع على من اختاره الله، وليس مرادنا التقدم الزماني بل الرتبي، فإن كل واحد من كلمة قبل وكلمة بعد وكلمة مع وما أفاد معنى إحدى هذه الثلاثة قد يكون باعتبار الزمان، وقد يكون باعتبار المكان، وقد يكون باعتبار المنزلة..

وقوله (صلی الله علیه و آله) لعلي (عليه الصلاة والسلام): «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبي بعدي»(1) ليس المراد به بعد مماتي لا نبي، بل بعد نبوتي لا نبي سواء في حياتي أم مماتي.

ص: 154


1- الأمالي للطوسي: ص253 المجلس9 ح453. الحديث مما أجمعت الأئمة والحفاظ والأعلام من الفريقين على صحته من جميع الوجوه وتوثيق سنده ورجاله كما في صحيح مسلم: ج7 ص120 باب من فضائل علي (علیه السلام)، ونص الحديث: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي».

أَتَأذَنُ لي أَن أَكونَ مَعَكُما تَحتَ الكِساءِ؟.

اشارة

-------------------------------------------

التفنن والتنوع في الكلام

لعل الوجه في قوله: «معكما» دون «معك» أنه (علیه السلام) لو قال: «معك» كان إهانة للحسن (علیه السلام) فقال: «معكما»، ففرق بين «السلام عليكما» وبين «معكما» كما يعرفه أهل البلاغة.

وأما الاستئذان فكان منه (صلی الله علیه و آله) فقط حيث إن حق السبق له، والحسن (عليه الصلاة والسلام) وإن دخل تحت الكساء لكنه كان وارداً على صاحب الحق لا أن حق السبق شمله حتى يتوقف - من هذه الجهة - الإذن عليه أيضاً(1).

وربما يحتمل أن يكون الاختلاف في ضمير المفرد والتثنية باعتبار التفنن والتنويع في الكلام، حيث إن من فنون الكلام أن يكون مختلفاً حتى لا يمل السامع نتيجة لوحدة الكيفية، كما قالوا في باب الالتفات كقوله سبحانه: «وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِتُرْجَعُونَ»(2)، فإن التفنن لا فرق فيه بين الغيبة والحضور والتكلم، وبين سائر أضراب التفنن.

وهكذا يقال في جملة من آيات القرآن حيث اختلاف العبارات - وذلك على فرض الالتزام بوحدة المؤدى في بعضها - فقد ذكر بعض الأدباء:

ص: 155


1- هذا كله بالنظر إلى الظواهر - كما هو واضح - لا بلحاظ مقام الولاية وشبهها ولذا ذكر: (من هذه الجهة).
2- سورة يس: 22.

..............................

إن الله سبحانه وتعالى كما خلق الكون متفنناً فيه من الجهات المختلفة في الألوان والأطعمة والأذواق والأشكال والأحجام وغير ذلك، كذلك جعل الإنسان بحيث يتطلب التفنن والتنوع في كل شيء.

قالوا: وهذا هو وجه - أو من وجوه - التفنن في العبادة، مثلاً: الصلاة فيها تكبيرة وحمد وسورة وركوع وسجود وقيام وقعود وتشهد وتسليم وما أشبه، وركعاتها اثنتان وثلاثة وأربعة وواحدة وأكثر كما في بعض الصلوات المذكورة في المستحبات، إلى غير ذلك.

وكذلك الحال في الحج والاعتكاف والوضوء والغسل وما أشبه ذلك مما ذكر في مبحث فلسفة الأحكام، وقد أشرنا إلى بعض ذلك في كتاب (الفقه: الآدابوالسنن)، وكتاب: (في ظل الإسلام) وغيرهما.

ص: 156

فَقالَ: وَعَلَيكَ السَّلامُ

اشارة

-------------------------------------------

إفراد الضمير وجمعه

لا يخفى أن المجيء بصيغة المفرد حيث قال: «وعليك السلام» ولم يقل: «وعليكم السلام» - مع أنه جائز بل مستحب كما يستفاد من بعض الروايات - إنما هو لإفادة الوحدوية في هذا المقام، حتى أن الملائكة الذين يسلم عليهم في صيغة الجمع يأتون في مرحلة ثانوية، وقد ذكر علماء البلاغة أن كلمة (إنني) و(أنا) في بعض المقامات أدل على العظمة من كلمة (نحن) حيث إن (أنا) يدل على التفرد، وأنه لا أحد معه «إِنَّنِي أَنَا اللهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي»(1)، بينما قوله (نحن) يدل على أن معه آخر(2) ولذا قالوا: (نحن) في بعض المقامات أكثر تواضعاً من (أنا).

ثم إنه يقال: (عليك) و (عليكم) مع أن (على) للضرر غالباً، لبيان أنه يغمره السلام؛ لأن السلام المنتهى إليهكأنه يغمره من الرأس إلى القدم، ولذا ورد في القرآن الحكيم: «رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ»(3) وإلا فالمراد انتهاء السلام إليه، ولذا قلنا في الفقه: إنه يصح (السلام لك) وأنه يجب الجواب أيضاً، وفي بعض الأدعية بالنسبة إلى الله: (وإليك السلام).

ص: 157


1- سورة طه: 14.
2- ولذا قال البعض: إن قوله تعالى: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ» - سورة الحجر: 9 - كان بلحاظ الملائكة أيضاً.
3- سورة هود: 73.

يا وَلَدِي وَيا شافِع أُمَّتِي

اشارة

-------------------------------------------

الاعتقاد بالشفاعة

مسألة: يجب الاعتقاد بالشفاعة، ولا يخفى أنها من ضروري العقل قبل أن تكون من ضروري الشرع، وهي من الفطريات ومما تسالمت عليها الملل، والاختلاف إنما هو في المصاديق والخصوصيات.

وهي عبارة عن شفع شيء بشيء ليتمكنا من الوصول إلى نتيجة مطلوبة، كما أن الإنسان يساعد الحمّال في حمله، أو السيارة لتتحرك الماكنة، أو ما أشبه ذلك، ولقد قامت عليها الأدلة الأربعة، ويدلّ على كونها من ضرورياتالشرع الآيات والروايات المتواترة.

ومن أنكر الضروري فإن رجع إنكاره إلى تكذيب الرسول (صلی الله علیه و آله) كان كافراً، وإن لم يرجع إلى تكذيب الرسول (صلی الله علیه و آله) كان غير مرتد، على ما ذكره الفقيه الهمداني (قدس سره)(1) وغيره في مبحثه، وقد ذكرنا حكم الارتداد في (الفقه)

ص: 158


1- الشيخ آقا رضا ابن الشيخ محمد الهادي الهمداني النجفي، ولد في همدان سنة 1250ه وقرأ مقدماته فيها ثم هاجر إلى النجف الأشرف وهو شاب وأقام فيها حتى نال مرتبة عالية من العلم وأصبح من المدرسين في عصره. درس على الشيخ الأنصاري (رحمة الله) في النجف، وعلى الميرزا السيد محمد حسن الشيرازي (قدس سره) في النجف وسامراء، وكان من خيرة تلاميذه. ترك كتباً عدة أهمها: (مصباح الفقيه) وهو شرح لكتاب الشرائع في عدة أجزاء. وحاشية على رسائل الشيخ الأنصاري. وحاشية على المكاسب، لم تتم. ورسالة في اللباس المشكوك. وحاشية على (الرياض) غير كاملة. وكتاب البيع مما حضره على الميرزا الشيرازي (قدس سره).. وأجوبة مسائل مختلفة. والرسالة العملية. مرض آخر أيامه بمرض الصدر وأقام في سامراء لطيب هوائها، ثم توفي فيها يوم الأحد 28 صفر سنة 1322ه، دفن في رواق الإمامين العسكريين (علیهما السلام) وقبره مقابل قبر الطاهرة النقية حكيمة خاتون.

..............................

وذكرنا شروطه هناك، فراجع.

وكما يجب الاعتقاد بالشفاعة، يجب - من باب إرشاد الجاهل وهداية الغافل - على العالم بيانها للناس وإلفاتهم إليها.

الثناء بالحق

مسألة: يستحب الثناء بالحق والجهر بفضائل الآخرين، خصوصاً إذا كانت نافعة مستلزمة للحثّ نحو المكارم.

ولذا قال (صلی الله علیه و آله) للحسن (علیه السلام): «صاحب حوضي»، وللحسين (علیه السلام): «شافع أمتي»، وكما قال الحسين (علیه السلام): «يا من اختاره الله».

ولا يخفى أن كل المعصومين (علیهم السلام) شركاء في جميع الفضائل والمناقب كما يستفاد من مجموعة من الروايات، وإن تجلت بعضها في بعضهم(1)بمقتضى تنوع

ص: 159


1- كالصبر في الإمام الحسن (علیه السلام)، والشجاعة في الإمام الحسين (علیه السلام)، والعبادة في الإمام السجاد (علیه السلام)، والعلم في الصادقين (علیهما السلام)، وإن كان المتأمل يستطيع أن يستكشف من ومضات حياة كل واحد منهم كل تلك الصفات فيرى في الإمام علي (علیه السلام) القمة في الصبر والشجاعة والعبادة والعلم وهكذا وهلم جرا.

..............................

أدوارهم واختلاف ظروفهم ومسؤولياتهم حتى بدى بعض الصفات ألصق ببعضهم من بعض، وأضحى بعضهم مظهراً لبعضها في الدنيا والآخرة.

ولذا كان علي (علیه السلام) صاحب الحوض، وكلهم (علیهم السلام) واقفون على الحوض، وكلهم (علیهم السلام) شفعاء، إلى غير ذلك.

وهذه الخصيصة إما في الكيفية أو في الكمية أو في الجهة أو في غيرها، وذلك كما أن هناك علاقة بين بعض الأشياء وبعضها الآخر في الخلقة تكويناً، فالدواء الفلاني للصفراء، والدواء الآخر للسوداء، والنار توجب الحرارة، والثلج يبرد، وهكذا.

وأولياء الله سبحانه كذلك، حيث إن كل إمام (علیه السلام) سبب ووسيلة لقضاء حاجة من حوائج الدنيا والآخرة، كما يظهر من الروايات، وإن كان الكل لكل الحوائج اقتضاءً وفعلية في الجملة.

وهل أن الترابط والعلائق بين سلسلة المقتضيات والأسباب والشرائط و...، وبين مقابلاتها، سواءً في الماديات أوالمعنويات كان ذاتياً بسبب خصوصية في ذا وذاك، أم أنه بالجعل، نظراً لتعلق إرادته تعالى بذلك، فكان من الممكن جعل الثلج والنار بالعكس في التأثير، وهكذا وهلم جرا؟.

احتمالان.

بل احتمالات(1).

ولا شك أن الله سبحانه قادر على ما يتصور من الممكنات إلا أن الكلام في

ص: 160


1- منها: التوليد أو الإعداد أو التوافي.

..............................

الكيفية الخارجية (1) والتي هي خارجة عن حدود علمنا.

الشفاعة للناس

مسألة: تستحب الشفاعة للناس إذا لم يكن هناك محذور.

وإنما يفهم من «شافع أمتي» استحباب الشفاعة للناس - بالإضافة إلى كونه كشف الكرب وقضاء الحاجة - لأن أهل البيت (علیهم السلام) لا يتصفون بصفةإلاّ كانت حسنة مما يدل على ذلك، لفهم العرف الملازمة ولأدلة التأسي.

ولا يخفى أن الشفاعة - كما أشرنا إليها - عبارة عن شفع شيء بشيء لنيل درجة أو قضاء حاجة، وذلك فيما كان المشفوع له أهلاً للشفاعة، وكانت للشفيع إمكانية ذلك، مثل مساعدة الحمال على حمل ثقله، فالحمال أهل للحمل والمساعد أهل للمساعدة، وهذا أمر عقلائي في الماديات والمعنويات.

لا يقال: فما معنى قوله تعالى: «وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسانِ إِلاَّ مَا سَعَى»(2)؟.

لأنه يقال: تأهيل النفس يعتبر نوعاً من السعي، فإن السعي قد يكون بالواسطة وقد يكون مباشرةً، كما أن العلم الذي «هو نور يقذفه الله في قلب من يريد أن يهديه»(3) كما في الرواية، يعدّ نتيجة تأهيل الإنسان نفسه لذلك، وكما

ص: 161


1- ومن مصاديقها ذاتية أو عرضية العلاقة بين العلة والمعلول، ودخول ما سبق في المتن في دائرة الممكن أو أنه مندرج في دائرة المحال.
2- سورة النجم: 39.
3- بحار الأنوار : ج67 ص140 ب52 ح5 (بيان). وفي البحار: ج1 ص225 ب7 ح17عن الصادق (علیه السلام) قال لعنوان البصري: «يا أبا عبد الله، ليس العلم بالتعلم إنما هو نور يقع في قلب من يريد الله تبارك وتعالى أن يهديه».

..............................

في قوله تعالى: «وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْله مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَيَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ»(1).

لا يقال: قد نرى في الدين ما ليس من السعي كالإرث؟.

لأنه يقال: إنه من سعي المورِّث، مثل الضيافة حيث إنها من سعي المُضيف، وكما في «المرء يحفظ في ولده»(2)، والذي عليه بناء العقلاء وسيرتهم، وهكذا يمكن القول هنا بأنه من سعي الشافع، فإذا لم تكن له الشفاعة لم يكن للشافع ما سعى.

أما احتمال أنه تخصيص فغير ظاهر؛ لأن سياق الكلام يأبى عن التخصيص(3).

ثم إن شفاعتهم (علیهم السلام) بعضها بسبب أن الإفاضة من الله إلى المشفوع له بواسطتهم، وبعضها بسبب مكانتهم وجاههم الذي حصلوه بالطاعة والعبادة، والتفصيل في كتب الكلام.

ص: 162


1- سورة الطلاق: 2 - 3.
2- المناقب: ج2 ص206 فصل في ظلامة أهل البيت (علیهم السلام).
3- حول هذا المبحث راجع (الفقه: الاقتصاد) للإمام المؤلف (قدس سره).

قَد أَذِنتُ لَكَ. فَدَخَلَ مَعَهُما تَحتَ الكِساء،

اشارة

-------------------------------------------

اشارة

فَأَقبَلَ عِندَ ذلِكَ أَبو الحَسَنِ عَلِيُّ بنُ أَبي طالِبٍ (علیه السلام)

استحباب التكنية

مسألة: تستحب التكنية، كما يستحب احترام الناس بذكر كُناهم، كما قالت (سلام الله عليها): «أبو الحسن».

والمراد بقولها (سلام الله عليها): «فأقبل عند ذلك أبو الحسن» إما الزمان، أو الوقت، أو ما أشبه ذلك(1) أي - على إحدى المعاني - حين ذلك الوقت الذي اجتمع فيه الثلاثة تحت الكساء جاء علي (عليه الصلاة والسلام).

و(عند) وشبهه قد يكون زمانياً، وقد يكون مكانياً، وقد يكون معنوياً، مثل قوله سبحانه: «وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى»(2) إذ أن الله سبحانه وتعالى لا زمان له ولامكان، ولا إشكال من حيث اختلاف السياق الذي هو خلاف الظاهر فيما إذا كانت هناك قرينة، كما في مثل قوله سبحانه: «مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ»(3) حيث إن (عند) في الإنسان يكون على الأقسام الثلاثة،

ص: 163


1- قد يكون المراد من أحدهما: الفترة والمقطع الزمني - بشكل أعم - ومن الآخر الفورية والإتصال - بشكل أخص - و(ما أشبه) يكون إشارة للحالة بالتجرد عن معنى الزمن.
2- سورة القصص: 60، سورة الشورى: 36.
3- سورة النحل: 96.

..............................

بينما عند الله سبحانه وتعالى ليس إلاّ معنوياً، فهو مثل قوله سبحانه: «تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ»(1) فإن الله سبحانه وتعالى لا نفس له وإنما جيء بكلمة (نفس) للسياق فقط.

والفرق بين (أقبل) و(جاء) و(أتى):

أن الأول دال على الإتيان مع نوع من الإقبال(2) بخلاف (جاء).

كما أن (أتى) فيه إشراب معنى الإعطاء، ولذا ورد: «وَآتَوُا الزَّكَاةَ»(3) بينما (جاء) و(أقبل) ليس فيهما هذا الإشراب، فإن اللغة العربية - كما تقدمت الإشارة لذلك - في كل كلمة منهاخصوصية لا توجد في الكلمة الأخرى، ولذا أنكر جمع من الأدباء (المرادفة) فيها إلاّ بالمعنى الأعم الأوسع، أي في الجملة(4).

ص: 164


1- سورة المائدة: 116.
2- والمواجهة والمقابلة.
3- سورة البقرة: 43 و83 و110 و277، وسور أخرى.
4- راجع (الأصول: مباحث الألفاظ).

وَقال: السَّلامُ عَلَيكِ يا بِنتَ رَسُولِ اللهِ.

اشارة

-------------------------------------------

استحباب السلام على الزوجة

مسألة: يستحب السلام على الزوجة واحترامها، كما قال علي (علیه السلام): «يا بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله)»، وقد يجب احترامها، كل في مورده.

ولا يخفى أن سيرة الرسول (صلی الله علیه و آله) وعلي (علیه السلام) والحسن (علیه السلام) والحسين (علیه السلام) والأئمة الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين) كانت قائمة على احترام المرأة احتراماً لائقاً بكرامتها ومكانتها الإنسانية والإسلامية.

حيث لخصها علي (علیه السلام) في قوله: «فإن المرأة ريحانة وليست بقهرمانة»(1) إشارة إلى نوع عاطفيتها.

وقبل ذلك قال القرآن الحكيم: «وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّدَرَجَةٌ»(2) وهذا تلخيص جيد جميل لكل شؤون المرأة.

وقد ذكرنا في بعض كتبنا المرتبطة بالمرأة (3): إن الغرب وبعض المسلمين في العصر الحاضر كلاهما أساؤوا إلى المرأة، حيث إن الغرب أفرط فيها، وبعض

ص: 165


1- مستدرك الوسائل: ج14 ص251 ب67 ح16623.
2- سورة البقرة: 228.
3- انظر كتاب (المرأة في المنظار الإسلامي) و(المرأة والمجتمع المعاصر) و(المراة في ظل الإسلام) وغيرها، للإمام المؤلف (قدس سره).

..............................

المسلمين فرّطوا فيها إلاّ من عصمه الله من المسلمين(1).

ولا يؤخذ على المسلمين ما ورد في الآية الكريمة: «وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ»(2)؛ لأنه:

أولا: الضرب إنما هو بقصد الردع، لا الإيلام والإيذاء، وهو مقيّد بالحد الأدنى، ولذا قالوا: إن الضرب بالسواك وما أشبه.

وثانياً: إنه أقل سوءً من الفضيحة التي تنتهي إلى المحاكم وإفشاء الأمربين الأقرباء والجيران ونحوهم، فهو من باب الأهم والمهم الذي هو عقلي قبل أن يكون شرعياً.

وثالثاً: إن الضرب من باب النهي عن المنكر فيما لو اضطر إلى الضرب، ولذا جاز عكسه(3) إذا فعل الزوج المنكر وتوقف النهي على الضرب، كما ذكرناه في (الفقه) في هذا المبحث، وإن أشكل عليه صاحب الجواهر (قدس سره)، لكن الإشكال لا وجه له بعد إطلاقات الأدلة(4).

ص: 166


1- انظر كتاب (الغرب يتغير) و(لماذا تأخر المسلمون؟) للمؤلف (قدس سره).
2- سورة النساء: 34.
3- أي بأن يُضرَب الزوج.
4- حول هذه المباحث راجع: (الفقه: النكاح)، و(الفقه: الطلاق)، و(المرأة المسلمة وأحكامها)، و(فاطمة الزهراء (علیها السلام) أفضل أسوة للنساء) للإمام المؤلف(قدس سره).

فَقُلتُ: وَعَلَيكَ السَّلامُ يا أَبَا الحَسَن وَيا أَمِيرَ المُؤمِنينَ

اشارة

-------------------------------------------

احترام الزوج

مسألة: يستحب وقد يجب - كل في مورده - احترام الزوج، ومن مصاديق ذلك ذكر كنيته ولقبه.

فإنه كما يجب على الرجل احترام المرأة، كذلك يجب على المرأة احترام الزوج، حيث إن بينهما علاقة الصداقة والمحبة والمودة إلى جوار علاقة الزوجية، بل قبلها قبليةً معنويةً لا زمانيةً كما هو واضح.

فإن الحياة الزوجية في منظار الإسلام تعني(1): تعاون شخصين لبناء حياة مشتركة سعيدة، روحياً وجسمياً واقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وتربوياً وغير ذلك لهما أولاً، ثم للأولاد ثانياً، وللأسرة ثالثاً.

وقد شاهدنا في أيام الإسلام في العراق - قبل الحرب العالمية الثانية حيث لم تطبق بعدُ القوانين الغربيةهناك - كيف كانت البيوت الزوجية عامرة بأفضل المعاني الإنسانية والعاطفية والعقلية والتربوية وغير ذلك.

وقد كان الطلاق نادراً جداً، حتى أن أحد العلماء المتخصصين في إجراء العقود في كربلاء المقدسة قال لي: إنه طيلة أيام السنة لم يطلّق إلاّ طلاقاً واحداً،

ص: 167


1- يراجع (الفقه: الآداب والسنن) للإمام المؤلف (قدس سره)، وكتاب العشرة من (بحار الأنوار)، و(وسائل الشيعة) وغيرها.

..............................

بينما كان عدد سكان كربلاء زهاء مائة ألف إنسان، وكان المتخصصون في إيقاع صيغة عقد النكاح - وربما الطلاق نادراً - ثلاثة أشخاص فقط، بينما نجد الآن وبعد شيوع المادية في بلاد الإسلام، وقوع الطلاق في مختلف البلاد بكثرة مذهلة، بالإضافة إلى المنازعات والمخاصمات المنزلية الكثيرة جداً.

ولهذا البحث مقام آخر(1) وإنما أردنا أن نلمع إليه إلماعاً، وأن المسلمين ماذا خسروا حين تركوا الإسلام، وذلك ما أشار الله سبحانه وتعالىإليه بقوله: «وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّله مَعِيشَةً ضَنْكاً»(2)، فإن الإعراض عن ذكر الله سبحانه يشمل كل الأحكام حتى المستحب والمكروه(3) والمباح، إذ كل حكم له فلسفته الدقيقة وإن لم يكن واجباً أو محرماً، ولذا ورد: «إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه»(4).

ص: 168


1- انظر كتاب (بقايا حضارة الإسلام كما رأيت)، و(المرأة في المجتمع المعاصر) و(المرأة في المنظار الإسلامي) و(العائلة) وغيرها للإمام المؤلف (قدس سره).
2- سورة طه: 124.
3- فإن فعل المكروه وكذا ترك المستحب (فيما كان الترك مكروهاً) إعراض عن ذكر الله وقوانينه وما ذكر الله به.
4- مستدرك الوسائل: ج1 ص144 ب23 ح214.

فَقالَ: يا فاطِمَةُ، إِنّي أَشَمُّ عِندَكِ رائِحَةً طَيِّبَةً كَأَنَّها رائِحَةُ أَخي

اشارة

-------------------------------------------

التعرف على حياة المعصومين (علیهم السلام)

مسألة: يستحب - وقد يجب - تتبع حالات المعصومين (علیهم السلام) وآثارهم وخصوصيات سيرتهم وحياتهم(1)، كما يدل على ذلك جملة من الشواهد.

إن التكرار من الحسين ثم الحسن ثم علي (عليهم الصلاة والسلام): «بأني أشم عندكِ رائحة طيبة» يدل - هو ونظائره - علىأمرين:

الأول: تتبعهم (علیهم السلام) لكل الأحوال والخصوصيات حتى مثل خصوصية وجود رائحة طيبة في البيت.

الثاني: تتبعهم حال الرسول (صلی الله علیه و آله) بكل دقة، وأنه (صلی الله علیه و آله) أين يذهب؟ وأين ينزل؟ وماذا يفعل؟ وما أشبه، وذلك ينفع في التأسي به (صلی الله علیه و آله) وفي تذكير الآخرين بذلك، وغير ذلك.

وقد ذكر المؤرخون: إن المسلمين كانوا يتتبعون حال الرسول (صلی الله علیه و آله) لحظة

ص: 169


1- كتب الإمام المؤلف عن المعصومين (علیهم السلام) الكتب التالية: لأول مرة في تاريخ العالم، باقة عطرة في أحوال خاتم النبين (صلی الله علیه و آله)، هكذا حج رسول الله (صلی الله علیه و آله)، قادة الإسلام، فضائل الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام)، الحكومة الاسلامية في عهد الإمام علي (علیه السلام)، محمد (صلی الله علیه و آله) والقرآن، فاطمة الزهراء (علیها السلام) أفضل أسوة للنساء، ثورة الإمام الحسن (علیه السلام)، الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا، الحسين (علیه السلام) أسوة، الحسين (علیه السلام) مصباح الهدى، جهاد الحسين (علیه السلام) ومصرعه، سلسلة من حياة المعصومين (علیهم السلام)، وغيرها.

..............................

بلحظة ودقيقةً بدقيقة، حتى إنهم لما تطرقوا لسفر رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى الحج ذكروا عدد من أردفهم خلفه وهو (صلی الله علیه و آله) على الناقة، بل وذكروا اسم كل فرد ممن أردفهم، كما أنهم ذكروا أين نزل (صلی الله علیه و آله)، وأين صلى، وذكروا أنه (صلی الله علیه و آله) في المكان الفلاني وجدوا حية وما أشبه ذلك من الخصوصيات الدقيقة.

والحق معهم في هذا التتبع؛ لأنه (صلی الله علیه و آله) حجة في كل قول وفعل وتقرير، وحركة وسكون، وكلاموسكوت، وما أشبه ذلك.

وقد ذكرنا جملة من هذه الأمور في كتبنا التي تتحدث عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) مثل كتاب: (ولأول مرة في تاريخ العالم)(1)..

وكتاب (باقة عطرة)(2)..

ومثل ما ذكرناه من أحواله (صلی الله علیه و آله) في كتاب: (حكومة الرسول (صلی الله علیه و آله) والإمام أمير المؤمنين (علیه السلام))(3).

ص: 170


1- يقع الكتاب في جزئين قياس 24×17. الجزء الأول 335 صفحة، والجزء الثاني 320 صفحة. طبع عدة مرات. منها ط مكتبة جنان ا لغدير / الكويت.
2- يقع الكتاب في 214صفحة قياس20×14. طبع مرة واحدة. دار السبيل للنشر والتوزيع، بيروت لبنان، عام 1415ه 1994م.
3- النسخة الأصلية مخطوطة وهي عند مؤسسة الوعي الإسلامي في بيروت. وقد ترجمها إلى الفارسية العلامة السيد محمد باقر الفالي وطبع الكتاب تحت عنوان: (روش حكومت بيامبر (صلی الله علیه و آله) وأمير مؤمنان (علیه السلام)) في قم المقدسة وبعشرة آلاف نسخة، لكنها صودرت بكاملها من المطبعة وأتلفت تماماً من قبل المتشددين في الحكومة الإيرانية (جهاز المخابرات). وبعد مضي عدة سنوات قامت (هيئت متوسلين به قمر بني هاشم (علیه السلام)) وفي سنة 1406ه بطبع الكتاب خفية في إيران تحت عنوان: برتوي از مكتب بيامبر وأمير مؤمنان. ويقع الكتاب في 95 صفحة قياس 20×14. ترجم إلى الأردو تحت عنوان: حكومت بيغمبر اسلام واميرالمؤمنين كي جند جهلكيان، ترجمه جنت مآب سوسائتي، ويقع في 55 صفحة قياس 20×14، طبع جنت مآب ببلشنك سينتر لكهنو الهند، سنة 1999م.

..............................

وهذا ما وصل إلينا من تاريخه (صلی الله علیه و آله)..

وأما ما لم يصل إلينا من أحواله (صلی الله علیه و آله) فهو كثير جداً، بل لعلّ ما وصل إلينا لا يبلغ حتى جزءً من مائة جزء من أحواله الكريمة؛ وذلك لأن عمر بن الخطاب منع من الرواية عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) واستمر هذا المنع إلى أواخر العباسيين، وإنما رُفع المنع مدة قصيرة أي في حكومة أمير المؤمنين علي (علیه السلام) وفي زمان عمر بن عبد العزيز، كما لا يخفى على من راجع التواريخ.

وبذلك خفي علينا الكثير من أحواله (صلی الله علیه و آله)، أما عند السنة فلمنع الحديث، وأما عند الشيعة فلإحراق الجائرين كتبهم مرةً بعد مرة، ثم التقية الشديدة، للظروف الحرجة التي مرّوا بها في قضايا مفصلة مذكورة في كتب التواريخ.

ولعل ما ورد في أحوال الإمامالمهدي (عجل الله تعالى فرجه) بأنه يأتي بدين جديد يشير إلى ذلك أيضاً، أي بالإضافة إلى إحيائه (علیه السلام) السنة وإماتته البدعة فإنه (عليه الصلاة والسلام) يظهر ما خفي من أحوال الرسول (صلی الله علیه و آله) وآبائه الكرام (صلوات الله عليهم أجمعين).

ص: 171

وَابِنِ عَمّي رَسُولِ اللهِ؟ فَقُلتُ: نَعَم، هَا هُوَ مَعَ وَلَدَيكَ تَحتَ الكِساءِ.

اشارة

-------------------------------------------

اشارة

فَأقبَلَ عَلِيٌّ (علیه السلام) نَحوَ الكِساءِ وَقالَ: السَّلامُ عَلَيكَ يا رَسُولَ اللهِ، أَتَأذَنُ لي أَن أَكُونَ مَعَكُم تَحتَ الكِساءِ؟.

ابن عمي

إضافة (ابن العم) لدفع توهم الغافل: إن علياً (علیه السلام) أخ لرسول الله (صلی الله علیه و آله) في النسب، بمعنى كونهما من أب وأم أو أحدهما، فهو يفيد أن قوله (علیه السلام): «أخي» إنما هو للإشارة إلى منتهى درجة الأخوة في الله تعالى، ولوثاقه الرابطة الروحية والمعنوية بينهما، وهذا من أكبر فضائل الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام)..

وأما في القرابة فهما (علیهما السلام) أبناء عمومة.

التواجد بمحضر أولياء الله

مسألة: يستحب التواجد في محافل ومجالس أولياء الله لما له من الآثار والثمار، كما سيأتي. وربما يستدل من مجموعة سياق حديث الكساء ومن بعضالقرائن الداخلية والخارجية، أنهم (صلوات الله عليهم) - وهم على علم بذلك من قبل - كانوا يتتبعون الرسول (صلی الله علیه و آله) ليكونوا معه حتى تحت الكساء، نظراً للحكمة الإلهية التي اقتضت ذلك، إضافة إلى أن كونهم (علیهم السلام) بمحضره (صلی الله علیه و آله) - بشكل عام - سبب للاستفادة المعنوية والعلمية وغيرهما منه (صلی الله علیه و آله)، إذ من الواضح أن الرسول (صلی الله علیه و آله) - حيث ما نزل أو ذهب - تتنزل عليه الفيوضات الإلهية منه جل وعلا دوماً وباستمرار، ومن كان مع إنسان تتنزل عليه الفيوضات ستشمله

ص: 172

..............................

الفيوضات بدرجة ما أيضاً، كما أن من كان مع إنسان تنزل عليه اللعنة ستصيبه اللعنة ولو بترشحاتها في الجملة، حسب ما قرر في قوانين الكون مما أشرنا إليه سابقاً. نعم ليس ذلك على نحو الموجبة الكلية، بل يشترط في المحل القابلية والسنخية ولو في الجملة، مثلاً: من يقترب من المريض سيصاب بالعدوى ولو بشكل طفيف غيرمحسوس، ولذا ورد في الحديث: «فر من المجذوم فرارك من الأسد»(1) إلى غير ذلك.

وورد في عكسه: «إذا رأيتم المؤمن صموتاً فادنوا منه فإنه يلقي الحكمة»(2). وقد ثبت في العلم الحديث: إن لكل شيء تموجات لا مرئية حتى التفكير مما يسبب تأثير الإنسان المقترب من صاحب الموج خيراً أو شراً بتلك الأمواج.

أما تجاور قبر الإمام الرضا (علیه السلام) مع قبر هارون، فذلك مما لا يؤثر لا من هذا الجانب ولا من ذلك الجانب، حيث لا قابلية لهارون إطلاقاً كي يستفيد من فيوضات الإمام الرضا (علیه السلام)، كما أن الإمام الرضا (علیه السلام) في أعلى درجات المناعة والعصمة حيث لا يتأثر بمجاورة هارون إطلاقاً، ولذا قال دعبل الخزاعي:

قبران في طوس خير الناس كلهم*** وقبر شرهم هذا من العبر

ما ينفع الرجس من قرب الزكي ولا*** على الزكي بقرب الرجس

من ضرر هيهات كل امرئ رهن بما كسبت*** له يداه فخذ ما شئت أو فذر(3)

ص: 173


1- وسائل الشيعة: ج12 ص49 ب 28 ح15612.
2- مستدرك الوسائل: ج9 ص18 ب100 ح10083.
3- الأمالي للصدوق: ص661 المجلس94 ح16.

قالَ له: وَعَلَيكَ السَّلامُ يا أَخِي وَيا وَصِيّيِ وَخَلِيفَتِي وَصاحِبَ لِوائِي

اشارة

-------------------------------------------

الاعتقاد بالولاية

مسألة: يجب الاعتقاد بولاية الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام)، وأنه (علیه السلام) أخ الرسول (صلی الله علیه و آله) ووصيّه وخليفته والإمام من بعده كما صرح بذلك الرسول (صلی الله علیه و آله).

ولذلك فوائد كثيرة؛ فإن الولاية لها آثار معنوية وأحكام شرعية وفوائد اجتماعية وسياسية وقيادية، لوضوح أن ولاية القادة الصالحين المستقيمين توجب إفاضة الله سبحانه وتعالى لطفه ورحمته على من يتبعهم ويتولاهم، كما أنها توجب الاستقامة في سلوك التابعين وتحضّهم على مكارم الأخلاق.

والأحكام الشرعية المأخوذة منهم أحكام إلهية واقعية توجب خير الدنيا والآخرة.

وهذه التأكيدات الكثيرة من الرسول (صلی الله علیه و آله) على ولاية أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) إنما تقصدتحريض الأمة في كل مناسبة على توليه والاهتداء بهديه (علیه السلام) حتى يسعدوا في دنياهم وفي آخرتهم، فالفائدة تعود إليهم بالأساس لا إليهما (صلوات الله وسلامه عليهما) «قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ»(1)، وقد قال هو (علیه السلام) ذات يوم: «ما أحسنت إلى أحد وما أساء إليَّ أحد».

ص: 174


1- سورة سبأ: 47.

..............................

فقالوا: يا أمير المؤمنين، وكيف ذلك وقد أحسنت كثيراً إلى الناس وقد أساؤوا كثيراً إليك؟.

فقال (عليه الصلاة والسلام): «أما تقرأون قول الله سبحانه وتعالى: «إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا»(1)»(2).

نعم، لا إشكال في أن الأتباع كلما كثروا انتفع المتبوع أكثر، لقاعدة: «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهمشيء»(3)، ومن الواضح أن ذلك من سعي الإنسان القائد والذي يقتضي تفضل الله سبحانه وتعالى أيضاً.

فلا يقال: هذا ينافي قوله تعالى: «وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسانِ إِلاَّ مَا سَعَى»(4).

وقوله سبحانه: «كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ»(5).

وما أشبه ذلك مما يحصر الفوائد العائدة إلى الإنسان في عمله.

ص: 175


1- سورة الإسراء: 7.
2- راجع متشابه القرآن: ج1 ص118. وفيه: قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «ما أحسنت إلى أحد ولا أسأت إليه؛ لأن الله تعالى يقول: «مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا» - سورة فصلت: 46، سورة الجاثية: 15 -».
3- مستدرك الوسائل: ج12 ص230 ب15 ح13962.
4- سورة النجم: 39.
5- سورة الطور: 21.

..............................

التركيز على الاعتقاديات

مسألة: يجب التأكيد على المسائل الاعتقادية وبيانها للناس وتذكيرهم بها، فإن التأكيد على المسائل الاعتقادية مهم جداً، إذ بالاعتقاد ينحرف الإنسان أو يستقيم.

وقد ذكر الرسول (صلی الله علیه و آله) في هذه الجملة أنه (علیه السلام) أخوه ووصيه وخليفته وصاحب لوائه.

أما الأخوة فقد تقدم الإلماع إليها، وهي أخوة معنوية، لا أخوة نسبية.

والوصي حيث كان أعم من أن يكون خليفة أكده (صلی الله علیه و آله) بهذا القسم من الوصاية، أي: الوصاية في حال كون الوصي خليفة أيضاً.

وأما قوله (صلی الله علیه و آله): «صاحب لوائي»، فيحتمل أن يريد صاحب لوائه في الدنيا؛ لأنه (علیه السلام) كان حامل اللواء في أكثر حروب رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ويمكن أن يريد صاحب لوائه في الآخرة ما يسمى في الروايات ب «لواء الحمد»(1)، ومنالمحتمل أن يراد الأعم من المادي والمعنوي والدنيا والآخرة، وليس هذا من استعمال اللفظ في أكثر من معنى حيث أحاله بعض، بل من باب الكلي الذي له مصاديق كما لا يخفى(2)، فلا إشكال من هذه الجهة أيضاً.

ص: 176


1- راجع مستدرك الوسائل: ج7 ص459 ب22 ح8655. وفي بحار الأنوار: ج93 ص351 ح22.
2- استعمال اللفظ في الجامع ممكن وواقع بل كثير الوقوع، أما استعمال اللفظ في أكثر من معنى على أن يكون كل واحد منها تمام المراد فهو المحال لا غير، راجع (الأصول) للمؤلف (قدس سره).

قَد أَذِنتُ لَكَ.

اشارة

-------------------------------------------

اشارة

فَدَخَلَ عَلِيٌّ (علیه السلام) تَحتَ الكِساءِ، ثُمَّ أَتَيتُ نَحوَ الكِساءِ وَقُلتُ: السَّلامُ عَلَيكَ يا أبَتاهُ يا رَسُولَ الله،

انتقاء الكلمات المحببة

مسألة: يستحب انتقاء الكلمات المحببة في الخطاب، ومن صغريات ذلك خطاب البنت أباها بكلمة (أبتاه) مما يستلزم إدخال السرور على قلبه وفؤاده.

وهذا ليس خاصاً بالبنت، بل يشمل كلالأقارب، وكذلك الأباعد.

فإنه من حسن الأخلاق أن يخاطب الإنسان غيره بخطاب يحبه، ولهذا ورد أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان يكنّي الناس حتى الأطفال، فقد رأى طفلاً وبيده عصفور ثم رآه مرة أخرى وليس بيده العصفور فقال له الرسول (صلی الله علیه و آله) - كما يرويه الرواة -: «يا أبا عمير ما فعل النغير؟»(1).

هذا بالإضافة إلى أن الرسول (صلی الله علیه و آله) أمر الزهراء (سلام الله عليها) بأن تسير على سيرتها السابقة في خطابها له، بعد ما نزلت آية: «لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً»(2)، فأطاعت الزهراء (سلام الله عليها) الرسول (صلی الله علیه و آله)

ص: 177


1- مستدرك الوسائل: ج8 ص409 ب66ح9821. والنغير تصغير النغر، وهو طائر يشبه العصفور أحمر المنقار.
2- سورة النور: 63.

..............................

لكنها كانت تضم (أبتاه) إلى (رسول الله) أيضاً وتقول: «يا أبتاه يا رسول الله» كما في هذا الحديث.

وما ذكرناه من انتقاء الألفاظ المحببة إلى قلوب الناس في الخطاب، ليس خاصاً بالخطاب، بل من الأدب أن يستعمل الإنسان الألفاظ المحببة إلى الناس في كل محادثاته لهم، وكذلك في الكتابة وغيرها، فإن من التعقل - الذي حبب إليه الشرع أيضاً - التودد إلى الناس.

إعادة السلام

مسألة: يستحب إعادة السلام وتجديده بتغير الحالات وتنوعها، كما صنعت (علیها السلام) ذلك.

ص: 178

أَتأذَنُ لي أَن أَكونَ مَعَكُم تَحتَ الكِساءِ؟.

اشارة

-------------------------------------------

الاستئذان مع العلم بالإذن

مسألة: يستحب الاستئذان حتى مع العلم بوجود الإذن، وذلك للاحترام الأكثر، كما استأذنوا (علیهم السلام) من رسول الله (صلی الله علیه و آله) مع أنهم يعلمون برضاه لا بعلم الغيب فقط بل بشهادة القرائن.

وإن من محاسن الآداب أن يراعي الإنسان حريم الآخرين ثبوتاً وإثباتاً، وذلك ينعكس على نفسه ايجابياً أيضاً.

فمن هاب الرجال تهيّبوه *** ومن وهن الرجال فلن يهابا (1)

وحتى إذا كان الطرف الآخر غير مؤدب فإن الإنسان إذا تعامل معه بأدب فإنه لابد وأن يتأدب ولو بقدر، خصوصاً في الأمور المرتبطة باللسان، فرب كلمة سلبت نعمة وجلبت نقمة..

وقد قال (صلی الله علیه و آله) في حديث له: «وهل يكبّ الناس علىمناخرهم في النار إلاّ حصائد ألسنتهم»(2)..

لإفادة المبالغة في أن كثيراً من أهل النار إنما يدخلون النار بسبب ألسنتهم،

ص: 179


1- ينسب هذا البيت إلى الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام)، كما نسبه البعض إلى محمد بن إدريس الشافعي إمام الشافعية.
2- وسائل الشيعة: ج12 ص191 ب119 ح16053.

..............................

وقد قال الشاعر:

جراحات السهام لها التيام *** ولا يلتام ما جرح اللسان

وقال (1):

احذر لسانك أيها الإنسان *** لا يلدغنك إنه ثعبان

وقصة ذلك الخليفة والمعبرين اللذين عبر أحدهما بموت أقربائه قبله فعاقبة، وعبر الثاني بأنه أطول عمراً من أقربائه فأكرمه مشهورة، مع أن المؤدى كان واحداً.

ص: 180


1- يعزى إلى محمد بن إدريس الشافعي.

قالَ: وَعَليكِ السَّلامُ يا بِنتِي وَيا بَضعَتِي قَد أَذِنتُ لَكِ. فَدَخَلتُ تَحتَ الكِساءِ

اشارة

-------------------------------------------

البَضعة وأقسام الخطاب

الذي وجدته في الروايات أن الرسول (صلی الله علیه و آله) عبر بكلمة: (البضعة) عن شخصين: الزهراء والرضا (عليهما الصلاة والسلام) مع وضوح إن كلهم (علیهم السلام) كانوا بضعة منه (صلی الله علیه و آله) إلا أن الخطاب بذلك قد يكون لمزيد العناية.

وكأن هذه الكلمة تفيد أن المخاطب جزء من المتكلم؛ لأن بضعة الإنسان جزء منه وهي ليست على سبيل المبالغة، بل هي صادقة بالنسبة إلى الوالدين والأولاد، ويأتي في هذا المبحث أيضاً ما ذكرناه في المبحث الآنف حيث إن الرسول (صلی الله علیه و آله) ذكر أفضل كلمة محببة إلى قلب الزهراء (سلام الله عليها).

فهناك عدة أقسام من الخطاب: خطاب يوجب الإهانة والإيذاء، وذلك حرام كما قال سبحانه: «وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ»(1).وخطاب يوجب التحبيب والتحبب وذلك مستحب. وقد يكون واجباً إذا كانت هنالك ملابسات أو لوازم وملزومات وملازمات وما أشبه مما يقتضي ذلك.

وقد يكون عادياً فيكون مباحاً بلا كراهة ولا استحباب، والأفضل أن ينتقي الإنسان الأفضل حتى من المستحب؛ لأن للمستحبات مراتب.

ص: 181


1- سورة الحجرات: 11.

فَلَمَّا اكتَمَلنا جَمِيعاً تَحتَ الكِساءِ أَخَذَ أَبي رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله) بِطَرَفَيِ الكِساءِ

اشارة

-------------------------------------------

اجتماع القلوب والأجسام

اجتماع القلوب والأجسام(1)

مسألة: يستحب التجلي في التجمع وإظهاره زيادة على أصل الاجتماع، ولربما لذلك أخذ رسول الله (صلی الله علیه و آله) بطرفي الكساء.

فإن الأخذ بطرفي الكساء أوجب للتجمع وأدلّ على كثرة المحبة، فإنه إذا كان التجمع ألصق بعضه ببعض كانت القلوب أقرب، ولربما كان لذلك استحباب أكل الجماعة من إناء وصحن واحد، ولعل لهذه الجهة أيضاً عبر القرآن الحكيم عن الزوجين بقوله: «هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لهنَّ»(2)، ولذا يستحب ذلك هنا وفي غيره بالملاك.

ولا يخفى أن تجمع القلوب وتقاربهامبعث كل خير؛ لأنه يوجب التعاون على البر والتقوى والتقدم في الحياة، وربما يجنب الإنسان كثيراً من المعاصي كالغيبة والتهمة والنميمة وغير ذلك.

ولتقارب القلوب أسباب ظاهرية وأخرى خفية وباطنية.

ص: 182


1- حول هذا المبحث بنقاطه المختلفة يراجع للمؤلف (قدس سره): (الفضيلة الإسلامية)، (الفقه: الاجتماع)، (الفقه: السياسة)، (الفقه: الدولة الإسلامية)، (ممارسة التغيير لإنقاذ المسلمين) وغيرها.
2- سورة البقرة: 187.

..............................

فمن الأسباب الظاهرية:

الاقتراب من الناس؛ لأن القرب منهم يوجب(1) محبتهم، وكثرة الالتفاف بهم توجب مزيداً من الإحساس بآلامهم وآمالهم، وتستلزم التعرف على مشاكلهم والتفاهم الأكثر معهم، ولذا نرى الحكومات الاستشارية دائماً تقترب من الناس بخلاف الحكومات الديكتاتورية حيث تنقطع عن الناس وتفرض حواجز بينها وبينهم، وهكذا الفرق بين كل استشاري وكل مستبد، أخذاً من رب العائلة إلى ما فوقها من التجمعات.

وأما الأسباب الخفية والباطنة فمنها: الخوف من الله سبحانه، قال تعالى: «لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَبَيْنَهُمْ»(2).

وقال (صلی الله علیه و آله): «بنية صادقة»(3).

وفي الآية الكريمة: «بِقَلْبٍ سَلِيمٍ»(4).

والإسلام يأمر بالأمرين معاً، ولذا أوجب برّ الوالدين وصلة الرحم، وقد أمر النبي (صلی الله علیه و آله) بعطف الكبير على الصغير واحترام الصغير الكبير.

والتجمع المتلاصق تحت الكساء من مظاهر التجمع الظاهري.

ص: 183


1- بنحو المقتضي.
2- سورة الأنفال: 63.
3- الأمالي للصدوق: ص68 المجلس16 ح2.
4- سورة الشعراء: 89، سورة الصافات: 84.

..............................

وفي كثير من الأحاديث دلالة على أنهم (عليهم الصلاة والسلام) كانوا يجتمعون - في مناسبات مختلفة - حتى قبل خلق الخليقة في العرش كما ورد في الرواية(1)، وكذلك كانوا (علیهم السلام) يجتمعون في حال حياتهم وبعد مماتهم، كما اجتمعوا في مصرع الحسين (عليه الصلاة والسلام) ليلة الحادي عشر من المحرم، كما ورد في المقاتل(2).ومن المعلوم أنهم (علیهم السلام) «أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ»(3) فلا عجب من ذلك.

ص: 184


1- راجع بحار الأنوار: ج11 ص142 ب2 ح9.
2- معالي السبطين: ج2 ص45 المجلس12.
3- سورة آل عمران: 169.

وَأَومَأَ بِيَدِهِ اليُمنى إِلىَ السَّماءِ

اشارة

-------------------------------------------

الإشارة في الأمور الهامة

مسألة: ترجح الإشارة في الأمور المهمة، ومن مصاديق ذلك: الإشارة إلى السماء حين الدعاء، وكذا إلى العظماء، ورجحانها في الأعم يستفاد من ملاك هذا الحديث، وله شواهد ومؤيدات أُخرى.

فإن في الإشارة تأكيداً للهدف الذي يتوخاه الإنسان؛ لأنه تنسيق بين العمل والقول، فمن سألك عن الطريق تقول: من الجانب الأيمن، وتشير إليه أيضاً، إلى غير ذلك من الأمور خصوصاً إذا كانت لها أهمية.

وكما تستحسن الإشارة في الأمور الحسنة تستقبح في الأمور السيئة.

وقد قال الكفار: «كَذَّابٌ أَشِرٌ»(1)، وأجابهم سبحانه بقوله: «سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الأَشِرُ»(2).

وقال الحسين (علیه السلام): «إنيلم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً»(3).

ف (الأشر): الفرح، المتكبر، الطاغي، وربما: من يشير استهزاءً، فتأمل.

ص: 185


1- سورة القمر: 25.
2- سورة القمر: 26.
3- بحار الأنوار: ج44 ص328 ب37 ح2.

..............................

و(البطر): من بطرته النعمة وسببت له غروراً وعدم مبالاة بالحياة وبتغييراتها. و(المفسد): من يفسد المصالح ويحرفها عن طريقها الطبيعي.

و(الظالم): يشمل بإطلاقه من يظلم نفسه أو الناس أو الحيوان أو الجماد، ولذا ورد: «فَإِنَّكُمْ مَسْئُولُونَ حَتَّى عَنِ الْبِقَاعِ وَالْبَهَائِمِ»(1).

ثم قد تكون الإشارة لمجرد الدلالة، كما قال سبحانه: «فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا»(2).

ولا يخفى أن للإيماء والإشارة أحكاماً متعددة تكليفية ووضعية مذكورة في مختلف أبواب الفقه، أخذاً من باب (الطهارة) وانتهاءً إلى باب (الديات)،كرفع اليدين إلى الآذان في حال التكبير، ورفعهما قبال الوجه في القنوت، وفي حالة الدعاء، وفي باب الحج حيث أن من أشار إلى الصيد كانت عليه كفارة، وإشارة الأخرس في النكاح والطلاق وسائر المعاملات، والإشارة حين الوصية فيمن لايتمكن من الكلام، كما في قصة أمامة حيث كانت تشير بالوصية كما ذكره المستدرك(3)، وكذلك إشارة المريض بعينه - مثلاً - تقوم مقام أعضائه في أداء أعمال الصلاة، و...

وكذلك بالنسبة إلى غير الأخرس والمريض، فإن الإشارة كثيراً ما تؤدي نفس مؤدى الكتابة والعبارة مما ذكر مفصلاً في مختلف الأبواب الفقهية.

ص: 186


1- نهج البلاغة، الخطب: رقم167 ومن خطبةله (علیه السلام) في أوائل خلافته.
2- سورة مريم: 29.
3- راجع مستدرك الوسائل: ج14 ص126 ب41 ح16272.

..............................

أنواع الإشارة وأحكامها

مسألة: يرجح كون الإشارة بتمام الكف وشبهها، وتحرم فيما إذا تضمنت استهزاءً وشبهه، وكان من عادة الرسول (صلی الله علیه و آله) أن يشير بتمام كفه؛ لأن فيه نوعاً من الاحترام، كما أنه (صلی الله علیه و آله) إذا أرادالتكلّم مع أحد كان يتوجه إليه بكل بدنه لا برأسه فقط؛ لأن التوجه بكل البدن فيه نوع من الاحترام.

والإشارة في هذه الأماكن مستحبة، وقد تكون واجبة لأسباب عارضة، كما أن الإشارة الموجبة للإيذاء أو الإهانة محرمة.

وقد كان من المحرّم على الرسول (صلی الله علیه و آله) الإشارة الخفية بعينه فيما يقصد إخفاءه عن جلسائه، كما ورد هذا الاختصاص في قصة الحكم بن العاص حيث كان الرسول (صلی الله علیه و آله) قد أمر بقتله، لكن الأصحاب لم يقتلوه عندما حضر مجلس الرسول (صلی الله علیه و آله) واعتذروا أنه لم يشر إليهم بعينه، فقال الرسول (صلی الله علیه و آله) - حسب الرواية -: ألم تعلموا أن الإشارة بالعين محرمة عليَّ(1)؟.

وكذلك فإن من الحرام (خائنة الأعين) ومعنى خائنة الأعين: خيانتها في المحرمات، مثل النظر إلى ما يحرم النظر إليه من النساء الأجنبيات، وبالعكس في الرجال، وشبه ذلك، والفرقبين النظر وبين خائنة الأعين أن النظر ليس فيه إخفاء، بينما (خائنة الأعين) يتضمن معنى الإخفاء.

ص: 187


1- راجع شرح نهج البلاغة: ج18 ص13 ذكر بقية الخبر عن فتح مكة.

..............................

والإشارة بأقسامها السابقة (1) لا فرق فيها بين الإشارة بالعين، أو الرأس، أو اليد، أو اللسان، أو الرِجل، أو غيرها، إذ إن كلها مصاديق لتلك الكليات المحكومة بالحرمة أو الاستحباب أو الكراهة، ومن هذا الباب الهمز واللمز، ولذا قال سبحانه: «وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ»(2).

رفع اليد حين الدعاء

مسألة: يستحب رفع اليد إلى السماء حين الدعاء.

وقد ورد التصريح بهذا في الحديث الشريف معللاً بأن الأرزاق والمقادير الإلهية تنزل من السماء.

تقديم الميامن

مسألة: يستحب تقديم الميامن في الأعمال، وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يبدأ بميامنه كما في الأحاديث(3).

نعم، ربما يستظهر من حديث تقديم الرِجل اليسرى في حالة الخروج من

ص: 188


1- المحرمة والمستحبة والواجبة...
2- سورة الهمزة: 1.
3- راجع وسائل الشيعة: ج1 ص449 ب34 ح1183.

..............................

المسجد(1)، وفي حالة الدخول إلى بيت الخلاء، وكما يظهر من معتاد المتشرعة من تطهير الموضع باليد اليسرى، أن الأشياء غير الحسنة يكون الأفضل فيها استخدام اليد اليسرى، كما أنه كذلك بالنسبة إلى إعطاء الكتاب باليد اليسرى للمجرمين في الآخرة(2).

ولعل لتقديم اليمنى في مختلف الأمور(3) علة ظاهرة وعلة خفية، والله أعلمبالأحكام والمصالح.

أما الظاهرة: فربما لأن اليد اليسرى حيث كانت أقرب إلى القلب لم تحتج إلى الحركة والفعالية التي تحتاج إليها اليد اليمنى البعيدة عن القلب، حيث تحتاج إلى التحرك الأكثر كي تتوازن مع اليسرى في القوة والنشاط والحيوية.

وأما الخفية: فللتفاؤل باليمنى، فإن التفاؤل له شأن كبير في تحقيق الحياة السعيدة للفرد والأمة بخلاف التشاؤم، ولذا ورد «تفاءلوا بالخير تجدوه»، إذ التفاؤل يشجع على الاستمرار والاستقامة والمضي إلى الأمام، بينما التشاؤم والتطير وما أشبه يوجب العكس، ولذا ورد: «إذا تطيرت فامض»(4) إلى غير ذلك.

ص: 189


1- راجع مستدرك الوسائل: ج3 ص391 ب30 ح3862.
2- قال تعالى: «وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ» سورة الحاقة: 2526.
3- ومن ذلك التختم باليمين، والمصافحة بها.
4- تحف العقول: ص50 وروي عنه (صلی الله علیه و آله) في قصار هذه المعاني.

وقالَ: اللّهُمَّ

اشارة

-------------------------------------------

استحباب الدعاء في كل الأحوال

مسألة: يستحب الدعاء في كل حال، فإن الدعاء سلاح المؤمن(1) ومُخّ العبادة (2)، وقد قال سبحانه: «وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ»(3)، وقال تعالى: «قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ»(4).

والدعاء استمداد من خالق الكون ومن بيده كل شيء، وهو - بالإضافة إلى أنه أمر واقعي - يعطي الأمل والرجاء الذي يعدّ من أهم الحلول للكثير من المشكلات.

أما إنه أمر واقعي فواضح، إذ أن - بإرادة الله تعالى - بعض الأشياء البسيطة فقط هي بيد الإنسان وله بها العلاج، أما غالب الأسباب والعلل والشرائط القريبة والبعيدة، بل أكثر من ذلكفليس بيد الإنسان، وهو عبر الدعاء يستمد العون منه تعالى في علاجها وحلها، ومن يستكبر فهو بين جاهل ومعاند؛ لأن الإنسان حتى الطبيعي والدهري يعلم - إذا التفت - أن غيره يدير الكون وأنه لا حول له ولا قوة.

ص: 190


1- وسائل الشيعة: ج7 ص38 ب8 ح8654.
2- وسائل الشيعة: ج7ص27 ب2 ح8615.
3- سورة غافر: 60.
4- سورة الفرقان: 77.

..............................

وأما أن الدعاء يمنح الرجاء، فلأن الأمل بالله سبحانه ورجاء حل المشكلة وقضاء الحاجة يبعث على البهجة والسرور وراحة الأعصاب وطمأنينة النفس، وهي تؤثر في الجسد وتوجب الصحة والعافية، وكذلك تستلزم الاندفاع نحو الأمام، بعكس اليائس الذي يتخلى عن جهاده وأعماله ومشاريعه نظراً لتشاؤمه، ولذا قال سبحانه: «إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ»(1).

لا يقال: إن كان القضاء قد جرى بالخير، فطلبه طلب لما هو بحكم الحاصل، وإن كان قد جرى بالشر، فالدعاء لا يؤثر.

لأنه يقال:

نقضاً: بأنه كما لا يصح أن يقال إن جرى القضاء بالسفر فلا فائدة في تهيئة الوسائل والمقدمات، وإن لم يقض به فلاأثر للتهيؤ والإعداد والاستعداد.

وحلاً: بأن الدعاء مقتضٍ لحل المشاكل وقضاء الحوائج، فإن انضمت إليه سائر الشرائط وارتفعت الموانع تحقق المعلول وحصل المقصود.

وبعبارة أخرى: إن الدعاء جزء من العلل التكوينية - وهو جزء خفي، وهناك أجزاء جلية ظاهرة - وقضاء الله وقدره جرى بتحقق المعلول عند تحقق علته، وبعدم تحققه عند انتفاء العلة بما هي علة - ولو بانتفاء أحد أجزائها - فكما قضى بتحقق الاحتراق عند وضع المرء يده في النار دون مانع، كذلك قضى بإعطاء كثير من الحاجات عند الدعاء أو الإلحاح بالدعاء لفترة تطول أو تقصر حسب تقديره جل وعلا.

ص: 191


1- سورة يوسف: 87.

إِنَّ هؤُلاءِ

اشارة

-------------------------------------------

الدعاء للغير

مسألة: يستحب الدعاء للغير، كالدعاء للنفس، ولذا قال (صلی الله علیه و آله): «عليَّ» دعاءً ايجابياً وسلبياً.

ويتأكد استحباب الدعاء للأقرباءخاصة؛ لأنه من مصاديق صلة الرحم أيضاً، فإن الدعاء مستحب لكل مؤمن، ولذا قال (صلی الله علیه و آله) - كما سيأتي -: «فاجعل صلواتك وبركاتك ورحمتك عليَّ وعليهم».

بل إن الدعاء مستحب حتى للكافر لهدايته، ولذا كان (صلی الله علیه و آله) يقول: «اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون»(1).

إلى غير ذلك مما ذكر في كتب الدعاء، وقد ذكرنا جملة منها في كتاب (الدعاء والزيارة)(2).

ص: 192


1- بحار الأنوار: ج20 ص21 ب12.
2- يقع الكتاب في 1072 صفحة قياس 24×17، انتهى سماحته (رحمة الله) من تأليفه ليلة 6رمضان المبارك 1375ه بكربلاء المقدسة. وقد تناول فيه الأدعية والصلوات والزيارات، والنوافل اليومية والصلوات المستحبة، وأعمال السنة وملحقاتها، أعمال يوم النيروز، أعمال شهر نيسان، وآداب السفر، وآداب الزيارة، وزيارة الرسول الأعظم »، وزيارة فاطمة الزهراء (علیها السلام)، وزيارة أئمة البقيع (علیهم السلام)، وسائر الزيارات في المدينة المنورة، وزيارة أمير المؤمنين (علیه السلام)، وأعمال مسجد الكوفة، وزيارة قبر مسلم بن عقيل وهاني بن عروة 5، وأعمال مسجد السهلة، وعمل مسجد زيد ومسجد صعصعة ومسجد الجعفي ومسجد بني كاهل ومسجد غني، وزيارة الإمام الحسين (علیه السلام)، وزيارة الناحية المقدسة، والتبرك بتربة الحسين (علیه السلام)، وزيارة الكاظمين (علیهما السلام)، وفضل مسجد براثا، وزيارة النواب الأربعة 7، وزيارة سلمان الفارسي 0، وزيارة الإمام الرضا (علیه السلام)، وزيارة السيد محمد (علیه السلام)، وزيارة الإمامين العسكريين (علیهما السلام)، وزيارة أم القائم (علیها السلام)، وزيارة السيدة حكيمة (علیها السلام)، وزيارة الإمام المهدي f، دعاء العهد، دعاء الندبة، الزيارات الجامعة الكبيرة، والزيارة بالنيابة عن الغير، وزيارة السيدة زينب الكبرى (علیها السلام)، وزيارة بيت المقدس، وزيارة الأنبياء (علیهم السلام)، وزيارة أولاد الأئمة (علیهم السلام)، وزيارة فاطمة المعصومة (علیها السلام)، وزيارة العلماء والمؤمنين، وحديث الكساء، ورقاع الحاجة، و… طبع عدة مرات منها: طبعة مؤسسة البلاغ، بيروت/لبنان، عام 1414ه/1994م. وطبعة مؤسسة الفكر الإسلامي، بيروت/لبنان، عام 1415ه/1995م. وطبعة مكتبة الألفين، الكويت. وطبع في إيران، باللغتين العربية والفارسية. كما أعادت طبعه مؤسسة الفكر الإسلامي، قم المقدسة، عام 1408 ه. باللغتين العربية والفارسية، بخط محمود اشرفي تبريزي، قياس 24×17، مرتين. وقد ترجمه آية الله الشيخ اختر عباس النجفي إلى اللغة الأردية تحت عنوان (مفاتيح الجنان جديد)، ويقع في 1069 صفحة قياس 24×17، وقامت بطبعه إدارة نشر معارف إسلامي لاهور باكستان، ومؤسسة الرسول الأعظم » لاهور باكستان.

..............................

ثم إن الإنسان إذا دعا لنفسه ولغيره، فالظاهر أفضلية أن يقدّم الدعاء لغيره على الدعاء لنفسه، لما ورد في دعاء المسلم لأخيه(1)، بل ما ورد من دعاء الملائكة وطلبهم المضاعفة له عندئذ: «إن الملائكة تقول لمن يدعو لغيره: ولك مثله»(2).

نعم، النبي (صلی الله علیه و آله) ربما كان يقدم الدعاء لنفسه - كما في هذا الحديث وغيره - ولعلّه كان لأن دعاءه لنفسه أقرب للإجابة فيقدمه تمهيداً لكي لا ترد الصفقة الواحدة المتضمنة له ولغيره.

ص: 193


1- ثواب الأعمال: ص153 ثواب دعاء المسلم لأخيه بظهر الغيب.
2- ثواب الأعمال: ص153 ثواب دعاء المسلم لأخيه بظهر الغيب.

..............................

التوجه إلى الله عند اجتماع الأسرة

مسألة: يستحب التوجه إلى الله عزوجل إذا اجتمع أفراد العائلة في مكان واحد، كما صنع النبي (صلی الله علیه و آله) بعدما اكتملوا (علیهم السلام) تحت الكساء، ومن الضروري تحريض الناس على ذلك. فإن تجمع الأقرباء والأرحامفي مكان واحد قد يكون مثار القال والقيل والكلام بالباطل أو اللغو. فاللازم أن يصرفه الإنسان إلى شيء من الواجب أو المستحب، كبيان المسائل والأحكام والهداية والإرشاد والدعاء وقراءة القرآن والتعليم والتعلم ونحو ذلك، ولا أقل من السكوت حتى لا يوجب ذلك ارتكاب محرم كالغيبة ونحوها. ومن المعلوم أن دوام التوجه إلى الله سبحانه وتعالى في كل الحالات يوجب قرب الإنسان إلى الله وقضاء حوائجه وسعة رزقه وارتفاع منزلته، فقد قال سبحانه: «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ»(1).

والنفس إذا تلونت بذكر الله سبحانه وتعالى كانت مهبط الملائكة، كما أن النفس إذا تلونت بلون الشياطين كانت مهبطاً للشياطين، فإن النفس مثالها مثال الإناء الذي يمكن أن يملأ خمراً أو عسلاً. وفي القرآن الحكيم إشارة إلى الأمرين معاً، حيث قال سبحانه: «هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ»(2)، وقال تعالى في قبال ذلك: «إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّاسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ»(3).

ص: 194


1- سورة البقرة: 152.
2- سورة الشعراء: 221-223.
3- سورة فصلت: 30.

أَهلُ بَيتِي،

اشارة

-------------------------------------------

معنى (أهل البيت) وإطلاقاته

مسألة: يستحب وقد يجب - كل في مورده - إبلاغ الناس بأن الأربعة الأطهار: علي وفاطمة والحسن والحسين (علیهم السلام) هم أهل بيت النبي (صلی الله علیه و آله) وخاصته وحامته، دون غيرهم.

وبين (الخاصة) التي تخص الإنسان، و(الحامة) التي بينها وبين الإنسان الحرارة والألفة، عموم من وجه.

ثم لا يخفى أن (أهل البيت) له إطلاقان(1):

أحدهما يشمل الرسول (صلی الله علیه و آله). والإطلاق الآخر لا يشمله (صلی الله علیه و آله).

وفي المقام لا يشمل الرسول (صلی الله علیه و آله)؛ لأنه هو القائل: «أهل بيتي»، أما في آية التطهير(2) فيشملالرسول (صلی الله علیه و آله) أيضاً، وهذا متعارف عند العرب.

ومثله: الآل، فقد يقول: آل الرسول ويراد به غير الرسول، وقد يراد به حتى الرسول أيضاً، ويؤيده قوله سبحانه: «إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعَالَمِينَ»(3) مع وضوح أن إبراهيم وعمران (علیهما السلام)

ص: 195


1- وهنالك إطلاق ثالث ستأتي الإشارة إليه.
2- قوله تعالى: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً»، سورة الأحزاب: 33.
3- سورة آل عمران: 33.

..............................

كانا داخلين أيضاً. وفي آية أخرى: «أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ»(1) حيث يشمل فرعون أيضاً.

ولقد صرح الرسول (صلی الله علیه و آله) في موارد متعددة بأن هؤلاء الأربعة (علیهم السلام) هم أهل بيته كي لا يتوهم شموله لنسائه أو سائر من كان في تلك البيوت كالخدم.

كما أن (أهل البيت) يشمل سائر المعصومين إلى الحجة المهدي (صلوات

الله عليهم أجمعين) بدلالة متواتر الروايات، والتي منها ما ورد في زيارة الجامعة الكبيرة التي تقرأ عند مرقد كل إمام:«السلام عليكم يا أهل بيت النبوة»(2).

وحال ذلك حال قوله سبحانه: «إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ»(3) حيث إن الأدلة دلت على أن الأئمة الطاهرين (علیهم السلام) أيضاً أولياء للمؤمنين، فلا ينافي ذلك الحصر(4)، والكلام في هذا المبحث طويل موكول إلى كتب الكلام(5).

ولا يخفى أن مثل زينب وأم كلثوم أو إبراهيم بن رسول الله، وعلي الأكبر والعباس (عليهم الصلاة والسلام) وأمثالهم داخلون في (أهل البيت) بالمعنى العام لا بالمعنى الخاص الذي ينحصر في المعصومين (علیهم السلام) فقط.

ص: 196


1- سورة غافر: 46.
2- من لا يحضره الفقيه: ج2 ص610 زيارة جامعة لجميع الأئمة (علیهم السلام) ح3213.
3- سورة المائدة: 55.
4- إذ الحصر إضافي.
5- يراجع كتاب: كفاية الموحدين، حق اليقين، إحقاق الحق، كشف الحق، ونهج الصدق، عوالم العلوم والمعارف والأحوال، بحار الأنوار مبحث الإمامة، العبقات، شرح التجريد وغيرها.

وَخَاصَّتِي، وَحَامَّتي،

اشارة

-------------------------------------------

تعميم الأدعية

مسألة: يستحب تعميم الصلوات وغيرها من الأدعية على أهل بيته (صلی الله علیه و آله) أجمعين؛ لأنهم خاصته (صلی الله علیه و آله).. كما قال (صلی الله علیه و آله): «وخاصتي» والمتعارف أن الهدايا تبعث للرجل وخاصته.

من هم الحامّة؟

حامّة النبي (صلی الله علیه و آله) الواقعيون وبالمعنى الدقيق للكلمة هم: علي وفاطمة والحسن والحسين (علیهم السلام) حيث خصهم (صلی الله علیه و آله) بالذكر في هذا المقام الهام، وهو مقام مناجاته (صلی الله علیه و آله) ربه، ولو كان آخر معهم للزم ذكره مع ملاحظة أهمية المقام وكون المناجي هو النبي (صلی الله علیه و آله) والمناجى هو الله سبحانه وتعالى.

ومن المعلوم أن: (حميَ) غير (حمّ) وهذه المادة من (حمم) لا من (حمي) وقد ذكرنا وجه ذلك، وأن الحامّة هم الذينبينهم علقة خاصة(1)، ومنه (الحميم) حيث يطلق على القريب الذي له علقة وحرارة خاصة مع صديقه لا على كل صديق.

ص: 197


1- في لسان العرب: (الحامّة) خاصة الرجل من أهله وولده، و(الحميم): القريب الذي توده ويودك.

لَحمُهُم لَحمِي وَدَمُهُم دَمِي،

اشارة

-------------------------------------------

التذكير بوشائج القربى

مسألة: يستحب التذكير بوشائج القربى، مما يوجب تزايد المحبة بين الأقرباء، كما قال (صلی الله علیه و آله): «لحمهم لحمي ودمهم دمي».

وإنما كان لحمهم (علیهم السلام) لحمه (صلی الله علیه و آله) ودمهم (علیهم السلام) دمه (صلی الله علیه و آله)؛ لأنهم خلقوا نوراً واحداً، ومن أصل واحد، ثم فرقوا بهذه الصورة، كما يدل على ذلك جملة من الروايات كقوله (صلی الله علیه و آله): «خلق الله الناس من أشجار شتى وخلقني وأنت [ يا علي « من شجرة واحدة»(1).

واللحم والدم من باب المثال، وإلاّ فالعظم والعصب والعرق وسائر الأجزاء أيضاً كذلك، للملاك وللقطع حسب الروايات.

هذا بحسب المعنى وبلحاظ أصل الخلقة، وأما بحسب المادة والتسلسل الجسمي الظاهري، فإن لحمهم (علیهم السلام) ودمهم أيضاً نابت من لحمالرسول (صلی الله علیه و آله) ودمه؛ لأن الولد من الماء المتكون من الدم الجاري في العروق والممتزج باللحم وهو منشؤه أيضاً، فكلهم (علیهم السلام) منه (صلی الله علیه و آله). كما يدل على ذلك روايات أخر مثل قول الصادق (علیه السلام) لأبي حنيفة حيث قبّل عصا رسول الله (صلی الله علیه و آله) مشيراً إلى يده (علیه السلام) قائلاً: «هذا لحم رسول الله (صلی الله علیه و آله)»(2).

ص: 198


1- بحار الأنوار: ج15 ص20 ب1 ح30.
2- راجع المناقب: ج4 ص248 فصل في علمه (علیه السلام).

يُؤلِمُني ما يُؤلِمُهُم، ويَحزُنُني ما يُحزِنُهُم،

اشارة

-------------------------------------------

دفع الأذى عن آل الرسول (صلی الله علیه و آله)

مسألة: يجب دفع ما يؤلم، ودفع ما يوجب الحزن، عن أهل بيته (علیهم السلام)لقوله (صلی الله علیه و آله): «يؤلمني ما يؤلمهم ويحزنني ما يحزنهم».

وإطلاقه يشمل حال حياته (صلی الله علیه و آله) ومماته، كحال حياتهمومماتهم (علیهم السلام)، إذ لا فرق بين الحالتين فيهم (عليهم صلوات الله وسلامه)(1).

ومما يوجب حزنهم وأذاهم - دون شك - انتهاك حرمات الله والتجري على معصيته وخرق قوانينه ودساتيره.

والإيلام والأحزان بالنسبة إلى الروح واضح؛ لأن الجماعة الواحدة والذين توجد بينهم أواصر قرابة أو صداقة يؤلمهم ما يؤلم أحدهم، ويحزن أحدهم ما يحزن الآخرين، نظراً للرابطة العاطفية والمشاركة الوجدانية التي جعلها الله سبحانه وتعالى في أمثال هذه الموارد.

ولكن هل الإيلام شامل لأجسادهم أيضاً، بأن يكون ألم أحدهم (علیهم السلام) موجباً للألم في جسم الرسول (صلی الله علیه و آله)؟.

ص: 199


1- إذ لاشك مثلاً في أن قتل الإمام الحسين (علیه السلام) أوجب أشد الحزن والألم على الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) وذلك لما دلت عليه الروايات بل والآيات ]بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ»، سورة آل عمران: 169.

..............................

ذلك محتمل. فإن الارتباط القويبينهم حسب الخلقة يقتضي ذلك(1)، كما أن الارتباط بين البدن الواحد يقتضي تألم سائر الأعضاء بألم عضو واحد لكنه خلاف الانصراف، إذ المنصرف من التألم التألم الروحي والنفسي، فتأمل.

مشاطرة العائلة همومهم وأحزانهم

مسألة: يستحب أن يشارك كبير العائلة أفراد أُسرته في آلامهم وأحزانهم، لقوله (صلی الله علیه و آله): «يؤلمني ... »، وكذلك بالنسبة إلى الأفراح، للملاك.

ولم يضف (صلی الله علیه و آله) (ويفرحني ما يفرحهم) ها هنا؛ لأنه (صلی الله علیه و آله) في مقام دفع الآلام عنهم(2).. وفي بعض الأحاديث حيث لم يكنالكلام في هذا المقام فقد تم ذكر الأمرين معاً، حيث قال الإمام الصادق (علیه السلام): «شيعتنا منا خلقوا من فاضل طينتنا، وعجنوا بماء ولايتنا، يفرحون لفرحنا، ويحزنون لحزننا»(3).

ص: 200


1- وقد ثبت علمياً بل شوهدت في الخارج موارد كان شدة الارتباط العاطفي بين الطرفين سبباً لتألم أحدهما بتألم الآخر جسدياً.
2- ربما يعلل أيضاً بكون ذلك تمهيداً لطلبه منه سبحانه (الصلوات والرحمة والبركات عليهم) فهو أدعى لذلك عرفاً، وربما يكون السبب الإشارة الرمزية إلى أن حياتهم مستغرقة عادة بالآلام والأحزان ف «المؤمن مبتلى» - وسائل الشيعة: ج14 ص337 ب18 ح25764 -، و«أن الله إذا أحب عبداً ابتلاه» - تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: ج1 ص4 -، و«حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات» - بحار الأنوار: ج67 ص78 ب46 ضمن ح12-، وكذلك حياة الذين نذروا أنفسهم في سبيل الله سبحانه حيث يضحون بالغالي والرخيص في سبيله تعالى.
3- بحار الأنوار: ج53 ص303 الحكاية 55.

..............................

ما هو ماء الولاية؟

ولا يخفى أن الخلقة من فاضل طينتهم (علیهم السلام) حقيقي كما صرحت بذلك الروايات(1)، وهل الأمر كذلك بالنسبة إلى ماء الولاية، أو أن ذلك من المجاز، تشبيهاً للولاية بالماء الذي جعل الله منه (كل شيء حي)؟. احتمالان.

فإذا كان من الثاني فهو من قبيل قول الشاعر(2): (لا تسقني ماء الملام)،ومن قبيل قوله سبحانه: «وَاخْفِضْ لهمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ»(3). ويؤيد ذلك ما دل على أن «الأرواح جنود مجندة»(4)، وما دل على أن «القلب يهدي إلى القلب»(5).

وقد اكتشف العلم الحديث أن للقلب(6) والفكر تموجات تؤثر سلبياً أو إيجابياً على الآخرين في ظروف معينة(7). ولهذا أسست مدارس في يومنا هذا للإيحاء النفسي وغسل الأدمغة بسبب الأمواج الفكرية والإيحاء وشبه ذلك، كما لا يخفى على من راجع بعض الكتب الصادرة في هذا المجال.

ص: 201


1- راجع عوالم العلوم: ج11 ص18 ب2 ح6 ط2 تحقيق مدرسة الإمام المهدي (علیه السلام).
2- هو أبو تمام (188-231ه) أو أبو الطيب الغزي (ت 1042ه).
3- سورة الإسراء: 24.
4- من لا يحضره الفقيه: ج4 ص380 ومن ألفاظ رسول الله (صلی الله علیه و آله) الموجزة التي لم يسبق إليها ح5818.
5- راجع بحار الأنوار: ج71 ص181 ب12.
6- قد يكون المراد به مركز العاطفة، لا هذا العضو الصنوبري.
7- فهي كأمواج الإذاعة مثلاً في كونها غير مرئية وبحاجة إلى جهاز استقبال وبذلك يفسر أيضاً توارد الخواطر.

أَنَا حَربٌ لِمَن حارَبَهُم، وَسِلمٌ لِمَن سالَمَهُم،

اشارة

-------------------------------------------

مواجهة أعداء آل الرسول (صلی الله علیه و آله)

مسألة: تجب محاربة من حارب أهل البيت (علیهم السلام) كما يستفاد من هذا المقطع، حيث إن من حارب علياً أو فاطمة أو الحسن أو الحسين (عليهم الصلاة والسلام) فقد حارب رسول الله، لقوله (صلی الله علیه و آله): «أنا حرب لمن حاربهم»، ومن الواضح حكم محاربة الرسول (صلی الله علیه و آله) وقد قال (صلی الله علیه و آله): «فاطمة بضعة مني من آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله»(1). وكما تجب محاربة من حارب أهل البيت (علیهم السلام) بأجسادهم، تجب محاربة من حاربهم في أفكارهم ومناهجهم.

مناصرة أولياءهم (علیهم السلام)

مسألة: يجب أن يكون الإنسان سلماً لمن سالم أهل البيت (علیهم السلام)كما كان الرسول (صلی الله علیه و آله) كذلك.

تحقيق في معنى العداء والمسالمة

والمراد المسالمة لهم - أي من سالمهم (علیهم السلام) - من حيث هو مسالم لهم وبهذا اللحاظ، فلا يقتضي ذلك عدم وقوع التنازع بحيث آخر، ومن جهة ثانية (كالتنازع في دَيْن أو ميراث أو شبه ذلك).

ص: 202


1- راجع تفسير القمي: ج2 ص196 نزول آية التطهير.

..............................

كما أن إطلاق الجملة السابقة، يقتضي وجوب أن يحارب الإنسان من حارب أهل البيت (علیهم السلام) من غير فرق بين من حاربهم عسكرياً أو إعلامياً أو سائر أقسام الحروب، وكذلك في السلم؛ لإطلاق الجملتين ولا انصراف، ولو فرض فالملاك والقرائن المقالية والمقامية تقتضي التعميم.

ومن المعلوم أن من حارب بعضهم (علیهم السلام) كان كالمحارب لكلهم، ولكن المسالم لجميعهم يكون سلماً لهم، فليست الجملتان على غرار واحد في المحاربة والمسالمة. والالتزام بأن حرب بعضهم حرب لجميعهم لما دل علىأنهم نور واحد، فمن أنكر أحدهم فقد أنكر جميعهم، وكذلك حال الأنبياء (علیهم السلام) فمن أنكر نبياً من الأنبياء (علیهم السلام) كان كالمنكر لجميعهم، وهكذا حال صفات الله سبحانه وتعالى حيث إن من أنكر صفة واحدة كان كإنكار الجميع.

وبذلك يظهر الجواب عن سؤال السائل: ما هو الفرق بين الحرب والسلم؟. حتى عُدَّت الحرب لبعضهم أو في جهة من جهات أحدهم حرباً لهم، لكن السلم لا يكفي فيه إلاّ السلم لجميعهم في جميع الخصوصيات.

ونضيف توضيحاً لذلك مثالاً:

فإن الحرب كالحالة المرضية، والحالة المرضية تتحقق ولو بتسرب جرثومة خبيثة واحدة إلى الجسم، بينما السلم كالحالة الصحية، والصحة لا تتحقق إلا بتوفر كافة العوامل وطرد كل الأوبئة والجراثيم، وكذلك (الحصن) فإنه يسلم من فيه بسد كل ثغوره وخلله وفُرَجه، بينما يهلك من فيه فيما إذا استطاع العدو فتح ولو ثغرة واحده فيه.

ص: 203

وَعَدوٌّ لِمَن عاداهُم،

اشارة

-------------------------------------------

معاداة أهل البيت (علیهم السلام)

مسألة: تحرم معاداة أهل البيت (علیهم السلام).

ولا يخفى أن العداء غير الحرب؛ لأن العداء حالة نفسية قلبية وإن تعدت إلى الجوارح، أما الحرب فلا تطلق إلاّ على حركة الجوارح بطريقة معينة، ولذا قال (صلی الله علیه و آله) في مقابل ذلك: «ومحب لمن أحبهم»، حيث إن الحب أمر قلبي وإن تعدى إلى الجوارح أيضاً.

وحيث كانت العلاقة بين العداوة والمحبة علاقة الضدين اللذين لهما ثالث، وكان من الممكن أن لا يكون إنسان بالنسبة إلى إنسان معادياً ومع ذلك لايكون محباً، لذلك أضاف (صلی الله علیه و آله): «ومحب لمن أحبهم».

تعاضد الأرحام

مسألة: يلزم أن يكون الأقرباء - منباب أنهم من أجلى المصاديق وأهمها - يداً واحدة على أعدائهم فيما كانت العداوة بحق، كما قال (صلی الله علیه و آله): «أنا حرب لمن حاربهم ... وعدو لمن عاداهم».

وذلك من مستلزمات نصرة المسلم وهو من لوازم الإيمان، سواء كانت العداوة لأمر ديني أو لحق شخصي، كمن غصب مال أحدهم فيكونوا يداً واحدة

ص: 204

..............................

عليه حتى يرد المال وهكذا وهلم جرا.

ومن الواضح أنه لا يصح نصرة القريب أو نحوه بالباطل.

وقول النبي (صلی الله علیه و آله): «انصر أخاك ظالماً ومظلوماً»(1) يراد بالأول: كفه عن الظلم؛ لأنه نصرة له في الدنيا (2) والآخرة كما فسر بذلك فيبعض الروايات.

وخصوصية الأقرباء أنهم أولى بالمعروف، وإلاّ فالمسلمون ينصر بعضهم بعضاً وإن كانوا بُعَداء.

إضافة إلى أن العائلة هي اللبنة الأولى في بناء المجتمع، فإذا غرست فيها معاني التعاضد والتعاون بالحق كان سبباً لتربية المجتمع على ذلك أيضاً.

ص: 205


1- راجع وسائل الشيعة: ج12 ص212-213 ب122 ح16114، وفيه عن علي (علیه السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «للمسلم على أخيه ثلاثون حقاً - إلى أن قال - وينصره ظالماً ومظلوماً، فأما نصرته ظالماً فيرده عن ظلمه، وأما نصرته مظلوماً فيعينه على أخذ حقه ولا يسلمه ولايخذله».
2- لما للظلم من الأثر الوضعي والعواقب الوخيمة على الظالم وذريته في هذه الدنيا.

وَمُحِبٌّ لِمَن أَحَبَّهُم،

اشارة

-------------------------------------------

محبة أهل البيت (علیهم السلام)

مسألة: تجب محبة أهل البيت (علیهم السلام)(1) تحصيلاً لحب النبي (صلی الله علیه و آله) لقوله (صلی الله علیه و آله): «ومحب لمن أحبهم».

كما يلزم حبهم (علیهم السلام) أيضاً لذواتهم، فإحدى المحبتين طريقية والأخرى موضوعية ذاتية، ويوضح ذلك ما قاله الرسول (صلی الله علیه و آله) بالنسبة إلى عقيل (علیه السلام): «إني أُحبه حبين: حُباً له وحباً لحب أبي طالب له»(2).

ثم لا يخفى أنه لا يصح الاكتفاء بمحبتهم (علیهم السلام) عن الامتثال لأوامرهم والتي هي أوامر الله سبحانه وتعالى، فإن المحب الحقيقي هو الذي يتوخى رضا المحبوب ويلتزم بمنهجهويطيع سيده في كل أعماله، ولذلك ورد(3):

تعصي الإله وأنت تظهر حبه *** إن المحب لمن أحب مطيع

ص: 206


1- الأدلة على ذلك أكثر من أن تحصى، فليراجع: (إحقاق الحق)، و(الغدير)، و(العوالم)، و(كفاية الموحدين)، وغير ذلك.
2- بحار الأنوار: ج22 ص288 ب5 ح58.
3- هذا الشعر مما تمثل به الإمام الصادق (علیه السلام) وفيه تقديم تأخير ،والصحيح هو: هَذَا مُحَالٌ فِي الْفِعَالِ بَدِيعُ *** تَعْصِي الإِلَهَ وَأَنْتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ إِنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيع *** لَوْ كَانَ حُبُّكَ صَادِقاً لأَطَعْتَهُ راجع وسائل الشيعة: ج15 ص308 ب41 ح20596.

..............................

ولا ينفع حبهم (علیهم السلام) بدون الإطاعة والعمل إلا نفعاً في الجملة كما ذكر في الروايات، ففي الحديث: «إن ولي محمد (صلی الله علیه و آله) من أطاع الله وإن بعدت لحمته، وأن عدو محمد (صلی الله علیه و آله) من عصا الله وإن قربت قرابته»(1)، و «أشد الذنوب ما استهان به صاحبه»(2).

وفي ذلك بحث مفصل في علم الكلام، فإن الإيمان مركزه الجوارح واللسان والقلب، ويجب أن يتجلى عليها كلها - حسب المقرر في الشريعة - وهكذا أمثالالحب.

المحبة ودورها في التكوين والتشريع

مسألة: يستحب - وقد يجب - تكوين وإنماء المحبة السليمة المشروعة، فإن المحبة هي المحرك الأكبر نحو الفضائل، فمحبة الله سبحانه هي التي تبعث على إطاعة أوامره «وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ»(3)، وكذلك محبة الرسول (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته (علیهم السلام) وكذا الصالحين، ومحبة الدخول في الجنة، ومحبة الذكر الحسن «وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ»(4) وهكذا.

ص: 207


1- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: ج1 ص24.
2- وسائل الشيعة: ج15 ص312 ب43 ح20608.
3- سورة البقرة: 165.
4- سورة الشعراء: 84.

..............................

ولذلك ورد في الحديث الشريف: «الدين الحب»، و«هل الدين إلاّ الحب»(1) وغير ذلك. إضافة إلى أن الحب تدور عليه رحى الحياة، فالأم والأب يعتنيان بالأولاد وتربيتهم نتيجةًللمحبة، وكذلك اكتساب التاجر معلول لمحبته لنفسه وأُسرته، وكذلك الزراع يزرع، والطالب يكتسب العلم، إلى غير ذلك، كله للحب، حتى إذا فقد الحب من العالم انهدم العالم.

فاللازم أن يكوّن الإنسان الحبّ وينمّيه حتى يكون في خط الكون - الذي خلق بالحبّ وللحبّ - وحتى يكون في خط الدين.

لكن ما معنى أن الكون خلق للحب وبالحب؟، وأن به قوامه؟.

يتضح ذلك بمثال: فكما أن النور والجاذبية ونحوهما قوام الكون، فإذا فقدا انهدم الكون، قال سبحانه: «إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ وَلَئِنْ زالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ»(2) كذلك - بل وفي رتبة سابقة - المحبة، فإنها هي الباعث لإيجاد هذا الكون، وأعني: محبة الله سبحانه لإظهار ذلك الكنز الخفي: «كنت كنزاً مخفياً فأحببتُ أن أُعرف فخلقت الخلق لكي أُعرف»(3)، ومحبته جل وعلالهؤلاء الخمسة (صلوات الله عليهم أجمعين) كما سيأتي قريباً في قوله تعالى: «إني ما خلقت سماءًمبنية و... إلاّ في محبة هؤلاء الخمسة... » ويدل عليه كثير من الروايات الأخرى.

ص: 208


1- مستدرك الوسائل: ج12 ص219 ب14 ح13927.
2- سورة فاطر: 41.
3- بحار الأنوار: ج84 ص199 ب12 ح6 بيان.

..............................

وحب الله تعالى معناه ما ذكروه من (خذ الغايات واترك المبادئ) كسائر ما يُنسب إليه من الصفات من أمثال الغضب والسمع والبصر وشبه ذلك، فالكون كمائدة يهيئها المضيف للضيف من جهة حب المضيف للضيف.

ولماذا هذا الحب من الله تعالى؟. لأنهم (علیهم السلام) أكمل خلق الله سبحانه، ولأن المخلوق محبوب للخالق، ولأنهم أكثر خلق الله له طاعة وحُباً(1).

وقد اتضح بذلك أن الكون يدور على رحى المحبة، كما اتضح في صدر هذا البحث أن الدين أيضاً كذلك(2). ونضيف أن كون (الدين الحب) باعتبار أن محبة الله وأوليائه(3) هي النواة المركزيةللدين، حيث إن العلة الغائية للدين هي ذلك، وحيث شرّعت الأحكام كلها حول هذه النواة، قال سبحانه: «وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ»(4) وقال تعالى: «إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى»(5) وهي العلة الأساسية للتمسك بالدين، ومن أراد المزيد فعليه بالمفصلات.

ص: 209


1- سيأتي بعض الكلام حول ذلك في مبحث (الغاية من الخلقة).
2- حيث ذكر (أن المحبة هي المحرك الأكبر نحو الفضائل...).
3- الإضافة لها معنيان هاهنا وكلاهما مفيد ومراد ولو بنحو الجامع، ف (محبة الله) أي محبة الإنسان - مثلاً - لله تعالى و(محبة الله) أي محبة الله للإنسان، إذ الإضافة تكون تارة للفاعل وأخرى للمفعول، فمحبة الله للإنسان سبب لتشريعه الأحكام التي توجب سعادته في الدنيا والآخرة، ومحبة الإنسان لله سبب لالتزامه بدساتيره جل وعلا، وهناك معنى ثالث محبة الإنسان ليكون محبوباً لله، فليتأمل.
4- سورة البقرة: 165.
5- سورة الشورى: 23.

إنًّهُم مِنّي وَأَنا مِنهُم،

اشارة

-------------------------------------------

توثيق الترابط بين الأقرباء

مسألة: يستحب توثيق عرى الترابط بين الأقرباء، ومن طرق ذلك تعريفهم وتذكيرهم دوماً بأن بعضهم من بعض، خاصة إذا كانت لبعضهم منزلة رفيعة، فإن ذلك فيما إذا كانوا جميعاً على الدين والإيمان يوجب تماسكهم وتعاونهم على الخير والتزامهم بصلة الرحم، وبالتالي يستلزم قوة هذا التجمع الصغير، بل والمجتمع الأكبر، نظراً لتشكله منه.

فإن التجمع قوة وكلما كان تماسكه أكثر كانت قوته أكثر، والمعرفة مقدمة للتجمع والتماسك والتعاون بشكل أقوى.

أما خطاب النبي (صلی الله علیه و آله) لله سبحانه أنهم (علیهم السلام) منه (صلی الله علیه و آله)، فإن ذلك من التخضع والاستعطاف والالتماس، مثل أن يقول الفقير للغني: هؤلاء أولادي فتكرم عليَّ وعليهم بالمال.

هذا بالإضافة إلى أن الأقرباء إذا عرفوا أنهم ينحدرون من كبير في العلم والفضيلة، حفّزهم ذلك على التحليبالفضائل والتخلي عن الرذائل، فإن الإنسان مندفع إلى طلب المعالي والترفع بذاته، خصوصاً إذا عرف أن المنسوب إليه رفيع.

وهذا من أسباب ابتعاد أولاد الأئمة (علیهم السلام) وذويهم عن الدنايا وترفعهم عنها، بخلاف أولاد أمية والعباس ومن إليهما، إذ نجد في أولاد الأئمة (علیهم السلام)

ص: 210

..............................

وإخوتهم وذويهم أن معرفتهم بنسبهم أوجبت أن يرتفعوا عن الدنايا ويتصفوا بكثير من المزايا.

وقد ذكرنا في بعض الكتب أن نسبة بعض الأمور الشائنة إلى أولاد الأئمة (علیهم السلام) لم يثبت منها ثبوتاً شرعياً بحيث يبرأ الناسب شرعاً، وما ذكر في بعض الكتب لا سند له(1).

نعم، الثابت قصة ولدي آدم ونوح (علیهما السلام) وذلك استثناء، إذ ما ذكرناه ليس على نحو العلية، بلالاقتضاء الغالب، ولذا ورد: (الولد سرّ أبيه).

الاحتمالات في معنى (إنهم مني وأنا منهم)

يمكن أن يكون المراد من قوله (صلی الله علیه و آله): «إنهم مني وأنا منهم» أحد أمور(2):

منها: إن خلقتهم (علیهم السلام) كانت بسببه (صلی الله علیه و آله) وخلقته (صلی الله علیه و آله) كانت بسببهم(3)

ص: 211


1- أو مؤول، أو مروي عن غير طرقنا، أو غير ذلك، للتفصيل انظر موسوعة (الفقه) كتاب البيع، الجزء الرابع والخامس، وكتاب (من حياة الإمام الحسن العسكري (علیه السلام)) للإمام المؤلف (قدس سره).
2- قد يكون المقصود: إن كل واحد منها تمام المراد، وقد يكون المقصود كون كل واحد منها بعض المراد وأحد المصاديق، وهذا أرجح بالنظر إلى سياق الحديث كله وإلى إطلاقه، وإلى القرائن المقامية والمقالية الأخرى، إضافة إلى أن نظر المصنف هو ذلك كما يظهر من استنباطه اللاحق.
3- قد يكون المقصود: بنحو الدور المعي، وقد يمثل لذلك بالمتضايفين كالمتوازيين والأخوين (متوافقين كانا أم متخالفين).

..............................

كما قد يدل على هذا حديث «لولاك ... »(1)، وتقريره أن لولا النبي (صلی الله علیهو آله) لم يخلق الله تعالى الأفلاك ونظائرها، فلم يتيسر لأحد أن يحيا هذه الحياة، ولولا علي وفاطمة (سلام الله عليهما) لم يخلق الله تعالى النبي (صلی الله علیه و آله).

وبعبارة أخرى: إن الكون كمجموعة بدون خلقته (صلی الله علیه و آله) وخلقتهم (علیهم السلام) ناقص، والله سبحانه لا يخلق إلاّ الكامل - كل في حده - بل لغو ونقض للغرض فليدقق، فلولاه (صلی الله علیه و آله) لكان الكون ناقصاً، فلم يكن الله له (صلی الله علیه و آله) ولهم (علیهم السلام) خالقاً، وبالعكس.

ومنها: المعنى الذي ربما يستظهر من قوله (صلی الله علیه و آله): «حسين مني وأنا من حسين»(2)، لذا قالوا: (الإسلام محمدي الوجود... حسيني البقاء)، وكذلك قد يراد ب «إنهم مني وأنا منهم» ذلك.

ومن المحتمل أن يراد ب: «حسين مني وأنا من حسين» المعنى الأول المذكور في قوله (صلی الله علیه و آله): «إنهم مني وأنا منهم» من التسبيب في أصل الخلقة.ومنها: إن الاعتبار الدنيوي والمكانة الدنيوية في القلوب والأفكار وغيرها لأهل البيت (علیهم السلام) من النبي (صلی الله علیه و آله)، وكذا ما للنبي (صلی الله علیه و آله) في الدنيا من المنزلة والذكر الحسن فهو من تضحيات أهل البيت (علیهم السلام) ونتيجة تفانيهم في سبيله وسبيل دينه.

ومنها: ما سبق ولكن بلحاظ الآخرة.

ص: 212


1- عوالم العلوم: ج11 ص26 ب3 ح1.
2- بحار الأنوار: ج43 ص271ب12 ح35.

..............................

ومنها: باللحاظين معاً، وغيرهما أيضاً، ويؤيد هذا المعنى الجمل السابقة على هذه الجملة «إن هؤلاء...».

ومنها: إن هذه عبارة عرفية تدل على شدة الترابط والتماسك بينه (صلی الله علیه و آله) وبينهم (علیهم السلام)، وترمز إلى أن ما يصيبه (صلی الله علیه و آله) يصيبهم (علیهم السلام) وما ينفعه ينفعهم وبالعكس، ونظيره ما يقوله الملك أو الحاكم لشعبه: أنا منكم وإليكم.

فقوله (صلی الله علیه و آله): «إنهم مني وأنا منهم» يأتي مؤكداً للجمل السابقة، وشدة الارتباط والقرب بينه (صلی الله علیه و آله) وبين أهل بيته (علیهم السلام) أوضح من الشمس، وهيتتجلى في القرب المادي النسبي، والقرب الروحي والمعنوي والفكري و... والقرب في المنشأ؛ لأنهم (علیهم السلام) كلهم من نور واحد، ولذا قال (صلی الله علیه و آله): «خلق الله الناس من أشجار شتى، وخلقني وأنت [ يا علي « من شجرة واحدة»(1).

ومنها: إن الخلقة لولا خلقة النبي (صلی الله علیه و آله) لم تدل على كمال الخالق، فلولاه (صلی الله علیه و آله) لم يخلق الله تعالى الخلق، إذ أنه حينئذ سيدل على عدم كمال قدرته، كالبنّاء الماهر لا يبني الدار الناقصة لدلالتها على عدم كماله(2).

ص: 213


1- بحار الأنوار: ج15 ص20 ب1 ح30.
2- الفرق بين هذا وما سبق أن هذا بلحاظ مرحلة الإثبات وذاك بلحاظ مرحلة الثبوت.

..............................

الولاية التشريعية والتكوينية

الولاية التشريعية والتكوينية(1)

يستنبط(2) من قوله (صلی الله علیه و آله): «إنهم مني وأنا منهم» ثبوت الولاية التشريعية والتكوينية لأهل البيت (علیهم السلام)، إضافة إلى وجود الأدلة الكثيرة الدالة على ذلك.

فالولاية التشريعية بمعنى أن بأيديهم (علیهم السلام) التشريع. والتشريع فيهم يعني نفس ما يعنيه الحديث الشريف الوارد فيه (صلی الله علیه و آله): «إن الله أدب نبيه على أدبه ففوض إليه دينه»(3)، على تفصيل ذكره السيد عبد الله الشبر (قدس سره)(4)وغيره في

ص: 214


1- حول هذا المبحث راجع: (الفقه: البيع الجزء الرابع)، و(القول السديد في شرح التجريد) للمؤلف (رحمة الله).
2- نظراً لإطلاقها بل ودلالتها على (الوحدة)، وإذا تعذرت الحقيقة (الوحدة الذاتية) فستكون بلحاظ الصفات والآثار جميعاً باعتباره أقرب المجازات.
3- بحار الأنوار: ج101 ص342 ب5 ح4.
4- السيد عبد الله شبر بن السيد محمد رضا، ولد سنة 1188ه من أسرة علوية يتصل نسبها بالإمام السجاد (علیه السلام)، وآل شبر من أعرق العائلات العراقية، والده علامة كبير أفاد منه علماً جماً ومعرفة متنوعة، تتلمذ على يدي وحيد عصره الشيخ جعفر صاحب (كاشف الغطاء)، أربت مؤلفاته على السبعين فلقب ب (المجلسي الثاني) لوفرة إنتاجه وغزارة تأليفه وتصانيفه وثبات مواقفه، لقد ظل (قدس سره) منكباً على التصنيف والتأليف ومتصدراً مجالس التعليم والتدريس حتى وافته المنية في المشهد الكاظمي سنة1242ه فدفن إلى جانب والده المبرور في الحجرة الشرقية من رواق الإمامين المعصومين عن أربعة وخمسين عاماً، له من الكتب المشهورة: (تفسير شبر)، و(طب الأئمة)، و(تسلية الفؤاد)، وغيرها.

..............................

كتبهم(1) وقد ألمعنا إليه في بعض الكتب الفقهية.

وأما الولاية التكوينية: فبمعنى أن لهم (علیهم السلام) أن يتصرفوا في الكون بإذنه سبحانه، بل هم (علیهم السلام) يتصرفون بإذنه تعالى كما يتصرف عزرائيل بإذنه سبحانه في الإماتة، وكذلك بالنسبة إلى بعض الملائكة حيث قال سبحانه: ]فَالْمُدَبِّراتِأَمْراً»(2).

وفي الحديث القدسي: «عبدي أطعني تكن مثلي أو مثلي، أقول للشيء: كن فيكون وتقول للشيء: كن فيكون»(3)، وهذا يمكن تحققه بالنسبة إلى الطبقة العادية من الناس، فكيف بهم (علیهم السلام) وهم من المعدن الأسمى والجوهر الأعلى! كما قال (صلی الله علیه و آله): «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة»(4)، وفي قصة عيسى (علیه السلام) دلالة على ذلك حيث كان يبرأ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله سبحانه وتعالى، وهم (علیهم السلام) أفضل من عيسى (علیه السلام) لما ورد من أن عيسى (علیه السلام) يصلي خلف الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه)(5)، بالإضافة إلى الروايات المتعددة والتي تعد من ضروريات مذهبنا، وقد أشرنا إلى هذا ا المبحث في مقدمة الكتاب.

ص: 215


1- يراجع: (نهج الحق وكشف الصدق) للعلامة الحلي (قدس سره)، و(كفاية الموحدين)، و(إحقاق الحق) للتستري (قدس سره) وغيرها.
2- سورة النازعات: 5.
3- راجع مستدرك الوسائل: ج11 ص258-259 ب18 ح12928.
4- الكافي: ج8 ص177 خطبة لأمير المؤمنين (علیه السلام) ح197.
5- راجع الخصال: ج1 ص320 باب الستة ح1.

فَاجعَل

اشارة

-------------------------------------------

التمهيد للدعاء

مسألة: يستحب أن يقدّم على الدعاء ما يوجب الاستجابة، كذكر أسماء المعصومين (علیهم السلام) والتوسل بهم، كما قدم الرسول (صلی الله علیه و آله) ما قدم ثم قال: «فاجعل صلواتك ...».

فإن التوسل بأهل البيت (علیهم السلام) وجعلهم شفعاء بين يدي الدعاء يوجب استجابة الدعاء، كما دل على ذلك جملة من الأدلة.

وفي بعض الأحاديث أن تقديم الصلاة عليهم (علیهم السلام) على الدعاء وإلحاقها به أيضاً - أي الصلاة قبل الدعاء وبعده - يوجب الاستجابة، وفي رواية: «الصلوات ثلاث مرات» كما ذكرنا ذلك في كتاب (الفقه: الآداب والسنن).

فإن ذكر المحبوب مع طلب الحاجة يوجب إقبال الغير على السائل، والله سبحانه وتعالى يقبل على عبده إذا افتتح دعاءه بالصلاة على محمد وآلمحمد، وإقباله تعالى ليس بالمعنى العرفي الحسي وشبهه، بل من باب: (خذ الغايات واترك المبادئ)، كما ذكروا بالنسبة إلى صفاته سبحانه التي هي من قبيل الغضب والرضا والحب والسمع والبصر أو ما أشبه ذلك، وقد روي أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان يفتتح دعاءه بالصلاة عليه وآله، إذ لا منافاة بين رفعة المقام وبين جريان سنن الله التشريعية على الرسول (صلی الله علیه و آله) كما تجري السنن التكوينية عليه.

ص: 216

صَلَواتِكَ

اشارة

-------------------------------------------

الصلاة على النبي وآله (علیهم السلام)

مسألة: يستحب الصلاة على النبي (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته (علیهم السلام) كما قال (صلی الله علیه و آله): «فاجعل صلواتك عليَّ وعليهم».

والمراد بالصلوات: العطف والحنان، ولذا يسمى أحد المتسابقين بالمصلي،فإن الإنسان يعطف إلى نحو الله سبحانه وتعالى في صلواته(1) والله سبحانه وملائكته يعطفون على الإنسان في صلواتهما عليه.

ومن الواضح أن عطف الله سبحانه وتعالى: إنزال فضله ولطفه.

قال الشاعر(2):

صلت على جسم الحسين سيوفهم (3) *** فغدا لساجدة الظبى محرابا

ولعل قوله (صلی الله علیه و آله): «فاجعل صلواتك» حيث جاء بالجمع ولم يقل: (صلاتك) كان من جهة اختلاف أنحاء العطف، كالعطف المعنوي والعطف المادي، والعطف في الدنيا والعطف في الآخرة، إلى غير ذلك.

ص: 217


1- فالصلاة لله بمعنى العطف والميل نحوه تبارك وتعالى.
2- السيد رضا الموسوي الهندي (1290-1362ه).
3- أي: نزلت على جسمه (علیه السلام) وعطفت نحوه.

وَبَرَكاتِكَ، وَرَحمَتكَ وغُفرانَكَ، وَرِضوانَكَ

اشارة

-------------------------------------------

التنويع في الدعاء

مسألة: يستحب تنوع الدعاء وتعدد ما يطلبه من الحوائج، وعدم الاقتصار على دعاء واحد، ولذا لم يكتف النبي (صلی الله علیه و آله) بواحدة منها لاختلاف معاني هذه الكلمات.

فالصلاة: هي العطف.

والبركة: الثبات والاستمرار.

والرحمة: هي الإفاضة.

والغفران: الستر.

لأن للممكن - بما هو ممكن - نواقص وقصوراً، ولذا ورد عن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه قال: «وإنه ليُران على قلبي»(1) مما هو لازم الممكن، وإلاّ فهم (علیهم السلام) في أرفع درجات العصمة والكمال، ومن هذه الجهة كان النبي (صلی الله علیه و آله) يستغفر كل يوم سبعين مرة من غير ذنب.

والرضوان: عبارة عن رضاه سبحانه وتعالى، وقد ذكرنا: إن الرضا عبارةعما ذكروه بقولهم: خذ الغايات واترك المبادئ؛ لأن الله سبحانه وتعالى ليس محلاً للحوادث.

ص: 218


1- بحار الأنوار: ج17 ص44 ب15.

..............................

ولعلّ الإتيان بالجمع في بعض الجمل والإفراد في بعض الجمل - مع إمكان تصور كل واحد من الجمع والإفراد في كل الجمل - للتفنن في العبارة، فإنه من أقسام البلاغة، كما نجد ذلك بوفرة في القرآن الحكيم وفي كلماتهم (صلوات الله عليهم) وفي كلمات البلغاء.

وخطاب الله سبحانه وتعالى بصيغة المفرد لا بصيغة الجمع لئلا يتوهم اشتراك غيره معه في ذلك المقام(1) كما في الإنسان حيث إنه يشاركه غيره،وإنما قال سبحانه: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّاله لَحَافِظُونَ»(2) بصيغة الجمع إشارة إلى إشراكه سبحانه وتعالى الملائكة في إنزال الكتاب، ويمكن أن يكون وجهه غير ذلك مما ذكر في علم الكلام والبلاغة.

ص: 219


1- ربما يكون المراد ب (في هذا المقام) الإشارة إلى دفع توهم (إن الملائكة أيضاً يصلّون على النبي (صلی الله علیه و آله) «إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ» - سورة الأحزاب: 56 - .. فأجاب بقوله: (في هذا المقام) إلى أن خصوصية مقامهم (علیهم السلام) وهم تحت الكساء، كان مقام الإفاضة المباشرة منه تعالى وقد طلب الرسول (صلی الله علیه و آله) في مقامه ذلك أسمى مراتبها وأعلى درجاتها فاقتضى ذلك طلب ما هو منه جل وعلا مباشرة، إضافة إلى أن بعض الدعوات الأخر قد يقال باختصاص طلبها منه تعالى فتأمل.
2- سورة الحجر:9.

عَلَيَّ وَعَلَيهِم،

اشارة

-------------------------------------------

الدعاء لأهل البيت (علیهم السلام)

مسألة: يستحب الدعاء لأهل البيت (علیهم السلام) بهذه الكلمات التي دعا (صلی الله علیه و آله) بها: «فاجعل صلواتك وبركاتك ورحمتك وغفرانك ورضوانك عليَّ وعليهم».

ولا يخفى أنهم (علیهم السلام) يمتازون بصلوات ورحمة وبركة وغفران ورضوان خاص من الله سبحانه، لا يشاركهم فيها أحد من الأولين والآخرين.

والرسول (صلی الله علیه و آله) خصّهم (علیهم السلام) بهذا الدعاء مع أنه يستحب الدعاء للجميع لذلك، ولأن المقام يقتضيه، إذ هناك فرق بين المقامات وهذا المقام الذي اجتمع فيه هؤلاء الأطهار (علیهم السلام) فيقتضي الاختصاص(1).وتقديم «عليَّ» باعتبار أنه (صلی الله علیه و آله) أفضلهم، ومن المعلوم أن تقديم الأفضل أولى(2).

وقد قلنا في مبحث آنف: إن الإتيان بلفظ «على» دون «اللام» - مع أن «على» للضرر غالباً و«اللام» للنفع - من جهة إفادة انغماسهم (علیهم السلام) من الرأس إلى أخمص القدم في هذه البركات.

ص: 220


1- لأنه لذلك أوجد ولأجله تكوَّن.
2- وقد سبق من الإمام المؤلف (رحمة الله) بيان جهة أُخرى لذلك أيضاً.

..............................

ويمكن أن يكون الوجه؛ لأن الرحمة وأشباهها تنزل من فوق، وقد سُئل علي (عليه الصلاة والسلام): لماذا يرفع الإنسان يده إلى السماء في الدعاء؟.

فأجاب (علیه السلام) بأحد المصاديق قائلاً: «لقوله سبحانه: «وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ»(1)»(2)، والسماء محل نزول الرحمة والعذاب.

ومن الواضح أن الله تعالى ليس له مكان أو جهة، إلاّ أن التوجه إلى الأعلى لذلك.وربما يضاف: أن التوجه للأعلى أدعى للخشوع والخضوع، وأكثر دلالة على الإجلال والإكبار والاحترام(3)، كما يجد الإنسان ذلك من نفسه، وفي تصرفاته وتصرفات غيره.

ص: 221


1- سورة الذاريات : 22.
2- راجع وسائل الشيعة: ج6 ص487 ب29 ح8509.
3- وربما لذلك جعل الله السماء محل نزول الرحمة والتقديرات، ولكي ينسجم مع طبيعة الإنسان وفطرته.

وَأَذهِب عَنهُمْ

اشارة

-------------------------------------------

علّة تخصيصهم (علیهم السلام) بالدعاء هنا

قد يكون السبب في قوله (صلی الله علیه و آله): «عنهم» دون «عني وعنهم» مع أنه (صلی الله علیه و آله) بالنسبة إلى «صلوات الله وبركاته ورحمته و... » قال: «عليَّ وعليهم» الإشارة إلى أسبقية اتصافه (صلی الله علیه و آله) بالعصمة ولو رتبة (1).

وربما يكون السبب: إرادة تلاوة شبه الآية الشريفة والتي لا يبعد أن يراد بها الأعم.

ومن المحتمل أن يكون وجه عدم ذكر نفسه (صلی الله علیه و آله) وذكرهم (علیهم السلام) أنهم محل توهم وتشكيك بعض الأمة دونه (صلی الله علیه و آله)، حيث إن كثيراً ممن لا يشك في عصمته (صلی الله علیه و آله) يشكك في عصمتهم(علیهم السلام) .. إذ لا يعرف الجميع أن أهل البيت (علیهم السلام) معصومون إلاّ من كلماته (صلوات الله وسلامه عليه) فكان ذلك مدعاةً للتركيز عليهم.

ص: 222


1- ومن فوائد ذلك: كون هذا الطلب والدعاء صادراً عن المعصوم (صلی الله علیه و آله) الذي لا ينطق ولايصمت ولا يتحرك إلاّ بأمره سبحانه وإذنه، فيكون أقوى في الدلالة على عصمتهم (علیهم السلام) طلباً واستجابة.

الرِّجسَ

اشارة

-------------------------------------------

بحث في معنى الرجس والعصمة

مسألة: يجب الاجتناب عن الرجس حدوثاً، ورفعه بقاءً، وقد يكون مستحباً كلٌّ في مورده بالنسبة لكل فرد، واستفادة ذلك من هذه الجملة «وأذهب عنهم الرجس» لفهم الملاك منه(1) بل الأولوية من وجه، ولقرينة دليل الأسوة وغير ذلك.

و(الرجس) عبارة عن القذارة والوساخة، سواءً القذارة المعنوية أم المادية، الشرعية منها، والعرفية مما يستقذره العرف ولا يعدّ في الشرع من النجاسات.

وكذلك الوساخة في النفس نوعان:

وساخة محرمة يجب إزالتها، كوساخة الشرك.

ووساخة مكروهة من الأفضل إزالتها، كالجبن وما أشبه ذلك.

فاللام للجنس (في قوله (صلی الله علیه و آله): الرجس) فيكون دعاؤه (صلی الله علیه و آله) طلباً لإذهاب كل أنواع الرجس عنهم (علیهم السلام) الظاهر منه والباطن، الروحي والجسمي، المادي والمعنوي، المحرم منه والمكروه(2).

ص: 223


1- لتنقيح المناط القطعي.
2- سواء كان رجساً في الفاعل (الرجس الفاعلي) أم في الفعل (الرجس الفعلي) كما عبر في نظيره بالمعصية الفعلية والفاعلية.

..............................

وهذا يدل على ما فوق العصمة؛ لأن العصمة عبارة عن الاعتصام عن الذنب والسهو والخطأ والنسيان والجهل وما أشبه ذلك، والإطلاق يدل على ما فوق ذلك ويشمل حتى ترك الأولى، وقد ذكرنا في بعض الكتب الكلامية أنهم (عليهم الصلاة والسلام) منزهون عن ترك الأولى أيضاً.

بل قلنا: ببراءة الأنبياء (علیهم السلام) من ترك الأولى وإن نسب إليهم على قول مشهور، لكننا هناك نفينا ترك الأولى بالنسبة إلى الأنبياء (علیهم السلام) أيضاً (1)، وبيّنا أن ما ظهر منهم من بعض الأعمال والآثار فإنما هو من باب المقتضيات المخفية، مثلاً:في قوله سبحانه: «عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى»(2) المراد به: المعنى المجازي(3) لا الحقيقي، فإنه لم يكن عصياناً - على ما حققناه - لا بالمعنى اللغوي ولا بمعنى ترك الأولى، وإنما كان مقدراً من الله سبحانه وتعالى أن يفعل ذلك حتى ينزل إلى الأرض؛ لأن آدم (علیه السلام) خُلق للأرض(4) كما في قوله سبحانه:

«إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً»(5).

ص: 224


1- أي مضافاً إلى نفي المعصية ونفي المكروه، فقد قلنا بنفي ترك الأولى عنهم (علیهم السلام) أيضا.
2- سورة طه: 121.
3- ربما يكون المراد نظير الأوامر الامتحانية، أو المراد: إن ما جرى كان شيئاً صورياً تمثيلياً، وقد يكون مراده من (المقتضيات المخفية) ذلك.
4- وفي حديث الإمام الرضا (علیه السلام): «... فإن الله عزوجل خلق آدم حجة في أرضه وخليفة في بلاده ولم يخلقه للجنة ... »، راجع عيون أخبار الرضا (علیه السلام): ج1 ص193 ب14 ح1.
5- سورة البقرة: 30.

..............................

وإنما أُسكن (علیه السلام) أولاً في الجنة، فلكي يخرج منها، فيتذكر محله فيها ويبكي وينقطع إلى الله سبحانه وتعالى أكثر فأكثر، ويكون ميله وميل ذريته إلى الرجوع إلى الله سبحانهوتعالى في جنته أكثر فأكثر(1).

وهكذا بالنسبة إلى كل نبي نبي (علیهم السلام).

وعلى أي حال، فهذا بحث كلامي لا يرتبط بالمقام، وإنما ذكرناه استطراداً وإلماعاً فقط.

ص: 225


1- وهناك جواب آخر في حديث الإمام الرضا (علیه السلام) - في حديث طويل جواباً على شبهة رجل - قال (علیه السلام): «... أما قوله عزوجل في آدم: «وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى» - سورة طه:121 - ف ... كانت المعصية من آدم في الجنة لا في الأرض، وعصمته تجب أن تكون في الأرض ليتم مقادير أمر الله عزوجل، فلما أُهبط إلى الأرض وجُعل حجة وخليفة عصم بقوله عزوجل: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً... » - سورة آل عمران: 33 - راجع عيون أخبار الرضا (علیه السلام): ج1 ص193 ب14 ح1.

وَطَهِّرهُم تَطهِيراً.

اشارة

-------------------------------------------

الطهارة والتطهير

مسألة: يستحب - أو يجب - الطهارة والتطهير مطلقاً، ودليل التعميم قد سبق، وحيث إن للطهارة مراتبَ فيكون الرجس وما عدا المرتبة الدنيا من الطهارة واسطة، بأن لا يكون رجس ولا تكون طهارة برتبها ودرجاتها الرفيعة.

فلا يكون - على هذا - «وطهّرهم تطهيراً» من باب التأكيد، وإنما يفيد معنى جديداً، وهو ارتفاعهم (علیهم السلام) إلى غاية مراتب الطهارة.

فإنه لو اكتفى النبي (صلی الله علیه و آله) بقوله: «أذهِب عنهم الرجس» لَتُوهم الاكتفاء بإذهاب الرجس فقط بدون الارتفاع إلى أسمى مراتب الطهارة.

وبذلك يظهر أن قوله (عليه الصلاة السلام): «تطهيراً» يفيد أيضاً هذا المعنى، فهناك إذهاب الرجس، وهناك التطهير في أعلى درجاته، وهناك «تطهيراً» الذي هو أقصى درجات الطهارة (1).هذا وإن كان من الممكن أن يكون «تطهيراً» للتأكيد.

ثم إن أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) خلقوا أطهاراً، فليس المراد بطلب الإذهاب: الرفع، بل الدفع(2) إذ لم يكن فيهم (علیهم السلام) رجس حتى يطلب إزالته.

ص: 226


1- يستفاد إرادة الدرجات العليا من الطهارة: من الإطلاق، ومن السياق، ومن القرائن المقامية والخارجية الأخرى.
2- الرفع: إزالة ما هو موجود، والدفع: الحيلولة دون وجوده. فلو تمرض زيد وعولج كان هذا رفعاً، أما لو كان في معرض التمرض والوباء فلقح بالمضادات من قبل كان هذا دفعاً.

..............................

وكذلك المراد ب «التطهير» خلقه طاهراً، وقد يكون المراد بذلك الاستمرار، كما قال علي (عليه

الصلاة والسلام) بالنسبة إلى قوله سبحانه: «اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ»(1) بمعنى: طلب استمرار الهداية، فإن ممكن الوجود بما هو هو في كل لحظة معرض للطرفين، وإنما يميل إلى الطرف الأرفع بلطف الله سبحانه وتعالى، كما يميل إلى الطرف الأنزل بخذلانه، فالإنسان في كل لحظة بحاجة إلى هداية وتسديد جديد من الله تعالى، فالمطلب ابتدائي في بعضواستمراري في بعض، سواء أخذ جانب الطهارة أم جانب النجاسة، الأول في المعصومين (علیهم السلام) وفي المؤمنين، والثاني في الكفار والمنافقين والفساق.

وقد ذكروا أن مَثَل الكون بالنسبة إلى الله سبحانه كمَثَل الصور الذهنية بالنسبة لنا ففي كل لحظة تحتاج إلى عناية وإفاضة، وإلاّ انهدمت واضمحلت، إذ البقاء بالغير لا بالذات كالحدوث.

اتصافهم (علیهم السلام) بجميع الفضائل

مسألة: يجب الاعتقاد بأن أهل البيت (علیهم السلام) متصفون بجميع الفضائل والكمالات وأعلى مراتب الطهارة.

ص: 227


1- سورة الفاتحة.: 6.

فَقالَ الله

اشارة

-------------------------------------------

كلام الله سبحانه

كلام الله سبحانه(1)

مسألة: يجب الاعتقاد بأن الله تعالى متكلّم بالمعنى الصحيح لذلك، وقد ثبت في علم الكلام أن الله سبحانه وتعالى لا يتكلم كتكلمنا بفم وشبهه، لاستحالة ذلك في حقه؛ لأنه تعالى ليس بجسم، ولا هواء هناك، إلى غير ذلك من شرائط الكلام المعهود المفقودة في ساحته المقدسة.

بل يراد بالقول:

إما خلق الصوت كما التزموا بذلك في قوله سبحانه: «وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً»(2)..

وإما إيجاد علامة دالة على ذلك في اللوح بسبب القلم، وقد روى الصدوق (قدس سره) أن «اللوح والقلم ملكان»(3)أو ما أشبه ذلك.

وقد ألمعنا سابقاً إلى أن القول في اللغة العربية يطلق على اللفظ وعلى الفعل(4)، ولذا يقولون: «قال بيده كذا» فيما لو أشار بيده، و«قال برأسه كذا»

ص: 228


1- حول هذا المبحث راجع (شرح التجريد)، و(شرح المنظومة) للإمام المؤلف (قدس سره).
2- سورة النساء: 164.
3- الاعتقادات في دين الإمامية للشيخ الصدوق: ص22 ب12.
4- ولو فرض كون هذا الإطلاق مجازياً للتبادر، ولعدم الالتزام بالوضع التعيني اللاحق فإنه لابد منه هاهنا بعد تعذر الحقيقة كما لا يخفى.

..............................

فيما أشار برأسه، و«قال برجله» إذا مشى. وكذلك بالنسبة إلى الكتابة ولذا يقولون: قال المفيد (قدس سره) وقال الصدوق (قدس سره)، مع أنهما إنما كتبا ذلك المنقول عنهما في كتبهما، ولا لفظ ولا إشارة بإحدى الجوارح ها هنا.

والفاء في «فقال الله» تكشف عن مدى قرب الرسول (صلی الله علیه و آله) من الله سبحانه وتعالى حيث استجاب له دعاءه دون إبطاء، إذ الفاء للترتيب باتصال.

لا يقال: أحياناً لا يؤتى حتى بالفاء، كما في قوله سبحانه: «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ»(1) فلم يقل هناك: فأستجبلكم، فلماذا جاء بالفاء هنا(2)؟.

لأنه يقال: لعلّ الوجه في الإتيان بالفاء ها هنا الإشارة إلى تعقب طلبه ودعائه (صلی الله علیه و آله) بإحضار الله سبحانه وتعالى الملائكة - ولو إحضاراً قلبياً وإلفاتياً - وبعدها كان تكلمه تعالى بهذا الكلام.

فتكون الفاء للإشارة إلى هذا الإحضار، مع وضوح أن الملائكة بكثرة هائلة بحيث لا يعلم أعدادهم ومواقعهم وخصوصياتهم النفسية وغيرها إلاّ الله سبحانه وتعالى، فإنه وإن كان من الممكن بالنسبة إليه سبحانه وتعالى أن يلفتهم إلى ذلك في جزء من لحظة إلاّ أنه ربما يكون قد أشار بالفاء إلى هذا الإحضار المتوسط بين الدعاء وبين الاستجابة(3).

ص: 229


1- سورة غافر: 60.
2- مع دلالتها على نوع من الترتيب أو التعقيب والمكث وإن كان قليلاً جداً، إذ هي للترتيب باتصال في قبال ثم، لا في قبال عدم الفصل بشيء أبداً (بين المقدم والتالي).
3- المشعر بنوع من الفصل والتعقب.

عَزَّوَجَلَّ:

اشارة

-------------------------------------------

معنى العزة والجلالة

مسألة: يستحب أن يردف اسم الجلالة بما يدل على التجليل والتعظيم، مثل كلمة (عزوجل)، كما قالت (سلام الله عليها): «فقال الله عزوجل».

وكذلك كلمة: (تبارك اسمه)، و(تعالى جده)، و(عز من قائل)، وما أشبه ذلك.

وهل كلمة (عزوجل) أقوى دلالةً من تلك الكلمات أو أنها متساوية، وإنما ذكرت (عليها الصلاة والسلام) هذه الكلمة من باب أحد المصاديق؟ احتمالان.

ثم إن العزة عبارة عن قلة الوجود(1) وكثرة الفائدة والرفعة والقوة والغلبة(2)، ولذا لا يقال للماء: (عزيز) فيما إذا كان متوافراً أو قليلالفائدة(3)، وكذلك لا يقال للهواء أو الشمس ذلك.

وحيث إن الله سبحانه وتعالى متفرد ليس كمثله شيء، ورفيع وقوي وغالب، فهو العزيز الأوحد، ولذا قال سبحانه: «مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَللهِ

ص: 230


1- عز: قل فلا يكاد يوجد، والعزيز النادر.
2- العزيز: القوي الغالب على كل شيء والممتنع فلا يغلبه شيء والذي ليس كمثله شيء. والعزة: الشدة، الغلبة، الرفعة، الامتناع، القوة، قلة الشيء حتى لا يكاد يوجد، قال في لسان العرب: وهذا جامع لكل شيء.
3- قد يكون هذا بلحاظ المتفاهم العرفي أو بلحاظ الدلالة الالتزامية.

..............................

الْعِزَّةُ جَمِيعاً»(1) لوضوح أن كل عزة في الكون فمن فضل الله تعالى حتى العزة الظاهرية لمن لا يستحق العزة الحقيقية كالملوك الجبابرة.

ومعنى «جلّ»: إنه عظم عن إدراك الإنسان له بالعين أو بالظن أو بالوهم وشبه ذلك، إذ من الواضح أن ذلك من المحال، إذ لا يمكن استيعاب الإنسان المحدود لغير المحدود وهو الله سبحانه وتعالى، فلا يعقل أن يستوعب المتناهي اللا متناهي.

وهذا أبعد من استيعاب الصغير للكبير، كاستيعاب الآنية لماء البحر، إذ كلا الطرفين محدود، وما نحن فيه أحدهما غير محدود.وكلا القسمين وإن كان محالاً، إلاّ أن للمحال أيضاً مراتب، فبعضها أشد (أو أوضح) استحالة من بعض(2). كما أن للممكن أيضاً مراتب(3).

وإن كان هذا الكلام من ضيق اللفظ، وإلاّ فالمحال محال والممكن ممكن على أي حال، فليتأمل.

ص: 231


1- سورة فاطر: 10.
2- يمكن التمثيل له بتسلسل الآحاد والعشرات فكلاهما لا متناهي إلاّ أن أحدهما أكثر من الآخر وكلاهما محال، وكذا تسلسل المتناقضين - أي سلسلة حلقاتها عبارة عن نقيضين مجتمعين - وتسلسل غيرهما إذ الأول محال في محال.
3- ربما يكون المراد الإمكان الوقوعي، وربما يكون مبنياً على أصالة الوجود، فيكون الإمكان فقرياً ذا مراتب، أما على أصالة الماهية وتفسير الممكن بالمتساوي النسبة للطرفين فلا محيص عن الالتزام بكون المراد الوقوعي، فتأمل.

يَا مَلائِكَتي ، وَيا سُكَّانَ سَماواتي،

اشارة

-------------------------------------------

بيان الحقائق

مسألة: يستحب أو يجب - كل في مورده - بيان الحقائق التكوينية والتشريعية للآخرين، كما بيّن الله سبحانه لملائكته الحقيقة الآتية.

ولا يبعد أن يكون المراد بالملائكة كل الملائكة لا الرسل منهم فحسب، وإن كان لفظ (الملك) مشتقاً من (الألوكة) التي هي الرسالة، لكن ذلك بحسب الأصل، ثم غلب استعماله على كل ملائكة الله سبحانه وتعالى ممن ليسوا من جنس الإنس أو الجن، فاللفظ من باب (العَلَم بالغلبة)، فتأمل.

وقد يصير علماً بالغلبة *** مضافً أو مصحوب أل كالعقبة (1)

سكان السماء

وهذا (2) قد يكون من باب عطف الخاصعلى العام، باعتبار أن سكان السماوات منهم لهم خصوصية خاصة.

ولا يصح أن يكون «سكان سماواتي» بمنزلة عطف بيان ل (الملائكة) - من باب عطف المساوق على المساوي - لعدم انحصار الملائكة بسكان السماوات إلاّ أن

ص: 232


1- ألفية ابن مالك.
2- أي قوله: «ويا سكان سماواتي».

..............................

يقال: إن كل الكون - مقابل الآخرة - سماوات؛ لأن الأرض أيضاً كوكب في السماء.

ومن الممكن أن يكون من باب عطف المباين إذا كان المراد بسكان السماوات سائر من سكن السماوات من المخلوقات غير الملائكة؛ لأن لله سبحانه وتعالى مخلوقات كثيرة جداً لا نعرفها حتى بالاسم فكيف بالكُنه أو الصفة والخصوصية، فإذا كانت علومنا بالنسبة إلى الإنسان والنبات والحيوان محدودة جداً حتى أنها لا تبلغ جزءً من ألف ألف مليون من الواقع، فكيف بما هو غائب عن حواسنا؟.

وقد ذكر العلماء أن ما اكتشفوه من أنواع الموجودات في الكرة الأرضية قد بلغ الثلاثين مليون قسماً وهذا هو مبلغهم من العلم وأغلبه بنحو الإجمال الشديد، أما ما لم يطلعوا عليه فلعلهأضعاف أضعاف ذلك خصوصاً مما في البحار مما لا يخفى كثرة، وقد ورد في الدعاء: «يا من في البحار عجائبه»(1)، وكذلك في عالم الجراثيم وشبهها.

وربما كانت هناك عوالم أخرى على أرضنا - في أبعاد أخرى أو لا - لا نعلم عنها أي شيء إطلاقاً، أو لا يمكن لنا معرفتها أبداً إلاّ بحواس أخرى أو شرائط مجهولة. فإذا كان هذا حال الأرض فما حال السماوات ومجاهيلها والتي قال عنها تعالى: «وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ»(2).

ص: 233


1- البلد الأمين: ص407 دعاء الجوشن الكبير.
2- سورة الذاريات: 47.

إِنّي ما خَلَقتُ سَماءً مَبنَّيةً،

اشارة

-------------------------------------------

التذكير بعظمة الله

مسألة: من اللازم التفكر والتذكير بعظمة الله تعالى في ذاته وأفعاله، في كل موطن مناسب.

ولعلّ التعبير عنها بوصف «مبنية» بلحاظ بنائها بنحو خاص حيث يعتمد نظام الكواكب والأقمار والمجراتوثباتها وديمومتها على (الجاذبة) بين الأجرام و(الدافعة) الناتجة من الحركة وغيرها على ما هو مفصل في محله، ولذلك خصها الله تعالى بوصف «مبنية»، وربما يكون إشارة إلى قوله سبحانه: «وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ»(1).

و«بأيد»: أي بقوة؛ لأن اليد مظهر القوة ووسيلة ظهورها، ولهذا تشبه كل قوة باليد.

ومعنى «إِنَّا لَمُوسِعُونَ»: إنا نوسع في السماء كما دل على ذلك العلم، فقد ثبت في العلم الحديث(2) أن السماء في حالة توسع مستمرة، وذلك كما أن الإنسان مثلاً في توسع مستمر في مختلف أبعاده في العلم والقوة والصناعة وغير ذلك.

وقد ذكر العلماء: إن عدداً من الأنجم والمجرات التي تستوعب ملايين

ص: 234


1- سورة الذاريات: 47.
2- راجع كتاب بصائر جغرافيا وغيره.

..............................

الملايين من الأنجم والبعيدة عنا آلاف الملايين من السنين الضوئية تتباعد بعضها عن بعض بسرعة كبيرة جداً (1).

التأنيث في (مبنية)

ثم إن (السماء) يذكّر ويؤنّث، كما ذكره أدباء علم العربية، ومن الممكن أن يكون باعتبار أن (السماء) بمنزلة الجمع معنىً، وذلك مثل (حسنة) في قوله سبحانه: «رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً»(2)، ومن المعلوم أنه ليس المراد حسنة واحدة، وإنما المراد جنس الحسنة.

فقد ذكرنا في (الأصول) أن المفرد حتى بدون اللام قد يأتي للجنس، مثل قولهم: تمرة خير من جرادة، فليس المراد إن تمرة خاصة أو جرادة خاصة، بل هذا الجنس وهذا الجنس، ومثل: مؤمن خير من كافر، إلى غير ذلك من الأمثلة الواردة في الكتاب والسنة واللغة العربية.

والمراد بالسماء: السماوات، والتعبير بالسماوات في قوله سبحانه: «يا سكان سماواتي»، وبالسماء في قوله:«إني ما خلقت سماءً مبنية» إما للتفنن، وإما لبعض الخصوصيات، كما أشرنا إليه في البحث الآنف.

ص: 235


1- قد تبلغ أحيانا المائة وخمسين ألف كيلومتر في الثانية الواحدة بل أكثر. - راجع التكامل في الإسلام: ج7 ص179 بحث أين تكون الجنة والنار؟ ؟؟والمصدر: ج6 ص37 «ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ».
2- سورة البقرة: 201.

وَلاَ أرضاً مَدحيَّةً،

اشارة

-------------------------------------------

دحو الأرض وحركاتها

مسألة: من اللازم تعلّم العلوم الطبيعية بالمقدار الذي ينفع لفهم آيات القرآن الكريم والأحاديث الشريفة التي تشير إلى تكلم الحقائق الكونية في مختلف الأبعاد.

ويدل هذا الحديث على ما دلت عليه الآيات والروايات الأخرى من (دحو الأرض)، فإن الأرض دحيت من تحت الكعبة(1).

ومعنى (الدحو): البسط والقذف(2).

وفي الدعاء: «اللهم سامك المسموكات وداحي المدحوات»(3).وهذه الجملة تدل على أن الأرض في حالة دحو وحركة(4)، وقد ذكروا: إن للأرض حركة وضعية وحركة انتقالية، إلى غير ذلك.

ص: 236


1- ثواب الأعمال: ص79 ثواب من صام يوم خمس وعشرين من ذي القعدة.
2- «وَالأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحَاهَا» - سورة النازعات: 30 - أي بسطها، والدحو: الرمي بقهر - مجمع البحرين مادة دحا -.
3- مستدرك الوسائل: ج5 ص342 ب32 ح6051.
4- الاستدلال قد يكون بلحاظ سياق ما سبق، وسيأتي (لكون كلها للاستمرار) أو بلحاظ دلالة هذا الوصف على الاستمرار، فتأمل.

..............................

وهل المراد بالأرض أرضنا فقط، أو كلّ أرض في قبال كلِّ سماء، فقد سُئل علي (عليه الصلاة والسلام) عن النجوم؟.

فقال (علیه السلام): «إنها مدن كمدنكم»(1).

يحتمل الأمران.

فالانصراف يشهد للاحتمال الأول.

وإرادة العموم، كما يظهر من كونها نكرة في سياق النفي، وكذلك سياق الحديث يدل على الاحتمال الثاني.

والقرينة مع الثاني على الأول، فيكون المراد بالأرض كل الأراضي على ما ذكرناه في كلمة: (السماء) لا أرضنا فقط.

ص: 237


1- راجع تفسير القمي: ج2 ص218-219 خبر عمران الكواكب.

وَلاَ قَمَراً مُنيراً، وَلاَ شَمساً مُضيِئةً،

اشارة

-------------------------------------------

التفصيل عند الخطاب

مسألة: من الراجح التفصيل عند الخطاب إذا كان مناسباً، وعدم الاكتفاء بالإشارة الإجمالية، كما قال الله سبحانه: «إني ما خلقت سماءً مبنية - إلى قوله تعالى - ولا فلكاً يسري»، ولم يقل: «إني ما خلقت شيئاً» أو شبه ذلك.

وهل المراد بالقمر قمرنا الكائن في مدار الأرض، أم كل قمر في الكون، فقد ثبت في العلم الحديث أن لجملة من الأنجم أيضاً أقماراً.

الاحتمالان المذكوران آنفاً يردان هنا أيضاً.

ولعل الفرق بين (المنير) وبين (المضيئة) أن النور هو الانعكاس والضوء هو الأمر الطبيعي، وإن كان يطلق كل واحد منهما على الآخر إذا أُفرد بالذكر.

والاحتمالان واردان أيضاً في كلمة «شمساً مضيئة»، فهل هي شمسنا أم كل الشموس؟ لأن الله سبحانه وتعالى خلق شموساً كثيرة جداً، كما ثبت ذلك فيالعلم الحديث.

ص: 238

وَلاَ فَلَكاً يَدُورُ،

اشارة

-------------------------------------------

معنى الفلك

الفَلَك ليس بجسم(1) وإنما هو عبارة عن مدارات قررها الله سبحانه وتعالى حسب موازين خاصة تدور فيها وبها الأقمار وشبهها من الأجرام السماوية.

وأما ما ورد من أن السماء الأولى كذا، والسماء الثانية كذا، وهكذا، فالمراد تشبيهات دقيقة.

وقد فصل جملة منها السيد الشهرستاني (قدس سره)(2) في كتابه:

ص: 239


1- كان بعض قدماء المنجمين يرى أن المدارات هي أجرام ركبت فيها النجوم.
2- العلامة حجة الإسلام والمسلمين محمد علي بن حسين بن محسن بن مرتضى الحسيني الشهير بهبة الدين الشهرستاني. ولد سنة 1301ه في سامراء، وتلقى العلوم الابتدائية فيها وفي موطن آبائه كربلاء المقدسة، ثم انتقل سنة 1320ه إلى النجف الأشرف لتكميل دراسته العالية وفي أثناء ذلك انتشرت مؤلفاته، ثم أنشأ مجلة (العلم) سنة 1328ه لمدة سنتين وهي أول مجلة عربية ظهرت في النجف. هاجر في سنة 1330ه وقام بسياحة واسعة النطاق في السواحل العربية والبلاد الهندية وغيرها وأنشأ في خلال ذلك الجمعيات، ثم عاد سنة 1330 ه إلى النجف الأشرف فصادف في ذلك إعلان الحرب العظمى فأصبح قائداً لجيش المجاهدين إلى الشعيبة - مدينة صغيرة واقعة بقرب البصرة - في أول سنة 1332ه وبقي كذلك إلى حين احتلال البريطانيين لبغداد فاعتزل السياسة، وقام بتدريس التفسير في كربلاء المقدسة حتى التهبت نيران الثورة العراقية الأولى في شوال سنة 1338ه فكان فيها الركن المهم حتى قبض عليه في أوائل صفر سنة 1339ه وأعتقل ومن معه من أركان الثورة وحكم عليه بالإعدام ثم أفرج عنهم بالعفو العام الذي صدر في شوال من ذلك العام. عندما تشكلت الحكومة العراقية الدستورية الوطنية عين وزيراً للمعارف العراقية في محرم سنة 1340ه، ثم استقال من الوزارة النقيبية في ذي الحجة ذلك العام وعهدت إليه رئاسة مجلس التمييز الشرعي الجعفري لتمييز أحكام القضاة الشرعيين منذ تشكيله في محرم سنة 1342ه إلى سنة 1353ه، ثم انتخب نائباً عن لواء بغداد سنة 1354ه. له مؤلفات كثيرة مخطوطة ومطبوعة منها: (ثقات الرواة)، و(الساعة الزوالية)، و(منظومة مواهب المشاهد في أصول العقائد)، و(الهيئة والإسلام)، و(رواشح الفيوض) في العروض، و(صدف اللآلي)، و(جداول الرواية)، و(التنبه في تحريم التشبه بين الرجال والنساء)، و(توحيد أهل التوحيد)، و(الدلائل والمسائل)، و(ما هو نهج البلاغة). توفي (رحمة الله) في سنة 1386ه.

..............................

(الهيئة والإسلام)(1).ومن معاني الفَلَك: المستدير(2)، ولو أريد به ذا كان المراد به ما عدا الشمس والقمر، أو الأعم. ولربما أشعر بحركة كل الأفلاك، ويكون وصفه ب «يدور» مؤيداً لهذا المعنى، فتأمل.

ص: 240


1- للعلامة السيد هبة الدين الشهرستاني الحائري، يبحث عن المسائل الفلكية وكشفيات علماء الإفرنج في العلوم الطبيعية، استخرج مؤلفه (رحمة الله) فيه الهيئة الجديدة عن ظواهر القرآن والحديث، وقد طبق فيه المسائل الفلكية في نظر الأولين القدماء ثم علم الفلك الطلميوسي ثم الهيئة الإفرنجية الجديدة وكيفية تطبيق ذلك على ما ورد من الشرع في الكتاب والسنة، وقد ضمنه المؤلف بعض النقوش الفلكية، والكتاب برهان قاطع على حقانية الإسلام، فرغ منه سنة 1327ه وطبع سنة 1328ه. ترجم إلى لغات مختلفة الأردوية والفارسية قامت مطبعة الآداب - بغداد بطبعه فانتشر سريعاً للحاجة إليه ثم أعيد طبعه عدة مرات، وقد اختصره المؤلف تحت عنوان: (مختصر الهيئة والإسلام) وهو نصف أصله المطبوع، ثم كتب (رحمة الله) له مفصلاً أسماه: (مفصل الهيئة والإسلام) وهو أحسن ترتيباً من (الهيئة والإسلام) وفي ثلاثة أضعافه تقريباً. كتب عدد من العلماء تقاريظ على هذا الكتاب وقد طبعت هذه التقاريظ في رسالة مستقلة في لاهور تحت عنوان: (تقاريظ العلماء الأعلام على كتاب الهيئة والإسلام) بعد ما جمعها السيد محمد سبطين منشئ مجلة (البرهان) وترجمها بالأردوية.
2- مجمع البحرين: مادة فَلَك.

وَلاَ بَحراً يَجري

اشارة

-------------------------------------------

جريان البحر

يدل هذا الحديث على وجود جريان وحركة خاصة للبحار، ولعله جريانها بين الصعود باتجاه السماء ثم الهبوط، إن لم يكن خلاف المنصرف.

وربما يكون المراد بالجريان: جريانها حسب المد والجزر، لكنه قد يكون خلاف ظاهر (الجريان) الذي يقتضي حركة غير موضعية(1)، وربما يكون المراد وجود جريانات خاصة كجريان الأنهار(2) فليتأمل.

ثم إن ذكر الصفات ك «مبنية»، و«مدحية»، و«منيراً»، و«مضيئة»،

و«يدور»، و«يجري»، إنما هو لأجل التأكيد على القدرة؛ لأن ذوات هذه الأشياء برهان على قدرة عظمى، وصفاتها دليل على قدرة عظيمة أخرى.

ص: 241


1- في المصباح: الماء الجاري هو المتدافع في انحدار واستواء.
2- ثبت علمياً وجود تيارات قوية وكثيرة تحت سطح الماء، كما ثبت وجود أنهار عديدة - بعضها عذبة - تتحرك تحت البحار، وربما يكون (فليتأمل) إشارة لملاحظات على الاحتمالات الثلاثة.

وَلاَ فُلكاً يَسري،

اشارة

-------------------------------------------

المؤثر في الوجود هو الله

المؤثر في الوجود هو الله(1)

مسألة: يجب الاعتقاد بأنه ليس المؤثر حقيقةً في الوجود سواه تعالى، ولا فاعلَ واقعي عداه، ولذلك قال تعالى: «إني ما خلقت سماءً مبنية ... ولا فلكاً يسري»، حيث الأصل والوصف(2) مخلوقان له تعالى، فإن الفُلك لا يسري في البحر بسبب السُفّان والرُبّان وشبههما، وإنما الله سبحانه وتعالى هو المسِّير والميسِّر، والفلك وما أشبهه من الأسباب الظاهرية التي قدرها جل وعلا.

وقد تقدم الإلماع إلى أن كل شيء ظاهر في هذه الحياة الدنيا له واقع بيد الله سبحانه وتعالى، ومَثَل إرادته مَثَل تيار الكهرباء - ولا مناقشة في الأمثال - حيث إن التيار الكهربائي لو انقطع ولو آناً مّا انعدم الضياء وتعطل كل ما يتحرك بالكهرباء، وقد مثّلجماعة من الحكماء إرادة الله سبحانه وتعالى في الخلق بالصورة الذهنية الجزئية، والمعاني الجزئية التي تكون في الذهن(3)، حيث إن انصراف الذهن ولو لحظة عن تلك الصور يوجب انعدامها فوراً، كما أشرنا إليه سابقاً.

ص: 242


1- يراجع (القول السديد في شرح التجريد)، و(شرح المنظومة) للمؤلف (قدس سره).
2- المراد بالأصل: (الفلك)، وبالوصف: (يسري).
3- الصور الذهنية وليدة القوة المتخيلة (بمعنى أنها تدرك الصور الحسية)، والمعاني الجزئية وليدة القوة المتوهمة على اصطلاحهم.

إِلاَّ في مَحَبَّةِ هؤُلاءِ

اشارة

-------------------------------------------

الغاية من الخلقة

الغاية من الخلقة(1)

السبب في الإفاضة والخلقة هو محبة النبي وأهل بيته (صلوات الله عليهم أجمعين) كما يشهد له هذا الحديث: «إلاّ في محبة(2) هؤلاء الخمسة» ونظائره.

وذلك كما أن ربّ البيت يقوم بدعوةالعديد من الناس عند دعوته عظيماً من العظماء إكراماً له ف (لأجل عين ألف عين تكرم) بمعنى أن الله سبحانه وتعالى لما أحبهم(3) خلق الخلق لأجلهم (علیهم السلام)، وقد قال سبحانه: «كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لكي أعرف»(4)، ومن الواضح أن محبة الله لكي يعرف ليس لأجل نقصه؛ لأنه ليس بناقص حتى يكمله شيء، وإنما لأجل العطاء والإعطاء(5).

ص: 243


1- راجع بحث (المحبة ودورها في التكوين والتشريع).
2- (في) تأتي للظرفية وللسببية أيضاً كما في الحديث: «دخلت امرأة النار في هرة ربطتها ... » - مستدرك الوسائل: ج8 ص303 ب44 ح9505-.
3- حيث إن الصفات النفسية التي تسند إلى الله سبحانه يراد بها نتائجها وغاياتها، فالمراد بمحبته لهم ترتيب آثارها ومنها: العناية والإفاضة على المحبوب بشتى أنواع الإفاضة بإعطائه قصوى درجات الكمال وتوخي رضاه، ولذا ورد: «إن الله يرضى لرضا فاطمة» - راجع الأمالي للمفيد: ص95 المجلس11 ح4 - وقبول شفاعته و...
4- بحار الأنوار: ح84 ص199 ب12 ح6 بيان.
5- وهؤلاء الأطهار (علیهم السلام) هم وسائط الفيض ووسائط العطاء والإعطاء.

..............................

ويدل على كونهم (علیهم السلام) العلة الغائية للخلقة، وأنه لولاهم (علیهم السلام) لما خلق الله تعالى العالم، روايات عديدة من كتبنا ومنكتب العامة أيضاً.

فعن أبي هريرة، عن النبي (صلی الله علیه و آله)، أنه قال: «لما خلق الله تعالى آدم أبو البشر ونفخ فيه من روحه، التفت آدم يمنة العرش فإذا في النور خمسة أشباح سُجّداً ورُكّعاً. قال آدم: يا رب، هل خلقت أحداً من طين قبلي؟.

قال: هؤلاء خمسة من ولدك لولاهم ما خلقتك، هؤلاء خمسة شققت لهم خمسة أسماء من أسمائي، لولاهم ما خلقت الجنة ولا النار ولا العرش ولا الكرسي ولا السماء ولا الأرض ولا الملائكة ولا الإنس ولا الجن ... يا آدم، هؤلاء صفوتي من خلقي بهم أُنجيهم وبهم أهلكهم ... »(1).

وعن ابن مسعود: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «لما خلق الله آدم ونفخ فيه من روحه عطس آدم، وقال: الحمد لله. فأوحى الله تعالى إليه: حمدني عبدي، وعزتي وجلالي لولا عبدان أريد أن أخلقهما في دار الدنيا ما خلقتك.

قال: إلهي فيكونان مني؟.

قال: نعم يا آدم، ارفع رأسك وانظر. فرفع رأسه فإذا مكتوب علىالعرش: لا الله إلا الله، محمد نبي الرحمة، وعلي مقيم الحجة، من عرف حق علي زكى وطاب ... »(2).

ص: 244


1- راجع بحار الأنوار: ج27 ص5 ب10 ح 10.
2- نهج الحق: ص232 المبحث الخامس في ذكر بعض الفضائل التي تقتضي وجوب إمامة أمير المؤمنين (علیه السلام).

..............................

وعن جابر بن عبد الله الأنصاري: عن رسول الله (صلی الله علیه و آله)، عن الله تبارك وتعالى أنه قال: «يا أحمد، لولاك لما خلقت الأفلاك، ولولا علي لما خلقتك، ولولا فاطمة لما خلقتكما»(1).

وهنا يمكن أن يقال(2): العلة الغائية - وهي الداعي لفاعلية الفاعل - لخلقتنا هي محبة الأئمة (علیهم السلام) ومعرفتهم، والعلة الغائيةلمحبتهم ومعرفتهم هي معرفة الله سبحانه، إذ هم (علیهم السلام) الأدلاّء على الله وهي الكمال الأكبر، فمعرفتهم (علیهم السلام) طريق الكمال والتكامل، وبذلك يجمع بين الروايتين(3).

ص: 245


1- عوالم العلوم: ج11ص26 ب3 ح1، تحقيق مؤسسة الإمام المهدي (علیه السلام). نقلاً عن (الجنة العاصمة) عن (كشف اللآلي) لابن العرندس. ومما يشير إلى ذلك قوله (صلی الله علیه و آله): «أنا شجرة وفاطمة أصلها وعلي لقاحها والحسن والحسين ثمرها» - راجع الأمالي للمفيد: ص245 المجلس28 ح5 -.
2- الفرق بين هذا وسابقه: إن الأول باعتبار إضافة المحبة إلى الله، والثاني باعتبار إضافتها للخلق (إلاّ في محبة) أي محبة لهؤلاء أو محبة الخلق لهم، أي السبب في الخلقة إرادة محبة الخلق لهم ومعرفتهم بهم (علیهم السلام) فليدقق.
3- أي بين (إلاّ في محبة هؤلاء الخمسة) التي تقتضي أن سبب الخلقة محبتهم (علیهم السلام)، و(فخلقت الخلق لكي أعرف) [بحار الأنوار: 87/199 ب 12 ح 6 بيان« التي تدل على أن السبب معرفة الله.

..............................

محبة أهل البيت (علیهم السلام)

مسألة: من الضروري بيان الغاية من الخلقة للناس، كما تجب محبة أهل البيت (علیهم السلام) للآيات والروايات المتواترة، ومنها مقاطع عديدة من هذا الحديث، وفي هذا المقطع أيضاً دلالة على ذلك، إذ من الواضح أنه لو كان السبب في الخلقة هو محبة هؤلاء (عليهم الصلاة والسلام) كان حبّهم لازماً، لدلالة الاقتضاء العرفي على ذلك، وقد ذكرنا في بعض المباحث الفرق بين الاقتضاء العرفي والاقتضاء الأصولي الذي هو ما يتوقف صدق الكلام أو صحته عليه.

ولا يخفى أن حبهم (عليهم الصلاة والسلام) على نوعين:

حب ناقص: وهو مجرد المحبة القلبية بدون عمل.

وحب كامل: وهو المحبة القلبية مع عمل الجوارح.

فمن أحبهم (علیهم السلام) بلا عمل جوارحي كان فاسقاً، ومن لم يحبهم كان منحرفاً زائغاً، وقد قال سبحانه: ]إِلاَّالْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى»(1) ومن المعلوم أن مودتنا للقربى تنفع أنفسنا وليست تنفعهم (عليهم الصلاة والسلام) إذ هم في غنى عن ذلك.

ص: 246


1- سورة الشورى: 23.

..............................

محبة ذويهم (علیهم السلام)

ثم لا يخفى أن محبة ذويهم (علیهم السلام) كأولادهم وإخوانهم ومن أشبه فرع محبتهم، ومشتقة من محبتهم (عليهم الصلاة والسلام) فلها فضل أيضاً، ولذا روي عن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه قال: «أكرموا ذريتي الصالحين لله والطالحين لي»(1)، وليس المراد بالطالحين الكفرة منهم - إذا فُرض أن فيهم كفرة - فإن الله سبحانه وتعالى بريء منهم وهم بُرَآء منه، كما تبرأ إبراهيم (عليه الصلاة والسلام) من عمه آزر، وكما تبرأ الرسول (صلی الله علیه و آله) من أبي لهب، بل المراد بالطالحين من لهم بعض المعاصي والموبقات.

وهذه المحبة لهم ترجع إلى محبةرسول الله (صلی الله علیه و آله) كما قالوا: (لأجل عين ألف عين تكرم).

كما أن لأهل البيت (علیهم السلام) إطلاقاً آخر أشمل وأوسع من الإطلاق الأخص المختص بالمعصومين (علیهم السلام)، فمثلاً: زينب بنت علي (عليهما الصلاة والسلام) والعباس بن علي (عليهما الصلاة والسلام) وفاطمة المعصومة بنت الإمام

ص: 247


1- عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «أنا شافع يوم القيامة لأربعة أصناف ولو جاءوا بذنوب أهل الدنيا: رجل نصر ذريتي، ورجل بذل ماله لذريتي عند الضيق، ورجل أحب ذريتي باللسان والقلب، ورجل سعى في حوائج ذريتي إذا طردوا أو شردوا». راجع وسائل الشيعة: ج16 ص332 ب17 ح21690.

..............................

موسى بن جعفر (عليهما الصلاة والسلام) ومن أشبههم، من أهل البيت لكن غير المعصومين، ولذا تلا الحسين (عليه الصلاة والسلام) حين برز علي الأكبر (علیه السلام) إلى القتال قوله سبحانه: «إِنَّ الله اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَالله سَمِيعٌ عَلِيمٌ»(1).

وقد ذكر بعض الفقهاء أن هناك عصمتين:

عصمة كبرى: وهي الخاصة بالمعصومين (عليهم الصلاة والسلام).

وعصمة صغرى: بمعنى أنهم لا يذنبونولا يفكرون في الذنب أبداً، وهي بالنسبة إلى أمثال العباس (علیه السلام) وعلي الأكبر (علیه السلام) وزينب (علیها السلام) ومن أشبههم من أولادهم وإخوانهم (صلوات الله عليهم أجمعين).

ص: 248


1- سورة آل عمران: 33 - 34.

الخَمسَةِ

اشارة

-------------------------------------------

امتداد أصحاب الكساء (علیهم السلام)

مسألة: يستحب ذكر العدد فيما إذا تضمن الفائدة تأكيداً أو لدفع وهمٍ أو شبه ذلك.

ومن المعلوم أن سائر الأئمة الطاهرين (عليهم الصلاة والسلام) امتداد لهؤلاء الخمسة، بل كلهم نور واحد، كما ذكرنا في بعض المباحث السابقة، بالنسبة إلى آية: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُوله وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ»(1).

فلا يقال: إن الكون خلق لأجل المعصومين (علیهم السلام) جميعاً، لا لأجل هؤلاء الخمسة فقط.

فإن الشيء قد ينسب إلى الرأس، وقد ينسب إلى المجموع، وإذا كانت النسبة إلى الرأس فالمراد بذلك المجموع أيضاً، مثل قوله سبحانه: «خَلَقَكُمْ مِنْنَفْسٍ واحِدَةٍ»(2) باعتبار أن النفس الواحدة وهي آدم (علیه السلام) أول الخليقة وهي الأصل، وإلاّ فمن الواضح أن الخلق من آدم وحواء (علیهم السلام) معاً.

ص: 249


1- سورة المائدة: 55.
2- سورة النساء: 1، سورة الأعراف: 189، سورة الزمر: 6.

الَّذينَ هُم تَحتَ الكِساءِ. فَقالَ الأَمِينُ جِبرائِيلُ:

اشارة

-------------------------------------------

إتباع الموضوع بذكر وصفه

مسألة: من الراجح إتباع الموضوع بذكر وصفه إذا كانت فيه الفائدة، مثل الإعلام أو احترام الطرف أو التلذذ أو التحريض على الاستجابة، كما تقول: فلان (زيد بن عمرو) العالم أكرمه، أو ما أشبه ذلك مما ذكروه في علم البلاغة، وقد قال المتنبي(1) بعد سرده لأساميعديدة لممدوحة:

أسامي لم تزده معرفة *** وإنما لذة ذكرناها

الاعتقاد بأمانة جبرائيل

مسألة: يجب الاعتقاد بكون جبرائيل أميناً، وذلك من ضروريات الدين «مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ»(2) وعليه الروايات ومنها قولها (عليها الصلاة والسلام) هاهنا:

ص: 250


1- هو أبو الطيب أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي الكوفي الكندي. ولد بالكوفة عام 303ه في محلة كندة وإليها نسبته، ونشأ بالشام ثم تنقل في البادية يطلب الأدب وعلم العربية وأيام الناس. وقال الشعر في صباه. وفد على سيد الدولة ابن حمدان صاحب حلب سنة 337ه فمدحه وحظي عنده. ومضى إلى مصر فمدح كافور الأخشيدي. وزار بلاد فارس فمر بأرجان ومدح فيها ابن العميد وكانت له معه مساجلات. ورحل إلى شيراز فمدح عضد الدولة ابن بويه الديلمي. وعاد يريد بغداد فالكوفة فعرض له فاتك بن أبي جهل الأسدي في الطريق بجماعة من أصحابه، ومع المتنبي جماعة أيضاً فاقتتل الفريقان، فقتل أبو الطيب وابنه محسد وغلامه مفلح بالنعمانية بالقرب من دير العاقول في الجانب الغربي من سواد بغداد في عام 354ه.
2- سورة التكوير: 21.

..............................

«فقال الأمين جبرائيل»، وبمقتضى مناسبة الحكم والموضوع فإن المراد الأمانة في الوحي وشبهه.

لكن لا يبعد عدم انحصار أمانته في هذا المجال، بأن يكون أميناً في مجالات أخرى من عالم التكوين، فإن الملائكة لا يتحددون بزمان خاص أو مكان خاص أو جهة خاصة(1). وإنما هم رسل الله سبحانه وتعالى في مختلف شؤونه جل وعلا، حيث إن الملائكة هم الوسطاء في تنفيذ كثير من الأعمال، ولذا قال سبحانه وتعالى:«فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً»(2).

وبما أن معرفتنا بالملائكة محدودة، لذلك لا نعلم المهام التي يقومون بها والمسؤوليات التي يتحملونها، سوى ما جاء في الأحاديث الشريفة عن المعصومين (علیهم السلام). نعم، لا شك في أنهم يقدسون الله ويسبحونه ويهللون وما إلى ذلك مما أشارت إليه الروايات الشريفة.

استحباب النعت بالفضائل

مسألة: يستحب التوصيف والنعت بالفضائل، ولذلك ولغيره(3) كان وصفها (علیها السلام) جبرائيل (علیه السلام) ب (الأمين).

ص: 251


1- بشكل مطلق على القول بتجردهم أو بشكل نسبي على غير ذلك.
2- سورة النازعات: 5.
3- مثل: كون المقام ضرورة التوصيف بالأمانة.

..............................

والاستحباب عام لكل شيء أو شخص جدير بالتقدير والاحترام سواء كان إنساً، أم جناً، أم ملكاً، أم حوراً، أم ولداناً مخلدين، فإن الاحترام قد يظهر أدب المحترِم - بالكسر - ، وقد يظهرفضيلة المحترَم - بالفتح - وقد تكون فيه فائدة بالنسبة إلى ثالث.

وبما أن المقام مقام الأمانة لذلك قدَّم على جبرائيل ولم يقدم جبرائيل عليه، كما قالوا بالنسبة إلى الأوصاف والموصوفات أن المقام إذا كان مقام الوصف قُدم، وإذا كان مقام الموصوف قُدم، حيث إن مقصودها وعنايتها (صلوات الله عليها) على أن صاحب هذا المقال أمين في كلامه موثوق في حديثه.

ص: 252

يا رَبِّ، وَمَنْ تَحتَ الكِساءِ؟.

اشارة

-------------------------------------------

الإذن في السؤال والدعاء

مسألة: لا يحسن السؤال من دون الإذن وقد يحرم. والله سبحانه كما أذن لنا بالسؤال والدعاء، أذن كذلك للملائكة في الجملة.

ويظهر وجود الإجازة لسائر الملائكة إجمالاً، ولإبليس من قصة خلق آدم (علیه السلام) وسؤال الملائكة وإبليس.

كما يظهر من سؤال جبرائيل ها هنا: «ومن تحت الكساء» الإذن له من ذلك.

ولولا إذن الله سبحانه وتعالى لم يحق له وللملائكة السؤال، ولذا ورد في دعاء الافتتاح: «أذنت لي في دعائك ومسألتك»(1).

وقد ذكر بعض شراح دعاء الكميل عند قوله (عليه الصلاة والسلام): «فكيف أصبر على فراقك» أنه يأتي النداء إلى مالك جهنم أن يمنع أهل النار من ذكر الله سبحانه وتعالى إذ أنهم يتضرعون إليهليخرجهم من النار.

لا يقال: إن ذلك ينافي رحمة الله سبحانه.

لأنه يقال: يجزى العاصي نظراً لاستحقاقه العقوبة، والعقوبة أثر تكويني طبيعي للمعصية، فهي كبذرة الحنظل أو الورد، التي لابد أن تثمر حنظلاً أو ورداً

ص: 253


1- مصباح المتهجد: ص578 دعاء كل ليلة من شهر رمضان من أول الشهر إلى آخره.

..............................

لا غير، وكذلك حال الدنيا والآخرة والمعصية والعقوبة، وقد ذكرنا ذلك في جملة من كتبنا الكلامية(1) وفي كتاب (الأصول) بالمناسبة، إضافة إلى ما أشار إليه تعالى بقوله: «وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ»(2).

وهل كان سؤال جبرائيل (علیه السلام) : «ومن تحت الكساء؟» من باب تجاهل العارف من قبيل: «وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسى»(3) أم كان على وجه الحقيقة؟.احتمالان.

العلم والاستعلام

مسألة: يستحب الاستعلام عن المجهول، وذلك كما سأل جبرائيل (علیه السلام) عمن تحت الكساء، وكما سأل غيره من الملائكة والرسل (علیهم السلام) عن غيره، فإن العلم كمال والسؤال طريق التكامل، ولذا قال سبحانه لأكمل مخلوقاته (صلی الله علیه و آله): «وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً»(4).

وقال علي (علیه السلام): «ولا يستحيَنَّ أحدكم إذا لم يعلم الشيء أن يتعلمه»(5).

ص: 254


1- راجع: (شرح المنظومة)، و(شرح التجريد)، و(تقريب القرآن إلى الأذهان).
2- سورة الأنعام: 28.
3- سورة طه: 17.
4- سورة طه: 114.
5- نهج البلاغة، قصار الحكم: رقم82.

..............................

فإن العلم بحر عميق لا يعلم مداه إلا الله وحده،وقد حبى أولياءه الذين اختصهم به بقدر منه، أما ما في أيدي الناس فليس مثله إلاّ كمثل رطوبة رأس إبرة بالنسبة إلى «الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِسَبْعَةُ أَبْحُرٍ»(1)،بل النسبة أبعد وأبعد عن هذا بكثير.

وقال علي (علیه السلام): «علمني رسول الله (صلی الله علیه و آله) ألف باب من العلم يفتح لي من كل باب ألف ألف باب»(2) كما في بعض الأحاديث، وربما يكون (الباب) إشارة إلى كل علم بأكمله، فالرياضيات باب، والطب باب ثان، وهكذا إلى مليون باب، أو تكون (الألف باب) الأولى إشارة إلى ألف علم جامع لمجموعة علوم هو كالجنس لها.

وفي حديث آخر: «إنهم (علیهم السلام) يزدادون علماً كل ليلة جمعة»(3).

وبعد كل ذلك فإن مجموعة ما يعلمه البشر جزء ضئيل من ضلع واحد من أضلاع العلم الأربعة التي أشار إليها قوله سبحانه: «يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِالدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ»(4).

ص: 255


1- سورة لقمان: 27.
2- راجع الخصال: ج2 ص642-643 علم رسول الله (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) ألف باب يفتح كل باب ألف باب ح22، وفيه: «إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) علمني ألف باب من الحلال والحرام ومما كان إلى يوم القيامة كل باب منها يفتح ألف باب فذلك ألف ألف باب حتى علمت علم المنايا والبلايا وفصل الخطاب».
3- راجع بحار الأنوار: ج17 ص135-136ب17 ح15.
4- سورة الروم: 7.

..............................

فلكل من الدنيا والآخرة ظاهر وباطن، أما الآخرة فلا يعلم البشر منها شيئاً إطلاقاً، لا ظاهراً ولا باطناً، ولذا روي أن الإنسان في الآخرة يرى «ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر»(1).

وأما الدنيا فلا يعلم من باطنها شيئاً أيضا - إطلاقاً - وإنما يعلم قدراً محدوداً جداً عن ظاهرها، وفي بعض أبعادها فقط، وهي المحسوس بالحواس الخمسة وشبهها، ولربما كانت هناك مئات الأبعاد الأخرى في هذه الدنيا مجهولة لنا تماماً حتى بالاسم.

تقديم أكبر القوم

مسألة: يستحب أن يتقدم في السؤال ونحوه أكبر القوم، كما سأل جبرائيل (علیه السلام) دون سائر الملائكة. وذلك لأنه نوع احترام بالنسبة إلى الكبير.

ولا يخفى أن التعلم والتعليم ينقسم إلى الأحكام الخمسة: فمنه واجب، ومنه مستحب، ومنه محرم، ومنه مباح، ومنه مكروه، حسب الملابسات واللوازموالملازمات والملزومات(2) كما ذكروا شبه ذلك في باب التكسب.

ولا يعلم هل كان سؤال جبرائيل (علیه السلام) من قسم الواجب أو من قسم المستحب؟. والقرينة المقامية تدل على أصل الرجحان، ومن الواضح أن الملائكة لا يرتكبون الحرام، بل الظاهر أنهم لا يرتكبون المكروه أيضاً، ذلك أن في المكروه

ص: 256


1- وسائل الشيعة: ج10 ص476 ب26 ح13887.
2- راجع: (الفقه: العقل) للإمام المؤلف (قدس سره).

..............................

حزازة على ما ذكره جمع، منهم الآخوند (قدس سره)(1) وإن كان لنا رأي آخر(2)،والملائكة لعصمتهم بعيدون عن مثل ذلك.

أما ما ورد في الآية الكريمة من اختصامهم فالظاهر أنه لاختلافهم في الآراء لا أنه من الاختصام المكروه فكيف يكون من الاختصام المحرم؟.

ص: 257


1- الشيخ ملا محمد كاظم ابن الملا حسين الهروي الخراسانى النجفي المعروف بالشيخ الآخوند، ولد (رحمة الله) في مشهد خراسان سنة 1255ه، فقرأ المبادئ فيها، ولما بلغ الثالثة العشرين من عمره كان قد أكمل علوم العربية والمنطق وشيئاً من الأصول والفقه، فخرج إلى العراق مهاجراً في رجب سنة 1277ه فأقام في طهران ستة أشهر درس في أثنائها بعض العلوم الفلسفية ثم غادرها إلى النجف الأشرف فأدرك فيها الشيخ مرتضى الأنصاري (رحمة الله) واختلف إلى مجلس درسه فقهاً وأصولاً وبعد وفاة الشيخ لزم الميرزا السيد محمد حسن الشيرازي (رحمة الله) وكان أكثر أخذه منه فقربه وأدناه، كما أخذ الفقه عن الشيخ راضي بن الشيخ محمد، ولما خرج السيد الشيرازي (رحمة الله) إلى سامراء وخرج معه أكثر تلامذته لم يخرج الشيخ الآخوند معه، بل أقام في النجف الأشرف وتصدى للتدريس فيها، فاختلف للاستفادة من مجلس درسه أكثر الطلاب خصوصاً في الأصول، بحيث صارت الرحلة إليه من أقطار الأرض وعمر مجلس درسه بمئات من الأفاضل والمجتهدين، وقد تميز بحب الإيجاز والاختصار وتهذيب الأصول والاقتصار على لباب المسائل وحذف الزوائد مع تجويد في النظر وإمعان في التحقيق. ألف العديد من الكتب ومنها: الكفاية في أصول الفقه، وحاشية على رسائل الشيخ الأنصاري، وروح الحياة رسالة تقليدية طبعت في بغداد سنة 1327ه، وحاشية على مكاسب الشيخ الأنصاري، ورسالة الفوائد تحتوي على خمس عشرة فائدة، والتكملة وهي تلخيص تبصرة العلامة، وشرح التبصرة، وغيرها. توفي (رحمة الله) فجأة وقيل: مات مسموماً فجر الثلاثاء ذي الحجة سنة 1329ه في النجف الأشرف ودفن في حرم أمير المؤمنين (علیه السلام) في أحد حجرات الصحن الشرقية على يمين باب السوق الكبير تحت الساعة.
2- راجع الأصول والفقه حيث ذُكر أن المكروه قد يكون بمعنى الأقل ثواباً، لا ما فيه الحزازة كما لو زاحمه أمر آخر.

فَقالَ عَزَّوَجَلَّ: هُم

اشارة

-------------------------------------------

الجواب على مقتضى الحال

مسألة: تستحب الإجابة على الأسئلة فيما إذا كانت في الجواب فائدة، كما أجاب الله سبحانه سؤال جبرائيل (علیه السلام)، وقد يجب الجواب حسب الموازين.

إذ فيه - بالإضافة إلى ذلك - نشر للعلم وقضاء للحاجة فيشمله دليلهما، أما إذا كان هناك وجه أهم يقتضي عدم الإجابة أو تأخيرها أو إجمالها أو إبهامها فلا استحباب، ولذا قال سبحانه في جواب الملائكة:

«إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ»(1).

ومن الواضح أن الجواب قد يكون مفصلاً، وقد يكون مجملاً حسب اقتضاء المقام، ومنه مدى فهم السائل وتحمله، وقوله سبحانه: «مَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ»(2)، وقوله (صلی الله علیه و آله): «إنا أُمرنا معاشر الأنبياء أن نكلم الناس بقدر عقولهم»(3) يشيران إلى ذلك أيضاً، ولذا ورد أنه: «ما كلم رسول الله (صلی الله علیهو آله) العباد بكنه عقله قط»(4) لوضوح أن عقول البشر لا تبلغ مستوى عقل رسول الله (صلی الله علیه و آله).

ص: 258


1- سورة البقرة: 30.
2- سورة إبراهيم: 4.
3- الأمالي للطوسي: ص481 المجلس17 ح1050.
4- الكافي: ج1 ص23 كتاب العقل والجهل ح15، والكافي: ج8 ص268 حديث نوح (علیه السلام) يوم القيامة ح394.

..............................

وفي (البحار): سأل شخص الإمام علي (علیه السلام): لماذا لا يُرى الله؟. فقال الإمام (علیه السلام) - ما معناه -: «لأنه إذا رؤي زالت هيبته»(1).

فإن الجواب كان على حسب فهم السائل، وإلا فمن المعلوم أن الله تعالى تستحيل رؤيته كما برهن في علم الكلام، وقوله سبحانه: «لَنْ تَرانِي»(2) نظير لباب السالبة بانتقاء الموضوع - أي لا يمكن رؤيته - لا أنها ممكنة غير واقعة.

ثم لا يلزم أن يكون السائل هو المستفيد من الجواب، بل يجاب ولو كان غيره هو المستفيد منه سواء علم السامع أم لا؟. وفي الحديث: «رب حاملفقه إلى من هو أفقه منه»(3).

ص: 259


1- راجع بحار الأنوار: ج4 ب5 ص27 ح2، ص32 ح8، ص44 ح23، ص53 ح28.
2- سورة الأعراف: 143.
3- مستدرك الوسائل: ج11 ص45 ب18 ح12390.

أَهلُ بَيتِ النُّبُوَّةِ، وَمَوْضِعُ الرِّسالَةِ،

اشارة

-------------------------------------------

أهل البيت أم الدار؟

لا يخفى أن نسبة (الأهل) إلى (البيت) دون الدار، لأعميته وتطابقه مع الأهل؛ لأن كثيراً من الناس لا يملكون الدور، وإنما يملكون البيوت، فإن (البيت) يطلق على بيت الحجر والمدر والقصب والخشب والطين وما أشبه ذلك، بينما كل ذلك لا تسمى داراً. وهناك فرق آخر بين البيت والدار، وهو أنه يسمى بيتاً لمبيت الإنسان فيه، بينما تسمى الدار داراً لأن الحائط يدور حوله، أو لكثرة تحرك الناس فيه(1)، ويقال: (دار النشر) ولا يقال: بيت النشر؛ لأنه لا يتعارف المبيت في دار النشر، فنسبة الأهل وهم خاصة الرجل إلى البيت - المتضمن لمعنى المبيت - أنسب والترابط بينهما أوثق.

فاطمة (علیها السلام) حجة الله

مسألة: يستفاد من إطلاق «موضعالرسالة» على جميعهم (علیهم السلام)(2) أن فاطمة الزهراء (عليها الصلاة والسلام) حجة الله، فيكون قولها وتقريرها حجة.

ص: 260


1- هي من دار يدور لكثرة حركات الناس فيها، راجع لسان العرب: ج4 ص298 مادة دور.
2- ورد ذلك في أحاديث عديدة، منها: عن زيد بن علي بن الحسين، عن أبيه، عن أبيه، عن علي (علیه السلام)، قال: دخل: رسول الله (صلی الله علیه و آله) على علي وفاطمة (علیهما السلام) وأخذ بعضادتي الباب، وقال: «السلام عليكم يا أهل بيت الرحمة، وموضع الرسالة، ومنزل الملائكة ... » - شرح إحقاق الحق للسيد المرعشي: ج4 ص106 -.

..............................

وذلك لأنه يظهر من قوله تعالى: «وموضع الرسالة» أن جميع أصحاب الكساء - عند صدور هذا القول من الله تعالى - هم موضع للرسالة، إلاّ أن النبي (صلی الله علیه و آله) رسولٌ بالمعنى الاصطلاحي(1) والباقون بالمعنى الأعم ولو مجازاً الشامل لرسول الرسول، أو لمنينكت في قلبه، أو له عمود النور، أو ما أشبه، كما أن الملائكة رسلٌ، كما في الآية الكريمة.

ويمكن أن يكون الوجه في إطلاق «موضع الرسالة» عليهم جميعاً باعتبار أنهم (علیهم السلام) نور واحد بعضهم من بعض، فإذا كان أحدهم موضع الرسالة وهو الرسول (صلی الله علیه و آله) كان المجموع يستحق هذا الوصف بالاعتبار.

وكونها (صلوات الله عليها) حجة الله، إضافة إلى كونه ضروري المذهب، يدل عليه روايات عديدة(2)، ومنها رواية عن الإمام العسكري (علیه السلام) التي تنص على أن الزهراء (علیها السلام) حجة على الأئمة (عليهم الصلاة والسلام)(3) أي يحتج الله بها عليهم، فيدل بالملاك الأولوي على أنها حجة على سائر الخلق.

ص: 261


1- المعنى الاصطلاحي هو: المرسل الذي يأتيه جبرائيل (علیه السلام) قبلاً ويكلمه بالوحي النبوي - راجع مجمع البحرين: ج5 ص383 مادة رسل -. والرسول - بالمعنى الأعم - حامل الرسالة بأية طريقة بلغته الرسالة بالقول أو الكتابة أو الإشارة، عبر جبرائيل (علیه السلام) أو الإلهام أو النكت في القلب أو عمود النور أو عبر الرسول (صلی الله علیه و آله) نفسه.
2- راجع عوالم العلوم والمعارف والأحوال كتاب فاطمة الزهراء (علیها السلام) تحقيق مؤسسة الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه)، وغيره.
3- تفسير أطيب البيان: ج13 ص225.

هُم فاطِمَةُ وَأَبُوها، وَبَعلُها

اشارة

-------------------------------------------

لماذا جعلها الله محوراً

مسألة: يستحب بيان مكانة فاطمة الزهراء (علیها السلام) عند الله تبارك وتعالى، وأنه تعالى جعلها (سلام الله عليها) هي المحور في تعريفهم (علیهم السلام).

وعند إرادة الحديث عن أفراد عائلة واحدة يحسن اقتضاء تسمية واحد منهم - لاعتبارات معينة - كمركز، ثم إدارة أسماء الباقين عليه، كما قال سبحانه: «فاطمة وأبوها وبعلها وبنوها».

ولعل السر في جعلها (صلوات الله عليها) محوراً أن الملائكة كانوا قد عرفوا فاطمة (علیها السلام) حين كانوا في الظلمة ثم ببركة نور فاطمة (علیها السلام) خرجوا إلى النور.

وفي الحديث: عن جابر عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: قلت له: لمَ سميت فاطمة الزهراء زهراء؟. فقال (علیه السلام): «لأن الله عزوجل خلقها من نور عظمته، فلما أشرقت أضاءت السماواتوالأرض بنورها، وغشيت أبصار الملائكة وخرت الملائكة لله ساجدين، وقالوا: إلهنا وسيدنا ما هذا النور؟. فأوحى الله إليهم هذا نور من نوري»(1).

ولربما كان السر نفس مفاد حديث: «لولاك لما خلقت الأفلاك ... »(2).

ص: 262


1- علل الشرائع: ج1 ص179-180 ب143 ح1.
2- عوالم العلوم: ج11ص26 ب3 ح1.

..............................

أو لأجل أن فاطمة (سلام الله عليها) تصلح أن تكون محوراً مباشراً بلا واسطة، بينما سائر المعصومين (عليهم الصلاة والسلام) إنما يتصل بعضهم ببعض بواسطة، ففاطمة وأبوها، وفاطمة وبعلها، وفاطمة وبنوها، بينما إذا أريد إبدال اسمها (علیها السلام) باسم الرسول (صلی الله علیه و آله) فاللازم أن يقول: محمد (صلی الله علیه و آله) وابن عمه، ويقول: محمد (صلی الله علیه و آله) وأحفاده، وكذلك بالنسبة إلى علي والحسنين (علیهم السلام) فربما لهذه الجهة اقتضت البلاغة جعل فاطمة (عليها الصلاة والسلام) المحور.

الحركة الدورانية للمخلوقات والمحور الرئيسي لها

وربما يكون السبب هو ما ورد في الحديث الشريف عن الصادق (علیه السلام): «هي الصديقة الكبرى وعلى معرفتها دارت القرون الأولى»(1).

ولا يخفى أن الله سبحانه قرر للمخلوقات حركة دورانية بمعنى العودة إلى المبدأ، كما جعل لأجزاء وجزئيات عالمي المادة والماورائيات محاور وأقطاب رحى، فالشمس والقمر والكواكب والأرض يدور بعضها حول بعض وتدور على القرون، وماء البحار وغيرها تبخره الشمس فيصعد إلى السماء، ثم ينزل منها إليها على شكل أمطار، وهكذا دواليك(2).

ص: 263


1- بحار الأنوار: ج43 ص105 ب5 ح19. وفي (أمالي الطوسي): بإسناده عن إسحاق بن عمار، وأبي بصير، عن أبي عبد الله الصادق (علیه السلام) أيضاً.
2- اللف والنشر مشوش ف (الشمس والقمر ... ) مثال ل (كما جعل ... محاور وأقطاب رحى) و(ماء البحار ... ) مثال ل (حركة دورانية) وكذلك المثال اللاحق (والأشجار ... ) وما بعده أيضاً، وأما المعنويات فأمثلة الإمام المصنف (قدس سره) هي للقسم الثاني فقط أي (كما جعل ... محاور) فليلاحظ.

..............................

والأشجار والحيوانات كذلك تنشأ من الأرض ثم تعود إليها كما كانت.

قال سبحانه: «وَالله أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتاً» الآية(1).

وقال تعالى: «مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ»(2) إلى غير ذلك من الأمور، حتى أن العلماء قالوا: كما أن المادة تتحول إلى (طاقة) وإحدى سبل ذلك الانفجار الذري، بل ذلك حادث بشكل طبيعي في أجهزة بدن الإنسان والحيوان و... دوماً دوماً، كذلك الطاقة يمكن أن ترجع إلى ال (مادة) وإنما الأمر بحاجة إلى أجهزة متطورة تتمكن من استرجاعها كما كانت.

هذا في الماديات.

أما المعنويات: فلها مدار وقطب ومركز أيضاً، ولذا يقال: يدور المجتمع السليم على محور الدين بمعنى، أن الأخذ والعطاء والمعاملات والنكاح وغيرها تكون على محور الدين، وحتى الماديون يرون أن برامجهم ومناهجهم ومجتمعهم، تدور على محور أوامر (ماركس) مثلاً فمنه تستمد وإليه ترجع، فإن المجتمع لاتكفي فيه المادة فقط بل يحتاج إلى قوانين تقوم بتنظيم حياتهفي مختلف الأبعاد، فلابد أن يكون له قانون يكون هو عماد الحياة ومحورها يدير شؤونه ويحول دون الفوضى والهرج والمرج.

إذن فالحياة المادية تدور هي بدورها على محور البعد المعنوي، سليماً كان أم سقيماً.

ص: 264


1- سورة نوح: 17.
2- سورة طه: 55.

..............................

وحيث إنهم (علیهم السلام) محور الكون والكائنات، حيث كانوا هم السبب في إفاضته سبحانه وتعالى: المادة والمعنى(1)، وكانوا (علیهم السلام) هم الطرق والوسائط في هذه الإفاضة، لذلك فهم (علیهم السلام) قطب رحى الوجود، وعليهم تدور القرون والأزمان بقول مطلق، وفاطمة (عليها الصلاة والسلام) هي محور هذا المحور.

وإنما خصص ب (الأولى) في قوله (علیه السلام): «وعلى معرفتها دارت القرون الأولى» كما في رواية (البحار) عن الإمام الصادق (علیه السلام) (2)؛ لأن الأولى إذا كانت على كيفية فالأخرى تكون على تلك الكيفية - عرفاً - بخلافما إذا كانت الأخرى كذلك، حيث لا تستلزم أن تكون الأولى مثلها أيضاً، وإذا أطلق بأن قال: «دارت القرون» كان المنصرف منه قروننا فقط من قبيل قوله سبحانه في مريم (علیها السلام): «عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ»(3) حيث المنصرف منه (عوالم زمانها)، مثل أن يقال: (الدولة الفلانية أقوى الدول) حيث إن المنصرف منه: (الدول المعاصرة لها).

ص: 265


1- سبق هذا المبحث، وسيأتي تفصيلاً أيضاً.
2- بحار الأنوار: ج43 ص105 ب5 ح19.
3- سورة آل عمران: 42.

..............................

معادن الثروات المعنوية

وكما أن الله سبحانه جعل للماديات مخازن تُستمد منها، مثل الشمس التي هي مخزن ومنبع النور والحرارة والدفء، والبحار وهي مخزن الماء والأسماك و.. والهواء وهو مصدر ومخزن الأوكسجين الذي به يتنفس الإنسان والنبات والحيوان، إضافة إلى ما يحمله من أمواج - بشتى أنواعها - وغيرها، والأرض وهي مخزن التراب وما ينشأ منه من النباتات والأشجار وغيرها.

وكذلك جعل للمعنويات مخازن ومعادن، يتم الاستمداد منها بالمباشرة أو بواسطة القدوة والأسوة، فالأنبياء (علیهم السلام) خزنة علم الله سبحانه ورسالاته، وكذلك الأوصياء (علیهم السلام) والسيدة الزهراء (علیها السلام)، والناس يستمدون منهم مختلف العلوم والمعارف، إذ كل المعارف والعلوم البشرية تعود إليهم بشكل أو بآخر.

وكذلك للشجاعة والكرم والعاطفة وغيرها من الفضائل منابع ومعادن، فإن تلك الصفات في الكبار من الناس تحتذىبالأسوة والإتباع.

العلّة في بكاء يعقوب والزهراء (علیهما السلام)

ولعلّ بكاء يعقوب (علیه السلام) تلك المدة الطويلة كان من ذلك، حيث يستمد الناس منه العاطفة بالأسوة والإقتداء.

وكذلك بكاء الصديقة الطاهرة (علیها السلام) والسجاد (علیه السلام) إلى غير ذلك.

ص: 266

..............................

فلا يقال: كيف بكى يعقوب (علیه السلام) وهو يعلم أن ولده حي وسيرجع إليه ملكاً، وكيف بكى السجاد (علیه السلام) والزهراء (عليها الصلاة والسلام) وهما يعلمان بأن الرسول (صلی الله علیه و آله) والحسين (علیه السلام) وأهل بيته والمستشهدين بين يديه (علیهم السلام) ذهبوا إلى جنان الله الوسيعة، وكان علمهم بذلك عين اليقين بل حق اليقين.

هذا بالإضافة إلى أن بكاءهما (علیهما السلام) كان سياسيا أيضاً، حيث أرادا فضح المخالفين، فإن كلاً من الهجوم والدفاع يكون عاطفياً بالبكاء ونحوه، وسياسياً بالحوار والمعاهداتونحوهما،كوضع الرجل المناسب في المكان المناسب وعكسه، واقتصادياً، وغير ذلك مما سنذكره في مقدمة الخطبة إن شاء الله تعالى.

لا يقال: إذا كانوا (علیهم السلام) يعلمون بأن ذويهم في روح وريحان وجنة ورضوان وفي كمال الراحة، فلماذا كانوا يبكون، وهل يتأتى البكاء لمن يرى ذويه في راحة ونعيم؟.

لأنه يقال: قد ذكرنا في بعض مباحث الكلام أن علمهم وإحساسهم الغيبي لا يؤثر في شؤونهم الدنيوية، وإلاّ لم يكونوا أسوة، وكذا بالنسبة إلى القدرة الغيبية، ولذا لم يستخدموها لدحر العدو أو للتوقي من القتل وشبه ذلك على تفصيل ذكرناه هناك.

ص: 267

وَبَنوها

اشارة

-------------------------------------------

الجمع والجماعة

«بنوها» وإن كان صيغة جمع إلاّ أن المراد به أولاً اثنان: هما الحسن والحسين (علیهما السلام)، وهذا ما يسمى بالجمع المنطقي والعرفي.

بل قال بعض الأدباء: إن الجمع مصدر جَمَع، وهو يصدق على الاثنين فما فوق، فهو جمع لغوي وأدبي أيضاً.

أما قول النبي (صلی الله علیه و آله) فيما روي عنه: «المؤمن وحده جماعة»(1)، فالمراد أنه في بأسه وشدته واستقامته وصلابته كالجماعة، حيث إن «يد الله مع الجماعة»(2) وأن قوة الجماعة أقوى من قوة الفرد، فالمؤمن حاله حال الجماعة في قوة نفسه وصلابة ذاته، وهو كما قال (علیه السلام): «لا تستوحشوا في طريق الهُدى لقلة من يسلكه»(3).

ص: 268


1- وسائل الشيعة: ج8 ص297 ب4 ح10710.
2- نهج البلاغة، الخطب: 127 ومن كلام له (علیه السلام) وفيه يبين بعض أحكام الدين ويكشف للخوارج الشبهة وينقض حكم الحكمين.
3- مستدرك الوسائل: ج12 ص194 ب4 ح13858.

فَقالَ جِبرائِيلُ: يا رَبِّ، أَتَأذَنُ لي

اشارة

-------------------------------------------

الاستئذان من ذي الحق

مسألة: يستحب استئذان الداني من العالي فيما يرتبط به، نظراً لتلك الكلية.

وكما أستأذن جبرائيل (علیه السلام) من الله سبحانه.

وكما استأذنوا (علیهم السلام) منه (صلی الله علیه و آله).

وكما استأذن جبرائيل (علیه السلام) منه (صلی الله علیه و آله) أيضاً.

مع أنه كان لهم (علیهم السلام) الدخول بلا استئذان؛ لأنه من قبيل بيت من تضمنته الآية الشريفة، بل بالملاك الأولوي هنا.

ولعل استئذان جبرائيل (علیه السلام) كان من ذلك أيضاً.

نعم، في بعض الموارد يحرم الدخول بدون الإذن لكون الحق للسابق، ولايجوز الدخول في ما هو من حقه إلاّ بإذنه، أو العلم برضاه، وعدم المحذور كما في مورد العورات الثلاث.ومن قبيل المستحب استئذان الزائر من الإمام المزور (علیه السلام) في المراقد المطهرة.

والظاهر استحباب أن يأذن من ليس في إذنه محذور كما أذن النبي (صلی الله علیه و آله) لهم (علیهم السلام).

ص: 269

..............................

ويؤيده أنه قضاء حاجة، وهو مستحب مطلقاً في غير المحرمات.

وهل يستحب إذن السابق في الموارد المكروهة؟.

الظاهر أنه من باب التزاحم بين ترجيح قضاء الحاجة وترجيح الكراهة، فإن عُلِم أهمية أحدهما قدّم وإلاّ تخير.

وكذلك الإذن عند الاستئذان لأي عمل مكروه، فلو فرض أن إتيان المرأة من الخلف مكروه، فاستأذنها الزوج في ذلك، فهل يستحب لها القبول أم لا؟ أو يكره؟

إلى غير ذلك من الأمثلة.

ثم إن الإذن ليس مما إذا ثبت دام لزوماً، بل للسابق أن ينقض إذنه بعد زمان.

ص: 270

أَن أَهبِطَ إلَى الأَرضِ

اشارة

-------------------------------------------

نوعية الهبوط

ربما يستفاد من الحديث: أن جبرائيل (علیه السلام) أقرب الملائكة أو أذكاهم أو أفهمهم أو أبصرهم أو أقواهم أو أسرعهم أو ما أشبه؛ لأنه بادر لاستئذان الرب تعالى وطلب الدخول معهم (علیهم السلام) دون سائر الملائكة، مع أن الكل سمعوا نداء الرب تعالى.

فإن ذلك يُفهم بدلالة الاقتضاء على المعنى المذكور سابقاً.

ثم لا يعلم هل كان الهبوط مادياً أم معنوياً؟

حقيقياً أم مجازياً؟

وإن كان لا يبعد كونه حقيقياً.

وذلك مثل قوله سبحانه: «وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ»(1)..

إلاّ أن يقال: إن الحديد أيضاً منزل من السماء على ما يقوله بعض علماء الفلك من أن الأرض انفصلت من الشمسقبل ملايين السنين، فالحديد أُنزل إنزالاً حقيقياً مكانياً لا معنوياً بسبب أمر الله سبحانه وتعالى بتكونه.

ص: 271


1- سورة الحديد: 25.

لأِكُونَ مَعَهُم سادِساً؟.

اشارة

-------------------------------------------

الالتحاق بركب المتقدمين

مسألة: يستحب الالتحاق بركب المتقدمين وأولياء الله الصالحين والحضور في مجالسهم ومجامعهم؛ لينال الملتحقُ درجاتٍ من التقدم والكمال، كما استأذن جبرائيل (علیه السلام) ليكون معهم، بل والمعصومون الأربعة (علیهم السلام).

أما أصل استحباب نيل التقدم والتكامل والتعرض له، فلا إشكال فيه، قال سبحانه: «سَارِعُوا»(1)، وقال تعالى: «فَاسْتَبِقُوا»(2)، وقال جل اسمه: «فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ»(3) إلى غير ذلك.

وأما أن المقام من صغرياته؛ فلأن التواجد في محضر العظيم تترتب عليه فوائد دنيوية وأخروية، وذلك لأن الرحمة والبركة والخير والإفاضةالنازلة باستمرار عليه تشمل الذي معه - بشكل أو بآخر، بدرجة أو بأخرى - قال سبحانه: «فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي»(4)، وقال تعالى: «لاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ»(5) إلى غير ذلك ولا أقل من الملاك.

ص: 272


1- سورة آل عمران: 133.
2- سورة البقرة: 148، سورة المائدة: 48.
3- سورة المطففين: 26.
4- سورة إبراهيم: 36.
5- سورة الأعراف: 150.

..............................

إضافة إلى أن كون الإنسان مع عظيم إلهي يوجب الاستضاءة بنور هدايته وأخلاقه وآدابه والاستفادة من نمير علومه، وفي كليهما فائدة كبرى أخروية، بل ودنيوية أيضاً، هذا مع قطع النظر عن بلوغه درجات سامية لا يمكن للأشخاص الوصول إليها عادة إلاّ بالالتحاق بركب عظيم من العظماء.

والأشياء كما تعرف بأمثالها، كذلك تعرف بأضدادها، فكما أن كون الإنسان مع الظالم والفاسق والمنافق نقص - في حد ذاته وبلحاظ لوازمه أيضاً - كذلك طرفه كمال.

لا يقال: ليس كل مستحب طرفه مكروه، ولا العكس.

لأنه يقال: ليس الاستدلال بذلك بل بما سبق وبالفهم العرفي، كما ألمعناإليه في مقدمة هذا الكتاب - في مثل المقام - وإن لم يكن له إطلاق.

أهمية هذا الاجتماع الرباني

مسألة: يستحب بيان مدى أهمية هذا الاجتماع المبارك عند الله تعالى، فإن استئذان جبرائيل (علیه السلام) كي يكون واحداً من أهل الكساء وأن يكون معهم ولو للحظات - إضافة إلى سائر القرائن والأدلة التي سبقت وستأتي في هذا الحديث وغيره - دليل على الأهمية القصوى لهذا الاجتماع الفريد عند الله سبحانه وتعالى، فإن للاجتماعات المعنوية أهميتها البالغة، فكيف باجتماع من هم وسائط الله وحججه؟.

ص: 273

..............................

وإذا كانت للاجتماعات المادية كاجتماع رؤساء الدول لأجل اتخاذ قرار اقتصادي أو سياسي أو اجتماعي أو ما أشبه ذلك أهمية كبرى، لما تتركه من آثار سلبية أو إيجابية على مستقبل البلاد، فكيف باجتماع خطط له إله الكون وقد ضم من بسببهم خلق الكون كله؟. وقد بين فيه الله سبحانه سر الخلقة وحقائق كونية أخرى في غايةالأهمية كما سيأتي، كما ترتبت عليه ثمار وآثار وضعية للبشرية - كما سيوضح ذلك إن شاء الله تعالى -.

ص: 274

فَقالَ الله: نَعَم، قَد أَذِنتُ لَكَ.

اشارة

-------------------------------------------

الإذن من ذي الحق

مسألة: يستحب الإذن من ذي الحق(1) إذا كان في تلبية طلب المستأذن فائدة له أو لذاك أو لغيرهما، بل مطلقاً ولو باعتبار كونه قضاء حاجة، وقضاء الحاجة إلا في المحرم - وأحياناً المكروه - مستحب، وقد أذن سبحانه لجبرائيل (علیه السلام) بالهبوط لما استأذنه.

هل الأصل التخلق بأخلاق الله؟

لا يقال: أعمال الله لا يقاس عليها؛ لأن الله يعمل الخير والشر، قال سبحانه: «وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً»(2)، وقال تعالى: «طَبَعَ الله عَلَى قُلُوبِهِمْ»(3)، وقالسبحانه: «مَنْ يُضْلِلِ الله فَمَا له مِنْ هَادٍ»(4)، وقال تعالى: «كُلٌّ مِنْ عِنْدِ الله»(5)،إلى غير ذلك من الإحياء،والإماتة، والإمراض، وترك الظالم وظلمِه، ونحوها.

ص: 275


1- أي بأن يأذن صاحب الحق.
2- سورة الأنبياء: 35.
3- سورة التوبة: 93، سورة النحل: 108، سورة محمد: 16.
4- سورة الرعد: 33، سورة الزمر: 23و36، سورة غافر: 33.
5- سورة النساء: 78.

..............................

لأنه يقال:

أولاً: في الحديث: «تخلقوا بأخلاق الله»(1)، والمراد بالأخلاق: الإطلاق لا خصوص المعنى المصطلح، كما هو(2) المراد ب: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»(3)، وقالت بعض زوجات الرسول (صلی الله علیه و آله) لما سُئلت عن أخلاقه (صلی الله علیه و آله): «كان خلقه القرآن»(4) ونحوهما، والاستثناء يحتاج إلى الدليل، فالأصل هو التخلق إلا ما خرج.وثانياً: إنه سبحانه يعمل حسب المصلحة التي ألزم بها نفسه في التكوين والتشريع، فإن الأقسام خمسة: ما هو خير محض، وما خيره أكثر، وما هو شر محض، وما شره أكثر، والمتساوي الطرفين.

وقد ثبت في الكلام(5) أن الله سبحانه لا يعمل إلاّ الأولين فيكون التعبير بالشر مسنداً له إلى الله تعالى مجازياً بنحو المجاز في الإسناد بل والكلمة أيضاً(6).

ولو فرضنا أن إنساناً استطاع أن يدرك مصالح الأمور ويحيط بها جميعاً بأن علم أن الإماتة في مورد معين خير محض، أو خيره أكثر إلى حد المنع من النقيض، كان له ذلك أيضاً من حيث المقتضي - مع قطع النظر عن كونه تصرفاً في ملك

ص: 276


1- بحار الأنوار: ج58 ص129 ب42 تتميم.
2- أي: الإطلاق، والمعنى الأوسع.
3- مستدرك الوسائل: ج11 ص187 ب6 ج12701.
4- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج6 ص340 نبذ وأقول في حسن الخلق ومدحه.
5- راجع: (المنظومة) للسبزواري، و(التجريد) للطوسي، وشرحهما للإمام المؤلف (قدس سره).
6- إذ إطلاق (الشر) على ما خيره أكثر مجاز في الكلمة.

..............................

الغير، أعني: الله سبحانه وتعالى - وذلك كما في قتل المسلم إذا تترس به الكفار؛ لأنه في اللازم لا إشكال، وفيالثاني تأتي مسألة الأهم والمهم.

وأما (الابتلاء) فهو بمعنى الامتحان، والأمر في نظائره كذلك، على ما فصل في علم الكلام.

إضافة إلى جواب آخر ذكره البعض، كالطوسي (قدس سره)(1)..

ص: 277


1- أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي المعروف بشيخ الطائفة، ولد بطوس خراسان في شهر رمضان سنة 385ه، درس أولاً في مدارس خراسان ثم هاجر إلى بغداد سنة 408ه وكان عمره آنذاك 23 سنة. لازم الشيخ المفيد (رحمة الله) وتتلمذ عليه خمس سنوات، وبعد وفاته انضوى تحت لواء السيد المرتضى (رحمة الله) فاهتم السيد به غاية الاهتمام وبالغ في إجلاله وتقديره فلم يكد ليغيب يوماً واحداً عن درسه، واستمرت الحال سنون متمادية حتى توفي السيد المرتضى (رحمة الله) سنة 436ه، فبقي الشيخ بعده ببغداد اثني عشر عاماً حتى سنة 447ه حيث هجم السلاجقة الأتراك على بغداد فأغار عبد الملك الوزير المتعصب على دار الشيخ ليقتله ولما لم يجده في داره أحرق ما فيها من أثاث وكتب مما اضطر الشيخ للانتقال من بغداد إلى النجف الأشرف وتأسيس الحوزة العلمية هناك. لقد كان يقصد الشيخ (رحمة الله) الكثير من العلماء من شتى أرجاء العالم الإسلامي لينتفعوا منه ويفتخروا بالتتلمذ عليه، فقد بلغ عدد تلامذته من الفقهاء والمجتهدين وعلماء الشيعة أكثر من 300 عالم ومجتهد، كما حضر عنده المئات من علماء أهل السنة. اشتهر (رحمة الله) بعلمه وورعه وزهده وتقواه بحيث تعدت شهرته حدود العراق ووصلت إلى أقصى نقاط الدنيا. ألف (رحمة الله) كتابين من كتب الشيعة الأربعة المشهورة وهما: (تهذيب الأحكام) و(الاستبصار)، كما كتب في الفقه كتاباً اسماه (النهاية) وكتاب (المبسوط) الذي دخل الفقه به مرحلة جديدة وكان في زمانه أكبر كتاب فقهي، وأما كتاب (الخلاف) فقد ذكر فيه آراء فقهاء الشيعة وأهل السنة، وله كتب فقهية أخرى، كما ألف في الأصول والحديث والتفسير والكلام والرجال مؤلفات كثيرة. توفي (رحمة الله) ليلة الاثنين الثاني والعشرين من شهر محرم الحرام سنة 460ه عن عمر يناهز الخامسة والسبعين عاماً، ودفن في داره التي كان يقطنها بوصية منه، وهي الآن من أشهر مساجد النجف الأشرف ويعرف بمسجد الطوسي بالقرب من الحرم الشريف.

..............................

والعلامة (قدس سره)(1)..والسبزواري (2) :

من أن الشر إعدام، فالأمر من قبيل باب السالبة بانتفاء الموضوع(3) ويكون

ص: 278


1- الحسن بن يوسف بن علي بن المطهر الحلي المعروف بالعلامة الحلي، ولد في 29 رمضان سنة 648ه في مدينة الحلة. بدأ بتحصيل العلم منذ طفولته، فدرس الأدب العربي والمقدمات والعلوم العصرية عند أبيه، وكذلك عند خاله المحقق الحلي، وابن عم أمه الشيخ نجيب الدين يحيى بن سعيد، والسيد أحمد بن طاووس، ورضي الدين علي بن طاووس، وابن ميثم البحراني. أكمل المقدمات ونال درجة الاجتهاد ولم يبلغ سن التكليف. له من الآثار في حدود 100 كتاب، فقد ألف في الفقه والأصول والكلام والمنطق والفلسفة والرجال، منها: الإرشاد، تبصرة المتعلمين، القواعد، التحرير، تذكرة الفقهاء، مختلف الشيعة، المنتهى، شرح التجريد، منهاج الاستقامة، تلخيص الكشاف، وغيرها. توفي (رحمة الله) في 11 محرم ليلة السبت أو يومه سنة 726ه في الحلة المزيدية، وقد حمل نعشه الشريف على الرؤوس إلى النجف الأشرف ودفن في جوار أمير المؤمنين (علیه السلام) في حجرة إيوان الذهب الواقعة على يمين الداخل إلى الحضرة الشريفة العلوية من جهة الشمال بجنب المنارة الشمالية.
2- الحاج المولى هادي بن مهدي السبزواري الشيرازي المشهور بالحكيم السبزواري، فقيه وحكيم من أعلام القرن الثالث عشر الهجري، نعته العلامة الشيخ أقا بزرك الطهراني ب (الفيلسوف المتأله)، ولد في سبزوار عام 1212ه، وتعلم بأصبهان ومشهد، توفي بسبزوار 1289ه. من مؤلفاته : شرح اللآلئ المنتظمة في المنطق، غرر الفرائد في الحكمة، أرجوزة في الفقه سماها النبراس، حاشية على الشواهد الربوبية للصدر الشيرازي، وحاشية على المبدأ والمعاد للشيرازي أيضاً، وأسرار الحكمة والجبر والاختيار.
3- المراد كما يبدو أن قولك: (خلق الله الشر) أو (الشر مخلوق الله) غير تام، من جهة أن الشر عدم محض غير قابل للخلقة، لا أنه ممكن الخلقة لكنه تعالى لم يخلقه من جهة المصلحة التي ألزم بها نفسه كما هو مقتضى الجواب السابق.

..............................

التعبير به في الآيات والروايات مسنداً إلى الباري تعالى مجازياً بنحو المجاز في الكلمة(1)، والإماتة والإمراض وشبهها - على هذا القول - كلها خير وإن خفي علينا ذلك.

ثم عمله الشر لو فرض فلأنه مالك حقيقي له أن يتصرف في ملكه، فلا يصح التخلق في ما ثبت أنه شر فقط، فليتأمل.

ص: 279


1- بأن يكون إطلاق الشر على (ما يتوهم شراً) وإن كان خيراً حقيقة، أو على الشر بالقياس النسبي.

فَهَبَطَ الأَمِينُ جِبرائِيلُ، وَقالَ: السَّلامُ عَلَيكَ يا رَسُولَ الله، العَلِيُّ الأَعلَى

اشارة

-------------------------------------------

وصف الله بالعلي الأعلى

مسألة: يجوز خطاب الله تعالى بالعلي الأعلى، حتى بناءً على أن أسماء الله توقيفية، استناداً لهذا الحديث الشريف.

ولعلّ جبرائيل (علیه السلام) إنما قال: «العلي» باعتبار أنه قد هبط من أعلى، وكلما هبط الإنسان وكان من موقع أعلى فأعلى تجلى علو العالي له أكثر فأكثر ويكون أظهر بالنسبة إليه، ولهذا ورد أنه: «لما نزلت «فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ»(1) قال لنا رسول الله (صلی الله علیه و آله): «اجعلوها في ركوعكم»، فلما نزلت «سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى»(2) قال لنا رسول الله (صلی الله علیه و آله): «اجعلوها في سجودكم»(3).وحيث إن العلو يمكن اتصاف غير الله سبحانه وتعالى به عرفاً - وإن كان بمعناه الحقيقي وبقول مطلق منحصراً به جل وعلا - قيَّده جبرائيل (علیه السلام) بالأعلى؛ فإنه أعلى من كل عال، وهذا من ضيق التعبير، إذ أين المحدود من اللا محدود والفقر المحض من الغني ذي القوة المتين؟.

ص: 280


1- سورة الواقعة: 74و96، سورة الحاقة: 52.
2- سورة الأعلى: 1.
3- وسائل الشيعة: ج6 ص327-328 ب21 ح8101.

..............................

ثم إن جمعاً من أهل الذكر والدعاء قالوا: إن الإنسان إذا كرر وأكثر من ذكر أحد أسماء الله سبحانه وتعالى أفاض الله عليه مفاد ذلك الاسم، فمثلاً: من يريد العلو إذا أكثر من ذكر (يا علي)، ومن يريد الغنى إذا كرر (يا غني)، ومن يريد الجاه إذا لازم ذكر (يا ملك)، وهكذا؛ فإن الله سبحانه وتعالى يفيض عليه مصاديق تلك الألفاظ، وهذا من المجربات وإن لم أجد به رواية.

تعظيم الله سبحانه

مسألة: يستحب تعظيم الله سبحانه عند ذكر اسمه دائماً، كما قال جبرائيل (علیه السلام): «العلي الأعلى».وكذلك تعظيم كل من عظّمه الله تعالى، فإذا ذكر الإنسان الرسول (صلی الله علیه و آله) قال: (صلى الله عليه وآله)..

وإذا سمى علياً (علیه السلام) أو الحسن (علیه السلام) أو غيرهم من المعصومين (علیهم السلام) عقّب الاسم بوصف أو دعاء دال على العظيمة والرفعة، مثل:

(عليه السلام)

و(صلوات الله عليه)

و(روحي له الفداء)

وما أشبه ذلك.

ص: 281

يُقرِئُكَ السَّلام،

اشارة

-------------------------------------------

إرسال السلام عبر الواسطة وأحكامه

مسألة: يستحب إرسال السلام، كما أرسل الله تعالى السلام بواسطة جبرائيل (علیه السلام).

وقد صدر ذلك من الأئمة (علیهم السلام) أيضاً كثيراً حسب الروايات.

والإرسال يصح أن يكون إلى فرد أو إلى جماعة، بواسطة فرد أو جماعة، وفي الحديث: «أقرِئ موالينا السلام»(1)، وفي حديث فاطمة (سلام الله عليها) إبلاغ السلام إلى ذريتها، إلى غير ذلك.

والظاهر أن رد مثل هذا السلام ليس بواجب، لانصراف أدلة الوجوب عن مثله.

نعم يستحب قطعاً، للملاك، ولأنه من الخُلُق الكريم.

وهل يجب إبلاغ الواسطة لمثل هذا السلام؟.

لا إشكال في عدم الوجوب إن لميتعهد بالإبلاغ، أما إن تعهد فيحتمل الوجوب لأنه من الأمانة، كما يحتمل العدم لأنه ليس إلاّ وعداً، والمشهور عدم وجوب الوفاء، والثاني أقرب إلى الصناعة وإن احتملنا في (الفقه): وجوب الوفاء بالوعد في الجملة، والأول إلى الاحتياط.

ص: 282


1- بحار الأنوار: ج1 ص200 ب4 ح7.

..............................

ثم لو قال جماعة لزيد: أبلغ فلاناً سلامنا، يكفي الموجز بأن يقول: إن جماعة أبلغوك السلام، لسيرة المتشرعة من غير نكير، بالإضافة إلى أن المستفاد من الأدلة لا دلالة له من حيث التنصيص.

والسلام المرسَل عبر الكتاب حاله حال السلام المرسل بواسطة الرسول، ومثلهما السلام في التسجيلات الصوتية ونحوها، نعم لا يجب رد السلام على وسائل الإعلام العامة بلا إشكال(1).

جواز حذف بعض الحديث المنقول

مسألة: من المحتمل أن يكون جبرائيل (علیه السلام) قد سلّم على النبي (صلی الله علیه و آله) فقط - على ما ربما يستظهر من اقتصار الزهراء (عليها الصلاة والسلام) في النقل على ذكر (يقرِئُك السلام) - فيعلل ذلك بأنه من جهة أنه (صلی الله علیه و آله) أعظم الموجودين تحت الكساء فاقتضى إجلاله وإعظامه تخصيص الخطاب والسلام به.

ومن المحتمل أن يكون جبرائيل (علیه السلام) قد سلّم عليهم (علیهم السلام) - بعد سلامه على الرسول (صلی الله علیه و آله) - وإنما ذكرت الزهراء (عليها الصلاة والسلام) بعض كلام جبرائيل (علیه السلام) احتراماً وإجلالاً لرسول الله (صلی الله علیه و آله)، حيث إن تشريك غيره معه في النقل ليس بذلك التعظيم له فيما إذا ذكر وحده.

ص: 283


1- راجع في هذا المبحث: (ألف مسألة متجددة)، (الفقه: المسائل المتجددة)، (الفقه: الواجبات والمحرمات)، (الفقه: الآداب والسنن).

..............................

ومن الواضح أن حذف ما يعلم وما هو بمنزلته جائز، كما نجد ذلك في كثير من الروايات حيث لا تتعرض صراحة لكثير من المطالب والحوادث الواقعة، وذلك لوجود القرائن الحالية أو المقالية الأخرى، فيمكن استكشافها كثيراً من أماكن أخرى.كما أن الزهراء (علیها السلام) حين نقلها كلام الله تعالى لم تقل بأن الله أمر جبرائيل (علیه السلام) أن يُقرِئ نبيه السلام ويخصه بالتحية والإكرام ويقول له: وعزتي وجلالي، وقد استنبط ذلك بالملازمة العرفية من كلامه.

وهذا جار عند البلغاء حيث يكتفون بذكر بعض الكلام في الكثير من المواقع، كما هو شأن القرآن الحكيم في نقله للقصص فإنه يذكر بعضاً ويترك بعضاً آخر..

ويعلل ذلك - فيما يعلل به - ب: لكي يُحدث في النفس منطقة فراغ، لتذهب النفس في ذلك الفراغ كل مذهب من قبيل ما ذكروه في قوله سبحانه: «وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسى فَارِغاً»(1)، حيث إن الفراغ محل لجولان الخواطر وتقليب وجوه الرأي والتعود على التدبر والاستنباط، بينما إذا كان ممثلاً لم يكن له إلاّ وجه واحد وهو ما ملأه.

وقد يكون ذلك السبب - أو جزء السبب - أحياناً في تقطيع بعض المحدثين الأحاديث وذكرهم بعضها دون بعض، وإن كان الغالب في التقطيع كونه لأجل الاقتصار على محل الحاجة.

ص: 284


1- سورة القصص 10.

وَيَخُصُّكَ بِالتًّحِيَّةِ وَالإِكرَامِ،

اشارة

-------------------------------------------

التحية والتكريم

مسألة: يستحب تحية وتكريم من كان أهلاً لهما.

و(التحية) من الحياة، والمراد بها: الحياة السعيدة.

و(الإكرام) جعل الإنسان كريماً، أي رفيعاً مرضياً،فسلامة وحياة وكرامة، وهذا غاية التبجيل، ودعاء بأهم عوامل السعادة، فإن كل واحد وإن كان يطلق على الآخر أحياناً، ولذا أُريد ب «حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ»(1) الأعم من السلام، إلاّ أن الجمع بينها كان للدلالة على مزيد التجليل والتبجيل.

فإن ألفاظ لغة العرب - وإن كانت مترادفات في الصورة - إلاّ أنها لدى الدقة مختلفة باختلاف الخصوصيات، مثلاً الجواد والسخي والكريم، كلها تعطي معنى البذل والعطاء، لكن بينها فرقاً:

فالأول: من يعطي ولا يريد بذلك شهرةً ولا كمالاً لنفسه عبر الجود.والثاني: من يريد كمالاً أو شهرة بذلك، ولذا لا يطلق على الله سبحانه السخي.

والثالث: من يعطي وهو كريم، قد ظهرت منه محاسن عديدة (2) أو يقصد التكريم.

ص: 285


1- سورة النساء: 86.
2- راجع لسان العرب.

..............................

والتحية إذا كانت بغير لفظ السلام لا تجب الرد على المشهور، وإن كان ذلك مقتضى سمو الخلق ورفعة الأدب.

ثم إن السلام من الله سبحانه معناه: السلامة لعبده، مع قطع النظر عن التحية، أما السلام نسبةً إلى الله تعالى كما ورد في أعمال مسجد الكوفة: «اللهم أنت السلام ومنك السلام وإليك يعود السلام»(1)، وكون الله سلاماً، كما قال سبحانه: «هُوَ الله الَّذِي لاَ إِله إلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ»(2) فمعناه: إنه باعث السلام وخالقه، أو أنه لا نقص فيه ولا عيب ولا تغير.

مسألة: يستحب بيان أن الله تعالى قدأقرأ رسوله (صلی الله علیه و آله) السلام وخصّه بالتحية والإكرام.

فإن معرفة ذلك وأشباهه توجب مزيداً من ربط وتعلق الإنسان بربه وبرُسُله كما لا يخفى، إضافة إلى العمومات التي تشمل المقام وأمثاله، ومنها ما سيأتي في هذا البحث من: «ما ذكر خبرنا هذا ... ».

ص: 286


1- بحار الأنوار: ج97 ص412 ب6 ضمن ح68.
2- سورة الحشر: 23.

وَيَقُولُ لَكَ: وَعِزَّتي وَجَلالي

اشارة

-------------------------------------------

القسم وموارده

مسألة: يستحب الحلف وقد يجب، إذا كان الأمر المحلوف عليه مهماً كما حلف الله سبحانه..

وإنما يجب إذا كان المحلوف عليه شرفاً وعرضاً ينتهك بترك الحلف كما في المرافعات، أو مال صغيرٍ وهو متوليه، أو ما أشبه ذلك.

وهذا لا ينافي كراهة مطلق الحلف، ولذا لم يحلف الإمام زين العابدين (علیه السلام) وأعطى المهر لمن ادعت عليه عدم إعطائه لها المهر؛ معللاً بأن الله سبحانه أجلّ شأناً من أن يحلف عليه لأجل المال(1).

والحلف من الله سبحانه في هذا الأمور تأكيدٌ للأمر، لا لهم (علیهم السلام) بل للناس حينما يبلغهم الخبر.

وقد أكثر الله سبحانه من القَسَم في القرآن الحكيم.أما قوله تعالى: «لاَ أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ»(2) وما أشبه فالظاهر أنه إلماع إلى الحلف بدون أن يحلف، جمعاً بين التجليل والحلف، لا أن (لا) زائدة كما قاله بعض الأدباء.

ص: 287


1- راجع الكافي: ج7 ص435 باب كراهية اليمين ح5.
2- سورة البلد: 1.

..............................

وقوله سبحانه: «لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ»(1) حلف بالعُمر بالضم لكن صيغة الحلف تأتي بالفتح، ولعل (الكاف) لمن يتأتى منه الأمر مثل: «وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ»(2) حيث قال الأدباء: إنه أريد به من تتأتى منه الرؤية.

وقد ذكرنا في (الفقه) صحة إحلاف كل إنسان بما يعتقد به من كتاب ونحوه كاليهود والنصارى ومن أشبههم، بل لا يستبعد صحة الإحلاف بمثل العباس (علیه السلام) بالنسبة إلى من يخشاه ويهابه، حيثما توقف ظهور الحق على ذلك دون ما عداه، وتفصيل الكلام في ذلك في بابالأيمان(3).

أما الحلف بما هو باطل محض كالصنم ونحوه فلا يجوز إلاّ إذا اضطر إليه، حيث إن الضرورات تبيح المحظورات، وقد ورد في الحديث: «ليس شيء مما حرم الله إلا وقد أحلّه لمن اضطر إليه»(4) إلاّ أن تزاحمه جهة أخرى كما لو استلزم ذلك ترويجاً.

ص: 288


1- سورة الحجر: 72.
2- سورة السجدة: 12.
3- راجع (الفقه: كتاب الجعالة، الأيمان، النذر).
4- وسائل الشيعة: ج23 ص228 ب12 ح29442.

إِنّي ما خَلَقتُ سَماءً مَبنيَّةً، ولاَ أَرضاً مَدحِيَّةً، وَلاَ قَمَراً مُنِيراً، وَلاَ شَمساً مُضِيئَةً، ولاَ فَلَكاً يَدُورُ، ولاَ بَحراً يَجري، وَلاَ فُلكاً يَسري،

النقل باللفظ أو بالمعنى

مسألة: يستحب وقد يجب النقل بالنص؛ فإن جبرائيل (علیه السلام) بلّغ نص ما قاله الله سبحانه وتعالى وهو: «إني ما خلقت سماءً مبنيةً» إلى آخره، وذلك يدل على أفضلية أن يذكر الإنسان نص ما صدر عن الله تعالى والمعصوم (علیه السلام) وإن جاز النقل بالمعنى أو التقديم والتأخير إذا أريد المعنى، كما وردت بذلك الروايات وأفتى به الفقهاء، وذلك لتعسر أو تعذر النقل باللفظ عادة، أما لغير العرب فواضح؛ لأنهم لا يحسنون اللغة، وأما العرب فإنه من المتعسر جداً الضبط الكامل وإن كانت الألفاظ بخصوصياتها ذوات مزايا لا توجد في النقل بالمعنى حتى لو كانت باللغة العربية وبمرادفاتها أيضاً.

والحاصل أن الأمر من باب الأهم والمهم وإلاّ فاللفظ له مدخلية لا توجدفي ألفاظ أخرى تفيد ذلك المعنى بتلك اللغة أو بلغة أخرى، ولعل بعض الاختلاف في الروايات نشأ من ذلك.

ص: 289

..............................

التذكير بالتكرار

مسألة: يرجح التذكير بالتكرار بالمهم من الأمور والتأكيد عبر التكرار، فإن تكرار هذا المقطع في كلام الزهراء (عليها الصلاة والسلام) إنما كان لأهميته، إذ أنه كان بإمكانها الإشارة إلى أن جبرائيل (علیه السلام) أدى الرسالة الإلهية إلى النبي (صلی الله علیه و آله).

ولا يخفى أن الله سبحانه وتعالى خلق كل الكون دنياً وآخرة لأجلهم (عليهم الصلاة والسلام) كما دل على ذلك متواتر الروايات..

وذكر السماء والأرض والشمس والقمر والبحر - في حديث الكساء - إنما هو لارتباطها بالشؤون الأرضية التي هم فيها.

ص: 290

إِلاَّ لأَجلِكُم وَمَحَبَّتِكُم،

اشارة

-------------------------------------------

المعصومون (علیهم السلام) أجل وأعظم من الكون

مسألة: يستحب دعوة الناس إلى التمسك بمن ينفعهم في دينهم ودنياهم، وقد يجب، كما وجّه سبحانه الناس إلى الخمسة الأطياب مرات عديدة ببيان أن الكون خلق لأجلهم.

إذ يجب في الواجبات - كالمقام - ويستحب في المستحبات: توجيه الناس إلى ما ينفعهم، ولأنهم (علیهم السلام) العلة الغائية(1) للكون.. فهم (علیه السلام) أجل وأكبر وأعظم منه، وغير خفي أن كونهم (علیهم السلام) أجل وأكبر وعظم من الكون لا يراد به البُعد المادي(2) بل المقصود الجانب المعنوي، فكما أن مثقالاً من الألماس قد يكون أغلى من مليون مثقال من الفحم - في القيمة والمعنى - كذلك في المقام.وقد رأى النبي (صلی الله علیه و آله) في المعراج قافلة من الإبل لا يعلم أولها ولا آخرها وهي محملة بفضل الإمام علي (علیه السلام)، وقد يكون ذلك من باب تشبيه المعقول بالمحسوس(3) وربما يكون حقيقياً كأن تكون فضائله (علیه السلام) مسطرة في صحائف

ص: 291


1- قد سبق في الكتاب الحديث عن ذلك تفصيلاً.
2- اللهم إلا على التوجيه الآتي آخر هذا البحث فيشمل البعدين.
3- بفرض تحول المعنى إلى المادة كما تتحول الطاقة إليها وذلك كما فرضنا حمل الإبل للكرة الأرضية - أو المشتري الذي هو أكبر من الأرض ألف مرة كما يقول علماء الفضاء - لاستدعى ذلك الملايين من الإبل كما هو واضح.

..............................

وكتب حملتها ملايين الإبل كما تشهد به بعض القرائن، أو بكون فضائله (علیه السلام) حقيقة وبما هي هي محمولة ويكون المجاز في (الإبل) فليدقق.

فإن معنوية الإمام أمير المؤمنين علي (علیه السلام) أكبر من الكون، وهو المصداق الأتم بعد الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) للشطر الثاني من قوله (علیه السلام):

أتزعم انك جرم صغير *** وفيك انطوى العالم الأكبر

وهو كذلك بعد رسول الله (صلی الله علیهو آله)، وإنما كان الإمام علي (علیه السلام) كنافذة لتلك النفس الرفيعة الكبيرة مثل نبع تحته بحار من المياه.

والمراد بالمعنوية: سعة علمه وعمق حلمه وسمو خلقه وآدابه وقوة إمكانياته في التصرف في الكون، إلى ما أشبه ذلك(1).

وذلك كقوله سبحانه: «لَوْ أَنْزَلْنَا هذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ الله»(2).

فإنه إذا قيست معنوية القرآن بمادية الجبل تكون معنوية القرآن أضعاف أضعاف مادية الجبل، فإنه قد يلاحظ المادي في قبال المادي، وقد يلاحظ المعنوي في قبال المعنوي، وقد يلاحظ في قبال المادي، وقد يكون العكس، وهذه الآية من القسم الثالث.

ص: 292


1- إلى جانب من ذلك يشير الشاعر - أبو وائل بكر بن النطاح الحنفي (?-192ه)، أو علي بن جَبلة العكوك (160-213ه) - بقوله: له همم لا منتهى لكبارها *** وهمته الدنيا أجلُّ من الدهر
2- سورة الحشر: 21.

..............................

ومن المعلوم أن المادي قد يتحولمعنوياً كما في تحول المادة إلى الطاقة في الانفجار الذري مثلاً، وفي تحول الأغذية في بدن الإنسان إلى قوة وطاقة.

وقد يُبادل المادي ويعوّض بالمعنوي كصرف المال لأجل العلم، فإن العلم معنوي والمال مادي، وقد يكون العكس كصرف العلم في تحصيل المال، وقد يصرف العلم لتحصيل علم آخر، أو المال لتحصيل مال آخر، فلو فرض أن القرآن المعنوي تحول إلى شيء مادي لكان الجبل خاشعاً متصدعاً بسبب ذلك الشيء المادي الذي تحول القرآن المعنوي إليه، وهناك معنى آخر لتوضيح الآية الشريفة نذكره في محله.

ولكونهم (علیهم السلام) أكبر وأعظم من الكون توجيه آخر هو ما قد ذهب البعض إليه من الالتزام بالسعة الوجودية والاحاطة الشمولية، والكلام في المقام طويل وعميق نكتفي منه بهذا القدر.

ص: 293

وَقَد أَذِنَ لِي أَن أَدخُلَ مَعَكُم، فَهَل تَأذَنُ لِي يِا رَسُول الله؟.

اشارة

-------------------------------------------

الاستئذان طولياً

مسألة: يستحب الاستئذان المجدد من العظيم - وإن حصل الإذن من الله تعالى من قبل - احتراماً لذلك العظيم، كما استأذن جبرائيل (علیه السلام) من النبي (صلی الله علیه و آله).

ولربما توقف الجواز(1) على الإذن الثاني، فيما لو كان إذن الله سبحانه وتعالى متوقفاً على إذنه (صلی الله علیه و آله)، كإذنه سبحانه وتعالى في التصرف في أموال الناس طولياً إذ يتوقف حينئذ على إذن المالك، فإن إذن الله سبحانه وتعالى إذا كان جزمياً لم يتوقف على شيء آخر، وإن كان تعليقياً وعلى نحو الإجازة توقف على شيء آخر، فإنه أيضاً بأمر الله سبحانه وتعالى الذي جعله مالكاً، وهكذا في أمثال ذلك.

وهل دخول جبرائيل (علیه السلام) معهم (علیهم السلام) كان معنوياً أو مادياً، بمعنى أنه تمثل في صورة البشر ودخل معهم، كما كان أحياناً يتمثلبصورة دحية الكلبي(2) وغيره، أم أنه بنفس روحه وواقعيته وكما هو هو دخل معهم؟.

احتمالان، ولم يظهر من هذا الحديث ما يؤيد أحد الاحتمالين ولا يعلمه إلاّ الله سبحانه وتعالى وأولياؤه.

ص: 294


1- أي: جواز التصرف وشبهه.
2- راجع الكافي: ج2 ص587 باب دعوات موجزات لجميع الحوائج للدنيا والآخرة ح25.

فَقالَ رَسُولُ الله (صلی الله علیه و آله): وَعَلَيكَ السَّلامُ يَا أَمِينَ وَحيِ الله، إِنَّهُ نَعَم

اشارة

-------------------------------------------

سلام غير الإنسان

مسألة: يجب ردّ سلام غير الإنسان كالملائكة، كما ردّ (صلی الله علیه و آله) سلام جبرائيل (علیه السلام)، والفعل وإن كان أعم إلاّ أنه يدل على الجامع، واستفادة الوجوب من الإطلاقات.

التأكيد

مسألة: يرجح التأكيد في مقام الجواب والإذن إذا كان فيه الفائدة، حيث قال (صلی الله علیه و آله): «إنه نعم قد أذنت لك».

ومن الواضح أن التأكيد في مثل المقام يفيد مزيد اشتياق الآذن للمستأذن، فليس تأكيداً لفظياً فحسب.

ويحتمل أن يكون رد الرسول (صلی الله علیه و آله) معنوياً في قبال المعنوي، أو مادياً ظاهرياً في قبال الظاهري؛ فإن النفس قد توحي إلى النفس دونوساطة الجوارح.

ص: 295

قَد أَذِنتُ لَكَ. فَدَخَلَ جِبرائِيلُ مَعَنا تَحتَ الكِساءِ،

اشارة

-------------------------------------------

التجمع قوة وفائدة

التجمع قوة وفائدة (1)

والظاهر أن جبرائيل (علیه السلام) كان يريد بذلك الطلب الاستفادة المعنوية من معنوياتهم (علیهم السلام)، فكما يستفيد المادي من المادي، كاستفادة الشجر والحيوان والإنسان من الماء والطعام وما أشبه ذلك، كذلك يستمد المعنوي من المعنوي، كما يستفيد الإنسان من عِلم العالم وأخلاق الخلوق وأدب الأديب وما أشبه ذلك، ولا شك أنهم (علیهم السلام) أفضل من جبرائيل (علیه السلام)، فدخوله معهم سبب لاكتساب الخير منهم.

وكما أن التجمع في الماديات يوجب القوة كذلك التجمع في المعنويات يوجب قوة ذلك البُعد أيضاً، ومن ذلك:

«ما حار من استخار، ولا ندم مناستشار»(2).

و: «أعقل الناس من جمع عقول الناس إلى عقله»(3).

ص: 296


1- للتفاصيل راجع: (الفقه: السياسة)، (الفقه: الاجتماع)، (الفقه: الدولة الإسلامية)، (السبيل إلى إنهاض المسلمين)، (الصياغة الجديدة لعالم الإيمان والحرية والرفاه والسلام).
2- وسائل الشيعة: ج8 ص78 ب5 ح10125.
3- راجع غرر الحكم ودرر الكلم: ص442 ق6 ب4 ف1 شاور هؤلاء ح10080، وفيه: «من شاور ذوي العقول استضاء بأنوار العقول».

..............................

وقد ورد عنهم (عليهم الصلاة والسلام): «يد الله مع الجماعة»(1) أي: قوته وعزته وبركته، كما نشاهد ذلك في الماديات؛ فإن القطرات تتجمع حتى تكون بحراً وسيلاً يجرف القطيع أو المدن وغيرها.

وكذلك الذرات تتجمع حتى تكون صحراء، والخلايا الحية تتجمع حتى تكون إنساناً أو حيواناً، إلى غير ذلك..

فكما أن التجمع في الماديات يُفيد قوة ومضياً، كذلك التجمع في المعنويات.

ص: 297


1- نهج البلاغة، الخطب: 127 ومن كلام له (علیه السلام) وفيه يبين بعض أحكام الدين ويكشف للخوارج الشبهة وينقض حكم الحكمين.

فَقالَ لأِبي: إِنَّ الله قَد أَوحى إِلَيكُم يَقولُ:

اشارة

-------------------------------------------

التمايز بين القرآن وغيره

مسألة: يرجح أن تمتاز الآيات القرآنية في الكلام أو في الكتابة عن سائر الكلمات بميزة ظاهرة، كما قال جبرائيل (علیه السلام): «قد أوحى إليكم يقول».

ولقد كان ما جاء به جبرائيل (علیه السلام) وحياً من الله سبحانه وتعالى، وإنما لم يذكر الوحي في أول الكلام وذكره هنا؛ لأن الوحي باعتبار أنه قرآن وتحد بخلاف المقطع الأول من الكلام حيث لم يكن من القرآن.

ويمكن أن يفهم من الفرق بين الكلامين أن من المستحسن تمييز القرآن عن غيره من أنحاء الوحي إذا كان في ضمن كلامٍ بعضه قرآن وبعضه حديث قدسي بما يدل على أن هذه القطعة من القرآن، وحيث إن الخطاب هنا كان بصيغة: «إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ»(1)، قال جبرائيل (علیه السلام): أوحى إليكم بصيغة الخطاب للجمع، بينما في السابق كان يخاطب النبي (صلی الله علیه و آله) بصيغةالمفرد. ومن الواضح أنه يمكن الوحي بالنسبة إلى غير النبي (صلی الله علیه و آله) كما قال سبحانه «وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ»(2) وقال سبحانه: «إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى»(3) إلى غير ذلك. أما الوحي بالمعنى الأخص وهو ما كان بتوسط جبرائيل (علیه السلام) بالنحو الخاص فهو خاص بالأنبياء (علیهم السلام).

ص: 298


1- سورة الأحزاب: 33.
2- سورة النحل: 68.
3- سورة طه: 38.

«إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً»

اشارة

«إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً»(1).

عصمة المعصومين (علیهم السلام)

مسألة: يجب الاعتقاد بعصمة الرسول (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته (علیهم السلام)، وقد سبقت الإشارة إليه.

إشارة لآية التطهير

ولعلّ الإتيان بلفظ «إِنَّمَا» لإفادة أنإرادة الله سبحانه وتعالى منحصرة في ذلك، فلا يمكن أن يحيد عنه، كما أن لفظ «يُرِيدُ» يدل على أنه فعل مع الإرادة لإمكان انفكاك الإرادة عن الفعل، أو الفعل عن الإرادة في الممكن(2) دون الواجب تعالى، إذ إرادته التكوينية تلازم فعله وهي العلة التامة لتحقق المراد، ف (إرادته فعله).

و«يُرِيدُ» أولى من (يذهب) كما لا يخفى.

و(يذهب) يراد به الإذهاب حدوثاً وبقاءً، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً للقرائن الكثيرة الحالية والمقالية، ومنها أنه كان المجيء بالمضارع في «يُرِيدُ»

ص: 299


1- سورة الأحزاب: 33.
2- التقييد ب (في الممكن) لدفع توهم إمكان الانفكاك في الواجب إذ إرادته تعالى علة تامة لحدوث المراد، وفعله بالإرادة كما ثبت بالبرهان.

..............................

و«لِيُذْهِبَ» لإفادة الاستمرارية، حيث ذكروا أن الفعل المضارع يدل على الاستمرار، أما الماضي فإنه يدل على الحدوث فقط دون دلالة على البقاء، فلو قال: طهّر نفسه، دل على حدث في الماضي فقط، ولذلك عدل سبحانه عن (أذهب) إلى «لِيُذْهِبَ»، فبهذا وبغيره تكون هذهالجملة دليلاً على ارتفاع الرجس بأبلغ لفظ، ولو قال: أنتم طاهرون مطهرون، وما أشبه ذلك لم تكن في الجملة تلك الفائدة البلاغية الرفيعة، والتفصيل في كتب الكلام والتفاسير(1).

ولعل ذكر الآية في أثناء الآيات المرتبطة بنساء النبي (صلی الله علیه و آله) كان لإخفائها؛ حتى لا تمد إليها يد التحريف من المخالفين، و«إِنَّا له لَحَافِظُونَ»(2) لا يدل ولا يقتضي أن يكون كله غيبياً بل بالأسباب أيضاً.

لا يقال: إذا كان معنى (الإذهاب) التطهير، فما معنى «وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً»(3)؟.

لأنه يقال: واسطة بين الأمرين، وليسا من الضدين اللذين لا ثالث لهما؛ فإن (الرجس) قبح و(التطهر) جمال، وبينهما ما لا قبح له ولا جمال،وللتقريب نمثل بإذهاب السواد عن شيء حيث لا يلزم كونه أبيضَ، إذ من الممكن أن يكون لون آخر، وكذلك من يُذهب عن نفسه الجبن لا يستلزم أن يكون

ص: 300


1- راجع (شرح التجريد)، و(تقريب القرآن إلى الأذهان) للإمام المؤلف (قدس سره)، و(العبقات) للسيد مير حامد حسين، و(البحار) للعلامة المجلسي، و(إحقاق الحق) للتستري، و(نهج الحق وكشف الصدق) للعلامة الحلي.
2- سورة الحجر:9.
3- سورة الأحزاب:33.

..............................

شجاعاً، بل أمكن أن يصبح إنساناً عادياً، وكذا الأمر في البخل والكرم، وما إلى ذلك.

وربما كان «وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً»(1) للإشارة إلى عليا مراتب الطهارة.

إذهاب الرجس عن النفس

مسألة: يستحب للإنسان أن يسعى لإذهاب الرجس المعنوي والمادي عن النفس، ويكون ذلك واجباً في موارده.

ويستفاد من آية التطهير بضميمة الملاك في بعض المراتب، والفحوى من وجه، وأدلة التأسي وغير ذلك، فضل إذهاب الرجس المعنوي عن النفس من الشرك والعقائد الباطلة والملكات الرذيلة، وكذلك الرجس المادي عن البدن وسائر ما يتعلق بالإنسان عبر المطهرات، إلى غير ذلك.

تطهير الباطن والجوهر

مسألة: ينبغي التطهير والتطهر مادياً ومعنويا، استحباباً ووجوباً، كل في مورده. وقد ظهر مما تقدم ذلك.

ولا شك أن تطهير القلب والباطن أهم من تطهير البدن والظاهر؛ لأن الباطن هو المحور للإنسان، وهو الجوهر وهو محطة الإيمان والشرك وسائر أصول

ص: 301


1- سورة الأحزاب:33.

..............................

الدين، فإذا طهر باطنه من المعتقدات الفاسدة، والملكات الرذيلة، والنوايا السيئة ونحوها، يكون إنساناً كاملاً، وإلاّ كان منحرفاً عن منهج الله سبحانه.

فإذا كانت عقيدته فاسدة أوجبت له الهلاك في الآخرة، بل وفي الدنيا أيضاً في كثير من الأحيان:

«وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ»(1)..

وإذا كانت ملكاته رذيلة كالحسد والبخل وحب الدنيا وما أشبه ذلك أورثت له نكالاً ووبالاً في الدنيا والآخرة.والإنسان ذو النية السيئة تترتب على نيته آثار وضعية، كما سينكشف أمره أيضاً..

قال علي (علیه السلام): «ما أضمر أحد شيئاً إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه»(2)، فيُفتضح بين الناس كما أنه مفضوح عند الله سبحانه، وقد قال (صلی الله علیه و آله): «فاسألوا الله ربكم بنيات صادقة وقلوب طاهرة»(3).

وكما تكون الطهارة عن الرذائل تكون عن الدنايا أيضاً، مثل الكسل والضجر وحب الدنيا غير المحرم والشهوات الجائزة ونحو ذلك، فإن كل ذلك يوجب سقوط الإنسان أو تأخره ونقصان حظه.

ص: 302


1- سورة الأعراف: 96.
2- نهج البلاغة، قصار الحكم: رقم 26.
3- وسائل الشيعة: ج10 ص313 ب18 ح13494.

..............................

وقد قال (صلی الله علیه و آله): «من وقي شر ثلاث فقد وقي الشر كله: لقلقه وقبقبه وذبذبه»(1)..

والمراد الأعم من الحرام والمكروه ك: لغو الكلام - من غير أن يكون محرماً - والإفراط في الأكل وفي قضاياالجنس؛ فإن كل ذلك يوجب الانحطاط، والإفراط في أمر البطن والفرج يوجب الأمراض كما هو معلوم(2)، ف: «المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء»(3).

ص: 303


1- مستدرك الوسائل: ج9 ص32 ب103 ح10124.
2- راجع: (الفقه: الواجبات والمحرمات)، (الفقه: الآدب والسنن)، (الفقه: الأطعمة والأشربة)، و(الفقه: النكاح).
3- مستدرك الوسائل: ج16 ص452 ب109 ح20525.

فَقالَ عَلِيٌّ (علیه السلام) لأَبِي: يا رَسُولَ الله، أَخبِرنِي

اشارة

-------------------------------------------

استحباب السؤال لتعليم الغير

مسألة: يستحب السؤال لتعليم الغير، كما يستحب السؤال عن فضائل أهل البيت (علیهم السلام) خاصة.

وقد كان علي (عليه الصلاة والسلام) يعلم ذلك، لكنه سأل كي يظهر ذلك للآخرين على لسان رسول الله (صلی الله علیه و آله)..

وبذلك يُستدل على استحباب سؤال العالم للتعليم، كما يدل على استحباب السؤال عن فضائل أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) بصورة خاصة.

والظاهر أن كلام علي (عليه الصلاة والسلام) كان بعد كلام جبرائيل (علیه السلام)؛ لأن كلام جبرائيل (علیه السلام) كان دليلاً على وجود فضل لهذا الاجتماع، لوضوح أن تجمع المعنويات يوجب قوة وآثاراً تكوينية في المعنويات، بل وفي الماديات أيضاً، كما أن تجمع الماديات يوجب قوة وآثاراً في الماديات على ما سبق الإلماع إليه، فلا يقال: إن جلوس جماعة في مكان لا فضل له، كما أن مشي جماعةمعاً لا فضل له، فما معنى سؤال علي (عليه الصلاة والسلام): «ما لجلوسنا هذا تحت الكساء من الفضل عند الله؟».

هذا إضافةً إلى ما كان لهذا الاجتماع من تعليم البشرية على مر العصور حقائق غيبية وكونية كبرى على ما سبقت الإشارة إليه، وسيأتي الحديث عنه أيضاً.

ص: 304

مَا لِجُلُوسِنا هَذَا تَحتَ الكِساءِ مِنَ الفَضلِ عِندَ الله؟.

اشارة

-------------------------------------------

اجتماع ذوي الفضل و ...

مسألة: يستحب اجتماع ذوي الفضل، والحضور في مجالسهم،والاستفادة من محضرهم، وهو مما تترتب عليه الفوائد والثمار.

ولذا قال علي (علیه السلام): «يا رسول الله، أخبرني ما لجلوسنا هذا ... من الفضل عند الله؟».

ولا فرق بين أن يكون البعض أفضل من بعض، أو يكون لبعضهم فضل دون بعض، أوأن يكون للجميع فضل؛ فإنه إذا كان هناك إنسان عظيم واجتمع إليه الناس، ترشح إليهم من علومه أو معنوياته بحديثه بل بصمته أيضاً، وبهيئته وسمته وسلوكه، بل وبإشعاعاته أيضاً.

أما إذا كانوا كلهم عظماء - على درجات - فالترشح سيكون أكثر، والتجمع يسبب الفضل الأوفر..

واجتماع المتساويين في الفضل كذلك أيضاً، إذ البحث يقدح زناد الفكر، بل تجمعهم بحد ذاته يوجب قوة الروح والنفس أيضاً، وإطلاق «يد الله مع الجماعة» (1) وملاكه أيضاً يدل على ذلك، كما يؤيده الاعتبار.

ص: 305


1- نهج البلاغة، الخطب: 127 ومن كلام له (علیه السلام) وفيه يبين بعض أحكام الدين ويكشف للخوارج الشبهة وينقض حكم الحكمين.

..............................

الهدفية في الأعمال وقصد القربة

مسألة: ينبغي أن يقوم الإنسان بكافة أعماله بهدف الفضل والثواب والفائدة(1) وأن يتحرى عن ذلك، كماقال علي (علیه السلام): «يا رسول الله، أخبرني ما لجلوسنا هذا تحت الكساء من الفضل عند الله؟».

فكل عمل وكل حركة وسكون للجوارح أو الجوانح يمكن أن تكون ذات فائدة أو ضرر بما هي هي، أو بالقصد(2) وسائر العوارض، فإذا قام بالعمل لأجل الفضل والثواب والفائدة، وإذا تحرى عما يحقق ذلك ضمن سعادة الدنيا والآخرة، وإلاّ خسر نفسه وأضاع عمره، وضياعه خسارة لا تعوض إذ لا تعود للإنسان حتى ثانية من عمره الضائع، يقول الشيخ البهائي (قدس سره)(3):

ص: 306


1- قد يكون الفضل إشارة للقيمة الذاتية، والثواب للأجر الأخروي، والفائدة إشارة للمنفعة الدنيوية - راجع: (الفضيلة الإسلامية)، و(الفقه: الآداب والسنن) -.
2- المباح يتحول إلى مستحب بالقصد، فمثلاً شرب الماء وأكل الطعام بما هو هو مباح، وبقصد الاستعانة به على العبادة وقضاء الحوائج و... مندوب مثاب عليه.
3- بهاء الدين محمد بن الحسين بن عبد الصمد الحارثي الجعبي المعروف بالشيخ البهائي، والحارثي نسبة إلى الحارث الهمداني. ولد (رحمة الله) في بعلبك عام 953ه، ثم انتقل به والده وهو صغير إلى إيران فنشأ فيها. تتلمذ على يد والده وغيره في الفقه والأصول والعقائد والتفسير والنحو وغير ذلك من العلوم. بعدها ساح في البلدان ثلاثين عاماً، فسافر من أصفهان إلى الحجاز، ثم إلى مصر والقدس وحلب ثم رجع إلى أصفهان فشرع الكتابة والتأليف وانتهت إليه رئاسة المذهب. كان ماهراً في العلوم المختلفة بلا نظير، وقد اشتهر بعلم الرياضيات، كما تنسب إليه أشياء عجيبة في الهندسة ما زالت آثارها باقية إلى الآن في العراق وإيران، وله شعر كثير جيد بالعربية والفارسية. خلف آثاراً عديدة منها: (الحبل المتين في إحكام أحكام الدين)، (مشرق الشمسين وإكسير السعادتين)، (العروة الوثقى في تفسير القرآن)، (شرح الصحيفة السجادية)، (حاشية شرح العضدي على مختصر الأصول)، (الخلاصة في الحساب)، وغيرها. توفي (رحمة الله) في خراسان في مشهد الإمام الرضا (علیه السلام) في شهر شوال سنة 1030ه، وقيل : 1031ه، وقيل 1035ه، ودفن في بيته الذي هو الآن جزء من الحضرة الرضوية المقدسة.

..............................

(العمر مضى وليس من بعدُ يعود).

ولذلك ولغيره - كالتعليم مثلاً - سأل علي (علیه السلام) عن فضل جلوسهم تحت الكساء.

وفيه تنبيه على لزوم إتيان الأعمال بهدف التقرب إلى الله، والتفكير في فضل عمله عنده سبحانه، فإن للإنسان أن يعمل حتى الواجبات الجنسية وما أشبه قربةً إلى الله سبحانه، مما يوجب له الأجر والثواب، وإلى ذلك أشارت بعض الروايات.وقد ورد في الحديث(1): «إنه يفتح للعبد يوم القيامة على كل يوم من أيام عمره أربعة وعشرون خزانة - عدد ساعات الليل والنهار - فخزانة يجدها مملوءة نوراً وسروراً، فيناله عند مشاهدتها من الفرح والسرور ما لو وزع على أهل النار لأدهشتهم عن الإحساس بألم النار، وهي الساعة التي أطاع فيها ربه.

ثم يفتح له خزانة أخرى فيراها مظلمة منتنة مفزعة، فيناله عند مشاهدتها من الفزع والجزع ما لو قسم على أهل الجنة لنغص عليهم نعيمها، وهي الساعة التي عصى فيها ربه.

ص: 307


1- بحار الأنوار: ج7 ص262 ب11 ح15.

..............................

ثم يفتح له خزانة أخرى فيراها فارغة ليس فيها ما يسره ولا ما يسوؤه، وهي الساعة التي نام فيها أو اشتغل فيها بشيء من مباحات الدنيا، فيناله من الغبن والأسف على فواتها، حيث كان متمكناً من أن يملأها حسنات ما لا يوصف، إن هذا قوله تعالى: «ذلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ»(1)».قال الشاعر:

أنفاس عمرك أثمان الجنان فلا*** تشري بها لهباً في الحشر تشتعل

أليس من الخسارة أن يخسر الإنسان نفسه ودنياه بالحرام؟!

قال تعالى: «إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ»(2).

أليس من الخسارة أن يقضي الإنسان حياته فيما لا يدرّ عليه أرباحاً وجناناً عرضها السماوات والأرض؟ ومَثَله كمن يحرق أوراقه النقدية وإن لم يصرفها في الحرام الضار؟!

وحيث كان جلوسهم (علیهم السلام) للّه سبحانه كان له فضل.

وكذا يعلّمنا الإمام (علیه السلام) كيف نصرف أوقاتنا في مرضاة الله تعالى.

ص: 308


1- سورة التغابن: 9.
2- سورة الزمر: 15، سورة الشورى: 45.

..............................

أقسام الجلوس

مسألة: الجلوس في مكان والاجتماع فيه ينقسم إلى الأحكام الخمسة:

فمنه: واجب، للتعليم والتعلم الواجبين، وما أشبه ذلك، كالمرابطة في الثغر ونحوها.

ومنه: مستحب، في التعليم والتعلم المستحبين، ومنه جلوسهم تحت الكساء، ولا يبعد كونه أحد مصاديق الواجب التخييري.

ومنه: مكروه، كما إذا كان من مجالس الباطل لا إلى حد الحرمة.

ومنه: محرم، وهو ما إذا كان إلى حد المحرم، أو ما أشبه ذلك، لذا قال سبحانه: «فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ»(1).

ومنه: مباح، إذا لم يكن أياً من الأربعة.

ص: 309


1- سورة النساء: 140.

فَقالَ النَّبيُّ (صلی الله علیه و آله): وَالَّذي بَعَثَنِي بِالحَقِّ نَبِيّاً وَاصطَفانِي بِالرِّسالَةِ نَجِيّاً،

اشارة

-------------------------------------------

التأكيد على حقانية أفعاله تعالى

مسألة: يستحب التأكيد على حقانية أفعال الله تعالى، ولذا قال النبي (صلی الله علیه و آله): «والذي بعثني بالحق»(1) مع أن بعث الله سبحانه لا يمكن أن يكون بالباطل.

كما أنه يرجّح - إلى حدّ المنع من الترك في صورة التوقف - القسم بالله سبحانه وتعالى في الأمور المهمة، ولذا قال النبي (صلی الله علیه و آله): «والذي بعثني بالحق نبياً».

ومن الواضح الفرق بين النبوة والرسالة؛ لأن كل رسول نبي، وليس كلنبي رسولاً، وإن كان أحدهما يطلق على الآخر في كثير من الأحيان.

التأكيد على نبوة الرسول (صلی الله علیه و آله)

مسألة: يستحب التأكيد على نبوة الرسول (صلی الله علیه و آله) حيث قال (صلی الله علیه و آله): «والذي بعثني بالحق نبياً، واصطفاني بالرسالة نجياً».

ص: 310


1- للباء معنى واحد وهو الإلصاق على ما يراه الإمام المؤلف (قدس سره) في (الأصول) كما هو رأي سيبويه، وكل المعاني الأخرى المذكورة له من المصاديق، قال ابن مالك: بالباء أستعن وعد عوض الصق *** ومثل مع وعن ومن بها انطق

..............................

ومن الواضح أن الاستحباب في محله، والوجوب في محله - في هذا وفي سابقه - حسب مقتضيات الأحوال والظروف والشرائط.

وقوله (صلی الله علیه و آله): «نجياً» دليل على النجوى التي كانت بين الله تعالى وبين الرسول (صلی الله علیه و آله)، فلم يكن الوحي بحيث تظهر للناس علاماته في كل الأوقات، وهذا يدل على رفعة مكانة الرسول (صلی الله علیه و آله)؛ لأن النجوى بين اثنين تدل على اختصاص أحدهما بالآخر، فهو كالتأكيد على قرب منزلة الرسول (صلی الله علیه و آله) من الله سبحانه وتعالى حتى اتخذهنجياً.

ولا يخفى أن تأكيد الرسول (صلی الله علیه و آله) في هاتين الجملتين إنما هو لسائر الناس، وأما علي (علیه السلام) وأهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) فهم يعرفون ذلك حق المعرفة، فلا حاجة إلى أصل الذكر والتذكير فضلاً عن التأكيد والقسم.

ص: 311

ما ذُكِرَ خَبَرُنا هذا

اشارة

-------------------------------------------

ذكر الخبر في المحافل

مسألة: يستحب ذكر هذا الخبر في المحافل والمجالس.

و(هذا) في قول النبي (صلی الله علیه و آله): «خبرنا هذا» إشارة إلى مجموعة القضايا التي قصتها السيدة الزهراء (عليها الصلاة والسلام) لجابر.

وفي مثل ذلك يجوز تذكير الضمير باعتبار الحادث وتأنيثه باعتبار القضية ونحوهما.

وهل يتحقق الاستحباب بغير حالة التلاوة الإنسانية المباشرة لهذا الخبر، كالتسجيل الصوتي وسائر وسائل الإعلام؟.

لا يبعد ذلك؛ فإن انصراف «ذكر خبرنا» إلى قراءة وتلاوة الإنسان لهذا الخبر بدوي، والظاهر اختلاف مراتب الثواب والاستحباب، ثم إن المهم ذكر هذا الخبر ولو كان بسبب جماد أو حيوان.

لكن هل يشمل الكتابة كما إذا كُتبالحديث وعُلق على الحائط، وكان هناك جمع من الشيعة ينظرون إليه أو دون النظر؟.

احتمالان، لا يبعد أن يكون له فضل، لكن خصوص هذا الفضل الظاهر أنه ليس له للانصراف عنه، بل لو أُطلق عليه كان مجازاً.

فالفضل من باب الملاك لا الإطلاق، ولعمومات تعظيم الشعائر وشبهها.

ص: 312

فِي مَحفِلٍ مِن مَحافِل أَهلِ الأَرَضِ

اشارة

-------------------------------------------

عمومية المراد ب: (مَحْفِل)

قد سبق بيان استحباب ذكر أخبار أهل البيت (علیهم السلام) في جميع المحافل وذلك للإطلاق في (محفل).

والظاهر أن أهل الأرض - المنصرف منه الساكنون فيها - من باب المصداق، فإن كان هنالك في الأنجم الأخر جماعة من أهل الأرض أو من سكانها، ثم ذكروا هذا الحديث كان لهم هذا الفضل، وإنما ذكر أهل الأرض لوقوعه في الأرض يومئذ، وكونه محل الابتلاء عندها، ومن باب أظهر المصاديق عند المنقول إليهم.

أما وهل ذكره في محافل أهل السماء وشبهها ممن هم من قبيل الملائكة والولدان والحور له هذا الفضل أملا؟.

لا يبعد ذلك أيضاً بالنسبة إلى القابل يعني: نزول الرحمة، أما شفاء المريض ونحو ذلك من الآثار المادية المترتبة على هذا الخبر فليس هنالك محل هذه الأمور كما لا يخفى مما يفهم من الروايات، فإن الملائكة والولدان والحور عادة لاتمرض أو تضعف، أما الحزن فقد يفهم وجوده لدى العليين مما ورد بالنسبة إلى الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام) من حزن الحور عليه(1)، لكن لا يبعد أن يكون حزن الحور بالنسبة إلى الإمام الحسين (علیه السلام) استثناءً.

ص: 313


1- راجع بحار الأنوار: ج98 ص323 ب24 ح8، وفيه: «وأقيمت لك المأتم في أعلى عليين، ولطمت عليك الحور العين».

..............................

استحباب مطلق تلاوة هذا الحديث

مسألة: يستحب تلاوة حديث الكساء للعمومات ولقوله (صلی الله علیه و آله): «ما ذكر خبرنا هذا»، سواء كان في محفل أم لم يكن. إذ الظاهر عدم الانحصار بالمحفل، بل يشمله - بملاكه حتى إذا ما قرأ هذا الحديث فرد من الأفراد لوحده وذلك من باب تعدد المطلوب.

وإنما يستحب باعتبار الآثار، إذ منها يفهم استحباب المؤثر عرفاً.

ثم إن الظاهر من «ذكر خبرنا هذا» هو ذكره بهذا التفصيل، وإن كان لايبعد وجود الملاك في ذكره إجمالاً، وعلى الملاك فهو من باب المستحب في المستحب.

ولا يخفى أن الآثار الإيجابية لتلاوة حديث الكساء لا تختص بالإنسان، بل تشمل غيره كالجن، ولذا قال النبي (صلی الله علیه و آله):

«في محفل من محافل أهل الأرض».

وخاصة مع الانتباه إلى ما دل على أن الإنس والجن يشتركان في التكاليف الإلهية والأحكام الشرعية، فالقرآن المشتمل على كل هذه الأحكام لهما «إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ»(1) إضافة للروايات الدالة على أنه (صلی الله علیه و آله) مرسل للجن والإنس، وغير ذلك.

ص: 314


1- سورة الجن: 12.

..............................

وقد ذكرنا في بعض كتبنا الفقهية(1) مسألة الزواج مع الجن والطلاق والإرث وما أشبه ذلك.

كما أن ما جرى من أمر الثعبان الذي سأل علياً (عليه الصلاة والسلام) وهو على منبر الكوفة(2) يؤيد ذلك، إلى غيرها من الأحداث والقصص المذكورة في الأحاديث. وعلى أي حال فهو خارج عن محل الابتلاء عادة.

أما ما ورد من تزويج ابني آدم بحورية وجنية فالظاهر أن المراد كونهما كذلك في الأصل، إذ قد كانتا من البشر في وقت الزواج من ابني آدم، نظير ما قال سبحانه: «وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ»(3).

فكونهما جنيةً وحوريةً من باب كون الإنسان طيناً وكون المَلَك نوراً وكون الجن ناراً، وليس المراد الفعلية وهذا لا ينافي أن يكون الإنسان قد خُلق من إنسان واحد وهو آدم (علیه السلام) كما في بعض الآيات، أو من إنسانين آدموحواء (علیهما السلام) كما في بعض الآيات الأخرى؛ لأن المراد هي النشأة الأولى وإلاّ فعيسى (علیه السلام) خُلق من نفخ جبرائيل (علیه السلام).

أما ما احتمله بعض العامة من أن آدم زوّج ابنيه ببنتيه وأنه كان حلالاً في ذلك الوقت حراماً فيما بعد، فترده الروايات الواردة عن أئمتنا (عليهم الصلاة والسلام)(4).

ص: 315


1- راجع كتاب (ألف مسألة، المسائل المتجددة)، و(الفقه: المسائل المتجددة)، و(الفقه: النكاح).
2- راجع الكافي: ج1 ص396 باب أن الجن يأتيهم فيسألونهم عن معالم دينهم ... ح6.
3- سورة الأنعام: 9.
4- راجع قصص الأنبياء للجزائري: ص52 ب1 ف4.

وَفِيهِ جَمعٌ مِن شِيعَتِنا وَمُحِبِيِّنا

اشارة

-------------------------------------------

استحباب التجمع والمراد بالمحب

مسألة: يستحب تجمع الشيعة والمحبين لأهل البيت (علیهم السلام).

قد يكون المراد - كما يظهر من بعض الروايات - من المحبين: الأعم من الشيعة وغيرهم ممن كانوا محبين لهم (عليهم الصلاة والسلام) ولم يكونوا من شيعتهم، فيكون من باب عطف العام على الخاص.

وقد يكون المراد منهم غير الشيعة؛ لأن التأكيد خلاف الأصل فهو تأسيس كما أن الأصل في القيود كذلك.

وربما يكون الشيعي والمحب متساوقين(1) فليس غير الشيعي بمحب حقيقة، ولا إشكال في أن المحب الذي ليس بشيعي إذا لم يكن معانداً يكون له بعض الأجر كما تدل على ذلك جملةمن الروايات.

نعم، من ليس بمحب لا يكون شيعياً، إذ الشيعي - على وجه - عبارة عمن يطابق لسانه وجوارحه قلبه بالنسبة لهم (عليهم الصلاة والسلام)(2) ولو في الجملة.

والظاهر أن الشيعي يشمل الفاسق أيضاً، وإن كان العادل هو الشيعي الكامل؛ لأن ما ذكرناه هو مقتضى الإطلاق.

ص: 316


1- التساوق غير الترادف، إذ المتساوقان هما المتطابقان في المصداق وإن اختلف المفهوم، والمترادفان المتطابقان في المفهوم.
2- في الاعتقاد بإمامتهم (علیهم السلام) إضافة إلى محبتهم (علیهم السلام)، أما الإتباع العملي فهو سبب لإطلاق الشيعي بالمعنى الأخص عليه.

..............................

وما في بعض الروايات من أن الشيعي هو الكامل يراد به الشيعي بالمعنى الأخص، فمثلهما مثل المؤمن والمسلم حيث إن المؤمن والمسلم يطلق تارة على من في القمة منهما، وتارة على الأعم والأعم هو المتبادر من إطلاقهما لا من في القمة فقط.

وقد يفرق بين المعنى اللغوي للشيعي(1) وبين المعنى الاصطلاحي(2)وعلى الأول فقد يقال بالشمول للأتباع في الجملة فلا يشمل الفاسق بقول مطلق.

أقسام التجمع وأنواعه

وقد تقدم إن تلك الآثار وهذا الأجر إذا كان في الجمع يكون - بدرجة أو بأخرى - في الفرد والاثنين أيضاً، إذ لا تفهم الخصوصية هنا إلاّ في مراتب الثواب، وإن كان ظاهر الجمع الخصوصية فيما إذا لم تكن قرينة، والقرينة الملاك وغيره.

واللفظ يشمل النساء والأطفال ولو بالقرينة وإلغاء الخصوصية.

نعم الظاهر أن تكون تلاوة حديث الكساء بما يُسمِع لا بما لا يسمع إلاّ إذا كان الحاضرون صماً، أو كانت هناك ضوضاء تمنع من السماع، والتفريق إنما هو بلحاظ المقتضي وعدمه وبلحاظ منصرف (الذكر)، والإطلاق - على تقدير - يشمل ما لو كان بعضهم شيعة وبعضهم محبين بأن يكون الجمع متشكلاً منهما.

ص: 317


1- شايع أي تابع لغة، فالشيعي هو المتبع.
2- المعتقد بالإمامة.

..............................

... وعبر الأجهزة الحديثة

وهل يشمل ذلك مثل إذا ما كان الجمع في أماكن متعددة يتصل بعضهمببعض بواسطة بعض الأجهزة الحديثة كالهاتف ونحوه؟(1).

الظاهر ذلك، وقد ذكرنا نظيره في باب الطلاق وباب البيع ونحوهما(2)، فإذا كان هناك شاهدان كل منهما في غرفة منفصلة وكان الذي يتولى إيقاع الطلاق في غرفة ثالثة، وتم اتصال بعضهم ببعض بواسطة الهاتف ونحوه وطلّق بحيث استمع الشاهدان كان كافياً في تحقيق الطلاق.

وهكذا يكون الأمر فيما إذا كانوا في غرف متعددة أو أماكن متعددة، يسمع كلهم الحديث بواسطة مكبرات الصوت ونحوها.

أنواع الذكر والتلاوة

مسألة: يستحب جمعُ جمعٍ من الشيعة لإقامة ذكر حديث الكساء، كما يجتمعون لزيارة عاشوراء ودعاء كميل و... فإن هذا هو المفهوم من الكلام؛ لأنه يفهممن المسبب السبب عرفاً.

فإن ذكر الفضل والخير دليل على محبوبية تلاوة هذا الحديث عند الله

ص: 318


1- هناك مؤتمرات تعقد حالياً بالصوت والصورة بين العلماء في أماكن متباعدة عبر أجهزة بث واستقبال موجودة في منطقة وغرفة كل منهم فيرى كل منهم الآخر ويستمع إليه، وهناك أجهزة أخرى مثل ال: فيديو - فاكس تقوم بدور مماثل من وجه آخر.
2- لمزيد التفاصيل يراجع (الفقه: المسائل المتجددة) للإمام المؤلف (قدس سره).

..............................

سبحانه، وجمع جمعٍ مقدمة له. والظاهر أن الذكر كاف وإن لم يفهموا معناه، كما إذا لم يعرفوا اللغة العربية، والانصراف - لو كان - فبدوي، نعم لا إشكال في اختلاف درجات الثواب.

وهل يشمل ذلك إذا ما قُرئ حديث الكساء بلغة أُخرى؟. لا يبعد ذلك لشمول قوله (عليه الصلاة والسلام): «ما ذكر خبرنا هذا» بالنسبة إلى التفسير والترجمة بلغة أخرى، إذ هو هو لباً وجوهراًَ، نعم استثني من ذلك الصلاة وصيغة الإحرام وقراءة القرآن والدعاء المأثور، بمعنى أنه لا يكون تفسير وترجمة دعاء كميل كميلاً وإن كان موجباً للثواب، فتأمل(1).وهكذا الكلام في الأذكار، مثلاً: (سبحان الله) و(لا الله إلا الله) و(الحمد لله) إذا ذُكرت بلغة أُخرى فلا دليل على حصول الأثر الذي رتب عليها في الروايات. مثلاً ورد: أن من قال: لا الله إلا الله كان له كذا من الثواب(2)، فإنه إذا ذكر هذا الذكر بلغة أخرى لم يكن له خصوص هذا الأثر وإن كان له أثر في الجملة؛ لأنه ذكر لله سبحانه وتعالى فيشمله قوله سبحانه: «اذْكُرُوا الله ذِكْراً كَثِيراً»(3)، وقوله تعالى: «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ»(4) وما أشبه.

ص: 319


1- قد يكون إشارة إلى إن الاستثناء حكمي لا موضوعي وبالدليل الخارجي، أي أن استثناء الصلاة بمعنى عدم جريان حكمها - من الإجزاء والوجوب ونحوهما - على ما كانت بلغة أخرى، لا أن المراد عدم إطلاق لفظ الصلاة عليها موضوعاً، أو إلى أن إيجابه للثواب في الجملة أو كليهما.
2- راجع ثواب الأعمال للصدوق:ص2 ثواب من قال: لا الله إلا الله.
3- سورة الأحزاب: 41.
4- سورة البقرة: 152.

إِلاَّ وَنَزَلَت عَلَيهِمُ الرَّحمَةُ،

اشارة

-------------------------------------------

لماذا هذا الأجر العظيم؟

مسألة: يستحب أن يفعل الإنسان ما يوجب نزول الرحمة، وأن يقوم بما ينفع غيره، كما في اجتماع أهل الكساء (علیهم السلام)؛ فإن معرفته وذكره والحديث به وعنه من قبل الموالين سبب نزول الرحمة و...

والسر في هذا التأكيد وفي عظيم المثوبة التي قررها الله تعالى ل (ذكر هذا الحديث الشريف) أنه تأكيد على القيادة التي بها تصلح الدنيا والآخرة، كما قال (علیه السلام): «ولم يناد أحد بشيء كما نودي بالولاية»(1). فإن القيادة الصحيحة هي التي تصلح حال البشر وتقوده إلى السعادة الدنيوية والأُخروية، ومن المعلوم ضرورة التأكيد على مثل هذه القيادة وتوفير كافة وسائل دعمها وتركيزها، ولذا يؤكد عقلاء العالم على الشعار وعلى ذكر القائد والقيادة - فردية كانت أم جماعية - ليل نهار في وسائلإعلامهم ومحافلهم.

وحيث إن قيادة هؤلاء الأطهار (علیهم السلام) جاءت من عند الله تعالى الذي بيده الدنيا والآخرة، فإن من يلتف حولها يفيض عليه سبحانه الخير في الدنيا والآخرة كما قال (صلی الله علیه و آله): «نزلت عليهم الرحمة، وحفّت بهم الملائكة، واستغفرت لهم إلى أن يتفرَّقوا»(2).

ص: 320


1- راجع بحار الأنوار: ج65 ص329 ب27 ح1.
2- تحدث المؤلف (قدس سره) تفصيلاً عن قيادة الأئمة (علیهم السلام) وولايتهم في كتاب (الفقه: البيع) ج4 فليراجع.

وَحَفَّت بِهِمُ المَلائِكَةُ،

اشارة

-------------------------------------------

التمهيد لنزول الملائكة

مسألة: يستحب أن يقوم الإنسان بتمهيد ما يوجب نزول الملائكة وحفها به كالاستقامة - كما في الآية الآتية - وكما في ذكر هذا الحديث الشريف ونحو ذلك؛ لأن نزول ملائكة الرحمة وحفّهم بالإنسان يوجب الرحمة والمغفرة والشخصية الإلهية، كما هو معلوم لها أيضاً فهو معلول لمراتب من الرحمة وعلة لمراتب أُخرى.

ويؤيده قوله سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَقَالُوا رَبُّنَا الله ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ»(1) حيث يفهم منه أن تنزل الملائكة أمر مطلوب مرغوب شرعاً.

وقال سبحانه: «إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلاَئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا»(2)، فإن الملائكة بما أنها مخلوقات خيرة، وللّه طيِّعة، وهي وسائط نعم الله سبحانه في الجملة، فإنها تفيض الخير، في غير ملائكة العذاب.

كما أن الشياطين على العكس، فبما أنها شريرة فإنها تترشح بالشر، ولذا قال سبحانه: «عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ»(3) فإن

ص: 321


1- سورة فصلت: 30.
2- سورة الأنفال:12.
3- سورة الشعراء: 221222.

..............................

الجنس مائل إلى جنسه، كما قال الشاعر(1):

(إن الطيور على أشكالها تقع).

ويؤيد ما ذكرناه من الاستحباب ماورد من قول جبرائيل (علیه السلام) لرسول الله (صلی الله علیه و آله): «إنا معاشر الملائكة لا ندخل بيوتاً فيها تصاوير»(2) وما أشبه ذلك، مما يشير إلى أن فيها نوعاً من منع الخير الحاصل بدخولها(3).

نوعية تواجد الملائكة

ولا يخفى أن الملائكة مخلوقات قابلة للتواجد على الحيطان والأبواب وغيره، كما دلت على ذلك أدلة عديدة، وكما يرشد إليه أن ذلك هو مقتضى (الحف) فيما إذا كان المجلس قد امتلأ بالحاضرين امتلاءً كاملاً، وذلك هو المستفاد من الروايات مثل ما ورد من أن المائدة إذا وضعت حضرها الكثير من الملائكة(4). ومن الواضح أن إطلاقه يشمل حتى ما إذا كانت المائدة لا تسع إلاّ لثلاثة أشخاص بل حتى الواحد، فإن الملائكة كالنور لا تزاحم بينها، وعلى فرض تجردها فالأمر أوضح، وإنا وإن لمنعرف حقيقة الملائكة وخصوصياتها ومزاياها

ص: 322


1- عمر بن محمد ديب بن عرابي الأنسي (1237-1293ه) وصدر البيت هو: (فقلت: أحسنت يا هذا مشاكلة).
2- راجع تهذيب الأحكام: ج2 ص377 ب17 ح102.
3- راجع (شرح التجريد)، و(توضيح نهج البلاغة) للإمام المؤلف (قدس سره).
4- راجع الكافي: ج6 ص292 باب التسمية والتحميد والدعاء على الطعام ح1

..............................

إلاّ أن ما ذكرناه هو المستفاد من جملة من الروايات.

أما ما ورد من أن الرسول (صلی الله علیه و آله) كان يمشي على أصابعه في جنازة (سعد)(1) فذلك لجلب انتباه الناس على نزول الملائكة ومشاركتها في تشييع الجنازة، وإن احتمل كونها قد تشكلت بشكل يقتضي ذلك.

وما ورد من أن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضاً به(2)، يراد به الإشارة إلى تواضعها له، فهو من قبيل قوله سبحانه: «وَاخْفِضْ لهمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ»(3) وإن احتمل البعض إرادة المعنى الظاهري، أي أنهم يفرشون أجنحتهم تحت رجله.

ومن المعلوم أن حفّ الملائكة نوع التكريم للحاضرين، كالشخصية التي يحفبها عبيدها وحفدتها وخدمها ومن أشبههم.

... وعددهم

وأما عدد الملائكة فهم كما قال الشاعر(4):

(عدد الرمل والحصى والتراب)

ص: 323


1- راجع بحار الأنوار: ج6 ص220 ب8 ح14.
2- راجع الكافي: ج1 ص34 باب ثواب العالم والمتعلم ح1.
3- سورة الإسراء: 24.
4- عمر بن أبي ربيعة (23-93ه)، وصدر البيت هو: (ثُمَّ قالوا: تُحِبُّها؟ قُلتُ: بَهراً).

..............................

وقال علي (علیه السلام): «فملأهن أطواراً من ملائكته»(1)..

ولا عجب فإن الإنسان إذا نظر إلى بستان من الأشجار لرأى فيها ملايين الأوراق والأغصان وما أشبه، أليس كل ذلك من صنع عليم حكيم قدير؟.

فإن من يخلق بمجرد الإرادة حتى أن لفظة (كن) إنما هي من باب المثال أو الإشارة إلى السرعة والسهولة ومطلق القدرة، لا مانع من أن يخلق ملايين الأكوان والعوالم، فكيف بأفواجالملائكة بلفظ (كن) أو دونه، فحيثما قرأ حديث الكساء ولو في ملايين الأماكن في ساعة واحدة حفت بكل مجلس الملائكة.

ص: 324


1- نهج البلاغة، الخطب: 1 ومن خطبة له (علیه السلام) يذكر فيها ابتداء خلق السماء والأرض وخلق آدم.

وَاستَغفَرَت لهم

اشارة

-------------------------------------------

استحباب الاستغفار للآخرين

مسألة: يستحب الاستغفار للآخرين.

وفي الحديث: إن الإنسان لو دعا لأخيه بظهر الغيب، قالت له الملائكة: ولك ضعف ذلك(1)، ومن المعلوم أن الاستغفار دعاء في حق الغير بغفران ذنبه وستر عيبه.

ولا يخفى أن هناك فرقاً بين الاستغفار والتوبة، فإن الغفران ستر، والاستغفار طلب للستر، والتوبة رجوع، ولذا ورد في الأحاديث: الاستغفار إلى جانب التوبة في عبارتين، مثل: (أستغفر الله) و (أتوب إلى الله) أو في عبارة واحدة مثل: (أستغفر الله وأتوب إليه)(2).

الاستغفار

مسألة: يستحب الاستغفار مطلقاً وقد يجب، ولقد كان من لطفه تعالى وعموم فضله ورحمته أن جعل (الاستغفار) سبباً لمحو الذنوب والعودة إلى الله فوراً..

ص: 325


1- راجع الكافي: ج2 ص507 باب الدعاء للإخوان بظهر الغيب ح4.
2- راجع وسائل الشيعة: ج7 ص179-180 ب25 ح9059.

..............................

بل إن للاستغفار أثر وضعي في هذه الدنيا أيضاً:

«فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً » وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً»(1).

التسبيب للاستغفار

مسألة: يستحب التسبيب لاستغفار الملائكة بل مطلق الغير للإنسان، بأن يقوم بما يوجب ذلك، فإنه مستفاد عرفاً من هذه الجملة وإن لم تكن بالدلالات الثلاث المنطقية؛ لأن الدلالة لا تنحصر فيها، وقد تقدم الإلماع إلى أنه بدلالة الاقتضاء العرفي(2) لا الاصطلاحي.

هل الجزاء على السعي أم لا؟

وحيث إن التواجد والحضور(3) من فعل الإنسان وسعيه فلا يستشكل على استغفار الملائكة له لأجله.

فلا يقال:إنه مناف لقوله سبحانه: «أَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إلاَّ مَا سَعَى»(4)،

ص: 326


1- سورة نوح: 1012
2- ترتيب «واستغفرت لهم الملائكة» على «ما ذكر خبرنا» معلول رجحان استغفار الملائكة وإرادة الله للمثوبة، والتسبيب مقدمة لهذا الراجح.
3- المستفاد من: «وفيه جمع من شيعتنا».
4- سورة النجم: 39.

..............................

أو قوله تعالى: «كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ»(1) وما أشبه ذلك؟.

لا يقال: هذا تمام في من حضر اختياراً، فلا يتم في الذين حضروا اضطراراً، كما إذا كانوا في السجن وأحدهم قرأ حديث الكساء دون طلب من الحاضرين، بل ومع عدم رغبة منهم لاشتغالهم بدراسة أو مطالعة أو ما أشبه ذلك.

لأنه يقال: ذلك يفهم بالملاك أو بالإطلاق، وحينئذ يكون الجواب عن الآية ما سيأتي من أحد الوجهين.نعم، إذا كرِهَ الذكر فالظاهر أن الفائدة لا تشمله وإن احتمل كون بعضها كالأثر الوضعي، بخلاف النائم والصبي والمغمى عليه وما أشبه.

وقد ذكرنا في بعض مباحث (الفقه): إن أمثال ذلك استثناء من الآيتين بالدليل الخاص تفضلاً منه تعالى، أو يقال: إن هذه الآثار الخيرية إنما هي ببركة أولئك الأطهار (علیهم السلام)، فهو امتداد لسعيهم (علیهم السلام) وذلك كما أن الإرث فائدة تتوجه للإنسان بسبب القرابة وإن لم يكن من سعي نفس الوارث، وهناك أجوبة أخرى ذكرناها في محلها(2).

ص: 327


1- سورة الطور: 21.
2- تحدث الإمام المؤلف (قدس سره) بالتفصيل حول الآية المباركة «وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إلاَّ مَا سَعَى» - سورة النجم: 39 - في (الفقه: الاقتصاد) وغيره.

إِلى أَن يَتَفَرَّقُوا

اشارة

-------------------------------------------

استحباب اللبث في مجالس الخير

مسألة: يستحب البقاء في مجالس الخير واستدامة الجلوس فيها، فمجلس القراءة الحسينية ومجالس العلم والمصلى يستحب استمرار الجلوس فيه ولو بعد انتهاء القراءة والدرس والصلاة في الجملة.

فإن في ذلك تذكيراً أكثر بذلك الخير، وربطاً للمرء به أكثر فأكثر في مختلف شؤون حياته.

كما أن قوله (عليه الصلاة والسلام): «إلى أن يتفرقوا» يرشد إلى ذلك مع لحاظ عدم الخصوصية في المورد من حيث أصل المثوبة وإن كان له خصوصية من حيث الخصوصية.

ومن المعلوم - كما أشرنا سابقاً - استحباب فعل الإنسان ما يوجب جلب الخير إلى نفسه من الرحمة والبركة واستغفار الملائكة وما أشبه ذلك.

ويجري هنا الكلام السابق فيمن كان كارهاً للبقاء أو مضطراً أو فاقداً للوعي أو الصحوة كالمجنون والمغمىعليه والطفل وما أشبه ذلك؛ لأن كلا البحثين بملاك واحد.

ولا يخفى أن التفرق هنا ليس كالتفرق في باب خيار المجلس حيث يوجب زوال الأثر هناك.

ص: 328

..............................

بل ظاهر المقام أنه بخلاف خيار المجلس، حيث إن مشي خطوات وشبهه يوجب سقوطه(1)، فليس البابان بملاك واحد حتى يكون كلاهما في حكم واحد من هذه الجهة.

والظاهر أن «ما ذكر خبرنا... » يشمل ما إذا كانت مكبرات الصوت تبث حديث الكساء وهو يسير في الشارع ويسمعه..

أما إذا كان في السيارة أو الطائرة أو القطار وأحدهم يقرأ الحديث فلا إشكال في شمول «وفيه جمع... » له.

ص: 329


1- راجع (الفقه: الخيارات) للمؤلف (قدس سره).

فَقالَ عَلِيٌّ (علیه السلام): إذَاً وَالله

اشارة

-------------------------------------------

الحلف على عظائم الأمور

مسألة: يجوز الحلف على الأمور العظيمة(1)، والجواز هنا بالمعنى الأعم - والمراد هنا (2) الوجوب أو الاستحباب - وقوله (عليه الصلاة والسلام): «إذاً» بمعنى أنه حيث كان الأمر كذلك تحقق الفوز. فإن أمثال هذا القسم، مستثناة من كراهة الحلف بالله سبحانه وتعالى كما قال: «وَلاَ تَجْعَلُوا الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ»(3)، وكما قال الإمام زين العابدين (عليه الصلاة والسلام): «إني كرهت أن أحلف بالله»(4) في قصة مهر زوجته(5).

التجاوب مع العظيم

مسألة: يرجح التجاوب مع العظيم إذا تحدث وتكلم، كما صنع علي (علیه السلام) بقوله: «إذاً والله فزنا»، من غير فرق بين أن يكون التجاوب بالكلام أو بالإشارة، كأن يشير برأسه ذلك؛ لأن التجاوب هو نوع احترام.

ص: 330


1- وقد سبق الإشارة إليه.
2- أي في هذا الحديث.
3- سورة البقرة: 224.
4- راجع الكافي: ج7 ص435 باب كراهية اليمين ح5.
5- حول الحلف والقسم ومختلف بحوثه يراجع كتاب (الفقه: العهد واليمين) للمؤلف (قدس سره).

فُزنا

اشارة

-------------------------------------------

رجحان مدح النفس!

مسألة: يستحب مدح الإنسان نفسه وسرد فضائله وذكر مناقبه إذا كان في مقام التعليم أو دفع تهمة أو إحقاق حق، وقد يجب ذلك.

وهذا لا ينافي ما ورد عنه (عليه الصلاة والسلام) من أن تزكية المرء نفسه قبيح(1)؛ لأن القبح بلحاظ العنوان الأولي، فإذا طرأ عليه عنوان مُحَسِّن صارمستحباً، بل قد يجب المدح فيما إذا توقف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو الدعوة إلى الواجب عليه، ولذا كان الأنبياء والأئمة (عليهم الصلاة والسلام) يعرفون أنفسهم بما هو مدح لها.

نعم، إنما يستحب مدح الإنسان نفسه إذا كان مدحاً صادقاً، أما المدح الكاذب فهو داخل في إطلاقات أدلة الكذب. ومما ذكر في باب مدح الإنسان نفسه يعلم الحكم في عكسه من ذم الإنسان نفسه في كونه مستحباً أو محرماً أو واجباً أو غير ذلك.

معنى فوز أولياء الله وانتصارهم

ثم إن قول علي (عليه الصلاة والسلام): «فزنا» إنما كان لأجل ما ذكره جبرائيل (علیه السلام) من مدحهم (علیهم السلام) عن لسان الله سبحانه وتعالى:

ص: 331


1- نهج البلاغة، الرسائل: 28 ومن كتاب له (علیه السلام) إلى معاوية جواباً. حول مدح النفس راجع: (الفضيلة الإسلامية) للإمام المؤلف (قدس سره).

..............................

«إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً»(1)، فإن كونهم (علیهم السلام) ممدوحين لله تعالى ومطهّرين بأمره وإرادته يوجب الفوز في الدنيا والسعادة في الآخرة. ومن المعلوم أن فوز الدنيا ليس خاصاًبالمأكل والمشرب والمسكن وما أشبه ذلك من الأمور المادية بل ذلك الفوز الأدنى، فإن الإنسان الهدفي إذا كان يسعى من أجل تحقيق هدفه يكون فائزاً ولو حرم من كل الملذات المادية، فالإمام الحسين (علیه السلام) فائز وهو قتيل ومجروح من رأسه إلى قدمه، ولهذا قال الراوي: «ما رأيت مكثوراً قط قد قُتل ولده وأهل بيته أربط جأشاً وأقوى جناناً منه عليه الصلاة والسلام»(2) فهو (علیه السلام) الفائز والمنتصر وهو صريع سليب على أرض المقتل؛ لأنه (علیه السلام) كان يعلم أنه بعين الله وفي سبيل الله سبحانه وتعالى مؤتمراً بأمره، وهذا هو الانتصار الحقيقي.

أليس (الإسلام محمدي الوجود حسيني البقاء)؟.

ولذا قال سبحانه: «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ»(3)، فإن ميزان الانتصار والانكسار ليس بغلبة الجيش أو انهزامه أمام جيش العدو، بل إن ميزان انتصار الصالحين هو انتصار مبادئهموانتصارهم على أنفسهم وانتصارهم في امتثال أوامر الله سبحانه وتعالى.

وهذا بحث كلامي ذكرناه هنا إلماعاً لا استيعاباً.

ص: 332


1- سورة الأحزاب: 33.
2- روضة الواعظين: ج1 ص189 مجلس في ذكر مقتل الحسين (علیه السلام).
3- سورة غافر: 51.

وَفازَ شِيعَتنُا

اشارة

-------------------------------------------

التمسك بمذهب آل البيت (علیهم السلام)

مسألة: يجب التمسك بمذهب شيعة آل بيت الرسول (صلی الله علیه و آله) فإنهم هم الفائزون(1)، وإنما فازت الشيعة لأنهم التفوا حول القيادة الإلهية الصحيحة التي عيّنها الرسول (صلی الله علیه و آله) بأمره تعالى والتي لها المكانة الرفيعة في الدنيا وفي الآخرة.

ومن المعلوم أن قائد الإنسان إذا كان على صراط مستقيم يكون متبعه فائزاً أيضاً.

هذا بالإضافة إلى ما ذكره جبرائيل (عليه الصلاة والسلام) من: تنزل الرحمة عليهم، وأن الملائكة تحفُّ بهم وتستغفرلهم، فإن هذا من أعظم الفوز.

بشارة الغير وإدخال السرور

مسألة: يستحب بشارة الآخرين خاصة بشارة شيعة أهل البيت (علیهم السلام) بالفوز والنجاة في الدنيا والآخرة، وذلك من باب المصداق وإلاّ فهذا الكلي صادق في كل إنسان يبشر بشارة سارة شرط عدم معارضتها للشريعة.

ص: 333


1- راجع (القول السديد في شرح التجريد) للإمام المؤلف (قدس سره)، و(إحقاق الحق) للتستري (رحمة الله)، و(الغدير) للأميني (رحمة الله)، و(العبقات) لصاحب العبقات (قدس سره)، وغيرها.

..............................

بل يمكن أن يقال: بأن إدخال السرور حتى على قلب الكافر مستحب(1) إلاّ في مورد قوله سبحانه: «وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً»(2)، وذلك لقوله (صلی الله علیه و آله): «لكل كبد حرى أجر»(3).

ولقوله (عليه الصلاة والسلام): «الناس صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظيرلك في الخلق»(4).

ولما نقرؤه في سيرتهم العطرة (علیهم السلام) من تفريجهم كرب الكفار والمنافقين، كما لم يمنع الرسول (صلی الله علیه و آله) الماء عن أهل خيبر(5)، وفسح الإمام علي (علیه السلام) المجال أمام جيش معاوية الذي جاء لحربه للتزود من ماء الفرات(6)، ومن المعلوم أن الحرب مع الإمام علي (علیه السلام) حرب مع الرسول (صلی الله علیه و آله)(7)، كما قال (صلی الله علیه و آله): «يا علي حربك حربي»(8).

ص: 334


1- راجع (الفقه: الواجبات والمحرمات)، و(الفقه: الآداب والسنن) للإمام المؤلف (قدس سره).
2- سورة التوبة: 123.
3- جامع الأخبار: ص139 ف99.
4- نهج البلاغة، الرسائل: 53 ومن كتاب له (علیه السلام) كتبه للأشتر النخعي لما ولاه على مصر وأعمالها.
5- راجع بحار الأنوار: ج21 ص30-31 ب22 ح32.
6- راجع وقعة صفين: ص161 استيلاء أهل العراق على الماء ثم سماحهم به لأهل الشام.
7- راجع الأمالي للطوسي: ص364 المجلس13 ح763، والأمالي: ص486 المجلس17 ح1063.
8- وقد نظمه السيد الطباطبائي في قصيدته حيث قال: لقوله حربك حربي واشتهر *** من الفريقين رواية الخبر

..............................

وكذلك أمر الحسين (علیه السلام) أصحابه بسقي الحر وأصحابه في الطريق(1).

وفي سيرة الأئمة الطاهرين (عليهم الصلاة والسلام) يشاهد ذلك بوفور وكثرة..

كما أن الإمام الهادي (عليه الصلاة والسلام) عالج المتوكل حتى برأ من مرضه(2)، وهكذا مما هو كثير.

وقد يكون السبب في بعض تلك الموارد عناوين أخرى طارئة: كإلقاء الحجة على الخصم وإتمامها، وهداية الضال وإرشاد الجاهل، وشبه ذلك..

ولا مانعة من الجمع(3).

الثواب والعقاب بسبب الآخرين

مسألة: يستحب بيان مدى مدخلية أهل البيت (علیهم السلام) في سعادة الإنسان فيما إذا اتبع منهجهم، بل هم (علیهم السلام) محور السعادة ومدارها، حيث إنالله تعالى لأجلهم قرر هذه النعمة العظمى.

فإن الإنعام على إنسان من أجل إنسان آخر دليل على عظمة ذلك المعطى من أجل النعمة(4)..

ص: 335


1- راجع بحار الأنوار: ج44 ص376 ب37.
2- راجع الكافي: ج1 ص499 مولد أبي الحسن علي بن محمد (علیهما السلام) ح4.
3- سيأتي في بحث (استحباب قضاء الحاجة) تتمة مفيدة لهذا البحث.
4- لأجل عين ألف عين تكرم.

..............................

(بيمنه رزق الورى وبوجوده ثبتت الأرض والسماء)(1).

أما في عكسه وهو العقاب، فلا يعاقب أحد بذنب إنسان آخر، فقد قال سبحانه: «وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى»(2).

وقد ذكرنا في بعض الكتب الفقهية: إن المراد بهذه الآية العقوبات الأخروية كلها، ومن العقوبات الدنيوية ما كان أمثال الحدود والقصاص وما أشبه، دون بعض الأمور الكونية الأخرى مثل ما ذكره سبحانه: «وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْخَاصَّةً»(3) مما له أثر وضعي، وكذا في بعض الأموال مثل ما على العاقلة، إذ ذلك داخل تحت قانون كوني وشرعي، فإن اطراد قوانين الكون يقتضي العموم، وكذا كونها دار امتحان واختبار، كما أن التكافل الاجتماعي يقتضي أن تكون الدية على العاقلة، وهذا ما يقوم به كافة عقلاء العالم إلى اليوم، حيث يأخذون المال من الأغنياء بعنوان أو آخر ويصرفونه على الفقراء من ناحية، ويشركون جماعة في نتيجة لأجل غرض أهم وهدف أسمى، كما في كون «عمد الصبي خطأ تحمله العاقلة»(4).

ص: 336


1- مفاتيح الجنان: ص63 ب1 ف6 دعاء العديلة.
2- سورة الأنعام: 164، سورة الإسراء: 15، سورة فاطر: 18، سورة الزمر: 7.
3- سورة الأنفال: 25.
4- راجع حول هذا المبحث: (الفقه: الديات)، و(الفقه:القانون).

وَرَبِّ الكَعبَةِ.

اشارة

-------------------------------------------

القسم بالله وبمخلوقاته

مسألة: يجوز القسم بأسماء الله تعالى وصفاته، مثل: رب الكعبة، وإله الكون، وخالق السماوات، إلى غير ذلك، وينعقد الحلف به بحيث يوجب حنثه الكفارة.

أما الحلف بغير الله سبحانه كالأنبياء والأئمة (علیهم السلام) والآيات الكونية فالظاهر جوازه، لكن لا ينعقد بهم الحلف، مثل:

قوله سبحانه: «لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ»(1).

وقوله تعالى: «وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى»(2).

وقوله سبحانه: «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا»(3)، فهو جائز تكليفاً غير منعقدوضعاً.

أما ما ورد في الحديث: «من كان حالفاً فليحلف بالله»(4)، فالمراد: الحلف الجامع للشرائط ذو الأثر الوضعي، ولا دليل على تحريم ما عداه.

ص: 337


1- سورة الحجر: 72.
2- سورة الضحى: 12.
3- سورة الشمس: 7.
4- مستدرك الوسائل: ج16 ص64 ب24 ح19163.

..............................

وسيرة المتشرعة - قديماً وحديثاً - بالإضافة إلى دليل البراءة وغيرهما، تدل على الجواز.

ووجه قسمه (علیه السلام) برب الكعبة، كونها موضع عناية الله تعالى، فإنه سبحانه كما خلق الأشياء حسناً وأحسنَ، كذلك جعل بعض الأزمنة والأمكنة محطة ومورداً لعنايته، وذلك مثل الكعبة والمساجد، ومثل يوم الجمعة والأعياد الإسلامية وما أشبه.

كما أنه تعالى جعل بعض الأماكن محطة أمان، وبعض الأزمنة كذلك، وذلك كمكة المكرمة كما قال الله تعالى: «وَمَنْ دَخَله كَانَ آمِناً»(1) والأشهر الأربعة الحرم.

ص: 338


1- سورة آل عمران: 97.

فَقالَ أَبي رَسُولُ الله (صلی الله علیه و آله): يَا عَلِيُّ،

اشارة

-------------------------------------------

توجيه الكلام للمُشاكل

مسألة: يرجح توجيه العظيم كلامه إلى من يقاربه في العظيمة ويشابهه مع وجود غيره.

ولذا نرى أن النبي (صلی الله علیه و آله) وجّه كلامه إلى علي (علیه السلام) فقال: «يا علي»، ولم يقل: (يا فاطمة، أو يا حسن، أو يا حسين (علیهم السلام)).

فلا يقال: إن فاطمة (علیها السلام) كعلي (علیه السلام) في العظمة، كما يدل على ذلك بعض الأحاديث التي ذكرها السيد البحراني (قدس سره)(1) في(معالم الزلفى)، فإن

ص: 339


1- السيد هاشم بن سليمان بن إسماعيل بن عبد الجواد بن علي بن سليمان ابن السيد ناصر الحسيني البحراني التوبلي الكتكاني، كان (رحمة الله) من أولاد السيد المرتضى علم الهدى (رضوان الله عليه). ولد (رحمة الله) في كتكان من توابع بلدة توبلي من أعمال البحرين في النصف الأول من القرن الحادي عشر الهجري القمري، رحل إلى النجف الاشرف وأقام فيها مدة من الزمن طلباً للعلم. انتهت إلى السيد (رحمة الله) رئاسة البلد بعد الشيخ محمد بن ماجد بن مسعود البحراني الماحوزي، فقام بالقضاء في البلاد وتولي الأمور الحسبية وقام بذلك أحسن قيام، وقمع أيدي الظلمة والحكام، ونشر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبالغ في ذلك وأكثر ، ولم تأخذه لومة لائم في الدين، وكان من الأتقياء المتورعين، شديداً على الملوك والسلاطين. صنف (رحمة الله) كتباً عديدة تشهد بعمق تتبعه وسعة اطلاعه تبلغ خمسة وسبعين مؤلفاً بين صغير ووسيط وكبير، منها: إثبات الوصية، احتجاج المخالفين على إمامة أمير المؤمنين (علیه السلام)، الانصاف في النص على الأئمة الأشراف من آل عبد مناف، إيضاح المسترشدين في بيان تراجم الراجعين إلى ولاية أمير المؤمنين (علیه السلام)، وقد يعبر عنه ب (هداية المستبصرين)، البرهان في تفسير القرآن، البهجة المرضية في إثبات الخلافة والوصية، بهجة النظر في إثبات الوصاية والإمامة للأئمة الاثني عشر، تبصرة الولي فيمن رأي المهدي (علیه السلام) في زمان أبيه (علیه السلام) وفي أيام الغيبة الصغرى والكبرى، التحفة البهية في إثبات الوصية لعلي (علیه السلام)، ترتيب التهذيب، وغيرها. توفي (رحمة الله) سنة (1107) أو (1109) من الهجرة في قرية نعيم، ونقل جثمانه الشريف إلى قرية توبلي، ودفن في مقبرة ماتيني من مساجد القرية المشهورة، وقبره مزار معروف.

..............................

الترتيب - حسب ما يستفاد من بعض الأحاديث -:الرسول (صلی الله علیه و آله) أولاً في الفضيلة، ثم علي (علیه السلام) وفاطمة (علیها السلام) معاً، ثم الحسن (علیه السلام)، ثم الحسين (علیه السلام)، ثم القائم (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، ثم من بعد الأئمة الثمانية (علیهم السلام) قبله (علیه السلام)، وهذا باعتبار سمو الجوهر في مختلف مجالات الارتفاع.

لا يقال: كيف يكون القائم (عجل الله تعالى فرجه الشريف) أفضل من أبيه (علیه السلام) مع أن أباه كان إماماً عليه مدة؟.

لأنه يقال: الأمر تابع لجعل الله سبحانه وتعالى، والجعل كما ذكرناه حسب دلالة بعض الروايات، ويوضحه قضية موسى (علیه السلام) - وهو من أولي العزم - والخضر (علیه السلام) ، فتأمل.

ومن المحتمل أن يكون الخطاب لعلي (عليه الصلاة والسلام) نظراً لأنه كان هو الذي قام بطرح السؤال أولاً، فأراد الرسول (صلی الله علیه و آله) أن يجيب على سؤاله مرة ثانية.

ص: 340

..............................

فسح مجال الحديث للأكبر أو الأعظم

مسألة: ينبغي ترك زمام الحديث للأكبر أو الأعظم مع وجوده، ولذا نرى أن الزهراء والحسنين (علیهم السلام) لم يسألوا النبي (صلی الله علیه و آله) وإنما سأله علي (علیه السلام).

والزهراء (علیها السلام) وإن كانت عِدل علي (علیه السلام) في العظمة - لما سبق من الروايات، ولقوله (صلی الله علیه و آله): «لما كان لفاطمة كفؤ آدم فمن دونه»(1) ولغير ذلك - إلاّ أن علياً (عليه الصلاة والسلام) حيث كان إماماً على الزهراء (علیها السلام) اقتضى الأمر أن يكون هو المتكلم مع رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وأما الحسنان (علیهما السلام) فهما في الرتبة بعدهما (علیهما السلام)، لذا قال الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام):

فأبي شمس وأمي قمر *** فأنا الكوكب وابن القمرين (2)

وقال (علیه السلام): «أبي خير مني،وأمي خير مني، وأخي خير مني»(3)

هذا بالإضافة إلى الاحتمال الأخير المذكور أنفاً.

ص: 341


1- راجع تهذيب الأحكام: ج7 ص470 ب41 ح90.
2- بحار الأنوار: ج45 ص48 ب37.
3- بحار الأنوار: ج45 ص3 ب37 ضمن ح2.

وَالَّذي بَعَثَني بِالحَقِّ نَبِيّاً وَاصطَفاني بِالرِّسالَةِ نَجِيّاً،

اشارة

-------------------------------------------

اشارة

ما ذُكِرَ خَبَرُنا هذا في مَحفِلٍ مِن مَحافِلِ أَهلِ الأَرضِ وَفِيهِ جَمعٌ مِن شِيعَتِنا وَمُحِبّيِنا

التأكيد في البحوث العائقدية

مسألة: يستحب التكرار والتأكيد في البحوث العقائدية ومطلق المطالب الهامة(1)، كما أكد النبي (صلی الله علیه و آله) ها هنا قائلاً لمرة ثانية: «والذي... ».

والتأكيد يكون للإبلاغ وتركيز الموضوع في الذهن أكثر فأكثر، وإتماماً للحجة، وقطعاً للعذر.

دور التكرار في الأمور الغيبية

وكما أنه ينبغي سقي الأشجار كل يوم حتى تثمر بعد حين، كذلك يلزم التكرار في الإرشاد والتوجيه والهداية، حتى يثمر خيراً في النفس أو في البدنلنفسه أو للغير.

ولذا كرّر في القرآن الحكيم: «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ»(2) وشبهه.

ولذا كان التوجيه نحو تكرار الدعاء الكذائي أو الذكر المعين حتى تتحقق

ص: 342


1- وقد سبق الإشارة إليه.
2- وردت هذه الآية المباركة 31 مرة في سورة الرحمن ابتداءً من الآية 13 وحتى الآية 77.

..............................

النتيجة المطلوبة، كما ورد في الروايات.

وفي حالة عدم إمكان التكرار أو صعوبته أو ما أشبه ذلك فالظاهر الاكتفاء بالممكن ولو لمرة وستتحقق كل الآثار أحياناً وبعضها أحياناً أخرى.

فقد ورد: «أن نوحاً (علیه السلام) لما خاف على السفينة من الغرق أمره الله سبحانه أن يقول: (لا الله إلا الله) ألف مرة، ولما أشرفت السفينة على الغرق ورأى أن الوقت لا يسع لتكرار الألف، علّمه الله سبحانه أن يقول: لا الله إلا الله ألف مرة»(1)،(2).

وورد في حديث في باب زيارة عاشوراء، أن يقرأ الإنسان اللعن والسلام مرة واحدة، ثم يقول بعد كل منهما: (مائة مرة)(3).

ومنها - ملاكاً وإلغاءً للخصوصية ولإرشاد العقل لذلك - يفهم العموم.

وقد ورد في الحديث: إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) ربما كرّر الكلام للسائل ونحوه ثلاث مرات(4).

وفي حديث أن فاطمة (علیها السلام) كررت الإجابة على سؤال السائل إلى عشر مرات(5).

ص: 343


1- أي يقول مرة واحدة (لا إله إلاّ الله) ثم يعقبها بقوله (ألف مرة).
2- راجع بحار الأنوار: ج92 ص167-168 ب105 ضمن ح22.
3- راجع البلد الأمين: ص271 المحرم.
4- راجع بحار الأنوار: ج16 ص234 في الرفق بأمته.
5- راجع مستدرك الوسائل: ج17 ص317-318 ب11 ح21460.

..............................

وقال ابن سينا (1):طالعت الكتاب الفلاني أربعين مرةحتى فهمته(2).

ص: 344


1- أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا، المشهور ب )ابن سينا) ويعرف ب (الشيخ الرئيس). كان أبوه من الشيعة الإسماعيلية ومن أهل بلخ، وانتقل منها إلى بخارى، فتزوج هناك فولد له أبو علي في أفشنه من قرى بخارى عام 369 ه. وكان أبوه والياً على سامان، فتعهده بالتربية والتعليم، فحفظ القرآن الكريم وهو دون العشر. اتجه نحو الفلسفة فرعاه الفيلسوف أبو عبد الله الناتلي فدرسه المنطق. ثم مال إلى الطب فأخذه عن عيسى بن يحيى، فأصبح طبيباً حاذقاً وهو في سن السادسة عشر، يقول أبو علي عن نفسه: (في هذه المدة - مدة اشتغاله بالدرس - ما نمت ليلة واحدة بطولها، ولا اشتغلت النهار بغيره). كان في المشاكل العلمية ومعضلات المسائل يصلي ويبتهل إلى الله حتى يفتح له المنغلق وييسر له المتعسر. ثم تعمق بالعلوم الشرعية والهندسية، يقول: كنت أرجع بالليل إلى داري، وأضع السراج بين يدي، واشتغل بالقراءة والكتابة، ومهما أخذني أدنى نوم أحلم بتلك المسائل بأعيانها، حتى إن كثيراً من المسائل أتضح لي وجوهها في المنام، ويقول أيضاً: فلما بلغت ثماني عشرة سنة من عمري فرغت من هذه العلوم كلها، وكنت إذ ذاك للعلم أحفظ ولكنه اليوم معي أنضج، وإلا فالعلم واحد لم يتجدد لي بعده شيء. برع ابن سينا في الشعر أيضاً وله قصيدة في (النفس) مشهورة. تجاوزت مصنفاته المائة، ومن أشهرها كتاب القانون في الطب، وقد نقل إلى اللغة اللاتينية، والشفاء، والنجاة، والإشارات والتنبيهات، والحدود في الفلسفة والمنطق. توفي في همدان عام 428 ه.
2- راجع سير أعلام النبلاء للذهبي: ج17 ص532 ترجمة ابن سينا تحت رقم 356.

وَفِيهِم مَهمُومٌ إلا وَفَرَّجَ الله هَمَّهُ،

اشارة

-------------------------------------------

تجمع المهمومين لأجل الدعاء

مسألة: يستحب تجمع المهمومين والمغمومين وأصحاب الحوائج لأجل الدعاء، وإطلاق «يد الله مع الجماعة» (1) يشمله، ولا وجه للانصراف.

وهو أقرب لانكسار القلب وأدعى للإجابة، ولذلك لما دعا أصحاب يونس (علیهم السلام) وتضرعوا وهم مجتمعين استجاب الله تعالى دعاءهم.

والفرق بين الهمّ والغمّ:

أن (الهمّ) ما يهمّ ويهتمّ الإنسان بفعله مما هو لصالحه أو لصالح غيره، وربما يعمم كزواج ولده وتأسيس معمل ومكسب له أو لنفسه، وطلب العلم وشبه ذلك، ومنه ما يهم بفعله للوصول إلى مقصده.

و(الغمّ) ما يغمه كأنه غطاء على قلبه، ويطلق على ما ابتلي به الإنسان من المشاكل، وذلك كغم المريض وكغمالفقير وكغم المسجون وما أشبه ذلك.

ولقد كان من المتداول سابقاً وكنا نرى كثيراً مجالس عامة تعقد للدعاء عند حلول بلية نازلة سماوية أو أرضية، بحيث كان يظهر على البلاد ذلك كطابع عام، وكان ذلك من أسباب انكشاف الهموم والغموم، ولعل من أسباب زيادتها الآن قلة مجالس الدعاء والتضرع العامة.

ص: 345


1- نهج البلاغة، الخطب: 127 ومن كلام له (علیه السلام) وفيه يبين بعض أحكام الدين ويكشف للخوارج الشبهة وينقض حكم الحكمين.

..............................

التفريج عن المهموم

مسألة: يستحب التفريج عن المهموم، وهو الذي يهمّ بأمر ولا يتمكن عليه، أو هو بحاجة إلى من يعينه، فيكون الإنسان عونه في أن يفرج همّه، وهذا من المستحبات الأكيدة ويدل عليه بالإضافة إلى هذا الحديث، أحاديث متعددة(1).

فإن الله سبحانه خلق الإنسان وجعل له حاجات واهتمامات روحية وجسمية فردية واجتماعية، ولا يستطيع أن ينال كثيراً منها بمفرده فجاء الأمر الإلهي بمساعدة الإنسان في الوصول إليها، فمن ساعد كان له أجران: أجر أخروي وأجرمساعدة الناس له في التفريج عن همومه أيضاً كأثر وضعي لعمله، «فمن كفّ يده عن الناس فإنما يكف عنهم يداً واحدة ويكفون عنه أيادي كثيرة»(2) كما في كلام علي (علیه السلام).

والحياة بالتعاون تتقدم إلى الأمام في مختلف أبعادها (3)، ولذا قال سبحانه: «تَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ»(4) والمراد أن يعين بعضهم بعضاً.

ص: 346


1- راجع (الفقه: الآداب والسنن).
2- راجع بحار الأنوار: ج72 ص53 ب42 ح9.
3- راجع: (الفقه: الاجتماع)، و(الفقه: السياسة).
4- سورة المائدة: 2.

..............................

والفرق بين (أعان) و(عاون) و(تعاون)، أن الأول من جانب واحد، والثاني من الجانبين مع تقدم أحدهما على الآخر، والثالث من الجانبين بشكل متزامن دقةً أو عرفاً.

ولا يخفى أن كل الأقسام الثلاثة من المستحب، وإن كان الثالث أفضل.

والبر: عمل الإنسان بالنسبة إلى الغير.والتقوى: عمله بالنسبة إلى نفسه.

وربما يستفاد من الحديث أن غير الإنسان - كالجن - أيضاً قد يبتلى بالهمّ والغم والحاجة؛ لأنه (صلی الله علیه و آله) قال: «وفيهم» ومرجع الضمير إلى من هو من أهل الأرض، وقد علمت شمول أهل الأرض لغير الإنسان.

ص: 347

وَلاَ مَغمُومٌ إلا وَكَشَفَ الله غَمَّهُ،

اشارة

-------------------------------------------

كشف الغمة وأقسامها

مسألة: يستحب كشف غم المغموم.

وقد ذكرنا الفرق بينه وبين الهمّ، وأنه يسمى (غماً) لأنه كالشيء الذي يغطي شيئاً آخر، ومنه (الغمام) للسحاب، و(الأغم) لمن غطى شعر رأسه جبهته إلى غير ذلك.

و(الغم) يغطي قلب الإنسان بغطاء من الحزن.

ثم لا يخفى أن (الغم) قد يكون سببه الإنسان نفسه، وقد يكون سببه الأمور التكوينية الطبيعية التي لابد وأن تعتري الإنسان مهما كان، ولكشف كليهما أجر وأهمية إلاّ أن الثاني أهم، وأما لو كان الإنسان بنفسه سبباً وكان حلّه بيده فلا يكن لكشف كربه تلك المنزلة.

فإن الدنيا «دار بالبلاء محفوفة وبالغدر معروفة»(1) كما قاله علي(علیه السلام)، والأقسام أربعة:

إذ الإنسان بطبيعته يمرض ويهرم ويفتقر، أو يكون جاره جار سوء، أو تكون له امرأة أو لها زوج غير صالحين، إلى غير ذلك وهذه طبيعيات.

كما قد يكون هو بنفسه سبب وقوعه في المشكلة.

ص: 348


1- نهج البلاغة، الخطب: 226 ومن خطبة له (علیه السلام) في التنفير من الدنيا.

..............................

وفي هاتين الصورتين قد لا يكون قادراً بنفسه على حل المعضلة، فيتأكد حينئذ استحباب مساعدته.

وقد يكون قادراً على حلها، بأن كان الحل بيده من أي الصورتين كان، كما إذا تمرض بسبب موجة برد فجائية أو بحادث اصطدام، وكان بإمكانه علاج نفسه، وكذلك لو عرض نفسه اختياراً للاستبراد أو الوباء بمعرفة واختيار حتى تمرض وكان العلاج بيده، فإنه وإن استحب مساعدته، إلاّ أن الاستحباب أضعف مما لو لم يكن قادراً. وهذا التقسيم - بلحاظ الشدة والضعف في الاستحباب - يفهم عرفاً من نفس النصوص بالإضافة إلى بعض الملاكات:

مثل «إياك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلا الله»(1)، فالأمر أشد في هذهالصورة للاضطرار وعدم قدرته على الدفع عن نفسه.

ومثل ما ورد من أن جماعة لا يستجاب لهم دعاء(2)؛ لأن علاج مشكلتهم بأيديهم إلى غير ذلك، وكيف كان فإن كشف الغم وإن كان مطلقاً مستحباً إلاّ أن بعضه آكد من بعض.

ص: 349


1- الكافي: ج2 ص331 باب الظلم ح5.
2- راجع مستدرك الوسائل: ج5 ص253 ب47 ح5808 وفيه: (الْقُطْبُ الرَّاوَنْدِيُّ فِي دَعَوَاتِهِ، قَالَ قَالَ الصَّادِقُ (علیه السلام): أَرْبَعَةٌ لا يُسْتَجَابُ لَهُمْ دُعَاءٌ، رَجُلٌ جَالِسٌ فِي بَيْتِهِ يَقُولُ يَا رَبِّ ارْزُقْنِي فَيَقُولُ لَهُ أَ لَمْ آمُرْكَ بِالطَّلَبِ، وَرَجُلٌ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ فَدَعَا عَلَيْهَا فَيَقُولُ لَهُ أَلَمْ أَجْعَلْ أَمْرَهَا بِيَدِكَ، وَرَجُلٌ كَانَ لَهُ مَالٌ فَأَفْسَدَهُ فَيَقُولُ يَا رَبِّ ارْزُقْنِي فَيَقُولُ لَهُ أَ لَمْ آمُرْكَ بِالاقْتِصَادِ، أَلَمْ آمُرْكَ بِالإِصْلاحِ، ثُمَّ قَرَأَ وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً وَرَجُلٌ كَانَ لَهُ مَالٌ فَأَدَانَهُ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ فَيَقُولُ: أَلَمْ آمُرْكَ بِالشَّهَادَةِ).

..............................

سوق الناس إلى الله

مسألة: ينبغي سوق الناس إلى الله تعالى، وبيان أن الله سبحانه هو الذي يفرج الهمّ (وفرّج الله همه) ويكشف الغمّ (وكشف الله غمه).فإن أزمة الأمور طراً بيده تعالى:

«وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ الله رَمى»(1).

«وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ» (2).

«وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ» (3).

ص: 350


1- سورة الأنفال: 17.
2- سورة الشعراء: 79 - 82.
3- سورة الأنعام: 18و61.

وَلاَ طالِبُ حاجَةٍ إلا وَقَضى الله حاجَتَهُ.

اشارة

-------------------------------------------

طلب الحاجة وأنه مقتضٍ

مسألة: يستحب طلب الحاجة من الله سبحانه والالتجاء إليه في كشف الهمّ والغمّ بالتوسل بأهل البيت (علیهم السلام) الذين هم الوسائط إلى الله تعالى والوسائل إليه «وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ»(1)، ولذلك كان «وقضى الله حاجته» نتيجة طبيعية لقراءة هذا الحديث الشريف الذي يدور محوره حول منزلة أهل البيت (علیهم السلام) ومكانتهم عند الله سبحانه وتعالى.

وقد ذكرنا في بعض مباحث هذا الكتاب أن أمثال هذه القضايا من القضايا الطبيعية التي لا يلزم أن تكون كلية، بل أن حالها حال كثير من الأمور الأخر، كقولهم: إن العقار الفلاني دواء للمرض الكذائي، أو أن فلاناً مهندس للبناء، أو خبير اقتصادي، أو أخصائي في الزراعة،أو ما أشبه ذلك حيث لا يلزم الكلية.وكثيراً ما يستعمل الدواء ولا يرفع الداء، وكثيراً ما يقدم المهندس خريطة للبناء، أو الخبير الاقتصادي مخططاً للبلاد، ولا يكون مصيباً، وهكذا، فإن الله سبحانه وتعالى جعل للأمور الدنيوية شرائط وعلل معدّة وموانع وخصوصيات إذا حققها الإنسان جميعها تحققت النتيجة وإلاّ فلا، والدعاء ونحوه من هذا القبيل فهو مقتضٍ للإجابة لا علة تامة.

ص: 351


1- سورة المائدة: 35.

..............................

فلا يقال: كيف يُدعى عند رأس الحسين (علیه السلام) ولا يُستجاب(1)، مع أنه ورد: استجابة الدعاء تحت قبته(2)، أو تستعمل تربته الشريفة ولا يتحقق الشفاء(3) مع أنه ورد «الشفاء في تربته»(4)، إلى غير ذلك من الأسباب الواقعية والأسباب الظاهرية.

وغير خفي أن السعادة الدنيوية - بل الأخروية - قوامها: تفريج الهمّ، وكشف الغمّ، وقضاء الحاجة، وقدتكفلها الله تعالى جميعاً ببركة حديث الكساء.

استحباب قضاء الحاجة

مسألة: يستحب قضاء حاجة المحتاج، فإذا قال: اسقني الماء، وهو على المائدة كان سقيه قضاءً للحاجة، وإن لم يسم تفريج الهمّ ولا كشف الغمّ(5).

وقضاء الحاجة أعم من الأمرين السابقين (كشف الهمّ والغمّ)، ولا فرق في ذلك بين الحاجات الدنيوية والأخروية.

ص: 352


1- أي أحياناً.
2- راجع وسائل الشيعة: ج14 ص537 ب76 ح19773.
3- أي أحياناً.
4- راجع وسائل الشيعة: ج14 ص537 ب76 ح19773.
5- النسبة بينهما عموم من وجه.

..............................

ولا يبعد أن يكون قضاء حاجة غير المسلم - كإدخال السرور على قلبه(1) - أيضاً مندوباً، وإن كان في المسلم أولى، ويؤيده الإطلاقات، أما التقييد بالمؤمن ونحوه في بعض الروايات فلا يقيدها لأنهما مثبتان على الاصطلاحالأصولي(2).

كما يؤيده قضاء النبي (صلی الله علیه و آله) والأئمة (علیهم السلام) حاجات غير المؤمنين، كما ورد في تفسير سورة المنافقين من أن الرسول (صلی الله علیه و آله) أعطى بعض ملابسه لعبد الله بن أُبي لما طلب منه ذلك(3)..

وفي موارد أخرى دلالة على ذلك ولو بتنقيح المناط.

ص: 353


1- قد سبق بعض البحث عن إدخال السرور تحت عنوان: (بشارة الغير وإدخال السرور).
2- المطلق والمقيد إذا كانا متخالفين بالسلب والإيجاب قيّد أحدهما الآخر كما في: (أكرم العالم)، و(لا تكرم العالم الفاسق)، أما إذا كانا متوافقين في السلب والإيجاب فلا، بل يكون المقيّد أشد في المطلوبية كما لو قال: (أكرم العالم)، و(أكرم العالم الفقيه)، و(أقم الصلاة)، و(أقم صلاة الظهر)، راجع (الأصول) للإمام المؤلف (قدس سره).
3- بحار الأنوار: ج30 ص572 ب23 الأول.

فَقالَ عَلِيٌّ (علیه السلام): إذَنْ وَالله فُزنا وَسُعِدنا، وَكَذلِكَ شِيعَتُنا

اشارة

-------------------------------------------

السعي للفوز

مسألة: يستحب وقد يجب - حسب المراتب - السعي لتحقيق الفوز، للنفس وللغير.

ففوزهم (علیهم السلام) كان - إضافة للجانب الذاتي - لأجل أنهم واسطة الخير والفيض.

وفوز شيعتهم؛ لأنهم بسبب تمسكهم بالأئمة الهداة (علیهم السلام) ينالون خير الدنيا والآخرة وحوائجهم فيهما.

فإن علمهم (علیهم السلام) بفوزهم وفوز شيعتهم ببركة هذا الاجتماع الرباني أوجب عقدهم ذلك الاجتماع التاريخي، لما ورد من «أنهم (علیهم السلام) عالمون بما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة»(1) بتعليم الله سبحانه لهم.

علم الغيب وتأثيره في سلوك المعصومين (علیهم السلام)

لا يقال: إذا كان الرسول (صلی الله علیه و آله) يعلم بأن اللحم مسموم فلماذا مضغه؟.

ولماذا ذهب الإمام علي (علیه السلام) للصلاة وهو يعلم بأن ابن ملجم يريد قتله؟.

ولماذا شرب الإمام الحسن (علیه السلام) السم؟ إلى غير ذلك.

ص: 354


1- راجع الكافي: ج1 ص260 باب أن الأئمة (علیهم السلام) يعلمون علم ما كان وما يكون وأنه لا يخفى عليهم الشيء (صلوات الله عليهم).

..............................

لأنه يقال: علمهم الغيبي وقدرتهم الغيبية لا تغيِّر سلوكهم وبرنامجهم الفردي والاجتماعي، وإلاّ لم يكونوا أسوة، ولمَا تحقق الامتحان، فالرسول (صلی الله علیه و آله) كان قادراً - بإذن الله تعالى - على أن يقلب الحصى جوهراً ويخرج بذلك نفسه وأصحابه من الفقر، إلى غير ذلك من الأشباه والنظائر.

وكذا لو كان المقرر أن يؤثر علمهم الغيبي وقدرتهم الغيبية في تغيير المقدرات الإلهية ومقتضيات عالم الإمكان لكان الإمام الحسين (علیه السلام) قد أوجد الماء لأصحابه وأهل بيته (علیهم السلام)، بل حتى لو أُشربوا السم وضُربوا بالسيف كانواسيجدون الحل الناجح غيبياً، وكذلك لما بكى الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام) لفقد ولده (علیه السلام) وهو يرى أنه دخل جنات عرضها السماوات والأرض.

وكذا حال الأنبياء (علیهم السلام) ..

وإلاّ لكان إبراهيم (علیه السلام) قضى على نمرود بإشارة من يده، ولأحدث عيسى (علیه السلام) بينه وبين اليهود سداً حتى لا يتمكنوا منه، ولم تكن حاجة لأن يرفعه الله تعالى إلى السماء، وكذلك كان يقضي موسى (علیه السلام) على فرعون بادئ ذي بدء دون حاجة إلى إيقاع النفس في مخاطر ومتاعب جسيمة، والجهاد لعشرات السنين قبل التيه ومعه وبعده.

ولكان الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) يظهر ولا يتمكن عدو من النيل منه، مما يضطره إلى التستر، كما في الأحاديث من أنه (علیه السلام) تستر تحفظاً على نفسه من الطغاة(1).

ص: 355


1- راجع بحار الأنوار: ج52 ص90 ب20.

..............................

أما ما ظهر من المعجزات والكرامات فكان بقدر معين بحيث يكفل إقامةالبرهان على ارتباط هذا الرسول (صلی الله علیه و آله) ووصيه (علیه السلام) بإله الكائنات، وبحيث يتم الحفاظ على أصل الرسالة دون أن تمحى نهائياً وشبه ذلك، وأما ما عدا ذلك فيدخل في عالم الأسباب والمسببات الطبيعي.

وهذا بحث طويل نكتفي منه بهذا القدر.

أبواب الجنة والنار

لا يخفى أن التشيع كالإيمان، يؤثر ويتحكم ويرتبط بثمانية مواضع من الإنسان، وهي:

1 - الباصرة.

2 - السامعة.

3 - الذائفة.

4 - اللامسة(1).

5- الفرج، حيث إنه وإن شملته اللامسة من وجه، لكنه لكثرة الابتلاء به وخطورته وصعوبة التحكم به عدّ واحداً في قبالها(2).

6 - البطن.

ص: 356


1- أما الشامة فلا مدخلية لها إلا نادراً جداً - كشم الطيب في الحج -.
2- قال تعالى في وصف المؤمنين: «وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ» - سورة المؤمنون: 5، سورة المعارج: 29 -.

..............................

7 - الاعتقاد والفكر.

8 - النية.

فإن كل واحد من هذه يمكن أن يستخدم للخير أو الشر، وكلها باستثناء الأخير يمكن أن تُدخل الإنسان في الجنة أو في النار، ولعل السر في أن للجنة ثمانية أبواب وللنار سبعة أبواب هو هذه الجهة، حيث إن نية السوء بما هي هي لا تؤدي بالإنسان إلى النار، كما حقق في بابه وذكرناه في الأصول، أما الأبواب السبعة الأُخر فمن الممكن أن تؤدي بالإنسان إلى النار، ونية الخير من أبواب الجنة.

وأما الاعتقاد: فمن الواضح أن التفكر والاعتقاد قد يجر إلى النار، كالاعتقاد بالباطل في الأصول(1)، وقد يؤدي بالإنسان إلى الجنة، وذلك كالتفكر في أمور الخير ولأجلها، وفي أصول الدين والاعتقاد بها.

والإنسان الذي يرغب في دخول الجنة وسعادة الدنيا والآخرة، لابد من أن يجنِّد كل المجالات الثمانية في الامتثال لأوامر الله سبحانه وتعالى، وأوامر أهلالبيت (صلوات الله عليهم أجمعين) والتي تنبثق من أوامر الله تعالى أيضاً، بل هي هي لقوله تعالى:

«وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهوى * إِنْ هُوَ إلا وَحْيٌ يُوحى»(2).

ولما ورد: «أهل بيت النبوة وموضع الرسالة»(3).

ص: 357


1- أي في أصول الدين.
2- سورة النجم 3 - 4.
3- زيارة الجامعة الكبيرة.

..............................

وأما العقل فليس علة مباشرة، بل بسبب إحدى السوابق، وإن كان هو لايتوجه بذاته إلاّ إلى الله وإلى أوامره.

أما من يصرف بعض مواضعه السبعة في معصية الله ومعصية أوامر رسله وأوصيائهم (عليهم الصلاة والسلام) فهو يفتح على نفسه باباً أو أكثر إلى النار، أعاذنا الله منها.

هذا كله حسب الاحتمال.

ولكن في بعض الروايات إشارة إلى ما يظهر منه توزع أبواب الجنة حسب الصفات النفسانية، إذ ورد أن أبواب الجنة منها باب الرحمة، ومنها باب الصبر، ومنها باب الشكر، ومنها باب البلاء، والباب الأعظم لأهل الزهدوالورع والراغبين إلى الله عز وجل المستأنسين به(1).

وهناك روايات أُخرى تشير إلى أن أبواب الجنة الثمانية متعددة بلحاظ أصناف الأفراد:

«إن للجنة ثمانية أبواب، باب يدخل منه النبيون والصديقون، وباب يدخل منه الشهداء والصالحون، وخمسة أبواب يدخل منها شيعتنا ومحبونا ... وباب يدخل منه سائر لمسلمين ممن شهد أن لا الله إلا الله، ولم يكن في قلبه مقدار ذرة من بغض أهل البيت (علیهم السلام)»(2)، ولعل ذلك بعد امتحانه في الآخرة.

وهناك طائفة ثالثة من الروايات من أمثال:

ص: 358


1- راجع الأمالي للصدوق: ص210 المجلس38 ح1.
2- الخصال: ج2 ص407-408 باب الثمانية ح6.

..............................

«من صام من رجب يوماً واحداً من أوله أو وسطه أو آخره أوجب الله له الجنة وجعله معنا في درجتنا يوم القيامة، ومن صام يومين من رجب قيل له: استأنف العمل فقد غفر لك ما مضى، ومن صام ثلاثة أيام قيل له: قد غفر لك ما مضى وما بقي فاشفع لمن شئتمن مذنبي إخوانك وأهل معرفتك، ومن صام سبعة أيام من رجب أُغلقت عليه أبواب النيران السبعة، ومن صام ثمانية أيام من رجب فتحت له أبواب الجنة الثمانية فيدخلها من أيها شاء»(1).

وغير خفي أن أمثال هذه إنما هي بنحو المقتضي.

وروايات تقوم بالتوزيع حسب نوعية الوظيفة والمسؤولية التي قام بها الشخص، فمثلاً: «إن للجنة باباً يقال له باب المجاهدين ... »(2)، و«إن في الجنة باباً يدعى الريان لا يدخل منه إلا الصائمون»(3).

وهناك روايات تشير إلى أعداد أكبر، فقد قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «... إن للجنة أحدى وسبعين باباً ... وطبقاتها ثمانية»(4).

وقد يجمع بين هذه الروايات بأنحاء:منها: إن هنالك أبواباً رئيسية وأخرى فرعية، فالأبواب الرئيسية ثمانية في كل واحد منها العديد من الأبواب الصغيرة.

ص: 359


1- الأمالي للصدوق: ص5 المجلس2 ح1.
2- الكافي: ج5 ص2 باب فضل الجهاد ح2.
3- وسائل الشيعة: ج10 ص404 ب1 ح13703.
4- راجع الأمالي للطوسي: ص368-369 المجلس13 ح784.

..............................

ومنها: إن الأبواب الثمانية وكذا السبعة يراد بها طبقات بعضها فوق بعض كما في بعض الروايات ولكل منها أبواب.

ومنها: إن للأبواب جهات عديدة وحيثيات مختلفة، أو مراتب متعددة.

ومنها: إن ما كان بلحاظ الصفات أو الأعضاء يتطابق مع ما كان بلحاظ الأفراد ولو باعتبار أبرزها، فباب المجاهدين يتطابق مع باب الصبر مثلاً، فالتعدد في العناوين والتطابق عموماً وخصوصاً مطلقاً أو من وجه في المصاديق.

ويمكن إدراج ما ذكرناه من التقسيم بلحاظ الأعضاء في تلك العناوين الأخرى أيضاً(1) فتأمل.

ص: 360


1- مثلاً الصبر يشمل صبر اللامسة والسامعة والباصرة و... عن معصية الله وهكذا هذا من جهة، ومن جهة أُخرى فإن الملامسة محطة للشكر والبلاء والصبر و... فكل من مفردات الطرفين تصلح محطة لكل أو غالب مفردات الطرف الآخر.

فَازوا وَسُعِدوا في الدُّنيا وَالآخِرَةِ

اشارة

-------------------------------------------

الضلالة والشرّ وضدهما ودور الله أو الإنسان فيها

مسألة: من المعلوم أن الاهتداء والفوز والسعادة الأُخروية بل وحتى الدنيوية وعكسها بيد الإنسان نفسه بعد هداية الله سبحانه.

قال جل وعلا: «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ»(1).

وقال تعالى: «وَمَنْ يَتَّقِ الله يَجْعَلْ له مَخْرَجاً»(2).

وقال سبحانه: «لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ»(3).

وقال تعالى: «مَنْ يَهْدِ الله فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ له وَلِيًّا مُرْشِداً»(4).ومعنى إضلاله سبحانه تركه وشأنه، من قبيل: أفسد الوالدُ ولدَه والحكومةُ الناسَ، إذا تركت الحكومة الناس وشأنهم حتى يفسدوا وإن لم تقم

ص: 361


1- سورة الروم: 41.
2- سورة الطلاق: 2.
3- سورة الأعراف: 96.
4- سورة الكهف: 17.

..............................

هي بالتخطيط للإفساد بل كان مجرد تركهم، وترك الوالد ولده حتى يفسد، ولكن إنما يكون ذلك بعد هداية الله وعدم قبول الإنسان للهداية كما فصلناه في بعض كتبنا الكلامية في بابي الضلال والهداية.

ثم إن الله سبحانه وتعالى لا يريد بأحد شراً أو سوءً، بل يريد الخير للجميع، كما لا يريد مشكلةً لأحد بما هو هو وبما هي هي، ولذا ورد في سورة القدر «سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ»(1)، فإن كل ما ينزل من السماء إلى الأرض هي السلامة، وإنما الناس - بسوء تصرفاتهم - يجلبون لأنفسهم الشر كالفقر والمرض وما أشبه ذلك، فإنها بيد الإنسان نفسه أو بيد بني نوعه، وإنما يوقع الإنسان نفسه في الشر بهذه الأسباب.

نعم، قد يكون السبب في إيقاع الإنسان في مشكلة: التكفير عن ذنوبهكي لا يبتلى بالعقاب الأشد في الآخرة، أو رفعة درجاته، كمن يوقع نفسه في مشاق السفر رغبة في الربح والتجارة.

وربما كان السبب في الوقوع في المشكلة الأثر الوضعي لتصرفاته هو، فتكون المصائب التي تترى عليه نتيجة لذلك، وإن لم يعلم هو بالترابط بين الأمرين، ف (من زرع حصد) حنظلاً كان أم ورداً.

لا يقال: فماذا تقولون فيما ورد في الدعاء: «أكرمني بهوان من شئت من خلقك ولا تهني بكرامة أحد من أوليائك»؟ (2).

ص: 362


1- سورة القدر: 5.
2- الكافي: ج4 ص75 باب ما يقال في مستقبل شهر رمضان ح6.

..............................

فإنه يقال: مثالهما مثال من يطلب من قائد الجيش أن لا يرسله في المهمات الصعبة بل يكلف غيره بها فيما لابد من خوضه لنجاة الجيش أو الشعب، فإذا كان هنالك هوان لابد منه فإن هذا الداعي يطلب من الله سبحانه أن لا يكون هو الذي يُهان وغيره يُكرم، بل يكون هو المكرم وإن كان غيره يُهان.

والتعبير ب (من شئت) قد تكونحكمته الإشارة إلى أن انتخاب البديل حيث كان من الله تعالى فإن من الطبيعي أن يحل الله سبحانه الهوان في المحل القابل، وفيمن يستحق ذلك أو فيمن تقتضي الحكمة ذلك وإن لم يكن مستحقاً، وهذا الداعي وإن كان يستحق ذلك إلاّ أنه بالدعاء يريد أن يرفع ذلك الاستحقاق أو تغيير وجه الحكمة فيما كان من قبيل ما هو مكتوب في لوح المحو والإثبات لا اللوح المحفوظ.

وتفصيل هذه المباحث في الكتب الكلامية(1) وإنما أردنا الإلماع إليها حسب ما يقتضيه المقام.

ص: 363


1- راجع: (شرح المنظومة)، و(القول السديد في شرح التجريد) للمؤلف (قدس سره).

وَرَبِّ الكَعبَةِ.

اشارة

-------------------------------------------

الكعبة ومكانتها

مسألة: يستحب التركيز على الكعبة المكرمة ومكانتها وتوجيه الناس إليها، وبيان أن للكعبة - زادها الله شرفاً - حرمةً ومنزلةً خاصة، ولذا أقسم علي (علیه السلام) برب الكعبة مرتين، ولم يقسم برب الصفا والمروة أو المزدلفة مثلاً.

والقسم برب الكعبة تركيز عليها وتوجيه إليها وتحريض على احترامها وبيان لعظمتها، وبذلك يلتف الناس حولها ويكونون بذلك قياماً في طاعة الله تعالى في مختلف شؤونهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتربوية والدينية وغيرها، ولذا قال سبحانه:

«جَعَلَ الله الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ»(1)،(2).

وقال تعالى: «لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَلهمْ»(3).

ص: 364


1- سورة المائدة: 97.
2- راجع أيضاً كتاب (خواطري عن القرآن: ج1 ص419 فصاعداً) لأخ الإمام المؤلف آية الله الشهيد السيد حسن الشيرازي (قدس سره).
3- سورة الحج: 28.

..............................

خاتمه

اشارة

وفي ختام هذا الفصل نشير إلى أن الأحكام والعِبَر التي استنبطناها من حديث الكساء كانت عَبر الاستناد إلى الدلالة المطابقية والتضمنية والالتزامية ونحوها، كما ألمعنا إليه في المقدمة.

التدبر والتفكر والاستنباط في القرآن

ويمكن أن يستخرج أكثر ما ذكرناه من الأحكام عبر (التدبر) و(التفكر) و(الاعتبار).

فقد ذكر الأول في القرآن الحكيم في أربع آيات(1).

والثاني في ثمانية عشر موضعاً (2).

ص: 365


1- قال تعالى ليدّبّروا في آية واحدة (سورة ص 29). وقال سبحانه يتدبّرون في آيتين (سورة النساء: 82 وسورة محمد: 24). وقال تعالى يدّبّروا في آية واحدة (سورة المؤمنون 68).
2- قال تعالى تتفكّروا في آية واحدة (سورة سبأ: 46). وقال تتفكرون في ثلاث آيات (سورة البقرة: 219، سورة البقرة: 266، سورة الأنعام: 50)، وقال فكّر في آية واحدة (سورة المدثر: 18)، وقال يتفكّروا في آيتين (سورة الأعراف: 184، سورة الروم: 8)، وقال يتفكرون في إحدى عشرة آية (سورة آل عمران: 191 والأعراف 176 ويونس 24 و.الرعد 23، والنحل 11، والنحل 44، والنحل 96، والروم 21، والزمر 42، والجاثية 13، والحشر 21).

..............................

والثالث في سبع آيات(1).

والقرآن يؤكد على الاجتهاد والاستنباط، قال سبحانه: «لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ» (2).

ولذا أكثر من حديث (العقل) و(التعقل) وجاءت الإشارة إلى ذلك في تسع وأربعين آية(3).

وتحدث عن (القلب) - والمراد به ذلك أيضاً - في مائة واثنتين وثلاثينآية(4).

وعن (اللب) - وهو جوهر الإنسان وحقيقتة والمراد به العقل أيضاً، مع اختلافهما في اعتبار أن العقل من العقال واللب هو جوهر الشيء معرى عن الحواشي وشبهها - في ستة عشر موضعاً (5).

وعن (النهى) - بمعنى العقل لأنه ينهى الإنسان عن الرذائل - في اثنتين(6)، وعن (الفقه) في عشرين(7)، وعن (الحكمة) في تسع عشرة آية(8)، إلى غير ذلك.

ص: 366


1- قال تعالى عبرة في آية واحدة (سورة يوسف 11) وقال فاعتبروا) في آية واحدة (سورة الحشر 2) وقال لعبرة في خمس آيات (سورة آل عمران 13، النحل: 66، المؤمنون 21، النور: 44، النازعات : 26).
2- سورة النساء: 83.
3- راجع المعجم المفهرس للقرآن الكريم.
4- راجع المعجم المفهرس للقرآن الكريم.
5- راجع المعجم المفهرس للقرآن الكريم.
6- راجع المعجم المفهرس للقرآن الكريم.
7- راجع المعجم المفهرس للقرآن الكريم.
8- راجع المعجم المفهرس للقرآن الكريم.

..............................

تجسم الأعمال

ولا بأس أن نشير ها هنا إلى أن ما ورد من أن الفكرة السيئة تفوح منها رائحة خبيثة، وما ورد من تجسم الأعمال في الآخرة وفي القبر وما أشبه ذلك، واضح حتى حسب الموازين الطبيعية المتعارفة، فكيف بغيره.

فإن كل عمل يصدر من الإنسان حتى تفكره وسماعه ورؤيته وشمه وذوقه ولمسه إنما يكون من تحول المادة إلى الطاقة - على الاصطلاح - أي عبر تحول جزء من الطعام والشراب إلى قوة وطاقة تنشر في أرجاء الجسد وتعد وقود الأعمال والأفكار، فإن الأذن تأخذ نصيبها من الطاقة حتى تسمع، والعين كذلك حتى تبصر، واللسان حتى يتكلم، والجسم حتى يلمس، وهكذا.

ومن المعلوم أن تلك الأطعمة أجسام والجسم قابل للتقلص والتمدد والتشكل والتلون والتغير والتحول، كما نشاهد في الفواكه وسائر المواليد(1)حيث إنالماء والتراب والنور والهواء تتشكل من مليارات من المواد أو الجزيئات(2) والأطعمة والروائح والخواص.

ولذا ورد أن المغتاب تقيأ من فمه، وأن العمل يتجسم كلباً إذا كان سيئاً، ومانع الزكاة يتشكل ثعباناً..

ص: 367


1- المواليد اصطلاح متداول في كتب الفلسفة سابقاً ويعني النبات والحيوان والإنسان.
2- كال (فوتون) - حسب العلم الحديث -.

..............................

وقد قال سبحانه: «إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (1)، ف (ما) هو الجزاء لا سبب الجزاء، ولذا لم يقل (بما) فهو هو جزاء، إلى غير ذلك من الآيات والروايات والمؤيدات.

وأولياء الله تعالى من الأنبياء والأئمة (علیهم السلام) وصالحي العباد، أمثال سلمان (رحمة الله) وربما مؤمن آل فرعون(2)يرون تلك الأشكال الواقعية، ولذا أحس الإمام علي(علیه السلام) بالرياح الشديدة من حركة الملائكة في ليلة بدر(3).

ويمكن بإرادة الله تعالى تبدل الأجسام اللطيفة والواقعيات إلى أجسام كثيفة وشبهها، كما جمع الإمام (علیه السلام)زغب الملائكة(4).

وهذا بحث طويل نكتفي منه بهذا القدر تقريباً لرؤيتهم وسماعهم واستشمامهم (علیهم السلام) لما لا ندرك.

ولذا قال النبي يعقوب (علیه السلام) رغم كون البون بعيداً والمسافة شاسعة: «إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ»(5).

ص: 368


1- سورة الطور: 16، سورة التحريم: 7.
2- قال تعالى: «يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ» - سورة يس: 2627 - والذي فسرته بعض الروايات بأنه رأى مكانه في الجنة.
3- راجع المناقب: ج2 ص242 فصل في محبة الملائكة إياه.
4- راجع الكافي: ج1 ص393-394 باب أن الأئمة تدخل الملائكة بيوتهم ح3.
5- سورة يوسف: 94.

..............................

للحواس والإدراكات درجتان

ومما ذكرنا يتلخص ما يلي:

الأول: إن الحواس الظاهرة والفهم والإدراك لها درجتان:

الأولى: الدرجة الطبيعية المعهودة كرؤية الأشياء إلى مقدار محدد، وسمع الأصوات إلى مسافة وقدر معين، وهكذا، ويلحق بهذا القسم تطوير الحاسة بالمباشرة أو الواسطة كرؤية الأبعد بواسطة النظارة والتلسكوب مثلاً، وسماع الأبعد بواسطة المكبرة الصوتية السمعية والإذاعية.

الثانية: الدرجة الغيبية كرؤية باطن الإنسان وحقيقتة، وسماع أصوات الملائكة والأموات، وهذه الدرجة تختص بأولياء الله سبحانه ممن أراد الله تعالى له ذلك، وهكذا حال الفهم الطبيعي العادي والفهم الغيبي، فللفهم درجتان.

ظاهر الإنسان وباطنه

الثاني: إن الإنسان له ظاهروباطن، فظاهره هذا الذي نشاهده وندركه بالآلة أو بدون الآلة، وباطنه هو قالبه المثالي الداخل في هذا الجسم، كدخول الماء في النباتات والحيوانات وشبهها، والزجاج في الحجر.

وذلك الباطن قد يكون متطابقاً مع الظاهر وقد يكون متخالفاً معه، بأن يكون ظاهره إنساناً وباطنه قرداً أو كلباً أو خنزيراً حسب صفاته النفسية، ولذا

ص: 369

..............................

رأى أبو بصير جملة ممن وقف بعرفات على غير صورتهم الإنسانية، وقال له الإمام (علیه السلام): «ما أكثر الضجيج وأقل الحجيج» (1)، إلى غيرها من الروايات المتواترة.

ويستفاد من بعض الروايات: إن الناس يحشرون يوم القيامة بتلك الصورة الباطنية حسب صفاتهم التي اكتسبوها في هذه الدنيا (2).

ومثال هذين الأمرين: مثال من يقرأ الحمد وهو يفكر في تجارته أو دراسته، فظاهره شكل وباطنه شكل آخر، أوبالعكس يتاجر في محل تجارته وباطنه مشغول بالله سبحانه، حيث يكون ظاهره عادياً وباطنه نورانياً، ولعل ما ورد من «إن الله لا ينظر إلى صوركم بل ينظر إلى قلوبكم» (3) إشارة إلى هذين الأمرين.

***

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد والله الطاهرين.

محمد الشيرازي

قم المقدسة

1414ه

ص: 370


1- راجع بحار الأنوار: ج27 ص29-30 ب13 ح2.
2- راجع بحار الأنوار: ج6 ص229 ب8 ح32.
3- راجع بحار الأنوار: ج67 ص248 ب54 ضمن ح21.

المجلد الثاني : خطبتها علیها السلام في المسجد 1

هوية الكتاب

الفقه موسوعة استدلالية في الفقه الإسلامي من فقه الزهراء (علیها السلام)

المجلد الثاني : خطبتها علیها السلام في المسجد 1

المرجع الديني الراحل آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (أعلى الله درجاته)

ص: 1

اشارة

الطبعة الأولى

1439 ه 2018م

تهميش وتعليق:

مؤسسة المجتبى للتحقيق والنشر

كربلاء المقدسة

ص: 2

الفقه

من فقه الزهراء (علیها السلام)

المجلد الثاني

خطبتها علیها السلام في المسجد

القسم الأول

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

ولعنة الله على أعدائهم أجمعين

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الصِّدِيقَةُ الشَّهِيدَةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الرَّضِيَةُ المَرْضِيَّةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الفَاضِلةُ الزَّكِيَةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الحَوْراءُ الإِنْسِيَّةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا التَّقِيَّةُ النَّقِيَّةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا المُحَدَّثَةُ العَليمَةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا المَظْلومَةُ المَغْصُوبَةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا المُضْطَهَدَةُ المَقْهُورَةُ

السَّلامُ عَليْكِ يا فاطِمَةُ بِنْتَ رَسُول اللهِ

وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ

البلد الأمين ص278. مصباح المتهجد ص711

بحار الأنوار ج97 ص195 ب12 ح5 ط بيروت

ص: 4

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين.

وبعد، فإن الدفاع كالهجوم - حقاً كان، كما في الأنبياء والأوصياء (علیهم السلام) والعلماء والصالحين من المؤمنين والمؤمنات.. أم باطلاً، كما في الطغاة والمجرمين - على سبعة أقسام، وإن أمكن التكثير أو التقليل منها بالاعتبارات المختلفة:

الأول: السياسي،بالتحرك وتوجيه الضغوط عبر محاور ومراكز ومؤسسات متخصصة لذلك وما أشبه، كجعل الشخص المناسب في المكان المناسب، أو التحرك لأجله في الحق وبالعكس فيالباطل.

والثاني: الاقتصادي، عبر الدعم المادي - بمختلف صوره - لجبهة الحق أو الباطل في الجانبين، أو الحظر الاقتصادي سواء على جبهة الحق، كما في محاصرة أهل مكة لأهل المدينة اقتصادياً، وكما في اغتصاب فدك، وفي عكسه على جبهة الباطل، كما قام به الرسول (صلی الله علیه و آله) بالنسبة إلى بعض القوافل التجارية لقريش

ص: 5

مقابلة لهم بالمثل(1).

والثالث: الاجتماعي بالمقاطعة الاجتماعية، كما فعله الرسول (صلی الله علیه و آله)(2) «وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا» (3)، وكما فعله بنو العباس - بالباطل - مع الأئمة الطاهرين (علیهم السلام).

والرابع: العسكري، بالسلاح، كما في حروب الرسول (صلی الله علیه و آله) الدفاعية - في جانب الحق - وعكسه في القوى المعادية لأهل الحق.والخامس: العاطفي، عبر الندبة والنوح والبكاء، كما قام به أهل البيت والأئمة (علیهم السلام) - في العديد من المواطن - خاصة الإمام السجاد (علیه السلام) بعد شهادة الإمام الحسين (علیه السلام) (4)، وبذلك تمكنوا من إحقاق الحق وإزهاق الباطل.

والسادس: الثقافي، وذلك عبر القيام بنشر الوعي والعلم والثقافة بمختلف الوسائل، فأهل الحق ينشرون الفضيلة والتقوى والصدق ويقومون بإرشاد الناس للحقائق، وأهل الباطل ينشرون الفساد والكذب والخداع، قال تعالى: «قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ»(5).

والسابع: الأجوائي(6) بتهيئة الأجواء الصالحة..بتزويج الشباب والشابات ومنع المخامر والمقامر والمباغي والملاهي والمراقص، واستبدالها بالبدائل الصالحة

ص: 6


1- راجع حول هذه المباحث كتاب (ولأول مرة في تاريخ العالم): ج1-2 للإمام المؤلف (قدس سره).
2- راجع كتاب (ولأول مرة في تاريخ العالم): ج2 ص169-175 غزوة تبوك، تحت عنوان: المتخلفون عن تبوك.
3- سورة التوبة: 118.
4- راجع وسائل الشيعة: ج3 ص282 ب87 ح3658.
5- سورة الإسراء: 84.
6- قد يكون هذا القسم داخلاً في الدفاع السياسي أو غيره، ولكن ذكره من باب ذكر الخاص بعد العام لأهميته أو لغير ذلك مما هو مذكور في علم البلاغة.

والسليمة، أو الأجواء الفاسدة، كما يفعله المبطلون في كل زمان ومكان.والصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها الصلاة والسلام) اتخذت أسلوب الدفاع والهجوم، لإحقاق الحق وإبطال الباطل، عبر:

1: العاطفة، كالبكاء ونحوه.

2: الثقافة، كما في خطبتها (علیها السلام) في المسجد، وفي مجمع النساء اللاتي جئن لعيادتها في البيت.

3: المقاطعة الاجتماعية:

في حياتها: حيث لم تأذن للشيخين في زيارتها (1)، وقالت (علیها السلام): «إليكم عني..»(2).

وبعد الوفاة: بالوصية بإخفاء مراسم التشييع والصلاة والدفن وإخفاء القبر الشريف(3).

4: التحرك لأجل إرجاع الحق لأهله عبر الخطبة وتوجيه الضغوط(4)وغيرها(5).

وفيما يلي نذكر خطبة الصديقة فاطمة الزهراء (علیها السلام) بأكملها، مع بعض

ص: 7


1- راجع بحار الأنوار: ج28 ص357 ب4 ح69 تبيين.
2- راجع الاحتجاج: ج1 ص109 احتجاج فاطمة الزهراء (علیها السلام) على القوم لما منعوها فدك وقولها لهم عند الوفاة بالإمامة.
3- راجع بحار الأنوار: ج43 ص214 ب7 ضمن ح44.
4- كما في طوافها (علیها السلام) على الأربعين من الصحابة.
5- وهذا من الدفاع السياسي والأجوائي حسب التقسيم المذكور، وقد يكون اقتصاديا أيضاً بالنسبة إلى مطالبتها (علیها السلام) بفدك، أما الدفاع العسكري فلم يكن ذلك بصالح الإسلام والمسلمين كما وصى بذلك الرسول (صلی الله علیه و آله).

ما يستنبط منها من الفروع والأحكام على النحو الذي فصلناه في مقدمة حديث الكساء(1).

هذا وقد أشرنا إلى بعض أدلة حجية الخطبة في المجلد الأول.

كما ذكرنا بعض ما يدل على كونها (صلوات الله عليها) مفروضة الطاعة على جميع الخلائق حتى الأنبياء (علیهم السلام)(2).

والله الموفق وهو المستعان.

قم المقدسة

محمد الشيرازي

1414ه

ص: 8


1- راجع موسوعة الفقه (من فقه الزهراء (علیها السلام)) المجلد الأول.
2- راجع (من فقه الزهراء (علیها السلام)) المجلد الأول.

خطبة الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) في المسجد

خطبة الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) في المسجد(1)

** احتجاج فاطمة الزهراء (علیها السلام) على القوم لما منعوها فدك(2)

بسم الله الرحمن الرحيم

روى عبد الله بن الحسن، بإسناده عن آبائه (علیهم السلام):

أنه لما أجمع(3) أبو بكر وعمر علىمنع فاطمة (علیها السلام) فدكاً (4)، وبلغها ذلك..

ص: 9


1- نقلنا هذه الخطبة الشريفة نصاً وتعليقاً من كتاب (عوالم العلوم ومستدركاتها) مجلد فاطمة الزهراء (علیها السلام) ج2 ص652- 697 الباب الخامس الحديث الأول، تحقيق ونشر مؤسسة الإمام المهدي (علیه السلام) قم المقدسة.
2- الاحتجاج للطبرسي: ج1 ص97-108، احتجاج فاطمة الزهراء (علیها السلام) على القوم لما منعوها فدك.
3- أجمع أبوبكر وعمر: أي أحكما النية والعزيمة عليه.
4- فدك من الكلمات التي يجوز فيها الصرف ومنع الصرف.

لاثت (1) خمارها على رأسها، واشتملت بجلبابها (2)..

وأقبلت في لمّة (3) من حفدتها (4) ونساء قومها..

تطأ ذيولها (5)، ما تخرم(6) مشيتهامشية رسول الله (صلی الله علیه و آله)، حتى دخلت

ص: 10


1- أي عصبته وجمعته، يقال: لاث العمامة على رأسه يلوثها لوثاً: أي شدها وربطها.
2- الجلباب، بالكسر: يطلق على الملحفة والرداء والإزار والثوب الواسع للمرأة دون الملحفة والثوب كالمقنعة تغطي بها المرأة رأسها وصدرها وظهرها، والأول أظهر.
3- اللمة - بضم اللام وتخفيف الميم - : الجماعة. قال في النهاية ج4 ص273: في حديث فاطمة (علیها السلام): (إنها خرجت في لُمة من نسائها تتوطأ ذيلها إلى أبي بكر فعاتبته) أي في جماعة من نسائها. قيل: هي ما بين الثلاثة إلى العشرة. وقيل: اللمة: المثل في السن والترب. وقال الجوهري في الصحاح: ج5 ص2026: الهاء عوض من الهمزة الذاهبة من وسطه، وهو مما أخذت عينه كسر ومد، وأصلها (فعلة) من الملائمة وهي الموافقة. انتهى. ويحتمل أن يكون بتشديد الميم. قال الفيروز آبادي في القاموس: ج4 ص177: اللمة بالضم: الصاحب والأصحاب في السفر، والمؤنس للواحد والجمع.
4- الحفدة، بالتحريك: الأعوان والخدم.
5- أي كانت أثوابها طويلة تستر قدميها، وتضع عليها قدمها عند المشي، وجمع الذيل باعتبار الأجزاء أو تعدد الثياب.
6- وفي بعض النسخ: من مشي رسول الله (صلی الله علیه و آله). والخرم: الترك والنقص والعدول. والمشية: بالكسر الإسم من مشى يمشي مشياً: أي لم تنقص مشيها (علیها السلام) من مشيه (صلی الله علیه و آله) شيئاً، كأنه هو بعينه. قال في النهاية: ج2 ص27: فيه ما خرمت من صلاة رسول الله (صلی الله علیه و آله) شيئاً، أي ما تركت. ومنه الحديث: (لم أخرم عنه حرفاً) أي لم أدع.

على أبي بكر، وهو في حشد(1) من المهاجرين والأنصار وغيرهم، فنيطت دونها ملاءة (2)، فجلست.. ثم أنّت أنةًأجهش(3) القوم لها بالبكاء، فارتج(4) المجلس..

ثم أمهلت هنيئة (5)..

ص: 11


1- والحشد، بالفتح وقد يحرّك: الجماعة. وفي الكشف: (إن فاطمة (علیها السلام) لما بلغها إجماع أبي بكر على منعها فدكاً، لاثت خمارها وأقبلت في لميمة من حفدتها ونساء قومها، تجرّ أدراعها، وتطأ في ذيولها، ما تخرم من مشية رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى دخلت على أبي بكر، وقد حشد المهاجرين والأنصار، فضرب بينهم بريطة بيضاء، وقيل: قبطية، فأنّت أنّة أجهش القوم لها بالبكاء، ثم أمهلت طويلاً حتى سكنوا من فورتهم، ثم قالت: أبتدئ بحمد من هو أولى بالحمد والطول والمجد، الحمد لله على ما أنعم...).
2- الملاءة، بالضم والمد: الريطة والإزار، ونيطت: بمعنى علّقت، أي ضربوا بينها (علیها السلام) وبين القوم ستراً وحجاباً. والريطة بالفتح: الملاءة إذا كانت قطعة واحدة ولم تكن لفقين، أو هي كل ثوب ليّن رقيق. والقبطية، بالكسر: ثياب بيض رقاق من كتان تتخذ بمصر، وقد يضم لأنهم يغيرون في النسبة. وفي رواية لابن أبي الحديد في شرح النهج، وصاحب كتاب (السقيفة وفدك): (فضرب بينها وبينهم ريطة بيضاء)، وقال بعضهم: قبطية، وقالوا: قُبطية، بالكسر والضم. والريطة: الإزار، والقبطية: ثياب منسوبة إلى القبط. وقال في معجم البلدان: ج4 ص306: القبط، بالكسر ثم السكون: بلاد القبط بالديار المصرية سميت بالجبل الذي كان يسكنه.
3- الجهش: أن يفزع الإنسان إلى غيره وهو مع ذلك يريد البكاء، كالصبي يفزع إلى أمه وقد تهيأ للبكاء، يقال: جهش إليه كمنع وأجهش..
4- الارتجاج: الاضطراب.
5- هنيئة: صبرت زماناً قليلاً.

حتى إذا سكن نشيج (1) القوم، وهدأت فورتهم(2)، افتتحت الكلام بحمد الله والثناء عليه، والصلاة على رسوله..

فعاد القوم في بكائهم..

فلما أمسكوا، عادت في كلامها، فقالت (علیها السلام):

«الحمد لله على ما أنعم، وله الشكر على ما ألهم، والثناء بما قدم(3)، من عموم نعم ابتداها، وسبوغ آلاء أسداها (4).. وتمام منن أولاها (5)..جمّ (6) عن الإحصاء عددها..

ونأى عن الجزاء أمدها (7)..

ص: 12


1- النشيج: صوت معه توجع وبكاء، كما يردد الصبي بكاءه في صدره.
2- وهدأت، كمنعت: أي سكنت. وفورة الشيء: شدته، وفار القدر: أي جاشت.
3- أي بنعم أعطاها العباد قبل أن يستحقوها. ويحتمل أن يكون المراد بالتقديم: الإيجاد والفعل من غير ملاحظة معنى الابتداء فيكون تأسيساً.
4- السبوغ: الكمال. والآلاء: النعماء، جمع ألى بالفتح والقصر، وقد تكسر الهمزة. وأسدى وأولى وأعطى بمعنى واحد.
5- أولاها: أي تابعها بإعطاء نعمة بعد أخرى بلا فصل.
6- وجمّ الشيء: أي كثر. والجمّ: الكثير، والتعدية ب (عن) لتضمين معنى التعدي والتجاوز.
7- الأمد، بالتحريك: الغاية المنتهى، أي بعُد عن الجزاء بالشكر غايتها. فالمراد بالأمد إما الأمد المفروض، إذ لا أمد لها على الحقيقة، أو الأمد الحقيقي لكل حد من حدودها المفروضة، ويحتمل أن يكون المراد بأمدها: ابتداؤها، وقد مر في كثير من الخطب ما بهذا المعنى. وقال في النهاية: (في حديث الحجاج، قال الحسن: ما أمدك؟ قال: سنتان من خلافة عمر، أراد أنه ولد لسنتين من خلافته، وللإنسان أمدان: مولده وموته) انتهى. وإذا حمل عليه يكون أبلغ، ويحتمل على بُعد أن يقرأ بكسر الميم. قال الفيروز آبادي: الأمد: المملو من خير وشر، والسفينة المشحونة.

وتفاوت عن الإدراك أبدها (1)..

وندبهم لاستزادتها بالشكر لاتصالها (2)..

واستحمد إلى الخلائق بإجزالها (3)،وثنى بالندب إلى أمثالها (4).

وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له..

كلمة جعل الإخلاص تأويلها (5)..

ص: 13


1- التفاوت: البعد. والأبد: الدهر. والدائم: القديم الأزلي، وبُعده عن الإدراك لعدم الانتهاء.
2- وندبهم: يقال ندبه للأمر،وإليه فانتدب: أي دعاه فأجاب. واللام في قولها (علیها السلام): (لاتصالها) لتعليل الندب، أي رغّبهم في استزادة النعمة بسبب الشكر، لتكون نعمة متصلة لهم غير منقطعة عنهم، وجعل اللام الأولى للتعليل، والثانية للصلة. وفي بعض النسخ: (لإفضالها) فيحتمل تعلقه بالشكر.
3- أي طلب منهم الحمد بسبب إجزال النعم وإكمالها عليهم، يقال: أجزلت له من العطاء أي أكثرت. وأجزلك النعم كأنه طلب الحمد أو طلب منهم الحمد حقيقة لإجزال النعم، وعلى التقديرين التعدية بإلى لتضمين معنى الانتهاء، أو التوجه، وهذه التعدية في الحمد شائع بوجه آخر، يقال: أحمد إليك الله، قيل: أي أحمده معك، وقيل: أي أحمد إليك نعمة الله بتحديثك إياها، ويحتمل أن يكون استحمد بمعنى تحمّد، يقال: فلان يتحمّد عليّ، أي يمتنّ، فيكون إلى بمعنى على، وفيه بُعد.
4- أي بعد أن أكمل لهم النعم الدنيوية، ندبهم إلى تحصيل أمثالها من النعم الأخروية، أو الأعم منها، ومن مزيد النعم الدنيوية. ويحتمل أن يكون المراد بالندب إلى أمثالها: أمر العباد بالإحسان والمعروف وهو إنعام على المحسن إليه وعلى المحسن أيضاً، لأنه به يصير مستوجباً للأعواض والمثوبات الدنيوية والأخروية.
5- المراد بالإخلاص: جعل الأعمال كلها خالصة لله تعالى وعدم شوب الرياء والأغراض الفاسدة، وعدم التوسل بغيره تعالى - مستقلا - في شيء من الأمور، فهذا تأويل كلمة التوحيد، لأن من أيقن بأنه الخالق والمدبر، وبأنه لا شريك له في الإلهية، فحق له أن لا يشرك في العبادة غيره، ولا يتوجه في شيء من الأمور إلى غيره.

وضمن القلوب موصولها (1)..وأنار في التفكر معقولها (2)، الممتنع من الأبصار رؤيته (3)، ومن الألسن صفته (4)، ومن الأوهام كيفيته.

ابتدع الأشياء لا من شيء (5) كان قبلها، وأنشأها بلا احتذاء (6) أمثلة امتثلها..

ص: 14


1- هذه الفقرة تحتمل وجوهاً: الأول: أن الله تعالى ألزم وأوجب على القلوب ما تستلزمه هذه الكلمة من عدم تركّبه تعالى وعدم زيادة صفاته الكمالية الموجودة وأشباه ذلك مما يؤول إلى التوحيد. الثاني: أن يكون المعنى جعل ما يصل إليه العقل من تلك الكلمة مدرجا في القلوب بما أراهم من الآيات في الآفاق وفي أنفسهم، أو بما فطرهم عليه من التوحيد. الثالث: أن يكون المعنى لم يكلف العقول الوصول إلى منتهى دقائق كلمة التوحيد وتأويلها، بل إنما كلف عامة القلوب بالإذعان بظاهر معناها وصريح مغزاها وهو المراد بالموصول. الرابع: أن يكون الضمير في (موصولها) راجعا إلى القلوب، أي لم يلزم القلوب إلا ما يمكنها الوصول إليها من تأويل تلك الكلمة الطيبة، والدقائق المستنبطة منها، أو مطلقا. ولولا التفكيك لكان أحسن الوجوه بعد الوجه الأول، بل مطلقا.
2- أي أوضح في الأذهان ما يتعقل من تلك الكلمة، بالتفكر في الدلائل والبراهين، ويحتمل إرجاع الضمير إلى القلوب أو الفكر بصيغة الجمع، أي أوضح بالتفكر ما يعقلها العقول، وهذا يؤيد الوجه الرابع من وجوه الفقرة السابقة.
3- ويمكن أن يقرأ: (الأبصار) بصيغة الجمع والمصدر، والمراد بالرؤية: العلم الكامل والظهور التام.
4- الظاهر أن الصفة هنا مصدر، ويحتمل المعنى المشهور بتقدير.
5- أي بيان صفته. (لا من شيء): أي مادة.
6- احتذى مثاله: اقتدى به، و(امتثلها): أي تبعها. و(لم يتعد عنها): أي لم يخلقها على وفق صنع غيره.

كوّنها بقدرته، وذرأها بمشيته، من غير حاجة منه إلى تكوينها، ولا فائدة له في تصويرها، إلا تثبيتاً لحكمته، وتنبيهاً (1) على طاعته، وإظهاراً لقدرته، وتعبداً لبريته(2)، وإعزازاً لدعوته(3)، ثم جعل الثواب على طاعته،ووضع العقاب على معصيته، ذيادة (4) لعباده من نقمته، وحياشة (5) لهم إلى جنته.

وأشهد أن أبي محمداً عبده ورسوله، اختاره قبل أن أرسله، وسمّاه قبل أن اجتباه(6)، واصطفاه قبل أن ابتعثه..

إذ الخلائق بالغيب مكنونة..

وبستر الأهاويل مصونة (7)، وبنهاية العدم مقرونة، علماً من الله تعالى

ص: 15


1- لأن ذوي العقول يتنبهون بمشاهدة مصنوعاته بأن شكر خالقها والمنعم بها واجب، أو أن خالقها مستحق للعبادة، أو بأن من قدر عليها يقدر على الإعادة والانتقام.
2- أي خلق البرية ليتعبّدهم، أو خلق الأشياء ليتعبّد البرايا بمعرفته والاستدلال بها عليه.
3- أي خلق الأشياء ليغلب ويظهر دعوة الأنبياء (علیهم السلام) إليه بالاستدلال بها.
4- الذود والذياد، بالذال المعجمة: السوق والطرد والدفع والإبعاد.
5- وحشت الصيد أوحشته: إذا جئته من حواليه لتصرفه إلى الحبال، ولعل التعبير بذلك لنفور الناس بطباعهم عما يوجب دخول الجنة.
6- في بعض النسخ: (قبل أن اجتبله) الجبل: الخلق، يقال جبلهم الله أي خلقهم، وجبله على الشيء: أي طبعه عليه. ولعل المعنى: أنه تعالى سماه لابتنائه قبل أن يخلقه، ولعل زيادة البناء للمبالغة تنبيهاً على أنه خلق عظيم. وفي بعض النسخ: بالحاء المهملة، يقال احتبل الصيد: أي أخذه بالحبالة، فيكون المراد به الخلق أو البعث مجازاً. وفي بعضها: (قبل أن اجتباه واصطفاه بالبعثة).
7- لعل المراد بالستر: ستر العدم، أو حجب الأصلاب والأرحام، ونسبته إلى الأهاويل لما يلحق الأشياء في تلك الأحوال من موانع الوجود وعوائقه. ويحتمل أن يكون المراد: أنها كانت مصونة عن الأهاويل بستر العدم، إذ هي إنما تلحقها بعد الوجود. وقيل: التعبير بالأهاويل من قبيل التعبير عن درجات العدم بالظلمات.

بمآيل الأمور(1)، وإحاطة بحوادث الدهور، ومعرفة بمواقع الأمور(2).

ابتعثه الله إتماماً لأمره(3)، وعزيمة على إمضاء حكمه، وإنفاذاً لمقادير حتمه(4)، فرأى الأمم فرقاً في أديانها، عكفاً على نيرانها (5)، عابدة لأوثانها، منكرة لله مع عرفانها (6). فأنار الله بأبي محمد (صلی الله علیه و آله) ظلمها (7)، وكشف عن القلوب بهمها (8)، وجلى عن الأبصار غممها (9)، وقام في الناسبالهداية،

ص: 16


1- الأمور، على صيغة الجمع: أي عواقبها. وفي بعض النسخ: بصيغة المفرد
2- في بعض النسخ: (ومعرفة بمواقع المقدور) أي لمعرفته تعالى بما يصلح وينبغي من أزمنة الأمور الممكنة المقدورة وأمكنتها، ويحتمل أن يكون المراد بالمقدور: المقدّر، بل هو أظهر.
3- أي للحكمة التي خلق الأشياء لأجله.
4- الإضافة في (مقادير حتمه) من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة، أي مقاديره المحتومة.
5- يقال: عكف على الشيء، كضرب ونصر: أي أقبل عليه مواظباً ولازمه، فهو عاكف، ويجمع على (عُكّف) بضم العين وفتح الكاف المشددة، كما هو الغالب في فاعل الصفة، نحو شهد وغيّب، و(النيران): جمع نار وهو قياس مطرد في جمع الأجوف، نحو تيجان وجيران.
6- لكون معرفته تعالى فطرية، أو لقيام الدلائل الواضحة الدالة على وجوده سبحانه.
7- والضمير في (ظلمها) راجع إلى الأمم، والضميران التاليان له يمكن إرجاعهما إليها، وإلى القلوب والأبصار. والظُلَم، بضم الظاء وفتح اللام: جمع ظلمة، استعيرت هنا للجهالة.
8- البهم: جمع بُهمة، بالضم: هي مشكلات الأمور. و(جلوت الأمر): أوضحته وكشفته.
9- والغمم: جمع غمة، يقال: (أمر غمّة) أي مبهم ملتبس. قال الله تعالى: «ثم لا يكن أمركم عليكم غمة». قال أبو عبيدة: مجازها ظلمة وضيق، وتقول: غممت الشيء إذا غطيته وسترته، والغمامة: الغواية واللجاج، ذكره الفيروز آبادي.

فأنقذهم من الغواية، وبصرهم من العماية، وهداهم إلى الدين القويم، ودعاهم إلى الطريق المستقيم.

ثم قبضه الله إليه قبض رأفة واختيار، ورغبة وإيثار(1)، فمحمد (صلی الله علیه و آله) (2) من تعب هذه الدار في راحة، قد حف بالملائكة الأبرار، ورضوان الرب الغفار، ومجاورة الملك الجبار، صلى الله على أبي، نبيه وأمينه، وخيرته من الخلق وصفيه(3)، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته.

- ثم التفتت (علیها السلام) إلى أهل المجلس وقالت -:أنتم عباد الله نصب أمره (4) ونهيه، وحملة دينه ووحيه، وأمناء الله على أنفسكم، وبلغاءه إلى الأمم(5)..

ص: 17


1- واختيار: أي من الله له ما هو خير له، أو باختيار منه (صلی الله علیه و آله) ورضا، وكذا الإيثار، والأول أظهر فيهما.
2- لعل الظرف متعلق بالإيثار بتضمين معنى الضنة أو نحوها. وفي بعض النسخ: (بمحمد)، وفي بعض النسخ: (محمد) بدون الباء، فتكون الجملة استينافية أو مؤكدة للفقرة السابقة أو حالية بتقدير الواو. وفي بعض النسخ القديمة: (فمحمد (صلی الله علیه و آله)) وهو أظهر. وفي رواية كشف الغمة: (رغبته بمحمد (صلی الله علیه و آله) عن تعب هذه الدار). وفي رواية أحمد ابن أبي طاهر: (أبي (صلی الله علیه و آله) عرّت هذه الدار) وهو أظهر، ولعل المراد بالدار: دار القرار، ولو كان المراد الدنيا تكون الجملة معترضة.
3- في بعض النسخ: (وأمينه على الوحي وصفيّه وخيرته من الخلق ورضيّه).
4- قال الفيروز آبادي: (النصب) بالفتح: العلم المنصوب، ويحرّك، و(هذا نصب عيني) بالضم والفتح، انتهى. أي نصبكم الله لأوامره ونواهيه وهو خبر الضمير، و(عباد الله) منصوب على النداء.
5- أي تؤدون الأحكام إلى سائر الناس، لأنكم أدركتم صحبة الرسول (صلی الله علیه و آله).

زعيم حق له فيكم(1).. وعهد قدمه إليكم..

وبقية (2) استخلفها عليكم:

كتاب الله الناطق، والقرآن الصادق، والنور الساطع، والضياء اللامع، بينةبصائره(3)، منكشفة سرائره(4)، منجلية ظواهره، مغتبطة (5) به أشياعه، قائداً إلى الرضوان أتباعه، مؤد إلى النجاة استماعه(6)، به تنال حجج الله المنورة، وعزائمه (7) المفسرة، ومحارمه المحذرة، وبيناته الجالية، وبراهينه الكافية،

ص: 18


1- في بعض النسخ: (وزعمتم حق لكم لله فيكم) أي زعمتم أن ما ذكر ثابت لكم، وتلك الأسماء صادقة عليكم بالاستحقاق، ويمكن أن يقرأ على الماضي المجهول. وفي إيراد لفظ الزعم إشارة بأنهم ليسوا متصفين بها حقيقة، وإنما يدعون ذلك كذبا، ويمكن أن يكون (حق لكم) جملة أخرى مستأنفة، أي زعمتم أنكم كذلك، وكان يحق لكم وينبغي أن تكونوا كذلك لكن قصرتم. وفي بعض النسخ: (وزعمتم حق له فيكم وعهد)، وفي كتاب المناقب القديم: (زعمتم أن لا حق لي فيكم عهداً قدمه إليكم) فيكون (عهدا) منصوبا بأذكروا أو نحوه. وفي الكشف: (إلى الأمم خولكم الله فيكم عهد).
2- عهد وبقية، (العهد): الوصية. و(بقية الرجل): ما يخلفه في أهله. والمراد بهما: القرآن، أو بالأول ما أوصاهم به في أهل بيته وعترته، وبالثاني: القرآن. وفي رواية أحمد ابن أبي طاهر: (وبقية استخلفنا عليكم) ومعناها: كتاب الله، فالمراد بالبقية: أهل البيت (علیهم السلام)، وبالعهد: ما أوصاهم به فيهم.
3- البصائر: جمع بصيرة، وهي الحجة.
4- انكشاف السرائر: وضوحها عند حملة القرآن وأهله.
5- الغبطة:أن يتمنى المرء مثل حال المغبوط من غير أن يريد زوالها منه، تقول: غبطته فاغتبط. والباء للسببية أي أشياعه مغبوطون بسبب اتباعه، وتلك الفقرة غير موجودة في سائر الروايات.
6- على بناء الإفعال أي تلاوته. وفي بعض نسخ الاحتجاج وسائر الروايات: (احتجاجه).
7- المراد بالعزائم: الفرائض.

وفضائله (1) المندوبة، ورخصه (2) الموهوبة، وشرائعه (3) المكتوبة.

فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم منالشرك، والصلاة تنزيهاً لكم عن الكبر، والزكاة تزكية للنفس(4)..

ونماءً في الرزق(5)..

والصيام تثبيتاً للإخلاص(6)، والحج تشييداً للدين(7)، والعدل تنسيقاً

ص: 19


1- المراد بالفضائل: السنن.
2- المراد بالرخص: المباحات، بل ما يشمل المكروهات أيضا.
3- والشرائع ما سوى ذلك من الأحكام، كالحدود والديات، أو الأعم. أما (الحجج والبينات والبراهين): فالظاهر أن بعضها مؤكدة لبعض، ويمكن تخصيص كل منها ببعض ما يتعلق بأصول الدين لبعض المناسبات. وفي رواية ابن أبي طاهر: (وبيانه الجالية وجمله الكافية)، فالمراد بالبينات: المحكمات، وبالجمل: المتشابهات، ووصفها بالكافية لدفع توهم نقص فيه لإجمالها، فإنها كافية فيما أريد منها، ويكفي معرفة الراسخين في العلم بالمقصود منها فإنهم المفسرون لغيرهم. ويحتمل أن يكون المراد بالجمل: العمومات التي يستنبط منها الأحكام الكثيرة.
4- أي من دنس الذنوب، او من رذيلة البخل، إشارة إلى قوله تعالى: «تطهرهم وتزكيهم بها» سورة التوبة: 103.
5- إيماء إلى قوله تعالى: «وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون» سورة الروم: 39، على بعض التفاسير.
6- أي لتشييد الإخلاص وإبقائه، أو للإثباته وبيانه، ويؤيد الأخير أن في بعض الروايات: (تبييناً) وهذا تخصيص الصوم بذلك، لكونه أمراً عدمياً لا يظهر لغيره تعالى، فهو أبعد من الرياء وأقرب إلى الإخلاص، وهذا أحد الوجوه في تفسير الحديث المشهور: (الصوم لي وأنا أجزي به).
7- إنما خص التشييد به لظهوره ووضوحه، وتحمل المشاق فيه، وبذل النفس والمال، فالإتيان به أدل دليل على ثبوت الدين، أو يوجب استقرار الدين في النفس، لتلك العلل وغيرها مما لا نعرفه، ويحتمل أن يكون إشارة إلى ما ورد في الأخبار الكثيرة من أن علة الحج: التشرف بخدمة الإمام (علیه السلام) وعرض النصرة عليه وتعلم الشرائع منه، فالتشييد لا يحتاج إلى تكلف. وفي العلل ورواية ابن أبي طاهر: (تسلية للدين) فلعل المعنى تسلية للنفس بتحمل المشاق وبذل الأموال بسبب التقييد بالدين، أو المراد بالتسلية الكشف والإيضاح فإنها كشف الهم، أو المراد بالدين أهل الدين، أو أسند إليه مجازاً، والظاهر أنه تصحيف (تسنيه) وكذا في الكشف وفي بعض نسخ العلل، أي يصير سبباً لرفعة الدين وعلوه.

للقلوب(1)، وطاعتنا نظاماً للملة،وإمامتنا أماناً للفرقة، والجهاد عزاً للإسلام، والصبر معونة على استيجاب الأجر(2)، والأمر بالمعروف مصلحة للعامة، وبر الوالدين وقاية من السخط(3)، وصلة الأرحام منسأة في العمر ومنماة للعدد(4)..

والقصاص حقناً للدماء، والوفاء بالنذر تعريضاً للمغفرة..

وتوفية المكاييل والموازين تغييراً للبخس(5)، والنهي عن شرب الخمر تنزيهاً عن الرجس(6)..

ص: 20


1- والتنسيق: التنظيم. وفي العلل: (مسكاً للقلوب) أي ما يمسكها. وفي القاموس: (المسكة، بالضم: ما يتمسك به وما يمسك الأبدان من الغذاء والشراب، والجمع: مُسَك كصرد، والمسك محرّكة: الموضع يمسك الماء). وفي رواية ابن أبي طاهر وكشف الغمة: (تنسكا للقلوب) أي عبادة لها، لأن العدل أمر نفساني يظهر آثاره على الجوارح.
2- إذ به يتم فعل الطاعات وترك السيئات.
3- أي سخطهما، أو سخط الله تعالى، والأول أظهر.
4- المنماة: اسم مكان أو مصدر ميمي، أي يصير سبباً لكثرة عدد الأولاد والعشائر، كما أن قطعها تذر الديار بلاقع من أهلها.
5- وفي سائر الروايات: (للبخسة) أي لئلا ينقص مال، من ينقص المكيال والميزان، إذ التوفية موجب للبركة وكثرة المال، أو لئلا ينقصوا أموال الناس فيكون المقصود: إن هذا أمر يحكم العقل بقبحه.
6- اي النجس، أو ما يجب التنزه عنه عقلا، والأول أوضح في التعليل، فيمكن الاستدلال على نجاستها.

واجتناب القذف حجاباً عن اللعنة (1)، وترك السرقة إيجاباً للعفة (2)..وحرّم الله الشرك إخلاصاً له بالربوبية، ف «اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ»(3)، وأطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه، فإنه «إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ»(4).

- ثم قالت: -

أيها الناس، اعلموا أني فاطمة وأبي محمد (صلی الله علیه و آله)..

أقول عوداً وبدواً (5)..

ولا أقول ما أقول غلطاً، ولا أفعل ما أفعل شططاً (6) «لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ»(7)..

ص: 21


1- اي لعنة الله، أو لعنة المقذوف أو القاذف، فيرجع إلى الوجه الأخير في السابقة، والأول أظهر، إشارة إلى قوله تعالى: «ولعنوا في الدنيا والآخرة» سورة النور: 23.
2- أي للعفة عن التصرف في أموال الناس مطلقاً، أو يرجع إلى ما مر، وكذا الفقرة الثانية. وفي (كشف الغمة) بعد قوله للعفة: (والتنزه عن أكل أموال الأيتام والاستيثار بفيئهم إجارة من الظلم، والعدل في الأحكام إيناساً للرعية، والتبري من الشرك إخلاصاً للربوبية).
3- سورة آل عمران: 102.
4- سورة فاطر: 28
5- أي أولاً وآخراً، وفي رواية ابن أبي الحديد وغيره: (أقول عوداً على بدء) والمعنى واحد.
6- والشطط، بالتحريك: البعد عن الحق ومجاوزة الحد في كل شيء.
7- سورة التوبة: 128. (من أنفسكم): أي لم يصبه شيء من ولاة الجاهلية، بل عن نكاح طيب، كما روي عن الصادق (علیه السلام). وقيل: أي من جنسكم من البشر، ثم من العرب من بني إسماعيل. (عزيز عليه ما عنتم): أي شديد شاق عليه عنتكم وما يلحقكم من الضرر، بترك الإيمان أو مطلقا. (حريص عليكم): أي على إيمانكم وصلاح شأنكم. (بالمؤمنين رؤوف رحيم): أي رحيم بالمؤمنين منكم ومن غيركم، والرأفة: شدة الرحمة، والتقديم لرعاية الفواصل. وقيل: رؤوف بالمطيعين، رحيم بالمذنبين. وقيل: رؤوف بأقربائه، رحيم بأوليائه. وقيل: رؤوف بمن رآه، رحيم بمن لم يره، فالتقديم للاهتمام بالمتعلق.

فإن تعزوه(1) وتعرفوه تجدوه أبي دون نسائكم، وأخا ابن عمي دون رجالكم، ولنعم المعزى (2) إليه (صلی الله علیه و آله).

فبلّغ الرسالة صادعاً (3) بالنذارة (4)..مائلاً عن مدرجة المشركين(5)، ضارباً ثبجهم..

آخذاً بأكظامهم(6)، داعياً إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة(7).

ص: 22


1- عزوته إلى أبيه: أي نسبته إليه،أي إن ذكرتم نسبه وعرفتموه تجدوه أبي وأخا ابن عمي، فالأخوة ذكرت استطراداً، ويمكن أن يكون الانتساب أعم من النسب ومما طرأ أخيرا، ويمكن أن يقرأ (وأخا) بصيغة الماضي، وفي بعض الروايات: (فإن تعزروه وتوقروه).
2- المعزى: الانتساب.
3- الصدع: الإظهار، تقول: صدعت الشيء أي أظهرته، وصدعت بالحق: إذا تكلمت به جهارا، قال الله تعالى: «فاصدع بما تؤمر» سورة الحجر: 94.
4- والنذارة، بالكسر: الإنذار، وهو الإعلام على وجه التخويف.
5- والمدرجة: المذهب والمسلك، وفي كشف الغمة: (ناكبا عن سنن مدرجة المشركين) . وفي رواية ابن أبي طاهر: (مائلا عن مدرجة) أي قائما للرد عليهم، وهو تصحيف.
6- الثبج، بالتحريك: وسط الشيء ومعظمه. و(الكظم) بالتحريك: مخرج النفس من الحلق، أي كان (صلی الله علیه و آله) لا يبالي بكثرة المشركين واجتماعهم ولا يداريهم في الدعوة.
7- كما أمره سبحانه بقوله: «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن» وقيل المراد بالحكمة: البراهين القاطعة وهي للخواص، وبالموعظة الحسنة: الخطابات المقنعة والعبر النافعة وهي للعوام، وبالمجادلة التي هي أحسن: إلزام المعاندين والجاحدين بالمقدمات المشهورة والمسلّمة، وأما المغالطات والشعريات فلا يناسب درجة أصحاب النبوات.

يجف الأصنام، وينكث الهام(1)، حتى انهزم الجمع وولوا الدبر، حتى تفرى الليل عن صبحه، وأسفر الحق عن محضه(2)، ونطق زعيم الدين(3)، وخرستشقاشق الشياطين(4)، وطاح وشيظ النفاق(5)، وانحلت عقد الكفر

ص: 23


1- في بعض النسخ: (يكسر الأصنام وينكث الهام)، النكث إلقاء الرجل على رأسه، يقال: طعنه فنكثه، و(الهام): جمع الهامة بالتخفيف فيهما وهي الرأس، والمراد قتل رؤساء المشركين وقمعهم وإذلالهم والمشركين مطلقا. وقيل: أريد به إلقاء الأصنام على رؤوسها، ولا يخفى بعده لا سيما بالنظر إلى ما بعده، وفي بعض النسخ: (ينكس الهام) وفي الكشف وغيره: (يجذ الأصنام) من قولهم: جذذت الشيء أي كسرته، ومنه قوله تعالى: «وجعلهم جذاذا» سورة الأنبياء: 58.
2- أي كشف الغطاء عن محضه وخالصه، والواو مكان (حتى) كما في رواية ابن أبي طاهر: (أظهره). و(تفرى الليل): أي انشق حتى ظهر ضوء الصباح. و(أسفر الحق) ويقال أسفر الصبح: أي أضاء.
3- زعيم القوم: سيدهم والمتكلم عنهم، والزعيم أيضا: الكفيل، والإضافة لامية ويحتمل البيانية.
4- خرس بكسر الراء، و(الشقاشق): جمع شقشقة بالكسر، وهي شيء كالرية يخرجها البعير من فيه إذا هاج، وإذا قالوا للخطيب: ذو شقشقة فإنما يشبه بالفحل، وإسناد الخرس إلى الشقاشق مجازي.
5- طاح فلان يطوح: إذا هلك أو أشرف على الهلاك وتاه في الأرض وسقط. و(الوشيط) بالمعجمتين: الرذل والسفلة من الناس، ومنه قولهم: (إياكم والوشايظ)، وقال الجوهري: الوشيظ: لفيف من الناس ليس أصلهم واحد، أو بنو فلان وشيظة في قومهم، أي هم حشو فيهم. و(الوسيط) بالمهملتين: أشرف القوم نسباً وأرفعهم محلاً، وكذا في بعض النسخ، وهو أيضا مناسب.

والشقاق، وفهتم بكلمة الإخلاص في نفر من البيض الخماص(1)، وكنتم على شفاحفرة من النار(2)، مذقة الشارب، ونهزة الطامع(3)، وقبسة العجلان(4)، وموطئ الأقدام(5)، تشربون الطرق، وتقتاتون القد(6)، أذلة خاسئين، تخافون

ص: 24


1- يقال: فاه فلان بالكلام كقال أي لفظ به كتفوه، وكلمة الإخلاص: كلمة التوحيد، وفيه تعريض بأنه لم يكن إيمانهم عن قلوبهم. و(البيض): جمع أبيض، وهو من الناس خلاف الأسود. و(الخماص) بالكسر: جمع خميص، و(الخماصة): تطلق على دقة البطن خلقة وعلى خلوه من الطعام، يقال: فلان خميص البطن من أموال الناس، أي عفيف منها، وفي الحديث: (كالطير تغدو خماصا وتروح بطانا) والمراد بالبيض الخماص: إما أهل البيت (علیهم السلام) ويؤيده ما في كشف الغمة: (في نفر من البيض الخماص الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا). ووصفهم بالبيض، لبياض وجوههم، أو هو من قبيل وصف الرجل بالأغر، وبالخماص لكونهم ضامري البطون بالصوم وقلة الأكل، أو لعفتهم عن أكل أموال الناس بالباطل، أو المراد بهم من آمن من العجم كسلمان (رضوان الله عليه) وغيره، يقال لأهل فارس بيض، لغلبة البياض على ألوانهم وأموالهم، إذ الغالب في أموالهم الفضة، كما يقال لأهل الشام حمر، لحمرة ألوانهم وغلبة الذهب في أموالهم، والأول أظهر، ويمكن اعتبار نوع تخصيص في المخاطبين، فيكون المراد بهم غير الراسخين الكاملين في الإيمان، وبالبيض الخماص: الكمّل منهم.
2- شفا كل شيء: طرفه وشفيره، أي كنتم على شفير جهنم، مشرفين على دخولها، لشرككم وكفركم.
3- مذقة الشارب: شربته. والنهزة بالضم: الفرصة، أي محل نهزته، أي كنتم قليلين أذلاء يتخطفكم الناس بسهولة.
4- والقبسة بالضم: شعلة من نار يقتبس من معظمها، والإضافة إلى العجلان لبيان القلة والحقارة.
5- ووطئ الأقدام: مثل مشهور في المغلوبية والمذلة .
6- في بعض النسخ: (وتشربون الطرق وتقتاتون الورق). الطرق بالفتح: ماء السماء الذي تبول فيه الإبل وتبعر. و(الورق) بالتحريك: ورق الشجر. وفي بعض النسخ: (وتقتاتون القدّ) وهو بكسر القاف وتشديد الدال: سير يقدّ من جلد غير مدبوغ، والمقصود: وصفهم بخباثة المشرب وجشوبة المأكل لعدم اهتدائهم إلى ما يصلحهم في دنياهم ولفقرهم وقلة ذات يدهم وخوفهم من الأعادي.

أن يتخطفكم الناس من حولكم(1).

فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمد (صلی الله علیه و آله) بعد اللتياوالتي(2)..

وبعد أن مني ببهم الرجال، وذؤبان العرب، ومردة أهل الكتاب(3)..

«كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ» (4)..

أو نجم(5) قرن(6) الشيطان، أو فغرت(7) فاغرة (8) من المشركين قذف(9)

ص: 25


1- الخاسئ: المبعد المطرود. و(التخطف): استلاب الشيء وأخذه بسرعة، اقتبس من قوله تعالى: «واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون» سورة الأنفال: 26. وفي نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (علیه السلام): إن الخطاب في تلك الآية لقريش خاصة، فالمراد بالناس سائر العرب، أو الأعم.
2- و(اللتيا) بفتح اللام وتشديد الياء: تصغير التي، وجوز بعضهم فيه ضم اللام، وهما كنايتان عن الداهية الصغيرة والكبيرة.
3- يقال: مُني بكذا، على صيغة المجهول أي ابتلي، و(بُهَم الرجال) كصُرد: الشجعان منهم لأنهم لشدة بأسهم لا يدرى من أين يؤتون، و(ذؤبان العرب): لصوصهم وصعاليكهم الذين لا مال لهم ولا اعتماد عليهم، و(المردة): العتاة المتكبرون المجاوزون للحد.
4- سورة المائدة: 64.
5- نجم الشيء، كنصر، نجوماً: ظهر وطلع.
6- المراد بالقرن: القوة، وفسّر قرن الشيطان بأمته ومتابعيه.
7- فغر فاه: أي فتحه، وفغر فوه: أي انفتح، يتعدى ولا يتعدى.
8- الفاغرة من المشركين: الطائفة العادية منهم، تشبيهاً بالحية أو السبع. ويمكن تقدير الموصوف مذكراً على أن يكون التاء للمبالغة.
9- القذف: الرمي ويستعمل في الحجارة، كما أن الحذف يستعمل في الحصا، يقال: (هم بين حاذف وقاذف).

أخاه في لهواتها (1)، فلا ينكفئ حتىيطأ جناحها بأخمصه، ويخمد لهبها بسيفه(2). مكدوداً في ذات الله(3)، مجتهداً في أمر الله، قريباً من رسول الله، سيداً في أولياء الله(4). مشمراً (5) ناصحاً، مجداً كادحاً (6)، لا تأخذه في الله لومة لائم، وأنتم في رفاهية من العيش وادعون(7) فاكهون(8) آمنون، تتربصون بنا

ص: 26


1- اللهوات، بالتحريك: جمع لهاة، وهي اللحمة في أقصى سقف الفم. وفي بعض الروايات: (في مهواتها) بالميم والتسكين، الحفرة وما بين الجبلين ونحو ذلك، وعلى أي حال المراد أنه (صلی الله علیه و آله) كلما أراده طائفة من المشركين أو عرضت له داهية عظيمة بعث علياً (علیه السلام) لدفعها وعرّضه للمهالك، وفي رواية الكشف وابن أبي طاهر: (كلما حشوا ناراً للحرب، ونجم قرن للضلال)، قال الجوهري: حششت النار: أوقدتها.
2- في بعض النسخ: (فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه ويخمد لهبها بسيفه). (انكفأ) بالهمزة: أي رجع، من قولهم كفأت القوم كفاءً: إذا أرادوا وجهاً فصرفتهم عنه إلى غيره، فانكفئوا أي رجعوا. و(الصماخ) بالكسرة: ثقب الأذن والأذن نفسها، وبالسين كما في بعض الروايات لغة فيه، و(الأخمص): ما لا يصيب الأرض من باطن القدم عند المشي، و(وطئ الصماخ بالأخمص) عبارة عن القهر والغلبة على أبلغ وجه، وكذا إخماد اللهب بماء السيف استعارة بليغة شائعة.
3- المكدود: من بلغه التعب والأذى، و(ذات الله): أمره ودينه وكلما يتعلق به سبحانه. وفي كشف الغمة: (مكدوداً دؤوباً في ذات الله).
4- وفي بعض النسخ: (سيد أولياء الله) بالجر صفة لرسول الله (صلی الله علیه و آله)، أو بالنصب عطفاً على الأحوال السابقة، ويؤيد الأخير ما في رواية ابن أبي طاهر: (سيداً في أولياء الله).
5- والتشمير في الأمر: الجدّ والاهتمام فيه.
6- الكدح: العمل والسعي.
7- قال الجوهري: الدعة الخفض، تقول: منه ودع الرجل فهو وديع أي ساكن ووادع أيضاً، يقال: نال فلان المكارم وادعى من غير كلفة.
8- الفكاهة، بالضم: المزاح. وبالفتح: مصدر فكه الرجل بالكسر فهو فكه، إذا كان طيب النفس مزّاحاً، والفكه أيضاً: الأشر والبطر، وقرئ (ونعمة كانوا فيها فكهين) أي أشرين، و(فاكهين) أي ناعمين، والمفاكهة الممازحة. وفي رواية ابن أبي طاهر: (وأنتم في بلهنية وادعون آمنون). قال الجوهري: هو في بلهنية من العيش: أي سعة ورفاهية وهو ملحق بالخماسي بألف في آخره، وإنما صارت ياء لكسرة ما قبلها. وفي كشف الغمة: (وأنتم في رفهينة) وهي مثلها لفظاً ومعنى.

الدوائر(1)، وتتوكفون الأخبار(2)، وتنكصون عند النزال(3)، وتفرون من القتال.

فلما اختار الله لنبيه دار أنبيائه، ومأوى أصفيائه، ظهر فيكم حسكة(4) النفاق، وسمل (5) جلباب(6) الدين، ونطق كاظم(7) الغاوين، ونبغ(8) خامل(9)الأقلين(10)، وهدر(11) فنيق(12) المبطلين..

ص: 27


1- الدوائر: صروف الزمان وحوادث الأيام والعواقب المذمومة، وأكثر ما تستعمل الدائرة في تحول النعمة إلى الشدة، أي كنتم تنتظرون نزول البلايا علينا وزوال النعمة والغلبة عنا.
2- التوكف: التوقع، والمراد أخبار المصائب والفتن. وفي بعض النسخ: (تتواكفون الأخيار) يقال: واكفه في الحرب أي واجهه.
3- النكوص: الإحجام والرجوع عن الشيء، و(النزال) بالكسر: أن ينزل القرنان عن إبلهما إلى خيلهما فيتضاربا، والمقصود من تلك الفقرات أنهم لم يزالوا منافقين لم يؤمنوا قط.
4- وفي بعض النسخ (الحسيكة) وهي العداوة، قال الجواهري: قولهم في صدره على حسيكة وحساكة، أي ضغن وعداوة. وفي بعض الروايات: (حسكة النفاق) فهو على الاستعارة.
5- وسمل الثوب، كنصر: صار خلقا.
6- الجلباب، بالكسر: الملحفة، وقيل: ثوب واسع للمرأة غير الملحفة، وقيل: هو إزار ورداء، وقيل: هو كالمقنعة تغطي به المرأة رأسها وظهرها وصدرها.
7- والكظوم: السكوت.
8- نبغ الشيء، كمنع ونصر: أي ظهر، ونبغ الرجل إذا لم يكن في أرث الشعر ثم قال وأجاد.
9- الخامل: من خفي ذكره وصوته وكان ساقطا لا نباهة له.
10- والمراد بالأقلين: الأذلون، وفي بعض الروايات (الأولين). وفي كشف الغمة (فنطق كاظم، ونبغ حامل).
11- الهدير: ترديد البعير صوته في حنجرته.
12- الفنيق: الفحل المكرّم من الأبل الذي لا يركب ولا يهان لكرامته على أهله.

فخطر(1) في عرصاتكم.. وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه(2) هاتفاً (3) بكم.. فألفاكم(4) لدعوته مستجيبين..

وللغرة (5) فيه ملاحظين(6)..ثم استنهضكم(7) فوجدكم خفافاً (8)، وأحشمكم(9) فألفاكم غضاباً..

ص: 28


1- يقال: خطر البعير بذنبه، يخطر - بالكسر - خطراً وخطراناً: إذا رفعه مرة بعد مرة، وضرب به فخذيه، ومنه قول الحجاج لما نصب المنجنيق على الكعبة: خطارة كالجمل الفنيق أعددتها للمسجد العتيق شبّه رميها بخطران الفنيق.
2- مغرز الرأس، بالكسر: ما يختفي فيه، وقيل: لعل في الكلام تشبيهاً للشيطان بالقنفذ، فإنه إنما يطلع رأسه عند زوال الخوف، أو بالرجل الحريص المقدم على أمر، فإنه يمد عنقه إليه.
3- الهتاف: الصياح.
4- وألفاكم: أي وجدكم.
5- الغرة، بالكسر: الاغترار والانخداع، والضمير المجرور راجع إلى الشيطان.
6- وملاحظة الشيء: مراعاته، وأصله من اللحظ وهو النظر بمؤخر العين، وهو إنما يكون عند تعلق القلب بشيء، أي وجدكم الشيطان لشدة قبولكم للانخداع، كالذي كان مطمح نظره أن يغتر بأباطيله، ويحتمل أن يكون (للعزة) بتقديم المهملة على المعجمة. وفي الكشف: (وللعزة ملاحظين)، أي وجدكم طالبين للعزة.
7- النهوض: القيام. واستنهضه لأمر: أي أمره بالقيام إليه.
8- أي مسرعين إليه.
9- في بعض النسخ: (وأحمشكم). وأحمشت الرجل: أغضبته. وأحمشت النار: ألهبتها. أي حملكم الشيطان على الغضب، فوجدكم مغضبين لغضبه، أو من عند أنفسكم، وفي المناقب القديم: (عطافاً) بالعين المهملة والفاء، من العطف بمعنى الميل والشفقة، ولعله أظهر لفظا ومعنى.

فوسمتم (1) غير إبلكم، ووردتم(2) غير مشربكم(3)..

هذا والعهد قريب، والكلم(4) رحيب(5)..

والجرح(6) لما يندمل(7)..

والرسول (صلی الله علیه و آله) لمايُقبر(8)..

ابتداراً (9) زعمتم خوف الفتنة «أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ» (10).

فهيهات(11) منكم..

ص: 29


1- الوسم: أثر الكيّ، يقال: وسمته كوعدته، وسماً.
2- في بعض النسخ: (أوردتم) والورود: حضور الماء للشرب. والإيراد: الإحضار.
3- وفي بعض النسخ: (شربكم) والشرب بالكسر: الحظ من الماء، وهما كنايتان عن أخذ ما ليس لهم بحق من الخلافة والإمامة وميراث النبوة. وفي كشف الغمة: (وأوردتموها شربا ليس لكم).
4- الجرح.
5- الرحب، بالضم: السعة.
6- والجرح، بالضم: الاسم. وبالفتح: المصدر.
7- أي لم يصلح بعد.
8- قبرته: دفنته.
9- ابتداراً: مفعول له للأفعال السابقة، ويحتمل المصدر بتقدير الفعل. وفي بعض الروايات: (بداراً زعمتم خوف الفتنة) أي ادعيتم وأظهرتم للناس كذباً وخديعة إنا إنما اجتمعنا في السقيفة دفعاً للفتنة، مع أن الغرض كان غصب الخلافة عن أهلها، فهو عين الفتنة، والالتفات في (سقطوا) الموافقة مع الآية الكريمة، (ابتدر القوم): تسابقوا في الأمر.
10- سورة التوبة: 49.
11- هيهات: للتبعيد، وفيه معنى التعجب، كما صرح به الشيخ الرضي (رحمة الله) وكذلك كيف وأنى تستعملان في التعجب.

وكيف بكم وأنى تؤفكون(1)..

وكتاب الله بين أظهركم، أموره ظاهرة (2)، وأحكامه زاهرة (3)..

وأعلامه باهرة، وزواجره لائحة، وأوامره واضحة، وقد خلفتموه وراءظهوركم..

أرغبة عنه تريدون(4)، أم بغيره تحكمون..

«بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً»(5)، «ومن يتبغ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآْخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ[(6).

ثم لم تلبثوا إلاّ ريث(7) أن تسكن نفرتها (8)..

ص: 30


1- أفكه، كضربه: صرفه عن الشيء وقلبه. أي إلى أين يصرفكم الشيطان وأنفسكم والحال أن كتاب الله بينكم. و(فلان بين أظهر قوم وبين ظهرانيهم) أي مقيم بينهم محفوف من جانبيه أو من جوانبه بهم.
2- وفي كشف الغمة: (بين أظهركم، قائمة فرائضه، واضحة دلائله، نيرة شرائعه، زواجره واضحة، وأوامره لائحة، أرغبة عنه) .
3- والزاهر: المتلألئ المشرق.
4- تدبرون، خ ل.
5- سورة الكهف: 50. أي من الكتاب ما اختاروه من الحكم الباطل.
6- سورة آل عمران: 85.
7- ريث، بالفتح: بمعنى قدر، وهي كلمة يستعملها أهل الحجاز كثيرا، وقد يستعمل مع ما، يقال: لم يلبث إلاّ ريثما فعل كذا، وفي كشف الغمة هكذا: (لم تبرحوا ريثا). وقال بعضهم: هذا ولم تريثوا حتّها إلا ريث. وفي رواية ابن أبي طاهر: (ثم لم تريثوا أختها). وعلى التقديرين ضمير المؤنث راجع إلى فتنة وفاة الرسول (صلی الله علیه و آله). توضيح: (حتها) حت الورق من الغصن: نثرها، أي لم تصبروا إلى ذهاب أثر تلك المصيبة.
8- ونفرت الدابة، بالفتح: ذهابها وعدم انقيادها.

ويسلس(1) قيادها (2)..

ثم أخذتم تورون (3)وقدتها (4)..وتهيجون جمرتها (5)..

وتستجيبون لهتاف(6) الشيطان الغوي..

أنوار الدين الجلي..

وإهمال(7) سنن النبي الصفي..

تشربون (8) حسواً (9) في ارتغاء(10)..

ص: 31


1- والسلس، بكسر اللام: اللين المنقاد، ذكره الفيروز آبادي. وفي مصباح اللغة: (سلس سلساً من باب تعب: سهل ولان).
2- والقياد، بالكسر: ما يقاد به الدابة من حبل وغيره.
3- وفي الصحاح: ورى الزند يري ورياً، إذا خرجت تارة. وفي لغة أخرى: (وري الزند يري) بالكسر فيهما (وأوريته أنا) وكذلك وريته تورية، وفلان يستوري زناد الضلالة.
4- ووقدة النار، بالفتح: وقودها. ووقدها: لهبها.
5- الجمرة: المتوقد من الحطب، فإذا برد فهو فحم، والجمر بدون التاء جمعها.
6- والهتاف، بالكسر: الصياح، وهتف به: أي دعاه.
7- في بعض النسخ: (وإهماد النار): اطفاؤها بالكلية، والحاصل أنكم إنما صبرتم حتى استقرت الخلافة المغصوبة عليكم، ثم شرعتم في تهييج الشرور والفتن واتباع الشيطان وإبداع البدع وتغيير السنن.
8- في بعض النسخ: (تسرون) الإسرار: ضد الإعلان.
9- والحسو، بفتح الحاء وسكون السين المهملتين: شرب المرق وغيره، شيئاً بعد شيء.
10- والارتغاء: شرب الرغوة وهو زبد اللبن، قال الجوهري: الرغوة مثلثة زبد اللبن، وارتغيت: شربت الرغوة، وفي المثل: (يسرّ حسواً في ارتغاء) يضرب لمن يظهر أمراً ويريد غيره. قال الشعبي: لمن سأله عن رجل قبّل أم امرأته؟ قال: يسرّ حسواً في ارتغاء وقد حرمت عليه امرأته. وقال الميداني: قال أبو زيد والأصمعي: أصله الرجل يوتى باللبن فيظهر أنه يريد الرغوة خاصة ولايريد غيرها فيشربها، وهو في ذلك ينال من اللبن. يضرب لمن يريك أنه يعينك وإنما يجر النفع إلى نفسه.

وتمشون لأهله وولده في الخمرة (1)والضراء(2)، ويصير منكم على مثل حز(3) المدى(4)، ووخز(5) السنان في الحشا، وأنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا..

أفحكم الجاهلية تبغون «وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ»(6) أفلا تعلمون، بلى قد تجلى لكم كالشمس الضاحية (7) أني ابنته.

أيها المسلمون، أأغلب على إرثي؟.

يا ابن أبي قحافة، أفي كتاب الله ترث أباك ولا أرث أبي..

لقد جئت شيئاً فرياً (8)، أفعلى عمدتركتم كتاب الله ونبذتموه وراء

ص: 32


1- وفي بعض النسخ: (الخمر) بالتحريك: ما واراك من شجر وغيره، يقال: توارى الصيد عني في خمر الوادي. ومنه قولهم: دخل فلان في خمار الناس - بالضم - أي ما يواريه ويستره منهم.
2- الضراء، بالضاد المعجمة المفتوحة والراء المخففة: الشجر الملتف في الوادي، ويقال: لمن ختل صاحبه وخادمه: يدب له الضراء ويمشي له الخمر، وقال الميداني: قال ابن الأعرابي: الضراء ما انخفض من الأرض.
3- الحزّ، بفتح الحاء المهملة: القطع، أو قطع الشيء من غير إبانته.
4- المدى، بالضم: جمع مدية، وهي: السكين والشفرة.
5- الوخز: الطعن بالرمح ونحوه لا يكون نافذا، يقال: وخزه بالخنجر. وفي كشف الغمة: (ثم أنتم أولا تزعمون أن لا إرث إلي) فهو أيضا كذلك.
6- سورة المائدة: 50.
7- كالشمس الضاحية: أي الظاهرة البينة، يقال: فعلت ذلك الأمر ضاحية أي علانية.
8- أي أمراً عظيما بديعا، وقيل: أي أمرا منكرا قبيحا، وهو مأخوذ من الافتراء بمعنى الكذب. وأعلم أنه وردت الروايات المتظافرة كما ستعرف في أنها (علیها السلام) ادعت أن فدكا كانت نحلة لها من رسول الله (صلی الله علیه و آله) فلعل عدم تعرضها (علیها السلام) في هذه الخطبة لتلك الدعوى ليأسها عن قبولهم إياها. إذ كانت الخطبة بعد ما ردّ أبوبكر شهادة أمير المؤمنين (علیه السلام) ومن شهد معه وقد كان المنافقون الحاضرون معتقدين لصدقها فتمسكت بحديث الميراث لكونه من ضروريات الدين.

ظهوركم إذ يقول: «ووَرِثَ سُلَيْمَانُ داوُدَ»(1)، وقال - فيما اقتص من خبر يحيى بن زكريا - إذ قال: «فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (علیهم السلام) يَرِثُنِي ويَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ»(2)، وقال: «وأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ»(3)، وقال: «يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ»(4)، وقال: «إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ والأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ»(5).

وزعمتم أن لا حظوة (6) لي، ولا إرثمن أبي، ولا رحم بيننا..

ص: 33


1- سورة النمل: 16.
2- سورة مريم: 5-6.
3- سورة الأنفال: 75، سورة الأحزاب: 6.
4- سورة النساء: 11.
5- سورة البقرة: 180.
6- في بعض النسخ: (وزعمتم أن لا خظوة لي) الخظوة، بكسر الخاء وضمها وسكون الظاء المعجمة: المكانة والمنزلة، ويقال: (خظيت المرأة عند زوجها) إذا دنت من قلبه، وفي كشف الغمة: (فزعمتم أن لا حظ لي ولا إرث لي من أبيه، أفحكم الله بآية أخرج أبي منها، أم تقولون أهل ملتين لا يتوارثان، أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي (صلی الله علیه و آله) «أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون» إيهاً معاشر المسلمة أأبتزّ ارثيه، أآلله أن ترث أباك ولا أرث أبيه، لقد جئتم شيئا فريا، فدونكها مرحولة مخطومة مزمومة). وفي رواية ابن أبي طاهر: (ويهاً معشر المهاجرة أبتز إرث أبيه). قال الجوهري: إذا أغريته بالشيء قلت: ويهاً يا فلان وهو تحريض. انتهى. ولعل الأنسب هنا التعجب. والهاء في (أبيه) في الموضعين، و(إرثيه) بكسر الهمزة بمعنى الميراث، للسكت كما في سورة الحاقة: (كتابيه وحسابيه وماليه وسلطانيه) تثبت في الوقف وتسقط في الوصل، وقرئ بإثباتها في الوصل أيضا.

أفخصكم الله بآية أخرج أبي منها؟

أم هل تقولون إن أهل ملتين لا يتوارثان، أولست أنا وأبي من أهل ملة واحدة؟

أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي؟

فدونكها (1) مخطومة (2) مرحولة (3)، تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم الله والزعيم محمد (صلی الله علیه و آله) (4) والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون (5)، ولاينفعكم إذ تندمون،و«لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ (6) وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ»(7)، (8) «مَنْ

ص: 34


1- الضمير راجع إلى فدك، المدلول عليها بالمقام والأمر بأخذها للتهديد.
2- الخطام، بالكسر: كل ما يوضع في أنف البعير ليقاد به.
3- والرحل، بالفتح للناقة: كالسرج للفرس، ورحل البعير كمنع: شدّ على ظهره الرحل، شبّهتها (علیها السلام) في كونها مسلمة لا يعارضه في أخذها أحد بالناقة المنقادة المهيأة للركوب.
4- في بعض النسخ: (والغريم) أي طالب الحق.
5- في بعض النسخ: (وعند الساعة ما تخسرون) كلمة ما مصدرية، أي في القيامة يظهر خسرانكم.
6- أي لكل خبر يريد العذاب، أو إلا يعاد به وقت استقرار ووقوع.
7- سورة الأنعام: 67.
8- سوف تعلمون أي عند وقوعه من يأتيه عذاب يخزيه، والاقتباس من موضعين: أحدهما سورة الأنعام، والآخر سورة هود في قصة نوح (علیه السلام) حيث قال: «إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم» فالعذاب الذي يخزيهم: الغرق. والعذاب المقيم: عذاب النار.

يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ»(1).

- ثم رمت بطرفها (2) نحو الأنصار فقالت -:

يا معشر (3) النقيبة(4)، وأعضاد(5) الملة، وحضنة الإسلام..

ما هذه الغميزة (6) في حقي..والسنة (7) عن ظلامتي(8)..

ص: 35


1- سورة هود: 39، سورة الزمر: 40.
2- الطرف، بالفتح: مصدر، طرفت عين فلان: إذا نظرت، وهو أن ينظر ثم يغمض، والطرف أيضا: العين.
3- المعشر: الجماعة.
4- في بعض النسخ: (الفتية) بالكسر: جمع فتى هو الشاب، والكريم السخي. وفي كشف الغمة: (يا معشر البقية، ويا عماد الملة، وحصنة الإسلام).
5- والأعضاد: جمع عضد، بالفتح: الأعوان، يقال: عضدته كنصرته لفظا ومعنى.
6- قال الجوهري: ليس في فلان غميزة، أي مطعن ونحوه، ذكره الفيروز آبادي، وهو لا يناسب المقام إلاّ بتكلف، وقال الجوهري: رجل غمز أي ضعيف. وقال الخليل في كتاب العين: الغمز، بفتح الغين المعجمة والزاء: ضعفة في العمل وجهلة في العقل، ويقال: سمعت كلمة فاغتمزتها في عقله: أي علمت أنه أحمق، وهذا المعنى أنسب. وفي الكشف: (ما هذه الفترة) بالفاء المفتوحة وسكون التاء وهو السكون وهو أيضا مناسب. وفي رواية ابن أبي طاهر: بالراء المهملة، ولعله من قولهم: غمر على أخيه أي حقد وضغن، أو من قولهم: غمر عليه، أي أغمي عليه، أو من الغمر بمعنى الستر، ولعله كان بالضاد المعجمة فصحف، فإن استعمال إغماض العين في مثل هذا المقام شائع.
7- مصدر وسن يوسن، كعلم يعلم، وسناً وسنةً: أول النوم، أو النوم الخفيف، والهاء عوض عن الواو.
8- الظلامة بالضم: كالمظلمة بالكسر، ما أخذه الظالم منك فتطلبه عنده، والغرض تهييج الأنصار لنصرتها أو توبيخهم على عدمها. وفي كشف الغمة بعد ذلك: (أما كان لرسول الله (صلی الله علیه و آله) أن يحفظ).

أما كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) أبي يقول: المرء يحفظ في ولده. سرعان ما أحدثتم، وعجلان ذا إهالة (1)،ولكم طاقة بما أحاول، وقوة على ما أطلب وأزاول، أتقولون: مات محمد (صلی الله علیه و آله) فخطب (2) جليل، استوسع وهيه(3)، واستنهر فتقه(4)، وانفتق رتقه..

ص: 36


1- سرعان، مثلثة السين، وعجلان بفتح العين: كلاهما من أسماء الأفعال، بمعنى سرع وعجل، وفيهما معنى التعجب، أي ما أسرع وأعجل. وفي رواية ابن أبي طاهر: (سرعان ما أجدبتم فأكديتم) يقال: أجدب القوم أي أصابهم الجدب، وأكدى الرجل إذا قل خيره، والإهالة - بكسر الهمزة - الودك، وهو دسم اللحم. وقال الفيروزآبادي: قولهم سرعان ذا إهالة، أصله: إن رجلا كانت له نعجة عجفاء، وكانت رعامها يسيل من منخريها لهزالها، فقيل له: ما هذا الذي يسيل؟ فقال: ودكها، فقال السائل: سرعان ذا إهالة، ونصب (إهالة) على الحال، و(ذا) إشارة إلى الرعام، أو تمييز على تقدير نقل الفعل كقولهم: تصبب زيد عرقا، والتقدير سرعان إهالة هذه، وهو مثل يُضرب لمن يخبر بكينونة الشيء قبل وفاته، انتهى. والرعام، بالضم: ما يسيل من أنف الشاة والخيل، ولعل المثل كان بلفظ (عجلان) فاشتبه على الفيروزآبادي أو غيره، أو كان كل منهما مستعملاً في هذا المثل، وغرضها (صلوات الله عليها) التعجب من تعجيل الأنصار، ومبادرتهم إلى إحداث البدع وترك السنن والأحكام والتخاذل عن نصرة عترة سيد الأنام (صلی الله علیه و آله) مع قرب عهدهم به، وعدم نسيانهم ما أوصاهم به فيهم، وقدرتهم على نصرتها، وأخذ حقها ممن ظلمها، ولا يبعد أن يكون المثل إخبارا مجملا بما يترتب على هذه البدعة من المفاسد الدينية وذهاب الآثار النبوية.
2- الخطب، بالفتح: الشأن والأمر، عظم أو صغر.
3- الوهي، كالرمي: الشق والخرق، يقال: وهي الثوب إذا بلي وتخرق، واستوسع واستنهر: استفعل من النهر - بالتحريك - بمعنى السعة أي اتسع.
4- الفتق: الشق، والرتق ضده، وانفتق أي انشق، والضمائر المجرورات الثلاثة، راجعة إلى الخطب، بخلاف المجرورين بعدها، فإنهما راجعان إلى النبي (صلی الله علیه و آله).

وأظلمت الأرض لغيبته، وكسفت الشمس والقمر(1)، وانتثرت النجوم لمصيبته، وأكدت(2) الآمال، وخشعت الجبال، وأضيعالحريم(3)، وأزيلت الحرمة (4) عند مماته.

فتلك والله النازلة (5) الكبرى، والمصيبة العظمى..

لا مثلها نازلة، ولا بائقة (6) عاجلة، أعلن بها كتاب الله جل ثناؤه في أفنيتكم(7)، وفي ممساكم ومصبحكم(8)، يهتف في أفنيتكم هتافاً (9) وصراخاً (10)، وتلاوة (11) وألحاناً (12)..

ص: 37


1- في بعض النسخ: (كسفت النجوم) وكسف النجوم: ذهاب نورها، والفعل منه يكون متعدياً ولازماً، والفعل كضرب، وفي رواية ابن أبي طاهر: (مكان الفقرة الأخيرة: واكتأبت خيرة الله لمصيبته). والاكتئاب: افتعال من الكآبة بمعنى الحزن. وفي كشف الغمة: (واستهر فتقه، وفقد راتقه، وأظلمت الأرض، واكتأبت لخيرة الله) إلى قولها (علیها السلام): (وأديلت الحرمة) من الإدالة بمعنى الغلبة. وفي البحار: (واستنهر فتقه).
2- يقال: أكدى فلان أي بخل أو قلّ خيره.
3- حريم الرجل: ما يحميه ويقاتل عنه.
4- الحرمة: ما لا يحل انتهاكه، وفي بعض النسخ: (الرحمة) مكان (الحرمة).
5- النازلة: الشديدة.
6- والبائقة: الداهية.
7- فناء الدار، ككساء: العرصة المتسعة أمامها.
8- الممسي والمصبح، بضم الميم فيهما: مصدران وموضعان من الإصباح والإمساء.
9- الهتاف، بالكسر: الصياح.
10- الصراخ، كغراب: الصوت أو الشديد منه.
11- التلاوة، بالكسر: القراءة.
12- الإلحان: الإفهام، يقال: ألحنه القول أي أفهمه إياه، ويحتمل أن يكون من اللحن بمعنى الغناء والطرب. قال الجوهري: اللحن واحد الألحان واللحون، ومنه الحديث: (اقرؤوا القرآن بلحون العرب) وقد لحن في قراءته: إذا طرب بها وغرّد وهو ألحن الناس إذا كان أحسنهم قراءة أو غناءً. انتهى. ويمكن أن يقرأ على هذا بصيغة الجمع أيضا، والأول أظهر. وفي كشف الغمة: (فتلك نازلة أعلن بها كتاب الله في قبلتكم ممساكم ومصبحكم هتافا هتافا، ولقبلة ما حل بأنبياء الله ورسله).

ولقبله ما حل بأنبياء الله ورسله، حكم فصل(1)، وقضاء حتم(2) «وَمَا مُحَمَّدٌ إلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ (3) مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أفَإِنْ مَاتَ أَو قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقَابِكُمْ(4) ومَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ»(5)، (6).

ص: 38


1- الحكم الفصل: هو المقطوع به الذي لا ريب فيه ولا مردّ له، وقد يكون بمعنى القاطع، الفارق بين الحق والباطل.
2- الحتم في الأصل: إحكام الأمر، و(القضاء الحتم): هو الذي لا يتطرق إليه التغيير.
3- خلت: أي مضت.
4- الانقلاب على العقب: الرجوع القهقرى، أريد به الارتداد بعد الإيمان.
5- سورة آل عمران: 144.
6- الشاكرون: المطيعون المعترفون بالنعم، الحامدون عليها، قال بعض الأماثل: واعلم أن الشبهة العارضة للمخاطبين بموت النبي (صلی الله علیه و آله) إما عدم تحتم العمل بأوامره وحفظ حرمته في أهله لغيبته، فإن العقول الضعيفة مجبولة على رعاية الحاضر أكثر من الغائب، وأنه إذا غاب عن أبصارهم ذهب كلامه عن أسماعهم ووصاياه عن قلوبهم، فدفعها ما أشارت إليه (صلوات الله عليها) من إعلان الله جل ثناؤه وإخباره بوقوع تلك الواقعة الهائلة قبل وقوعها، وأن الموت مما قد نزل بالماضين من أنبياء الله ورسله (علیهم السلام) تثبيتاً للأمة على الإيمان، وإزالة لتلك الخصلة الذميمة عن نفوسهم. ويمكن أن يكون معنى الكلام: أتقولون مات محمد (صلی الله علیه و آله) وبعد موته ليس لنا زاجر ولا مانع عما نريد، ولا نخاف أحدا في ترك الانقياد للأوامر وعدم الانزجار عن النواهي. ويكون الجواب ما يستفاد من حكاية قوله تعالى «أفإن مات أو قتل» الآية، لكن لا يكون حينئذ لحديث إعلان الله سبحانه وإخباره بموت الرسول (صلی الله علیه و آله) مدخل في الجواب إلا بتكلف. ويحتمل أن يكون شبهتهم عدم تجويزهم الموت على النبي (صلی الله علیه و آله) كما أفصح عنه عمر بن الخطاب، وسيأتي في مطاعنه، فبعد تحقق موته عرض لهم شك في الإيمان ووهن في الأعمال، فلذلك خذلوها وقعدوا عن نصرتها، وحينئذ مدخلية حديث الإعلان وما بعده في الجواب واضح. وعلى التقادير لا يكون قولها (صلوات الله عليها) : فخطب جليل، داخلاً في الجواب، ولامقولاً لقول المخاطبين على الاستفهام التوبيخي، بل هو كلام مستأنف لبث الحزن والشكوى، بل يكون الجواب ما بعد قولها: (فتلك والله النازلة الكبرى). ويحتمل أن يكون مقولا لقولهم، فيكون حاصل شبهتهم: أن موته (صلی الله علیه و آله) الذي هو أعظم الدواهي، قد وقع فلا يبالي بما وقع بعده من المحذورات، فلذلك لم ينهضوا بنصرها والانتصاف ممن ظلمها، ولما تضمن ما زعموه كون مماته (صلی الله علیه و آله) أعظم المصائب، سلّمت (علیها السلام) أولا في مقام الجواب تلك المقدمة، لكونها محض الحق، ثم نبهت على خطأهم في أنها مستلزمة لقلة المبالات بما وقع، والقعود عن نصرة الحق، وعدم إتباع أوامره (صلی الله علیه و آله) بقولها: أعلن بها كتاب الله، إلى آخر الكلام، فيكون حاصل الجواب: أن الله قد أعلمكم بها قبل الوقوع، وأخبركم بأنها سنة ماضية في السلف من أنبيائه (علیهم السلام) وحذركم الانقلاب على أعقابكم كيلا تتركوا اعمل بلوازم الإيمان بعد وقوعها، ولا تهنوا عن نصرة الحق وقمع الباطل، وفي تسليمها ما سلمته أولا دلالة على أن كونها أعظم المصائب مما يؤيد وجوب نصرتي، فإني أنا المصاب بها حقيقة وإن شاركني فيها غيري، فمن نزلت به تلك النازلة الكبرى فهو بالرعاية أحق وأحرى. ويحتمل أن يكون قولها (علیها السلام): (فخطب جليل) من أجزاء الجواب فتكون شبهتهم بعض الوجوه المذكورة أو المركب من بعضها مع بعض. وحاصل الجواب حينئذ: أنه إذا نزل بي مثل تلك النازلة الكبرى، وقد كان الله عزوجل أخبركم بها وأمركم أن لا ترتدوا بعدها على أعقابكم، فكان الواجب عليكم دفع الضيم عني والقيام بنصرتي، ولعل الأنسب بهذا الوجه ما في رواية ابن أبي طاهر، من قولها: (وتلك نازلة أعلن بها كتاب الله) بالواو دون الفاء، ويحتمل أن لا تكون الشبهة العارضة للمخاطبين مقصورة على أحد الوجوه المذكورة، بل تكون الشبهة لبعضهم بعضها، وللأخرى أخرى، ويكون كل مقدمة من مقدمات الجواب إشارة إلى دفع واحدة منها. أقول: ويحتمل أن لا تكون هناك شبهة حقيقة، بل يكون الغرض أنه ليس لهم في ارتكاب تك الأمور الشنيعة حجة ومتمسك إلا أن يتمسك أحد بأمثال تلك الأمور الباطلة الواهية التي لا يخفى على أحد بطلانها، وهذا شائع في الاحتجاج.

ص: 39

إيهاً (1) بني قيلة (2)..إيهاً (3) بني قيلة (4)..أأهضم (5) تراث (6) أبي، وأنتم بمرأى مني ومسمع(7)..

ومنتدى ومجمع(8)..

تلبسكم (9) الدعوة (10)، وتشملكم الخبرة (11)..

ص: 40


1- إيهاً، بفتح الهمزة والتنوين: بمعنى هيهات.
2- وبنو قيلة: الأوس والخزرج قبيلتا الأنصار، و(قيلة) بالفتح: اسم أم لهم قديمة، وهي قيلة بنت كامل.
3- إيهاً، بفتح الهمزة والتنوين: بمعنى هيهات.
4- وبنو قيلة: الأوس والخزرج قبيلتا الأنصار، و(قيلة) بالفتح: اسم أم لهم قديمة، وهي قيلة بنت كامل.
5- الهضم: الكسر، يقال: هضمت الشيء أي كسرته، وهضمه حقه واهتضمه: إذا ظلمه وكسر عليه حقه.
6- في بعض النسخ: (تراث أبيه) والتراث بالضم: الميراث، وأصل التاء فيه واو.
7- أي بحيث أراكم وأسمع كلامكم. وفي رواية ابن أبي طاهر: (منه) أي من الرسول (صلی الله علیه و آله). والمبتدأ في أكثر النسخ بالباء الموحدة مهموزاً، فلعل المعنى: أنكم في مكان يبتدأ منه الأمور والأحكام.
8- المنتدى، بالنون غير مهموز: بمعنى المجلس، وكذا في المناقب القديم، فيكون المجمع كتفسير له، والغرض الاحتجاج عليهم بالاجتماع الذي هو من أسباب القدرة على دفع الظلم، واللفظان غير موجودين في رواية ابن أبي طاهر.
9- تلبسكم، على بناء المجرد: أي تغطيكم وتحيط بكم.
10- الدعوة: المرة من الدعاء أي النداء.
11- الخبرة، بالفتح: من الخبرة بالضم، بمعنى العلم، أو الخبرة بالكسر بمعناه. والمراد بالدعوة نداء المظلوم للنصرة، وبالخبرة علمهم بمظلوميتها صلوات الله عليها، والتعبير بالإحاطة والشمول للمبالغة، أو للتصريح بأن ذلك قد عمهم جميعا، وليس من قبيل الحكم على الجماعة بحكم البعض أو الأكثر، وفي رواية ابن أبي طاهر: (الحيرة) بالحاء المهملة، ولعله تصحيف، ولا يخفى توجيهه.

وأنتم ذوو العدد والعدة، والأداة والقوة، وعندكم السلاح والجنة. توافيكم الدعوة فلا تجيبون، وتأتيكمالصرخة فلا تغيثون، وأنتم موصوفون بالكفاح(1)، معروفون بالخير والصلاح، والنخبة التي انتخبت(2)، والخيرة (3) التي اختيرت لنا أهل البيت.

قاتلتم العرب(4)، وتحملتم الكد والتعب، وناطحتم الأمم(5)، وكافحتم البهم(6)، لا نبرح أو تبرحون(7)، نأمركم فتأتمرون(8)، حتى إذا دارت بنارحى

ص: 41


1- الكفاح: استقبال العدو في الحرب بلا ترس ولا جنة، ويقال: فلان يكافح الأمور، أي يباشرها بنفسه.
2- في بعض النسخ: (النجبة التي انتجبت) النجبة، كهمزة: النجيب الكريم. وقيل: يحتمل أن يكون بفتح الخاء المعجمة أو سكونها، بمعنى المنتخب المختار، ويظهر من ابن الأثير أنها بالسكون تكون جمعا.
3- والخيرة: كعنبة، المفضل من القوم، المختار منهم.
4- في المناقب: (لنا أهل البيت قاتلتم وناطحتم الأمم وكافحتم البهم، فلا نبرح أو تبرحون، نأمركم فتأمرون).
5- أي حاربتم الخصوم ودافعتموهم بجدّ واهتمام كما يدافع الكبش قرنه بقرنه.
6- البهم: الشجعان، كما مر، ومكافحتها: التعرض لدفعها من غير توان أو ضعف.
7- أو تبرحون: معطوف على دخول النفي، فالمنفي أحد الأمرين، ولا ينتفي إلاّ بانتفائهما معاً، فالمعنى لا نبرح ولا تبرحون.
8- أي كنا لم نزل آمرين وكنتم مطيعين لنا في أوامرنا. وفي كشف الغمة: (وتبرحون) بالواو، فالعطف على مدخول النفي أيضا، ويرجع إلى ما مر. وعطفه على النفي إشعار بأنه قد كان يقع منه براح عن الإطاعة، كما في غزوة أحد وغيرها، بخلاف أهل البيت (علیهم السلام) إذ لم يعض لهم كلال عن الدعوة والهداية، بعيد عن المقام. وفي الكشف: (فباديتم العرب، وبادهتم الأمور) إلى قولها (حتى دارت لكم بنا رحى الإسلام، ودرّ حلب البلاد، وخبت نيران الحرب) يقال: بدهه بأمر أي استقبله، وبادهه: فاجأه. والأظهر ما في رواية ابن أبي طاهر من ترك المعطوف رأسا: (لا نبرح نأمركم) أي لم يزل عادتنا الأمر وعادتكم الائتمار. وفي المناقب: (لا نبرح ولا تبرحون نأمركم) فيحتمل أن يكون (أو) في تلك النسخة أيضا بمعنى الواو، أي لا نزال نأمركم ولا تزالون تأتمرون، ولعل ما في المناقب أظهر النسخ وأصوبها.

الإسلام(1)، ودرّ(2) حلب الأيام(3)..

وخضعت ثغرة (4) الشرك..

وسكنت فورة الإفك(5)..

وخمدت نيران (6) الكفر..

ص: 42


1- دوران الرحى: كناية عن انتظام أمرها، والباء للسببية.
2- ودرّ اللبن: جريانه وكثرته.
3- الحلب، بالفتح: استخراج ما في الضرع من اللبن، وبالتحريك: اللبن المحلوب، والثاني أظهر، للزوم ارتكاب تجوز في الإسناد أو في المسند إليه على الأول.
4- في نسخة (النعرة) بالنون والعين والراء المهملتين: مثال همزة الخيشوم والخيلاء والكبر، أو بفتح النون من قولهم: نعر العرق بالدم، أي فار، فيكون الخضوع بمعنى السكون، أو بالغين المعجمة، من نغرت القدر أي فارت. وقال الجوهري: نغر الرجل - بالكسر - أي اغتاظ. قال الأصمعي: هو الذي يغلي جوفه من اليغظ. وقال ابن السكيت: يقال ظل فلان يتنغّر على فلان: أي يتذمّر عليه. وفي أكثر النسخ: بالثاء المثلثة المضمومة، والغين المعجمة، وهي نقرة النحر بين الترقوتين، فخضوع ثغرة الشرك كناية عن محقه وسقوطه كالحيوان الساقط على الأرض، نظيره قول أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه): (أنا وضعت كلكل العرب) أي صدورهم.
5- الإفك، بالكسر: الكذب. وفورة الإفك: غليانه وهيجانه.
6- وخمدت النار: أي سكن لهبها ولم يطفأ جمرها، ويقال: (همدت) بالهاء: إذا طفى جمرها، وفيه إشعار بنفاق بعضهم، وبقاء مادة الكفر في قلوبهم. وفي رواية ابن أبي طاهر: (وباخت نيران الحرب) قال الجوهري: (باخ الحرب والنار والغضب والحمّى أي سكن وفتر).

وهدأت (1) دعوة الهرج(2)، واستوسق (3) نظام الدين..

فأنى(4) حزتم(5) بعد البيان، وأسررتم بعد الإعلان، ونكصتم (6) بعد الإقدام، وأشركتم بعد الإيمان، بؤساً لقوم نكثوا (7) أيمانهم من بعد عهدهم،

ص: 43


1- هدأت: أي سكنت.
2- الهرج: الفتنة والاختلاط، وفي الحديث: (الهرج: القتل).
3- أي اجتمع وانضم من الوسق، بالفتح، وهو ضم الشيء إلى الشيء، واتساق الشيء: انتظامه.
4- كلمة (أنى) ظرف مكان بمعنى أين، وقد يكون بمعنى كيف، أي من أين حزتم وما كان منشأه.
5- في نسخة: (جرتم) إما بالجيم من الجور وهو الميل عن القصد، والعدول عن الطريق، أي لماذا تركتم سبيل الحق بعد ما تبين لكم؟. أو بالحاء المهملة المضمومة، من الحور بمعنى الرجوع أو النقصان، قال: نعوذ بالله من الحور بعد الكور، أي من النقصان بعد الزيادة. وإما بكسرها من الحيرة.
6- النكوص: الرجوع إلى الخلف.
7- نكث العهد، بالفتح: نقضه. و(الأيمان) جمع اليمين، وهو القسم «ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدأوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين» سورة التوبة: 13. والمشهور بين المفسرين: أن الآية نزلت في اليهود الذين نقضوا عهدهم، وخرجوا مع الأحزاب، وهموا بإخراج الرسول (صلی الله علیه و آله) من المدينة، وبدؤوا بنقض العهد والقتال. وقيل: نزلت في مشركي قريش وأهل مكة حيث تقضوا أيمانهم التي عقدوها مع الرسول (صلی الله علیه و آله) والمؤمنين على أن لايعاونوا عليهم أعداءهم، فعاونوا بني بكر على خزاعة، وقصدوا إخراج الرسول (صلی الله علیه و آله) من مكة حين تشاوروا بدارالندوة، وأتاهم إبليس بصورة شيخ نجدي، إلى آخر القصة، فهم بدؤوا بالمعاداة والمقاتلة في هذا الوقت، أو يوم بدر، أو بنقض العهد. والمراد بالقوم الذين نكثوا أيمانهم في كلامها صلوات الله عليها: إما الذين نزلت فيهم الآية، فالغرض بيان وجوب قتال الغاصبين للإمامة ولحقها، الناكثين لما عهد إليهم الرسول (صلی الله علیه و آله) في وصيه (علیه السلام) وذوي قرباه وأهل بيته (علیهم السلام) كما وجب بأمره سبحانه قتال من نزلت الآية فيهم، أو المراد بهم الغاصبون لحق أهل البيت (علیهم السلام) فالمراد بنكثهم أيمانهم نقض ما عهدوا إلى الرسول (صلی الله علیه و آله) حين بايعوه من الانقياد له في أوامره والانتهاء عند نواهيه، وأن لا يضمروا له العداوة، فنقضوه وناقضوا ما أمرهم به.

«وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ (1) وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (2).

ألا وقد أرى(3) أن قد أخلدتم (4) إلىالخفض(5)..

وأبعدتم من هو أحق بالبسط والقبض(6)..

وخلوتم (7) بالدعة (8)، ونجوتم بالضيق من السعة، فمججتم (9) ما

ص: 44


1- والمراد بقصدهم إخراج الرسول (صلی الله علیه و آله): عزمهم على إخراج من هو كنفس الرسول (صلی الله علیه و آله) وقائم مقامه بأمر الله وأمره عن مقام الخلافة، وعلى إبطال أوامره ووصاياه في أهل بيته (علیهم السلام) النازلة منزلة إخراجه (صلی الله علیه و آله) من مستقره، وحينئذ يكون من قبيل الاقتباس، وفي بعض الروايات: (لقوم نكثوا أيمانهم وهمّوا بإخراج الرسول (صلی الله علیه و آله) وهم بدؤوكم أول مرة أتخشونهم) فقوله (لقوم) متعلق بقوله (تخشونهم).
2- سورة التوبة: 13.
3- الرؤية هنا بمعنى: العلم، أو النظر بالعين.
4- وأخلد إليه: ركن ومال.
5- الخفض، بالفتح: سعة العيش.
6- والمراد بمن هو أحق بالبسط والقبض: أمير المؤمنين (علیه السلام)، وصيغة التفضيل مثلها في قوله تعالى: «قل أذلك خير أم جنة الخلد» سورة الفرقان: 15.
7- خلوت بالشيء: انفردت به واجتمعت معه في خلوة.
8- الدعة: الراحة والسكون.
9- مج الشراب من فيه: رمى.

وعيتم(1)، ودسعتم (2) الذي تسوغتم(3)، ف «إِنْ تَكْفُرُوا (4) أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأرضجَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ»(5).

ص: 45


1- وعيتم: أي حفظتم.
2- الدسع، كالمنع: الدفع والقيء، وإخراج البعير جرته إلى فيه.
3- ساغ الشراب يسوغ سوغاً: إذا سهل مدخله في الحلق، وتسوغه: شربه بسهولة.
4- وصيغة (تكفروا) في كلامها (علیها السلام) إما من الكفران وترك الشكر، كما هو الظاهر من سياق الكلام المجيد، حيث قال تعالى: «وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد * وقال موسى وإن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد» سورة إبراهيم: 7-8. وإما من الكفر بالمعنى الأخص، والتغيير في المعنى لا ينافي الاقتباس، مع أن في الآية أيضا يحتمل هذا المعنى، والمراد إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا من الثقلين، فلا يضرّ ذلك إلا أنفسكم، فإنه سبحانه غني عن شكركم وطاعتكم، مستحق للحمد في ذاته، أو محمود تحمده الملائكة، بل جميع الموجودات بلسان الحال، فضرر الكفران عائد إليكم حيث حرمتم من فضله تعالى ومزيد إنعامه وإكرامه، والحاصل: إنكم إنما تركتم الإمام بالحق وخلعتم بيعته من رقابكم ورضيتم ببيعة أبي بكر لعلمكم بأن أمير المؤمنين (علیه السلام) لا يتهاون ولا يداهن في دين الله، ولا تأخذه في الله لومة لائم، ويأمركم بارتكاب الشدائد في الجهاد وغيره، وترك ما تشتهون من زخارف الدنيا، ويقسّم الفيء بالسوية، ولا يفضل الرؤساء والأمراء، وإن أبابكر رجل سلس القيادة ومداهن في الدين لإرضاء العباد، فلذا رفضتم الإيمان وخرجتم عن طاعته سبحانه إلى طاعة الشيطان ولا يعود وباله إلا إليكم. وفي كشف الغمة: (ألا وقد أرى والله أن قد أخلدتم إلى الخفض، وركنتم إلى الدعة، فمحجتم الذي أوعيتم، ولفظتم الذي سوغتم) يقال ركن إليه، بفتح الكاف وقد يكسر، أي مال وسكن. وفي رواية ابن أبي طاهر: (فعجتم عن الدين) وقال الجوهري: عجت بالمكان أعوج، أي أقمت به عجت غيري، يتعدى ولا يتعدى. وعجّت البعير: عطفت رأسه بالزمام، والعايج: الواقف، وذكر ابن الأعرابي: فلان ما يعوجّ من شيء، أي ما يرجع عنه.
5- سورة إبراهيم: 8.

ألا وقد قلت ما قلت هذا على معرفة مني بالجذلة (1)..

التي خامرتكم(2)..

والغدرة (3) التي استشعرتها (4) قلوبكم..

ولكنها فيضة النفس(5)..ونفثة الغيظ(6)..

وخور (7) القناة (8)..

وبثة الصدر(9)، وتقدمة الحجة (10)..

ص: 46


1- في بعض النسخ: (الخذلة) أي ترك النصر.
2- وخامرتكم:أي خالطتكم.
3- والغدر: ضد الوفاء.
4- واستشعره: أي لبسه، والشعار: الثوب الملاصق للبدن.
5- والفيض: في الأصل كثرة الماء وسيلانه، يقال: فاض الخبر: أي شاع، وفاض صدره بالسرّ أي باح به وأظهره، ويقال: فاضت نفسه: أي خرجت روحه، والمراد به هنا: إظهار المضمر في النفس لاستيلاء الهم وغلبة الحزن.
6- النفث بالفم: شبيه النفخ، وقد يكون للمغتاظ تنفس عال تسكيناً لحر القلب وإطفاءً لنائرة الغضب.
7- الخور، بالفتح والتحريك: الضعف.
8- والقنا: جمع قناة وهي الرمح، وقيل: كل عصا مستوية أو معوجّة قناة، ولعل المراد بخور القناة ضعف النفس عن الصبر على الشدة وكتمان الضر، أو ضعف ما يعتمد عليه في النصر على العدو، والأول أنسب.
9- البثّ: النشر والإظهار والهمّ الذي لا يقدر صاحبه على كتمانه فيبثّه أي يفرّقه.
10- تقدمة الحجة: إعلام الرجل قبل وقت الحاجة قطعاً لاعتذاره بالغفلة. والحاصل: أن استنصاري منكم وتظلمي لديكم وإقامة الحجة عليكم لم يكن رجاءً للعون والمظاهرة، بل تسلية للنفس وتسكيناً للغضب وإتماماً للحجة لئلا تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين.

فدونكموها فاحتقبوها (1)، دبرة (2) الظهر، نقبة (3) الخف ..باقية العار(4)، موسومة (5) بغضب الجبار..

وشنار (6) الأبد، موصولة ب «نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (7)(علیهم السلام) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ»(8)، (9).

فبعين الله ما تفعلون(10).. «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ(11)

ص: 47


1- الحقب، بالتحريك: حبل يشد به الرجل إلى بطن البعير، يقال: أحقبت البعير أي شددته به، وكل ما شد في مؤخر رحل أو قتب فقد احتقب، ومنه قيل: (احتقب فلان الإثم) كأنه جمعه واحتقبه من خلفه. والأنسب في هذا المقام: أحقبوها بصيغة الإفعال، أي شدوا عليها ذلك وهيؤها للركوب، وفيما وصل إلينا من الروايات على بناء الافتعال.
2- الدبر، بالتحريك: الجرح في ظهر البعير، وقيل: جرح الدابة مطلقا.
3- والنقب، بالتحريك: رقة خف البعير.
4- العار الباقي: عيب لا يكون في معرض الزوال.
5- وسمته وسماً وسمةً: إذا أثرت فيه بسمة وكيّ.
6- الشنار: العيب والعار.
7- الموقدة: المؤججة على الدوام.
8- سورة الهمزة: 67.
9- الاطلاع على الأفئدة إشرافها على القلوب بحيث يبلغه ألمها كما يبلغ ظواهر البدن. وقيل: إن معناه أن هذه النار تخرج من الباطن إلى الظاهر، بخلاف نيران الدنيا. وفي كشف الغمة: (إنها عليهم مؤصدة) والمؤصدة: المطبقة.
10- أي متلبس بعلم الله أعمالكم ويطلع عليها كما يعلم أحدكم ما يراه ويبصره، وقيل في قوله تعالى: «تجري بأعيننا» سورة القمر: 14، إن المعنى تجري بأعين أوليائنا من الملائكة والحفظة.
11- والمنقلب: المرجع والمنصرف، و(أي) منصوب على أنه صفة مصدر محذوف، والعامل فيه ينقلبون، لأن ما قبل الاستفهام لا يعمل فيه، وإنما يعمل فيه ما بعده، والتقدير: سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون انقلاباً أي انقلاب.

يَنْقَلِبُونَ»(1)، وأنا ابنة «نَذِيرٌ لَكُمْ(2) بَيْنَيَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ»(3)، فاعملوا (4) إنا عاملون، «وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ»(5)».

فأجابها (6) أبو بكر عبد الله بنعثمان وقال:

ص: 48


1- سورة الشعراء: 227.
2- أي أنا ابنة من أنذركم بعذاب الله على ظلمكم، فقد تمت الحجة عليكم.
3- سورة سبأ: 46.
4- والأمر في (اعملوا) و(انظروا) للتهديد.
5- سورة هود: 122.
6- وفي دلائل الإمامة: ص39، قال: فأطلعت أم سلمة من بابها وقالت: ألمثل فاطمة (علیها السلام) يقال هذا؟ وهي الحوراء بين الإنس، والأنس للنفس، وبيت في حجور أمهات الأنبياء وتداولتها أيدي الملائكة، ونمت في المغارس الطاهرات، نشأت خير منشأ، وربيت خير مربى، أتزعمون أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) حرم عليها ميراثه ولم يعلمها، وقد قال الله تعالى: «وأنذر عشيرتك الأقربين»، أفأنذرها وجاءت تطلبه وهي خيرة النسوان، وأم سادة الشبان، وعديلة مريم ابنة عمران، وحليلة ليث الأقران. تمت بأبيها رسالات ربه، فوالله لقد كان يشفق عليها من الحر والقر، فيوسّدها يمينه ويدثّرها بشماله رويدا، فرسول الله (صلی الله علیه و آله) بمرأى لأعينكم وعلى الله تردون، فواهاً لكم وسوف تعلمون، أنسيتم قول رسول الله (صلی الله علیه و آله) (لعلي (علیه السلام)): أنت مني بمنزلة هارون من موسى، وقوله: إني تارك فيكم الثقلين، ما أسرع ما أحدثتم وأعجل ما نكثتم. فحرمت أم سلمة عطاءها تلك السنة. عنه وفاة الصديقة (علیها السلام) لابن المقرم: ص98. وفي شرح النهج: ج16 ص214: قال أبو بكر: وحدثني محمد بن زكريا، قال: حدثنا جعفر بن محمد بن عمارة بالإسناد الأول قال: فلما سمع أبوبكر خطبتها شق عليه مقالتها فصعد المنبر وقال: أيها الناس، ما هذه الرعبة إلى كل قالة! أين كانت هذه الأماني في عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله) ألا من سمع فليقل، ومن شهد فليتكلم، إنما هو ثعالة شهيدة ذنبة، مرب لكل فتنة، هو الذي يقول: كروها جذعة بعد ما هرمت، يستعينون بالضعفة، ويستنصرون بالنساء، كأم طحال أحب أهلها إليها البغي، ألا إني لو أشاء أن أقول لقلت، ولو قلت لبحت، إني ساكت ما تركت، ثم التفت إلى الأنصار فقال: قد بلغني يا معشر الأنصار مقالة سفهائكم، وأحق من لزم عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنتم، فقد جاءكم فآويتم ونصرتم، ألا إني لست باسطاً يداً ولا لساناً على من لم يستحق ذلك منا، ثم نزل، فانصرفت فاطمة (علیها السلام) إلى منزلها. قلت: قرأت هذا الكلام على النقيب أبي يحيى جعفر بن يحيى بن أبي زيد البصري، وقلت له: بمن يعرّض؟ فقال: بل يصرّح. قلت: لو صرّح لم أسألك. فضحك وقال: بعلي بن أبي طالب (علیه السلام). قلت: هذا الكلام كله لعلي (علیه السلام) يقوله!! قال: نعم، إنه الملك يا بني!! قلت: فما مقالة الأنصار؟ قال: هتفوا بذكر علي (علیه السلام) فخاف من اضطراب الأمر عليهم، فنهاهم. عنه البحار: ج8 ص128 ط حجرية.

يا بنت رسول الله، لقد كان أبوكِ بالمؤمنين عطوفاً كريماً، رؤوفاً رحيماً، وعلى الكافرين عذاباً أليماً، وعقاباً عظيماً.

إن عزوناه (1) وجدناه أباكِ دون النساء، وأخا إلفكِ دون الأخلاء(2)، آثره على كل حميم، وساعده في كل أمر جسيم.

لايحبكم إلاّ سعيد، ولا يبغضكم إلاّ شقي بعيد، فأنتم عترة رسول الله الطيبون، الخيرة المنتجبون، على الخير أدلتنا، وإلى الجنة مسالكنا. وأنتِ يا خيرة النساء، وابنة خير الأنبياء، صادقة في قولكِ، سابقة في وفور عقلكِ، غير مردودة عن حقكِ، ولا مصدودة عن صدقكِ، والله ما عدوت رأي رسول الله، ولا عملت إلابإذنه، والرائد لا يكذب أهله(3)، وإني أُشهد الله وكفى به شهيداً، أني سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: نحن معاشر الأنبياء لا نورث ذهباً ولا فضة،

ص: 49


1- عزوناه: نسبناه.
2- الأخلاء: مفرده الخليل وهو الصديق.
3- هذا مثل استشهد به في صدق الخبر الذي افتراه على النبي (صلی الله علیه و آله)، والرائد: من يتقدم القوم يبصر لهم الكلاء والماء ومساقط الغيث، حيث جعل نفسه لاحتماله الخلافة التي هي الرياسة العامة بمنزلة الرائد للأمة الذي يجب عليه أن ينصحهم ويخبرهم بالصدق.

ولا داراً ولا عقاراً، وإنما نورث الكتاب والحكمة والعلم والنبوة، وما كان لنا من طعمة فلولي الأمر بعدنا، أن يحكم فيه بحكمه. وقد جعلنا ما حاولته في الكراع(1) والسلاح، يقاتل بها المسلمون، ويجاهدون الكفار، ويجالدون (2) المردة الفجار، وذلك بإجماع من المسلمين(3)، لم أنفرد به وحدي، ولم أستبد(4) بما كان الرأي عندي، وهذهحالي ومالي، هي لكِ وبين يديكِ، لا تزوى(5) عنكِ، ولا ندخر دونكِ، وإنك وأنت سيدة أمة أبيكِ، والشجرة الطيبة لبنيكِ، لا ندفع ما لكِ من فضلكِ، ولا يوضع في فرعكِ وأصلكِ(6)، حكمكِ نافذ فيما ملكت يداي، فهل ترين (7) أن أخالف في ذاك أباكِ (صلی الله علیه و آله).

فقالت (علیها السلام):

«سبحان الله! ما كان أبي رسول الله (صلی الله علیه و آله) عن كتاب الله صادفاً (8)..

ص: 50


1- الكُراع بضم الكاف: جماعة الخيل.
2- والمجالدة: المضاربة بالسيوف.
3- قال ابن أبي الحديد في شرح النهج: ج16 ص221: إنه لم يرو حديث انتفاء الإرث إلاّ أبوبكر وحده. وله كلام في ذلك أيضا في ص227 و22 فراجع. وقال السيوطي في تاريخ الخلفاء: ص68: وأخرج أبو القاسم البغوي وأبوبكر الشافعي في فوائده وابن عساكر عن عائشة قالت: اختلفوا في ميراثه (صلی الله علیه و آله) فما وجدوا عند أحد من ذلك علما، فقال أبوبكر: سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: إنا معاشر الأنبياء لا نورّث ما تركناه صدقة.
4- واستبد فلان بالرأي: أي انفرد به واستقل.
5- ولا نزوي عنك: أي لا نقبض ولا نصرف.
6- أي لا نحط درجتك ولا ننكر فضل أصولكم وأجدادك وفروعك وأولادك.
7- وترين: من الرأي بمعنى الاعتقاد.
8- الصادف عن الشيء: المعرض عنه.

ولا لأحكامه مخالفاً..

بل كان يتبع أثره(1)، ويقفو (2) سوره(3)، أفتجمعون إلى الغدر اعتلالاً(4) عليه بالزور(5)، وهذا بعد وفاته شبيه بما بغي (6) له من الغوائل (7) في حياته، هذا كتاب الله حكماً عدلاً، وناطقاً فصلاً، يقول: «يَرِثُنِي ويَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ»(8)، ويقول: «ووَرِثَ سُلَيْمَانُ داوُدَ»(9)..

وبين عزوجل فيما وزع (10) من الأقساط(11)..

وشرع من الفرائض والميراث، وأباح من حظ الذكران والإناث، ما أزاح (12) به علة المبطلين، وأزال التظني (13) والشبهات في الغابرين(14)، كلا

ص: 51


1- والأثر، بالتحريك وبالكسر: أثر القدم.
2- والقفو: الاتباع.
3- والسور، بالضم: كل مرتفع عال، ومنه (سور المدينة)، ويكون جمع سورة، وهي كل منزلة من البناء، ومنه سورة القرآن لأنها منزلة بعد منزلة، ويجمع على سُوَر بفتح الواو، وفي العبارة يحتملها، والضمائر المجرورة تعود إلى الله تعالى أو إلى كتابه، والثاني أظهر.
4- والاعتلال: إبداء العلة والاعتذار.
5- والزور: الكذب.
6- والبغي: الطلب.
7- والغوائل: المهالك والدواهي، أشارت (علیها السلام) بذلك إلى ما دبروا - لعنهم الله - من إهلاك النبي (صلی الله علیه و آله) واستيصال أهل بيته (علیهم السلام) في العقبتين وغيرهما.
8- سورة مريم: 6.
9- سورة النمل: 16.
10- والتوزيع: التقسيم.
11- والقسط، بالكسر: الحصة والنصيب.
12- والإزاحة: الإذهاب والإبعاد.
13- والتظني: إعمال الظن وأصله التظنن.
14- والغابر: الباقي، وقد يطلق على الماضي.

«بَلْ سَوَّلَتْ(1) لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ(2) وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ»(3)».

فقال أبو بكر: صدق الله ورسوله وصدقت ابنته، أنتِ معدن الحكمة، وموطن الهدى والرحمة، وركن الدين، وعين الحجة، لا أبعد صوابكِ، ولاأنكر خطابكِ(4)، هؤلاء المسلمون بيني وبينكِ قلدوني ما تقلدت، وباتفاق منهم أخذت ما أخذت غير مكابر(5)، ولا مستبد ولا مستأثر(6)، وهم بذلك شهود.

فالتفتت فاطمة (علیها السلام) إلى الناس وقالت:«معاشر المسلمين المسرعة (7) إلى قيل (8) الباطل، المغضية (9) على الفعل

ص: 52


1- والتسويل: تحسين ما ليس بحسن، وتزيينه وتحبيبه إلى الإنسان ليفعله أو يقوله، وقيل: هو تقدير معنى في النفس على الطمع في تمامه.
2- أي فصبري جميل، أو الصبر الجميل أولى من الجزع الذي لا يغني شيئاً. وقيل: إنما يكون الصبر جميلا إذا قصد به وجه الله تعالى وفعل للوجه الذي وجب، ذكره السيد المرتضى (رحمة الله).
3- سورة يوسف: 18.
4- خطابك - في قول أبي بكر - من المصدر المضاف إلى الفاعل، ومراده بما تقلدوا، ما أخذ فدك أو الخلافة أي أخذت الخلافة بقول المسلمين واتفاقهم، فلزمني القيام بحدودها التي من جملتها أخذ فدك للحديث المذكور..
5- المكابرة: المغالبة.
6- الاستبداد والاستيثار: الانفراد بالشيء.
7- في بعض النسخ: (معاشر الناس المبتغية المسرعة).
8- القيل: بمعنى القول، وكذا القال، وقيل: (القول في الخير، والقيل والقال في الشر)، وقيل: (القول مصدر، والقيل والقال اسمان له).
9- والإغضاء: إدناء الجفون، وأغضى على الشيء: أي سكت ورضي به.

القبيح الخاسر، أفلا تتدبرون «الْقُرْآنَ(1) أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفَالُها»(2)، كلا بل ران(3) على قلوبكم ما أسأتم من أعمالكم، فأخذ بسمعكم وأبصاركم..

ولبئس ما تأولتم(4)، وساء ما به أشرتم(5)..

وشر(6) ما منه اغتصبتم(7)، لتجدنوالله محمله(8) ثقيلاً، وغبه(9) وبيلاً(10) إذا كشف لكم الغطاء، وبان ما وراءه الضراء(11)، وبدا لكم من ربكم

ص: 53


1- روي عن الصادق والكاظم (علیهما السلام) في الآية أن المعنى: أفلا يتدبرون القرآن فيقضوا بما عليهم من الحق. وتنكير (القلوب) لإرادة قلوب هؤلاء ومن كان مثلهم من غيرهم .
2- سورة محمد (صلی الله علیه و آله): 24.
3- الرين: الطبع والتغطية، وأصله الغلبة.
4- التأول والتأويل: التصيير والإرجاع ونقل الشيء عن موضعه، ومنه تأويل الألفاظ أي نقل اللفظ عن الظاهر.
5- والإشارة: الأمر بأحسن الوجوه في أمر.
6- شرّ، كفرّ: بمعنى ساء.
7- في بعض النسخ: (اعتضتم) والاعتياض: أخذ العوض والرضا به، والمعنى: ساء ما أخذتم منه عوضاً عما تركتم.
8- المحمل: كمجلس، مصدر.
9- والغب، بالكسر: العاقبة.
10- في الأصل الثقل والمكروه، ويراد به في عرف الشرع: عذاب الآخرة، والعذاب الوبيل: الشديد.
11- الضراء، بالفتح والتخفيف: الشجر الملتف، كما مر. يقال: توارى الصيد مني في ضراء. و(الوراء) يكون بمعنى قّدام كما يكون بمعنى خلف، وبالأول فسّر قوله تعالى: «وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا» سورة الكهف: 79. ويحتمل أن تكون الهاء زيدت من النساخ، أو الهمزة فيكون على الأخير بتشديد الراء من قولهم: (ورّى الشيء تورية): أي أخفاه، وعلى التقادير فالمعنى: ظهر لكم ما ستره عنكم الضراء.

ما لم تكونوا تحتسبون(1)، «وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ»(2)، (3).

ثم عطفت على قبر النبي (صلی الله علیه و آله) وقالت(4):

قد كان بعدك أنباء وهنبثة (5) *** لو كنت شاهدها (6) لم تكثر الخطب (7)

إنا فقدناك فقد الأرض وابلها(8) *** واختل قومك فاشهدهم ولا تغب(9)

وكل أهل له قربى(10) ومنزلة (11) *** عند الإله على الأدنين (12) مقترب(13)

ص: 54


1- أي ظهر لكم من صنوف العذاب ما لم تكونوا تنتظرونه ولا تظنونه واصلاً إليكم ولم يكن في حسبانكم.
2- سورة غافر: 78.
3- المبطل: صاحب الباطل، من أبطل الرجل إذا أتى بالباطل.
4- في كشف الغمة: (ثم التفتت إلى قبر أبيها متمثلة بقول هند ابنة اُثاثة) ثم ذكر الأبيات.
5- الخطب، بالفتح: الأمر الذي تقع فيه المخاطبة، والشأن والحال.
6- قال في النهاية: الهنبثة: واحدة الهنابث، وهي الأمور الشداد المختلفة. والهنبثة: الاختلاط في القول، والنون زائدة، وذكر فيه أن فاطمة (علیها السلام) قالت بعد موت النبي (صلی الله علیه و آله): قد كان بعدك أنباء... إلى آخر البيتين، إلا أنه قال: فاشهدهم ولا تغبُ.
7- الشهود: الحضور.
8- في بعض النسخ: (فقد نكب) ونكب فلان عن الطريق، كنصر وفرح: أي عدل ومال.
9- الوابل: المطر الشديد.
10- الأدنين: هم الأقربون.
11- اقترب: أي تقارب. وقال في مجمع البيان: في اقترب زيادة مبالغة على قرب، كما أن في اقتدر زيادة مبالغة على قدر، ويمكن تصحيح تركيب البيت وتأويل معناه على وجوه: الأول: وهو الأظهر أن جملة (له قربى) صفة لأهل، والتنوين في (منزلة) للتعظيم، والظرفان متعلقان بالمنزلة لما فيها من معنى الزيادة والرجحان. و(مقترب خبر لكل، أي ذو القرب الحقيقي أو عند ذي الأهل كل أهل كانت له مزية وزيادة على غيره من الأقربين عند الله تعالى. والثاني: تعلق الظرفين بقولها: (مقترب) أي كل أهل له قرب ومنزلة من ذي الأهل فهو عند الله تعالى مقترب مفضل على سائر الأدنين. والثالث: تعلق الظرف الأول بالمنزلة، والثاني بالمقترب، أي كل أهل اتصف بالقربى بالرجل وبالمنزلة عند الله فهو مفضل على سائر الأدنين. والرابع: أن يكون جملة (له قربى) خبراً للكل، و(مقترب) خبراً ثانيا. وفي الظرفين يجري الاحتمالات السابقة، والمعنى: أن كل أهل نبي من الأنبياء له قرب ومنزلة عند الله ومفضل على سائر الأقارب عند الأمة.
12- القربى: في الأصل القرابة في الرحم.
13- المنزلة: المرتبة والدرجة، ولا تجمع.

أبدت (1) رجال لنا نجوى صدورهم(2) *** لما مضيت وحالت (3) دونك (4) الترب(5)

تجهمتنا (6) رجال واستخف بنا *** لما فقدت وكل الأرض مغتصب(7)

وكنت بدراً ونوراً يستضاء به *** عليك ينزل من ذي العزة الكتب

ص: 55


1- دون الشيء: قريب منه، يقال: دون النهر جماعة، أي قبل أن تصل إليه.
2- قال الفيروزآبادي: الترب والتراب والتربة: معروف، وجمع التراب: أتربة وتربان، ولم يسمع لسائرها بجمع، انتهى. فيمكن أن يكون بصيغة المفرد والتأنيث بتأويل الأرض كما قيل، والأظهر أنه بضم التاء وفتح الراء جمع تربة، قال في مصباح اللغة: التربة: المقبرة، والجمع ترب، مثل غرفة وغرف.
3- بدى الأمر بدواً: ظهر. وأبداه: أظهره.
4- النجوى: الاسم من نجوته إذا ساررته، ونجوى صدورهم: ما أضمروه من نفوسهم من العداوة ولم يتمكنوا من إظهاره في حياته (صلی الله علیه و آله). وفي بعض النسخ: (فحوى صدورهم) وفحوى القول: معناه، والمآل واحد.
5- حال الشيء بيني وبينك: أي منعني من الوصول إليك.
6- المغتصب: على بناء المفعول المغصوب.
7- التهجم: الاستقبال بالوجه الكريه.

وكان جبرئيل بالآيات يؤنسنا *** فقد فقدت وكل الخير محتجب(1)

فليت قبلك كان الموت صادفنا(2) *** لما مضيت وحالت دونك الكثب(3)

إنا رزينا (4) بما لم يرز ذو شجن (5) *** من البرية لاعجم (6) ولا عرب

ثم انكفأت(7) (علیها السلام) وأمير المؤمنين (علیه السلام) يتوقع(8) رجوعها إليه..

ويتطلع طلوعها (9) عليه، فلما استقرت بها الدار(10) قالت لأمير المؤمنين (علیه السلام): «يا ابن أبي طالب، اشتملت (11) شملة (12) الجنين(13)، وقعدت

ص: 56


1- المحتجب: على بناء الفاعل.
2- والكثب، بضمتين: جمع كثيب وهو التل من الرمل.
3- صادفه: وجده ولقيه.
4- الشجن، بالتحريك: الحزن.
5- وفي القاموس: العجم، بالضم والتحريك، خلاف العرب. انتهى ما قاله المجلسي (رحمة الله).
6- والرزء، بالضم مهموزاً: المصيبة بفقد الأعزة، و(رُزينا) على بناء المجهول.
7- والانكفاء: الرجوع. وفي نسخة قديمة لكشف الغمة منقولة من خط المصنف، مكتوباً على هامشها بعد إيراد خطبتها (صلوات الله عليها) ما هذا لفظه: وجدت بخط السيد المرتضى علم الهدى الموسوي (قدس الله روحه) أنه لما خرجت فاطمة (علیها السلام) من عند أبي بكر، حين ردّها عن فدك، استقبلها أمير المؤمنين (علیه السلام) فجعلت تعنّفه ثم قال: اشتملت... إلى آخر كلامها (علیها السلام).
8- وتوقّعت الشيء واستوقعته: أي انتظرت وقوعه.
9- وطلعت على القوم: أتيتهم، وتطلع الطلوع انتظاره.
10- أي سكنت كأنها اضطربت وتحركت لخروجها، أو على سبيل القلب وهذا شائع، يقال: استقرت نوى القوم، واستقرت بهم النوى، أي أقاموا.
11- اشتمل بالثوب: أي أداره على جسده كله.
12- والشملة، بالفتح: كساء يشتمل به، والشملة بالكسر: هيئة الاشتمال، فالشملة إما مفعول مطلق من غير الباب كقوله تعالى: «نباتا» أو في الكلام حذف وإيصال. وفي رواية السيد: (مشيمة الجنين): وهي محل الولد في الرحم، ولعله أظهر.
13- الولد ما دام في البطن.

حجرة (1) الظنين(2)..

نقضت قادمة (3) الأجدل(4)..

فخانك ريش الأعزل(5)، هذا ابن أبي قحافة يبتزني(6) نحيلة (7) أبي،

ص: 57


1- الحجرة، بالضم: حظيرة الإبل، ومنه حجرة الدار.
2- الظنين: المتهم. والمعنى: اختفيت عن الناس كالجنين، وقعدت عن طلب الحق، ونزلت منزلة الخائف المتهم، وفي رواية السيد: (الحجزة) بالزاي المعجمة. وفي بعض النسخ: (قعدت حجزة الظنين)، وقال في النهاية: الحجزة موضع شد الإزار، ثم قيل: للإزار، حجزة للمجاورة. وفي القاموس: الحجزة بالضم: معقد الإزار، ومن الفرس مركب مؤخر الصفاق بالحقو، وقال: شدة الحجز، كناية عن الصبر.
3- قوادم الطير: مقاديم ريشه، وهي عشر في كل جناح، واحدتها: قادمة.
4- الصقر.
5- الأعزل: الذي لا سلاح معه، قيل: لعلّها (صلوات الله عليها) شبّهت الصقر الذي نقضت قوادمه بمن لا سلاح له، والمعنى: تركت طلب الخلافة في أول الأمر قبل أن يتمكنوا منها ويشيدوا أركانها وظننت أن الناس لا يرون غيرك أهلا للخلافة، ولا يقدّمون عليك أحدا، فكنت كمن يتوقع الطيران من صقر منقوضة القوادم. ويحتمل أن يكون المراد أنك نازلت الأبطال، وخضت الأهوال، ولم تبال بكثرة الرجال، حتى نقضت شوكتهم، واليوم غلبت من هؤلاء الضعفاء والأرزال، وسلمت لهم الأمر ولا تنازعهم، وعلى هذا ربما كان في الأصل: خاتك، بالتاء المثناة الفوقانية. قال الجوهري: خات البازي واختات أي انقضّ ليأخذه، وقال الشاعر: يخوتون أخرى القوم خوت الأجادل، والخائنة: العقاب إذا انقضت فسمعت صوت انقضاضها، والخوات: دوي جناح العقاب، والخوّات بالتشديد: الرجل الجريء، وفي رواية السيد (نفضت) بالفاء، وهو يؤيد المعنى الأول.
6- والابتزاز: الاستلاب وأخذ الشيء بقهر وغلبة من البزّ بمعنى السلب.
7- فعلية بمعنى مفعول من النحلة، بالكسر، بمعنى الهبة والعطية عن طيبة نفس من غير مطالبة أو عوض.

وبلغة (1) ابنيَّ (2)، لقد أجهد (3) في خصامي(4)، وألفيته (5) ألدّ في كلامي(6)..

حتى حبستني قيلة (7) نصرها، والمهاجرة (8) وصلها (9)..

وغضت (10) الجماعة دوني طرفها (11)،فلا دافع ولا مانع(12)..

خرجت كاظمة (13)، وعدت راغمة(14)..

ص: 58


1- والبُلغة، بالضم: ما يبلغ به من العيش ويكتفى به. وفي أكثر النسخ: (بليغة) بالتصغير، فالتصغير في النحيلة أيضاً أنسب.
2- وابني: إما بتخفيف الياء فالمراد به الجنس، أو تشديدها على التثنية.
3- في بعض النسخ: (وأجهر) وإجهار الشيء: إعلانه.
4- والخصام: مصدر كالمخاصمة، ويحتمل أن يكون جمع خصم، أي أجهر العداوة أو الكلام لي بين الخصام والأول أظهر.
5- ألفيته: أي وجدته.
6- والألدّ: شديد الخصومة، وليس فعلا ماضيا، فإن فعله على بناء المجرد، والإضافة في (كلامي) إما من قبيل الإضافة إلى المخاطب أو إلى المتكلم، وفي للظرفية أو السببية. وفي رواية السيد: (هذا بني أبي قحافة) إلى قوله (لقد أجهد في ظلامتي وألدّ في خصامتي). قال الجزري: ويقال: جهد الرجل في الأمر، إذا جدّ وبالغ فيه، وأجهد دابته، إذا حمل عليها في السير فوق طاقتها.
7- قيلة، بالفتح: اسم أم قديمة لقبيلتي الأنصار، والمراد بنو قيلة. وفي رواية السيد: (حين منعتني الأنصار نصرها).
8- وموصوف المهاجرة الطائفة أو نحوها.
9- والمراد بوصلها: عونها.
10- غضه: حفظه، وفي النهاية: ج3 ص371 : غضّ طرفه أي كسره وأطرق ولم يفتح عينه.
11- وفي بعض النسخ: (الطرف) بالفتح: العين.
12- في رواية السيد بعد قولها (ولا مانع): (ولا ناصر ولا شافع خرجت كاظمة وعدت راغمة).
13- كظم الغيض: تجرعه والصبر عليه.
14- رغم فلان، بالفتح: إذا ذلّ وعجز عن الانتصاف ممن ظلمه، والظاهر من الخروج، الخروج من البيت وهو لا يناسب كاظمة، إلاّ أن يراد بها الامتلاء من الغيظ، فإنه من لوازم الكظم، ويحتمل أن يكون المراد الخروج من المسجد المعبّر عنه ثانيا بالعود كما قيل. وفي رواية السيد مكان (عدت): (رجعت).

أضرعت (1) خدك يوم أضعت(2) حدّك(3)..

افترست (4) الذئاب.. وافترشت التراب..ما كففت (5) قائلاً.. ولا أغنيت(6)..

ص: 59


1- ضرع الرجل، مثلثة: خضع وذلّ، وأضرعه غيره، وإسناد الضراعة إلى الخد لأن أظهر أفرادها وضع الخد على التراب، أو لأن الذل يظهر في الوجه.
2- إضاعة الشيء وتضييعه: إهماله وإهلاكه.
3- حدّ الرجل، بالحاء المهملة: بأسه وبطشه. وفي بعض النسخ بالجيم، أي تركت اهتمامك وسعيك، وفي رواية السيد: (فقد أضعت جدّك يوم أصرعت خدّك).
4- وفرس الأسد فريسته كضرب وافترسها: دقّ عنقها، ويستعمل في كل قتل، ويمكن أن يقرأ بصيغة الغائب، فالذئاب مرفوع. والمعنى قعدت عن طلب الخلافة، ولزمت الأرض مع أنك أسد الله والخلافة كانت فريستك، حتى افترسها وأخذها الذئب الغاصب لها، ويحتمل أن يكون بصيغة الخطاب، أي كنت تفترس الذئاب واليوم افترشت التراب. وفي بعض النسخ: (الذباب) بالبائين الموحدتين: جمع ذبابة، فيتعين الأول. وفي بعضها: (افترست الذئاب وافترستك الذئاب). وفي رواية السيد مكانهما: (وتوسدت الوراء كالوزغ، ومسّتك الهناة والنزغ) والوراء: بمعنى الخلف، والهناء: الشدة والفتنة، والنزغ: الطعن والفساد.
5- الكف: المنع.
6- الإغناء: الصرف والكف، يقال: أغن عني شرك، أي اصرفه وكفه، به فسّر قوله سبحانه «إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا» سورة الجاثية: 19. وفي رواية السيد: (ولا أغنيت طائلا) وهو أظهر. قال الجوهري: يقال هذا أمر لا طائل فيه، إذا لم يكن فيه غناء ومزية، انتهى. فالمراد بالغناء: النفع، ويقال: ما يغني عنك هذا، أي ما يجديك وما ينفعك.

طائلاً (1)..

ولا خيار لي، ليتني متّ قبل هنيئتي (2) ودون ذلتي(3)..

عذيري (4) الله منه (5) عادياً (6)، ومنكحامياً (7)، ويلاي (8) في كل

ص: 60


1- في بعض النسخ: (باطلا).
2- في بعض النسخ: (الهينة) بالفتح: العادة في الرفق والسكون، ويقال: امش على هنينك، أي على رسلك، أي ليتني مت قبل هذا اليوم الذي لابد لي من الصبر على ظلمهم، ولا محيص لي عن الرفق.
3- في بعض النسخ: (زلتي) والزلة بفتح الزاي: الإسم من قولك زللت في طين، أو منطق، إذا زلقت ويكون بمعنى السقطة، والمراد بها عدم القدرة على دفع الظلم، ولو كانت الكلمة بالذال المعجمة كان أظهر وأوضح كما في رواية السيد فإن فيها (وا لهفتاه ليتني متّ قبل ذلتي ودون هينتي عذيري الله منك عادياً ومنك حامياً).
4- العذير: بمعنى العاذر، كالسميع، أو بمعنى العذر كالأليم.
5- في بعض النسخ: (منك) أي من أجل الإساءة إليك وإيذائك، و(عذيري الله) مرفوعان بالابتدائية والخبرية.
6- عادياً: إما من قولهم: عدوت فلانا عن الأمر، أي صرفته عنه، أو من العدوان، بمعنى تجاوز الحدّ، وهو حال عن ضمير المخاطب، أي الله يقيم العذر من قبلي في إساءتي إليك حال صرفك المكاره ودفعك الظلم عني، أو حال تجاوزك الحدّ في القعود عن نصري، أي عذيري في هكذا خطاب: أنك قصرت في إعانتي والذب عني. أي بحسب الظاهر.
7- الحماية عن الرجل: الدفع عنه، ويحتمل أن يكون (عذيري) منصوبا كما هو الشائع في هذه الكلمة، والله مجرورا بالقسم، يقال: عذيرك من فلان، أي هات من يعذرك فيه. ومنه قول أمير المؤمنين (علیه السلام) حين نظر إلى ابن ملجم لعنه الله: عذيريك من خليلك من مراد. والأول أظهر.
8- قال الجوهري: ويل كلمة مثل ويح، إلا أنها كلمة عذاب، يقال: ويله وويلك وويلي، وفي الندبة: ويلاه، ولعله جمع فيها بين ألف الندبة وياء المتكلم. ويحتمل أن يكون بصيغة التثنية، فيكون مبتدأ والظرف خبره، والمراد به تكرر الويل. وفي رواية السيد: (ويلاه في كل شارق، ويلاه في كل غارب، ويلاه مات العمد، وذلّ العضد) إلى قولها (علیها السلام): (اللهم أنت أشد قوة وبطشا).

شارق(1)، ويلاي في كل غارب، مات العمد(2)، ووهن العضد..

شكواي (3) إلى أبي، وعدواي (4) إلى ربي..

اللّهم إنك أشد منهم قوة وحولاً (5)..

وأشد بأساً (6) وتنكيلاً (7)».فقال أمير المؤمنين (علیه السلام):

«لا ويل لكِ، بل الويل لشانئك(8)..

ثم نهنهي(9) عن وجدكِ (10) يا ابنة الصفوة (11) وبقية النبوة..

فما ونيتُ (12) عن ديني.. ولا أخطأتُ مقدوري..

ص: 61


1- الشارق: الشمس، أي عند كل شروق شارق وطلوع صباح كل يوم. قال الجوهري: الشرق المشرق والشرق: الشمس، يقال: طلع الشرق ولا آتيك، ما ذرّ شارق وشرقت الشمس تشرق شروقاً وشرقاً أيضا، أي طلعت، وأشرقت أي أضاءت.
2- العمد، بالتحريك وبضمتين: جمع العمود، ولعل المراد هنا ما يعتمد عليه في الأمور.
3- الشكوى: الاسم من قولك: شكوت فلاناً شكاية.
4- العدوى: طلبك إلى وال لينتقم لك ممن ظلمك.
5- الحول: القوة والحيلة والدفع والمنع، الكل هنا محتمل.
6- البأس: العذاب.
7- التنكيل: العقوبة، وجعل الرجل نكالاً وعبرة لغيرة.
8- أي العذاب والشر لمبغضك، والشناءة: البغض، وفي رواية السيد: (لمن أحزنك).
9- ونهنتُ الرجل عن الشيء فتنهنه: أي كففته وزجرته فكفّ.
10- الوجد: الغضب، أي امنعي نفسك عن غضبك. وفي بعض النسخ: (تنهنهي) وهو أظهر.
11- الصفوة، مثلثة: خلاصة الشيء وخياره.
12- الونى، كفتى: الضعف والفتور والكلال. والفعل كوقى يقي، أي ما عجزت عن القيام بما أمرني به ربي، وما تركت ما دخل تحت قدرتي.

فإن كنتِ تريدين البلغة (1)، فرزقكِ مضمون(2)، وكفيلكِ مأمون..

وما أعد لكِ (3) أفضل مما قطع عنكِ..

فاحتسبي (4) الله».فقالت: «حسبي الله»..

وأمسكت(5).

ص: 62


1- البلغة، بالضم: ما يكفي من العيش ولا يفضل.
2- والضامن والكفيل للرزق هو الله تعالى.
3- وما أعد لها: هو ثواب الآخرة.
4- الاحتساب: الاعتداد، ويقال لمن ينوي بعمله وجه الله تعالى: احتسبه. أي اصبري وادخري ثوابه عند الله تعالى. وفي رواية السيد: (فقال لها أمير المؤمنين (علیه السلام): لا ويل لك، بل الويل لمن أحزنك، نهنهي عن وجدك يا بنية الصفوة، وبقية النبوة، فما ونيت عن حظّك، ولا أخطأت مقدرتي، فقد ترى فإن ترزئي حقك فرزقك مضمون، وكفيلك مأمون، وما عند الله خير لك مما قطع عنك، فرفعت يدها الكريمة، وقالت: رضيت وسلّمت. قال في القاموس: رزأه ماله كجعله وعمله، رُزءً بالضم: أصاب منه شيئاً.
5- انتهى ما نقلناه من كتاب (عوالم العلوم ومستدركاتها) نصاً وتعليقاً.

بسم الله الرحمن الرحيم

روى عبد الله بن الحسن بإسناده عن آبائه (علیهم السلام):

اشارة

-------------------------------------------

استحباب الرواية ووجوبها

مسألة: يستحب مطلق الرواية: العقائدية، أو الفقهية، أو الأخلاقية، أو الآدابية، أو التاريخية، أو غيرها. وقد تجب لوجوب حفظ آثار النبوة والإمامة، وإن كانت في المستحبات أو المكروهات أو المباحات في الجملة.

فإن المعصومين (علیهم السلام) كانوا يحرضون أصحابهم على الرواية ونشر العلم والثقافة(1)، كما كانوا يتصدون بنحو واسع لذلك، وهذه الرواية من أهم مصاديقه.

وقد أشرنا إلى قسم من هذا المبحث في المجلد الأول من هذا الكتاب.

رواية هذه الخطبة

مسألة: تستحب رواية هذه الخطبة بصورة خاصة، حيث رواها العديد من المعصومين (عليهم الصلاة والسلام)(2).

ص: 63


1- راجع الكافي: ج1 ص52 باب رواية الكتب والحديث وفضل الكتابة والتمسك بالكتب ح11، وفيه: عن المفضل بن عمر، قال: قال لي أبو عبد الله (علیه السلام): «اكتب وبثّ علمك في إخوانك، فإن مت فأورث كتبك بنيك؛ فإنه يأتي على الناس زمان هرج لا يأنسون فيه إلاّ بكتبهم».
2- فقد رواها العديد من الأئمة المعصومين (علیهم السلام)، راجع دلائل الإمامة: ص30 حديث فدك.

..............................

ومن الممكن أن تكون الرواية لهذه الخطبة - أحياناً - واجبة لما ذكرناه، سابقاً (1) ولدخولها تحت عناوين أخرى عديدة (2) تقتضي الوجوب أو الاستحباب.

وهذه الخطبة متلقاة بالقبول، وقد كان الأئمة الأطهار (علیهم السلام) والأعلام من الأخيار يتعاهدون هذه الخطبة ويتواصون بها ويعلّمونها أولادهم جيلاً بعد جيل(3).فهي مقبولة سنداً لتلقي الأصحاب والعلماء عصراً بعد عصر لها بالقبول، وهو دليل الاعتبار عقلائياً، وشهرتها الروائية كبيرة جداً(4).

ص: 64


1- في المقدمة بإيجاز وفي المجلد الأول بتفصيل.
2- كالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإحقاق الحق، وإبطال الباطل، وشمول أمثال: «وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ...» - سورة التوبة:122 - لها وهكذا.
3- فمثلاً ذكر ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: ج16 ص252 ف2: (فقال لي - أي زيد بن علي بن الحسين (علیه السلام) -: رأيت مشايخ آل أبي طالب يروونه - أي كلام فاطمة (علیها السلام) عند منع أبي بكر إياها فدك - عن آبائهم، ويعلّمونه أولادهم… وقد حدثني به أبي، عن جدي يبلغ به فاطمة (علیها السلام) على هذه الحكاية، وقد رواه مشايخ الشيعة وتدارسوه…)، انتهى.
4- قال العلامة المجلسي (قدس سره) في (بحار الأنوار): اعلم أن هذه الخطبة من الخطب المشهورة التي روتها الخاصة والعامة بأسانيد متظافرة... - بحار الأنوار: ج29 ص215 ب11 فصل نورد فيه خطبة خطبتها سيدة النساء فاطمة الزهراء (علیها السلام) -. وقال العلامة الإربلي: وقد أوردها المؤالف والمخالف … - كشف الغمة: ج1 ص480 فاطمة (علیها السلام)-. ومن الواضح أن عبارته (قدس سره) وعبارة العلامة المجلسي (قدس سره) وعبارة المرتضى(قدس سره) اللاحقة لاتقل إطلاقاً في الحجية العقلائية عن نقل ثقة عن ثقة. ............................. وقد سبق بعض كلام ابن أبي الحديد عن زيد بن علي بن الحسين (علیهم السلام)، كما قد نقل عن السيد المرتضى (قدس سره) قوله: وقد روي هذا الكلام على هذا الوجه من طرق مختلفة ووجوه كثيرة، فمن أرادها أخذها من مواضعها. وقال العلامة شرف الدين (قدس سره): السلف من بني علي وفاطمة (علیهما السلام) يروي خطبتها في ذلك اليوم لمن بعده، ومن بعده رواها لمن بعده حتى انتهت إلينا يداً عن يد، فنحن الفاطميون نرويها عن آبائنا، وآباؤنا يروونها عن آبائهم، وهكذا كان الحال في جميع الأجيال إلى زمن الأئمة (علیهم السلام) من أبناء علي وفاطمة (علیهما السلام)... - النص والاجتهاد، المورد 7 هامش ص 106107-. وقد رواها المسعودي، وابن طيفور في (بلاغات النساء)، وغيرهم في غيرها. وفي (عوالم العلوم ومستدركاته) مجلد فاطمة الزهراء (علیها السلام) ج2 ص698-700: قال المجلسي (رحمة الله): ثم اعلم أن هذه الخطبة من الخطب المشهورة التي روتها الخاصة والعامة بأسانيد متظافرة: قال عبد الحميد ابن أبي الحديد في شرح كتابه (علیه السلام) إلى عثمان بن حنيف عند ذكر الأخبار الواردة في فدك حيث قال: الفصل الأول فيما ورد من الأخبار والسير المنقولة من أفواه أهل الحديث وكتبهم لا من كتب الشيعة ورجالهم، وجميع ما نورده في هذا الفصل من كتاب أبي بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في (السقيفة وفدك)، وأبو بكر الجوهري هذا عالم محدث كثير الأدب، ثقة ورع، أثنى عليه المحدثون، ورووا عنه مصنفاته وغير مصنفاته - ثم قال: - قال أبو بكر: حدثني محمد بن زكريا، عن جعفر بن محمد بن عمارة، عن أبيه، عن الحسن بن صالح، قال: حدثني ابن خالات من بني هاشم، عن زينب بنت علي ابن أبي طالب (علیه السلام)، قال: وقال جعفر بن محمد بن عمارة: حدثني أبي، عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين، عن أبيه (علیه السلام). قال أبو بكر: وحدثني عثمان بن عمران العجيفي، عن نائل بن نجيح، عن عمرو بن شمر، عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر محمد بن علي (علیه السلام). قال أبو بكر: وحدثني أحمد بن محمد بن زيد، عن عبد الله ابن محمد بن سليمان، عن أبيه، عن عبد الله بن الحسن، قالوا جميعاً: .............................. لما بلغ فاطمة (علیها السلام) إجماع أبي بكر على منعها فدكاً لاثت خمارها وأقبلت في لمة من حفدتها ونساء قومها تطأ ذيولها، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله (صلی الله علیه و آله)، حتى دخلت على أبي بكر وقد حشد الناس من المهاجرين والأنصار، فضربت بينهم وبينها ريطة بيضاء، وقال بعضهم: قبطية، وقالوا: قبطية - بالكسر والضم - ثم أنّت أنّة أجهش لها القوم بالبكاء، ثم أمهلت طويلاً حتى سكنوا من فورتهم، ثم قالت: «ابتدأ بحمد من هو أولى بالحمد، والطول والمجد، الحمد لله على ما أنعم، وله الشكر بما ألهم». وذكر خطبة طويلة جداً، قالت في آخرها: «فاتقوا الله حق تقاته وأطيعوه فيما أمركم به» - إلى آخر الخطبة - انتهى كلام ابن أبي الحديد. وقد أورد الخطبة علي بن عيسى الإربلي في كتابه (كشف الغمة)، قال: نقلتها من كتاب (السقيفة) تأليف أحمد بن عبد العزيز الجوهري من نسخة قديمة مقروءة على مؤلفها المذكور قرأت عليه في ربيع الآخر سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة، روى عن رجاله من عدة طرق: أن فاطمة (علیها السلام) لما بلغها إجماع أبي بكر... إلى آخر الخطبة. وقد أشار إليها المسعودي في (مروج الذهب). وقال السيد المرتضى (رحمة الله) في (الشافي): أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عمران المرزباني، عن محمد ابن محمد الكاتب، عن أحمد بن عبيد الله النحوي، عن الزيادي، عن شرفي بن قطامي، عن محمد بن إسحاق، عن صالح بن كيسان، عن عروة، عن عائشة. قال المرزباني: وحدثني أحمد بن محمد المكي، عن محمد بن القاسم اليماني، عمن قال: حدثنا ابن عائشة، قالوا: لما قُبض رسول الله (صلی الله علیه و آله) أقبلت فاطمة (علیها السلام) في لمة من حفدتها إلى أبي بكر... وفي الرواية الأولى قالت عائشة: لما سمعت فاطمة (علیها السلام) إجماع أبي بكر على منعها فدكاً لاثت خمارها على رأسها، واشتملت بجلبابها، وأقبلت في لمة من حفدتها ... ثم اتفقت الروايتان من ها هنا: ونساء قومها، وساق الحديث نحو ما مر إلى قوله: افتتحت كلامها بالحمد لله عزوجل والثناء عليه، والصلاة على رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ثم قالت: «لقد جاءكم رسول من أنفسكم»، إلى آخرها. قال: وسيأتي أسانيد أخرى سنوردها من كتاب أحمد بن أبي طاهر. وروى الصدوق (رحمة الله) بعض فقراتها المتعلقة بالعلل في الشرائع: عن ابن المتوكل، عن السعد آبادي، عن البرقي، عن إسماعيل بن مهران، عن أحمد بن محمد بن جابر، عن زينب بنت علي (علیها السلام) ... قال: وأخبرنا علي بن حاتم، عن محمد بن أسلم، عن عبد الجليل البقاطاني، عن الحسن بن موسى الخشاب، عن عبد الله بن محمد المعاوي، عن رجال من أهل بيته، عن زينب بنت علي (علیه السلام)، عن فاطمة (علیها السلام) (بمثله)... وأخبرني علي بن حاتم، عن ابن أبي عمير، عن محمد بن عمارة، عن محمد بن إبراهيم المصري، عن هارون بن يحيى، عن عبيد الله بن موسى العبسي، عن حفص الأحمر، عن زيد بن علي، عن عمته زينب بنت علي، عن فاطمة (علیها السلام) .. وزاد بعضهم على بعض في اللفظ. قال: قد أوردت ما رواه في المجلد الثالث، وإنما أوردت الأسانيد هنا ليعلم أنه روى هذه الخطبة بأسانيد جمة. روى الشيخ المفيد (رحمة الله) الأبيات المذكورة فيها بالسند المذكور في أوائل الباب. وروى السيد ابن طاووس (رحمة الله) في كتاب (الطرائف) موضع الشكوى والاحتجاج من هذه الخطبة عن الشيخ أسعد بن شفروة في كتاب (الفائق)، عن الشيخ المعظم عندهم الحافظ الثقة بينهم أحمد بن موسى بن مردويه الأصفهاني في كتاب (المناقب)، قال: أخبرنا إسحاق بن عبد الله بن إبراهيم، عن شرفي بن قطامي، عن صالح بن كيسان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة. ورواها الشيخ أحمد بن أبي طالب الطبرسي في كتاب (الاحتجاج): مرسلاً. كما ذكرنا عنه وذكر بعض فقراتها في (مكارم الأخلاق)، انتهى.

ص: 65

ص: 66

..............................

إضافةً إلى القرائن المقالية والمقامية الكثيرة الشاهدة لها: كنقل المخالفين لها مع توفر الدواعي على عدم النقل، وكقوّة المضمون في الكثير من مقاطعها، بل في كلها، وكتطابق مضمونها مع الأصول والقواعد(1).

ص: 67


1- قدسبق في المجلد الأول الحديث عن الجهة السندية للكثير من كلماتها (عليها الصلاة والسلام) فليراجع. ومن الواضح أن مجموع ما سبق يوجب اعتباراً عقلائياً أقوى بكثير من الوثاقة الحاصلة من (خبر الواحد).

..............................

رواية النساء

مسألة: يستحب الرواية للنساء، كما يستحب الرواية للرجال، للإطلاقات، ولأن هذه الخطبة روتها - في جملة رواتها - السيدة زينب (صلوات الله عليها) وقد نقلها عنها المعصوم (علیه السلام) (1).. إضافةإلى كون أقوالها(2) وأفعالها (علیها السلام) حجةً على ما بيناه في الجملة(3).

وهذا المورد من باب المصداق، وإن كانت له مزية، إلاّ أنها غير حاصرة؛ لكونه صغرى لكبرى كلية، وقد سبق البحث عن ذلك في الفصل الأول من الكتاب(4).

تحمل المميز

مسألة: يستفاد من هذه الرواية أيضاً: صحة تحمل المميز للرواية(5)، وجواز الاعتماد عليه إذا رواها بعد البلوغ؛ لأن السيدة زينب (عليها الصلاة

ص: 68


1- وقد روى هذه الخطبة أيضاً الإمام الحسن والإمام الحسين والإمام الباقر والإمام الصادق وغيرهم (علیهم السلام)، وكذلك روتها عائشة أيضاً - شرح نهج البلاغة: ج16 ص249 ف2، والعوالم: ج11 ص478 -.
2- أي السيدة زينب (علیها السلام).
3- راجع كتاب (السيدة زينب(علیها السلام) عالمة غير معلمة) للإمام الشيرازي (رحمة الله).
4- المجلد الأول من كتاب (من فقه الزهراء (علیها السلام)).
5- (وقت التحمل) - حسب اصطلاح علماء الدراية -: هو وقت سماع الإنسان للرواية أو مشاهدته للحدث، و(وقت الرواية): هو وقت نقله لما سمعه أو رآه سابقاً.

..............................

والسلام) كان عمرها - حين الخطبة - دون البلوغ، إذ أن بعض أسناد الخطبة ينتهي إليها (صلوات الله عليها) (1)، وإن كان لا يُقاس بهم (علیهم السلام) أحد.. فإنهم (علیهم السلام) قد زُقّوا العلم زقّاً(2)، وقال الإمام السجاد (علیه السلام) لها (علیها السلام): «وأنت - بحمد الله - عالمة غير مُعلّ-َمة، وفهِمة غير مُفهّمة»(3)، لكنهم (علیهم السلام) أسوة، وذلك هو الأصل.

فكونهم (علیهم السلام) لا يُقاس بهم أحد، يُراد به جانب الفضائل، لا في جانب الاشتراك في التكاليف والأحكام - بنحو الأصل - فتأمل.

ومنه يعلم حجية قول البالغ إذا حكى عما قبل البلوغ، أما لو روى وهو مميز فلا يبعد القول بالحجية أيضاً (4) لبناء العقلاء على ذلك، وللسيرة، ولغير ذلك.

أما في أمثال عكسه فلا، كما إذا سمع أو رأى في حال العقل ثم جُنّ أو ماأشبه ذلك.

ص: 69


1- راجع عوالم العلوم ومستدركاتها، مجلد فاطمة الزهراء (علیها السلام): ج2 ص700.
2- بحار الأنوار: ج45 ص138 ب39 ضمن ح1.
3- بحار الأنوار: ج45 ص164 ب39 ح7.
4- في الجملة.

أنه لما أجمع أبو بكر وعمر على منع فاطمة (علیها السلام) فدكاً

اشارة

أنه لما أجمع أبو بكر وعمر على منع فاطمة (علیها السلام) فدكاً (1)

-------------------------------------------

الدفاع عن الولاية

مسألة: يستحب، بل يجب - حسب اختلاف الموارد - الاهتمام بما يرتبط بولاية أمير المؤمنين (علیه السلام) والأئمة المعصومين (علیهم السلام)، والذبّ عن حريمهم، فقد ورد أنه: «بُني الإسلام على خمس دعائم: على الصلاة والزكاة والصوم والحج وولاية أمير المؤمنين والأئمة من ولده (علیهم السلام)»(2).

ولذلك قامت السيدة الزهراء (صلوات الله عليها) بتلك الأعمال الجليلة، واتخذت تلك المواقف العسيرة والمصيرية في الدفاع عن الإمام (علیه السلام) حتى استشهدت في سبيل ذلك.

وهذا الأمر مما يلاحظ في مراتبه الأهم والمهم، فإن كان الأمر أهم جاز حتى الاستشهاد، وقد يجب أحياناً، كما لو توقف عليه حفظ بيضة الإسلام، وكمافي التصدي للبدع وما أشبه ذلك(3).

وإن كان بقاء الإنسان أهم بما هو هو، أو من حيث الآثار الأخرى التي ستترتب على وجوده لم يجز إلى هذا الحد.

وكذلك حال ما دون الاستشهاد كالجرح والضرب وما أشبه حسب ما تقتضيه القواعد العامة، وعلى ما يقتضيه باب التزاحم(4).

ص: 70


1- لفظ (فدك) مما يجوز فيه الصرف وعدم الصرف. فربما أخذ التنوين والكسر، وربما لم يقبلهما.
2- وسائل الشيعة: ج1 ص25 ب1 ح29.
3- راجع موسوعة الفقه: ج47-48 كتاب الجهاد.
4- راجع موسوعة الفقه: ج48 كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

..............................

وتشخيص ذلك عائد إلى الفقيه، أو مرجع التقليد، أو شورى المراجع، أو إلى الفرد نفسه أحياناً، حسب اختلاف الموارد(1) على ما فصلناه في بعض الكتب(2).

الجهر بالحق

مسألة: يلزم بيان أن فدك كانت ملكاً للزهراء (صلوات الله عليها)، كما يجب الاعتقاد بذلك، على ما يستفاد من مطاوي الخطبة، ومن شدة اهتمام الزهراء (علیها السلام) بذلك، ولغير ذلك من الأدلة الكثيرة المذكورة في محالها، حيث أعطاها الرسول (صلی الله علیه و آله) في حياته بأمر من الله سبحانه كما ورد في متواتر الروايات(3)، وفي تفسير قوله تبارك وتعالى: «وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ»(4).

فقد روي عن الإمام الصادق (علیه السلام): «لما نزلت هذه الآية «وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ»(5) أعطى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فاطمة (علیها السلام) فدك». فقال أبان بن تغلب: رسول الله أعطاها؟. فغضب جعفر (علیه السلام) ثمقال: «الله أعطاها»(6).

ص: 71


1- مثلاً كونه موضوعاً صرفاً دون مضاعفات خارجية، أو مستنبطاً، أو في الشؤون العامة، وهكذا.
2- وقد تطرق الإمام المؤلف (قدس سره) لجوانب من هذا البحث في كتابه (الشورى في الإسلام)، وإلى جوانب منه في (الفقه: السياسة)، و(الفقه: الدولة الإسلامية)، وكتاب (البيع)، وغيرها.
3- راجع الكافي: ج1 ص543 باب الفيء والأنفال وتفسير الخمس وحدوده وما يجب فيه ح5، وراجع كتاب (ولأول مرة في تاريخ العالم): ج2 ص39-40 حوائط فدك.
4- سورة الإسراء: 26. وفي سورة الروم الآية 38: «فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ».
5- سورة الإسراء: 26.
6- تفسير فرات الكوفي: ص239 ومن سورة بني إسرائيل الإسراء ح322.

..............................

وعن أبى سعيد الخدري قال: (لما نزلت «وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ»(1) - قال - دعا رسول الله (صلی الله علیه و آله) فاطمة (علیها السلام) فأعطاها فدك)(2).

الاجتماع على الباطل

مسألة: يحرم الاجتماع على الباطل بصورة عامة، ويحرم - من باب المقدمية - كل ما يعد لذلك، ويحرم حتى تكثير السواد لجبهة الباطل(3).

إيذاء أهل البيت (علیهم السلام)

مسألة: يحرم إيذاء أهل البيت (علیهم السلام) ومنعهم من حقوقهم، ويحرم التمهيد لذلك، ومن الواضح أن درجة الحرمة تختلف شدةً وضعفاً باختلاف المتعلق، فإيذاء حجة الله على الأرض أشدحرمة وعقوبة من إيذاء غيره دون إشكال، ولذلك ورد عنه (صلی الله علیه و آله): «فاطمة بضعة مني وأنا منها، فمن آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله»(4).

وقال (صلی الله علیه و آله): «اللهم إن هؤلاء أهل بيتي وخاصتي وحامتي، لحمهم لحمي ودمهم دمي، يؤلمني ما يؤلمهم ويحزنني ما يحزنهم... »(5).

وقال تعالى: «الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ

ص: 72


1- سورة الإسراء: 26.
2- نهج الحق: ص358 مناوأة فاطمة (علیها السلام) وغصب فدك.
3- راجع (الفقه: المكاسب المحرمة)، و(الفقه: الواجبات والمحرمات).
4- علل الشرائع: ج1 ص186 ب149 ح2.
5- راجع المجلد الأول من كتاب (من فقه الزهراء (علیها السلام)).

..............................

وَأَعَدَّ لهمْ عَذَاباً مُهِيناً»(1).

حرمة الغصب ومصادرة الأموال

حرمة الغصب ومصادرة الأموال(2)

مسألة: يحرم الغصب ومصادرة الأموال والأراضي والعقارات والمزارع وغيرها،قال تعالى: «وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ»(3).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من أخذ أرضاً بغير حق، كُلّف أن يحمل ترابها إلى المحشر»(4).

وقال (صلی الله علیه و آله): «من خان جاره شبراً من الأرض، جعله الله في عنقه من تخوم الأرضين السابعة حتى يلقى الله يوم القيامة مطوّقاً، إلاّ أن يتوب ويرجع»(5).

ولا فرق في الغاصب بين الدولة والأفراد، سواء كانت لهم هيئة اجتماعية بأن كانوا بصورة تجمع، كالحزب والمنظمة والهيئة والجماعة، أم لا، ككل فرد فرد.

ومن غير فرق بين أن يكون الغاصب أو المغصوب منه رجلاً أو امرأة، كبيراً أو صغيراً.

وإن كانت الحرمة في الدولة والجماعة أشد؛ لتآزرهم وتعاونهم على

ص: 73


1- سورة الأحزاب: 57.
2- حول هذا المبحث راجع: (الفقه: الغصب)، و(الفقه: الاقتصاد)، و(الفقه: الحقوق)، و(الفقه: الدولة الإسلامية) للإمام المؤلف (قدس سره).
3- سورة البقرة: 188.
4- تهذيب الأحكام: ج6 ص294 ب92 ح26.
5- الأمالي للصدوق: ص427 المجلس66 ح1.

..............................

الباطل، قال تعالى: «وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ»(1)، ولعدم القدرة على استردادها - عادةً - إلاّ بصعوبة، حيث إن التجمع يوجب قوة في جانب الغاصب؛ ولأن الدولة والجماعة يُقتدى بها بما لا يُقتدى بالفرد، فهي - عادة - من أظهر مصاديق «من سنّ سنّة سيئة... »(2). وكذلك حال اغتصاب الحق.

الاهتمام بقضية فدك

مسألة: يستحب وقد يجب - كلٌ في مورده - الاهتمام بقضية فدك؛ لإرجاعها إلى أيدي أصحابها وإعمارها ومزيد الاهتمام بها، فإنها معلم من معالم الدين وشعيرة من الشعائر، قال تعالى: «وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ»(3).

ولما يترتب عليه من الآثار والنتائج العظيمة المادية والمعنوية، ومن المعلوم أن الفوائد المعنوية منها أهم من الفوائد المادية، كما احتج أمير المؤمنين (علیه السلام) لإثبات أن فدك ملك الزهراء (علیهاالسلام)(4)، وكما طالب الإمام الكاظم (علیه السلام) بفدك(5). هذا ويستفاد من بعض الروايات أن الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها الصلاة والسلام) تشكو لأبيها (صلی الله علیه و آله) في يوم القيامة أمر فدك(6).

ص: 74


1- سورة المائدة: 2.
2- الفصول المختارة: ص136.
3- سورة الحج: 32.
4- راجع وسائل الشيعة: ج27 ص293 ب25 ح33781.
5- راجع الكافي: ج1 ص543 باب الفي ء والأنفال وتفسير الخمس وحدوده وما يجب فيه ح5.
6- راجع عوالم العلوم ومستدركاتها، مجلد فاطمة الزهراء (علیها السلام): ج2 ص749.

بلغها ذلك

اشارة

-------------------------------------------

المطالبة بالحق وفضح الطغاة

المطالبة بالحق وفضح الطغاة (1)

مسألتان:

1: من الضروري فضح سياسة السلطات الجائرة ورجالاتها، وتربية الناس على ذلك، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر»(2).

2: يجوز - بالمعنى الأعم - المطالبة بالحق، فيشمل المستحب والواجب أيضاً كل في مورده ولو كان الحق مادياً ودنيوياً.

ولا يخفى أن فاطمة الزهراء (صلوات الله عليها) كانت تهدف من موقفها وخطبتها - بالدرجة الأولى - هدفين هما أهم منالجانب المادي:

أحدهما: كشف القناع عن الحقيقة، وإثبات أن الحق في أمر الخلافة مع علي (عليه الصلاة والسلام) عبر الاستدلال والمطالبة بحقه (علیه السلام).

ثانيهما: نتائج معنوية وتاريخية عبر فضح الغاصبين إلى يوم القيامة، ورسم المقياس لمعرفة الحق عن الباطل، وتربية الأمة على التصدي للجور، وعدم السكوت عن الحق، والتضحية بكل غال ونفيس في سبيل ذلك.

ص: 75


1- حول جوانب هذا المبحث والبحوث اللاحقة راجع كتاب: (ممارسة التغيير لإنهاض المسلمين) و(الصياغة الجديدة لعالم الإيمان والحرية والرفاه والسلام) و(السبيل إلى إنهاض المسلمين) و(الفقه: طريق النجاة)و(الفقه: الاجتماع) و(الفقه: الواجبات والمحرمات) للإمام المؤلف (قدس سره).
2- غوالي اللآلي: ج1 ص432 المسلك الثالث ح131.

..............................

وقد حققت (علیها السلام) كلا الهدفين، بالإضافة إلى تحقق الجانب المادي بعد حين، كما يدل على ذلك ردّ جماعة من الحكام فدك وإن اغتصبها جماعة آخرون(1).

وقد كشفت (علیها السلام) القناع عن وجه الحقيقة، وأثبتت أن الحق لعلي أمير المؤمنين (علیه السلام)، وفضحت الغاصبين، ورسمت ميزان الحقيقة للأجيال، وأعطت خير نموذج للتصدي للجور والظلم.

وإضافة إلى ذلك، فقد كان لدفاعها(علیها السلام) عن حق الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) أثر في عمق التاريخ، حيث إن جماعة من ذرية علي (عليه الصلاة والسلام) وشيعته وصلوا إلى الحكم طول التاريخ الإسلامي، وإلى يومنا هذا، في قضايا مفصلة مذكورة في التواريخ(2).

الانتصار للحق

مسألة: يستحب نصرة الحق والانتصار له إذا أمكن.

وإنما يستحب الانتصار له إذا كان الأمر مستحباً، وإلاّ وجب، وفي الدعاء: «ووفّقنا ل... نصرة الحق وإعزازه»(3)، وقال علي (علیه السلام): «لو لم تتخاذلوا عن نصرة الحق لم تهنوا عن توهين الباطل»(4).

ص: 76


1- راجع المناقب: ج4 ص207 فصل في معالي أموره (علیه السلام)، بحار الأنوار:ج22 ص295 ب7 ح1.
2- راجع: (جهاد الشيعة)، (العراق بين الماضي والحاضر والمستقبل)، (الدول الشيعية في التاريخ) وغيرها.
3- الصحيفة السجادية: الدعاء رقم6 وكان من دعائه (علیه السلام) عند الصباح والمساء.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: ص70 ق1 ب1 ف14 في نصرة الحق ح983.

..............................

والظاهر أن فاطمة الزهراء (عليهاالصلاة والسلام) كان عليها جانب الوجوب؛ لأن نصرة علي أمير المؤمنين (علیه السلام) خاصة في المواطن الخطيرة من الواجبات المؤكدة، وقد قال الرسول (صلی الله علیه و آله): «وانصر من نصره واخذل من خذله»(1).

هذا بالإضافة إلى أن استرجاع فدك وفضح الذين غصبوها كان من أهم الواجبات، وكانت هي (علیها السلام) - لمكانتها من رسول الله (صلی الله علیه و آله) وبين المسلمين - أقدر من غيرها على ذلك.

مطالبة المرأة بحقها

مسألة: يجوز للمرأة المطالبة بحقها، جوازاً بالمعنى الأعم، الشامل للوجوب والاستحباب والإباحة، ولا فرق بين الرجل والمرأة في هذا الباب.

قال علي (علیه السلام): «طلب التعاون على إقامة الحق ديانة وأمانة»(2).

وفي الحديث: «ثلاث لا يستحيىمنهن... وطلب الحق وإن قلّ»(3).

وقال (علیه السلام): «أخسر الناس من قدر على أن يقول الحق ولم يقل»(4).

ولها أن تحضر مجلس القضاء وترفع الشكوى، إلى غير ذلك مما هو مذكور في أبواب الفقه، وإن لم ينفع ذلك فلها أن ترفع ظلامتها على رؤوس الأشهاد، كما قامت السيدة الزهراء (صلوات الله عليها) بذلك.

ص: 77


1- الإرشاد: ج1 ص176.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: ص69 ق1 ب1 ف14 في نصرة الحق ح977.
3- مستدرك الوسائل: ج16 ص260 ب34 ضمن ح19800.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: ص70 ق1 ب1 ف14 قولوا بالحق ولا تمسكوا عن إظهاره ح985.

..............................

التصدي للطغاة مطلقاً

مسألة: يستحب - وقد يجب - المطالبة بالحق وإن كان يعلم بعدم نجاحه في التوصل للحق وإحقاقه، وذلك لما فيه من فضح الظالم وأداء الواجب وإتمام الحجة، كما طالبت (صلوات الله عليها) بحقها وهي تعلم بأن القوم لا يعطونها حقها.

إضافة إلى أن إزعاج الظالم ومضايقته بالمطالبة بالحق والإلحاح عليه ولو ممن يعلم أنه لا يعطيه حقه -وما أكثرهم - سوف يردعه عن كثير من ظلمه؛ فإن الظالم لو رأى أنه غصب حق زيد ثم عمرو ثم بكر و... ولم يقم أحد بشيء تجرأ على الغصب أكثر فأكثر، أما لو ضايقه بالمطالبة زيدٌ وعمروٌ وبكر... فإنه سوف لا يقدم - عادة - على مراتب جديدة من الظلم، أو سيكون إقدامه أضعف كيفياً وأقل كمياً مما لو ترك على هواه.

فورية المطالبة بالحق

مسألة: يستحب المطالبة بالحق فوراً - وقد يجب - كما يستفاد ذلك من (وبلغها) و(لاثت خمارها)، وإنما يلزم التعجيل؛ لأن ترك الظالم وظلمه بحاله لحظة واحدة حرام، فإذا تمكن الإنسان من مطالبة الحق والانتصار له وجب فوراً ففوراً، فإن خير البر عاجله، قال تعالى: «وَسَارِعُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ»(1).

ص: 78


1- سورة آل عمران: 133.

لاثت

اشارة

-------------------------------------------

وجوب الستر على المرأة

وجوب الستر على المرأة(1)

مسألة: يجب على المرأة أن تستر رأسها وجسمها، ولذلك (لاثت)(2) (علیها السلام) خمارها(3)واشتملت بجلبابها؛ فإن أعمالها ومواقفها (صلوات الله عليها) كلها معلولة لأوامر الله سبحانه ونواهيه - بالمعنى الأعم - كما ثبت ذلك بقائم البرهان.

والفعل - في أشباه المقام - دليل الرجحان، وخصوص المنع من النقيض يستفاد من القرائن والأدلة العامة.

حرمة إظهار الزينة

مسألة: يحرم على المرأة أن تظهر زينتها للأجانب من الرجال، وإنما أفردنا هذه المسألة باعتبار إمكان الحجاب وإظهار الزينة(4) لعدم التلازم بين الأمرين،

ص: 79


1- حول هذا المبحث والبحوث اللاحقة عن الحجاب والمرأة راجع: (الفقه: النكاح)، و(الفقه: الصلاة ج18 ص63)، و(الحجاب الدرع الواقي) للإمام المؤلف (قدس سره).
2- اللوث: الطي، ولاث الشيء لوثاً: أداره مرتين، كما تدار العمامة والإزار - لسان العرب: ج2 ص185 مادة لوث -.
3- الخمار: ما تغطي به المرأة رأسها - لسان العرب: ج4 ص257 مادة خمر -. «وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ» - سورة النور: 31 - أي مقانعهن، جمع خمار وهي المقنعة - مجمع البحرين: ج3 ص292 مادة خمر -.
4- كما لو كانت ملابسها - التي بها تتحجب - جذابة زاهية، وكما لو زوقت وجهها بالاكتحال وغيره من المكياج - بناء على عدم وجوب ستر الوجه - فهي حينئذ محجبة قد أظهرت الزينة.

..............................

وقد قال سبحانه: «وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ»(1).

والمراد ب: «وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ»(2) إما مواضع الزينة كالمعصم والساق وغيرها، أو الزينة وهي على تلك المواضع، والمآل واحد، وربما يُعمّم للملابس الزاهية التي تعدّ زينة عرفاً وشبهها(3).والظاهر أن المنصرف من الزينة في قوله سبحانه: «وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ»(4) غير الشعر، فإن الشعر وإن كان زينة ويحرم إظهاره على المرأة، لكن المنصرف من الآية المباركة الزينة المتعارفة كالذهب ونحوه، فتأمل.

نعم، لا بأس بالقول بأن ملاك الآية المباركة موجود في الشعر أيضاً، ومن الواضح أن لوث الخمار يوجب التحفظ الأكثر.

ص: 80


1- سورة النور: 31.
2- سورة النور: 31.
3- وفي تفسير (تقريب القرآن إلى الأذهان) للإمام المؤلف (قدس سره): ج18 ص96: «وَلاَ يُبْدِينَ» أي لا يظهرن عن عمد «زِينَتَهُنَّ» المراد أما مواضع الزينة كالمعصم والأذن والرقبة والرجل، أو الزينة نفسها، وإذا صار اللفظ محتملاً وجب الاجتناب عن الأمرين تحصيلاً للبراءة عما علم إجمالاً تحريمه «إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا» أي من الزينة، والذي أراه ظاهراً من الآية أنه استثناء من الإبداء، يعني أن ما ظهر بغير اختيارهن ليس عليه بأس كما إذا هبت الريح فرفع العباءة وأبدت الزينة.
4- سورة النور: 31.

خمارها على رأسها واشتملت بجلبابها،

اشارة

-------------------------------------------

استحباب التخمر للمرأة

مسألة: ينبغي التخمّر وشبهه للمرأة(1) إذا أرادت الخروج من المنزل وإن لبست عباءتها، تأسياً(2)، ولأنه أستر كما لا يخفى، وربما هبت الريح فانكشف الستر، بينما الخمار يكون أوثق في الستر وعدم الكشف.

قال سبحانه: «وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ»(3).

وهذه الآية المباركة وإن لم تدل على مثل هذا الاستحباب(4) لكنها تدل على تعارف الخمار للنساء في زمن رسول الله (صلی الله علیه و آله) بل وقبله أيضاً، وعن أبي جعفر (علیه السلام): «استقبلشاب من الأنصار امرأة بالمدينة وكان النساء يتقنعن خلف آذانهن... »(5).

ص: 81


1- إضافة إلى أصل الحجاب الواجب، بل قد ورد استحباب التخمر بالنسبة إلى المرأة الميتة عند تكفينها، ففي دعائم الإسلام: ج1 ص232 ذكر الحنوط والكفن، عن جعفر بن محمد (علیه السلام)، أنه قال: «... وتخمر المرأة بخمار على رأسها».
2- أي بالصديقة الطاهرة (علیها السلام).
3- سورة النور: 31.
4- لأن المصب ستر الجيب.
5- وسائل الشيعة: ج20 ص192 ب104 ح25398. وفي تفسير (تقريب القرآن إلى الأذهان): ج18 ص96، عنه (علیه السلام): «استقبل شاب من الأنصار امرأة بالمدينة، وكانت النساء يتقنعن خلف آذانهن، فنظر إليها وهي مقبلة، فلما جازت نظر إليها ودخل في زقاق قد سماه لبني فلان، فجعل ينظر خلفها واعترض فشق وجهه عظم في الحائط أو زجاجة، فشق وجهه، فلما مضت المرأة نظر فإذا الدماء تسيل على ثوبه وصدره، فقال: والله لآتين رسول الله (صلی الله علیه و آله) ولأخبرنه - قال - فأتاه، فلما رآه رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال له: ما هذا؟. فأخبره، فهبط جبرائيل بهذه الآية: «وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ» ».

..............................

شد الخمار على الرأس

مسألة: يرجّح شدّ المرأة الخمار على رأسها دون إطلاقه مسترسلاً، استظهاراً من كلمة: (لاثت) وذلك فيما لو كانت الثياب - مثلاً - ساترة للصدر والعنق..

وهو من مصاديق الإتقان، قال (علیه السلام): «رحم الله امرأً عمل عملاً فأتقنه»(1) وغيره.ويجب فيما إذا كان إطلاقه مسترسلاً سبباً لكشف العنق أو جانباً من الصدر، قال تعالى: «وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ»(2).

امتلاك الخمار

مسألة: ينبغي أن يكون للمرأة خمار أو شبهه في منزلها، وهذا ما قد يستظهر من الضمير في (خمارها) بضميمة أدلة التأسي، إضافة إلى أنه أدعى للتقيد بالستر.

ص: 82


1- راجع الكافي: ج3 ص263 باب النوادر ح45، وفيه: «إذا عمل أحدكم عملاً فليتقن».
2- سورة النور: 31.

..............................

التخمر في المنزل

مسألة: ينبغي لبس الخمار في المنزل ثم الخروج منه فإنه أكثر ستراً للرأس، وإن أمكن لها أن تلوث خمارها في خارج المنزل في مكان لا رجال فيه أو بحيث لا يرونها.

والظاهر أنه لا فرق بين أن تلوث المرأة خمارها بنفسها، أو أن يفعل ذلك بعض محارمها أو بعض نسائها.

لكن استحباب أن يقوم الإنسان بنفسه بكافة أعماله دون إرجاعها للغير في صورة الإمكان، حسب المستفاد من الروايات(1) يفيد الأول.

ص: 83


1- مثلاً: قوله (صلی الله علیه و آله): «ملعون من ألقى كله على الناس» - الكافي: ج5 ص72 باب الاستعانة بالدنيا على الآخرة ح7 -. والروايات التي تفيد أن من أسباب الدخول للجنة عدم الاتكال في الحاجات على الناس، وهناك روايات عديدة تدل على أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان يقوم بأعماله بنفسه، وكذلك الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) وفاطمة الزهراء (علیها السلام) كخصف النعل وقمّ البيت والكنس وحلب العنز وغير ذلك. ففي الحديث: «إنه (صلی الله علیه و آله) كان يعلف الناضج، ويعقل البعير، ويقمّ البيت، ويحلب الشاة، ويخصف النعل، ويرقّع الثوب، ويأكل مع خادمه، ويطحن عنه إذا أعيى، ويشتري من السوق، ولا يمنعه الحياء أن يعلّقه بيده، أو يجعله في طرف ثوبه فينقلب إلى أهله... » - المناقب: ج1 ص145-146 فصل في آدابه ومزاحه (صلی الله علیه و آله) -. كما ورد عنه (صلی الله علیه و آله): «خمس لا أدعهن حتى الممات: ...وحلب العنز بيدي ... » - الخصال: ج1 ص271 قول النبي (صلی الله علیه و آله) خمس لا أدعهن حتى الممات ح12 -.

..............................

لوث الخمار تحت الجلباب

مسألة: ربما يستفاد من التعبير عن فعلها (علیها السلام) ب «لاثت خمارها واشتملت بجلبابها»، أفضلية لوث الخمار تحت الجلباب كما هو المتعارف، لا فوقه وإن أمكن؛ إذ ذلك هو الأوثق في الستر.

وذلك نظراً لتعقب (لاثت) ب (اشتملت) والواو يدل على الترتيب في كثير من المواضع، وقد ذكر الفقيه الهمداني (قدس سره)(1) في قولهسبحانه وتعالى:

«فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ»(2): إن (الواو) دال عرفاً على الترتيب، وهذا غير بعيد، وإن قال الأدباء: بأن الواو

ص: 84


1- الشيخ آقا رضا بن الشيخ محمد الهادي الهمداني النجفي، ولد في همدان سنة 1250ه وقرأ مقدماته فيها ثم هاجر إلى النجف الأشرف وهو شاب وأقام فيها حتى نال مرتبة عالية من العلم وأصبح من المدرسين في عصره. درس أول أمره على الشيخ الأعظم الأنصاري(رحمة الله) في النجف، وعلى الميرزا المجدد السيد محمد حسن الشيرازي (رحمة الله) في النجف وسامراء وكان من خيرة تلاميذه. ترك كتباً عدة أهمها: كتاب (مصباح الفقيه) وهو شرح لكتاب شرائع الإسلام في عدة أجزاء، حاشية على رسائل الشيخ الأنصاري (رحمة الله)، حاشية على المكاسب لم تتم، رسالة في اللباس المشكوك، حاشية على (الرياض) غير كاملة، كتاب البيع مما حضره على الميرزا الشيرازي (رحمة الله)، كتابة دروسه على الميرزا أيضاً، أجوبة مسائل مختلفة، الرسالة العملية. مرض (رحمة الله) آخر أيامه بمرض الصدر وأقام في سامراء لطيب هوائها، ثم توفي فيها يوم الأحد 28 صفر سنة 1322ه، ودفن في رواق الإمامين العسكريين (علیهما السلام) وقبره مقابل قبر الطاهرة النقية التقية حكيمة خاتون (علیها السلام).
2- سورة المائدة: 6.

..............................

للجمع مطلقاً، حتى قال ابن مالك(1):

واعطف بواو سابقاً أو لاحقاً *** في الحكم أو مصاحباً موافقاً

فإنه وإن صح ذلك وضعاً إلاّ أن الانصراف(2) يفيد الترتيب.

وربما يقال: بأن استفادة الترتيب في تلك الأماكن نتيجة القرائن المقامية، ولكن لا يبعد أن تكون الواو لو خليت وطبعها أفادته، فتأمل.

تغطية كل الجسد

تغطية كل الجسد(3)

مسألة: يستحب أن يكون الحجاب الظاهري للمرأة مغطياً جميع بدنها، كما قد يدل عليه: (اشتملت) بل و(الجلباب) أيضاً، فلا تكتفي المرأة بالخمار عن تغطية الرأس ثانية بالعباءة ونحوها. والجلباب: هو الثوب الطويل الواسع الساتر لحجم البدن، ومن مصاديقه العباءة المتداولة في الحال الحاضر.

ص: 85


1- أبو عبد الله محمد بن عبد الله المشهور بابن مالك، نحوي ولد في جبّان من بلاد الأندلس عام 599ه. سمع من الشلويني، ثم ورد المشرق حاجاً ثم استوطن الشام، فسمع من السخاوي، وبحلب من ابن يعيش الحلبي، ثم تصدر لإقراء العربية في حلب مدة، فدمشق التي توطنها، كان يستشهد بالقرآن فإن لم يجد فأشعار العرب التي كان في استذكارها نسيج وحده. وضع أرجوزة في النحو في ثلاثة آلاف بيت تقريباً دعاها (الكافية الشافية) ولكن شهرته تقوم على مختصر هذه الأرجوزة المعروفة ب (ألفية ابن مالك) لاشتماله على ألف بيت، وله أيضاً (لامية الأفعال) و(شواهد التوضيح)، تعلم عليه ولده بدر الدين محمد المتوفى عام 686ه، وقام بتصنيف (شرح الألفية) و(شرح لامية الأفعال)، كما أن ابن عقيل أيضاً قام بشرح الألفية وكذلك السيوطي وغيرهم، توفي ابن مالك في دمشق في الثاني عشر من شعبان عام 672ه.
2- أي الانصراف العرفي.
3- راجع كتاب (الحجاب الدرع الواقي) للإمام المؤلف (قدس سره).

..............................

ويستظهر من الاقتصار على «... واشتملت بجلبابها» أن معنى الجلباب هو ما ذكر من الثوب الواسع المغطي لكل البدن، فلا يظهر من المرأة شيء من جسدها أو من حجمها.

لا ما قاله البعض: من أنه الخمار(1)، أو البعض: من أنه ثوب أوسع من الخمار دون الرداء تغطي به المرأة رأسها وصدرها أو شبه ذلك(2).وقد يكون ذلك واجباً، فإن الثوب الملاصق الضيق بحيث يظهر تقاطيع الجسد محرم، خاصة ما أظهر بعض الأعضاء.

وإنما نقول بحرمته؛ لأنه من المنكر عند المتشرعة، فالارتكاز والذهنية الدينية التي تلقوها خلفاً عن سلف تدل على تلقيهم ذلك من الشارع ومنعه عن مثله(3).

ص: 86


1- ويرد على هذا القول إضافة للاقتصار كونه مستلزماً للتكرار.
2- راجع لمعرفة الأقوال (لسان العرب): ج1 ص272 مادة (جلب)، ومنها: وقيل: هو الملحفة.
3- فتأمل.

وأقبلت

اشارة

-------------------------------------------

خروج المرأة من البيت

مسألة: يجوز - بالمعنى الأعم - خروج المرأة من البيت، سواء كانت متزوجة أم غير متزوجة في الجملة.

نعم، الفرق بين المتزوجة وغير المتزوجة أن المتزوجة تستأذن زوجها في الخروج في غير الواجب منه، وغير المتزوجة تملك نفسها، فإنه (صلی الله علیه و آله): «نهى أن تخرج المرأة من بيتها بغير إذن زوجها»(1).

وخروجها (علیها السلام) حيث (أقبلت) كان من مصاديق الخروج الواجب لكونه مقدمة الواجب كما أشرنا إليه.

ص: 87


1- من لا يحضره الفقيه: ج4 ص6 باب ذكر جمل من مناهي النبي (صلی الله علیه و آله) ح4968.

في لمة

اشارة

-------------------------------------------

خروج المرأة مع غيرها

مسألة: ينبغي أن تخرج المرأة مع غيرها لا بمفردها - في الجملة - فإنه أكثر ستراً وحفظاً وصوناً لها من المخاطر.

وكذلك إذا كان الخروج لأمر خطير، أو كانت هي من الشخصيات الاجتماعية، حيث ورد في الرواية: «في لمة».

وقد يستظهر أنها (عليها الصلاة والسلام) كانت تتوسط جمع النساء لمكان (في).

ثم إن هذا أقرب إلى الوقار المطلوب في مثل هذا المقام؛ لأن الوقار في مثله يملأ عيون الخصوم وأذهانهم بهالة من القوة، ولأن الجماعة توجب الهيبة أو زيادتها، وسرعة قضاء الحاجة وتحقيق الهدف إن أمكن ذلك، وستكون أتم للحجة وأقطع للعذر وأوقع في النفس وأقوى في تسجيل الموقف.

الخروج منفرداً أو مع جماعة

مسألة: ينقسم خروج كبير القوم -كالحاكم والأمير والعالم والقاضي - منفرداً أو مع مجموعة من الناس، إلى الأحكام الخمسة:

1. فقد يجب، إذا توقف إحقاق الحق عليه في كلا الفرضين(1)، وقد

ص: 88


1- إذ قد يتوقف قبول الخصم للحق عل ذهاب القاضي أو العالم إليه منفرداً ونصحه،حيث إن الغرور أو الخوف من الشماتة وشبه ذلك كثيراً ما يدفع المرء لرفض الحق فيما إذا جوبه به أمام الناس، وقد يتوقف إحقاق الحق على ذهابه مع جمع فيما لو كان ممن لا تنفع معه إلا الرهبة والهيبة والضغط الاجتماعي مثلاً.

..............................

خرجت (علیها السلام) في «لمة من حفدتها ونساء قومها» إذ كان ذلك أدعى للهيبة وأقوى في التأثير.

2. وقد يستحب، إذا لم يكن الرجحان بحيث يمنع من النقيض، وبذلك وشبهه يعلّل خروج الرسول (صلی الله علیه و آله) والإمام علي (علیه السلام) وسائر المعصومين (علیهم السلام) أحياناً منفردين، وأحياناً مع جمع من الأصحاب أو الناس.

3. وقد يكره، إذا كان الخروج مع جمع سبباً لإثارة الكبر والعجب والخيلاءفي النفس بما لا يصل إلى حد الحرام، أو إذا كان الخروج منفرداً سبباً لاستصغار شأن العالم الديني مثلاً في بعض المناطق كذلك.

4. وقد يحرم، كما في عكس الصورة الأولى، وكما في خروج الحكام والطغاة مع جمع مما يسبب إرهاب الناس وأرباب الحوائج وذوي الحقوق فلا يعود بمقدورهم المطالبة والأخذ بحقهم.

5. والمباح: ما عدا ذلك.

ص: 89

من حفدتها ونساء قومها،

اشارة

-------------------------------------------

الخروج مع المعارف

مسألة: ينبغي أن يخرج الإنسان بصورة عامة - والمرأة بصورة خاصة - في أسفاره وكذلك في مهامه الخطيرة وشبه ذلك مع من يعرفه دون من لا يعرفه، كما يستفاد من خروجها (علیها السلام) مع «حفدتها ونساء قومها».

والفعل وإن لم يكن له جهة إلاّ أن دلالته على جامع الرجحان في أمثال المقام غير بعيد، أسوةً وملاكاً ولما سبق.

إضافة إلى إطلاقات الروايات الشريفة التي تفيد ذلك، مثل قوله (صلی الله علیه و آله): «الرفيق ثم الطريق»(1).

وما يقاربه، كقوله (صلی الله علیه و آله):

«ألا أنبئكم بشر الناس؟.

قالوا: بلى يا رسول الله.قال: من سافر وحده... »(2) الحديث.

ص: 90


1- مستدرك الوسائل: ج8 ص209 ب24 ح9272.
2- وسائل الشيعة: ج11 ص409-410 ب30 ح15126.

تطأ ذيولها،

اشارة

-------------------------------------------

الحجاب والساتر

مسألة: يحرم أن تخرج المرأة مكشوفة الساقين، ويكره أو يحرم أن تكون مكشوفة القدمين، وقد خرجت (صلوات الله وسلامه عليها) وهي «تطأ ذيولها» وهذه كناية عن أن الستر كان طويلاً جداً، وهو المطابق للاحتياط.

عباءة المرأة

مسألة: يستحب أن تكون عباءة المرأة بحيث تجر على الأرض فإنه أستر لها، وهذا مما يستثنى مما ورد في كون الثوب قصيراً ليكون أنقى وأبقى، حيث يستحب ذلك في الرجل حيث قال (علیه السلام) عندما رأى رجلاً يجر ثوبه: «يا هذا، قصّر منه فإنه أتقى وأبقى وأنقى»(1).

الستر الفضفاض

مسألة: يستحب أن يكون الستر فضفاضاً؛ لأنه أبعد عن الإثارة وأدعى للستر.

شدة التستر

مسألة: يستحب شدة التستر كما يستفاد من «تطأ ذيولها»؛ فإنه كناية عن شدة التستر.

ص: 91


1- مستدرك الوسائل: ج3 ص261 ب17 ح3534.

ما تخرم مشيتها مشية رسول الله (صلی الله علیه و آله)

اشارة

-------------------------------------------

التأسي بالرسول (صلی الله علیه و آله) في كل شيء

مسألة: يستحب التأسي برسول الله (صلی الله علیه و آله) في كل الأمور حتى في كيفية المشي، وقد يجب التأسي - في موارد الوجوب -.

ولذا قال علي (علیه السلام): «فتأسى متأس بنبيه، واقتص أثره، وولج مولجه، وإلاّ فلا يأمن الهلكة»(1).

أما قوله (علیه السلام): «فلا يأمن الهلكة» - حيث يستظهر منه أن ذلك بالنسبة إلى الواجبات وترك المحرمات - فلا يتنافى مع الاستحباب المطلق حيث يفهم في سائر أعماله بالملاك، بالإضافة إلى الإطلاقات مثل قوله سبحانه:«فَبِهُداهُمُ

اقْتَدِهْ»(2).

وقال علي (علیه السلام): «أحبّ العباد إلى الله تعالى المتأسي بنبيه (صلی الله علیه و آله)»(3).

والصديقة الطاهرة (علیها السلام) كانت تمشي كمشية رسول الله (صلی الله علیه و آله) فإن الولد سرّ أبيه(4).

وهل يدل ذلك على استحباب التكلف في الإقتداء بحركات العظماء من الصالحين؟.

ص: 92


1- نهج البلاغة، الخطب: 160 ومن خطبة له (علیه السلام).
2- سورة الأنعام: 90.
3- نهج البلاغة، الخطب: 160 ومن خطبة له (علیه السلام).
4- انظر كشف الغمة: ج2 ص65.

..............................

احتمالان:

الأول: نعم؛ لأنه من التشبه ولو جزئياً، وهو من أسباب تقوية مكانة العظيم في الناس، مما يسبب تجذر الخير فيهم وسوقهم نحوه أكثر فأكثر، وما إلى ذلك.

الثاني: العدم، بل الراوي يحكي أمراً طبيعياً من حركتها (علیها السلام).ولا ينافي عدم دلالة هذه الجملة ها هنا على ذلك، القول بالاستحباب استناداً إلى الأدلة الأخرى، كما سبق من إطلاقات أدلة التأسي، وكونه مقدمة لسوق الناس للخير، وغير ذلك.

المشي بسكينة ووقار

مسألة: يستحب المشي على وقار وسكينة، كما يدل على ذلك بعض الروايات(1) مثل ما ورد من قوله (علیه السلام): «سرعة المشي تذهب ببهاء المؤمن»(2)، وقال (علیه السلام): «المشي المستعجل يذهب ببهاء المؤمن ويطفئ نوره»(3)، إلاّ إذا كان في أمر يستحب الإسراع إليه، وهذا يكون من باب قانون الأهم والمهم.

ووطأ الذيل ينتج عن طوله مع سرعة المشي، أو في صورة انشغال الذهن، ولعل الثاني ها هنا أقرب وأظهر.

ص: 93


1- قد ورد في الروايات: «وتخرج بسكينة ووقار»، «ثم امض إليهم بسكينة ووقار»، «والخروج بسكينة ووقار»، «الخروج بسكينة خاشعاً»، «ومن دخل بسكينة» وما أشبه، راجع ألامان من أخطار الأسفار: ص104 ب7 ف4.
2- وسائل الشيعة: ج11 ص456 ب63 ح15251.
3- تحف العقول: ص371 وروي عنه (علیه السلام) في قصار هذه المعاني.

حتى دخلت

اشارة

-------------------------------------------

دخول المرأة للمسجد

مسألة: يجوز للمرأة دخول المسجد(1)؛ لقول الراوي: «حتى دخلت (علیها السلام) »، ولغيره.

ولا يخفى أنه ربما يتنظّر في القول بأفضلية صلاة المرأة في بيتها(2) لأنا نجد أن رسول الله وعلياً (عليهما الصلاة والسلام) ما كانا يأمران النساء بالبقاء في البيوت للصلاة، وإنما كانت النساء يحضرن المسجد للصلاة خلف الرسول (صلی الله علیه و آله) وللاستماع إلى الخطبة..

وقد عين (صلی الله علیه و آله) امرأة للصلاة جماعة بالنساء(3)..وكذلك بالنسبة إلى علي (عليه الصلاة والسلام) كما يفهم من جملة من الروايات الواردة في حالاتهما (صلوات الله عليهما).

ص: 94


1- الجواز هنا بالمعنى الأعم.
2- راجع (العروة الوثقى) لليزدي: ج2 ص409 بعض أحكام المسجد،وفيه: (مسألة 2: صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد). ولكن في موسوعة الفقه: ج19 ص297 فصل في بعض أحكام المسجد، وفيه: (المسألة الثانية: قد تقدم أن صلاة المرأة في بيتها ليست أفضل من صلاتها في المسجد وإن ذكر جماعة ذلك، بل صلاتها في المسجد مثل صلاة الرجل في الفضل).
3- راجع تذكرة الفقهاء: ج4 ص236-237 استحباب الجماعة للنساء، وفيه: «كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد أمر أم ورقة بنت عبد الله بن الحارث بن نوفل أن تؤم أهل دارها وجعل لها مؤذناً».

..............................

وما ورد من أن «خير مساجد نسائكم البيوت»(1) مع قطع النظر عن كونها مرسلة، قد يحمل - جمعاً بينها وبين عمل الرسول (صلی الله علیه و آله) والإمام علي (علیه السلام) وما أشبه ذلك - على كونه قضية خاصة في زمن خاص أو ظرف خاص، أو فيمن يخاف عليهن الافتتان أو شبه ذلك مما يدخل في باب التزاحم.

طرح القضايا في المسجد

مسألة: يستحب طرح القضايا الهامة في المسجد، لما فيه من إعطاء المحورية للمسجد في حياة الناس؛ ولأنه أقرب إلى عناية الله تعالى ولطفه، ولأنه بما يحمل من روحانية وتذكير بالخالق المتعال أدعى لقبول الحق والبُعد عنالباطل.

وقد كان الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) يصلي في المسجد، ويخطب فيه، ويوجه الناس في شؤون السلم والحرب والأخلاق والسياسة وغيرها(2)..

كما كان المسجد مركزاً لحل مشاكل الناس في عهده (صلی الله علیه و آله) وعهد أمير المؤمنين (علیه السلام) .. وهكذا.

طرح القضايا أمام الناس

مسألة: يستحب طرح القضايا المهمة أمام الناس، وقد يجب في الجملة؛ فإنه إرشاد للجاهل أو تنبيه للغافل، وأمر بالمعروف أو نهي عن المنكر، وتعليم أو تزكية، على اختلاف الموارد.

ص: 95


1- تهذيب الأحكام: ج3 ص252-253 ب25 ح14.
2- راجع كتاب (ولأول مرة في تاريخ العالم): ج1-2 للإمام المؤلف (قدس سره).

..............................

وعموماً فإن الناس إذا وُضعوا في مجرى الأحداث التي تواجه الأمة، فكرياً أو سياسياً أو اقتصاديا أو ما أشبه ذلك، فإن حصانتهم أمام الباطل واستعدادهم للإيثار والتضحية في سبيل الله سبحانه يكون أكثر فأكثر، كما هو مفصل في علم الاجتماع والنفسوالأخلاق(1).

وقد قامت (علیها السلام) بكلا الأمرين، حيث طرحت ظلامتها في المسجد، وأمام الناس.

ويحتمل أن يكون خصوص الطرح في المسجد بما هو مسجد على سبيل الاستحباب، كما يحتمل أن يكون على سبيل الجواز.

والحاصل أن الجواز بالمعنى الأعم يستفاد من هذا الحديث، وإن كان الجواز بالمعنى الأخص إباحةً أو استحباباً أو وجوباً حسب الموازين العامة.

القضاء في المسجد

مسألة: يجوز الترافع والقضاء في المسجد، كما يفهم ذلك أيضاً من فعل الرسول (صلی الله علیه و آله) وفعل علي (عليه الصلاة والسلام)(2)، وللفقهاء في هذا مبحث مذكور في كتاب القضاء في الفقه(3).

ص: 96


1- راجع (الفقه: الاجتماع)، و(الفقه: الدولة الإسلامية)، و(الفقه: علم النفس)، و(الفضيلة الإسلامية) للإمام المؤلف (قدس سره).
2- راجع بحار الأنوار: ج14 ص11 ب1 ح20، والبحار: ج59 ص167 ب61 ح2.
3- راجع موسوعة الفقه: ج84 ص120-122 (كتاب القضاء) للإمام المؤلف(قدس سره)، وفيه: (الظاهر عدم كراهة القضاء في المسجد، بل ما أجمل أن ينفذ حكم الله في بيت الله، وقد كان الرسول (صلی الله علیه و آله) وعلي (علیه السلام) يقضيان في المسجد - بحار الأنوار: ج14 ص11 ب1 ح20، .............................. والبحار: ج59 ص167 ب61 ح2 - وبيت الطشت ودكة القضاء في مسجد الكوفة مشهوران إلى اليوم، وتقدم قول علي (علیه السلام) لشريح أن يجلس في المسجد. وعن (الدعائم)، عن علي (علیه السلام)، قال: «دخلت المسجد فإذا برجلين من الأنصار يريدان أن يختصما إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله). فقال أحدهما لصاحبه: هلم نختصم إلى علي (علیه السلام) فجزعت من قوله. فنظر إليَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال: انطلق واقض بينهما. قلت: وكيف اقضي بحضرتك يا رسول الله (صلی الله علیه و آله)؟. قال: نعم فافعل. فانطلقت فقضيت بينهما، فما رفع إليَّ قضاء بعد ذلك اليوم إلاّ وضح لي» - مستدرك الوسائل: ج3 ص197 الباب11 آداب القاضي ح4 -. وكيف كان ففي المسألة أقوال: الأول: إنه مكروه مطلقاً، ذكره غير واحد، بل في (المستند) نقل عن (المعتمد) أن الأكثر قالوا بالكراهة، واختاره هو لمرسلة ابن أسباط: «جنبوا مساجدكم الشراء والبيع والمجانين والصبيان والأحكام والضالة والحدود ورفع الصوت» - وسائل الشيعة: ج3 ص507 ب27 من أحكام المساجد ح11 -. ومرسلة (الفقيه): «جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم ورفع أصواتكم وشرائكم وبيعكم والضالة والحدود والأحكام) - وسائل الشيعة: ج3 ص508 أبواب أحكام المساجد ب27 ح4 -. وفي (الجواهر): استدل لذلك بالنبوي: «جنبوا المساجد صبيانكم ومجانينكم وخصوماتكم ورفع أصواتكم»، قال: والحكومة تستلزم غالباً ذلك بل قد تحتاج إلى إحضار الصبيان والمجانين، بل قد تستلزم إدخال الحيض والمشركين ومن لا يتوقى النجاسة. الثاني: الاستحباب كما عن ظاهر (المقنعة) و(النهاية) و(المراسم) و(السرائر) للأسوة وبعض الروايات المتقدمة. الثالث: الجواز نظراً إلى تصادم الدليلين من غير مرجح فلا كراهة ولا استحباب، ونقل عن الشيخ (رحمة الله) في ظاهر خلافه ومبسوطه، وقال (المستند) في نقل هذا القول قيل بالإباحة. الرابع: التفصيل بين جعله محلاً للقضاء دائماً فالكراهة، دون غيره فلا كراهة فيه، اختاره (الشرائع) والعلامة، وذلك للجمع بين دليلي المنع والاستحباب.. لكن يرد على الكراهة أن النبي (صلی الله علیه و آله) والإمام (علیه السلام) لا يفعلان مستمراً المكروه، خصوصاً وهما أسوة والناس مأمورون باتباعهما، والتفصيل ينافي ظهور استمرارية فعل علي (علیه السلام)، فالأمر إما جائز للتصادم وإن كان بعيداً إذ كلا الدليلين آب عن ذلك، وإما مستحب والثاني أقرب صناعة، والأول شهرة. أما دخول الصبيان والمجانين والحيض والمشركين فاللازم التجنب استحباباً أو لزوماً، فليس هذا إشكالاً على أحد القولين وإلا يستشكل بالحيض والمشركين على القول بالكراهة أيضاً. أما من استدل على عدم الكراهة بفورية القضاء المستلزمة للقضاء في المسجد، ففيه أن الفورية عرفية هذا، كما أن من استدل للكراهة برواية جعفر بن إبراهيم: «إنما نصبت المساجد للقرآن» يرد عليه أن الحصر إضافي كما لا يخفى، وإشكال (المستند) على دكة القضاء بمنع ثبوتها أولاً وكونها دكة قضاء علي (علیه السلام) ثانياً، وكونها من المسجد في الصدر الأول ثالثاً، لا يخفى ما فيه لمن راجع التاريخ ولما ذكرناه، قال في (الجواهر): قد يقال إن القضاء من حيث كونه قضاءً لا كراهة فيه بل لا يبعد رجحانه. نعم، قد يقترن بما يرجح تركه في المسجد، أو يرجح فعله، وهو خارج عن محل البحث، وربما كان ذلك أولى بالجمع من غيره. انتهى.

ص: 97

..............................

ومن الواضح أن الترافع في المسجد ليس مخالفاً لمقتضى الوقف شرعاً، كما أن من البين أنه يجب أن لا يكون بحيث يعد هتكاً للمسجد عرفاً(1).

الاستفادة من مراكز الإعلام

مسألة: يجوز - بالمعنى الأعم الشامل للوجوب - الاستفادة من وسائل الإعلام ومراكز التجمع، للمطالبة بالحق وفضح الظالم وإرشاد الناس وبيان

..............................

ومن الواضح أن الترافع في المسجد ليس مخالفاً لمقتضى الوقف شرعاً، كما أن من البين أنه يجب أن لا يكون بحيث يعد هتكاً للمسجد عرفاً(2).

الاستفادة من مراكز الإعلام

مسألة: يجوز - بالمعنى الأعم الشامل للوجوب - الاستفادة من وسائل الإعلام ومراكز التجمع، للمطالبة بالحق وفضح الظالم وإرشاد الناس وبيان

..............................

ومن الواضح أن الترافع في المسجد ليس مخالفاً لمقتضى الوقف شرعاً، كما أن من البين أنه يجب أن لا يكون بحيث يعد هتكاً للمسجد عرفاً(3).

الاستفادة من مراكز الإعلام

مسألة: يجوز - بالمعنى الأعم الشامل للوجوب - الاستفادة من وسائل الإعلام ومراكز التجمع، للمطالبة بالحق وفضح الظالم وإرشاد الناس وبيانالحقيقة، كما استفادت فاطمة الزهراء (صلوات الله عليها) من المسجد، حيث كان المسجد أهم مركز للإعلام آنذاك، باعتباره مركزاً لتجمع مختلف الشخصيات

ص: 98


1- كأن يسبب ضوضاء غير متعارفة وشبه ذلك.
2- كأن يسبب ضوضاء غير متعارفة وشبه ذلك.
3- كأن يسبب ضوضاء غير متعارفة وشبه ذلك.

..............................

والتيارات الاجتماعية والمركز الرئيسي للرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) ولقيادة الأمة وغير ذلك.

دخول المرأة في مجمع الرجال

مسألة: يجوز للمرأة أن تدخل في مكان قد اجتمع فيه الرجال أو مع النساء، مع الحفاظ على الحجاب وسائر الشرائط.

إذ الأصل الإباحة، ولا دليل على الحرمة، بل كان هذا في زمن رسول الله (صلی الله علیه و آله) في مسجده وفي أسفاره وفي الحج..

كما أنه كان في أيام الفقهاء الكبار في مشاهد المعصومين (عليهم الصلاة والسلام)..

وكذلك في القدس الشريف.. وغير ذلك.

أما المحرّم منه فهو الاختلاط بلا حجاب أو ما أشبه ذلك مما أتى به الغرب إلى بلاد الإسلام واستقبله بعض منلا حريجة له في الدين.

ص: 99

على أبي بكر

اشارة

-------------------------------------------

الضغط مباشرة

مسألة: يرجح توجيه الضغط على الغاصب أو الظالم نفسه، أو الرجوع إليه رأساً لدى المطالبة بالحقوق وبالحق، إلاّ إذا كانت الفائدة في غير ذلك.

قال تعالى: «اذْهَبَا إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى»(1)..

ولذا بادرت فاطمة الزهراء (صلوات الله عليها) للذهاب إلى المسجد ومواجهة أبي بكر بنفسه.

ومن ذلك أيضاً كانت كتابات المعصومين (علیهم السلام) إلى الطغاة مباشرة، وقد كتب الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) إلى معاوية:

«غرك عزك، فصار قصار، ذلك ذلّك، فاخش فاحش فعلك، فعلّك تهدى بهذا»(2).

وذلك إتماماً للحجة وفضحاً للظالم، كي لا يدعي عدم العلم ويلقي اللوم علىالآخرين - كما هي سيرة الظالمين خاصة في فترات الضعف والسقوط - وتحطيماً لشوكته وهيبته المصطنعة أمام الناس، ولغير ذلك(3).

ص: 100


1- سورة طه: 43.
2- المناقب: ج2 ص48 فصل في المسابقة بالعلم.
3- راجع حول هذه المباحث: (الفقه: طريق النجاة)، و(الفقه: الاجتماع)، و(الفقه: السياسة)، و(ممارسة التغيير لإنقاذ المسلمين)، و(الصياغة الجديدة) للإمام المؤلف (قدس سره).

وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم،

اشارة

-------------------------------------------

الفضح على رؤوس الأشهاد

مسألة: يستحب وقد يجب - إذا توقف الردع وشبهه عليه - فضح الظالمين على رؤوس الأشهاد، فإنه نوع من الضغط والتنفير الاجتماعي.

وملاكه يشمل الرجال أيضاً.

ولا فرق في ذلك بين المنبر والمحراب والكتاب والإذاعة والتلفزيون وغيرها من وسائل الإعلام.

ولو تحول هذا إلى منهج عام عند الناس، بأن التزم الكل بل حتى الأكثر، بل حتى جمع كثير من الناس، بفضح الظالم والتصدي لظلمه على رؤوس الأشهاد لما قامت للظالمين قائمة.

إتمام الحجة على الناس

مسألة: يستحب إتمام الحجة على الناس وقد يجب؛ لأنه حينئذ يجعل من الحشد شهوداً على كلام الطرفين، وذلك أبلغ في إقامة الدليل والانتصار للحق، قال سبحانه: «لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِحُجَّةٌ»(1).

ص: 101


1- سورة النساء: 165.

..............................

المطالبة بالحق بمحضر الغير

مسألة: يجوز - بالمعنى الأعم - المطالبة بالحق وكشف القناع عن ظلم الظالم، حتى عند من لا يتأتى منه أي عمل أو لا يعمل. ويشمله إطلاق قوله تعالى: «لاَ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ»(1).

ومما يوضح الشمول: ما ورد عن الإمام الصادق (علیه السلام) في بيان أحد مصاديق الآية الشريفة: «من أضاف قوماً فأساء ضيافتهم فهو ممن ظلم فلا جناح عليهم فيما قالوا فيه»(2).

وربما يعد من مصاديق ذلك مطالبتها (صلوات الله عليها) بحقها وحق الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) في المسجد في حضور المهاجرين والأنصار وغيرهم، حيث لم يكن لكل الأفراد - لا بشرط الاجتماع - القيام بالمطلوب، والمراد نفي(الكلية) لا النفي الكلي، فتأمل.

الجهر بالحق لشتى الطبقات

مسألة: ينبغي بيان الحقيقة لمختلف طبقات الناس وأصنافهم، لا مجموعة خاصة منهم وإن كثرت أفرادها، نظراً لأن ذلك أكثر ضماناً لصدق الحديث عن التحريف والتواطي عليه أو النسيان أو التشكيك فيه.

وبذلك - وبجهات أخرى - تظهر الحكمة في إلقائها (علیها السلام) الخطبة في مجمع من المهاجرين والأنصار وغيرهم.

ص: 102


1- سورة النساء: 148.
2- وسائل الشيعة: ج12 ص289 ب154 ح16329.

فنيطت دونها ملاءة،

اشارة

-------------------------------------------

الساتر بين الرجال والنساء

مسألة: قد يقال باستحباب وضع ساتر بين الرجال والنساء عند خطاب المرأة، إضافة لتحجب كل واحدة منهن.

وربما يستفاد ذلك من قوله تعالى: «وَإذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ»(1).

وإن كان الانصراف(2) يقتضي الحجاب أو الساتر بالمعنى الأخص لا الساتر إضافة للحجاب المتعارف.

ومنه يعلم استحباب ذلك في كل مكان اجتمع فيه النساء والرجال، كما في المسجد للصلاة، وفي قاعة الدرس، وفي الحسينيات، وغير ذلك، ولذا ورد في هذا الحديث: «فنيطت دونها ملاءة».

لكن ربما يقال:

بأنه لا يظهر أن ذلك كان على نحو الاستحباب إذ الفعل لا جهة له، بل ربما كان ذلك من الآداب، ولذا لم يكنفي مسجد رسول الله (صلی الله علیه و آله) ستر بين الرجال والنساء، وكذلك في المسجد الحرام لم يجعل ستر بين الرجال والنساء، بأن يقرر مثلاً على الرجال أن يطوفوا بجوار الكعبة وعلى النساء الطواف من بعيد

ص: 103


1- سورة الأحزاب: 53.
2- أي في الآية المباركة.

..............................

وبينهما ستر، أو بأن يقرر وقت للرجال وآخر للنساء، إلى غير ذلك مما هو واضح.

وربما يقال: بأنه يدل على الاستحباب بالنسبة إلى الشخصيات من النساء، ولذا ورد ذلك بالنسبة إلى عمل نساء النبي (صلی الله علیه و آله) بعد نزول آية الحجاب(1).

أما الاستحباب مطلقاً فالظاهرالعدم، للسيرة المستمرة في مسجد رسول الله (صلی الله علیه و آله) في عصره الشريف وغيره بالنسبة إلى النساء، وكذلك بالنسبة إلى المسجد الحرام، وغير ذلك كما سبق.

ص: 104


1- وفي بحار الأنوار: ج22 ص185 ب2 في تفسير قوله تعالى: «وَإذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ» يعني فإذا سألتم أزواج النبي (صلی الله علیه و آله) شيئاً تحتاجون إليه فاسألوهن من وراء ستر. قال مقاتل: أمر الله المؤمنين أن لا يكلموا نساء النبي (صلی الله علیه و آله) إلا من وراء حجاب. «ذَلِكُمْ» أي السؤال من وراء حجاب «أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ» من الريبة ومن خواطر الشيطان «وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ» بمخالفة ما أمر به في نسائه ولا في شيء من الأشياء، انتهى.

فجلست، ثم أنّت أنّةً،

اشارة

-------------------------------------------

الجلوس في المسجد

مسألة: قد يعدّ من الآداب عند التواجد في المسجد الجلوس فيه، فهو أقرب للوقار ولرعاية حرمة المسجد ولو في الجملة.

كما يجوز القيام أو الاستلقاء فيه فيما إذا لم يكن هتكاً أو مزاحماً لما هو من شؤون المسجد، وإلاّ كان مكروهاً أو محرماً - حسب اختلاف الموارد - كما أن النوم في المسجد مكروه على المشهور، وقد ورد في هذا الحديث: أنها (صلوات الله عليها) جلست(1).

إسماع الصوت للرجال

مسألة: يجوز للمرأة أن تُسمع الرجل صوتها إذا حفظت الموازين الشرعية، بأن لم يكن هناك خوف فتنة، أو من الخضوع في القول مثلاً، قال سبحانه: « فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِمَرَضٌ»(2).

وقد كانت النساء يتكلمن مع الرسول (صلی الله علیه و آله) ومع أمير المؤمنين (علیه السلام) ومع الأئمة الطاهرين (علیهم السلام) ومع علماء الدين إلى عصرنا الحاضر، وعلى ذلك جرت سيرة المتشرعة عموماً، لكن يجب مراعاة الموازين الشرعية.

ص: 105


1- حول أحكام المسجد وآدابه راجع موسوعة الفقه: ج19 ص 118-298 كتاب الصلاة، وموسوعة الفقه: كتاب الآداب والسنن.
2- سورة الأحزاب: 32.

..............................

وما ذكر يدل على جواز ذلك، فإن المحظور هو الخضوع بالقول وما أشبه، فيجوز للنساء إلقاء الخطب وقراءة التعزية في المجالس النسوية وإن وصل صوتها إلى أسماع الرجال، كما يجوز تسجيل صوت قراءتها(1) مع مراعاة الجهات الشرعية(2).

سماع صوت المرأة

مسألة: يجوز للرجال أن يسمعوا صوت النساء مع مراعاة الموازين الشرعية، لأصالة الحل والإطلاقات والسيرةالمتصلة.

والفرق بين المسألتين(3) واضح.

البكاء على الميت

مسألة: يستحب الأنين والبكاء على الميت، كما بكت (علیها السلام) على أبيها (صلی الله علیه و آله)، وقد يكون بكاؤها (علیها السلام) وأنينها لفقد أبيها (صلی الله علیه و آله) ولغصب حق خليفته أمير المؤمنين علي (علیه السلام) ولما جرى عليها من مختلف أنواع الظلم.

وفي العروة الوثقى: (يجوز البكاء على الميت ولو كان مع الصوت، بل قد يكون راجحاً كما إذا كان مسكناً للحزن وحرقة القلب، بشرط أن لا يكون منافياً للرضا بقضاء الله، ولا فرق بين الرحم وغيره، بل قد مر استحباب البكاء على

ص: 106


1- وبيع أو توزيع تلك الأشرطة مع ملاحظة الموازين الشرعية.
2- راجع موسوعة الفقه: كتاب النكاح، المسألة 39.
3- أي (إسماع الصوت للرجال) و(سماع صوت المرأة).

..............................

المؤمن، بل يستفاد من بعض الأخبار جواز البكاء على الأليف الضال)(1).وقد ذكرنا في (الفقه): استحباب البكاء على المؤمن لتواتر الروايات بذلك قولاً وعملاً..

وما يقال من أن النبي (صلی الله علیه و آله) نهى عن البكاء مكذوب عليه(2).

رفع المرأة صوتها بالبكاء

مسألة: لا بأس في سماع الرجال الأجانب بكاء المرأة، كما لا بأس في أن ترفع صوتها بالبكاء.

كما دل على ذلك بكاؤها (علیها السلام) في البيت، حيث كان صوتها مسموعاً في المسجد(3).

وقد أوصى الإمام الباقر (علیه السلام) بأن تندبه النوادب في منى عشرسنين(4)، وهناك مجتمع الرجال والنساء كما هو واضح.

ص: 107


1- العروة الوثقى: ج2 ص130 مكروهات الدفن مسألة 1.
2- راجع موسوعة الفقه: ج15 ص161-168 كتاب الطهارة، في مستحبات قبل الدفن وحينه وبعده، الواحد والثلاثون.
3- بل في المدينة كلها، ففي الحديث: «... وأما فاطمة فبكت على رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى تأذى بها أهل المدينة. فقالوا لها: قد آذيتينا بكثرة بكائكِ. فكانت تخرج إلى المقابر - مقابر الشهداء - فتبكي حتى تقضي حاجتها ثم تنصرف»، راجع وسائل الشيعة: ج3 ص281 ب87 ح3655.
4- تهذيب الأحكام: ج6 ص358 ب93 ح146، وفيه: عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «قال لي أبي: يا جعفر، أوقف لي من مالي كذا وكذا لنوادب تندبني عشر سنين بمنى أيام منى».

..............................

البكاء لفقد المعصوم (علیه السلام)

البكاء لفقد المعصوم (علیه السلام) (1)

مسألة: يستحب البكاء لفقد المعصوم (علیه السلام) كما بكت الزهراء (علیها السلام) على رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وكذلك يستحب البكاء عالياً في مصيبتهم (علیهم السلام)(2).ويستحب تشكيل مجالس للبكاء عليهم (عليهم الصلاة والسلام) فهو نوع من المواساة، ومن الانتصار للمظلوم، ومن سبل تثبيت محبة آل البيت (علیهم السلام) في قلوب الناس، وقد دل على ذلك كثير من الروايات. فعن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال لفضيل: «تجلسون وتحدثون؟». قال: نعم جعلت فداك. قال: «إن تلك المجالس أحبها، فأحيوا أمرنا يا فضيل، فرحم الله من أحيى أمرنا، يا فضيل من ذكرنا أو ذُكرنا عنده فخرج من عينه مثل جناح الذباب غفر الله له ذنوبه ولو كانت أكثر من زبد البحر»(3).

بكاء المظلوم تظلماً

مسألة: يستحب بكاء المظلوم للتظلم بصوت عال، فإنه من غير الصحيح

ص: 108


1- حول هذا المباحث راجع كتاب ( الشعائر الحسينية) لآية الله الشهيد السيد حسن الشيرازي (قدس سره).
2- فقد روي عن ابن عباس، قال: خرجت أنا وعلي والنبي (صلی الله علیه و آله) في جنان المدينة. فمررنا بحديقة فقال علي (علیه السلام): «ما أحسن هذه الحديقة يا رسول الله؟!». فقال (صلی الله علیه و آله): «حديقتك في الجنة أحسن منها». ثم مررنا بحديقة فقال: «ما أحسن هذه يا رسول الله؟!»، حتى مررنا بسبع حدائق فقال النبي (صلی الله علیه و آله): «حدائقك في الجنة أحسن منها»، ثم ضرب بيده على رأسه ولحيته وبكى حتى علا بكاؤه. فقال: «ما يبكيك يا رسول الله؟». قال: «ضغائن في صدور قوم لا يبدونها لك حتى يفقدوني». الطرائف: ج2 ص427-428 شكاية علي بن أبي طالب (علیه السلام) عمن تقدمه.
3- وسائل الشيعة: ج12 ص20 ب10 ح15532.

..............................

أن يسكت الإنسان على الظلم.

ولذا قال سبحانه:«لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَتُظْلَمُونَ» (1).

والبكاء إحدى طرق الضغط على الظالم وفضحه وإثارة العواطف ضده، ولذا بكى الإمام السجاد (علیه السلام) تلك المدة الطويلة(2)، وبكت الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (علیها السلام) حتى استشهدت(3). كما روي أنها (عليها أفصل الصلاة والسلام): «ما زالت بعد أبيها (صلی الله علیه و آله) معصّبة الرأس، ناحلة الجسم، منهدة الركن، باكية العين، محترقة القلب، يُغشى عليها ساعة بعد ساعة»، الحديث(4).

ومثل البكاء: الأنين سواء على الميت - كما سبق - أم على المظلوم، أم من المظلوم، وقد ورد في قصة يوم (أُحد) أن صفية (علیها السلام) كانت تأن وتحن على حمزة (علیه السلام) وكان ذلك بمحضر من الرجال، وكلما أنّت أنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) لأنينها، وكلما حنّت حنّ رسول الله (صلی الله علیه وآله) لحنينها(5).

وقد ورد: إنه لما انصرف رسول الله (صلی الله علیه و آله) من وقعة (أحُد) إلى المدينة سمع من كل دار قتل من أهلها قتيل نوحاً وبكاءً ولم يسمع من دار حمزة (علیه السلام) عمه، فقال: «لكن حمزة لا بواكي له»، فآلى أهل المدينة أن لا ينوحوا على ميت ولايبكوه حتى يبدؤوا بحمزة (علیه السلام) فينوحوا عليه ويبكوه(6).

ص: 109


1- سورة البقرة: 279.
2- بكى (علیه السلام) بعد أبيه الحسين (علیه السلام) أربعين سنة، راجع وسائل الشيعة: ج10 ص526 ب7 ح14035.
3- كشف الغمة: ج1 ص498 ذكر حالها (علیها السلام) بعد أبيها (صلی الله علیه و آله).
4- روضة الواعظين: ج1 ص150 مجلس في ذكر وفاة فاطمة (علیها السلام).
5- شرح نهج البلاغة: ج15 ص17 القول في مقتل حمزة بن عبد المطلب (علیه السلام).
6- وسائل الشيعة: ج3 ص284 ب88 ح3662.

أجهش القوم لها بالبكاء

اشارة

-------------------------------------------

البكاء لبكاء المظلوم

مسألة: يستحب أن يبكي الناس تفاعلاً مع بكاء المظلوم، فإنه مشاركة وجدانية وتألّم لألم المتألم(1)، بالإضافة إلى أنه يتضمن تأييداً للمظلوم ونصرة له.

قال علي (علیه السلام) في وصيته للحسن والحسين (علیهما السلام): «كونا للظالم خصماً وللمظلوم ناصراً»(2).

البكاء لبكاء المفجوع

مسألة: يستحب بكاء الناس لبكاء المفجوع بمصيبة، ولذا ورد استحبابالبكاء على الميت وإن لم يعرفه الإنسان(3).

ص: 110


1- وقد ورد في فضل زيارة الحسين (علیه السلام): «... أن فاطمة (علیها السلام) إذا نظرت إليهم ومعها ألف نبي وألف صديق وألف شهيد ومن الكروبيين ألف ألف يسعدونها على البكاء، وأنها لتشهق شهقة فلا تبقي في السماوات ملك إلاّ بكى رحمة لصوتها... » - كامل الزيارات: ص86-87 ب27 ح16 -.
2- نهج البلاغة، الرسائل: 47 ومن وصية له (علیه السلام) للحسن والحسين (علیهما السلام) لما ضربه ابن ملجم (لعنه الله).
3- راجع العروة الوثقى: ج2 ص130 مكروهات الدفن مسألة 1، وفيه: (يجوز البكاء على الميت... بل قد يكون راجحاً... ولا فرق بين الرحم وغيره، بل قد مر استحباب البكاء على المؤمن).

..............................

وقد بكى الرسول (صلی الله علیه و آله) وأن وحن لبكاء وأنين وحنين صفية(1).

فإن البكاء رحمة ورقة وعطوفة(2)،وكلها مطلوبة شرعاً حسب الروايات الكثيرة الواردة في التوادد والتراحم والرحمة والعطف وشبهها الشاملة بإطلاقها للمقام.

ص: 111


1- شرح نهج البلاغة: ج15 ص17 القول في مقتل حمزة بن عبد المطلب (علیه السلام).
2- وفي الحديث عنه (علیه السلام)، قال: «بكى رسول الله (صلی الله علیه و آله) عند موت بعض ولده. فقيل له: يا رسول الله، تبكي وأنت تنهانا عن البكاء؟! فقال: لم أنهكم عن البكاء، وإنما نهيتكم عن النوح والعويل، وإنما هي رقة ورحمة يجعلها الله في قلب من شاء من خلقه ويرحم من يشاء، وإنما يرحم من عباده الرحماء» - مستدرك الوسائل: ج2 ص460 ب74 ح2465 -. وعنه (علیه السلام) قال: «رخص رسول الله (صلی الله علیه و آله) في البكاء عند المصيبة، وقال: النفس مصابة، والعين دامعة، والعهد قريب» - دعائم الإسلام: ج1 ص225 ذكر التعازي والصبر وما رخص فيه من البكاء -.

فارتج المجلس،

اشارة

-------------------------------------------

افتتاح الحديث بما يهيئ النفوس

مسألة: يستحب أن يفتتح المتكلم أو الخطيب حديثه بما يهيئ النفوس ويعدّ الأذهان لتقبّل الكلام، على حسب مقتضيات البلاغة، ولذا نجد أنها (صلوات الله عليها) «أنت أنة أجهش القوم لها بالبكاء، فارتج المجلس».

فإنها (علیها السلام) فجرت في النفوس كوامن العواطف، وجعلت القوم في قصوى حالات الاستعداد النفسي والعاطفي للاستماع إلى حديثها وظلامتها.

فعلينا أن نتعلم من مدرستها (علیها السلام) حتى افتتاح الحديث، بل وتطعيمه بما يؤثر على الحضور والمستمعين أكبر الأثر، فإن ذلك كمال وفضيلة، ولا شك أن تربية الإنسان نفسه على الفضيلة والكمال من المستحبات، وقد قال سبحانه: «وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا»(1)، وقالتعالى: «اتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ»(2).

هذا بالإضافة إلى أنه كلما كان كلام الإنسان مشتملاً على عوامل تحريك العواطف وإثارة دفائن العقول يكون أقوى وقعاً في نفوس المستمعين، فيكون أقرب إلى قبولهم للمعروف وانتهائهم عن المنكر وفعلهم الخيرات، كل في مورده.

ص: 112


1- سورة الأعراف: 145
2- سورة الزمر: 55.

ثم أمهلت هنيئة حتى إذا سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم،

اشارة

-------------------------------------------

الكلام في أفضل الأحوال

مسألة: ينبغي إيراد الكلام على مقتضى الحال، بل وفي أفضل الأحوال، ولذلك «أمهلت (علیها السلام) هنيئة»؛ فان البدء بالحديث والقوم في شدة البكاء وفورة الاهتياج مما يفقد كلمات المتكلم تأثيرها المطلوب، ويكون التفاعل معها حينئذ أقل.

فالإمهال عندئذ ضروري، ولكن بشرط أن لا يكون الفاصل طويلاً؛ لأن الكلام يفقد حرارته وموالاته بسبب الفصل الطويل، وهذا مما ينافي موازينالبلاغة.

فاللازم أن لا يكون متتابعاً جداً، وأن لا يكون متباعداً بعضه عن بعض، بل يكون طبق الأسلوب البلاغي حسب اختلاف المقامات(1)، ولذلك كان إمهالها (علیها السلام) (هنيئة) فقط.

ص: 113


1- راجع كتاب (البلاغة) للإمام المؤلف (قدس سره).

افتتحت الكلام بحمد الله

اشارة

-------------------------------------------

افتتاح الأعمال بذكر الله تعالى

مسألة: يستحب افتتاح كل أمر - ومنه الحديث والكلام، على المنبر كان أو تحته، لجمع أو لفرد، في أمر من أمور الدنيا أو الآخرة - بذكر الله وحمده عزوجل، قلباً ولساناً، بل عملاً، في كل مورد بحسبه.

ومعنى الافتتاح العملي أن يكون العمل من مصاديق ما يحبه الله تعالى ويريده شروعاً (وهو الافتتاح)، واستمراراً بأن يكون مورد رضا الله سبحانه وتعالى، وذلك مثل المشي إلى الحج(1).

أو يوضح بنظير المرور تحت القرآن الكريم عند إرادة السفر وما أشبه ذلك.

وقد ورد في الحديث: «كل أمر ذيبال لم يذكر فيه بسم الله فهو أبتر»(2).

والمراد: أنه أبتر عن الخير، فلا خير له في الدنيا ولا في الآخرة.

وسلب الخير عنه قد يكون مطلقاً في بعض الأعمال، وقد يكون في الجملة وبالنسبة في بعضها الآخر، على حسب نوعية العمل والنية وغير ذلك.

ص: 114


1- فمن مشى قاصداً الحج يكون قد افتتح عملياً بما هو ذكر لله تعالى، عكس من مشى قاصداً الصنم أو الحرام حيث يكون قد افتتح بذكر الشيطان، فيعم الذكر العملي أيضاً.
2- وسائل الشيعة: ج7 ص170 ب17 ح9032.

..............................

تعليم الناس على الافتتاح بالحمد

مسألة: يستحب تربية وتعليم الناس على الافتتاح بذكر الله (تقدست أسماؤه) للإطلاقات، ولما يستفاد من قولها وفعلها (صلوات الله عليها) ها هنا.

فإن افتتاح كبير القوم أو قائدهم، كلامه بشيء أو بأسلوب خاص، يكون تعليماً للذين يتبعونه.

وقد سبق القول بأن أقوالها وأفعالها (علیها السلام) كسائر المعصومين (علیهم السلام) ، نظراً لإحاطتهم والتفاتهم، وقد لوحظت فيها كل الجهات الممكنة والدلالات المحتملة، فتكون حجة ذات دلالة من جميع الجهات.

وقد ورد في الدعاء: «اللهم إني افتتح الثناء بحمدك»(1).

الافتتاح بذكر الله جهراً

مسألة: يستحب أن يكون الافتتاح بذكر الله تعالى جهراً، كما صدر ذلك من السيدة الزهراء (علیها السلام) .. وقد كان يمكن لها أن تذكر الله سبحانه سراًكما هو عادة بعض الناس.

وقد ورد استحباب الجهر ب (بسم الله الرحمن الرحيم) وأن ذلك من علائم المؤمن.

فقد قال الإمام الحسن العسكري (علیه السلام): «علامات المؤمن خمس: صلاة

ص: 115


1- إقبال الأعمال: ص58 فصل فيما نذكره من دعاء الافتتاح وغيره.

..............................

الإحدى والخمسين، وزيارة الأربعين، والتختم باليمين، وتعفير الجبين، والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم»(1).

وربما يقال: بأن من علل الدعوة لزيارة الأربعين، والتأكيد عليها في الروايات الشريفة إفادة أن الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام) - الذي كان في غاية المظلومية في يوم عاشوراء من مختلف الحيثيات والأبعاد - كيف أعزه الله سبحانه وتعالى ولما يمض على استشهاده أربعون يوماً!.

تقديم الحمد بعد البسملة

مسألة: يستحب تقديم الحمد - بعد البسملة - على غيره في افتتاح الحديث بل كل أمر.فالحمد يكون مقدماً، سواء كرّره(2) أم أتى ثانياً بما يفيد معنى (الحمد) لا بلفظه(3)، وسواء كان بلفظ (الحمد لله) أم بما يشتق منه ك ( أحمد الله)، و(أنا حامد له)، أو ما أشبه ذلك من سائر الصيغ(4).

ولو انقطع الكلام عاد المرء إلى البدء بحمد الله مرة أخرى - كما هو المشاهد في خطبتها (علیها السلام) -.

ص: 116


1- تهذيب الأحكام: ج6 ص52 ب16 ح37.
2- بأن يقول: الحمد لله، الحمد لله.
3- كأن يقول: الحمد لله والشكر لله تعالى مثلاً.
4- توضيحه: قد يكون المراد أن الحمد وإن كان مكرراً أو بصيغ أخرى فإنه مقدم على سائر أنواع الثناء، فمثلاً تقول: الحمد لله، الحمد لله، وسبحان الله، والصلاة على رسول الله (صلی الله علیه و آله).

والثناء عليه، والصلاة على رسوله

اشارة

-------------------------------------------

اشتمال الافتتاح على الثناء

مسألة: يستحب اشتمال افتتاح الأعمال والأقوال على الثناء الجميل على الله سبحانه وتعالى، مضافاً إلى أصل ذكر اسمه حسنت أسماؤه، وحمده جلتآلاؤه.

فإن الثناء عبارة عن تثنية الشيء(1) وهو تأكيد، ولعلها (عليها الصلاة والسلام) كررت الحمد أو ما بمعنى الحمد، فإن الثناء يمكن أن يكون بالحمد أو بغيره مما يدل على تعظيم المحمود.

الصلاة على الرسول وآله الأطهار (علیهم السلام)

مسألة: يستحب الصلاة على النبي وآله (علیهم السلام) مطلقاً، وفي افتتاح الكلام خاصة.

ويدل على الاستحباب بالإضافة إلى فعلها (عليها الصلاة والسلام) ذي القرينة، قول الله سبحانه وتعالى: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً»(2).

ص: 117


1- كما سيأتي في بحث ( الثناء بما قدم).
2- سورة الأحزاب: 56.

..............................

وقد ورد في جملة من الروايات كيفية الصلاة على رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وأن يقال: «اللهم صل علىمحمد وآل محمد»(1)، أو ما أشبه ذلك مثل: (صلى الله)، ومثل: (رب صل) ونحوهما.واستفادة الاستحباب - إضافة إلى الأمر في الآية المباركة - بلحاظ القرائن الكثيرة.

ص: 118


1- راجع موسوعة الفقه: ج95 ص129 (كتاب الآداب والسنن)، وفيه: فصل في كيفية الصلاة على محمد وآله، عن ابن أبي حمزة، عن أبيه، قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن قول الله عزوجل: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً»؟. فقال: «الصلاة من الله عزوجل رحمة، ومن الملائكة تزكية (بركة) ومن الناس دعاء وأما قوله عزوجل: «وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً» فإنه يعني التسليم له فيما ورد عنه». قال: فقلت له: فكيف نصلي على محمد وآله؟. قال: «تقولون: صلوات الله وصلوات ملائكته وأنبيائه ورسله وجميع خلقه على محمد وآل محمد، والسلام عليه وعليهم ورحمة الله وبركاته». قال: فقلت: فما ثواب من صلى على النبي (صلی الله علیه و آله) بهذه الصلوات؟. قال: «الخروج من الذنوب والله كهيئة يوم ولدته أمه». - معاني الأخبار: ص104 -. وعن كعب بن عجزة، قال: قلت: يا رسول الله، علمتنا السلام عليك فكيف الصلاة عليك؟. فقال: «قولوا: اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد» - المجالس: ص232 -. وعن أبي عبد الله، أو أبي جعفر (علیهما السلام)، قال: «أثقل ما يوضع في الميزان يوم القيامة الصلاة على محمد وأهل بيته» - قرب الإسناد: ص 9 - انتهى.

فعاد القوم في بكائهم

اشارة

-------------------------------------------

تجدد البكاء عند تجدد ذكر الفقيد

مسألة: المستفاد من إطلاق أو ملاك(1) قولهم (عليهم الصلاة والسلام): «يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا»(2) وجملة من الروايات الأخر، مثل ما في دعاء الندبة وغيره، بالإضافة إلى ما تقدم من حديث الرحمة والرأفة والحنان، وكلها مستحب بالأدلة العامة: استحباب تجدد البكاء عند تجدد ذكر الفقيد خاصة إذا كان معصوماً (علیه السلام).

وتجدد الذكر لا يلزم أن يكون بمحضر الناس، كما لا يلزم أن يكون باللفظ، بل يشمل حتى التوجه القلبي.

وتجدد البكاء قد يكون:

1: أشبه باللاختياري، لتفجرالعاطفة كما في هذا المورد «فعاد القوم في بكائهم» نظراً لعظمة المصاب وقرب وقوعه وسماع صوت ابنته (علیها السلام) بما تضمنه من رنة الأسى المرير، وبما كان يعكسه من لواعج الحزن الشديد.

2: وقد يكون اختيارياً بالتفكر في المصاب والسعي لإثارة العاطفة، وكلاهما مما يثاب عليه الإنسان.

ص: 119


1- الإطلاق على تقدير كون المراد ب ( يحزنون) الأعم من الحزن وإظهاره كما هو المستفاد عرفاً في أمثال المورد، والملاك على تقدير العدم.
2- وسائل الشيعة: ج14 ص508 ب66 ح19705.

فلما أمسكوا عادت في كلامها،

اشارة

-------------------------------------------

عدم قطع بكاء المفجوع

مسألة: ينبغي أن لا يقطع الإنسان بكاء الباكي، بل يمهله حتى يمسك، لما سبق، بالإضافة إلى أنه نوع من التأدب.

كما ورد مثل ذلك في استحباب الإصغاء إلى المتكلم وعدم قطع كلامه، على عكس ما هو المتداول عند الكثيرين خاصة أثناء الجدل، حيث يقطع البعض حديث الآخر دون رعاية لحرمته وحتى دون فهم كلامه ومراده.

بل يمكن جريان هذا الاستحباب في الفعل أيضاً - بالملاك - بأن لا يقطع الإنسان فعل إنسان آخر بشيء من عمل أو قول؛ فإنه نوع من التأدب واحترامالآخرين، ومن مصاديق ذلك ما ورد من كراهة أن يدخل الإنسان في سوم أخيه المؤمن(1).

مراعاة حال المستمع

مسألة: ينبغي مراعاة حال المستمع، ومن المراعاة ترك الخطاب فيما إذا لم يكن المستمع في وضع يتمكن فيه، أو يسهل عليه الاستماع لبكاء أو شبهه.

ص: 120


1- راجع من لا يحضره الفقيه: ج4 ص5 باب ذكر جمل من مناهي النبي (صلی الله علیه و آله) ح4968، وفيه: «نهى رسول الله (صلی الله علیه و آله) عن أن يدخل الرجل في سوم أخيه المسلم».

..............................

وقد سبق نظير ذلك(1) ولا يبعد أن يكون سكوتها (صلوات الله عليها) لذلك ولما سبق جميعاً.

كما ينبغي مراعاة ما يحف بالكلاممن الأمور الخارجية، ومن ذلك أن يسكت الإنسان لقراءة غيره القرآن الكريم مثلاً، حيث ورد قوله سبحانه: «فَاسْتَمِعُوا له وَأَنْصِتُوا»(2). وقد ورد أن ابن الكوا قرأ القرآن وكان علي (عليه الصلاة والسلام) في القراءة في الصلاة، فسكت علي (علیه السلام) حتى إذا سكت فأتم (عليه الصلاة والسلام) قراءته، مع أن قراءته للقرآن كانت في مقام التعريض بالإمام (علیه السلام)، حيث قرأ - والإمام في سورة الحمد أثناء إمامته للجماعة أبان خلافته الظاهرية -: «وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإلى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ»(3) فسكت الإمام (علیه السلام)، فلما سكت ابن الكوا عاد الإمام (علیه السلام)، فلما عاد ابن الكوا سكت الإمام (علیه السلام)، فلما سكت اكتفى الإمام (علیه السلام) في الجواب بقوله تعالى: «فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ»(4)، ثم أتم (علیه السلام) قراءته وصلاته ولم يعاقبه أدنى عقوبة على ذلك(5).

ص: 121


1- الفرق بين هذا وما سبق - الكلام في أفضل الأحوال - أن هذا لوحظ فيه جانب القابل، وذاك كان الملاحظ فيه جانب الفاعل، وبعبارة أخرى: ذاك كان بلحاظ تأثير الكلام، وهذا بلحاظ الجانب الإنساني من حيث مراعاة وضع المستمع، وفرق هذا عما سبقه مباشرة: إن هذا أعم مطلقاً أو من وجه، فليدقق.
2- سورة الأعراف: 204.
3- سورة الزمر: 65.
4- سورة الروم: 60.
5- وسائل الشيعة: ج8 ص367 ب34 ح10923.

فقالت (علیها السلام): «الحمد لله على ما أنعم،

اشارة

-------------------------------------------

العودة إلى حمد الله تعالى

مسألة: يستحب أن يعود الإنسان بعد قطع كلامه إلى حمد الله تعالى مرة ثانية؛ لأنه يعد ابتداءًً أيضاً.

والمراد بالابتداء ها هنا الابتداء النسبي، فلا تنافي بين هذه وبين ما سبق من «كل أمر ذي بال لا يذكر بسم الله فيه فهو أبتر»(1) على تقدير إرادة البسملة، وإلاّ - بأن أريد ما هو اسم لله تعالى - صدق على حمد الله لتضمنه اسم الله، إذ أحدهما كلي والآخر من مصاديقه.

والظاهر أنها (علیها السلام) حمدت مرتين، والثانية لوحدة نسق الكلام، ولعلّه يدل على استحباب التثنية. هذا و(الحمد): هو ذكر الله بالجميل على نعمه مطلقاً، فإنه واجب عقلاً وشرعاً، وإن لم يجب بهذه الصيغة، نعم يجب التقيد بها في الصلاة للدليل الشرعي.

و(الحمد) لا يختص بمجال النعمة على الشخص، بل هو الذكر والوصف بالجميل الاختياري(2) بقصد التعظيم على نعمهمطلقاً(3)، وقد يعمم حتى للابتداء بالثناء(4). أما (الشكر) فهو الثناء الجميل وإظهار الامتنان على ما أولاه من معروف وإحسان.

ص: 122


1- وسائل الشيعة: ج7 ص170 ب17 ح9032.
2- عكس المدح الذي يشمل الجميل غير الإرادي كمدح اللؤلؤ لجماله.
3- أي سواء تعلقت النعمة بالشخص نفسه أم بغيره.
4- راجع (أقرب الموارد).

وله الشكر على ما ألهم،

اشارة

-------------------------------------------

الشكر لله تعالى

الشكر لله تعالى(1)

مسألة: يستحب الشكر لله تعالى في ابتداء الكلام - خطابة كان، أم كتابة، أم حديثاً عادياً - بعد ذكر الله وحمده.

والشكر في الابتداء من باب المصداق.

كما قالت (علیها السلام): «وله الشكر على ما ألهم».

والإلهام: هو الإلقاء في الذهنوالروح، وهو نوع من التلقين(2).

وقد قال سبحانه: «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأََزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ»(3).

والمراد بالكفر: كفران النعمة وعدم الشكر، لا الكفر في العقيدة، فإن الكفر:

قد يطلق على الكفر في العقيدة، كما لو جحد الخالق.

وقد يطلق على كفر النعمة.

وقد يطلق على ترك شيء مما أمر الله سبحانه وتعالى به كما في قوله:

ص: 123


1- حول هذا المبحث ونظائره راجع: ( الفقه: الآداب والسنن)، و(الفقه: الواجبات والمحرمات)، و(الفضيلة الإسلامية)، للإمام المؤلف (قدس سره).
2- (ألهمه الله خيراً) أي: ألقنه - مجمع البحرين: ج6 ص171 مادة لهم -.
3- سورة إبراهيم: 7.

..............................

«أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ»(1).

سواء كان الأمر على سبيل الاستحباب أو على سبيل الوجوب، مثل قوله سبحانه:

«وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إليه سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِالْعَالَمِينَ»(2).

وقد ورد في حديث الإمام الصادق (علیه السلام): «الكفر في كتاب الله على خمسة أوجه»، منها الثلاثة التي سبقت(3).

ص: 124


1- سورة البقرة: 85.
2- سورة آل عمران: 97.
3- راجع الكافي: ج2 ص389 باب وجوه الكفر ح1.

والثناء بما قدم،

اشارة

-------------------------------------------

الثناء على الله تعالى

مسألة: يستحب الثناء على الله تعالى في الكلام - كما سبق - بعد الحمد والشكر، كما قامت هي (علیها السلام) بذلك، فإن كل أفعالها وأقوالها على أتم مقتضيات الحكمة.

والثناء - كما ذكرنا - بمعنى التثينة؛ لأن الإنسان يثني على الله سبحانه وتعالى ما ذكره أولاً (1) سواء كان الأول حمداً، أو مدحاً، أو شكراً، أو تمجيداً، أو ما أشبه ذلك.

أو: إن أوله ما تفضل به الله سبحانه من النعم على عبده.

ذكر متعلق الحمد وما يوجبه

مسألة: يستحب ذكر متعلق الحمد والشكر والثناء، وما يستوجبه ولوإجمالاً، تأسياً بها (سلام الله عليها) حيث قالت: «على ما أنعم»، و«على ما ألهم» و«بما قدم»؛ فإنه من التفصيل المطلوب في مقام المدح ونحو المدح، كما نرى أن المادح يذكر الأسماء المتعددة والخصوصيات المختلفة للممدوح.

ص: 125


1- قال في لسان العرب: ج14 ص115 مادة ثني: (ثنيت الشيء ثنياً، أي: عطفته، وثنى الشيء ثنياً: ردّ بعضه على بعض، وثنى الشيء: جعله اثنين، والثناء: ما يصف به الإنسان من مدح أو ذم، وخص بعضهم به المدح).

..............................

وكذلك المحزون يذكر شتى الصفات الحسنة ومختلف الخصال المستحسنة للمحزون عليه، وهكذا في كل مورد يكون المطلوب فيه إطالة الكلام(1).

ذكر الله تعالى وحمده عند تواتر المصائب

مسألة: يستحب ذكر الله تعالى وحمده وشكره والثناء عليه عند اشتداد البلاء وهجوم المصائب على الإنسان.

وذلك من أهم الدروس التي يجب أن نتعلمها من الصديقة الطاهرة (علیها السلام) حيث إنها (صلوات الله عليها) رغم ما نزل بها من عظيم المصاب وجليل الخطوب، حيث فقدت أباها خاتم النبيين (صلی الله علیه و آله)، وحيث هجم عبّادالسلطة على دارها وضربوها وكسروا ضلعها وأسقطوا جنينها وغصبوا حقها وحق بعلها سيد الأوصياء (علیه السلام)، رغم كل ذلك تبدأ تظلمها بحمد الله وشكره والثناء عليه.

وقد ورد عن الإمام الصادق (علیه السلام): «إن رسول الله كان إذا ورد عليه أمر يسره قال: الحمد لله على هذه النعمة، وإذا ورد عليه أمر يغتم به قال: الحمد لله على كل حال»(2).

وإنما كان الحمد لله عند نزول المكاره - كما ورد: «الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه»(3) -؛ فلأن المكروه بالنسبة إلى الصالحين إما ترفيع درجة، وإما

ص: 126


1- راجع كتاب (البلاغة) للإمام المؤلف (قدس سره).
2- وسائل الشيعة: ج3 ص247 ب73 ح3535.
3- راجع شرح نهج البلاغة: ج7 ص252، وفيه: ومن الكلام المشهور «سبحان من لا يحمد على المكروه سواه».

..............................

محو ذنب، هذا فيمن يقع منهم الذنب كغير المعصومين (علیهم السلام)، أما في المعصومين (علیهم السلام) فالمكاره كلها تسبب ترفيع درجاتهم ومزيد قربهم من الله تعالى.

توجه المظلوم إلى الله تعالى

مسألة: يستحب للمظلوم أن يتوجه إلى الله تعالى بقلبه، وأن يذكره بلسانه مطلقاً، وفي حين تمهيده الأسباب لرفع الظلم والضيم عنه. ومنه(1) الدعوى والمطالبة بالحق، فإن رفع الظلامة بيد الله سبحانه وتعالى أولاً وبالذات، وقد جعل الله سبحانه وتعالى لرفع الظلامة أسباباً تكوينية أمر بانتهاجها - كما أمر بمراجعة الطبيب عند المرض - باعتبار أنه تعالى جعل الدنيا دار بلاء وامتحان وأسباب ومسببات، وقد ورد في الحديث الشريف: «اعقلها وتوكل»(2) فهو سبحانه علة العلل.

وبذلك يظهر وجه استحباب التوجه حين مطالبة الحق، حيث إن القلوب بيد الله سبحانه وتعالى، ويمكن أن يكون التوجه لله سبباً لإلقائه سبحانه وتعالى الرأفة في قلب الخصم فيستجيب لدعوة المظلوم ويرفع ظلامته. فقد ورد: «قلب السلطان بين إصبعي الرحمان». كما روي :أن رجلاً جاء إلى الإمام الصادق (عليه الصلاة والسلام) وسأله أن يتوسط لدى الوالي لإنجاز حاجته... ولما قضيت حاجته، جاء إلى الإمام (علیه السلام) متسائلاً: يا بن رسول الله، متى دخلتعليه؟. فقال (علیه السلام) - ما معناه - : «إني سألت الله الذي بيده القلوب، فألان قلب الوالي لقضاء حاجتك».

ص: 127


1- أي من تمهيد الأسباب.
2- مشكاة الأنوار: 319-320 ب8 ف7.

من عموم نعم

اشارة

-------------------------------------------

إفاضة الخير على الجميع

مسألة: يستفاد من «تخلقوا بأخلاق الله»(1) كبرى، وعموم نعم الله جل وعلا - على ما في هذا الحديث ومتواتر الروايات والآيات والعقل والوجدان - صغرى:

رجحان تعميم النعمة وإفاضة الخير على الجميع.

إضافة إلى إطلاقات البر والمعروف وقضاء الحوائج وغيرها.

وقولها (علیها السلام): (من) بيان ل (ما) في (والثناء بما قدم).

و(ما قدم) يحتمل أن يراد به ما أوجد، كما يحتمل أن يراد به معنى الابتداء، فهو جل وعلا بدأ بالإحسان، ونحن نثني عليه بالذكر الجميل.

ص: 128


1- بحار الأنوار: ج58 ص129 ب42 تتميم.

ابتداها،

اشارة

-------------------------------------------

الابتداء بالنعمة والإحسان

مسألة: يستحب الابتداء بالنعمة والإحسان قبل أن يطلب ذلك من الإنسان.

ويفهم ذلك مما تقدم في البحث الآنف، بالإضافة إلى أن الخير خير، والابتداء بالخير خير مضاعف، ذلك أنه في أصل الخير خير، وابتداؤه ابتداء بالإحسان وهو خير إضافي.

ولذا ورد في الأدعية: «يا مبتدءاً بالنعم قبل استحقاقها»(1).

ومن أسماء الله سبحانه (البديء والبديع)(2)، فهو سبحانه يبدأ بالنعم، وهو سبحانه بديع يبدع الأشياء لا من مثال سبقه فتعلم منه، فكل ما في الكون إبداع، من الذرة إلى المجرة، ومن الجوهر إلى العرض، ومن عالم الاعتباريات إلى عالم الحقائق والواقعيات، المادية منها والمجردة،عند القائل بها(3).

وهناك روايات عديدة تحض على الابتداء بالإحسان، قال (صلی الله علیه و آله): «اليد العليا خير من اليد السفلى»(4).

ص: 129


1- مستدرك الوسائل: ج6 ص310 ب19 ح6885.
2- تهذيب الأحكام: ج3 ص115 دعاء أول يوم من شهر رمضان.
3- أي بالمجردة، فإن الإمام الشيرايز (رحمة الله) يرى عدم وجود مجرد إلا الله عزوجل، انظر كتاب (الفقه: العقائد).
4- من لا يحضره الفقيه: ج4 ص376 ومن ألفاظ رسول الله (صلی الله علیه و آله) الموجزة التي لم يسبق إليها ح5763.

وسبوغ آلاء

اشارة

-------------------------------------------

كمال النعم وتمامها

مسألة: يستحب إسباغ الآلاء، أي إتمامها وإكمالها.

والفرق بين العموم والإسباغ في الجملتين:

أن العموم بمعنى شمولية النعمة لزيد ولعمرو ولبكر مثلاً، أو نعم عديدة لزيد أي شمولية النعم للواحد.

أما السبوغ فعبارة عن الكمال والتمام، و(نعمة سابغة) أي كاملة وافية.وربما فسر إسباغ النعمة بتوسعتها(1).

وربما يعبر ب: تكثير النعمة كيفاً لكل واحد من المنعم عليهم.

وتسمى النعمة نعمة؛ لأن الإنسان ينعم بسببها، وتسمى آلاءً جمع إلى(2) لأنها تنتهي إلى الإنسان، فإن مادة (إلى) بمعنى الانتهاء وتعني هنا النعمة، وهو من إضافة الصفة للموصوف فهو بمعنى (آلاء سابغة).

ص: 130


1- قال في مجمع البحرين: ج5 ص11 مادة سبغ: إسباغ النعمة توسعتها، ومنه الدعاء: (أسبغ علينا نعمك) أي أفضها علينا سابقة واسعة، والتعدية بعلى لتضمنها معنى الإفاضة، و(إسباغ الوضوء): إتمامه وإكماله، و(الحمد لله سابغ النعم) أي: كاملها وتامها، انتهى. وقال في لسان العرب: ج8 ص432 مادة سبغ: شيء سابغ أي: كامل واف، و(سبغت النعمة): إتسعت، و(نعمة سابغة) و(أسبغ الله عليه النعمة): أكملها وأتمها ووسعها.
2- (إلى) بالقصر والفتح، وقد تكسر الهمزة - مجمع البحرين: ج1 ص29 مادة إلا -.

أسداها وتمام منن أولاها،

اشارة

-------------------------------------------

إسداء النعمة

مسألة: يستحب إسداء النعم إلى كل الناس حسب القدرة، حيث تقدم أنه يستحب التخلق بأخلاق الله سبحانه وتعالى، والإسداء هو الإيصال بيسر في مقابل الإيصال بعسر(1).

توالي إفاضة النعم

مسألة: يستحب التوالي في إفاضة النعم وتعاقبها، لما سبق.

كما يستحب أن يتجلى ذكر الإنسان نعم الله سبحانه وتعالى على لسانه وقلبه وجوارحه، فإن مركز ذكر النعمة اللسان والبدن والقلب، ولذا قال سبحانه: «اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً»(2).

فإن قسماً من الناس يعرف نعم الله سبحانه لكنه لا يذكرها بلسانه، ولا يظهر أثر النعمة على جوارحه، بصلاة أو صيام أو ركوع أو سجود أو ما أشبه

ص: 131


1- قد يستفاد ذلك من التأمل في كتب اللغة، فقد جاء في لسان العرب: ج14 ص375 مادة سدو: السدو - وهو مصدر الثلاثي المجرد -: السير اللين و(السادي) الذي فيه اتساع خطو مع لين، انتهى. وفي المجمع: (أسدى) أعطى.
2- سورة سبأ: 13.

..............................

ذلك، ومن الناس من يفعل كل ذلك، ومن الناس من يذكر النعم بلسانه فقط …وهكذا.

فإن المستحب ذكر النعم، كما ذكرتها الصديقة الطاهرة (علیها السلام) باللفظ، بالإضافة إلى ذكرها بقلبها وعملها بجوارحها (علیها السلام) كما هو دأبهم (صلوات الله عليهم أجمعين).

قولها (علیها السلام): «وتمام منن» حيث إن مننه تعالى تامة لا نقص فيها.

و(والى بين الشيئين) بمعنى: تابع، فنعمه سبحانه وتعالى التامة متوالية متلاحقة.

ص: 132

جم عن الإحصاء عددها،

اشارة

-------------------------------------------

إظهار العجز عن إحصاء النعم

مسألة: يستحب إظهار عجز الإنسان عن إحصاء نعم الله سبحانه، ومدى قصوره عن الإحاطة بجانب من مخلوقاته تعالى وهو النعم الإلهية.

لوضوح أن الإنسان محدود بحد صغير في نطاق ضيق، والنعم محدودة بحد كبير وفي إطار واسع حتى بالنسبة إلى إنسان واحد، فكيف بكل نعم الله سبحانه على كل الناس من أول الخلقة وإلى ما لا ينتهي من الجنة.

بل النعم قد يصدق عليها اللا متناهي اللا يقفي على امتداد الزمن، إذ لا انتهاء للآخرة(1) بمشيئته تعالى.

وربما يكون الأمر كذلك من الناحية الكمية(2) بل والكيفية(3) أيضاً.وقد ورد في الدعاء:

«وتقاصر وسع قدر العقول عن الثناء عليك، وانقطعت الألفاظ عن مقدار محاسنك، وحكت الألسن عن إحصاء نعمك، وإذا ولجت بطريق البحث عن نعتك بهرتها حيرة العجز عن إدراك وصفك»(4).

ص: 133


1- فالنعم مستمرة زماناً إلى ما لا نهاية.
2- فربما يكون أعداد النعم في عالم الآخرة متواترة مترادفة بحيث لا تتناهى كمراتب الأعداد.
3- فربما تكون مراتب النعم ودرجاتها متزايدة باستمرار لا متناه، كأن تزداد حلاوة العسل باستمرار، ويزداد برد الماء ورواؤه آناً بعد آن، وهكذا.
4- البلد الأمين: ص379 دعاء لمولانا أمير المؤمنين (علیه السلام) وهو المفضل على كل دعاء له (علیه السلام).

..............................

قولها (علیها السلام): «جم» أي كثر «عن الإحصاء عددها»؛ فإن نعم الله لايمكن إحصاؤها، فمثلاً في جسم الإنسان مليارات من الخلايا الحية مما لا يتمكن الإنسان من إحصائها، وفي كل خلية قشرة (غطاء خارجي) ولب ومركز قيادة (1).

تذكر لا نهائية النعم

مسألة: يستحب أن يتذكر الإنسان دوماً أن نعمه تعالى لا تعد ولا تحصى، وأن يشكر الله ويحمده على ذلك.

فإن تذكر أصل النعمة والشكر لها مستحب، وتذكر أنها لا تعد ولا تحصى مستحب آخر؛ لأنه نوع من الذكر ومن الشكر، وقد قال سبحانه: «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ»(2).

ص: 134


1- وقد أحصى بعض علماء العلم الحديث أن في كل مركز قيادة لكل خلية ثلاثون ألف طابق - إذا ما شبهنا هذا المركز بعمارة ذات طوابق - تمر عبرها وبسببها كافة التفاعلات الكيماوية وغيرها.
2- سورة البقرة: 152.

ونأى عن الجزاء أمدها،

اشارة

-------------------------------------------

عدم إمكان الجزاء على النعم

مسألة: يستحب تذكير الناس دوماً بأن نعم الله سبحانه وما أفاضه على الخلق لا يمكن ولا يعقل جزاؤها؛ لأنه لو فرض إمكان أصل الجزاء منا له تعالى - وهو فرض محال؛ لأن الجزاء لا يكون إلاّ بما هو خارج عن ملك المجازي وحيطة قدرته، والحال أن كل موجود داخل في ملك الله سبحانه وحيطته - فهو أيضاً بنعمة أخرى؛ لأن كل ما للإنسان من جسم وروح وعقل وعاطفة وقدرة وإيمان، وكل ما في الكون بأجمعها، نعم الله سبحانه وتعالى، فكل حركة وكل شكر يستدعي شكراً جديداً إلى ما لا نهاية.

قال السيد الطباطبائي (رحمة الله) في قصيدته:

شكراً وأنا لي بلوغ ما وجب *** من شكره والشكر للشكر سبب

وبهذا المعنى ورد عن الإمام زين العابدين (علیه السلام) في مناجات الشاكرين حيث يقول (عليه الصلاة والسلام):

«إلهي أذهلني عن إقامة شكرك تتابع طولك، وأعجزني عن إحصاء ثنائك فيضفضلك، وشغلني عن ذكر محامدك ترادف عوائدك، وأعياني عن نشر عوارفك توالي أياديك...

فآلاؤك جمة ضعف لساني عن إحصائها، ونعماؤك كثيرة قصر فهمي عن إدراكها، فضلاً عن استقصائها، فكيف لي بتحصيل الشكر وشكري إياك يفتقر

ص: 135

..............................

إلى شكر، وكلما قلت لك الحمد وجب عليَّ لذلك أن أقول لك الحمد... »(1).

قولها (علیها السلام): «ونأى» أي بعد.

فحياة الإنسان لا تسع لجزاء نعمه سبحانه، فأمد النعم قد أبعدها عن إمكان الجزاء، حيث إن نعم الله تواترت على الإنسان قبل خلقته في هذا العالم - مثلاً عالم الذر - وحين كان تراباً، ثم نطفة، فإنساناً كاملاً، ثم وهو في عالم الآخرة في الجنة.

ص: 136


1- الصحيفة السجادية الكاملة: ص307- 308 المناجاة السادسة، مناجاة الشاكرين، منشورات مؤسسة الأعلمي بيروت.

وتفاوت عن الإدراك أبدها،

اشارة

-------------------------------------------

العجز عن إدراك النعم

العجز عن إدراك النعم(1)

مسألة: يستحب ذكر الله سبحانه بهذا النحو الذي يشير إلى محدودية إدراك الإنسان من جهة، وإلى دوام نعم الله تعالى من جهة أخرى.

ببيان: إن (أبد)(2) نعم الله سبحانه لا تدرك، إذ أن النعم لا متناهية حيث أنها موصولة بجنة لا محدودة - لا يقفياً - من حيث الزمن (الكم المتصل غير القار) ومن حيث العدد(3) (الكم المنفصل) كما سبق.

بل وربما حتى من حيث المسافة، إذ يحتمل توسع الجنة باستمرار من هذا الحيث أيضاً، ونظيره ما في الحياة الدنيا، قال سبحانه: «وَالسَّمَاءَبَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ»(4).

ومن المعلوم أن الإدراك محدود خصوصاً في الدنيا، ولذا لا يتمكن من إدراك أبد النعم، فقد (تفاوت) أي تباعد تباعداً كبيراً(5) «عن الإدراك أبدها» أي أبد النعم ودوامها.

ص: 137


1- حول هذا المبحث ونظائره راجع الكتب الكلامية للإمام المؤلف (قدس سره)، ومنها :(القول السديد في شرح التجريد)، و(شرح المنظومة).
2- الأبد: الدوام والخلود، وبمعنى الدهر الطويل الذي ليس بمحدود.
3- أي عدد مصاديق النعم.
4- سورة الذاريات: 47.
5- تفاوت الشيئان تفاوتاً: أكثر تباعد ما بينهما - مجمع البحرين: ج2 ص214 مادة فوت -.

..............................

فلا يتمكن الإنسان من إدراكها، فإن القوة المدركة محدودة وذلك غير محدود بالقياس لتلك، والمحدود لا يستوعب غير المحدود استحالة عقلية كما أشرنا إلى ذلك.

وقد يكون السبب في محدودية القوة المدركة في الدنيا: سجنها في حيز الجسم.

فلربما توسعت المدارك الإنسانية في الآخرة بحيث تحيط بالنعم وشبهها، وهذا الأمر على مبنى تجرد الروح أظهر، فتأمل(1).

ص: 138


1- التأمل إشارة إلى ما ارتآه الإمام المصنف في كتابه (الفقه: العقائد) حيث قال بعدم وجود المجرد إلاّ الله عزوجل، فراجع.

وندبهم لاستزادتها بالشكر لاتصالها،

اشارة

-------------------------------------------

الاستزادة من النعم

مسألة: يستحب السعي للاستزادة من النعم بالشكر وغيره، حتى يتفضل الله سبحانه باتصال النعم بعضها ببعض، فإنه تعالى هو الذي «ندبهم» أي دعاهم «لاستزادتها بالشكر»، وإجابة دعوة الله تعالى راجحة(1) دون شك.

وقد وعد سبحانه بزيادة النعم وبتواصلها إثر الشكر وبسببه، قال تعالى: «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ»(2).

وقال سبحانه: «وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ»(3).

وقال عزوجل في آية أخرى: «وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ»(4).

التحفظ على النعم

مسألة: يستحب التحفظ على النعم، فإن النعم إنما تحفظ بالشكر القولي والعملي، فللشكر فائدتان: فائدة حفظ النعم، وفائدة الاستزادة منها،

ص: 139


1- بالمعنى الأعم.
2- سورة إبراهيم: 7.
3- سورة لقمان: 12.
4- سورة العنكبوت: 6.

..............................

واستحباب التحفظ على الأصل - ما هو الموجود من النعم - يفهم من ندبه تعالى للاستزادة منها كما لا يخفى.

كما يستحب تشويق الناس بعضهم بعضاً للاستزادة من النعم، والتحفظ على ما عندهم منها، إذ تشمله إطلاقات كثير من الآيات والروايات، إضافةً إلى العقل، وبيان ندبه تعالى لذلك من طرق التشويق.

كما يستحب تعليم الآخرين طرق الاستزادة من النعم وحفظها، ويشمله قوله تعالى: «تَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى»(1).

وهذا من غير فرق بين أن تكون النعمة مادية أو معنوية، ظاهرية أو باطنية، فإن الحمد والشكر يوجبان بقاء النعمة والاستزادة منها.

وجوب أصل الشكر وبعض مصاديقه

مسألة: يمكن القول بوجوب أصل الشكر لله تعالى، فمن أعرض عن شكره مطلقاً (2) كان آثماً، كما قد يجب بعض مصاديقه، لوجوب حفظ أو تحصيل بعض النعم لجهات عديدة.

فإنه من الشكر واجب ومنه مستحب، فإن كان مقدمة للواجب وجب، وإن كان مقدمة للمستحب استحب(3)، للتلازم بين المقدمة وذي المقدمة، كما قرر في بحث مقدمة الواجب ومقدمة الحرام(4).

ص: 140


1- سورة المائدة: 2.
2- بالقلب واللسان والجوارح دائماً.
3- ولو عقلاً.
4- راجع (الأصول) للإمام المؤلف (قدس سره).

..............................

وقد أرشد الله سبحانه للشكر حتى يستزيد الإنسان من نعمه تعالى. قال سبحانه: «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ»(1). وستكون النعم عند الشكر متصلة بعضها ببعض بفضله تعالى.

والشكر - فيما عدا الواجب - مستحب مطلقاً.

كما أن الشكر بهذا اللفظ(2) مستحب، سواء كان بهذه الصيغة أم بسائرالصيغ، وسواء كان متعلقه لفظ الجلالة بذاته أم سائر صفاته، فيصح أن يقول: (شكراً لله)، أو(شكراً للخالق)، أو(الرازق)، أو(الحاكم)، أو(العالم)، أو(القائم)، أو(الدائم)، أو(الحي)، أو(القيوم)...

كما يصح أن يقول: (أشكر) أو(إني شاكر) أو ما أشبه ذلك من الألفاظ الكثيرة، من حيث التعلق ومن حيث صيغة الشكر.

وكذلك يصح أن يأتي بصيغة الجمع نحو: (إنا شاكرون) وما أشبه ذلك.

هذا كله في الشكر اللفظي.

وأما الشكر العملي: فبإطاعة الله سبحانه، قال تعالى: «اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً»(3).

وقال تعالى: «اشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ»(4) والمراد بالشكر هنا: الأعم.

ص: 141


1- سورة إبراهيم: 7.
2- أي بهذه المادة.
3- سورة سبأ: 13.
4- سورة البقرة: 152.

واستحمد إلى الخلائق بإجزالها، وثنى بالندب إلى أمثالها.

اشارة

-------------------------------------------

حمد الله واجب أم مستحب

مسألة: ينبغي حمد الله تعالى على نعمه، وعلى غيرها أيضاً.

ولولا القرينة لدل قولها: «استحمد» على الوجوب، إذ (استحمد) بمعنى: طلب منهم - جل شأنه - أن يحمدوه، لأنه أجزل عليهم النعم، والأصل في طلب العالي من الداني وجوب التلبية، خاصة إذا كان مشفوعاً بتعليل كتعليلها (علیها السلام)(1) إذ ذلك ملزم للحمد عقلاً.

ويمكن الالتزام بدلالته(2) على وجوب الطبيعة(3) المنطبقة على الواجب من الحمد(4) فيتحقق امتثالها بالإتيانبتلك المصاديق وتكون القرائن صارفة عن إرادة العموم(5)، فتأمل.

ونظيره قوله تعالى:

«فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (علیهم السلام) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ

ص: 142


1- في قولها (علیها السلام): «بإجزالها».
2- أي دلالة (استحمد).
3- وهي الكلي الطبيعي.
4- المراد: إن هناك مصاديق واجبة شرعاً تتضمن الحمد لله تعالى، كالصلاة المتضمنة لسورة الحمد - مثلاً - فينطبق كلي (الحمد) المطلوب على هذه المصاديق ويتحقق بها.
5- أي إرادة: إيجاب مطلق الحمد وكل أفراده، فعلى هذا تكون سائر أفراد الحمد المتحققة في غير الواجبات المعهودة مستحبة.

..............................

خَوْفٍ»(1).

و(الإجزال): عبارة عن الإكمال كما سيأتي، فهذه الجملة بالنسبة إلى الكيف، وإن أمكن غير ذلك، والجملة السابقة (2) بالنسبة إلى الكم، فشكره على حمده(3) يزيدها كما ويعطيها الديمومة زمناً.

وقد يفرق بين الحمد والشكر:

بأن (الحمد) أعم، إذ ليس فيه دلالة على نعمة واصلة إلى الحامد؛ لأنه ربما يحمد لكون المحمود له صفة حميدة.

بينما (الشكر) له هذه الدلالة،وقد سبق ذلك.

ثم لا يخفى أن الشكر والحمد مطلوبان لله تعالى لأجل الإنسان نفسه، لا لفائدة تعود إليه سبحانه، إذ هو تبارك وتعالى الغني المطلق، فهما كعبادته جل وعلا تزيد الإنسان تكاملاً وسمواً واقتراباً منه سبحانه، فطلبه ذلك مناً للطفه وكرمه وفضله وحكمته.

ويشير إلى ذلك ما ورد من قوله تعالى في الحديث القدسي:

«عبدي أطعني تكن مثلي أقول للشيء كن فيكون، وتقول للشيء كن فيكون»(4).

ص: 143


1- سورة قريش : 3-4.
2- «وندبهم لاستزادتها بالشكر لاتصالها».
3- أي معه.
4- راجع إرشاد القلوب: ج1 ص75 ب18، وفيه: روي أن الله تعالى يقول في بعض كتبه: «يا ابن آدم، أنا حي لا أموت أطعني فيما أمرتك أجعلك حياً لا تموت. يا ابن آدم، أنا أقول للشيء كن فيكون أطعني فيما أمرتك أجعلك تقول للشيء كن فيكون».

..............................

وقوله سبحانه: «وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ»(1).

وقوله تعالى: «أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَنَفْعاً»(2).

ونظائرها كثيرة، مما يدل على أن النفع والضرر يعود(3) للإنسان نفسه.

و( الإجزال) معناه: الإكمال والإتمام والإكثار(4)، يقال: (أجزلت له من العطاء) أي: أكثرت، فإن أصل النعمة يوجب الحمد والشكر، والإكثار من النعمة يستدعي مزيداً من الحمد والشكر.

فاللازم وجوباً أو استحبابا إيقاف الناس على ذلك، حتى يحمدوه ويشكروه سبحانه وتعالى أكثر، وبذلك يستجلبون خيراً أكثر بلطف الله سبحانه وتعالى.

وكما أنه سبحانه ندبهم للاستزادة منها في دار الدنيا، كذلك ندبهم إلى الحصول على أمثال نعم الدنيا فيالآخرة عبر الشكر والحمد، قال تعالى:

ص: 144


1- سورة يس: 61.
2- سورة المائدة: 76.
3- أي كل واحد منهما.
4- تستفاد هذه المعاني مما ذكره اللغويون لتوضيح معنى (جزل) أو موارد استعماله، فمثلا: (جزل) ككرم: صار ذا رأي جيد، و(الجزل): العاقل الأصيل الرأي - القاموس المحيط: ج3 ص348 مادة جزل - (جزل) و(حطباً جزلاً) أي: غليظاً قوياً، و(رجل جزل) أي: جيد الرأي، و(امرأة جزلة) أي: تامة الخلق، و(اللفظ الجزل): خلاف الركيك، و( الجزيل): العظيم، و(عطاء جزل وجزيل) أي: كثير - راجع لسان العرب: ج11 ص109 مادة جزل -.

..............................

«كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً»(1).

فالشكر والحمد أولاً يزيد نعم الدنيا، وثانياً يسبب نعم الآخرة، فهو تعالى قد ثنى دعوته وطلبه(2) ب «الدعوة إلى أمثالها» أي: أمثال تلك النعم والآلاء والمنن(3)، فالراجح - وجوباً أو استحبابا - ندب العباد ودعوتهم إلى الاستزادة منها.

وهذه هي نوع من التجارة مع الله سبحانه، نظير قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لهمُ الْجَنَّةَ»(4).ومن الواضح أنها تجارة رمزية، إذ لا نسبة بين الثمن والمثمن، إضافة إلى أن الكل ملك له تعالى(5).

ص: 145


1- سورة البقرة:25.
2- أي أضاف لطلبه الأول - وهو طلب الحمد في (استحمد) وطلب الشكر في الجملة السابقة - طلباً ثانياً هو الدعوة إلى الأمثال.
3- في قولها (علیها السلام): «من عموم نعم ابتدآها، وسبوغ آلاء أولاها، وتمام منن والاها».
4- سورة التوبة: 111.
5- أي : إن الثمن والمثمن والمشتري والمشترى كلها ملك لله تعالى، ولذلك كانت المعاملة رمزية مجازية.

وأشهد أن لا إله إلا الله

اشارة

-------------------------------------------

بحث حول كلمة التوحيد

مسألة: التعبير ب (أشهد) دون (أقرّ) أو (أعترف) أو ما أشبه ذلك، نظراً لأن (الشهادة) و(الشهود) هو أعلى مراحل الإدراك، ووجوده تعالى ووحدانيته من الوجدانيات والفطريات، فهو معلومة للإنسان بأجلى أنحاء المعرفة، وكذلك فيما هو بمنزلة ذلك(1).

وكلمة التوحيد (2) مركبة من عقد سلب وعقد إيجاب، فنفي الباطل والغير أولاً، ثم إثبات الحق المحض المطلق.

هذا ونفي الشريك يستلزم - لدى الدقة - نفي الجزء أيضاً(3) إضافة إلىأن التركيز على نفي الشريك لأنه الشائع في المعتقدات دون قسيمه(4).

ص: 146


1- قد يكون المراد الشهادة برسالة النبي (صلی الله علیه و آله) الثابتة بالبراهين الجلية، وكذلك الشهادة بولاية أمير المؤمنين (علیه السلام) .
2- أي: لا إله إلا الله.
3- قد يكون هذا دفع دخل مقدر، وإجابة عن أنه لماذا لم تتضمن كلمة التوحيد نفي الأجزاء لله تعالى؟. حيث إن إثبات الواحدية يستلزم إثبات الأحدية أيضاً، إذ المركب لا يخلو إما أن يكون كلا جزئيه واجباً فلم يكن واحداً وهذا خلف، أو يكون كلاهما ممكناً فلا يعقل أن يكون المركب منهما واجباً، وهذا خلف، أو يكون أحدهما واجباً فعندئذ لا يكون المجموع واجباً - إذ النتيجة تتبع أخس المقدمتين - بل كان هذا الجزء واجباً وذاك كضم الحجر بجنب الإنسان ويكون التعبير بالجزئية باطلاً.
4- وهو نفي الجزء والتركب.

..............................

ثم إن وجوب الإيمان بالله تعالى فطري وعقلي، وما ورد من إيجاب ذلك إرشاد وإلفات.

وإن منكر وجوده تعالى كافر، فإن كان معتقداً به سبحانه فيما سبق ثم أنكر كان مرتداً، والمرتد فطري وملي، والبحث في ذلك كله موكول إلى مظانه(1).

والحكمة في ذكر ذلك كله - من أصول الدين ولواحقها والفروع وشطر وافر من الأخلاقيات - في خطبتها (علیها السلام) هي التعليم والتزكية والتأكيد والتركيز والتذكير وإتمام الحجة.فإن بأمثال هذه الخطبة منها ومن أبيها وبعلها وبنيها (عليهم صلوات المصلين) أثاروا عن الناس دفائن العقول(2)، وعلّموهم وزكّوهم(3).

وبأمثالها تركزت هذه المباني وثبتت وترسخت رغم كل الطوارئ والموانع والتشكيكات والشبهات.

وبأمثالها تمت الحجة على الناس: «لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ

ص: 147


1- راجع موسوعة الفقه: ج4 ص182-274 كتاب الطهارة، الثامن في نجاسة الكافر.
2- إشارة للحديث الوارد في بيان حكمة بعثة الأنبياء (علیهم السلام): «ويثيروا لهم دفائن العقول» نهج البلاغة، الخطب:1، ومن خطبة له (علیه السلام) يذكر فيها ابتداء خلق السماء والأرض وخلق آدم (علیه السلام).
3- إشارة إلى قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ» سورة الجمعة : 2.

..............................

حُجَّةٌ»(1).

وقد يكون لذلك أيضاً ما نجد من الشارع المقدس حيث قد سنّ واجباتومستحبات تمتد بامتداد حياة الإنسان كلها، من الولادة حتى الوفاة(2) بل من قبلهما ومن بعدهما أيضاً (3) وهي تتضمن الحديث عن الأصول والفروع والأخلاقيات وشبه ذلك.

فلذلك نجدها (علیها السلام) تحدثت عن ذلك كله في خطبتها، تزكيةً وتعليماً وتذكيراً وإتماماً للحجة، ويتضمن ذلك أيضاً بعد الأسوة.

ص: 148


1- سورة النساء: 165.
2- فمثلاً يستحب الأذان والإقامة في أذن الوليد.
3- كالأدعية الواردة قبل وحين الحمل، وكالأدعية التي تقرأ للميت والصلاة عليه وتلقينه.

وحده لا شريك له،

اشارة

-------------------------------------------

وحدانية الله وأحديته

مسألة: يجب وجوباً فطرياً وعقلياً(1) الاعتقاد بوحدانيته تعالى، وبأحديته أيضاً ف: (كما هو الواحد أنه الأحد ليس له الأجزاء لا أجزاء حد)(2).

فإن اللازم أن يعتقد الإنسان بالإله الواحد الفرد، الذي لا شريك له ولا جزء له، ومن اعتقد بشريك لله سبحانه كان مشركاً، أي: أشرك بالله غيره.

سواء جعل له من البشر ولداً أو والداً أو زوجة: «لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (علیهم السلام) وَلَمْ يَكُنْ له كُفُواً أَحَدٌ»(3).

أو إلهاً آخر، كما في الثنوية الذين يعتقدون بإلهين اثنين: إلهالخير وإله الشر، أو إله النور والظلمة، أو أكثر من ذلك، فإن هذا أيضاً مشرك، عليه أحكام الكفار كما هو مذكور في (الفقه)(4).

و(وحده) و(لا شريك له) تأكيد في تأكيد لمضمون (لا إله إلا الله) وكان التأكيد محبذاً، لشيوع الشرك وشدة تمسك طوائف عديدة به ولغير ذلك(5).

ص: 149


1- ذهب الإمام المؤلف (قدس سره) في (الأصول) إلى أن العقل حاكم أيضاً لا مدرك فقط، على أن العبارة هنا أعم من الإدراك والحكم.
2- أجزاء الحد: هي أجزاء المهية، أي الجنس والفصل، فليس له حتى التجزؤ العقلي.
3- سورة الإخلاص: 3-4.
4- راجع موسوعة الفقه: ج4 ص182-274 كتاب الطهارة، الثامن في نجاسة الكافر.
5- كأهمية الموضوع.

..............................

استحباب التلفظ بالشهادة

مسألة: يستحب التلفظ بالشهادة بوجوده ووحدانيته سبحانه وتعالى.

فإن المستحب استخدام مادة الشهادة مثل: (أشهد) أو (شهادتي) أو ما أشبه ذلك، وإن لم يكن هذا اللفظ بما هو هذا اللفظ - مادة وصيغة - واجباً، ولذا لو قال: (أعتقد بإله واحد) أو تلفظ بنظائر ذلك كان كافياً.

فأصل الإيمان بالله تعالى وبوحدانيته واجب، أما النطق بلفظ الشهادة فهو مستحب، إلاّ في مثل التشهد في الصلاةحيث دلّ الدليل على الوجوب، وكذلك الشهادة بسائر صفاته الثبوتية والسلبية، فإن أصل الاعتقاد بها واجب والتلفظ مستحب. حيث إن (التلفظ) له أثر تكويني ووضعي ونفسي وخارجي في كثير من الأحيان، وفي العديد من الأمور، إذ أنه نوع من (الإيحاء) و(التلقين) إضافة إلى مدخليته في تلوين المحيط وإعطاء صبغة معينة: «صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً»(1).

وهو (المظهر) الذي يبني عليه(2) العقلاء الكثير من شؤون حياتهم، غير مكتفين ب (المضمر والمخبر) فحسب، كما في العقود والإيقاعات التي قد يعد الكلام أحد المبرزات والأركان لها وحده فقط أو لا(3).

ص: 150


1- سورة البقرة: 138.
2- أي على المظهر.
3- أي مع غيره، ف (لا) نفي ل (فقط) والمقصود: إن العقلاء في العقود والإيقاعات يشترطون المبرز وهو، إما اللفظ فحسب - على مبنى البعض أو في بعض الموارد - أو اللفظ وغيره من سائر المبرزات كالإشارة والفعل مثلاً على سبيل البدل.

..............................

التأكيد في الاعتقاديات

مسألة: يستحب التأكيد في القضايا الاعتقادية، تأكيداً لفظياً أو معنوياً، كما قالت (سلام الله عليها): «لا إله إلا الله».. «وحده».. «لا شريك له».

وقد قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) حينما وقف قائماً على باب الكعبة: «لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده»(1)، وكما نشاهد ذلك في كلمات كثيرة لرسول الله (صلی الله علیه و آله) وكلمات المعصومين (علیهم السلام).

والظاهر أن الضمير أيضاً كاف، كما ورد في القرآن الحكيم: «فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ»(2) وما أشبه ذلك.

استحباب الابتداء بالشهادة

مسألة: يستحب تضمين بداية الخطبة أو الكلام - بل والعمل أيضاً - بالشهادة لله بالوحدانية.

فإن الابتداء في كل خطبة وكل كلام وكل عمل - تجارةً كان أم زراعةً أم سفراً أم غير ذلك - بالشهادة، سواء كان بنفس لفظ الشهادة أم بغيرها، مثل أن يقول: (لا إله إلا الله) مستحب، وموجبللمباركية ونزول الخيرات الإلهية وتوجه العنايات الربانية، وفي الحديث:

ص: 151


1- بحار الأنوار: ج21 ص105 ب26.
2- سورة محمد: 19.

..............................

«فإن ذكر الله سبحانه حسن على كل حال، فلا تسأم من ذكر الله»(1) فتشمله الإطلاقات ودليل الأسوة.

ويمتاز ابتداء الكلام بالعناية الأكثر إذ هو من أجلى المصاديق.

وكذلك الأمر في آخر الكلام أو العمل، في كثير من الأحيان، كما ورد: «فإن من كان آخر كلامه "لا إله لله إلا الله" دخل الجنة»(2).

وقال (علیه السلام): «كفارات المجالس أن تقول عند قيامك: سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين»(3).

وقال (صلی الله علیه و آله): «إن كفارة المجلس: سبحانك اللهم وبحمدك،لا إله إلاّ أنت ربّ تُبْ عليَّ واغفر لي»(4).

صبغة الله

مسألة: يستحب (تطعيم) و(ملأ) كافة جوانب الحياة ببيان الأمور الاعتقادية، وتحويل ذلك إلى سنة شاملة بحيث تتحول إلى جزء لا يتجزأ من حياة الناس، في المسجد والمدرسة والمعمل والمتجر والبيت وغيرها، فذكر وبيان وكتابة القضايا الاعتقادية ينبغي أن يملأ الخطب والكتب والصحف وحتى الجدران عبر لوحات صغيرة تتضمن كلمات منتخبة تذكر بأصول العقائد.

ص: 152


1- الكافي: ج2 ص497 باب ما يجب من ذكر الله عزوجل في كل مجلس ح6.
2- وسائل الشيعة: ج2 ص455-456 ب36 ح2634.
3- من لا يحضره الفقيه: ج3 ص379 باب الأيمان والنذور والكفارات ح4335.
4- بحار الأنوار: ج72 ص467 ب95 ح17.

..............................

ولذلك نرى الصديقة الطاهرة (علیها السلام) تتطرق بدءً ووسطاً وختماً لتلك القضايا العقائدية، ونرى آل البيت (علیهم السلام) والعلماء الأبرار من بعدُ قد أدخلوها حتى في خطبة عقد النكاح: «الحمد لله الذي أحلّ العقد والنكاح، وحرّم الزنا والسفاح، والصلاة والسلام على محمد وآل بيته سادات أهل الخير والفلاح... ».

فإن هنالك مرحلتين:الأولى: أن يملأ الإنسان ذهنه وضميره بكلمة التوحيد - لفظاً ومضموناً - ونظائرها من الأمور الاعتقادية، وأن يطفح ذلك على لسانه دوماً بينه وبين نفسه، قال تعالى: «الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ»(1).

الثانية: مرحلة تعامل الإنسان مع الآخرين في هذا البعد، عبر بيان ذلك للناس قولاً وكتابةً وغير ذلك، بحيث يصبح مظهر المجتمع مظهراً لكلمات التوحيد والشهادة بها وبالنبوة وما أشبه ذلك.

ويشير إلى هذا بأوفى بيان إعجازي، قوله تعالى: «صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً»(2)، فاللازم أن تتحول الشهادتان، بل الشهادات الثلاث، ونظائرها إلى (صبغة) عامة للمجتمع وشاملة لشتى ميادين الحياة.

ص: 153


1- سورة آل عمران: 191.
2- سورة البقرة: 138.

كلمةً جعل الإخلاص تأويلها،

اشارة

-------------------------------------------

الإخلاص في العقيدة والعمل

مسألة: يجب الإخلاص في الاعتقاديات، وكذا في الأعمال الجوانحية والجوارحية الأخرى في الجملة، فإن الإنسان يجب أن يعقد قلبه على الإيمان بأصول الدين مخلصاً غير مشوب ذلك بشيء(1)، بأن يقوم بأعماله العبادية مخلصاً لله، لا رياءً أو سمعةً، أو طمعاً في أجر دنيوي أو ماأشبه ذلك، إلاّ ما كان على نحو الداعي على الداعي(2)، فإذا لم يكن له إخلاص لم يقبل الله سبحانه منه، كما قال تعالى في قرآنه الحكيم: «وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ له الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ»(3).

ص: 154


1- يمكن توضيح تصور إمكان ووقوع الشرك في القضايا الاعتقادية عبر ذكر بعض الأمثلة: الإيمان بوحدانية الله تعالى لأنه كذلك لا لأجل أنه لولا الإيمان بوحدانيته سيدخل في النار، بحيث لولا هذا التخوف لما آمن بوحدانيته، وكذلك الأمر من حيث الطمع في الجنة في هذا المثال، وكذا في بقية الأمور الاعتقادية. وهناك مثال من نمط آخر: الإيمان برسالة الرسول (صلی الله علیه و آله) لأن الله سبحانه اتخذه رسولاً لا لأنه عربي أو لأنه من قبيلة كذا أو ما أشبه ذلك - مما يذهب إليه القوميون وأشباههم - ولو بنحو التشريك، أي يؤمن برسالته (صلی الله علیه و آله) لأن الله أرسله ولأنه كان عربياً. ويمكن التمثيل بنمط آخر وإن كان نادراً: الإيمان بأي واحدة من أصول الدين لما سبق، لا خوفاً من انكشاف عدم اعتقاده بها وعدم عقد قلبه عليها ولو عبر فلتات اللسان أو عبر أجهزة كشف الأفكار أو ما أشبه ذلك.
2- كمن يُستأجر للصلاة نيابةً عن ميت مقابل كذا من المال، فإن الأجرة لو اعتبرها داعياً لكي يقصد (الصلاة لله) صحّ وإلاّ فلا، والاستثناء في كلام المصنف (رحمة الله) منقطع كما لا يخفى.
3- سورة البينة: 5.

..............................

و(القيمة) صفة لمحذوف أي دين الطريقة القيمة، أو دين النفس القيمة، أو ما أشبه ذلك مما يمكن تقديرها لأن تكون (القيمة) صفة لها، فإن الموصوف إذا كان مذكراً والوصف مؤنثاً، أو بالعكس يقدر مثل هذا التقدير(1).أما بالنسبة إلى ما عدا الاعتقاديات والأعمال العبادية كالمعاملات والأعمال الشخصية وما أشبه، فإن كان مقروناً بالإخلاص كان سبباً للفضل والبركة.

وهناك رواية تفيد استحباب أن يجعل الإنسان كل أعماله حتى أعماله العادية وأفعاله الشخصية اليومية - كالأكل والشرب والمنام مثلاً - لله سبحانه وتعالى، فإذا أكل شيئاً أو شرب الماء، أكله و شربه بلحاظ أن الله سبحانه أمر أن يكون صحيح الجسم سليم الجسد ومتنعماً بنعم الله تعالى: «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا»(2).

وفي الروايات: «إن لبدنك عليك حقاً»(3).

وكذلك إذا ذهب إلى دورة المياه، أو سافر للترفيه، أو باشر زوجته، وغير ذلك.

ص: 155


1- وفي تفسير (تقريب القرآن): ج3 ص205: دين القيمة أي دين الكتب القيمة - التي تقدم ذكرها - بمعنى أنه الدين المذكور في تلك الكتب. وفي تفسير (مجمع البيان): ج5 ص522: دين القيمة تقديره دين الملة القيمة؛ لأنه إذا لم يقدر ذلك كان إضافة الشيء إلى صفته وذلك غير جائز، لأنه بمنزلة إضافة الشيء إلى نفسه.
2- سورة الأعراف: 32.
3- راجع بحار الأنوار: ج67 ص128 ب51 ح14.

..............................

بل حتى المكروهات قد يمكن إتيانها لله سبحانه وتعالى إذا كانت محلاً لذلك(1) حيث ورد: «إن الله يحب أن يؤخذ برخصه، كما يحب أن يؤخذ بعزائمه»(2) فتأمل.

وأما في المحرمات بدون أن يكون لها جهة وجوب فلا، نعم إذا صار للمحرم جهة وجوب أهم كان كذلك، كما إذا عمل محرماً تقية أو خوف ضرر أكبر، كخوف الموت إذا لم يستعمل هذا الحرام - كأكل لحم الخنزير في المخمصة - كما قال سبحانه: «فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ»(3) مما فصل مبحثه في الفقه(4).

ثم لا يخفى أن مرجع ومآل الشهادة ب ( لا إله إلا الله) الإخلاص، والمراد بكون مرجعها الإخلاص: إما المرجعية الثبوتية أو التكوينية، فيكون كلامها (علیها السلام) إخباراً وقد يؤيده السياق، وإما أن يكون المراد هو: عليكم أن ترجعوها للإخلاص، فيكون كلامها(علیها السلام) إنشاءً في قالب الإخبار، فقد جعل سبحانه وتعالى تكويناً أو تشريعاً الإخلاص تأويلاً لكلمة (لا إله إلا الله).

وإذا كانت هذه الكلمة وهي أسّ الدين مرجعها إخلاص فوجوبه - في الجملة - بديهي.

وإذا لم يكن إله غير الله فمن الواضح أنه يجب عقلاً الإخلاص له.

ص: 156


1- بأن عارضها أهم مثلاً.
2- وسائل الشيعة: ج1 ص108 ب25 ح263، والوسائل: ج16 ص232 ب29 ح21441.
3- سورة البقرة: 173.
4- راجع موسوعة الفقه كتاب (القواعد الفقهية) قانون (الأهم والمهم).

..............................

قال علي (علیه السلام): «وكلمة الإخلاص فإنها الفطرة»(1).

وقال علي (علیه السلام): «وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه؛ لشهادة كل صفة أنها غير موصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة»(2)..

فيكون الإخلاص بمعنى الاعتقاد بأنه تعالى خالص من كل نقص وما أشبه، ويكون هذا الاعتقاد واجباً.

ص: 157


1- نهج البلاغة، الخطب: 110 ومن خطبة له (علیه السلام) في أركان الدين.
2- نهج البلاغة، الخطب: 1 ومن خطبة له (علیه السلام) يذكر فيها ابتداء خلق السماء والأرض وخلق آدم (علیه السلام) .

وضمن القلوب موصولها، وأنار في التفكر معقولها،

اشارة

-------------------------------------------

توحيد الله في أعماق القلوب

مسألة: يستحب أن يؤكد الإنسان على أن التوحيد ومعرفة الله سبحانه من الأمور الفطرية، فإن وجود الله سبحانه وتعالى ووحدانيته من الفطريات التي غرست في أعماق ذات الإنسان(1)، فقد تضمنها قلب كل فرد وقد وصلت بالقلب خلقة كبرهان ملازم، إلاّ أن الغبار قد يتراكم ليحجب الرؤية، فكان التذكير والتأكيد مطلوباً لذلك، فالتركيز على ذلك ينفع الإنسان نفسه وغيره أيضاً.

أما الإنسان نفسه فلأنه إيحاء، والإيحاء يوجب مزيداً من الجلاء ومراتب أعلى من الوضوح(2).

وأما لغيره، فلأنه هداية وإرشاد وإلفات إلى أن الفطرة مطابقة لما أمر الله سبحانه وتعالى من العقيدة القول والعمل، قال سبحانه: «فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَالنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ»(3).

فالشهادة إذن موصولة بالقلوب ومغروسة فيها، من وصله فهو موصول، فإن الله سبحانه جعل فطرة الإنسان - في قلبه - بالشهادة على وحدانيته.

ص: 158


1- راجع الكافي: ج2 ص12 باب فطرة الخلق على التوحيد.
2- كما ثبت ذلك في علم النفس.
3- سورة الروم: 30.

..............................

ولما دخلت الشهادة في القلب أعطت نوراً لفكر الإنسان، فإن فكر الموحد له نور خاص كاشف عن الواقع، إذ يرى الأشياء كما هي لا كما يراها الطبيعي والثنوي ومن أشبههما.

وفي الرواية الشريفة: «ليس العلم بكثرة التعلم، إنما هو نور يقذفه الله في قلب من يريد أن يهديه»(1).

وقال (علیه السلام): «العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء»(2).

وقولها (علیها السلام): «معقولها» لعلّ المراد أن ما يعقل من كلمة التوحيد من المراتب واللوازم، أي ما يمكن أن يتعقله الإنسان منها قد أعطاه الله للإنسان ومنحه إياه حيث أناره في تفكيره، فقد أفاض إلى الحد الذييتحملها العقل البشري وهو غاية اللطف والفضل.

وحيث إن للإنسان مركزين: مركزاً للعاطفة ومركزاً للتفكير، وبعبارة أخرى: قلب وعقل، فقد غرس الله تعالى أصول الدين فيهما، فقد ضمنها القلوب أي التوحيد الفطري، كما أنار بها العقول أي التوحيد النظري(3) كي لايكون للناس على الله حجة بعد ذلك.

ومنه يستفاد أهمية القلب والفكر، والتأكيد عليهما،خاصة في الاعتقادات كالتوحيد.

ص: 159


1- منية المريد: ص167 ب1 الخامس أن يكون عفيف النفس.
2- مصباح الشريعة: ص16 ب6.
3- أي: ما يثبت بالدليل والبرهان العقلي.

الممتنع من الأبصار رؤيته، ومن الألسن صفته،

اشارة

-------------------------------------------

امتناع رؤية الله تعالى ووصفه

مسألة: يجب الاعتقاد بأن الله تبارك وتعالى ليس بجسم، ولا يحلّ في جسم، وليس في جهة، وحكم من قال بكونه تعالى جسماً وادّعى الحلول مذكور في (الفقه)(1).

فإنه سبحانه وتعالى مجرد عن المادة والحيّز والجهة والمكان والزمان والمقدار ومضارعاتها، ولذلك يستحيل رؤيته(2).

وهذه من الصفات السلبية على ما ذكره العلماء في كتبهم الكلامية؛ لأنه تعالى ليس بمركب ولا جسم ولا مرئي ولا محل للحوادث ولا شريك له ولا فقر له في أية جهة من الجهات، وإذا كان الممكن غنياً في بعض الجهات غنىً مجازياً، فإنه تعالى غني بكل أبعادمعنى الغنى، فهو الغني بالذات وهو الغني المطلق، وغيره الفقير المطلق، وما له فهو بالعرض.

ثم إن رؤيته تعالى ممتنعة عن (الأبصار) لا (البصائر) كما ورد في الحديث عن أبي عبد الله (علیه السلام):

«جاء حبر إلى أمير المؤمنين (صلوات الله عليه). فقال: يا أمير المؤمنين، هل رأيت ربك حين عبدتَه؟.

ص: 160


1- راجع موسوعة الفقه: كتاب الطهارة، مبحث النجاسات.
2- كما تستحيل رؤية عدد من المخلوقات كالروح والعقل وما أشبه مما يسمى ب (المجردات)!.

..............................

قال: فقال علي (علیه السلام): ويلك ما كنت أعبد رباً لم أره!

قال: وكيف رأيته؟.

قال: ويلك لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان»(1).

أما اللسان فهو أيضاً لا يتمكن من وصف الله سبحانه؛ لأن مفردات اللغة محدودة، واللسان أيضاً محدود كماً وكيفاً، وصفاته تعالى غير محدودة ولا يمكن أن يستوعب المحدود غير المحدود، كما تقدم.

إضافةً إلى أن صفاته سبحانه عين ذاته، وكما لا يمكن إدراك كنه ذاتهفكذلك صفاته، وما يذكر في وصفه تعالى فهو إشارات وعلامات عامة لا غير، قال (علیه السلام): «فليس لكونه كيف، ولا له أين، ولا له حد، ولا يعرف بشيء يشبهه»(2).

ص: 161


1- بحار الأنوار: ج4 ص44 ب5 ح23، والبحار: ج41 ص1516 ب101 ح8.
2- التوحيد: ص173174 ب28 ح2.

ومن الأوهام كيفيته،

اشارة

-------------------------------------------

حرمة التفكر في ذات الله

مسألة: يكره التفكر في ذات الله وكيفيته، وقد يحرم، كما ورد في الروايات(1)، قال الصادق (علیه السلام): «إياكم والتفكر في الله، فإن التفكر في الله لايزيد إلاّ تيهاً، إن الله عزوجل لا تدركه الأبصار ولا يوصف بمقدار»(2).

وقال (علیه السلام): «تكلّموا في خلق الله ولا تكلموا في الله؛ فإن الكلام في الله لايزيد إلاّ تحيراً»(3).

والحرمة نظراً لأن ذلك كثيراً ما يسوق الإنسان إلى الافتراء على الله وإلى أنواع من الانحراف العقائدي(4).

ومع قطع النظر عن ذلك، فإن من الواضح أنه لا يصل فكر الإنسان - مهما أعمله - إلى إدراك كنه ذات اللهسبحانه وكيفيته، وقد ذكرنا في بعض مباحث هذا الكتاب وغيره ما ذكره العلماء في كتبهم الكلامية من أن الإنسان مهما كان ومهما تعالى وتكامل فإنه محدود، والمحدود لا يعقل أن يستوعب غير المحدود، بل إن المحدود الأصغر أو الأضيق لا يستوعب المحدود الأكبر أو الأوسع فكيف بغير المحدود؟!

ص: 162


1- راجع مستدرك الوسائل: ج12 ص247 ب22.
2- وسائل الشيعة: ج16 ص197 ب23 ح21334.
3- الكافي: ج1 ص92 باب النهي عن الكلام في الكيفية ح1.
4- كالقول بوحدة الوجود أو الموجود، والعقول العشرة، وأزلية المخلوقات، وما أشبه.

..............................

فلا يصل إلى كنه الله سبحانه وتعالى علم ولا ظن ولا وهم إطلاقاً على نحو الاستحالة، وإذا كان الإنسان عاجزاً عن معرفة كنه الروح - وهي إحدى مخلوقات الله تعالى - بل عن معرفة كنه النور(1) وكنه (الكهرباء) وما أشبه، فإنه عن معرفة الواجب جل وعلا أعجز.

وإنما يعرف بآثار الله سبحانه وتعالى أنه موجود وأن له الصفات الثبوتية وأنه منزه عن الصفات السلبية، مما يعبر عنه بالبرهان الإني...ولتقريب(2) ذلك نقول: إن الوهم والتصور إنما يتمكن أن يعرف الأشياء بالمشابهات، وحيث إنه لا مشابه لله تعالى فلا يعقل أن يعرف الوهم كيفيته سبحانه.

وها هنا نكتة لطيفة وهي تدرجها (علیها السلام) من الأدنى للأعلى:

ف (رؤيته) تعالى ممتنعة على (الأبصار).. بل (وصفه) ممتنع على (الألسنة) رغم قدرة الإنسان الأوسع على وصف ما يرى وبعض ما لا يرى(3)..

بل إن (الأوهام) يمتنع عليها أيضاً أن تنال (كيفيته) رغم ما للوهم من القدرة الهائلة.

ص: 163


1- كل ما قيل في تعريف النور وأشباهه فإنه (شرح الاسم) وليس ب (الحد) ولا ب (الرسم). فالنور عبارة عن فوتونات و... لكن ما هو كنه الفوتون؟. و(الذرة) مركبة من الكترون وبروتون وشحنة سالبة وموجبة و... ولكن ما هو كنه ذلك؟، وهكذا.
2- قوله (قدس سره): (لتقريب...) قد يكون إشارة إلى أن هذا بيان عرفي للمطلب، إذ لو فرض - وفرض المحال ليس بمحال - وجود شريك ومشابه له تعالى عن ذلك علواً وكبيراً لما أمكن للوهم أيضاً إدراكه تعالى لما أسلفه (قدس سره) من قاعدة المحدود واللا محدود فدقق.
3- كما يصف ما يدركه بالحواس الخمس وغيرها أحياناً.

ابتدع الأشياء لا من شي ء كان قبلها، وأنشأها بلا احتذاء أمثلة امتثلها،

اشارة

-------------------------------------------

استحباب التفكير في أفعال الله تعالى

مسألة: يستحب التفكير في أفعال الخالق جل وعلا ومخلوقاته، وكذلك في شؤونه سبحانه - في الجملة - ضمن الإطار الذي بينته الآيات والروايات، وعلى ضوء المنهج الذي رسمه القرآن والعترة (علیهم السلام)، وبنفس المقدار والحد الذي حددوه لنا.

قال تعالى: «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ»(1).

وقال سبحانه: «هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ»(2).

وكذلك الآيات والروايات الأخرى:

قال الإمام الباقر (علیه السلام): «إياكم والتفكر في الله! ولكن إذا أردتم أن تنظروا إلى عظمته فانظروا إلى عظيم خلقه»(3).

ومنها كلماتها (عليها الصلاة والسلام) في هذه الخطبة «ابتدع... »، وما سبق وسيلحق.

ص: 164


1- سورة آل عمران: 190.
2- سورة الحشر: 23.
3- وسائل الشيعة: ج16 ص195 ب23 ح21327.

..............................

ومن الواضح أنهم (علیهم السلام) «الدعاة إلى الله، والأدلاء على مرضاة الله... والمظهرين لأمر الله ونهيه»(1).

وهذا أمر عقلي عقلائي في كل محدود جاهل يبحث عن مجهول، فعليه أن لا يتعدى الحدود التي رسمها له العالم، وأن يمشي على ضوء إرشاداته ووفق علاماته وهدايته، وإلاّ فالهلاك مصيره، كما ورد: «فالراغب عنكم مارق، واللازم لكم لاحق، والمقصر في حقكم زاهق، والحق معكم وفيكم ومنكم وإليكم، وأنتم أهله ومعدنه»(2).

والتفكير في ذلك(3) يعد مصداقاً لقوله تعالى: «إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ»(4).

وقوله سبحانه: «فَاذْكُرُونِيأَذْكُرْكُمْ»(5)، والذكر أعم من الذكر باللسان أو الجنان أو الذكر العملي، وذكره تعالى أعم من ذكر وحدانيته وصفاته وأفعاله.

وقد ألمعنا سابقاً إلى معنى الابتداع، إذ لم يكن هناك مثال سابق قد أخذ من ذلك المثال، كما هو الأكثر أو الدائم في الناس، حيث إنهم يرون ويسمعون وما أشبه ذلك أشياء سابقة، متخيلة أو متوهمة أو محسوسة أو معقولة، ثم

ص: 165


1- من لا يحضره الفقيه: ج2 ص610 زيارة جامعة لجميع الأئمة (علیهم السلام) ح3213.
2- من لا يحضره الفقيه: ج2 ص612 زيارة جامعة لجميع الأئمة (علیهم السلام) ح3213.
3- أي في أفعاله ومخلوقاته سبحانه.
4- سورة الرعد: 3، سورة الروم: 21، سورة الزمر: 42، سورة الجاثية: 13.
5- سورة البقرة: 152.

..............................

يعملون - والمراد بالعمل: الأعم من العمل الذهني والخارجي - أشياء جديدة، كالمصور يصور شيئاً رآه أو سمعه، أو من يقوم برسم ما يشابه ذلك الشيء أو ينتزع صورة إبداعية في الظاهر، ولكن في الحقيقة ليس ذلك ابتداعاً، وإنما هو جمع وتفريق وما أشبه ذلك، أو إنه يستمد مما هو مخزون في فطرته أو عقله أو وعيه الباطن(1).هذا ولا يخفى أن التفكر في الكون وعظمته وعظمة خالقه بالإضافة إلى دلالة جملة من الآيات والروايات عليه - كما سبق - يوجب توثيق الارتباط بالله سبحانه وتعالى، والاتصال بالله يسبّب استقامة التفكير وسموه وصقل الروح واستحكام النفس الملهمة بالتقوى وغلبتها على النفس الأمارة، وإيجاد معان متعالية أخرى في الإنسان، كالتوكل على الله والرضا بقضائه والتسليم لأمره، وما أشبه ذلك، وهذا من علل الدعوة للتفكر في مخلوقاته تعالى.

قال جل وعلا:

«أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى الإِْبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (علیهم السلام) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (علیهم السلام) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (علیهم السلام) وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (علیهم السلام) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (علیهم السلام) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ»(2).

فإنه تعالى أحدث (الأشياء) كلها وابتدأ خلقها لا عن مادة موجودة سابقاً،

ص: 166


1- إضافة إلى أن كل شخص قد مر بعوالم سابقة كعالم الذر - مثلاً - ولا يعرف ما الذي شاهده أو سمعه هناك، بالإضافة إلى أن العالم مليء بالأصوات والذبذبات والأمواج وما أشبه، ولعل ما خطر بباله مما تصوره إبداعاً هو مما التقطه من تلك الذبذبات ونحوها.
2- سورة الغاشية: 17-22.

..............................

إذ لا يعقل أن تكون المادة أزلية؛ لأن كل متغير حادث، فإن المتغير لا يكون قديماً، كما أن القديم لا يكون متغيراً، على ما فصل في علم الكلام(1).

فالعلة المادية والعلة الصورية للشيء كلاهما مخلوقان له تعالى.

ويمكن الاستناد - في جملة الأدلة النقلية - إلى كلامها (علیها السلام) هذا: «ابتدع الأشياء» في إبطال أزلية العالم والعقول العشرة وما أشبه(2).

ولم يكن هناك مثال سابق حتى يخلق الله تعالى الأشياء على تلك الأمثلة مقتدياً بها، وربما يستشم أن الجملة الأولى(3) إشارة للعلة المادية، وهذه الجملة(4) إشارة للعلة الصورية.

ص: 167


1- ومن الأدلة على ذلك برهان الدور والتسلسل، راجع (القول السديد في شرح التجريد) للإمام المؤلف (قدس سره).
2- فإن (الأشياء) جمع محلى بأل فيفيد العموم.
3- أي: «ابتدع الأشياء... ».
4- أي: «وأنشأها... ».

كونها بقدرته، وذرأها بمشيته،

اشارة

-------------------------------------------

قدرته تعالى

مسألة: يجب الاعتقاد بقدرته تعالى، والتفصيل مذكور في علم الكلام.

قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»(1).

وقال سبحانه: «وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً»(2).

فإن التكوين كان بالقدرة لا بآلة حتى يكون من قبيل قطع الحطب بالمنشار، وإلاّ لعاد الكلام إلى خلق تلك الآلة وهكذا، فيتسلسل، والتفصيل في محله.

مشيئته تعالى

مسألة: يجب الاعتقاد بمشيئته تعالى وإرادته وأنه الفاعل المختار، على ما هو مذكور في علم الكلام.

قال سبحانه: «يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشاءُ»(3).

وقال تعالى: «وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُوَيَخْتَارُ»(4).

وقال سبحانه: «إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ»(5).

ص: 168


1- سورة البقرة: 20 و106 و109 و148 و259، ومواضع أخرى من القرآن.
2- سورة فاطر: 44.
3- سورة النور: 45.
4- سورة القصص: 68.
5- سورة هود: 107.

..............................

وقال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ»(1).

وقال عزوجل: «وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلِكَ غَداً (علیهم السلام) إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ»(2).

وقال سبحانه: «وَمَا تَشاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ»(3).

و(الذرء) الخلق، فكأنه يهب على الممكن نفحة الوجود ب (الذاريات)، فالفرق بين الخلق والذرء بالاعتبار(4).و(المشيئة) من (شاء) أي أراد، والمراد: الإرادة التي هي صفة الفعل، لا صفة الذات.

ص: 169


1- سورة الحج: 14.
2- سورة الكهف: 23-24.
3- سورة التكوير: 29.
4- وفي تفسير (تقريب القرآن) للإمام المؤلف (قدس سره): ج26 ص163: «وَالذَّارِيَاتِ» الواو للقسم، أي قسماً بالذاريات وهي الرياح التي تذروا التراب وغيره «ذَرْواً» مفعول مطلق للتأكيد. وفي (مجمع البيان): ج5 ص152: ذرت الريح التراب تذروه ذرواً، إذا طيرته وأذرته تذيره بمعناه. وفي (لسان العرب): ج14 ص282 مادة ذرو: ذرا: ذرت الريح التراب وغيره، تذروه وتذريه ذرواً وذرياً وأذرته وذرته: أطارته وسفته وأذهبته، وقيل: حملته فأثارته وأذرته، إذا ذرت التراب وقد ذرا هو نفسه... وفي التنزيل العزيز: «وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً»، يعني الرياح... وأذريت الشيء إذا ألقيته مثل إلقائك الحب للزرع. ذرأ: في صفات الله عزوجل، الذارئ، وهو الذي ذرأ الخلق: أي خلقهم، وكذلك البارئ، قال الله عزوجل: ولقد ذرأنا لجنهم كثيرا، أي: خلقنا.وقال عزوجل: خلق لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه. انتهى.

من غير حاجة منه إلى تكوينها،

اشارة

-------------------------------------------

الغني المطلق

مسألة: يجب الاعتقاد بأنه تعالى هو الغني المطلق، ولا يحتاج إلى أي شيء.

وتفصيل الكلام في علم الكلام.

قال سبحانه: «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ»(1).

وقال تعالى: «وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُوالرَّحْمَةِ»(2).

وقال سبحانه: «فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ»(3).

وقال تعالى: «لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ»(4).

إفاضة الخير لذاته

مسألة: يستحب أن يفعل الإنسان الخير وإن لم يكن محتاجاً إليه، بل أن يفعل الخير لذاته بما هو هو، لا لما سيرجع منه إليه.

ص: 170


1- سورة البقرة: 267.
2- سورة الأنعام: 133.
3- سورة آل عمران: 97
4- سورة لقمان: 26.

..............................

والعبارة (1) عرفية، إذ المراد ب (الحاجة) الحاجة الظاهرية الدنيوية، وإلاّ فإن (الخير) مطلقاً له فائدة يحتاجها الإنسان، إما بنحو الأثر الوضعي الدنيوي أو بنحو الأجر الأخروي.

وذلك لما تقدم من استحباب تخلّق الإنسان بأخلاق الله سبحانه وتعالى حيثورد: «تخلقوا بأخلاق الله»(2)، وإن كان الأمر فيه تعالى امتناعاً وفي الإنسان إمكاناً (3).

أما ما في الحديث القدسي: «كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أُعرف فخلقت الخلق لكي أُعرف»(4)؛ فإن محبة المعرفة لفائدة العارف(5) لا لفائدة المعروف(6)، كما أن ظهور الكنز واستخراجه نافع للمستخرج لا للكنز كما لا يخفى.

ص: 171


1- أي: (وإن لم يكن محتاجاً إليه).
2- بحار الأنوار: ج58 ص129 ب42 تتميم.
3- أي: الحاجة في الله سبحانه ممتنعة، أما في الإنسان فالحاجة لفعل الخير ممكنة ذاتاً.
4- بحار الأنوار: ج84 ص199 ب12 ضمن ح6 بيان.
5- أي: الخلق.
6- أي: الخالق.

ولا فائدة له في تصويرها،

اشارة

-------------------------------------------

الفرق بين الحاجة والفائدة

ويمكن القول في الفرق بين (الحاجة) و(الفائدة) حيث قالت (علیها السلام): «من غير حاجة... ولا فائدة»:

أن (الحاجة) تطلق بالنظر إلى القابل، والفائدة بالنظر إلى الفاعل، فالحاجة تنسب للمُعطى والمستفيد، والفائدة تنسب للمعطي والمفيد.

وربما يقال: بأن النسبة بينهما العموم من وجه، فقد يكون الإنسان محتاجاً لشيء وفيه فائدة له، وقد لا يكون مفيداً له، وقد يكون مستفيداً من شيء دون حاجة منه إليه.

وعلى هذا، فكما يستحب فعل الخير وإن لم تكن للإنسان حاجة إليه، كذلك يستحب فعله وإن لم تكن له فيه فائدة.

والله سبحانه وتعالى لا يستفيد من صور الأشياء، كما لا يستفيد من ذاتها وخلقها، فإن الشيء قد يفيد بذاته كالذهب، وقد يفيد بصورته كالأوراق النقدية، وقد يفيد بكليهما كالمصوغ من الذهب والمجوهرات.

ص: 172

إلاّ تثبيتاً لحكمته،

اشارة

-------------------------------------------

الحكمة الإلهية

مسألة: يجب الاعتقاد بأنه تعالى حكيم، والتفصيل في علم الكلام(1)، قال سبحانه: «يَا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ»(2).

وقال تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ»(3).

وقال عزوجل: «عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ»(4).

الإشارة إلى علل الخلقة

1: تبين الحكمة وتثبيتها

مسألة: ومن المستحب - بل اللازم في الجملة - السعي لتبيين حِكَم أفعاله تعالى للناس على ضوء المستفاد منالآيات والروايات والعقل - بالقدر الذي يدركه - فإن ذلك يوجب تثبيت إيمان الناس واطمئنان قلوبهم ودفعاً لوساوس الشياطين وشبهات الملحدين.

ص: 173


1- راجع (القول السديد في شرح التجريد) للإمام المؤلف (قدس سره).
2- سورة النمل: 9.
3- سورة الأنعام: 83 و128.
4- سورة الأنعام: 73.

..............................

وفي كلامها (علیها السلام) دلالة واضحة أكيدة على ذلك، إذ لما كان تبيين أو تثبيت الحكمة الإلهية إحدى علل الخلقة، كان السعي لبيانها لمن جهل بها أو غفل عنها ضرورياً عقلاً في الجملة، وهي من (دفائن العقول) التي بعث الأنبياء (علیهم السلام) ليثيروها(1).

ثم لا يخفى أن الاستثناء في كلامها (علیها السلام) منقطع.

وأصل تكوين الأشياء وتصويرها بتلك الصور والهيئات، كلاهما دليل على حكمته جل وعلا، فإن الحكمة هي وضع الشيء في موضعه، وإفاضة الوجود على (الماهيات القابلة) من القادر الكريم وفي الوقت المعين وبمكتنفات معينة وبالإشكال المخصوصة، أكبر دليل على الحكمة اللا متناهية له جل وعلا، قال(علیه السلام): «وضعهم في الدنيا مواضعهم»(2).

وبمقدور الإنسان أن يتعرف على بعض الحكمة بالتدبر والتفكر والسير في الآفاق والأنفس، قال تعالى:

«سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ»(3).

هذا وفي بعض النسخ: «تبييناً لحكمته».

ومما سبق يعلم أن تبيين أو تثبيت الحكمة، ترجع فائدتها للإنسان نفسه لا له تعالى إذ هو الغني المطلق وقد سبق بيانه.

ص: 174


1- قال (علیه السلام): «ويثيروا لهم دفائن العقول» نهج البلاغة، الخطب: 1، ومن خطبة له (علیه السلام) يذكر فيها ابتداء خلق السماء والأرض وخلق آدم (علیه السلام).
2- نهج البلاغة، الخطب: 193، ومن خطبة له (علیه السلام) يصف فيها المتقين.
3- سورة فصلت: 53.

..............................

ومن الواضح أن (تبيين الحكم الإلهية) هو من بواعث تكامل الإنسان، كما أن العلل اللاحقة في كلامها (علیها السلام) كلها طرق وعوامل لمزيد من ذلك، كما سيأتي.

ومن الواضح أيضاً أن توغل الإنسان في العلوم الفلكية والفيزيائية والكيماوية وما أشبه يزيد الإنسان تكاملاً واقتراباً من أوجه الحكمةالمختلفة في صنع الأشياء.

ولذلك نجد أن الإنسان كلما ازداد علماً، ازداد تواضعاً أمام عظمة هذا الكون، وازداد إيماناً بالباري جل وعلا.

ص: 175

وتنبيهاً على طاعته،

اشارة

-------------------------------------------

2: الإرشاد إلى طاعته تعالى

مسألة: يجب تنبيه الناس وإرشادهم إلى طاعة أوامره تعالى، فإنها من العلل الغائية للخلقة، وهي السبب في السعادة الدنيوية والأخروية.

قال سبحانه:

«وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ»(1).

والإرشاد إلى طاعة الأوامر الاستحبابية مستحب، ومنها يعلم حكم التنبيه على إطاعته تعالى في المحرمات والمكروهات تركاً.

أما المباح فالإرشاد إليه ربما يعد على بعض الوجوه مستحباً(2)، قال (علیه السلام): «إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه»(3).

وقال (علیه السلام): «فصار الأخذ برخصه واجباً على العباد كوجوب مايأخذون بنهيه وعزائمه»(4).

وقولها (علیها السلام)(5) إشارة إلى قوله تعالى: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ

ص: 176


1- سورة الأعراف: 96.
2- أو واجباً، فدقق.
3- وسائل الشيعة: ج1 ص108 ب25 ح263، والوسائل: ج16 ص232 ب29 ح21441.
4- بحار الأنوار: ج17 ص5 ب13 ح3.
5- أي: «تنبيهاً لطاعته».

..............................

لِيَعْبُدُونِ» (1) حتى يطيعوا فيستحقوا الثواب الدائم.

والجملة السابقة(2) تشير إلى معرفته جل وعلا، وهذه الجملة - مسبوقة بتلك - ترشد إلى لزوم العمل على طبق تلك المعرفة(3).

وقد يكون المراد من هذه الجملة: التنبيه على أن كل شيء مطيع له، قال سبحانه: «قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ»(4).

وقال تعالى: «مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا»(5).وعلى الاحتمال الأول فهذه الجملة تتضمن إنشاء، وعلى هذا الاحتمال تتضمن إخباراً بالإطاعة التكوينية.

ص: 177


1- سورة الذاريات: 56.
2- أي: «تنبيهاً لحكمته».
3- أي: إن الخالق عندما يكون حكيماً في تكوينه وتشريعه كان من اللازم عقلاً الامتثال لأوامره ونواهيه.
4- سورة فصلت: 11.
5- سورة هود: 56.

وإظهاراً لقدرته،

اشارة

-------------------------------------------

3: إظهار قدرته عزوجل

مسألة: ابتداع الأشياء لا من شيء كان قبلها، وإنشاؤها بلا احتذاء أمثلة امتثلها، أكبر دليل على القدرة الذاتية اللا متناهية(1) للخالق جل وعلا.

ومن الطبيعي أن ظهور هذه القدرة وتجليها للناس أكثر فأكثر يسبب تعبدهم بأوامره وطلبهم رضاه تعالى، وهو من أسباب إعزاز دعوته، لذلك كان من الواجب - في الجملة - بيان القدرة الإلهية للناس، وهو مما يقرب المبين والمبين له إلى الله سبحانه وتعالى.

كما ينبغي لأولياء الله أن يظهروا قدرتهم للناس فيما إذا كان في ذلك دفع لتعديات الأشرار، قال تعالى: «وَأَعِدُّوا لهمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ»(2).

سواء كان في ذلك فائدة دينية أمفائدة دنيوية مشروعة، وسواء كانت ترجع الفائدة إلى نفس الإنسان أم إلى غيره، قال سبحانه: «رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً»(3).

ص: 178


1- نظراً لدلالتها على الصدور من واجب الوجود، وهو لا يمكن إلاّ أن يكون لا متناهياً بقول مطلق، والتفصيل في الكتب الكلامية.
2- سورة الأنفال:60.
3- سورة البقرة: 201.

وتعبداً لبريته،

اشارة

-------------------------------------------

4: التعبد لله تعالى

مسألة: العبادة هي غاية الخضوع والتذلل، والتعبد هو: طلب العبادة(1).

وغاية الخضوع والتذلل لا يحق إلا لمن هو غاية في الرفعة والعظمة والجلال، فالواجب عبادته تعالى وحده، والامتثال لأوامره ونواهيه، وقد قال سبحانه: «وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ له الدِّينَ»(2).

ومن الواضح إن التعبد(3) - وهو منباب التفعل الذي يأتي أيضاً بمعنى المطاوعة والتكلف وتكرر الفعل والديمومة عليه(4)- في العبادات الواجبة واجب وشرط، وفي العبادات المستحبة شرط لها، أما في سائر الأمور، فإن من تعبد

ص: 179


1- قال في (لسان العرب):ج3 ص271 مادة عبد: (تعبد الله العبد بالطاعة أي استعبده. واستعبده من باب الاستفعال، المراد به طلب الفعل، إذ من معاني باب التفعل: طلب الفعل، ومن معانيه اتخاذ الفاعل أصل الفعل مفعولاً، فتعبدنا الله أي: اتخذنا عبيداً، ومن معانيه الصيرورة، فتعبد زيد أي: صار عبداً).
2- سورة البينة: 5.
3- المراد به في كلامه (قدس سره) هنا: الإتيان بالفعل بقصد القربة، وبعبارة أخرى: إتيان الفعل المأمور به لأنه مأمور به، وبعبارة ثالثة: الإتيان بالعبادة لأنه عبد لله.
4- المطاوعة: مثل كسرت الزجاج فتكسر، وعبدنا الله فتعبدنا، والتكلف مثل: تحلم زيد أي تكلف الحلم وعاناه ليحصل عليه، وتعبد زيد أي ضغط على نفسه وكلفها بالعبادة رغم الأهواء والشهوات فتعبدت، وتكرر الفعل والديمومة عليه مثل: تجرع الغصص، قال في (المجمع): ج3 ص95 مادة عبد: العبد المتعبد: الدائم على العبادة.

..............................

حصل على القرب والثواب الجزيل، ومن لم يتعبد لم يكن عليه إثم، وقد ورد في الروايات أن من المستحب أن يعمل الإنسان كل شيء لله سبحانه وتعالى كما تقدم الإلماع إليه.

فالعلة الغائية للخلقة هي: طلب عبادتهم، أو صيرورتهم عبيداً، أو ما أشبه، قال سبحانه: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ»(1) أي: ليعبدون باختيارهم - على بعض الاحتمالات - أو المراد مِن (يعبدون): لأدعوهم وأطلب منهم عبادتي، كما أشارت (علیها السلام) إليه بكلمة «تعبداً»، وقد يكونذلك دفعاً لشبهة الجبر(2).

والفرق بين «وتنبيهاً على طاعته» وبين «وتعبداً لبريته» - بناء على كون الجملة السابقة إخبارية - واضح(3).

وأما على كونها إنشائية فالفرق أن (التعبد) مرتبة أقوى من (الإطاعة) كما يظهر من معنى (العبادة) و(التعبد) فيما سبق.

إظهار العبودية لله تعالى

مسألة: يستحب إظهار العبودية لله تعالى في الجملة.

ومن المعلوم أن إظهار العبودية غير التعبد، فإن التعبد إنما هو بين الإنسان وبين ربّه، وإظهار العبودية عبارة عن إظهارها للناس، نعم هذا في غير ما يفضل

ص: 180


1- سورة الذاريات:56.
2- إذا كان بمعنى طلب العبادة كما سبق.
3- إذ تكون تلك إشارة للجانب التكويني، وهذه إشارة للجانب التشريعي.

..............................

أن يأتي الإنسان به سرّاً، والشارع قسّم الأمر إلى ما يستحب إظهاره وإلى ما يستحب إسراره.

وذلك لأن الإظهار تقوية لقلوب الناس، ودعوة لهم إلى الارتباط باللهسبحانه وتعالى، وإيجاد قدوة ومثال صالح لهم، ولذا أمر الشارع بصلاة الجماعة وشبهها(1)، وقال تعالى: «وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً»(2).

وجاء في معاهدة صلح الحديبية: «... وعلى أن يعبد الله بمكة علانية»(3).

وقد يكون الإسرار - أحياناً - أقرب إلى الإخلاص، ولذا نرى في أعمال الأنبياء والأئمة (عليهم الصلاة والسلام) كلا القسمين.

التربية على حالة العبودية

مسألة: يلزم تربية الناس على الحالة العبودية لله تعالى، وقد ورد: «لا اله إلاّ الله عبوديةً ورقاً»(4).

كما يستحب تربية الأطفال على ذلك أيضاً، حيث أمروا بالصلاة والصيام وما أشبه قبل البلوغ(5).

ص: 181


1- راجع موسوعة الفقه: ج23 ص377-391 كتاب الصلاة، فصل في الجماعة.
2- سورة الرعد: 22، سورة فاطر: 29.
3- بحار الأنوار: ج20 ص362 ب20 ح10.
4- الكافي: ج2 ص519 باب من قال (لا إله إلا الله حقاً حقاً) ح1.
5- راجع وسائل الشيعة: ج4 ص18 ب3 ح4397، وفيه: عن معاوية بن وهب قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) في كم يؤخذ الصبي بالصلاة؟. فقال (علیه السلام): «فيما بين سبع سنين وست سنين». وراجع مستدرك الوسائل: ج7 ص391 ب16 ح8499، وفيه: «وأما صوم التأديب فإنه يؤمر الصبي إذا بلغ سبع سنين بالصوم تأديباً ليس بفرض».

..............................

وذلك لأن التربية على العبودية وتعليمها وتركيزها في النفوس - إضافة إلى كونها كمالاً ومرتبة سامية - مقدمة توفر الأرضية الصالحة لتجنب المعاصي وللالتزام بالأوامر الإلهية، فيجب في مورد الوجوب، ويستحب في مورد الاستحباب مطلق التربية والتعليم.

حرمة عبادة غير الله

مسألة: تحرم عبادة غير الله تعالى، منها عبادة الأصنام سواء كانت عبادتها بما هي هي، أو بدعوى أنها طريق إلى الله تعالى، كما في القرآن الحكيم: «مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفى»(1).

فإنه لا تجوز العبادة لغير الله سبحانه، سواء كان إنساناً أو نفساً أو ناراً أو ما أشبه ذلك من مختلف الأصنامالحجرية والبشرية وغيرها، بل لا تجوز العبادة حتى رياءً وسمعة كما ورد في النص والفتوى، قال سبحانه: «وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ له الدِّينَ»(2).

وقد ورد في الحديث: إن الله تعالى يقول للمرائي يوم القيامة: «أنا خير شريك، من أشرك معي غيري في عمل عمله لم أقبله إلاّ ما كان لي خالصاً»(3).

ص: 182


1- سورة الزمر: 3.
2- سورة البينة: 5.
3- وسائل الشيعة: ج1 ص61 ب8 ح131.

..............................

وفي رواية: «إن الله يقول: أنا خير شريك من عمل لي ولغيري فهو لمن عمل له دوني»(1).

وقال علي (علیه السلام): «اعملوا لله في غير رياء؛ فإنه من عمل لغير الله وكله الله إلى عمله يوم القيامة»(2).

نعم، إذا كانت العبادة لله سبحانه طمعاً في جنة أو خوفاً من نار، أو لحاجة دنيوية، كشفاء مريض أو دفع عدوأو الحصول على مال أو ما أشبه ذلك(3) فإنها صحيحة أيضاً، وتكون من مصاديق العبادة لله تعالى، وقد قال سبحانه: «وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ»(4).

وقال تعالى: «يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً»(5).

نعم الرتبة الأسمى من العبادة: هي عبادته جل وعلا لأنه أهل للعبادة، كما قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنتك، لكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك»(6).

فإنه هو المنعم الحقيقي بل(7) الكمال المطلق.

ص: 183


1- مستدرك الوسائل: ج1 ص110-111 ب12 ح118.
2- نهج البلاغة، الخطب: 23، ومن خطبة له (علیه السلام) وتشتمل على تهذيب الفقراء بالزهد وتأديب الأغنياء بالشفقة.
3- مما كان بنحو الداعي على الداعي.
4- سورة الأنبياء: 90.
5- سورة السجدة: 16.
6- قصص الأنبياء للجزائري: ص211 ب11.
7- (بل) هذه للإضراب وبقصد الترقي كما لا يخفى.

وإعزازاً لدعوته،

اشارة

-------------------------------------------

5: إعزاز الدعوة

مسألة: (إعزازاً) أي: لأجل تقوية الدعوة وغلبتها(1)، ومنه يعلم رجحان ما يوجب إعزاز دعوته تعالى، ودعوته هي للإيمان به وتوحيده وعدله وللإيمان برسله وكتبه، إلى آخر أصول الدين وما يتفرع عنها.

وفي الصحيفة السجادية في وصفه (صلی الله علیه و آله): «إرادة منه لإعزاز دينك»(2).

وهذه الجملة والجمل السابقة يحتمل أن تكون تعليلاً لأصل الخلقة وتكوين الأشياء، ويحتمل أن تكون تعليلاً لنحوها وكيفيتها وخصوصيتها، أي لكون الخلقة لا من شيء كان قبلها وبلا احتذاء أمثلة، وكونها بالقدرة لا بالآلة... ففي هذا الإظهار الأتم للقدرة والإعزازالأكبر للدعوة، وهو أدعى لتعبد البرية والتنبية على الطاعة، وقد يكون الاحتمال الأول أقرب وأسرع تبادراً.

وإذا كان من علل الخلقة إرادته جل وعلا (إعزاز الدعوة) كان (إعزازها) عنواناً مستقلاً مصرحاً به يدور مداره كثير من الأحكام سلباً وإيجاباً.

وذكر (إعزاز الدعوة) تعليلاً للخلقة من باب ما يؤول إليه الشيء(3).

ص: 184


1- العزة: هي القوة والغلبة.
2- الصحيفة السجادية الكاملة: ص40 وكان من دعائه (علیه السلام) بعد هذا التحميد في الصلاة على رسول الله (صلی الله علیه و آله)، منشورات مؤسسة الأعلمي بيروت.
3- هذا دفع وحل مقدر فليدقق.

..............................

وفي بعض النسخ: «إعزازاً لأهل دعوته»(1)، فيدلّ على رجحان إعزاز حملة الدين كما هو واضح.

بيان العلل والأهداف

مسألة: ينبغي للإنسان بيان العلل والأهداف والغايات المترتبة على كل قرار يصدره، أو موقف يتخذه، أو منهج يرسمه.

سواء كان لعائلته أم لأصدقائه أم للتجمعات المحيطة به أم المتعاملة معه أم لمجتمعه.

وسواء كان في الشؤون الدينية أمالدنيوية، الاقتصادية أم السياسية، الاجتماعية أم غيرها.

إذ أن ذلك يوجب مزيداً من اعتماد الآخرين على الإنسان، إضافة على أنه تربية للناس على التفكر والتعقل والتدبر، وتقييم كل شيء بمنظار المنطق والدليل والحكمة، كما دعا إليه القرآن الكريم، وعدم الإتباع الأعمى كما كان دأب المشركين: «إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ»(2).

ثم إنه يوجب تصحيح الخطأ في قرار أو مسيرة الإنسان والحيلولة دون الاستبداد، إذ تعويد الناس على ذكر العلل يوجب نموهم فكرياً وتصديهم لإسداء النصح والمشورة ولذا كانت: «المشورة مباركة»(3).

ص: 185


1- كشف الغمة: ج1 ص482 خطبة فاطمة (علیها السلام).
2- سورة الزخرف: 23.
3- وسائل الشيعة: ج12 ص45 ب24 ح15604.

..............................

و«أعقل الناس من جمع عقول الناس إلى عقله»(1).و«من استبد برأيه هلك»(2).

و«الاستشارة عين الهداية»(3).

و«ما عطب من استشار»(4).

وما أشبه.

إضافة إلى أنه تأس وإقتداء بالمعصومين (علیهم السلام) في ذكرهم العلل التشريعية والتكوينية (5) كما ذكرت (علیها السلام) ها هنا العلة في خلق العالم، ومن قبله العلة في حمده تعالى وشكره، وستذكر (علیها السلام) العلة في بعثة النبي (صلی الله علیه و آله) واختياره، والعلة في استخلاف القرآن عليهم، والعلة في اختيار علي (علیه السلام) دون غيره، ثم تطرقت لعلل جعل العديد من فروع الدين وأحكامه وغيرها.

وكما تطرق القرآن الكريم من قبل لبيان علل أو حِكَم الكثير من الأمور التكوينية أو التشريعية، وقد أشرنا إليه في مواطن من هذا الكتاب وغيره.

ص: 186


1- راجع غرر الحكم ودرر الكلم: ص442 ق6 ب4 ف1 شاور هؤلاء ح10080، وفيه: «من شاور ذوي العقول استضاء بأنوار العقول».
2- نهج البلاغة، قصار الحكم: 161.
3- نهج البلاغة، قصار الحكم: 211.
4- مستدرك الوسائل: ج8 ص342 ب20 ح9609.
5- راجع مثلاً كتاب (علل الشرائع).

..............................

الهدف تكامل الإنسان

وأخيراً فإن العلل الخمسة المذكورة في كلامها (علیها السلام) كلها مما يصب في طريق تكاملية الإنسان(1) واقترابه الأكثر إلى مصدر الكمال المطلق والحق المطلق، فهي تعود إلى الإنسان نفسه أولاً وأخيراً، قال تعالى: «إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ»(2).

فقد خلقهم لرحمته(3) كما ورد فيالحديث عن أبي عبد الله (علیه السلام): «فإن الله تعالى خلق خلقاً لرحمته»(4).

ص: 187


1- فمعرفة حكمة الله وقدرته وإطاعة أوامره والتعبد بها وإعزاز دعوته كلها تزيد الإنسان تكاملية، مادية ومعنوية، دنيوية وأخروية.
2- سورة هود: 119.
3- فإذا كان الناس يركضون وراء المال أو الشهرة أو الرئاسة أو حتى العلم - بما هو علم - فإنها جميعاً كمالات مجازية محدودة فانية «كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (علیهم السلام) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِْكْرامِ» سورة الرحمن: 26-27 .أما معرفة الله وإطاعته فهو الكمال الحقيقي للإنسان. والعلم - كالعلوم الطبيعية والإنسانية وما أشبه - يكتسب قيمته الحقيقة الخالدة إذا كان في هذا الإطار كجسر للاقتراب من الحقيقة الخالدة وكطريق لاكتساب رضا الله تعالى، بما تقدمه العلوم من خدمة الإنسان الذي أمر الله سبحانه فطرة وعقلاً وشرعاً بإعطائه حقه والتعاون معه والإحسان إليه وإلا لكانت له قيمته مجازية محدودة يثيبه الله عليها دنيوياً و… والعلوم مع ذلك تكشف جانباً من عظمة الله وقدرته وحكمته في مخلوقاته.
4- قرب الإسناد: ص35.

ثم جعل الثواب على طاعته،

اشارة

-------------------------------------------

الإثابة على الإطاعة

مسألة: يستحب جعل الثواب على الإطاعة وعلى الالتزام بالقانون، من غير فرق بين رب العائلة والمعلّم والقائد وغيرهم، وربما وجب، فإنه إتباع لله سبحانه وتعالى ولسنة الرسل والأنبياء (علیهم السلام) .. وهو سيرة العقلاء(1)، حيث يجعلون الثواب على الطاعات سواء كانت الطاعات إيجابية أم سلبية، مثل جعل الثواب على ترككذا من الأعمال الضارة المنافية، كما ورد عنه (علیه السلام): «من ترك مسكراً مخافة الله أدخله الجنة وسقاه من الرحيق المختوم»(2) ومن ترك الكذب كان له من الثواب كذا، وما أشبه(3).

والثواب أعم مما يعطيه الله للإنسان في الدنيا أو في الآخرة، قال تعالى: «فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآْخِرَةِ»(4).

وجعل الثواب هو من حكمة الله، وهو من الطرق التي وضعها الله لتعبد البرية وجرّهم للطاعة - وهذا من غاية لطف الله وفضله - ومن أسباب إعزاز الدعوة، ومن مظاهر قدرة الله أيضاً.

ص: 188


1- في الجملة.
2- الكافي: ج6 ص404 باب مدمن الخمر ح1.
3- للتفصيل راجع كتاب (ثواب الأعمال) للشيخ الصدوق (قدس سره).
4- سورة آل عمران: 148.

ووضع العقاب على معصيته،

اشارة

-------------------------------------------

العقاب على مخالفة القانون

مسألة: من اللازم وضع العقاب على المعصية ومخالفة القانون، عقاباً مناسباً ومطابقاً للعدل، كما جعل اللهسبحانه العقاب على معصيته.

فإذا اعتبرنا أن (العقاب) يطلق - ولو توسعاً - على الأعم من المترتب على الحرام، استحب وضعه على المكروه أيضاً، كما ورد جملة من العقوبات على المكروهات مثل البناء رياءً، قال (صلی الله علیه و آله) : «من بنى بنياناً رياءً وسمعةً حمله يوم القيامة إلى سبع أرضين ثم يطوقه ناراً توقد في عنقه ثم يرمى به في النار»(1).

أو تربية الشعر على الرأس من دون (فرق)، أو أن المريض إذا لم يقرأ ثلاث مرات «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ»(2) كان له كذا من العقاب.

إلى غير ذلك، مما يوجد في كتاب (عقاب الأعمال)(3)، للشيخالصدوق

ص: 189


1- وسائل الشيعة: ج5 ص339 ب25 ح6731.
2- أي سورة الإخلاص.
3- يعتبر هذا الكتاب دائرة معارف كبيرة في العلوم الإسلامية وأحكام الحلال والحرام، حيث لايستغني عنه أي فقيه أو عالم أو أديب؛ إذ فيه مطالب مفيدة وأبحاث قيمة. حيث أورد الشيخ الصدوق (رحمة الله) في هذا الكتاب روايات نفيسة عن أهل البيت (علیهم السلام) في بيان الأعمال الحسنة والقبيحة وجزاء كل منهما، كما ذكر الروايات التي تبين الأعمال الحسنة التي وعد الله بالثواب عليها والأعمال القبيحة التي أوعد بالعقاب عليها. وقد حظى هذا الكتاب كسائر كتب الشيخ الصدوق (رحمة الله) باهتمام العلماء والفقهاء إذ يعد من أهم الأصول الروائية. واعتمدوا عليه في كثير من الكتب الروائية الكبيرة كالكتب الأربعة وبحار الأنوار ووسائل الشيعة. يقول الشيخ الصدوق (رحمة الله) حول سبب تأليفه لهذا الكتاب: إن الذي دعاني إلى تأليف كتابي هذا ما روي عن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه قال: «الدال على الخير كفاعله»، وسميته (كتاب ثواب الأعمال) وأرجو أن لايحرمني الله ثواب ذلك فما أردت من تصنيفه إلا الرغبة في ثواب الله وابتغاء مرضاته سبحانه ولا أردت بما تكلفته غير ذلك ولا حول ولا قوة إلا بالله.

..............................

(قدس سره)(1) وغيره.فإطلاق العقاب عليها توسعي، وإن كان جمع من العلماء أولوا بعض هذه الروايات بما يرفع الاستغراب من وجود مثل تلك العقوبات على فعل هذه المكروهات، كما لو كان بقصد العناد أو تضمن إنكار إحدى الأصول.

ثم إن العقاب قد يكون عقاباً تكوينياً - في الدنيا - بنحو الأثر الوضعي أو الردع الاجتماعي؛ فإن المعاصي توجب عنت الإنسان وعطبه، قال تعالى: «وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ له مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى»(2).

إذ المعصية خلاف مسير الحياة وهي تصطدم بشبكة السنن الإلهية المحيطة بالإنسان، كمن يلقي نفسه من شاهق حيث تتكسر عظامه.

ص: 190


1- محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي المعروف بالشيخ الصدوق، ولد سنة 305 ه في مدينة قم في أسرة علمية من أهل التقوى. وقد أدرك الشيخ الصدوق عشرين سنة من حياة والده وكان من كبار العلماء الأجلاء، فاكتسب خلال هذه المدة العلم والحكمة منه ومن سائر علماء قم. وكان الصدوق (رحمة الله) يعيش في عصر قريب من عصر الأئمة (علیهم السلام)، فقام بجمع روايات أهل البيت (علیهم السلام) فألف الكتب القيمة حيث أسدى للإسلام والتشيع خدمات جليلة يقل نظيرها. فمن مؤلفاته: من لا يحضره الفقيه، مدينة العلم، كمال الدين وتمام النعمة، التوحيد، الخصال، معاني الأخبار، عيون أخبار الرضا (علیه السلام)، الأمالي، المقنع في الفقه، الهداية بالخير. توفي (رحمة الله) سنة 381 ه بعد عمر حافل بالبركات.
2- سورة طه: 124.

..............................

وقد يكون تشريعياً، هذا بالإضافة إلى العقاب في الآخرة فإنه مقرر من الله للعصاة.

وقد ذهب البعض إلى أن الأعمالصالحة وطالحة هي كالنواة التي تثمر ما يجانسها، فكل عقاب وثواب في الآخرة هو ثمرة ما غرس في الدنيا.

وفي الحديث: «وان الله ليربي لأحدكم الصدقة كما يربي أحدكم ولده»(1).

وهذا بلحاظ تجسم الأعمال، فإن (الكذب) يتحول إلى عقرب تلدغ الإنسان - مثلاً - في الآخرة، وهكذا سائر المعاصي، فهناك علاقة تكوينية بين العمل وبين العقاب الأخروي، قال تعالى: «ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»(2).

ص: 191


1- وسائل الشيعة: ج9 ص382-383 ب7 ح12292.
2- سورة العنكبوت: 55.

ذيادةً لعباده من نقمته،

اشارة

-------------------------------------------

حفظ العباد عن التعرض للنقمة الإلهية

مسألة: يجب ذيادة العباد وإبعادهم عن نقمته تعالى عقلاً ونقلاً، وتحقيقاً لغرض المولى جل وعلا، والروايات الدالة على ذلك كثيرة جداً، «فنعوذ بالله من غضب الله ونقمته»(1).

ومعنى الذيادة: الطرد والدفع والإبعاد، يقال: ذاد الإبل عن الحوض، أي: طرده عن الماء(2).

ففي المحرمات وترك الواجبات الذيادة واجبة؛ لأنها نوع من النهي عن المنكر والتعليم وتنبيه الغافل وإرشاد الجاهل وما أشبه ذلك.

وهذا(3) من غاية لطف الله بعبيده.

وللتوضيح نمثل: بأن يضع الأب عقوبةالحبس يوماً - مثلاً - على من أراد من أبنائه التوغل في غابة مجهولة خطيرة، فإن هذه العقوبة هي للحيلولة دون وقوعه في الخطر الأعظم، وكذلك الطبيب الذي يجري عملية جراحية منعاً لسريان السرطان إلى سائر الأعضاء.

ص: 192


1- بحار الأنوار: ج62 ص222 ب5 ح3.
2- وفي لسان العرب: ج3 ص167 مادة ذود: الذود، السوق والطرد والدفع، تقول: ذدته عن كذا، وذاده عن الشيء ذوداً وذياداً.
3- أي وضعه تعالى العقوبات ذيادة لعباده عن نقمته.

..............................

فالعقوبات الدنيوية المجعولة على ارتكاب المعاصي كشرب الخمر والزنا وشبههما مع اجتماع شرائطها الكثيرة(1) لدفع النقمة الكبرى التي ستنال العاصي في الآخرة(2).

هذا لو كان المراد من (العقاب) في كلامها (علیها السلام): العقوبات الدنيوية.

وأما لو كان المقصود منه في كلامها (علیها السلام) العقاب الأخروي، فإن التهديد به يردع الكثيرين عن ارتكاب المعاصي التي تؤدي إلى نقمته تعالى.

وهذا (3) هو ما يقتضيه الربط بينالعلة والمعلّل له(4).

ص: 193


1- وقد ذكر الإمام المؤلف (قدس سره) في (الفقه): إن إجراء بعض الحدود مشروط بأكثر من أربعين شرطاً، فراجع.
2- راجع كتاب (العقوبات في الإسلام) لآية الله العظمى السيد صادق الشيرازي (دام ظله).
3- إشارة إلى تفسير كلامها (علیها السلام) (وضع العقاب) بالتفسير الإثباتي لا الثبوتي، إذ (التهديد بالعقاب) - كما ذكر (قدس سره) - هو السبب للذيادة لا وجوده الحقيقي بنفسه.
4- العلة: (ذيادة لعباده عن نقمته) والمعلل له: (وضع العقاب على معصيته).

وحياشةً لهم إلى جنته ،

اشارة

-------------------------------------------

سوق العباد إلى الجنة

مسألة: يجب سوق العباد إلى الجنة على ما عرفت في البحث الآنف، قال تعالى: «وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ»(1).

وقال سبحانه: «سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ»(2).

و(حياشة) أي: سوقاً (3)؛ فإن الله تعالى يريد لعباده الجنة والنعيم والسعادة السرمدية، قال سبحانه: «إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ»(4).

والطريق إلى ذلك الإطاعة وتجنب المعاصي، فإن الكون دنياه وآخرته قررت بحيث أن المطيع مآله النعمة والجنة، والعاصي مآله النقمة والنار،كما تمت هندسة الكون بحيث أن الزارع يحصد غداً، ومن لا يزرع يبقى صفراً يداً، ومن يدرس يصبح طبيباً أو مهندساً أو ما أشبه، ومن لا يدرس يبقى جاهلاً.

وإن كثيراً من الناس لا يسوقه إلى الجنة وإلى النعيم المقيم إلاّ ما يراه من العقاب على المعصية فيرتدع، فيوفق للنعيم المقيم.

ص: 194


1- سورة آل عمران: 133.
2- سورة الحديد: 21.
3- وفي لسان العرب: ج6 ص290 مادة حوش: وحشت الإبل، جمعتها وسقتها.
4- سورة هود: 119.

..............................

التطرق لفلسفة الثواب والعقاب

مسألة: من اللازم بيان فلسفة الثواب والعقاب للناس، إذ ذلك يزيدهم إيماناً واعتقاداً والتزاماً. وحتى بالنسبة إلى الأبوين عند عقاب الطفل أو ثوابه، ويرجّح أن يذكر السبب حتى يكون تأثيره أكثر.

وهذا الأمر يجري في القوانين الوضعية أيضاً، فأية عقوبة تضعها شركة أو هيئة أو دولة - شرط أن تكون في إطار الشريعة(1) - ينبغي أن تذكر علتها وفلسفتها للناس.

ولذا أكثر في القرآن الحكيم منذكر الفلسفة، فإن القرآن الكريم ذكر فلسفة كثير من الأحداث والأحكام:

مثلاً قال جل وعلا في الصلاة: «وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي»(2)؛ فإن «لِذِكْرِي» فلسفة «أَقِمِ الصَّلاَةَ».

وقال سبحانه: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»(3)، ف «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» فلسفة هذا الحكم.

وقال تعالى: «لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لهمْ»(4)، في فلسفة الحج.

ص: 195


1- كعقوبة الفصل من الشركة أو العزل من وظائف الدولة لو ارتشى أو تمآهل في قضاء حوائج المراجعين أو ما أشبه ذلك.
2- سورة طه: 14.
3- سورة البقرة: 183.
4- سورة الحج: 28.

..............................

وقال سبحانه: «وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ»(1) حيث إن فائدة الجهاد تعود إلى النفس.

قال (علیه السلام): «جاهدوا تورثوا أبناءكم عزاً»(2).وقال (علیه السلام): «جاهدوا تغنموا»(3) وهو فلسفة الجهاد.

وقال تعالى: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا»(4) حيث إن التطهير والتزكية فلسفة الزكاة.

وقال سبحانه: «الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ»(5) حيث إن تفضيل الله سبحانه وإنفاق الأزواج سبب قوامية الرجال على النساء.

وقال في فلسفة الدعوة إلى عبادته تعالى وحده:

«وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ له الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ»(6)..

إلى غير ذلك.

ص: 196


1- سورة العنكبوت: 6.
2- راجع وسائل الشيعة: ج15 ص15 ب1 ح19916، وفيه عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: قال النبي (صلی الله علیه و آله): «اغزوا تورثوا أبناءكم مجداً».
3- الكافي: ج5 ص8 باب فضل الجهاد ح14.
4- سورة التوبة: 103.
5- سورة النساء: 34.
6- سورة القصص: 88.

وأشهد أن أبي محمداً عبده ورسوله،

اشارة

-------------------------------------------

الاعتقاد بنبوته (صلی الله علیه و آله)

مسألة: يجب الاعتقاد بنبوة النبي الأعظم محمد (صلی الله علیه و آله) ورسالته، فإن من لم يعتقد بنبوة رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان كافراً وإن اعتقد بنبوة سابق الأنبياء (علیهم السلام)(1)، كما ذكرنا ذلك بالنسبة إلى الأئمة الطاهرين(علیهم السلام) حيث إن من أنكر أحدهم كان كمنكرهم جميعاً.

وأعظم برهان خالد على رسالته (صلی الله علیه و آله) هو القرآن الكريم حيث تفرد (صلی الله علیه و آله) دون سائر الأنبياء بمعجزة أبدية ظاهرة على مر الأجيال وذلك مقتضى خاتميته.

ثم إن الاعتقاد بنبوته ورسالته تعود فائدته إلى الإنسان نفسه «قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ»(2) إذ هو إضافة إلى كونه إدراكاً وعلماً لحقيقة كبرىو«العلم نور»(3) أن الاعتقاد مقدمة طبيعية للعمل بمناهجه التي توفر سعادة الدنيا والآخرة للإنسان.

والاعتقاد من عقد القلب فلا يكفي مجرد العلم بذلك، بل ينبغي عقد القلب عليه، قال تعالى: «وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ»(4) وكما يظهر ذلك من كلامها (علیها السلام) فيما سيأتي: «منكرة لله مع عرفانها».

ص: 197


1- راجع المقنعة: ص30 ب2.
2- سورة سبأ: 47.
3- بحار الأنوار: ج1 ص225 ب7 ح17.
4- سورة النمل: 14.

..............................

التلفظ بالشهادة الثانية

مسألة: يستحب التلفظ بالشهادة الثانية في مختلف الأحوال في الخطاب والخطبة وحين الانفراد والخلوة.

لما يترتب على ذلك من الثواب الأخروي، إضافة إلى كونه تلقيناً وإيحاءً وتكريساً لهذه الجملة ولمدلولاتها التضمنية والالتزامية في النفس أكثر فأكثر، وقد يكون لذلك التأكيد في الروايات الشريفة على التلفظ بكلمة التوحيد والصلوات على النبي محمد وآله (علیهم السلام) وسائر الأذكار والأدعية.

ثم إن التلفظ بهذه اللفظة بالنسبةإلى الرسول (صلی الله علیه و آله) مثل التلفظ بهذه اللفظة بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى كما تقدم، فيصح أن يقول: (إنه رسول الله) و(أشهد) و(نشهد) و(شهادتي) وما هو من هذا القبيل.

بل أصل التلفظ في الجملة واجب(1) ولا يكفي الاعتقاد فقط أو الإتباع فقط بدون التلفظ، فإن الإيمان مركزه القلب واللسان والجوارح كما ذكر في العلم الكلام، وكما ورد في الروايات: «تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان»(2).

واستحباب التلفظ بها - على ما سبق - إنما هو إذا لم تكن جهة وجوب، وإلاّ كما في موارد تنبيه الغافل وإرشاد الجاهل والدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف وما أشبه، وجب بالمقدار الذي يحقق الغرض.

ص: 198


1- كما يتكرر في الصلاة وغيرها كثيراً.
2- نهج البلاغة، قصار الحكم: 227، وَسُئِلَ (علیه السلام) عَنِ الإِيمَانِ؟. فَقَالَ (علیه السلام): «الإِيمَانُ مَعْرِفَةٌ بِالْقَلْبِ، وَإِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ، وَعَمَلٌ بِالأَرْكَان».

..............................

الشهادة بعبوديته (صلی الله علیه و آله) لله تعالى

مسألة: يستحب الشهادة بأنه (صلی الله علیه و آله) عبد لله تعالى، وقد يجب(1) وذلك لما سبق(2)، وإتباعاً لله سبحانه حيث قال تعالى: «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً»(3).

وقال سبحانه: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ»(4).

وقال تعالى: «ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا»(5).

وقال سبحانه: «وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ»(6).

وقال تعالى: «وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ»(7).

وقال سبحانه: «ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً»(8).وقال تعالى: «إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ»(9).

ص: 199


1- كما في الصلاة.
2- في البحث السابق (يستحب التلفظ بالشهادة الثانية).
3- سورة الإسراء: 1.
4- سورة الكهف: 1.
5- سورة مريم: 2.
6- سورة ص: 17.
7- سورة ص: 41.
8- سورة الإسراء: 3.
9- سورة الصافات: 81 و111 و132.

..............................

وقال سبحانه: «لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلاَ الْمَلاَئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ»(1).

وقال تعالى: «قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا»(2).

ونقرأ في الصلاة كل يوم: (أشهد أن محمداً عبده ورسوله).

وتقديم العبد؛ لأنه اعتراف بإله الكون، ولأن وصول النبي (صلی الله علیه و آله) إلى منتهى درجة العبودية لله تعالى هو الذي أهّله ليكون رسولاً، بل أفضل الرسل على الإطلاق، فهو (صلی الله علیه و آله) عبدٌ أولاً ورسولٌ ثانياً، وكفى بالإنسان فخراً وسمواً وكمالاً أن يكون عبداً خاشعاً خاضعاً لله تعالى.

الاعتقاد بالعبودية

مسألة: يجب الاعتقاد بأنه (صلی الله علیه و آله) عبد لله تعالى، وكذلك غيرهمن الأنبياء والأئمة (علیهم السلام)، ويحرم الغلو فيهم (علیهم السلام)، وذلك في قبال من يتوهم أنهم (علیهم السلام) شركاء لله سبحانه أو أبناؤه، قال تعالى: «وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ»(3).

وقال (علیه السلام): «يهلك فيَّ اثنان: محب غال ومبغض قال»(4).

ص: 200


1- سورة النساء: 172.
2- سورة مريم: 30.
3- سورة التوبة: 30.
4- شرح نهج البلاغة: ج20 ص220 قصار الحكم 478.

..............................

وقال (علیه السلام): «ولا تغلوا وإياكم والغلو كغلو النصارى، فإني بريء من الغالين»(1).

الشهادة الثانية

مسألة: يستحب أو يجب - كل في مورده - التشهد بالشهادة الثانية بعد ما شهد الإنسان بالشهادة الأولى.

ومنه يعرف الحكم في الشهادةالثالثة(2).

وفي الحديث: «إن المسافر إذا نزل ببعض المنازل يقول: " اللهم أنزلني منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين"، ويصلي ركعتين... ويقول: "أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأن علياً أمير المؤمنين، والأئمة من ولده أئمة أتولاهم وأبرء من أعدائهم"» الحديث(3).

التصريح بالنسب وإظهاره

مسألة: ينبغي التصريح بالنسب والتأكيد عليه وإظهاره، فيما إذا كان دخيلاً في تحقيق الغرض ومؤكداً ومؤيداً للكلام(4).

ص: 201


1- بحار الأنوار: ج4 ص303 ب4 ح 31.
2- وسيأتي البحث عن ذلك.
3- مستدرك الوسائل: ج8 ص231 ب43 ح9324.
4- ويشاهد ذلك في قول رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعلي أمير المؤمنين (علیه السلام) والإمام الحسن والإمام الحسين وعلي بن الحسين وسائر الأئمة (علیهم السلام)، راجع: بحار الأنوار ج12 ص127 ب6 ح3.

..............................

قال علي (علیه السلام): «لا جمال كالحسب»(1)، كما قالت (صلوات الله عليها) :«وأشهد أن أبي محمداً... ».

فتصريحها بالنسب هنا يوجب تهييج العواطف وتحريكها لتقبل كلماتها (علیها السلام) .. إضافة إلى أنه يذكّرهم بكلماته (صلی الله علیه و آله) عن ابنته وحبيبته وبضعته، فيكون ذلك أدعى لقبول الحق منها.

والتصريح بالنسب أو إظهاره قد يجب في مواطن عديدة، كما في موارد من الإرث أو النكاح أو الرضاع أو ما أشبه ذلك، سواء بالنسبة إلى نفسه أم بالنسبة إلى الغير مما هو مذكور في (الفقه).

نشر فضائل الوالدين

مسألة: ينبغي للإنسان أن يتطرق لذكر فضائل والده وأن يقوم بنشرها، قال تعالى: «وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً»(2)، وكذلك والدته، وسائر الأقرباء، بل مختلف المؤمنين، فهو حض وحث على الخير وتشويق عليه.

كما إن عكسه مكروه أو محرم.

قال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَالْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لهمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ»(3).

ص: 202


1- غرر الحكم ودرر الكلم: ص409 ق6 ب1 ف5 ح9395. هذا إذا لم يقصد به التفاخر وما أشبه من الرذائل الأخلاقية كما هو واضح.
2- سورة البقرة: 83، سورة النساء: 36، سورة الأنعام: 151، سورة الإسراء: 23.
3- سورة النور: 19.

..............................

والأمر بالنسبة للوالدين والأرحام آكد؛ لأن نشر فضائلهم قد يعد نوعاً من صلة الرحم «وَأُولُوا الأَْرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ»(1).

إضافة إلى أنه نوع من مقابلة الإحسان بالإحسان وأداء لبعض حق الوالد على الولد.

بالإضافة إلى قوله تعالى: «وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ»(2) فإن الإغماض عن الفضائل وسترها وعدم ذكرها نوع من البخس.

هذا كله إذا لم يكن من التفاخر وما أشبه، قال تعالى:

«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (علیهم السلام) أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (علیهم السلام) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (علیهم السلام) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (علیهم السلام) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ»(3).

ص: 203


1- سورة الأنفال: 75، سورة الأحزاب: 6.
2- سورة الأعراف: 85، سورة هود: 85، سورة الشعراء: 183.
3- سورة التكاثر: 1-4.

اختاره قبل أن أرسله،

اشارة

-------------------------------------------

فضائل الرسول (صلی الله علیه و آله)

مسألة: يستحب أو يجب - كل في مورده - بيان فضائل الرسول (صلی الله علیه و آله) كما بيّنت (علیها السلام) في خطبتها.

وكذلك بالنسبة إلى سائر الأنبياء والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) وبالنسبة إلى العلماء والصالحين أيضاً.

الاختيار الإلهي للرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله)

مسألة: يجب أن يكون اختيار النبي (علیه السلام) من قبل الله تعالى وبتعيينه سبحانه، وكذلك الإمام (علیه السلام)، حيث قالت (علیها السلام): «اختاره وانتجبه» أي: لأن يكون (صلی الله علیه و آله) رسوله الأخير إلى البشر وأفضل الرسل على الإطلاق، وفي حديث عنه (صلی الله علیه و آله): «فلم أزل خياراً من خيار»(1).قولها (علیها السلام): «وانتجبه» من النجابة، وقد نجب نجابة: إذا كان فاضلاً نفيساً في نوعه، أي اصطفاه، وذلك قبل أن خلقه وفطره، وفي زيارة الجامعة: «خلقكم أنواراً فجعلكم بعرشه محدقين»(2) فإن النور تحول إلى إنسان، كما أن النار تحولت إلى الجان، وكما أن التراب تحول إلى البشر.

ص: 204


1- راجع تفسير الإمام العسكري (علیه السلام): ص662 في من لا يستجاب دعاؤه.
2- عيون أخبار الرضا (علیه السلام): ج2 ص275 زيارة أخرى جامعة للرضا علي بن موسى (علیه السلام) ولجميع الأئمة (علیهم السلام) ح1.

..............................

قال تعالى: «وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ»(1).

ومن الواضح إمكان تحول المادة إلى المادة، والمادة إلى الطاقة، وبالعكس، فقد اختاره الله وانتقاه (صلی الله علیه و آله) قبل أن يرسله، أي أنه تعالى أنتخب من عرف أنه خير البشرية على الإطلاق، للرسالة.

والعلم كاشف وليس بعلة؛ فإن النبي (صلی الله علیه و آله) كان سيخرج قمة القمم في مختلف الامتحانات الإلهية - حسب معرفته سبحانه وتعالى بعلم الغيب لذلك انتخبه هو (صلی الله علیه و آله) دون غيره ليحمّله أعظم الرسالات والمسؤوليات الكونية على الإطلاق وأعطاه من الامتيازات الاستثنائية ما أعطاه.

وهناك وجه آخر: هو امتحانه (جل وعلا) للنبي (صلی الله علیه و آله) ولكل من عداه في عوالم سابقة، فأبدى (صلی الله علیه و آله) أهليته على الإطلاق، وقد يشير إلى هذا الوجه ما ورد في زيارة السيدة الزهراء (علیها السلام): «يا ممتحنة، امتحنكِ الذي خلقكِ قبل أن يخلقكِ فوجدكِ لما امتحنكِ صابرة»(2) وتفصيل البحث في علم الكلام والحديث.

مواصفات خاصة للنبي (صلی الله علیه و آله) والإمام (علیه السلام)

مسألة: في قولها (علیها السلام): «اختاره وانتجبه» دليل على أن هنالك مواصفات استثنائية يجب أن تتوفر في النبي (صلی الله علیه و آله) والإمام (علیه السلام).

فقد اختاره (صلی الله علیه و آله) وانتقاه الله تعالى بما يحمل من مواصفات تؤهّله لكي يكون رسولاً لرب العالمين وحجةً على الناس أجمعين.

ص: 205


1- سورة فاطر: 11.
2- وسائل الشيعة: ج14 ص367-368 ب18 ح19405.

..............................

ففي نفس كلمة «اختاره وانتجبه» دلالة على ذلك، حيث وقع الاختيار من بين الكل عليه وهو سبحانه أحكم الحكماء(1) على أن تفرد الله تعالى بهذا العمل وقيامه به بالذات دليل على ذلك، حيث إن غيره لا يمكن أن يكتشف تلك الصفات الاستثنائية.

ومن هنا كان اعتراض الملائكة عليه سبحانه في قضية خلق آدم (علیه السلام)، قال تعالى: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ»(2).

ومن جملة تلك الصفات: العصمة(3) اللازمة عقلاً وشرعاً في النبي والإمام (علیهما السلام)(4)والتي لا يعرفها إلاّالله سبحانه وتعالى، وقد أشار إليه الإمام (عليه الصلاة والسلام) في قصة اختيار موسى (علیه السلام) حيث اختار سبعين رجلاً ومع ذلك كفروا: «وَاخْتَارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَ تُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا»(5).

ص: 206


1- إضافة إلى أن «انتجبه» - كما سبق - من: نجب نجابة، إذا كان فاضلاً نفيساً في نوعه.
2- سورة البقرة: 30.
3- العصمة: هي ما يمتنع المكلف معه من المعصية متمكناً منها ولا يمتنع منها مع عدمها. راجع الألفين: ص56 المائة الأولى.
4- راجع كتاب (القول السديد في شرح التجريد) للإمام المؤلف (قدس سره).
5- سورة الأعراف: 155.

..............................

وليس هذا نقصاً في موسى (علیه السلام) واختياره وإنما هو بيان لأن الذين كانوا خيرة القوم حسب مختلف الظواهر كانوا هكذا فكيف إذا كانوا غير الخيرة، أو كانوا غير مختارين من قبل النبي (علیه السلام) وهو أدرى الناس بما يمكن للبشر معرفته من خفايا النفس البشرية.

أما بالنسبة إلى الفقهاء أو الوكلاء والرجوع إليهم فهو بأمر الله سبحانه وتعالى أيضاً، قال تعالى: «وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ»(1) فحيث لم تشترط فيهم العصمة ولم تكن فيهم ضرورية ولاواقعة، لذلك أوكل الله تعالى معرفة مصاديقهم إلى الناس أنفسهم أو إلى أهل الخبرة منهم(2).

فلا يقال: لماذا يلزم في النبي والإمام (علیهما السلام) العصمة دون وكلائهم في حال حياتهم أو بعد غيبتهم؟؛ فإن القياس مع الفارق الكبير.

ص: 207


1- سورة التوبة: 122.
2- راجع المسائل الإسلامية: ص72 أحكام التقليد، المسألة 3، الطبعة 36 عام 1421ه /2000م، مؤسسة المجتبى بيروت، وفيه: (يعرف المجتهد والأعلم بإحدى طرق ثلاث: الأولى: أن يتيقن الإنسان نفسه بذلك بأن يكون الشخص نفسه من أهل العلم ويتمكن من معرفة المجتهد والأعلم. الثانية: أن يخبر بذلك عالمان عادلان يمكنهما معرفة المجتهد والأعلم بشرط أن لا يخالف خبرهما عالمان عادلان آخران. الثالثة: أن تشهد جماعة من أهل العلم والخبرة ممن يقدرون على تشخيص المجتهد والأعلم ويوثق بهم، والأقوى هو كفاية إخبار شخص واحد - إذا كان ثقة - بذلك).

..............................

إضافة إلى عدم وجود القابلية لمقام العصمة في غير الأنبياء والأئمة (علیهم السلام)، إذ هو تعالى فياض حكيم يعطي فيضه ولطفه للقابل لاغير(1).

مواصفات وكلاء المعصومين (علیهم السلام) وأتباعهم

مسألة: ومما سبق نعرف أن الفقهاء والوكلاء والقضاة وأئمة الجماعة والخطباء ومن أشبههم، بل عموم أتباع المعصومين (علیهم السلام) وإن لم يكونوا معصومين إلاّ أن من الضروري أن يتحلوا بكثير من الصفات التي توفر درجة من السنخية والتجانس مع موكليهم وأئمتهم وقادتهم (علیهم السلام)، كما قال أمير المؤمنين (علیه السلام) : «ألا وإن لكل مأموم إمام يُقتدى به ويُستضيء بنوره، ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طُعمه بقُرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفّةوسداد»(2).

ثم إن من تلك الصفات: ما ذكر في القرآن الكريم وورد في الأحاديث الشريفة حكاية عن حال الأنبياء (علیهم السلام) أو وصفاً للمؤمنين، مثل قوله سبحانه: «إنه كان عبداً شكورا»(3).

ص: 208


1- بالإضافة إلى أن الدنيا دار امتحان، وكونها دار امتحان يقتضي وجود نبي (علیه السلام) أو إمام معصوم (علیه السلام) يكون بمثابة المنبع والمصدر الأساسي والرئيسي للتشريع، ووكلاء لهم بمثابة الجداول والفروع، لم يشترط فيهم ذلك ولم يتحقق، فالجمع بين كونها دنيا وبين «حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَْبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَْسْوَدِ» - سورة البقرة: 187 - وبين إرادة الامتحان وغيرها يقتضي ذلك فدقق.
2- نهج البلاغة، الرسائل: 45 ومن كتاب له (علیه السلام) إلى عثمان بن حنيف وكان عامله على البصرة وقد بلغه أنه دعي إلى وليمة قوم من أهلها فمضى إليها.
3- سورة الإسراء: 3.

..............................

وقوله تعالى: «إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ»(1).

وقوله سبحانه: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لهمْ»(2).

وقوله تعالى: «فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لهمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ»(3).

وقوله سبحانه: «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِوَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ»(4) الآية.

وقوله تعالى: «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (علیهم السلام) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ (علیهم السلام) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (علیهم السلام) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (علیهم السلام) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ»(5) الآية.

وقوله سبحانه: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ»(6).

وعنه (علیه السلام): «من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً على هواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه»(7).

ص: 209


1- سورة مريم: 54.
2- سورة آل عمران: 159.
3- سورة آل عمران: 159.
4- سورة الفتح: 29.
5- سورة المؤمنون: 1-5.
6- سورة آل عمران: 110.
7- تفسير الإمام العسكري (علیه السلام): ص300 رسالة أبي جهل إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) والجواب عنها.

..............................

وعن أبي عبد الله (علیه السلام): «ينبغي للمؤمن أن يكون فيه ثمان خصال: وقور عند الهزاهز، صبور عندالبلاء، شكور عند الرخاء، قانع بما رزقه الله، لا يظلم الأعداء، ولا يتحامل للأصدقاء، بدنه منه في تعب، والناس منه في راحة، إن العلم خليل المؤمن، والحلم وزيره، والصبر أمير جنوده، والرفق أخوه، واللين والده»(1).

وعن أمير المؤمنين (علیه السلام): «المؤمن... بشره في وجهه، وحزنه في قلبه، أوسع شيء صدراً، وأذل شيء نفساً... يكره الرفعة، ويشنأ السمعة، طويل الغمّ، بعيد الهمّ، كثير الصمت، ذكور، صبور، شكور، مغموم بفكره، مسرور بفقره، سهل الخليقة، لين العريكة... أصلب من الصلد، ومكادحته أحلى من الشهد، لا جشع ولا هلع، ولا عنف ولا صلف، ولا متكلف ولا متعمق... »(2).

وهذه الصفات وإن كانت عامّة إلاّ أن توفرها في الوكلاء آكد، كما لايخفى.

ص: 210


1- الأمالي للصدوق: ص592 المجلس86 ح17.
2- نهج البلاغة، قصار الحكم: 333.

وسماه قبل أن اجتباه،

اشارة

-------------------------------------------

التسمية قبل الولادة

مسألة: يستحب التسمية للشخص قبل الولادة، وقد ورد في الروايات استحباب تسمية المولود قبل أن يولد، حتى أنهم قالوا: إذا عرف أنه ولد سمي باسم الولد، أو أنثى فباسم الأنثى، أو مشكوك فباسم مشترك يصلح للذكر والأنثى.

وفي الحديث عن علي (علیه السلام): «سمّوا أولادكم قبل أن يولدوا، فان لم تدروا أذكر أم أنثى فسموهم بالأسماء التي تكون للذكر والأنثى، فإن أسقاطكم إذا لقوكم يوم القيامة ولم تسموهم يقول السقط لأبيه: ألا سميتني»(1).

ومن هذه الجهة سمى رسول الله (صلی الله علیه و آله) محسناً (علیه السلام) قبل أن يولد(2).

قولها (علیها السلام): «اجتبله» أي: خلقه، فقد سماه جل وعلا لملائكته وأنبيائه (علیهم السلام) قبل أنيخلقه(3)، أو أنه تعالى وضع له اسماً قبل أن يخلق مطلقاً(4).

ص: 211


1- الكافي: ج6 ص18 باب الأسماء والكنى ح2.
2- وسائل الشيعة: ج21 ص387 ب21 ح27372.
3- أي: قبل أن يخلقه في هذا العالم أي قبل ولادته، وإلاّ فإن نوره (صلی الله علیه و آله) قد خلق قبل سائر الأشياء. بحار الأنوار: ج25 ص21 ب1 ح37.
4- أي قبل خلقه جسمه وروحه ونوره.

واصطفاه قبل أن ابتعثه، إذ الخلائق بالغيب مكنونة، وبستر الأهاويل مصونة، وبنهاية العدم مقرونة،

اشارة

-------------------------------------------

من فضائله (صلی الله علیه و آله)

مسألة: ينبغي التركيز والتأكيد على اختيار الله جل وعلا واصطفائه للرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) ولسائر الرسل (علیهم السلام) وللأئمة (علیهم السلام) .. وبيان فلسفة ذلك أيضاً، كما سبق الإشارة إلى جانب منها، وكما سيأتي في كلامها (علیها السلام): «علماً من الله بمآل الأمور... ».

إذ إن ذلك إضافةً إلى تضمّنه توجيهاً وتربيةً، فإنه يزيد من شدة التفاف الناس حولهم وبهم (علیهم السلام).قولها (علیها السلام): «إذ» بيان لظرف الاصطفاء، فالقبلية زمنية ورتبية أيضاً، فقد اختاره (صلی الله علیه و آله) لا قبل البعثة فحسب، بل قبل الخلقة أيضاً.

وفي الحديث عن جابر بن عبد الله، قال: قلت لرسول الله: أول شيء خلقه الله ما هو؟.

فقال (صلی الله علیه و آله): «نور نبيك يا جابر، خلقه الله ثم خلق منه كل خير»(1).

ولا ينافي هذا ما ورد من أن «أول ما خلق الله عزوجل العقل»(2)؛ لأن العقل الأكمل هو النبي (صلی الله علیه و آله) ونوره عقل.

ص: 212


1- بحار الأنوار: ج15 ص24 ب1 ح43.
2- مكارم الأخلاق: ص442 ب12 ف3.

..............................

و«الأهاويل»: الأهوال، هذا تشبيه للعدم بالهول، أو يقال: إن الأهوال شرور والشرور أعدام، كما ذكروا في علم الكلام في بحث أن الوجود خير محض والعدم شر محض(1).

و«بنهاية العدم»: العدم ليس بشيءحتى يكون له ابتداء، وإنما هو كناية عن العدم المحض الذي لا شائبة له من الوجود حتى الوجود الذهني والانتزاعي والاعتباري.

وهذه الجمل الثلاثة يحتمل أن يكون المراد بها واحداً، فبعضها بيان للبعض الآخر من باب التفنن في التعبير، ويحتمل أن يكون المراد بها الإشارة إلى التسلسل الوجودات في العوالم المتتالية، أو إلى مراتب الوجود(2).

ص: 213


1- راجع (القول السديد في شرح التجريد) للإمام المؤلف (قدس سره).
2- وربما يؤيد هذا الاحتمال الثاني قولها (علیها السلام): «مصونة، مكنونة» وعلى الاحتمال الأول قد تكون هذه التعابير مجازية.

علماً من الله تعالى بمآيل الأمور ، وإحاطة بحوادث الدهور، ومعرفة بمواقع الأمور

اشارة

-------------------------------------------

علماً من الله تعالى بمآيل الأمور(1)، وإحاطة بحوادث الدهور، ومعرفة بمواقع الأمور(2).

علمه تعالى

مسألة: يجب الاعتقاد بعلمه تعالى، «وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً»(3)، «وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ»(4)والتفصيل في علم الكلام.

كما يجب الاعتقاد بأنه عزوجل يعلم الغيب: «وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ»(5).

ولا يخفى أن علمه سبحانه من صفات الذات كما هو مفصل في علم الكلام.

قال الإمام موسى بن جعفر (علیه السلام): «علم الله لا يوصف منه بأين، ولا يوصف العلم من الله بكيف، ولا يفرد العلم من الله، ولا يبان الله منه، وليس بين اللهوبين علمه حدّ»(6).

ص: 214


1- وفي نسخة: «بما يلي الأمور».
2- وفي نسخة: «بمواقع الأمور».
3- سورة الطلاق: 12.
4- سورة البقرة: 29، سورة الأنعام: 101، سورة يس: 79، سورة الحديد: 3.
5- سورة هود: 123.
6- بحار الأنوار: ج4 ص86 ب2 ح22.

..............................

ما وصف الله به نفسه

مسألة: ينبغي أن يصف المرءُ ربّه بما وصف به نفسه في كتابه أو على لسان رسله وأوصيائهم، ويحرم أن يصفه بغير صفاته، وقد قال (علیه السلام): «فمن وصف الله فقد حدّه، ومن حدّه فقد عدّه، ومن عدّه فقد أبطل أزله»(1). والمراد توصيفه سبحانه بصفات الجسم ولوازم الجسم وما أشبه من صفات الممكنات(2) بل مطلق غير ما يصف به نفسه في كتابه أو على لسان رسله. وخطبتها (علیها السلام) هي مما يرجع إليه في معرفة أوصافه وأسمائه جل وعلا.

و(مآئل) جمع مآل: ما يؤول ويرجع إليه الأمر(3)، أي إنما بعثه (صلی اللهعلیه و آله) لعلمه بعواقب الأمور، كعلمه بعاقبة كل فعل من أفعال البشر ومناهجهم، وعلمه بعاقبة بعثته للرسول (صلی الله علیه و آله) وعاقبة عدم بعثته وغير ذلك، كمن يعلم عاقبة من يمشي في غابة خطرة جاهلاً بمسالكها وأخطارها، وهو تعالى يعلم أيضاً المستجدات والمتغيرات التي تحدث للبشرية ولغيرها على مر الأعصار(4).

ص: 215


1- نهج البلاغة، الخطب: 152، ومن خطبة له (علیه السلام) في صفات الله جل جلاله وصفات أئمة الدين.
2- ولذا علل (علیه السلام) قوله ب «لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف وشهادة الموصوف أنه غير الصفة وشهادتهما جميعاً بالتثنية الممتنع منه الأزل» - الكافي: ج1 ص140 باب جوامع التوحيد ح6 - وهذه حال صفات الممكن.
3- راجع لسان العرب: ج11 ص32 مادة (أول)، وفيه: الأول: الرجوع. آل الشيء يؤول أولاً ومآلا: رجع. وأول إليه الشيء: رجعه. وألت عن الشيء: ارتددت.
4- كمن يخطط المعركة وهو على علم تام بكافة الطوارئ والمستجدات التي ستواجه أفراد الجيش، فهو يرسم مختلف الحلول والبدائل لجيشه.

..............................

فهو سبحانه يضع منهجاً متكاملاً لشتى أبعاد الحياة البشرية وهو عالم بالعواقب، محيط بالمستجدات، عارف بموقع كل شيء وقدره، فهو يعلم الزمان والمكان والجهات والشرائط المكتنفة بكل حدث وحكم، فمن الطبيعي وجوب إتباع مناهجه ورسله عقلاً.

أما البشر فليس بمقدوره وضع القوانين والمناهج، إذ هم يجهلون كل ذلك، فهم يجهلون خفايا النفسالبشرية، ويجهلون خفايا الطبيعة، ويجهلون المستجدات الطارئة، ويجهلون تأثيرات القوانين على الأجيال القادمة، ويجهلون التزاحمات والتعارضات، ويجهلون ويجهلون...(1).

قال تعالى: «وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ له الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً»(2).

فمن يريد حياةً سعيدةً بهيجةً في الدنيا والآخرة لابدّ له من الإذعان لاختيار الله ومن إتباع مناهج من اصطفاه الله في كل رطب ويابس، قال تعالى: «وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ»(3).

وقال سبحانه: «يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ»(4).

وقال تعالى: «يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا»(5).

ص: 216


1- راجع موسوعة الفقه: كتاب القانون، للإمام المؤلف (قدس سره).
2- سورة النساء: 115.
3- سورة الأنعام: 59.
4- سورة النساء: 26.
5- سورة النساء: 176.

..............................

وقال سبحانه: «كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ»(1).

استحضار إحاطته تعالى

مسألة: يستحب أن يستحضر الإنسان في ذهنه دوماً إحاطة الله سبحانه بكافة أفعاله وأقواله بل حتى خواطره، وقد ورد: «يا عالم الجهر والخفيات، ويا من لا يخفى عليه خواطر الأوهام وتصرف الخطرات»(2)، وأن يتذكر أن أزمّة الأمور كلها بيده(3)، وأن المقادير جميعاً تعود إليه، كما قال (صلی الله علیه و آله): «إن الله عزوجل قدّر المقادير ودبّر التدابير»(4).

وقد يجب ذلك.

وبإخطار ذلك دوماً في القلب وتأمله في العقل وتكراره باللسان سيحدث للإنسان حاله روحانية وملكة تقربه إلى مراتب الكمال وتجنبه مواطن الزلل والضلال.

التعبد المطلق

مسألة: يجب التعبد المطلق في قباله تعالى، وكذلك بالنسبة إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) والأئمة الطاهرين (عليهم أفضل الصلاة والسلام) حتى فيما جهل وجه الحكمة فيه، فلقد أصبح البعض ينكر - فوراً ودون روية وبلا رجوع لأهل الذكر - أي

ص: 217


1- سورة النور: 59.
2- بحار الأنوار: ج95 ص409 ب30 ضمن ح1.
3- راجع مفتاح الفلاح: ص106، وفيه: «وأزمة الأمور كلها بيدك».
4- بحار الأنوار: ج5 ص93 ب3 ح12.

..............................

حديث يبلغ مسامعه مما لا يفهم وجه العلة فيه، أو مما عارض مرتكزاته الذهنية، فكان مثله كمثل من يرفض نصائح الطبيب الحاذق لأنه لا يفهم وجه العلة، أو لأنه عارض مفهوماً ذهنياً لديه.

فإذا كان الله العالم بمآل الأمور والمحيط الحوادث والعارف بالمقدرات..قد اصطفاهم (علیهم السلام) ليكونوا الأدلاء عليه، والمرشدين إلى سعادة البشرية والعالمين بما كان وما يكون وما هو كائن، فكيف ينكر الإنسان حديثاً لمجرد معارضته لما توصل هو إليه، مع ضيق أفقه وقلة علمه وكثرة اشتباهه...؟! (1).ومما يوضح هذا المعنى أكثر: ما ذكره الإمام الصادق (علیه السلام) في بيان أن دية قطع أربع أصابع المرأة تساوي دية إصبعين منها، واستنكار ذلك الرجل قائلاً: إن هذا كان يبلغنا فنبرأ ممن قاله ونقول الذي جاء به شيطان! (2).

وقد قال (علیه السلام): «إنما الأمور ثلاثة: أمر بيّن رشده فيتبع، وأمر بيّن غيّه فيجتنب، وأمر مشكل يردّ علمه إلى الله وإلى رسوله»(3).

ص: 218


1- ونرى العلامة المجلسي (قدس سره) عند ما ذكر رواية في كتاب (السماء والعالم) عن الإمام الصادق (علیه السلام) تنفي ما أجمع عليه الفلكيون منذ زمن بطلميوس من كون الأرض هي المركز، وكون الأفلاك محيطة بالأرض كقشور البصل، فلم يرد المجلسي (قدس سره) الرواية رغم مخالفتها لعلم الهيئة ذلك الزمن، بل أرجع علمها إلى أهلها (علیهم السلام)، والآن قد ثبت صحة الرواية وخطأ علم الهيئة السابقة المتسالم عليه بين كافة علماء تلك الأعصار ولألوف السنين، وقد اعتبر السيد هبة الدين الشهرستاني (قدس سره) في كتابه القيم (الهيئة والإسلام) هذا الموقف من العلامة المجلسي (قدس سره) دليلاً على عظمته وسمو روحه.
2- راجع الكافي: ج7 ص299-300 باب الرجل يقتل المرأة والمرأة تقتل الرجل ح6.
3- تهذيب الأحكام: ج6 ص302 ب92 ح52.

ابتعثه الله إتماماً لأمره،

اشارة

-------------------------------------------

إتمام الأمر

مسألة: ينبغي للإنسان أن يتمّ كل أمر بدأ، وأن يتقنه، تخلقاً بأخلاقه تعالى(1)، ولقوله (صلی الله علیه و آله): «رحم الله امرئ عمل عملاً فأتقنه»(2).

والإتمام والإتقان شامل للكمّ المنفصل والمتصل، ومنه الاستمرار زمناً، وللكيف، ولسائر الجهات، فتأمل.

و«ابتعثه إتماماً لأمره» حيث إن أمره تعالى ابتداءً هو التكوين: «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ له كُنْ فَيَكُونُ»(3)، ومنه تكوين الإنسان وغيره ممن وضع عليهم قلم التكليف(4).

و(إتمام الأمر) هو هدايته.

و(الابتعاث) من البعث؛ لأن زيادةالمبنى تدل على زيادة المعنى.

وببيان آخر: أمره تعالى هو ما سبق من العلل الخمسة المذكورة في كلامها (علیها السلام): «تثبيتاً لحكمته وتنبيهاً على طاعته و... » فببعثه النبي (صلی الله علیه و آله) يتم التثبيت

ص: 219


1- إشارة إلى قوله (علیه السلام): «تخلقوا بأخلاق الله»، بحار الأنوار: ج58 ص129 ب42 تتميم.
2- راجع وسائل الشيعة: ج3 ص230 ب60 ح3484، وفيه: «ولكن الله يجب عبداً إذا عمل عملاً أحكمه».
3- سورة يس: 82.
4- كالجن قال سبحانه: «إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا» سورة الجن: 1-2 - ومخلوقات أخرى لا نعرفها، قال تعالى: «وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً» سورة الإسراء: 70.

..............................

للحكمة والتنبيه على الطاعة وإظهار القدرة وتعبد البرية وإعزاز الدعوة وإتمام الأمر وهو مقتضى الحكمة، وعدمه نقض للغرض ولو في الجملة.

وبمعرفة ذلك يتضح السر في قوله تعالى في الحديث القدسي: «يا أحمد، لولاك لما خلقت الأفلاك، ولولا علي (علیه السلام) لما خلقتك، ولولا فاطمة (علیها السلام) لما خلقتكما»(1).

وقولها (علیها السلام): «إتماماً لأمره» يصلح للاستدلال به على ضرورة الإمامة والوصاية، نظراً لأن بعثته (صلی الله علیه و آله) لا يكمل الغرض منها ولا يتم الأمر إلاّ بذلك، ولذلك قال تعالى في يوم الغدير - يوم نصب أمير المؤمنين علي (علیه السلام) خليفةً منبعده -:

«الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً»(2).

ويمكن الاستناد للجملتين اللاحقتين بضميمة.

ص: 220


1- عوالم العلوم: ج11ص26 ب3 ح1، تحقيق مؤسسة الإمام المهدي (علیه السلام).
2- سورة المائدة: 5.

وعزيمةً على إمضاء حكمه، وإنفاذاً لمقادير حتمه،

اشارة

-------------------------------------------

تنفيذ حكمه تعالى

مسألة: يجب إمضاء حكمه تعالى وتنفيذه، ولا يجوز العدول عن أحكامه، قال سبحانه: «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ»(1). وقال تعالى: «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ»(2). وقال سبحانه: «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ»(3).

«وعزيمة»: أي تصميماً(4) على تنفيذ حكمه بالخلق والهداية، فقد بعثه (صلی الله علیه و آله) لأجل أنه عزم على إمضاء ذلك الحكم وتحقيقه في الخارج.

التقدير الإلهي الحتمي

مسألة: من اللازم الاعتقاد بالقضاء والقدر الإلهي(5)، وتفصيل الكلام في علم الكلام.

وهذا لا ينافي اختيار الإنسان وقدرته؛ لأنه تعالى قدّر ذلك كما سيأتي.

ص: 221


1- سورة المائدة: 44.
2- سورة المائدة: 45.
3- سورة المائدة: 47.
4- عزمت على أمر: إذا أردت فعله وقطعت عليه، والعزم: ما عقدت عليه قلبك أنه فاعله. راجع لسان العرب: ج12 ص399 مادة عزم.
5- راجع بحار الأنوار: ج5 ص84 ب3.

..............................

قولها (علیها السلام): «لمقادير حتمه» أي لمقادير الحتمية(1) أو ما حتم.

والحتم بعد الحكم، فالثلاثة كما يقال في الإنسان: من الشوق والإرادة والتنفيذ، كتحريك العضلات - مثلاً - وهنا: حكم فعزم(2) فحتم، إذ قد يكون الحكم غير حتمي، أي لم يصل إلى العلية التامة، والبحث في هذا المقام مضطرب الآراء طويل الذيل نتركه لمظانه.

هذا ومن الواضح أن من مقاديره الحتمية قدرة الإنسان واختياره،قال تعالى: «وَهَدَيْنَاهُ

النَّجْدَيْنِ»(3)، وقال سبحانه: «فَأَلْهَمَهَا

فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا»(4)، فالجمع بين ذا وبين علمه بمآل الأمور وإرادته إتمام الأمر وشبهه هو إرساله هذا الرسول (صلی الله علیه و آله) ليكون حجة ودليلاً وهادياً، ذائداً لعباده عن نقمته، حائشاً لهم إلى جنته، قال تعالى: «رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى»(5)، وهدايته بالعقل والشرع والفطرة والغريزة وما أشبه.

وأخيراً ينبغي الإشارة إلى أنه ينبغي للمؤمن أن يكون ذا عزيمة وإصرار على إحقاق الحق وإبطال الباطل، فإن شر ما يصيب الفرد أو الأمة الوهن والتردد عند مواجهة الصعاب والعقبات التي تعترض طريق المصلحين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.

ص: 222


1- من باب إضافة الموصوف للصفة.
2- على إمضاء ذلك الحكم.
3- سورة البلد: 10.
4- سورة الشمس: 8.
5- سورة طه: 50.

..............................

قال علي (علیه السلام): «يا أيها الناس لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلة من يسلكه»(1)، فكل ما حكم به الله، على الإنسان أن يجدّ لتحقيقه، فإنه سير في طريق الهدف الذي توخاه الله من الخلقة.

وقد ذكر في القرآن الكريم على سبيل المدح كلمة (العزم)، قال سبحانه:

«لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ»(2).

وعبر عن بعض الأنبياء (علیهم السلام) ب: «أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ»(3)..

إلى غير ذلك.

ص: 223


1- مستدرك الوسائل: ج12 ص194 ب4 ح13858.
2- سورة آل عمران: 186.
3- سورة الأحقاف: 35.

فرأى الأمم فرقاً في أديانها،

اشارة

-------------------------------------------

التفرق عن الحق

مسألة: يحرم التفرق عن الحق، فقد قال سبحانه: «وَاعْتَصِمُوا

بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا»(1)، وقال (صلی الله علیه و آله): «علي مع الحق، والحق مع علي، يدور معه حيثما دار»(2) إلى غير ذلك.

وقد ورد في تفسير الآية(3) : «إن الله تبارك وتعالى علم أنهم سيفترقون بعد نبيهم ويختلفون، فنهاهم عن التفرق كما نهى من كان قبلهم، فأمرهم أن يجتمعوا على ولاية آل محمد (علیهم السلام) ولا يتفرقوا»(4).

ويمكن الاستدلال له بآية: «وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ»(5)، وبدليل العقل الآتي على ذلك وعلى حرمة التنازع والاختلاف بما هو هو فيالجملة، أي فيما إذا سبّب ما لا يجوز من الفشل وذهاب الريح.

وهل يحرم النزاع إذا كان أحد الطرفين أو الأطراف ذا حق شخصي أو شبهه؟. الظاهر عدم ذلك بالنسبة إلى المحق، خاصة إذا كان ضرر التخلي عن حقه أكثر من ضرر التنازع، أما إذا انعكس الأمر كما لو تنازعا في دَين أو شبهه من الحقوق فقد يؤدي النزاع - لو لم يتخل ذو الحق عن حقه - إلى سفك الدماء

ص: 224


1- سورة آل عمران: 103.
2- شرح نهج البلاغة: ج18 ص72.
3- قوله تعالى: «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا» سورة آل عمران: 103.
4- بحار الأنوار: ج36 ص20 ب27 ح14.
5- سورة الأنفال: 46.

..............................

وشبهه، أو إلى ذهاب الريح بدرجة تكون خسارتها أعظم مما يذهب من حقه الحالي، فالمسألة حينئذ تكون من كلي (الأهم والمهم)، ثم إن الآية تشمل المنازع غير المحق مطلقاً.

هذا بالإضافة إلى دلالة العقل على أن الاجتماع قوة، والتفرقة ضعف، وسر تقدم وتحطم الأمم هو ذلك، فإذا اجتمعت على الحق سلمت وسعدت دنياً وأخرىً، وإلاّ فلا.

كما يدل العقل أيضاً على أن الحق في كل مجال واحد لا يتعدد - اللهم إلاّ في مصاديق الكلي الواحد(1) - فمن خالفهذا الواحد كان باطلاً، فاللازم البحث والفحص والاستدلال حتى ينتهي الجميع إلى الواقع.

وفي الحديث عن علي (علیه السلام)، قال:

«سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: إن امة موسى (علیه السلام) افترقت بعده على إحدى وسبعين فرقة، فرقة منها ناجية وسبعون في النار. وافترقت أمة عيسى (علیه السلام) بعده على اثنتين وسبعين فرقة، فرقة منها ناجية وإحدى وسبعون في النار، وإن أمتي ستفترق بعدي على ثلاثة وسبعين فرقة، فرقة منها ناجية واثنتان وسبعون في النار»(2).

ص: 225


1- كأداء الدين بدفع مال أو شيك أو بضاعة فيما إذا لم يكن شرط أحدهما ولو ضمناً أو ارتكازاً، أو كالسفر للحج بالطائرة أو السيارة أو السفينة أو ماشياً، وكالصلاة في أول الوقت أو ما بعده في الموسع، في هذا المكان أو غيره مما يجتمع فيه الشرائط، وكدفع الصدقة لهذا الفقير أو ذاك وهكذا.
2- بحار الأنوار: ج28 ص4 ب1 ح3.

..............................

وفي بعض الروايات عنه (علیه السلام) قال في آخره: «فقلت: يا رسول الله وما الناجية؟. فقال (صلی الله علیه و آله): المتمسك بما أنت عليهوأصحابك»(1).

نعم في صورة اختلاف الاجتهادات في الفروع الشرعية وعدم تيسر وصول الجميع للحق فيها يأتي ما روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «للمصيب أجران وللمخطئ أجر»(2).

فإن المصيب له أجر إصابة الواقع وأجر البحث والفحص، أما المخطئ - والمقصود به من لم يقصر في المقدمات بل يحاول جاداً الوصول إلى الحق إلاّ أنه لم يصب قصوراً - فله أجر البحث والفحص فقط، وهذا الحديث عقلي قبل أن يكون شرعياً.

قولها (علیها السلام): «فرقاً» أي ليست لهم وحدة في الدين، الأعم من الأصول والفروع.

الفحص عن حال الأمم

مسألة: يجب التفحص عن حال الأمم الأخرى ومعرفة انحرافاتها الفكرية والعملية وجوباً كفائياً مقدمةً للإرشاد والإصلاح، وهو ما يحقق في الجملةالأهداف المذكورة في كلماتها (علیها السلام) هذا، والكلام في وجوب الفحص عن الموضوعات مفصل ذكرناه في محله.

ص: 226


1- نهج الحق: ص331 تألم علي (علیه السلام) من الصحابة.
2- راجع الصراط المستقيم: ج3 ص236 ب15 فصل، وفيه: أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: «من اجتهد فأصاب فله أجران، ومن أخطأ فله أجر واحد».

عكفاً على نيرانها، عابدة لأوثانها،

اشارة

-------------------------------------------

عبادة النيران والأوثان

مسألة: تحرم عبادة النيران وسائر الأوثان بما هي هي، أو بدعوى أنها تقرّب الإنسان إلى الله زلفى، كما ورد في القرآن عن لسان المشركين قال تعالى: «مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفى»(1).

فإن عبادة غير الله سبحانه وتعالى محرمة(2) سواء كان ذلك الغير بشراً أو حيواناً كالبقر، أو نباتاً كالشجر، أو جماداً كالحجر والنار والماء، فإن كثيراً من هذه العبادات لا تزال موجودة في بعض البلاد كالهند والصين ونحوهما.

بل إن الكثير من الناس يعبدون ويطيعون أهوائهم من دون الله، كما قال تعالى: «أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَوَاهُ»(3)وإطلاق كلامها (علیها السلام) يشمله، وربما يقال بأن الانصراف وبعض القرائن المقامية قد لا تسمح بذلك، فتأمل.

كما يمكن التعميم - توسعة مجازاً أو ملاكاً - بإرادة نيران العداوة والبغضاء لايحيدون عنها إلى الألفة والاجتماع والتعقل والصلاح.

ولا فرق في حرمة عبادة النار والوثن بين مختلف أنواع ما يطلق عليه عبادة عرفاً، كالصلاة والركوع والسجود وتقديم القربان وما أشبه ذلك، كما لا يجوز إذا قصد العبادة ولو بما لايعدّ عرفاً عبادة، أما صنع المجسمات والمعاملة عليها لا للعبادة فالظاهر جواز ذلك؛ لأن الأدلة منصرفة إلى ما كان المقصود منها العبادة

ص: 227


1- سورة الزمر: 3.
2- قال تعالى: «وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ» - سورة المدثر: 5 - أي عبادة الأوثان، كما في بعض التفاسير، راجع متشابه القرآن: ج2 ص158 باب فيما يحكم عليه الفقهاء.
3- سورة الفرقان: 43.

..............................

والتفصيل مذكور في الفقه(1).

وقد يكون السبب في تركيز السيدة الزهراء (علیها السلام) على هذا الانحراف العقائدي في المعبود أن عبادة النيران والأوثان - وهي كما قال تعالى: «وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعاً وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَياةً وَلاَنُشُوراً»(2)- يكشف عن الجهل بأكثر الحقائق بداهة وبأكبر الكمالات وأعظمها، بل الجهل بالكمال المطلق. وذلك إضافة إلى كونه نقصاً (3) يعدّ من أهم عوامل الجمود الفكري والتخلف الحضاري والعلمي، إذ الفرق واضح بين من إلهه مظهر الفقر والجهل والعجز، ومن إلهه مظهر الكمال والغنى والعلم المطلق، وذلك كمن يتخذ مقتداه وإمامه شخصاً سفيهاً أو حكيماً، مستبداً أو استشارياً، قاسياً أو رحيماً، فإن هذا الاتخاذ يؤثر بقدر وإن كان الفرد بطبيعته أو بتربيته الاجتماعية من نمط آخر. قال تعالى : «إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ»(4) فهو ظلم للإنسان نفسه ولمجتمعه كما هو ظلم لعقله ولفطرته ووجدانه.

ص: 228


1- راجع موسوعة الفقه: كتاب المكاسب المحرمة ج1-2.
2- سورة الفرقان: 3.
3- إذا كان جهل الإنسان بالرياضيات والهندسة أو بقواعد علم النفس أو السياسة أو الاقتصاد وشبهها يعد نقصاً، فما بالك بالجاهل جهلاً مركباً بها كمن يتصور أن اثنين زائداً اثنين يساوي ثلاثة مثلاً، والأمر في من يتصور الخالق الرازق العالم المطلق هو تلك الأوثان الجاهلة العاجزة أسوأ والنقص فيه أعظم. وإذا كان الجهل بأسماء كبار الشخصيات العالمية والعلمية كالجهل بمكتشف القوة الجاذبية وبمخترع المصباح الكهربائي وشبهه نقصاً، فما بالك بالجهل بخالق الجاذبة والكهرباء وبخالق أديسون ونيوتن، وبخالق هذا الإنسان نفسه، وهكذا.
4- سورة لقمان : 13.

منكرة لله مع عرفانها،

اشارة

-------------------------------------------

إنكار الله رغم معرفته

مسألة: يحرم إنكاره جل وعلا، سواء كان بإنكار أصل وجوده، أم وحدانيته، أم بعض صفاته الثبوتية أو السلبية، كما: «قَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ»(1)، وكقول النصارى بأن له ولداً، قال تعالى: «وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً»(2).

وكالقول بالحلول والاتحاد والجبر وما أشبه ذلك، فلقد كانت الأمم حين بعثته (صلی الله علیه و آله) فرقاً كل واحدة منها تنكر شيئاً من ذلك، فهي «منكرة لله مع عرفانها» بالحقيقة،والمراد إما المعرفة الفطرية أو البرهانية.

أما من لا يعرفه جل وعلا - لشُبهة مثلاً - فالواجب عليه الفحص والبحث وجوباً عقلياً قبل أن يكون شرعياً في بعض الموارد(3)؛ وذلك لاحتمال الضرر العظيم في الدنيا والآخرة، ودفع الضرر المحتمل في الأمور الخطيرة واجب عقلاً، كمن يحتمل احتمالاً عقلائياً أن يكون في الطريق سبع أو لص يقتله أو ما أشبه

ص: 229


1- سورة المائدة: 64.
2- سورة مريم: 88-92.
3- إشارة إلى أن الوجوب الشرعي قد يتأتى في غير المنكر لأصل وجوده تعالى كالمنكر لصفاته مثلاً.

..............................

ذلك، فإن العقلاء يردعونه عن سلوك هذا الطريق. قال: «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام»(1).

ومعنى الإنكار مع العرفان ما ذكر في قوله سبحانه: «يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا»(2)..

وقوله تعالى: «يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَأَبْنَاءَهُمْ»(3)..

حيث إن كثيراً من المشركين كانوا يعرفون الله سبحانه وتعالى لكنهم كانوا تقليداً لآبائهم يعبدون الأصنام..

وقد أشير في القرآن الحكيم إلى هذا المطلب كراراً (4) فهم كما قال تعالى: «وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ»(5).

فإن المعرفة إذا لم تكن موضع العمل يسري الإنكار إلى السلوك لساناً وعملاً، بل وقلباً - بنائياً - أيضاً، فهم يعرفون علماً وينكرون عقداً قلبياً.

ص: 230


1- وسائل الشيعة: ج26 ص14 ب1 ح32382.
2- سورة النحل: 83.
3- سورة البقرة : 146، سورة الأنعام: 20.
4- سورة المائدة: 104، سورة يونس: 78، سورة الشعراء:74، سورة لقمان: 21، سورة الزخرف: 22، و...
5- سورة النمل: 14.

فأنار الله بأبي محمد (صلی الله علیه و آله) ظلمها،

اشارة

-------------------------------------------

إنارة الظلم

مسألة: لقد كان (صلی الله علیه و آله) شمساً مضيئة في أفق البشرية - بل كل العوالم الإمكانية - فقد كان ولا يزال هو (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته (علیهم السلام) وسائط الفيض بين الخالق جل وعلا وبين كافة المخلوقات، كما ورد: «بيمنه رزق الورى، وبوجوده ثبتت الأرض والسماء»(1).

فمن الواجب السعي - عبر الكتب والمجلات والإذاعات وغيرها - لتوضيح الإشراقات الإلهية التي تجلت عبره (صلی الله علیه و آله) على البشرية بأجمعها، ودوره (صلی الله علیه و آله) الذي لا يضارع في إضاءة طرق الهداية، بل في الكشف عن مختلف الحقائق الدينية والدنيوية في شتى الحقول، وما له (صلی الله علیه و آله) من الفضل على الإنسانية في الأبعاد الحقوقية والأخلاقية والاجتماعية وغيرها، وفيأبعاد العلوم الوضعية أيضاً (2).

المصباح المنير

مسألة: يستحب - ويجب في موارد - تأسياً به (صلی الله علیه و آله) وتخلقاً بأخلاق الله تعالى(3)، ولدليل العقل أيضاً: أن يكون الإنسان كالمصباح المنير للمجتمع، ينير لهم سبل الرشاد، وفي كل حقل كيفما تمكن.

ص: 231


1- الدعاء والزيارة للإمام المؤلف (قدس سره): ص272 ف1 دعاء العديلة.
2- راجع كتاب ولأول مرة في تاريخ العالم: ج1-2 للإمام المؤلف (قدس سره).
3- لما ورد من «تخلقوا بأخلاق الله» بحار الأنوار: ج58 ص129 ب42 تتميم.

..............................

و(الظُلَم): جمع الظلمة، وهي قد تكون ظلمة الاعتقادات المخالفة للواقع، وقد تكون ظلمة الأعمال الباطلة، وكما تستر الظلمة الحقائق العينية الخارجية كذلك يستر الجهل الحقائق الفكرية والاعتقادية ويخفي الخير العملي، فيضيع الحق بين أقسام الباطل ويختلط العمل الصالح بالطالح.

وفي ذينك الموردين الإنارة واجبة وفي غير ذلك مستحبة؛ لأنها نوع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإرشاد الجاهل وتنبيه الغافل، و... الشامل للواجب والمستحب والحراموالمكروه كل في مورده.

تفصيل أهداف البعثة

مسألة: ينبغي الاجتهاد(1) نحو البيان التفصيلي للغاية من بعثته (صلی الله علیه و آله) وأهدافها؛ فإن ذلك من العلل المعدّة لاقتراب الناس منها وسوقه نحوها وإرشادهم إليها، ذلك أن الناس لو عرفوا فوائد الشيء ومنافعه تفصيلاً، كانوا أسرع استجابةً وأشد ثباتاً وأقوى اندفاعاً، قال تعالى: «اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ»(2)..

وقال (صلی الله علیه و آله): «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»(3)..

ص: 232


1- بالمعنى اللغوي وهو استفراغ الوسع. راجع لسان العرب: ج3 ص135 مادة جهد، وفيه: والاجتهاد والتجاهد: بذل الوسع والمجهود.. والجهاد: المبالغة واستفراغ الوسع في الحرب أو اللسان أو ما أطاق من شيء.
2- سورة الأنفال: 24.
3- مستدرك الوسائل: ج11 ص187 ب6 ح12701.

..............................

وقال(صلی الله علیه و آله): «إنمابعثت رحمة»(1).

المقياس في إتباع الرسول (صلی الله علیه و آله)

مسألة: الملاك لمعرفة من يسير بسيرته (صلی الله علیه و آله) ومن يهتدي بهديه ممن يدعي ذلك ويتظاهر به فقط: مدى إنارته لظلمات الجهل عبر دعوة الناس للتفكر والتدبر وفسح المجال لهم بذلك، وعبر المشورة وفتح باب نقد الحاكم إن أخطأ وما أشبه.

على عكس المستبدين الذين يحرمون قولاً وعملاً، أو عملاً لا قولاً - إغراءً بالجهل وخداعاً للعامة - كل ذلك بسلب الحرية من العلماء والمصلحين والكتاب والمفكرين وبسوق الناس لإطاعة الحاكم إطاعة عمياء، وفي القرآن الكريم:

«وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ»(2).

وكذلك مدى إنقاذه الناس من الغواية والضلالة، أو محاولة إضلالهم أكثر فأكثر بالتدليس والتلبيس والتحريف وما أشبه في عكسه.قال (علیه السلام): «إذا جالستم فجالسوا من يزيد في علمكم منطقه، ويذكّركم الله رؤيته، ويرغّبكم في الآخرة عمله»(3).

ص: 233


1- الاحتجاج: ج1 ص212 احتجاجه (علیه السلام) على اليهود من أحبارهم ممن قرأ الصحف والكتب في معجزات النبي (صلی الله علیه و آله).
2- سورة الأحزاب: 67.
3- إرشاد القلوب: ج1 ص77 ب18.

وكشف عن القلوب بهمها،

اشارة

-------------------------------------------

توضيح المعضلات

مسألة: ينبغي كشف البُهَم(1) عن القلوب وجوباً أو استحباباً، كل في مورده.

فالشبهات والمتشابهات والمشتبهات والإبهامات والمعضلات والمجهولات التي يجب على الإنسان الاعتقاد بطرف من أطرافها يلزم كشفها، وفي موارد المستحبات يستحب كشفها.

كما أن الأمر في الأعمال كذلك، فينبغي - بالمعنى الأعم - كشف مجهولاتها وشبهاتها أيضاً، وقد ذكروا في علم الأصول حكم الشبهات الوجوبية والتحريمية، البدوية وغيرها، كما ذكروا مسألة الفحص في الأحكام والموضوعات(2).

هذا ولا يخفى مدى أهمية (القلوب)في تبليغ رسالات الله، وأنه ينبغي الاهتمام بها لا بالمظاهر فقط، قال تعالى:

«يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ (علیهم السلام) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ»(3).

ص: 234


1- البُهم بالضم: جمع البهمة وهو المجهول الذي لا يعرف، مجمع البحرين: ج6 ص20 مادة بهم.
2- راجع (الأصول) و(الوصائل في شرح الرسائل) للإمام المؤلف (قدس سره).
3- سورة الشعراء: 89.

..............................

وقال(صلی الله علیه و آله): «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأعمالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم ونياتكم»(1).

وقال الصادق (علیه السلام): «بينا موسى بن عمران (علیه السلام) يعظ أصحابه إذ قام رجل فشق قميصه، فأوحى الله عزوجل إليه: يا موسى، قل له: لا تشق قميصك ولكن اشرح لي عن صدرك»(2).

ص: 235


1- جامع الأخبار: ص100 ف56.
2- الكافي: ج8 ص129 حديث نادر ح98.

وجلى عن الأبصار غممها،

اشارة

-------------------------------------------

إزاحة الستائر

مسألة: يستحب أو يجب إزاحة الستائر عن البصائر، إذ الظاهر أن المراد بالأبصار البصائر؛ لأن ذلك هو الذي قام به الرسول (صلی الله علیه و آله)، وهو بين واجب ومستحب.

أما هذا العضو الخارجي الذي يبصر به الإنسان فليس الحديث بصدده(1) والله العالم. وإن كان يجب علاج العين فيما إذا عميت أو أصيبت وأمكن علاجها أو يستحب، كل في مورده.

قال علي (علیه السلام): «فقد البصر أهون من فقدان البصيرة»(2).

قولها (علیها السلام): «غممها»، الغمة: الستر، ولذا يسمى السحاب الغمام؛ لأنه يستر ما في السماء منالنيرات(3)، فقد كانت القلوب - قبل الرسول (صلی الله علیه و آله) - جاهلة بالحقائق والأبصار لا ترى الدرب الصحيح نحو الحياة السعيدة.

وربما يقال في الفرق بين المقاطع الثلاثة:

إن المراد ب:

ص: 236


1- وذلك للقرائن المقامية وسياق كلامها (علیها السلام).
2- غرر الحكم ودرر الكلم: ص41 ق1 ب1 ف1 ح5.
3- وفي لسان العرب: ج12 ص444 مادة غمم: الغمام: الغيم الأبيض، وإنما سمي غماماً لأنه يغم السماء أي يسترها.

..............................

فأنار الله بأبي محمد (صلی الله علیه و آله) ظُلَمها»، أي المجهولات المطلقة.

و«كشف عن القلوب بُهمها»: المتشابهات والمشتبهات.

و«جلى عن الأبصار غُممها»: المجهولات بالعرض الساتر(1).

أو يقال: المراد بالظلم: ظلم العقيدة، وبالبهم: ما يتعلق بها (2)،وبالغمم: كل ما يرتبط بمسيرة الحياة(3).

أو يقال: الظلم ما يتعلق بمدركات القوة المتعقلة(4)، والبهم: ما يتعلق بالقوة المتوهمة(5)، والغمم: ما يتعلق بالقوة المتخيلة والحواس.

والله العالم.

ويحتمل أن تكون الجمل من باب التفنن في التعبير، فتأمل.

ص: 237


1- كالفطريات المستورة كما ورد: «ويثيروا لهم دفائن العقول»، نهج البلاغة، الخطب: 1، ومن خطبة له (علیه السلام) يذكر فيها ابتداء خلق السماء والأرض وخلق آدم (علیه السلام).
2- كتفاصيل المعاد والحشر والنشر وتفاصيل الخلقة وشبه ذلك.
3- كالسلوك والمعاشرة والعادات والتقاليد وسائر مناهج الحياة اليومية والعملية.
4- أي: الكليات.
5- كالحب والبغض والخوف والرجاء والحسد... الخ.

وقام في الناس بالهداية،

اشارة

-------------------------------------------

الهداية العملية

مسألة: هداية الناس إلى الواجب واجبة، وهدايتهم إلى المستحبات مستحبة، وكذلك في عكس الأمرين المحرمات والمكروهات(1).

أما الهداية إلى المباحات فمستحبة أيضاً، حيث إن المباحات أحكام الله سبحانه وتعالى، وبيان أحكام الله وهداية الناس إليها بين واجب ومستحب.

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام): «لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن تكون لك حمر النعم»(2).

وفي بعض الروايات: «خير لك مما طلعت عليه الشمس»(3).

وفي بعضها: «خير لك من الدنيا ومافيها»(4).

قولها (علیها السلام) : «في الهداية»، أي إلى العقيدة الصحيحة والأخلاق الفاضلة والشريعة القويمة.

ويمكن القول بأن الجمل الثلاثة السابقة كانت تشير إلى الجانب النظري - الفكري والاعتقادي - وهذه تشير إلى الهداية العملية، فقد قام (صلی الله علیه و آله) عملياً بهداية الناس نحو ما يصلح دنياهم وأخراهم، فأوجد فيهم روح الجهاد والأمر

ص: 238


1- فالهداية لمعرفة المحرمات واجبة، ومعرفة المكروهات مستحبة وقد تجب أيضاً.
2- بحار الأنوار: ج21 ص3 ب22.
3- الكافي: ج5 ص28 باب وصية رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (علیه السلام) في السرايا ح4.
4- بحار الأنوار: ج1 ص184 ب1 ح99.

..............................

بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر والمصابرة والمرابطة والتوكل على الله والتواضع والأخوة والحرية والشورى وما أشبه.

كما طبق (صلی الله علیه و آله) فيهم عملياً مناهج الإسلام الحيوية في مجالات: الاقتصاد، الزراعة، السياسة، الحكم، الحقوق الفردية والاجتماعية، وما أشبه(1).ومن الواجب علينا أن نحذو حذوه في كل ذلك، كالقيام بالهداية إلى العقيدة عملياً، بمعنى توفير المقومات والأجواء اللازمة التي تسوق الناس للاعتقاد السليم، وللمحافظة عليه(2).

ص: 239


1- يراجع حول تلك العناوين الكتب التالية للإمام المؤلف (قدس سره) من موسوعة (الفقه) : الحقوق، السياسة، الاقتصاد، الاجتماع، وكذلك (ولأول مرة في تاريخ العالم: ج1-2)، (من أوليات الدولة الإسلامية)، (حكومة الرسول (صلی الله علیه و آله) والإمام أمير المؤمنين (علیه السلام))، وكذلك (السياسة من واقع الإسلام) للمرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الشيرازي (دامه ظله).
2- مثلاً قام (صلی الله علیه و آله) ببناء خمسين مسجداً في المدينة وحولها، ونصب أئمة الجماعة من الرجال والنساء - كأم ورقة - للعديد منها، وعيّن من يعلّم القرآن الكريم، وهكذا.

فأنقذهم من الغواية، وبصّرهم من العماية،

اشارة

-------------------------------------------

الإنقاذ من الغواية

مسألة: يستحب أو يجب إنقاذ الناس من الغواية، بأي المعنيين فسرت(1)، تأسياً وإقتداءً به (صلی الله علیه و آله) حيث أنقذهم من الغواية(2) التي كانوا فيها، والضلالة الفكرية والاجتماعية والسياسية وغيرها والتحارب والفقر وما أشبه(3).

قال علي (علیه السلام): «في طاعة الهوى كل الغواية»(4).

والفاء للتفريع فقد «قام في الناسبالهداية» (ف) «أنقذهم من الغواية».

وفي بعض النسخ «وأنقذهم» والواو تفيد مطلق الجمع وهي لا تدل على الترتيب أو التفريع لكنها لا تنفيها أيضاً (5).

ومن المعلوم أن الهداية غير الإنقاذ؛ فإن الهداية: إراءة الطريق. والإنقاذ: الأخذ بيد الناس حتى الوصول إلى الهدف. فقد يقول المصلح للناس: (زوّجوا

ص: 240


1- إذ لها معنيان كما سيأتي منه (قدس سره).
2- الغي: الضلالة والخيبة، وغوى يغوي: انهمك في الجهل وهو خلاف الرشد، - مجمع البحرين: ج1 ص322 مادة غوي -.وفي لسان العرب: ج15 ص140 مادة غوي: الغي: الضلال والخيبة.
3- كوأد البنات وأكل الحشرات وشبه ذلك مما ستأتي الإشارة إليه في كلماتها (علیها السلام) اللاحقة.
4- مستدرك الوسائل: ج12 ص115 ب81 ضمن ح13668.
5- راجع (الألفية) لابن مالك وشروحها. وقد مر من الإمام المؤلف (قدس سره) احتمال أن تفيد الوار الترتيب ولو بمعونة بعض القرائن.

..............................

أولادكم مبكراً) وقد يهيأ أسباب الزواج ومقوماته حتى يتم.

فهذه الجملة إشارة للهداية بالمعنى الثاني(1).

وقد تكون الهداية زيادة عن الإنقاذ عن الغواية؛ لأن بينهما واسطة، قال تعالى: «وَلاَ يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ»(2).

التبصير من العماية

مسألة: يستحب أو يجب تبصير الناس من العماية، عماية القلب والبصيرة والعمي في السلوك العملي للإنسان؛ لأن من لا يرى الحقائق هو أعمى، تشبيهاً للمعقول بالمحسوس، قال (علیه السلام): «شر العمى عمى القلب»(3).

ويمكن إرادتها (علیها السلام) من «الغواية»: الخيبة(4) فتكون غير العماية التي فسرت بالضلالة، ولو فسرت الغواية بالضلالة كانت الجملة الثانية من مصاديق الجملة الأولى(5) إذ الإنقاذ في كل شيء بحسبه(6).

ص: 241


1- المعنى الأول للهداية: إراءة الطريق، والمعنى الثاني: الإيصال للمطلوب.
2- سورة هود: 34.
3- من لا يحضره الفقيه: ج4 ص403 ومن ألفاظ رسول الله (صلی الله علیه و آله) الموجزة التي لم يسبق إليها ح5868.
4- الخيبة: الخسران والحرمان. راجع لسان العرب: ج1 ص368 مادة خيب، وفيه: الخيبة: الحرمان والخسران... وخاب إذا خسر.
5- الجملة الأولى: «أنقذهم من الغواية»، والثانية: «بصرهم من العماية».
6- فالإنقاذ من الضلالة تارة يكون بمجرد أن يبصر الإنسان الضال، وتارة يكون بأكثر من ذلك.

وهداهم إلى الدين القويم،

اشارة

-------------------------------------------

الهداية للدين القويم

مسألة: من اللازم علينا أن نتأسى به (صلی الله علیه و آله) في العمل لأجل الدين القويم كما ورد في الحديث: «فتأس متأس بنبيه... وإلا فلا يأمن الهلكة»(1).

و«القويم» أي العدل المستقيم الذي له قوام وواقعية، لا ذلك الذي في ظاهره بريق لكنه خلو عن الحق والحقيقة فهو ك: «خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ»(2)، أو: «كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ»(3)، أو: « فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً»(4)، وهذا مما يفرق به بين الحق والباطل والهدى والضلال.

ولقد بذل (صلی الله علیه و آله) كل لجهد وأتعب نفسه الشريفة أشد التعب لهداية الناس إلى الدين القويم حتىنزل فيه قوله تعالى: «طه * مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى»(5).

ثم إن العمل لأجل الدين القويم حتى يتخذ الناس ذلك منهجاً وطريقاً، بين واجب ومستحب، كلٌ في مورده، مثل افتتاح المدارس وتأسيس المساجد وتجهيز الجيوش وتنظيم المنظمات وغير ذلك، كلٌ حسب الزمان والمكان والجهات المناسبة.

ص: 242


1- نهج البلاغة، الخطب: 160 ومن خطبة له (علیه السلام).
2- سورة المنافقون: 4.
3- سورة إبراهيم: 18.
4- سورة الرعد: 17.
5- سورة طه: 1-3.

ودعاهم إلى الطريق المستقيم.

اشارة

-------------------------------------------

انتهاج الطريق المستقيم

مسألة: ينبغي(1) الدعوة إلى الطريق المستقيم(2) وانتهاجه للوصول إلى المقاصد السامية، فإن العمل لأجل الوصول إلى الهدف، قد يكون بسبب طريق مستقيم وهو الصحيح، وقد يكون بطريق منحرف، أو بطريق متعرج وكلاهما خطأ.

فإن الأول: لا يوصل إلى الهدف وهونوع من الضلالة، إضافة إلى أنه يسبب المشاكل والصعوبات.

والثاني: يستلزم مئونة زائدة وطول الطريق والتعب والنصب.

مثلاً: من يريد الذهاب إلى النجف الأشرف من كربلاء المقدسة، فقد يذهب إلى بغداد ثم إلى الحلة ثم إلى النجف الأشرف، وقد يذهب من كربلاء المقدسة إلى النجف الأشرف بخط مستقيم. كما أنه قد يذهب بسيارة أو بأموال مغصوبة، وقد يذهب بطرق محللة شرعية.

ورسول الله (صلی الله علیه و آله) عمل لأجل الدين القويم والصراط المستقيم عبر الطريق المستقيم بكلا المعنيين، وهكذا يجب أو يستحب مثل ذلك، كل في مورده كما ذكرناه سابقاً.

ص: 243


1- أي يجب أو يستحب كل في مورده.
2- الاستقامة: الاعتدال والاستواء، واستقام الشعر: اتزن - راجع لسان العرب: ج12 ص499 مادة قوم -.

..............................

قال تعالى: «إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ»(1).

و: «لا يطاع الله من حيث يعصى».

فهذه الجملة منها (صلوات الله عليها) ترد مقولة: (الغاية تبرر الوسيلة)، كما أنها تشير إلى أقرب الطرق للنصر والتقدم.

فالتقوى من الله، والزهد في ملذاتالحياة، والصبر على الأذى، والتوكل على الله تعالى، وإغاثة الملهوف، ونصرة المظلوم، وإعطاء الخمس والزكاة، والعمل بأوامره تعالى من الحرية، والأخوة والشورى، وما أشبه، هي أسلم وأقرب الطرق لبناء أمة متكاملة وحضارة راقية، ولضمان سعادة الدنيا والأخرى وللانتصار على العدو، وللحيلولة دون الظلم والطغيان، قال تعالى: «وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً»(2). وقال سبحانه: «وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْناهُمْ مَاءً غَدَقاً»(3).

وقال تعالى: «وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ له مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً»(4).

وقال (علیه السلام): «جاهدوا تورثوا أبناءكم عزاً»(5).

ص: 244


1- سورة المائدة: 27.
2- سورة آل عمران: 120.
3- سورة الجن: 16.
4- سورة الطلاق: 23.
5- راجع وسائل الشيعة: ج15 ص15 ب1 ح19916، وفيه عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: قال النبي (صلی الله علیه و آله): «اغزوا تورثوا أبناءكم مجداً».

..............................

وقال (علیه السلام): «لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليستعملن عليكم شراركم، فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم»(1).

علي (علیه السلام) هو الصراط المستقيم

ثم لا يخفى أن الطريق والصراط المستقيم في قوله تعالى: «اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ»(2) قد فسّر بولاية علي أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام)، فيكون المراد حينئذ: من قولها (علیها السلام): «هداهم إلى الدين القويم» دين الإسلام.

ومن قولها: «ودعاهم إلى الصراط المستقيم» ولاية علي وذريته (عليهم أفضل الصلاة والسلام).

وقالت (علیها السلام) بعد ذلك: «ثم قبضه الله إليه» أي بعد ما أمر (صلی الله علیه و آله) بالإسلام وبولاية علي (علیه السلام) حيث كمل الدين وتمت النعمةقبضه تعالى.

قال تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً»(3).

فعن ابن عباس قال: كان رسول الله يحكم وعلي (علیه السلام) بين يديه مقابله، ورجل عن يمينه ورجل عن شماله، فقال: «اليمين والشمال مضلة والطريق المستوي الجادة - ثم أشار (صلی الله علیه و آله) بيده - وإن هذا صراط علي مستقيم فاتبعوه»(4).

ص: 245


1- الكافي: ج5 ص56 باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ح3.
2- سورة الفاتحة: 6.
3- سورة المائدة: 3.
4- بحار الأنوار: ج35 ص366 ب16 ضمن ح6.

..............................

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) في يوم الغدير: «معاشر الناس أنا صراط الله المستقيم الذي أمركم بإتباعه، ثم علي (علیه السلام) من بعدي، ثم وُلدي من صلبه أئمة (علیهم السلام) يهدون إلى الحق وبه يعدلون - ثم قرأ - «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ»(1) إلى آخرها، وقال (صلی الله علیه و آله) - فيَّ نزلت وفيهم نزلت»(2).وعن علي (علیه السلام) قال: «أنا صراط الله المستقيم وعروته الوثقى»(3).

وعن النبي (صلی الله علیه و آله) - في قول الله عزوجل: «صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ»(4) الآية - قال: «شيعة علي الذين أنعمت عليهم بولاية علي بن أبي طالب (علیه السلام) لم يغضب عليهم ولم يضلوا»(5).

وعن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «أوحى الله إلى نبيه (صلی الله علیه و آله): «فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ»(6)، قال: إنك على ولاية علي (علیه السلام) ، وعلي (علیه السلام) هو الصراط المستقيم»(7).

ص: 246


1- سورة الفاتحة.
2- العدد القوية: ص177 خطبة النبي (صلی الله علیه و آله) يوم غدير خم.
3- تصحيح الاعتقاد: ص108 فصل في الصراط.
4- سورة الفاتحة: 7.
5- تفسير فرات الكوفي: ص51-52 ومن سورة فاتحة الكتاب ح10.
6- سورة الزخرف: 43.
7- الكافي: ج1 ص416-417 باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية ح24.

ثم قبضه الله إليه قبض رأفة واختيار، ورغبة وإيثار،

اشارة

-------------------------------------------

إنك ميت

مسألة: لا يجوز القول بأنه (صلی الله علیه و آله) لم يمت، كما قال بعض عند ارتحاله(1).

قال تعالى: «إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ»(2).

وقال سبحانه: «كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ»(3).

نعم، إنه لا فرق بين حياتهم وموتهم (علیهم السلام) كما ورد: «أشهد أنك حي شهيد ترزق عند ربك»(4).

رأفة الله برسوله (صلی الله علیه و آله) واختياره

«قبض رأفة» ربما يكون المراد منه: القبض لإرادة الرأفة به (صلی الله علیه و آله) في تلك الدار، وربما يكون المراد به قبضاً رؤوفياً، أي: قبضاً سهلاً مقترناً برأفته ولطفه تعالى، في قبال قبض أرواح العصاة والمردة وأشباههم حيث يقبضهم قبض غضب(5).

ص: 247


1- راجع شرح نهج البلاغة: ج10 ص184 ذكر خبر موت الرسول (صلی الله علیه و آله)، وفيه: (وقد اختلف الرواية في موته (صلی الله علیه و آله)، فأنكر عمر ذلك وقال: إنه لم يمت وأنه غاب وسيعود. فثناه أبو بكر عن هذا القول وتلا عليه الآيات المتضمنة أنه سيموت، فرجع إلى قوله).
2- سورة الزمر: 30.
3- سورة آل عمران: 185، سورة الأنبياء: 35، سورة العنكبوت: 57.
4- بحار الأنوار: ج98 ص171 ب18 ح22.
5- فالمراد: قبضه قبضاً يؤول إلى الرأفة، أو قبضاً مع رأفة، أو قبضاً هو عين الرأفة.

..............................

أو المراد قبضاً عن رأفة، أي: قبضاً ناشئاً من رأفته سبحانه به (صلی الله علیه و آله)، ويكون في قبال القبض برأفة أو عن رأفة: القبض بغضب أو عن غضب.

التنجب عن القبض بغضب

مسألة: ومن الواجب على الإنسان عقلاً وشرعاً أن يتجنب الابتلاء بذلك(1)، ولو تذكر الإنسان دوماً مدى شدة أهوال النزع لما حام حول المعاصي، ولكان دائم الحزن والهمّ، بل مبتعداً عما يحتمل أن يوجب سخط الخالق جل وعلا،قال علي (علیه السلام): «من أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير»(2).

وقال (علیه السلام): «أكثروا ذكر الموت؛ فإنه ما أكثر ذكر الموت إنسان إلاّ زهد في الدنيا»(3).

«واختيار»: أي منه (صلی الله علیه و آله) كما في الروايات أنه (صلی الله علیه و آله) اختار لقاء الله سبحانه(4).

أو اختيار منه تعالى له (صلی الله علیه و آله)، أي: اصطفاء منه له.

أو اختيار من الله بين القبض وعدمه، لا أن أخذه كان من المحتوم عليه سبحانه وتعالى(5) وعلى هذا فهو كناية عن لطفه تعالى به (صلی الله علیه و آله).

ص: 248


1- أي قبض غضب، على ما فسر.
2- مستدرك الوسائل: ج2 ص103 ب17 ح1543.
3- بحار الأنوار: ج79 ص168 ب20 ضمن ح3.
4- راجع كتاب (ولأول مرة في تاريخ العالم): ج2 ص297 للإمام المؤلف (صلی الله علیه و آله).
5- ربما يكون قولها (علیها السلام): «اختيار» لدفع شبهة الجبر، وقد يكون دفعاً للوجوب العقلي عليه تعالى، فدقق.

..............................

رغبته (صلی الله علیه و آله) في لقاء الله تعالى

«ورغبة»، أي: منه (صلی الله علیه و آله) أو من الله تعالى حيث رغب في لقاء حبيبه، والمراد برغبته تعالى الغاية، كما قالوا: (خذ الغايات واترك المبادئ).

«وإيثار»، أي: آثر (صلی الله علیه و آله) لقاءه، أو آثر الله سبحانه لقاءه (صلی الله علیه و آله).

الرغبة في ذلك

مسألة: ومن المستحب أن يربي الإنسان المؤمن نفسه بحيث يكون راغباً في لقائه تعالى مؤثراً لقاءه، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «الموت ريحانة المؤمن»(1).

ولا يتيسر ذلك إلاّ بإطاعته تعالى وتجنب معاصيه، وكذلك بتلقين النفس والتوسل بالرسول (صلی الله علیه و آله) وآل بيته الأطهار (علیهم السلام) كي يكون مستعداً للموت. قال (علیه السلام): «استعد لسفرك وحصّل زادك قبلحلول أجلك»(2).

وقيل لأمير المؤمنين(علیه السلام): ما الاستعداد للموت؟. قال: «أداء الفرائض، واجتناب المحارم، والاشتمال على المكارم، ثم لا يبالي أوقع على الموت أم وقع الموت عليه»(3).

وإذا أوجد الإنسان في نفسه الرغبة في لقائه تعالى كان ذلك من أسباب احترازه الأكثر عن معاصيه سبحانه، وجديته الأكثر لإطاعته، وسعيه الأكثر لاكتساب مرضاته، ومزيد من القرب منه، فيحس عندئذ بلذة كبرى من مناجاته

ص: 249


1- دعائم الإسلام: ج1 ص221 ذكر الأمر بذكر الموت.
2- كفاية الأثر: ص227 باب ما جاء عن الحسن (علیه السلام) ما يوافق هذه الأخبار.
3- مستدرك الوسائل: ج2 ص100-101 ب17 ح1534.

..............................

وبفرحة عظمى عند امتثال أوامره، وقد ينال نوعاً من الاطمئنان بأنه تعالى سيقبضه قبض رأفة ورحمة بدرجة أو بأخرى. قال تعالى: «أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ»(1)، وقال سبحانه: «يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِيجَنَّتِي»(2).

التذكير بمناقبه (صلی الله علیه و آله)

مسألة: كما أن من المستحب أيضاً تذكير الناس بمناقبه (صلی الله علیه و آله) هذه، وأن الله تعالى قبضه قبض رأفة واختيار، ورغبة وإيثار.

ولعل من علل إشارتها (علیها السلام) إلى كيفية قبضه تعالى كمدحه (صلی الله علیه و آله)، أن ذلك يشجع الناس على التأسي به (صلی الله علیه و آله) في أعماله ومناهجه.

إضافة إلى أن ذكر هذه المنقبة للرسول(صلی الله علیه و آله) يوجب التفاف الناس حوله أكثر فأكثر، فإن الإنسان إذا عرف - مثلاً - أن فلاناً مقرب إلى الملك الفلاني يلتف حوله أكثر كي يقضي حاجته عند الملك بأحسن وجه، فكيف بالرسول (صلی الله علیه و آله) الذي هو سفير «الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ»(3)، وقد قال سبحانه وتعالى: «وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ»(4).وقد يستفاد أيضاً من كلامها (علیها السلام) استحباب الرأفة والرغبة والإيثار، فتأمل.

ص: 250


1- سورة الرعد: 28.
2- سورة الفجر: 27-30.
3- سورة الحشر: 23.
4- سورة المائدة: 35.

فمحمد (صلی الله علیه و آله) من تعب هذه الدار في راحة،

اشارة

-------------------------------------------

تحمل الأذى في سبيل الله

مسألة: يستحب - وربما يجب - تحمل الأذى في سبيل الله جلت عظمته، تأسياً بالرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) .. وعدم الكلل والملل واليأس، وقد قال (صلی الله علیه و آله): «ما أوذي نبي مثل ما أوذيت»(1).

وأي أذى أعظم وأشد وأشق من استهزاء المشركين به (صلی الله علیه و آله) وتكذيبهم له، ورميه بالسحر والجنون وما إلى ذلك.

إضافة إلى إيذائه (صلی الله علیه و آله) جسدياً برمي الحجارة والسلا(2) وماأشبه(3)، حتى أنه (صلی الله علیه و آله) كان يطوف فشتمه عقبة بن أبي معيط وألقى عمامته في عنقه وجره من المسجد! (4).

ص: 251


1- المناقب: ج3 ص247 فصل في مساواته يعقوب ويوسف (علیهما السلام).
2- وقد ذكر ابن أبي الحديد في شرح النهج: ج6 ص282-283 نسب عمرو بن العاص وطرف من أخباره: إن النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط وعمر بن العاص عهدوا إلى سلى جمل فرفعوه بينهم ووضعوه على رأس رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو ساجد بفناء الكعبة. فسال عليه فصبر ولم يرفع رأسه، وبكى في سجوده ودعا عليهم، فجاءت ابنته فاطمة (علیها السلام) وهي باكية فاحتضنت ذلك السلا فرفعته عنه فألقته وقامت على رأسه تبكي. فرفع (صلی الله علیه و آله) رأسه وقال: «اللهم عليك بقريش - قالها ثلاثاً ثم قال رافعاً صوته - إني مظلوم فانتصر»، قالها ثلاثاً، ثم قام ودخل منزله وذلك بعد وفاة عمه أبي طالب (علیه السلام) بشهرين.
3- راجع كتاب (ولأول مرة في تاريخ العالم): ج 1-2 للإمام المؤلف (قدس سره).
4- المناقب: ج1 ص57 فصل فيما لاقى من الكفار في رسالته.

..............................

ولقد كانت أنواع الإزعاجات الإيذاءات في حد ذاتها وبما هي هي من أشد الإيذاءات وأشقها وأكثرها إيلاماً، فكيف لو قيست بالنسبة إليه (صلی الله علیه و آله) بما له من مكانة روحية ومعنوية وإلهية سامية جداً، حيث لا أكمل ولا أشرف منه إلاّ الله تعالى، فإنالفرد كلما كان أكثر كمالاً كان اتهامه بالتهم البذيئة أشق عليه وأقسى كما لا يخفى، ومع كل ذلك تحمل (صلی الله علیه و آله) وصبر، حتى «قبضه الله إليه قبض رأفة واختيار... ».

وعلينا التأسي به (صلی الله علیه و آله) ففي الحديث الشريف: «أشد الناس بلاءً: الأنبياء، ثم الأولياء، ثم الأمثل فالأمثل»(1).

وقد قال القرآن الحكيم: «يَا أَيُّهَا الإِنْسانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً»(2).

وقال (علیه السلام): «ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه»(3).

وفي الحديث: «أفضل الأعمال أحمزها»(4).

والمراد الأكثر صعوبة وأتعاباً؛ فإن كل ما كثر تعبه - بطبيعته - تكون نتائجه الدنيوية والأخروية أفضل وأكثر، حيث قرر سبحانه وتعالى تزايد المصاعب والمتاعب كماً وكيفاً كلما كانالهدف والمقصد أعلى مادياً أو معنوياً، فقد «حُفّت الجنة بالمكاره»(5).

ص: 252


1- راجع الكافي: ج2 ص252 باب شدة ابتلاء المؤمن ح1.
2- سورة الانشقاق: 6.
3- نهج البلاغة، الخطب: 3، ومن خطبة له (علیه السلام) وهي المعروفة بالشقشقية.
4- مفتاح الفلاح: ص45 ب1.
5- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: ج1 ص190 بيان ذم الرياء.

..............................

قال الشاعر(1):

تريدين لقيان المعالي رخيصة *** ولابد دون الشهد من إبر النحل

و:

(الجود يفقر والإقدام قتال)(2).

ثم إنه لا منافاة بين «أفضل الأعمال أحمزها»(3) وبين «يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ»(4) إذ:

الأول: يفيد تحديد المقياس في قيمة الأعمال، وأن العمل مهما كان أصعب تكون نتائجه أفضل.

والثاني: يفيد عدم عسر الدين وأن الله تعالى قد شرع الأيسر فالأيسر،كما قال (صلی الله علیه و آله): «بعثت بالحنفيةالسمحة»(5) فهما في موضوعين لا في موضوع واحد حتى يكون بينهما التنافي.

ومن هنا فإن المؤمن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر والمجاهد في سبيل الله والحافظ لحدود الله، كلما ازدادت متاعبه ومصاعبه، وكلما تزايد الضغط عليه لينثني عن مسيرته، كلما زاده ذلك يقيناً واطمئناناً وعزماً وثباتاً، قال تعالى:

ص: 253


1- أبو الطيب المتنبي (303- 354ه).
2- صدر البيت: (لولا المشقة ساد الناس كلهم) وهو لأبي الطيب المتنبي.
3- مفتاح الفلاح: ص45 ب1.
4- سورة البقرة: 185.
5- أعلام الدين: ص191 باب وصية النبي (صلی الله علیه و آله) لأبي ذر.

..............................

«الَّذِينَ قَالَ لهمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ»(1).

وفي الحديث الشريف: «المؤمن أشد من زبر الحديد، إن الحديد إذا دخل النار لان، وإن المؤمن لو قتل ونشر ثم قتل لم يتغير قلبه»(2).

وقال الإمام الصادق (علیه السلام): «المؤمن أشد من الجبل، والجبل يستقل منه بالفأس والمؤمن لا يستقل علىدينه»(3).

وختاماً؛ فإن ما تحمله الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) من المصاعب كان مما تنوء بحمله الجبال الرواسي إلاّ أن ذلك كله قد انقضى وأصبح (صلی الله علیه و آله) «من تعب هذه الدار في راحة»، وفي هذا درس لنا وتعليم بأن نتحمل المشاق والأذى في سبيل الله، فإنها منقضية زائلة ستلحقها راحة دائمة.

قال (علیه السلام): «صبروا أياماً قليلة فأعقبتهم راحة طويلة»(4).

ص: 254


1- سورة آل عمران: 173.
2- المحاسن: ج1 ص251 ب29 ح266.
3- تفسير العياشي: ج2 ص301 ومن سورة بني إسرائيل ح111.
4- نهج البلاغة، الخطب: 193- ومن خطبة له (علیه السلام) يصف فيها المتقين.

قد حف بالملائكة الأبرار، ورضوان الرب الغفار، ومجاورة الملك الجبار،

اشارة

-------------------------------------------

التعويض الإلهي

رغم وجود ثلة كبيرة من المؤمنين الأخيار الأبرار مع النبي (صلی الله علیه و آله) الذين كانوا يناصرونه ويؤازرونه ويضحون في سبيله بالنفس والنفيس، بما قل أن يوجد نظيره طوال التاريخ البشري، إلاّ أنه (صلی الله علیه و آله) قد عانى كثيراً من مجاورة المنافقين ومن الانتهازيين والمصلحيين والمرجفين والمتخاذلين والجبناء وأشباههم حواليه.

كما تشهد بذلك آيات قرآنية عديدة..

وكما يذكر التاريخ:

كخيانة البعض في معركة أحُد(1).

وكترصد المنافقين به (صلی الله علیه و آله) الدوائر كما في العقبة(2).وكقضية الدواة والكتف(3) وغيرها، فإنها كانت تلحق به (صلی الله علیه و آله) أكبر الأذى وأشد الأضرار، فعوضه الله تعالى عن ذلك بأمور عديدة، منها:

ما أشارت إليه ابنته الزهراء (صلوات الله عليها) ها هنا: «قد حف بالملائكة

ص: 255


1- راجع كتاب (ولأول مرة في تاريخ العالم): ج1 ص241-242 غزوة أحد.
2- راجع كتاب (ولأول مرة في تاريخ العالم): ج2 ص163-164 غزوه تبوك.
3- راجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج6 ص51 ذكر أمر فاطمة (علیها السلام) مع أبي بكر، وفيه: لما حضرت رسول الله (صلی الله علیه و آله) الوفاة - وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب - قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «ائتوني بدواة وصحيفة أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعدي». فقال عمر - كلمة معناها -: إن الوجع قد غلب على رسول الله (صلی الله علیه و آله) - ثم قال - عندنا القرآن حسبنا كتاب الله!.

..............................

الأبرار»، فهم المحيطون به بعد مماته دون ما ينغصه(1).

ثم ترقت (علیها السلام) إلى تعويضآخر أسمى وأعلى: «ورضوان الرب الغفار» .. قال تعالى: «وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ»(2).

ثم ترقت (علیها السلام) إلى أمر آخر أسمى من ذلك: «ومجاورة الملك الجبار»، أي: رحمته الخاصة.

قولها (علیها السلام): «ورضوان الرب الغفار»، فالله راض عنه (صلی الله علیه و آله) فإن الإنسان إذا علم بأن الله سبحانه راض عنه كان في سرور وراحة نفسية لا يصل إليها الالتذاذ المادي الجسماني. وهذا مما يجده الإنسان من نفسه بوضوح، فمن يعيش في قصر بديع فيه مختلف أسباب الهناء المادي، لا يمكنه أن يلتذ بكل تلك النعم لو كان يعاني من مشكلة نفسية وبؤس روحي كما لو مات له عزيز، أو تعرض لتُهَم تحطّ من سمعته وكرامته، أو علم أن سيده ساخط عليه، بل قد تتحول حياته هذه إلى جحيم مهلك؛ فإن السعادة سعادة الروح أولاً ثم سعادة الجسم وكذلك الشقاء.

مجاورة الملك الجبار

قولها (علیها السلام): «ومجاورة الملك الجبار»، أي: مجاورة كراماته فالمراد الجوار

ص: 256


1- فإن الله سبحانه وتعالى يعوض عن كل مصيبة وابتلاء يبتلى به المؤمن بنعمة كبرى تكون متناسبة مع نوع البلاء والمصاب، فعلى المؤمن أن لا يتهرب من معاشرة الناس بغرض إرشاد من استطاع منهم تخلصاً من مشاكلهم وإذاهم؛ فإن الله سيعوضه أضعاف أضعاف ذلك بما لا يخطر على فكر بشر.
2- سورة التوبة: 72.

..............................

المعنوي، كما قال تعالى: «فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ»(1)..

وإلاّ فليس الله سبحانه جسماً، ولا له قرب أو بعد مكاني أو زماني، كما قرر في علم الكلام.

ولعل الإتيان بلفظ «الجبار»؛ لأنه سبحانه يجبر ما ورد عليه من الكفار والمنافقين، وقد قال العباس (علیه السلام) في يوم عاشوراء: «وأبشري برحمة الجبار»(2).

واختيار صفة «الملك» متجانسة تماماً مع صفة «الجبار»، فالنبي (صلی الله علیه و آله) حظى بأعلى درجة من القرب من المالك الحقيقي المطلق الذي بمقدوره أن يجبر ما أصابه بشكل مطلق.

وأي شيء أعظم وأعلى وأسمى من الوصول إلى مقام «فَكَانَ قابَ قَوْسَيْنِ» منه تعالى « أَوْ أَدْنَى» (3) من ذلك، فهذه الغاية من أرفع الغايات بل هي الآية القصوى والمقصد الأسمى، وإذا كان الجار تناله خيرات جاره عادة، فكيفبجوار الله سبحانه؟.

ومنه يعلم رجحان أن يكون الإنسان بحيث لو مات يحف بالملائكة الأبرار ورضوان الرب الغفار ومجاورة الملك الجبار، كما يعلم رجحان مجاورة العظماء، وقد سبق الكلام في ذلك كله(4).

ص: 257


1- سورة القمر: 55.
2- بحار الأنوار: ج45 ص40 ب37.
3- سورة النجم: 9.
4- راجع المجلد الأول من كتاب من فقه الزهراء (علیها السلام).

..............................

التذكير بمنزلة الأنبياء (علیهم السلام) والمؤمنين في الآخرة

مسألة: كما سبق من استحباب ذكر كيفية قبضه تعالى لروحه (صلی الله علیه و آله)، يستحب ذكر منزلته (صلی الله علیه و آله) في الآخرة، وأنه (صلی الله علیه و آله) قد: «حُفّ بالملائكة الأبرار... » وغير ذلك، وكذلك ذكر منزلة الأنبياء والأوصياء (علیهم السلام) في الجنة، ويستحب أيضاً ذكر مكانة المؤمن فيها وما أعد الله له من النعيم المقيم.

فإن التذكير بذلك يوجب مزيداً من رغبة الناس من الإيمان بالله سبحانه واليوم الآخر والالتزام بأوامره جل وعلا، فيكون من المستحب، بل قد يجب إذا توقف إيمان الناس على مثل ذلك.

والآيات والروايات التي تتعرض لوصف نعيم أهل الجنة كثيرة(1).

غفران الخطايا

مسألة: يستحب غفران خطايا الآخرين؛ لأنه من التخلق بأخلاق الله سبحانه وتعالى، كما ورد في الحديث(2) من استحبابه كأصل إلا ما خرج بالدليل.

وفي القرآن الحكيم: «وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ» (3).

ص: 258


1- راجع كتاب: (الجنة والنار في القرآن) للإمام المؤلف (قدس سره)، و(بحار الأنوار) مبحث الجنة والنار، و(كفاية الموحدين) وغيرها. قال الإمام الصادق (علیه السلام): «إن الجنة توجد ريحها من مسيرة ألف عام، وإن أدنى أهل الجنة منزلاً لو نزل به الثقلان الجن الإنس لوسعهم طعاماً وشراباً، ولا ينقص مما عنده شيء» - بحار الأنوار: ج8 ص120 ب23 ح11 -.
2- أي قوله: «تخلقوا بأخلاق الله» - بحار الأنوار: ج58 ص129 ب42 تتميم -.
3- سورة الشورى: 43.

..............................

وقال سبحانه : «قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ»(1).

وفي الحديث أنه: قام رجل إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) وهو يخطب. فقال: يا أمير المؤمنين. صف لنا صفة المؤمن كأننا ننظر إليه؟. فقال(علیه السلام): «... يستر العيب، ويحفظ الغيب، ويقيل العثرة، ويغفر الزلة»(2).إضافة إلى ما للغفران من الأثر الوضعي على حياة الإنسان ومستقبله، ثم إنه يسبب محبوبية الإنسان مما يعينه على الوصول إلى أهدافه بشكل أيسر، إضافة إلى أنه يحافظ على سلامة جسمه وأعصابه كما هو ثابت في الطب وعلم النفس.

هذا ومن اللازم عدم الاغترار بغفاريته تعالى وعدم الاستناد إليها والاعتماد عليها في التجري(3) على المعاصي أو في تبرير ارتكابها، إذ هو تعالى: «شَدِيدُ الْعِقَابِ»(4) أيضاً.

بل الواجب أن يكون الإنسان بين الخوف والرجاء دائماً(5)، كما قال تعالى: «اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»(6)، ولذا كانوا (علیهم السلام) يبكون من خشيته تعالى وترتعد فرائصهم خوفاً منه سبحانه(7).

ص: 259


1- سورة الجاثية: 14.
2- الكافي: ج2 ص229 باب المؤمن وعلاماته وصفاته ح1.
3- بالمعنى اللغوي.
4- سورة البقرة: 196و211، ومواضع أخرى من القرآن.
5- راجع بحار الأنوار: ج67 ص323 ب59.
6- سورة المائدة: 98.
7- راجع بحار الأنوار: ج41 ص11 ب101.

صلى الله على أبي،

اشارة

-------------------------------------------

الدعاء للأب

مسألة: يستحب الدعاء للأب، بل ولسائر الأقارب والأصدقاء والجيران والمؤمنين والمؤمنات، في حال الحياة وبعد الممات.

وقد روي عن مولاتنا فاطمة (صلوات الله عليها) أنها كانت تدعو للمؤمنين والمؤمنات ولا تدعو لنفسها، فقيل لها في ذلك، فقالت: «الجار ثم الدار»(1).

وفي الحديث:«إن دعاء المؤمن لأخيه بظهر الغيب مستجاب، ويدرّ الرزق، ويدفع المكروه»(2).

وقال الإمام الصادق (علیه السلام): «من دعا لأخيه المؤمن بظهر الغيب ناداه ملك من سماء الدنيا: يا عبد الله لك مائة ألف مثل ما سألت... »(3) الحديث.

وعن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «إن العبد ليكون بارّاً بوالديه فيحياتهما ثم يموتان فلا يقضي عنهما دَينهما ولا يستغفر لهما فيكتبه الله عزوجل عاقاً، وأنه ليكون عاقاً في حياتهما غير بارّ بهما فإذا ماتا قضى دَينهما واستغفر لهما فيكتبه الله عزوجل باراً»(4).

ص: 260


1- وسائل الشيعة: ج7 ص113 ب42 ح8885.
2- بحار الأنوار: ج90 ص383 ب26 ح1.
3- مستدرك الوسائل: ج5 ص245-426 ب40 ح5791.
4- الكافي: ج2 ص163 باب البر بالوالدين ح21.

..............................

وهذا مما يكشف عن الترابط الوثيق بين العالمين، وليس هناك إلاّ حجاب يحول دون أن نرى ونسمع ما يجري هناك، ولو وصل الإنسان إلى بعض مراتب الكمال الروحي لرفع عنه الحجاب، ولهذا البحث تفصيل نتركه لمظانه.

قولها (علیها السلام): «صلى الله على أبي نبيه»، إنشاء بلفظ الإخبار وهو دعاء، وكونه بلفظ الماضي للدلالة على قطعية الوقوع(1) إذ الماضي وضع حتى يدل على الزمان المنصرم.

الصلوات على النبي (صلی الله علیه و آله)

مسألة: يستحب الصلاة على النبي (صلی الله علیه و آله) بعد ذكر اسمه الشريف.

والظاهر أن استحباب الصلوات عند ذكر اسمه ليس خاصاً بكلمة محمد (صلی الله علیه و آله) كما هو المشهور بين الناس، بل كل اسم من أسمائه، أو لقبه، أو كنيته، كأحمد والمصطفى وأبي القاسم وغير ذلك؛ لإطلاق أدلته وشمولحكمته، بل إذا ذكر الضمير الراجع إليه (صلی الله علیه و آله) أيضاً كان الحكم كذلك.

فعنه (صلی الله علیه و آله): «البخيل حقاً من ذُكرتُ عنده فلم يصلّ عليَّ»(2).

وعنه (صلی الله علیه و آله): «من صلى عليَّ في كتاب لم تزل الملائكة تستغفر له مادام اسمي في ذلك الكتاب»(3).

ص: 261


1- راجع كتاب (البلاغة) للإمام المؤلف (قدس سره).
2- معاني الأخبار: ص246 باب معنى البخل والشح ح8.
3- بحار الأنوار: ج91 ص71 ب29 ح65.

..............................

وقال الإمام الرضا (علیه السلام): «من لم يقدر على ما يكفر به ذنوبه فليكثر من الصلاة على محمد وآله فإنها تهدم الذنوب هدماً»(1).

وعن أحدهما (علیهما السلام)، قال: «أثقل ما يوضع في الميزان يوم القيامة الصلاة على محمد وعلى أهل بيته»(2).

وعن الصادق (علیه السلام): «ما من عمل أفضل يوم الجمعة من الصلاة علىمحمد وآله»(3).

وعن أبي الحسن العسكري (علیه السلام)، قال: «إنما اتخذ الله إبراهيم (علیه السلام) خليلاً لكثرة صلاته على محمد وأهل بيته»(4).

ص: 262


1- وسائل الشيعة: ج7 ص194 ب34 ح9093.
2- بحار الأنوار: ج91 ص49 ب29 ح9.
3- روضة الواعظين: ج2 ص392 مجلس في ذكر الأوقات وما يتعلق بها.
4- بحار الأنوار: ج91 ص54 ب29 ح23.

نبيه وأمينه، وخيرته من الخلق وصفيه،

اشارة

-------------------------------------------

الأمين المصطفى

مسألة: ينبغي إرشاد العباد إلى أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان أميناً وصفياً وخيرة الله من الخلق بقول مطلق، أي من جميع الأبعاد والحيثيات وفي كل الجهات، وأنه (صلی الله علیه و آله) كان المثل الأعلى في الأمانة، وأكمل من اصطفاهم الله، وخير خيرته على الإطلاق. ورغم أن ذكر بعض هذه الصفات(1) يغني عن ذكر الأخريات، إلاّ أن ذكر الجميع سبب لمزيد من التوضيح والتركيز، وذلك يوجب التفاف الناس حول الرسول (صلی الله علیه و آله) أكثر فأكثر.

ومنه يعرف استحباب مثل ذلك بالنسبة إلى سائر أولياء الله (علیهم السلام) بالملاك، وقد ورد في الزيارات: «سلام عليك يا أمين الله»(2)، و«السلام عليكيا أمين الله»(3).

عصمة الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله)

مسألة: ربما يمكن الاستدلال ب «أمينه» و«خيرته من الخلق» الوارد في كلامها (علیها السلام) وفي أحاديث شريفة كثيرة، على عصمة الرسول (صلی الله علیه و آله).

ص: 263


1- النبي (صلی الله علیه و آله) أمين ومختار بالضرورة لذا يغني ذكره عن ذكرهما، أما ذكر الأمين والمختار فلا يغني عن ذكر النبي، إذ ليس كل أمين ومختار نبياً، لذا قال الإمام المؤلف (قدس سره): إن ذكر بعضها يغني عن ذكر الأخريات.
2- بحار الأنوار: ج83 ص105 ب41 ح8.
3- تهذيب الأحكام: ج6 ص6 ب3 ح2.

..............................

لأن الأمين بقول مطلق هو المعصوم، وكذلك الخيرة من الخلق، نظراً للإطلاق الأحوالي والأزماني(1)، وللانصراف في مثل المورد للفرد الأكمل، ولايحسن من القادر الحكيم نصب غير الأمين من كل الجهات، وغير المعصوم من مختلف الحيثيات نبياً وحجة على العباد(2).إضافة إلى الأدلة العقلية الدالة على ذلك كقدرته على نصب الأمين المطلق، وفياضيته، والحاجة إلى ذلك وعدم وجود المحذور، وما أشبه(3).

النبي الأمين (صلی الله علیه و آله)

مسألة: يجب الاعتقاد بأنه (صلی الله علیه و آله) النبي الأمين على الوحي، قال تعالى: «وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (علیهم السلام) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى»(4)، وإن ما جاء (صلی الله علیه و آله) به هو ما أمره تعالى بذلك لا يزيد ولا ينقص(5).

ص: 264


1- فالأمين له إطلاق من حيث الزمان فهو أمين في كل الأزمنة، وإطلاق من حيث الأحوال فهو أمين في كل الأحوال، في العسر واليسر وهكذا، واستفادة الإطلاقين أمر عقلائي عرفي في كل لفظة لم تكن هناك قرينة على تقييدها بزمن خاص أو جهة معينة.
2- خاصة مع ملاحظة أن قول وفعل وتقرير الرسول (صلی الله علیه و آله) والإمام (علیه السلام) يؤثر في حياة الناس وسلوكهم كما هو واضح، على أنه المرجع النهائي والمقياس الإلهي الأول والأخير، لا لفئة خاصة فحسب بل لكل البشرية على مر الأعصار.
3- راجع حول العصمة: كتاب (الألفين) للعلامة الحلي (قدس سره)، وكتاب (القول السديد في شرح التجريد): ص333 للإمام المؤلف (قدس سره).
4- سورة النجم: 3-4.
5- هذا وقد ورد في تفسير الآية المباركة عن ابن عباس:... فأنزل الله تبارك وتعالى: «وَالنَّجْمِ إِذَا هَوى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ» يعني: في محبة علي بن أبي طالب (علیه السلام)، « وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى» يعني: في شأنه، «إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى» بحار الأنوار: ج35 ص272 ب8 ح1.

..............................

فهو (صلی الله علیه و آله) الرابطوحلقة الوصل، وهو الوسيط الأمين بين الخالق والخلق، قال تعالى : «مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ»(1). وقال (علیه السلام): «أرسله (صلی الله علیه و آله) بالحق وائتمنه على الوحي»(2). وهذا (3) أكبر أقسام الأمانة؛ لأن السعادة البشرية في الدنيا والآخرة متوقفة عليه، بل أن عظمة الأمانة قد تكون لعظمة غايتها وفوائدها، وقد تكون لقيمتها الذاتية، وقد تكون لإضافتها وانتسابها للعظيم فاعلاً أو قابلاً، وهذه كلها مجتمعة في (الوحي) وهو الكتاب التشريعي الذي ائتمن الله رسوله (صلی الله علیه و آله) عليه كما لا يخفى.

قولها (علیها السلام): «وصفيّه» اصطفاه واختاره، فهو المصطفى فاعلاً أو قابلاً، كما ورد: «وأن محمداً عبده ورسوله، وأمينه وصفيه، وصفوته من خلقه، وسيد المرسلين، وخاتم النبيين، وأفضل العالمين»(4). وانتخاب الله تعالى له (صلی الله علیه و آله) دون سائرالخلق صفياً مع لحاظ علمه تعالى المطلق بكافة أبعاد النفس الإنسانية، وإحاطته بسلوكه العملي وشبه ذلك في كافة لحظات حياته (صلی الله علیه و آله) دليل على خلوصه (صلی الله علیه و آله) من كل نقص ونزاهته من كل عيب.

قولها (علیها السلام): «وخيرته من الخلق» اختاره ورضيه: ارتضاه. ولا يخفى أن مادتي (الاصطفاء والارتضاء) تدلان على أمرين، تقول: (صفي يصفو فهو صاف)، و(رضي يرضى فهو راض وذاك مرضي)، كما تقول: ذاك (مصطفى) وهذا (مرتضى).

ص: 265


1- سورة التكوير: 21.
2- شرح نهج البلاغة: ج16 ص40 ترجمة الحسن بن علي (علیه السلام) وذكر بعض أخباره.
3- أي الائتمان على الوحي.
4- تحف العقول: ص416 جوابه (علیه السلام) للمأمون في جوامع الشريعة لما سأله جمع ذلك.

والسلام عليه ورحمة الله وبركاته.

اشارة

-------------------------------------------

الدعاء للأولياء والصالحين

مسألة: يستحب طلب الرحمة والبركة من الله تعالى للرسول (صلی الله علیه و آله) سراً وجهاراً، في مختلف الحالات والأوقات، وكذلك السلام عليه (صلی الله علیه و آله)(1)؛ فإن الله سبحانه وتعالى وعد بالإجابة حيث قال سبحانه : «ادْعُونِيأَسْتَجِبْ لَكُمْ»(2)، ومن المعلوم أن الدعاء للرسول (صلی الله علیه و آله) مستجاب خصوصاً من مثل الزهراء (علیها السلام)، بل روي عن علي (علیه السلام): «كل دعاء محجوب عن السماء حتى يُصلّى على محمد وآل محمد»(3).

وذلك(4) يوجب الخير بالنسبة إلى الداعي في الدنيا والآخرة بنحو الأثر الوضعي، وهو أيضاً نوع من الإيحاء والتلقين فيزيد الإنسان تعلقاً بالرسول (صلی الله علیه و آله) وآله الأطهار (علیهم السلام) وبسائر الصلحاء ويشده إليهم.

إضافة إلى ما لهذه الدعوات من تركيز المفاهيم والمعاني الروحية في الإنسان بشكل أعمق، بالإضافة إلى ما أشير إليه من أنه تعالى سيتفضل به على الرسول (صلی الله علیه و آله) وآله (علیهم السلام) وأتباعه من الكرامة المتزايدة.

ص: 266


1- راجع وسائل الشيعة: ج7 ص192 ب34.
2- سورة غافر: 60.
3- جامع الأخبار: ج61 ف28.
4- أي الصلاة والسلام على رسول الله (صلی الله علیه و آله).

..............................

إذ من الثابت أن الله سبحانه وتعالىجعل لكل شيء سبباً، فكما قرر تعالى من أسباب رفعة درجات المؤمنين وفي طليعتهم الرسل والأوصياء (علیهم السلام) تحمل الأذى في سبيله والصبر والاستقامة وما أشبه، كذلك لا يبعد أن يقرر سبحانه من أسباب رفعة الدرجات وزيادة المثوبة والبركة، دعوات الناس لهم (عليهم الصلاة والسلام).

و(البركة) معناها: الثبات والاستمرار(1).

قال تعالى: «تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً»(2). أي: ثابت ودائم.

ولا ثابت بالقول المطلق إلا الله سبحانه وتعالى؛ فإن كل شيء سواه ممكن وفي حال التغير والتبدل ولو ذاتاً - بناء على الحركة الجوهرية - أو في كافة أعراضه، بخلافه سبحانه حيث إن البركة الحقيقية فيه.

وما يقال: من أن في النعمةالفلانية بركة أو ما أشبه ذلك، يراد به الدوام النسبي والثبات بالقياس إلى الغير، على أن بركته عرضية مكتسبة أي أنها بالغير لا بالذات(3).

وفي الدعاء: «وارزقني السلامة والعافية، والبركة في جميع ما رزقتني»(4).

ص: 267


1- برك الإبل: أي جلس واستقر على الأرض. وفي لسان العرب: ج10 ص396 مادة برك: (وفي حديث الصلاة على النبي (صلی الله علیه و آله): وبارك على محمد وعلى آل محمد، أي: اثبت له وأدم ما أعطيته من التشرف والكرامة، وهو من برك البعير: إذا أناخ في موضعه فلزمه).
2- سورة الفرقان: 1.
3- ومن معاني البركة: النماء والزيادة. - راجع لسان العرب: ج10 ص395 مادة برك -.
4- بحار الأنوار: ج95 ص331 ب7 ضمن ح1.

..............................

و: «اللهم اجعلني من أهل الجنة التي حشوها البركة»(1).

و«السلام عليه»: دعاء له (صلی الله علیه و آله) بالسلامة في الآخرة، فإن السلامة حقيقة مشكّكة ذات مراتب ودرجات(2)، هذا بالإضافة إلى أن هذه اللفظة تستخدم للتحية والإكرام أيضاً.

ولعل الفرق بالإفراد في (الرحمة) والجمع في (البركات) في كلامها (علیها السلام) كما في القرآن الكريم: «رَحْمَتُاللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ»(3) بلحاظ اعتباره، حيث لوحظ في (الرحمة) الغامرية، قال تعالى: «رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ»(4)، فهي تغمر الإنسان فلا تعدد فيها، بخلاف (البركات) التي لوحظ فيها الانتساب للقابل، فبركة في العمر وبركة في المال وبركة في الرزق وما أشبه، وفي الآخرة أيضاً بركات واستمرارات لمختلف الشؤون والأبعاد بنحو اللا متناهي اللايقفي نظراً للخلود.

وبعبارة أخرى هناك نسبة للخالق ونسبة للمخلوق، فعندما تلاحظ النسبة للخالق فلا تعدد، وعندما تلاحظ النسبة للمخلوق يتعدد(5).

لا يقال: هو (صلی الله علیه و آله) في السلامة، سواء طلب أو لم يطلب، فهذا طلب للحاصل؟.

ص: 268


1- وسائل الشيعة: ج7 ص399 ب48 ح9683.
2- هذا الكلام من الإمام المصنف (قدس سره) إشارة لدفع إشكال سيأتي بيانه.
3- سورة هود: 73.
4- سورة الأعراف: 156.
5- وذلك كأشعة الشمس التي قد تنسب للشمس فهي واحدة، وقد تنسب للقابل كالشجر والحجر والمدر والإنسان والكرات الأخرى... فتكون متعددة.

..............................

لأنه يقال: للسلامة درجات ومراتب،وكونه (صلی الله علیه و آله) في مرتبة منها لا ينافي طلب أن يكون في مرتبة أرفع.

هذا بالإضافة إلى إمكان أن يكون المراد الاستمرار بامتداد الزمن، فإن السلامة تتجدد وتوجد آناً فآناً، كما قال (عليه الصلاة والسلام) في «اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ»(1): «أدم لنا توفيقك الذي به أطعناك في ماضي أيامنا حتى نطيعك كذلك في مستقبل أعمارنا»(2)؛ لأن الهداية في كل لحظة، فالهداية في اللحظة السابقة لا تنافي عدم الهداية في اللحظة الثانية وهكذا، فتأمل.

وفي الحديث عن علي (علیه السلام): «الصلاة على النبي (صلی الله علیه و آله) أمحق للخطايا من الماء للنار، والسلام على النبي (صلی الله علیه و آله) أفضل من عتق الرقاب»(3).

السلام على الأموات

مسألة: يستحب السلام على الأموات، سواء عند زيارة الإنسان للمقابر، أم في سائر الأوقات، وذلك يستلزم تذكير الإنسان بالعالم الآخر، وإزالة الحجب الفكرية والنفسية والشهوانية التي تحول دون أن يستعد الإنسان لهذا السفر الأبدي.

ص: 269


1- سورة الفاتحة: 6.
2- تفسير الإمام العسكري (علیه السلام) : ص44 أعظم الطاعات ح20. وفي تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان ج1: (الهداية هو إرشاد الطريق، فإن الإنسان في كل آن يحتاج إلى من يرشده ويهديه وإن كان مهتدياً).
3- وسائل الشيعة: ج7 ص195 ب34 ح9096.

..............................

قال علي (علیه السلام) عندما أشرف على المقابر: «يا أهل التربة ويا أهل الغربة، أما الدور فقد سُكنت، وأما الأزواج فقد نُكحت، وأما الأموال فقد قُسّمت، فهذا خبر ما عندنا فما خبر ما عندكم - ثم التفت (علیه السلام) إلى أصحابه فقال: - لو أذن لهم في الكلام لأخبروكم: أن خير الزاد التقوى»(1).

وفي وصية لقمان لابنه: «يا بني... احضر الجنائز، وزُر المقابر، وتذكر الموت وما بعده من الأهوال فتأخذ حذرك»(2).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «زوروا موتاكم، وصلّوا عليهم، وسلمواعليهم فإن لكم فيها عبرة»(3).

فالسلام على الأموات يعد من أسباب هداية الإنسان، إضافة إلى ما ينتجه من اللطف الإلهي بالمرسل لهم السلام، وهو كاشف أيضاً عن شدة الترابط بين العالمَين كما سبق. ولذا نجد في أنواع السلام المقررة في الشريعة للأموات تذكيراً بالمبدأ والمعاد وما أشبه، كما ورد: «بسم الله الرحمن الرحيم، السلام على أهل لا إله إلا الله، مِن أهل لا إله إلا الله، يا أهل لا اله إلا الله، بحق لا إله إلا الله، كيف وجدتم قول لا إله إلا الله، مِن لا إله إلا الله، يا لا إله إلا الله، بحق لا إله إلا الله، اغفر لمن قال: لا إله إلا الله، واحشرنا في زمرة من قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله علي ولي الله»(4).

ص: 270


1- نهج البلاغة، قصار الحكم: 130.
2- إرشاد القلوب: ص72 ب18.
3- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: ج1 ص288 بيان زيارة القبور والدعاء للميت.
4- بحار الأنوار: ج99 ص301 ب6 ضمن ح31.

..............................

وعن أبي عبد الله (علیه السلام): «إذا بعدت عليك الشقة ونأت بك الدار فلتعل على أعلى منزلك، ولتصل ركعتين فلتؤم بالسلام إلى قبورنا؛ فإن ذلك يصل إلينا»(1).وعنه (علیه السلام): «إذا نظرت إلى المقابر فقل: السلام عليكم يا أهل المقابر من المؤمنين والمؤمنات، أنتم السلف نحن لكم تبع، ونحن على آثاركم واردون، نسأل الله الصلاة على محمد وآله محمد والمغفرة لنا ولكم»(2).

ذكر محاسن الأموات

مسألة: يستحب ذكر محاسن الميت، قال علي (علیه السلام): «اذكروا محاسن موتاكم»(3)، وفي حديث آخر: «لا تقولوا في موتاكم إلاّ خيراً»(4).

الترحم على الأموات

مسألة: يستحب الترحم على الأموات والدعاء لهم، ففي الحديث:

«الموتى يأتون في كل جمعة من شهر رمضان، فيقفون وينادي كل واحد منهم بصوت حزين باكياً: يا أهلاه، ويا ولداه، ويا قرابتاه، اعطفوا علينا بشيء يرحمكم الله، واذكرونا ولا تنسونابالدعاء، وارحموا علينا وعلى غربتنا؛ فإنا

ص: 271


1- مستدرك الوسائل: ج10 ص369 ب75 ح12199.
2- جامع الأخبار: ص168 ف134.
3- بحار الأنوار: ج72 ص239 ب66.
4- غوالي اللآلي: ج1 ص439 ب1 المسلك الثالث ح158.

..............................

قد بقينا في سجن ضيق، وغم طويل وشدة، فارحمونا ولا تبخلوا بالدعاء والصدقة لنا، لعل الله يرحمنا قبل أن تكونوا مثلنا. فوا حسرتاه قد كنا قادرين مثل ما أنتم قادرون، فيا عباد الله اسمعوا كلامنا ولا تنسونا؛ فإنكم ستعلمون غداً، فإن الفضول التي بأيديكم كانت بأيدينا، فكنا لا ننفق في طاعة الله، ومنعنا عن الحق فصار وبالاً علينا ومنفعة لغيرنا، اعطفوا علينا بدرهم أو رغيف أو بكسرة، ثم ينادون: ما أسرع ما تبكون على أنفسكم ولا ينفعكم كما نحن نبكي ولا ينفعنا، فاجتهدوا قبل أن تكونوا مثلنا»(1).

وفي بعض الأحاديث: «إن أرواح المؤمنين تأتي كل جمعة وينادي كل واحد منهم مثل هذا النداء»(2).

وعنه (صلی الله علیه و آله): «إن الرجل ليموت والداه وهو عاق لهما، فيدعو الله لهما من بعدهما فيكتبه الله منالبارين»(3).

وقال (صلی الله علیه و آله): «اهدوا لموتاكم». فقيل: وما هدية الأموات؟. قال: «الصدقة والدعاء»(4).

وقال (صلی الله علیه و آله): «ألا من أعطف لميت بصدقة فله عند الله من الأجر مثل أحُد، ويكون يوم القيامة في ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظل العرش»(5).

ص: 272


1- مستدرك الوسائل: ج2 ص162-163 ب39 ح1697.
2- جامع الأخبار: ص169 ف134.
3- إرشاد القلوب: ج1 ص195 ب52.
4- مستدرك الوسائل: ج2 ص484 ب79 ح2524.
5- جامع الأخبار: ص169 ف134.

ثم التفتت (علیها السلام) إلى أهل المجلس وقالت:

اشارة

-------------------------------------------

المراد بالالتفات

مسألة: الظاهر أن المراد بالالتفات هنا التوجه لا النظر، خاصة بلحاظ ما سبق: «فنيطت دونها ملاءة»، وإن كان النظر جائزاً بشروط مذكورة في كتاب النكاح.

فإن الإنسان قد يخطب بلا توجه إلىجهة خاصة، وقد يخطب مع التوجه إليها، مع نظر ورؤية أم بدونها.

وكأنها (علیها السلام) كانت تتكلم بكلماتها السابقة وهي غير ملتفتة إلى جهة خاصة، نظراً لعدم المقتضي لذلك، باعتبار كون البداية حمداً لله تعالى وشكراً له وشهادة لله بالوحدانية ولمحمد (صلی الله علیه و آله) بالنبوة... فلما أرادت أن توجه الخطاب إليهم التفتت إلى جانبهم، فإن الالتفات يوجب توجه الصوت أكثر فأكثر، وإن كان بينها وبينهم ستر.

إضافة إلى أن في الالتفات بعد عدمه مزيداً من الالفات كما لا يخفى(1).

ص: 273


1- راجع كتاب (البلاغة) للإمام المؤلف (قدس سره).

أنتم عباد الله

اشارة

-------------------------------------------

عباد الله

مسألة: يستحب تنبيه الناس - دائماً - على أنهم عباد الله تعالى وذلك بأساليب شتى، منها الخطاب بتضمينه في مطلعه ونهايته، بل تحويل ذلك أو ما بمعناه، إلى مرتكز كلامي يكرر في رأس كل مقطع منه حسب مقتضى الحال(1).

وقولها (علیها السلام): «عباد الله» تذكير لهم بأنهم عبيد، ولابد أن يطيعوا أمر المولى، وإلاّ كانوا معرضين للعقاب؛ فإن التنبيه على ذلك يوجب الإيحاء النفسي للطرف على وجوب طاعته تعالى، وقد ورد في القرآن:

قوله تعالى: «عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ»(2).وقوله سبحانه: «إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ»(3).

وقوله عزوجل: «قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاَةَ»(4).

وقوله تعالى: «وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ»(5).

ص: 274


1- كما نجد ذلك في الصلاة، حيث تتضمنه بدأ ووسطاً وختماً: (... رب العالمين ... إياك نعبد ... سبحانه ربي العظيم ... سبحان ربي الأعلى ... أشهد أن لا إله إلا الله ... أشهد أن محمداً عبده ... السلام علينا وعلى عباد الله ...)، وكذلك في القرآن الحكيم حيث لا يخلو - عادةً - من الإشارة إلى ذلك مرة واحدة أو مراراً عديدة، في كل صفحة.
2- سورة الإنسان: 6.
3- سورة الصافات: 40 و74 و128 و160.
4- سورة إبراهيم: 31.
5- سورة الإسراء: 53.

..............................

وقوله سبحانه: «ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ»(1).

وقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ»(2).

وقوله سبحانه:«لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلاَ الْمَلاَئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً»(3).

ونقرأ في كل يوم في الصلوات المفروضة والمستحبة: «أشهد أن محمداً عبده ورسوله»، و«السلام علينا وعلىعباد الله الصالحين»، كما نقرأ في الركعتين الأوليين: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ»(4) إلى غير ذلك.

وقد ورد كثيراً في الروايات: «اعلموا عباد الله»(5)، و«ابشروا عباد

الله»(6)، و«أوصيكم عباد الله»(7)، و«يا عباد الله»(8)، وما أشبه.

قال (صلی الله علیه و آله) في خطبته في حجة الوداع: «أوصيكم عباد الله بتقوى الله»(9).

وقال (صلی الله علیه و آله): «أحب عباد الله إلى الله أنفعهم لعباده»(10).

ص: 275


1- سورة الزمر: 16.
2- سورة الأعراف: 194.
3- سورة النساء : 172.
4- سورة الفاتحة: 5.
5- الكافي: ج8 ص75 كلام علي بن الحسين (علیه السلام) ح29.
6- وسائل الشيعة: ج10 ص245 ب1 ح13323.
7- من لا يحضره الفقيه: ج1 ص515 باب صلاة العيدين ح1482.
8- تهذيب الأحكام: ج4 ص96 ب29 ح8.
9- تحف العقول: ص30 خطبته (صلی الله علیه و آله) في حجة الوداع.
10- بحار الأنوار: ج74 ص154 ب7 ح110.

..............................

وإذا كان على العبد - عرفاً - أنيطيع المولى المجازي، فبالضرورة يجب على العبد - عقلاً - أن يطيع المولى الحقيقي، إذ الإنسان عبد خاضع(1) ومملوك من جميع الجهات، في ذاته وأعراضه وحدوثه وبقائه و... لله تعالى.

مما ينبغي التذكير به

مسألة: ينبغي تذكير الناس بوظائفهم ومسؤولياتهم والأدوار الملقاة على عواتقهم، وما يتوقع منهم في حياتهم الفردية والعائلية والاجتماعية..

وأنهم من هم؟. و لِمَ هم؟ (2). وكيف كانوا؟. وإلى مَ صاروا؟. وما الذي سيكونون عليه؟ (3). والعلل الباعثة على ذاك التحول وهذا التغير؟. ومواصفات القيادة وما صنعته لهم وما أرادته منهم؟. والفلسفة في قراراتوآراء وأحكام القائد(4) والصفات الإيجابية والسلبية، وآثارها الدنيوية والأخروية؟ وهكذا.

وكل ذلك نجده بأروع تعبير وأدق مضمون، متجلياً في خطبتها (صلوات الله عليها) من أولها إلى آخرها. قال تعالى: «فَلْيَنْظُرِ الإِْنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ»(5).

ص: 276


1- إشارة إلى ما ذكر في كتب اللغة من أن (أصل العبودية: الخضوع والتذلل) - راجع لسان العرب: ج3 ص273 مادة عبد - وفيه: ومعنى العبادة في اللغة: الطاعة مع الخضوع، ومنه طريق معبد إذا كان مذللاً بكثرة الوطء... والمعبد: المذلل، والتعبد: التذلل، والتعبيد: التذليل.
2- إشارة للعلة الغائية لخلقهم.
3- أي الماضي والحاضر والمستقبل.
4- إذ يوجب ذلك مزيداً من اندفاع الناس لتنفيذ القرارات وإتباع الأحكام، كما ينمي حالة التدبر والتأمل فيهم، وقد سبق من الإمام المؤلف (قدس سره) تفصيل ذلك.
5- سورة الطارق: 5.

نصب أمره ونهيه،

اشارة

-------------------------------------------

مسؤوليات العباد

1: امتثال الأوامر والنواهي

مسألة: انتقلت (سلام الله عليها) من الحديث عن المرسل وغايته من الخلقة ومن البعثة، وعن الرسول (صلی الله علیه و آله) وما حققه من الأهداف، إلى الحديث عن المرسَل إليهم.

ويستفاد من كلمة «نصب أمره ونهيه» أن الهدف الأساسي المتوخى من العباد هو قيامهم بامتثال الأوامر والنواهي الإلهية، قال سبحانه: «فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا»(1)، فالمخاطبون من قبل الله تعالى بواسطة الأنبياء (علیهم السلام) يتحملون هذا الأمر العظيم، وقال سبحانه: «مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها»(2).

هذا، وتفصيل بحث الخطاب ومن إليه الخطاب في علم الأصول، قال تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ»(3).قولها (علیها السلام): «نصب أمره ونهيه»، أي المنصوبون والمقامون(4) لتنفيذ أوامره ونواهيه، إلماعاً إلى لزوم أن يطيعوه تعالى في أمر الخلافة وغيرها، وإلاّ كانوا معرّضين لانتقامه وسخطه، كما أشارت إلى ذلك بعد كلام لها (علیها السلام).

ص: 277


1- سورة النور: 54.
2- سورة الجمعة: 5.
3- سورة إبراهيم: 4.
4- تقول: نصبه أي أقامه، وينصبون أي يقيمون.

وحملة دينه ووحيه،

اشارة

-------------------------------------------

2: حمل راية الدين والوحي

مسألة: يجب حمل وإعلاء راية الدين والوحي، فإن دينه تعالى اُنزل عليهم، قال سبحانه: «إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً»(1).

ومصداق الأمانة الأتم زمن ختم النبوة هو: رسالته (صلی الله علیه و آله) والتكليف بالأوامر والنواهي وولاية علي (علیه السلام)، كما في التفاسير(2).

ص: 278


1- سورة الأحزاب: 72.
2- راجع مستدرك سفينة البحار: ج7 ص207 عرض الأمانة على السماوات، وفيه: عن معاني الأخبار، عن المفضل، قال: قال أبو عبد الله (علیه السلام): «إن الله تبارك وتعالى خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام، فجعل أعلاها وأشرفها أرواح محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة بعدهم (صلوات الله عليهم)، فعرضها على السماوات والأرض والجبال فغشيها نورهم. فقال الله تبارك وتعالى للسماوات والأرض والجبال: هؤلاء أحبائي وأوليائي وحججي على خلقي وأئمة بريتي، ما خلقت خلقاً هو أحب إليَّ منهم، لهم ولمن تولاهم خلقت جنتي، ولمن خالفهم وعاداهم خلقت ناري، فمن أدعى منزلتهم مني ومحلهم من عظمتي عذبته عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين وجعلته من المشركين في أسفل درك من ناري، ومن أقر بولايتهم ولم يدع منزلتهم مني ومكانهم من عظمتي جعلته معهم في روضات جناتي، وكان لهم فيها ما يشاؤون عندي، وأبحتهم كرامتي، وأحللتهم جواري، وشفعتهم في المذنبين من عبادي وإمائي، فولايتهم أمانة عند خلقي، فأيكم يحملها بأثقالها ويدعيها لنفسه دون خيرتي، فأبت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقن من ادعاء منزلتها وتمني محلها من عظمة ربها... »، الحديث. وراجع أيضاً: معاني الأخبار ص108 باب معنى الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها أشفقن منها حملها الإنسان.

..............................

وقال تعالى: «عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ»(1).و(الدين) قد يكون أعم من الوحي، كما يكون الوحي كذلك، وقد تتغير النسبة بتغير الإعتبارات المختلفة، فالدين يشمل سيرته الطاهرة (صلی الله علیه و آله) والأحكام التكليفية(2) والأحكام الوضعية، وغيرها(3).

قال تعالى: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً»(4).

وفي الحديث عن أبي جعفر (علیه السلام) في تفسير قوله تعالى: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً» قال: «الولاية»(5). وفي الرضوي (علیه السلام)، عن آبائه (علیهم السلام) في تفسير الآية: «هو لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي أميرالمؤمنين»(6).

و(الوحي): أعم من القرآن، فيشمل الأحاديث القدسية وغيرها أيضاً، قال الشيخ المفيد (قدس سره)(7):

ص: 279


1- سورة النور: 54.
2- الواجبات والمحرمات والمندوبات والمكروهات والمباحات.
3- ربما يكون المراد من «وغيرها» ما ذكره الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) من قصص الأنبياء الماضين (علیهم السلام) ومواعظهم وحكمهم، وكذا أحداث الأمم الغابرة والأخبارات المستقبلة (ما كان وما يكون وما هو كائن)، فمن مسؤوليات المسلم إيصال المعلومات الصحيحة عن كل ذلك كما بينه (صلی الله علیه و آله) للناس.
4- سورة الروم: 30.
5- بحار الأنوار: ج3 ص277 ب11 ح2.
6- تفسير القمي: ج2 ص154 سورة الروم مكية.
7- أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان بن عبد السلام العكبري الملقب بالشيخ المفيد (رحمة الله). من أجل مشايخ الشيعة، وُلد (قدس سره) في عام 336ه بأطراف بغداد، في أسرة عريقة في التشيع معروفة بالإحسان والطهارة. وقد أنهى دراساته الابتدائية في أسرته ومسقط رأسه، ثم سافر إلى بغداد واشتغل بتحصيل العلم عند الأساتذة والعلماء ليصبح بعد ذلك المقدم في علم الكلام والفقه والأصول، وكان من تلامذة ابن عقيل. وفضله أشهر من أن يوصف انتهت رئاسة الإمامية إليه في وقته. من أساتذته: ابن قولويه القمي، والشيخ الصدوق، وابن وليد القمي، وأبو غالب الزراري، وابن الجنيد الإسكافي، وأبو علي الصولي البصري، وأبو عبد الله الصفواني. ومن تلامذته: السيد المرتضى علم الهدى، والسيد الرضي، والشيخ الطوسي، والنجاشي، وأبو الفتح الكراجكي، وأبو يعلى جعفر بن سالار. بلغت مؤلفات الشيخ المفيد طبقاً لما ذكر تلميذه البارز الشيخ الطوسي (رحمة الله) 200 مؤلف منها: المقنعة، الفرائض الشرعية، أحكام النساء، الكلام في دلائل القرآن، وجوه إعجاز القرآن، النصرة في فضل القرآن، أوائل المقالات، نقض فضيلة المعتزلة، الإفصاح، الإيضاح. توفي الشيخ المفيد (رحمة الله) في عام 413 ه ببغداد عن 75 عاماً قضاها بالعلم والعمل، ودفن في الحرم المطهر بجوار الإمام الجواد (علیه السلام) قريباً من قبر أستاذه ابن قولويه. وقد حظي بتعظيم الناس وتقدير العلماء والفضلاء. يذكر الشيخ الطوسي (رحمة الله) الذي حضر تشييعه: بأن يوم وفاته كان يوماً لا نظير له، لكثرة من حضر لأداء الصلاة على جنازته، والبكاء عليه من الصديق والعدو، حيث شيّعه ثمانون ألفاً وصلى عليه السيد المرتضى علم الهدى (رحمة الله).

..............................

(أصل الوحي هو الكلام الخفي، ثم قد يطلق على كل شيء قصد به إلى إفهام المخاطب على الستر له عن غيره، والتخصيص له بدون من سواه، وإذا أضيف إلى الله تعالى كان فيما يخص به الرسل - صلى الله عليهم أجمعين - خاصة دون من سواهم)(1).

هذا والكلام في الوحي وكيفيته وأقسامه وأنه هل يختص بالنبي (علیه السلام) أو لا، مفصل مذكور في علم الكلام.

ثم إنه ينبغي بيان ذلك للناس، أي أنهم حملة الدين والوحي، قال (صلی الله علیه و آله): «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»(2).

ص: 280


1- تصحيح الاعتقاد: ص120 فصل في كيفية نزول الوحي.
2- جامع الأخبار: ص119 ف75.

..............................

وفي الحديث عن أبي عبد الله (علیه السلام) - في خلق العالم - قال: «فقال الله لهم: من ربكم؟. فكان أول من نطق رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (علیه السلام) والأئمة (علیهم السلام)، فقالوا: أنت ربنا. فحملهم العلم والدين - ثم قال للملائكة - هؤلاء حملة علمي وديني وأمنائي في خلقي وهم المسؤولون»(1).

كما أنه يلزم الاهتمام بالقرآن؛ فإن حمله(2) واجب كفائي، كما ألمعنا إليه في كتاب (الفقه: حول القرآن الحكيم)(3)، وسيأتي البحث عن ذلك إن شاء الله تعالى.

قال (صلی الله علیه و آله): «أشراف أمتي حملة القرآن»(4).

وقال (صلی الله علیه و آله): «حملةالقرآن عرفاء أهل الجنة»(5).

ص: 281


1- بحار الأنوار: ج3 ص334 ب14 ح43، والبحار: ج26 ص277 ب6 ح19.
2- أي حفظه ونشره وما أشبه.
3- راجع موسوعة الفقه: ج 98 كتاب (حول القرآن الكريم).
4- من لا يحضره الفقيه: ج4 ص399 ومن ألفاظ رسول الله (صلی الله علیه و آله) الموجزة التي لم يسبق إليها ح5855.
5- الكافي: ج2 ص606 باب فضل حامل القرآن ح11.

وأمناء الله على أنفسكم،

اشارة

-------------------------------------------

3: وقاية النفس والائتمان عليها

مسألة: تجب وقاية النفس والحفاظ عليها من الأخطار والأقذار، الدنيوية والأخروية، كما قالت (علیها السلام): «وأمناء الله على أنفسكم»، أي أن الله جعل أنفسكم أمانة عندكم، فيشمله قوله تعالى: «وَالَّذِينَ هُمْ لأَِماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ»(1)، فهم أمناء وهم الأمانة باعتبارين كالطبيب يطبب نفسه.

قال تعالى: «قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً»(2).

وقال سبحانه: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ»(3).

وفي الحديث عنه (صلی الله علیه و آله): «أوصيك بنفسك ومالك خيراً»(4).

والمراد: إن الواجب عليكم أن لا تخونوا في الأمانة بمخالفة أوامر الله سبحانه، فإن الخيانة مع النفس أيضاًخيانة، وهي داخلة في عمومات الأدلة، بل الخيانة مع النفس من أشد الخيانات، وهي تؤدي إلى الخسارة الكبرى الأبدية له، ولأهله في كثير من الأحيان(5)، قال تعالى: «قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(6).

ص: 282


1- سورة المؤمنون: 8، سورة المعارج: 32.
2- سورة التحريم: 6.
3- سورة المائدة: 105.
4- الأنوار: ص290 سبب خروج النبي (صلی الله علیه و آله) بتجارة خديجة إلى الشام.
5- إذ خسارة النفس عبر الانسياق وراء الشهوات والأهواء كثيراً ما تؤدي إلى خسران الأهل أيضاً، فإن لسيرة الإنسان وتفكيره الأثر الكبير على أسرته كما لا يخفى.
6- سورة الزمر: 15.

..............................

أما حفظ أمانة الغير وأداؤها إليه فهي واجبة شرعاً كما قرر في محله(1)، قال سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلى أَهْلِها»(2).

وقال (علیه السلام): «عليكم بصدق الحديث وأداء الأمانة إلى البر والفاجر»(3).

وقال (علیه السلام): «أصل الدينأداء الأمانة والوفاء بالعهود»(4).

مسائل أخرى

مسألة: ويمكن - في الجملة - استنباط مسائل عديدة أخرى من قولها (علیها السلام)، ك 1: وجوب حفظ النفس.

2: وحرمة الانتحار.

3: وحرمة الإضرار البالغ بالجسم أو الروح كإذهاب قوة أو قطع عضو أو ما أشبه، مما فصلناه في مبحث (لا ضرر).

قال تعالى: «وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ»(5).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام»(6).

فإذا كانت النفس أمانة إلهية بيد الإنسان فلا يجوز له أي إفراط وتفريط فيها، كما لا يجوز أي تصرف فيها إلاّ بإذنه تعالى ولو بشكل عام، فدقق.

ص: 283


1- راجع موسوعة الفقه: ج 56 كتاب الوديعة.
2- سورة النساء: 58.
3- بحار الأنوار: ج100 ص92 ب1 ح6.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: ص86 ق1 ب2 ف5 قواعد الدين ح1407.
5- سورة البقرة: 195.
6- وسائل الشيعة: ج26 ص14 ب1 ح32382.

وبلغاءه إلى الأمم،

اشارة

-------------------------------------------

4: تبليغ وهداية الأمم

مسألة: يجب تبليغ رسالات الله إلى الناس، وهو أكبر مسؤولية تحمل أعباءها الأنبياء والرسل (علیهم السلام).

قال تعالى: «أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي»(1).

وقال سبحانه: «وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ»(2).

وقال تعالى: «الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ»(3).

وهو واجب كفاية على كل مكلف قادر على إرشاد الجاهل وتنبيه الغافل وبيان مسؤوليات الناس لهم، في الجملة(4).

قال سبحانه بالنسبة إلى نبيه (صلی الله علیه و آله): «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَاأُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ»(5)، وهو (صلی الله علیه و آله) أسوة فيجب إتباعه.

ص: 284


1- سورة الأعراف: 62و68.
2- سورة النور: 54، وسورة العنكبوت: 18.
3- سورة الأحزاب: 39.
4- قد يكون المراد ب (في الجملة) أن الإرشاد إلى المستحبات والأخلاقيات وشبهها مستحب إلاّ ما خرج من باب المقدمية أو شبهها كحفظ معالم الدين، أما الإرشاد في شؤون أصول الدين وفروعه الواجبة وما أشبه فواجب.
5- سورة المائدة: 67.

..............................

وفي الصحيفة السجادية، قال(علیه السلام) في وصفه (صلی الله علیه و آله): «وأدأب نفسه في تبليغ رسالتك، وأتعبها بالدعاء إلى ملتك، وشغلها بالنصح لأهل دعوتك»(1).

هذا بالإضافة إلى ما دل على وجوب تبليغ الدين أصوله وفروعه، فقد سبق أن: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»(2)، كما قاله الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله). نعم تختلف الرعية، فالحاكم مثلاً رعيته كل الشعب، بينما الرجل رعيته عائلته.

وإذا اجتمعت شرائط التبليغ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أكثر ممن هو في دائرته فهو مكلف بذلك أيضاً، وفي القرآن الحكيم: «وَتَوَاصَوْابِالْحَقِّ

وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ»(3).

وقال تعالى: «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ»(4).

وقال جل وعلا: «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»(5).

ص: 285


1- الصحيفة السجادية الكاملة: ص40 الدعاء رقم2، وكان من دعائه (علیه السلام) بعد هذا التحميد الصلاة على رسول الله (صلی الله علیه و آله).
2- جامع الأخبار: ص119 ف75.
3- سورة العصر: 3.
4- سورة التوبة: 71.
5- سورة آل عمران: 104.

..............................

ويحتمل كون ƒمن‚ في الآية نشوية(1) لا بمعنى البعض، وإن قال به جمع(2)، بقرينة قوله سبحانه فيآخرها: «وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» الظاهر في أن غيرهم لا يكون مفلحاً، فتأمل.

ولقد كان من أسرار الانتشار السريع الهائل للإسلام هو أن عامة المسلمين(3) اضطلعوا بمهمة تبليغ الإسلام في أقصى البلاد، وتحملوا في ذلك شتى الصعاب حتى اجتنوا أفضل الثمار.

عكس ما عليه الآن الكثير من المسلمين، حيث يتوهمون أن مهمة التبليغ هي مسؤولية فئة خاصة فحسب.

قولها (علیها السلام): «وبلغاؤه»، أي: أنتم مبلغون أحكام الله إلى سائر الأمم؛ لأنهم تحملوا الدين وعاصروا الرسول (صلی الله علیه و آله) وعرفوا سنته وقد أمرهم الله بذلك، قال تعالى: «فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ»(4).

ص: 286


1- أي ولتكن أمة ناشئة منكم أي مصدرها أنتم، كما في قوله تعالى: «وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ» سورة فاطر: 11.
2- راجع تفسير التبيان: ج2 ص548 في تفسير الآية الكريمة، وفيه: (من ههنا للتبعيض على قول أكثر المفسرين). وفي تفسير جوامع الجامع: ج1 ص315، وفيه: (قيل: إن من هنا للتبعيض... وقيل: إن من للتبيين). وفي تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان: ج4 ص19، وفيه: (أي يجب أن تكون منكم جماعة).
3- لا فرق في ذلك بين التاجر والعامل ورجل الدين والمزارع والجندي وغيره، راجع كتاب كيف انتشر الإسلام؟ للإمام المؤلف (قدس سره).
4- سورة التوبة: 122.

..............................

وفي كلامها (علیها السلام) هذا إشارة إلى أنكم إذا انحرفتم وأقررتم غصب الخلافة ستحملون وزر الانحرافالذاتي، ووزر إضاعة أمانة الله التي كلفكم بإبلاغها إلى سائر الأمم، قال سبحانه: «لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ»(1).

قولها (علیها السلام): «الأمم»، فإن كل جماعة لها لون خاص من قومية أو لغة أو لون أو ما أشبه ذلك تعد أمة من الأمم، وإن كان البشر مجموعاً أمة واحدة في قبال الملك والجن وأقسام الحيوانات، قال سبحانه: «وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ»(2).

وقال تعالى: «وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً»(3).

وهل يشمل وجوب البلاغ الأمم المتعقلة غير البشر - لدى الإمكان - سواء من الجن لأنهم مكلفون أيضاً، أو من الأمم الأخرى الساكنة في سائر الكرات والعوالم؟. احتمالان.

ففي الحديث عن الرضا (علیه السلام)، قال: «ولله عزوجل وراء ذلك سبعون ألف عالم أكثر من عدد الجنوالإنس»(4)، الحديث.

وعن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «... لعلّك ترى أن الله عزوجل إنما خلق هذا العالم الواحد، أو ترى أن الله عزوجل لم يخلق بشراً غيركم، بلى والله لقد خلق

ص: 287


1- سورة النحل: 25.
2- سورة الأنعام: 38
3- سورة الأعراف: 160.
4- بصائر الدرجات: ص492 ب14 ح7.

..............................

الله تبارك وتعالى ألف ألف عالم وألف ألف آدم... »(1) الحديث.

وعنه (علیه السلام): «هل أدلك على رجل قد مر منذ دخلت علينا في أربعة آلاف عالم؟»(2)، وفي بعض الروايات: «أربعة عشر ألف عالم»(3).

الأجيال القادمة

مسألة: يجب بلاغ الأجيال القادمة أيضاً، للإطلاق الأزماني في قولها (علیها السلام): «الأمم»، وشمول سائر الأدلة له عموماً، أو إطلاقاً، أو ملاكاً. فمن كانبمقدوره هداية الأجيال القادمة(4) وجب عليه ذلك وجوباً كفائياً.

فعن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «أيما عبد من عباد الله سن سنة هدى كان له أجر مثل أجر من عمل بذلك من غير أن ينقص من أجرهم شيء»(5).

كما يجب بلاغ الأمم المعاصرة من غير المسلمين ومن المخالفين، ولذا أرسل النبي (صلی الله علیه و آله) إلى ملوك العجم والروم، كما أرسل إلى مختلف العشائر والقبائل(6).

ص: 288


1- الخصال: ج2 ص652 خلق الله عزوجل ألف ألف عالم وألف ألف آدم ح54.
2- بحار الأنوار: ج46 ص42 ب3 ح40.
3- دلائل الإمامة: ص91 ذكر شي ء من معجزاته (علیه السلام).
4- عبر حفظ كتب الأحاديث والتفاسير وغيرها، أو عبر تربية ثلة تقوم بتربية ثلة من جيل لاحق، أو عبر استخدام الأجهزة الحديثة حالياً أو ما أشبه.
5- وسائل الشيعة: ج16 ص173-174 ب16 ح21274.
6- راجع كتاب (ولأول مرة في تاريخ العالم): ج2 ص20 تحت عنوان: النبي (صلی الله علیه و آله) يتفرغ لإبلاغ الرسالة، وص195 تحت عنوان: عام الرسل والوفود، للإمام المؤلف (قدس سره).

..............................

فإنه (صلی الله علیه و آله) أرسل في السنة السادسة حاطب بن بلتعة إلى المقوقس، ودحية بن خليقة الكلبي إلى قيصر، وعبد الله بن حذافة إلى كسرى،وعمرو بن أمية الضميري إلى النجاشي، وشجاع بن وهب إلى الحارث الغساني، وسليط بن عمرو العامري إلى هودة بن النخعي(1).

كما تجب معرفة طرق وأساليب أعداء الإسلام في صدهم عن انتشار الدعوة؛ فإن معرفة الداء نصف الدواء، وعليه يتوقف التبليغ والبلاغ في الجملة، قال تعالى: «وَأَعِدُّوا لهمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ»(2).

وكذلك تجب - في الجملة - معرفة لغات وعادات وتقاليد وخصوصيات الأمم الأخرى، بالقدر الذي يتوقف عليه التبليغ، فإن الحديث بلسان كل قوم يتوقف على ذلك إجمالاً، قال تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ»(3).

ولذا ترى أنهم (علیهم السلام) يعلمون جميع الألسن واللغات ويتكلمون بها، كما ورد عن علي أمير المؤمنين (علیه السلام)، والإمام الصادق (علیه السلام)، والإمام الكاظم (علیه السلام)، والإمام الرضا (علیه السلام)،وغيرهم(4).

ص: 289


1- راجع بحار الأنوار: ج22 ص250 ب5.
2- سورة الأنفال: 60.
3- سورة إبراهيم: 4.
4- راجع بحار الأنوار: ج26 ص190 ب14.

زعيم حق له فيكم

اشارة

-------------------------------------------

زعيم حق له فيكم(1)،

القرآن هو الزعيم

القرآن هو الزعيم(2)

مسألة: يجب جعل القرآن زعيماً في كافة شؤون الحياة، وزعيم القوم: رئيسهم وسيّدهم والمتآمر عليهم(3).

فإن النجاة بالعمل بالقرآن الحكيم، والاهتداء بهديه والامتثال لتعاليمه، وإلاّ فمن يقرأ القرآن ويعلم تفسيره وتجويده وما أشبه ذلك ثم لايعمل به لاينفعه القرآن، بل يكون القرآن عليه حجة ووبالاً.

قال سبحانه: «وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ له مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (علیهم السلام) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (علیهم السلام) قَالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى»(4).

ص: 290


1- وفي بعض النسخ: «وزعمتم حق لكم لله فيكم».
2- راجع حول هذا المبحث والمباحث اللاحقة: (الفقه: حول القرآن الحكيم)، و (التفسير الموضوعي للقرآن الكريم)، و(الفقه: الآداب والسنن)، و(الفقه: الواجبات والمحرمات)، للإمام المؤلف (قدس سره). وبعض البحوث الآتية تجدها في أماكنها المناسبة في موسوعة الفقه مثلاً: الاستماع للقرآن الكريم وشبهه تجده في (الفقه: حول القرآن الحكيم)، وهكذا غالب العناوين اللاحقة تراها في تفسير الآيات الكريمة المناسبة في تفسير (تقريب القرآن إلى الأذهان) للإمام المؤلف (قدس سره).
3- راجع (القاموس المحيط)، و(مجمع البحرين) مادة زعم، وقال في لسان العرب: ج12 ص266 مادة زعم: (زعيم القوم: رئيسهم وسيدهم، وقيل: رئيسهم المتكلم عنهم).
4- سورة طه: 124-126.

..............................

وقال (صلی الله علیه و آله): «رب تالٍ القرآن والقرآن يلعنه»(1).

وقال (صلی الله علیه و آله): «القرآن غنى لا غنى دونه ولا فقر بعده»(2).

وقال (صلی الله علیه و آله): «إن هذا القرآن حبل الله، وهو النور البيّن، والشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن تبعه»(3).

وقال علي (علیه السلام): «سلوا الله الإيمان، واعملوا بموجب القرآن»(4).وقال (علیه السلام): «ليس لأحد بعد القرآن من فاقة، ولا لأحد قبل القرآن غنى»(5).

وقال (علیه السلام): «يأتي على الناس زمان لا يبقى من القرآن إلاّ رسمه، ولا من الإسلام إلاّ اسمه»(6).

بل إن من يعرف تفسير القرآن ولا يعمل به أكثر أو أشد عذاباً من الجاهل به، إذا كان جاهلاً مقصراً، أما الجاهل القاصر فلا عذاب عليه وإنما يجري امتحانه في يوم القيامة كما يستفاد من الروايات.

ص: 291


1- مستدرك الوسائل: ج4 ص249 ب7 ح4616.
2- وسائل الشيعة: ج6 ص168 ب1 ح7646.
3- وسائل الشيعة: ج6 ص168 ب1 ح7648.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: ص111 ق1 ب4 ف4 العمل بالقرآن ح1979.
5- نهج البلاغة، الخطب: 176، ومن خطبة له (علیه السلام) وفيها يعظ ويبين فضل القرآن وينهى عن البدعة.
6- نهج البلاغة: قصار الحكم 369.

..............................

زعيم حق

مسألة: يجب أن يكون الزعيم زعيم حق لا باطل، كما ينبغي أن يكون الزعيم في الناس لا خارجاً عنهم، كما قالت (علیها السلام): «فيكم».

وقولها (صلوات الله عليها): «زعيم حق»؛ لأن القرآن حق فهو زعيم بالحق، والزعيم بمعنى القائد(1).

وفي الحديث: «المؤمن زعيم أهل بيته»(2).

وقد يأتي بمعنى الكفيل(3)، قال تعالى: «وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ»(4).

وقال سبحانه: «سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ»(5).وقال (صلی الله علیه و آله): «أنا زعيم ببيت في الجنة... »، الحديث(6).

وله معان أخرى مذكورة في كتب اللغة(7).

ص: 292


1- وفي لسان العرب: ج12 ص266 مادة زعم: (وزعيم القوم: رئيسهم وسيدهم... والجمع زعماء، والزعامة: السيادة والرياسة).
2- بحار الأنوار: ج64 ص71 ب1 ح33.
3- وفي لسان العرب: ج12 ص266 مادة زعم: (والزعيم: الكفيل، زعم به يزعم زعماً وزعامة، أي كفل).
4- سورة يوسف: 72.
5- سورة القلم: 40.
6- مشكاة الأنوار: ص70 ب2 ف3.
7- وفي لسان العرب: ج12 ص265 مادة زعم: (قال ابن بري: الزعم قد يأتي بمعنى الكفالة والضمان... وبمعنى القول والذكر... وبمعنى الوعد... وبمعنى الظن).

..............................

«فيكم»، أي: القرآن في متناول أيديكم، وليس بعيداً بحيث لا يمكن الاسترشاد به، وقد نص على الخلافة في آيات عديدة (1)..

وعلى قصة فدك في سورة الحشر(2)..

وسورة الإسراء(3)..

وسورة الروم(4).و«له»: أي لله سبحانه.

ص: 293


1- كقوله تعالى: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ» سورة المائدة: 55، وغيرها من الآيات العديدة .
2- سورة الحشر: 6-7.
3- قال تعالى: «وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ» - سورة الإسراء: 26 - ففي التفاسير أنها نزلت في إعطائه (صلی الله علیه و آله) فدك لفاطمة (علیها السلام).
4- قال تعالى: «فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ» - سورة الروم: 38 - ففي التفاسير أنها نزلت في إعطائه (صلی الله علیه و آله) فدك لفاطمة (علیها السلام).

وعهد قدمه إليكم،

اشارة

-------------------------------------------

القرآن عهد إلهي

مسألة: يجب الاعتقاد بأن القرآن الحكيم من الله تعالى وأنه عهده، قال تعالى: «تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ»(1).

وقال سبحانه: «تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ»(2).

كما يلزم التأكيد على ذلك؛ فإن جماعة من الكفار - منذ ذلك اليوم وإلى اليوم - يقولون: إن القرآن من صنع رسول الله (صلی الله علیه و آله)، بل «قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَْوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً»(3).

وفي آية أخرى: «إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّمُبِينٌ»(4).

والعهد: هو الأمر المؤكد الذي يلقى في عهدة الإنسان؛ فإن هناك فرقاً بين العهد والوعد، فالعهد هو ما يكون القلب مؤكداً عليه كل تأكيد، أما الوعد فليس كذلك(5).

ص: 294


1- سورة غافر: 2.
2- سورة الزمر: 1، سورة الجاثية: 2، سورة الأحقاف: 2.
3- سورة الفرقان: 5.
4- سورة النحل: 103.
5- وفي لسان العرب: ج3 ص311 مادة عهد: (العهد: الموثق).

..............................

وكذلك هناك فرق بين العقد والعهد(1)، ولذا يقال: (المعاهدات الدولية) دون (المعاقدات الدولية)، ويقال: (عقد البيع) دون (عهد البيع).قال سبحانه: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»(2) ولم يقل: (أوفوا بالعهود)(3) وإن فسّره بعض المفسرين بذلك(4).

قولها (علیها السلام): «وعهد»؛ لأن الله عهد إليهم بالقرآن، قال تعالى: «لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ»(5) أي: فكيف لا تبينونه؟.

عدم تحريف القرآن

مسألة: يجب الاعتقاد بكون القرآن لم يزد فيه ولم ينقص منه شيئاً، ولم ينله يد التحريف إطلاقاً، وربما يستفاد ذلك من قولها (علیها السلام): «عهد قدمه إليكم

ص: 295


1- وفي تفسير مجمع البيان ج3 ص258 سورة المائدة: (والفرق بين العقد والعهد: إن العقد فيه معنى الاستيثاق والشد، ولا يكون إلا بين متعاقدين. والعهد قد ينفرد به الواحد، فكل عهد عقد، ولا يكون كل عقد عهداً). وفي تفسير (تقريب القرآن إلى الأذهان) في تفسير الآية المباركة: (أوفوا بالعقود، الجمع المحلى يفيد العموم، أي كل العقود، وعقود جمع عقد، وهو كل التزام وميثاق بين جانبين، فتشمل عقود الناس بعضهم مع بعض، والمعاهدات الدولية، والمواثيق التي بين الله وبين خلقه).
2- سورة المائدة: 1.
3- راجع للتفصيل كتاب موسوعة الفقه: كتاب البيع المجلد الأول ص 79-82 قسم المعاطاة، تحت عنوان: آية العقود.
4- راجع تفسير القمي: ج1 ص160 سورة المائدة. وتفسير العياشي: ج1 ص289 سورة المائدة ح5، وتفسير التبيان: ج3 ص414 سورة المائدة.
5- سورة آل عمران: 187.

..............................

وبقية... »، وإلاّ لم يكن (عهداً قدمه إلينا)، و(لا بقية استخلفه علينا).وقد صرّح بعدم تحريف القرآن كبار علماء الشيعة(1).

ص: 296


1- راجع كتاب (ولأول مرة في تاريخ العالم): ج2 ص243-249، و(الفقه: حول القرآن الحكيم) للإمام المؤلف (قدس سره)، وسيأتي البحث عن ذلك بعد قليل. ومن المناسب أن نذكر هنا نص ما كتبه الإمام الشيرازي (قدس سره) في كتابه (ولأول مرة في تاريخ العالم) لأهميته وتتميماً للفائدة: الوحي وآخر آية من القرآن في (المناقب) عن ابن عباس، أنه قال: لما نزل قوله تعالى:«إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ» - سورة الزمر: 30 - قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «ليتني أعلم متى يكون ذلك». هذا وهو (صلی الله علیه و آله) يعلم الغيب بإذنه تعالى ووحيه - فنزلت سورة النصر، فكان بعد نزولها يسكت رسول الله (صلی الله علیه و آله) بين التكبير والقراءة ثم يقول: «سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه». فقيل له في ذلك؟. فقال: «أما أن نفسي نعيت إليَّ»، ثم بكى بكاءً شديداً. فقيل: يا رسول الله، أوتبكي من الموت وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فقال (صلی الله علیه و آله): «فأين هول المطلع، وأين ضيقة القبر، وظلمة اللحد، وأين القيامة والأهوال؟! - أراد النبي (صلی الله علیه و آله) الإلماع إلى الأهوال لا أنه (صلی الله علیه و آله) يبتلى بها - ثم قال: فعاش (صلی الله علیه و آله) بعد نزول هذه السورة عاماً). - راجع المناقب: ج1 ص234 فصل في وفاته (صلی الله علیه و آله) -. ثم نزلت آيات وآيات حتى إذا لم يبق على ارتحال رسول الله (صلی الله علیه و آله) من هذه الدنيا سوى سبعة أيام نزلت:«وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ» سورة البقرة: 281 فكانت هذه الآية - على بعض الروايات - هي آخر آية من القرآن الكريم نزل بها جبرائيل (علیه السلام) على رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال له: «ضعها في رأس المائتين والثمانين من سورة البقرة» - تفسير شبر: ص 83 - كما أن أول آية من القرآن كان قد نزل بها جبرائيل (علیه السلام) على رسول الله (صلی الله علیه و آله) هي قوله تعالى: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ» - سورة العلق: 1- الآيات. فأول آية من القرآن ابتدأ بأول يوم من البعثة النبوية الشريفة، وآخر آية من آيات القرآن اختتم .............................. الأيام الأخيرة لرسول الله (صلی الله علیه و آله)، وما بينهما من فترة كان نزول ما بين هاتين الآيتين، وتلك الفترة استغرقت مدة ثلاث وعشرين سنة. من جمع القرآن؟. وهنا ما يلفت النظر ويجلب الانتباه وهو قول جبرائيل للنبي (صلی الله علیه و آله) عند نزوله بالآية الأخيرة - كما في الرواية -: «ضعها في رأس المائتين والثمانين من سورة البقرة »، فإنه صريح في أن الله تعالى أمر نبيه (صلی الله علیه و آله) بجمع القرآن وبترتيبه ترتيباً دقيقاً حتى في مثل ترقيم الآيات، وقد فعل النبي (صلی الله علیه و آله) ذلك في حياته (صلی الله علیه و آله) كما أمره الله تعالى، ولم يكن (صلی الله علیه و آله) يترك القرآن متفرقاً حتى يجمع من بعده. وهل يمكن للرسول (صلی الله علیه و آله) مع كبير اهتمامه وكثير حرصه على القرآن الكريم أن لا يقوم بجمع القرآن وترتيبه! وأن يتركه مبعثراً في أيدي المسلمين ويوكل جمعه إليهم، مع أن الوحي أخبره بقوله: «إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ » - سورة الزمر: 30 -. فهل يصح أن يكون (صلی الله علیه و آله) حريصاً على القرآن من جهة - حتى أنه (صلی الله علیه و آله) كان يأمر بحفظ القرآن والاهتمام به والتحريض على تلاوته والعمل به وخاصة في أيامه الأخيرة، حيث كان يقول مراراً: «إني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً» - وأن لا يجمع القرآن ويتركه مبعثراً من جهة أخرى؟. بل أ ليس القرآن هو دستور الإسلام الخالد، ومعجزته الباقية على مر القرون والأعصار إلى يوم القيامة؟. ومعه هل يصح أن يتركه النبي (صلی الله علیه و آله) مبعثراً من دون أن يجمعه؟! أم كيف يأذن الله تعالى لنبيه (صلی الله علیه و آله) بأن لا يقوم بجمعه مع أنه تعالى يقول: «إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ» - سورة القيامة: 17 - ويقول تعالى أيضاً: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا له لَحَافِظُونَ» - سورة الحجر: 9 - فعلى النبي (صلی الله علیه و آله) إبلاغ القرآن مجموعاً ومرتباً إلى الناس كافة كما جمعه الله تعالى ورتبه. إذن فهذا القرآن الذي هو بأيدينا على ترتيبه وجمعه، وترقيم آياته، وترتيب سوره وأجزائه، هو بعينه القرآن الذي رتبه رسول الله (صلی الله علیه و آله) وجمعه للمسلمين في حياته (صلی الله علیه و آله) بأمر من الله تعالى، لم يطرأ عليه أي تغيير وتحريف، أو تبديل وتعديل، أو زيادة ونقصان. .............................. ويؤيده ما روي عن تفسير علي بن إبراهيم، عن الإمام الصادق (علیه السلام)، عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنه أمر علياً (علیه السلام) بجمع القرآن وقال (صلی الله علیه و آله): «يا علي، القرآن خلف فراشي في المصحف والحرير والقراطيس فخذوه واجمعوه ولا تضيعوه كما ضيعت اليهود التوراة»، فانطلق علي (علیه السلام) فجمعه في ثوب أصفر ثم ختم عليه. - تفسير القمي: ج2 ص451 سورة الناس -. وفي (مجمع البيان) نقلاً عن السيد المرتضى (قدس سره) أنه قال: إن القرآن جمع في عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالشكل الذي هو اليوم بأيدينا. وقال بمقالته قبله الشيخ الصدوق (قدس سره) والشيخ المفيد (قدس سره). وقال بمقالته بعده شيخ الطائفة الشيخ الطوسي (قدس سره)، والمفسر الكبير الشيخ الطبري (قدس سره) المتوفى سنة 548، وباقي علمائنا الأبرار إلى يومنا هذا. وعن زيد بن ثابت، أنه قال: (كنا نجمع القطع المتفرقة من آيات القرآن ونجعلها بأمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) في مكانها المناسب ولكن مع ذلك كانت الآيات متفرقة، فأمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) أن يجمعها في مكان واحد وحذرنا من تضييعها). وعن الشعبي، أنه قال: جمع القرآن في عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله) من قبل ستة نفر من الأنصار. وعن قتادة، أنه قال: سالت أنساً عن أنه من جمع القرآن في عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله)؟. فقال: أربعة نفر من الأنصار ثم ذكر أسماؤهم. وعن علي بن رباح: إن علي بن أبي طالب (علیه السلام) جمع القرآن هو وأبي بن كعب في عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله). الشواهد الأخرى هذا بالإضافة إلى شواهد ومؤيدات أخرى تدل على أن القرآن الذي هو بأيدينا هو نفسه الذي جمع ورتب في عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله) من غير زيادة ولا نقيصة. منها: تسمية سورة الحمد بسورة الفاتحة في عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله)، يعني أنها فاتحة القرآن مع أنها لم تكن السورة ولا الآيات الأولى التي نزل بها الوحي على رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فتسميتها بفاتحة الكتاب في عهده (صلی الله علیه و آله) يشير إلى أن الكتاب كان مجموعاً بهذا الشكل الموجود بأيدينا .............................. اليوم، وسورة الحمد فاتحته كما هو اليوم فاتحته أيضاً. ومنها: إن النبي (صلی الله علیه و آله) كان يقول في حديث الثقلين المروي عن الفريقين متواتراً: «إني مخلف فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً»، فالكتاب المجموع والمرتب يخلفه رسول الله (صلی الله علیه و آله) في أمته لا الآيات المتفرقة، إذ لا يطلق عليها الكتاب وقد سبق الله تعالى رسوله (صلی الله علیه و آله) في هذا التعبير حيث أطلق مراراً وفي آيات متعددة كلمة (الكتاب) على القرآن، إشارة إلى أنه مجموع ومرتب عنده تعالى في اللوح المحفوظ - كما قال به بعض المفسرين - وأنه تعالى أطلع رسوله (صلی الله علیه و آله) على جمعه وترتيبه لديه وأمره بأن يجمع القرآن على ما هو مجموع في اللوح المحفوظ ويرتبه وفق ترتيبه، وفعل النبي (صلی الله علیه و آله) ذلك. ومنها: ما ورد من أمر النبي (صلی الله علیه و آله) بختم القرآن في شهر رمضان وفي غيره من سائر الأيام، وبيان ما لختمه من الفضيلة والثواب حتى أن عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وغيرهما قد ختموا القرآن عند رسول الله (صلی الله علیه و آله) عدة مرات، ولولا أن القرآن مجموع ومرتب لم يكن لختم القرآن معنى؛ لأن الختم يقال لما يبدأ من أوله وينتهي بآخره. ومنها: روايات تأمر بعرض الأحاديث المروية عن الرسول (صلی الله علیه و آله) وعن أهل بيته (علیهم السلام) لمعرفة غثها من سمينها على القرآن الكريم، وتقول: ما وافق كتاب الله فقد قاله رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقاله أهل البيت (علیهم السلام)، وما خالف الكتاب فهو زخرف وباطل وأنهم لم يقولوه، فقد أحالتنا هذه الروايات إلى هذا القرآن الذي هو بأيدينا لمعرفة الحق من الباطل مما يدل على سلامته من كل زيادة ونقيصة وتبديل وتحريف، وإلا لم يصلح أن يكون مرجعاً لمعرفة الحق من الباطل. ومنها: ما ورد من أن القرآن كله كان مكتوباً موضوعاً بين المحراب والمنبر وكان المسلمون يكتبون منه. ومنها: ما ورد من أن جبرائيل (علیه السلام) كان يعرض القرآن على رسول الله (صلی الله علیه و آله) كل عام مرة، وعرضه عليه (صلی الله علیه و آله) في عامه الأخير مرتين. ومنها: ما روي من أن جماعة من الصحابة كانوا قد حفظوا القرآن كله في عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله). ولا يخفى ذلك على من راجع تفسير القرآن للعلامة البلاغي (قدس سره)، ولوالدي (رحمة الله) - آية الله العظمى السيد ميرزا مهدي الشيرازي (قدس سره) - كلمة حول ذلك طبعت في إحدى أعداد (أجوبة المسائل الدينية) في كربلاء المقدسة. هذا بالإضافة إلى أن هناك آيات وروايات تشير إلى أن القرآن نزل على رسول الله (صلی الله علیه و آله) مرتين: مرة نزل بمجموعه على قلب رسول الله (صلی الله علیه و آله) كما قال تعالى: «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ» - سورة القدر: 1 - ومرة نزل عليه نجوماً ومتفرقاً عبر ثلاث وعشرين سنة في المناسبات والقضايا المتفرقة، والنبي (صلی الله علیه و آله)قد وعى قلبه القرآن الذي نزل عليه أولاً مجموعاً ومرتباً، فجمع القرآن الذي نزل عليه ثانياً نجوماً ومتفرقاً حسب جمع القرآن الأول، ورتبه وفق ترتيبه، وهو بعينه القرآن الذي هو اليوم بأيدينا. إلى غير ذلك مما يشير بمجموعه إلى أن هذا القرآن الذي هو اليوم بأيدينا هو القرآن الذي جمع بأمر من الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) في عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله) لم يزدد حرفاً ولم ينقص حرفاً، ولم يتغير شيء منه ولم يتبدل أبداً، كيف وقد قال تعالى: «لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ» - سورة فصلت: 42 -، انتهى.

ص: 297

ص: 298

ص: 299

وبقية استخلفها عليكم

اشارة

-------------------------------------------

القرآن خليفة الله في الأرض

مسألة: يجب أن يكون منهج التعامل مع القرآن الحكيم بحيث يعكس على جوانح الإنسان وجوارحه خلافته لله تعالى في الأرض.

كما يجب حفظ القرآن وتعظيمه واحترامه والاهتمام به(1).

إذ قولها: «استخلفها عليكم»، أي: اتخذها خليفة لنفسه.

وكما يجب تعظيم الله سبحانه وتوقيره، كذلك يجب تعظيم خليفته - وهو القرآن - وتوقيره والالتزام بأوامره ومناهجه.

ص: 300


1- راجع وسائل الشيعة: ج6 ص165 ب1، والوسائل: ج6 ص169 ب2، والوسائل: ج6 ص170 ب3، والوسائل: ج6 ص174 ب4، والوسائل: ج6 ص176 ب5، والوسائل: ج6 ص177 ب6، والوسائل: ج6 ص179 ب7، و...

..............................

ولا يخفى أن اتخاذ الخليفة لا ينحصر بحالة غياب المستخلف بل يكون مع وجوده أيضاً، كما في قوله تعالى: «إِنِّيجَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً»(1) فتأمل.

وقالت (صلوات الله عليها): «وبقية»... وفي القرآن الحكيم: «بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ»(2)؛ لأن القرآن الباقي من آثار الله، فقد وقع التحريف في سائر كتب الله(3). قال تعالى: «يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ»(4).

وقد جعل الله سبحانه القرآن خليفته على الناس(5)، قال تعالى: «مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ»(6) كما جعل أهل البيت (علیهم السلام) خليفة عليهم.

وفي بعض النسخ: «وبقية استخلفنا عليكم»، فيكون المراد بالبقية: أهل البيت (عليهم أفضل الصلاة والسلام).ولعل باب الاستفعال من جهة دلالته على الطلب فالأمر مطلوب، فكأنه قال: (خلافة نشأت عن الطلب الإرادي)، أو (بقية مطلوب إقرار خلافتها)، وقد يأتي باب الاستفعال بمعنى الفعل المجرد(7).

ص: 301


1- سورة البقرة:30.
2- سورة هود: 86.
3- راجع كتاب ماذا في كتب النصارى؟ للإمام المؤلف (قدس سره).
4- سورة النساء: 46، سورة المائدة: 13.
5- قال في مجمع البحرين: ج5 ص51-55 مادة خلف: (الخليفة يقال ل:... المدبر للأمور من قبل غيره، والخليفة: السلطان الأعظم وكذلك من يقوم مقام الذاهب ويسد مسده، واللهم أنت الخليفة في السفر، أي: أنت الذي أرجوه وأعتمد عليه في غيبتي عن أهلي أن تلم شعثهم وتقوم اردهم...)، ويأتي بمعنى الوكيل والنائب كما ذكره بعض المفسرين في آية: «مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ» - سورة الحديد: 7 -.
6- سورة الحديد: 7.
7- راجع كتاب (البلاغة) للإمام المؤلف (قدس سره).

كتاب الله الناطق،

اشارة

-------------------------------------------

وصف القرآن بجميل الصفات

مسألة: يستحب أن يشفع التلفظ ب (القرآن) وكذا كتابته بوصف من أوصافه، كما قالت (علیها السلام): «كتاب الله الناطق والقرآن الصادق... ».

قال تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ»(1).

وقال سبحانه : «طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ»(2).

وقال تعالى: «ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ»(3).

وقال سبحانه: «تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِالْحَكِيمِ»(4).

وقال تعالى: «تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ»(5).

فإن ذكر الأوصاف الحسنة يوجب التحبيب والتوجيه نحو الشيء، كما أن ذكر الأوصاف السيئة بعكس ذلك يوجب التنفير عن الشيء.

ومن الواضح أن ذكر الأوصاف الإيجابية للشخص أو الشيء يوجب الالتفاف حوله أكثر فأكثر، وذكر السلبيات يستلزم انفضاض الناس وابتعادهم عنه.

واعتبار كون القرآن ناطقاً بلحاظ كونه في مقابل الكتاب التكويني لله

ص: 302


1- سورة الحجر: 87.
2- سورة النمل: 1.
3- سورة ق: 1.
4- سورة يونس: 1، سورة لقمان: 2.
5- سورة يوسف: 1، سورة الشعراء: 2، سورة القصص: 2.

..............................

سبحانه وتعالى، وهو ليس بهذه المنزلة؛ فإن القرآن كتاب الله التشريعي والكون كتاب الله التكويني، ولذا قال سبحانه وتعالى: «مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ»(1) على تقدير إرادة الكتابالتكويني - كما ذهب إليه البعض - فإنه احتوى على كل شيء له قابلية الوجود، فإن الله سبحانه وتعالى يمنح الوجود لمن تقضي الحكمة بوجوده أو يكون الأفضل وجوده(2) وإن كان يحتمل إرادة القرآن الكريم(3). فلذا لا منافاة بين أن يكون الكتاب ناطقاً وأن يكون صامتاً من جهتين، فقول أمير المؤمنين علي (علیه السلام): «أنا كتاب الله الناطق» في واقعة صفين حينما أمر معاوية برفع المصاحف على الرماح(4) إنما هو في مقابل القرآنالصامت الذي لا ينطق ولا يتكلم حسب المعنى المعهود المتعارف. هذا ومن المعلوم أن نطق كل شيء بحسبه؛ لأن النطق يفيد معنى البيان(5).

ص: 303


1- سورة الأنعام: 38.
2- ربما يكون مقصود الإمام المؤلف (قدس سره) ب : (لمن تقضي الحكمة بوجوده) ما هو خير محض، وب (أو يكون الأفضل وجوده) ما خيره أكثر، من الأقسام الخمسة المذكورة في علم الكلام.
3- وقد احتمل إرادة اللوح المحفوظ - راجع تفسير الجوهر الثمين: ج2 ص255، وتفسير شبر: ص132، وكنز الدقائق: ج4 ص321 -، واحتمل في بعض التفاسير إرادة الأعم من التكويني والتشريعي. وفي (تقريب القرآن إلى الأذهان) في تفسير الآية المباركة: (أي كتاب الكون، فإن الكون كتاب الله والموجودات كلماته).
4- راجع كشف الغمة: ج1 ص254 فأما حروبه في زمن خلافته (علیه السلام)، وفي إرشاد القلوب: ج2 ص249، قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «يابن أبي سفيان أنت تدعوني إلى العمل بكتاب الله وأنا كتابه الناطق».
5- قد يستفاد هذا من بعض كتب اللغة، فمثلاً قال في لسان العرب: ج10 ص354 مادة نطق: (وكتاب ناطق: بيِّن).

والقرآن الصادق،

اشارة

-------------------------------------------

صدق القرآن

مسألة: يجب الاعتقاد بأن القرآن صدق صادق مصدّق، حدوثاً وبقاءً(1)؛ فإن القرآن صادق في أحكامه وقصصه وفي كل ما ذكره تفصيلاً أو إجمالاً، وليس بالكذب ولا بالهزل حتى في كلمة من كلماته. قال تعالى: «وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ»(2).وقال سبحانه: «وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ»(3).

ويمكن الاستشهاد بهذه الجملة من خطبتها (علیها السلام) أيضاً على عدم تحريف القرآن، خاصة مع لحاظ ما سبق من كونه زعيم الحق فيكم، وكونه عهداً إليكم ومستخلفاً عليكم، ومع لحاظ (أل) العهدية في (القرآن) كما نعتقده.

فإن القرآن الذي بين أيدينا هو القرآن الذي أُنزل على رسول الله (صلی الله علیه و آله) بلا زيادة حرف أو كلمة ولا نقيصة، بل ولا زيادة فتحة أو كسرة أو نقطة أو غيرها، كما أشرنا إلى ذلك في كتاب (الفقه: حول القرآن الحكيم)(4).

ص: 304


1- يظهر مما سيأتي أن المراد من (بقاء) الإشارة إلى عدم تحريفه وإنه لا ينحرف أبداً، قال تعالى: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا له لَحَافِظُونَ» سورة الحجر: 9.
2- سورة فاطر: 31.
3- سورة الأحقاف: 12.
4- راجع موسوعة الفقه: ج98 كتاب (حول القرآن الحكيم)، وكتاب (ولأول مرة في تاريخ العالم): ج2 ص243-249 كما مر.

..............................

(و) هو (القرآن الصادق) وهاتان الجملتان(1) تبيان للجمل الثلاثة السابقة(2).

تحري الصدق

مسألة: يجب تحري الصدق واتخاذه شعاراً ودثاراً في الحياة، وفي مثل هذه الجملة تحريض على الصدق، قال سبحانه: «وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ»(3).

ومن الواضح أن الصدق في مورد الوجوب واجب، كما أنه في مورد الاستحباب مستحب، وأما الكذب فقد قال علي (علیه السلام): «لا يجد عبد طعم الإيمان حتى يترك الكذب هزله وجده»(4).

وفي رواية: «لا يجد عبد حقيقة الإيمان حتى يدع الكذب هزله وجدّه»(5).

حيث إن ذكر خلاف الواقع في الهزل ليس محرماً، كما قال به جمع من الفقهاء(6).

ص: 305


1- أي (كتاب الله الناطق)، و(القرآن الساطع).
2- أي: (زعيم حق...)، و(عهد قدمه...)، و(بقية استخلفها...).
3- سورة الزمر: 33.
4- الكافي: ج2 ص340 باب الكذب ح11.
5- بحار الأنوار: ج69 ص262 ب114 ح41.
6- راجع (موسوعة الفقه): ج2 ص33 كتاب (المكاسب المحرمة)، وفيه: (مستثنيات الكذب مسألة: ثم إنه يستثنى من الكذب موضوعاً أو حكماً أمور: الأول: الهزل، والهزل ليس بكذب حتى في غير الإنشاء - إذا كانت قرينته - أما في الإنشاء فلخروجه موضوعاً مع القرينة، وأما في الأخبار فلخروجه حكماً. نعم قد يكون حراماً من جهة الإيذاء أو الإغراء أو ما أشبه، فالتفصيل بين الإنشاء فلا حرمة، والأخبار ففيه الحرمة غير ظاهر، إذ في الإنشاء إذا لم تكن قرينة مما ظاهره الأخبار، كقوله: هذا بطل، أيضاً يكون كذلك، ولذا لا يرمى المخبر هزلاً بأنه كاذب. نعم، لا إشكال في أن الأفضل تركه، كما في وصية النبي (صلی الله علیه و آله) لأبي ذر، وخبر الخصال عنه (علیه السلام): «أنا زعيم بيت في أعلى الجنة، وبيت في وسط الجنة، وبيت في رياض الجنة، لمن ترك المراء ولو كان محقاً، ولمن ترك الكذب وإن كان هازلاً، ولمن حسن خلقه» - انظر بحار الأنوار: ج69 ص261 ب114 ح32 ط بيروت. وخبر الأصبغ عن علي (علیه السلام): «لا يجد عبد طعم الإيمان حتى يترك الكذب هزله وجده» - وسائل الشيعة: ج12 ص250 ب140 ح16226 - إلى غيرها كأخبار حارث وسيف - وسائل الشيعة: ج12 ص250 ب140 ح16225 - وغيرهما. نعم، لا إشكال في حرمة الكذب هزلاً بالنسبة إلى من هو خلاف شأنه مثل المعصومين (علیهم السلام) حتى إذا كان من قسم الإنشاء فتأمل. ولا فرق فيما ذكرناه من القول أو الفعل أو الإشارة، كما أنه كذلك بالنسبة إلى الكذب الحرام. نعم قد لا يسمى اصطلاحاً هزلاً بل لطيفة أو مزاحاً كما فعله الرسول (صلی الله علیه و آله) مع علي (علیه السلام) في قصة جعل النواة أمامه وقوله (علیه السلام): «الذي أكل مع النواة» وشبيهه قوله (صلی الله علیه و آله): «جري ذيلاً كذيل العروس» بحار الأنوار: ج16 ص295 ب10 ح1، و «أركبك على ولد ناقة» بحار الأنوار: ج16 ص295 ب10 ح1 وفيه: «أنا حاملوك على ولد ناقة» وما أشبه. لكن الظاهر أن ما رووه - بطريق غير صحيح - من أنه (صلی الله علیه و آله) قال: «العجوز والشيخ والأسود لا يدخل الجنة» - بحار الأنوار: ج 16 ص295 ب10 ح1 - محل نظر؛ فإنه على ما رووا إيذاء وإن لم يكن كذباً، والرسول (صلی الله علیه و آله) معصوم عن مثله قطعاً.

ص: 306

والنور الساطع، والضياء اللامع،

اشارة

-------------------------------------------

النور الإلهي

مسألة: القرآن الكريم نور ساطع وضياء لامع بنفسه، إلاّ أن الأعمال والأقوال والمناهج غير السليمة لأتباعه تكون كالحجاب الساتر والغمام المتكاثر الذي يحجب أشعة الشمس، كما أن أقوالهم وأعمالهم لو كانت قويمة مستقيمة فإنها ستسمح لنوره بالسطوع. فكان من الواجب الحفاظ - قولياً وعملياً - على هذا النور الساطع والضياء اللامع، كي يتجلى على البشرية بأبهى الصور وأكمل الأنحاء، وأي ظلم بل جريمة - أكبر وأقسى عن إسدال الستائر على هذا النور الساطع الإلهي والضياء اللامع الرباني؟ وقد ورد: «إن القرآن حق ونور»(1).

كما ورد عنه (علیه السلام): «إنا أهل بيت عندنا معاقل العلم وضياء الأمر»(2).

القرآن نور وضياء

القرآن نور وضياء(3)

مسألة: يجب الاستنارة والاستضاءة بالقرآن الحكيم في ظلمات الحياة ومشاكلها، قال تعالى: «وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ له مَعِيشَةً ضَنْكاً »(4).

ص: 307


1- بحار الأنوار: ج33 ص155 ب16 ح421.
2- مستدرك الوسائل: ج17 ص339 ب14 ح21526.
3- وفي كتاب التوحيد للشيخ الصدوق: ص214 ب29: (وعلى سبيل التوسع قيل: إن القرآن نور؛ لأن الناس يهتدون به في دينهم كما يهتدون بالضياء في مسالكهم، ولهذا المعنى كان النبي (صلی الله علیه و آله) منيراً)، فتأمل.
4- سورة طه: 124.

..............................

وقال علي (علیه السلام): «الله الله في القرآن فلا يسبقنكم بالعمل بهغيركم»(1).

ولعل الجمع بين النور والضياء - مع لحاظ أن الضياء عادة يكون نابعاً من الذات، والنور عادة(2) يكون مكتسباً من الغير(3) - هو أن القرآن يضيء القلوب والأرواح والحياة، وأنه قد اكتسب نوره من الله سبحانه، وفي الأوصاف يكفي وجود نسبة ما، فلا يقال: إن الضياء في النفس، والنور في الغير (لا غير)، كما قال سبحانه: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً»(4) وألمعنا إلى ذلك فيما سبق.

وقد يقال: إن (الضياء) بلحاظ أن النورانية ذاتية له كما هي للشمس(5)، فهو نور بنفسه.

و(النور) بلحاظ اكتسابها ولو بجعلمنشأ الانتزاع(6) من الغير وهو البارئ جل وعلا.

وكلاهما لوحظ فيه كونه منيراً ومضيئاً للقلوب والأرواح والحياة، لمكان الوصف ب (الساطع) و(اللامع)(7)، فالقرآن نور لأنه ينير سبيل العقيدة والشريعة

ص: 308


1- نهج البلاغة، الرسائل: 47 ومن وصية له (علیه السلام) للحسن والحسين (علیهما السلام) لما ضربه ابن ملجم.
2- قيد (عادة) لقوله تعالى: «اللَّهُ نُورُ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ» - سورة النور: 35 - فدقق.
3- راجع مجمع البحرين: ج1 ص272 مادة (ضوا).
4- سورة يونس: 5.
5- وكما أن الزوجية ذاتية للأربعة، والدسومة ذاتية للدهن.
6- كما في ذاتي باب البرهان وذاتي باب إيساغوجي (الكليات الخمس).
7- الساطع: اللامع المرتفع، واللامع: المضيء، لمع أي: أضاء - مجمع البحرين: ج4 ص345 مادة سطع، والمجمع: ج4 ص388 مادة لمع.

..............................

والدنيا والآخرة، وليس متحدداً في بقعة صغيرة بل هو ساطع يشرق على العالم. وأما (اللامع) فإنه يفهم من معنى التحرك أيضاً؛ فإن النور يأتي لمعه لمعة وموجاً موجاً (1).

وها هنا نقطة يجدر الإشارة إليها وهي: إن لكل شيء خلقه الله تعالى نوراً، بمعنى أن له - من داخله - دليلاً يرشدإليه، وقد جعله الله بحيث يكون بنفسه كاشفاً عن نفسه(2) وبتجلياته مرشداً إلى حقيقة ذاته.

والقرآن الكريم «نور ساطع، وضياء لامع»، فكاشفيته لذاته في أجلى درجات الوضوح، ودلالته على حقانيته وعلى استخلاف الله تعالى له و... بأشد وأكمل أنحاء الدلالة. فهو الفرد الأكمل لما ورد في الحديث الشريف: «إن على كل حق حقيقة، وعلى كل صواب نوراً»(3).

هداية الناس وإرشادهم

مسألة: ينبغي أن يكون الإنسان هادياً ومرشداً وسراجاً مضيئاً للمجتمع، فإن وصف القرآن الكريم بالنور والضياء إلماع إلى فضيلة هذين الأمرين وقيمتهما

ص: 309


1- قد تكون استفادة هذا المعنى بالنظر لموارد الاستعمال المختلفة التي يفيد بعضها ذلك - راجع لسان العرب: ج8 ص324 مادة لمع - وقد تكون للقرينة المقامية أو المتفاهم العرفي.
2- فمثلاً الأمواج الصوتية والتموجات الفكرية والإشعاعات والأشعة والإفرازات الكيماوية وغيرها كلها تكشف عن الشيء وتوضح خصوصياته ومواصفاته، بل وأحيانا حتى كنهه، فتأمل.
3- الكافي: ج2 ج54 باب حقيقة الإيمان واليقين ح4.

..............................

الكبيرة، وإلى فضيلة من وما يتحلى بهما(1) خاصة مع ملاحظة وصف النبي (صلی الله علیه و آله) ب : «كان خلقه القرآن»(2). وقال سبحانه: «وَجَعَلْنَا له نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ»(3). وقال تعالى: «وَسِرَاجاً مُنِيراً»(4).

وبالنسبة إلى الكفار ونحوهم يقول الله سبحانه وتعالى حكاية عنهم في المحشر: «يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً»(5).

فإن محل اكتساب النور الرباني هو الدنيا، أما الآخرة فإن الإنسان يحصد فيها ما كان قد زرعه في دنياه من نور وظلمة، كما ورد في الروايات:

«اتقوا الظلم؛ فإنه ظلمات يومالقيامة»(6).

وقال (علیه السلام): «الدنيا مزرعة الآخرة»(7).

فالنور والظلمة المعنويان(8) يصبحان في يوم القيامة نوراً وظلمة ماديين أيضاً، بمعنى أنهما يتجليان - فيما يتجليان - بهذا النحو من التجلي أيضاً.

ص: 310


1- التعدية بلحاظ إلغاء الخصوصية وفهم المناط عقلاً وعرفاً، وربما يقال: بأن كل أخبار من هذا القبيل يتضمن، أو يستلزم إنشاء من ذلك القبيل.
2- شرح نهج البلاغة: ج6 ص340 نبذ وأقوال في حسن الخلق ومدحه.
3- سورة الأنعام: 122.
4- سورة الأحزاب: 46.
5- سورة الحديد: 13.
6- الكافي: ج2 ص332 باب الظلم ح10.
7- غوالي اللآلي: ج1 ص267 ف10 ح66.
8- أي الفضائل والرذائل.

بينة بصائره، منكشفة سرائره، منجلية ظواهره،

اشارة

-------------------------------------------

البصائر البينة

مسألة: ينبغي أن تكون البصائر والحجج بينة وواضحة، وقد جعل الله سبحانه القرآن كذلك، وذلك إتماماً للحجة ومقدمةً للهداية.

ونرى ذلك بوضوح في الكتاب الحكيم، وفي كلمات الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) والأئمة المعصومين (علیهم السلام) وفي خطبة الصديقة فاطمة الزهراء (علیها السلام).

قال تعالى: «أَفِي اللَّهِ شَكّ فَاطِرِ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ»(1).وقال سبحانه: «وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ»(2).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «قولوا لا إله إلاّ الله تفلحوا»(3).

قولها (علیها السلام): «بينة»، أي: واضحة ظاهرة، من البيان والظهور. و(البصائر): جمع (بصيرة) فعيل بمعنى الفاعل أي المبصرات، أي حججه وبراهينه ودلائله.

حجية ظواهر الكتاب

مسألة: ظواهر الكتاب حجة، ويدل على ذلك أدلة كثيرة مذكورة في مظانها (4)، وهذه الجمل وما سبقها وما سيلحقها من كلمات السيدة الزهراء (علیها السلام) من الأدلة على ذلك.

ص: 311


1- سورة إبراهيم: 10.
2- سورة البلد: 10.
3- المناقب: ج1 ص56 فصل فيما لاقى (صلی الله علیه و آله) من الكفار في رسالته، وفيه: (طارق المحاربي: رأيت النبي (صلی الله علیه و آله) في سويقة ذي الحجاز عليه حلة حمراء وهو يقول: «قولوا لا إله إلا الله تفلحوا»، وأبو لهب يتبعه ويرميه بالحجارة، وقد أدمى كعبيه وعرقويه وهو يقول: يا أيها الناس، لاتطيعوه فإنه كذاب)!.
4- راجع (الوصائل إلى الرسائل) بحث حجية ظواهر الكتاب، و(الأصول) للإمام المؤلف (قدس سره).

..............................

فكيف لا يكون حجةً مع أن بصائره بينة وظواهره منجلية؟.

وكيف لا يكون حجةً وهو الضياء الساطع والنور اللامع؟.

وكيف لا يكون حجةً مع أن به تنال حجج الله المنورة؟.

وكيف لا يكون حجةً مع أن به تنال شرائعه المكتوبة؟.

فظواهر القرآن حجةٌ مطلقاً.

وما ليس له ظاهر فليس حجة، مثل: المتشابه وفواتح السور ونحو ذلك، فإن علمه عند أهله (عليهم أفضل الصلاة والسلام).

وهناك التلازم بين الظهور وبين الحجية؛ لأن الظهور هو طريق فهم العقلاء مقاصد المتكلمين كما بيّن في (الأصول) مفصلاً(1).

و(السرائر): جمع (سريرة) من السرّ، فإن الأسرار الخفية من القرآن منكشفة لمن تدبر فيها واستعان بمن نزل القرآن في بيوتهم (عليهم أفضل الصلاة والسلام)، ولذلك كانت دعوته سبحانه للتدبر فيه: قال الله تعالى: «أَ فَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ»(2). وقال سبحانه:«لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ»(3).

فعمقه يظهر لمن تدبر فيه وليس من قبيل الطلاسم والغوامض والأحاجي والألغاز، كما يستعملها الكهان.

(منجلية): ظاهرة (ظواهره) فليس مثل الأشياء المستورة فلا غطاء عليه، وليس مثل كتب الفلسفة المعقدة بل هو كالشمس المشرقة في رابعة النهار.

ص: 312


1- راجع (الوصائل إلى الرسائل) للإمام المؤلف (قدس سره).
2- سورة النساء: 82، سورة محمد: 24.
3- سورة النساء: 83.

مغتبطة به أشياعه،

اشارة

-------------------------------------------

من هم أشياع القرآن؟

مسألة: يصدق (أشياع القرآن) حقيقة على من شايعه مطلقاً، إذ المراد بالأشياع: الأتباع، والأتباع الحقيقيون وبقول مطلق: هم الذين يتبعون منهج قائدهم في كل صغيرة وكبيرة.

فيجب على الناس أن يجعلوا القرآن أمامهم وإمامهم، في الأصول والفروع، في السياسة والاقتصاد، وكافة مناحي الحياة، فإن المصداق الكامل لمشايع القرآن هو من كان كذلك، وإن أطلق أيضاً - من باب التسامح أو من باب الكلي المشكك - على من امتثل أوامره غالباً.

أما في المستحبات فالإتباع مستحب.

وكذلك بالنسبة إلى الرسول (صلی الله علیه و آله) والأئمة الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين).

وفي التاريخ:

إن المرأة التي طلب رسول الله (صلی الله علیه و آله) منها الرجوع إلى زوجها، قالت: يا رسول الله أ تأمرني؟.فقال (صلی الله علیه و آله): «لا، إنما أنا شافع»(1).

ص: 313


1- مستدرك الوسائل: ج15 ص32 ب36 ح17449.

..............................

قولها (علیها السلام): «مغتبطة به أشياعه»، فإن الناس يغبطون(1) أتباع القرآن، وما هم عليه من العلم والفضيلة والعزة وسائر الفضائل ومقومات الحياة السعيدة بسبب عملهم بالقرآن.

وفي الدعاء: «واجعلني من أشياعه وأتباعه»(2).

وفي الحديث عنه (صلی الله علیه و آله): «... اللهم اغفر لعليّ وذريته ومحبيه وأشياعه وأتباعه»(3).

هذا على قراءته بنحو اسم المفعول وهو الأظهر.

ويمكن أن يُقرأ على اسم الفاعل والمعنى حينئذ: فرحة ومسرورة به أشياعه(4).

ص: 314


1- غبطته: إذا تمنيت مثل ما له من غير أن تريد زواله منه.
2- بحار الأنوار: ج91 ص266 ب42 ح1.
3- بحار الأنوار: ج39 ص98 ب76 ضمن ح9.
4- من معاني الغبطة: الفرح والسرور وحسن الحال، راجع لسان العرب: ج7 ص358 مادة غبط .

قائداً إلى الرضوان أتباعه،

اشارة

-------------------------------------------

إتباع تعاليم القرآن

مسألة: يجب إتباع تعاليم القرآن في جميع جوانب الحياة؛ لأنه يقود إلى الجنة والرضوان، إضافة إلى أنه نوع شكر للمنعم، فيلزم - بحكم العقل - إتباعه.

نعم، الوجوب إنما هو في الواجبات، الأعم من أن يكون الفعل واجباً أو تركه.

أما إتباع القرآن في مستحباته فهو من المستحب كما هو واضح.

هذا وفي زيارة الجامعة: «بكم يسلك إلى الرضوان»(1)؛ فإنهم (علیهم السلام) عِدل القرآن(2).

و(الرضوان) هو أعلى مراتب الرضا، والمراد به: رضا الله سبحانه، أو رضاهم (أي: الرضا النفسي)..قال تعالى: «يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (علیهم السلام) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً»(3).

ص: 315


1- من لا يحضره الفقيه: ج2 ص616 زيارة جامعة لجميع الأئمة (علیهم السلام) ح3213.
2- وسائل الشيعة: ج27 ص33-34 ب5 ح33144.
3- سورة الفجر: 27-28.

..............................

حرمة إتباع غير القرآن

مسألة: يحرم إتباع غير القرآن، أو تقديمه على القرآن؛ لأنه القائد الإلهي الوحيد الذي يضمن السعادة في الدارين.

وإثبات الشيء وإن كان لا ينفي ما عداه بما هو هو، إلا أن القرائن المقامية وكذا السياق قد تفيد الحصر والنفي، كما في هذه الجملة من كلامها (علیها السلام). فالقرآن هو النور وما عداه الظلمة، أما الرسول (صلی الله علیه و آله) والعترة (صلوات الله عليهم أجمعين) فهم حملة القرآن ومفسروه، كما ورد في الأحاديث بمضامين شتى(1).

مسؤوليات القائد

مسألة: يجب أن يكون القائد بحيث يقود أتباعه إلى الرضوان وإلى السعادة وفي الحديث عنه (صلی الله علیه و آله) قال: «يا علي، سألت ربي فيك... أن يجعلك قائد أمتي إلى الجنةفأعطاني»(2).

وعن علي (علیه السلام)، قال: «وأنا قائد المؤمنين إلى الجنة»(3).

ص: 316


1- راجع بصائر الدرجات:ج1 ص38 ب19، والبصائر: ج4 ص194 ب7.
2- بحار الأنوار: ج40 ص71 ب91 ح106.
3- التوحيد: ص165 ب22 ح2.

مؤدٍ إلى النجاة استماعه،

اشارة

-------------------------------------------

الاستماع للقرآن الكريم

مسألة: يستحب الاستماع إلى تلاوة القرآن الكريم، قال سبحانه: «وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا له وَأَنْصِتُوا»(1)، وفي دعاء ختم القرآن عن الإمام زين العابدين (علیه السلام): «جعلته نوراً نهتدي به من ظُلَم الضلالة والجهالة بإتباعه، وشفاءً لمن أنصت بفهم التصديق إلى استماعه»(2).

وفي الحديث عن الإمام الصادق (علیه السلام): «يجب الإنصات للقرآن في الصلاة وغيرها، وإذا قُرء عندك القرآن وجب عليك الإنصات والاستماع»(3).

وإنما جاء تعالى بلفظين(4) لإمكان أنيستمع الإنسان وهو يتكلم بلا إنصات(5)، فاللازم الاستماع والإنصات معاً.

ص: 317


1- سورة الأعراف: 204.
2- الصحيفة السجادية الكاملة: الدعاء 42 وكان من دعائه (علیه السلام) عند ختم القرآن.
3- وسائل الشيعة: ج6 ص215 ب26 ح7767.
4- في قوله سبحانه: «وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا له وَأَنْصِتُوا» - سورة الأعراف: 204 - حيث الاستماع والانصات. وفي تفسير (تقريب القرآن إلى الأذهان): الإنصات هو السكوت، ومن المعلوم أن الإنصات أخص من الاستماع، فان الإنسان ربما يستمع إلى الكلام وهو يتكلم ولذا نص عليه، فإن الأدب أن يستمع الإنسان ولا يتكلم، وهذا الأمر للاستحباب ككثير من أوامر القرآن الكريم، كقوله: «فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً» - سورة النور: 33 - كما دلت على ذلك الأحاديث، انتهى.
5- الإنصات هو: الاستماع مع سكوت، أو توطين النفس على السماع مع السكوت، راجع التفاسير في تفسير الآية الشريفة، مثلاً: في تفسير مجمع البيان: ج4 ص418: (الإنصات: السكوت مع استماع، قال ابن الأعرابي: نصت وأنصت وانتصت: استمع الحديث وسكت). وراجع أيضاً مجمع البحرين: ج2 ص226 مادة (نصت) وغير ذلك. وفي لسان العرب: ج2 ص99 مادة (نصت): (الإنصات: هو السكوت والاستماع للحديث... أنصت ينصت إنصاتاً: إذا سكت سكوت المستمع).

..............................

ولذا ورد عنه (صلی الله علیه و آله): «العلم الإنصات، ثم الاستماع له، ثم الحفظ له، ثم العمل به، ثم نشره»(1).

أما وجوب الاستماع: فهو عند قراءةالإمام في الصلاة الجهرية حسب المسألة الفقهية المشهورة والتي ورد عليها الدليل، فتأمل.

و(استماعه): مصدر (استمع)، فإن أريد به المعنى المعهود من الاستماع، فقولها (علیها السلام): «مؤد إلى النجاة استماعه» بنحو المقتضي، إذ استماع الحق يسوق الإنسان نحو الالتزام به كثيراً مّا.

ولكن قد يراد به المعنى الكنائي وهو العمل، بأن يكون الاستماع كناية عن العمل، فمن عمل بالقرآن ينجو في الدنيا من المشاكل، وفي الآخرة من العذاب والعقاب، ويؤيد هذا المعنى موارد الاستعمال المتكثرة والآيات الشريفة(2).

ص: 318


1- راجع الكافي: ج1 ص48 باب النوادر ح4.
2- فمثلاً: فسرت «سَمَّاعُونَ لهمْ» - سورة التوبة: 47 - أي: مطيعون، و«غَيْرَ مُسْمَعٍ» - سورة النساء: 46 - أي: غير مجاب إلى ما تدعو إليه، و«فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى» - سورة الروم: 52 - أي : لا تقدر أن توفق الكفار لقبول الحق، و(أعوذ بك من دعاء لا يُسمع) أي : لا يستجاب ولا يعتد... وهكذا، راجع (مجمع البيان) و(تقريب القرآن إلى الأذهان) وغيرهما من التفاسير. وفي الكلام العربي: (استمع إلى فلان) أي: أطعه. وفي (لسان العرب): ج8 ص162 مادة سمع: (قوله تعالى: «إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا» أي ما تسمع إلا من يؤمن بها، وأراد بالإسماع ها هنا: القبول والعمل بما يسمع؛ لأنه إذا لم يقبل ولم يعمل فهو بمنزلة من لم يسمع..ومنه قولهم: (سمع الله لمن حمده) أي أجاب حمده وتقبله، يقال: (اسمع دعائي): أي أجب؛ لأن غرض السائل الإجابة والقبول.

..............................

التزاحم بين الاستماع والقراءة

مسألة: إذا تزاحم الاستماع للقرآن مع تلاوة الإنسان نفسه، فقد يكون المقدّم هو الأول في الجملة، بأن يترك القراءة ويستمع لما فيه من الاحترام الأكثر والتأثّر الأكثر أيضاً، فتأمل.

وقد سبق أن ذلك المنافق (ابن الكوا) لما قرأ القرآن وأمير المؤمنين علي (علیه السلام) في الصلاة، توقف الإمام (علیه السلام) عن القراءة حتى إذا انتهى عاد (علیه السلام) إلى القراءة، فلما قرأ ذلك المنافق القرآن مرة أخرى سكت الإمام (علیه السلام) ثم عاد إلى القراءة(1).

توجيه الآخرين نحو الاستماع

مسألة: يستحب تنبيه الآخرين على مطلوبية الاستماع إلى القرآن، خاصة إذا تلي في المجالس العامة كالفواتح وغيرها، هذا من الأمر المستحب، وقد قرر في

ص: 319


1- راجع مستدرك الوسائل: ج4 ص275 ب21 ح4687، وفيه: «كان علي بن أبي طالب (علیه السلام) يصلي وابن الكواء خلفه وأمير المؤمنين (علیه السلام) يقرأ. فقال ابن الكواء: «وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ» - سورة الزمر: 5 - فسكت أمير المؤمنين (علیه السلام) حتى سكت ابن الكواء، ثم عاد (علیه السلام) في قراءته حتى فعل ذلك ابن الكواء ثلاث مرات، فلما كان في الثالثة قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلاَيَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ» سورة الروم: 60.

..............................

باب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر: أن المعروف إذا كان مستحباً والمنكر إذا كان مكروهاً استحب الأمر بالأول والنهي عن الثاني(1)، وقد قالت (علیها السلام): «مؤدٍ إلى النجاة استماعه».

هذا والاستماع بما هو هو ينقسم إلى الأحكام الخمسة:

فالواجب: كالاستماع إلى الحقّ في موارد وجوبه.

والمستحب: كالاستماع إلى القرآن الكريم، وكقوله (علیه السلام): «من ترك الاستماع من ذوي العقول ماتعقله»(2) فتأمل، وقال (علیه السلام): «عوّد أذنك حسن الاستماع»(3).

والمكروه: كالاستماع إلى اللغو غير المحرم منه، قال تعالى: «وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ»(4).

وقال سبحانه: «وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ»(5).

وقال علي (علیه السلام): «ولا تصغ إلى ما لا يزيد في صلاحك استماعه؛ فإن ذلك يصدي القلوب ويوجب المذام»(6).

والحرام: كالاستماع للغناء والغيبة.

فقد «نهى (صلی الله علیه و آله) عن الغيبة والاستماع إليها، ونهى عن النميمة والاستماع

ص: 320


1- راجع موسوعة الفقه: ج48 ص173كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، المسألة2.
2- مستدرك الوسائل: ج11 ص207 ب8 ضمن ح12751.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: ص215 ق3 ب1 ف1 متفرقات ح4211.
4- سورة المؤمنون: 3.
5- سورة القصص: 55.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: ص215 ق3 ب1 ف1 متفرقات ح4211.

..............................

إليها»(1).

والمباح: غير ذلك.

وهل هناك فرق بين السماع والاستماع حكماً؟

ذكرنا تفصيله في الفقه(2).

كراهة الانشغال عن الاستماع

مسألة: يكره التكلم وكذا الانشغال بسائر الأعمال عن الاستماع للقرآن عند قراءته، اللهم إلاّ لضرورة أو أمر أهم(3).

والكراهة إنما تستفاد بمعونة الخارج، وإلاّ فلا تلازم بين كراهة الفعل واستحباب الترك أو العكس، كما ذكروا في مبحث المستحبات والمكروهات، وإن قيل بين الواجب والحرام نحو هذا التلازم(4)، فإذا وجب شيء حرم تركه، وإذا حرم شيء وجب تركه، وهذا ليس بمعنى حكمين في موضوع واحد، و إنماالحكم واحد فعلاً، وجوباً أو تحريماً، والآخر منتزع منه أو ظلّ له.

ص: 321


1- من لا يحضره الفقيه: ج4 ص7 باب ذكر جمل من مناهي النبي (صلی الله علیه و آله) ح4968.
2- راجع موسوعة الفقه، كتاب المكاسب المحرمة: ج1 ص254.
3- إن صح التعبير.
4- العقلي، فدقق.

..............................

التدبر في القرآن الحكيم

التدبر في القرآن الحكيم(1)

مسألة: يستحب التدبر في الآيات القرآنية حين وإثر استماعها بل مطلقاً، قال تعالى: «أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفالُهَا»(2).

وقال علي (علیه السلام): «تدبروا آيات القرآن واعتبروا به فإنه أبلغ العبر»(3).

ولعلّ هذا من علل الحثّ على الاستماع - في الروايات - إذ بالتدبر في الكتاب ينال الإنسان العديد من حجج الله تعالى مما لا يكتشف في بادي النظر، وبالتدبر تنال مجموعة كبيرة من (عزائمه) وما لحقها مما ذكر في كلامها(علیها السلام) إلى قولها: «شرائعه المكتوبة».

ويتضح ذلك أكثر بملاحظة قضاء أمير المؤمنين (علیه السلام)، بل بملاحظة الموارد الكثيرة التي استند فيها المعصومون (علیهم السلام) إلى القرآن الكريم(4).

ص: 322


1- حول هذا المبحث وكثير من المباحث السابقة واللاحقة يراجع (الفقه: حول القرآن الحكيم)، وكتب التفاسير للإمام المؤلف (قدس سره)، وكتاب (خواطري عن القرآن) لآية الله المعظم الشهيد السيد حسن الشيرازي (قدس سره)، وكتاب (كيف نفهم القرآن؟) و(التدبر في القرآن) لآية الله السيد محمد رضا الشيرازي K، وغير ذلك.
2- سورة محمد: 24.
3- غرر الحكم ودرر الحكم: ص111 ق1 ب4 ف4 التدبير في القرآن ح1985.
4- مثلاً في قصة قطع يد السارق حيث استند الإمام الجواد (علیه السلام) إلى قوله تعالى: «وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً» - سورة الجن:18- راجع وسائل الشيعة: ج28 ص252-253 ب4 ح34690. وكذلك تحديد الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) أدنى مدة الحمل عبر الرجوع إلى آيتين من آيات القرآن: الآية الأولى هي: «وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاًدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ» سورة البقرة: 233. والآية الثانية: «وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً» - سورة الأحقاف: 15 - حيث إن عمر أمر برجم امرأة ولدت لستة أشهر! فنبهه علي (علیه السلام)... راجع وسائل الشيعة: ج21 ص382 ب17 ح27360. وكذلك إجابة الإمام الصادق (علیه السلام) لمن سأله وقال: عثرت فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة فكيف أصنع بالوضوء؟. قال (علیه السلام): «يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله قال عزوجل: «مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» - سورة الحج: 78 - امسح عليه» . راجع تهذيب الأحكام: ج1 ص363 ب16 ح27.

..............................

وهناك الكثير ممن الأحكام الفقهية التي استند الفقهاء في استكشافها إلى التدبر في القرآن الكريم، كما يظهر ذلك من مراجعة كتب (الفقه) و(آيات الأحكام)(1)، كما أن هناك الكثير من البحوث الكلامية والأصولية بل والاجتماعية والاقتصادية(2) وغيرها التي استنبطت من (كتاب الله) عبر التدبر والتأمل والتفكر.هذا وقد ورد في روايات كثيرة الحض على ذلك، فمنها:

قوله (علیه السلام): «آيات القرآن خزائن فكلما فتحت خزانة ينبغي لك أن تنظر ما

ص: 323


1- مثلاً قوله تعالى: «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ» - سورة البقرة: 275 -، وقوله سبحانه: «إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ» - سورة النساء: 29 - وغيرهما حيث تدبروا في (البيع) وغيره. راجع للتفاصيل (المكاسب، البيع) للشيخ الأنصاري (قدس سره)، و(الفقه: البيع) للإمام المؤلف (قدس سره).
2- مثلاً قوله تعالى: «لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا» - سورة الأنبياء: 22 -، و«إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا» - سورة المائدة: 55 -، و«لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ» - سورة الأحزاب: 33 - و«فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ» - سورة البقرة: 279 -، و«تِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ» - سورة آل عمران: 140 -، و«وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ» - سورة المائدة: 71 - و«لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ» - سورة البقرة: 256 -.

..............................

فيها»(1).

بل ربما أمكن القول باستفادة رجحان التدبر واستحبابه من هذه الجملة من خطبتها (علیها السلام): «مؤد إلى النجاة استماعه»؛ فإن الأمر بالاستماع يفيد ذلك عرفاً، مع لحاظ الفرق بين السماع والاستماع ولحاظ المقدمية.

بل قد يقال: بكون التدبر أكمل أفراد الاستماع، فتأمل.

هذا بالإضافة إلى ما ورد من قوله سبحانه: «أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفالُهَا»(2)، فتكون هذه الآية وشبهها مؤيدة لهذه الاستفادة العرفية.

القراءة بصوت حسن مؤثر

مسألة: يستحب قراءة القرآن بأحسنالأصوات وأشدها تأثيراً؛ فإنها أدعى للاتعاظ والاعتبار والخشوع.

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «حسّنوا القرآن بأصواتكم؛ فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسناً»(3).

وقال(صلی الله علیه و آله): «إن لكل شيء حلية، وحلية القرآن الصوت الحسن»(4).

وقال (صلی الله علیه و آله): «إن حسن الصوت زينة القرآن»(5).

ص: 324


1- مستدرك الوسائل: ج4 ص238 ب3 ح4592.
2- سورة محمد: 24.
3- وسائل الشيعة: ج6 ص212 ب24 ح7759.
4- الكافي: ج2 ص615 باب ترتيل القرآن بالصوت الحسن ح9.
5- مستدرك الوسائل: ج4 ص273 ب20 ح4679.

..............................

وهذا كالبحث الآنف أيضاً مما يستفاد من كلماتها (علیها السلام) عرفاً أو مقدمية، مؤيداً بما ورد من «قراءة القرآن بألحان العرب»(1)، وما أشبه ذلك(2) من قراءتهم (عليهم الصلاة والسلام) القرآن بأصوات حسنة، فقد ورد:«إن علي بن الحسين (علیه السلام) كان أحسن الناس صوتاً، وكان يرفع صوته حتى يسمعه أهل الدار»(3).

و: «إن علي بن الحسين (علیه السلام) كان يقرأ فربما مر به المار فصعق من حسن صوته»(4).

و: «إن أبا جعفر (علیه السلام) كان أحسن الناس صوتاً بالقرآن، وكان إذا قام في الليل وقرأ رفع صوته، فيمر به مار الطريق من الساقين وغيرهم فيقومون فيستمعون إلى قراءته»(5).

و: «كان (علیه السلام) أحسن الناس صوتاً بالقرآن، فكان إذا قرأ يحزن وبكى السامعون لتلاوته»(6).

ومنه يعرف أرجحية كل شيء من زمان أو مكان أو خصوصيات، أوجب الاستماع الأكثر أو مهّد الأرضية لذلك.

ص: 325


1- راجع الكافي: ج2 ص614 باب ترتيل القرآن بالصوت الحسن ح3.
2- ك «اقرأ كما يقرأ الناس» - وسائل الشيعة: ج6 ص163 ب74 ح7630 -.
3- بحار الأنوار: ج46 ب70 ب5 ح45.
4- الكافي: ج2 ص615 باب ترتيل القرآن بالصوت الحسن ح4.
5- مستطرفات السرائر: ص604.
6- المناقب: ج4 ص318 فصل في معالي أموره (علیه السلام).

به تنال حجج الله المنورّة،

اشارة

-------------------------------------------

استخراج الحجج من القرآن

مسألة: ينبغي استخراج الحجج من القرآن الحكيم، وجعله محوراً للردّ والاستدلال والحديث والحوار.

قال علي (علیه السلام): «إن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغشّ، والهادي الذي لا يُضلّ، والمحدث الذي لا يكذب»(1).

وقد ذكر العلماء: إنه يمكن استكشاف العديد من العلوم عبر القرآن الكريم، منها: علم المحاجة؛ لأن القرآن بيّن حججاً قوية و كثيرة، يمكن أن نتعلم منها مناهج الاحتجاج، وهي ترشد إلى مصاديق فريدة له أيضاً، سواء حججه في العقيدة أو في الشريعة، فإن كل أصل أو فرع ذكر في القرآن الكريم علّل بحجة وعقب بدليل - عادةً - مثل قوله تعالى: «لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌإِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا»(2).

وقوله سبحانه: «فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ»(3).

ص: 326


1- نهج البلاغة، الخطب: 176 ومن خطبة له (علیه السلام) وفيها يعظ ويبين فضل القرآن وينهى عن البدعة.
2- سورة الأنبياء: 22.
3- سورة البقرة: 258.

..............................

وقال تعالى في الصلاة: «أَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي»(1).

وفي الحج: «لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ»(2).

وفي الصوم: «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»(3).

وفي الزكاة: «تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ»(4)، إلى غيرها.

فغالب ما في القرآن معلّل ومستدل عليه بدليل عقلي فطري، تصريحاً أو تلميحاً أو تلويحاً (5) ولو في موضعآخر.

ص: 327


1- سورة طه: 14.
2- سورة الحج: 33.
3- سورة البقرة: 183.
4- سورة التوبة: 103.
5- فمثلاً: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» - سورة الفاتحة: 2-3 - فإن «رَبِّ الْعَالَمِينَ... » إلى آخره، يتضمن التعليل ل «الْحَمْدُ لِلَّهِ» فلماذا نحمد الله؟. لأنه « رَبِّ الْعَالَمِينَ»، ولأنه «الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ»، ولأنه «مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» أي: لأنه المبدأ لنا والمتفضل علينا، وبيده مصيرنا ومآلنا... وهكذا - . للتفصيل الأكثر راجع (الفقه: حول القرآن الحكيم) للإمام المؤلف (قدس سره)، و(كيف نفهم القرآن؟) لنجله الفاضل.

وعزائمه المفسّرة،

اشارة

-------------------------------------------

عزائم القرآن و فرائضه

مسألة: يجب اتخاذ القرآن المصدر الأول لنيل عزائم الله وفرائضه.

كما يجب اتخاذ السنة النبوية (صلی الله علیه و آله) وكلمات المعصومين (علیهم السلام) مصدراً للتفسير والإيضاح.

قال علي (علیه السلام): «تمسك بحبل القرآن وانتصحه، وحلّل حلاله وحرّم حرامه، واعمل بعزائمه وأحكامه»(1).

و(العزيمة) تتضمن معنى اللزوم، وتطلق على ما يلزم فعله أو يلزم تركه(2)، ولذا يقال: هو عزيمة أو رخصة؟، وتفسيرها بالأخص تفسير بالمصداق(3)، نعم إذا ذكرت في مقابلالمحارم أريد بها الواجبات فقط.

قولها (علیها السلام): «عزائمه» جمع عزيمة أي فرائضه.

و«المفسرة»: أي التي فسرها الرسول(صلی الله علیه و آله) وأوضح أنها عزائم وليست رخصاً؛ لأن القرآن يحتوي على الواجب والمستحب والحرام والمكروه والمباح، فالعزائم تحتاج إلى التفسير، وقد فسرها النبي(صلی الله علیه و آله) وآله الأطهار (علیهم السلام) بكلماتهم الوضاءة.

ص: 328


1- نهج البلاغة، الرسائل: 69 ومن كتاب له (علیه السلام) إلى الحارث الهمذاني.
2- العزيمة: الأمر المقطوع عليه بلا شبهة أو نسخ، والمراد بالأمر الأعم من الفعل والترك وغيرهما كما لا يخفى. مجمع البحرين: ج6 ص114 مادة عزم.
3- مثلاً تفسيرها ب: إرادة الفعل والقطع عليه.

..............................

وقد يكون المراد من «عزائمه المفسرة» المفسرة كنهاً، أي التي فسرها الرسول (صلی الله علیه و آله) وأوضح ماهيتها وحقيقتها؛ لأن القرآن الكريم يشير عادة إلى عناوين الواجبات لا إلى تفاصيلها، فمثلاً قوله تعالى: «أَقِمِ الصَّلاَةَ»(1)، فالصلاة عزيمة قرآنية أوضح الرسول (صلی الله علیه و آله) بأن المراد منها تكبير وركوع وسجود وتشهد و... بالنحو الخاص، حيث قال(صلی الله علیه و آله): «صلّوا كمارأيتموني أصلّي»(2).

وفي هذه الجملة إشارة لطيفة إلى ضرورة شفع الكتاب الكريم بالسنة، إذ «به تنال... عزائمه»، ولكن أية عزيمة؟.

وما هي؟.

هي: (المفسرة) بأقوال النبي (صلی الله علیه و آله) والأئمة الهداة (علیهم السلام).

ص: 329


1- سورة العنكبوت: 45.
2- بحار الأنوار: ج82 ص279 ب34.

ومحارمه المحذّرة،

اشارة

-------------------------------------------

ترك المحرمات

مسألة: يجب التقيد بترك ما ذكر في القرآن الكريم من المحرمات، كما يجب تحذير المجتمع من ارتكابها بمختلف أنواعها: القمار، شرب الخمر، الزنا، النزاع بالباطل، الغيبة، وغير ذلك.

قال تعالى: «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ»(1).

وقال سبحانه: «وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً»(2).

وقال تعالى: «لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا»(3).

وقال سبحانه: «لاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ»(4).

وقال (علیه السلام): «الإيمان لايكمل إلاّ بالكفّ عن المحارم»(5).

وقال (علیه السلام): «يا عباد الله، اتقوا المحرمات كلها»(6).

ص: 330


1- سورة المائدة: 90.
2- سورة الحجرات: 12.
3- سورة طه: 131.
4- سورة الأنفال: 46.
5- علل الشرائع: ج1 ص249 ب182 ح5.
6- بحار الأنوار: ج26 ص234 ب3 ح1.

..............................

وقال (علیه السلام): «من أشفق من النار اجتنب المحرمات»(1).

ولا يخفى أن هناك فرقاً بين جملة «أشياعه» وبين جملتي «به تنال عزائمه... ومحارمه»؛ لأن الأشياع هم الأتباع في الأعم من العزائم والمحارم وغيرهما، إذ القرآن مشتمل على القصص والتاريخ والعقائد وقضايا أخرى، فليس خاصاً بالعزائم والمحارم، وكون الأشياع مفيداً للعموم لا ينافي ذكر الخصوص؛ لأهمية الخصوص، وعلى الاصطلاح هذا من ذكر الخاص بعد العام.

التخصص في آيات الأحكام

مسألة: يستحب أن تتخصص ثلة في تفسير عزائمه وأحكامه وفي استكشاف المصاديق.كما يجب على الجميع بنحو الوجوب الكفائي تفسير عزائمه وأحكامه.

والاستحباب والوجوب يختلفان حسب اختلاف ما يفسر ويذكر، واستحباب التخصص ووجوبه تابع لكونه مقدمة لنيل العزائم والأحكام الأخرى.

قال تعالى: «فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ»(2).

ص: 331


1- روضة الواعظين: ج1 ص43 باب في فضل التوحيد.
2- سورة التوبة: 122.

..............................

الرجوع إلى المفسرين

مسألة: حيث إن غالب الناس ليس بمقدورهم عادة الوصول إلى عزائم الكتاب وفرائضه وما أشبه، لذلك كان من الواجب أن يبحثوا عمن يفسّر لهم عزائم الكتاب وأن يرجعوا إليه. ف (نيلها) أعم من كونه بالمباشرة أو بالواسطة.

والمفسرون الحقيقيون هم أهل البيت (عليهم أفضل الصلاة والسلام)، فقد ورد بأنهم (علیهم السلام) أعطوا تفسير القرآنالكريم وتأويله(1).

قال تعالى: «وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ»(2).

وقال (علیه السلام): «نحن نعلمه»(3)، وإلا فالتفسير بالرأي من أشد المحرمات، قال(صلی الله علیه و آله): «من فسّر القرآن برأيه فقد افترى على الله الكذب»(4).

وقال (علیه السلام): «ليس شيء بأبعد من قلوب الرجال من تفسير القرآن»(5).

وعنه (علیه السلام): «من فسّر برأيه آية من كتاب الله فقد كفر»(6).

وقال (صلی الله علیه و آله): «من فسّر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار»(7).

ص: 332


1- راجع بصائر الدرجات: ج4 ص194 ب7.
2- سورة آل عمران: 7.
3- وسائل الشيعة: ج27 ص196-197 ب13 ح33580.
4- العدد القوية: ص89 نبذة من أحوال الإمام الحجة (علیه السلام).
5- بحار الأنوار: ج89 ص100 ب8 ح72.
6- وسائل الشيعة: ج27 ص60 ب6 ح33195.
7- غوالي اللآلي ج4 ص104 الجملة الثانية ح154.

..............................

التحذير من المحرمات

مسألة: يستفاد كثيراً ما - حسب القرائن المقامية ومناسبة الحكم والموضوع - من الوصف بشيء مطلوبيته، والمقام من صغريات ذلك، فيستحب التحذير بعد بيان المحرمات لا مجرد ذكرها فقط، بل يجب ذلك في مورد يوجب التحذير الاجتناب، ولذا قال سبحانه: «لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ»(1).

وقال تعالى: «فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ»(2).

والمراد: الأعم من المحرم فعله أو المحرم تركه؛ فإن الله سبحانه أمر عباده تخييراً، ونهاهم تحذيراً، وكلف يسيراً، ولم يكلف عسيراً، كما ورد في الحديث(3).

قولها (علیها السلام): «المحذّرة»، أي: التي تحذر الإنسان عن ارتكابها مما يوجب شر الدنيا والآخرة.

ص: 333


1- سورة التوبة: 122.
2- سورة النور: 63.
3- نهج البلاغة، قصار الحكم: 78.

وبيّناته الجالية , وبراهينه الكافية

اشارة

-------------------------------------------

وبيّناته الجالية(1), وبراهينه الكافية(2)،

الاعتماد على الأدلة الجلية

مسألة: في التحاور ينبغي الاستعانة ب (البينات الجلية) و(البراهين الكافية) - كما في القرآن الحكيم - فإن غير الجلي وغير الوافي من الأدلة قد يشعر الطرف بالعجز أو النقص، وقد يزيده تشكيكاً، ولا يكفي كونه برهاناً في مرحلة الثبوت، بل يجب أن يكون كافياً في مرحلة الإثبات أيضاً.

وكل ذلك في المورد المستحب مستحب، وقد يكون واجباً كما ذكرنا مثل ذلك في كثير من الجمل السابقة.

قال تعالى: «وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَابَيِّنَاتٍ»(3).

وقال سبحانه: «فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ»(4).

وقال عزوجل: «وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ»(5).

ص: 334


1- وفي بعض النسخ: «وبيناته الجالية» راجع الاحتجاج: ص99 احتجاج فاطمة الزهراء (علیها السلام) على القوم لما منعوها فدك. وفي بعضها:«وتبيانه الجالية» راجع بلاغات النساء:ص28 كلام فاطمة بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله).
2- وفي بعض النسخ: «وجمله الكافية» راجع بلاغات النساء: ص28 كلام فاطمة بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله).
3- سورة يونس: 15، سورة مريم: 73، سورة الحج: 72، سورة سبأ: 43، سورة الجاثية: 25، سورة الأحقاف: 7.
4- سورة آل عمران: 97.
5- سورة الإسراء: 101.

..............................

كما ورد بالنسبة إليه (صلی الله علیه و آله): «والذي بعثه بالآيات المحكمة، والبراهين الواضحة»(1).

و(البينات) أي: الأدلة، ولعل الفرق بين (البرهان) و(البينة) أن البرهان هو الدليل، والدليل قد يكون بيناً وقد لا يكون بيناً، فهو في نفسه برهان وفي صفته بيّن، وإن عرفه البعض بأنه: الحجة الفاصلة البينة(2).

و(الجلية) أي: التي تجلو الحق،وهي الواضحة، وهي قيد توضيحي لا احترازي، وكذلك (الكافية).

و(براهينه): أدلته (الكافية) فليس فيها نقص أو عجز عن إثبات المراد، والبرهان هو الحجة على الشيء فقد يكون واضحاً فيسمى (بينة)، وقد يكون غامضاً، فتأمل.

ص: 335


1- من لا يحضره الفقيه: ج2 ص250 من أراد الكعبة بسوء ح2325.
2- لسان العرب: ج13 ص51 مادة برهن، وأما القاموس المحيط: ج4 ص201 فقد ذكر البرهان - بالضم -: الحجة.

وفضائله المندوبة،

اشارة

-------------------------------------------

الدعوة إلى الفضائل

مسألة: يستحب - وربما وجب - الندب إلى فضائل الكتاب(1).

والمراد بها: الأعم من الواجبات والمستحبات (المندوبة) إليها والمدعوة إليها؛ فإن القرآن يدعو الناس إلى الإتيان بالفضائل.

ولعل المراد ب (الفضائل): المستحبات فقط، بقرينة ذكر الواجبات قبل ذلك في قولها: «عزائمه» وبقرينة ما يأتي من الرخص.

ولعل عدم ذكر المكروه؛ لأن تركه فضيلة أيضاً(2)، وإن قال الفقهاء: لا تلازم بين كون الفعل مكروهاً والترك مستحباً، وكذا بين استحباب الفعل وكراهة الترك.

فقد ذكرت (علیها السلام) الواجبات:«عزائمه»، والمحرمات: «محارمه»، والمستحبات وترك المكروهات: «فضائله»، والمباحات: «رخصه»، وربما أدرجت المكروهات في حيث رخص الله في فعلها على ما فيها من الكراهة.

ص: 336


1- فإن الإطلاقات الدالة على ذلك كثيرة، وفي قولها (علیها السلام): «المندوبة» دلالة على ذلك بلحاظ أدلة التأسي وغيرها.
2- وربما يكون الوجه: التفريق بين الفضيلة والاستحباب، فتأمل.

ورخصه الموهوبة،

اشارة

-------------------------------------------

التعرف على المباحات

مسألة: ينبغي أن يتعلم الإنسان ما رخص فيه الله، و يدل على ذلك - مطلقاً أو في الجملة - أو يؤيده: ذكرها في الكتاب و السنة، لوضوح إن الذكر لأجل المعرفة والعمل، قال تعالى: «إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى»(1).

وقولها (علیها السلام): «به تنال... رخصه الموهوبة» مما يفيد رجحان نيلها، ولربما توقف تجنب الحرام على ذلك، وربما منع ذلك من إدخال ما ليس من الدين فيه، ولما في ذلك من التسبيب لشكر المنعم جل وعلا، وقد أشارت (علیها السلام) إليه ب «الموهوبة».

و«رخصه الموهوبة» أي: التي وهبها الله سبحانه، فلم يلزم بها لا وجوباً ولا تحريماً.

ومن الممكن أن يراد بالرخص: الأعم من المباحات والمكروهات؛ لأن المكروه أيضاً رخصة، كما أشرنا إلى ذلك.قال علي (علیه السلام): «يا كميل، لا رخصة في فرض ولا شدة في نافلة»(2).

ص: 337


1- سورة طه: 3.
2- مستدرك الوسائل: ج1 ص145 ب24 ح219، والمستدرك: ج11 ص281 ب24 ح13019.

..............................

شمولية القانون

مسألة: يلزم أن يكون القانون شاملاً، متضمناً للمندوبات والمكروهات والمباحات أيضاً، لا أن يقتصر على الواجبات والمحرمات فحسب، وقد أشارت (علیها السلام) في الجمل السابقة إلى شمولية القرآن الكريم من هذا الحيث أيضاً.

فإن القانون الكامل هو الذي يشتمل على هذه الأحكام الخمسة، لوضوح أن الفعل يأمر به مع المنع من النقيض أو بدون منع منه مع الرجحان، وكذلك الترك في القسمين، وهناك مباح لا يرجح فعله ولا تركه.

وبعبارة أخرى:

المصلحة أو المفسدة قد تكون في الفعل، وقد تكون في الترك، وكل منهما قد تكون المصلحة فيه بحد الإلزام أو الرجحان فقط، فهذه أربعة أقسام، والخامس ما لا مصلحة أو مفسدة فيه.

وهنا بحوث أصولية وحكمية تراجع في مظانها.

وبذلك يظهر النقص في الدساتير التي لا تتطرق إلاّ للواجبات والمحرماتفقط(1).

ص: 338


1- راجع (الفقه: القانون) للإمام المؤلف (قدس سره).

وشرائعه المكتوبة ،

اشارة

-------------------------------------------

القرآن والأحكام الشرعية

مسألة: يجب استنباط الأحكام الشرعية من القرآن.

ولا يخفى أن الاستنباط قد يكون بالدلالة المطابقية، أو التضمنية، أو الإلتزامية، أو دلالة الاقتضاء، مثل الجمع بين آيتي: «وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاًدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ»(1)، وقوله تعالى: «وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً»(2)، حيث يعرف بجمعها: أن أقل الحمل ستة أشهر(3).

وقد يكون دلالة عرفية، خارجة من الدلالات المذكورة، كما ألمعنا إلى بعض ذلك في المباحث السابقة.

وجوب التقيد بشرائع الله

مسألة: يجب الالتزام بشرائع الله تعالى، أما العدول عنها إلى الشرائع الوضعية فمن المحرمات المؤكدة.

قال تعالى: «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ»(4).

ص: 339


1- سورة البقرة: 233.
2- سورة الأحقاف: 15.
3- راجع وسائل الشيعة: ج21 ص382 ب17 ح27360.
4- سورة المائدة: 44.

..............................

وقال سبحانه: «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ»(1). وقال عزوجل: «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ»(2).

فما يرى في هذا اليوم من كثرة القوانين الوضعية المخالفة للشرع المبين فهو من أشد المحرمات كقوانين الجمارك و...

و(الشرائع) جمع شريعة، وهي: السنة والطريقة. و«شرائعه المكتوبة»: أي التي كتبها الله على عباده وألزمهم بالسير على حذوها.

وقد يكون المراد بها هنا(3) الإرثوالقضاء والحدود وما أشبه، أو يكون المراد منها: الأعم الشامل لكل الأحكام الوضعية، كالبيع والرهن والإجارة والنكاح والطلاق وغيرها، من حيث الشرائط والموانع والصحة و...

ولقد تحدثت (صلوات الله وسلامه عليها) - حتى الآن - عن الباري جل وعلا وصفاته ونعمائه والخلقة والهدف منها، ثم تحدثت عن النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله) وحكمة بعثته وعظيم فضله وهدايته (صلی الله علیه و آله)، وألفتتهم إلى ثقل مسؤوليتهم، وتحدثت عن القرآن الحكيم ومكانته ومحوريته ومواصفاته.

ثم انتقلت إلى هذا المقطع الذي بين بإيجاز مذهل واف: فلسفة جملة من أحكام العقيدة والشريعة، ومنها الإمامة كما سيجيء، فقالت (علیها السلام): «فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشرك»...

ص: 340


1- سورة المائدة: 45.
2- سورة المائدة: 47.
3- يبدو أن التقييد ب (هنا) لإفادة أن الشريعة لغة وعرفاً تطلق على الأعم، أي: على ما سنه الله وشرعه، ف(الشريعة) هي الدين، المنهاج، السنة... والتخصيص بما ذكر في المتن بملاحظة سياق كلامها (علیها السلام) وما سبقه من الجمل.

فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشرك،

اشارة

-------------------------------------------

فجعل(1) الله الإيمان تطهيراً لكم من الشرك،

تطهير الباطن

تطهير الباطن(2)

مسألة: يستحب تطهير الباطن عن النوايا الخبيثة، كما يستحب تطهيره عن الملكات الرذيلة، وربما وجب ذلك - عقلاً، أو شرعاً أيضاً - من باب المقدمية.

كما يجب تطهيره عن العقائد المنحرفة؛ فإن القلب يتنجس كما يتنجس البدن، ونجاسة الباطن على أنواع، فهناك نجاسة العقائد الفاسدة، ونجاسة الملكات الرذيلة، ونجاسة النوايا الخبيثة.

والبدن إذا تنجس بالقذارات الظاهرية كان تطهيره بالماء وشبهه(3)، كما أن بعض القذارات يكون تطهيرها وتنظيفها من الميكروبات بالمعقمات المادية.

أما القلب والباطن فتطهيره يتم بشكل آخر، فلو غسل من يحمل في قلبهالحقد أو الحسد بكل مياه الدنيا لم يطهر، بل اللازم استعمال مطهر خاص من نمط معين، لكل واحد من نجاسات الباطن، ولذا كان: «مرض القلب أعضل، وعلاجه أعسر، ودواؤه أعز، وأطباؤه أقل»(4).

ص: 341


1- وفي بعض النسخ: «ففرض» - راجع كشف الغمة: ج1 ص483 فاطمة (علیها السلام)، ودلائل الإمامة: ص32 حديث فدك، وبلاغات النساء: ص28 كلام فاطمة بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله).
2- حول هذا المبحث راجع (الفضيلة الإسلامية)، و(الفقه: الآداب والسنن) للإمام المؤلف (قدس سره).
3- كطهارة باطن القدم بالأرض، وكالتطهير بالشمس والأحجار وما أشبه، راجع موسوعة الفقه: ج5 ص419-443، وج6 ص7-407 كتاب الطهارة مبحث المطهرات.
4- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: ج1 ص24.

..............................

وقال (صلی الله علیه و آله): «يكون الإيمان تطهيراً عن الشرك»(1).

وقال علي (علیه السلام): «فرض الله سبحانه الإيمان تطهيراً من الشرك»(2).

فالإيمان تطهير عن رجس الشرك والكفر بالله تعالى، وإنكار المبدأ والمعاد والرسالة والرسول (صلی الله علیه و آله) والخلافة والخليفة (علیه السلام)، وما إلى ذلك من العقائد.

ولذا قال سبحانه: «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ»(3).

وقال تعالى: «إِنَّهُمْ رِجْسٌ»(4).وقال سبحانه: «إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ»(5) - بناءً على إرادة نجاسة المشرك المعنوية لا النجاسة البدنية -.

كما أن تطهير القلب من الملكات الرذيلة إنما يتم بتنقيتها وتحليتها بالملكات الحسنة، وهذا مما يستدعي غالباً طول عناء.

أما تطهير القلب عن النوايا الخبيثة فبمجاهدة النفس لإخراج تلك النوايا عنه، ولذا قال (صلی الله علیه و آله): «فاسألوا الله ربكم بنيات صادقة وقلوب طاهرة»(6)، وفي القرآن الحكيم: «إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ»(7).

ثم إن القلب المتنجس يفرز آثاره السيئة من الأضرار على الإنسان نفسه،

ص: 342


1- جامع الأخبار: ص123 ف80.
2- نهج البلاغة، قصار الحكم: 252.
3- سورة الحج: 30.
4- سورة التوبة: 95.
5- سورة التوبة: 28.
6- وسائل الشيعة: ج10 ص313 ب18 ح13494.
7- سورة الشعراء: 89.

..............................

بالإضافة إلى الإضرار بغيره غالباً، وقد ورد عن علي (علیه السلام): «لله در الحسد ما أعدله، بدأ بصاحبه فقتله»(1).وقال(2):

اصبر على حسد الحسود *** فإن صبرك قاتله

فالنار تأكل نفسها *** إن لم تجد ما تأكله

فالحسود - مثلاً - يضرّ بنفسه، كما يلحق الأذى بالمحسود غالباً، نفسياً أو فكرياً أو مادياً.

والبخيل يضيق على نفسه ويفقد مكانته واحترامه، كما يمنع العطاء عن الغير.

والجبان يفقد كثيراً من فرص التقدم، كما يسبب الهزيمة للآخرين، إلى غير ذلك.

وفي الآخرة قال سبحانه: «نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ»(3).

ولا يخفى أن الإنسان يحاسب حتى على نياته - في الدنيا - إذا اطلع عليها غيره، ولذا من يعرف أن فلاناً يريد سرقته لا يصاحبه، أو يريد الفجور بنسائه فإنه يتجنبه، بل للنوايا السيئة أثرها الوضعي وإن لم يطلع عليها أحد، كما أشرنا إليه سابقاً.

ص: 343


1- شرح نهج البلاغة: ج1 ص316 فصل في ذم الحاسد والحسد.
2- الشاعر ابن المُعتَز عبد الله بن محمد (247-296ه).
3- سورة الهمزة: 6-7.

..............................

و(في الآخرة) أيضاً، قال سبحانه: «إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»(1).

والتنزه عن النوايا الخبيثة والملكات الرذيلة قد يجب وقد يستحب، فمثلاً: يستحب التنزه عن الحسد الذي لا يظهر على الجوارح، ويجب التنزه عن الحسد المظهَر أو ما كان منه مقدمة للحرام(2)، فتأمل. وكذلك البخل غيرالظاهر فإن التنزه عنه فضيلة، أما البخل العملي الذي يؤدي إلى منع الحقوق المالية، كالخمس والزكاة وأداء الدَين والقيام بشؤون النفقة الواجبة وشبه ذلك فإنه حرام(3)، وهكذا الأمر بالنسبة إلى كثير من الصفات المذكورة في علم الأخلاق.

ص: 344


1- سورة البقرة: 284.
2- راجع موسوعة الفقه: ج93 كتاب المحرمات ص 103، وفيه: (الظاهر أن الحسد إذا لم يظهره الإنسان بيد ولا لسان لم يكن حراماً وإنما رذيلة نفسية ينبغي التخلص منها، ولذا قال سبحانه: «وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ» - سورة الفلق: 5 -، أما ما في صحيحة محمد بن مسلم، قال أبو جعفر (علیه السلام): «إن الرجل ليأتي بأدنى بادرة فيكفر، وإن الحسد ليأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب» - وسائل الشيعة: ج15 ص365 ب55 ح20754 -، وفي صحيحة معاوية بن وهب قال: قال أبو عبد الله (علیه السلام): «آفة الدين الحسد والعجب والفخر» - وسائل الشيعة: ج15 ص366 ب55 ح20758 - فالظاهر منهما ومن غيرهما الحسد الذي يظهر لا الحسد الذي لايظهر وإنما هي صفة نفسية، ويؤيده ما في رواية الرفع من أن الحسد مرفوع ما لم يظهر بيد ولا لسان - وسائل الشيعة: ج15 ص370 ب56 ح20771 - وقد ذكر الفقهاء وعلماء الأخلاق الحسد في كتاب الشهادات وفي بابه من كتب الأخلاق، والتفصيل مرجوع إليهما).
3- راجع موسوعة الفقه: ج93 كتاب المحرمات ص42، وفيه: (يحرم البخل في الجملة، وهو ما كان عن حق واجب، أما البخل عن المستحب فهو رذيلة وليس بحرام. قال سبحانه: «وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لهمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لهمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» - سورة آل عمران: 180 - وقد فسرت الآية في جملة من الروايات بمنع الزكاة، وفي صحيحة محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن قول الله عزوجل: «سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»؟. فقال: «يا أبا محمد، ما من أحد يمنع زكاة ماله شيئاً إلاّ جعل الله ذلك يوم القيامة ثعباناً من النار مطوقاً في عنقه ينهش من لحمه حتى يفزع من الحساب - قال - وهو قول الله عزوجل: «سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» يعني: ما بخلوا من الزكاة» - تفسير العياشي: ج1 ص207 من سورة آل عمران ح158 -.

..............................

علل الأحكام

مسألة: يستحب تطرق حملة راية التبليغ والإرشاد والهداية - سواء كانوا كتّاباً أو خطباءً أو مدرسين أو غير ذلك، بل كل من يأتي منه ذلك - لبيان فلسفة الأحكام والقوانين الإلهية الواردة في الكتاب والسنة، تأسياً بها (صلوات الله وسلامه عليها)، حيث أشارت (علیها السلام) إلى العلة في جملة مما أوجبه الباري (جل وعلا) أو ندب إليه من أصول الدين وفروعه وغيرهما، بل يجب ذلك أحياناً.

فإن القرآن والمعصومين (صلوات الله عليهم أجمعين) ذكروا وجه الحكمة أو العلة والفلسفة للكثير من المباحث والأحكام الإلهية، في الأصول والفروع والأخلاقيات والثواب والعقاب وغير ذلك، كما يظهر ذلك لمن تدبر القرآن الحكيم وكلمات الأئمة الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين)(1).

ص: 345


1- راجع مثلاً كتاب (علل الشرائع) للصدوق (قدس سره)، و(موسوعة الفقه): ج94-97 كتاب الآداب والسنن للإمام المؤلف (قدس سره)، وقد تطرق العلامة المجلسي (قدس سره) في (بحار الأنوار) للكثير من ذلك في كل موضوع مناسب.

..............................

وهذا يدل - بالإضافة إلى الكثير من الأدلة الأخرى المذكورة في مظانها (1) على أن الأحكام الشرعية والأصول والأخلاق إنما هي عقلية قبل أن تكون شرعية.

نعم، لا شك في أن جملة من الجزئيات داخلة في الكلي العام، ولا يعلم اندراجها في الخصوصية.

مثلاً: قراءة القرآن واجبة في الصلاة، لكن هذا الكلي ينطبق على الحمد والسورة، سواء في القيام أم الركوع أم السجود، والشارع رجح بعضها على بعض وقيّدها ببعض المصاديق، أما من جهة خصوصية في ذلك، بينها الشارع ولم تصل إلينا، أو لم يبينها وسيبينها الإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه الشريف) نظراً لاكتمال العقول عندئذ(2)، أو لا مطلقاً، أو من جهة أن العام يكتفى بفرد، إذ وجود الطبيعي يتحقق بتحقق أحد أفراده، ولم يخيرالشارع المكلف بأن يقرأ في القيام أو في الركوع أو في أي موضع شاء رعاية للتنسيق العام، أو لجهة أخرى، فالجمع بين أمور عديدة أوجب هذا الجزئي الخاص، إلى غير ذلك.

الإيمان بالله

مسألة: يجب الإيمان بالله عزوجل وجوباً فطرياً وعقلياً ويحرم الشرك به(3).

ص: 346


1- يستند استدلال المؤلف (قدس سره) إلى البرهان الإني كما لا يخفى.
2- فعن أبي جعفر الباقر (علیه السلام)، قال: «إذا قام قائمنا (علیه السلام) وضع يده على رؤوس العباد فجمع بها عقولهم وكملت بها أحلامهم». الكافي: ج1 ص25 كتاب العقل والجهل ح21.
3- راجع (القول السديد في شرح التجريد): ص274 المقصد الثالث الصانع تعالى، و(شرح المنظومة) للإمام المؤلف (قدس سره).

..............................

ويستفاد الوجوب من قولها: «فجعل... » على التقدير الثاني بوضوح.

والمراد بجعل (الإيمان) حيث قالت (صلوات الله عليها): «فجعل الإيمان» إما الجعل التكويني؛ لأنه أمر مجعول لله سبحانه وتعالى، إذ هو من مخلوقاته حيث إنه ليس عدماً ولا قديماً(1) ومن الواضح عدم التنافي بين المجعولية وبين الاختيار.

وإما الجعل التشريعي - ويؤيده السياق - أي أنه شرع على الناس أن يؤمنوا به عزوجل ولا يكفروا به وأنهحرم الشرك، وهذا الأمر والنهي إرشاد إلى حكم العقل، قال (علیه السلام): «إن الله هو العدل، وإنما بعث الرسل ليدعوا الناس إلى الإيمان بالله ولا يدعوا أحداً إلى الكفر»(2).

هداية المشركين

مسألة: إذا كانت الغاية تطهير البشرية من الشرك، لقولها (علیها السلام):

«فجعل... تطهيراً لكم»، وقوله تعالى: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ»(3) كان من الواجب السعي لتحقيق هذه الغاية، أي السعي لهداية المشركين كلاً أو بعضاً هداية كاملة، كماً وكيفاً، حسب المقدور والميسور، (فإن الميسور لايسقط بالمعسور) (4)، و(ما لا يدرك كله لا يترك كله)(5).

ص: 347


1- فيكون معنى (جعل الله الإيمان) أي أوجده، أما معنى الجعل التشريعي فهو: الأمر به.
2- بحار الأنوار: ج11 ص39 ب1 ح39.
3- سورة الذاريات: 56.
4- قاعدة فقهية، راجع (موسوعة الفقه) كتاب القواعد الفقهية للإمام المؤلف (قدس سره).
5- قاعدة فقهية، راجع (موسوعة الفقه) كتاب القواعد الفقهية للإمام المؤلف (قدس سره).

..............................

والمراد بالمشركين: الأعم من الكافر الذي لا يعتقد بالله إطلاقاً، ومن المشرك الذي يجعل له سبحانه شريكاً، بقرينة المقام.

الطهارة من نجاسة الشرك

مسألة: إذا آمن المشرك طهر من نجاسة الشرك، كما قالت (علیها السلام): «تطهيراً».

فإن الكافر نجس نفساً، أو وجسماً أيضاً - على القولين(1) - فإذا آمن طهر جسمه وطهرت نفسه؛ لأن من المطهرات: الإسلام كما ذكره الفقهاء في كتاب الطهارة(2).

إبلاغ الأحكام

مسألة: يلزم إبلاغ الناس أن الإيمان طهارة والشرك رجس، على عكس ما مني بهبعض المسلمين من ضعف في النفس يحول بينهم وبين بيان كثير من الأحكام الشرعية، فإن الأحكام الإسلامية يجب إبلاغها للناس، كما أبلغت (عليها الصلاة والسلام) وفي ذلك تنفير من الشرك وتحبيب للإيمان، ففي مورد الوجوب يجب، وفي مورد الاستحباب يستحب، كما سبقت الإشارة إلى ذلك.

ص: 348


1- ذهب الإمام المصنف (قدس سره) إلى طهارة الكتابي جسماً، راجع موسوعة الفقه: ج4 ص182-204 كتاب الطهارة، والمسائل الإسلامية: ص89، المسألة114، الطبعة 36، عام 1421ه/2000م، مؤسسة المجتبى بيروت - لبنان.
2- راجع موسوعة الفقه: ج6 ص283-335 كتاب الطهارة، مبحث المطهرات: الثامن.

..............................

نعم يجب أن يكون بيان الأحكام مقروناً «بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ»(1)، مشفوعاً بالأدلة والشواهد والمقربات.

ولربما اقتضت الحكمة التدرجية أيضاً، فيما إذا كانت التدرجية الطريق نحو الإقناع وشبهه، لا من باب الجبن والخوف، كما قال تعالى: «الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ»(2).

التقدم الرتبي للإيمان

مسألة: الإيمان بالله مقدم في الرتبة على الصلاة والأحكام الفرعية الأخرى،قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ» (3) ولهذا ينبغي العمل - أولاً - على زرع الإيمان بالله في قلوب الناس وبذل الجهد في هذا السبيل.

وترى هذا المعنى واضحاً في خطبة الزهراء (علیها السلام) حيث قدمت (صلوات الله عليها) هذا البند على البنود الآتية، وقد ذكرنا أن الواو قد تدل على الترتيب إذا لم تكن قرينة على الخلاف، فتأمل.

والظاهر أن المراد بالإيمان هو الإيمان بأصول الدين كلها: التوحيد والنبوة والمعاد، إذ كل من لم يؤمن بأحد هذه الأصول يكون نجساً نفساً، أو وجسماً أيضاً، فمن لم يؤمن بالله يكون كافراً، وكذا من لم يعتقد بالنبوة أو بالمعاد، أما

ص: 349


1- سورة النحل: 125.
2- سورة الأحزاب: 39.
3- سورة النساء: 48و116.

..............................

من لا يعتقد بالولاية فلا يقبل منه الإيمان، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «علي أمير المؤمنين وقائد الغر المحجلين وإمام المسلمين، لا يقبل الله الإيمان إلاّ بولايته وطاعته»(1).

الكفر كالشرك

مسألة: الكفر كالشرك في الحكم، على ما يستفاد من كلامها (علیها السلام) أيضاً بقرينة الموضوع والحكم، فإنه قد يتصرف في الموضوع بسبب الحكم، وقد يتصرف في الحكم بسبب الموضوع، كما حقق في علم الأصول(2).

حكم المتردد والشاك

مسألة: المتردد والشاك(3) نجس أيضاً - على أحد المعنيين أو كليهما -

لا المنكر فحسب، كما دل عليه العقل والنقل، فقد قالت (علیها السلام): «جعل الله الإيمان تطهيراً»، والشاك كالمنكر ليس بمؤمن كما يشهد به اللغة والعرف، وأن الإيمان صفة ثبوتية وجودية وكلا المذكورين فاقد لها، فتأمل.

و قد قال (عليه الصلاة و السلام): «لا ترتابوا فتشكوا، ولا تشكوا فتكفروا»(4).

ص: 350


1- بحار الأنوار: ج38 ص90-91 ب61 ح3.
2- فها هنا (الإيمان) وهو أعم من طارد (الكفر والشرك) يكون قرينة على أن متعلق (تطهيراً) أعم من الشرك أيضاً.
3- في الإيمان بالله تعالى.
4- الكافي: ج1 ص45 باب استعمال العلم ح6، والكافي: ج2 ص399 باب الشك ح2.

..............................

وفي القرآن الحكيم: «فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ»(1).

إلى غير ذلك مما دل على هذا المبحث، كمالا يخفى على من راجع الكتب الكلامية والأحاديث المتواترة الواردة في هذا الباب(2).

قال علي (علیه السلام): «شر القلوب الشاك في إيمانه»(3).

وقال (علیه السلام): «أهلك شيء الشك والارتياب»(4).

وقال (علیه السلام): «الشك يفسد اليقين ويبطل الدين»(5).

وقال (علیه السلام): «الشك يحبط الإيمان»(6).وقال (علیه السلام): «الشك كفر»(7).

وقال (علیه السلام): «ما آمن بالله من سكن قلبه الشك»(8).

ص: 351


1- سورة التوبة: 45.
2- راجع موسوعة الفقه، كتاب الطهارة: ج3 ص523 من الطبعة الأولى، طبع قم.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: ص67 ق1 ب1 ف13 القلب المذموم ح912.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: ص71 ق1 ب1 ف15 ذم الشك ح1039.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: ص71 ق1 ب1 ف15 الشك يفسد اليقين ح1046.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: ص72 ق1 ب1 ف15 الشك يفسد الدين ح1051.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: ص72 ق1 ب1 ف15 الشك يوجب الشرك ح1058.
8- غرر الحكم ودرر الكلم: ص87 ق1 ب2 ف6 أهمية الإيمان ح1464.

والصلاة تنزيهاً لكم

اشارة

-------------------------------------------

رجحان الصلاة

مسألة: الصلاة بمعناها الاصطلاحي(1) واجبة (2)، وبمعناها الأعم(3) راجحة مطلقاً. فإن الصلاة عطف وميل وتوجه نحو الله سبحانه و تعالى، وهي بين واجبة و بين مستحبة، أما حرمة الصلاة في بعض الأحيان مثل صلاة الجنب والحائض(4) وما أشبه، فلمقارن لها أوجب مرجوحيتها إلى حد المنع من النقيض، وأما كراهة الصلاة كالصلاة في الحمام(5)، وصلاة المسافر إذا اقتدى بإمام ليس بمسافرأو بالعكس(6)، فالمقصود أقل ثواباً كما هو المقرر في محله.

تنزيه النفس

مسألة: ينبغي تنزيه النفس من الرذائل، وبعض مراتبها واجب، كما لايخفى، قال تعالى: «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (علیهم السلام) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (علیهم السلام) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (علیهم السلام) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا»(7).

ص: 352


1- وهو: الصلاة المفروضة ذات الأركان الخاصة.
2- أي في الجملة، إذا كان المعنى الاصطلاحي أعم من المفروضة وشمل النوافل أيضا.
3- وهو الدعاء وطلب نزول الرحمة الإلهية. وفي لسان العرب: ج14 ص464 مادة صلا: (الصلاة: الدعاء والاستغفار... والصلاة من الله الرحمة).
4- راجع موسوعة الفقه: ج10 و11 كتاب الطهارة، في أحكام الجنب والحائض.
5- راجع المسائل الإسلامية: ص237 المواضع التي تكره الصلاة فيها، المسألة: 959، الطبعة 36، عام 1421ه/2000م، مؤسسة المجتبى بيروت - لبنان.
6- راجع المسائل الإسلامية: ص334 المكروهات في صلاة الجماعة، المسالة: 1595.
7- سورة الشمس: 7-10.

عن الكبر،

اشارة

-------------------------------------------

التكبر

التكبر(1)

مسألة: تعليلها (علیها السلام) إقراره وجعله (جل وعلا) للصلاة بكونها منزهة عن الكبر، يفيد مرجوحية الكبر أو حرمته، وللحرمة درجات كالتكبر على الله (جل وعلا) وعلى رسله وأنبيائه وأوليائه (علیهم السلام) وعلى سائرالناس(2). وقد فصلنا ذلك في الفقه(3).

ص: 353


1- راجع (الفضيلة الإسلامية)، و(الفقه: الآداب والسنن)، و(الأخلاق الإسلامية)، للإمام المؤلف (قدس سره).
2- وربما يكون بعض مراتبه مكروهاً، أما هل يكون بعض مصاديقه مستحباً؟ كما قيل: (التكبر على المتكبر عبادة)، وقال بعضهم: (من التواضع التكبر على الأغنياء) - تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: ج2 ص243 - بحاجة إلى تأمل.
3- راجع موسوعة الفقه: ج93 كتاب المحرمات ص321، وفيه: (يحرم الكبر مطلقاً سواء كان على الله وآياته، أو على رسله (علیهم السلام) أو على الأئمة الطاهرين (علیهم السلام) أو على العلماء الراشدين الذين هم أمناؤهم، أو على المؤمن. قال سبحانه: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلاَئِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ» - سورة الأنعام: 93 - إلى غيرها من الآيات. وفي موثقة العلاء عن الصادق (علیه السلام)، قال: قال أبو جعفر (علیه السلام): «العز رداء الله والكبر إزاره، فمن تناول شيئاً منه أكبه الله في جهنم» - وسائل الشيعة: ج15 ص374 ب58 ح20782 - إلى غيرها من الروايات المتواترة في هذا الباب، بل حرمة التكبر من البديهيات. ومن أقسام الكبر الاستكبار عن الدعاء، فقد قال الباقر (علیه السلام) في صحيح زرارة: «إن الله عزوجل يقول: «إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ» - سورة غافر: 60 - قال: هو الدعاء» - تفسير البرهان: ج4 ص101 ح1 - إلى غيرها من الروايات.

..............................

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إياكم والكبر! فإن إبليس حمله الكبر على ترك السجود لآدم (علیه السلام) »(1).

وقال (علیه السلام): «إن المتكبر ملعون... وإياكم والكبر؛ فإنه رداء الله عزوجل فمن نازعه رداءه قصمه الله»(2).

وقال (علیه السلام): «هلاك الناس في ثلاث: الكبر والحرص والحسد»(3).

وقال (علیه السلام): «لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من الكبر»(4).

وإنما يكون الكبر في الله سبحانه وتعالى من صفات الجمال كما قال تعالى: «هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ»(5)؛ لأن الله سبحانهوتعالى هو الكبير المتعال وبقول مطلق، أما غيره فهو صغير فقير للغاية، بل قد يكون إطلاق الصغير والفقير عليه مسامحياً، إذ هو عين الفقر وصرف الربط والتعلق، فليس له من ذاته أي شيء على الإطلاق، ولا حق له في أن يتكبر، مهما كان له مال أو ولد أو حكومة أو عشيرة أو علم أو ما أشبه ذلك.

ص: 354


1- إرشاد القلوب: ص129 ب40.
2- دعائم الإسلام ج2 ص352 ف1 ح1297.
3- بحار الأنوار: ج75 ص111 ب19 ضمن ح6.
4- الكافي: ج2 ص310 باب الكبر ح6.
5- سورة الحشر: 23.

..............................

هذا بالإضافة إلى أن التكبر في الإنسان يجره إلى سيئات أخرى، والله سبحانه منزه عن كل سيئة.

قولها (علیها السلام): «والصلاة تنزيهاً لكم من الكبر»، حيث إن غفلة الإنسان عن الله سبحانه بنفسها تكبر، والغافل عنه - جهلاً أو تجاهلاً - متكبر حقيقة أو لباً(1)، والتكبر أساس للكثير من الرذائل، ولذا يظلم ويطغي ويفسد.

قال علي (علیه السلام): «التكبر يظهر الرذيلة»(2).

وقال (علیه السلام): «التكبر رأسالجهل»(3).

وقال (علیه السلام): «احذر الكبر؛ فإنه رأس الطغيان ومعصية الرحمان»(4).

وقال (علیه السلام): «الكبر داع إلى التقحم في الذنوب»(5).

وقد قال سبحانه: «فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ»(6).

وقال تعالى: «فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ»(7)، حيث إن الكبر إذا صار ملكة في الإنسان فإنه يؤدي إلى المفاسد والموبقات.

كما إن الإنسان المتواضع حيث صار التواضع ملكة له يتقدم؛ فإن التواضع من أسس التقدم ومن أهم أسباب التحلي بالفضائل والمحاسن.

ص: 355


1- اللف والنشر مشوش، فالمتجاهل غافل حقيقة، والجاهل لباً أي أنه غافل عملياً.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: ص310 ق3 ب3 ف6 آثار التكبر ح7151.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: ص248 ق3 ب2 ف2 فضيلة التواضع ح5137.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: ص309 ق3 ب3 ف6 الكبر وذمه ح7122.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: ص310 ق3 ب3 ف6 آثار التكبر ح7152.
6- سورة البقرة: 10.
7- سورة الفتح: 26.

..............................

وفي الحديث الشريف عن موسى بنجعفر (علیه السلام) في وصيته لهشام: «يا هشام، إن الزرع ينبت في السهل ولا ينبت في الصفا، فكذلك الحكمة تعمر في المتواضع ولا تعمر في المتكبر الجبار»(1).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «التواضع لا يزيد العبد إلاّ رفعة»(2).

وقال (علیه السلام): «التواضع رأس العقل»(3).

وقال (علیه السلام): «التواضع يرفع»(4).

وقال الشاعر(5):

تواضع تكن كالنجم لاح لعارض *** على صفحات الماء وهو رفيع

ولا تك كالدخان يعلو بنفسه *** إلى طبقات الجو وهو وضيع

والصلاة تذكير دائم بالله «رَبِّالْعالَمِينَ»(6) العالم بدخائل الإنسان، المطلع سمعاً وبصراً وعلماً عليه.

ثم إنه سبحانه «مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ»(7) وفي الصلاة أرقى صور التلقين والإيحاء النفسي، ولذا يتحول الإنسان المصلي من التكبر إلى التواضع، وتتكرر الصلاة كل يوم خمس مرات كي يستمر هذا الإيحاء.

ص: 356


1- مستدرك الوسائل: ج11 ص299 ب28 ح13088.
2- منية المريد: ص322 ب3 ف2.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: ص248 ق3 ب2 ف2 فضيلة التواضع ح5137.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: ص249 ق3 ب2 ف2 بعض آثار التواضع ح5158.
5- فرنسيس بن فتح الله بن نصر مرّاش (1252-1290ه) مولده ووفاته في حلب.
6- سورة الفاتحة: 2.
7- سورة الفاتحة: 4

..............................

بالإضافة إلى أن فيها الركوع وهو خضوع للرب العظيم، والسجود وهو غاية الخضوع للرب الأعلى.

إلى غير ذلك من فلسفة الصلاة التي ذكرنا بعضها في كتاب (عبادات الإسلام)(1).هذا وفي الحديث: «إنما الكبر من تكبر عن ولايتنا وأنكر معرفتنا»(2).

ص: 357


1- من تأليفاتات سماحة الإمام الشيرازي (أعلى الله مقامه) في كربلاء المقدسة، ويقع في 284صفحة قياس 20×14. وقد تناول سماحته فيه فروع الدين: الصلاة، الصوم، الزكاة، الخمس، الحج، الجهاد، الأمر بالمعروف، النهي عن المنكر، التولي، التبري وفلسفتها وبعض أحكامها. طبع في النجف الأشرف - العراق، كما طبع في بيروت - لبنان. قامت مؤسسة الفكر الإسلامي بيروت - لبنان بطبعه للمرة الثالثة عام 1414ه/1993م. كما قامت بطبعه مكتبة الإمام الحسين (علیه السلام) - الكويت ضمن كتاب (هكذا الإسلام) عام 1399ه/1979م. ترجمه إلى اللغة الفارسية تحت عنوان: (فروع دين) الشيخ مصطفى زماني (رحمة الله) في 311 صفحة قياس 20×14، وقد طبع مكرراً في قم المقدسة، كما طبع في أربعة أجزاء مستقلة أيضاً. وترجمه أيضا إلى اللغة الفارسية تحت عنوان: (نقش عبادت در سازندكي انسان) العلامة السيد محمد باقر الفالي بتاريخ 1رجب 1403ه في 248 صفحة. كما ترجم الشيخ علي الكاظمي الفصل الأول منه تحت عنوان: (نماز)، طبع قم المقدسة. كما ترجم الشيخ مصطفى زماني (رحمة الله) الفصل الثاني منه تحت عنوان: (روزه).
2- مستدرك الوسائل ج12 ص35 ب60 ح13444.

والزكاة تزكية للنفس،

اشارة

-------------------------------------------

الزكاة راجحة مطلقاً

مسألة: الزكاة راجحة مطلقاً، وقد تكون واجبة كما في الأمور التسعة المذكورة في الفقه(1)، والزكاة المستحبة كما في التجارات(2).

وفي الحديث عن أبي الحسن (علیه السلام)، قال: «إنما وضعت الزكاة قوتاً للفقراء، وتوفيراً لأموال الأغنياء»(3).

وعن الإمام الرضا (علیه السلام): «إن علة الزكاة من أجل قوت الفقراء، وتحصين أموال الأغنياء»(4).

وقال (علیه السلام): «إنما وضعت الزكاة اختباراً للأغنياء»(5).وعن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إذا منعوا الزكاة منعت الأرض بركاتها»(6).

وقال علي (علیه السلام) في وصيته: «الله الله في الزكاة؛ فإنها تطفئ غضب ربكم»(7).

ص: 358


1- وهي: الحنطة والشعير والتمر والزبيب، والذهب والفضة، والإبل والبقر والغنم.
2- راجع موسوعة الفقه: ج29-32 كتاب الزكاة.
3- من لا يحضره الفقيه: ج2 ص4 باب علة وجوب الزكاة ح1575.
4- وسائل الشيعة: ج9 ص12 ب1 ح11393.
5- غوالي اللآلي: ج1 ص370 ب1 المسلك الثاني ح74.
6- الكافي: ج2 ص374 باب في عقوبات المعاصي العاجلة ح2.
7- تهذيب الأحكام: ج9 ص177 ب6 ح14.

..............................

وهناك روايات كثيرة في ثواب إخراج الزكاة(1) وعقاب مانع الزكاة(2).

وقد يكون الزكاة المذكورة في القرآن الحكيم وكلمات المعصومين (علیهم السلام) - في ذي القرينة - يراد بها مطلق إعطاء المال الأعم من الخمس، فلا يقال: لماذا لم تذكر الخمس؟. وقد ورد في الأحاديث: «إن الخمس عوض من الزكاة»(3)،فالزكاة لغير السادة والخمس للسادة على تفصيل مذكور في الفقه، وقد ألمعنا إلى وجه هذا الفرق في كتاب (الفقه: الاقتصاد)(4)، و(الفقه: الزكاة)(5).

تزكية النفس

مسألة: لتزكية النفس مراتب بعضها واجب وبعضها مستحب، والتزكية ها هنا واجبة في الجملة، إذ لولا لزوم تزكية النفس لم تكن الزكاة واجبة، فتأمل.

وقد علّلت (علیها السلام) جعله سبحانه للزكاة بكونها تزكية للنفس، حيث إن الإنسان المزكي تتطهر نفسه عن درن البخل والشح وعن حب الدنيا أو شدته، قال سبحانه: «وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»(6).

ص: 359


1- راجع ثواب الأعمال: ص46 ثواب إخراج الزكاة ووضعها في موضعها.
2- راجع ثواب الأعمال: ص234 عقاب مانع الزكاة.
3- راجع وسائل الشيعة: ج9 ص514-515 ب1 ح12608، وفيه : «الذين لا تحل لهم الصدقة والزكاة عوضهم الله مكان ذلك بالخمس».
4- راجع موسوعة الفقه: ج108 كتاب الاقتصاد ص65.
5- راجع موسوعة الفقه: ج31 كتاب الزكاة ص248.
6- سورة الحشر: 9، سورة التغابن: 16.

..............................

فإن الحسنات بعضها آخذ بعنق بعض،وقد جعل الله تعالى لكل عمل صالح أثراً وضعياً وتكوينياً وأخروياً مجانساً له، وإذا صارت الزكاة والعطاء ملكة للإنسان ترققت النفس ولان القلب، والقلب اللين مبعث الخيرات ومنبع البركات ولذا ذم الله سبحانه وتعالى اليهود بقوله: «ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ»(1).

وفي الحديث: «وما قست القلوب إلاّ لكثرة الذنوب»(2).

وقال (علیه السلام): «إن للمنافق أربع علامات: قساوة القلب، وجمود العين، والإصرار على الذنب، والحرص على الدنيا»(3).

وقال (علیه السلام): «ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة قلب»(4).

ص: 360


1- سورة البقرة: 74.
2- روضة الواعظين: ج2 ص420 مجلس في الحث على مخالفة النفس والهوى.
3- الاختصاص: ص111 جزء فيه أخبار من روايات أصحابنا وغيرهم.
4- مستدرك الوسائل: ج12 ص93 ب76 ح13608.

ونماءً في الرزق،

اشارة

-------------------------------------------

إنماء الرزق

مسألة: إنماء الرزق والتوسع فيه مستحب عموماً، وقد يجب أحياناً كما لايخفى.

وقد ورد في الدعاء: «وعظّم ووسّع رزقي ورزق عيالي»(1).

و: «ووسّع رزقي وأدره عليَّ»(2).

و: «ووسّع رزقي أبداً ما أبقيتني»(3).

و: «ووسّع عليَّ في رزقي»(4).

وقد علّل كثير من المستحبات وبعض الواجبات بزيادة الرزق، كما ورد عن أمير المؤمنين (علیه السلام): «ألا أنبئكم بعد ذلك بما يزيد في الرزق؟» ... فقال (علیه السلام): «الجمع بينالصلاتين يزيد في الرزق، والتعقيب بعد الغداة والعصر يزيد في الرزق، وصلة الرحم تزيد في الرزق، وكسح الفنا يزيد في الرزق، ومواساة الأخ في الله عزوجل يزيد في الرزق، والبكور في طلب الرزق يزيد في الرزق، والاستغفار يزيد في الرزق، وقول الحق يزيد في الرزق، وإجابة المؤذن يزيد في الرزق، وترك الكلام في الخلاء يزيد في الرزق، وترك الحرص يزيد في الرزق،

ص: 361


1- بحار الأنوار: ج88 ص78 ب3 ح3.
2- مهج الدعوات: ص133 ومن ذلك دعاء لمولانا ومقتدانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) في الشدائد ونزول الحوادث وهو سريع الإجابة من الله تعالى.
3- جمال الأسبوع: ص312 ف31 الدعاء بعد هذه الصلاة.
4- الكافي: ج2 ص558 باب الدعاء للكرب والهم والحزن والخوف ح8.

..............................

وشكر المنعم يزيد في الرزق، واجتناب اليمين الكاذبة يزيد في الرزق، والوضوء على الطعام يزيد في الرزق، وأكل ما يسقط من الخوان يزيد في الرزق» (1).

وأما كونها(2) «نماء في الرزق» فهو بجهة غيبية، حيث إن الله سبحانه ينمي رزق المزكي،كما سبق عنه (علیه السلام):

«إنما وضعت الزكاة... توفيراً لأموال الأغنياء»(3).بالإضافة إلى السبب الظاهر، حيث إن العطاء يوجب تقارب الأغنياء والفقراء، وتآلفهم وتحاببهم وتعاونهم، والتعاون أساس كل فضيلة ومفتاح كل تقدم، هذا إضافة إلى أنها توجب تقوية القدرة الشرائية في الفقراء مما لا يخفى أثرها الاقتصادي، قال سبحانه: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا»(4). فالزكاة تطهير نفسي كما سبق، وتنمية في المال والمجتمع(5)، على عكس الربا حيث «يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ»(6) ومن فلسفة ذلك أن الربا يوجب الحقد والتنازع والطغيان(7).

ص: 362


1- وسائل الشيعة: ج15 ص347-348 ب49 ح20704.
2- أي الزكاة.
3- من لا يحضره الفقيه: ج2 ص4 باب علة وجوب الزكاة ح1575.
4- سورة التوبة: 103.
5- الزكاة إما مصدر (زكي) إذا نمي؛ لأنها تستجلب البركة في المال وتنميه، وإما مصدر (زكا) إذا طهر؛ لأنها تطهر المال من الخبث، والنفس البخيلة من البخل - راجع مجمع البحرين: ج1 ص205 مادة زكا.
6- سورة البقرة: 276.
7- راجع كتاب (الاقتصاد بين المشاكل والحلول)، و(الفقه: الاقتصاد) للإمام المؤلف (قدس سره).

..............................

الاهتمام بالأمور الدنيوية

الاهتمام بالأمور الدنيوية (1)

مسألة: يستحب الاهتمام بالأمور الدنيوية عموماً، ومن مصاديقه إنماء الرزق، إلى جوار الاهتمام بالشؤون الأخروية.

والاستحباب إنما هو في المقدار المستحب، وإلاّ فالقدر الواجب واجب، وقد قال (عليه الصلاة والسلام): «ليس منا من ترك دنياه لآخرته ولا آخرته لدنياه»(2).

وقال (علیه السلام): «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً»(3)

وفي الحديث: «اجعلوا لأنفسكم حظاً من الدنيا»(4).

وقبل ذلك قال القرآن الحكيم: «رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ»(5).

الإنفاق

مسألة: يستحب الإنفاق مطلقاً؛ فإن جامع الملاك الموجود في الزكاة على قسميه جار في مطلق الإنفاق، هذا إن لم نقل بإرادة المعنى اللغوي منها، إضافة

ص: 363


1- راجع موسوعة الفقه: كتاب البيع، وكتاب الاقتصاد.
2- من لا يحضره الفقيه: ج3 ص156 باب المعايش والمكاسب والفوائد والصناعات ح3568.
3- وسائل الشيعة: ج17 ص76 ب28 ح22026.
4- مستدرك الوسائل: ج8 ص223 ب38 ح9309.
5- سورة البقرة: 201.

..............................

إلى الآيات والروايات الدالة على فضيلة الإنفاق مطلقاً.

قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ»(1).

وقال سبحانه: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ»(2).

وقال عزوجل: «وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ»(3).

وقال جل ثناؤه: «وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي إِلَىأَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ»(4).

وقال (علیه السلام): «إن من أخلاق المؤمن الإنفاق على قدر الإقتار»(5).

نعم، إذا عارضته جهة منفرة إلى حد المنع من النقيض يكون محرماً، أو لا إلى ذلك فيكون مكروهاً.

ص: 364


1- سورة البقرة: 254.
2- سورة البقرة: 267.
3- سورة الحديد: 10.
4- سورة المنافقون: 10.
5- الكافي: ج2 ص241 باب المؤمن وعلاماته وصفاته ح36.

والصيام تثبيتاً للإخلاص،

اشارة

-------------------------------------------

الصيام وفلسفته

مسألة: يستفاد من قولها (علیها السلام): «جعل... » ومن السياق: وجوب الصوم، فتكون اللام للعهد المقصود به المصداق الخاص.

وأما على كونها للجنس فيكون قولها (علیها السلام) دالاً على رجحانه عموماً.

فإن من الصيام ما هو واجب، ومنه ما هو مستحب، أما الصوم المحرم كيوم العيدين، أو المكروه كصوم يوم عاشوراء، فلعارض، وقد ذكرنا وجه ذلك في الفقه(1).

قولها (علیها السلام): «والصيام تثبيتاً للإخلاص»، فإن الإخلاص الذي في الصوم عميق جداً، إذ إن الإنسان يستطيع - عادة - أن يتظاهر بالصوم ويرتكب المفطرات سراً، فالإخلاص يثبت ويتقوى بالصيام، حيث يروض الإنسان نفسه بالامتناع عن المفطرات مع شدة الشوق إليها. ولعل هذا هو سر قوله سبحانهفي الحديث القدسي: «الصوم لي وأنا أجزي عليه»(2).

أي جزاؤه على الله سبحانه(3)، أو أن الله هو جزاؤه(4) كناية عن أنه

ص: 365


1- راجع موسوعة الفقه: ج37 كتاب الصوم ص63-116.
2- الكافي: ج4 ص63 باب ما جاء في فضل الصوم والصائم ح6.
3- إذا قرأت هكذا: «أجزي» أي: على المبني للمعلوم.
4- إذا قرأت هكذا: «اُجزى» أي: على المبني للمجهول.

..............................

سبحانه يحكم للصائم في الآخرة فيما يشاء، إذ مع امتناع الحقيقة فإن أقرب المجازات يكون هو المتعين.

هذا بالإضافة إلى سائر فوائد الصيام مما ذكر في القرآن الحكيم أو في السنة المطهرة، أو ثبت طبياً واجتماعياً، وغير ذلك.

قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»(1).

وقال (علیه السلام): «فرض الله...الصيام ابتلاء لإخلاص الخلق»(2).

الإخلاص في العبادة وغيرها

مسألة: يجب الإخلاص في العبادات، ويرجّح في غيرها، فإن الإخلاص في الواجبات التعبدية واجب تكليفاً، وشرط للصحة وضعاً، وفي المستحبات التعبدية شرط للصحة، حيث إذا لم يكن إخلاص لم تكن عبادة.

أما الإخلاص في سائر الأمور فهو من المرجحات.

ويمكن أن يقوم الإنسان بكل عمل - كالواجبات التوصلية والمباحات - بقصد القربة الخالصة له سبحانه وتعالى(3).

ص: 366


1- سورة البقرة: 183.
2- نهج البلاغة، قصار الحكم: 252.
3- راجع كتب الأخلاق كجامع السعادات، وقد سبق الإشارة إليه في هذا الكتاب.

..............................

والإخلاص لله تعالى - إضافةً لآثاره الأخروية - من أكبر عوامل التقدم والنهوض بالأمة واستنقاذها من واقعهاالمرّ، فإن المخلص يضحي بوقته وصحته وماله ونفسه لخدمة الإسلام والمسلمين، أما غير المخلص فتراه يضحي بمصالح الدين والأمة لأجل أن يعيش حياة مرفهة.

وقد ورد في زيارتهم (علیهم السلام): «السلام على الإمام التقي، المخلص الصفي»(1).

وعنه (علیه السلام): «وأما علامة المخلص فأربعة: يسلم قلبه، وتسلم جوارحه، وبذل خيره، وكف شره»(2).

وعنه (علیه السلام): «سادة أهل الجنة المخلصون»(3).

ص: 367


1- بحار الأنوار: ج97 ص375 ب5 ح9.
2- تحف العقول: ص21 ومن حكمه (صلی الله علیه و آله) وكلامه.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: ص197 ق2 ب2 ف7 في أهمية الإخلاص ح3904.

والحج تشييداً للدين

اشارة

-------------------------------------------

والحج تشييداً للدين(1)،

فريضة الحج والأهداف الربانية

مسألة: الحج منه واجب ومنه مستحب، وقد تطرأ الحرمة على الحج لسبب خارجي كحج الزوجة بدون إذن الزوج حجاً مستحباً، وكذلك حج العبد(2) وما أشبه ذلك(3).

وفي الحديث عن جعفر بن محمد (علیه السلام)، قال: «بني الإسلام على خمس دعائم: على الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وولاية أمير المؤمنين والأئمة من بعده (علیهم السلام)»(4).

وقد جعل الله الحج تشييداً للدين كما ذكرته (صلوات الله عليها) حيث إنه - بالإضافة إلى جوانبه العبادية والاقتصادية وغيرهما - يعد مؤتمراًعاماً لكل المسلمين، حيث يجتمعون ويتعارفون، ويعالج بعضهم مشاكل بعض، وتذوب بينهم الفوارق الإقليمية واللونية واللغوية وغيرها(5)؛ فإن الحج يوجب إيجاد أرضية أو تقوية حالة (الشورى)، قال تعالى: «وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ»(6).

ص: 368


1- وفي بعض النسخ: «والحج تسنية للدين». راجع علل الشرائع: ج1 ص248 ب182 ح2 .
2- أي بدون إذن مولاه.
3- راجع موسوعة الفقه: ج38-46 كتاب الحج، و(جامع مناسك الحج)، و(مناسك الحج) واستفتاءات في الحج، للإمام المؤلف (قدس سره).
4- وسائل الشيعة: ج1 ص25 ب1 ح29.
5- راجع مقدمة كتاب (الحاج في مكة والمدينة) للإمام المؤلف (قدس سره).
6- سورة الشورى: 38.

..............................

و(الحرية)، قال سبحانه: «يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ»(1).

و(الأمة الواحدة)، قال تعالى: «إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً»(2).

و(الأخوة)، قال سبحانه: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ»(3).

و(شرائع الإسلام)، قال تعالى: «شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً»(4).

ولهذا فالجدير بالمسلمين أنيعيدوا إلى الحج فوائده المتوقعة، كما قال سبحانه: «لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لهمْ»(5)، وذلك عبر رفع المنع عن كل من يريد الحج، بل إلغاء أي روتين يعرقل ذلك، وأن تكون مكة المكرمة والمدينة المنورة - على الأقل - محل أمن ومعقل حرية لإقامة كل الشعائر الإسلامية، ومركزاً للتلاقي والاختلاط بين كافة المسلمين(6). ومع الأسف فإنه اليوم أضحى إلى حد كبير - حيث جرد من كثير منافعه وغاياته - خلافاً لما قاله القرآن الحكيم، فإذا رجع الحج إلى واقعه الإسلامي كان العامل الأساسي في تقدم المسلمين إلى الإمام(7).

ص: 369


1- سورة الأعراف: 157.
2- سورة الأنبياء: 92، سورة المؤمنون: 52.
3- سورة الحجرات: 10.
4- سورة المائدة: 48.
5- سورة الحج: 28.
6- راجع كتاب (ليحج خمسون مليوناً كل عام) للإمام المؤلف (قدس سره).
7- حول هذه النقاط راجع للمؤلف (قدس سره) (لكي يستوعب الحج عشرة ملايين)، و(الحج بين الأمس واليوم والغد)، و(مؤتمرات الإنقاذ)، و(موسوعة الفقه: ج38-46 كتاب الحج)، و(ليحج خمسون مليوناً كل عام).

..............................

تشييد الدين

مسألة: يجب تشييد الدين(1) وتقويته، كما قال تعالى: «أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ»(2) في الواجبات.

ويستحب في المستحبات.

إذ إن استحكامه في فرائضه بالواجبات وفي مندوباته بإتيان المستحبات؛ لأن مثل الدين كبناء يحتاج إلى المواد الأساسية للبناء، بالإضافة إلى التجملية، فهو أيضاً بين واجب ومستحب.

هذا بالإضافة إلى ما للمستحبات من دور كبير في السوق نحو مزيد الالتزام بالواجبات، فهي مشيدة للدين ذاتاً وتسبيباً.

والحج من المقومات الأساسية للدين، وبه يستحكم الدين ويتعالى ويتسامى كما لا يخفى، والمستحب منه أيضاً من بواعث تشييد الدين كما سبق.

قال علي (علیه السلام): «فرض الله... الحج تقويةً للدين»(3).

وقال (علیه السلام): «خير الأعمالما أصلح الدين»(4).

ص: 370


1- تشييد البناء: إحكامه ورفعه - لسان العرب: ج3 ص244 مادة شيد -.
2- سورة الشورى: 13.
3- شرح نهج البلاغة: ج19 ص86 باب الحكم والمواعظ 249.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: ص156 ق1 ب6 ف4 خير الأعمال ح2934.

والعدل تنسيقاً للقلوب

اشارة

-------------------------------------------

والعدل تنسيقاً للقلوب(1)،

أنواع العدل والظلم

أنواع العدل والظلم(2)

مسألة: يجب العدل في موارده، كما هو مستحب في موارده مثل: تقسيم اللحظة والنظرة والبسمة والسلام والتكلم مع الجلساء، وتقسيم ما عدا الحقوق المقررة تقسيماً مستحباً بين الأولاد أو الزوجات أو ما أشبه، إلى غير ذلك من النظائر، كما يدل عليه جملة من الروايات، وكما حققه علماء الأخلاق والكلام والفقه.

وقد ورد في عهده (علیه السلام) إلى محمد بن أبي بكر (رحمة الله) حين قلده مصر:«وآس بينهم في اللحظة والنظرة»(3).

وفي الحديث: «العدل أحلى من الشهد، وألين من الزبد، وأطيب ريحاً من المسك»(4).

ص: 371


1- وفي بعض النسخ: «والعدل تسكيناً للقلوب» - راجع علل الشرائع: ج1 ص248 ب182 ح2 - وفي بعضها: «والحق تسكيناً للقلوب وتمكيناً للدين» - راجع دلائل الإمامة: ص33 حديث فدك - وفي بعضها: «والعدل تنسكاً للقلوب» - راجع بلاغات النساء: ص28 كلام فاطمة بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) -.
2- راجع كتاب (العدل أساس الملك) للإمام المؤلف (قدس سره).
3- نهج البلاغة، الرسائل: 27 ومن عهد له (علیه السلام) إلى محمد بن أبي بكر (رضي الله عنه) حين قلده مصر، ونهج البلاغة، الرسائل: 46 ومن كتاب له (علیه السلام) إلى بعض عماله.
4- الكافي: ج2 ص147 باب الإنصاف والعدل ح15.

..............................

ومن البين أن العدل غير المساواة، وأن النسبة بينهما العموم من وجه.

وكما يجب العدل يحرم الظلم، وهو يشمل: ظلم النفس - روحاً وجسماً - وظلم العائلة، وظلم المجتمع، وظلم الحكومة(1)، وظلم الحيوان والنبات والطبيعة، وظلم الأجيال القادمة أيضاً، والظلم الاقتصادي والاجتماعي وغيرها. قال تعالى: «وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ»(2).وقال سبحانه: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ»(3).

وقال تعالى: «يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ»(4).

وقال سبحانه: «وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا»(5).

وقال تعالى: «وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا»(6).

وقال سبحانه: «فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ»(7).

وقال تعالى: «يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامى ظُلْماً»(8).

ص: 372


1- قد يكون هذا من الإضافة للفاعل، وقد يكون من الإضافة للمفعول، أي: ظلم الحكومة للناس، أو ظلم الناس للحكومة.
2- سورة النحل: 118.
3- سورة العنكبوت: 68.
4- سورة لقمان: 13.
5- سورة الإسراء: 59.
6- سورة النحل: 41.
7- سورة البقرة: 279.
8- سورة النساء: 10.

..............................

وبكلمة جامعة: فإن «مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ»(1)، ولكل من تلكالأنواع مباحث مفصلة في مظانها(2).

قولها (علیها السلام): «تنسيقاً للقلوب» فإن من أهم ثمار العدل تنظيم قلوب الناس، حيث يرى الناس أن الحاكم يساوي بين الناس ولا يقدم بعضاً على بعض عبثاً واعتباطاً، ولذلك فهم يتعاطفون مع الحاكم ويلتفون حوله، كما تتوثق به أواصر العلاقة بينهم أنفسهم، وبعضهم مع بعض، والمجتمع الذي تسود فيه روح التعاطف والتحابب، وتتصافى فيه القلوب يكون مجتمعاً مستقراً متكاتفاً متقدماً إلى الإمام.

من مصاديق العدل ومظاهره

مسألة: قد جعل الإسلام العدل من قواعده الأساسية، قال سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ»(3).

وقال تعالى: «وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ»(4).

وقال علي (علیه السلام): «العدلأقوى أساس»(5).

ص: 373


1- سورة البقرة: 229.
2- راجع للإمام المؤلف (قدس سره) (الفقه: الاجتماع)، و(الفقه: الحقوق)، و(الفقه: الدولة الإسلامية)، و(الفقه: المحرمات)، وغيرها.
3- سورة النحل: 90
4- سورة النساء: 58.
5- مستدرك الوسائل: ج11 ص318 ب37 ح13146.

..............................

وقال (علیه السلام): «العدل زينة الإمارة»(1).

ولذا لم يكن في الإسلام حدود جغرافية، ولا تمايز بالألوان واللغات والعشائر وما أشبه، بل «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ»(2).

ولهذا السبب التفّ الناس حول الإسلام أيما التفاف، بعد أن رأوا العدالة في مختلف شؤون:

العبادية..

والاقتصادية: كالإرث والضرائب الأربعة فقط وحق حيازة المباحات والتجارة الحرة..

والسياسية: فلكل من جمع الشرائط أن يكون والياً مثلاً، من أية لغة أو قومية أو ما أشبه، وكذلك «يسعى بذمتهم أدناهم»(3) وغير ذلك..والجزائية.. وغيرها.

فكل الناس في ذلك شرع سواء، إلاّ فيما خرج بالدليل كبعض الأمور النابعة من مقتضى واقع الحال والعدل مثل: (تعدد الزوجات)، وأن «لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ»(4)وما أشبه، حيث إن هذا الاختلاف - على ما بين في الشرع - هو مقتضى العدالة، والمساواة في أمثال هذه الموارد هو على خلاف العدالة، وذلك كالمساواة بين البقال والمهندس، أو الجاهل والعالم، في الاحترام

ص: 374


1- بحار الأنوار: ج75 ص91 ب16 ح96.
2- سورة الحجرات: 13.
3- تهذيب الأحكام: ج4 ص131 ب37 ح2، والتهذيب: ج6 ص140 ب61 ح1.
4- سورة النساء: 11.

..............................

وفي العطاء، أو بين الطفل الصغير وأخيه الأكبر في كمية الأكل، أو ما أشبه ذلك، وقد ذكرت فلسفة كل تلك الموارد في الكتب المعنية بهذا الشأن(1).

تأليف القلوب

مسألة: يستحب - وقد يجب - السعي لتنسيق القلوب وتأليفها وجمعها وتصافيها.

قال تعالى: «لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ»(2).

وقال عزوجل: «وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ»(3).

وذلك عبر تكريس التقوى في النفوس، وعبر تربية النفس والناس على الإغضاء عن السيئة، والعفو والصفح، وعلى سعة الصدر، وفي الحديث: «المؤمن مألوف، ولا خير فيمن لا يَألف ولا يُؤلف»(4).

هذا وفي الأحاديث أنه بهم (عليهم أفضل الصلاة والسلام) يؤلف الله بين القلوب، قال (علیه السلام): «بنا يؤلف الله بين قلوبهم بعد عدواة الفتنة»(5).

ص: 375


1- راجع للإمام المؤلف (قدس سره): (الفقه: الاقتصاد)، والفقه: الحقوق)، و(القول السديد في شرح التجريد)، و(شرح المنظومة)، وغيرها.
2- سورة الأنفال: 63.
3- سورة الأنفال: 46.
4- الكافي: ج2 ص102 باب حسن الخلق ح17.
5- بحار الأنوار: ج51 ص84 ب1 الرابع والثلاثون ضمن ح37.

..............................

وعبر عدم فسح المجال لرواج الغيبةوالتهمة والنميمة، وعبر سلسلة من البرامج العملية التي تقضي على التدابر والتحارب بين المؤمنين، كما فعل الإمام الصادق (علیه السلام) ذلك حيث دفع كمية من الأموال للبعض من أتباعه كي يصلح به أي نزاع مالي يحدث بين مؤمنَين(1).

ومن الواضح أن أحكام الله تعالى تابعة لمصالح ومفاسد في المتعلقات إلا نادراً (2)، وهي (صلوات الله وسلامه عليها) تشير ها هنا إلى أن المصلحة في إيجاب العدل - أو جزءها - هي تنسيق القلوب، وإذا كان كذلك كان الراجح، بل اللازم في بعض الأحيان السعي لتنسيقها عبر ما يزيد على العدل، كالإحسان مثلاً، وكما فيما سبق.

ص: 376


1- راجع الكافي: ج2 ص209 باب الإصلاح بين الناس ح4.
2- كما لو كانت المصلحة في نفس الأمر أو النهي، كما في قصة أمره تعالى بذبح إسماعيل (علیه السلام). راجع التفاسير في تفسير قوله تعالى: «فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ» - سورة الصافات: 102 -.

وطاعتنا نظاماً للملة،

اشارة

-------------------------------------------

وجوب إطاعة أهل البيت (علیهم السلام)

مسألة: يجب إطاعة أهل البيت (عليهم أفضل الصلاة والسلام) وإعلام الناس بذلك، فإن الله سبحانه وتعالى جعلهم (علیهم السلام) هداة للخلق بعد النبي (صلی الله علیه و آله)، كما جعل الأنبياء والمرسلين(علیهم السلام) هداة للناس، وكذلك الأمر في أوصياء الأنبياء (علیهم السلام)، وفي الأحاديث أنه: «كان لكل نبي وصي»(1).

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «أيها الناس، إن علياً إمامكم من بعدي وخليفتي عليكم، وهو وصيي ووزيري وأخي وناصري، وزوج ابنتي وأبو ولدي، وصاحب شفاعتي وحوضي ولوائي، من أنكره فقد أنكرني، ومن أنكرني فقد أنكر الله، ومن أقر بإمامته فقد أقر بنبوتي، ومن أقر بنبوتي فقد أقر بوحدانية الله عزوجل. أيها الناس، من عصى علياً فقد عصاني، ومن عصاني فقد عصىالله»(2).

ولا يخفى أن الإيمان بوجوب إطاعة أهل البيت (علیهم السلام) إنما يكون بعد الاعتقاد بأن الله سبحانه وتعالى نصبهم حججاً على خلقه وأدلة لعباده.

و(أهل البيت) يشمل فاطمة الزهراء (علیها السلام) - بالإضافة إلى النبي (صلی الله علیه و آله) والأئمة الطاهرين (علیهم السلام) - وقد دلت على ذلك آية التطهير(3) وروايات

ص: 377


1- من لا يحضره الفقيه: ج4 ص180 باب الوصية من لدن آدم (علیه السلام) ح5407.
2- بحار الأنوار: ج38 ص129 ب61 ح81.
3- قوله تعالى: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» - سورة الأحزاب: 33 -.

..............................

متواترة(1)، فهي (صلوات الله عليها) واجبة الطاعة، كوجوب طاعة الرسول(صلی الله علیه و آله) والأئمة الاثني عشر (عليهم الصلاة والسلام)(2).و(الملة): الطريقة والدين والشريعة(3)، أي ما شرعه الله سبحانه لعباده بواسطة أنبيائه (علیهم السلام) لإيصالهم للسعادة الدنيوية والأخروية، قال تعالى: «مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ»(4) أي: دينه.

وقد استعملت في مطلق الشرائع والملل حتى الباطلة، قال تعالى: «حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ»(5)، أي: سنتهم وطريقتهم.

وقد تأتي بمعنى (الأمة) أيضاً(6).

و(النظام): بمعنى القوام، وبمعنى التأليف والجمع(7)..

ص: 378


1- راجع (عوالم العلوم ومستدركاته)، و(بحار الأنوار)، و(دلائل الصدق)، و(الغدير)، و(إحقاق الحق)، وغيرها من الكتب.
2- راجع (من فقه الزهراء (علیها السلام)) المجلد الأول، المقدمة.
3- وفي لسان العرب: ج11 ص631 مادة ملل: (والملة: الشريعة والدين... وقيل: هي معظم الدين... وملتهم: سنتهم وطريقتهم).
4- سورة الحج: 78.
5- سورة البقرة: 120.
6- وفي لسان العرب: ج11 ص631 مادة ملل: (وفي الحديث: «لا يتوارث أهل ملتين»، الملة : الدين، كملة الإسلام والنصرانية واليهودية).
7- قال في مجمع البحرين: ج6 ص176 مادة نظم: (النظام بالكسر: الخيط الذي ينظم به اللؤلؤ). وقال في لسان العرب: ج12 ص578 مادة نظم: (النظم: التأليف... وكل شيء قرنته بآخر أو ضممت بعضه إلى بعض فقد نظمته). وفي القاموس المحيط: ج4 ص181: (النظم التأليف وضم شيء إلى شيء آخر… ونظم اللؤلؤ: ألفه وجمعه في سلك فانتظم). وفي المنجد: ومنه نظم الشعر لتأليفه كلاماً موزوناً ومقفى. فعلى هذا يكون المراد بقولها (علیها السلام): «وطاعتنا نظاماً للملة» تشبيه الملة - أي الشريعة - باللآلي المنتثرة التي تكون إطاعتهم (علیهم السلام) سبباً لتأليف الدرر وجمعها على نظام بديع. هذا بالنسبة للمعنى الثاني الذي ذكره الإمام المؤلف (قدس سره)، وأما بالنسبة للمعنى الأول فقد جاء في مجمع البحرين: ج6 ص176 مادة نظم: (نظمت الأمر فانتظم أي أقمته فاستقام). وفي المنجد: (نظام الأمر قوامه). وفي لسان العرب: ج12 ص578 مادة نظم: (نظام كل أمر ملاكه... وليس لأمرهم نظام أي ليس له هدى ولا متعلق ولا استقامة). فعلى هذا يكون المراد بقولها (علیها السلام) : «نظاماً للملة» أن بإطاعتهم (علیهم السلام) يستقيم الدين ويستحكم، ولولا إطاعتهم لضعف واضمحل. قال (صلی الله علیه و آله): «إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض»، وسائل الشيعة: ج27 ص33-34 ب5 ح33144.

..............................

وكلا المعنيين محتمل هنا، ولكل منهما مرجحات، ويمكن أن يكون المراد به الجامع.

إطاعتهم (علیهم السلام) سبب للنظام

مسألة: من الضروري التنبيه على أن طاعتهم (علیهم السلام) هو الذي يوجب إيجاد وحفظ واستقرار النظام ودعوة الناس لذلك، فإن الملة والشريعة تحتاج إلى النظام بكلا معنييه، وطاعتهم (علیهم السلام) توجب جمع الملة وتأليفها وصونها عن التشتت والتناثر، كما توجب إقامة الملة والشريعة واستقامتها.

قال علي (علیه السلام): «والإمامة نظاماً للملة»(1).

ص: 379


1- غرر الحكم ودرر الكلم: ص176 ق2 ب1 ف3 ح3376، وفيه: «والإمامة نظاماً للأمة».

..............................

ومن المحتم بالبرهان أن نظام ملة الإسلام وشريعته هو أفضل الأنظمة على الإطلاق، بل لا قياس بينه وبين غيره(1).

وأما ما يكون بإطاعة غيرهم من (النظام) فإنما هو ظاهري ومحدود ومؤقت(2)، بل قد يكون أكثر إضراراً، ثمإنه (نظام) لمفردات ومصاديق وقوانين خاطئة في حد ذاتها غالباً.

وقد قال الشاعر:

ولو قلدوا الموصى إليه أمورها *** لزمت بمأمون على العثرات(3)

وقال: (ولو قدموا حظهم قدموكا).

وقال الرسول(صلی الله علیه و آله): «إني مخلف فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي لن تضلوا ما تمسكتم بهما، وأنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض»(4).

ص: 380


1- راجع موسوعة الفقه: كتاب القانون.
2- أشار المصنف (قدس سره) بقوله: (ظاهري) إلى عدم تجذر هذا النظام بل هو ك (الخشب المسندة)، وبقوله: (محدود) إلى عدم شموليته لشتى أبعاد الحياة: السياسية والاجتماعية والاقتصادية...، وبقوله: (مؤقت) إلى عدم استمرار هذا النظام على مر الأعصار، أي أشار إلى العمق والسعة والامتداد الزمني، وقد أوضح الإمام المؤلف (قدس سره) الثغرات الكبيرة في الحضارة الغربية وفي عدة كتب، منها: كتاب (الغرب يتغير)، كما تطرق إلى ذلك في مواطن شتى من (الفقه: السياسة)، و(الفقه: القانون)، و(الفقه الحقوق)، و(الفقه: الاقتصاد)، و(الفقه: الدولة الإسلامية)، وغيرها.
3- من قصيدة دعبل الخزاعي التي قرأها عند الإمام الرضا (علیه السلام) ، راجع بحار الأنوار: ج49 ص246 ب17 ح13.
4- هذه الرواية من الأخبار المتواترة، وقد رواها الفريقان في مختلف كتبهم، راجع (الغدير) للعلامة الأميني (رحمة الله)، و(المراجعات) للمرحوم شرف الدين، وبحار الأنوار للمجلسي (قدس سره).

..............................

وقد ورد في تفسير قوله تعالى: «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا»(1)، أي: ولاية علي وذريته (علیهم السلام)(2).

وقال (صلی الله علیه و آله): «وطاعتنا طاعة الله، ومعصيتنا معصية الله عزوجل»(3).

وقال (علیه السلام): «نحن قوم فرض الله طاعتنا في القرآن»(4).

وقال (علیه السلام): «إن الله تبارك وتعالى أوجب عليكم حبنا وموالاتنا وفرض عليكم طاعتنا»(5).

وقال (علیه السلام): «طاعتنا فريضة، وحبنا إيمان، وبغضنا كفر»(6).

حماية حماة الشريعة

مسألة: يجب إيجاد الشروط والظروف الموضوعية التي توفر الدعم والحماية لمن هم (علیهم السلام) بأقوالهم وسيرتهم السبب في نظام الشريعة؛فإن حمايتهم حماية للشريعة نفسها،قال تعالى: «وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى»(7).

فإنه يستفاد من كلامها (علیها السلام) أمران:

ص: 381


1- سورة آل عمران: 103.
2- راجع تفسير العياشي: ج1 ص194 من سورة آل عمران ح122و123.
3- بحار الأنوار: ج36 ص228 ب41 ح6.
4- وسائل الشيعة: ج9 ص532 ب1 ح12645.
5- مستدرك الوسائل: ج14 ص10 ب2 ح15958.
6- بحار الأنوار: ج26 ص252 ب5 ح24.
7- سورة المائدة: 2.

..............................

الأول: لزوم النظام للملة أولاً وبالذات، وهذا أمر عقلي قبل أن يكون شرعياً(1).

الثاني: إن هؤلاء المعصومين(علیهم السلام) هم الذين ينظمون الملة، وهذا شرعي من باب الأدلة النقلية الوفيرة، وعقلي من باب انطباق المواصفات اللازمة (علیهم السلام) دون غيرهم(2).

فإن ملة الإسلام تنتظم أمورها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتربوية والعسكرية والعائلية والمعاملية وغيرها بطاعة المعصومين (علیهم السلام)؛ وذلك لأن التشريعاتالإلهية والأحكام النبوية التي يتولونها توجب النظم وعدم الفوضى والخلل والاضمحلال.

و(الملة) بملاحظة مادتها قد تفيد معنى مل(3) بمعنى الملل؛ لأن الطريقة الوحيدة المتبعة توجب التكرار المسبب للملال غالباً، هذا من جهة اللفظ.

أما الواقع فإن الصحيح والمستقيم والحق هو الذي لا يمل وإن تكرر، ولذا لا يمل ضوء النهار وجريان الأنهار وغير ذلك من الأمور التكوينية على تكررها، وكذا الحال في الأمور التشريعية، فإنه لا يحيد أي عاقل عن الصحيح إلى غير الصحيح وإن تكرر الصحيح. نعم، من كان منحرفاً في ذاته ربما رجح الباطل.

ص: 382


1- راجع موسوعة الفقه: كتاب القانون.
2- راجع كتاب (الألفين) للعلامة الحلي (قدس سره).
3- على القول بأن المصدر مشتق من الفعل الأمر واضح، وأما على العكس فليس المقصود - كما هو واضح - الاشتقاق إذ هذا بلحاظ الصورة بل الجامع، وقد أشار الإمام المؤلف (قدس سره) إلى ذلك بكلمة (مادتها).

وإمامتنا أماناً للفرقة

اشارة

-------------------------------------------

وإمامتنا أماناً للفرقة(1)،

الاعتقاد بالإمامة

الاعتقاد بالإمامة (2)

مسألة: يجب الاعتقاد بإمامة أهل البيت (علیهم السلام) كما يجب إرشاد الناس لذلك، على ما يستفاد من (جعل الله…إمامتنا)، ولغير ذلك من الأدلة الكثيرة المذكورة في مظانها.

إذ جعل الإمامة أماناً، إنما هو بالجعل المركب، وجعلها هي بسيط، والإمامة غير الطاعة، فالإمامة مقدمة على الطاعة رتبةً كتقدم السبب على المسبب(3) فإذا لم يعتقد إنسان بإمامتهم (علیهم السلام) أتخذ لنفسه إماماً آخر، وهذا يوجب الفرقة كما لا يخفى، وقد حصل بالفعل بعد أن اتخذ الكثير من الناس أئمة غيرهم (علیهم السلام).

ولربما اعتقد شخص بالإمامة ولم يطع، أو أطاع ولم يعتقد، ولربما كانتالإمامة ولم توجد الإطاعة، أو بالعكس، فالنسبة بينهما عموم من وجه.

ص: 383


1- وفي بعض النسخ: «وإمامتنا لماً للفرقة» - راجع دلائل الإمامة: ص33 حديث فدك، وكشف الغمة: ج1 ص483 فاطمة (علیها السلام)، وفي بعضها: «وإمامتنا أمناً من الفرقة» - راجع بلاغات النساء: ص28 كلام فاطمة بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) -.
2- حول مبحث الإمامة، راجع (نهج الحق وكشف الصدق) للعلامة الحلي (رحمة الله) و(المراجعات) و(العقبات) و(الغدير) و(دلائل الصدق) و (إحقاق الحق) وغيرها.
3- فإن الإمامة علة وجوب الإطاعة، ولا تخفى الدقة في تعبيره ب (كتقدم).

..............................

التفرق عن سبيل الله

مسألة: تحرم الفرقة والتفرق في الجملة، وقد يكره حسب الموارد المختلفة، قال سبحانه: «فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ»(1)، وقال جل وعلا: «لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ»(2)، إلى غير ذلك من الآيات والروايات.

قال (علیه السلام): «وإياكم والتفرق»(3)، وقال (علیه السلام) : «ولا تسارعوا إلى الفتنة والفرقة»(4)، وقال (علیه السلام): «وإياكم والفرقة»(5).

ومن الواضح أن التفرق عن سبيل الله هو المحرم، أما التفرق في سبيل اللهوإلى الله، كما في «كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ»(6) فهو المطلوب.

السعي لتحقيق فعلية حاكميتهم (علیهم السلام)

مسألة: يجب السعي لتحقيق فعلية سلطتهم وحاكميتهم (علیهم السلام) باعتبارها هي (الأمان من الفرقة)؛ فإن واقع الإمامة غير السلطة وبسط النفوذ والسيطرة، وتنبيه الناس وإرشادهم إلى الواقع من المقدمات لذلك، أي أنها من الأسباب

ص: 384


1- سورة الأنعام: 153.
2- سورة الشورى: 13.
3- نهج البلاغة، الرسائل: 11 ومن وصية له (علیه السلام) وصى بها جيشاً بعثه إلى العدو.
4- الإرشاد: ج2 ص41.
5- نهج البلاغة، الخطب: 127 ومن كلام له (علیه السلام) وفيه يبين بعض أحكام الدين ويكشف للخوارج الشبهة وينقض حكم الحكمين.
6- سورة البقرة: 213.

..............................

التي تؤدي إلى فعلية السلطة والحاكمية، فتحقق فعلية (الأمن من الفرقة).

قولها (علیها السلام): «وإمامتنا أماناً للفرقة» فإن هذا غير الإطاعة، فقد يطيع الإنسان شخصاً ولا يتخذه إماماً، فكان لابدّ من إضافة هذه الجملة: (إمامتنا) على الجملة السابقة.

ثم إن الإطاعة ليست بمفردها هي الضمان من الفرقة، إذ الفرقة عقائديةونفسية وعملية، والإطاعة قد تكون ضماناًُ من الأخيرة فقط، أما من يتخذهم (علیهم السلام) أئمة فإنهم (علیهم السلام) أمان من الفرقة، إذ الباطل دائماً يضرب بعض الناس ببعض ليسود، قال سبحانه: «إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَْرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً»(1).

وفي المثل الباطل: (فرّق تسد).

أما هم (علیهم السلام) فإنهم يعطون كل ذي حق حقه، ويتيحون الفرص للجميع على حسب قول علي (علیه السلام):

«الناس من جهة التمثال أكفاء *** أبوهم آدم والأم حواء»(2)

وكذلك يؤلفون بين القلوب ويجمعون الكلمة على التقوى، ويزرعون روح الأخوة الإيمانية والتعاون، وحين ذاك يكون الناس مأمونين من الاختلاف والتفرقة عملياً، كما أنهم يأمنون - بالاعتقاد بإمامتهم (علیهم السلام) - من التفرقة العقائدية.

وقد تقدم أنها (علیها السلام) أشارت إلى (الإمامة) التي من أصولالدين الخمسة،

ص: 385


1- سورة القصص: 4.
2- الديوان المنسوب إلى أمير المؤمنين (علیه السلام): ص24 الناس من جهة التمثال أكفاء.

..............................

ومن ذلك يظهر أن (الإمامة) بمعنى الرئاسة العامة الفعلية هي أمان فعلي من الفرقة - عكس رئاسة الغير - التي هي ليست أماناً من الفرقة.

أما (الإمامة) بمعنى ذلك المنصب الإلهي فهي بحد ذاتها مقتض للأمن من الفرقة، ويوضح ذلك بكلا شقيه الحال في الأنبياء والرسل (علیهم السلام)، فإذا اعتقد الناس بها - كما أمرهم الله تعالى به أمراً تشريعياً - واتخذوها الدليل والمرشد والمنهج الراسم لمسيرة حياتهم في شتى الأبعاد، كانت أماناً بالفعل.

ومن الواضح أن وكلاءهم (علیهم السلام) امتداد لهم، وإتباعهم وسلطتهم - بما هم وكلاء لهم - شعبة من إطاعتهم والاهتداء بهديهم (علیهم السلام).

قال (علیه السلام): «فإني قد جعلته عليكم حاكماً»(1).

وقال (عجل الله تعالى فرجه الشريف):«فللعوام أن يقلدوه»(2).

ص: 386


1- تهذيب الأحكام: ج6 ص218 ب87 ح6، والتهذيب: ج6 ص302 ب92 ح52.
2- وسائل الشيعة: ج27 ص131 ب10 ح33401.

والجهاد عزاً للإسلام

اشارة

-------------------------------------------

والجهاد عزاً للإسلام(1)،

الجهاد في سبيل الله

الجهاد في سبيل الله(2)

مسألة: يجب الجهاد في سبيل الله تعالى، والمراد بالجهاد ما ذكر في (الفقه) بأقسامه الثلاثة: الابتدائي والدفاعي والبغاة، لا جهاد النفس، إذ المنصرف منه ذلك وبقرينة قولها: «عزاً للإسلام».

وإن كان جهاد النفس أيضاً من الواجبات بل سماه رسول الله (صلی الله علیه و آله): «الجهاد الأكبر»(3)، وقد يكون ذلك نظراً لأصعبيته من جهات عديدة، إذ يستمرطوال حياة كل فرد، ويواجه مختلف شهوات النفس: من حب المال والرئاسة، والرياء والسمعة، والكبر والعجب، وحفظ اللسان واليد والعين والسمع و...

قولها (علیها السلام): «والجهاد عزاً للإسلام»؛ لأن أعداء الإسلام يحاولون - باستمرار - النفوذ إلى داخل بلاد المسلمين، والسيطرة على مقدراتهم - بشكل أو بآخر - فالجهاد يكون وقاية أو علاجاً(4) رفعاً أو دفعاً، كما يكون سبباً لتقدم بلاد

ص: 387


1- وفي بعض النسخ: «وحبنا عزاً للإسلام» - راجع بلاغات النساء: ص28 كلام فاطمة (علیها السلام) بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) - فيدل على وجوب محبة أهل البيت (علیهم السلام) كما يدل على ذلك الآيات الشريفة ومتواتر الروايات، قال تعالى: «قُلْ لاَ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى» سورة الشورى: 23.
2- راجع موسوعة الفقه: ج47-48 كتاب الجهاد.
3- الكافي: ج5 ص12 باب وجوه الجهاد ح3.
4- الوقاية في الجهاد الابتدائي، والعلاج في الجهاد الدفاعي.

..............................

الإسلام، ويكون سبباً لإرجاع المنحرف إلى الصراط المستقيم، إذ الجهاد ابتدائي ودفاعي وإصلاحي..

كما قال سبحانه: «وَإِنْ طَائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُما عَلَى الأُخْرى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّه»(1).

إعزاز الإسلام واجب

مسألة: كل ما يوجب عز الإسلام فهو واجب أو مستحب، فإذا كان وجوب الجهاد لأجل إعزاز الإسلام كان كل ما يوجب عزه راجحاً، وقد يصل إلى مرحلة الوجوب، باعتبار أن (العزة) ذات مراتب، بعضها واجب التحصيل وبعضها مندوب.

فمثلاً (شعائر الله) بعضها واجب وبعضها مستحب، على حسب مالها من المدخلية في (عز الإسلام) كأحد الملاكات، كما لا يخفى(2).

ص: 388


1- سورة الحجرات: 9.
2- أي أن (عز الإسلام) أحد الأسباب التي تقتضي الوجوب أو الاستحباب وليس الأمر منحصراً به، فلربما يجب الشيء لجهة أخرى.

والصبر معونة على استيجاب الأجر

اشارة

-------------------------------------------

والصبر معونة على استيجاب الأجر(1)،

الصبر

الصبر(2)

مسألة: يجب الصبر في موارد، ويستحب في موارد أخرى، كما سيأتي.

وحيث أطلقت (علیها السلام) (الصبر) شمل الصبر على أداء الواجبات، والصبر عن المحرمات، والصبر في النوازل والمصائب والمشاكل الشخصية والعائلية والاجتماعية بمختلف أبعادها، كما ورد في الحديث: «الصبر على ثلاثة أوجه: فصبر على المصيبة، وصبر عن المعصية، وصبر على الطاعة»(3).

ومن الواضح أن الصبر في هذه المواطن المذكورة بين واجب ومستحب، كالكثير من الأحكام الجوارحية والجوانحية الأخرى.

وإلى الأقسام الثلاثة من الصبر أشارت الآيات الكريمة:قال تعالى: «وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا»(4).

وقال سبحانه: «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ»(5).

وقال تعالى: «وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ»(6).

ص: 389


1- وفي بعض النسخ: «والصبر معونة على الاستجابة» راجع دلائل الإمامة: ص33 حديث فدك .
2- راجع (الفضيلة الإسلامية) للإمام المؤلف (قدس سره)، وجامع السعادات) للمولى النراقي (قدس سره).
3- بحار الأنوار: ج74 ص422 ب15 ضمن ح40.
4- سورة طه: 132.
5- سورة القلم: 48، سورة الإنسان: 24.
6- سورة الكهف: 28.

..............................

وقال سبحانه: «فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ»(1).

وقال تعالى: «وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ»(2).

إلى غير ذلك من الآيات الشريفة.

وحيث إنها (علیها السلام) كانت في صدد بيان بعض الفروع المهمة التي لها مدخلية في قوة المجتمع واستقامته وتقدمه ذكرت الصبر؛ إذ «الصبر مفتاح الفرج»(3)، وسبب التقدم، ويدفع الإنسانعلى تحمل ما يوجب له الأجر في الدنيا والآخرة، قال سبحانه: «وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ»(4).

فإنه لا يتقدم متقدم في أي بعد من أبعاد الحياة - سواء كان فرداً أم أمة أم جماعة - إلاّ بالصبر، قال تعالى: «إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ»(5). ولذا قال علي (علیه السلام): «اعلموا أن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا خير في جسد لا رأس له»(6).

وفي الحديث: «ولا إيمان لمن لا صبر له»(7).

وقال (علیه السلام): «نعم عون الدين الصبر»(8).

ص: 390


1- سورة الأحقاف: 35.
2- سورة البقرة: 177.
3- شرح نهج البلاغة: ج20 ص307 الحكم المنسوبة 514.
4- سورة الشورى: 43.
5- سورة الأنفال: 65.
6- الخصال: ج1 ص315 خمسة لو رحل الناس فيهن ما قدروا على مثلهن ح96.
7- الكافي: ج2 ص89 باب الصبر ح4.
8- مستدرك الوسائل: ج17 ص347 ب1 ح21542.

..............................

وقال (علیه السلام): «أفضل العبادةالصبر»(1).

وقال (علیه السلام): «الزم الصبر؛ فإن الصبر حلو العاقبة، ميمون المغبة»(2).

ومن الواضح - بعد ذلك - أن الصبر حالة إيجابية، ولذا قال تعالى: «اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ»(3) وليس حالة سلبية؛ فإنه يعني الصبر على مشاق الطاعات كالصلاة والصوم والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر عن إتيان المحرمات.

أما الصبر في مشاق الحياة فهو يعني تحملها بجلد دون الانهيار تحت وطأتها «إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ»(4) فيما لا قدرة للإنسان على الخلاص منها - دائماً أو لفترة - كمرض ميئوس منه أو سجن لا مخلص للإنسان منه.

أما إذا كان له طريق للخلاص من المرض أو الفقر أو سجن الحاكم الجائر أو ما أشبه ذلك من مشاكلالحياة، فعليه أن يسعى للخلاص منه. ف: «إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ»(5).

وقال تعالى: «رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ»(6).

ص: 391


1- الإرشاد: ج1 ص302 ومن كلامه (علیه السلام) في وصف الإنسان.
2- غرر الحكم: ص284 ق3 ب2 ف7 جملة من فوائد الصبر ح6353.
3- سورة البقرة: 153.
4- سورة هود: 11.
5- سورة الرعد: 11.
6- سورة البقرة: 250.

..............................

لا أن يبقى الإنسان على الوضع الذي هو فيه - مما لا يريده الله سبحانه - مدعياً الصبر(1)، قال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا»(2).

السعي لاستحقاق الأجر والثواب

مسألة: يجب - في الجملة - القيام بما يوجب استحقاق الأجر والثواب، وهو الذي اعتبرته (علیها السلام) العلةلجعله جل وعلا (الصبر).

و«استيجاب الأجر»، أي استحقاقه(3)، كما ورد في الدعاء:

«من غير استحقاق لاستماعك مني ولا استيجاب لعفوك عني»(4).

و: «وباعدتني عن استيجاب مغفرتك»(5).

وفي الصحيفة السجادية: «ولا يبرئ نفسه من استيجاب نقمتك»(6).

وقد يجيء باب الاستفعال بمعنى الفعأل المجرد(7) فيكون الصبر - على هذا -

ص: 392


1- راجع (الفضيلة الإسلامية) للإمام المؤلف (قدس سره).
2- سورة النساء: 97.
3- استوجب الشيء استيجاباً: استحقه. راجع لسان العرب: ج1 ص793 مادة وجب.
4- المصباح للكفعمي: ص589 دعاء السحر لعلي بن الحسين (علیه السلام) رواه حمزة الثمالي.
5- بحار الأنوار: ج91 ص347 ب46 ح4.
6- الصحيفة السجادية الكاملة: ص170 الدعاء 39 وكان من دعائه (علیه السلام) في طلب العفو والرحمة.
7- راجع (البلاغة) للإمام المؤلف (قدس سره)، فيكون الاستيجاب بمعنى الوجوب، واستيجاب الأجر أي: وجوبه، والوجوب هو الثبوت واللزوم.

..............................

معونة على ثبوت الأجر ولزومه.

فإن العمل الصالح يحتاج إلى لزوم أجره وثبوته بنحو العلة المبقية، وكثير من الناس من يحبط عمله ب (الجزع) مثلاً.

فالصبر هو المعين على دوام الأجر وعدم حبطه، قال (علیه السلام): «من أعطي الصبر لم يحرم الأجر»(1).

وحيث إن (الأجر) بين ما يجب عقلاً تحصيله أو المحافظة عليه، وبين ما يستحب، كان إتيان وإنجاز ما يوجبه بين واجب ومستحب، فمثلاً:

الفقير الذي يكتسب لقوت يومه وقوت عياله يجب عليه العمل لاستيجاب الأجر الذي يوفر لهم المأكل والملبس، أما الزائد منه على قدر الضرورة فهو مستحب.

و(الأجر) قد ينصرف للأجر الإلهي، ولكنه لغة وعرفاً يطلق على الأجر الدنيوي منه والأخروي، وربما يستظهر من كلامها (علیها السلام) إرادة الأعم، وقد يؤيد ذلك بقرينة السياق، فتأمل.

ص: 393


1- وسائل الشيعة: ج7 ص28 ب2 ح8622.

والأمر بالمعروف مصلحة للعامة،

اشارة

-------------------------------------------

وجوب الأمر بالمعروف

وجوب الأمر بالمعروف(1)

مسألة: يجب الأمر بالمعروف في الجملة، فإن كان المعروف واجباً وجب، وإن كان مستحباً استحب إلاّ لو طرأ عليه عنوان ثانوي فقد يجب حينئذ.

قال تعالى: «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ»(2).

وهو واجب كفائي، فإن قام به من فيه الكفاية وإلاّ وجب على الجميع.

وقوله تعالى: «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ»(3) قد يفيد ضرورة تفرغ أو تخصص مجموعة لذلك، وكان ذلك من أسباب تفرغ رجال الدين للهداية والتبليغ على مر العصور.

ولا يبعد أن يراد ب (الأمر بالمعروف) هنا: الأعم منه ومن النهيعن المنكر، لإطلاق كل واحد منهما على الآخر إذا انفرد، فإن الأمر بالصلاة وكذلك النهي عن شرب الخمر كلاهما أمر بالمعروف توسعاً(4).

ص: 394


1- راجع موسوعة الفقه: ج48 كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
2- سورة آل عمران: 104.
3- سورة آل عمران: 104.
4- أي: أنه مجاز للتلازم بينهما، إذ كل نهي عن المنكر يستلزم عقلاً وعرفاً الأمر بضده، فالنهي عن شرب الخمر يستلزم الأمر بترك شربه.

..............................

وقد وصف سبحانه وتعالى الأمة بأنها «خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» (1)؛ لأنها اتصفت ب: «تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ» (2)، ولا يخفى ما لجعل الأمر والنهي في سياق الإيمان بالله من الدلالة على أهميتها.

وفي الحديث:

«فبدأ الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة منه، لعلمه بأنها إذا أديت وأقيمت استقامت الفرائض كلها، هيّنها وصعبها... »(3).

قال (علیه السلام): «غاية الدينالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»(4).

وقال (علیه السلام): «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلقان من خلق الله، فمن نصرهما أعزه الله، ومن خذلهما خذله الله»(5).

وقال (علیه السلام): «الأمر بالمعروف أفضل أعمال الخلق»(6).

ص: 395


1- سورة آل عمران: 110.
2- سورة آل عمران: 110.
3- بحار الأنوار: ج97 ص79 ب1 ح37.
4- مستدرك الوسائل: ج12 ص185 ب1 ضمن ح13837.
5- الكافي: ج5 ص59 باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ح11.
6- مستدرك الوسائل: ج12 ص185 ب1 ح13837.

..............................

مراعاة المصلحة العامة

مسألة: تجب مراعاة المصلحة العامة، وإنما استفيد من هذه الجملة وجوب مراعاة المصلحة العامة - مع قطع النظر عن الأدلة العقلية والنقلية الأخرى الدالة على ذلك - لأنها (علیها السلام) جعلتها العلة الغائية لجعله سبحانه وتعالى (الأمر بالمعروف)، فقد أوجبه جل وعلا لأنه الطريق لمصلحة العامة، فلولا وجوبها لما ترشح الوجوب إلى الوسيلة والسبب، فتدبر. وغير خفي أن ذلك غير ما ذهبوا إليه من (المصالح المرسلة)(1).

فليست (المصلحة العامة) مشرّعة، بل إنها تنقح موضوع القواعد الأولية والثانوية، وقد أوضحنا في العديد من الكتب أن الشؤون العامة يكون المرجع فيها هو (شورى الفقهاء المراجع)(2).ومن البين أن مصلحة العامة على قسمين:

1. مصلحة لازمة تمنع النقيض.

2. ومصلحة ليست بتلك الدرجة.

فالمانعة من النقيض واجبة، والراجحة مستحبة.

ص: 396


1- راجع (الأصول)، و(الوصائل إلى الرسائل)، و(الفقه: القانون) للإمام المؤلف (قدس سره).
2- يراجع حول هذا المبحث الكتب التالية: (موسوعة الفقه: كتاب البيع ج4و5)، و(الشورى في الإسلام)، و(الفقه: الدولة الإسلامية) للإمام المؤلف (قدس سره)، وكذلك (شورى الفقهاء المراجع) للشيخ ناصر الأسدي، و(شورى الفقهاء دراسة فقهية أصولية) لآية الله السيد مرتضى الشيرازي.

..............................

كما أنه يعلم مما تقدم أنه أعم مما ينهى عنه أو يأمر به.

قولها (صلوات الله عليها): «مصلحة للعامة»؛ لأن بالأمر بالمعروف تستقيم أمور العامة وتهتدي إلى سبل الرشاد، وبتركه تنحرف إلى ما يفسد دينهم ودنياهم.

ومن مصاديق ذلك ما أشارت إليه الرواية الشريفة: «لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليستعملن عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم»(1).

ويظهر من الروايات الشريفة ومن التدبر الكامل في أبعاد القضايا أنهيخطئ من يتصور أن تركه للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - سواء كان منكراً صادراً من الحكومة أم من آحاد الناس - يخلصه من المشاكل ويجعله بمنحي عن البلاء، فقد قال الإمام علي (علیه السلام): «واعلما أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقربان من أجل، ولا ينقصان من رزق»(2).

ولو تخلص من بلاء لأوقعه الله في بلاء أشد ولو بعد حين، كما في الرواية الآنفة: «ليستعملن».

ص: 397


1- الكافي: ج5 ص56 باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ح3.
2- نهج البلاغة، الخطب: 156 ومن كلام له (علیه السلام) خاطب به أهل البصرة على جهة اقتصاص الملاحم، نهج البلاغة، قصار الحكم: 374.

..............................

بيان الأحكام

مسألة: يجب بيان الأحكام الشرعية للناس وجوباً كفائياً عموماً، ويمكن بيانها في الخطاب أيضاً، كما بينت الزهراء (علیها السلام) قسماً من الواجبات والمحرمات في خطبتها.

فإنها (عليها الصلاة والسلام) على حسب اقتضاء المقام بينت قسماً من الأحكام الشرعية للناس، وهي أسوة، والفعل - وكلامها من هذه الجهة من مصاديقه - في أمثال المقام دليل الرجحان الأعم من الوجوب والاستحباب.

قال (علیه السلام): «بينوا ما ذكره الله»(1).

وقال (علیه السلام): «بينوا للناس الهدى الذي أنتم عليه»(2).

وقال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُوَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ»(3).

وقال سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ»(4).

ص: 398


1- بحار الأنوار: ج36 ص108 ب39 ح57.
2- تصحيح الاعتقاد: ص71 فصل في النهي عن الجدال.
3- سورة البقرة: 159.
4- سورة البقرة: 174.

وبر الوالدين وقاية من السخط

اشارة

-------------------------------------------

وبر الوالدين وقاية من السخط(1)،

البر بالوالدين

البر بالوالدين(2)

مسألة: البر بالوالدين - في الجملة - واجب على ما هو مفصل في الفقه، قال الله تعالى عن لسان النبي عيسى (علیه السلام): «وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا»(3).

وعن يحيى (علیه السلام) قال تعالى: «وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا»(4).

وربما يظهر منه أن البر في مقابل التجبر والشقاوة والمعصية، وحيث إن التجبر والعصيان محرم فالبر واجب، فتأمل.

هذا إضافة إلى وقوعه في سياق الصلاة والزكاة وكونه وصية الله سبحانه الظاهرة - لولا القرينة - في الوجوب.والآيتان - بمعونة استصحاب الشرائع السابقة، بل دلالة الروايات على ذلك - كفيلتان بالمطلوب، فتأمل. قال تعالى: «وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً»(5) ولشفع الإحسان بالوالدين ب «لا تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ» ولقوله: «قَضَى» أكبر الدلالة، كما لا يخفى.

ص: 399


1- وفي بعض النسخ: «السخطة» - راجع كشف الغمة: ج1 ص484 فاطمة (علیها السلام) -.
2- حول هذا المبحث يراجع: (الفقه: الواجبات والمحرمات)، و(الفقه: الآداب والسنن)، و(الفضيلة الإسلامية)، و(الأخلاق الإسلامية)، للإمام المؤلف (قدس سره).
3- سورة مريم: 32.
4- سورة مريم: 14.
5- سورة الإسراء: 23.

..............................

وقال سبحانه: «أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ»(1).

وقال تعالى: «وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ»(2).

نعم، من البر ما هو مستحب أيضاً وهو الزائد على القدر الواجب، وقد ذكر هذا المبحث مفصلاً في علمي الأخلاق(3) والفقه.

قال (علیه السلام): «بر الوالدينواجب وإن كانا مشركين»(4).

وقال (علیه السلام): «بر الوالدين أكبر فريضة»(5).

وقال (علیه السلام): «بر الوالدين وصلة الرحم يزيدان في الأجل»(6).

إسخاط الوالدين

مسألة: يحرم ما يوجب سخط الوالدين، أو سخط الله سبحانه وتعالى، أو كليهما؛ لأن الألف واللام في (السخط)(7) قد يكون عوضاً عن المضاف إليه وهو الله تعالى، أو الوالدين، أو كليهما، أي (وقاية من سخط الله أو الوالدين أو...) أو إنه للجنس مثلاً.

ص: 400


1- سورة لقمان: 14.
2- سورة العنكبوت: 8، سورة لقمان: 14، سورة الأحقاف: 15.
3- راجع جامع السعادات للمولى النراقي (قدس سره).
4- وسائل الشيعة: ج16 ص155 ب11 ح21229.
5- مستدرك الوسائل: ج15 ص178 ب68 ح17924.
6- بحار الأنوار: ج71 ص83 ب2 ضمن ح90.
7- في قولها (علیها السلام): «وقاية من السخط».

..............................

قال رسول الله(صلی الله علیه و آله): «رضا الله مع رضا الوالدين، وسخط الله مع سخط الوالدين»(1).وقال (صلی الله علیه و آله): «يا علي، رضا الله كله في رضا الوالدين، وسخط الله في سخطهما»(2).

وقال (علیه السلام): «فإن رضاهما رضاء الله، وسخطهما سخط الله»(3).

ولا يخفى أن جملة من العلماء ذهبوا إلى عدم وجوب طاعة الوالدين إلاّ فيما إذا أوجب عدم الطاعة أذاهما لا مطلقاً.

ثم المستثنى أيضاً ليس على إطلاقه، فلو تأذى الوالدان من تجارة الولد مثلاً ونهياه عن العمل مطلقاً، أو عن خصوص التجارة منه مثلاً، أو أمراه بطلاق زوجته خصوصاً إذا كان له منها أولاد، لا تجب عليه الطاعة حتى لو أدى ذلك إلى سخطهما وأذاهما وعدم رضاهما؛ لأن إطلاقات أدلة (الطاعة) و(البر) منصرفة عن أمثال ذلك(4).

ص: 401


1- روضة الواعظين: ص368 مجلس في ذكر وجوب بر الوالدين.
2- جامع الأخبار: ص83 ف40.
3- تفسير القمي: ج2 ص149 سورة العنكبوت.
4- راجع موسوعة الفقه: ج93 كتاب المحرمات ص259 وفيه: (ثم إنهما إذا تأذيا لعدم إطاعة الولد لهما، فالظاهر أنه إذا كان أمرهما يوجب هدم حياة الولد العادية لم تجب الطاعة وإلا وجبت؛ لانصراف النصوص عن مثل ذلك، فإذا قال الوالدان لولدهما: تزوج بالبنت الفلانية، أو لا تسافر في تجارتك الكذائية، أو افتح دكاناً في المحل الفلاني لا المحل الفلاني، أو طلّق زوجتك، أو ما أشبه ذلك، لم يجب على الولد الطاعة بل له المخالفة وجريه العادي لكن مع التأدب في الكلام والملايمة في التخلص، والبحث بالنسبة إلى حقوق الوالدين وعقوقهما طويل، والروايات في الأمرين كثيرة نكتفي منه بهذا القدر)، انتهى.

..............................

و(السخط) يعني: الغضب والكره(1).

هذا ويحتمل أن يكون المراد من (السخط) هو السخط التكويني(2)؛ لأن عدم برّ الوالدين يؤدي إلى انفصام المجتمع وتشققه وتفككه وكراهية بعضه لبعض، إذ الأبناء إذا لم يبروا آباءهم لم يبرهم أبناؤهم، بل كان ذلك مقتضياً لعدم تعاون إخوانهم وسائر أقاربهم معهم، وإذا انفصمت العائلة انفصم الاجتماع وتفكك(3)، وهو من أكبر أقسام السخط، ويؤيد الثاني: إن أغلب العلل عقلية، واللام هنا قد تكون للعهد الذهني،فتأمل.

ص: 402


1- وفي لسان العرب: ج7 ص312 مادة سخط: (السٌخط والسَخط: ضد الرضا... وسخط الشيء سخطاً: كرهه، وسخط أي غضب فهو ساخط، وأسخطه: أغضبه، تقول: أسخطني فلان فسخطت سخطاً... السَخط والسخط: الكراهية للشيء وعدم الرضا به).
2- فينبغي على هذا تفسير السخط ب (الكره) كما هو أحد معانيه لا (الغضب)، فتأمل.
3- راجع كتاب (العائلة) للإمام المؤلف (قدس سره).

وصلة الأرحام منسأة في العمر، ومنماة للعدد

اشارة

-------------------------------------------

وصلة الأرحام منسأة في العمر، ومنماة للعدد(1)،

صلة الأرحام

مسألة: تجب صلة الأرحام، وتستحب بعض درجاتها، كما تستحب في بعض الأرحام، أصلاً وفصلاً، قال تعالى: «وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَائَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ»(2).

وقال (صلی الله علیه و آله): «صلة الرحم تزيد في العمر»(3).

وقال (علیه السلام): «صلة الأرحام تزكي الأعمال»(4).

وقال (علیه السلام): «صلة الأرحام تثمر الأموال، وتنسئ في الآجال»(5).

وقال (علیه السلام): «صلة الرحمتزيد في الرزق»(6).

وكل من (الصلة)(7) و(الأرحام)(8)موضوعان عرفيان، بمعنى: إن العرف

ص: 403


1- وفي بعض النسخ: «وصلة الأرحام منماة للعدد وزيادة في العمر» راجع دلائل الإمامة: ص33 حديث فدك.
2- سورة النساء: 1.
3- من لا يحضره الفقيه: ج4 ص368 باب النوادر وهو آخر أبواب الكتاب ح5762.
4- الكافي: ج2 ص150 باب صلة الرحم ح4، والكافي: ج2 ص152 باب صلة الرحم ح13.
5- مستدرك الوسائل: ج15 ص250 ب11 ضمن ح18143.
6- وسائل الشيعة: ج15 ص347 ب49 ح20704.
7- الصلة هنا بمعنى: البر - مجمع البحرين: ج5 ص492 مادة وصل.
8- الرحم: من يجمع بينك وبينه نسب - مجمع البحرين: ج6 ص70 مادة رحم - فيخرج بذلك الترابط السببي كأقارب الزوجة للزوج وبالعكس. وفي لسان العرب: ج12 ص232 مادة رحم -: (الرحم: القرابة، وذو الرحم هم القرابة، وخصها البعض بالقرابة من جهة الأب)، وقيدها بعض بنمط آخر: (المحارم الذين يحرم التناكح بينهم). والصحيح ما ذهب إليه المؤلف (رحمة الله)، والذي يبدو أن المعنى العرفي له: هو القرابة النسبية بمعنى كل ذي رحم وإن بعد ولكن إلى الحد الذي يسميه العرف رحماً. راجع سفينة البحار: مادة رحم.

..............................

هو المرجع في تشخيص ما هو صلة وما ليس بصلة، ومن هو رحم ومن ليس برحم.

نعم، لا يبعد الفرق بين الأرحام القريبة والبعيدة(1) وربما يحتمل أن الرحم البعيدة البعيدة جداً - ممايصدق عليها مع ذلك رحم لا كمثل القرابة معه في آدم وحواء (علیهما السلام) - يستحب صلتها وليست بواجبة.

قطع الرحم

مسألة: وكما تجب صلة الرحم يحرم قطعها، والكلام في القطع هو الكلام في صلة الرحم، من جهة الخصوصيات موضوعاً وحكماً، مضافاً ومضافاً إليه، وقد ذهب العديد من الفقهاء(2)- وهو المختار - إلى أن قطع الرحم ليست معصية فحسب بل هي من الكبائر أيضاً، قال تعالى: «فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (علیهم السلام) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ»(3).

ص: 404


1- أي في مراتب الاستحباب مثلاً.
2- ومنهم الشهيد (قدس سره) في (القواعد)، وراجع أيضاً موسوعة الفقه: ج93 كتاب المحرمات ص305، وفيه: (لا إشكال في أن قطع الرحم من الكبائر، وكل واحد من الرحم والقطع موضوعان عرفيان، وفي مورد الشك المرجع الأصول).
3- سورة محمد: 22-23.

..............................

وقال الصادق (علیه السلام): «لا يجد ريح الجنة عاق ولا قاطع رحم»(1).وقال (علیه السلام): «من قطع رحمه قطع الله عنه رحمته يوم يلقاه»(2).

وقال (علیه السلام): «ما آمن بالله من قطع رحمه»(3).

السعي لطول العمر

السعي لطول العمر(4)

مسألة: يستحب أن يأتي الإنسان بما يؤدي إلى طول عمره من الأسباب والعوامل الجسمانية والنفسانية والغيبية، إذ قد ذكرت (علیها السلام) أن الله سبحانه جعل لصلة الرحم - الواجبة في الجملة والراجحة مطلقاً - طول العمر ثواباً وجزاءً، وقد تقدم وجه الاستدلال، وقد ورد: «وأن تطيل عمري وتمد في أجلي»(5)، و: «وأن تجعل فيما تقضي وتقدر أن تطيل عمري»(6)، و: «أسألك أن تطيل عمري فيطاعتك»(7)، و: «وأن تصلي على محمد وآل محمد وأن تطيل عمري»(8)، و: «وطول العمر وحسن الشكر»(9)، وما أشبه ذلك.

ص: 405


1- تهذيب الأحكام: ج8 ص113 ب5 ح39.
2- فضائل الأشهر الثلاثة: ص78 كتاب فضائل شهر رمضان ح61.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: ص407 ق6 ب1 ف2 قطع الرحم وذمه ح9327.
4- راجع موسوعة الفقه: كتاب المسائل المتجددة، للإمام المؤلف (رحمة الله).
5- العدد القوية: ص381 اليوم الثلاثون.
6- تهذيب الأحكام: ج3 ص115 دعاء أول يوم من شهر رمضان.
7- بحار الأنوار: ج94 ص358 ب3 ح1.
8- العدد القوية: ص381 اليوم الثلاثون.
9- تهذيب الأحكام: ج3 ص123 وداع شهر رمضان ح39.

..............................

ولما سُئل (صلی الله علیه و آله) عن السعادة؟. قال: «طول العمر في طاعة الله»(1).

أما سؤال علي (عليه الصلاة والسلام) (2) والزهراء (صلوات

الله عليها) من الله تعالى الموت - كما هو المشهور(3) فهوللتزاحم من باب قاعدة (الأهم والمهم) ولبيان المظلومية وغير ذلك.

هذا وقد قال تعالى مخاطباً اليهود: «قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (علیهم السلام) وَلاَ يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ»(4).

ثم إن تأثير صلة الرحم في طول العمر وزيادة العدد، يمكن أن يكون بالأسباب الغيبية، ويمكن أن يكون بالأسباب الظاهرية؛ فإن من يصل رحمه يكون مرتاح الوجدان، مطمئن الضمير، واطمئنان الضمير وسكون النفس يوجبان طول العمر، لتأثير كل من الروح والبدن في الآخر، كما ذكرناه في مبحث آخر من هذا الكتاب.

إضافة إلى أن صلة الرحم يوجب الحيلولة دون كثير من النزاعات - التي

ص: 406


1- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: ج1 ص92 بيان السبب الذي ينال به حسن الخلق على الجملة.
2- ربما يكون إشارة إلى قوله (علیه السلام): «اللهم إني قد مللتهم وملوني، وسئمتهم وسئموني، فأبدلني بهم خيرا...» انظر بحار الأنوار: ج39 ص19 ب31.
3- راجع بحار الأنوار: ج43 ص177 ب7 ح15، وفيه: عن فضة: أن فاطمة الزهراء (علیها السلام) كانت تقول: «يا إلهي عجل وفاتي سريعاً». وفي علل الشرائع: ج1 ص43 ب38 ح1، عن نبي من الأنبياء (علیهم السلام) أنه قال: «سيدي قد ترى ضيق مكاني وشدة كربتي، فارحم ضعف ركني وقلة حيلتي، وعجل بقبض روحي ولا تؤخر إجابة دعائي».
4- سورة الجمعة :6-7.

..............................

تتولد وتتزايد من قطع الرحمواستمراره - ومن الواضح تأثير النزاعات على تحطيم الأعصاب وتدمير الصحة. وقد فصلنا البحث في كتاب (الآداب والسنن)(1)، وربما يشير إلى ذلك قوله (علیه السلام): «صلة الأرحام تحسن الخلق، وتسمح الكف، وتزيد في الرزق، وتنسئ في الأجل»(2).

وكذلك الأمر في تأثير صلة الرحم في تكاثر العدد لما سبق، والظاهر أنه لامانعة من الجمع بين الوجهين السابقين(3).

التكثير في النسل

التكثير في النسل(4)

مسألة: يستحب التناسل والتكثير من الأولاد، وقد اعتبرته (علیها السلام) النتيجة الثانية لجعله جل وعلا (صلة الرحم) وأمره بها، كما اعتبرته مشوقاً للناس وطريقاً لحضّهم على صلة الرحم؛فإن كثرة الأولاد مطلوبة للشارع كما هو واضح، وقد قال (صلی الله علیه و آله): «تناكحوا تناسلوا تكثروا؛ فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة ولو بالسقط»(5).

وقال (صلی الله علیه و آله): «تزوّجوا الودود الولود»(6).

ص: 407


1- راجع موسوعة الفقه: ج94-97 كتاب الآداب والسنن.
2- بحار الأنوار: ج71 ص114 ب3 ح74.
3- أي القول بأن تأثير صلة الرحم في طول العمر وزيادة العدد لأسباب غيبية أو لأسباب ظاهرية.
4- راجع تفصيل هذا المبحث في كتاب (الفقه: النكاح)، و(الفقه: الآداب والسنن)، و(العائلة) للإمام المؤلف (قدس سره).
5- جامع الأخبار: ص101 ف58.
6- مستدرك الوسائل: ج14 ص178 ب15 ح16437.

..............................

وقال (صلی الله علیه و آله): «سوداء ولود خير من حسناء عقيم»(1).

وقال (صلی الله علیه و آله): «وخير النساء الودود الولود»(2).

وقال (علیه السلام): «تناكحوا تناسلوا»(3).

وقال (علیه السلام): «حصير ملفوف في زاوية البيت خير من امرأة لا تلد»(4).

وفي القرآن الكريم: «فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً (علیهم السلام) يُرْسِلِالسَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً (علیهم السلام) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً»(5). وقال تعالى: «ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ»(6).

وبالعكس من كل ذلك قطع الرحم فإنه يقصر العمر وينقص العدد، وربما أدى إلى اندثار أسر بكاملها.

قولها (علیها السلام): «منماة» لوضوح أن الأرحام إذا وصل بعضهم بعضاً ازدادوا تعاضداً وتعاوناً، وتنامى حالة التآلف والتعاون والتقارب بين الأرحام وتلك توجب كثرة النسل، إذ توفر الأرضية الطبيعية للزواج وتذلل العقبات التي تحول دونه، كما توجب اطمئنان العوائل والأسر بمستقبل أبنائهم فيحضهم ذلك على زيادة النسل، إلى غير ذلك من أسباب النمو العددي.

ص: 408


1- جامع الأخبار: ص101 ف58.
2- دعائم الإسلام: ج2 ص191 ف1 ح689.
3- مستدرك الوسائل: ج14 ص153 ب1 ح16346.
4- مستدرك الوسائل: ج14 ص176 ب14 ح16431.
5- سورة نوح: 10-12.
6- سورة الإسراء: 6.

..............................

أما ما يرى اليوم في بعض البلاد الإسلامية من الحث على قلة النسل فهو من حيل الاستعمار(1).

ص: 409


1- راجع كتاب (العائلة) للإمام المؤلف (قدس سره)، وفيه تحت عنوان (فكرة تحديد النسل من وراءها): قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «تناكحوا تناسلوا تكثروا»، وقال أيضاً: «تناكحوا تناسلوا تكثروا؛ فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة ولو بالسقط»، والحديثان يتضمنان حكماً وإن كان على سبيل الاستحباب لكن خلافه كخلاف كل مستحب ومكروه لا يكون إلاّ في حالة الضرورة، فإن صلاة الليل مثلاً مستحبة ولا تسقط عن الاستحباب إلا لضرورة، وهكذا بقية المستحبات. ويدخل إكثار النسل ضمن هذه القاعدة، لكن ما يجري اليوم خلاف هذه الحقيقة تماماً، فقد أصبحت فكرة (إكثار النسل) فكرة غريبة على المسلمين وأحلوا محلها فكرة (تحديد النسل) التي كانت مستهجنة عند المسلمين حتى قبل سنين، فحتى في أشد فترات التأريخ بؤساً من التاريخ الإسلامي لم نشاهد من يدعو إلى هذه الأفكار المخالفة للعقل والفطرة. صحيح أنه كان بعض الحكام يقترفون المنكرات لكن كانت قوانين الإسلام جارية - عادة - في المجتمع، فكان الاقتصاد إسلامياً والمجتمع مسلماً، فلم تظهر في هذا المجتمع بوادر سلبية منحرفة. أما اليوم وبعد أن دخل الاستعمار الغربي بلادنا انقلب كل شيء... انقلب الحرام حلالاً... أصبح الغناء أمراً شائعاً... أصبح القمار أمراً مألوفاً... وأضحت الضرائب والمكوس والحدود الجغرافية ومصادرة الحريات والكبت والإرهاب والمنع عن الحج أموراً جائزة. وفي هذا الجو المنقلب على الإسلام أتتنا دعوة من الغرب تدعو المسلمين إلى تحديد النسل بحجة تدني المستوى الاقتصادي للأسرة، وهبوط مدخولات الدول التي لا تستطيع أن تفي بتعهداتها، من قبيل فتح المدارس وإنشاء المستشفيات، وما إلى ذلك من الخدمات الاجتماعية. أما هم فيشجعون أبناءهم على الزواج المبكر، ويشجعون التناسل والدعوة إلى الزواج والإنجاب، تبدأ مع تدريس الأولاد في الابتدائية وصاعداً. وهناك مخاوف كبيرة لدى العديد من قادة الغرب مفادها: إن الشعوب الأوربية في طريقها إلى الانقراض إذا بقي العد العكسي في معدلات نمو السكان. وهم يعرفون لماذا تنقرض شعوبهم؟. يعرفون السبب الكامن وراء تناقص السكان في أوربا... .............................. إن أهم سبب يكمن وراء ذلك هو الدعوة إلى تحديد النسل التي راجت أوروبا في الستينات، والتي زرعت في الذهنية الأوربية فكرة: إن إنجاب الأولاد هو عمل خاطئ، وظل الأوربيون يحملون هذه الفكرة حتى تضائل نسلهم. واليوم اكتشفوا أن الخطأ ليس في عملية الإنجاب بل في الدعوة إلى تحديد الإنجاب. واليوم ومع الأسف الشديد صدروا لنا هذه الدعوة بعد أن ذاقوا مساوءها، جاءوا بها إلى العالم الإسلامي ليدعوا المسلمين إلى تحديد النسل. وبعيداً عن الهالة التي أحاطوا بهذه الدعوة نستطيع أن نستقصي أهداف الغربيين منها، أنها من أجل دفع المسلمين إلى التضاؤل، فقد وجدوا في هذه الدعوة السلاح الفتاك القادر على أضعاف المسلمين بعد أن فشلت أسلحتهم الأخرى. نتساءل لماذا لا يطالبون اليهود في فلسطين المغتصبة بتحديد النسل؟. لماذا لانجد اليهود لا يعيرون أية أذن صاغية لهذه الدعوة؟. لماذا تشجع إسرائيل الإكثار من النسل، حتى أصبح من المناظر المألوفة - كما يذكر الصحفيون الذين زاروها - منظر النساء الحوامل وهن يجلن في الشوارع أو يعملن في المتاجر أو يدرسن في المدارس أو يشتغلن كشرطيات؟. لماذا تحرم إسرائيل الدعوة إلى تحديد النسل ونحن المسلمون نحللها، حتى البعض منا يعتبرها من الواجبات كالصوم والصلاة والعياذ بالله. إن قضية تحديد النسل دعوة سياسية هدفها تضعيف المسلمين ولا علاقة لها بالأمور الاقتصادية بالرغم مما يقولون. فنحن نتساءل: لماذا تحديد النسل؟. هل أن السنن الإلهية تغيرت في الكون؟. أم أن الطبيعة ومخلوقات الله تبدلت؟. أم أن أحكام الله سبحانه تختص بزمان دون آخر؟. أم لقلة أراضينا ومياهنا؟. أم لقلة مواردنا وإمكاناتنا؟. فالعالم الإسلامي يمتلك أراضي شاسعة صالحة للزراعة والعمارة ويمتلك مخزوناً كبيراً من المياه، ويزخر بالموارد والإمكانات التي لا تعد ولا تحصى. فمن غير الصحيح إطلاق أبواق تحديد النسل، إذ ليس هناك أي موجب لهذا العمل. مثلاً: العراق الذي كان يسمى ببلد السواد كانت نفوسه أكثر من أربعين مليون إنساناً في العهد العباسي حسب تقديرات بعض المؤرخين، واليوم لا يزيد عدد سكانه عن نصف هذا الرقم. وبلد كالسودان ربما كان باستطاعته أن يشبع القارة الإفريقية بأجمعها لما يملكه من أراض صالحة للزراعة وموارد مائية، وهكذا بقية البلاد الإسلامية التي تمتلك ثروة هائلة زراعية ومعدنية ونفطية. .............................. لكن إلى أين تذهب هذه الموارد؟. ولماذا تجمد تلك الثروات؟. هذا هو السؤال الذي يجب أن نجيب عنه. هذه هي المشكلة التي يجب حلها. وكل المشاكل هي نابعة من هذه المشكلة. فمشكلة التضخم السكاني، ومشكلة التفاقم الاقتصادي، ومشكلة التخلف الاجتماعي، ومشكلة فقدان الاعتبار السياسي، كل هذه المشاكل مصدرها مشكلة واحدة هي جور الحكام وظلمهم وتعسفهم ودكتاتوريتهم، وسيطرتهم على رقاب المسلمين، وتسييرهم لأمور البلاد حسب أهوائهم، وليس حسب الخطط السليمة ومصالح الشعوب. إن حاكماً واحداً في بلاد إسلامية هو صدام، سرق - حسب بعض الإحصاءات - من قوت الشعب 300 مليار دولار، مع قطع النظر عما دمره من ثروات الشعب في حروب عدوانية. فلو أضفنا إليه سرقات الحكام الآخرين على مدى التاريخ الحديث للبلاد الإسلامية فكم من ثروة المسلمين تبددت على أعتاب أهواء ونزوات هؤلاء الحكام؟. إن هناك من يسرق قوت الشعب، فكان لابد أن نقول له الحقيقة، ونواجهه بالمشكلة ونقول له: أنت سارق، وأن نطالبه بأن يرد أموال الناس إليهم، وليس أن نطالب الناس بأن يشدوا أحزمة الجوع على بطونهم، ونقول لهم: كفوا عن الزواج وكفوا عن التناسل، فليس هناك طعام تملئون به أفواه أبناءكم. إن قسماً كبيراً من ثروات البلاد الإسلامية ذهبت إلى بلاد الغرب، فقد دلت الإحصاءات أن خمس البشر يستهلكون أربعة أخماس ثروات العالم، وهم الذين يعيشون في الدول الصناعية، أما أربعة أخماس البشر وهم الفقيرة الذين يسمونهم بالعالم الثالث فهم لا يستهلكون سوى خمس ثروات الأرض. هنا تكمن الكارثة... فانعدام العدالة في الأرض وعدم تطبيق القوانين الإسلامية في التنمية، كقانون (من سبق) وقانون (الأرض لله ولمن عمرها)، ووجود الحكومات الخانقة وسيطرتها على الأمور، وكثرة الموظفين الكابتين لحريات الناس، وسوء التوزيع في الثروة، وانعدام صوت المعارضة، نسفت الشعوب الفقيرة وديست كرامتها. منعوا عنا الكلام... ثم منعوا عنا الطعام... ثم جاءوا اليوم ليقولوا لنا: كفى إنجاباً للأولاد. إن مشكلة النسل تعالج في الإسلام ضمن سياق النظام الإسلامي القائم على العدالة والتعددية: فبالعدالة يزيل الإسلام الفقر، ويزيل الحواجز بين الغني والفقير والحاكم والمحكوم. .............................. وبالتعددية يجعل للشعب صوتاً عالياً قادراً على الكلام بحرية. إن نظرة الإسلام إلى الإنسان تختلف عن نظرة الأنظمة، فبعض الأنظمة ترى في الإنسان عبأً ثقيلاً وترى في كل مولود جديد ضيفاً غير مرغوب فيه، ترى فيه فما جديداً يضاف إلى الأفواه التي تطالب بالطعام، هذا هو الإنسان في ظل بعض الأنظمة... أما في ظل الإسلام فالإنسان هو قوة حيوية ونشاط متوقد. فالقرآن الكريم يرى في الإنسان أقوى مخلوق على سطح الكرة الأرضية، ويرى فيه سر التقدم في الدنيا: «وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى» - سورة النجم: 36-41 -. ويرى الإسلام في كل مولود جديد رقماً يضاف إلى التقدم والرقي، وقد نسب إلى الإمام علي (علیه السلام) قوله: أتحسب أنك جرم صغير *** وفيك انطوى العالم الأكبر ويرى رسول الله (صلی الله علیه و آله) في كل ولادة رقماً جديداً للتفاخر أمام الأمم وحتى لو كان المولود سقطاً لم تكتب له الحياة، أليس هو القائل: «تناكحوا تناسلوا؛ فإني أباهي بكم يوم القيامة ولو بالسقط». فالمولود الجديد قد يكون عالماً أو مخترعاً أو مهندساً أو أي إنسان آخر يضيف إلى الحياة ساعداً جديداً للعمل، ويضيف للتاريخ قيمة وعبقرية جديدة. فالحياة لا تشيدها الأدوات والمكائن بل السواعد الهميمة. والحياة لا تديرها الكمبيوترات المتطورة ولا الأقمار الصناعية بل يديرها العقل الكامن في الإنسان، فكل مولود جديد هو عقل جديد،وهو ساعد جديد، وهو تقدم جديد، فلماذا هذا الخوف..؟. أليس الله سبحانه وعدنا ووعده حق وصدق: «نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ» - سورة الإسراء: 31 -، وقال جل ذكره: «وَأَنْكِحُوا الأَيَامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» - سورة النور: 32 -. فالزواج هو سبب لإزالة الفقر، والأبناء هم سبب للرزق، هذا في منطق الوجدان والقرآن والشريعة. أما الذين يرون عكس ذلك، يرون أن الزواج والأبناء سبب لتقليل الرزق يبتعدون كل البعد عن الله سبحانه والقرآن، وعن منطق العقل والحكمة)، انتهى.

ص: 410

ص: 411

ص: 412

والقصاص حقناً للدماء،

اشارة

-------------------------------------------

حق القصاص

مسألة: يجوز القصاص وليس هو بواجب، فهو (حق) أعطاه الله للمعتدى عليه أو لذويه، له أن يأخذ به، وله أن يعفو.

فالمراد بقولها (علیها السلام): «جعل الله القصاص» أي حق القصاص، بل قد يكون الأرجح ترك الأخذ بهذا الحق، ولذا قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ... فَمَنْ عُفِيَ له مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ»(1).

وقال عزوجل: «وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ له»(2).

قال الإمام الصادق (علیه السلام) في تفسيره للآية الشريفة: « «فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ له»(3) يكفر عنه من ذنوبهبقدر ما عفا عنه من جراح أو غيره»(4).

ص: 413


1- سورة البقرة: 178. وجاء في بعض التفاسير سبب ذكر كلمة (أخيه) - راجع التبيان: ج2 ص102 -. ثم إن التعبير بالأخ يوجب إثارة المحبة والرأفة وقد يدل على أن العفو أحب.
2- سورة المائدة : 45.
3- سورة المائدة : 45.
4- تهذيب الأحكام: ج10 ص179 ب13 ح15.

..............................

وجعل الله تعالى حق القصاص هو الذي (يحقن الدماء)، ولا يلزم جعل (وجوب القصاص) بل جعل الحق أولى بدرجات من جعل الوجوب، لما فيه من رعاية شتى مقتضيات باب التزاحم(1)، ولذا عبر تعالى ب: «تَصَدَّقَ»(2) في الآية الشريفة. وقد روي: «إن القصاص كان في شرع موسى (علیه السلام)، والدية حتماً كان في شرع عيسى (علیه السلام)، فجاءت الحنيفية السمحة بتسويغ الأمرين»(3). وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) في وصيته للمسلمين: «أيها الناس أحيوا القصاص»(4).

و(القصاص) أعم من النفس والجوارحوالقوة(5) وإن كان في كلامها (علیها السلام) قد يقال بانصرافه للقتل نظراً ل (حقناً للدماء)، فتأمل.

فلسفة العقوبات الإسلامية

مسألة: من الضروري بيان فلسفة العقوبات في الإسلام للناس، حتى لايتهموا الإسلام بالغلظة والقساوة، كما أشارت إليها (علیها السلام)، وكما ورد في كثير من الروايات(6).

ص: 414


1- إذ كثيراً ما يرى أولياء الدم المصلحة - لأنفسهم أو لغيرهم - في العفو عن الجاني، وكثيراً ما يرون الأصلح بحالهم أخذ الدية، ولذا خيروا بين القصاص والدية والعفو.
2- سورة المائدة: 45.
3- غوالي اللآلي: ج1 ص387 ب1 المسلك الثالث ح18.
4- وسائل الشيعة: ج28 ص338 ب7 ح34900.
5- كمن أفقد شخصاً قوة الإنجاب أو الفكر أو ما أشبه.
6- راجع مثلاً: علل الشرائع: ج2 ص534 ب321، ج2 ص538 ب326، ج2 ص543 ب331، ج2 ص545 ب335.

..............................

فإن بعض الناس يتصورون أن بعض العقوبات قاسية من جهة أن الأفضل مثلاً في القاتل أن يُسجن أو تؤخذ منه الدية لا أن يُقتل، لكن هذه المزاعم غير تامة؛ فإن الإنسان إذا علم أن جزاء القتل هو السجن والغرامة لا القصاص بالمثل، فإنه عادة لا يعدل عن الجريمة، وخاصة إذا كان قادراً على التحايل والتلاعب بالقانون من خلال دفع الرشوة، واتخاذ المحامي بالباطل،وتخفيف مدة العقوبة وغير ذلك.

ولذلك قالت (علیها السلام): «والقصاص حقناً للدماء».

وقالوا: (قتل البعض إحياء للجميع)(1).

وقالوا: (القتل أنفى للقتل)(2).

وقال القرآن الكريم: «وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»(3).

ومن أوضح الأدلة على ذلك، ما نشاهده عن ازدياد الجرائم في العالم الغربي، وهذا بحث طويل نكتفي منه بهذا القدر(4).

ص: 415


1- أحكام القرآن للجصاص: ج1 ص194.
2- فقه القرآن: ج2 ص402 باب قتل العمد وأحكامه.
3- سورة البقرة: 179.
4- للتفصيل حول فلسفة العقوبات في الإسلام راجع: (العقوبات في الإسلام) لآية الله العظمى السيد صادق الشيرازي K، وراجع للإمام المؤلف (قدس سره) موسوعة الفقه: ج87-88 كتاب الحدود والتعزيرات، وموسوعة الفقه: ج89 كتاب القصاص.

..............................

وجوب حقن الدماء

مسألة: حقن الدماء واجب، وإراقتها محرم، ففي الحديث: «زوال الدنيا أهون على الله من إراقة دم مسلم»(1).

وقال (علیه السلام): «من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة جاء يوم القيامة بين عينيه مكتوب: آيس من رحمة الله تعالى»(2).

وقال (علیه السلام): «من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه: آيس من رحمة الله»(3).

و(القصاص) المذكور في كلامها (علیها السلام) هو إحدى الطرق التي تؤدي إلى حقن الدماء.

فكل ما يؤدي - ولو تسبيباً - إلى إراقة الدم محرم، من غير فرق بين إراقة الدم كلياً كالقتل، أو جزئياً كما في قطع يد أو رجل أو فقأ عين أو جدع أنف أو صلم أذن أو ما أشبه ذلك.

ولا يخفى أن وجوب (حقن الدم) وحرمةإراقته من باب المثال، وإلاّ فمطلق إزهاق النفس حرام ولو بحرق أو غرق أو سمّ أو ما أشبه ذلك، وهكذا بالنسبة إلى إسقاط عضو عن الفعالية وإذهاب قوة.

ص: 416


1- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: ج1 ص85 باب العتاب.
2- بحار الأنوار: ج101 ص383 ب2 ح1.
3- غوالي اللآلي: ج2 ص333 باب الصيد وما يتبعه ح48.

..............................

نعم، لا يجوز القصاص بالمثل في بعض الموارد، مثلاً من أحرق إنساناً فإنه لا يحرق في قباله، كما أن من أغرق شخصاً فإنه لا يغرق كما أُغرق وهكذا، وقد ثبت هذا الاستثناء بالأدلة الخاصة المخصّصة لقوله سبحانه: «فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ»(1)..

وقوله سبحانه: «وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا»(2)..

وما أشبه ذلك من العمومات التي لولا التخصيص لكانت شاملة لكل الأقسام(3).

ص: 417


1- سورة البقرة: 194.
2- سورة الشورى: 40.
3- راجع حول هذا المبحث (الفقه: القصاص)، و(الفقه: الحدود)، و(الفقه: الديات)، و(الفقه: القواعد الفقهية) للإمام المؤلف (قدس سره).

والوفاء بالنذر تعريضاً للمغفرة

اشارة

-------------------------------------------

والوفاء بالنذر تعريضاً للمغفرة(1)،

وجوب الوفاء بالنذر

مسألة: يجب الوفاء بالنذر(2) إذا اجتمعت فيه شروطه وفي مخالفته الكفارة، كما فصلناه في الفقه(3).

بخلاف النذر المنهي كما ورد: «أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) نهى عن النذر لغير الله، ونهى عن النذر في معصية أو قطيعة رحم»(4).

قال تعالى: «يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً»(5).وهذا مما يشير إلى أن عدم الوفاء بالنذر يعرض الإنسان لشر ذلك اليوم.

وقال سبحانه: «وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ»(6).

وقال جل وعلا: «لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ»(7).

ص: 418


1- وفي بعض النسخ: «والوفاء بالنذور» راجع كشف الغمة: ج1 ص484 فاطمة (علیها السلام) . وفي بعضها: «والوفاء بالعهود تعرضاً للمغفرة» راجع دلائل الإمامة: ص33 حديث فدك.
2- راجع موسوعة الفقه: ج74-75 كتاب النذر.
3- راجع المسائل الإسلامية: ص588-591 أحكام النذر والعهد، المسألة 3095-3124، الطبعة 36، عام 1421ه /2000م، مؤسسة المجتبى بيروت - لبنان.
4- دعائم الإسلام: ج2 ص100ف3 ح319.
5- سورة الإنسان: 7. وقد صرح المفسرون من الفريقين بأن هذه الآيات نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين (علیهم السلام).
6- سورة النحل: 91.
7- سورة الحج: 29. واضح أن المورد لا يخصص الوارد.

..............................

وقال (علیه السلام): «كن منجزاً للوعد موفياً بالنذر»(1).

ولا يبعد أن يراد بالنذر في قولها (علیها السلام) الأعم من النذر واليمين(2) الاصطلاحيين، فإن (نذر) بمعنى الفرض والإيجاب(3)، و(اليمين):القسم وفيه الفرض، وهو - على قول(4)- مأخوذ من اليد اليمنى حيث إن المتحالفين كانا - غالباً - يضرب كل واحد منهما يمينه بيمين صاحبه فيتحالفان(5).

ومنه يعلم حال (العهد) أيضاً، فهو قسم من النذر بالمعنى الأعم...

وكان أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) المصداق الأجلى لمن يوفون بالنذر، قال تعالى: «يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً»(6).

وكان وفائهم (علیهم السلام) به في المرتبة العليا، وكانوا هم الأولى بصدق هذه الصفة عليهم، كما في قصة نزول سورة «هَلْ أَتَى»(7) وغيرها.

ص: 419


1- مستدرك الوسائل: ج16 ص99 ب19 ح19271.
2- قال في مجمع البحرين: ج3 ص492 مادة نذر: (النذر لغة الوعد، وشرعاً: التزام المكلف بفعل أو ترك متقرباً).
3- قال في لسان العرب: ج5 ص201 مادة نذر: (نذرت، أنذر وأنذر نذراً: إذا أوجبت على نفسك شيئاً من عبادة أو صدقة أو غير ذلك).
4- والقول الثاني: إن اليمين مأخوذ من اليمن بمعنى البركة، والقول الثالث: من اليمين بمعنى القوة. - راجع مجمع البيان: ج2 ص90 ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم -.
5- ومن معاني اليمين: القوة والقدرة... والحلف والقسم - راجع لسان العرب: ج13 ص461 مادة يمن.
6- سورة الإنسان: 7.
7- وتسمى هذه السورة بسورة الإنسان، وهي مدنية رقمها 76 وعدد آياتها 31 آية.

..............................

قولها (علیها السلام): «والوفاء بالنذر تعريضاً للمغفرة»، فإن الله سبحانه تفضل على من وفي بنذره بغفران ذنبه، ومن الممكن أن يكون ذلك عقلياً أيضاً، يراد به المغفرة الدنيوية والأثر الوضعي التكويني، فالنذر معناه الإيجاب، فمن أوجب على نفسه شيئاً إذا وفى به ستر في المجتمع ما سلف من أخطائه، فيكون نظير معنى قوله تعالى: «لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ»(1). ومما يؤيده قوله(صلی اللهعلیه و آله): «... وإذا نقضوا العهد سلّط الله عليهم عدوّهم»(2).

ولكن قد يقال: بأن الظاهر إرادة المعنى الأول في قولها (علیها السلام): «تعريضاً للمغفرة» ويمكن القول بإرادة كلا المعنيين فتكون اللام للجنس، ولا يلزم منه استعمال اللفظ في أكثر من معنى، كما لا يخفى.

هذا وقد ورد في بعض التفاسير: «يوفون بالنذر الذي اُخذ عليهم من ولايتنا»(3).

ص: 420


1- سورة الفتح: 2. وفي عيون أخبار الرضا (علیه السلام): ج1 ص202 ب15 ح1: قال (علیه السلام): «لم يكن أحد عند مشركي أهل مكة أعظم ذنباً من رسول الله (صلی الله علیه و آله)؛ لأنهم كانوا يعبدون من دون الله ثلاثمائة وستين صنماً، فلما جاءهم بالدعوة إلى كلمة الإخلاص كبر ذلك عليهم وعظم، وقالوا: «أَجَعَلَ الآْلِهَةَ إِلهاً وَاحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ... » - سورة ص: 5-7 - فلما فتح الله عزوجل على نبيه (صلی الله علیه و آله) مكة قال لمحمد: «إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (علیهم السلام) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ» عند مشركي أهل مكة بدعائك إلى التوحيد فيما تقدم وما تأخر؛ لأن مشركي مكة أسلم بعضهم وخرج بعضهم عن مكة، ومن بقي منهم لم يقدر على إنكار التوحيد عليه إذا دعا الناس إليه، فصار ذنبه عندهم في ذلك مغفوراً بظهوره عليهم». وراجع أيضاً قصص الأنبياء للجزائري: ص17 خاتمة في بيان عصمة الأنبياء (علیهم السلام) وتأويل ما يوهم خلافه.
2- الكافي: ج2 ص374 باب في عقوبات المعاصي العاجلة ح2.
3- بحار الأنوار: ج24 ص331 ب67 ح57.

..............................

وعنه (علیه السلام): «يوفون لله بالنذر الذي أخذ عليهم في الميثاق من ولايتنا»(1).

التعريض لمغفرة الله

مسألة: من اللازم أن يجعل الإنسان نفسه في معرض مغفرة الله سبحانه، وأن يتجنب المواطن التي تجعله في معرضغضبه تعالى(2).

فمصاحبة الأخيار والجلوس في مجالسهم والنية الصالحة وإن لم يمكنه تحقيقها خارجاً وشبه ذلك، مما يجعل الإنسان في معرض مغفرته جل وعلا، وفي الحديث الشريف: «إن لربّكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها»(3).

وقال تعالى: «وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ»(4).

وقال سبحانه: «وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً»(5).

ومن البين أن ما يوجب التعرض لمغفرة الله الواجبة واجب، وما يوجبه من المستحبات مستحب. و(الوفاء بالنذر) من الواجبات التي جعلها الله سبحانه (تعريضاً لمغفرته) فهو بيان منها (سلامالله عليها) لإحدى الطرق التي تقود إلى ذلك.

ص: 421


1- الكافي: ج1 ص434 باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية ح91.
2- فمثلاً قال الإمام الصادق (علیه السلام): «لا تجالسوا شراب الخمر؛ فإن اللعنة إذا نزلت عمت من في المجلس» - وسائل الشيعة: ج25 ص374 ب33 ح32162 -، وقال (علیه السلام): «لا تجالسوا لنا عائباً» بحار الأنوار: ج10 ص92 ب7 ح1، والبحار: ج68 ص174 ب64 ح8.
3- بحار الأنوار: ج68 ص221 ب66 ح30، والبحار: ج80 ص352 ب8 ح4.
4- سورة آل عمران: 133.
5- سورة البقرة: 268.

وتوفية المكاييل والموازين تغييراً للبخس

اشارة

-------------------------------------------

وتوفية المكاييل والموازين تغييراً للبخس(1)،

توفية المكيال والميزان

توفية المكيال والميزان(2)

مسألتان: يجب توفية المكيال والميزان، ويحرم مطلق البخس(3)، وقد عدّه (علیه السلام) من الكبائر حيث قال (علیه السلام): «واجتناب الكبائر وهي... البخس في المكيال والميزان»(4).

وفي حديث المسوخ قال (علیه السلام): «وأما الجري فمسخ؛ لأنه كان رجلاً من التجار وكان يبخس الناسبالمكيال والميزان»(5).

ولا يخفى أن المكيال والميزان في الآيات الشريفة(6) وفي كلامها (علیها السلام) من باب المثال، وإلاّ ففي المعدود والمذروع وما أشبه ذلك يكون الحكم كذلك.

ص: 422


1- وفي بعض النسخ: «للبخسة» - راجع كشف الغمة ج1 ص484 فاطمة (علیها السلام) -.وفي بعض النسخ: «ووفاء المكيال والميزان» - راجع دلائل الإمامة ص33 حديث فدك -.
2- حول هذه المباحث راجع من موسوعة الفقه: كتاب البيع، والاقتصاد، والواجبات والمحرمات.
3- البخس: النقص والظلم.
4- وسائل الشيعة: ج15 ص329 ب46 ح20660.
5- بحار الأنوار: ج62 ص227 ب5 ح9.
6- قال تعالى: «وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ» - سورة المطففين: 1-3 -، وقال سبحانه: «وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ» - سورة هود: 85 -.

..............................

وبالتلازم(1) يفهم أن كل بخس حرام، قال سبحانه: «وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ»(2) سواء كان البخس في الماديات أو في المعنويات، ويستثنى ما خرج بالخصوص أو بالانصراف. وقد يستند إلى هذه الآية ونظائرها في حقالتأليف والطبع والاختراع وأشباهها، فتأمل. وفي بعض الروايات في تفسير قوله تعالى: «وَلاَ تُخْسِرُوا الْمِيزانَ»(3) قال (علیه السلام): «لا تبخسوا الإمام حقه ولا تظلموه»(4).

قولها (علیها السلام): «وتوفية»، فإن الكيل والوزن إذا أعطيا بالحق لا يكون هناك بخس في الأموال ونقص في الثروات؛ لأن المجتمع إذا جرى على عدم التوفية تحول الناس إلى لصوص، إذ النقص في المكيال والميزان نوع من السرقة، واللصوصية توجب بخس ثروات الأمة، حيث يتحول المجتمع عندئذ من مجتمع منتج متنافس تنافساً إيجابياً اقتصادياً إلى مجتمع متحايل يحاول أن يخدع بعضهم بعضاً، وحينئذ تنعدم الثقة وتتدنى نسبة التعاون إلى أدنى الدرجات، والمجتمع غير المتعاون لا يتقدم، ولا تنمو ثرواته، بل تتناقص وتتضاءل.

قال الإمام الباقر (علیه السلام): «وجدنا في كتاب رسول الله (صلی الله علیه و آله):... وإذا طفف الميزان والمكيال أخذهم الله بالسنين والنقص»(5).

ص: 423


1- أي التلازم في كلامها (صلوات الله عليها) بين «جعله تعالى توفية المكائيل والموازين» وبين «تغييراً للبخس».
2- سورة الأعراف: 85، سورة هود: 85، سورة الشعراء: 183.
3- سورة الرحمن: 9.
4- تفسير القمي: ج2 ص343 سورة الرحمن.
5- وسائل الشيعة: ج11 ص513 ب41 ح2.وسفينة البحار: مادة )كيل(.والأمالي للشيخ الصدوق ص308 المجلس51.وثواب الأعمال ص252 عقاب المعاصي.وتحف العقول ص51.

والنهي عن شرب الخمر تنزيهاً عن الرجس،

اشارة

-------------------------------------------

حرمة شرب الخمر

مسألة: يحرم شرب الخمر ويجب النهي عنه، لإطلاقات أدلة النهي عن المنكر. ولقولها (علیها السلام): «والنهي... » على تقدير كون المراد به (نهيكم) لا (نهيه)، فتأمل(1).

نظراً لأن اللام قد يكون عوضاً عن المضاف إليه وهو ضمير الجمع، أو الضمير الراجع إليه تعالى، فيكون المعنى: جعل الله(2) نهيكم عن شرب الخمر تنزيهاً عن الرجس(3).ويؤيده أن ما سبق وما سيلحق من الجمل - إلاّ ما خرج بقائم البرهان(4)- مصاديق فعل العبد(5).

ص: 424


1- قد يكون إشارة إلى أنه يمكن الاستدلال حتى لو أريد بالنهي نهيه تعالى، فدقق.
2- إذ هذه الجمل المتعاقبة كلها مفعول ل «فجعل الله» الوارد في مطلع كلامها (علیها السلام).
3- فيكون نهي الناس بعضهم بعضاً عن شرب الخمر وردعهم عنه هو المجعول والمقرر من قبله تعالى أي المأمور به من قبله، أي أنه أمر: بالنهي عن الشرب.
4- وهو: «إمامتنا… »، وهذا مما دل عليه الدليل العقلي والنقلي، فلا مناص من الالتزام بكونه فعله تعالى مباشرة، أما (النهي) فجائز الوجهين، فكان الأرجح نظراً للسياق إرادة (نهيكم) من كلامها (علیها السلام).
5- فالإيمان والصلاة والزكاة والصيام وما أشبه مما سبق، واجتناب القذف وترك السرقة مما سيأتي، وكان من الممكن أن تقول (علیها السلام): اجتناب شرب الخمر.

..............................

ويؤيده أيضاً - بل يدل عليه على ذلك التقدير - وجود (ففرض) في بعض النسخ بدل (فجعل)(1)، هذا ومن المحتمل أن يكون المراد باللام: الجنس أو العهد.

ثم إن المراد بالخمر: كل مسكر(2)وقد سميت الخمر خمراً لمخامرتها العقل لأنها تستره وتغطيه.

كما أن الحرمة تعم كل ما أوجب الاسكار ولو بالحقنة أو بالتدخين أو ما أشبه ذلك(3)، لما دل على حرمة كافة أنواع استعماله. قال (صلی الله علیه و آله): «ألا أيّها الناس أنهاكم عن كل مسكر»(4).

وقال (علیه السلام): «كل مسكر حرام»(5).

وقال (علیه السلام): «كل مسكر خمر»(6).

وقال (علیه السلام): «شرب الخمر أشر من ترك الصلاة»(7).

ص: 425


1- حيث قالت (علیها السلام) - على هذه النسخة -: «ففرض الله الإيمان... والنهي عن شرب الخمر»، فالنهي مفعول ل (فرض).
2- قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «يا حبيبة أبيها، كل مسكر حرام وكل مسكر خمر» - مستدرك الوسائل: ج17 ص58 ب11 ح20739 -، وفي مجمع البحرين: ج3 ص292 مادة خمر: الخمر فيما اشتهر بينهم: كل شراب مسكر ولا يختص بعصير العنب. وفي القاموس: ج2 ص23 مادة خمر: والعموم أصح...
3- راجع موسوعة الفقه: ج76 كتاب الأطعمة والأشربة، المسألة 22.
4- وسائل الشيعة: ج25 ص280 ب1 ح31910.
5- من لا يحضره الفقيه: ج4 ص354 باب النوادر وهو آخر أبواب الكتاب ح5762.
6- تهذيب الأحكام: ج9 ص111 ب2 ح217.
7- بحار الأنوار: ج76 ص133 ب86 ح23.

..............................

وقال (علیه السلام): «... وشربالخمر وهو فخ الشيطان»(1).

وقال (علیه السلام): «وشرب الخمر مفتاح كل شر»(2).

وقال (علیه السلام): «ما بعث الله نبياً إلاّ بتحريم الخمر»(3).

وعنه (صلی الله علیه و آله): «لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبايعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه»(4).

قال تعالى: «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ»(5). وقال سبحانه: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ»(6).

وقال عزوجل: «إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْأَنْتُمْ مُنْتَهُونَ»(7).

ثم إن العلة معممة ومخصصة(8)،والملاك(9) مستفاد من جملة من الروايات

ص: 426


1- وسائل الشيعة: ج20 ص26 ب4 ح24938.
2- بحار الأنوار: ج76 ص140 ب86 ح48.
3- تهذيب الأحكام: ج9 ص102 ب2 ح181.
4- مستدرك الوسائل: ج17 ص75 ب23 ح20805.
5- سورة المائدة: 90
6- سورة البقرة: 219.
7- سورة المائدة: 91.
8- الظاهر أن المراد بالعلة (الاسكار)، وهي تعمم الحرمة لغير الشرب كالحقنة أيضاً.
9- الظاهر أن المراد بالملاك (ملاك كون الاسكار محرماً) فهو علة العلة.

..............................

بل بعض الآيات، مثل قوله سبحانه: «لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ»(1)؛ فإن من سكر لا يعلم ما يقول، سواء كان السكر بالشراب أم بالطعام، أم بغير ذلك من الطرق الموجبة لإدخال المسكر في البدن ولو بالتنفس.

وكذا قوله تعالى: «إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ»(2).

أما حرمة شرب حتى القطرة من الخمرفبالدليل الخاص(3).

قولها (علیها السلام): «والنهي عن شرب الخمر»، حيث إن شرب الخمر كان شائعاً في الجاهلية وقد حرمه الإسلام، وكانت بعض النفوس تحن إليه عوداً على ما كانوا عليه، ولذا خصصته الزهراء (علیها السلام) بالذكر، وإلاّ فهو كسائر محرمات الأكل والشرب كالميتة ولحم الخنزير والدم وما أشبه.

نعم، إن الخمر رأس كل شر، فقد قال الإمام الصادق (علیه السلام): «إن الخمر أم الخبائث ورأس كل شر، يأتي على شاربها ساعة يسلب لبّه فلا يعرف ربه، ولا يترك معصية إلاّ ركبها، ولا يترك حرمة إلاّ انتهكها، ولا رحماً ماسة إلاّ قطعها، ولا فاحشة إلاّ أتاها»(4).

ص: 427


1- سورة النساء : 43.
2- سورة المائدة: 91.
3- راجع موسوعة الفقه: ج76 كتاب الأطعمة والأشربة، المسألة 22.
4- وسائل الشيعة: ج25 ص317 ب12 ح31999.

..............................

وقال (علیه السلام): «وإنّ من شرب منها جرعة لعنه الله وملائكته ورسله والمؤمنون، وإن شربها حتى يسكر منها نزع روح الإيمان من جسده، وركبت فيهروح سخيفة خبيثة ملعونة»(1).

وقال (علیه السلام): «ولم تقبل صلاته أربعين يوماً، ويأتي شاربها يوم القيامة مسوداً وجهه، مدلعاً لسانه، يسيل لعابه على صدره»(2).

وقال (علیه السلام): «ينادي: العطش، العطش»(3).

وإن شرب الخمر رجس؛ لأنه يوجب السكر الذي هو مفتاح كل شر، والرجس بمعنى(4) ما يؤدي للموبقات(5).

المخدرات

مسألة: ومن ذلك يعلم حرمة استعمال المخدرات أيضاً الموجبة لذهاب العقل؛ لأن العلة عامة وإن كان المورد خاصاً.

وربما يمكن استفادة ذلك من قولها (علیها السلام): «تنزيهاً عن الرجس» إذ الرجس هو القذر، وقد روي بسندصحيح عن أبي الحسن الماضي (علیه السلام):

ص: 428


1- الكافي: ج6 ص399 باب شارب الخمر ح16.
2- تهذيب الأحكام: ج9 ص103 ب2 ح183.
3- الكافي: ج6 ص397 باب شارب الخمر ح8.
4- أي من معانيه.
5- في القاموس: ج2 ص219 مادة رجس: الرجس: العمل المؤدي إلى العذاب. وفي لسان العرب: ج6 ص95 مادة رجس: الرجس: القذر... النجس... وقد يعبر به عن الحرام والفعل القبيح والعذاب واللعنة والكفر.

..............................

«إن الله لم يحرم الخمر لاسمها، ولكن حرمها لعاقبتها، فما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر»(1).

وكذلك ما علّل فيه حرمة الخمر بأن شاربها لا يعرف أمه وأخته و...(2). وأما غير الموجب لذهاب العقل منها (3) فحرمته منوطة بما إذا أضر ضرراً بالغاً (4).

اجتناب الرجس

مسألة: يجب تجنب الرجس، وذلك في مراتب منه وفي مصاديق كثيرة منه مما لاشك فيه، ولكن هل يمكن تأسيس الأصل في ذلك والالتزام بحرمة كل ما صدق عليه هذا العنوان بما هو هو؟.

لا يبعد ذلك، وربما أمكن الاستنادإلى كلامها (علیها السلام) لإثباته، والأمر بحاجة إلى مزيد من التأمل.

والمراد بالرجس: القذارة والخباثة(5)، فإن القذارة قد تكون مادية في النفس أو الجسد، وقد تكون معنوية، قال سبحانه وتعالى:

ص: 429


1- تهذيب الأحكام: ج9 ص112 ب2 ح221.
2- راجع الكافي: ج6 ص403 باب أن الخمر رأس كل إثم وشر ح7.
3- أي من المخدرات.
4- راجع موسوعة الفقه: ج76 كتاب الأطعمة والأشربة، المسألة 22.
5- الرجس بمعنى: القذر، النجس، الفعل القبيح... راجع لسان العرب: ج6 ص95 مادة رجس، وغيره، وفي القاموس: ج2 ص219 مادة رجس: (كل ما استقذر من عمل). ومن معانيه: (وسوسة الشيطان) كما في المنجد.

..............................

«فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ»(1).

وهذا رجس معنوي في قبال الرجس المادي في النفس الموجب للسكر، والرجس البدني كالتلوث بالقذارات الخارجية.

قال تعالى: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً»(2)، فهم (علیهم السلام) منزهون عن الرجس بما للكلمة من معنى، كما دل على ذلك مختلف الروايات(3).وفي الدعاء: «أعوذ بالله من الرجس»(4).

هذا وقد فسر الرجس أيضاً بالشك.

قال (علیه السلام): «الرجس هو الشك»(5).

وبعمل الشيطان(6).

وبالنجس(7).

ص: 430


1- سورة الحج: 30.
2- سورة الأحزاب: 33.
3- راجع التفاسير في تفسير هذه الآية المباركة من سورة الأحزاب.
4- من لا يحضره الفقيه: ج1 ص25 باب ارتياد المكان للحدث ح42.
5- بصائر الدرجات: ص206 ب11 ح13.
6- راجع تأويل الآيات: ص449 سورة الأحزاب.
7- راجع متشابه القرآن: ج2 ص158 باب فيما يحكم عليه الفقهاء.

واجتناب القذف حجاباً عن اللعنة

اشارة

-------------------------------------------

واجتناب القذف حجاباً عن اللعنة (1) ،

حرمة القذف والسب

مسألة: يحرم القذف وفيه الحدّ(2)، وتفصيل الكلام في الفقه(3).

والقذف هنا: يعم السب والفحش واللعن وما أشبه ذلك(4).

قال رسول الله(صلی الله علیه و آله): «واعلموا أن القذف والغيبة يهدمان عمل ألفسنة»(5).

وقال (صلی الله علیه و آله): «القذف من الكفر، والكفر في النار»(6).

وقال (علیه السلام): «إن الكبائر أحد عشر... الشرك بالله عزوجل، وقذف المحصنة،... »(7).

ص: 431


1- وفي بعض النسخ: «اجتناب قذف المحصنة حجاباً عن اللعنة»، راجع دلائل الإمامة: ص33 حديث فدك. وفي بعض النسخ: «واجتناب قذف المحصنات حجباً عن اللعنة»، راجع علل الشرائع: ج1 ص248 باب علل الشرائع وأصول الإسلام ح2.
2- أي في الجملة.
3- راجع موسوعة الفقه: ج87-88 كتاب الحدود والتعزيرات.
4- القذف: السب، وقذف المحصنة أي سبّها - لسان العرب: ج9 ص277 مادة قذف -. قذف الرجل: رماه واتهمه بريبة، وقاذفة: راماه وشاتمة. المنجد. والمقذف: الملعن. القاموس: ج3 ص183 مادة قذف.
5- جامع الأخبار: ص158 ف120.
6- بحار الأنوار: ج100 ص249 ب4 ح37.
7- مستدرك الوسائل: ج11 ص361 ب46 ح13266.

..............................

وهل يراد بالقذف ما ارتبط بالعِرض أو مطلقاً؟.

فإن أصل القذف الرمي(1)، ثم استعمل فيما يرتبط بالعرض، لكن هل غلب على ما يرتبط بالعرض بالمعنى الأخص بحيث أصبح حقيقة تعينية فيه أم لا؟.

احتمالان، وإن كان المنصرف الأول(2)والإطلاق يقتضي الثاني، قال الشاعر(3):

ولست بقائل قذفاً ولكن *** لأمر ما تعبدك العبيد

وفي بعض النسخ(4) (قذعاً) مكان (قذفاً)، والقذع هو القذف والرمي بالفحش وسوء القول(5)، فإن الخليفة كان يجمع من الغلمان الخناثى ثم يبيت معهم من أول الليل إلى الصباح يتعاطون الفاحشة، وإلى ذلك أشار الشاعر في هذا البيت.

ص: 432


1- راجع لسان العرب: ج9 ص277 مادة قذف.
2- في مجمع البحرين: ج5 ص107 مادة قذف: (قذف المحصنة رماها بفاحشة). وفي القاموس: ج3 ص183 مادة قذف: (قذف المحصنة رماها بزنية). وفي لسان العرب: ج9 ص277 مادة قذف: (القذف رمي المرأة بالزنا أو ما كان في معناه). ويؤيد هذا المعنى النسخة الأخرى لكلامها (علیها السلام): «واجتناب قذف المحصنات» على ما نقله آية الله السيد محمد كاظم القزويني (رحمة الله) في كتابه (فاطمة الزهراء (علیها السلام) من المهد إلى اللحد).
3- هو دعبل الخزاعي (148-246ه).
4- أي: بعض نسخ الشعر.
5- وفي لسان العرب: ج8 ص262 مادة قذع: (القذع: الفحش، قذعه: رماه بالفحش وأساء القول فيه،وأقذع القول: أساءه، الهجاء المقذع: الذي فيه فحش وقذف وسب يقبح نشره، أقذع له: أفحش في شتمه).

..............................

وقال شاعر آخر(1):

ولا تبيت لهم خنثى تنادمهم *** ولا يرى لهم قرد له حشم

وذكرنا بعض التفصيل في كتاب(ممارسة التغيير)(2).

ثم إن هناك آثاراً وضعية للقذف خصوصاً الرمي بالفاحشة؛ وذلك لأن من قَذف قُذف فترجع اللعنة إليه كأثر وضعي تكويني لذلك، فمن الحكمة في فرض اجتناب القذف هي الحيلولة عن رجوع ضرره ولعنه إلى نفس القاذف.

قال سبحانه: «وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ»(3).

وقال علي (علیه السلام): «إني أكره لكم أن تكونوا سبابين»(4).

وقال (صلی الله علیه و آله): «سباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر، وأكل لحمه من معصية الله، وحرمة ماله كحرمة دمه»(5).

وقال (صلی الله علیه و آله): «من سب علياً (علیه السلام) فقد سبني، ومن سبني فقد سب الله عزوجل»(6).ولعل قولها (علیها السلام): «حجاباً عن اللعنة» إشارة إلى قوله سبحانه:

ص: 433


1- هو أبو فراس الحمداني (320-357ه).
2- راجع كتاب ممارسة التغيير لإنقاذ المسلمين: ص329-438.
3- سورة الأنعام: 108.
4- نهج البلاغة، الخطب: 206 ومن كلام له (علیه السلام) وقد سمع قوماً من أصحابه يسبون أهل الشام أيام حربهم بصفين.
5- الكافي: ج2 ص359-360 باب السباب ح2.
6- الأمالي للصدوق: ص97 المجلس21 ح2.

..............................

«إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ»(1).

لا يقال: فلماذا نرى كلمات اللعن والسب أو ما أشبه في القرآن الحكيم، مثل قوله سبحانه:

«إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ»(2).

وكذلك سب الأشخاص مثل : «عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ»(3).

قال تعالى: «أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ»(4).

وقال سبحانه: «أُولئِكَ لهمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ»(5).

وقال عزوجل: «وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَىيَوْمِ الدِّينِ»(6).

وقال جل ثناؤه: «وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ»(7).

لأنه يقال: إذا كان النقص واقعياً ورجع الأمر إلى إرشاد الطرف أو إرشاد أهله وعشيرته أو الآخرين لزم، وهذا ليس من السباب في شيء، بل داخل في إرشاد الجاهل وتنبيه الغافل وإراءة الطريق للضال، فالمنع والجواز لهما موردان وهذان عقليان قبل أن يكونا شرعيين.

ص: 434


1- سورة النور: 23.
2- سورة الأنبياء: 98.
3- سورة القلم: 13.
4- سورة البقرة: 159.
5- سورة الرعد: 25.
6- سورة الحجر: 35.
7- سورة غافر: 52.

..............................

هذا بالإضافة إلى أن كلمات اللعن وشبهه الموجودة في القرآن الكريم كثيراً منها لا توجه إلى أسماء معينة مذكورة، بل إلى من يحمل تلك الصفات الرذيلة (1) أو الأمم السابقة،فالتركيز يكون على الصفات والأفكار والعقائد وأنواع السلوك والعمل، لا الأفراد بأنفسهم.

أما ما توجه إلى أسماء معينة كقوله تعالى: «تَبَّتْ يَدَا أَبِي لهبٍ وَتَبَّ»(2) فإنه يدخل في باب التزاحم والأهم وما أشبه كما لايخفى.

الاجتناب عن اللعنة

مسألة: يجب أن يبتعد الإنسان عن المواطن التي توجب له (اللعنة)(3) في

ص: 435


1- مثلا قوله تعالى: «فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ * وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ» سورة القلم: 8-13. وقوله سبحانه: «أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرَارُ» - سورة إبراهيم: 28-29 -، وقوله تعالى: «وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ» - سورة إبراهيم: 15-، وقوله سبحانه: «وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا» - سورة التوبة: 118-، وقوله تعالى: «وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ... وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ» - سورة التوبة: 107-، وقوله سبحانه: «فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لهمْ… وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ… فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ.. » - سورة الأعراف: 162- 169-، وقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ» - سورة الأحزاب: 57 -.
2- سورة المسد : 1.
3- اللعنة لغة: تكون لمعاني مختلفة، (لعنه: أخزاه، وسبه، وأبعده، وطرده عن الخير، وعذبه، وأهلكه، ودعى عليه، وغيرها)، راجع لسان العرب: ج13 ص387 مادة (لعن)، المنجد، مجمع البحرين: ج6 ص309 مادة (لعن)، وغيرها.

..............................

الجملة، قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لهمْ سَعِيراً»(1).

واستظهار ذلك من كلامها (علیها السلام) نظراً للتلازم المتقدم الذي ذكرناه بين العلة والمعلول، والسبب والمسبب ونحوهما.

لكن لا يخفى أن اللعن ينصرف إلى معنى: الإبعاد والطرد من الرحمة أو الخير، والبُعد كما يكون في أصول الدين والفروع الواجبة، كذلك يكون في الأحكام والفروع المستحبة تركاً، والمكروهة فعلاً، ولذا ورد اللعن بمختلف معانيه في جملة من الروايات:

كقوله (علیه السلام): «ملعون، ملعون من نكح بهيمة»(2).

وقال (علیه السلام): «المنجم ملعون، والكاهن ملعون، والساحر ملعون، والمغنية ملعونة»(3).

وقال (علیه السلام): «ملعون من ظلمأجيراً أجرته»(4).

وقال (علیه السلام): «ملعون من سب والديه»(5).

وقال (علیه السلام): «من آذى الله فهو ملعون»(6).

وقال (صلی الله علیه و آله): «ناكح الكف ملعون»(7).

ص: 436


1- سورة الأحزاب: 64.
2- الكافي: ج2 ص270 باب الذنوب ح9.
3- وسائل الشيعة: ج17 ص143 ب24 ح22201.
4- مستدرك الوسائل: ج14 ص29 ب5 ح16018.
5- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: ج1 ص111باب ما جاء في المراء والمزاح والسخرية.
6- جامع الأخبار: ص147 ف110.
7- مستدرك الوسائل: ج14 ص356 ب23 ح16948.

..............................

وقال (صلی الله علیه و آله): «من لعب بالشطرنج ملعون»(1).

وقال (علیه السلام): «المحتكر ملعون»(2).

وقال (صلی الله علیه و آله): «ملعون، ملعون من ضيّع من يعول»(3).وقال (علیه السلام): «معلون من جلس على مائدة يشرب عليها الخمر»(4).

وقال (صلی الله علیه و آله) : «ملعون، ملعون مبغض علي بن أبي طالب (علیه السلام)»(5).

وقال (صلی الله علیه و آله) : «ملعون ملعون من يظلم ابنتي فاطمة (علیها السلام)»(6).

وقال (صلی الله علیه و آله): «من أبغض عترتي فهو ملعون»(7).

وقال (علیه السلام): «ملعون ملعون من آذى جاره»(8).

وقال (علیه السلام): «ملعون، ملعون قاطع رحمه»(9).

وقال (علیه السلام): «شارب الخمرملعون»(10).

ص: 437


1- غوالي اللآلي: ج1 ص260 ف10 ح40.
2- من لا يحضره الفقيه: ج3 ص266 باب الحكرة والأسعار ح3961.
3- الكافي: ج4 ص12 باب كفاية العيال والتوسع عليهم ح9.
4- تهذيب الأحكام: ج9 ص97 ب2 ح157.
5- وسائل الشيعة: ج16 ص280 ب41 ح21555.
6- بحار الأنوار: ج29 ص346 ب11 الثانية، والبحار: ج73 ص354 ب67 ح21.
7- جامع الأخبار: ص84 ف40.
8- وسائل الشيعة: ج16 ص280 ب41 ح21555.
9- مستدرك الوسائل: ج15 ص183 ب71 ح17942.
10- بحار الأنوار: ج62 ص166 ب2 ح4، والبحار: ج76 ص141 ب86 ضمن ح52.

..............................

كما ورد(1) عنه (علیه السلام): «من كان آخر يوميه شرهما فهو ملعون»(2).

وقال (علیه السلام): «ملعون من ألقى كله على الناس»(3).

وقال (علیه السلام): «الجالس في وسط القوم ملعون»(4).

وقال (علیه السلام): «معلون من أخر العشاء إلى أن تشتبك النجوم»(5).

وقال (علیه السلام): «المنان على الفقراء ملعون في الدنيا والآخرة»(6).

وقال (علیه السلام): «ملعون من لم ينصح أخاه»(7).ومثل ما ورد من اللعن لمن أكل زاده وحده، أو نام في بيت وحده، أو ركب الفلاة وحده(8)، أو ما أشبه ذلك.

والمراد من (اللعنة) في قولها (علیها السلام): اللعنة التي تسببها المحرمات، وأما اللعن في أصول الدين أو في المكروهات فقولها (عليها الصلاة والسلام) قد تكون منصرفة عنهما (9).

ص: 438


1- ما سبق من الروايات كانت تدل على الحرمة، وما سيأتي على الكراهة.
2- وسائل الشيعة: ج16 ص94 ب95 ح21073.
3- تهذيب الأحكام: ج6 ص327 ب93 ح23.
4- بحار الأنوار: ج89 ص166 ب15.
5- وسائل الشيعة: ج4 ص201 ب21 ح4919.
6- إرشاد القلوب: ج1 ص194 ب52.
7- مستدرك الوسائل: ج9 ص122 ب132 ح10425.
8- راجع من لا يحضره الفقيه: ج4 ص359 باب النوادر وهو آخر أبواب الكتاب ح5762، وفيه قال (صلی الله علیه و آله): «يا علي، لعن الله ثلاثة: آكل زاده وحده، وراكب الفلاة وحده، والنائم في بيت وحده».
9- فاللعن في أصول الدين رتبة ودرجة أعلى، وفي المكروهات رتبة أدنى.

وترك السرقة إيجاباً للعفة

اشارة

-------------------------------------------

وترك السرقة إيجاباً للعفة(1)،

حرمة السرقة

مسألة: السرقة بمختلف أنواعها - سواء أدت إلى قطع اليد أم لم تؤد، وسواء كانت سرقة للأموال أم للحقوق، وسواء كانت من الأفراد أم الأمم، وكذلك من الأجيال القادمة مما ذكر مفصلاً في الفقه(2)- محرمة؛ فإنها تسبب الفوضى في المجتمع، وانعدام الأمن، والهرج والمرج، إضافة إلى كونها مصادرة لجهود الآخرين وحقوقهم، وإن جعل حدود العقوبات على أفرادها مختلفة حسب الحِكَم والمصالح المختلفة.

قال (علیه السلام): «ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن»(3).

وجوب التحلي بالعفاف

مسألة: يجب التحلي بالعفة، قال (علیه السلام): «عليك بلزوم العفة والورع»(4).

وقال (علیه السلام): «إن أفضل العبادة عفة البطن والفرج»(5).

ص: 439


1- وفي بعض النسخ: «ومجانبة السرقة» - راجع علل الشرائع: ج1 ص248 باب علل الشرائع وأصول الإسلام ح2، وكشف الغمة: ج1 ص484 فاطمة (علیها السلام) -.
2- راجع للإمام المؤلف (قدس سره) حول شتى هذه النقاط: (الفقه: الاقتصاد)، و(الفقه: الغصب)، و(الفقه: الحدود)، و(الفقه: والديات).
3- تهذيب الأحكام: ج6 ص371 ب93 ح195.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: ص297 ق3 ب3 ف3 ذم الطمع ح6691.
5- الكافي: ج2 ص79 باب العفة ح2.

..............................

وقال (علیه السلام): «العفة رأس كل خير»(1).

وفي الدعاء: «وارزقني العفة في بطني وفرجي»(2). والمراد بالعفة هنا: العفة عن (ما لا يحل) وهي العفة الواجبة؛ لأنه من العفة واجب ومنها مستحب.

والعفة معناها: كف النفس عن الشيء المشين والقبيح(3)، فإن كان الشيءالمشين محرماً كانت العفة واجبة، وإن كان مرغوباً عنه لا إلى المنع عن النقيض كانت العفة مستحبة.

أما العفة في قولها (علیها السلام) فمنصرفة للأمر الواجب للقرينة، فإن العفة حالة تقتضي حفظ اليد واللسان والبطن والفرج وسائر الجوارح، فإذا سرق إنسان خرق عفته، ومن المعلوم أن خرق العفة يؤدي إلى سائر الموبقات، ولذا ترى السارق لا يمتنع عادة من اغتصاب النساء وأكل الحرام، إلى غير ذلك. ومن المعلوم أن تفشي عدم العفة في المجتمع يهدم الاجتماع، ولعل لذلك قرر الشارع للسرقة عقوبة من أشد العقوبات إذا توفرت فيها جميع الشروط المذكور في الفقه - قال تعالى: «وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ»(4).

ص: 440


1- غرر الحكم ودرر الكلم: ص255 ق3 ب2 ف2 العفة ح5399.
2- المصباح للكفعمي: ص588 ف45 الليلة التاسعة.
3- جاء في كتب اللغة (العفة): الامتناع عن ما لا يحل (عن الحرام أو المحارم) وما لا يجمل (أي ما لا يحسن للمرء أن يأتي به)، وإنها: النزاهة عن القبائح، وذكروا من مصاديقها: كف النفس عن السؤال من الناس - راجع مجمع البيان: ج2 ص201، ولسان العرب: ج9 ص253 مادة عفف، والقاموس: ج3 ص176، وغيرها.
4- سورة المائدة: 38.

وحرم الله الشرك إخلاصاً له بالربوبية

اشارة

-------------------------------------------

وحرم الله الشرك إخلاصاً له بالربوبية (1) ،

الشرك الجلي والخفي

مسألة: يحرم الشرك الجلي، وكذلك يحرم الشرك الخفي أيضاً (2) في الجملة، قال تعالى: «لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ»(3).

وقال تعالى في الحديث القدسي: «يا عيسى، لا تشرك بي شيئاً»(4).

وقال عزوجل: «يا موسى، لا تشرك بي لا يحل لك الشرك بي»(5).

وهل المراد بالشرك هنا الشرك الجلي حتى يكون تأكيداً لما تقدم من قولها (علیها السلام): «فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشرك»، أو الشرك الخفي كالرياء ونحوه حتى يكون تأسيساً؟.

لا يستبعد الثاني؛ لأن الأصلالتأسيس، وإن كان المنصرف من لفظ (الشرك) المعنى السابق فيكون تأكيداً، لكن السياق قد يؤيد الشرك الخفي، إضافةً إلى كلمة (إخلاصاً) المقابلة للشرك الخفي، فهذه الكلمة والسياق وعدم التكرار تقاوم الانصراف البدوي، فتأمل.

ص: 441


1- وفي بعض النسخ: «والنهي عن الشرك إخلاصاً له تعالى بالربوبية» راجع دلائل الإمامة: ص33 حديث فدك
2- كالرياء؛ فإنه الشرك الخفي. راجع منية المريد: ص217 ب3 ف2.
3- سورة لقمان: 13.
4- الكافي: ج8 ص141 حديث عيسى ابن مريم (علیه السلام) ح103.
5- مستدرك الوسائل: ج12 ص159-160 ب97 ح13777.

..............................

كما يمكن التفريق بين هذا المقطع وذاك بالقول بأن المراد بالجعل في الكلام السابق التكوين، ويكون المراد بالتطهير أيضاً التكويني، والمراد ب (حرم): التشريع، فلا تكرار.

أو يقال: إن الأول إيجابي إذ (الإيمان) شيء وجودي، والثاني (الشرك) شيء سلبي باعتباره سلباً للإيمان(1).

أو يقال: بأنه مضاد للأول وكلاهما وجوديان من قبيل (الشجاعة والجبن)، ولذا استحق كل منهما الذكر، كغالب الأضداد سواء كان لها ثالث أم لا، ولا يهم الآن تحقيق ذلك.

ومن لا يشرك فإنه يخلص لله سبحانه بالإذعان له بالربوبية وحده.

ولعلّها (علیها السلام) كررت ذلكبلفظين - على القول بأنه تكرار - لشدة الاهتمام به، وهناك بعض الاحتمالات الآخر، والله سبحانه وأولياؤه (علیهم السلام) أعلم.

ثم إن التحريم ها هنا إرشادي، وعلى بعض الآراء مولوي(2).

ص: 442


1- أو يقال بالعكس؛ نظراً لأن التوحيد سلب الألوهية عما عدا الله، والشرك إثباتها لغيره أيضاً.
2- من الأقوال في ملاك الأوامر الإرشادية: كل ما استقل به العقل فهو إرشادي، وعلى هذا فتحريم الشرك إرشاد لحكم العقل. ومن الأقوال: إن الإرشادي هو كل ما لزم من اعتباره مولوياً الدور وشبهه، فعلى هذا فتحريم الشرك ها هنا مولوي، إذ لا يلزم من اعتباره مولوياً محال، فتأمل.

ف ƒ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ

اشارة

-------------------------------------------

ف ƒ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ (1)

مراتب التقوى

مسألة: التقوى لها معان ومراتب، وهي على ذلك تنقسم إلى ما هو واجب وما هو مستحب، ومنها ما يكون من درجات المقربين(2).

فإن التقوى قد تطلق ويراد بها (الخشية من الله تعالى وهيبته)، وعلى هذا فهي حالة نفسانية وملكة روحانية، وقد يراد بها معنى أدق من هذا(3).

وقد تطلق ويراد بها الإطاعة والعبادة(4) وهو الغالب، وهي على هذاليست شيئاً وراء إتيان الواجبات وترك المحرمات.

فقوله سبحانه: «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ»(5)، وقوله تعالى: «اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ»(6) وما أشبه ذلك، مثل قوله تعالى: «أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا

ص: 443


1- إشارة إلى قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ» سورة آل عمران: 102.
2- قد يكون هذا عطفاً للخاص على العام نظراً لأهميته.
3- قد يكون المراد: تنزيه القلب عن التفكير في الذنب وهي درجة سامية جداً، وقد يكون المراد: التوقي عن كل ما يشغل القلب عن الله تعالى، بأن يكون القلب معموراً بذكر الله دوماً، وهي درجة أسمى وأعلى كما لا يخفى، وسيأتي بيانه من الإمام المؤلف (قدس سره) بعد قليل.
4- قال الإمام الصادق (علیه السلام) عندما سئل عن تفسير التقوى: «أن لا يفقدك الله حيث أمرك، ولا يراك حيث نهاك» - وسائل الشيعة: ج15 ص239 ب19 ح20381 - في جواب من قال له: أوصني.
5- سورة التغابن: 16.
6- سورة آل عمران: 102.

..............................

الرَّسُولَ»(1) حيث إن الطاعة ليست شيئاً وراء الإتيان بالواجبات وترك المحرمات بل هذه مصاديقها، وكذلك هاهنا فليست التقوى على هذا المعنى أمراً وراء أداء الواجبات وترك المحرمات، لوضوح إنه ليس هناك أمران ونهيان، كما أنه ليس هناك واجبان ومحرمان وثوابان وعقابان، على ما ذكر مفصلاً في علمي الكلام والأصول(2).وفي الحديث عن أبي بصير، قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن قول الله عزوجل: «اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ»(3)؟. قال (علیه السلام): «يُطاع فلا يعصى، ويُذكر فلا يُنسى، ويُشكر فلا يُكفر»(4).

وقال (صلی الله علیه و آله) في خطبة الغدير: «معاشر الناس، «اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ»(5)»(6).

نعم للإطاعة والتقوى مراتب(7) بحسب الأمر والمتعلق وما أشبه، وقد تكون في المستحب والمكروه، لكن لا على سبيل اللزوم والمنع من النقيض وإنما

ص: 444


1- سورة النساء: 59، سورة المائدة: 92، سورة النور: 54، سورة محمد: 33، سورة التغابن: 12.
2- من مواطن هذا البحث : مبحث (الأوامر)، و(التجري والانقياد)، و(هل أن الأمر يقتضي النهي عن الضد؟)، و(مقدمة الواجب)، في علم الأصول. يراجع (الوصائل إلى الرسائل)، و(الأصول) للإمام المؤلف (قدس سره).
3- سورة آل عمران: 102.
4- مستدرك الوسائل: ج11 ص265 ب20 ح12952.
5- سورة آل عمران: 102.
6- بحار الأنوار: ج37 ص211 ب52 ح86.
7- الظاهر أن المراد: إن لها مراتب من حيث درجات الوجوب أو الرجحان وأشدية الطلب.

..............................

على سبيل الرجحان، بل من التقوىوالإطاعة أيضاً ما يرتبط بالمباحات(1) ل:

«إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه»(2).

و: «إن الله يغضب على من لا يقبل رخصته»(3)، وذلك في قبال من يوجب أو يحرم على نفسه بعض المباحات، قال سبحانه: «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ»(4).

الاستزادة من التقوى

مسألة: حق التقوى هو العبودية المطلقة لله سبحانه وتعالى، أي العبودية التي لا تشوبها شائبة رياء أو سمعة أو عُجب، أو أي نوع من أنواع الأنانية، بل كما قال علي (علیه السلام): «ولكن وجدتك أهلاً للعبادةفعبدتك»(5).

وهي التي تتحقق بالرضا بقضاء الله على النحو الأتم، وبتذكره سبحانه وتعالى دوماً بحيث لا يغيب عن القلب والفكر أبداً، بل يجده الإنسان حاضراً ناظراً أبداً، كما نجد ذلك متجلياً في حياة الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) وآله الأطهار (علیهم السلام)(6)، فهم معصومون من الغفلة عن ذكر الله،إضافة إلى عصمتهم من مجرد

ص: 445


1- وعلى هذا فيكون المراد من التقوى ها هنا: التوقي عن تحريم أو إيجاب ما أحله الله تشريعاً، لا الترقي عن مجرد ترك المباح أو فعله ولو استمراراً، كيف والفرض أنه مباح.
2- وسائل الشيعة: ج1 ص108 ب25 ح263، والوسائل: ج16 ص232 ب29 ح21441.
3- المناقب: ج4 ص414 فصل في آياته (علیه السلام).
4- سورة الأعراف: 32.
5- غوالي اللآلي: ج1 ص404 ب1 المسلك الثالث.
6- ومنه لم يترك أمير المؤمنين (علیه السلام) ذكر الله حتى حين أراد الحلاق قص شارب وطلب منه إطباق شفتيه.

..............................

التفكير في الذنب، بل في المكروه أيضاً.

ومن المستحب أن يسعى الإنسان للاستزادة من التقوى يوماً بعد يوم، بل ساعة بعد ساعة، نظراً إلى قوله تعالى: «اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ»(1).

وحق التقوى له مراتب متصاعدة غير محدودة بحد، مما قد يعبر عنه باللامتناهي اللا يقفي، وحيث إن كثيراً من مراتبها مما يتعسر - بل مما يتعذر- على غالب الناس، قال تعالى في آية أخرى: «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ»(2).

فقوله تعالى: «اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ»(3) تشير إلى ما هو المبتغى والمراد الأسمى، و«مَا اسْتَطَعْتُمْ» تشير إلى ما على الإنسان أن يحققه، فلا يصح على هذا ما قيل من أن «مَا اسْتَطَعْتُمْ» ناسخة للآية الأخرى: «حَقَّ تُقَاتِهِ» بل أحداهما مكملة للأخرى(4).

ص: 446


1- سورة آل عمران: 102.
2- سورة التغابن: 16.
3- سورة آل عمران: 102.
4- راجع مجمع البيان: ج10 ص34، وفيه: (ولا تنافي بين هذا وبين قوله: «اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ» لأن كل واحد منهما إلزام لترك جميع المعاصي، فمن فعل ذلك فقد اتقى عقاب الله، لأن من لم يفعل قبيحاً ولا أخل بواجب فلا عقاب عليه، إلا أن في أحد الكلامين تبييناً أن التكليف لايلزم العبد إلا فيما يطيق، وكل أمر أمر الله به فلابد أن يكون مشروطاً بالاستطاعة، وقال قتادة: قوله: «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» ناسخ لقوله: «اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ» وكأنه يذهب إلى أن فيه رخصة لحال التقية وما جرى مجراها مما يعظم فيه المشقة، وإن كانت القدرة حاصلة معه. وقال غيره: ليس هذا بناسخ، وإنما هو مبين لإمكان العمل بهما جميعاً وهو الصحيح)، انتهى.

..............................

ومن الواضح أن الله سبحانه وتعالى جعل للأشياء حدوداً، فالصلاة في كل يوم خمس مرات، والصوم في كل سنة شهراً، والحج في العمر مرة واحدة، وهكذا مما هو محدد في جانب الكمّ.

وكذلك الكثير مما هو محدد في جانب الكيف.

أما التقوى فإنه سبحانه لم يجعل لها حداً بل قال تعالى: «اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ»(1)؛ لأنه في كل حصة حصة من الحياة تقوى أو لا تقوى.

ثم التقوى أيضاً كما سبق على درجات، فهي ممتدة كماً إلى آخر نفس من أنفاس الحياة - وعدم الحد هنا نسبي - كما أنها في الكيف غير محدودة بنحو اللايقفي كما سبق.

قال تعالى: «وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى»(2).

وقال (علیه السلام): «إن خير الزاد التقوى»(3).

وقال (علیه السلام): «إن التقوى حقالله سبحانه عليكم»(4).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «نحن كلمة التقوى»(5).

ص: 447


1- سورة آل عمران: 102.
2- سورة المائدة: 2.
3- من لا يحضره الفقيه: ج1 ص179-180 باب التعزية والجزع عند المصيبة ح535و536.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: ص269 ق3 ب2 ف5 فضيلتهما والترغيب فيهما ح5855.
5- بحار الأنوار: ج24 ص184 ب50 ح24.

وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ‚

اشارة

-------------------------------------------

وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ‚ (1)،

الموت على الإسلام

مسألة: الموت بما هو هو أمر غير اختياري، إلاّ أن الموت على صفة وحالة اختيارية اختياري، ولذلك يمكن أن يؤمر به أو ينهى عنه بهذا اللحاظ، ف (الموت على الإسلام) مأمور به، قال تعالى: «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ»(2) يعني وجوب الاستمرار في الاعتقاد الحق إلى آخر لحظة من لحظات العمر. فالجملة السابقة(3) تشير إلى الجانب الكيفي، وهذه الجملة(4) إلى الامتداد الزمني، أي: اتقوا الله حق تقاته واستمروا على ذلك إلى حين الموت، والمسلم الحقيقي هو الذي يطيع الله في كل شيء، وفي كل لحظة من لحظات العمر، فلا يموت الإنسان إلاّ وهو في طاعة الله سبحانه.وفي الحديث: «وأعوذ بالله من شر عاقبة الأمور»(5).

وقال (علیه السلام): «أشد الناس ندماً عند الموت العلماء غير العاملين»(6).

ص: 448


1- سورة آل عمران: 102.
2- سورة آل عمران: 85.
3- أي: «اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ».
4- أي: «وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ».
5- من لا يحضره الفقيه: ج4 ص402 ومن ألفاظ رسول الله (صلی الله علیه و آله) الموجزة التي لم يُسبق إليها ح5868.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: ص45 ق1 ب1 ف2 العلم بلا عمل ح173.

..............................

وقال (علیه السلام): «إياك أن ينزل بك الموت وأنت آبق عن ربك في طلب الدنيا»(1).

حسن العاقبة

مسألة: كل ما يؤدي إلى حسن العاقبة للإنسان فهو راجح ومطلوب، فإن كان في مرتبة المنع من النقيض كان واجباً، وإلاّ كان مستحباً، وذلك عقلي قبل أن يكون شرعياً، وإنما المصاديق غالباً مما يؤخذ من الشارع، لقصور العقل عن التوصل إلى كثير من جهاتهاأو تزاحماتها.

وقد قال سبحانه: «وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ»(2).وقال تعالى: «فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ»(3).

وقد ورد في الدعاء: «واجعل عاقبة أمري إلى غفرانك ورحمتك»(4).

و: «فاجعل عاقبة أمري إلى خير»(5).

و: «واختم لنا بالتي هي أحسن وأحمد عاقبة، وأكرم مصيراً»(6).

و: «اللهم إني أسألك حسن العاقبة»(7).

ص: 449


1- نهج البلاغة، الرسائل: 69 ومن كتاب له (علیه السلام) إلى الحارث الهمذاني.
2- سورة لقمان: 22.
3- سورة آل عمران: 137، سورة النحل: 36.
4- تهذيب الأحكام: ج3 ص115 دعاء أول يوم من شهر رمضان.
5- الإقبال: ص521 ب6 ومن الدعاء في يوم المباهلة.
6- بحار الأنوار: ج88 ص269 ب7 ح22.
7- فقه الرضا (علیه السلام): ص406 ب116.

..............................

الاقتباس من الكتاب

مسألة: يستحب الاقتباس من الكتاب العزيز في الحوار والخطاب، وقد أكثرالمعصومون (صلوات الله عليهم أجمعين) من إدراج آيات القرآن في كلماتهم، كما اقتدى بهم أتباعهم؛ لأن القرآن شفاء ونور وبلاغ، ولأنه جامع لعلوم الأولين والآخرين ولعلوم الدنيا والآخرة في مختلف المجالات و الأبعاد.

قال تعالى: «وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» (1).

وقال سبحانه: «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ» (2).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله»(3).

وفي الحديث الشريف: «في القرآن شفاء من كل داء»(4).

وقال (علیه السلام): «داووا مرضاكم بالصدقة، واستشفوا له بالقرآن، فمن لم يشفه القرآن فلا شفاء له»(5).

وفي الدعاء: «وأن تجعل القرآن نورصدري، وتيسر به أمري»(6).

لذلك فقد استند إليه أتباعهم في شتى المنطلقات وفي شتى الأبعاد، كل حسب قابليته وفي دائرة أبعاده ومدار اهتمامه أو تخصصه وتوجهه.

ص: 450


1- سورة الأنعام: 59.
2- سورة النحل: 89.
3- بحار الأنوار: ج89 ص176 ب18 ح1.
4- مستدرك الوسائل: ج2 ص98 ب16 ح1526.
5- بحار الأنوار: ج59 ص262 ب88 ح18، والبحار: ج89 ص202-203 ب23 ح26.
6- العدد القوية: ص326 اليوم السادس والعشرون.

..............................

وليس ثمة كتاب سماوي أو أرضي اعتنى به أهل ملته وأتباعه مثل القرآن الحكيم، فإن علماء الإسلام - تبعاً لقادة الإسلام - أعطوه من الأهمية والعناية ما لم يُعطَ لكتاب قبله ولا ولن يُعطى لكتاب بعده، حسب معتقدنا من كونه الكتاب الوحيد المتفرد والمتميز بهذه الكيفية.

فقامت كل طائفة بدراسة فن من فنونه:

فقد اهتم جمع بمعرفة مخارج حروفه وعدد الآيات والكلمات والحروف والسكنات والحركات من الضمة والفتحة والكسرة وغير ذلك.

كما أن ألوف المسلمين - في زمن رسول الله (صلی الله علیه و آله) - كانوا يحفظون القرآن كله من أوله إلى آخره وإلى يومنا هذا.

واعتنى اللغويون: بمفرد مفرد منمفرداته.

ويعتني النحاة: بالمعرب والمبني والأسماء والأفعال والحروف منه، بل كان أصل تكونه وتأسيسه(1) بتوجيه وإرشاد الإمام علي بن أبى طالب (علیه السلام) على أبي الأسود الدؤلي لأجل التحفظ على صحة قراءة القرآن الكريم وإعرابه(2).

ص: 451


1- أي علم النحو.
2- ففي كتاب (الصراط المستقيم: ج1 ص220-221 ب7 ف19): وأما النحاة فظاهر وصفه (علیه السلام) لأبي أسود الدؤلي فإنه دخل عليه فرآه متفكراً، فقال له: فيما أنت تفكر؟. قال: «سمعت في بلدكم لحناً وأردت أن أضع في اللغة كتاباً». قال: فأتيته بعد أيام فألقى إليَّ صحيفة فيها: «الكلام كله ثلاثة: اسم وفعل وحرف، والأشياء ثلاثة: ظاهر ومضمر وغيرهما، فانح هذا النحو». وفي (شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج1 ص20 القول في نسب أمير المؤمنين علي (علیه السلام) وذكر لمع يسيرة من فضائله): ومن العلوم علم النحو والعربية، وقد علم الناس كافة أنه - أي علياً (علیه السلام) - هو الذي ابتدعه وأنشأه وأملى على أبي الأسود الدؤلي جوامعه وأصوله، من جملتها: «الكلام كله ثلاثة أشياء: اسم وفعل وحرف»، ومن جملتها: «تقسيم الكلمة إلى معرفة ونكرة، وتقسيم وجوه الإعراب إلى الرفع والنصب والجر والجزم». وفي (كتاب كشف اليقين: ص58 ف3 ب1 المبحث الثاني العلم): وأما النحو فهو - أي علي(علیه السلام) - واضعه، قال لأبي الأسود الدؤلي: «الكلام كله ثلاثة أشياء: اسم وفعل وحرف» وبين له وجوه الإعراب. وفي (كشف الغمة: ج1 ص133وأما تفصيل العلوم فمنه ابتداؤها وإليه تنسب): وإما النحو فقد عرف الناس قاطبة أن علياً (علیه السلام) هو الواضع الأول الذي اخترعه وابتدعه ونصبه علماً لأبي الأسود ووضعه.

..............................

واعتنى أهل الرسم والخط: برسوم كلماته وما يتعلق به من هذا النحو من الخطوط، والتي أنهاها بعضهم إلى أكثر من عشرين بما هو الدارج عند العرب والعجم، وأما سائر الخطوط في اللغات الأخرى فهي كثيرة.

واعتنى المفسرون: بألفاظه مفردات وجمل(1) سواء منها الألفاظ المشتركة التي تدل على أكثر من معنى أم الألفاظ ذات المعنى الواحد، وكذلك الكلي والجزئي، وذكروا المحكم والمتشابه، وأن المتشابه له احتمالان أو احتمالات، ورجحوا المحتمل على المحتمل استناداً إلى تفسير القرآن بالقرآن،أو تفسير القرآن بالأحاديث الشريفة، أو حسب القرائن المقامية والسياق والانصراف العرفي وما أشبه.

واعتنى علماء الكلام: بما في القرآن من الأدلة العقلية والشواهد البرهانية والفطرية مما هو كثير.

ص: 452


1- فقد ورد عن ابن عباس قال: (حدثني أمير المؤمنين (علیه السلام) في تفسير الباء من ƒبسم الله الرحمن الرحيم‚ من أول الليل إلى آخره) كشف اليقين: ص59 ف3 ب1 المبحث الثاني العلم.

..............................

كما إن المنطقيين: ذكروا الأدلة المستفادة من القرآن في الصناعات الخمس(1).

وكلتا الطائفتين ذكروا ما يستفاد من القرآن الحكيم من الأدلة على وحدانيته تعالى ووجوده وقدرته وعلمه وتنزيهه عما لا يليق به وما أشبه ذلك من صفاته الجمالية والجلالية. أما المتكلمون فقد ذكروا ذلك في باب أصول الدين، وأما المناطقة فقد ذكروا ذلك(2) في باب الحجة وما هو من شأن المنطق.

والأصوليون: تكلموا في العام والخاص، والنص والظاهر، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، والمحكم والمتشابه، والأمر والنهي منه، وغيرذلك من الشؤون المرتبطة بأصول الفقه.

والفقهاء: استفادوا من القرآن الحلال والحرام والواجب والمستحب والمباح، والملاكات أصولاً وفروعاً.

كما أن جمعاً من الفقهاء ذكروا آيات الميراث وخصوصياتها وسموا ذلك بعلم الفرائض مما يرتبط بمختلف طبقات الوراث وأنصبتهم، وقد ألف جمع منهم كتباً خاصة ب (آيات الأحكام) وهي خمسمائة آية بل أكثر.

وعلماء الأدعية: ذكروا أدعية القرآن الحكيم وهي كثيرة، مع الشؤون المرتبطة بهذه الأدعية الواردة في الكتاب العزيز.

وجماعة تخصصوا بذكر قصص القرآن عن القرون السابقة والأمم البالية ونقل أخبارهم، وذكروا ما يتعلق بابتداء الكون والدنيا وبدايات الأشياء.

ص: 453


1- وهي: البرهان، الجدل، الخطابة، الشعر، المغالطة.
2- أي الأدلة والحجج والبراهين المستفادة من القرآن.

..............................

واستفاد المؤرخون منه مباحث كثيرة في كتاباتهم، واستفاد منه البعض في علم فلسفة التاريخ.

وقامت جماعة باقتباس الأمثال والحكم والمواعظ والعبر والترغيب والترهيب من القرآن الحكيم، وتطرقوا للوعد والوعيد، والتشويق والتحذير، والموت والنشر، والمعاد والحشر،والحساب والعقاب، والجنة والنار، والميزان والبرزخ وما أشبه ذلك من الروادع والزواجر مما يفيد أهل الوعظ والإرشاد والخطباء لتوجيه الناس إلى الله والدين والخير والآخرة.

كما أن جماعة من المعبرين للرؤيا استفادوا من القرآن الحكيم إشارات وعلامات، بالتأمل في أغوار قصة يوسف (علیه السلام) والبقرات السمان(1)..

ورؤيا صاحبي السجن(2)..

ورؤيا إبراهيم (علیه السلام)(3)..

ص: 454


1- إشارة إلى قوله تعالى: «وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأَُ أَفْتُونِي فِي رُءْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ» سورة يوسف: 43 . وقوله تعالى: «يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ» سورة يوسف: 46.
2- إشارة إلى قوله تعالى: «وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآْخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» سورة يوسف: 36. وقوله تعالى: «يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الآْخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ» سورة يوسف: 41.
3- إشارة إلى قوله تعالى: «فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ» سورة الصافات: 102 .

..............................

ورؤيا النبي (صلی الله علیه و آله)(1)..

ورؤيا المسلمين في قصة بدر(2)، وما أشبه ذلك.

وعلماء الفلك: استخرجوا من القرآن الحكيم ما يرتبط بعلمهم من المواقيت، والليل والنهار، والشمس والقمر، والبروج ونحوها، كما يشاهد ذلك في المراصد والاسطرلابات والكتب المعنية بهذا الشأن.

والشعراء والكتّاب: استفادوا من القرآن الحكيم في جمال اللفظ وبديعالنظم وحسن السياق، والمبادئ والمقاطع، والمطالع والمخارج، والتلون في الخطاب، والإسناد والإيجاز، وغير ذلك مما يرتبط بعلوم البلاغة من المعاني والبيان والبديع على مختلف شؤونها وشجونها(3).

وعلماء المناظرة: استفادوا من القرآن الحكيم أسلوب الحوار والجدال، وذلك من مخاطبة الله سبحانه وتعالى مع الناس أو الملائكة أو الجن، وكذلك في حوار الأنبياء (علیهم السلام) مع الأمم وغير ذلك مما يعلم أسلوب البيان والمحاورات للمنصف والمجادل وغير ذلك.

هذا بالإضافة إلى أنه يمكن الاستفادة من كثير من آيات القرآن الحكيم في علم النفس وعلم الاجتماع والاقتصاد والسياسة والحقوق والإدارة وغيرها،

ص: 455


1- إشارة إلى قوله تعالى: «لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً» سورة الفتح: 27.
2- إشارة إلى قوله تعالى: «إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ» سورة الأنفال: 43.
3- راجع كتاب البلاغة للإمام المؤلف (قدس سره).

..............................

وقد استفاد عدد من العلماء من بعضها في تلك العلوم(1).إضافة إلى علوم أخرى كعلم طبقات الأرض، وعلم وظائف الأعضاء والعلوم التي ترتبط بشتى الصناعات وغيرها.

وفيه بحوث وإشارات إلى شتى أصناف المخلوقات المادية والمجردة، وقد قال سبحانه: «مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ»(2)، فإنه تعالى لم يفرط في الكتاب التكويني شيئاً قابلاً للخلق، كما أنه لم يفرّط في الكتاب التشريعي شيئاً مرتبطاً بشؤون الإنسان.

وإنا لم نقصد مما ذكرنا ها هنا إلا الإلماع؛ لأن السيدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) ذكرت هنا آية قرآنية كريمة كشاهد على كلامها.

وإلاّ فالتفصيل يحتاج إلى مجلد ضخم مما هو خارج عن مبحث هذا الكتاب.

ص: 456


1- راجع موسوعة الفقه: (الفقه: علم النفس)، و(الفقه: الاجتماع)، و(الفقه: الاقتصاد)، و(الفقه: السياسة)، و(الفقه: القانون)، و(الفقه: الحقوق)، و(الفقه: الإدارة)، للإمام المؤلف (قدس سره).
2- سورة الأنعام: 38.

وأطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه،

اشارة

-------------------------------------------

إطاعة الباري تعالى

مسألة: تجب إطاعة الله تعالى(1) والاهتمام بأوامره ونواهيه وتحرم المعصية. قال سبحانه: «قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ»(2).

وقال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ»(3).

وقال (علیه السلام): «أطيعوا الله حسب ما أمركم به رسله»(4).

وقال (علیه السلام): «جمال العبد الطاعة»(5).وقال (علیه السلام): «العزيز من اعتز بطاعة الله»(6).

هذا بالنسبة إلى الواجب فعلاً أو تركاً، وكذلك طاعة الله سبحانه وتعالى في القسم الراجح فعلاً وتركاً - وهي واجبة إن كان المقصود بها الالتزام باستحباب المستحب وكراهة المكروه، ومستحب إن كان المراد بها الامتثال

ص: 457


1- هذا الوجوب عقلي وفطري، والأمر هنا إرشادي.
2- سورة آل عمران: 32.
3- سورة الأنفال: 20.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: ص183 ق2 ب2 ف1 الترغيب في الطاعة ح3471.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: ص181 ق2 ب2 ف1 فضيلة طاعة الله تعالى ح3395.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: ص184 ق2 ب2 ف1 الطاعة عز ونصر وسلم ح3495.

..............................

العملي للأوامر الاستحبابية - بل تجري الطاعة في المباح(1) أيضاً، فإن المباح الأصلي غير المباح بعد التشريع، فلا يقال: إنه باق على الإباحة فليس بحكم شرعي(2) فتكون الأحكام حينئذ أربعة فقط، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في بعض كتبنا الأصولية.

وعلى هذا فإن «فيما أمركم به ونهاكم عنه» يكون تأكيداً لهذين المصداقين من الإطاعة وليس حصراً، وإناستشم منه عرفاً ذلك - فتأمل.

قولها (صلوات الله عليها): «وأطيعوا» تأكيد لما سبق، وتصريح بكل ما وجب وحرم، وشرح ل «اتقوا الله».

ص: 458


1- الإطاعة في المباح هي الالتزام بإباحته.
2- الإباحة مجعولة وليست عبارة عن عدم الجعل، فلنا حكم بالإباحة لا مجرد عدم الحكم بالحرمة والوجوب.

فإنه «إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ»

اشارة

-------------------------------------------

فإنه «إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ»(1).

الخشية من الله

مسألة: ينبغي إشراب الجنان الخشية من الله تعالى وقد تجب كل في مورده؛ لأن الخشية التي تصدّ الإنسان عن المعاصي واجبة، أما الخشية التي تدفع الإنسان نحو إتيان المستحبات وترك المكروهات فهي مستحبة شرعاً.

ومع قطع النظر عن جانب (المقدمية) فإنها في حد ذاتها حالة مطلوبة وصفة إيجابية وميزة متميزة للمؤمن، قال سبحانه: «فَلاَ تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ»(2).

ومن الواضح أن العلماء بالله سبحانه وتعالى هم الذين يخشون، أما الجاهل بالله سبحانه وتعالى فلا يخشاه، مثله - ولا مناقشة في المثال - مثل الجاهل بكون هذا أسداً أو أن الأسد مما يخاف منه فإنه لا يتجنبه، كما هو شان الأطفال والمجانين ونحوهما، ولذا قالالرسول (صلی الله علیه و آله): «إن المجنون حق المجنون: المتبختر في مشيته، الناظر في عطفيه، المحرك جنبيه بمنكبيه»(3)، وأما المجنون - عرفاً - الذي يقابل العاقل فقد قال (صلی الله علیه و آله) عنه: «وهذا المبتلى»(4).

ص: 459


1- سورة فاطر: 28
2- سورة المائدة: 44.
3- وسائل الشيعة: ج5 ص43 ب23 ح5854.
4- وسائل الشيعة: ج5 ص43 ب23 ح5854.

..............................

وذلك أن العقل من العقال(1)، فهو تلك القوة التي تردع الإنسان عن ارتكاب الضار والتقحم في الهلكات والإتيان بما لا يلائم، والمجنون هو الذي يقدم على الضار ويقتحم الهلكات دون سبب أو يأتي بغير الملائم من دون وجه، وأي جنون أعظم من ارتكاب معصيةالله؟. وأي جنون أكبر من التمهيد لدخول النار؟. أو الفوز بسخط الجبار؟، قال تعالى: «وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِيناً»(2).

فأشارت (علیها السلام) إلى أهمية الخشية ولزومه، قال علي (علیه السلام): «سبب الخشية العلم»(3). وقال (علیه السلام): «الخشية ميراث العلم»(4).

وقال (علیه السلام): «غاية المعرفة الخشية»(5).

وقال (علیه السلام): «كان فيما أوحى الله تعالى جل ذكره إلى عيسى (علیه السلام): هب لي من عينيك الدموع، ومن قلبك الخشية، وأكحل عينيك بميل الحزن»(6).

ص: 460


1- راجع (لسان العرب: ج11 ص458 مادة عقل) وفيه: عاقل وهو الجامع لأمره ورأيه، مأخوذ من عقلت البعير إذا جمعت قوائمه. وقيل: العاقل الذي يحبس نفسه ويردها عن هواها، أخذ من قولهم: قد اعتقل لسانه إذا حبس ومنع من الكلام... العقل عقلاً: لأنه يعقل صاحبه عن التورط في المهالك، أي يحبسه... واعتقل حبس... وأصل العقل مصدر عقلت البعير بالعقال أعقله عقلاً، وهو حبل تثني به يد البعير إلى ركبته فتشد به.
2- سورة الأحزاب: 36.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: ص63 ق1 ب1 ف11 الخشية غاية المعرفة ح787.
4- بحار الأنوار: ج2 ص52 ب11 ح18.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: ص63 ق1 ب1 ف11 الخشية غاية المعرفة ح788.
6- راجع مستدرك الوسائل: ج11 ص243 ب15 ح12874.

..............................

التنويه بمكانة العلماء

مسألة: تنبغي الإشارة تلميحاً أو تصريحاً بميزة ومكانة العلماء، وصفاتهم ومسؤولياتهم، وبيان أهمية العلم والعلماء في منظار الإسلام.

قال سبحانه: «يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ»(1).

وقال تعالى: «هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ»(2).

وقال (صلی الله علیه و آله): «إن العلماء ورثة الأنبياء»(3).

وقال (علیه السلام): «العلماء باقون ما بقي الدهر»(4).

وقال (علیه السلام): «أشراف الناس العلماء»(5).

وعن الإمام الصادق (علیه السلام):«فنحن العلماء»(6).

وذلك كله بالنسبة إلى العلوم الحقيقية، أما العلم المنحرف والعالم المنحرف فالأول باطل أو من مصاديق الجهل، والثاني ضالّ مضلّ كما في الحديث: «إذا فسد العالم فسد العالَم».

ص: 461


1- سورة المجادلة: 11.
2- سورة الزمر: 9.
3- الكافي: ج1 ص34 باب ثواب العالم والمتعلم ح1.
4- نهج البلاغة، قصار الحكم: 147.
5- إرشاد القلوب: ص198 ب53.
6- الكافي: ج1 ص34 باب أصناف الناس ح4.

..............................

قال (صلی الله علیه و آله): «العلماء رجلان: رجل عالم آخذ بعلمه فهذا ناج، ورجل عالم تارك لعلمه فهذا هالك، وإن أهل النار ليتأذون بريح العالم التارك لعلمه»(1).

قولها (سلام الله عليها): «فإنه إنما يخشى» لعلّ وجه الترابط(2) هو: إنكم حيث كنتم علماء بهذه الأمور التي ذكرتها فاللازم عليكم الخشية من الله تعالى والتي تتجلى في إتباع أوامره والارتداع عن نواهيه.والمراد بالعلماء: العلماء بالله وصفاته وأفعاله لمناسبة الحكم والموضوع، فإن الحكم يضيق ويوسع الموضوع، كما أن عكسه أيضاً صحيح، على ما ذكرناه في (الأصول).

***

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

قم المقدسة

محمد الشيرازي

1414ه

ص: 462


1- غوالي اللآلي: ج4 ص76 الخاتمة الجملة الثانية ح62.
2- حيث إنها (علیها السلام) عللت «أطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه» ب «فإنه إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ».

إلى هنا تم بحمد الله تعالى

المجلد الثاني من فقه الزهراء (علیها السلام)

وقد اشتمل على القسم الأول من الخطبة الشريفة

وسيأتي بعده المجلد الثالث (وهو القسم الثاني من الخطبة)

ويبتدأ بقولها (علیها السلام): ثم قالت: «أيها الناس اعلموا أني فاطمة».

نسأل الله سبحانه التوفيق والقبول

الناشر

ص: 463

المجلد الثالث : خطبتها علیها السلام في المسجد 2

هوية الكتاب

الفقه موسوعة استدلالية في الفقه الإسلامي من فقه الزهراء (علیها السلام)

المجلد الثالث : خطبتها علیها السلام في المسجد 2

المرجع الديني الراحل آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (أعلى الله درجاته)

ص: 1

اشارة

الطبعة الأولى

1439 ه 2018م

تهميش وتعليق:

مؤسسة المجتبى للتحقيق والنشر

كربلاء المقدسة

ص: 2

الفقه

من فقه الزهراء (علیها السلام)

المجلد الثالث

خطبتها علیها السلام في المسجد

القسم الثاني

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

ولعنة الله على أعدائهم أجمعين

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الصِّدِيقَةُ الشَّهِيدَةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الرَّضِيَةُ المَرْضِيَّةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الفَاضِلةُ الزَّكِيَةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الحَوْراءُ الإِنْسِيَّةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا التَّقِيَّةُ النَّقِيَّةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا المُحَدَّثَةُ العَليمَةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا المَظْلومَةُ المَغْصُوبَةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا المُضْطَهَدَةُ المَقْهُورَةُ

السَّلامُ عَليْكِ يا فاطِمَةُ بِنْتَ رَسُول اللهِ

وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ

البلد الأمين ص278. مصباح المتهجد ص711

بحار الأنوار ج97 ص195 ب12 ح5 ط بيروت

ص: 4

مقدمة المؤلف

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين.

أما بعد: فهذا الجزء الثالث من كتاب (من فقه الزهراء) صلوات الله وسلامه عليها، أسأل الله سبحانه التوفيق والقبول، إنه سميع مجيب.

قم المقدسة

محمد الشيرازي

ص: 5

ص: 6

ثم قالت: أيها الناس

اشارة

-------------------------------------------

نداء الناس

مسألة: ربما يقال بأنه ينبغي نداء الناس في مطلع كل حديث مهم، وقد خاطب الله سبحانه الناس بقوله: «يا أيها الناس»(1) و«يا أيها الذين آمنوا»(2) في كثير من آيات الذكر الحكيم(3)، كما خاطب أيضا بقوله تعالى :«يا بني آدم» فإنه ذكر خمس مرات فيالقرآن الكريم(4).

وجاء في بعض الآيات: «قل يا أيها الناس»(5).

وكذلك الأمر في كثير من الأحاديث القدسية(6) و الروايات التي تبدأ ب (يا ابن آدم) أو شبهه.

ص: 7


1- راجع مثلاً: سورة البقرة: 21 و168، وسورة النساء: 1و170 و174،وسورة يونس: 23، وسورة الحج: 1 و5 و..
2- راجع مثلاً: سورة البقرة: 104 و153 و172 و183 و178 و208، وسورة آل عمران: 100 و102 و118 و130 و149 و156 و200، وسورة النساء: 19 و29 و43 و59 و71 و94 و..
3- جاء قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا» 89 مرة في القرآن، و«يا أيها الناس» 20 مرة.
4- راجع سورة الأعراف : الآيات 26 و 27 و31 و35 وسورة يس الآية 60.
5- انظر مثلاً: سورة يونس: 104 و108. ولا يخفى ما في كلمة «قل» من الدلالة.
6- راجع (كلمة الله) لآية الله الشهيد السيد حسن الشيرازي (قدس سره).

..............................

وشواهد الرجحان وأدلة الأسوة قد تدل على الاستحباب وإن احتمل كون ذلك جريا على العادة الجارية في العرف، فليس من المستحب بل من المباح، لكن الأول أقرب(1)، فتأمل.

قال تعالى:«يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون» (2).وقال سبحانه: «قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً»(3).

وقال تعالى: «قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله»(4).

وقال سبحانه: «قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم»(5).

وقال تعالى: «وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير»(6).

وقال سبحانه: «يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان»(7).

ص: 8


1- من الواضح ان خطاب الجمهور يوجب شد الأسماع وتركيز الأفكار فيكون الحديث أقوى في التأثير.
2- سورة البقرة: 21.
3- سورة الأعراف: 158.
4- سورة يونس: 104.
5- سورة يونس: 108.
6- سورة النمل: 16.
7- سورة البقرة: 208.

..............................

وقال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل»(1).

وقال سبحانه: «يا أيها الذين آمنوالاتتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين»(2).

وفي الحديث القدسي قال الله تبارك وتعالى: «يا بن آدم اطعني فيما أمرتك ولاتعلمني ما يصلحك»(3).

ص: 9


1- سورة النساء: 29.
2- سورة النساء: 144 .
3- الخرائج والجرائح: ص249 - 250. وهناك روايات أخرى ورد فيها الخطاب ب (يا بن آدم) مثل: سئل الإمام الحسين (علیه السلام) عن أصوات الحيوانات، فقال (علیه السلام): «إذا صاح النسر فانه يقول: يا ابن آدم عش ما شئت فآخره الموت.. وإذا صاحت السماناة تقول: يا بن آدم ما أغفلك عن الموت…»، الخصال: ص4 ح 8. وعن الإمام زين العابدين (علیه السلام): «يا ابن آدم انك لا تزال بخير مادام لك واعظ من نفسك…» الحديث، مشكاة الأنوار: ص246، الفصل الأول: في عيوب النفس ومجاهدتها.

..............................

من أحكام النداء

مسألة: هناك أحكام وآداب ترتبط بالنداء مذكورة في محلها، فمن النداء ما هو واجب ومنه مستحب ومنه حرام ومكروه ومباح، كل في مورده، قال تعالى: «ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون»(1).

وقال تعالى: «ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم»(2).

وقال سبحانه: «وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين»(3).

وقال تعالى: «ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون»(4).

وقال سبحانه: «إن الذين ينادونك منوراء الحجرات أكثرهم لايعقلون»(5).

وفي الحديث عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) علياً وسلمان وأبا ذر بأن ينادوا بأعلى أصواتهم أنه لا إيمان لمن لم يأمن جاره بوائقه

ص: 10


1- سورة الصافات: 75.
2- سورة آل عمران: 193.
3- سورة الأنبياء: 89.
4- سورة الزخرف: 51.
5- سورة الحجرات: 4.

..............................

فنادوا بها ثلاثا»(1).

وفي شعر حسان بن ثابت يوم الغدير:

يناديهم يوم الغدير نبيهم *** بخم وأسمع بالنبي مناديا

يقول فمن مولاكم ووليكم *** فقالوا ولم يبدوا هنالك التعاديا

إليك مولانا وأنت ولينا *** ولا تجدن منا لك اليوم عاصيا

فقال له قم يا علي فإنني *** رضيتك من بعدي إماماً وهاديا

هناك دعا اللهم وال وليه *** وكن للذي عادى علياً معاديا(2)

وسئل الإمام الصادق (علیه السلام) عن الصدقات، فقال (علیه السلام): «أقسمها فيمن قال الله عزوجل ولا تعط من سهم الغارمين الذين ينادون بنداء الجاهلية شيئاً، قلت: وما نداء الجاهلية، قال: هو الرجل يقول يالبني فلان، فيقع بينهما القتل والدماء»(3).

وفي الحديث: إن من أسماء فاطمة الزهراء (علیها السلام): (محدثة) لأن الملائكة كانوا ينادونها يا فاطمة إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين، يا فاطمة اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين، وتحدثهم(4).

وعن أمير المؤمنين (علیه السلام) عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال:

«يمثل لفاطمة رأس الحسين (علیه السلام) متشحطاً بدمه، فتصيح واولداه، واثمرة

ص: 11


1- مشكاة الأنوار: ص215 الفصل العاشر في حق الجار.
2- المناقب: ج3 ص26 - 27 فصل في قصة يوم الغدير، وخصائص الأئمة: ص42.
3- مستطرفات السرائر: ص607.
4- العدد القوية: ص226 نبذة من أحوال الصديقة الطاهرة (علیها السلام) وكيفية ولادتها.

..............................

فؤاداه، فتصيح الملائكة لصيحة فاطمة (علیها السلام) وينادون أهل القيامة: قتل الله قاتل ولدك يا فاطمة..

قال: فيقول الله عزوجل: أفعل به…»الحديث (1).

وقولها (2) صلوات الله عليها: (ثم)(3) لا يقصد به وجود فاصل زمني بين الكلامين بل الفصل الرتبي، حيث كان الكلام حتى هذا المقطع يدور حول الأصول والفروع، والكلام من هنا يبدأ حول قضية حقها المسلوب حيث جاءت (علیها السلام) إلى المسجد لإثبات الحق وإحقاقه.

ص: 12


1- ثواب الأعمال: ص219 عقاب من قتل الحسين (علیه السلام).
2- أي قول السيدة زينب (علیها السلام) التي روت الخطبة.
3- حيث قالت (علیها السلام): (ثم قالت: اعلموا اني فاطمة...).

اعلموا أني فاطمة

اشارة

-------------------------------------------

التعريف بالنفس

مسألة: يستحب أن يعرف الإنسان نفسه للناس إذا كان فيه الفائدة، ولذا عرف الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام) نفسه في يوم كربلاء، حيث قال بأعلى صوته: «أنشدكم الله هل تعرفونني.. أنشدكم بالله هل تعلمون أن جدي رسول الله… أنشدكم الله هل تعلمون أن أبي علي بن أبي طالب… أنشدكم الله هل تعلمون أن أمي فاطمة الزهراء بنت محمد المصطفى.. وان جدتي خديجة بنت خويلد أول نساء هذه الأمة إسلاما… وأن حمزة سيد الشهداء عم أبي.. وأن جعفراً الطيار عمي..»(1).

وقال (علیه السلام):

أنا الحسين بن علي *** أحمي عيالات أبي

آليت أن لا أنثني *** أمضي على دين النبي(2)

وكذلك الإمام السجاد (عليه الصلاة والسلام) في المسجد الجامع في الشام،حيث قال (علیه السلام): «أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي، أنا ابن مكة ومنى، أنا ابن المروة والصفا، أنا بن محمد المصطفى..»(3).

ص: 13


1- اللهوف: 86 - 87.
2- المناقب: ج4 ص109 فصل في مقتله (علیه السلام).
3- الاحتجاج: ص311، احتجاج علي بن الحسين (علیه السلام) على يزيد بن معاوية لما أدخل عليه.

..............................

وعن أبي ذر أنه قال: «أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي، أنا جندب بن جنادة أبو ذر الغفاري، سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: علي (علیه السلام) قائد البررة، علي قاتل الكفرة، منصور من نصره، مخذول من خذله، ملعون من جحد ولايته» الحديث(1).

من غير فرق بين أن يكون التعريف بالاسم أو بالوصف، وقد جاء في القرآن الحكيم: «إني رسول الله إليكم جميعاً»(2) وما أشبه ذلك(3).ومن هذا الباب ما ورد من حديث المفاخرة بين أمير المؤمنين (علیه السلام) وولده الحسين (علیه السلام) وما أشبه، فقد ورد:

«إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان جالساً ذات يوم وعنده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فدخل الإمام الحسين (علیه السلام) فأخذه النبي (صلی الله علیه و آله) وأجلسه في حجره…

فقال علي (علیه السلام): يا رسول الله أيّنا أحب إليك؟…

فقال الحسين: يا أبتي من كان أعلى شرفاً كان أحب إلى النبي.

قال علي (علیه السلام) لولده: أتفاخرني يا حسين.

قال: نعم يا أبتاه إن شئت.

ص: 14


1- إرشاد القلوب: ص220.
2- سورة الأعراف: 158.
3- وانظر أيضا سورة الصف: 5 و 6، وفيها: «وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون إني رسول الله إليكم...»، و«وإذ قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا…».

..............................

فقال علي (علیه السلام): أنا أمير المؤمنين، أنا لسان الصادقين، أنا وزير المصطفى… أنا قائد السابقين إلى الجنة… أنا حبل الله المتين الذي أمر الله تعالى خلقه أن يعتصموا به في قولهتعالى: «واعتصموا بحبل الله جميعاً»(1)..

أنا نجم الله الزاهر… أنا الذي قال الله سبحانه فيه: «بل عباد مكرمون Q لايسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون»(2)، أناعروة الله التي لا انفصام لها، أنا باب الله الذي يؤتى منه.. أنا بيت الله من دخله كان آمناً، فمن تمسك بولايتي ومحبتي أمن من النار…

أنا «عم يتساءلون»(3) عن ولايتي يوم القيامة… أنا النبأ العظيم…

أنا حي على الصلاة، أنا حي على الفلاح، أنا حي على خير العمل…

- إلى أنا قال (علیه السلام): - أنا قسيم الجنة والنار.

فعندها سكت علي (علیه السلام) فقال النبي (صلی الله علیه و آله) للحسين (علیه السلام):

أسمعت يا أبا عبد الله ما قاله أبوك وهو عشر عشير معشار ما قاله من فضائله ومن ألف ألف فضيلة، وهو فوق ذلك أعلى…

فقال الحسين (علیه السلام): يا أبت أنا الحسين بن علي بن أبي طالب، وأميفاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين وجدي محمد المصطفى سيد بني آدم أجمعين، لا ريب فيه، يا علي إن أمي أفضل من أمك عند الله وعند الناس أجمعين،

ص: 15


1- سورة آل عمران: 103.
2- سورة الأنبياء: 26 - 27.
3- سورة النبأ: 1.

..............................

وجدي خير من جدك وأفضل عند الله وعند الناس أجمعين…

- إلى أن قال: - يا علي أنت عند الله تعالى أفضل مني، وأنا أفخر منك بالآباء والأمهات والأجداد» الحديث(1).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «يفتخر يوم القيامة آدم بابنه شيث وافتخر أنا بعلي بن أبي طالب»(2).

وفي كتاب سليم عن أبي ذر وسلمان والمقداد قالوا: «إن رجلاً فاخر علي بن أبي طالب (علیه السلام) فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعلي: أي أخي فاخر العرب فأنت أكرمهم ابن عم وأكرمهم أباً وأكرمهم أخاً وأكرمهم نفساً وأكرمهم نسباً وأكرمهم زوجة وأكرمهم ولداً وأكرمهم عماً وأعظمهم عناءً بنفسكومالك»(3).

كما يستحب الانتساب إلى الأب أيضا، ولذا قالت (عليها الصلاة والسلام): (وأبي محمد).

وهكذا نجد في كلام الإمام الحسين (علیه السلام) المتقدم وكلام غيرهما. وقبل ذلك قال تعالى: «ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها»(4) و..

أما تعريف النفس لا بالقصد المذكور بل لأغراض شيطانية، فمن الرذائل.

ص: 16


1- الفضائل: ص83 - 85.
2- المناقب: ج3 ص242.
3- كتاب سليم بن قيس: ص93.
4- سورة التحريم : 12.

..............................

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إن الله قد أذهب عنكم حمية الجاهلية وفخرها بالآباء، الناس بنو آدم وآدم من تراب مؤمن تقي وفاجر شقي لينتهين أقوام يفخرون برجال إنما هم فحم من فحم جهنم»(1).

وفي الشعر المنسوب إلى أمير المؤمنين (علیه السلام):

أيها الفاخر جهلاً بالنسب *** إن الناس لام ولأب

هل تراهم خلقوا من فضة *** أم حديد أم نحاس أم ذهب

هل تراهم خلقوا من فضلهم *** هل سوى لحم وعظم وعصب

إنما الفخر لعقل ثابت *** وحياء وعفاف وأدب (2)

وأيضا:

كن ابن من شئت واكتسب أدباً *** يغنك محموده عن النسب

فليس يغني الحسيب نسبته *** بلا لسان له ولا أدب

ان الفتى من يقول ها أنا ذا *** ليس الفتى من يقول كان أبي(3)

وأيضا:

ولا تمشين في منكب الأرض فاخراً *** نعماً قليل يحتويك ترابها(4)

قولها (علیها السلام): (اعلموا أني فاطمة) تعريف بنفسها الشريفة، كي لايبقى أي مجال للتشكيك بشخصية المتحدث، سواء لدى كل فرد فرد من الجمهور

ص: 17


1- شرح النهج: ج9 ص107 يوم نهاوند.
2- ديوان الإمام علي (علیه السلام): ص69.
3- ديوان الإمام علي (علیه السلام): ص69.
4- ديوان الإمام علي (علیه السلام): ص69.

..............................

الغفير الحاضر في المسجد، أو عند الغائبين الذين يصلهم هذا الحديث والاحتجاج في المدينة المنورة وسائر البلدان، في ذلك الجيل أو الأجيال اللاحقة..

وبذلك فإنها (علیها السلام) قد قطعت الطريق على أية محاولة تشكيكيةبصدور هذا الحديث الصاخب منها.

فلا يمكن بعد ذلك للطغاة ومرتزقتهم من ذوي الأقلام المسمومة وأصحاب الضمائر المنحرفة أن (يجهضوا) مفعول ذلك الحديث عبر سلاح (التكذيب) و(الإنكار): فمن قال إن هذا الحديث لفاطمة ؟

أو من قال: إنها فاطمة بنت محمد (صلی الله علیه و آله)؟ (1).

ص: 18


1- كما أنكر البعض وشكك آخرون في صحة نسبة عدد من خطب وكلمات نهج البلاغة للإمام أمير المؤمنين علي (علیه السلام) أو جهل مدى صحة نسبة عدد من الكلمات إلى العديد من المعصومين (عليهم الصلاة والسلام)، بل إن قسما من الخطب والكلمات انتحلها أمثال معاوية لنفسه !.

وأبي محمد

اشارة

-------------------------------------------

لماذا (وأبي محمد)؟

قولها (علیها السلام): (وأبي محمد (صلی الله علیه و آله))، حيث إن المسلمين كانوا قد سمعوا الرسول (صلی الله علیه و آله) يقول كراراً: (فاطمة بضعة مني)(1).

ويقول (صلی الله علیه و آله): «هي نور عيني وثمرة فؤادي»(2).

ويقول (صلی الله علیه و آله): «هي مني وأنا منها»(3).

ويقول (صلی الله علیه و آله): «إنما سميت فاطمة فاطمة لأن الله تعالى فطم منأحبها من النار»(4).

وفي حديث: «لأنها فطمت هي وشيعتها من النار»(5).

ويقول (صلی الله علیه و آله): «فاطمة بضعة مني من آذاها فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله عز وجل»(6).

ص: 19


1- الأمالي للشيخ الصدوق: ص102 المجلس 22 ح3.
2- الامالي للشيخ الصدوق: ص486 المجلس 73 ح18.
3- راجع علل الشرائع: ص185 ح2 باب العلة التي من أجلها دفنت فاطمة (علیها السلام) بالليل ولم تدفن بالنهار.
4- علل الشرائع: ص178 ح1 ب باب العلة التي من أجلها سميت فاطمة (علیها السلام) فاطمة.
5- علل الشرائع: ص179 ح5 باب العلة التي من أجلها سميت فاطمة (علیها السلام) فاطمة.
6- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج16 ص273.

..............................

ويقول (صلی الله علیه و آله): «فاطمة بضعة مني يسخطها من يسخطني ويرضيني ما أرضاها»(1).

وفي حديث: «فمن أغضبها فقد أغضبني»(2).

وفي حديث: «من سرها فقد سرني ومنساءها فقد ساءني»(3).

وقال (صلی الله علیه و آله): «فاطمة أعز البرية عليّ»(4).

وقال (صلی الله علیه و آله) وهو آخذ بيد فاطمة (علیها السلام): «من عرف هذه فقد عرفها ومن لم يعرفها فهي فاطمة بنت محمد وهي بضعة مني وهي قلبي وروحي التي بين جنبي، فمن آذاها فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله»(5).

وقال (صلی الله علیه و آله): «فاطمة سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، وإنها لتقوم في محرابها فيسلم عليها سبعون ألف ملك من المقربين وينادونها بما نادت به الملائكة مريم فيقولون: يا فاطمة إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين» الحديث(6).

إلى عشرات الأحاديث الأخرى، فكانفي الإشارة إلى ذلك(7) إلفاتاً إلى

ص: 20


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج16 ص278.
2- المناقب: ج3 ص232 فصل في حب النبي (صلی الله علیه و آله) إياها، عن البخاري.
3- المناقب: ج3 ص332 فصل في حب النبي (صلی الله علیه و آله) إياها.
4- المناقب: ج3 ص332 فصل في حب النبي (صلی الله علیه و آله) إياها.
5- كشف الغمة: ج1 ص466.
6- روضة الواعظين: 149 مجلس في ذكر مناقب فاطمة (علیها السلام).
7- أي إلى أنها (علیها السلام) بنت محمد (صلی الله علیه و آله).

..............................

حقيقة توجب لكلماتها (علیها السلام) وقعاً اكبر في النفوس، فهي (علیها السلام) بنت ذلك النبي الذي أنقذكم من الظلمات إلى النور ومن أسفل درجات الذلة إلى أرفع درجات العزة، وكلماتها امتداد لتلك المسيرة، وكما ضل من ضل بإعراضه عن كلامه (صلی الله علیه و آله) سيضل من سيعرض عن كلماتها (علیها السلام).

ولذلك(1) وجه آخر أيضا: فالإشارة إلى هذه العلاقة السببية يثير عادة في النفوس عاطفة أقوى - خاصة والنبي (صلی الله علیه و آله) قد توفي منذ فترة قصيرة والعواطف شديدة التأجج والالتهاب - مما يدفع الناس إلى تقبّل أقوى لمواعظها وإنذارها(2).

ص: 21


1- أي: للسر في قولها (علیها السلام): (وأبي محمد).
2- وقد ذكر الإمام المؤلف (قدس سره) وجها ثالثاً لذلك قبل قليل تحت عنوان (اعلموا أني فاطمة).

أقول عوداً وبدواً

اشارة

-------------------------------------------

أقول عوداً وبدواً (1)

التأكيد والتكرار

مسألة: يستحب التأكيد والتكرار بشكل تفصيلي أو بنحو إجمالي للمطالب المهمة، لما يتضمن من التأثير الأكبر في تقبل المستمع للموعظة والإنذار، كما قالت (علیها السلام): (عودا وبدوا). ومن هذا الباب بعض التكرار في القرآن الكريم وان كان لدى الدقة غير الأول.

ومنه أيضا ما كرره رسول الله (صلی الله علیه و آله) من التأكيد على ولاية أمير المؤمنين (علیه السلام) وأنه الخليفة من بعده وذلك في أماكن عديدة وفي مناسبات مختلفة، كما في حجة الوداع حيث جمع الصحابة وكرر عليهم (ألست أولى بكم من أنفسكم) ثلاثاً وهم يجيبون بالتصديق والاعتراف ثم رفع يد علي (علیه السلام) وقال: (من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعادمن عاداه وأحب من أحبه وابغض من أبغضه وانصر من نصره واخذل من خذله وأدر الحق معه حيثما دار)(2).

ومنه أيضا ما كرره (صلی الله علیه و آله) عند ما أمر أصحابه بتجهيز جيش أسامة حيث قال: «أنفذوا جيش أسامة لعن الله من تخلف عنه» وكرر ذلك(3).

ص: 22


1- وفي بعض النسخ: (أقول عوداً على بدء) والمعنى واحد.
2- الصوارم المهرقة: ص176.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج6 ص52، وشرح النهج ج17 ص175.

..............................

وكذلك ما ورد في تكرار بعض الأدعية مثل قوله (علیه السلام): «من كان به علة فليقل عليها في كل صباح أربعين مرة مدة أربعين يوماً: بسم الله الرحمن الرحيم…» الحديث(1).

وروي عن ابن عباس أنه قال: «كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) إذا حدث الحديث أو سئل عن الأمر كرره ثلاثاً ليفهم ويفهم عنه»(2).

ثم إنه لا فرق في التكرار بين: التكرار باللفظ كقول ابن مالك:(كالضيغم الضيغم يا ذا السادي).

أو بالمعنى.. أو ما يدل على التكرار، كقولها (عليها الصلاة والسلام): (عودا وبدوا). وإنما قدمت (عودا) مع أن الأول أسبق في الأسلوب والتسلسل الخارجي(3) لأن الكلام مكان العود وما هو المكان له يقدم كما ذكره علماء البلاغة(4)، كأنها (علیها السلام) تريد أن تقول: إني أقول مكرراً، ثم قالت: (وبدوا) تصريحا بما يدل عوداً عليه تلويحاً.

قولها (علیها السلام): (عودا وبدوا) أي: أولا وآخرا، أي إن كلامي الأخير هو ذات كلامي الأول، لا أن أقول شيئا ثم أتكلم بما يناقضه ويعارضه كما هو شأن كثير من السياسيين وأرباب السلطات ومن أشبههم.

ص: 23


1- انظر مصباح الكفعمي: ص15 الفصل 18، وغيره.
2- مكارم الأخلاق: ص20.
3- إذ (يبدأ) الإنسان بشيء ثم (يعود) إليه مرة أخرى.
4- أي إن كلامها (علیها السلام) لأهميته جدير بان يعاد مؤكدا، فهو (محل) و(محطة) لان يعاد ويكرر.

ولا أقول ما أقول غلطاً، ولا افعل ما أفعل شططاً

اشارة

-------------------------------------------

عصمتها (علیها السلام)

مسألة: إن كلامها (علیها السلام) هذا مضافاً إلى سائر الأدلة(1) يدل على عصمتها(علیها السلام)، فإن المعصوم لا يخطأ ولا يغلط ولا يشطط، والشطط هو الابتعاد عن الحق.

والفرق بين القول والفعل واضح، والكلام وان كان في القول هنا لكنها (علیها السلام) ذكرت الفعل أيضا تأكيداً من باب الأولوية العرفية فمن لا يكون فعله شططا لا يكون قوله غلطاً. وهناك وجه آخر وهو أن (القول) لدى الدقة من مصاديق (الفعل)(2).

قولها (علیها السلام): (ولا أقول ما أقول غلطا) أي أن كلامي لم يصدر إلا عن بصيرة وحكمة وهو مطابق للواقع، إذ كثيراً ما يقول القائل شيئا ثم إذا رأى المحذور فيه قال إنه أخطأ فيكلامه، وتنازل عن مقالته بهذه الحجة.

ص: 24


1- راجع مقدمة الجزء الأول من كتاب (من فقه الزهراء (علیها السلام)) حديث الكساء.
2- فيكون (لا أفعل) تأكيدا ل (لا أقول).

..............................

حرمة القول بالغلط

هنا مسألتان:

أ: القول الغلط قد يكون حراما.

وقد يكون مرجوحا لا يمنع عن نقيضه.

وقد يكون غير ذلك(1).

إذ أن الغلط قد يقصد به العمد، وقد يراد به السهو، والقول الغلط إذا أريد به العمد(2) قد يكون محرما كما في الأحكام الشرعية أو الأمور العقائدية أو ما أشبه ذلك، وقد يكون مرجوحا، كما إذا كان فيما لم ير الشارع لمعرفته موضوعية(3) ولا تترتب على الغلط فيه محذور ولا انطبق عليه عنوان محرم كالكذب، فتأمل.

وأما القول الغلط - إذا أريد به السهو - فهو تابع في حكمه للتقصير في مقدماته.ب: وكذلك الأمر في كل فعل شط عن الصواب وابتعد وكان من مصاديق الظلم للنفس أو للغير، عمداً أو سهواً كما سبق.

ص: 25


1- إشارة إلى الخطأ سهوا، الذي لا ينطبق عليه حكم من الأحكام الخمسة لخروجه عن مقسمها.
2- أي قال قولاً غير مطابق للواقع عمدا.
3- أي لا مثل الشؤون الاعتقادية.

..............................

و(شططا) أي: ظلماً وابتعاداً عن الحق، والمراد من الفعل في قولها (علیها السلام): (ولا أفعل ما أفعل) هو مجيئها المسجد ومناصرتها علياً (عليه الصلاة والسلام)، والفعل يشمل الكلام أيضا، كما أن القول يشمل الفعل أيضا، وإن كان ذاك على نحو الحقيقة وهذا على نحو المجاز.

قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «المستبد متهور في الخطأ والغلط»(1).

وقال (علیه السلام): «من كثر مراؤه لم يأمن الغلط»(2).

وفي الحديث عنه (علیه السلام): «انه قضى في امرأة تزوجها رجل على حكمها فاشتطت عليه، فقضى أن لها صداقمثلها لا وكس ولا شطط»(3).

وفي القرآن الكريم: «وانه كان يقول سفيهنا على الله شططا»(4).

وقال تعالى: «فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلهاً لقد قلنا إذاً شططا»(5).

وقال سبحانه: «إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط»(6).

ص: 26


1- غرر الحكم ودرر الكلم: ص65 الفصل 12.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: ص464 الفصل 8.
3- دعائم الإسلام: ج2 ص222 فصل ذكر المهور ح831.
4- سورة الجن: 4.
5- سورة الكهف: 14.
6- سورة ص: 22.

لقد جاءكم رسول من أنفسكم

اشارة

-------------------------------------------

لماذا رسول من أنفسكم؟

مسألة: يلزم في حكم العقل ومن باب قاعدة اللطف أن يكون النبي من البشر، وقد قال سبحانه: «لقد جاءكم رسول منأنفسكم»(1) أي مثلكم في الخلقة.

وقال تعالى: «ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون»(2).

وذلك لان البشر في مظان أن يكون أسوة وقدوة للناس(3) ، أما الملك فلا ، إذ الناس يقولون انه ملك وهو مجرد من دواعي المعصية وله قوى لا نملكها وله أحكام غير أحكامنا فلا يكون لنا قدوة، وكذلك إذا كان من الجن، أو من جنس آخر. ويمكن القول بان جعله بشراً من باب اللطف ولكن ليس كل لطف واجبا، فليس سبحانه ملزما بذلك، إذ الإلزام - فيما الزم به تعالى نفسه - إنما يكون في اصل تبليغ الرسالة، سواء كان بسبب البشر أم بسبب غير البشر، كما قرر في علم الكلام.

ص: 27


1- سورة التوبة : 128.
2- سورة الأنعام: 9.
3- فهو يصلح ان يكون أسوة في تبليغه الرسالة رغم المصاعب، وفي التزامه بأوامره جل وعلا وتجنبه ارتكاب المعاصي رغم انه - كسائر الناس - مركب من روح وجسد ورغم وجود القوة الغضبية والشهوانية و.. فيه، الى غير ذلك.

عزيز عليه ما عنتّم

اشارة

-------------------------------------------

من مواصفات القائد

مسألة: يلزم أن يكون القائد بحيث يعز عليه ويشق عليه ما عنت وشق وصعب على رعيته، كما يعز على الأب ما يجري على ابنه، إذ القائد هو الأب الروحي، ولأنه إذا لم يكن يهتم برعيته حتى يشق عليه ما يشق عليهم لا يصلح ان يكون ذلك الذي يقود سفينة الرعية نحو شاطئ السلام في خضم التيارات وأمواج الفتن وأعاصير البلاء.

ولمكانة (ما) يدل على عزة ذلك على الرسول (صلی الله علیه و آله) ولو كان من أدنى درجات العنت، لان الطبيعة سارية من الصغيرة الى الكبيرة، كما قرر في علم المنطق.

قولها (علیها السلام): (ما عنتم) أي ما عنتكم أي ما صعب وشق عليكم، فإنه (صلی الله علیه و آله) كان يشق عليه كل ما شق على أمته في حال حياته وبعد مماته، ولذا قال (صلی الله علیه و آله) لعزرائيل (علیه السلام) عند حضوره لقبض روحه : (شدد عليَّ وخفف على أمتي)، على عكس الحكام الدنيويين وطلاب القوة والسلطة الذين لا يهمهم إلا أمر أنفسهم وإلا المزيد من الأموال والقدرة والشهوات، وان كان كل ذلكعلى حساب الأمة واقتطاعا من أقواتها وحقوقها.

وهكذا كان علي أمير المؤمنين (علیه السلام) فقد ورد أنه (علیه السلام) نظر إلى فقير انخرق كم ثوبه، فخرق كم قميصه وألقاه إليه(1).

ص: 28


1- بحار الأنوار: ج40 ص323.

حريص عليكم

اشارة

-------------------------------------------

وعن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «كان علي بن أبي طالب ليطعم الناس خبز البر واللحم، وينصرف إلى منزله ويأكل خبز الشعير والزيت والخل»(1).

حريص عليكم

الحرص على الرعية

مسألة: يلزم أن يكون القائد والراعي - في أية درجة ومنزلة كان،وسواء اتسعت دائرة رعيته أم تضيقت(2) - حريصا على شؤون أتباعه ورعيته. ومعنى الحرص عليهم الحرص على هدايتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة وتقدمهم في شتى الأبعاد الجسمية والروحية، المادية والمعنوية، وذلك لان حذف المتعلق يفيد العموم.

ومن الواضح إن الحرص - وهو شدة الاهتمام والتمسك والتعلق بشيء - على الخيرات حسن ممدوح، كما قال أمير المؤمنين علي (علیه السلام): «المؤمن على الطاعات حريص وعن المحارم عفيف»(3).

ص: 29


1- بحار الأنوار: ج40 ص327.
2- أي سواء كان قائداً لامة أم لشعب أم لقبيلة أم لحزب أم لعائلة أم لفرد واحد.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: ص90 ح1537.

..............................

أما المذموم فهو الحرص على الدنيا الفانية وشهواتها الدنية.

قال الإمام الصادق (علیه السلام): «أربع من علامات النفاق قساوة القلب وجمود العين والإصرار على الذنب والحرص على الدنيا»(1).

وقال (علیه السلام): «هلاك الناس فيثلاث: الكبر والحرص والحسد»(2).

وعنه (صلی الله علیه و آله): «وإياكم والحرص فإن آدم (علیه السلام) حمله الحرص على أن أكل من الشجرة»(3).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام) في وصيته لابنه الحسين (علیه السلام): «أي بني الحرص مفتاح التعب ومطية النصب… الحرص علامة الفقر»(4).

وقال (علیه السلام): «خير الناس من أخرج الحرص من قلبه»(5).

هذا وفي بعض الروايات الواردة في تأويل الآية المباركة أنه (علیه السلام) تلا هذه الآية: «لقد جاءكم رسول من أنفسكم» قال: (من أنفسنا)، قال: «عزيز عليه ما عنتم» قال: ما عنتنا، قال: «حريص عليكم» قال: علينا، «بالمؤمنين رؤوف رحيم» قال: بشيعتنا رؤوف رحيم، فلنا ثلاثة أرباعهاولشيعتنا ربعها(6).

ص: 30


1- الاختصاص: ص228.
2- كشف الغمة: ج1 ص571.
3- إرشاد القلوب: 119 ب40.
4- تحف العقول: ص88 - 90.
5- غرر الحكم ودرر الكلم :ص241 ح4873.
6- تفسير العياشي: ج2 ص118 ، والآية في سورة التوبة: 128.

بالمؤمنين رؤوف رحيم

اشارة

-------------------------------------------

بين الرأفة والرحمة

مسألة: يلزم أن يكون القائد رؤوفا رحيما، والفرق بينهما أن الصفة الأولى تتعلق بالعمل والجوارح، والثانية ترتبط بالقلب والجوانح، في قبال الفظّ الذي يعكس خشونة الأفعال وهي حالة خارجية، وغليظ القلب وهي حالة داخلية، كما في الآية الكريمة: «ولو كنت فظا غليظ القلب»(1)..

أما «الرحمن الرحيم» في قوله تعالى:«بسم الله الرحمن الرحيم»(2) فالأول خارجي يتعلق بالظواهر والمظاهر، والثاني قلبي، وكلاهما من مادة الرحمة وبمعنى واحد، لا أن لهما معنيين كما قاله بعض المفسرين. ولذا يقال: فلان رحيم القلب، ولايقال: رحمان القلب،وربما يقال بإطلاق كل منهما على الآخر لو انفرد كما قالوا بذلك في (المسكين والفقير) و(الظرف والجار والمجرور) والتفصيل في المفصلات.

فالمراد: ظاهره رحيم وباطنه رحيم، لا كبعض الناس حيث ترى الغلظة في ظاهره وباطنه، أو في ظاهره فقط، أو في باطنه فقط، فإن الغلظة إذا كانت في الظاهر لا تنفع معها - عادة - الرقة الباطنية، وإذا كانت الغلظة في الباطن كان الظاهر الرقيق تصنعا لاواقعية له، والتصنع قد ينفع في خداع الناس لفترة، إلا أنه

ص: 31


1- سورة آل عمران: 159.
2- سورة الفاتحة: 1.

..............................

ليس بدائمي ولا شمولي إذ إن الجوهر يصنع ما يصنع، ففي الخلوات - مثلاً - تصنع الغلظة صنعتها في تلك المؤامرات التي تحاك خفية والخطط الشيطانية التي سرعان ما تنكشف للناس فتفضح تلك السريرة الشريرة وتلك الضمائر الخبيثة.

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إن الله عز وجل خلق العقل من نور مخزون مكنون في سابق علم… فجعل العلم نفسه والفهم روحه والزهد رأسه والحياء عينيه والحكمة لسانه والرأفة همهوالرحمة قلبه» الحديث(1).

وفي الدعاء: «الذي أوجبته على نفسك من الرأفة والرحمة»(2).

وأيضا: «يا معروفاً بالإحسان والرأفة والرحمة»(3).

وأيضا: «وأسألك باسمك الذي خلقت به ملائكة الرأفة والرحمة»(4).

قولها (علیها السلام): (بالمؤمنين) تخصيصهم بالذكر من جهة أن الصفتين السابقتين(5) كانتا تشملان المؤمن والمنافق، فالرسول (صلی الله علیه و آله) ما كان يريد حتى عنت المنافقين، وكان حريصاً على إيمانهم وهدايتهم وإنقاذهم وكان يقول حتى بالنسبة إلى الكافرين: (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون)(6)، أما رأفته ورحمته فمصبها (المؤمنون).

ص: 32


1- الخصال: ص427، إن الله تبارك وتعالى قوى العقل بعشرة أشياء.
2- الإقبال: ص73.
3- الإقبال: ص491.
4- البلد الأمين: ص414، الأسماء الحسنى.
5- وهما (عزيز عليه ما عنتم) و(حريص عليكم).
6- إعلام الورى : ص83.

فإن تعزوه وتعرفوه تجدوه أبي دون نسائكم

اشارة

-------------------------------------------

فإن تعزوه وتعرفوه (1) تجدوه أبي دون نسائكم

التعرف على الرسول (صلی الله علیه و آله)

مسألة: يجب التعرف على الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله)، والقضية الشرطية في كلامها (علیها السلام) وان كانت صحتها لا تتوقف على صدق المقدم بل ولا على إمكانه، إلا أن حكم المقدم هنا يستفاد من الخارج، كما هو بيّن لدى الالتفات.

قال أمير المؤمنين (علیه السلام) بعد بيان لزوم معرفة الله وحدوده: «وبعده معرفة الرسول (صلی الله علیه و آله) والشهادة له بالنبوة، وأدنى معرفة بالرسول الإقرار بنبوته وان ما أتى به من كتاب أو أمر أو نهي فذلك عن الله عز وجل…» الحديث(2).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام): «لم يبعث الله نبياً يدعو إلى معرفة ليس معها طاعة، وإنما يقبل الله عزوجل العمل منالعباد بالفرائض التي افترضها عليهم بعد معرفة من جاء بها من عنده ودعاهم إليه فأول ذلك معرفة من دعا إليه وهو الله الذي لا إله إلا هو وحده والإقرار بربوبيته، ومعرفة الرسول الذي بلغ عنه وقبول ما جاء به، ثم معرفة الوصي (علیه السلام) ثم معرفة الأئمة بعد الرسل الذي افترض الله طاعتهم في كل عصر وزمان على أهله…»(3).

وعنه (علیه السلام): «من زعم انه يحل الحلال ويحرم الحرام بغير معرفة النبي (صلی الله علیه و آله)

ص: 33


1- وفي بعض النسخ: فإن تعزروه وتوقروه.
2- كفاية الأثر: ص262.
3- دعائم الإسلام: ج1 ص52 - 53.

..............................

لم يحل لله حلالاً ولم يحرم له حراماً…»(1).

قولها صلوات الله عليها: (تعزوه) أي تنسبوه بذكر النسب منه وإليه.

و(تعرفوه) تعرفون شخصه ونسبه، بالمعنى الأعم من النسبة إليه، حتى يعرفوا أن فاطمة (عليها الصلاة والسلام) منسوبة إليه (صلى الله عليه وآله).

و(أبي) تمهيد لكون فدك لها، لأن فدك حتى إذا لم تكن نحلة - فرضاً -تكون إرثاً ، لأن فاطمة (علیها السلام) هي ابنته التي ترثه.

لا يقال: إذا كانت فدك إرثا كانت للزوجات حصة أيضا؟

لأنه يقال: الزوجات كن يعترفن بأن فدك ليست لهن فلم يبق إلا هي (صلوات الله عليها). كما إذا مات زيد وكان في حوزته كتاب، واعترف الأبناء بأنه ليس لهم وادعاه أحدهم فقط فإنه يصبح له وحده، فهذه الجملة(2) كالتمهيد على حسب كلام البلغاء.

ثم إن قولها (علیها السلام): (تجدوه أبي دون نسائكم) هل يدل على أنها (صلوات الله عليها) هي البنت الوحيدة للرسول (صلی الله علیه و آله)؟

قال بذلك بعض.

ص: 34


1- علل الشرائع: ص250 باب علل الشرائع وأصول الإسلام ح7.
2- أي: (تجدوه أبي).

..............................

الانتساب إلى الرسول

مسألة: يستحب لذرية الرسول (صلی الله علیه و آله) أن يبينوا نسبهم للناس ولا شك أن النسب والقرب من رسول الله (صلی الله علیه و آله) فضيلة عظيمة في الدنيا والآخرة، والاستحباب إنما يكون إذا لم يتوقف حكم شرعي على ذلك وإلا وجب البيان، كما بالنسبة الى المرأة الهاشمية القرشية حيث إنها تبلغ سن اليأس في الستين من العمر وغيرها في الخمسين(1).

وكذلك يجب بيان النسب فيما يتعلق بشؤون الخمس والزكاة - سلباً وإيجاباً - وغير ذلك، وهناك أحكام كثيرة ترتبط بالنسب مذكورة في الفقه.

وقد انتسب الإمام السجاد (علیه السلام) إلى النبي (صلی الله علیه و آله) في خطبته أمام يزيد(2).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله):«ما بال أقوام يقولون أن رحم رسول الله لا ينفع يوم القيامة، بلى والله إن رحمي لموصولة في الدنيا والآخرة»(3).

ثم إنه لا منافاة بين ما ذكرناه وما ورد من قوله (علیه السلام): «حسب الأدب أشرف من حسب النسب»(4).

ص: 35


1- هناك أحكام شرعية عديدة تترتب على كون المرأة دون سن اليأس أو بلوغها سن اليأس، مذكورة في كتاب النكاح والطلاق وغيرهما.
2- بحار الأنوار:ج45 ص174 ب39 ح22.
3- الأمالي للشيخ المفيد: ص327 المجلس 38 ح11، والإفصاح: ص51.
4- غرر الحكم: ص248 ح5112.

و أخا ابن عمي دون رجالكم

اشارة

-------------------------------------------

وقال (علیه السلام): «نعم النسب حسن الأدب»(1).

وقال (علیه السلام): «فخر المرء بفضله لا بأصله (بأهله)»(2).

وقال (علیه السلام): «ليست الأنساب بالآباء والأمهات لكنها بالفضائل المحمودات»(3).

وأخا ابن عمي دون رجالكم

أخ الرسول (صلی الله علیه و آله)

مسألة: يستحب بيان أن أمير المؤمنين علياً (علیه السلام) أخ للرسول (صلی الله علیه و آله) دون غيره. وفي ذلك تكريس لنفس الغرض الذي من أجله اتخذ رسول الله (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) أخاً، وقد يكون بيان ذلك واجباً (4).

وإذا كان النظر إلى وجه علي (علیه السلام) عبادة (5) وذكره (علیه السلام) عبادة (6)

ص: 36


1- غرر الحكم: ص248 ح5118.
2- غرر الحكم: ص409 ح9387.
3- غرر الحكم: ص409 ح9388.
4- كما إذا توقفت هداية إنسان على ذلك (أي على بيان فلسفة اتخاذ الرسول (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) أخا دون غيره من سائر المسلمين وفيهم القريب والبعيد والشاب والشيخ و..).
5- المناقب: ج3 ص202 فصل في محبته (علیه السلام).
6- الاختصاص: ص223، والعمدة:ص365.

..............................

فالخوض في فضائله (علیه السلام) عبادة وبشكل أولى.

قولها (علیها السلام): (وأخا) أي أن علياً (عليه الصلاة والسلام) مخصوص بالاخوة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)وأنه ابن عم فاطمة (علیها السلام)، ولعله تمهيد لكونه (علیه السلام) وصيه (علیه السلام) دون غيره، لأن الأخ يقوم مقام أخيه.

أو أن الجملتين لمزيد التعريف بهما ولوجود من قد يجهل الأصل أو الاختصاص(1).

وفي الحديث عن زيد بن علي (علیه السلام) عن آبائه (علیهم السلام) عن علي (علیه السلام) قال: «كان لي عشر من رسول الله (صلی الله علیه و آله) لم يعطهن أحد قبلي ولا يعطاهن أحد بعدي، قال لي: يا علي أنت أخي في الدنيا والآخرة، وأنت أقرب الناس مني موقفاً يوم القيامة، ومنزلي ومنزلك في الجنة متواجهان كمنزل الأخوين، وأنت الوصي، وأنت الولي، وأنت الوزير، عدوك عدوي وعدوي عدو الله، ووليك وليي ووليي ولي الله عز وجل»(2).

وعن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعلي بن أبي طالب(علیه السلام) ذات يوم وهو في مسجد قباء والأنصار مجتمعون: «يا علي أنت أخي وأنا أخوك، يا علي أنت وصيي وخليفتي من وإمام أمتي بعدي» الحديث.(3).

ص: 37


1- الظاهر أن مراده (قدس سره) من (الأصل أو الاختصاص): أصل الأخوة، أو اختصاصها بعلي (علیه السلام).
2- الأمالي للشيخ الصدوق: ص77 المجلس 18 ح8.
3- الامالي للشيخ الصدوق: ص352 المجلس 56 ح7.

..............................

وفي كشف الغمة: «إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) آخى بين المسلمين ثم قال: يا علي أنت أخي وأنت مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي»(1).

وفي الحديث المروي عن الفريقين: «إن النبي (صلی الله علیه و آله) آخى بين الناس وترك علياً (علیه السلام) حتى بقي آخرهم لا يرى له أخاً، فقال: يا رسول الله آخيت بين الناس وتركتني، قال: إنما تركتك لنفسي أنت أخي وأنا أخوك، فإن ذاكرك أحد فقل: أنا عبد الله وأخو رسول الله (صلی الله علیه وآله) لا يدعيها بعدك إلا كذاب»(2).

ذكر فضائل علي (علیه السلام)

مسألة: يستحب ذكر فضائل أمير المؤمنين علي (علیه السلام) للناس، وفي الخطاب بصورة خاصة ويلحق به كتابتها.

فإن ذكر فضائله (علیه السلام) حسنة، وقد يكون واجباً إذا كان المورد من اللازم ذكره ومعرفته، ذاتا أو طريقاً(3).

وإنما قلنا باستحبابه في الخطاب بصورة خاصة، لأن الخطاب يفيد الغير، على عكس ما إذا لم يكن هناك خطاب وإنما حديث وتذاكر لما يعلمه.

ص: 38


1- كشف الغمة: ج1 ص294 في ذكر أنه (علیه السلام) أقرب الناس إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأنه مولى من كان مولاه.
2- الطرائف: ص63 باب أن علياً (علیه السلام) أخو رسول الله (صلی الله علیه و آله) روى عن مسند أحمد بستة طرق.
3- (ذاتا) كفضائله التي تعد من أصول المذهب كإمامته مثلاً، و(طريقاً) أي من باب المقدمية.

..............................

والحاصل إن الخطاب أخص من أصل المذاكرة، سواء علم الجميع أم اقتصرالعلم على المتكلم وإن كان الأمر في صور عدم علم المخاطبين آكد، فهي مراتب من الاستحباب - وربما وجب - حسب ما يفهم من الروايات والموازين العقلائية.

وفي الحديث عن الإمام الصادق (علیه السلام) عن أبيه محمد بن علي (علیه السلام) عن آبائه الصادقين (علیهم السلام) قال: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إن الله تبارك وتعالى جعل لأخي علي بن أبي طالب (علیه السلام) فضائل لا يحصي عددها غيره، فمن ذكر فضيلة من فضائله مقراً بها غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ولو وافى القيامة بذنوب الثقلين، ومن كتب فضيلة من فضائل علي بن أبي طالب (علیه السلام) لم تزل الملائكة تستغفر له ما بقي لتلك الكتابة رسم، ومن استمع إلى فضيلة من فضائله غفر الله له الذنوب التي اكتسبها بالاستماع، ومن نظر إلى فضيلة من فضائله غفر الله له الذنوب التي اكتسبها بالنظر، ثم قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): النظر إلى علي بن أبي طالب (علیه السلام) عبادة، وذكره عبادة، ولا يقبل إيمان عبدإلا بولايته والبراءة من أعدائه»(1).

هذا وقد أصر الأعداء على كتمان فضائل علي أمير المؤمنين (علیه السلام) وعاقبوا على ذلك ولكن «يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون»(2).

ص: 39


1- الامالي للشيخ الصدوق: ص138 المجلس28 ح9.
2- سورة الصف: 8.

..............................

وفي شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: «وقد صح أن بني أمية منعوا من إظهار فضائل علي (علیه السلام) وعاقبوا على ذلك الراوي له، حتى أن الرجل إذا روى عنه حديثاً لا يتعلق بفضله بل بشرائع الدين لا يتجاسر على ذكر اسمه فيقول عن أبي زينب!»(1).

وعن ابن عباس عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال:«لو أن الغياض أقلام، والبحار مداد، والجن حسّاب والأنس كتّاب ما أحصوا فضائل علي بن أبي طالب (علیه السلام)» (2).وقال (صلی الله علیه و آله) يوم الغدير في خطبته: «معاشر الناس إن فضائل علي بن أبي طالب (علیه السلام) عند الله عز وجل وقد أنزلها في القرآن أكثر من أن يحصيها في مقام واحد، فمن أنبأكم بها وعرفها فصدقوه»(3).

ص: 40


1- شرح نهج البلاغة: ج4 ص73.
2- الصراط المستقيم: ج1 ص153 ب7.
3- الاحتجاج: ص28 احتجاج النبي (صلی الله علیه و آله) يوم الغدير.

ولنعم المعزي إليه

اشارة

-------------------------------------------

الفخر بالانتساب للرسول (صلی الله علیه و آله)

مسألة: يستحب ان يفتخر الإنسان بانتسابه إلى الرسول (صلی الله علیه و آله) (1)، كما قالت (علیها السلام): (تجدوه أبي) و(ولنعم..) والائمة (علیهم السلام) - كما سبق - كانوا يفتخرون بالانتساب إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وفعلهم حجة ومحط أسوة(2).

وهذا من الفخر المستحب لا المذموم كما هو واضح، وفي الروايات أن جبرائيل كان يفتخر على الملائكة ويقول: «من مثلي وأنا سادس الخمسة الطيبة»(3).ومن انتسابهم (علیهم السلام) إلى جدهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) ما ورد كثيراً عنهم من قولهم: «سمعت جدي رسول الله»(4).

ص: 41


1- ولا يخفى الفرق بين هذه المسألة وما سبق من استحباب بيان النسب الشريف للذرية الطاهرة.
2- وكما يقول الشاعر: أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا - يا جرير - المجامع
3- راجع المناقب: ج3 ص359.
4- راجع التوحيد: ص90 و307، والامالي للصدوق: ص201 المجلس36 ح13، والامالي أيضا: ص345 المجلس 55، وعيون أخبار الرضا (علیه السلام): ج1 ص76 ح5، وص100 ح6، وج2 ص43 ح154، وكمال الدين 253 ح3، والاختصاص: ص238، وسائر كتب الحديث.

..............................

وقال الإمام الحسين (علیه السلام) يوم عاشوراء: «و أنشدكم الله هل تعلمون أن جدي رسول الله»(1).

وقال الإمام الحسن (علیه السلام) لمعاوية: «أيها الذاكر علياً، أنا الحسن وأبي علي، وأنت معاوية وأبوك صخر، وأمي فاطمة وأمك هند، وجدي رسول الله وجدك حرب، وجدتي خديجة وجدتك قتيلة» الحديث(2).

وكان الإمام الحسين (علیه السلام) يوم عاشوراء، يرتجز ويقول:

أنا ابن علي الخير من آل هاشم *** كفاني بهذا مفخر حين أفخر

وجدي رسول الله أكرم من مشى *** ونحن سراج الله في الخلق تزهر

وفاطمة أمي سلالة أحمد *** وعمي يدعى ذا الجناحين جعفر

وفينا كتاب الله أنزل صادقاً *** وفينا الهدى والوحي والخير يذكر

ونحن ولاة الحوض نسقي محبنا *** بكاس رسول الله ما ليس ينكر

وشيعتنا في الناس أكرم شيعة *** ومبغضنا يوم القيامة يخسر(3)

ومن الواضح أن المستحب هو الافتخار بالانتساب إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) إذا كان من باب «وأما بنعمة ربك فحدث»(4) أو لأجل إلفات أنظار وشد القلوب اكثر فأكثر إلى رسول الإسلام (صلی الله علیه و آله) أو ما أشبه ذلك.

ص: 42


1- الامالي للشيخ الصدوق: ص158 المجلس 30.
2- الإرشاد: ج2 ص15.
3- كشف الغمة: ج2 ص19.
4- سورة الضحى: 11.

..............................

ولا يخفى أن المنتسب إلى الرسول (صلی الله علیه و آله) ثواب طاعته أكثر، وعقاب عصيانه أكثر، بدليل العقل والنقل، ومنه مقتضى آية نساء النبي (صلی الله علیه و آله) حيث قال سبحانه: «يا نساء النبي لستن كأحد من النساء»(1) الآية، ورواية الإمام الصادق (علیهالسلام) في قصة شارب الخمر وقوله (علیه السلام): (إن الحسن من كل أحد حسن وإنه منك أحسن لمكانك منا، وإن القبيح من كل أحد قبيح وإنه منك أقبح لمكانك منا)(2).

قولها (علیها السلام): (ولنعم المعزي إليه) أي المنسوب إليه، فإن الإنسان يفتخر بنسبته إلى الكبار، وهذا من تتمة الكلام السابق، والفخر - في الإنسان الصحيح - في محله إذ وشائج القربى تؤثر في التسامي والارتفاع.

ص: 43


1- سورة الأحزاب: 32.
2- راجع المناقب: ج4 ص236 والعدد القوية: ص153 نبذة من أحوال الإمام الصادق (علیه السلام).

فبلغ الرسالة

اشارة

-------------------------------------------

تبليغ الرسالة

مسألة: يجب تبليغ الرسالة.والوجوب شامل حتى لمفرداتها المندوبة وشبهها.

والدليل على وجوب تبليغ الرسالة بأحكامها الخمسة والأحكام الوضعية أيضا - إذا قلنا بأنها غير الأحكام التكليفية لا أنها منتزعة منها - وان كان من تبليغ المستحب والمكروه والمباح: هو ان تبليغ الرسالة إيصال أحكام الله سبحانه وتعالى إلى العباد، من غير فرق بين أقسام الاحكام، وقد قال سبحانه: «يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك»(1).

وقال تعالى: «الذين يبلغون رسالات الله»(2).

وقال سبحانه: «فإنما عليك البلاغ»(3).

وقال تعالى: «فاعلموا انما علىرسولنا البلاغ المبين»(4).

وقال سبحانه: «ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم»(5).

ص: 44


1- سورة المائدة: 67.
2- سورة الأحزاب: 39.
3- سورة آل عمران: 20.
4- سورة المائدة: 92.
5- سورة الجن: 28.

..............................

وقال تعالى: «أبلغكم رسالات ربي»(1).

وقال سبحانه: «وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي»(2).

وقال تعالى: «فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم»(3).

وقال عز وجل: « وأبلغكم ما أرسلت به»(4).

إلى غير ذلك من الآيات والروايات في هذا الباب، ولا منافاة بين ان يكون العمل - كالنوافل - مندوبا وإبلاغ ذلك للعباد واجباً كما هو واضح، كما لا منافاة بين ما ذكرناه وما ذكروه في المستحب من باب الأمر بالمعروف والنهيعن المنكر.

قال علي أمير المؤمنين (علیه السلام): «إن الله عزوجل بعث محمداً(صلی الله علیه و آله) للناس كافة ورحمة للعالمين فصدع بما أمر به وبلغ رسالات ربه»(5).

ونقرأ في زيارته (صلی الله علیه و آله): «أشهد أنك قد بلغت رسالات ربك»(6).

قولها (علیها السلام): (فبلغ) تعقيب لقوله تعالى: «لقد جاءكم»(7)..

ولعلها (صلوات الله عليها) إنما ع،ادت إلى أوصاف الرسول (صلی الله علیه و آله) لتكميل

ص: 45


1- سورة الأعراف: 62.
2- سورة الأعراف: 93.
3- سورة هود: 57.
4- سورة الأحقاف: 23.
5- الجمل: ص267.
6- مصباح المتهجد: ص709، والبلد الأمين: ص276، وجمال الأسبوع: ص29.
7- سورة التوبة: 128.

..............................

الأوصاف، أو أنها (علیها السلام) ذكرت ما ذكرت بين طائفتي الأوصاف، لئلا يستلزم التكثير في الصفات في نسق واحد ملالة السامع، كما هو مقتضى البلاغة في الفصل بما يحافظ على قوةالحديث وجاذبيته.

ص: 46

صادعاً بالنذارة

اشارة

-------------------------------------------

الإنذار أبداً

مسألة: يستحب الصدع بالإنذار، بل يجب أحيانا، وأصل الصدع يفيد معنى الكسر.

قال تعالى: «والأرض ذات الصدع»(1).

وقال سبحانه: «لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله»(2).

فإن الذين يبلغون رسالات الله سبحانه بالنسبة لغير المستعدين لقبولها يصّدعون في التبليغ..

قال تعالى: «فاصدع بما تؤمر واعرض عن الجاهلين»(3).فعلى الإنسان أن يصدع بالحق وإن كان في مجتمع لا يتقبل كلمة الحق ومنهجه بل يتقبل بعضهم فقط، بل وحتى إذا لم يتقبل ولا واحد منهم، لأن على العالم أن يبلغ الرسالة سواء قبلها الجاهل أو لم يقبل، كما ورد في الحديث

ص: 47


1- سورة الطارق: 12.
2- سورة الحشر: 21.
3- سورة الحجر: 94، والصدع بما يؤمر به هو إظهاره والجهر به، تقول صدعت بالحق أي جهرت به، ومن البين ان الإظهار والجهر بالحق يعود في جوهره الى الكسر والتحطيم لكل ما يخالف أوامر الله.

..............................

الشريف: (إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يبين علمه وإلا فعليه لعنة الله)(1).

وقال الإمام الرضا (علیه السلام): «إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه فان لم يفعل سلب منه نور الإيمان»(2).

وقال (صلی الله علیه و آله): «إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فاظهروا البراءة منهم واكثروا من سبهم والقول فيهم والوقيعة وناهبوهم كيلا يطمعوا في الفساد في الإسلام ويحذرهم الناس ولا يتعلموا من بدعهم،يكتب الله لكم بذلك الحسنات وترفع لكم بها الدرجات في الآخرة»(3).

وقال سبحانه: «وما على الرسول إلا البلاغ»(4).

وذلك أن شرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تختلف عن شرائط وجوب التبليغ، فقد يكون الهدف من الإبلاغ إتمام الحجة فقط(5)..

قال تعالى: «فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب»(6).

ص: 48


1- راجع غوالي اللئالي: ج4 ص170 ح39، وفيه عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إذا ظهرت البدع في أمتي فليظهر العالم علمه فمن لم يفعل فعليه لعنة الله».
2- علل الشرائع: ص236 ب171 ح1.
3- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: ج2 ص162.
4- سورة النور: 54.
5- فعلى ذلك لا يشترط في الإبلاغ (احتمال التأثير) مثلاً وان اشترط في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
6- سورة الرعد: 40.

..............................

وقال أمير المؤمنين علي (علیه السلام): «ما أخذ الله على الجهال أن يتعلموا حتى أخذ على العلماء أن يعلموا»(1).

وقال (صلی الله علیه و آله): «من كتم علماً نافعاً ألجمه الله يوم القيامةبلجام من نار»(2).

قولها (علیها السلام): (صادعا) أي منذراً ومظهراً للإنذار، إشارة إلى قوله سبحانه «فاصدع بما تؤمر»(3)، وقلنا بأن أصل الصدع الكسر، كأنه يكسر حاجز الخوف، أو حجاب السكوت، أو سلسة الخرافات والضلالات.

ص: 49


1- غوالي اللئالي: ج4 ص71 ح40.
2- غوالي اللئالي: ج4 ص72 ح41.
3- سورة الحجر: 94.

مائلا عن مدرجة المشركين

اشارة

-------------------------------------------

مائلا عن مدرجة المشركين(1)

الميل عن طريقة المشركين

مسألة: يجب الميل عن طريقة المشركين والكفار، ولذا وصف إبراهيم الخليل (علیه السلام) بالحنيف، لان الحنيف عبارة عن المائل ، فقد كان الناس على طريقة واحدة وجاء إبراهيم (علیه السلام) ووضع المناهج والبرامج مائلا عن طريقتهم، قال تعالى: «ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين»(2). وكذلك رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وهكذا بالنسبة إلى الأنبياء السابقين (صلوات الله عليهم أجمعين).

وقد ورد في سلمان عن الإمام الصادق (علیه السلام): «إن سلمان كان عبداً صالحاً حنيفاً مسلماً وما كان منالمشركين»(3).

وفي الحديث عن أبي بصير عن أبي جعفر (علیه السلام) في قوله تعالى: «فاقم وجهك للدين حنيفاً»(4) قال (علیه السلام): «هي الولاية».(5)

ص: 50


1- وفي بعض النسخ: (ناكباً عن سنن مدرجة المشركين) وفي بعضها: (مائلاً على مدرجة المشركين) ويكون المعنى على هذه النسخة الأخيرة: ضد مدرجة المشركين، أو يكون على بمعنى عن، كما لايخفى.
2- سورة البقرة: 135.
3- كشف الغمة: ج1 ص388.
4- سورة الروم : 30.
5- تفسير القمي: ج2 ص154 سورة الروم.

..............................

وقال سبحانه: «اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا الله واعرض عن المشركين»(1).

وقال تعالى: «ولا تتبع سبيل المفسدين»(2).

التشبه بالكفار

مسألة: التشبه بالكفار مرجوح في الجملة، وقد يكون حراما، ولربما استفيد من هذه الجملة ذلك، باعتباراستفادة الإطلاق من إضافة المفرد(3) أو بلحاظ أن المقام بمنزلة النكرة في سياق النفي وهي تفيد العموم(4)، كما ورد في الحديث القدسي (…أعدائي)(5).

قولها (علیها السلام): (مدرجة) أي ما درجوا عليه، أي الطريقة والمسلك، فلم يسلك (صلى الله عليه وآله) سلوكهم في مختلف أبعاد الحياة(6)، حيث إنهم انحرفوا عن طريقة الأنبياء (علیهم السلام) وعن فطرتهم.

ص: 51


1- سورة الأنعام: 106.
2- سورة الأعراف: 142.
3- إذ أن (مدرجة) مضاف ل (المشركين) فتفيد: كل ما درج عليه المشركون.
4- إذ أن (مائلا عن مدرجة المشركين) بمنزلة لم يمل إلى مدرجة المشركين، وليلاحظ أن (مال إلى) تناقض معنى (مال عن) ف (مائلا عن) تساوي في المعنى (لم يمل إلى).
5- هنا كلمة غير مقروءة في النسخة الأصلية.
6- إشارة إلى أن (ما درجوا عليه) يشمل العادات والتقاليد والبدع والخرافات جميعا.

ضاربا ثبجهم، آخذا بأكظامهم

اشارة

-------------------------------------------

التركيز على أئمة الكفر

مسألة: بناء على التأسي به (صلی الله علیه و آله) فالأصل في المعارك الدائرة على جبهات الكفر والإيمان أن يركز الضربات على (أئمة الكفر) ورؤوس الضلال، وهو أمر عقلي قبل أن يكون نقلياً، إذ أن دعائم الكفر لو تقوضت تقوض ما يقوم بها دون العكس عادة، وعليه أيضا أن يضرب على الوتر الحساس ويأخذ بخناقهم ويصيبهم في مقاتلهم دون أن يشغل نفسه بالهامشيات وبما لا يبلغ منهم مقتلاً.

ومن الواضح إن ذلك هو الأصل والقدرة من الشرائط(1).

قال تعالى: «فقاتلوا أئمة الكفر»(2).

قولها (علیها السلام): (ضاربا ثبجهم) هو وسط الشيء ومعظمه، حتىلايتمكنوا من القيام بعد أن ضرب ثبجهم.

وفي كلام أمير المؤمنين علي (علیه السلام) بالنسبة إلى خيمة معاوية في صفين: (عليكم بهذا السواد الأعظم والرواق المطنب فاضروا ثبجه فان الشيطان راكد في كسره، نافج حضنه مفترش ذراعيه)(3).

ص: 52


1- أي ان من لا يستطيع التصدي لائمة الكفر مثلا فعليه التصدي لأعوانهم، ومن لا يستطيع الأخذ بأكظامهم عليه إقلاقهم فيما عدا ذلك بنحو الترتب.
2- سورة التوبة: 12.
3- تفسير فرات الكوفي : ص431 سورة الحجرات.

..............................

و(بأكظامهم) الكظم مخرج النفس، حتى لا يتمكنوا من التنفس بالباطل.

منهج التصدي للأعداء

مسألة: ينبغي بيان طريقة الرسول (صلی الله علیه و آله) في التصدي لأعداء الدين(1)، ومن الضروري القيام بدراسات تخصصية مستوعبة حول طريقة تصديه لأعداء الإسلام سياسيا وإعلاميا وعسكريا وفكريا واجتماعيا وغير ذلك، في المخططات بعيدة المدى والقصيرة الأمدأيضا(2).

قال تعالى: «لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة»(3).

وهناك تأكيد كبير على التصدي للأعداء والجهاد كما رسمه القرآن وطبقه رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (علیه السلام):

قال (صلی الله علیه و آله): «إنما رهبانية أمتي الجهاد في سبيل الله»(4).

وقال (صلی الله علیه و آله): «للجنة باب يقال له باب المجاهدين يمضون إليه فإذا هو مفتوح وهم متقلدون بسيوفهم والجمع في الموقف والملائكة ترحب بهم، فمن ترك الجهاد ألبسه الله ذلاً في نفسه وفقراً في معيشته ومحقاً في دينه، إن الله تبارك وتعالى

ص: 53


1- راجع موسوعة الفقه، كتاب النظافة.
2- استراتيجيا وتكتيكيا.
3- سورة الأحزاب: 21.
4- الامالي للشيخ الصدوق: ص69 المجلس 16 ح1.

..............................

أعز أمتي بسنابك خيلها ومراكز رماحها»(1).هذا ولا يخفى أن الجهاد والحرب في الإسلام على أنظف صورة عرفها البشر كما فصلناه في بعض كتبنا(2).

وسئل النبي (صلی الله علیه و آله): «أي الجهاد أفضل؟ قال: كلمة حق عند إمام ظالم»(3).

وقال (صلی الله علیه و آله): «أفضل الجهاد كلمة عدل عند إمام جائر»(4).

وفي بعض الأحاديث: «عند سلطان جائر»(5).

وقال أمير المؤمنين علي (علیه السلام): «الجهاد عماد الدين ومنهاج السعداء»(6).

استعراض قوة الإسلام

مسألة: يستحب استعراض قوة الإسلام ومقومات تقدمه ونجاحه وقد يجب، وبالعكس فانه يحرم التخذيل والتثبيطفي مختلف الأبواب الإسلامية وفروعها ولذا لايعطى - في باب الجهاد - للمخذل أي سهم، على ما قرر في الفقه.

ص: 54


1- الامالي للشيخ الصدوق: ص577 المجلس 85 ح8.
2- راجع كتاب (الفقه: النظافة) مبحث نظافة الحرب، للإمام المؤلف (قدس سره).
3- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: ج2 ص200.
4- روضة الواعظين: ص6.
5- إرشاد القلوب: ص98 ب24.
6- غرر الحكم: ص333 ح7658.

..............................

وعن أبي عبد الله (علیه السلام): «ما من مؤمن يخذل أخاه وهو يقدر على نصرته إلا خذله الله في الدنيا والآخرة»(1).

وقال (علیه السلام): «ليحذر أحدكم أن يثبط أخاه عن الحج أن تصيبه فتنة في دنياه مع ما يدخره له في الآخرة»(2).

وفي الدعاء: «وأعذني اللهم بكرمك من الخيبة والقنوط والأناة والتثبيط»(3).

ص: 55


1- المحاسن: ص99.
2- غوالي اللئالي: ج4 ص28 ح89.
3- مصباح الكفعمي: ص400.

داعيا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة

اشارة

-------------------------------------------

الدعوة بالحكمة

مسألة: يجب أن تكون الدعوة إلى الدين ب(الحكمة) و(الموعظة الحسنة) وأن يكون الجدال بالتي هي أحسن، في بعض الصور والمراتب، ويستحب في بعضها الآخر. ثم إن (الحكمة) بمعناها الأعم - وهو وضع الأشياء مواضعها - مقسم للموعظة الحسنة والجدال بالتي هي احسن، وبمعناها الأخص قسيم لها.

فعلى التقدير الأول: يكون ذكرها بعدها للتأكيد من باب ذكر الخاص بعد العام لأهميته.

وعلى التقدير الثاني: يكون ذكرها تأسيسا، فيكون الأمر بحاجة إلى تحديد المراد بكل منهما.

فقد يقال بأن المراد بالحكمة: استخدام البراهين القطعية، وبالموعظة الحسنة: الخطابة، وبالمجادلة بالتي هي أحسن(1): الإلزام بالمقدمات المسلمة والمشهورة، والأولى للخواص وقد تكون للعوام أيضا، والثانية للعامة وقدتنفع الخواص أيضا، والثالثة للمعاندين.

وربما يمكن القول بأن المراد بالحكمة - على التقدير الأخص -: مراعاة شرائط الزمان والمكان وما يرتبط بالتأثير على المستمع وفي الجانب المعنوي، وأما الموعظة والجدال فترتبط بالجانب اللفظي وما يتعلق به، ويكون المراد بالموعظة:

ص: 56


1- في الآية المباركة سورة النحل :125 .

..............................

ما يتضمن الإيلام القولي، لكن ذلك الإيلام الحسن الذي يحث النفس ويحرضها دون استفزاز، أو يقال المراد بالموعظة الحسنة: الغرس لكن على الوجه الحسن كما يمزج الدواء المر ببعض الاشربة و الروائح الطيبة كي يستسيغه المريض، أو يغلف بما يستر مرارة الدواء وحدَّته، ونظرا لان الحكمة تشمل كل ذلك - بالاعتبار الأول(1) - وحملا عليه ربما كان عدم إكمالها (علیها السلام) للآية بذكر القسم الثالث، حيث قال سبحانه:«ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن»(2). وفي الحديث عن أميرالمؤمنين (علیه السلام): «من عرف بالحكمة لحظته العيون بالوقار»(3).

وقال (علیه السلام): «عليك بالحكمة فإنها الحلية الفاخرة»(4).

وقال (علیه السلام): «من لهج بالحكمة فقد شرف نفسه»(5). وقال (علیه السلام): «بالحكمة يكشف غطاء العلم»(6). وفي القرآن الكريم: «ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيرا»(7). وفي زيارة الرسول (صلی الله علیه و آله): «أشهد يا رسول الله… أنك… دعوت إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة الجميلة»(8).

ص: 57


1- أي الحكمة بالمعنى الأعم.
2- سورة النحل: 125.
3- كنز الفوائد: ج1 ص319.
4- غرر الحكم: ص58 ح604.
5- غرر الحكم: ص58 ح606.
6- غرر الحكم: ص59 ح625.
7- سورة البقرة: 269.
8- الإقبال: ص605.

يكسر الأصنام وينكث الهام

اشارة

-------------------------------------------

يكسر الأصنام(1) وينكث الهام(2)

القضاء على الأصنام

مسألة: يجب القضاء على الأصنام وكل ما يعبد من دون الله، مما اتخذها المشركون، حتى يقطع صلتهم بها، فان كان القضاء عليها يتحقق بالكسر - كما في الأصنام - وجب الكسر، وان كان على نحو الهدم وجب، وان كان صورة مرسومة على الحائط - مثلا - وجب محوها أو تغييرها.

وقد كسر النبي إبراهيم (علیه السلام) الأصنام في قصة معروفة(3).

وأمير المؤمنين (علیه السلام) ارتقى كتف النبي (صلی الله علیه و آله) وكسر الأصنام التي كانت على الكعبة(4).

ويظهر من الروايات أن علياً (علیه السلام) كسر أصنام الكعبة مرتين، مرة حين فتح مكة، ومرة قبل الهجرة، ففي الحديث عنه (علیه السلام) قال:

«دعاني رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو بمنزل خديجة ذات ليلة فلما صرت إليه قال: اتبعني يا علي.فما زال (صلی الله علیه و آله) يمشي وأنا خلفه ونحن نخرق دروب مكة حتى أتينا الكعبة

ص: 58


1- وفي بعض النسخ: (يجذ الأصنام).
2- وفي بعض النسخ: (ينكس الهام).
3- انظر تفسير القمي: ج2 ص71 سورة الأنبياء، وقصص الأنبياء للجزائري: ص102.
4- راجع إعلام الورى: ص184، وشواهد التنزيل: ج1 ص453 ح480.

..............................

وقد أنام الله تعالى كل عين، فقال لي رسول الله (صلی الله علیه و آله) يا علي.

قلت: لبيك يا رسول الله.

قال: اصعد على كتفي.

ثم انحنى النبي (صلی الله علیه و آله) فصعدت على كتفه فقلبت الأصنام على رؤوسها ونزلت وخرجنا من الكعبة حتى أتينا منزل خديجة، فقال (صلی الله علیه و آله) لي: أول من كسر الأصنام جدك إبراهيم (علیه السلام) ثم أنت يا علي آخر من كسر الأصنام.

فلما أصبح أهل مكة وجدوا الأصنام منكوسة مكبوبة على رؤوسها، فقالوا: ما فعل هذا بآلهتنا إلا محمد وابن عمه»(1).

وفي الحديث عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «إن اسم رسول الله (صلی الله علیه و آله) في صحف إبراهيم: الماحي… قيل: فما تأويل الماحي، فقال: الماحي صورة الأصنام وماحي الأوثان والأزلام وكلمعبود دون الرحمن»(2).

القضاء على أئمة الضلال

مسألة: يجب القضاء على (أئمة الضلال) كما فعل (صلی الله علیه و آله)، فإن (ينكث الهام) أي يضرب الرؤوس أي (رؤوس أئمة الضلال وقادتهم) حتى ينفصل الاتباع عنهم، فيتمكنوا من تقرير مصير أنفسهم بأنفسهم، فيتركوا وشأنهم - أي من دون ارتباط بقادة الضلال - ليختاروا ما هو مقتضى عقولهم وفطرتهم.

ص: 59


1- الفضائل: ص97.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: ص71 المجلس17 ح2.

..............................

إضافة إلى ان ضرب الرؤوس مما يوجب تفكك الترابط بين أجزاء جيش الضلال والظلام، فيكون ادعى لانهزام الإذناب وأسرع في القضاء على الجمع.

وفي ذكرها (علیها السلام): (يكسر الأصنام وينكث الهام) نكتة لطيفة وهي أن القضاء على الأديان والمذاهب الباطلة يتم بركنين:

أحدهما: القضاء على (الرمز المقدس) و(المحور والقطب) الذي تدور عليه رحى معتقداتهم وأفكارهم.والثاني: القضاء على حملة تلك الراية وعلى الدعاة إليها.

تخليد ذكرى القائد

مسألة: يستحب تخليد ذكر القائد الديني وإحياء أمره، من خلال بيان إنجازاته وما قام به من أعمال حسنة وخطوات حميدة، عبر كتابة الكتب وما أشبه ذلك، وقد يجب ذلك، كما بالنسبة إلى المعصومين (عليهم افضل الصلاة والسلام)، وذلك بلحاظ الحق(1) أولا، وبلحاظ ما لذلك من التأثير على (تأسي) الناس بالقادة واستضاءتهم بأنوارهم وهدايتهم ثانياً.

قال الإمام الرضا (علیه السلام): «من جلس مجلساً يحيى فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب»(2).

ص: 60


1- قد يكون المراد بالحق: الحق العظيم الذي للمعصومين (علیهم السلام) علينا، وفي درجات أدنى: لسائر القادة الصالحين علينا، دينيا ودنيويا، وفي ذكر فضائلهم والإشادة بأعمالهم أداء لبعض حقهم.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: ص73 المجلس 17 ح4.

..............................

وعن الهروي عن الإمام الرضا (علیهالسلام) قال: «رحم الله عبداً أحيا أمرنا، فقلت له: فكيف يحيي أمركم؟ قال: يتعلم علومنا ويعلمها الناس فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا»(1).

وعن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «تجلسون وتتحدثون، قال الراوي: قلت نعم جعلت فداك، قال: تلك المجالس أحبها فأحيوا أمرنا يا فضيل، فرحم الله من أحيا أمرنا»(2).

وقال (علیه السلام): «تزاوروا وتلاقوا وتذاكروا أمرنا وأحيوه»(3).

وعن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «اجتمعوا وتذاكروا تحف بكم الملائكة رحم الله من أحيا أمرنا»(4).

ص: 61


1- معاني الأخبار: ص180.
2- مصادقة الأخوان: ص23.
3- مصادقة الأخوان: 34.
4- مصادقة الأخوان: 38.

حتى انهزم الجمع وولوا الدبر حتى تفرى الليل عن صبحه، وأسفر الحق عن محضه

اشارة

-------------------------------------------

مواصلة المعركة

مسألة: تجب مواصلة المعركة مع الملحدين والمشركين حتى الهزيمة الكاملة، كما قال تعالى: «وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة»(1)..

وكما صنع (صلی الله علیه و آله) حيث واصل (حتى انهزم الجمع وولوا الدبر) و(حتى تفرى الليل عن صبحه وأسفر الحق عن محضه) ول «يكون الدين كله لله»(2).

فإن انهزام الجمع الباطل يوجب تبدده وتفرقه وعدم قيام عمود له حتى يقابل الحق، وما أكثر من يترك مسيرة الجهاد في منتصف الطريق تعباً أو كسلاً أو خوفاً أو طمعاً، وفي الكثير من المجاهدين الذين تركوا مسيرة الجهاد ليتحولوا إلى مصفقينيسيرون في ركاب السلاطين الشاهد الكبير والإنذار الأكبر على ذلك أيضا.

قولها (علیها السلام): (الجمع) أي جمع الكفار (وولوا الدبر) تأكيد لأن المنهزم الشديد الانهزام يولي دبره إلى طرف هازمه بخلاف غيره حيث يمكن أن يهرب فيعطى هازمه طرفه لا ظهره.

ص: 62


1- سورة البقرة: 193، وسورة الأنفال: 39.
2- سورة البقرة: 193، وسورة الأنفال: 39.

..............................

وفي حديث عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: «لما انهزم الناس يوم أحد عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لحقني من الجزع عليه ما لم أملك نفسي وكنت أمامه أضرب بسيفي بين يديه، فرجعت أطلبه فلم أره، فقلت: ما كان رسول الله ليفر، وما رأيته في القتلى…

فحملت على القوم فاخرجوا فإذا أنا برسول الله (صلی الله علیه و آله) قد وقع على الأرض مغشياً عليه، فقمت على رأسه فنظر إلي وقال: ما صنع الناس يا علي؟

فقلت: كفروا يا رسول الله وولوا الدبر من العدو وأسلموك.

فنظر النبي (صلی الله علیه و آله) إلى كتيبة قد أقبلت إليه، فقال لي: رد عني يا علي هذه الكتيبة.

فحملت عليها بسيفي أضربها يميناً وشمالا حتى ولوا الأدبار..

فقال لي النبي (صلی الله علیه وآله): أما تسمع يا علي مديحك في السماء.. إن ملكاً يقال له رضوان(1) ينادي: لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي»(2).

الحقيقة الكاملة

مسألة: يجب أن يتصدى الدعاة ل(بيان الحقيقة) كاملة للناس، ولكشف القناع عن كل زيف وضلالة، فإن كثيراً من المبلغين والمؤمنين يخشى أن يقول

ص: 63


1- وفي سائر الروايات أنه كان جبرئيل (علیهما السلام) والظاهر أنهما نادى بذلك، أو أن رضوان من أسماء جبرائيل أيضاً.
2- الإرشاد: ج1 ص86 - 87.

..............................

الحق كل الحق ويكتفي ببيان بعضه ويحاول إرضاء وجدانه بذلك البعض فحسب!

ولعل الكثير منهم يتعلل - لإرضاء وجدانه وإسكات خلاّنه - بأنه قد قام بجانب من الأمر، وأنه قد أنار بعض الظلم وجلّى بعض البهم وكفى!.

لكن ذلك شرعاً محرم، قال تعالى:«أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض»(1)..

ف(إذا ظهرت البدع فعلى العالم ان يظهر علمه وإلا فعليه لعنة الله، أو سلب منه نور الإيمان)(2)..

وقد واصل الرسول (صلی الله علیه و آله) ببيان كل صغيرة وكبيرة وتعرض لكل ما يقرب إلى الجنة ويباعد من النار، في العقائد والأعمال، في العقود والإيقاعات والأحكام و… (حتى تفرى الليل عن صبحه، وأسفر الحق عن محضه).

وفي المحاسن عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) في خطبته في حجة الوداع:

«أيها الناس اتقوا الله، ما من شيء يقربكم من الجنة ويباعدكم من النار إلاّ وقد نهيتكم عنه وأمرتكم به»(3).

قال تعالى: «يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك وان لم تفعل

ص: 64


1- سورة البقرة: 85.
2- راجع غيبة الطوسي: ص64.
3- المحاسن: ص278 ح399.

..............................

فما بلغت رسالته»(1) فإن الإسلام كل لا يتجزأ والمؤمنون «يجاهدون في سبيل الله ولايخافون لومة لائم»(2) وليرجف المرجفون بعد ذلك وليرقد البعض وليحدث ما يحدث.

إذن يجب العمل حتى يظهر محض الحق بدون شوب بالباطل، فان الحق قد يظهر لكنه مشوب بالباطل، مما يسبب ضلال الناس، فيجب أن يعمل الإنسان جاهداً حتى يظهر محض الحق، كي يتبعه من شاء أن يتبعه..

قال تعالى: «ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن

بينة»(3).

وقال (صلی الله علیه و آله): «الشريعة أقوالي والطريقة أفعالي والحقيقة أحوالي»(4).

وقال أمير المؤمنين علي (علیه السلام): «هلك من باع اليقين بالشك والحق بالباطل»(5).وقال (علیه السلام): «رأس الحكمة لزوم الحق وطاعة المحق»(6).

وقال (علیه السلام): «الكيس صديقه الحق وعدوه الباطل»(7).

ص: 65


1- سورة المائدة: 67.
2- سورة المائدة: 54.
3- سورة الأنفال: 42.
4- غوالي اللئالي: ج4 ص124 ح212.
5- غرر الحكم: ص62 ح723.
6- غرر الحكم: ص59 ح632.
7- غرر الحكم: ص68 ح945.

..............................

وقال (علیه السلام): «ليكن مرجعك إلى الحق فمن فارق الحق هلك»(1).

وقال (علیه السلام): «من استحيى من قول الحق فهو أحمق»(2).

وقال (علیه السلام): «لا خير في السكوت عن الحق»(3).

قولها (علیها السلام): (تفرى) انشق، والمراد بالليل ظلام الكفر والشرك والانحراف، و(صبحه) أي صبح الحق بالقرينة، أو صبح الليل، لأن وراء كل ليل صبح.

قولها (علیها السلام): (أسفر الحق) كشف وأضاء، (محضه) الضمير عائد إلى الحق، أي محض الحق الذي لا يشوبهباطل، ولعل المراد بهذه الجملة: الشريعة، وبالأولى العقيدة.

ص: 66


1- غرر الحكم: ص69 ح953.
2- غرر الحكم: ص70 ح988.
3- غرر الحكم: ص70 ح991.

ونطق زعيم الدين

اشارة

-------------------------------------------

إسناد زعماء الدين

مسألة: يجب العمل حتى يفسح المجال لزعيم الدين كي يبلغ الرسالة وينطق بما أمره الله عزوجل، فان زعماء الدين - والزعيم هو السيد - إذا أتيحت لهم فرصة النطق والبيان بدون محذور، تمكن طلاب الحقيقة ومن يريد الدين ان يلتفوا حولهم. فإن الكفار غالباً يحولون دون نطق زعيم الدين، كما قال سبحانه: «فردوا أيديهم في أفواههم»(1)..

وتارة بمنع الناس عن الإنصات لهم كما كان أقطاب مشركي مكة يجعلون القطن في آذان من يريد دخول المسجد الحرام، حتى لا يستمع إلى كلام النبي (صلی الله علیه و آله) أو يجعلون أصابعهم في آذانهم(2). وتارة بإيجاد حاجز نفسي وأغطية وغشاوة فكرية تحول دون تفهم الحقيقة ورؤيتها كما هي.

والمراد ب : (زعيم الدين) فيكلامها (علیها السلام) هو الرسول (صلی الله علیه و آله)، بناء على كون الإضافة لامية، وهو كناية عن تفوق كلمة الحق وسقوط كلمة الباطل، ويحتمل أن تكون الإضافة بيانية(3) وقد يؤيده السياق، ولمكان حتى.

ص: 67


1- سورة إبراهيم: 9.
2- انظر تفسير فرات الكوفي: ص242 ح327 سورة بني إسرائيل.
3- أي نطق زعيم هو الدين.

وخرست شقاشق الشياطين

اشارة

-------------------------------------------

إسكات أصوات الشياطين

مسألة: يجب العمل على أن تخرس شقاشق الشياطين.

قال تعالى: «إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا»(1).

وقال سبحانه: «ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين»(2).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «صافوا الشيطان بالمجاهدة»(3).

وقال (علیه السلام): «الشهوات مصائد الشيطان»(4).

قولها (علیها السلام): (خرست) أي صارت خرساء، والخرس: عدم القدرة على التكلم. و(شقاشق) جمع شقشقة، وهي الزبد الذي يخرج من فم البعير عند هياجه، وهذا تشبيه بأن الباطل كان عن ثورة وجهل، وبدون واقعية، قالسبحانه: «فأما الزبد فيذهب جفاءً»(5)، أما وجه الشبه في قول أمير المؤمنين (علیه السلام): (تلك شقشقة هدرت ثم قرت)(6) فبهدرها لا بعدم الواقعية كما هو واضح.

ص: 68


1- سورة فاطر: 6.
2- سورة الأنعام: 142.
3- غرر الحكم: ص240 ح4848.
4- غرر الحكم: ص304 ح6937.
5- سورة الرعد: 17.
6- نهج البلاغة، الخطبة الشقشقية.

..............................

والمراد من (الشياطين):

إما زعماء الشرك، تشبيهاً وتنزيلاً .

أو الشياطين حقيقةً، حيث كانت لهم الكلمة نتيجة تعاضد عوامل عديدة منها: الزعماء الفاسدون، وعدم وضوح الطريق والصراط المستقيم، وعدم وجود القائد والدليل الرائد، إضافة إلى وجود القيود الكابتة والعادات والتقاليد الجاهلية السائدة.

وههنا سؤال ربما يكثر في الأذهان اختلاجه وهو:

إن الإذاعات والصحف الشرقية والغربية التي تتبع أسلوباً صريحاً أو ذكياً لزلزلة عقائد المؤمنين هل يجب (إسكاتها وإخراسها) عبر إغلاقها - فيما إذا كانت في دائرة سلطة المؤمنين - أو عبر التشويش عليهابالأجهزة الحديثة فيما إذا كانت خارج الدائرة، أم غير ذلك؟

وكإشارة نقول:

أفضل طريقة للتصدي لها هي:

صنع البديل الأكفأ الأنفع فيلتف الناس حوله طبيعياً، ويكون من إسكات الشياطين بالطريقة الإيجابية(1)، فإذا كانت الإذاعة والتلفزيون والصحف الإسلامية أغنى وأقوى وأكثر عطاءً وروعة من غيرها اجتذب الناس إليها دون شك، خاصة مع مطابقتها لمتطلبات الفطرة.

ص: 69


1- هذا لا يتنافى مع منع ما يمكن منعه من البرامج الفاسدة، كالأفلام المفسدة وما أشبه.

..............................

أما إغلاقها وسائر ما يستلزمه من تضييق على العاملين بها أو سجنهم أو ملاحقتهم، فهو - مع أنه غير مقدور في كثير من الموارد (1)- قد يكون مما ضرره أكثر من نفعه، نظراً لاستخدامالأعداء هذه مادة جديدة لتشويه سمعة الإسلام والمسلمين.

ولذلك نرى الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (علیه السلام) تركا للمشركين والكفار الحرية في التحدث والدفاع الفكري عن عقائدهم وقارعوهم بالحجة لابغيرها، وتفصيل الكلام في محله.

ص: 70


1- ومع عدم جواز بعض ألوان التضييقات، كما هو مذكور في (الفقه: الدولة الإسلامية) و(الفقه: الحقوق) و(الفقه: الحريات) وغيرها من تأليفات الإمام المؤلف (قدس سره).

وطاح وشيظ النفاق

اشارة

-------------------------------------------

وطاح وشيظ(1) النفاق

القضاء على النفاق

مسألة: النفاق - ببعض معانيه - من أشد المحرمات، والقضاء عليه واجب، وذلك مما يستفاد من أدلة عديدة، عقلية ونقلية، ومنها: وقوعه في كلامها (علیها السلام) ههنا نتيجة وغاية لذلك الواجب المسلّم(2) ولذلك نرى أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أمر بإحراق ذلك المسجد الذي اتخذ ضراراً حيث كان مركزاً أو مجمعاً للمنافقين والضرر والإضرار بالمسلمين(3).

وهناك روايات كثيرة في ذم النفاقوبيان أقسامه وأبوابه وما أشبه، ففي الدعاء المروي عن الإمام الكاظم (علیه السلام): «اللهم طهر لساني من الكذب وقلبي من النفاق»(4).

وعن أبي جعفر (علیه السلام): «ان الخصومة تمحق الدين وتدرسه وتحبط العمل وتورث النفاق»(5).

ص: 71


1- وفي بعض النسخ: (وسيط النفاق) ويكون المراد رئيس المنافقين وأشرفهم وأرفعهم محلاً.
2- أي قولها (عليها السلام): (ضارباً ثبجهم، آخذاً بأكظامهم، داعياً.. يكسر الأصنام وينكث الهام) وذلك كله طريق ووسيلة إلى (حتى انهزم الجمع .. حتى تفرى الليل من صبحه.. ونطق.. وخرست.. وطاح وشيظ النفاق..).
3- راجع تفسير الإمام الحسن العسكري (علیه السلام): ص483 و ص488.
4- مصباح الكفعمي: ص96 الفصل 17.
5- دعائم الإسلام: ج2 ص539 كتاب آداب القضاء ح1914.

..............................

وعن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «لا تقم إلى الصلاة متكاسلاً ولا متناعساً ولامتثاقلاً فإنها من خلل النفاق»(1).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «الكذب باب من أبواب النفاق»(2).

وقال (صلی الله علیه و آله): «حب المال والشرف ينبتان النفاق كما ينبت الماء البقل»(3).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام):«الإيمان بريء من النفاق»(4).

وقال (علیه السلام): «النفاق توأم الكفر»(5).

وقال (علیه السلام): «احذروا أهل النفاق فإنهم الضالون المضلون»(6).

قولها (علیها السلام): (طاح) أي سقط (وشيظ) السفلة الذين ينشطون عند ذهاب الحق وعموم الظلام. والمراد بالنفاق: إما معناه الاصطلاحي أي المنافقين الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، حيث إنهم سقطت كلمتهم وأخذ الرسول (صلی الله علیه و آله) بمسارب الحياة عليهم وهذا هو المنصرف. أو معناه اللغوي وهو التلون بألوان مختلفة ووجوه متعددة في شتى المسائل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها، لأن الأمم الفاسدة تفتقد مكارم الأخلاق ويروج فيها النفاق وتتكون لها وجوه متعددة إلى جانب المساوئ الأخرى.

ص: 72


1- تفسير العياشي: ج1 ص242 سورة النساء.
2- مجموعة ورام: ج1 ص113.
3- مجموعة ورام: ج1 ص155.
4- غرر الحكم: ص458 ح10476.
5- غرر الحكم: ص458 ح10484.
6- غرر الحكم: ص458 ح10494.

وانحلت عقد الكفر والشقاق

اشارة

-------------------------------------------

حل مراكز قوى الأعداء

مسألتان: تحرم مشاقة الرسول (صلی الله علیه و آله) والمؤمنين، ويجب السعي لفصم العرى التي تربط المشركين بعضهم ببعض، أي القضاء على أي مركز تجمع لهم يخشى خطره على الإسلام والمسلمين، وذلك بالأسلوب الذي اتبعه رسول الله (صلی الله علیه و آله) والإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) وسائر أئمة أهل البيت (علیهم السلام).

والشقاق غير الكفر، فإن المراد بالشقاق أن يكون الحق في شق، والباطل في شق آخر، وإن كانا يشتركان في الجامع، وهو (إظهار الإسلام)، قال سبحانه: «ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا»(1).

وفي الحديث: «اجتنبوا أهل الشقاق وذرية النفاق»(2).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «المؤمن منزه عن الزيغ والشقاق»(3).

قولها (علیها السلام): (وانحلت عقدالكفر) فلا مراكز لهم يلجئون إليها ويتقون بها ويستظهرون بها على الإسلام والمسلمين.(انحلت..) أي الجبهة المقابلة للإسلام كلا أو للإسلام الصحيح انحلت، فلم يبق لها ملجأ و مجمع، كما هو الشأن في كل حق يظهر، حيث إن الباطل ينزوي ولا يتمكن أن يثبت وجوده كقوة فاعلة متركزة، وإن بقي أشلاء متناثرة وأعضاء متفرقة لا حول لها ولا قوة.

ص: 73


1- سورة النساء: 115.
2- المناقب: ج4 ص203.
3- غرر الحكم: ص461 ح10564.

وفهتم بكلمة الإخلاص

اشارة

-------------------------------------------

وجوب النطق والتجاهر بكلمة الإخلاص

وههنا مسائل:

1: النطق بكلمة الإخلاص واجب في الجملة، وبعض مصاديقه مستحب.

2: وكما يجب على المؤمن يجب ذلك على الكافر أيضا، لضرورة الاشتراك في التكليف.

3: وبعض مراتب الإعلان والتجاهر بهذه الكلمة واجب، ويجب في الجملة الجهاد لأجل ذلك.

والمراد من (فهتم):

إما معناها الظاهري وهو النطقومجرد التفوه بكلمة الإخلاص.

وإما: الإظهار والإعلان والتجاهر أيضاً.

و(كلمة الإخلاص) هي (لا إله إلا الله) وتسمى بالإخلاص لأن المفروض فيها(1) أن يخلص الإنسان العقيدة له سبحانه من غير شريك، ثم إن العطف بالواو وإن كان الأصل فيه أصل العطف لا الترتيب - على المشهور - إلا أنه قد يستخدم في موارد الترتيب بقرينة مقامية، كما في المقام، فإن إظهار الشهادتين عموماً وإظهار الإخلاص لله سبحانه وتعالى بالنسبة إلى المؤمنين كان تحققه عادة

ص: 74


1- المفروض إما من الفرض بمعنى الوجوب، أي الواجب فيها الإخلاص، أو المراد قد فرض فيها أن يكون المتكلم بها مخلصاً.

..............................

بعد إسقاط كلمة الكفر والنفاق والشقاق، وقد جاءت السيدة الزهراء (عليها صلوات الله) بهذه الجملة عقيب الجملة السابقة، وهذا قد يدل على ما ذكرناه.

وفي الروايات: «القول الصالحشهادة أن لا إله إلا الله»(1).

وفي حديث سلسلة الذهب عن الإمام الرضا (علیه السلام) عن الله عزوجل قال: «كلمة لا إله إلا الله حصني، فمن دخل حصني أمن من عذابي، فلما مرت الراحلة نادانا (علیه السلام): بشروطها وأنا من شروطها» (2).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «والذي بعثني بالحق بشيراً ونذيراً ما استقر الكرسي والعرش ولا دار الفلك ولا قامت السماوات والأرضون إلا بعد أن كتب الله عليها: لاإله إلا الله، محمد رسول الله، علي ولي الله»(3).

قولها (علیها السلام): (فهتم) من فاه أي تكلم، بكلمة الإخلاص، ثم إن من المعلوم أن التفوه بها مخلصاً يستتبع العمل ويقتضيه ويوجب سلوك الدرب الصحيح، ورفض المشركين التفوه بهذه الكلمة المباركة لم يكن لمجرد أنها كلمة عابرة، بل لأن التفوه بهذه الكلمة كان عنوانا للخروج من ولاية الشيطان والدخول في ولاية الرحمن، فهورمز وشعار وعلامة أولا(4)، ثم الاعتراف بالإله الواحد يقتضي أن يسلك الطريق إلى آخر فرع من فروع الدين ثانياً.

ص: 75


1- راجع الامالي للشيخ الصدوق: ص100 المجلس 21 ح9.
2- الامالي للشيخ الصدوق: ص235 المجلس 41 ح8.
3- مائة منقبة: ص49 ح24.
4- وذلك كمن يرفع علم دولة، أو المسيحي الذي يحمل الصليب على صدره أو ما أشبه.

في نفر من البيض الخماص

اشارة

-------------------------------------------

في نفر من البيض الخماص(1)

التقوى والزهد من المقومات

مسألة: هذه الكلمات منها (صلوات الله عليها) توحي بأهمية الزهد والعمل والتقوى ومقوميتها للتقدم، كما تشير إلى بعض صفات القادة الأسوة أيضا.

قولها (علیها السلام): (نفر) أي جماعة.

(البيض) أي صحيفتهم بيضاء ونقية عن الآثام والموبقات.

والمراد بهم: أما أجلى المصاديق وهم أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام)، حيثإن المسلمين التحقوا بهم، ويدل عليه ما جاء في بعض النسخ: (في نفر من البيض الخماص الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا)، أو مطلق الذين أخلصوا لله فصارت صحيفتهم بيضاء وإن كانت قبل ذلك - لبعضهم - سوداء.

(الخماص): خميص البطن أي خاليه.

وفي الحديث عنه (صلی الله علیه و آله): «لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو اخماصاً وتروح بطانا»(2) فإن الطير إذا لم يطر لم يحصل

ص: 76


1- وفي بعض النسخ: (في نفر من البيض الخماص الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً).
2- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: ج1 ص222. بيان فضيلة التوكل.

..............................

على رزقه، نعم لابد من توفر الحرية التي أمر بها الإسلام للإنسان حتى ينشط في العمل ويخطو خطوات واسعة في مجال التقدم والتفوق كالطير الحر، وإلا كان نصف البشر أو أكثره فقيراً، وإن عمل وكد وجد واجتهد، كما نراه في عالم اليوم حيث السيطرة لغير الإسلام(1).

والمراد بالخماص إما المعنى الحقيقي كما سبق، أو المجازي أيالذين لاعلاقة لهم بالدنيا، ولا يأكلون أموال الناس بالباطل، ومن المعلوم أن مثل هؤلاء الأشخاص المهذبين الذين لا يعيرون الدنيا اهتماماً هم الذين يتمكنون من صرف كل أوقاتهم في سبيل الله، وبالفعل كانوا كذلك حتى تمكنوا من تقدم الإسلام إلى الأمام.

قال تعالى في الحديث القدسي: «إني وضعت العلم والحكمة في الجوع»(2).

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «نور الحكمة والمعرفة الجوع، والتباعد من الله الشبع»(3).

وقال النبي (صلی الله علیه و آله): «يا علي إن الله قد زينك بزينة لم يزين العباد بزينة أحب إلى الله منها، هي زينة الأبرار عند الله تعالى: الزهد في الدنيا»(4).

ص: 77


1- راجع كتاب (المتخلفون مليارا مسلم) للإمام المؤلف (قدس سره).
2- مشكاة الأنوار: ص328 ب9.
3- روضة الواعظين: ص457.
4- كشف الغمة: ج1 ص170.

..............................

وقال (علیه السلام): «غاية الزهدالورع»(1).

وقال (صلی الله علیه و آله): «إذا رأيتم الرجل قد أعطي الزهد في الدنيا فاقتربوا منه، فإنه يلقي الحكمة»(2).

وقال (صلی الله علیه و آله): «يا أبا ذر إن أهل الورع والزهد في الدنيا هم أولياء الله تعالى حقاً»(3).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «إنما العالم من دعاه علمه إلى الورع والتقى والزهد في عالم الفناء والتوله بجنة المأوى»(4).

وقال (علیه السلام): «الزهد سجية المخلصين»(5).

ص: 78


1- كشف الغمة: ج2 ص346.
2- روضة الواعظين: ص437 مجلس في الزهد والتقوى.
3- مكارم الأخلاق: ص468 الفصل 5.
4- غرر الحكم: ص48 الفصل الثالث في العالم.
5- غرر الحكم: ص275 ح6032.

وكنتم على شفا حفرة من النار

اشارة

-------------------------------------------

تذكر النعم السابقة

مسألة: حيث إن مما يحمل الإنسان على معرفة قدر النعم الإلهية ويبعثه على شكرها القولي والعملي: تذكر الأخطار والأهوال والظروف التعيسة التي كان يعيش هو فيها، أو التي كان يمكن أن يعيش فيها لولا اللطف الإلهي وجهاد الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) وآله الأطهار (عليهم أفضل الصلاة وأزكى السلام)..

لذلك فإن من المستحب أن يتذكر الإنسان ماضيه وماضي أسرته وأمته - التحقيقي أو التقديري (1)- قال تعالى: « ألم يجدك يتيما فآوى * ووجدك ضالا فهدى»(2).

ومن المستحب تذكير الناس بذلك أيضا، وكلامها (عليها الصلاة والسلام) ينطلق من هذا المنطلق وغيره.

قال تعالى: «قل سيروا في الأرض ثمانظروا كيف كان عاقبة المكذبين»(3).

وقال سبحانه: «قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين»(4).

ص: 79


1- أي الذي لولا اللطف الإلهي لتحقق وتنجز.
2- سورة الضحى: 6 - 7.
3- سورة الأنعام: 11.
4- سورة النمل: 19.

..............................

وقال تعالى: «قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين»(1).

وقال أبو عبد الله (علیه السلام): «نحن أهل البيت النعيم الذي أنعم الله بنا على العباد، بنا ائتلفوا بعد أن كانوا مختلفين، وبنا ألف الله بين قلوبهم، وبنا أنقذهم الله من الشرك والمعاصي، وبنا جعلهم الله إخوانا، وبنا هداهم الله، فهي النعمة التي لا تنقطع، والله سائلهم عن حق النعمة التي أنعم عليهم، وهو النبي وعترته»(2).

ومن فوائد دراسة الماضي معرفة المستقبل إجمالا حيث قال (صلی الله علیه و آله): «كلما كان في الأمم السالفة يكون في هذه الأمة، مثله حذو النعلبالنعل والقذة بالقذة»(3).

وإنما قالت (علیها السلام): (على شفا حفرة من النار) اقتباساً من الآية الكريمة(4)، والتعبير ب (كنتم على شفا حفرة) نظراً لأنهم كانوا أحياء، ولم يسقطوا بعد في نار جهنم. وإن كانت النار - بالمعنى الآخر - محيطة بهم كما قال سبحانه: «وإن جهنم لمحيطة بالكافرين»(5)، فقد ذكرنا في كتاب (الآداب والسنن)(6) وغيره

ص: 80


1- سورة الروم: 42.
2- دعوات الراوندي: ص158 ح434.
3- كمال الدين: ص576.
4- قوله تعالى: «وكنتم على شفا حفرة من النار فانقذكم منها» سورة آل عمران: 103.
5- سورة التوبة: 49.
6- موسوعة الفقه: ج94 - 97 كتاب الآداب والسنن.

..............................

إن الدنيا التي نعيش فيها لها وجوه: وجه ظاهر وهو الملموس بالحواس الخمس، ووجهان واقعيان،هما الجنة والنار، كما يظهر من الآيات والروايات، فقد قال سبحانه: «يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا»(1).وقال جل وعلا: «وإن جهنم لمحيطة بالكافرين»(2).

وقال تعالى: «إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً»(3).

وقال (صلی الله علیه و آله): (ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة ومنبري على ترعة من ترع الجنة)(4) وما أشبه ذلك مما هو كثير في الروايات(5).

وجوب الإنقاذ

مسألة: يجب - عقلاً وشرعاً - إنقاذ من يكون على شفير حفرة من النار.

إذ كما يتحمل الإنسان مسؤولية نفسه، كذلك يتحمل مسؤولية أسرته، قال تعالى: «قوا أنفسكم وأهليكم ناراً»(6) ويتحمل مسؤولية مجتمعه أيضا، فليست مسؤولية الهداية والإرشاد خاصة برجال الدين فحسب، إذ «كلكم راع

ص: 81


1- سورة الروم: 7.
2- سورة العنكبوت: 54.
3- سورة النساء: 10.
4- معاني الأخبار: ص267.
5- هذا مع إمكان حملها على عالم الآخرة مجازا بالأول أو المشارفة.
6- سورة التحريم: 6.

..............................

وكلكم مسؤول عن رعيته»(1) وإن كانت مسؤولية رجال الدين آكد، قال تعالى: «فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون»(2) والعلماء هم الذين يرابطون على الثغر الذي يلي إبليس.

وهذا من غير فرق بين نار الدنيا أو نار الآخرة، وإن كان وجوب الثاني آكد وأشد، فإن نار الدنيا زائلة ونار الآخرة باقية دائمة، إلا من خرج منها بلطفه سبحانه، ومع ذلك فإن نار الدنيا أهون مراتب ومرات من تلك النار الآخرة ولو كانت مؤقتة، وفي دعاء كميل: (.. فكيف احتمالي لبلاء الآخرة …)(3).

قولها (علیها السلام): (شفا) أي شفير (حفرة) لأن النار في حفرة جهنم، بخلاف الجنة حيث هي درجات، بينماالنار دركات، (من النار) نار الآخرة لكفرهم وفسادهم عقيدة وأخلاقا وشريعة، فإذا مات أحدهم سقط في جهنم. ومن المعلوم أن نار الآخرة إنما هي لمن بلغه الحق فأعرض عنه، أما الجاهل القاصر فإنه يمتحن في الآخرة، كما ورد في الحديث.

والتعبير ب (كنتم على شفا) نظراً لأن حياة الإنسان مهما طالت فهي قصيرة تمضي كلمح بالبصر خاصة إذا ما قيست بالحياة الآخرة، وإذا ما قيست بماضي الدنيا أيضا، قال تعالى: «اقتربت الساعة»(4).

ص: 82


1- غوالي اللئالي: ج1 ص129، وارشاد القلوب: ص184.
2- سورة التوبة: 122.
3- راجع مصباح الكفعمي : ص555، دعاء أمير المؤمنين (علیه السلام) ليلة النصف من شعبان .
4- سورة القمر: 1.

..............................

وربما يعترض بأنهم قبل إرسال الرسول (صلی الله علیه و آله) لم يكونوا ممن بلغتهم الحجة، فكيف يعاقبون؟

والجواب:

أولا: (لله حجتان، باطنة وظاهرة) كما في الحديث الشريف(1)، وهؤلاء كانوا قد خالفوا صريح حكم العقل والفطرة فيسفك الدماء وانتهاك الأعراض وسحق الحقوق، فتأمل.

وثانياً: لم تكن الجزيرة خالية من أوصياء الأنبياء وتعاليم الأنبياء (علیهم السلام) قبل الرسول (صلی الله علیه و آله)، فقد كان فيهم أمثال عبد المطلب وأبي طالب (علیهما السلام).

ص: 83


1- راجع الصراط المستقيم: ج2 ص277.

مذقة الشارب ونهزة الطامع وقبسة العجلان وموطئ الأقدام

اشارة

-------------------------------------------

حرمة إذلال المؤمن نفسه

مسألة: يحرم إذلال المؤمن نفسه - في بعض مراتبه(1) - ولو بالتسبيب أو بترك تمهيد المقدمات التي توجب إخراجه من الذلة.

فإن الله لم يفوض له إذلال نفسه.

قال (علیه السلام): «إن الله فوض إلى المؤمن أمره كله ولم يفوض إليه أن يكون ذليلاً أما تسمع قول الله عز وجل:«ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين»(2) فالمؤمن يكون عزيزاً ولا يكون ذليلاً، ثم قال: إن المؤمن أعز من الجبل، إن الجبل يستقل منه بالمعاول والمؤمن لا يستقل من دينه بشيء»(3).

وقال (علیه السلام): «المؤمن لايكون ذليلاً ولا يكون ضعيفاً»(4).

وفي الحديث عن أمير المؤمنين علي (علیه السلام): «من استنجد ذليلاً ذل»(5).

وكذلك الأمر في التجمعات: كالهيئات والنقابات والتنظيمات والأحزاب

ص: 84


1- أي بعض مراتب الإذلال.
2- سورة (المنافقون): 8.
3- مشكاة الأنوار: ص50.
4- مشكاة الأنوار: ص260.
5- غرر الحكم: ص465 ح10706.

..............................

والأمم، فإن المحرم أن تذل أنفسها بالتمسح على أعتاب الشرق والغرب، أو بالنزاعات والمهاترات، أو حتى بترك ما ينبغي لمثلها أن تكون عليه - في الجملة - أي بكل ما يسبب أن تكون الأمة مذقة الشارب ونهزة الطامع وقبسة العجلان وموطئ الأقدام، أي أن تكون ضعيفة كماً أو كيفاً وفي جميع مجالات الحياة.

قال سبحانه: «وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين»(1).وقال (صلی الله علیه و آله): (إن الله يحب الرجل الشجاع ولو بقتل حية).

وفي الروايات: إن الشجاعة من خصال الأنبياء (علیهم السلام)(2).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «الشجاعة عز حاضر»(3).

وقال (علیه السلام): «الشجاعة أحد العزَّين»(4).

وقال (علیه السلام): «الشجاع والشجاعة غرائز شريفة يصنعها الله سبحانه فيمن أحبه وامتحنه»(5).

ص: 85


1- سورة آل عمران: 146.
2- راجع عيون أخبار الرضا (علیه السلام): ج1 ص277 ح15.
3- غرر الحكم: ص259 ح5525.
4- غرر الحكم: ص259 ح5529.
5- غرر الحكم: ص375 ح8443.

..............................

بل يجب على المؤمن والتجمعات الإيمانية والأمة الإسلامية أن تمهد من الأسباب ما يوجب عزتها ومزيداً من كرامتها ورفعتها إجمالا، فإن« لله العزة ولرسوله وللمؤمنين»(1)..وقد قال سيد الشهداء (علیه السلام): (ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت وأنوف حمية ونفوس أبية من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام..)(2).

وقال (علیه السلام): (من استوى يوماه فهو مغبون)(3).

وقال (علیه السلام): (كونوا لنا زيناً ولا تكونوا علينا شيناً)(4).

وقال الإمام الصادق (علیه السلام) لمن ترك التجارة منصرفاً إلى العبادة: (اغد إلى عزك) (5).

ص: 86


1- سورة المنافقون: 8.
2- اللهوف: ص97 - 98، ويشير (علیه السلام) إلى أن الذلة هي بعيدة عنه أشد البعد، إذ أن الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) يأبيان ذلك وكذلك المؤمنون، ثم ان مقتضى التربية الصالحة (وحجور طابت) أيضا هو رفض ذلك، إضافة إلى أن النفس بفطرتها الصافية ترفض ذلك أيضا (ونفوس أبية).
3- معاني الأخبار: ص342.
4- بشارة المصطفى: ص222، مستطرفات السرائر: ص650.
5- راجع من لا يحضره الفقيه: ج3 ص192 باب التجارة وآدابها... ح3719 وفيه: (وروي عن المعلى بن الخنيس أنه قال: رآني أبو عبد الله (علیه السلام) وقد تأخرت عن السوق، فقال لي: اغد إلى عزك). وفي تهذيب الأحكام: ج7 ص3 ب1 ح4: (عن هشام بن أحمر قال: كان أبو الحسن (علیه السلام) يقول لمصادف: اغدُ إلى عزك، يعني السوق).

..............................

وغير ذلك من الآيات والروايات التي يستفاد منها رجحان أو وجوب العزة - في بعض مراتبها أو بالقياس إلى بعض الجهات أو في عدد من الحالات - مطابقة أو تضمنا أو التزاماً، أو بدلالة الاقتضاء.

قولها (علیها السلام): (مذقة) من المذاق، أي كنتم أذلاء حتى أنكم كنتم كالذي يمذقه ممن يشرب الماء حيث المذقة لا قيمة لها(1).

(نهزة) أي محل الانتهاز، فالذي يطمع فيكم يتمكن من ان ينتهز الفرصة ليأخذكم ويسلبكم ويستولي على نسائكم، فقد كانوا كذلك، أموالهم منهوبة ونساؤهم مخطوفات، فلا دين ولا دنيا ولا قانون ولا شرف يمنعهم عن السرقة والضرب والجرح والقتل وانتهاك سائر المحرمات كزنا بعضهم بنساء بعض.

(قبسة العجلان): فكما أن الإنسان - إذا كان على عجل في طريقه - يقتبسشيئاً من النار المشتعلة ويذهب لحاجته دون أن يمنعه أحد من الاقتباس، لعدم قيمة النار المقتبسة، كذلك كنتم انتم لا قيمة لكم ولا اعتبار، فكان بعضهم يستعبد بعضاً بالقوة بلا رادع ولا مانع.

(موطئ): إن الأقدام تطأ الأشياء الخسيسة التي لا قيمة ولا أهمية لها، كذلك كنتم في الجاهلية فاقدين لكل شخصية واعتبار، فالقوي يطارد الضعيف والغني يستخف بالفقير، وكل إنسان يسحق من دونه.

ولقد جاءت هاتان الجملتان: (وكنتم على شفا..) و(مذقة الشارب..) بحيث ترسم الصورة المتكاملة لحالتهم في الدنيا والآخرة، ف (كنتم على شفا حفرة

ص: 87


1- فلا تروي غليلاً ولا تطفئ عطشاً.

..............................

من النار) تكشف عن مصيرهم في ذلك العالم، و(مذقة الشارب..) تدل على حالتهم المعيشية في هذه الدار، فكانوا مصداق من خسر الدنيا مع الآخرة، ومن لامعاش له لا معاد له.

العزة في كل شؤون الحياة

مسألة: ما ذكر في المسألة السابقة من الحكم شامل للعزة والذلة اقتصادياًوسياسياً واجتماعياً وعسكرياً وغير ذلك من شؤون الحياة، فينبغي بل قد يجب أن يكون المؤمنون في كلها ذوي العزة، بل أن يكونوا هم الأعز، قال تعالى: «ولاتهنوا ولاتحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين»(1).

فالوهن والضعف منهي عنه، ولزوم كونهم (الأعلون) هو مقتضى تعليقه على الشرط(2) مشفوعا بقرينة السياق، وبما سيق الكلام لأجله، إضافة إلى إطلاق ما سبق من الآيات والروايات.

وقال (صلی الله علیه و آله): (الإسلام يعلو ولا يعلى عليه)(3).

إضافة إلى لحاظ جانب الطريقية والمقدمية في مراتب العزة، إذ كلما كان المؤمنون أعز كانوا أقدر على إرشاد الناس واجتذابهم للدين المبين، وكلما كانوا أعز كانت مكانتهم في نفوس سائر الملل والنحل أقوى، إذ الغالب في الناس

ص: 88


1- سورة آل عمران: 139.
2- الشرط هو (ان كنتم مؤمنين) في الآية المباركة.
3- غوالي اللئالي: ج1 ص226، نهج الحق: ص515.

..............................

الانشداد نفسياً والتأثر فكرياً والاقتداء عملياً بذوي العزة والجاه والمنزلة علمياً أو اقتصادياً أو غير ذلك، وقد يكون ذلك كله من مصاديق (كونوا دعاة الناس بغير ألسنتكم)(1) وهذا من أسرار تأثر كثير من المسلمين بالحضارة الغربية.

الإرشاد لمواطن الضعف

مسألة: يستحب، وقد يجب إرشاد الأمة لمواطن الضعف في حياتها ومسيرتها الماضية والحالية..

كما يلزم - بالمعنى الأعم - تحذيرها مما قد يعتريها في مستقبل الأيام، للتلازم بين الأمرين، كما ألمع إليه في بعض البنود السابقة(2).

وفي الحديث قال (علیه السلام): «أحب أخواني إليّ من أهدى إليّعيوبي»(3).

حرمة الاستسلام للاستعمار

مسألة: يحرم أن تستسلم الأمة لاستعمار الآخرين، وأن ترزخ تحت نير المستعمرين،من غير فرق بين أنحاء الاستعمار،كالاستعمار العسكري والاقتصادي

ص: 89


1- مشكاة الأنوار: ص46 عن أبي عبد الله (علیه السلام).
2- راجع للإمام المؤلف (قدس سره): (المتخلفون مليارا مسلم) و(إلى نهضة ثقافية إسلامية) و(نحو يقظة إسلامية) و(إلى حكم الإسلام) و(لماذا تأخر المسلمون) و(السبيل إلى إنهاض المسلمين) و(ممارسة التغيير لإنقاذ المسلمين) و...
3- الاختصاص: 240.

..............................

والثقافي وغيرها، ولا فرق في الآخرين بين أن يكونوا من أهل الكتاب أو غير أهل الكتاب، بل إن الله تعالى يحرم مطلق الاستعمار حتى من كافر لكافر وربما أوجب القتال لأجل استنقاذه.

قال سبحانه: «وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين»(1).

وقال تعالى: «ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا»(2).

والاستعمار خلاف مقتضى كرامة الإنسانبما هو إنسان.

قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا»(3).

ولا يخفى ما في شفع (مذقة الشارب ونهزة الطامع..) في كلامها (علیها السلام) ب(وكنتم على شفا حفرة من النار) من الدلالة على شدة مبغوضية أن تكون الأمة مستعمرة للآخرين، مغلوبة على أمرها، فاقدة لاستقلاليتها، فقد قرنت (صلوات الله عليها) ذكر حالتهم الأخروية بهذه الحالة الدنيوية في تصويرها لأسوأ ما منوا به.

وكان تعبيرها (علیها السلام) بما سيأتي من (فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمد) دليلاً ساطعاً على أن من أعظم ما حققه الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) ومن أكبر المنن عليهم: إنقاذهم من الاستعمار كما أنقذهم من حر النار.

ص: 90


1- سورة النساء: 75.
2- سورة الإسراء: 70.
3- تحف العقول: ص76 كتابه إلى الحسن (علیه السلام).

تشربون الطرق

اشارة

-------------------------------------------

كراهة شرب الطرق

مسألة: يكره شرب الطرق، فإن شرب الماء المطروق يضر الإنسان صحياً، والإسلام يأمر بالتزام المناهج الصحية للجسم، وقد قال (عليه الصلاة والسلام): (إن لبدنك عليك حقاً)(1).

بالإضافة إلى أن شرب الماء الذي تطرقه الحيوانات يتنافى مع الحديث النبوي (صلی الله علیه و آله): (النظافة من الإيمان)(2) فاللازم على المسلمين أن تكون مياه شربهم نظيفة وأن ينتهجوا النظافة في جميع مجالات الحياة(3)، وهناك آداب كثيرة في شرب الماء ذكرناها في الفقه(4).

ولم نقل بحرمة شرب الطرق نظراً لأنالأصل الحل والإباحة، نعم يحرم شربه إذا تغير طعمه أو لونه أو ريحه بالنجاسة، أو فيما إذا أصبح مضراً ضرراً بالغاً، وكذا الحال في المياه الآسنة وشبهها.

قولها (علیها السلام): (الطرق) أي الماء القليل الذي ترده وتطرقه الكلاب والحيوانات، وحيث كانوا في بلاد جافة في الجزيرة كان شربهم من هذه المياه

ص: 91


1- انظر رسالة الحقوق للإمام زين العابدين (علیه السلام).
2- طب النبي (صلی الله علیه و آله): ص21.
3- راجع موسوعة الفقه: كتاب النظافة.
4- راجع موسوعة الفقه: ج 76 و77 كتاب الأطعمة والأشربة.

..............................

المخلوطة بالأبوال والأرواث.

والملاحظ أنها (صلوات الله عليها) بدأت بذكر مآلهم وسوء عاقبتهم، ثم ثنت بوصف حالتهم السياسية والاجتماعية المأسأوية، وثلثت بذكر حالتهم الاقتصادية المزرية، ثم عادت لتشير إلى حالتهم النفسية والاجتماعية أيضا (أذلة .. من حولكم)..

وكانت إشارتها (علیها السلام) إلى كل تلك الجوانب أبدع إشارة، حيث اعتصرت كل تلك الجوانب في كلمات قليلة جسدت فيها الواقع في أدب تصويري رائع.

ص: 92

وتقتادون القد

اشارة

-------------------------------------------

وتقتادون القد(1)

كراهة أكل القد والورق

مسألة: يكره أكل القد والورق - كما في بعض النسخ - فإن أكل أوراق الأشجار والقد كثيراً ما يوجب أمراضا، كما ذكر في علم الطب.

ولا يبعد أن يستفاد من قوله تعالى:«ويحل لهم الطيبات»(2) أن الأطيب هو الأفضل، ومن قوله سبحانه: «ويحرم عليهم الخبائث» (3) أنه كلما كان أخبث كان أسوأ، للملاك، ولأن للأحكام درجات في جانبي السلب والإيجاب.

قولها (علیها السلام): (القد) القديد وهو اللحم والجلد الذي يجفف في الشمس، وعادة تكثر فيه الديدان والتعفن، وقد كان اللحم الذي يأكلونه هو هذا، وكثيراً ما كانوا لايجدون حتى هذا فيأكلون أوراق الأشجار، وكل ذلك لعدم اهتداء الجاهليين للمناهجالحيوية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية و.. التي أمر بها الإسلام والتي تصلحهم في دينهم ودنياهم، فكان كل شيء منهم في غاية التخلف والتأخر والانحطاط.

ومن الثابت أن نوعية الطعام تؤثر على الإنسان وتفكيره وعلى عواطفه

ص: 93


1- وفي بعض النسخ: (وتقتادون الورق).
2- سورة الأعراف: 157.
3- سورة الأعراف: 157.

..............................

ومشاعره وعلى حالته النفسية والروحية والمعنوية، وحتى على أولاده أيضا - عند انعقاد النطفة وفترة الحمل والرضاع - ولذلك وردت أحاديث كثيرة في الأطعمة والأشربة مما ذكر الفقهاء تفصيلها في كتاب (الأطعمة والأشربة) (1) وفي كتب طب المعصومين (علیهم السلام) وغيرها.

ولقد كان من علل قساوة الجاهليين وغلظتهم وتحجر عواطفهم هو ذلك المأكل والمشرب السيئ الرديء.

ص: 94


1- راجع موسوعة الفقه: ج76-77.

أذلة خاسئين

اشارة

-------------------------------------------

الذلة النفسية والسياسية

مسألة (1): يجب السعي لنجدة الذليل فرداً كان أم أمة، واستخراجه من ذلته في الجملة، بكلا معنيي الذلة، إذ:

الذلة تارة تكون حالة نفسية يعيشها الإنسان في ذاته وداخله، كمن يشعر بعقدة الحقارة، وهي قد تصيب الأمم فيبهرها كل ما تأتي به سائر الحضارات.

وقد تكون معادلة اجتماعية سياسية، حيث قد تتغلب أمة على أمة، أو دولة على دولة، أو فرد على فرد، حيث يعيش المغلوب ذلة عملية باعتبار كونه محكوماً مكبلاً وإن كان هو الأفضل والأكفأ والأعلم.

والى هذا القسم الثاني يشير الشاعر حيث يقول عن لسان الإمام السجاد (عليه الصلاة والسلام):من الزنج عبد غاب عنه نصير

أقاد ذليلاً في دمشق كأنني

أو ما ورد من: (وبعد العز مذللات)(2).

أو قوله تعالى: «ولقد نصركم الله ببدر وانتم أذلة»(3).

ص: 95


1- المسألة السابقة (حرمة إذلال المؤمن نفسه) تختلف عن هذه من جهة ان تلك كانت بياناً لحكم المرء نفسه بالنسبة لنفسه، وهذا بيان حكمه بالنسبة لغيره.
2- الدعاء والزيارة، زيارة الناحية المقدسة.
3- سورة آل عمران: 123.

..............................

فاللازم أن يسعى الإنسان ليكون عزيزاً وليحقق العزة بسائر أبناء ملة الإسلام أيضا، فإن كانت ذلته داخلية فعليه أن يعالج أسبابها ويزيل مقتضياتها، إذ قد تكون لجهل أو فقر أو تلقين أو ما أشبه.

وإن كانت خارجية - أي مظلومية - وجب أيضا أن يتحداها ويواجهها بالفكر والمنطق، أو بالإعلام والدعاية، كما قامت به السيدة زينب (علیها السلام) في مجلس ابن زياد(1) ويزيد(2)وغيرهما..

وهكذا الإمام السجاد (علیه السلام) في مجلس يزيد(3) وغيره..

وكبكائه (علیه السلام) عشرين سنة أو أربعين سنة(4) على مقتل أبيه الحسين (صلوات الله عليه).

وكما قامت به فاطمة الزهراء (علیها السلام) بعد أبيها (صلی الله علیه و آله) (5).

ص: 96


1- راجع الامالي للشيخ الصدوق: ص165 المجلس 31 ح3، والإرشاد: ج2 ص115، وكشف الغمة ج2 ص63 ، وإعلام الورى ص252 ، ومثير الأحزان ص90 .
2- الاحتجاج: ص307 - 310، احتجاج زينب بنت علي (علیها السلام) حين رأت يزيد يضرب ثنايا الحسين (علیه السلام) بالمخصرة، ومثير الأحزان: ص100- 101، واللهوف: ص181.
3- الاحتجاج: ص310 - 311، احتجاج علي بن الحسين زين العابدين (علیه السلام) على يزيد بن معاوية لما أدخل عليه.
4- الامالي للشيخ الصدوق: ص140 المجلس 29 ح5، الخصال: ص272 البكاءون خمسة ح15.
5- المناقب: ج3 ص362، فصل في وفاتها وزيارتها، وفيه: «روي أنها مازالت بعد أبيها معصبة الرأس، ناحلة الجسم، منهدة الركن، باكية العين، محترقة القلب، يغشى عليها ساعة بعد ساعة، وتقول لولديها: أين أبوكما الذي كان يكرمكما ويحملكما مرة بعد مرة..». وفي روضة الواعظين: ص150، مجلس في ذكر وفاة فاطمة (علیها السلام): «وروي أن فاطمة لازالت بعد النبي (صلی الله علیه و آله) معصبة الرأس ناحلة الجسم، منهدة الركن من المصيبة بموت النبي (صلی الله علیه و آله) وهي مهمومة مغمومة محزونة مكروبة كئيبة حزينة باكية العين محترقة القلب…».

..............................

وكما قام به الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) من قبل لمدة طويلة في مكة المكرمة حيث لم يكن قد أذن له بالجهاد بعد.

أو بالمواجهة العسكرية، كحروب النبي (صلی الله علیه و آله) (1).

أو بالنهضة والتضحية بالغالي والنفيس كثورة الإمام الحسين (علیه السلام)، ف (الحياة في موتكم قاهرين، والموت في حياتكم مقهورين)(2).

أو بأسلوب المقاومة السلبية، كما قام به الإمام الحسن (علیه السلام) وعدد آخر من أئمة أهل البيت (علیهم السلام)، حيث كانت هي الطريقة الوحيدة لفضح معاوية وأشباهه وكشف القناع عن زيفه ودجله وخداعه.ويستفاد ذلك الحكم من كلامها (علیها السلام) من اعتبارها (أذلة) من أسوأ ما مني به الجاهليون قبل النبي (صلی الله علیه و آله) واقترانه بما سبق ولحق، والامتنان عليهم أكبر الامتنان بإنقاذه تعالى إياهم من تلك الحالات بأبيها محمد (صلی الله علیه و آله)، وبحكم العقل ودليل التلازم والأسوة يثبت ما سبق.

فتحصل مما سبق مسائل:

ص: 97


1- راجع كتاب (ولأول مرة في تاريخ العالم ج1-2) للإمام المؤلف (قدس سره).
2- انظر المناقب: ج3 ص167، فصل في حرب صفين، وشرح النهج: ج3 ص244 الفصل الخامس.

..............................

أنه يحرم الإذلال - حدوثاً - للفرد والتجمعات والأمة، داخلية كانت أم خارجية، ويجب الخروج منها بالنسبة إلى الذليل نفسه، كما أنه يجب على الآخرين الحيلولة دون ذلة إنسان (دفعاً) وإذا وقع في الذلة وجب عليهم إخراجه منها (رفعاً) فهي محرمة حدوثاً وبقاءً ، بالنسبة للنفس أو الغير.

قولها (علیها السلام): (أذلة) أذلاء جمع ذليل (خاسئين) مطرودين، وقد جاء في التاريخ أن أهل الجزيرة كانوا يستغيثون بكسرى وقيصر كي يشملهم بحكمه وينقذ بعضهم من يد بعض، فما كانا يستجيبان لهم لذلتهم وحقارتهم.

انتهاج منهج الجاهليين

مسألة: يحرم - في الجملة - انتهاج منهج الجاهليين في عاداتهم وطقوسهم، فإن الجاهلية تشمل العقائد والآداب والأخلاق والسلوك والأمور المرتبطة بالجسم، لأن كل انحطاط جاهلي، وكل ارتفاع علمي، فإن العلم يوجب ارتفاع الإنسان في مختلف أبعاد الحياة «يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات»(1).

وقد أشير إلى ذلك في جملة من آيات القرآن الحكيم والروايات:

مثل قوله سبحانه: «إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية»(2).

ص: 98


1- سورة المجادلة: 11.
2- سورة الفتح: 26.

..............................

وقوله تعالى: «ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى»(1).

وقال سبحانه: «افحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من اللهحكماً»(2) إلى غير ذلك.

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «يا علي اجعل قضاء أهل الجاهلية تحت قدميك»(3).

وقال (صلی الله علیه و آله): «وأمت أمر الجاهلية إلا ما سنه الإسلام)(4).

وفي الدعاء الوارد في غيبة الإمام القائم (عجل الله فرجه الشريف): «اللهم لاتمتني ميتة جاهلية»(5).

وفي علل الشرائع عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من مات وهو يبغضك يا علي مات ميتة جاهلية»(6).

ومن مصاديق ذلك الحكم الكلي(7) إحياء آثار وذكرى الفراعنة والقياصرة والجبابرة، عبر وضع النصب والتماثيل لهم أو حفر صورهم وأسمائهم في الجدران

ص: 99


1- سورة الأحزاب: 33.
2- سورة المائدة: 50.
3- الامالي للشيخ الصدوق: ص173 المجلس 32 ح7، وعلل الشرائع: ص473 باب النوادر ح35.
4- تحف العقول: ص25.
5- كمال الدين: ص512.
6- علل الشرائع: ص157.
7- أي انتهاج منهج الجاهليين.

..............................

وغير ذلك. وكذلك اتباعهم في اعتقادهم بالخرافات والسحرة والكهنة والتنجيم، وكذلك في المأكل والمركب والملبس وشبه ذلك مما يعد عرفاً اتباعاً لهم وأحياءً لذكراهم.

ولا فرق في ذلك بين جاهلية القرون السابقة، أو جاهلية القرن العشرين، حيث حكمت الجاهلية باسم الحضارة والتمدن في شتى مناحي الحياة(1).

فما دام المسلمون بعيدين عن مناهج الله، متمسكين بعادات وتقاليد الجاهلية الأولى أو الجاهلية المعاصرة، فإنهم سيبقون - والعياذ بالله - (أذلة خاسئين).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) في هذه الآية: «ولا تبرجن تبرج الجاهليةالأولى»(2) قال: أي سيكون جاهلية أخرى»(3).

ص: 100


1- فذوات الأعلام في ذلك الزمن أصبحن يحملن (الكارتات) وأرقاماً رسمية في هذا الزمن! والسفور والمسابح المختلطة أصبحت دليل التحرر والتنور، والذيلية للشرق والغرب أصبحت دليل الحكمة والتعقل وعلامة الرشد والرقي ووسيلة الخلاص من الأخطار الداخلية والخارجية تماماً كما كان الجاهليون يلتجئون ويتمنون حماية الروم والفرس لهم أمناً من شرورهم أنفسهم.
2- سورة الأحزاب : 33.
3- تفسير القمي: ج2 ص193 سورة الأحزاب.

تخافون

اشارة

-------------------------------------------

ضمانات للمستقبل

مسألة: يجب توفير الضمانات التي تؤمن مستقبل الأفراد والأمة وتضمن لهم عدم تعرضهم لأي خطر يداهمهم على حين غرة، فإن مقدمة الواجب واجبة عقلاً، و(المؤمن كيس فطن حذر) (1) وقد ورد في وصف أمير المؤمنين (علیه السلام): (كان والله بعيد المدى)(2).

أما الخوف فهو بالقياس إلى ما يضاف إليه قد يكون قبيحاً أو محرماً، وقد يكون حسناً أو واجباً:

فالخوف الناجم عن تقصير في المقدمات والمصحوب بتخاذل عن محاولة العلاج واتباع الطرق والحلول التي بينها الله تعالى في القرآن الحكيم وعلى لسان المعصومين (علیهم السلام) رذيلة، كما في الخوف الذي أشارت إليه (صلوات

اللهعليها) بالنسبة للجاهليين، وكما في التخوف الذي يعيشه الكثير من المسلمين - حكاماً أو أفراداً - من أن تتخطفهم الدول الاستعمارية أو الجائرة من حولهم تخطفا عسكرياً أو سياسياً أو اقتصادياً أو ما أشبه فلايعملون بوظائفهم.

أما المؤمنون العاملون الملتزمون بالأوامر الإلهية السائرون على منهج رسل الله (علیهم السلام) في الجهاد والتضحية، فقد قال تعالى في حقهم:

ص: 101


1- دعوات الراوندي: ص39، جامع الأخبار: ص85، مجموعة ورام: ج2 ص297.
2- العدد القوية: ص249، وكشف الغمة: ج1 ص77، وعدة الداعي: ص208.

..............................

«ألا ان أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون»(1).

وقال سبحانه: «بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولاخوف عليهم ولا هم يحزنون»(2).

والحزن عادة يطلق بالنسبة إلى الحال، والخوف بالنسبة إلى الاستقبال، وذلك لأن أولياء الله سبحانه وتعالى لارتباطهم بالله لا يخافون غيره ولا يحزنون لفوت شيء من الدنيا ونحوها.

ولذا فالخوف والحزن الحقيقيانمنتفيان عنهم وإن كانوا خائفين بمعنى آخر كما قال سبحانه: «يدعوننا رغباً ورهباً»(3) وهم محزونون لأنهم لايعرفون هل أن الله سيعاملهم بعدله أم بفضله.

وفي الدعاء: (اللهم عاملنا بفضلك ولاتعاملنا بعدلك).

فالخوف من الله هو الفضيلة كما قال (علیه السلام): (خف الله كأنك تراه فإن كنت لاتراه فإنه يراك)(4)..

وهكذا الخوف من مغبة الأعمال الطالحة، والخوف من نتائج التقصير والقصور السابق المشفوع بالعمل لرأب ما انصدع وجبر ما انكسر، هو المطلوب، وفي الحديث عنه (صلی الله علیه و آله):

«يا بن مسعود خف الله في السر والعلانية فإن الله تعالى يقول:

ص: 102


1- سورة يونس: 62.
2- سورة البقرة: 112.
3- سورة الأنبياء: 90.
4- ثواب الأعمال: ص147، ثواب زيارة الأخوان ومصافحتهم ومعانقتهم ومسائلتهم.

..............................

«ولمن خاف مقام ربه جنتان» (1)»(2).

أما الخوف من قوى الشيطان بتصور سلطانها على قوى الرحمن أو بتصور صدقإلقاءاتها عن مغبة اتباع أوامر الرسل هو الآخر مرفوض ومحرم، قال عزوجل: «إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون ان كنتم مؤمنين»(3).

وفي الدعاء:

«اللهم واستغفرك لكل ذنب حملني على الخوف من غيرك أو دعاني إلى التواضع لأحد من خلقك أو استمالني إليه الطمع فيما عنده…»(4).

وقال الإمام علي بن الحسين (علیه السلام): «يا بن آدم إنك لا تزال بخير ما كان لك واعظاً من نفسك، وما كان الخوف شعارك والحزن دثارك، ابن آدم إنك ميت ومحاسب فأعد الجواب»(5).

وقال سيد العابدين (علیه السلام):

«ليس الخوف من بكى وجرت دموعه مالم يكن له ورع يحجزه عن معاصي الله، وإنما ذلك خوف كاذب»(6).

ص: 103


1- سورة الرحمن : 46.
2- مكارم الأخلاق: ص455 الفصل 4.
3- سورة آل عمران: ص175.
4- البلد الأمين: ص45.
5- إرشاد القلوب: ص105 ب28.
6- عدة الداعي: ص176.

..............................

وقال (علیه السلام): «المؤمن بينمخافتين: ذنب قد مضى لا يدري ما يصنع الله فيه، وعمر قد بقي لا يدري ما يكتسب فيه من المهالك، فهو لا يصبح إلا خائفاً ولا يمسي إلا خائفاً ولا يصلحه إلا الخوف»(1).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «عند الخوف يحسن العمل»(2).

وقال (علیه السلام): «غاية العلم الخوف من الله سبحانه»(3).

وقال (علیه السلام): «خير الأعمال اعتدال الخوف والرجاء»(4).

وقال (علیه السلام): «الخوف سجن النفس عن الذنوب ورادعه عن المعاصي»(5).

وقال (علیه السلام): «الخوف أمان»(6).

هذا كله في الخوف الممدوح.

وقد ورد في الخوف المذموم: «لاينبغي للعاقل أن يقيم على الخوف إذا وجد إلى الأمن سبيلا»(7).

ص: 104


1- تحف العقول: ص377.
2- كنز الفوائد: ج1 ص278.
3- غرر الحكم: ص63 ح789.
4- غرر الحكم: ص156 ح2938.
5- غرر الحكم: ص190 ح3682.
6- غرر الحكم: ص191 ح3695.
7- غرر الحكم: ص263 ح5664.

..............................

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «ثلاثة تنقص النفس: الفقر والخوف والخزن، وثلاثة تحييها: كلام العلماء ولقاء الأصدقاء ومر الأيام بقلة البلاء»(1).

قولها (علیها السلام): (تخافون) إشارة إلى الآية الكريمة: «واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون ان يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون»(2) فإنهم كانوا في خوف دائم من أن يغير عليهم مغير فيستولي عليهم ويسلبهم ويجعلهم عبيداً وإماءً، كما كانت عادة الجاهليين فإن حال الأمم المستضعفة هكذا حتى في هذا العصر، مع اختلاف من حيث الزيادة والنقصان، والمد والجزر،والنوعية والكيفية(3).

ص: 105


1- جامع الأخبار : ص184 الفصل 41.
2- سورة الأنفال: 26.
3- إذ الأسر قد يكون جسمياً وقد يكون فكرياً أو اقتصادياً أو سياسياً أو ما أشبه كما سيوضحه (قدس سره).

أن يتخطفكم الناس من حولكم

اشارة

-------------------------------------------

حرمة الاختطاف والعنف

مسألة: يحرم الاختطاف وأخذ الرهائن كما كان متعارفاً في ذلك الزمن، وكما هو متعارف في زماننا هذا..

وهكذا يحرم جميع مصاديق العنف والإرهاب، مما يوجب إيذاء الناس أو تشويه سمعة الإسلام والمسلمين، سواء من الحكومة للقوى المعارضة ولو تحت عنوان الاعتقال، أو من المعارضة لأركان السلطة، فإن كل شيء يسلب الناس حريتهم الممنوحة من الله سبحانه وتعالى لهم محرم، وكل مصادرة لحق من حقوق الناس محرمة.

نعم في كل مورد حكمت الشريعة الإسلامية فيه بالسجن - وهي قليلة جداً بالنسبة إلى موارد السجن في عالم اليوم كما ذكرنا تفصيله في الفقه(1) - جاز ذلك مع رعاية جميع حقوقالسجين(2)، وهو بالدليل الخاص، لأنه على خلاف قاعدة (الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم)(3).

كما أن كل مورد عين الشرع فيه حصة من المال لبيت المال (كالخمس

ص: 106


1- راجع موسوعة الفقه ج100 كتاب الحقوق. و(الفقه: القانون) و(الفقه: الحريات) وكتاب (الصياغة الجديدة لعالم الإيمان والحرية والرفاه والسلام) للإمام المؤلف (قدس سره).
2- راجع كتاب (كيف ينظر الإسلام إلى السجين) للإمام المؤلف (قدس سره).
3- راجع موسوعة الفقه، كتاب القواعد الفقهية.

..............................

والزكاة) أيضا يكون تخصيصا لهذه الكلية التي جزء منها حديث عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) (1)، وجزء منها مستفاد من قوله تعالى: «النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم»(2) فإن كونه أولى دليل على ثبوت الولاية للإنسان على نفسه، وأن النبي (صلی الله علیه و آله) أولى منه إذا تعارضت الولايتان، أو مطلقاً كما لا يخفى.

وشيوع حالة الاختطاف في المجتمعدليل على جاهلية ذلك المجتمع، أو على وجود قوانين كابتة وظلامات وحقوق مصادرة تسبب تفجر فئات من الناس ضد الوضع بهذه الطريقة السلبية.

وهذا ما نشاهده واضحاً إثر سيطرة الحضارة الغربية التي أرست دعائمها على استعمار الشعوب الأخرى عسكريا أو اقتصادياً وحتى فكرياً وثقافياً، كما هو منهج الاستعمار في الفترة الأخيرة عبر الأقمار الصناعية وسيل من الكتب والمجلات والجرائد والأفلام وغيرها.

وكلامها (صلوات الله عليها) وإن كان إخباراً عن واقع معين في زمن معين، إلا أنه يكشف عن قوانين كلية وسنن اجتماعية وسياسية جارية على مر السنين، تصلح كمؤشر لتشخيص حالة المجتمع صحة ومرضاً، قوة وضعفاً.

ص: 107


1- وهو الجزء الأول منها: «الناس مسلطون على أموالهم»، راجع غوالي اللئالي: ج1 ص222، ونهج الحق: ص494.
2- سورة الأحزاب: 6.

..............................

لا يتخطفوك

مسألة: يلزم على الإنسان أن لا يجعل نفسه عرضة لأن يتخطفه إنسان أو شيطان، ويكون على حذر من ذلك، وهناك روايات في أسلوب خطف الشيطان للإنسان بنفسه أو بإنسان آخر وما يلزم في مواجهته.

فعن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «بينما موسى بن عمران (علیه السلام) جالس إذ أقبل إبليس وعليه برنس ذو ألوان، فلما دنا من موسى خلع البرنس وأقبل إلى موسى فسلم عليه، فقال له موسى: من أنت؟

فقال: أنا إبليس. قال: أنت، فلا قربك الله.

قال: جئت لأسلم عليك لمكانك من الله.

قال موسى: فما هذا البرنس؟ قال: به اختطف قلوب بني آدم.

قال موسى: فأخبرني بالذنب الذي إذا أذنبه بني آدم استحوذت عليه؟

قال: إذا أعجبته نفسه واستكثر عمله وصغر في عينه ذنبه»(1).وقال (علیه السلام): «النظر سهم من سهام إبليس وكم من نظرة أورثت حسرة طويلة»(2).

وقال (علیه السلام): «الحسد مقنصة إبليس الكبرى»(3).

ص: 108


1- مشكاة الأنوار: ص313 - 314.
2- ثواب الأعمال وعقاب الأعمال: ص264 عقاب الزاني والزانية.
3- غرر الحكم: ص299 ح6796.

وقال (علیه السلام): «الكبر مصيدة إبليس العظمى»(1).

وسئل الإمام الصادق (علیه السلام): «يا بن رسول الله ما الذي يباعد عنا إبليس؟ قال: الصوم يسود وجهه، والصدقة تكسر ظهره، والحب في الله والموازرة على العمل الصالح يقطعان دابره، والاستغفار يقطع وتينه»(2).

وقال (صلی الله علیه و آله): «ثلاثة معصومون من إبليس وجنوده: الذاكرون لله، والباكون من خشية الله، والمستغفرون بالأسحار»(3).

وقال (علیه السلام): «تحرز منإبليس بالخوف الصادق»(4).

وقال (علیه السلام): «إن صغار الذنوب ومحقراتها من مكائد إبليس يحقرها لكم ويصغرها في أعينكم فتجتمع وتكثر فتحيط بكم»(5).

وعن جعفر بن محمد الصادق (علیه السلام) قال: «علماء شيعتنا مرابطون في الثغر الذي يلي إبليس وعفاريته، يمنعوهم عن الخروج على ضعفاء شيعتنا، وعن أن يتسلط عليهم إبليس وشيعته والنواصب، ألا فمن انتصب لذلك من شيعتنا كان أفضل ممن جاهد الروم والترك والخزر ألف ألف مرة، لأنه يدفع عن أديان محبينا وذلك يدفع عن أبدانهم»(6).

ص: 109


1- غرر الحكم: ص309 ح7119.
2- فضائل الأشهر الثلاثة: ص76 ح58 وح71 كتاب فضائل شهر رمضان.
3- إرشاد القلوب: ص196 ب52.
4- تحف العقول: ص284 وصيته (علیه السلام) لجابر بن يزيد الجعفي.
5- تحف العقول: ص392 وصيته (علیه السلام) لهشام.
6- الاحتجاج: ص17.

فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمد

اشارة

-------------------------------------------

إنقاذ المسلمين

إنقاذ المسلمين(1)

مسألة: يجب إنقاذ المسلمين في زماننا هذا من جاهليتهم وذلتهم وضعفهم، تأسياً برسول الله (صلی الله علیه و آله) واقتداءً به، وقد جاء في الحديث عن أمير المؤمنين (علیه السلام): (فليتأس متأس بنبيه وإلا فلا يأمنن الهلكة)(2) ولحكم العقل والنقل، ولأن جاهليتهم وذلتهم وضعفهم من أشد المحرمات، إذ هي جماع لشتى خصال الشر والفساد(3).وقد قال سبحانه: «ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الاعلون»(4).

وقال (صلی الله علیه و آله): «الإسلام يعلو…»(5).

إلى غير ذلك مما ذكرناه في البنود السابقة.

ص: 110


1- راجع حول هذا المبحث كتيب (إنقاذ المسلمين) وكتاب (الفقه: طريق النجاة) و(ممارسة التغيير لإنقاذ المسلمين) و(المتخلفون مليارا مسلم) و(القطرات والذرات) و... للإمام المؤلف (قدس سره).
2- نهج البلاغة: الخطبة
3- فضعفهم مثلاً سبب سلطة قوى الشرق والغرب عليهم، فانتهكت أعراضهم وسلبت أموالهم وأريقت دماؤهم، كما حدث في الجزائر أبان الاحتلال الفرنسي، وهكذا في الدول الإسلامية التي كانت تحت سيطرة المنظمة الشيوعية كأفغانستان والجمهوريات الإسلامية الستة، وفي العراق أبان السلطة المباشرة للاستعمار البريطاني ثم عبر السلطة المقنعة زمن البعث.
4- سورة آل عمران: 139.
5- متشابه القرآن: ج2 ص212.

ومن الواضح إن الإنقاذ لا يتحقق - عادة - دفعة واحدة، بل يتحقق تدريجيا، فيجب العمل للإنقاذ خطوة خطوة، كل حسب إمكانه.. مادياً ومعنوياً وفي مختلف أبعاد الحياة.

وحيث إن الأفعال والأحداث تسند إلى السبب الأول أو العامل الرئيسي وهو القائد والعقل المخطط، لذلك قالت (صلوات الله عليها): (فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمد (صلی الله علیه و آله)) رغم وجود المسلمين الأشداء في الإيمان والعمل من حوله كما قال عز وجل: «محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفاررحماء بينهم»(1).

الإنقاذ من الله وبالعمل بمناهجه

مسألة: يجب الإيمان بأن الإنقاذ لا يتحقق إلا بإذن تكويني من الله تعالى، وبالتزام تشريعي بأوامره الصادرة عبر رسوله الأعظم (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته الأطهار (علیهم السلام).

كما قال تعالى: «ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون»(2).

وقال سبحانه: «ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى»(3).

فقد جعل الله تعالى الكون عالم الأسباب والمسببات، والنصر الإلهي أيضا

ص: 111


1- سورة الفتح: 29.
2- سورة الأعراف: 96.
3- سورة طه: 124.

..............................

ضمن هذه الدائرة، قال تعالى: «وأعدوالهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم»(1).

وقال سبحانه: «ثم اتبع سبباً»(2).

وقال تعالى: «وابتغوا إليه الوسيلة»(3).

وورد في الحديث الشريف: (أبى الله أن يجري الأمور إلا بأسبابها)(4).

وعلى هذا فإن (التواكل والتخاذل) محرم، إذ هو خلاف الإعداد واتباع الأسباب.

والتقوى والإيمان وذكر الله - والمراد به القرآن الكريم - كما في الآيتين السابقتين هي الطرق التكوينية لنصرة الله للإنسان، فلو التزم بها الإنسان نصره الله بإمداد غيبي أيضا، ولذلك كان «إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين»(5) فالصبر شرط تكويني تليهنصرة الله التي تجعل الواحد غالباً على العشرة.

وهكذا نجد أن كل ما دخل في دائرة إرادة الإنسان فإن له عاملين طوليين:

1: إذن الله تعالى وتمهيده الأسباب والعلل وجعلها في متناول الإنسان،

ص: 112


1- سورة الأنفال: 60.
2- سورة الكهف: 89 و92.
3- سورة المائدة: 35.
4- راجع غوالي اللئالي: ج3 ص286 باب النكاح ح27، وفيه: «أبى الله أن يجري الأشياء إلا على الأسباب». ومثله في بصائر الدرجات: ص6 ح2
5- سورة الأنفال: 65.

..............................

كالحياة والعلم والقدرة.

2: إرادة الإنسان وتمهيده سائر الأسباب - كإعداده ما استطاع من قوة وتخطيطه وصبره واستقامته وما أشبه ذلك - وهو في هذه أيضا حدوثاً وبقاءً محتاج إلى الله تعالى. وقد قال سبحانه: «وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى»(1).

وقال تعالى: «أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون»(2).

وقال عز وجل: «أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون»(3).

وقال سبحانه: «واتقوا الله ويعلمكمالله»(4).

وقد ذكرنا ذلك في علم الكلام في مبحث الجبر والتفويض(5)، فما ليس في دائرة عمل الإنسان فهو من الله، وما في دائرة عمل الإنسان فعليه أن يسعى، قال سبحانه: «وأن ليس للإنسان إلا ما سعى»(6).

وقال تعالى: «كل امرء بما كسب رهين»(7).

وقال سبحانه: «وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون»(8).

ص: 113


1- سورة الأنفال: 17.
2- سورة الواقعة: 64.
3- سورة الواقعة: 72.
4- سورة البقرة: 282.
5- راجع موسوعة الفقه، المدخل، كتاب العقائد.
6- سورة النجم: 39.
7- سورة الطور: 21.
8- سورة التوبة: 105.

..............................

وقال تعالى: « إنما تجزون ما كنتم تعملون»(1) إلى غيرها من الآيات والروايات.

وقد قالت (علیها السلام): (فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمد) فإن الله هوالمنقذ الحقيقي ولكن بواسطة النبي محمد (صلی الله علیه و آله)، فهو تعالى علة العلل، وهو (صلی الله علیه و آله) واسطة الفيض، فإنه جاء إليهم بالعقيدة الصحيحة والشريعة الكاملة والدين الأغر والأخلاق الرفيعة حتى تحولوا من أذلة صاغرين إلى أعزة عظماء.

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): (أيّها الناس! إنّ الله عزوجل بعث نبيه محمداً (صلی الله علیه و آله) بالهدى، وأنزل عليه الكتاب بالحقّ وأنتم أميّون عن الكتاب ومن أنزله، وعن الرسول ومَن أرسله، أرسله على حين فترة من الرسل، وطول هجعة من الأمم، وانبساط من الجهل، واعتراض من الفتنة، وانتقاض من البرم، وعمى عن الحقّ، وانتشار من الخوف، واعتساف من الجور، وامتحاق من الدين، وتلظّي من الحروب.

وعلى حين اصفرار من رياض جنات الدنيا، ويبوس من أغصانها، وانتشار من ورقها، ويأس من ثمرها، واغورار من مائها، فقد درست أعلام الهدى، وظهرت أعلام الردى، فالدنيا متهجّمة في وجود أهلها، مكفهرّة مدبرة غير مقبلة، ثمرتها الفتنة، وطعامها الجيفة، وشعارها الخوف، ودثارها السيف، قد مزّقتم كلّ ممزّق، فقد أعمت عيون أهلها،وأظلمت عليهم أيّامها.

قد قطعوا أرحامهم، وسفكوا دماءهم، ودفنوا في التراب الموؤدة بينهم من

ص: 114


1- سورة الطور: 16، وسورة التحريم: 7.

..............................

أولادهم، يجتاز دونهم طيب العيش ورفاهيّة خوط، لا يرجون من الله ثواباً، ولايخافون الله عقاباً، حيّهم أعمى نجس، ميّتهم في النار ملبس.

فجاءهم النبي (صلی الله علیه و آله) بنسخة ما في الصحف الأولى، وتصديق الذي بين يديه، وتفصيل الحلال وبيان الحرام، وذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق لكم، أخبركم عنه أنّ فيه علم ما مضى، وعلم ما يأتي إلى يوم القيامة، وحكم ما بينكم، وبيان ما أصبحتم فيه مختلفون، فلو سألتموني عنه لأخبرتكم عنه لأني أعلكم) (1).

هذا وقد دامت العزة للمسلمين إلى ما قبل مائة سنة - ولو في بعض أبعادها(2)- وعندما تركوا شيئاً فشيئاً مما تبقى من أحكام الإسلام عادت إليهم الذلة الجاهلية والعبودية للشرقوالغرب، حتى أصبحوا ألعوبة بيد الكفار فأشعلوا في بلادهم النيران على طول الخط، وساعد بعضهم بعضها على الحرب والسلب والنهب ومناصرة الأجانب في ضرب المسلمين. وإني أذكر منذ خمسين سنة حتى الآن ورحى الحرب تدور في بلاد الإسلام(3)..

وفي الحال الحاضر هناك حروب دامية في أذربيجان والعراق والخليج وكشمير وإرتريا والهرسك والبوسنة ومورو ولبنان وفلسطين وغيرها. والسبب في ذلك هو أن المسلمين تركوا العمل بمناهج الله التي صرح بها في القرآن الحكيم من:

ص: 115


1- تفسير القمي: ج1 ص2-3.
2- إشارة إلى العزة الظاهرية، حيث كانوا حكاماً وملوكاً دون خضوع لسلطة استعمارية خارجية من روم أو فرس أو شرق أو غرب.
3- راجع كتاب (المسلمون يتضررون) للإمام المؤلف (قدس سره).

..............................

(الأمة الواحدة) و(الأخوة الإسلامية) و(الشورى) و(الحرية) و(التنافس الإيجابي) وسائر أحكام الإسلام المنقذة، وإلا فقد قال تعالى: «ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين»(1)، نسأل الله الفرج والمخرج.

التنبيه على عظيم فضل رسول الله (صلی الله علیه و آله)

مسألة: يستجب تنبيه الناس إلى أن سعادتهم طوال قرون وقرون كانت ببركة الله والرسول (صلی الله علیه و آله)، وقد يجب ذلك.

قال سبحانه: «واذكروا إذ انتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون»(2).

وقال تعالى: «لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وان كانوا من قبل لفي ضلال مبين»(3).

وقال عز وجل: «ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك»(4).

ص: 116


1- سورة المنافقون: 8.
2- سورة الأنفال: 26.
3- سورة آل عمران: 164
4- سورة النساء: 79.

..............................

وقال سبحانه: «وما بكم من نعمة فمن الله»(1).ومن المعلوم - كما قلنا - أن مراتب(2) من سعادة الإنسان والتي هي ببركة الله والرسول (صلی الله علیه و آله)، لا تتحقق إلا بتطبيق أوامرهما، كما أن شفاء المريض يتحقق باستعمال الأدوية التي عينها له الطبيب في نسخته.

وقد سبق أن المسلمين في يومنا هذا حيث تركوا أوامر الله سبحانه وتعالى ابتلوا بالضنك الذي ذكره الله عز وجل(3) فإنهم تركوا:

قوله سبحانه:« إن هذه أمتكم أمة واحدة»(4). في الأمة الواحدة.

وقول تعالى: «إنما المؤمنون أخوة»(5). في الأخوة الإسلامية.

وقول سبحانه: «ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانتعليهم»(6). في الحريات الإسلامية.

بالإضافة إلى انهم تركوا الشورى، والتنظيم، فقد قال تعالى: «وأمرهم شورى بينهم»(7)..

ص: 117


1- سورة النحل: 53.
2- قوله (مراتب من سعادة الإنسان) يشير إلى ان مراتب أخرى قد تحققت بصرف لطف الله وبجهود رسول الله (صلی الله علیه و آله)، دون مدخلية لالتزام المسلمين بأوامرهم في ذلك.
3- في قوله: «ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً»، سورة طه: 124.
4- سورة الأنبياء: 92.
5- سورة الحجرات: 10.
6- سورة الأعراف: 157.
7- سورة الشورى: 38.

..............................

وقال سبحانه: «من كل شيء موزون»(1)..

وفي كلام أمير المؤمنين (علیه السلام): (نظم أمركم) (2)..

وقد فصلنا جملة من ذلك في جملة من كتبنا (3).

بل إن سعادة البشرية والجوانب الإيجابية في عالم اليوم(4) كلها ببركةالنهضة الإنسانية التي قام بها الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته الأطهار (علیهم السلام)، ضد رذائل الأخلاق وضد المحرمات: من الجهل والمرض والفقر ووأد البنات وغير ذلك، كما اعترف بذلك الغربيون أنفسهم حيث صرحوا بأن المسلمين هم آباء العلم الحديث(5) حيث تتلمذ الغرب على أيديهم إبان القرون الوسطى - وقبلها - في الأندلس وغيرها.

ص: 118


1- سورة الحجر: 19.
2- روضة الواعظين: ص136، شرح نهج البلاغة: ج17 ص5.
3- راجع (السبيل إلى إنهاض المسلمين) و(الصياغة الجديدة) و(الفقه: السياسة) و(الفقه: الإدارة) و(الفقه: النظافة) و(الفقه: القانون) وغيرها للإمام المؤلف (ره).
4- كالتطور العلمي والتكنولوجي وبعض التوجه والالتزام بحقوق الإنسان وغير ذلك.
5- راجع (قصة الحضارة) و(أميركا والفرصة التاريخية) و(حضارة العرب) وغيرها من المصادر الكثيرة.

بعد اللتيا والتي

اشارة

-------------------------------------------

المخرج من المشاكل

مسألة: يلزم على الإنسان أن يطلب المخرج من المشاكل والمخلص من المحن والفتن لا أن يستسلم لها، إذ قال (علیه السلام): «المؤمن كيس فطن حذر»(1).

وقال (علیه السلام): «والمؤمن كيس عاقل»(2).

وقال (صلی الله علیه و آله): «إن الله تبارك وتعالى ليبغض المؤمن الضعيف الذي لا زبر له، وقال هو الذي لا ينهى عن المنكر»(3).

وقال (صلی الله علیه و آله): «إن الله تبارك وتعالى ليبغض المؤمن الضعيف الذي لا دين له»(4).

وقال (صلی الله علیه و آله): «إن اللهليبغض المؤمن الضعيف الذي لا رفق له»(5).

وقال (صلی الله علیه و آله): «مثل المؤمن القوي كالنخلة ومثل المؤمن الضعيف كخامة الزرع»(6).

ص: 119


1- جامع الأخبار: ص85 الفصل 41.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: ص89 ح1512.
3- معاني الأخبار: ص344.
4- المحاسن: 196.
5- الجعفريات: ص150.
6- جامع الأخبار: ص183 الفصل 41.

..............................

وقال تعالى: «ثم أتبع سببا»(1).

وقال (علیه السلام): «كن في الفتنة كابن اللبون لا ضرع فيحلب ولا ظهر فيركب»(2). وقيل: (الحرب خدعة)(3). وهنالك في الفقه باب خاص باسم (باب الحيل الشرعية)(4).

قولها (علیها السلام): (بعد اللتيا والتي) بلحاظ ما سبقه والقرينةالمقامية (5)، فيه إشعار وإشارة إلى لزوم أن يطلب الإنسان المخرج من المشاكل ومن شتى العوامل والبواعث الإفراطية والتفريطية.

فإن الإنسان المقدام في ميادين الحق يبتلى بمتشددين ومتساهلين في شتى المسائل الدينية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغيرها(6).

ص: 120


1- سورة الكهف: 89.
2- غرر الحكم: ص464 ح10675، وفي نهج البلاغة أيضاً، انظر شرح النهج: ج18 ص82.
3- راجع الارشاد: ج1 ص163، ومتشابه القرآن: ج1 ص236.
4- الحيلة هي المخرج والمخلص فقد يكون محرما وقد يكون شرعياً، فالمخرج من الزنا هو إجراء صيغة العقد مثلاً مع سائر شروطه .
5- وبضميمة دليل التأسي.
6- فهنالك في المجال الديني أناس ينحون نحو الرهبنة وآخرون نحو التحلل ويغرقون في وحول المادية، وأناس يدعون إلى تبرج المرأة وآخرون إلى حرمانها حتى من التعليم والتعلم رغم قوله (صلی الله علیه و آله) : (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة) [ كنز الفوائد: ج2 ص107، وعدة الداعي: ص72، وجامع الأخبار: ص139 الفصل99 « وأناس يعزلون أنفسهم عن السياسة، وبالتالي عن أية مقارعة للحاكم الجائر والطاغوت وآخرون ينهجون منهج المصلحية والانتهازية ويتخذونها سلماً لتحقيق أهدافهم وشهواتهم، إلى غير ذلك.

..............................

فاللازم عليه أن يعالج الأمر حتى يتمكن من تطبيق الحق الذي هو وسط بين الإفراط والتفريط، قال سبحانه: ]وكذلكجعلناكم أمة وسطاً»(1).

وفي الحديث: (خير الأمور أوسطها)(2).

وقال أمير المؤمنين علي (علیه السلام): «وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق»(3)..

فإن الإفراط والتفريط بين محرم وبين مرجوح.

قولها (علیها السلام): (بعد اللتيا)، يقال تزوج رجل امرأة قصيرة فناله منها ما ناله من الأذى ثم طلقها، وتزوج امرأة طويلة القامة فناله منها ما ناله فطلقها، فقيل له تزوج بأخرى، فقال بعد اللتيا والتي؟! وصار مثلا ً يضرب لمن ابتلى في سابق أمره بالمشكلات والدواهي الصعبة أو المتكررة أو الدواهي الكبيرة والصغيرة.

ثم إن عرب الجزيرة أنقذهم الرسول (صلی الله علیه و آله) من مشاكلهم الفردية والاجتماعية والسياسيةوالاقتصادية وغيرها، فهل من التعقل أن يعودوا إلى مثل حالتهم السابقة من الفوضى والتخلف بعد إرسال الرسول وانزال الكتاب والتعب والجهاد المستمر؟

وفي تذكيرهم بذلك تمهيد لإفهامهم بأن تنحيتهم الخليفة الذي عينه الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله)، سيعود بهم إلى كثير من البلايا والرزايا والمحن.

ص: 121


1- سورة البقرة : 143.
2- غوالي اللئالي: ج1 ص296 الفصل 10 ح199، وإعلام الورى: ص307.
3- دعائم الإسلام: ج1 ص355 في كتابه (علیه السلام) إلى الأشتر النخعي.

..............................

فإن قال قائل: إن التاريخ سجل لهم التقدم والانتصارات، فكيف يقال إنهم عادوا إلى ما كانوا عليه من المحن والرزايا وحتى الذلة أيضاً؟.

قلنا: لو كانوا تمسكوا بأحكام الإسلام كما أنزلها الله سبحانه، ولو التزموا بتعاليم الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله)، ولو اتبعوا خليفته الحقيقي وهو الإمام أمير المؤمنين علي (علیه السلام) لم يكونوا يقعون في المشاكل التي وقعوا فيها من الحروب الطاحنة التي دارت بينهم مما امتلأت بها صفحات التاريخ، ومن سيطرة حكام مستبدين وطغاة جبابرة «اتخذوا مال اللهدولاً وعباده خولا»(1) بما تضمن ذلك من قتل الأنفس المحترمة في شرق البلاد والإسلامية وغربها طوال حكومة الأمويين والعباسيين والعثمانيين ومن سبقهم(2) ومصادرة حقوق وأموال الناس(3) وسجن وتعذيب الملايين في ظلم المطامير(4) إلى غير ذلك.

إضافة إلى أن تقدمهم لم يكن ليتحدد بذلك الحد - جغرافياً ومعنوياً - بل كانوا يسودون العالم والبشرية أجمع، ولكن اليوم وبعد خمسة عشر قرنا، ترى ثلاثة أرباع العالم غير مسلمين، والمسلمون هم الربع، وكثير منهم الأذل الأقل فإنا لله فإنا إليه راجعون.

ص: 122


1- الأمالي للشيخ المفيد: ص280 المجلس 33 ح6.
2- كنموذج: قتل المسلمين وعباد الله الصالحين بتلفيق تهمة الارتداد في قضية مالك بن نويرة، وقتل أمثال حجر بن عدي وعدد كبير جدا من أولياء الله ومن العلماء في حكومة معاوية ويزيد… وإلى يومنا هذا.
3- كنموذج: الأموال الهائلة التي أقطعها عثمان لذويه، من بيت مال المسلمين.
4- كنموذج: سجن الحجاج الذي احتوى على أكثر من مائة وعشرين ألف، لا يقيهم حر الشمس اللافحة سقف، ولا برد الزمهرير غطاء.

وبعد أن مني ببهم الرجال وذؤبان العرب

اشارة

-------------------------------------------

بهم الرجال وذؤبانهم

مسألة: يجب - انطلاقاً من شمولية قاعدة «واعدوا لهم ما استطعتم من قوة»(1) للقوة كماً وكيفاَ، سلاحا وعلما وعملا و… إذ كلها مصاديق للقوة، والانصراف للقوة العسكرية إن كان فبدوي - الاستعداد لمقابلة المبهمين من الرجال وذؤبانهم.

وقولها (علیها السلام): (بعد أن مني ببهم الرجال وذؤبان العرب) تنبيه على أن صاحب المبادئ الرفيعة، عليه تأسياً به (صلی الله علیه و آله) أن يستعد لمواجهة الرجال المبهمين الذين لا يعرف واقعهم. فلهم واقع غامض لا يدرى كيف يقابل معهم، أو أنهم من شدة بأسهم لا يدرى من أين يأتون(2) ولذا يسمون ببهم الرجال من المبهم الذي لايعرف واقعه(3).

ومن المحتمل أن يكون (بهم الرجال) إشارة إليهم من غير العرب من الفرس والروم في قبال (ذؤبان العرب).

ص: 123


1- سورة الأنفال: 60.
2- يمكن أن تقرأ معلومة ومجهولة ف (لا يدرى من أين يأتون) أي من أين يهاجمون الإنسان أو (من أين يؤتون) أي من أين يهاجمهم الإنسان، إذ حيثما فكرت ووجهت وجهك وجدتهم مترصدين مستعدين.
3- وربما يكون وجه ما وصفهم ب (بهم الرجال) الإشارة إلى أنهم كالبهيم التي لا شعور لها ولا أدارك كما قال عزوجل: «إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل» سورة الفرقان: 44.

..............................

أما (ذؤبان العرب) فإن الذئب من طبيعته التوحش والتوثب والحيلة والتحرك باتجاهات مختلفة طلبا للفريسة، وكان عرب الجاهلية من هذا النوع، ولذا قال الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام): (كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات)(1). وقال الشاعر:

(........(2) بهز الكف متنه *** فيه كما عسر الطريق ذهاب)

ولعل من وجوه وصفهم ب (ذؤبان العرب) إن الذئب إذا وقع في القطيع لايبقي ولا يذر فهو يفتك لمجرد الفتك، شهوة في الفتك، وهو المصداق الجلي للوحش الضاري الذي لا يفتك لحاجة، بللحاجة ودون حاجة تلذذا من السطو والاعتداء ومنظر الدماء، وقد كان أعداء النبي (صلی الله علیه و آله) كذلك، فهم كانوا كالذئاب الضارية الشرسة يغيرون ويفتكون ويفعلون ما يفعلون تعوداً منهم على الفتك وتلذذا منهم بالجريمة ودلعاً منهم بالدماء.

مذمومية الصفات السبعية

مسألة: من المذموم اتصاف الإنسان بالصفات السبعية، واللازم أن يتحلى قلبه بالرحمة والإنصاف وحب الآخرين، بل المواساة والإيثار، ويدل على ذلك مختلف الآيات والروايات:

قال تعالى: «ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد

ص: 124


1- اللهوف: ص60.
2- هنا كلمة أو كلمات غير مقروءة.

..............................

قسوة»(1).

وقال (علیه السلام): «ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب»(2).

وقال (علیه السلام): «من علاماتالشقاء جمود العين وقسوة القلب»(3).

وعن الإمام أبي جعفر (علیه السلام) قال: «أحبب أخاك المسلم وأحبب له ما تحب لنفسك واكره له ما تكره لنفسك»(4) الحديث.

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «الإنصاف يستديم المحبة»(5).

وقال (علیه السلام): «الإنصاف يرفع الخلاف ويوجب الايتلاف»(6).

وقال (علیه السلام): «ثلاث خصال تجتلب بهن المحبة: الإنصاف في المعاشرة، والمواساة في الشدة، والانطواع والرجوع إلى قلب سليم»(7).

وفي الحديث عن أبي عبد الله (علیه السلام): «لكنا نأمركم بالورع الورع الورع، والمواساة المواساة المواساة لإخوانكم»(8).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام):«الإيثار أعلى المكارم»(9).

ص: 125


1- سورة البقرة: 74.
2- تنبيه الخواطر: ج1 ص2.
3- روضة الواعظين: ص414.
4- الأمالي للشيخ الصدوق: ص323 المجلس 52 ح12.
5- غرر الحكم: ص394 ح9114.
6- غرر الحكم: ص394 ح9116.
7- كشف الغمة: ج2 ص349، الإمام التاسع.
8- المحاسن: ص158 باب خصائص المؤمن ح95.
9- غرر الحكم: ص395 ح9159.

ومردة أهل الكتاب

اشارة

-------------------------------------------

المعارضة علماء وجهلة

مسألة: يجب أن يعد حملة المبدأ الصحيح العدة المناسبة لمواجهة طوائف ثلاثة تتصدى عادة لحملة راية الحق، كل منها بشكل يتناسب مع الوسائل والأسلحة التي تستخدمها، فإن من السنن الإلهية الجارية في المجتمعات على مر التاريخ: إن المبادئ القويمة ودعاة الإصلاح ورواد الحقيقة يواجهون عادة بطوائف من المعارضين، منها:

أ: علماء سوء يعرفون الحقيقة ويكابرون عنها، يمثلون الجانب العلمي والوجه الثقافي للمعارضة.

ب: وأبطال شجعان يجسدون قمة القوة المادية لجبهة الباطل.

ج: أراذل وأوباش وصعاليك من سفلة القوم يعدون بمنزلة الرتل الخامس لجيش العدو.

وإلى القسم الأول أشارت (علیهاالسلام) بقولها: (مردة أهل الكتاب).

وإلى القسم الثاني بقولها: (بهم الرجال).

وإلى القسم الثالث أشارت بقولها: (وذؤبان العرب) إذا كان المراد به: الصعاليك واللصوص.

وربما يقال: إن المراد بذؤبان العرب: أولئك الذين غلب عليهم طابع الوحشية والشراسة والتعطش للدماء، وحينئذ فيكون هذا القسم هو الضلع

ص: 126

..............................

الثالث في مثلث الأعداء، فقولها (علیها السلام): (وبعد أن مني ببهم … ومردة أهل الكتاب) إشارة ضمنية إلى هذه الحقيقة وإن كل مبدأ صحيح يبتلى عادة بعلماء سوء يكابرون الحقيقة، كما يبتلى بجهال مبهمين وصعاليك أوباش أو متوحشين، قال سبحانه : «ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا»(1).

ولا يخفى أن هذا الكلي ليس خاصا بالمبادئ الصحيحة - وإنما المبدأ الصحيح في مقابله هذه الطوائف المنحرفة - بل كل مبدأ وكل مسلكيواجه بهذه الفئات عادة، فإن كان المبدأ باطلاً كان الذين يعارضونهم من العلماء والجهال على حق في هذا الجانب، وإن كان المبدأ صحيحاً كانت جبهتا العلماء والجهال المعارضين له، على ضلال.

مثلاً: النبي (صلی الله علیه و آله) الصحيح المبدأ ابتلي بهما، كما أن (علي محمد الباب)(2) الباطل المبدأ واجهه علماء مسلمون هم حق كما واجهه غير العلماء من المسلمين الذين كانوا أيضا على حق.

وعلى أي، فاللازم أن يستعد حملة المبدأ الصحيح لمقابلة هؤلاء كما قال تعالى: «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة…»(3).

ص: 127


1- سورة آل عمران : 186.
2- علي محمد الشيرازي (1819-1850) مؤسس البابية في إيران، ادعى أنه باب إلى الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف) وذلك بتخطيط ودعم من الاستعمار الروسي، أعدم في تبريز.
3- سورة الأنفال : 60.

..............................

فعلماء السوء: يواجهون بتوعية الناس عبر المحاضرات والكتب وسائر وسائل الإعلام وعبر كشف زيفهم للناس.وبهم الرجال: عبر أبطال أكفاء يواجهونهم بأسلحتهم، فيتسلحون بالتنظيمات والتكتلات والنقابات والأحزاب وغيرها، ويوجهون بتكوين تنظيمات وتجمعات إسلامية تحافظ على الشباب وتفشل مخططاتهم.

والسفلة والصعاليك: يواجهون بمثلهم أيضا، إذ لا يفل الحديد إلا الحديد، وقد ورد في الحديث الشريف: (هلك من ليس له حكيم يرشده، وذل من ليس له سفيه يعضده)(1).

ويجب أن لا يثبط دعاة الحق عن تبليغ الرسالة وجود حشد من المشاكل، سواء كانت مشاكل الإفراط والتفريط، أو مشاكل بهم الرجال وذؤبانهم، أو مشاكل مردة أهل الكتاب وأذنابهم، كما قال تعالى:

«فاستقم كما أمرت ومن تاب معك» (2).

قولها (سلام الله عليها): (مردة) جمع مارد، وهو العاتي المتكبر الذي لا يرضخ للحق، ومردة أهل الكتاب منصرف إلى علمائهم الذين عتوا على الحق وتكبروا عن الرضوخ له، وإن كان اعم لغة من ذلك.قال الإمام الصادق (علیه السلام): «ولا تكونوا علماء جبارين»(3).

ص: 128


1- كشف الغمة : ج2 ص113.
2- سورة هود : 112.
3- الأمالي للشيخ الصدوق: ص359 المجلس 57 ح9.

..............................

وعن عيسى (علیه السلام) قال: «مثل علماء السوء مثل صخرة وقعت على فم النهر لا هي تشرب الماء ولا هي تترك الماء يخلص إلى الزرع»(1).

وقال (صلی الله علیه و آله): «شر الناس علماء السوء»(2).

استعراض ما واجهه الرسول (صلی الله علیه و آله)

مسألة: كلماتها (علیها السلام) في استعراض نماذج من المصاعب التي واجهت الرسول (صلی الله علیه و آله) ومن الأعداء الذين مني بهم، حكاية وشكاية وهداية، والثالث بين واجب ومستحب، والأولان - بما هما هما - يقعان متعلقين للأحكام الخمسة.فحكايتها (علیها السلام) لتلك الحال، تذكير لهم بعظيم فضله (صلی الله علیه و آله) عليهم من جهة، وبعظيم جهاده (صلی الله علیه و آله) واستقامته وصبره وصموده وتحمله الأذى في ذات الله من جهة أخرى، وبكبير جرمهم في التصدي له (صلی الله علیه و آله) من جهة ثالثة.

قال (صلی الله علیه و آله): «ما أوذي نبي مثل ما أوذيت»(3).

والأول: يقتضي شكر النعمة.

والثاني: يقتضي التأسي به (صلی الله علیه و آله) واتباعه وانتهاج منهجه.

والثالث: يقتضي تكفير الذنب عبر التعويض بالتفاني في الذب عن تعاليمه

ص: 129


1- تنبيه الخواطر: ج1 ص84.
2- تنبيه الخواطر: ج1 ص220.
3- المناقب: ج3 ص247، وكشف الغمة: ج2 ص537.

..............................

(صلی الله علیه و آله) وأوامره، وعلى رأسها الدفاع عن من عينه خليفة له واتباعه وهو الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام).

وهي حكاية تتضمن شكاية منهم على ما مضى، وشكاية أخرى على ما جرى - ما مضى حين البعثة وبعدها، وما جرى بعد استشهاده (صلی الله علیه و آله) - وهيأيضا شكاية تتبعها شكاية.

وهذه الشكاية هي من دواعي الهداية ومن مصاديق النهي عن المنكر ومن مصاديق إتمام الحجة، وهي أيضا - في الجملة - دفع ورفع: رفع لما قد جرى ودفع لما سيجري، وأيضا دفع بالنسبة لما يستقبل من الأجيال ورفع بالنسبة للحاضر من الرجال.

ص: 130

كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله

اشارة

-------------------------------------------

حرمة إشعال الحروب

مسألة: يحرم نفسياً ومقدميا إشعال نار الحرب ضد أهل الحق، فإن مطلق العمل ضد الحق حرام فكيف بإشعال نار الحرب، بل مطلق إشعال نارها بغير الحق حرام(1).

وإطفاؤها بالنسبة للرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) - كما يشير إليه كلامها (علیها السلام) بنحو القضية الخارجية - وبالنسبة لعموم المؤمنين في عموم الأزمنة أيضاً واجب، وقد وعد الله النصر في ذلك.

قال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا إنتنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم»(2).

وقال سبحانه: «أوفوا بعهدي أوف بعهدكم»(3).

ص: 131


1- كما في إشعالها على أهل الذمة ما داموا لم يخلوا، وكما في إشعالها على إحدى طائفتين من المؤمنين المتقاتلتين قبل محاولة الإصلاح، قال عزوجل: «وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فان فاءت فاصلحوا بينهما بالعدل واقسطوا إن الله يحب المقسطين». سورة الحجرات: 9، ففي هذين الموردين إشعالها ليس (على الحق) لكنه يصدق عليه أنه (بغير الحق).
2- سورة محمد (صلی الله علیه و آله): 7.
3- سورة البقرة: 40.

..............................

أما إشعال نار الحرب في الحروب الابتدائية الجهادية في سبيل الله والمستضعفين على شروطها فلا إشكال فيها - على تفصيل ذكرناه في كتاب (الجهاد) من الفقه(1) -.

وكذلك بالنسبة إلى الحروب الدفاعية وحروب البغاة، قال سبحانه: «وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيرا»(2).

وإنما قلنا بالحرمة النفسية - أو الذاتية - نظرا لما فيها من المفسدة العظيمة، فوزانها كشرب الخمر والكذب وشبههما - بل أعظم منها - مما حرمتهنفسية لاشتمالها على المفسدة وإن وجبت إذا وقعت مقدمة للأهم، كالكذب للإصلاح الذي لولاه لحدثت فتنة عظيمة، وشرب الخمر لمن انحصرت نجاته من الهلاك عطشاً بشربه، والحرب في سبيل الله والمستضعفين.

ثم إن الضمير في (أوقدوا) يعود للكفار وأهل الكتاب كما لا يخفى.

وجوب إطفاء الحرب

مسألة: يجب إطفاء نار الحرب، قال تعالى: «وإن جنحوا للسلم فاجنح لها»(3).

ص: 132


1- موسوعة الفقه: ج47-48 كتاب الجهاد.
2- سورة النساء: 75.
3- سورة الأنفال: 61.

..............................

فإن المرء كلما تمكن من إطفاء نار الحرب الباطلة وجب عليه ذلك، سواء تمكن من الإطفاء كليا أو الإطفاء في الجملة إذ هو محقق للغرض في الجملة.

ومن الواضح عدم كونه ارتباطياً، قال سبحانه: «فاتقوا الله ما استطعتم»(1).

وقال (صلی الله علیه و آله):«الميسور لا يسقط بالمعسور»(2).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «ما لا يدرك كله لا يترك كله»(3).

إلى غير ذلك مما يدل على أن كل إنسان مكلف بقدر إمكانه، قال سبحانه: «لا يكلف الله نفسا إلا وسعها»(4).

وفي آية أخرى قال تعالى: «لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها»(5).

ومن غير فرق بين أن يكون الإطفاء بالإعلام أو المال أو السلاح أو غير ذلك من أقسام الإطفاء والردع، على نحو مانعة الخلو حسب الاصطلاح المنطقي.

قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «أنا مخمد نار الحرب»(6).

ص: 133


1- سورة التغابن: 16.
2- راجع غوالي اللئالي: ج4 ص58 وفيه: «لا يترك الميسور بالمعسور».
3- راجع غوالي اللئالي: ج4 ص58 ح207.
4- سورة البقرة: 286.
5- سورة الطلاق: 7.
6- الفضائل لابن شاذان: ص163.

..............................

التعلل لعدم التدخل

مسألة: لا يجوز التعلل بعدم التدخل لإطفاء الحرب الدائرة بين طائفتين من المؤمنين أو حرب الكفار ضد فئة أو دولة إسلامية أو ما أشبه ذلك: بالجغرافية أو باختلاف اللغة أو اللون أو ما أشبه ذلك، عقلا ونقلا، وذلك للإطلاقات والعمومات والنصوص، ولما دل على عدمها.

قال تعالى: «وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا بينهما»(1).

وعن أحدهما (علیهما السلام): «المؤمن أخو المؤمن كالجسد الواحد إذا سقط منه شيء تداعى سائر الجسد»(2).

وقال (علیه السلام): «ان المؤمنين في ايثارهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى تداعى سائره بالسهر»(3).وقال (صلی الله علیه و آله): «لا فضل للعربي على العجمي، ولا للأحمر على الأسود، إلا بالتقوى»(4).

وقال تعالى: «إن أكرمكم عند الله أتقاكم»(5).

ص: 134


1- سورة الحجرات: 9.
2- المؤمن: ص38 ح85.
3- أعلام الدين: ص440، والمؤمن: ص39 ح92.
4- الاختصاص: ص341.
5- سورة الحجرات: 13.

..............................

أصالة السلم

مسألة: ربما يستفاد من هذا الحديث - إضافة إلى الأدلة الدالة على ذلك - كون الأصل في الإسلام السلم لا الحرب، فإن شعار الإسلام: السلام.

وتحية المسلم إذا لقي أخاه: (سلام عليكم).

وتقول في نهاية الصلاة: «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته». وحتى في التعامل مع الجهلة: «وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً»(1).

وقد قال سبحانه: «يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولاتتبعواخطوات الشيطان»(2).

وقال أمير المؤمنين(علیه السلام): «السلم علة السلامة وعلامة سبب الاستقامة»(3).

وقال (علیه السلام): «لا عاقبة أسلم من عواقب السلم»(4).

وقال (علیه السلام): «السلم ثمرة الحلم»(5).

وقال (علیه السلام): «الرفق يؤدي إلى السلم»(6).

ص: 135


1- سورة الفرقان: 63.
2- سورة البقرة: 208.
3- غرر الحكم: ص445 ح10165.
4- غرر الحكم: ص476 ح10921.
5- غرر الحكم: ص444 ح10163.
6- غرر الحكم: ص244 ح4979.

..............................

الحروب الدفاعية

مسألة: لم يبتدأ الرسول (صلی الله علیه و آله) بحرب وهكذا كان علي أمير المؤمنين (علیه السلام) بل كل حروبهما (صلوات الله عليهما) كانت دفاعية.

ومن هنا قالت (علیها السلام) فيهذه الخطبة: (كلما أوقدوا)(1) فالكفار والمشركون هم الذين كانوا يوقدون نار الحرب، لكن الله ورسوله ووصيه كانوا يطفئونها.

ولعل من أسباب عدم ابتداء الرسول (صلی الله علیه و آله) بحرب حيث كانت حروبه كلها دفاعية هو كون الأصل السلم وعدم الحرب كما مر(2)، فالحرب ضرورة لا تجوز إلا في الموارد المقررة الشرعية من صور الاستثناء عن السلم والسلام(3).

وقد روي عن علي أمير المؤمنين (علیه السلام): «انه خطب بالكوفة فقام رجل من الخوارج فقال: لا حكم إلا لله، فسكت علي (علیه السلام)، ثم قام آخر وآخر، فلما أكثروا عليه، قال (علیهالسلام): كلمة حق يراد بها باطل، لكم عندنا ثلاث خصال: لانمنعكم مساجد الله أن تصلوا فيها، ولانمنعكم الفيء ما كانت أيديكم مع

ص: 136


1- و (ال) في الحرب وإن كانت للعهد الذهني إلا أن بقرينة الحكم والموضوع والسياق، والمفردات - أي: (أوقدوا) (ناراً) (أطفئها) - نستفيد ذلك منه.
2- ويخرج عن الأصل: حالة الاعتداء فيقابل بالمثل: «فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم» سورة البقرة: 194، وحالة الحرب في سبيل الله والمستضعفين، وبصبره (صلی الله علیه و آله) حتى يهاجمه المشركون، كان قد أكد العامل الباعث للخروج عن الأصل.
3- راجع موسوعة الفقه: كتاب السلم والسلام.

..............................

أيدينا، ولانبدؤكم بحرب حتى تبدؤونا به»(1).

وعن حذيفة بن اليمان قال: «فلما كان يوم الجمل وبرز الناس بعضهم لبعض نادى منادي أمير المؤمنين (علیه السلام): لا يبدأن أحد منكم بقتال حتى آمركم، قال: فرموا فينا، فقلنا: يا أمير المؤمنين قد رمينا، فقال: كفوا، ثم رموا فقتلوا منا، قلنا: يا أمير المؤمنين قد قتلونا، فقال: احملوا على بركة الله»(2).

وهكذا كان في حرب النهروان فإنه: «لما واقفهم علي (علیه السلام) بالنهروان قال: لا تبدؤوهم بقتال حتى يبدؤوكم، فحمل منهم رجل على صف علي (علیه السلام) فقتل منهم ثلاثة، ثم قال:

أقتلهم ولا أرى علياً *** ولو بدا أوجرته الخطيا

فخرج إليه علي (علیه السلام) فضربه فقتله»(3).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «نبأني رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: فإذا أتيتهم فأنت عليهم وإياك أن تبدأ القوم بقتال إن لم يبدؤوك، والقهم واسمع منهم ولايجرمنك شنآنهم على قتالهم قبل دعائهم والإعذار إليهم مرة بعد مرة»(4).

وقد أرسل أمير المؤمنين (علیه السلام) مالك الأشتر في وقعة صفين وأمره أن لا يبدأ القوم بقتال حتى يلقاهم ويدعوهم ويعذر إليهم إن شاء الله(5).

ص: 137


1- دعائم الإسلام: ج1 ص393 ذكر قتال أهل البغي.
2- الأمالي للشيخ المفيد: ص58 - 59 المجلس 7 ح3.
3- شرح نهج البلاغة: ج2 ص272 أخبار الخوارج.
4- شرح النهج: ج3 ص212- 213، ووقعة صفين ص153.
5- وقعة صفين: ص154.

..............................

وفي يوم عاشوراء عندما تجاسر شمر على الإمام الحسين (علیه السلام) وقال له: «يا حسين تعجلت النار قبل يوم القيامة!، رام مسلم بن عوسجة أنيرميه بسهم، فمنعه الإمام الحسين (علیه السلام) من ذلك، فقال له: دعني حتى أرميه فانه الفاسق من عظماء الجبارين وقد أمكن الله منه، فقال له الحسين (علیه السلام): لا ترمه فاني أكره أن أبدأهم»(1).

إسناد الأفعال لله

مسألتان: يجب الإيمان بأن جميع الأمور بيد الله سبحانه وتعالى وانه هو المؤثر الحقيقي، ويلزم الفات الناس إلى ذلك وتنبيههم عليه، كما قالت صلوات الله عليها (أطفأها الله)، فإن الله سبحانه هو مسبب الأسباب، وقد ورد في الدعاء: «يا مسبب الأسباب ويا مفتح الأبواب»(2).

و: «يا مسبب يا مغيث»(3).

و: «اللهم رب الأرباب ومسبب الأسباب»(4).

و: «يا سبب كل ذي سبب، يا مسببالأسباب من غير سبب»(5).

ص: 138


1- الإرشاد: ج2 ص96، وإعلام الورى: ص240.
2- البلد الأمين: ص338 دعاء المشلول.
3- الإقبال: ص661.
4- مصباح الكفعمي: ص135.
5- مصباح الكفعمي: ص170 الفصل العشرون.

..............................

و: «اللهم إني أسألك باسمك يا مسبب يا مرغب»(1).

و: «يا مسبب الأسباب سبب لنا سببا»(2).

و: «يا مرتب يا مسبب يا محبب..»(3).

و: «يا رازق الفرج يا مسبب الفرج يا مغيث الفرج»(4).

و: «يا تواب يا أواب يا مسبب الأسباب»(5).

و: «يا صاحب الأصحاب ومسبب الأسباب وسابق الأسباق»(6).

وقال عزوجل: «إنا مكنا له في الأرضوآتيناه من كل شيء سببا»(7).

وقال تعالى: «قل من بيده ملكوت كل شيء»(8).

وقال سبحانه: «تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير»(9).

ص: 139


1- مصباح الكفعمي: ص260 الفصل 28.
2- مصباح الكفعمي: ص305 الفصل 30.
3- مصباح الكفعمي: ص358 الفصل 32.
4- البلد الأمين: ص324 دعاء الفرج.
5- مهج الدعوات: ص154.
6- العدد القوية: ص263.
7- سورة الكهف: 84.
8- سورة المؤمنون: 88.
9- سورة الملك: 1.

..............................

وقد ألمعنا إلى مثل ذلك فيما سبق وقلنا: إنه لا يلزم منه الجبر، وإنما المراد إن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يعمل حتى في خارج إطار إمكانية الإنسان ولكنه قد ترك حرية التصرف للإنسان في داخل حدود قدرته وإمكانياته فأعطاه الاختيار، وإنما يجب - وجوبا تشريعياً لا تكوينياً - على الإنسان العمل في إطار إمكانياته بما أمره الباري عزوجل، فلا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين، كما في الحديثالشريف(1).

وكما قال (علیه السلام): «أنا لا أقول جبراً ولا تفويضاً»(2).

وفي الدعاء: «اللهم اني استغفرك من كل ذنب قوي عليه بدني بعافيتك أو نالته قدرتي بفضل نعمتك أو بسطت إليه يدي بسابغ رزقك… لم تدخلني يارب فيه جبراً ولم تحملني عليه قهراً ولم تظلمني فيه شيئاً…»(3).

وفي تفسير قوله تعالى: «وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون» قال (علیه السلام): «خلقهم للأمر والنهي والتكليف، وليس خلقتهم جبراً ان يعبدون ولكن خلقتهم اختياراً ليختبرهم بالأمر والنهي، ومن يطيع ومن يعصي»(4).

فإن الأمور والأعمال موزعة:

1: بين ما هي في دائرة قدرة الإنسان وحيطة تصرفه واختياره.

ص: 140


1- عيون أخبار الرضا (علیه السلام): ج1 ص124، والتوحيد: ص362، والاحتجاج: ص414.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: ص279 المجلس 47 ح8.
3- الإقبال: ص388.
4- تفسير القمي: ج2 ص331، والآية في سورة الذاريات:56.

..............................

2: وبين ما هي خارج عنه بالمرة.

وحيث إن ما في دائرة قدرة الإنسان هو أيضاً يستند إلى الله تعالى إذ انه عزوجل هو الذي أعطاه القدرة والاختيار وهو الذي أوجد الأسباب ومهدها وبمقدوره في أي آن أن يسلب قدرته واختياره، ولذلك كرر في القرآن الحكيم نسبة الأشياء إلى الله سبحانه وتعالى.

قال سبحانه: «وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى»(1).

وقال تعالى: «أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون»(2).

وما أشبه ذلك من الآيات.

فلولا أن الله تعالى أعطى الإنسان وجوده وحياته ثم زوده بالعضلات والقوى والإدراك والعلم والإرادة وما أشبه، ولولا أنه خلق المعادن والآلات والأدوات وما أشبه، ولولا أنه … لما أمكن للإنسان أن يرمي نبلاً أو يزرع بقلاً - بكامل حريته واختياره - .

ص: 141


1- سورة الأنفال: 17.
2- سورة الواقعة: 64.

أو نجم قرن الشيطان

اشارة

-------------------------------------------

إعداد العدة

مسألة: يجب إعداد العدة للمواجهة عندما ينجم قرن الشيطان.

قولها (علیها السلام): (أو نجم قرن للشيطان) نجم بمعنى: ظهر، ولذا يسمى النجم نجماً لأنه يظهر في الأفق، و(قرن الشيطان) كناية عن أول فتنته، يعني: إنه كلما ظهرت بوادر فتنة قذف (صلی الله علیه و آله) أخاه (علیه السلام) في لهواتها.

فأول كل ظاهر من شيء قرن، ولذا يقال: قرن الشمس، حين تظهر بعض أجزاءها ابتداءً ثم تظهر البقية.

والسبب في كون قرن الحيوان هو أول ما يرى من البعيد: أن الأرض كروية وفي المحل الكروي إنما يظهر أعلى الشيء ابتداء كما يشاهد ذلك بالنسبة إلى البحار، فإن الإنسان أول ما يشاهد من السفينة الصواري ثم تظهر شيئاً فشيئاً، حتى تظهر بأجمعها، وكما هو المشاهد لمن كان حديد البصر وواقفاً في الأرضيشاهد الأفق من بعيد.

ص: 142

..............................

المبادرة

مسألة: تجب المبادرة للتصدي للفتن بمجرد أن ينجم قرنها، كما كان (صلی الله علیه و آله) يصنع، تأسياً به (صلی الله علیه و آله)، ولأنه من إحكام الأمر وإتقانه، وقد ورد في الحديث: (رحم الله امرأ عمل عملا فأتقنه)(1) ولما فيه من درء المفاسد الكثيرة التي تترتب على التأخير.

ومن البين إن ذلك يتوقف - فيما يتوقف - على بعد النظر والرؤية المستقبلية كي يتنبأ الإنسان مسبقاً بما سيجري ويعرف أن هذه مقدمة بعيدة لذاك، وما يجري هو لبنة في بناء مستقبلي كذائي، وقد ورد في وصف أمير المؤمنين علي (عليه الصلاة والسلام): «كان والله بعيد المدى شديد القوى يقول فصلاً، ويحكم عدلاً…»(2).

قال أمير المؤمنين (علیه السلام):«رحم الله امرئ رأى حقاً فأعان عليه ورأى جوراً فرده وكان عوناً بالحق على صاحبه»(3).

وقال (علیه السلام): «رحم الله امرئ أحيى حقاً وأمات باطلاً وادحض الجور وأقام العدل»(4).

ص: 143


1- راجع الأمالي للصدوق : ص384 المجلس 61، وفيه عنه (صلی الله علیه و آله): (إن الله يحب عبدا إذا عمل عملا أحكمه).
2- كشف الغمة: ج1 ص77، صنعته (علیه السلام).
3- غرر الحكم: ص69 ح979.
4- غرر الحكم: ص69 ح980.

..............................

ترصد الفتن

مسألة: يجب الترصد الدائم والتفحص الحثيث عن أية فتنة قد تحدث، كما أشارت إلى ذلك (علیها السلام) في قولها: (كلما … نجم … أو فغرت... قذف أخاه…) حيث كان (صلی الله علیه و آله) دائم اليقظة والحذر.

وفي الحديث الشريف عنه (صلی الله علیه و آله): «ستكون من بعدي فتنة، فإذا كان ذلك فالزموا علي بن أبي طالب، فانه أول من يراني وأول من يصافحني يوم القيامة وهو معي فيالسماء الأعلى وهو الفاروق بين الحق والباطل». وهذه الرواية نقلها العامة أيضاً (1).

وقال (صلی الله علیه و آله): «ستكون بعدي فتنة مظلمة، الناجي منها من تمسك بالعروة الوثقى، فقيل: يا رسول الله وما العروة الوثقى؟

قال: ولاية سيد الوصيين، قيل: يا رسول الله ومن سيد الوصيين، قال: أمير المؤمنين، قيل: يا رسول الله ومن أمير المؤمنين، قال: مولى المسلمين وإمامهم من بعدي، قيل: يا رسول الله ومن مولى المسلمين وإمامهم من بعدك، قال: أخي علي بن أبي طالب (علیه السلام)»(2).

وعن الإمام الصادق (علیه السلام): «وقد حذرنا الله تبارك وتعالى من فتنة

ص: 144


1- تاريخ دمشق لابن عساكر: ج42 ص449 الرقم 9025 و9026، من ترجمة الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام)، وكشف الغمة: ص143 وص376.
2- مائة منقبة: ص149 المنقبة 81، والتحصين: 552.

..............................

الشيطان فقال: «يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة»(1)»(2).

وقال تعالى: «وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة»(3).

وعلى ذلك فإنه من غير الصحيح اعتزال الناس، والابتعاد عن الخوض في البحوث السياسية والاقتصادية وشبهها مما يعرف الإنسان على خطط الاستعمار وبرامجهم، ومن أين ينفذون؟ وكيف؟ ومتى؟ ومن هم عملاؤهم؟ وغير ذلك.

ومن الخطأ توهم أن ذلك الانعزال والابتعاد فضيلة بل الأمر بالعكس تماما، فإن «العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس»(4).

وقال (صلی الله علیه و آله) في وصيته لأبي ذر (رحمة الله): «وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه»(5).

أما أخبار الاعتزال فالمقصود بهاشيء آخر كما بيناه في بعض كتبنا(6).

وقال الإمام الصادق (علیه السلام): «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلقان من خلق الله تعالى فمن نصرهما أعزه الله تعالى ومن خذلهما خذله الله تعالى»(7).

ص: 145


1- سورة الأعراف : 27.
2- كمال الدين: ص86.
3- سورة البقرة : 193.
4- تحف العقول: ص356.
5- أعلام الدين: ص205، مكارم الأخلاق: ص472.
6- راجع كتاب (الفضيلة الإسلامية) للإمام المؤلف (رحمة الله).
7- غوالي اللئالي: ج3 ص189 باب الجهاد ح27.

..............................

قال (علیه السلام): «فضل العالم على العابد بسبعين درجة، بين كل درجتين حضر الفرس سبعين عاما، وذلك أن الشيطان يصنع البدعة فيبصرها العالم فينهي عنها، والعابد مقبل على عبادته لا يتوجه لها ولا يعرفها»(1).

وقال (صلی الله علیه و آله): «فضل العالم على العابد كفضلي على سائر الأنبياء»(2).

وقال (علیه السلام): «ساعة من عالم يتكئ على فراشه ينظر في علمه خير منعبادة العابد سبعين عاما»(3).

وربما يتوهم إن (أو نجم قرن للشيطان أو فغرت فاغرة من المشركين) و(قذف أخاه في لهواتها) خاص بشؤون الحرب، لكن الظاهر شمولية ذلك لكل فتنة ومشكلة سياسية أو اقتصادية أو عسكرية أو أمنية أو اجتماعية أو غيرها، وذلك لأن الأصل في العطف ذلك(4). وفي الواقع الخارجي خير شاهد ودليل على ذلك(5) إضافة إلى ظهور (نجم قرن الشيطان…أو فغرت ...) فيه.

ص: 146


1- روضة الواعظين: ص12.
2- أعلام الدين: 81.
3- جامع الأخبار: ص37 الفصل 20.
4- الأصل في عطف النسق هو عطف المغاير على المغاير، والاستثناء هو كونه عطفا للخاص على العام أو شبهه (كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله أو نجم قرن للشيطان أو فغرت فاغرة من المشركين).
5- إذ كان (علیه السلام) عضده (صلی الله علیه و آله) الأيمن في شتى المجالات، وسنده الأول في كل المحن، كما في قضية كشف تلك الجاسوسة التي كانت تريد اخبار مشركي قريش في فتح مكة - وهي قضية أمنية - وكقرائنه (علیه السلام) سورة البراءة في قلب معقل الأعداء، وهو موقف إعلامي ومواجهة فكرية، سياسية صريحة وجريئة جدا و… و… للتفصيل راجع كتاب (ولأول مرة في تاريخ العالم): ج1- 2 للإمام المؤلف (رحمة الله).

أو فغرت فاغرة من المشركين

اشارة

-------------------------------------------

الموقف المناسب

مسألة: يجب أن يتخذ الإنسان الموقف المناسب إذا فغرت فاغرة من المشركين.

قولها (سلام الله عليها): (أو فغرت فاغرة من المشركين) يقال: فغر فاه أي: فتحه، والمراد به تجمع المشركين لأجل محاربة رسول الله (صلی الله علیه و آله).

وهناك فرق بين (نجم) و(فغر)، فالنجم: الأول، والفغر: التهيؤ والاستعداد، فإنه بعد ظهور القرن يظهر الفم الذي يهدف التهام الحق، ولا يراد بذلك الفم حقيقة وإنما هو نوع تشبيه، للذين يريدون إبطال الحق وإزهاقه بالفم الذي يهم بقضم الطعام والتهامه.

قال أمير المؤمنين علي (علیه السلام): «ما رأيت منذ بعث الله محمداً (صلی الله علیه و آله) رخاء والحمد لله، والله لقد خفت صغيراً وجاهدت كبيراً، أقاتل المشركين وأعادي المنافقين حتى قبض الله نبيه (صلی الله علیه و آله) فكانت الطامة الكبرى، فلم أزل حذرا - إلىأن قال: - والله مازلت أضرب بسيفي صبياً حتى صرت شيخاً، وأنه ليصبرني على ما أنا فيه ان ذلك كله في الله ورسوله»(1).

ص: 147


1- الإرشاد: ج1 ص284 فصل ومن كلامه (علیه السلام) في تظلمه.

..............................

الأدب التصويري

مسألة: من الراجح - في الدعوة والتبليغ والإرشاد - استخدام أسلوب (الأدب التصويري) كما استخدمت السيدة الزهراء (صلوات الله عليها) هذا الأسلوب (الأدب التصويري) في مقاطع شتى من هذه الخطبة، وفي هذه المقطع حيث تقول:

(كلما أوقدوا ناراً للحرب... أو نجم قرن الشيطان … أو فغرت فاغرة … قذف … في لهواتها…يطأ جناحها بأخمصه…ويخمد لهبها…الخ).

وهذا الأسلوب هو من أساليب القرآن الكريم من قبل كما في قوله سبحانه: «كزرع أخرج شطأه فازره فاستغلظ فاستوىعلى سوقه»(1).

وقوله تعالى: «مثل نوره كمشكاة فيها مصباح، المصباح في زجاجة، الزجاجة كانها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار نور على نور»(2).

وقوله سبحانه: «ولا تمش في الأرض مرحاً إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا»(3).

وقوله تعالى: «وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه و في آذانهم

ص: 148


1- سورة الفتح: 29.
2- سورة النور: 35.
3- سورة الإسراء: 37.

..............................

وقرا»(1).

ثم إنه هل التشبيه والتمثيل من أصناف الأدب التصويري فهو مقسم لها، أم أنه مختص بتنزيل حقيقة منزلة أخرى (كالمعنوية منزلة المادية) دون استخدام أداة تشبيه؟ مبحث يرتبط بعلم البلاغة.

ص: 149


1- سورة الأنعام: 25.

قذف

اشارة

-------------------------------------------

التعرض لصفات الإمام (علیه السلام) والتعريف به

مسألتان: تنقسم الصفات التي تحلى بها الإمام علي ابن أبي طالب (علیه السلام) إلى ما تجب معرفته ويجب التعريف به والإعلان عنه، وإلى ما يستحب معرفته والتعريف به.

فإمامته وخلافته من القسم الأول وهو واجب عيني في معرفته، ونصرته للإمام والمسلمين وشده أزر الرسول الأعظم في المواطن الصعبة حيث كان منهجه (صلی الله علیه و آله) (أن يقذف أخاه في لهواتها) من القسم الأول أيضا في الجملة، ومعرفة كثير من صفاته والتعريف بها مستحب بما هي هي، إلا فيما لو وجدت جهة المقدمية(1) فتجب عندئذ عينا أو كفاية(2). وفي التاريخإن رجلاً قال لابن عباس:«سبحان الله ما أكثر مناقب علي وفضائله، إني لأحسبها ثلاثة آلاف منقبة، قال ابن عباس: أو لا تقول انها إلى ثلاثين ألف أقرب»(3).

نعم إن فضائله (علیه السلام) اكثر من أن تحصى ومن أن يعرفها أحد، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «يا علي ما عرف الله حق معرفته غيري وغيرك، وما عرفك حق

ص: 150


1- كما لو توقف معرفة إمامته (علیه السلام) على استقراء شتى صفاته ومختلف مصاديق نصرته كي يحصل الاطمئنان عند البعض.
2- (عيناً) في المعرفة، (كفاية) في التعريف.
3- كشف الغمة: ج1 ص112.

..............................

معرفتك غير الله وغيري»(1).

وقال (صلی الله علیه و آله): «جعل الله لأخي علي بن أبي طالب فضائل لا تحصى»(2).

وفي حديث آخر: «لا تحصى عددها كثرة»(3).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعلي بن أبي طالب (علیه السلام): «لا يتقدمك بعدي إلا كافر ولا يتخلف عنكبعدي إلا كافر وإن أهل السماوات السبع يسمونك أمير المؤمنين بأمر الله تعالى»(4).

التهلكة

مسألة: يحرم إلقاء النفس في التهلكة، ولكن ليس من مصاديقه: التضحية بالنفس في سبيل الله، فهي خارجة موضوعاً عن التهلكة كما لا يخفى(5)، فليس قذف (صلی الله علیه و آله) أخاه في لهواتها خارجاً بالتخصيص بل بالتخصص.

قال تعالى: «ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة»(6).

وقال الإمام الرضا (علیه السلام) عندما فرض عليه قبول ولاية العهد: «اللهم إنك قد نهيتني عن الإلقاء بيدي إلى التهلكة وقد أشرفت من قبل عبد الله المأمون على

ص: 151


1- المناقب: ج3 ص267.
2- الصراط المستقيم: ج1 ص154 الباب التاسع.
3- تأويل الآيات: ص844 سورة الاخلاص.
4- مائة منقبة: ص53 المنقبة 27.
5- فإن في ما أمر الله به: الحياة لا الهلاك، والتهلكة هي إزهاق الروح لغير غرض عقلائي إلهي.
6- سورة البقرة: 195.

..............................

القتل متى لم أقبل ولاية عهده وقدأكرهت واضطررت كما اضطر يوسف ودانيال إذ قبل كل واحد منهما الولاية لطاغية زمانه، اللهم لا عهد لي إلا عهدك، ولاولاية لي إلا من قبلك، فوفقني لاقامة دينك وإحياء سنة نبيك، فانك أنت المولى والنصير، نعم المولى أنت ونعيم النصير»(1).

وفي تفسير العياشي عن حذيفة قال: «ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة» : «هذا في التقية»(2).

وقال النبي (صلی الله علیه و آله): «يا علي انك ستلقى من قريش شدة من تظاهرهم عليك وظلمهم لك، فإن وجدت أعواناً فجاهدهم، فقاتل من خالفك بمن وافقك فإن لم تجد أعواناً فاصبر واكفف يدك ولا تلق بيدك إلى التهلكة، فإنك مني بمنزلة هارون من موسى ولك بهارون أسوة حسنة، إنه قال لأخيه موسى «إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني»(3) »(4).

وعن أسلم قال: «غزونا نهاوند أوقال غيرها، واصطفينا والعدو صفين لم أر أطول منهما ولا أعرض، والروم قد الصقوا ظهورهم بحائط مدينتهم، فحمل رجل منا على العدو، فقال الناس: لا إله إلا الله، ألقى بنفسه إلى التهلكة، فقال أبو أيوب الأنصاري: إنما تؤولون هذه الآية على أن حمل هذا الرجل يلتمس الشهادة، وليس كذلك، إنما نزلت هذه الآية فينا، لأنا كنا قد

ص: 152


1- كشف الغمة: ج2 ص297.
2- تفسير العياشي: ج1 ص87 سورة البقرة.
3- سورة الأعراف: 150.
4- كتاب سليم بن قيس: ص72.

..............................

اشتغلنا بنصرة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وتركنا أهالينا وأموالنا أن نقيم فيها ونصلح ما فسد منها فقد ضاعت بتشاغلنا عنها فانزل الله إنكارا لما وقع في نفوسنا من التخلف عن نصرة رسول الله (صلی الله علیه و آله) لإصلاح أموالنا، «ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة»(1) معناه إن تخلفتم عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأقمتم في بيوتكم ألقيتم بأيديكم إلى التهلكة وسخط الله عليكم فهلكتم، وذلك رد علينا فيما قلنا وعزمنا عليه من الإقامة، وتحريض لنا على الغزو وما أنزلت هذه الآية في رجل حمل على العدو ويحرض أصحابه أنيفعلوا كفعله، أو يطلب الشهادة بالجهاد في سبيل الله رجاء ثواب الآخرة»(2).

هذا وقد ورد عن الإمام الباقر (علیه السلام) في تفسير قوله تعالى: «ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة»: «لا تعدلوا عن ولايتنا فتهلكوا في الدنيا والآخرة»(3).

وجوب التضحية

مسألة: تجب التضحية بالحياة فيما لو توقف حفظ الإسلام عليها كما ضحى الإمام الحسين (علیه السلام) بنفسه وأولاده وأصحابه في يوم عاشوراء، وتفصيل الكلام في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(4).

فإن التضحية واجبة بشتى صورها حتى (بالانتحار) فيما لو توقف حفظ الإسلام عليه، وذلك مثل أن يلقي بنفسه في مدخنة سفينة العدو، حيث يوجب

ص: 153


1- سورة البقرة: 195.
2- اللهوف: ص29 - 30.
3- المناقب: ج3 ص207.
4- راجع موسوعة الفقه: ج48 كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

..............................

احتراقه وبالتالي غرق السفينة، بسببإطفاءها، كما حدث مثل ذلك في الحرب العالمية الثانية، وكشد شريط من المتفجرات حول جسده والانبطاح مثلاً أمام دبابات العدو. وتشخيص الصغريات والمصاديق في هذا الباب بيد شورى الفقهاء، وإلا فالفقيه العادل الجامع للشرائط، وإن لم يكن فعدول المؤمنين، وإن لم يكونوا فللمكلف نفسه لو قطع بذلك.

قال تعالى: «إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بان لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم»(1).

وقال أمير المؤمنين علي (علیه السلام): «أفضل ما توسل به المتوسلون: الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيل الله» الحديث(2).

وقال (علیه السلام): «الله الله في الجهاد في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم»(3).

بين التخصص والتنويع

مسألة: هل اللازم - على الإنسان - في الواجبات الكفائية (كالصناعات والعلوم والتصدي لأعداء الإسلام) التخصص كما هو مقتضى الإتقان أم التنويع والشمولية، كما صنع الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) بالنسبة لأمير المؤمنين علي (علیه السلام)

ص: 154


1- سورة التوبة: 111.
2- علل الشرائع: ص247.
3- كشف الغمة: ج1 ص431.

..............................

حيث (كلما … نجم قرن للشيطان أو فغرت فاغرة، من المشركين قذف أخاه في لهفاتها) فتأمل؟ وهل الأصل هذا أم ذاك، أم يقال بالتفصيل؟

وجوه، والظاهر إن الأمر يختلف باختلاف الأفراد، قوة وضعفاً، ومن حيث تنوع القابليات والقدرات و… والظروف والحاجات وغيرها.

التصدي بسرعة

مسألة: يجب التصدي للفتن بسرعة وقوة كما هو المستفاد من عمله (صلی الله علیه و آله) ومن قولها (علیها السلام): (قذف أخاه…)، ومن البين أن القذف هو الرمي بقوة وشدة، والسرعة تستفاد من السياق (كلما…قذف) ومن مادة (قذف)أيضاً (1).

وهي من مصاديق (المسارعة) الواجبة كتاباً (2) وسنة وعقلا في الجملة، وإن كان بعض مصاديقها مستحبة.

قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «من ارتقب الموت سارع في الخيرات»(3).

وقال (علیه السلام): «من اشتاق إلى الجنة سارع إلى الخيرات»(4).

ص: 155


1- في قوله تعالى: «وسارعوا إلى مغفرة من ربكم» سورة آل عمران : 133، و«فاستبقوا الخيرات» سورة البقرة: 148.
2- إذا الرمي البطيء لا يسمى قذفاً إلا مجازا فتأمل.
3- الخصال: ص231، كنز الفوائد: ج2 ص162.
4- جامع الأخبار: ص109 الفصل66.

أخاه

اشارة

-------------------------------------------

التضحية بالمهم

مسألة: لا تجوز التضحية بالأهم مع كفاية المهم، ولذلك كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقذف أخاه في لهواتها، وكان أمير المؤمنين علي (علیه السلام) يبادر لوقاية رسول الله (صلی الله علیه و آله) بنفسه، كما في ليلة المبيت.

وقد روى الفريقان أنه «لما أراد النبي (صلی الله علیه و آله) الهجرة خلف علياً (علیه السلام) لقضاء ديونه ورد الودائع التي كانت عنده، وأمره ليلة خروجه إلى الغار وقد أحاط المشركون بالدار، أن ينام على فراشه، وقال: يا علي اتشح ببردي الحضرمي ثم نم على فراشي…

فأوحى الله عزوجل إلى جبرئيل وميكائيل: إني قد آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر، فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة؟

فاختار كل منهما الحياة.

فأوحى الله عزوجل إليهما: ألا كنتما مثل علي بن أبي طالب، آخيت بينه وبينمحمد، فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة، اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه.

فنزلا فكان جبرئيل عند رأسه وميكائيل عند قدميه، وجبرئيل يقول (علیه السلام): بخ بخ من مثلك يا ابن أبي طالب يباهي الله بك ملائكته!.

فأنزل عزوجل على رسوله (صلی الله علیه و آله) وهو متوجه إلى المدينة في شأن علي بن

ص: 156

..............................

أبي طالب (علیه السلام): «ومن الناس من يشري نفسه»(1) الآية»(2).

وكذلك في يوم أحد حيث قال جبرئيل: «يا محمد ان هذه لهي المواساة من علي (علیه السلام)، قال (صلی الله علیه و آله): لأنه مني وأنا منه، فقال جبرئيل: وأنا منكما يا رسول الله، ثم قال: لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي»(3).

التركيز على مركز الفساد

مسألة: يجب على القادر كفائياً، التركيز على مركز الفساد وعين الفتنة وقطب رحى الأعداء، كما صنع رسول الله (صلی الله علیه و آله) حيث (قذف أخاه في لهواتها) تركيزا عليها، وقد سبق ما يدل على ذلك.

التضحية حتى بالأحب

مسألة: يجب الإيثار والتضحية بكل شيء حتى أحب الأشياء وأعز الأشخاص - فيما لو توقف واجب أهم كحفظ بيضة الإسلام عليه - كما قالت (سلام الله عليها): (قذف أخاه…).

فإن الإنسان يجب عليه أن يضحي بنفسه وبأعز ما لديه حتى ينتصر الحق، وقد قال أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام): - كما في نهج البلاغة - (فلما علم الله منا

ص: 157


1- سورة البقرة : 207.
2- تأويل الآيات: ص95 سورة البقرة، عن الثعلبي في تفسيره.
3- عيون أخبار الرضا (علیه السلام): ج1 ص85.

..............................

الصدق أنزل علينا النصر).(1)

وإنما كان الرسول (صلی الله علیه وآله) لا يباشر الحرب بنفسه محافظة منه على القيادة كما هو واضح، وقذف أخاه في لهواتها رغم انه خليفته، لعدم وجود البديل، وأما في الحروب الثلاثة بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) فإنه (علیه السلام) كان يقود الحرب، وكان يقتحم صفوف الأعداء بنفسه أيضاً إما تشجيعاً، وإما لتوقف شحذهم الجيش، وبالتالي الانتصار على نزوله شخصيا لساحة المعركة، أو لاطمئنانه بالغلبة وعدم مقدرتهم على قتله لو أقتحم، فتأمل.

انتخاب الكفء

مسائل: يجب انتخاب الأكفاء للمواقع الحساسة ويجب عليهم وجوبا كفائيا القبول، كما صنع (صلی الله علیه و آله) وكما فعل (علیه السلام).

ويحرم فيها تحكيم (الروابط) على (الضوابط).

وأما انتخاب غير الأكفاء للمواقع غير الحساسة فهو بين محرم - كما لو كان فيه إضاعة حق، أو عد تفريطا في الأمانة، أو كان على خلاف مرتكز أو شرط الموكل، أو ما أشبه ذلك - ومكروه.

ولو دار الأمر بين الكفوء والأكفأ في المواقع الحساسة كان من تعددالمطلوب، وربما وجب.

وما ذكرناه من أدلة لزوم شورى الفقهاء، فإن الشورى أكثر كفاءة من

ص: 158


1- شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد:ج2 ص235 ب35.

..............................

الفرد كما لا يخفى.

ويحرم أن يتصدى غير الكفوء لمنصب لا يليق به، ولذلك وردت روايات كثيرة في ذم من يتصدى لشؤون المسلمين وفيهم من هو أعلم منه.

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من أم قوماً وفيهم من هو أعلم منه لم يزل أمرهم إلى سفال إلى يوم القيامة»(1).

وفي حديث: «وفيهم من أعلم منه وأفقه»(2).

وقال (صلی الله علیه و آله): «إن الرئاسة لا تصلح إلا لأهلها، فمن دعا الناس إلى نفسه وفيهم من هو أعلم منه لم ينظر الله إليه يوم القيامة»(3).وقال (صلی الله علیه و آله): «ألا ومن أم قوماً إمامة عمياء وفي الأمة من هو أعلم منه فقد كفر»(4).

وفي تفسير العياشي عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «من ضرب الناس بسيفه ودعاهم إلى نفسه وفي المسلمين من هو أعلم منه فهو ضال متكلف»(5).

وقال (صلی الله علیه و آله): «ما ولت أمة أمرها رجلاً وفيهم من هو أعلم منه إلا لم يزل يذهب أمرهم سفالاً حتى يرجعوا إلى ما تركوا»(6).

ص: 159


1- علل الشرائع: ص326.
2- ثواب الأعمال وعقاب الأعمال: ص206 عقاب من أم قوماً وفيهم من هو أعلم منه وأفقه.
3- الاختصاص: ص251.
4- الصراط المستقيم: ج3 ص135.
5- تفسير العياشي: ج2 ص85 سورة البراءة ح40.
6- الاحتجاج: ص151.

..............................

والإمام الحسن المجتبى (علیه السلام) قام على المنبر حين اجتمع الناس مع معاوية فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أيها الناس إن معاوية زعم أني رأيته للخلافة أهلاً ولم أر نفسي لها أهلا، وكذب معاوية أنا أولى الناس في كتاب الله عزوجل وعلى لسان رسول الله (صلی الله علیه و آله)، أقسم بالله لو أن الناس بايعوني وأطاعوني ونصروني لأعطتهم السماء قطرها والأرض ببركتهاولما طمعت فيها يا معاوية وقد قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): ما ولت أمة أمرها رجلاً قط وفيهم من هو أعلم منه إلا لم يزل أمرهم يذهب سفالاً حتى يرجعوا إلى ملة عبدة العجل وقد ترك بنو إسرائيل هارون واعتكفوا على العجل وهم يعلمون ان هارون خليفة موسى (علیه السلام)»(1).

وقال (علیه السلام): «من دعا إلى نفسه وفيهم من هو أعلم منه فهو ضال مكلف»(2).

وروي عن العالم (علیه السلام): «من دعا الناس إلى نفسه وفيهم من هو أعلم منه فهو مبتدع ضال»(3).

وعن أبي ذر (رحمة الله): «إن إمامك شفيعك إلى الله تعالى فلا تجعل شفيعك إلى الله سفيهاً ولا فاسقا»(4).

ص: 160


1- العدد القوية: ص51.
2- مشكاة الأنوار: ص333 في الرياسة.
3- فقه الرضا (علیه السلام): ص383 باب البدع والضلالة.
4- علل الشرائع: ص326.

..............................

ذكر الإمام (علیه السلام) كلما ذكر الرسول (صلی الله علیه و آله)

مسألة: يستحب ذكر الإمام أمير المؤمنين علي (علیه السلام) كلما ذكر الرسول (صلی الله علیه و آله) كما شفعت (صلوات الله عليها) ذكره (علیه السلام) بذكره (صلی الله علیه و آله).

فقد ذكرت (علیها السلام) الرسول (صلی الله علیه و آله) بصفات جمة كما تقدم، وهكذا ذكرت أمير المؤمنين عليا (عليه الصلاة والسلام) بصفات جمة تعريفا به (عليه الصلاة والسلام) ولإفادة أن علياً (علیه السلام) له من المكانة الرفيعة ما يستحق بها الخلافة والقيادة بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله).

قال الإمام الصادق (علیه السلام): «من قال لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فليقل: علي أمير المؤمنين»(1). وعنه (علیه السلام) قال: «الكلم الطيب(2) قول المؤمن: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي ولي اللهوخليفة رسول الله»(3).

وفي الحديث أنه: «كان نقش خاتم آدم (علیه السلام): لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي ولي الله»(4).

وقال (علیه السلام): «من صاغ خاتماً من عقيق فنقش فيه: محمد نبي الله وعلي ولي الله، وقاه الله ميتة السوء ولم يمت إلا على الفطرة»(5).

ص: 161


1- بحار الأنوار :ج27 ص1 ب10 ح1.
2- أي في قوله تعالى: «إليه يصعد الكلم الطيب» سورة فاطر : 10.
3- تفسير القمي: ج2 ص208 سورة فاطر، ومثله (تأويل الآيات): ص469.
4- مكارم الأخلاق: ص90 في نقوش الخواتيم.
5- أعلام الدين: ص392.

..............................

وعن ابن عباس قال حدثنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: «لما عرج بي إلى السماء رأيت على باب الجنة مكتوباً: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي ولي الله، والحسن والحسين سبطا رسول الله، وفاطمة الزهراء صفوة الله، وعلى ناكرهم وباغضهم لعنة الله تعالى»(1).

وفي حديث عنه (صلی الله علیه و آله) قال: «أما أبواب الجنة، فعلى الباب الأول مكتوب: لا إله إلا الله، محمد رسولالله، علي ولي الله»(2).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «والذي بعثني بالحق بشيراً ونذيراً ما استقر الكرسي والعرش ولا دار الفلك ولا قامت السماوات والأرضون إلا كتب الله عليها: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي ولي الله»(3).

وقال (صلی الله علیه و آله): «إن العبد إذا قال في أول وضوئه أو غسله من الجنابة: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك، وأشهد أن محمداً عبدك ورسولك، وأشهد أن علياً وليك وخليفتك بعد نبيك على خلفيتك، وان أولياءه وأوصياءه خلفاؤك، تحاتت عنه ذنوبه كلها كما يتحات ورق الشجر، وخلق الله بعدد كل قطرة من قطرات وضوئه أو غسله ملكاً يسبح الله ويقدسه ويهلله ويكبره ويصلي على محمد وآله الطيبين وثواب ذلك

لهذا المتوضئ» الحديث(4).

ص: 162


1- الفضائل: ص83.
2- الفضائل: 152.
3- مائة منقبة: ص49 المنقبة 24.
4- تفسير الإمام الحسن العسكري (علیه السلام): ص522.

..............................

الشهادة الثالثة في الأذان

مسألة: ونظراً لهذا الكلي ولروايات عديدة(1) التزمنا تبعا لعدد من الفقهاء(2) باستحباب الشهادة الثالثة (أشهد أن عليا ولي الله) في الأذانوالإقامة بل وجزيتها أيضا(3)، وقد ذهب البعض إلى وجوبها - من باب الشعارية - كما لايخفى.

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «إنا أول أهل بيت نوه الله بأسمائنا، إنه لما خلق الله السماوات والأرض أمر منادياً فنادى: أشهد أن لا إله إلا الله ثلاثاً، أشهد أن محمداً رسول الله ثلاثاً، اشهد أن علياً أمير المؤمنين حقاً ثلاثاً»(4).

ص: 163


1- ومنها: إن سلمان الفارسي (رحمة الله) أذن مع الشهادة الثالثة ولما شكى بعض الصحابة للرسول (صلی الله علیه و آله) ذلك جبههم (صلی الله علیه و آله) بالتوبيخ والتأنيب وأقر لسلمان هذه الزيادة. ومنها: إن أباذر الغفاري (رحمة الله) أيضا هتف بها في الأذان - بعد بيعة الغدير - فرفعوا ذلك للرسول (صلی الله علیه و آله) فقال: (أما وعيتم خطبتي يوم الغدير لعلي بالولاية أما سمعتم قولي في أبي ذر (رحمة الله): (ما أظلت الخضراء وما أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر…) راجع موسوعة الفقه: ج 19 ص 331 – 332.
2- ومنهم صاحب الحدائق وصاحب المستند والعلامة المجلسي (قدس سرهم) حيث قالوا بالجزئية، ويظهر من صاحب الجواهر (رحمة الله) الميل إليها، كما يظهر من العلامة الطباطبائي (رحمة الله) ذلك أيضاً. وممن قال بالاستحباب - ولو من باب العمومات - الفقيه الهمداني (رحمة الله) في مصباح الفقيه والسيد الحكيم (رحمة الله) في المستمسك (بقصد الاستحباب المطلق) ومن المعاصرين ذهب عديد إلى ذلك [ منهم السيد المسنتبط « (للتفصيل راجع موسوعة الفقه المجلد 19 ص 333 - 335).
3- يراجع حول هذا المبحث: موسوعة الفقه ج 19 كتاب الصلاة ص 324 - 335 و…
4- الأمالي، للشيخ الصدوق: ص604 المجلس 88 ح4.

..............................

اللهوات

قولها (علیها السلام): (قذف أخاه في لهواتها) أي: قذف رسول الله (صلی الله علیه و آله) أخاه عليا (عليه الصلاة والسلام) في فم تلك الحرب، فإن اللهوات جمع (لهات) ولهات عبارة عن: اللحمة في أقصى الفم، فكان علي أمير المؤمنين (علیه السلام) يغوص في عمق الجيش، يقتلهم ويقاتلهم حتى يبيدهم.

وفي التاريخ أن صعصعة خاطبالخوارج في النهروان وقال: «أولم يكن رسول الله (صلی الله علیه و آله) إذا اشتدت الحرب قدمه - أي علياً (علیه السلام) - في لهواتها فيطؤ صماخها بأخمصه، ويخمد لهبها بحده، مكدوداً في ذات الله، عنه يعبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) والمسلمون، فانى تصرفون وأين تذهبون»(1).

والحاصل أنه كلما عرضت مشكلة أو داهية أو حرب بعث الرسول (صلی الله علیه و آله) أمير المؤمنين عليا (علیه السلام) لدفعها وعرّض عليا (علیه السلام) للمهالك وكان علي (علیه السلام) مقدماً على ذلك ومبادراً إلى كل ذلك.

والإتيان ب (لهوات) بصيغة الجمع لأن للحرب لهات من اليمين واليسار والخلف والأمام والقلب، ولذا يسمى الجيش بالخميس، لأنه ذو جوانب خمسة، كما كانت العادة في تنظيم الجيوش سابقاً وهي مستمرة إلى الآن وإن تغيرت وسائل الهجوم أو الدفاع من الوسائل البدائية إلى الوسائل المعقدة كالأسلحة النارية ونحوها.

ص: 164


1- الاختصاص: ص121.

فلا ينكفئ حتى يطأ جناحها بأخمصه

اشارة

-------------------------------------------

فلا ينكفئ حتى يطأ جناحها (1) بأخمصه

التراجع

مسألة: ينبغي للإنسان أن لا يتراجع من الأمر حتى يكمله، قال تعالى: ]لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم»(2) وقد يجب ذلك فيما إذا كان مانعا عن النقيض.

وفي الحديث الشريف: «رحم الله امرأ عمل عملا فأتقنه»(3).

فالفم توطأ والقرن يقطع، وهاتان الجملتان إشارة إلى الجملتين السابقتين وقد قدمت (علیها السلام) ما يرجع إلى الجملة الثانية(4)حيث قالت (علیها السلام): هاهنا (حتى يطأ)وأخرت ما يرجع(5) إلى الجملة السابقة حيث قالت هنالك: (أو نجم) من باب اللف والنشر المشوش، وله جمال خاص، كما أنه في عكسه أي في اللف والنشر المرتب جمال من نوع آخر أيضاً.

قولها (علیها السلام): (فلا ينكفئ) أي لا يرجع، من (انكفئ) بالهمزة بمعنى الرجوع، أي أن أمير المؤمنين علياً (عليه الصلاة والسلام) كان لا يرجع منهزماً وخائباً

ص: 165


1- وفي بعض النسخ: (حتى يطأ خماصها).
2- سورة الممتحنة: 8.
3- راجع أمالي الصدوق : ص384 المجلس 61.
4- الجملة الثانية هناك هي (او فغرت فاغرة من المشركين) وما يرجع إليها هو (حتى يطأ).
5- الذي يرجع للجملة السابقة هو (ويخمد لهبها بسيفه) والجملة السابقة هي (أو نجم).

..............................

وخائفاً كما كان بعض الصحابة كذلك(1)، ولهذه الجملة إطلاقها الأحوالي والأزماني البين كما لا يخفى.

هذا وقد سمى رسول الله (صلی الله علیه و آله) أمير المؤمنين علياً (علیه السلام): كراراً غير فرار في حديث خيبر وغيره(2)، حيث قال (صلی الله علیه و آله): «لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله كرار غير فرار لا يرجع حتى يفتح الله على يديه، فدعا بعلي (علیه السلام) فجيء به وكان أرمد، فبصق في عينيه فبرأتا وأعطاه الراية فمضى وكان الفتح»(3).

الأقل والأكثر الارتباطيان

مسألة: الفتنة وأشباهها قد تكون بنحو الأقل والأكثر الإرتباطيين وقد تكون بنحو الاستقلاليين.

وبإطفائها وإخمادها نهائياً يكون المكلف قد أدى واجبه فيهما.

وبإخمادها في الجملة - في بعض مراحلها أو مراتبها - يكون في الاستقلاليين قد امتثل في الجملة، وفي الإرتباطيين لا يكون ممتثلا أصلاً(4)، ولعلذلك من

ص: 166


1- انظر قصة غزوة الخندق حيث رجع العديد من الصحابة منهزمين خائبين خائفين.
2- المناقب: ج2 ص84.
3- الصراط المستقيم: ج2 ص1 تتمة الباب التاسع.
4- كما إن من صلى من صلاة الظهر ثلاث ركعات فقط لا يعد ممتثلاً أصلاً، وللأقل والأكثر الإرتباطيين في القضايا السياسية والاجتماعية والأمنية وغيرها أمثله كثيرة، منها: ما لو كلفت الدولة شخصا أو مجموعة بالعثور على ألغام زرعتها جماعة مخربة بتفجير سد أو معمل أو شبه ذلك فلو اكتفى هذا الشخص أو المجموعة بالعثور على معظم الألغام أو كلها ناقصا واحداً - في فرض أن اللغم الواحد أيضا يكفي لتدمير السد أو المعمل - فإنه لا يعد ممتثلاً أصلاً بل يستحق العقاب.

..............................

أوجه (حبط الأعمال) أو شبيها به.(1)

وقولها (عليها الصلاة والسلام): (فلا ينكفئ حتى يطأ جناحها بأخمصه) يشير بإطلاقه إلى أنه (عليه الصلاة والسلام) كان - في كلا القسمين - دائم الامتثال وكامله، فهو لا يرجع ولا يتراجع حتى ينهي المهمة على أكمل وجه و(حتى يطأ جناحها باخمصه).

إذلال الكفار

مسألة: هل إذلال الكفار واجب أم حرام؟

أما إذلال أهل الذمة بإيذائهم فمحرم، وقد ورد في الحديث الشريف: (من آذى ذميا فقد آذاني)(2)، إلا فيماكان جعله كذلك كما في قوله تعالى: ]حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون»(3).

وأما الكافر الحربي فلا حرمة له في الحرب، لكن الإذلال له مطلقاً بحيث

ص: 167


1- قال تعالى: «وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً» [ سورة الفرقان: 23« وقال سبحانه: ]اولئك حبطت أعمالهم» [ سورة التوبة: 17 و69« فالمعصية اللاحقة قد تنسف أجر العمل السابق بالكامل.
2- انظر الصراط المستقيم: ج3 ص13، وراجع شرح النهج: ج17 ص147 وفيه: «من آذى ذمياً فكأنما آذاني» عن أمير المؤمنين (علیه السلام).
3- سورة التوبة: 29.

..............................

يدخل تحت عنوان الإيذاء فمشكل، نظرا لعدم القول بحلية مطلق إيذاء الكافر.

وربما قيل بأن مراتب منه(1) محللة كما في وصفها (علیها السلام) للإمام علي (علیه السلام) هاهنا حيث قالت: (فلا ينكفئ حتى يطأ جناحها بأخمصه)، ومراتب منه مشكوكة، ومراتب محرمة، فليتأمل. فان الحكم في الحرب وغيره يختلف..

وقد ورد عن الإمام الصادق (علیه السلام): «إن علياً (علیه السلام) صاحب رجلاً ذمياً، فقال له الذمي: أين تريد يا عبد الله؟

قال: أريد الكوفة. فلما عدل الطريق بالذمي عدل معه علي (علیه السلام)، فقال الذمي له: أليس زعمتتريد الكوفة.

قال: بلى.

فقال له الذمي: فقد تركت الطريق.

فقال له: قد علمت.

فقال له: فلم عدلت معي وقد علمت ذلك؟

فقال له علي (علیه السلام): هذا من تمام حسن الصحبة أن يشيع الرجل صاحبه هنيئة إذا فارقه، وكذلك أمرنا نبينا.

فقال له: هكذا. قال: نعم.

فقال له الذمي: لا جرم انما تبعه من تبعه لأفعاله الكريمة وانما انا أشهدك اني على دينك، فرجع الذمي مع علي (علیه السلام) فلما عرفه أسلم»(2).

ص: 168


1- أي من الإذلال وإن دخل تحت عنوان الإيذاء.
2- قرب الإسناد: ص7.

..............................

إذلال رؤوس الفتن

مسألة: هل يستفاد من (فلا ينكفئ حتى يطأ جناحها بأخمصه) جواز أو رجحان إذلال رؤوس الفتنة وعناصرها (1)؟

ربما يقال باستفادة ذلك عرفا من هذه الجملة مع لحاظ قوله تعالى: «ما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه»(2) وما أشبه ذلك.

وبلحاظ أن السيرة وبناء العقلاء على ذلك من باب المقدميّة(3) أو المقابلة بالمثل أو العقوبة أو مطلقا أو لأنه (قد أقدم)(4) فتأمل.

قولها(علیها السلام) حسب بعضالنسخ:(حتى يطأ صماخها بأخمصه)، الصماخ بمعنى ثقبة الأذن كما يعبر بالصماخ عن الأذن نفسها، ومعنى ذلك: أن أمير المؤمنين عليا (عليه الصلاة والسلام) كان يسحق تلك الفتن والحروب برجله، فإن الأخمص عبارة عما لا يصيب الأرض من باطن القدم عند المشي، وهذا التعبير كناية عن غاية تمكنه من الفتنة وسيطرته عليها وإذلال القائمين بها بحيث لا تقوم لهم قائمة بعدها أبداً.

ص: 169


1- كعرض صورهم في التلفزيون أو القيام بحركة استعراضية عبر سوقهم في الشوارع والأزقة وغير ذلك مما هو أشد في الإذلال أو أخف.
2- سورة إبراهيم: 4.
3- كردعهم عن العود، لإشعال نار الحرب أو الفتنة، وكردع الآخرين عن القيام بمثل ما قاموا به.
4- الظاهر أن المراد: انه قد اقدم على هتك حرمة نفسه بنفسه وأسقط حرمته بإقدامه على الدخول في الفتنة، عرفا وعقلا.

ويخمد لهبها بسيفه

اشارة

-------------------------------------------

إخماد لهب النيران

مسألة: يجب إخماد لهب نيران الحرب كما سبق، وقولها (سلام الله عليها): (ويخمد لهبها بسيفه) يعني: ان أمير المؤمنين علياً (عليه الصلاة والسلام) كان يخمد لهيب تلك الفتن والحروب بسيفه دفاعاً عن الإسلام.

وأصل اللهيب عبارة عن لهيب النار، فشبهت لهيب الحرب بلهيب النار، وشبهت السيف بالماء الذي يصب على النار فتخمد.

وهذه الجمل السابقة واللاحقة إشارةإلى جهاد أمير المؤمنين (علیه السلام) وبلائه بلاءً حسناً مستمراً في كل القضايا الكبرى التي حولها له الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله)، فهو الذي يستحق أن يكون خليفة لرسول الله (صلی الله علیه و آله) دون غيره، إذ انه الذي خرج من كل الامتحانات الكبرى ظافراً منتصرا في أدوار شديدة الأهمية، فرآه الرسول (صلی الله علیه و آله) وحده فقط المؤهل للتصدي لها على مر السنين.

هذا ويمكن القول بأن (حتى يطأ جناحها بأخمصه) إشارة للجانب المعنوي والاعتباري للفتنة، و(يخمد لهبها بسيفه) إشارة للجانب المادي والحسي لها، نظرا لأن للفتنة عوامل مادية محسوسة: من عدة وسلاح ورجال وأموال، وعوامل غير مادية: من تفكير وتخطيط ومؤامرات وإشاعات تهدف إضعاف معنوية جند الإسلام، إلى غير ذلك.

ص: 170

..............................

علم التاريخ

مسألة: كما يجب تدوين علم الرجال وعلم الحديث وشبههما مما هو مقدمة لتحصيل الأحكام الشرعية، كذلك يجب -وجوباً كفائياً في الجملة - تسجيل وقائع التاريخ وتوثيقها ومدارستها وتعليمها وجرحها وتعديلها، لكون الكثير منها يقع أيضا مقدمة لتحصيل الأحكام (1)، وأكثر من ذلك ما يقع مقدمة ل (الفقه الأكبر)(2) ولمعرفة الحق من الباطل في الأمور العقائدية.

وقد رد في الحديث الشريف عنه (صلی الله علیه و آله): (من ورخ مؤمنا فكأنما أحياه)(3) إذ ]لقد كان في قصصهم عبرة»(4) ولأنها تكشف عن (سنة الله) التي لن تجدلها تبديلا ولا تحويلا(5)..

فالمستقبل هو الوجه الآخر للتاريخ وسيصنع على ضوء ما يعرفه المرء من

ص: 171


1- كوقائع حروبه (صلی الله علیه و آله) وصلحه ومعاهداته وقصص تعامله مع المؤمنين والمنافقين والكفار و… وكذلك سائر المعصومين (علیهم السلام)، بل إن الكثير من الوقائع التاريخية مما ينفع في (فهم الأخبار) ومدى اكتنافها بالقرائن المقامية - كالتقية مثلا -.
2- الذي أشير إليه في الآية الشريفة ب «ليتفقهوا في الدين» [ سورة التوبة: 122« وهو يشمل الأحكام الشرعية وأصول الدين والعقائد والأخلاق وغيرها.
3- سفينة البحار: ج2 ص641 ط القديمة مادة (ورخ).
4- سورة يوسف: 111.
5- اشارة إلى قوله تعالى: «فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا» سورة فاطر: 43.

..............................

الماضي وعلى حسب كيفية رؤيته له إجمالا (1).

وذلك هو منهج القرآن الكريم وأهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) في سرد قصص الأنبياء (علیهم السلام) والأمم السابقة وأحوالهم وما لهم وما عليهم.

وكلماتها (علیها السلام) في هذه الخطبة تعد من أهم المصادر التاريخية التي تكشف جانبا مما جرى يومذاك، وترسم الصورة الدقيقة للوقائع وتضع أدق الأوصاف لأهم الأحداث.

فإذا أردنا وصف مولى الموحدين (علیه السلام) - مثلا- فلا أدقّ من كلماتها في وصفه مما تجد بعضا منها في هذه الصفحات.

وإذا أردنا وصف حال الجاهليينومعاناة الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) فلا تجد أروع وأجمل وأعمق من تعابيرها وكلماتها (عليها الصلاة والسلام)، وهكذا وهلم جراً.

فمن اللازم أن يكتب التاريخ على ضوء كلماتها (علیها السلام) ومستمدّا من هديها، ومقتفياً أثرها، وأن تعتبر كلماتها الحكم في أي تعارض بين كلمات المؤرخين، وأن تقيم مدى صدق وصحة التواريخ المكتوبة على ميزان كلماتها (صلوات الله عليها وأزكى السلام) فإنها الصديقة الكبرى.

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «الصديقة الكبرى ابنتي»(2).

وقال الصادق (علیه السلام): «لفاطمة تسعة أسماء عند الله عزوجل: فاطمة

ص: 172


1- راجع (الفقه: المستقبل) للإمام المؤلف (دام ظله).
2- راجع الأمالي للشيخ الصدوق: ص22 المجلس 6 ح5.

..............................

والصديقة والمباركة والطاهرة والزكية والرضية والمرضية والمحدثة والزهراء»(1).وفي الحديث عن علي بن جعفر (علیه السلام) عن أخيه أبي الحسن (علیه السلام) قال: «إن فاطمة (علیها السلام) صديقة شهيدة»(2).

وجاء في الزيارة: «السلام على ابنتك الصديقة الطاهرة»(3).

و: «السلام عليك يا بن الصديقة الطاهرة»(4).

و: «وصلِّ على الصديقة الطاهرة الزهراء فاطمة»(5).

و: «السلام عليك أيتها الصديقة الشهيدة»(6).

ص: 173


1- الأمالي للشيخ الصدوق: ص592 المجلس 86 ح18.
2- مسائل علي بن جعفر (علیه السلام): ص325 ح811.
3- المقنعة: ص459.
4- المقنعة: ص469.
5- الإقبال: ص60.
6- الإقبال: ص624.

مكدودا في ذات الله

اشارة

-------------------------------------------

مكدودا في ذات الله(1)

الكد حسن أم قبيح؟

مسألة: الكد بما هو هو قد لا يكون حسنا ولا قبيحا ولا مما يؤجر عليه الإنسان، بل (الجهة) هي التي تكسبه حسنا أو قبحا، أو وجوبا أو استحبابا أو حرمة أو ما أشبه.

قال تعالى: «لمثل هذا فليعمل العاملون»(2).

وقال سبحانه: «إنما يتقبل الله من المتقين»(3).

وقال تعالى: «وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثورا»(4).

وقال عزوجل: «واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قرباناً فتقبل منأحدهما ولم يتقبل من الآخر»(5).

و: «إنما الأعمال بالنيات»(6).

ص: 174


1- وفي بعض النسخ: (مكدوداً دؤوباً في ذات الله).
2- سورة الصافات: 61.
3- سورة المائدة: 27.
4- سورة الفرقان: 23.
5- سورة المائدة: 27.
6- دعائم الإسلام: ج1 ص4.

..............................

و: «لكل امرئ ما نوى»(1).

و: (لو أن عبداً أتى بالصالحات …)، إلى غير ذلك.

ولعل ذلك من جهات كون (نوم العالم أفضل من عبادة الجاهل)(2).

ولذلك لم تطلق (سلام الله عليها) (مكدودا) في وصفه (علیه السلام) بل قيدته بها هو كالفصل للجنس حيث قالت: (في ذات الله) وبما هو قوام قيمته ومحبوبيته.

ومن ذلك يعرف أن (الأصل) ليس هو (العمل) بل هو (كيفية العمل)، وقد ورد في الحديث عنه (صلی الله علیه و آله): (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأعمالكم وإنما ينظر إلى قلوبكمونياتكم) (3).

وقال (علیه السلام): ­«ان الله خص محمداً بالنبوة واصطفاه بالرسالة وأنبأه الوحي فأنال الناس وأنال، وعندنا أهل البيت معاقل العلم وأبواب الحكم وضياء الأمر، فمن يحبنا ينفعه إيمانه ويتقبل عمله، ومن لا يحبنا لا ينفعه إيمانه ولا يتقبل عمله وان دأب الليل والنهار»(4).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «لا يقل مع التقوى عمل، وكيف يقل ما يتقبل»(5).

ص: 175


1- مسائل علي بن جعفر (علیه السلام): ص346.
2- مستطرفات السرائر: ص620.
3- جامع الأخبار: ص100، الفصل56.
4- الإرشاد: ج1 ص241.
5- الأمالي للشيخ المفيد: ص484 المجلس 26 ح1.

..............................

وقال (علیه السلام): «افترق الناس كل فرقة واستشيعوا كل شيعة فاستشيعتم مع أهل بيت نبيكم، فذهبتم حيث ذهب الله واخترتم ما اختار الله وأحببتم من أحب الله وأردتم من أراد الله، فابشروا ثم ابشروا، فانتم والله المرحومون، المتقبل من محسنكم والمتجاوز عن مسيئكم، من لم يلق الله بمثل ما أنتم عليه لم يتقبلالله منه حسنة ولم يتجاوز عنه سيئة»(1).

وعن أبي الجارود عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «قلت له بمكة أو بمنى: يا بن رسول الله ما أكثر الحاج! قال: ما أقل الحاج، ما يغفر الله إلا لك ولأصحابك ولا يتقبل إلا منك ومن أصحابك»(2).

وقال ابن عباس: «يا رسول الله، ان توصيني بشيء، قال: يا ابن عباس، اعلم أن الله عزوجل لا يتقبل من أحد حسنة حتى يسأله عن حب علي بن أبي طالب، وهو أعلم بذلك، فإن كان من أهل ولايته قبل عمله على ما كان فيه…»(3). وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «امح الشر من قلبك تتزك نفسك ويتقبل عملك»(4).

وقال (علیه السلام): «إنك لن يتقبل من عملك إلا ما أخلصت فيه ولم تشبه بالهوى وأسباب الدنيا»(5).

ص: 176


1- الاختصاص: ص104 - 105.
2- بشارة المصطفى: ص73.
3- الفضائل: ص168 - 169.
4- غرر الحكم: ص106 ح1909.
5- غرر الحكم: ص155 ح2913.

..............................

الكد في ذات الله

مسألة: يستحب الكدّ في ذات الله سبحانه.

ومعنى (في ذات الله) أن يكون لأجل الله عزوجل وحده خالصا مخلصا له، لايشوبه رياء ولا سمعة ولا شك ولا شرك ولا ما أشبه ذلك، ف (مكدودا في ذات الله) في قبال الكسالى وفي قبال العاملين الذين لا يكدون، وفي قبال من يكد لكنه ليس لذات الله وحده.

وقد ورد في الزيارة: «وصبرت في ذات الله»(1).

وقال (علیه السلام): «ولعمري ما الإمام إلا الحاكم القائم بالقسط الدائن بدين الله، الحابس نفسه على ذات الله»(2).

وقال أبو عبد الله (علیه السلام): «ما ابتلى المؤمن بشيء أشد من المواساة في ذات الله عزوجل والإنصاف من نفسه وذكرالله كثيراً»(3).

ولا يخفى أن كلمة (في) بمعنى النسبة في أمثال هذه المقامات، كما قالوا: (الواجبات الشرعية ألطاف في الواجبات العقلية) وتتصور الظرفية أيضا بلحاظ التنزيل.

ص: 177


1- المزار: ص109.
2- المناقب: ج4 ص90.
3- مشكاة الأنوار: ص57 الفصل 15.

..............................

وجه الاستدلال على الخلافة

مسألة: وجه الاستدلال فيما وصفته (صلوات الله عليها) من الصفات على كون أمير المؤمنين علي (علیه السلام) هو الأحق بالخلافة:

1: بلحاظ مجموع هذه الصفات من حيث المجموع.

2: بلحاظ كل واحدة واحدة من الصفات من حيث مرتبتها التشكيكية - بلحاظ الإطلاق والسياق والقرينة المقامية- .

3: بلحاظ انتخاب الرسول (صلی الله علیه و آله) له (علیه السلام) في بعض تلك الصفات من حيث كاشفيته عن الأصلح أو عن الانحصار فيه، في مراتب لا تصل بأهمية الخلافة فكيف بالأرقى وهو الخلاقة، أي فيما لا يرقى الى درجة الخلافة في الخطورة والاهمية.

قولها (علیها السلام): (مكدوداً) أي: أن أمير المؤمنين علياً (عليه الصلاة والسلام) كان يكد نفسه ويتعبها غاية التعب.

(في ذات الله) أي في أمر الله وما يرتبطبه جل شأنه، وحده مخلصا لا يشرك في ذلك أحدا.

وكان (علیه السلام) لا يريد بذلك مالا ولا جاها ولا امرأة كما كان بعض الصحابة يريدون ذلك، ولهذا سمي أحدهم ب (شهيد الحمار) لما قتل في الحرب مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقد كان خروجه لأجل حمار أحد المشركين يريد اقتناءه،

ص: 178

..............................

وسمي الآخر ب (شهيد أم جميل) لأنه كان يريد بحربه أن ينال امرأة جميلة في جيش الأعداء تسمى بأم جميل، وهكذا، فلم يكن أمير المؤمنين علي (عليه الصلاة والسلام) يريد شيئا من ذلك أبداً ، وإنما يريد الله وحده وحده، كما ورد في شأنهم (علیهم السلام): «إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا»(1).

وربما يقال: إن قولها (علیها السلام): (مكدودا في ذات الله) بإطلاقه الأحوالي والأزماني(2) يشير إلى نفس ما صرح به سيد الموحدين (علیه السلام) حيث قال :(ما عبدتك خوفا من نارك و لا شوقاً إلى جنتك، بل وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك)(3).

ص: 179


1- سورة الإنسان: 9.
2- أي مكدودا في كل أحواله وفي كل الأزمنة.
3- غوالي اللئالي :ج2 ص11 ح18.

مجتهدا في أمر الله

اشارة

-------------------------------------------

أصالة الأسوة

مسألة: الأصل في كل صفة تذكر للمعصومين (عليهم الصلاة والسلام): (الأسوة)، فقولها (علیها السلام): (فلا ينكفئ حتى يطأ … ويخمد … مكدوداً في ذات الله … مجتهداً في أمر الله .. الخ) يقتضي لزوم الإتباع في الجملة، ورجحانه مطلقا، وما خرج خرج بالدليل، ومن ذلك يستفاد رجحان الاجتهاد في أمر الله عزوجل.

ثم إن الإتباع في كل بحسبه وعلى درجة تعقله وتحمله، إذ «لا يكلف الله نفسا إلا وسعها»(1) و«إلا ما آتها»(2).

ومن هنا قال الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام): «ألا وأنكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد»(3) ولهذا المبحث تفصيل نتركه لمجال آخر.ولعل الفرق بين (الكد) و(الاجتهاد) أن الأول عملي والثاني علمي، حيث قالت (سلام الله عليها): (في أمر الله)، لأن أمر الله يحتاج إلى الاستنباط والاستخراج فتأمل.

ص: 180


1- سورة البقرة: 286.
2- سورة الطلاق: 7.
3- إرشاد القلوب: ص214، وفي نهج البلاغة أيضاً، كتابه (علیه السلام) إلى عثمان ابن حنيف الأنصاري.

..............................

ثم إن الاجتهاد في كلامها (علیها السلام) لا يراد به الاجتهاد المعروف عند الفقهاء - المصطلح عليه بالوضع التعيني لاحقا - فإن أمير المؤمنين علياً (عليه الصلاة والسلام) عالم بكل الأحكام لا عن الاجتهاد ، بل بإلهام من الله تعالى وعطاء من رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعبر النكت في القلب والنقر في الأسماع ورؤية عمود النور ، وشبه ذلك مما تجد تفصيله في الأخبار، بل المراد بالاجتهاد بذل غاية الجهد بالنسبة للأحكام الإلهية وأوامره (1).

ويمكن أن يقال في الجملتين، غير هذا الذي ذكرناه، إذ من المحتمل أن يراد ب (مكدودا …) الإشارة إلى ماتوجه نحوه (علیه السلام) من ضغوط ومتاعب وأذى، وب (مجتهدا .. ) ما حمّل نفسه من جهد وعناء في سبيل الله، وهما كاللازم والملزوم(2).

وبعبارة أخرى: فإن (المتنمر في ذات الله) - كما وصف عليه السلام به - يواجه صعوبتين:

الأولى: نابعة من صميم طبيعة الاجتهاد والتنمر كحرمان المرء نفسه من شتى اللذائذ الحسية كالنوم والمأكل والملبس والمركب الفاره وغير ذلك مما يقتضيه الاجتهاد والجهاد.

ص: 181


1- ربما يكون المراد من (بالنسبة للأحكام الإلهية): تعليما وتوضيحا ودفعا للشبهات، أو تفكيرا وتدبرا باعتباره (علیه السلام) بعد الرسول (صلی الله علیه و آله) أجلى مصداق للعمل بالآيات الداعية للتفكير والتدبر.
2- أي انهما وجهان لعملة واحدة - حسب التعبير المستحدث - وتوضيحه: إن لازم (الاجتهاد في أمر الله) هو شدة التعب والنصب فلأنه (علیه السلام) كان مجتهداً في أمر الله أضحى مكدودا متعبا وتوجهت نحوه الضغوط.

..............................

والثانية: نابعة من طبيعة رد فعل المجتمع تجاه ذلك المتنمر المجتهد، حيث أنهم يتألبون ضده ويتربصون به الدوائر ويحيكون ضده المؤامرات ويثير فيهم حسدا وكراهية، لكونه يهدد مصالحهم (وما نقموا من أبي الحسن إلاشدة تنمره في ذات الله)(1).

وكما قالوا لولده الإمام الحسين (علیه السلام) في يوم عاشوراء : (نقتلك بغضا منا لأبيك).

فأشارت (علیها السلام) للجهة الأولى بقولها: (مجتهدا في أمر الله)، وللثانية ب: (مكدودا في ذات الله).

من صفات القائد

مسألة: على القائد أن يكون في كد واجتهاد دائمين، ويدل عليه سيرة الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) والإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) وفاطمة الزهراء (علیها السلام) وسائر أهل البيت (علیهم السلام) كما على سائر المؤمنين أيضاً - وجوبا أو استحبابا - تأسيّا ونظراً لقوله (صلی الله علیه و آله): «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»(2).

ولقوله سبحانه: «يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك» (3) أي يلزم أن يستمر الكدح الذي جهته «إلى ربك»،بناء على كونها جملة خبرية في مقام

ص: 182


1- بحار الأنوار: ج43 ص158 ب7 ح8.
2- غوالي اللئالي: ج1ص129.
3- الانشقاق:6.

..............................

الإنشاء حتى يصل الإنسان إلى دار حقه(1) فيموت، ولغير ذلك، إلا أن الأمر في القائد آكد والحكم له ألزم كما لا يخفى.

والمراد بالكدح في الآيات: الأعم من الكد والاجتهاد، إذ أنهما إذا ذكر كل واحد منهما منفردا شمل كليهما، وإذا ذكرا معا كان لكل معنى في قبال الآخر، ذلك أنهما كالظرف والجار والمجرور: (إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا)(2).

وفي الزيارة: «أشهد أنك أديت عن الله وعن رسوله صادقاً وقلت أميناً ونصحت لله ولرسوله مجتهداً»(3).

والاجتهاد كل ما يكون فيه جهد على النفس ومشقة لها.

وفي الحديث عن النبي (صلی الله علیهو آله) قال:

«من اجتهد من أمتي بترك شهوة من شهوات الدنيا فتركها من مخافة الله آمنه الله من الفزع الأكبر وأدخله الجنة»(4).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام):

«من اجهد نفسه في إصلاحها سعد»(5).

وفي الحديث عنه (علیه السلام) قال:

ص: 183


1- إشارة إلى قوله تعالى: «واعبد ربك حتى يأتيك اليقين» سورة الحجر :99.
2- راجع كتب اللغة والنحو.
3- المزار: ص109.
4- إرشاد القلوب: ص189 ب52.
5- غرر الحكم: ص237 ح4770.

..............................

«خلق الله تعالى ملكاً تحت العرش يسبحه بجميع اللغات المختلفة فإذا كان ليلة الجمعة أمره أن ينزل من السماء إلى الدنيا ويطلع إلى أهل الأرض ويقول: … يا أبناء الأربعين جدوا واجتهدوا» الحديث (1).

وقال (علیه السلام): «اجتهدوا في العمل فان قصر بكم ضعف فكفوا عن المعاصي» (2).

وعنهم (علیهم السلام): «جدوا واجتهدوا وان لم تعملوا فلا تعصوا»(3).

ص: 184


1- إرشاد القلوب: ص193 ب52.
2- أعلام الدين: ص153 باب صفة المؤمن.
3- عدة الداعي: ص313.

قريبا من رسول الله (صلی الله علیه و آله)

اشارة

-------------------------------------------

القرب من رسول الله (صلی الله علیه و آله)

مسألة: يستحب أو يجب - حسب اختلاف الموارد - أن يسعى الإنسان ليكون قريبا من رسول الله (صلی الله علیه و آله) في كل شؤونه وفي جميع أموره: في الفكر والعمل، والقلب والقالب، في مأكله ومشربه، وملبسه ومنكحه، ويقظته ومنامه وغير ذلك، كما كان أمير المؤمنين علي (عليه الصلاة والسلام) كذلك، حيث وصفته السيدة الزهراء (علیها السلام) ههنا بقولها: (قريبا من رسول الله (صلی الله علیه و آله))، وهي إحدى أهم فضائله (علیه السلام).

هذا إذا أريد ب(قريباً) معنى القرب العملي، أي قريبا (في أعماله) أو (من حيث العمل) منه (صلی الله علیه و آله)، وأما إذا أريد ب (قريبا): القرب النسبي أي (ذو قرابة) من رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فهو أيضا بيان لإحدى فضائله (عليه الصلاة والسلام) حيث أن القريب يرث - بالمعنى الأعموالأخص(1) أيضا - قريبه إذا كان مؤهلا(2) للإرث

ص: 185


1- الإرث بالمعنى الأخص: إرث الاموال، و بالمعنى الأعم: ارث العلم والمسؤولية، والاعتبار وما أشبه ذلك، كما قال (صلی الله علیه و آله): «علي أخي ووزيري ووارثي ووصيي وخليفتي في أمتي وولي كل مؤمن بعدي» التحصين لابن طاووس: ص633.
2- أشار الإمام المصنف (رحمة الله) بقوله (إذا كان مؤهلا) إلى نكتة دقيقة وهي أن قوام الإرث بالمعنى الأخص: النسب، أما قوام الإرث بالمعنى الأعم فهو: الأهلية وكما أن عدم توريث ذي النسب على خلاف القاعدة كذلك عدم توريث المؤهل على خلاف الحكمة، وحيث كانت الأهلية منحصرة في الإمام علي (علیه السلام) كان توريثه هو المحتم لا محالة.

..............................

ولم يكن ثمة مانع.

وقد ورد في الحديث: (لن تشذ عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لحمته).

ويمكن أن يراد بكلمة (قريبا): الجامع بين كلا المعنيين فهما مصداقان لذلك الكلّي.

وهل يستحب طلب القرابة النسبية أو السببية؟

يحتمل ذلك، قال (صلی الله علیه و آله): «كل حسب ونسب منقطع يومالقيامة إلا حسبي ونسبي»(1).

ويحتمل أن يراد من قولها (علیها السلام): (قريبا من رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنه كان أمير المؤمنين علي (عليه الصلاة والسلام) قريبا من رسول الله (صلی الله علیه و آله) في حروبه بل مطلقا.

أو تعني (علیها السلام) - كما سبق - أنه (علیه السلام) من أقرب أقرباء الرسول (صلی الله علیه و آله) لأنه ابن عمه بينما العباس لم يكن كذلك، لأن عليا (علیه السلام) أبوينيّ، والعباس أبي فقط(2) وإذا كان المراد (الجامع) بين المعنيين، كان انحصار القرب فيه (علیه السلام) أجلى وأوضح.

قال تعالى: «قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى»(3).

وعن أبي حمزة عن أبي جعفر (علیه السلام) في قوله تعالى: «يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما

ص: 186


1- شواهد التنزيل: ج1 ص530 ح564، وكشف اليقين: ص192.
2- المناقب: ج1 ص261.
3- سورة الشورى: 23.

..............................

رجالاً كثيرا ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا »(1) قال: «قرابة الرسول (صلی الله علیه و آله) وسيدهم أمير المؤمنين (علیه السلام)، أمروا بمودتهم فخالفوا ما أمروا به»(2).

وقد اعترفوا بأن علي بن أبي طالب (علیه السلام) أول الناس في الإسلام سبقاً وأقرب الناس برسول الله (صلی الله علیه و آله) (3).

وفي حديث احتجاج أمير المؤمنين (علیه السلام) على أبي بكر بثلاث وأربعين خصلة قال (علیه السلام): «… فأنشدك بالله، أنت الذي سبقت له القرابة من رسول الله (صلی الله علیه و آله) أم أنا»(4).وعن الإمام الحسين (علیه السلام) قال: «وإن القرابة التي أمر الله بصلتها وعظم من حقها وجعل الخير فيها قرابتنا أهل البيت الذين أوجب الله حقنا على كل مسلم»(5).

ص: 187


1- سورة النساء: 1.
2- المناقب: ج4 ص179.
3- راجع الفصول المختارة: ص265 وفيه: «مر علي بن أبي طالب (علیه السلام) على أبي بكر ومعه أصحابه فقال أبو بكر: من سره أن ينظر إلى أول الناس في الإسلام سبقاً، وأقرب الناس برسول الله (صلی الله علیه و آله) قرابة فلينظر إلى علي بن أبي طالب».
4- الخصال: ص552.
5- تأويل الآيات: ص531.

سيدا في أولياء الله

اشارة

-------------------------------------------

سيدا في أولياء الله (1)

ذكر الفضائل

مسألة: سبق أن ذكر فضائل أمير المؤمنين (علیه السلام) فضيلة وعبادة، وهي من المستحبات النفسية، وبعض مصاديقه من الواجبات النفسية، فيستحب - وقد يجب - ذكر فضائله مطلقا، فإن ما ذكرته (عليها الصلاة و السلام) إنما هو من باب المصداق لا من باب الحصر أو الخصوصية(2)، كما هو واضح، نعم ما ذكرته كان من المصاديق البارزة جدا في حياته (عليه الصلاة و السلام).

ولا يخفى أن الذكر أعم من اللفظ والكتابة والإشارة وما أشبه ذلك.

و(ولي الله) هو الذي يطيعه ولا يخالفه ويجتهد في امتثال أوامره.

مقتضى السيادة المطلقة

مسألة: يستفاد من قولها (علیها السلام) (سيدا في أولياء الله) أو (سيد أولياء الله) وجوب احترامه (علیه السلام) وتعظيمه والذب عنه واطاعة أوامره، فإن ذلك هو مقتضى (السيادة على الإطلاق)(3) بل مقتضى مطلق (السيادة) - في الجملة -.

ص: 188


1- وفي نسخة: (سيد أولياء الله).
2- أي (الخصوصية) التي تجعل ذكر هذه الصفات مستحبة أو واجبة، دون غيرها.
3- أي ( السيادة المطلقة) وهي أرفع أنواع السيادة.

..............................

وقد كان (صلوات الله عليه) (سيدا على الإطلاق) واستفادة ذلك على تقدير كون النسخة (سيد أولياء الله) - بناء على قراءته بالنصب - واضحة، أما على تقدير كونها (سيدا في أولياء الله) فالأمر كذلك بلحاظ السياق والمقام(1)، بل بلحاظ الجملة بذاتها إذ تعني كان (علیه السلام) (في أولياء الله سيدهم) كما هو المستفيد عرفا عند إطلاق هذه الجملة كما فيما لو قلت (رسول الله (صلی الله علیه و آله) سيد في أنبياء الله).وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «علي سيد الأوصياء ووصي سيد الأنبياء»(2).

وقال (صلی الله علیه و آله): «علي سيد العرب.. والسيد من افترضت طاعته كما افترضت طاعتي»(3).

وقال (صلی الله علیه و آله): «أنا سيد ولد آدم وعلي سيد العرب»(4).

وقال (صلی الله علیه و آله): «أنا سيد النبيين وعلي سيد الوصيين وإن أوصيائي بعدي اثنا عشر أولهم علي بن أبي طالب وآخرهم القائم»(5).

وقال (صلی الله علیه و آله): «يا علي أنت سيد هذه الأمة بعدي وأنت إمامها وخليفتي

ص: 189


1- الظاهر أن المراد به: مقام كونها (علیها السلام) في صدد إثبات أحقيته بالخلافة، وهو ما ينسجم مع كونه السيد على الإطلاق، لا كونه مجرد أحد السادة، وهذه النقطة الهامة تجري في (مشمّراً ناصحا..) وسائر الصفات أيضاً.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: ص11 المجلس 3 ح6.
3- معاني الأخبار: ص103.
4- الخصال: ص561.
5- عيون أخبار الرضا (علیه السلام): ج1 ص64.

..............................

عليها، من فارقك فارقني يوم القيامة ومن كان معك كان معي يومالقيامة»(1).

وعن سليم عن سلمان قال: «كان الحسين (علیه السلام) على فخذ رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو يقبله ويقول: أنت السيد، ابن السيد، أبو السادة، أنت الإمام، ابن الإمام، أبو الأئمة، أنت الحجة، ابن الحجة، أبو الحجج، تسعة من صلبك وتاسعهم قائمهم»(2).

وعن أنس بن مالك قال:

«بينما أنا عند رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): الآن يدخل سيد المسلمين وأمير المؤمنين وخير الوصيين وأولى الناس بالنبيين، إذ طلع علي بن أبي طالب»(3).

وقال (صلی الله علیه و آله): «يا أم سلمة اسمعي واشهدي، هذا علي بن أبي طالب سيد المسلمين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين»(4).

ص: 190


1- عيون أخبار الرضا (علیه السلام): ج1 ص303.
2- المناقب: ج4 ص70 - 71.
3- كشف الغمة: ج1 ص343.
4- كشف الغمة: ج1 ص400.

..............................

الإخبار في مقام الإنشاء

مسألة: ربما يقال: كما أن (يعيد صلاته) إخبار في مقام الإنشاء، كذلك هذه الصفات المذكورة في كلامها (علیها السلام) وصفا للإمام (علیه السلام) تعد إخبارا في مقام الإنشاء، بفارق أن ذلك إنشاء الأمر لمن وقع مخبرا عنه وهذا إنشاء الأمر لغير من وقع مخبرا عنه(1).

وربما يقال: باستفادة ذلك عرفا في كل ما هو أمثال المقام(2)، حيث إن قوام الإنشاء بالمقصد والمبرز، وهما مما يرى العرف تحققهما في أمثال المقام، نظرا للقرائن المقامية، وإلا فمنالممكن القول بأن ذلك من البطون، فتأمل.

ص: 191


1- إذا المخبر عنه ب (مشمّراً ناصحا..) وهو الإمام علي (علیه السلام) والإنشاء هو بالنسبة لعامة الناس، أي يجب عليكم أن تعتقدوا بكونه (علیه السلام) سيدا، الخ .
2- كما في (إياك اعني و اسمعي يا جارة) حيث قد يكون الإخبار في مقام إنشاء التهديد مثلا، كما يخاطب الحاكم جماعة ممن يخاف خروجهم عليه بإخبارهم عن قصص عقوبته لمن خرج عليه سابقا، وكما تخاطب الكسول بذكر برنامج المجدين كأن تقول له: فلان من زملائك يستيقض في الخامسة صباحا ويطالع ويدرس حتى منتصف الليل، أي افعل أنت كذلك..

مشمّراً ناصحاً

اشارة

-------------------------------------------

على أهبة الاستعداد

مسألة: يستحب أن يكون الإنسان مشمّرا دائما لأجل الله سبحانه، وهذا مما يستفاد من كلامها (علیها السلام) كما سبق، ومن الآيات والروايات بالدلالة المطابقية أو الالتزامية أو غيرها كقوله تعالى: «وسارعوا إلى مغفرة من ربكم»(1).

وقوله سبحانه: «فاستبقوا الخيرات»(2).

والتشمير: عبارة عن جمع الثياب من الرجلين واليدين كي لا تكن عائقا عن الحركة، وهو كناية عن الاستعداد الدائم للتحرك والانطلاق في مختلف الأبعاد لاجل نصرة دين الله، دون عائق ومانع.

ثم إنه هل يعد من مصاديق التشمير ما جاء في بعض الروايات من (تخففواتلحقوا)(3)؟

الظاهر ذلك، فيشمل إذن كل ما يعوق الإنسان عن الحركة ويسبب أن يكون كما قال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل»(4).

ص: 192


1- سورة آل عمران: 133.
2- سورة البقرة: 148 والمائدة: 48.
3- خصائص الأئمة: ص112 وعدة الداعي: ص115.
4- سورة التوبة: ص38.

..............................

ومن ذلك تملك الدور والعقار أكثر من الاحتياج، وكذلك القصور والرفاهية في العيش وشبه ذلك، ولذلك عاتب الإمام أمير المؤمنين علي (علیه السلام) أحد أصحابه بالبصرة وهو العلاء بن زياد الحارثي لما دخل عليه يعوده، فلما رأى سعة داره قال: «ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا، وأنت إليها في الآخرة كنت أحوج وبلى إن شئت بلغت بها الآخرة: تقري فيها الضيف، وتصل فيها الرحم، وتطلع منها الحقوق مطالعها، فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة»(1).

وهكذا المخلصون لله والمجاهدون فيسبيله (مشمّرون أبداً) و(متخففون دائماً).

ويؤمي إليه ما ذكره التاريخ من قصة سلمان وأبي ذر ووقوفهما على الصخرة المحماة.

النصيحة لله

مسألة: يستحب النصح لله وقد يجب، فان النصح واجب في مقام الوجوب ومستحب في مقام الاستحباب، وهو - في أحد معنييه - عبارة عن التوجيه إلى الخير بكل جد وإخلاص(2).

ص: 193


1- نهج البلاغة: الكلام: رقم 209.
2- قال في لسان العرب: ( النصيحة كلمة واحدة يعبر بها عن جملة هي إرادة الخير للمنصوح له، ونصيحة عامة المسلمين: ارشادهم إلى المصالح، والنصح نقيض الغش، مشتق منه: نصحه ونصح له وهو باللام افصح).

..............................

وحيث حُذِفَ (المتعلق) منه، فإنه يفيد كلا معنيي النصح، إذ النصح قد يكون للإنسان وقد يكون لأمر الله سبحانه وتعالى(1).فيقال: (نَصحهُ) في الأول، و: (نَصَحَ له) في الثاني - غالبا -، ويمكن استفادة ذلك(2) بضميمة دليل الأسوة.

قال سبحانه: «ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حَرَج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم»(3).

وقال تعالى: «وأنا لكم ناصح أمين»(4).

ف (ناصحا) أي لكم على الاحتمال الأول، أو (ناصحا) أي لله على الاحتمال الثاني.

والنصح لله، أي خلوص النية و العمل له وخلوها من كل شرك ورياء وسمعة وما أشبه.

والنصح للناس: ارشادهم، وهو مشرب بمعنى الخلوص، أي إرشادهم إرشادا غير مشوب بمصلحة أو غش أو خداع، أي إرشادهم خالصا مخلصا وبقصد الهداية لا غير.

ص: 194


1- قال في لسان العرب: (وأصل النصح: الخلوص) ويقال: (نصحت له: أي أخلصت وصدقت) و (الناصح: الخالص من الغش وغيره).
2- أي وجوب أو استحباب النصح.
3- سورة التوبة: 91.
4- سورة الأعراف: 68.

..............................

قولها (علیها السلام): (مشمرا ناصحا) أي أن أمير المؤمنين عليا (عليه الصلاة والسلام) كان مشمرا ثيابه دائما في سبيل تقديم الإسلام إلى الأمام، والمراد به الجد والاهتمام والمضي والنفوذ، وكان مع ذلك ناصحا وليس ككثير من الناس حيث يجدون ويكدحون لكنهم لا يريدون النصح(1)وإنما يريدون لأنفسهم جاهاً ومالاً و عزةً ورفاهاً وما أشبه ذلك، أو أنهم يجدّون ويكدحون لكن يمزجون ذلك بالغش والخداع، فالتشمير هو المظهر والنصح هو المخبر، وذاك فعل وهذا (2) صفة، وهذا واضح على المعنى الثاني للنصح(3)ومتضمنٌّ في المعنى الاول(4).

قال (علیه السلام): «ثلاثة لا يعذر المرء فيها: مشاورة ناصح ومداراة حاسد والتحبب إلى الناس»(5).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام):«اقبلوا نصيحة ناصح متيقظ وقفوا عندما أفادكم من التعليم»(6).

وقال الإمام الباقر (علیه السلام): «اتبع من يبكيك وهو لك ناصح، ولا تتبع من يضحكك وهو لك غاش، وستردون إلى الله جميعاً فتعلمون»(7).

ص: 195


1- كما سبق منه دام ظله قوله: (وهو مشرب بمعنى الخلوص).
2- أي النصح.
3- أي النصح لله.
4- أي النصح للناس و الهداية و الإرشاد لهم.
5- تحف العقول: ص318.
6- غرر الحكم: ص225 ح4573.
7- مشكاة الأنوار: ص320 الفصل 7.

..............................

وقال (علیه السلام): «فطوبى لمن قبل نصيحة الله وخاف فضيحته»(1).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «الموعظة نصيحة شافية»(2).

وقال (علیه السلام): «من أعرض عن نصيحة الناصح أحرق بمكيدة الكاشح»(3).

وقال (علیه السلام): «اتعظوا بمواعظ الله واقبلوا نصيحة الله»(4).

وقال (علیه السلام): « ألا إن الفضائل عشرة: صدق الحديث، وصدقالمودة، ونصيحة الناس…» الحديث(5).

وقال (علیه السلام): «وحق الناصح أن تلين له جناحك وتصغي إليه بسمعك…»(6).

وفي الزيارة: «السلام عليكم يا أنصار أبي محمد الحسن بن علي الولي الناصح»(7).

وفي زيارة الإمام الحجة (علیه السلام): «اللهم صل على حجتك في أرضك… المرتقب الخائف والولي الناصح…»(8).

ص: 196


1- تحف العقول: ص17.
2- غرر الحكم: ص224 ح4519.
3- غرر الحكم: ص226 ح4588.
4- إعلام الدين: ص105.
5- معدن الجواهر: ص70.
6- الأمالي للشيخ الصدوق: ص374 المجلس 59.
7- مصباح المتهجد: ص723.
8- الاحتجاج: ص494.

..............................

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «مشاورة العاقل الناصح رشد ويمن وتوفيق من الله، فإذا أشار عليك العاقل الناصح فإياك والخلاف فإن في ذلك العطب»(1).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «إن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش، والهادي الذي لا يضل والمحدثالذي لا يكذب»(2).

وقال (علیه السلام): «ليكن أحب الناس إليك المشفق الناصح»(3).

وقال (علیه السلام): «لا شفيق كالودود الناصح»(4).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «عليك بعلي (علیه السلام) فإنه الهادي المهدي الناصح لأمتي، المحيي لسنتي وهو إمامكم بعدي»(5).

ص: 197


1- المحاسن: ص602 باب الاستشارة، ح25.
2- غرر الحكم: ص111 ح1973.
3- غرر الحكم: ص416 ح9503.
4- غرر الحكم: ص416 ح9507.
5- اليقين: ص452.

مجدا كادحا

اشارة

-------------------------------------------

الجد والكدح

الجد والكدح(1)

مسألة: يستحب التأكيد على الجدّ والكدح، وبيانها (علیها السلام) المطلب بعبارات قد يترائى أنها مترادفة للأهمية، ولكن: لا يخفى الفرق بين الجدّ والاجتهاد والكدّ والكدح، كما يعرف ذلك المتأمل في فقه اللغة، وكما هو شأن لغة العرب حيث إن اللفظ يتضمن دلالة لا توجد في اللفظ المشابه له وإن عبّر عنه بالمرادف.

وقد ألمعنا في (الأصول) إلى أنه لا يوجد (ترادف) حقيقي في لغة العرب، فالأسد يطلق عليه: الأسد والهزبر والليث والضرغام وغير ذلك، كل واحد منها بلحاظ حالة من حالاته أو جهة من جهاته، وهكذا وهلمّ جرّا.

قولها (علیها السلام): (مجدّاً كادحاً) أي أن عليا أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) كان مجدّاً في أمر الله تعالى، في جهاده وحروبه وعبادته وسائر شؤونه كلها.و(كادحاً): الكدح أشدّ التعب(2)، قال سبحانه: «يا أيها الإنسان إنك

ص: 198


1- الكدح: شدة السعي والحركة.
2- قال في لسان العرب: (الكدح: الاكتساب بمشقة) و (الكدح في اللغة: السعي والحرص الدؤوب في العمل في باب الدنيا وباب الآخرة) وقال في الميزان قال الراغب (الكدح: السعي والفناء) وقيل: (الكدح جهد النفس في العمل حتى يؤثر فيها)، وقال في تفسير التبيان: (الكدح: السعي الشديد في الأمر، يقال كدح الإنسان في أمره يكدح وفيه كدوح وخدوش: أي آثار من شدة السعي في الأمر).

..............................

كادح إلى ربك كدحا فملاقيه»(1).

يعني: إن الإنسان في أشد التعب و النصب إلى أن يلاقي ربه.

وفي الخطبة الشقشقية:

«ويكدح فيها قلب المؤمن حتى يلقى به»(2).

وعلي أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) كان هكذا، غير أن الفرق أن الإنسان:

تارة: تحيط به المشاكل والهمومويقع في تعب ونصب بدون اختياره(3).

وتارة: يكدُّ ويكدح ويبذل قصارى جهده ويحمّل نفسه قصوى طاقاتها بملأ اختياره، وذلك في سبيل الله عزوجل.

وثالثة: يكون ذلك كله، لكن لأجل لذة عابرة أو هوى متبع.

والآية الشريفة تشمل الأقسام الثلاثة تفسيرا، و القسم الثاني بلحاظ (إلى ربك)(4) أو أنه أجلى المصاديق وأكملها.

وفي أدعية شهر رمضان: «وارزقنا في هذا الشهر الجد والاجتهاد، والقوة والنشاط..»(5).

ص: 199


1- سورة الانشقاق: 6.
2- نهج البلاغة: الخطبة الشقشقية.
3- كمن يقع له حادث اصطدام، أو يسرق لص كل ثرواته، ومن قبل: كمشاكل الولادة وشبهها.
4- سورة الانشقاق: 6.
5- المقنعة: ص336.

..............................

وفي دعاء كميل: «وهب لي الجد في خشيتك»(1).

وقال (علیه السلام): «لا يدرك الحق إلا بالصدق والجد»(2).وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «لقد أخطأ العاقل اللاهي وأصابه ذو الاجتهاد والجد»(3).

وقال (علیه السلام): «المؤمن يعاف اللهو ويألف الجد»(4).

وقال (علیه السلام): «طاعة الله لا يحوزها إلا من بذل الجد واستفرغ الجهد»(5).

وقال (علیه السلام): «ان كنتم للنجاة طالبين فارفضوا الغفلة واللهو وألزموا الاجتهاد والجد»(6).

وقال (علیه السلام): «ما أدرك المجد من فاته الجد»(7).

وقال (علیه السلام): «اللهو يفسد عزائم الجد»(8).

ص: 200


1- مصباح الكفعمي: ص560.
2- دعائم الإسلام: ج1 ص391.
3- غرر الحكم: ص60 ح677 وص66 ح872.
4- غرر الحكم: ص89 ح1520.
5- غرر الحكم: ص184 ح3480.
6- غرر الحكم: ص266 ح5749.
7- غرر الحكم: ص443 ح10120.
8- غرر الحكم: ص461 ح10550.

وأنتم في رفاهية من العيش، وادعون فاكهون آمنون

اشارة

-------------------------------------------

هل الرفاهية مذمومة؟

مسألة: هل يستفاد من كلامها (علیها السلام) أن الرفاهية والدعة والفكاهة والأمن مذمومة بما هي هي؟

الظاهر:لا، إذ من الواضح أن الذم لهذه الصفات بالعرض لا بالذات كما يفيده منحى الكلام ومصبه وسياقه، إذ أن أمير المؤمنين علياً (علیه السلام) كان (مكدوداً.. مجتهداً.. مشمّرا…) والحال كنتم (أنتم في رفاهية من العيش وادعون فاكهون آمنون) فكون الجملة حالية، ولحوقها ب (تتربصون بنا الدوائر) خير شاهد على ذلك.

وبعبارة أخرى:

الإشكال على القوم هو: أنكم مع كون الإسلام في خطر رهيب، والرسول (صلی الله علیه و آله) في صراع مرير، وأمير المؤمنين علي (علیه السلام) في مواجهة صعبة، لكنكم كنتم تعيشون وادعين فاكهين آمنين!

بل الأدلة العامة والخاصة تدل على مطلوبية الأمن، وعدم كراهة الرفاهية والدعة - ولو في الجملة - قال تعالى:«فليعبدوا ربّ هذا البيت * الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف»(1).

ص: 201


1- سورة قريش: 3 - 4.

..............................

وقال سبحانه: «وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً»(1).

وقال عز وجل: «قل من حرم زينة الله التي اخرج لعباده والطيبات من الرزق»(2).

مواساة الشعب للقائد

مسألتان: كما يذم العقلاء ويحكم العقل بقبح أن يعيش الأب في راحة ودعة وهناء وأبناؤه في خوف وقلق ومشاكل وهو لا يمد لهم يد العون ولا يشاركهم جشوبة العيش، كذلك العكس، فإنه أيضاً قبيح ومذموم.

وكما يكره(3) - عقلاً وعرفاً - أن يعيش القائد في بحبوحة من العيش وشعبه يتضور جوعا، أو يعيش آمناوشعبه وجِل خائف، كذلك العكس بأن يلقي الشعب كل العبء على كاهل الدولة أو القائد، لينصرف إلى حياته اليومية وملذاته الجسدية.

وربما كان ذلك بين محرّم و مكروه.

يقول الإمام أمير المؤمنين علي (علیه السلام): «ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد»(4).

ص: 202


1- سورة النور: 55.
2- سورة الأعراف: 32.
3- الكراهة هنا بمعناها اللغوي.
4- ارشاد القلوب: ص214، وفي نهج البلاغة أيضاً.

..............................

وكلامها (صلوات الله عليها) إشارة إلى الصورة الثانية كما لا يخفى.

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام) في حث قومه على المسير إلى الشام لقتال معاوية:

«اتقوا الله عباد الله وأطيعوه وأطيعوا إمامكم فان الرعية الصالحة تنجو بالإمام العادل، ألا وان الرعية الفاجرة تهلك بالإمام الفاجر، وقد أصبح معاوية غاصباً لما في يديه من حقي، ناكثاً لبيعتي، طاغياً في دين الله عزوجل وقد علمتم أيها المسلمون ما فعل الناس بالأمس فجئتموني راغبين إلي في أمركم حتى استخرجتموني من منزليلتبايعوني… فبسطت لكم يدي يا معشر المسلمين وفيكم المهاجرون والأنصار والتابعون بإحسان فأخذت عليكم عهد بيعتي وواجب صفقتي عهد الله وميثاقه وأشد ما أخذ على النبيين من عهد وميثاق لتقرن لي ولتسمعن لأمري ولتطيعوني وتناصحوني وتقاتلون معي كل باغ علي أو مارق إن مرق… فاتقوا الله أيها المسلمون وتحاثوا على جهاد معاوية القاسط الناكث وأصحابه القاسطين الناكثين واسمعوا ما أتلوا عليكم من كتاب الله المنزل على نبيه المرسل لتتعظوا فإنه والله أبلغ عظة لكم فانتفعوا بموعظة الله وازدجروا عن معاصي الله فقد وعظكم الله بغيركم فقال لنبيه (صلی الله علیه و آله) «ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله، قال هل عسيتم أن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا، قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين»(1) اتقوا الله عباد الله

ص: 203


1- سورة البقرة : 246.

..............................

وتحاثوا على الجهاد مع إمامكم، فلو كان لي منكم عصابة بعدد أهل بدر إذا أمرتهم أطاعوني وإذا استنهضتهم نهضوا معي لاستغنيت بهم عن كثير منكم»(1).

ومن كلامه (علیه السلام) ما اشتمل على التوبيخ لأصحابه على تثاقلهم عن قتال معاوية: «أيها الناس اني استنفرتكم لجهاد هؤلاء فلم تنفروا، وأسمعتكم فلم تجيبوا، ونصحت لكم فلم تقبلوا شهوداً بالغيب، أتلو عليكم الحكمة فتعرضون عنها وأعظكم بالموعظة البالغة فتنفرون عنها… وأحثكم على جهاد أهل الجور فما آتي على آخر قولي حتى أراكم متفرقين أيادي سبا ترجعون إلى مجالسكم تتربعون حلقا تضربون الأمثال وتنشدون الأشعار وتجسسون الأخبار… ونسيتم الحرب والاستعداد لها، فأصبحت قلوبكم فارغة من ذكرها، شغلتموها بالأعاليل والأضاليل، فالعجب كل العجب، وكيف لا أعجب عن اجتماع قوم على باطلهم وتخاذلكم عن حقكم… إمامكم يطيع الله وأنتم تعصونه، وإمام أهل الشام يعصي الله وهم يطيعونه»(2).

وبشكل عام فإن عدم مشاطرة الشعبللقائد والدولة همومها وغمومها، قد يكون لنقصٍ في الشعب، وقد يكون لنقص في القائد (كما في الحاكم المستبد الجائر) وقد يكون في الاثنين معاً.

ولا ريب أن كلام السيدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) في خطبتها من الشق الأول

ص: 204


1- الاحتجاج: ص172 - 173.
2- الاحتجاج: ص174.

..............................

كما هو أوضح من أن يخفى(1).

ولهذه الأقسام الثلاثة مباحث كثيرة ذكرناها في الفقه (2).

قولها (علیها السلام): (وأنتم في رفاهية من العيش)، إذ الغالب أنهم كانوا لا يعملون عمل أمير المؤمنين علي (عليه

الصلاة والسلام) من الجد والاجتهاد والكدح ونحو ذلك، بل يعيشون عيشةرفاه حقيقي أو نسبي، ولعلّ السيدة الزهراء (علیها السلام) كانت تقصد أولئك الذين سيطروا على الأمور وقد كان همّهم لذّات الحياة ورفاهية العيش.

وإلا فلا شك أن كثيرا من المسلمين أيضا كانوا يجتهدون ويجاهدون، وإن كانت النسبة بين جهادهم وجهودهم وجهاد أمير المؤمنين علي (علیه السلام) وجهوده كنسبة الثرى إلى الثريّا بل أكثر، وكأن كلامها تعريض بهم في قبال أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام).

فهل يصلح للخلافة من كان (في رفاهية من العيش فكهاً آمناً وادعاً) وهو يرى الأخطار تحيط بالرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) عن كل حدب و صوب.

وهل يصلح لرعاية الأمة ودرء الأخطاء عنها من كان في حياة الرسول (صلی الله علیه و آله) كذلك؟

ص: 205


1- فإن عدم مشاطرة الكثيرين للرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) في تحمل مشاكل الجهاد، يعود الى وساوس الشيطان أو الركون إلى الدنيا أو حب النفس أو الجبن أو الحقد والحسد أو شبه ذلك عند المتخاذلين والمنافقين.
2- راجع (الفقه: السياسة) و(الفقه: الاجتماع)، و(الفقه: الدولة الإسلامية) وغيرها مما تطرقت لمباحث الدكتاتورية والديمقراطية والتعددية والشورى وما أشبه.

..............................

أو ليس الأمر متعينا في الإمام أمير المؤمنين علي (علیه السلام) وهو الوحيد الذي انطبقت عليه تلك الصفات وفي أعلى الدرجات.

قال تعالى: «فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا فيالحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون»(1). وقال سبحانه: «وإذا أُنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين»(2). وقال عز وجل: «لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة…»(3).

قولها (علیها السلام): (وادعون فاكهون)، أي: هم في دعة وفراغ بال فيتفكهون بالأحاديث وبأنواع الأطعمة وغيرها.

(آمنون) من الخطر والخوف، لأن الذي لا يحارب الأعداء يأمن منهم عادة، فإذا غَلَبه المسلمون فهم مع الغالبين، وإذا غُلِبَ المسلمون فالأعداء قد لايضرونهم لأنهم لم يكونوا من المحاربين(4) وحتى لو اشتركوا في الحروب فإن مشاركتهم هامشية ولم تكن عن جد وواقعية، بل كانت لبعضهم صداقات مع الكفار وعلاقات أو عهود ومواثيق كما هو مذكور فيالتواريخ.

ص: 206


1- سورة التوبة: 81.
2- سورة التوبة: 86.
3- سورة التوبة: 42.
4- قال تعالى: «إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون». سورة التوبة: 50.

لا تأخذه في الله لومة لائم

اشارة

-------------------------------------------

أقوى من الملامة

مسألة: الواجب على القائد أن لا يصدّه عن العمل بالحق لوم اللائمين، فلا تأخذه في الله لومة لائم، كما ورد بالنسبة إلى أهل البيت (علیهم السلام) وجدهم رسول الله (صلی الله علیه و آله).

فإنه إذا كان على العكس من ذلك انحرف عن الطريق، وكل انحراف عن طريق الله سبحانه وتعالى ولو بمقدار شعرة يجرّ إلى مشاكل دنيوية قبل المشاكل الأخروية، فان الله عزوجل جعل قوانينه في التشريع مثل قوانينه في التكوين، فكما أن كل انحراف عن قوانين الله التكوينية يوجب عطبا وخبالا ويجر إلى مآسي وويلات، كل بقدره، كذلك كل انحراف عن القوانين التشريعية يوجب ذلك، حتى وإن لم يظهر أثره فوراً، فإن الأعمال كالبذور والنوى تظهر نتائجها بعد مدّة قريبة أو بعيدة.

قال تعالى: «يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه منيشاء والله واسع عليم»(1).

وعن محمد بن أبي عمير قال: «ما سمعت ولا استفدت من هشام بن الحكم طول صحبتي له شيئاً أحسن من هذا الكلام في عصمة الإمام (علیه السلام)…

ص: 207


1- سورة المائدة: 54.

..............................

- إلى أن قال: - فإن الله عزوجل قد فرض عليه (أي على الإمام) إقامة الحدود وأن لا تأخذه في الله لومة لائم»(1).

وعن أبي ذر (رحمة الله) قال: «أوصاني رسول الله (صلی الله علیه و آله) بسبع… وأوصاني أن لاأخاف في الله لومة لائم»(2).

وقال (صلی الله علیه و آله): «لا تخف في الله لومة لائم»(3).

وقال علي (علیه السلام) في وصيته لابنيه الحسن والحسين (علیهما السلام): «أوصيكما بتقوى الله… ولا تأخذكما في اللهلومة لائم»(4).

ثم إنه على القائد أن يجعل رضى الله هو المقياس لا كلام الناس وتقييمهم ولومهم وعتابهم، وعليه أن يكون أقوى من (الملامة) لا مستسلما لها.

قال تعالى: «ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل ان هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير»(5).

وقال سبحانه: «ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد»(6).

ص: 208


1- الخصال: ص215، وجوه الذنوب أربعة، ح35.
2- الخصال: 345، أوصى رسول الله أبا ذر بسبع، ح12.
3- معاني الأخبار: ص335.
4- كشف الغمة: ج1 ص431.
5- سورة البقرة: 120.
6- سورة البقرة: 207.

..............................

وقال تعالى: «أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير»(1).

وقال سبحانه: «ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبطأعمالهم»(2).

وعن الإمام الصادق عن أبيه عن جده (علیهم السلام) قال: «ان رجلاً من أهل الكوفة كتب إلى أبي الحسين بن علي (علیه السلام) يا سيدي أخبرني بخير الدنيا والآخرة، فكتب (علیه السلام):

بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فان من طلب رضى الله بسخط الناس كفاه الله أمور الناس، ومن طلب رضى الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس، والسلام»(3).

وقال (صلی الله علیه و آله): «من طلب رضى مخلوق بسخط الخالق، سلط الله عزوجل عليه ذلك المخلوق»(4).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «ما أعظم وزر من طلب رضى المخلوقين بسخط الخالق»(5).

ص: 209


1- سورة آل عمران: 162.
2- سورة محمد: 28.
3- الاختصاص: ص225.
4- تحف العقول: ص52.
5- غرر الحكم: ص482 ح11130.

..............................

وقال (علیه السلام): «من أرضى الخالق لم يبال بسخط المخلوق»(1).وقال أبو عبد الله الصادق (علیه السلام): «إن من اليقين ألا ترضوا الناس بسخط الله عزوجل»(2).

وعن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من أرضى سلطاناً بسخط الله خرج من دين الله» (3).

وإطلاق كلامها (علیها السلام) يشمل الملامة على الالتزام بالواجبات (كالجهاد والعدل وإنصاف الناس من النفس) وترك المحرمات (كموادة من حارب الله، ومداهنتهم، والرشوة و..).

ثم إن الملامة قد توجه للإنسان لالتزامه بمكارم الأخلاق، كسعة الصدر، والإغضاء عن السيئة، والعفو عند المقدرة، والإيثار، وانهاك البدن في طاعة الله، وفي قضاء حوائج الناس و.. كما لا يخفى.

والقائد - بل مطلق المؤمن - عليه أن لا يصدّه عن كل ذلك لوم اللائمين وعتابهم، فإن إحراز رضى الخالق جل وعلا أولى من إحراز رضى المخلوق، ولوم العاجلة أهون من لوم الآخرة.

ولقد عدّت السيدة الزهراء (علیهاالسلام) هذه الصفة في طليعة السمات البارزة للإمام أمير المؤمنين (علیه السلام)، لأنه كان الذي لا تأخذه في الله لومة لائم بشكل

ص: 210


1- التوحيد: ص60.
2- الأمالي للشيخ المفيد: ص284 المجلس 34 ح2.
3- تنبيه الخواطر: ج2 ص163 وص210.

..............................

مطلق، وفي كل الازمنة، وبالنسبة لمختلف الأفراد، وفي مختلف الحالات، وفي مؤازرته للرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) في أشد الظروف، في مكة و المدينة، وفي تعامله مع أخيه عقيل (علیه السلام) ومساواته في العطاء.

وفي قوله (علیه السلام) : «أنا فقئت عين الفتنة وما كان أحد ليجترئ عليها غيري»(1) و.. و.. أكبر شاهد ودليل.

والجدير بالذكر أن الذي يسبب (أن لا تأخذ الإنسان في الله لومة لائم) هو: الإيمان والشجاعة والإخلاص لله، وكلما كانت درجتها أشد كان أقرب إلى المطلق في عدم الاعتناء بالملامة، وقد كانت القمة في الإمام (علیه السلام).

ص: 211


1- كتاب سليم بن قيس: ص156 وراجع أيضاً المناقب: ج2 ص144.

تتربصون بنا الدوائر

اشارة

-------------------------------------------

تربص الدوائر بالمؤمنين

مسألة: تربص الدوائر بالمؤمن - فكيف بأهل بيت الرسول (صلی الله علیه و آله) - محرّم إن اقترن بالفعل الخارجي، وإن اقتصر على الحالة النفسية، فان استلزم سلب الإيمان والاعتقاد، كان حراماً طريقيا بالنسبة إلى غير المعصومين (علیهم السلام)، ومحرم نفسي بالنسبة لهم (علیهم السلام).

وقد يقال: بحرمة مطلق تربص دائرة السوء بالنسبة لمطلق المؤمنين، بل سيأتي إن (الرضى) بظلم المؤمن حرام فكيف بتربص ذلك به.

من الواضح أن خطابها (علیها السلام) في هذه الجملة وأشباهها موجّه إلى جماعة من الصحابة لا إلى جميعهم لوجود بعضهم المخلصين في أصحاب النبي (صلی الله علیه و آله) وكأنها ذكرت هذا الجمل تمهيدا لما تريد أن تقوله من انفضاضهم عن أهل البيت (علیهم السلام) بعد ذلك وغصبهم الخلافة والسلطة وفدكوغير ذلك.

فعن أبي جعفر (علیه السلام) قال في تفسير قوله تعالى: «فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب * ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور»(1).

ص: 212


1- سورة الحديد: 13 - 14.

..............................

قال: «أما انها نزلت فينا وفي شيعتنا وفي الكفار، أما انه إذا كان يوم القيامة وحبس الخلائق في طريق المحشر ضرب الله سوراً من ظلمة فيه باب باطنه فيه الرحمة يعني النور، وظاهره من قبله العذاب، يعني الظلمة، فيصيرنا الله وشيعتنا في باطن السور الذي فيه الرحمة والنور ويصير عدونا والكفار في ظاهر السور الذي فيه الظلمة، فيناديكم عدونا وعدوكم من الباب الذي في السور من ظاهره: ألم نكن معكم في الدنيا، نبينا ونبيكم واحد، وصلاتنا وصلاتكم واحدة، وصومنا وصومكم واحد، وحجنا وحجكم واحد، قال: فيناديهم الملك من عند الله: بلى، ولكنكم فتنتم أنفسكم بعد نبيكم ثمتوليتم وتركتم اتباع من أمركم به نبيكم وتربصتم به الدوائر وارتبتم فيما قال فيه نبيكم وغرتكم الأماني…»(1).

قولها (علیها السلام): (تتربصون بنا الدوائر) التربص: بمعنى الانتظار(2).

والدوائر عبارة عن صروف الزمان وحوادث الأيام والشدائد، لأن الزمان له حالة دورانية أخذاً من دوران الفلك(3).

والتاريخ أيضا له حالة دورانية ولو في الجملة(4).

ص: 213


1- تأويل الآيات: ص636 سورة الحديد.
2- قال في لسان العرب (التربص: الانتظار) و(تربص به أي انتظر به خيراً أو شراً).
3- الزمان - حسب أحد الأقوال - هو مقدار حركة الفلك، فالليل والنهار ينجمان عن حركة الأرض حول نفسها، والشهر من حركة القمر حول الارض، والسنة من حركة الأرض حول الشمس.
4- راجع (الفقه: الاجتماع) و(الفقه: المستقبل) للإمام المؤلف.

..............................

أي: كنتم تنتظرون نزول البلاء علينا وزوال النعمة عنّا، وأن ينتصرالكفار وينهزم المسلمون، لأن كثيرا منهم كانوا كذلك حقدا على آل الرسول (صلی الله علیه و آله) وحسداً، أو لأن ثقل الجهاد - بما يستلزم من تضحيات وهجرة وقلق وخوف وعدم استقرار نفسي واقتصادي و.. - يؤذيهم.

وهكذا حال كثير من المجاهدين على مرّ العصور حيث إنهم في الظاهر يجاهدون، ولكنهم في الباطن يريدون التخلص من الجهاد وتبعاته، كيما يرجعوا إلى حالتهم العادية ويعيشوا هادئين مطمئنين في بلدهم وفي أحضان أسرتهم.

ص: 214

وتتوكفون الأخبار

اشارة

-------------------------------------------

وتتوكفون الأخبار(1)

التجسس والتحسس والتوكف

مسائل: هنالك ثلاثة عناوين: التجسس و التحسس وتوكف الأخبار.

فالتجسس على الرعية - من قبل الدولة - حرام.

وتجسس المؤمن على المؤمن حرام.

نعم يجوز التجسس على الكفار الحربيين لأجل صدّ تعديهم وبغيهم، كما يجوز التجسس على المسؤولين من قبل الدولة كي لا يظلموا الرعية كذلك(2).

قال تعالى: «ولا تجسسوا»(3).

وقال في كشف الريبة: «ومعنى التجسس أن لا تترك عباد الله تحت ستر الله، فيتوصل إلى الاطلاع وهتك الستر حتى ينكشف لك ما لو كان مستوراً عنك كاناسلم لقلبك ودينك»(4).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يا معشر من آمن بلسانه ولم يصل الإيمان إلى قلبه لا تتبعوا عورات المؤمنين ولا تذموا المسلمين، فإنه من تتبع عورات المؤمنين تتبع الله عوراته، ومن تتبع الله عوراته، فضحه في

ص: 215


1- وفي بعض النسخ: (تتواكفون الأخيار).
2- راجع (الفقه: الدولة الإسلامية) و(إذا قام الإسلام في العراق) للإمام المؤلف (قدس سره).
3- سورة الحجرات: 12.
4- كشف الريبة: 23.

..............................

جوف بيته»(1).

أما التحسس بشكل مطلق(2)، فقد يكون راجحاً كما هو في قوله تعالى عن لسان يعقوب (علیه السلام): «يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه»(3).

وأما توكف الأخبار، والمراد به في أشباه المقام: انتظار وتوقع الأخبار السلبية ضد المؤمنين، فإنه مذموم وقد يكون حراماً كما لا يخفى، وفي غير أشباه المقام جائز بالمعنى الأعم.

ولو اقترن التوكف والتوقع والترصدللأخبار السلبية ضد المؤمنين بما يقترن به عادة، من العمل بمجرد سمع الخبر على إشاعته ونشره، مما يسبب ضعف جبهة المؤمنين وإضعاف معنوياتهم والشد من أزر الكافرين والأعداء، فإنه بهذه الجهة محرم.

قولها (علیها السلام): (وتتوكفون الأخبار) التوكف عبارة عن التوقع، و المراد: انهم كانوا يجلسون في بيوتهم(4)ويتوقعون وصول أنباء وأخبار المحن والفتن والمصائب على النبي وآل النبي (صلوات الله عليهم أجمعين) والمؤمنين المخلصين، كما تشير إلى ذلك جملة من آيات سورة التوبة(5) والسور الأخرى أيضاً، والتواريخ

ص: 216


1- الأمالي للشيخ المفيد: ص141 المجلس 17 ح8.
2- أي في غير هذا المقام.
3- سورة يوسف: 87.
4- كناية عن مطلق عدم مشاركتهم في المعامع.
5- كقوله تعالى: «قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم ان يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا انا معكم متربصون». سورة التوبة: 52.

..............................

مليئة بالقصص والشواهد على ذلك.

وكلامها (علیها السلام) يكشف عن انهم كانوا بعيدين عن التصديوالانسياق مع حركة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعن العمل والجهاد والاجتهاد بل كانوا بمعزل عن كل ذلك، وهم - إلى جوار كل ذلك - (يتوكفون الأخبار) وينتظرون ويتوقعون ويتصيدون الأخبار السلبية.

والجدير بالذكر أن سورة التوبة هي من تلك السور السياسية التي تبين نوعاً ما، ما عاناه الرسول (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته (علیهم السلام) والمخلصون من أيدي ضعفاء الإيمان ومن أيدي المنافقين.

ص: 217

وتنكصون عند النزال

اشارة

-------------------------------------------

الإحجام عن المعركة

مسألة: يحرم النكوص عند النزال، وقد كان كثير من ضعفاء الإيمان والمنافقين يتثاقلون عن الجهاد ويتراجعون عن الحرب.

قولها (علیها السلام): (وتنكصون عند النزال) أي تحجمون عن الإقدام في الحروب، ونكص بمعنى أحجم.

قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «إذا لقيتم عدوكم في الحرب فاقلوا الكلام واكثروا ذكر الله عزوجل ولا تولوهم الأدبار فتسخطوا الله ربكم وتستوجبوا غضبه»(1).

وقال (علیه السلام): «أيها الناس إني استنفرتكم لجهاد هؤلاء القوم فلم تنفروا… نسيتم الحرب والاستعداد لها، فأصبحت قلوبكم فارغة من ذكرها، شغلتموها بالأعاليل والأباطيل»(2).

وقال (علیه السلام): «معالجةالنزال تظهر شجاعة الأبطال»(3).

و(النزال) المصطلح من باب المصداق، إذ إن كل نكوص وتراجع وإحجام عن أي (نزال) بين جبهة الحق وجبهة الباطل في أي بعد من الأبعاد السياسية

ص: 218


1- الخصال: ص617.
2- الإرشاد: ج1 ص278.
3- غرر الحكم: ص445 ح10176.

..............................

والثقافية وما أشبه - كالعسكرية - مذموم ومحرم فيما إذا لم يقم به من فيه الكفاية، في غير ما يعلم عدم حرمته ولو من باب العنوان والمحصّل، فليدقق.

قال تعالى: «قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون»(1).

من حقوق المعارضة

مسألة: استنادا إلى قولها (علیها السلام) وفعلها، وكلاهما حجة، يجوز - بالمعنى الأعم - للمعارضة فضح الأكثرية أو شبهها فيما إذا جارت في الحكم أو عدلت عن الصواب، كما يجوز فضح المتصدين للحكومة والرئاسة، بذكر دوافعهم الحقيقية للقرار المتّخذ، والتنويه إلى مواقفهم وضلالاتهمالماضية، باعتبار أنها تكشف مخططهم الحالي والمستقبلي.

بل بما هي هي، كي لا يتخذوا أسوة و قدوة - وهي على هذين من طرق النهي عن المنكر-.

بل لمجرد أن يتحقق تميز الحق من الباطل، والخبيث من الصالح كما قال عزوجل: «ليميز الله الخبيث من الطيب»(2).

أو لمجرد التظلم حيث قال تعالى: «لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم»(3).

ص: 219


1- سورة المؤمنون: 66.
2- سورة الأنفال: 37.
3- سورة النساء: 148.

..............................

ويجوز - بالمعنى الأعم - (فضحهم) عبر شتى وسائل الإعلام من الصحف والجرائد والراديو والتلفزيون وعلى رؤوس الأشهاد.

ولذلك نجدها (عليها الصلاة والسلام) تستعرض مواقفهم السابقة، وحالاتهم الماضية وأسلوبهم على رؤوس الأشهاد والى يوم القيامة: (وانتم في رفاهية من العيش، وادعون فاكهون آمنون، تتربصون بنا الدوائر وتتوكفون الأخبار وتنكصون عند النزال..).وكما قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فاظهروا البراءة منهم واكثروا من سبهم والقول فيهم والوقيعة، وناهبوهم كيلا يطمعوا في الفساد في الإسلام وتحذرهم الناس ولا يتعلموا من بدعهم، يكتب الله لكم بذلك الحسنات وترفع لكم بها الدرجات في الآخرة»(1).

وقد قال (علیه السلام): «لا ينتصر المظلوم بلا ناصر»(2).

ص: 220


1- تنبيه الخواطر: ج2 ص162.
2- غرر الحكم: ص483 ح11144.

وتفرون من القتال

اشارة

-------------------------------------------

الفرار من الزحف

مسألة: يحرم الفرار من القتال، فإن الفرار من الزحف من أشد الكبائر ومن الموبقات كما ورد في مستفيض الروايات.

وذلك غير الفرار لأجل إقامة الحق، أما فيه فقد يكون واجباً - على ما سيأتي - كما قال سبحانه وتعالى بالنسبة إلى موسى (عليه الصلاة والسلام): «ففررت منكم لمّا خفتكم»(1).

وكما في فرار الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) من محاولة اغتياله ليلة المبيت وهجرته إلى المدينة، قال أمير المؤمنين علي (علیه السلام): «ولي بمحمد (صلی الله علیه و آله) أسوة حين فر من قومه ولحق بالغار من خوفهم وأنامني على فراشه…»(2).

وقال (علیه السلام): «الفرار فيوقته ظفر»(3).

وقال (علیه السلام): «فروا كل الفرار من اللئيم الأحمق»(4).

وقال (علیه السلام): «فروا كل الفرار من الفاجر الفاسق»(5).

ص: 221


1- سورة الشعراء: 21.
2- علل الشرائع: ص149 ح7 ب121.
3- غوالي اللئالي: ج1 ص290.
4- غرر الحكم: ص261 ح5598.
5- غرر الحكم: ص462 ح10601.

..............................

وقال (علیه السلام): «الفرار في أوانه يعدل الظفر في زمانه»(1).

وكما في قول الشاعر:

(خرج الحسين من المدينة خائفا كخروج موسى خائفا يترقب)

فالفرار قد يكون من الزحف وهو حرام «إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة»(2).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «إن الكبائر سبع فينا نزلت ومنا استحلت فأولها الشرك بالله العظيم وقتل النفس التي حرم الله قتلها وأكل مال اليتيم وعقوق الوالدين وقذف المحصنةوالفرار من الزحف وإنكار حقنا…» الحديث (3).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «الفرار أحد الذلين»(4). وقال (علیه السلام): «استحيوا من الفرار فانه عار في الأعقاب ونار يوم الحساب»(5).

وقال الأشتر في حرب صفين: «فإن الفرار من الزحف فيه سلب العز والغلبة على الفيء وذل المحيا والممات وعار الدنيا والآخرة»(6).

وقد يكون الفرار في غيره، كما في التآمر على المصلح لقتله غدرا وغيلة فيجب عليه هنا الفرار.

ص: 222


1- غرر الحكم: ص333 ح7679.
2- سورة الأنفال: 16.
3- علل الشرائع: ص474 ب223 ح1 باب العلة التي من أجلها أوجب الله على أهل الكبائر النار.
4- غرر الحكم: ص333 ح7675.
5- غرر الحكم: ص333 7676.
6- وقعة صفين: ص255.

..............................

والجامع أن (الفرار) قد يكون خوفا وجبنا، وقد يكون حكمة ومصلحة، فإن انسحاب أي قائد من المعركة إذا رآها غير متكافئة حفاظا على جيشه كي يعد العدة لمعركة أخرى بشرائط افضل، هومن الحكمة و يشمله ملاك «إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة»(1).

مع وضوح أن الآية الكريمة تشير إلى الفارين من المعركة رغم قرار القيادة بالاستمرار فيها، ولا يحق للفرد هنا أن يعلل انسحابه بالمصلحة مع وجود الأمر من القيادة بالمواصلة وإلا لزم الهرج والمرج وغير ذلك من المحاذير وتفصيل البحث في محله(2).

وفي تبكيتها (علیها السلام) المسلمين بفرارهم من القتال - (وهو أسوأ أنواع الفرار إذ كان فرارا من الزحف جبنا، أو لعدم الاعتقاد بها أولا، وكان على خلاف أمر الرسول (صلی الله علیه و آله) الصريح بالاستمرار ثانيا، وكان يشكل خطرا على حياة الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) بنفسه ثالثا، وعلى الإسلام ككل رابعا، لذلك كان فرارهم من اعظم الكبائر) - إشارة لطيفة ودقيقة إلى انه كيف يصلحهكذا أناس للخلافة(3)؟ أو لترشيح شخص للخلافة؟ حتى مع قطع النظر عن وجود نص الهي بتعيين الخليفة فرضا؟، ثم كيف يؤمن عليها من كان دأبه التفريط بها؟

قولها (علیها السلام): (وتفرون عند القتال) والفرق بين هذا وبين سابقه:

ص: 223


1- سورة الأنفال: 16.
2- راجع موسوعة الفقه: ج47 - 48 كتاب الجهاد، وقد تطرق الإمام الشيرازي إلى مسألة إطاعة القائد ولزوم الهرج والمرج في عدم طاعته في كتاب (الفقه: المرور) فراجع.
3- انظر الفصول المختارة: ص121.

..............................

أن (النكوص) معناه الرجوع من منتصف الطريق، كما حدث في خيبر، وغزوة ذات السلاسل وغيرهما(1)، والنزال وإن كان يطلق على الحرب توسعا لكنه - دقة - قد يكون مرحلة ما قبل الحرب لان هذا ينزل إلى الميدان وذلك ينزل أيضا (2) فتأمل.

الإرشاد للنواقص

مسألة: يستحب بيان نواقص الفرد والأمة لهدف الإصلاح..، مع حفظ الموازين الإسلامية، سواء كانت نواقص قصورية أو تقصيرية، وقد يجب ذلك لوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وارشادالضال وتنبيه الغافل، كل حسب الموازين الفقهية المذكورة في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما أشبه.

وفي الصحيفة السجادية: «وامنحني حسن الإرشاد»(3).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «يا عبيد الدنيا والعاملين لها، إذا كنتم في النهار تبيعون وتشترون، وفي الليل على فروشكم تتقلبون وتنامون، وفيما بين ذلك عن الآخرة تغفلون وبالعمل تسوفون، فمتى تفكرون في الإرشاد، ومتى تقدمون الزاد ومتى تهتمون بأمر المعاد»(4).

وفي رسالة الحقوق للإمام زين العابدين (علیه السلام): «ثم حق رعيتك بالعلم فان

ص: 224


1- راجع كتاب (ولأول مرة في تاريخ العالم ج1-2) للإمام المؤلف (قدس سره).
2- فكان كل طرف ينزل عن ابله أو فرسه ليتقاتلا.
3- الصحيفة السجادية: ص108 ومن دعائه في مكارم الأخلاق.
4- غرر الحكم: ص145 ح2630.

..............................

الجاهل رعية العالم»(1). ووجوب بيان النقص القصوري - والحيلولة دون تحققه - في بعض أقسامه، إما لانطباق عنوان(المنكر) عليه عرفا ولبا (2)، واما لكونه مما علم من الشرع إرادة عدم تحققه في الخارج، فكما أن الطبيب عليه أن يبين للمريض مرضه وعلاجه، وكما على المريض أن يستجيب، كذلك على كل واحد من المصلحين - بل على الكل ممن اجتمعت فيه الشرائط - أن يبين للناس مرضهم وعلاجهم، وعليهم التقبل والاستجابة لا العناد والمقاطعة.

معاتبة القائد والامة

مسألة: يجوز للقائد أن يعاتب الأمة، وللأمة أيضاً معاتبة القائد، وكذلك عتاب الفرد أو الجماعة كالحزب والجمعية والهيئة وما أشبه ذلك.

والجواز هنا بالمعنى الأعم، من الوجوب والاستحباب، كل في مورده، وإن استلزم ذلك إيذاء بعضهم أو جلهم أو كلهم - مراعياً الموازين الشرعية - ، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان وإن استلزما ذلك في الجملة(3).هذا إذا كان العتاب من مصاديقهما، وان لم يكن كذلك فانه جائز إن كان

ص: 225


1- الخصال: ص564.
2- فلو شاهدنا شخصا يحاول قتل نفس محترمة جهلا منه بذلك حيث تصور أنه كافر حربي مثلا، وجب علينا إلفاته إليه أو الحيلولة دون ذلك، وهذا القتل (منكر) عرفاً وحقيقةً وإن لم يلتفت الفاعل على ذلك.
3- كما أن الجهاد واجب وإن استلزم إيذاء عوائل المحاربين البغاة مثلاً، ممن لم يكنّ على رأي أزواجهن، وذلك لحكومة أدلة الجهاد والأمر والنهي على أدلة النهي عن الايذاء، وللأهم والمهم، ولورودها في موردها.

..............................

مما بنى عليه الطرفان - ولو ارتكازا - كما في كثير من الحقوق التي يسقطها أصحابها من باب التواضع(1) والتقابل، وإن لم يكن كذلك أيضا فلا دليل على حرمته مطلقا إذ لا دليل على حرمة حتى هذه المرتبة من الإيذاء في هكذا موارد، نعم البالغ منه لا يجوز.

ثم (العتاب) قد يكون مستحبا وإن لم يكن من مصاديق الأمر والنهي المستحبين(2) لوقوعه مقدمة وطريقا إلى أشباه ما ذكرته الرواية الشريفة: (العتاب حياة المودة)(3). وقال الإمام الرضا (علیه السلام): «العتاب مفتاحالمقال والعتاب خير من الحقد»(4). وقد يكون العتاب أو كثرته مكروها، كما قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «لا تكثرن العتاب فانه يورث الضغينة»(5). وقال (علیه السلام): «كثرة العقاب تؤذن بالارتياب»(6). وقال (علیه السلام): «لا تعاتب الجاهل فيمقتك وعاتب العاقل يحبك»(7).

وأما الفرار فهو فرارهم عند القتال كما حصل في (أحد) وكما حصل في (حنين) وفي غيرهما(8).

ص: 226


1- المراد ب (التواضع) التباني.
2- وهما المتعلقان بالمستحب والمكروه، كأن يعاتبه على النوم بين الطلوعين أو على ترك صلاة الليل.
3- غرر الحكم: ص414 ح9465.
4- أعلام الدين: ص311.
5- غرر الحكم: ص479 ح11007.
6- غرر الحكم: ص479 ح11005
7- غرر الحكم: ص74 ح1131.
8- راجع كتاب (ولأول مرة في تاريخ العالم ج1-2) للإمام المؤلف.

فلما اختار الله لنبيه (صلی الله علیه و آله) دار أنبيائه ومأوى أصفيائه

اشارة

-------------------------------------------

تكاملية الدنيا والآخرة

مسألة: يلزم النظر إلى معادلة الدنيا والآخرة بلحاظ أنها مراحل فيمسار التكامل، فكما أن الدنيا بالنسبة لمرحلة (الكون في الأرحام) مرحلة متقدمة ومسيرة تكاملية،كذلك الآخرة بالنسبة للدنيا (1)قال تعالى: «وإن الدار الآخرة لهي الحَيَوَان»(2). وهذا بالنسبة لأولياء الله الصالحين، فكيف برسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو سيد الخلائق أجمعين.

والسيدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) تشير بقولها (اختار الله لنبيه..)(3) إلى حقيقة هامة هي أن قبضه (صلی الله علیه و آله) إلى ربه كان خيرا له، فإنه سير له (صلی الله علیه و آله) إلى ربه، وتكامل، وراحة (فمحمد (صلی الله علیه و آله) من تعبهذه الدار في راحة، قد حف بالملائكة الأبرار ورضوان الرب الغفار ومجاورة الملك الجبار)(4).

ص: 227


1- لهذا المبحث ذيل عريض في المباحث الفلسفية وشبهها في (قوس الصعود و النزول) وكيف تكون التكاملية التكوينية حتى بالنسبة لغير المؤمن، وقد تطرق الإمام المؤلف إلى جوانب من هذا المبحث في كتابه (العقائد) و(شرح منظومة السبزواري) وفي الفقه بالمناسبة.
2- سورة العنكبوت: 64.
3- اختار إما بمعنى خار (افتعل بمعنى فعل) وعلى هذا ف: خار الله له في الأمر: جعل له فيه الخير، وأما بمعنى الطلب: فاختار له كذا أي طلب له الخير في كذا. ويأتي بمعنى الانتقاء والاصطفاء والذخر أيضاً.
4- انظر ما سبق من خطبتها (علیها السلام).

..............................

وإن كان ذلك بالقياس إلى الأمة خسارة وضررا كبيراً.

ففي تعبيرها (علیها السلام) ب (اختار) إلفات إلى هذا الأمر، فقد استخلصه الله لنفسه، واصطفاه لرحمته، وأنقذه من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن سجن المادة إلى عالم الملكوت، ومن أمواج الفتن واثقال الرزايا والمحن إلى فسيح جنانه، وانقذه (منكم) بما أضمرتم وأظهرتم من تخاذل وتواكل وعداء، وبقينا نحن أهل بيته نواجه فيكم كل أحقادكم و ضغائنكم.

وقد أشار القرآن الحكيم إلى حقيقة إيذائهم للرسول (صلی الله علیه و آله) في آيات كثيرة، منها: قوله تعالى: «لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور»(1).

وقوله سبحانه: «ومنهم من يلمزك فيالصدقات»(2).

وقوله تعالى: «ومنهم الذين يؤذون النبي»(3).

وقوله سبحانه: «ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فان له نار جهنم خالداً فيها ذلك الخزي العظيم»(4).

وقوله تعالى: «والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وارصاداً لمن حارب الله ورسوله»(5).

وقوله عزوجل: «إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا

ص: 228


1- سورة التوبة: 48.
2- سورة التوبة: 58.
3- سورة التوبة: 61.
4- سورة التوبة: 63.
5- سورة التوبة: 107.

..............................

والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا» (1).

الإحياء والإماتة بيد الله

مسألة: يجب الاعتقاد بأن الإحياء والإماتة بيد الله تعالى لا غيره، فان الإماتة والإحياء انما هما باختيار الله سبحانه وتعالى، من غير مدخلية اختيارالإنسان إلا بالنسبة إلى بعض المقدمات في الجملة، واختيارية تلك المقدمات أيضا إنما هي بلطفه سبحانه وجعله كما لا يخفى، وذلك كالاتجار الذي يؤدي إلى سعة الرزق، وكالانتحار المؤدي إلى الهلاك، وكالمقاربة المؤدية إلى تكون الجنين، وغير ذلك. قال تعالى: «والله يحيي ويميت»(2).

وقال سبحانه: «وهو الذي يحيي ويميت»(3).

وقال عزوجل: «يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون»(4). وقال تعالى: «لا إله إلا هو، يحيي ويميت، ربكم ورب آبائكم الأولين»(5).

نعم كان اختيار الله سبحانه و تعالى لموت الرسول (صلی الله علیه و آله) برضاه (صلی الله علیه و آله) وإذنه تكريما له، كما ورد في الأحاديث.

ص: 229


1- سورة الأحزاب: 57.
2- سورة آل عمران: 156.
3- سورة المؤمنون: 80.
4- سورة الروم: 19.
5- سورة الدخان: 8.

ظهر فيكم حسيكة النفاق

اشارة

-------------------------------------------

ظهر فيكم حسيكة النفاق(1)

أقسام النفاق

مسألة: إطلاق كلامها (علیها السلام) يشمل الأقسام الأربعة للنفاق.

فإن النفاق قد يكون في أصول الدين، وقد يكون في الفروع، اعتقادا(2) أو أداءً (3).

والأول كفر.

والثاني قد يستلزمه(4).

والثالث من المحرمات.

وهناك نفاق رابع بالنسبة للأشخاص(5)فإنه رذيلة خلقية وقد يكون بعض أقسامه حراما.

وقد كان في أصحاب الرسول (صلی الله علیه و آله) منافقون من الأقسام الأربعة.

ومن الأول: ما أشار إليه تعالى بقوله :«إذا جاءك المنافقون قالوا

ص: 230


1- وفي بعض النسخ: (حسكة النفاق).
2- كالنفاق في الاعتقاد بالصلاة، بأن يظهر الاعتقاد بوجوبها ويبطن الإنكار.
3- بأن يصلي متى كان بمرأى من الناس ومسمع دون إنكار لوجوبها، وهو المعبر عنه بالرياء.
4- كما لو أنكر الاعتقاد بوجوب الصلاة وكان ذلك مستلزماً لإنكار أصل الرسالة.
5- بأن يظهر لك المحبة ويسر البغض ويظهر الصداقة ويضمر العداوة، إما لجهة شخصية كحسد أو بغض، أو لجهة نوعية، أو لجهة عقائدية وقد كان بعض أعداء الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) من مصاديق «أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله». سورة النساء: 54.

..............................

نشهد إنك لرسول الله والله يعلم أنك لرسوله والله يشهد أن المنافقين لكاذبون»(1).

وكأمثال من قال للإمام (علیه السلام): «بخ بخ لك يا بن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن و مؤمنة»(2).

ومن الثاني: ما أشار إليه سبحانه بقوله: «إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قامواكسالى يراءون الناس»(3).

وقوله عزوجل: «وما منعهم ان تقبل منهم نفقاتهم إلا انهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون»(4).

وقد اجتمعت هذه الأنواع الأربعة من النفاق في عدد من أعداء الإمام أمير المؤمنين علي (علیه السلام) واتّصف بعضهم ببعضها فقط، والتفصيل في كتب التاريخ(5).

هذا وقد جعل الله عزوجل الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) علماً بين الإيمان والنفاق وميزاناً لذلك، وجعل حبه (علیه السلام) علامة للإيمان وبغضه علامة للنفاق،

ص: 231


1- سورة المنافقون:1.
2- راجع الإرشاد: ج1 ص177، والأمالي للشيخ الصدوق: ص2 المجلس 1 ح2، وكشف الغمة: ج1 ص237 والعمدة: ص106.
3- سورة النساء: 142.
4- سورة التوبة: 54.
5- راجع كتاب (الغدير) للعلامة الأميني (رحمة الله).

..............................

وفي الحديث عن أبي عبد الله (علیه السلام) عن أبيه (علیه السلام) عن آبائه (علیهم السلام) قال: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) ذات يوملأصحابه: معاشر أصحابي إن الله جل جلاله يأمركم بولاية علي بن أبي طالب (علیه السلام) والاقتداء به فهو وليكم وإمامكم من بعدي لا تخالفوه فتكفروا ولاتفارقوه فتضلوا، إن الله جل جلاله جعل علياً علماً بين الايمان والنفاق فمن أحبه كان مؤمناً ومن أبغضه كان منافقاً»(1).

إظهار النفاق محرم

مسألة: يحرم إظهار النفاق(2) كما يحرم أصل النفاق، ولهذا قالت (علیها السلام): (ظهر)، فإن بعض الصفات إظهاره حرام دون إبطانه وإضماره كالحسد، وبعض الصفات يحرم إبطانه وإظهاره كالكفر والنفاق والرضا بما يحل بأنبياء الله وأوليائه (علیهم السلام) من المشاكل والمحن.

ولا يخفى أن الرضا هاهنا ليس بنية السوء موضوعاً وحكماً، إذ قد ورد أنّ نيّة السوء لا تكتب، وقد ورد في زيارة الإمام الحسين (علیه السلام):«ولعن اللهأمة سمعت بذلك فرضيت به»(3).

وقال (علیه السلام): (الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم)(4).

ص: 232


1- الامالي للشيخ الصدوق: ص284 - 285 المجلس 47 ح19.
2- كما في «وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنمّا نحن مستهزئون» سورة البقرة: 14.
3- الاقبال: ص589 فصل في زيارة الإمام الحسين (علیه السلام) يوم العشرين من صفر.
4- غرر الحكم: ص331 ح7633 وص433 ح9885، وخصائص الأئمة: ص107.

..............................

ويدل على ذلك(1)جملة من الأحاديث، ذكرنا بعضها في باب التجري.

وقد فصله الشيخ المرتضى (قدس سره) في التقريرات، وكلامها (علیها السلام) هنا يعد أحد الأدلة على حرمة النفاق(2).

لا يقال: إذا اظهر النفاق لم يعد نفاقا.

فإنه يقال: أولا: قد يظهر النفاق لغير من نافقه، كما في قوله تعالى:«وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا انا معكم إنما نحن مسهتزءون»(3).

وثانيا: قد يتجلى النفاق في مصاديق أخرى - رغم تكتمه عليه -(4) كما سيأتي بعد قليل.

وثالثا: الإضافة في قولها (علیها السلام): (حسيكة النفاق) أما بيانية أو لامية.

وعلى الأول: فيجاب أيضا بالظهور بعد الخفاء(5).

ص: 233


1- أي على حرمة الرضا بسوء فعل قوم، أو بما يحل بأنبياء الله وأوليائه من المحن، ويحتمل إرادة: حرمة إظهار النفاق.
2- وجهه ما سيأتي منه (قدس سره) في (سمل جلباب الدين) ، إضافة إلى ما سبق منه من كونه إخبارا يتضمن إنشاء لكونها (علیها السلام) في مقام التوبيخ والردع والزجر، أو بطنه الإنشاء، أو لدلالة الاقتضاء.
3- سورة البقرة: 14.
4- أي أن واقع النفاق قد يتسرب ويظهر عبر بعض (النوافذ) و(المظاهر).
5- أي إن ظهر فيكم حسيكة النفاق فعلى الإضافة البيانية يكون المعنى: (حسيكة هي النفاق) وقد ظهر هذا النفاق بعد أن كان خفياً فلا تناقض إذ كان نفاقاً والآن ظهر فأصبح ظاهره مطابقا لباطنه.

وعلى الثاني: لا مانعة جمع بين خفاء النفاق وظهور عداوته.

وهناك روايات عديدة في النفاق وأبوابه وأسبابه:

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله):

«أربع يفسدن القلب وينبتن النفاق في القلب كما ينبت الماء الشجر: استماع اللهو، والبذاء، وإتيان بابالسلطان، وطلب الصيد»(1)، أي كما كان عادة الملوك.

وفي الدعاء: «اللهم طهر لساني من الكذب وقلبي من النفاق»(2).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «الإيمان يبدو في القلب نكتة بيضاء كلما ازداد الإيمان ازداد ذلك البياض، فإذا استكمل العبد الإيمان ابيضّ القلب كله، وإن النفاق ليبدو في القلب لمعة سوداء كلما ازداد النفاق ازداد ذلك السواد فإذا استكمل النفاق اسود القلب كله»(3).

وقال (صلی الله علیه و آله): «الكذب باب من أبواب النفاق»(4).

وقال (صلی الله علیه و آله): «إياكم وتخشع النفاق وهو ان يرى الجسد خاشعاً والقلب ليس بخاشع»(5).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «بالكذب يتزين أهل النفاق»(6).

ص: 234


1- الخصال: ص227 ح63.
2- مصباح الكفعمي: ص96 الفصل 17.
3- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: ج1 ص94.
4- تنبيه الخواطر: ج1 ص113 باب الكذب.
5- تحف العقول: ص60.
6- غرر الحكم: ص219 ح4371.

..............................

وقال (علیه السلام): «شر الأخلاق والكذب والنفاق»(1).

وقال (علیه السلام): «الكذب يؤدي إلى النفاق»(2).

وقال (علیه السلام): «النفاق يفسد الإيمان»(3).

وقال (علیه السلام): «إياك والنفاق فان ذا الوجهين لا يكون وجيهاً عند الله»(4).

وقال (علیه السلام): «النفاق أخو الشرك»(5).

وقال (علیه السلام): «النفاق توأم الكفر»(6).

وقال (علیه السلام): «الخيانة رأسالنفاق»(7).

قولها (علیها السلام): (الحسيكة) هي: الضغينة والعداوة.

وفي بعض النسخ: (حسكة النفاق)، وهو على الاستعارة يعني: إنهم كانوا يضمرون النفاق في زمان رسول الله (صلی الله علیه و آله) ويظهرون النفاق من خلال بعض أعمالهم، مثل النكوص، ومثل الفرار، ومثل ما سجل التاريخ من بعض

ص: 235


1- غرر الحكم: ص219 ح4373.
2- غرر الحكم: ص220 ح4408.
3- غرر الحكم: ص458 ح10475.
4- غرر الحكم: ص458 ح10480.
5- غرر الحكم: ص458 ح10483.
6- غرر الحكم: ص458 ح10484.
7- غرر الحكم: ص460 ح10519.

..............................

كلماتهم وقد تقدم بعضها، إذ (ما اضمر أحد شيئا إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه)(1) ، وقال (علیه السلام): «من أستر لأخيه غشاً أظهره الله على صفحات وجهه»(2)..

فلما فارق رسول الله (صلی الله علیه و آله) الحياة ظهر نفاقهم وتجلى في مصاديق جديدة كمنع أهل البيت (علیهم السلام) عن خلافة الرسول (صلی الله علیه و آله) والهجوم على بيت فاطمة (علیهاالسلام) وكسر ضلعها وإسقاط جنينها وغصب فدك، وما أشبه ذلك كما جاء في مختلف التواريخ.

وأصل الحسك: الشوك، يقال: حسك السعدان، والواحدة حسكة، ثم استعير للنفاق الكامن في الباطن الذي يسبب وخز الآخرين بالأعمال والأقوال وحتى بالنظرات والإشارات، بل حتى بتموجات الفكر وإشعاعات القلب.

ص: 236


1- شرح النهج: ج18 ص137.
2- ارشاد القلوب: ص84.

وسمل جلباب الدين

اشارة

-------------------------------------------

وسمل جلباب الدين(1)

المحافظة على نضارة الدين

مسائل: يحرم أن يقوم الإنسان بما يؤدي إلى فقدان الدين نضارته وطراوته، ليتحول خَلِقَا باليا(2) وهذا في مرحلة الثبوت.

ويحرم أن يقوم بما يسبب أن يظهر الدين بمظهر الخَلِق البالي الذي لايستطيع حل مشاكل الحياة أو أن يتّهم ب (الرجعية)(3)، وهذا في مرحلةالإثبات.

كما يحرم أن يتهم أحد (الدين) بالرجعية والسّمل أو ان يتهم الدعاة إليه بذلك.

والوجه في قولها (علیها السلام): (سمل جلباب الدين) أن القوم بتنحيتهم من نصبه رسول الله (صلی الله علیه و آله) خليفة له، وقد كان أعلم الناس بكتاب الله وسنة رسوله (صلی الله علیه و آله)، وأقواهم على الحق وأتقاهم وأكثرهم حكمة وعقلا ودراية، كانوا السبب

ص: 237


1- وفي بعض النسخ: (وسمل جلباب الإسلام) راجع كشف الغمة: ج1 ص487.
2- فعدم ممارسة عملية الاجتهاد والاستنباط في المسائل المستحدثة التي ابتلي بها عالم اليوم كمسائل التأمين والتأميم و البنوك والقوة الشرائية وحجم النقد، وكذلك عدم استخراج الحكم الإسلامي في أبواب: الحقوق، القانون، الأحزاب، السياسة، الإقتصاد، علم النفس والاجتماع و..، يؤدي الى فقدان الدين نضارته وطراوته.
3- فعدم استخدام الوسائل الحديثة في التبليغ: كالأدب الحديث، والكمبيوتر والانترنيت والأقمار الصناعية، والاقتصار على أسلوب القدماء في التعبير والاستدلال والوسائل، يؤدي الى أن يظهر الدين بمظهر الخلق البالي فتفرّ منه جموع الشباب لتقع في فخ الأحزاب الشرقية و الغربية.

..............................

في فقدان الدين نضارته وطراوته وتحوله خَلِقا باليا:

ثبوتاً، وذلك بجهل كثير من الأحكام في كل أبعاد الحياة، وبوضع الشيء في غير موضعه - كنصب من لا أهلية له أميرا ووالياً وقاضياً وشبه ذلك.

واثباتا، حيث ظهر بذلك المظهر قديما وحديثا، وحيث اتهم بالكثير منالتهم(1).

ولذلك نرى أن الحق عندما يعود إلى نصابه بظهور الإمام المنتظر (عجل الله فرجه الشريف) يعود الدين على يديه غضاً جديدا..

وإننا وإن لم نقدر على ذلك كما هو المفروض وفي جميع المجالات لكن يجب علينا قدر الاستطاعة قال تعالى: «لا يكلف الله نفسا إلا وسعها»(2). ولعموم أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما أشبه.

وقولها (علیها السلام): (سمل جلباب الدين) وإن كان إخبارا عن قضية تاريخية إلا أنه يستنبط منه بدلالة الاقتضاء وغيرها حرمة كل ما يؤدي إلى أن يسمل ثوب الدين..

بل يدل على شدة حرمته حيث اعتبرته (علیها السلام) في عداد تلك الكبائر(3)وعدته إحدى النتائج المؤلمة لإعراضهم عن خليفة الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله).

ص: 238


1- كاتهامه بأنه دين السيف بسبب بعض الفتوحات غير المدروسة، واتهامه بالاستبداد والاثرة والظلم بسبب تصرفات الأمويين والعباسيين والعثمانيين ومن شاكلهم.
2- سورة البقرة: 286.
3- أي (ظهر فيكم حسكة النفاق) و(نطق كاظم الغاوين..).

..............................

وسمل جلباب الدين: كناية عن التفرق عن الدين حتى صار كالجلباب الخلق ليست له تلك الطراوة التي كانت في زمن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وكذلك في كل زمان و مكان وجماعة.

(وسمل) على وزن نصر، أي صار خلقا، وجلباب الدين: تشبيه بالجلباب الواسع الذي تغطي المرأة به جسمها، فكأن الدين - في أحد محتملات المعنى(1) - كان جلباباً على هؤلاء يغطي عيوبهم ونفاقهم، فلما قبض رسول الله (صلی الله علیه و آله) وانقلبوا على أعقابهم صار ثوباً خلِقاً وظهر من خلاله ما كانوا ينوونه ويضمرونه من النفاق والشقاق.

ص: 239


1- والمعنى الآخر: هو ما بني عليه المبحث السابق. فليدقق.

ونطق كاظم الغاوين

اشارة

-------------------------------------------

ونطق(1) كاظم الغاوين

تستر أهل الضلالة

مسألة: يحرم(2) أن يكظم الغاوي(3) غيه ويكتم غوايته بقصد التستر والمحافظة على ذاته وغيّه كي تسنح له الفرصة المناسبة فيفسد، أما إذا كان بقصد ضده(4) ولئلا تشيع الفاحشة فلا.

ونطقه وإفصاحه عند تهيأ الفرصة وسنوحها، عما كظمه وستره من الغي - نطقا قوليا أو عمليا - محرم أيضاً. وفي أمثال المقام الذي كانت السيدة الزهراء (علیها السلام) بصدده، من أكبر الكبائر، فإنها محاربة لله ولرسوله (صلی الله علیه و آله) ولأهل بيته (علیهم السلام). قال تعالى: «واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخمنها فاتبعه الشيطان فكان من الغاوين»(5).

وقال سبحانه: «إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين »(6).

ص: 240


1- وفي بعض النسخ: (فنطق).
2- من باب المقدمية، ولانه لفاعل مكر، وقد قال تعالى: «ومكروا ومكر الله» سورة آل عمران: 54، أو ما أشبه.
3- الغاوي: الضال، والكاظم: الساكت، وكظمه: حبسه وأمسك على ما في نفسه منه.
4- أي بقصد أن يعالج نفسه كي يطهر من ذلك.
5- سورة الأعراف: 175.
6- سورة الحجر: 42.

..............................

لزوم الحذر

مسألة: يجب أن لا يغتر المرء بسكوت أهل الضلالة، إذ رب يوم له ما بعده، وسكوتهم هذا قد يخفي ما خلفه، وقد يكون من مصاديق (ومكروا..)، فإن (كاظم الغاوين) قد يتربص الفرص لينطق يوما ما.

وقد ورد: «المؤمن كيّس فطن حذر»(1). وقال (علیه السلام): «اعلم أن للأمور أواخر فاحذر العواقب، وأن للأمور بغتات فكن على حذر»(2). وقال (علیه السلام): «المؤمن إذا وعظ ازدجر وإذا حذر حذر»(3). وقال (علیه السلام): «مناعتبر حذر»(4).

الفاعل والساكت الراضي

مسألة: الحرمة تكون بالنسبة إلى تلك الصفات الأربع: الناطق، النابغ، الهادر، الخاطر. وبالنسبة إلى من يظهر فيهم مثل هؤلاء الغاوين والأقلّين والمبطلين وهم يقدرون على رده فلم يردوه، ككل منكر يظهر في جماعة وهم قادرون على ردعه والمنع عنه فلا يفعلون. وبالنسبة للراضي بفعلهم، وذلك لأن (الساكت عن الحق شيطان أخرس)، ولما ورد في تكثير السواد(5)، ولأدلة

ص: 241


1- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: ج2 ص297.
2- تحف العقول: 367.
3- غرر الحكم: ص90 ح1540.
4- غرر الحكم: ص472 ح10792.
5- راجع المناقب: ج4 ص59 فصل في آياته بعد وفاته (علیه السلام)، ومثير الأحزان: ص80، واللهوف: ص136-137، واللفظ للهوف: «وروى ابن رياح قال: رأيت رجلاً مكفوفاً قد شهد قتل الحسين (علیه السلام) فسئل عن ذهاب بصره، فقال: كنت شهدت قتله عاشر عشرة غير أني لم أضرب ولم أرم، فلما قتل (علیه السلام) رجعت إلى منزلي وصليت العشاء الأخيرة ونمت، فأتاني آت في منامي فقال أجب رسول الله (صلی الله علیه و آله) فانه يدعوك، فقلت: ما لي وله، فأخذ بتلبيبي وجرني إليه، فإذا النبي (صلی الله علیه و آله) جالس في صحراء، حاسر عن ذراعيه، آخذ بحربة، وملك قائم بين يديه وفي يده سيف من نار، فقتل أصحابي التسعة، فكلما ضرب ضربة التهبت أنفسهم ناراً، فدنوت منه وجثوت بين يديه وقلت: السلام عليك يا رسول الله، فلم يرد علي، ومكث طويلاً، ثم رفع رأسه فقال: يا عدو الله، انتهكت حرمتي وقتلت عترتي ولم ترع حقي وفعلت ما فعلت، فقلت: والله يا رسول الله، ما ضربت بسيف ولا طعنت برمح ولا رميت بسهم، قال: صدقت ولكنك كثرت السواد، ادن مني، فدنوت منه فإذا طست مملوء دماً، فقال لي هذا دم ولدي الحسين (علیه السلام) فكحلني من ذلك الدم، فانتبهت حتى الساعة لا أبصر شيئاً».

..............................

النهي عن المنكر(1)، وقوله (علیه السلام): (الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم)(2).

قولها (علیها السلام): (ونطق كاظم الغاوين) المراد بكاظم الغاوين: الذي كان ساكتا ويكظم غيظه عن النبي (صلی الله علیه و آله) والدين، كما كان كذلك المنافقون وضعفاء الإيمان الذين يقولون في أنفسهم «نؤمن ببعض ونكفر ببعض»(3) ، ويريدون التخلص من النبي (صلی الله علیه و آله) وآله حتىيستريحوا - بزعمهم(4) - ويتركوا الجهاد في سبيل الله والتقدم عبر العمل بأمر الله عزوجل.

ص: 242


1- راجع موسوعة الفقه: ج48 كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
2- غرر الحكم ودرر الكلم : ص331 ح7633، وفي نهج البلاغة أيضاً، الكلمات القصار.
3- سورة النساء: 150.
4- في قوله (بزعمهم) إشارة دقيقة إلى أن الراحة في الحقيقة هي في اتباع الرسول (صلی الله علیه و آله) دنيا وآخرة، وإن بدى لمن يجهل كل الأبعاد والغايات إن في اتباعه ضدها.

ونبغ خامل الاقلين ، وهدر فنيق المبطلين

ونبغ خامل(1) الاقلين(2)، وهدر فنيق المبطلين

قولها (علیها السلام): (ونبغ) أي ظهر وخرج (خامل الاقلين)، والمراد بالاقلين: الذين كانوا في جيش رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأصحابه في جماعة المؤمنين، ولكنهم كانوا يضمرون النفاق والشقاق، فإنهم ظهروا بعد النبي (صلی الله علیه و آله) وبعد خمولهم في زمانه (صلی الله علیه و آله) خوفا منه (صلی الله علیه و آله) وهذا محرم كما لا يخفى.

قولها (علیها السلام): (وهدر فنيق المبطلين) الفنيق: هو البعير، والمراد بهدره: صوته، لأن الهدر هو صوت البعير الذي يخرجه من حنجرته، والمراد: أن زعماء أهل الباطل من المسلمين المنافقين أخذوا يرفعون أصواتهم ويكررونها ويرددونها(3) ضد قيادات الإسلام ومناهجه وهذا من المحرمات الكبيرة.

من أساليب المبطلين

مسألة: يلزم معرفة أساليب المبطلين لمواجهتها، وقد أشارت (صلوات الله عليها) باختيارها كلمة (هدر) في التعبير عن أسلوب زعماء المبطلين(4) إلى حقيقة هامة، وهي أنهم لا يكتفون لإثبات باطلهم بمجرد ذكره، بل إنهم يعتمدون

ص: 243


1- الخامل: الساقط الذي لا نباهة له.
2- وفي بعض النسخ: (الأولين).
3- إذ هدر البعير: ردد صوته في حنجرته.
4- عبر الإمام المؤلف (قدس سره) ب (زعماء المبطلين) نظرا لأن (الفنيق) من الإبل هو: الفحل المكرم الذي لايؤذى ولا يركب لكرامته، فاستعارت (علیه السلام) الفنيق لهم كناية عن كبارهم وزعمائهم.

..............................

منهج (غسيل الدماغ) عبر التكرار والترديد وإعادة القول مرة بعد مرة (كما يردد البعير صوته في حنجرته)، وهي نفس القاعدة التي اعتمدها لينين(1) حيث قال: (أكذب ثم أكذب ثم أكذب حتى يصدقك الناس)!!.

وفي المقابل، على جبهة الحق أن تعتمد أسلوب الإرشاد بعد الإرشاد، والتكرار بعد التكرار، كما قالتعالى:

«وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين»(2).

وقال سبحانه: «فذكر إن نفعت الذكرى»(3).

وقال عزوجل: «فذكر إنما أنت مذكر»(4).

دراسة سنن الحياة

مسائل: تجب دراسة سنن الحياة وحركة التاريخ وكيفية حدوث التطورات وردود الأفعال، والاعتبار بذلك، واتخاذ الموقف المناسب لنصرة الحق وإبطال الباطل.

ص: 244


1- فلاديمير لينين (1870-1924) زعيم الثورة الالحادية في روسيا ومؤسس الحزب الشيوعي، من كبار منظري الماركسية.
2- سورة الذاريات: 55.
3- سورة الأعلى: 9.
4- سورة الغاشية: 21.

..............................

فإن كلامها (عليها الصلاة والسلام): أبعد غورا في شرح ما جرى وإدانتهم عليه، إذ يستفاد منه التحليل الدقيق للظواهر الاجتماعية وكيفية تحرك قوى الضلال، للاعتبار على ضوء «لقد كان فيقصصهم عبرة لأولي الألباب»(1)، وللحيطة والحذر للناقد البصير الذي ينظر إلى كلامها (علیها السلام) بلحاظ كونه إنشاء أيضاً بالنظر للمستقبل كما هو إخبار عن الماضي.

فكما حدث مع الإمام أمير المؤمنين علي (علیه السلام) سيحدث مع الإمام الحسين (علیه السلام)، وهكذا وهلم جرا، ولو اعتبرت الأمة بكلامها لما تكرر الخطأ ولما حدثت المآسي اللاحقة.

وفي الحال الحاضر علينا أيضاً أن نضع كلامها (علیها السلام) نصب أعيننا في تقييم حركة القوى الضالة، ورصدها، واتخاذ التدابير اللازمة قبل حدوث أي منعطف يستغله الضالون (لينطقوا) ، والخاملون المغمورون (ليظهروا) ويصولوا ويجولوا، ورؤوس الفتن (ليهدروا)، ثم بعد ذلك (ليخطروا).

ص: 245


1- سورة يوسف: 111.

فخطر في عرصاتكم

اشارة

-------------------------------------------

الشيطان في مسرح القلوب

مسألة: يحرم أن يجعل الإنسان من نفسه ما يخطر الشيطان في عرصاته.

وعبر أدب تصويري رائع تعبر السيدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) بقولها: (فخطر في عرصاتكم) عن طريقة الشيطان التي يرسمها وحالته، إذ يقال خطر البعير بذنبه خطرا: إذا رفعه مرة بعد مرة وضرب به فخذيه.

والمراد : أنه صال وجال في محالكم، فقد هدر بصوته وحرك عقبه فرحا وتبختراً كما يفعل البعير ذلك، ومنه قول الحجاج(1) - لما نصب المنجنيق على الكعبة ورمى الكعبة وأهلها(2) - قال:

خطارة كالجمل الفنيق *** أعددتها للمسجد العتيق(3)

وقد شبه رمي الكعبة بخطرات الفنيق، يقصد بذلك أن اليوم لنا والقوة لنا في قبال الكعبة، ومن اعتصم بها.

ص: 246


1- الحجاج بن يوسف الثقفي ( - 95ه) ولد في الطائف، ولاه عبد الملك بن مروان ثم تولى مكة والمدينة والطائف والعراق، كان سفاكاً وسفاحاً وقمة في الاستبداد والطغيان.
2- راجع علل الشرائع: ص89، والخرائج والجرائح: ص268، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج6 ص108 وج15ص242 وج16 ص126، وبلاغات النساء: ص173.
3- عوالم العلوم، مجلد فاطمة الزهراء (علیها السلام) خطبتها في المسجد (الحاشية) طبع وتحقيق مدرسة الإمام المهدي (علیه السلام) قم المقدسة.

..............................

وفي كلامها (علیها السلام) هنا إشارة دقيقة، إذ عبرت ب (عرصاتكم) مشيرة إلى قابلية القابل ووجود الأرضية عندهم لتقبل وساوس الشيطان والاستجابة ل (خَطْرِه)، فإن (العرص): هو اللعب والمرح، و(العرصة) و(العرصات): هي ساحة الدار، وقد سميت بذلك لاعتراص (أي لعب ومرح) الصبيان فيها، وقد قال تعالى: «فاستخف قومه فأطاعوه » (1).

فقد (خطر) الشيطان، ولكن أين؟، في ساحات قلوبهم وأفكارهم التي جعلوهامسرحا للأهواء والشهوات، قال تعالى:«أنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون * إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون»(2).

ومن ذلك نعرف أن الشيطان لا (يتمكن) من ابن آدم، إلا لو (مكّنه) هو منه، حيث لا جبر كما مر، وقد فصلنا الحديث عنه في بعض كتبنا (3).

مواصفات المعارضين للإمام (علیه السلام)

مسألة: يلزم فضح المتآمرين على أهل بيت رسول الله (صلی الله علیه و آله) وبيان صفاتهم، وقد تضمنت الجمل السابقة من كلماتها (صلوات الله عليها) إشارة رائعة ودقيقة لصفات المتآمرين فهم كانوا يتصفون ب:

ص: 247


1- سورة الزخرف: 54.
2- سورة النحل: 99 - 100.
3- راجع موسوعة الفقه (المدخل): كتاب العقائد.

..............................

1- الغي والضلالة.

2- المكر والحيلة، لكظم غيظهماستعدادا للمستقبل.

3- الجهر بالباطل عند سنوح الفرصة (ونطق).

4- انهم كانوا أقليّة ولا تعبر في حقيقتها عن رأي الأكثرية، بل تسلحت بالإرهاب لإسكات جبهة الحق والأكثرية.

5- أنهم مجموعة ساقطة لا مستوى لها.

6- أنها برزت وظهرت عند منعطف استراتيجي، وهو وفاة الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله)، وذلك لسرقة الثورة والنهضة والدولة والقوة، والحكومة التي أرسى دعائمها الرسول (صلی الله علیه و آله).

7- انها تستخدم أسلوب (غسيل الدماغ): (هدر) - كما سبق -.

8- أن ظاهرها أنيق مكرم (فنيق) رغم أن الواقع تعيس مهشم.

9- انها قطعة من الباطل والضلالة.

10- انها تتبع الخطة بالخطة (هدر.. فخطر).

11- انها تتخذ قواعد المؤمنين مسرحا لمخططاتها ومؤامراتها.

12- انها في سبيل الشيطان وتابعة له.

ص: 248

وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفاً بكم

اشارة

-------------------------------------------

فسح المجال لقوى الشر

مسألة: يحرم تهيئة الأرضية وفسح المجال لقوى الشر والشياطين، لكي تنطلق من مكامنها وتخرج رؤوسها من مغرزها، هاتفة بالبشرية، مستدرجة للجماهير، مضللة لها.

قال تعالى: «ولا تعاونوا على الاثم والعدوان»(1).

ومن المعلوم أن للحرمة في هذا الباب درجات مختلفة، وما حدث بعد الرسول كان من أشد المحرمات، لأنه غيّر مجرى التاريخ وحرّف مسيرة الأمة، وقد ورد أن:

(من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجره شيء، ومن سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص منوزره شيء)(2).

وذلك لأن (الدال على الخير كفاعله)(3) والدال على الشر كذلك، فإنه السبب وهو (سعيه).

ص: 249


1- سورة المائدة: 2.
2- راجع ثواب الأعمال: ص132 باب ثواب من سن سنة هدى، والصراط المستقيم: ج3 ص80، ومكارم الأخلاق: ص454.
3- الخصال: ص134، والاختصاص: ص240، وثواب الأعمال: ص1.

..............................

فلا يقال: إن هذا ينافي قوله سبحانه: «وإن ليس للإنسان إلا ما سعى»(1) حيث أن سعيه خاص بعمله هو، وبسعيه المباشر، ولا يشمل عمل الآخرين الذين يقتدون به، وأيضاً: ينافي قوله تعالى: «كل امرئ بما كسب رهين»(2) وما أشبه كقوله سبحانه: «ولا تزر وازرة وزر أخرى»(3).

لأنه يقال: إن سن السنة السيئة فعله هو ووزر نفسه، ففعله هو الذي سبب وزر الآخرين، فهو وزرهم وفي نفس الوقتوزره أيضاً.

و(السعي) و(الكسب) أعم من (السعي) و(الكسب) المباشر، إذ يصح الإسناد إليهما(4)وهو كذلك عقلا ولبّا وكتابا وسُنة(5)، كما في «وما رميت إذ رميت »(6). ثم (التسبب) من مصاديق السعي والكسب(7) وقد تطرقنا إلى ذلك في (الفقه: الاقتصاد)(8) وغيره.

ص: 250


1- سورة النجم: 39.
2- سورة الطور: 21.
3- سورة الأنعام: 164.
4- أي يصح إسناد الفعل للفاعل المباشر وللسبب المرشد والمحرض، كما تقول: يزيد قاتل الامام الحسين (علیه السلام)، وعمر بن سعد قاتله، وشمر كذلك.
5- إذ من الواضح أن «ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها أسمه وسعى في خرابها» [ سورة البقرة: 114« يشمل قرار الحكومة بالمنع، وعمل الشرطة المباشر للمنع، و]سعى في خرابها» يشمل المخططين لخرابها والمحرضين والمنفذين.
6- سورة الأنفال:17.
7- فيستحق العقوبة عليه، من باب المقدمية.
8- موسوعة الفقه: ج107-108 كتاب الاقتصاد.

..............................

مكامن الشيطان

مسألة: يجب التعرف على مكامنالشياطين، وقواعد رؤوس الضلالة، ومغاور الفتن، ومن ثم إقامة السدود والحواجز دونهم، بل السعي لاستئصال شأفتهم فإن (العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس)(1).

ومن مصاديق ذلك ما طلبوه من ذي القرنين حيث « قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سداً »(2).

ولا يخفى عظيم هذه المسؤولية في زمن الغيبة الكبرى على العلماء، فعن الإمام الكاظم (علیه السلام) قال: «فقيه واحد، ينقذ يتيماً من ايتامنا، المنقطعين عن مشاهدتنا بتعليم ما هو محتاج إليه، أشد على إبليس من ألف ألف عابد وألف ألف عابد، لأن العابد همه ذات نفسه فقط، وهذا همه نفسه وذات عباد الله وامائه ينقذهم من إبليس ومردته»(3).

وعن الإمام الحسن (علیه السلام): «فضل كافل يتيم آل محمد المنقطع عن مواليه الناشب في تيه الجهل يخرجه منجهل ويوضح له ما اشتبه عليه، على فضل كافل يتيم يطعمه ويسقيه كفضل الشمس إلى السها»(4).

ص: 251


1- تحف العقول: ص356.
2- سورة الكهف: 94.
3- الصراط المستقيم: ج3 ص56.
4- منية المريد: ص116.

..............................

وقال الإمام الحسين (علیه السلام): «من كفل لنا يتيماً قطعته عنا محنتنا باستتارنا فواساه من علومنا التي سقطت إليه حتى أرشده بهداه وهداه قال له الله عزوجل: يا أيها العبد الكريم المواسي اني أولى بهذا الكرم، اجعلوا له يا ملائكتي في الجنان بعدد كل حرف علمه ألف ألف قصر، وضموا إليها ما يليق بها من سائر النعم»(1).

وقال الإمام الصادق (علیه السلام): «علماء شيعتنا مرابطون في الثغر الذي يلي إبليس وشيعته النواصب، ألا فمن انتصب لذلك من شيعتنا كان افضل ممن جاهد الروم والترك والخزر ألف ألف مرة، لأنه يدفع عن أديان محبينا وذلك يدفع عن أبدانهم»(2).

وقال الإمام محمد بن علي الجواد (علیه السلام): «إن من تكفل بأيتام آلمحمد المنقطعين عن إمامهم، المتحيرين في جهلهم، الأسراء في أيادي شياطينهم وفي أيدي النواصب من أعدائنا، فاستنقذهم منهم وأخرجهم من حيرتهم وقهر الشياطين برد وساوسهم وقهر الناصبين بحجج ربهم ودليل أئمتهم، ليفضلوا عند الله على العابد بأفضل المواقع بأكثر من فضل السماء على الأرض، والعرش على الكرسي، والحجب على السماء، وفضلهم على هذا العابد كفضل القمر ليلة البدر على أخفى كوكب في السماء»(3).

ص: 252


1- منية المريد: ص116.
2- منية المريد: ص117.
3- منية المريد: ص118.

..............................

والمراد بالشيطان في قولها (صلوات الله عليها) إما المعنى الحقيقي، كما هو الظاهر.

أو المعنى المجازي، أي : أخرج زعماء الشرك والنفاق رؤوسهم من مغارزها، كما في قوله تعالى:

«واذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون»(1).

ويمكن إرادة كلا المعنيين، بناءعلى إمكان ذلك عبر (الجامع) أو (في المجموع) أو (على سبيل القول) والتفصيل في الأصول(2).

ثم هل للشيطان (مغرز) حقيقي، أم ان التعبير كناية عن الظهور بعد الخمول؟

لا يبعد الأول، وربما يدل عليه بعض الروايات.

هذا ولا فرق - من حيث الحرمة والأثر الوضعي - بين أن يقصد من (سنّ سنة حسنة) أو من (سن سنة سيئة) أن يعمل بالسنة غيره أم لا، إذ هو (السبب) على كلا التقديرين، وإن كان ربما يقال بالدرجات والمراتب، وهل هناك فرق بين أن يعلم أو لا يعلم، أو الجاهل القاصر والمقصر ذكرناه في محله في باب التجري وما أشبه(3).

ص: 253


1- سورة البقرة: 14.
2- راجع (الأصول) للإمام المؤلف ج1 ص112 مبحث (استعمال اللفظ في اكثر من معنى).
3- راجع (الفقه: المرور) للإمام المؤلف.

..............................

قولها (علیها السلام): (مغرزه) المراد بالمغرز : محل اختفاء الرأس، ولعله تشبيه بالقنفذ وما أشبه حيث يخفي رأسه عند الخوف ويخرج رأسه عند زوال الخوف، وإن المنافقين ومن إليهم كانوا في زمن رسول الله (صلی الله علیه و آله) يختفون ويتسللون لواذاً، فلما توفي (صلی الله علیه و آله) أظهروا أمرهم، وهذا كناية عن تلك الحالة على ذلك الاحتمال.

وقد قال عبد الله بن الزبير، لما قيل له: لماذا لم تذكر اسم رسول الله (صلی الله علیه و آله) في خطبة الجمعة؟ : إن له أهيل سوء إذا ذكر اسمه إشرأبتّ أعناقهم(1).

أقول: لكن أهل البيت (علیهم السلام) كانوا يشرأبّون للحق، وهؤلاء المنافقون كانوا يشرأبّون لإظهار الباطل بعد اختفاء الحق بموت رسول الله (صلی الله علیه و آله).

ص: 254


1- راجع الصوارم المهرقة: ص97 وفيه: «إذا ذكرته اشروا وشمخوا بأنوفهم». وفي شرح النهج ج2 ص127: «إذا ذكرته اتلعوا أعناقهم».

فألفاكم لدعوته مستجيبين

اشارة

-------------------------------------------

الاستجابة للشيطان

مسألة: إجابة الشيطان - بما هي هي - محرمة في المحرمات ومكروهة في المكروهات، وربما يقال بلحاظ كونها استجابة له - بما هي استجابة - محرمة في الجملة حتى في غير المحرمات فتأمل، فلو تَعنْون المكروه - عرفاً - بكونه استجابة لدعوة الشيطان كان من هذا الباب، وكذلك المباح في الجملة، ولو قام به مسندا ذلك إليها ففيه الإشكال،وربما استلزم ما يخرج به عن الإيمان.

وقد يكون نظير ذلك التشبه بالكفار، والتفصيل في (الفقه).

وعلى هذا فإن قولها (علیها السلام): (فألفاكم لدعوته مستجيبين) يستفاد منه الإشارة إلى محرمين: المدعو إليه، والاستجابة معنونة بذلك(1)، أو مسندةإليها (2)، ولا بذلك : محرمة طريقيا، أو مكروهة كذلك(3).

ص: 255


1- أي معنونة بكونها استجابة.
2- أي مسندة إلى دعوة الشيطان.
3- والفرق بينهما: أن الثاني قصدي، دون الأول، فتارة يقوم بالعمل لانه قد دعاه إليه الشيطان أو من يجب، وتارة يقوم بالعمل لا لذلك بل لرغبة فيه لكنه عرفا يتأطر بإطار الاستجابة وينطبق عليه عنونها (كما أن التشبه بالكفار أيضاً كذلك فتارة يلبس ملابسهم لأنهم كذلك يلبسونها وتارة لا يقصد ذلك بل لأجل التوقي من البرد مثلا بهذا المصداق من الملابس مكنه عندما يراه الناس يصدق عليه عندهم عرفا أنه تشبه بالكفار). فيشمله الحرمة أو الكراهة حسب ما هو المذكور في الفقه.

..............................

وفي القرآن الكريم: «وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب اليم»(1).

وقال تعالى: «ولا تتبعوا خطوات الشيطان»(2).هذا وقد بين رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن مخالفة علي أمير المؤمنين (علیه السلام) استجابة للشيطان واتباع لخطواته والدخول في حزبه، حيث قال (صلی الله علیه و آله): «يا علي أنت حجة الله وأنت باب الله وأنت الطريق إلى الله وأنت النبأ العظيم وأنت الصراط المستقيم وأنت المثل الأعلى، يا علي أنت إمام المسلمين وأمير المؤمنين وخير الوصيين وسيد الصديقين، يا علي أنت الفاروق الأعظم وأنت الصديق الأكبر، يا علي أنت خليفتي على أمتي وأنت قاضي ديني وأنت منجز عداتي، يا علي أنت المظلوم بعدي يا علي، أنت المفارق بعدي، يا علي أنت المحجور بعدي، أشهد الله تعالى ومن حضر من أمتي حزبك حزبي وحزبي حزب الله، وان حزب أعدائك حزب الشيطان»(3).

ص: 256


1- سورة إبراهيم: 22.
2- سورة البقرة: 208.
3- عيون أخبار الرضا (علیه السلام): ج2 ص6.

..............................

الثبات على العقيدة

مسألة: يجب الثبات على العقيدة الصحيحة والعمل الصالح، وعدم التهاون في ذلك.

وقد قال سبحانه بالنسبة إلى فرعون: « فاستخف قومه فأطاعوه »(1) وبالنتيجة أدخلهم النار في الآخرة كما أغرقهم في الدنيا، وصار مثلا للطغاة الذين خسروا أنفسهم وأهليهم وشعوبهم أيضاً.

ولقد كان هؤلاء المنافقون في زمن الرسول (صلی الله علیه و آله) كما كان قوم فرعون في زمنه، وكان شيطانهم كفرعون أولئك، فكما (استخف قومه فأطاعوه) كذلك (ألفاكم لدعوته مستجيبين) أي: وجدكم الشيطان لدعوته للباطل مستجيبين.

أرضية الاستجابةمسألة

أرضية الاستجابةمسألة(2): لعل الإتيان بباب الاستفعال من قبيل قوله سبحانه «استجيبوا لله وللرسول »(3)، وقوله تعالى: «استجيبوا لربكم»(4)، فإن الإنسان الذي يجيب يتطلب الإجابة أولاً نفسيا أو ما أشبه ثم يظهره عمليا.

ص: 257


1- سورة الزخرف: 54.
2- قوله (قدس سره): (مسألة) بلحاظ الحكم الشرعي الذي سيذكره بعد أسطر.
3- سورة الأنفال: 24.
4- سورة الشورى: 47.

..............................

وهذه (الأرضية النفسية للاستجابة إلى الشيطان) في جانبها الاختياري، تعد من رذائل الاخلاق، وقد تكون محرمة.

فالمفروض أن يجاهد الإنسان نفسه كي (تكره) أية تلبية لنداء الشهوات والشياطين، وأية (رغبة) في ما تدعو إليه الأبالسة، وكما يكره الإنسان بطبعه أكل القاذورات يمكن له بالمجاهدة والرياضة أن (يكره) ارتكاب المحرمات.

وقد كتب الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) إلى معاوية: «ولا تمكنالشيطان من بغيته فيك»(1).

وقال الإمام الصادق (علیه السلام): «لا يتمكن الشيطان الوسوسة من العبد إلا وقد أعرض عن ذكر الله واستهان وسكن إلى نهيه ونسي إطلاعه على سره»(2).

وقال رجل للإمام الرضا (علیه السلام): «أوصني، قال: احفظ لسانك تعز، ولاتمكن الشيطان من قيادك فتذل»(3).

ص: 258


1- وقعة صفين: ص109.
2- مصباح الشريعة: ص79.
3- إرشاد القلوب:ص 103.

وللغرة فيه ملاحظين

اشارة

-------------------------------------------

وللغرة فيه ملاحظين(1)

الاغترار الفكري والعاطفي

مسألة: الاغترار بالشيطان قد يكون فكرياً أو عاطفياً أو عملياً، والأقسام الثلاثة تتراوح بين الحرمة والكراهة.

والظاهر من إطلاق(2) كلامها (صلوات الله عليها) أن القوم كانوا للاغترار بالشيطان في كل الأقسام الثلاثة ملاحظين، كما أن التاريخ يشهد بذلك أيضاً.

والاغترار الفكري من مصاديقه: تبرير الانحراف والتمسك بالتشكيك حجة على عدم الدفاع عن الحق وعلى التعاون مع أئمة الكفر ودعاة الضلال وحكام الجور.

والاغترار العاطفي من مصاديقه: الميل والركون إلى الأعداء، وقد قال تعالى: ] لايتخذ المؤمنون الكافرينأولياء من دون المؤمنين»(3).

وقال عزوجل: «الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فان العزة لله جميعاً»(4).

ص: 259


1- وفي بعض النسخ: (وللعزة ملاحظين).
2- حيث إن المفرد المحلى بأن يفيد الشمول، كما في قوله تعالى: «وأحل الله البيع» [ سورة البقرة: 275« و(الغرة) كذلك.
3- سورة آل عمران: 28.
4- سورة النساء: 139.

..............................

وقال سبحانه: «ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ومالكم من دون الله أولياء ثم لا تنصرون»(1).

أما الاغترار العملي: فواضح. ومن البين أن ذلك يسبقه عادة النوعان الآخران، وذلك مما قد يتجه الإنسان نحوه للتخلص من عذاب الوجدان، ووخز الضمير، وللحفاظ على ماء وجهه وكرامته أمام الآخرين، ولكن مع كل ذلك «بل الإنسان على نفسه بصيرة * ولو ألقى معاذيره»(2). وقد قال سبحانه: «إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولايغرنكم بالله الغرور»(3)، والمراد بالغرور الشيطان، إذ يكثر منه غر الإنسان وغشهوخداعه.

وقد خطب الإمام الحسين (علیه السلام) يوم عاشوراء حينما رأى صفوف الأعداء كالسيل فقال: «الحمد لله الذي خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال، متصرفة بأهلها حالاً بعد حال، فالمغرور من غرته، والشقي من فتنته، فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور… فنعم الرب ربنا وبئس العباد أنتم، أقررتم بالطاعة وآمنتم بالرسول محمد (صلی الله علیه و آله) ثم أنتم رجعتم إلى ذريته وعترته تريدون قتلهم ولقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم فتباً لكم ولما تريدون، إنا لله وإنا إليه راجعون، هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم فبعداً للقوم الظالمين»(4).

ص: 260


1- سورة هود: 113.
2- سورة القيامة: 14 - 15.
3- سورة لقمان :33 ، فاطر: 5.
4- المناقب: ج4 ص100 فصل في مقتله (علیه السلام).

..............................

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «أيها الناس أحذركم الدنيا والاغترار بها»(1).

وقال (علیه السلام): «أكبر الحمقالاغترار»(2).

وقال (علیه السلام): «الدنيا حلم والاغترار بها ندم»(3).

وقال (علیه السلام): «الغفلة تكسب الاغترار وتدني من البوار»(4).

وقال (علیه السلام): «خذ بالثقة في العمل وإياك والاغترار بالأمل»(5).

التراجع عن الدين

مسألة: يحرم التراجع عن الدين وأن ينقلب المسلمون على أعقابهم.

فإنه أشد حرمة من عدم الدخول في الدين، لأنه ارتداد، والارتداد أشدّ من الكفر في بعض الأحكام، كما ذكر في موضعه، ولما فيه من إضعاف جبهة المؤمنين، وإيجاد التشكيك في صفوفهم، والبلبلة في أوساطهم، وذلك كان من مخططات المشركين المنافقين زمن الرسول (صلی الله علیه و آله) في المعارك وغيرها.

قال سبحانه: «وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذينآمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون»(6).

ص: 261


1- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: ج1 ص150.
2- غرر الحكم: ص52 ح374.
3- غرر الحكم: ص135 ح2348.
4- غرر الحكم: ص266 ح5759.
5- التحصين لابن فهد: ص16.
6- سورة آل عمران:72.

..............................

وقال تعالى: «أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم»(1).

وهذا إخبار من الله عزوجل عن ردتهم بعد نبيه (صلی الله علیه و آله).

وقد قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) في خطبته يوم الغدير بعد ما قرأ هذه الآية المباركة(2): «معاشر الناس انه سيكون من بعدي أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون، معاشر الناس إن الله وأنا بريئان منهم، معاشر الناس انهم وأنصارهم وأتباعهم وأشياعهم في الدرك الأسفل من النار ولبئس مثوى المتكبرين…»(3).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام): «إن النبي لما قبض ارتد الناس على أعقابهم كفاراً إلا ثلاثاً سلمانوالمقداد وأبو ذر الغفاري»(4). وعنه (علیه السلام): «إن الذين ارتدوا على أدبارهم عن الإيمان بتركهم ولاية علي أمير المؤمنين»(5).

وقد ورد في أخبار غيبة الإمام المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) أن «له غيبة يرتد فيها أقوام»(6).

وفي الدعاء: «اللهم إني أسألك إيمانا لا يرتد»(7).

ص: 262


1- سورة آل عمران: 144.
2- سورة آل عمران: 144.
3- الاحتجاج: ص62 احتجاج النبي (صلی الله علیه و آله) يوم الغدير على الخلق كلهم.
4- الاختصاص: ص6.
5- تفسير القمي: ج2 ص308 سورة محمد.
6- كمال الدين: ص317.
7- البلد الأمين: ص109 من أدعية الإمام الكاظم (علیه السلام).

..............................

قولها (علیها السلام): (وللغرة فيه ملاحظين) المراد بالغرة : الاغترار والانخداع، يعني: انهم اغتروا بالشيطان، ولاحظوا أمره واستمعوا إلى صوته وهتافه، ولهذا رجعوا على أدبارهم القهقرى.

ولا يخفى اللطف في تعبيرها (علیهاالسلام) ب (في) بدل (الباء)(1) نظرا لأفادتها الظرفية، وهو أوقع من باء السببية في المقام، إذ يتضمن معنى تصويريا يكون المظروف فيه (الغرة) والظرف (دائرة الشيطان).

هل الأصحاب كالنجوم؟

مسألة: هذه الفقرات من كلماتها (علیها السلام) وما سبقها وسيلحقها تكشف النقاب عن عدم صحة التمسك بعموم ما ذكر في كتب العامة من أمثال: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم).

فإذا كان أصحابه (صلی الله علیه و آله) كما ذكرت (علیها السلام): (فألفاكم لدعوته مستجيبين، وللغرة فيه ملاحظين، ثم استنهضكم فوجدكم خفافا.. فوسمتم غير إبلكم.. ألا في الفتنة سقطوا.. وكتاب الله بين أظهركم .. وقد خلفتموه وراء ظهوركم.. وتستجيبون لهتاف الشيطان الغوي.. والموعد القيامة وعند الساعة يخسر المبطلون... وسرعان ما أحدثتم.. حتى إذا دارت بنا رحى الإسلام.. فأنى حزتم بعد البيان.. وأشركتم بعد الإيمان..الخ).

فكيف يمكن أن يكونوا كالنجوم وكيف يجوز أن يقال: (بأيهم اقتديتم

ص: 263


1- أي قولها (عليها السلام): (وللغرة فيه) ولم تقل (وللغرة به).

..............................

اهتديتم)؟ وكيف يكون هنالك (عشرة مبشرة بالجنة)؟

وما كلامها (علیها السلام) إلا إيضاح وتفصيل، لقوله تعالى: «أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم»(1).

بل إن كلماتها (علیها السلام) هاهنا تكشف عن أن كثيراً من المهاجرين والأنصار في المدينة انحرفوا عن جادة الصواب ولذا كان خطابها وعتابها شاملا للكثير من أصحاب النبي (صلی الله علیه و آله). هذا وفي الروايات الصحيحة: (أهل بيتي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهديتم)(2).

وفي تفسير العياشي عن الحسين بن المنذر قال: «سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن قول الله: «أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم» القتل أم الموت،قال: يعني أصحابه فعلوا ما فعلوا»(3).

وفي تأويل الآيات عن علي بن إبراهيم قال: «إن المخاطبة لقوله عز وجل «من يرتد منكم عن دينه»(4) لأصحاب النبي (صلی الله علیه و آله) الذين ارتدوا بعد وفاته وغصبوا آل محمد حقوقهم»(5).

ص: 264


1- سورة آل عمران: 144.
2- غوالي اللئالي :ج4 ص86 ح100.
3- تفسير العياشي: ج1 ص200 سورة آل عمران.
4- سورة المائدة: 54.
5- تأويل الآيات: ص155 سورة المائدة :54.

ثم استنهضكم فوجدكم خفافا

اشارة

-------------------------------------------

وقور عند الهزاهز

مسألة: يحرم على الإنسان أن يكون (ألعوبة) بيد الشيطان و(أداة طيّعة) بيده، أو بيد سائر قوى الشر والضلال، بحيث يجده (خفيفا) عند الاستثارة (غضوبا) عند التهيج. بل على الإنسان أن يكون وقوراً عند الهزاهز، ملازماً للحق، بحيث لايميل إلى هذا الجانب وذاك، فان البعض (تستفزه) الأحداث فينفجر ضد الحق أو يتخذ قرارات مرتجلة.

وعلى الإنسان أيضاً أن لا يكون مستسلما للعواطف السيئة أو مهبا لها، كالغضب والشهوة والجبن والخوف والشرر وما أشبه ذلك، بل يجب عليه أن يكون ثقيلاً في الحق، كما قال أمير المؤمنين علي (عليه الصلاة والسلام) لولده: «تزول الجبال ولا تزل» (1).

وقال (علیه السلام): «كن في الشدائد صبوراً وفي الزلازل وقوراً»(2).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال:«ينبغي للمؤمن أن يكون فيه ثمان خصال: وقور عند الهزاهز، صبور عند البلاء، شكور عند الرخاء، قانع بما رزقه الله، لايظلم الأعداء، ولا يتحامل للأصدقاء، بدنه منه في تعب، والناس منه في راحة»(3).

ص: 265


1- نهج البلاغة: الخطبة 11.
2- غرر الحكم: ص282 ح6290.
3- الأمالي للشيخ الصدوق: ص592 المجلس 86 ح17.

..............................

وعنه (علیه السلام) قال: «صفة المؤمن: قوة في دين، وحزم في لين، وإيمان في يقين، وحرص في فقه، ونشاط في هدى، وبر في استقامة، واغماض عند شهوة، وعلم في حلم، وشكر في رفق، وسخاء في حق، وقصد في غنى، وتجمل في فاقة، وعفو في قدرة، وطاعة في نصيحة، وورع في رغبة، وحرص في جهاد، وصلاة في شغل، وصبر في شدة، وفي الهزاهز وقور، وفي المكاره صبور، وفي الرخاء شكور..» الحديث(1).

ولا يكون كما قال الشاعر:

كريشة في مهب الريح طائشة *** لا تستقر على حال من القلق

قولها (علیها السلام): (ثماستنهضكم) يعني: أن الشيطان أولاً هتف بكم فلما رآكم قد استجبتم له طلب نهوضكم بالأمر، فإن كلَ مبطل أو محق يدعو الناس أولاً بالقول، فإذا رأى فيهم الاستجابة النفسية وما أشبه وعلى صعيد الكلمات والشعارات أيضاً، دعاه ذلك إلى دعوتهم للعمل ووضع المخطط العملي لهم.

(فوجدكم خفافا) أي في الحركة، سراعا فيها، مبادرين إلى ما دعاكم إليه ولستم بثقالٍ تلزمون الحق، كما قال سبحانه وتعالى بالنسبة إلى فرعون « فاستخف قومه فأطاعوه»(2).

ص: 266


1- الخصال: ص571 خمسون خصلة من صفات المؤمن ج2.
2- سورة الزخرف: 54.

..............................

الأصل: النهضة أم التحفظ؟

مسألة: هل الأصل (النهضة) و(التحرك)؟

أم الأصل (الاحتياط) و(التحفظ)؟

أم الأصل (إحقاق الحق)؟

الظاهر أنه ليست النهضة أصلاً ولا الثورة ولا الحركة، إذ قد يستنهض الشيطان الناس للثورة على وضع قائم، كما قالت (صلوات الله عليها): (ثم استنهضكم فوجدكم خفافا) وكما في الثورات الشيوعية والانقلابات العسكرية، ثم إنه قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إن الحسن والحسين إمامان قاما وإن قعدا»(1).

وليس الأصل السكون والتحفظ أيضاً، قال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض»(2).وفي الحديث: «الساكت عن الحق شيطان أخرس».

و: «أفضل الجهاد كلمة حق عند إمام ظالم»(3).

وفي بعض الأحاديث: «عند سلطان جائر»(4) و..

ص: 267


1- علل الشرائع: ص211، الإرشاد: ج2 ص30، الفصول المختارة: ص303، المسائل الجارودية: ص35، النكت في مقدمات الأصول: ص48، متشابه القرآن: ج2 ص46، كفاية الأثر: ص36.
2- سورة التوبة: 38.
3- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر:ج2 ص200.
4- غوالي اللئالي: ج1 ص432 ح131.

..............................

بل (إحقاق الحق) هو الأصل، فقد تكون النهضة والثورة طريقا إليه، وقد يكون السكون والتحفظ كذلك، قال (علیه السلام): «كن في الفتنة كابن اللبون لا ظهر فيركب ولا ضرع فيحلب»(1).

وقد يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عبر أسلوب المقاومة السلبية: من عدم التدريس، الجلوس في الدار، وعدم الذهاب للعمل، وسائر ما يسمى اليوم بالعصيان المدني.

وكان أمير المؤمنين (عليه صلوات الله وسلامه) هو أول من استخدم أسلوب المقاومة السلبية ضد الحكومة الجائرة، وكانت السيدة الزهراء (علیها السلام) هي أول من استخدمت ذلكالأسلوب كذلك. ومن هذا الباب نرى أن الإمام الحسن (علیه السلام) صالح معاوية والإمام الحسين (علیه السلام) حارب يزيد والتفصيل في محله.

ومثل ما ذكرناه ما جاء في السكوت وما أشبه، فقد سئل (علیه السلام) عن الكلام والسكوت أيهما أفضل؟ فقال (علیه السلام): «لكل واحد منها آفات، فإذا سلما من الآفات فالكلام أفضل من السكوت، قيل وكيف ذاك يابن رسول الله، قال لأن الله عزوجل ما بعث الأنبياء والأوصياء بالسكوت، إنما يبعثهم بالكلام، ولااستحقت الجنة بالسكوت، ولا استوجب ولاية الله بالسكوت، ولا توقيت النار بالسكوت، ولا تجنب سخط الله بالسكوت، إنما ذلك كله بالكلام، وما كنت لأعدل القمر بالشمس، انك تصف فضل السكوت بالكلام ولست تصف فضل الكلام بالسكوت»(2).

ص: 268


1- نهج البلاغة: قصار الحكم 1، وغرر الحكم: ص464 ح10675 الفصل التاسع في الفتنة.
2- الاحتجاج: ص315.

..............................

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «السكوت عند الضرورة بدعة»(1).

وقال (علیه السلام): «لا خير فيالسكوت عن الحق كما أنه لا خير في القول بالجهل»(2).

وقال (علیه السلام): «رأس الحكمة لزوم الحق وطاعة المحق»(3).

وقال (علیه السلام): «خير الأمور ما أسفر عن الحق»(4).

وقال (علیه السلام): «الحق أحق أن يتبع»(5).

وقال (علیه السلام): «الزموا الحق تلزمكم النجاة»(6).

وقال (علیه السلام): «من نصر الحق أفلح» وفي رواية (غنم)(7).

وقال (علیه السلام): «قولوا الحق تغنموا، واسكتوا عن الباطل تسلموا»(8).

ص: 269


1- غوالي اللئالي: ص293 ح175.
2- غرر الحكم: ص70 ح991.
3- غرر الحكم: ص59 ح632.
4- غرر الحكم: ص68 ح925.
5- غرر الحكم: ص69 ح959.
6- غرر الحكم: ص69 ح966.
7- غرر الحكم: ص69 ح975 و976.
8- غرر الحكم: ص70 ح986.

واحمشكم فألفاكم غضابا

اشارة

-------------------------------------------

واحمشكم (1) فألفاكم غضابا (2)

من أسلحة الشيطان

مسألة: يلزم التعرف على (أسلحة الشيطان)، فإن التعرف على أسلحة العدو من أهم عوامل المقدرة على التصدي لها ومواجهتها، ومن أهمها القوة الغضبية والعصبية الجاهلية والقومية والعائلية وغيرها.

كما قالت (صلوات الله عليها): (وأحمشكم) فقد أثار فيهم الشيطان العصبية والحسد ضد وصي الرسول (صلی الله علیه و آله) الإمام علي (علیه السلام) فقد كان قتل منهم - بأمر من الله ورسوله - كثيراً وذلك إبان مواجهتم للرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) في المعارك والغزوات؟

فقالوا: كيف تجتمع النبوة والخلافة في بيت واحد؟

وكيف يتأمر عليهم من عرفوه ب (شدة تنمره في ذات الله)، ولو حكم لحملهم على الحق مره وحلوه.

فالعصبية العائلية كانت سببا،والأضغان الشخصية كانت سببا آخر، والحسد كان عاملاً ثالثاً كما قال تعالى: «أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله»(3).

وقد نزلت هذه الآية في أمير المؤمنين والأئمة أهل البيت (علیهم السلام) حيث

ص: 270


1- وفي بعض النسخ: (وأحشمكم).
2- وفي بعض النسخ: (عطافاً).
3- سورة النساء: 54.

..............................

حسدهم الناس(1).

والخوف على المصالح الشخصية كان العامل الرابع.. إلى غير ذلك.

قولها (علیها السلام): (واحمشكم) أي: أغضبكم الشيطان، (فألفاكم غضابا): أي وجدكم تغضبون لغضبه.

ولا يخفى أن (حمش) و(حشم) كلاهما ورد بمعنى: أغضَبَ .

وفي بعض النسخ: (واحمشكم فألفاكم عطافا) من العطف بمعنى الميل، وهذا يصح على كل معنيي حمش(2): (أغضبكمفوجدكم مائلين إليه) أو (جمعكم فوجدكم منعطفين إلى ما جمعكم عليه).

وعلى إرادة معنى (الجمع) تكون هذه الفقرة مشيرة إلى معنى جديد زائد على (استنهضكم) كما كانت على ذلك المعنى مشيرة إلى معنى آخر.

الشيطان وسياسة الخطوة خطوة

مسألة: يتضمن كلامها (صلوات الله عليها) الإشارة إلى أسلوب ماكر يستخدمه إبليس وشياطينه، فان من أقوى أسلحة الشيطان الرجيم في اصطياد المؤمنين هو (التدرج) في استدراجهم، فهو يزين للإنسان النظرة، ثم الابتسامة، ثم الحديث، ثم اللقاء، ثم الزنا بالأجنبية، وهو يزين للإنسان السكوت عن الظالم، ثم فتح حوار معه، ثم زيارته، ثم الذوبان في بحر عطاءاته حتى النخاع..

ص: 271


1- راجع كمال الدين: ص680، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج7 ص220 وفيه: «أنها نزلت في علي (علیه السلام) وما خص به من علم».
2- حمشه: اغضبه وهيجه، وحمشه: جمعه.

..............................

وهكذا وهلم جرا.

فقد (اطلع الشيطان رأسه من مغرزه)، (هاتفا بكم)، (فألفاكم)، (ثم استنهضكم)، (واحمشكم)… وذلك من أسرار ما ورد من قوله (علیه السلام) (أشدالذنوب ما استهان به صاحبها)(1).

وفي الحديث أن: (السيئات بعضها آخذ بعنق بعض).

وفي الآية الشريفة: «سنستدرجهم»(2).

فيجب الحذر والاحتياط عند أول خطوة، وان كانت في حد ذاتها غير محرمة، فان (لكل ملك حمى وان حمى الله محارمه، فمن رتع حول الحمى أوشك أن يقع فيه)(3) و(أخوك دينك فاحتط لدينك)(4).

وهذا الاسلوب يستخدمه الشيطان مع من له بعض القوة والحصانة، أما هشّ الإيمان فانه يستجيب له بمجرد إشارة واحدة فقط، وقد كان البعض كذلك.

ولعل كلامها (علیها السلام) منصرف إلى القسم الأول، أما القسم الثاني فكانوا على وفاق مسبق معه، وكانوا يخططون للأمر قبل وفاة الرسول (صلی الله علیه و آله) بل منذ إسلامهمالظاهري(5).

ص: 272


1- نهج البلاغة: قصار الحكم 348، 477.
2- سورة الأعراف: 182، وسورة القلم: 44.
3- غوالي اللئالي: ج2 ص83.
4- الأمالي للشيخ المفيد: ص283 المجلس 33 ح9.
5- إشارة إلى حديث الإمام الصادق (علیه السلام) إجابة على سؤال: كيف أسلما ولم أسلما طوعاً أو كرهاً؟ فقال (علیه السلام):بل طمعاً، راجع الخرائج ص483 وفيه: «قال (علیه السلام): ما أسلما طوعاً ولا كرها، وإنما أسلما طمعاً، فقد كانا يسمعان من أهل الكتاب منهم من يقول: هو نبي يملك المشرق والمغرب وتبقى نبوته إلى يوم القيامة، ومنهم من يقول: يملك الدنيا كلها ملكاً عظيماً وينقاد له أهل الأرض، فدخلا كلاهما في الإسلام طمعاً في أن يجعل محمد (صلی الله علیه و آله) كل واحد منهما والي ولاية، فلما أيسا من ذلك، دبرا مع جماعة قتل محمد (صلی الله علیه و آله) ليلة العقبة فكمنوا له وجاء جبرائيل وأخبر محمد (صلی الله علیه و آله) بذلك، فوقف على العقبة وقال: يا فلان، يا فلان، يا فلان، أخرجوا فإني لا أمر حتى أراكم كلكم قد خرجتم، وقد سمع ذلك حذيفة، ومثلهما طلحة والزبير فهما بايعا علياً (علیه السلام) بعد قتل عثمان طمعاً في أن يجعلهما كليهما علي بن أبي طالب (علیه السلام) والياً على ولاية، لاطوعاً ولارغبة، ولا إكراهاً ولا اجباراً، فلما أيسا من ذلك من علي (علیه السلام) نكثا العهد وخرجا عليه وفعلا ما فعلا».

فوسمتم غير ابلكم، ووردتم غير شربكم

اشارة

-------------------------------------------

فوسمتم غير ابلكم، ووردتم (1) غير شربكم(2)

التصرف في ملك الغير

مسألة: يحرم - حرمة نفسية ومقدمية - : أن يسم الإنسان غير ابله وأن يرد غير مشربه، فإن التصرف في ملك الغير أو حقه لا يجوز إلا بإذنه، قال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض»(3).

وقال (علیه السلام): «لئلا يتوى حق امرئ مسلم»(4).

ص: 273


1- وفي بعض النسخ: (أوردتم).
2- وفي بعض النسخ: (مشربكم).
3- سورة النساء: 29.
4- غوالي اللئالي: ج1 ص315.

..............................

وجهان للقضية

قولها (علیها السلام): (فوسمتم غير ابلكم) الوسم عبارة عن: الكي ، ووضععلامة على الشيء يعرف بها أنه ملك لهذا الشخص أو لذاك، وهذا تشبيه لأخذهم الخلافة وغصبهم فدك بمن يستولي على إبل غيره فيجعلها لنفسه غصبا ونهبا، كمن يسم إبل الناس بسمة نفسه حتى يستولي عليه ويستملكه متذرعا بالعلامة، وكمن يدخل ويرد على غير مشربه فإنه غاصب للمشرب.

ولكلامها (علیها السلام): هنا (عقدان) عقد سلب وعقد إيجاب: فما ليس لهم قد وسموه، وما هو لغيرهم لم يسمحوا له بوسمه والتصرف فيه.

وبعبارة أخرى : الخلافة ليست لكم بل هي لغيركم، والتصرف فيها كان لغيركم فاتخذتموه لأنفسكم.

قولها (علیها السلام): (ووردتم غير شربكم) وفي بعض النسخ (أوردتم) وفي بعضها (وأوردتموها شربا ليس لكم) وفي بعضها (مشربكم)(1) والكل بمعنى واحد تقريباً.

(الورد)(2): عبارة عن الحضور على الماء والصيرورة إليه.كما قال سبحانه في قصة موسى (علیه السلام): «ولما ورد ماء مدين»(3).

ص: 274


1- المشرب: موضع الشرب، ويطلق على نفس الماء أيضاً، كما هو الشأن في المصدر الميمي.
2- الورد: هو الاسم من ورد، والمصدر: الورود.
3- سورة القصص: 23.

..............................

فإنهم أوردوا آبالهم على ماء غيرهم.

و(الشرب) بالكسر عبارة عن: الحظ من الماء، لأن الجماعة التي لها البئر أو النهر، يكون لكل واحد منهم حظ فيه، من ساعة أو ساعتين أو أكثر أو أقل، وهاتان الجملتان كنايتان عن أخذ القوم ما ليس لهم بحق من الخلافة والإمامة وفدك وغير ذلك كما وضحناه.

ثم إن الحرمة تترتب على كلا المعنيين: الحقيقي والمجازي الكنائي(1) كما لايخفى.

وإن وسم إبل الغير محرم نفسي بما هو تصرف في ملك الغير، وطريقي باعتبار كونه مقدمة للاستيلاء والتملك وتثبيت ذلك.

وادعاء الخلافة أيضاً لغير وصيه (صلی الله علیه و آله) محرم نفسي ومقدمي، فإن نفس هذا الادعاء - من غيرأهله - بما هو هو محرم نفسي، وبما هو طريق إلى فعلية الغصب للخلافة محرم مقدمي.

مصادرة الحقوق

مسائل: تحرم مصادرة حقوق الآخرين، وانتهاك حرمتهم، كما يحرم (تبرير) ذلك و(التعليل) له و(تغطيته) تحت عنوان (المصلحة العامة) أو ما أشبه ذلك، فإنه إغراء وتلبيس وخداع وتضليل كما هو شأن كل طاغ وجبار وجائر، ويحرم تبرير الآخرين متحلقين وغيرهم عمل الجائر أيضاً.

ص: 275


1- المعنى الحقيقي هو وسم الإبل وورود مشرب الغير، والمجازي هو غصب الخلافة كما هو المقصود من كلامها (علیها السلام).

..............................

وقد علل القوم مصادرتهم الخلافة وغصبهم حق الإمام علي (علیه السلام) ب (لأن فيه دعابة)(1)، ولأن كلمة العرب لا تجمع عليه لكثرة من قتل منهم إبان مواجهتهم للرسول (صلی الله علیه و آله)، ولأنه حدث السن، وكما قالت (علیهاالسلام): (ابتدارا زعمتم خوف الفتنة) وشبه ذلك.

وحقيقة الأمر غير ذلك كما صرحت به السيدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) إذ السبب الحقيقي كان (ظهر فيكم حسكة النفاق.. وهدر فنيق المبطلين.. واطلع الشيطان رأسه من مغرزه.. هاتفا بكم.. ثم استنهضكم.. واحمشكم..) (ف ) والفاء للتفريع (وسمتم غير ابلكم..). وعلى ضوء كلامها (علیها السلام) نعرف السبب الحقيقي وراء مصادرة الحكومات الجائرة أملاك الناس وثرواتهم وتأميم بعضها للشركات الكبرى والمعادن والصناعات الأم وغيرها.

ثم إنه تشمل التكنية ب (وسمتم غير ابلكم ووردتم غير مشربكم) : سرقه (الاعتبار)، كما كان صفة القوم يومذاك، وهو مشمول لاطلاق كلامها (علیها السلام)، وكما يصنعه (سراق الثورة) والذين يتخذون سياسة ركوب الموج وأشباههم.

وكان من ذلك سرقة ألقاب أمير المؤمنين ومولى الموحدين علي ابن أبي طالب (علیه السلام) (2).

ص: 276


1- راجع شرح نهج البلاغة: ج1 ص25 وص185، وج12 ص142، وراجع المناقب: ج3 ص213 فصل في حساده (علیه السلام)، هذا وقد ورد أن أصل الدعابة من صفات المؤمن قال (علیه السلام): «ما من مؤمن إلا وفيه دعابة» معاني الأخبار: ص164 باب معنى الدعابة، ومشكاة الأنوار: ص190 ومستطرفات السرائر: ص579.
2- من ألقابه (الصديق) و(الفاروق) و(سيف الله) و(أمير المؤمنين).. الخ.

..............................

ومنه سرقة الفضائل والأمجاد والبطولات والتاريخ المشرق أيضاً(1).

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «خذوا بحجزة علي (علیه السلام) فإنه الصديق الأكبر وهو الفاروق يفرق بين الحق والباطل، من أحبه هداه الله ومن أبغضه أبغضه الله، ومن تخلف عنه محقه الله»(2).

وقال (صلی الله علیه و آله): «يا علي أنت إمام المسلمين وأمير المؤمنين… يا علي أنت الفاروق الأعظم وأنت الصديق الأكبر»(3).

وورد في زيارته (علیه السلام): «السلام عليك أيها الصديق الأكبر، السلام عليك أيها الفاروق الأعظم»(4).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «علي سيف الله على أعدائه»(5).وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «أنا سيف الله على أعدائه ورحمته على أوليائه»(6).

ص: 277


1- كوضع حديث الخوخة في قبال حديث سد الأبواب راجع (الغدير) للعلامة الأميني(رحمة الله).
2- راجع الأمالي للشيخ الصدوق: ص673 المجلس 96 ح8.
3- عيون أخبار الرضا (علیه السلام): ج2 ص6 ح13.
4- المزار: ص78.
5- الأمالي للشيخ الصدوق: ص11 المجلس 3 ح6.
6- المناقب: ج3 ص113.

..............................

جواز الكناية

مسألة: الكناية في الخطاب جائزة، بل هي مما قد يحسن ويرجح، وليست الكناية كذباً كما سبقت الإشارة إليه، والكتاب والسنة مليئان بذلك، ومنه كلامها (علیها السلام) هاهنا: (فوسمتم غير ابلكم ووردتم غير مشربكم).

فإن الميزان في الكذب ليس حجم الكلام ولا هيكله وشكله، ولذا قالوا خرج عن الكذب التورية والمبالغة والإغراق والكناية(1).

والفرق بين المبالغة والإغراق: إن المبالغة فوق الواقع بقليل، أما الإغراق فهو فوق الواقع بكثير، فقد يقول: استقبله من أهل المدينة مائة، وقد يقول: استقبله كل أهل المدينة، بينما في الأول لم يستقبله مثلا إلا ثمانون وفي الثاني لم يستقبله إلا نصف أهل المدينة.

وهكذا خرج عن الكذب مثل الاستهزاء وما أشبه، لان الاستهزاء ليس من مقولة الخبر، بل من مقولة الإنشاء، والإنشاءلا مسرح للكذب والصدق فيه.

نعم قد يكذب الإنشاء باعتبار كونه طريقا إلى الخبر، مثلا يقول: تفضل إلى دارنا، فانه انشاء، لكنه يجاب بأنك تكذب، ويراد تكذيب قصده الواقعي، أي ما أراده أن يفهمنا بالكلام، يعني انك لا تقصد (الدعوة) عن جدّ، وانما تقصده خداعا أو هزلا كما ذكرناه في حاشية المنطق(2).

ص: 278


1- للتفصيل راجع موسوعة الفقه، كتاب المكاسب المحرمة: ج2 ص33.
2- مخطوط.. وللتفصيل راجع أيضا كتاب (البلاغة) للإمام المؤلف (قدس سره).

هذا والعهد قريب

اشارة

-------------------------------------------

حرمة نقض العهد

مسألة: يحرم نقض العهد، وأشد منه حرمة بل هو من أشد الكبائر: نقص عهد الله ورسوله، ومثل نقض عهد بيعة الغدير يعد من الكبائر الموبقة.

وذلك بدلالة العقل والنقل.

وهذا بخلاف الوعد، فإن المشهور بين الفقهاء عدم حرمة خلفه، وإن كان الوفاء بالوعد من الصفات الحسنة.

والفرق بين العهد والوعد، ان العهد ما يقع في العهدة، وأما الوعد فهو ما يتلفظ به مع القصد من دون أن يكون كذلك، فالعهد آكد من الوعد، ومن هذه الجهة يقال: (العهود بين الدول)، و(المعاهدات الدولية)، ولا يقال الوعود بين الدول، إلى غير ذلك.

ومن تلك الفروق: أن العهد عقد وليس الوعد عقداً.

وإذا علمنا بأن العهد واجب الوفاء فما بالك بعهد يعهده رسول رب العالمين (صلی الله علیه و آله) إلى الأمة؟ - وهي خلافة أمير المؤمنين علي (علیه السلام) - خاصة مع تأكيداتهالمتكررة بأنه عهد عهده الله إليه ليبلغه الأمة؟!. كما في القرآن الحكيم: «يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وان لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس»(1).

ص: 279


1- سورة المائدة: 67.

..............................

وقال تعالى: «وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم»(1).

وقال سبحانه: «الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل»(2).

وقال تعالى: «وبعهد الله أوفوا»(3).

وقال سبحانه: «وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا»(4).

وقال تعالى: «وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم»(5).وقد ورد في العديد من الروايات تفسير العهد بولاية أمير المؤمنين وإمامته وخلافته.

ففي تفسير القمي في الآية المباركة: «الذين ينقضون عهد الله»(6) قال: «نزلت هذه الآية في آل محمد وما عاهدهم عليه وما أخذ عليهم من الميثاق في الذر من ولاية أمير المؤمنين (علیه السلام) والأئمة من بعده (علیهم السلام)، وهو قوله: «الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه» يعني أمير المؤمنين (علیه السلام) وهو الذي أخذ الله عليهم في الذر، وأخذ رسول الله (صلی الله علیه و آله) بغدير خم»(7).

ص: 280


1- سورة النحل: 91.
2- سورة البقرة: 27.
3- سورة الأنعام: 152.
4- سورة الإسراء: 34.
5- سورة البقرة: 40.
6- سورة الرعد: 25.
7- تفسير القمي: ج1 ص363 سورة الرعد.

..............................

وروي أيضاً في تفسير قوله تعالى: «واوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولاتنقضوا الإيمان بعد توكيدها»(1) عن أبي عبد الله (علیه السلام) أنها نزلت في ولاية أمير المؤمنين (علیه السلام) (2).

إلى غيرها(3).

والكلم رحيب

قولها (علیها السلام): (والكلم رحيب) أي الجرح، فان الكلم عبارة عن الجرح، والرحيب بمعنى وسيع، لأن موت الإنسان يحدث جرحاً عميقاً واسعا في نفوس أقربائه وأودائه ثم يتجمع الجرح حتى يندمل ، وفي هذا إلفات إلى أنه لم يمض على وفاة الرسول (صلی الله علیه و آله) سوى ساعات حتى اجتمعوا في السقيفة، وكلامها (علیها السلام) هذا يدل على شدة حرمة ما فعله القوم.

ص: 281


1- سورة النحل:91.
2- تفسير القمي: ج1 ص389.
3- راجع تفسير القمي: ج2 ص301 سورة محمد.

والجرح لما يندمل

اشارة

-------------------------------------------

وجوب إحياء أمرهم (علیهم السلام)

مسألة: يمكن التمسك بكلامها (علیها السلام) هنا - وبدلالة الاقتضاء(1)- دليلا آخر على وجوب إبقاء مصاب الرسول (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته (علیهم السلام) حيا في القلوب، طريا على الألسن، ظاهرا على الجوارح كشعيرة من شعائر الله.

فإن عدم اندمال الجرح حقيقة - أو تنزيلا عبر ما يقوم به مقامه(2) - هو من اكبر أسباب إدانتهم، ومن أكبر عوامل فضح الظلمة والجائرين، ومن مقومات ردع من تسول له نفسه اتخاذمنهجهم والسير على دربهم، وهو (إنذار) و(إرشاد) و(تنبيه) كما لا يخفى.

وقد كان من علل بكائها (علیها السلام) تذكير الناس بمصاب الرسول (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته (علیهم السلام) وإبقائه حيا طريا، إحياءً لذكراه (صلی الله علیه و آله) ولكلماته ومنهجه ومدرسته، إضافة إلى فضحهم كما كان ذلك من علل بكاء الإمام السجاد (علیه السلام) عشرين أو أربعين سنة(3).

ص: 282


1- وهي ما يتوقف صحة أو صدق الكلام أو بعضه عليه، فإن صحة اعتراضها (علیها السلام) عليهم ب (والجرح لما يندمل) موقوف على كون عدم اندمال الجرح سببا لمزيد القبح في فعلهم، وسببا لصحة الاعتراض والفضح، واذا كان ذلك كذلك وكان ما يقوم مكانه كذلك، اشتركا في الحكم.
2- كالتذكير، والتصدير، والتمثيل وغير ذلك.
3- الأمالي للشيخ الصدوق: ص140.

..............................

وكلامها (علیها السلام) في خطبتها في المسجد وغيرها كانت ولا تزال من أهم العلل لتحول تلك المصائب والرزايا الكبرى إلى صور حية متجسدة أمام النواظر، متجذرة في النفوس، حارة في القلوب إلى يوم القيامة، فهي تذكرنا دائماً بالمؤامرة على منهج الرسول (صلی الله علیه و آله) والصراط المستقيم، وتدعونا للعودة إلى ما أكد (صلی الله علیه و آله) عليه مكررا بقوله: (كتاب الله وعترتي أهل بيتي)(1).فإن موت الرسول (صلی الله علیه و آله) خلف في القلوب جرحاً، ولم يطل الزمان حتى يندمل الجرح وينسى الناس وفاته، أي كيف فعلتم هذه الفعلة مع أن الرسول (صلی الله علیه و آله) لم يدفن بعد، فقد اجتمعوا في السقيفة قبل دفن الرسول (صلی الله علیه و آله) وفعلوا ما فعلوا.

وذكر بعض العلماء أن حكمة إبقاء الإمام أمير المؤمنين علي (علیه السلام) جسد الرسول (صلی الله علیه و آله) ثلاثة أيام يصلى عليه، بالإضافة إلى إرادة صلاة الناس عليه، أنه أراد أن لا يترك لهم عذراً يدفعهم إلى نبش القبر بحجة الصلاة على الرسول (صلی الله علیه و آله) ولا عذرا يدفعهم حتى إلى مجرد طرح هذا الأمر في المجالس وتردده على الألسنة، فإنه هتك حرمة بنفس هذا المقدار، كما حدث بالنسبة للسيدة الزهراء (علیها السلام) حيث أرادوا نبش القبر والصلاة عليها، ولكنها (علیها السلام) كانت قد أوصت بتجهيزها ليلاً حتى تثبت مظلوميتها للعالمين ولكي تسلب الشرعية ممن آذوها وغصبوا حقها وحق بعلها (صلوات الله عليهما).

ص: 283


1- بحار الأنوار: ج2 ص100 ب14 ح59.

..............................

التفاعل مع مصاب الزهراء (علیها السلام)

مسألة: يحرم عدم التفاعل مع ما ورد على الزهراء (علیها السلام) من المصائب ، وعدم الاهتمام بما ورد عليها (صلوات الله عليها).

وقد ورد في مستفيض الأحاديث بل متواترها - ولو تواترا معنوياً أو إجماليا - (شيعتنا منا خلقوا من فاضل طينتنا يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا)(1).

وقد صح عن الفريقين غضبها (صلوات الله عليها) على الشيخين(2) وايذائهما لها(علیها السلام) (3)، كما ثبت عند الفريقين قوله (صلی الله علیه و آله): «إن الله يرضى لرضى فاطمة ويغضب لغضبها» (4)..

ص: 284


1- راجع الخصال: ص635، وغرر الحكم: ص117 ح2050، وجامع الأخبار: ص179، وفضائل الأشهر الثلاثة: ص105 فضائل شهر رمضان ح95، وصفات الشيعة: ص3 ح5، وارشاد القلوب: ص144 وص257 وص423، وبشارة المصطفى: ص18 وص162 وص196.
2- بحار الأنوار: ج28 ص322 ب4 ح52. وانظر أيضا: صحيح البخاري: ج3 ص1126 ح2926، وج4 ص1594 ج3998، وج6 ص2474 ح6346، وصحيح مسلم: ج4 ص29-30 ح1759، وسنن الترمذي: ج4 ص135، ح1609، والسنن الكبرى للبيهقي: ج6 ص300، ومسند أحمد: ج1 ص18 ح56.
3- انظر الإمامة والسياسة لابن قتيبة: ج1 ص20.
4- بحار الأنوار: ج27 ص62 ب1 ح16. وانظر: المستدرك على الصحيحين للحاكم: ج3 ص167 ح4730، وميزان الاعتدال: ج1 ص 535 ح2002، وأسد الغابة: ج7 ص224، والإصابة: ج4 ص378، وتهذيب التهذيب: ج12 ص469 ح2860، ومجمع الزوائد: ج9 ص203، وذخائر العقبى: ص39، وتذكرة الخواص: ص310، وكفاية الطالب للكنجي: ص364، والشرف المؤبد: ص125.

..............................

وقوله (صلی الله علیه و آله): «من آذاها فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله» (1).

هذا وقد قال سبحانه: «إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهينا»(2).

وكيف لا يتفاعل المؤمن مع منبغضبها يغضب الرب الجليل؟(3).

ثم إن المراد ب(الجرح لما يندمل) قد يكون: الأعم من جرح موت الرسول (صلی الله علیه و آله) ومما ورد عليها من الجراح، وفي قصة حرق الدار وعصرها بين الحائط والباب وكسر الضلع وإسقاط الجنين وغير ذلك مما هو مذكور في التواريخ.

وقد يكون المراد من (والجرح لما يندمل) جرحها فقط.

وكلا الأمرين جائز فإن الجرح مادي ومعنوي، والجامع أنه جرح، ولذا قال الشاعر: جراحات السنان لها التيام ولا يلتام ما جرح اللسان

ولعل الآية المباركة أيضاً يراد بها الاثنان، قال سبحانه: «إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله»(4). ومن المعلوم أنه أصابتهم في الحرب قروح نفسية وقروح بدنية، لأن الحرب لها أهوال ومخاوف، كما أن لها جروحا ومعاطب. ولا يخفى أن كل واحد من القرح والجرح يطلق على الآخر مع انفراده،أما مع اجتماعه فالجرح ما يجرح والقرح يراد به الدمل ونحوه.

ص: 285


1- المناقب: ج3 ص332، فصل في حب النبي (صلی الله علیه و آله) إياها، وشرح النهج لابن أبي الحديد: ج16 ص273.
2- سورة الأحزاب: 57.
3- إذ ان تلك الجرائم الكبرى بحق ابنة الرسول ووصيه أوجبت سخطها وغضبها الشديد وغضب الله سبحانه وتعالى، فكيف لا يغضب المؤمن لغضب الرب.
4- سورة آل عمران:140.

والرسول (صلی الله علیه و آله) لما يقبر

اشارة

-------------------------------------------

عدم دفن الرسول (صلی الله علیه و آله)

مسألة: من المحرمات ترك الرسول (صلی الله علیه و آله) دون تكفين وغسل ودفن والاشتغال بما اشتغلوا، ووجه الحرمة فيه إضافة إلى كونه مخالفه لواجب مسلم(1) أنه(2) إهانة بالنسبة إلى الرسول (صلی الله علیه و آله) كما هو إهانة بالنسبة إلى كل ميت له شيء من الاحترام، والإهانة محرمة مطلقا خصوصا بالنسبة إلى عظماء الدين فكيف بالرسول (صلی الله علیه و آله) الذي هو اعظم من كل عظيم، مضافاً إلى أن القضية كانت مؤامرة ضد وصي الرسول (صلی الله علیه و آله) وخليفته المنصوص عليه.ووجه احتجاجها (علیها السلام) ب (الرسول لما يقبر) هو: الجوانب النفسية والطريقية وما أشبه مطابقة أو تضمناً أو التزاما، لذلك الترك.

ويدل عليه أيضاً قولها (علیها السلام) بعد قليل: (ألا في الفتنة سقطوا) فان (السقوط) امتد بامتداد الزمن وفي شتى الجهات.

توضيح ذلك: إن تركه (صلی الله علیه و آله) دون غسل وكفن ودفن محرم نفسي كما كان حراما من جهة طريقيته إلى الانشغال بغصب الخلافة، ومن جهة طريقيته أيضاً باعتبار كونه فتح باب لأمثال ذلك، - متعللين بعذر أو بآخر - كما جرى بالنسبة إلى سيد الشهداء الإمام الحسين (علیه السلام) حيث تركه القوم هو وأصحابه دون غسل

ص: 286


1- واجب المسلم هو دفن المسلم وكفنه وتغسيله وهو واجب شبه فوري ولا يجوز تأخيره أكثر من المقدار المتعارف.
2- أي تركه (صلی الله علیه و آله) دون غسل وكفن ودفن والانشغال بالدنيا.

..............................

وكفن ودفن، وكما فعلوا مع زيد بن علي (علیه السلام) بعد صلبه، إلى غير ذلك، وهذه السنة السيئة قد سنّوها من ذلك اليوم فعليهم وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة.

إشارات

المراد من (والعهد قريب) أي عهدكم بوصايا رسول الله (صلی الله علیه و آله) في أمير المؤمنين علي (علیه السلام)، وفي تعيينه خليفة من بعده، وذلك يومالغدير وغيرها.

ويحتمل إرادة العهد برسول الله (صلی الله علیه و آله) وهذا أيضاً بذلك اللحاظ، بقرينة ما سبقه من الجمل(1).

فإنهم في حياة الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) لم يكن بمقدورهم المخالفة العلنية بهذا النحو وبهذه الدرجة وإن خالفوا بانحاء آخر، لكنهم بعد وفاته (صلی الله علیه و آله) بادروا إلى الانقلاب على الأعقاب بسرعة قياسية.

و(قريب) إشارة إلى الامتداد الزمني، وهو الكم المتصل غير القار.

و(رحيب) إشارة إلى السّعة، هو كم متصل قارّ.

و(لما يندمل) إشارة إلى العمق، وهو من لوازم السعة أيضاً.

و(لما يقبر) إشارة إلى طرف آخر للإضافة، فان نقضهم لبيعة الغدير له إضافتان: أولهما: إلى العهد والميثاق نفسه. وثانيهما: إلى صاحبه ومن عقده(2).

ومن الواضح أن الجريمة تكون أقبح وأسوأ بلحاظ الإسناد، ومتعاكسة في الجهة، ومساوية في القوة مع درجة من أجرم بحقه.

ص: 287


1- فوسمتم غير ابلكم ووردتم غير مشربكم.
2- وهو الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله).

..............................

وله إضافة ثالثة أيضاً: إلى (من عقد له)(1). ورابعة: إلى (الأمة).

وخامسة: إلى (الأجيال القادمة)، فان نقضهم لبيعة الغدير كان جريمة بحق الأمة وبحق كل الأجيال اللاحقة، إذ شرعوا بذلك طريق الفساد والاستبداد والضلال والإضلال إلى يومنا هذا. وهناك إضافة سادسة أيضاً: إلى (أنفسهم) إذ بذلك النقض، خسروا الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين.

قولها (علیها السلام): (هذا) أي الانقلاب على الأعقاب والاغتصاب للحق البديهي ووسم غير ابلهم وورود غير مشربهم، (و) الحال أن (العهد) برسول الله (صلی الله علیه و آله) (قريب) إلى درجة كبيرة بل مذهلة، فان (الرسول لما يقبر) وهذا يتضمن مزيد إدانة لهم عقليا وعقلائيا وإنسانيا وعاطفيا…

ثم إنه يمكن أن يعد ذلك دفعا لدخل مقدر وإجابة على سؤال مفترض، اذ قد يتعلل بمخالفة القرار الصادر عن القيادة ب (النسيان) أو ب (بتغير الظروف)، وطرو مستجدات غيرت المعادلة، لكن (هذا والعهد قريب،والرسول لما يقبر) فأي عذر بعدها لكم؟ مع قطع النظر عن الجواب باستحالة كون هذا العهد مما يقبل التغير على كل الظروف.

وأما التعلل بخوف الفتنة فهو ما ستشير إليه (علیها السلام) في ما سيأتي.

ثم إن نقض العهد والحال أنه قريب، يكشف عن مزيد من خبث الباطن وعن مدى انقيادهم للشيطان الرجيم، كما أن في الجانب الآخر المسارعة إلى مغفرة من الرب تكشف عن سمو النفس وقوة العبودية له جل وعلا.

ص: 288


1- وهو الإمام أمير المؤمنين علي (علیه السلام).

ابتداراً زعمتم خوف الفتنة

اشارة

-------------------------------------------

ابتداراً (1) زعمتم خوف الفتنة

المسارعة للشر

مسألة: ربما يستفاد من قولها (علیها السلام): (ابتداراً) حرمة المبادرة للغصب ولمطلق المعصية، فقد يقال: بأن (الاغتصاب) محرم و(المبادرة إليه) محرم آخر.

وذلك بلحاظ أن (المبادرة) إلى الشر مذمومة عقلاً، كما ان فعله مذموم، كما أن (المسارعة) إلى الخير حسنة وممدوحة كفعله، ولذلك قال تعالى: «وسارعوا الى مغفرة من ربكم»(2) وقال سبحانه:«فاستبقوا الخيرات»(3).

بضميمة(4) مثل: (العجلة من الشيطان) و«إياك والعجلة بالأمور قبل أوانها والتساقط فيها عندزمانها»(5).

ولأنها أكثر زمانا(6) وأوسع تأثيراً وأكبر آثارا، ولما فيها (من سن سنة سيئة)(7)، فتأمل.

ص: 289


1- وفي بعض النسخ: (بداراً).
2- سورة آل عمران: 133.
3- سورة البقرة: 148، وسورة المائدة: 48.
4- ربما يكون التمهيد بذكر مذمومية المبادرة عقلا، لدفع دخل كون مثل (العجلة من الشيطان) ملحوظة طريقياً محضاً.
5- تحف العقول: ص147، ودعائم الإسلام: ج1 ص368.
6- إذ انه يبتدأ من اللحظة الأولى، بينما غير الابتدار يبتدأ من لحظات لاحقة.
7- وهي سرعة المبادرة للشر والمعصية، وتجد الحديث في مكارم الأخلاق: ص454.

..............................

وقد يكون السر في الردع عنها عقلا، أن في التأخير - إضافة إلى ما سبق - احتمال ارتداعه، وان العجلة فيها تسد الطريق - عادة - على التراجع.

ثم إن المبادرة للشر تكشف عن شدة التجري على الله سبحانه، والاستخفاف بنواهيه، وشدة الحرص على الدنيا، وخبث السريرة، وسوء الباطن، وقد قال الله سبحانه في حكم الاغتصاب لأموال اليتامى: «وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فان آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولاتأكلوها إسرافا وبدارا ان يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكلبالمعروف»(1).

أما المبادرة للخير فحسن وقد يجب، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) في وصيته لأمير المؤمنين (علیه السلام): «يا علي، بادر بأربع قبل أربع، بشبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك»(2).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «دوام الطاعات وفعل الخيرات والمبادرة إلى المكرمات من كمال الإيمان وأفضل الإحسان»(3).

وقال (علیه السلام): «المبادرة إلى العفو من أخلاق الكرام»(4).

وقال(علیه السلام):«للكرام فضيلة المبادرة إلى فعل المعروف واسداد الصنائع»(5).

ص: 290


1- سورة النساء: 6.
2- الخصال: ص239 ح86.
3- غرر الحكم: ص184 ح3478.
4- غرر الحكم: ص245 ح5005.
5- غرر الحكم: ص383 ح8719.

..............................

وقال (علیه السلام): «بادر الفرصةقبل أن تكون غصة»(1).

وفي وصية لقمان (علیه السلام): «يا بني بادر بعملك قبل أن يحضر أجلك وقبل أن تسير الجبال سيراً»(2).

وقال (علیه السلام): «اغتنم المهل وبادر الأجل وتزود من العمل»(3).

وفي الحديث: «من اشتاق إلى الجنة سارع إلى الحسنات وسلا عن الشهوات ومن أشفق من النار بادر بالتوبة إلى الله من ذنوبه..»(4).

وقال (علیه السلام): «بادر الخير ترشد»(5).

وقال (علیه السلام): «طوبى لمن بادر صالح العمل قبل أن تنقطع أسبابه»(6).

وقال (علیه السلام): «بادر الطاعةتسعد»(7).

وقال (علیه السلام): «بادر البر فان اعمال البر فرصة»(8).

وقال (علیه السلام) في الشعر المنسوب إليه:

تزود من الدنيا فإنك راحل***وبادر فإن الموت لا شك نازل

ص: 291


1- تحف العقول: ص80.
2- الاختصاص: ص340.
3- كنز الفوائد: ج1 ص349.
4- تحف العقول: ص281.
5- غرر الحكم: ص104 ح1855.
6- غرر الحكم: ص154 ح2878.
7- غرر الحكم: ص183 ح3454.
8- غرر الحكم: ص449 ح10321.

..............................

ومن المبادرة المذمومة ما قاله (علیه السلام): «المبادرة إلى الانتقام من شيم اللئام »(1)

قولها (علیها السلام): (ابتدارا زعمتم خوف الفتنة)، الظاهر أن (ابتدارا) مفعول له (2) مقدم لزعمتم، أي زعمتم خوف الفتنة، وهذا الزعم كان لأجل الابتدار الى أخذ الخلافة، وإلا لم تكن هنالك فتنة لان الخليفة معين منقبل الرسول (صلی الله علیه و آله) (3).

ثم إنه بلحاظ وقوع الابتدار في موقع الذم الأكيد والتقريع الشديد، بل في موقع أشد أنواع الذم والتألم والاحتجاج والردع، في كلامها (علیها السلام) يستفاد ما ذكر من الحكم(4).

تبرير المعصية

مسألة: يحرم تبرير المعصية في الجملة، فان (التبرير) إضلال ومكر وخديعة.

وقد أشارت (علیها السلام) في قولها (زعمتم خوف الفتنة) إلى الأسلوب الذي يستخدمه المنحرفون والطغاة عادة لإخماد صوت المعارضة، ولإقناع البسطاء والسذج، ولتكريس الواقع المنحرف، وهو (أسلوب التبرير).

ص: 292


1- غرر الحكم: ص346 ح7953.
2- كما في قولك (ضربته تأديبا)، ف (زعمتم خوف الفتنة ابتدارا).
3- كما يحتمل أن يكون (ابتداراً) مفعول له للأفعال السابقة.
4- أي الحرمة التي ذكرت في أول المسألة.

..............................

وكثيرا ما نرى قادة انقلاب عسكري يعللون انقلابهم بدكتاتورية الحكم السابق، مع انهم جاءوا بدكتاتورية اشد، ويخططون لظلم اكبر، أو يعللونبأنهم جاءوا للدفاع عن حقوق المستضعفين وشبه ذلك ثم يدوسونهم تحت أرجلهم.

وكان مما علل به القوم غصب الخلافة من الإمام علي (علیه السلام) أنهم قالوا إذا لم نبادر الى جعل الخليفة، تقع فتنة بين المسلمين، رغم ان الذين اعتذروا بمثل هذا كانوا يعلمون بأنه عذر غير صحيح، فان الفتنة بين المسلمين صارت بسببهم، وإلاّ فقد كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) عيّن الإمام علي (علیه السلام) خليفة من بعده وأخذ البيعة له من المسلمين يوم غدير خم(1)، لكن «بل الإنسان على نفسه بصيرة * ولو ألقى معاذيره»(2).

بل كان السبب هو حب الرئاسة و السلطة و… كما قال علي أمير المؤمنين (علیه السلام) في الخطبة الشقشقية: «أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة وانه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى ينحدر عني السيل ولا يرقى إلي الطير»(3).

مثلث المعصية

مسألة: أشارت (صلوات الله عليها) في هذه الجملة القصيرة الى مثلث المعصية الذي وقعوا فيه، فإنهم لم يرتكبوا محرما واحدا بل كانت الجريمة مزدوجة، بل كان عملهم (مجمع المعاصي)، فقد (كذبوا) و(مكروا) و(خانوا).

ص: 293


1- للتفصيل راجع موسوعة (الغدير) للعلامة الأميني (رحمة الله).
2- سورة القيامة: 14 - 15.
3- نهج البلاغة: الخطبة الشقشقية.

..............................

فب (ابتدارهم) إلى غصب الخلافة (خانوا) الله ورسوله (صلی الله علیه و آله)، و(خانوا) العهد والبيعة، و(خانوا) الإمامة والأمة.

وقد (كذبوا) في زعمهم إن ذلك كان (خوف الفتنة)، إذ كان السبب غير ذلك، بل هو حب الدنيا والرئاسة وما أشبه حيث حليت الدنيا في أعينهم.

وقد (مكروا) حيث حاولوا التغطية على واقع الجريمة باختلاق عذر أرادوا به إقناع الأمة وإغفال الناس «ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين» (1).

وبذلك كشفوا عن خبث باطنهم وسوء سريرتهم.

وحيث إنها (علیها السلام) في مقام اشد أنواع التقريع، ربما استفيد منذلك - إلى جوار سائر الأدلة العامة والخاصة - مضافاً إلى حرمة الكذب والمكر والخيانة، كونها من أشد المصاديق حرمة، فان كل واحد منها تكون حرمته اعظم في الأمور العظيمة.

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من كان مسلماً فلا يمكر ولا يخدع، فاني سمعت جبرئيل يقول إن المكر والخديعة في النار، ثم قال (صلی الله علیه و آله): ليس منا من غش مسلماً، وليس منا من خان مسلماً»(2).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «لا سوءة أسوء من الكذب»(3).

وقال (علیه السلام): «الكذب في العاجلة عار، وفي الآجلة عذاب النار»(4).

ص: 294


1- سورة آل عمران: 54.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: ص270 المجلس 46 ح5.
3- الأمالي للشيخ الصدوق: ص321 المجلس 52 ح8.
4- غرر الحكم: ص220 ح4399.

..............................

وقال (علیه السلام): «الكذب فساد كل شيء»(1). وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «ثلاثة يرجعن على صاحبهن:النكث والبغي والمكر»(2).

وقال (صلی الله علیه و آله): «وإياك والمكر فإن الله قضى أن لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله»(3).

وقال (علیه السلام): «المكر لؤم والخديعة شؤم»(4).

وقال (علیه السلام): «المكر سجية اللئام»(5).

وقد نهى رسول الله (صلی الله علیه و آله) عن الخيانة(6) وقال (صلی الله علیه و آله): «من خان أمانة في الدنيا ولم يردها إلى أهلها ثم أدركه الموت، مات على غير ملتي ويلقى الله وهو عليه غضبان»(7).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «الخيانة رأس النفاق»(8).

وقال الإمام الصادق (علیه السلام):«يجبل المؤمن على كل طبيعة إلا الخيانة والكذب»(9).

ص: 295


1- غرر الحكم: ص220 ح4406.
2- تفسير العياشي: ج2 ص121 سورة يونس.
3- تحف العقول: ص35.
4- غرر الحكم: ص291 ح6478.
5- غرر الحكم: ص291 ح6481.
6- الأمالي للشيخ الصدوق: ص430 المجلس 66.
7- الأمالي للشيخ الصدوق: ص430 المجلس 66.
8- غرر الحكم: ص460 ح10519.
9- الاختصاص: ص231.

ألا في الفتنة سقطوا

اشارة

-------------------------------------------

السقوط في الفتن

مسألة: قولها (علیها السلام) يدل على أن القوم سقطوا في الفتنة، ويلزم الاعتقاد بذلك، وهذا اقتباس من الآية المباركة:«ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وان جهنم لمحيطة بالكافرين»(1).

وقد ذكرنا فيما تقدم إن الدنيا لها اوجه: وجه دنيوي ملموس، ووجه أخروي ناري، ووجه أخروي نوري، ولا حاجة إلى تكرار ما سبق، وستأتي إشارة إليها ولكنا نضيف هنا:

إن التعبير ب« في الفتنة»، وفي للظرفية، بلحاظ إن الفتنة ليست أمرا مفردا وجزئيا واحدا عادة، بل هي ظرف محيط يطوق الإنسان فكريا واجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وغير ذلك، إذ هيمنظومة متكاملة من الجزئيات والأقوال والأفراد والأحداث التي تحيط بالمرء من كل حدب وصوب، ف (يسقط) فيها الناس.

والتعبير ب (سقطوا) أيضا لنكتة دقيقة، فان الفتنة هي مهوى سحيق، وبئر عميقة موحشة يسقط فيها الإنسان، وليس الأمر مجرد منظومة تحيط بإنسان من كل صوب.

وكذلك كانت (فتنة السقيفة) فلم تكن مفردة واحدة، بل كانت سلسلة

ص: 296


1- سورة التوبة: 49.

..............................

متعاضدة من التخطيط والضغط والقهر والقسر والإرهاب:

أحد أطرافها إنكار وفاة الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) وتهديد من يقول بذلك(1).

والطرف الآخر: حرق باب ابنةالرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) (2) وكسر ضلعها

ص: 297


1- قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: «وروى جميع أصحاب السيرة أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما توفي كان أبو بكر في منزله بالسنح… فقال عمر بن الخطاب: ما مات رسول الله (صلی الله علیه و آله) ولايموت حتى يظهر دينه على الدين كله وليرجعن فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم ممن أرجف بموته، لاأسمع رجلاً يقول مات رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلا ضربته بسيفي!» وراجع الطرائف: ص451.
2- من أراد التفصيل في هذا الباب فليراجع كتاب (الهجوم على بيت فاطمة) لمؤلفه عبدالزهراء مهدي، ولا بأس هنا بالإشارة السريعة إلى بعض ما ورد في هذا الكتاب من قصة حرق الدار أو كسر الضلع وإسقاط الجنين وذكر بعض رواتها من مصادر الشيعة والسنة، تتميماً للفائدة: فمن مصادر الشيعة: 1. أبو الصلاح الحلبي (ت447): راجع تقريب المعارف: ص233. 2. أبو الفتح بن مخدوم العربشاهي الجرجاني (ت976): انظر مفتاح الباب: ص199 المطبوع مع الباب الحادي عشر. 3. أبو الفتح محمد بن علي الكراجكي (ت449): كنز الفوائد: ص63-64. 4. أبو القاسم جعفر بن محمد قولويه (ت367): كامل الزيارات: ص332-334. وص326-327. 5. أبو جعفر الطبري: بشارة المصطفى: ص198. 6. أبو محمد طلحة بن عبد الله العوني (ق4): مثالب النواصب: 420-422. 7. أبو مخنف لوط بن يحيى (ت158): (ترجمة بحر الأنساب) ص1-2، عنه (الهجوم على بيت فاطمة ص224). 8. أبو هاشم اسماعيل بن محمد الحميرى (ت173): الصراط المستقيم: ج3 ص13. 9. العلامة المولى مهدي النراقي (ت1209): أنيس الموحدين: ص180. .............................. 10. المحقق الثاني الكركي العاملي (ت940): نفحات اللاهوت: ص78 و130. 11. ابن أبي الجمهور الأحسائي (ت ق10): مناظرات في الإمامة: ص378. والمجلى: ص417 وص437. 12. ابن بابويه القمي (ت329): مثالب النواصب: ص26. 13. ابن حمزة الزيدي (ت614): الشافي: ج4 ص174. 14. ابن شهر آشوب (ت588): مثالب النواصب: ص419 و420. 15. ابو اسحاق إبراهيم بن محمد الثقفي (ت283): الهجوم على بيت فاطمة: ص231. 16. الإمامي الخاتون آبادي (ت 1128): جنات الخلود: ص19. 17. الأمير علي بن مقرب الإحسائي (ت629) : ادب الطف: ج4 ص31. 18. الجرمقي البسطامي الخراساني (ق13): خزائن المصائب: ب2 ص11. 19. الحاج محمد حسن القزويني (ت1240): رياض الشهادة في مصائب السادة: ج1 ص122. 20. الحاج ملا اسماعيل السبزواري (ت1312): جامع النورين: ص206 و244. 21. الحسن بن بدر الدين الحسيني الزيدي (ت670) : أنوار اليقين: ص378-379. 22. الحسن علاء الدين الحلي (ق8): عنه الغدير : ج6 ص391-392. 23. الحسين العقيلي الرستمداري (ق10) رياض الأبرار: ص33. 24. السروجي: مثالب النواصب: ص423. 25. السيد الحسني الرازي (ق6): تبصرة العوام: ص49. 26. السيد بن طاووس (ت664): الطرائف: ص238. 27. السيد حيدر العلوي الحسيني الآملي (ت 787) : الكشكول: ص83-84. 28. السيد رضي الدين علي بن رضي الدين علي بن طاووس (ق7) : زوائد الفوائد، عنه البحار ج98 ص353. 29. السيد محمد التقوي الهندي (ت1284): طعن الرماح المسمى بالفوائد الحيدرية: ص93. 30. السيد محمد باقر المجتهد الكنجوي: (مرقات الإيقان): ج1 ص125 وص112. .............................. 31. السيد محمد مهدي بحر العلوم الطباطبائي (ت1212): مستدركات أعيان الشيعة: ج2 ص332. 32. السيد ناصر الهندي (ت1361): إفحام الاعداء والخصوم: ج1 ص93. 33. السيد هادي بن إبراهيم الوزير (ت 822) : نهاية التنويه في إزهاق التمويه: ص122. 34. الشريف أبو الحسن بن محمد طاهر النباطي العاملي (ت 1138): ضياء العالمين: ج1 ص546 و557. 35. الشريف المرتضى (ت436): الشافي: ج3 ص241. 36. الشيخ أبو السعادات اسعد بن عبد القاهر الاصفهاني (ق7) : رشح الولاء في شرح الدعاء، عنه البحار: ج85 ص264-266. 37. الشيخ أبو زينب النعماني (ق 3) : الغيبة: ص47. 38. الشيخ احمد الطبرسي (ق6): الاحتجاج: ص80 و278. 39. الشيخ البحراني في عوالم العلوم: ج11 ص391. 40. الشيخ الديلمي (ت771): إرشاد القلوب: ص295. 41. الشيخ الصدوق (ت381): أمالي الصدوق: ص114 وص134. ومعاني الأخبار: ص206. 42. الشيخ الطوسي (ت460): تلخيص الشافي: ج3 ص76. 43. الشيخ الكليني (ت329) : الكافي: ج1 ص458. 44. الشيخ المفيد (ت 413): الاختصاص: ص185-187. والأمالي: ص49-50. والجمل: ص117-118. 45. الشيخ جعفر كاشف الغطاء (ت1228): كشف الغطاء: ص18. 46. الشيخ حسن بن سليمان الحلي (ق8): المحتضر: ص61. 47. الشيخ حسن بن سليمان الحلي: المحتضر: ص109. 48. الشيخ حسين بن عبد الرزاق التبريزي (ق13): بشارة الباكين: ص26. 49. الشيخ زين الدين العاملي البياضي (ت877): الصراط المستقيم: ج2 ص301 وج3 ص94 وص239. .............................. 50. الشيخ سليمان بن عبد الله الماحوزي البحراني (ت1121): ذخيرة يوم المحشر: ص98. 51. الشيخ صالح بن عبد الوهاب بن العرندس (ت840): الصوارم الحاسمة، عنه الجنة العاصمة ص252. 52. الشيخ عبد الجليل القزويني الرازي (560): كتاب النقض: ص317. 53. الشيخ عبد الخالق بن عبدالرحيم اليزدي (ت1268): مصائب المعصومين: ص127. 54. الشيخ علي أكبر النهاوندي (ت1369): أنوار المواهب: ص97-98. 55. الشيخ محمد باقر الفشاركي (ت1314): عنوان الكلام: ص142، المجلس 25. 56. الشيخ محمد باقر القايني البيرجندي (ت1352): الكبريت الأحمر: ص277. 57. الشيخ محمد تقي المعروف بآغا نجفي (ت1332): أسرار الزيارة بهامش حقائق الأسرار: زيارة فاطمة (علیها السلام). 58. الشيخ محمد جواد اليزدي المشهدي الشيباني: شعشعة الحسينية: ص144. 59. الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء (ت1373): جنة المأوى: ص133. 60. الشيخ محمد علي الكاظمي (ت1281): حزن المؤمنين: ص61. 61. الشيخ مغامس الحلي (ق9): المنتخب: ج2 ص69. 62. الشيخ مفلح الصيمري (ت900): المنتخب: ج1 ص137. 63. الشيخ مفلح بن صلاح البحراني (ق9): الزام النواصب: ص153-154. 64. العلامة الأميني (ت1390): الغدير: ج7 ص74-77. 65. العلامة البياضي (ت877) : الصراط المستقيم: ج2 ص92. 66. العلامة الحلي (ت726) : شرح التجريد: ص376-377. وراجع نهج الحق أيضا. 67. العلامة الخواجوئي المازندراني (ت1173): الرسائل الاعتقادية: ج1 ص444. 68. العلامة السيد عبد الله الشبر (ت1242): حق اليقين: ج1 ص188. وجلاء العيون: ج1 ص193. 69. العلامة السيد محمد قلي الموسوي الهندي والد صاحب العبقات (ت1268): تشييد المطاعن: ج1 ص434. .............................. 70. العلامة الشيخ محمد تقي المجلسي (ت1070): روضة المتقين: ج5 ص342. 71. العلامة الشيخ محمد حسين المظفر: دلائل الصدق: ج3 ص52 و53. 72. العلامة المجلسي (ت1111) حق اليقين: ص189. ومرآة العقول: ج5 ص318. وجلاء العيون: ص144. وانظر بحار الأنوار: ج43 ص172 و197 وج 28 ص38 وص 297- 300 و... 73. العلامة شرف الدين: المراجعات: ص266. 74. الفاضل المقداد السيوري (ت826): اللوامع الالهية: ص301. 75. الفيض الكاشاني (ت1091): علم اليقين: ج2 ص700. 76. القاضي النعمان المغربي (ت363) : الأرجوزة المختارة: ص89-90. 77. القاضي نور الله التستري (ت1019): مصائب النواصب: ص129. 78. المحدث الجليل الشيخ عباس القمي (ت1359): بيت الأحزان: 102-103. 79. المحدث الجليل الشيخ يوسف البحراني (ت1186): الحدائق الناضرة: ج5 ص180. 80. المحقق الأردبيلي (ت993): الحاشية على إلهيات شرح الجديد للتجريد: ص258. وحديقة الشيعة: ص30. وص265-266. 81. المحقق الحلي صاحب الشرائع (676): المسلك في أصول الدين: ص260. 82. المحقق نصير الدين الطوسي (ت672) : شرح تجريد الاعتقاد ص376-377. 83. المخزون السلماسي (ت1223): مصائب الأبرار: ص27-28. 84. الملا محمد باقر اللاهيجي (ق11): تذكرة الأئمة: ص63. 85. المولى محمد صالح المازندراني (ت1081): شرح الكافي: ج7 ص207. 86. حسن بن حمدان الخصيبي (ت334): الهداية الكبرى: ص138-139. وص 178-179. وص408. 87. حسن بن علي اليزدي (ت1297): أنوار الشهادة في مصائب العترة الطاهرة: ص207. 88. حيدر علي بن ميرزا محمد الشرواني (ق12): رسالة فيما ورد في صدر هذه الأمة: ص121. .............................. 89. رضي الدين علي بن يوسف الحلي (ق7): العدد القوية: ص225. 90. سبهر صاحب ناسخ التواريخ (ت1297): ناسخ التواريخ، الخلفاء: ج1 ص51. 91. سليم بن قيس الهلالي (ت76 أو 90): كتاب سليم بن قيس. 92. شاذان القمي: الفضائل: ص9. 93. صدر الواعظين القزويني (ت 1330): رياض القدس ج2 المسمى بحدائق الأنس: ص255. 94. ضياء الدين بن سديد الدين الجرجاني (ق9): رساله عقائد مذهب شيعة، رسائل فارسي جرجاني: ص210. 95. ضياء الدين يوسف بن يحيى الحسني اليمني الصنعاني (ت1121): نسمة السحر: ج2 ص472. 96. عز الدين محمد بن احمد بن الحسن الديلمي (ت711) : قواعد عقائد آل محمد: ص239 وص270. 97. علي بن الحسين المسعودي (ت 346): اثبات الوصية: ص153-155. 98. علي بن حماد (ق4): مجالس المؤمنين: ج2 ص565. ومثالب النواصب : ص86. 99. علي بن داود الخادم الاسترآبادي (ق11): أنساب التواصب: ص45 وص95. 100. علي بن عيسى الإربلي (ت693) : كشف الغمة: ج1 ص497. 101. علي بن محمد العمري النسابة (ت490): المجدي في انساب الطالبيين: ص19. 102. علي بن محمد الوليد الداعي الاسماعليلي اليمني (ت612): تاج العقائد ومعدن الفوائد: ص80. 103. علي بن محمد بن عمار البرقي (ت245): الصراط المستقيم: ج3 ص13 ومثالب النواصب: ص423. 104. عماد الدين القرشي (ت872): عيون الأخبار: ص6. 105. عماد الدين حسن بن علي الطبري الآملي (ق7): تحفة الأبرار: ص249. 106. كمال الدين مثيم بن علي بن ميثم البحراني (ت679) : شرح نهج البلاغة لابن ميثم: ج1 ص252. .............................. 107. محمد باقر الشريف الحسيني الاصفهاني (ق12): نور العيون: ج2 المجلس3. 108. محمد بن اسحاق الحموي (ق10): انس المؤمنين: ص52. 109. محمد بن جرير الطبري الإمامي (ق5): دلائل الإمامة ص26-27 وص45. 110. محمد بن جمال الدين مكي العاملي الشهيد الأول (ت786): بحار الأنوار : ج101 ص44. 111. محمد بن علي أكبر الخراساني (ت بعد 1261): ماتمكده: المجلس 13. 112. محمد بن علي الطرازي (ت450): الاقبال: ص625. 113. محمد بن مسعود العياشي (ت320): تفسير العياشي: ج2 ص66-68. 114. محمد تقي سبهر الكاشاني (ت1321): ناسخ التواريخ، ترجمة فاطمة الزهراء ص97. 115. محمد هادي الميلاني (ت1242): لسان الذاكرين: ج1 ص94. 116. يحيى بن الحسين الزيدي اليمني (ت 298): تثبيت الإمامة ص15-17. إلى غيرهم من المتقدمين والمتأخرين.. وإليك بعض النصوص في هذا الباب: * قال سليم بن قيس الهلالي في كتابه: ج2 ص907 ط الحديثة: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لابنته فاطمة (علیها السلام): «إنك أول من يلحقني من أهل بيتي وأنت سيدة نساء أهل الجنة وسترين بعدي ظلما وغيظا حتى تضربي ويكسر ضلع من أضلاعك، لعن الله قاتلك ولعن الله الآمر والراضي والمعين والمظاهر عليك وظالم بعلك وابنيك». * وسليم أيضا في كتابه: ج2 ص673-675 ط الحديثة: «فلقيت عليا صلوات الله عليه فسألته عما صنع عمر، فقال: هل تدري لم كف عن قنفذ ولم يغرمه شيئا؟ قلت: لا، قال: لأنه هو الذي ضرب فاطمة بالسوط حين جاءت لتحول بيني وبينهم فماتت صلوات الله عليها وإن أثر السوط لفي عضدها مثل الدملج». وفي حديث آخر: «فنظر علي (علیه السلام) إلى من حوله، ثم اغرورقت عيناه بالدموع ثم قال: شكر له ضربها فاطمة بالسوط فماتت وفي عضدها أثره كأنه الدملج». * وقال أيضا: «...ثم عاد عمر بالنار فأضرمها في الباب فأحرق الباب، ثم دفعه عمر فاستقبلته .............................. فاطمة (علیها السلام) وصاحت: يا أبتاه يا رسول الله، فرفع السيف وهو في غمده فوجأ به جنبها فصرخت فرفع السوط فضرب به ذراعها فصاحت يا أبتاه ...» المصدر: ج2 ص763-865. * وقال أيضا: « ... وقد كان قنفذ... ضرب فاطمة بالسوط حين حالت بينه وبين زوجها وأرسل إليه عمر: إن حالت بينك وبينه فاطمة فاضربها، فألجأها قنفذ إلى عضادة بيتها ودفعها فكسر ضلعا من جنبها، فألقت جنينا من بطنها، فلم تزل صاحبة فراش حتى ماتت (علیها السلام) من ذلك شهيدة». المصدر: ج2 ص584-588. * وقال الخصيبي (ت334) في حديث عن فاطمة الزهراء (علیها السلام): «فجمعوا الحطب ببابنا وأتوا بالنار ليحرقوا البيت، فأخذت بعضادتي الباب وقلت: ناشدتكم الله وبأبي رسول الله أن تكفوا عنا وتنصرفوا، فأخذ عمر السوط من قنفذ مولى أبي بكر فضرب به عضدي فالتوى السوط على يدي حتى صار كالدملج، وركل الباب برجله فرده علي وأنا حامل فسقطت لوجهي والنار تسعر، وصفق وجهي بيده حتى انتثر قرطي من أذني، وجاءني المخاض فأسقطت محسنا قتيلا بغير جرم...». الهداية الكبرى: ص178-179. * والخصيبي عن الإمام الصادق (علیه السلام): «... وإشعال النار على باب أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين لإحراقهم بها، وضرب يد الصديقة الكبرى فاطمة بالسوط ورفس بطنها واسقاطها محسنا...». * وأيضا عنه (علیه السلام): «... فقال لها عمر: دعي عنك يا فاطمة حمقات النساء، فلم يكن الله ليجمع لكم النبوة والخلافة، وأخذت النار في خشب الباب وإدخال قنفذ يده .. يروم فتح الباب، وضرب عمر لها بالسوط على عضدها حتى صار كالدملج الأسود، وركل الباب برجله حتى أصاب بطنها وهي حاملة بالمحسن لستة أشهر وإسقاطها اياه، وهجوم عمر وقنفذ وخالد بن الوليد وصفقة خدها حتى بدا قرطاها تحت خمارها وهي تجهر بالبكاء وتقول: وا أبتاه، وا رسول الله، ابنتك فاطمة تُكذَّب وتضرب ويقتل جنين في بطنها ... وصاح أمير المؤمنين بفضة: يا فضة مولاتك فأقبلي منها ما تقبله النساء فقد جاءها المخاض من الرفسة ورد الباب، فأسقطت محسنا.... إلى أن قال: فبكى الصادق (علیه السلام) حتى اخضلت لحيته بالدموع ثم قال: لاقرت عين لا تبكي عند هذا الذكر». الهداية الكبرى: ص401-408. .............................. * وقال الشيخ الطوسي (ت460): «ومما أنكر عليه ضربهم لفاطمة وقد روي أنهم ضربوها بالسياط والمشهور الذي لا خلاف فيه بين الشيعة أن عمر ضرب بطنها حتى أسقطت فسمي السقط محسناً والرواية بذلك مشهورة عندهم». تلخيص الشافي: ج3 ص156. ومن مصادر العامة: * البلاذري في (أنساب الأشراف): ج1 ص586 ط مصر و(ج2 ص268 ط دار الفكر): «ان أبابكر أرسل إلى علي يريد البيعة فلم يبايع، فجاء عمر ومعه فتيلة، فلقته فاطمة على الباب، فقالت فاطمة يابن الخطاب، أتراك محرقاً علي بابي؟ قال: نعم، وذلك أقوى فيما جاء به أبوك...». * والبلاذري أيضا في (أنساب الأشراف) ج1 ص587 و(ج2 ص269 ط دار الفكر) بسنده عن ابن عباس قال: «بعث أبو بكر عمر بن الخطاب إلى علي حين قعد عن بيعته وقال : ائتني به بأعنف العنف...». * والنوفلي في كتاب (الأخبار) عنه مروج الذهب ج3 ص77 ط دار الهجرة: «كان عروة بن الزبير يعذر أخاه إذا جرى ذكر بني هاشم وحصره إياهم في الشعب وجمعه لهم الحطب لتحريقهم ويقول: إنما أراد بذلك إرهابهم ليدخلوا في طاعته كما أرهب بنوهاشم وجُمع لهم الحطب لاحراقهم إذ هم أبوا البيعة فيما سلف». * وابن أبي الحديد عن المسعودي: «كما فعل عمر بن الخطاب ببني هاشم، لما تأخروا عن بيعة أبي بكر، فإنه أحضر الحطب ليحرق عليهم الدار» شرح نهج البلاغة: ج20 ص147. * وابن أبي الحديد في شرح النهج عن أبي بكر احمد بن عبد العزيز البغدادي في كتابه (السقيفة وفدك): «سأل أبوبكر فقال: أين الزبير؟ فقيل: عند علي وقد تقلد سيفه، فقال: قم يا عمر، قم يا خالد بن الوليد، انطلقا حتى تأتياني بهما، فانطلقا.... ثم قال (عمر) لعلي: قم فبايع لأبي بكر، فتلكأ واحتبس، فأخذ بيده وقال: قم، فأبى أن يقوم، فحمله ودفعه كما دفع الزبير وأخرجه، ورأت فاطمة ما صنع بهما فقامت على باب الحجرة وقالت: يا أبا بكر، ما أسرع ما أغرتم على أهل بيت رسول الله، والله لا أكلم عمر حتى ألقى الله» شرح النهج: ج2 ص57. .............................. * وأيضا ابن أبي الحديد عن كتاب (السقيفة وفدك): (ثم دخل عمر فقال لعلي قم فبايع، فتلكأ واحتبس، فأخذ بيده وقال: قم، فأبى أن يقوم، فحمله ودفعه كما دفع الزبير ثم أمسكهما خالد وساقهما عمر ومن معه سوقاً عنيفا واجتمع الناس ينظرون وامتلأت شوارع المدينة بالرجال...» شرح نهج البلاغة: ج6 ص11. * وابن أبي الحديد في شرح النهج : ج6 ص11: «جاء عمر إلى بيت فاطمة في رجال من الأنصار ونفر قليل من المهاجرين، فقال: والذي نفسي بيده لتخرجن إلى البيعة أو لأحرقن البيت عليكم... ثم أخرجهم بتلابيبهم يساقون سوقاً عنيفاً حتى بايعوا أبابكر». * وأيضا في شرح النهج: ج2 ص56: «فأتاهم عمر ليحرق عليهم البيت فخرج اليه الزبير بالسيف وخرجت فاطمة تبكي وتصيح فنهنهت من الناس». * وابن أبي الحديد عن أستاذه أبي جعفر النقيب أنه قال: «إذا كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) أباح دم هبار بن الأسود لأنه روع زينب فألقت ذا بطنها، فظهر الحال انه لو كان حياً لأباح دم من روع فاطمة حتى ألقت ذا بطنها، فقلت: اروي عنك ما يقوله قوم ان فاطمة روعت فألقت المحسن؟ فقال: لا تروه عني ولا ترو عني بطلانه، فإني متوقف في هذا الموضع، لتعارض الأخبار عندي فيه» شرح نهج البلاغة: ج14 ص193. * واليعقوبي في (تاريخه): ج2 ص126: «وبلغ أبابكر وعمر أن جماعة من المهاجرين والأنصار قد اجتمعوا مع علي بن أبي طالب في منزل فاطمة بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأتوا في جماعة حتى هجموا الدار وخرج علي ومعه السيف، فلقيه عمر فصرعه وكسر سيفه ودخلوا الدار فخرجت فاطمة فقالت: والله لتخرجن أو لأكشفن شعري ولأعجن إلى الله...». * والطبري في (تاريخه): ج3 ص101 ط بيروت (وج2 ص203 ط مصر): «أتى عمر بن الخطاب منزل علي وفيه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين، فقال: والله لأحرقن عليكم أو لتخرجن إلى البيعة». * والمتقي الهندي في (كنز العمال) ج5 ص651 ح14138: «عن أسلم انه حين بويع لأبي بكر بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان علي والزبير يدخلون على فاطمة بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) ويشاورونها ويرجعون في أمرهم، فلما بلغ ذلك عمر بن الخطاب خرج حتى دخل على .............................. فاطمة، فقال: يا بنت رسول الله، ما من الخلق أحد أحب إلي من أبيك وما من أحد أحب إلينا بعد أبيك منك، وأيم الله ما ذاك بمانعي إن اجتمع هؤلاء النفر عندك أن أمرهم أن يحرق عليهم الباب، فلما خرج عليهم عمر جاؤوا، قالت: تعلمون أن عمر قد جاءني وقد حلف بالله لئن عدتم ليحرقن عليكم الباب وأيم الله ليمضين لما حلف عليه». * وهذا رواه السيوطي أيضا في (مسند فاطمة): ص36. * وقريباً منه رواه ابن عبد البر في (الاستيعاب في معرفة الأصحاب): ج3 ص975 ط القاهرة. * والنويري في (نهاية الارب في فنون الأدب): ج19 ص40. * والشاه ولي الله الدهلوي في كتابه (ازالة الخفاء) ج2 ص29 وص179، وأيضا في كتابه (قرة العينين) ص78. * وابن أبي شيبة في كتاب (المصنف): ج7 ص432 ح37045. * وابن عبد ربه في العقد الفريد ج4 ص242 وفي ط ج4 ص259: «الذين تخلفوا عن بيعة أبي بكر: علي والعباس والزبير فقعدوا في بيت فاطمة، حتى بعث اليهم أبوبكر، عمر بن الخطاب ليخرجوا من بيت فاطمة، وقال له: ان أبوا فقاتلهم، فأقبل بقبس من نار على أن يضرم عليهم الدار، فلقيته فاطمة فقالت: يا ابن الخطاب، أجئت لتحرق دارنا؟ قال: نعم، أو تدخلوا فيما دخلت فيه الأمة». * وابن حنزابة في كتابه (الغرر): «قال زيد بن اسلم: كنت ممن حمل الحطب مع عمر إلى باب فاطمة، حين امتنع علي وأصحابه عن البيعة أن يبايعوا، فقال عمر لفاطمة: أخرجي من في البيت وإلا أحرقته ومن فيه، قال: وفي البيت علي والحسن والحسين وجماعة من أصحاب النبي، فقالت فاطمة: أفتحرق علي وولدي، فقال: أي والله أو ليخرجن وليبايعن). * عنه ابن شهر آشوب في (مثالب النواصب) ص419، والسيد بن طاووس في الطرائف ص239 والعلامة الحلي في نهج الحق: ص271. * وأبو الفداء في (المختصر في أخبار البشر): ج1 ص156 ط دار المعرفة بيروت: «ثم ان ابابكر بعث عمر بن الخطاب إلى علي ومن معه ليخرجهم من بيت فاطمة رضي الله عنها وقال: إن أبوا عليك فقاتلهم، فأقبل عمر بشيء من نار على أن يضرم الدار، فلقيته فاطمة رضي الله .............................. عنها وقالت: إلى أين يا بن الخطاب، أجئت لتحرق دارنا؟ قال: نعم، أو يدخلوا فيما دخل فيه الأمة». * والشهرستاني في (الملل والنحل): ج1 ص57 تحت عنوان النظامية وما يعتقد به النظام: (ان عمر ضرب بطن فاطمة يوم البيعة حتى ألقت الجنين من بطنها، وكان يصيح: احرقوا دارها بمن فيها، وما كان في الدار غير علي وفاطمة والحسن والحسين». * وابن تيمية في (منهاج السنة) ج4 ص220: بعد ذكر اعتراف أبي بكر بالهجوم: «غاية ما يقال: انه كبس البيت لينظر هل فيه شيء من مال الله الذي يقسمه». * وابن قتيبة الدينوري في (الامامة والسياسة) ص17-20: «وان ابابكر تفقد قوماً تخلفوا عن بيعته عند علي كرم الله وجهه، فبعث اليهم عمر، فجاء فناداهم وهم في دار علي، فأبوا أن يخرجوا، فدعا بالحطب وقال: والذي نفس عمر بيده لتخرجن أو لأحرقنها على من فيها، فقيل له: يا أبا حفص، ان فيها فاطمة، فقال: وإن، فخرجوا فبايعوا الا عليا فانه زعم انه قال: (حلفت ان لا أخرج ولا أضع ثوبي على عاتقي حتى أجمع القرآن) فوقفت فاطمة رضي الله عنها على بابها فقالت: لا عهد لي بقوم حضروا أسوأ محضر منكم، تركتم رسول الله (صلی الله علیه و آله)جنازة بين أيدنا، وقطعتم أمركم بينكم، لم تستأمرونا ولم تردوا لنا حقا، فأتى عمر أبابكر فقال له: ألا تأخذ هذا المتخلف عنك بالبيعة، فقال أبوبكر لقنفذ وهو مولى له: أذهب فادع لي علياً، قال: فذهب إلى علي فقال له: ما حاجتك: فقال: يدعوك خليفة رسول الله، فقال علي: لسريع ما كذبتم على رسول الله، فرجع فأبلغ الرسالة، قال: فبكى أبوبكر طويلا، فقال عمر الثانية: لا تمهل هذا المتخلف عنك بالبيعة، فقال أبوبكر لقنفذ: عد إليه فقل له: خليفة رسول الله يدعوك لتبايع، فجاءه قنفذ فأدى ما أمر به، فرفع علي صوته فقال: سبحان الله لقد ادعى ما ليس له، فرجع قنفذ، فأبلغ الرسالة، فبكى أبوبكر طويلا، ثم قام عمر فمشى معه جماعة حتى أتوا باب فاطمة، فدقوا الباب، فلما سمعت (فاطمة) أصواتهم نادت بأعلى صوتها: يا أبت يا رسول الله، ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة، فلما سمع القوم صوتها وبكاءها انصرفوا باكين وكادت قلوبهم تنصدع وأكبادهم تنفطر، وبقي عمر ومعه قوم، فأخرجوا علياً، فمضوا به إلى أبي بكر، فقالوا له: بايع، فقال: إن أنا لم أفعل فمه؟ .............................. قالوا: اذاً والله الذي لا إله الا هو نضرب عنقك، فقال: اذاً تقتلون عبد الله وأخا رسوله، قال عمر: اما عبد الله فنعم، وأما اخو رسوله فلا، وأبوبكر ساكت لا يتكلم، فقال له عمر: ألا تأمر فيه بأمرك؟ فقال: لا أكرهه على شيء ما كانت فاطمة إلى جنبه، فلحق علي بقبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) يصيح ويبكي وينادي يا «ابن ام ان القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني» (سورة الأعراف: 150)، فقال عمر لأبي بكر:... انطلق بنا إلى فاطمة، فإنا قد أغضبناها، فانطلقا جميعا، فاستأذنا على فاطمة، فلم تأذن لهما، فأتيا علياً فكلماه، فأدخلهما عليها، فلما قعدا عندها حولت وجهها إلى الحائط، فسلما عليها، فلم ترد عليهما السلام. فتكلم أبوبكر فقال: يا حبيبة رسول الله، والله إن قرابة رسول الله أحب الي من قرابتي، وإنك لأحب الي من عائشة ابنتي، ولوددت يوم مات أبوك مت، ولا أبقى بعده، أفتراني أعرفك وأعرف فضلك وشرفك وأمنعك حقك وميراثك من رسول الله إلا أني سمعت أباك رسول الله يقول: لا نورث، ما تركناه صدقة!. فقالت: أرأيتكما إن حدثتكما حديثاً عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) تعرفانه وتفعلان به؟ قالا: نعم، فقالت: نشدتكما الله ألم تسمعا رسول الله يقول: رضا فاطمة من رضاي، وسخط فاطمة من سخطي، فمن أحب فاطمة ابنتي فقد أحبني، ومن أرضى فاطمة فقد أرضاني، ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني؟ قالا: نعم سمعناه من رسول الله، قالت: فإني أشهد الله وملائكته أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني ولئن لقيت النبي لأشكونكما اليه، فقال ابوبكر: أنا عائذ بالله تعالى من سخطه وسخطك يا فاطمة، ثم انتحب ابوبكر يبكي حتى كادت نفسه أن تزهق، وهي تقول: والله لأدعون عليك في كل صلاة أصليها، ثم خرج باكياً، فاجتمع اليه الناس فقال لهم: يبيت كل رجل منكم معانقاً حليلته، مسرورا بأهله، وتركتموني وما انا فيه، لا حاجة لي في بيعتكم، أقيلوني بيعتي». الحديث * والشاه عبد العزيز الدهلوي قال في الرد على الطعن الثاني من مطاعن عمر: «انما هدد عمر من التجأ إلى بيت فاطمة بزعم انه ملجأ ومعاذ للخائنين فجعلوه مثل مكة المكرمة وقصدوا الفتنة والفساد وتشاوروا في نقض خلافة أبي بكر، والحق ان فاطمة كانت تكره اجتماعهم في بيتها ولكنها لحسن خلقها لم تمنعهم من ذلك صريحا، فلما تبين ذلك لعمر هددهم باحراق البيت عليهم» !!. تحفة اثنى عشرية ص464. .............................. * والمقريزي في الخطط (المواعظ والاعتبار) ج2 ص346: «وزعم (أي النظام) أنه (أي عمر) ضرب فاطمة ابنة رسول الله (صلی الله علیه و آله) ومنع ميراث العترة». * والحمويني في (فرائد السمطين): ج3 ص34-35: عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) في حديث: «... وأما ابنتي فاطمة ... وإني لما رأيتها ذكرت ما يصنع بها بعدي، كأني بها وقد دخل الذل بيتها وانتهكت حرمتها وغصب حقها ومنعت إرثها وكسر جنبها وأسقطت جنينها وهي تنادي يا محمداه فلا تجاب وتستغيث فلا تغاث فلا تزال بعدي محزونة مكروبة باكية...». * والصفدي في (الوافي بالوفيات) في ترجمة النظام: ج6 ص17: (إن عمر ضرب بطن فاطمة يوم البيعة حتى ألقت المحسن). * والحافظ الذهبي في (ميزان الاعتدال): ج1 ص139، و(سير اعلام النبلاء): ج15 ص578، قال عند ذكر احمد بن محمد بن السري بن يحيى المعروف بابن أبي دارم: «... ثم كان في آخر أيامه كان أكثر ما يقرأ عليه المثالب، حضرته ورجل يقرأ عليه: ان عمر رفس فاطمة حتى أسقطت بمحسن». * ورواه ابن حجر العسقلاني في لسان الميزان: ج1 ص268. * وأبو الوليد محمد بن شحنة في (روضة المناظر في أخبار الأوائل والأواخر، هامش الكامل لابن الأثير: ج11 ص113): «ثم ان عمر جاء إلى بيت علي ليحرقه على من فيه، فلقيته فاطمة فقال: ادخلوا فيما دخلت فيه الأمة». * ثم هناك من العامة من تطرق إلى حديث حرق الدار وما أشبه ونسبه إلى الشيعة أو ردها، فمنهم: * المقدسي في (البدء والتاريخ): ج5 ص20 عند ذكر أولاد فاطمة: «وولدت محسنا وهو الذي تزعم الشيعة أنها أسقطته من ضربة عمر». * وأبو الحسين الملطي الشافعي في (التنبيه والرد): ص25: «... فزعم هشام (أي هشام بن الحكم) ... ان أبابكر مر بفاطمة فرفس في بطنها فأسقطت وكان سبب علتها ووفاتها، وأنه غصبها فدك». * والقاضي أبو الحسن عبد الجبار الاسد آبادي (المغني): ج20 ص335 :«ومن جملة ما ذكروه من الطعن ادعاؤهم ان فاطمة لغضبها على أبي بكر وعمر أوصت أن لا يصليا عليها وأن تدفن سرا منهما فدفنت ليلا، وادعوا برواية رووها عن جعفر بن محمد وغيره: ان عمر ضرب فاطمة بسوط وضرب الزبير بالسوط ... ثم نقل قول عمر لفاطمة: وأيم الله لئن اجتمع هؤلاء النفر عندك ليحرقن عليهم» ثم قال إلى غير ذلك من الروايات البعيدة. * وابن تيمية في منهاج السنة: ج4 ص220: «انما ينقل مثل هذا جهال الكذابين ويصدقه حمقى العالمين الذين يقولون: ان الصحابة هدموا بيت فاطمة وضربوا بطنها حتى اسقطت». * وابن حجر الهيتمي في الصواعق المحرقة: ص51: «الا ترى إلى قولهم (أي قول الشيعة) ان عمر قاد عليا بحمائل سيفه وحصر فاطمة فهابت فأسقطت ولداً اسمه المحسن». * والبرزنجي في (النواقض للروافض والنواقض): ص41: «إنهم قالوا: إن عمر بن الخطاب ذهب إلى دار علي ... وخافت فاطمة منه وأسقطت ولداً اسمه المحسن». * ورسول بن محمد في (نصيحة الشيعة الإمامية) ص45: «قول الإمامية إن عليا كان في بيته فجاء عمر ليأخذ منه البيعة لأبي بكر، فناداه من الباب، فخرجت إليه فاطمة فقالت من داخل الباب يا عمر أي شيء تريد من علي ... فغضب عمر لذلك فضرب الباب برجله وكسره ووقع من كسره رض في بطن فاطمة ووقع سقط من فاطمة اسمه محسن ودخل الدار وأوقع حبلا في عنق علي فجره إلى أبي بكر فأخذ منه البيعة لأبي بكر كرهاً وجبراً». * هذا وشعر محمد حافظ إبراهيم شاعر النيل معروف: وقولة لعلي قالها عمر *** أكرم بسامعها أعظم بملقيها حرقت دارك لا أبقي عليك بها *** ان لم تبايع وبنت المصطفى فيها ما كان غير أبي حفص يفوه بها *** أمام فارس عدنان وحاميها إلى غير ذلك... علماً بأنهم قد كتموا كثيرا منها رعاية لسمعة خلفائهم، كما حذفوا بعض هذه التصريحات من بعض الطبعات لذلك، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون والعاقبة للمتقين والحمد لله رب العالمين. (مؤسسة المجتبى للتحقيق والنشر).

ص: 298

ص: 299

ص: 300

ص: 301

ص: 302

ص: 303

ص: 304

ص: 305

ص: 306

ص: 307

ص: 308

ص: 309

ص: 310

..............................

وإسقاط جنينها الذي سماه الرسول (صلی الله علیه و آله) محسنا (1)...

ص: 311


1- راجع المناقب: ج3 ص251.

..............................

وغير خفي إن السقوط في الفتنة أمر اختياري حدوثا واستمرارا، ولو فرض كونه في بعض مراحله في بعض الأزمان غير اختياري، فان ما بالاختيار لاينافي الاختيار فعليه العقوبة دون ريب وذلك للتقصير في المقدمات.

وقد أخبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) بهذه الفتنة وأمر الناس باتباع الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام) دون غيره، حيث قال:

«ستكون من بعدي فتنة فإذا كان كذلك فألزموا علي بن أبي طالب، فإنه الفاروق بين الحق والباطل»(1).

كما أخبر (صلی الله علیه و آله) بالفتن في آخر الزمان حيث قال: «سيأتي على أمتي زمان لايبقى من القرآن إلا رسمه، ومن الإسلام إلا اسمه، يسمون به وهم أبعد الناس منه، مساجدهم عامرة وهي خراب من الهدى، فقهاء ذلك الزمان شر فقهاء تحت ظل السماء، منهم خرجت الفتنة وإليهم تعود»(2).

ص: 312


1- المناقب: ج3 ص91، وكشف الغمة: ج1 ص143.
2- ثواب الأعمال وعقاب الأعمال: ص253 وأعلام الدين: ص406.

وإن جهنم لمحيطة بالكافرين

اشارة

-------------------------------------------

الكفر موضوعا وحكما

مسألة: اقتباسها (علیها السلام) الآية الشريفة: «ألا في الفتنة سقطوا وان جهنم لمحيطة بالكافرين»(1)وذكرها هاهنا، يدل على شهادتها (علیها السلام) بأن ما فعلوه من غصب الخلافة وفدك، وإيذاء آل بيت الرسول (صلی الله علیه و آله) وابنته فاطمة الزهراء (علیها السلام) وقد قال فيها (صلی الله علیه و آله): (من آذاها فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله) (2) و...

استلزم الكفر وذلك واضح، وإلا لزم لغوية ذكر هذه الآية ههنا.

ثم إنه هل المقصود الكفر موضوعا أو حكما (3)؟فإن الكفر على قسمين:

1: كفر العقيدة.

2: كفر النعمة.

ص: 313


1- سورة التوبة: 49.
2- المناقب : ج3 ص332.
3- (الكفر موضوعا) يعني إنكار ضروري من ضروريات الدين وإنكار الأمر الإلهي الصريح عنادا ولجاجا كما قال تعالى: «وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم» سورة النمل: الآية 14، والبعض قد أنكر خلافة الإمام علي (علیه السلام) رغم علمه بها في واقعة غدير خم وغيرها، إلا أن الشارع لم يرتب عليه آثار الكفر من النجاسة وبينونة الزوجة وتقسيم الإرث وحرمة الذبيحة و… فهو كفر موضوعي لاحكمي، وهذا هو رأي المشهور والنادر ذهب الى الكفر الحكمي أيضا.

..............................

تفصيل البحث في المفصلات، وهذه الآيات ونظائرها توضح أقسام الكفر اكثر فاكثر. قال تعالى: «قل ما كنت بدعاً من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ان اتبع إلا ما يوحى الي وما أنا إلا نذير مبين * قل أرايتم ان كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم ان الله لايهدي القوم الظالمين» (1).

ومن الواضح أن نصب أمير المؤمنين علي (علیه السلام) خليفة من بعده (صلی الله علیه و آله) كان من عند الله دون شك، قال تعالى:« يا أيها الرسول بلّغ ما انزل إليك من ربك…» (2). وقال سبحانه: ..« فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباسالجوع»(3). وقال تعالى: «وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به»(4) .

وقال سبحانه: «إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا» (5).

وقال عزوجل: «سأل سائل بعذاب واقع * للكافرين ليس له دافع»(6).

وقال تعالى: «أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى اشد العذاب»(7).

ص: 314


1- سورة الأحقاف: 9-10.
2- سورة المائدة: 67.
3- سورة النحل: 112.
4- سورة إبراهيم: 9.
5- النساء: 56.
6- سورة المعارج: 1- 2.
7- سورة البقرة: 85.

..............................

وقال سبحانه: «ومن يكفر بآيات الله فان الله سريع الحساب»(1) .

قال تعالى: «ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين»(2) .وقال عزوجل: «أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل»(3).

وقال سبحانه: «ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله » (4).

وقال تعالى:«أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون» (5).

قال عزوجل: «وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبيناً»(6).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «حب علي إيمان وبغضه كفر»(7).

وعن ابن عباس أنه مر بمجلس من مجالس قريش وهم يسبون علي بن أبي طالب (علیه السلام) فقال لقائله ما يقول هؤلاء؟ قال: يسبون علياً.

قال: قربني إليهم. فلما أن وقف عليهم قال: أيكم الساب الله؟

ص: 315


1- سورة آل عمران: 19.
2- سورة المائدة: 5.
3- سورة القصص: 48.
4- سورة البقرة: 61.
5- سورة النحل: 72.
6- سورة الأحزاب: 36.
7- الأمالي للشيخ الصدوق: ص89 المجلس 20 ح1.

..............................

قالوا: سبحان الله ومن يسب الله فقد أشرك بالله.

قال: فأيكم الساب رسول الله (صلی الله علیه و آله)؟

قالوا: ومن يسب رسول الله فقد كفر.

قال: فأيكم الساب علي بن أبي طالب (صلوات الله وسلامه عليه)؟

قالوا: قد كان ذلك. قال: فاشهد بالله واشهد الله لقد سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: من سب علياً فقد سبني ومن سبني فقد سب الله عزوجل»(1).

وقال (صلی الله علیه و آله): «من حسد علياً فقد حسدني ومن حسدني فقد كفر»(2).

وقال (صلی الله علیه و آله): «من سب علياً فقد سبني ومن سبني فقد سب الله ومن سب الله فقد كفر»(3). وقال (صلی الله علیه و آله): «يا بن عباس لا تشك في علي فان الشك فيه كفر يخرج عن الإيمانويوجب الخلود في النار»(4).

وقال (صلی الله علیه و آله): «إن علياً خير البشر من أبى فقد كفر»(5).

قولها (علیها السلام):«ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين» (6) فإنهم زعموا أنهم يريدون الخروج من الفتنة (المزعومة) فوقعوا

ص: 316


1- الأمالي للشيخ الصدوق: ص97 المجلس 21 ح2.
2- المناقب: ج3 ص213.
3- المناقب: ج3 ص221.
4- كشف الغمة: ج1 ص390.
5- الصراط المستقيم: ج3 ص143، رواه عن عائشة وقيس بن جازم الأصفهاني والشيرازي وابن مردويه والخوارزمي وابن حنبل والبلاذري وابن عبدوس والطبراني.
6- سورة التوبة: 49.

..............................

في فتنة حقيقية مؤكدة، لأن مخالفة أمر الباري جلّ وعلا ورسوله (صلی الله علیه و آله) في الخلافة(1) فتنة ليست فوقها فتنة.

وقد قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من فارق علياً (علیه السلام) بعدي لم يرني ولم أره يوم القيامة،ومن خالف علياً حرم الله عليه الجنة، وجعل مأواه النار وبئس المصير، ومن خذل علياً خذله الله يوم يعرض عليه، ومن نصر علياً نصره الله يوم يلقاه ولقنه حجته عند المساءلة»(2).

وقال (صلی الله علیه و آله): «يابن عباس من خالف علياً فلا تكون ظهيراً له ولا ولياً، فوالذي بعثني بالحق نبياً ما يخالفه أحد إلا غيّر الله ما به من نعمة وشوه خلقه قبل إدخاله النار»(3).

نافذة نحو العالم الآخر

أما «إن جهنم لمحيطة بالكافرين»(4) فلأن الآخرة امتداد للدنيا(5) والثواب والعقاب يكونان أيضاً في نفس هذه الدنيا، كما يكونان في عالم الآخرة، والآخرة محيطة بالدنيا، منتهى الأمر إن (منافذ) الإنسان و(نوافذه) نحوها مغلقة ما دام حياً، فما أعطي من الحواس الخمس نوافذها للعالم الدنيوي،

ص: 317


1- حيث قال تعالى: «يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين» سورة المائدة: 67.
2- كمال الدين: ص260 والتحصين لابن طاووس: ص553.
3- كشف الغمة: ج1 ص390.
4- سورة التوبة: 49.
5- كما ان عالم الدنيا امتداد لعالم الأرحام والأصلاب.

..............................

والحاسة السادسة والأحلام وغيرها إنما هي (إشارات) لنوافذ ربما تطلّ على العالم الآخر..

ولذلك فان الإنسان المؤمن لا(يحسّ) ولا(يشهد) عادة: حسن الآخرة ونعيمها مادام في الدنيا، والإنسان السيئ لا يحس بعقوبات عالم الآخرة مادام حياً لأن حواسهما ليست من حواس الآخرة، ولم يعط في الدنيا تلك الحواس التي تكشف له آفاق ذلك العالم، فحاله حال الإنسان الذي فقد ذوقه أو بصره أو سمعه أو شمّه أو لمسه، فانه يلامس الأشياء دون أن يحس بلطافتها وطراوتها أو خشونتها، ويكون أمامه المرئي وتملأ غرفته الأصوات (من صدح البلابل إلى هدير المحركات) دون أن يرى أو يسمع شيئاً، وهكذا بالنسبة إلى الذوق والشم، بينما قد يوجد الى جانبه من لم يفقد حواسه الخمس فإنه يحسّ بكلّ ذلك ويشهدها بوضوح. بل ربما أحسّ المريض بمرارة الحلاوة، بينما الصحيح يكتشفها حلوة كما هي.

وقد أكثر الباري جل وعلا وأنبياؤه وأولياؤه في الآيات والروايات الإشارة إلى هذا القبيل، مثل قوله سبحانه «إنما يأكلون في بطونهم ناراً»(1)وقد أشرنا إلى بعض تفصيل ذلك في (الفقه)(2) وغيره(3).

ص: 318


1- سورة النساء: 10.
2- راجع موسوعة الفقه: (المدخل) كتاب العقائد.
3- راجع (التفسير الموضوعي للقرآن الكريم) للإمام الشيرازي (قدس سره).

فهيهات منكم

اشارة

-------------------------------------------

محتملات (هيهات)

مسألة (1): يحتمل في المراد من قولها (علیها السلام): (هيهات)(2) وجوه:

إذ لعل المراد ب: (هيهات): أنهذه الأعمال كانت بعيدة عنكم، كقوله سبحانه:«هيهات هيهات لما توعدون» (3)، فكأنه أريد أن من المستبعد ممن عاشر الرسول (صلی الله علیه و آله) وعرفه وسمع وصاياه الأكيدة حول أهل بيته (عليهم الصلاة والسلام) أن يسكت عن غصب حقّهم (علیهم السلام) ، فكيف بأن يعين على ذلك، فكيف بأن يمارسه بتلك الطريقة الوحشية(4).

أو أن المراد: أن ما تكشفه تلك الأفعال من قصد مبطن كان بعيداً عنكم(5) فكان الأوفق بحالكم غير ذلك القصد.

أو: الجامع بين الأمرين، باستعمال (هيهات) في كلّي يكون كلا الأمرين مصداقاً له.

أو أن المراد: بعيد منكم الرجوع الى الحق ما دمتم قد عقدتم قلوبكم على

ص: 319


1- قوله: (مسألة) بلحاظ ذيل البحث عندما يحتمل الإمام المؤلف (قدس سره) إنشائية هيهات.
2- (هيهات) اسم فعل بمعنى بَعُدَ، وفاعله محذوف، فهيهات منكم أي بعد منكم كذا، والمصنف (قدس سره) أشار الى الفاعل في الاحتمالات الخمسة.
3- سورة المؤمنون: 36.
4- من حرق باب الدار وكسر الضلع وإسقاط الجنين وغير ذلك على ما عرفت.
5- ف (بعدت) منكم تلك الأعمال، أو (بعد) منكم ذلك القصد الذي تكشفه الأفعال.

..............................

الابتعاد عنه، فإن الإنسان - عادة - إذا عقد قلبه على الابتعاد عن شيء فإنه يسيطر على جوارحه الابتعاد عنه، كما أنه في عكسه إذا عقد الإنسان قلبه على الإقتراب من شيء فإنه يسيطر على جوارحه الاقتراب إليه، وبعد ذلك لا يهمه إن كان الابتعاد أو (الاقتراب) حقاً أو باطلاً. قال سبحانه بالنسبة إلى بعض الناس: «وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم»(1).

وقال عز وجل:« يعرفونه كما يعرفون أبناءهم» (2).

هذا كله بناء على كونها خبرية.

ويحتمل أن تكون إنشائية(3) بمعنى الدعاء عليهم بالبعد عن رحمة الله، وعلى هذا يستفاد منه مطلوبية الدعاء على الأعداء ومنه اللعن، فانه بمعنى البعد عن رحمة الله أو بمعنى الدعاء عليهم بالبعد عن الوصول لما كانوا يصبون إليه فتأمل. قال تعالى:«أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون»(4).

وقال سبحانه: «إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا»(5).

وقال عزوجل: «إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا»(6).

ص: 320


1- سورة النمل: 14.
2- سورة البقرة: 146، وسورة الأنعام: 20.
3- فهي جملة خبرية في مقام الإنشاء كما في (يعيد صلاته).
4- سورة البقرة: 159.
5- سورة الأحزاب: 57.
6- سورة الأحزاب: 64.

..............................

ويؤيد أول الاحتمالات سياق كلامها (عليها السلام) وقولها: (وكتاب الله بين أظهركم).

ومما ورد فيه كلمة (هيهات) بالمعنى المذكور ما قاله أمير المؤمنين (علیه السلام) لابن عباس بعدما قطع خطبته الشقشقية: «هيهات هيهات يا بن عباس تلك شقشقة هدرت ثم قرت. فقال ابن عباس: فما أسفت على كلام قط كأسفي على كلام أمير المؤمنين (علیه السلام) إذا لم يبلغ به حيث أراد»(1).وقد ورد في باب التوحيد ونفي التشبيه: «الهي تاهت أوهام المتوهمين وقصر طرف الطارفين وتلاشت أوصاف الواصفين واضمحلت أقاويل المبطلين عن الدرك بعجيب شأنك، أو الوقوع بالبلوغ إلى علوك، فأنت في المكان الذي لايتناهى، ولم تقع عليك عيون بإشارة ولا عبارة، هيهات ثم هيهات»(2).

وفي الحديث أن معاوية قال للإمام الحسن (علیه السلام): «أنا خير منك يا حسن، قال (علیه السلام): وكيف ذاك يا بن هند، قال: لأن الناس قد أجمعوا علي ولم يجمعوا عليك، قال هيهات هيهات، فشر ما علوت يا بن آكلة الأكباد، المجتمعون عليك رجلان بين مطيع ومكره، فالطائع لك عاص لله، والمكره معذور بكتاب الله، وحاشى لله أن أقول أنا خير منك، فلا خير فيك، ولكن الله برأني من الرذائل كما برأك من الفضائل»(3).

ص: 321


1- علل الشرائع: ص151، ونهج البلاغة: الخطبة الشقشقية.
2- التوحيد: ص66 ح19 باب التوحيد ونفي التشبيه.
3- المناقب: ج4 ص22.

..............................

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام) مخاطباً الدنيا وما فيها: «يا دنيا يادنيا أبي تعرضت أم إلي تشوقت هيهات هيهات غري غيري لا حاجة لي فيك، قد طلقتك ثلاثاً لا رجعة لي فيك، فعمرك قصير، وأملك حقير، آه آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق وعظم المورد»(1).

وقال (علیه السلام): «هيهات أن ينجو الظالم من أليم عذاب الله وعظيم سطواته»(2).

ص: 322


1- ارشاد القلوب: ص218.
2- غرر الحكم: ص457 ح10442.

وكيف بكم، وأنى تؤفكون

اشارة

-------------------------------------------

قولها (علیها السلام): (وكيف بكم) أي كيف صار الأمر بكم إلى ما صار، وكيف صرتم الى هذه الحالة من العداء لأهل بيت النبي (صلی الله علیه و آله) وغصب حقوقهم.

وبعبارة أخرى:

أي حال لكم في دنياكم وفي آخرتكم مع عملكم هذا الذي هو خلاف الحق.

وفي (كيف) معنى التعجب كما ذكره الأدباء(1)، وفي المقام هو إنكار توبيخي.

قولها (علیها السلام): (وأنى تؤفكون) أي: كيف تصرفون عن الحق، وتزيغون عنه، وتتبعون الباطل، من إفكه كضربه بمعنى: صرفه عن الشيء وقلبه.

وقد ورد في القرآن الحكيم بالنسبة إلى البلاد التي قلبت ظهراً لبطن وبطناً لظهر بسبب عذاب الله سبحانه وتعالى، اسم (المؤتفكات) كما في قضية قوم لوط(علیه السلام).

قال سبحانه: «ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون»(2).

ص: 323


1- راجع (البلاغة) للإمام المؤلف (قدس سره).
2- سورة التوبة: 70.

..............................

وقال تعالى: «وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة»(1).

وفي تأويل هذه الآية المباركة:

أنها في أعداء أمير المؤمنين علي (علیه السلام) (2).

ويحتمل أن يكون معنى (أنى(3) تؤفكون) هو: أين يصرفكم الشيطان،أو تصرفكم أنفسكم عن الحق؟ وهو كلمة تعجب أيضاً يقصد بها الإنكار والتوبيخ.

قال أمير المؤمنين (علیه السلام):

«أين تتيهون، ومن أين تؤتون، وأنى تؤفكون، وعلام تعمهون، وبينكم عترة نبيكم، أين وهم أزمة الصدق وألسنة الحق»(4).

ص: 324


1- سورة الحاقة: 9.
2- راجع تأويل الآيات ص689 سورة الحافة.
3- (أنّى) تأتي للاستفهام عن المكان وعن الحال وبمعنى متى الاستفهامية، ف (أنى زيد) أي أين زيد،وكيف زيد، و(أنى القتال) أي متى القتال، والإمام المؤلف (قدس سره) احتمل في قولها (علیها السلام): (أنى تؤفكون) المعنيين الأوليين، ويحتمل الثالث أيضا كما في قوله تعالى: «فأتوا حرثكم أنى شئتم» [ سورة البقرة: 223«.
4- غرر الحكم: ص115 ح2000 فصل في الأئمة.

وكتاب الله بين أظهركم

اشارة

-------------------------------------------

جمع القرآن

مسألة: يستفاد من قولها (علیها السلام): (وكتاب الله بين أظهركم) وبمجموعة من القرائن الأخرى أن القرآن كان مجموعاً في زمن النبي (صلی الله علیه و آله) كما هو اليوم وبنفس الترتيب من دون زيادة ولا نقيصة. قال تعالى: ]إن علينا جمعه وقرآنه»(1). وإن قيل: بصحة الإسناد في ظرف عدم الجمع، إلا أنه خلاف المتفاهم عرفاً، خاصة بلحاظ (بين أظهركم) و بلحاظ الإطلاق الأزماني والأحوالي في الجمل اللاحقة(2). وقد فصلنا هذا البحث في كتاب (ولأول مرة في تاريخ العالم) (3) و(متى جمع القرآن) (4).

عدم تحريف القرآن

مسألة: يستفاد من قولها (علیهاالسلام): (وكتاب الله بين أظهركم) عدم تحريف الكتاب، وإلا لما صح إطلاق (كتاب الله) على الموجود بين أظهرهم.

ولو قيل بتمامية الاستدلال في صورة القول بالتحريف بالنقص فقط دون الزيادة أجيب بأن الإطلاق ينفيهما(5) إضافة إلى ما للجمل اللاحقة من الدلالة الواضحة على عدم التحريف مطلقاً، إذ كيف يكون المحرَّف (أموره ظاهرة

ص: 325


1- سورة القيامة: 17.
2- أي (أموره ظاهرة…) الخ.
3- ولأول مرة في تاريخ العالم: ج2 ص243-249.
4- يقع الكتاب في 80 صفحة من الحجم المتوسط، وطبع عدة مرات في بيروت والكويت.
5- أي ينفي القول بالتحريف بالنقص كما ينفي القول بالتحريف بالزيادة.

..............................

وأحكامه زاهرة…) خاصة مع لحاظ إفادة الجمع المضاف للعموم.

قال تعالى: «وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين»(1).

حجية الكتاب

مسألة: يستفاد من قولها (علیها السلام): (وكتاب الله بين أظهركم) ومن الجمل اللاحقة: حجية الكتاب، على خلاف ما ذهب إليه بعض الأخباريين.قال تعالى: «إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم»(2).

وقال سبحانه: «وانك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم»(3).

ودلالة كلامها (علیها السلام) واضحة بل صريحة، فالمعنى: والحال أن كتاب الله سبحانه وتعالى وهو القرآن الحكيم بينكم، وأنتم تقرؤونه ليل نهار، وهو الحكم والمرجع، فإلى أين تنصرفون، ولمن ولأي شيء ولما تتوجهون، (وكتاب الله بين أظهركم)؟ (أفحكم الجاهلية تبغون) ؟

وقولها (علیها السلام): (بين أظهركم)، يقال: فلان بين أظهر القوم وبين ظهرانيهم، أي مقيم بينهم، محفوف من جوانبه بهم(4)، وكذلك يقال بالنسبة إلى الشيء، مثل: أن المدرسة بين أظهرهم، والمكتبة بين أظهرهم، وما أشبه ذلك.

ص: 326


1- سورة يونس: 37.
2- سورة الإسراء: 9.
3- سورة النمل: 6.
4- يقال (هو نازل بين ظهريهم و ظهرانيهم وبين أظهرهم) أي وسطهم وفي معظمهم، راجع (المنجد).

أموره ظاهرة

اشارة

-------------------------------------------

القرآن كالشمس

مسألة: قولها (علیها السلام): (أموره ظاهرة) فإن القرآن الكريم - أوامره ونواهيه وحكمه ومواعظه وقصصه وغير ذلك - كلها ظاهرة كالشمس ويلزم العمل وفقها. قال تعالى: «ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون»(1).

وقال سبحانه: «ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر»(2).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام): «القرآن جملة الكتاب والفرقان المحكم الذي يجب العمل بظاهره»(3).

ولا يعمى عن أمور القرآن الظاهرة إلا من تلبد قلبه بحجب اللجاج والعناد وسحب الأهواء و الشهوات، قال تعالى: «وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلاخسارا»(4).

فيعرفها الإنسان العربي وليست من قبيل الألغاز، وهم ليسوا من غير العرب حتى لا يفهموا أحكام القرآن وأوامره وزواجره، وقد أمر القرآن باتباع الرسول (صلی الله علیه و آله) في كلما يأمر وما ينهي «ما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم

ص: 327


1- سورة الزمر: 27.
2- سورة القمر: 17 و22 و32 و40.
3- فقه القرآن: ج1 ص207 باب الزيادات.
4- سورة الإسراء: 82.

..............................

فانتهوا» (1)، وقد أمرهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) بولاية علي بن أبي طالب (علیه السلام) وهناك آيات عديدة في هذا الباب كآية البلاغ(2) وآية الولاية(3) وآية إكمال الدين(4) وما أشبه.

فالرسول (صلی الله علیه و آله) عين الخليفة بمتواتر الروايات، وبمشهدومرأى الناس في غدير خم وغيره(5)، فكيف تصرفون وتعرضون عن هذا الظاهر من القرآن؟.

والظاهر أن الجمل اللاحقة من قبيل عطف الخاص على العام(6) لأهميته، وللتأكيد.

ويحتمل التغاير كما سيأتي. و المراد بالظهور الأعم من الظهور ابتداءً أو ثانياً، بالمباشرة أو بالواسطة(7)، فلا يستشكل على ذلك بالمتشابه، أو يقال بانصراف الأمور إلى غيره بقرينة المقام(8) ويكون المراد على هذا (الأمور التي تحتاجون إليها لشؤون معاشكم ومعادكم) ومن أهمها أمر الخلافة.

ص: 328


1- سورة الحشر: 7.
2- سورة المائدة: 67.
3- سورة المائدة: 55.
4- سورة المائدة: 3.
5- راجع موسوعة (الغدير) للعلامة الأميني (رحمة الله).
6- العام هو (أموره ظاهرة) والخاص هو (أحكامه زاهرة… إلى آخر الجمل).
7- أي عبر الثقل الآخر، ولذلك قال (صلی الله علیه و آله): (إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله عزوجل وعترتي… انهما لن يفرقا حتى يردا عليّ الحوض) معاني الأخبار: ص90 باب معنى الثقلين ح2.
8- أي باعتبار كونها (علیها السلام) في مقام الاحتجاج عليهم بوجود الحجة البيّنة وهي الكتاب، فإلى أين يصرفون مع ذلك؟.

وأحكامه زاهرة وأعلامه باهرة

اشارة

-------------------------------------------

الأحكام الزاهرة

مسألة: يلزم الاعتقاد بأن أحكام القرآن زاهرة وأعلامه باهرة.

والزاهر عبارة عن: المتلألئ المشرق، بمعنى أنّ أحكام القرآن كلها متلألئة، عليها نور الحق والصدق، وهي (تزهر) كما تزهر الشمس، في أفق الأرواح والأفكار.

وكما أن أعمى العين لا يرى نور الشمس كذلك أعمى البصيرة لا يبصر نور القرآن، فهي (زاهرة) بيّنة لنفسها ومضيئة للسائرين، كالنور الظاهر بنفسه المظهر لغيره، ولو أتبعتم أحكامه لسرتم على المنهاج الواضح نحو حياة سعيدة في الدنيا وجنة عرضها السماوات والأرض في الآخرة، قال تعالى:

«ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى* قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى»(1).وقال سبحانه: «ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون»(2) .

وفي الدعاء: «اللهم صل على محمد وآله، وأدم بالقرآن صلاح ظاهرنا،

ص: 329


1- سورة طه: 124 - 126.
2- سورة الأعراف: 96.

..............................

واحجب به خطرات الوساوس عن صحة ضمائرنا، واغسل به زيغ درن قلوبنا وعلائق أوزارنا، واجمع به منتشر أمورنا… واجبر بالقرآن خلتنا من عدم الإملاق، واسق إلينا به رغد العيش وخصب سعة الأرزاق، وجنبنا به من الضرائب المذمومة ومداني مذام الأخلاق، واعصمنا به من هوة الكفر ودواعي النفاق، حتى يكون لنا في القيامة إلى رضوانك وجنانك قائداً، ولنا في الدنيا عن سخطك وتعدي حدودك ذائبا طارداً، ولنا لما عندك بتحليل حلاله وتحريم حرامه شاهدا»(1).

من العلامات القرآنية

وقولها (علیها السلام): (وأعلامه باهرة)، أعلام: جمع علم، أي: علاماته، كعلامات الطريق مثلاً، لكن علامات الطريق مادية وعلامات القرآن معنوية.

وقولها (علیها السلام): (وأعلامه باهرة)، أعلام: جمع علم، أي: علاماته، كعلامات الطريق مثلاً، لكن علامات الطريق مادية وعلامات القرآن معنوية.

ثم إن(2) القرآن الحكيم تحدّاهم في مواطن أربعة على أربع مستويات، متدرجاً من التحدي عن الإتيان بمثل القرآن إلى الإيتان بجزء من سورة فقط..

فقال مرة: «لا يأتون بمثله» (3)، أي: (114) سورة.

وثانية: «فأتوا بعشر سور مثله مفتريات»(4).

ص: 330


1- الإقبال: ص269 من دعاء الإمام زين العابدين (علیه السلام) عند ختم القرآن.
2- هذا بيان لمصداق من مصاديق قولها (علیها السلام): (وأعلامه باهرة)، ف (التحدي) مظهر من مظاهر العلامات الباهرة، أو أن أعلامه باهرة هو بيان آخر عن التحدي.
3- سورة الإسراء: 88.
4- سورة هود: 13.

..............................

وثالثة:«فأتوا بسورة مثله»(1)، وفي آية أخرى قال: «فأتوا بسورة منمثله»(2)، ولا يخفى الفرق بينهما لمكان (من).

ورابعة: «فليأتوا بحديث مثله»(3)، مما قد يشمل أقل من السورة أيضاً.

ثم من جانب آخر، رفع درجة التحدي ومستوى عدم إمكان ذلك بالقياس إلى الأشخاص والزمن.

فقال مرة: «فأتوا».

وأخرى: «قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً»(4).

وثالثة قال: «فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا»(5)، أي أنهم ليس بمقدورهم ذلك إلى الأبد، كما ليس بمقدورهم الإتيان بأي محال آخر استحالة ذاتية أو وقوعية(6).

ص: 331


1- سورة يونس: 38.
2- سورة البقرة: 23.
3- سورة الطور: 34.
4- سورة الإسراء: 88.
5- سورة البقرة: 24.
6- وجه الاستحالة الذاتية أن المحدود يستحيل أن يحيط باللامحدود اللامتناهي وكذلك إحاطة المحدود الأضيق بالأوسع منه، ومدارك البشر مهما سعت فإنها أضيق من سعة وعمق دائرة مفاهيم ورموز وأسرار القرآن الكريم وسيذكر الإمام المصنف (قدس سره) وجهه، والاستحالة الوقوعية بناء على ما ذهب إليه البعض من (الصرف).

..............................

فهو في التنازل والترقي مثله مثل من يقول لمن يدّعي البطولة: أحمل طناً، ثم يقول: مائة من(1)، ثم يقول: عشرة أمنان، ثم يقول: مناً واحداً، فإذا لم يفعل حتى الدرجة الأخيرة كان معناه أنه لاحظ له من البطولة.

وفي المقابل يقول: إن حملت أعطيك ديناراً، ثم يقول: عشرة دنانير، ثم يقول: مائة دينار، ثم يقول: ألف دينار، فيخفض مستوى التحدي ويرفع الثمن.

والقرآن هو الكتاب الوحيد الذي نزل من عند الله وبقي وسيبقى خالداً دون تحريف، وسرّ بقائه أنه كتاب لخاتم الأنبياء (صلی الله علیه و آله) إلى آخر الأزمان، فهو كتاب الله عبر خاتم أنبيائه للبشرية إلى فناء الدنيا، بينما الكتب السماوية السابقة نزلت لفترة زمنية محددة، ثم «نسوا حظاً مما ذكروابه»(2) فالكتب الموجودة في أيديهم الآن لم تنزل من السماء، والكتب النازلة لم تبق، فلم يحفظها الله سبحانه غيبياً وإعجازياً - كما حفظ القرآن - لأنها كانت مؤقتة لا دائمة كالقرآن الحكيم، فلم يستلزم قاعدة (اللطف) حفظها.

ومن الطبيعي أن لا يكون بمقدور البشر على أن يأتي بمثل القرآن، حتى إذا تعاضد وتعاون مع الجن وغيرهم، فإن الكتاب التشريعي كالكتاب التكويني، وحيث لا تستطيع المخلوقات بأجمعها حتى على خلق ذبابة، بل على خلق حبة

ص: 332


1- الطن هو ألف كيلو، والمن رطلان، والرطل (12) أوقية كما في لسان العرب، وفي المنجد: المن يساوي (280) مثقالاً عرفياً والمثقال العرفي يساوي درهماً ونصف.
2- سورة المائدة: 13.

..............................

حنطة حية تنمو لما فيها من الروح إذا أنبتت (1) كذلك في كتاب الله التشريعي.وعلامات القرآن تشير إلى مجموعة هائلة من الحقائق التكوينية و التشريعية والماورائية، من المبدأ الى المعاد، ومن الأحداث التاريخية إلى الإخبارات الغيبية، ومن السنن الاجتماعية التي تحكم الأسرة والمجتمع والحكومات، مروراً بالقضايا الحقوقية والسياسية والاقتصادية و… وانتهاء بحالات الإنسان وهو على بوابة العالم الآخر في آخر لحظاته من الدنيا.

قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «إن القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق، لا تفنى عجائبه ولا تنقضي غرائبه، ولا تكشف الظلمات إلا به»(2).

وقال (علیه السلام): «إن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش، والهادي الذي لايضل، والمحدث الذي لا يكذب»(3).

وقال (علیه السلام): «ليس لأحد بعد القرآن من فاقة، ولا لأحد قبل القرآن غنى»(4).

ص: 333


1- ربما يكون بمقدور العلماء أن يصنعوا حبة حنطة أو ذبابة تشبه الحقيقية في الشكل والأجزاء والخلايا وغيرها، إلا أن (بعث الروح) يبقى هو غير الممكن للبشرية إلا بإذن الله، ولو توفرت المقتضيات كلها كان الله هو الباعث للروح لا غير كما قال عزوجل حكاية عن عيسى (علیه السلام): «إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بأذن الله» [ سورة آل عمران: 49«.
2- غرر الحكم: ص110 ح1962.
3- غرر الحكم: ص111 ح1973.
4- غرر الحكم: ص111 ح1989.

..............................

والباهرة - والمصدر: البهر والبهور - هي التي تبهر الإنسان وتثير إعجابه بحسنها أو نورها وضياءها، وهي تتضمن معنى الغلبة والتفوق(1) أيضاً.

ثم إن من جملة أعلام القرآن الباهرة التي أشارت (علیها السلام) إليها:

قوله تعالى: ]إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون»(2).

ومن جملة علاماته الباهرة: إخباره الغيبي ب«وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم …»(3).

ص: 334


1- كما تقول: بهر القمر أي فاق ضوءه ضوء الكواكب، وبهر الرجل أي فاق أقرانه، وبهرت فلانة سائر النساء أي غلبتهن حسناً وجمالاً، وبهرت الشمس أي أضاءت.
2- سورة المائدة: 55.
3- سورة آل عمران: 144.

وزواجره لائحة

اشارة

-------------------------------------------

من النواهي الإلهية

مسألة: يحرم الإتيان بما نهى عنه القرآن الكريم من المحرمات.

قولها (علیها السلام): (وزواجره لائحة) المراد بالزواجر: النواهي.

و(لائحة) بمعنى: ظاهرة، نعم هناك فرق بين الظاهر واللائح، فإن (اللائح) هو: الذي يظهر بعد الإختفاء، بينما (الظاهر) أعمّ من ذلك ومن غيره، وإذا قوبل بينهما كان من قبيل الفقير والمسكين، أو من قبيل الظرف والجار والمجرور، وفي اصطلاح الأدباء: (إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا).

قال تعالى: «وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً»(1).

وقال عزوجل: «وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون»(2). ومما قضى به الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) تعيين الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام) خليفة من بعد النبي (صلی الله علیه وآله) قال عزوجل: «يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربك»(3).

ومن زواجره اللائحة قوله تعالى: «وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله»(4) وقال (صلی الله علیه و آله): (من آذاها فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله)(5)، إلى غير ذلك.

ص: 335


1- سورة الأحزاب: 36.
2- سورة القصص: 68.
3- سورة المائدة: 67.
4- سورة الأحزاب: 53.
5- المناقب: ج3 ص332 فصل في حب النبي (صلی الله علیه و آله) إياها، وكشف الغمة: ج1 ص466.

وأوامره واضحة

اشارة

-------------------------------------------

اشارة

وأوامره واضحة(1)

ومن الأوامر الإلهية

مسألة: يجب امتثال الأوامر القرآنية التي فرضها الله سبحانه.

قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «يا أيها الناس انه لم يكن لله سبحانه حجة في أرضه أوكد من نبينا محمد (صلی الله علیه و آله)، ولا حكمة أبلغ منكتابه القرآن العظيم، ولا مدح الله تعالى منكم إلا من اعتصم بحبله واقتدى بنبيه، وانما هلك من هلك عندما عصاه وخالفه واتبع هواه، فلذلك يقول عز من قائل: «فليحذر الذين يخالفون عن أمره ان تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم»(2)»(3).

وقال (علیه السلام): «عليكم بهذا القرآن، احلوا حلاله وحرموا حرامه، واعملوا بمحكمه وردوا متشابهه إلى عالمه، فانه شاهد عليكم وافضل ما توسلتم به»(4).

قولها (علیها السلام): (وأوامره واضحة) أي أن أوامر القرآن كلها واضحة غير مبهمة، يعرفها الإنسان الذي يعرف اللغة العربية، قال تعالى: «تلك آيات القرآن وكتاب مبين»(5).

ص: 336


1- وفي بعض النسخ: (وكتاب الله بين أظهركم، قائمة فرائضه، واضحة دلائله، نيرة شرائعه، زواجره واضحة، وأوامره لائحة).
2- سورة النور: 63.
3- غرر الحكم: ص110 ح1961.
4- غرر الحكم: ص111 ح1986.
5- سورة النمل: 1.

..............................

ومن أوامره: قوله تعالى: «وآتِ ذاالقربى حقه»(1).

وقوله سبحانه: «قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى» (2).

وقوله عزوجل:«يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين»(3) و…

فلماذا الإعراض عن أمر الله؟

ولماذا إيذاء آل بيت رسول الله ؟

ولماذا حرمان ابنته الزهراء (علیها السلام) من الإرث؟ و…

ومن المحتمل أن تكون هذه الجمل والجمل السابقة عليها تختلف عن أولى الجمل(4) إذا فسرّت (الأمور) بالموضوعات - لا بمعنى مطلق الشيء - والأوامر مدرجة في دائرة الأحكام كما هو بينٌ.

من ميزات القانون الإلهي

مسألتان: يجب أن يكون (القانون) ظاهر الأمور وزاهر الأحكام وباهر الأعلامولائح الزواجر وواضح الأوامر، باعتبار أن القانون هو دستور حياة الناس، فلو لم يتصف بذلك لزم نقض الغرض - ولو في الجملة - ويلزم العبث

ص: 337


1- سورة الإسراء: 26.
2- سورة الشورى: 23.
3- سورة النساء: 11.
4- وهي (أمور ظاهرة).

..............................

وما أشبه.

والقرآن الكريم هو الكتاب الوحيد المتصف بهذه الصفات في أعلى الدرجات - كما بين في محله(1) - فكان الواجب إتخاذه مصدر التشريع(2) لا الإنجيل والتوراة وما أشبه، ولا القوانين الغربية والشرقية المستوردة(3).

وما يستنبط من الكتاب والسنة ينبغي أن يكون كذلك فالرسالة العملية للمراجع العظام و(الدستور أو القانون الأساسي) - بناء على صحته(4)- ومختلف القوانين واللوائح التي تصدرهاالدولة ينبغي أن تكون كذلك قدر المستطاع.

ص: 338


1- راجع موسوعة الفقه: كتاب القانون.
2- ومن الواضح أن (السنة) مفسرة للكتاب وليست قسيماً له.
3- راجع (الهدى إلى دين المصطفى) للإمام البلاغي، و(الفقه: حول القرآن الحكيم) للإمام المؤلف (قدس سره) و…
4- راجع حول هذا المبحث كتاب (الفقه: القانون) و(إذا قام الإسلام في العراق) للإمام المؤلف (قدس سره).

وقد خلفتموه وراء ظهوركم

اشارة

-------------------------------------------

هجر القرآن وتركه

مسألة: يحرم ترك القرآن وهجره، فإنّ ترك أحكام القرآن الواجبة والمحرمة من أشد المحرمات مع الإسناد، وعلى حسب الدرجات بدونه(1).

أما ترك القرآن في أحكامه المستحبة والمكروهة وقصصه(2) وما أشبه ذلك فإذا كان مصداقاً لهجر القرآن كما قال سبحانه وتعالى: « وقال الرسول يا رب إنّ قومي اتخذوا هذاالقرآن مهجورا» (3) كان محرّماً أيضاً، وإلا فترك المستحب وفعل المكروه ليس من المحرمات كما قرر في الفقه.

وفي علل الشرائع: «فإن قال فلم أمروا بالقراءة في الصلاة، قيل لأن لايكون القرآن مهجوراً مضيعاً بل يكون محفوظاً مدروساً فلا يضمحل ولايجهل»(4).

ص: 339


1- توضيحه أنه: قد يترك الإنسان العمل بالقرآن كسلاً أو جبناً أو شبه ذلك فتكون الحرمة على حسب درجات تلك المحرمات من صغيرة وكبيرة، وقد يتركه إستخفافاً به واستهانة، أو لأن الحكم قد ورد في القرآن وشبه ذلك فيكون عندئذ تركه للواجب القرآني وفعله للمحرم القرآني، من أشد المحرمات وإن كان ذلك الحرام من الصغائر في حد ذاته، فالأشدية بلحاظ (الإسناد).
2- ترك القرآن في قصصه يتصور بترك تدوالها - في الكتب والخطابات وشبه ذلك - ونسيانها، أو بترك الإتعاظ بها أو ما أشبه.
3- سورة الفرقان: 30.
4- علل الشرائع: ص260.

..............................

وفي زيارة الإمام الحسن (علیه السلام): «وأصبح كتاب الله بفقدك مهجورا»(1).

وفي الأثر: «إنه يأتي على الناس زمان لا يبقى فيهم من الإسلام إلا اسمه ومن القرآن إلا رسمه»(2).

قولها (علیها السلام): (قد خلفتموه وراء ظهوركم)، أي: أنكم تركتم العمل بالقرآن مع العلم أنه بهذه الصفات التي ذكرناها من الوضوح والظهور وما إلى ذلك، كالذي يخلف شيئاً وراء ظهره،فهو من تشبيه المعقول بالمحسوس، وهو كناية عن الإعراض وترك العمل به، بل اللامبالاة وعدم الإعتناء، لأن الإنسان إذا قدّر شيئاً وقدّسه جعله أمامه.

ومن الواضح أن التعبير ب (وقد خلفتموه وراء ظهوركم) أقوى وأبلغ من (تركتموه)، وهذا الكلام منها (صلوات الله عليها): عتاب وتحذير وكشف وفضح وإدانة كما لا يخفى.

اتباع من هجر القرآن

مسائل: يحرم إتباع تلك الثلة الذين هجروا القرآن وتركوا أهل البيت (علیهم السلام)، ولا يجوز الدفاع عنهم كأشخاص وكمنهج ومبادئ، بل وحتى السكوت على جرائمهم والرضا بأفعالهم.

ص: 340


1- البلد الأمين: ص288.
2- كمال الدين: ص66.

..............................

فإنهم كما صرحت (علیها السلام) قد خلفوا كتاب الله وراء ظهورهم ورغبوا عنه وحكموا بغيره، فأضحوا مصداق قوله تعالى:«من يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين»(1).

ولو أتبعهم متبع لأصبح كما قالت (عليها السلام) ممن خلف كتاب الله وراء ظهره، وصدق عليه قوله سبحانه:« بئس للظالمين بدلا» (2).

والحق أحق أن يتبع، ومن أن يكون المرء مصداق «بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون» (3).

ومن أن يكون من «همج رعاع اتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجئوا إلى ركن وثيق»(4).

ص: 341


1- سورة آل عمران: 85.
2- سورة الكهف: 50.
3- سورة الزخرف: 22.
4- الإرشاد: ص227.

أرغبة عنه تريدون؟

اشارة

-------------------------------------------

أرغبة عنه تريدون؟(1)

الرغبة عن القرآن

مسألة: تحرم الرغبة عن القرآن، قال سبحانه: «ومن أعرض عن ذكري فإنّ له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى * قال ربّ لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى» (2).

ذلك أعم من الرغبة عنه نفسياً أو فكرياً أو سلوكياً، ووجه الحرمة في الرغبة عنه نفسياً أنه من قبيل أصول الدين المرتبطة بالقلب كما هي مرتبطة بالعمل، هذا إذا فسرت الرغبة عنه بالإنكار أو عدم عقد القلب على صحته والإيمان به، وإن فسرت بعدم المحبة لم تبعد الحرمة أيضاً إلا فيمن فرض عدم اختيارية ذلك له - وهو فرض نادر وبعيد - فتأمل.

والظاهر أن الجمع بين الآيةالسابقة(3) وبين قوله تعالى في سورة «يس»: «ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون» (4) اختلاف المواقف في القيامة.

ص: 342


1- وفي بعض النسخ: (تدبرون).
2- سورة طه: 124 - 126.
3- سورة طه: 124 - 126.
4- سورة يس: 66.

..............................

ففي موقف قد يكون العاصي أعمى وفي موقف قد يكون بصيراً، فإن يوم القيامة خمسون ألف سنة ومن الواضح تعدد المواقف في مثل هذه المدة الطويلة، بل حتى إذا كانت سنة واحدة، كما هو المشاهد في الدنيا، فكيف بالآخرة وهي كما ذكر.

قولها (علیها السلام): (أرغبة عنه تريدون)، أي: أتريدون الإعراض عن القرآن، فإن الرغبة إذا تعدّت ب: (عن) كان معناها الإعراض والنفرة كما قال أمير المؤمنين (علیه السلام) يوم أحد لبعض القوم الذين فروا: «أترغبون بأنفسكم عن رسول الله (صلی الله علیه و آله)»(1)، وإذا تعدت ب(في) كان معناها الإقبال، فالمعنى: أنكم تريدونشيئاً آخر غير القرآن ودساتيره ومنهجه.

هذا وعدم تداول القرآن الكريم، وعدم تلاوته آناء الليل وأطراف النهار، وعدم مدارسته والتدبر فيه، وعدم وجود دروس تفسير في المدارس - من الابتدائية إلى الجامعة، وإلى جوار الدروس الحوزوية من المقدمات إلى الخارج - بالشكل الكافي كماً وكيفاً وغير ذلك، ربما يعد من مصاديق الرغبة عن القرآن - ولو في الجملة - أعاذنا الله من ذلك.

ص: 343


1- الفضائل: ص174.

أم بغيره تحكمون ؟

اشارة

-------------------------------------------

الحكم بغير القرآن

مسألة: يحرم الحكم بغير القرآن، كما هو متعارف الآن في البلاد الإسلامية من العمل بقوانين الغرب والشرق، سواء في الأحوال الشخصية أم القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والحقوقية والدولية وشبهها، ومنها الآيات الكريمة التي تركها المسلمون: قال تعالى: «وأمرهم شورى بينهم» (1).

وقال سبحانه: «لا إكراه في الدين» (2).

وقال تعالى: «وفي ذلك فليتنافس المتنافسون» (3).

وقال عزوجل: «إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكمتذكرون» (4).

وقال سبحانه: «إنما المؤمنون أخوة» (5).

وقال تعالى: «إن هذه أمتكم أمة واحدة» (6).

ص: 344


1- سورة الشورى: 38.
2- سورة البقرة: 256.
3- سورة المطففين: 26.
4- سورة النحل: 90.
5- سورة الحجرات: 10.
6- سورة الأنبياء: 92.

..............................

وقال عزوجل: «يريدون أن يتحاكموا الى الطاغوت وقد أُمروا أن يكفروا به»(1)، إلى غير ذلك.

قال تعالى: «ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون» (2).

وفي آية أخرى: «فأولئك هم الظالمون»(3).

وفي آية ثالثة: «فأولئك هم الكافرون» (4).

فإن الانحراف عن أحكام القرآن يؤدي الى الفشل والعطب والتقهقر في الدنيا والآخرة، وهذا ما نشاهده في الحال الحاضر في البلاد الإسلامية حيث أنهم مع كثرتهم ووفرة معادنهم وثرواتهم يعيشون حالة الفقر والتخلف والتأخر المشين(5).

ويمكن أن يستنبط من قولها (علیها السلام): (وأنى تؤفكون وكتاب الله …) - إلى جوار سائر الأدلة العامة والخاصة - إن القرآن الكريم هو المرجع في كل شيء، أي أن فيه ما يصلح للرجوع إليه في كل قضية وحادث وواقعة ومشكل، قال تعالى:

ص: 345


1- سورة النساء: 60، وقد تحدث الإمام المؤلف (رحمة الله) عن هذه الآيات الشريفة وغيرها في الكثير من كتبه ومنها: (الصياغة الجديدة)، (الفقه: السياسة)، (الفقه: الاقتصاد)، (الفقه: الاجتماع)، (الفقه: الحقوق)، (الفقه: القانون)، (الفقه: الدولة الإسلامية)، و… ومن كتيباته في هذا الحقل: (هكذا حكم الإسلام)، (إذا قام الإسلام في العراق) و…
2- سورة المائدة: 47.
3- سورة المائدة: 45.
4- سورة المائدة: 44.
5- راجع كتاب (المتخلفون مليارا مسلم) للإمام المؤلف (رحمة الله).

..............................

«ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيءوهدى ورحمة وبشرى للمسلمين»(1).

وما فعلوه من غصب الخلافة ومصادرة فدك وإيذاءهم أهل البيت (علیهم السلام) كان مخالفة للقرآن وتركاً له.

ولا نقصد أن القرآن بيّن كل ذلك بالتصريح، بل كليات القرآن ومختلف القرائن الأخرى تدل على هذه الأمور، ولهذا استدلت (عليها الصلاة والسلام) بالنسبة الى إرثها بآيات إرث الأنبياء (علیهم السلام) وآيات إطلاق الإرث، ومن الواضح أنه ما من حكم شرعي إلا وقد ذكر في القرآن على نحو الجزئية أو الكلية، بالتصريح أو التلميح. فإن في القرآن الحكيم رموزاً وإشارات، وفيه معادلات، لو عرفها الإنسان لاطّلع على كل شيء بنحو التفصيل.

وفي استفادة الإمام أمير المؤمنين علي (علیه السلام) أقل مدة الحمل من الجمع بين الآيتين(2)، مؤشر على ذلك.

وفي الحروف المقطعة مؤشر آخر. وفي تسلسل السور - لا على حسب ترتيب النزول - والآيات وعددها والحروفوتقابلاتها و… مؤشر آخر(3).

ص: 346


1- سورة النحل: 89.
2- قال تعالى: «والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين» سورة البقرة: 233، و قال سبحانه: «وحمله وفصاله ثلاثون شهراً» سورة الأحقاف: 15.
3- إذا أمكن أن يكون رمز كمبيوتري واحد مفتاحاً لفصل أو باب أو علم كامل، وإذا كانت هندسة (الأهرام) وزواياها تتضمن مباحث كثيرة في علوم الفلك والرياضيات وغيرها، فكيف لا يتيسر لخالق الكون أن يضمن كتابه رموز كل شيء!

..............................

وإن كان لم يودع علم ذلك كله إلا عند أهل البيت (علیهم السلام) حسب الكثير من الروايات.

وكنموذج مما يمكن استفادة الأحكام منه حتى لما يتجدد على مر الزمان، قوله سبحانه وتعالى: «خلق لكم»(1).

وقوله سبحانه: «وأحل لكم ما وراء ذلكم» (2).وقوله عزوجل: «أوفوا بالعقود »(3).

إلى غيرها من الآيات المطلقة أو العامة.

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (إنّ القرآن تبيان كلّ شيء حتّى والله ما ترك الله شيئاً يحتاج إليه العباد إلا بينه للناس، حتى لا يستطيع عبد يقول: لو كان هذا نزل في القرآن، إلا وقد أنزل الله تبارك وتعالى فيه) (4).

وقال (علیه السلام): (ما من أمر يختلف فيه اثنان إلاّ وله أصل في كتاب الله عزّ وجلّ، ولكن لا تبلغه عقول الرجال) (5).

وعن عبد الأعلى بن أعين قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول:

ص: 347


1- سورة البقرة: 29. وقد تطرق الإمام المؤلف (رحمة الله) في (الفقه: الاقتصاد) إلى جملة إستنباطات من هذه الآية الشريفة، ومنها حق الأجيال القادمة في الثروات الطبيعة، والحق في حيازة المباحات وانه محدد بإطار دائرة (لكم) و…
2- سورة النساء: 24.
3- فيشمل العقود المستحدثة كعقد التأمين وغيره مما جمع الشرائط، والآية في سورة المائدة: 1.
4- تفسير القمي: ج2 ص451 سورة الناس.
5- المحاسن: ص267-268 ح355.

..............................

(قد ولّدني رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأنا أعلم كتاب الله وفيه بدء الخلق وما هو كائن إلى يوم القيامة، وفيه خبر السماء، وخبر الأرض، وخبرالجنّة، وخبر النار، وخبر ما كان، وخبر ما هو كائن، أعلم ذلك كما أنظر إلى كّفّي، إنّ الله يقول: فيه تبيان كل شيء(1) (2).

وعن الإمام الصادق (علیه السلام): (إن الله بعث محمدا (صلی الله علیه و آله) نبياً فلا نبي بعده، وأنزل عليه الكتاب فختم به الكتب فلا كتاب بعده، أحل فيه حلاله وحرم فيه حرامه... فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم، وفصل ما بينكم، ثم أومئ بيده إلى صدره وقال: ونحن نعلمه) (3).

نعم إن الإسلام قرر الأدلة الأربعة، على ما ذكره الفقهاء، وهي الكتاب والسنة والإجماع والعقل، والمراد بالسنة: الأعم من فعلهم وقولهم وتقريرهم (صلوات الله عليهم أجمعين).

وكون السنة مخصصة للقرآن الكريم ومقيدة له، مما أشار إليه القرآن الكريم بقوله تعالى: «ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا» (4).وقوله سبحانه: «اليوم أكملت لكم دينكم (5) وأتممت عليكم نعمتي

ص: 348


1- إشارة الى قوله تعالى: «ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء» سورة النحل: 89.
2- بصائر الدرجات: ص197.
3- كشف الغمة: ج2 ص197.
4- سورة الحشر: 7.
5- إذ إكمال الدين تم بتعين خليفة رسول رب العالمين (صلی الله علیه و آله)، بحيث يرجع إليه القاصي والداني في كل مسألة ومعضلة، في الأصول والفروع، في الشؤون الفردية والاجتماعية، وفي شؤون الحكم الى غير ذلك.

..............................

ورضيت لكم الإسلام دينا » (1).

قولها (علیها السلام): (أم بغيره تحكمون)، أي: تحكمون بغير القرآن، ومن المعلوم أن غير القرآن هو الجاهلية والضلال، وأن القرآن حق وغير القرآن باطل، وفي هذا الكلام دلالة على وجوب الأخذ بالقرآن، كما يقتضي حرمة الحكم بغير ما في القرآن الحكيم، وقد قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «علي مع القرآن والقرآن مع علي»(2).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «إن الله تبارك وتعالى طهرنا وعصمنا وجعلنا شهداء على خلقه وحججاً في أرضه وجعلنا مع القرآن وجعل القرآن معنا،لانفارقه ولا يفارقنا»(3).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) بعدما بيًّن خلفائه من أمته وأن أولهم علي بن أبي طالب (علیه السلام) ثم من بعده الحسن (علیه السلام) ومن بعده الحسين (علیه السلام) ثم تسعة من ولد الحسين (علیهم السلام): «القرآن معهم وهم مع القرآن، لا يفارقونه ولا يفارقهم حتى يردوا على حوضي»(4).

ص: 349


1- سورة المائدة: 3.
2- كشف الغمة: ج1 ص148.
3- كمال الدين: ص240، وقريب منه في بصائر الدرجات: ص83.
4- كمال الدين: ص277.

«بئس للظالمين بدلا»

اشارة

«بئس للظالمين بدلا» (1)

بئس للظالمين

مسألة: يستفاد من إستنادها (علیها السلام) إلى الآية الشريفة:«بئس للظالمين» أن ما فعلوه من غصب الخلافة وإيذاء الإمام أمير المؤمنين علي (علیه السلام) والسيدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) وخذلانهم لهما (علیهما السلام) و… جعلهم في عداد الظالمين، وقد قال تعالى: «وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال اني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين»(2).

ويلزم الاعتقاد بذلك(3) على حسب دلالة متواتر الروايات الواردة في باب التبري وغيره، ولأنه من الاعتقاد بالأمور الأصولية، فإن كثيراً من شؤون الأصول الخمسة ترجع إليها وإن كانبعضها مما لا يُعلم بوجوب الاعتقاد بجميع خصوصياتها وان كان يحرم إنكارها، مثلاً خصوصيات العرش وخصوصيات الجنة والنار وما أشبه، وبعض الخصوصيات المتعلقة بالمعصومين (علیهم السلام) من قبيل كناهم وعدد أولادهم وما أشبه ذلك، على تفصيل ذكره علماء الكلام مما هو خارج عن مبحثنا.

وفي استنادها (علیها السلام) إلى هذه الآية الشريفة دلالة أخرى عميقة، حيث إن

ص: 350


1- سورة الكهف: 50.
2- سورة البقرة: 124.
3- أي بما ذكر من ان ما فعلوه جعلهم في عداد الظالمين.

..............................

كامل الآية هو «إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلاً» (1)، فليتدبر.

قولها (علیها السلام): «بئس للظالمين بدلاً»، أي: بئس ما إختاروه لأنفسهم بديلاً عن القرآن وأحكامه ودساتيره، حيث بدّلوا القرآن بغير القرآن واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، وحكموا بالباطل والجور، إرضاءً وإشباعاً لشهواتهم الزائلة..وقد قال سبحانه: «للظالمين» كناية عن أن الذي يستبدل القرآن بغير القرآن فهو من الظالمين أي أن الاستبدال هو ملاك الظلم وسبب اتصافهم بهذه الصفة وإن شمل اللفظ من كان متصفاً بها من قبل.

أقسام الظلم

مسألة: الظلم المحرم يشمل ظلم النفس وظلم الشعب وظلم الأجيال القادمة.

والقوم بغصبهم الخلافة وعزل آل الرسول (صلی الله علیه و آله) عنها وتغيير منهجه (صلی الله علیه و آله) قد ظلموا أنفسهم والناس وكل الأجيال القادمة على مر العصور، أسوأ الظلم وأشده.

وإستشهادها (علیها السلام) بالآية الشريفة، والإطلاق الازماني والاحوالي في

ص: 351


1- سورة الكهف: 50.

..............................

«للظالمين»، وشهادة الآثار الوضعية الخارجية العينية، دليل على ذلك، وقد ورد النهي الشديد عن الظلم:

قال (صلی الله علیه و آله): «وإياكموالظلم، فان الظلم عند الله هو الظلمات يوم القيامة»(1).

وقال (صلی الله علیه و آله): «وأما شفاعتي ففي أصحاب الكبائر ما خلا أهل الشرك والظلم»(2).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «الظلم في الدنيا هو الظلمات في الآخرة»(3).

وقال أبو جعفر (علیه السلام):« قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): من اقتطع مال مؤمن غصباً بغير حقه لم يزل الله عزوجل معرضاً عنه، ماقتاً لأعماله التي يعملها من البر والخير، لا يثبتها في حسناته حتى يتوب ويرد المال الذي أخذه إلى صاحبه»(4).

وقال الإمام الصادق (علیه السلام): «من عذر ظالماً بظلمه سلط الله تعالى عليه من يظلمه فان دعا لم يستجب له ولم يأجره الله على ظلامته»(5).نعم إن ما أبدلوا به كان بئس البدل سياسياً واقتصادياً واجتماعيا وأخلاقياً ودينياً وفي شتى الجهات الأخرى.

ص: 352


1- الخصال: ص176 ح235 باب الثلاثة.
2- الخصال: ص355 باب السبعة ح36.
3- ثواب الأعمال وعقاب الأعمال: ص272 باب عقاب من ظلم.
4- ثواب الأعمال وعقاب الأعمال: ص273.
5- ثواب الأعمال وعقاب الأعمال: ص274.

..............................

قال تعالى: «ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون» (1).

وليست الويلات والدواهي والفتن والمحن التي مرت بالمسلمين منذ ذلك اليوم وحتى الآن إلا وليدة ذلك الظلم الذي عُدّ الحجر الأساس في تحريف مسار التاريخ عن منهج الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) الذي كان سيكفل للبشرية جمعاء السعادة لو طبق، الى منهج الظلم والاستبداد والجهل والأثرة والتخلف والانحطاط و…

و(بئس) تكشف عن حقيقة خارجية وتدل على الأثر الوضعي الدنيوي كما تفصح عن واقع الحال في الآخرة أيضاً.

ص: 353


1- سورة الأعراف: 96.

«ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين»

اشارة

«ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين» (1)

أصول الدين

مسألة: عدّ جماعة أصول الدين ثلاثة وهي: التوحيد والنبوة و المعاد، وأصول المذهب خمسة بإضافة العدل والإمامة، والمستفاد من استدلالها (صلوات الله عليها) بهذه الآية الشريفة «ومن يبتغ غير الإسلام ديناً …» (2)، أن الإمامة من أصول الدين، ومنكرها قد ابتغى غير الإسلام ديناً في الموضوع لا الحكم، فتأمل، وعلى ذلك روايات كثيرة.

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «ان الولاية من بعدي لعلي والحكم حكمه، والقول قوله، لا يرد حكمه وقوله وولايته إلا كافر، ولا يرضى بحكمه وقوله وولايته إلا مؤمن»(3).

وعنهما (علیهما السلام): «في قولهتعالى: «ليخرجكم من الظلمات إلى النور»(4) يقول: من الكفر إلى الإيمان يعني إلى الولاية لعلي (علیه السلام)»(5).

ص: 354


1- سورة آل عمران: 85.
2- سورة آل عمران: 85.
3- الأمالي للشيخ الصدوق: ص348 المجلس 55 ح7.
4- سورة الأحزاب: 43.
5- المناقب: ج3 ص80.

..............................

وعن الإمام الباقر (علیه السلام): ( «والذين كفروا» (1) أي بولاية علي (علیه السلام) «أولياؤهم الطاغوت» نزلت في أعدائه ومن تبعهم، أخرجوا الناس من النور، والنور ولاية علي (علیه السلام) فصاروا إلى الظلمة ولاية أعدائه)(2).

وفي قوله تعالى: «يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون» (3) قال أبو الحسن الماضي (علیه السلام): «يريدون يطفئوا ولاية أمير المؤمنين بأفواههم والله متمم نوره: والله متممالإمامة»(4).

وعن أبي جعفر (علیه السلام) في قوله تعالى: «فاقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها»(5) قال: «هي الولاية»(6).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) في قوله تعالى: «إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً» (7) قال: «نزلت فيمن آمن برسول الله (صلی الله علیه و آله) في أول الأمر ثم كفروا حين عرضت عليهم الولاية حيث قال (صلی الله علیه و آله): من كنت مولاه، فعلي مولاه، ثم آمنوا بالبيعة لأمير المؤمنين حيث قالوا له: بأمر الله وأمر رسوله فبايعوه ثم كفروا حين مضى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فلم يقروا بالبيعة ثم ازدادوا

ص: 355


1- سورة البقرة: 257.
2- المناقب: ج3 ص81.
3- سورة التوبة: 32.
4- المناقب: ج3 ص82.
5- سورة الروم: 30.
6- تأويل الآيات: ص427 سورة الروم.
7- سورة النساء: 137.

..............................

كفراً بأخذهم من بايعوه بالبيعة لهمفهؤلاء لم يبق فيهم من الإيمان شيء»(1).

وعن أبي سعيد الخدري قال: «تلا رسول الله (صلی الله علیه و آله) هذه الآية: «لايستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون»(2) ثم قال: أصحاب الجنة من أطاعني وسلّم لعلي الولاية بعدي، وأصحاب النار من نقض البيعة والعهد وقاتل علياً بعدي..»(3).

لا يقال: إن كلامها (علیها السلام) عن القرآن وتركه وراء الظهر.

لأنه يقال: إن مصبّ كلامها (علیها السلام) هي خلافة الإمام علي (علیه السلام) واعتراضها عليهم بأن الإعراض عنه إعراض عن القرآن، وأنهم بذلك صاروا مصداق «بئس للظالمين بدلاً» (4)، و«ومن يبتغ غير الإسلام ديناً» (5).

وفي تفسير العياشي عن أبي جعفر(علیه السلام) في قوله تعالى: «إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم»(6) قال (علیه السلام): «يهدي إلى الولاية»(7).

وفي حديث آخر: «يهدي إلى الإمام»(8).

ص: 356


1- راجع تفسير العياشي: ج1 ص281 سورة النساء، ح289.
2- سورة الحشر: 20.
3- تفسير فرات الكوفي: ص477 ح623 سورة الحشر.
4- سورة الكهف: 50.
5- سورة آل عمران: 85.
6- سورة الإسراء: 9.
7- تفسير العياشي: ج2 ص283.
8- تفسير العياشي: ج2 ص282.

..............................

وذلك بيّن أيضاً من قولها (علیها السلام) (والرسول (صلی الله علیه و آله) لمّا يقبر) أو ليس نصب غير الإمام خليفة في السقيفة هو الذي كان قبل أن يقبر الرسول (صلی الله علیه و آله)؟

ومن قولها: (ابتدارا زعمتم خوف الفتنة).

ويدل عليه أيضاً قولها: «ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين».

ثم إن معنى (فلن يقبل منه) هل هو المطلق أو النسبي، أي قبولاً مطلقاً أم قبولاً كما يقبل عن المؤمنين، وبعبارة أخرى هل (القبول المطلق) هو المنفي أو (مطلق القبول)؟قد يختلف باختلاف المصاديق.

ثم إن الكفار على ثلاثة أقسام أو أكثر: الذميون والمحايدون والمعاهدون، وهؤلاء يحقن دمهم ومالهم وعرضهم، وأما الكفار في القسم الرابع وهم المحاربون، فإنهم يحاربون حسب موازين الإسلام، كما قال سبحانه: «وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة» (1).

هذا ويحتمل أن يكون المراد عدم القبول أخروياً ولا منافاة بينهما.

و(ابتغاء غير الإسلام ديناً) يشمل الأقوال والأعمال، سلباً وإيجاباً - فهذه أربع صور - :

بأن يقول ما لايقوله الإسلام(2).

ص: 357


1- سورة التوبة: 36.
2- كقوله تعالى: «ولقد قالوا كلمة الكفر» سورة التوبة: 74.

..............................

أو لا يقول ما يقوله الإسلام(1).

أو يعمل ما لا يريد الإسلام عمله(2).أو لا يعمل ما أراده(3)، فإن الإسلام عقيدة وقول وعمل، وعلى هذا فالأقسام ستة.

قال الإمام الرضا (علیه السلام) عن آبائه (علیهم السلام) عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «الإيمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان»(4).

وفي حديث عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): قال جبرئيل: قال الله تعالى: (لا إله إلا الله حصني فمن دخل حصني كان آمنا) وقال الإمام (علیه السلام): بشروطها وشروطها المعرفة الولاية والعمل بالأركان»(5).

ثم انه يجب الاعتقاد بمضمون هذه الآية الشريفة(6) كبرىً، وبمصاديقهاصغرىً - في الجملة - ، ومنها ما قام به القوم من غصب الخلافة، وعلى ذلك دلت الأدلة الأربعة.

ص: 358


1- كعدم نطقه بالشهادتين.
2- كقوله: «وهموا بإخراج الرسول» [ سورة التوبة: 13«، و]يريدون أن يتحاكموا الى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به» سورة النساء: 60.
3- كقوله تعالى: «قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى» [ سورة الشورى: 23« و]أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم» سورة النساء: 59.
4- عيون أخبار الرضا (علیه السلام): ج1 ص226.
5- أعلام الدين: ص356.
6- سورة آل عمران: 85.

..............................

الطريق إلى الله

مسألة: الآية صريحة في نفي ما ذهب إليه بعض المذاهب الباطلة(1)، من أن الأديان والمذاهب كلها طرق الى الله تعالى وإن من تمسك بأي منها فهو ناج، أو أن القلب وسلامته هي المعيار لا العمل، أو أن هنالك طريقة تغاير الشريعة وما أشبه ذلك.

كما أن استدلالها (علیها السلام) بالآية في المقام نفي لصحة المذاهب الأخرى غير المذهب الجعفري الاثنا عشري، وهي عبارة أخرى عن الروايات الصحيحة التي تصرح ب «ستفترق أمتي من بعدي على ثلاث وسبعين إحداها ناجية وسايرها هالكة»(2).

وقال (صلی الله علیه و آله): «ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، واحدةناجية والباقون في النار»(3).

وعن أمير المؤمنين (علیه السلام) قول النبي (صلی الله علیه و آله): «ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة واحدة ناجية وهم المتمسكون بولايتكم، لا يعملون برأيهم، أولئك ما عليهم من سبيل»(4).

ص: 359


1- كالبهائية، وكقسم من العرفاء القائلين بوحدة الوجود ووحدة الموجود وكبعض الصوفية ومن أشبه.
2- المناقب: ج3 ص72.
3- الصراط المستقيم: ج2 ص96.
4- الصراط المستقيم: ج2 ص126.

..............................

وفي حديث آخر قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «يا علي مثلك في أمتي مثل المسيح عيسى بن مريم (علیه السلام) افترق قومه ثلاث فرق، فرقة مؤمنون وهم الحواريون، وفرقة عادوه وهم اليهود، وفرقة غلوا فيه فخرجوا عن الإيمان، وان أمتي ستفترق ثلاث فرق، فرقة شيعتك وهم المؤمنون، وفرقة أعداؤك وهم الشاكون، وفرقة غلاة فيك فهم الجاحدون، وأنت يا علي وشيعتك ومحبو شيعتك في الجنة، وأعداؤك والغلاة في محبتك في النار»(1).

الخلافة والظلم

مسائل: لا يصلح من يكون ظالماً، أو في حكم غير المسلمين، أومن يكون من الخاسرين في الآخرة، لخلافة الرسول (صلی الله علیه و آله)، ولا يجوز إستخلافه، ولا تكون له الشرعية، ولا لأقواله وأفعاله الحجية، ويلزم الاعتقاد بما ذكر وقد قال سبحانه جواباً لإبراهيم (علیه السلام): «لا ينال عهدي الظالمين» (2).

مسائل: لا يصلح من يكون ظالماً، أو في حكم غير المسلمين، أومن يكون من الخاسرين في الآخرة، لخلافة الرسول (صلی الله علیه و آله)، ولا يجوز إستخلافه، ولا تكون له الشرعية، ولا لأقواله وأفعاله الحجية، ويلزم الاعتقاد بما ذكر وقد قال سبحانه جواباً لإبراهيم (علیه السلام): «لا ينال عهدي الظالمين» (3).

لا يقال: هل سأل إبراهيم (علیه السلام) من ربه (العهد) للظالمين أو العادلين، فإن سأله للظالمين فهو مستبعد منه (علیه السلام) وإن سأله للعادلين فلم يكن هذا الجواب جواباً له؟

لأنه يقال: إن إبراهيم (عليه الصلاة والسلام) طلب العهد في الجملة، وإنما فصل الله سبحانه وتعالى ونوه إلى أنهم بين عادل وظالم، لتنبيه الناس على هذه

ص: 360


1- مائة منقبة: ص80 المنقبة 48.
2- سورة البقرة: 124.
3- سورة البقرة: 124.

..............................

الحقيقة (كبرىً) وإلى أنه لا يليق بالخلافة من كان ظالماً (صغرىً)، وتفصيل البحث في علم الكلام.قولها (علیها السلام): «ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين» (1).

فإن الذي يبتغي غير الإسلام ديناً وطريقة في حياته، سواء عقيدة أو عملاً لن يقبل منه في الدنيا في الجملة(2)، ويسبب له ذلك انحطاطاً وانحرافاً وضنكاً في معاشه وفي سائر مجالات حياته الدنيا.

ولن يقبل منه في الآخرة أيضاً، قال تعالى:«وهو في الآخرة من الخاسرين»(3)

وقال سبحانه: «الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين» (4)، لأن الدنيا مزرعة الآخرة(5)، فقسم من الناس يزرعون ما ينفعهم هناك، وقسم من الناس يزرعونمالا يضر ولا ينفع(6)، وقسم من الناس يزرعون ما يضرهم هناك.

ص: 361


1- سورة آل عمران: 85.
2- قوله (رحمة الله) في الجملة: اشارة إلى ما سبق في المسألة السابقة.
3- سورة آل عمران: 85
4- سورة الزمر: 15.
5- الإرشاد: ص89 ب22، تنبيه الخواطر: ج1 ص92.
6- ككثير من الناس الذين يصرفون أوقاتهم في السهرات (إن لم تتضمن محرماً كالغيبة والتهمة والنميمة وغيرها وإلا كانت السهرة محرمة).

..............................

فأهل الباطل يخسرون رأس المال والأرباح المفترضة(1)، بل إنهم يحتطبون أوزاراً ويحملون أثقالاً ويشرون سعيرا، بينما الذكي الفطن هو من يحافظ على رأس ماله ويربح فوق ذلك (ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) (2).

نسأل الله عزوجل أن يجعلنا من المتمسكين بولاية الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) وأولاده المعصومين (علیهم السلام).

ص: 362


1- رأس المال هو العمر، والقدرات التي منحها الله للإنسان ليستخدمها في عمارة آخرته هي (كالذكاء والصحة وماء الوجه)، والأرباح المفترضة: «رضوان من الله» [ سورة التوبة: 72«، و]جنة عرضها السماوات والأرض» [ سورة آل عمران: 133«.
2- أعلام الدين: ص268.

ثم لم تلبثوا إلا ريث أن تسكن نفرتها، ويسلس قيادها

اشارة

-------------------------------------------

ثم لم تلبثوا(1) إلا ريث(2) أن تسكن نفرتها، ويسلس قيادها

ومكروا ومكر الله

مسألة: يستفاد من كلامها (علیها السلام) حرمة ما فعله القوم حيث لم يلبثوا إلا ريث سكون نفرتها وسلس قيادتها.

ويحتمل في قولها (علیها السلام): (ثم لم تلبثوا…) أن يكون إنشاء كما يحتمل أن يكون إخباراً، فعلى الأول - على تأمل فيه - فإن هذا يتضمن تهديداً لهم وعلى ما فعلوه بعد الرسول (صلی الله علیه و آله) وأنه سيعود - بشناره وضرره - على أنفسهم، وذلك نتيجة أعمالهم المنحرفة ونتيجة إعراضهم عن أحكام القرآن ودساتير الرسول (صلی الله علیه و آله)، وقد قال سبحانه: ]ولايحيق المكر السيئ إلا بأهله »(3).

وقال تعالى: «ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين»(4).

وقال سبحانه: «يخادعون الله وهو خادعهم»(5).

وقال تعالى: «ويمكرون ويمكر الله»(6).

ص: 363


1- وفي بعض النسخ: (ثم لم تبرحوا ريثا)، وفي بعضها: (هذا ولم تريثوا حتها إلا ريث) وفي بعضها: (ثم لم تريثوا اختها).
2- أي مقدار.
3- سورة فاطر: 43.
4- سورة آل عمران: 54.
5- سورة النساء: 142.
6- سورة الأنفال: 30.

..............................

وقال سبحانه: «قل الله أسرع مكراً»(1).

لا يقال: إن …(2) يريد الماكرين فلا يحيط المكر السيئ.لأنه يقال: هذا على حسب اقتضاء طبيعة الأشياء وقد ذكرنا فيما سبق أن القضايا غالباً طبيعية.

هذا أولاً.

وثانياً: انا إذا لاحظنا أن الدنيا والآخرة كوجهي الشيء الواحد وأن الآخرة امتداد للدنيا بوجه كما فصلناه في بعض كتبنا(3)، فلا إشكال في أن المكر يعود إلى الماكر سواء في الدنيا أو في الآخرة.

وأما أن الله سبحانه وتعالى أسرع مكراً، فلأنه سبحانه يعلم مسبقاً بمكرهم ومخططاتهم ولذلك فإنه يهيأ أسباب المكر لهم، ويكون مكره أسرع من مكرهم(4) والمكر عبارة عن معالجة الأمور بنحو خفي حتى يوقع غيره فيما يريد الفرار منه(5).

ص: 364


1- سورة يونس: 21.
2- في المخطوطة ههنا كلمة أو كلمات غير واضحة، ولعل المراد: لا يقال: إننا نلاحظ كثيراً من الماكرين لا يحيط بهم مكرهم السيئ ولا يرون العاقبة السيئة للمكر، فأجاب المصنف: أولاً: بان هذه القضايا غالبية وهي بنحو المقتضي لا العلة التامة. وثانياً: لنا أن نلتزم بأن هذه القضايا دائمية، وأن المكر السيئ يحيق بأهله إما في الدنيا أو في الآخرة.
3- راجع موسوعة الفقه: المدخل، كتاب العقائد، و(التفسير الموضوعي للقرآن) للإمام المؤلف (قدس سره).
4- الذي يبدو أن الإمام المصنف (رحمة الله) فسر (أسرع مكراً) ب (أسرع في إعداد مقدمات ووسائل المكر) لاالأسرع في إنفاذ المكر نفسه.
5- أي حتى يوقع الطرف الآخر في المصيدة وفي المحذور الذي فر منه.

..............................

الحيطة من أهل الباطل

مسألة: الواجب أن لا يغتر المؤمنون من سكون أهل الباطل وهدوئهم ودعتهم الظاهرية، إذ ربما يكونون قد بيتوا شراً مستطيراً.

ومعنى ذلك الأخذ بلوازم الحيطة والحذر، وليس ذلك يعني مصادرة حرياتهم المكفولة شرعاً أو التضييق عليهم ومعاملتهم كمجرمين، إذ لا قصاص قبل الجناية، ولا يؤخذ بالظنة أو التهمة في الشريعة السمحة السهلة.

نعم من دأب الظالمين والمستبدين القصاص قبل الجناية بل ومن غير قصدها، والأخذ بالظنة وما أشبه.

وقد كتب الإمام الحسين (علیه السلام) جواباً لكتاب معاوية:

«ابشر يا معاوية بقصاص واستعد للحساب واعلم ان لله كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وليس الله تبارك وتعالى بناس أخذك بالظنة وقتلك أولياءه بالتهمة ونفيك إياهم من دار الهجرة إلى الغربة والوحشة»(1).

ثم إن هذه الجملة، من كلامها (صلوات الله عليها) تعد إحدى أدق الدراسات وأجمل التعابير في الأدب التصويري عن طبيعةالمنحرفين في المجتمع ونفسيتهم، فهم يتبعون خطوات الشيطان في المراوغة، والتظاهر، والتستر، والمكر، واتباع سياسة الكر والفر، وسياسة الخطوة خطوة، وسياسة خطوة إلى الخلف وخطوتان إلى الأمام.

ص: 365


1- الاحتجاج: ص298.

..............................

أقسام المكر

مسألة: المكر على قسمين:

فمنه: مكر صحيح محمود هو مقتضى العدل والعقل(1) واللطف، وهو ما كان من باب مقابلة المكر بالمكر، وفي حدوده الشرعية، أي ما كان في مواجهة مكر وحيلة وتضليل وتدليس وظلم الطغاة والمنحرفين والضلاّل.

ومنه: مكر فاسد مذموم، وهو الابتداء بالمكر مما يعد ظلماً وتحايلاً على الحق لصالح جبهة الضلال والظلام، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من كان مسلماً فلايمكر ولا يخدع فاني سمعت جبرئيل يقول ان المكر والخديعة في النار»(2).وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «المكر سجية اللئام»(3).

وقال (علیه السلام): «إياك والمكر فان المكر لخلق ذميم»(4).

وقال (علیه السلام): «المكر والخديعة والخيانة في النار»(5).

وقال الإمام السجاد (عليه الصلاة والسلام): (ولا تمكر بي في حيلتك)(6) أي لاتمكر بي في علاجك للأمور.

ص: 366


1- غير خفي أن العدل في الله عزوجل وفي الخلق، والعقل في غيره جل وعلا.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: ص270 المجلس 46.
3- غرر الحكم: ص29 ح6481.
4- غرر الحكم: ص291 ح6486.
5- الجعفريات: 171.
6- الإقبال: ص67 و148.

..............................

ومن المحتمل أن قولها (عليها الصلاة والسلام): (لم تلبثوا) إخبارٌ لا إنشاء أي لما سكنت نفرة الخلافة - تشبيهاً لها بالفرس الجموح أو الناقة الهائجة بالنسبة لهم - واسلست السلطة لكم قيادتها، وثبتم على الحكم وانتهزتموها فرصة سانحة وأخّرتم من عينه الله خليفة لرسوله (صلی الله علیه و آله).

قولها (علیها السلام): (ثم لم تلبثوا إلا ريث أن تسكن نفرتها). ريث بمعنى: قدر، وقد يضاف عليها (ما)فيقال: (ريثما) أي: قدر ما، فقد لبثتم هادئين - ظاهرياً - بانتظار ساعة الصفر وهي (عندما تسكن نفرتها ويسلس قيادها).

قولها (علیها السلام): (ويسلس قيادها)، بمعنى: سهولة القيادة والانقياد.

ومعنى الجملتين(1) أن الخلافة كانت حين عقدها رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعلي بن أبي طالب (عليه

الصلاة والسلام) كالفرس الجامح الصعب بالنسبة لكم، لا ينقاد لأحد منكم وأشباهكم، ولا تكون قيادته أمراً سهلاً، إنها كانت كذلك بسبب حضور رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقوته وخشية الأعداء منه، فلم تتمكنوا أن تأخذوها كما تشاءون، لكن لما توفي رسول الله (صلی الله علیه و آله) وانشغل الإمام علي (علیه السلام) بتجهيز رسول الله (صلی الله علیه و آله) - إضافة إلى أن وصيته (صلی الله علیه و آله) قد قيدته(2) - صارت الخلافة كفرس ذلول فلانشوز لها عنكم، وتمكنتم من قيادها بسهولة، ولذا ركبتموها وأخذتم بزمامها، ولم يكن زهدكم عن الخلافة فيزمان الرسول (صلی الله علیه و آله) إلا بقدر وبانتظار أن تأتي الخلافة بهاتين الحالتين: حالة السكون وحالة السلاسة، فكان الأمر تكتيكاً منكم وبحثا عن الفرص وتربصاً للدوائر.

ص: 367


1- بناء على كونهما إخبارا لا إنشاء.
2- أي وصيته (صلی الله علیه و آله) للإمام (علیه السلام) بان لا يشهر سيفه وبأن يصبر على غصب حقه رعاية للإسلام. راجع بحار الأنوار: ج28 ص300 ب4 ح48.

ثم أخذتم تورون وقدتها، وتهيجون جمرتها

اشارة

-------------------------------------------

الإعانة على الإثم

مسألة: يستفاد من إطلاق خطابها(1) (علیها السلام) وتوجيهه للمجموع، شموله لمن قاد المؤامرة ولمن أعان عليها، بل ربما أمكن القول بشموله لمن سكت أيضاً، فإنه نوع معونة عقلاً أو عرفاً، كما ورد في الساكت عن الغيبة، حيث قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «الساكت شريك المغتاب»(2).

باعتبار أن سكوت جمع كبير من الناس عن الظلم يعد من العلل المعدة لوقوعه وتحققه فتأمل.

فكما أن اقتراف الإثم والظلموالغصب محرم كذلك الإعانة عليها محرم أيضاً. قال تعالى: «ولا تعاونوا على الإثم والعدوان»(3).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من تولى خصومة ظالم أو أعان عليها ثم نزل به ملك الموت قال له: أبشر بلعنة الله ونار جهنم وبئس المصير»(4).

وقال (صلی الله علیه و آله): «من أعان ظالماً سلطه الله عليه»(5).

ص: 368


1- أي في قولها (علیها السلام): (ثم لم تلبثوا) و(ثم أخذتم تورون).
2- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: ج1 ص119 باب الغيبة.
3- سورة المائدة: 2.
4- الأمالي للشيخ الصدوق: ص426 المجلس 66.
5- الخرائج والجرائح: ص1058.

..............................

وقال (صلی الله علیه و آله): «من دل جائراً على جور كان قرين هامان في جهنم»(1).

وقال الإمام الرضا (علیه السلام): «من أعان ظالماً فهو ظالم»(2).

وقال الإمام الصادق (علیه السلام): «من أعان ظالماً على مظلوم لم يزل اللهساخط عليه حتى ينزع من معونته»(3).

وقال (علیه السلام): «لا ينجو من أعان علينا، ولا يعان من أسلمنا»(4).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «يا عمار من تقلد سيفاً أعان به علياً على عدوه قلده الله يوم القيامة وشاحاً من درّ، ومن تقلد سيفاً أعان به عدو علي عليه قلده الله تعالى يوم القيامة وشاحاً من نار»(5).

التفكيك بين الظلم والظالم

مسألة: من المحرمات الإعانة على (ذات الظلم والعدوان) كما تحرم إعانة الظالم على ظلمه، والفرق:

إنه قد يكون هناك ظلم صادر عن فاعل مكلف مختار جامع لسائر الشرائط، فهاهنا قد اجتمع الظلم والظالم.

ص: 369


1- الأمالي للشيخ الصدوق: ص426 المجلس66.
2- عيون أخبار الرضا (علیه السلام): ج2 ص235.
3- ثواب الأعمال وعقاب الأعمال: ص247 باب عقاب من ظلم.
4- تحف العقول: ص121، وتفسير الفرات: ص366 ح499 سورة الزمر.
5- كشف اليقين: ص234 المبحث السابع.

..............................

وقد يكون هنالك ظلم دون أن يوجدظالم كما لو صدر الظلم أو الجرم أو العدوان عن غير المكلف بوجه من الوجوه، كما لو ضرب المضطر أو المجبور أو المجنون أو الغافل الساهي، إنساناً، وكما في تعدي الحيوان على الإنسان، فإن أعان شخص ذلك الضارب المضطر أو المجنون أو… كان معيناً للظلم وان لم يكن معيناً للظالم لفرض الانفكاك، وقد تطرقوا إلى شبه هذا المبحث في باب التجري والقبح الفاعلي والفعلي.

وكون ظاهر العناوين: القصدية لا يضر بعد وجود القرينة هاهنا(1) فتأمل.

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «حرمت الجنة على من ظلم أهل بيتي، أو قاتلهم، أو أعان عليهم، أو سبهم، أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولايزكيهم ولهم عذاب اليم»(2).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «لما نزلت هذه الآية: «يوم ندعو كل أناس بإمامهم»(3) قال المسلمون: يا رسول الله (صلی الله علیه و آله) ألست إمام الناس كلهم أجمعين؟ فقال: أنا رسول الله إلى الناس أجمعين، ولكن سيكون بعدي أئمة

ص: 370


1- الظاهر أن المراد: ما ذكره الفقهاء من أن أي فعل يسند إلى المكلف (كالظلم والبيع والعقد والايقاع) ظاهره انه فعله قاصداً له ف: (باع) أي باع قاصداً للبيع، و(ظلم) كذلك، اذن الظلم يعني الظلم قاصداً له، فهنالك تلازم بين الظلم والظالم، فأجاب بأن الظهور يتمسك به مع عدم وجود قرينه على الخلاف، والفرض أنه (رحمة الله) قد صرح ب (الظلم لا عن قصد) عندما قسم النوع وفكّك، فليدقق جيداً.
2- روضة الواعظين: ص273.
3- سورة الإسراء: 71.

..............................

على الناس من الله من أهل بيتي يقومون في الناس، فيُكذَّبون ويظلمهم أئمة الكفر والضلال واشياعهم، ألا ومن والاهم واتبعهم وصدقهم فهو مني وسيلقاني، ألا ومن ظلمهم وأعان على ظلمهم وكذبهم فليس مني ولا معي وأنا منه برئ»(1).

الرضا بفعل الظالم

مسألة: يحرم الرضا بفعل الظالم، وذلك فيما إذا كان الظلم في أمر يتعلق بأصول الدين.

وأما إذا كان الظلم في فروع الدينفالمشهور بينهم عدم الحرمة كما إذا اغتصب إنسان مال إنسان وكان المغتصب منه إنساناً عادياً - لا مثل السيدة الزهراء (صلوات الله عليها) - فان رضي شخص آخر بهذا الغصب (العادي) فلا يعلم بكونه فاعلاً للحرام وان كان ذلك من رذائل الأخلاق ومما يكشف عن سوء السريرة كالحسد مثلاً ما لم يظهر، وقد ذكروا هذا المبحث أيضاً في باب التجري في الأصول وعلم الكلام.

قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «العامل بالظلم والمعين له والراضي به شركاء فيه»(2). ومثله باختلاف يسير في تحف العقول(3).

ص: 371


1- بصائر الدرجات: ص33.
2- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: ج1 ص17.
3- تحف العقول: ص216 وفيه: «شركاء ثلاثة».

..............................

وقال (علیه السلام): «إياك ومصاحبة أهل الفسوق فان الراضي بفعل قوم كالداخل معهم»(1).

وقال (علیه السلام): «لكل داخل في باطل إثمان إثم الرضا به وإثم العملبه»(2).

تقوية شوكة الظالمين

مسألة: تحرم تقوية شوكة الظالمين.

وذلك كالمشي في ركاب الظالم حيث يكون شوكة له وإن لم يكن الظالم في حال الظلم.

وكالاشتراك في المؤتمرات والمجالس التي يعقدها الظالم وشبه ذلك.

فإن المستفاد من الروايات حرمة ذلك في الجملة، بل لعله يعد من الركون أيضاً، ولو في بعض المصاديق، قال سبحانه: «ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسّكم النار»(3). بل ورد في الحديث الشريف: «من تبسم في وجه مبتدع فقد أعان على هدم دينه»(4).

وورد: «من وقر صاحب بدعة فقد أعان على الإسلام»(5).

ص: 372


1- غرر الحكم: ص433 ح9885.
2- غرر الحكم: ص331 ح7633.
3- سورة هود: 113.
4- المناقب: ج4 ص251.
5- الصوارم المهرقة: 16.

..............................

وقال (صلی الله علیه و آله): «من مشى مع ظالم ليعينه فقد خرج من الإسلام، ومن أعان ظالماً ليبطل حقاً فقد برئ من ذمة الله وذمة رسوله»(1).

وقال (علیه السلام) في حديث وجوه معائش العباد: «وأما وجه الحرام من الولاية فولاية الوالي الجائر، وولاية ولاته، الرئيس منهم، وأتباع الوالي فمن دونه من ولاة الولاة إلى أدناهم باباً من أبواب الولاية على من هو وال عليه، والعمل لهم والكسب معهم بجهة الولاية لهم حرام محرّم، معذّب من فعل ذلك على قليل من فعله أو كثير، لأنّ كلّ شيء من جهة المعونة معصية كبيرة من الكبائر. وذلك أنّ في ولاية الوالي الجائر دوس الحق(2) كلّه، وإحياء الباطل كلّه، وإظهار الظلم والجور والفساد، وإبطال الكتب، وقتل الأنبياء والمؤمنين، وهدم المساجد، وتبديل سنّة الله وشرائعه، فلذلك حرم العمل معهم ومعونتهم والكسب معهم إلاّ بجهة الضرورة نظير الضرورة إلى الدموالميتة»(3).

قولها (علیها السلام): (ثم أخذتم) أي: بعد الرسول (صلی الله علیه و آله)، و(ثم) تستخدم للدلالة على الفصل الزمني كما تستخدم للدلالة على الترتيب الرتبي.

قولها (علیها السلام): (تورون وقدتها) أي: تشعلون وقود النار..

والوقود هو العلة المادية للنار حدوثاً وبقاء، فبه توجد النار وبه تبقى، قال سبحانه:

ص: 373


1- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: ج2 ص233.
2- داسه: أي وطأه برجله وتحت أقدامه.
3- تحف العقول: حديث وجوه معائش العباد، عن الإمام الصادق (علیه السلام).

..............................

«قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة»(1) فنار الآخرة على خلاف النيران المتعارفة في الدنيا التي توقد بسبب الحطب والفحم والغاز وما أشبه ذلك.

ومن وقود الفتنة كان إثارة الأحقاد البدرية والحنينية والخيبرية، والحقد والحسد المتركز على أمير المؤمنين (علیه السلام) لكونه قاتل جمع كثير منهم في حروبهم ضد الرسول (صلی الله علیه و آله) ولاختصاصه بالفضائل الجمة دون غيره.

ومن وقود الفتنة كان أيضاً الأهواء والشهوات وحب السلطة والرئاسة والجاه والمال، ذلك أن قادة المؤامرة أخذوا يذكرون هذه العوامل في صدور الناس كي يعينوهم على آل الرسول (صلی الله علیه و آله) وليتسلموا السلطة ويصفو لهم الجو.

وقد يكون كناية عن أنكم أخذتم بأزمة الخلافة لأنفسكم وتوقدون نارها لمصالحكم حتى تستفيدوا من الخلافة، فالإنسان الذي ينقلب على الحق ويصادر حقاً أقره الله لغيره لا محالة يكون هدفه الاستفادة منها في أغراضه وأهدافه الشخصية التي يمليها عليه الشيطان والهوى والنفس، ولعل لذلك كان عطفها (علیها السلام) ب (وتستجيبون لهتاف الشيطان الغوي).

ما يؤدي إلى الغصب

مسألة: كما يحرم أصل الغصب، يحرم أيضاً كل ما يؤدي إلى استحكامه وتجذره وثباته ودوامه وتوسّعه.

ص: 374


1- سورة التحريم: 6.

..............................

وهذا ما كنّت (علیها السلام) عنهبقولها: (وتهيجون جمرتها)، والجمر عبارة عن: الفحم الذي يسجر ناراً ويشتعل، فانهم كان يهيجون جمرة الخلافة للاستفادة منها في مآربهم.

وهي (صلوات الله عليها) مرة شبهت الخلافة بالفرس أو البعير أو ما أشبه ذلك حيث يركبه الإنسان للوصول إلى هدفه، ومرة شبهها بالنار التي كان ينبغي أن ينتفع منها الإنسان في قبسه وسائر مآربه.

ولعل التشبيه ب (تورون وقدتها..) بلحاظ المقام، باعتبار أن عملهم باغتصاب الخلافة كان كالنار المحرقة التي « لاتبقي ولا تذر»(1).

ولا يخفى لطف التعبير ب (تورون وقدتها) تنظيراً لغصبهم الخلافة ب «النار التي وقودها الناس والحجارة»(2).

وربما تستبطن عبارة (وتهيجون جمرتها) فيما تستبطن الدلالة الكمية والكيفية في محاولاتهم، فإنهم كانوا يرومون تكريس سلطتهم وتجذير ملوكيتهم وتوسعة سلطانهم فكانوا حثيثي السعي لكسب المزيد من الأنصار ولكسر شوكة الأخيار، ومن ذلك كان إصرارهم الشديدعلى أخذ البيعة من الكل بلا استثناء، وكانت هذه معصية أخرى منضمة إلى معصية أصل غصب الخلافة كما لا يخفى.

ص: 375


1- سورة المدثر: 28.
2- سورة البقرة: 24.

وتستجيبون لهتاف الشيطان الغوي

اشارة

-------------------------------------------

الاستجابة لهتاف الشيطان

مسألة: إجابة هتاف الشيطان بما هو هو يتبع حكم متعلقه، وباعتبارها منه مسنداً إليه ان عاد إلى مكابرة الله والعناد معه موجب للكفر، وإلا فمحرم في الجملة، فتأمل.

قال تعالى: «انهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون انهم مهتدون»(1).

وقال الإمام الحسن (علیه السلام) بعد أن بايعه الناس: «وأحذركم الإصغاء لهتاف الشيطان بكم فانه لكم عدو مبين فتكونوا كأوليائه الذين قال لهم: لا غالب لكم اليوم من الناس واني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال اني بريء منكم»(2).

والشيطان يهتف بالحرام والمكروه وترك الأولى، مثل أن ينام بين الطلوعين، استجابة لهتاف الشيطانفانه من المكروه لا من المحرم.

واستجابتهم لهتاف الشيطان الذي أشارت إليه (صلوات الله عليها) كانت من المحرم بل من أشد درجاته الحرمة لكونهم نقضوا أكبر دعامة وأهم عمود للدين وهو الولاية للإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام)، وقد ورد: (بني الإسلام على

ص: 376


1- سورة الأعراف: 30.
2- الأمالي للشيخ المفيد: ص349 المجلس 41.

..............................

خمس على الصلاة… ولم يناد بشيء كما نودي بالولاية) (1).

وعن أبي جعفر (علیه السلام): «بني الإسلام على خمسة أشياء، على الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية، قال قلت: فأي ذلك أفضل؟ قال: الولاية أفضلهن لأنها مفتاحهن، والوالي هو الدليل عليهن»(2).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام): «في قوله عزوجل: «أرأيت الذي يكذب بالدين»(3) قال: بالولاية»(4).وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «المخالف على علي بن أبي طالب بعدي كافر، والمشرك به مشرك، والمحب له مؤمن، والمبغض له منافق.. لا يقبل الله الإيمان إلا بولايته وطاعته»(5).

وقال (صلی الله علیه و آله): «والذي بعثني بالحق نبياً إن الله لا يقبل من عبد حسنة حتى يسأله عن حب علي بن أبي طالب وهو تعالى أعلم، فإن جاءه بولايته قبل عمله على ما كان فيه، وان لم يأته بولايته لم يسأله عن شيء وأمر به إلى النار»(6).

وعن أبي جعفر الباقر (علیه السلام): «في قوله تعالى: «ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين»(7)، قال: فالإيمان في بطن

ص: 377


1- بحار الأنوار: ج65 ص329 ب27 ح1.
2- تفسير العياشي: ج1 ص191 سورة آل عمران: ح109.
3- سورة الماعون: 1.
4- تأويل الآيات: 820.
5- الأمالي للشيخ الصدوق: ص11 المجلس 3 ح6.
6- كشف الغمة: ج1 ص380.
7- سورة المائدة: 5.

..............................

القرآن علي ابن أبي طالب (علیه السلام) ف «من يكفر» كفر بولايته، «فقد حبط عمله وهو في الآخرة منالخاسرين»»(1).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «بولايته - أي ولاية علي (علیه السلام) - صارت أمتي مرحومة»(2).

التحذير من مساوئ الشيطان

مسألة: من اللازم ذكر مساوئ الشيطان وانه يغوي ويضل، فان ذلك يوجب تفريق الناس من حوله وعدم الاستجابة إليه.

وبالعكس من ذلك يلزم بيان صفات الصالحين والمصلحين، حيث أنه بين مستحب وواجب، فيما إذا سبب التفاف الناس حولهم التفافاً وجوبياً أو التفافاً استحبابياً، فتأمل.

وذلك كله في طرفيه السلبي والإيجابي يعد من مصاديق التولي والتبري و(عمل بالأركان) (3) والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو مقدمة لها.وربما عد من مصاديق «فقاتلوا أئمة الكفر»(4) و«جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم»(5).

ص: 378


1- تفسير الفرات: ص121 ح129 سورة المائدة.
2- بشارة المصطفى: ص198.
3- الخصال: ص609، وعيون أخبار الرضا (علیه السلام): ج1 ص226 باب ما جاء عن الرضا (علیه السلام) في الإيمان وأنه معرفة بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان.
4- سورة التوبة: 12.
5- سورة التحريم: 9.

..............................

قولها (علیها السلام): (تستجيبون لهتاف الشيطان الغوي):

الهتاف - بالكسر - بمعنى: الصياح، وهتف به: أي دعاه، فان الشيطان دعاهم إلى نقض عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله) في أمر الخلافة فاستجابوا له.

والغوي بمعنى: الضال، وذكر هذه الصفة بالذات تذكير بأجلى صفاته مما يناسب المقام، إذ كيف يستجيب الإنسان لهتاف ضال؟ فيضل هو كما ضل شيطانه ويستحق ما استحقه من اللعنة والإبعاد عن رحمة الله والعقاب.

وقد حذر القرآن الكريم عن الشيطان واتباعه:

قال سبحانه: «ولا يصدنكم الشيطان انه لكم عدو مبين»(1).

وقال تعالى: «الشيطان يعدكم الفقرويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم»(2).

وقال سبحانه: «إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون ان كنتم مؤمنين»(3).

وقال عزوجل: «ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيداً»(4).

وقال تعالى: «ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً»(5).

ص: 379


1- سورة الزخرف: 62.
2- سورة البقرة: 268.
3- سورة آل عمران: 175.
4- سورة النساء: 60.
5- سورة النساء: 119.

..............................

وقال سبحانه: «وما يعدهم الشيطان إلا غرورا»(1). وقال تعالى: «إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء»(2).

وقال عزوجل: «يا بني آدم لا يفتننكمالشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة» (3). وقال سبحانه: «يا أبت لا تعبد الشيطان ان الشيطان كان للرحمن عصيا»(4).

استجابتهم المطلقة للشيطان

مسألة: قولها (علیها السلام) (تستجيبون) يدل على أن استجابتهم لهتاف الشيطان الغوي كان حالة مستمرة ومنهجاً متواصلاً على مر الأيام، ويلزم الاعتقاد بذلك.

حيث أن الفعل المضارع يدل على الاستمرار، وبقرينة السياق أيضاً.

وحيث أن حذف المتعلق يفيد العموم (5) ولقرائن مقامية أخرى يكتشف أن استجابتهم لم تتحدد في قضية واحدة، بل كانت هي الأصل في شتى الجوانب، وكان من مصاديقها غصب الخلافة وغصب فدك واتهام المؤمنين بالردة، وأخذ الزكاة عن الناس بالقوة، وقتل الأبرياء والتعدي على الأعراض (كما في قضية

ص: 380


1- سورة النساء: 120.
2- سورة المائدة: 91.
3- سورة الأعراف: 27.
4- سورة مريم: 44.
5- أي في (تستجيبون).

..............................

مالك بن نويرة والتعدي على زوجته) (1)، ومصادرة حريات الناس، والجبر علىالبيعة، وتحريف كلمات الرسول (صلی الله علیه و آله)، مضافاً إلى إيذائه للزهراء (علیها السلام) وكسر ضلعها وإسقاط جنينها و…(2).

ص: 381


1- راجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد:ج1 ص179، وشرح النهج: ج17 ص202. وفي كتاب الفضائل ص76: تحت عنوان خبر مالك بن نويرة قال: «فلما توفي رسول الله (صلی الله علیه و آله) ورجع بنو تميم إلى المدينة ومعهم مالك بن نويرة، فخرج لينظر من قام مقام رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فدخل يوم الجمعة وأبو بكر على المنبر يخطب الناس، فنظر إليه وقال: أخو تميم، قالوا: نعم، قال: فما فعل وصي رسول الله (صلی الله علیه و آله) الذي أمرني بولايته - يعني علياً (علیه السلام) - ؟، قالوا: يا أعرابي الأمر يحدث بعده الأمر!، قال: بالله ما حدث شيء وإنكم قد خنتم الله ورسوله، ثم تقدم إلى أبى بكر وقال: من أرقاك هذا المنبر ووصي رسول الله (صلی الله علیه و آله) جالس، فقال أبو بكر: اخرجوا الأعرابي البوال على عقبيه من مسجد رسول الله (صلی الله علیه و آله)!، فقام إليه قنفذ بن عمير وخالد بن الوليد فلم يزالا يلكزان عنقه حتى أخرجاه، فركب راحلته وأنشأ يقول: أطعنا رسول الله ما كان بيننا *** فيا قوم ما شأني وشأن أبي بكر إذا مات بكر قام عمر مقامه *** فتلك وبيت الله قاصمة الظهر يدب ويغشاه العشار كأنما *** يجاهد جماً أو يقوم على قبر فلو قام فينا من قريش عصابة *** أقمنا ولكن القيام على جمر قال: فلما استتم الأمر لأبي بكر وجه خالد بن الوليد وقال له: قد علمت مالك على رؤوس الأشهاد، ولست آمن ان يفتق عليناً فتقاً لا يلتئم فاقتله. فحين أتاه خالد ركب جواده وكان فارساً يعدّ بألف، فخاف خالد منه فأمنه وأعطاه المواثيق، ثم عذر به بعد أن ألقي سلاحه فقتله واعرس بامرأته في ليلته وجعل رأسه في قدر فيها لحم جزور لوليمة عرسه وبات ينزو عليها نزو…» والحديث طويل.
2- راجع التهميش في الصفحات 247-289 من هذا الكتاب.

..............................

مقتضى الأصل في هتاف الشيطان

مسألة: الأصل في كل دعوة وهتاف للشيطان: الغواية والضلال والإضلال، وهذا في مقابل أن الأصل في المسلم الصحة، وفي غيره أيضاً في الجملة، كما فصلناه في الفقه، وربما يقال إنه في قبال عدم وجود أصل في غير المسلم بقول مطلق، فتأمل(1).

وإنما كان كذلك لأنه مقتضى كونه عدواً، ولزوم اتخاذه عدواً، كما قال تعالى: «يا بني آدم ان الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير»(2). وان ذلك هو ما بنى عليه أمره، حيث قال: «فبعزتك لأغوينهم أجمعين»(3).

وقال تعالى: «قال رب بما أغويتني لازينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين»(4). وقد آلى على نفسه أن لا ينصح شخصاً أبداً كما في قضيته مع أحد الأنبياء(علیهم السلام).

وأما أن هذا النداء الباطني الداعي لأمر ما، هل هو من هتاف الشيطان أو لا، فيعرف بملاحظة موافقته للأهواء والشهوات، ومخالفته للكتاب والسنة والعقل.

ص: 382


1- (بقول مطلق) متعلق بالمقيد لا القيد.
2- سورة فاطر: 6.
3- سورة ص: 82.
4- سورة الحجر: 39.

وإطفاء أنوار الدين الجلي

اشارة

-------------------------------------------

إطفاء نور الدين

مسألة: يحرم إطفاء أنوار الدين، فإن الدين له نور يهتدي الإنسان بسببه إلى المقاصد الصحيحة، وذلك من تشبيه المعنويات بالماديات.

أو يقال: هو حقيقة، فإن النور له مصداقان: نور في الماديات لعالم الأجساد، ونور في المعنويات لعالم الأرواح، فإن النور هو الظاهر بنفسه المظهر لغيره، والدين ظاهر بنفسه - لكونه فطرياً منكشفاً للعقول والأرواح دون واسطة(1) - ومظهر لغيره كما هو واضح، فإذا أطفئ ذلك النور أدى إلى ظلام دامس يخيم على الناس، ويسبب عدموصولهم إلى الهدف من الخلقة، قال عزوجل: «وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون»(2).

وعن أبي الحسن الثاني (علیه السلام) قال: «لما قبض رسول الله (صلی الله علیه و آله) جهد الناس على إطفاء نور الله، فأبى الله إلا أن يتم نوره بأمير المؤمنين (علیه السلام)»(3).

وقال تعالى: «يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون»(4).

ص: 383


1- قال تعالى: «فطرة الله التي فطر الناس عليها» سورة الروم:30.
2- سورة الذاريات: 56.
3- تفسير العياشي: ج1 ص372 ح75، سورة الأنعام.
4- سورة التوبة: 32.

..............................

وقال سبحانه في آية أخرى: «يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون»(1).

الدين جلي واضح

مسألة: يستحب بيان أن هذا الدين هو الجلي الواضح المشرق كالشمس في رابعة النهار، فإن الدين ببراهينهالساطعة وأدلته القويمة شيء جلي واضحٌ لا خفاء فيه، وقد عبر القرآن الكريم عن ذلك وعن آياته ب(المبين) أي الواضح الجلي. قال تعالى: «تلك آيات الكتاب المبين»(2).

وقال سبحانه: «إنما على رسولنا البلاغ المبين»(3).

وقال عزوجل: «فتوكل على الله انك على الحق المبين»(4).

وعن ابن عباس عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: «أنا والله الإمام المبين(5) أبين الحق من الباطل، وورثته من رسول الله (صلی الله علیه و آله)»(6).

وأما احتياج الدين في بعض مسائله رغم كونه جلياً إلى البيان، فذلك من باب (ويثيروا لهم دفائن العقول) (7)فالخلل في القابل لا الفاعل، مضافاً إلى أنه

ص: 384


1- سورة الصف: 8.
2- سورة يوسف: 1.
3- سورة المائدة: 92.
4- سورة النمل: 79.
5- إشارة إلى قوله تعالى: «وكل شيء أحصيناه في إمام مبين» سورة يس: 12.
6- تفسير القمي: ج2 ص212 سورة يس.
7- نهج البلاغة: الخطبة 1.

..............................

قد يقال بأن الجلي الواضح من الكلي المشكك، فتأمل.

هل للدين أنوار؟

مسألة: الدين واحد إلا أن له أنواراً واشراقات وتجليات متعددة، ولذلك عبرت (صلوات الله عليها) ب (أنوار الدين) جمعاً. فإن للدين أنواراً يهتدي الإنسان بسبب تلك الأنوار إلى طرق المعاش والمعاد والاجتماع والاقتصاد والسياسة وغيرها، فالتعدد بلحاظ المتعلق (والمرشَد إليه) أو بلحاظ الأفراد - كل فرد فرد - أو بلحاظ المراتب أو بلحاظ أن للصلاة نوراً وللصوم نوراً وللحج نوراً وهكذا، وكلها يجمعها جامع الدين، ولا مانعة جمع هاهنا بين الأربعة.

ولنا أن نقول: المستفاد من قولها (صلوات الله عليها): (أنوار الدين الجلي) - حيث عبرت بأنوار الدين وليس ب: (نور الدين) - أن هنالك أنواراً تضيء الطريق وتقشع الظلمات وهذه الأنوار تتجسد في كلمات وأشخاص وأحداث وأعمال..فالكلمات: كالقرآن الكريم وأقوال الرسول العظيم (صلی الله علیه و آله) وآله المنتجبين (علیهم السلام) . والأشخاص: كالمعصومين الأربعة عشر (علیهم السلام) وحوارييهم والعلماء على مدى العصور.

والأحداث: كحادثة الغدير(1) والمباهلة(2) والمؤاخاة(3) ورد الشمس(4).

ص: 385


1- راجع الأمالي للشيخ الصدوق: ص2 المجلس1 ح2، وللتفصيل راجع (الغدير) للعلامة الأميني (رحمة الله).
2- راجع تفسير العياشي: ج1 ص177 سورة آل عمران ح58.
3- راجع كشف الغمة: ج1 ص326 - 329.
4- راجع المناقب: ج2 ص318 فصل في طاعة الجمادات له. وكشف الغمة : ج1 ص282.

..............................

والأعمال: كصلاة الليل، والتوجه لزيارة مراقد الأنبياء والأئمة (علیهم السلام) وأولياء الله الصالحين، والبكاء واللطم والتطبير على سيد شهداء أهل الجنة (علیه السلام).

وقد حاول الأعداء طمس كل هذه الأنوار:

فالقرآن: عبر تحريف أسباب النزولوالتأويل المناقض لحقائق التنزيل.

وكلمات المعصومين (علیهم السلام) : عبر إحراقها أو تمزيقها أو إلقائها في الأنهار حيث قالوا: (حسبنا كتاب الله) (1)، أو التصرف فيها زيادة أو نقصاناً، أو تغييرها تأويلاً وتحويلاً.

والأشخاص: عبر قتلهم وتشريدهم وسجنهم ومحاصرتهم وتشويه سمعتهم وتلفيق التهم ضدهم كما قال: «ما منا إلا مقتول أو مسموم»(2).

والأحداث: عبر إسدال ستار التجاهل عليها وطمرها أو التشويش عليها.

والأعمال: عبر صرف الناس عنها تارة باسم أنها بدعة، وأخرى باسم الأهم والمهم، وثالثة بعنوان انها مضيعة للوقت، ورابعة عبر توفير البدائل الأخرى.

وبعض هذه الأنوار وان كان مستحباً في نفسه إلا أن محاولة إطفائه كلياً والقضاء عليه كظاهرة، يعد محرماً، وأحياؤه بهذا اللحاظ يعد واجباً، كما لايخفى.

ص: 386


1- راجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج2 ص55، وج6 ص51، ونهج الحق: ص273 المطلب الثاني في المطاعن التي نقلها السنة عن عمر بن الخطاب.
2- بحار الأنوار: ج27 ص216 ب9 ح18.

وإهمال سنن النبي الصفي (صلی الله علیه و آله)

اشارة

-------------------------------------------

وإهمال(1) سنن النبي الصفي (صلی الله علیه و آله)

إلغاء سننه (صلی الله علیه و آله) محرم

مسألة: سنن الرسول (صلی الله علیه و آله) بين واجبة ومستحبة، والواجبة يحرم تركها، أما المستحبة فتركها غير محرم بما هو ترك، لكن لو انطبق عليه عنوان (الإهمال) المذكور في كلامها (علیها السلام) فربما أمكن القول بالحرمة أيضاً.

وأما (إهماد) سننه (كما في نسخة أخرى) فحتى إهماد المستحب منها محرم، كمن يتعمد لا لمجرد ترك صلاة الليل بل يحاول طمسها وامحائها وإهمادها، والإهماد هو إطفاء النار والنور كلياً.

وكما أن تعليق الحكمة على الوصف مشعر بالعلية، كذلك إثبات الحكم - أو ما يشبهه - لموضوع متصف بوصف موحٍ بالمدخلية، فإهمال أو إهماد السنن، مذموم لأنها سنن (النبي) (صلی الله علیه و آله) وهو المنبئ من الله، و(الصفي) وهو من اصطفاه الله تعالى فإذا كانالشخص مصطفى لله - وبلحاظ الإطلاق الأحوالي والازماني - كانت سننه مصطفاة لله دون شك أو ريب، وكان إهمالها أو اهمادها إهمالا لسنة الله وانتهاكاً لحريم الخالق جل وعلا.

قال تعالى: «ولن تجد لسنة الله تبديلاً»(2).

وقال سبحانه: «ولن تجد لسنة الله تحويلا»(3).

ص: 387


1- وفي بعض النسخ: (وإهماد) ويكون بمعنى الإطفاء بالكلية.
2- سورة الأحزاب: 62.
3- سورة فاطر: 43.

..............................

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «سبعة لعنهم الله وكل نبي مجاب: المغير لكتاب الله، والمكذب بقدر الله، والمبدل سنة رسول الله والمستحل من عترتي ما حرم الله..»(1) الحديث.

ولا يخفى أن التبديل نوع من الإهمال أو الاهماد كما هو واضح.

وعن زرارة قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن الحلال والحرام، فقال: «حلال محمد حلال أبداً إلى يومالقيامة، وحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة، لايكون غيره، ولا يجيء غيره، وقال: قال علي (علیه السلام): ما أحد ابتدع بدعة إلا ترك بها سنة»(2).

وعن أبي جعفر (علیه السلام): «ان الله تبارك وتعالى لم يدع شيئاً تحتاج اليه الأمة إلا أنزله في كتابه وبينه لرسوله (صلی الله علیه و آله) وجعل لكل شيء حداً، وجعل عليه دليلاً يدل عليه، وجعل على من تعدى ذلك الحد حداً»(3).

وعن جعفر بن محمد (علیه السلام) قال: «هذه شرائع الدين لمن أراد أن يتمسك بها وأراد الله هداه: … وحب أولياء الله والولاية لهم واجبة والبراءة من أعدائهم واجبة ومن الذين ظلموا آل محمد وهتكوا حجابه فأخذوا من فاطمة (علیها السلام) فدك ومنعوها ميراثها وغصبوها وزوجها حقوقهما وهموا بإحراق بيتها وأسسوا الظلم وغيروا سنة رسول الله (صلی الله علیه و آله)»(4).

ص: 388


1- الخصال: ص350، لعن رسول الله (صلی الله علیه و آله) سبعة ح25.
2- الكافي: ج1 ص58 ح19.
3- الكافي: ج1 ص59 ح2
4- الخصال: ص607 خصال من شرائع الدين.

..............................

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) عن آبائه (علیهم السلام) عن علي (علیهالسلام) قال: «إن على كل حق حقيقة وعلى كل صواب نورا، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف سنة رسول الله فاتركوه»(1).

ومن هنا أيضاً يعلم عدم صحة قولهم (حسبنا كتاب الله)(2) فإن سنته (صلی الله علیه و آله) المتمثلة به (صلی الله علیه و آله) وبأهل بيته (علیهم السلام) لا يجوز إهمالها أو اهمادها كما سبق.

إلغاء السنن يوجب الفسق

مسألة: يلزم الاعتقاد بأن من اهمد سنن الرسول وأطفأها أو أهملها في الجملة، ظالم فاسق، وبأن من فعل ذلك لا يمكن أن ينال الخلافة، فإنه: «لا ينال عهدي الظالمين»(3).

قولها (صلوات الله عليها): (وإهماد سنن النبي الصفي)، الإهماد بمعنى: الإطفاء فانه إذا أطفأت النار يقال: أهمدها، وهم قد أطفئوا سنن رسول الله (صلی الله علیه و آله) في الخلافة، وإنما عبرت (صلوات الله وسلامه عليها) بالسنن لأن في إطفاءخلافة رسول الله (صلی الله علیه و آله) إطفاء لغير واحد من سننه (صلی الله علیه و آله) لأن الخلافة جماع الخير والشر، وهي المحور والمنطلق، ومنها ان انحرفت تبدأ بالفتنة واليها تعود الخطيئة.

وربما يكون المقصود ما هو الظاهر من إلغائهم مجموعة من سنن الرسول (صلی الله علیه و آله) وإهمادها من غصب الخلافة، وغصب فدك، ومنع الارث، وغير ذلك.

ص: 389


1- مشكاة الأنوار: ص152.
2- بحار الأنوار: ج22 ص472 ب1 ح21، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد:ج2 ص55 ب26.
3- سورة البقرة: 124.

تشربون حسواً في ارتغاء

اشارة

-------------------------------------------

تشربون(1) حسواً في ارتغاء

هل المكر محرم؟

مسألة: هل الذين يشربون حسواً في ارتغاء، يرتكبون إثمين: إثم الغصب وإثم المكر والمخادعة، أم إثما واحداً؟

ربما يقال: بأن ما يستفاد من لحن الآيات والروايات مذمومية المكر في حد ذاته، قال تعالى: «ومكروا ومكر الله»(2).

وقال سبحانه: «يخادعون الله»(3).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «لولا أن المكر والخديعة في النار لكنت أمكر الناس»(4). وقال (صلی الله علیه و آله): «ليس منا من ماكر مسلماً»(5).

وقال الإمام الصادق (علیه السلام): «لا ينبغي للمسلمين أن يغدروا ولايأمروا بالغدر»(6).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «يجيء كل غادر بإمام يوم القيامة مائلاً شدقه حتى يدخل النار»(7).

ص: 390


1- وفي بعض النسخ: (تسرّون).
2- سورة آل عمران: 54.
3- سورة البقرة: 9، وسورة النساء: 142.
4- الكافي: ج2 ص336 ح1.
5- الكافي: ج2 ص337 ح3.
6- الكافي: ج2 ص337 ح4.
7- الكافي: ج2 ص337 ح5.

..............................

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «ألا أن لكل غدرة فجرة ولكل فجرة كفرة، ألا وأن الغدر والفجور والخيانة في النار»(1).

وربما يستفاد ذلك أيضاً من روايات (التدليس) (2) وغيرها.

وكذا من إدراك العقل لقبحه أو حكمه به، لكن قد يقال بطريقيته والذم من باب مقدميته ولا تلازم بين القبح الذاتي - على تقديره - وبين الحرمة.

قولها (صلی الله علیه و آله) - على بعض النسخ - : (تسرون حسواً في إرتغاء).

الإسراء: ضد الإعلان.

والحسو، بفتح الحاء وسكون السينالمهملتين بمعنى: شرب المايع شيئاً بعد شيء.

والإرتغاء: شرب الرغوة وهو الزبد على اللبن، وهذا من أمثال العرب، يقال ذلك لمن: يظهر أمراً ويريد غيره، فكأنه يظهر انه يريد تذوق الزبد حتى يرى صلاحه وفساده، لكنه يريد أن يشرب من خلال هذا التذوق اللبن جرعة بعد جرعة.

والسيدة فاطمة الزهراء (علیها السلام) تقصد من هذا المثال أن الغاصبين أسرعوا إلى السقيفة وهم يدعون أن ذلك لأجل الوقوف أمام الفتنة، لكنهم أرادوا غير ذلك وهو غصب الخلافة من أهلها، وكذلك ادّعوا أن غصبهم فدك كان لأجل المصلحة العامة! والحال أنه كان لأجل تجريد ذوي الحق من العامل الاقتصادي

ص: 391


1- الكافي: ج2 ص338 ح6.
2- راجع موسوعة الفقه: ج93 كتاب (المحرمات).

..............................

والمقدرة المالية، وهم بذلك كانوا ممن تسلح بالغاية لتبرير الوسيلة، مع أنه تعالى قال: «إنما يتقبل الله من المتقين»(1) ومع أن الغاية في حد ذاتها كانت خادعة مضللة كاذبة.

حسن الحذر والاحتياط

مسألة: ينبغي توخي الحذر والاحتياط في التعامل مع الشؤون الخطيرة، خاصة إذا فسد الزمان حيث قال أمير المؤمنين (علیه السلام) في نهج البلاغة: (إذا استولى الفساد على الزمان وأهله فأحسن رجل الظن برجل فقد غرر)(2).

وفي كل الصور فإن المحتمل إذا كان خطيراً وإن كان الاحتمال ضعيفاً يلزم الفحص والاحتياط، ولو عمل بهذه القاعدة الهامة، عامة الناس الذين ساهموا في تكريس سلطة (الذين شربوا حسوا في إرتغاء) - مع قطع النظر عن تمامية الحجة عليهم وإبلاغ الرسول (صلی الله علیه و آله) لهم بمحض الحق - لما حدثت المآسي التي حدثت من صدر التاريخ بتموجاتها حتى يومنا هذا.

ومن ذلك يعرف أنه يلزم الفحص والاحتياط عند سماع ما يدعيه أدعياء السلام أو المحبة والوئام، دولاً كانوا أم أحزاباً أم شخصيات.

فالفحص في الشبهة الموضوعية في أمثال تلك الصور لازم، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في الأصول والفقه.

ص: 392


1- سورة المائدة: 27.
2- بحار الأنوار: ج72 ص197 ب62 ح18 عن نهج البلاغة.

وتمشون لأهله وولده في الخمرة والضراء

اشارة

-------------------------------------------

حرمة إرادة الشر بهم (علیهم السلام)

مسألة: يحرم إرادة الشر بأهل بيت رسول الله (صلی الله علیه و آله) والإعانة عليهم.

وقد وردت روايات في حرمة الإعانة على المؤمن فكيف بهم (صلوات الله عليهم أجمعين) وهم أساس الإيمان.

قال الإمام الصادق (علیه السلام): «من أعان على مؤمن بشطر كلمة لقي الله عزوجل يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمتي»(1).

وفي حديث آخر عنه (علیه السلام): «من أعان على مؤمن بشطر كلمة جاء يوم القيامة وبين عينيه مكتوب آيس من رحمة الله»(2). وقد قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «أنا أول وافد على العزيز الجبار يوم القيامة وكتابه وأهل بيتي ثم أمتي، ثم أسألهم مافعلتم بكتاب الله وأهل بيتي»(3). وقال (صلی الله علیه و آله): «من أبغض أهل بيتي وعترتي لم يرني ولم أره يوم القيامة»(4).

هذا وقد كان الغاصبون للخلافة يدّعون أنهم يريدون بذلك الإصلاح، بجمع كلمة المسلمين، ودفع الفتنة، وهذا النوع من الناس كثير في المجتمع، إذ الذين يسعون إلى تحقيق أهدافهم الشخصية تحت غطاء إصلاحي كثيرون، كما

ص: 393


1- الكافي: ج2 ص368 ح3.
2- من لا يحضره الفقيه: ج4 ص94 ب2 ح5157.
3- الكافي: ج2 ص600 ح4.
4- بحار الأنوار: ج4 ص3 ب1 ح4.

..............................

قال فرعون:«إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد» (1) وإنما كان هدفه في الواقع: محاولة تكريس سلطته وإرادة بقاء ملكه وذلك مصداق «يلبسون الحق بالباطل»، قال تعالى: «ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون»(2)، وقال سبحانه: «يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمونالحق وأنتم تعلمون»(3).

وهكذا حال كثير من الظالمين على طول التاريخ، قال عزوجل: «يعرفونه كما يعرفون أبناءهم»(4) وقال تعالى: «فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به»(5) إلى غير ذلك من الشواهد والأمثال.

قولها (علیها السلام): (وتمشون لأهله وولده في الخمرة والضراء).

الخمر: على وزن فرس، يقال: توارى الصيد في خمر الوادي أو خمر الغابة، ومنه قولهم: دخل فلان في خمار الناس أي ما يواريه ويستره منه، وأصله من الخمر فان معنى الخمر هو الستر، يقال للمسكر: الخمر، لأنه يستر العقل.

والضراء: على وزن براء، الشجر الملتف في الوادي ونحوه، يقال لمن خذل صاحبه وخادعه: يدب له الضراء ويمشي له الخمر، والمراد: إنهم يمشون في

ص: 394


1- سورة غافر: 26.
2- سورة البقرة: 42.
3- سورة آل عمران: 71.
4- سورة البقرة: 146، وسورة الأنعام: 20.
5- سورة البقرة: 89.

..............................

اغتصاب الخلافة وفدك مثل المشي في الخمر والضراء، لأنهم يخفون مقاصدهم الواقعية ويظهرون شيئاً آخر وذلك لخداع الناس.

من هم الأهل

مسألة: يستفاد من قولها (علیها السلام): (وتمشون لأهله وولده) المقصود من أهل بيته (صلی الله علیه و آله) وربما يستفاد تعيين وتوضيح المراد من قوله تعالى: «إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا» (1) وأنهم: فاطمة وبعلها وبنوها (علیهم السلام) وليست الآية شاملة للأزواج، فإن السعي المضاد في الخمرة والضراء كان خاصاً بهم (علیهم السلام) دون الأزواج أو العباس (علیه السلام) أو من أشبه، وذلك حسب المتفاهم العرفي وتفسير بعض كلامهم بالبعض الآخر، فلا يرد أن وجود قرينة على تعيين المراد في مورد - حالية كانت أم مقالية - لا يقتضي إرادة ذلك المعنى منه في مورد آخر، إضافة إلى أن القرائن على انحصار المقصود من «أهل البيت» في الآية المباركة علىهؤلاء الأطهار (علیهم السلام) قطعية(2).

قال إسماعيل بن عبد الخالق: «سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول لأبي جعفر الأحول وأنا اسمع: … ما يقول أهل البصرة في هذه الآية «قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى»(3)؟

قلت: جعلت فداك إنهم يقولون إنها لأقارب رسول الله (صلی الله علیه و آله).

ص: 395


1- سورة الأحزاب: 33.
2- فليراجع (الغدير) للعلامة الأميني و(المراجعات) للسيد شرف الدين و(احقاق الحق) وغيرها.
3- سورة الشورى: 23.

..............................

فقال (علیه السلام): كذبوا، إنما نزلت فينا خاصة،في أهل البيت، في علي وفاطمة والحسن والحسين أصحاب الكساء (علیهم السلام)»(1).

الأسباط أبناء

مسألة: كلامها (علیها السلام) هاهنا، دليل آخر على كون الأسباط أبناء، وأن الحسن والحسين (علیهما السلام) أولاد رسول الله (صلی الله علیه و آله). ولا وجه بعد تصريح الآيات والروايات - ومنها تصريحها (علیهاالسلام) هاهنا - لما قال الشاعر:

بنوهن أبناء الرجال الأباعد

بنونا بنوا أبنائنا وبناتنا

هذا مع قطع النظر عن كون كلام الشاعر لا حجية له في حد ذاته، ومع قطع النظر عن عدم وضوح دلالته على المدعى.

قال تعالى في آية المباهلة: «وأبناءنا وأبناءكم»(2).

وقال (صلی الله علیه و آله): «إن ابني هذين - الحسن والحسين (علیهما السلام) - ريحانتيّ من الدنيا»(3). وقال (صلی الله علیه و آله) مشيراً للحسن (علیه السلام): «إن ابني هذا سيد»(4).

وقال (صلی الله علیه و آله): «إن الله جعل ذرية كل نبي من صلبه وجعل ذريتي من صلب علي مع فاطمة ابنتي»(5).

ص: 396


1- الكافي: ج8 ص93 ح66.
2- سورة آل عمران: 61.
3- بحار الأنوار: ج43 ص275 ب12 ح42.
4- بحار الأنوار: ج43 ص298 ب12 ح62.
5- بحار الأنوار: ج23 ص144 ب7 ح98.

ونصبر منكم على مثل حز المدى، ووخز السنان في الحشا

اشارة

-------------------------------------------

وجوب الصبر في الجملة

مسألة: الصبر على الطاعة الواجبة واجب، وهكذا عن المعصية، وعلى المصائب مستحب، وربما وجب، وعلى حسب شدة مرارته يكون الأجر، وعلى حسب درجات ما يصبر عليه أيضاً.

وصبرها (علیها السلام) وبعلها الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) المشار إليه في كلامها هاهنا كان صبراً على الطاعة، إذ سكوتهم (علیهم السلام) بالمقدار الذي عملوه كان تكليفاً، حفاظاً على الإسلام والمسلمين، وهكذا صبرهم على المصيبة وما أقساها من مصيبة بل ما أمضها من مصائب ورزايا.

قال الإمام الصادق (علیه السلام): «رأس طاعة الله الصبر والرضا عن الله»(1).

وقال (علیه السلام): «الصبر رأس الإيمان»(2).

وقال (علیه السلام): «الصبر منالإيمان بمنزلة الرأس من البدن»(3).

وقال (صلی الله علیه و آله): «الصبر ثلاثة: صبر عند المصيبة، وصبر على الطاعة، وصبر عن المعصية»(4) الحديث.

ص: 397


1- الكافي: ج2 ص60 ح1.
2- الكافي: ج2 ص87 ح2.
3- الكافي: ج2 ص87 ح2.
4- الكافي: ج2 ص91 ح15.

..............................

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «عود نفسك الصبر فنعم الخلق الصبر»(1).

وقال (علیه السلام): «اعلم أن النصر مع الصبر»(2).

إحياء ظلامة الزهراء (علیها السلام)

مسألة: يجب إحياء ظلامة السيدة الزهراء (علیها السلام) حتى تكون على مر الأيام غضة طرية لا يعفي عليها الزمن كمصيبة سيد الشهداء (علیه السلام).

وقد اخبر رسول الله (صلی الله علیه وآله) بظلامتها قبل أن تقع، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «يا علي اني راض عمن رضيت عنه ابنتي فاطمة وكذلك ربي وملائكته، يا علي ويل لمن ظلمها، وويل لمن ابتزها حقها وويل لمن هتك حرمتها، وويل لمن أحرق بابها وويل لمن آذى خليلها وويل لمن شاقها وبارزها، اللهم اني منهم بريء وهم مني براء، ثم سماهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) وضم فاطمة إليه وعلياً والحسن والحسين»(3).

وقال (صلی الله علیه و آله) لابنته (علیها السلام): «وأنت تظلمين وعن حقك تدفعين وأنت أول أهل بيتي لحوقاً بي»(4).

وقد قال جبرئيل (علیه السلام) لرسول الله (صلی الله علیه و آله): «أما ابنتك فهي أول أهلك لحاقاً

ص: 398


1- من لا يحضره الفقيه: ج4 ص386 ب2 ح5834.
2- من لا يحضره الفقيه:ج4 ص412 ب2 ح5900.
3- بحار الأنوار: ج22 ص485 ب1 ح31.
4- بحار الأنوار: ج36 ص264 ب41 ح85.

..............................

بك بعد أن تظلم ويؤخذ حقها وتمنع ارثها ويظلم بعلها ويكسر ضلعها» الحديث(1).وفي الحديث الشريف عن ابن عباس، قال: إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان جالساً ذات يوم إذ أقبل الحسن (علیه السلام) فلما رآه بكى (صلی الله علیه و آله) ثم قال: إليّ اليّ يا بنيّ، فما زال يدنيه حتى أجلسه على فخذه الأيمن.

ثم أقبل الحسين (علیه السلام) فلما رآه (صلی الله علیه و آله) بكى، ثم قال: اليّ اليّ يا بنيّ، فما زال يدنيه حتى أجلسه على فخذه اليسرى.

ثم أقبلت فاطمة (علیها السلام)، فلما رآها بكى (صلی الله علیه و آله) ثم قال: الي الي يا بنية، فأجلسها بين يديه.

ثم أقبل أمير المؤمنين (علیه السلام) فلما رآه بكى (صلی الله علیه و آله) ثم قال: الي اليّ يا أخي، فما زال يدنيه حتى أجلسه الى جنبه الأيمن.

فقال له أصحابه: يا رسول الله ما ترى واحداً من هؤلاء الا بكيت، أو ما تسرّ برؤيته؟ فقال (صلی الله علیه و آله): والذي بعثني بالنبوة، واصطفاني على جميع البرية، اني وإياهم لأكرم الخلق على الله عزوجل، وما على وجه الأرض نسمة أحب اليّ منهم.

أما علي بن أبي طالب (علیه السلام) فإنه أخي وشقيقي، وصاحب الأمر بعدي،وصاحب لوائي في الدنيا والآخرة، وصاحب حوضي وشفاعتي، وهو مولى كل مسلم، وإمام كل مؤمن، وقائد كل تقي، وهو وصيي وخليفتي على أهلي

ص: 399


1- بحار الأنوار: ج98 ص44 ب5 ح84.

..............................

وأمتي، في حياتي وبعد موتي، محبه محبي ومبغضه مبغضي، وبولايته صارت أمتي مرحومة، وبعداوته صارت المخالفة منها ملعونة، وإني بكيت حين أقبل لأني ذكرت غدر الأمة به حتى إنه ليُزال عن مقعدي وقد جعله الله له بعدي، ثم لا يزال الأمر به حتى يضرب على قرنه ضربة تخضب منها لحيته.

واما ابنتي فاطمة: فإنها سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، وهي بضعة مني، وهي نور عيني، وهي ثمرة فؤادي، وهي روحي التي بين جنبيّ، وهي الحوراء الإنسية، متى قامت في محرابها بين يدي ربها جل جلاله ظهر نورها لملائكة السماء كما يظهر نور الكواكب لأهل الأرض، ويقول الله عزوجل لملائكته: يا ملائكتي ويا سكان سماواتي انظروا الى أمتي فاطمة سيدة نساء إمائي، قائمة بين يدي ترتعد فرائصها من خيفتي، وقد أقبلت بقلبها على عبادتي، اشهدكم اني قد آمنت شيعتها من النار.

وإني لما رأيتها ذكرت ما يصنع بهابعدي، كأني بها وقد دخل الذل بيتها، وانتهكت حرمتها، وغصب حقها، ومنعت ارثها،وكسر جنبها، واسقطت جنينها وهي تنادي يا محمداه، فلا تجاب، وتستغيث فلا تغاث، فلا تزال بعدي محزونة مكروبة باكية، تتذكر انقطاع الوحي عن بيتها مرة، وتتذكر فراقي أخرى، وتستوحش اذا جنها الليل لفقد صوتي الذي كانت تستمع إليه إذا تهجدت بالقرآن، ثم ترى نفسها ذليلة بعد ان كانت في أيام أبيها عزيزة…

فتكون أول من يلحقني من أهل بيتي، فتقدم عليّ محزونة مكروبة مغمومة مغصوبة مقتولة، فأقول عند ذلك: اللهم العن من ظلمها، وعاقب من غصبها، وذلل من أذلها، وخلد في نارك من ضرب جنبها حتى ألقت ولدها، فتقول

ص: 400

..............................

الملائكة عند ذلك: آمين.. الحديث(1).

لا يقال: ذلك تاريخ قد انقضى.

لأنه يقال: التاريخ هو الذي يصنع المستقبل، والحاضر تاريخ المستقبل، ومن لا تاريخ له لا جذور له، ولذلك ذكر الله تعالى في كتابه الحكيم قصة هابيلوقابيل(2)، وغيرها من القصص.

قال سبحانه: «لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب»(3).

ولذلك كله سجلت (علیها السلام) ظلامتها بقولها: (ونصبر منكم على مثل خز المدى ووخز السنان في الحشا).

ولذلك كان (نفس المهموم لنا المغتم لظلمنا تسبيح وهمه لأمرنا عبادة)(4).

ولذلك ورد: (من أبكى أو بكى أو تباكى وجبت له الجنة) (5).

وإذا كان من فلسفة الآخرة الاقتصاص من الظالم مع ان ظلمه تاريخ، والثواب على الطاعة والطاعة تاريخ، كما لايخفى.

ص: 401


1- الأمالي للشيخ الصدوق: ص112 المجلس 24 الحديث 2.
2- سورة المائدة: 27، قال تعالى: «واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لاقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين».
3- سورة يوسف: 111.
4- الكافي: ج2 ص226 ح16.
5- راجع بحار الأنوار: ج44 ص288 ب34 ح27، وفيه عنهم (علیهم السلام): «من بكى وأبكى فينا مائة فله الجنة، ومن بكى وأبكى خمسين فله الجنة، ومن بكى وأبكى ثلاثين فله الجنة، ومن بكى وأبكى عشرين فله الجنة، ومن بكى وأبكى عشرة فله الجنة، ومن بكى وأبكى واحداً فله الجنة، ومن تباكى فله الجنة».

..............................

وإذا كان (فرعون) آية لمن استكبر وطغى - بنص الكتاب(1) - خلدها الباري عزوجل في كتابه كرمز لقوى الشر.

وإذا كانت قصصهم عبرة لأولي الألباب(2).

وإذا جعل الله عزوجل نبيه عيسى (علیه السلام) آية للناس(3).

وإذا أنجى الله سبحانه نوحاً (علیه السلام) وأصحاب السفينة وجعلها آية للعالمين(4).

وإذا ترك سفينته لتكون آيةللمدكرين(5).

وإذا كان أبو الأنبياء إبراهيم (علیه السلام) يطلب من رب الأرباب]واجعل لي لسان صدق في الآخرين»(6) حتى يتحدث عنه - بكل خير - وهو في دائرة الماضي، وقد قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من ورخ مؤمناً فكأنما أحياه» (7).

وإذا كان العقلاء على مر الأزمان يعتنون بتاريخهم بشتى الصور..

وإذا كانت كتب التاريخ تملأ المكتبات في كل الحضارات..

ص: 402


1- قال تعالى: «فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية» [ سورة يونس: 92«.
2- اشارة إلى قوله تعالى: ]لقد كانت في قصصهم عبرة لأولي الألباب» [ سورة يوسف: 111«.
3- اشارة إلى قوله سبحانه: ]قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس» [ سورة مريم: 21«.
4- اشارة إلى قوله تعالى: ]فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين» [ سورة العنكبوت: 15«.
5- اشارة إلى قوله سبحانه: ]ولقد تركناها آية فهل من مدكر» [ سورة القمر: 15« .
6- سورة الشعراء: 84.
7- سفينة البحار: ج2 ص641 مادة (ورخ) ط القديمة.

..............................

وإذا.. وإذا ...

فالدعوة إلى إلغاء التاريخ، تعد عند العقلاء سفاهة وجهلاً ان لم تعد مخططاً خبيثاً لقطع الأمة عن جذورها ليسهل للمستعمر ابتلاعها و…

وإذا كان كل ذلك كذلك، فلماذا نسمع همسات من هنا وأصوات من هنالكتنادي بطمس أهم ملامح التاريخ وأهم منعطف تاريخي وأهم محور في معادلة الصراع الكبرى بين قوى الجاهلية والإيمان، حيث تقول الآية القرآنية الشريفة: «أفان مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم»(1)؟

مما يستحب للمظلوم

مسألة: يستحب للمظلوم التحدث عن (صبره) والجهر بصموده كما ذكرت فاطمة الزهراء (علیها السلام) ذلك، فانه بيان للحق بهذا الأسلوب، بالإضافة إلى أنه يكون بذلك أسوة وقدوة لسائر الناس، قال أمير المؤمنين علي (علیه السلام): (فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجا أرى تراثي نهبا)(2).

فإن الإنسان الذي يعترض العظم حلقه لا يتمكن من الأكل ولا من الشرب ولا حتى من النوم ولا مزاولة أعماله اليومية، براحة أو بشكل طبيعي.

وكذلك الإنسان الذي في عينه قذى، لا يتمكن من فتح عينه ولا من إغماضها، فهو في ألم مستمر وفي أذى متواصل، وكلامه (علیه السلام) إشارة لعظيم ما

ص: 403


1- سورة آل عمران: 144.
2- نهج البلاغة: الخطبة3.

..............................

تجرعه من الظلم.

وقال (علیه السلام): «فأغضيت على القذى وتجرعت ريقي على الشجى وصبرت من كظم الغيض على أمرّ من العلقم وعالم للقلب من حز الشفار»(1).

وقال (علیه السلام): «إن الله عزوجل امتحنني بعد وفاة نبيه (صلی الله علیه و آله) في سبعة مواطن فوجدني فيهن من غير تزكية لنفسي بمنّه ونعمته صبورا..»(2).

المظلوم والرأي العام

مسألة: يستحب للمظلوم أن يشرح ما جرى عليه من الظلم، وما تركه الظلم عليه من آثار جسدية أو نفسية، شخصية أو نوعية، فإن ذلك يوجب التنفر من الظالم، بالإضافة إلى أنه يدفع الناس للاقتداء بصبره واستقامته - كما سبق - ، وبذلك يكون له أجران، أجر التنفير من الظالم وأجر الأسوة، فيكون داخلاً في ملاك (من سن سنة حسنة فله أجرها وأجرمن عمل بها)(3).

وبذلك يعرف أن ما يقوم به المظلومون من عرض ما صار بهم، كآثار مظلوميتهم - كأثر التعذيب في سجون الطغاة وغيره - على منظمات حقوق الإنسان وعلى الملأ العام وعبر الوسائل الإعلامية، هو مما يؤجر عليه الإنسان لأنه من طرق النهي عن المنكر، وقد يكون ذلك نوعاً من التأسي بالسيدة الزهراء

ص: 404


1- بحار الأنوار: ج33 ص569 ب30 ح722.
2- بحار الأنوار: ج38 ص172 ب62 ح1.
3- مستدرك الوسائل: ج12 ص230 ب15 ح13962.

..............................

(علیها السلام) وسائر أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام).

وعن الإمام الصادق (علیه السلام): «ما من مؤمن يعين مظلوماً إلا كان له أفضل من صيام شهر واعتكافه في المسجد الحرام»(1).

وقال (علیه السلام): «من قدر على أن يغير الظلم ثم لم يغيره فهو كفاعله، وكيف يهاب الظالم وقد أمن بين أظهركم لا ينهى ولا يغير عليه ولايؤخذ على يديه»(2)، وما ذكرناه مما يوجب ردع الظالم كما لا يخفى.

صبر القائد

مسألة: الصبر - الواجب منه والمستحب - كسائر الحقائق التشكيكية له مراتب، وكما يجب الصبر على من هو في موقع القيادة، كما قالت (ونصبر منكم)، يجب على القاعدة والعامة الصبر أيضاً، إلا أن الفرق في المراتب إذ الصبر في القائد آكد وأشد وأولى.

ثم إن صبرها (عليها الصلاة والسلام) كان واجباً - كما سبق - لأجل المحافظة على كلمة: لا اله إلا الله، محمد رسول الله، إذ من الواضح أن الإمام أمير المؤمنين علياً (عليه الصلاة والسلام) لو كان يجرد السيف في وجوه الغاصبين لكانت تضعف شوكة المسلمين ويستغل الفرس والروم الفرصة لشن هجوم كاسح على المسلمين، مضافاً إلى أنهم كانوا يشوهون موقف الإمام (علیه السلام).

ص: 405


1- مستدرك الوسائل: ج12 ص389 ب22 ح14373.
2- مستدرك الوسائل: ج12 ص184 ب1 ح13834 عن السيد المسيح (علیه السلام).

..............................

لا يقال: بأن كلمة التوحيد كانتموجودة.

لأنه يقال: من الواضح أن المسيحيين يقولون بآلهة ثلاثة والمجوس يقولون بإلهين اثنين، وكلاهما على خلاف كلمة التوحيد.

أسلوب مواجهة الطغاة

مسألة: كما يستفاد المصداق من الكلي(1)، يمكن أن يستفاد الكلي من المصداق أحياناً(2) وكلامها (صلوات الله عليها) هاهنا: (ونصبر منكم) وان كان ذكراً للمصداق إلا أنه يستفاد منه الكلي في أشباه تلك المواطن.

وذلك هو ما نذهب إليه في أمثال هذه الأزمنة حيث نلتزم بضرورة سلوك طريقة (اللاعنف والسلم) في مواجهة الحكومات الجائرة.

وكما كان حمل السلاح بعد الرسول (صلی الله علیه و آله) ضد الذين انقلبوا عليه منهياً عنه لمخاطره الأكبر، كذلك نرى النهي عن حمل السلاح ضد الحكومات في هذا الزمن وضرورة الالتزام بالمواجهة السلمية، من إضرابات ومظاهرات ونحوها، فإن ذلك أحمدعاقبة، وتجربة غاندي(3) في الهند من شواهد ذلك، وتفصيل

ص: 406


1- أي كما يستفاد حكم المصداق من الكلي.
2- وذلك بتنقيح المناط - عندما يكشف الجامع - ومن المصاديق ما عبر عنه المناطقة بالاستقراء المعلل.
3- موهانداس كرامشاند (1869-1948م) فيلسوف ومجاهد هندي، يعتبر من دعاة السلام المشهورين في العالم، ولد في بور بندر، اشتهر بلقب (المهاتما) أي النفس السامية، دعا إلى تحرير الهند من الاستعمار البريطاني وذلك بالطرق السلمية والمقاومة السلبية بعيداً عن العنف، وكان قد تعلم كثيرا من أساليبه الناجحة من سياسة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (علیه السلام) والإمام الحسين (علیه السلام) أدت جهوده إلى استقلال الهند عام 1947، اغتاله برهماني متعصب.

..............................

الحديث في محله(1).

بيان مظلوميتهم

مسألة: يستحب - وقد يجب - بيان مظلومية أهل البيت (علیهم السلام) للعالم، تأسياً بهم (علیهم السلام) حيث ذكروا ذلك، مضافاً إلى أنه من إحياء أمرهم وفضح أعدائهم. قولها (صلوات اللهعليها): (ونصبر منكم على مثل حز المدى).

المدى: جمع مدية وهي السكين والشفرة ونحوهما، يعني: إن صبرنا ليس بالصبر الهين، وأن ما صدر (منكم) أمر فادح عظيم وظلم فاحش كبير، فصبرنا على ما صدر منكم تجاهنا كصبر الإنسان الذي يقطع بالمدية وهو صابر كاظم للغيظ. وكلامها (علیها السلام) إشارة إلى عظم الخطب عليهم وشدته، والتمثيل في كلامها (علیها السلام) تمثيل للأقوى بالأضعف والأعلى بالأدنى وهو من مصاديق البلاغة كما ذكر في محله(2) إذ إن صبرهم (علیهم السلام) في مواجهة ذلك الظلم الفاحش كان أمر وأصعب وأقسى من صبر من يحز بالمدية كما وكيفاً (3)كما لا يخفى.

ص: 407


1- للتفصيل راجع (السبيل إلى إنهاض المسلمين)، و(الصياغة الجديدة لعالم الايمان والحرية والرجاء والسلام) و(اللاعنف في الإسلام)، (إذا قام الإسلام في العراق) و(الفقه: النظافة) للإمام المؤلف (رحمة الله).
2- راجع (البلاغة) للإمام المؤلف (رحمة الله).
3- فإن الحز بالمدية عادة لحظات، والمصائب التي تواترت عليهم كانت شهوراً طويلة واستمرت لسنوات، ثم ان عمق الألم بالحز بالمدية لا تقارن بعمق الألم بإحدى تلك المصائب العظيمة، ك: (جر) ولي الله الأعظم في الكون وحجته الكبرى بعد الرسول (صلی الله علیه و آله) بالحبال أو كما قال العلامة آية الله الشيخ الأصفهاني (رحمة الله) في قصيدة له: أتضرم النار بباب دارها *** وآية النور على منارها وقال أيضا: لكن كسر الضلع ليس ينجبر *** الا بصمصام عزيز مقتدر إذ رض تلك الأضلع الزكية *** رزية لا مثلها رزية ومن نبوع الدم من ثدييها *** يعرف عظم ما جرى عليها وجاوزوا الحد بلطم الخد *** شلت يد الطغيان والتعدي وقال أيضا: ولا تزيل حمرة العين سوى *** بيض السيوف يوم ينشر اللوا وللسياط رنة صداها *** في مسمع الدهر فما أشجاها والأثر الباقي كمثل الدملج *** في عضد الزهراء أقوى الحجج ومن سواد متنها اسود الفضا *** يا ساعد الله الإمام المرتضى ووكز نعل السيف في جنبيها *** أتى بكل ما أتى عليها ولست أدري خبر المسمار *** سل صدرها خزانة الأسرار وفي جنين المجد ما يدمي الحشا *** وهل لهم إخفاء أمر قد فشا والباب والجدار والدماء *** شهود صدق ما به خفاء لقد جنى الجاني على جنينها *** فاندكت الجبال من حنينها أهكذا يصنع بابنة النبي *** حرصاً على الملك فيا للعجب أتمنع المكروبة المقروحة *** عن البكا خوفاً عن الفضيحة تالله ينبغي لها تبكي دما *** مادامت الأرض ودارت السما لفقد عزها أبيها السامي *** ولاهتضامها وذل الحامي

ص: 408

..............................

وهنالك جهة أخرى أيضاً، فإن صبر العاجز أهون من صبر القادر، وصبر القادر على الرد والتحدي - وكانوا (علیهم السلام) كذلك - أصعب وأمر من صبر غيره، فإن القادر يصبر صبرين: صبراً على الألم، وصبراً على عدم الرد، وقل وندر من يصبر وهو قادر على الرد(1).

الساكت على الظلم

مسألة: الساكت على الظلم شريك فيه - كما سبق - وذلك يستفاد من قولها: (منكم) (2) فهم جميعاً في ظلم أهل البيت (علیهم السلام) شركاء.

قولها (علیها السلام): (ووخز السنان في الحشى)، الحشى: داخل الإنسان، والوخز عبارة عن: الطعن.

يعني: إننا نصبر على ما صدر منكم كصبر إنسان يطعن بالرمح أو الخنجر، ويغرز في داخله، فان الأمر - كما ذكر - صعب جداً وهو بحاجة إلى درجة مثاليةمن الصبر حتى يتحمله.

ص: 409


1- ولنتصور شخصاً يكيل لك الضربات بكل قوة وأنت قادر على الدفاع ببساطة ولكن تحجم عن الدفاع ويستمر هو في الضرب متجبراً… !
2- نظراً للتعميم في (نصبر منكم) وعدم تخصيصه بالأقلية الذين باشروا الظلم.

وأنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا، أفحكم الجاهلية تبغون؟

اشارة

-------------------------------------------

وأنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا، أفحكم الجاهلية تبغون؟ ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون! أفلا تعلمون؟!.

تطويق الباطل

مسألة: من اللازم تطويق الباطل من جميع جوانبه ظاهراً وباطناً، صورة ومحتوى، بما يفنده ويبطله ويمحقه، كما صنعت (صلوات الله عليها) حيث قالت: (وأنتم الآن تزعمون) فلم تكتف بالاستدلال على المطلب بل أطرت دعوى الخصم بإطار (الزعم) الدال على كونه خلافاً للحقيقة.

وذلك أقوى في الرد وأبلغ في الحجة وأدعى للنهي عن المنكر، ومن مصاديق «بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق»(1).

قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «الحق سيف على أهل الباطل»(2).

وقال (علیه السلام): «لا يجتمع الحق والباطل»(3).وقال (علیه السلام): «ثلاث فيهن النجاة: لزوم الحق وتجنب الباطل وركوب الجد»(4).

وقال (علیه السلام): «من ركب الباطل أهلكه مركبه»(5).

ص: 410


1- سورة الأنبياء: 18.
2- غرر الحكم: ص68 ح921.
3- غرر الحكم: ص68 ح941.
4- غرر الحكم: ص69 ح973.
5- غرر الحكم: ص71 ح1033.

..............................

وقال (علیه السلام): «نحن أقمنا عمود الحق وهزمنا جيوش الباطل»(1).

قولها (علیها السلام): (الآن) فيه اشارة إلى أن هذه الدعوى منهم كانت وليدة يومها ولم يقل أحد منهم بها زمن حياة الرسول (صلی الله علیه و آله)، وكفى بهذه الكلمة رداً عليهم، وإلا فلماذا لم يطرحوا هذه القضية في حياته (صلی الله علیه و آله) وعند مرضه ليحضوا بتأكيده؟!.

متى يجوز النقل بالمضمون

مسألة: يجوز تضمين الحديث بآيات من الذكر الحكيم مع تغيير في الضمائر أو شبهها بما يناسب الخطاب شرط أن لا تكون بدعوى ان ذلك هو نص الكتاب أو في مقام يوهم ذلك، وهذا من مصاديقالنقل بالمضمون كما صنعت (علیها السلام) حيث قالت: (أفحكم الجاهلية تبغون)(2).

الحكم بفسقهم

مسألة: يستفاد من تضمينها (علیها السلام) هذه الآية في خطبتها، حكمها بفسقهم تبعاً للقرآن الكريم من قبل، حيث قال تعالى: ]وان كثير من الناس لفاسقون * أفحكم الجاهلية يبغون»(3). كما يُظهر استنادها (علیها السلام) للآية بعض صفاتهم الأخرى من إتباعهم الأهواء ومحاولتهم الفتنة وتوليهم وإعراضهم عن الحق، إذ قال تعالى:

ص: 411


1- غرر الحكم: ص120 ح2096.
2- والآية هي «أفحكم الجاهلية يبغون» [ سورة المائدة: 50«.
3- سورة المائدة: 49،50.

..............................

«وان احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فان تولوا فاعلم إنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وان كثيراً من الناس لفاسقون * أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون»(1).وقد ورد في تفسير قوله تعالى: «ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون»(2) أي: «كفر بولاية علي بن أبي طالب (علیه السلام) فهم العاصون لله ولرسوله»(3).

كما ورد في قوله تعالى: «ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون»(4) أن أبي قحافة أول من منع آل محمد (صلی الله علیه و آله) حقهم وظلمهم وحمل الناس على رقابهم وهكذا كان الذين جاءوا من بعده(5).

أحكام الله لا تتبدل

مسألة: كما أن من مصاديق استدلالها (صلی الله علیه و آله) بالآية الشريفة: «أفحكم الجاهلية يبغون» (6) الرد على دعوى أن لا إرث لأبناء الأنبياء، كذلك من

ص: 412


1- سورة المائدة: 49 -50.
2- سورة النور: 55.
3- راجع المناقب: ج3 ص63
4- سورة المائدة: 47.
5- راجع تفسير العياشي: ج1 ص325 ح130 سورة المائدة.
6- سورة المائدة: 50.

..............................

مصاديق الآية الشريفة(1) دعوى التساوي في الإرث بين الرجال والنساء هذا الزمن بدعوى أن الزمن قد تغير وأن المرأة أضحت هي التي تعيل وما أشبه ذلك من أنماط التعليل، ولعل في قولها (علیها السلام) (الآن) إشارة إلى هذا الجانب من الدعاوى التي تحكم بتغيير أحكام الله متعللة بأن الزمن قد تغير وان (الآن) غير (ما كان).

قال تعالى: «لا تبديل لكلمات الله»(2).

قال الإمام الصادق (علیه السلام): «ما خلق الله حلالاً ولا حراماً إلا وله حد كحد الدور وان حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة»(3).

لا يجوز القول بعدم إرثها (علیها السلام)

مسألة: يحرم القول بأن لا إرث لها (علیها السلام) فإنه من مصاديق (قالالله وأقول)، وحكم بغير ما أنزل الله، وتكذيب لآل الله.

وكذلك يحرم القول بكل ما يخالف الإسلام أصولاً وفروعاً، مع اختلاف درجات الحرمة قوة وضعفاً، بلحاظ المتعلق والمنسوب إليه والملابسات وما أشبه.

ص: 413


1- أي الحكم بالجاهلية.
2- سورة يونس: 64.
3- بصائر الدرجات: ص148

..............................

ابتغاء حكم الجاهلية

مسألة: يحرم (ابتغاء حكم الجاهلية) بصورة عامة، والتحريم في خصوص حكمها (علیها السلام) في الإرث نظراً لانطباق عناوين أخرى محرمة عليه(1) أشد.

وابتغاء حكم الجاهلية له ثلاثة مصاديق:

1: العمل وفق حكم الجاهلية.2: القول بحكم الجاهلية.

3: الاعتقاد بحكم الجاهلية فيما يضر فيه الاعتقاد على خلاف الحق.

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «يا علي اجعل قضاء أهل الجاهلية تحت قدميك» وذلك في قصة خالد حيث قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «اللهم اني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد»(2).

وفي حديث سئل الإمام الصادق (علیه السلام): «أفيعتد بشيء من أمر الجاهلية؟ فقال (علیه السلام): إن أهل الجاهلية ضيعوا كل شيء من دون إبراهيم (علیه السلام) إلا الختان والتزويج والحج فانهم تمسكوا بها ولم يضيعوها»(3).

ص: 414


1- ككونه تكذيباً لسيدة النساء (علیها السلام)، وإيذاء لفاطمة الزهراء (علیها السلام)، وتضييقاً على آل البيت (علیهم السلام) بحرمانهم من مصدر اقتصادي كبير كان يصب على أيديهم لصالح الدين والفقراء وغير ذلك.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: ص173 المجلس 32 ح7.
3- علل الشرائع: ص414.

..............................

قال تعالى: «ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى»(1).

وقال (صلی الله علیه و آله): «ألا وكل مأثرة أو بدعة كانت في الجاهلية أودم أو مال فهو تحت قدمي هاتين ليس أحد أكرم من أحد إلا بالتقوى»(2).

وقال (صلی الله علیه و آله): «يا أيها الناس إن الله قد أذهب بالإسلام نخوة الجاهلية وتفاخرها بآبائها، إن العرب ليست بأب ووالدة، وإنما هو لسان ناطق فمن تكلم به فهو عربي، ألا أنكم من آدم وآدم من تراب وأكرمكم عند الله أتقاكم»(3).

ثم إن حكم الجاهلية أعم من الحكم الذي كان موجوداً في الجاهلية وخالف الإسلام، وما لم يكن بحكم الإسلام وان لم يكن حكماً موجوداً في الجاهلية، ومن مصاديقه أنواع البدع.

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «أبى الله لصاحب البدعة بالتوبة»(4).

وقال (صلی الله علیه و آله): «كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار»(5).

هذا وقد ابتدعوا صلاة التراويحوقال فيها: «بدعة ونعمة البدعة»(6).

وقد قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «أيها الناس ان النافلة بالليل في رمضان جماعة بدعة... فإن قليلاً من سنة خير من كثير في بدعة، ألا أن كل بدعة ضلالة وكل

ص: 415


1- سورة الأحزاب: 33.
2- تفسير القمي: ج1 ص171 سورة المائدة.
3- تفسير القمي: ج2 ص322 سورة الحجرات.
4- علل الشرائع: ص492.
5- كشف الغمة: ج2 ص134.
6- راجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج12 ص258 ب223.

..............................

ضلالة سبيلها إلى النار»(1).

لا أحد أحسن من الله حكماً

مسألة: ينبغي بيان انه ليس أحد أحسن من الله تعالى حكماً، فانه العالم بجميع خصوصيات الإنسان وغيره.

(أحسن) وإن كان من باب أفعل التفضيل إلا أن المراد به هنا المصدر وهو (الحسن)، إذ من الواضح أن حكم غير الله لا حسن فيه حتى يقابله حكم الله الأحسن، بل حكم الله - الذي تجلى في الإسلام - هو الحسن بلا منازع.

وذلك مثل «أولى لك فأولى * ثم أولىلك فأولى»(2) ومثل «أذلك خير نزلاً»(3) وأمثالهما من الآيات والروايات والتعابير البلاغية.

إن قلت: حكم العقل أيضاً حسن(4).

قلت: حكم العقل شعبة من شعب حكم الله، إذ العقل حجة الله الباطنية كما أن الأنبياء (علیهم السلام) حجة الله الظاهرة(5)، ولذا قيل: العقل نبي من باطن

ص: 416


1- الصراط المستقيم: ج3 ص26.
2- سورة القيامة:34- 35.
3- سورة الصافات: 62.
4- كحكمه بقبح الظلم وحسن العدل والإحسان و…
5- قال الإمام الصادق (علیه السلام): «يا هشام ان لله على الناس حجتين، حجة ظاهرة وحجة باطنة فأما الظاهرة فالرسل والأئمة (علیهم السلام) وأما الباطنة فالعقول» [ تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: ج2 ص25، وتحف العقول: ص383 «.

..............................

والنبي عقل من خارج، وورد أن أول ما خلق الله العقل وقال له: بك أثيب وبك أعاقب(1) هذا لو قيل بان للعقل حكماً، وإلا فعلى القول بأنه مدرك لا غيرفالإشكال منتف موضوعاً.

وليس المراد من القوم الجماعة فحسب، بل هو تعبير بلاغي يشمل كل فرد فرد أيضاً، كما انه ليس المراد به خصوص الرجال بل يشمل النساء أيضاً.

لا حسن في غير حكم الله

مسألة: يحرم القول، بان غير حكم الله حسن استناداً إلى أدلة استحسانية يؤدي إليها العقل القاصر، كالقول بان الشطرنج رياضة فكرية، وان الغناء محفز نفساني، وان الرقص رياضة جسمانية، وهكذا وهلم جرا.

والمفاضلة بين حكمه تعالى وحكم غيره لاستنتاج أن حكم الغير حسن وحكمه أحسن أيضاً فيه إشكال.

وقولها (عليها الصلاة والسلام): (وأنتم تزعمون أن لا إرث لنا، أفحكم الجاهلية تبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون).

فإن عدم إرث البنات من الآباء كان حكماً جاهلياً (2)، والله سبحانه وتعالى نسف ذلك الحكم بحكمه: ]للذكرمثل حظ الانثيين»(3) فالإناث

ص: 417


1- مستطرفات السرائر: ص621.
2- راجع فقه القرآن: ج2 ص352.
3- سورة النساء: 11.

..............................

يرثن أيضا، إلا أن للأنثى نصف ما للذكر من الإرث.

كما أن أهل الجاهلية كانوا لا يورثون الصبي الصغير ولا الجارية من ميراث آبائهم شيئاً.

وكانوا لا يعطون الميراث إلا لمن يقاتل.

وكانوا يرون ذلك في دينهم حسناً..

فلما أنزل الله فرائض المواريث وصبروا من ذلك وجداً شديداً، فقالوا انطلقوا إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فنذكره ذلك لعله يدعه أو يغيره، فأتوه فقالوا: يا رسول الله للجارية نصف ما ترك أبوها وأخوها! ويعطى الصبي الصغير الميراث! وليس أحد منهما يركب الفرس ولا يجوز الغنيمة ولا يقاتل العدو؟!

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): بذلك أمرت»(1).

كما أن المواريث كانت عند بعضهم على الأخوة لا على الرحم، وكانوايورثون الحليف والموالي الذين اعتقوهم، ثم نزل بعد ذلك «وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله»(2).

قولها (علیها السلام): (أفلا تعلمون) أي: أفلا تعلمون بأن الله سبحانه وتعالى جعل للبنات الإرث، كما جعل ذلك للذكور، نعم لو كان له ولد واحد أو بنت واحدة فانه - أو إنها - يرث الإرث كله ولا يشترك معه - أو معها - من ليس في طبقته أو طبقتها.

ص: 418


1- تفسير القمي: ج1 ص154 سورة النساء.
2- راجع تفسير القمي: ج1 ص137 سورة الأنفال.

..............................

لا يقال: لماذا لم تتعرض الزهراء (علیها السلام) في الاحتجاج إلى أن فدك نحلة لها من رسول الله (صلی الله علیه و آله) مع العلم أنها قد كانت نحلة لها بالفعل؟

لأنه يقال: هذه الخطبة كانت بعد يأسها عن قبول القوم (النحلة)، إذ كانت الخطبة كما ذكر جماعة من المحققين بعد ما رفضوا شهادة أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) ومن شهد معه على أنها نحلة لها فتمسكت بحديث الميراث لأنه من ضروريات الدين، مما صرح به في القرآن الحكيم.وهذا من إلزام الخصم بما لا مفر له منه، وهو من الحكمة إذ كان يراد لهذه الخطبة ان تكون قوية مفعمة لا تترك ثغرة يمكن الغمز منها وعبرها وبها. فحيث أنكر القوم بأن فدكاً نحلة من رسول الله (صلی الله علیه و آله) لفاطمة (علیها السلام) وصبوا كلامهم على أنه لو كان لها فهو من باب الإرث، وأن الرسول (صلی الله علیه و آله) قال: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة)(1) لذلك صبت الزهراء (عليها الصلاة والسلام) كلامها حول إثبات الإرث لها، حتى أنهم إذا أنكروا النحلة وجب أن يعترفوا بأن فدك إرث لها فلا وجه لاغتصابها منها.

لا يقال: إذا كانت فدك إرثاً ورثت منها مع الزهراء (عليها الصلاة والسلام) زوجاته (صلی الله علیه و آله) أيضاً فلم تكن لها وحدها؟

لأنه يقال: هذا الجواب من قبيل الاستدلال بمسلمات الطرف مما يسمى بالجدل بالاصطلاح المنطقي(2)وحتى إذا فرض أن للزوجات معها شيء منها

ص: 419


1- حيث افتراه القوم على رسول الله (صلی الله علیه و آله).
2- إذ الطرف وهو أبو بكر ومن حوله، كزوجات الرسول (صلی الله علیه و آله) كانوا مذعنين بعدم حق لزوجات الرسول (صلی الله علیه و آله) في فدك.

..............................

- على تقدير كونه إرثاً - فالقسم الأكبر من فدك يكون للزهراء (عليها الصلاة والسلام) دون شك فلماذا تمنع عنها بالكامل(1)؟

وعلي أي حال، ففدك لها إما نحلة أو إرث - بكاملها أو بمعظمها - فلا وجه ولا مسوغ لمنعها كلاً عنها (صلوات الله عليها).

(أفلا تعلمون): استفهام إنكاري.

(يوقنون): أي بالله، أو بهذه الحقيقة، أو بالمآل، أو بجميعها.

(اليقين) كاشف عن الواقع ولا يطلق على الجهل المركب، فالموقن هو الذي يعلم أن حكم الله هو الحكم الأحسن.

والعلم في (أفلا تعلمون) يراد بهالمطابق للواقع وإطلاقه على الجهل المركب مجاز، ومن استخدام العالم الحقيقي كأهل البيت (علیهم السلام) كلمة العلم يستكشف أن مطابقه هو (الحق) دون ريب أو شك.

ص: 420


1- خاصة إذا لاحظنا أن الزوجة - كما هو المعروف بين الفقهاء - لا ترث من الأرض لا من عينها ولامن قيمتها، وإن ورثت من قيمة الأبنية والأشجار، قال الإمام المؤلف (رحمة الله) في (المسائل الإسلامية) ص612 ط 38: (المسألة 3240: لا ترث الزوجة من الأرض، لا من عينها ولا من قيمتها، ولاترث من عين الآلات والأبنية والأشجار ولكن ترث من قيمتها).

بلى قد تجلى لكم كالشمس الضاحية: أني ابنته

اشارة

-------------------------------------------

من أساليب الدعوة

مسألة: من أساليب الدعوة ومن طرق الحرب الإعلامية ومن وسائل النهي عن المنكر دغدغة وجدان الظالم وتذكيره بالحقيقة الصارخة من جهة، ومن جهة أخرى كشف القناع للشعب عن أن المعتدي يعرف الحقيقة بصورة كاملة ومع ذلك يجحدها ويتخذها ظهرياً.

ولعل من هذين المنطلقين كان قولها (علیها السلام): (بلى قد تجلى لكم كالشمس الضاحية أني ابنته) فهي تشير إلى انهم أضحوا مصداق قوله تعالى: «وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم»(1) وذلك مما يسبب التحريض ضد الظالم أكثر فأكثر وهو واجب في الجملة.

***

سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

قم المقدسة

محمد الشيرازي

ص: 421


1- سورة النمل: 14.

إلى هنا تم بحمد الله تعالى

المجلد الثالث من فقه الزهراء (علیها السلام)

وقد اشتمل على القسم الثاني من الخطبة الشريفة

وسيأتي بعده المجلد الرابع (وهو القسم الثالث) من الخطبة

ويبتدأ بقولها (علیها السلام): (أيها المسلمون، أأغلب على إرثي)

ص: 422

الفهرس

مقدمة المؤلف.......... 5

نداء الناس... 7

من أحكام النداء.... 10

التعريف بالنفس...... 13

لماذا (وأبي محمد)؟ ..... . 19

التأكيد والتكرار....... 22

عصمتها (علیها السلام)..... 24

حرمة القول بالغلط...... 25

لماذا رسول من أنفسكم؟... 27

من مواصفات القائد...... 28

الحرص على الرعية....... 29

بين الرأفة والرحمة.... 31

التعرف على الرسول (صلی الله علیه و آله) 33

الانتساب إلى الرسول(صلی الله علیه و آله) 35

أخ الرسول (صلی الله علیه و آله)...... 36

ذكر فضائل أمير المؤمنين (علیه السلام). 38

الفخر بالانتساب للرسول(صلی الله علیه و آله) 41

ص: 423

تبليغ الرسالة....... 44

الإنذار أبداً..... 47

الميل عن طريقة المشركين.... 50

التشبه بالكفار...... 51

التركيز على أئمة الكفر...... 52

منهج التصدي للأعداء.... 53

استعراض قوة الإسلام...... 54

الدعوة بالحكمة...... 56

القضاء على الأصنام...... 58

القضاء على أئمة الضلال... 59

تخليد ذكرى القائد...... 60

مواصلة المعركة...... 62

الحقيقة الكاملة.... 63

إسناد زعماء الدين...... 67

إسكات أصوات الشياطين.... 68

القضاء على النفاق...... 71

أخ الرسول (صلی الله علیه و آله)...... 36

ذكر فضائل أمير المؤمنين (علیه السلام). 38

الفخر بالانتساب للرسول(صلی الله علیه و آله) 41

تبليغ الرسالة....... 44

الإنذار أبداً..... 47

الميل عن طريقة المشركين.... 50

التشبه بالكفار...... 51

التركيز على أئمة الكفر...... 52

منهج التصدي للأعداء.... 53

استعراض قوة الإسلام...... 54

الدعوة بالحكمة...... 56

القضاء على الأصنام...... 58

القضاء على أئمة الضلال... 59

تخليد ذكرى القائد...... 60

مواصلة المعركة...... 62

الحقيقة الكاملة.... 63

إسناد زعماء الدين...... 67

إسكات أصوات الشياطين.... 68

القضاء على النفاق...... 71

حل مراكز قوى الأعداء ..... . 73

وجوب النطق والتجاهر بكلمة الإخلاص....... 74

التقوى والزهد من المقومات...... 76

تذكر النعم السابقة.... 79

حرمة إذلال المؤمن نفسه... 84

العزة في كل شؤون الحياة.... 88

الإرشاد لمواطن الضعف ..... . 89

حرمة الاستسلام للاستعمار... 89

ص: 424

كراهة شرب الطرق.... 91

كراهة أكل القد والورق... 93

الذلة النفسية والسياسية.... 95

انتهاج منهج الجاهليين... 98

ضمانات للمستقبل....... 101

حرمة الاختطاف والعنف.... 106

إنقاذ المسلمين.... 110

الإنقاذ يكون من الله وبالعمل بمناهجه.... 111

التنبيه على عظيم فضل رسول الله (صلی الله علیه و آله) 116

المخرج من المشاكل.... 119

بهم الرجال وذؤبانهم.... 123

مذمومية الصفات السبعية.... 125

المعارضة: علماء وجهلة...... 126

استعراض ما واجهه الرسول (صلی الله علیه و آله) 129

حرمة إشعال الحروب.... 131

وجوب إطفاء الحرب...... 132

أصالة السلم.... 135

الحروب الدفاعية....... 136

إسناد الأفعال لله.... 138

إعداد العدة.... 142

المبادرة... 143

ترصد الفتن..... 144

الموقف المناسب.... 147

الأدب التصويري...... 148

ص: 425

التعرض لصفات الإمام (علیه السلام) والتعريف به 149

التهلكة..... 151

وجوب التضحية....... 153

بين التخصص والتنويع.... 154

التصدي بسرعة....... 155

التضحية بالمهم.... 156

التركيز على مركز الفساد... 157

التضحية حتى بالأحب.... 157

انتخاب الكفؤ....... 158

ذكر الإمام (علیه السلام) كلما ذكر الرسول (صلی الله علیه و آله)... 161

الشهادة الثالثة في الأذان...... 163

التراجع..... 165

الأقل والأكثر الإرتباطيان.... 166

إذلال الكفار.... 167

إذلال رؤوس الفتن....... 169

اخماد لهب النيران.... 170

علم التاريخ.... 171

الكد حسن أم قبيح؟.... 174

الكد في ذات الله...... 177

وجه الاستدلال على الخلافة.... 178

أصالة الأسوة.... 180

من صفات القائد.... 182

القرب من رسول الله (صلی الله علیه و آله) 185

ذكر الفضائل.... 188

ص: 426

مقتضى السيادة المطلقة...... 188

الإخبار في مقام الإنشاء...... 191

على أهبة الاستعداد.... 192

النصيحة لله....... 193

الجد والكدح.... 198

هل الرفاهية مذمومة؟.... 201

مواساة الشعب للقائد.... 202

تربص الدوائر بالمؤمنين.... 212

التجسس والتحسس والتوكف.... 215

الإحجام عن المعركة.... 218

من حقوق المعارضة...... 219

الفرار من الزحف....... 221

الإرشاد للنواقص.... 224

معاتبة القائد والامة.... 225

تكاملية الدنيا والآخرة...... 227

الإحياء والإماتة بيد الله... 229

أقسام النفاق....... 230

إظهار النفاق محرم.... 232

المحافظة على نضارة الدين...... 237

تستر أهل الضلالة....... 240

لزوم الحذر..... 241

الفاعل والساكت الراضي...... 241

من أساليب المبطلين .... 243

دراسة سنن الحياة...... 244

ص: 427

الشيطان في مسرح القلوب.... 246

مواصفات المعارضين للإمام (علیه السلام) 247

فسح المجال لقوى الشر... 249

مكامن الشيطان...... 251

الاستجابة للشيطان...... 255

الثبات على العقيدة ...... 257

أرضية الاستجابة.... 257

الاغترار الفكري والعاطفي... 259

التراجع عن الدين...... 261

هل الأصحاب كالنجوم؟ ...... 263

الأصل: النهضة أم التحفظ؟... 267

من أسلحة الشيطان...... 270

الشيطان وسياسة الخطوة خطوة... 271

التصرف في ملك الغير.... 273

مصادرة الحقوق...... 275

جواز الكناية....... 278

حرمة نقض العهد.... 279

وجوب إحياء أمرهم (علیهم السلام)... 282

التفاعل مع مصاب الزهراء (علیها السلام) 284

المسارعة للشر...... 289

تبرير المعصية...... 292

مثلث المعصية....... 293

السقوط في الفتن....... 296

مصادر شيعية في قصة حرق الباب و... ...... 297

ص: 428

مصادر سنية في قصة حرق الباب و... ....... 305

الكفر موضوعا وحكما ...... 313

نافذة نحو العالم الآخر...... 317

جمع القرآن..... 325

عدم تحريف القرآن...... 325

حجية الكتاب.... 326

القرآن كالشمس...... 327

الأحكام الزاهرة.... 329

من العلامات القرآنية.... 330

من النواهي الإلهية.... 335

ومن الأوامر الإلهية.... 336

من مميزات القانون الإلهي... 337

هجر القرآن وتركه...... 339

اتباع من هجر القرآن.... 340

الرغبة عن القرآن...... 342

الحكم بغير القرآن.... 344

أقسام الظلم.... 351

أصول الدين..... 354

الطريق إلى الله....... 359

الخلافة والظلم...... 360

الحيطة من أهل الباطل... 365

أقسام المكر.... 366

الإعانة على الإثم....... 368

التفكيك بين الظلم والظالم..... 369

ص: 429

الرضا بفعل الظالم.... 371

تقوية شوكة الظالمين.... 372

ما يؤدي إلى الغصب.... 374

الاستجابة لهتاف الشيطان.... 376

التحذير من مساوئ الشيطان...... 378

مقتضى الأصل في هتاف الشيطان... 382

إطفاء نور الدين....... 383

الدين جلي واضح.... 384

هل للدين أنوار؟....... 385

إلغاء سننه (صلی

الله علیه و آله) محرم 387

هل المكر محرم؟.... 390

حسن الحذر والاحتياط...... 392

حرمة إرادة الشر بهم (علیهم السلام)... 393

من هم أهل بيت النبي (صلی الله علیه و آله)395

الأسباط أبناء....... 396

وجوب الصبر في الجملة... 397

إحياء ظلامة الزهراء (علیها السلام)..... 398

مما يستحب للمظلوم.... 403

المظلوم والرأي العام... 404

صبر القائد..... 405

أسلوب مواجهة الطغاة.... 406

الساكت على الظلم...... 409

تطويق الباطل....... 410

متى يجوز النقل بالمضمون... 411

ص: 430

الحكم بفسقهم....... 411

أحكام الله لا تتبدل....... 412

لا يجوز القول بعدم إرثها (علیها السلام) 413

ابتغاء حكم الجاهلية.... 414

لا أحد أحسن من الله حكماً... 416

لا حسن في غير حكم الله ...... 417

من أساليب الدعوة...... 421

الفهرس..... 423

ص: 431

المجلد الرابع : خطبتها علیها السلام في المسجد 3

هوية الكتاب

الفقه موسوعة استدلالية في الفقه الإسلامي من فقه الزهراء (علیها السلام)

المجلد الرابع : خطبتها علیها السلام في المسجد 3

المرجع الديني الراحل آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (أعلى الله درجاته)

ص: 1

اشارة

الطبعة الأولى

1439 ه 2018م

تهميش وتعليق:

مؤسسة المجتبى للتحقيق والنشر

كربلاء المقدسة

ص: 2

الفقه

من فقه الزهراء (علیها السلام)

المجلد الرابع

خطبتها علیها السلام في المسجد

القسم الثالث

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

ولعنة الله على أعدائهم أجمعين

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الصِّدِيقَةُ الشَّهِيدَةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الرَّضِيَةُ المَرْضِيَّةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الفَاضِلةُ الزَّكِيَةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الحَوْراءُ الإِنْسِيَّةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا التَّقِيَّةُ النَّقِيَّةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا المُحَدَّثَةُ العَليمَةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا المَظْلومَةُ المَغْصُوبَةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا المُضْطَهَدَةُ المَقْهُورَةُ

السَّلامُ عَليْكِ يا فاطِمَةُ بِنْتَ رَسُول اللهِ

وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ

البلد الأمين ص278. مصباح المتهجد ص711

بحار الأنوار ج97 ص195 ب12 ح5 ط بيروت

ص: 4

الصلاة علی الصدیقة فاطمة الزهراء (علیها السلام)

اللّٰهُمَّ صَلِّ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَصَلِّ عَلَى الْبَتُولِ الطَّاهِرَةِ الصِّدِّيقَةِ الْمَعْصُومَةِ التَّقِيَّةِ النَّقِيَّةِ الرَّضِيَّةِ الْمَرْضِيَّةِ الزَّكِيَّةِ الرَّشِيدَةِ الْمَظْلُومَةِ الْمَقْهُورَةِ، الْمَغْصُوبَةِ حَقُّها، الْمَمْنُوعَةِ إِرْثُها، الْمَكْسُورَةِ ضِلْعُهَا، الْمَظْلُومِ بَعْلُهَا، الْمَقْتُولِ وَلَدُها، فاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِكَ، وَبَضْعَةِ لَحْمِهِ؛ وَصَمِيمِ قَلْبِهِ، وَفِلْذَةِ كَبِدِهِ، وَالنُّخْبَةِ مِنْكَ لَهُ، وَالتُّحْفَةِ خَصَصْتَ بِها وَصِيَّهُ، وَحَبِيبَةِ الْمُصْطَفىٰ، وَقَرِينَةِ الْمُرْتَضىٰ، وَسَيِّدَةِ النِّساءِ، وَمُبَشِّرَةِ الْأَوْلِياءِ، حَلِيفَةِ الْوَرَعِ وَالزُّهْدِ، وَتُفَّاحَةِ الْفِرْدَوْسِ وَالْخُلْدِ الَّتِي شَرَّفْتَ مَوْلِدَها بِنِساءِ الْجَنَّةِ، وَسَلَلْتَ مِنْها أَنْوارَ الْأَئِمَّةِ، وَأَرْخَيْتَ دُونَها حِجابَ النُّبُوَّةِ . اللّٰهُمَّ صَلِّ عَلَيْها صَلاةً تَزِيدُ فِي مَحَلِّها عِنْدَكَ، وَشَرَفِها لَدَيْكَ، وَمَنْزِلَتِها مِنْ رِضَاكَ، وَبَلِّغْها مِنَّا تَحِيَّةً وَسَلاماً، وَآتِنَا مِنْ لَدُنْكَ فِي حُبِّها فَضْلاً وَ إِحْسَاناً وَرَحْمَةً وَغُفْراناً إِنَّكَ ذُو الْعَفْوِ الْكَرِيمِ.

بحارالأنوار : ج 97 ص 200 ط بیروت

ص: 5

ص: 6

كلمة الناشر

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.

تنبع عظمة الصديقة فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) من تلك الخصائص النادرة التي حباها الله بها فميزها عن غيرها، فكانت بحق سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين.

مضافاً إلى كونها وريثة سيد المرسلين وزوجة أمير المؤمنين وأم الشبلين الحسن والحسين (صلوات الله عليهم أجمعين)، فقد ورثت من أبيها البلاغة والفصاحة، ومن زوجها الجهاد والشجاعة.

وقد نهضت بالأمر يوم رأت إلى الحقلا يُعمل به، وإلى الباطل لا يتناهى عنه، على ما ورد بها من علل وأسقام افترستها بعد وفاة أبيها رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فأعلنتها صرخة مدوية في المسجد، صكت بها أسماع القوم لما غصبوا حق أمير المؤمنين (علیه السلام) في الخلافة ومنعوها نحلة أبيها وبلغة بنيها، فكشفت بذلك عن

ص: 7

سرائر النفوس وما انطوت عليه وما أضمرت، وكأنها تفرغ عن منطق أبيها (سلام الله عليها).

وهكذا فقد أغمض حق الزهراء (علیها السلام) جهاراً بحجة واهية وحديث مختلق (نحن معاشر الأنبياء لا نورث وما تركناه صدقة) ورد شهادة من شهد لها رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالجنة وكذلك شهادة زوجها وبنيها (علیهم السلام)، مضافاً إلى ما صنعوا بها من الضرب واللطم وكسر الضلع وإسقاط الجنين، و... فيا لله وما تأمر به النفس الأمارة.

ولكن أنى للحق أن يموت ما دام وراءه مطالب، فقد عرفت الأجيال أن الحق كان مع الزهراء (سلام الله عليها) وصدق دعواها وهي الصديقة الصادقة كما عرفوا أحقية أمير المؤمنين علي (علیه السلام) بالخلافة.

وهذا الكتاب، مضافاً إلى كونه شرحاً قيماً على تلك الخطبة المباركة التي ألقتها فاطمة الزهراء (علیها السلام)في المسجد، يمتاز بالصبغة الفقهية، فإن سماحة الإمام الراحل آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (أعلى الله مقامه) استنبط من تلك الخطبة الشريفة المئات من المسائل الشرعية الفقهية، فكان أول من كتب - بتوفيق من الله - في فقه الزهراء (سلام الله عليها) حيث ألف سبعة مجلدات بدءً من حديث الكساء ثم الخطبة الشريفة في المسجد ثم خطبتها في البيت، إلى الأحاديث المروية عنها (صلوات الله عليها)، وقد بلغ مجموع ما استنبطه من فقهها (عليها السلام) أكثر من ألفي مسألة.

ويعد هذه الاستنباطات من تلك المبتكرات العلمية التي يسجلها التاريخ باسمه الشريف.

وقد قال أحد كبار العلماء في قم المقدسة: إن السيد الشيرازي لو لم يكن له سوى (من فقه الزهراء (علیها السلام)) لكفاه فخراً.

ص: 8

كما رؤي الإمام الشيرازي (رحمة الله) في المنام(1) جالساً ومؤلفاته إلى جانبه، وكان فوق رأسه عدد من كتبه المختارة وكان النور ساطعاً من تلكالكتب على السيد الراحل، وبعد الدقة لوحظ أن تلك الكتب التي يسطع منها النور هي (من فقه الزهراء (علیها السلام)).

نعم كان الإمام الراحل من جملة العلماء الذين انبروا للدفاع عن ولاية أهل البيت وعن جدته الزهراء (علیها السلام) وظل هكذا إلى آخر حياته حيث أسلم روحه الطاهرة ليلة عبد الفطر من عام 1422ه- وهو يكتب كتاباً عن سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين.

إن مؤسسة المجتبى تتشرف بإصدار هذا الجزء في الذكرى السنوية الأولى لرحيل الإمام الشيرازي (رضوان الله عليه) سائلة المولى أن ينفع به كما نفع بغيره وأن يمنّ على سماحة الإمام المؤلف بالمغفرة والرضوان وعلو الدرجات وأن يحشره مع جدته الزهراء (سلام الله عليها)، والحمد لله أولاً وأخراً.

مؤسسة المجتبى للتحقيق والنشر

بيروت لبنان ص ب 5955 / 13 شوران

ص: 9


1- قد رأى هذه الرؤيا أكثر من شخص وفي فترات مختلفة بعد رحيل الإمام الشيرازي (رضوان الله تعالى عليه) للتفصيل انظر ملحق كتاب (المنامات) للإمام المؤلف (قدس سره).

ص: 10

المقدمة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.

أما بعد: فهذا الجزء الرابع من كتاب (من فقه الزهراء) صلوات الله وسلامه عليها، أسأل الله عزوجل التوفيق والقبول، إنه ولي ذلك.

قم المقدسة

محمد الشيرازي

ص: 11

ص: 12

أيها المسلمون

اشارة

-------------------------------------------

لماذا الاستنصار؟

مسألة: قد يُتساءل أن فاطمة الزهراء (علیها السلام) لماذا استنصرت القوم مع علمها بعدم النصرة؟

والجواب: إن (الاستنصار) هنا راجح وقد يكون واجباً حتى مع اليأس من النصرة، إذ لا ينحصر الغرض منه في النصرة بل منه إتمام الحجة، قال تعالى: «لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل»(1).

ومنه: إرشاد الجاهل وتنبيه الغافل في ذلك الزمن وللأجيال الآتية.

ومنه: الردع عن الظلم الأكثر، إلى غيرها.

ومن هنا استنصر أمير المؤمنين (علیه السلام) في أمر الخلافة، فلما لم يجد ناصراً صبر كما وصاه رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ففي الحديث عن أمير المؤمنين (علیه السلام) حينما سئل: فما منعك يا بن أبي طالب حين بويع فلان وفلان أن تضرب بسيفك؟

وقال آخر: يا أمير المؤمنين لم لمتضرب بسيفك وتأخذ بحقك وأنت لم تخطب خطبة إلا وقلت فيها: «إني لأولى الناس بالناس ولا زلت مظلوماً منذ قبض رسول الله (صلی الله علیه و آله)» فما منعك أن تضرب بسيفك دون مظلمتك؟

قال علي (علیه السلام): «اسمع يا فلان، فإنه لم يمنعني من ذلك الجبر ولا كراهية الباري تعالى(2) وإني لأعلم أن ما عند الله تبارك وتعالى خير لي من الدنيا

ص: 13


1- سورة النساء: 165.
2- أي كراهية أن أقتل وألقى الباري تعالى.

..............................

والبقاء فيها، ولكن يمنعني من ذلك أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) ونهيه إياي وعهده إليّ، فقد أخبرني رسول الله (صلی الله علیه و آله) ما الأمة صانعة بعده ولم أكن حين عاينته أعلم به ولا أشد استيقاناً به مني قبل ذلك، بل أنا بقول رسول الله (صلی الله علیه و آله) أشد يقيناً مني بما عاينته وشهدته، فقلت: يا رسول الله وما تعهد إليّ إذا كان ذلك، فقال (صلی الله علیه و آله): إن وجدت أعواناً فانتدب إليهم وجاهدهم، وإن لم تجد أعواناً فكف يدك وأحقن دمك حتى تجد على إقامة كتاب الله وسنتي أعواناً،وأخبرني أنه سيخذلني الناس ويبايعون غيري وأخبرني أني منه بمنزلة هارون من موسى، وأن الأمة من بعدي سيصيرون بمنزلة هارون ومن تبعه والعجل ومن تبعه، إذ قال له: «يا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلاَ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي * قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي» (1).

يعني إن موسى (علیه السلام) أمره حين استخلفه عليهم إن ضلوا فوجدت أعواناً عليهم فجاهدهم وإن لم تجد أعواناً فكف يدك واحقن دمك ولا تفرق بينهم، وإني خشيت أن يقول ذلك أخي رسول الله (صلی الله علیه و آله) ويقول: لم فرقت بين الأمة ولم ترقب قولي وقد عهدت إليك إن لم تجد أعواناً أن تكف يدك وتحقن دمك ودماء أهل بيتك وشيعتك.

فلما قبض رسول الله (صلی الله علیه و آله) مال الناس إلى أبي بكر فبايعوه واستنصرتُ الناس فلم ينصروني غير أربعة: سلمان وأبوذر والمقداد والزبير بن العوام،

ص: 14


1- سورة طه: 92-94.

..............................

ولم يكن أحد من أهل بيتي أصول به وأتقوى به، أما حمزة فقتل يوم أحد، وأما جعفر قتل يوم موتة...» الحديث(1) .

ومن هذا الباب أيضا كان استنصار فاطمة الزهراء (علیها السلام).

نصرة المظلوم واجب عقلي

مسألة: نصرة المظلوم واجب عقلي، فلا ينحصر وجوب الانتصار له في المسلم أو المؤمن، بل يجب على كل إنسان ذلك بحكم العقل والفطرة والوجدان.

وأما توجيهها (علیها السلام) الخطاب للمسلمين فلأنهم المخاطبون بالدرجة الأولى، ولتحملهم ضعفي(2)المسؤولية، سواء في قضية فدك أو غصب حق

ص: 15


1- انظر إرشاد القلوب: ج2 ص394- 395 خبر وفاة أبي بكر ومعاذ بن جبل.
2- لتكليفهم عقلاً وشرعاً ولائتمانهم على ذلك، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) في الحديث المتواتر عند الفريقين: «إني تارك فيكم ثقلين كتاب الله وعترتي». وفي بعض الروايات: «إني تارك فيكم خليفتين كتاب الله وعترتي». انظر حديث الثقلين في صحيح الترمذي: ج5 ص328 ح3874 و ح3876 ط دار الفكر بيروت، وج13 ص199 و200 ط مكتبة الصاوي مصر، وج2 ص308 ط بولاق مصر. مسند أحمد: ج3 ص17 و26 و59 ، وج4 ص366 و371، وج5 ص181 ط الميمنية بمصر. وصحيح مسلم، كتاب الفضائل باب فضائل علي بن أبي طالب: ج2 ص362 ط عيسى الحلبي، وج7 ص122 ط صبيح، وج15 ص179 ط مصر بشرح النووي. ونظم درر السمطين للزرندي الحنفي ص231 و232 ط مطبعة القضاء النجف. وينابيع المودة للقندوزي الحنفي: ص29 و30 و31 و36 و38 و41 و183 و191 و296 و370 ط إسلامبول. وتفسير ابن كثير: ج4 ص113 ط دار إحياء الكتب العربية مصر. ومصابيح السنة للبغوي: ص203 و206 ط القاهرة. وج2 ص278 ط صبيح، وجامع الأصول لابن الأثير: ج1 ص187 ح65 و66 ط مصر ............................ والمعجم الكبير للطبراني: ص137. ومشكاة المصابيح: ج3 ص255 و258 ط دمشق. وإحياء الميت للسيوطي بهامش الإتحاف: ص111 و114 و116 ط الحلبي. والفتح الكبير للنبهاني: ج1 ص252 و451 و 503 وج3 ص385 ط دار الكتب العربية بمصر. والشرف المؤبد للنبهاني: ص18 ط مصر. وأرجح المطالب: ص236 أو 336 ط لاهور. ورفع اللبس والشبهات للإدريسي: ص11 و15 ط مصر. والسيف اليماني المسلول: ص10 ط الترقي بدمشق. والدر المنثور للسيوطي: ج2 ص60، وج6 ص7 و306. وذخائر العقبى ص16. والصواعق المحرقة: ص147 و226 ط المحمدية، وص 89 ط الميمنية مصر. المعجم الصغير للطبراني: ج1 ص135. أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير الشافعي: ج2 ص12. وتفسير الخازن: ج1 ص4. علم الكتاب للسيد خواجة الحنفي: ص264 ط دهلي. منتخب تاريخ ابن عساكر: ج5 ص436 ط دمشق. مشكاة المصابيح للعمري: ج3 ص258. وتيسير الوصول لابن البديع: ج1 ص16 ط نور كشور. والتاج الجامع للأصول: ج3 ص308 ط القاهرة. مجمع الزوائد للهيثمي: ج9 ص162 و163. الجامع الصغير للسيوطي: ج1 ص353 ط مصر. وأرجح المطالب للآمرتسري الحنفي: ص335 ط لاهور. ومناقب علي بن أبي طالب (علیه السلام) لابن المغازلي الشافعي ص234 ح281 وص235 ح283 ط طهران. والمناقب للخوارزمي الحنفي: ص223. وفرائد السمطين للحمويني الشافعي: ج2 ص143 ب33. وإسعاف الراغبين للصبان الشافعي بهامش نور الأبصار: ص108 ط السعيدية، السيرة النبوية لزين دحلان المطبوع بهامش السيرة الحلبية: ج3 ص330 و331 ط البهية مصر. الطبقات الكبرى لابن سعد: ج2 ص194 دار صادر بيروت. المواهب اللدنية: ج7 ص7 ط مصر. راموز الأحاديث للشيخ احمد الحنفي: ص144 ط آستانة. الأنوار المحمدية للنهباني: ص435 ط الأدبية لبنان. فرائد السمطين: ج2 ص272 ح538. وتاريخ دمشق لابن عساكر: ج2 ص36 ح534 و545. وأنساب الأشراف للبلاذري: ج2 ص110. وحلية الأولياء: ج1 ص355. وكنز العمال: ج1 ص158 ح899 و943-947 و950-953 و958 و1651 و1658 و1668. وكفاية الطالب للكنجي الشافعي: ص53 ط الحيدرية، و… أما الحديث في مصادر الشيعة فأكثر من ذلك، راجع مثلاً: عيون أخبار الرضا (علیه السلام) : ج2 ص62 ح259 ب31 وفيه: (قال النبي (صلی الله علیه و آله): إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض). ومستدرك الوسائل: ج11 ص374 ب49 ح13294. وانظر حديث الخليفتين في مسند أحمد بن حنبل: ج5 ص181 ح21618 ط مؤسسة قرطبة بمصر. ومجمع الزوائد لأبي بكر الهيثمي: ج9 ص162 ط دار الريان للتراث، القاهرة. وفضائل الصحابة، لابن حنبل: ج2 ص603 ط مؤسسة الرسالة بيروت. وأيضا في مسند أحمد بن حنبل: ج5 ص189 ح21697 ط مؤسسة قرطبة بمصر. وأيضاً في مجمع الزوائد لأبي بكر الهيثمي: ج9 ص162 ط دار الريان للتراث، القاهرة.

ص: 16

..............................

الإمام (علیه السلام) في الخلافة، أو الاعتداء على الإمام (علیه السلام) أو عليها (علیها السلام) بالضرب وعلى دارها بالإحراق أو غير ذلك من كسر الضلع وإسقاط الجنين.

ومن ذلك يتضح أن الحكام من بني أمية وبني العباس والعثمانيين كلهم شركاء في استمرار هذه المظالم حيث كان بمقدورهم رد فدك وإرجاع الخلافة لأهلها. ومن ذلك يتضح أيضاً أن الدول المعاصرة والأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان أيضاً مسؤولة عن إرجاع فدك لأحفادها (صلوات الله عليها) إذ الحق لا يبطل بالتقادم وهذه ظلامة كبرى على مر التاريخ.

قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «أحسن العدل نصرة المظلوم»(1).

وعن البراء بن عازب قال: (أمرنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) بسبع ونهاها عن سبع، أمرنا بعيادة المريض،واتباع الجنائز، وإفشاء السلام، وإجابة الداعي، وتسميت العاطس، ونصرة المظلوم، وبر القسم...) الحديث(2).

ص: 17


1- غرر الحكم ودرر الكلم: ص446 ق6 ب4 ف5 ح10210.
2- معدن الجواهر: ص58-59 باب ذكر ما جاء في سبعة، ومثله في الخصال: ج2 ص340-341 باب السبعة.

..............................

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لرجل أتاه: ألا أدلك على أمر يدخلك الله به الجنة؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: أنل مما أنالك

الله، قال: فإن كنت أحوج ممن أنيله، قال: فانصر المظلوم..»(1).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «من لم ينصف المظلوم من الظالم عظمت آثامه»(2).

وقال (علیه السلام): «من لم ينصف المظلوم من الظالم سلبه الله قدرته»(3).وقال (علیه السلام): «لا ينتصر المظلوم بلا ناصر»(4).

ص: 18


1- انظر تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: ج2 ص189.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: ص341 ق4 ب2 ف3 ح7804.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: ص341 ق4 ب2 ف3 ح7805.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: ص483 ق6 ب6 ح11144.

أ أغلب على إرثيه

اشارة

-------------------------------------------

التعجب الاستنكاري

قولها (علیها السلام): (أاُغلب على إرثيه) ورد في مقام التعجب المضمّن معنى الاستنكار، أي كيف اُمنع من إرث أبي على خلاف كتاب الله؟!

والهاء للسكت، أي أنها علامة السكوت في آخر الكلام، والتي تلحق لبيان حركة أو حرف، ولذا يسكت بها في الوقف دون الوصل، وإن قرئ بإثباتها في الوصل أيضاً، مثل قوله سبحانه وتعالى: «فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَه * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ»(1).

أو إشارة إلى قطع الاستمرار في الكلام إلى هنا، وذلك لتلهف المتكلم بما لايتمكن من بيانه بالكلام، أو بما لا يسمح له المقام به، فأريد بذلك نحو من انطباق الكلام مع الواقع، كمافي قوله عزوجل: «ذلك ما كنا نبغ»(2) بحذف الياء حيث أريد حكايتها (3) للكلام، فإنه من شدة الشوق لم يتكلم بتمام الكلام، كما أن من الوارد أحياناً أن لا يتم الكلام لشدة الخوف أو الحزن أو غير ذلك من الحالات النفسية الطارئة.

ص: 19


1- سورة الحاقة: 25 - 29.
2- سورة الكهف: 64.
3- أي الآية أو الكلمة (نبغ).

..............................

وفي المقام قد يكون وقفها (علیها السلام) على (إرثيه) لغلبة الآلام عليها مما لاقته من القوم، كما يتوقف المتكلم عند انقطاع نفسه - لإرهاق أو تحرك زائد أو غير ذلك - إذ أنها (صلوات الله عليها) جاءت إلى المسجد متحاملة على نفسها، تعاني من جراحها وكسر ضلعها وسقط جنينها، وتتجلد رغم آلامها، فلعن الله ظالميها وغاصبي حقوقها وعذبهم عذاباً أليماً.

فقد روي: «أنها (علیها السلام) ما زالت بعد أبيها معصبة الرأس، ناحلة الجسم، منهدة الركن، باكية العين، محترقة القلب، يغشى عليها ساعة بعدساعة»(1).

ولعل المراد بالإرث هنا: الأعم من النحلة والإرث المصطلح، وقد سبق أن فدك كانت نحلة نحلها رسول الله (صلی الله علیه و آله) للزهراء(علیها السلام) في حياته، كما هو ثابت في التواريخ، وكما استدلت هي أيضاً بذلك في موطن آخر.

وأما إذا أريد بالإرث: خصوص الإرث بالمعنى المشهور، فهو - كما سبق - من باب التسليم لإثبات الحق بما يعترف به الخصم، فان الإنسان إن كان محقاً ولا يصل إلى حقه إلا بالطريق الذي يُلزم الخصم، أي بما يراه الخصم صحيحاً وإن كان الصحيح عنده غيره، صح سلوك ذلك الطريق، وهذا قد يكون من مصاديق «إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم»(2) ومن باب

ص: 20


1- بحار الأنوار: ج43 ص181 ب7 ح16.
2- بحار الأنوار: ج1 ص85 ب1 ضمن ح7، ومن أمثلته الجواب الذي ذكره الإمام السجاد (علیه السلام) على السؤال التالي: (لأي علة حجب الله عزوجل الخلق عن نفسه)؟ فقال (علیه السلام): (لأن الله تبارك وتعالى بناهم بنية على الجهل، فلو أنهم كانوا ينظرون الله عزوجل لما كانوا بالذي يهابونه ولا يعظمونه، نظير ذلك أحدكم فإذا نظر إلى بيت الله الحرام أول مرة عظمه إذا أتت عليه أيام وهو يراه لا يكاد أن ينظر إليه إذا مر به ولا يعظمه ذلك التعظيم). علل الشرائع: ج1 ص119 ب98 ح2.

..............................

(إن سلمنا) كما في كلمات العلماء، ومثل قول النبي إبراهيم (علیه السلام) «هذا ربي»، قال تعالى: «فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي»(1).

قال الإمام الرضا (علیه السلام): «إن إبراهيم (علیه السلام) وقع على ثلاثة أصناف، صنف يعبد الزهرة وصنف يعبد القمر وصنف يعبد الشمس، وذلك حين خرج من السرب الذي أخفى فيه، «فلما جن عليه الليل رأى» الزهرة قال: «هذا ربي» على الإنكار والاستخبار.. «فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي»(2) على الإنكار والاستخبار... «فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر»(3) من الزهرة والقمر على الإنكار والاستخبار لا على سبيل الإخبار والإقرار» (4).

قولها (علیها السلام) قبل ذلك:«بلى قد تجلى لكم كالشمس الضاحية». الضاحية بمعنى:الظاهرة البيّنة،لأن في وقت الضحى تكون الشمس أظهر شيء، والضحى وقت بين الصبح والظهر حين تقترب الشمس من نصف النهار.

وقولها (علیها السلام): «أني ابنته» فإنها (صلوات الله عليها) ذكرت انطباق الكبرى الكلية للإرث على الصغرى الشخصية والتي هي عبارة عن: أنها ابنة رسول الله(صلی الله علیه و آله).

ص: 21


1- سورة الأنعام: 76.
2- سورة الأنعام: 77.
3- سورة الأنعام: 78.
4- الاحتجاج: ج2 ص427 احتجاج الرضا (علیه السلام) على أهل الكتاب وغيرهم.

يا بن أبي قحافة

اشارة

-------------------------------------------

مواجهة الحاكم

مسألة: توجيهها (علیها السلام) الخطاب لابن أبي قحافة مباشرة يفيد رجحان أو وجوب التوجه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نحو العقل المخطط والعامل الأول والسبب الرئيسي في الظلم، ومحاولة ردعه مباشرة، فإنه المعني بالأمر والنهي أولاً وبالذات.

قال تعالى: «اذهبا إلى فرعون إنه طغى»(1).

وقال الإمام الحسين (علیه السلام): «نحن أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة، ويزيد فاسق شارب الخمر وقاتل النفس، ومثلي لا يبايع لمثله ولكن نصبح وتصبحون أينا أحق بالخلافة والبيعة»(2).

ويرفع اليد عن هذا فيما لو كان التوجه لغيره أجدى وأنفع، أو كان التوجه له ذا خطر مرفوع بقاعدة (لاضرر) أو ما أشبه، فإنه حينئذ يرفع اليد عن التوجه للعامل الأساسي إلا إذا كان له - رغم الخطر - مصلحة ملزمة أكبر أو أهم.

والمصلحة والمفسدة تلاحظ بالقياس إلى الشخص الآمر وإلى أتباعه وإلى لوازم الأمر والنهي وإلى الآثار المستقبلية على الأجيال القادمة، وبالقياس إلى نوع المأمور به والمنهي عنه، وإلى المصالح العليا والعامة وما أشبه.

ص: 22


1- سورة طه: 43.
2- راجع مثير الأحزان: ص24 المقصد الأول، أخبار الحسين (علیه السلام) بموت معاوية ومنامه، وراجع اللهوف: ص23 المسلك الأول في الأمور المتقدمة على القتال.

..............................

وذلك كله يعرف من الشرع ومن الذين عدهم الشرع مرجعاً في الحوادث الواقعة، فلو أراد ظالم غصب مال شخصٍ فإن نهيه عن المنكر واجب لو لم يستلزم ضرر الناهي بما لا يجوز تحمله كالقتل مثلاً.

لكن لو استلزم ذلك سجن الناهي لشهر مثلاً فهل يجب النهي عندئذ؟

المرجع في بعض الصغريات إلى الفقهاء، وفي بعضها إلى أهل الخبرة، وفي بعضها إليهما معاً، وفي بعضها إلى العرف، وفي بعضها إلى الشخص نفسه على تفصيل ذكرناه في الفقه.

وفي المقام كان فضح الظلم والعدوان في أقصى درجات الأهمية، لذلك وجهت الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء(علیها السلام) الخطاب للأول مباشرة، ولم يكن ليحل محله توجيه الخطاب لشخص آخر ابتداءً، فالخطر في مثل هذا الموقف كان مما لا يلغي وجوب الاقتحام، إضافة إلى أنه قد يقال بأنهم كانوا يتخوفون من إيذائها (علیها السلام) أكثر مما سبق منهم من الإيذاء العظيم، خوفاً من ردود الفعل الجماهيرية أو مزيد من فقدان الشرعية وإن آذوها (علیها السلام) قبل ذلك بضربها ولطمها وكسر ضلعها وإسقاط جنينها وغيرها، لأن خطبتها الفدكية كانت بعد قصة الدار، كما يظهر من التواريخ.

ص: 23

أفي كتاب الله ترث أباك ولا أرث أبي؟

اشارة

-------------------------------------------

الاستدلال المنطقي

مسألة: ينبغي أن يتطبع الإنسان - إن لم يكن طبعاً له - على الاستدلال المنطقي المعقول، خاصة على الخصم، أي «بالحكمة والموعظة الحسنة»(1) والمجادلة «بالتي هي أحسن»(2). وهذا ما يشاهد بوضوح في احتجاجات رسول الله (صلی الله علیه و آله) والأئمة الطاهرين (علیهم السلام)(3).

وقد يجب مثل هذا الأسلوب حسب المتعلق، فإذا كان المتعلق واجباً وجب، وإذا كان المتعلق مستحباً استحب.

وليس المراد بالمنطقي: البرهان فقط، بل يشمل الصناعات الخمس التي ذكرها المنطقيون في المنطق، فإن من الشعر والخطابة والجدل ما يكون في مورده استدلالاً منطقياً بالمعنى الأعم أيضاً.

قال الله تبارك وتعالى في كتابهمخاطبا لنبيه (صلی الله علیه و آله): «وجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ»(4).

وقال عز من قائل: «ولا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ»(5).

ص: 24


1- سورة النحل: 125.
2- سورة النحل: 125.
3- راجع كتاب (الاحتجاج) للشيخ الطبرسي (رحمة الله).
4- سورة النحل: 125.
5- سورة العنكبوت: 46.

..............................

وقال الله تعالى: «ألَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ» الآية(1).

وقال تعالى حكاية عن إبراهيم (علیه السلام) أيضا لما احتج على عبدة الكوكب المعروف بالزهرة وعبدة الشمس والقمر جميعا بزوالها وانتقالها وطلوعها وأفولها وعلى حدوثها وإثبات محدث لها وفاطر إياها: «وكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ والأرْضِ ولِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ» إلى قوله تعالى «وتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ»(2) وغير ذلك من الآيات التي فيها الأمر بالاحتجاج.

وروي عن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه قال: «نحن المجادلون في دين اللهعلى لسان سبعين نبيا»(3).

كما ورد العديد من الروايات في بيان فضل مجادلة أهل الباطل والدفاع عن الحق، فعن أبي محمد الحسن بن علي العسكري (علیه السلام) قال: قال الحسن بن علي (علیه السلام): «فضل كافل يتيم آل محمد (علیه السلام) المنقطع عن مواليه الناشب في رتبة الجهل يخرجه من جهله ويوضح له ما اشتبه عليه على فضل كافل يتيم يطعمه ويسقيه كفضل الشمس على السها»(4).

وقال جعفر بن محمد الصادق (علیه السلام): «علماء شيعتنا مرابطون في الثغر الذي يلي إبليس وعفاريته، يمنعوهم عن الخروج على ضعفاء شيعتنا، وعن أن

ص: 25


1- سورة البقرة: 258.
2- سورة الأنعام: 75-83.
3- الاحتجاج: ج1 ص15 في ذكر طرف مما أمر الله في كتابه من الحجاج والجدال بالتي هي أحسن.
4- مستدرك الوسائل: ج17 ص318 ب11 ح21461.

.............................

يتسلط عليهم إبليس وشيعته والنواصب، ألا فمن انتصب لذلك من شيعتنا كان أفضل ممن جاهد الروم والترك والخزر ألف ألف مرة، لأنه يدفع عن أديانمحبينا وذلك يدفع عن أبدانهم»(1).

وقال موسى بن جعفر (علیه السلام): «فقيه واحد ينقذ يتيما واحداً من أيتامنا المنقطعين عنا وعن مشاهدتنا بتعليم ما هو محتاج إليه أشد على إبليس من ألف عابد، لأن العابد همه ذات نفسه فقط، وهذا همه مع ذات نفسه ذوات عباد الله وإمائه ينقذهم من يد إبليس ومردته فلذلك هو أفضل عند الله من ألف ألف عابد وألف ألف عابدة»(2).

وقال علي بن محمد (علیه السلام): «لولا من يبقى بعد غيبة قائمكم (علیه السلام) من العلماء الداعين إليه والدالين عليه والذابين عن دينه بحجج الله والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته ومن فخاخ النواصب لما بقي أحد إلا ارتد عن دين الله ولكنهم الذين يمسكون أزمة قلوب ضعفاء الشيعة كما يمسك صاحب السفينة سكانها أولئك هم الأفضلون عند الله عزوجل»(3).

وقال أبو محمد الحسن بن عليالعسكري (علیه السلام): قال علي بن أبي طالب (علیه السلام): «من قوى مسكينا في دينه ضعيفا في معرفته على ناصب مخالف فأفحمه، لقنه الله تعالى يوم يدلى في قبره أن يقول: الله ربي، ومحمد نبيي، وعلي وليي، والكعبة قبلتي، والقرآن بهجتي وعدتي، والمؤمنون إخواني، فيقول الله: أدليت

ص: 26


1- الاحتجاج: ج1 ص17 في ذكر طرف مما أمر الله في كتابه من الحجاج والجدال بالتي هي أحسن.
2- غوالي اللآلي: ج1 ص18-19 ف2 ح6.
3- تفسير الإمام العسكري (علیه السلام): ص344-345 في أن اليتيم الحقيقي هو المنقطع عن الإمام (علیه السلام).

.............................

بالحجة فوجبت لك أعالي درجات الجنة، فعند ذلك يتحول عليه قبره أنزه رياض الجنة»(1).

وقال أبو محمد (علیه السلام) قالت فاطمة (علیها السلام) وقد اختصم إليها امرأتان فتنازعتا في شيء من أمر الدين، إحداهما معاندة والأخرى مؤمنة، ففتحت على المؤمنة حجتها فاستظهرت على المعاندة ففرحت فرحا شديدا، فقالت فاطمة (علیها السلام): إن فرح الملائكة باستظهارك عليها أشد من فرحك، وإن حزن الشيطان ومردته بحزنها عنك أشد من حزنها، وإن الله عزوجل قال للملائكة: أوجبوا لفاطمة بما فتحت على هذه المسكينة الأسيرة من الجنان ألفألف ضعف مما كنت أعددت لها، واجعلوا هذه سنّة في كل من يفتح على أسير مسكين فيغلب معاندا مثل ألف ألف ما كان له معدا من الجنان»(2).

وقال أبو محمد العسكري (علیه السلام) لبعض تلامذته لما اجتمع قوم من الموالي والمحبين لآل رسول الله (صلی الله علیه و آله) بحضرته، وقالوا: يا ابن رسول الله، إن لنا جارا من النصاب يؤذينا ويحتج علينا في تفضيل الأول والثاني والثالث على أمير المؤمنين(علیه السلام) ويورد علينا حججا لا ندري كيف الجواب عنها والخروج منها، قال: «مر بهؤلاء إذا كانوا مجتمعين يتكلمون فتسمع عليهم فيستدعون منك الكلام فتكلم وأفحم صاحبهم واكسر غرته وفل حده ولا تبق له باقية».

فذهب الرجل وحضر الموضع، وحضروا وكلم الرجل فأفحمه وصيره

ص: 27


1- الاحتجاج: ج1 ص18 في ذكر طرف مما أمر الله في كتابه من الحجاج والجدال بالتي هي أحسن.
2- الاحتجاج: ج1 ص18 في ذكر طرف مما أمر الله في كتابه من الحجاج والجدال بالتي هي أحسن.

.............................

لايدري في السماء هو أو في الأرض.

قالوا: فوقع علينا من الفرحوالسرور ما لا يعلمه إلا الله تعالى، وعلى الرجل والمتعصبين له من الحزن والغم مثل ما لحقنا من السرور، فلما رجعنا إلى الإمام (علیه السلام) قال لنا: «إن الذي في السماوات من الفرح والطرب بكسر هذا العدو لله كان أكثر مما كان بحضرتكم، والذي كان بحضرة إبليس وعتاة مردته من الشياطين من الحزن والغم أشد مما كان بحضرتهم ولقد صلى على هذا الكاسر له ملائكة السماء والحجب والكرسي وقابلها الله بالإجابة فأكرم إيابه وعظم ثوابه ولقد لعنت تلك الملائكة عدو الله المكسور وقابلها الله بالإجابة فشدد حسابه وأطال عذابه»(1).

ص: 28


1- راجع بحار الأنوار: ج2 ص11 ب 8 ح23.

.............................

الأصل هو المساواة

اشارة

مسألة: ربما يفهم من كلامها (علیها السلام) أن الأصل الأولي هو المساواة في الحقوق والأحكام بين كافة أفراد المكلفين، ومن المصاديق الرجال والنساء، لذلك احتيج إلى الدليل على التفاوت والتبعيض والتفرقة.

وهذا المستفاد هو مقتضى القاعدة، فإن الأصل - كما ذكرناه في الفقه - هو المساواة بين الرجال والنساء في جميع الأحكام إلا ما خرج بالدليل، وليس أصل المقام مما خرج بالدليل، فكما يرث الرجل ترث المرأة أيضاً وان اختلف المقدار، والتنظير بلحاظ أصل الإرث لا الخصوصية كما هو واضح.

قال سبحانه: «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ»(1).

وقال تعالى: «إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَوَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً»(2).

ص: 29


1- سورة التوبة: 71.
2- سورة الأحزاب: 35.

.............................

وقال عزوجل: «وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا»(1).

وقال سبحانه: «وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً»(2).

بين الحاكم والرعية

مسألة: يستفاد من كلامها (علیها السلام) أيضاً: أن المساواة هي الأصل المحكم بين من بيده السلطة ومن لا سلطة له، وأن الحاكم يجب أن يخضع لكتاب الله، فقد قال عزوجل في القرآن الحكيم: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَلِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ»(3).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «الناس كأسنان المشط سواء»(4).

وقال (صلی الله علیه و آله): «المؤمنون كأسنان المشط يتساوون في الحقوق بينهم، ويتفاضلون بأعمالهم»(5).

قولها (علیها السلام): «يا ابن أبي قحافة أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا ارث أبي»

ص: 30


1- سورة التوبة: 72.
2- سورة الأحزاب: 58.
3- سورة الحجرات: 13.
4- من لا يحضره الفقيه: ج4 ص379 باب النوادر ح5798.
5- مستدرك الوسائل: ج8 ص327 ب10 ضمن ح9568.

.............................

أي: كيف يمكن التفرقة بين المسلمين حتى أن بعضهم يرث أباه وبعضهم لا يرثه.

ومؤدى كلامها (علیها السلام) أنه هل يوجد في كتاب الله كبرى كلية تقتضي - عند تطبيقها على المصداق - أن ترث أنت أباك، ومخصص لتلك الكبرى(1) أوكبرى أخرى(2) تقتضي عدم إرثي من أبي؟

ص: 31


1- وهي ما أشارت إليه (علیها السلام) فيما بعد ب- (أفخصكم الله بآيه أخرج منها أبي).
2- وهي ما أشارت إليه (علیها السلام) فيما بعد ب- (أم هل تقولون أهل ملتين لا يتوارثان).

لقد جئت شيئاً فرياً!

اشارة

-------------------------------------------

الافتراء على الله

مسألة: قولها (علیها السلام): «لقد جئت شيئاً فرياً»، شهادة منها (علیها السلام) بارتكاب ابن أبي قحافة كبيرة من أكبر الكبائر وهي الافتراء على الله تعالى.

وشهادتها (صلوات الله عليها) حجة بلا شك، وذلك من جهات عديدة، منها: أنها (علیها السلام) من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا(1)، فإن اتهام الآخرين بما لم يفعلوه رجس ومناف للتطهير، وفي الحديث الشريف: «من شهد شهادة زور على أحد من الناس علق بلسانه مع المنافقين في الدرك الأسفل من النار»(2)، فشهادتها (علیها السلام) صادقة بدليل الكتاب الحكيم.

كما أن تعبيرها (علیها السلام) ب(لقد جئت) و(فرياً) دليل على أنه كان عالماً عامداً بمعصيته، إذ ظاهر إطلاق (الفرية) هو ذلك، كما أن ظاهر (جئت) باعتباره فعلاً مسنداً للفاعل هو القصد والاختيار.

ص: 32


1- إشارة إلى قوله تعالى في سورة الأحزاب، الآية: 33.
2- انظر من لا يحضره الفقيه: ج4 ص15 باب ذكر جمل من مناهي النبي، ضمن ح4968.

.............................

شهادة المعصوم

مسألة: من المحرم عدم الاعتناء بشهادة المعصوم (علیه السلام) أو عدم قبولها، ولو رجع ذلك إلى إنكار الرسالة كان كفراً.

ومن البديهي أن الرسول (صلی الله علیه و آله) إذا اعتبر شهادة (خزيمة بن ثابت) بمنزلة شهادتين وسماه ذا الشهادتين في قصة مشهورة(1)، فإن شهادة بضعته (صلی الله علیه و آله) التي قال عنها: (إنَّ الله تعالى يغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها)(2)، وهي (علیها السلام) من آية التطهير(3)، أقوى وأتم وأحرى بالقبول، فإن الإعراب عن شهادتها اغضاب لها ولله عزوجل بنص الحديث، ولا يعقل أن يغضب الله تعالى لباطل، بالإضافة إلى أنه تكذيب لقوله عزوجل في آية التطهير كما لا يخفى.

وفي الكافي عن معاوية بن وهب قال:كان البلاط حيث يصلى على الجنائز سوقا على عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله) يسمى البطحاء يباع فيها الحليب والسمن والأقط وإن أعرابيا أتى بفرس له فأوثقه فاشتراه منه رسول الله (صلی الله علیه و آله) ثم دخل ليأتيه بالثمن، فقام ناس من المنافقين فقالوا: بكم بعت فرسك؟

قال: بكذا وكذا.

قالوا: بئس ما بعت، فرسك خير من ذلك.

ص: 33


1- يأتي ذكرها في نهاية هذا البحث.
2- عيون أخبار الرضا ˆ: ج2 ص46-47 ب31 ح176.
3- سورة الأحزاب: 33.

.............................

وإن رسول الله (صلی الله علیه و آله) خرج إليه بالثمن وافيا طيبا، فقال الأعرابي: ما بعتك والله.

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): سبحان الله، بلى والله لقد بعتني.

وارتفعت الأصوات فقال الناس: رسول الله يقاول الأعرابي، فاجتمع ناس كثير فقال أبو عبد الله (علیه السلام): ومع النبي (صلی الله علیه و آله) أصحابه إذ أقبل خزيمة بن ثابت الأنصاري، ففرج الناس بيده حتى انتهى إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: أشهد يا رسول الله لقد اشتريته منه.

فقال الأعرابي: أتشهد ولم تحضرنا؟وقال له النبي (صلی الله علیه و آله): أشهدتنا؟

فقال له: لا يا رسول الله ولكني علمت أنك قد اشتريت، أفأصدقك بما جئت به من عند الله ولا أصدقك على هذا الأعرابي الخبيث. قال فعجب له رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال: يا خزيمة شهادتك شهادة رجلين»(1).

ص: 34


1- الكافي: ج7 ص400-401 باب النوادر ح1.

.............................

حرمة الافتراء والكذب مطلقا

حرمة الافتراء والكذب مطلقا(1)

مسألة: يحرم الافتراء على الله والقرآن، بل مطلق الكذب، فقد قال سبحانه: «إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون»(2).

وقال تعالى: «فَمَنْ افْتَرَى عَلَى اللهِ الكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ»(3).

وقال سبحانه: «انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُبِيناً»(4).

وقال عزوجل: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ»(5).

وإذا اجتمع لفظ الافتراء والكذب كان معنى الافتراء: القطع، كما يقطع اللحم، فكأنه يقطع عرى الإيمان أويقطع حبل المودة أو «يقطعون ما أمر الله به أن يوصل»(6) أو بلحاظ الاقتطاع من شخصية المفترى عليه، فكما أن

ص: 35


1- أي على الله عزوجل أو على القرآن أو على غيرهما.
2- سورة النحل: 105.
3- سورة آل عمران: 94.
4- سورة النساء: 50.
5- سورة الأنعام: 21.
6- سورة البقرة: 27، وسورة الرعد: 25.

.............................

السكين تقطع لحمه مادياً كذلك الفرية سكين تقطع شخصيته المعنوية.

قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «هلك من ادعى وخاب من افترى»(1).

وفي زيارة أمير المؤمنين (علیه السلام): «ولعن الله من افترى عليك»(2).

وقال أبو جعفر(علیه السلام): «يا أبا النعمان لا تكذب علينا كذبة فتسلب الحنيفية، ولا تطلبن أن تكون رأسا فتكون ذنبا، ولا تستأكل الناس بنا فتفتقر، فإنك موقوف لا محالة ومسئول فإن صدقت صدقناك وإن كذبت كذبناك»(3).

وعن أبي جعفر(علیه السلام) قال: «إن الكذب هو خراب الإيمان»(4).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال:«إن الكذاب يهلك بالبينات ويهلك أتباعه بالشبهات»(5).

وفي الحديث: «ذكر الحائك لأبي عبد الله (علیه السلام) أنه ملعون، فقال: إنما ذلك الذي يحوك الكذب على الله وعلى رسوله (صلی الله علیه و آله)»(6).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «ولا سوأة أسوأ من الكذب»(7).

وقال(صلی الله علیه و آله): «إياكم و الكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور و الفجور يهدي إلى النار»(8).

ص: 36


1- الكافي: ج8 ص67-68 خطبة لأمير المؤمنين (علیه السلام) ضمن ح23.
2- من لا يحضره الفقيه: ج2 ص589 زيارة قبر أمير المؤمنين (علیه السلام) ضمن ح3197.
3- وسائل الشيعة: ج12 ص247-248 ب139 ح16219.
4- الكافي: ج2 ص339 باب الكذب ح4.
5- بحار الأنوار: ج69 ص248 ب114 ح10.
6- الكافي: ج2 ص340 باب الكذب ح10.
7- مستدرك الوسائل: ج9 ص88 ب120 ح10297.
8- جامع الأخبار: ص148 الفصل الحادي عشر والمائة في الصدق والكذب.

وعن عبد الله بن مسعود عن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: «أربع من كن فيه فهو منافق، وإن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، من إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر»(1).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «الكذب على الله وعلى رسوله (صلی الله علیهو آله) من الكبائر»(2).

وعن الإمام الرضا (علیه السلام) قال: «سئل رسول الله (صلی الله علیه و آله) يكون المؤمن جبانا؟ قال: نعم، قيل: ويكون بخيلا، قال: نعم، قيل: ويكون كذابا، قال: لا»(3).

وقال النبي (صلی الله علیه و آله): «أربى الربا الكذب»(4).

وقال رجل للنبي (صلی الله علیه و آله): المؤمن يزني؟

قال(صلی الله علیه و آله): «قد يكون ذلك».

قال: المؤمن يسرق؟

قال (صلی الله علیه و آله): «قد يكون ذلك».

قال: يا رسول الله المؤمن يكذب؟

قال: «لا، قال الله تعالى:

«إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لايُؤْمِنُونَ»(5)»(6).

ص: 37


1- الخصال: ج1 ص254 باب الأربعة ح129.
2- الكافي: ج2 ص339 باب الكذب ح5.
3- وسائل الشيعة: ج12 ص245-246 ب138 ح16214.
4- من لا يحضره الفقيه: ج4 ص377 باب النوادر ح5780.
5- سورة النحل: 105.
6- مستدرك الوسائل: ج9 ص86 ب120 ح10289.

.............................

مما يجب إعلام الناس به

مسألة: يستحب أو يجب إعلام الناس بأن الذي سُمي بالخليفة! قد خالف كتاب الله وجاء بشيء فري (افتراء وكذب)، كما صرحت (سلام الله عليها) بذلك، فإنه قد يستحب بيان ذلك وقد يجب، كل في محله، حسب القوانين العامة الأولية.

قولها (علیها السلام): (لقد جئت شيئاً فرياً)، أي: أمراً عظيماً منكراً، ولعله اقتباس من قوله سبحانه حيث حكى قصة قوم عيسى (علیه السلام) لمريم (علیها السلام): «لقد جئت شيئاً فرياً»(1).

ص: 38


1- سورة مريم: 27.

أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم

اشارة

-------------------------------------------

التعمد في الأمر

مسألة: إن ترك القوم لكتاب الله ونبذه وراء ظهورهم كان عن عمد وعلم وينبغي بيان ذلك، فإن عِدل الاستفهام في قولها (علیها السلام): (أفعلى عمد تركتم) محذوف(1)، لأن المقصود هو أنهم فعلوا ذلك عمداً، فحذف العدل لإفادة أن هذا العدل المذكور هو الواقع وهو المراد والمقصود دون غيره.

ومن البلاغة حذف العِدل، مثل قوله سبحانه وتعالى: «أمن هو قانت آناء الليل»(2)، وما أشبه مما ذكروه في باب الاستفهام(3).

والنبذ وراء الظهر: كناية عن عدم العمل.

وقد وردت روايات في ذم من نسي سورة فكيف بمن ترك العملبالقرآن.

عن الصادق (علیه السلام) عن آبائه (علیهم السلام) في حديث المناهي: أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: «ألا ومن تعلم القرآن ثم نسيه لقي الله يوم القيامة مغلولا يسلط الله عليه بكل آية منها حية تكون قرينه إلى النار إلا أن يغفر له»(4).

ص: 39


1- أي أعلى عمد تركتم أم عن سهو وجهل؟
2- سورة الزمر: 9.
3- راجع كتاب (البلاغة) للإمام المؤلف (قدس سره).
4- وسائل الشيعة: ج6 ص196 ب12 ح7715.

.............................

وروي عن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه قال: «من تعلم القرآن ثم نسيه لقي الله تعالى وهو أجذم»(1).

وعن يعقوب الأحمر قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): جعلت فداك، إني كنت قرأت القرآن ففلت مني فادع الله عزوجل أن يعلمنيه، قال: فكأنه فزع لذلك فقال: «علمك الله هو وإيانا جميعا» قال: ونحن نحو من عشرة ثم قال: «السورة تكون مع الرجل قد قرأها ثم تركها فتأتيه يوم القيامة في أحسن صورة وتسلم عليه، فيقول: من أنت فتقول أناسورة كذا وكذا فلو أنك تمسكت بي وأخذت بي لأنزلتك هذه الدرجة فعليكم بالقرآن»(2).

وفي رواية أخرى عن يعقوب الأحمر قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): إن عليّ دينا كثيرا وقد دخلني ما كاد القرآن يتفلّت مني، فقال أبو عبد الله (علیه السلام): «القرآن القرآن إن الآية من القرآن والسورة لتجيء يوم القيامة حتى تصعد ألف درجة يعني في الجنة فتقول: لو حفظتني لبلغت بك هاهنا»(3).

وعن ابن أبي يعفور قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: إن الرجل إذا كان يعلم السورة ثم نسيها أو تركها ودخل الجنة أشرفت عليه من فوق في أحسن صورة فتقول: تعرفني، فيقول: لا، فتقول: أنا سورة كذا وكذا لم تعمل بي وتركتني أما والله لو عملت بي لبلغت بك هذه الدرجة وأشارت بيدها إلى

ص: 40


1- مستدرك الوسائل: ج4 ص263 ب11 ح4653.
2- الكافي: ج2 ص607 باب من حفظ القرآن ثمَّ نسيه، ضمن ح1.
3- وسائل الشيعة: ج6 ص194 ب12 ح7710.

.............................

فوقها»(1).

وعن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله (علیه السلام): «من نسي سورة من القرآن مثلت له في صورة حسنة ودرجة رفيعة في الجنة فإذا رآها قال: ما أنت ما أحسنك ليتك لي، فتقول: أما تعرفني، أنا سورة كذا وكذا لو لم تنسني لرفعتك إلى هذا المكان»(2).

الساكت على الظلم

مسألة: يستفاد من كلامها (علیها السلام) أن الساكت في المقام تارك لكتاب الله أيضاً، فالذي يسكت عن جور الجائر وظلمه وتخطيه أوامر القرآن ونواهيه، هو من مصاديق التارك للعمل بالكتاب، بل من مصاديق الضارب به عرض الحائط والنابذ له وراء ظهره، وذلك بدليل توجيهها الخطاب للجميع: (أفعلى عمد تركتم) رغم أن الغاصب المباشر كان الخليفة ومن مثله، والأكثر ربما لم يشاركوا بقول أو فعل، بل بمجردالسكوت وعدم الردع.

بل خطابها (علیها السلام) قد يشمل حتى من شارك في النهي عن هذا المنكر قولاً أو عملاً لكنه ليس بالقدر الواجب، إذ النهي القولي والعملي على درجات - شدة وضعفاً - وله زيادة ونقصان كماً.

ص: 41


1- الكافي: ج2 ص608 باب من حفظ القرآن ثمَّ نسيه ح4.
2- المحاسن: ج1 ص96 ب22 ح57.

.............................

قال تعالى: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ»(1).

وقال سبحانه: «فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ»(2).

وقال عزوجل: «لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا»(3).

وقال أبو عبد الله (علیه السلام) في حديث: «وليفعل الخير ما استطاع»(4).

وفي عهد أمير المؤمنين (علیه السلام) إلى محمد بن أبي بكر: «أمره بتقوى الله... وبالإنصاف للمظلوم وبالشدةعلى الظالم»(5).

ص: 42


1- سورة الأنفال: 60.
2- سورة التغابن: 16.
3- سورة البقرة: 286.
4- راجع الكافي: ج3 ص417 باب التَّزيُّن يوم الجمعة، ضمن ح1.
5- بحار الأنوار: ج33 ص540 ب30 ح720.

إذ يقول: «وورث سليمان داود» ، وقال فيما اقتص من خبر يحيى بن زكريا،...

اشارة

-------------------------------------------

إذ يقول: «وورث سليمان داود»(1)، وقال فيما اقتص من خبر يحيى بن زكريا، إذ قال: «فهب لي من لدنك ولياً * يرثني ويرث من آل يعقوب»(2) وقال: «وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله»(3)، وقال: «يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين»(4) وقال: «إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على المتقين»(5).

تراكم الأدلة

مسألة: من مصاديق الحكمة: استخدام أسلوب (تراكم الأدلة) والالتجاء إلى عدد منها بل إلى التكثير منها، كما صنعت (سلام الله عليها)، ولذلك ولغيره فإن من المستحب ذكر عدة أدلة والاستناد إلى آيات مختلفة لإثبات الحق كما ذكرت (علیها السلام) خمساً من الآيات في هذاالمقطع من الخطبة الشريفة.

وذلك لسد ذريعة المبطل.

إذ من الممكن أن يناقش البعض في بعض الأدلة، فإذا كانت هنالك أدلة كثيرة فإنه لا يمكن عادة المناقشة في جميعها، إضافة إلى أن غير المعاند أيضاً قد لايقنعه دليل واحد قناعة تامة فيعضده الدليل الآخر.

ص: 43


1- سورة النمل: 16.
2- سورة مريم: 5 - 6.
3- سورة الأنفال: 75، وسورة الأحزاب: 6.
4- سورة النساء: 11.
5- سورة البقرة: 180.

.............................

ثم إن تعدد الأدلة نافع من الناحية الكيفية أيضاً بلحاظ كون الإيمان والعلم على المراتب والدرجات كما لا يخفى.

وقد يكون ذلك واجباً إذا توقف بيان الحق الواجب عليه(1).

عند نقل الآيات الشريفة

مسألة: يجوز عند نقل مقاطع من آيات القرآن الحكيم، إسناد القول إلى الله تعالى وإسناده إلى القائل - فيما كان قولاً لقائل - إلا إذا كان موهماً(2)أو إهانة عرفاً أو ما أشبه.

والأرجح أن يسند القول لقائله بعد إسناده لله تعالى كما فعلت (صلوات الله عليها)، فإنه وإن كان من الصحيح أن تقول: «وقال» بدون إضافة «فيما اقتص من خبر يحيى»، إلا أن كون الآيات نقلاً، يجعل الأفضل ذكر أنه قول لقائل، لا أنه كلام ابتدائي من الله كما في مثل «وورث سليمان داود»(3) وما أشبه، وهذا نوع من البلاغة الرفيعة حيث إنها تقتضي أنواعاً من التفنن في الكلام مضافا إلى دقة المعنى.

ص: 44


1- انظر نماذج من ذلك في كتاب (الاحتجاج) للشيخ الطبرسي (رحمة الله).
2- فلا يصح مثلاً أن يقول: (قال الله تعالى «هؤلاء بناتي»)!.
3- سورة النمل: 16.

.............................

فلسفة الإرث

مسألة: تدل هذه الآيات الكريمة على مجموعة من الأحكام في الأحوال الشخصية وغيرها، ومنها أن الأنبياء (علیهم السلام) يورّثون، وهي تكشف عن جوانب تاريخية أيضاً.

كما أن استدلالها بالآيات الكريمة يتضمن الإشارة إلى فلسفة تشريع الإرث، وإرثها هي (علیها السلام) من رسول الله (صلی الله علیه و آله)، إذ «أولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله»(1)، فكما أن هنالك أولوية تكوينية بينهم، كذلك كان التشريع، ولذلك قال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً»(2).

وقال سبحانه: «وأنذر عشيرتك الأقربين»(3).

وقال تعالى: «وبالوالدين إحسانا»(4).و…

فكان الكتاب التشريعي مطابقاً مع الكتاب التكويني، فهو إذن ينبع عن مصلحة واقعية نفس أمرية(5) فلم يكن إرثها (علیها السلام) من رسول الله (صلی الله علیه و آله) محاباة أو

ص: 45


1- سورة الأنفال: 75.
2- سورة التحريم: 6.
3- سورة الشعراء: 214.
4- سورة النساء: 36.
5- وستأتي إضافة توضيحية من الإمام المؤلف (قدس سره) لفلسفة الإرث بعد قليل.

.............................

استثناء، بل هو مقتضى التشريع ومقتضى التكوين وهو مقتضى الوصية الإلهية: «يوصيكم الله»(1).

فمطالبتها بالإرث إذن ليست مطالبة مادية فحسب، بل هي امتثال لوصية الله جل وعلا، وهي متطابقة مع سنة الأنبياء (علیهم السلام) ومع دعواتهم ربهم، إذ يقول يحيى (علیه السلام): «فهب لي من لدنك ولياً * يرثني ويرث من آل يعقوب»(2).

والظاهر أن المراد بقوله: «وآل يعقوب» يعقوب وآله، كما هو متعارف في التعبير، مثل قوله تعالى: «وأغرقنا آلفرعون »(3) وقوله سبحانه: «وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ»(4) حيث المراد فرعون وآله، وكقوله تعالى: «إنَّ الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران»(5) حيث يراد إبراهيم وآله، وعمران وآله (علیهم السلام) إلى غير ذلك، نعم إذا كانت هنالك قرينة أو اجتمعا معاً يكون الآل غير ذي الآل مثل قولنا: (اللهم صل على محمد وآل محمد) وما أشبه ذلك.

قولها (علیها السلام): «إذ يقول: «وورث سليمان داود»(6)»، فإن ظاهر الإرث هو المادي لا المعنوي، فلا يصح القول بأن المراد: أن سليمان (علیه السلام) ورث داود (علیه السلام) النبوة من دون قرينة، فإن الإرث المعنوي مجاز يحتاج للقرينة، ثم إنه غير

ص: 46


1- سورة النساء: 11.
2- سورة مريم: 5- 6.
3- سورة البقرة: 50.
4- سورة القمر: 41.
5- سورة آل عمران: 33.
6- سورة النمل: 16.

.............................

تام في المقام إذ كان سليمان (علیه السلام) نبياً زمن داود (علیه السلام)، قال تعالى: «ففهمناها سليمان وكلا آتيناحكماً وعلماً»(1).

وحيث كان من المحتمل أن يستشكل البعض بذلك بالنسبة إلى هذه الآية المباركة جاءت (عليها الصلاة والسلام) بآيات أخر تأكيداً لدفع الشبهة، وإن كانت تلك الآية بمفردها كافية إذ الشبهة واهية إلى أقصى درجة.

قولها (علیها السلام): «وقال - فيما اقتص من خبر زكريا - إذ قال: «فهب لي من لدنك ولياً * يرثني ويرث من آل يعقوب»(2) فإن المراد إرث الأموال دون النبوة، لأن النبوة لا تورث، مضافاً إلى أن الاستعمال الحقيقي للإرث هو في المال وما عداه مجاز وهو بحاجة إلى الدليل، هذا بالإضافة إلى استشهادها (علیها السلام) بالآية المباركة في خصوص إرث الأموال وهي الصديقة المعصومة وكلامها حجة.

عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «لم يكن لزكريا يومئذ ولد يقوم مقامه ويرثه وكانت هدايا بني إسرائيل ونذورهم للأحبار وكان زكريا رئيساً للأحبار وكانت امرأة زكريا أخت مريمبنت عمران بن ماثان، وبنو ماثان إذا ذاك رؤساء بني إسرائيل وبنو ملوكهم وهم من ولد سليمان بن داود فقال زكريا: «فهب لي من لدنك ولياً * يرثني ويرث من آل يعقوب»(3)»(4).

ص: 47


1- سورة الأنبياء: 79.
2- سورة مريم: 5- 6.
3- سورة مريم: 5- 6.
4- تفسير القمي: ج2 ص48 سورة مريم.

.............................

شبهة وإجابة

لا يقال: أية فضيلة لأن يطلب الإنسان من الله سبحانه وتعالى وارثاً في الماديات، فاللازم أن يراد بهذه الآية المعنويات؟

لأنه يقال:

أولاً: إن المقام من السالبة بانتفاء الموضوع.

وثانياً: الفضيلة هي امتداد ذرية الإنسان فلا يكون أبتر، والتناسل هو مما تدعو إليه الفطرة والعقل والشرع، وبه حفظ النوع وقوامه، إضافة إلى أن (الإرث) من أهم عوامل دوام وتماسك وتفاعل (الأسرة)، و(الأسرة) هي اللبنة الأساسية الأولى في تكوين المجتمعات الإنسانية، وبتحطمها أو ضعفها تتحطم أو تضعف المجتمعات وتتفكك الأسر، وهو من أهم أمراض الغرب كما تنبه إلى ذلك علماؤهم(1).

وعلى هذا فالإرث أيضاً فضيلة فإنه نابع عن مصلحة واقعية، وهو بعض جزاءالإنسان وهو نتيجة سعيه كما أوضحنا ذلك في (الفقه: الاقتصاد)(2) عند البحث عن الآية الشريفة «وأن ليس للإنسان إلا ما سعى»(3) بعقديها السلبي والإيجابي، وهو أيضاً من عوامل تداوم وتكامل العائلة، ولعل لذلك كان طلب

ص: 48


1- راجع كتاب (الغرب يتغير) و(الفقه: العولمة) للإمام المؤلف (رحمة الله).
2- راجع موسوعة الفقه: ج107 وج108 كتاب الاقتصاد.
3- سورة النجم: 39.

.............................

زكريا (علیه السلام) - وهو نبي في أقصى درجة من الحكمة والعلم - «فهب لي من لدنك ولياً * يرثني ويرث من آل يعقوب»(1).

قولها (علیها السلام): «وقال: «وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله»(2)» فإنها (علیها السلام) لما استدلت بالآيتين السابقتين في خصوص الأنبياء (علیهم السلام)، أخذت تستدل بالآيات العامة حيث تشملها (عليها الصلاة والسلام) أيضاً بعمومها.

والاستدلال بآيتي سليمان (علیه السلام) وزكريا (علیه السلام) أفادأيضاً الرد على ما زعموه من الحديث المجعول: (نحن نعاشر الأنبياء لا نورث وما تركناه صدقة) فهو معارض للقرآن بصراحة.

وقد قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إن على كل حق حقيقة وعلى كل صواب نوراً، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه»(3).

وعن الإمام الصادق (علیه السلام) عن أبيه (علیه السلام) قال: «قرأت في كتاب علي (علیه السلام) أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: سيُكذب عليّ كما كذب على من كان قبلي، فما جاءكم عني من حديث وافق كتاب الله فهو حديثي، وأما ما خالف كتاب الله فليس من حديثي»(4).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله

ص: 49


1- سورة مريم: 5- 6.
2- سورة الأنفال: 75.
3- الكافي: ج1 ص69 باب الأخذ بالسنّة وشواهد الكتاب ح1.
4- بحار الأنوار: ج2 ص227 ب29 ح5.

.............................

فردّوه»(1).

قولها (علیها السلام): «وقال: «يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين»(2)»، هذا في الأولاد وإلاّ فإن الأنثى قد ترث أكثر من الذكر، وقد ترث مساوياً للذكر، وقد ترث أقل من الذكر، والحكم في الآية عن الأولاد حيث قال سبحانه: «في أولادكم»(3) ومعهم ترث الأنثى نصف ما يرثه الذكر.

ولا بأس بالإشارة هنا إلى عموم القاعدة في الرجل والمرأة، فان الأحكام والتكاليف الإسلامية عامة للجميع، وبالتساوي - كما سبق - إلا في موارد الاستثناء، مثل: كون إرثها نصف الإرث في الجملة، وديتها نصف الدية كذلك، وشهادتها نصف الشهادة في بعض الموارد، وإلا فقد ذكرنا في «الفقه»: إن إرثها أحياناً أكثر من إرث الرجل، وديتها أكثر من دية الرجل، كما في قتل الرجل الذمي على المشهور في ديته، وشهادتها أكثر من شهادة الرجل كما في الوصية حيث إن الشاهدة الواحدة توجب ربع الوصية، وليس كذلكالرجل، على المشهور.

قولها (علیها السلام): «وقال: «إن ترك خيراً» الآية (4)»، المراد بالخير: (المال) كما في التفاسير وغيرها (5)،فإنه خير ومن هنا وردت روايات تدل على استحباب

ص: 50


1- وسائل الشيعة: ج27 ص118 ب9 ح33362.
2- سورة النساء: 11.
3- سورة النساء: 11.
4- سورة البقرة: 180.
5- انظر بحار الأنوار: ج69 ص32 ب94.

.............................

الغنى وكراهة الفقر.

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «نعم العون على تقوى الله الغنى»(1).

وقال (علیه السلام): «نعم المال الصالح للعبد الصالح ونعم العون الدنيا على الآخرة»(2).

وفي الحديث عن الإمام الصادق (علیه السلام): «مات عقبة بن عامر الجهني وترك خيراً كثيراً من أموال ومواش وعبيد..»(3).وفي الحديث: عن شعيب العقرقوفي قال قلت لأبي عبد الله (علیه السلام) شيء يروى عن أبي ذر (رحمة الله) أنه كان يقول: ثلاثة يبغضها الناس وأنا أحبها، أحب الموت وأحب الفقر وأحب البلاء، فقال (علیه السلام): «إن هذا ليس على ما يرون إنما عنى الموت في طاعة الله أحب إليّ من الحياة في معصية الله، والفقر في طاعة الله أحب إليّ من الغنى في معصية الله، والبلاء في طاعة الله أحب إليَّ من الصحة في معصية الله»(4) ومن هذا الحديث يعرف وجه الجمع بين روايات مدح الفقر وذمه.

أما حديث «أكثر أهل الجنة الفقراء» فقالوا هذا إخبار عن الواقع كما يقال أكثر أهل الدين الفقراء.

قال (علیه السلام): «الفقر هو الموت الأكبر»(5).

ص: 51


1- من لا يحضره الفقيه: ج3 ص156 باب المعايش والمكاسب ح3570.
2- بحار الأنوار:ج70 ص62 ب122 ح30.
3- بحار الأنوار: ج101 ص319 ب3 ح30.
4- معاني الأخبار: ص165 باب معنى قول أبي ذر (رحمة الله عليه)… ح1.
5- الاختصاص: ص226 حديث في زيارة المؤمن لله.

.............................

وفي وصية لقمان لابنه: «... ذقت المرارات كلها فلم أذق شيئاً أمر منالفقر»(1).

وقال (صلی الله علیه و آله): «ما أقبح الفقر بعد الغنى»(2).

وقال (صلی الله علیه و آله): «كاد الفقر أن يكون كفراً»(3).

وفي الدعاء عن الإمام الصادق (علیه السلام): «وأعوذ بك من الفقر والوقر»(4).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «القبر خير من الفقر»(5).

قوله تعالى: «حقاً على المتقين»(6) أي: حق على المؤمنين الذين يخافون الله ويعملون بأوامره أن يوصوا بتنفيذ أوامر الله سبحانه في الإرث بالنسبة إلى الوالدين والأقربين، كما قال تعالى في المطلقات: «وللمطلقات متاع بالمعروفحقاً على المتقين»(7).

و«الأقربين» وإن كان شاملاً للوالدين أيضاً، إلا أن ذكرهم من باب الأهمية في الآية المباركة ذكراً للعام بعد الخاص.

ولا يخفى أنه يستفاد من هذا المقطع من كلامها (علیها السلام) واستدلالاتها أحكام

ص: 52


1- الأمالي للصدوق: ص668-669 المجلس الخامس والتسعون ضمن ح5.
2- الكافي: ج2 ص84 باب العبادة ضمن ح6.
3- الكافي: ج2 ص307 باب الحسد ضمن ح4.
4- مكارم الأخلاق: ص280 ب10 ف2 دعاء في كل صباح ومساء.
5- مستدرك الوسائل: ج13 ص20 ب6 ح14617.
6- سورة البقرة: 180.
7- سورة البقرة: 241.

.............................

عديدة قد أشرنا إلى بعضها:

الأول: حرمة اتباع أحكام الجاهلية، قال تعالى: «أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ»(1).

الثاني: حرمة التفرقة بين مسلم ومسلم ممن يجعلهم الله سبحانه وتعالى تحت حكم عام، قال (علیه السلام): «الناس إلى آدم شرع سواء»(2).

الثالث: حرمة عدم العمل بأحكام القرآن حيث قالت (علیها السلام): (أفعلى عمد…) الخ، قال سبحانه: «ومنلم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون»(3).

الرابع: وجوب العمل بموازين الإرث كما قرره الله سبحانه وتعالى.

إلى غيرها من الأحكام.

ص: 53


1- سورة المائدة: 50.
2- أمالي الشيخ الصدوق: ص240 المجلس 42 ضمن ح9، وتحف العقول: ص217 باب ما روي عن أمير المؤمنين (علیه السلام).
3- سورة المائدة: 47.

وزعمتم: أن لا حظوة لي، ولا أرث من أبي.

اشارة

-------------------------------------------

وزعمتم: أن لا حظوة(1) لي، ولا أرث من أبي(2).

المطالبة بالإرث

مسائل: يجوز للمرأة المطالبة بإرثها، ويجوز لها «الجهر بالسوء من القول»(3) على من غصبها أرثها، لقوله تعالى:«إلا من ظلم»(4).

ويجوز لها تشكيل تجمع وقوى ضغط لاستحصال إرثها.

ويجوز لها كل ذلك دفاعاً عن غيرها ممن حرمن من الميراث.

والجواز هنا بالمعنى الأعم، إذ قد يجب ذلك إذا توقف حق واجب عليه، أو إذا كانت المعارضة مع محاولة إلغاء الحكم الإلهي بحقها في الإرث.

والوجوب في مورده، ليس خاصاً بالنساء، بل الرجال أيضاً كذلك، فإنه قسم من المطالبة بالحق الواجب، إرثاًأو غير إرث، امرأة أو رجلاً.

وفي الحديث: سئل (علیه السلام) عن رجل قبض صداق بنته من زوجها ثم مات، هل لها أن تطالب زوجها بصداقها، أو قبض أبيها قبضها؟

فقال (علیه السلام): «إن كانت وكلته بقبض صداقها من زوجها فليس لها أن تطالبه، وإن لم تكن وكلته فلها ذلك، ويرجع الزوج على ورثة أبيها بذلك، إلا

ص: 54


1- وفي بعض النسخ: (لا حظوة لي) أي المكانة والمنزلة، يقال حظيت المرأة عند زوجها: إذا دنت من قلبه، وفي بعض النسخ: (لاحظ لي).
2- وفي بعض النسخ: أبيه، والهاء للسكت.
3- سورة النساء: 148.
4- سورة النساء: 148.

.............................

أن تكون صبية في حجره فيجوز لأبيها أن يقبض عنها»(1).

حرمة القول بالباطل

مسألة: يحرم القول بعدم الحظوة لها (صلوات الله عليها).

كما يحرم مطلق القول بالباطل، والمقام من مصاديق ذلك وإن كانت الحرمة أشد فيه، قال (علیه السلام): «فأما الحكم بالباطل فهو كفر»(2).وقال (علیه السلام): «لا خير في الصمت عن الحكمة، كما أنه لا خير في القول بالباطل»(3).

ولعل ذكرها (الحظوة) حتى تشمل (النحلة) أيضاً كما أشرنا إلى ذلك فيما سبق.

ثم إن الحق والصواب هو في مدرسة أهل البيت (علیهم السلام) والباطل في غيرهم.

عن بدر بن الوليد الخثعمي قال: دخل يحيى بن سابور على أبي عبد الله(علیه السلام) ليودعه فقال له أبو عبد الله (علیه السلام) : «أما والله أنّكم لعلى الحق، وإن من خالفكم لعلى غير الحق، والله ما أشك لكم في الجنة، وإني لأرجو أن يقر الله لأعينكم عن قريب»(4).

ص: 55


1- فقه القرآن: ج1 ص390 باب الوكالة.
2- دعائم الإسلام: ج2 ص532 كتاب آداب القضاة ضمن ح1891.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: ص60 ف6 متفرقات ح643.
4- الكافي: ج8 ص145 حديث محاسبة النفس ح119.

.............................

وعن محمد بن مسلم عن أبي جعفر(علیه السلام) قال: «أما إنه ليس عند أحد من الناس حق ولا صواب إلا شيء أخذوه منا أهل البيت، ولا أحد منالناس يقضي بحق وعدل إلا ومفتاح ذلك القضاء وبابه وأوله وسننه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) فإذا اشتبهت عليهم الأمور كان الخطأ من قبلهم إذا أخطئوا والصواب من قبل علي بن أبي طالب (علیه السلام) إذا أصابوا»(1).

حرمة القول بعدم إرثها (علیها السلام)

مسألة: يحرم القول بعدم إرثها (صلوات الله عليها) من رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فإنه خلاف الكتاب والسنة والإجماع والعقل، نعم لا إجماع من العامة على ذلك، وإنما الإجماع من الشيعة، وهو كاف من جهة الكاشفية عن رأي المعصوم (علیه السلام)، ولمطابقته الكتاب والسنة والعقل، ولاحتفافه بالقرائن القطعية.

كما أن الأدلة الأربعة تدل على حرمة إبقاء فدك في أيدي غير المستحقين لها، وعلى ذلك فيلزم السعي لاستنقاذه منهم، إحقاقاً للحق وإرجاعاً له إلى أهله، وهو واجب كفائي، نعم ترك أمير المؤمنين (علیه السلام) فدك لما وليالناس لأمر أهم، مضافاً إلى كونه (علیه السلام) صاحب الحق وله ذلك، ففي الحديث عن محمد بن أبي عمير عن إبراهيم الكرخي قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) فقلت له: لأي علة ترك علي بن أبي طالب (علیه السلام) فدك لما ولي الناس؟

فقال (علیه السلام): «للاقتداء برسول الله (صلی الله علیه و آله) لما فتح مكة» حيث لم يسترجع

ص: 56


1- مستدرك الوسائل: ج17 ص283 ب7 ح21354.

.............................

داره، وقال (صلی الله علیه و آله): «إنا أهل بيت لا نسترجع شيئاُ يؤخذ منا ظلماً، فلذلك لم يسترجع فدك لما ولي»(1).

وفي حديث آخر: عن علي بن الحسن بن علي بن فضال عن أبيه، عن أبي الحسن (علیه السلام) قال: سألته عن أمير المؤمنين لمَ لم يسترجع فدكاً لما ولي الناس؟ فقال: «لأنا أهل بيت لا نأخذ حقوقنا ممن ظلمنا إلا هو(2) ونحنأولياء المؤمنين إنما نحكم لهم ونأخذ حقوقهم ممن ظلمهم ولا نأخذ لأنفسنا»(3).

وفي شرح النهج: «قلت لمتكلم من متكلمي الإمامية.. وهل كانت فدك إلاّ نخلاً يسيراً وعقاراً ليس بذلك الخطير؟ فقال لي: ليس الأمر كذلك، بل كانت جليلة جداً، وكان فيها من النخل نحو ما بالكوفة الآن من النخل، وما قصد أبو بكر وعمر بمنع فاطمة عنها إلا ألا يتقوى علي (علیه السلام) بحاصلها وغلتها على المنازعة في الخلافة، ولهذا اتبعا ذلك بمنع فاطمة وعلي (علیهما السلام) وسائر بني هاشم وبني المطلب حقهم في الخمس فإن الفقير الذي لا مال له تضعف همته»(4).

ص: 57


1- راجع علل الشرائع: ج1 ص155 ب124 ضمن ح2.
2- أي الله عزوجل، وفي بعض النسخ: لا يأخذ حقوقنا...
3- علل الشرائع: ج1 ص155 ب124 ح3.
4- شرح نهج البلاغة: ج16 ص236-237.

.............................

منع النساء من الإرث

مسألة: يحرم منع البنت من الإرث بل منع كل أنثى من حقها فيه، بل من حقها مطلقاً، وكذلك منع كل أحد من إرثه ومن حقه مطلقاً قال (علیه السلام): «لئلا يتوى حق امرئ مسلم»(1).

وقال (علیه السلام): «لا يصلح ذهاب حق امرئ مسلم»(2).

وقال (علیه السلام): «لا يبطل حق امرئ مسلم»(3).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «اليمين الغموس التي توجب النار: الرجل يحلف على حق امرئ مسلم على حبس ماله»(4).

وعن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «من حبس حق امرئ مسلم وهو يقدر علىأن يعطيه إياه، مخافة من أنه إن خرج ذلك الحق من يده أن يفتقر كان الله عزوجل أقدر على أن يفقره منه على أن يغني نفسه بحبسه ذلك الحق»(5).

وعن جابر بن يزيد الجعفي عن أبي جعفر الباقر (علیه السلام) عن آبائه (علیهم السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من كتم شهادة أو شهد بها ليهدر بها دم امرئ مسلم أو ليزوي مال امرئ مسلم أتى يوم القيامة ولوجهه ظلمة مد البصر، وفي

ص: 58


1- راجع غوالي اللآلي: ج1 ص315 ب1 المسلك الأول ضمن ح36.
2- تهذيب الأحكام: ج6 ص253 ب91 ضمن ح59.
3- وسائل الشيعة: ج29 ص89 ب35 ضمن ح35223.
4- الكافي: ج7 ص436 باب اليمين الكاذبة ح8.
5- من لا يحضره الفقيه: ج3 ص184 باب الدين والقرض ح3691.

.............................

وجهه كدوح يعرفه الخلائق باسمه ونسبه، ومن شهد شهادة حق ليحيى بها حق امرئ مسلم أتى يوم القيامة ولوجهه نور مد بصر، يعرفه الخلائق باسمه ونسبه» الحديث(1).

والمنع عن الإرث حكماً وموضوعاً، غير جائز شرعاً، فلا يجوز القول بذلك ولا العمل به، ولا يحق للدولة - ولا لأية جهة - أن تسن قانوناً تمنع بموجبه إرث الأرحام من بعضهم، كلاً أو جزءً، كمصادرةبعض الإرث باسم الضرائب، كما لا يحق لها سن قانون يلغي قاعدة حيازة المباحات أو يمنع وقف من يشاء لما يشاء من ممتلكاته وهكذا.

ثم إن الزيادة والنقيصة في الإرث محرم كذلك، قولاً وعملاً، وقد ذكرنا في (الفقه) أن الإرث حكم وليس حقاً، فلا يحق للمورّث أن يمنع إرثه عن الوارث، كما لا يحق للوارث أن لا يقبل الإرث حكماً، وإن جاز له أن يتركه بالإعراض موضوعاً، فان للإنسان أن يعرض عن ماله.

وقد ذكرنا في (الفقه)(2) أيضاً أن الإعراض مسقط للحق، كما أن حيازة المباحات بإثبات اليد عليها مثبت له.

قولها (علیها السلام): «وزعمتم أن لا حظوة لي». الحظوة عبارة عن: المكانة والمنزلة والحظ، وكأنها (عليها الصلاة والسلام) أرادت بذلك نفي قولهم: إن فدك ليس نحلة لها، أي: أنتم من تزعمون أن فدك ليست نحلة لي استناداً إلى عدم (حظوة) لي عنده (صلی الله علیه و آله).

ص: 59


1- الأمالي للشيخ الصدوق: ص482 المجلس 73 ح4.
2- راجع موسوعة الفقه، كتاب القواعد الفقهية، قاعدة (الإعراض والانعراض).

.............................

قولها (علیها السلام): (ولا أرث من أبي)، أي زعمتم أني لا أرث من أبي(صلی الله علیه و آله) فدكا؟

ففي هاتين الجملتين ردت (عليها الصلاة والسلام) كلا الدعويين حتى إذا لم يقبلوا الدعوى الأولى منهما وهي: النحلة بدعوى من الشهود وشبهها، فلا مناص من قبولهم الدعوى الثانية: بأنها إرث، إذ كانت فدك ملكاً خاصاً للرسول (صلی الله علیه و آله) دون شك فهو - إن لم يهبها في حياته للزهراء (علیها السلام) حسب زعمهم - فلابد أن تكون إرثاً لها بعد وفاته، فالقضية مانعة الخلو على الاصطلاح المنطقي.

وقد كان من الشوائب ومن مطباتها: أنهم هكذا نسبوا الحديث إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) بأنه قال: (نحن معاشر الأنبياء) ولو كان اختراعهم للحديث بهذه الصورة (أنا لا أورث) لكان يتسوغ ردهم بالآيات العامة فقط دون الآيات الخاصة بالأنبياء، اللهم إلا بضميمة قرينة، فزادوا على أنفسهم المشكلة وفتحوا المجال لورود كلا الإشكالين هنا.

المراحل السبعة

ومجمل الكلام: أن الصديقة الطاهرة (صلوات الله عليها) احتجت عليهم في قصة فدك بسبع مراحل أو أكثر:

1: مرحلة: النحلة.2: مرحلة: دعواهم أنه لا إرث للأنبياء (علیهم السلام).

3: مرحلة: عمومات الإرث الشاملة لها (علیها السلام).

ص: 60

.............................

4: مرحلة: الاعتراض باستبطان كلامهم - بأحد وجوهه - أنه لا رحم بينها وبين أبيها.

5: مرحلة: دعواهم أن أباها (صلوات الله عليه) خارج عن عمومات الإرث في القرآن الحكيم.

6: مرحلة: ما يعرف بالدلالة الالتزامية لكلامهم بكونهم أعلم من رسول الله (صلی الله علیه و آله) (1) يعني: أن أباها (صلی الله علیه و آله) لم يقل باستثناء نفسه الشريفة عن العمومات، لكنهم كانوا أعلم! ولهذا أخرجوا الرسول (صلی الله علیه و آله) عن عمومات القرآن.

7: مرحلة: استبطان كلامهم - بوجه آخر - : أنها (علیها السلام) ووالدها (صلی الله علیه و آله) من أهل ملتين لا يرث بعضهما من بعض.وكل ذلك مخالف للكتاب والتاريخ والقواعد الفقهية والعقل والإجماع، وقد ردت بحجج عقلية ومنطقية وقرآنية.

ص: 61


1- الفرق بين هذا وسابقه: أن هذا إشارة لمرحلة الإثبات وذاك لمرحلة الثبوت، أو أن ذاك هو الملزوم وهذا اللازم.

ولا رحم بيننا

اشارة

-------------------------------------------

نفي الرحم وإثباتها

مسألة: يحرم الاعتقاد بعدم الرحم بين الرسول (صلی الله علیه و آله) وابنته فاطمة الزهراء(علیها السلام)، كما يحرم نفي الرحم عن الرحم مطلقاً، ومن مصاديقه نفي رحمية السبط كما قال شاعرهم:

بنونا بنو أبنائنا، وبناتنا *** بنوهن أبناء الرجال الأباعد

كما أنه يحرم أيضاً إثبات الرحم لمن ليس له، وقد ورد اللعن لمن دخل في النسب أو خرج عن النسب.

وفي حديث الأصبغ عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: «أيها الناس إني رسول رسول الله إليكم وهو يقول لكم: ألا إن لعنة الله ولعنة ملائكته المقربين وأنبيائه المرسلين ولعنتي على من انتمى إلى غير أبيه، أو ادعى إلى غير مواليه...» الخبر(1).

وقال (صلی الله علیه و آله): «لعنالله من ادعى إلى غير أبيه، لعن الله من تولى غير مواليه، الولد لصاحب الفراش وللعاهر الحجر»(2).

وقال (صلی الله علیه و آله): «ألا من دعى إلى غير أبيه فقد برئ الله منه»(3).

ص: 62


1- راجع الأمالي للشيخ المفيد: ص351-352 المجلس 42 ضمن ح3.
2- كشف الغمة: ج1 ص395-396 فصل في ذكر مناقب شتى وأحاديث متفرقة.
3- راجع الصراط المستقيم: ج2 ص93 ف17 ضمن ح13.

.............................

وقال (صلی الله علیه و آله): «لعن الله من انتمى إلى غير أبيه»(1).

ثم إن الحرمة ثابتة وإن لم يترتب أثر على الإثبات والنفي.

ولا يخفى أنهم لم ينفوا انتساب الزهراء (علیها السلام) إلى أبيها (صلی الله علیه و آله) وما كان بمقدورهم ذلك، وإنما ذكرت الزهراء (صلوات

الله عليها) لإتمام صور الاحتمالات النافية للإرث، ومن المعلوم أن هذا من أساليب الحوار والبلاغة، وقد ورد في القرآن الكريم: «وإنّا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلالمبين»(2) بل ورد حتى ما هو مستحيل الوقوع «لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا»(3)، إذ القضية الشرطية صادقة حتى مع استحالة المقدم.

ص: 63


1- راجع العمدة: ص306 الفصل 36.
2- سورة سبأ: 24.
3- سورة الأنبياء: 22.

أفخصكم الله بآية أخرج أبي منها؟

اشارة

-------------------------------------------

تخصيص الآيات دون مخصص

مسألة: يحرم تخصيص الآيات من دون مخصص، وكذلك تعميم الآيات في قبال التخصيص الموجود بدعوى القياس أو كشف الملاك الظني غير المعتبر، وهكذا بالنسبة إلى الإطلاق والتقييد، فكل من الأربعة محرمة عملاً وقولاً، القول في الحكم والعمل في الموضوع الخارجي.

وما أكثر القول في هذه الأزمنة، بمخصصات للكتاب دون مخصص قرآني أو روائي، أو بمعممات له، أو حتى بنواسخ للكتاب! وذلك لمجرد استحسانات، أو تبعية لمد الحضارة الغربية، أو الأهواء النفسية، أو رغبات المستبدين من الحكام!.

وقد ورد عن زرارة قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن الحلال والحرام؟ فقال(علیه السلام): «حلال محمد (صلی الله علیه و آله) حلال أبداً إلى يوم القيامة، وحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة، لا يكون غيره ولايجيء غيره»(1).

وهذا غير تبدل الحكم بتبدل موضوعه كما لا يخفى. وتفصيل البحث في العام والخاص، والمطلق والمقيد وما أشبه في (الأصول).

قولها (علیها السلام): «أفخصكم الله بآية أخرج منها أبي؟» أي هل وردت آية خاصة بكم، أخرج الله بها أبي (صلی الله علیه و آله) من عموم أدلة الإرث؟

ص: 64


1- الكافي: ج1 ص58 باب البدع والرأي والمقاييس ح19.

أم هل تقولون أهل ملتين لا يتوارثان؟

اشارة

-------------------------------------------

وبعبارة أخرى: هل نزلت عليكم آية لا نعرفها في القرآن الكريم، بها قلتم بإخراج الرسول (صلی الله علیه و آله)؟

أم هل تقولون أهل ملتين لا يتوارثان؟

أحكام أهل ملتين

مسألة: يختلف حكم أهل ملتين عن أهل الملة الواحدة في الجملة، في الإرث وفي بعض الأحكام الأخر(1)، ويختلفحكمهما مطلقاً في البعض الآخر.

فإن الكافر لا يرث من المسلم، أما المسلم فهو يرث من الكافر، كما لايستبعد القول بإرث اليهودي من المسيحي، والمجوسي منهما، وهما من المجوسي، وما أشبه ذلك، إلا إذا حكّم قانون الإلزام في مورده، على تفصيل مذكور في (الفقه)(2).

قولها (علیها السلام): «أم هل تقولون أهل ملتين لا يتوارثان» المقصود في بعض الصغريات، لا الإطلاق، إذ ليس الكلام في مقام البيان من هذه الجهة كما هو واضح، فإن بعض أهل ملتين يتوارثان، فالمسلم يرث الكافر، دون العكس، كما هو مذكور في الفقه(3).

ص: 65


1- كالقصاص والدية والنكاح.
2- راجع موسوعة الفقه، كتاب القواعد الفقهية، قانون الإلزام.
3- راجع موسوعة الفقه: ج82 كتاب الإرث.

.............................

قال في (دعائم الإسلام): وعن جعفر بن محمد (علیه السلام) أنه قال: «المسلم يرث الكافر، والكافر لا يرث المسلم، والكفار يتوارثون بينهم ويرث بعضهم بعضا، فقيل له: فإن الناسيروون عن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه قال: «لا يتوارث أهل ملتين»، فقال أبو عبد الله (علیه السلام): «نرثهم ولا يرثوننا» قال: فجواب أبي عبد الله(علیه السلام) هذا هو تثبيت لقوله وما رواه الناس عن رسول الله (صلی الله علیه و آله)، لأن قوله (صلی الله علیه و آله) «ولا يتوارث أهل ملتين» ليس بخلاف لما قاله أبو عبد الله (علیه السلام) «نرثهم ولا يرثوننا» لأن قول رسول الله (صلی الله علیه و آله) لا يتوارث أهل ملتين معناه لا يرث هؤلاء هؤلاء وهؤلاء هؤلاء، وكذلك قال أبو عبد الله (علیه السلام) إنما يرث المسلم الكافر ولايرث الكافر المسلم، ومعنى يتوارث وتقديره في اللغة يتفاعل، ويتفاعل لايكون إلا من فاعلين، لا يقال ذلك إذا فعله واحد دون واحد، لأنه إذا ضرب رجل رجلاً قيل: ضرب فلان فلاناً ولا يقال تضاربا حتى يضرب كل واحد منهما صاحبه(1).

ص: 66


1- دعائم الإسلام: ج2 ص385 – 386 ف7 ح1369.

أو لست أنا وأبي من أهل ملة واحدة؟

اشارة

-------------------------------------------

مما يحرم الاعتقاد به

مسألة: يحرم الاعتقاد بأن الزهراء (سلام الله عليها) ليست مع الرسول(صلی الله علیه و آله) من ملة واحدة.. أو أنها (علیها السلام) لا تحذو حذوه (صلی الله علیه و آله) في كلي أو جزئي، أو أنها (علیها السلام) تقول بخلاف قوله (صلی الله علیه و آله) في أمر اعتقادي أو حكم فرعي، ومنه المقام.

وقد ذكرنا في البحث الآنف أنهم لم يقولوا بذلك، وإنما أرادت الزهراء (علیها السلام) أن تحصرهم في أطراف (منع الخلو) حتى تثبت عليهم الحجة أكثر فأكثر.

إضافة إلى أن هذا الكلام يتضمن التهويل عليهم، وإيضاح أن إنكارهم إرثها (علیها السلام) منه (صلی الله علیه و آله) في قوة إنكار بديهي من أوضح البديهيات، وهو: كونها (علیها السلام) وإياه (صلی الله علیه و آله) من أهل ملة واحدة.فلا مجال إذن لتلك الشبهة(1).

ص: 67


1- أي شبهة عدم الإرث.

أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي؟

اشارة

-------------------------------------------

لا اجتهاد مقابل النص

مسائل: يحرم الاجتهاد في مقابل النص، كما يحرم الاجتهاد في مقابل الظاهر الذي قال المعصوم (علیه السلام) بأن المراد به كذا - فإن مآل ذلك إلى النص - والمقام من هذا القبيل(1).

كما يحرم الاجتهاد في قبال المبهم أو المجمل الذي أوضح المعصوم (علیه السلام) المراد به فإنهما بلحاظه مبيّن.

قال تعالى: «وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً»(2).

وقال سبحانه: «وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللهِوَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ»(3).

وقد ورد في تفسير هذه الآية المباركة قوله (علیه السلام): «يختار الله الإمام وليس لهم أن يختاروا»(4).

ص: 68


1- فإن عمومات الإرث مصداق الظاهر، لكنها (علیها السلام) صرحت بأن الآية باقية على عمومها فأضحت العمومات بذلك نصاً.
2- سورة الأحزاب: 36.
3- سورة القصص: 68.
4- تفسير القمي: ج2 ص143 سورة القصص.

.............................

وفي الحديث أن أنس قال: سألت رسول الله (صلی الله علیه و آله) عن معنى قوله: «وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ» فقال: «إن الله عزوجل خلق آدم من طين كيف شاء، ثم قال: «وَيَخْتَارُ» إن الله تعالى اختارني وأهل بيتي على جميع الخلق فانتجبنا فجعلني الرسول وجعل علي بن أبي طالب (علیه السلام) الوصي، ثم قال: «مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ» يعني ما جعلت للعباد أن يختاروا ولكني اختار من أشاء، فأنا وأهل بيتي صفوته وخيرته من خلقه، ثم قال: «سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ» يعني الله منزه عما يشركون به كفار مكة، ثم قال: «وَرَبُّكَ يَعْلَمُ» يعني يا محمد «مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ» من بغض المنافقين لك ولأهل بيتك «وما يعلنون» بألسنتهم من الحبلك ولأهل بيتك»(1).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) في حديث قال: «والله لنحبكم أن تقولوا إذا قلنا، وتصمتوا إذا صمتنا، ونحن فيما بينكم وبين الله عزوجل، ما جعل الله لأحد خيراً في خلاف أمرنا»(2).

وعن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «كلُّ شيء لم يخرج من هذا البيت فهو باطل»(3).

ص: 69


1- الطرائف: ص97 ما نزل من الآيات في شأن علي (علیه السلام) ح136.
2- وسائل الشيعة: ج27 ص127 ب10 ح33391.
3- مستدرك الوسائل: ج17 ص282 ب7 ح21353.

.............................

الاجتهاد وموارده

مسألة: وفيما عدا ذلك فإن الظواهر مما يمكن اختلاف الاجتهاد فيها بشروطه، وذلك جائز، بل يجب أحياناً، كما في الاجتهادات الفقهية المختلفة، سواء كان الحكم مستفاداً من الكتاب، أم السنة، أم الإجماع، أم العقل، مما يجدها المتتبع في المباحث الفقهية.

قال (علیه السلام): «علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع»(1).

وقال (علیه السلام): «فأما من كان من الفقهاء، صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً على هواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه»(2).

وقال (علیه السلام): «وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله»(3).

وقال (علیه السلام) في حديث طويلفي رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث؛ قال: «ينظران إلى من كان منكم ممّن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً، فإني قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنما استخف بحكم الله وعلينا ردّ، والراد علينا الراد على الله وهو على حد الشرك بالله»(4).

ص: 70


1- وسائل الشيعة: ج27 ص62 ب ح33202.
2- وسائل الشيعة: ج27 ص131 ب10 ضمن ح33401.
3- الاحتجاج: ج2 ص470 احتجاج الحجة القائم المنتظر المهدي (علیه السلام).
4- الكافي: ج1 ص67 باب اختلاف الحديث ضمن ح10.

.............................

معاني الأعلمية

مسألة: (للأعلمية) هنا عدة معان:

1: الأعلم بمعنى الأكثر علماً والأوسع معرفة.

2: الأعلم بمعنى الأعمق علماً أو الأشد علماً، فإن العلم حقيقة تشكيكية ذات مراتب.

والمعنى الأول بلحاظ الكم، وهذا بلحاظ الكيف.

3: الأعلم بمعنى الأنفذ علماً، أي يستخدم الأعلم ويراد به العلم المنتج والنافذ والمثمر، أي العلم الذي يرتب عليه أثره، وقد قال بعض المفسرين بأن المراد من: «الله أعلم حيث يجعل رسالته»(1) هو هذا المعنى فعلمه نافذ، أي علم فجعل.

وقولها (علیها السلام): «أم أنتم أعلم…» يشمل المعنى الأول والثاني، فان رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعلياً أمير المؤمنين (علیه السلام) أعلم من سائر الناس كيفاً وكماً، أما الأنفذيةفإنه وإن كان الأمر بحيث لو أرادا لنفذ إلا أنه لا تلازم بين علمهما ونفوذه، وذلك لأنه مقتضى دار الامتحان، قال تعالى: «إنما أنت مذكر * لست عليهم بمصيطر»(2)، وعلمهم (علیهم السلام) في قصة فدك وأنها ملكها (علیها السلام) من ذلك المقام.

ص: 71


1- سورة الأنعام: 124.
2- سورة الغاشية: 21 - 22.

.............................

الأعلم بالقرآن

مسألة: يجب الاعتقاد بأن الرسول (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب(علیه السلام) وأهل البيت المعصومين (علیهم السلام) أعلم الناس بالقرآن، وذلك من الواضحات، وقد دلت عليه الروايات المتواترة عند الفريقين.

فعن أبي سعيد الخدري، قال: سألت رسول الله (صلی الله علیه و آله) عن قول الله جل شأنه: «قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ»(1) قال: «ذاك وصي أخي سليمان بن داود».فقلت له: يا رسول الله فقول الله عزوجل: «قل كَفَى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ»(2)؟

قال (صلی الله علیه و آله): «ذاك أخي علي بن أبي طالب (علیه السلام)»(3).

وقال أبو عبد الله (علیه السلام): «إنا أهل بيت عندنا معاقل العلم وآثار النبوة وعلم الكتاب وفصل ما بين الناس»(4).

وقال الإمام الحسين (علیه السلام): «نحن الذين عندنا علم الكتاب»(5).

ص: 72


1- سورة النمل: 40.
2- سورة الرعد: 43.
3- الأمالي للشيخ الصدوق: ص564-565 المجلس 83 ح3.
4- الاختصاص: ص309 حديث في زيارة المؤمن لله.
5- المناقب: ج4 ص52 فصل في معجزاته (علیه السلام).

.............................

وجاء في زيارة أمير المؤمنين (علیه السلام): «السلام عليك يا من عنده علم الكتاب»(1).

شمولية أعلميتهما (علیهما السلام)

مسألة: أعلميتهما (علیهما السلام) بخصوص القرآن وعمومه في كلامها (علیها السلام) تشمل: العلم بوجود العام ووجود الخاص في الكتاب، والعلم بوجود العام فيه والخاص في غيره، والعكس، والعلم بعدم أحدهما، والمقام من قبيل الرابع(2).

وقد قال الإمام الصادق (علیه السلام): «كان علي صاحب حلال وحرام وعلم بالقرآن ونحن على منهاجه»(3).

وقال (علیه السلام): «إن الله فرض طاعتنا في كتابه.. ولنا كرائم القرآن.. إن الله أعلمنا علماً لا يعلمه أحد غيره، وعلماً قد أعلمه ملائكته ورسله، فما علمته ملائكته ورسله فنحن نعلمه»(4).وقال (علیه السلام): «إن الله علّم نبيه (صلی الله علیه و آله) التنزيل والتأويل فعلمه رسول الله (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام)»(5).

ص: 73


1- الإقبال: ص609 فصل زيارة مولانا أمير المؤمنين (علیه السلام) عند ضريحه الشريف.
2- فالعام - وهو إرث الأبناء من الآباء، أنبياء كانوا أم لا - موجود في الكتاب، ولا يوجد مخصص له، لا في الكتاب ولا في غيره.
3- تفسير العياشي: ج1 ص15 علم الأئمة بالتأويل ح5.
4- تفسير العياشي: ج1 ص16 علم الأئمة بالتأويل ح7.
5- مستدرك الوسائل: ج17 ص334 ب13 ح21512.

.............................

أهل البيت (علیهم السلام) هم المرجع

مسألة: يجب تقديم قول أهل البيت (علیهم السلام) في تفسير القرآن وسائر الأحكام على قول غيرهم، فإن القرآن نزل في بيوتهم، وهم الأعلم كما في صريح الروايات الواردة عن الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله)، وهم (أهل الذكر) الذين أمر (الذكر) بسؤالهم(1)، وقد قال (علیه السلام): «نحن أهل الذكر»(2)، وهم (أولوا الأمر) الذين قال فيهم تعالى: «ولو ردوه إلى الرسول والى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم»(3).

كما يجب تقديم قولهم (علیهم السلام) مطلقاً في كل المجالات لعصمتهم (علیهم السلام).

فإن أقوال غيرهم - في تفسيرالقرآن - في مقابل أقوالهم (علیهم السلام) كالحجر في جنب الإنسان، وكالسراب في قبال عين الحياة، بل لا يجوز لغيرهم تفسير القرآن برأيهم.

قال أبو عبد الله (علیه السلام) لرجل من أهل الكوفة وسأله عن شيء: «لو لقيتك بالمدينة لأريتك أثر جبرئيل في دورنا ونزوله على جدي بالوحي والقرآن والعلم، فيستسقي الناس العلم من عندنا، فيهدونهم»(4).

ص: 74


1- قال تعالى: «فسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون». سورة النحل: 43، وسورة الأنبياء: 7.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: ص532 المجلس 79.
3- سورة النساء: 83.
4- تفسير العياشي: ج1 ص16 علم الأئمة بالتأويل ح9.

.............................

وعن الإمام الرضا (علیه السلام) عن آبائه (علیهم السلام) عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: «قال الله جل جلاله: ما آمن بي من فسر برأيه كلامي، وما عرفني من شبهني بخلقي، وما على ديني من استعمل القياس في ديني»(1).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «من فسر القرآن برأيه فأصاب لم يؤجرفإن أخطأ كان إثمه عليه»(2).

وقال (صلی الله علیه و آله): «من فسر القرآن برأيه فقد افترى على الله كذباً، ومن أفتى الناس بغير علم لعنته ملائكة السماء والأرض، وكل بدعة ضلالة سبيلها إلى النار، قال عبد الرحمن بن سمرة: فقلت يا رسول الله أرشدني إلى النجاة، فقال(صلی الله علیه و آله): يا ابن سمرة إذا اختلفت الأهواء وتفرقت الآراء فعليك بعلي بن أبي طالب فإنه إمام أمتي وخليفتي عليهم من بعدي، وهو الفاروق الذي يميز به بين الحق والباطل، من سأله أجابه، ومن استرشده أرشده، ومن طلب الحق عنده وجده، ومن التمس الهدى لديه صادفه، ومن لجأ إليه آمنه، ومن استمسك به نجا، ومن اهتدى به هداه...، يا ابن سمرة إن علياً مني، روحه من روحي وطينته من طينتي، وهو أخي وأنا أخوه، وهو زوج ابنتي فاطمة سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، وإن منه إماما أمتي وسيدا شباب أهل الجنة الحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين تاسعهم قائمهم يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراًوظلماً»(3).

ص: 75


1- عيون أخبار الرضا (علیه السلام): ج1 ص116 ب11 ح4، والتوحيد: ص68 ب2 ح23.
2- جامع الأخبار: ص49 الفصل الثالث والعشرون في القراءة.
3- التحصين لابن طاووس: ص625-626 ب22.

.............................

قولها (علیها السلام): «أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي»؟.

إنما ذكرت أمير المؤمنين علياً (علیه السلام) بعد أبيها (صلی الله علیه و آله) لأن أعلمية الإمام (علیه السلام) كانت ثابتة حتى عندهم، حيث قال (صلی الله علیه و آله): «أقضاكم علي»(1).

وقال: «أعلمكم علي»(2).

وقال: «علي مع الحق والحق مع علي»(3).

إلى عشرات من أمثال هذه التصريحاتمن الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله).

بالإضافة إلى قول أمير المؤمنين علي (عليه الصلاة والسلام): «علمني رسول الله ألف باب من العلم يفتح لي من كل باب ألف ألف باب»(4)، كما في بعض

ص: 76


1- الفضائل: ص138 في ذكر اللوح المحفوظ الذي نزل به جبرئيل على النبي (صلی الله علیه و آله)، والفصول المختارة: ص135، والاحتجاج: ج2 ص391 احتجاج أبي إبراهيم موسى بن جعفر (علیه السلام)، ونهج الحق: ص236 من فضائله النفسانية، الأول الإيمان.
2- الصراط المستقيم: ج1 ص230، الفصل العشرون.
3- الخصال: ج2 ص559 احتجاج أمير المؤمنين (علیه السلام) بمثل هذه الخصال على الناس يوم الشورى.
4- وفي كشف الغمة: ج1 ص412 قال أمير المؤمنين علي (علیه السلام) لحارث الهمداني: «ألا إني عبد الله وأخو رسوله وصديقه الأول، صدقته وآدم (علیه السلام) بين الروح والجسد، ثم إني صديقه الأول في أمتكم حقاً فنحن الأولون ونحن الآخرون، ألا وأنا خاصته يا حار، وخالصته وصنوه ووصيه ووليه وصاحب نجواه وسره، أوتيت فهم الكتاب وفصل الخطاب وعلم القرون والأسباب، واستودعت ألف مفتاح، يفتح من كل مفتاح ألف باب، يفضي كل باب إلى ألف ألف عهد..» الحديث، ومثله في تأويل الآيات الظاهرة: ص626 سورة الواقعة، وإرشاد القلوب: ج2 ص297 في فضائله من طريق أهل البيت (علیهم السلام)، وبشارة المصطفى: ص4 بشارة المصطفى لشيعة المرتضى.

.............................

الأحاديث. وإن كان المشهور: «كل باب منها يفتح ألف باب فذلك ألف ألف باب»(1).

ولا تعارض إذ العدد لا مفهوم له،وإثبات الشيء لا ينفي ما عداه، إضافة إلى وضوح أن ذلك على سبيل المثال فلا يراد بالعدد الحصر بل الكثرة، وليس (الألف ألف) بحاصر، ولا مبالغة فيه، فإن ذلك هو مقتضى الأدلة العقلية والنقلية، منها قوله (صلی الله علیه و آله): «أنا مدينة العلم وعلي بابها»(2) بلحاظ الإطلاق المعضود بالأدلة القطعية.

والعلوم لا تعد ولا تحصى والواضح أن «فوق كل ذي علم عليم»(3) حتى بالنسبة إلى النبي (صلی الله علیه و آله) نفسه، كما يحكيه القرآن: «وقل رب زدني علماً»(4)، على سبيل اللامتناهي اللايقفي.

ص: 77


1- راجع الخصال: ج2 ص643 علم رسول الله (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) ألف باب يفتح كل باب ألف باب ضمن ح22.
2- راجع الأمالي للشيخ الصدوق: ص345 المجلس 55، والتوحيد: ص307 ب43، والصراط المستقيم: ج1 ص144 ب6 ف8.
3- سورة يوسف: 76.
4- سورة طه: 114.

فدونكها مخطومة مرحولة

اشارة

-------------------------------------------

تهديد الظالم

مسألة: تهديد الظالم وإنذاره واجب في الجملة، للآيات والروايات والعقل، وهذا ما صنعته الصديقة الطاهرة (عليها السلام) في مواطن شتى من الخطبة الشريفة، ومنها هذا المقطع: «فدونكها..» وهو تهديد، أي خذها، مثل قول تعالى: «اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ»(1).

قال سبحانه: «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ»(2).

وقال تعالى: «وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ»(3).

وقال سبحانه: «فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ»(4).

وقال تعالى: «فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنْ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ»(5).

ص: 78


1- سورة فصلت: 40.
2- سورة الجاثية: 27.
3- سورة الزخرف: 39.
4- سورة هود: 39.
5- سورة الأعراف: 162.

........................

وقال سبحانه: «وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ»(1).

وقال تعالى: «وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ»(2).

وقال عزوجل: «وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً»(3).

وقال سبحانه: «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ»(4).

وقال تعالى: «وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ»(5).

وقال تعالى: «وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً»(6).

وروى الشيخ الصدوق (رحمة الله) في كتاب (ثواب الأعمال وعقاب الأعمال) في باب عقاب من ظلم:

عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عزوجل: «إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ»(7)

ص: 79


1- سورة البقرة: 165.
2- سورة الأعراف: 165.
3- سورة الكهف: 59.
4- سورة الشعراء: 227.
5- سورة إبراهيم: 42.
6- سورة الكهف: 29.
7- سورة الفجر: 14.

........................

قال: «قنطرة على الصراط لا يجوزها عبد بمظلمة»(1).

وقال الإمام الباقر (عليه السلام): «من ارتكب أحداً بظلم بعث الله عزوجل عليه من يظلمه بمثله أو على ولده أو على عقبه من بعده»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «من عذر ظالماً بظلمه سلّط الله عليه من يظلمه، فإن دعا لم يستجب له ولم يأجره الله على ظلامته»(3).

وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إن في جهنم لجبلاً يقال له الصعداء، وإن في الصعداء لوادياً يقال له سقر، وإن في سقر لجبّاً يقال له هبهب، كلما كشف غطاء ذلك الجب، ضج أهل النار من حره، ذلك منازل الجبارين»(4).

قولها (عليها السلام): «فدونكها مخطومة مرحولة» الضمير يعود لفدك، لأن فدك تستعمل مؤنثاً ومذكراً كأسامي البلدان مطلقاً، مثلاً: العراق وإيران ومصر والباكستان، فانها قد تؤنث وقد تذكر، كما أن طهران وبغداد وكراچي وما أشبه قد تؤنث وقد تذكر.

ومخطومة: من الخطام - بالكسر - وهو الحبل الذي يوضع في أنف البعير ليقاد به، حيث إنه يسهل قياد البعير بسبب ذلك الحبل الذي في أنفه.

والرحل في الناقة: كالسرج للفرس، ورحل البعير.. كمنع، بمعنى: شد على ظهره الرحل، فقد شبهت (عليها الصلاة والسلام) فدك في كونها تحت تصرف

ص: 80


1- ثواب الأعمال: ص272 عقاب من ظلم.
2- بحار الأنوار: ج72 ص313 ب79 ح23.
3- الكافي: ج2 ص334 باب الظلم ح18.
4- وسائل الشيعة: ج15 ص381 ب59 ح20806.

........................

غاصبي الخلافة بحيث لا يعارضهم في أخذها أحد، بالناقة المنقادة المهيأة للركوب.

فقولها (عليها السلام): «دونكها مخطومة مرحولة» تشير إلى إخبار غيبي بالذي سيحدث، وأن غصب فدك سوف لا يواجه بمقاومة ومعارضة قوية، بل إنه سيسيطر عليها كما يسيطر الراكب على الجمل المخطومة المرحولة، وهذا الإخبار المستقبلي قد تحقق كما لا يخفى.

ص: 81

تلقاك يوم حشرك

اشارة

-------------------------------------------

جزاء هذه المظلمة

مسألة: هل يستفاد من (تلقاك يوم حشرك…) أن جزاء هذه المظلمة لايكون - بكامله - في الدنيا، عند الظهور، وبعد إحيائهما؟

وجهان:

من أن إثبات الشيء لا ينفي ما عداه، والكلام ليس في مقام البيان من هذه الجهة.

ومن ظهور الكلام وعدم الدليل على جزاء كل عمل في الدنيا، بل الدليل على العدم، قال تعالى: «ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «يؤتى يوم القيامة بإبليس مع مضل هذه الأمة في زمامين غلظمها مثل جبل أحد فيسحبان على وجوههما فينسد بهما باب من أبواب النار»(2).

وعن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله عزوجل: «وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ»(3) قال: من زعم أنه إمام وليس بإمام»(4).

ص: 82


1- سورة النجم: 41.
2- ثواب الأعمال: ص208 عقاب الناصب والجاحد لأمير المؤمنين (عليه السلام).
3- سورة الزمر: 60.
4- عقاب الإعمال: ص214 عقاب من ادعى الإمامة وليس بإمام.

........................

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «من ادعى الإمامة وليس من أهلها فهو كافر»(1).

وعن يونس بن ظبيان قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «يا يونس من حبس حق المؤمن، أقامه الله عزوجل يوم القيامة خمسمائة عام على رجليه حتى يسيل عرقه أو دمه، وينادي مناد من عند الله هذا الظالم الذي حبس عن الله حقه فيوبّخ أربعين يوماً ثم يؤمر به إلى النار»(2).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «إن في جهنم رحى تطحن خمسا أفلا تسألون ما طحنها؟ فقيل له: فما طحنها يا أمير المؤمنين؟ قال: العلماء الفجرة، والقراء الفسقة، والجبابرة الظلمة، والوزراء الخونة، والعرفاء الكذبة، وإن في النار لمدينة يقال لها الحصينة، أفلا تسألوني ما فيها؟ فقيل: وما فيها يا أمير المؤمنين؟ فقال: فيها أيدي الناكثين»(3).

ص: 83


1- الكافي: ج1 ص372 باب من أدعى الإمامة وليس لها بأهل ح2.
2- وسائل الشيعة: ج16 ص388 ب39 ح21837.
3- الخصال: ج1 ص296 في جهنم رحى تطحن خمسة ح65.

........................

تجسم الأعمال

مسألة: يستفاد من قولها (عليها السلام): (تلقاك) تجسم الأعمال، إذ المجاز خلاف الأصل، ومع الإمكان الثبوتي والظهور الإثباتي لا مجال للعدول عن الظاهر، والأدلة على تجسم الأعمال كثيرة، ومنها:

قوله سبحانه: «يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمْ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ»(1) فما تجده هو نفس «مَا عَمِلَتْ» وهذا غير آثاره أو جزائه وتفصيل الكلام في محله.

قال تعالى: «فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»(2).

وقال سبحانه: «الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»(3).

وقال تعالى: «ومَا تُجْزَوْنَ إِلاّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»(4).

وقال سبحانه: «هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»(5).

وقال تعالى: «يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ

ص: 84


1- سورة آل عمران: 30.
2- سورة يس: 54.
3- سورة الجاثية: 28.
4- سور الصافات: 39.
5- سورة النمل: 90.

........................

وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون» (1).قولها (عليها السلام): «تلقاك يوم حشرك» بمعنى أن فدك تلقى غاصبها يوم الحشر بمظلمتها، فإن كل إنسان سرق من أحد شيئاً أو نهب أو ظلم أحداً يأتي يوم القيامة مع تلك الظلامة، كما في الأحاديث(2).

قال رسول الله (صلي الله عليه و آْله): «من خان جاره شبراً من الأرض جعله الله طوقاً في عنقه من تخوم الأرض السابعة حتى يلقى الله يوم القيامة مطوقا إلا أن يتوب ويرجع»(3).

وإنما خصت يوم الحشر بالذكر مع أن الآثار تكون في القبر أيضاً، لأن يوم الحشر هو يوم «الْجَزَاءَ الأَوْفَى»(4) مضافاً إلى اجتماع كل الخلائق وكل الناس ومعرفتهم المحق من المبطل، بينما في القبر لا يستكشف لجميع الناس عمل الإنسان عادة، وقد ذكرنا في بعض المواطن: أن الإنسان يرى عمل نفسه - أثراً وثمراً أو جزاءً - في أربعة مواضع أو أكثر، كلياً أو جزئياً: في دنياه وتاريخياً، في نفسه وسمعته وامتداده(5)، وفي قبره، وفي حشره، وفي المرحلة الأخيرة من الجنة أو النار «إن خيراً فخير أو شراً فشر»(6).

ص: 85


1- سورة العنكبوت: 55.
2- راجع كتاب (ثواب الأعمال وعقاب الأعمال).
3- وسائل الشيعة: ج25 ص386 ب1 ح32188.
4- سورة النجم: 41.
5- الظاهر أن المراد ب- (الامتداد): الذرية وشبهها.
6- تفسير القمي: ج1 ص224 سورة الأعراف، وتأويل الآيات: ص135 سورة النساء.

........................

عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «في كتاب علي (عليه السلام): ثلاث خصال لا يموت صاحبهن أبداً حتى يرى وبالهن..» الحديث(1).

حكم نهي المعاند

مسألة: يستحب - وقد يجب - تنبيه الخصم والظالم بيوم الحشر والقيامة والعذاب الأليم وإن كان عالماً بكل ذلك، لكن هل يستحب إن كان معانداً لا يرجى ارتداعه؟

ذكروا أن من شرائط الأمر المعروف والنهي عن المنكر احتمال التأثير، لكن هل هذا شرط الوجوب أو شرط مطلق الرجحان؟ قد يستظهر الأول لكن لزوم اللغوية قد يقتضي الثاني، فتأمل.

ولعل ما هو من قبيل «مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ»(2) وما قام به الأنبياء (عليهم السلام) وسيد الشهداء (عليه السلام) وغيرها يقتضي الرجحان، ويؤيد هذا ما سيأتي منها (صلوات الله عليها) حيث تقول: «ألا وقد قلت ما قلت على معرفة مني بالخذلة التي خامرتكم، والغدرة التي استشعرتها قلوبكم، ولكنها فيضة النفس… وتقدمة الحجة».

وما سبق من (وقد يجب) فيما إذا توقف واجب عليه، سواء كان واجباً

ص: 86


1- ثواب الأعمال: ص220 عقاب البغي وقطيعة الرحم، والخصال: ج1 ص124 ثلاث خصال لا يموت صاحبهن حتى يرى وبالهن ح119.
2- سورة الأعراف: 164، وتمام الآية: «وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُون».

........................

إيجابياً كما في موارد الأمر بالمعروف، أم واجباً سلبياً كما في موارد النهي عن المنكر، وهذا ليس خاصاً بتنبيه الخصم والظالم، بل يعم كل موارد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما لا يخفى.

قولها (عليها السلام): «تلقاك يوم حشرك» قد يكون إشارة إلى الحشر الخاص مضافاً إلى الحشر العام، قال تعالى: «وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ»(1).

وقال سبحانه: «يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً»(2).

وقال عزوجل: «وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ»(3).

ص: 87


1- سورة فصلت: 19.
2- سورة طه: 102.
3- سورة النمل: 83.

فنعم الحكم الله

اشارة

-------------------------------------------

الله الحاكم

مسألة: (الحَكَم) بقول مطلق هو الله عزوجل، لأنه العالم المطلق، والقادر المطلق، والعادل المطلق، وهو الذي يعلم بكل خصوصيات وشرائط وظروف المتخاصمين، وبكل خصوصيات الدعوى وتشابكاتها، وبالحكم الدقيق لكل صورة من الصور، وهو الذي يقدر على الفصل والبت في الخصومة، وعلى إرجاع الأمر إلى نصابه، وذلك هو مقتضى عدله، ولذلك كله كان عزوجل (نعم الحَكَم) كما قالت (عليها السلام)، ولأن الله سبحانه وتعالى لا تضيع عنده مظلمة لأحد ولو بمقدار مثقال ذرة، كما قال سبحانه: «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ»(1).

وقال تعالى: «اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ»(2).

وقال سبحانه: «إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ»(3).

وقال تعالى: «ذَلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ»(4).

ص: 88


1- سورة الزلزلة: 7 - 8.
2- سورة الحج: 69.
3- سورة الزمر: 3.
4- سورة الممتحنة: 10.

........................

وقال سبحانه: «وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِيَخْتَلِفُونَ»(1).

وقال تعالى: «فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ»(2).

وفي الحديث: «قال إعرابي: يا رسول الله من يحاسب الخلق يوم القيامة؟ قال (صلي الله عليه و آْله): الله عزوجل»(3).

وقد سُئل أمير المؤمنين (عليه السلام): كيف يحاسب الله الخلق على كثرتهم في حالة واحدة؟ فقال: «كما يرزقهم على كثرتهم في حالة واحدة»(4).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «اتقوا معاصي الله في الخلوات فإن الشاهد هو الحاكم»(5).

وقال (عليه السلام): «اتقوا معاصي الخلوات فإن الشاهد هو الحاكم»(6)

ص: 89


1- سورة النحل: 124.
2- سورة الأعراف: 87.
3- راجع تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: ج1 ص9.
4- متشابه القرآن: ج2 ص110.
5- وسائل الشيعة: ج15 ص239 ب19 ح20378.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: ص185 ح3518 ذم معصية الله.

........................

التنبيه بحَكَمية الله وزعامة النبي (صلي الله عليه و آْله)

مسألة: يستحب تنبيه الخصم والظالم بأن الله هو الحَكَم والزعيم هو محمد (صلي الله عليه و آْله)، وقد يجب ذلك، كما ذكرناه في البحث الآنف.

عن أبي سعيد قال: قال النبي (صلي الله عليه و آْله): «من كنت وليه فعلي وليه، ومن كنت إمامه فعلي إمامه، ومن كنت أميره فعلي أميره، ومن كنت نذيره فعلي نذيره، ومن كنت هاديه فعلي هاديه، ومن كنت وسيلته إلى الله تعالى فعلي وسيلته إلى الله عزوجل، فالله سبحانه يحكم بينه وبين عدوه»(1).

وقد ورد عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: قال النبي (صلي الله عليه و آْله): «تحشر ابنتي فاطمة (عليها السلام) يوم القيامة ومعها ثياب مصبوغة بالدماء، تتعلق بقائمة من قوائم العرش تقول: يا أحكم الحاكمين، أحكم بيني وبين قاتل ولدي، قال علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال رسول الله (صلي الله عليه و آْله): ويحكم لابنتي فاطمة ورب الكعبة»(2).

ومعنى أن الله هو الحَكَم أي أنه يحكم بين عباده بالعدل كما هو ضروري، ومقتضى الفطرة السليمة، وقد دل على ذلك القرآن الكريم إذ قال عزوجل:«ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ»(3).

ص: 90


1- معاني الأخبار: ص66 باب معنى قول النبي (صلي الله عليه و آْله): من كنت مولاه فعلي مولاه.
2- عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج2 ص8-9 ب30 ح21.
3- سورة البقرة: 281، سورة آل عمران: 161.

........................

وقال تعالى: «وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ»(1).

وقال سبحانه: «يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ»(2).

والسنة المطهرة، والإجماع من كافة المسلمين، والعقل.

التوكل على الله

مسألة: يستحب إيكال الأمر إلى الله والاعتماد عليه قلباً وقولاً وقالباً، كما قالت (عليها السلام):«فنعم الحَكَم الله» حيث قد أوكلت أمرها إليه سبحانه وتعالى. ومن معاني توكيل الأمر إلى الله سبحانه وتعالى: أن الإنسان يعمل ما بوسعه ويكل ما لا يقدر عليه بنفسه إلى الله عزوجل، مثلاً: الزارع عليه أن ينجز كل ما يتمكن من عمله من الحرث والزرع وتعهد الزرع بالسقاية والرعاية والمحافظة، أما ما هو خارج عن قدرته من الإنبات ونمو الزرع والبركة، ومن الطوارئ كبرد شديد مفاجئ أو حر كذلك أو آفة غير مترقبة أو جراد مهاجم من حيث لا يحتسب وشبه ذلك، فإن عليه أن يكله إلى الله تعالى.

وهذا بين واجب ومستحب، كل في مورده، ولذا قال النبي (صلي الله عليه و آْله): «اعقل وتوكل»(3)

ص: 91


1- سورة النحل: 111.
2- سورة آل عمران: 30.
3- غوالي اللآلي: ج1 ص75 الفصل الرابع ح149، وفي الأمالي للشيخ المفيد: ص172-173 المجلس22 ح1: «اعقل راحلتك وتوكل».

........................

أما توكيل الأمر كله إلى الله بأن لا يأتي الإنسان بالأسباب الظاهرية، أو عكسه بأن يعتقد أن كل الأعمال من الإنسان نفسه وليس شيء مرتبطاً بالله سبحانه وتعالى كما قالت اليهود «يد الله مغلولة»(1)، فكلاهما خارج عن موازين العقل والشرع، والسيدة الزهراء (عليها السلام) أوكلت الأمر إلى الله مع قيامها بالدفاع والذب وإتمام الحجة وما أشبه.

قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه): «الإيمان له أركان أربعة: التوكل على الله وتفويض الأمر إلى الله والرضا بقضاء الله والتسليم لأمر الله عزوجل»(2).

وعن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «ليس شيء إلا وله حد».

قلت: جعلت فداك فما حد التوكل؟

قال: «اليقين».

قلت: فما حد اليقين؟

قال: «ألا تخاف مع الله شيئا»(3).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إن الغنى والعز يجولان فإذا ظفرا بموضع التوكل أوطناه»(4).وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «من أعطي ثلاثا لم يمنع ثلاثا، من أعطي الدعاء أعطي الإجابة، ومن أعطي الشكر أعطي الزيادة، ومن أعطي التوكل

ص: 92


1- سورة المائدة: 64.
2- الكافي: ج2 ص47 باب خصال المؤمن ح2.
3- وسائل الشيعة: ج15 ص202 ب7 ح20279.
4- مستدرك الوسائل: ج11 ص216 ب11 ح12782.

........................

أعطي الكفاية» ثم قال: «أتلوت كتاب الله عزوجل «ومن يتوكل على الله فهو حسبه»(1) وقال: «لئن شكرتم لأزيدنكم»(2) وقال: «ادعوني أستجب لكم»(3)،»(4).

وقال لقمان لابنه: «يا بني إن الدنيا بحر عميق وقد هلك فيها عالم كثير فاجعل سفينتك فيها الإيمان بالله واجعل شراعها التوكل على الله واجعل زادك فيها تقوى الله عزوجل فإن نجوت فبرحمة الله وإن هلكت فبذنوبك»(5).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «خصلة من عمل بها كان من أقوى الناس» قيل: وما هي يا أمير المؤمنين؟ قال: «التوكل على الله عزوجل»(6).

وقال أمير المؤمنين علي (عليه السلام): «التوكل من قوةاليقين»(7).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «أقوى الناس إيمانا أكثرهم توكلا على الله سبحانه»(8).

وقال (عليه السلام): «في التوكل حقيقة الإيقان»(9).

ص: 93


1- سورة الطلاق: 3.
2- سورة إبراهيم: 7.
3- سورة غافر: 60.
4- الكافي: ج2 ص65 باب التفويض إلى الله والتوكل عليه ح6.
5- من لا يحضره الفقيه: ج2 ص282 باب الزاد في السفر ح2457.
6- معدن الجواهر: ص22 باب ما جاء في واحد.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: ص196 منشأ التوكل وحقيقته ح3848.
8- غرر الحكم ودرر الكلم: ص196 منشأ التوكل وحقيقته ح3850.
9- غرر الحكم ودرر الكلم: ص196 منشأ التوكل وحقيقته ح3853.

........................

وقال (عليه السلام): «من وثق بالله توكل عليه»(1).

وقال (عليه السلام): «التوكل خير عماد»(2).

وقال (عليه السلام): «التوكل حصن الحكمة»(3).

وقال (عليه السلام): «التوكل أفضل عمل»(4).

وقال (عليه السلام): «صلاح العبادة التوكل»(5).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «ينبغي لمن رضي بقضاء الله سبحانه أن يتوكل عليه»(6).وقال (عليه السلام): «التوكل كفاية»(7).

وقال (عليه السلام): «كل متوكل مكفي»(8).

وقال (عليه السلام): «من توكل على الله عزوجل كفي»(9).

وقال (عليه السلام): «أصل قوة القلب التوكل على الله»(10).

ص: 94


1- غرر الحكم ودرر الكلم: ص196 منشأ التوكل وحقيقته ح3854.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: ص196 منشأ التوكل وحقيقته ح3855.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: ص196 أهمية التوكل وفضيلته ح3856.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: ص196 أهمية التوكل وفضيلته ح3857.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: ص196 أهمية التوكل وفضيلته ح3858
6- غرر الحكم ودرر الكلم: ص196 أهمية التوكل وفضيلته ح3860.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: ص196 من توكل كفي ح3866.
8- غرر الحكم ودرر الكلم: ص196 من توكل كفي ح3869.
9- بشارة المصطفى: ص96 بشارة المصطفى لشيعة المرتضى.
10- غرر الحكم ودرر الكلم: ص196 آثار التوكل ح3879.

........................

وقال (عليه السلام): «من توكل على الله تسهلت له الصعاب»(1).

وقال (عليه السلام): «من توكل على الله أضاءت له الشبهات وكفي المؤنات وأمن التبعات»(2).

وقال (عليه السلام): «من توكل على الله ذلت له الصعاب وتسهلت عليه الأسباب وتبوأ الخفض والكرامة»(3).

بين الحق وتوحيد الكلمة

مسألة: لا يصح منع المحق من الجهر بالحق، أو منع المظلوم من طرح ظلامته بدعوى (الوحدة وتوحيد الكلمة) أو (الانفتاح) أو ماأشبه، إذ «الحق أحق أن يتبع»(4) وللعقل والنقل المتواتر، ومنه أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإرشاد الجاهل وتنبيه الغافل وغير ذلك، وتفصيل البحث في كتاب القضاء وغيره، حيث يجب على القاضي أن يستمع إلى الدعوى ثم يحكم بالعدل بحيث يعطي الحق لصاحبه.

وهذا ما صنعته السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) بمواقفها وعملها وأقوالها وخطبها، ومنها هذه الخطبة، وهذا المقطع «وعند الساعة يخسرون المبطلون ولاينفعكم إذ تندمون…»(5).

ص: 95


1- غرر الحكم ودرر الكلم: ص196 آثار التوكل ح3886.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: ص196 آثار التوكل ح3887.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: ص196 آثار التوكل ح3888.
4- سورة يونس: 35.
5- إشارة إلى قوله تعالى: «يوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون» سورة الجاثية: 27.

........................

ولذلك كله يجب وجوباً كفائياً بيان أن خصوم الزهراء (عليها السلام) هم من المبطلين وسيخسرون عند قيام الساعة.

وفي الحديث: إن أمير المؤمنين (عليه السلام) دخل يوما إلى مسجد الكوفة من الباب القبلي، فاستقبله نفر فيهم فتى حدث يبكي والقوم يسكتونه، فوقف عليهم أمير المؤمنين وقال للفتى: ما يبكيك؟

فقال: يا أمير المؤمنين إن أبي خرج مع هؤلاء النفر في سفر لتجارة فرجعوا ولم يرجع أبي، فسألتهم عنه فقالوا: مات، وسألتهم عن ماله؟ فقالوا: لم يخلف مالا، فقدمتهم إلى شريح فلم يقض لي عليهم بشيء غير اليمين، وأنا أعلم يا أمير المؤمنين أن أبي كان معه مال كثير.

فقال لهم أمير المؤمنين: ارجعوا فردهم معه ووقف على شريح فقال: ما يقول هذا الفتى يا شريح؟

فقال شريح: يا أمير المؤمنين إن هذا الفتى ادعى على هؤلاء القوم دعوى فسألته البينة فلم يحضر أحدا، فاستحلفتهم له.فقال أمير المؤمنين: هيهات يا شريح ليس هكذا يحكم في هذا.

فقال شريح: فكيف أحكم يا أمير المؤمنين فيه؟

فقال علي: أنا أحكم فيه ولأحكمن اليوم فيه بحكم ما حكم به أحد بعد داود النبي (عليه السلام)، ثم جلس في مجلس القضاء ودعا بعبد الله بن أبي رافع وكان كاتبه وأمره أن يحضر صحيفة ودواة، ثم أمر بالقوم أن يفرقوا في نواحي المسجد ويجلس كل رجل منهم إلى سارية وأقام مع كل واحد منهم رجلا وأمر بأن تغطى رؤوسهم وقال لمن حوله: إذا سمعتموني كبرت فكبروا.

ص: 96

........................

ثم دعا برجل منهم فكشف عن وجهه ونظر إليه وتأمله وقال: أتظنون أني لا أعلم ما صنعتم بأبي هذا الفتى، إني إذا لجاهل، ثم أقبل عليه فسأله؟

فقال: مات يا أمير المؤمنين.

فسأله عن كيف كان مرضه وكم مرض وأين مرض وعن أسبابه في مرضه كلها وحين احتضر ومن تولى تغميضه ومن غسله وما كفن فيه ومن حمله ومن صلى عليه ومن دفنه، فلما فرغ من السؤال رفع صوته: الحبس الحبس، فكبر وكبر من كان معه.

فارتاب القوم ولم يشكوا أن صاحبهم قد أقر.

ثم دعا برجل آخر فقال له مثل ما قال للأول.

فقال: يا أمير المؤمنين إنما كنت واحدا من القوم وقد كنت كارها للقتل وأقر بالقتل.

ثم دعاهم واحدا واحدا من القوم، فأقروا أجمعون ما خلا الأول وأقروا بالمال جميعا وردوه وألزمهم ما يجب من القصاص.

فقال شريح: يا أمير المؤمنين كيف كان حكم داود (عليه السلام) في مثل هذا الذي أخذته عنه؟

فقال علي (عليه السلام): مر داود (عليه السلام) بغلمان يلعبون وفيهم غلام منهم ينادونه: يا مات الدين، فيجيبهم.فوقف عليهم داود (عليه السلام) فقال: يا غلام ما اسمك؟

فقال: مات الدين.

قال: ومن سماك بهذا الاسم؟ قال: أمي.

ص: 97

........................

قال: أين أمك؟

قال: في بيتها.

قال: امض بين يدي إليها.

فمضى الغلام فاستخرج أمه، فقال لها داود: هذا ابنك؟

قالت: نعم.

قال: ما اسمه؟

قالت: مات الدين.

قال: ومن سماه بهذا الاسم؟

قالت: أبوه.

قال: وأين أبوه؟

قالت: خرج مع قوم في سفر لهم لتجارة فرجعوا ولم يرجع، فسألتهم عنه فقالوا: مات، وسألتهم عن ماله، فقالوا: مات وذهب ماله، فقلت: هل أوصاكم في أمري بشيء؟ فقالوا: نعم أوصانا وأعلمنا أنك حبلى فمهما ولدت من ولد فسميه مات الدين.

قال: وأين هؤلاء القوم؟

قالت: حضور.

قال: امضي معي إليهم.

فجمعهم وفعل في أمرهم مثل هذا الذي فعلته، وحكم بما حكمت وقال للمرأة: سمي ابنك (عاش الدين)(1).

ص: 98


1- دعائم الإسلام: ج2 ص404-406 ف2 ذكر القصاص ح1418.

والزعيم محمد (صلي الله عليه و آْله) والموعد القيامة

اشارة

-------------------------------------------

دور الرسول (صلي الله عليه و آْله) في الآخرة

مسألة: ينبغي بيان أن الزعيم محمد (صلي الله عليه و آْله)، ومعنى ذلك أنه (صلي الله عليه و آْله) هو الضامن لبيان أحكام الله تعالى، والمنفذ لها في الدنيا وفي الآخرة، فهو الذي له الزعامة من قبل الله في يوم القيامة، فان أمور الآخرة أيضاً بنيت على الوسائط والمنفذين كما ورد بالنسبة إلى الملائكة، والأنبياء والمرسلين (عليهم السلام)، والأئمة المعصومين (عليهم السلام)، والشهداء والصالحين والولدان المخلدين وغير ذلك.

وكلي المطلب أن الرسول (صلي الله عليه و آْله) هو أفضل الخلائق على الإطلاق، وهو مرسَل لكل الخلائق على الإطلاق - إنساً وجنا وملكاً وما نعلم وما لا نعلم - وهو عين الله ويده في كل العوالم على الإطلاق، ومن المصاديق عالم الآخرة، يليه في كل ذلك مباشرة أمير المؤمنين ومولى الموحدين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) إذ هو نفس رسول الله (صلي الله عليه و آْله) بنص الآية الشريفة: «وأنفسنا وأنفسكم»(1) ولعشرات الأدلة الأخرى.

قال رسول الله (صلي الله عليه و آْله) في حديث: «وجعل اسمي في القرآن محمدا فأنا محمود في جميع القيامة، في فصل القضاء، لا يشفع أحد غيري، وسماني في القيامة حاشرا يحشر الناس على قدمي، وسماني الموقف أوقف الناس بين يدي الله جل جلاله»(2)

ص: 99


1- سورة آل عمران: 61.
2- الخصال: ج2 ص425 باب العشرة أسماء النبي (صلي الله عليه و آْله) عشرة، ضمن ح1.

........................

وقال رسول الله (صلي الله عليه و آْله) لعلي بن أبي طالب (عليه السلام): «إذا كان يوم القيامة يؤتى بك يا علي على نجيب من نور وعلى رأسك تاج قد أضاء نوره وكاد يخطف أبصار أهل الموقف، فيأتي النداء من عند الله جل جلاله: أين خليفة محمد رسول الله؟ فتقول: ها أنا ذا، قال: فينادي المنادي: يا علي أدخل من أحبك الجنة، ومن عاداك النار، فأنت قسيم الجنة وأنت قسيم النار»(1).

وقال رسول الله (صلي الله عليه و آْله): «إذا كان يوم القيامة أتاني جبرئيل وبيده لواء الحمد وهو سبعون شقة، الشقة منه أوسع من الشمس والقمر، فيدفعه إلي فآخذه وأدفعه إلى علي بن أبي طالب».

فقال رجل: يا رسول الله وكيف يطيق علي على حمل اللواء وقد ذكرت أنه سبعون شقة الشقة منه أوسع من الشمس والقمر؟

فغضب رسول الله (صلي الله عليه و آْله) ثم قال: «يا رجل إنه إذا كان يوم القيامة أعطى الله عليا من القوة مثل قوة جبرئيل، ومن الجمال مثل جمال يوسف، ومن الحلم مثل حلم رضوان، ومن الصوت ما يداني صوت داود، ولولا أن داود خطيب في الجنان لأعطي علي مثل صوته، وإن عليا أول من يشرب من السلسبيل والزنجبيل، وإن لعلي وشيعته من الله عزوجل مقاما يغبطه به الأولون والآخرون»(2).

ص: 100


1- الأمالي للصدوق: ص361 المجلس 57 ح14.
2- بحار الأنوار: ج8 ص2-3 ب18 ضمن ح2.

........................

وفي بعض النسخ: (والغريم)، والمراد: طالب الحق، يعني أنك - يا ابن أبي قحافة - تقابل رسول الله (صلي الله عليه و آْله) في يوم القيامة ويطالبك بما فعلت، لأنك أخذت حقه إذ قال (صلي الله عليه و آْله): «من آذاها فقد آذاني»(1) ولأنك عصيت أمره وخالفت قراره حيث منحني فدك فغصبتها.

قولها (عليها السلام): «والموعد القيامة» أي أن الميعاد بيننا وبينك يوم القيامة، حيث نلتقي هناك ونتخاصم بين يدي الله سبحانه وتعالى وبحضور الرسول (صلي الله عليه و آْله) بل وبحضور الأشهاد كافة، فإن الناس في يوم القيامة حيث تكون أبصارهم حديداً يرون من مسافات بعيدة هذا الموقف والملايين من أمثال هذه المواقف، قال تعالى: «فبصرك اليوم حديد»(2).

ص: 101


1- غوالي اللآلي: ج4 ص93 الجملة الثانية في الأحاديث ح131.
2- سورة ق: 22.

وعند الساعة يخسر المبطلون

اشارة

-------------------------------------------

درجات النهي عن المنكر

مسألة: النهي عن المنكر بالقلب وباللسان وبسائر الجوارح له درجات، ولا ينتقل للأشد إلا مع عدم كفاية الأضعف في الجملة، كما لا يكتفى بالأضعف مع القدرة على الأشد والحاجة إليه وعدم كفاية الأدنى منه.

وهي (صلوات الله عليها) حيث تعذر عليها النهي عن المنكر الجوارحي (كاليد مثلاً) في مورد كان يقتضيه حيث لم يرتدع القوم بدونه، اكتفيت بالنهي القولي، مضافاً إلى القلبي، وحيث أمكن لها الأشد من مراتبه قامت به وكان منه هذه الجمل هاهنا: «وعند الساعة يخسر المبطلون…».

قال المحقق (رحمة الله): «ومراتب الإنكار ثلاث: بالقلب وهو يجب وجوباً مطلقاً، وباللسان، وباليد، ويجب دفع المنكر بالقلب أولاً، كما إذا عرف أن فاعله ينزجر بإظهار الكراهة، وكذا إن عرف أن ذلك لا يكفي وعرف الاكتفاء بضرب من الإعراض والهجر وجب واقتصر عليه.

ولو عرف أن ذلك لا يرفعه انتقل إلى الإنكار باللسان مرتباً للأيسر من القول فالأيسر.

ولو لم يرتفع إلا باليد، مثل الضرب وما شابهه جاز ولو افتقر إلى الجراح أو القتل هل يجب؟ قيل نعم، وقيل لا إلا بإذن الإمام (عليه السلام) وهو الأظهر»(1).

ص: 102


1- شرائع الإسلام: ج1 ص268 كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ط10 بيروت مركز الرسول الأعظم .

........................

وقد ورد عن الإمام الرضا (عليه السلام): «إذا ترك امرئ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فليأذن بوقاع من الله جل اسمه»(1).

وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «ويل لقوم لا يدينون الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»(2).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «غاية الدين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»(3).

وقال (عليه السلام): «من نهى عن المنكر أرغم أنوف الفاسقين»(4).

وقال (عليه السلام): «إذا رأى أحدكم المنكر ولم يستطع أن ينكره بيده ولسانه وأنكره بقلبه وعلم الله صدق ذلك منه فقد أنكره»(5).

وقال (عليه السلام): «... فمنهم المنكر للمنكر بقلبه ولسانه ويده فذلك المستكمل لخصال الخير، ومنهم المنكر بلسانه وقلبه التارك بيده فذلك متمسك بخصلتين من خصال الخير ومضيع خصلة، ومنهم المنكر بقلبه والتارك بيده ولسانه فذلك الذي ضيّعأشرف الخصلتين من الثلاث وتمسك بواحدة، ومنهم تارك لإنكار المنكر بلسانه وقلبه ويده فذلك ميت الأحياء»(6).

ص: 103


1- ثواب الأعمال: ص255-256 عقاب من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
2- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: ج2 ص123.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: ص332 ح7638 الفصل الثاني في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
4- مستدرك الوسائل: ج12 ص207 ب9 ضمن ح13895.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: ص332 ح7649 الفصل الثاني في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
6- وسائل الشيعة: ج16 ص134 ب3 ح21170.

........................

قولها (عليها السلام): «وعند الساعة يخسر المبطلون»، فإن المبطل وإن كان يخسر في الدنيا أيضاً، ويخسر في القبر وفي عالم البرزخ، إلا أن الخسارة الكبرى في الحشر وعند قيام الساعة وذلك بحضور الناس والأشهاد وهي أمضّ، حيث إن في الدنيا الحق والباطل مختلطان كثيراً ما، وفي القبر لا يرى الخسارة إلا نفس الإنسان وبعض الملائكة، وربما بعض البشر، إضافة إلى أن في الدنيا والقبر خسارة جزئية ونسبية وبعض العقاب، أما في الساعة فتظهر الخسارة الكبرى وأمام كل الناس، أو يقال: إن الساعة هي (الموعد الأصلي) للمستقبل النهائي، وبها تحديد المصير والحشر إلى جهنم وبئس المهاد، فكان الأنسب النسبة إليها دون جهنم، فتأمل.

أما ما سبقها في البرزخ وقبله فهو مجرد رشحات ونماذج.

وفي بعض النسخ: (وعند الساعة ما تخسرون)، وعليه تكون (ما) مصدرية أي (في القيامة خسرانكم)، ويحتمل كون (ما) موصولة والفعل محذوف اكتفاء بالدال عليه، أي (وعند الساعة تجدون أو تشاهدون الذي تخسرونه) وهو مشير إلى تجسم الأعمال أيضاً.

ولعلها (صلوات الله عليها) أشارت إلى قوله سبحانه في سورة الزمر: «قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين * لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون»(1).

وقوله تعالى في سورة الشورى: ]وَتَرَى

الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُاالْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ * وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ

ص: 104


1- الزمر: الآية: 15- 16.

........................

يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ ءامَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ»(1).

وفي تفسير هذه الآية روى علي بن إبراهيم القميS: ««وترى الظالمين» آل محمد حقهم «لما رأوا العذاب» وعلي (عليه السلام) هو العذاب في هذا الوجه «يقولون هل إلى مرد من سبيل» فنوالي علياً (عليه السلام) «وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل» لعلي (عليه السلام) «ينظرون» إلى علي «من طرف خفي وقال الذين آمنوا» يعني آل محمد وشيعتهم «إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا إنّ الظالمين» آل محمد حقهم «في عذاب مقيم» قال (عليه السلام): والله يعني النصاب الذين نصبوا العداوة لعلي وذريته (عليهم السلام)»(2).

ولعل المراد من (الساعة) في قولها (عليها السلام): أعم من المحشر والنار كما ربما يكون ظاهر الآية المباركة. والخلاصة: لقد حددت (صلوات الله عليها) في هذه الجمل القصيرة كافة ما يرتبط بالقضية: فالحَكَم هو الله جل وعلا، والقاضي والزعيم هو رسوله (صلي الله عليه و آْله)، ومكان القضاء وزمانه هو يوم القيامة، إذ (الموعد) مصدر ميمي يأتي للمكان والزمان، والنتيجة هي (وعند الساعة يخسر المبطلون) والخاسر هو ابن أبي قحافة وحزبه، ورد فعلهم سيكون الندم، والجزاء الإلهي هو «فسوف تعلمون من يأتيهعذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم»(3).

ص: 105


1- سورة الشورى: 44-45.
2- تفسير القمي: ج2 ص278 سورة الشورى.
3- سورة هود: 39، والزمر: 39-40.

ولا ينفعكم إذ تندمون

اشارة

-------------------------------------------

بين الدنيا والآخرة

مسألة: الدنيا دار عمل وجزاء في الجملة، وليست دار حساب كذلك، أما الآخرة فهي دار حساب وجزاء(1) دون عمل، ولذلك قالت (عليها السلام): «ولا ينفعكم إذ تندمون»، وقد ورد في الحديث: «اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل»(2).

وقال رسول الله (صلي الله عليه و آْله): «الدنيا مزرعة الآخرة»(3).

نعم دل الدليل شرعاً وعقلاً على أن الله تعالى يمتحن في الآخرة عباده القاصرين الذين لم تبلغهم الحجة اللازمة في الدنيا، فتكون الآخرة محل عمل في الجملة(4)، كما أن الدنيا مكان حساب وجزاء في الجملة، كما يفصح عن ذلك إقرار الشارع تشريعاً والتحقق في الجملة تكويناً للحدود والديات والقصاص والمعاملات وما أشبه

ص: 106


1- من الواضح الفرق بين الحساب والجزاء، فان الحساب هو المحاسبة و(المحاكمة)، والجزاء هو ما يترتب على الحساب من العقوبة أو المثوبة.
2- راجع الأمالي للشيخ المفيد: ص207-208 المجلس 23 ضمن ح41.
3- راجع تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: ج1 ص183 بيان ما يحمد من الجاه، وغوالي اللآلي: ج1 ص267 ف10 ح66.
4- ورد في بعض الروايات أن الله تعالى يأمرهم بالدخول في نار مضرمة فمن أطاع امتثالاً لأمره تعالى حول الله النار عليه برداً وسلاماً وكان من أهل الجنة، ومن عصى دخل النار، ويستفاد من بعض الروايات أن الامتحان في يوم القيامة هو أمرهم بولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) فمن قبلها كان من أهل الجنة ومن لم يقبلها فمن أهل النار.

........................

وفي الحديث قال الإمام الرضا (عليه السلام): «ما من فعل فعله العباد من خير وشر إلا ولله فيه القضاء، قال الراوي: فما معنى هذا القضاء؟ قال (عليه السلام): الحكم عليهم بما يستحقونه على أفعالهم من الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة»(1).

وأوحى الله عزوجل لموسى (عليه السلام): «إن الدنيا دار عقوبة عاقبت فيها آدم عند خطيئته»(2).

وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «في كتاب علي (عليه السلام) ثلاث خصال لا يموت صاحبهن أبداً حتى يرى وبالهن: البغي وقطيعة الرحم واليمين الكاذبة يبارز الله بها»(3).

وعن أبي عبد الله قال (عليه السلام): «إن في كتاب علي (عليه السلام) أن آكل مال اليتامى ظلماً سيدركه وبال ذلك في عقبه من بعده في الدنيا، فإن الله عزوجل يقول: «وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً»(4).

وأما في الآخرة فإن الله عزوجل يقول: «إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً»(5)»(6)

ص: 107


1- متشابه القرآن: ج1 ص193، والاحتجاج: ج2 ص414 احتجاج أبي الحسن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) في التوحيد والعدل وغيرهما.
2- راجع ثواب الأعمال: ص222 في أن الدنيا دار عقوبة.
3- راجع الكافي: ج2 ص347 باب قطيعة الرحم ضمن ح4.
4- سورة النساء: 9.
5- سورة النساء: 10.
6- ثواب الأعمال: ص233 عقاب آكل مال اليتيم.

........................

وعن أبي عبد الله (عليه السلام): «ما من مؤمن يخذل مؤمناً أخاه وهو يقدر على نصرته إلا خذله الله في الدنيا والآخرة»(1).

هل الندم نافع

مسألة: لا تقبل التوبة والندم في يوم القيامة، بل يجب التوبة بشرائطها في دار الدنيا، قال عزوجل: «وَلَيْسَت التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أوْلَئِكَ أعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً ألِيماً»(2).

وقال سبحانه وتعالى لفرعون: «ءالآن وقد عصيت قبلُ وكنت من المفسدين»(3).

أما من احتمل أن أهل النار لو تابوا إلى الله لتاب عليهم فخلاف ظاهر الآيات والروايات، ولا يجمع مع قولها (عليها السلام) «ولا ينفعكم إذ تندمون» مضافاً إلى أنه لو سُلّم صحة الكبرى فيرد عليه:

أولاً: إن الندم أعم من التوبة، إذ رب نادم غير مصمم على الترك بل عازم عليه، كما في قوله تعالى:«ولو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه»(4).

وكما يشعر به قوله تعالى: «إنها كلمة هو قائلها»(5).

ص: 108


1- ثواب الأعمال: ص238 عقاب من خذل مؤمناً.
2- سورة النساء: 18.
3- سورة يونس: 91.
4- سورة الأنعام: 28.
5- سورة المؤمنون: 100.

........................

وكما قال ابن أبي قحافة في مرضه: «ليتني كنت تركت بيت فاطمة لم أكشفه»(1).

وكما قال: «ليتني في ظلة بني ساعدة ضربت يدي على أحد الرجلين فكان هو الأمير وكنت الوزير، عنى عمر وأبا عبيدة»(2).

وكما قال: (ليتني كنت بعرة) أو (شعرة)(3)

ص: 109


1- انظر الصراط المستقيم: ج2 ص301.
2- انظر الصراط المستقيم: ج2 ص301.
3- انظر (مصنف ابن أبي شيبة): ج7 ص91 ح34432 ط: مكتبة الرشد، الرياض عام 1409ه-، وفيه: (حدثنا أبو معاوية عن جويبر عن الضحاك قال: رأى أبو بكر الصديق طيرا واقعا على شجرة فقال: طوبى لك يا طير، والله لوددت أني كنت مثلك تقع على الشجرة وتأكل من الثمر ثم تطير وليس عليك نجاسة ولا عذاب، والله لوددت أني كنت شجرة إلى جانب الطريق مر علي جمل فأخذني فأدخلني فاه فلاكني ثم ازدردني ثم أخرجني بعرا ولم أكن بشرا). وفي كتاب (شعب الإيمان) لأبي بكر البيهقي: ج1 ص485 ح786 ط: دار الكتب العلمية بيروت عام 1410ه-: (عن الحسن قال: أبصر أبو بكر طائرا على شجرة فقال: طوبى لك يا طير تأكل الثمر وتقع على الشجر لوددت أني ثمرة ينقرها الطير). وقال في الحديث 787 عن جويبر عن الضحاك قال: مر أبو بكر على طير قد وقع على شجرة فقال: طوبى لك يا طير تطير فتقع على الشجر ثم تأكل من الثمر ثم تطير ليس عليك نجاسة ولا عذاب يا ليتني كنت مثلك والله لوددت أني كنت شجرة إلى جانت الطريق فمر علي بعير فأخذني فأدخلني فاه فلاكني ثم إزدردني ثم أخرجني بعرا ولم أكن بشرا). وقال في الحديث 788: (عن يعقوب بن زيد وعمر بن عبد الله مولى غفرة قالا: نظر أبو بكر إلى طير حين وقع على الشجر فقال ما أنعمك يا طير تأكل وتشرب وليس عليك نجاسة وتطير يا ليتني كنت مثلك). وفي كتاب (الزهد) لهناد: ج1 ص258 باب من قال ليتني لم أخلق ح449 ط: دار الخلفاء للكتاب الإسلامي الكويت،عام 1406ه-: (حدثنا أبو معاوية عن جويبر عن الضحاك قال: مر أبو بكر بطير وعشرون على شجرة فقال طوبى لك يا طير تقع على الشجر وتأكل الثمر ثم تطير وليس عليك نجاسة ولا عذاب يا ليتني كنت مثلك والله لوددت أن الله خلقني شجرة إلى جانب الطريق فمر بي بعير فأخذني فأدخلني فاه فلاكني ثم ازدردني ثم أخرجني بعرا ولم أك بشرا). وفي كتاب (صفوة الصفوة) ج1 ص251 ط: دار المعرفة بيروت عام 1399ه-: ( قال أبو بكر: يا ليتني شجرة تعضد ثم تؤكل) وفيه أيضا: (قال أبو بكر: لوددت أني شعرة في جنب مؤمن). وفي كتاب (الرياض النضرة) للطبري: ج2 ص137 ط: دار الغرب الإسلامي بيروت عام 1996م: (عن الحسن قال: كان أبو بكر يقول: يا ليتني كنت شجرة تعضد وتؤكل)، وفيه أيضا: (عن أبي عمران الجوني عن أبي بكر أنه كان يقول: لوددت أني شعرة في جنب عبد مؤمن خرجها في الصفوة) وفي (نوادر الأصول) للترمذي: ج1 ص271 ط: دار الجيل بيروت عام 1992م: (قال أبوبكر: وددت أني شعرة في صدر مؤمن) وأيضا في ج3 ص157. وفي كتاب (فيض القدير) للمناوي: ج4 ص317 ط: المكتبة التجارية الكبرى مصر عام 1356ه-: (يقول الصديق: ليتني كنت شعرة في صدر مؤمن).

........................

وكما قال صاحبه: (ليتني كنت عذرة) (1)

ص: 110


1- انظر كتاب (حلية الأولياء) لأبي نعيم الأصبهاني: ج1 ص52 ط: دار الكتاب العربي بيروت عام 1405ه-، وفيه: (قال عمر: ليتني كنت كبش أهلي يسمنوني ما بدا لهم حتى إذا كنت أسمن ما أكون زارهم بعض من يحبون فجعلوا بعضي شواء وبعضي قديدا ثم أكلوني فأخرجوني عذرة ولم أك بشرا). وفي كتاب (الزهد) لهناد: ج1 ص258 باب من قال ليتني لم أخلق ح449 ط: دار الخلفاء للكتاب الإسلامي الكويت، عام 1406ه-: (وقال عمر يا ليتني كنت كبش أهلي سمنوني ما بدا لهم حتى إذا كنت أسمن ما أكون زارهم بعض ما يحبون فجعلوا بعضي شواء وبعضي قديدا ثم أكلوني فأخرجوني عذرة ولم أك بشرا). وفي كتاب (شعب الإيمان) للبيهقي:ج1 ص485 ط: دار الكتب العلمية بيروت عام 1410ه-: ....................... (فقال عمر: يا ليتني كنت كبش أهلي سمنوني ما بدا لهم حتى إذا كنت كأسمن ما يكون زارهم بعض من يحبون فذبحوني لهم فجعلوا بعضي شواء وبعضه قديدا ثم أكلوني ولم أكن بشرا). وفي (مصنف ابن أبي شيبة): ج7 ص98 ح34480 ط: مكتبة الرشد، الرياض عام 1409ه-: (عن عبدالله بن عامر بن ربيعة قال: رأيت عمر بن الخطاب أخذ تبنة من الأرض فقال: يا ليتني هذه التبنة ليتني لم أكن شيئا ليت أمي لم تلدني ليتني كنت منسيا). وفي كتاب (شعب الإيمان) للبيهقي:ج1 ص485 ط: دار الكتب العلمية بيروت عام 1410ه-: (عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: رأيت عمر بن الخطاب أخذ تبنة من الأرض فقال: يا ليتني هذه التبنة ليتني لم أكن شيئا ليت أمي لم تلدني ليتني كنت منسيا). وفي كتاب (الزهد) لابن المبارك: ص79 ط: دار الكتب العلمية بيروت: (عن عبد الله ابن عامر بن ربيعة قال: رأيت عمر بن الخطاب أخذ تبنة من الأرض فقال يا ليتني هذه التبنة ليتني لم أك شيئا، ليت أمي لم تلدني، ليتني كنت نسيا منسيا أخرجه ابن سعد). وفي (الطبقات الكبرى) للزهري: ج3 ص360 ط: دار صادر بيروت: (عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: رأيت عمر بن الخطاب أخذ تبنة من الأرض فقال ليتني كنت هذه التبنة ليتني لم أخلق ليت أمي لم تلدني ليتني لم أك شيئا ليتني كنت نسيا منسيا). وفيه أيضا: (عن سالم بن عبد الله أن عمر بن الخطاب قال: ليتني لم أكن شيئا قط ليتني كنت نسيا منسيا قال ثم أخذ كالتبنة أو كالعود عن ثوبه فقال ليتني كنت مثل هذا). وفي (فيض القدير) للمناوي: ج4 ص317 ط: المكتبة التجارية الكبرى مصر عام 1356ه-: (وأن يقول عمر: الويل إن لم يغفر له). وفي (مصنف ابن أبي شيبة): ج7 ص98 ح34481 ط: مكتبة الرشد، الرياض عام 1409ه-: (عن ابن عمر قال: كان رأس عمر على حجري فقال: ضعه لا أم لك، ثم قال: ويلي، ويل أم عمر إن لم يغفر لي ربي) وفي كتاب (الزهد) لابن المبارك: ص79 ط: دار الكتب العلمية بيروت: (عن ابن عمر قال أخبرني أبان بن عثمان بن عفان قال: قال عمر حين حضر: ويلي وويل أمي إن لم يغفر لي، فقضى ما بينهما كلام). ........................ وفي (حلية الأولياء) لأبي نعيم الأصبهاني: ج1 ص52 ط: دار الكتاب العربي بيروت عام 1405ه-: (عن ابن عمر قال: كان رأس عمر على فخذي في مرضه الذي مات فيه فقال لي: ضع رأسي على الأرض، قال: فقلت: وما عليك كان على فخذي أم على الأرض، قال: ضعه على الأرض، قال: فوضعته على الأرض، فقال: ويلي وويل أمي إن لم يرحمني ربي). وفي (صفوة الصفوة) ج1 ص291 ط: دار المعرفة بيروت عام 1399ه-: (وعن عثمان بن عفان قال: أنا آخركم عهدا بعمر دخلت عليه ورأسه في حجر ابنه عبد الله فقال له: ضع خدي وضوء قال فهل فخذي والأرض إلا سواء، قال: ضع خدي وضوء لا أم لك في الثانية أو الثالثة، وسمعته يقول: ويلي وويل أمي، إن لم يغفر لي حتى فاضت نفسه). وفي (الطبقات الكبرى) للزهري: ج3 ص360 و361 ط: دار صادر بيروت: (عن عبد الله بن عامر ابن ربيعة أن عمر قال لعبد الله بن عمر ورأسه في حجره ضع خدي في الأرض فقال وما عليك في الأرض كان أو في حجري قال ضعه في الأرض ثم قال ويل لي ولأمي إن لم يغفر الله لي ثلاثا). وفيه أيضا: (عن عثمان بن عفان قال أنا آخركم عهدا بعمر دخلت عليه ورأسه في حجر ابنه عبد الله بن عمر فقال له: ضع خدي وضوء، قال: فهل فخذي والأرض إلا سواء، قال: ضع خذي وضوء لا أم لك في الثانية أو في الثالثة، ثم شبك بين رجليه فسمعته يقول: ويلي وويل أمي إن لم يغفر الله لي، حتى فاضت نفسه) وفيه أيضا: (عن عثمان قال: آخر كلمة قالها عمر حتى قضى: ويلي وويل أمي إن لم يغفر الله لي، ويلي وويل أمي إن لم يغفر الله لي، ويلي وويل أمي إن لم يغفر الله لي)، وفيه أيضا: (عن ابن أبي مليكة أن عثمان بن عفان وضع رأس عمر بن الخطاب في حجره فقال أعد رأسي في التراب ويل لي وويل لأمي إن لم يغفر الله لي) وفيه أيضا: (عن أيوب عن بن أبي مليكة قال: لما طعن عمر جاء كعب فجعل يبكي بالباب ويقول والله لو أن أمير المؤمنين يقسم على الله أن يؤخره لأخره ! فدخل بن عباس عليه فقال يا أمير المؤمنين هذا كعب يقول كذا وكذا قال إذا والله لا أسأله، ثم قال ويل لي ولأمي إن لم يغفر الله لي). وفي (صفوة الصفوة) ج1 ص285 ط: دار المعرفة بيروت عام 1399ه-: (وعن عبد الله بن عامر قال: رأيت عمر بن الخطاب أخذ تبنة من الأرض فقال: ليتني كنت هذه التبنة، ليتني لم أخلق، ليت أمي لم تلدني، ليتني لم أكن شيئا، ليتني كنت نسيا منسيا). وفي صحيح البخاري: ج3 ص1350 ح3489 ط: دار ابن كثير بيروت عام 1407ه-: (ثم لما طعن عمر جعل يألم - إلى أن قال: - والله لو أن لي طلاع الأرض ذهبا افتديت به من عذاب الله عزوجل). وفي (حلية الأولياء) لأبي نعيم الأصبهاني: ج1 ص52 ط: دار الكتاب العربي بيروت عام 1405ه-: (عن المسور بن مخرمة قال: لما طعن عمر قال: والله لو أن لي طلاع الأرض ذهبا لافتديت به من عذاب الله من قبل). وفيه أيضا: (عن سماك قال سمعت عبد الله بن عباس يقول: لما طعن عمر دخلت عليه فقلت له أبشر يا أمير المؤمنين فان الله قد مصر بك الأمصار ودفع بك النفاق وأفشى بك الرزق، قال: أفي الامارة تثني علي يا ابن عباس، فقلت: وفي غيرها، قال: والذي نفسي بيده لوددت أني خرجت منها كما دخلت فيها لا أجر ولا وزر). وفي كتاب (الرياض النضرة) للطبري: ج2 ص157ح636 ط: دار الغرب الإسلامي بيروت عام 1996م: (قال عمر: وددت أني شعرة في صدر أبي بكر). وفي (الطبقات الكبرى) للزهري: ج3 ص361 ط: دار صادر بيروت: (عن سالم بن عبد الله أن عمر بن الخطاب قال: ليتني لم أكن شيئا قط، ليتني كنت نسيا منسيا، قال: ثم أخذ كالتبنة أو كالعود عن ثوبه فقال ليتني كنت مثل هذا).

ص: 111

ص: 112

........................

وكما قالت ابنته: (ليتني كنت حيضة)(1)

ص: 113


1- في كتاب (شعب الإيمان) للبيهقي: ج1 ص486 ح791، ط: دار الكتب العلمية بيروت عام 1410ه-: (عن عروة قال قالت عائشة: يا ليتني كنت نسيا منسيا أي حيضة). وفي (حلية الأولياء) لأبي نعيم الأصبهاني: ج2 ص45 ط: دار الكتاب العربي بيروت عام 1405ه-: (عن عروة قال قالت عائشة: يا ليتني كنت نسيا منسيا أي حيضة). وتراه أيضا في كتاب (الجامع) لمعمر بن راشد. وفي (الاعتقاد) للبيهقي: ص373 ط: دار الآفاق الجديدة بيروت عام 1401ه-: (فكانت عائشة تقول وددت أني كنت ثكلت عشرة مثل ولد الحرث بن هشام وأني لم أسر مسيري الذي سرت وروي أنها ما ذكر مسيرها قط إلا بكت حتى تبل خمارها وتقول يا ليتني كنت نسيا منسيا). ....................... وفي (تاريخ بغداد) للخطيب البغدادي: ج5 ص54 ط دار الكتب العلمية بيروت: (عن عائشة قالت: يا ليتني كنت نسيا منسيا). وأيضاً في تاريخ بغداد: ج9 ص185: (عن هشام بن عروة عن أبيه قال: ما ذكرت عائشة مسيرها في وقعة الجمل قط الا بكت حتى تبل خمارها وتقول: يا ليتني كنت نسيا منسيا قال سفيان النسي المنسي الحيضة الملقاة). وفي (فضائل الصحابة) لأحمد بن حنبل: ج1 ص462 ط مؤسسة الرسالة بيروت 1403ه-، (عن عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي كانت تقول: ثم يا ليتني كنت نسيا منسيا). وفي (مصنف ابن أبي شيبة): ج7 ص131 ح34735 ط: مكتبة الرشد، الرياض عام 1409ه-: (عن عائشة أنها قالت: وددت أني إذا مت كنت نسيا منسيا) وفي ح34736 (أن عائشة قالت: يا ليتها شجرة تسبح وتقضي ما عليها وأنها لم تخلق) وفي ح34737 (عن عروة أنه سمع عائشة تقول يا ليتني لم أخلق). وفي كتاب (الزهد) لهناد: ج1 ص260 باب من قال ليتني لم أخلق ح453 ط: دار الخلفاء للكتاب الإسلامي الكويت، عام 1406ه-: (عن عائشة قالت ليتني إذ مت كنت نسيا منسيا). وفي (الطبقات الكبرى) للزهري: ج8 ص74 ط: دار صادر بيروت: (أخبرنا أسامة بن زيد عن بعض أصحابه عن عائشة أنها قالت حين حضرتها الوفاة: يا ليتني لم أخلق، يا ليتني كنت شجرة أسبح وأقضي ما علي)، وفيه أيضا: (عن عمرو بن سلمة أن عائشة قالت: والله لوددت أني كنت شجرة والله لوددت أني كنت مدرة والله لوددت أن الله لم يكن خلقني شيئا قط) وفيه أيضا: (عن عيسى بن دينار قال سألت أبا جعفر عن عائشة فقال: استغفر الله لها أما علمت ما كانت تقول: يا ليتني كنت شجرة، يا ليتني كنت حجرا، يا ليتني كنت مدرة، قلت: وما ذاك منها؟ قال: توبة!) وفيه أيضا: (عن ابن أبي مليكة أن ابن عباس دخل على عائشة قبل موتها فأثنى عليها قال أبشري زوجة رسول الله ولم ينكح بكرا غيرك ونزل عذرك من السماء فدخل عليها بن الزبير خلافه فقالت أثنى علي عبد الله بن عباس ولم أكن أحب أن أسمع أحدا اليوم يثني علي لوددت أني كنت نسيا منسيا). وفي ص 74-75: (عن إبراهيم قال: قالت عائشة: يا ليتني كنت ورقة من هذه الشجرة). وفي ص85: (فقالت: دعني منك بابن عباس فوالذي نفسي بيده لوددت أني كنت نسيا منسيا). وفي كتاب (حلية الأولياء) لأبي نعيم الأصبهاني: ج2 ص45 ط: دار الكتاب العربي بيروت عام 1405ه-: (فقالت: يا بن عباس دعني منك ومن تزكيتك، فوالله لوددت أني كنت نسياً منسياً). وفي (مسند أبي يعلى): ج5 ص57 ح2648 ط: دار المأمون للتراث، دمشق عام 1404ه- (قالت دعني يا بن عباس فوالله لوددت أني كنت نسيا منسيا). وفي (فتح الباري) لابن حجر العسقلاني: ج8 ص484 ط دار المعرفة بيروت، عام 1379ه-: (فقالت دعني منك يا بن عباس فوالذي نفسي بيده لوددت أني كنت نسيا منسيا). وفي (صفوة الصفوة) ج2 ص38 ط: دار المعرفة بيروت عام 1399ه-: (فقالت دعني منك يا ابن عباس فوالذي نفسي بيده لوددت أني كنت نسيا منسيا). وفي كتاب (الزهد) لابن المبارك: ص81 ح239، ط: دار الكتب العلمية بيروت: (عن إبراهيم أن عائشة مرت بشجرة فقالت: يا ليتني ورقة من هذه الشجرة) أخرجه أحمد في الزهد. وفي (سير أعلام النبلاء) للذهبي: ج2 ص189 ط مؤسسة الرسالة بيروت، عام 1413ه-: (قالت عائشة: يا ليتني كنت ورقة من هذه الشجرة).

ص: 114

........................

وثانياً: إن كلام الصديقة الطاهرة (صلوات الله عليها) خاص وذاك عام.

وثالثاً: قد يراد عدم النفع في الجملة، فتأمل.

ورابعاً: إنهم لا يوفقون للتوبة.

وفي الحديث عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: رأيت أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب (عليه السلام) وهو خارج من الكوفة، فتبعته من ورائه حتى إذا صار إلى جبانة اليهود ووقف في وسطها ونادى: يا يهود، يا يهود، فأجابوه من جوف القبور: لبيك لبيك مطلاع، يعنون بذلك يا سيدنا.

فقال: كيف ترون العذاب؟

فقالوا: بعصياننا لك كهارون فنحن ومن عصاك في العذاب إلى يوم القيامة.

ص: 115

........................

ثم صاح صيحة كادت السماوات ينقلبن، فوقعت مغشياً على وجهي من هول ما رأيت، فلما أفقت رأيت أمير المؤمنين (عليه السلام) على سرير من ياقوتة حمراء على رأسه أكليل من الجوهر وعليه حلل خضر وصفر ووجهه كدارة القمر، فقلت: يا سيدي هذا ملك عظيم!

قال: نعم يا جابر إن ملكنا أعظم من ملك سليمان بن داود (عليه السلام)، وسلطاننا أعظم من سلطانه.

ثم رجع (عليه السلام) ودخلنا الكوفة، ودخلت خلفه إلى المسجد فجعل يخطو خطوات وهو يقول: لا والله لا فعلتَ، لا والله لا كان ذلك أبداً!

فقلت: يا مولاي لمن تكلم ولمن تخاطب وليس أرى أحداً؟

فقال (عليه السلام): يا جابر كشف لي عن برهوت فرأيت شنبويه وحبتر وهما يعذبان في جوف تابوت في برهوت، فنادياني:يا أبا الحسن يا أمير المؤمنين ردنا إلى الدنيا نقر بفضلك ونقر بالولاية لك.

فقلت: لا والله لا فعلت، لا والله لا كان ذلك أبداً، ثم قرأ هذه الآية: «ولو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون»(1) يا جابر وما من أحد خالف وصي نبي إلا حشره الله أعمى يتكبكب في عرصات القيامة»(2).

قولها (عليها السلام): «ولا ينفعكم إذ تندمون» إذ قد سبق أن ندامة الإنسان في الآخرة لا تنفع، نعم الندامة في الدنيا تنفع وذلك للانقلاع والتدارك، قال سبحانه: «رب ارجعون * لعليّ أعمل صالحاً فيما تركت كلا إنها كلمة هو

ص: 116


1- سورة الأنعام: 28.
2- تأويل الآيات الظاهرة: ص168-169 سورة الأنعام وما فيها من الآيات في الأئمة الهداة.

........................

قائلها»(1).

وربما يظهر من تعبيرها (صلوات الله عليها) ب- (إذ) دون (إذا) أو (لو) أنهم سيندمون فإن إذ طرفية، لكن ندمهم غير نافع، مضافاً إلى عدم عزمهم على الترك، بل العود لو عادوا.

فاطمة (عليها السلام) في يوم القيامة

عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: «قال جابر لأبي جعفر (عليه السلام): جعلت فداك يا بن رسول الله، حدثني بحديث في فضل جدتك فاطمة (عليها السلام) إذا أنا حدثت به الشيعة فرحوابذلك.

قال أبو جعفر (عليه السلام): حدثني أبي عن جدي عن رسول الله (صلي الله عليه و آْله) قال: «إذا كان يوم القيامة نصب للأنبياء والرسل منابر من نور فيكون منبري أعلى منابرهم يوم القيامة ثم يقول الله: يا محمد اخطب.

فاخطب بخطبة لم يسمع أحد من الأنبياء والرسل بمثلها.

ثم ينصب للأوصياء منابر من نور، وينصب لوصيي علي بن أبي طالب (عليه السلام) في أوساطهم منبر من نور، فيكون منبره (منبر علي) أعلى منابرهم.

ثم يقول الله: يا علي اخطب.

فيخطب بخطبة لم يسمع أحد من الأوصياء بمثلها.

ص: 117


1- سورة المؤمنون: 99-100.

........................

ثم ينصب لأولاد الأنبياء والمرسلين منابر من نور فيكون لابنيّ وسبطيّ وريحانتيّ أيام حياتي منبر (منبران) من نور.

ثم يقال لهما: اخطبا، فيخطبان بخطبتين لم يسمع أحد من أولاد الأنبياء والمرسلين بمثلهما.

ثم ينادي المنادي (مناد) وهو جبرئيل (عليه السلام): أين فاطمة بنت محمد، أين خديجة بنت خويلد، أين مريم بنت عمران، أين آسية بنت مزاحم، أين أم كلثوم، أين أم يحيى بن زكريا؟

فيقمن، فيقول الله تبارك وتعالى: يا أهل الجمع لمن الكرم اليوم؟

فيقول محمد وعلي والحسن والحسين وفاطمة: (لله الواحد القهار).

فيقول الله جل جلاله (تعالى): يا أهل الجمع إني قد جعلت الكرم لمحمد وعلي والحسن والحسين وفاطمة، يا أهل الجمع طأطئوا الرؤوس وغضوا الأبصار، فان هذه فاطمة تسير إلى الجنة، فيأتيها جبرئيل بناقة من نوق الجنة مدبجة الجنبين، خطامها من اللؤلؤ المحقق الرطب، عليها رحل من المرجان، فتناخ بين يديها، فتركبها.فيبعث إليها مائة ألف ملك فيصيروا على يمينها، ويبعث إليها مائة ألف ملك يحملونها على أجنحتهم حتى يصيروها (يسيروها) على باب الجنة، فإذا صارت عند باب الجنة تلتفت!.

فيقول الله: يا بنت حبيبي ما التفاتك وقد أمرت بك إلى جنتي (الجنة)؟

فتقول: يا رب أحببت أن يعرف قدري في مثل هذا اليوم.

ص: 118

........................

فيقول الله تعالى: يا بنت حبيبي ارجعي فانظري من كان في قلبه حب لك أو لأحد من ذريتك خذي بيده، فأدخليه الجنة.

قال أبو جعفر (عليه السلام): والله يا جابر إنها ذلك اليوم لتلتقط شيعتها ومحبيها كما يلتقط الطير الحب الجيد من الحب الرديء، فإذا صار شيعتها معها عند باب الجنة، يلقي الله في قلوبهم أن يلتفتوا، فإذا التفتوا يقول الله: يا أحبائي ما التفاتكم وقد شفعت فيكم فاطمة بنت حبيبي؟

فيقولون: يا رب أحببنا أن يعرف قدرنا في مثل هذا اليوم!

فيقول الله: يا أحبائي ارجعوا وانظروا من أحبكم لحب فاطمة، انظروا من أطعمكم لحب فاطمة، انظروا من كساكم لحب فاطمة، انظروا من سقاكم شربة في حب فاطمة، انظروا من رد عنكم غيبة في حب فاطمة، خذوا بيده وادخلوه الجنة.

قال أبو جعفر (عليه السلام): والله لا يبقى في الناس إلا شاك أو كافر أو منافق، فإذا صاروا بين الطبقات نادوا كما قال الله تعالى: «فما لنا من شافعين * ولا صديق حميم»(1).. فيقولون: «فلو أنّ لنا كرّة فنكون من المؤمنين»(2).

قال أبو جعفر(عليه السلام): هيهات هيهات، منعوا ما طلبوا،«ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وانهم لكاذبون»(3)، (4).

ص: 119


1- سورة الشعراء: 100-101.
2- سورة الشعراء: 102.
3- سورة الأنعام: 28.
4- تفسير فرات الكوفي: ص298-299 من سورة الشعراء.

ولكل نبأ مستقر

اشارة

-------------------------------------------

الأخبار المستقبلية ومحل الاستقرار

مسألة: إن الأخبار المستقبلية لابد وأن يكون لها محل استقرار وتقرر وثبوت وظهور، مثلاً: إذا قال: بأن زيداً سوف يقدم، فان قدومه بعد غد - مثلاً- هو مستقر هذا الخبر والنبأ. وهكذا.

ولا يختص ذلك بالمستقبلية، بل والماضية أيضاً، والحالية كذلك كما لايخفى.

فكل نبأ صادق له مستقر زماني ومكاني إذا كان المخبر عنه من غير المجردات، وإلا كان له مستقر حقيقي وإن كان دون زمان ومكان وشبههما، ولكل نبأ مستقر في إحدى العوالم الأربعة في عدد منها أو فيها كلها(1)، أما الخبر الكاذب فليس له مستقر عيني كما لا يخفى، والأمور الاعتبارية لها ظرف تقررها كما فصلناه في (الأصول).

والظاهر أن المنصرف من آية «لكل نبأ مستقر»(2) هو الأخبار الصادقة، ولو قصد الأعم كان المراد من المستقر الأعم من المستقر العيني وغيره.

ص: 120


1- المراد: عالم الوجود العيني وعالم الوجود الذهني وعالم الوجود الكتبي وعالم الوجود اللفظي.
2- سورة الأنعام: 67.

وسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم

اشارة

-------------------------------------------

من ينقلب على عقبيه

مسألة: يظهر من اقتباسها (عليها السلام) ذلك من الآية الشريفة: «فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم»(1)، الحكم بكفر الذين انقلبوا على أعقابهم، قال تعالى: «أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم»(2)، وقد سبق أن المراد بالكفر هل هو موضوعي أو حكمي.

وفي الآية إشارة إلى الإيلام النفسي والجسدي، فإن الخزي إيلام نفسي، والعذاب إيلام جسدي.

قولها (عليها السلام): «وسوف...» أي سوف تعلمون عند وقوع مستقر العذاب من يأتيه عذاب يخزيه، فإن العذاب يخزي الإنسان نفساً، ويؤلمه جسماً.

وقد اقتبست (عليها الصلاة والسلام) كلامها هذا من مواضع من القرآن الحكيم، والخطاب في كلها إلى الكفار الذين وقفوا بوجه الأنبياء (عليهم السلام)، فالذي وقف بوجه فاطمة (عليها السلام) كأنما وقف بوجه رسول الله (صلي الله عليه و آْله) وسائر الأنبياء (عليهم السلام):

أحدها: سورة الزمر خطاباً للرسول الأعظم (صلي الله عليه و آْله): «قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون * من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم»(3).

ص: 121


1- سورة هود: 39.
2- سورة آل عمران: 144.
3- سورة الزمر: 39-40.

........................

والآخر: سورة هود في قصة نوح (على نبينا وآله وعليه السلام) حيث قال: «وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون * فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم»(1).

فالعذاب الذي أخزاهم في الدنيا هو الذلة في الغرق، والعذاب الذي يقيم عليهم في الآخرة هو النار «وبئس المصير»(2).

والمراد من العلم في (فسوف تعلمون) في المقام هو علم حق اليقين أو عين اليقين في الآخرة عند مشاهدة العذاب، أو المراد تجدون، إذ أن ظالميها (عليها السلام) كانوا عالمين بالجزاء الإلهي وشدة عقابه فلا دلالة في قولها (عليها السلام) على عدم علمهم كما لايخفى.

وفي سورة هود قال تعالى في قصة شعيب (على نبينا وآله وعليه السلام): «قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا إن ربي بما تعملون محيط * ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل، سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب»(3).

ص: 122


1- سورة هود: 38 - 39.
2- سورة البقرة: 126.
3- سورة هود: 92-93.

ثم رمت بطرفها نحو الأنصار

اشارة

-------------------------------------------

حدود النظر

مسألة: الظاهر أنه ليس المراد ب- (ثم رمت بطرفها نحو الأنصار) النظر إليهم، بل المراد النظر إلى جهتهم، فإن النظر وإن كان جائزاً إذا كان بدون ريبة وشهوة إلى مثل الوجه وما أشبه ذلك، من الطرفين على رأي المشهور بين الفقهاء، لكن الظاهر في المقام أن المراد أنها (عليها السلام) رمت بطرفها من وراء الستر نحو جهة الأنصار، أي المكان الذي علمت أن الأنصار كانوا مستقرين فيه، فإنه المستفاد من كونها (عليها السلام) جلست خلف الستر منذ بداية الخطبة.

وعلى هذا فلا يستند إلى هذا الكلام (ثم رمت) في جواز النظر وحدوده، بل الاستناد بالأدلة الأخرى(1).

التعددية زمن الرسول (صلي الله عليه و آْله)

مسألة: التعددية الإيجابية، والتمييز على إثرها بشعار أو عمل بين فريقين من المؤمنين جائز، وذلك التنافس المطلوب، ولا ينافي الأخوة الإسلامية والأمة الواحدة كما لا يخفى.

ومن مصاديقه ما يفهم من كلامها (عليها السلام) من أن المهاجرين والأنصار كانوا يجلسون متمايزين جماعة هنا وجماعة هناك.

ص: 123


1- للتفصيل راجع موسوعة الفقه: ج26 ص165-262 كتاب النكاح أحكام النظر.

........................

وقد ذكرنا في بعض الكتب الفقهية: أن الرسول الأعظم (صلي الله عليه و آْله) جعل المسلمين على حزبين - وذلك لحفظ التعدديةوإيجاد التنافس البناء -:

حزب المهاجرين.

وحزب الأنصار.

وكان لكل حزب تجمعه وخصوصياته، وإن لم يكونوا مختلفين في شتى الأحكام والطقوس الإسلامية العبادية والمعاملية والقضائية والعسكرية وغيرها، بل كانوا أخوة مؤمنين.

وهناك رواية ذكرها (جامع المقاصد) و(المسالك) و(الجواهر) وغيرهم يظهر منها أن المسلمين عرفوا بهذا اللفظ في زمان رسول الله (صلي الله عليه و آْله).

وفي كتاب (السبق والرماية)(1) حيث قال (صلي الله عليه و آْله) في قصة مذكورة: (أنا مع الحزب الذي فيه ابن الأدرع) (2).

لكن الحزب في الإسلام ليس بالمفهوم الغربي الذي هو قائم على أساس البرلمان الذي بيده التشريع، إذ التشريع خاص بالله سبحانه وتعالى، والرسول والأئمة الطاهرون (عليهم السلام) هم المبلغون لتلك الأحكام وهم (عليهم السلام) أوعية مشيئة الله عزوجل(3).

ص: 124


1- راجع موسوعة الفقه: ج60 كتاب السبق والرماية.
2- غوالي اللئالي: ج3 ص266 باب السبق والرماية ح5 وفيه: «وروي أنه (صلي الله عليه و آْله) مر بقوم من الأنصار يترامون، فقال رسول الله (صلي الله عليه و آْله): أنا في الحزب الذي فيه ابن الأدرع، فأمسك الحزب الآخر وقالوا لن يغلب حزب فيه رسول الله».
3- راجع موسوعة الفقه: ج106 كتاب السياسة ص117 وما بعدها.

........................

نعم للفقهاء التطبيق، وكذلك الاستنباط من الكتاب والسنة والإجماع والعقل، ولذا ذكرنا في بعض الكتب أن البرلمان هو(للتأطير) لا للتشريع(1).

إذن فتقسيم الرسول (صلي الله عليه و آْله) المسلمين إلى قسمين: مهاجرين وأنصار كان لإيجاد التنافس الإيجابي في إطار الشرع لا خارجه، وكان للتسارع والتسابق نحو الخير والفضيلة كما هو أوضح من أن يخفى.

وقد تأسى (صلي الله عليه و آْله) في ذلك بالقرآن الكريم حيث تكررت هذه الألفاظ فيها، ووردت أكثر من مرة، وكان ذلك من حكمة رسول الله (صلي الله عليه و آْله) المستقاة من الوحي الإلهي، لأن التعددية توجب التنافس بينهما، قال سبحانه وتعالى: «فاستبقوا الخيرات»(2).

وقال عزوجل: «وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين»(3).

وحتى أنه سبحانه جعل الجنة في مضمار المنافسة والمسابقة فقال عز من قائل: «وفي ذلك فليتنافس المتنافسون»(4).

بل إن حكمة الرب في الكون قائمة على ذلك، كما قال تعالى: «إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا»(5).

ص: 125


1- راجع كتاب (هكذا حكم الإسلام) و(الفقه: القانون).
2- سورة البقرة: 148، والمائدة: 48.
3- سورة آل عمران: 133.
4- سورة المطففين: 26.
5- سورة الحجرات: 13.

........................

فالتقسيم والتشقيق والتعددية سنة إلهية ينبغي صبها في التعاون والتكامل والتنافس الإيجابي حسب المقرر شرعاً.وفي التاريخ نشاهد مواطن عديدة أن الرسول (صلي الله عليه و آْله) كان (يوازن) بين المجموعتين، وكان يلتجأ تارة إلى هذه في قبال تلك - عندما تعدل عن الحق - وكذلك العكس، كما ورد في قصة تكلمه (صلي الله عليه و آْله) عند احتضاره، فإنه (صلي الله عليه و آْله) عندما رد عليه عمر بقوله الجارح: (إن الرجل ليهجر) (1) أخرجه النبي (صلي الله عليه و آْله) مع

ص: 126


1- كشف الغمة: ج1 ص420، الصراط المستقيم: ج3 ص100، الصوارم المهرقة: ص224، نهج الحق: ص273، بحار الأنوار: ج30 ص130 وص466 وص513 وص529 و535 و551 و592 و... ومن مصادر العامة: في صحيح البخاري: ج1 ص37 ط دار الفكر 1401ه- أوفست على طبعة دار الطباعة العامرة باستانبول: عن ابن عباس قال: (لما اشتد بالنبي (صلي الله عليه و آْله) وجعه قال: ائتوني بكتاب اكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده، قال عمر: إن النبي (صلي الله عليه و آْله) غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا، فاختلفوا وكثر اللغط، قال (صلي الله عليه و آْله): قوموا عني، ولا ينبغي عندي التنازع، فخرج ابن عباس يقول: ان الرزيئة كل الرزيئة ما حال بين رسول الله (صلي الله عليه و آْله) وبين كتابه). وفي صحيح البخاري ج4 ص31 ط دار الفكر 1401ه-: (عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: يوم الخميس وما يوم الخميس، ثم بكى حتى خضب دمعه الحصباء، فقال: اشتد برسول الله (صلي الله عليه و آْله) وجعه يوم الخميس فقال ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً، فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع، فقالوا: هجر رسول الله (صلي الله عليه و آْله) قال: دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه...). وفي صحيح البخاري: ج5 ص137-138 ط دار الفكر بيروت عام 1401ه- أوفست على طبعة دار الطباعة العامرة باستانبول: عن ابن عباس قال: (لما حضر رسول الله (صلي الله عليه و آْله) - أي الوفاة - وفي ........................ البيت رجال فقال النبي (صلي الله عليه و آْله): هلموا أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده، فقال بعضهم إن رسول الله (صلي الله عليه و آْله) قد غلبه الوجع وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده، ومنهم من يقول غير ذلك، فلما أكثروا اللغو والاختلاف قال رسول الله (صلي الله عليه و آْله): قوموا عني، قال عبيد الله: فكان يقول ابن عباس: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله (صلي الله عليه و آْله) وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب لاختلافهم ولغطهم). وفي صحيح البخاري: ج8 ص161 ط دار الفكر أوفست على دار الطباعة العامرة باستانبول: (عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال: لما حضر النبي (صلي الله عليه و آْله) - أي الوفاة - قال: وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، قال: هلم أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده، قال عمر: إن النبي (صلي الله عليه و آْله) غلبه الوجع وعندكم القرآن، فحسبنا كتاب الله، واختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم رسول الله (صلي الله عليه و آْله) كتابا لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغط والاختلاف عند النبي (صلي الله عليه و آْله) قال: قوموا عني، قال عبيد الله: فكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله (صلي الله عليه و آْله) وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم). وفي صحيح مسلم: ج5 ص76 ط دار الفكر بيروت عن ابن عباس إنه قال: (يوم الخميس وما يوم الخميس، ثم جعل تسيل دموعه حتى رأيت على خديه كأنها نظام اللؤلؤ، قال: قال رسول الله (صلي الله عليه و آْله): ائتوني بالكتف والدواة (أو اللوح والدواة) اكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبدا، فقالوا إن رسول الله (صلي الله عليه و آْله) يهجر). وفي صحيح مسلم بشرح النووي: ج11 ص90 ط دار الكتاب العربي بيروت عام 1407: (وفي رواية: فقال عمر: إن رسول الله (صلي الله عليه و آْله) قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله). وفي مسند أحمد: ج1 ص324-325 ط دار صادر بيروت: عن ابن عباس قال: (لما حضرت رسول الله (صلي الله عليه و آْله) الوفاة قال:هلم أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده، وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب فقال عمر:إن رسول الله (صلي الله عليه و آْله) قد غلبه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله ........................ قال: فاختلف أهل البيت فاختصموا فمنهم من يقول يكتب لكم رسول الله (صلي الله عليه و آْله) أو قال قربوا يكتب لكم رسول الله (صلي الله عليه و آْله)، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغط والاختلاف وغم رسول الله (صلي الله عليه و آْله) قال: قوموا عني، فكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله (صلي الله عليه و آْله) وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم). وفي مسند أحمد: ج1 ص355 ط دار صادر بيروت: (عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: يوم الخميس وما يوم الخميس، ثم نظرت إلى دموعه على خديه تنحدر كأنها نظام اللؤلؤ، قال: قال رسول الله (صلي الله عليه و آْله): ائتوني باللوح والدواة أو الكتف أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً، فقالوا: رسول الله (صلي الله عليه و آْله) يهجر). وفي فتح الباري شرح صحيح البخاري: ج8 ص101 ط دار المعرفة بيروت : (فقال بعضهم إنه قد غلبه الوجع... ما شأنه يهجر... إن نبي الله ليهجر...). وفي السنن الكبرى للنسائي: ج3 ص435 ح5857 ط: دار الكتب العلمية بيروت عام 1411ه- : عن ابن عباس قال: (يوم الخميس وما يوم الخميس، قال رسول الله (صلي الله عليه و آْله) ائتوني باللوح والدواة والكتف لأكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبدا، قالوا: رسول الله (صلي الله عليه و آْله) يهجر). وفي المصدر نفسه الحديث5856 عن جابر: (إن رسول الله (صلي الله عليه و آْله) دعا بصحيفة في مرضه ليكتب فيها كتاباً لأمته لا يضلون بعده ولا يضلون وكان في البيت لغط وتكلم عمر فتركه). وفي المصدر نفسه ج4 ص360 ح7516: (عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال: لما حضر رسول الله (صلي الله عليه و آْله) وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، فقال رسول الله (صلي الله عليه و آْله): هلم أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً، فقال عمر: إن رسول الله قد غلبه عليه الوجع وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله، فاجتمعوا في البيت فقال قوم: يكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً، وقال قوم ما قال عمر، فلما أكثروا اللغط والاختلاف عند رسول الله (صلي الله عليه و آْله) قال لهم: قوموا عني، قال عبيد الله: وكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما فات من الكتاب الذي أراد رسول الله (صلي الله عليه و آْله) أن يكتب لا تضلوا بعده أبداً لما كثر لغطهم واختلافهم). وفي المعجم الكبير: ج11 ص352 ط مكتبة ابن تيمية القاهرة: عن ابن عباس: (لما كان يوم الخميس وما يوم الخميس ثم بكى فقال: قال رسول الله (صلي الله عليه و آْله) ائتوني بصحيفة ودواة أكتب ........................ لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبدا، فقالوا: يهجر رسول الله (صلي الله عليه و آْله) ثم سكتوا وسكت...). وفي البداية والنهاية لابن كثير: ج5 ص247-248 ط: دار إحياء التراث العربي بيروت عام 1408: عن ابن عباس قال: (لما حضر رسول الله (صلي الله عليه و آْله) وفي البيت رجال فقال النبي (صلي الله عليه و آْله): هلموا أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده أبدا، فقال بعضهم: إن رسول الله قد غلبه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله). وفي الطبقات الكبرى: ج2 ص243 ط دار صادر بيروت: عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: (كان يقول: يوم الخميس وما يوم الخميس، قال: وكأني أنظر إلى دموع ابن عباس على خده كأنها نظام لؤلؤ، قال: قال رسول الله (صلي الله عليه و آْله): ائتوني بالكتف والدواة أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبدا، قال: فقالوا إنما يهجر رسول الله (صلي الله عليه و آْله)). وفي ص243-244: عن عمر بن الخطاب قال: (كنا عند النبي (صلي الله عليه و آْله) وبيننا وبين النساء حجاب، فقال رسول الله (صلي الله عليه و آْله): اغسلوني بسبع قرب وائتوني بصحيفة ودواة أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا، فقال النسوة: ائتوا رسول الله (صلي الله عليه و آْله) بحاجته، قال عمر: فقلت: اسكتهن فإنكن صواحبه إذا مرض عصرتن أعينكن وإذا صح أخذتن بعنقه، فقال رسول الله (صلي الله عليه و آْله) هن خير منكم). وفي ص244 عن جابر قال: (دعا النبي (صلي الله عليه و آْله) عند موته بصحيفة ليكتب فيها كتابا لأمته لايضلوا ولا يضلوا، فلغطوا عنده حتى رفضها النبي (صلي الله عليه و آْله)). وفي ص244: عن الزهري بسنده عن ابن عباس قال: (لما حضرت رسول الله (صلي الله عليه و آْله) الوفاة وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، فقال رسول الله (صلي الله عليه و آْله): هلم أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده فقال عمر: إن رسول الله قد غلبه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم رسول الله (صلي الله عليه و آْله) ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما كثر اللغط والاختلاف وغموا رسول الله (صلي الله عليه و آْله) فقال: قوموا عني، فقال عبيد الله: فكان ابن عباس يقول: الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله (صلي الله عليه و آْله) وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم). وفي تاريخ الطبري: ج2 ص436 ط مؤسسة الأعلمي بيروت: عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: (يوم الخميس وما يوم الخميس، قال: اشتد برسول الله (صلي الله عليه و آْله) وجعه فقال: ائتوني اكتب لكم كتابا لا تضلوا بعدي أبدا، فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي أن يتنازع، فقالوا: ما شأنه أهجر، استفهموه، فذهبوا يعيدون عليه، فقال: دعوني فما أنا فيه خير مما تدعونني إليه). وفي المصدر نفسه: عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: (يوم الخميس وما يوم الخميس، قال: ثم نظرت إلى دموعه تسيل على خديه كأنها نظام اللؤلؤ، قال: قال رسول الله (صلي الله عليه و آْله) ائتوني باللوح والدواة أو الكتف والدواة أكتب لكم كتابا لا تضلون بعده، قال: فقالوا: إن رسول الله يهجر).

ص: 127

ص: 128

ص: 129

........................

جماعته من غرفته وأمر أن يأتوا بالأنصار فذكر لهم ما أراد أن يذكر للمهاجرين وإن لم يكتبه(1).

وقد يسأل سائل: لماذا لم يخرج النبي (صلي الله عليه و آْله) القائل وجماعته فقط ويتكلم مع بقية المهاجرين ويوصي لهم بما أراد ويكتبها؟

الجواب: لأنهم كانوا سيكررون دعوى الرجل (إنه ليهجر) خوفاً أو طمعاً أو عصبية، وكان ذلك مما يجعلهم أن يعمموا دعواهم في سائر أوامره ونواهيه (صلي الله عليه و آْله) ويسعوا في إسقاطها عن الحجية. إضافة إلى ما يتضمنه ذلك من التأديب ومن تكريس واقع التعددية الهادفة التي تستقي قيمتها من محاولة الوصول للحق لا لوأده، حيث أخرجهم الرسول (صلي الله عليه و آْله) وطلب الأنصار.

ص: 130


1- فأكد عليهم ولاية أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وشرح لهم بعض ما يجري على أهل بيته (عليهم السلام) وهذا ما يستفاد من بعض الروايات، فإنه ورد في وصية النبي (صلي الله عليه و آْله) عند قرب وفاته: «معاشر الأنصار، ألا فاسمعوا ومن حضر، ألا إن فاطمة بابها بابي وبيتها بيتي، فمن هتكه فقد هتك حجاب الله» قال عيسى - راوي الحديث -: فبكى أبو الحسن (عليه السلام) طويلا وقطع بقية كلامه وقال: هُتك والله حجاب الله، هُتك والله حجاب الله، هُتك والله حجاب الله يا أمه صلوات الله عليها». راجع بحار الأنوار: ج22 ص477 ب1 ضمن ح27.

........................

قولها (عليها السلام): (ثم رمت بطرفها نحو الأنصار)، الطرف: مصدر طرفت عين فلان إذا نظرت، وهو أن ينظر ثم يغمض، كما يطلق الطرف أيضاً على العين نفسها، فإنها (عليها الصلاةوالسلام) كانت توجه خطابها - عموماً - لمن غصب حقها مباشرة، ومن الطبيعي أن يكون المهاجرون أيضاً مورد هذا الخطاب حيث آزروه على اغتصاب الخلافة وفدك.

ص: 131

فقالت: يا معشر الفتية

اشارة

-------------------------------------------

فقالت: يا معشر الفتية(1)

توجيه الخطاب لفئة خاصة

مسألة: ينبغي - في الجملة - توجيه الخطاب لخصوص جمع، رغم توجيهه من قبل لمن يعمهم، فإنه أحرى بالتأثير وأوقع في القلب ومن مصاديق «فذكّر»((2) و(الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).

ولذلك ولغيره، وجهت (عليها السلام) الخطاب للأنصار بعد أن شملتهم بخطابها السابق: (أيها المسلمون) وغيره، فقالت: (يا معشر الفتية).

المعشر: عبارة عن الجماعة.

والفتية: جمع فتى وهو الشاب، وقد يطلق على الإنسان الكريم.

فقد أرادت (صلوات الله عليها) استثارة حمية الأنصار وغيرتهم في مقابل المهاجرين لعلهم يقولون شيئاً من الحق، ويتخذون موقفاً ضد الباطل، لكن الخوف والرعب كان قد استولى عليهم نتيجة الإرهاب الشديد الذي ساد بعد استشهاد الرسول الأعظم (صلي الله عليه و آْله) والذي كان التخطيط له قد جرى من قبل الخليفة وجماعته قبل وفاة الرسول (صلي الله عليه و آْله) حيث تواطؤوا على ذلك..

ص: 132


1- وفي بعض النسخ: (يا معشر النقيبة)، وفي بعضها: (يا معشر البق
2- قال تعالى في سورة الغاشية الآية 21: «فذكر إنما أنت مذكر» ، وقال سبحانه في سورة ق الآية 45: «فذكر بالقرآن من يخاف وعيد» وقال عزوجل في سورة الطور الآية 29: «فذكر فما أنت بنعمت ربك بكاهن ولا مجنون» وقال تعالى في سورة الأعلى الآية 9: «فذكر إن نفعت الذكرى».

........................

وقد روي عن رسول الله (صلي الله عليه و آْله) قوله: «إن أهلبيتي سيلقون بعدي من أمتي قتلاً وتشريداً وإن أشد أقوام لنا بغضاً بنو أمية وبنو المغيرة وبنو مخزوم»(1).

ولهذا ابتدؤوا بعقد الرايات لعكرمة بن أبي جهل وعمومته الحارث بن هشام وغيرهم من بني مخزوم على بلاد اليمن..

وسموا خالد بن الوليد المخزومي الفاسق الذي قال فيه النبي (صلي الله عليه و آْله): «اللهم إني أبرأ إليك مما فعله خالد»(2) سيف الله، وسلطوه على مشتهياته من فروج المسلمين ودمائهم وأموالهم(3)

ص: 133


1- الصوارم المهرقة: ص290.
2- راجع إعلام الورى: ص113، ونهج الحق: 323.
3- في بحار الأنوار: ج30 ص350: (ولمّا امتنع طائفة من الناس في دفع الزكاة إليه - أي إلى أبي بكر - وقالوا إنّ رسول اللّه (صلي الله عليه و آْله) لم يأمرنا بدفع ذلك إليك، سمّاهم أهل الردّة، وبعث إليهم خالد بن الوليد في جيش، فقتل مقاتلهم، وسبى ذراريهم، واستباح أموالهم، وجعل ذلك فيئا للمسلمين، وقتل خالدُ بن الوليد رئيس القوم مالك بن نويرة، وأخذ امرأته فوطأها من ليلته تلك، واستحلّ الباقون فروج نسائهم من غير استبراء. وقد روى أهل الحديث جميعا بغير خلاف عن القوم الّذين كانوا مع خالد أنّهم قالوا أذّن مؤذّننا وأذّن مؤذّنهم، وصلّينا وصلّوا، وتشهّدنا وتشهّدوا، فأيّ ردّة هاهنا، مع ما رووه أنّ عمر قال لأبي بكر: كيف نقاتل قوما يشهدون أن لا إله إلا اللّه وأنّ محمّدا رسول اللّه (صلي الله عليه و آْله)، و قد سمعت رسول اللّه (صلي الله عليه و آْله) يقول: أمرت أن أقاتل الناس حتّى يشهدوا أن لا إله إلا اللّه وأنّي رسول اللّه (صلي الله عليه و آْله)، فإذا قالوها حقنوا دماءهم وأموالهم. فقال: لو منعوني عقالا ممّا كانوا يدفعونه إلى رسول اللّه (صلي الله عليه و آْله) لقاتلتهم أو قال لجاهدتهم، وكان هذا فعلا فظيعا في الإسلام وظلما عظيما، فكفى بذلك خزيا وكفرا وجهلا، وإنّما أخذ عليه عمر بسبب قتل مالك بن نويرة، لأنّه كان بين عمر وبين مالك خلّة أوجبت المعصية له من عمر. ثم رووا جميعا أنّ عمر لمّا ولي جمع من بقي من عشيرة مالك ........................ واسترجع ما وجد عند المسلمين من أموالهم وأولادهم ونسائهم، وردّ ذلك جميعا عليهم. فإن كان فعل أبي بكر بهنّ خطأ فقد أطعم المسلمين الحرام من أموالهم وملّكهم العبيد الأحرار من أبنائهم، وأوطأهم فروجا حراما من نسائهم، وإن كان ما فعله حقّا فقد أخذ عمر نساء قوم ملكوهنّ بحقّ فانتزعهنّ من أيديهم غصبا وظلما وردّهنّ إلى قوم لايستحقّونهنّ بوطئهنّ حراما من غير مباينة وقعت ولا أثمان دفعت إلى من كنّ عنده في تملّكه، فعلى كلا الحالين قد أخطئا جميعا أو أحدهما، لأنّهما أباحا للمسلمين فروجا حراما، وأطعماهم طعاما حراما من أموال المقتولين على دفع الزكاة إليه، وليس له ذلك على ما تقدّم ذكره). انتهى. وفي الفضائل: ص75-76: قال البراء بن عازب: بينا رسول الله (صلي الله عليه و آْله) جالس في أصحابه إذ أتاه وفد من بني تميم مالك بن نويرة فقال: يا رسول الله (صلي الله عليه و آْله) علمني الإيمان، فقال رسول الله (صلي الله عليه و آْله): تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأني رسول الله وتصلي الخمس وتصوم رمضان وتؤدي الزكاة وتحج البيت وتوالي وصيي هذا من بعدي وأشار إلى علي (عليه السلام) بيده، ولا تسفك دما ولا تسرق ولا تخون ولاتأكل مال اليتيم ولا تشرب الخمر وتوفي بشرائعي وتحلل حلالي وتحرم حرامي وتعطي الحق من نفسك للضعيف والقوي والكبير والصغير، حتى عد عليه شرائع الإسلام. فقال: يا رسول الله (صلي الله عليه و آْله) أعد علي فإني رجل نساء، فأعاد عليه فعقدها بيده وقام وهو يجر إزاره وهو يقول: تعلمت الإيمان ورب الكعبة. فلما بعد من رسول الله (صلي الله عليه و آْله) قال: من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا الرجل، فقال أبو بكر وعمر: إلى من تشير يا رسول الله، فأطرق إلى الأرض، فجدا في السير فلحقاه فقالا: لك البشارة من الله ورسوله بالجنة. فقال: أحسن الله تعالى بشارتكما إن كنتما ممن يشهد بما شهدت به فقد علمتما ما علمني النبي محمد، وإن لم تكونا كذلك فلا أحسن الله بشارتكما. فقال أبو بكر: لا تقل فأنا أبو عائشة زوجة النبي (صلي الله عليه و آْله). قال: قلت ذلك فما حاجتكما. قالا: إنك من أصحاب الجنة فاستغفر لنا. ....................... فقال: لا غفر الله لكما تتركان رسول الله صاحب الشفاعة وتسألاني أستغفر لكما. فرجعا والكآبة لائحة في وجهيهما، فلما رآهما رسول الله (صلي الله عليه و آْله) تبسم وقال: أفي الحق مغضبة. فلما توفي رسول الله (صلي الله عليه و آْله) ورجع بنو تميم إلى المدينة ومعهم مالك بن نويرة فخرج لينظر من قام مقام رسول الله (صلي الله عليه و آْله) فدخل يوم الجمعة وأبو بكر على المنبر يخطب بالناس فنظر إليه وقال: أخو تيم! قالوا: نعم. قال: فما فعل وصي رسول الله (صلي الله عليه و آْله) الذي أمرني بموالاته؟ قالوا: يا أعرابي الأمر يحدث بعده الأمر. قال: بالله ما حدث شيء وإنكم قد خنتم الله ورسوله، ثم تقدم إلى أبي بكر وقال: من أرقاك هذا المنبر ووصي رسول الله (صلي الله عليه و آْله) جالس. فقال أبوبكر: أخرجوا الأعرابي البوال على عقبيه من مسجد رسول الله (صلي الله عليه و آْله). فقام إليه قنفذ بن عمير وخالد بن الوليد فلم يزالا يلكان عنقه حتى أخرجاه فركب راحلته وأنشأ يقول: أطعنا رسول الله ما كان بيننا *** فيا قوم ما شأني وشأن أبي بكر إذا مات بكر قام عمرو مقامه *** فتلك وبيت الله قاصمة الظهر يدب ويغشاه العشار كأنما *** يجاهد جما أو يقوم على قبر فلو قام فينا من قريش عصابة *** أقمنا ولكن القيام على جمر قال: فلما استتم الأمر لأبي بكر وجه خالد بن الوليد وقال له: قد علمت ما قاله مالك على رؤوس الأشهاد ولست آمن أن يفتق علينا فتقا لا يلتئم فاقتله. فحين أتاه خالد ركب جواده وكان فارسا يعد بألف فخاف خالد منه فآمنه وأعطاه المواثيق ثم غدر به بعد أن ألقى سلاحه فقتله وأعرس بامرأته في ليلته وجعل رأسه في قدر فيها لحم جزور لوليمة عرسه وبات ينزو عليها نزو الحمار والحديث طويل. انتهى ما في (الفضائل). وفي (شرح نهج البلاغة) لابن أبي الحديد: ج1 ص179 طرف من أخبار عمر بن الخطاب: (لما قتل خالد مالك بن نويرة ونكح امرأته كان في عسكره أبو قتادة الأنصاري فركب فرسه والتحق بأبي بكر وحلف ألا يسير في جيش تحت لواء خالد أبدا، فقص على أبي بكر القصة، فقال أبو بكر: لقد فتنت الغنائم العرب وترك خالد ما أمر به، فقال عمر: إن عليك أن تقيده بمالك، فسكت أبو بكر، وقدم خالد فدخل المسجد وعليه ثياب قد صدئت من الحديد وفي عمامته ثلاثة أسهم، فلما رآه عمر قال: أرياء يا عدو الله، عدوت على رجل من المسلمين فقتلته ونكحت امرأته، أما والله إن أمكنني الله منك لأرجمنك، ثم تناول الأسهم من عمامته فكسرها، وخالد ساكت لا يرد عليه ظنا أن ذلك عن أمر أبي بكر ورأيه، فلما دخل إلى أبي بكر وحدثه صدقه فيما حكاه وقبل عذره، فكان عمر يحرض أبا بكر على خالد ويشير عليه أن يقتص منه بدم مالك، فقال أبو بكر: إيها يا عمر ما هو بأول من أخطأ فارفع لسانك عنه ثم ودى مالكا من بيت مال المسلمين. انتهى.

ص: 134

ص: 135

......................

وسموا أبا عبيدة الجراح(1) المجروح أمين الأمة وجعلوه مشيراً لهم..

وأرضوا أبا سفيان بتفويض إمارة الشام ولده يزيد(2)، ووجهوا أسامة مع

ص: 136


1- عن الحارث بن الحصيرة الأسدي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (كنت دخلت مع أبي الكعبة فصلى على الرخامة الحمراء بين العمودين فقال: في هذا الموضع تعاقد القوم إن مات رسول الله (صلي الله عليه و آْله) أو قتل ألا يردوا هذا الأمر في أحد من أهل بيته أبدا، قال: قلت: ومن كان؟ قال: كان الأول والثاني وأبو عبيدة بن الجراح وسالم بن الحبيبة). الكافي: ج4 ص545 ح28. وعن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عزوجل: «ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ» قال: (نزلت هذه الآية في فلان وفلان وأبي عبيدة الجراح وعبد الرحمن بن عوف وسالم مولى أبي حذيفة والمغيرة بن شعبة حيث كتبوا الكتاب بينهم وتعاهدوا وتوافقوا لئن مضى محمدٌ لا تكون الخلافة في بني هاشم ولا النبوة أبدا، فأنزل الله عزوجل فيهم هذه الآية، قال: قلت: قوله عزو جل «أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ * أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ» قال: وهاتان الآيتان نزلتا فيهم ذلك اليوم). الكافي: ج8 ص179 ح202.
2- ولى أبوبكر يزيد بن أبي سفيان إمارة الشام وتوفي وهو خليفته على ذلك، فأقره عمر إلى أن مات فولى أخاه معاوية. انظر بحار الأنوار: ج33 ص201. إعلام الورى: ص138. الإفصاح: ص104.

........................

من كان في جيشه من الذين خافوا فتنتهم، مظهرين له إبقاءه على إمارته ليسكت عن مخالفتهم حتى إذا انتهى إلى نواحي الشام عزلوه واستعملوا مكانه يزيد بن أبي سفيان، فما كان بين خروج أسامةورجوعه إلى المدينة إلاّ نحواً من أربعين يوماً، فلما قدم المدينة قام على باب المسجد ثم صاح: يا معشر المسلمين عجباً لرجل استعملني عليه رسول الله (صلي الله عليه و آْله) فتآمر علي وعزلني(1).

فغصب الخلافة كان تواطؤ بين الذين تصدّوا للغصب وبين آخرين كبعض بني تميم وبني عدي وطوائف من قريش والسرّ في أن بني مخزوم وبني أمية وغيرهم من صناديد قريش لم يتصدوا لغصبها بأنفسهم وإنما حملوا ابن أبي قحافة على ذلك، لعدم سابقيتهم في الإسلام وسرعة توجه التهمة إليهم بمعاداة أمير المؤمنين علي (صلي الله عليه و آْله) وأهل بيته، بل بمعاداة الأنصار أيضاً، فحملوا ابن أبي قحافة على أكتاف الناس رغماً لعلي (عليه السلام) ولهم(2).

وقد ورد في الحديث عن الإمام العسكري (عليه السلام) حيث سأله أحد أصحابه أن أحد المخالفين طرح عليه هذه الشبهة أن فلاناً وفلاناً هل أسلما طوعاً أو كرهاً، فقال (عليه السلام): «لم لم تقل له: بل أسلما طمعاً، وذلك بأنهما كانا يجالسان اليهود ويستخبرانهم عما كانوا يجدون في التوارة وفي سائر الكتب المتقدمة الناطقة بالملاحم من حال إلى حال، من قصة محمد (صلي الله عليه و آْله) ومن عواقب أمره، فكانت اليهود تذكر أن محمداً يسلط على العرب كما كان بخت نصر سلط على بني إسرائيل، ولابد له من الظفر بالعرب كما ظفر بخت نصر ببني إسرائيل».

ص: 137


1- الصوارم المهرقة: ص290.
2- الصوارم المهرقة: ص290.

........................

ثم قال (عليه السلام): «فأتيا محمداً فساعداه على شهادة أن لا إله إلا الله وبايعاه طمعاً في أن ينال كل واحد منهما من جهته ولاية بلد إذا استقامت أموره واستتبت أحواله، فلما آيسا من ذلك تلثما وصعدا العقبة مع عدة من أمثالهما من المنافقين على أن يقتلوه(صلي الله عليه و آْله) فدفع الله تعالى كيدهم وردهم بغيظهم لم ينالوا خيراً، كما أتى طلحة والزبير علياً (عليه السلام) فبايعاه وطمع كل واحد منهما أن ينال من جهته ولاية بلد، فلما آيسا نكثا بيعته وخرجا عليه» الحديث(1).

العقل والعاطفة

مسألة: من أساليب الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: شفع الدليل العقلي بالإثارة العاطفية، وتحريك العواطف نحو الالتزام بالحق أو الدفاع عن المظلوم، وقد ثبت ذلك في (علم النفس) أيضاً، وربما كان من ذلك قوله تعالى: «وإنك لعلى خلق عظيم»(2)، وقوله سبحانه: «فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين»(3).

وهذا (4) هو ما صنعته فاطمة الزهراء (عليها السلام) حيث استثارت همم الأنصار بقولها: «يا معشر النقيبة أو الفتية» تحريكاً للفتوة فيهم، وبقولها: «وأعضاد

ص: 138


1- كمال الدين: ج2 ص463 ب43 ضمن ح21.
2- سورة القلم: 4.
3- سورة آل عمران: 159.
4- أي الشفع بين الدليل العقلي والعاطفي.

........................

الملة…» تذكيراً لهم بماضيهم المشرق.

لا يقال: كيف خاف أولئك الذين آووا ونصروا كما في القرآن الحكيم(1) وبذلوا النفس والنفيس في سبيل الرسول (صلي الله عليه وآْله) والإسلام؟

لأنه يقال: من الواضح أن الناس يرهبون حكومات الانقلاب دائماً، فإن الحكومة العسكرية عادة تنسف الناس مالاً وعرضاً ودماً، وفي حياة الرسول (صلي الله عليه و آْله) كان (صلي الله عليه و آْله) هو قطب الرحى وعمود الخيمة الذي يستندون إليه وإلى حكومته وكانت به استقامتهم وصبرهم وصمودهم، فلما توفي (صلي الله عليه و آْله) وتحولت الحكومة إلى حكومة عسكرية إرهابية وتعرضوا لامتحان عسير، سقطوا في الامتحان وتراجعوا حتى عن الدفاع بالكلام إلا القليل منهم.

وكان ذلك كما أخبر جل وعلا: «أفئن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم»(2). وكما جرى على مر التاريخ بالنسبة إلى الكثير من الأقوام، حيث قال تعالى: «فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين»(3)، و…

وبالنسبة إلى الكثير من الأفراد حتى من امتلك الاسم الأعظم كما في قصة بلعم بن باعوراء(4) حيث قال سبحانه:

ص: 139


1- قال تعالى: «ان الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض» سورة الأنفال: 72.
2- سورة آل عمران: 144.
3- سورة الصف: 5.
4- راجع قصص الأنبياء للجزائري: ص311 الفصل العاشر في قصة بلعم بن باعوراء...

........................

«واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فاتبعه الشيطان فكان من الغاوين»(1).

وتلك هي سنة الله في الحياة: «ألم * أحسب الناس أن يتركوا أنيقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين»(2).

هذا مضافاً إلى أن العديد ممن كانوا يدعون الإسلام كانوا يبغضون أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) لأجل هلاك آبائهم وإخوانهم وأولادهم بيده (عليه السلام) في غزوات النبي (صلي الله عليه و آْله) حتى روي أنه لم يكن بيت من قريش إلا ولهم عليه دعوى دم أراقه في سبيل الله(3)، فإن المشركين عندما كانوا يهاجمون رسول الله (صلي الله عليه و آْله) حتى يقتلوه كان أمير المؤمنين علي (عليه السلام) هو الذي يدافع عن الرسول (صلي الله عليه و آْله) ويقتل المشركين.

وكان العديد منهم يحسدون أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) على ما آتاه الله من فضله، خصوصاً بنو أمية وبنو المغيرة وبنو مخزوم ومن أشبه.

قال تعالى: «أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله»(4).

وفي الحديث الشريف: «يعني بالناس ههنا أمير المؤمنين والأئمة»(5)

ص: 140


1- سورة الأعراف: 175.
2- سورة العنكبوت: 1-3.
3- راجع الصوارم المهرقة: ص289.
4- سورة النساء: 54.
5- تفسير القمي: ج1 ص140 سورة النساء.

........................

بين طائفتين

مسألتان: استعداء طائفة من المؤمنين على طائفة أخرى محرم، قال تعالى: «فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ»(1). وقال سبحانه: «وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ»(2). وقال عزوجل: «إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء»(3).

وقال تعالى: «فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ»(4).

والاستنصار بطائفة على طائفة أخرى دفاعاً عن الحق والمظلوم واجب، قال تعالى: «وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيء إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ»(5). ولذلك استنصرت فاطمة الزهراء (عليها السلام) الأنصار على المهاجرين كما هو أبين من الشمس.

بل قال تعالى: «وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ»(6).

ص: 141


1- سورة البقرة: 178، وسورة المائدة: 94.
2- سورة البقرة: 190، وسورة المائدة: 87.
3- سورة المائدة: 91.
4- سورة المؤمنون: 7، وسورة المعارج: 31.
5- سورة الحجرات: 9.
6- سورة الحج: 40.

وأعضاد الملة وأنصار الإسلام

اشارة

-------------------------------------------

وأعضاد الملة(1) وأنصار الإسلام(2)

المشتق بلحاظ حال التلبس

مسألة: المشتق حقيقة فيما انقضى عنه المبدأ بلحاظ حال التلبس، فإطلاقها (عليها السلام) (أعضاد الملة) عليهم حقيقة بهذا اللحاظ، ومجاز لو أريد الحال الحاضر - أي حال الخطاب -.

أو يقال(3): إن هذا الإطلاق وأشباهه مبني على الحال الغالب وليس على المفردات كلها، وهم كانوا كذلك في طابعهم العام وإن لم ينصروها (عليها السلام) في فدك.

أو يقال: إن هذه كانت صفتهم إلى الخطاب، أما بعده فسقطوا عنها لتخليهم عنها (عليها السلام) في فدك، وعن الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام) في الخلافة وسائر ما يتعلق بها.

والذي يدل على ذلك قولها (عليها السلام) فيما سيأتي: «فأنى حزتم بعد البيان، وأسررتم بعد الإعلان، ونكصتم بعد الإقدام، وأشركتم بعد الإيمان».

وقد ورد عن رسول الله (صلي الله عليه و آْله): «من أصبح لا يهتم بأمر المسلمين فليس من المسلمين، ومن شهد رجلاً ينادي يا للمسلمين فلم يجب فليس من المسلمين»(4).

ص: 142


1- وفي بعض النسخ: وأعوان الملة.
2- وفي بعض النسخ: وحضنة الإسلام.
3- لا يخفى أن مآل هذا القول ولاحقه إلى أن الإطلاق حقيقي.
4- الجعفريات: ص88 باب وجوب الاهتمام بأمور المسلمين وإعانتهم.

........................

قولها (عليها السلام): «وأعضاد الملة»، الأعضاد: جمع عضد،وهو عبارة عن: الأعوان، ولذا يقال: عضده بمعنى: نصره إي صار عضداً له.

و«الملة»: الأمة التي على طريقة واحدة.

قولها (عليها السلام): «وأنصار الإسلام» فإنهم كانوا ينصرون الإسلام في صلاته وصيامه وحجه وجهاده وزكاته وسائر شؤونه، فيقال: أنصار الإسلام باعتبار المبدأ والدين، كما يقال: أنصار المسلمين أو أنصار زيد وعمرو باعتبار الفرد أو الأفراد.

وفي الحديث: إن جابراً كان يتوكأ على عصاه وهو يدور في سكك الأنصار ومجالسهم ويقول: علي خير البشر فمن أبى فقد كفر، يا معشر الأنصار أدبوا أولادكم على حب علي (عليه السلام) فمن أبى فانظروا في شأن أمه(1).

وعن ابن عباس قال: خرج رسول الله (صلي الله عليه و آْله) ذات يوم وهو آخذ بيد علي ابن أبي طالب وهو يقول: «يا معشر الأنصار، يا معشر بني هاشم، يا معشر بني عبد المطلب، أنا محمد رسول الله، ألا إني خلقت من طينة مرحومة في أربعة من أهل بيتي: أنا وعلي وحمزة وجعفر» الحديث(2).

وفي بعض النسخ (وحضنة الإسلام) فإنهم احتضنوا نواة الإسلام في المدينة قبل مجيء الرسول (صلي الله عليه و آْله) وبعده، ولكن في قصة الامتحان في الخلافة تغيرت المعادلة

ص: 143


1- الأمالي للشيخ الصدوق: ص76-77 المجلس 18 ضمن ح6.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: ص206-207 المجلس 37 ضمن ح7.

........................

وفي كتاب كتبه أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى معاوية: «... إن رسول الله (صلي الله عليه و آْله) قبضه الله إليه ونحن أهل بيته أحق الناس به، فقلنا: لا يعدل الناس عنا ولا يبخسونا حقنا، فما راعنا إلا والأنصار قد صارت إلى سقيفة بني ساعدة يطلبون هذا الأمر، فصار أبو بكر إليهم وعمر فيمن تبعهما، فاحتج أبو بكر عليهم بأن قريشاً أولى بمقام رسول الله (صلي الله عليه و آْله) منهم، لأن رسول الله (صلي الله عليه و آْله) من قريش وتوصل بذلك إلى الأمر دون الأنصار، فإن كانت الحجة لأبي بكر بقريش، فنحن أحق الناس برسول الله (صلي الله عليه و آْله) ممن تقدمنا، لأننا أقرب من قريش كلها إليه وأخصهم به»(1).

نصرة الإسلام

مسألة: عضد الملة ونصرة الإسلام من الواجبات، ومن الواضح أن الإسلام الذي ارتضاه الله للناس هو مشروط بولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) حيث كمل الدين وأتمت النعمة بولايته (عليه السلام) وعند ذلك رضي الله الإسلام ديناً لنا، قال تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينا»(2).

عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني عن أبي جعفر الثاني عن أبيه عن جده (عليهم السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): قال رسول الله (صلي الله عليه و آْله): «إن الله خلق الإسلام فجعل له عرصة وجعل له نورا وجعل له حصنا وجعل له ناصرا، فأما

ص: 144


1- الفصول المختارة: ص287.
2- سورة المائدة: 3.

........................

عرصته فالقرآن، وأما نوره فالحكمة، وأما حصنه فالمعروف، وأما أنصاره فأنا وأهل بيتي وشيعتنا، فأحبوا أهل بيتي وشيعتهم وأنصارهم، فإنه لما أسري بي إلى السماء الدنيا فنسبني جبرئيل (عليه السلام) لأهل السماء استودع الله حبي وحب أهل بيتي وشيعتهم في قلوب الملائكة فهو عندهم وديعة إلى يوم القيامة، ثم هبط بي إلى أهل الأرض فنسبني إلى أهل الأرض فاستودع الله عزوجل حبي وحب أهل بيتي وشيعتهم في قلوب مؤمني أمتي، فمؤمنو أمتي يحفظون وديعتي في أهل بيتي إلى يوم القيامة، ألا فلو أن الرجل من أمتي عبد الله عزوجل عمره أيام الدنيا ثم لقي الله عزوجل مبغضا لأهل بيتي وشيعتي ما فرج الله صدره إلا عن النفاق»(1).

وعن مجاهد عن ابن عباس قال: لما زوج رسول الله (صلي الله عليه و آْله) عليا (عليه السلام) فاطمة (عليها السلام) تحدثن نساء قريش وغيرهن وعيرنها وقلن: زوجك رسول الله (صلي الله عليه و آْله) من عائل لا مال له.

فقال لها رسول الله (صلي الله عليه و آْله): «يا فاطمة أما ترضين أن الله تبارك وتعالى اطلع اطلاعة إلى الأرض فاختار منها رجلين: أحدهما أبوك والآخر بعلك، يا فاطمة كنت أنا وعلي نورين بين يدي الله عزوجل مطيعين من قبل أن يخلق الله آدم بأربعة عشر ألف عام، فلما خلق آدم قسم ذلك النور جزءين جزء أنا وجزء علي».

ثم إن قريشا تكلمت في ذلك وفشا الخبر فبلغ النبي (صلي الله عليه و آْله) فأمر بلالا فجمع الناس وخرج إلى مسجده ورقي منبرهيحدث الناس بما خصه الله تعالى من

ص: 145


1- الكافي: ج2 ص46 باب نسبة الإسلام ح3.

........................

الكرامة وبما خص به عليا وفاطمة (عليها السلام) فقال: «يا معشر الناس إنه بلغني مقالتكم وإني محدثكم حديثا فعوه واحفظوه مني واسمعوه فإني مخبركم بما خص به أهل البيت وبما خص به عليا (عليه السلام) من الفضل والكرامة وفضله عليكم، فلا تخالفوه فتنقلبوا على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين، معاشر الناس إن الله قد اختارني من خلقه فبعثني إليكم رسولا واختار لي عليا خليفة ووصيا، معاشر الناس إني لما أسري بي إلى السماء وتخلف عني جميع من كان معي من ملائكة السماوات وجبرئيل والملائكة المقربين ووصلت إلى حجب ربي دخلت سبعين ألف حجاب بين كل حجاب إلى حجاب من حجب العزة والقدرة والبهاء والكرامة والكبرياء والعظمة والنور والظلمة والوقار، حتى وصلت إلى حجاب الجلال فناجيت ربي تبارك وتعالى وقمت بين يديه وتقدم إلي عز ذكره بما أحبه وأمرني بما أراد، لم أسأله لنفسي شيئا في علي (عليه السلام) إلا أعطاني ووعدني الشفاعة في شيعته وأوليائه، ثم قال لي الجليل جل جلاله: يا محمد من تحب من خلقي؟

قلت: أحب الذي تحبه أنت يا ربي.

قال لي جل جلاله: فأحب عليا، فإني أحبه وأحب من يحبه.

فخررت لله ساجدا مسبحا شاكرا لربي تبارك وتعالى.

فقال لي: يا محمد، علي وليي وخيرتي بعدك من خلقي، اخترته لك أخا ووصيا ووزيرا وصفيا وخليفة وناصرا لك على أعدائي، يا محمد وعزتي وجلالي لا يناوي عليا جبار إلا قصمته، ولا يقاتل عليا عدو من أعدائي إلا هزمته وأبدته، يا محمد إني اطلعت على قلوب عبادي فوجدت عليا أنصح

ص: 146

........................

خلقي لك وأطوعهم لك، فاتخذه أخا وخليفة ووصيا وزوّجه ابنتك فإني سأهب لهما غلامين طيبين طاهرين تقيين نقيين، فبي حلفت وعلى نفسي حتمت أنه لايتولين عليا وزوجته وذريتهما أحد من خلقي إلا رفعت لواءه إلى قائمة عرشي وجنتي وبحبوحة كرامتي وسقيته من حظيرة قدسي، ولا يعاديهم أحد ويعدل عن ولايتهم يا محمد إلا سلبته ودي وباعدته من قربي وضاعفت عليهم عذابي ولعنتي..

يا محمد إنك رسولي إلى جميع خلقي وإن عليا وليي وأمير المؤمنين وعلى ذلك أخذت ميثاق ملائكتي وأنبيائي وجميع خلقي من قبل أن أخلق خلقا في سمائي وأرضي محبة مني لك يا محمد ولعلي ولولدكما ولمن أحبكما وكان من شيعتكما ولذلك خلقتهم من خليقتكما.

فقلت: إلهي وسيدي فاجمع الأمة عليه، فأبى علي وقال: يا محمد إنه المبتلى والمبتلى به وإني جعلتكم محنة لخلقي أمتحن بكم جميع عبادي وخلقي في سمائي وأرضي وما فيهن، لأكمل الثواب لمن أطاعني فيكم وأحل عذابي ولعنتي على من خالفني فيكم وعصاني وبكم أميز الخبيث من الطيب، يا محمد وعزتي وجلالي لولاك ما خلقت آدم، ولولا علي ما خلقت الجنة، لأني بكم أجزي العباد يوم المعاد بالثواب والعقاب، وبعلي وبالأئمة من ولده أنتقم من أعدائي في دار الدنيا، ثم إلي المصير للعباد والمعاد، وأحكمكما في جنتي وناري فلا يدخل الجنة لكما عدو ولا يدخل النار لكما ولي، وبذلك أقسمت على نفسي

ص: 147

........................

ثم انصرفت فجعلت لا أخرج من حجاب من حجب ربي ذي الجلال والإكرام إلا سمعت في النداء ورائي: يا محمد قدم عليا، يا محمد استخلف عليا، يا محمد أوص إلى علي، يا محمد واخ عليا، يا محمد أحب من يحب عليا، يا محمد استوص بعلي وشيعته خيرا.

فلما وصلت إلى الملائكة جعلوا يهنئونني في السماوات ويقولون: هنيئا لك يا رسول الله بكرامة لك ولعلي.

معاشر الناس علي أخي في الدنيا والآخرة ووصيي وأميني على سري وسر رب العالمين ووزيري وخليفتي عليكم في حياتي وبعد وفاتي، لا يتقدمه أحد غيري، وخير من أخلف بعدي، ولقد أعلمني ربي تبارك وتعالى أنه سيد المسلمين وإمام المتقين وأمير المؤمنين ووارثي ووارث النبيين ووصي رسول رب العالمين وقائد الغر المحجلين من شيعته وأهل ولايته إلى جنات النعيم بأمر رب العالمين، يبعثه الله يوم القيامة مقاما محمودا يغبطه به الأولون والآخرون، بيده لوائي لواء الحمد يسير به أمامي وتحته آدم وجميع من ولد من النبيين والشهداء والصالحين إلى جنات النعيم حتما من الله محتوما من رب العالمين، وعد وعدنيه ربي فيه ولن يخلف الله وعده وأنا على ذلك من الشاهدين»(1).

ص: 148


1- اليقين: ص424-428 ب158.

ما هذه الغميزة في حقي؟

اشارة

-------------------------------------------

ما هذه الغميزة(1) في حقي؟

الغمز من قناة الحق

مسألتان: يحرم الغمز من قناة الحق، كما يحرم الضعف عن الدفاع عن الحق إن أدى إلى تضييعه، وتتأكد الحرمة إذا كان حقاً متعلقاً بأولياء الله الصالحين، فكيف بحق سيدة نساء العالمين (عليها السلام).

فإن الحرمة كما تتأكد بلحاظ الزمان (كالمعصية في شهر الصيام أو ليلة القدر أو يوم الجمعة) والمكان (كشرب الخمر في المسجد وشبهها) كذلك تتأكد بلحاظ المنسوب إليه، مثلاً اتهام شخص عادي محرم، واتهام المؤمن العالم أشد حرمة، واتهام رسول الله (صلي الله عليه و آْله) وآل بيته الأطهار (عليهم السلام) أشد بمراتب وقد يوجب الكفر والارتداد، حسب الموازين المذكورة لهما في الأصول والفقه، وقد قال الإمام الحسين (عليه السلام) عندما وقف على مصرع ولده الأكبر (عليه السلام): «ما أجرأهم على الله وعلى انتهاك حرمة الرسول، وانهملت عيناه بالدموع»(2).

ومن هنا أفتى الفقهاء بأنه من زنى في شهر رمضان نهاراً أقيم عليه الحد وعوقب زيادة عليه لانتهاكه حرمة شهر رمضان(3)، وكذلك الحكم في شارب الخمر في شهر رمضان(4)، وكل من فعل شيئاً من المحظورات إن كان عليه حد

ص: 149


1- وفي بعض النسخ (والغميرة) بالراء وهو بمعنى الحقد، أو بمعنى الستر.
2- إعلام الورى: ص246 الفصل الرابع.
3- راجع موسوعة الفقه: ج87 ص279 كتاب الحدود والتعزيرات.
4- راجع موسوعة الفقه: ج87 ص280 كتاب الحدود والتعزيرات.

........................

أقيم عليه وعزر لانتهاكه حرمة شهر الصيام.

ومن زنى في حرم الله وحرم رسوله (صلي الله عليه و آْله) أو في حرم إمام (عليه السلام) حد للزنا وعزر لانتهاكه حرمة حرم الله وأوليائه (عليهم السلام) وكذلك من فعل شيئاً يوجب عليه حداً في مسجد أو موضع عبادة وجب عليه مع الحد التعزير(1).

ويغلظ عقاب من أتى محظوراً في ليالي الجمع وأيامها وليالي العبادات وأيامها كليلة النصف من شعبان وليلة الفطر ويومه، ويوم سبعة وعشرين من رجب، وخمسة وعشرين من ذي القعدة، وليلة سبع عشرة من ربيع الأول ويومه، وليلة الغدير ويومه، وليلة عاشوراء ويومه(2).

وقال (رحمة الله) أيضاً: من نكح امرأة ميتة كان الحكم عليه الحكم في ناكح الحية سواء، وتغلظ عقوبته لجرأته على الله عزوجل في انتهاك محارمه والاستخفاف بما عظم فيه الزجر ووعظ به العباد(3).

ومعنى الغميزة: أن يشيروا بأن لا حق لها إن كانت بمعنى الطعن، أو معناها: الضعف عن المطالبة بحقها وهو الأنسب للقرينة المقامية وبقرينة (والسِنة). فالتقاعس عن الحق محرم وله أثره الوضعي في الدنيا قبل الآخرة.

وقد قال الرسول (صلي الله عليه و آْله) في دعائه يوم غدير خم لأمير المؤمنين علي (عليه الصلاة والسلام): «اللهم انصر من نصره، واخذل من خذله»(4)، وهو يشمل كل

ص: 150


1- المقنعة: ص782 باب حدود الزنا.
2- المقنعة: ص782 باب حدود الزنا.
3- المقنعة: ص790 باب الحد في نكاح الأموات.
4- كشف الغمة: ج1 ص245.

........................

أهل البيت (عليه السلام) إلى الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف) (1)، ودعاء الرسول (صلي الله عليه و آْله) مستجاب قطعاً كما نشاهد ذلك تاريخياً بالنسبة إلى الذين خذلوا أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) وأهل البيت (عليهم السلام) أو نصروهم.

وقد استنصر أمير المؤمنين (عليه السلام) المهاجرين والأنصار فلم ينصروه، وفي احتجاجه (عليه السلام) مع القوم قال: «يا معاشر المهاجرين والأنصار، الله الله لا تنسوا عهد نبيكم إليكم في أمري، ولا تخرجوا سلطان محمد (صلي الله عليه و آْله) من داره وقعر بيته إلى دوركم وقعر بيوتكم، ولا تدفعوا أهله عن حقه ومقامه في الناس، فوالله معاشر الجمع إن الله قضى وحكم، ونبيه أعلم وأنتم تعلمون بأنا أهل البيت أحق بهذا الأمر منكم، أما كان القارئ منكم لكتاب الله الفقيه في دين الله، المضطلع بأمر الرعية، والله إنه لفينا لا فيكم، فلا تتبعوا الهوى فتزدادوا من الحق بعدا، وتفسدوا قديمكم بشر من حديثكم».

فقال بشير بن سعد الأنصاري الذي وطأ الأرض لأبي بكر، وقالت جماعة من الأنصار: يا أبا الحسن لو كان هذا الأمر سمعته منك الأنصار قبل بيعتها لأبي بكر ما اختلف فيك اثنان.

فقال علي (عليه السلام): «يا هؤلاء كنت أدع رسول الله (صلي الله عليه و آْله) مسجى لا أواريه وأخرج أنازع في سلطانه، والله ما خفت أحداً يسمو له وينازعنا أهل البيت فيه ويستحل ما استحللتموه، ولا علمت أن رسول الله (صلي الله عليه و آْله) ترك يوم غدير خم

ص: 151


1- ليس المقصود التعميم، للمناط والملاك القطعي فقط بل لوضوح كونهم نوراً واحداً، كما أن علياً نفس الرسول بشهادة قوله تعالى: «وأنفسنا وأنفسكم» سورة آل عمران: 61، وهذا مع أن الأدلة على خذلان من خذل أهل البيت (عليهم السلام) كثيرة جداً.

........................

لأحد حجة ولا لقائل مقالاً، فانشد الله رجلاً سمع النبي (صلي الله عليه و آْله) يوم غدير خم يقول: من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، أن يشهد الآن بما سمع».

قال زيد بن أرقم: فشهد اثنا عشر رجلاً بدرياً بذلك، وكنت ممن سمع القول من رسول الله (صلي الله عليه و آْله) فكتمت الشهادة يومئذ، فدعا علي (عليه السلام) عليّ، فذهب بصري، قال: وكثر الكلام في هذا المعنى وارتفع الصوت، وخشي عمر أن يصغي الناس إلى قول علي (عليه السلام) ففسخ المجلس وقال: إن الله يقلب القلوب، ولا تزال يا أبا الحسن ترغب عن قول الجماعة، فانصرفوا يومهم ذلك(1).

وبشكل عام لا يجوز التقاعس عن نصرة أهل الحق مطلقاً، بل نصرتهم واجبة، وعدمها لها أثره الوضعي، لكنه كالكلي المشكك وبالنسبة إلى غيرهم (عليهم السلام) في مرتبة دون مرتبتهم (عليهم الصلاة والسلام) حسب اختلاف الموضوع ودرجاته

ص: 152


1- الاحتجاج: ص74-75 ذكر طرف مما جرى بعد وفاة رسول الله (صلي الله عليه و آْله) من اللجاج والحجاج في أمر الخلافة..

........................

الحق القديم

مسألة: ليس (الزمان) من مسقطات الحق، فإن الحق القديم لا يبطله شيء كما ورد، على خلاف ما تذهب إليه القوانين الوضعية في عدد من الحقوق، وقد خطب أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في اليوم الثاني من بيعته بالمدينة فقال: «ألا وإن كل قطيعة أقطعها عثمان، وكل مال أعطاه من مال الله، فهو مردود في بيت المال، فإن الحق القديم لا يبطله شيء، ولو وجدته وقد تزوج به النساء وفرّق في البلدان لرددته إلى حاله، فإن في العدل سعة، ومن ضاق عنه الحق فالجور عليه أضيق»(1).

فإذا كانت ظلامتها (عليها السلام) لا تزال قائمة - كما هو كذلك في العديد من القضايا ومنها فدك وغصب الخلافة - فإن الضعف عن الدفاع عنها والسِنة عن ظلامتها محرم على عامة الناس في هذا الزمن أيضاً.

فقولها (عليها السلام): «ما هذا الغميزة عن حقي» وإن لم يشمل الأجيال اللاحقة خطاباً مباشراً إلا أنه يشملهم ملاكاً وضرورة.

ص: 153


1- شرح نهج البلاغة: ج1 ص269. خطبة ذكرها الكلبي مروية مرفوعة إلى أبي صالح عن أبن عباس.

والسنة عن ظلامتي

اشارة

-------------------------------------------

التواني في ظلامتها (عليها السلام)

مسألة: الظاهر أن مثل هذا العتاب يقتضي الحرمة، بقرينة المقام وغيره.

قولها (عليها السلام): «والسِنة عن ظلامتي» السِنة: هي النعاس وأول النوم، قال سبحانه: «لا تأخذه سنة ولا نوم»(1)، كأنهم بعدم اعتنائهم بظلامتها وقضيتها (صلوات الله عليها) في حالة نوم ونعاس، كمن هو كذلك حيث لا يسمع ولا يرى ولا يجيب.

والظلامة: بالضم كالمظلمة، بمعنى ما يأخذه الظالم فتطلبه عنده، فإنهم لم يساعدوها (عليها الصلاة والسلام) في استرجاع فدك وخلافة أمير المؤمنين علي (عليه السلام).

روي أن فاطمة (عليها السلام) جاءت إلى أبي بكر بعد وفاة رسول الله (صلي الله عليه و آْله) فقالت: يا أبا بكر من يرثك إذا مت؟

قال: أهلي وولدي.

قالت: فما لي لا أرث رسول الله (صلي الله عليه و آْله)؟

قال: يا بنت رسول الله إن النبي لا يورث! ولكن أنفق على من كان ينفق عليه رسول الله وأعطي ما كان يعطيه.

ص: 154


1- سورة البقرة: 255.

........................

قالت: والله لا أكلمك بكلمة ما حييت، فما كلمته حتى ماتت(1).

وقد أخبرها (عليها السلام) رسول الله (صلي الله عليه و آْله) بما يجري عليها من الظلم، حيث روى جابر بن عبد الله الأنصاري قال: دخلت فاطمة (عليها السلام) على رسول الله (صلي الله عليه و آْله) وهو في سكرات الموت، فانكبت عليه تبكي، ففتح عينه وأفاق ثم قال (صلي الله عليه و آْله): «يا بنية أنت المظلومة بعدي وأنت المستضعفة بعدي، فمن آذاك فقد آذاني، ومن غاظك فقد غاظني، ومن سرك فقد سرني، ومن برك فقد برني، ومن جفاك فقد جفاني، ومن وصلك فقد وصلني، ومن قطعك فقد قطعني، ومن أنصفك فقد أنصفني، ومن ظلمك فقد ظلمني، لأنك مني وأنا منك وأنت بضعة مني وروحي التي بين جنبي».

ثم قال (صلي الله عليه و آْله): «إلى الله أشكو ظالميك من أمتي» ثم دخل الحسن والحسين 3 فانكبا على رسول الله (صلي الله عليه و آْله) وهما يبكيان ويقولان: «أنفسنا لنفسك الفداء يا رسول الله» فذهب علي (عليه السلام) لينحيهما عنه، فرفع رأسه إليه ثم قال: «يا علي دعهما يشماني وأشمهما، ويتزودان مني وأتزود منهما، فإنهما مقتولان بعدي ظلما وعدوانا، فلعنة الله على من يقتلهما» ثم قال: «يا علي وأنت المظلوم المقتول بعدي وأنا خصم لمن أنت خصمه يوم القيامة»(2).

وعن عكرمة عن عبد الله بن العباس قال: لما حضرت رسول الله (صلي الله عليه و آْله) الوفاة بكى حتى بلت دموعه لحيته، فقيلله: يا رسول الله ما يبكيك؟ فقال: «أبكي لذريتي وما تصنع بهم شرار أمتي من بعدي، كأني بفاطمة ابنتي وقد

ص: 155


1- بحار الأنوار: ج29 ص206 ب11 نزول الآيات في أمر فدك وقصصه وجوامع الاحتجاج فيه.
2- كشف الغمة: ج1 ص497-498.

........................

ظلمت بعدي وهي تنادي: يا أبتاه يا أبتاه فلا يعينها أحد من أمتي»، فسمعت ذلك فاطمة (عليها السلام) فبكت فقال لها رسول الله (صلي الله عليه و آْله): «لا تبكين يا بنية» فقالت: «لست أبكي لما يصنع بي من بعدك ولكن أبكي لفراقك يا رسول الله» فقال لها: «أبشري يا بنت محمد بسرعة اللحاق بي فإنك أول من يلحق بي من أهل بيتي»(1).

وروي عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: «ما رئيت فاطمة (عليها السلام) ضاحكة قط منذ قبض رسول الله (صلي الله عليه و آْله) حتى قبضت»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «البكاءون خمسة: آدم ويعقوب ويوسف وفاطمة بنت محمد وعلي بن الحسين (عليهم السلام)، فأما آدم فبكى على الجنة حتى صار في خديه أمثال الأودية، وأما يعقوب فبكى على يوسف حتى ذهب بصره، وحتى قيل له «تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ»(3)، وأما يوسف فبكى على يعقوب حتى تأذى به أهل السجن فقالوا: إما أن تبكي الليل وتسكت بالنهار وإما أن تبكي النهار وتسكت بالليل، فصالحهم على واحد منهما، وأما فاطمة فبكت على رسول الله (صلي الله عليه و آْله) حتى تأذى بها أهل المدينة فقالوا لها قد آذيتنا بكثرة بكائك، وكانت تخرج إلى مقابر الشهداء فتبكي حتى تقضي حاجتهاثم تنصرف، وأما علي بن الحسين فبكى على الحسين عشرين سنة أو أربعين سنة وما وضع بين يديه طعام إلا بكى حتى قال له مولى

ص: 156


1- الأمالي للطوسي: ص188 المجلس 7 ح316.
2- بحار الأنوار: ج43 ص196 ب7.
3- سورة يوسف: 85.

أما كان رسول الله (صلي الله عليه و آْله) أبي يقول: «المرء يحفظ في ولده»؟

اشارة

-------------------------------------------

له: جعلت فداك إني أخاف عليك أن تكون من الهالكين، قال: «إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون»(1) إني لم أذكر مصرع بني فاطمة (عليهم السلام) إلا خنقتني لذلك عبرة»(2).

أما كان رسول الله أبي يقول: «المرء يحفظ في ولده»(3)؟

الاستشهاد بكلام المعصوم (عليه السلام)

مسألة: يستحب الاستشهاد بكلام الرسول (صلي الله عليه و آْله) وإن كان بمضمونه مَثَلٌ سائر، فإن إسناده إليه (صلي الله عليه و آْله) أولى وأفضل، لكونه (صلي الله عليه و آْله) حجة دون الأمثال، كما استشهدت (عليها السلام) بقوله (صلي الله عليه و آْله): «المرء يحفظ في ولده». ومن ذلك يعرف أن المثل إذا استشهد به المعصوم (عليه السلام) صار حجة وأمكن التمسك بإطلاقه أو عمومه إلا إذا لم يكن(عليه السلام) في مقام البيان من تلك الجهة كما لا يخفى.

قال الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام) لابنته سكينة (عليها السلام): «هيهات لو ترك القطا لنام»(4).

ص: 157


1- سورة يوسف: 86.
2- وسائل الشيعة: ج3 ص280-281 ب87 ح3655.
3- وفي بعض النسخ: (أما كان رسول الله أن يحفظ).
4- بحار الأنوار: ج45 ص47 بقية الباب 37.

........................

وفي رواية أنه (عليه السلام) قالها لأخته العقيلة زينب (عليها السلام) (1).

وفي الرواية: «الناس على دين ملوكهم»(2).

وفي الرواية: «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة»(3).

وفي الرواية: «الناس بالناس»(4).

وعن رسول الله (صلي الله عليه و آْله): «إذا لم تستح فافعل ما شئت»(5).

وعنه (صلي الله عليه و آْله): «إنّ العرقَ دساس»(6).

وعنه (صلي الله عليه و آْله): «الجار ثم الدار»(7).

وعنه (صلي الله عليه و آْله): «الحرب خدعة»(8).وعنه (صلي الله عليه و آْله): «سيد القوم خادمهم»(9).

وعنه (صلي الله عليه و آْله): «خير الأمور أوسطها»(10).

وعنه (صلي الله عليه و آْله): «ربَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه»(11).

ص: 158


1- راجع بحار الأنوار: ج45 ص2 ب37.
2- كشف الغمة: ج2 ص21.
3- الكافي: ج8 ص177 ح197 عن أبي عبد الله (عليه السلام).
4- بحار الأنوار: ج75 ص135 ب21 ح3. تحف العقول: ص278.
5- مستدرك الوسائل: ج8 ص466 ب93 ح10030.
6- مكارم الأخلاق: ص197.
7- وسائل الشيعة:ج7 ص112-113 ب42 ح8884.
8- من لا يحضره الفقيه: ج4 ص378 ح5794.
9- من لا يحضره الفقيه: ج4 ص378 ح5791.
10- غوالي اللآلي: ج1 ص296 ح199.
11- الكافي: ج1 ص403 ح1.

........................

وعنه : «العجلةُ من الشيطان»(1).

وعنه (صلي الله عليه و آْله): «عند جهينة الخبر اليقين»(2).

يحفظ المرء في ولده

مسألة: يجب حفظ المرء في ولده في الجملة، للأدلة الدالة على بعض المصاديق، ولكون قوله (صلي الله عليه و آْله): «المرء يحفظ في ولده» إنشاء بصيغة إخبار كقوله (عليه السلام): «يعيد صلاته»، وقد يستحب ذلك، فالوجوب في مورده(3) والاستحباب كذلك.

ومعنى (حفظ المرء في ولده) إيصال حقه إليهم ورعاية الاحترام اللائق بهم لنسبتهم به، إلى غير ذلك من الأمور المادية والمعنوية.

قال (عليه السلام): «أو ما علمت أن حرمة رحم رسول الله (صلي الله عليه و آْله) حرمة رسول الله، وأن حرمة رسول اللهحرمة الله تعالى»(4).

ومن هنا أخذ يخاطب الإمام الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء ويقول: «أما بعد، فانسبوني فانظروا من أنا، ثم ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها فانظروا هل يصلح لكم قتلي وانتهاك حرمتي، ألست ابن بنت نبيكم وابن وصيه وابن عمه وأول المؤمنين، المصدق لرسول الله بما جاء به من عند ربه..»(5).

ص: 159


1- تحف العقول: ص43 ح58.
2- بحار الأنوار: ج52 ص187 ب25 ح11.
3- كالإرث وشبهه.
4- تفسير الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): ص35.
5- الإرشاد: ج2 ص97.

........................

هذا والعجب أن عائشة كانت تطالب بحرمة رسول الله (صلي الله عليه و آْله) فيها، وفاطمة الزهراء (سلام الله عليها) وأهل بيته الطاهرون (عليهم السلام) لم يراع في حقهم حرمة رسول الله(صلي الله عليه و آْله).

وفي الحديث: إن بعد حرب جمل لما عزم أمير المؤمنين (عليه السلام) على المسير إلى الكوفة، أنفذ إلى عائشة يأمرها بالرحيل إلى المدينة، فتهيأت لذلك، وأنفذ الإمام معها رعاية لها أربعين امرأة ألبسهن العمائم والقلانس وقلدهن السيوف وأمرهن أن يحفظنها ويكن عن يمينها وشمالها ومن ورائها، فجعلت عائشة تقول في الطريق: اللهم افعل بعلي بن أبي طالب بما فعل بي، بعث معي الرجال(1) ولم يحفظ بي حرمة رسول الله (صلي الله عليه و آْله)، فلما قدمن المدينة معها ألقين العمائم والسيوف ودخلن معها، فلما رأتهن ندمت على ما فرطت بذم أمير المؤمنين (عليه السلام) وسبه، وقالت: جزى الله ابن أبي طالب خيراً، فلقد حفظ فيّ حرمةرسول الله(صلي الله عليه و آْله) (2).

قولها (عليها السلام): «أما كان رسول الله (صلي الله عليه و آْله) أبي يقول: المرء يحفظ في ولده»، فإن فاطمة الزهراء (عليها الصلاة والسلام) استدلت بنمطين من الاستدلال:

النمط الأول: أنها (عليها السلام) مع الحق، والحق معها، وأنها مظلومة، فاللازم الانتصار لها وأخذ ظلامتها من الخصم وردها إليها.

النمط الثاني:أنها ابنة رسول الله (صلي الله عليه و آْله)، واللازم أن يحفظ رسول الله (صلي الله عليه و آْله) فيها، حيث قال: «المرء يحفظ في ولده»، فإن حفظ الأولاد وقضاء حوائجهم

ص: 160


1- هذا وقد خرجت هي مع الرجال لحرب أمير المؤمنين (عليه السلام) ولم ترع ذلك بنفسها!
2- راجع الجمل: ص415 إرسال عائشة إلى المدينة.

........................

والقيام بأمورهم هو عبارة أخرى عن حفظ الوالد.

و(في) هنا بمعنى: النسبة على قول، مثله مثل قول المتكلمين: (الواجبات الشرعية ألطاف في الواجبات العقلية) أي: بالنسبة للواجبات العقلية.

أو أن (في) بمعنى: الظرفية المتسعة، فان الظرف له اتساع يصدق مع كل من الظرفية الحقيقية والمجازية وهنا الظرفية مجازية.

هذا وقد ورد التأكيد الكبير على لزوم إكرام ذرية رسول الله (صلي الله عليه و آْله).

قال النبي (صلي الله عليه و آْله): «أنا شافع يوم القيامة لأربعة أصناف ولو جاءوا بذنوب أهل الدنيا: رجل نصر ذريتي، ورجل بذل ماله لذريتي عند الضيق، ورجل أحب ذريتي باللسان والقلب، ورجل سعى في قضاء حوائج ذريتي إذا طردوا أو شردوا»(1).وقال (صلي الله عليه و آْله): «من أحبني و أحب ذريتي أتاه جبرئيل إذا خرج من قبره فلا يمر بهول إلا أجازه إياه»(2).

وقال (صلي الله عليه و آْله): «معاشر الناس إن عليا والطاهرين من ذريتي وولدي وولده هم الثقل الأصغر، والقرآن الثقل الأكبر، وكل واحد منهما منبئ عن صاحبه وموافق له، لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، ألا إنهم أمناء الله في خلقه وحكامه في أرضه، ألا وقد أديت، ألا وقد أسمعت، ألا وقد بلغت، ألا وقد أوضحت»(3).

ص: 161


1- وسائل الشيعة: ج16 ص332 ب17 ح21690.
2- المناقب: ج3 ص237 فصل في حمايته لأوليائه.
3- راجع اليقين: ص351-352 ب127.

........................

وقال رسول الله (صلي الله عليه و آْله): «أربعة أنا لهم شفيع يوم القيامة: المكرم لذريتي، والقاضي لهم حوائجهم، والساعي لهم في أمورهم عند ما اضطروا إليه، والمحب لهم بقلبه و لسانه»(1).

وفي الحديث: «إنّ الحسين بن عليّ (عليه السلام) أتى عمر بن الخطاب وهو على المنبر يوم الجمعة، فقال له: انزل عن منبر أبي. فبكى عمر، ثم قال: صدقت يا بني، منبر أبيك لا منبر أبي، فقال عليّ (عليه السلام) ما هو واللّه عن رأيي، فقال: صدقت واللّه ما اتّهمتك يا أبا الحسن، ثم نزل عن المنبر فأخذه فأجلسه إلى جانبه على المنبر فخطب الناس وهو جالس على المنبر معه، ثم قال: أيّها الناس سمعت نبيّكم (صلي الله عليه و آْله) يقول: احفظوني في عترتي وذريتي، فمن حفظني فيهم حفظه اللّه، ألا لعنة اللّه على من آذاني فيهم،ثلاثا»(2).

وفي تفسير العياشي(3) عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

«إن الله ليحفظ ولد المؤمن إلى ألف سنة، وأن الغلامين كان بينهما وبين أبويهما سبعمائة سنة»

ص: 162


1- عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج2 ص24-25 ب31 ح4.
2- الأمالي للطوسي: ص703 مجلس40 ح1504.
3- تفسير العياشي: ج2 ص336 ح58.

........................

الولد يشمل الذكر والأنثى

مسألة: لا فرق بين الذكر والأنثى في وجوب أو استحباب محفوظيتهما في أولادهما، فإن قوله (صلي الله عليه و آْله): «يحفظ المرء في ولده» يشمل الرجل والمرأة، إذ المراد بالمرء: الإنسان، ولو كان المراد به ما هو جمع الرجل لكان الشمول بالملاك، وكان ذكره من باب الغالب، ومن الواضح أن (الولد) يطلق على الذكر والأنثى.

قال رسول الله (صلي الله عليه و آْله): «خير أولادكم البنات»(1).

وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلا ثلاث خصال: صدقة أجراها في حياته فهي تجري بعد موته، وسنة هدى سنها فهي يعمل بها بعد موته، وولد صالح يستغفر له»(2)، فإن الولد يشملهما كما لايخفى.

وقال (صلي الله عليه و آْله): «إنّ الولد الصالح ريحانة من رياحين الجنة»(3).

وقال (صلي الله عليه و آْله): «من سعادة المرء المسلم: الزوجة الصالحة، والمسكن الواسع، والمركب الهنيء، والولد الصالح»(4).وقال (صلي الله عليه و آْله): «من سعادة المرء الخلطاء الصالحون والولد البار»(5).

ص: 163


1- مستدرك الوسائل: ج15 ص116 ب3 ح17708.
2- وسائل الشيعة: ج16 ص174 ب16 ح21275.
3- الكافي: ج6 ص3 باب فضل الولد ح10.
4- دعائم الإسلام: ج2 ص195 ف2 ح709.
5- مستدرك الوسائل: ج15 ص113 ب2 ح17692.

........................

حق الأجيال القادمة

مسألة: من الحقوق التي ينبغي مراعاتها حق الأجيال القادمة، على تفصيل ذكرناه في بعض الكتب الاقتصادية بالنسبة إلى حيازة المباحات وما أشبه.

فإن هناك فرقاً واضحاً بين ما لو أنها (عليها السلام) قالت: (أما قال رسول الله)، وبين قولها (عليها السلام): «أما كان رسول الله أبي يقول» فإن الثاني دال على الاستمرار دون الأول.

وقد كان (صلي الله عليه و آْله) يهتم بحقوق الأجيال القادمة أيضاً، خاصة بلحاظ أن (الولد) يشمل أبناء الأبناء أيضاً(1)، وبمسؤولية المجتمع تجاه الجيل الجديد ممن توفي آباؤهم بل حتى في حال حياة الآباء، خاصة إذا قلنا بأن (المرء يحفظ في ولده) دال بإطلاقه على حالتي الحياة والممات، إلا أن يقال بالانصراف، فتأمل.

هذا مضافاً إلى كثرة الروايات والآيات الواردة في مطلق الذرية مما يدل على لزوم الاهتمام بهم.

قال تعالى حكاية عن امرأة عمران: «وَإِنِّي

سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّيأُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ »(2).

ص: 164


1- لاحظ قوله: (بنونا بنو أبنائنا)، ولاحظ إطلاق (ابن الرضا) على الإمام الهادي (عليه السلام) والعسكري (عليه السلام) ولاحظ قبل ذلك قوله تعالى: «فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ»، سورة آل عمران: 61، وإطلاق (ابني رسول الله) على الحسن والحسين 3 فالشمول بالاطلاق، وإلا فبالملاك.
2- سورة آل عمران: 36.

........................

وقال سبحانه: «هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ»(1)

وقال تعالى: «وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ»(2).

وقال سبحانه: «وأصلح لي في ذريتي»(3).

وفي الدعاء: «أعيذ بك نفسي وأهلي وذريتي من الشيطان الرجيم»(4).

وأيضا: «اللهم إني أستودعك نفسي وأهلي ومالي وذريتي ودنياي وآخرتي» الدعاء(5).

ص: 165


1- سورة آل عمران: 38.
2- سورة النساء: 9.
3- سورة الأحقاف: 15.
4- الكافي: ج2 ص585-586 باب دعوات موجزات ضمن ح24.
5- من لا يحضره الفقيه: ج2 ص271 باب ما يستحب للمسافر ضمن ح2413.

سرعان ما أحدثتم

اشارة

------------------------------

سرعان ما أحدثتم(1)

مصدرية الخطبة

مسألة: يلزم على المؤرخين أن يعدّوا خطبتها (عليها السلام) مصدراً أساسياً ومعتمداً للأحداث التاريخية التي جرت في تلك الفترة، كما يلزم الانطلاق في (زاوية الرؤية) من المقاييس التي أعطتها (عليها السلام) في هذه الخطبة: من تقييم للأحداث أو للأشخاص.

فإن الحق ما قالوه، والصواب ما بينوه (صلوات الله عليهم أجمعين).

وفي زيارة الجامعة: «الحق معكم وفيكم ومنكم وإليكم وأنتم أهله ومعدنه»(2).

وقال (عليه السلام): «سلم من صدقكم وهدي من اعتصم بكم»(3).

وقال رسول الله (صلي الله عليه و آْله): «.. فليوال علي بن أبي طالب وذريته من بعده فهم الأئمة وهم الأوصياء أعطاهم الله علمي وفهمي، لا يدخلونكم في باب ضلال، ولا يخرجونكم من باب هدى، لا تعلموهم فهم أعلم منكم»(4).

وقال(صلي الله عليه و آْله):«لا تعلموهم ولا تتقدموهم ولا تتخلفوا عنهم فإنهم مع الحق

ص: 166


1- وفي بعض النسخ: (سرعان ما أجدبتم فاكديتم) أجدب القوم أي أصابهم الجدب، وأكدى الرجل إذا قل خيره.
2- راجع البلد الأمين: ص299 أعمال شهر ذي الحجة.
3- راجع تهذيب الأحكام: ج6 ص97 ب46 ضمن ح1.
4- راجع الخصال: ج2 ص558 احتجاج أمير المؤمنين (عليه السلام).

........................

والحق معهم لا يزايلونه»(1).

عن حذيفة بن أسيد قال سمعت رسول الله (صلي الله عليه و آْله) يقول، وسأله سلمان عن الأئمة فقال: «الأئمة بعدي عدد نقباء بني إسرائيل تسعة من صلب الحسين ومنا مهدي هذه الأمة، ألا إنهم مع الحق و الحق معهم فانظروا كيف تخلفوني فيهم»(2).

وعن عمران بن حصين قال: خطبنا رسول الله (صلي الله عليه و آْله) فقال معاشر الناس إني راحل عن قريب ومنطلق إلى المغيب، أوصيكم في عترتي خيرا، فقام إليه سلمان فقال: يا رسول الله أليس الأئمة بعدك من عترتك، فقال: نعم الأئمة بعدي من عترتي بعدد نقباء بني إسرائيل تسعة من صلب الحسين ومنا مهدي هذه الأمة فمن تمسك بهم فقد تمسك بحبل الله لا تعلموهم فإنهم أعلم منكم واتبعوهم فإنهم مع الحق والحق معهم حتى يردوا علي الحوض»(3)

ص: 167


1- راجع كتاب سليم بن قيس: ص646 ضمن الحديث الحادي عشر.
2- كفاية الأثر: ص129-130 باب ما جاء عن حذيفة بن أسيد عن النبي (صلي الله عليه و آْله).
3- بحار الأنوار: ج36 ص330 ب41 ح188.

........................

الإحداث في الدين

مسألة: الإحداث في الدين محرم، والإسراع في الإحداث محرم آخر، لأن الفترة الزمانية والفاصل الزماني بين الإحداث المتأخر وبين الإحداث المسارع إليه أيضاً من مصاديق الإثم، ولما سبق أيضاً في الأجزاء السابقة، ويمكن استفادة الحرمة للمسارعة نحو الباطل من كلامها (عليها السلام) ههنا: «سرعان ما أحدثتم» بلحاظ كونها (عليها السلام) في مقام الذم والقدح والعتاب، فليتأمل.

سُئل أمير المؤمنين (عليه السلام) عن السنة والبدعة وعن الجماعة وعن الفرقة؟

فقال (عليه السلام): «السنة ما سن رسول الله (صلي الله عليه و آْله)، والبدعة ما أحدث من بعده، والجماعة أهل الحق وإن كانوا قليلاً، والفرقة أهل الباطل وإن كانوا كثيراً»(1).

وقال (صلي الله عليه و آْله): «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد»(2).

وقال (عليه السلام): «من تبسم في وجه مبتدع فقد أعان على هدم دينه»(3).

وقال (عليه السلام): «من مشى إلى صاحب بدعة فوقره فقد مشى في هدم الإسلام»(4).

وقال (صلي الله عليه و آْله): «وشر الأمور محدثاتها وكلبدعة ضلالة»(5).

ص: 168


1- معاني الأخبار: ص155 باب معنى السّنّه والبدعة والجماعة والفرقة ح3.
2- فقه القرآن: ج1 ص133 باب أحكام الجمعة.
3- المناقب: ج4 ص251.
4- ثواب الأعمال وعقاب الأعمال: ص258 عقاب من ابتدع ديناً.
5- راجع الأمالي للشيخ المفيد: ص211 المجلس 24 ضمن ح1.

........................

وقال (صلي الله عليه و آْله): «اتبعوا ولا تبتدعوا»(1).

وروي عن العالم (عليه السلام) أنه قال: «كل بدعة ضلالة وكل ضلالة إلى النار»(2).

وفي الحديث: «إنّ قليلا من سنّة خير من كثير بدعة، ألا وإنّ كلّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة سبيلها إلى النار»(3).

وقال رسول الله (صلي الله عليه و آْله): «إنّ عند كل بدعة تكون من بعدي يكاد بها الإيمان وليا من أهل بيتي موكلا به يذب عنه ينطق بإلهام من الله ويعلن الحق وينوره ويرد كيد الكائدين ويعبر عن الضعفاء فاعتبروا يا أولي الأبصار وتوكلوا على الله»(4).

قولها (عليها السلام): «سرعان ما أحدثتم»، سرعان: اسم فعل بمعنى: سرع، وفيه معنى التعجب، أي: ما أسرع ما أحدثتم في الدين وتركتم طريقة سيد المرسلين (صلي الله عليه و آْله) في ترك أهل بيته وخذلانهم (عليهم السلام) وعدم الدفاع عن المظلوم وفي التواني عن الأخذ بالحق الذي قرره أبي (صلي الله عليه و آْله) لي.

ص: 169


1- دعائم الإسلام: ج1 ص143.
2- فقه الرضا (عليه السلام): ص383 ب107.
3- راجع نهج الحق: ص289.
4- الكافي: ج1 ص54 باب البدع والرأي والمقاييس ح5.

وعجلان ذا إهالة

اشارة

-------------------------------------------

حفظ واستخدام الأمثال

مسألة: يستحب حفظ الأمثال التي استعملها المعصومون (عليهم السلام) واستخدامها وتداولها في شتى المحافل المناسبة، وبهذا القصد، فإنه نوع من إحياء أمرهم (عليهم السلام) فيما لو تعنون كذلك، إضافة إلى أن استخدام الأمثال في الخطاب يجعله أكثر تأثيراً، كما قالت (سلام الله عليها): «ذا إهالة».

وكذلك كان سائر الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) يستخدمون الأمثال في الجملة، قال أمير المؤمنين علي (عليه الصلاة والسلام) كما في الخطبة الشقشقية:

شتان ما يومي على كورها *** ويوم حيان أخي جابر (1)

وقال الإمام الحسين (عليه السلام):

فما إن طبنا جبن ولكن *** منايانا ودولة آخرينا (2)

إلى غير ذلك مما يجده المتتبع في كلماتهم (صلوات الله عليهم أجمعين).

وإنما كان استخدام الأمثال راجحاً لأنه أدعى للتأثير - كما سبق - وأقرب إلى القبول، إذ الناس عندما يعتادون شيئاً، يؤثر فيهم ذلك الشيء تأثيراً أسرع وأبلغ، بخلاف مجرد ذكر الواقع من دون المؤثرات، فإن تأثيره ليس بتلك المنزلة في كثير من الأحيان.

ص: 170


1- الإرشاد: ج1 ص288.
2- الاحتجاج: ج2 ص300، مثير الأحزان: ص55، اللهوف: ص98.

........................

قال تعالى: «وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ»(1).

وقال سبحانه: «كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ»(2).

وقال عزوجل: «وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاّ الْعَالِمُونَ»(3).

وقال تعالى: «وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ»(4).

قولها (عليها السلام): «وعجلان ذا إهالة»، عجلان: اسم فعل بمعنى: عجل، وفيه معنى التعجب، أي: ما أعجل ترككم الإسلام وترككم للانتصار للمظلوم على الظالم.

والإهالة: عبارة عن الودك، وهو الدسومة في اللحم، قال الفيروز آبادي: قولهم: (سرعان ذا إهالة) أصلها: إن رجلاً كانت له نعجة عجفاء وكان رغامها(5) يسيل من منخريها لهزالها، فقيل له: ما هذا الذي يسيل؟ فقال: ودكها، فقال السائل: سرعان ذا إهالة، ونصب إهالة على الحال، وذا إشارة إلى الرغام أي ما أسرع هذا الحيوان في سيلان رغامه وماء أنفه (بل دسم لحمه) أو ما أسرع دسومته في السيلان والجريان - على تقديري الحال والتمييز -.

وهذا مثل يضرب لمن يسرع في الشيء الذي ليس له، فإن فدك لم تكن

ص: 171


1- سورة إبراهيم:25.
2- سورة الرعد: 17.
3- سورة العنكبوت: 43.
4- سورة الحشر: 21.
5- الرغام: المخاط.

........................

لأولئك الذي غصبوها، وقد أسرعوا في غصبها، كما إن الحيوان لم يكن له ودك يخرج من أنفه.

والظاهر أن مقصودها (صلوات الله وسلامه عليها) التعجب المزيج بالاستنكار، من مسارعة الأنصار وتعجيلهم ومبادرتهم إلى ترك سنة رسول الله (صلي الله عليه و آْله) في عدم نصرة ابنته، مع قرب عهدهم به.

ولا تخفى دقة تشبيه حالتهم بالنعجة العجفاء التي يسيل ماء أنفها من الضعف والهزل والمرض ويتصور صاحبها - أو هكذا يحلو له أن يصور للآخرين - إنها معافاة سليمة سمينة بحيث تسيل دسومتها من أنفها.

فهكذا كان حال خلافتهم وسلطتهم، فهي عجفاء مريضة هزيلة قبيحة المنظر وإن حاول أصحابها تصويرها سمينة سليمة، فالعملية كلها تدليس وخداع لا أكثر.

ص: 172

ولكم طاقة بما أحاول، وقوة على ما أطلب وأزاول

اشارة

-------------------------------------------

نصرة أهل البيت (عليهم السلام)

مسألة: يجب نصرة أهل البيت (عليهم السلام) فيما يحاولون وما يطلبون ويزاولون، فإن الله سبحانه وتعالى أوجب نصرتهم، وحرم خذلانهم، وكل من النصرة والخذلان يعود نفعه إلى الناصر والخاذل.

وقد قال الرسول (صلي الله عليه و آْله): «منصور من نصره ومخذول من خذله»(1).

وقال تعالى: «قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى»(2).

وقال سبحانه: «مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ»(3).

كما قال تعالى: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ»(4).

وقال سبحانه: «وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً»(5).

وقد ذكرنا في بعض الكتب أن الذين نصروهم نُصِروا في الدنيا قبل الآخرة، والذي خذلوهم خُذِلوا في الدنيا قبل الآخرة.

وذلك مع ملاحظة معادلة (الامتداد الدنيوي) في ذريته وسمعته وتاريخه،

ص: 173


1- راجع كشف الغمة: ج1 ص148، والمناقب: ج3 ص56 عن الخطيب البغدادي في تاريخه.
2- سورة الشورى: 23.
3- سورة سبأ: 47.
4- سورة الأعراف: 96.
5- سورة آل عمران: 144.

........................

إذ النصرة والخذلان لا يدوران مدار اللحظة، وليسا آنيين حتى في مثل الجيش المنتصر والجيش المنخذل، فإن المقياس ليس في النصر التكتيكي بل المقياس العقلائي هو النصر الاستراتيجي(1)، أما في الآخرة فالأمر واضح.

وفي حديث احتجاج بعض الأصحاب مع أبي بكر في أمر الخلافة «ثم قام أبو أيوب الأنصاري، فقال: اتقوا عباد الله في أهل بيت نبيكم وارددوا إليهم حقهم الذي جعله الله لهم، فقد سمعتم مثل ما سمع إخواننا في مقام بعد مقام لنبينا (صلي الله عليه و آْله) ومجلس بعد مجلس يقول: أهل بيتي أئمتكم بعدي، ويومئ إلى علي (عليه السلام) ويقول: هذا أمير البررة، وقاتل الكفرة، مخذول من خذله، منصور من نصره، فتوبوا إلى الله من ظلمكم إياه إن الله تواب رحيم ولا تتولوا عنه مدبرين، ولا تتولوا عنه معرضين.

قال الصادق (عليه السلام): فأفحم أبو بكر على المنبر حتى لم يحر جواباً، ثم قال: وليتكم ولست بخيركم، أقيلوني أقيلوني، فقال له عمر بن الخطاب: انزل عنها يا لكع إذا كنت لا تقوم بحجج قريش لم أقمت نفسك هذا المقام، والله لقد هممت أن أخلعك وأجعلها في سالم مولى أبي حذيفة» الحديث(2)

ص: 174


1- وانطلاقاً من هذا المنطلق الفطري والعقلائي قال الشاعر: زعموا بأن قتل الحسين يزيدهم *** لكنما قتل الحسين يزيداً
2- الاحتجاج: ص79 ذكر طرف مما جرى بعد وفاة رسول الله (صلي الله عليه و آْله) من اللجاج والحجاج في أمر الخلافة.

........................

العصيان المدني

مسألة: يلزم التحريض على العصيان المدني وعلى النهضة الشعبية ضد الحكومة الجائرة كلاً أو ضد قرار جائر منها، لو لم يكن لإحقاق الحق طريق آخر، وهذا ما صنعته فاطمة الزهراء (عليها السلام) في مطاوي هذه الخطبة.

ومن الوسائل لذلك بعث الروح في الأفراد والفئات وإعادة ثقتهم بأنفسهم وتعريفهم بأن بمقدورهم ذلك لو أرادوا، كما قالت (عليها السلام): «ولكم طاقة بما أحاول وقوة على ما أطلب وأزاول».

قال (عليه السلام): «من أعان أخاه المؤمن على سلطان جائر أعانه الله على إجازة الصراط عند زلزلة الأقدام»(1).

وقال رسول الله (صلي الله عليه و آْله): «مجالسة الموتى مفسدة للقلوب، فقيل له: يا رسول الله وما مجالسة الموتى؟ قال: مجالسة كل ضال عن الإيمان وجائر في الأحكام»(2).

وقال أبو جعفر (عليه السلام): «من مشى إلى سلطان جائر فأمره بتقوى الله ووعظه وخوفه كان له مثل أجر الثقلين من الجن والإنس ومثل أعمالهم»(3).

وقال (عليه السلام): «من قواصم الظهر سلطان جائر يعصي الله وأنت تطيعه»(4)

ص: 175


1- كشف الريبة: ص93 الفصل الخامس.
2- راجع الأمالي للشيخ المفيد: ص315 المجلس 37 ضمن ح6.
3- الاختصاص: ص261-262 حديث في زيارة المؤمن لله.
4- راجع دعائم الإسلام: ج2 ص541 ضمن ح1928 كتاب آداب القضاة.

........................

وقال (عليه السلام): «لا دين لمن دان بولاية إمام جائر ليس من الله»(1).

وقال (عليه السلام): «أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر»(2).

وقال (عليه السلام): «من آثر رضى رب قادر فليتكلم بكلمة عدل عند سلطان جائر»(3).

وقال (عليه السلام): «من دخل على إمام جائر فقرأ عليه القرآن يريد بذلك عرضاً من عرض الدنيا لعن القارئ بكل حرف عشر لعنات ولعن المستمع بكل حرف لعنة»(4).

وقال (عليه السلام): «إن شر الناس عند الله إمام جائر ضل وضل به»(5).

وفي الحديث القدسي قال تعالى: «لأعذبن كل رعية دانت بإمام جائر وإن كانت في نفسها برة تقية، ولأرحمن كل رعية دانت بإمام عادل مني، وإن كانت في نفسها غير برة تقية»(6)

ص: 176


1- تأويل الآيات: ص102 سورة البقرة.
2- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: ج2 ص12.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: ص348 ح8029.
4- الاختصاص: ص262.
5- الجمل: ص187 نصيحة أمير المؤمنين (عليه السلام) لعثمان.
6- الصراط المستقيم: ج2 ص127 ف4.

........................

بين القوة والطاقة

مسألتان: القدرة من شرائط التكليف عقلاً، وأما شرعاً فإن الله سبحانه وتعالى تفضلاً منه ورحمة لم يكتف في تشريع التكاليف بإناطتها بالقدرة العقلية فقط، بل لم يوجه التكليف عادة إلا مع توفر القدرة العرفية وعدم حصول العسر والحرج الكثيرين وهكذا الضرر.

قال تعالى: «وما جعل عليكم في الدين من حرج»(1).

وقال رسول الله (صلي الله عليه و آْله): «لا حرج لا حرج»(2).

وقال أبو جعفر (عليه السلام): «لم يجعل الله تبارك وتعالى في الدين من

حرج»(3).

وقال تعالى: «يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر»(4).

وقال سبحانه: «ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به»(5).

والسؤال هو هل أنه من الممكن أن الله يحمل المرء ما لا طاقة له به؟ فإن تحميل الإنسان ما لا طاقة له به خلاف العدل، والله عادل بالضرورة، فما معنى هذا الطلب؟

ص: 177


1- سورة الحج: 78.
2- راجع الكافي: ج4 ص504 باب من قدم شيئاً أو أخره من مناسكه ضمن ح2.
3- راجع الكافي: ج1 ص191 باب في أنّ الأئمة شهداء الله (عزوجل) ضمن ح4.
4- سورة البقرة: 185.
5- سورة البقرة: 286.

........................

والجواب: أن المراد نهاية الطاقة مما يكون عسراً وحرجاً لا أصل الطاقة، فالطلب هو طلب عدم تحميل ما هو عسر وحرج، وإذا لاحظنا التكاليف الإلهية نرى النادر منها - كالجهاد - عسرياً أو حرجياً، وذلك لمصلحة العبد نفسه أو لضرورة وحكمة أهم، إذ ضرر عدم الجهاد أكبر وأكثر.

قال في (متشابه القرآن): قوله تعالى: «لا تكلف نفس إلا وسعها»(1) الوسع دون الطاقة.

قال الشاعر:

كلفتها الوسع في سيري لها أصلاً *** والوسع منها دون الجهد والرخد

وفي هذا دلالة على بطلان قول المجبرة من أن الله تعالى يكلف العبد ما لا قدرة له عليه(2).

سُئل الإمام الرضا (عليه السلام) فقيل له: هل يكلف الله العباد ما لا يطيقون؟ فقال (عليه السلام): «الله أعدل من ذلك»(3).

وفي التفسير: قوله سبحانه: «ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به» أي ما يشتد تكليفه من العبادات المتعبة، يقال والله ما أستطيع النظر إليك ولا أطيق الاكتحال برؤيتك مع أنه يراه(4).

ولعل الفرق بين القوة والطاقة: أن الطاقة تطلق على القوى الكامنة في

ص: 178


1- سورة البقرة: 233.
2- راجع متشابه القرآن: ج1 ص146.
3- راجع متشابه القرآن: ج1 ص146.
4- راجع متشابه القرآن: ج1 ص146.

........................

الإنسان نفسه، بخلاف القوة فإنها أعم، إذ قد تكون في غيره بسبب عشيرة أو سلاح أو مال أو جاه أو ما أشبه ذلك، وقد قال النبي لوط (عليه الصلاة والسلام): «لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد»(1).

ولا يخفى أن القوة اللازمة لنصرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) وأخذ حقها من الغاصبين كانت موجودة في القوم، مضافاً إلى أن ذلك من باب الجهاد الذي يجب على الإنسان تحمل الضرر فيه وما أشبه.

وفي حديث المناشدة قال (عليه السلام): «أنشدكم بالله أتعلمون أن الله عزوجل أنزل في سورة الحج «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا واسْجُدُوا واعْبُدُوا رَبَّكُمْ وافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ»(2) إلى آخر السورة فقام سلمان فقال: يا رسول الله من هؤلاء الذين أنت عليهم شهيد وهم شهداء على الناس الذين اجتباهم ولم يجعل عليهم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم»؟

قال (صلي الله عليه و آْله): «عنى بذلك ثلاثة عشر رجلا خاصة دون هذه الأمة».

فقال سلمان: بينهم لنا يا رسول الله؟

فقال (صلي الله عليه و آْله): «أنا وأخي علي وأحد عشر من ولدي».

قالوا: اللهم نعم.

قال (عليه السلام): «أنشدكم بالله أتعلمون أن رسول الله (صليالله عليه و آْله) قام خطيبا ولم يخطب بعد ذلك، فقال: يا أيها الناس إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي

ص: 179


1- سورة هود: 80.
2- سورة الحج: 77.

........................

أهل بيتي فتمسكوا بهما لا تضلوا فإن اللطيف الخبير أخبرني وعهد إليّ أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض».

فقام عمر بن الخطاب وهو شبه المغضب فقال: يا رسول الله أكل أهل بيتك؟

قال: «لا ولكن أوصيائي منهم أولهم أخي ووزيري وخليفتي في أمتي وولي كل مؤمن ومؤمنة بعدي هو أولهم، ثم ابني الحسن، ثم ابني الحسين، ثم تسعة من ولد الحسين، واحد بعد واحد حتى يردوا علي الحوض، شهداء لله في أرضه وحججه على خلقه وخزان علمه ومعادن حكمته، من أطاعهم فقد أطاع الله، ومن عصاهم فقد عصى الله».

فقالوا كلهم: نشهد أن رسول الله (صلي الله عليه و آْله) قال ذلك(1)

ص: 180


1- راجع الاحتجاج: ج1 ص149.

........................

تبرير التقاعس

مسألة: يحرم (تبرير) عدم التصدي للطغاة ب-(عدم القدرة) أو (قوة الحكومة) أو (التخويف من بطشها) في كثير من الحالات، حيث إن القدرة موجودة، وكان من مصاديق ذلك كثير من الأنصار والمهاجرين الذي ألجمهم الخوف وأقعدهم عن نصرة الحق، ولذلك قالت (صلوات الله عليها) إتماما للحجة عليهم وإرشاداً للأجيال القادمة: «ولكم طاقة بما أحاول».

وعند دراسة نفسية المجتمعات البشرية على مر التاريخ نكتشف أن الكثير من الذي تعللوا في عدم الدفاع عن الحق بعدم المقدرة على التصدي للحكومة، كاذبون أو مخادعون، قال تعالى: «بل الإنسان على نفسه بصيرة * ولو ألقى معاذيره»(1).

قال (عليه السلام): «إذا دعاك الرجل لتشهد له على دَين أو حق لم ينبغ لك أن تقاعس عنه»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «أيما مؤمن منع مؤمنا شيئا مما يحتاج إليه وهو يقدر عليه من عنده أو من عند غيره أقامه الله يوم القيامة مسودا وجهه مزرقة عيناه مغلولة يداه إلى عنقه فيقال: هذا الخائن الذي خان الله ورسوله ثم يؤمر به إلى النار»(3).

ص: 181


1- سورة القيامة: 14-15.
2- الكافي: ج7 ص380 باب الرجل يدعى إلى الشهادة ح3.
3- وسائل الشيعة: ج16 ص387-388 ب39 ح21836.

........................

وعن الصادق (عليه السلام) قال: «من رأى أخاه على أمريكرهه فلم يرده عنه وهو يقدر عليه فقد خانه»(1).

وقال (عليه السلام): «من سأله أخوه المؤمن حاجة من ضر فمنعه من سعة وهو يقدر عليها من عنده أو من عند غيره حشره الله يوم القيامة مغلولة يده إلى عنقه حتى يفرغ الله من حساب الخلق»(2).

وقال (عليه السلام): «ما من مؤمن يخذل أخاه وهو يقدر على نصرته إلا خذله الله في الدنيا و الآخرة»(3).

وقال (عليه السلام): «أيما مؤمن سأل أخاه المؤمن حاجة وهو يقدر على قضائها فرده بها سلط الله عليه شجاعا في قبره ينهش أصابعه»(4).

وقال (عليه السلام): «أيما مؤمن أتى أخاه في حاجة فإنما ذلك رحمة من الله ساقها إليه وسببها له فإن قضى حاجته كان قد قبل الرحمة بقبولها وإن رده عن حاجته وهو يقدر على قضائها فإنما رد عن نفسه رحمة من الله عزوجل ساقها إليه وسببها له وذخر الله عزوجل تلك الرحمة إلى يوم القيامة حتى يكون المردود عن حاجته هو الحاكم فيها إن شاء صرفها إلى نفسه وإن شاء صرفها إلى غيره»(5).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «أيما رجل مسلم أتاه رجل مسلم في حاجة

ص: 182


1- راجع الأمالي للصدوق: ص269-270 المجلس46 ضمن ح1.
2- مشكاة الأنوار: ص186 ب4 ف الأول في اتخاذ الأخوان.
3- وسائل الشيعة: ج12 ص267-268 ب146 ح16274.
4- مستدرك الوسائل: ج12 ص437 ب38 ح14556.
5- راجع الكافي: ج2 ص193-194 باب قضاء حاجة المؤمن ضمن ح5.

........................

وهو يقدر على قضائها فمنعه إياها عيره الله يوم القيامة تعييرا شديدا وقال له: أتاك أخوك في حاجة قد جعلت قضاها في يدك فمنعته إياها زهدا منك في ثوابها وعزتي لا أنظر إليك في حاجة معذبا كنت أو مغفورا لك»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «أيما رجل من شيعتنا أتاه رجل من إخواننا فاستعان به في حاجة فلم يعنه وهو يقدر، ابتلاه الله عزوجل بأن يقضي حوائج عدو من أعدائنا يعذبه الله عليه يوم القيامة»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «لم يدع رجل معونة أخيه المسلم حتى يسعى فيها ويواسيه إلا ابتلي بمعونة من يأثم ولا يؤجر»(3).

وعن أبي الحسن (عليه السلام) قال: «من قصد إليه رجل من إخوانه مستجيرا به في بعض أحواله فلم يجره بعد أن يقدر عليه فقد قطع ولاية الله عزوجل»(4).

وعن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «أيما رجل من أصحابنا استعان به رجل من إخوانه في حاجة ولم يبالغ فيها بكل جهد فقد خان الله ورسوله والمؤمنين» قال أبو بصير: قلت لأبي عبد الله(عليه السلام): ما تعني بقولك والمؤمنين؟ قال: «من لدن أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى آخرهم»(5).وعن أبي جميلة قال:سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول:«من مشى في حاجة

ص: 183


1- الأمالي للطوسي: ص99 المجلس4 ح152.
2- ثواب الأعمال: ص249 عقاب من استعان به المؤمن فلم يعنه.
3- الكافي: ج2 ص366 باب من استعان به أخوه فلم يعنه ح3.
4- وسائل الشيعة: ج16 ص386 ب37 ح21834.
5- المحاسن: ج1 ص98 ب28 ح65.

........................

أخيه ثم لم يناصحه فيها كان كمن خان الله ورسوله وكان الله خصمه»(1).

وعن أبي الحسن الثالث (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال النبي (صلي الله عليه و آْله): «لا تخب راجيك فيمقتك الله ويعاديك»(2).

هذا كله بالنسبة إلى المؤمن العادي فكيف بأهل البيت (عليهم السلام) والتقاعس عن حقهم.

عدالة الصحابة

مسألة: يستفاد من كلامها (عليها السلام) هذا: أن الحاضرين في المسجد آنذاك (إلا من خرج بالدليل) عاصون آثمون حينما سمعوا بظلامتها وكانوا قادرين على دفعها فلم يفعلوا.

وحيث إن هذه المعصية من الكبائر بل من أكبرها وأشدها(3) لذلك فإن هذا الموقف منهم وتخاذلهم عن نصرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) وأهل البيت (عليهم السلام) أسقط من كان عادلا منهم عن العدالة كما هو واضح.فكل ما يشترط فيه العدالة لا حق لهم فيه(4) ولا حجية لقولهم فيه(5)، أما

ص: 184


1- الكافي: ج2 ص363 باب من لم يناصح أخاه المؤمن ح4.
2- مستدرك الوسائل: ج12 ص435 ب38 ح14548.
3- لأنه تخاذل عن نصرة سيدة نساء العالمين وعن نصرة أمير المؤمنين علي وهو الإمام على الخلق أجمعين، وإيذاء لها (عليها السلام) و(من آذاها فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله) ومن كان كذلك (أكبه الله على منخره في النار).
4- كإمامة الجماعة والقضاء.
5- كالشهادة.

........................

ما يكفي فيه الوثاقة فمن ثبتت وثاقته يكون حاله كما في بني فضال حيث سألوا: كيف نعمل بكتبهم وبيوتنا منها ملاء، فقال (عليه السلام): «خذوا بما رووا وذروا ما رأوا»(1)، وكذا ما ورد في كتب ابن أبي العزاقر بعد ما ذم وخرجت فيه اللعنة(2) على تفصيل مذكور في محله.

ولا يكتفي في عدالة الشخص بمعرفة حاله قبل هذه القضية إلا إذا علم أنه لم يكن من الساكتين والمتخاذلين، قال (عليه السلام): «السكوت عند الضرورة بدعة»(3)، ولو شك فهل أن وقوعه طرفاً للعلم الإجمالي قادح في استصحاب حاله أم لا، رغم كونه من شبهة الكثير في الكثير؟ فتأمل.

وقد ورد في الحديث الشريف: قال سليم ثم أقبل (عليه السلام) على سلمان فقال: «إن القوم ارتدوا بعد رسول الله (صلي الله عليه و آْله) إلا من عصمة الله بآل محمد»(4).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «إن الناس كلهم ارتدوابعد رسول الله (صلي الله عليه و آْله) غير أربعة»(5).

وهكذا في مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) حيث ورد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «ارتد الناس بعد قتل الحسين (عليه السلام) إلا ثلاثة»(6).

ص: 185


1- الغيبة للطوسي: ص390.
2- الغيبة للطوسي: ص391-392.
3- غوالي اللئالي: ج1 ص293 ف10 ح175.
4- الاحتجاج: ج1 ص86 ذكر طرف مما جرى بعد وفاة رسول الله (صلي الله عليه و آْله).
5- كتاب سليم بن قيس: ص598 الحديث الرابع.
6- رجال الكشي: ص123 ح194، يحيى بن أم طويل.

........................

قولها (عليها السلام): «ولكم طاقة بما أحاول»، أي: بما أريد من استرجاع فدك لأن الأنصار كانوا أقوياء(1) فكان عليهم أن يواجهوا ابن أبي قحافة ويشمروا سواعدهم لاسترجاع فدك، ولو فعلوا ذلك لردت فدك، إلا أنهم سكتوا ولم يتصدوا للدفاع.

قولها (عليها السلام): «وقوة على ما أطلب وأزاول» يقال: (زاوله) أي: مارسه وعمل لإصلاحه مثلاً، فان فاطمة (عليها الصلاة والسلام) كانت تزاول مسؤولية كبرى ومهمة خطيرة في محاولتها استرجاع فدك، والأنصار كانت لهم قوة على مساعدتها في استرجاع حقها المغتصب.

علماً بأن (فدك) لم تكن مجرد قطعة أرض بل كانت (رمزاً) للحقيقة، وكاشفاً عن كل من جبهتي الحق والباطل، أي كان لها جانب طريقي وموضوعي، ولذلك حد الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) حدود فدك بحدود الدولة الإسلامية. روى علي بن أسباط قال: سئل موسى بن جعفر (عليه السلام) عن حدود فدك؟ فقال: «حدها الأول عرش مصر، والحد الثاني دومة الجندل، والحد الثالثتيماء، والحد الرابع جبال أحد من المدينة»(2).

ومن هنا يعلم أن «ما أطلب» ليس مقتصراً على فدك، بل سائر الحقوق المضيعة أيضاً، ومنها الخلافة المغتصبة، ويفهم ذلك بالقرائن المقامية والمقالية الأخرى، وإن كان الظاهر المطالبة بفدك فحسب.

ص: 186


1- بل أن أربعين شخصاً لو استعدوا لكفى كما يفهم من الأحاديث.
2- الطرائف: ج1 ص252 ح350.

أتقولون مات محمد (صلی الله علیه و آله)

اشارة

-------------------------------------------

أدلة الخصم

مسألة: استعراض أدلة الخصم في مقام الرد جائز، بل راجح وربما وجب، قال تعالى: «وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ»(1).

وقال سبحانه: «وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ»(2).

وقال تعالى: «وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ»(3).

وقال عزوجل: «الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا»(4).وقال سبحانه: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَيَهْتَدُونَ»(5).

ص: 187


1- سورة يس: 78-79.
2- سورة البقرة: 80.
3- سورة البقرة: 88.
4- سورة البقرة: 275.
5- سورة المائدة: 104.

.............................

وقال تعالى: «وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ»(1).

وقال عزوجل: «وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ»(2).

وكما ذكرت الصديقة الطاهرة (علیها السلام) في هذه الخطبة عدداً من استدلالاتهم أو من دوافعهم، ومنها: «أتقولون مات محمد»؟

ولا يخفى أن الجواب محذوف وهذا من قبيل قوله سبحانه: «أَمَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوالألْبَابِ»(3)، وما أشبه ذلك كما ذكره البلغاء(4).

أي: أتقولون إن محمداً (صلی الله علیه و آله) مات وانتهى الأمر، أي فسقط التكليف عنا، أهذا هو الصحيح، كلا وألف كلا، إذ أن تكاليف الإسلام تكاليف دائمة، سواء مات الرسول (صلی الله علیه و آله) أم بقي على قيد الحياة، فإذا كانت حجتكم للتواني والتكاسل أن الرسول (صلی الله علیه و آله) قد مات وانقطع أمره فهذا خطأ بين، لأن أوامر الرسول (صلی الله علیه و آله) لا تنقطع بموته.

ص: 188


1- سورة الأنعام: 37.
2- سورة المائدة: 18.
3- سورة الزمر: 9.
4- راجع كتاب (البلاغة) للإمام الشيرازي (رحمة الله).

.............................

قال الإمام الصادق (علیه السلام): «حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة ولأن عندنا صحيفة طولها سبعون ذراعاً وما خلق الله حلالا ولا حراماً إلا فيها ... حتى أرش الخدش وما سواها، والجلدة ونصفالجلدة»(1).

وفي الخبر: «إن النبي (صلی الله علیه و آله) كان يخبر عن وفاته بمدة ويقول قد حان مني خفوق من بين أظهركم، وكانت المنافقون يقولون: لئن مات محمد لنخرب دينه، فلما كان موقف الغدير قالوا: بطل كيدنا، فنزلت:«اليوم يئس الذين كفروا»(2) الآية»(3).

وعن الإمام الباقر (علیه السلام) قال في قوله: «قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله»(4) «الآية نزلت فيهم، وذلك حيث اجتمعوا فقالوا لئن مات محمد لم نسمع لعلي (علیه السلام) ولا لأحد من أهل بيته»(5).

وفي تفسير القمي: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «أيها الناس إني تارك فيكم الثقلين، قالوا: يا رسول الله ما الثقلان، قال: كتاب الله وعترتي أهلبيتي، فانه قد نبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يراد عليّ الحوض كإصبعيّ هاتين، وجمع بين سبابتيه، ولا أقول كهاتين، وجمع بين سبابته والوسطى فتفضل هذه

ص: 189


1- راجع بصائر الدرجات: ص148 ب13 باب آخر فيه أمر الكتب ضمن ح7.
2- سورة المائدة: 3
3- المناقب: ج3 ص40 فصل في قصة يوم الغدير.
4- سورة آل عمران: 31.
5- المناقب: ج3 ص205 فصل في بغضه (علیه السلام).

.............................

على هذه» فاجتمع قوم من أصحابه وقالوا: يريد محمد أن يجعل الإمامة في أهل بيته، فخرج أربعة نفر منهم إلى مكة ودخلوا الكعبة وتعاهدوا وتعاقدوا وكتبوا فيما بينهم كتاباً: إن مات محمد أو قتل أن لا يردوا هذا الأمر في أهل بيته أبداً، فانزل الله على نبيه في ذلك «أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ * أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَنَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ»(1) الحديث(2).

وعن سليمان بن خالد قال: سألت أبا جعفر (علیه السلام) عن قول الله:«إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ»(3) قال: «فلان، قوله: «ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَرابِعُهُمْ»(4) فلان وفلان وابن فلان أمينهم، حين اجتمعوا فدخلوا الكعبة فكتبوا بينهم كتابا إن مات محمد أن لا يرجع الأمر فيهم أبدا»(5).

قال العلامة المجلسي (رحمة الله): أبو فلان أبو عبيدة(6).

وفي الحديث أن بعض أصحاب النبي (صلی الله علیه و آله) الذين ارتدوا بعده قالوا: قد قال محمد في مسجد الخيف ما قال(7) وقال هاهنا ما قال وإن رجع إلى المدينة يأخذنا بالبيعة له - أي لعلي (علیه السلام) - فاجتمعوا أربعة عشر نفرا وتآمروا على قتل رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقعدوا في العقبة، وهي عقبة هرشى بين الجحفة والأبواء،

ص: 190


1- سورة الزخرف: 79-80.
2- تفسير القمي: ج1 ص173 خطبة النبي (صلی الله علیه و آله) يوم الغدير.
3- سورة المجادلة: 10.
4- سورة المجادلة: 7.
5- تفسير القمي: ج2 ص356
6- بحار الأنوار: ج28ص86 ب3 ح2.
7- أي في أمر ولاية علي بن أبي طالب (علیه السلام) وخلافته من بعده.

.............................

فقعدوا سبعة عن يمين العقبة وسبعة عن يسارها لينفروا ناقة رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فلما جن الليل تقدم رسول الله (صلی الله علیه و آله) في تلكالليلة العسكر فأقبل ينعس على ناقته، فلما دنا من العقبة ناداه جبرئيل: يا محمد إن فلانا وفلانا وفلانا قد قعدوا لك.

فنظر رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: «من هذا خلفي».

فقال حذيفة اليماني: أنا يا رسول الله حذيفة بن اليمان.

قال: سمعت ما سمعت.

قال: بلى.

قال: فاكتم.

ثم دنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) منهم فناداهم بأسمائهم.

فلما سمعوا نداء رسول الله (صلی الله علیه و آله) فروا ودخلوا في غمار الناس وقد كانوا عقلوا رواحلهم فتركوها ولحق الناس برسول الله (صلی الله علیه و آله) وطلبوهم وانتهى رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى رواحلهم فعرفهم.

فلما نزل قال (صلی الله علیه و آله): «ما بال أقوام تحالفوا في الكعبة إن مات محمد أو قتل ألا يردوا هذا الأمر في أهل بيته أبدا».

فجاءوا إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فحلفوا أنهم لم يقولوا من ذلك شيئا ولم يريدوه ولم يكتموا شيئا من رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فأنزل الله «يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا» أن لا يردوا هذاالأمر في أهل بيت رسول الله (صلی الله علیه و آله) «وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا» من قتل رسول الله (صلی الله علیه و آله) «وَما نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ ورَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَ الآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الأَرْضِ

ص: 191

.............................

مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ»(1) فرجع رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى المدينة وبقي بها محرم والنصف من صفر لا يشتكي شيئا ثم ابتدأ به الوجع الذي توفي فيه رسول الله (صلی الله علیه و آله).

قولها (علیها السلام): «أتقولون مات محمد (صلی الله علیه و آله)» فيه إشارة وتذكير أيضاً بالآية الشريفة: «أفئن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم»(2).

عند أمن الإضلال

مسألة: يختص جواز استعراض أدلة الخصم بما لم يوجب الإضلال، كما هوواضح، وذلك كما لو كان السائل - أو الجمهور - بحيث لو طرحت عليه الشبهة لأثرت فيه دون أن يقتنع بعدها بالجواب أو الأجوبة، وقد أمرنا الأئمة أن لا نكلم الناس إلا على قدر عقولهم(3)، وقال (صلی الله علیه و آله): «إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم»(4)، ولو كان القراء أو المستمعون مختلفين من هذه الجهة لوحظ ذلك أيضاً، أو الأهم أو ما أشبه.

ومثله حكم كتب الضلال حيث قال الفقهاء بحرمة حفظها والتكسب بها إلا للردّ، قال في المقنعة: «ولا يحل كتب الكفر وتجليده الصحف إلا لإثبات الحجج في فساده، والتكسب بحفظ كتب الضلال وكتبه على غير ما ذكرناه

ص: 192


1- سورة التوبة: 74.
2- سورة آل عمران: 144.
3- انظر التوحيد: ص120 ب8 ضمن ح22.
4- الكافي: ج1 ص23 كتاب العقل والجهل ح15.

.............................

حرام»(1).

قال الشيخ (رحمة الله) في المكاسب: «حفظ كتب الضلال حرام في الجملة، بلا خلاف كما في التذكرة والمنتهى، ويدل عليه مضافاً إلى حكم العقل بوجوب قطعمادة الفساد، والذم المستفاد من قوله تعالى: «ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله»(2) والأمر بالإعراض عن قول الزور، وقوله (علیه السلام) فيما تقدم من رواية تحف العقول: إنما حرم الله تعالى الصناعة التي هي حرام كلها التي يجيء منها الفساد محضاً، إلى آخر الحديث. بل قوله (علیه السلام) قبل ذلك: أو يقوى به الكفر والشرك من جميع وجوه المعاصي أو باب يوهن به الحق، إلى آخره»(3).

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إن الله غافر كل ذنب إلا من أحدث دينا أو اغتصب أجيرا أجره أو رجل باع حرا»(4).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: كان رجل في الزمن الأول طلب الدنيا من حلال فلم يقدر عليها، وطلبها من حرام فلم يقدر عليها، فأتاه الشيطان فقال له: يا هذا إنك قد طلبت الدنيا من حلال فلم تقدر عليها فطلبتها من حرامفلم تقدر عليها، أفلا أدلك على شيء تكثر به دنياك ويكثر به تبعك؟

فقال: بلى.

ص: 193


1- المقنعة: ص588-589 باب المكاسب.
2- سورة لقمان: 6.
3- إيصال الطالب إلى المكاسب: ج2 ص179-180 السابعة حفظ كتب الضلال.
4- وسائل الشيعة: ج19 ص108 ب5 ح24256.

.............................

قال: تبتدع دينا وتدعو إليه الناس.

ففعل، فاستجاب له الناس فأطاعوه فأصاب من الدنيا، ثم إنه فكر فقال: ما صنعت ابتدعت دينا ودعوت الناس إليه وما أرى لي توبة إلا أن آتي من دعوته إليه فأرده عنه.

فجعل يأتي أصحابه الذين أجابوه فيقول: إن الذي دعوتكم إليه باطل وإنما ابتدعته.

فجعلوا يقولون: كذبت هو الحق ولكنك شككت في دينك فرجعت عنه.

فلما رأى ذلك عمد إلى سلسلة فوتد لها وتدا ثم جعلها في عنقه وقال: لا أحلها حتى يتوب الله عليّ.

فأوحى الله عزوجل إلى نبي من الأنبياء: قل لفلان: وعزتي وجلالي لو دعوتني حتى تنقطع أوصالك ما استجبت لك حتى ترد من مات على ما دعوته إليه فيرجع عنه»(1).وعن الثمالي: قال سألت أبا جعفر (علیه السلام) عن قول الله عزوجل: «وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ»(2)، قال: «عنى الله بها من اتخذ دينه رأيه من غير إمام من أئمة الهدى»(3).

وعن سماعة بن مهران، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: قلت له: قول الله تبارك وتعالى: «مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ

ص: 194


1- من لا يحضره الفقيه: ج3 ص572-573 باب معرفة الكبائر ح4958.
2- سورة القصص: 50.
3- بصائر الدرجات: ص13 ب8 ح3.

.............................

النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً»(1). فقال: «من أخرجها من ضلال إلى هدى فقد أحياها، ومن أخرجها من هدى إلى ضلال فقد قتلها»(2).

وعن الصادق (علیه السلام) عن أبيه (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من دعي إلى ضلال لم يزل في سخط الله حتى يرجع منه»(3).

لا تقاعس بموت القائد

مسألة: يحرم تبرير التقاعس(4) بموت القائد أو غيابه، أو بعدم قيام الآخرين بالدور المناط بهم، كما نجد كثيراً من الناس يتعلل لعدم العمل بأن العالم الفلاني أو التجمع الفلاني لم يقم بواجبه من الإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما أشبه أفأقوم بهما أنا؟، بل لو كان الأمر واجباً كفائياً ولم يقم من فيه الكفاية لوجب على الشخص أن يؤديه فكيف بالواجب العيني.

قال (علیه السلام): «إذا ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فليأذنوا بوقاع من الله»(5).

ص: 195


1- سورة المائدة: 32.
2- المحاسن: ج1 ص231-232 ب18 ح181.
3- بحار الأنوار: ج2 ص22 ب8 ح64.
4- التقاعس: هو من تقاعس فلان إذا لم ينفذ ولم يمض لما كلف، راجع معاني الأخبار: ص346 باب معنى الاقيعس.
5- أعلام الدين: ص407 باب ما جاء من عقاب الأعمال.

.............................

وخطب أمير المؤمنين (علیه السلام) الناس فحمد الله وأثنى عليه وذكر ابن عمه محمدا (صلی الله علیه و آله) فصلى عليه ثم قال: «أما بعد فإنه إنما هلكمن كان قبلكم بحيث ما عملوا من المعاصي ولم ينههم الربانيون والأحبار عن ذلك، فإنهم لما تمادوا في المعاصي نزلت بهم العقوبات فأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقربان أجلا ولا يقطعان رزقا، فإن الأمر ينزل من السماء إلى الأرض كقطر المطر إلى كل نفس ما قدر الله من زيادة ونقصان فإن أصابت أحدكم مصيبة في أهل ومال ونفس ورأى عند أخيه عقوبة فلا يكونن عليه فتنة ينتظر إحدى الحسنيين إما داع إلى الله فما عند الله خير له وإما الرزق من الله فإذا هو ذو أهل ومال والبنون لحرث الدنيا والعمل الصالح لحرث الآخرة وقد يجمعهما الله لأقوام»(1).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «من ترك إنكار المنكر بقلبه ويده ولسانه فهو ميت الأحياء»(2).

وعن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: «إن أول ما تقلبون إليه من الجهاد: الجهاد بأيديكم، ثم الجهاد بقلوبكم، فمن لم يعرف قلبه معروفا ولم ينكر منكرا نكس قلبه فجعل أسفلهأعلاه فلا يقبل خيرا أبدا»(3).

وروي أن رجلا جاء إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: أخبرني ما أفضل الأعمال؟

فقال (صلی الله علیه و آله): «الإيمان بالله».

ص: 196


1- الزهد: ص105-106 ب20 ح288.
2- غوالي اللئالي: ج3 ص188 باب الجهاد ح24.
3- بحار الأنوار: ج97 ص82 ب1 ح6.

.............................

قال: ثم ماذا؟

قال: «ثم صلة الرحم».

قال: ثم ماذا؟

قال: «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر».

فقال الرجل: فأي الأعمال أبغض إلى الله؟

قال: «الشرك بالله».

قال: ثم ماذا؟

قال: «قطيعة الرحم».

قال: ثم ماذا؟

قال: «الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف»(1).

وعن أحدهما (علیهما السلام) أنهقال: «ويل لمن لا يدين الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»(2).

ص: 197


1- بحار الأنوار: ج97 ص82 ب1 ح44.
2- الزهد: ص19 ب2 ح41.

فخطب جليل، استوسع وهنه ، واستنهر فتقه، وانفتق رتقه

اشارة

-------------------------------------------

فخطب جليل، استوسع وهنه(1)، واستنهر فتقه، وانفتق رتقه(2).

آثار وفاة الرسول (صلی الله علیه و آله)

مسألة: يستفاد من كلامها (علیها السلام) هاهنا وما سيأتي من تصريحاتها: إن وفاته (صلی الله علیه و آله) (خطب جليل استوسع وهيه…) في شتى الجهات: تكوينياً وتشريعياً، لهذا العالم ولسائر العوالم، سياسياً واجتماعياً، وفكرياً وعملياً، حالياً ومستقبلياً و…

وذلك للإطلاق وحذف المتعلق، وللقرائن والتصريحات اللاحقة منها(علیها السلام)، والألفاظ المشككة(3) في مثل المقام تحمل على أعلى المراتب.

وقد ورد في زيارته (صلی الله علیه و آله) يوم السبت بعد الاسترجاع ثلاثاً: «أصبنا بك يا حبيب قلوبنا، فما أعظم المصيبة بك، حيث انقطع عنا الوحي وحيث فقدناك فإنا لله وإنا إليهراجعون»(4).

روي بالأسانيد عن علي بن أبي طالب (علیه السلام) أنه قال: «قدم على رسول الله (صلی الله علیه و آله) حبر من أحبار اليهود فقال: يا رسول الله قد أرسلني إليك قومي وقالوا إنه عهد إلينا نبينا موسى بن عمران وقال إذا بعث بعدي نبي اسمه محمد وهو عربي فامضوا إليه واسألوه أن يخرج لكم من جبل هناك سبع نوق حمر الوبر

ص: 198


1- وفي بعض النسخ:( استوسع وهيه).
2- وفي بعض النسخ: (واستنهر فتقه، وفقد راتقه، وأظلمت الأرض واكتأبت لخيرة الله).
3- ف- (جليل) لفظ له مراتب.
4- جمال الأسبوع: ص29-30 ذكر زيارة النبي (صلی الله علیه و آله) في يوم السبت.

.............................

سود الحدق، فإن أخرجها لكم فسلموا عليه وآمنوا به واتبعوا النور الذي أنزل معه، فهو سيد الأنبياء ووصيه سيد الأوصياء وهو منه كمثل أخي هارون مني.

فعند ذلك قال (صلی الله علیه و آله): الله أكبر قم بنا يا أخا اليهود.

قال: فخرج النبي (صلی الله علیه و آله) والمسلمون حوله إلى ظاهر المدينة وجاء إلى جبل فبسط البردة وصلى ركعتين وتكلم بكلام خفي وإذا الجبل يصر صريرا عظيما فانشق وسمع الناس حنين النوق.

فقال: اليهود مد يدك، فإنا نشهد أن لا إله إلا الله وأنك محمد رسول الله (صلیالله علیه و آله) وأن جميع ما جئت به صدق وعدل، يا رسول الله فأمهلني حتى أمضي إلى قومي وأخبرهم ليقبضوا عدتهم منك ويؤمنوا بك.

قال: فمضى الحبر إلى قومه بذلك ففروا بأجمعهم وتجهزوا للمسير وساروا يطلبون المدينة ليقضوا عدتهم، فلما دخلوا المدينة وجدوها مظلمة مسودة بفقد رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقد انقطع الوحي من السماء وقد قبض (صلی الله علیه و آله) وجلس مكانه أبو بكر، فدخلوا عليه وقالوا: أنت خليفة رسول الله (صلی الله علیه و آله)؟

قال: نعم.

قالوا: أعطنا عدتنا من رسول الله (صلی الله علیه و آله).

قال: وما عدتكم؟

قالوا: أنت أعلم منا بعدتنا إن كنت خليفته حقا، وإن لم تكن خليفته فكيف جلست مجلس نبيك بغير حق لك ولست له أهلا؟

فقام وقعد وتحير في أمره ولم يعلم ماذا يصنع، وإذا برجل من المسلمين قد قام وقال: اتبعوني حتى أدلكم على خليفة رسول الله (صلی الله علیه و آله).

ص: 199

.............................

قال: فخرج اليهود من بين يدي أبي بكر وتبعوا الرجل حتى أتوا إلى منزلفاطمة الزهراء (علیها السلام) فطرقوا الباب وإذا الباب قد فتح وخرج إليهم علي وهو شديد الحزن على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فلما رآهم قال: أيها اليهود تريدون عدتكم من رسول الله (صلی الله علیه و آله)؟

قالوا: نعم.

فخرج معهم إلى ظاهر المدينة إلى الجبل الذي صلى عنده رسول الله (صلی الله علیه و آله) فلما رأى مكانه تنفس الصعداء وقال: بأبي وأمي من كان بهذا الموضع منذ هنيئة ثم صلى ركعتين وإذا بالجبل قد انشق وخرجت النوق وهي سبع نوق.

فلما رأوا ذلك قالوا بلسان واحد: نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأن ما جاء به النبي (صلی الله علیه و آله) من عند ربنا هو الحق وأنك خليفته حقا ووصيه ووارث علمه، فجزاه الله وجزاك عن الإسلام خيرا، ورجعوا إلى بلادهم مسلمين موحدين»(1).

الخطب الجليل

مسألة: يستحب إلفات الناس إلى أن موت الرسول (صلی الله علیه و آله) خطب جليل، استوسع وهنه… فإن بيان وفياتالمعصومين(علیهم السلام) وآثارها كبيان أفراحهم ومواليدهم داخل في قوله(علیه السلام): «إن الله تبارك وتعالى اطلع إلى الأرض فاختارنا واختار لنا شيعة ينصرونا ويفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا»(2)، وهو من

ص: 200


1- الفضائل: ص130-132.
2- الخصال: ج2 ص635، وتأويل الآيات: ص641 سورة الحديد.

.............................

المشاركة الوجدانية المحبوبة عقلاً قبل أن تكون محبوبة شرعاً.

قال الإمام الرضا (علیه السلام): «من تذكر مصابنا فبكى وأبكى لم تبك عينه يوم تبكي العيون، ومن جلس مجلساً يحيى فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت فيه القلوب»(1).

وفي الخصال عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «تزاوروا في بيوتكم، فإن ذلك حياة لأمرنا، رحم الله عبداً أحيى أمرنا».(2)

وقال (علیه السلام) في وصف شيعة علي أمير المؤمنين (علیه السلام):«المتباذلون في ولايتنا، المتحابون في مودتنا، المتزاورون لإحياء أمرنا»(3).

وهكذا من الراجح تذكير الناس بوفاة الأئمة المعصومين (علیهم السلام) وشهادتهم، وكذلك شهادة فاطمة الزهراء (علیها السلام)، وهكذا بالنسبة إلى القادة العلماء وما ينجم عنها من الخسائر الكبيرة، وذلك من مصاديق (التعظيم) ومن أسباب التفاف الناس حول مبادئهم أكثر فأكثر، ومن علل تمسك الناس بالأحياء منهم أكثر فأكثر، وقد ورد في زيارة عاشوراء: «مصيبة ما أعظمها وأعظم رزيتها في الإسلام وفي جميع السماوات والأرض»(4).

فعن الهروي قال: سمعت الإمام الرضا (علیه السلام) يقول: «رحم الله عبداً

ص: 201


1- الأمالي للشيخ الصدوق: ص73 المجلس 17 ح4.
2- الخصال: ج1 ص22 ح77.
3- الخصال: ج2 ص397 في الشيعة سبع خصال ضمن ح4.
4- انظر مصباح الكفعمي: ص484، والبلد الأمين: ص270، وكامل الزيارات: ص177 ب71 ثواب من زار الحسين (علیه السلام) يوم عاشوراء..

.............................

أحيى أمرنا، فقلت له: فكيف يحيى أمركم؟ قال: يتعلم علومنا ويعلمها الناس، فإن الناس لو علموا محاسنكلامنا لاتبعونا»(1).

وقال (علیه السلام): «حببونا إلى الناس ولا تبغضونا إليهم»(2).

وقال (علیه السلام): «رحم الله من حببنا إلى الناس ولم يكرهنا إليهم»(3).

تخليد ذكرى الرسول (صلی الله علیه و آله)

مسألة: يستحب الاهتمام بذكرى وفاة النبي (صلی الله علیه و آله) وتخليد ذكراه.

وكذلك بالنسبة إلى سائر المعصومين (عليهم الصلاة والسلام).

بل وكذلك ذويهم كالسيدة زينب (عليها الصلاة والسلام) وأبي طالب (علیه السلام) وحمزة (علیه السلام) ومن أشبههم، فإن قوله (صلی الله علیه وآله): «المرء يحفظ في ولده»(4) يجري في القربى أيضاً، وانما جاء ذكر (الولد) من باب المثال الأظهر والمصداق الأوضح.

ويؤيده بل يدل عليه قوله سبحانه: «وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله»(5).

وفي الحديث عن الأزدي عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «تجلسون وتتحدثون قال: قلت: جعلت فداك نعم، قال: إن تلك المجالس أحبها، فأحيوا أمرنا، إنه

ص: 202


1- معاني الأخبار: ص180 باب معنى قول الصادق (علیه السلام) من تعلم علماً ليماري به ضمن ح1.
2- الحكايات: ص93، وأعلام الدين: ص143، وفقه الإمام الرضا (علیه السلام): ص356.
3- الأمالي للشيخ المفيد: ص31 المجلس 4 ضمن ح4.
4- المناقب: ج2 ص206، شرح نهج البلاغة: ج16 ص212 ب45 ف1.
5- سورة الأنفال: 75، وسورة الأحزاب: 6.

.............................

من ذكرنا أو ذكرنا عنده فخرج من عينه مثل جناح ذبابة غفر الله ذنوبه ولو كانت أكثر من زبد البحر»(1).

وقال أبو جعفر (علیه السلام): «رحم الله عبداً حبس نفسه علينا، رحم الله عبداً أحيى أمرنا»(2).وعن أبي عبد الله (علیه السلام) في وصاياه لشيعته: «فإن في لقاء بعضهم بعضاً حياة لأمرنا» ثم قال: «رحم الله عبداً أحيى أمرنا»(3).

وعن الإمام الباقر (علیه السلام): «إنما شيعة علي المتباذلون في ولايتنا، المتحابون في مودتنا، المتزاورون لإحياء أمرنا» الحديث(4).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام): «اقرأ موالينا السلام وأوصهم بتقوى الله العظيم.. وأن يتلاقوا في بيوتهم فإن لقاءهم حياة لأمرنا» ثم رفع يده فقال: «رحم الله من أحيى أمرنا»(5).

وقال الإمام الصادق (علیه السلام): «نفس المهموم لظلمنا تسبيح، وهمه لنا عبادة»(6).

قولها (علیها السلام): «فخطب جليل استوسع وهنه» (الخطب): الشأن،

ص: 203


1- ثواب الأعمال: ص187 ثواب من ذكر عنده أهل البيت (علیهم السلام)...
2- كمال الدين: ج2 ص644 باب ما روي في ثواب المنتظر للفرج ضمن ح2.
3- مصادقة الإخوان: ص34 باب اجتماع الاخوان في محادثتهم ضمن ح6.
4- صفات الشيعة: ص13 ح23.
5- الاختصاص: ص29.
6- الأمالي للطوسي: ص115 المجلس4 ح178.

.............................

و(جليل):أي عظيم، و(استوسع) بمعنى: اتسع، و(الوهن) عبارة عن: الضعف.

أي: إن الوهن والضعف الذي نجم عن وفاة الرسول (صلی الله علیه و آله) قد توسع واتسع، حتى عم الضعف صفوف المسلمين.

قولها (علیها السلام): «واستنهر فتقه» الإستنهار: استفعال من النهر بالتحريك، بمعنى: السعة أي: اتسع.

و(الفتق) عبارة عن الشق وهو ضد الرتق، كأنه ثوب اتسع فتقه فصعب رتقه مرة ثانية.

الأمم ومسيرة الانحطاط

مسألة: مسيرة الانحراف في الأمم تبدأ بخطوة ثم تتسع، وهكذا في الفرد.

ولعل استخدامها (علیها السلام) صيغة (الاستفعال) في الفعلين للتنبيه على قاعدة عامة في مسيرة الأمم المنحطة، من جهة أن من طبيعة الوهن أن يتسع، ومن طبيعة الفتق أن يتزايد، فكأنهما يطلبان مزيداً من الوهن والفتق، مثل: (استخرج) بمعنى: طلب الخروج، ومثل: (استنسر) في قول الشاعر:

(ان البغات بأرضنا تستنسر).أي: تطلب أن تكون نسراً، فإن الأصل في الاستفعال الطلب، فهو إشارة إلى سنة اجتماعية وقاعدة هامة في علم النفس الاجتماعي، فإن التخاذل في الأمم ما إن يبدأ حتى يتسع ويتزايد، والفتن ما إن تلوح حتى تتكاثر ويعضد بعضها بعضاً، والمعاصي كذلك، فقد ورد أن السيئات بعضها آخذ بعنق بعض،

ص: 204

.............................

وهكذا، فإن أمواج الفساد الخلقي في الأمم وسائر المحرمات كالربا والنفاق والتخاذل عن نصرة المظلوم و... تبدأ ضعيفة ثم تتسع وتمتد باطراد، فهي كالأمراض المعدية إلا أن يقف بوجهها عامل قوي.

ومما لا شك فيه أن وقفتها (علیها السلام) ضد هذه التموجات قد كبح من انطلاقتها الهائلة إلى حد كبير، وكذلك كانت ثورة الإمام الحسين (علیه السلام)، وإلا لما بقي من الإسلام حتى الاسم، ولعم الظلم كل الكون بأقبح صورة حتى مجاهيل المستقبل.

ويستشعر من استخدامها (صلوات الله عليها) صيغة الاستفعال بالمعنى الذي ذكر: أن فيه تلميحاً إلى تضاعف حجم مسؤوليتهم مع علمهم بأن الفتقة في استنهار، والوهن في توسع، وبذلك فإن تخليهم عنالدفاع عن خليفة رسول الله (صلی الله علیه و آله): الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام) - وهو(1) الطريق الوحيد للتعويض عن خلأ فقد الرسول (صلی الله علیه و آله) ولجبر الكسر ورتق الفتق - يحمّلهم كافة المضاعفات السلبية والمعاصي المستقبلية التي تنتج عن موقفهم هذا.

قولها (علیها السلام): «وانفتق رتقه» الرتق ضد الفتق، كما يخاط الثوب المفتوق، وانفتق أي: صار مرة ثانية منفتقاً بعد أن رتق، فالرسول (صلی الله علیه و آله) رتق الاجتماع رتقاً صحيحاً، بعد ما كانوا في الجاهلية منفتقين ثم بموت الرسول (صلی الله علیه و آله) انفتق ذلك الرتق ورجعوا إلى جاهليتهم الأولى.

ص: 205


1- أي الدفاع عن خليفته (صلی الله علیه و آله).

.............................

امتداد النبوة

مسألة: هناك بعدان من الأبعاد الاجتماعية والعقائدية والسياسية والاقتصادية وغيرها، التي أشارت (علیها السلام) إليهما بهاتين الجملتين: (استنهر فتقه وانفتق رتقه):

1: إن الرسول (صلی الله علیه و آله) رتق كثيراً مما كان منفتقاً في المجتمع وأدى ما عليه بأحسن ما يمكن.

2: إن على خليفته (صلی الله علیه و آله) المنصوص عليه بأمر من الله عزوجل أن يرتق ما بقي من الفتق أو ما سيحصل منه، فإن قصر فترة عمره (صلی الله علیه و آله) الشريف وكثرة المشاكل والحروب وعدم قابلية القابل في الكثيرين «إنك لا تهدي من أحببت»(1) وكثرة المنافقين والفتن لم تسمح بأن يحول كل مثالب المجتمع إلى محاسن، ولذلك أمره الله تعالى بأن يعين من يواصل المسيرة الإلهية الإصلاحية بقوله: «يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغترسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين»(2).

هذا مضافاً إلى الفتق الذي سيحدث بعده (صلی الله علیه و آله)، فإنه بحاجة إلى من يكون بمنزلة نفس النبي (صلی الله علیه و آله) لكي يرتقه رتقاً صحيحاً.

وهي (علیها السلام) تشير إلى هذين البعدين في خطبتها الشريفة، فقد استنهر

ص: 206


1- سورة القصص: 56.
2- سورة المائدة: 67.

.............................

واتسع ما كان منفتقاً، وقد انفتق ما رتقه (صلی الله علیه و آله).

وفي الدعاء: «اللهم اشعب بهم الصدع، وارتق بهم الفتق، وأمت بهم الجور، وأظهر بهم العدل، وزين بطول بقائهم الأرض»(1).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام) في نهج البلاغة: «فصدع بما أمر به وبلغ رسالات ربه فلمّ الله به الصدع ورتق به الفتق وألف به الشمل بين ذوي الأرحام بعد العداوة الواغرة في الصدور والضغائن القادحة فيالقلوب»(2).

وفي نهج البلاغة أيضا: «إن الله بعث محمدا (صلی الله علیه و آله) نذيرا للعالمين، وأمينا على التنزيل، وأنتم معشر العرب على شر دين، وفي شر دار مُنيخون، بين حجارة خشن وحيات صم، تشربون الكدر وتأكلون الجشب وتسفكون دماءكم وتقطعون أرحامكم، الأصنام فيكم منصوبة والآثام بكم معصوبة»(3).

وفيه أيضا: «إن الله سبحانه بعث محمدا وليس أحد من العرب يقرأ كتابا ولا يدعي نبوة، فساق الناس حتى بوأهم محلتهم وبلغهم منجاتهم فاستقامت قناتهم واطمأنت صفاتهم»(4).

وفيه أيضاً: «ابتعثه بالنور المضيء والبرهان الجلي والمنهاج البادي والكتاب الهادي، أسرته خير أسرة وشجرته خير شجرة، أغصانها معتدلة وثمارها متهدلة، مولده بمكة وهجرته بطيبة، علا بها ذكره وامتد منها صوته،أرسله

ص: 207


1- انظر مصباح الكفعمي: ص653 ف46 فيما يعمل في شهر شوال.
2- نهج البلاغة، الخطب: 26 من خطبة له (علیه السلام) وفيها يصف العرب قبل البعثة.
3- نهج البلاغة، الخطب: 26 من خطبة له (علیه السلام) وفيها يصف العرب قبل البعثة.
4- نهج البلاغة، الخطب: 33 من خطبة له (علیه السلام) عند خروجه لقتال أهل البصرة.

.............................

بحجة كافية وموعظة شافية ودعوة متلافية، أظهر بها الشرائع المجهولة وقمع به البدع المدخولة وبين به الأحكام المفصولة»(1).

وقال (علیه السلام): «فبعث الله محمدا (صلی الله علیه و آله) بالحق ليخرج عباده من عبادة الأوثان إلى عبادته، ومن طاعة الشيطان إلى طاعته، بقرآن قد بينه وأحكمه ليعلم العباد ربهم إذ جهلوه وليقروا به بعد إذ جحدوه وليثبتوه بعد إذ أنكروه، فتجلى لهم سبحانه في كتابه من غير أن يكونوا رأوه بما أراهم من قدرته وخوفهم من سطوته وكيف محق من محق بالمثلات واحتصد من احتصد بالنقمات»(2).

وروي عن أمير المؤمنين (علیه السلام) أنه قال عند توجههما(3) إلى مكة للاجتماع مع عائشة في التأليبعليه، بعد أن حمد الله تعالى وأثنى عليه: «أما بعد فإن الله عزوجل بعث محمدا (صلی الله علیه و آله) للناس كافة وجعله رحمة للعالمين، فصدع بما أمر به، وبلغ رسالة ربه، فلمّ به الصدع ورتق به الفتق وآمن به السبل وحقن به الدماء وألف به بين ذوي الإحن والعداوة والوغر في الصدور والضغائن الراسخة في القلوب، ثم قبضه الله إليه حميدا لم يقصر في الغاية التي إليها أدى الرسالة ولأبلغ شيئا كان في التقصير عنه القصد، وكان من بعده ما كان من التنازع في الإمرة، فتولى أبو بكر وبعده عمر ثم تولى عثمان، فلما كان من أمره ما كان أتيتموني فقلتم: بايعنا، فقلت: لا أفعل، قلتم: بلى، فقلت: لا وقبضت يدي

ص: 208


1- نهج البلاغة، الخطب: 161 من خطبة له (علیه السلام) في صفة النبي وأهل بيته.
2- نهج البلاغة، الخطب: 147 من خطبة له (علیه السلام) في الغاية من البعثة.
3- أي طلحة والزبير.

.............................

فبسطتموها ونازعتكم فجذبتموها وحتى تداككتم علي كتداكك الإبل الهيم على حياضها يوم ورودها حتى ظننت أنكم قاتلي وأن بعضكم قاتل بعض وبسطت يدي فبايعتموني مختارين وبايعني في أولكم طلحة والزبير طائعين غير مكرهين، ثم لم يلبثا أن استأذناني في العمرة والله يعلم أنهما أرادا الغدرة، فجددت عليهما العهد في الطاعة وأن لا يبغياالأمة الغوائل فعاهداني ثم لم يفيا لي ونكثا بيعتي ونقضا عهدي فعجبا لهما من انقيادهما لأبي بكر وعمر وخلافهما لي ولست بدون أحد الرجلين ولو شئت أن أقول لقلت: اللهم اغضب عليهما بما صنعا وأظفرني بهما»(1).

ص: 209


1- بحار الأنوار: ج32 ص98 ب1 ح69.

وأظلمت الأرض لغيبته، وكسفت الشمس والقمر، وانتثرت النجوم لمصيبته

اشارة

-------------------------------------------

وأظلمت الأرض لغيبته، وكسفت الشمس والقمر(1)، وانتثرت النجوم لمصيبته

لجان الرصد العلمي

مسألة: ينبغي تشكيل لجان من ذوي الخبرة والاختصاص في الفلك وعلم طبقات الأرض(2) وغيرهما للقيام بمحاولة الرصد العلمي للارتباط التكويني بين عالم التشريع وعالم التكوين، وبين ظواهر من عوالم التكوين تطرقت الروايات إلى بيان أنها معلولة أو ملازمة لوقائع معينة اجتماعية أو فكرية أو قلبية أو ما أشبه، كتأثير صلة الرحم في سعة الرزق وتأجيل الأجل وما أشبه(3).

وكبكاء السماء والأرض لموت المؤمن، حيث ورد في غير المؤمنين: «فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ»(4).

وكالأمور المذكورة في هذه الخطبة الشريفة التي وقعت بعد وفاة الرسول (صلی الله علیه و آله) من ظلمة الأرضوكسوف الشمس والقمر واندثار النجوم.

وكشق القمر للرسول (صلی الله علیه و آله) (5).

والحمرة في الأفق لقتل الإمام الحسين (علیه السلام) (6).

ص: 210


1- وفي بعض النسخ: (وكسفت النجوم).
2- ما يسمى بالجيولوجيا.
3- انظر علل الشرائع: ص248، وكشف الغمة: ج2 ص206.
4- سورة الدخان: 29.
5- قال تعالى: «اقتربت الساعة وانشق القمر» سورة القمر: 1.
6- المناقب: ج4 ص54 فصل في آياته بعد وفاته (علیه السلام).

.............................

وغير ذلك.

فإن هذه الوقائع الكونية قد دل عليها القرآن الكريم أو الأحاديث الصحيحة دون شك، إلا أن دفع شبهات المكذبين الذين لا يؤمنون بالغيب والذين يشككون ضعاف الإيمان واجب، ومن طرقه التطرق لإثبات كل ذلك بالطرق العلمية.

أما ما ورد من قول النبي (صلی الله علیه و آله): (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله) الخ . حسب ما يرويه البعض في قصة موت إبراهيم (صلوات الله عليه) فيلزم البحث السندي والدلالي لتعارضها مع ما ذكر، فإنه لا شك في انكساف الشمس وانخساف القمر في وفاة النبي (صلی الله علیه و آله) وكذلك كسفت الشمس لقتل الإمام الحسين (علیه السلام).

قال العلامة المجلسي(رحمة الله):(بيان، قوله (صلی الله علیه و آله): «آيتان» أي علامتان من علامة وجوده وقدرته وعلمه وحكمته (لا ينكسفان لموت أحد) أي لمحض الموت بل إذا كان بسبب سوء فعال الأمة واستحقوا العذاب والتخويف أمكن أن ينكسفا لذلك كما في شهادة الحسين (علیه السلام) فإنها كانت بفعل الأمة الملعونة فاستحقوا بذلك التخويف والعذاب بخلاف وفاة إبراهيم (علیه السلام) فإنه لم يكن بفعلهم)(1).

وقال (رحمة الله) في موضع آخر: (بيان: «لموت أحد» أي لمحض الموت لأنه من فعله سبحانه فلا يغضب به على عباده إلا أن يكون بسبب فعلهم فيغضب عليهم لذلك كواقعة الحسين (علیه السلام))(2).

ص: 211


1- بحار الأنوار: ج78 ص380-381 ب10.
2- بحار الأنوار: ج88 ص155 ب6 ح12.

.............................

ومن الممكن أن تكون تلك الرواية من باب التقية.

لا يقال: إذا كان الكسوف والخسوف يقعان نتيجة نظام كوني دقيق وحركات كونية بالغة الدقة كما ذكره أهلالنجوم والفلك، فأي ربط لهما بالذنوب - كما في الروايات - أو بموت العظماء كما في هذه الأحاديث؟

لأنه يقال: من الممكن أن الله سبحانه وتعالى - هو الخالق الحكيم القادر - نظم الكون وفقاً لهذه الأحداث لأنه كان يعلم بعلمه الأزلي أوقات الذنوب والعظائم من الأمور فكانت الهندسة للكون بحيث يتطابق زمن الخسوف والكسوف مع وقوع الذنوب الكثيرة أو موت العظماء، فلا منافاة بين العلة الواقعية والعلة الظاهرية(1).

صلة الأرحام والآثار التكوينية

قالت فاطمة الزهراء (علیها السلام): «وصلة الأرحام منماة للعدد»(2).

وقال (علیه السلام): «صلة الأرحاممنساة في الأعمار، وحسن الجوار عمارة للديار، وصدقة السر مثراة للمال»(3).

ص: 212


1- لتوضيح ذلك نذكر المثال التالي: مهندس حكيم بنى داراً أو قلعة محكمة ثم زودها بأجهزة رصد واستكشاف (كعين إلكترونية مرتبطة بجهاز كمبيوتر) بحيث لو أن أي شخص حاول كسر الباب أو الدخول من النافذة فان صفارات الإنذار ستنطلق وستسقط عليه شبكة تحتجزه في نفس النقطة فان هذا التلازم بين دخول الشخص وبين صفارات الإنذار وسقوط الشبكة هو من هندسة مهندس قدير ولاينسف قانون العلية والنظم والحاكم في القلعة - التي تدار كل مرافقها كمبيوترياً - بل يؤكده.
2- علل الشرائع: ص248.
3- كشف الغمة: ج2 ص206.

.............................

وقال (علیه السلام): «صلة الأرحام تزكي الأعمال، وتنمي الأموال، وتدفع البلوى، وتيسر الحساب، وتنسئ في الأجل»(1).

وقال (علیه السلام): «صلة الأرحام وحسن الجوار زيادة في الأموال»(2).

بكاء الأرض على المؤمن

عن علي بن رئاب قال: سمعت أبا الحسن الأول (علیه السلام) يقول: «إذا مات المؤمن بكت عليه الملائكة وبقاع الأرض التي كان يعبد الله عليها وأبواب السماء التي كان يصعد أعماله فيها» الحديث(3).

وقال (علیه السلام): «إذا مات المؤمن بكت عليه بقاع الأرض التي كان يعبد الله عزوجل فيها والباب الذي كانيصعد منه عمله وموضع سجوده»(4).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «ما من مؤمن يموت في أرض غربة يغيب فيها بواكيه إلا بكته بقاع الأرض التي كان يعبد الله عليها وبكته أبواب السماء التي كان يصعد فيها عمله»(5).

الكون في قتل الحسين (علیه السلام)

في الأمالي للشيخ الطوسي بسنده عن عمار بن أبي عمار قال: (أمطرت

ص: 213


1- تحف العقول: 299.
2- صحيفة الرضا (علیه السلام): ص85 ح196.
3- الكافي: ج3 ص254 باب النوادر ضمن ح13.
4- من لا يحضره الفقيه: ج1 ص139 باب غسل الميت ح381.
5- وسائل الشيعة: ج5 ص187-188 ب42 ح6292.

.............................

السماء يوم قتل الحسين (علیه السلام) دما عبيطا) (1).

وعن زرارة قال: قال أبو عبد الله (علیه السلام): «يا زرارة إن السماء بكت على الحسين أربعين صباحا بالدم، وإن الأرض بكت أربعين صباحا بالسواد، وإن الشمس بكت أربعين صباحا بالكسوف والحمرة، وإن الجبال تقطعت وانتثرت، وإن البحار تفجرت، وإن الملائكة بكتأربعين صباحا على الحسين (علیه السلام) وما اختضبت منا امرأة ولا ادهنت ولا اكتحلت ولا رجلت حتى أتانا رأس عبيد الله بن زياد، وما زلنا في عبرة بعده وكان جدي إذا ذكره بكى حتى تملأ عيناه لحيته وحتى يبكي لبكائه رحمة له من رآه، وإن الملائكة الذين عند قبره ليبكون فيبكي لبكائهم كل من في الهواء و السماء من الملائكة، ولقد خرجت نفسه (علیه السلام) فزفرت جهنم زفرة كادت الأرض تنشق لزفرتها، ولقد خرجت نفس عبيد الله بن زياد ويزيد بن معاوية فشهقت جهنم شهقة لولا أن الله حبسها بخزانها لأحرقت من على ظهر الأرض من فورها ولو يؤذن لها ما بقي شيء إلا ابتلعته، ولكنها مأمورة مصفودة، ولقد عتت على الخزان غير مرة حتى أتاها جبرئيل فضربها بجناحه فسكنت وأنها لتبكيه وتندبه وأنها لتتلظى على قاتله، ولولا من على الأرض من حجج الله لنقضت الأرض وأكفأت بما عليها، وما تكثر الزلازل إلا عند اقتراب الساعة، وما من عين أحب إلى الله ولا عبرة من عين بكت ودمعت عليه (علیه السلام) وما من باك يبكيه إلا وقد وصل فاطمة (علیها السلام) وأسعدها عليه ووصل رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأدى حقنا، وما من عبد يحشر إلاوعيناه باكية إلا

ص: 214


1- الأمالي للطوسي: ص330 المجلس11 ح659.

.............................

الباكين على جدي الحسين (علیه السلام) فإنه يحشر وعينه قريرة والبشارة تلقاه والسرور بين على وجهه والخلق في الفزع وهم آمنون، والخلق يعرضون وهم حداث الحسين (علیه السلام) تحت العرش وفي ظل العرش لا يخافون سوء يوم الحساب، يقال لهم: ادخلوا الجنة، فيأبون ويختارون مجلسه وحديثه، وإن الحور لترسل إليهم أنا قد اشتقناكم مع الولدان المخلدين فما يرفعون رؤوسهم إليهم لما يرون في مجلسهم من السرور والكرامة، وإن أعداءهم من بين مسحوب بناصيته إلى النار ومن قائل ما لنا من شافعين ولا صديق حميم وإنهم ليرون منزلهم وما يقدرون أن يدنوا إليهم ولا يصلون إليهم، وإن الملائكة لتأتيهم بالرسالة من أزواجهم ومن خدامهم على ما أعطوا من الكرامة، فيقولون: نأتيكم إن شاء الله، فيرجعون إلى أزواجهم بمقالاتهم فيزدادون إليهم شوقا إذا هم خبروهم بما هم فيه من الكرامة وقربهم من الحسين (علیه السلام) فيقولون: الحمد لله الذي كفانا الفزع الأكبر وأهوال القيامة ونجانا مما كنا نخاف، ويؤتون بالمراكب والرحال على النجائب فيستوون عليهاوهم في الثناء على الله والحمد لله والصلاة على محمد وآله حتى ينتهوا إلى منازلهم»(1).

وقصة الحمرة وبكاء السماء والأرض وما أشبه روته العامة أيضا: ففي صحيح مسلم في تفسير قوله تعالى «فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالأَرْضُ»(2) قال: (لما قتل الحسين بن علي (علیه السلام) بكت السماء وبكاؤها حمرتها)(3).

ص: 215


1- كامل الزيارات: ص80-81 ب26 ح6.
2- سورة الدخان: 29.
3- الطرائف: ج1 ص203 فيما جاء في الحسين (علیه السلام) وأنه قتل مظلوماً ح293.

.............................

وروى الثعلبي في تفسير هذه الآية: (أن الحمرة التي مع الشفق لم يكن قبل قتل الحسين (علیه السلام))(1).

وروى الثعلبي أيضا يرفعه قال: (مطرنا دما بأيام قتل الحسين (علیه السلام))(2).

وفي تاريخ النسوي قال أبو قبيل:(لما قتل الحسين بن علي (علیه السلام) كسفت الشمس كسفة بدت الكواكب نصف النهار حتى ظننا أنها هي)(3). وروى أبو نعيم في دلائل النبوة، والنسوي في المعرفة: قالت نصرة الأزدية: (لما قتل الحسينˆ أمطرت السماء دما وحبابنا وجرارنا صارت مملوة دما)(4).

ظلمة الأرض

قولها (علیها السلام): «وأظلمت الأرض لغيبته»، الظلام قد يطلق على المعنوي(5)، وقد يطلق على المادي، وكذلك النور قال سبحانه: «الله نور السماوات والأرض»(6).

قال المفسرون: إن النور هو الظاهر بنفسه المظهر لغيره، فالنور الحقيقي هو الله الظاهر بنفسه المظهر لكل ما عداه من كتم العدم، أو يقال: هو جل اسمه نور معنوي للسماوات والأرض، أوخالق لنورهما.

ص: 216


1- الطرائف: ج1 ص203 فيما جاء في الحسين (علیه السلام) وأنه قتل مظلوماً ح294.
2- الطرائف: ج1 ص203 فيما جاء في الحسين (علیه السلام) وأنه قتل مظلوماً ح295.
3- المناقب: ج4 ص54 فصل في آياته بعد وفاته (علیه السلام).
4- المناقب: ج4 ص54 فصل في آياته بعد وفاته (علیه السلام).
5- كما يقال: اظلم قلبه أو يعيش في ظلمات الجهل.
6- سورة النور: 35.

.............................

فالتفسير بأنه المنور(1) لا انحصار به بعد إمكان جعله معنوياً أيضاً، فتأمل.

والمراد بالظلمة ههنا: المعنوية - ولا تبعد المادية أيضا - فكما أن الإنسان يبصر الأمور التكوينية بحاسة الباصرة بسبب النور، كذلك يبصر بحسه الباطني الأشياء الواقعية بسبب أنوار الله المعنوية، وأهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) هم أنوار الله تعالى، كما ورد في زيادة الجامعة: «خلقكم الله أنواراً فجعلكم بعرشه محدقين حتى منّ علينا بكم»(2).

وهل المراد أنهم (علیهم السلام) كانوا أنواراً ظاهرة ثم صاروا أنواراً واقعية في هذا العالم، أو أنهم كانوا هناك أيضاً أنواراً واقعية ثم تفضل الله بهم علينا؟ احتمالان.

ويحتمل إرادة الظلمة - في قولها (علیها السلام) - المقابلة للنورالمراد به أشعة نورانية من نمط آخر(3).

قولها (علیها السلام): «وانتثرت النجوم لمصيبت» ظاهره: إرادة المعنى الحقيقي بأن انتثرت النجوم بسبب وفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأنها تراءت للناظرين متناثرة كما رئيت متناثرة في موت بعض العلماء، أو غير ذلك من المعاني.

وفي بعض النسخ: (وكسفت النجوم) وهو كما سبق ظاهر في الحقيقة.

أو المراد أنها تدكرت وانكدرت بسبب موت الرسول (صلی الله علیه و آله) فإنه (صلی الله علیه و آله) كان نوراً للأرض وللسماء بجعل الله سبحانه.

ص: 217


1- أي معطي الضياء والنور وخالقهما في السماوات والأرض.
2- من لا يحضره الفقيه: ج2 ص613 زيارة جامعه لجميع الأئمة (علیهم السلام) ضمن ح3213.
3- كما أن الإنسان يبصر بنور الشمس ويبصر في الظلام بالأشعة تحت الحمراء.

وأكدت الآمال وخشعت الجبال

اشارة

-------------------------------------------

أمل الكون

مسألة: إن الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) هو أمل الكون بأجمعه وقد أرسله الله عزوجل «رحمة للعالمين»(1).

قولها (علیها السلام): «وأكدت الآمال»، يقال: أكدى فلان أي: بخل أو قل خيره.

فمعنى إكداء الآمال هنا: أن الآمال انقطعت بفقد الرسول (صلی الله علیه و آله) لأنه (صلی الله علیه و آله) كان موضع أمل الآملين.

ثم إنها (علیها السلام) ذكرت قولها (أكدت الآمال) في وسط ذكرها لمجموعة من الحوادث السماوية والطوارئ الكونية على الكرة الأرضية، مما قد يستظهر منه أن المراد بالآمال ليس (الآمال) البشرية فحسب، بل (الآمال الكونية) التي كانت معقودة به (صلی الله علیه و آله) إذ كان وجوده خيراً وبركة لكافة العوالم، وبوفاته (صلی الله علیه و آله) انقطع منها ما كان منوطاً بحياته وإن بقي ما هو معلق على أصل وجوده وما استمر بأهل بيته الطاهرين(علیهم السلام).

قولها (علیها السلام): «وخشعت الجبال» فكما أن الإنسان يخشع أمام العظيم من الأمور، كذلك سائر المخلوقات والحقائق الكونية والتي من أظهرها في الأرض الجبال، فإنها تخشع من خشية الله وهيبة أوليائه.

قال سبحانه: «فقال لها وللأرض أئتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا

ص: 218


1- سورة الأنبياء: 107.

.............................

طائعين»(1).

وقال تعالى: «لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله»(2).

وقال سبحانه: «تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً»(3).

وخشوع الجبل إما ضعف صلابته كما قال سبحانه بالنسبة إلى آثار القيامة:

قال تعالى: «وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْأَحَداً»(4).

وقال سبحانه: «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لاَ تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلاَ أَمْتاً * يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لاَ عِوَجَ له وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَ هَمْساً»(5).

وقال تعالى: «إِذَا رُجَّتِ الأرْضُ رَجّاً * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثّاً»(6).

ص: 219


1- سورة فصلت: 11.
2- سورة الحشر: 21.
3- سورة مريم: 90-91.
4- سورة الكهف: 47.
5- سورة طه: 105-108.
6- سورة الواقعة: 4-6.

.............................

وقال سبحانه: «وَحُمِلَتِ الأرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ»(1).

وقال تعالى: «وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ»(2).

وقال سبحانه: «يَوْمَ تَرْجُفُ الأرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَهِيلا»(3).وقال تعالى: «وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ»(4).

وقال سبحانه: «وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ»(5).

وإما احتمال تأثره، فمن الواضح أن الكون كله قابل للتأثر.

قال تعالى: «فأبين أن يحملنها وأشفقن منها»(6).

وقال سبحانه: «يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض»(7).

وقال تعالى: «وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم»(8).

وقال سبحانه: «وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا

ص: 220


1- سورة الحاقة: 14-15.
2- سورة المعارج: 9.
3- سورة المزمل: 14.
4- سورة المرسلات: 10.
5- سورة القارعة: 5.
6- سورة الأحزاب: 72.
7- سورة الجمعة: 1.
8- سورة الإسراء: 44.

.............................

فَاعِلِينَ»(1).

وقال تعالى: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ له مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّوَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَمَا له مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ»(2). وقال سبحانه: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ»(3).

ويدل على تأثر الكون وتفاعله وفهمه، متواتر الآيات والروايات - تواتراً إجمالياً - ومنها: شهادة جلود الإنسان عليه في يوم القيامة، قال تعالى: «قالوا لجلودهم لم شهدتم علينا»(4).

وقال سبحانه: «حَتَّى إِذا ما جاءُوها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ»(5).

وشهادة بقاع الأرض للإنسان بالصلاة عليها وما أشبه.

وخطاب الزمن للإنسان: (أنا يوم جديد وغداً عليك شهيد).

قال لقمان: «يا بني إن كل يوم يأتيك يوم جديد، يشهد عليك عند رب كريم»(6).

ص: 221


1- سورة الأنبياء: 79.
2- سورة الحج: 18.
3- سورة ص: 18.
4- سورة فصلت: 21.
5- سورة فصلت: 20.
6- راجع الاختصاص: ص340 بعض وصايا لقمان الحكيم لابنه.

.............................

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «ما من يوم يمر على ابن آدم إلا قال له ذلك اليوم: يا ابن آدم أنا يوم جديد وأنا عليك شهيد فقل فيّ خيرا وأعمل فيّ خيرا، أشهد لك به يوم القيامة فإنك لن تراني بعده أبدا»(1).

وعن جعفر بن محمد الصادق (علیه السلام) عن أبيه (علیه السلام) قال: «إن الليل إذا أقبل نادى مناد بصوت يسمعه الخلائق إلا الثقلين: يا ابن آدم إني خلق جديد، إني على ما فيّ شهيد، فخذ مني، فإني لو قد طلعت الشمس لم أرجع إلى الدنيا، ثم لم تزدد فيّ حسنة ولم تستعتب فيّ من سيئة، وكذلك يقول النهار إذا أدبر الليل»(2).

وقال الإمام الصادق (علیه السلام) في حديث: «فيقولون لله يا رب هؤلاء ملائكتك يشهدون لك، ثم يحلفون بالله ما فعلوا من ذلك شيئا وهو قول الله «يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ له كَمايَحْلِفُونَ لَكُمْ»(3)، وهم الذين غصبوا أمير المؤمنين (علیه السلام) فعند ذلك يختم الله على ألسنتهم وينطق جوارحهم فيشهد السمع بما سمع مما حرم الله ويشهد البصر بما نظر به إلى ما حرم الله وتشهد اليدان بما أخذتا وتشهد الرجلان بما سعتا فيما حرم الله ويشهد الفرج بما ارتكب مما حرم الله»(4).

وعن الصادق (علیه السلام) في حديث أنه قال: «صلوا من المساجد في بقاع مختلفة

ص: 222


1- روضة الواعظين: ج2 ص393 مجلس في ذكر الأوقات وما يتعلق بها.
2- محاسبة النفس: ص14.
3- سورة المجادلة: 18.
4- تفسير القمي: ج2 ص264 سورة السجدة، شهادة الجوارح يوم القيامة.

.............................

فإن كل بقعة تشهد للمصلي عليها يوم القيامة»(1).

وعن أبي جعفر (علیه السلام) أن علي بن الحسين (علیه السلام) كان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة كما كان يفعل أمير المؤمنين (علیه السلام) كان له خمسمائة نخلة وكان يصلي عند كل نخلة ركعتين»(2).وعن أبي ذر عن النبي (صلی الله علیه و آله) في وصيته له: «يا أبا ذر ما من رجل يجعل جبهته في بقعة من بقاع الأرض إلا شهدت له بها يوم القيامة، وما من منزل نزله قوم إلا وأصبح ذلك المنزل يصلي عليهم أو يلعنهم، يا أبا ذر ما من صباح ولا رواح إلا وبقاع الأرض ينادي بعضها بعضا: يا جارة هل مر بك اليوم ذاكر لله أو عبد وضع جبهته عليك ساجدا لله تعالى، فمن قائلة لا ومن قائلة نعم، فإذا قالت نعم اهتزت وانشرحت وترى أن لها الفضل على جارتها»(3).

وعن عبد الله بن علي الزراد قال سأل أبو كهمس أبا عبد الله (علیه السلام) فقال: يصلي الرجل نوافله في موضع أو يفرقها؟ قال: «لا، بل هاهنا وهاهنا فإنها تشهد له يوم القيامة»(4)، قال الصدوق (رحمة الله) : (يعني أن بقاع الأرض تشهد له)(5).

ص: 223


1- وسائل الشيعة: ج5 ص188 ب42 ح6293.
2- وسائل الشيعة: ج5 ص188 ب42 ح6294.
3- الأمالي للطوسي: ص534 المجلس 19.
4- تهذيب الأحكام: ج2 ص335 ب15 ح237.
5- وسائل الشيعة: ج5 ص186 ب42.

وأضيع الحريم

اشارة

-------------------------------------------

من خسائر فقد النبي (صلی الله علیه و آله)

مسألة: إن النبي (صلی الله علیه و آله) كان الحافظ الأشد لكل الحرمات، ومن المعلوم أن بفقده (صلی الله علیه و آله) حصل الضياع للحرمات، وقد كان شعاره (صلی الله علیه و آله) حفظ الحرمة، كما أمر بالنداء في يوم فتح مكة:

اليوم يوم المرحمة *** اليوم تحفظ الحرمة

بدل قول المنادي:

اليوم يوم الملحمة *** اليوم تسبى الحرمة (1)

ومن هذا يفهم - عرفاً - لزوم حفظ الحريم، من غير فرق بين أن يكون حريماً إنسانياً، أو حريم الأرض والبئر وما أشبه، مما ذكر في مختلف الكتب، ككتاب إحياء الموات، وكتاب النكاح في باب الحقوق، وغير ذلك، وقد ألمعنا إلى جملة منها في (الفقه: الحقوق)(2).قولها (علیها السلام): «وأضيع الحريم» يحتمل فيه ثلاثة معان:

1: إن وفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله) سبب ضياع حريمه، أي أهل بيته وذلك بظلم القوم لهم.

ص: 224


1- راجع (ولأول مرة في تاريخ العالم) فتح مكة، للإمام الشيرازي ». وانظر شرح النهج: ج17 ص272، ذكر الخبر عن فتح مكة.
2- موسوعة الفقه: ج100 كتاب الحقوق.

.............................

2: إنه سبب ضياع حريم المسلمين بل وغيرهم أيضاً ممن كانوا يتمتعون بحمايته، لأن الرسول (صلی الله علیه و آله) كان يحفظ ويحمي حرم الناس بأجمعهم من المسلمين وغيرهم.

3: إنه سبب ضياع الأعم من ذلك أي كل حرمة من حرم الإسلام وحرم المسلمين وغيرهما (1)، فإن رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان شديد الحماية والحراسة لكل حرمة.

لكن المنصرف الأول، والإطلاق يقتضي الثالث، وإن كان لا يبعد الثاني أيضاً.

عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «لله عزوجل في بلاده خمس حُرم: حرمة رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وحرمة آل رسول الله (علیهم السلام)، وحرمة كتاب الله عزوجل، وحرمة كعبة الله، وحرمةالمؤمن»(2).

وقال (علیه السلام): «إن لله تبارك و تعالى حرمات: حرمة كتاب الله وحرمة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وحرمة بيت المقدس وحرمة المؤمن»(3).

وقال (علیه السلام): «إن لله عزوجل في الأرض حرمات: حرمة كتاب الله وحرمة رسول الله وحرمة أهل البيت وحرمة الكعبة وحرمة المسلم وحرمة المسلم وحرمة المسلم»(4).

ص: 225


1- الظاهر أن المراد الحرم التكوينية.
2- الكافي: ج8 ص107 حديث أبي بصير مع المرأة ح82.
3- بحار الأنوار: ج71 ص232 ب15.
4- المؤمن: ص73 ب8 ح201.

.............................

وفي يوم عاشوراء عندما وقف الإمام الحسين (علیه السلام) على ولده علي الأكبر (علیه السلام) قال: «قتل الله قوما قتلوك، ما أجرأهم على الله وعلى انتهاك حرمة الرسول، وانهملت عيناه بالدموع ثم قال: على الدنيا بعدك العفاء»(1).

وفي دعاء الندبة المروي عن الإمام الحجة (علیه السلام): «لم يمتثل أمررسول الله (صلی الله علیه و آله) في الهادين بعد الهادين والأمة مصرة على مقته، مجتمعة على قطيعة رحمه، وإقصاء ولده، إلا القليل ممن وفى لرعاية الحق فيهم، فقُتل من قتل، وسبي من سبي، وأقصي من أقصي، وجرى القضاء لهم بما يرجى له حسن المثوبة» الدعاء»(2).

وعن الحسن بن عطية قال: كان أبو عبد الله (علیه السلام) واقفا على الصفا، فقال له عباد البصري: حديث يروى عنك، قال: «وما هو»، قال: قلت: حرمة المؤمن أعظم من حرمة هذه البنية، قال: «قد قلت ذلك، إن المؤمن لو قال لهذه الجبال أقبلي أقبلت»! قال: فنظرت إلى الجبال قد أقبلت، فقال لها: «على رسلك إني لم أردك»(3).

وقال (علیه السلام): «حرمة المؤمن الفقير أعظم عند الله من سبع سماوات وسبع أرضين والملائكة والجبال وما فيها»(4).

وقال (علیه السلام): «حرمة المؤمنميتا كحرمته حيا»(5).

ص: 226


1- إعلام الورى: ص246 الفصل الرابع.
2- إقبال الأعمال: ص296.
3- الاختصاص: ص325 حديث في زيارة المؤمن لله.
4- إرشاد القلوب: ج1 ص194 ب52.
5- الصراط المستقيم: ج3 ص115.

.............................

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «مكة حرم الله والمدينة حرم رسول الله (صلی الله علیه و آله) والكوفة حرمي لا يريدها جبار بحادثة إلا قصمه الله» (1).

وعن زرارة بن أعين عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «حرم رسول الله (صلی الله علیه و آله) المدينة ما بين لابتيها صيدها، وحرم (علیه السلام) ما حولها بريداً في بريد أن يختلى خلاها أو يعضد شجرها إلا عودي الناضح»(2).

وقال (علیه السلام):«حريم قبر الحسين (علیه السلام) خمس فراسخ من أربعة جوانب القبر»(3). وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «حريم المسجد أربعون ذراعا، والجوار أربعون دارامن أربعة جوانبها»(4). وروي: «أن حريم المسجد أربعون ذراعاً من كل ناحية»(5). وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «حريم النخلة طول سعفها»(6).

وعن الصادق (علیه السلام) عن أبيه (علیه السلام): «أن عليا (علیه السلام) كان يقول: حريم البئر العادية خمسون ذراعا، إلا أن يكون إلى عطن أو إلى الطريق فيكون أقل من ذلك خمسة وعشرين ذراعا، وحريم البئر المحدثة خمسة وعشرون ذراعا»(7).

وقال (علیه السلام): «حريم النهر حافتاه وما يليها»(8).

ص: 227


1- الكافي: ج4 ص563 باب تحريم المدينة ح1.
2- من لا يحضره الفقيه: ج2 ص561 باب تحريم المدينة وفضلها ح3148.
3- مستدرك الوسائل: ج10 ص320 ب50 ح12088.
4- وسائل الشيعة: ج5 ص202 ب6 6331.
5- من لا يحضره الفقيه: ج3 ص102 باب حكم الحريم ضمن ح3419.
6- قرب الإسناد: ص62.
7- بحار الأنوار: ج101 ص253 ب2 ح2.
8- الكافي: ج5 ص296 باب جامع في حريم الحقوق ح7.

وأزيلت الحرمة عند مماته

اشارة

-------------------------------------------

وأزيلت الحرمة(1) عند مماته

الحرمة والحريم

مسألة: يستحب بيان أن الحرمة أزيلت عند ممات الرسول (صلی الله علیه و آله).

ولا يخفى أن الحريم غير الحرمة، إذ الحرمة ذاتية والحريم عرضية وبالتبع(2)، مثلاً: حرمة الإنسان ذاتية، أما حرمة ذويه باعتباره عرضية، فلهم حرمة حريم ذلك الإنسان المحترم، وربما اجتمعت الذاتية والعرضية بالاعتبارين.

وللكعبة مثلاً حرمة، أما مكة فهي من الحريم، فتأمل، وهكذا.

فهي (علیها السلام) أشارت إلى أمرين نجما عن وفاته (صلی الله علیه و آله): إضاعة الحريم، وهتك الحرمة.

والظاهر أن المراد ب- (أزيلت الحرمة) أن القوم أزالوا حرمة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهتكوها (علیها السلام) وضربوا بها عرض الجدار، بناء على كون المراد بالحرمة المعنى الخاصأو العام، أما لو أريد بها المعنى الأعم(3) فإن الإزالة في بعدها التكويني عندئذٍ تسند لجاعل(4) سببيته (صلی الله علیه و آله) لتلك الحرمة التكوينية.

هذا وجملتها هذه بلحاظ أن الحرمة عبارة عما لا يحل انتهاكه، تقرب أن يكون المراد ب- (أزيلت الحرمة) في الجملة السابقة المعنى الأوسط.

ص: 228


1- وفي بعض النسخ: (وأديلت الحرمة) من الإدالة بمعنى الغلبة، وفي بعضها: (وأزيلت الرحمة).
2- أي أن حرمة الحريم اكتسابية.
3- الشامل للحرمة التكوينية.
4- أي الله سبحانه وتعالى.

.............................

قال علي بن الحسين (علیه السلام) في حديث: «إن الله تعالى مسخ هؤلاء لاصطياد السمك فكيف ترى عند الله عزوجل حال من قتل أولاد رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهتك حريمه، إن الله تعالى وإن لم يمسخهم في الدنيا فإن المعد لهم من عذاب الآخرة أضعاف عذاب المسخ»(1).

وفي وصية النبي (صلی الله علیه و آله) عند قرب وفاته: «معاشر الأنصار، ألا فاسمعوا ومن حضر، ألا إن فاطمة بابها بابي وبيتها بيتي، فمن هتكهفقد هتك حجاب الله» قال عيسى - راوي الحديث -: فبكى أبو الحسن (علیه السلام) طويلا وقطع بقية كلامه وقال: هُتك والله حجاب الله، هُتك والله حجاب الله، هُتك والله حجاب الله يا أمه صلوات الله عليها»(2).

وقال (صلی الله علیه و آله) أيضاً في وصيته عند قرب وفاته: «واعلم يا علي أني راض عمن رضيت عنه ابنتي فاطمة، وكذلك ربي وملائكته، يا علي ويل لمن ظلمها، وويل لمن ابتزها حقها، وويل لمن هتك حرمتها، وويل لمن أحرق بابها، وويل لمن آذى خليلها، وويل لمن شاقها وبارزها، اللهم إني منهم بريء، وهم مني براء»(3).

وقد دخلت أم سلمة على فاطمة (علیها السلام) فقالت لها: كيف أصبحت عن ليلتك يا بنت رسول الله؟

ص: 229


1- تفسير الإمام العسكري (علیه السلام): ص270 قصة أصحاب السبت ضمن ح137.
2- راجع بحار الأنوار: ج22 ص477 ب1 ضمن ح27.
3- راجع بحار الأنوار: ج22 ص485 ب1 ضمن ح31.

.............................

قالت: «أصبحت بين كمد وكرب، فقد النبي وظلم الوصي، هُتك والله حجابه، من أصبحت إمامته مقبضة مقتضبة على غير ما شرع الله في التنزيل، وسنها النبي (صلی الله علیه و آله) في التأويل،ولكنها أحقاد بدرية وترات أحدية كانت عليها قلوب النفاق مكتمنة»(1).

حق أم حكم

مسألة: الحريم والحرمة هل هما حق أم حكم؟

الظاهر: أن بعض المصاديق حق كحريم الدار، وبعضها حكم كحرمة هتك المؤمن.

قال (علیه السلام): «من استهان بحرمة المسلمين فقد هتك ستر إيمانه»(2).

وقال الإمام الصادق (علیه السلام): «من هتك ستر مؤمن هتك الله ستره يوم القيامة»(3).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «إن أمرنا مستور مقنع بالميثاق فمن هتك علينا أذله الله»(4).

وفي الحديث: «ومن هتك حجاب غيرهانكشفت عورات بيته»(5).

ص: 230


1- راجع بحار الأنوار: ج43 ص156-157 ب7 ضمن ح5.
2- راجع بحار الأنوار: ج71 ص227 ب15 ضمن ح21.
3- راجع مستدرك الوسائل: ج9 ص109 ب130 ضمن ح10373.
4- الكافي: ج2 ص226 باب الكتمان ح15.
5- انظر تحف العقول: ص88 وصية الإمام أمير المؤمنين لابنه الحسين (علیهما السلام).

.............................

وقال الإمام الصادق (علیه السلام): «لو لم يكن للحساب مهولة إلا حياء العرض على الله عزوجل وفضيحة هتك الستر على المخفيات لحق للمرء ألا يهبط من رؤوس الجبال ولا يأوي إلى عمران ولا يأكل ولا يشرب ولا ينام إلا عن اضطرار متصل بالتلف، ومثل ذلك يفعل من يرى القيامة بأهوالها وشدائدها قائمة في كل نفس ويعاين بالقلب الوقوف بين يدي الجبار، حينئذ يأخذ نفسه بالمحاسبة كأنه إلى عرصاتها مدعو وفي غمراتها مسؤول، قال الله عزوجل: «وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ»(1)»(2).

ص: 231


1- سورة الأنبياء: 47.
2- انظر مصباح الشريعة: ص85 ب38 في الحساب.

.............................

إعادة ما أضيع

مسألة: يجب السعي على مر الأزمان لإعادة ما أمكن إعادته مما أضيع من حريم الرسول (صلی الله علیه و آله) ومما أزيل من حرمته (صلی الله علیه و آله).

وفي الجانب التكويني يمكن إعادة مازال ولو في الجملة عبر الدعاء وما أشبه لتعجيل الظهور، فإن به (عجل الله تعالى فرجه الشريف) تشرق الأرض بنور ربها، وتعود المياه إلى مجاريها.

وفي الدعاء: «اللهم عجل فرجه وأيده بالنصر وانصر ناصريه واخذل خاذليه»(1).

وفي دعاء العهد: «اللهم أرني الطلعة الرشيدة والغرة الحميدة، واكحل بصري بنظرة مني إليه، وعجل فرجه وسهل مخرجه، اللهم اشدد أزره وقوّ ظهره وطوّل عمره، اللهم اعمر بهبلادك وأحي به عبادك»(2).

وفي دعاء للإمام الجواد (علیه السلام) في قنوته: «وأنت اللهم بعبادك وذوي الرغبة إليك شفيق وبإجابة دعائهم وتعجيل الفرج عنهم حقيق»(3).

ص: 232


1- كمال الدين: ج2 ص513 الدعاء في غيبة القائم (علیه السلام) ضمن ح43.
2- راجع مستدرك الوسائل: ج5 ص74 ب22 ضمن ح5388.
3- انظر مهج الدعوات: ص59 قنوت الإمام محمد بن علي بن موسى (علیه السلام).

فتلك والله النازلة الكبرى والمصيبة العظمى

اشارة

-------------------------------------------

من مستثنيات كراهة القسم

مسألة: قد سبق أن من الجائز - بالمعنى الأعم الشامل للوجوب -: القسم لبيان أهمية الأمر، وهنا قد أقسمت (علیها السلام) لبيان شدة المصيبة.

ومن هذا القبيل تكرار القسم في القرآن الحكيم.

كما أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين عليّاً (عليه الصلاة والسلام) كانا يحلفان في موارده، كما نرى ذلك في كلامهما (علیهما السلام).

أما ما ورد من كراهة القسم، مثل قوله سبحانه وتعالى: «ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم»(1) فالمراد به الاستخفاف باسم الله سبحانه وتعالى، بأن يكون اسم الله معرضاً لليمين بدون أن يكون هناك أهمية توجب ذلك.

أو المراد الأعم من ذلك ومن القسم كاذباً.

أو القسم من دون أهمية فيالموضوع، أو ما أشبه.

عن أبي عبد الله (علیه السلام) في قول الله عزوجل: «وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ»(2) قال: «إذا دعيت لصلح بين اثنين فلا تقل علي يمين ألا أفعل»(3).

ص: 233


1- سورة البقرة: 224.
2- سورة البقرة: 224.
3- الكافي: ج2 ص210 باب الإصلاح بين الناس ح6.

.............................

وعن أبي جعفر (علیه السلام) في قوله تعالى: «ولا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمانِكُمْ»(1)، قال: «يعني الرجل يحلف أن لا يكلم أخاه و ما أشبه ذلك أو لايكلم أمه»(2).

وعن محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن قول الله تبارك وتعالى لا إله غيره «وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا» قال: «هو قول الرجل لا والله، وبلى والله»(3).وفي الحديث القدسي: «يا عيسى لا تحلف باسمي كاذبا فيهتز عرشي غضبا»(4).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «يا علي لا تحلف بالله كاذبا ولا صادقا من غير ضرورة، ولا تجعل الله عرضة ليمينك فإن الله لا يرحم ولا يرعى من حلف باسمه كاذبا»(5).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «إذا أدّعي عليك مال ولم يكن له عليك، فأراد أن يحلّفك، فإن بلغ مقدار ثلاثين درهما فأعطه ولا تحلف، وإن كان أكثر من ذلك فاحلف ولا تعطه»(6).

ص: 234


1- سورة البقرة: 224.
2- وسائل الشيعة: ج23 ص223 ب11 ح29421.
3- تفسير العياشي: ج1 ص111-112 من سورة البقرة ح337.
4- الأمالي للصدوق: ص519 المجلس78 ضمن ح1.
5- انظر تحف العقول: ص14 وصية رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى أمير المؤمنين (علیه السلام).
6- الكافي: ج7 ص435 باب كراهية اليمين ح6.

.............................

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «اجتمع الحواريون إلى عيسى (علیه السلام) فقالوا: يا معلم الخير أرشدنا، فقال: إن موسى نبي الله (علیه السلام) أمركم أن لا تحلفوا بالله كاذبين، وأنا آمركم أن لا تحلفوا باللهكاذبين ولا صادقين»(1).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «بيعوا ولا تحلفوا، فإن اليمين ينفق السلعة ويمحق البركة»(2).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «لا تحلفوا إلا بالله، ومن حلف بالله فليصدق، ومن حلف له بالله فليرض، ومن حلف له بالله فلم يرض فليس من الله في شيء»(3).

وقال (صلی الله علیه و آله): «لا تحلفوا بآبائكم ولا بالأنداد، ولا تحلفوا إلا بالله، ولاتحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون»(4).

النازلة الكبرى

مسألة: يستحب بيان أن موت الرسول (صلی الله علیه و آله) هي النازلة الكبرى والمصيبة العظمى وتأكيد ذلك.

فإن مثل هذه التأكيدات تبيّن قَدَر النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله)وقيمته ولو بقدر، مما يسبب التفاف الناس حوله أكثر فأكثر، فإن من عادة الناس أن يلتفوا حول

ص: 235


1- وسائل الشيعة: ج23 ص197 ب1 ح29354.
2- انظر مستدرك الوسائل: ج13 ص273 ب20 ضمن ح15331.
3- تهذيب الأحكام: ج8 ص284 ب4 ح32.
4- غوالي اللئالي: ج3 ص444 باب الإيمان ح6.

.............................

العظماء، وكل ما ازدادوا معرفة بعظمتهم كان التفافهم حولهم أكثر، وكلما التف الناس حول الرسول (صلی الله علیه و آله) أكثر كانوا بمنجىً ومأمن من مشاكل الدنيا وعذاب الآخرة ف- «ما سألتكم من أجر فهو لكم»(1).

قال (علیه السلام): «من أصيب بمصيبة فليذكر مصابه بالنبي (صلی الله علیه و آله) فإنه من أعظم المصائب»(2).

وقال النبي (صلی الله علیه و آله): «يا علي من أصيب بمصيبة فليذكر مصيبته بي فإنها من أعظم المصائب»(3).

وقال (صلی الله علیه و آله): «إذا أصبتم بمصيبة فاذكروا مصيبتي فإنهاأعظم المصائب»(4).

وعن الشعبي، عن صعصعة بن صوحان قال: فلما بلغ عليا (علیه السلام) موت الأشتر قال: «إنا لله و إنا إليه راجعون والحمد لله رب العالمين، اللهم إني أحتسبه عندك فإن موته من مصائب الدهر، فرحم الله مالكا، فقد وفى بعهده وقضى نحبه ولقي ربه، مع أنا قد وطنا أنفسنا على أن نصبر على كل مصيبة بعد مصابنا برسول الله (صلی الله علیه و آله) فإنها أعظم المصائب»(5).

وقال النبي (صلی الله علیه و آله): «إن الله ليكتب الدرجة العالية في الجنة فلا يبلغها عبده فلا يزال يتعهد بالبلاء حتى يبلغها وإذا أصبتم بمصيبة فاذكروا مصيبتي فإنها

ص: 236


1- سورة سبأ: 47.
2- الكافي: ج3 ص220 باب التعزي ح1.
3- المناقب: ج1 ص238 فصل في وفاته (علیه السلام).
4- روضة الواعظين: ج2 ص423 مجلس في ذكر فضل الصبر.
5- الغارات: ج1 ص169 خبر قتل الأشتر (رحمة الله).

.............................

أعظم المصائب»(1).

وأنشأ أمير المؤمنين (علیه السلام):

الموت لا والدا يبقي و لا ولدا *** هذا السبيل إلى أن لا ترى أحدا

هذا النبي ولم يخلد لأمته *** لو خلد الله خلقا قبله خلدا

للموت فينا سهام غير خاطئة *** من فاته اليوم سهم لم يفته غدا (2)

وقالت فاطمة الزهراء (علیها السلام):

إذا مات يوما ميت قلّ ذكره *** وذكر أبي مذ مات والله أزيد

تذكرت لما فرق الموت بيننا *** فعزيت نفسي بالنبي محمد

فقلت لها إن الممات سبيلنا *** ومن لم يمت في يومه مات في غد(3)

وهذا لا ينافي الاهتمام الأكثر بعزاء الإمام الحسين (علیه السلام) فإن ذلك بأمرهم (صلوات الله عليهم أجمعين).

كما لا ينافي الأخبار التالية أيضا:

قال لقمان: «يا بني إن أشد العدم عدم القلب، وإن أعظم المصائب مصيبة الدين، وأسنى المرزئة مرزأته»(4).

ص: 237


1- مشكاة الأنوار: ص300 ف7 في الشدائد والبلايا.
2- بحار الأنوار: ج22 ص522-523 ب2.
3- انظر المناقب: ج1 ص238 فصل في وفاته (صلی الله علیه و آله)، وبحار الأنوار: ج22 ص523 ب2.
4- قصص الأنبياء للراوندي: ص196 ف6 في حديث لقمان ح246.

.............................

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام):«أعظم المصائب الجهل»(1).

وقال (علیه السلام): «المصيبة بالدين أعظم المصائب»(2).

وقال (علیه السلام): «أعظم المصائب و الشقاء الوله بالدنيا»(3).

التوسع في معنى (احتمال التأثير)

مسألة: (كشف الحقيقة) واجب في الجملة، ويكفي في التأثير احتماله عقلائياً ولو في المستقبل للأجيال القادمة، وذلك من وجوه ذكرهم (صلوات الله عليهم) لبعض العلامات المبهمة لما قبل الظهور.

وأما ما ذكرته (علیها السلام) ههنا فتأثيره كان فعلياً ومستقبلياً.

قال الشهيد الثاني (رحمة الله) في (شرح اللمعة) في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (وتجويز التأثير، بأن لا يكون التأثير ممتنعاً، بل ممكنا بحسب ما يظهر له من حاله، وهذايقتضي الوجوب ما لم يعلم عدم التأثير وإن ظن عدمه، لأن التجوز قائم مع الظن، وهو حسن)(4).

وقال المحقق الأردبيلي (رحمة الله): (نعم لا يبعد استحبابه مع احتمال التأثير مع ظن عدمه، إن كان مسقطاً للوجوب، لاحتمال حصول نفع، فتأمل)(5).

ص: 238


1- غرر الحكم ودرر الكلم: ص73 الجهل شر المصائب ح1105.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: ص86 الدين هو الملاك ح1428.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: ص140 الدنيا وحبها سبب الشقاء ح2462.
4- شرح اللمعة: ج2 ص415.
5- مجمع الفائدة: ج7 ص539.

.............................

وقال المحقق السبزواري (رحمة الله): (هل يعتبر مجرد التجويز وإن كان احتمال التأثير بعيداً، أو عدم غلبة الظن أو العلم بعدم التأثير، ظاهر بعض عباراتهم يقتضي الأول، وظاهر بعضها الثاني، ولعل نظر الأول على الآية) (1).

والتفصيل في الفقه(2).

عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «يكون في آخر الزمان قوم ينبع فيهمقوم مراءون ينفرون وينسكون، حدثاء سفهاء، لا يوجبون أمرا بمعروف ولا نهيا عن منكر إلا إذا أمنوا الضرر، يطلبون لأنفسهم الرخص والمعاذير» إلى أن قال: «هنالك يتم غضب الله عليهم فيعمهم بعقابه»(3).

وعن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «من مشى إلى سلطان جائر فأمره بتقوى الله ووعظه وخوفه كان له مثل أجر الثقلين من الجن والإنس ومثل أعمالهم»(4).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «إن الله لا يعذب العامة بذنب الخاصة إذا عملت الخاصة بالمنكر سرا من غير أن تعلم العامة، فإذا عملت الخاصة بالمنكر جهارا فلم تغير ذلك العامة استوجب الفريقان العقوبة من الله عزوجل»(5).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إن المعصية إذا عمل بها العبد سرا لم تضر إلا

ص: 239


1- كفاية الأحكام: ص82.
2- انظر موسوعة الفقه، للإمام الشيرازي، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: ج48 ص180-182.
3- وسائل الشيعة: ج16 ص129 ب2 ح21157.
4- الاختصاص: ص261-262 حديث في زيارة المؤمن لله.
5- وسائل الشيعة: ج16 ص135-136 ب4 ح21174.

.............................

عاملها، فإذا عمل بها علانية ولم يغير عليه أضرت بالعامة» قال جعفر بن محمد (علیه السلام): «وذلك أنه يذل بعمله دين الله ويقتدي به أهل عداوة الله»(1).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «ما أقر قوم بالمنكر بين أظهرهم لا يغيرونه إلا أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده»(2).

وعن أبي جعفر (علیه السلام) في حديث قال: «أوحى الله إلى شعيب النبي (علیه السلام) أني معذب من قومك مائة ألف، أربعين ألفا من شرارهم وستين ألفا من خيارهم فقال (علیه السلام): يا رب هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار؟ فأوحى الله عزوجل إليه: داهنوا أهل المعاصي ولم يغضبوا لغضبي»(3).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) عن أبيه عن جده علي بن الحسين (علیهم السلام) قال: «قال موسى بن عمران(علیه السلام): يا رب من أهلك الذين تظلهم في ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك؟ فأوحى الله إليه: الطاهرة قلوبهم والتربة أيديهم الذين يذكرون جلالي إذا ذكروا ربهم» إلى أن قال: «والذين يغضبون لمحارمي إذا استحلت مثل النمر إذا حرد»(4).

ص: 240


1- ثواب الأعمال: ص261 عقاب من قرب المنكر.
2- وسائل الشيعة: ج16 ص137 ب4 ح21176.
3- قصص الأنبياء للجزائري: ص214 ب11 في قصص شعيب (علیه السلام).
4- انظر مستدرك الوسائل: ج3 ص361 ب3 ضمن ح3782.

.............................

ذكر الحقيقة

مسألة: (ذكر الحقيقة) أمر، والتأكيد عليها أمر ثان، والبرهنة عليها أمر ثالث، والكل واجب في الجملة.

وهذا ما فعلته (علیها السلام) في هذه الجمل المتلاحقة وفي طول الخطبة، فإنها (علیها السلام) تارة اكتفت بالأول وأخرى ضمت إليه الثاني وثالثةً ثلّثت.

قولها (علیها السلام): «فتلك والله النازلة الكبرى» النازلة أي التي تنزل من السماء، كما قال أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام): في كل يوم ينزل البلاء إلى الأرض كقطر المطر(1).

والمعنى: أن الحوادث تقع في صفوف البشر بصورة مستمرة، فهذا يموت وهذا يقتل وهذا يسقط في هوة وهذا يغرق وهذا يحترق بيته وهذا يفتقر وما أشبه ذلك، ولكن موت رسول الله (صلی الله علیه و آله) أكبر من كل تلك النوازلوالمصائب إذ أن كل مصيبة تخصّ فرداً أو أفراداً أو شعباً أو شعوباً، أما موت رسول الله (صلی الله علیه و آله) فمصيبة تعم كل العالمين لأنه (صلی الله علیه و آله) في حياته كان رحمة للعالمين، وبموته حرم العالمون من رحمة وجوده الشريف، وإن كان (صلی الله علیه و آله) بعد موته أيضاً كحياته رحمة للناس حيث يستغفر لهم وإن الله ببركته يتفضل عليهم، إلى غير ذلك.

قولها (علیها السلام): (والمصيبة العظمى) فإن الناس أصيبوا بمصيبة كبيرة لا يعرف مداها إلا الله سبحانه وتعالى.

ص: 241


1- انظر الكافي: ج5 ص57 باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضمن ح6 وفيه: «إن الأمر ينزل من السماء إلى الأرض كقطر المطر».

.............................

وفي الحديث: قال (علیه السلام): «إن البلاء أسرع إلى المؤمن التقي من المطر إلى قرار الأرض»(1).

وفي صحيفة الرضا (علیه السلام) عن الإمام الرضا (علیه السلام) عن آبائه (علیهم السلام): «إن في كتاب علي(علیه السلام): أن أشد الناس بلاء النبيون ثم الوصيون، ثم الأمثل فالأمثل، وإنما يبتلى المؤمن على قدر أعماله الحسنة، فمن صحّ دينه وحسن عمله اشتد بلاؤه، ومن سخف دينه وضعف عمله قلّ بلاؤه، وإن البلاء أسرع إلى المؤمن التقي من المطر إلى قرار الأرض، وذلك أن الله عزوجل لم يجعل الدنيا ثواباً لمؤمن ولا عقوبة لكافر»(2).

وعن سلمان بن غانم قال: سألني أبو عبد الله (علیه السلام): «كيف تركت الشيعة»؟

فقلت: تركت الحاجة فيهم والبلاء أسرع إليهم من الميزاب السريع في ماء المطر.

فقال: «الله المستعان» ثم قال: «أيسرك الأمر الذي أنت عليه أم مائة ألف»؟

قلت: لا والله، ولا جبال تهامة ذهبا.

فقال: «من أغنى منك ومن أصحابك، ما على أحدكم ولو ساح في الأرض يأكل من ورق الشجر ونبت الأرض حتى يأتيهالموت»(3).

ص: 242


1- انظر وسائل الشيعة: ج3 ص262 ب77 ضمن ح3591.
2- مستدرك الوسائل: ج2 ص440-441 ب65 ح2408.
3- مشكاة الأنوار: ص292 ف6 في الابتلاء والاختبار.

.............................

رحمة للعالمين

قال تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ»(1).

وفي الحديث القدسي قال الله تعالى لعيسى بن مريم (علیهما السلام): «ثم إني أوصيك يا ابن مريم البكر البتول بسيد المرسلين وحبيبي منهم، أحمد صاحب الجمل الأحمر والوجه الأقمر المشرق بالنور، الطاهر القلب، الشديد البأس، الحيي المتكرم، فإنه رحمة للعالمين وسيد ولد آدم عندي»(2).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إن الله تبارك وتعالى بعثني رحمة للعالمين»(3).

وقال (صلی الله علیه و آله): «إنماأنا رحمة مهداة»(4).

وقد روي أنه: قام رسول الله (صلی الله علیه و آله) على الصفا ونادى في أيام الموسم: يا أيها الناس إني رسول الله رب العالمين، فرمقه الناس بأبصارهم، قالها ثلاثا.

ثم انطلق (صلی الله علیه و آله) حتى أتى المروة، ثم وضع يده في أذنه ثم نادى ثلاثا بأعلى صوته: يا أيها الناس إني رسول الله، ثلاثا.

فرمقه الناس بأبصارهم، ورماه أبو جهل (قبحه الله) بحجر فشج بين عينيه، وتبعه المشركون بالحجارة، فهرب (صلی الله علیه و آله) حتى أتى الجبل فاستند إلى موضع يقال له: المتكأ، وجاء المشركون في طلبه، وجاء رجل إلى علي بن أبي طالب (علیه السلام) وقال: يا علي قد قتل محمد.

ص: 243


1- سورة الأنبياء: 107.
2- الأمالي للصدوق: ص519-520 المجلس78.
3- انظر روضة الواعظين: ج2 ص464 مجلس في ذكر الخمر والربا.
4- كشف الغمة: ج1 ص8 ذكر أسمائه (صلی الله علیه و آله).

.............................

فانطلق (علیه السلام) إلى منزل خديجة (علیها السلام) فدق الباب، فقالت: خديجة من هذا؟

قال: أنا علي.

قالت: يا علي ما فعل محمد؟قال: لا أدري، إلا أن المشركين قد رموه بالحجارة، وما أدري أحي هو أم ميت، فأعطيني شيئا فيه ماء وخذي معك شيئا من هيس وانطلقي بنا نلتمس رسول الله (صلی الله علیه و آله) فإنا نجده جائعا عطشانا.

فمضى (علیه السلام) حتى جاز الجبل وخديجة (علیها السلام) معه، فقال علي: يا خديجة استبطني الوادي حتى أستظهره، فجعل ينادي: يا محمداه، يا رسول الله، نفسي لك الفداء، في أي واد أنت ملقى؟

وجعلت خديجة تنادي: من أحس لي النبي المصطفى، من أحس لي الربيع المرتضى، من أحس لي المطرود في الله، من أحس لي أبا القاسم؟

وهبط عليه جبرئيل (علیه السلام) فلما نظر إليه النبي (صلی الله علیه و آله) بكى وقال: ما ترى ما صنع بي قومي، كذبوني وطردوني وخرجوا عليّ!.

فقال: يا محمد ناولني يدك، فأخذ يده فأقعده على الجبل، ثم أخرج من تحت جناحه درنوكا من درانيك الجنة منسوجا بالدر والياقوت وبسطه حتى جلل به جبال تهامة، ثم أخذ بيد رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى أقعده عليه ثم قال له جبرئيل: يا محمد أتريد أن تعلم كرامتك على الله؟

قال: نعم.قال: فادع إليك تلك الشجرة تجبك.

ص: 244

.............................

فدعاها، فأقبلت حتى خرت بين يديه ساجدة.

فقال: يا محمد مرها ترجع.

فأمرها، فرجعت إلى مكانها.

وهبط عليه إسماعيل حارس السماء الدنيا فقال: السلام عليك يا رسول الله، قد أمرني ربي أن أطيعك، أفتأمرني أن أنثر عليهم النجوم فأحرقهم؟

وأقبل ملك الشمس فقال: السلام عليك يا رسول الله، أتأمرني أن آخذ عليهم الشمس فأجمعها على رؤوسهم فتحرقهم؟

وأقبل ملك الأرض فقال: السلام عليك يا رسول الله، إن الله عزوجل قد أمرني أن أطيعك، أفتأمرني أن آمر الأرض فتجعلهم في بطنها كما هم على ظهرها؟

وأقبل ملك الجبال فقال: السلام عليك يا رسول الله، إن الله قد أمرني أن أطيعك، أفتأمرني أن آمر الجبال فتنقلب عليهم فتحطمهم؟

وأقبل ملك البحار فقال: السلام عليك يا رسول الله، قد أمرني ربي أن أطيعك، أفتأمرني أن آمر البحار فتغرقهم؟

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله):قد أمرتم بطاعتي؟

قالوا: نعم.

فرفع رأسه إلى السماء ونادى:

إني لم أبعث عذابا، إنما بعثت رحمة للعالمين، دعوني وقومي فإنهم لايعلمون.

ص: 245

.............................

ونظر جبرئيل (علیه السلام) إلى خديجة (علیها السلام) تجول في الوادي فقال: يا رسول الله ألا ترى إلى خديجة، قد أبكت لبكائها ملائكة السماء، ادعها إليك فأقرئها مني السلام وقل لها: إن الله يقرئك السلام وبشرها أن لها في الجنة بيتا من قصب لا نصب فيه ولا صخب، لؤلؤا مكللا بالذهب.

فدعاها النبي (صلی الله علیه و آله) والدماء تسيل من وجهه على الأرض وهو يمسحها ويردها، قالت: فداك أبي وأمي، دع الدمع يقع على الأرض.

قال: أخشى أن يغضب رب الأرض على من عليها.

فلما جن عليهم الليل انصرفت خديجة (علیها السلام) ورسول الله (صلی الله علیه و آله) وعلي (علیه السلام) ودخلت به منزلها، فأقعدته على الموضع الذي فيه الصخرة وأظلته بصخرة من فوق رأسه وقامت في وجهه تستره ببردها، وأقبلالمشركون يرمونه بالحجارة فإذا جاءت من فوق رأسه صخرة وقته الصخرة، وإذا رموه من تحته وقته الجدران الحيط، وإذا رمي من بين يديه وقته خديجة (علیها السلام) بنفسها وجعلت تنادي: يا معشر قريش ترمى الحرة في منزلها، فلما سمعوا ذلك انصرفوا عنه وأصبح رسول الله (صلی الله علیه و آله) وغدا إلى المسجد يصلي»(1).

ص: 246


1- راجع بحار الأنوار: ج18 ص241-244 ب1 ضمن ح89.

لا مثلها نازلة ولا بائقة عاجلة

اشارة

-------------------------------------------

النكرة في سياق النفي

مسألة: النكرة في سياق النفي أو النهي تفيد العموم(1)، على ما ذكرناه في الأصول(2).

فإن كلَّ ما نزل على البشر من المصائب لم يكن بمنزلة موت الرسول (صلی الله علیه و آله) في الأهمية، وكذلك ما سيحل على البشر بعد الرسول (صلی الله علیه و آله) وإلى يوم القيامة.

قولها (علیها السلام): «لا مثلها نازلة» فإن تلك النوازل صغار بالنسبة إلى هذه النازلة وهي موت رسول الله (صلی الله علیه و آله).

قولها (علیها السلام): «ولا بائقة عاجلة» البائقة: الداهية والطامّة، والمراد بالعاجلة: في هذه الدنيا في مقابل المحشر الذي هو بائقة آجلة،ففي البوائق العاجلة في الدنيا لا شبيه لموت الرسول (صلی الله علیه و آله) إطلاقاً.

وربما يكون (بائقة عاجلة) في قبال مصيبةٍ كفاجعة الطف، أو ما قبلها: كمقتل أمير المؤمنين (علیه السلام)، فإن الفاصل بين استشهادهما (صلوات الله عليهما) كان ثلاثين سنة، وباعتبار كونه (علیه السلام) نفس رسول الله (صلی الله علیه و آله) يتضح المعنى أكثر.

قال الراوي في بيان ما وقع في مقتل أمير المؤمنين (علیه السلام): فاصطفقت أبواب الجامع، وضجت الملائكة في السماء بالدعاء، وهبت ريح عاصف سوداء

ص: 247


1- فان (نازلة) و(بائقة) نكرتان وقعتا في سياق النفي.
2- راجع (الأصول) للإمام الشيرازي »: ص517 طبع دار العلوم، الطبعة الخامسة 2000م 1421ه-.

.............................

مظلمة، ونادى جبرئيل (علیه السلام) بين السماء والأرض بصوت يسمعه كل مستيقظ: «تهدمت والله أركان الهدى، وانطمست والله نجوم السماء وأعلام التقى، وانفصمت والله العروة الوثقى، قُتل ابن عم محمد المصطفى، قُتل الوصي المجتبى، قُتل علي المرتضى، قُتل والله سيد الأوصياء، قتله أشقى الأشقياء»(1).

هذا وقد تآمر القوم على قتل علي(علیه السلام) في مواطن عديدة منها ليلة العقبة حينما تآمروا على قتل رسول الله (صلی الله علیه و آله).

قال الإمام العسكري (علیه السلام): «لقد رامت الفجرة الكفرة ليلة العقبة قتل رسول الله (صلی الله علیه و آله) على العقبة، ورام من بقي من مردة المنافقين بالمدينة قتل علي بن أبي طالب (علیه السلام) فما قدروا على مغالبة ربهم، حملهم على ذلك حسدهم لرسول الله (صلی الله علیه و آله) في علي (علیه السلام) لما فخم من أمره وعظم من شأنه، من ذلك أنه لما خرج من المدينة وقد كان خلفه عليها قال له: إن جبرئيل أتاني قال لي: يا محمد إن العلي الأعلى يقرئك السلام ويقول لك: يا محمد إما أن تخرج أنت ويقيم علي أو يخرج علي وتقيم أنت، لابد من ذلك، فإن عليا قد ندبته لإحدى اثنتين لا يعلم أحد كنه جلال من أطاعني فيهما وعظيم ثوابه غيري.

فلما خلفه أكثر المنافقون الطعن فيه فقالوا: مله وسئمه وكره صحبته.

فتبعه علي (علیه السلام) حتى لحقه وقد وجد مما قالوا فيه، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): ما أشخصك عن مركزك؟

قال: بلغني عن الناس كذا وكذا.

ص: 248


1- راجع بحار الأنوار: ج42 ص282 ب127.

.............................

فقال له: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي.

فانصرف علي (علیه السلام) إلى موضعه، فدبروا عليه أن يقتلوه، وتقدموا في أن يحفروا له في طريقه حفيرة طويلة قدر خمسين ذراعا ثم غطوها بحصر رقاق ونثروا فوقها يسيرا من التراب بقدر ما غطوا وجوه الحصر وكان ذلك على طريق علي (علیه السلام) الذي لابد له من سلوكه، ليقع هو ودابته في الحفيرة التي قد عمقوها، وكان ما حوالي المحفور أرضا ذات حجارة، دبروا على أنه إذا وقع مع دابته في ذلك المكان كبسوه بالأحجار حتى يقتلوه.

فلما بلغ علي (علیه السلام) قرب المكان لوى فرسه عنقه وأطاله الله فبلغت جحفلته أذنه وقال: يا أمير المؤمنين قد حفر هاهنا ودبر عليك الحتف، وأنت أعلم لا تمر فيه.

فقال له علي (علیه السلام): جزاك الله من ناصح خيرا كما تدبر تدبيري فإن الله عزوجل لا يخليك من صنعه الجميل، وسار حتى شارف المكان فتوقف الفرس خوفا من المرور على المكان، فقال علي (علیه السلام): سر بإذن الله سالما سوياعجيبا شأنك بديعا أمرك، فتبادرت الدابة، فإذا الله عزوجل قد متن الأرض وصلبها ولأم حفرها وجعلها كسائر الأرض، فلما جاوزها علي (علیه السلام) لوى الفرس عنقه ووضع جحفلته على أذنه ثم قال: ما أكرمك على رب العالمين، جوزك على هذا المكان الخاوي.

فقال أمير المؤمنين (علیه السلام): جازاك الله بهذه السلامة عن تلك النصيحة التي نصحتني، ثم قلب وجه الدابة إلى ما يلي كفلها والقوم معه، بعضهم كان أمامه

ص: 249

.............................

وبعضهم خلفه، وقال: اكشفوا عن هذا المكان، فكشفوا عنه فإذا هو خاو ولايسير عليه أحد إلا وقع في الحفيرة.

فأظهر القوم الفزع والتعجب مما رأوا، فقال علي (علیه السلام) للقوم: أتدرون من عمل هذا؟

قالوا: لا ندري.

قال علي (علیه السلام): لكن فرسي هذا يدري، يا أيها الفرس كيف هذا ومن دبر هذا؟

فقال الفرس: يا أمير المؤمنين إذا كان الله عزوجل يبرم ما يروم جهال الخلق نقضه أو كان ينقض ما يروم جهال الخلق إبرامه فالله هو الغالب والخلق هم المغلوبون، فعل هذا يا أمير المؤمنينفلان وفلان وفلان إلى أن ذكر العشرة بمواطاة من أربعة وعشرين هم مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) في طريقه، ثم دبروا هم على أن يقتلوا رسول الله (صلی الله علیه و آله) على العقبة والله عزوجل من وراء حياطة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وولي الله لا يغلبه الكافرون، الحديث»(1).

يوم عاشوراء

عن عبد الله بن الفضل الهاشمي قال: قلت لأبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق (علیه السلام): يا ابن رسول الله كيف صار يوم عاشوراء يوم مصيبة وغم وجزع وبكاء دون اليوم الذي قبض فيه رسول الله (صلی الله علیه و آله) واليوم الذي ماتت فيه فاطمة(علیها السلام) واليوم الذي قتل فيه أمير المؤمنين (علیه السلام) واليوم الذي قتل فيه الحسن (علیه السلام) بالسم؟

ص: 250


1- تفسير الإمام العسكري (علیه السلام): ص380-382 واقعة ليلة العقبة ضمن ح265.

.............................

فقال: «إن يوم قتل الحسين (علیه السلام) أعظم مصيبة من جميع سائر الأيام، وذلك أن أصحاب الكساء الذين كانوا أكرم الخلق على الله تعالى كانواخمسة، فلما مضى عنهم النبي (صلی الله علیه و آله) بقي أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين (علیهم السلام)، فكان فيهم للناس عزاء وسلوة، فلما مضت فاطمة (علیها السلام) كان في أمير المؤمنين والحسن والحسين (علیهم السلام) للناس عزاء وسلوة، فلما مضى منهم أمير المؤمنين (علیه السلام) كان للناس في الحسن والحسين (علیهما السلام) عزاء وسلوة، فلما مضى الحسن (علیه السلام) كان للناس في الحسين عزاء وسلوة، فلما قتل الحسين (علیه السلام) لم يكن بقي من أهل الكساء أحد للناس فيه بعده عزاء وسلوة فكان ذهابه كذهاب جميعهم، كما كان بقاؤه كبقاء جميعهم، فلذلك صار يومه أعظم الأيام مصيبة».

قال عبد الله بن الفضل الهاشمي: فقلت له: يا ابن رسول الله فلم لم يكن للناس في علي بن الحسين (علیه السلام) عزاء وسلوة مثل ما كان لهم في آبائه (علیهم السلام)؟

فقال: «بلى، إن علي بن الحسين كان سيد العابدين وإماما وحجة على الخلق بعد آبائه الماضين ولكنه لم يلق رسول الله (صلی الله علیه و آله) ولم يسمع منه وكان علمه وراثة عن أبيه عن جده عنالنبي (صلی الله علیه و آله) وكان أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين (علیهم السلام) قد شاهدهم الناس مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) في أحوال في أن يتوالى، فكانوا متى نظروا إلى أحد منهم تذكروا حاله من رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقول رسول الله (صلی الله علیه و آله) له وفيه، فلما مضوا فقد الناس مشاهدة الأكرمين على الله عزوجل ولم يكن في أحد منهم فقد جميعهم إلا في فقد الحسين (علیه السلام) لأنه مضى في آخرهم، فلذلك صار يومه أعظم الأيام مصيبة».

ص: 251

.............................

قال عبد الله بن الفضل الهاشمي: فقلت له: يا ابن رسول الله فكيف سمت العامة يوم عاشوراء يوم بركة؟

فبكى (علیه السلام) ثم قال: «لما قتل الحسين (علیه السلام) تقرب الناس بالشام إلى يزيد فوضعوا له الأخبار وأخذوا عليها الجوائز من الأموال، فكان مما وضعوا له أمر هذا اليوم وأنه يوم بركة ليعدل الناس فيه من الجزع والبكاء والمصيبة والحزن إلى الفرح والسرور والتبرك والاستعدادفيه، حكم الله بيننا وبينهم»(1).

ص: 252


1- علل الشرائع: ج1 ص225-227 ب162 ح1.

أعلن بها كتاب الله جل ثناؤه في أفنيتكم

اشارة

-------------------------------------------

علاقة القرآن والعترة

مسألة: الظاهر أن هنالك ترابطاً ثبوتياً وإثباتياً بين كتاب الله التشريعي وكتابه التكويني.

والمصداق الأجلى لذلك: الترابط بين القرآن الناطق(1) والصامت، و«لن يفترقا»(2) يشير فيما يشير إلى ذلك أيضا.

وقولها (علیها السلام): «أعلن» من الشواهد على ذلك.

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «أيها الناس إني فرطكم وأنتم واردون عليّ الحوض، ألا وإني سائلكم عن الثقلين فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يلقياني، وسألت ربي ذلك فأعطانيه، ألا وإني قد تركتهما فيكمكتاب الله وعترتي أهل بيتي، ولا تسبقوهم فتفرقوا، ولا تقصروا عنهم فتهلكوا، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم»(3).

وقال (صلی الله علیه و آله): «إني تارك فيكم خليفتين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض»(4).

ص: 253


1- إشارة إلى أهل البيت (علیهم السلام).
2- إشارة إلى حديث الثقلين، حيث قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض» وسائل الشيعة: ج27 ص33 ب5 ح33144.
3- الإرشاد: ج1 ص180.
4- كمال الدين: ج1 ص240 ب22 ح60.

.............................

وعن جابر قال: قال أبو جعفر (علیه السلام): دعا رسول الله (صلی الله علیه و آله) أصحابه بمنى فقال: يا أيها الناس إني تارك فيكم الثقلين أما إن تمسكتم بهما لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، ثم قال: أيها الناس إني تارك فيكم حرمات الله: كتاب الله وعترتي والكعبة البيت الحرام»، ثم قال أبو جعفر (علیه السلام): «أما كتاب الله فحرفوا(1)، وأما الكعبة فهدموا، و أما العترة فقتلوا، وكل ودائع الله فقد تبروا»(2).وعن الصادق (علیه السلام) عن أبيه عن جده علي بن الحسين عن أبيه (علیهم السلام) قال: «سئل أمير المؤمنين (علیه السلام) عن معنى قول رسول الله (صلی الله علیه و آله): إني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي، فقيل له: من العترة؟ فقال: أنا والحسن والحسين والأئمة التسعة من ولد الحسين تاسعهم مهديهم وقائمهم، لا يفارقون كتاب الله ولايفارقهم حتى يردوا على رسول الله (صلی الله علیه و آله) حوضه»(3).

وقال (علیه السلام): «عليكم بالقرآن، فإنه الشفاء النافع، والدواء المبارك، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه» ثم قال: «أتدرون من المتمسك به، الذي يتمسكه ينال هذا الشرف العظيم، هو الذي يأخذ القرآن وتأويله عنا أهل البيت وعن وسائطنا السفراء عنا إلى شيعتنا»(4).

وعن سليم بن قيس قال: خرج علينا علي بن أبي طالب (علیه السلام) ونحن في

ص: 254


1- أي حرفوا معناه ولم يعملوا به.
2- بصائر الدرجات: ص413-414 ب17 ح3.
3- كشف الغمة: ج2 ص509 ب25.
4- انظر وسائل الشيعة: ج27 ص33 ب5 ضمن ح33143.

.............................

المسجد فاحتوشناه فقال: «سلوني قبل أن تفقدوني، سلوني عن القرآن فإن في القرآن علم الأولين والآخرين، لم يدع لقائل مقالا، ولا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم وليسوا بواحد ورسول الله (صلی الله علیه و آله) كان واحدا منهم، علمه الله سبحانه إياه وعلمنيه رسول الله(صلی الله علیه و آله) ثم لا يزال في عقبه إلى يوم تقوم الساعة ثم قرأ: «وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ»(1)، فأنا من رسول الله (صلی الله علیه و آله) بمنزلة هارون من موسى إلا النبوة، والعلم في عقبنا إلى أن تقوم الساعة، ثم قرأ: «وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ»(2)، ثم قال: كان رسول الله عقب إبراهيم ونحن أهل البيت عقب إبراهيم وعقب محمد (صلی الله علیه و آله)»(3).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «نحن أهل البيت لا يقاس بنا أحد، فينانزل القرآن وفينا معدن الرسالة»(4).

وقال رسول اللّه (صلی الله علیه و آله): «يا عليّ مثلك في أمّتي مثل«قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ»(5)، فمن أحبّك بقلبه فكأنّما قرأ ثلث القرآن، ومن أحبّك بقلبه وأعانك بلسانه فكأنّما قرأ ثلثي القرآن، ومن أحبّك بقلبه وأعانك بلسانه ونصرك بيده فكأنّما قرأ القرآن كلّه»(6).

ص: 255


1- سورة البقرة: 248.
2- سورة الزخرف: 28.
3- تأويل الآيات الظاهرة: ص540 سورة الزخرف وما فيها من الآيات.
4- عيون أخبار الرضا (علیه السلام): ج2 ص66 ب31 ح297.
5- سورة الإخلاص: 1.
6- الخصال: ج2 ص580 أبواب السبعين، لأمير المؤمنين (علیه السلام) سبعون منقبة.

.............................

وقال النبي (صلی الله علیه و آله): في حديث: «بما تعجبون، إن القرآن أربعة أرباع، فربع فينا أهل البيت خاصة، وربع في أعدائنا، وربع حلال وحرام، وربع فرائض وأحكام، وإن الله أنزل في علي (علیه السلام) كرائم القرآن»(1).

وقال أبو عبد الله (علیه السلام): «إنالله جعل ولايتنا أهل البيت قطب القرآن وقطب جميع الكتب، عليها يستدير محكم القرآن وبها نوهت الكتب، ويستبين الإيمان، وقد أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن يقتدى بالقرآن وآل محمد، وذلك حيث قال في آخر خطبة خطبها: إني تارك فيكم الثقلين الثقل الأكبر والثقل الأصغر، فأما الأكبر فكتاب ربي وأما الأصغر فعترتي أهل بيتي، فاحفظوني فيهما فلن تضلوا ما تمسكتم بهما»(2).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) في حديث: «أخي ووزيري ووارثي ووصيي وخليفتي في أمتي وولي كل مؤمن بعدي، ثم ابني الحسن والحسين ثم تسعة من ولد الحسين واحد بعد واحد، القرآن معهم وهم مع القرآن، لا يفارقونه ولايفارقهم حتى يردوا عليّ الحوض»(3).

ص: 256


1- تفسير فرات الكوفي: ص249 سورة مريم، ضمن ح248.
2- تفسير العياشي: ج1 ص5 في فضل القرآن ح9.
3- انظر الاحتجاج: ج1 ص148 احتجاجه (علیه السلام) على جماعة كثيرة من المهاجرين.

.............................

الرسول الأعظم والقرآن الكريم

مسألة: من اللازم سبر أغوار شدة ارتباط الرسول (صلی الله علیه و آله) بالقرآن الكريم، وبصورة عامة استكشاف عمق العلاقة التشريعية والتكوينية بين العترة المطهرة (علیهم السلام) والكتاب المبين، عبر دراسة الأبعاد الجلية والخفية في عبارات وإشارات ولطائف وحقائق القرآن الكريم(1).

وقولها (علیها السلام): «أعلن» من مصاديق ذلك، والإعلان كان في آيات عديدة. حيث قال سبحانه: «إنك ميت وانهم ميّتون»(2).

وقال تعالى: «وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن متّ فهم الخالدون»(3).وقال سبحانه: «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ»(4).

وقال تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ»(5).

وذكر البعض بأن المسلمين كانوا يتوقعون البقاء والخلود في الحياة الدنيا لما رأوا من معاجز الرسول (صلی الله علیه و آله) ووجاهته عند الله سبحانه وتعالى، لكن الله أعلن

ص: 257


1- للمزيد راجع الموسوعة الفقهية للإمام الشيرازي (قدس سره) كتاب حول القرآن الكريم: ج98 ص247-260.
2- سورة الزمر: 30.
3- سورة الأنبياء: 34.
4- سورة العنكبوت: 57.
5- سورة الأنبياء: 35.

.............................

أن كل شيء هالك إلا وجهه وأعلن أن الرسول (صلی الله علیه و آله) ميت أيضاً بصورة خاصة.

ولعل كلامها (علیها السلام) تعريض بالذين أنكروا موت الرسول (صلی الله علیه و آله) وبيان لأن هذا القائل لا يعرف حتى أوضح الآيات في كتاب الله سبحانه(1).

حيث ورد: أنه لمّا قبض رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) أقبل عمر بن الخطاب يقول: واللّه ما مات محمّد وإنّما غاب كغيبة موسى عن قومه!، و إنّه سيظهربعد غيبته، فما زال يردّد هذا القول ويكرّره حتى ظنّ الناس أنّ عقله قد ذهب، فأتاه أبو بكر وقد اجتمع الناس عليه يتعجّبون من قوله، فقال: اربع على نفسك يا عمر من يمينك التي تحلف بها، فقد أخبرنا اللّه عزّوجلّ في كتابه، فقال: يا محمّد «إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ»(2). فقال عمر: وإنّ هذه الآية لفي كتاب اللّه يا أبا بكر! فقال: نعم. فقال: نعم، أشهد باللّه لقد ذاق محمّد الموت(3).

وقال ابن أبي الحديد:

روى جميع أصحاب السيرة أنّ رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) لمّا توفّي كان أبو بكر في منزله بالسّنح، فقام عمر بن الخطاب فقال: ما مات رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) ولا يموت حتّى يظهر دينه على الدّين كلّه!، و ليرجعنّ فليقطّعنّ أيدي رجال وأرجلهم ممّن أرجف بموته، ولا أسمع رجلا يقول مات رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) إلا ضربته بسيفي، فجاء أبو بكر وكشف عن وجه رسول اللّه (صلی الله علیه و آله)، وقال: بأبي وأمّي طبت حيّا وميّتا، واللّه لا يذيقك اللّه الموتتين أبدا، ثم خرج والناس حول عمر وهويقول

ص: 258


1- سورة الزمر: 30.
2- سورة الزمر: 30.
3- كمال الدين: ج1 ص31-32 إثبات الغيبة والحكمة فيها.

.............................

لهم: إنّه لم يمت، ويحلف، فقال له: أيّها الحالف على رسلك، ثم قال: من كان يعبد محمّدا فإنّ محمّدا قد مات، ومن كان يعبد اللّه، فإنّ اللّه حيّ لايموت، قال اللّه تعالى :«إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ»(1)، وقال: «أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ»(2)..

قال عمر: فو اللّه ما ملكت نفسي حيث سمعتها أن سقطت إلى الأرض، و قد علمت أنّ رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) قد مات(3).

وفي البحار: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «لما نزلت هذه الآية «إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ»(4)، قلت: يا رب أيموت الخلائق ويبقى الأنبياء، فنزلت: «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ»(5)»(6).وعن ابن عباس والسدي: لما نزل قوله تعالى: «إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ»(7)، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «ليتني أعلم متى يكون ذلك» فنزلت سورة النصر، فكان يسكت بين التكبير والقراءة بعد نزولها فيقول: «سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه» فقيل له في ذلك، فقال: «أما إن نفسي نعيت إليّ» ثم بكى بكاء شديدا، فقيل: يا رسول الله أو تبكي من الموت وقد غفر الله

ص: 259


1- سورة الزمر: 30.
2- سورة آل عمران: 144.
3- شرح نهج البلاغة: ج2 ص40-41 حديث السقيفة.
4- سورة الزمر: 30.
5- سورة العنكبوت: 57.
6- بحار الأنوار: ج6 ص328 ب2 ح8.
7- سورة الزمر: 30.

.............................

لك «ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ»(1) قال: «فأين هول المطلع وأين ضيقة القبر وظلمة اللحد وأين القيامة والأهوال» فعاش بعد نزول هذه السورة عاما)(2).

وفي تفسير فرات بن إبراهيم عن نوف البكالي عن علي بن أبي طالب (علیه السلام) قال: «جاءت جماعة من قريش إلىالنبي (صلی الله علیه و آله) فقالوا: يا رسول الله انصب لنا علما يكون لنا من بعدك لنهتدي ولا نضل كما ضلت بنو إسرائيل بعد موسى بن عمران، فقد قال ربك: «إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ»(3) ولسنا نطمع أن تعمر فينا ما عمر نوح في قومه وقد عرفت منتهى أجلك ونريد أن نهتدي ولانضل.

قال (صلی الله علیه و آله): إنكم قريبو عهد بالجاهلية وفي قلوب أقوام أضغان وعسيت إن فعلت أن لا تقبلوا ولكن من كان في منزله الليلة آية من غير ضير فهو صاحب الحق.

قال: فلما صلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) العشاء وانصرف إلى منزله سقط في منزلي نجم أضاءت له المدينة وما حولها وانفلق بأربع فلق انشعبت في كل شعبة فلقة من غير ضير.

قال نوف: قال لي جابر بن عبد الله: إن القوم أصروا على ذلك وأمسكوا، فلما أوحى الله إلى نبيه أن ارفع ضبع ابن عمك قال: يا جبرئيل أخاف

ص: 260


1- سورة الفتح: 2.
2- المناقب: ج1 ص234 فصل في وفاته (علیه السلام).
3- سورة الزمر: 30.

.............................

من تشتت قلوب القوم فأوحى الله إليه: «يا أيهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَمِنَ النَّاسِ»(1) فأمر النبي (صلی الله علیه و آله) بلالا أن ينادي بالصلاة جامعة، فاجتمع المهاجرون والأنصار فصعد المنبر فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: يا معشر قريش لكم اليوم الشرف صفوا صفوفكم، ثم قال: يا معشر العرب لكم اليوم الشرف صفوا صفوفكم، ثم قال: يا معشر الموالي لكم اليوم الشرف صفوا صفوفكم، ثم دعا بدواة قرطاس فأمر فكتب فيه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لا إله إلا الله محمد رسول الله، قال: شهدتم؟

قالوا: نعم.

قال: أفتعلمون أن الله مولاكم؟

قالوا: اللهم نعم.

قال: أفتعلمون أنني مولاكم؟

قالوا: اللهم نعم.

قال: فقبض على ضبع علي بن أبي طالب (علیه السلام) فرفعه للناس حتى تبين بياض إبطيه ثم قال: من كنت مولاه فهذا علي مولاه، ثم قال: اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله، فأنزل الله تعالى: «وَالنَّجْمِ إِذا هَوى * ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى * وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌيُوحى»(2) فأوحى إليه: «يا أيهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْ-كَ

ص: 261


1- سورة المائدة: 67.
2- سورة النجم: 1-4.

.............................

مِنْ رَبِّكَ»(1).

وفي تفسير القمي: «إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ» يعني أمير المؤمنين (علیه السلام) ومن غصبه حقه، ثم ذكر أيضا أعداء آل محمد ومن كذب على الله وعلى رسوله وادعى ما لم يكن له فقال «فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءهُ» يعني بما جاء به رسول الله (صلی الله علیه و آله) من الحق وولاية أمير المؤمنين (علیه السلام)، ثم ذكر رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (علیه السلام) فقال: «وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِه» يعني أمير المؤمنين (علیه السلام) «أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ»(2).

وفي تفسير القمي أيضا:

«وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإنمت فهم الخالدون»(3) فإنه لما أخبر الله نبيه بما يصيب أهل بيته بعده وادعاء من ادعى الخلافة دونهم اغتم رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأنزل الله عزوجل: «وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة» أي نختبرهم «وإلينا ترجعون» فأعلم ذلك رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنه لابد أن يموت كل نفس»(4).

وعن يعقوب الأحمر قال:

ص: 262


1- تفسير فرات الكوفي: ص450-541 من سورة النجم ح450.
2- تفسير القمي: ج2 ص249 سورة الزمر.
3- سورة الأنبياء: 34.
4- تفسير القمي: ج2 ص70 سورة الأنبياء.

.............................

دخلنا على أبي عبد الله (علیه السلام) نعزيه بإسماعيل، فترحم عليه ثم قال: «إن الله عزوجل نعى إلى نبيه (صلی الله علیه و آله) نفسه فقال «إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ»(1) وقال «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ»(2)، ثم أنشأ يحدث فقال: إنه يموت أهل الأرض حتى لا يبقى أحد، ثم يموت أهل السماء حتى لا يبقىأحد إلا ملك الموت وحملة العرش وجبرئيل وميكائيل، قال: فيجيء ملك الموت حتى يقوم بين يدي الله عزوجل، فيقال له: من بقي، وهو أعلم، فيقول: يا رب لم يبق إلا ملك الموت وحملة العرش وجبرئيل وميكائيل، فيقال: قل لجبرئيل و ميكائيل فليموتا، فيقول الملائكة عند ذلك: يا رب رسولاك وأميناك، فيقول: إني قد قضيت على كل نفس فيها الروح الموت، ثم يجيء ملك الموت حتى يقف بين يدي الله عزوجل فيقال له: من بقي، وهو أعلم، فيقول: يا رب لم يبق إلا ملك الموت وحملة العرش، فيقول: قل لحملة العرش فليموتوا، قال: ثم يجيء كئيبا حزينا لا يرفع طرفه، فيقال له: من بقي، فيقول: يا رب لم يبق إلا ملك الموت، فيقال له: مت يا ملك الموت، فيموت، ثم يأخذ الأرض بيمينه والسماوات بيمينه ويقول: أين الذين كانوا يدعون معي شريكا، أين الذين كانوا يجعلون معي إلها آخر»(3).

وفي حديث وفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال (علیه السلام): «فنزل ملك الموت فقال له جبرئيل: يا ملك الموت احفظ وصية الله في روح محمد (صلی الله علیهو آله)، وكان جبرئيل عن

ص: 263


1- سورة الزمر: 30.
2- سورة العنكبوت: 57.
3- الكافي: ج3 ص256 باب النوادر ح25.

.............................

يمينه وميكائيل عن يساره وملك الموت آخذ بروحه (صلی الله علیه و آله) فلما كشف الثوب عن وجه رسول الله نظر إلى جبرئيل فقال له: عند الشدائد تخذلني، فقال: يا محمد «إنك ميت وإنهم ميتون»، «كل نفس ذائقة الموت» فروي عن ابن عباس أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) في ذلك المرض كان يقول: ادعو إليّ حبيبي، فجعل يدعى له رجل بعد رجل، فيعرض عنه، فقيل لفاطمة: امضي إلى علي، فما نرى رسول الله (صلی الله علیه و آله) يريد غير علي، فبعثت فاطمة إلى علي (علیه السلام) فلما دخل فتح رسول الله (صلی الله علیه و آله) عينيه وتهلل وجهه ثم قال: إليّ يا علي، إليّ يا علي، فما زال (صلی الله علیه و آله) يدنيه حتى أخذه بيده وأجلسه عند رأسه ثم أغمي عليه، فجاء الحسن والحسين (علیهما السلام) يصيحان ويبكيان حتى وقعا على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأراد علي (علیه السلام) أن ينحيهما عنه، فأفاق رسول الله (صلی الله علیه و آله) ثم قال: يا علي دعني أشمهما ويشماني وأتزود منهما ويتزودان مني أما إنهما سيظلمان بعديويقتلان ظلما، فلعنة الله على من يظلمهما، يقول ذلك ثلاثا، ثم مد يده إلى علي (علیه السلام) فجذبه إليه حتى أدخله تحت ثوبه الذي كان عليه ووضع فاه على فيه وجعل يناجيه مناجاة طويلة حتى خرجت روحه الطيبة (صلی الله علیه و آله) فانسل علي (علیه السلام) من تحت ثيابه وقال: أعظم الله أجوركم في نبيكم، فقد قبضه الله إليه، فارتفعت الأصوات بالضجة والبكاء، فقيل لأمير المؤمنين (علیه السلام): ما الذي ناجاك به رسول الله (صلی الله علیه و آله) حين أدخلك تحت ثيابه؟ فقال: علمني ألف باب يفتح لي كل باب ألف باب»(1).

ص: 264


1- الأمالي للصدوق: ص637-638 المجلس92.

.............................

لفظ الجلالة

مسألة: يستحب - تأسياً بها (علیها السلام) ولغيره أيضاً - أن يتبع لفظ الجلالة «الله» بما يدل على التعظيم مثل: (جل ثناؤه) كما قالت (علیها السلام)، أو (عزوجل) أو (تبارك وتعالى) أو غير ذلك.

وهكذا بالنسبة إلى عظماء الدين كالأنبياء والأئمة (عليهم الصلاة والسلام) فيقال بالنسبة إلى النبي: (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبالنسبة إلى الأئمة: (عليهم الصلاة والسلام)، وبالنسبة إلى الأنبياء السابقين: (صلوات الله عليه) بعد الصلاة على الرسول (صلی الله علیه و آله) فتقول مثلاً: (على نبيّنا وآله عليه الصلاة والسلام) كما ورد بذلك الخبر.

فعن معاوية بن عمار قال: ذكرت عند أبي عبد الله الصادق (علیه السلام) بعض الأنبياء فصليت عليه، فقال: «إذا ذكر أحد من الأنبياء فابدأ بالصلاة على محمد وآله ثم عليه صلى الله على محمد وآله وعلى جميع الأنبياء»(1).والظاهر أن ما ذكرناه ليس خاصاً باسم الجلالة، وإنما يعم كل أسماء الله سبحانه وتعالى كالرّب والقدّوس وما أشبه ذلك، بل ينبغي التعظيم بعد ذكر ضميره جل اسمه أيضاً، مثلاً يقال: (فانه جل ثناؤه قال كذا)، وهكذا في سائر الضمائر، وفي دعاء كميل: «وأنت جل ثناؤك قلت مبتدءً»(2)، إلى غير ذلك مما لا يخفى على من راجع الأدعية وكلماتهم (صلوات الله عليهم أجمعين).

ص: 265


1- وسائل الشيعة: ج7 ص208 ب43 ح9129.
2- مصباح المتهجد: ص248 .

.............................

وهكذا بالنسبة إلى الضمير العائد إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته الطاهرين(علیهم السلام).

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «البخيل حقا من ذكرت عنده فلم يصل علي»(1).

وقال (صلی الله علیه و آله): «إنّ البخيل كل البخيل الذي إذا ذكرت عنده لم يصل علي»(2).

وقال (صلی الله علیه و آله) في حديث:«ومن ذكرت عنده فلم يصل علي فلم يغفر له فأبعده الله»(3).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «إذا ذكر النبي (صلی الله علیه و آله) فأكثروا الصلاة عليه، فإنه من صلى على النبي صلاة واحدة صلى الله عليه ألف صلاة في ألف صف من الملائكة، ولم يبق شيء مما خلقه الله إلا صلى على العبد لصلاة الله وصلاة ملائكته، فمن لم يرغب في هذا فهو جاهل مغرور قد برئ الله منه ورسوله وأهل بيته»(4).

وعن ابن القداح عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من صلى عليّ صلى الله عليه وملائكته فمن شاء فليقل ومن شاء فليكثر»(5).

وعن محمد بن مسلم عن أحدهما (علیهما السلام) قال: «ما في الميزان شيء أثقل

ص: 266


1- وسائل الشيعة: ج7 ص204 ب42 ح9119.
2- مستدرك الوسائل: ج5 ص353 ب35 ح6069.
3- انظر الأمالي للصدوق: ص59 المجلس14 ضمن ح2.
4- الكافي: ج2 ص492 باب الصلاة على النبي محمد وأهل بيته ح6.
5- وسائل الشيعة: ج7 ص194 ب34 ح9092.

.............................

من الصلاة على محمد وآل محمد، وإن الرجل لتوضع أعماله في الميزان فيميل به فيخرج النبي (صلی الله علیه و آله) الصلاة عليه فيضعها في ميزانه فيرجح به»(1).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «ارفعوا أصواتكم بالصلاة عليَّ فإنها تذهب بالنفاق»(2).

وقال (صلی الله علیه و آله): «الصلاة عليَّ وعلى أهل بيتي تذهب بالنفاق»(3).

وقال الإمام الرضا (علیه السلام) في حديث: «من لم يقدر على ما يكفر به ذنوبه فليكثر من الصلاة على محمد وآله فإنها تهدم الذنوب هدما»(4).

وقال (علیه السلام): «الصلاة على محمد وآله تعدل عند الله عزوجل التسبيحوالتهليل والتكبير»(5).

وعن عبد العظيم الحسني (علیه السلام) قال: سمعت علي بن محمد العسكري (علیه السلام) يقول: «إنما اتخذ الله عزوجل إبراهيم خليلا لكثرة صلاته على محمد وأهل بيته صلوات الله عليهم»(6).

وعن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: «الصلاة على النبي (صلی الله علیه و آله) أمحق للخطايا من الماء للنار، والسلام على النبي (صلی الله علیه و آله) أفضل من عتق رقاب»(7) الحديث.

ص: 267


1- عدة الداعي: ص165 تقديم الصلاة على النبي وآله.
2- مكارم الأخلاق: ص312 في الصلاة على النبي وآله.
3- الكافي: ج2 ص492 باب الصلاة على النبي محمد وأهل بيته ح8.
4- روضة الواعظين: ج2 ص322 في ذكر الصلاة على النبي (صلی الله علیه و آله).
5- انظر الأمالي للصدوق: ص73 المجلس17 ضمن ح4.
6- علل الشرائع: ج1 ص34 ب32 ح3.
7- ثواب الأعمال: ص154 ثواب الصلاة والسلام على النبي (صلی الله علیه و آله).

.............................

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «وجدت في بعض الكتب: من صلى على محمد وآل محمد كتب الله له مائة حسنة، ومن قال: صلى الله على محمد وأهل بيته، كتب الله له ألف حسنة»(1).وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «سمع أبي رجلا متعلقا بالبيت وهو يقول اللهم صل على محمد، فقال له أبي (علیه السلام): لا تبترها لا تظلمنا حقنا، قل: اللهم صل على محمد وأهل بيته»(2).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من أراد التوسل إلي وأن تكون له عندي يد أشفع له بها يوم القيامة فليصل على أهل بيتي ويدخل السرور عليهم»(3).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من صلى علي ولم يصل على آلي لم يجد ريح الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام»(4).

وعن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) ذات يوم لأمير المؤمنين (علیه السلام): ألا أبشرك؟

قال: بلى.

إلى أن قال: أخبرني جبرئيل أن الرجل من أمتي إذا صلى عليّ وأتبعبالصلاة على أهل بيتي فتحت له أبواب السماء وصلّت عليه الملائكة سبعين

ص: 268


1- ثواب الأعمال: ص155-156 ثواب من صلى على محمد وأهل بيته.
2- الكافي: ج2 ص495 باب الصلاة على النبي محمد وأهل بيته ح21.
3- وسائل الشيعة: ج7 ص203 ب42 ح9115.
4- وسائل الشيعة: ج7 ص203 ب42 ح9117.

.............................

صلاة وإنه لمذنب خطأ ثم تحات عنه الذنوب كما يتحات الورق من الشجر ويقول الله تبارك وتعالى لبيك عبدي وسعديك، يا ملائكتي أنتم تصلون عليه سبعين صلاة وأنا أصلي عليه سبعمائة صلاة، وإذا صلى عليّ ولم يتبع بالصلاة على أهل بيتي كان بينها وبين السماوات سبعون حجابا ويقول الله تبارك وتعالى: لا لبيك ولا سعديك، يا ملائكتي لا تصعدوا دعاءه إلا أن يلحق بالنبي عترته، فلا يزال محجوبا حتى يلحق بي أهل بيتي»(1).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «ما من قوم اجتمعوا في مجلس فلم يذكروا اسم الله عزوجل ولم يصلوا على نبيهم إلا كان ذلك المجلس حسرة ووبالا عليهم»(2).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «ما اجتمع في مجلس قوم لم يذكروا اللهعزوجل ولم يذكرونا إلا كان ذلك المجلس حسرة عليهم يوم القيامة» ثم قال: قال أبو جعفر (علیه السلام): «إنّ ذكرنا من ذكر الله وذكر عدونا من ذكر الشيطان»(3).

وعن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: «ما جلس قوم يذكرون الله عزوجل إلا ناداهم مناد من السماء قوموا فقد بدلت سيئاتكم حسنات وغفرت لكم جميعا، وما قعد عدة من أهل الأرض يذكرون الله عزوجل إلا قعد معهم عدة من الملائكة»(4).

ص: 269


1- وسائل الشيعة: ج7 ص204-205 ب42 ح9120.
2- الكافي: ج2 ص497 باب ما يجب من ذكر الله عزوجل في كل مجلس ح5.
3- الكافي: ج2 ص496 باب ما يجب من ذكر الله عزوجل في كل مجلس ح2.
4- وسائل الشيعة: ج7 ص153 ب3 ح8982.

وفي ممساكم ومصبحكم

اشارة

-------------------------------------------

التكرار مساء وصباحاً

مسألة: التكرار مطلوب في الجملة، وذلك للتركيز ولبيان الأهمية وما أشبه، وقد يجب كتكرار الحمد في الركعتين وما أشبه.

قال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا * وسبحوه بكرة وأصيلا»(1).

وقال سبحانه: «لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَ عَشِيًّا»(2).

وقال تعالى: «وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأصِيلاً»(3).

وقال سبحانه: «لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً»(4).

وقال تعالى: «وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأصِيلاً»(5).وقال سبحانه: «فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا»(6).

ص: 270


1- سورة الأحزاب: 41-42.
2- سورة مريم: 62.
3- سورة الأحزاب: 42.
4- سورة الفتح: 9.
5- سورة الإنسان: 25.
6- سورة مريم: 11.

.............................

وعن إسماعيل بن عمار قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام) قوله عزوجل: «اذكروا الله ذكرا كثيرا» ما حده؟ قال: «إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) علم فاطمة (علیها السلام) أن تكبر أربعا وثلاثين تكبيرة وتسبح ثلاثا وثلاثين تسبيحة وتحمد ثلاثا وثلاثين تحميدة فإذا فعلت ذلك بالليل مرة وبالنهار مرة فقد ذكرت الله كثيرا»(1).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «ما من شيء إلا وله حد ينتهي إليه إلا الذكر، فليس له حد ينتهي إليه، فرض الله عزوجل الفرائض فمن أداهن فهو حدهن، وشهر رمضان فمن صامه فهو حده، والحج فمن حج فهو حده، إلا الذكر فإن الله عزوجل لم يرض منه بالقليل ولم يجعل له حدا ينتهي إليه، ثم تلا هذه الآية:«يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا» فقال: لم يجعل الله عزوجل له حدا ينتهي إليه»، قال (علیه السلام): «وكان أبي (علیه السلام) كثير الذكر، لقد كنت أمشي معه وإنه ليذكر الله، وآكل معه الطعام وإنه ليذكر الله، ولقد كان يحدث القوم وما يشغله ذلك عن ذكر الله، وكنت أرى لسانه لازقا بحنكه يقول: لا إله إلا الله، وكان يجمعنا فيأمرنا بالذكر حتى تطلع الشمس، ويأمر بالقراءة من كان يقرأ منا، ومن كان لا يقرأ منا أمره بالذكر»(2).

وروى أبو حمزة الثمالي عن أبي عبد الله (علیه السلام) أنه قال: «أتى النبي (صلی الله علیه و آله)

ص: 271


1- مستدرك الوسائل: ج5 ص37 ب7 ح5306.
2- الكافي: ج2 ص498-499 باب ذكر الله عزوجل كثيراً ضمن ح1.

.............................

رجل فقال: يا رسول الله لقيت من وسوسة صدري شدة وأنا رجل معيل مدين محوج، فقال له: كرر هذه الكلمات: توكلت على الحي الذي لا يموت، والحمد لله الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا، قال: فلم يلبثالرجل أن عاد إليه فقال: يا رسول الله أذهب الله عني وسوسة صدري وقضى ديني ووسع رزقي»(1).

وقال (صلی الله علیه و آله) في وصيته لأمير المؤمنين (علیه السلام): «وعليك يا علي بصلاة الليل» وكرر ذلك ثلاث دفعات(2).

وفي دعاء الموقف لعلي بن الحسين (علیه السلام): «اللهم ارحم موقفي وزد في عملي وسلم لي ديني وتقبل مناسكي»(3) وكرر قولك: اللهم أعتقني من النار.

إلى غير ذلك من مصاديق التكرار مما هو كثير.

هذا وقد ذكر الفقهاء والمحدثون أبواباً عديدة فيما يستحب التكرار فيه، منها:

باب استحباب إعداد الإنسان كفنه وجعله معه في بيته وتكرار نظرهإليه(4).

باب استحباب رش القبر بالماء مستقبلا من عند الرأس دورا ثم على وسطه وتكرار الرش أربعين يوما كل يوم مرة (5).

ص: 272


1- من لا يحضره الفقيه: ج1 ص338-339 باب أحكام السهو في الصلاة ح986.
2- أعلام الدين: ص262 فصل في فضل قيام الليل والترغيب فيه.
3- مصباح المتهجد: ص699 دعاء الموقف لعلي بن الحسين (علیه السلام).
4- راجع وسائل الشيعة: ج3 ص49 ب27.
5- راجع وسائل الشيعة: ج3 ص195 ب32.

.............................

باب استحباب تكرار الحمد وقراءتها سبعين مرة على الوجع(1).

باب استحباب الإكثار من تكرار التسبيح في الركوع والسجود والإطالة فيهما مهما استطاع حتى الإمام مع احتمال من خلفه للإطالة(2).

باب استحباب تكرار الشهادتين(3).

باب استحباب الدعاء بطلب الخيرة وتكرار ذلك(4).

باب استحباب تكرار الحج والعمرة بقدر القدرة(5).باب استحباب تكرار التسميت ثلاثا عند توالي العطاس من غير زيادة(6).

باب استحباب تكرار التلبية في الإحرام سبعين مرة فصاعدا(7).

باب استحباب تكرار زيارة الحسين (علیه السلام) بقدر الإمكان(8).

باب استحباب تكرار التوبة والاستغفار كل يوم وليلة من غير ذنب ووجوبه مع الذنب(9).

إلى غيرها.

ص: 273


1- راجع وسائل الشيعة: ج6 ص231 ب37.
2- انظر وسائل الشيعة: ج6 ص304 ب6.
3- انظر وسائل الشيعة: ج7 ص215 ب46.
4- راجع وسائل الشيعة: ج8 ص74 ب5.
5- راجع وسائل الشيعة: ج11 ص123 ب45.
6- راجع وسائل الشيعة: ج12 ص91 ب61.
7- راجع وسائل الشيعة: ج12 ص386 ب41.
8- راجع وسائل الشيعة: ج14 ص437 ب40.
9- راجع وسائل الشيعة: ج16 ص84 ب92.

.............................

تلاوة القرآن وألحانه

مسألة: يستحب تلاوة القرآن في الصباح والمساء، فإن هذه الأوقات مفتاح باقي الأوقات، إلى المساء، وإلى الصباح، ولذا وردت أدعية عديدة يفتتح بها الصباح والمساء، وهما من مظاهر قدرة الله وتحويله وتدبيره وتصرفه، ومن الواضح استحباب قراءة القرآن في كل وقت إلا أن في بعضها آكد.

عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «ما يمنع التاجر منكم المشغول في سوقه إذا رجع إلى منزله أن لا ينام حتى يقرأ سورة من القرآن فتكتب له مكان كل آية يقرؤها عشر حسنات ويمحى عنه عشر سيئات»(1).

وعن بشر بن غالب الأسدي عن الحسين بن علي (علیه السلام) قال: «من قرأ آية من كتاب الله عزوجل في صلاته قائما يكتب له بكل حرف مائة حسنة، فإذا قرأها في غير صلاة كتب الله له بكل حرفعشر حسنات، وإن استمع القرآن كتب الله له بكل حرف حسنة، وإن ختم القرآن ليلا صلت عليه الملائكة حتى يصبح، وإن ختمه نهارا صلت عليه الحفظة حتى يمسي، وكانت له دعوة مجابة وكان خيرا له مما بين السماء إلى الأرض» قلت: هذا لمن قرأ القرآن فمن لم يقرأه؟ قال: «يا أخا بني أسد إن الله جواد ماجد كريم إذا قرأ ما معه أعطاه الله ذلك»(2).

ص: 274


1- الكافي: ج2 ص611 باب ثواب قراءة القرآن ح2.
2- وسائل الشيعة: ج6 ص187-188 ب11 ح7691.

.............................

وعن جابر قال: سمعت أبا جعفر (علیه السلام) يقول: «من قرأ المسبحات كلها قبل أن ينام لم يمت حتى يدرك القائم وإن مات كان في جوار محمد النبي (صلی الله علیه و آله)»(1).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من قرأ «قل هو الله أحد» مائة مرة حين يأخذ مضجعه غفر الله له ذنوب خمسينسنة»(2).

وعن أبي الحسن (علیه السلام) قال: «من قرأ آية الكرسي عند منامه لم يخف الفالج إن شاء الله، ومن قرأها في دبر كل فريضة لم يضره ذو حمة» وقال: «من قدم «قل هو الله أحد» بينه وبين جبار منعه الله عزوجل منه، يقرأها من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، فإذا فعل ذلك رزقه الله عزوجل خيره ومنعه من شره» وقال: «إذا خفت أمرا فاقرأ مائة آية من القرآن من حيث شئت ثم قل: اللهم اكشف عني البلاء، ثلاث مرات»(3).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «من قرأ مائة آية يصلي بها في ليلة كتب الله عزوجل له بها قنوت ليلة، ومن قرأ مائتي آية في غير صلاة لم يحاجه القرآن يوم القيامة، ومن قرأ خمسمائة آية في يوم وليلة في صلاة النهار والليل كتب الله عزوجل له في اللوح المحفوظ قنطارا من الحسنات، والقنطار ألف ومائتا أوقية، والأوقية أعظم منجبل أحد»(4).

ص: 275


1- المصباح للكفعمي: ص446 ف39 في ذكر ثواب سور القرآن.
2- ثواب الأعمال: ص128 ثواب قراءة قل هو الله أحد.
3- الكافي: ج2 ص621 باب فضل القرآن ح8.
4- وسائل الشيعة: ج6 ص138 ب62 ح7555.

.............................

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من قرأ «ألهيكم التكاثر» عند النوم وقي فتنة القبر»(1).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «من قرأ إذا أوى إلى فراشه «قل يا أيها الكافرون» و«قل هو الله أحد» كتب الله عزوجل له براءة من الشرك»(2).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من قرأ عشر آيات في ليله لم يكتب من الغافلين، ومن قرأ خمسين آية كتب من الذاكرين، ومن قرأ مائة آية كتب من القانتين، ومن قرأ مائتي آية كتب من الخاشعين، ومن قرأ ثلاثمائة آية كتب من الفائزين، ومن قرأ خمسمائة آية كتب من المجتهدين، ومن قرأ ألف آية كتب له قنطار، القنطار خمسة عشر ألف مثقال من ذهب، المثقال أربعة وعشرون قيراطا، أصغرها مثل جبل أحد، وأكبرهاما بين السماء و الأرض»(3).

من أدعية الصباح والمساء

عن الصادق (علیه السلام) قال: «قل حين تصبح ثلاثا وحين تمسي ثلاثا: أستودع الله العلي الأعلى الجليل العظيم ديني ونفسي وأهلي ومالي وولدي وإخواني المؤمنين وجميع ما رزقني ربي وجميع من يعنيني أمره»(4)، الدعاء.

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: قال النبي (صلی الله علیه و آله) في حديث الإسراء وهو طويل: «وعلمتني الملائكة قولاً أقوله إذا أصبحت وأمسيت: (اللَّهُمَّ إِنَّ ظُلْمِي

ص: 276


1- مصباح المتهجد: ص121 ما يستحب فعله بعد العشاء الآخرة من الصلاة.
2- الكافي: ج2 ص626 باب فضل القرآن ح23.
3- وسائل الشيعة: ج6 ص202 ب17 ح7731.
4- انظر المصباح للكفعمي: ص84 ف16 في أدعية الصباح والمساء.

.............................

أصبح مُسْتَجِيراً بِعَفْوِكَ، وَذَنْبِي أَصْبَحَ مُسْتَجِيراً بِمَغْفِرَتِكَ، وَذُلِّي أَصْبَحَ مُسْتَجِيراً بِعِزَّتِكَ، وَفَقْرِي أَصْبَحَ مُسْتَجِيراً بِغِنَاكَ، وَوَجْهِيَ الْبَالِيَ الْفَانِيَ أَصْبَحَ مُسْتَجِيراً بِوَجْهِكَ الدَّائِمِ الْبَاقِي الَّذِي لا يَفْنَى) وأقول ذلك إذا أمسيت»(1).وعن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «إذا أصبحت فقل: (اللَّهُمَّ اجْعَلْ لِي سَهْماً وَافِراً فِي كُلِّ حَسَنَةٍ أَنْزَلْتَها مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَاصْرِفْ عَنِّي كُلَّ مُصِيبَةٍ أَنْزَلْتَهَا مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأرْضِ فِي هَذَا الْيَوْمِ، و عَافِنِي مِنْ طَلَبِ مَا لَمْ تُقَدِّرْ لِي مِنْ رِزْقٍ، وَمَا قَدَّرْتَ لِي مِنْ رِزْقٍ فَسُقْهُ إِلَيَّ فِي يُسْرٍ مِنْكَ وعَافِيَةٍ آمِينَ) ثلاث مرات»(2).

وعن إسماعيل بن الفضل قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن قول الله عزوجل: «وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها»(3)، فقال (علیه السلام): «فريضة على كل مسلم أن يقول قبل طلوع الشمس عشر مرات وقبل غروبها عشر مرات: (لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ وَ هُوَ حَيّ لا يَمُوتُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) قال: فقلت: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، ويميت ويحيي)؟ فقال: يا هذا لا شك في أن الله يحيي ويميت ويميت ويحيي ولكن قل كما أقول»(4).

ص: 277


1- مستدرك الوسائل: ج5 ص381 ب41 ح6145.
2- الأمالي للطوسي: ص371 المجلس13.
3- سورة طه: 130.
4- وسائل الشيعة: ج7 ص226-227 ب49 ح9185.

.............................

أقول: فريضة بمعنى تأكد الثواب وثبوت الاستحباب وتقديره، فإن الفرض يأتي بمعنى السَن والسنة والتقدير أيضا (1).

وعن الإمام الصادق (علیه السلام) عن آبائه (علیهم السلام) قال:

«فقد النبي (صلی الله علیه و آله) رجلاً من الأنصار، فقال له: ما غيّبك عنا؟

فقال: الفقر يا رسول الله وطول السقم.

فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): ألا أعلمك كلاماً إذا قلته ذهب عنك الفقر والسقم؟

فقال: بلى يا رسول الله.

قال (صلی الله علیه و آله): إذا أصبحت وأمسيت فقل:

(لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ العلي العظيم، تَوَكَّلْتُ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذُ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً).

قال الرجل: فوالله ما قلته إلا ثلاثة أيام حتى ذهب عني الفقروالسقم»(2).

وعن صفوان عمن ذكره عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: قلت له: علمني شيئاً أقوله إذا أصبحت وإذا أمسيت.

فقال: «قل: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَلَا يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ غَيْرُهُ، الْحَمْدُ لِلَّهِ ك-َمَا يُحِبُّ اللَّهُ أَنْ يُحْمَدَ، الْحَمْدُ لِلَّهِ كَمَا هُوَ أَهْلُهُ، اللَّهُمَّ أَدْخِلْنِي فِي

ص: 278


1- انظر لسان العرب، مادة فرض.
2- الكافي: ج8 ص93 ح65.

.............................

كُلِّ خَيْرٍ أَدْخَلْتَ فِيهِ مُحَمَّداً وَآلَ مُحَمَّدٍ، وَأَخْرِجْنِي مِنْ كُلِّ سُوءٍ أَخْرَجْتَ مِنْهُ مُحَمَّداً وَآلَ مُحَمَّدٍ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ)»(1).

وعن داود الرقي قال: «دخلت على أبي عبد الله (علیه السلام) فقال لي: يا داود ألا أعلمك كلمات إن أنت قلتهن كل يوم صباحا ومساء ثلاث مرات آمنك الله مما تخاف؟

قلت: نعم يا ابن رسول الله.

قال: قل: (أصبحت بذمة الله وذمم رسله وذمة محمد (صلی الله علیه و آله) وذمم الأوصياء (علیهم السلام) آمنت بسرهم وعلانيتهم وشاهدهم وغائبهم وأشهد أنهم في علم الله وطاعته كمحمد صلى الله عليهوآله والسلام عليهم).

قال داود: فما دعوت إلا فلجت على حاجتي»(2).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «إذا أمسيت قل: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ عِنْدَ إِقْبَالِ لَيْلِكَ وَإِدْبَارِ نَهَارِكَ وَحُضُورِ صَلَوَاتِكَ وَأَصْوَاتِ دُعَائِكَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ) وادع بما أحببت»(3).

ص: 279


1- الكافي: ج2 ص529 ح22.
2- بحار الأنوار: ج83 ص337 ب45 ح73.
3- وسائل الشيعة: ج5 ص452 ب43 ح7062.

يهتف في أفنيتكم هتافاً وصراخاً، وتلاوة وألحاناً

اشارة

-------------------------------------------

يهتف في أفنيتكم هتافاً وصراخاً، وتلاوة وألحاناً (1)

الهتاف والصراخ

مسألة: يجوز تلاوة القرآن هتافاً وصراخاً، وتلاوة وألحاناً، ويفهم منه رجحان كل تلك الصور فإن حديثها هذا ليست حكايةً عن حالة خارجية فحسب، ولا إخباراً عن قضية تاريخية فقط، بل هو تقرير أيضاً، ومن الرسول (صلی الله علیه و آله) أيضاً حيث كان ذلك - كما أخبرت (علیها السلام) - يجري بمحضره الشريف وبمرآه ومسمعه، أو المنقول لديه.

فالهتاف: ذات صوت، أو الصياح دون الصراخ، ويقال أيضاً فيمن يسمع صوته ولا يرى شخصه(2).

والصراخ: فوقه، فإنه الصياح الشديد(3).

والتلاوة: الترتيل في القراءة، لا المد الطويل في الكلمات ولا القرب المشين، والترتيل هو التأني فيهاوالتمهل وتبيين الحروف والحركات (4).

والألحان: عبارة عن مختلف الألحان والأنغام والإيقاعات - شرط أن لاتكون غناءً - كما نشاهد ذلك في القرّاء في يومنا هذا حيث تختلف ألحانهم في القراءة من الجميل إلى الأجمل، ومن البطيء إلى السريع، وهكذا (5).

ص: 280


1- وفي بعض النسخ: (فتلك نازلة أعلن بها كتاب الله هتافاً هتافاً).
2- راجع لسان العرب: ج9 ص344 مادة هتف.
3- راجع لسان العرب: ج3 ص33 مادة صرخ.
4- راجع لسان العرب: ج11 ص265 مادة رتل.
5- راجع كتاب العين: ج3 ص229 مادة لحن.

.............................

ويقال: ألحن الناس إذا كان أحسنهم قراءة.

وللألحان معنى آخر هو الإفهام، فإنه يقال: ألحنه القول: أي أفهمه إياه.

والأول أقرب بقرينة السياق.

أو المراد اللحن الذي هو الطريق الخاص بإنسان أو بأمة، وقد ورد في الحديث: «اقرؤوا القرآن بألحان العرب»(1).

والمراد أن القرآن كان يُقرأ في تلك الأفنية، في الليالي والنهار، بصوت عال أو بصوت أعلى، وبتلاوة في مقابل القراءة كالتكلم أو بلا تلاوة،وبألحان أو بغيرها.

لكن من اللازم ملاحظة أن يكون الهتاف والصراخ في موردهما، وإلا فإن الهتاف والصراخ قد يكونان مرجوحين لبعض الأسباب الخارجية.

عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: من قرأ «إنا أنزلناه في ليلة القدر» يجهر بها صوته كان كالشاهر سيفه في سبيل الله، ومن قرأها سرا كان كالمتشحط بدمه في سبيل الله، ومن قرأها عشر مرات مرت له على نحو ألف ذنب من ذنوبه»(2).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «اقرءوا القرآن بألحان العرب وأصواتها وإياكم ولحون أهل الفسق وأهل الكبائر، فإنه سيجي ء من بعدي أقوام يرجعون القرآن ترجيع الغناء والنوح، قلوبهم مفتونة وقلوب من يعجبه شأنهم»(3).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إني أخاف عليكم استخفافا بالدين وبيع الحكم

ص: 281


1- انظر الكافي: ج2 ص615 باب ترتيل القرآن بالصوت الحسن ضمن ح3.
2- وسائل الشيعة: ج6 ص209 ب23 ح7751.
3- مستدرك الوسائل: ج4 ص272 ب20 ح14.

.............................

وقطيعة الرحم وأن تتخذوا القرآنمزامير»(1).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «أعرب القرآن فإنه عربي»(2).

وقال النبي (صلی الله علیه و آله): «لكل شيء حلية وحلية القرآن الصوت الحسن»(3).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «كان علي بن الحسين (علیه السلام) أحسن الناس صوتا بالقرآن وكان السقاءون يمرون فيقفون ببابه يسمعون قراءته»(4).

وفي قصة قوم يونس (علیه السلام) لما رأوا آثار العذاب جاؤوا إلى عالمهم وكان اسمه روبيل، فقال لهم: (إذا رأيتم ريحا صفراء أقبلت من المشرق فعجوا الكبير منكم والصغير بالصراخ والبكاء والتضرع إلى الله والتوبة إليه وارفعوا رؤوسكم إلى السماء وقولوا: ربنا ظلمنا أنفسنا وكذبنا نبينا وتبنا إليك من ذنوبناوإن لم تغفر لنا ولا ترحمنا لنكونن من الخاسرين المعذبين فاقبل توبتنا وارحمنا يا أرحم الراحمين، ثم لا تملوا من البكاء والصراخ والتضرع إلى الله حتى تتوارى الشمس بالحجاب ويكشف الله عنكم العذاب) (5).

وقال ابن عباس: (بينا أنا راقد في منزلي إذ سمعت صراخا عظيما عاليا من بيت أم سلمة وهي تقول: يا بنات عبد المطلب اسعدنني وابكين معي فقد قتل سيدكن، فقيل: ومن أين علمت ذلك؟ قالت: رأيت رسول الله الساعة في المنام

ص: 282


1- مستدرك الوسائل: ج4 ص275 ب20 ح4686.
2- وسائل الشيعة: ج6 ص207 ب21 ح7744.
3- الكافي: ج2 ص615 باب ترتيل القرآن بالصوت الحسن ح9.
4- وسائل الشيعة: ج6 ص211 ب24 ح7757.
5- قصص الأنبياء للجزائري: ص435 باب في قصص يونس (علیه السلام).

.............................

شعثا مذعورا فسألته عن ذلك، فقال: قتل ابني الحسين وأهل بيته فدفنتهم، قالت: فنظرت فإذا بتربة الحسين الذي أتى بها جبرئيل من كربلاء، وقال (صلی الله علیه و آله): إذا صارت دما فقد قتل ابنك فأعطانيها النبي فقال اجعليها في زجاجة فليكن عندك فإذا صارت دما فقد قتل الحسين (علیه السلام)، فرأيت القارورة الآن صارت دما عبيطا يفور)(1).

قولها (علیها السلام): «أعلن بها كتاب الله جل ثناؤه» أي: أعلن القرآن عن هذه المشكلة والفادحة التي هي موت رسول الله (صلی الله علیه و آله).

قولها (علیها السلام): «في أفنيتكم» من فناء الدار، على وزن كساء: العرصة المتسعة أمام البيت، حيث إنهم كانوا يقرؤون القرآن أمام دورهم كما يقرؤون القرآن في الأماكن الأخرى من دورهم وغيرها.

قولها (علیها السلام): «في ممساكم ومصبحكم» الممسى والمصبح، بضم الميم فيهما: مصدران بمعنى الإصباح والإمساء، فإنهم كانوا يقرؤون القرآن صباحاً ومساءً، وحيث إن المراد بالمساء كل الليل فالمراد بالمصبح كل النهار في معناه اللغوي لا الاصطلاحي الذي هو في مقابل العصر.

ص: 283


1- المناقب: ج4 ص55 فصل في آياته بعد وفاته (علیه السلام).

ولقبله ما حل بأنبياء الله ورسله

اشارة

-------------------------------------------

استصحاب الشرائع السابقة

مسألة: هل يستفاد من كلامها (علیها السلام) هذا حجية الشرائع السابقة واستصحابها، أم أنه استدلال بالأخص على الأعم، وبالقضايا التكوينية على التشريعية، هذا هو الأظهر، ولا وجه لإلغاء الخصوصية هنا.

نعم الظاهر حجية ما علم بأنه منها (1) إلا ما خرج بالدليل وثبت نسخه، كما ذكرنا ذلك في (الأصول) (2).

قال المحقق (رحمة الله) في الشرائع، في استحباب النكاح: (وربما احتج المانع بأن وصف يحيى (علیه السلام) بكونه حصوراً يؤذن باختصاص هذا الوصف بالرجحان، فيحمل على ما إذا لم تتق النفس، ويمكن الجواب بأن المدح بذلك في شرع غيرنا لا يلزم منه وجوده فيشرعنا)(3).

أقول: وذلك للدليل الخاص.

وقال في الجواهر: (ودعوى أن الأصل بقاء الشرائع السابقة إلا ما دل الدليل على نسخه، فإن شرعنا ليس ناسخاً لجميع ما في الشرائع السابقة، بل المجموع من حيث هو مجموع، للقطع ببقاء كثير منها كأكل الطيبات ونكاح

ص: 284


1- أي من الشرائع السابقة.
2- انظر (الأصول) للإمام الشيرازي (قدس سره): ج2 ص295-296.
3- انظر شرائع الإسلام: ج2 ص504 كتاب النكاح، طبع مركز الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) الطبعة العاشرة.

.............................

الحلال والعبادات الثابتة في جميع الملل، وأيضاً فوروده في كتابنا الذي هو في شرعنا من دون إشارة إلى نسخه دليل على بقائه، وإلا لم يحسن مدحه عندنا، يدفعها أن الكتاب العزيز والسنة المتواترة الدالين على استحباب النكاح في شرعنا مطلقاً يثبت بهما النسخ ويخرج بهما عن مقتضى الأصل) (1).

ص: 285


1- انظر جواهر الكلام: ج29 ص20 كتاب النكاح، طبع المكتبة الإسلامية الطبعة الثانية.

.............................

أحوال الأنبياء والرسل (علیهم السلام)

مسألة: يستحب وربما وجب التطرق لأحوال سائر الأنبياء والرسل في مختلف شؤونهم ومراحل حياتهم من الولادة والوفاة والسيرة والسلوك، وكيفية معاشرتهم مع الناس وفي حياتهم العائلية والاجتماعية وغيرهما، لأنهم أسوة وسلوة، فالإنسان يتعلم منهم ويتزكى ويتطبع على مكارم الأخلاق، ومنها الصبر والتصبر، والرضا بقضاء الله وقدره، وذلك من علل إشارتها (علیها السلام) إلى هذا الجانب.

كما ورد ذلك في القرآن الكريم والروايات الشريفة.

قال تعالى: «فاقصص القصص لعلهم يتفكرون»(1).

وعن الصادق (علیه السلام) قال: «كان آدم (علیه السلام) إذا لم يأته جبرئيل اغتم وحزن، فشكا ذلك إلى جبرئيل فقال: إذا وجدت شيئا من الحزنفقل: لا حول ولا قوة إلا بالله»(2).

وقال ابن عباس: (كان موسى (علیه السلام) رجلا غيورا لا يصحب الرفقة لئلا ترى امرأته)(3).

وفي الحديث: «كان موسى (علیه السلام) إذا صلى لم ينفتل حتى يلصق خده

ص: 286


1- سورة الأعراف: 176.
2- مستدرك الوسائل: ج5 ص369 ب39 ح6110.
3- انظر بحار الأنوار: ج13 ص88 ب4.

.............................

الأيمن بالأرض وخده الأيسر»(1).

وعن أبي الحسن الأول (علیه السلام) قال: «كان يحيى بن زكريا (علیه السلام) يبكي ولا يضحك، وكان عيسى ابن مريم (علیه السلام) يضحك ويبكي وكان الذي يصنع عيسى (علیه السلام) أفضل من الذي كان يصنع يحيى (علیه السلام)»(2).

وعن أبي عبد الله الصادق (علیه السلام) قال: «كان عيسى ابن مريم (علیهما السلام) يقول لأصحابه: يا بني آدم اهربوا من الدنيا إلى الله وأخرجواقلوبكم عنها، فإنكم لاتصلحون لها ولا تصلح لكم، ولا تبقون فيها ولا تبقى لكم، هي الخداعة الفجاعة، المغرور من اغتر بها، المغبون من اطمأن إليها، الهالك من أحبها وأرادها فتوبوا إلى الله بارئكم»(3).

وعن علي (علیه السلام) قال: «كان إبراهيم أول من أضاف الضيف، وأول من شاب فقال: ما هذه؟ فقيل: وقار في الدنيا ونور في الآخرة»(4).

وفي الحديث: «كان إبراهيم (علیه السلام) مضيافا»(5).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «كان إبراهيم (علیه السلام) غيورا، وجدع الله أنف من لا يغار»(6).

ص: 287


1- انظر وسائل الشيعة: ج7 ص12 ب3 ضمن ح8578.
2- الكافي: ج2 ص665 باب الدعابة والضحك ح20.
3- الأمالي للصدوق: ص555 المجلس82 ضمن ح12.
4- قصص الأنبياء للجزائري: ص95 ب6 الفصل الأول في علة تسميته وفضائله.
5- الخرائج والجرائح: ج2 ص928.
6- وسائل الشيعة: ج20 ص237 ب134 ح25525.

.............................

وعن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «كان نوح إذا أمسى وأصبح يقول: أمسيت أشهد أنه ما أمسى بي من نعمة في دينأو دنيا فإنها من الله وحده لا شريك له، له الحمد علي بها كثيراً والشكر كثيرا، فأنزل الله: «إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً»(1) فهذا كان شكره»(2).

وقال (علیه السلام): «ولما كان يوسف (علیه السلام) في السجن دخل عليه جبرئيل فقال: إن الله ابتلاك وابتلى أباك وإن الله ينجيك من هذا السجن، فاسأل الله بحق محمد وأهل بيته أن يخلصك مما أنت فيه، فقال يوسف: اللهم إني أسألك بحق محمد وأهل بيته إلا عجلت فرجي وأرحتني مما أنا فيه، قال جبرئيل (علیه السلام): فأبشر أيها الصديق فإن الله تعالى أرسلني إليك بالبشارة بأنه يخرجك من السجن إلى ثلاثة أيام ويملكك مصر وأهلها، تخدمك أشرافها ويجمع إليك إخوتك وأباك، فأبشر أيها الصديق أنك صفي الله وابن صفيه، فلم يلبث يوسف (علیه السلام) إلا تلك الليلة حتى رأى الملك رؤيا أفزعته فقصها على أعوانه فلم يدروا ما تأويلها، فذكر الغلام الذي نجا من السجن يوسف فقال له: أيها الملك أرسلني إلى السجن فإن فيه رجلا لم ير مثله حلما و علما وتفسيرا»(3) الحديث.

وفي تفسير العياشي عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «إذا سافر أحدكم فقدم من سفره فليأت أهله بما تيسر ولو بحجر، فإن إبراهيم (علیه السلام) كان إذا ضاق أتى قومه وأنه ضاق ضيقة فأتى قومه فوافق منهم أزمة فرجع كما ذهب،

ص: 288


1- سورة الإسراء: 3.
2- تفسير القمي: ج2 ص14 معراج رسول الله (صلی الله علیه و آله).
3- قصص الأنبياء للراوندي: ص132 ب6 ف3 ضمن ح135.

.............................

فلما قرب من منزله نزل عن حماره فملأ خرجه رملا أراد أن يسكن به من زوجته سارة، فلما دخل منزله حط الخرج عن الحمار وافتتح الصلاة فجاءت سارة ففتحت الخرج فوجدته مملوءً دقيقا فاعتجنت منه واختبزت ثم قالت لإبراهيم: انفتل من صلاتك فكل، فقال لها: أنى لك هذا؟ قالت: من الدقيق الذي في الخرج، فرفع رأسه إلى السماء فقال: أشهد أنك الخليل»(1).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «بكى شعيب من حب الله عزوجل حتى عمي، فرد الله عزوجل عليه بصره، ثم بكى حتىعمي فرد الله عليه بصره، ثم بكى حتى عمي فرد الله عليه بصره، فلما كانت الرابعة أوحى الله إليه: يا شعيب إلى متى يكون هذا أبدا منك، إن يكن هذا خوفا من النار فقد أجرتك، وإن يكن شوقا إلى الجنة فقد أبحتك، فقال: إلهي وسيدي أنت تعلم أني ما بكيت خوفا من نارك ولا شوقا إلى جنتك ولكن عقد حبك في قلبي فلست أصبر أو أراك، فأوحى الله جل جلاله إليه: أما إذا كان هكذا فمن أجل هذا سأخدمك كليمي موسى بن عمران»(2).

وعن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «أوحى الله إلى شعيب النبي (علیه السلام) أني معذب من قومك مائة ألف، أربعين ألفاً من شرارهم وستين ألفاً من خيارهم، فقال (علیه السلام): يا رب هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار؟ فأوحى الله عزوجل إليه: داهنوا أهل المعاصي ولم يغضبوا لغضبي»(3).

ص: 289


1- تفسير العياشي: ج1 ص277 من سورة النساء ح279.
2- قصص الأنبياء للجزائري: ص211 ب11 في قصص شعيب (علیه السلام).
3- وسائل الشيعة: ج16 ص146 ب8 ح21201.

.............................

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «أوحى الله إلى موسى بن عمران: يا موسىأتدري لم انتخبتك من خلقي واصطفيتك لكلامي؟ فقال: لا يا رب، فأوحى الله إليه أني اطلعت على الأرض فلم أجد أشد تواضعا لي منك، فخر موسى ساجدا، وعفر خديه في التراب تذللا منه لربه عزوجل، فأوحى الله إليه: ارفع رأسك يا موسى ومر يدك على موضع سجودك وامسح بها وجهك وما نالته من بدنك فإنه أمان من كل سقم وداء وآفة وعاهة»(1).

وفي الحديث القدسي: قال الله سبحانه لداود (علیه السلام): «أحببني وحببني إلى خلقي، قال: يا رب أنا أحبك فكيف أحببك إلى خلقك؟ قال: اذكر أيادي عندهم فإنك إذا ذكرت ذلك لهم أحبوني»(2).

وفي تفسير العياشي عن الإمام الحسن العسكري (علیه السلام) أنه سئل أكان سليمان (علیه السلام) محتاجا إلى علم آصف بن برخيا يعني حتى أحضر له عرش بلقيس؟

فقال (علیه السلام): «إن سليمان لم يعجز عن معرفة ما عرفه آصف لكنه (علیه السلام) أحب أن يعرف أمته منالجن والإنس أنه الحجة من بعده وذلك من علم سليمان (علیه السلام) أودعه آصف بأمر الله ففهمه الله ذلك لئلا يختلف في إمامته ودلالته كما فهم سليمان (علیه السلام) في حياة داود (علیه السلام) لتعرف إمامته ونبوته من بعده لتأكيد الحجة على الخلق»(3).

ص: 290


1- قصص الأنبياء للجزائري: ص216-217 ب12 ف1 في قصص موسى وهارون (علیهما السلام).
2- قصص الأنبياء للجزائري: ص349 ف2 فيما أوحى إليه وما صدر عنه من الحكم.
3- قصص الأنبياء للجزائري: ص379 ف3 في قصته مع بقليس.

.............................

وروي: «كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يصوم الإثنين والخميس، فقيل له: لم ذلك؟ فقال (صلی الله علیه و آله): «إن الأعمال ترفع في كل إثنين وخميس فأحب أن ترفع عملي وأنا صائم»(1).

وفي الحديث: «كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) كثيرا ما يوصي أصحابه بذكر الموت فيقول: أكثروا ذكر الموت فإنه هادم اللذات حائل بينكم وبين الشهوات»(2).

وعن ابن عباس قال: «كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يجلس على الأرضويأكل على الأرض ويعتقل الشاة ويجيب دعوة المملوك»(3).

وعن أبي ذر قال: «كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يجلس بين ظهراني أصحابه فيجيء الغريب فلا يدري أيهم هو حتى يسأل، فطلبنا إلى النبي (صلی الله علیه و آله) أن يجعل مجلسا يعرفه الغريب إذا أتاه، فبنينا له دكانا من طين فكان يجلس عليها ونجلس بجانبيه»(4).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقسم لحظاته بين أصحابه ينظر إلى ذا وينظر إلى ذا بالسوية»(5).

إلى غيرها من الروايات والآيات الواردة في أحوال الأنبياء (علیهم السلام) وقصصهم.

ص: 291


1- مستدرك الوسائل: ج7 ص526 ب18 ح8816.
2- انظر وسائل الشيعة: ج2 ص437 ب23 ضمن ح2576.
3- وسائل الشيعة: ج12 ص108-109 ب75 ح15780.
4- مكارم الأخلاق: ص16 ف2 في تواضعه وحيائه.
5- انظر الكافي: ج2 ص671 باب النوادر ضمن ح1.

.............................

الأشباه والنظائر

مسألتان: يستحب لتعزية المصاب بيان الأشباه والنظائر(1)، كما يستحب ذلك لتكريس إيمان الناس بالحق في شؤون المبدأ والمعاد وغيرهما والمصادر وغيرها.

وقد ذكرت (علیها السلام): «ولقبله ما حل…» فإنه إشارة لما ورد على سائر الأنبياء (علیهم السلام).

فإن ذكر الأشباه والنظائر في كل الموارد توجب القوة بالنسبة إلى المشبّه به والنظير سواء في البراهين أم في المحاسن أم في المساوئ أم ما أشبه ذلك.

وقد عد البعض أن من ملاكات الأعلمية: الأعرفية بالأشباه والنظائر، وذلك لأنها قد تكشف عن الجامع والملاك..

قال في العروة: (المراد من الأعلم من يكون أعرف بالقواعد والمداركللمسألة وأكثر إطلاعاً لنظائرها...)(2)

وقد ورد الأشباه والنظائر بعبارات مختلفة في كلمات الفقهاء(3) في مختلف

ص: 292


1- النظائر: جمع نظيرة، وهي المثل والشبه.
2- العروة الوثقى، المسألة: 17.
3- قال الميرزا القمي (رحمة الله) في غنائم الأيام في مسائل الحلال والحرام: ج5 ص201: (إنه مقتضى تتبع النظائر)، وقال في ج4 ص81: (وملاحظة النظائر توجب ذلك) وقال في القوانين: ص44: (وكما لايخفى على من لاحظ النظائر)،وقال المحقق النراقي(رحمة الله) في مستند الشيعة: ج1 ص273: (واستبعاده مدفوع بوجود النظائر)، وقال صاحب الجواهر في جواهر الكلام: ج12 ص232: ► (وكما في النظائر) وفي ج14 ص289: (وكما يوضحه ملاحظة النظائر)، وقال الشيخ الأنصاري (رحمة الله) في كتاب الطهارة ج2 ص318: (وغير ذلك من النظائر)، وقال آغا رضا الهمداني (رحمة الله) في مصباح الفقيه: ج3 ص217: (وكذا غيره من النظائر)، وقال السيد الحكيم (رحمة الله) في مستمسك العروة: ج8 ص115: (وكما يظهر من ملاحظة النظائر). إلى غير ذلك مما هو كثير.

.............................

الأبواب الفقهية.

ولما سبق ولغيره نجد في القرآن الحكيم - وفي كلمات البلغاء - كثيراً من هذا القبيل..

قال سبحانه: «كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذّبوا بآياتنا فأخذهم اللهبذنوبهم والله شديد العقاب»(1).

وقال تعالى: «وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ»(2).

وقال سبحانه: «أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَ-امِ كَ-يْفَ نُنْشِ-زُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَى

ص: 293


1- سورة آل عمران: 11.
2- سورة البقرة: 260.

.............................

كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»(1).

إلى غير ذلك.

وعلى هذا يستفاد عدم الخصوصية في هذا الباب بالنسبة إلى الأنبياء والرسل (علیهم السلام)، وإن كانوا هم المصداق الأظهر وإلا فسائر الأوصياءوالصالحين هم كذلك أيضاً، والاستثناء يكون فيما علم فيه الاختصاص.

قولها (علیها السلام): «ولقبله ما حل بأنبياء الله ورسله» أي: إن الموت حل قبل رسول الله (صلی الله علیه و آله) بأنبياء الله ورسله (صلوات الله عليهم أجمعين).

والفرق بين النبي والرسول، أن الرسول (ذو الرسالة)، فهو النبي الذي يؤمر بالتبليغ، بينما النبي يمكن أن يكون خاصاً بنفسه من دون أمر بالتبليغ إذ هو (المنبأ)، فبينهما عموم مطلق.

واللام في (لقبله) للتأكيد، يعني: أن موته (صلی الله علیه و آله) شيء مؤكد.

ص: 294


1- سورة البقرة: 259.

حكم فصل، وقضاء حتم

اشارة

-------------------------------------------

الموت حكم فصل

مسألة: يستحب بيان أن الموت حكم فصل وقضاء حتم.

قال عزوجل: «نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين»(1).

وقال تعالى: «ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولايستقدمون»(2).

فإن الموت حكم إلهي تكويني يفصل بين الدنيا والآخرة، كما يفصل بين الحق والباطل - في أحد المعنيين(3)- كما أنه قضاء محتوم لا مرّد له، حتى بالنسبة إلى أنبياء الله والرسل (علیهم السلام) فكيف بغيرهم؟ بل «كل شيء هالك إلا وجهه»(4)، فإن كل الكون سيفنى حتى يبقى الله وحده كما ذكر ذلك في الكتب الكلامية استناداً إلى الآيات والروايات.

قال تعالى: «كل من عليها فان *ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام»(5).

وقال سبحانه: «كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة»(6).

ص: 295


1- سورة الواقعة: 60.
2- سورة الأعراف: 34.
3- وسيأتي من الإمام المصنف (رحمة الله) معنى محتمل آخر.
4- سورة القصص: 88.
5- سورة الرحمن: 26-27.
6- سورة آل عمران: 185.

.............................

وقال تعالى: «كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون»(1).

وقال سبحانه: «أينما تكونوا يدرككم الموت»(2).

وقال عزوجل: «قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم»(3).

وقال تعالى: «فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين»(4).

وقال سبحانه: «أم كنتم شهداء إذ حضريعقوب الموت»(5).

قولها (علیها السلام): «حكم فصل» أي: أن الموت حكم من الله سبحانه وتعالى مقطوع به على أحد الوجهين.

قولها (علیها السلام): «وقضاء حتم» أي: أن الله سبحانه وتعالى قضى موت الناس قضاءً حتماً لا مردّ له، فهو من عالم اللوح المحفوظ لا المحو والاثبات فتأمل.

سئل علي بن الحسين (علیه السلام) عن النفختين كم بينهما؟ قال: «ما شاء الله» فقيل له: فأخبرني يا ابن رسول الله كيف ينفخ فيه؟ فقال: «أما النفخة الأولى فإن الله يأمر إسرافيل فيهبط إلى الأرض ومعه الصور وللصور رأس واحد

ص: 296


1- سورة العنكبوت: 57.
2- سورة النساء: 78.
3- سورة الجمعة: 8.
4- سورة سبأ: 14.
5- سورة البقرة: 133.

.............................

وطرفان وبين طرف كل رأس منهما ما بين السماء والأرض.

قال: فإذا رأت الملائكة إسرافيل وقد هبط إلى الدنيا ومعه الصور قالوا: قد أذن الله في موت أهل الأرض وفي موت أهل السماء.

قال: فيهبط إسرافيل بحظيرة بيتالمقدس ويستقبل الكعبة فإذا رأوه أهل الأرض قالوا قد أذن الله في موت أهل الأرض.

قال: فينفخ فيه نفخة فيخرج الصوت من الطرف الذي يلي أهل الأرض فلا يبقى في الأرض ذو روح إلا صعق ومات ويخرج الصوت من الطرف الذي يلي أهل السماوات فلا يبقى في السماوات ذو روح إلا صعق ومات إلا إسرافيل...

قال: فيقول الله لإسرافيل: يا إسرافيل مت، فيموت إسرافيل، فيمكثون في ذلك ما شاء الله، ثم يأمر الله السماوات فتمور ويأمر الجبال فتسير وهو قوله «يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً * وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً»(1) يعني تبسط و«تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ»(2) يعني بأرض لم تكسب عليها الذنوب بارزة ليس عليها جبال ولا نبات كما دحاها أول مرة ويعيد عرشه على الماء كما كان أول مرة مستقلا بعظمته وقدرته، قال: فعند ذلك ينادي الجبار جل جلاله بصوت من قبله جهوري يسمع أقطار السماوات والأرضين «لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ»(3) فلا يجيبه مجيب، فعند ذلك يقول الجبار مجيبا لنفسه «لِلَّهِ الْواحِدِالْقَهَّارِ» وأنا قهرت

ص: 297


1- سورة الطور: 9-10.
2- سورة إبراهيم: 48.
3- سورة غافر: 16.

.............................

الخلائق كلهم وأمتهم، إني أنا الله لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي ولا وزير لي وأنا خلقت خلقي بيدي وأنا أمتّهم بمشيتي وأنا أحييهم بقدرتي»(1).

وفي تفسير القمي: قوله «لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ»(2) عن عبيد بن زرارة قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: «إذا أمات الله أهل الأرض لبث كمثل ما خلق الخلق ومثل ما أماتهم وأضعاف ذلك، ثم أمات أهل السماء الدنيا ثم لبث مثل ما خلق الخلق ومثل ما أمات أهل الأرض وأهل السماء الدنيا وأضعاف ذلك، ثم أمات أهل السماء الثانية ثم لبث مثل ما خلق الخلق ومثل ما أمات أهل الأرض وأهل السماء الدنيا والسماء الثانية وأضعاف ذلك، ثم أمات أهل السماء الثالثة ثم لبث مثل ما خلق الخلق ومثل ما أمات أهل الأرض وأهل السماء الدنيا والسماء الثانية والسماء الثالثة وأضعاف ذلك، في كل سماء مثلذلك وأضعاف ذلك، ثم أمات ميكائيل ثم لبث مثل ما خلق الخلق ومثل ذلك كله وأضعاف ذلك، ثم أمات جبرئيل ثم لبث مثل ما خلق الخلق ومثل ذلك كله وأضعاف ذلك، ثم أمات إسرافيل ثم لبث مثل ما خلق الخلق ومثل ذلك كله وأضعاف ذلك، ثم أمات ملك الموت ثم لبث مثل ما خلق الخلق ومثل ذلك كله وأضعاف ذلك ثم يقول الله عزوجل: «لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ» فيرد على نفسه «لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ» أين الجبارون، أين الذين ادعوا معي إلها، أين المتكبرون ونخوتهم ثم يبعث الخلق»(3).

ص: 298


1- تفسير القمي: ج2 ص252-253 كيفية نفخ الصور.
2- سورة غافر: 16.
3- تفسير القمي: ج2 ص256-257 كيفية موت أهل السماء والأرض.

.............................

وفي حديث: يقول عزوجل: «لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ» ثم ينطق أرواح أنبيائه ورسله وحججه فيقولون: «لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ»(1).

حكمة الموت

قال أبو عبد الله (علیه السلام): «إن قوما أتوا نبيا لهم فقالوا: ادع لنا ربك يدفع عنا الموت، فدعا لهم، فرفع الله عنهم الموت وكثروا حتى ضاقت بهمالمنازل وكثر النسل وكان الرجل يصبح فيحتاج أن يطعم أباه وأمه وجده وجدته ويوصيهم ويتعاهدهم، فشغلوا عن طلب المعاش، فأتوا فقالوا: سل ربك أن يردنا إلى آجالنا التي كنا عليها، فسأل ربه عزوجل فردهم إلى آجالهم»(2).

ذكر الموت

عن أبي عبيدة قال: قلت لأبي جعفر (علیه السلام) جعلت فداك حدثني بما أنتفع به؟ فقال: «يا أبا عبيدة ما أكثر ذكر الموت إنسان إلا زهد في الدنيا»(3).

وسئل رسول الله (صلی الله علیه و آله) أي المؤمنين أكيس؟ قال: «أكثرهم ذكرا للموت وأشدهم استعدادا له»(4).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «أكثروا ذكر الموت ويوم خروجكم من القبور وقيامكم بين يدي الله عزوجل، تهون عليكم المصائب»(5).

ص: 299


1- انظر عيون أخبار الرضا (علیه السلام): ج1 ص130 ب11 ضمن ح26.
2- روضة الواعظين: ج2 ص489 مجلس في ذكر الموت والروح.
3- بحار الأنوار: ج6 ص126 ب4 ح3.
4- انظر الكافي: ج3 ص258 باب النوادر ضمن ح27.
5- انظر الخصال: ج2 ص616 علّم أمير المؤمنين (علیه السلام) أصحابه في مجلس واحد.

.............................

وفي الأمالي للشيخ الطوسي: فيما كتب أمير المؤمنين (علیه السلام) لمحمد بن أبي بكر: «عباد الله إن الموت ليس منه فوت، فاحذروا قبل وقوعه، وأعدوا له عدته، فإنكم طرد الموت، إن أقمتم له أخذكم، وإن فررتم منه أدرككم، وهو ألزم لكم من ظلكم، الموت معقود بنواصيكم والدنيا تطوى خلفكم، فأكثروا ذكر الموت عند ما تنازعكم إليه أنفسكم من الشهوات، وكفى بالموت واعظا، وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) كثيرا ما يوصي أصحابه بذكر الموت فيقول: أكثروا ذكر الموت فإنه هادم اللذات، حائل بينكم وبين الشهوات»(1).

وقال النبي (صلی الله علیه و آله): «اذكروا هادم اللذات» فقيل: وما هو يا رسول الله؟ فقال: «الموت فما ذكره عبد على الحقيقة في سعة إلا ضاقت عليه الدنيا، ولا في شدة إلا اتسعت عليه، والموت أول منزل من منازل الآخرة وآخر منزل من منازل الدنيا، فطوبى لمن أكرم عند النزول بأولها وطوبى لمنأحسن مشايعته في آخرها، والموت أقرب الأشياء من بني آدم وهو يعده أبعد فما أجرأ الإنسان على نفسه وما أضعفه من خلق، وفي الموت نجاة المخلصين وهلاك المجرمين ولذلك اشتاق من اشتاق إلى الموت وكره من كره»(2).

وفي الحديث: تبع أمير المؤمنين (علیه السلام) جنازة فسمع رجلا يضحك، فقال: «كأن الموت فيها على غيرنا كتب، وكأن الحق فيها على غيرنا وجب، وكأن الذي نرى من الأموات سفر عما قليل إلينا راجعون نبوئهم أجداثهم ونأكل تراثهم قد نسينا كل واعظ وواعظة ورمينا بكل جائحة وعجبت لمن نسي الموت

ص: 300


1- انظر الأمالي للطوسي: ص27-28 المجلس1 ضمن ح31.
2- انظر مستدرك الوسائل: ج2 ص105-106 ب17 ضمن ح1551.

.............................

وهو يرى الموت ومن أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير»(1).

وقال النبي (صلی الله علیه و آله): «أفضل الزهد في الدنيا ذكر الموت، وأفضل العبادة ذكر الموت، وأفضل التفكر ذكر الموت، فمن أثقله ذكر الموت وجد قبره روضة من رياضالجنة»(2).

وقال رجل لأبي ذر(رحمة الله): ما لنا نكره الموت؟ قال: لأنكم عمرتم الدنيا وخربتم الآخرة فتكرهون أن تنتقلوا من عمران إلى خراب، قيل له: فكيف ترى قدومنا على الله، قال أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله، وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه، قيل: فكيف ترى حالنا عند الله؟ قال: اعرضوا أعمالكم على كتاب الله تبارك وتعالى يقول: «إِنَّ الأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ»(3) قال الرجل: فأين رحمة الله؟ قال: «إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ»(4)، (5).

وقيل لأمير المؤمنين (علیه السلام) ما الاستعداد للموت؟ فقال: «أداء الفرائض واجتناب المحارم والاشتمال على المكارم ثم لا يبالي أوقع على الموت أو وقع الموت عليه، والله ما يبالي ابن أبي طالب أوقع على الموت أم وقع الموت عليه»(6).

ص: 301


1- بحار الأنوار: ج6 ص136 ب4 ح38.
2- مستدرك الوسائل: ج2 ص104 ب17 ح1547.
3- سورة الانفطار: 13-14.
4- سورة الأعراف: 56.
5- جامع الأخبار: ص167 ف133 في القبر.
6- الأمالي للصدوق: ص110 المجلس23 ضمن ح8.

.............................

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «لم يخلق الله عزوجل يقينا لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت»(1).

عند موت إبراهيم (علیه السلام)

عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: «لما أراد الله تبارك وتعالى قبض روح إبراهيم (علیه السلام) أهبط الله ملك الموت فقال: السلام عليك يا إبراهيم.

قال: وعليك السلام يا ملك الموت، أداع أم ناع؟

قال: بل داع يا إبراهيم، فأجب.

قال إبراهيم: فهل رأيت خليلا يميت خليله؟

قال: فرجع ملك الموت حتى وقف بين يدي الله جل جلاله فقال: إلهي قد سمعت ما قال خليلك إبراهيم.

فقال الله جل جلاله: يا ملك الموت اذهب إليه وقل له: هل رأيت حبيبا يكره لقاء حبيبه، إن الحبيب يحب لقاء حبيبه»(2).

شاب من الأنصار

وروي: إن شابا من الأنصار كان يأتي عبد الله بن عباس وكان عبد الله يكرمهويدنيه، فقيل له: إنك تكرم هذا الشاب وتدنيه وهو شاب سوء، يأتي القبور فينبشها بالليالي!.

فقال عبد الله بن عباس: إذا كان ذلك فأعلموني.

ص: 302


1- الخصال: ج1 ص14 خصلة تشبه ضدها ح48.
2- مستدرك الوسائل: ج2 ص95 ب13 ح1517.

.............................

قال: فخرج الشاب في بعض الليالي يتخلل القبور، فأعلم عبد الله بن عباس بذلك، فخرج لينظر ما يكون من أمره ووقف ناحية ينظر إليه من حيث لايراه الشاب، قال: فدخل قبرا قد حفر ثم اضطجع في اللحد ونادى بأعلى صوته: يا ويحي إذا دخلت لحدي وحدي ونطقت الأرض من تحتي فقالت: لامرحبا بك ولا أهلا، قد كنت أبغضك وأنت على ظهري فكيف وقد صرت في بطني، بل ويحي إذا نظرت إلى الأنبياء وقوفا والملائكة صفوفا فمن عدلك غدا من يخلصني ومن المظلومين من يستنقذني ومن عذاب النار من يجيرني، عصيت من ليس بأهل أن يعصى، عاهدت ربي مرة بعد أخرى فلم يجد عندي صدقا ولا وفاء.

وجعل يردد هذا الكلام ويبكي، فلما خرج من القبر التزمه ابن عباس وعانقه ثم قال له: نعم النباش، نعم النباش ما أنبشك للذنوب والخطايا، ثم تفرقا(1).

ص: 303


1- الأمالي للصدوق: ص330-331 المجلس53 ح11.

.............................

القضاء والقدر

مسألة: يلزم الإيمان بالقضاء والقدر على ما ورد في الآيات والروايات، وقد أشرنا إلى ذلك في بعض المباحث الكلامية(1).

فإن القضاء بمعنى الانتهاء لغة وعرفا.

ويكون تكوينياً وتشريعيا.

فالتكويني مثل قوله تعالى: «فقضاهن سبع سماوات»(2) وقوله سبحانه: «فإذا قضيت الصلاة»(3) .

والتشريعي مثل قوله عزوجل: «وقضى ربك ألاّ تعبدوا إلا إياه»(4) فإن هذا بمعنى الانتهاء التشريعي، أي انتهى الأمر بهذه الصيغة، ومنه يسمّى القاضي قاضياً.

والقدر: لغةً وعرفاً بمعنى واحد، وهو التقدير بجعل الحدود للشيء، قالسبحانه: «وقدَّر فيها أقواتها»(5).

وقال تعالى: «إنا كل شيء خلقناه بقدر»(6).

ص: 304


1- انظر كتاب (الفقه: العقائد) للإمام الشيرازي (قدس سره): ص290-291 الطبعة الثانية، مؤسسة الإمامة ودار العلوم.
2- سورة فصلت: 12.
3- سورة الجمعة: 10.
4- سورة الإسراء: 23.
5- سورة فصلت: 10.
6- سورة القمر: 49.

.............................

وقد ذكرنا في كتاب (العقائد) (1):

أنه لا إشكال في أن غير أفعال الإنسان(2) ومن أشبهه من الملائكة والحور والجن والشياطين والحيوانات، تتعلق بالقضاء والقدر، فالقول: بأن الأشياء بقدر الله وقضائه يراد بذلك التكويني بأسبابها ومقدماتها وشرائطها وما أشبه ذلك سواء كانت وجودات أو أعداما، إيجاداً أو إعداماً.

أما بالنسبة إلى الأفعال الاختيارية للإنسان ومن أشبه، فالمراد بالقضاء والقدر: أن الله سبحانه وتعالى قدّر هذا التقدير وحكم بهذا الحكم، مثلاً: قدّر في الصلاة المصلحة وفي شرب الخمر المفسدة وحكم بالأول إيجاباً وبالثاني سلباً، كما أن الله عزّ وجل قدّر أن يكونالإنسان مختاراً.

عن هشام بن سالم قال: قال أبو عبد الله (علیه السلام): (إن الله إذا أراد شيئاً قدّره، فإذا قدّره قضاه، فإذا قضاه أمضاه)(3).

ص: 305


1- انظر (الفقه: العقائد) ص293.
2- أي الأفعال غير الاختيارية كنبضات القلب وما أشبه.
3- المحاسن: ص243 ب25 ح235.

وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على....

اشارة

-------------------------------------------

«وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين»(1).

حرمة الانقلاب عن الحق

مسألة: الاستفهام في الآية الشريفة استنكاري، والآية تدل على قبح وحرمة أن ينقلب الإنسان عن الحق إلى الباطل، وإذا فعل ذلك فإنه يضر نفسه ولا يضر الله سبحانه وتعالى شيئاً.

قال تعالى: «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ»(2).

وعن ابن عباس: أنّ عليّا (علیه السلام) كان يقول في حياة رسول اللّه (صلی الله علیه و آله): «إنّ اللّه تعالى يقول «وَما مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلىأَعْقابِكُمْ»(3)، واللّه لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا اللّه، واللّه لئن مات أو قتل لأقاتلنّ على ما قاتل عليه حتى أموت، لأنّي أخوه وابن عمّه ووارثه، فمن أحقّ به منّي»(4).

ص: 306


1- سورة آل عمران: 144.
2- سورة البقرة: 253.
3- سورة آل عمران: 144.
4- الاحتجاج: ج1 ص196 في أثناء خطبة خطبها بعد فتح البصرة بأيام.

.............................

وفي التفسير: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»(1) قال هو مخاطبة لأصحاب رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) الذين غصبوا آل محمّد حقّهم وارتدّوا عن دين اللّه «فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ» نزلت في القائم (علیه السلام) وأصحابه الذين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم (2).

وعن أحمد بن همّام قال: أتيت عبادة بن الصامت في ولاية أبي بكر فقلت: يا أبا عمارة كان الناس على تفضيل أبي بكر قبل أن يستخلف.

فقال: يا أبا ثعلبة إذا سكتناعنكم فاسكتوا ولا تبحثوا، فو اللّه لعلي بن أبي طالب كان أحقّ بالخلافة من أبي بكر كما كان رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) أحقّ بالنبوّة من أبي جهل، قال: وأزيدك إنّا كنّا ذات يوم عند رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) فجاء عليّ (علیه السلام) وأبو بكر و عمر إلى باب رسول اللّه (صلی الله علیه و آله)، فدخل أبو بكر ثم دخل عمر ثم دخل عليّ (علیه السلام) على إثرهما فكأنّما سفي على وجه رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) الرماد، ثم قال: «يا عليّ أيتقدّمانك هذان وقد أمّرك اللّه عليهما»، قال أبو بكر: نسيت يا رسول اللّه، وقال عمر: سهوت يا رسول اللّه.

فقال رسول اللّه (صلی الله علیه و آله): «ما نسيتما ولا سهوتما، وكأني بكما قد استلبتما ملكه وتحاربتما عليه، وأعانكما على ذلك أعداء اللّه وأعداء رسوله، وكأني بكما قد تركتما المهاجرين والأنصار بعضهم يضرب وجوه بعض بالسيف على

ص: 307


1- سورة المائدة: 54.
2- تفسير القمي: ج1 ص170 قصة هابيل وقابيل.

.............................

الدنيا، ولكأني بأهل بيتي وهم المقهورون المتشتّتون في أقطارها، وذلك لأمر قد قضي».ثم بكى رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) حتى سالت دموعه، ثم قال: «يا عليّ، الصبر.. الصبر، حتى ينزل الأمر ولا قوّة إلا باللّه العليّ العظيم، فإنّ لك من الأجر في كلّ يوم ما لا يحصيه كاتباك، فإذا أمكنك الأمر فالسيف السيف.. فالقتل القتل حتى يفيئوا إلى أمر اللّه وأمر رسوله، فإنّك على الحقّ ومن ناواك على الباطل، وكذلك ذريّتك من بعدك إلى يوم القيامة»(1).

قولها (علیها السلام): «قد خلت» أي: سبقت ومضت الرسل (علیهم السلام) من قبل الرسول (صلی الله علیه و آله) وماتوا. «أفإن مات» موتاً طبيعياً «أو قتل» قتلاً غير طبيعي.

وقد ذكرت الصديقة الطاهرة (صلوات الله عليها) هذه الآية في الردّ على من أنكر موت رسول الله (صلی الله علیه و آله) حيث تظاهر بذلك لأهدافه الخاصة - كما سبق - ، وربما كان بعض الصحابة يستعظم موته (صلی الله علیه و آله)، وربما زعم البعض أنه (صلی الله علیه و آله) لن يموت، كما هو عادة بعض الناس بالنسبة إلى العظماء، ولهذا قالوا: إن موسى (علیه السلام) لم يمت، وقالوا: إن أمير المؤمنين علياً (علیه السلام) لميمت(2)، وقالوا: إن الإمام الحسين (علیه السلام) لم يمت، وقالوا: إن الإمام موسى بن جعفر (علیه السلام) لم يمت(3)، وهكذا (4).

ص: 308


1- بحار الأنوار: ج29 ص425-426 ب13.
2- شرح نهج البلاغة: ج8 ص120 فصل في ذكر الغلاة من الشيعة والنصيرية وغيرهم.
3- انظر الغيبة للطوسي: ص4 ف1 الكلام في الغيبة.
4- انظر بحار الأنوار: ج51 ص210 ب12 وفيه: (فإن قيل أ ليس قد خالف جماعة فيهم من قال ►المهدي من ولد علي (علیه السلام) فقالوا هو محمد بن الحنفية، وفيهم من قال من السبائية هو علي (علیه السلام) لم يمت، وفيهم من قال جعفر بن محمد لم يمت، وفيهم من قال موسى بن جعفر لم يمت، وفيهم من قال الحسن بن علي العسكري (علیه السلام) لم يمت، وفيهم من قال المهدي هو أخوه محمد بن علي وهو حي باق لم يمت).

............................

من هو الرجعي؟

مسألة: قد يراد بالرجعي من يرجع إلى الفطرة والسنة، أو من يرجع إلى أحكام الكتاب العزيز، وقد يراد به من يرجع إلى جذوره التاريخية ليستمد منها الخبرة والعزم لانطلاقة أقوى.

وهذه الرجعية - بالمعاني الثلاثة -محمودة ومطلوبة شرعاً وعقلاً.

قال تعالى: «إن إلى ربك الرجعى»(1).

وقال سبحانه: «وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون»(2).

وقال تعالى: «وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون»(3).

أما الرجعية بالمعنى المذموم فهي التي أشار إليها القرآن الكريم بقوله ههنا: «أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم»(4) فالرجعي هو من ينقلب على القيم ويرجع إلى الظلمات بعد أن اُخرج منها إلى النور، والرجعي هو من يرجع

ص: 309


1- سورة العلق: 8.
2- سورة الأعراف: 174.
3- سورة الزخرف: 28.
4- سورة آل عمران: 144.

.............................

إلى أهواء النفس والشهوات ومن يرجع إلى الشيطان وأصدقاء السوء.

«انقلبتم على أعقابكم» كناية عن الرجوع القهقرى، أريد به الارتداد بعد الإيمان، لأن الإنسان الذي يريد أن يمشي إلى خلفه يضع عقبيه أولاً، والله سبحانهوتعالى لا يتضرر بسبب الارتداد وإنما يتضرر المرتد نفسه.

قال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسمع عليم»(1).

وعن أبي سعيد الخدري عن أبيه عن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه قال: «أتزعمون أن رحم نبي الله لا تنفع قومه يوم القيامة، بلى والله، إن رحمي لموصولة في الدنيا والآخرة، ثم قال: «يا أيها الناس أنا فرطكم على الحوض فإذا جئت وقام رجال يقولون يا نبي الله أنا فلان بن فلان، وقال آخر يا نبي الله أنا فلان بن فلان، وقال آخر يا نبي الله أنا فلان بن فلان، فأقول: أما النسب فقد عرفت ولكنكم أحدثتم بعدي وارتددتم القهقرى»(2).

ص: 310


1- سورة المائدة: 54.
2- الأمالي للطوسي: ص269 المجلس10.

.............................

الحصر الإضافي

مسألة: الرسالة الإسلامية لا تموت بموت الرسول (صلی الله علیه و آله).

فإن الحصر في الآية الشريفة يشير إلى أن محمداً (صلی الله علیه و آله) كان رسولاً فحسب من هذه الجهة، فلئن مات الرسول فان (الرسالة) لم تمت و(المرسل) هو الله الدائم القائم، فلا عذر لأحد في التخلي عن تعاليمه وأوامره (صلی الله علیه و آله) بالاستناد إلى أنه قد مات وانتهى كل شيء، لذلك فإن (الانقلاب) عليه (صلی الله علیه و آله) هو انقلاب على الله، وهذا مما لن يضر الله شيئاً بل يضر المنقلبين أنفسهم.

ومن ذلك يظهر أن الحصر في (وما محمد إلا رسول) بالقياس إلى كونه المصدر الأوّل والأخير.

قال الإمام الصادق (علیه السلام): «حلال محمد حلال أبداً إلى يوم القيامة، وحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة، لا يكون غيره ولا يجيء غيره»(1).

وكأنها (علیها السلام) أرادت بذلك أن تقول: هل تقولون إن محمداً (صلی اللهعلیه و آله) مات وبعد موته ليس لنا زاجر ولا مانع عمّا نريده، فنفعل ما نشاء ولا نخاف أحداً في ترك الانقياد للأوامر كما كنا نهابه في حال حياته؟! ولذا فعلتم ما فعلتم من غصب الخلافة واغتصاب فدك وما أشبه ذلك، لكن يلزم أن تعلموا أنكم لن تضروا الله بهذه المعاصي وإنما تضرون أنفسكم، وإن الشاكر الذي يشكر نعم الله سبحانه وتعالى ويبقى على الانقياد لأوامره ونواهيه ولا يخالف الكتاب والسنة سيكون مورد ثواب الله سبحانه وتعالى وجزائه.

ص: 311


1- الكافي: ج1 ص58 باب البدع والرأي والمقاييس ح19.

.............................

الشاكرون

مسألة: تجب الاستقامة على الحق.

والذين يستمرون على الصراط المستقيم هم المجزيون بثواب الله سبحانه وهم الشاكرون، لأن الاستقامة على الحق نوع شكر لله تعالى، إذ من مصاديقه(1) استعمال كل نعمة في موردها، سواء بالقلب أم اللسان أم الجوارح، وإن كان العمل الجوارحي أصعب.

قال سبحانه: «اعملوا آل داود شكراً»(2).

فإن أصل معرفة نعم الله سبحانه وتعالى قد لا يحتاج إلى جهد بدني ولاجهد مالي ولا ما أشبه، كما أن التلفظ بالشكر فقط ليس بحاجة إلى مثل هذه الأمور عادة، وإنما الشكر العملي بحاجة إلى مختلف الجهود.

وجزاء الله سبحانه وتعالى إنما هو للشاكرين الذي يشكرون نعمه سواء في حياة النبي (صلی الله علیه و آله) أم بعد مماته.روى سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى «أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ»(3): يعني بالشاكرين صاحبك علي بن أبي طالب (علیه السلام) والمرتدين

ص: 312


1- أي الشكر.
2- سورة سبأ: 12.
3- سورة آل عمران: 144.

.............................

على أعقابهم الذين ارتدوا عنه»(1).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: تدرون مات النبي أو قتل، إن الله يقول: «أفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ»(2) فسم قبل الموت إنهما سمتاه»، فقلنا إنهما وأبويهما شر من خلق الله(3).

وقال سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن قول الله: «أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ»(4) القتل أم الموت؟ قال: «يعني أصحابه الذين فعلوا مافعلوا»(5).

ص: 313


1- بحار الأنوار: ج41 ص3 ب99.
2- سورة آل عمران: 144.
3- بحار الأنوار: ج28 ص20-21 ب1 ح28.
4- سورة آل عمران: 144.
5- تفسير العياشي: ج1 ص200 من سورة آل عمران ح153.

إيهاً بني قيلة

اشارة

-------------------------------------------

النسبة للأم

مسألة: يجوز نسبة إنسان أو جماعة إلى الأم، فيما إذا لم يكن من باب تعيير المؤمن ونحوه.

وقد كان هؤلاء معروفين ببني قيلة، نسبة إلى أمهم، حيث كانت لها مكانة اجتماعية. ومن هنا يقال للسادة: بنو الزهراء (صلوات الله عليها) لأنها (عليها الصلاة والسلام) كانت قمة القمم وفي عداد أمير المؤمنين علي (علیه السلام) بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله).

والعدول عن النسبة للأب إلى النسبة للأم قد يكون استجلاباً للرحمة واستدراراً للعاطفة، أو استثارة للغيرة والحمية، أو لأجل تكريس التعظيم، أو لخصلة إنسانية أخرى في المنسوب أو السامعين أو غيرهم، وذلك تبعاً لما تميزت به الأم من صفة أو حالةٍ تذكر الناس وتؤثر فيهم، ولما يتداعى في الأذهان من تلك النسبة.

قال تعالى حكاية عن هارون (علیه السلام): «يا بن أم لا تأخذ بلحيتي ولابرأسي»(1) حيث خص الأم استعطافاً وترقيقاً.

وقال الإمام علي بن الحسين (علیه السلام): «إني ما أذكر مصرع بني فاطمة إلا خنقتني لذلك عبرة»(2).

ص: 314


1- سورة طه: 94.
2- انظر وسائل الشيعة: ج3 ص281 ب87 ضمن ح3655.

.............................

ولما أخذت أم الشاب المقتول بكربلاء عمود خيمته حملت على القوم وهي تقول:

أنا عجوز سيدي ضعيفة *** خاوية بالية نحيفة

أضربكم بضربة عنيفة *** دون بني فاطمة الشريفة (1)

وعن جعفر (علیه السلام) عن أبيه (علیه السلام) قال: «لما ولي عمر بن عبد العزيز أعطانا عطايا عظيمة، قال فدخل عليه أخوه فقال له: إن بني أمية لا ترضى منك بأن تفضل بني فاطمة عليهم، فقال: أفضلهم لأني سمعت حتى لا أبالي أن أسمع أو لا أسمع، أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان يقول إنما فاطمة شجنة مني، يسرنيما أسرها، ويسوؤني ما أساءها فأنا أتبع سرور رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأتقي مساءته»(2).

هذا وكان ما صدر من عمر بن عبد العزيز مثل ما صدر من المأمون العباسي، وذلك للسيطرة على الأمور فإن الناس قد عرفوا بعض منزلة أهل البيت (علیهم السلام) ومالوا إليهم.

وعن عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «كنت عند زياد بن عبيد الله وجماعة من أهل بيتي فقال يا بني علي ويا بني فاطمة ما فضلكم على الناس، فسكتوا، فقلت: إن من فضلنا على الناس أنا لا نحب أنا من أحد سوانا وليس أحد من الناس لا يحب أنه منا إلا أشرك»(3).

ص: 315


1- انظر المناقب: ج4 ص104 فصل في مقتل الإمام الحسين (علیه السلام).
2- قرب الإسناد: ص44-45.
3- المحاسن: ج2 ص333 كتاب العلل ح101.

.............................

وفي الشعر:

ومهما ألام على حبهم *** بأني أحب بني فاطمة

بني بنت من جاء بالمحكمات *** وبالدين والسنة القائمة

ولست أبالي بحبي لهمو *** سواهم من النعم السائمة

وقال:

لمن ذا من بني الزهراء أبكي *** بدمع هامر ودم غزير

أللمسموم بالأحقاد أبكي *** أم المقتول ذي النحر النحير

وقال:

بكم يا بني الزهراء تمت صلاتنا *** ولولاكم كانت خداجا بها بتر

بكم يكشف البلوى ويستدفع الأذى *** كما بأبيكم كان يستنزل القطر

وقال:

أحببتكم يا بني الزهراء محتسبا *** وحب غيري حب غير محتسب

لا حاجة لي إلى خلق و لا أرب *** إلا إليكم وحسبي ذاك من أرب

ما طاب لي مولدي إلا بحبكم *** يا طيبون ولولا ذاك لم يطب

أنتم بنو المصطفى والمرتضى نجب *** من كل منتجب سمي بمنتجب

أنتم بنو شاهد النجوى من الغيب *** أنتم صاحب الآيات والعجب

أنتم بنو خير من يمشي على قدم *** بعد النبي مقال الحق لا كذب

ص: 316

.............................

وقد يكون العكس، حيث يعيّر بعض الناس بالأم، كما قالت الصديقة الصغرى زينب الكبرى (علیها السلام) لابن زياد: «ثكلتك أمك يا بن مرجانة»(1).

وقال ابن حماد:

سعى في قتله الرجس ابن هند *** ليشفي منه أحقادا و وغما

وأطمع فيه جعدة أم عبس *** ولم يوف بها فسقته سما (2)

قال الإمام الصادق (علیه السلام):

«تاسوعاء يوم حوصر فيه الحسين (علیه السلام) وأصحابه رضي الله عنهم بكربلاء واجتمع عليه خيل أهل الشام وأناخوا عليه وفرح ابن مرجانة وعمر بن سعد بتوافر الخيل وكثرتها واستضعفوا فيه الحسين (علیه السلام) وأصحابه رضي الله عنهم وأيقنوا أنه لا يأتي الحسين ناصر ولا يمده أهل العراق، بأبي المستضعف الغريب»(3).

وقال محمد بن أبي طالب: (ثم رفع زيد صوته يبكي وخرج وهو يقول: ملك عبد حرا، أنتم يا معشر العرب العبيد بعد اليوم، قتلتم ابن فاطمة وأمرتم ابن مرجانة حتى يقتل خياركم ويستعبد أشراركم رضيتم بالذل فبعداً لمن رضي)(4).

ص: 317


1- انظر بحار الأنوار: ج45 ص116 ب39.
2- انظر المناقب: ج4 ص42 فصل في وفاة الإمام الحسن (علیه السلام) وزيارته (علیه السلام).
3- انظر الكافي: ج4 ص147 باب صوم عرفة وعاشوراء ضمن ح7.
4- انظر بحار الأنوار: ج45 ص117 ب39.

.............................

وفي زيارة عاشوراء: «ولعن الله بني أمية قاطبة، ولعن الله ابن مرجانة»(1).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «لا يموت ابن هند حتى يعلق الصليب في عنقه»(2).

وفي التاريخ: انه قدم معاوية المدينة فجلس في أول يوم يجيز من يدخل عليه من خمسة آلاف إلى مائة ألف، فدخل عليه الحسن بن علي (علیه السلام) في آخر الناس، فقال: أبطأت يا أبا محمد، فلعلك أردت تبخلني عند قريش فانتظرت يفنى ما عندنا، يا غلام أعط الحسن مثل جميع ما أعطينا في يومنا هذا، يا أبا محمد وأنا ابن هند، فقال الحسن (علیه السلام): «لا حاجة لي فيها يا أبا عبد الرحمن ورددتها وأنا ابن فاطمة بنت محمد رسول الله (صلی الله علیه و آله)»(3).

إلى غير ذلك مما هو مشهور في أساليب البلغاء.

ص: 318


1- مصباح المتهجد: ص774 .
2- بحار الأنوار: ج33 ص161 ب17 ح424.
3- انظر المناقب: ج4 ص18 فصل في مكارم أخلاقه (علیه السلام).

.............................

التخصيص بعد التعميم

مسألة: تخصيص الخطاب بشخص أو جهة بعد تعميمه أو عموميته كما في قولها (علیها السلام): «إيهاً بني قيلة» يضاعف المسؤولية ويكشف عن شدة الطلب وتأكده، أو عن تعدد المطلوب(1)، وسيكون عقاب العاصي أشد، إلا لو كان من باب طرفية الخطاب(2).

قولها (علیها السلام): «إيهاً بني قيلة» إيهاً - بفتح الهمزة والتنوين - بمعنى: إليكم أخاطب، وقد تكون بمعنى هيهات ويكون المعنى حينئذٍ: من البعيد منكم أن اهضم أرث أبي وأنتم بمرأى مني ومسمع.

وبنو قيلة: هما قبيلتا الأنصار الأوس والخزرج، وقيلة - بفتح القاف - اسم أم لهم في قديم الزمان كانت تسمى قيلة وهي قيلة بني كاهل فإنهممتشعبون منها.

ص: 319


1- فعلى هذا لا يكون في بعضها كفائياً.
2- أي احتياج الخطاب إلى طرف وجهة يوجه لها، والظاهر أن الخطاب ل- (بني قيلة) لم يكن من هذا الباب.

أاُهضم تراث أبي؟

اشارة

-------------------------------------------

تكرار الطلب

مسألة: يستحب وقد يجب أن يكرر المظلوم طلبه.

فإن في التكرار احتمال التأثير أولاً، ثم نشر الظلامة ثانياً، وغرسها في أعماق الأنفس ثالثاً، ثم ردع الظالمين في المستقبل عن ظلمهم حيث يعرفون أن خبر ظلمهم ينتشر ويفتضحون رابعاً، إلى غير ذلك من الفوائد المذكورة للتكرار في كتب البلاغة وما أشبه.

وقد روي عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال: «إن زين العابدين (علیه السلام) بكى على أبيه أربعين سنة صائما نهاره، قائما ليله، فإذا حضر الإفطار جاءه غلامه بطعامه وشرابه فيضعه بين يديه فيقول: كل يا مولاي، فيقول: قتل ابن رسول الله جائعا، قتل ابن رسول الله عطشانا، فلا يزال يكرر ذلك ويبكي حتى يبل طعامه من دموعه ويمزج شرابه بدموعه فلم يزل كذلك حتى لحق بالله عزوجل»(1).

وقد كان يكرر رسول الله (صلی الله علیهو آله) من قوله: «نفذوا جيش أسامة»(2).

روى ابن أبي الحديد في شرح النهج: أنّ رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) في مرض موته أمّر أسامة بن زيد بن حارثة على جيش فيه جلّة المهاجرين والأنصار، منهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجرّاح وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير، وأمره

ص: 320


1- وسائل الشيعة: ج3 ص283 ب87 ح3658.
2- انظر إعلام الورى: ص133.

.............................

أن يغير على مؤتة حيث قتل أبوه زيد، وأن يغزو وادي فلسطين، فتثاقل أسامة وتثاقل الجيش بتثاقله، وجعل رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) في مرضه يثقل ويخف ويؤكّد القول في تنفيذ ذلك البعث، حتّى قال له أسامة: بأبي أنت وأمّي أتأذن لي أن أمكث أيّاما حتّى يشفيك اللّه تعالى.

فقال: اخرج وسر على بركة اللّه.

فقال: يا رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) إن أنا خرجت وأنت على هذه الحال خرجت وفي قلبي قرحة منك.

فقال: سر على النصر والعافية.

فقال: يا رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) إنّي أكره أن أسأل عنك الركبان.فقال: أنفذ لما أمرتك به.. ثم أغمي على رسول اللّه (صلی الله علیه و آله)، وقام أسامة فتجهز للخروج، فلمّا أفاق رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) سأل عن أسامة والبعث، فأخبر أنّهم يتجهّزون، فجعل يقول: أنفذوا بعث أسامة، لعن اللّه من تخلّف عنه.. وكرر ذلك)(1).

وقد ورد التكرار في كثير من الأدعية. روي: أن الإمام موسى بن جعفر (علیه السلام) كان يصلي نوافل الليل ويصلها بصلاة الصبح ثم يعقّب حتى تطلع الشمس ويخر لله ساجداً فلا يرفع رأسه من الدعاء والتمجيد حتى يقرب زوال الشمس وكان يدعو كثيراً فيقول: «اللهم إني أسألك الراحة عند الموت والعفو عند الحساب» ويكرر ذلك(2).

ص: 321


1- انظر شرح نهج البلاغة: ج6 ص52 ذكر أمر فاطمة مع أبي بكر.
2- انظر الإرشاد: ج2 ص231 باب ذكر طرف من فضائله ومناقبه (علیه السلام).

.............................

اشتداد الحرمة

مسألة: في انتهاك الحرمة وإضاعةالحق، الحرمة تشتد بلحاظ: المنتهك، والمنتهك حرمته، ونوع الحق، لذلك فإن هضمها (علیها السلام) تراث أبيها (صلی الله علیه و آله) كان من أشد المحرمات.

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) عند ما قرب وفاته: «يا علي أني راض عمن رضيت عنه ابنتي فاطمة وكذلك ربي وملائكته، يا علي ويل لمن ظلمها، وويل لمن ابتزها حقها، وويل لمن هتك حرمتها، وويل لمن أحرق بابها، وويل لمن آذى خليلها، وويل لمن شاقها وبارزها، اللهم إني منهم بريء وهم مني براء»(1).

وفي الحديث عن الإمام الحسن العسكري (علیه السلام) عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: «فإذا حق رسول الله (صلی الله علیه و آله) أعظم من حق الوالدين وحق رحمه أيضا أعظم من حق رحمهما، فرحم رسول الله (صلی الله علیه و آله) أيضا أعظم وأحق من رحمهما، فرحم رسول الله (صلی الله علیه و آله) أولى بالصلة وأعظم في القطيعة، فالويل كل الويل لمن قطعها، فالويل كل الويل لمن لم يعظم حرمتها، أو ما علمت أن حرمة رحم رسول الله (صلی الله علیه و آله) حرمة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأنحرمة رسول الله (صلی الله علیه و آله) حرمة الله تعالى وأن الله أعظم حقا من كل منعم سواه، وإن كل منعم سواه إنما أنعم حيث

ص: 322


1- انظر بحار الأنوار: ج22 ص485 ب1 ضمن ح31.

قيضه له ذلك ربه ووفقه له»(1).

.............................

أكل الإرث

مسألة: يحرم منع أي الشخص من إرثه، أو اقتطاع قدر من الإرث بعنوان الضريبة وغير ذلك، ولا يسوغ ذلك العذر باحتياج الدولة أو ما أشبه كما فعل غاصبوها (علیها السلام).

وفي تفسير القمي(رحمة الله): (وقال الله: «كَلا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ»(2) أي لا تدعوهم، وهم الذين غصبوا آل محمد حقهم وأكلوا أموال اليتامى وفقراءهم وأبناء سبيلهم، ثم قال: «وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمّاً»

أي وحدكم «وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبّاًجَمّاً»(3) تكنزونه ولا تنفقونه في سبيل الله)(4).

وقال رسول اللَّه (صلی الله علیه و آله): «يا عليّ كيف أنت إذا رأيت أزهد الناس في الآخرة، ورغبوا في الدنيا، وأكلوا التراث أكلا لمّا ، وأحبّوا المال حبّا جمّا واتّخذوا دين اللَّه دغلا، ومال اللَّه دولا؟ قال: قلت: أتركهم وما اختاروا، وأختار اللَّه ورسوله والدار الآخرة وأصبر على مصائب الدنيا ولأواتها حتى

ص: 323


1- انظر تفسير الإمام العسكري (علیه السلام): ص35 نداء الرب سبحانه وتعالى أمة محمد (صلی الله علیه و آله) ضمن ح12.
2- سورة الفجر: 17-18.
3- سورة الفجر: 19-20.
4- تفسير القمي: ج2 ص420 سورة الفجر.

.............................

ألقاك إن شاء اللَّه. فقال: هديت، اللّهمّ افعل به ذلك»(1).

وعموماً فإنه يحرم أن يهضم أي إنسان حقه، فعلى الهاضم أن يعرف أن وراءه العقاب، وعلى المهضوم أن يطالب برفع ظلامته - إلا مع المصلحة الأهم -، ولذا قال سبحانه: «لا تَظْلِمون ولا تُظْلَمون»(2).

وفي دعاء مكارم الأخلاق للإمامالسجاد (عليه الصلاة والسلام): «واجعل لي يداً على من ظلمني، ولساناً على من خاصمني، وظفراً بمن عاندني، وهب لي مكراً على من كايدني، وقدرة على من اضطهدني، وتكذيباً لمن قصبني، وسلامة ممن توعدني»(3).

وفي هذا الدعاء أيضا قال (عليه الصلاة والسلام): «اللهم صل على محمد وآله ولا اُظْلَمنَّ وأنت مطيق للدفع عني ولا أَظْلمَنَّ وأنت القادر على القبض مني»(4).

قولها (علیها السلام): «أاُهضم تراث أبي؟» الهضم عبارة عن الكسر وعدم الرعاية، أي: لا يراعى حقي في إرث والدي، فإن التراث بمعنى: الميراث، وأصل التاء فيه الواو، فإن الواو تقلب إلى التاء كما قال الأدباء، والمراد بالتراث: فدك، وقد ذكرنا سابقاً أن فاطمة الزهراء (علیها السلام) أرادت الإرث الحقيقي في مقابل قولهم، أو الإرث بالمعنى الأعم مما يتركه الوالد لأولاده سواء في حياته أو بعد مماته، حيث كانت فدك نحلة.

ص: 324


1- انظر بحار الأنوار: ج29 ص463-464 ب13.
2- سورة البقرة: 279.
3- الصحيفة السجادية: دعاء 20 من دعائه (علیه السلام) في مكارم الأخلاق.
4- الصحيفة السجادية: دعاء 20 من دعائه (علیه السلام) في مكارم الأخلاق.

وأنتم بمرأى مني ومسمع، ومنتدى ومجمع

اشارة

-------------------------------------------

شحذ الهمم

مسألة: يستحب للمظلوم أن يطالب الناس بمساعدته وأن يشحذ الهمم لها، وقد يجب ذلك، لحرمة تقبل المظلومية والبقاء عليها في الجملة.

فإذا ظُلم شخص وعلم المظلوم أنه لو استعان ببعض الأفراد لتمكن من دفعه أو رفعه لزم ذلك.

قال أمير المؤمنين (علیه السلام) في خطبة له: « أيها الناس إني ابن عم نبيكم وأولاكم بالله ورسوله فاسألوني ثم اسألوني»(1).

وعن أبي الحسن موسى بن جعفر (علیه السلام) قال: أنه سأل أباه (علیه السلام) عن قول الله عزوجل: «فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى»(2) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «يا أيها الناس اتبعوا هدى الله تهتدوا وترشدوا، وهو هداي وهداي هدى علي بن أبي طالب(علیه السلام) فمن اتبع هداه في حياتي وبعد موتي فقد اتبع هداي ومن اتبع هداي فقد اتبع هدى الله ومن اتبع هدى الله فلا يضل و لا يشقى»(3).

وعن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) أنّه خطب ذات يوم وقال: «أيّها الناس أنصتوا لما أقول رحمكم اللّه، أيّها الناس بايعتم أبا بكر وعمر وأنا

ص: 325


1- الإرشاد: ج1 ص229 من كلامه (علیه السلام) في الدعاء إلى معرفته وبيان فضله.
2- سورة طه: 123.
3- تأويل الآيات الظاهرة: ص314-315 سورة طه وما فيها من الآيات.

.............................

والله أولى منهما وأحقّ منهما بوصيّة رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) فأمسكت، وأنتم اليوم تريدون تبايعون عثمان، فإن فعلتم وسكت واللّه ما تجهلون فضلي ولا جهله من كان قبلكم، ولولا ذلك قلت ما لا تطيقون دفعه».

فقال الزبير: تكلّم يا أبا الحسن.

فقال عليّ (علیه السلام): «أنشدكم باللّه هل فيكم أحد وحّد اللّه وصلّى مع رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) قبلي؟

أم هل فيكم أحد أعظم عند رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) مكانا منّي؟

أم هل فيكم أحد من كان يأخذ ثلاثة أسهم سهم القرابة وسهم الخاصّة وسهمالهجرة غيري؟

أم هل فيكم أحد جاء إلى رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) باثنتي عشرة تمرة غيري؟

أم هل فيكم أحد من قدّم بين يدي نجواه صدقة لما بخل الناس ببذل مهجته غيري؟

أم هل فيكم أحد أخذ رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) بيده يوم غدير خمّ وقال من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه، وليبلّغ الحاضر الغائب، فهل كان في أحد غيري؟

أم هل فيكم من أمر اللّه عزوجل بمودّته في القرآن حيث يقول:«قُلْ لا أَسْألُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى»(1)، هل قال من قبل لأحد غيري؟

أم هل فيكم من غمّض عيني رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) غيري؟

ص: 326


1- سورة الشورى: 23.

.............................

أم هل فيكم من وضع رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) في حفرته غيري؟

أم هل فيكم من جاءته آية التنزيه مع جبرئيل (علیه السلام) وليس في البيت إلا أنا والحسن والحسين وفاطمة،فقال جبرئيل (علیه السلام): السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته، ثم قال: يا محمّد ربّك يقرئك السلام ويقول لك: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً»(1) الآية، هل كان ذلك اليوم غيري؟

أم هل فيكم من ترك بابه مفتوحا من قبل المسجد لما أمر اللّه، حتى قال عمر: يا رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) أخرجتنا وأدخلته، فقال: اللّه عزوجل أدخله وأخرجكم، غيري؟

أم هل فيكم من قاتل وجبرئيل عن يمينه وميكائيل عن شماله غيري؟

أم هل فيكم من له سبطان مثل سبطي الحسن والحسين سيّدي شباب أهل الجنّة، ابنا أحد غيري؟

أم هل فيكم من قال له النبيّ (صلی الله علیه و آله): أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلا أنّه لا نبيّ بعدي، غيري؟

أم هل فيكم من قال (صلی الله علیه و آله) في حقّه يوم خيبر لأعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ اللّه ورسوله ويحبّه اللّه ورسوله كرّار غير فرّار يفتح على يده بالنصر، فأعطاها أحدا غيري؟

أم هل فيكم من قال رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) يوم الطائر المشويّ: اللّهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكلمعي، فأتيت أنا معه، هل أتاه أحد غيري؟

ص: 327


1- سورة الأحزاب: 33.

.............................

أم هل فيكم من سمّاه اللّه عزوجل وليّه غيري؟

أم هل فيكم من طهّره اللّه من الرجس في كتابه غيري؟

أم هل فيكم من زوّجه اللّه بفاطمة بنت رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) غيري؟

أم هل فيكم من باهل به النبيّ (صلی الله علیه و آله) غيري؟

قال: فعند ذلك قام الزبير وقال: ما سمعنا أحدا قال أصحّ من مقالك، وما نذكر منه شيئا، ولكن الناس بايعوا الشيخين ولم نخالف الإجماع!

فلمّا سمع ذلك نزل (علیه السلام) وهو يقول: «وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً»(1)»(2).

خذلان المظلوم

مسألة: يحرم خذلان المظلوم وعدم إحقاق حقه مطلقاً سواء كان بمرأى من المظلوم ومسمع ومنتدى ومجمع أم لم يكن.لكن الحرمة في هذا المورد أشد وإن كانت الحرمة ثابتة على كل من يقدر على رفع الظلم عن الناس سواء كان قريباً أم بعيداً فيما إذا كان من موازين النهي عن المنكر ودفع المنكر حسب المذكور في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(3) وكون الحرمة أشد فيما لو كان بمرأى ومسمع.. الخ يستفاد من أدلة عديدة ومنها قولها (علیها السلام) هذا.

ص: 328


1- سورة الكهف: 51.
2- انظر بحار الأنوار: ج31 ص360-361 ب26.
3- راجع موسوعة الفقه: ج47، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

.............................

وفي نهج البلاغة: ومن كلام له (علیه السلام): «لم تكن بيعتكم إياي فلتة وليس أمري وأمركم واحدا، إني أريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم، أيها الناس أعينوني على أنفسكم وأيم الله لأنصفن المظلوم ولأقودن الظالم بخزامته حتى أورده منهل الحق وإن كان كارها»(1).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: «منأصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم، ومن سمع رجلا ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم»(2).

وعن موسى بن جعفر (علیه السلام) عن آبائه (علیهم السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من أصبح لا يهتم بأمر المسلمين فليس من الإسلام في شيء، ومن شهد رجلا ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس من المسلمين»(3).

السماع بالظلم

مسألة: لا فرق في الحرمة المذكورة بين رؤية الظلم أو السماع به، فالمرأى يكون بالرؤية، والمسمع بالسماع، فإن جماعة من الصحابة لم يروا الظلم وإنما سمعوه وكانوا قادرين على دفعه وإرجاع الحق إلى أهله، لكنهم تقاعسوا عن ذلك خوفاً أو طمعاً أو لعدم المبالاة أو لغير ذلك.

ص: 329


1- نهج البلاغة، الخطب: 136 من كلام له (علیه السلام) في أمر البيعة.
2- الكافي: ج2 ص164 باب الاهتمام بأمور المسلمين ح5.
3- بحار الأنوار: ج72 ص21 ب33 ح20.

.............................

قال الإمام الحسين (علیه السلام):«من سمع واعيتنا أهل البيت ثم لم يجبنا كبه الله على وجهه في نار جهنم»(1).

وعن عمرو بن قيس المشرقي قال: دخلت على الحسين (علیه السلام) أنا وابن عم لي وهو في قصر بني مقاتل، فسلمنا عليه، فقال له ابن عمي: يا أبا عبد الله هذا الذي أرى خضاب أو شعرك، فقال: «خضاب والشيب إلينا بني هاشم يعجل» ثم أقبل علينا فقال: «جئتما لنصرتي» فقلت: إني رجل كبير السن كثير الدين كثير العيال وفي يدي بضائع للناس ولا أدري ما يكون وأكره أن أضيع أمانتي، وقال له ابن عمي مثل ذلك، قال لنا: «فانطلقا فلا تسمعا لي واعية ولا تريا لي سوادا، فإنه من سمع واعيتنا أو رأى سوادنا فلم يجبنا ولم يعنا كان حقا على الله عزوجل أن يكبه على منخريه في النار»(2).

وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) قال:

«أنا ورسول الله (صلی الله علیه و آله)على الحوض ومعنا عترتنا، فمن أرادنا فليأخذ بقولنا وليعمل بأعمالنا، فإنا أهل البيت لنا شفاعة، فتنافسوا في لقائنا على الحوض، فإنا نذود عنه أعداءنا ونسقي منه أولياءنا، ومن شرب منه لم يظمأ أبدا وحوضنا مترع فيه مثعبان ينصبان من الجنة، أحدهما تسنيم والآخر معين، على حافتيه الزعفران وحصباه الدر والياقوت، وإن الأمور إلى الله وليست إلى العباد ولو كانت إلى العباد ما اختاروا علينا أحدا ولكنه يختص برحمته من يشاء من عباده، فاحمد الله على ما اختصكم به من النعم وعلى طيب المولد، فإن ذكرنا

ص: 330


1- انظر الأمالي للصدوق: ص155 المجلس30 ضمن ح1.
2- ثواب الأعمال: ص259-260 عقاب من سمع واعية أهل البيت (علیهم السلام).

.............................

أهل البيت شفاء من الوعك والأسقام ووسواس الريب، وإن حبنا رضى الرب، والآخذ بأمرنا وطريقتنا معنا غدا في حظيرة القدس، والمنتظر لأمرنا كالمتشحط بدمه في سبيل الله، ومن سمع واعيتنا فلم ينصرنا أكبه الله على منخريه في النار، نحن الباب إذا بعثوا فضاقت بهم المذاهب، نحن باب حطة وهو باب الإسلام من دخله نجا ومن تخلف عنه هوى، بنا فتح الله وبنا يختموبنا «يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ» (1) وبنا ينزل الغيث فلا يغرنكم بالله الغرور، لو تعلمون ما لكم في الغناء بين أعدائكم وصبركم على الأذى لقرت أعينكم، ولو فقدتموني لرأيتم أمورا يتمنى أحدكم الموت مما يرى من الجور والعدوان والأثرة والاستخفاف بحق الله والخوف، فإذا كان كذلك ف-«اعْتصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا»(2) وعليكم بالصبر والصلاة والتقية، واعلموا أن الله تبارك وتعالى يبغض من عباده المتلون فلا تزولوا عن الحق وولاية أهل الحق، فإنه من استبدل بنا هلك ومن اتبع أثرنا لحق ومن سلك غير طريقنا غرق، وإن لمحبينا أفواجا من رحمة الله وإن لمبغضينا أفواجا من عذاب الله، طريقنا القصد وفي أمرنا الرشد، أهل الجنة ينظرون إلى منازل شيعتنا كما يرى الكوكب الدري في السماء، لايضل من اتبعنا ولا يهتدي من أنكرنا ولا ينجو من أعان علينا عدونا، ولا يعان من أسلمنا، فلا تخلفوا عنا لطمع دنيا بحطام زائل عنكم، وأنتم تزولون عنه، فإنه من آثر الدنيا علينا عظمت حسرته وقال الله تعالى:

ص: 331


1- سورة الرعد: 39.
2- سورة آل عمران: 103.

.............................

«يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ»(1) سراج المؤمن معرفة حقنا وأشد العمى من عمي من فضلنا وناصبنا العداوة بلا ذنب إلا أن دعوناه إلى الحق ودعاه غيرنا إلى الفتنة فآثرها علينا، لنا راية من استظل بها كنته ومن سبق إليها فاز ومن تخلف عنها هلك ومن تمسك بها نجا، أنتم عمار الأرض الذين استخلفكم فيها لينظر كيف تعلمون فراقبوا الله فيما يرى منكم وعليكم بالمحجة العظمى فاسلكوها، لا يستبدل بكم غيركم «سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالأرْضُ أعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ»(2) فاعلموا أنكم لن تنالوها إلا بالتقوى ومن ترك الأخذ عمن أمر الله بطاعته قيض الله له شيطاناً فهو له قرين، ما بالكم قد ركنتم إلى الدنيا ورضيتم بالضيم وفرطتم فيما فيه عزكم وسعادتكم وقوتكم على من بغى عليكم، لا من ربكم تستحيون ولا لأنفسكم تنظرون وأنتم في كل يوم تضامون، ولا تنتبهون من رقدتكم ولا تنقضي فترتكم، أما ترون إلى دينكم يبلى وأنتم في غفلةالدنيا، قال الله عز ذكره: «وَلاتَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ»(3).

وربما يكون في قولها (علیها السلام): «وأنتم بمرأى مني ومسمع» إشارة أخرى(4) إلى أنه: لا مجال للتهرّب بإنكار العلم والاطلاع.

ص: 332


1- سورة الزمر: 56.
2- سورة آل عمران: 133.
3- سورة هود: 113.
4- الإشارة الأولى: تقبيح خذلانهم لها مع كونهم بمرأى منها ومسمع.

.............................

هذا وقد قال أمير المؤمنين (علیه السلام) بالنسبة إلى المرأة المعاهدة!: «ولقد بلغني أن العصبة من أهل الشام كانوا يدخلون على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة فيهتكون سترها ويأخذون القناع من رأسها والخرص من أذنها والأوضاح من يديها ورجليها وعضديها والخلخال والمئزر عن سوقها فما تمتنع إلا بالاسترجاع والنداء يا للمسلمين فلا يغيثها مغيث ولا ينصرها ناصر، فلو أن مؤمنا مات دون هذا أسفا ما كان عندي ملوما بلكان عندي بارا محسنا»(1).

ص: 333


1- انظر الإرشاد: ج1 ص283.

.............................

المسؤولية المضاعفة للتجمعات

مسألتان: من له المجمع تكون مسؤوليته أكبر، وحرمة خذلانه أشد، كما يلزم توفير وتأسيس (المجمع) و(التجمع) للاهتمام بالحقوق والواجبات وما أشبه إن لم يكن موجوداً.

وقد ذكرنا بعض التفصيل في كتاب (إنشاء الجمعيات) (1).

فإن القوة مع الجماعة، ولذا ورد: «يد الله مع الجماعة»(2) وفي بعض الروايات: «على الجماعة»(3).

ويستنبط ذلك(4) أيضاً من قوله تعالى: «وتعاونوا»(5).

فالصديقة الطاهرة (صلوات الله عليها) نبهتهم على أنهم مجتمعين يتمكنون من استنقاذ حقها، وعلى هذا فلا يمكنهمالاعتذار بالإنفراد وعدم التمكن حينئذٍ.

هذا وفي الحديث: «الاثنان جماعة»(6).

وفي حديث آخر عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: «المؤمن وحده حجة، والمؤمن وحده جماعة»(7).

ص: 334


1- يقع الكتاب في 88 صفحة من الحجم 20×14، ط: مؤسسة المجتبى للتحقيق والنشر، 1422ه-.
2- نهج البلاغة، الخطب: 127 من كلام له (علیه السلام) وفيه يبين بعض أحكام الدين.
3- الأمالي للطوسي: ص236 المجلس 9.
4- الظاهر عود اسم الإشارة إلى المسألة الثانية (كما يلزم توفير).
5- سورة المائدة: 2.
6- من لا يحضره الفقيه: ج1 ص376 باب الجماعة وفضلها ح1094.
7- وسائل الشيعة: ج8 ص297 ب4 ح10713.

.............................

وغير خفي أن (للمنتدى) و(المجمع) ألواناً وأشكالاً ومراتب، يختلف كل ذلك باختلاف الأزمان والأعراف والأفراد وغير ذلك(1).

وكان لبني قيلة من أنواع المجمع التجمع القبلي، وتجمع الأنصار، وربما كان غيره أيضاً.

قولها (علیها السلام): «وانتم بمرأى مني ومسمع» أي: بحيث أراكم وأسمع كلامكم(2)، فكيف يتجرّأ ابن أبي قحافة على أن يسلبني تراثي والحالأنكم تعلمون أني أراكم وأسمع كلامكم(3) والمراد قربهم منها (صلوات الله عليها) وقربها منهم.

قولها (علیها السلام): «ومنتدى ومجمع» المنتدى: محل الاجتماع، ويقال له: النادي أيضاً بلحاظ أن بعضهم ينادي بعضاً، والمجمع: مصدر ميمي يمكن أن يراد به المكان الذي يجتمع فيه، أي لكم مكان يجتمع فيه، ويمكن أن يراد به الاجتماع أي لكم اجتماع وتجمع يمكنه أن يتصدى للدفاع والنصرة.

ص: 335


1- فمن تجمع قبلي إلى تجمع نقابي إلى تجمع حزبي.
2- أو تروني وتسمعون كلامي فتأمل.
3- أو والحال أنكم تروني وتسمعوني.

تلبسكم الدعوة وتشملكم الخبرة

اشارة

-------------------------------------------

عذر مدّعي القصور

مسألة: يلزم دفع أو رفع عذر القاصر في معرفة التكاليف وغيره ممن يدَّعي أو سيدّعي ذلك(1)، وربما يكون ذلك هو السر في تصريحها (علیها السلام) بأن الدعوة قد لبستهم والخبرة شملتهم، حتى تكون الحجة عليهم أتم.

فلا يقولون في المستقبل: إن الحجة لم تصل إلينا ولم نكن نعرف ما تطلبونه، أو لم نكن ندري بأن التكليف شامل لنا والخطاب موجه إلينا، أو لدفع هذا التوهم في الحال.

قال تعالى: «قل فلله الحجة البالغة»(2).

مضافاً إلى أنه يجب على الإنسان أن يبحث عن تكاليفه، فلا يكفيه أن يقول: كنت جاهلاً، إذ على الجاهل أن يتعلم.

روي عن هارون عن ابن زياد قال: سمعت جعفر بن محمد (علیه السلام) وقد سئل عن قوله تعالى «فَلِلَّهِ الْحُجَّةُالْبالِغَةُ» فقال: «إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: أكنت عالما، فإن قال: نعم، قال له: أفلا عملت بما علمت، وإن قال: كنت جاهلا، قال له: أفلا تعلمت حتى تعمل، فيخصمه، وذلك الحجة البالغة»(3).

ص: 336


1- أي: القصور.
2- سورة الأنعام: 149.
3- الأمالي للمفيد: ص227-228 المجلس26.

.............................

وفي تفسير الإمام العسكري (علیه السلام) قال : «دخل جابر بن عبد الله الأنصاري على أمير المؤمنين (علیه السلام) فقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «يا جابر قوام هذه الدنيا بأربعة، عالم يستعمل علمه، وجاهل لا يستنكف أن يتعلم، وغني جواد بمعروفه، وفقير لا يبيع آخرته بدنيا غيره، ثم قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «فإذا كتم العالم العلم أهله، وزها الجاهل في تعلم ما لابد منه وبخل الغني بمعروفه وباع الفقير دينه بدنيا غيره حل البلاء وعظم العقاب»(1).

وقال النبي (صلی الله علیه و آله): «اطلبوا العلم ولو بالصين، فإن طلبالعلم فريضة على كل مسلم»(2).

نعم خرج من ذلك القاصر فقط، لأن الحجة لم تصله ولم يتمكن في حال قصوره من الفحص عن الحجة، بل قالوا: إن من المحال تكليف القاصر - بما هو قاصر - والمراد المرتبة الرابعة من مراتب التكليف على ما ذهب إليه الآخوند (رحمة الله)(3) وذلك لضرورة الاشتراك في التكليف.

قولها (علیها السلام): «تلبسكم الدعوة» فكأن دعوتها (علیها السلام) أحاطت بهم كاللباس الذي يحيط ببدن الإنسان، وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس، ويحتمل أن يكون حقيقة، وربما كانت العبارة نوع اقتباس من قوله تعالى: «وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه»(4) ولا داعي للحمل على المجاز بعد إمكان الحقيقة بل

ص: 337


1- بحار الأنوار: ج1 ص178 ب1 ح59.
2- وسائل الشيعة: ج27 ص27 ب4 ح33119.
3- المراتب الأربعة هي الاقتضاء والإنشاء والفعلية والتنجز.
4- سورة الإسراء: 13.

.............................

توصل العلم الحديث إلى ما قد يدل علىذلك(1).

قولها (علیها السلام): «وتشملكم الخبرة» أي: إن خبرتكم وعلمكم بمظلوميتي وبمغصوبية حقي شامل لجميعكم، فليس هناك من لا يعلم ذلك، فكيف تسكتون وأنتم تسمعون دعوتي وتعرفون حق المعرفة حقي؟

محاسبة المسؤولين

مسألتان: قد يجب - على رؤوس الأشهاد - الإعلان عن المسؤوليات الجماعية أولاً، وعن التخاذل الاجتماعي - لو حدث - ثانياً، وذلك من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا مجال لدعوى التشهير والغيبة وما أشبه كما هو أوضح من أن يخفى.

قال الإمام الصادق (علیه السلام) عن أبيه (علیه السلام): «ثلاثة ليست لهم حرمة: صاحب هوى مبتدع والإمام الجائر والفاسق المعلن الفسق»(2).

وعلى هذا فإن من اللازم حرية الصحافة وذلك لتراقب المسؤولين والحكام والأمة وتحاسبهم على أفعالهم،وذلك تأسياً بها (صلوات الله عليها) حيث حاسبت الناس والمسؤولين على رؤوس الأشهاد.

قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «الملوك حكام على الناس والعلم حاكم عليهم»(3).

ص: 338


1- كأنواع الطاقة والأشعة والذبذبات التي تحيط بالإنسان.
2- قرب الإسناد: ص82.
3- الأمالي للطوسي: ص56 المجلس2 ضمن ح78.

.............................

وفي الأحاديث التحذير عن جور الحكام، قال الإمام الصادق (علیه السلام): «إذا أمسكت الزكاة هلكت الماشية، وإذا جار الحكام في القضاء أمسك القطر من السماء، وإذا خفرت الذمة نصر المشركون على المسلمين»(1).

وقال الإمام زين العابدين (علیه السلام): «الذنوب التي تحبس غيث السماء جور الحكام»(2).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «إنّي سمعت رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) يقول: يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر فيلقى في جهنّم فيدور فيها كما تدورالرّحى»(3).

وقال (علیه السلام): «إنّ شرّ النّاس عند اللّه إمام جائر ضلّ وضلّ به»(4).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «أربعة لا تقبل لهم صلاة: الإمام الجائر، والرجل يؤم القوم وهم له كارهون، والعبد الآبق من مولاه من غير ضرورة، والمرأة تخرج من بيت زوجها بغير إذنه»(5).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «أقبح شيء جور الولاة»(6).

وقال (علیه السلام): «السلطان الجائر والعالم الفاجر أشد الناس نكاية»(7).

ص: 339


1- وسائل الشيعة: ج8 ص13 ب7 ضمن ح10007.
2- مستدرك الوسائل: ج12 ص95-96 ب76 ضمن ح13618.
3- نهج البلاغة، الخطب: 164 من كلام له (علیه السلام) لما اجتمع الناس إليه وشكوا ما نقموه على عثمان.
4- نهج البلاغة، الخطب: 164.
5- وسائل الشيعة: ج8 ص349 ب27 ح1083.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: ص347 ف8 ذم الحكومة الجائرة ح8004.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: ص347 ف8 ذم الحكومة الجائرة ح8005.

.............................

وقال (علیه السلام): «زمان الجائر شر الأزمنة»(1).

وقال (علیه السلام): «سبع أكول حطوم خير من وال ظلوم غشوم»(2).

وقال (علیه السلام): «شر الأمراء من ظلم رعيته»(3).

وقال (علیه السلام): «ولاة الجور شرار الأمة وأضداد الأئمة»(4).

وقال (علیه السلام): «إذا ملك الأراذل هلك الأفاضل»(5).

وقال (علیه السلام): «إذا استولى اللئام اضطهد الكرام»(6).

وقال (علیه السلام): «دولة اللئاممذلة الكرام»(7).

وقال (علیه السلام): «دول الفجار مذلة الأبرار»(8).

ص: 340


1- غرر الحكم ودرر الكلم: ص347 ف8 ذم الحكومة الجائرة ح8014.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: ص347 ف8 ذم الحكومة الجائرة ح8015.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: ص347 ف8 ذم الحكومة الجائرة ح8018.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: ص348 ف8 آثار الحكومة الجائرة ح8022.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: ص348 ف8 آثار الحكومة الجائرة ح8036.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: ص348 ف8 آثار الحكومة الجائرة ح8037.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: ص348 ف8 آثار الحكومة الجائرة ح8039.
8- غرر الحكم ودرر الكلم: ص348 ف8 آثار الحكومة الجائرة ح8040.

وأنتم ذوو العدد والعدة ، والأداة والقوة، وعندكم السلاح والجُنة

اشارة

-------------------------------------------

وأنتم ذوو العدد والعدة(1)، والأداة والقوة، وعندكم السلاح والجُنة

مسؤولية أكبر

مسألة: من له العدد والعدة، والأداة والقوة، والسلاح والجُنة، تكون مسؤوليته أكبر، كما هو واضح.

وكلامها (علیها السلام) هذا (2) من حيث الأسباب والأدوات، بينما العدد من حيث الأفراد، والكلام السابق بلحاظ الانتماء.

ولعل ذكر العدد هنا باعتبار أن كونهم في مجمع غير كونهم ذا عدد، فالعدد إشارة إلى الكم، والمجمع إلى الكيف، إذ لا يستلزم أحدهما الآخر، فقد يكون الشخص منتمياً إلى مجمع صغير لا عدد له، أما الأنصار فكانوا ينتمون إلى مجمع وهو قوة، كما قالت (علیها السلام): «وأنتم بمرأى مني ومسمع ومنتدى ومجمع» وكانوا ذوي عدد معتد به.فكلامها (صلوات الله عليها) إشارة إلى:

1: إن لهم مجمعاً، وهو بلحاظ الانتماء.

2: إن لهم كثرة الأفراد.

3: إنهم يمتلكون السلاح والقوة.

فمسؤوليتهم أكثر وأكبر.

ص: 341


1- وفي بعض النسخ: (وفيكم العدد والعدة ولكم الدار وعندكم الجنن).
2- أي بدءً من (والعدة.. ).

.............................

وقد روي أنه أقام النبي (صلی الله علیه و آله) بقباء يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وأسس مسجده وصلى يوم الجمعة في المسجد الذي في بطن الوادي وادي رانوقا، فكانت أول صلاة صلاها بالمدينة، ثم أتاه غسان بن مالك وعباس بن عبادة في رجال من بني سالم فقالوا: يا رسول الله أقم عندنا في العدد والعدة والمنعة، فقال: «خلوا سبيلها فإنها مأمورة» يعني ناقته(1).

ومن هنا كانت مسؤولية العلماء أكثر وأكبر أيضا، قال عيسى (علیه السلام): «ويلكم علماء السوء، الأجر تأخذون والعمل تضيّعون»(2).وفي تحف العقول عن النبي عيسى (علیه السلام): «ويلكم يا علماء السوء ألم تكونوا أمواتا فأحياكم فلما أحياكم متم، ويلكم ألم تكونوا أميين فعلمكم فلما علمكم نسيتم، ويلكم ألم تكونوا جفاة ففقهكم الله فلما فقهكم جهلتم، ويلكم ألم تكونوا ضلالا فهداكم فلما هداكم ضللتم، ويلكم ألم تكونوا عميا فبصركم فلما بصركم عميتم، ويلكم ألم تكونوا صما فأسمعكم فلما أسمعكم صممتم، ويلكم ألم تكونوا بكما فأنطقكم فلما أنطقكم بكمتم، ويلكم ألم تستفتحوا فلما فتح لكم نكصتم على أعقابكم، ويلكم ألم تكونوا أذلة فأعزكم فلما عززتم قهرتم واعتديتم وعصيتم، ويلكم ألم تكونوا مستضعفين «فِي الأرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ»(3) فنصركم وأيدكم فلما نصركم استكبرتم وتجبرتم،

ص: 342


1- المناقب: ج1 ص185 فصل في هجرته (علیه السلام).
2- بحار الأنوار: ج2 ص38-39 ب9 ضمن ح66.
3- سورة الأنفال: 26.

.............................

فيا ويلكم من ذل يوم القيامة كيف يهينكم ويصغركم، ويا ويلكم يا علماء السوء إنكم لتعملون عمل الملحدين وتأملون أمل الوارثين وتطمئنونبطمأنينة الآمنين وليس أمر الله على ما تتمنون وتتخيرون، بل للموت تتوالدون وللخراب تبنون وتعمرون وللوارثين تمهدون»(1).

وفي البحار: «ويلكم علماء السوء الأجرة تأخذون والعمل لا تصنعون، يوشك رب العمل أن يطلب عمله وتوشكوا أن تخرجوا من الدنيا إلى ظلمة القبر، كيف يكون من أهل العلم من مصيره إلى آخرته وهو مقبل على دنياه وما يضره أشهى إليه مما ينفعه»(2).

تأهيل الأمة

مسائل: من الواجب تأهيل الناس والتجمعات وإعدادهم نفسياً وإزالة حاجز الخوف وإعادة الثقة إلى أنفسهم بمقدرتهم على النهي عن المنكر والأمر بالمعروف، وهذا هو ما صنعته الصديقة الطاهرة (علیها السلام) ..

إذ قد يكون وجه الحكمة في تطرقها (علیها السلام) إلى مصاديق قدرة الأنصار ومقوماتها وأركانها (ومنتدى ومجمع، وأنتم ذوو العدد والعدة...) هو إلفاتهم إلى ما قد غفلوا عنه(جميعاً أو بعضاً) من المقدرة على التصدي للظالم، ولإزالة الرهبة والرعب من قلوبهم، فإن الناس والجماعات عادة تتخاذل عن نصرة الحق لأسباب منها الخوف الكاذب والانهزامية، وضعف الثقة بالذات والقدرات

ص: 343


1- تحف العقول: ص509 مواعظ المسيح (علیه السلام) في الإنجيل وغيره.
2- بحار الأنوار: ج2 ص109 ب15 ضمن ح12.

.............................

وهذا من أكبر الدروس التي علينا تعلمها منها (علیها السلام).

وفي الشعر المنسوب إلى أمير المؤمنين (علیه السلام):

دواؤك فيك وما تشعر *** وداؤك منك وما تنظر

وتحسب أنك جرم صغير *** وفيك انطوى العالم الأكبر

وأنت الكتاب المبين الذي *** بأحرفه يظهر المضمر(1)

وعن الحسن بن علي (علیه السلام) أنه دعا بنيه وبني أخيه فقال: «إنكم صغار قوم ويوشك أن تكونوا كبار قوم آخرين فتعلموا العلم فمن لم يستطع منكم أن يحفظه فليكتبه وليضعه في بيته»(2).

وقال العلامة (قدس سره) في الألفين: «أنواع الشجاعة ثمانية:الأول: كبر النفس وهو الاستهانة باليسار والاقتصار على حمل الكرامة والهوان وتنزيه النفس عن الدناءات.

الثاني: النجدة وهو ثقة النفس عند المخاوف بحيث لا يخامرها جزع.

الثالث: عظم الهمة وهي فضيلة للنفس بها يحتمل سعادة الجسد وضدها حتى الشدائد التي تعرض عند الموت.

الرابع: الصبر وهي فضيلة بها تقوى النفس على احتمال الآلام ومقاومتها على الأهوال، والفرق بينه وبين الصبر الذي في العفة أن هذا يكون على الأمور

ص: 344


1- ديوان الإمام علي (علیه السلام): ص178.
2- منية المريد: ص340 آداب الكتابة والكتب.

.............................

الهائلة وذلك على الشهوات الهائجة.

الخامس: الحلم وهو فضيلة للنفس تكسبها الطمأنينة فلا تكن سبعية ولايحركها الغضب بسهولة وسرعة.

السادس: السكون وهو قوة للنفس تعسر حركتها عند الخصومات وفي الحروب التي يذب بها عن الحرائم أو عن الشريعة لشدتها.

السابع: الشهامة وهو الحرص على الأعمال العظام للأحدوثة الجميلة.

الثامن: الاحتمال وهو قوة للنفس تستعمل آلات البدن في الأمور الحسيةبالتمرين وحسن العادة»(1).

وهذا لا ينافي ما ورد عن أمير المؤمنين (علیه السلام) من قوله: «الثقة بالنفس من أوثق فرص الشيطان»(2).

لأن المراد به ما قاله (علیه السلام) في حديث آخر: «لا ترخصوا لأنفسكم فتذهب بكم الرخص مذاهب الظلمة»(3). وما أشبه، أي ترك النفس وعدم محاسبتها.

قال (علیه السلام): «حاسبوا أنفسكم تأمنوا من الله الرهب و تدركوا عنده الرغب»(4).

وقال (علیه السلام): «قيدوا أنفسكم بالمحاسبة و أملكوها بالمخالفة»(5).

ص: 345


1- الألفين: ص160-161 الدليل الثامن والثمانون على وجوب عصمة الإمام (علیه السلام).
2- غرر الحكم ودرر الكلم: ص235 مراقبة النفس ح4733.
3- نهج البلاغة: الخطب: 86.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: ص236 محاسبة النفس ح4738.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: ص236 محاسبة النفس ح4743.

.............................

هذا وقد يكون كلامها (صلوات الله عليها) (1) لتكون الحجة عليهم أبلغ وأتم، ولا يمتنع الجمع(2).

وغير خفي أن هذا المقطع من كلامها (علیها السلام) إشارة إلى مصاديق مقومات الدفاع عن المظلوم.

والحاصل أنه كلما تمكن الإنسان من الدفاع عن المظلوم وجب عليه الدفاع، ومن مصاديق ذلك: أن تبلغهم الحجة ولهم العدد والعدة، إلى آخر ما تقدم.

ثم إن بيان مقومات الدفاع بين واجب ومستحب - كل في مورده - كما إذا كان الإنسان غافلاً عن ذلك أو غير واعٍ أو ما أشبه، وربما كان البيان للتأكيد ونحوه.

من السنن الاجتماعية

مسألة: كما تستكشف السنن الكونية والاجتماعية من آيات الذكر الحكيم التي تتطرق إلى ذكر المصاديق فتعتبر مرآة للكلي، كذلك يمكن استكشاف كلياتالسنن الاجتماعية والكونية من كلماتها (علیها السلام) وكلمات سائر المعصومين (علیهم السلام).

والمقام من هذا القبيل، فإن المقياس ليس فقط كون الطرف ذا عدد وعدة وأداة وقوة وسلاح وجُنة، كما كانت الأنصار في هذه القضية.

قال تعالى في قصة يوم حنين: «إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ

ص: 346


1- أي: «ومنتدى ومجمع، وأنتم ذوو العدد والعدة...».
2- بين هذا المعنى وما سبق من التأهيل للتصدي.

.............................

شَيْئاً»(1).

نعم كونهم كذلك مسوغ لتقريعهم بعدم النصرة، فهم عاصون بعدمها من جهته.

كما إن اللازم - من جهة أخرى - أن لا يغتر المرء بها ويخدع، فإن العبرة بقوة الروح ومضاء العزيمة وليس بالكثرة والقوة والبأس إذ «كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ»(2).

كما إن التاريخ المشرق والتجارب الماضية لا تصلح ملاكاً نهائياً، فإنها من المقتضيات وليست علة تامة، ولذلك كانوا كما قالت (علیها السلام):«وأنتم موصوفون بالكفاح...» كما سيأتي.

ومن هنا ورد التأكيد على حسن العاقبة والتحذير عن سوئها.

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «لا يزال المؤمن خائفا من سوء العاقبة، لا يتيقن الوصول إلى رضوان الله حتى يكون وقت نزع روحه وظهور ملك الموت له»(3).

وعن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «خير الأمور خيرها عاقبة»(4).

وعن جعفر بن محمد (علیه السلام) عن أبيه (علیه السلام) أن عليا (علیه السلام) قال: «إن حقيقة

ص: 347


1- سورة التوبة: 25.
2- سورة البقرة: 249.
3- تفسير الإمام العسكري (علیه السلام): ص239 ورود ملك الموت على المؤمن ضمن ح117.
4- من لا يحضره الفقيه: ج4 ص402 باب النوادر ضمن ح5868.

.............................

السعادة أن يختم للمرء عمله بالسعادة، وإن حقيقة الشقاء أن يختمللمرء عمله بالشقاء»(1).

وقال (علیه السلام): «لكل امرئ عاقبة حلوة أو مرة»(2).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «خير الأمور أعجلها عائدة، وأحمدها عاقبة»(3).

وعن أحمد بن سهل قال: سمعت أبا فروة الأنصاري وكان من السائحين يقول: قال عيسى بن مريم (علیه السلام):

«يا معشر الحواريين بحق أقول لكم إن الناس يقولون إن البناء بأساسه، وأنا لا أقول لكم كذلك».

قالوا: فما ذا تقول يا روح الله؟

قال (علیه السلام): «بحق أقول لكم إن آخر حجر يضعه العامل هو الأساس».

قال أبو فروة: إنما أراد خاتمة الأمر(4).

وفي الدعاء: «اللهم صل على محمدوآل محمد واجعلني معهم في الدنيا والآخرة واجعل عاقبة أمري إلى غفرانك ورحمتك يا أرحم الراحمين»(5).

ص: 348


1- معاني الأخبار: ص345 باب معنى حقيقة السعادة والشقاء ح1.
2- خصائص الأئمة: ص106.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: ص104 في الخير وآثاره ح1860.
4- معاني الأخبار: ص348 باب معنى قول المسيح (علیه السلام) إن آخر حجر... ح1.
5- المصباح الكفعمي: ص622 دعاء السحر لعلي بن الحسين (علیه السلام).

.............................

إشهار السلاح بوجه الحاكم

مسألة: يجوز إشهار السلاح بوجه الحاكم الجائر دفاعاً عن المظلومين والمضطهدين بشروط الجهاد المذكورة في بابه(1).

ويجوز استخدامه أيضاً من باب النهي عن المنكر لو لم يرتدع الحاكم إلا به(2)، فإذا لم ينفع النهي بالقول وشبهه فإن نصرة المظلوم واجبة بأية كيفية مشروعة.

هذا كله مع مراعاة قاعدة الأهم والمهم التي قد تقتضي أحياناً عدم النصرة بالشكل الخاص، كما لو كان استخدام السلاح يستلزم مفسدة أعظم، كما نرى ذلك في مثل هذه الأزمنة في العلاقة بين الدول وشعوبها، فاللازم النهي عبر الضغوط الدبلوماسية والإعلام والمسيرات السلمية وشبهها، لا بالطرقالعنفية كما فصلناه في محله(3).

قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «لا عاقبة أسلم من عواقب السلم»(4).

وقال (علیه السلام): «إياك والعنف»(5).

ص: 349


1- انظر موسوعة الفقه: ج47 و48 كتاب الجهاد.
2- انظر موسوعة الفقه: ج48 كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
3- انظر كتاب (السبيل إلى إنهاض المسلمين) و(اللاعنف في الإسلام) و(اللاعنف منهج وسلوك).
4- غرر الحكم ودرر الكلم: ص476 ف4 في العاقبة ح10921.
5- الكافي: ج3 ص140 باب غسل الميت ضمن ح4.

.............................

وقال (علیه السلام): «أما علمتم أن إمارة بني أمية كانت بالسيف والعنف والجور، وأن إمامتنا بالرفق والتألف والوقار والتقية وحسن الخلطة والورع والاجتهاد، فرغبوا الناس في دينكم وما أنتم فيه»(1).

وقال علي (علیه السلام): «رأس السخف العنف»(2).

وقال (علیه السلام): «راكب العنفيتعذر عليه مطلبه»(3).

وقال (علیه السلام): «من ركب العنف ندم»(4).

وفي الحديث: «إن الله يسير ويحب اليسير ويعطي على اليسير ما لا يعطي على العنف»(5).

وقالوا: المؤمن إذا وعظ لم يعنف وإذا وعظ لم يأنف(6).

ومن هنا كانت سياسة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وكذلك أمير المؤمنين (علیه السلام) على اللين والسلم واللاعنف، على عكس من غصب الخلافة فكانت سياستهم العنف والظلم، قال ابن عباس: «بعث أبو بكر عمر بن الخطاب إلى علي (علیه السلام) حين قعد عن بيعته وقال ائتني به بأعنف العنف!»(7).

ص: 350


1- أعلام الدين: ص98.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: ص265 ح5731.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: ص265 ح5733.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: ص303 آثار الغضب ح6900.
5- تهذيب الأحكام: ج5 ص52 ب6 ضمن ح4.
6- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: ج2 ص34.
7- بحار الأنوار: ج28 ص388.

.............................

وورد في قصة أبي ذر أنه: «كتب عثمان إلى معاوية أن احمل أباذر على ناب صعبة وقتب، ثم ابعث معه من ينجش به نجشا عنيفا حتى يقدم به عليّ، قال: فحمله معاوية على ناقة صعبة عليها قتب ما على القتب إلا مسح، ثم بعث معه من يسيره سيرا عنيفا.

قال: وخرجت معه فما لبث الشيخ إلا قليلا حتى سقط ما يلي القتب من لحم فخذيه وقرح، فكنا إذا كان الليل أخذت ملائي فألقيتهما تحته، فإذا كان السحر نزعتها مخافة أن يروني فيمنعوني من ذلك»(1).

الدفاع باليد

مسألة: إذا اقتضى الأمر فإنه تجوز بل تجب الاستفادة من السلاح بالشروط المذكورة، في نصرة الزهراء (علیها السلام) وأهل البيت (علیهم السلام) والدفاع عنهم (صلوات الله عليهم أجمعين) على امتداد الأزمنة.

بل وكذلك في نصرة غيرهم من المظلومين على ما تقدم.

ولذلك لم يستخدموا السلاح حيث كان مزاحما بالأهم كما لم تتوفر الشرائط في غالب المعصومين (علیهم السلام).وبشكل كلي فإن استعمال السلاح يلزم فيه توفر شرائط الاستعمال من مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو الجهاد في سبيل الله أو ما أشبه ذلك مما ذكر في كتابيهما (2).

ص: 351


1- بحار الأنوار: ج31 ص274-275.
2- راجع موسوعة الفقه: ج48 كتاب الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

.............................

عن أبي جعفر (علیه السلام) في حديث قال: «فأنكروا بقلوبكم والفظوا بألسنتكم وصكوا بها جباههم ولا تخافوا في الله لومة لائم، فإن اتعظوا وإلى الحق رجعوا فلا سبيل عليهم إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم، هنالك فجاهدوهم بأبدانكم وأبغضوهم بقلوبكم غير طالبين سلطانا ولا باغين مالا ولا مريدين بالظلم ظفرا حتى يفيئوا إلى أمر الله ويمضوا على طاعته»(1).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «من ترك إنكار المنكر بقلبه ولسانهويده فهو ميت بين الأحياء»(2).

وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى الفقيه قال: إني سمعت عليا (علیه السلام) يقول يوم لقينا أهل الشام: «أيها المؤمنون إنه من رأى عدوانا يعمل به ومنكرا يدعى إليه فأنكره بقلبه فقد سلم وبرئ، ومن أنكره بلسانه فقد أجر وهو أفضل من صاحبه، ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله العليا وكلمة الظالمين السفلى فذلك الذي أصاب سبيل الهدى وقام على الطريق ونور في قلبه اليقين»(3).

وقال الشريف الرضي (رحمة الله): وقد قال (علیه السلام) في كلام له يجري هذا المجرى: «فمنهم المنكر للمنكر بقلبه ولسانه ويده فذلك المستكمل لخصال الخير، ومنهم المنكر بلسانه وقلبه التارك بيده فذلك متمسك بخصلتين من خصال الخير

ص: 352


1- وسائل الشيعة: ج6 ص131 ب3 ح21162.
2- تهذيب الأحكام: ج6 ص181 ب80 ح23.
3- وسائل الشيعة: ج16 ص133 ب3 ح21169.

.............................

ومضيع خصلة، ومنهم المنكر بقلبه والتارك بيده ولسانه فذلك الذي ضيع أشرف الخصلتين من الثلاث وتمسكبواحدة، ومنهم تارك لإنكار المنكر بلسانه وقلبه ويده فذلك ميت الأحياء، وما أعمال البر كلها والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا كنفثة في بحر لجي وإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقربان من أجل ولا ينقصان من رزق وأفضل من ذلك كلمة عدل عند إمام جائر»(1).

وعن أبي جحيفة قال: سمعت أمير المؤمنين (علیه السلام) يقول: «إن أول ما تغلبون عليه من الجهاد الجهاد بأيديكم ثم بألسنتكم ثم بقلوبكم، فمن لم يعرف بقلبه معروفا ولم ينكر منكرا قلب فجعل أعلاه أسفله»(2).

وقال الإمام الحسن بن علي العسكري (علیه السلام) في تفسيره عن آبائه (علیهم السلام) عن النبي (صلی الله علیه و آله) في حديث: «لقد أوحى الله إلى جبرئيل وأمره أن يخسف ببلد يشتمل على الكفار والفجار، فقال جبرئيل: يا رب أخسف بهم إلا بفلان الزاهد ليعرف ما ذا يأمره الله فيه، فقال: اخسف بفلان قبلهم، فسأل ربه، فقال: يا رب عرفني لم ذلك وهو زاهد عابد؟ قال: مكنت لهوأقدرته فهو لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر وكان يتوفر على حبهم في غضبي، فقالوا: يا رسول الله فكيف بنا ونحن لا نقدر على إنكار ما نشاهده من منكر؟ فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليعمنكم عذاب الله، ثم قال: من رأى منكم منكرا فلينكر بيده إن استطاع فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع

ص: 353


1- وسائل الشيعة: ج16 ص134 ب3 ح21170.
2- نهج البلاغة: باب الحكم والمواعظ 375.

.............................

فبقلبه فحسبه أن يعلم الله من قلبه أنه لذلك كاره»(1).

قولها (علیها السلام): «وأنتم ذوو العدد والعدة..» فأعدادكم كثيرة ولستم قليلين، وعدتكم للحرب مهيأة ولستم بدون عدة واستعداد، وأمثال هذا التعبير أعم مما كان بالذات وما كان بالقياس إلى الغير كما هو واضح، وربما قيل بأخذ النسبة في المفهوم(2) فتأمل.قولها (علیها السلام): «والأداة والقوة..» أي عندكم أداة الدفاع وفي أبدانكم القوة الكافية لنصرة المظلوم.

قولها (علیها السلام): «وعندكم السلاح والجنة»، السلاح: ما يحارب به كالسيف والرمح وما أشبه، والجنة: الوقاية أي ما يحافظ به الإنسان على نفسه أمام سلاح العدو.

ص: 354


1- تفسير الإمام العسكري (علیه السلام): ص480 في ذم ترك الأمر بالمعروف ح307.
2- أي أن عبارة «أنتم ذوو العدد والعدة» أخذ في مفهومها عرفاً النسبة والقياس للغير.

توافيكم الدعوة فلا تجيبون

اشارة

-------------------------------------------

إجابة المظلوم

مسألة: عدم إجابة دعوة المظلوم حرام.

وذلك فيما إذا كانت الإجابة واجبة، إذ قد لا تجب، كما لو ظُلم شخص بقدر درهم فإنه لا يجب على كل إنسان أن ينقذ درهمه من الظالم، على ما ذكره جمع من الفقهاء، وإن كان قد يختلف حال الشخص المظلوم بالنسبة إلى الدرهم، فقد يجب، وقد لا يجب.

وعلى أي فليس الأمر على إطلاقه، فمن الموارد ما هو منصرف، نعم في ما نحن فيه تجب الدعوة وإجابتها كما هو واضح.

قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «أحسن العدل نصرة المظلوم»(1).

وعن البراء بن عازب قال: «نهى رسول الله (صلی الله علیه و آله) عن سبع، وأمر بسبع، نهانا أن نتختم بالذهب، وعن الشرب في آنية الذهب والفضة،وقال: من شرب فيها في الدنيا لم يشرب فيها في الآخرة، وعن ركوب المياثر، وعن لبس القسي، وعن لبس الحرير والديباج والإستبرق، وأمرنا (صلی الله علیه و آله) باتباع الجنائز، وعيادة المريض، وتسميت العاطس، ونصرة المظلوم، وإفشاء السلام، وإجابة الداعي، وإبرار القسم»(2).

ص: 355


1- غرر الحكم ودرر الكلم: ص446 مدح العدل ح10210.
2- وسائل الشيعة: ج4 ص415 ب30 ح5572.

.............................

وقد ورد في أسماء يوم التاسع من ربيع الأول المبارك: «ويوم نصرة المظلوم»(1).

وعن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لرجل أتاه: «ألا أدلك على أمر يدخلك الله به الجنة».

قال: بلى يا رسول الله.

قال: «أنل مما أنالك الله».

قال: فإن كنت أحوج ممن أنيله؟

قال: «فانصر المظلوم».

قال: وإن كنت أضعف ممن أنصره؟

قال: «فاصنع للأخرق، يعني أشرعليه».

قال: فإن كنت أخرق ممن أصنع له؟

قال: «فأصمت لسانك إلا من خير، أما يسرك أن تكون فيك خصلة من هذه الخصال تجرك إلى الجنة»(2).

وورد في صفات المؤمن عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «المؤمن له قوة في دين وحزم في لين وإيمان في يقين» إلى أن قال: «ينصر المظلوم ويرحم المسكين»(3).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إياكم ودعوة المظلوم فإنها ترفع فوق السحاب حتى ينظر الله عزوجل إليها فيقول ارفعوها حتى أستجيب له وإياكم ودعوة

ص: 356


1- انظر بحار الأنوار: ج95 ص355 ب13 ضمن ح1.
2- الكافي: ج2 ص113-114 باب الصمت وحفظ اللسان ح5.
3- وسائل الشيعة: ج15 ص187 ب4 ضمن ح20240.

.............................

الوالد فإنها أحد من السيف»(1).

وعن سماعة عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «كان أبي يقول: اتقوا الظلم فإن دعوة المظلوم تصعد إلى السماء»(2).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «أربعة لا ترد لهم دعوة حتى تفتح لهم أبواب السماء وتصير إلى العرش، الوالد لولده والمظلوم على من ظلمه والمعتمر حتى يرجع والصائم حتى يفطر»(3).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إن دعوة المسلم المظلوم مستجابة وليعن بعضكم بعضا»(4).

وفي الحديث القدسي أوحاه الله إلى عيسى بن مريم: «وإياك ودعوة المظلوم فإني آليت على نفسي أن أفتح لها بابا من السماء بالقبول وأن أجيبه ولو بعد حين»(5).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام):«أنفذ السهام دعوة المظلوم»(6).

وقال (علیه السلام): «إن دعوة المظلوم مجابة عند الله سبحانه لأنه يطلب حقه والله تعالى أعدل من أن يمنع ذا حق حقه»(7).

ص: 357


1- الكافي: ج2 ص509 باب من تستجاب دعوته ح3.
2- وسائل الشيعة: ج7 ص129 ب52 ح8917.
3- الكافي: ج2 ص510 باب من تستجاب دعوته ح6.
4- انظر وسائل الشيعة: ج16 ص56 ب80 ضمن ح20967.
5- أعلام الدين: ص229 فيما أنزل الله على عيسى ابن مريم.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: ص193 إجابة الدعاء وموجباتها ح3760.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: ص193 إجابة الدعاء وموجباتها ح3761.

.............................

وقال (علیه السلام): «من لم ينصف المظلوم من الظالم عظمت آثامه»(1).

وقال (علیه السلام): «اتقوا دعوة المظلوم فإنه يسأل الله حقه والله سبحانه أكرم من أن يُسأل حقا إلا أجاب»(2).

وقال (علیه السلام): «ما أقرب النصرة من المظلوم»(3).

حرمة خذلان المعصومين (علیهم السلام)

مسألة: يحرم عدم إجابة دعوة السيدة فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) وكذلك سائر المعصومين (علیهم السلام)، وحرمة عدم إجابة دعوتهم واستنصارهم مغلّظة من جهات:

منها: إن الظلم الواقع بحقهم كبير في جميع مراتبه، ولو فرض كونه ضئيلاً في مصداق فرضاً فإنه كبير أيضاً، إذ الظلم يزداد قبحاً ويشتد حرمة كلما ازداد المظلوم عظمة ومكانة ومنزلة، فضرب زيد مثلاً حرام وضرب عالم وولي من أولياء الله أشد حرمة، وضرب الصديقة الطاهرة (علیها السلام) من أعظم المحرمات وأشد المنكرات التي يهتز لها الكون وتضطرب لها السماوات والأرضين.

ومنها: إنهم (علیهم السلام) أولوا الأمر الذين أمر الله الناس بطاعتهم ونهى عن مخالفتهم، فعدم تلبية استغاثتهم محرمة من هذه الجهة أيضاً، ولا مجال لتوهم

ص: 358


1- غرر الحكم ودرر الكلم: ص341 ف3 وظائف الحكام ح7804.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: ص450 ف13 في النصرة والتعاون ح10349.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: ص450 ف13 في النصرة والتعاون ح10366.

.............................

الطريقية المحضة أبداً (1).

ومنها: إنهم (علیهم السلام) أولياء النعم ووسائط الفيض، وشكر المنعم واجب، والإغاثة من مصاديقه، ففرق بينهم وبين غيرهم، وإن كان الكلي صادقاً بالنسبة إلى المصداقين، والحاصل إن فيهم أموراً، منها:

المظلومية - بمراتبها - والولاية والشكر، بينما في غيرهم أمر واحد وهو المظلومية.

وقد ورد في زياراتهم (صلوات الله عليهم):

«يا ساداتي بكم يمسك الله السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، وبكم ينزل الغيث ويكشف الكرب ويغني المعدم ويشفي السقيم»(2).

و«من أراد الله بدأ بكم، وبكم يبين الله الكذب، وبكم يباعد الله الزمان الكلب، وبكم فتح الله وبكم يختم، وبكم يمحو ما يشاء وبكم يثبت، وبكم يفك الذل من رقابنا، وبكم يدرك الله ترة كل مؤمن تطلب، وبكم تنبت الأرض أشجارها، وبكمتخرج الأشجار أثمارها، وبكم تنزل السماء قطرها ورزقها، وبكم يكشف الله الكرب، وبكم ينزل الله الغيث، وبكم تسبح الأرض التي تحمل أبدانكم، وتستقل جبالها على مراسيها»(3).

ص: 359


1- أي توهم أن إطاعتهم واجبة لإحراز مصلحة الواقع فقط أو لدفع مفسدته فقط ومما يدل على ذلك الوجه الثالث الذي سيذكره الإمام المصنف (قدس سره).
2- انظر بحار الأنوار: ج97 ص345 ب4 ضمن ح33.
3- انظر تهذيب الأحكام: ج6 ص55 ب18 ضمن ح1.

.............................

و«بكم ينفس الهم، وبكم يكشف الكرب، وبكم يباعد نائبات الزمان الكلب، وبكم فتح الله، وبكم يختم، وبكم ينزل الغيث، وبكم ينزل الرحمة، وبكم يمسك الأرض أن تسيخ بأهلها، وبكم يثبت الله جبالها على مراسيها»(1).

وفي زيارة الجامعة: «بكم فتح الله، وبكم يختم، وبكم ينزل الغيث، وبكم «يُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ»(2)، وبكم ينفس الهم وبكم يكشف الضر»(3).

وأمير المؤمنين علي (علیه السلام) قال: «قلت: يا رسول الله (صلی الله علیه وآله) أمنا آل محمد المهدي أم من غيرنا؟ فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لا بل منا، يختم الله به الدين كما فتح بنا، وبنا ينقذون من الفتن كما أنقذوا من الشرك، وبنا يؤلف الله بين قلوبهم بعد عداوة الفتنة إخوانا، كما ألف بينهم بعد عداوة الشرك إخوانا في دينهم»(4).

قولها (علیها السلام): «توافيكم الدعوة فلا تجيبون» بمعنى أن الدعوة تصلكم فهي من الموافاة.

ص: 360


1- كتاب المزار: ص111 ب52.
2- سورة الحج: 65.
3- بحار الأنوار: ج99 ص131-132 ب8 ضمن ح4.
4- بحار الأنوار: ج51 ص84 ب1 ح34 في ذكر المهدي (علیه السلام).

وتأتيكم الصرخة فلا تغيثون

اشارة

-------------------------------------------

عدم إغاثة المظلوم

مسألة: يحرم عدم إغاثة المظلوم.

ولا يخفى أن الإغاثة أخص من الإجابة، إذ ربما يدعوه ويطلبه لأجل أن يكون شوكة له في مقابل الظالم فيكون إجابة وليس بإغاثة، وربما غرق في البحر فيطلبه فيكون إغاثة، ولذا ذكرتهما الزهراء (عليها الصلاة والسلام) معاً فتكون الأولى(1) في قبال الإغاثة.

عن أبي عبد الله (علیه السلام) عن آبائه (علیهم السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «كل معروف صدقة، والدال على الخير كفاعله، والله عزوجل يحب إغاثة اللهفان»(2).

وقال (علیه السلام) في حديث: «الذنوب التي تنزل البلاء ترك إغاثة الملهوف، وترك معاونة المظلوم، وتضييع الأمر بالمعروف والنهي عنالمنكر»(3).

وفي نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: «من كفارات الذنوب العظام إغاثة الملهوف والتنفيس عن المكروب»(4).

ص: 361


1- أي الإجابة.
2- الكافي: ج4 ص27 باب فضل المعروف ح4.
3- وسائل الشيعة: ج16 ص282 ب41 ضمن ح21556.
4- نهج البلاغة: باب المختار من حكم أمير المؤمنين (علیه السلام) 24.

.............................

وعلي (علیه السلام) عن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: «من أغاث لهفانا من المؤمنين أغاثه الله يوم لا ظل إلا ظله وآمنه يوم الفزع الأكبر وآمنه من سوء المنقلب، ومن قضى لأخيه المؤمن حاجة قضى الله له حوائج كثيرة من إحداها الجنة، ومن كسا أخاه المؤمن من عري كساه الله من سندس الجنة وإستبرقها وحريرها ولم يزل يخوض في رضوان الله ما دام على المكسو منها سلك، ومن أطعم أخاه من جوع أطعمه الله من طيبات الجنة، ومن سقاه من ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم ريه، ومن أخدم أخاه أخدمه الله من الولدان المخلدين وأسكنه مع أوليائه الطاهرين، ومن حمل أخاه المؤمن رجلة حمله الله على ناقة من نوقالجنة وباهى به على الملائكة المقربين يوم القيامة، ومن زوج أخاه المؤمن امرأة يأنس بها وتشد عضده ويستريح إليها زوجه الله من الحور العين وآنسه بمن أحب من الصديقين من أهل بيته وإخوانه وآنسهم به، ومن أعان أخاه المؤمن على سلطان جائر أعانه الله على إجازة الصراط عند زلزلة الأقدام، ومن زار أخاه المؤمن إلى منزله لا لحاجة منه إليه كتب من زوار الله وكان حقيقا على الله أن يكرم زائره»(1).

وعن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «إن الله يحب إراقة الدماء وإطعام الطعام وإغاثة اللهفان»(2).

وقال (علیه السلام): «زكاة السلطان إغاثة الملهوف»(3).

ص: 362


1- كشف الريبة: ص92-93 ف5 في كفارة الغيبة.
2- وسائل الشيعة: ج24 ص290 ب26 ح30572.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: ص341 ف3 وظائف الحكام ح7803.

.............................

وقال (علیه السلام): «ما من رجل رأى ملهوفا في طريق بمركوب له قد سقط وهو يستغيث ولا يغاث فأعانه وحملهعلى مركوبه إلا قال الله عزوجل كددت نفسك وبذلت جهدك في إغاثة أخيك هذا المؤمن لأكدن ملائكة هم أكثر عددا من خلائق الإنس كلهم من أول الدهر إلى آخره، وأعظم قوة كل واحد منهم ممن يسهل عليه حمل السماوات والأرضين ليبنوا لك القصور والمساكن ويرفعوا لك الدرجات فإذا أنت في جناتي كأحد ملوكها الفاضلين»(1).

وعن أمير المؤمنين (علیه السلام) أنه قال: «ما حصل الأجر بمثل إغاثة الملهوف»(2).

وقال (علیه السلام): «من أفضل المعروف إغاثة الملهوف»(3).

وفي حديث آخر: «أفضل المعروف إغاثة الملهوف»(4).

وقال (علیه السلام): «فعل المعروف وإغاثة الملهوف وإقراء الضيوف آلةالسيادة»(5). وقال (علیه السلام): «من كفارات الذنوب العظام إغاثة الملهوف»(6).

وقال (علیه السلام): «ما حصل الأجر بمثل إغاثة الملهوف»(7).

وقال (علیه السلام): «إن الله تعالى يحب إغاثة اللهفان»(8).

ص: 363


1- مستدرك الوسائل: ج12 ص415-416 ب29 ح14474.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: ص450 ف13 في النصرة والتعاون ح10363.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: ص450 ف13 في النصرة والتعاون ح10361.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: ص382 الإحسان والتحريض عليه ح8690.
5- مستدرك الوسائل: ج16 ص242 ب20 ضمن ح19733.
6- انظر وسائل الشيعة: ج16 ص373 ب29 ضمن ح21798.
7- مستدرك الوسائل: ج12 ص416 ب29 ح14475.
8- غوالي اللآلي: ج1 ص376 ح100.

.............................

من المحرمات الكبيرة

مسألة: من المحرمات الكبيرة عدم إغاثة الصديقة الطاهرة (سلام الله عليها) وكذلك سائر المعصومين (علیهم السلام).

وقد ورد أنه لما فجع الإمام الحسين (علیه السلام) بأهل بيته وولده ولم يبق غيره وغير النساء والذراري نادى: «هل من ذاب يذب عن حرم رسول الله (صلی الله علیه و آله)؟ هل من موحد يخاف الله فينا؟ هل من مغيث يرجو الله بإغاثتنا؟» فارتفعت أصوات النساء بالعويل»(1).

ويأتي هنا ما ذكرناه في المسألة السابقة وقد ذكرنا أن في المعصومين (عليهم الصلاة والسلام) تجتمع الولاية ووجوب إغاثة المظلوم ووجوب شكر المنعم.

قولها (علیها السلام): «وتأتيكم الصرخة فلا تغيثون» أي: أني أصرخ بكم في رد ظلامتي لكنكم لا تغيثوني وهذا من أشد الكبائر.

ومنه يعرف أنها (علیها السلام) لمتكتف بمجرد الدعوة والطلب، بل أوصلت الأمر إلى أعلى درجات الاستنجاد وهو الصراخ بالقوم وذلك «ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم»(2).

قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «لا ينتصر المظلوم بلا ناصر»(3).

ص: 364


1- اللهوف: ص117 المسلك الثاني في وصف حال القتال.
2- سورة الأنفال: 42.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: ص483 ح11144.

.............................

وقال (علیه السلام): «من لم ينصف المظلوم من الظالم سلبه الله قدرته»(1).

وقال (علیه السلام): «أحسن العدل نصرة المظلوم»(2).

استمرارية الدعوة

مسألة: الظاهر من استخدامها (علیها السلام) المضارع في الجملتين: الاستمرارية في الدعوة والاستنجاد، واستمرارهم في عدم الإجابة والإغاثة.وهذا يؤكد على مسؤولية الأجيال جيلاً بعد جيل.

عن الصادق جعفر بن محمد (علیه السلام) قال: «من جالس لنا عائبا أو مدح لنا قاليا أو وصل لنا قاطعا أو قطع لنا واصلا أو والى لنا عدوا أو عادى لنا وليا فقد كفر بالذي أنزل السبع المثاني والقرآن العظيم»(3).

وقد ورد في إكمال الدين عن الشيخ (قدس الله روحه) أنه أمر أن يدعو بهذا الدعاء في غيبة القائم (علیه السلام)، وفيه:

«اللهم ولا تجعلني من خصماء آل محمد، ولا تجعلني من أعداء آل محمد، ولا تجعلني من أهل الحنق والغيظ على آل محمد، فإني أعوذ بك من ذلك فأعذني وأستجير بك فأجرني، اللهم صل على محمد وآل محمد واجعلني بهم فائزا عندك في الدنيا والآخرة ومن المقربين»(4).

ص: 365


1- غرر الحكم ودرر الكلم: ص341 ف13 وظائف الحكام ح7805.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: ص446 في مدح العدل ح10210.
3- وسائل الشيعة: ج16 ص264 ب38 ح21523.
4- كمال الدين: ج2 ص515 الدعاء في غيبة القائم (علیه السلام).

.............................

وفي تفسير القمي: إن الله عزوجل ذكر الذين تولوا أمير المؤمنين (علیهالسلام) وتبرءوا من أعدائه فقال:«وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ»(1) ثم ذكر أعداء آل محمد : «وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ * تَرْهَقُها قَتَرَةٌ»(2) أي فقر من الخير والثواب «أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ»»(3).

وفي تفسير الإمام العسكري (علیه السلام): «ألا وإن الراضين بقتل الحسين (علیه السلام) شركاء قتله، ألا وإن قتلته وأعوانهم وأشياعهم والمقتدين بهم برآء من دين الله، وإن الله ليأمر ملائكته المقربين أن يتلقوا دموعهم المصبوبة لقتل الحسين (علیه السلام) إلى الخزان في الجنان فيمزجونها بماء الحيوان فتزيد عذوبتها، ويلقونها في الهاوية ويمزجونها بحميمها وصديدها وغساقها وغسلينها فتزيد في شدة حرارتها وعظيم عذابها ألف ضعفها تشدد على المنقولين إليها من أعداء آل محمد عذابهم»(4).

وفي التفسير: «أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ»(5) قال: أصحاب أمير المؤمنين (علیهالسلام) «وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا» قال: الذين خالفوا أمير المؤمنين (علیه السلام) «هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ»(6) قال: المشأمة أعداء آل محمد (علیهم السلام) «عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ»(7) أي مطبقة»(8).

ص: 366


1- سورة عبس: 38-39.
2- سورة عبس: 40-41.
3- سورة عبس: 42. انظر تفسير القمي: ج2 ص406 من سورة عبس.
4- تفسير الإمام العسكري (علیه السلام): ص369-370 ثواب الحزن والبكاء على الحسين (علیه السلام).
5- سورة البلد: 18.
6- سورة البلد: 19.
7- سورة البلد: 20.
8- تفسير القمي: ج2 ص422 من سورة البلد.

وأنتم موصوفون بالكفاح، معروفون بالخير والصلاح

اشارة

-------------------------------------------

مدح المؤمنين

مسألة: يستحب بيان فضائل الآخرين ومحاسن أخلاقهم كما قالت (علیها السلام): «وأنتم موصوفون..» الخ.

فإنه داخل في روايات مدح المؤمن، ومصداق لقوله سبحانه: «وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ»(1)، وإن كانت سلباً إلا أنها عرفاً تشمل الإيجاب أيضاً، هذا مضافاً إلى أنه نوع تحريض وحث على النصرة كما سيأتي.

قال تعالى: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أخرجت للناس تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ»(2).

وفي نهج البلاغة قال (علیه السلام) في مدح الأنصار: «هم والله ربّوا الإسلام كما يربّى الفلو مع غنائهم بأيديهم السياط وألسنتهم السلاط»(3).

وروي في الديوان أبياته (علیهالسلام) في مدح همدان:

جزى الله همدان الجنان فإنهم *** سمام العدى في كل يوم خصام

لهمدان أخلاق ودين يزينهم *** ولين إذا لاقوا وحسن كلام

متى تأتهم في دارهم لضيافة *** تبت عندهم في غبطة وطعام

ص: 367


1- سورة الشعراء: 183.
2- سورة آل عمران: 110.
3- نهج البلاغة، حكم: 465 في مدح الأنصار.

.............................

ألا إن همدان الكرام أعزّة *** كما عزّ ركن البيت عند مقام

أناس يحبون النبي و رهطه *** سراع إلى الهيجاء غير كهام

إذا كنت بوابا على باب جنة *** أقول لهمدان ادخلوا بسلام (1)

ومنه في مدح أصحابه (علیه السلام):

قومي إذا اشتبك القنا *** جعلوا الصدور لها مسالك

اللاّبسون دروعهم *** فوق القلوب لأجل ذلك (2)

من طرق التحريض

مسألة: يستحب للمظلوم أن يذكر فضائل من يستنصره حثاً له على النصرة، فإنه ادعى لاثارة الحميّة والغيرة، والشهامة والمروءة فيه.

وهذا أيضاً من مصاديق ما تقدم، كما سبق أشباهه في بندين من بنود هذاالمبحث.

ومنها ما ورد من مدح الأصحاب في الحرب، كما مدح أمير المؤمنين (علیه السلام) أصحابه في حرب صفين فقال:

يا أيّها السّائل عن أصحابي *** إن كنت تبغي خبر الصواب

أنبئك عنهم غير ما تكذاب *** بأنّهم أوعية الكتاب

ص: 368


1- ديوان الإمام علي (علیه السلام): ص438-439 في ذكر قبائل همدان.
2- ديوان الإمام علي (علیه السلام): ص307.

.............................

صبر لدى الهيجاء و الضراب *** فسل بذاك معشر الأحزاب (1)

وقال (علیه السلام) في مدح قبائل من عسكره:

الأزد سيفي على الأعداء كلّهم *** وسيف أحمد من دانت له العرب

قوم إذا فاجئوا أوفوا وإن غلبوا *** لا يحجمون ولا يدرون ما الهرب

قوم لبوسهم في كلّ معترك *** بيض رقاق وداودية سلب

البيض فوق رؤوس تحتها اليلب *** وفي الأنامل سمر الخطّ والقضب

البيض تضحك والآجال تنتحب *** والسمر ترعف والأرواح تنتهب

وأي يوم من الأيّام ليس لهم *** فيه من الفعل ما من دونه العجب

الأزد أزيد من يمشي على قدم *** فضلا وأعلاهم قدرا إذا ركبوا

والأوس والخزرج القوم الذين هم *** آووا فأعطوا فوق ما وهبوا

يا معشر الأزد أنتم معشر أنف *** لا يضعفون إذا ما اشتدّت الحقب

وفيتم ووفاء العهد شيمتكم *** ولم يخالط قديما صدقكم كذب

إذا غضبتم يهاب الخلق سطوتكم *** وقد يهون عليكم منهم الغضب

يا معشر الأزد إنّي من جميعكم *** راض وأنتم رؤوس الأمر لا الذنب

لن تيأس الأزد من روح ومغفرة *** واللّه يكلؤكم من حيث ما ذهبوا

طبتم حديثا كما قد طاب أوّلكم *** والشوك لا يجتنى من فرعه العنب

ص: 369


1- ديوان الإمام علي (علیه السلام): ص110.

.............................

والأزد جرثومة إن سوبقوا سبقوا *** أو فوخروا فخروا أو غولبوا غلبوا

أو كوثروا كثروا أو صوبروا صبروا *** أو سوهموا سهموا أو سولبوا سلبوا

صفوا فأصفاهم المولى ولايته *** فلم يشب صفوهم لهو ولا لعب

هينون لينون خلقا في مجالسهم *** لا الجهل يعروهم فيها والصخب

الغيث إمّا رضوا من دون نائلهم *** والأسد ترهبهم يوما إذا غضبوا

أندى الأنام أكفا حين تسألهم *** وأربط الناس جأشا إن هم ندبوا

وأيّ جمع كثير لا تفرقه *** إذا تدانت لهم غسّان والندب

فاللّه يجزيهم عمّا أتوا وحبوا *** به الرسول وما من صالح كسبوا (1)

وقال الإمام الحسين (علیه السلام) ليلة عاشوراء: «أما بعد فإني لا أعلم أصحابا أوفى ولا خيرا من أصحابي، ولاأهل بيت أبر ولا أوصل من أهل بيتي فجزاكم الله عني خيرا»(2).

ص: 370


1- ديوان الإمام علي (علیه السلام): ص110-113.
2- الإرشاد: ج2 ص91.

.............................

الدقة في التعبير

مسألة: ينبغي الدقة في التعبير، فهناك فرق بين (الموصوف) وبين (المتّصف) والصديقة (علیها السلام) قد عبرت بموصوفون بالكفاح لا متصفون بالكفاح.

فإن الموصوف بالشيء أعم من المتصف به كما لا يخفى.

عن أبي بصير قال سمعت أبا جعفر (علیه السلام) يقول: «كان أبوذر رحمه الله يقول: يا مبتغي العلم إن هذا اللسان مفتاح خير ومفتاح شر، فاختم على لسانك كما تختم على ذهبك وورقك»(1).

وجاء رجل إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: يا رسول الله أوصني، فقال: «احفظ لسانك».

قال: يا رسول الله أوصني.

قال: «احفظ لسانك».

قال: يا رسول الله أوصني.قال: «احفظ لسانك ويحك وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم»(2).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «المرء مخبوء تحت لسانه»(3).

ص: 371


1- الكافي: ج2 ص114 باب الصمت وحفظ اللسان ح10.
2- وسائل الشيعة: ج12 ص191 ب119 ح16053.
3- الإرشاد: ج1 ص300 من كلامه (علیه السلام) في الحكمة والموعظة.

.............................

وقال (علیه السلام): «دليل عقل الرجل قوله»(1).

وقال (علیه السلام): «يستدل على عقل كل امرئ بما يجري على لسانه»(2).

وقال (علیه السلام): «جميل القول دليل وفور العقل»(3).

وقال (علیه السلام): «عود لسانكحسن الكلام تأمن الملام»(4).

وقال (علیه السلام): «التروي في القول يؤمن الزلل»(5).

وقال (علیه السلام): «التثبت في القول يؤمن العثار والزلل»(6).

وقال (علیه السلام): «من تفقد مقاله قل غلطه»(7).

وقال (علیه السلام): «الكلام في وثاقك ما لم تتكلم به فإذا تكلمت به صرت في وثاقه»(8).

وقال (علیه السلام): «اللسان سبع إن خليّ عنه عقر»(9).

وقال (علیه السلام): «احذروااللسان فإنه سهم يخطئ»(10).

ص: 372


1- غرر الحكم ودرر الكلم: ص209 ف1 القول والسان ح4030.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: ص209 حسن اللسان والكلام ح4052.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: ص210 حسن اللسان والكلام ح4052.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: ص210 حسن اللسان والكلام ح4055.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: ص211 الفكر ثم القول ح4072.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: ص211 الفكر ثم القول ح4073.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: ص211 الفكر ثم القول ح4074.
8- وسائل الشيعة: ج12 ص187 ب117 ح16043.
9- نهج البلاغة: باب الحكم والمواعظ 60.
10- غرر الحكم ودرر الكلم: ص213 خطر اللسان وأهميته ح4144.

.............................

وقال (علیه السلام): «ضبط اللسان ملك وإطلاقه هلك»(1).

وقال (علیه السلام): «زلة اللسان أنكى من إصابة السنان»(2).

وقال (علیه السلام): «زلة اللسان تأتي على الإنسان»(3).

وهكذا ينبغي الدقة في جميع الأمور، كل بحسبه.

حيث ورد أنه «وقف علي (علیه السلام) على خياط فقال: يا خياط ثكلتك الثواكل، صلب الخيوط ودقق الدروز وقارب الغرز، فإني سمعت رسول الله(صلی الله علیه و آله) يقول: يحشر الله الخياط الخائن وعليه قميص ورداء مما خاط وخان فيه، واحذروا السقاطات فإن صاحبالثوب أحق بها ولا تتخذ بها الأيادي تطلب المكافأة»(4).

الاتصاف في ظرف الإسناد

مسألة: ظاهر جريان المشتق على ذات، اتصافها به في ظرف الإسناد.

وحيث إن الموصوف أعم من المتصف، لذلك فإن إطلاقها (علیها السلام) «موصوفون بالكفاح» عليهم بلحاظ الحال لا يقتضي صدق الكفاح عليهم بالفعل، فليدقق.

والتفصيل في الأصول (5).

ص: 373


1- غرر الحكم ودرر الكلم: ص214 حفظ اللسان ح4183.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: ص214 زلة اللسان ح4197.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: ص215 زلة اللسان ح4198.
4- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: ج1 ص42 باب الصناعات والحرف.
5- راجع (الأصول) للإمام الشيرازي (قدس سره): ج1 ص117-166.

.............................

الاتصاف بالكفاح

مسألة: يستحب أن يكون الإنسان موصوفاً بالكفاح في سبيل الله، إضافة إلى استحباب أن يكون متصفاً به.

والكفاح هو المواجهة أي فعلية النزال والمبارزة، سواء بالحرب أم بغير الحرب، يقال: فلان يكافح الأمور، أي يباشرها بنفسه، والمكافحة:المضاربة والمدافعة تلقاء الوجه.

وقد يكون هذا واجباً بشروطه وحسب النتائج، فإن كانت النتيجة واجبة كان واجباً وإن كانت النتيجة مستحبة كان مستحباً.

قال النبي (صلی الله علیه و آله):«غدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها»(1).

وقال النبي (صلی الله علیه و آله): «للجنة باب يقال له: باب المجاهدين، يمضون إليه فإذا هو مفتوح وهم متقلدون بسيوفهم والجمع في الموقف والملائكة ترحب بهم، فمن ترك الجهاد ألبسه الله ذلا وفقرا في معيشة ومحقا في دينه، إن الله عزوجل أغنى أمتي بسنابك خيلها ومراكز رماحها»(2).

وعن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: «إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) بعث سرية فلما رجعوا قال: مرحبا بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر، قيل: يا رسول الله وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس، وقال (صلی الله علیه و آله): أفضل الجهاد من

ص: 374


1- غوالي اللآلي: ج3 ص182 باب الجهاد ح1.
2- الكافي: ج5 ص2 باب فضل الجهاد ح2.

.............................

جاهد نفسه التي بين جنبيه»(1).

قولها (علیها السلام): «وأنتم موصوفون بالكفاح» الكفاح عبارة عن: المكافحة والمجالدة والمواجهة باستقبال العدو في الحرب أو غيرها، يقال: فلان يكافح الأمور بمعنى: يباشرها بنفسه، فالمعنى أنكم شجعان ومع ذلك لا تدافعون عني ولا تردون ظلامتي.

أقسام الشهرة

مسألة: الشهرة على قسمين:

1: قسم مبغوض.

وهو ما ورد فيه الذم وورد في عكسه وهو (الخمول) المدح.

قال أمير المؤمنين (علیه السلام) لكميل بن زياد: «تبدل ولا تشهر، ووار شخصك ولا تذكر، وتعلم واعمل، واسكت تسلم»(2).

وقال (علیه السلام): «إن في الخموللراحة»(3).

وعن الإمام جعفر الصادق (علیه السلام) قال: «عزت السلامة حتى لقد خفي مطلبها، فإن يكن في شيء فيوشك أن يكون في الخمول، فإن طلبت في خمول فلم توجد فيوشك أن تكون في الصمت، فإن طلبت في الصمت فلم توجد فيوشك أن تكون في التخلي، فإن طلبت في التخلي فلم توجد فيوشك أن تكون

ص: 375


1- وسائل الشيعة: ج15 ص163 ب1 ح20216.
2- إرشاد القلوب: ج1 ص100 الباب الخامس والعشرون في مدح الخمول.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: ص319 فوائدهما - أي العزلة والتفرد - ح7364.

.............................

في كلام السلف الصالح، والسعيد من وجد في نفسه خلوة يشغل بها»(1).

وقال (علیه السلام): «لا يتم عقل امرئ مسلم حتى تكون فيه عشر خصال: الخير منه مأمول والشر منه مأمون، يستكثر قليل الخير من غيره ويستقل كثير الخير من نفسه، لا يسأم من طلب الحوائج إليه، ولا يمل من طلب العلم طول دهره، الفقر في الله أحب إليه من الغنى، والذل في الله أحب إليه من العز في عدوه، والخمول أشهى إليه منالشهرة» الحديث(2).

2: قسم محبوب.

وهو ما أشار إليه نبي الله الخليل (علیه السلام): «وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ» (3).

في كشف الغمة عن ابن مردويه في قوله تعالى: «وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ»(4) عن أبي عبد الله جعفر بن محمد (علیه السلام) قال: «هو علي بن أبي طالب (علیه السلام) عرضت ولايته على إبراهيم (علیه السلام) فقال: اللهم اجعله من ذريتي ففعل الله ذلك»(5).

وعلى هذا فإنه يستحب أن يكون الإنسان معروفاً بالخير والصلاح، وأن يسعى لذلك لا حباً للشهرة ورياءً وسمعة، بل ليكون أسوة للآخرين فإن ذلك

ص: 376


1- بحار الأنوار: ج75 ص202 ب23 ح35.
2- تحف العقول: ص443 وروي عنه (علیه السلام) في قصار هذه المعاني.
3- سورة الشعراء: 84.
4- سورة الشعراء: 84.
5- كشف الغمة: ج1 ص320 في بيان ما نزل من القرآن في شأنه (علیه السلام).

.............................

من طرق الهداية، والفارق: النية.

عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال:«ثلاثة لم يسأل الله عزوجل بمثلهم، أن تقول: اللهم فقهني في الدين وحببني إلى المسلمين واجعل لي لسان صدق في الآخرين»(1).

وفي التعقيب: «اللهم صل على محمد وآل محمد، وفقهني في الدين، وحببني إلى المسلمين، واجعل لي لسان صدق في الآخرين، وارزقني هيبة المتقين»(2).

وفي الدعاء: «اللهم حببني إلى جميع خلقك»(3).

وأيضاً: «يا من يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد، أنت حكمت فلك الحمد محمودا مشكورا، فعجل يا مولاي فرجهم وفرجنا بهم، فإنك ضمنت إعزازهم بعد الذلة، وتكثيرهم بعد القلة، وإظهارهم بعد الخمول»(4).

وفي الزيارات: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي أَوْلِيَائِكَ»(5).وهناك فرق بين الخير والصلاح، لأن الإنسان قد يكون خيِّراً ولا يكون صالحاً لشيء ما، فالصلاح غير الخير، كما ربما يكون العكس، بأن يكون صالحاً ولا يكون خيّراً، وبعبارة أخرى المنصرف من الخير ما هو بالقياس إلى الغير،

ص: 377


1- بحار الأنوار: ج92 ص351-352 ب129 ح5.
2- بحار الأنوار: ج83 ص46 ب38 ضمن ح54.
3- بحار الأنوار: ج87 ص57 توضيح ضمن ح14.
4- بحار الأنوار: ج98 ص306-307 ب24 ضمن ح4.
5- من لا يحضره الفقيه: ج2 ص590 زيارة قبر أمير المؤمنين (علیه السلام).

.............................

ومن الصلاح ما هو بلحاظ الذات.

نعم الصلاح من جميع الحيثيّات يلازم الخيّريّة.

لا يقال: فإذا كان هؤلاء هكذا فلماذا تقاعسوا عن نصرة الزهراء (عليها الصلاة والسلام).

لأنه يقال: إنهم خافوا السيف، ومن المعلوم أن الحكومات الانقلابية والدكتاتورية والمستبدة ترعب الناس بالسلاح، ولم يكن هؤلاء استثناء من ذلك، فقد غلب الخوف - والطمع في بعضهم - طباعهم الأولية.

فمعنى كلامها (عليها الصلاة والسلام): الأمر في طبيعته الأولية وإن كان في طبيعته الثانوية قد عرض عليهم ما أدّى إلى خذلانهم وتقاعسهم عن النصرة.

أو يجاب: بأن معروفية الشخص بصفة غير اتصافه بها وكونه كذلك فعلاً، وكذلك الموصوفية غير الاتصاف كما سبق.

ص: 378

والنخبة التي انتخبت، والخيرة التي اختيرت لنا أهل البيت

اشارة

-------------------------------------------

السعي للتفوق

مسألة: يستحب أن يسعى الإنسان ليكون من النخبة المنتخبة والخيرة المختارة.

والفرق بين الانتخاب والاختيار: أن الانتخاب أخذ الشيء الجيد، أما الاختيار فهو من: خار، وخار قد أشرب فيه معنى اليسر والسهولة، وليس هذا المعنى حاصلاً في النخبة المنتخبة.

أو يقال: الاختيار يتضمن معنى التفضيل(1) دون الانتخاب.

قولها (علیها السلام): «التي انتخبت.. التي اختيرت» إشارة لمقام الإثبات بعد مقام الثبوت، إذ أن النخبة قد تنتخب وقد لا تنتخب، كما أن الخيرة قد تختار وقد لاتختار، وبذلك ذكرت الزهراء (صلوات الله عليها) في كل منهما اللفظين، هذا إن لم نقل بأنها بهذا الانتخاب أضحت نخبة وبهذاالاختيار صارت خيرة لا انها كانت نخبة وخيرة فانتخبت واختيرت.

قولها (علیها السلام): «معروفون بالخير والصلاح»، أي لستم من الأشرار، بل تعرفون في المجتمع بأنكم خيرون وصالحون ومصلحون.

قولها (علیها السلام): «والنخبة التي انتخبت» أي: أنكم انتخبتم من قبل النبي (صلی الله علیه و آله) في الدفاع عنه وعن أهل بيته (علیهم السلام) وعن دينه.

ص: 379


1- إذ الخِيْرة والخِيَرَة من القوم أو الشيء: الأفضل، وخيار الشي أفضله كما ورد في كتب اللغة.

.............................

والخيرة من القوم: المختار منهم، وقد يقال: إن الاختيار قبل الانتخاب.

يقال: اختاره فانتخبه، فكأن الاختيار للشأنية والانتخاب للفعلية، وإن كان يجوز أن يطلق كل واحد منهما على الآخر كالظرف والجار والمجرور في اصطلاح الأدباء.

ورسول الله (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته الأطهار (علیهم السلام) هم خيرة الخلق.

في الزيارة: «السلام عليك يا محمدبن عبد الله، السلام عليك يا خيرة الله»(1).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من سره أن ينظر إلى القضيب الياقوت الأحمر الذي غرسه الله عزوجل بيده ويكون متمسكا به فليتول عليا والأئمة من ولده، فإنهم خيرة الله عزوجل وصفوته وهم المعصومون من كل ذنب وخطيئة»(2).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «لما خلق الله الخلق اختار العرب فاختار قريشا واختار بني هاشم فأنا خيرة من خيرة»(3).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «نحن جنب الله ونحن صفوة الله ونحن خيرة الله»(4).

ص: 380


1- الدعاء والزيارة، للإمام الشيرازي (قدس سره): ص584 زيارات النبي (صلی الله علیه و آله) الزيارة الرابعة.
2- بحار الأنوار: ج25 ص193 ب6 ح2.
3- بحار الأنوار: ج25 ص248 ب8 ح6.
4- بحار الأنوار: ج26 ص259 ب5 ح37.

.............................

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «أنت يا علي وولدك خيرة الله منخلقه»(1).

وعن الإمام جعفر بن محمد (علیه السلام) قال: «نحن خيرة الله من خلقه وشيعتنا خيرة الله من أمة نبيه»(2).

وقال ابن أبي قحافة للصديقة الطاهرة (علیها السلام): «لا يحبكم إلا العظيم السعادة، ولا يبغضكم إلا الرديء الولادة، أنتم عترة اللّه الطّيبون، وخيرة اللّه المنتجبون»(3).

ص: 381


1- بحار الأنوار: ج23 ص145 ب7 ح102.
2- بحار الأنوار: ج65 ص22 ب15 ح38.
3- بلاغات النساء: ص 31، وبحار الأنوار: ج29 ص245-264.

قاتلتم العرب

اشارة

-------------------------------------------

مقاتلة المشركين

مسألة: لقتال المشركين شروط وآداب مذكورة في الفقه(1).

قال أمير المؤمنين علي (علیه السلام) خطابا للصديقة الطاهرة فاطمة (علیها السلام) عند توجّهه إلى قتال المشركين:

قرّبي ذا الفقار فاطم منّي *** فأخي السيف كلّ يوم هياج

قرّبي الصّارم الحسام فإنّي *** راكب في الرجال نحو الهياج

ورد اليوم ناصحا ينذر الناس *** جيوش كالبحر ذي الأمواج

وردوا مسرعين يبغون قتلي *** وأبيك المحبوّ بالمعراج

وخراب الأوطان وقتل الناس *** وكلّ إذا أصبح لاجي

سوف أرضي المليك بالضرب ما *** عشت إلى أن أنال ما أنا راج

من ظهور الإسلام أو يأتي الموت *** شهيدا من شاخب الأوداج (2)

لا يقال: لم ذكرت (علیها السلام) العرب فقط ولم تذكر الروم مع أنهم قاتلوا الروم أيضاً، في حرب (مؤتة)ونحوها؟

لأنه يقال: لأن أغلب حروبهم كانت في مواجهة العرب المشركين فهذا من باب التغليب.

ص: 382


1- انظر موسوعة الفقه: ج47-48 كتاب الجهاد.
2- ديوان الإمام علي (علیه السلام): ص129.

.............................

أو يقال: حيث إن العرب كانوا مظهر الشجاعة والفروسية في ذلك اليوم، جاء ذكرهم، وإن كان المراد الأعم من ذلك، ومن هنا قال أمير المؤمنين علي (عليه الصلاة والسلام): «والله لو تظاهرت العرب على قتالي لما وليت»(1).

وفي يوم عاشوراء قال عمرو بن سعد لقومه: (الويل لكم أتدرون لمن تقاتلون؟ هذا ابن الأنزع البطين، هذا ابن قتال العرب، فاحملوا عليه من كل جانب) (2).

وقد يقال: المراد بالعرب: الشجعان، كما سبق من قول علي (عليه الصلاة والسلام)، لا أن المراد في مقابل العجم، أي: إنكم كنتم بهذه المنزلة من الشجاعة فكيف تجبنون الآن.

ص: 383


1- نهج البلاغة، الرسائل: 45 من كتاب له (علیه السلام) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري وكان عامله على البصرة.
2- بحار الأنوار: ج45 ص50 ب37.

وتحملتم الكدّ والتعب

اشارة

-------------------------------------------

تحمل الكد والتعب

مسألة: حيث إن سياق كلامها (علیها السلام) سياق الثناء المدح لا سياق النقل التاريخي المجرد فيستفاد - على ذلك - من قولها: «وتحملتم الكد والتعب» رجحان بل استحباب أو وجوب تحمل الكد والتعب للإسلام، هذا لو لاحظنا مصب الحديث.

وإلا فقد يستحب تحمل الكد والتعب حتى في مثل إدارة العائلة وما أشبه، بل لعل الزهراء (عليها الصلاة والسلام) أرادت الأعم كما هو صفة المكافح الخيّر الصالح، فكل موضوع قد يقتضي مثل هذه الصفات كل بحسبه، سواء في النزال أم في الجدال أم في الإدارة أم في الإعالة أم في غيرها.

قولها (علیها السلام): «وتحملتم الكد والتعب» والفرق بينهما أن التعب أعم من الكد، فإن الكد هو التعب الكثير، بينما التعب يقال للقليل أيضاً.وقد ورد في باب المؤمن وعلاماته وصفاته عن أبي عبد الله (علیه السلام) أنه قال: «نفسه منه في عناء والناس منه في راحة، أتعب نفسه لآخرته فأراح الناس من نفسه»(1).

وعن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما فتح مكة أتعب نفسه في عبادة الله عزوجل والشكر لنعمه في الطواف بالبيت وكان علي (علیه السلام) معه،

ص: 384


1- الكافي: ج2 ص230 باب المؤمن وعلاماته ضمن ح1.

.............................

فلما غشيهم الليل انطلقا إلى الصفا والمروة يريدان السعي، قال: فلما هبطا من الصفا إلى المروة وصارا في الوادي دون العلم الذي رأيت غشيهما من السماء نور فأضاءت لهما جبال مكة وخشعت أبصارهما، قال: ففزعا لذلك فزعا شديدا، قال: فمضى رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى ارتفع عن الوادي وتبعه علي (علیه السلام) فرفع رسول الله (صلی الله علیه و آله) رأسه إلى السماء فإذا هو برمانتين على رأسه، قال: فتناولهما رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأوحى الله عزوجل إلى محمد (صلی الله علیهو آله): يا محمد إنها من قطف الجنة فلا يأكل منها إلا أنت ووصيك علي بن أبي طالب، قال: فأكل رسول الله (صلی الله علیه و آله) أحدهما وأكل علي (علیه السلام) الأخرى» الخبر(1).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «إن أفضل الناس عند الله من أحيا عقله وأمات شهوته وأتعب نفسه لصلاح آخرته»(2).

وعن عبد الله بن الحسن بن الحسين قال:

(أعتق علي (علیه السلام) في حياة رسول الله (صلی الله علیه و آله) ألف مملوك مما مجلت يداه وعرق جبينه ولقد ولي الخلافة وأتته الأموال فما كان حلواه إلا التمر ولا ثيابه إلا الكرابيس)(3).

وروي: «أنه (علیه السلام) كان يستقي بيده لنخل قوم من يهود المدينة حتى مجلت يده ويتصدق بالأجرة ويشد على بطنه حجرا»(4).

ص: 385


1- بحار الأنوار: ج39 ص124-125 ب78 ح9.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: ص50 ق1 ب1 ف4 ح308.
3- بحار الأنوار: ج41 ص138-139 ب107.
4- بحار الأنوار: ج41 ص144 ب107.

.............................

وورد: «لقد طحنت فاطمة بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى مجلت يداها وطب الرحى في يدها»(1).

وعن علي (علیه السلام) أنه قال لرجل من بني سعد: «ألا أحدثك عني وعن فاطمة، إنها كانت عندي وكانت من أحب أهله إليه وأنها استقت بالقربة حتى أثر في صدرها وطحنت بالرحى حتى مجلت يداها وكسحت البيت حتى اغبرت ثيابها وأوقدت النار تحت القدر حتى دكنت ثيابها، فأصابها من ذلك ضرر شديد، فقلت لها: لو أتيت أباك فسألتيه خادما يكفيك ضر ما أنت فيه من هذا العمل.

فأتت النبي (صلی الله علیه و آله) فوجدت عنده حداثا، فاستحت فانصرفت.

قال: فعلم النبي (صلی الله علیه و آله) أنها جاءت لحاجة.

قال: فغدا علينا رسول الله (صلی الله علیه و آله) ونحن في لفاعنا، فقال: السلام عليكم.

فسكتنا واستحيينا لمكاننا.

ثم قال: السلام عليكم، فسكتنا.ثم قال: السلام عليكم، فخشينا إن لم نرد عليه أن ينصرف، وقد كان يفعل ذلك يسلم ثلاثا فإن أذن له وإلا انصرف.

فقلت: وعليك السلام يا رسول الله ادخل، فلم يعد أن جلس عند رؤوسنا، فقال: يا فاطمة ما كانت حاجتك أمس عند محمد؟

قال: فخشيت إن لم نجبه أن يقوم.

ص: 386


1- المناقب: ج3 ص341 فصل في سيرتها.

.............................

قال: فأخرجت رأسي فقلت: أنا والله أخبرك يا رسول الله، إنها استقت بالقربة حتى أثرت في صدرها وجرت بالرحى حتى مجلت يداها وكسحت البيت حتى اغبرت ثيابها وأوقدت تحت القدر حتى دكنت ثيابها، فقلت لها: لو أتيت أباك فسألتيه خادما يكفيك ضر ما أنت فيه من هذا العمل؟

قال: أفلا أعلمكما ما هو خير لكما من الخادم، إذا أخذتما منامكما فسبحا ثلاثا وثلاثين، واحمدا ثلاثا وثلاثين، وكبرا أربع وثلاثين، قال: فأخرجت (علیها السلام) رأسها فقالت: رضيت عن الله ورسوله، ثلاث دفعات»(1).

ص: 387


1- بحار الأنوار: ج43 ص82-83 ب4 ح5.

وناطحتم الأمم وكافحتم البهم

اشارة

-------------------------------------------

مناطحة الأمم

مسألة: قد يقال بانصراف كلامها (علیها السلام): «ناطحتم الأمم و… » إلى المناطحة العسكرية.

ولكن يحتمل إرادة الأعم من المناطحة في ظرف الحرب والسلم، فيشمل حتى المناطحة بالمجادلة بالتي هي أحسن وبالكلمة الطيبة، ويشمل حتى مثل موقف جعفر الطيار(علیه السلام) وسائر المسلمين في الحبشة(1) ومثل موقفهم وصمودهم في شعب أبي طالب (علیه السلام) (2)، وعلى أي فإن مناطحة الأمم ومكافحة البهم بين واجب ومستحب.

فإذا كان هنالك من فيه الكفاية وقام بالأمر، كانت المناطحة والمكافحة بالنسبة إلى من هو فوق الكفاية مستحباً.

إلى غير ذلك من المسائل الفقهيةالمذكورة في كتاب الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(3).

وقد كتب أمير المؤمنين (علیه السلام) في جواب معاوية: «من عبد الله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إلى معاوية بن أبي سفيان، أما بعد فقد أتانا كتابك بتنويق

ص: 388


1- راجع بحار الأنوار: ج18 ص410 باب الهجرة إلى الحبشة وذكر بعض أحوال جعفر (علیه السلام) والنجاشي (رحمة الله).
2- انظر بحار الأنوار: ج19 ص18-20 ب5 ح11.
3- انظر موسوعة الفقه: ج47 و48.

.............................

المقال وضرب الأمثال وانتحال الأعمال تصف الحكمة ولست من أهلها وتذكر التقوى وأنت على ضدها» إلى أن قال (علیه السلام): «وأما تهديدك لي بالمشارب العربية والموارد المهلكة فأنا عبد الله علي بن أبي طالب أبرز إلي صفحتك كلا ورب البيت ما أنت بأبي عذر عند القتال ولا عند مناطحة الأبطال» (1).

جعفر بن أبي طالب (علیه السلام) في الحبشة

وفي (تفسير القمي): «لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُواالَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى»(2)، فإنه كان سبب نزولها أنه لما اشتدت قريش في أذى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأصحابه الذين آمنوا بمكة قبل الهجرة أمرهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن يخرجوا إلى الحبشة وأمر جعفر بن أبي طالب أن يخرج معهم، فخرج جعفر ومعه سبعون رجلا من المسلمين حتى ركبوا البحر فلما بلغ قريشا خروجهم بعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد إلى النجاشي ليردهم إليهم…

فوردوا على النجاشي وقد كانوا حملوا إليه هدايا، فقبلها منهم، فقال عمرو بن العاص: أيها الملك إن قوما منا خالفونا في ديننا وسبوا آلهتنا وصاروا إليك فردهم إلينا.

فبعث النجاشي إلى جعفر، فجاء فقال: يا جعفر ما يقول هؤلاء؟

فقال جعفر: أيها الملك وما يقولون؟

ص: 389


1- كنز الفوائد: ج2 ص43-44 جواب أمير المؤمنين A.
2- سورة المائدة: 82.

.............................

قال: يسألون أن أردكم إليهم.

قال: أيها الملك سلهم أعبيد نحن لهم؟قال عمرو: لا بل أحرار كرام.

قال: فاسألهم ألهم علينا ديون يطالبوننا بها؟

فقال: لا ما لنا عليكم ديون.

قال: فلكم في أعناقنا دماء تطالبوننا بذحول؟

فقال عمرو: لا.

قال: فما تريدون منا، آذيتمونا فخرجنا من بلادكم.

فقال عمرو بن العاص: أيها الملك خالفونا في ديننا وسبوا آلهتنا وأفسدوا شباننا وفرقوا جماعتنا، فردهم إلينا لنجمع أمرنا.

فقال جعفر: نعم أيها الملك خالفناهم، بعث الله فينا نبيا أمرنا بخلع الأنداد وترك الاستقسام بالأزلام وأمرنا بالصلاة والزكاة وحرم الظلم والجور وسفك الدماء بغير حقها والزنا والربا والميتة والدم وأمرنا «بِالْعَدْلِ وَ الإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى»(1) ونهانا «عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ»(2).

فقال النجاشي: بهذا بعث الله عيسى ابن مريم (علیه السلام).

ثم قال النجاشي: يا جعفر هل تحفظمما أنزل الله على نبيك شيئا؟

قال: نعم، فقرأ عليه سورة مريم، فلما بلغ إلى قوله: «وَهُزِّي إِلَيْكِ

ص: 390


1- سورة النحل: 90.
2- سورة النحل: 90.

.............................

بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً»(1).

فلما سمع النجاشي بهذا بكى بكاء شديدا وقال: هذا والله هو الحق.

وقال عمرو بن العاص: أيها الملك إن هذا مخالف لنا فرده إلينا.

فرفع النجاشي يده فضرب بها وجه عمرو ثم قال: اسكت، والله لئن ذكرته بسوء لأفقدنك نفسك.

فقام عمرو بن العاص من عنده والدماء تسيل على وجهه وهو يقول: إن كان هذا كما تقول أيها الملك فإنا لا نتعرض له»(2).

وفي الخرائج و الجرائح: (روي عن ابن مسعود قال: بعثنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى أرض النجاشي ونحن ثمانون رجلا ومعنا جعفر بن أبي طالب، وبعثت قريش خلفنا عمارة بن الوليد وعمرو بن العاص مع هدايا فأتوه بها فقبلها وسجدوا له فقالوا: إن قومامنا رغبوا عن ديننا وهم في أرضك فبعث إلينا.

فقال لنا جعفر: لا يتكلم أحد منكم أنا خطيبكم اليوم.

فانتهينا إلى النجاشي، فقال عمرو وعمارة: إنهم لا يسجدون لك.

فلما انتهينا إليه زبرنا الرهبان أن اسجدوا للملك، فقال لهم جعفر: لانسجد إلا لله.

فقال النجاشي: وما ذلك؟

قال: إن الله بعث فينا رسوله وهو الذي بشر به عيسى اسمه أحمد، فأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا وأن نقيم الصلاة وأن نؤتي الزكاة وأمرنا بالمعروف

ص: 391


1- سورة مريم: 25-26.
2- بحار الأنوار: ج18 ص414-415 ب4 ح1.

.............................

ونهانا عن المنكر.

فأعجب النجاشي قوله.

فلما رأى ذلك عمرو قال: أصلح الله الملك إنهم يخالفونك في ابن مريم.

فقال النجاشي لجعفر: ما يقول صاحبك في ابن مريم؟

قال: يقول فيه قول الله: هو روح الله وكلمته أخرجه من العذراء البتول التي لم يقربها بشر.

فتناول النجاشي عودا من الأرض فقال: يا معشر القسيسين والرهبان مايزيد هؤلاء على ما تقولون في ابن مريم ما يزن هذا.

ثم قال النجاشي لجعفر: أتقرأ شيئا مما جاء به محمد؟

قال: نعم.

قال: اقرأ، وأمر الرهبان أن ينظروا في كتبهم.

فقرأ جعفر «كهيعص»(1) إلى آخر قصة عيسى (علیه السلام) فكانوا يبكون.

ثم قال النجاشي: مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده، فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأنه الذي بشر به عيسى ابن مريم، ولولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أحمل نعليه اذهبوا أنتم سيوم أي آمنون، وأمر لنا بطعام وكسوة وقال: ردوا على هذين هديتهما)(2).

ص: 392


1- سورة مريم: 1.
2- الخرائج والجرائح: ج1 ص133-134 فدك.

.............................

قصة شعب أبي طالب (علیه السلام)

في البحار: أن في سنة ثمان من نبوة رسول الله (صلی الله علیه و آله) تعاهد قريش وتقاسمت على معاداة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وذلك أنه لما أسلم حمزة وحمى النجاشي من عنده من المسلمين وحامى رسول الله (صلی الله علیه و آله) عمه أبو طالب وقامت بنو هاشم وبنو عبد المطلب دونه وأبوا أن يسلموه، فشا الإسلام في القبائل واجتهد المشركون في إخفاء ذلك النور ويأبى الله إلا أن يتم نوره، فعرفت قريش أنه لا سبيل إلى محمد (صلی الله علیه و آله)، اجتمعوا على أن يكتبوا فيما بينهم على بني هاشم وبني عبد المطلب: أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم، فكتبوا صحيفة في ذلك وكتب فيها جماعة وعلقوها بالكعبة، ثم عدوا على من أسلم فأوثقوهم وآذوهم واشتد البلاء عليهم وعظمت الفتنة فيهم وزلزلوا زلزالا شديداً، و أبدت قريش لبني عبد المطلب الجفاء وثار بينهم شر وقالوا: لا صلح بيننا وبينكم، ولا رحم إلا على قتل هذا الصابئ.

فعمد أبو طالب فأدخل الشعب ابنأخيه وبني أبيه ومن اتبعهم، فدخلوا شعب أبي طالب.

وآذوا النبي (صلی الله علیه و آله) والمؤمنين أذى شديدا وضربوهم في كل طريق وحصروهم في شعبهم وقطعوا عنهم المارة من الأسواق، ونادى مناد الوليد بن المغيرة في قريش: أيما رجل منهم وجدتموه عند طعام يشتريه فزيدوا عليه.

فبقوا على ذلك ثلاث سنين، حتى بلغ القوم الجهد الشديد، حتى سمعوا أصوات صبيانهم يتضاغون أي يصيحون من الجوع من وراء الشعب، وكان

ص: 393

.............................

المشركون يكرهون ما فيه بنو هاشم من البلاء حتى كره عامة قريش ما أصاب بني هاشم وأظهروا كراهيتهم لصحيفتهم القاطعة الظالمة حتى أراد رجال أن يبرؤوا منها.

وكان أبو طالب يخاف أن يغتالوا رسول الله (صلی الله علیه و آله) ليلا أو سرا، وكان النبي(صلی الله علیه و آله) إذا أخذ مضجعه أو رقد جعله أبو طالب بينه وبين بنيه خشية أن يقتلوه.

وكان يصبح قريش وقد سمعوا أصوات صبيان بني هاشم من الليل يتضاغون من الجوع فيجلسون عند الكعبة فيسألبعضهم بعضا فيقول الرجل لأصحابه: كيف بات أهلك البارحة؟ فيقولون: بخير، فيقول: لكن إخوانكم هؤلاء الذين في الشعب باتت صبيانهم يتضاغون من الجوع، فمنهم من يعجبه ما يلقى محمد ورهطه ومنهم من يكره ذلك.

فأتى من قريش على ذلك من أمرهم في بني هاشم سنتين أو ثلاثا حتى جهد القوم جهدا شديدا لا يصل إليهم شيء إلا سرا و مستخفى به ممن أراد صلتهم من قريش، حتى روي أن حكيم بن حزام خرج يوما و معه إنسان يحمل طعاما إلى عمته خديجة بنت خويلد وهي تحت رسول الله (صلی الله علیه و آله) في الشعب إذ لقيه أبو جهل فقال: تذهب بالطعام إلى بني هاشم والله لا تبرح أنت ولا طعامك حتى أفضحك عند قريش، فقال له: أبو البختري بن هشام بن الحارث تمنعه أن يرسل إلى عمته بطعام كان لها عنده، فأبى أبو جهل أن يدعه، فقام إليه أبو البختري بساق بعير فشجه ووطئه وطئا شديدا وحمزة بن عبد المطلب قريب يرى ذلك، وهم يكرهون أن يبلغ ذلك رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأصحابه فيشمتوا بهم.

ص: 394

.............................

وحتى روي أن هشام بن عمرو بنربيعة أدخل على بني هاشم في ليلة ثلاثة أحمال طعام، فعلمت بذلك قريش فمشوا إليه فكلموه في ذلك، فقال: إني غير عائد لشيء يخالفكم، ثم عاد الثانية فأدخل حملا أو حملين ليلا وصادفته قريش وهموا به، فقال أبو سفيان: دعوه رجل وصل رحمه، أما إني أحلف بالله لو فعلنا مثل ما فعل كان أجمل بنا ووفق الله هشاما للإسلام يوم الفتح(1).

وورد أيضا: أنه كان من معجزاته (صلی الله علیه و آله) أن قريشا كلهم اجتمعوا وأخرجوا بني هاشم إلى شعب أبي طالب ومكثوا فيه ثلاث سنين إلا شهرا، ثم أنفق أبو طالب وخديجة جميع مالهما ولا يقدرون على الطعام إلا من موسم إلى موسم، فلقوا من الجوع والعري ما الله أعلم به وأن الله قد بعث على صحيفتهم الأرضة، فأكلت كل ما فيها إلا اسم الله، فذكر ذلك رسول الله (صلی الله علیه و آله) لأبي طالب، فما راع قريشا إلا وبني هاشم عنق واحد قد خرجوا من الشعب، فقالوا: الجوع أخرجهم، فجاءوا حتى أتوا الحجر وجلسوا فيه وكان لا يقعد فيه صبيان قريش، فقالوا: يا أبا طالب قد آن لك أن تصالح قومك.قال: قد جئتكم مخبرا، ابعثوا إلى صحيفتكم لعله أن يكون بيننا وبينكم صلح فيها.

فبعثوا إليها وهي عند أم أبي جهل وكانت قبل في الكعبة فخافوا عليها السراق فوضعت بين أيديهم وخواتيمهم عليها.

ص: 395


1- بحار الأنوار: ج19 ص18-20 ب5 ح11.

.............................

فقال أبو طالب: هل تنكرون منها شيئا؟

قالوا: لا.

قال: إن ابن أخي حدثني ولم يكذبني قط أن الله قد بعث على هذه الصحيفة الأرضة فأكلت كل قطيعة وإثم وتركت كل اسم هو لله فإن كان صادقا أقلعتم عن ظلمنا، وإن يكن كاذبا ندفعه إليكم فقتلتموه.

فصاح الناس: أنصفتنا يا أبا طالب.

ففتحت ثم أخرجت فإذا هي مشربة كما قال (صلی الله علیه و آله) فكبر المسلمون وامتقعت وجوه المشركين.

فقال: أبو طالب أتبين لكم أينا أولى بالسحر والكهانة.

فأسلم يومئذ عالم من الناس، ثم رجع أبو طالب إلى شعبة ثم عيرهم هشام بن عمرو العامري بما صنعوا ببنيهاشم(1).

هذا وقد ذكرت الصديقة الطاهرة (عليها الصلاة والسلام) في خطبتها «الأمم»، لأنهم ناطحوا المشركين واليهود والنصارى والمجوس، حيث كان بعض المجوس في اليمن أيضاً.

والبهم: عبارة عن الشجعان الذين لا يعرف قدر شجاعتهم، ولا يدرى من أين يؤتون؟ أعن اليمين أم عن الشمال أم الأمام أم الخلف؟ كالشيء المبهم الذي لا يدرى معناه ومغزاه.

قولها (علیها السلام): «وناطحتم الأمم» حيث شبهتهم (عليها الصلاة والسلام)

ص: 396


1- بحار الأنوار: ج19 ص16-17 ب5 ح8.

.............................

بالكبش الذي يناطح الكبش الآخر، كناية عن شدة المجالدة وظهورها، فإن المناطحة عبارة عن محاربة كبشين بقرونهما، وهذا كناية عن محاربة الخصوم بجد واهتمام.

قولها (علیها السلام): «وكافحتم البهم»، وقد سبق معنى الكفاح.

ص: 397

لا نبرح أو تبرحون

اشارة

-------------------------------------------

إتباع الرسول وأهل بيته (علیهم السلام)

مسألة: من الواجب إتباع الرسول (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته الطاهرين (علیهم السلام) وعدم التقدم عليهم والتأخر عنهم.

فإن هذه الجملة في أحد وجوهها تفيد نفس المعنى الوارد في أدعية شهر شعبان: «المتقدم لهم مارق والمتأخر عنهم زاهق»(1).

ويمكن أن تكون إخبارا في مقام الإنشاء(2).

فالواجب أن يهندس المرء حياته على طبق المخطط الذي وضعه أهل البيت (علیهم السلام) للحياة، فإنهم وسائط الفيض والتشريع كما ورد: «إرادة الربفي مقادير أموره تهبط إليكم وتصدر من بيوتكم» (3).

فإن من الواجب أو المستحب - كل بحسبه - أن يكون الإنسان طوع أوامرهم المولوية والإرشادية (عليهم الصلاة والسلام)، فكلّما تحرّكوا تحرّك، وكلما سكنوا سكن.

قال سبحانه: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ»(4).

ص: 398


1- البلد الأمين: ص186 شهر شعبان.
2- إلا أن يقال إنه لا يكون فيما كان إخباراً عن حال ماضيه فتأمل، ويمكن القول بالملازمة العرفية بين مثل هذا التقرير عن الماضي وبين وجوبه في الحاضر. وكلمة (فتأمل) ربما يكون إشارة إلى أن ذلك وإن كان ممكناً إلا أن الظهور لا يساعد عليه.
3- تهذيب الأحكام: ج6 ص54-55 ب18 ح1.
4- سورة النساء: 64.

.............................

وقال تعالى: «أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ»(1) وهذا نوع من الإطاعة.

عن أبي محمد العسكري (علیه السلام) عن آبائه (علیهم السلام) عن الباقر (علیه السلام) قال: «أوصى النبي (صلی الله علیه و آله) إلى علي والحسن والحسين (علیهم السلام) ».

ثم قال في قول الله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِيالأَمْرِ مِنْكُمْ»(2) قال: «الأئمة من ولد علي وفاطمة إلى أن تقوم الساعة»(3).

وعن بريد العجلي عن أبي جعفر (علیه السلام) في قول الله تبارك وتعالى:

«فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً»(4) فجعلنا منهم الرسل والأنبياء والأئمة فكيف يقرون في آل إبراهيم وينكرون في آل محمد (علیهم السلام).

قلت: فما معنى قوله: «وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً» قال: «الملك العظيم أن جعل فيهم أئمة من أطاعهم أطاع الله ومن عصاهم عصى الله فهو الملك العظيم»(5).

ص: 399


1- سورة النساء: 59.
2- سورة النساء: 59.
3- بحار الأنوار: ج23 ص286 ب17 ح3.
4- سورة النساء: 54.
5- بصائر الدرجات: ص36 ب17 ح6.

.............................

وعن جابر الأنصاري قال: سألت النبي (صلی الله علیه و آله) عن قوله: «يا أيها الذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ» عرفنا الله ورسوله، فمن أولي الأمر؟ قال: «هم خلفائي يا جابر وأئمة المسلمينبعدي، أولهم علي بن أبي طالب (علیه السلام) ثم الحسن ثم الحسين ثم علي بن الحسين ثم محمد بن علي المعروف في التوراة بالباقر وستدركه يا جابر فإذا لقيته فأقرئه مني السلام، ثم الصادق جعفر بن محمد ثم موسى بن جعفر ثم علي بن موسى ثم محمد بن علي ثم علي بن محمد ثم الحسن بن علي ثم سميي وكنيي حجة الله في أرضه وبقيته في عباده ابن الحسن بن علي، الذي يفتح الله على يده مشارق الأرض ومغاربها، ذاك الذي يغيب عن شيعته غيبة لا يثبت على القول بإمامته إلا من امتحن الله قلبه بالإيمان»(1).

وعن أبان أنه دخل على أبي الحسن الرضا (علیه السلام) قال: فسألته عن قول الله «يا أيها الذين آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ» فقال: «ذلك علي بن أبي طالب صلوات الله عليه» ثم سكت فلما طال سكوته قلت: ثم من؟ قال: «ثم الحسن (علیه السلام)» ثم سكت، فلما طال سكوته قلت: ثم من؟ قال: «الحسين (علیه السلام)» قلت: ثم من؟ قال: «ثم علي بن الحسين (علیه السلام)»وسكت، فلم يزل يسكت عن كل واحد حتى أعيد المسألة فيقول حتى سماهم إلى آخرهم (علیهم السلام)(2).

ص: 400


1- المناقب: ج1ص282 فصل في الآيات المنزلة فيهم (علیهم السلام).
2- بحار الأنوار: ج23 ص292-293 ب17 ح26.

.............................

وعن عمرو بن سعيد قال: سألت أبا الحسن (علیه السلام) عن قوله «أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ» قال: قال: «علي بن أبي طالب والأوصياء من بعده»(1).

قولها (علیها السلام): «فلا نبرح أو تبرحون» (أو) بمعنى: إلاّ، أي: لا نبرح إلا أن تبرحوا أنتم أيضاً، بمعنى: إنكم تأتمرون بأوامرنا وتزجرون بنواهينا.

ومن المحتمل أن يكون معنى «لا نبرح أو تبرحون»: لا نغضب أو تغضبون أي إلا أن تغضبوا أنتم أيضاً.

وبعبارة أخرى: لو كان ماضيه (بَرِحَ) بمعنى زال عن مكانه كان المعنى الأول هو المراد، ولو كان ماضيه (بَرَحَ) كان المعنى الثاني هو المراد، والأول هوالظاهر خاصة بقرينة ما بعده.

ص: 401


1- تفسير العياشي: ج1 ص253 من سورة النساء ح176.

نأمركم فتأتمرون

اشارة

-------------------------------------------

عمومية وجوب الإطاعة

مسألة: تجب إطاعة وامتثال أهل البيت (علیهم السلام) في أوامرهم الوجوبية، إذ قد تكون الأوامر إرشادية أو استحبابية، كما قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) في قصة زواج امرأة حيث سألته: أتأمرني يا رسول الله، فقال: لا إنما أنا شافع.

كما أنه تجب إطاعتهم حتى في الأوامر العادية إذا قالوها على سبيل الطلب والجدّ، وليس غيرهم كذلك، كما إذا طلبوا من أحد السفر أو فتح محل أو بيع أو شراء أو زواج أو ما أشبه ذلك، فهذا من خصائص الولاية.

عن أبي حمزة عن مأمون الرقي قال: كنت عند سيدي الصادق (علیه السلام) إذ دخل سهل بن حسن الخراساني، فسلم عليه ثم جلس فقال له: يا ابن رسول الله لكم الرأفة والرحمة وأنتم أهل بيت الإمامة، ما الذي يمنعك أن يكون لك حق تقعد عنه وأنت تجد من شيعتك مائة ألف يضربون بين يديك بالسيف؟فقال له (علیه السلام): «اجلس يا خراساني رعى الله حقك» ثم قال: «يا حنفية اسجري التنور»، فسجرته حتى صار كالجمرة وابيض علوه، ثم قال: «يا خراساني قم فاجلس في التنور».

فقال الخراساني: يا سيدي يا ابن رسول الله لا تعذبني بالنار، أقلني أقالك الله.

قال: «قد أقلتك».

ص: 402

.............................

فبينما نحن كذلك إذ أقبل هارون المكي ونعله في سبابته، فقال: السلام عليك يا ابن رسول الله.

فقال له الصادق (علیه السلام): «ألق النعل من يدك واجلس في التنور».

قال: فألقى النعل من سبابته ثم جلس في التنور، وأقبل الإمام يحدث الخراساني حديث خراسان حتى كأنه شاهد لها، ثم قال: «قم يا خراساني وانظر ما في التنور».

قال: فقمت إليه فرأيته متربعا فخرج إلينا وسلم علينا!.

فقال له الإمام (علیه السلام): «كم تجد بخراسان مثل هذا»؟فقلت: والله ولا واحدا.

فقال (علیه السلام): «لا والله ولا واحدا، أما إنا لا نخرج في زمان لا نجد فيه خمسة معاضدين لنا نحن أعلم بالوقت»(1).

وعن معمر بن خلاد قال: سأل رجل فارسي أبا الحسن الرضا (علیه السلام) فقال: طاعتكم مفترضة؟ فقال: «نعم» فقال كطاعة علي بن أبي طالب (علیه السلام)؟ فقال: «نعم»(2).

وفي زيارة الأئمة بالبقيع (علیهم السلام): «وأشهد أنكم الأئمة الراشدون المهتدون وأن طاعتكم مفروضة وأن قولكم الصدق وإنكم دعوتم فلم تجابوا وأمرتم فلم تطاعوا»(3).

ص: 403


1- المناقب: ج4 ص237 فصل في خرق العادات له (علیه السلام).
2- بحار الأنوار: ج23 ص301 ب17 ح54.
3- الدعاء والزيارة، للإمام الشيرازي (قدس سره): ص590 زيارة الأئمة (علیهم السلام) بالبقيع.

.............................

وأيضا: «وأعطاكم راية الحق التي من تقدمها ضل ومن تخلف عنها ذل، وفرضطاعتكم ومودتكم على كل أسود وأبيض من عباده»(1).

وأيضاً: «بأبي أنتم وأمي، لقد رضعتم ثدي الإيمان، وربيتم في حجر الإسلام، واصطفاكم الله على الناس، وورثكم علم الكتاب، وعلمكم فصل الخطاب، وأجرى فيكم مواريث النبوة، وفجر بكم ينابيع الحكمة، وألزمكم بحفظ الشريعة، وفرض طاعتكم ومودتكم على الناس»(2).

وفي زيارة الجامعة: «وقرن طاعتكم بطاعته»(3).

وإنما ذكرت الزهراء (علیها السلام) في هذا المقطع من خطبتها الشريفة، الأمر دون النهي لأن الأمر في أمثال هذا المقام يشمل النهي أيضاً، كما ألمعنا إلى ذلك في مثله من البنود السابقة.

قولها (علیها السلام): «نأمركم فتأتمرون» أي: تقبلون أوامرنا، فلماذا الآن انتكصتم عن مناصرتنا وعن إطاعتنا؟!

ص: 404


1- بحار الأنوار: ج97 ص207-208 ب6 ح8.
2- بحار الأنوار: ج97 ص209 ب6 ضمن ح8.
3- تهذيب الأحكام: ج6 ص99 ب46 ح1.

حتى إذا دارت بنا رحى الإسلام

اشارة

-------------------------------------------

محورية أهل البيت (علیهم السلام)

حتى إذا دارت بنا (1) رحى الإسلام

محورية أهل البيت (علیهم السلام)

مسألة: لقد دارت بأهل البيت (علیهم السلام) رحى الإسلام حدوثاً، وهي دائرة بهم (علیهم السلام) استمراراً أيضاً، وذلك:

أولاً: لأن البقاء فرع الحدوث، والشيء يعلل بأولى علله أيضاً حقيقة.

وثانياً: لأنهم (علیهم السلام) علل قريبة للبقاء، كما هم (علیهم السلام) علل بعيدة أيضاً، فإن وجودهم وكلماتهم ومواقفهم وآثارهم ومناهجهم وما تركوه من تراث فكري وأدبي وجهادي - بل حتى قبورهم ومراقدهم الشريفة - لا تزال هي التي تدور عليها وبها رحى الإسلام، وعلى أي حال لولاهم (علیهم السلام) لم يقم للإسلام عود ولا استقام له عمود.

نعم إن الإسلام كان دين الأنبياء (علیهم السلام) قبل رسول الله (صلی الله علیه و آله) لكن ذلك الإسلام شوّهته الجاهلية حتى لم يبق منه إلا كأنوارالحُباحِب(2) الصغيرة في الليالي المظلمة المدلهمة.

أو يقال: بأن المراد ب- (الإسلام) في كلامها (علیها السلام) هو الإسلام بالمعنى المصطلح، لا بالمعنى الأعم(3)، فيكون المراد المعنى الحقيقي من (حتى إذا دارت).

ص: 405


1- وفي بعض النسخ: (حتى دارت لكم بنا رحى الإسلام).
2- نار الحباحب: النار الخفية يضرب بها المثل في الضعف - والحباحب ما تقدحه حوافر الخيل - وأيضاً: الحباحب وأم حُباحب: ذباب ذو ألوان يطير في الليل، في ذنبه شعاع كالسراج.
3- أي الذي يطلق على مجموعة من الكليات التي آمن بها الرسل (علیهم السلام) وتشكل القاسم المشترك مع الدين الإسلامي.

.............................

قولها (علیها السلام): «حتى إذا دارت بنا رحى الإسلام» هو كناية عن استقرار الأمر للإسلام وانتظام أموره على يد أهل البيت (علیهم السلام).

عن عبد الله بن جندب أنه كتب إليه الرضا (علیه السلام): «أما بعد فإن محمدا (صلی الله علیه و آله) كان أمين الله في خلقه، فلما قبض (صلی الله علیه و آله) كنا أهل البيت ورثته، فنحن أمناء الله في أرضه، عندنا علم البلايا والمنايا وأنساب العرب ومولدالإسلام»(1).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «الإسلام عريان فلباسه الحياء، وزينته الوقار، ومروءته العمل الصالح، وعماده الورع، ولكل شيء أساس وأساس الإسلام حبنا أهل البيت»(2).

وقال أبو جعفر (علیه السلام): «بني الإسلام على خمس: إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم شهر رمضان والولاية لنا أهل البيت، فجعل في أربع منها رخصة ولم يجعل في الولاية رخصة، من لم يكن له مال لم تكن عليه الزكاة، ومن لم يكن له مال فليس عليه حج، ومن كان مريضا صلى قاعدا وأفطر شهر رمضان، والولاية صحيحا كان أو مريضا أو ذا مال أو لا مال له فهي لازمة»(3).

وعن أبي جعفر (علیه السلام) أنه قال: «إن الجنة لتشتاق ويشتد ضوؤها بمجيء آل محمد (علیهم السلام) وشيعتهم، ولو أن عبدا عبد الله بين الركن والمقام حتى تتقطع أوصاله وهولا يدين الله بحبنا وولايتنا أهل البيت ما قبل الله منه»(4).

ص: 406


1- الكافي: ج1 ص223 باب أن الأئمة ورثوا علم النبي ح1.
2- الكافي: ج2 ص46 باب نسبة الإسلام ح2.
3- وسائل الشيعة: ج1 ص23 ب1 ح24.
4- دعائم الإسلام: ج1 ص74 ذكر مودة الأئمة من آل محمد (صلی الله علیه و آله).

ودرّ حلب الأيام

اشارة

-------------------------------------------

إنهم (علیهم السلام) وسائط الفيض

مسألة: قد سبق أنهم (علیهم السلام) وسائط الفيض، والنعم في أصلها وفي مراتبها ودرجاتها وكمها وكيفها تكون بهم وعبرهم، وهذا كله بإرادة الله وأمره. وقد أشارت (علیها السلام) إلى بعض تلك المراتب حيث قالت: «ودر حلب الأيام» أي بنا.

فإن البركة المعنوية تتوفر بسببهم (عليهم الصلاة والسلام) فقط، والبركة المادية تكون بسبب مناهجهم التي أوجبت وحدة الأمة وتعاونها وتقدمها في مختلف أبعاد الحياة، كما قالت (علیها السلام):«وطاعتنا نظاماً للملة، وإمامتنا أمامناً من الفرقة»(1).

قولها (علیها السلام): «ودر حلبالأيام» درّ اللبن عبارة عن جريانه بكثرة، والحلب: استخراج ما في الضرع من اللبن، أي: بسبب إطاعتكم لأوامرنا ظهرت لكم النتائج الحسنة من الخير والنعمة والألفة وغير ذلك.

ومن هنا فإن ولايتهم (عليهم أفضل الصلاة والسلام) هي الأساس في كل خير، ولم يبعث الله نبياً إلا بها.

عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «ولايتنا ولاية الله التي لم يبعث نبيا قط إلا بها»(2).

ص: 407


1- بحار الأنوار: ج29 ص223 فصل نورد فيه خطبة خطبتها سيدة النساء (علیها السلام).
2- الكافي: ج1 ص437 باب فيه نتف وجوامع من الرواية في الولاية ح3.

.............................

وعن عبد الأعلى قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: «ما من نبي جاء قط إلا بمعرفة حقنا وتفضيلنا على من سوانا»(1).

وعن أبي جعفر (علیه السلام) قال: سمعته يقول: «والله إن في السماء لسبعين صفا من الملائكة لو اجتمع أهل الأرض كلهم يحصون عدد كل صف منهم ما أحصوهموإنهم ليدينون بولايتنا»(2).

وعن أبي الحسن (علیه السلام) قال: «ولاية علي (علیه السلام) مكتوبة في جميع صحف الأنبياء ولم يبعث الله رسولا إلا بنبوة محمد (صلی الله علیه و آله) ووصيه علي (علیه السلام)»(3).

وعن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إن الله عزوجل نصب عليا (علیه السلام) علما بينه وبين خلقه فمن عرفه كان مؤمنا، ومن أنكره كان كافرا، ومن جهله كان ضالا، ومن عدل بينه وبين غيره كان مشركا، ومن جاء بولايته دخل الجنة، ومن جاء بعداوته دخل النار»(4).

وعن أبي يوسف البزاز قال: تلا أبو عبد الله (علیه السلام) هذه الآية: «فاذكروا آلاء الله»(5)، قال: «أتدري ما آلاء الله»؟ قلت: لا، قال: «هي أعظم نعم الله علىخلقه وهي ولايتنا»(6).

ص: 408


1- الكافي: ج1 ص437 باب فيه نتف وجوامع من الرواية في الولاية ح4.
2- الكافي: ج1 ص437 باب فيه نتف وجوامع من الرواية في الولاية ح5.
3- الصراط المستقيم: ج1 ص278 الباب الثامن فيما جاء في تعيينه.
4- بحار الأنوار: ج38 ص119 ب61 ح63.
5- سورة الأعراف: 69.
6- الكافي: ج1 ص217 باب أن النعمة التي ذكرها الله عزوجل في كتابه الأئمة (علیهم السلام) ح3.

.............................

وعن أبي حمزة قال: سألت أبا جعفر (علیه السلام) عن قول الله تبارك وتعالى: «ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين»(1)، قال: «تفسيرها في بطن القرآن يعني من يكفر بولاية علي (علیه السلام) وعلي هو الإيمان»(2).

وعن زرارة قال: كنت عند أبي جعفر (علیه السلام) فقال لي رجل من أهل الكوفة: سله عن قول أمير المؤمنين (علیه السلام): «سلوني عما شئتم ولا تسألوني عن شيء إلا أنبأتكم به» قال: فسألته، فقال: «إنه ليس أحد عنده علم شيء إلا خرج من عند أمير المؤمنين (علیه السلام) فليذهب الناس حيث شاؤوا فوالله ليأتين الأمر هنا وأشار بيده إلى صدره»(3).

بحث حول الزمن

ولا بأس ههنا بالاستطراد والإشارة، بمناسبة ذكرها (علیها السلام) للأيام، إلى بحث عابر حول اليوم والساعة والزمن بشكل عام، فنقول:

لقد اختلفوا في الزمان من قديم الأيام أنه ما هو؟

فهل هو مقدار حركة الفلك؟

أم هو أمر اعتباري؟

أم غير ذلك؟

ص: 409


1- سورة المائدة: 5.
2- بحار الأنوار: ج35 ص369 ب16 ح14.
3- بصائر الدرجات: ص518-519 ب19 ح1.

.............................

وقد عده بعضهم: البعد الرابع للجسم.

وليس الكلام الآن في ذلك، بل الكلام في أنه هل الساعة(1) - وهي من مصاديق الزمن - خارجة عن الجسم، أو داخلة فيه، أو شيء ثالث لم يصل إليه علم البشر؟

فأنصار الأول يقولون: إنه شيء حقيقي لا يختلف فيه نفران يكونان في مكان واحد فرضاً، مثله مثل المكان الذي هو كذلك، وإنما الاختلاف بالحس - بالطول والقصر في المريض والصحيحونحوهما - وإن كان الواقع شيئاً واحداً مثل يدي الإنسان يدخلهما في إناء ماء فاتر بعد أن يخرج إحدى يديه من ماء حار والأخرى من ماء بارد، حيث تحسّ اليد الأولى بالبرودة والثانية بالحرارة مع أن الماء واحد، فالاختلاف ليس بالحقيقة وإنما هو في الإحساس، وكذلك اثنان يشاهدان شيئاً واحداً أحدهما يراه شبحاً لضعف عينه والثاني يراه بكامل هيئته لقوتها، وهكذا الحال في كل الحواس الخمس، بل والروح أيضاً حيث إن أحدهما يفرح والآخر يترح بشيء واحد، بل إن هذا يأتي أيضاً في نفر واحد في حالين ولو متقاربي الزمان، فالجائع يلتذ بالطعام التذاذا كبيراً، وبعد شبعه لا يلتذ بنفس ذلك الطعام بل ربما اشمأزّ منه.

وأنصار الثاني يقولون: إن الساعة شيء في داخل الإنسان، فإذا أسرعت في الحركة رأى الإنسان الزمان قصيراً، وإذا أبطأت رآه طويلاً، فالمريض والصحيح والصغير والكبير ومن في الترح ومن في الفرح ومن ينتظر ومن لا ينتظر

ص: 410


1- وقد قسموها إلى المستوية والمعوجة، وبمعنى جزء من الزمان.

.............................

يرون الزمان بشكل متعاكس طولاً وقصراً،حيث إن المريض يرى أن ليله لا ينقضي بخلاف الصحيح وهكذا.

وبعض المكاشفات عن حال الأموات دل على نفس هذه الحالة فيهم أيضاً، حيث إن الميت الذي كان في السعادة مرت عليه ألف سنة وكأنها ساعة، والذي كان في الشقاء مرّت عليه الساعة وكأنها ألف سنة.

ولعل ما ورد من الدعاء: «يا مبدل الزمان»(1) يكون إشارة إلى ذلك، وإن كان ظاهره غيره من تبديله حالة إلى حالة.

ونحوه قوله (علیه السلام): «إذا تغير السلطان تغير الزمان» (2).

وقوله (علیه السلام): «إذا فسد الزمان ساد اللئام» (3).

وما ورد من أن الله يقضي بسرعة الفلك في ظل حكومة الجائر وبطوله في ظل حكومة العادل، فعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «إن الله عزوجل جعل لمن جعل له سلطانا مدة من ليالي وأيام وسنينوشهور، فإن عدلوا في الناس أمر الله عزوجل صاحب الفلك أن يبطئ بإدارته فطالت أيامهم ولياليهم وسنوهم وشهورهم، وإن هم جاروا في الناس ولم يعدلوا أمر الله عزوجل صاحب الفلك فأسرع إدارته وأسرع فناء لياليهم وأيامهم وسنيهم وشهورهم، وقد وفى تبارك وتعالى لهم بعدد الليالي والأيام والشهور»(4).

ص: 411


1- مهج الدعوات: ص90-91 ومن ذلك دعاء النبي (صلی الله علیه و آله) وهو دعاء الفرج.
2- غوالي اللآلي: ج1 ص287 الفصل العاشر ح140.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: ج347 ذم الحكومة الجائر ح8009.
4- بحار الأنوار: ج4 ص103 ب3 ح16.

.............................

ومنه يعرف معنى من معاني قول رسول الله (صلی الله علیه و آله):«لا تعادوا الأيام فتعاديكم» (1) حيث إن عداوة الأيام بمعنى ما في الأيام على سبيل المجاز، فإن نفس الأيام لا تعادى، بل توجب انعكاس العداوة إلى النفس، فالساعة النفسية تمر ثقيلة كالذي في مرض أو ما أشبه ذلك، هذا وقد ورد تأويل الرواية بالمعصومين (علیهم السلام).

عن الصقر بن أبي دلف عن الإمام أبي الحسن الهادي (علیه السلام) قال: قلت: يا سيدي حديث يروى عن النبي (صلی الله علیه و آله) لا أعرف معناه، فقال:«وما هو»؟

قلت: قوله (صلی الله علیه و آله): «لا تعادوا الأيام فتعاديكم» ما معناه؟

فقال: «نعم، الأيام نحن ما قامت السماوات والأرض، فالسبت اسم رسول الله (صلی الله علیه و آله) والأحد اسم أمير المؤمنين (علیه السلام) والاثنين الحسن والحسين (علیهما السلام) والثلاثاء علي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد (علیهم السلام) والأربعاء موسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمد بن علي وأنا (علیهم السلام) والخميس ابني الحسن (علیه السلام) والجمعة ابن ابني (علیه السلام) وإليه يجتمع عصابة الحق وهو الذي يملؤها قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما، وهذا معنى الأيام فلا تعادوهم في الدنيا فيعادوكم في الآخرة» (2).

وعن سلمة بن محرز قال: سمعت أبا جعفر (علیه السلام) يقول: «إن من علم ما أوتينا تفسير القرآن وأحكامه وعلم تغير الزمان وحدثانه»(3).

ص: 412


1- مستدرك الوسائل: ج13 ص77 ب11 ح14804.
2- بحار الأنوار: ج36 ص413-414 ب47 ح3.
3- الكافي: ج1 ص229 باب أنه لم يجمع القرآن كله ح3.

وخضعت نعرة الشرك

اشارة

-------------------------------------------

وخضعت نعرة (1) الشرك

إخضاع الإعلام المضل

مسألة: يجب إخضاع الشرك وإخماده.

وربما يستفاد من كلامها (علیها السلام) هذا أن من مقاصد الشريعة (ومن الواجبات): إخضاع الإعلام الضال والمضل والدعايات المنحرفة، فإنها من مصاديق نعرة الشرك، فإن الشرك قبل الإسلام كانت له نعرة(2) وجلبة وضوضاء وهدير وصخب يغطّي الآفاق وفي مختلف أبعاد الحياة، وإنما أخضعها رسول الله (صلی الله علیه و آله) حيث أسلم الناس ولحق الشرك بزوايا الخمول.

فالواجب هو إخماد الشرك كلياً، فإن لم يمكن فلا أقل من إخضاعه وإسكات نعرته وصرخته، فإذا لم يتمكن الإنسان من إخماده وتمكن من إخضاع نعرته وجب عليه ذلك، فإن الشرك كلما كان أقل وكلما كان علو صوته وارتفاعه أخف كان أفضل.

عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال:«وأكبر الكبائر الشرك بالله» (3).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «اجتنبوا السبع الموبقات، الشرك بالله» إلى أن قال:«وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات»(4).

ص: 413


1- وفي بعض النسخ: ثغرة الشرك.
2- نعير: صاح وصوّت بخيشومه، والناعر: الصائح، وامرأة نعّارة أي: صخّابة وفحاشة.
3- مستدرك الوسائل: ج11 ص355 ب46 ضمن ح13244.
4- بحار الأنوار: ج76 ص113 ب83 ح15.

.............................

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يتعوذ في كل يوم من ست، من الشك والشرك والحمية والغضب والبغي والحسد» (1).

وعن أبي محمد (علیه السلام) قال: «الشرك في الناس أخفى من دبيب النمل على المسح الأسود في الليلة المظلمة» (2).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام): «أن رجلا من خثعم جاء إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال: أي الأعمال أبغضإلى الله؟ فقال: الشرك بالله، قال: ثم ماذا؟ قال: قطيعة الرحم، قال: ثم ماذا؟ قال: الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف» (3).

وقد روي عن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه قال: «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر» قيل: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: «الرياء» قال: «يقول الله عزوجل يوم القيامة إذا جازى العباد بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا هل تجدون عندهم ثواب أعمالكم»(4).

وروي عن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه قال: «قال الله عزوجل: أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا منه بريء فهو للذي أشرك» (5).

وعن المفضل بن عمر الجعفي قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: «فضل أمير المؤمنين ما جاء به النبي (صلی الله علیه و آله) أخذ به، وما نهى عنه انتهى عنه،

ص: 414


1- بحار الأنوار: ج69 ص126 ب100 ح7.
2- بحار الأنوار: ج69 ص298-299 ب116 ح31.
3- المحاسن: ج1 ص295 ب48 ح460.
4- بحار الأنوار: ج69 ص266 ب116 ضمن ح1.
5- بحار الأنوار: ج67 ص222 ب54.

.............................

جرى له من الفضل ما جرى لمحمد (صلی الله علیه و آله) ولمحمد الفضل على جميع من خلق الله، المتعقب عليه في شيء من أحكامه كالمتعقب على الله وعلى رسوله، والراد عليه في صغيرة أو كبيرة على حد الشرك بالله، كان أمير المؤمنين باب الله الذي لايؤتى إلا منه وسبيله الذي من سلك بغيره هلك، وكذلك جرى على الأئمة الهدى واحدا بعد واحد، جعلهم الله أركان الأرض أن تميد بأهلها والحجة البالغة من فوق الأرض ومن تحت الثرى»(1).

وفي بعض النسخ من الخطبة الشريفة: ثغرة، أي «وخضعت ثغرة الشرك» (وجمعها ثغور) وهي بمعنى: المنفذ والمكان الذي يخاف منه هجوم العدو، أي قد خضعت الثغرة التي كان منها يدخل الشرك.

أو بمعنى نقرة النحر بين الترقوتين، فخضوعها كناية عن سقوط الشرك كالحيوان الساقط على الأرض.

وفي بعضها: (نعرة) وهي إما تقرأ (نُعَرَة) على وزن (هُمَزَة) وكذلك (نُعْرة)، ومعناها: الخيشوم والكبر والخيلاء.أو تقرأ (نَعْرة) فتكون بمعنى فَوْرة الشرك وفورانه، أو بمعنى: صرخة وهو ما مشينا عليه.

وغير خفي أن كلامهم (عليهم الصلاة والسلام أجمعين) يوزن بالمثاقيل، فإن كل كلمة منه يكمن ورائها سر في انتخابها دون غيرها من الكلمات..

وههنا نجدها (عليها الصلاة والسلام) تقول: «وخضعت ثغرة الشرك» ولم تقل

ص: 415


1- بصائر الدرجات: ص200-201 ب9 ح3.

.............................

أزيلت أو أعدمت بل خضعت فحسب.

وهكذا الجمل اللاحقة «وسكنت فورة الإفك» و«خمدت نيران الكفر» فإن خمدت النار، بمعنى سكن لهبها ولم يطفأ جمرها..

وما أدقه من تعبير ومن وصف لحالة الكفار والمشركين عندئذ إذ إنهم لم يفنوا بل استسلموا وخضعوا.

ص: 416

وسكنت فورة الإفك

اشارة

-------------------------------------------

حرمة الإفك

مسألة: يحرم الإفك ويجب إسكان فورته، فإن الإفك هو الكذب وهو محرّم بمختلف أقسامه، سواء كان كذباً في التوحيد أم النبوة أم المعاد أم غير ذلك، وسواء كان كذباً في الأحكام والأخلاق والآداب ونحوها أم في الشؤون الشخصية، نعم لحرمته مراتب ودرجات.

وإذا لم يتمكن الإنسان من إخماد أصل الإفك وتمكن من إخماد فورته بأن لا يكون له اشتعال وجولان وجب بالقدر الممكن.

قولها (علیها السلام): «وسكنت فورة الإفك»، فورته: غليانه، فإن الجاهلية كانت مسرحاً للكذب في العقيدة والعمل، ولما جاء الإسلام تبدل الكذب إلى الصدق في كل شيء.

روي عن أبي الجارود، عن أبي جعفر (علیه السلام) في قوله تعالى: «إِفْكٌ افْتَراهُ»(1) قال: «الإفك الكذب»(2).وفي زيارة لمولانا أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه): «السلام عليك يا داحض الإفك ومبطل الشرك ومزيل الشك»(3).

ص: 417


1- سورة الفرقان: 4.
2- بحار الأنوار: ج9 ص228 ب1 ضمن ح115.
3- بحار الأنوار: ج97 ص331 ب4 ح30.

.............................

وفي الغرر: «أقبح شيء الإفك»(1).

وعن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «كان علي بن الحسين (علیه السلام) يقول لولده: اتقوا الكذب الصغير منه والكبير، في كل جد وهزل، فإن الرجل إذا كذب في الصغير اجترأ على الكبير، أما علمتم أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: ما يزال العبد يصدق حتى يكتبه الله صديقا، وما يزال العبد يكذب حتى يكتبه الله كذابا»(2).

وعن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «إن الله عزوجل جعل للشر أقفالا وجعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب، والكذب شرمن الشراب»(3).

وعن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «إن الكذب هو خراب الإيمان»(4).

وقال (علیه السلام): «إياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار»(5).

ص: 418


1- غرر الحكم ودرر الكلم: ص219 ذم الكذب ح4367.
2- الكافي: ج2 ص338 باب الكذب ح2.
3- وسائل الشيعة: ج12 ص244 ب138 ح16206.
4- بحار الأنوار: ج69 ص247 ب114 ح8.
5- بحار الأنوار: ج69 ص263 ب114 ح48.

وخمدت نيران الكفر

اشارة

-------------------------------------------

الكفر ونيرانه

مسألة: يجب إخماد نيران الكفر.

كما أن النار المادية تحرق الأجسام كذلك الكفر هو نار تحرق الماديات والمعنويات، فإن الكفر يسبب تكالب الناس على المادة ويوجب إشعال الحروب والثورات ويؤدي إلى القتل وسفك الدماء وما أشبه ذلك، فالواجب على الإنسان إخماد نيرانه، وإذا تمكن من إزالة أصل الكفر في مكان وجب، وإذا لم يتمكن وتمكن من إخماد نيرانه - ولو بقدر - وجب حسب القدرة.

قال تعالى: «وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ وَ الْيَوْمِ الآْخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً»(1).

قولها (علیها السلام): «وخمدت نيران الكفر» خمود النار عبارة عن سكون لهيبها، أي: أن حروب الجاهلية خمدت ببركة الإسلام ونشره.

فمعنى (نيران الكفر) إما النيرانالتي ولّدها الكفر، فتكون الحروب إحدى الأمثلة والمصاديق، أو معناها (نيران هي الكفر) فالمعنى خمود الكفر نفسه، وذلك نظراً لكون الإضافة لامية أو بيانية.

وكان من إرهاصات ولادة النبي (صلی الله علیه و آله) أن خمدت نيران فارس، قال الإمام الصادق (علیه السلام): «أصبحت الأصنام على وجوهها، وارتجس إيوان كسرى وسقط

ص: 419


1- سورة النساء: 136.

.............................

منه أربع عشرة شرافة، وغاضت بحيرة ساوة، وخمدت نار فارس ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، ولم يبق سرير لملك إلا أصبح منكوسا والملك مخرسا لايتكلم يومه ذلك، وانتزع علم الكهنة، وبطل سحر السحرة ولم تبق كاهنة في العرب إلا حجبت عن صاحبها»(1).

وعن يونس بن عبد الرحمن: أن الرضا (علیه السلام) كان يأمر بالدعاء لصاحب الأمر بهذا الدعاء، إلى أن يقول: «وجدد به ما امتحى من دينك، وبدل من حكمك حتى تعيد دينك به وعلى يديه جديدا غضا محضا صحيحا لا عوج فيه ولابدعة معه وحتى تنير بعدله ظلم الجور وتطفئ به نيران الكفر»(2).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «ليس بين الإيمان والكفر إلا قلة العقل»(3).

وعن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: قلت له: أخبرني عن وجوه الكفر في كتاب الله عزوجل.

قال: «الكفر في كتاب الله على خمسة أوجه: فمنها كفر الجحود، والجحود على وجهين، والكفر بترك ما أمر الله، وكفر البراءة، وكفر النعم، فأما كفر الجحود فهو الجحود بالربوبية وهو قول من يقول لا رب ولا جنة ولا نار، وهو قول صنفين من الزنادقة يقال لهم الدهرية وهم الذين يقولون: «وما يهلكنا إلا الدهر»(4)، وهو دين وضعوه لأنفسهم بالاستحسان على غير تثبت

ص: 420


1- المناقب: ج1 ص30 فصل في مولده (علیه السلام).
2- بحار الأنوار: ج92 ص331 ب115 ح4.
3- الكافي: ج1 ص28 كتاب العقل والجهل ح33.
4- سورة الجاثية: 24.

.............................

منهم ولا تحقيق لشيء مما يقولون، قالالله عزوجل: «إن هم إلا يظنون»(1) أن ذلك كما يقولون، وقال: «إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون»(2) يعني بتوحيد الله تعالى، فهذا أحد وجوه الكفر.

وأما الوجه الآخر من الجحود على معرفة وهو أن يجحد الجاحد وهو يعلم أنه حق قد استقر عنده، وقد قال الله عزوجل: «وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا»(3)، وقال الله عزوجل: «وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين»(4)، فهذا تفسير وجهي الجحود.

والوجه الثالث من الكفر: كفر النعم، وذلك قوله تعالى يحكي قول سليمان (علیه السلام): «هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم»(5)، وقال: «لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد»(6)، وقال: «فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولاتكفرون»(7).

والوجه الرابع من الكفر: ترك ما أمر الله عزوجل به، وهو قول الله عزوجل: «وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم

ص: 421


1- سورة الجاثية: 24.
2- سورة البقرة: 6.
3- سورة النمل: 14.
4- سورة البقرة: 89.
5- سورة النمل: 40.
6- سورة إبراهيم: 7.
7- سورة البقرة: 152.

.............................

من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون * ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم»(1)، فكفرهم بترك ما أمر الله عزوجل به ونسبهم إلى الإيمان ولم يقبله منهم ولم ينفعهم عنده فقال: «فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون»(2).

والوجه الخامس من الكفر: كفر البراءة، وذلك قوله عزوجل يحكي قول إبراهيم (علیه السلام): «كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاءأبدا حتى تؤمنوا بالله وحده»(3)، يعني تبرأنا منكم، وقال يذكر إبليس وتبرئته من أوليائه من الإنس يوم القيامة: «إني كفرت بما أشركتمون من قبل»(4)، وقال: «إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا»(5)، يعني يتبرأ بعضكم من بعض»(6).

ص: 422


1- سورة البقرة: 84-85.
2- سورة البقرة: 85.
3- سورة الممتحنة: 4.
4- سورة إبراهيم: 22.
5- سورة العنكبوت: 25.
6- الكافي: ج2 ص389-392 باب وجوه الكفر ح1.

وهدأت دعوة الهرج

اشارة

-------------------------------------------

حرمة الهرج

مسألتان: يحرم الهرج ويجب تهدئة الدعوة له.

وهو عبارة عن الفتنة واختلاط الأمور، وتداخل الحق والباطل، والصحيح والفاسد، والصالح والطالح، ونحو ذلك.

قال الفيروزآبادي: (هرج الناس يهرجون: وقعوا في فتنة واختلاط وقتل)(1).

وقالت (علیها السلام) في خطبتها لنساء المهاجرين والأنصار وذلك لما اشتد بها العلة وجئن لعيادتها: «ثم طيبوا عن أنفسكم أنفسا وطأمنوا للفتنة جأشا وأبشروا بسيف صارم وهرج شامل واستبداد من الظالمين، يدع فيئكم زهيدا وزرعكم حصيدا، فيا حسرتى لكم وأنى بكم وقد عميت قلوبكم عليكم» الخطبة(2).

وفي منية المريد عن المفضل بن عمر قال: قال لي أبو عبد الله (علیه السلام):«اكتب وبث علمك في إخوانك فإن مت فأورث كتبك بنيك، فإنه يأتي على الناس زمان هرج لا يأنسون فيه إلا بكتبهم»(3).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «لا تقوم الساعة حتى يقوم قائم الحق منا، إذا صارت الدنيا هرجا مرجا، وهو التاسع من صلب الحسين»(4).

ص: 423


1- بحار الأنوار: ج44 ص87 ب20.
2- معاني الأخبار: ص354-355 باب معاني قول فاطمة (علیها السلام) ح1.
3- وسائل الشيعة: ج27 ص81-82 ب8 ح33263.
4- الصراط المستقيم: ج2 ص116 ف3.

.............................

وقال النبي (صلی الله علیه و آله) لابنته فاطمة (علیها السلام): «سوف يخرج الله من صلب الحسين تسعة من الأئمة أمناء معصومون، ومنا مهدي هذه الأمة، إذا صارت الدنيا هرجا ومرجا، وتظاهرت الفتن وتقطعت السبل، و أغار بعضهم على بعض، فلا كبير يرحم صغيرا ولا صغير يوقر كبيرا، فيبعث الله عزوجل عند ذلك مهدينا، التاسع من صلب الحسين، يفتح حصون الضلالة وقلوبا غفلاء، يقوم بالدين في آخر الزمان كما قمت به في أول الزمان ويملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا»(1).قولها (علیها السلام): «وهدأت دعوة الهرج» وهذا مما يشمل عامة الناس في حال عدم الأمن والسلامة.

وهدأت أي: سكنت، وقد سبق أنه لعلها (عليها الصلاة والسلام) أشارت بهذه الجمل إلى أن شيئاً من تلك الحالة الجاهلية كانت باقية فيهم، وذلك لتعبيرها (صلوات الله عليها) بالخضوع والسكون ونحوهما.

مواصفات المجتمع الجاهلي

مسألة: يلزم الاجتناب عن سيئات المجتمع الجاهلي، حيث تشير الصديقة الكبرى (علیها السلام) في هذا المقطع والذي سبقه إلى مجموعة من مواصفات المجتمع الجاهلي هي:

1: الشرك.

2: الإفك، وهو الكذب.

ص: 424


1- بحار الأنوار: ج36 ص307-308 ب41 ح146.

.............................

3: الكفر.

4: الهرج.

وهي مواصفات ترتبط بالعقيدة والسلوك معاً، وتكشف الحالة الفردية والحالة الاجتماعية للناس.

وبعبارة أخرى: ذكرت الصديقة الطاهرة (علیها السلام) علاقتهم بالخالق وعلاقتهم بالخلق، ففي علاقتهمبالخالق كانوا مشركين وكفاراً، وفي العلاقة بالخلق كان الكذب هو الحاكم في طريقة تعامل بعضهم مع بعض، وكان الهرج هو السيد.

وهي صفات مترابطة يؤثر بعضها في البعض الآخر، فإن سيادة الكذب المتبادل في المجتمع من العلل المعدة للهرج (وهو الفتنة، واختلاط الأمور، والقتل) وإن من يشرك بالخالق غيره - وهو من أكبر الأكاذيب - يهون عليه الكذب على المخلوق من أصدقائه ومجتمعه.

في دعائم الإسلام: عن أبي جعفر محمد بن علي (علیه السلام) أنه قال: «خطب رسول الله يوم فتح مكة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إن الله قد أذهب نخوة الجاهلية وتفاخرها بآبائها، ألا إنكم من ولد آدم وآدم من طين، ألا إن خير عباد الله عند الله أتقاكم، إن العربية ليست بأب والد ولكنها لسان ناطق، فمن قصر به عمله لم يبلغ به حسبه، ألا إن كل دم في الجاهلية أو إحنة فهي تحت قدمي إلى يوم القيامة»(1).

ص: 425


1- دعائم الإسلام: ج2 ص198-199 ف2 ح729.

.............................

من مسؤوليات المؤمن

مسألة: هنالك أربع مسؤوليات - في قبال ما ورد في المسألة السابقة - تقع على عاتق كل مصلح، وهي:

1: التصدي للشرك، الجلي والخفي منه.

2: التصدي للإفك والكذب.

3: التصدي للكفر.

4: التصدي للهرج والفتنة.

فالواجب على كل داعية أن يضع التصدي لهذه الأربعة نصب عينيه دائماً.

وقد أشارت الصديقة الطاهرة (علیهم السلام) في هذا المقطع إلى سبعة أدوار ومهام:

1: دارت بهم رحى الإسلام.

2: در بهم حلب الأيام، وهذا من مسؤوليات كل مصلح أن يسعى لتقدم وازدهار أمته.

3: خضعت بهم نعرة الشرك.

4: سكنت بهم فورة الإفك.

5: خمدت بهم نيران الكفر.

6: هدأت بهم دعوة الهرج.

7: استوسق بهم نظام الدين، على ما سيأتي.

ص: 426

.............................

المصلح ودار الدنيا

مسألة: على المصلح أن يضع في باله أن دار الدنيا حيث كانت دار امتحان وابتلاء، وأسباب ومسببات، وقانون: «كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء»(1)، وقانون: «وهديناه النجدين»(2)، لذلك ليس من الممكن عادة أن يقضي الإنسان في فترة قصيرة على كل جذور الفساد (العقيدي والعملي) سواء حكم دولة أو أدار عائلة أو أسس منظمة أو نقابة أو حزباً.

وإذا عرف الإنسان ذلك تحلى بالصبر، ولم يمنعه من القيام بواجباته وجود بعض الثغرات والنواقص والأخطاء التي لا يمكنه تجنبها، فإن البعض لا يسعى لقيام دولة إسلامية متعللاً بأنها ربما تقع فيما بعد بأيد غير أمينة، أو لأننا ربما لا نستطيع من تطبيق الإسلام كاملاً، أو ما أشبه ذلك.

ولكنه يقال: أو ليس الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) قد أقام دولةالإسلام وهو يعلم ب-«أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم»(3)؟

أو ليس قد أقامها وهو يعلم بما قام وسيقوم به أمثال خالد في تعديه على أهل اليمن؟

إلى غير ذلك.

ص: 427


1- سورة الإسراء: 20.
2- سورة البلد: 10.
3- سورة آل عمران: 144.

.............................

ومن البيّن الفرق بين التقصير في التصدي للمنكرات والنواقص، وبين اليأس عن العمل لوجود عدد منها قهراً ودون مقدرة للمرء على القضاء عليها.

قال تعالى: «لست عليهم بمصيطر»(1).

وقال سبحانه: «إنك لا تهدي من أحببت»(2).

وقال تعالى: «ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون»(3).

وقال سبحانه: «ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلمبالمفسدين»(4).

وقال تعالى: «ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لايبصرون»(5).

ص: 428


1- سورة الغاشية: 22.
2- سورة القصص: 56.
3- سورة يونس: 42.
4- سورة يونس: 40.
5- سورة يونس: 43.

واستوسق نظام الدين

اشارة

-------------------------------------------

استيساق الدين بالرسول (صلی الله علیه و آله)

مسألتان: يجب أن يستوسق نظام الدين، ويجب اتباع أهل البيت (علیهم السلام) حتى ينتظم ويستوسق أمره، فإن كل دعوى للاستيساق بواسطة غيرهم باطلة، وهي ككل دعوة باستيساق الأمر من دون الأنبياء (علیهم السلام) ومناهجهم.

والاستيساق بأن تكون شتى الأمور والقضايا الدينية منتظمة ومجتمعة ومتكاملة وعلى وئام تام، فإن الدين جملة واحدة لا يصلح بعضها إلا ببعض، وكل نقص في هذا النظام خبال للإنسان وإنحراف عن الإنسانية، فاللازم أن يهتم الإنسان حتى يستوسق هذا النظام بجميع أجزائه وخصوصياته.

قال تعالى: «أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما اللهبغافل عما تعملون»(1).

وقال سبحانه: «إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً»(2).

وقولها (علیها السلام): «واستوسق نظام الدين» بهم (علیهم السلام) في كل بعديه:

1: النظري عقيدة ومنهاجاً.

ص: 429


1- سورة البقرة: 85.
2- سورة النساء: 150.

.............................

2: والعملي: سلوكاً وممارسة.

كما قال تعالى: «اليوم أكملت لكم دينكم»(1).

وقال (صلی الله علیه و آله): «لضربة علي يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين»(2)، إلى غير ذلك.

عدم الإفراط والتفريط

مسألة: من مقتضيات استيساق نظام الدين، عدم الإفراط أو التفريط.

فإن من ترهبن أو أسرف أو ما أشبه ليس نظام دينه مستوسقاً ومتسقاً.

قال تعالى: «وكذلك جعلناكم أمة وسطا»(3).

وعن بريد العجلي قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن قول الله عزوجل: «وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ»(4) فقال: «نحن الأمة الوسطى ونحن شهداء لله على خلقه وحججه في أرضه»(5).

وعن أبي جعفر (علیه السلام) في قول الله تعالى «وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً» قال أبوجعفر(علیه السلام): «منا شهيد على كل زمان، علي بن أبي طالب (علیه السلام) في زمانه، والحسن

ص: 430


1- سورة المائدة: 3.
2- إقبال الأعمال: ص467 فصل فيما نذكره في جواب من سأل عما في يوم الغدير من الفضل...
3- سورة البقرة: 143.
4- سورة البقرة: 143.
5- تفسير العياشي: ج1 ص62 من سورة البقرة.

.............................

(علیه السلام) في زمانه، والحسين (علیه السلام) في زمانه، وكل من يدعومنا إلى أمر الله»(1).

وعن عمر بن حنظلة قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): «وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ» قال: «هم الأئمة (علیهم السلام) »(2).

وعن أبي بصير قال: سمعت أبا جعفر (علیه السلام) يقول: «نحن نمط الحجاز» فقلت: وما نمط الحجاز؟ قال: «أوسط الأنماط، إن الله يقول: «وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً» قال ثم قال: إلينا يرجع الغالي وبنا يلحق المقصر»(3).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إن الله لم يكتب علينا الرهبانية إنما رهبانية أمتي الجهاد في سبيل الله»(4).

وفي الحديث: «لا رهبانية في الإسلام»(5).

وعن علي (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «ليس فيأمتي رهبانية ولاسياحة ولا زم يعني سكوت»(6).

ص: 431


1- بحار الأنوار: ج23 ص337 ب20 ح7.
2- بحار الأنوار: ج23 ص343 ب20 ح28.
3- تفسير العياشي: ج1 ص63 من سورة البقرة: ح111.
4- مستدرك الوسائل: ج2 ص401 ب60 ضمن ح2303.
5- دعائم الإسلام: ج2 ص193 فصل1 ضمن ح701.
6- بحار الأنوار: ج67 ص115 ب51 ح2.

فأنّى حرتم بعد البيان

اشارة

-------------------------------------------

فأنّى حرتم(1) بعد البيان

الحيرة والشك من المحرمات

مسألة: يحرم الحيرة بعد البيان ووصول الحجة، خاصة فيما يرتبط بهم وبحقوقهم (علیهم السلام)، فإنه من الحيرة والشك في أصول الدين وما يرتبط بأصول الدين، ومن الواضح أن ذلك من أشد المحرمات.

أما الحيرة في فروع الدين فإنها وإن كانت محرمة، إلا أنها ليست بتلك المنزلة، فالفرق بينهما هو الفرق بين أصول الدين وفروعه، وقد قال أمير المؤمنين علي (عليه الصلاة والسلام): «لا ترتابوا فتشكوا ولا تشكوا فتكفروا»(2).

والريب هو: أول مراتب الشك، والشك هو عبارة عن: الإيغال في الترديد، ومن أوغل في الترديد لابد وأن ينتهي به الأمر إلى الكفر.

لا يقال: الحيرة والشك أمر غير اختياري.إذ يقال: كثير من موارده اختياري، والكثير منها اختياري باختيارية المقدمات وبعد ذلك لابد من صرف الذهن ورفع الشك والحيرة.

وربما يكون (حرتم) في قولها (علیها السلام): «فأنى حرتم بعد البيان» إشارة إلى الحيرة العملية، أي إنما سلكتم سلوك الحائر وإن لم تكونوا حيارى حقيقة.

هذا كله على نسخة (حرتم)، وفي بعض النسخ (جُرتم) من الجور أي كيف

ص: 432


1- وفي بعض النسخ: حزتم، وفي بعضها: جرتم.
2- الكافي: ج2 ص399 باب الشك ح2.

.............................

ولماذا جرتم وظلمتمونا بعد أن بان حقنا لكم؟

عن الحسين بن الحكم قال: كتبت إلى العبد الصالح (علیه السلام) أخبره أني شاك وقد قال إبراهيم (علیه السلام) رب أرني كيف تحيي الموتى وأني أحب أن تريني شيئا، فكتب (علیه السلام): «إن إبراهيم كان مؤمنا وأحب أن يزداد إيمانا وأنت شاك والشاك لا خير فيه» وكتب: «إنما الشك ما لم يأت اليقين فإذا جاء اليقين لم يجز الشك، وكتب إن الله عزوجل يقول: «وما وجدنا لأكثرهم منعهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين»(1) قال: نزلت في الشاك»(2).

وعن محمد بن مسلم قال: كنت عند أبي عبد الله (علیه السلام) جالسا عن يساره وزرارة عن يمينه فدخل عليه أبو بصير فقال: يا أبا عبد الله ما تقول فيمن شك في الله؟ فقال: «كافر يا أبا محمد» قال: فشك في رسول الله؟ فقال: «كافر» قال: ثم التفت إلى زرارة فقال: «إنما يكفر إذا جحد»(3).

وعن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن قول الله عزوجل: «الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم»(4)، قال: «بشك»(5).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «إن الشك والمعصية في النار ليسا منا ولا إلينا»(6).

ص: 433


1- سورة الأعراف: 102.
2- الكافي: ج2 ص399 باب الشك ح1.
3- وسائل الشيعة: ج28 ص356 ب10 ح34959.
4- سورة الأنعام: 82.
5- الكافي: ج2 ص399 باب الشك ح4.
6- الكافي: ج2 ص400 باب الشك ح5.

.............................

وقال النبي (صلی الله علیه و آله): «الريب كفر»(1).

وعن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «لا ينفع مع الشك والجحود عمل»(2).

وقال أبو عبد الله (علیه السلام): «من شك أو ظن فأقام على أحدهما أحبط الله عمله إن حجة الله هي الحجة الواضحة»(3).

وعن محمد بن مسلم عن أحدهما (علیهما السلام) قال: قلت: إنا لنرى الرجل له عبادة واجتهاد وخشوع ولا يقول بالحق فهل ينفعه ذلك شيئا؟

فقال: «يا محمد إنما مثل أهل البيت مثل أهل بيت كانوا في بني إسرائيل كان لا يجتهد أحد منهم أربعين ليلة إلا دعا فأجيب، وإن رجلا منهم اجتهد أربعين ليلة ثم دعا فلم يستجب له، فأتى عيسى بن مريم (علیه السلام) يشكوا إليه ما هو فيه ويسأله الدعاء له، قال: فتطهر عيسى وصلى ركعتين ثم دعا الله عزوجل، فأوحى الله عز وجل إليه: يا عيسى إن عبدي أتاني من غير الباب الذي أوتى منه، إنه دعاني وفي قلبه شك منك، فلو دعاني حتى ينقطع عنقهوتنتثر أنامله ما استجبت له، قال: فالتفت إليه عيسى (علیه السلام) فقال: تدعو ربك وأنت في شك من نبيه، فقال: يا روح الله وكلمته قد كان والله ما قلت، فادع الله لي أن يذهب به عني، قال: فدعا له عيسى (علیه السلام) فتاب الله عليه وقبل منه وصار في حد أهل بيته»(4).

ص: 434


1- مستدرك الوسائل: ج18 ص179 ب8 ح22441.
2- الكافي: ج2 ص400 باب الشك ح7.
3- وسائل الشيعة: ج27 ص156 ب12 ح33470.
4- بحار الأنوار: ج14 ص278-279 ب20 ح10.

.............................

وفي تفسير العياشي عن زرارة عن أبي جعفر (علیه السلام): «وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم»(1). يقول: «شكا إلى شكهم»(2).

وعن الصادق (علیه السلام) عن أبيه (علیه السلام) قال: «إن الله عزوجل جعل عليا علما بينه وبين خلقه ليس بينه وبينهم علم غيره، فمن تبعه كان مؤمنا ومن جحده كان كافرا، ومن شك فيه كان مشركا»(3).وروي: «إذا خطر ببالك في عظمته وجبروته أو بعض صفاته شيء من الأشياء فقل: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وعلي أمير المؤمنين، إذا قلت ذلك عدت إلى محض الإيمان»(4).

ص: 435


1- سورة التوبة: 125.
2- تفسير العياشي: ج2 ص118 من سورة البراءة ح164.
3- بحار الأنوار: ج69 ص127 ب100 ح12.
4- فقه الرضا (علیه السلام): ص385 ب108.

وأسررتم بعد الإعلان

اشارة

-------------------------------------------

الجهر بالحق

مسألة: يحرم الإسرار بعد الإعلان في الجملة، خاصة فيما يرتبط بهم وبحقوقهم (علیهم السلام).

فإن الواجب على الإنسان أن يصدع بالحق إذا لم تكن هناك تقية ملزمة، وهؤلاء كانوا صادعين بالحق ثم أسروا طمعاً في الدنيا، ولم تكن تقية توجب ذلك، لأنه كانت فيهم القوة والمنعة والعدد والعدة، وإنما رغبوا إلى الدنيا، ولذا أسرّوا الواقع وأعلنوا نقيضه.

ثم إنه حتى لو لم تكن فيهم القوة والمنعة والعدد والعدة، فإن التقية كانت منهم محرمة مع وجود أمر الإمام (علیه السلام) المفترض الطاعة بعدمها وبضرورة رفع الراية والمطالبة بالحق، ولذلك كان منها (علیها السلام) العتاب أيضاً(1).ثم إنه لا كلام في أن هذا (الإسرار) محرم مطلقاً(2)، إنما الكلام في أن ذكرها (علیها السلام) الإسرار بعد الإعلان هل هو من باب كونه مصداقاً من مصاديقه الخارجية التي وقعت إذ كانوا كذلك، أم تخصيصه بالذكر لأنه أشد حرمة من الإسرار بما هو هو؟

ص: 436


1- أي عتابها (علیها السلام) كان على الإسرار رغم القوة، وعلى الإسرار رغم وجود أمر الإمام (علیه السلام) المفترض الطاعة بالجهر.
2- أي سواء كان قبل الإعلان أو بعده.

.............................

لا يبعد الثاني، خاصة في مثل المقام.

قال تعالى: «وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ»(1).

وعن جابر عن أبي جعفر (علیه السلام): قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من كتم شهادة أو شهد بها ليهدر لها بها دم امرئ مسلم أو ليزوي مال امرئ مسلم أتى يوم القيامة ولوجهه ظلمة مد البصر وفي وجهه كدوح تعرفه الخلائق باسمه ونسبه، ومن شهد شهادة حق ليحيي بها حق امرئ مسلم أتى يوم القيامة ولوجهه نور مد البصر تعرفه الخلائق باسمه ونسبه» ثم قال أبو جعفر (علیه السلام): «ألا ترى أنالله تبارك وتعالى يقول: «وأقيموا الشهادة لله»(2)،»(3).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «عليكم بلزوم العفة والأمانة، فإنهما أشرف ما أسررتم وأحسن ما أعلنتم وأفضل ما ادخرتم»(4).

وقال (علیه السلام): «إن التقوى منتهى رضى الله من عباده وحاجته من خلقه، فاتقوا الله الذي إن أسررتم علمه وإن أعلنتم كتبه»(5).

ص: 437


1- سورة البقرة: 283.
2- سورة الطلاق: 2.
3- الكافي: ج7 ص380-381 باب كتمان الشهادة ح1.
4- مستدرك الوسائل: ج11 ص275 ب22 ضمن ح12987.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: ص269 فضيلتهما والترغيب فيهما - أي التقوى والورع - ح5858.

ونكصتم بعد الإقدام

اشارة

-------------------------------------------

النكوص والتراجع

مسألة: يحرم النكص بعد الإقدام في الجملة، خاصة فيما يرتبط بهم وبحقوقهم (علیهم السلام).

فإن اللازم على الإنسان أن يكون مقداماً، لا أن يكون ناكصاً على عقبيه.

النكوص: الإحجام والرجوع عن الشيء، نكص أي رجع القهقرى.

وهؤلاء توقّفوا عن التقدم بل رجعوا القهقرى، فبينما كانوا لا يبالون بالحياة ويتقدمون إلى سوح الجهاد، ويبذلون كل شيء في سبيل الله سبحانه وتعالى، صاروا يرجعون إلى الخفض والدعة والعيش الرغيد، ولذا تركوا مناصرة الحق وانساقوا مع التيار المنحرف.

ولا يبعد القول بأشدية حرمة النكوص بعد الإقدام من النكوص الابتدائي نظراً لما يحدثه من الوهن ولغير ذلك.

قال تعالى: «فكنتم على أعقابكم تنكصون»(1).

قال أمير المؤمنين (علیه السلام) في نهج البلاغة: «اللهم أيما عبد منعبادك سمع مقالتنا العادلة غير الجائرة، والمصلحة في الدين والدنيا غير المفسدة، فأبى بعد سمعه لها إلا النكوص عن نصرتك، والإبطاء عن إعزاز دينك، فإنّا نستشهدك عليه يا أكبر الشاهدين شهادة، ونستشهد عليه جميع من أسكنته أرضك وسماواتك، ثم أنت بعد، المغني عن نصره والآخذ له بذنبه»(2).

ص: 438


1- سورة المؤمنون: 66.
2- نهج البلاغة، الخطب: 212 كان يستنهض بها أصحابه إلى جهاد أهل الشام في زمانه.

وأشركتم بعد الإيمان

اشارة

-------------------------------------------

إنكار الإمامة شرك

مسألة: يحرم الشرك بعد الإيمان.

والمراد بالشرك هنا: الشرك الخفي، لا الشرك الجلي، لأنهم لم يتخذوا وثناً ولا صنماً ولا ناراً شريكاً لله سبحانه، وإنما رفضوا أحكام الله سبحانه وصاروا بذلك مشركين شركاً خفياً.

وبتعبير آخر: مقتضى المقابلة في كلامها (علیها السلام) بين الشرك والإيمان أنهم لم يكونوا - بعدها - مؤمنين، وإن كانوا مسلمين، إذ لم تقل (علیها السلام) أشركتم بعد الإسلام.

فإن الإسلام يتحقق بالشهادتين وهم أنكروا الشهادة الثالثة - ولو عملياً - فكانوا مشركين وغير مؤمنين عملياً، ونظرياً أيضا إذا أنكروا مضافاً إلى ذلك أدلة الإمامة، فكان شركهم بالقياس إلى أصل الامامة وأيضاً بلحاظ إنكار بعض أحكام الله ومنها إرث الزهراء (علیها السلام) من أبيها رسول الله (صلی الله علیه و آله).

عن جميل بن دراج قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن قول الله عزوجل:«قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم»(1)، فقال لي: «ألا ترى أن الإيمان غير الإسلام»(2).

ص: 439


1- سورة الحجرات: 14.
2- الكافي: ج2 ص24 باب أن الإسلام يحقن به الدم وتؤدى به الأمانة ح3.

.............................

وعن سفيان بن السمط قال: سأل رجل أبا عبد الله (علیه السلام) عن الإسلام والإيمان ما الفرق بينهما؟ فلم يجبه، ثم سأله فلم يجبه، ثم التقيا في الطريق وقد أزف من الرجل الرحيل، فقال له أبو عبد الله (علیه السلام): «كأنه قد أزف منك رحيل» فقال: نعم، فقال: «فالقني في البيت» فلقيه فسأله عن الإسلام والإيمان ما الفرق بينهما؟ فقال: «الإسلام هو الظاهر الذي عليه الناس: شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصيام شهر رمضان فهذا الإسلام» وقال: «الإيمان هذا الأمر مع هذا، فإن أقر بها ولم يعرف هذا الأمر كان مسلماوكان ضالا»(1).

وقال أبو عبد الله (علیه السلام): «الإسلام يحقن به الدم وتؤدى به الأمانة وتستحل به الفروج والثواب على الإيمان»(2).

وعن سماعة قال:قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): أخبرني عن الإسلام والإيمان أهما مختلفان؟ فقال: «إن الإيمان يشارك الإسلام، والإسلام لا يشارك الإيمان» فقلت: فصفهما لي؟ فقال: «الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله والتصديق برسول الله(صلی الله علیه و آله)، به حقنت الدماء وعليه جرت المناكح والمواريث، وعلى ظاهره جماعة الناس، والإيمان الهدى وما يثبت في القلوب من صفة الإسلام وما ظهر من العمل به، والإيمان أرفع من الإسلام بدرجة، إن الإيمان يشارك الإسلام في الظاهر والإسلام لا يشارك الإيمان في الباطن وإن اجتمعا في القول والصفة»(3).

ص: 440


1- بحار الأنوار: ج65 ص246-247 الأخبار ح6.
2- وسائل الشيعة: ج20 ص556 ب11 ح26337.
3- بحار الأنوار: ج65 ص248 الأخبار ح8.

.............................

وعن عبد الرحيم القصير قال: كتبتمع عبد الملك بن أعين إلى أبي عبد الله (علیه السلام) أسأله عن الإيمان ما هو؟ فكتب إلي مع عبد الملك بن أعين: «سألت رحمك الله عن الإيمان، والإيمان هو الإقرار باللسان وعقد في القلب وعمل بالأركان، والإيمان بعضه من بعض، وهو دار وكذلك الإسلام دار، والكفر دار، فقد يكون العبد مسلما قبل أن يكون مؤمنا، ولا يكون مؤمنا حتى يكون مسلما، فالإسلام قبل الإيمان وهو يشارك الإيمان، فإذا أتى العبد كبيرة من كبائر المعاصي أو صغيرة من صغائر المعاصي التي نهى الله عزوجل عنها كان خارجا من الإيمان، ساقطا عنه اسم الإيمان، وثابتا عليه اسم الإسلام، فإن تاب واستغفر عاد إلى دار الإيمان، ولا يخرجه إلى الكفر إلا الجحود والاستحلال أن يقول للحلال هذا حرام وللحرام هذا حلال ودان بذلك، فعندها يكون خارجا من الإسلام والإيمان داخلا في الكفر، وكان بمنزلة من دخل الحرم ثم دخل الكعبة وأحدث في الكعبة حدثا فأخرج عن الكعبة وعن الحرم فضربت عنقه وصار إلى النار»(1).

وعن سماعة بن مهران قال: سألته عنالإيمان والإسلام، قلت له: أفرق بين الإسلام والإيمان؟ قال: «فأضرب لك مثله» قال: قلت: أورد ذلك، قال: «مثل الإيمان والإسلام مثل الكعبة الحرام من الحرم، قد يكون في الحرم ولايكون في الكعبة، ولا يكون في الكعبة حتى يكون في الحرم، وقد يكون مسلما ولايكون مؤمنا، ولا يكون مؤمنا حتى يكون مسلما»(2).

ص: 441


1- الكافي: ج2ص27-28 بابٌ آخر منه وفيه أن الإسلام قبل الإيمان ح1.
2- الكافي: ج2ص28 بابٌ آخر منه وفيه أن الإسلام قبل الإيمان ح2.

.............................

إثارة الشبهات والحيرة

مسألة: يمكن استفادة سنة من سنن الله في المجتمع وقاعدة اجتماعية ونفسية من كلامها (صلوات الله عليها) وهي: إن الحيرة والكتمان والنكوص والشرك حقائق أربع متلازمة، بل فوق ذلك: إن الحيرة بعد البيان هي عادة منشأ الشرور اللاحقة، فإنها هي منشأ النكوص بعد الإقدام، والإسرار بعد الإعلان، والشرك بعد الإيمان.

وهذا ما يلاحظ بالوجدان، ويظهر من ابتدائها (علیها السلام) بالحيرة بعدالبيان.

فتلزم محاربة الحيرة أشد الحرب، فإنها المنفذ الذي ينفذ منه الشيطان، والمدخل الذي يدخل منه أعداء الدين وقوى الاستعمار لتحطيم عزم الأمة وإرادتها.

وهكذا فإن إثارة الشبهات تعد من هذا المنظار من أشد المحرمات، وفي المقابل إجابة الشبهات وتثبيت الإيمان من أكبر الطاعات:

وقد ورد في زيارة الإمام الحسين (علیه السلام): «وبذل مهجته فيك ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة»(1).

وعن معاوية بن عمار قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام) رجل راوية لحديثكم يبث ذلك في الناس ويشدده في قلوبهم وقلوب شيعتكم ولعل عابداً من شيعتكم ليست له هذه الرواية، أيهما أفضل؟ قال: «الراوية لحديثنا يشد به قلوب شيعتنا

ص: 442


1- الدعاء والزيارة، للإمام الشيرازي (رحمة الله): ص702، الزيارة المطلقة للإمام الحسين (علیه السلام).

.............................

أفضل من ألف عابد»(1).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «من كان من شيعتنا عالما بشريعتنا فأخرج ضعفاء شيعتنا من ظلمة جهلهم إلى نور العلم الذي حبوناه به، جاء يوم القيامة وعلى رأسه تاج من نور، يضيء لأهل جميع العرصات، وعليه حلة لا يقوم لأقل سلك منها الدنيا بحذافيرها، ثم ينادي مناد: يا عباد الله هذا عالم من تلامذة بعض علماء آل محمد، ألا فمن أخرجه في الدنيا من حيرة جهله فليتشبث بنوره ليخرجه من حيرة ظلمة هذه العرصات إلى نزه الجنان، فيخرج كل من كان علّمه في الدنيا خيرا،أو فتح عن قلبه من الجهل قفلا،أو أوضح له عن شبهة»(2).

وقال علي (علیه السلام): «من قوى مسكينا في دينه، ضعيفا في معرفته، على ناصب مخالف فأفحمه، لقنه الله يوم يدلى في قبره أن يقول: الله ربي ومحمد نبيي وعلي وليي والكعبة قبلتي والقرآن بهجتي وعدتي والمؤمنون إخواني، فيقول الله: أدليت بالحجة فوجبت لك أعالي درجات الجنة فعند ذلك يتحولعليه قبره أنزه رياض الجنة»(3).

وقالت فاطمة الزهراء (علیها السلام) وقد اختصم إليها امرأتان، فتنازعتا في شيء من أمر الدين، إحداهما معاندة والأخرى مؤمنة، ففتحت على المؤمنة حجتها فاستظهرت على المعاندة ففرحت فرحا شديدا، فقالت فاطمة (علیها السلام): «إن فرح الملائكة باستظهارك عليها أشد من فرحك، وإن حزن الشيطان ومردته بحزنها

ص: 443


1- الكافي: ج1 ص33 باب صفة العلم ح9.
2- بحار الأنوار: ج2 ص2 ب8 ح2.
3- تفسير الإمام العسكري (علیه السلام): ص346 ح228.

.............................

أشد من حزنها، وإن الله تعالى قال لملائكته: أوجبوا لفاطمة بما فتحت على هذه المسكينة الأسيرة من الجنان ألف ألف ضعف مما كنت أعددت لها واجعلوا هذه سنة في كل من يفتح على أسير مسكين فيغلب معاندا مثل ألف ألف ما كان معدا له من الجنان»(1).

وقال أبو محمد العسكري (علیه السلام): «حضرت امرأة عند الصديقة فاطمة الزهراء (علیها السلام) فقالت:إن لي والدة ضعيفة وقد لبس عليها في أمر صلاتها شيء وقد بعثتني إليك أسألك، فأجابتها فاطمة (علیها السلام) عن ذلك، فثنت فأجابت، ثم ثلثت إلى أن عشرت فأجابت، ثم خجلت من الكثرة، فقالت: لا أشق عليك يا ابنة رسول لله.

قالت فاطمة (علیها السلام): هاتي وسلي عما بدا لك، أرأيت من اكتري يوما يصعد إلى سطح بحمل ثقيل وكراه مائة ألف دينار يثقل عليه؟

فقالت: لا.

فقالت: اكتريت أنا لكل مسألة بأكثر من مل ء ما بين الثرى إلى العرش لؤلؤا، فأحرى أن لا يثقل عليّ، سمعت أبي (صلی الله علیه و آله) يقول: إن علماء شيعتنا يحشرون فيخلع عليهم من خلع الكرامات على قدر كثرة علومهم وجدهم في إرشاد عباد الله حتى يخلع على الواحد منهم ألف ألف حلة من نور، ثم ينادي منادي ربنا عزو جل: أيها الكافلون لأيتام آل محمد (صلی الله علیه و آله) الناعشون لهم عند انقطاعهم عن آبائهم الذين هم أئمتهم هؤلاء تلامذتكم والأيتام الذين

ص: 444


1- بحار الأنوار: ج2 ص8 ب8 ح15.

.............................

كفلتموهم ونعشتموهم فاخلعوا عليهم خلع العلوم في الدنيا، فيخلعون علىكل واحد من أولئك الأيتام على قدر ما أخذوا عنهم من العلوم، حتى إن فيهم يعني في الأيتام لمن يخلع عليه مائة ألف خلعة، وكذلك يخلع هؤلاء الأيتام على من تعلم منهم، ثم إن الله تعالى يقول: أعيدوا على هؤلاء العلماء الكافلين للأيتام حتى تتموا لهم خلعهم وتضعفوها لهم، فيتم لهم ما كان لهم قبل أن يخلعوا عليهم ويضاعف لهم وكذلك من يليهم ممن خلع على من يليهم، وقالت فاطمة(علیها السلام): يا أمة الله إن سلكة من تلك الخلع لأفضل مما طلعت عليه الشمس ألف ألف مرة وما فضل فإنه مشوب بالتنغيص والكدر»(1).

وقال الحسن بن علي (علیه السلام): «فضل كافل يتيم آل محمد (علیه السلام) المنقطع عن مواليه الناشب في رتبة الجهل يخرجه من جهله ويوضح له ما اشتبه عليه، على فضل كافل يتيم يطعمه ويسقيه كفضل الشمس على السها»(2).

وقال الحسين بن علي (علیه السلام): «من كفل لنا يتيما قطعته عنا محنتنا باستتارنا فواساه من علومنا التي سقطت إليه حتى أرشده قال الله عزوجل:أيها العبد الكريم المواسي أنا أولى بالكرم، اجعلوا له يا ملائكتي في الجنان بعدد كل حرف علمه ألف ألف قصر وضموا إليها ما يليق بها من سائر النعم»(3).

وقال محمد بن علي الباقر (علیه السلام): «العالم كمن معه شمعة تضيء للناس، فكل من أبصر شمعته دعا له بخير، كذلك العالم مع شمعة تزيل ظلمة الجهل

ص: 445


1- بحار الأنوار: ج2 ص3 ب8 ح3.
2- مستدرك الوسائل: ج17 ص318 ب11 ح21461.
3- الصراط المستقيم: ج3 ص55.

.............................

والحيرة فكل من أضاءت له فخرج بها من حيرة أو نجا بها من جهل فهو من عتقائه من النار، والله يعوضه عن ذلك بكل شرة لمن أعتقه ما هو أفضل له من الصدقة بمائة ألف قنطار على غير الوجه الذي أمر الله عزوجل به، بل تلك الصدقة وبال على صاحبها لكن يعطيه الله ما هو أفضل من مائة ألف ركعة بين يدي الكعبة»(1).

وقال جعفر بن محمد الصادق (علیه السلام): «علماء شيعتنا مرابطون بالثغر الذي يلي إبليس وعفاريتهيمنعونهم عن الخروج على ضعفاء شيعتنا وعن أن يتسلط عليهم إبليس وشيعته النواصب، ألا فمن انتصب لذلك من شيعتنا كان أفضل ممن جاهد الروم والترك والخزر ألف ألف مرة، لأنه يدفع عن أديان محبينا وذلك يدفع عن أبدانهم»(2).

وقال الإمام الصادق (علیه السلام): «من كان همه في كسر النواصب عن المساكين من شيعتنا الموالين لنا أهل البيت يكسرهم عنهم ويكشف عن مخازيهم ويبين عوراتهم ويفخم أمر محمد وآله (صلوات الله عليهم) جعل الله همة أملاك الجنان في بناء قصوره ودوره يستعمل بكل حرف من حروف حججه على أعداء الله أكثر من عدد أهل الدنيا أملاكا، قوة كل واحد تفضل عن حمل السماوات والأرض، فكم من بناء وكم من نعمة وكم من قصور لا يعرف قدرها إلا رب العالمين»(3).

ص: 446


1- بحار الأنوار: ج2 ص4 ب8 ح7.
2- تفسير الإمام العسكري (علیه السلام): ص343.
3- بحار الأنوار: ج2 ص10 ب8 ح19.

.............................

وقال موسى بن جعفر (علیه السلام): «فقيه واحد ينقذ يتيما من أيتامنا المنقطعين عنا وعن مشاهدتنا بتعليمما هو محتاج إليه أشد على إبليس من ألف عابد، لأن العابد همه ذات نفسه فقط وهذا همه مع ذات نفسه ذات عباد الله وإمائه لينقذهم من يد إبليس ومردته، فذلك هو أفضل عند الله من ألف ألف عابد وألف ألف عابدة»(1).

وقال الإمام الكاظم (علیه السلام): «من أعان محبا لنا على عدو لنا فقواه وشجعه حتى يخرج الحق الدال على فضلنا بأحسن صورته ويخرج الباطل الذي يروم به أعداؤنا ودفع حقنا في أقبح صورة حتى ينبه الغافلين ويستبصر المتعلمون ويزداد في بصائرهم العالمون بعثه الله تعالى يوم القيامة في أعلى منازل الجنان ويقول: يا عبدي الكاسر لأعدائي الناصر لأوليائي المصرح بتفضيل محمد خير أنبيائي وبتشريف علي أفضل أوليائي ويناوي من ناواهما ويسمي بأسمائهما وأسماء خلفائهما ويلقب بألقابهم فيقول ذلك ويبلغ الله جميع أهل العرصات فلا يبقى كافر ولا جبار ولا شيطان إلا صلى على هذا الكاسر لأعداء محمد (صلی الله علیه و آله) ولعن الذين كانوا يناصبونه في الدنيا من النواصب لمحمد وعلي صلوات اللهعليهما»(2).

وقال علي بن موسى الرضا (علیه السلام): «يقال للعابد يوم القيامة نعم الرجل كنت، همتك ذات نفسك وكفيت الناس مئونتك فادخل الجنة، ألا إن الفقيه من أفاض على الناس خيره وأنقذهم من أعدائهم ووفر عليهم نعم جنان الله وحصل

ص: 447


1- الاحتجاج: ج2 ص17 فصل في ذكر طرف مما أمر الله في كتاب. ..
2- بحار الأنوار: ج2 ص10-11 ب8 ح20.

.............................

لهم رضوان الله تعالى ويقال للفقيه: يا أيها الكافل لأيتام آل محمد الهادي لضعفاء محبيهم ومواليهم قف حتى تشفع لكل من أخذ عنك أو تعلم منك، فيقف فيدخل الجنة ومعه فئاما وفئاما وفئاما حتى قال عشرا وهم الذين أخذوا عنه علومه وأخذوا عمن أخذ عنه وعمن أخذ عمن أخذ عنه إلى يوم القيامة فانظروا كم فرق بين المنزلتين»(1).

وقال محمد بن علي الجواد (علیه السلام): «من تكفل بأيتام آل محمد المنقطعين عن إمامهم المتحيرين في جهلهم الأسراء في أيدي شياطينهم وفيأيدي النواصب من أعدائنا فاستنقذهم منهم وأخرجهم من حيرتهم وقهر الشياطين برد وساوسهم وقهر الناصبين بحجج ربهم ودليل أئمتهم ليفضلون عند الله تعالى على العباد بأفضل المواقع بأكثر من فضل السماء على الأرض والعرش والكرسي والحجب على السماء، وفضلهم على هذا العابد كفضل القمر ليلة البدر على أخفى كوكب في السماء»(2).

وقال علي بن محمد (علیه السلام): «لولا من يبقى بعد غيبة قائمكم (علیه السلام) من العلماء الداعين إليه والدالين عليه والذابين عن دينه بحجج الله والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته ومن فخاخ النواصب لما بقي أحد إلا ارتد عن دين الله ولكنهم الذين يمسكون أزمة قلوب ضعفاء الشيعة كما يمسك صاحب السفينة سكانها أولئك هم الأفضلون عند الله عزوجل»(3).

ص: 448


1- تفسير الإمام العسكري (علیه السلام): ص344 في أن اليتيم الحقيقي هو المنقطع عن. . . ح223.
2- بحار الأنوار: ج2 ص6 ب8 ح11.
3- الاحتجاج: ج1 ص18 فصل في ذكر ظرف مما أمر الله في كتاب.

.............................

وعن أبي محمد عن أبيه (علیه السلام) قال: «تأتي علماء شيعتنا القوامون بضعفاء محبينا وأهل ولايتنايوم القيامة والأنوار تسطع من تيجانهم على رأس كل واحد منهم تاج بهاء قد انبثت تلك الأنوار في عرصات القيامة ودورها مسيرة ثلاثمائة ألف سنة فشعاع تيجانهم ينبث فيها كلها فلا يبقى هناك يتيم قد كفلوه ومن ظلمة الجهل أنقذوه ومن حيرة التيه أخرجوه إلا تعلق بشعبة من أنوارهم فرفعتهم إلى العلو حتى يحاذي بهم فوق الجنان ثم ينزلهم على منازلهم المعدة في جوار أستاديهم ومعلميهم وبحضرة أئمتهم الذين كانوا يدعون إليهم ولا يبقى ناصب من النواصب يصيبه من شعاع تلك التيجان إلا عميت عينه وصمت أذنه وأخرس لسانه وتحول عليه أشد من لهب النيران فيتحملهم حتى يدفعهم إلى الزبانية فتدعوهم إلى سواء الجحيم»(1).

إلى غيرها من الروايات.

ص: 449


1- بحار الأنوار: ج2 ص6-7 ب8 ح13.

ألا تقاتلوا قوماً نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم

اشارة

-------------------------------------------

ألا تقاتلوا قوماً(1) نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم

مقاتلة ناكثي البيعة

مسألة: يستفاد من كلامها (علیها السلام) جواز وربما وجوب مقاتلة أولئك القوم الذين خرجوا على إمام زمانهم ونقضوا البيعة ونصبوا غير من نصبه الله ورسوله(صلی الله علیه و آله).

بل كلامها (علیها السلام) تحريض أكيد على مقاتلتهم: «ألا تقاتلون قوماً..».

ومنه يعلم بضميمة الحديث المتفق عليه بين الفريقين: «إن الله يرضى لرضى فاطمة ويغضب لغضبها»(2): أن رضى الله كان في مقاتلتهم وسخطه كان في الخذلان.

وهل يستفاد من كلامها (علیها السلام) عمومية جواز مقاتلة القوم الذين نقضوا أيمانهم، أم هو مختص بالمقام، فتأمل.

وفي بعض النسخ: «بؤساً لقوم».ومن الجلي أن (البؤس) أعم من البؤس الأخروي والدنيوي، فهم بنقض البيعة خسروا دنياهم وآخرتهم، والبؤس هو الشدة والفقر، أي اشتداد الحاجة والافتقار، والشدة أعم من الشدة الأمنية والسياسية والإدارية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها.

ص: 450


1- وفي بعض النسخ: (بؤسا لقوم).
2- راجع بحار الأنوار: ج27 ص62 ب1 ح21.

.............................

فالمستفاد من كلامها (علیها السلام) أن نكثهم الأيمان بالنسبة إلى ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) نجم عنه كل ما حدث من الحروب والمحن والمشاكل والأزمات.

وكلامها (علیها السلام) إشارة إلى قوله تعالى: «أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ»(1).

قال سبحانه: «وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ»(2).

وقال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَإِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً»(3).

وعن موسى بن جعفر (علیه السلام) عن آبائه (علیهم السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من نكث بيعة أو رفع لواء ضلالة أو كتم علما أو اعتقل مالا ظلما أو أعان ظالما على ظلمه وهو يعلم أنه ظالم فقد برئ من الإسلام»(4).

وقال علي (علیه السلام): «من نكث بيعته لقي الله وهو أجذم لا يد له»(5).

ص: 451


1- سورة التوبة: 13.
2- سورة التوبة: 12.
3- سورة الفتح: 10.
4- بحار الأنوار: ج2 ص67 ب13 ح11.
5- دعائم الإسلام: ج2 ص95 فصل1 ح296.

.............................

وعن علي بن جعفر عن أخيه موسى (علیه السلام) عن آبائه (علیهم السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من فارق جماعة المسلمين فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، قيل: يا رسول الله وما جماعة المسلمين؟ قال: جماعة أهل الحق وإن قلوا»(1).قال النبي (صلی الله علیه و آله): «ثلاث موبقات، نكث الصفقة وترك السنة وفراق الجماعة، وثلاث منجيات تكف لسانك وتبكي على خطيئتك وتلزم بيتك»(2).

قال سلمان وعبد الله بن العباس قالا: «توفي رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوم توفي فلم يوضع في حفرته حتى نكث الناس وارتدوا وأجمعوا على الخلاف، واشتغل علي (علیه السلام) برسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى فرغ من غسله وتكفينه وتحنيطه ووضعه في حفرته»(3).

وعن العالم موسى بن جعفر (علیه السلام) في حديث: «وإذا قيل لهؤلاء الناكثين للبيعة في يوم الغدير «لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ» بإظهار نكث البيعة لعباد الله المستضعفين فتشوشون عليهم دينهم، و تحيرونهم في مذاهبهم»(4).

ص: 452


1- بحار الأنوار: ج27 ص67 ب3 ح1.
2- الخصال: ج1 ص85 ثلاث درجات وثلاث كفارات ح13.
3- بحار الأنوار: ج43 ص197 ب7 ح29.
4- بحار الأنوار: ج37 ص146 ب52 ضمن أخبار الغدير.

.............................

نكث البيعة وأسلوبها

مسألة: من أكبر المحرمات وأشدها نكث بيعة الله وبيعة الرسول (صلی الله علیه و آله) وبيعة الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام).

فإن القوم كانوا قد حلفوا وعاهدوا بالاستمرار مع الرسول (صلی الله علیه و آله) وبايعوه على ذلك، وكانت تلك مبايعة مع الله عزوجل، فإن يد الله فوق أيديهم، قال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أجْراً عَظِيماً» (1).

وربما تكون إحدى الوجوه في قوله تعالى:«يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ» (2)أن أسلوب البيعة كان عبارة عن أن الرسول (صلی الله علیه و آله) يرفع يده إلى أعلى، وكانوا يمرّون يدهم بيده (صلی الله علیه و آله) أخذاً من الأصابع وانتهاءً إلى آخر الكف، وذلك على ما يظهر منالتواريخ.

ونكث البيعة كان بالعكس من ذلك، بأن يمر المبايع يده من آخر الكف طرف الزند إلى الأصابع نكثاً للبيعة وكأنه تخلص عن البيعة وتفرّغ عنها.

والمحتمل في هذا المقطع من كلامها (صلوات الله عليها) في القوم الذين نكثوا أيمانهم أمران:

ص: 453


1- سورة الفتح: 10.
2- سورة الفتح: 10.

.............................

الأول: أنهم حكماً هم اليهود الذين نقضوا عهدهم مع الرسول (صلی الله علیه و آله) وعاضدوا الأحزاب وهموا بإخراج الرسول (صلی الله علیه و آله) من المدينة.

الثاني: أنهم حكماً هم مشركو قريش وكفار مكة قبل الهجرة وبعدها أيضاً(1)، وهذا أظهر بلحاظ انطباق كلامها (علیها السلام) بكامله عليهم، فهي(علیها السلام) تحرض الناس على قادة الانقلاب ضد النبي (صلی الله علیه و آله) ومخططي السقيفة، فإنهم نقضوا أيمانهم من بعدعهدهم، وهموا بإخراج الرسول (صلی الله علیه و آله) من قبل، وهم قد بدؤوكم - أيها المسلمين - أول مرة، أي زمن النبي (صلی الله علیه و آله) في قضايا عديدة منها قضية (ودباب دحرجوها) (2) في العقبة. أو إنهم قد بدؤوكم - أيها الأوس والخزرج - أول مرة عندما جاؤوا للمدينة لمقاتلتكم.

وهذه المرة الثانية حيث تعرضوا لوصي النبي (علیه السلام)، ف- (أول مرة) بلحاظ الصنف لا العدد(3).

عن بكير بن عبيد الله الطويل وعمار بن أبي معاوية قالا: حدثنا أبو عثمان البجلي مؤذن بني قصي، قال بكير: أذن لنا أربعين سنة، قال: سمعت عليا (علیه السلام) يقول يوم الجمل: «وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي

ص: 454


1- أما قبل الهجرة فبنقضهم عهدهم مع الرسول (صلی الله علیه و آله) أن لا يعينوا أعداءهم عليهم فأعانوا عليهم بني بكر على خزاعة وراموا إخراج الرسول (صلی الله علیه و آله) من مكة في مؤتمرهم بدار الندوة، وأما بعد الهجرة فيوم بدر.
2- راجع القصة كاملة في بحار الأنوار: ج82 ص266-267 ب33.
3- أي بدؤوكم أول مرة بلحاظ كونها موجهة ضد شخص النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله) وإن كانت مراراً عديدة وهذه ثاني مرة ضد وصيه (علیه السلام).

.............................

دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَلَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ» ثم حلف حين قرأها أنه ما قوتل أهلها منذ نزلت حتى اليوم، قال بكير: فسألت عنها أبا جعفر (علیه السلام)، فقال: «صدق الشيخ هكذا قال علي (علیه السلام) هكذا كان»(1).

ومن كلام أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) حين دخل البصرة وجمع أصحابه فحرضهم على الجهاد وكان مما قال: «عباد الله انهدوا إلى هؤلاء القوم، منشرحة صدوركم بقتالهم، فإنهم نكثوا بيعتي وأخرجوا ابن حنيف عاملي بعد الضرب المبرح والعقوبة الشديدة وقتلوا السبابجة ومثلوا بحكيم بن جبلة العبدي وقتلوا رجالا صالحين ثم تتبعوا منهم من نجا يأخذونهم في كل حائط وتحت كل رابية ثم يأتون بهم فيضربون رقابهم صبرا، ما لهم قاتلهم الله أنى يؤفكون، انهدوا إليهم وكونوا أشداء عليهم والقوهم صابرين محتسبين تعلمون أنكم منازلوهم ومقاتلوهم ولقد وطنتم أنفسكم على الطعن الدعسي والضرب الطلحفي ومبارزة الأقران، وأي امرئ أحس من نفسه رباطة جأش عند اللقاء ورأى من أحد من إخوانه فشلافليذب عن أخيه الذي فضل عليه كما يذب عن نفسه فلو شاء الله لجعله مثله»(2).

وعن الإمام الصادق (علیه السلام) في قوله تعالى: «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لايَشْعُرُونَ»(3)، قال:

ص: 455


1- بحار الأنوار: ج32 ص203 ب3 ح156.
2- بحار الأنوار: ج32 ص171-172 ب3 ح131.
3- سورة البقرة: 11-12.

.............................

«ما قوتل أهل هذه يعني البصرة إلا بهذه الآية، وقرأ أمير المؤمنين يوم البصرة: «وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ»(1).

ثم قال: لقد عهد إليّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال: يا علي لتقاتلن الفئة الناكثة والفئة الباغية والفرقة المارقة، إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون»(2).

قالت فمن قاتل الأقوام إذ نكثوا *** فقلت تفسيره في وقعة الجمل

ص: 456


1- سورة التوبة: 12.
2- بحار الأنوار: ج32 ص282-283 ب6 ضمن ح232.

وهموا بإخراج الرسول

اشارة

-------------------------------------------

إخراج الرسول (صلی الله علیه و آله)

مسألة: يحرم إخراج الرسول (صلی الله علیه و آله)، فإن إخراجه (صلی الله علیه و آله) من أشد المحرّمات، كما فعله المشركون من أهل مكة.

بل يحرم إخراج كل أحد عن وطنه وملكه.

قال أبو عبد الله (علیه السلام): «لما بويع أبوبكر واستقام له الأمر على جميع المهاجرين والأنصار بعث إلى فدك من أخرج وكيل فاطمة بنت رسول الله (علیها السلام) منها»(1).

كما يحرم إخراج المسلم عن أي من البلاد الإسلامية، إذ لا حدود جغرافية في الإسلام، والبلاد الإسلامية بلد واحد، والمسلم حر في أن يعيش في أي منها، فلا جواز ولا إقامة ولا تأشيرة ولا غيرها من بدع الاستعمار.

قال المفسرون في قوله تعالى «وَإِذْيَمْكُرُ بِكَ»(2): (إنها نزلت في قصة دار الندوة وذلك أن نفرا من قريش اجتمعوا فيها وهي دار قصي بن كلاب وتآمروا في أمر النبي (صلی الله علیه و آله) فقال عروة بن هشام: «نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ»(3).

وقال أبو البختري: أخرجوه عنكم تستريحوا من أذاه.

ص: 457


1- الاحتجاج: ج1 ص90 احتجاج أمير المؤمنين (علیه السلام) على أبي بكر.
2- سورة الأنفال: 30.
3- سورة الطور: 30.

.............................

وقال أبو جهل: ما هذا برأي، ولكن اقتلوه بأن يجتمع عليه من كل بطن رجل فيضربوه بأسيافهم ضربة رجل واحد فترضى حينئذ بنو هاشم بالدية.

فصوب إبليس هذا الرأي وكان قد جاءهم في صورة شيخ كبير من أهل نجد وخطأ الأولين.

فاتفقوا على هذا الرأي وأعدوا الرجال والسلاح، وجاء جبرئيل فأخبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) فخرج إلى الغار وأمر عليا (علیه السلام) فبات على فراشه، فلما أصبحوا وفتشوا عن الفراش وجدوا عليا وقد رد الله مكرهم وقالوا: أين محمد؟ قال: لا أدري،فاقتصوا أثره وأرسلوا في طلبه، فلما بلغوا الجبل ومروا بالغار رأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو كان هاهنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث (صلی الله علیه و آله) فيه ثلاثة أيام ثم قدم المدينة)(1).

وقد روي عن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه قال: «من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض استوجب الجنة وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد (صلی الله علیه و آله)»(2).

ص: 458


1- بحار الأنوار: ج19 ص31 ب6.
2- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: ج1 ص33 باب السفر والسير والفراق والقدوم والوداع.

.............................

حرمة الهم بذلك

مسألة: يحرم الهم بإخراج الرسول (صلی الله علیه و آله).

والهم بالشيء هو العزم عليه وقصده وإرادته.

فإن الهم بإخراج الرسول (صلی الله علیه و آله) يرتبط بأصول الدين والمعتقدات، والنية فيما يخالف أصول الدين محرمة، حتى إذا لم نقل في باب النية بحرمة مطلق نية الحرام، فإن النية فيما يخالف الأحكام الشرعية الفرعية - بدون الإتيان بها - ليست من المحرمات وإن كانت مذمومة، كما ذكر في بحث التجرّي في الأصول(1).

وهناك بعض الفرق بين النية وبين الهمّ بالشيء، فإن الهم بالشيء: العزمعليه وقصده وإرادته فتأمل.

عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «من هم بخير فليعجله ولا يؤخره، فإن العبد ربما عمل العمل فيقول الله تبارك وتعالى: قد غفرت لك ولا أكتب عليك شيئا أبدا، ومن هم بسيئة فلا يعملها، فإنه ربما عمل العبد السيئة فيراه الله سبحانه فيقول: لا وعزتي وجلالي لا أغفر لك بعدها أبدا»(2).

ص: 459


1- قال الإمام الشيرازي (قدس سره) في بحث التجري: (والحاصل: قد ظهر مما تقدم قرب قول الشيخ » فلا عقاب لا على الفعل ولا على العزم وان اختاره الكفاية وحيث يراه غير اختياري انتهى الأمر إلى الشقاوة الذاتية، مع وضوح أن كل ما بالغير ينتهي إلى ما بالذات، وإلا لزم التسلسل، فغيره اختياري به). الأصول: ج2 ص17 ط5 دار العلوم، بيروت.
2- الكافي: ج2 ص142-143 باب تعجيل فعل الخير ح6.

.............................

قال أبو عبد الله (علیه السلام): «ملعون من ترأس ملعون من هم بها ملعون من حدث نفسه بها»(1).

وعن زرارة عن أحدهما (علیهما السلام) قال: «إن الله تبارك وتعالى جعل لآدم في ذريته من هم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة، ومن هم بحسنة وعملها كتبت له بها عشرا، ومن هم بسيئة ولم يعملها لم تكتب عليه سيئة، ومن همبها وعملها كتبت عليه سيئة»(2).

وعن أبي بصير عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «إن المؤمن ليهم بالحسنة ولا يعمل بها فتكتب له حسنة، وإن هو عملها كتبت له عشر حسنات، وإن المؤمن ليهم بالسيئة أن يعملها فلا يعملها فلا تكتب عليه»(3).

وعن بكير عن أبي عبد الله (علیه السلام) أو عن أبي جعفر (علیه السلام): «إن الله تعالى قال لآدم (علیه السلام): يا آدم جعلت لك أن من هم من ذريتك بسيئة لم تكتب عليه، فإن عملها كتبت عليه سيئة، ومن هم منهم بحسنة فإن لم يعملها كتبت له حسنة، وإن هو عملها كتبت له عشرا»(4)، الحديث.

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «إذا هم العبد بالسيئة لم تكتب عليه وإذا هم بحسنة كتبت له»(5).

ص: 460


1- وسائل الشيعة: ج15 ص35 ب50 ح20712.
2- الكافي: ج2 ص428 باب من يهمّ بالحسنة أو السيئة ح1.
3- وسائل الشيعة: ج1 ص51 ب6 ح99.
4- وسائل الشيعة: ج1 ص51-52 ب6 ح100.
5- وسائل الشيعة: ج1 ص52 ب6 ح102.

.............................

مقاتلة من هم بذلك

مسألة: يجوز مقاتلة من هم بإخراج الرسول (صلی الله علیه و آله)، والجواز بالمعنى الأعم. وإنما قلنا بالجواز بالمعنى الأعم، لأنه قد يكون واجباً، وقد يكون مستحباً، كل في مورده، حسب ما ألمعنا إليه في بحوث آنفة، وتفصيل الكلام في كتاب الجهاد(1).

عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «الجهاد أفضل الأشياء بعد الفرائض»(2).

وعن أبي عبد الرحمن السلمي قال: قال أمير المؤمنين (صلوات

اله عليه): «أما بعد فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، فتحه الله لخاصة أوليائه وسوغهم كرامة منه لهم ونعمة ذخرها، والجهاد هو لباس التقوى ودرع الله الحصينة وجنته الوثيقة، فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذل وشمله البلاء وفارق الرضا وديث بالصغار والقماءة، وضرب على قلبه بالأسداد وأديل الحق منه بتضييع الجهاد وسيم الخسف ومنع النصف، ألا وإني قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلا ونهارا وسرا وإعلانا وقلت لكم اغزوهم قبل أن يغزوكم، فو الله ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوافتواكلتم وتخاذلتم حتى شنت عليكم الغارات وملكت عليكم الأوطان، هذا أخو غامد قد وردت خيله الأنبار وقتل حسان بن حسان البكري وأزال خيلكم عن مسالحها وقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة فينتزع حجلها وقلبها وقلائدها ورعاثها

ص: 461


1- راجع موسوعة الفقه: ج47 و48 كتاب الجهاد.
2- تهذيب الأحكام: ج6 ص121 ب54 ح2.

.............................

ما تمنع منه إلا بالاسترجاع والاسترحام ثم انصرفوا وافرين ما نال رجلا منهم كلم ولا أريق له دم، فلو أن امرأ مسلما مات من بعد هذا أسفا ما كان به ملوما بل كان عندي به جديرا، فيا عجبا عجبا والله يميث القلب ويجلب الهم من اجتماع هؤلاء على باطلهم وتفرقكم عن حقكم، فقبحا لكم وترحا حين صرتم غرضا يرمى يغار عليكم ولا تغيرون وتغزون ولا تغزون ويعصى الله وترضون، فإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيام الحر قلتم هذه حمارة القيظ أمهلنا حتى يسبخ عنا الحر، وإذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء قلتم هذه صبارة القر أمهلنا حتى ينسلخ عنا البرد، كل هذا فرارا من الحر والقر، فإذا كنتم من الحر والقر تفرون فأنتم والله من السيف أفر، يا أشباه الرجال ولا رجال، حلوم الأطفال وعقول ربات الحجال، لوددت أني لم أركم ولم أعرفكم معرفة والله جرت ندما وأعقبتذما، قاتلكم الله لقد ملأتم قلبي قيحا وشحنتم صدري غيظا وجرعتموني نغب التهمام أنفاسا وأفسدتم علي رأيي بالعصيان والخذلان حتى لقد قالت قريش إن ابن أبي طالب رجل شجاع ولكن لا علم له بالحرب، لله أبوهم وهل أحد منهم أشد لها مراسا وأقدم فيها مقاما مني لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين وها أنا قد ذرفت على الستين ولكن لا رأي لمن لا يطاع»(1).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «إن الله فرض الجهاد وعظّمه وجعله نصره وناصره، والله ما صلحت دنيا ولا دين إلا به»(2).

هذا وقد قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من خرج على علي (علیه السلام) فهو في النار»(3).

ص: 462


1- الكافي: ج5 ص4-6 باب فضل الجهاد ح6.
2- وسائل الشيعة: ج15 ص15 ب1 ح19915.
3- الصراط المستقيم: ج3 ص162 فصل في أم الشرور.

وهم بدءوكم أول مرة

اشارة

-------------------------------------------

البدء بالقتال

مسألة: يجوز مقاتلة ومقابلة من بدأ بالقتال أول مرة، أما مقاتلة من لم يبدأ بقتال فهي مشروطة بما ذكر في كتاب الجهاد(1) في إطار قوله تعالى: «وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ» (2).

والإسلام - كما هو واضح في حروب الرسول (صلی الله علیه و آله) وحروب أمير المؤمنين علي والإمام الحسن والإمام الحسين (صلوات الله عليهم أجمعين) - يؤكد على أن لا يبدأ بقتال الكفار والمشركين ومن أشبههم، وذلك حتى تكون عليهم الحجة البالغة، فإن البادي بالقتال هو الذي قد تسقط حجته ببدئه بالقتال.

وقد بعث رسول الله (صلی الله علیه و آله) في وقعة بدر إلى قريش وقال: «يا معاشر قريش إني أكره أن أبدأكمفخلوني والعرب وارجعوا»(3).

وقال (صلی الله علیه و آله) لأصحابه: «لا تبدوهم بالقتال»(4).

وقد ورد في وقعة الجمل: أنه لما تواقف الجمعان قال أمير المؤمنين علي (علیه السلام): «لا تقاتلوا القوم حتى يبدءوكم، فإنكم بحمد الله على حجة وكفكم عنهم حتى يبدءوكم حجة أخرى، وإذا قاتلتموهم فلا تجهزوا على جريح، فإذا

ص: 463


1- موسوعة الفقه: ج47-48 كتاب الجهاد.
2- سورة النساء: 75.
3- بحار الأنوار: ج19 ص224 ب10 غزوة بدر الكبرى.
4- تفسير القمي: ج1 ص262 خوف قريش.

.............................

هزمتموهم فلا تتبعوا مدبرا ولا تكشفوا عورة ولا تمثلوا بقتيل وإذا وصلتم إلى رحال القوم فلا تهتكوا سترا ولا تدخلوا دارا ولا تأخذوا من أموالهم شيئا ولاتهيجوا امرأة بأذى وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم وصلحاءكم فإنهن ضعفاء القوى والأنفس والعقول، ولقد كنا نؤمر بالكف عنهن وإنهن لمشركات وإن كان الرجل ليتناول المرأة بالهراوة والجريدة فيعير بهاوعقبه من بعده»(1).

وورد في قتال الخوارج أنه: لما واقفهم علي (علیه السلام) بالنهروان قال: «لا تبدءوهم بقتال حتى يبدءوكم، فحمل منهم رجل على صف علي (علیه السلام) فقتل منهم ثلاثة، فخرج إليه (علیه السلام) فضربه فقتله»(2).

وفي الكافي: عن عبد الرحمن بن جندب عن أبيه: أن أمير المؤمنين (علیه السلام) كان يأمر في كل موطن لقينا فيه عدونا فيقول: «لا تقاتلوا القوم حتى يبدءوكم فإنكم بحمد الله على حجة وترككم إياهم حتى يبدءوكم حجة لكم أخرى، فإذا هزمتموهم فلا تقتلوا لهم مدبرا، ولا تهجزوا على جريح، ولا تكشفوا عورة، ولاتمثلوا بقتيل»(3).

وفي نهج البلاغة: من وصيته (علیه السلام) لعسكره قبل لقاء العدو بصفين: «لاتقاتلوهم حتى يبدءوكم، فإنكم بحمد الله على حجة وترككم إياهم حتى يبدءوكمحجة أخرى لكم عليهم، فإذا كانت الهزيمة بإذن الله فلا تقتلوا مدبرا

ص: 464


1- بحار الأنوار: ج32 ص212-213 ب3 ضمن ح167.
2- بحار الأنوار: ج33 ص348 ب23 باب قتال الخوارج.
3- الكافي: ج5 ص38 باب ما كان يوصى أمير المؤمنين (علیه السلام) ح3.

.............................

ولا تصيبوا معورا ولا تجهزوا على جريح ولا تهيجوا النساء بأذى وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم فإنهن ضعيفات القوى والأنفس والعقول، إنا كنا لنؤمر بالكف عنهن وإنهن لمشركات وإن كان الرجل ليتناول المرأة في الجاهلية بالفهر أو الهراوة فيعير بها و عقبه من بعده»(1).

وعن حبة العرني قال: لما انتهينا إليهم رمونا، فقلنا لعلي (علیه السلام): يا أمير المؤمنين قد رمونا، فقال: «كفوا» ثم رمونا فقال لنا (علیه السلام): «كفوا»، ثم الثالثة فقال: «الآن طاب القتال احملوا عليهم»(2).

وفي أخبار يوم الجمل روى أبو مخنف قال: «لما تزاحف الناس يوم الجمل والتقوا قال علي (علیه السلام) لأصحابه: لا يرمين رجل منكم بسهم ولا يطعن أحدكم فيهم برمح حتى أحدث إليكموحتى يبدءوكم بالقتال وبالقتل»(3).

وقال الشيخ المفيد: وروي عن علي بن الحسين (علیه السلام) أنه قال: «لما أصبحت الخيل تقبل على الحسين (علیه السلام) رفع يديه وقال: (اللهم أنت ثقتي في كل كرب ورجائي في كل شدة وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدة، كم من كرب يضعف عنه الفؤاد وتقل فيه الحيلة ويخذل فيه الصديق ويشمت فيه العدو أنزلته بك وشكوته إليك رغبة مني إليك عمن سواك ففرجته وكشفته، فأنت ولي كل نعمة وصاحب كل حسنة ومنتهى كل رغبة) قال: فأقبل القوم يجولون حول بيت الحسين (علیه السلام) فيرون الخندق في ظهورهم والنار تضطرم في الحطب والقصب

ص: 465


1- نهج البلاغة، الوصايا: 14 ومن وصية له (علیه السلام) لعسكره قبل لقاء العدو بصفين.
2- بحار الأنوار: ج33 ص347 ب23 باب قتال الخوارج.
3- شرح نهج البلاغة: ج9 ص111 من أخبار يوم الجمل.

.............................

الذي كان ألقي فيه، فنادى شمر بن ذي الجوشن بأعلى صوته: يا حسين أتعجلت بالنار قبل يوم القيامة؟ فقال الحسين (علیه السلام): من هذا كأنه شمر بن ذي الجوشن، فقالوا: نعم، فقال له: يا ابن راعية المعزى أنت أَوْلى بِها صِلِيًّا، ورام مسلم بن عوسجة أن يرميه بسهمفمنعه الحسين (علیه السلام) من ذلك، فقال له: دعني حتى أرميه فإن الفاسق من أعداء الله وعظماء الجبارين وقد أمكن الله منه، فقال له الحسين (علیه السلام): لا ترمه فإني أكره أن أبدأهم بقتال»(1).

ص: 466


1- بحار الأنوار: ج45 ص4-5 ب37 سائر ما جرى عليه.

أتخشونهم

اشارة

-------------------------------------------

الخوف من الأعداء

مسألة: يحرم الخوف من أعداء الله تعالى في الجملة.

والمراد به: الخوف المنتهي إلى الجبن والتقاعس عن العمل، أما الخوف القلبي - الخارج عن الاختيار - فليس حراماً، كما هو واضح.

أو المراد به: الخوف الناتج عن الشرك، أي الخوف من منطلق رؤية قدرة بإزاء الله تعالى.

ومن هنا كان الفرار عن الزحف محرماً.

قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «الفرار من الزحف من الكبائر»(1).

وفي كتاب صفين: أن عليا (علیه السلام) لما رأى ميمنته يوم صفين قد عادت إلى مواقفها ومصافها وكشف من بإزائها حتى ضاربوهم في مواقفهم ومراكزهم أقبل حتى انتهى إليهم فقال: «إني قد رأيت جولتكم وانحيازكم عنصفوفكم تحوزكم الجفاة الطغاة وأعراب أهل الشام وأنتم لهاميم العرب والسنام الأعظم وعمار الليل بتلاوة القرآن وأهل دعوة الحق إذا ضل الخاطئون فلولا إقبالكم بعد إدباركم وكركم بعد انحيازكم وجب عليكم ما وجب على المولي يوم الزحف دبره وكنتم فيما أرى من الهالكين، ولقد هون علي بعض وجدي وشفا بعض هياج صدري أني رأيتكم بأخرة حزتموهم كما حازوكم وأزلتموهم عن مصافهم

ص: 467


1- دعائم الإسلام: ج1 ص370 ذكر الأفعال التي ينبغي فعلها قبل القتال.

.............................

كما أزالوكم تحوزونهم بالسيوف ليركب أولهم آخرهم كالإبل المطردة الهيم فالآن فاصبروا أنزلت عليكم السكينة وثبتكم الله باليقين وليعلم المنهزم أنه مسخط لربه وموبق لنفسه، وفي الفرار موجدة الله عليه والذل اللازم وفساد العيش وأن الفار لا يزيد في عمره ولا يرضي ربه، فموت الرجل محقا قبل إتيان هذه الخصال خير من الرضى بالتلبس بها والإقرار عليها»(1).

وعن أبي الحسن (علیه السلام) في قوله تعالى:«إلا متحرفا لقتال أومتحيزا إلى فئة»(2)، قال: «متطردا يريد الكرة عليهم، ومتحيزا يعني متأخرا إلى أصحابه من غير هزيمة، فمن انهزم حتى يجوز صف أصحابه فقد باء بغضب من الله»(3).

وفي احتجاجات أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) قال: «لقد علم المستحفظون من أصحاب النبي محمد (صلی الله علیه و آله) أنه ليس فيهم رجل له منقبة إلا وقد شركته فيها وفضلته، ولي سبعون منقبة لم يشركني فيها أحد منهم» إلى أن قال: «وأما الثانية والستون فإني كنت مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) في جميع المواطن والحروب وكانت رايته معي، وأما الثالثة والستون فإني لم أفر من الزحف قط، ولم يبارزني أحد إلا سقيت الأرض من دمه» الحديث.(4).

وفي علل الشرائع عن محمد بن سنان: أن الرضا (علیه السلام) كتب إليه فيما كتب

ص: 468


1- مستدرك الوسائل: ج11 ص71-72 ب27 ح12455.
2- سورة الأنفال: 16.
3- مستدرك الوسائل: ج11 ص72 ب27 ح12457.
4- بحار الأنوار: ج31 ص432-445 ب27.

.............................

عن جواب مسائله: «حرم الله عز وجل الفرار من الزحف لما فيه من الوهن في الدين والاستخفاف بالرسل والأئمة العادلة وترك نصرتهم على الأعداء والعقوبة لهم على إنكار ما دعوا إليه من الإقرار بالربوبية وإظهار العدل وترك الجور وإماتة الفساد، ولما في ذلك من جرأة العدو على المسلمين، وما يكون في ذلك من السبي والقتل وإبطال دين الله تعالى وغيره من الفساد»(1).

وروى العياشي عن أبي الحسن الرضا (علیه السلام) أنه ذكر في قول الله تعالى: «إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه»(2) عبادة الأوثان وشرب الخمر وقتل النفس وعقوق الوالدين وقذف المحصنات والفرار من الزحف وأكل مال اليتيم»(3).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال سمعته يقول: «الكبائر سبع، قتل المؤمن متعمدا وقذف المحصنة والفرار من الزحف والتعرب بعد الهجرة وأكلمال اليتيم ظلما وأكل الربا بعد البينة وكل ما أوجب الله عزوجل عليها النار» وقال: «إن أكبر الكبائر الشرك بالله»(4).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) في حديث قال: «وأما الفرار من الزحف فقد أعطوا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) على البيعة طائعين غير كارهين ثم فروا عنه وخذلوه»(5).

ص: 469


1- علل الشرائع: ج2 ص481 ب233 ح1.
2- سورة النساء: 31.
3- تفسير العياشي: ج1 ص238 ح107 من سورة النساء.
4- بحار الأنوار: ج85 ص26 بيان تحقيق مهم.
5- تفسير فرات لكوفي: ص102-103 ومن سورة النساء.

.............................

وعن عمران بن حصين قال: لما تفرق الناس عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) في يوم أحد جاء علي (علیه السلام) متقلدا سيفه حتى قام بين يديه، فرفع رسول الله (صلی الله علیه و آله) رأسه فقال له: «ما بالك لم تفر مع الناس» فقال: «يا رسول الله أرجع كافرا بعد إسلامي» الخبر(1).

وفيه نزل جبرائيل قائلا: لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي، وقال للنبي(صلی الله علیه و آله): «يا رسول الله لقد عجبت الملائكة من حسن مواساة علي لك بنفسه» فقال النبي (صلی الله علیه و آله): «ما يمنعه من ذلك وهو مني وأنا منه» ورجع بعض الناس لثبات علي (علیه السلام) ورجع عثمان بعد ثلاثة أيام فقال النبي (صلی الله علیه و آله): «لقد ذهبت بها عريضا»(2).

الشجاعة

مسألة: ينبغي للإنسان أن يكون شجاعاً، فإذا لم يكن لقن نفسه بذلك، فإن من الثابت في علم النفس التأثير الكبير للإيحاء النفسي على الإنسان، سواء كان في الخير أم الشر، وسواء كان عدالة أم ظلماً، كرماً أم بخلاً، شجاعة أم جبناً، أم غير ذلك من الصفات، وتأثير التلقين والإيحاء لا يقتصر على القلب والجوانح، بل يشمل الجوارح أيضاً (3).

ص: 470


1- مستدرك الوسائل: ج11 ص72 ب27 ح12458.
2- نهج الحق: ص249 المطلب الثاني في الجهاد.
3- وقد ثبت علمياً ذلك ومن أمثلته تأثر الإيحاء الذاتي على شفاء المرضى، كما تعارف عند بعض الأطباء في عالم اليوم.

.............................

ولعل من أسباب تكرار الصلاة كل يوم خمس مرات بركوعها وسجودها وسائر أجزائها وشرائطها، استمرار الإيحاء النفسي حتى تتلون النفس باللون الذي يرتضيه الله عزوجل، قال تعالى: «صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة»(1).

عن عبد الله بن عباس قال قام رسول الله (صلی الله علیه و آله) فينا خطيبا فقال في آخر خطبته: «جمع الله لنا عشر خصال لم يجتمعن لأحد قبلنا ولا تكون لأحد غيرنا، العلم والحلم والحكم واللب والنبوة والفتوة والشجاعة والصدق والصبر والطهارة والعفاف، فنحن كلمة التقوى وسبيل الهدى والمثل الأعلى والحجة العظمى والعروة الوثقى والحق الذي أمر الله في المودة «فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ»(2) »(3).

وقال النبي (صلی الله علیه و آله): «إن الله تبارك وتعالى اصطفاني واختارنيوجعلني رسولا وأنزل علي سيد الكتب، فقلت: إلهي وسيدي إنك أرسلت موسى إلى فرعون فسألك أن تجعل معه أخاه هارون وزيرا تشد به عضده وتصدق به قوله، وإني أسألك يا سيدي وإلهي أن تجعل لي من أهلي وزيرا تشد به عضدي، فجعل الله لي عليا وزيرا وأخا وجعل الشجاعة في قلبه وألبسه الهيبة على عدوه وهو أول من آمن بي وصدقني وأول من وحد الله معي وإني سألت ذلك ربي

ص: 471


1- سورة البقرة: 138.
2- سورة يونس: 32.
3- تفسير فرات الكوفي: ص305-308 ومن سورة الشعراء.

.............................

عزوجل فأعطانيه، فهو سيد الأوصياء، اللحوق به سعادة والموت في طاعته شهادة واسمه في التوراة مقرون إلى اسمي وزوجته الصديقة الكبرى ابنتي وابناه سيدا شباب أهل الجنة ابناي وهو وهما والأئمة بعدهم حجج الله على خلقه بعد النبيين وهم أبواب العلم في أمتي من تبعهم نجا من النار ومن اقتدى بهم «هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ»(1)، لم يهب الله عزوجل محبتهم لعبد إلا أدخله الله الجنة»(2).

وقال النبي (صلی الله علیه و آله): «اعلم أن الله عزوجل يحب الشجاعة ولوعلى قتل حية»(3).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: أتي النبي (صلی الله علیه و آله) بأسارى فأمر بقتلهم خلا رجل من بينهم، فقال الرجل: بأبي أنت وأمي يا محمد كيف أطلقت عني من بينهم؟ فقال: أخبرني جبرئيل عن الله عزوجل أن فيك خمس خصال يحبه الله عزوجل ورسوله الغيرة الشديدة على حرمك والسخاء وحسن الخلق وصدق اللسان والشجاعة، فلما سمعها الرجل أسلم وحسن إسلامه وقاتل مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) قتالا شديدا حتى استشهد»(4).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «الشجاعة زين»(5).

ص: 472


1- سورة آل عمران: 101.
2- الأمالي للصدوق: ص21-22 المجلس السادس.
3- مستدرك الوسائل: ج8 ص297 ب39 ح9490.
4- بحار الأنوار: ج66 ص383 ب38 ح45.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: ص259 ق3 ب2 ف2 ح5524.

.............................

وقال (علیه السلام): «الشجاعة عز حاضر»(1).وقال (علیه السلام): «زكاة الشجاعة الجهاد في سبيل الله»(2).

وفي الشعر المنسوب إليه (علیه السلام) قال:

أنا الصّقر الذي حدّثت عنه *** عتاق الطير تنجذل انجذالا

وقاسيت الحروب أنا ابن سبع *** فلمّا شبت أفنيت الرجالا

فلم تدع السيوف لنا عدوّا *** ولم يدع السخاء لديّ مالا (3)

ص: 473


1- غرر الحكم ودرر الكلم: ص259 ق3 ب2 ف2 ح5525.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: ص33 ق4 ب1 ف3 ح7666.
3- بحار الأنوار: ج34 ص433 الباب السادس والثلاثون ومنه في إظهار الشجاعة.

فالله أحق أن تخشوه

اشارة

-------------------------------------------

الخشية من الله

مسألة: تجب الخشية من الله تعالى، وقد تكون واجباً نفسياً لا صرف المقدمية فتأمل.

ولا يخفى أن الأصل في الخطابات القرآنية كونها للعموم، وإن كانت موجهة حين نزولها لأفراد أو فئات خاصة فإنها عادة من باب أظهر المصاديق وما أشبه، والمقام من هذا القبيل.

وإذا لم تكن الخشية من الله موجودة أو متمكنة في قلب الإنسان فاللازم إيجاد تلك الخشية في قلبه بتذكر عقاب الله سبحانه وتعالى، وشدة بأسه لمن يعصيه، حتى تتلوّن نفسه بالخشية.

قال سبحانه: «يدعوننا رغباً ورهباً»(1).

وقال تعالى: «انما يخشى الله من عباده العلماء»(2).

وقال جل ثناؤه: «فلا تخشوا الناسواخشون»(3).

وفي الحديث القدسي: «يا موسى اجعلني حرزك وضع عندي كنزك من الصالحات وخفني ولا تخف غيري إلي المصير»(4).

ص: 474


1- سورة الأنبياء: 90.
2- سورة فاطر: 28.
3- سورة المائدة: 44.
4- بحار الأنوار: ج13 ص335 ب11 ضمن ح13.

.............................

وقال أبو عبد الله (علیه السلام): «إن من العبادة شدة الخوف من الله»(1).

وقال أبو عبد الله (علیه السلام): «يا إسحاق خف الله كأنك تراه وإن كنت لا تراه فإنه يراك، وإن كنت ترى أنه لا يراك فقد كفرت، وإن كنت تعلم أنه يراك ثم برزت له بالمعصية فقد جعلته من أهون الناظرين عليك»(2).

وعن الهيثم بن واقد قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: «من خاف الله أخاف الله منه كل شيء، ومن لم يخف الله أخافه الله من كل شيء»(3).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال:«المؤمن لا يخاف غير الله ولا يقول عليه إلا الحق»(4).

وعن أبي ذر (رحمة الله) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «يا أبا ذر يقول الله تعالى: لا أجمع على عبدي خوفين ولا أجمع له أمنين، فإذا أمنني أخفته يوم القيامة وإذا خافني آمنته يوم القيامة..

يا أباذر لو أن رجلا كان له مثل عمل سبعين نبيا لاحتقره وخشي أن لاينجو من شر يوم القيامة»..

إلى أن قال: قال (صلی الله علیه و آله): «يا أباذر إن لله ملائكة قياما في خيفته ما يرفعون رءوسهم حتى ينفخ في الصور النفخة الأخيرة فيقولون جميعا سبحانك وبحمدك ما عبدناك كما ينبغي لك أن تعبد فلو كان لرجل عمل سبعين صديقا لاستقل

ص: 475


1- الكافي: ج2 ص69 باب الخوف والرجاء ح7.
2- وسائل الشيعة: ج15 ص220 ب14 ح20324.
3- الكافي: ج2 ص68 باب الخوف والرجاء ح3.
4- مستدرك الوسائل: ج11 ص228 ب14 ح12819.

.............................

عمله من شدة ما يرى يومئذ»(1).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال:

«من عرف الله خافه، ومن خاف الله حثهالخوف من الله على العمل بطاعته والأخذ بتأديبه، فبشر المطيعين المتأدبين بأدب الله والآخذين عن الله أنه حق على الله أن ينجيه من مضلات الفتن»(2).

إلى غير ذلك من الآيات والروايات الكثيرة بهذا الصدد.

ص: 476


1- مستدرك الوسائل: ج11 ص228 ب14 ح12818.
2- بحار الأنوار: ج67 ص400 ب59 ح73.

إن كنتم مؤمنين

اشارة

-------------------------------------------

من لوازم الإيمان

مسألة: ينبغي بيان أن الخشية من الله تعالى من شرائط الإيمان ولوازمه، كما قالت (سلام الله عليها): «إن كنتم مؤمنين».

فإن من الواضح أن غير المؤمن لا يخشى منه عزوجل، وإلا لآمن به وأحلّ حلاله وحرّم حرامه، فإن الصفات القلبية تظهر آثارها على الجوارح، قال أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام): «ما أضمر أحدكم شيئاً إلا وأظهره الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه»(1).

ولا يخفى أن ما ذكره (صلوات الله عليه) إنما هو من باب المثال أو أظهر المصاديق وأجلاها، وإلا فالنوايا تظهر أيضاً على الجوارح الأخرى كاليد والرجل وإشارات العين، وما أشبه ذلك.

قولها (علیها السلام): «ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم…» إشارة إلى أنالأنصار(2) قد حاربوا كفار مكة من قبل والمتوقع منهم أن يقوموا اليوم بمحاربة المنافقين ويدافعوا عن خلافة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وخليفته، وعن فدك وابنته (صلی الله علیه و آله)، وقد نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم، فإنهم جمعوا بين شيئين النكث للأيمان ونقض العهد، كما هموا بإخراج الرسول (صلی الله علیه و آله) من مكة المكرمة.

ص: 477


1- بحار الأنوار: ج65 ص316 ب25 نسبة الإسلام.
2- بناء على أن الخطاب لا يزال لبني قيلة كما هو ظاهر مساق الكلام.

.............................

قولها (علیها السلام): «وهم بدؤوكم أول مرة» لأن أهل مكة هم الذين جاؤوا إلى المدينة ليحاربوا المسلمين.

قولها (علیها السلام): «أتخشونهم» أي لخوفكم منهم لا تقدمون على محاربتهم واسترداد الحق منهم.

قولها (علیها السلام): «فالله أحق أن تخشوه»، ومعنى أحق: أصل الحق لا التفضيل، إذ لا يخاف من البشر ولا يُخشى من سائر الممكنات أبداً في قبال الله عزوجل، لأن أزمة الأمور طراً بيده سبحانه وتعالى، فالتفضيل هنا جرد عنمعناه، كما في غيرها من الآيات والروايات التي ورد فيها شبه ذلك، قال سبحانه: «أولى لك فأولى ` ثم أولى لك فأولى»(1).

وقال عزوجل: «قل الله يهدي للحق، أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدّي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون»(2).

```

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

قم المقدسة

محمد الشيرازي

ص: 478


1- سورة القيامة: 34-35.
2- سورة يونس: 35.

إلى هنا تم بحمد الله تعالى

المجلد الرابع من كتاب (من فقه الزهراء (علیها السلام))

وقد اشتمل على القسم الثالث من الخطبة الشريفة

وسيأتي بعده المجلد الخامس وهو (تتمة الخطبة)

ويبتدئ بقولها (علیها السلام) :

«ألا وقد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض»

مؤسسة المجتبى للتحقيق والنشر

بيروت - لبنان ص.ب: 5955 / 13 شوران

ص: 479

المجلد الخامس : خطبتها علیها السلام في المسجد 4

هوية الكتاب

الفقه موسوعة استدلالية في الفقه الإسلامي من فقه الزهراء (علیها السلام)

المجلد الخامس : خطبتها علیها السلام في المسجد 4

المرجع الديني الراحل آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (أعلى الله درجاته)

ص: 1

اشارة

الطبعة الأولى

1439 ه 2018م

تهميش وتعليق:

مؤسسة المجتبى للتحقيق والنشر

كربلاء المقدسة

ص: 2

الفقه

من فقه الزهراء (علیها السلام)

المجلد الخامس

خطبتها علیها السلام في المسجد

القسم الأخیر

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

ولعنة الله على أعدائهم أجمعين

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الصِّدِيقَةُ الشَّهِيدَةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الرَّضِيَةُ المَرْضِيَّةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الفَاضِلةُ الزَّكِيَةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الحَوْراءُ الإِنْسِيَّةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا التَّقِيَّةُ النَّقِيَّةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا المُحَدَّثَةُ العَليمَةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا المَظْلومَةُ المَغْصُوبَةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا المُضْطَهَدَةُ المَقْهُورَةُ

السَّلامُ عَليْكِ يا فاطِمَةُ بِنْتَ رَسُول اللهِ

وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ

البلد الأمين ص278. مصباح المتهجد ص711

بحار الأنوار ج97 ص195 ب12 ح5 ط بيروت

ص: 4

المقدمة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.

أما بعد: فهذا الجزء الخامس من كتاب (من فقه الزهراء) صلوات الله وسلامه عليها، وهو خاتمة خطبتها (علیها السلام) الشريفة في المسجد، أسأل الله عزوجل التوفيق والقبول، إنه ولي ذلك.

قم المقدسة

محمد الشيرازي

ص: 5

ص: 6

ألا وقد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض

اشارة

-------------------------------------------

بداية سقوط الأمم

مسألة: من رذائل الأخلاق الخلود إلى الخفض والدعة والراحة وسعة العيش، فإنه نقطة البداية في سقوط الأمم، ويكون على حسب اختلاف الموارد إما: محرماً أو مكروهاً؛ لأن الإسلام يحب الجد والنشاط والجهد كما نجد ذلك في سيرة رسول الله(صلی الله علیه و آله) وخليفته الإمام علي(علیه السلام) وسائر الأئمة المعصومين (علیهم السلام).

من جهد الرسول (صلی الله علیه و آله) والعترة الطاهرة (علیهم السلام)

عن الزهري، قال: دخلت مع علي بن الحسين (علیه السلام) على عبد الملك بن مروان - قال: - فاستعظم عبد الملك ما رأى من أثر السجود بين عيني علي بن الحسين (علیه السلام). فقال: يا أبا محمد، لقد بيّن عليك الاجتهاد، ولقد سبق لك من الله الحسنى، وأنت بضعة من رسول الله (صلی الله علیه و آله) قريب النسب، وكيد السبب، وإنك لذو فضل عظيم على أهل بيتك وذوي عصرك، ولقد أوتيت من الفضل والعلم والدين والورع ما لم يؤته أحد مثلك ولا قبلك إلا منمضى من سلفك. وأقبل يثني عليه ويطريه.

قال: فقال علي بن الحسين (علیه السلام): «كل ما ذكرته ووصفته من فضل الله سبحانه وتأييده وتوفيقه، فأين شكره على ما أنعم يا أمير ، كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقف في الصلاة حتى تورم قدماه، ويظمأ في الصيام حتى يعصب فوه. فقيل له: يا رسول الله، ألم يغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟!. فيقول (صلی الله علیه و آله): أفلا أكون عبداً شكوراً،الحمد لله على ما أولى وأبلى،وله الحمد في الآخرة والأولى،

ص: 7

..............................

والله لو تقطعت أعضائي وسالت مقلتاي على صدري لن أقوم لله جل جلاله بشكر عُشر العشير من نعمة واحدة من جميع نعمه التي لا يحصيها العادون، ولايبلغ حدّ نعمة منها عليَّ جميع حمد الحامدين، لاوالله أو يراني الله لايشغلني شيء عن شكره وذكره في ليل ولا نهار ولا سرّ ولا علانية، ولولا أن لأهلي عليَّ حقاً ولسائر الناس من خاصهم وعامهم عليَّ حقوقاً لا يسعني إلا القيام بها حسب الوسع والطاقة حتى أؤديها إليهم، لرميت بطرفي إلى السماء، وبقلبي إلى الله، ثم لم أرددهما حتى يقضي الله على نفسي، وهو خير الحاكمين»، وبكى (علیه السلام) وبكى عبد الملك(1).

وفي الحديث:كان النبي (صلی الله علیه و آله) يبكي حتى يُغشى عليه، فقيلله: أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟!. فقال: «أفلا أكون عبداً شكوراً»(2).

وروي: أن الأشعث بن قيس دخل عليه - على أمير المؤمنين (علیه السلام) - بصفين وهو قائم يصلي ظهيرة. فقال: قلت: يا أمير المؤمنين، أدءوب بالليل ودءوب بالنهار؟!. قال: فانسل (علیه السلام) من صلاته وهو يقول هذه الأبيات:

اصبر على تعب الإدلاج والسهر *** وبالرواح على الحاجات والبكر

لا تضجرن ولايعجزك مطلبها *** فالنجح يتلف بين العجز والضجر

إني وجدت وفي الأيام تجربة *** للصبر عاقبة محمودة الأثر

وقل من جد في أمر يطالبه *** فاستصحب الصبر إلا فاز بالظفر(3)

ص: 8


1- مستدرك الوسائل: ج1 ص125- 126 ب18 ح165.
2- مستدرك الوسائل: ج11 ص247 ب15 ح12895.
3- بحار الأنوار: ج34 ص411 ب36.

..............................

قولها (علیها السلام): «ألا وقد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض»:

الإخلاد: الميل والسكون، والخفض: السعة في العيش. وأصل الخفض عبارة عن: الموضع الواطئ الذي لايُرى عن بُعد فيكون الإنسان الذي فيه في مأمن من الأخطار، فهو من علاقة الحالّ والمحلّ. ثم إن الذي يخلد إلى الخفض كثيراً ما يؤدي به ذلك إلى المحرمات طلباً للخفض، وكسلاً عن الإتيان بالواجب، وعلى كل حال فالخفض مرجوح بين محرم ومكروه كلٌ في مورده.

وسنلحظ إشارة الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (علیها السلام) لاحقاً إلى الآثار السلبية والخطيرة التي نجمت عن إخلاد القوم إلى الراحة على حساب تضييع الواجبات، وإبعادهم من هو الأحق بالقيادة والخلافة.

كما أنها (علیها السلام) تشير في هذا المقطع إلى أن موقفهم من الخلافة وغصبها وغصب فدك لم يكن نابعاً من قناعة، أو عدم معرفة بالحقيقة، أو عدم علمهم بمن هو أحق بالخلافة، بل كان نابعاً من ضعف النفس وحب الشهوات، والرغبة في الراحة والدعة، إذ قالت (علیها السلام): «قد أخلدتم إلى الخفض».ومن معاني الخفض: ما يقابل الرفع، فبتركهم الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) قد أخلدوا إلى الضعة وعدم الرفع.

ولا يخفى ما في استعمال مادة الخلود هنا من دلالات.

وفي الحديث القدسي:«يا عبادي إني أنا مالك الشفاء، والإحياء والإماتة، والغناء والإفقار، والإسقام والصحة، والرفع والخفض، والإهانة والإعزاز، دونكم ودون سائر الخلق»(1).

ص: 9


1- بحار الأنوار: ج37 ص57 ب50 ح27.

..............................

وفي (مصباح الشريعة): عن الإمام الصادق (علیه السلام)، قال: «إعراب القلوب على أربعة أنواع:رفع وفتح وخفض ووقف. فرفع القلب في ذكر الله، وفتح القلب في الرضا عن الله، وخفض القلب في الاشتغال بغير الله، ووقف القلب في الغفلة عن الله - إلى أن قال (علیه السلام) - وعلامة الخفض ثلاثة أشياء:العجب والرياء والحرص» الحديث(1).

أما قول أمير المؤمنين (علیه السلام): «من توكل على الله ذلت لهالصعاب، وتسهلت عليه الأسباب، وتبوأ الخفض والكرامة»(2) فهو إشارة إلى الخفض والراحة الحقيقية كما لا يخفى.

الجد والنشاط

قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «عليك بإدمان العمل في النشاط والكسل»(3).

وفي الدعاء: «اللهم ارزقني فيه الجد والاجتهاد والقوة والنشاط»(4).

ولما سوى رسول الله (صلی الله علیه و آله) الصفوف بأحُد قام فخطب الناس فقال:«أيها الناس أوصيكم بما أوصاني به الله في كتابه، من العمل بطاعته والتناهي عن محارمه، ثم إنكم اليوم بمنزل أجر وذخر لمن ذكر الذي عليه، ثم وطن نفسه على الصبر واليقين والجد والنشاط، فإن جهاد العدو شديد كريه، قليل من يصبر عليه إلا من عزم له على رشده، إن الله مع من أطاعه وإن الشيطان مع من عصاه،

ص: 10


1- مصباح الشريعة: ص121 ب57.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: ص197 ق2 ب2 ف6 آثار التوكل ح3888.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: ص152 ق1 ب6 ف4 أهمية العمل ح2799.
4- الكافي: ج4 ص76 باب ما يقال في مستقبل شهر رمضان ح7.

..............................

فاستفتحوا أعمالكم بالصبر على الجهاد،والتمسوا بذلك ما وعدكم الله،وعليكم بالذي أمركم به، فإني حريص على رشدكم، إن الاختلاف والتنازع والتثبط من أمر العجز والضعف، وهو مما لا يحبه الله، ولا يعطي عليه النصر والظفر»(1).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «لقد أخطأ العاقل اللاهي الرشد، وأصابه ذو الاجتهاد والجد»(2).

وقال (علیه السلام): «ثلاث فيهن النجاة:لزوم الحق، وتجنب الباطل، وركوب الجد»(3).

وقال (علیه السلام): «المؤمن يعاف اللهو ويألف الجد»(4).

وقال (علیه السلام): «طاعة الله سبحانه لا يحوزها إلا من بذل الجد واستفرغ الجهد»(5).

وقال (علیه السلام): «فالحذر الحذرأيها المستمع، والجد الجد أيها العاقل، ولاينبؤك مثل خبير»(6).

وقال (علیه السلام): «نكد العلم الكذب، ونكد الجد اللعب»(7).

ص: 11


1- بحار الأنوار: ج20 ص125- 126 ب12.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: ص60 ق1 ب1 ف8 وسائل أخرى ح677، والغرر: ص66 ف12 الموانع المتفرقة ح872.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: ص69 ق1 ب1 ف14 في العمل بالحق ح973.
4- مستدرك الوسائل: ج13 ص220 ب79 ح15180.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: ص184 ق1 ب2 ف1 الترغيب في الطاعة ح3480.
6- نهج البلاغة، الخطب: 153 ومن خطبة له (علیه السلام).
7- غرر الحكم ودرر الكلم: ص220 ق1 ب3 ف4 ذم الكذب ح4382، والغرر: ص461 ق6 ب5 ف4 بعض آثار اللهو واللعب ح10553.

..............................

وقال (علیه السلام): «لا تترك الاجتهاد في إصلاح نفسك، فإنه لا يعينك عليها إلا الجد»(1).

وقال (علیه السلام): «إن كنتم للنجاة طالبين، فارفضوا الغفلة واللهو، والزموا الاجتهاد والجد»(2).

وقال (علیه السلام): «عليك بالجد والاجتهاد في إصلاح المعاد»(3).

وقال (علیه السلام): «عليك بالجدوإن لم يساعد الجد»(4).

وقال (علیه السلام): «من قصر عاب»(5).

وقال (علیه السلام): «من لم يجهد نفسه في صغره لم ينبل في كبره»(6).

وقال (علیه السلام): «ما أدرك المجد من فاته الجد»(7).

وقال (علیه السلام): «الكامل من غلب جده هزله»(8).

وقال (علیه السلام): «قد سعد من جدّ»(9).

وقال (علیه السلام): «من ركب جده قهر ضده»(10).

ص: 12


1- غرر الحكم ودرر الكلم: ص237 ق3 ب2 ف1 إصلاح النفس ح4774.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: ص266 ق3 ب2 ف4 ذم الغفلة ح5749.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: ص443 ق6 ب4 ف2 مدح السعي والجد والتحريص إليهما ح10115.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: ص443 ق6 ب4 ف2 مدح السعي والجد والتحريص إليهما ح10117.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: ص443 ق6 ب4 ف2 مدح السعي والجد والتحريص إليهما ح10118.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: ص443 ق6 ب4 ف2 مدح السعي والجد والتحريص إليهما ح10119.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: ص443 ق6 ب4 ف2 مدح السعي والجد والتحريص إليهما ح10120.
8- غرر الحكم ودرر الكلم: ص443 ق6 ب4 ف2 مدح السعي والجد والتحريص إليهما ح10121.
9- غرر الحكم ودرر الكلم: ص443 ق6 ب4 ف2 فوائد السعي والجد ح10126.
10- غرر الحكم ودرر الكلم: ص444 ق6 ب4 ف2 فوائد السعي والجد ح10129.

وأبعدتم من هو أحق بالبسط والقبض

اشارة

-------------------------------------------

وقال (علیه السلام): «من أعمل اجتهاده بلغ مراده»(1).

وقال (علیه السلام): «من بذل جهد طاقته بلغ كنه إرادته»(2).

وأبعدتم من هو أحق بالبسط والقبض

الكفاءات

مسألة: من الواجب إعطاء كل ذي حق حقه، ومن مصاديقه:وضع الرجل المناسب في المكان المناسب وتفويض الأدوار لذوي الكفاءات. وبذلك تستقيم أمور الدين والدنيا معاً.

وفي الأحاديث أن من علائم زوال الحكومات: تقديم الأراذل وتأخير الأفاضل، قال علي (علیه السلام): «يستدل على إدبار الدول بأربع:تضييع الأصول، والتمسك بالغرور، وتقديم الأراذل، وتأخير الأفاضل»(3).وقال (علیه السلام): «تولي الأراذل والأحداث الدولَ دليل انحلالها وإدبارها»(4).

وورد في تفسير المتقين : «الذين يتقون الموبقات ويتقون تسليط السفه على أنفسهم»(5).

ص: 13


1- غرر الحكم ودرر الكلم: ص444 ق6 ب4 ف2 فوائد السعي والجد ح10131.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: ص444 ق6 ب4 ف2 فوائد السعي والجد ح10132.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: ص342 ق4 ب2 ف5 ح7835.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: ص345 ق4 ب2 ف6 ح7925.
5- تفسير الإمام العسكري (علیه السلام): ص62 ح32 فضل سورة البقرة.

..............................

وقال علي (علیه السلام): «إذا ملك الأراذل هلك الأفاضل»(1)

وقال (علیه السلام): «رأس الرذائل اصطناع الأراذل»(2).

وقال (علیه السلام): «الأعمال تستقيم بالعمال»(3)

وقال (علیه السلام): «آفة الأعمالعجز العمال»(4)

وقال (علیه السلام): «شر الولاة من يخافه البري ء»(5).

وقال (علیه السلام): «شر الوزراء من كان للأشرار وزيراً»(6)

وقال (علیه السلام): «وزراء السوء أعوان الظلمة وإخوان الأثمة»(7).

مضافاً إلى ما ورد في ذم من تولى الأمر وفي القوم من هو أعلم منه.

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «ألا ومن أمّ قوماً إمامة عمياء وفي الأمة من هو أعلم منه فقد كفر»(8).

وقال أبو عبد الله (علیه السلام): «من خرج يدعو الناس وفيهم من هو أفضل منه فهو ضال مبتدع»(9).

ص: 14


1- غرر الحكم ودرر الكلم: ص348 ق4 ب2 ف8 آثار الحكومة الجائرة ح8036.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: ص387 ق5 ب4 ف2 إضاعة الإحسان ح8862.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: ص345 ق4 ب2 ف6 ح7920.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: ص345 ق4 ب2 ف6 ح7924.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: ص345 ق4 ب2 ف6 ح7926.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: ص345 ق4 ب2 ف6 ح7927.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: ص345 ق4 ب2 ف6 ح7930.
8- بحار الأنوار: ج22 ص487 ب1 ح31.
9- مستدرك الوسائل: ج11 ص29 ب8 ح12354.

..............................

سر رزايا المسلمين:

ولقد كان السبب الأول في كافة المحن والمشاكل والرزايا التي تعرض لها المسلمون - من حكام جائرين مستبدين ومن هتك الحرمات ومصادرة الحقوق وضعف الإيمان و.. - على مر التاريخ هو عدم إعطاء المناصب والمسؤوليات لذوي الكفاءات، بدءً من رئيس الحكومة حتى أصغر مدير، وكان أفدح تلك الخطايا على الإطلاق سلب السلطة من الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام) الذي كان هو الأكفأ في كل الجهات بشهادة الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) بمتواتر الروايات، مضافاً إلى كونه (علیه السلام) هو الخلفية المعين من قبل الله عزوجل.

وقد ورد في الزيارة: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَبْدِكَ وَأَخِي رَسُولِكَ، الَّذِي انْتَجَبْتَهُ لِعِلْمِكَ، وَجَعَلْتَهُ هَادِياً لِمَنْ شِئْتَ مِنْ خَلْقِكَ، وَالدَّلِيلَ عَلَى مَنْ بَعَثْتَهُ بِرِسَالاَتِكَ، وَدَيَّانَ الدِّينِ بِعَدْلِكَ، وَفَصْلِ قَضَائِكَ بَيْنَ خَلْقِكَ، وَالْمُهَيْمِنِ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، وَالسَّلاَمُ عَلَيْهِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ»(1).وفي (الوسائل) في باب كيفية الوضوء وجملة من أحكامه: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إن العبد إذا توضأ فغسل وجهه تناثرت ذنوب وجهه.. وإن قال في أول وضوئه:بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ طهرت أعضاؤه كلها من الذنوب، وإن قال في آخر وضوئه أو غسله من الجنابة: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إلاّ أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ عَلِيّاً

ص: 15


1- تهذيب الأحكام: ج6 ص87 ب35.

..............................

وَلِيُّكَ وَخَلِيفَتُكَ بَعْدَ نَبِيِّكَ، وَأَنَّ أَوْلِيَاءَهُ خُلَفَاؤُكَ وَأَوْصِيَاؤُهُ، تحاتت عنه ذنوبه كما تتحات أوراق الشجر، وخلق الله بعدد كل قطرة من قطرات وضوئه أو غسله ملكاً يسبح الله ويقدسه ويهلله ويكبره ويصلي على محمد وآله الطيبين، وثواب ذلك لهذا المتوضئ، ثم يأمر الله بوضوئه وغسله فيختم عليه بخاتم من خواتيم العزة» الحديث(1).

وفي حديث جابر بن عبد الله الأنصاري، عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: «فأتاني جبرئيل فقال:إن ربك يقول لك: إن علي بن أبي طالب وصيك، وخليفتك على أهلك وأمتك، والذائد عن حوضك، وهو صاحب لوائك يقدمك إلى الجنة»(2).وعن ابن عباس - في حديث المعراج - قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «يا ابن عباس، إن أول ما كلمني(3) به أن قال: يا محمد انظر تحتك، فنظرت إلى الحجب قد انخرقت، وإلى أبواب السماء قد فتحت، ونظرت إلى علي (علیه السلام) وهو رافع رأسه إليَّ، فكلمني وكلمته وكلمني ربي عزوجل».

فقلت: يا رسول الله، بم كلمك ربك؟.

قال: «قال لي: يا محمد، إني جعلت علياً وصيك ووزيرك، وخليفتك من بعدك، فأعلمه فها هو يسمع كلامك، فأعلمته وأنا بين يدي ربي عزوجل، فقال لي: قد قبلت وأطعت. فأمر الله الملائكة أن تسلم عليه، ففعلت فرد عليهم السلام، ورأيت الملائكة يتباشرون به، وما مررت بملائكة من ملائكة السماء إلا

ص: 16


1- وسائل الشيعة: ج1 ص398 ب15 ح1040.
2- مستدرك الوسائل: ج18 ص181 ب8 ح22445.
3- أي ربي عزوجل.

..............................

هنئوني، وقالوا: يا محمد، والذي بعثك بالحق لقد دخل السرور على جميع الملائكة باستخلاف الله عزوجل لك ابن عمك. ورأيت حملة العرش قد نكسوا رؤوسهم إلى الأرض، فقلت: يا جبرئيل، لم نكس حملة العرش رؤوسهم؟. فقال: يا محمد، ما من ملك من الملائكة إلا وقد نظر إلىوجه علي بن أبي طالب (علیه السلام) استبشاراً به ما خلا حملة العرش فإنهم استأذنوا الله عزوجل في هذه الساعة، فأذن لهم أن ينظروا إلى علي بن أبي طالب (علیه السلام) فنظروا إليه. فلما هبطت جعلت أخبره بذلك وهو يخبرني به، فعلمت أني لم أطأ موطئاً إلا وقد كشف لعلي (علیه السلام) عنه حتى نظر إليه».

قال ابن عباس: فقلت: يا رسول الله، أوصني.

فقال: «عليك بمودة علي بن أبي طالب، والذي بعثني بالحق نبياً لايقبل الله من عبد حسنة حتى يسأله عن حب علي بن أبي طالب (علیه السلام) وهو تعالى أعلم، فإن جاء بولايته قبل عمله على ما كان منه، وإن لم يأتِ بولايته لم يسأله عن شي ء ثم أمر به إلى النار. يا ابن عباس، والذي بعثني بالحق نبياً إن النار لأشد غضباً على مبغض علي منها على من زعم أن لله ولداً. يا ابن عباس، لو أن الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين اجتمعوا على بغض علي ولن يفعلوا لعذبهم الله بالنار».

قلت: يا رسول الله، وهل يبغضه أحد؟. قال: «يا ابن عباس، نعم يبغضه قوم يذكرون أنهم من أمتي لم يجعل الله لهم في الإسلام نصيباً. يا ابن عباس، إن منعلامة بغضهم تفضيلهم من هو دونه عليه، والذي بعثني بالحق نبياً ما بعث الله نبياً أكرم عليه مني، ولا وصياً أكرم عليه من وصيي علي».

ص: 17

..............................

قال ابن عباس: فلم أزل له كما أمرني رسول الله (صلی الله علیه و آله) ووصاني بمودته، وإنه لأكبر عملي عندي - قال ابن عباس - فلما مضى من الزمان ما مضى، وحضرت رسول الله (صلی الله علیه و آله) الوفاة حضرته، فقلت له: فداك أبي وأمي يا رسول الله، قد دنا أجلك فما تأمرني؟.

فقال: «يا ابن عباس، خالف من خالف علياً، ولا تكونن لهم ظهيراً ولا ولياً».

قلت: يا رسول الله، فلِمَ لا تأمر الناس بترك مخالفته(1)؟ - قال - فبكى (علیه السلام) حتى أغمي عليه، ثم قال: «يا ابن عباس، قد سبق فيهم علم ربي والذي بعثني بالحق نبياً لا يخرج أحد ممن خالفه من الدنيا وأنكر حقه حتى يغير الله ما به من نعمة. يا ابن عباس، إذا أردت أن تلقى الله وهو عنك راض فاسلك طريقة علي بن أبي طالب، ومل معه حيث مال، وارض به إماماً، وعاد من عاداه،ووال من والاه. يا ابن عباس، احذر أن يدخلك شك فيه، فإن الشك في علي كفر بالله تعالى»(2).

إقصاء الكفاءات ظلم محرم

مسألة: يحرم إبعاد من هو الأحق بالبسط والقبض مطلقاً، فإن الحق يجب أن يتبع سواء كان الحق شخصاً أم جهة أم فكراً أم منهجاً، والإمام علي (عليه الصلاة والسلام) كان هو الحق الذي يجب إتباعه بنص القرآن والرسول(صلی الله علیه و آله)، حيث قال تعالى: إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُواْ الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ

ص: 18


1- أي زيادة على ما أمرهم به.
2- الأمالي للطوسي: ج4 ص104-106 المجلس الرابع ح161.

..............................

الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (1).

وقال (صلی الله علیه و آله): «علي مع الحق والحق مع علي، يدور حيثما دار»(2).

وقال (صلی الله علیه و آله): «علي مع الحق والحق مع علي، يميل مع الحق كيفما مال»(3).

وقال (صلی الله علیه و آله): «الحق مع علي وعلي مع الحق، لا يفترقان حتى يردا عليَّ الحوض»(4).

وقال (صلی الله علیه و آله): «علي مع الحق والحق معه وعلى لسانه»(5).

وعن عائشة عن النبي (صلی الله علیه و آله): «الحق لن يزال مع علي وعلي مع الحق لن يختلفا ولن يفترقا»(6).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إن الله يبغض من عباده المائلين عن الحق، والحق مع علي، وعلي مع الحق، فمن استبدل بعلي غيره هلك وفاتته الدنيا والآخرة»(7).

وقال (صلی الله علیه و آله): «علي معالحق وغيره مع الباطل»(8).

ص: 19


1- سورة المائدة: 55.
2- إعلام الورى: ص159 الركن الثاني ب2.
3- الاحتجاج: ج1 ص75 ذكر طرف ما جرى بعد وفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله).
4- الخصال: ج2 ص559 احتجاج أمير المؤمنين (علیه السلام) بمثل هذه الخصال على الناس يوم الشورى ح31.
5- المناقب: ج3 ص62 فصل في أنه مع الحق والحق معه.
6- كشف الغمة: ج1 ص147 في بيان أنه مع الحق والحق معه.
7- بحار الأنوار: ج38 ص36 ب57 ح11.
8- تفسير فرات الكوفي: ص540 ومن سورة عبس ح690.

..............................

ثم إن إبعاد من هو الأحق بالبسط والقبض(علیه السلام) ظلم من ثلاث جهات، بل أكثر:

1: ظلم للمغصوب حقه.

2: ظلم للناس والجماهير التي حرمت خيراته.

3: ظلم للمنهج والفكر والرسالة.

مضافاً إلى أنه ظلم لرسول الله (صلی الله علیه و آله) الذي عينه بالنص،وظلم في حق المولى عزوجل الذي عينه وصياً.

إبعاد الإمام عن الخلافة من أكبر الكبائر

مسألة: من أكبر الكبائر إبعاد الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام) عن منصب خلافة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقد قال تعالى: «فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ»(1).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من أطاع علياً رشد، ومن عصى علياًفسد»(2). وعن أم سلمة قالت: (كان علي (علیه السلام) على الحق، من اتبعه اتبع الحق، ومن تركه ترك الحق، عهداً معهوداً قبل يومه هذا) (3). وعن ابن عباس قال: سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: «علي مع الحق والحق مع علي، وهو الإمام والخليفة من بعدي، فمن تمسك به فاز ونجا، ومن تخلف عنه ضل وغوى»(4).

ص: 20


1- سورة النساء: 65.
2- الاحتجاج: ج1 ص88 ذكر طرف ما جرى بعد وفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله).
3- كشف الغمة: ج1 ص143 في بيان أنه مع الحق والحق معه.
4- كفاية الأثر: ص20-21 باب ما جاء عن عبد الله بن العباس.

..............................

وقال (صلی الله علیه و آله): «من فارق علياً فقد فارقني، ومن فارقني فقد فارق الله عزوجل»(1). وقال (صلی الله علیه و آله): «من آذى علياً فقد آذاني، أيها الناس من آذى علياً بعث يوم القيامة يهودياً أو نصرانياً»(2).

ومن أكبر الكبائر أيضاً: إبعادسائر المعصومين (علیهم السلام) عن الخلافة والإمامة. والمعين عليه معين على الكبيرة، والراضي بل الساكت عنه آثم، والحكم في زمن الغيبة سارٍ أيضاً، فإن المنصب لهم ولا يجوز التصرف فيه إلا بإذن منهم، بالإذن الخاص(3) أو العام بأن تجتمع في الحاكم الشرعي كل الشرائط حسب المقرر في (الفقه) على ما هو مذكور في كتاب الاجتهاد والتقليد(4).

قولها (علیها السلام): «أحق» يراد به الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام)، وصيغة التفضيل وصف بلا تفضيل، كقوله تعالى: قُلْ أَ ذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ (5)، أو التفضيل على سبيل الفرض حسب نظر القوم أو ما أشبه.

بيان الحقائق

مسألة: يجب بيان ذلك(6) للناس،كسائر ما يرتبط بشؤون العقيدة، في الجملة، بل هذا من أهمها كما لا يخفى، ولذا بيّنت الزهراء (عليها الصلاة والسلام)

ص: 21


1- الأمالي للصدوق: ص89 المجلس 20 ح1.
2- نهج الحق: ص222 حديث الإيذاء ح20
3- كما في عصر الغيبة الصغرى.
4- راجع موسوعة (الفقه) للإمام المؤلف (رحمة الله): ج1 كتاب الاجتهاد والتقليد.
5- سورة الفرقان: 15.
6- أي حرمة غصب الخلافة، أو المراد: بيان كون علي (علیه السلام) هو الخليفة لرسول الله (صلی الله علیه و آله) دون غيره.

..............................

هذا الموضوع للناس، بل تصدت (صلوات الله عليها) لبيان ذلك بكل قوة حتى قضت شهيدة، مكسورة الضلع، مضروبة الخد، مسقطة جنينها (صلوات الله عليهما) ولعنة الله على من ظلمها وظلم بعلها وبنيها.

فإنه داخل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى أصول الدين، ومن المعلوم أن الدعوة إليها(1) من الواجبات، ويشملها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإرشاد الجاهل وتنبيه الغافل أيضاً، وتختلف مراتب الوجوب في هذه الأمور حسب اختلاف المصاديق.

وفي تفسير قوله تعالى: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (2): ورد عن ابن عباس وأبي سعيد الخدري، عن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه قال: «عن ولاية علي بن أبيطالب»(3).

وفي قوله تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ (4) الذي أمرهم به رسول الله (صلی الله علیه و آله) في علي (علیه السلام) (5).

قولها (علیها السلام): «وأبعدتم من هو أحق بالبسط والقبض»، أي:بالحكم، وهذا إشارة إلى الخلافة الظاهرية (السلطة) واغتصابها من الإمام علي (عليه الصلاة والسلام).

ص: 22


1- أي إلى أصول الدين.
2- سورة الصافات: 24.
3- تأويل الآيات الظاهرة: ص482 سورة الصافات وما فيها من الآيات في الأئمة الهداة.
4- سورة آل عمران: 71.
5- المناقب: ج3 ص61 فصل في أنه مع الحق والحق معه.

وخلوتم بالدعة، ونجوتم من الضيق إلى السعة

اشارة

-------------------------------------------

السعة الشيطانية

وخلوتم بالدعة(1)، ونجوتم من الضيق إلى السعة

السعة الشيطانية

مسألة: الخلوة بالدعة والنجاة من الضيق إلى السعة الشيطانية مرجوحة. والمرجوحية هنا بالمعنى الأعم الشامل للمحرم والمكروه كل في مورده، فإن مما يرجح جانب فجور النفس على جانبتقواها(2) الانسياق نحو ملذات الجسد، ومنها الخلوة بالدعة والعيش في السعة.

ولا يخفى أن (الدعة) الوارد في كلامها (صلوات الله عليها) من ودع - والتعبير عرفي إذ ليس ليدع ويذر ماض(3) - كأنه يودع المشاكل نفسياً وبدنياً(4).

و(الضيق): في قبال (السعة) في مختلف شؤون الحياة.

ومن الواضح أن الحياة الجهادية تتنافى مع كل ذلك، بينما حياة الرفاه والترف والبذخ تناسب كل هذه الأمور، وكثير من القوم أصبحوا بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) كذلك، فقد «استبدلوا الذنابى بالقوادم، والحرون بالقاحم، والعجز بالكاهل» - كما قالت الصديقة فاطمة (عليها الصلاة والسلام) في خطبة أخرى لها(5) - ولو انتهجوا ما قرره الرسول (صلی الله علیه و آله) لأسلممن في الأرض جميعاً في زمان أقل من نصف قرن.

ص: 23


1- وفي بعض النسخ: «وركنتم إلى الدعة».
2- إشارة إلى قوله تعالى: «فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها» سورة الشمس: 8.
3- قال النحاة: «وأماتوا ماضي يدع ويذر».
4- إن قرأ يودّع بالتشديد فالمعنى أنه يترك المشاكل خلف ظهره كمن يودّع شخصاً، وإن قرأ دونه - أي من باب الأفعال - فالمعنى كأنه جعلها وديعة عند آخرين بحيث لا تمسه ولا تؤثر عليه.
5- الأمالي للطوسي: ص375 المجلس13 ح804.

..............................

قال تعالى: وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ (1).

وقال أبو عبد الله (علیه السلام): «الجهاد أفضل الأشياء بعد الفرائض»(2).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «جاهدوا أهواءكم تملكوا أنفسكم»(3).

وقال (صلی الله علیه و آله): «جاهدوا أنفسكم على شهواتكم تحل قلوبكم الحكمة»(4).

وقال علي (علیه السلام): «في مجاهدة النفس كمال الصلاح»(5).

وقال (علیه السلام): «ما من جهاد أفضل من جهاد النفس»(6).

وقال (علیه السلام): «املكواأنفسكم بدوام جهادها»(7).

وقال (علیه السلام): «أقوى الناس من غلب هواه»(8).

وقال (علیه السلام): «جهاد النفس مهر الجنة»(9).

وقال (علیه السلام): «قاوم الشهوة بالقمع لها تظفر»(10).

والفرق بين (قد أخلدتم إلى الخفض) وبين (خلوتم بالدعة) هو أن الثاني مرحلة متطورة عن الأول، والأول مقدمة للثاني، فإن الإخلاد للشيء هو الميل

ص: 24


1- سورة الحج: 78.
2- الكافي: ج5 ص3-4 باب فضل الجهاد ح5.
3- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: ج2 ص122.
4- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: ج2 ص122.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: ص243 ق3 ب2 ف1 جهاد النفس فضيلته وآثاره ح4935.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: ص243 ق3 ب2 ف1 جهاد النفس فضيلته وآثاره ح4946.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: ص241 ق3 ب2 ف1 جهاد النفس فضيلته وآثاره ح4898.
8- غرر الحكم ودرر الكلم: ص242 ق3 ب2 ف1 جهاد النفس فضيلته وآثاره ح4902.
9- غرر الحكم ودرر الكلم: ص242 ق3 ب2 ف1 جهاد النفس فضيلته وآثاره ح4916.
10- غرر الحكم ودرر الكلم: ص243 ق3 ب2 ف1 جهاد النفس فضيلته وآثاره ح4937.

..............................

والركون إليه، والمرء يميل للشيء أولاً ثم يخلو به ويتمحض فيه، وربما يقال بأن الدعة متقدمة رتبة على الخفض، بلحاظ كونها بمعنى السكينة، فالخفضإشارة للبُعد المادي والجسدي، والدعة للبُعد النفسي والروحي وهي مقدمة كما لايخفى.

قولها (علیها السلام): «وخلوتم بالدعة»، الدعة: الراحة والسكون، أي إنكم ذهبتم إلى الراحة والسكون وتركتم الجهاد وصعوبته لهوى أنفسكم. والخلو بالشيء الانفراد به.

قولها (علیها السلام): «ونجوتم من الضيق إلى السعة»، بمعنى: إن الجهاد وصعوبته كان ضيقاً عليكم، لكنكم الآن ملتم إلى السعة فتوسعتم، ومن يحب السعة لايستعد للجهاد.

هل السعة في ترك الجهاد؟

وغير خفي أن تعبيرها (علیها السلام) بنجاتهم من الضيق إلى السعة إنما هو بلحاظ فهمهم وتصورهم القاصر، وبلحاظ المدى القريب فقط، وإلا فإن الإعراض عن مناهج الله وعن الجهاد في سبيله - وأن أورد راحة عاجلة إلا أنه - أشد وطئاً وأسوأ حالاً من حيث وخيم العواقب على الإنسان وذريته في الدنيا قبل الآخرة، وقد فصلنا ذلك في بعض كتبنا (1).

قال تعالى: وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (2).

ص: 25


1- راجع موسوعة (الفقه) للإمام الشيرازي (رحمة الله): ج47- 48 كتاب الجهاد وغيره.
2- سورة الأعراف: 128، سورة القصص: 83.

..............................

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «من لم يجاهد نفسه لم ينل الفوز»(1).

وقال (علیه السلام) في بعض خطبه: «فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلی الله علیه و آله) كَانَ يَقُولُ: إِنَّ الْجَنَّةَ حُفَّتْ بِالْمَكَارِهِ وَإِنَّ النَّارَ حُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ. وَاعْلَمُوا أَنَّهُ مَا مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ شَيْءٌ إِلاَّ يَأْتِي فِي كُرْهٍ، وَمَا مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ شَيْءٌ إِلاَّ يَأْتِي فِي شَهْوَةٍ، فَرَحِمَ اللَّهُ امْرَأً نَزَعَ عَنْ شَهْوَتِهِ وَقَمَعَ هَوَى نَفْسِهِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ النَّفْسَ أَبْعَدُ شَيْءٍ مَنْزِعاً، وَإِنَّهَا لاَ تَزَالُ تَنْزِعُ إِلَى مَعْصِيَةٍ فِي هَوًى. وَاعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لاَ يُصْبِحُ وَلاَ يُمْسِي إِلاَّ وَنَفْسُهُ ظَنُونٌ عِنْدَهُ فَلاَ يَزَالُ زَارِياً عَلَيْهَا وَمُسْتَزِيداً لها، فَكُونُوا كَالسَّابِقِينَ قَبْلَكُمْ وَالْمَاضِينَ أَمَامَكُمْ، قَوَّضُوا مِنَ الدُّنْيَا تَقْوِيضَ الرَّاحِلِ، وَطَوَوْهَا طَيَّ الْمَنَازِلِ»(2).

من عوامل الانحطاط

وقد ذكرت الصديقة الطاهرة فاطمة (صلوات الله عليها) في كلامها هذا مجموعة من العوامل التي تسير بالأمة نحو الانحطاط، وهي:

1:الميل والركون إلى الراحة وسعة العيش.

2:إبعاد الكفاءات والتخلي عن القيادة المثالية لصالح قيادة مصلحية.

3:التفرغ للسكينة والدعة.

4:الابتعاد من الضيق الناجم عن الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لصالح السعة الناجمة عن مماشاة الجائرين ومداهنة الغاصبين. إلى غير ذلك.

ص: 26


1- غرر الحكم ودرر الكلم: ص243 ق3 ب2 ف1 جهاد النفس فضيلته وآثاره ح4944.
2- نهج البلاغة، الخطب: 176 ومن خطبة له (علیه السلام) وفيها يعظ ويبين فضل القرآن وينهى عن البدعة.

فمججتم ما وعيتم

اشارة

-------------------------------------------

فمججتم ما وعيتم(1)

الإيمان مستقر ومستودع

مسألة: الإيمان على قسمين:مستقر ومستودع، كما في الآية الكريمة والروايات الشريفة.

قال تعالى: فَمُسْتَقَرّ وَمُسْتَوْدَعٌ (2).وقال أبو عبد الله (علیه السلام): «المستقر الثابت، والمستودع المعار»(3).

وعن البزنطي قال:وعدنا أبو الحسن الرضا (علیه السلام) ليلة إلى مسجد دار معاوية، فجاء فسلم (علیه السلام) فقال:«إن الناس قد جهدوا على إطفاء نور الله حين قبض الله تبارك وتعالى رسوله (صلی الله علیه و آله) وأبى الله إلا أن يتم نوره، وقد جهد علي بن أبي حمزة على إطفاء نور الله حين مضى أبو الحسن (علیه السلام) فأبى الله إلا أن يتم نوره، وقد هداكم الله لأمر جهله الناس فاحمدوا الله على ما من عليكم به، إن جعفراً (علیه السلام) كان يقول: فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ (4)، فالمستقر ما ثبت من الإيمان والمستودع المعار، وقد هداكم الله لأمر جهله الناس فاحمدوا الله على ما من عليكم به»(5).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «إن الله جبل النبيين على نبوتهم فلا يرتدون أبداً، وجبل الأوصياء على وصاياهم فلا يرتدون أبداً، وجبل بعض المؤمنين

ص: 27


1- في بعض النسخ: «فمججتم الذي أوعيتم».
2- سورة الأنعام: 98.
3- تفسير العياشي: ج1 ص373 من سورة الأنعام ح75.
4- سورة الأنعام: 98.
5- بحار الأنوار: ج49 ص262-263 ب18 ح5.

..............................

على الإيمان فلا يرتدون أبداً، ومنهم من أعير الإيمان عارية فإذا هو دعا وألح في الدعاء مات على الإيمان»(1).

وعن أبي بصير، عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: قلت: هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ (2)؟. قال: «ما يقول أهل بلدك الذي أنت فيه؟» قال: قلت: يقولون:مستقر في الرحم ومستودع في الصلب. فقال: «كذبوا، المستقر ما استقر الإيمان في قلبه فلا ينزع منه أبداً، والمستودع الذي يستودع الإيمان زماناً ثم يسلبه، وقد كان الزبير منهم»(3).

وعن محمد بن الفضيل، عن أبي الحسن (علیه السلام): هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ (4)، قال: «ما كان من الإيمان المستقر فمستقر إلى يوم القيامة أو أبداً، وما كان مستودعاً سلبه الله قبل الممات»(5).وفي (نهج البلاغة) من خطبة له (علیه السلام): «فَمِنَ الإِيمَانِ مَا يَكُونُ ثَابِتاً مُسْتَقِرّاً فِي الْقُلُوبِ، وَمِنْهُ مَا يَكُونُ عَوَارِيَّ بَيْنَ الْقُلُوبِ وَالصُّدُورِ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ»(6).

وعن محمد بن سليمان الديلمي، قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) فقلت له: جعلت فداك إن شيعتك تقول: إن الإيمان مستقر ومستودع، فعلمني شيئاً إذا قلته استكملت الإيمان؟. قال: «قل في دبر كل صلاة فريضة: رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبّاً،

ص: 28


1- الكافي: ج2 ص419 باب المعارين ح5.
2- سورة الأنعام: 98.
3- تفسير العياشي: ج1 ص371 من سورة الأنعام ح69.
4- سورة الأنعام: 98.
5- بحار الأنوار: ج66 ص223 ب34 ح11.
6- نهج البلاغة، الخطبة: 189 ومن كلام له (علیه السلام) في الإيمان ووجوب الهجرة.

..............................

وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيّاً، وَبِالإِسْلاَمِ دِيناً، وَبِالْقُرْآنِ كِتَاباً، وَبِالْكَعْبَةِ قِبْلَةً، وَبِعَلِيٍّ وَلِيّاً وَإِمَاماً، وَبِالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ وَالأَئِمَّةِ (صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ) اللَّهُمَّ إِنِّي رَضِيتُ بِهِمْ أَئِمَّةً، فَارْضَنِي لهمْ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»(1).

وتقرأ في دعاء صلاة عيد الغدير: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِالْحَقِّ الَّذِي جَعَلْتَهُ عِنْدَهُمْ وَبِالَّذِي فَضَّلْتَهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ جَمِيعاً، أَنْ تُبَارِكَ لَنَا فِي يَوْمِنَا هَذَاالَّذِي أَكْرَمْتَنَا فِيهِ، وَأَنْ تُتِمَّ عَلَيْنَا نِعْمَتَكَ، وَتَجْعَلَهُ عِنْدَنَا مُسْتَقَرّاً وَلاَ تَسْلُبَنَاهُ أَبَداً، وَلاَتَجْعَلَهُ مُسْتَوْدَعاً فَإِنَّكَ قُلْتَ: فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ (2) فَاجْعَلْهُ مُسْتَقَرّاً وَلاَتَجْعَلْهُ مُسْتَوْدَعاً»(3).

ثم إن الذي يظهر من كلام الصديقة (علیها السلام) أن إيمان هؤلاء القوم كان مستودعاً حيث قالت (علیها السلام): «قد أخلدتم، وأبعدتم، فمججتم ...الخ».

ومن هنا ورد: «ارتد الناس بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله)»(4).

وقال تعالى: أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقَابِكُمْ (5).

المستقر والمستودع لا ينافي الاختيار

مسألة: كلامها (علیها السلام) صريح في اختيارية مجّهم ما وعوا، فهم قد مجوا ما وعوا ودسعوا ما تسوغوا، فالتقسيم الوارد في الروايات للإيمان إلى المستقر

ص: 29


1- وسائل الشيعة: ج6 ص463 ب20 ح8451.
2- سورة الأنعام: 98.
3- تهذيب الأحكام: ج3 ص147 ب7 ح1.
4- الاختصاص: ص6 المقدمة.
5- سورة آل عمران: 144.

..............................

والمستودع لا ينفي الاختيار، فالمستودع يترك ما وعاه وآمن به بسوء اختياره، وما كتب في اللوح أن فلاناً إيمانه مستودع فالعلم كاشف وليس بعلة كما هو واضح.

مسألة : ومن ذلك يعلم إمكان تكليفهم بعدم المج واللفظ، وكلامها (علیها السلام) واضح الدلالة على حرمة مجهم ما وعوه، فإنهم أولاً: كانوا قد وعوا الإيمان والفضيلة والإخلاص والتقوى وما أشبه ذلك ثم مجوها، كمن يجمع في فمه الماء ثم يمج الماء من فمه ويلفظه إلى الخارج.

قولها (علیها السلام): «فمججتم» أي:رميتم ما وعيتم من لزوم التمسك بولاية أمير المؤمنين (علیه السلام) وسائر الأحكام، فكأن النصوص والأحكام التي وعوها من ضرورة التمسك بالإمامة ونصرة المظلوم والدفاع عن الحق وما أشبه قد مجوها فلم يعملوا بها، كمن يقذف بالشيء من فمه.

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «علي مني وأنا من علي، قاتل الله من قاتل علياً، لعن الله من خالف علياً، علي إمام الخليقة بعدي، من تقدم علياً فقد تقدم عليَّ، ومن فارقه فقد فارقني، ومن آثر عليه فقد آثر عليَّ، أنا سلم لمنسالمه وحرب لمن حاربه، وولي لمن والاه وعدو لمن عاداه»(1).

من يخسر المستقبل؟

مسألة: تعبير الصديقة (علیها السلام) بالمج يتضمن إشارة دقيقة جداً إلى حقيقة نفسية اجتماعية تاريخية، وهي أن المجتمعات لو تخلت في منعطف مصيري عن الحق وعن الدفاع عن المظلوم، فإنهم سيفتقدون (الوعي) و(السيادة) إلى إشعار

ص: 30


1- الأمالي لصدوق: ص659 المجلس94 ح12.

..............................

آخر، بل يكاد يكون من الصعب جداً استرجاع ما خسروا حتى حين.

ويظهر ذلك جلياً من ملاحظة الأدب التصويري المستخدم في كلامها (علیها السلام) وتشبيه المعقول بالمحسوس في هذه الجملة، فإن من يلفظ الماء الذي اجتمع في فمه يصعب عليه جداً أن يسترجعه إلى فمه من جديد! بل لا تكاد ترى أحداً يقدر على ذلك.

وهكذا فإن وضع الرِجل في أول المنحدر سيقود إلى أسفل الوادي بشكل طبيعي، وقد كشفت حركة التاريخ عن دقة تعبيرها (علیها السلام) وما تضمنه منكشف للمستقبل، فإنهم لم يعودوا إلى وعيهم أبداً، وتلاحقت على الأمة الحكومات الجائرة لمئات السنين وإلى يومنا هذا!.

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من فارق علياً بعدي لم يرني ولم أره يوم القيامة، ومن خالف علياً حرم الله عليه الجنة وجعل مأواه النار، ومن خذل علياً خذله الله يوم العرض عليه»(1).

الوعي المتجذر والسطحي

مسألة: الوعي في الأفراد وفي الأمم قد يكون متجذراً وقد يكون سطحياً، ويتجلى ذلك في المنعطفات وفي سرعة التراجع عن مقتضيات الوعي والثقافة وعدمها، والذي صرحت به الصديقة الزهراء (علیها السلام) هاهنا يبين لنا بوضوح أن (وعيهم) كان وعياً سطحياً غير متجذر، ولذلك مجّوا ما وعوا عند هذا المنعطف المصيري

ص: 31


1- كمال الدين: ج1 ص260 ب24 ح6.

..............................

عن المفضل، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «إن الحسرة والندامة والويل كله لمن لم ينتفع بما أبصره، ولم يدر ما الأمر الذي هو عليه مقيم،أنفع له أم ضر». قلت:فبمَ يعرف الناجي من هؤلاء جعلت فداك؟. قال:«من كان فعله لقوله موافقاً فأثبت له الشهادة بالنجاة، ومن لم يكن فعله لقوله موافقاً فإنما ذلك مستودع»(1).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «إن العبد يصبح مؤمناً ويمسي كافراً، ويصبح كافراً ويمسي مؤمناً، وقوم يعارون الإيمان ثم يسلبونه ويسمون المعارين - ثم قال: - فلان منهم»(2)

قولها (علیها السلام): «وعيتم» أي حفظتم، من وعي الشيء إذا حفظه، ومنه (الوعاء) للظرف، لأنه يحفظ ما فيه.

ص: 32


1- الكافي: ج2 ص419- 420 باب في علامة المعار ح1.
2- بحار الأنوار: ج66 ص225-226 ب34 ح17.

ودسعتهم الذي تسوغتم

اشارة

-------------------------------------------

الانقلاب الشمولي على الأعقاب

ودسعتهم الذي تسوغتم(1)

الانقلاب الشمولي على الأعقاب

مسألة: الذي يرشد إليه كلام الصديقة (علیها السلام) يدل عليه التاريخ أيضاً، فإن انقلابهم على الأعقاب ومجهم ما وعوا، ودسعهم الذي تسوغوا لم يقتصر على أمر الحكومة فحسب، بل شمل شتى مناحي الحياة، إذ قولها (علیها السلام): «ودسعتم الذي تسوغتم» و«مججتم ما وعيتم» يشير بعمومه أو بإطلاقه إلى أنهم سوغوا أولاً أسلوب الرسول (صلی الله علیه و آله) في مختلف أبعاد الحياة الفردية والاجتماعية، الشخصية والعائلية، الحكومية والإدارية، القلبية واللسانية والعملية، ثم رأوا ذلك صعباً عليهم ولا يناسب أهواءهم وشهواتهم، ولذا دسعوه ومجوه.

وكان أمر (الحكومة) هو نقطة البدء والانطلاق، فتغيير القيادة الشرعية إلى قيادة شيطانية كان يضمن لهم الاستمرار في الانقلاب على أعقابهم ونبذ تعاليم السماء.

لأن الناس - عادة - على دينملوكهم، كما ورد في الحديث الشريف.

قولها (علیها السلام): «ودسعتم الذي تسوغتم»، الدسع: هو التقيؤ، والتسوغ: هو الشرب بسهولة، فإنهم استوعبوا الإسلام بسهولة ببركة الرسول (صلی الله علیه و آله) لكنهم بعد ذلك ردّوا ما تسوغوه بسهولة، وليس المراد السهولة مطلقاً بل السهولة النسبية بالقياس إلى حجم التغيير الهائل الذي طرأ على كل مناحي حياتهم، حيث إن تركيز الإسلام كان يحتاج إلى أضعاف أضعاف ذلك الجهد، لكنهم ببركة

ص: 33


1- في بعض النسخ: «ولفظتم الذي سوغتم».

ف- إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (1)

الرسول (صلی الله علیه و آله) وإتباعه استوعبوا الإسلام في مدة قليلة فنعموا ببركاته، وبعد ذلك لما استولى عليهم الشيطان دسعوا ما استوعبوه.

قال أبو جعفر (علیه السلام): «الناس صاروا بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) بمنزلة من اتبع هارون (علیه السلام) ومن اتبع العجل»(2).ف- إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (3).

الكفر العقائدي والعملي

مسألة: ما قام به القوم من عدم نصرتهم للصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (صلوات الله عليها) وظلمهم لها و.. كان بمنزلة كفرهم، وهذا ما يفهم من كلامها (علیها السلام) حيث قالت: «فإن تكفروا».

ويستحب بيان ذلك وقد يجب، فإن كلاً من الاستحباب والوجوب في مورده.

والكفر - هنا - هو الكفر العملي؛ لأن الكفر على قسمين: كفر عقائدي وكفر عملي. فمن أهم أقسام الكفر العملي: الكفر بالمعصومين (صلوات الله عليهم أجمعين) وعدم قبول ولايتهم، وقد أشار القرآن الحكيم إلى هذين القسمين من الكفر. أما الأول فواضح، وأما الثاني فقد قال سبحانه: «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأََزِيدَنَّكُمْ

ص: 34


1- سورة إبراهيم: 8.
2- الكافي: ج8 ص296 حديث نوح (علیه السلام) يوم القيامة ح456.
3- سورة إبراهيم: 8.

..............................

وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ»(1)، وقالتعالى:«وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ»(2)، إلى غيرهما من الآيات التي هي بهذا الصدد.

ويمكن إرادة الكفر العقائدي باعتبار أنه على أقسام ودرجات من كفر بالله أو بصفاته أو برسله أو بأوصيائهم (علیهم السلام) وهنا يراد به القسم الأخير.

وفي (الفقيه): كان جابر بن عبد الله الأنصاري يدور في سكك الأنصار بالمدينة وهو يقول: (علي (علیه السلام) خير البشر فمن أبى فقد كفر، يا معاشر الأنصار أدّبوا أولادكم على حبّ علي (علیه السلام) فمن أبى فانظروا في شأن أمه)(3).

وعن الصادق جعفر بن محمد (علیه السلام)، قال: «من جالس لنا عائباً، أو مدح لنا قالياً، أو وصل لنا قاطعاً، أو قطع لنا واصلاً، أو والى لنا عدواً، أو عادى لنا ولياً، فقد كفر بالذي أنزل السبع المثاني والقرآن العظيم»(4).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله):«من زعم أنه يحب النبي (صلی الله علیه و آله) ولا يحب الوصي فقد كذب، ومن زعم أنه يعرف النبي (صلی الله علیه و آله) ولا يعرف الوصي فقد كفر»(5).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من فضّل أحداً من أصحابي على علي (علیه السلام) فقد كفر»(6).

ص: 35


1- سورة إبراهيم: 7.
2- سورة آل عمران: 97.
3- من لا يحضره الفقيه: ج3 ص493 باب تأديب الولد وامتحانه ح4744.
4- وسائل الشيعة: ج16 ص264 ب38 ح21523.
5- بحار الأنوار: ج36 ص342 ب41 ح207.
6- مستدرك الوسائل: ج18 ص183 ب8 ح22452.

..............................

وعن حذيفة، عن النبي (صلی الله علیه و آله)، أنه قال: «علي بن أبي طالب خير البشر ومن أبى فقد كفر»(1).

وعن الحسين بن خالد، قال: سألت أبا الحسن علي بن موسى الرضا (علیه السلام) عن قول الله عزوجل: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً (2)؟. فقال: «الأمانة الولاية، من ادعاها بغير حق فقد كفر»(3).وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «يا علي، إن الله تعالى أمرني أن أتخذك أخاً ووصياً، فأنت أخي ووصيي وخليفتي على أهلي في حياتي وبعد موتي، من اتبعك فقد تبعني، ومن تخلف عنك فقد تخلف عني، ومن كفر بك فقد كفر بي، ومن ظلمك فقد ظلمني»(4).

وسُئل جابر بن عبد الله الأنصاري عن علي (علیه السلام)، فقال: ذاك والله أمير المؤمنين، ومحنة المنافقين، وبوار سيفه على القاسطين والناكثين والمارقين، سمعت من رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول وإلاّ فصُمتا: «علي بعدي خير البشر من أبى فقد كفر»(5). وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «علي خير البشر فمن أبى فقد كفر، ومن رضي فقد شكر»(6).

ص: 36


1- الأمالي للصدوق: ص76 المجلس18 ح5.
2- سورة الأحزاب: 72.
3- عيون أخبار الرضا (علیه السلام): ج1 ص306 ب28 ح66.
4- الأمالي للطوسي: ص200 المجلس7 ح341.
5- بحار الأنوار: ج37 ص308 ب54 ح41.
6- المناقب: ج3 ص67 فصل في أنه خير الخلق بعد النبي (صلی الله علیه و آله).

..............................

وقال النبي (صلی الله علیه و آله): «من حسد علياً فقد حسدني، ومن حسدني فقدكفر»(1).

وعن أبي الحسن (علیه السلام)، قال: «من شك في أربعة فقد كفر بجميع ما أنزل الله عزوجل، أحدها: معرفة الإمام في كل زمان وأوان بشخصه ونعته»(2).

وجه الربط

وجه الربط(3)

وفي استشهاد الصديقة الطاهرة (علیها السلام) بالآية الكريمة(4) إشارة لطيفة إلى تمحض أهل البيت (علیهم السلام) في الله، وأن كل ما فعلوه - ومنه المطالبة بالخلافة - كان لله وفي الله ومن الله وإلى الله، وليس لمصلحة شخصية أبداً، فمهمتهم هي إبلاغ رسالة الله عزوجل، وحيث إن الله غني عن العالمين ومحمود الفعل والترك فإن إعراض الناس عن أهل البيت (علیهم السلام) - الذي هو إعراض عن الله - لا يضر شيئاً(5) لأن الله هو الغني وهوالمحمود.

عن سعيد، عن ابن عباس: أنه مر بمجلس من مجالس قريش وهم يسبون علي بن أبي طالب (علیه السلام). فقال لقائده: ما يقول هؤلاء؟. قال: يسبون علياً!.

ص: 37


1- الأمالي للطوسي: ص622-623 المجلس29 ح1286.
2- كمال الدين: ج2 ص413 ب39 ح14.
3- أي وجه ربط الآية خاصة بلحاظ آخرها: «فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ» بكلامها حتى الآن.
4- سورة إبراهيم: 8.
5- أي لا يضر الله عزوجل ولا يضر أهل البيت (علیهم السلام)، أما الله فلأنه الغني الحميد، وأما عدم إضراره بأهل البيت (علیهم السلام) فلأنهم ممحضون في الله وكل ما صنعوه لله - لا للذات - فإعراض الناس عن أوامرهم ورسالتهم إعراض عن الله، ولا يهمهم الإعراض عنهم إذ هم لا يرون أنفسهم شيئاً في قبال الله، فإذا كان كل الهدف الله وكان الله غنياً حميداً فأي ضرر في الإعراض.

..............................

قال: قرّبني إليهم. فلما أن وقف عليهم، قال: أيكم الساب الله؟.

قالوا: سبحان الله ومن يسب الله فقد أشرك بالله.

قال: فأيكم الساب رسول الله (صلی الله علیه و آله)؟. قالوا: ومن يسب رسول الله فقد كفر. قال: فأيكم الساب علي بن أبي طالب؟. قالوا: قد كان ذلك. قال: فأشهد بالله وأشهد لله لقد سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: «من سب علياً فقد سبني، ومن سبني فقد سب الله عزوجل»، ثم مضى(1).

لا يضر الكفر بالرب؟

مسألة: يستحب بيان أن أهل الأرض لو كفروا جميعاً لا يضرون الله شيئاً وأن اللهلغني حميد، وهكذا بالنسبة إلى إتباع الناس لأهل البيت (علیهم السلام) وتركهم، فإنهم لا يضرون إلا أنفسهم.

وقد يكون بيان ذلك واجباً، كل حسب مورده، كما ذكرنا مثل ذلك في جملة من البنود السابقة.

وعدم ضرر الله من الوضوح بمكان؛ لأنه سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى الكون بأجمعه، فكيف يحتاج إلى بعض من يعصيه من أهل الأرض، وما قدرهم في هذا الكون الواسع الرحب؟. فإن كونه تعالى واجب الوجود معناه الغني المطلق، كما قرر في علم الكلام، وأن الله سبحانه يستحق الحمد في كل فعل وترك وخلق وإفناء إلى غير ذلك؛ لأنه لا يفعل ما يفعل إلا عن مصلحة، ومن المعلوم أن من يفعل الأشياء عن مصلحة - إيجاباً أو سلباً - محمود على كلا الحالين.

ص: 38


1- بحار الأنوار: ج39 ص311 ب88 ح1.

..............................

وربما يكون الوجه في الإتيان ب- (حميد) هو بيان أن كفرهم ومن في الأرض جميعاً لا يضر من هو غني بالذات و(محمود) الصفات، فإنه لا قيمة لأهل الأرض بل والعالم كله والممكنات كلها في قبال واجب الوجود، فأية قيمة لكفرهم أو إيمانهم ولحمدهم وثنائهم عليه، وعدمه؟.قولها (علیها السلام): «فإن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإن الله لغني حميد»، اقتباس من سورة إبراهيم (عليه الصلاة والسلام)(1) فإن الله سبحانه وتعالى لايحتاج إلى شيء من خلقه ولا إلى أحد من عباده، وإنما العباد هم الذين يحتاجون إليه، ومن يخالف أوامر الله فهو الخاسر الذي يخسر نفسه، والله محمود على كل حال، سواء كفر به الناس أم آمنوا به، وسواء أطاعوه أم خالفوه.

ص: 39


1- انظر سورة إبراهيم: 8.

ألا وقد قلتُ ما قلتُ هذا على معرفة مني بالخذلة التي خامرتكم

اشارة

-------------------------------------------

الخذلان الطارئ والمتجذر

مسألة: يستنبط من كلام الصديقة (علیها السلام) هذا قاعدة مهمة، وهي أن الخذلان على قسمين:

1: الخذلان الطارئ.

2: الخذلان المتجذر في الأعماق والمختمر مع النفس.

وفي الصورة الثانية يكون التحرك أصعب؛ لأن النفس هي التي تبعث على الخذلان، وحينئذ لا يسهل النهوض والانبعاث كما هو واضح.

واللازم على القادة وكل من يريد استنهاض الأمة، استكشاف حقيقة الأمر، ومعرفة الخذلان من أي قسم هو، لئلا يبنوا استراتيجيتهم النهضوية دون معرفة بحقيقة قاعدتهم الجماهيرية.

وبما أن الصديقة الزهراء (علیها السلام) والإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) كانا يعلمان بنوعية خذلان الجماهير لهم، لذلك بنيا استراتيجيتهما على أساس: لاحرب ولا قتال ولا انتفاضة، بل حركة تعبوية إعلامية ثقافية وإتمام الحجة، إضافة إلى الحركة الإيمانية التربوية وشبهها.قولها (علیها السلام): «ألا وقد قلت ما قلت هذا»، أي الكلام الذي قلت لكم من استعراض صفاتكم السابقة ومقارنتها بصفاتكم اللاحقة، ومن عتابكم واستنهاضكم و...

قولها (علیها السلام): «على معرفة مني بالخذلة التي خامرتكم»، الخذلة:تركهم نصرتها (علیها السلام) ونصرة بعلها علي (عليه الصلاة والسلام).

ص: 40

..............................

و«خامرتكم» بمعنى:خالطتكم وغشت عليكم، من الخمر الذي يغشي العقول، فكأن الخذلان صار لباساً لهم وغطى على إيمانهم ووعيهم وضمائرهم وعهودهم ومواثيقهم وبيعتهم في يوم الغدير.

خذلان أهل البيت (علیهم السلام)

مسألة: من أشد المحرمات خذلان أهل البيت (علیهم السلام) وعدم نصرتهم.

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «علي أمير البررة، وقاتل الفجرة، منصور من نصره، مخذول من خذله إلى يوم القيامة»(1).

وقال (صلی الله علیه و آله): «اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصرمن نصره، واخذل من خذله»(2).

وقال (صلی الله علیه و آله): «من خذل علياً خذله الله يوم العرض عليه، ومن نصر علياً نصره الله يوم يلقاه ولقنه حجته عند المساءلة»(3).

وعن عمرو بن ثابت، قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: «إن النبي (صلی الله علیه و آله) لما قبض ارتد الناس على أعقابهم كفاراً إلا ثلاثة: سلمان والمقداد وأبو ذر الغفاري، إنه لما قبض رسول الله (صلی الله علیه و آله) جاء أربعون رجلاً إلى علي بن أبي طالب (علیه السلام) فقالوا: لا والله لا نعطي أحداً طاعة بعدك أبداً. قال:ولِمَ؟. قالوا: إنا سمعنا من رسول الله (صلی الله علیه و آله) فيك يوم غدير. قال: وتفعلون؟. قالوا: نعم.

ص: 41


1- الأمالي للطوسي: ص482-483 المجلس17 ح1054.
2- بحار الأنوار: ج21 ص387 ب36 ح10.
3- كمال الدين: ج1 ص260 ب24 ح6.

..............................

قال:فأتوني غداً محلقين.

قال: فما أتاه إلا هؤلاء الثلاثة.

قال: وجاءه عمار بن ياسر بعد الظهر، فضرب (علیه السلام) يده على صدره ثم قال له: ما آن لك أن تستيقظ من نومة الغفلة، ارجعوا فلا حاجة ليفيكم، أنتم لم تطيعوني في حلق الرأس، فكيف تطيعوني في قتال جبال الحديد، ارجعوا فلا حاجة لي فيكم»(1).

ثم إنه ورد النهي الشديد عن خذلان مطلق المؤمنين فكيف بأميرهم (صلوات الله عليه).

عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «ما من مؤمن يخذل أخاه وهو يقدر على نصرته إلا خذله الله في الدنيا والآخرة»(2).

وقال مسلم بن عقيل (علیهما السلام) عند ما أمر ابن زياد (لعنه الله) بضرب عنقه: «اللهم احكم بيننا وبين قوم غرونا وكذبونا وخذلونا»(3).

ص: 42


1- بحار الأنوار: ج28 ص259 ب4 ح42.
2- وسائل الشيعة: ج12 ص267-268 ب146 ح16247.
3- الإرشاد: ج2 ص63 فصل فمن مختصر الأخبار التي جاءت بسبب دعوته (علیه السلام).

والغدرة التي استشعرتها قلوبكم

اشارة

-------------------------------------------

الغدر محرم

مسألة: يحرم الغدر مطلقاً، فإن الغدر محرم بكل أنواعه، وإنما كان ما فعله القوم غدراً؛ لأنهم بايعوا رسول الله (صلی الله علیه و آله) على الدفاع عن علي (علیه السلام) وعن ذريته وأهل بيته (علیهم السلام) في الأمور كافة، فعدم رعايتهم للعهود والمواثيق والبيعة كان من الغدر المحرم، بل هو من أشد أنواع المحرمات؛ لأنه غدر بأهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) والذي يرتبط بأصول الدين وأسس العقائد.

وهناك فرق بين الغدر في الفروع والغدر في الأصول كما لا يخفى.

قولها (علیها السلام): «والغدرة التي استشعرتها قلوبكم»، من الشعار كأنهم لبسوا الغدر، فإن (الشعار) عبارة عن: الثوب الذي يلبس على شعر البدن ويلتصق بالجسم، في مقابل (الدثار) الذي هو الثوب الذي يلبس فوق ذلك، فكأن الغدر صار شعاراً لهم.

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «يجيء كل غادر يوم القيامة بإمام مائل شدقه حتى يدخل النار، ويجيء كل ناكث بيعة إمام أجذم حتى يدخلالنار»(1).

وقال أبو عبد الله (علیه السلام): «لا ينبغي للمسلمين أن يغدروا، ولا يأمروا بالغدر، ولا يقاتلوا مع الذين غدروا»(2).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام) ذات يوم وهو يخطب على المنبر بالكوفة: «يا أيها الناس، لولا كراهية الغدر كنتُ من أدهى الناس، ألا إن لكل غُدرة فُجرة،

ص: 43


1- الكافي: ج2 ص337 باب المكر والغدر والخديعة ح2.
2- وسائل الشيعة: ج15 ص69 ب21 ح20003.

..............................

ولكل فجرة كُفرة، ألا وإن الغدر والفجور والخيانة في النار»(1).

وعن علي (علیه السلام): أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال له فيما عهد إليه:

«وإياك والغدر بعهد الله والإخفار لذمته، فإن الله جعل عهده وذمته أماناً أمضاه بين العباد برحمته»(2).

وقال علي (علیه السلام): «آفةالوفاء الغدر»(3).

وقال (علیه السلام): «من علامات اللؤم: الغدر بالمواثيق»(4).

وقال (علیه السلام): «الوفاء لأهل الغدر غدر عند الله»(5).

وقال (علیه السلام): «الغدر أقبح الخيانتين»(6).

وقال (علیه السلام): «الغدر بكل أحد قبيح، وهو بذي القدرة والسلطان أقبح»(7).

وقال (علیه السلام): «الغدر يعظم الوزر ويزري بالقدر»(8).

وقال (علیه السلام): «إياك والغدر، فإنه أقبح الخيانة، وإن الغدور لمهان عندالله»(9).

ص: 44


1- الكافي: ج2 ص338 باب المكر والغدر والخديعة ح6.
2- مستدرك الوسائل: ج11 ص47 ب19 ح12396.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: ص253 ق3 ب2 ف2 ذم نقض العهد ح5304.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: ص253 ق3 ب2 ف2 ذم نقض العهد ح5310.
5- نهج البلاغة: قصار الحكم 259.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: ص291 ق3 ب3 ف1 الغدر ح6502.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: ص291 ق3 ب3 ف1 الغدر ح6503.
8- غرر الحكم ودرر الكلم: ص292 ق3 ب3 ف1 الغدر ح6504.
9- غرر الحكم ودرر الكلم: ص292 ق3 ب3 ف1 الغدر ح6505.

..............................

وقال (علیه السلام): «جانبوا الغدر، فإنه مجانب القرآن»(1).

وقال (علیه السلام): «كن عاملاً بالخير، ناهياً عن الشر، منكراً شيمة الغدر»(2).

وقال (علیه السلام): «إياكم وصرعات البغي، وفضحات الغدر، وإثارة كامن الشر المذمم»(3).

وقال (علیه السلام): «غش الصديق والغدر بالمواثيق من خيانة العهد»(4).

وقال (علیه السلام): «لا تدوم مع الغدر صحبة خليل»(5).وقال (علیه السلام): «أسرع الأشياء عقوبة رجل عاهدته على أمر وكان من نيتك الوفاء به ومن نيته الغدر بك»(6).

المحطة الأولى للغدر

مسألة: المحطة الأولى للغدر هي القلب، لذا قالت (علیها السلام): «والغدرة التي استشعرتها قلوبكم»، وهو حرام مطلقاً(7) إذا وافقته الجوارح وتجلى عليها، وفي ما يرتبط بأصول الدين خاصة حتى لو لم يظهر. فمن الواجب على الدعاة والقادة رصد القلوب قبل رصد الأفعال وعدم الاغترار بالمظاهر، ومنها

ص: 45


1- غرر الحكم ودرر الكلم: ص292 ق3 ب3 ف1 الغدر ح6507.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: ص332 ق4 ب1 ف2 ح7640.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: ص345 ق4 ب2 ف7 البغي ح7938.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: ص419 ق6 ب2 ف3 جملة من علائم شر الأخوان ح9599.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: ص420 ق6 ب2 ف3 جملة من علائم شر الأخوان ح9616.
6- مستدرك الوسائل: ج11 ص48 ب19 ح12399.
7- أي في أصول الدين وفروعه.

..............................

المظاهرات والشعارات والأبواق الإعلامية والخطب الحماسية، فإنها بكلا طرفيها الايجابي والسلبي لا تعد مؤشراً حقيقياً على اتجاه القلوب.

وقلنا (بكلا طرفيها) إذ تأييد الجماهير الظاهري للطاغوت لا يدل علىحبهم له، ولا على وقوفهم معه ساعة الصفر، وكذا العكس، فإن تأييدهم الظاهري للإمام العادل لا يدل على ثباتهم عليه وتوطين أنفسهم عليه.

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «لا خير في القول إلا مع الفعل، ولا في المنظر إلا مع المخبر، ولا في المال إلا مع الجود، ولا في الصدق إلا مع الوفاء»(1).

وقال علي (علیه السلام): «لا خير في المنظر إلا مع حسن المخبر»(2).

وفي الحديث القدسي: «يا عيسى، قل لهم ... وأقبلوا عليَّ بقلوبكم فإني لستُ أريد صوركم»(3).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «يا أبا ذر، إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم. يا أبا ذر، إن التقوى هاهنا، أشار بيده إلى صدره»(4).لا يقال: كيف مدحتهم الصديقة الطاهرة (علیها السلام) أولاً وذمتهم ثانياً؟.

لأنه يقال:

الأول: كان بياناً لما كانوا عليه قبل استشهاد الرسول (صلی الله علیه و آله).

والثاني: كان وصفاً لما صاروا إليه بعد موته (صلی الله علیه و آله) فلا منافاة بين

ص: 46


1- من لا يحضره الفقيه: ج4 ص369-370 باب النوادر ح5762.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: ص477 ق6 ب6 ف6 ح10956.
3- الكافي: ج8 ص138 حديث عيسى ابن مريم (علیه السلام) ح103.
4- مستدرك الوسائل: ج11 ص264 ب20 ح12951.

..............................

المقامين(1)، وكذلك نرى القرآن الكريم مرة يمدح ومرة يذم، وذلك باعتبار أمرين وحيثيتين، فتارة يمدح الإنسان بقوله: « فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ»(2)، و«لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ»(3)، وتارة يذمه بقوله: «إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً ! إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً ! وَإِذامَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً»(4)، وفي آية أخرى: «إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً»(5) إلى غيرها.

هذا وقد قال تعالى:«أَ فَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ»(6).

المؤرخ والتقييم العادل

مسألة: يلزم على المؤرخ - إقتداء بما صنعته الصديقة الزهراء (علیها السلام) هاهنا - أن يكون منصفاً وينقل بأمانة الإيجابيات والسلبيات التي اتصفت بها الأمم أو الأفراد وعلى حسب جدولتها الزمنية دون تحكيم حب أو بغض، وسواء كانت السلبيات هي السابقة أم هي اللاحقة.

ومن غير الصحيح ما يصنعه بعض الكتّاب والخطباء والمؤرخين، من أنهم إذا أحبوا قائداً أو أمة صوروه (أو صوروها) للناس وكأنه ملاك سماوي وقطعة

ص: 47


1- وهذا واضح من كلامها السابق: «حتى دارت بنا رحى الإسلام. فأنى حرتم بعد البيان. ونكصتم بعد الإقدام. ألا قد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض.. ».
2- سورة المؤمنون: 14.
3- سورة التين: 4.
4- سورة المعارج: 19-21.
5- سورة الأحزاب: 72.
6- سورة آل عمران: 144.

..............................

من المثالية، حتى يتحول إلى صنم يلغي العقول والأفكار ويستبد بالأمور، أوإذا أبغضوا قائداً صوّروه شيطاناً مريداً فعموا وأعموا الناس عن إيجابياته ونقاط قوته الحالية أو السابقة.

وهذا ما أمر به الله تعالى حيث قال: «لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى»(1).

وإذا كان الإنسان منصفاً ومتوازناً في تقييمه كان أحرى بأن يثق به الناس، وبأن يتعامل مع الحدث بكل حكمة، وبأن يضع مخططه على ضوء تقييم متكامل للشخص أو الحدث والحادثة. وقد لاحظنا في خطاب الصديقة فاطمة (علیها السلام) أنها - رغم عتابها الشديد على المسلمين الذين بايعوا الظلم ولم يتمسكوا بولاية أهل البيت (علیهم السلام) - ذكرت وأعلنت عن سلسلة من إيجابياتهم ومواقفهم وصفاتهم المثالية السابقة لتحثهم على نصرة الحق.

قال أبو عبد الله (علیه السلام): «ثلاثة هم أقرب الخلق إلى الله عزوجل يوم القيامة حتى يفرغ من الحساب: رجل لم تدعه قدرة في حال غضبه إلى أن يحيف على من تحت يده، ورجل مشى بين اثنين فلم يمل مع أحدهما على الآخر بشعيرة،ورجل قال بالحق فيما له وعليه»(2).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «ألا أخبركم بأشد ما فرض الله على خلقه؟». قلت: بلى. قال: «إنصاف الناس من نفسك» الحديث(3).

ص: 48


1- سورة المائدة: 8.
2- الكافي: ج2 ص145 باب الإنصاف والعدل ح5.
3- مستدرك الوسائل: ج11 ص336 ب41 ح13198.

..............................

وعنه (علیه السلام) قال: «من أنصف الناس من نفسه رُضي به حكماً لغيره»(1).

وعنه (علیه السلام): «اتقوا الله واعدلوا فإنكم تعيبون على قوم لا يعدلون»(2).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «الإنصاف زين الإمرة»(3).

وقال (علیه السلام): «عليك بترك التبذير والإسراف، والتخلق بالعدل والإنصاف»(4).وقال (علیه السلام): «الإنصاف عنوان النبل»(5).

وقال (علیه السلام): «الإنصاف شيمة الأشراف»(6).

وقال (علیه السلام): «الإنصاف أفضل الفضائل»(7).

وقال (علیه السلام): «الإنصاف أفضل الشيم»(8).

وقال (علیه السلام): «الإنصاف يألف القلوب»(9).

وقال (علیه السلام): «الإنصاف يرفع الخلاف ويوجب الائتلاف»(10).

وقال (علیه السلام): «على الإنصافترسخ المودة»(11).

ص: 49


1- من لا يحضره الفقيه: ج3 ص13 باب آداب القضاء ح3237.
2- وسائل الشيعة: ج15 ص293 ب37 ح20549.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: ص342 ق4 ب2 ف4 ح7816.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: ص359 ق5 ب2 ف2 ح8138.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: ص394 ق5 ب4 ف4 الإنصاف ومدحه ح9094.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: ص394 ق5 ب4 ف4 الإنصاف ومدحه ح9095.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: ص394 ق5 ب4 ف4 الإنصاف ومدحه ح9096.
8- غرر الحكم ودرر الكلم: ص394 ق5 ب4 ف4 الإنصاف ومدحه ح9097.
9- غرر الحكم ودرر الكلم: ص394 ق5 ب4 ف4 آثار الإنصاف ح9115.
10- غرر الحكم ودرر الكلم: ص394 ق5 ب4 ف4 آثار الإنصاف ح9116.
11- غرر الحكم ودرر الكلم: ص394 ق5 ب4 ف4 آثار الإنصاف ح9119.

ولكنها فيضة النفس، ونفثة الغيظ، وخور القناة، وبثّة الصدر، وتقدمة الحجّة.

اشارة

-------------------------------------------

التنفيس عن النفس

مسألة: يستفاد من كلامها وفعلها (علیها السلام) رجحان نفث المظلوم غيظه، واستجابته لفيضة النفس، وعدم الحيلولة دون تجلي بثة الصدر على الجوارح والأعضاء ومنها اللسان وغيره، وفقاً للموازين الشرعية. وإطلاق الاستحباب يشمل حتى ما لم يكن لنفث الغيظ تأثيراً في استحصال الحق، وكذلك نظائره(1).

وربما يستفاد ذلك أيضاً من بث أمير المؤمنين (علیه السلام) أسراره إلى البئر وأشباه ذلك، فإنه (علیه السلام) كان يكلم البئر والبئر يكلمه(2) والرجحان أعم من الاستحباب.

لا يقال: الفعل لا جهة له.

إذ يقال:

أولاً: الفعل له جهة في الجملة، فإنه يكشف عدم الحرمة وعدمالمرجوحية(3)، بل قد يكشف الأكثر بالقرائن المكتنفة كما في المقام، فتأمل.

وثانياً: ليس المقام فعلاً دون قول، بل لقد شفعت الصديقة الطاهرة (علیها السلام) فعلها بالقول حيث صرحت ب- (ولكنها فيضة النفس..) ومن غير الصحيح التعليل (4) بالمرجوح أو بغير الراجح.

ص: 50


1- إذ الظاهر أن تلك العناوين مأخوذة بالاستقلال لا بنحو جزء العلة.
2- راجع بحار الأنوار: ج97 ص449- 452 ب7 ح26.
3- إلا مع اكتنافه بقرينة التقية وشبهها، وحيث إنها في المقام مفقودة دل الفعل على الرجحان.
4- حيث عللت ما قالت ب- (ولكنها فيضة النفس..).

..............................

ويمكن القول بأن ما صنعته (علیها السلام) من فيضة النفس و.. كان محل رضاها دون شك، وبضميمة أن «الله يرضى لرضى فاطمة»(1) يثبت المطلوب(2)، فتأمل.

قولها (علیها السلام): «ولكنهافيضة النفس»، الفيض: سيلان الماء، والمراد ما أفاضته النفس، أي: إني قلتُ ما قلت إظهاراً لما في نفسي من وجوب الإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتقويم المعوج، ويحتمل أن يكون المعنى: فيضة النفس بما فيها من آلام وأشجان وأحزان وهموم وغموم، وأصالة التأسيس يرجح الأول وإن كان الثاني لا يلزم منه التكرار بوجه كما لا يخفى.

ومنه يستفاد رجحان بيان مظلوميتها وظلامتها وهمومها وغمومها (علیها السلام) فإن فيه كشفاً للحقيقة.

قولها (علیها السلام): «ونفثة الغيظ»، النفث: عبارة عما يقذفه الإنسان من فمه مما يدل على قرحة في رئته أو حلقه أو ما أشبه ذلك، وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس، ونفثة المصدور: أي تأوه من له وجع في صدره، فالغيظ الذي كان في صدر الصديقة فاطمة (عليها الصلاة والسلام) نفثته - أو بعضه - بهذه الكلمات المشجية.

قولها (علیها السلام): «وخور القنا»(3)، الخور هو الضعف، والقنا: الرمح،

ص: 51


1- الأمالي للمفيد: ص94-95 المجلس11 ح4، وفيه: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إن الله ليغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها».
2- وذلك بضميمة أدلة التأسي وشبهها، وعلى هذا فلو أحرز المؤمن الآن أو في أي زمن آخر بأن حديثه عن ظلامة الزهراء (علیها السلام) وغصب الخلافة غير مجد وغير مؤثر مع ذلك يرجح الحديث ونفث الغيظ وبثة الصدر.
3- القنا هو الرمح، وجمعه قناة، كالحصى والحصاة.

..............................

أي: ضعف النفس بحيث لا تتمكن أن تتحمل هذه المصائب العظيمة. وقد شبهت (عليها الصلاة والسلام) ما ذكرته في كلامها بالقنا التي ليس لها تلك الصلابة حتى تتحمل.

لا يقال: لقد كانت (علیها السلام) قمة الصبر والتحمل والصمود فكيف تعبر ب- (خور القنا)؟.

إذ يقال: أولاً: المصيبة النازلة كانت أعظم من كل مصيبة في الكون، وهي التعدي على الإمام المعصوم (علیه السلام) وخليفة رسول الله (صلی الله علیه و آله) ومحور عالم الإمكان، مضافاً إلى أن هذه المصيبة سببت انحراف الكثير من الناس عن الطريق الصحيح والصراط المستقيم إلى يوم الوقت المعلوم.

ف- (خور القنا) بالقياس إلى عِظم المصيبة لا بما هي هي.

وثانياً: إن لذلك العديد من النظائر كقوله تعالى: «إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً»(1).

وقوله سبحانه: «وَلَوْلاَ أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً»(2).

وقوله تعالى: «طه ! مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَالْقُرْآنَ لِتَشْقى»(3).

وقوله عزوجل: «فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ»(4).

وقوله سبحانه: «فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ»(5).

ص: 52


1- سورة المزمل: 5.
2- سورة الإسراء: 74.
3- سورة طه: 1- 2.
4- سورة الشعراء: 14، سورة القصص: 33.
5- سورة الشعراء: 21.

..............................

وقوله تعالى: «وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفاً»(1) إلى غير ذلك.

وثالثاً: هذا تعبير عن عظم المصيبة.

قولها (علیها السلام): «وبثة الصدر»، البث: هو النشر والإظهار، أي: ما يبثه الصدر من الحزن والألم(2).

قولها (علیها السلام): «وتقدمة الحجة» أي: أن هذا إتمام للحجة وإن كان لا ينفع معكم ذلك، لكنه حجة بيني وبينكم إلى الله سبحانه وتعالى، فإن الإنسان يجب عليه - في الجملة - أن يلقي الحجة ويتمها لئلا يكون لأحد على الله حجة يوم القيامة، ولكي لاتقول الأمة: إنا كنا عن هذا غافلين.

الفرق بين الجمل والتأسي بها (علیها السلام)

وغير خفي على المتأمل أن تلك الجمل ليست مترادفة أو كالمترادفة، بل كل منها يفيد مطلباً ومعنى، فإن بثة الصدر هي وليدة الحزن، ونفثة الغيظ وليدة الغضب(3)، وخور القنا هو الضعف، وفيضة النفس ما فاض منها وقد يكون علماً أو حزناً أو غيظاً أو غير ذلك، فهذه أعم(4) والبقية بيان، أو هي مباينة، فقد أشارت (علیها السلام) إلى عدد من حالاتها وصفاتها النفسية تجاه القضية وكان منها الحزن ومنها الغضب.

ص: 53


1- سورة النساء: 28.
2- البَثُّ: أشد الحزن، وبث الخبر: أشاعه ونشره.
3- الغيظ: الغضب أو أشد الغضب أو هو سور الغضب وأوله.
4- أي: فيضة النفس لو أريد بها مطلق فيضان النفس بما يحتمل فيها كانت أعم من الجمل اللاحقة وكانت الجمل اللاحقة بياناً لها، ولو أريد بها فيضانها بالعلم والأمر بالمعروف وكانت مباينة.

..............................

ودليل التأسي بها (صلوات الله عليها) يدل على استحباب أن يكون الإنسان كذلك فيحزن ويبث حزنه تجاه غصب الخلافة وما جرى عليها وعلى بعلها وبنيها (صلوات الله عليهم أجمعين).قال الإمام الصادق (علیه السلام): «نفس المهموم لنا المغتَم لظلمنا تسبيح، وهمّه لأمرنا عبادة»(1).

وقال (علیه السلام): «نفس المهموم لظلمنا تسبيح وهمّه لنا عبادة»(2).

وعن بعض أصحابنا قال: (كان المعلى بن خنيس (رحمة الله)إذا كان يوم العيد خرج إلى الصحراء شعثاً مغبراً في زي ملهوف، فإذا صعد الخطيب المنبر مد يده نحو السماء ثم قال:

اللهم هذا مقام خلفائك وأصفيائك، وموضع أمنائك الذين خصصتهم بها، ابتزوها وأنت المقدر لما تشاء، لا يغلب قضاؤك، ولا يجاوز المحتوم من تدبيرك، كيف شئت وأنى شئت، علمك في إرادتك كعلمك في خلقك، حتى عاد صفوتك وخلفاؤك مغلوبين مقهورين مستترين، يرون حكمك مبدلاً وكتابك منبوذاً، وفرائضك محرفة عن جهات شرائعك، وسنن نبيك (صلواتك عليه) متروكة، اللهم العن أعداءهم من الأولين والآخرين، والغادين والرائحين، والماضين والغابرين، اللهم والعن جبابرة زماننا وأشياعهم، وأتباعهم وأحزابهم وأعوانهم، إنك علىكل شي ء قدير)(3).

ص: 54


1- الكافي: ج2 ص226 باب الكتمان ح16.
2- الأمالي للطوسي: ص115 المجلس4 ح178.
3- رجال الكشي: ص381-382 في المعلى بن خنيس ح715.

..............................

وقال ابن طاووس (رحمة الله): روي عن آل الرسول (علیهم السلام) أنهم قالوا: «من بكى وأبكى فينا مائة فله الجنة، ومن بكى وأبكى خمسين فله الجنة، ومن بكى وأبكى ثلاثين فله الجنة، ومن بكى وأبكى عشرين فله الجنة، ومن بكى وأبكى عشرة فله الجنة، ومن بكى وأبكى واحداً فله الجنة، ومن تباكى فله الجنة»(1).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «من ذُكرنا عنده ففاضت عيناه حرم الله وجهه على النار»(2).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «إن الله تبارك وتعالى اطلع إلى الأرض فاختارنا، واختار لنا شيعة ينصروننا، ويفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا، ويبذلون أموالهم وأنفسهم فينا أولئك منا وإلينا»(3).وعن جعفر بن محمد (علیه السلام) قال: «من دمعت عينه فينا دمعة لدم سفك لنا، أو حق لنا نُقصناه، أو عرض انتهك لنا، أو لأحد من شيعتنا، بوأه الله تعالى بها في الجنة حقباً»(4).

وقال الرضا (علیه السلام): «من تذكر مصابنا وبكى لما ارتكب منا كان معنا في درجتنا يوم القيامة، ومن ذكر بمصابنا فبكى وأبكى لم تبك عينه يوم تبكي العيون، ومن جلس مجلساً يحيا فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب»(5).

ص: 55


1- بحار الأنوار: ج44 ص288 ب34 ضمن ح27.
2- وسائل الشيعة: ج14 ص509 ب66 ح19708.
3- الخصال: ج2 ص635 علم أمير المؤمنين (علیه السلام) أصحابه في مجلس واحد أربعمائة باب مما يصلح للمسلم في دينه ودنياه ح10.
4- مستدرك الوسائل: ج10 ص317-318 ب49 ح12082.
5- الأمالي للصدوق: ص73 المجلس17 ح4.

..............................

إتمام الحجة وبيان الحق

مسألة: يجب - في الجملة - إتمام الحجة وبيان الحق حتى مع العلم بعدم التأثير، وإنما كان تقدمة الحجة لئلا يكون فيهم من لا يزال يجهل الواقع، بالإضافة إلى أن التكرار أو التذكير كثيراً ما يؤثر في بعض الناس ولو في المستقبل، وهذا القدر كاف في الوجوب على ما ذكر في كتاب الأمر بالمعروفوالنهي عن المنكر(1)، أما إذا لم يكن كل ذلك فهو من باب الاستحباب، فالأمر بين واجب ومستحب، قال سبحانه: «وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ»(2).

ومن مصاديق إتمام الحجة تلك الاحتجاجات التي احتج بها أمير المؤمنين علي (علیه السلام) عندما غصبوا خلافته وهي مذكورة في كتاب (الاحتجاج)(3)،

ص: 56


1- راجع موسوعة الفقه للإمام الشيرازي (رحمة الله): ج48 كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
2- سورة الأعراف: 164.
3- كتاب الاحتجاج لأبي منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي (رحمة الله) من علماء القرن السادس الهجري. والكتاب عبارة عن بحوث واستدلالات المعصومين (علیهم السلام) والعلماء الكبار مع المخالفين في الموضوعات المختلفة. يذكر العلامة الطبرسي (رحمة الله) في مقدمة كتابه هذا أن سبب تأليفه لهذا الكتاب هو أن جماعة من الشيعة تركوا الاستدلال والبحث مع المخالفين مدعين أن النبي والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) لم يكونوا يجادلون ولم يجيزوا للشيعة ذلك. فصمم على تأليف كتاب يحوي البحوث والاحتجاجات مع المخالفين في أصول الدين وفروعه. إن كتاب (الاحتجاج) يعتبر من الكتب المعتبرة والموثوقة وقد اعتمد عليه العلماء الأعلام كالعلامة المجلسي (رحمة الله) والمحدث الحر العاملي (رحمة الله) وأضرابهما. بدأ العلامة (رحمة الله) كتابه بذكر الآيات والأخبار التي ترغب في البحث والاستدلال مع المخالفين وتبين الأجر والثواب الذي يحصل عليه الذابون عن دين الله، ثم ذكر احتجاجات النبي والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) على الترتيب. ويذكر أحياناً استدلالات وبحوث أهل البيت (علیهم السلام) والأصحاب. كما ذكر (رحمة الله) في نهاية الكتاب أيضاً توقيعات إمام العصر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) في الجواب على الأسئلة والإشكالات التي يتساءل الشيعة حولها. لقد كان كتاب (الاحتجاج) مورداً لاهتمام العلماء وعامة الناس. وقد ترجم إلى اللغة الفارسية وشرح مراراً، كما طبع مراراً أيضاً.

..............................

وكذلك ما احتج به أصحابه (رضوان الله عليهم) وهي كثيرة(1) منها:

ما رواه زيد بن وهب قال: كان الذين أنكروا على أبي بكر جلوسه في الخلافة وتقدمه على علي بن أبي طالب (علیه السلام) اثني عشر رجلاً من المهاجرين والأنصار. وكان من المهاجرين: خالد بن سعيد بن العاص، والمقداد بن الأسود، وأبيّ بن كعب، وعمار بن ياسر، وأبو ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، وعبد الله بن مسعود، وبريدة الأسلمي. وكان من الأنصار: خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، وسهل بنحنيف، وأبو أيوب الأنصاري، وأبو الهيثم بن التيهان، وغيرهم.

فلما صعد المنبر تشاوروا بينهم في أمره، فقال بعضهم: هلا نأتيه فننزله عن منبر رسول الله (صلی الله علیه و آله). وقال آخرون: إن فعلتم ذلك أعنتم على أنفسكم، وقال الله عزوجل: وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ (2)، ولكن امضوا بنا إلى علي بن أبي طالب (علیه السلام) نستشيره ونستطلع أمره.

فأتوا علياً (علیه السلام)، فقالوا: يا أمير المؤمنين، ضيّعتَ نفسك وتركتَ حقاً أنت أولى به، وقد أردنا أن نأتي الرجل فننزله عن منبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) فإن الحق حقك وأنت أولى بالأمر منه، فكرهنا أن ننزله من دون مشاورتك.

ص: 57


1- للتفصيل انظر كتاب الاحتجاج: ج1 ص110 احتجاج سلمان الفارسي (رضي الله عنه) في خطبة خطبها، ص112 احتجاج لأبي بن كعب على القوم، ص130 احتجاج سلمان الفارسي على عمر، ص165 احتجاج أم سلمة (رضي الله عنها) زوجة رسول الله (صلی الله علیه و آله) على عائشة، و...
2- سورة البقرة: 195.

..............................

فقال لهم علي (علیه السلام): «لو فعلتم ذلك ما كنتم إلا حرباً لهم، ولا كنتم إلا كالكحل في العين أو كالملح في الزاد، وقد اتفقت عليه الأمة التاركة لقول نبيها (صلی الله علیه و آله) والكاذبة على ربها، ولقد شاورت في ذلك أهل بيتي فأبوا إلا السكوت لما تعلمون من وغر صدور القوم وبغضهم للهعزوجل ولأهل بيت نبيه (صلی الله علیه و آله) وإنهم يطالبون بثارات الجاهلية، والله لو فعلتم ذلك لشهروا سيوفهم مستعدين للحرب والقتال كما فعلوا ذلك حتى قهروني وغلبوني على نفسي ولببوني وقالوا لي: بايع وإلا قتلناك، فلم أجد حيلة إلا أن أدفع القوم عن نفسي، وذاك أني ذكرت قول رسول الله (صلی الله علیه و آله): "سيا علي، إن القوم نقضوا أمرك واستبدوا بها دونك وعصوني فيك فعليك بالصبر حتى ينزل الأمر، ألا وإنهم سيغدرون بك لا محالة فلا تجعل لهم سبيلاً إلى إذلالك وسفك دمك، فإن الأمة ستغدر بك بعدي كذلك أخبرني جبرئيل (علیه السلام) عن ربي تبارك وتعالى"، ولكن ائتوا الرجل فأخبروه بما سمعتم من نبيكم، ولا تجعلوه في الشبهة من أمره ليكون ذلك أعظم للحجة عليه، وأزيد وأبلغ في عقوبته إذا أتى ربه وقد عصى نبيه وخالف أمره».

قال: فانطلقوا حتى حفوا بمنبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوم جمعة، فقالوا للمهاجرين: إن الله عزوجل بدأ بكم في القرآن فقال: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصارِ (1) فبكم بدأ.وكان أول من بدأ وقام خالد بن سعيد بن العاص بإدلاله ببني أمية، فقال: يا أبا بكر، اتق الله فقد علمت ما تقدم لعلي (علیه السلام) من رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ألا تعلم أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال لنا ونحن محتوشوه في يوم بني قريظة، وقد أقبل

ص: 58


1- سورة التوبة: 117.

..............................

على رجال منا ذوي قدر، فقال: «يا معشر المهاجرين والأنصار، أوصيكم بوصية فاحفظوها وإني مؤد إليكم أمراً فاقبلوه، ألا إن علياً أميركم من بعدي وخليفتي فيكم، أوصاني بذلك ربي، وإنكم إن لم تحفظوا وصيتي فيه وتؤووه وتنصروه اختلفتم في أحكامكم، واضطرب عليكم أمر دينكم، وولي عليكم الأمر شراركم، ألا وإن أهل بيتي هم الوارثون أمري القائلون بأمر أمتي، اللهم فمن حفظ فيهم وصيتي فاحشره في زمرتي، واجعل له من مرافقتي نصيباً يدرك به فوز الآخرة، اللهم ومن أساء خلافتي في أهل بيتي فاحرمه الجنة التي عرضها السماوات والأرض».

فقال له عمر بن الخطاب: اسكت يا خالد، فلست من أهل المشورة ولا ممن يرضى بقوله.فقال خالد: بل اسكت أنت يا ابن الخطاب، فو الله إنك لتعلم أنك تنطق بغير لسانك، وتعتصم بغير أركانك، والله إن قريشاً لتعلم أني أعلاها حسباً، وأقواها أدباً، وأجملها ذكراً، وأقلها غنى من الله ورسوله، وإنك ألأمها حسباً، وأقلها عدداً، وأخملها ذكراً، وأقلها من الله عزوجل ومن رسوله، وإنك لجبان عند الحرب، بخيل في الجدب، لئيم العنصر، ما لك في قريش مفخر.

قال: فأسكته خالد فجلس، ثم قام أبو ذر (رحمة الله عليه) فقال - بعد أن حمد الله وأثنى عليه -: أما بعد، يا معشر المهاجرين والأنصار لقد علمتم وعلم خياركم أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: «الأمر لعلي (علیه السلام) بعدي، ثم للحسن والحسين (علیهما السلام)، ثم في أهل بيتي من ولد الحسين»، فأطرحتم قول نبيكم، وتناسيتم ما أوعز إليكم، واتبعتم الدنيا وتركتم نعيم الآخرة الباقية التي لا تهدم بنيانها،

ص: 59

..............................

ولايزول نعيمها، ولا يحزن أهلها، ولا يموت سكانها، وكذلك الأمم التي كفرت بعد أنبيائها بدلت وغيرت، فحاذيتموها حذو القذة بالقذة، والنعل بالنعل،فعما قليل تذوقون وبال أمركم، وما الله بظلام للعبيد.

ثم قال: ثم قام سلمان الفارسي (رحمه الله) فقال: يا أبا بكر، إلى من تستند أمرك إذا نزل بك القضاء، وإلى من تفزع إذا سئلت عما لا تعلم وفي القوم من هو أعلم منك، وأكثر في الخير أعلاماً ومناقب منك، وأقرب من رسول الله (صلی الله علیه و آله) قرابة وقدمة في حياته، قد أوعز إليكم فتركتم قوله، وتناسيتم وصيته، فعما قليل يصفوا لكم الأمر حين تزوروا القبور، وقد أثقلت ظهرك من الأوزار، لو حملت إلى قبرك لقدمت على ما قدمت، فلو راجعت إلى الحق وأنصفت أهله لكان ذلك نجاة لك يوم تحتاج إلى عملك، وتفرد في حفرتك بذنوبك عما أنت له فاعل، وقد سمعت كما سمعنا، ورأيت كما رأينا، فلم يروعك ذلك عما أنت له فاعل، فالله الله في نفسك فقد أعذر من أنذر.

ثم قام المقداد بن الأسود (رحمة الله عليه) فقال: يا أبا بكر، اربع على نفسك، وقس شبرك بفترك، والزم بيتك، وابك على خطيئتك، فإن ذلك أسلم لك في حياتك ومماتك، ورد هذا الأمر إلى حيث جعله الله عزوجل ورسوله، ولاتركن إلى الدنيا، ولا يغرنك من قد ترى من أوغادها، فعما قليل تضمحل عنك دنياك،ثم تصير إلى ربك فيجزيك بعملك، وقد علمت أن هذا الأمر لعلي (علیه السلام) وهو صاحبه بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وقد نصحتك إن قبلت نصحي.

ثم قام بريدة الأسلمي فقال: يا أبا بكر، نسيت أم تناسيت أم خادعتك نفسك، أما تذكر إذ أمرنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) فسلمنا على علي (علیه السلام) بإمرة المؤمنين

ص: 60

..............................

ونبينا (صلی الله علیه و آله) بين أظهرنا، فاتق الله ربك وأدرك نفسك قبل أن لا تدركها، وأنقذها من هلكتها، ودع هذا الأمر ووكله إلى من هو أحق به منك، ولا تماد في غيك، وارجع وأنت تستطيع الرجوع، فقد نصحتك نصحي، وبذلت لك ما عندي، فإن قبلت وفقت ورشدت.

ثم قام عبد الله بن مسعود فقال: يا معشر قريش، قد علمتم وعلم خياركم أن أهل بيت نبيكم (صلی الله علیه و آله) أقرب إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) منكم، وإن كنتم إنما تدعون هذا الأمر بقرابة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وتقولون إن السابقة لنا، فأهل نبيكم أقرب إلى رسول الله منكم وأقدم سابقة منكم، وعلي بن أبي طالب (علیه السلام)صاحب هذا الأمر بعد نبيكم، فأعطوه ما جعله الله له، ولا ترتدوا على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين.

ثم قام عمار بن ياسر فقال: يا أبا بكر، لا تجعل لنفسك حقاً جعله الله عزوجل لغيرك، ولا تكن أول من عصى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وخالفه في أهل بيته، واردد الحق إلى أهله تخف ظهرك، وتقل وزرك، وتلقى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو عنك راض، ثم يصير إلى الرحمن فيحاسبك بعملك، ويسألك عما فعلت.

ثم قام خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين فقال: يا أبا بكر، أ لست تعلم أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قبل شهادتي وحدي، ولم يرد معي غيري؟. قال: نعم. قال: فاشهد بالله أني سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: «أهل بيتي يفرقون بين الحق والباطل، وهم الأئمة الذين يقتدى بهم».

ثم قام أبو الهيثم بن التيهان فقال: يا أبا بكر، أنا أشهد على النبي (صلی الله علیه و آله) أنه أقام علياً فقالت الأنصار: ما أقامه إلا للخلافة، وقال بعضهم: ما أقامه إلا

ص: 61

..............................

ليعلم الناس أنه ولي من كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) مولاه، فقال (صلی الله علیه و آله): «إن أهل بيتي نجوم أهل الأرض فقدموهم ولا تقدموهم».

ثم قام سهل بن حنيف فقال: أشهد أني سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال على المنبر: «إمامكم من بعدي علي بن أبي طالب (علیه السلام)، وهو أنصح الناس لأمتي».

ثم قام أبو أيوب الأنصاري فقال: اتقوا الله في أهل بيت نبيكم وردوا هذا الأمر إليهم، فقد سمعتم كما سمعنا في مقام بعد مقام من نبي الله (صلی الله علیه و آله) أنهم أولى به منكم.

ثم جلس ثم قام زيد بن وهب فتكلم، وقام جماعة من بعده فتكلموا بنحو هذا، فأخبر الثقة من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن أبا بكر جلس في بيته ثلاثة أيام، فلما كان اليوم الثالث أتاه عمر بن الخطاب وطلحة والزبير وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وأبو عبيدة بن الجراح مع كل واحد منهم عشرة رجال من عشائرهم شاهرين السيوف، فأخرجوه من منزله وعلا المنبر وقال قائل منهم:

والله لئن عاد منكم أحد فتكلم بمثل الذي تكلم به لنملأن أسيافنا منه.فجلسوا في منازلهم ولم يتكلم أحد بعد ذلك(1).

ص: 62


1- الخصال: ج2 ص461- 465 الذين أنكروا على أبي بكر جلوسه في الخلافة وتقدمه على علي بن أبي طالب (علیه السلام) ح4.

فدونكموها، فاحتقبوها دبرةَ الظهر، نقبةَ الخُف

اشارة

-------------------------------------------

الخلافة المغصوبة

مسألة: ينبغي بيان حال الخلافة التي اغتصبها القوم حيث أخذوها فكانت لهم دَبرة الظهر نقبة الخُف، فخسروا الدنيا والآخرة بذلك، وخسّروا العالم والأجيال القادمة أيضاً.

قولها (علیها السلام): «فدونكموها»، أي: خذوا هذه الخلافة المغصوبة، أو فدك، أو كليهما.

«فاحتقبوها»، أي: احملوها على ظهوركم، أو احملوا حقائبكم على ظهرها، من: حقب واحتقب إذا شد الرحل على البعير وهيأه للركوب.

قولها (علیها السلام): «دبرة الظهر»، أي:أن ظهر هذه السلطة وفدك دبر، والدبْر عبارة عن: قرحة الدابة تحدث من الرحل ونحوه، كناية عن أن هذه السلطة وفدك لا تسلمان لكم، فإن في غصبهما المشاكل الكثيرة، كما رأوها هم بأنفسهم وبعد ذلك رآها الحكام من بعدهم.

قولها (علیها السلام): «نقبة الخف»، أي: إن خفاف هذه الدابة - وهي الخلافة المغصوبة وفدك - نقبة رقيقة لاتتحمل المسير بكم سيراً صحيحاً مستمراًموصلاً للمقصد.

نتائج غصب الخلافة

مسألة: يستفاد من كلام الصديقة (علیها السلام) أن الحكومة الجائرة والسلطة الغاضبة تتصف بالمواصفات التالية، وينبغي بيان ذلك:

ص: 63

..............................

فهي أولاً وثانياً: لا تحظى بالاستقرار ولا تتمتع بالراحة، ومن الواضح أن هاتين الخصلتين لا يتمتع بها راكب الدابة دبرة الظهر، فإن الدابة المجروحة الظهر يؤلمها الجرح أكثر فأكثر بركوب المرء عليها، فلا يتهيأ لراكبها ما يصبو إليه من ركوب مريح ومن استقرار وطمأنينة.

وهذا التنبؤ منها (علیها السلام) - كغيره - أصاب كبد الحقيقة بالنسبة لغاصبي الحكومة من الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) فإنهم لم يحظوا بالاستقرار والراحة والازدهار أبداً كما يظهر ذلك لمن راجع كتب التاريخ والسير.

وهي ثالثاً: لا تتمتع بالاستمرار، كما الدابة النقبة الخف، ولا توصل للمقصود، ولذلك ورد «الملك يدوم مع الكفر، ولا يدوم مع الظلم».وهي رابعاً: تستتبع الخزي والعار على مر الأزمنة وتعاقب الأجيال.

وهي خامساً: تستتبع غضب الملك الجبار.

وهي سادساً: تستعقب الشنار في عالم الآخرة.

وهي سابعاً: تستلزم عذاب النار الموقدة.

ص: 64

باقية العار

اشارة

-------------------------------------------

إبقاء عار أفعالهم عليهم

مسألة: يجب فضح الظالمين والمساهمة في إبقاء عار أفعالهم عليهم، لكي لا يُتخذوا أسوةً، ومن مصاديق ذلك الإخبار عنه، كما أن من مصاديقه الإنذار بذلك، كما صنعت الصديقة الكبرى (علیها السلام) في خطبتها.

والوجوب إنما هو إذا كان سبباً لانقلاع الظالم عن ظلمه - لتخوفه من المتربصين به لفضحه - أو كان سبباً لردع الآخرين عن الظلم، أو عن التأسي به، فإنه يكون واجباً من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإرشاد الجاهل وتنبيه الغافل، أو إذا كان ذلك مصداقاً لإتمام الحجة الواجبة، أو مصداقاً للانتصار الواجب للمظلوم.

ومن مصاديقه: ما ورد من لعن الظالمين في الأدعية حيث الفضح لهم والعار عليهم.

كما في زيارة عاشوراء(1)، ودعاء صنمي قريش(2)، ودعاء علقمة(3) وغيرها.قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لهمْ عَذاباً مُهِيناً (4).

ص: 65


1- راجع كامل الزيارات: ص174-179 ب71 ح8.
2- راجع مصباح الكفعمي: ص252- 253 ب44.
3- راجع مصباح المتهجد: ص777-781 شرح زيارة أبي عبد الله (علیه السلام) في يوم عاشوراء من قرب أو بعد.
4- سورة الأحزاب: 57.

..............................

وقال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ والْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ ويَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (1).

وقال تعالى: وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولئِكَ لهمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (2).

وقال سبحانه: يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ولَهُمُ اللَّعْنَةُ ولَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (3).

وقال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ ويَقُولُ الأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلىرَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (4).

وقال سبحانه: وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ والْمُنافِقاتِ والْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (5).

وفي (مستدرك الوسائل): أن رجلاً قال للصادق (علیه السلام): يا ابن رسول الله، إني عاجز ببدني عن نصرتكم، ولست أملك إلاّ البراءة من أعدائكم واللعن، فكيف حالي؟. فقال الصادق (علیه السلام): «حدثني أبي، عن أبيه، عن جده، عن رسول الله (صلی الله علیه و آله)، قال: من ضعف عن نصرتنا أهل البيت فلعن في صلاته أعداءنا بلَّغ الله صوته جميع الأملاك من الثرى إلى العرش، فكلما لعن هذا

ص: 66


1- سورة البقرة: 159.
2- سورة الرعد: 25.
3- سورة غافر: 52.
4- سورة هود: 18.
5- سورة التوبة: 68.

..............................

الرجل أعداءنا لعناً ساعدوه فلعنوا من يلعنه ثم ثنوه، فقالوا: اللهم صلّ على عبدك هذا الذي قد بذل ما في وسعه ولو قدر على أكثر منه لفعل، فإذا النداء من قبل الله تعالى: قد أجبت دعاءكم وسمعت نداءكم، وصليت على روحه فيالأرواح، وجعلته عندي من المصطفين الأخيار»(1).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «أربعة لعنتهم ولعنهم الله وكل نبي مجاب: الزائد في كتاب الله، والمكذب بقدر الله، والمتعزز بالجبروت ليذل من أعز الله ويعز من أذل الله، والمستحل من عترتي ما حرم الله»(2).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «دخلت الجنة فرأيت على بابها مكتوباً بالذهب: لا إله إلا الله، محمد حبيب الله، علي بن أبي طالب ولي الله، فاطمة آية الله، الحسن والحسين صفوتا الله، على مبغضيهم لعنة الله»(3)

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «خير هذه الأمة من بعدي: علي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين، فمن قال غير هذا فعليه لعنة الله»(4)

وقال أبو عبد الله (علیه السلام): «مدمن الخمر كعابد الوثن، والناصب لآل محمد شر منه». قلت: جعلت فداك، ومنأشر من عابد الوثن؟. فقال: «إن شارب الخمر تدركه الشفاعة يوم القيامة، وإن الناصب لو شفع فيه أهل السماوات والأرض لم يشفعوا»(5).

ص: 67


1- مستدرك الوسائل: ج4 ص410-411 ب10 ح5037.
2- بحار الأنوار: ج27 ص225 ب10 ح18.
3- كنز الفوائد: ج1 ص149 شرح قوله: ولعن آخر أمتكم أولها.
4- بحار الأنوار: ج27 ص228 ب10 ح31، والبحار: ج37 ص98 ب50 ح65.
5- ثواب الأعمال: ص207 عقاب الناصب والجاحد لأمير المؤمنين (علیه السلام).

..............................

وعن الريان بن شبيب، عن الإمام الرضا (علیه السلام)، قال: «يا ابن شبيب، إن سرك أن تسكن الغرف المبنية في الجنة مع النبي وآله فالعن قتلة الحسين(علیه السلام) »(1).

وعن داود الرقي، قال: كنت عند أبي عبد الله (علیه السلام) إذا استسقى الماء، فلما شربه رأيته قد استعبر واغرورقت عيناه بدموعه، ثم قال لي: «يا داود، لعن الله قاتل الحسين (علیه السلام) وما من عبد شرب الماء فذكر الحسين وأهل بيته ولعن قاتله إلا كتب الله عزوجل له مائة ألف حسنة، وحطّ عنه مائة ألف سيئة، ورفع له مائة ألف درجة، وكأنما أعتق مائة ألف نسمة، وحشره الله عزوجل يوم القيامة ثلج الفؤاد»(2).وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «اتخذوا الحمام الراعبية في بيوتكم؛ فإنها تلعن قتلة الحسين بن علي بن أبي طالب (علیه السلام) ولعن الله قاتله»(3).

بقاء العار على الظالم

مسألة: يستحب، وقد يجب بيان الكلي، وهو أن العار سيبقى على الظالمين.

كما أن عار اغتصاب الحق من أهل البيت (علیهم السلام) بقي إلى اليوم وسيبقى إلى يوم القيامة على من اغتصب الخلافة وأعان على ذلك ورضي به.

والظاهر أن هذا الكلام إخبار في مقام الإنشاء(4).

ص: 68


1- الأمالي للصدوق: ص130 المجلس27 ح5.
2- الكافي: ج6 ص391 باب النوادر ح6.
3- بحار الأنوار: ج44 ص305 ب36 ح19.
4- وهو التهديد والإنذار.

موسومة بغضب الجبار، وشنار الأبد، موصولة بنار الله الموقدة، التي تطلع على الأفئدة.

لا يقال: إن (العار) لم يلحقهم، فإن كثيراً من الناس لا ترى ذلك، بل الأكثرية على مر التاريخ اتبعوهم.

إذ يقال: يراد العار عند ذويالبصائر(1)، أو العار ثبوتاً، أو العار شأناً (2)، أو غير ذلك(3)، وذلك كما ورد في العديد من الآيات والروايات مثل:«لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ»(4).

موسومة بغضب الجبار، وشنار الأبد، موصولة بنار الله الموقدة، التي تطلع على الأفئدة.

كيف يعقب غضب الله غضبها (علیها السلام)

مسألتان: يلزم الاعتقاد بأن موقف القوم من الصديقة الزهراء (سلام الله عليها) وما ارتكبوه من غصب الخلافة وفدك، كان سبباً لغضب الله عزوجل وأدى بهم إلى النار، ويحرم إنكار ذلك والرد عليه؛ لأنه رد عليها (علیها السلام) حيث صرحت: (موسومة بغضب الجبار...) و (موصولة بنار الله...).مضافاً إلى مسألة رضاها (علیها السلام) ورضا الله سبحانه، وذلك لأن الله يرضى

ص: 69


1- من المؤمنين أو الأعم منهم ومن الجن والملائكة أو حتى سائر العوالم.
2- أي وإن لم يكن له فعليه عن الأكثرية الجاهلة لكنه بحيث لو عرفوا الحق رأوه عاراً.
3- أو يقال العار حتى عند كثير ممن اتبعهم، فإن الإتباع لا يستلزم عدم كونه عاراً عندهم والكثير منهم يقبحون ظلمهم ذاك رغم أنهم من أشياعهم.
4- سورة البقرة: 114، سورة المائدة: 41.

..............................

لرضا فاطمة (سلام الله عليها) ويغضب لغضبها، كما نص على ذلك رسول الله (صلی الله علیه و آله) وورد عن الفريقين(1)، أي إن الله يرضى متى مارضيت فاطمة (علیها السلام)

ص: 70


1- كما جاء ذلك في كتب الشيعة والسنة عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وإليك بعض النصوص: 1: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «فاطمة بضعة مني من آذاها فقد آذاني، ومن غاظها فقد غاظني، ومن سرها فقد سرني». بحار الأنوار: ج27 ص62 ب1 ضمن ح21. 2: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «فاطمة بضعة مني وهي روحي التي بين جنبي، يسوؤني ما ساءها، ويسرني ما سرها». بحار الأنوار: ج27 ص63 ب1 ضمن ح21. 3: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إن الله يغضب لغضبكِ ويرضى لرضاكِ». بحار الأنوار: ج30 ص353 ب20 ضمن ح164. 4: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «فاطمة بضعة مني من آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله». بحار الأنوار: ج30 ص353 ب20 ضمن ح164. 5: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «فاطمة بضعة مني من آذاها فقد آذاني، يرضى الله لرضاها، ويغضب لغضبها، وهي سيدة نساء العالمين». إرشاد القلوب: ج2 ص232 في فضائل ومناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وغزواته (علیه السلام). 6: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «فاطمة بضعة مني من آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله عزوجل». شرح نهج البلاغة: ج16 ص273 الفصل الثالث في أن فدك هل صح كونها نحلة رسول الله (صلی الله علیه و آله) لفاطمة (علیها السلام) أم لا. 7: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «فاطمة بضعة مني من آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله»، وفي رواية: «من أغضبها فقد أغضبني»، وفي رواية: «يريبني ما رابها». الصوارم المهرقة في جواب الصواعق المحرقة: ص148. 8: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «فاطمة بضعة مني من آذاها فقد آذاني، وما آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله أكبه الله في النار». غوالي اللآلئ: ج4 ص93 الجملة الثانية في الأحاديث المتعلقة بالعلم وأهله وحامليه ح131. 9: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «يا فاطمة، إن الله يرضى لرضاكِ ويغضب لغضبكِ». غوالي اللآلئ: ج4 ص93 الجملة الثانية في الأحاديث المتعلقة بالعلم وأهله وحامليه ح132. 10: عن عمرو، عن محمد بن علي، قال : قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إنما فاطمة بضعة مني، فمن أغضبها أغضبني». المصنف لابن أبي شيبة الكوفي: ج7 ص526. 11: عن المسور بن مخرمة، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إنما فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني». الآحاد والمثاني للضحاك: ج5 ص361 ح2954. 12: عن عبد الله بن عبيد الله القرشي: أن المسور بن مخرمة (رضي الله تعالى عنه) أخبره أنه سمع النبي (صلی الله علیه و آله) المنبر وهو يقول: «إنما ابنتي بضعة مني يربيني ما أرابها، ويؤذيني ما آذاها». الآحاد والمثاني للضحاك: ج5 ص361 ح2955. 13: عن أم بكر بن المسور، عن ابنها: أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: «فاطمة شجنة مني يقبضني ما يقبضها، ويبسطني ما يبسطها». الآحاد والمثاني للضحاك: ج5 ص362 ح2956. 14: حدثنا عبد الله بن سالم المفلوج - وكان من خيار الناس - حدثنا حسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، عن عمر بن علي، عن جعفر بن محمد، عن أبيه عن علي بن الحسين بن علي، عن علي (علیه السلام)، عن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه قال لفاطمة (علیها السلام): «إن الله يغضب لغضبكِ ويرضى لرضاكِ». الآحاد والمثاني للضحاك: ج5 ص363 ح2959. 15: عن بن أبي مليكة، عن المسور بن مخرمة، قال: سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: «أما فاطمة بضعة مني يريبني ما أرابها ويؤذيني ما آذاها». السنن الكبرى للنسائي: ج5 ص97 ح8370. 16: عن عمرو بن أبي مليكة، عن المسور بن مخرمة: أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: «إن فاطمة بضعة مني من أغضبها أغضبني». السنن الكبرى للنسائي: ج5 ص97 ح8371. 17: عن بن أبي مليكة، عن المسور بن مخرمة، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «فاطمة بضعة مني من أغضبها أغضبني». المعجم الكبير للطبراني: ج22 ص404. 18: عن ابن ابي مليكة، عن المسور بن مخرمه، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إنما فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها ويغضبني ما أغضبها». أمالي الحافظ أبو نعيم الأصبهاني: ص47. 19: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني». الجامع الصغير لجلال الدين السيوطي: ج2 ص208 ح5833. 20: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «فاطمة بضعة مني يقبضني ما يقبضها ويبسطني ما يبسطها، وإن الأنساب تنقطع يوم القيامة غير نسبي وسببي وصهري». الجامع الصغير لجلال الدين السيوطي: ج2 ص208 ح5834. 21: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إنما فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها وينصبني ما أنصبها». كنز العمال للمتقي الهندي: ج12 ص107 ح34215. 22: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «فاطمة بضعة مني، فمن أغضبها أغضبني». كنز العمال للمتقي الهندي: ج12 ص108 ح34222. 23: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «فاطمة بضعة مني يقبضني ما يقبضها ويبسطني ما يبسطها، وإن الانساب تنقطع به يوم القيامة غير نسبي وسببي وصهري». كنز العمال للمتقي الهندي: ج12 ص108 ح34223. 24: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إنما فاطمة شجنة مني يبسطني ما يبسطها ويقبضني ما يقبضها». كنز العمال للمتقي الهندي: ج12 ص111 ح34240. 25: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إنما فاطمة بضعة مني، ومن آذاها فقد آذاني». كنز العمال للمتقي الهندي: ج12 ص111 ح34241. 26: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها». إرواء الغليل لمحمد ناصر الألباني: ج8 ص293 ح2676. 27: قال الامام أحمد: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، حدثنا عبد الله بن جعفر، حدثتنا أم بكر بنت المسور بن مخرمة، عن عبد الله بن أبي رافع عن المسور - هو ابن مخرمة (رضي الله عنه) - قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «فاطمة بضعة مني يغيظني ما يغيظها وينشطني ما ينشطها، وإن الانساب تنقطع يوم القيامة إلا نسبي وسببي وصهري». تفسير ابن كثير: ج3 ص267.

ص: 71

..............................

ويرضى على من رضيتْ عنه، ويرضى بما رضيت به، ويرضى كيف رضيت (سلام الله عليها) و.. وذلك لمكان الإطلاق وحذف المتعلق.

ثم إن حديث: «يرضى لرضا» واضح الدلالة على أن رضا الله يعقب رضاها (علیها السلام) ويترتب عليه، أي أن رضا الصديقة فاطمة (سلام الله عليها) قبل رضا الله، وغضبها قبل غضبه.

لا يقال: كيف يكون رضاه تعالى تابعاً، مع أن المفروض أن يكون رضا الإنسان تابعاً لرضا الله، لا أن يكون رضاه عزوجل تابعاً لرضا الإنسان؟.

ص: 72

..............................

إذ يقال: هناك أمران على ما سيأتي، رضا تابع ورضا متبوع، وما ورد في حديث رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالنسبة إلى الصديقة الطاهرة (علیها السلام) لا ينفي الأمر الآخر، وهذا تكريم من الله لها (علیها السلام)، والرسول (صلی الله علیه و آله) لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى(1)، وحديثه واضح الدلالة على ترتيب الله رضاه على رضاها، ولا يصح الاعتراض على الخالق فيما قدروشاء(2)، علماً بأن الصديقة الطاهرة (علیها السلام) لا تنطق ولا تتصرف ولا ترضى ولا تغضب إلا عن تأديب الله عزوجل كما ورد في الحديث: «إن الله أدب نبيه (صلی الله علیه و آله) فلما انتهى به إلى ما أراد قال له: إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (3) ففوض إليه دينه»(4)، مضافاً إلى أنهم (علیهم السلام) أوعية مشيئة الله عزوجل كما ثبت في محله(5).

ومن الواضح أن هناك فرقاً بين أن رضا الله من رضا فاطمة (علیها السلام) وبين قول الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام): « رضى الله رضانا أهل البيت»(6)، حيث إنه يبين الأمر الآخر، وكلا الأمرين صحيح باعتبارين، فبما أن الحسين (علیه السلام) كان في يوم الصبر على البلاء رضي بما قدره الله له جعل رضاهتابعاً لرضا الله سبحانه.

ص: 73


1- إشارة إلى قوله تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى سورة النجم: 3-4.
2- يظهر للمتأمل أن المصنف (رحمة الله) أجاب بعدة أجوبة على الإشكال منها: إنه لا اجتهاد في قبال النص، إذ قولك: يلزم أن يكون رضا الإنسان تابعاً اجتهاد في قبال نص حديث الرسول (صلی الله علیه و آله):«إن الله يرضى لرضا فاطمة».
3- سورة القلم: 4.
4- الكافي: ج1 ص267 باب التفويض إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وإلى الأئمة (علیهم السلام) في أمر الدين ح6.
5- راجع معاني الأخبار: ص35 باب معنى الصراط ح5.
6- بحار الأنوار: ج44 ص367 ب37.

..............................

أما الحديث الأول فهو يشير إلى عظمة الزهراء (علیها السلام) ومنزلتها الرفيعة والقريبة عند الله سبحانه، بحيث إنه جعل رضاه تابعاً لرضاها (علیها السلام).

فإن الحيثية تغيّر المقدم والمؤخر حتى في شيء واحد، كما هو واضح.

وقد رووا جميعاً أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: «يا فاطمة، إن الله ليغضب لغضبكِ ويرضى لرضاكِ» وجاء سندل إلى الصادق (علیه السلام) وسأله عن ذلك؟ فقال:يا سندل ألستم رويتم فيما تروون أن الله تعالى يغضب لغضب عبده المؤمن ويرضى لرضاه؟. قال: بلى. قال: «فما تنكر أن تكون فاطمة مؤمنة يغضب لغضبها ويرضى لرضاها». فقال سندل: الله أعلم حيث يجعل رسالته(1).

وكان الله يرضى حين ترضى *** ويغضب إن غدت في المغضبينا

غضب سابق وغضب لاحق

مسألة: ربما يقال بأن قولها (علیها السلام): «موسومة بغضب الجبار»يتضمن الإشارة إلى مرحلتين سابقة ولاحقة للغضب الرباني - والذي سيأتي معناه - وكل ما أوجب أياً منهما محرم قطعاً، فهنا يمكن تصور الغضب السابق والغضب اللاحق لله عزوجل، بمعنى ترتب الآثار لا الحالة النفسية كما سيأتي.

فهل المقام مقام غضبها (علیها السلام) الذي استتبع غضب الله، أم العكس، أم كلا الأمرين باعتبارين؟.

فإن غصبهم للخلافة ولفدك وإيذاء الصديقة فاطمة الزهراء (علیها السلام) محرمة، بل من أشد المحرمات التي فيها غضب الجبار، وهي (علیها السلام) قد غضبت في هذه

ص: 74


1- المناقب: ج3 ص325 فصل في منزلتها عند الله.

..............................

المواطن كلها لله(1)، وبما أن ذلك كله استوجب غضبها (علیها السلام) فغضب الباري جل وعلا لغضبها أيضاً(2)، فللباري غضبان في المقام:

1:غضب سابق، وهو على تلك المعاصي الكبيرة من غصب الخلافة وإيذائها وظلمها (علیها السلام).

2:غضب لاحق على إغضابها (علیها السلام) لغضبها (علیها السلام).فحينئذ يكون العقاب أشد مما لو تجردت تلك الكبائر عن إغضابها (علیها السلام) فرضاً.

حرمة ما يغضب الرب

مسألة: يحرم إتيان ما يوجب غضب الله تعالى، ويكفي كلامها (علیها السلام) هذا في إثبات حرمة جميع ما قاموا به من التصرفات المرتبطة بغصب الخلافة وفدك وإيذائها (علیها السلام)، ويدل على أنهم قد ارتكبوا أكبر الموبقات.

فإن غضب الله سبحانه وتعالى لا يكون إلا عند مخالفة أوامره ونواهيه، وقد ذكر علماء الكلام: إن المراد بغضب الله آثاره؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى ليس محلاً للحوادث، فالغضب يظهر في العذاب الإلهي، وقد أشار إلى ذلك القرآن الحكيم حيث قال:«فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ»(3) حيث إن المقصود من الانتقام: العذاب، وليس مجموع الحالة النفسية الخاصة وترتيب الأثر، والانتقام هو الأثر للغضب، ولا يكون إلا مع النهي والتحريم.

ص: 75


1- فغضبها (علیها السلام) غضب لاحق بهذا الاعتبار أو بهذه الجهة.
2- فغضبها (علیها السلام) سابق بهذه الجهة.
3- سورة الزخرف: 55.

..............................

وفي الرواية: «فلما أن قتل الحسين(صلوات الله عليه) اشتد غضب الله تعالى على أهل الأرض»(1).

وقال تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ له عَذَاباً عَظِيماً (2).

وعن أمير المؤمنين (علیه السلام)، عن رسول الله (صلی الله علیه و آله)، قال:«إذا غضب الله تبارك وتعالى على أمة ولم ينزل بها العذاب: غلت أسعارها، وقصرت أعمارها، ولم تربح تجارها، ولم تزكُ ثمارها، ولم تغزر أنهارها، وحبس عنها أمطارها، وسلط عليها شرارها»(3).

حرمة ما يوجب النار الموقدة

مسألة: يحرم كل ما يقتضي - وإن لم يكن يستلزم(4) - النار الموقدة التي تطلع على الأفئدة.

فإن الحرمة بفعل المنهي عنه هي التي تؤدي بالإنسان إلى النار، وإلا فلا حرمة في ما سوى ذلك.وما قام به القوم أوجب لهم النار الموقدة التي تطلع على الأفئدة وذلك بصريح كلام الصديقة الطاهرة (علیها السلام).

ص: 76


1- الكافي: ج1 ص368 باب كراهية التوقيت ح1.
2- سورة النساء: 93.
3- مستدرك الوسائل: ج6 ص189- 190 ب7 ح6738.
4- ربما يكون إشارة إلى أن المعاصي مقتضيات للنار وليست عللاً تامة بلحاظ الروافع والموانع كالتوبة والشفاعة وغيرها.

..............................

إن قلت: لماذا خصت النار بالأفئدة مع أنها تحرق الجسم كله؟.

قلنا: لأن الأفئدة هي مركز الحرمة، إذ العقائد الباطلة إنما تنشأ من القلب قال تعالى: «فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ»(1)، وقال عزوجل في مقابل ذلك:«إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ»(2)، كما أن القلب هو مركز الإرادة للأفعال المحرمة.

إضافة إلى أن الإطلاع على الأفئدة قد يكون إشارة إلى شدة النار التي تتجاوز الظاهرة لتصل إلى الباطن وتحرق الفؤاد.

وقد ذكروا في علم الكلام: إن كل عضو يُعاقب في الآخرة حسب معصية ذلك العضو، وكذلك يُثاب حسب طاعته.

وفي الحديث: إن أيدي الناكثين في النار.

قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «إن في جهنم رحى تطحن خمساً، أفلاتسألون ما طحنها؟». فقيل له: فما طحنها يا أمير المؤمنين؟.

قال (علیه السلام): «العلماء الفجرة، والقراء الفسقة، والجبابرة الظلمة، والوزراء الخونة، والعرفاء الكذبة، وإن في النار لمدينة يقال لها: الحصينة، أفلا تسألوني ما فيها؟». فقيل: وما فيها يا أمير المؤمنين؟. فقال: «فيها أيدي الناكثين»(3).

إلى غيرها ذلك من الروايات التي تفيد ذلك، مثل: روايات عقاب العين، وعقاب الأذن، وعقاب اللسان، وسائر الجوارح، بل والجوانح أيضاً.

وهكذا في ثوابها.

ص: 77


1- سورة البقرة: 283.
2- سورة الشعراء: 89.
3- الخصال: ج1 ص296 في جهنم رحى تطحن خمسة ح65.

..............................

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من ملأ عينيه حراماً يحشوهما الله تعالى يوم القيامة مسامير من النار»(1).

وقال (علیه السلام): «لكل عضو من ابن آدم حظ من الزنى: فالعين زناه النظر، واللسان زناه الكلام، والأذنان زناهما السمع، واليدان زناهما البطش،والرجلان زناهما المشي، والفرج يصدق ذلك كلهم ويكذبه»(2)

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون يُصب في أذنيه الآنك يوم القيامة»(3).

والآنك:الرصاص المذاب.

وعن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: «من استمع إلى اللهو يُذاب في أذنه الآنك»(4).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من كتب فضيلة من فضائل علي بن أبي طالب (علیه السلام) لم تزل الملائكة تستغفر له ما بقي لتلك الكتابة رسم، ومن استمع إلى فضيلة من فضائله غفر الله له الذنوب التي اكتسبها بالاستماع، ومن نظر إلى كتابة في فضائله غفر الله له الذنوب التي اكتسبها بالنظر - ثم قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) - النظر إلى علي بن أبي طالب (علیه السلام) عبادة، وذكره عبادة، ولا يقبل إيمان عبد إلا بولايته والبراءة منأعدائه»(5).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «كل عين باكية يوم القيامة إلا ثلاثة أعين: عين

ص: 78


1- جامع الأخبار: ص93 ف51.
2- مستدرك الوسائل: ج14 ص269 ب81 ح16681.
3- الخصال: ج1 ص109 ثلاثة يعذبون يوم القيامة ح77.
4- مستدرك الوسائل: ج13 ص221-222 ب80 ح15185.
5- الأمالي للصدوق: ص138 المجلس28 ح9.

..............................

بكت من خشية الله، وعين غضت عن محارم الله، وعين باتت ساهرة في سبيل الله»(1).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من شهد شهادة زور على رجل مسلم أو ذمي أو من كان من الناس، علق بلسانه يوم القيامة وهو مع المنافقين في الدرك الأسفل من النار»(2). وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «من لقي المسلمين بوجهين ولسانين جاء يوم القيامة وله لسان من نار»(3).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «يجيء يوم القيامة ذو الوجهين دالعاً لسانه في قفاه وآخر من قدامه يتلهبان ناراً حتى يلهبا جسده ثم يقال: هذا الذي كان في الدنيا ذا وجهين ولسانينيعرف بذلك يوم القيامة»(4).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «يؤتى بالزاني يوم القيامة حتى يكون فوق أهل النار فتقطر قطرة من فرجه فيتأذى بها أهل جهنم من نتنها، فيقول أهل جهنم للخزان:ما هذه الرائحة المنتنة التي قد آذتنا؟ فيقال لهم: هذه رائحة زان، ويؤتى بامرأة زانية فتقطر قطرة من فرجها فيتأذى بها أهل النار من نتنها»(5).

وفي قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (6)، قال أبو جعفر الباقر (علیه السلام): «وذلك أن آكل

ص: 79


1- من لا يحضره الفقيه: ج1 ص318 باب وصف الصلاة من فاتحتها إلى خاتمتها ح942.
2- وسائل الشيعة: ج27 ص325 ب9 ح33851.
3- عقاب الأعمال: ص268-269 عقاب من كان ذا وجهين وذا لسانين.
4- وسائل الشيعة: ج12 ص258-259 ب143 ح16245.
5- بحار الأنوار: ج8 ص317 ب24 ح98.
6- سورة النساء: 10.

..............................

مال اليتيم يجيء يوم القيامة والنار تلتهب في بطنه حتى يخرج لهب النار من فيه حتى يعرفه كل أهل الجمع أنه آكل مال اليتيم»(1).

وقال تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُفَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزاءً بِمَا كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ (2).

ذكر أوصاف النار

مسألة: يستحب بيان أوصاف النار، ويتأكد بذكر ما يتجانس مع المقام، كما قالت الصديقة الطاهرة (علیها السلام): «الموقدة التي تطلع على الأفئدة».

وقد يجب، فإن المتعلق إذا كان واجباً وجب، وإن كان مستحباً استحب، وقد أكثر القرآن الحكيم من ذكر أوصاف النار مثل قوله سبحانه: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لهمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (3) إلى غير ذلك.

وعن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «خطب أمير المؤمنين (علیه السلام) يوم جمعة فقال:.. فتزودوا رحمكم الله اليوم لِيوم الممات، واحذروا أليم هول البيات، فإن عقاب الله عظيم وعذابه أليم، نار تلهب، ونفس تُعذب، وشراب من صديد، ومقامع من حديد، أعاذنا اللهوإياكم من النار»(4).

ص: 80


1- الكافي: ج2 ص31-32 ح1.
2- سورة المائدة: 38.
3- سورة الحج: 21.
4- مستدرك الوسائل: ج6 ص28-29 ب19 ح6358.

..............................

وروى أبو سعيد الخدري قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) - في قوله: وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (1) -: «لو وضع مقمع من حديد في الأرض ثم اجتمع عليه الثقلان ما أقلوه من الأرض»(2).

وعن الخدري، عنه (صلی الله علیه و آله): «لو ضرب بمقمعة من مقامع الحديد الجبل لفتت فعاد غباراً»(3).

وفي حديث قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لجبرئيل (علیه السلام): «ما لي لم أر ميكائيل ضاحكاً قط؟. قال:ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار»(4).

وعن أمير المؤمنين علي (علیه السلام) قال: «اعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ لهذَا الْجِلْدِ الرَّقِيقِ صَبْرٌ عَلَى النَّارِ فَارْحَمُوانُفُوسَكُمْ، فَإِنَّكُمْ قَدْ جَرَّبْتُمُوهَا فِي مَصَائِبِ الدُّنْيَا، أَفَرَأَيْتُمْ جَزَعَ أَحَدِكُمْ مِنَ الشَّوْكَةِ تُصِيبُهُ، وَالْعَثْرَةِ تُدْمِيهِ، وَالرَّمْضَاءِ تُحْرِقُهُ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ بَيْنَ طَابَقَيْنِ مِنْ نَارٍ، ضَجِيعَ حَجَرٍ وَقَرِينَ شَيْطَانٍ، أَعَلِمْتُمْ أَنَّ مَالِكاً إِذَا غَضِبَ عَلَى النَّارِ حَطَمَ بَعْضُهَا بَعْضاً لِغَضَبِهِ، وَإِذَا زَجَرَهَا تَوَثَّبَتْ بَيْنَ أَبْوَابِهَا جَزَعاً مِنْ زَجْرَتِهِ، أَيُّهَا الْيَفَنُ الْكَبِيرُ الَّذِي قَدْ لهزَهُ الْقَتِيرُ، كَيْفَ أَنْتَ إِذَا الْتَحَمَتْ أَطْوَاقُ النَّارِ بِعِظَامِ الأَعْنَاقِ، وَنَشِبَتِ الْجَوَامِعُ حَتَّى أَكَلَتْ لُحُومَ السَّوَاعِدِ»(5).

ص: 81


1- سورة الحج: 19- 22.
2- بحار الأنوار: ج8 ص252 ب24.
3- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: ج1 ص66 باب العتاب.
4- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: ج1 ص66 باب العتاب، والتنبيه: ج1 ص301 في صفة المساءلة.
5- نهج البلاغة، الخطب: 183 ومن خطبة له (علیه السلام) في قدرة الله وفي فضل القرآن وفي الوصية بتقوى الله تعالى.

..............................

وعن إسحاق بن عمار الصيرفي، عن أبي الحسن موسى بن جعفر (علیه السلام) - في حديث طويل - يقول فيه: «يا إسحاق، إن في النار لوادياً يقال له: سقر، لم يتنفس منذ خلقه الله، لو أذن الله عزوجل له في التنفس بقدر مخيط لأحرق ما على وجه الأرض، وإن أهل النار ليتعوذون من حر ذلك الوادي ونتنه وقذره وما أعد الله فيه لأهله، وإن في ذلك الوادي لجبلاً يتعوذ جميع أهل ذلك الوادي من حر ذلكالجبل ونتنه وقذره و ما أعد الله فيه لأهله، وإن في ذلك الجبل لشعباً يتعوذ جميع أهل ذلك الجبل من حر ذلك الشعب ونتنه وقذره وما أعد الله فيه لأهله، وإن في ذلك الشعب لقليباً يتعوذ أهل ذلك الشعب من حر ذلك القليب ونتنه وقذره وما أعد الله فيه لأهله، وإن في ذلك القليب لحية يتعوذ جميع أهل ذلك القليب من خبث تلك الحية ونتنها وقذرها وما أعد الله في أنيابها من السم لأهلها، وإن في جوف تلك الحية لسبعة صناديق فيها خمسة من الأمم السالفة واثنان من هذه الأمة». قال: قلت: جعلت فداك، ومن الخمسة ومن الاثنان؟. قال: «وأما الخمسة: فقابيل الذي قتل هابيل، ونمرود الذي حاج إبراهيم في ربه فقال: أنا أحيي وأميت، وفرعون الذي قال: أنا ربكم الأعلى، ويهود الذي هوّد اليهود، وبولس الذي نصّر النصارى، ومن هذه الأمة أعرابيان»(1).

قال العلامة المجلسي: (وإنما سماهما بذلك لأنهما لم يؤمنا قط)(2).

ص: 82


1- الخصال: ج2 ص398 الصناديق السبعة في النار ح106.
2- بحار الأنوار: ج8 ص311 ب24.

..............................

شنار جهنم

مسألة: يستفاد من كلامها (علیها السلام) أن من عذاب جهنم (الشنار)، وهو من أنواع العقاب النفسي كما لا يخفى.

فإن الشنار يعني:العيب والعار، بل أقبح أنواع العيب.

أي: إن عيب غصب الخلافة وفدك وعاره يبقى إلى الأبد، لا في الدنيا فحسب، بل حتى في الآخرة، في المحشر وفي نار جهنم أيضاً حيث الخلود.

قولها (علیها السلام): «موسومة بغضب الجبار»، الوسم: العلامة التي يعرف بها الشيء، كعلامة تجعل على ظهر الحيوان أو مكان مّا من بدنه، فكأن هذه السلطة والخلافة المغتصبة وكذلك غصب فدك وسمتا بغضب الله سبحانه وتعالى.

والجبار: هو القاهر المسلط، وهذا هو المقصود لا من يجبر الكسر لعدم مناسبته للكلام وللغضب.

قال تعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (1).ومن أذكار السجود: «يَا رَبَّ الأَرْبَابِ، وَيَا مَلِكَ الْمُلُوكِ، وَيَا سَيِّدَ السَّادَاتِ، وَيَا جَبَّارَ الْجَبَابِرَةِ، وَيَا إِلَهَ الآلِهَةِ، صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ...»(2).

وفي الأدعية: «يَا اللَّهُ يَا قَاهِرُ، يَا اللَّهُ يَا جَبَّارُ»(3).

ص: 83


1- سورة الحشر: 23.
2- الكافي: ج3 ص323 باب السجود والتسبيح والدعاء فيه ح7.
3- من لا يحضره الفقيه: ج2 ص163 باب الدعاء في كل ليلة من العشر الأواخر من شهر رمضان ح2032.

..............................

و: «أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ له، مَلِكُ الْمُلُوكِ، وَسَيِّدُ السَّادَاتِ، وَجَبَّارُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ، الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ»(1).

قولها (علیها السلام): «موصولة بنار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة»، بيان للنار التي يوقدها الله سبحانه وتعالى، وأنها كيف تكون في الإيلام والإحراق.

أعاذنا الله من النار بشفاعة الصديقة فاطمة الزهراء (علیها السلام) وأبيها وبعلها وبنيها (صلوات الله عليهم أجمعين).ثم إن كلامها (علیها السلام) هذا من الأدلة الواضحة على أن ما فعلوه من أكبر الكبائر حيث الوعيد عليه بالنار الموقدة...

ص: 84


1- مستدرك الوسائل: ج6 ص30 ب19 ح6359.

فبعين الله ما تفعلون.

اشارة

-------------------------------------------

علم الله بالجزئيات

مسألة: ظاهر كلامها (علیها السلام) هذا، وظاهر الكثير من الأدلة النقلية وصريح العقل هو: إن علم الله سبحانه وتعالى هو علم تفصيلي بالكليات والجزئيات، لا أن العلم يتعلق بالجزئيات على الوجه الكلي فقط، كما ذهب إلى ذلك جمع من الفلاسفة، وتفصيل البحث في محله(1).

قال تعالى: وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (2).

وقال عزوجل: قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (3). وقال تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ (4).وقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5).

وقال تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ ونَجْوَاهُمْ وأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (6).

ص: 85


1- راجع موسوعة (الفقه): كتاب العقائد (المقدمة).
2- سورة الأنعام: 13.
3- سورة الأنبياء: 4.
4- سورة الزمر: 46.
5- سورة فاطر: 38.
6- سورة التوبة: 78.

..............................

وعن عبد الله بن مسكان، عن محمد بن مسلم، قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن قول الله عزوجل: يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (1)؟. قال: «السر ما كتمته في نفسك، وأخفى ما خطر ببالك ثم أنسيته»(2).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «إن الله علم لا جهل فيه، حياة لا موت فيه، نور لا ظلمة فيه»(3).

وعن العبد الصالح موسى بن جعفر (علیه السلام) قال: «علم الله لا يوصف اللهمنه بأين، ولا يوصف العلم من الله بكيف، ولا يفرد العلم من الله، ولا يبان الله منه، وليس بين الله وبين علمه حد»(4).

وعن أيوب بن نوح: أنه كتب إلى أبي الحسن (علیه السلام) يسأله عن الله عزوجل أكان يعلم الأشياء قبل أن خلق الأشياء وكونها، أو لم يعلم ذلك حتى خلقها وأراد خلقها وتكوينها فعلم ما خلق عند ما خلق وما كوّن عند ما كوّن؟. فوقع (علیه السلام) بخطه: «لم يزل الله عالما بالأشياء قبل أن يخلق الأشياء كعلمه بالأشياء بعد ما خلق الأشياء»(5). وعن حفص قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن قول الله عزوجل: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ (6)؟. قال: «علمه»(7).

ص: 86


1- سورة طه: 7.
2- معاني الأخبار: ص143 باب معنى السر وأخفى ح1.
3- التوحيد: ص137 ب10 ح11.
4- بحار الأنوار: ج4 ص86 ب2 ح22.
5- الكافي: ج1 ص107 باب صفات الذات ح4.
6- سورة البقرة: 255.
7- بحار الأنوار: ج4 ص89 ب2 ح27.

..............................

وفي (نهج البلاغة) من خطبة له (علیه السلام): «يَعْلَمُ عَجِيجَ الْوُحُوشِ فِي الْفَلَوَاتِ، وَمَعَاصِيَ الْعِبَادِ فِي الْخَلَوَاتِ، وَاخْتِلاَفَ النِّينَانِ فِي الْبِحَارِ الْغَامِرَاتِ،وَتَلاَطُمَ الْمَاءِ بِالرِّيَاحِ الْعَاصِفَاتِ»(1).

التذكير والردع

مسألة: يستحب تذكير الناس خاصة الظالمين منهم بأن ما يفعلونه فهو بعين الله، فإن ذلك - بالإضافة إلى كونه حقيقة تكوينية - يوجب الردع الأكثر، كما في عكسه بالنسبة إلى الأفعال الحسنة فإنه يوجب البعث والحث الأكثر، فالله سبحانه وتعالى يسمع كل صوت ويرى كل مرئي لا بالآلات كما هو واضح، ويعلم ما في الصدور كذلك، فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، سواء كان ظالماً لنفسه أم ظالماً للناس.

وعلمه لا تشوبه أدنى شائبة، فإنه علم حضوري كما قرر في محله.

قال تعالى: أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (2).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام) لما قُبضت فاطمة الزهراء (علیها السلام) ودفنها سراً وعفا على موضع قبرها، فحول وجهه إلى قبر رسول الله (صلی الله علیه و آله): «فبعين الله تدفن ابنتك سراً، وتُهضم حقاً، ويُمنعإرثها»(3).

قولها (علیها السلام): «فبعين الله ما تفعلون»، أي: إن الله سبحانه وتعالى يرى سوء أفعالكم وسوف يعاقبكم عليها بأشد العقاب وكفى به رقيباً وحسيباً.

ص: 87


1- نهج البلاغة، الخطب: 198 ومن خطبة له (علیه السلام) ينبه على إحاطة علم الله بالجزئيات.
2- سورة العلق: 14.
3- الكافي: ج1 ص459 باب مولد الزهراء فاطمة (علیها السلام) ح3.

«وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ» (1)

ولعل السبب في قولها (علیها السلام): «ما تفعلون» لا (ما تقولون) مع أن أقوالهم أيضاً كانت سيئة، كاذبة وخادعة ومضللة، هو أن وقع أفعالهم كان أكثر من وقع أقوالهم، وكانت أفعالهم أساس الانحراف، وأقوالهم عاملاً مساعداً لا العكس، ويمكن القول بأعمية الفعل من القول إلا إذا قيل بأنه خلاف الظاهر.

«وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ»(2).

للقوم أشد العذاب

مسألة: يستكشف من تطبيقها (علیها السلام) الآية على القوم أمران:أولهما: إنهم ظلمة جائرون.

وثانيهما: إن لهم في الآخرة أشد العذاب، وسيعلمون أي منقلب ينقلبون.

ولا يخفى التناسب بين ذكرها (علیها السلام) هذه الآية وبين آية: «أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ»(3).

ومن هنا ورد في زيارة علي أمير المؤمنين (علیه السلام): «السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا وَلِيَّ اللَّهِ، أَنْتَ أَوَّلُ مَظْلُومٍ وَأَوَّلُ مَنْ غُصِبَ حَقُّهُ، صَبَرْتَ وَاحْتَسَبْتَ حَتَّى أَتَاكَ الْيَقِينُ، وَأَشْهَدُ أَنَّكَ لَقِيتَ اللَّهَ عَزَّوَجَلَّ وَأَنْتَ شَهِيدٌ، عَذَّبَ اللَّهُ قَاتِلَكَ بِأَن-ْ-وَاعِ

ص: 88


1- سورة الشعراء: 227.
2- سورة الشعراء: 227.
3- سورة آل عمران: 144.

..............................

الْعَذَابِ، وَجَدَّدَ عَلَيْهِ الْعَذَابَ، جِئْتُكَ عَارِفاً بِحَقِّكَ، مُسْتَبْصِراً بِشَأْنِكَ، مُعَادِياً لأَعْدَائِكَ وَمَنْ ظَلَمَكَ، أَلْقَى عَلَى ذَلِكَ رَبِّي إِنْ شَاءَ اللَّهُ»(1).

وفي زيارة أخرى له (علیه السلام) تقول: «وَأَشْهَدُ أَنَّكَ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ، وَشَاهِدُهُ عَلَى عِبَادِهِ، وَأَمِينُهُ عَلَى عِلْمِهِ، وَخَازِنُ سِرِّهِ، وَمَوْضِعُ حِكْمَتِهِ، وَأَخُو رَسُولِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ دَعْوَتَكُمْ حَقٌّ، وَكُلَّ دَاعٍ مَنْصُوبٍدُونَكُمْ بَاطِلٌ مَدْحُوضٌ، أَنْتَ أَوَّلُ مَظْلُومٍ، وَأَوَّلُ مَغْصُوبٍ حَقُّهُ، فَصَبَرْتَ وَاحْتَسَبْتَ، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ ظَلَمَكَ وَتَقَدَّمَ عَلَيْكَ وَسَدَّ عَنْكَ لَعْناً كَثِيراً، يَلْعَنُهُمْ بِهِ كُلُّ مَلَكٍ مُقَرَّبٍ، وَكُلُّ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، وَكُلُّ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ مُمْتَحَنٍ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى رُوحِكَ وَبَدَنِكَ»(2).

وقال النبي (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام): «يا علي، أنت المظلوم بعدي، من ظلمك فقد ظلمني، ومن أنصفك فقد أنصفني، ومن جحدك فقد جحدني، ومن والاك فقد والاني، ومن عاداك فقد عاداني، ومن أطاعك فقد أطاعني، ومن عصاك فقد عصاني»(3). وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): « يا علي، إن الله تعالى أمرني أن أتخذك أخاً ووصياً، فأنت أخي ووصيي وخليفتي على أهلي في حياتي وبعد موتي، من اتبعك فقد تبعني، ومن تخلف عنك فقد تخلف عني، ومن كفر بك فقد كفر بي، ومن ظلمك فقد ظلمني»(4).

ص: 89


1- من لا يحضره الفقيه: ج2 ص587 زيارة قبر أمير المؤمنين (علیه السلام) ح3196.
2- تهذيب الأحكام: ج6 ص29 زيارة أخرى ح4.
3- بحار الأنوار: ج27 ص61 ب1 ضمن ح21.
4- الأمالي للطوسي: ص200 المجلس7 ح341.

..............................

القوم قد ظلموها

مسألة: يستحب بيان أن القوم قد ظلموا الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (علیها السلام) حيث قالت (علیها السلام): «وسيعلم الذي ظلموا...».

وقد يجب ذلك، وكل من المستحب والواجب في مورده.

وإنما قال سبحانه: «سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا»(1) بصيغة الاستقبال؛ لأن علمهم بمنقلبهم يكون استقبالياً في الغالب(2) والسين لسرعة ذلك، فقد قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ»(3) بخلاف (سوف) الدالة على المستقبل البعيد على ما ذكره الأدباء وأهل اللغة.

ثم إن السرعة على أحد وجهين: إما بلحاظ قياس العمر كله إلى مجمل الماضي والمستقبل فلا يعدو العمر (الساعة) بالقياس، أو بلحاظ أنواع الحساب والعقاب الأعم من الدنيوي والأخروي، والأول منه حال في بعض صورهكما سيأتي(4).

عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: دخلت فاطمة (علیها السلام) على رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو في سكرات الموت فانكبت عليه تبكي، ففتح (صلی الله علیه و آله) عينه وأفاق ثم قال (صلی الله علیه و آله): «يا بنية، أنتِ المظلومة بعدي، وأنتِ المستضعفة بعدي،فمن آذاكِ فقد

ص: 90


1- سورة الشعراء: 227.
2- أو يقال: إن ما سيعلمونه هو (المنقلب) وهذا ما يجهله كلهم الآن، بالإضافة إلى أن (العلم) درجات، وعلم اليقين ليس موجوداً حتى للواحد منهم فالكلية صادقة.
3- سورة آل عمران: 199، سورة المائدة: 4، سورة إبراهيم: 51، سورة غافر: 17.
4- حيث سيذكر الإمام المؤلف (قدس سره) مجموعة من المحاكم والتي منها محكمة النفس.

..............................

آذاني، ومن غاظكِ فقد غاظني، ومن سركِ فقد سرني، ومن بركِ فقد برني، ومن جفاكِ فقد جفاني، ومن وصلكِ فقد وصلني، ومن قطعكِ فقد قطعني، ومن أنصفكِ فقد أنصفني، ومن ظلمكِ فقد ظلمني؛ لأنكِ مني وأنا منك، وأنتِ بضعة مني وروحي التي بين جنبي» - ثم قال (صلی الله علیه و آله): - «إلى الله أشكو ظالميكِ من أمتي»(1).

تهديد الظالم

مسألة: ينبغي تهديد الظالم بوخيمالعاقبة التي تنتظره كما صنعت الصديقة الطاهرة (علیها السلام).

وقد يجب على ما ذكرناه في البنود السابقة، وكذلك في عكسه وهو الفاعل للحسن حيث حثه بحسن العاقبة.

وفي الحديث: «إن لله سبحانه وتعالى ملكاً ينادي كل يوم قائلاً: يا فاعل الخير أكثر، ويا فاعل الشر أقصر»(2).

وقال أبو عبد الله (علیه السلام): «أقصر نفسك عما يضرها من قبل أن تفارقك، واسعَ في فكاكها كما تسعى في طلب معيشتك؛ فإن نفسك رهينة بعملك»(3).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «بئس الزاد إلى المعاد العدوان على العباد»(4).

ص: 91


1- كشف الغمة: ج1 ص497- 498 فاطمة (علیها السلام).
2- الكافي: ج4 ص42 باب الإنفاق ح1، وفيه: عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «إن الشمس لتطلع ومعها أربعة أملاك، ملك ينادي: يا صاحب الخير أتم وأبشر، وملك ينادي: يا صاحب الشر انزع وأقصر،... ».
3- وسائل الشيعة: ج15 ص297 ب39 ح20560.
4- نهج البلاغة: قصار الحكم 221.

..............................

وقال (علیه السلام): «يوم المظلوم على الظالم أشد من يوم الظالم علىالمظلوم»(1).

وعن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: «سيعلم الظالمون حظ من نقصوا، إن الظالم ينتظر اللعن والعقاب, والمظلوم ينتظر النصر والثواب»(2).

وقال (صلی الله علیه و آله): «لا تنال شفاعتي ذا سلطان جائر غشوم»(3).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «ابعدوا عن الظلم، فإنه أعظم الجرائم وأكبر المآثم»(4).

وقال(علیه السلام): «ظلم المرء في الدنيا عنوان شقائه في الآخرة»(5).

وقال(علیه السلام): «هيهات أن ينجو الظالم من أليم عذاب الله وعظيم سطواته»(6).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إياكم والظلم، فإنه يخرب قلوبكم»(7).ثم إن تهديد الظالم على أنواع، ومنها تهديده على رؤوس الأشهاد، فإنه يوجب فضحه أيضاً، كما قامت بذلك الصديقة الطاهرة (علیها السلام).

ص: 92


1- نهج البلاغة: قصار الحكم 241.
2- مستدرك الوسائل: ج12 ص99 ب77 ح13627.
3- مستدرك الوسائل: ج12 ص99 ب77 ضمن ح13627.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: ص455 ق6 ب5 ف1 ذم الظلم ح10382.
5- مستدرك الوسائل: ج12 ص100 ب77 ضمن ح13629.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: ص457 ق6 ب5 ف1 الظلم يوجب النار ح10442.
7- صحيفة الرضا (علیه السلام): ص48 متن الصحيفة ح32.

المحاكم التسعة

مسألة: يستفاد من مجموع الروايات أن المحاكم تسعة.

فقولها (علیها السلام): «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ»(1)، وهي آخر آية في سورة الشعراء بمعنى: إن الذين ظلموا ينقلبون من هذه الدنيا إلى الخسران والعذاب، أو المراد الأعم من الآخرة؛ لأن الإنسان يجُازى في الدنيا كما يجُازى في الآخرة، فالظالم ينقلب في الدنيا إلى سوء المنقلب، بينما المحسن ينقلب إلى حسن المنقلب، كما قال سبحانه:«إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَِنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ»(2).

وقد تحقق أن المحاكم التي يجُازى فيها الإنسان هي:

1:محكمة النفس.

2:محكمة البدن.3:محكمة الطبيعة.

4:محكمة المجتمع.

5:محكمة القضاء.

6:محكمة التاريخ.

7:محكمة القبر.

8:محكمة المحشر.

9:محكمة النار أو الجنة.

حيث يجزى المسيء في النهاية بنار جهنم.

ص: 93


1- سورة الشعراء: 227.
2- سورة الإسراء: 7.

..............................

وبعكس ذلك إذا كان محسناً، قال سبحانه: «وَأَنْ لَيْسَ لِلإِْنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفى»(1)، ذلك أن جزاء الدنيا جزاء غير أوفى، وجزاء الآخرة هو الجزاء الأوفى فقط، سواء بالنسبة إلى المحسنين أو بالنسبة إلى المسيئين.

ويمكن لمس هذه المحاكم التسعة بالنسبة إلى مغتصبي الخلافة بوضوح في بعضها، وبالتأمل في بعضها الآخر(2).

في (تفسير العياشي): عن الثمالي، عن علي بن الحسين (علیه السلام) قال:«ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: من جحد إماماً من الله، أو ادعى إماماً من غير الله، أو زعم أن لفلان وفلان في الإسلام نصيباً»(3). وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «من ادعى الإمامة وليس بإمام فقد افترى على الله وعلى رسوله وعلينا»(4)

وقال أبو عبد الله (علیه السلام) في قول الله عزوجل: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (5)، قال: «من زعم أنه إمام وليس بإمام»(6).

ص: 94


1- سورة النجم: 39-41.
2- قال الأول: (أقيلوني ولست بخيركم)، حيث يكشف هذا التصريح وأشباهه عن جانب من محكمة النفس، وقال الثاني: (النار ولا العار) إلى غير ذلك.
3- تفسير العياشي: ج1 ص178 من سورة آل عمران ح65.
4- ثواب الأعمال: ص214 عقاب من ادعى الإمامة وليس بإمام.
5- سورة الزمر: 60.
6- الغيبة للنعماني: ص111 ب5 ح1.

وأنا ابنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فاعملوا إنا عاملون، وانتظروا إنا منتظرون.

اشارة

-------------------------------------------

الإنذار عام

مسألة: إنذار الصديقة الطاهرة (علیها السلام) لمن غصب الخلافة ورضيبه لايختص بمن كان في المدينة آنذاك، بل يشمل الأجيال اللاحقة أيضاً في مختلف البقاع، وذلك لعموم الضمير(1) أو للملاك.

ثم إنه ليس الإنذار خاصاً بالظالم، بل كذلك كل عاص رضي به، بل الإنذار لمطلق المعصية، فإن العاصي يعرّض نفسه للعاقبة السيئة، وإن كان ظلم الغير من أشد المحرمات التي عاقبتها أسوء من ظلم الإنسان نفسه إذا ترك صلاة أو صوماً أو شرب خمراً أو ما أشبه ذلك.

أما ظلم الصديقة الطاهرة (علیها السلام) وإيذاؤها فأكبر الكبائر التي يترتب عليه العذاب الشديد، وقد قالت (علیها السلام): «بين يدي عذاب شديد».

بين العمل والانتظار

مسألة: قد يكون العمل واجباً والانتظار مستحباً، وقد يكونان واجبين، وقد يقال: الانتظار إن قابله اليأس من رَوح الله وجب وإلا استحب في الجملة، فتأمل. هذا في هذا الجانب(2)..

ص: 95


1- المراد من الضمير هو (لكم) وإنذارها هو المستفاد من مجموع الجملة وإن كان (لكم) متعلقاً ب- (نذير) صفةً للرسول (صلی الله علیه و آله).
2- أي: (إنا عاملون - إنا منتظرون).

وعكسه في عكسه(1).

وقد ورد في الحديث: «أفضل أعمال أمتي انتظار فرج الله تعالى»(2)، وهو عام يشمل كل فرج مستقبلي، سواء كان ظهور الإمام المهدي (صلوات الله عليه) - وهو أظهر المصاديق - أم غير ذلك مما ينتظره المؤمن من الفرج والخيرات، ورحمة الله ورضوانه، وما أشبه ذلك. قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «انتظروا الفرج ولاتيأسوا من روح الله، فإن أحب الأعمال إلى الله عزوجل انتظار الفرج»(3).

وروي عن الإمام الرضا (علیه السلام) أنه قال:«ما أحسن الصبر وانتظار الفرج، أما سمعت قول العبد الصالح: وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (4)»(5).

وقال علي بن الحسين (علیه السلام): «انتظار الفرج من أعظم الفرج»(6)

وعن أبي خالد الكابلي، عن علي بن الحسين (علیه السلام) قال:«تمتدالغيبة بولي الله الثاني عشر من أوصياء رسول الله والأئمة بعده. يا أبا خالد، إن أهل زمان غيبته القائلين بإمامته والمنتظرين لظهوره أفضل أهل كل زمان؛ لأن الله تعالى ذكره أعطاهم من العقول والأفهام والمعرفة ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة، وجعلهم في ذلك الزمان بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله(صلی الله علیه و آله) بالسيف، أولئك المخلصون حقاً وشيعتنا صدقاً، والدعاة إلى دين الله سراً وجهراً»(7).

ص: 96


1- أي: (اعملوا - انتظروا).
2- صحيفة الرضا (علیه السلام): ص54 متن الصحيفة ح62.
3- بحار الأنوار: ج52 ص123 ب22 ح7.
4- سورة هود: 93.
5- بحار الأنوار: ج12 ص379 ب11.
6- كمال الدين: ج1 ص320 ب31 ح2.
7- الاحتجاج: ج2 ص318 احتجاجه (علیه السلام) في أشياء شتى من علوم الدين.

..............................

الجهات الذاتية والعرضية

مسألة: يتأكد الوجوب والاستحباب للإنذار والتبشير في من جمع (الذاتية) و(الامتداد) معاً، فإن اجتماع الجهات الذاتية والعرضية في النذير والبشير يكون سبباً لقوة التأثير، ولذلك كان الانتساب(1) هاهنا في كلامها (علیها السلام) أبلغ في التأثير، وأشد في الإنذار، وأقوى في الحجة، وأدحضلتكذيب المكذبين، فكما أنذر أبي (صلی الله علیه و آله) أنذرتكم أنا، فإن العذاب في المستقبل شديد، واللازم على الإنسان أن يتجنب تلك العقوبات التي لا طاقة له بها.

وربما يشير هذا الانتساب إلى وجه آخر، أي كما أنهم كذبوا أباها (صلی الله علیه و آله) فإنهم سيكذبونها (علیها السلام)، وكما عارضوه (صلی الله علیه و آله) سيعارضونها (علیها السلام)، وكما آذوه (صلی الله علیه و آله) سيؤذونها (علیها السلام).

الاستمرارية

مسألة: يجب الاستمرار على الطريقة التي أمر الله بها، حيث يستفاد من قولها (علیها السلام): «إنا عاملون» أنها (صلوات الله عليها) والإمام علي (علیه السلام) لم ينقطعا عن العمل، بل استمرا في عملهما للدفاع عن الإسلام والكتاب والسنة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومقارعة الظالم قدر المستطاع.

والوجوب هنا في موارده، كما أن الاستحباب في موارده أيضاً.

قولها (علیها السلام): «فاعملوا إنا عاملون» تهديد لهم أي: إنكم تعملون كما

ص: 97


1- أي ثبوتاً وإثباتا.

..............................

يروق لكم فتعاقَبون عليها، وإنا نعمل حسب الشريعة، فنرى ماذا يصيبكم ويصيبنا؟.

قولها (علیها السلام): «وانتظروا إنا منتظرون»:

هذا أيضاً تهديد، بمعنى أنه عليكم أن تنتظروا غِبّ أعمالكم، كما ننتظر نتائج أعمالنا الصالحة. وهو اقتباس من القرآن الحكيم في سورة هود حيث قال سبحانه: «وَقُلْ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ»(1)، وفيه إشارة واضحة إلى عدم إيمانهم، كما سيأتي.

ومن غير البعيد أنها (علیها السلام) أرادت من (إنا منتظرون) كل مصاديق الانتظار(2).

إنهم غير مؤمنين

مسألة: يستفاد من استشهاد الصديقة الطاهرة (علیها السلام) بهذه الآية أنها (علیها السلام) كانت تراهم غيرمؤمنين، وهم كذلك دون ريب، إضافة إلى ما سيأتي من كاشفية العمل عن الشاكلة.

فعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «من ادعى الإمامة وليس من أهلها فهو كافر»(3).

وقد سبق أن الكفر هنا كفر عملي.

ص: 98


1- سورة هود: 121- 122.
2- أي: انتظار الفرج الجزئي والكلي، والآني والمستقبلي، والدنيوي والأخروي، فيشمل مثل: ظهور الإمام (علیه السلام)، وقبله الانقياد للإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) بعد عثمان.
3- الكافي: ج1 ص342 باب من ادعى الإمامة وليس لها بأهل ح2.

..............................

وقال أبو جعفر (علیه السلام): «من ادعى مقامنا - يعني: الإمامة - فهو كافر، أو قال: مشرك»(1).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من نازع علياً الخلافة بعدي فهو كافر»(2).

وقال (صلی الله علیه و آله): «من ناصب علياً للخلافة بعدي فهو كافر»(3).

وفي الروايات عبر عنهما بالأعرابيان، قال العلامة المجلسي (رحمة الله): (وإنما سماهما بذلك لأنهمالم يؤمنا قط) (4). وعن الثمالي، عن علي بن الحسين (علیه السلام) قال: قلت له: أسألك عن فلان وفلان؟. قال: «فعليهما لعنة الله بلعناته كلها، ماتا والله وهما كافران مشركان بالله العظيم»(5).

وفي (تفسير القمي): في قوله تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ (6)، قال: يحملون آثامهم، يعني: الذين غصبوا أمير المؤمنين (علیه السلام) وآثام كل من اقتدى بهم، وهو قول الصادق (علیه السلام):

«واللّه ما أهريقت محجمة من دم، ولا قرع عصا بعصا، ولا غصب فرج حرام، ولا أخذ مال من غير حله، إلا ووزر ذلك في أعناقهما من غير أن ينقص من أوزار العاملين شي ء»(7).

ص: 99


1- بحار الأنوار: ج25 ص114 ب3 ح16.
2- غوالي اللآلئ: ج4 ص85 الجملة الثانية في الأحاديث المتعلقة بالعلم وأهله وحامليه ح96.
3- الصراط المستقيم: ج2 ص28 تتمة ب9.
4- بحار الأنوار: ج8 ص311 ب24.
5- بصائر الدرجات: ص269-270 ب3 ح2.
6- سورة النحل: 25.
7- تفسير القمي: ج1 ص383 سورة النحل.

..............................

وفي تفسير قوله تعالى: « يَوْمَتُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ (1)، فإنها كناية عن الذين غصبوا آل محمد حقهم يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ (2)، يعني: في أمير المؤمنين (علیه السلام)، وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ (3)، وهما رجلان، والسادة والكبراء هما أول من بدأ بظلمهم وغصبهم، وقوله: فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ أي: طريق الجنة، والسبيل أمير المؤمنين (علیه السلام) ثم يقولون: رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (4)»(5).

وفي تفسير قوله تعالى: « الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (6)، نزلت في الذين ارتدوا بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) وغصبوا أهل بيته حقهم، وصدوا عن أمير المؤمنين (علیه السلام)، وعن ولاية الأئمة (علیهم السلام) أَضَلَّأَعْمَالَهُمْ أي: أبطل ما كان تقدم منهم مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) من الجهاد والنصرة»(7).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام): «في قوله: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبَارِهِمْ (8) عن الإيمان، بتركهم ولاية أمير المؤمنين (علیه السلام)»(9).

ص: 100


1- سورة الأحزاب: 66.
2- سورة الأحزاب: 66.
3- سورة الأحزاب: 67.
4- سورة الأحزاب: 68.
5- تفسير القمي: ج2 ص197 نزول آية الحجاب.
6- سورة محمد: 1.
7- تفسير القمي: ج2 ص300 سورة محمد.
8- سورة محمد: 25.
9- بحار الأنوار: ج30 ص162 ب20 ح22.

..............................

وعن أبي عبد الله (علیه السلام): «في قوله تعالى: حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ (1)يعني أمير المؤمنين(علیه السلام) وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ (2) الأول والثاني والثالث»(3). قال العلامة المجلسي (رحمة الله): (تفسير الإيمان بأمير المؤمنين (علیه السلام) لكونولايته (علیه السلام) من أصوله وكماله فيه، وكونه مروجه ومؤسسه ومبينه غير بعيد، وكذا التعبير عن الثلاثة بالثلاث لكونهم أصلها ومنشأها ومنبتها وكمالها فيهم، وكونهم سبباً لصدورها عن الناس إلى يوم القيامة)(4).

العمل والشاكلة

مسألة: العمل يكشف عن شاكلة الإنسان(5) عادة، كما قال تعالى: «قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً»(6)، ومن ملاكات الجزاء عقاباً وثواباً هو الشاكلة والنية، وفرعهما العمل.

وإنما ينوي كل ما ناسب طينته ويقتضيه جبلته ثم يعمل وفق شاكلته.

والشاكلة: الطريقة، وشاكلة الإنسان: شكله وناحيته وطريقته.

وورد في تفسير الشاكلة: النية، وذلك إيذان بأن النية تابعة لحالة الإنسان وطريقته.

ص: 101


1- سورة الحجرات: 7.
2- سورة الحجرات: 7.
3- الكافي: ج1 ص426 باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية ح71.
4- بحار الأنوار: ج30 ص172 ب20.
5- الشاكلة: هي الطبيعة والنفسية والحالة المتجذرة، وبعبارة أخرى التركيبة النفسية والفكرية للإنسان.
6- سورة الإسراء: 84.

..............................

قال في (مجمع البيان): (أي كل واحد من المؤمن والكافر يعمل على طبيعته وخليقته التي تخلق بها)(1).

وعن أبي هاشم قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن الخلود في الجنة والنار؟. فقال: «إنما خلد أهل النار في النار؛ لأن نياتهم كانت في الدنيا أن لو خلدوا فيها أن يعصوا الله أبداً، وإنما خلد أهل الجنة في الجنة؛ لأن نياتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا الله أبداً، فبالنيات خلد هؤلاء وهؤلاء - ثم تلا قوله -: قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ (2) قال: على نيته»(3).

وفي التفسير: قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ (4) قال: على نيته فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً (5)، عن أبي الحسن الرضا (علیه السلام) قال:«إذا كان يوم القيامة أوقف المؤمن بين يديه فيكون هو الذي يتولى حسابه،فيعرض عليه عمله فينظر في صحيفته، فأول ما يرى سيئاته فيتغير لذلك لونه وترتعش فرائصه وتفزع نفسه، ثم يرى حسناته فتقر عينه وتسر نفسه وتفرح روحه، ثم ينظر إلى ما أعطاه الله من الثواب فيشتد فرحه ثم يقول الله للملائكة: هلموا الصحف التي فيها الأعمال التي لم يعملوها، - قال - فيقرؤونها ثم يقولون: وعزتك إنك لتعلم أنا لم نعمل منها شيئاً. فيقول: صدقتم نويتموها فكتبناها لكم ثم يثابون عليها»(6).

ص: 102


1- تفسير مجمع البيان: ج6 ص286- 287 سورة الإسراء.
2- سورة الإسراء: 84.
3- تفسير العياشي: ج2 ص316 ومن سورة بني إسرائيل ح158.
4- سورة الإسراء: 84.
5- سورة الإسراء: 84.
6- تفسير القمي: ج2 ص26 كيفية خلقة العرش.

..............................

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) في قول الله عزوجل: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (1)، قال: «ليس يعني أكثر عملاً، ولكن أصوبكم عملاً، وإنما الإصابة خشية الله والنية الصادقة والحسنة - ثم قال: - الإبقاء على العمل حتى يخلص أشد من العمل، والعمل الخالص الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلا الله عزوجل، والنية أفضل من العمل ألا وإن النية هي العمل - ثم تلا قوله عزوجل -: قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُعَلَى شَاكِلَتِهِ (2)، يعني: على نيته»(3).

وقال الإمام الجواد (علیه السلام): «فساد الأخلاق بمعاشرة السفهاء، وصلاح الأخلاق بمنافسة العقلاء، والخلق أشكال ف- كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ (4)، والناس إخوان فمن كانت إخوته في غير ذات الله فإنها تحوز عداوة، وذلك قوله تعالى: الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (5)»(6).

ص: 103


1- سورة هود: 7، سورة الملك: 2.
2- سورة الإسراء: 84.
3- الكافي: ج2 ص16 باب الإخلاص ح4.
4- سورة الإسراء: 84.
5- سورة الزخرف: 67.
6- كشف الغمة: ج2 ص349 وأما مناقبه.

فأجابها أبو بكر عبد الله بن عثمان

اشارة

-------------------------------------------

اسم الخصم وخصوصياته

مسألة: من الراجح ذكر اسم الخصم أو كنيته أو خصوصياته أو كلها حتى لا يلتبس الأمر فيما بعد، ويستثنى من ذلك موارد التقية وما أشبه.

قال تعالى: وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (1).

وقال سبحانه: ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلاَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (2).

وقال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلاَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (3).

وقال سبحانه: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَإِنَّهُ طَغَى (4).

وقال تعالى: وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (5).

وقال سبحانه: إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (6).

ص: 104


1- سورة البقرة: 250.
2- سورة يونس: 75.
3- سورة هود: 96- 97.
4- سورة طه: 43.
5- سورة طه: 79.
6- سورة القصص: 8.

..............................

وقال تعالى: وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (1).

ومن المعلوم أن هذه الكلمة وهي: (فأجابها أبو بكر ..الخ) ليست من تعبير الصديقة الطاهرة (عليها الصلاة والسلام)، بل من الراوي، فيستند في ذلك إلى كون راوي الخطبة هو أحد المعصومين (علیهم السلام) - على بعض الأسناد - وكذلك السيدة زينب (علیها السلام) وذلك كاف في الحجية واستنباط الحكم الشرعي منها (2)، إضافة إلى الاعتضاد بالقرائن العامة.

ص: 105


1- سورة العنكبوت: 39.
2- راجع كتاب (السيدة زينب (علیها السلام) عالمة غير معلمة) للإمام الشيرازي الراحل (قدس سره)حيث ذكر فيه سماحته: أن قول السيدة زينب (علیها السلام) حجة يمكن التمسك به في استنباط الحكم الشرعي.

وقال: يا بنت رسول الله، لقد كان أبوكِ بالمؤمنين عطوفاً كريماً، ...

اشارة

-------------------------------------------

وقال: يا بنت رسول الله، لقد كان أبوكِ بالمؤمنين عطوفاً كريماً، رؤوفاً رحيماً، وعلى الكافرين عذاباً أليماً، وعقاباً عظيماً.

إن عزوناه وجدناه أباكِ دون النساء، وأخا إلْفَكِ(1) دون الأخلاء(2)، آثره(3) على كل حميم(4)، وساعده في كل أمر جسيم(5).

اعترافات من الخصم

مقتضى السياق عود الضمير إلى ما عاد ضمير الفقرة السابقة إليه، إي: إن الرسول (صلی الله علیه و آله) آثره - أي علياً (علیه السلام) -، والرسول (صلی الله علیه و آله) ساعده في كل أمر جسيم، وهذه شهادة كبرى من معارضي الإمام (علیه السلام).

وربما يقال: بعود الضمير إلى الإمام (علیه السلام)، أي: إن الإمام (علیه السلام) ساعد الرسول (صلی الله علیه و آله) في كل أمر جسيم.وهذه الفقرات هي اعترافات من خصم الصديقة الطاهرة (علیها السلام) بفضلها وفضل بعلها الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام).

ص: 106


1- إلفكِ يراد به زوجك، فإن الإلف بكسر الهمز بمعنى الأليف المألوف، والزوج إلف الزوجة وكذا العكس، وفي بعض النسخ: (ابن عمكِ) بدل إلفكِ.
2- الأخلاء: جمع خليل، وفي بعض النسخ (الرجال) بدل الأخلاء.
3- آثره: أي اختاره.
4- الحميم: أي القريب.
5- الجسيم: أي العظيم.

..............................

قال الشاعر:

ومليحة شهدت لها ضراتها *** والحسن ما شهدت به الضراء

ومناقب شهد العدو بفضلها *** والفضل ما شهدت به الأعداء

وقال آخر:

شهد الأنام بفضله حتى العدا *** والفضل ما شهدت به الأعداء

تلألأت أنواره لذوي النهى *** وتزحزحت عن غيها الظلماء

وقال ثالث:

يروي مناقبهم لنا أعداؤهم *** لا فضل إلا ما رواه حسود

وإذا رواها مبغضوهم لم يكن *** للعالمين على الولاة محيد

ص: 107

لا يحبكم إلا سعيد ، ولا يبغضكم إلا شقي ...

اشارة

-------------------------------------------

لا يحبكم إلا سعيد(1)، ولا يبغضكم إلا شقي بعيد(2)، فأنتم عترة رسول الله الطيبون، والخيرة المنتجبون، على الخير أدلتنا، وإلى الجنة مسالكنا.

مكانة العترة الطاهرة (علیهم السلام) عند المسلمين

يستظهر من هذه العبارات: (لا يحبكم إلا سعيد ..) أن هذه الأمور كانت من المسلّمات عند عامة المسلمين، وإلا لما أطلقه دون أن يشفعه بدليل، بل لما ذكره أصلاً، فالكل يعلم بأن السعيد هو الذي يحب العترة الطاهرة (علیهم السلام)، وأن من أبغضهم فهو شقي بعيد، وأنهم (علیهم السلام) العترة الطيبة والخيرة المنتجبة، وهم أدلة الناس على الخير وقادتهم إلى الجنة.

فالذين غصبوا الخلافة وفدك كانوا على علمٍ تام بمكانة علي وفاطمة (صلوات الله عليهما) ومع ذلك فعلوا ما فعلوا من الظلم والعدوان.

العلم والمعرفة

مسألة: (المعرفة والعلم) مما يتنجز به التكليف، ودرجات المعرفة والعلم مما يزيد في الجزاء والعقاب،فكلما ازدادت معرفة الإنسان بمكانة أهل البيت (علیهم السلام) كلما كان ظلمه لهم أقبح، وكلما كان الجزاء أشد، فكيف بمن يعرف أنهم (الخيرة المنتجبون)! وأنهم (على الخير أدلتنا)! وأنهم قادة الناس إلى الجنة! فيخالفهم ويغصب الخلافة منهم؟!.

ص: 108


1- وفي بعض النسخ: إلا العظيم السعادة.
2- وفي بعض النسخ: إلا الردي الولادة.

..............................

وهكذا الأمر بالنسبة إلى الثواب والجنة، فإن من الملاكات فيهما: العلم والمعرفة.

قال تعالى: وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقابِ (1).

وفي (تفسير القمي)، قال: قوله: مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ و هم الأئمة (علیهم السلام) إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلاَدِ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ أصحاب الأنبياء الذين تحزبوا وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ يعنيك يقتلوه وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ أي: خاصموا لِيُدْحِضُوا بِهِالْحَقَّ (2) أي: يبطلوه و يدفعوه(3).

ص: 109


1- سورة غافر: 5.
2- سورة غافر: 4- 5.
3- تفسير القمي: ج2 ص254- 255 سورة المؤمن.

وأنت يا خيرة النساء وابنة خيرة الأنبياء، صادقة في قولك،...

اشارة

-------------------------------------------

وأنت يا خيرة النساء وابنة خيرة الأنبياء، صادقة في قولك، سابقة في وفور عقلك، غير مردودة عن حقك، ولا مصدودة عن صدقك.

والله ما عدوت(1) رأي رسول الله (صلی الله علیه و آله) ولا عملت إلا بإذنه، والرائد(2) لا يكذب أهله، وإني أشهد الله وكفى به شهيداً، أني سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول(3): (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ذهباً ولا فضة ولا داراً ولا عقاراً، وإنما نورّث الكتاب والحكمة والعلم والنبوة(4)، وما كان لنا من طعمة فلولي الأمر(5) بعدنا أن يحكم فيه بحكمه).وقد جعلنا ما حاولته في الكراع(6) والسلاح يقاتل بها المسلون ويجاهدون الكفار ويجادلون المردة الفجار، وذلك بإجماع من المسلمين، لم أنفرد به وحدي ولم أستبد بما كان الرأي فيه عندي، وهذه حالي ومالي هي لك وبين يديك،

ص: 110


1- أي: ما تجاوزت.
2- الرائد: الذي يتقدم القوم ليبصر لهم الكلأ والماء.
3- يستفاد من قوله هذا أنه هو الوحيد الذي سمع رسول الله (صلی الله علیه و آله) هذا الحديث المختلق في آخره، وإلا فالمقام يقتضي أن يستشهد بكل من سمع هذا الحديث.
4- ربما يقال بصحة صدر الحديث فقط دون عجزه، فعندئذ تكون الحيلة والمكر أكبر، فيكون قد زاد ابن أبي قحافة على الحديث من نفسه: (وما كان لنا من طعمة فلولي الأمر بعدنا أن يحكم فيه بحكمه)، ليلتبس الأمر على الناس وإيقاعهم في الجهل وتبرير ما قام به من غصب فدك، ليرى الناس صدر الحديث صحيحاً فيتصورون صحة عجزه أيضاً.
5- ولا يخفى أن ولي الأمر بعد الرسول (صلی الله علیه و آله) هو الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام) حيث عيّنه رسول الله (صلی الله علیه و آله) بأمر من الله خليفة وولياً في يوم الغدير فقال (صلی الله علیه و آله): «من كنت مولاه فهذا علي مولاه» أما غيره فقد استولى على الخلافة غصباً وبقوة السيف، واجتماع جمع من الفسقة والفجرة الذين انقلبوا على أدبارهم.
6- الكراع: أي الخيل وربما مطلق الدواب.

لاتُزوى عنك ولا تدخّر دونك(1). وإنكِ أنتِ سيدة أمة أبيكِ، والشجرة الطيبة لبنيكِ، لا يُدفع مالكِ من فضلكِ، ولا يوضع من فرعكِ وأصلكِ(2)، حكمكِ نافذ فيما ملكت يداي، فهل ترين أن أخالف في ذلك أباك (صلی الله علیه و آله)؟.

من أنواع المغالطة

مسألة: المغالطة محرمة فيما إذا استلزمت إضاعة الحق وتبرير الظلم والتمويه على الناس.

ومن أنواع المغالطة: ذكر كلي أجنبي لا يرتبط بالمقام وتطبيقه على مصداق كلي آخر، ومنه الانتقال من مقدم إلى تالٍ لا تلازم بينهما.

وهذا ما صنعه ابن أبي قحافة.. حيث إن كون الرسول (صلی الله علیه و آله) بالمؤمنين عطوفاً كريماً ... الخ، لا يستلزم مصادرة حقه هو، فكيف يستلزم مصادرة حق ابنته الصديقة؟، وكونه (صلی الله علیه و آله) عطوفاً كريماً كلي له مصاديقه وليس من مصاديقه إلغاء حكم الله في الإرث أو النحلة كما هو واضح(3).

ثم إن كونه (صلی الله علیه و آله) عطوفاً كريماً على فرض انطباقه على المقام لا ربط له

ص: 111


1- هذه العبارات كلها عبارات حيل ومكر أراد بها إيقاع الناس في الشبهة، كأنه يقول: إني إنما أخذت فدك للنص الشرعي - المزعوم - أما أموالي الخاصة فهي تحت تصرفك! وذلك لأن المسلمين كانوا يعلمون بعظمة الصديقة الطاهرة (علیها السلام) ومكانتها (علیها السلام)، فلم يكن بإمكان أحد أن يكذبها صراحة، فعمدوا إلى أن يتخذوا أسلوباً شرعياً وكأنهم يعملون حسب الشريعة ويدافعون عن مصلحة المسلمين، ثم ماذا تعمل الصديقة الطاهرة (علیها السلام) بأمواله الخاصة وهي من طوت عن الدنيا كشحاً وسدلت دونها ثوباً، فسخت نفسها الطاهرة عنها بعدما شحت عليها نفوسهم.
2- أي: لا ينتقص ولا يحط من مكانتك، فلا يمكن إنكار فضل أصولك من الأجداد، وفروعك من الذرية الطاهرة.
3- إذ هل من الكرم تضييع حقوق الناس؟. وهل من الكرم نقض أحكام الله؟.

..............................

بأن يبذل غيره مما ملكه(1) وإن حاولتبرير ذلك في كلامه اللاحق.

كما لا ربط لهذا الكلام بغصب الخلافة ومخالفة النص الوارد عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) في تعيين أمير المؤمنين علي (علیه السلام) وصياً وخليفة من بعده.

قال تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لهمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (2).

وقال سبحانه: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (3). وقال تعالى: إِلاَّ بَلاَغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاَتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ له نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً»(4).

وفي (تفسير القمي): ( وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في ولاية علي (علیه السلام) فَإِنَّ له نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيها أَبَداً (5)، قال النبي (صلی الله علیه و آله): «يا علي، أنت قسيم النار تقول: هذا لي وهذا لكِ». قالت قريش: فمتىيكون ما تعدنا يا محمد من أمر علي والنار؟. فأنزل الله حَتَّى إِذا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ يعني: الموت والقيامة فَسَيَعْلَمُونَ يعني: فلاناً وفلاناً وفلاناً ومعاوية وعمرو بن العاص وأصحاب الضغائن من قريش مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (6)(7).

ص: 112


1- (غيره) أي أبو بكر (مما ملكه) أي مما ملكه الرسول (صلی الله علیه و آله).
2- سورة الأحزاب: 36.
3- سورة النساء: 14.
4- سورة الجن: 23.
5- سورة الجن: 23.
6- سورة الجن: 24.
7- تفسير القمي: ج2 ص389-390 سورة الجن.

..............................

من أنواع المكر

مسألة: يجب فضح أساليب الطغاة والظالمين، ومنها أنواع مكرهم وحيلهم وخداعهم، ومن أنواع المكر والتدليس: المجاراة والمسايرة وما يسمى اليوم بسياسة ركوب الموج.

فقد وجد ابن أبي قحافة أن أفضل طريقة للسيطرة على الوضع هو أن يجاري سيدة النساء (علیها السلام) في أسس كلامها ليستثمره في تكريس نتيجة معاكسة للحق والحقيقة، وليأخذ زمام الأمر بيده، فبدأ بالثناء على الرسول (صلی الله علیه و آله) وثنى بمدح الإمام علي (علیه السلام) وثلّث بذكر مزايا الصديقة الزهراء (علیها السلام)والعترة الطاهرة (علیهم السلام). والحيلة في ذلك أن يجده الناس شخصاً منصفاً معتدلاً حكيماً، فلايُكشف كيده في كذبه بتلك الرواية المجعولة وفي قضية فدك وغصب الخلافة!.

قال تعالى: وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (1).

وقال سبحانه: وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (2).

وبعبارة أخرى إن وصفه الرسول (صلی الله علیه و آله) ب- (عطوفاً كريما..) و(على الكافرين عذاباً أليما..) كان تمهيداً لما أراد تثبيته بعده من: (وقد جعلنا ما حاولته في الكراع والسلاح..).

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من كان مسلماً فلا يمكر ولا يخدع، فإني سمعت جبرئيل (علیه السلام) يقول: إن المكر والخديعة في النار»(3).

ص: 113


1- سورة نوح: 22.
2- سورة إبراهيم: 46.
3- الأمالي للصدوق: ص270 المجلس46 ح5.

..............................

وعن الرضا (علیه السلام)، عن آبائه (علیهم السلام)، قال: قال النبي (صلی الله علیه و آله): «ليس منا من غش مسلماَأو ضره أو ماكره»(1).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «يجيء كل غادر يوم القيامة بإمام مائل شدقه حتى يدخل النار، ويجيء كل ناكث بيعة إمام أجذم حتى يدخل النار»(2).

وعن الأصبغ بن نباتة، قال: قال أمير المؤمنين (علیه السلام) ذات يوم وهو يخطب على المنبر بالكوفة: «يا أيها الناس، لولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس، ألا إن لكل غدرة فجرة، ولكل فجرة كفرة، ألا وإن الغدر والفجور والخيانة في النار»(3).

السر وراء إقرار أهل الباطل

مسألة: الإقرار بالحق في القضايا الاعتقادية والشرعية واجب في الجملة وربما كان مستحباً، كل في مورده. ومنه ما ورد من التشهد بالشهادات الثلاث وسائر المعتقدات الحقة، وهو كثير في الأدعية والزيارات والصلوات وغيرها.

ثم إن للإقرار بالحق من أهل الباطلومن يعمل في الخندق المعارض للحق، ومن يقود الجبهة المقابلة للحق، أسباباً عديدة، نشير إلى بعضها:

منها: الضغط النفسي، فإن من يعادي الحق - وهو يعرفه - يعاني من آلام نفسية شديدة قد تجد بعض المتنفس لها عبر الإقرار بالحق، وقد يكون من ذلك

ص: 114


1- وسائل الشيعة: ج17 ص283- 284 ب86 ح22530.
2- الكافي: ج2 ص337 باب المكر والغدر والخديعة ح2.
3- الكافي: ج2 ص338 باب المكر والغدر والخديعة ح6.

..............................

ما قاله عمر: (كل الناس أفقه من عمر حتى المخدرات في الحجال)(1)..

و: (لولا علي لهلك عمر)(2)..

و: (لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن)(3).

وهكذا بالنسبة إلى إقرار معاويةبفضل أمير المؤمنين علي (عليه أفضل الصلاة والسلام) (4).

ص: 115


1- راجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج1 ص182 طرف من أخبار عمر، مجمع الزوائد للهيثمي: ج4 ص284 باب فيمن نوى ألا يؤدي صداق امرأته، كنز العمال: ج16 ص537 ح45796 وما بعده.
2- ينابيع المودة للقندوزي: ج3ص147 ب65، جواهر المطالب في مناقب الإمام علي (علیه السلام) لابن الدمشقي: ج1 ص195 ب30، ص296 ب47.
3- أنساب الأشراف للبلاذري: ص100 ح29، ينابيع المودة للقندوزي: ج1 ص227 ب14 ح58.
4- روي عن عبد الواحد بن علي بن العباس البزاز، رفعه إلى إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس قال: سأل رجل معاوية عن مسألة، فقال: سل عنها علي بن أبي طالب فإنه أعلم. قال: يا أمير، قولك فيها أحب إليَّ من قول علي. قال: بئس ما قلت به ولؤم ما جئت به، لقد كرهت رجلاً كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يغره العلم غراً، لقد قال له رسول الله (صلی الله علیه و آله): «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي»، ولقد كان عمر بن الخطاب يسأله فيأخذ عنه، ولقد شهدت عمر إذا أشكل عليه شي ء قال: ها هنا علي. قم لا أقام الله رجليك، ومحا اسمه من الديوان. بحار الأنوار: ج37 ص266 ب53 ح40. وعن الأصبغ بن نباتة، قال: دخل ضرار بن ضمرة النهشلي على معاوية بن أبي سفيان، قال له: صف لي علياً (علیه السلام)؟. قال: أ و تعفيني. فقال: لا بل صفه لي. فقال له ضرار: رحم الله علياً كان والله فينا كأحدنا ... قال: فبكى معاوية وقال: حسبك يا ضرار، كذلك كان والله علي رحم الله أبا الحسن. الأمالي للصدوق: ص624 المجلس91 ح2.

..............................

وكذلك إقرار عمرو بن العاص(1).

ص: 116


1- قال السيد حامد النقوي في كتاب (خلاصة عبقات الأنوار): ج4 ص202- 203: الخامس: القصيدة المنسوبة إلى ابن العاص. قال عمرو بن العاص في مدح أمير المؤمنين (علیه السلام) : هو النبأ العظيم وفلك نوح *** وباب الله وانقطع الخطاب في قصيدة نسبها إليه جماعة من علماء أهل السنة، منهم: أبو محمد الحسن بن أحمد بن يعقوب الهمداني اليمني في كتاب (الإكليل)، وجمال الدين المحدث الشيرازي في (تحفة الأحباء في مناقب آل العباء). قال أبو محمد الحسن بن أحمد بن يعقوب الهمداني اليمني: روي أن معاوية بن أبي سفيان قال يوماً لجلسائه: من قال في علي على ما فيه فله البدرة؟. فقال: كل منهم كلاماً غير موافق من شتم أمير المؤمنين إلا عمرو بن العاص فإنه قال أبياتاً اعتقدها وخالفها بفعاله: بآل محمد عرف الصواب *** وفي أبياتهم نزل الكتاب وهم حجج الإله على البرايا *** بهم وبجدهم لا يستراب ولاسيما أبي حسن علي *** له في المجد مرتبة تهاب إذا طلبت صوارمهم نفوساً *** فليس بها سوى نعم جواب طعام حسامه مهج الأعادي *** وفيض دم الرقاب لها شراب وضربته كبيعته بخم *** معاقدها من الناس الرقاب إذا لم تبر من أعدا علي *** فمالك في محبته ثواب هو البكّاء في المحراب ليلاً *** هو الضحاك إن آن الضراب هو النبأ العظيم وفلك نوح *** وباب الله وانقطع الجواب فأعطاه معاوية البدرة وحرم الآخرين. * وقال عمرو: يا معاوية، إنك تريد أن تقاتل بأهل الشام رجلاً له من محمد (صلی الله علیه و آله) قرابة قريبة ورحم ماسة، وقدم في الإسلام ليس لأحد مثله، قد سار إليك بأصحاب محمد المعدودين وفرسانهم وأشرافهم، ومهما نسيت فلا تنس أنك على باطل وعلياً على الحق، فبادر الأمر قبل اضطرابه عليك. بحار الأنوار: ج32 ص462 ب12.

..............................

وغيرهم(1).

ص: 117


1- قال ابن حمزة الطوسي في كتابه (الثاقب في المناقب): ص229-232 ح200: عن محمد بن عمر الواقدي، قال: كان هارون الرشيد يقعد للعلماء في يوم عرفة، فقعد ذات يوم وحضره الشافعي، وكان هاشمياً يقعد إلى جنبه، وحضر محمد بن الحسن وأبو يوسف فقعدا بين يديه، وغص المجلس بأهله، فيهم سبعون رجلاً من أهل العلم، كل منهم يصلح أن يكون إمام صقع من الأصقاع - قال الواقدي - فدخلت في آخر الناس. فقال الرشيد: لم تأخرت؟. فقلت: ما كان لإضاعة حق، ولكني شغلت بشغل عاقني عما أحببت - قال - فقربني حتى أقعدني بين يديه، وقد خاض الناس في كل فن من العلم. فقال الرشيد للشافعي: يا ابن عمي، كم تروي في فضائل علي بن أبي طالب؟. فقال: أربعمائة حديث وأكثر. فقال له: قل ولا تخف. قال: يبلغ خمسمائة أو يزيد. ثم قال لمحمد بن الحسن: كم تروي يا كوفي من فضائله؟. قال: نحو ألف حديث أو أكثر. فأقبل على أبي يوسف، فقال: كم تروى أنت يا كوفي من فضائله، أخبرني ولا تخش؟. قال: يا أمير، لولا الخوف لكانت روايتنا في فضائله أكثر من أن تحصى. قال: مم تخاف؟. قال: منك ومن عمالك وأصحابك. قال: أنت آمن، فتكلم وأخبرني كم فضيلة تروي فيه؟. قال: خمسة عشر ألف خبر مسند، وخمسة عشر ألف حديث مرسل. قال الواقدي: فأقبل عليَّ وقال: ما تعرف في ذلك أنت؟. فقلت: مثل مقالة أبي يوسف. قال الرشيد: لكني أعرف له فضيلة رأيتها بعيني وسمعتها بأذني، أجل من كل فضيلة تروونها أنتم، وإني لتائب إلى الله تعالى مما كان مني من أمر الطالبية ونسلهم. فقلنا جميعاً: وفق الله الأمير وأصلحه، إن رأيت أن تخبرنا بما عندك. قال: نعم، وليت عاملي يوسف بن الحجاج بدمشق، وأمرته بالعدل في الرعية، والإنصاف في القضية، فاستعمل ما أمرته، فرفع إليه أن الخطيب الذي يخطب بدمشق يشتم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) في كل يوم وينتقصه - قال - فأحضره وسأله عن ذلك فأقر له بذلك. فقال له: وما حملك على ما أنت عليه؟. قال: لأنه قتل آبائي وسبى الذراري، فلذلك له الحقد في قلبي ولست أفارق ما أنا عليه. فقيده وغله وحبسه وكتب إليَّ بخبره، فأمرته بحمله إليَّ على حالته من القيود، فلما مثل بين يدي زبرته وصحت به، وقلت: أنت الشاتم لعلي بن أبي طالب؟. فقال: نعم. قلت: ويلك قتل من قتل وسبى من سبى بأمر الله تعالى، وأمر النبي (صلی الله علیه و آله). فقال: ما أفارق ما أنا عليه، ولا تطيب نفسي إلا به. فدعوت بالسياط والعقابين فأقمته بحضرتي ها هنا وظهره إلي، فأمرت الجلاد فجلده مائة سوط، فأكثر الصياح والغياث فبال في مكانه، فأمرت به فنحي عن العقابين، وأدخل ذلك البيت - وأومأ بيده إلى بيت في الإيوان - وأمرت أن يغلق الباب عليه وإقفاله، ففعل ذلك ومضى النهار وأقبل الليل ولم أبرح من موضعي هذا حتى صليت العتمة. ثم بقيت ساهراً أفكر في قتله وفي عذابه، وبأي شيء أعذبه، مرة أقول: أضرب على علاوته، ومرة أقول: أقطع أمعاءه، ومرة أفكر في تفريقه، أو قتله بالسوط، فلم أتم الفكر في أمره حتى غلبتني عيني فنمت في آخر الليل، فإذا أنا بباب السماء وقد انفتح، وإذا النبي (صلی الله علیه و آله) قد هبط وعليه خمس حلل، ثم هبط علي (علیه السلام) وعليه ثلاث حلل، ثم هبط الحسن (علیه السلام) وعليه حلتان، ثم هبط الحسين (علیه السلام) وعليه حلتان، ثم هبط جبرئيل (علیه السلام) وعليه حلة واحدة، فإذا هو من أحسن الخلق في نهاية الوصف، ومعه كأس فيه ماء كأصفى ما يكون من الماء وأحسنه. فقال النبي (صلی الله علیه و آله): «أعطني الكأس» فأعطاه، فنادى بأعلى صوته: «يا شيعة محمد وآله»، فأجابوه من حاشيتي وغلماني وأهل الدار أربعون نفساً أعرفهم كلهم، وكان في داري أكثر من خمسة آلاف إنسان، فسقاهم من الماء وصرفهم. ثم قال: «أين الدمشقي؟». فكأن الباب قد انفتح فأخرج إليه، فلما رآه علي (علیه السلام) أخذ بتلابيبه وقال (علیه السلام): «يا رسول الله، هذا يظلمني ويشتمني من غير سبب أوجب ذلك». فقال (صلی الله علیه و آله): «خله يا أبا الحسن». ثم قبض النبي (صلی الله علیه و آله) على زنده بيده، وقال: «أنت الشاتم لعلي ابن أبي طالب؟». فقال: نعم. فقال: «اللهم امسخه وامحقه وانتقم منه». قال: فتحول - وأنا أراه - كلباً، ورد إلى البيت كما كان، وصعد النبي (صلی الله علیه و آله) وجبرئيل وعلي (علیه السلام) ومن كان معهم، فانتبهت فزعاً مرعوباً مذعوراً، فدعوت الغلام وأمرت بإخراجه إليَّ، فأخرج وهو كلب. فقلت له: كيف رأيت عقوبة ربك؟. فأومأ برأسه كالمعتذر وأمرت برده فها هو ذا في البيت، ثم نادى وأمر بإخراجه، فأخرج وقد أخذ الغلام بإذنه، فإذا أذناه كآذان الناس وهو في صورة الكلب، فوقف بين أيدينا يلوك بلسانه، ويحرك شفتيه كالمعتذر. فقال الشافعي للرشيد: هذا مسخ، ولست آمن أن تعجله العقوبة. فأمر به فرد إلى بيته كما كان بأسرع من أن سمعنا وجبة وصيحة، فإذا صاعقة قد سقطت على سطح البيت فأحرقته وأحرقت الكلب فصار رماداً، وعجل الله بروحه إلى نار جهنم. قال الواقدي: فقلت للرشيد: يا أمير المؤمنين، هذه معجزة وعظة وعظت بها، فاتق الله في ذرية هذا الرجل. فقال الرشيد: أنا تائب إلى الله تعالى مما كان مني وأحسنت توبتي. * قال الشيخ عباس القمي في كتابه (الأنوار البهية): ص71: حكي عن الشافعي إنه قيل له: ما تقول في علي (علیه السلام)؟. قال: ما أقول في حق من أخفت أولياؤه فضائله خوفاً، وأخفت أعداؤه فضائله حسداً، وشاع من بين ذين ما ملأ الخافقين. * قال الشيخ عباس القمي في كتابه (الأنوار البهية): ص 72: قال سبط بن الجوزي في (التذكرة): سمعت جدي ينشد في مجالس وعظه ببغداد سنة 596ه بيتين ذكرهما في كتاب (تبصرة المتبدي) وهما: أهوى علياً وإيماني محبته *** كم مشرك دمه من سيفه وكفا إن كنت ويحك لم تسمع فضائله *** فاسمع مناقبه من هل أتى وكفى

ص: 118

..............................

ولذلك أيضاً - ولغيره - كانت تصريحات ابن أبي قحافة هاهنا حيث قال: (لا يحبكم إلا كل سعيد، ولا يبغضكم إلا كل شقي بعيد..).

ومنها: الضغط الجماهيري والرأي العام الضاغط.

ص: 119

..............................

ومنها: ما سبق من المكر والتدليس.

ومنها: سبق الحق على لسانه من دون إرادته، وذلك لأن قلبه يعلم بالحق وإن جحده وخالفه عناداً، فربما سبق اللسان الإرادة وطابق اللسان ما علمه في قلبه، وذلك كاعترافات بعض المشركين بعظمة القرآن وصدق النبي (صلی الله علیه و آله) وما أشبه.

ومنها: غير ذلك.

أدلة الخصم

مسألة: ربما ينبغي للمظلوم أن يسمح للظالم بإدلاء ما يزعم أنه حجته، وذلك إذا كان كلامه فضحاً له وإظهاراً لإتمام حجة المظلوم على الظالم.

ويمكن أن يستدل على هذه الكبرى ببعض الإطلاقات وما أشبه.

أما الاستناد فيه إلى فسحها (علیها السلام) المجال لابن أبي قحافة حتى يتكلم بما يشاء، فربما يورد عليه بأنه لا يتم ذلك إلا على تقدير كونه فعلاً(1) والقول بصحة التمسك بما يعم القول والفعل، فتأمل(2).وريما يقال: بأنه غير دال، لأن الفعل لا دلالة ولا جهة له، إذ قد يكون السبب عدم القدرة على المنع(3)، أو لدفع التهمة(4)، أو لإتمام الحجة، أو لغير ذلك، فلا يستدل بما هو أعم من المدعى.

ص: 120


1- إذ قد يقال إنه ترك.
2- ربما يكون وجهه أن الفعل أعم من الترك في ذلك التقسيم الثلاثي.
3- أي منع أبي بكر من الكلام.
4- أي كي لا تتوجه التهمة من الجاهل لها بأن المنع كان للخوف من إدلائه بحجته.

..............................

ومن مصاديق هذه المسألة(1): ما ورد في كتاب الاحتجاج(2) للعلامة الطبرسي (رحمة الله) حيث كان أهل الباطل يذكرون آراءهم وما يزعمونه من أدلتها، ثم كان المعصوم (علیه السلام) يتصدى للجواب.

استماع الباطل

مسألة: يجوز في الجملة - كما في مورد القضاء والتصدي للباطل - سماع واستماع الباطل، حيث استمعت الصديقة الطاهرة (سلام الله عليها) إلى كلام ابن أبي قحافة.وإنما قلنا في الجملة، لأنه قد لا يجوز استماع الباطل أو سماعه، فيما إذا تضمن ترويجاً للباطل أو التأثر به أو ما أشبه، قال سبحانه: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ (3).

وقال تعالى:«وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ»(4).

وفي (الفقه): أن حضور مجلس الحرام حرام إلا في موارد الاستثناء. نعم قد يكون هنالك جهة مرجحة أو مجوّزة على تفصيل مذكور في محله.

قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «ثم خصّ كل جارحة من جوارحك بفرض

ص: 121


1- أي فسح المجال لأهل الباطل في بيان رأيهم وأدلتهم.
2- سبق التعريف بالكتاب.
3- سورة الأنعام: 68.
4- سورة النساء: 140.

..............................

ونص عليها، ففرض على السمع أن لا تُصغي به إلى المعاصي»(1).وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «ثلاثة مجالس يمقتها الله ويرسل نقمته على أهلها فلا تقاعدوهم ولا تجالسوهم: مجلساً فيه من يصف لسانه كذباً في فتياه، ومجلساً ذكر أعدائنا فيه جديد وذكرنا فيه رث، ومجلساً فيه من يصد عنا وأنت تعلم»(2). وعن أبي عبد اللّه (علیه السلام) في حديث قال: «ما اجتمع ثلاثة من الجاحدين إلا حضرهم عشرة أضعافهم من الشياطين، فإن تكلموا تكلم الشياطين بنحو كلامهم، وإذا ضحكوا ضحكوا معهم، وإذا نالوا من أولياء الله نالوا معهم، فمن ابتلي من المؤمنين بهم فإذا خاضوا في ذلك فليقم ولا يكن شرك شيطان ولاجليسه؛ فإن غضب الله لا يقوم له شيء ولعنته لا يردها شيء - ثم قال(علیه السلام) - فإن لم يستطع فلينكر بقلبه وليقم ولو حلب شاة أو فواق ناقة»(3).

وعن أبي عبد اللّه (علیه السلام) قال: «إذا ابتليت بأهل النصب ومجالستهم فكن كأنك على الرضف حتى تقوم، فإن الله يمقتهم ويلعنهم، فإذا رأيتهم يخوضون في ذكر إمام من الأئمة فقم فإن سخط اللهينزل هناك عليهم»(4).

وعن الصادق جعفر بن محمد (علیه السلام) قال: «من جالس لنا عائباً، أو مدح لنا قالياً، أو واصل لنا قاطعاً، أو قطع لنا واصلاً، أو والى لنا عدواً، أو عادى لنا ولياً، فقد كفر بالذي أنزل السبع المثاني والقرآن العظيم»(5).

ص: 122


1- من لا يحضره الفقيه: ج2 ص626 باب الفروض على الجوارح ح3215.
2- الكافي: ج2 ص378 باب مجالسة أهل المعاصي ح12.
3- وسائل الشيعة: ج16 ص263 ب38 ح21520.
4- بحار الأنوار: ج71 ص219 ب14 ح50.
5- الأمالي للصدوق: ص56 المجلس13 ح7.

..............................

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) أنه قال: قال النبي (صلی الله علیه و آله): «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس في مجلس يُسبّ فيه إمام أو يُغتاب فيه مسلم، إن الله عزوجل يقول: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (1)»(2).

عدم قطع الكلام

مسألة: قد يكون من الراجح عدم قطعالكلام حتى إذا كان المتكلم على باطل، بل يؤخر الجواب إلى ما بعد إتمام كلامه فيرد عليه.

فإن من الآداب الرفيعة أن لا يقطع الإنسان كلام غيره، إلا إذا كانت هناك جهة ترجح القطع، حيث توجب عدم الاستماع، وقطع الكلام، وحينئذ يكون استثناءً، وإلا فالأصل هو ما ذكرناه.

عن الحلبي رفعه قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «نجاة المؤمن حفظ لسانه»(3).

وعن أبي بصير قال: سمعت أبا جعفر (علیه السلام) يقول: «كان أبو ذر رحمه الله يقول: يا مبتغي العلم إن هذا اللسان مفتاح خير ومفتاح شر، فاختم على لسانك كما تختم على ذهبك وورقك»(4).

وجاء رجل إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: يا رسول الله، أوصني؟. فقال: «احفظ

ص: 123


1- سورة الأنعام: 68.
2- مستدرك الوسائل: ج12 ص315 ب36 ح14183.
3- وسائل الشيعة: ج12 ص190ب119 ح16051.
4- الكافي: ج2 ص114 باب الصمت وحفظ اللسان ح10.

..............................

لسانك». قال: يا رسول الله، أوصني؟. قال: «احفظ لسانك». قال: يا رسول الله،أوصني؟. قال: «احفظ لسانك، ويحك وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم»(1).

وعن عثمان بن عيسى قال: حضرت أبا الحسن (صلوات الله عليه) وقال له رجل: أوصني؟. فقال: «احفظ لسانك تعز، ولا تمكن الناس من قيادك فتذل رقبتك»(2).

وعن الصادق (علیه السلام) أنه قال: «لايزال الرجل المؤمن يكتب محسناً ما دام ساكتاً، فإذا تكلم كتب محسناً أو مسيئاً»(3).

ثم إن هذه الكلمات والاعترافات تكشف - مضافاً إلى القرائن الأخرى - عن مسلّمية مضامينها عند عامة المسلمين، مثل: (آثره على كل حميم، ساعده في كل أمر جسيم، على الخير أدلتنا، إلى الجنة مسالكنا)، حيث القرائن المقامية ويضاف عليها سائر الأدلة، فهي تدل على مطابقة مضمونها للواقع واعتراف الخصم بها ثم العناد في تركها ومخالفتها.

إشكالات على الاستدلال بقوله: إنا معاشر الأنبياء

ثم إنه يرد على استدلال ابن أبي قحافة بما نسبه إلى الرسول (صلی الله علیه و آله) من قوله: (نحن معاشر الأنبياء ...) أمور:

منها: إن قرائن الجعل تحف به، فإنهم كانوا في مقام غصب فدك وكان

ص: 124


1- وسائل الشيعة: ج12 ص191ب119 ح16053.
2- بحار الأنوار: ج68 ص296 ب78 ح68.
3- مستدرك الوسائل: ج9 ص16 ب100 ح10075.

..............................

خصمهم الصديقة الزهراء (علیها السلام) فاختلقوا حديثاً للتمويه على الناس، مضافاً إلى أن ذيلها واضح الجعل لجهات منها البون الأدبي الشاسع بينه وبين ما قبله.

ومنها: إن ابن أبي قحافة كان هو المدعي وهو الشاهد وهو القاضي، فهو الذي ادعى سماع الحديث وهو الشاهد على السماع، وهو القاضي وفق الحديث في موضوع غصب فدك.

ومنها: إن (لا نورّث) على فرض الصدور، هو بمعنى أنه ليس من شأننا أن نورث، لا فعلية عدم التوريث، كما لو قال التاجر: (إننا معاشر التجار لاندرّس الفقه) فإن معناه ليس من شأننا تدريس الفقه ولا يعني عدم تدريس أحدهم للفقه أبداً.

ومنها: ما ذكرته الصديقة الطاهرة (علیها السلام) من معارضة هذا الحديث بهذا المعنى لصريح الكتاب العزيز.ومنها: عدم استقامة معنى الحديث، إذ الكتاب والحكمة والنبوة والعلم ليس مما يورّث، إذ لا يمكن انتقال العلم والنبوة بالإرث بل لم يدّع أحد ذلك.

ومنها: إنه على فرض صحة الحديث وذيله، فإن (ولي الأمر)، (وما كان لنا من طعمة فلولي الأمر بعدنا) هو الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام) بدليل الآيات وصريح الروايات.

ومنها: غير ذلك(1).

ص: 125


1- مثل: إن ما ذكره في الحديث هو الذهب والفضة والدار والعقار، والذي طالبت به الزهراء (علیها السلام) لم يكن أياً منها، بل كان مزرعة وبساتين، والعقار بمعنى العرصة غير المبنية في مقابل الدار، فتأمل. ومنها: إن فدك لم تكن إرثاً بل كانت نحلة. ومنها: إن مجرد معارضتها (علیها السلام) لأبي بكر ورفضها الحديث دليل على بطلانه، إذ أنها (علیها السلام) من العترة الطاهرة وقد أذهب الله عنها الرجس وطهرها تطهيراً، دون ابن أبي قحافة وأضرابه، ومن الواضح أن الكذب ودعوى ما ليس للإنسان رجس، والصديقة الطاهرة (علیها السلام) بعيدة كل البعد عنه إلى غير ذلك.

..............................

هل هذا إقرار؟

هل كلامه هذا: (حكمكِ نافذ فيماملكت يداي) يعد اعترافاً من أبي بكر بولايتها (علیها السلام) التشريعية عليه أو على ممتلكاته، أو ليس إلا تفويضاً - بزعمه - منطلقاً من مكره وخداعه؟. وكذلك قوله قبل ذلك: (وهذه حالي ومالي هي لكِ وبين يديكِ) - إذ ظاهر اللام الملكية وظاهر القرائن الحالية التفويض المكري - احتمالان.

وقفة

قوله: (وقد جعلنا ما حاولته) يرد عليه أنه «لا يُطاع الله من حيث يُعصى» كما ورد في الحديث الشريف(1)، و إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ كما في الآية الكريمة(2)، فكيف يجعل ما قام بغصبه في الكراع والسلاح.

ثم إن تعبيره ب- (حاولته) يشعر بالتعريض بها (علیها السلام) بأنها تطلبه لأمر شخصي، وأهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) هم الذين آثروا على أنفسهم غيرهم ولو كان على ما بهم من خصاصة، قال تعالى: يُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (3).

ص: 126


1- راجع جواهر الكلام: ج22 ص46 حرمة التكسب بالغناء.
2- سورة المائدة: 27.
3- سورة الإنسان: 8.

..............................

وقال عزوجل: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (1).

مضافاً إلى عصمتهم (علیهم السلام) وطهارتهم من كل رجس حيث قال تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (2).

قال أمير المؤمنين في حديث المناشدة: «نشدتكم بالله هل فيكم أحد أخذ رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) يوم بدر بيده فرفعها حتى نظر الناس إلى بياض إبطه ويقول: ألا إن هذا ابن عمي ووزيري فوازروه وناصحوه وصدقوه فإنه وليكم، غيري؟». قالوا: لا. قال: «نشدتكم بالله هل فيكم أحد أنزلت فيه هذه الآية: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ولَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ومَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (3) غيري؟». قالوا: لا(4).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) في قوله تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْوَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ (5)،قال:«بينا علي (علیه السلام) عند فاطمة (علیها السلام) إذ قالت له:يا علي، اذهب إلى أبي فابغنا منه شيئاً. فقال: نعم.

فأتى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأعطاه ديناراً، وقال له: يا علي، اذهب فابتع به لأهلك طعاماً. فخرج من عنده فلقيه المقداد بن الأسود (رحمه الله) وقاما ما شاء الله أن يقوما، وذكر له حاجته فأعطاه الدينار وانطلق إلى المسجد فوضع رأسه فنام.

ص: 127


1- سورة الحشر: 9.
2- سورة الأحزاب: 33.
3- سورة الحشر: 9.
4- بحار الأنوار: ج31 ص342- 343 ب26 بيان.
5- سورة الحشر: 9.

..............................

فانتظره رسول الله (صلی الله علیه و آله) فلم يأتِ ثم انتظره فلم يأت، فخرج يدور في المسجد فإذا هو بعلي (علیه السلام) نائم في المسجد، فحركه رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقعد فقال له: يا علي، ما صنعت؟. فقال: يا رسول الله، خرجت من عندك فلقيني المقداد بن الأسود فذكر لي ما شاء الله أن يذكر فأعطيته الدينار.

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أما إن جبرائيل قد أنبأني بذلك وقد أنزل الله فيك كتاباً: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّنَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (1)»(2).

وعن أبي جعفر (علیه السلام) قال: « كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) جالساً ذات يوم وأصحابه جلوس حوله، فجاء علي (علیه السلام) وعليه سمل ثوب منخرق عن بعض جسده، فجلس قريباً من رسول الله (صلی الله علیه و آله) فنظر إليه ساعة، ثم قرأ: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (3)، ثم قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام): أما إنك رأس الذين نزلت فيهم هذه الآية وسيدهم وإمامهم، ثم قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أين حلتك التي كسوتكها يا علي؟. فقال: يا رسول الله، إن بعض أصحابك أتاني يشكو عراه وعرى أهل بيته، فرحمته فآثرته بها على نفسي، وعرفت أن الله سيكسوني خيراً منها. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): صدقت أما إن جبرئيل قد أتاني يحدثني أن الله اتخذ لك مكانها في الجنة حلة خضراء من إستبرق، وصنفتها من ياقوت وزبرجد، فنعم الجواز جواز ربكبسخاوة نفسك، وصبرك على سملتك هذه المنخرقة،

ص: 128


1- سورة الحشر: 9.
2- تأويل الآيات الظاهرة: ص654 سورة الحشر و ما فيها من الآيات في الأئمة الهداة.
3- سورة الحشر: 9.

..............................

فأبشر يا علي. فانصرف علي (علیه السلام) فرحاً مستبشراً بما أخبره به رسول الله (صلی الله علیه و آله)»(1). وفي البحار: (إنه جاء رجل إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فشكا إليه الجوع، فبعث رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى أزواجه، فقلن: ما عندنا إلا الماء. فقال (صلی الله علیه و آله): «من لهذا الرجل الليلة؟». فقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «أنا يا رسول الله». فأتى فاطمة (علیها السلام) وسألها: «ما عندكِ يا بنت رسول الله؟». فقالت: «ما عندنا إلا قوت الصبية لكنا نؤثر ضيفنا به». فقال علي (علیه السلام): «يا بنت محمد (صلی الله علیه و آله) نومي الصبية وأطفئي المصباح». وجعلا يمضغان بألسنتهما، فلما فرغ من الأكل أتت فاطمة بسراج فوجد الجفنة مملوءة من فضل الله، فلما أصبح صلى مع النبي (صلی الله علیه و آله)، فلما سلم النبي (صلی الله علیه و آله) من صلاته نظر إلى أميرالمؤمنين (علیه السلام) وبكى بكاء شديداً، وقال: «يا أمير المؤمنين، لقد عجب الرب من فعلكم البارحة اقرأ: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ أي مجاعة وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ يعني علياً وفاطمة والحسن والحسين (علیهم السلام) فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (2)(3).

مناقشة الإجماع المزعوم

قول ابن أبي قحافة: (وذلك بإجماع...) محاولة ماكرة منه لتأليب المسلمين ضد ما قالته الصديقة الطاهرة (علیها السلام)، ولإيقاع المواجهة بينها (علیها السلام) وبين المسلمين. ويرد على ادعائه الإجماع النقاش صغرى وكبرى.

أما صغرى فإن الإجماع لم يتحقق أبداً لوجوه:

ص: 129


1- بحار الأنوار: ج36 ص60- 61 ب36 ح4.
2- سورة الحشر: 9.
3- بحار الأنوار: ج41 ص28 ب 102 ضمن ح1.

..............................

الأول: إن مسلمي المدينة كانوا الأقلية بالقياس إلى مسلمي سائر البلاد الإسلامية(1). الثاني: إن مسلمي المدينةلم يشهدوا بأجمعهم تلك القضية.

الثالث: إن من شهد منهم القضية انقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم معارض وهم أهل بيت رسول الله (صلی الله علیه و آله) وسلمان وعمار ومقداد وأبو ذر وغيرهم من خيار أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وقسم ساكت خوفاً أو طمعاً، وقسم مؤيد، فقد ظهر أن من وافق أبا بكر على دعواه حول فدك كانوا الأقلية من الأقلية.

وأما كبرى: فإن هذا الإجماع على فرض تحققه ليس بحجة، إذ هو معارض لصريح الكتاب، وهذا ما أشارت إليه الصديقة الطاهرة (علیها السلام) فيما سيأتي من كلامها، ومن الواضح أن حجية الإجماع باعتباره كاشفاً عن الكتاب والسنة فلو عارضهما بالصراحة كان ساقطاً عن الاعتبار بالبداهة.

حكمه على نفسه

لقد حكم ابن أبي قحافة على نفسه بنفسه، وأقر بجعل هذا الحديث وبطلان موقفه قبل إجابتها وبعد الإجابة أيضاً، إذ قد أقر بصدقها (علیها السلام) بقوله: (وأنتِ يا خيرة النساء، صادقة في قولكِ..)، ثم بعد إجابتها (علیها السلام) صرّح بصدقها حيث قال: (صدق الله وصدق رسوله وصدقت ابنته، أنتِ ... عين الحجة، لا أبعد صوابكِ ولا أنكر خطابكِ)، وهي (علیها السلام) قد صرحت (علیهاالسلام) بعدم صحة رواية (إنا معاشر الأنبياء..بذيلها).

ولا يستطيع مدافع عنه أن يقول: إنه كان في هذه التصريحات كاذباً، ولو دافع بذلك لكان هروباً من المطر إلى الميزاب كما لا يخفى.

ص: 130


1- كاليمن ومكة والحبشة وغيرها.

فقالت (علیها السلام): سبحان الله ما كان أبي رسول الله...

اشارة

-------------------------------------------

فقالت (علیها السلام): سبحان الله ما كان أبي رسول الله (علیها السلام) عن كتاب الله صادفاً، ولا لأحكامه مخالفاً!

تسبيح الله

مسألة: يستحب - وقد يجب - تسبيح الله تعالى، كل في مورده، ومن موارد الوجوب: التسبيحات الواجبة في الصلاة كما في أذكار الركوع والسجود، والركعات الأخيرة من الثلاثية والرباعية على نحو الوجوب التعييني أو التخييري.

و(سبحان الله) بمعنى: أسبح الله تسبيحاً، والتسبيح هو التنزيه والتبرئة من النقائص والعيوب، وربما يقال: بأن (سبحان الله) إشارة إلى الصفات السلبية، و(الحمد لله) إشارة إلى الصفات الثبوتية. وكثيراً ما يستعمل (سبحان الله) في مقام الذكر تعجباً، وهو المراد به في الخطبة الشريفة.

قال تعالى: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لهمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1).

وعن هشام الجواليقي قال:سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن قول الله عزوجل: سُبْحَانَ اللَّهِ (2) ما يُعنى به؟. قال: «تنزيهه»(3).

وعن أبي جعفر (علیه السلام) قال:«إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) مر برجل يغرس غرساً في

ص: 131


1- سورة القصص: 68.
2- سورة يوسف: 108، سورة المؤمنون: 91، سورة النمل: 8، سورة القصص:68، سورة الصافات: 159، سورة الطور: 43، سورة الحشر: 23.
3- الكافي: ج1 ص118 باب معاني الأسماء واشتقاقها ح11.

..............................

حائط له فوقف عليه، فقال له: ألا أدلك على غرس أثبت أصلاً وأسرع إيتاءً وأطيب ثمراً وأبقى؟. قال: بلى فداك أبي وأمي يا رسول الله. فقال: إذا أصبحت وأمسيت فقل: "سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر"، فإن لك بذلك إن قلته بكل تسبيحة عشر شجرات في الجنة من أنواع الفاكهة، وهن من الباقيات الصالحات - قال: - فقال الرجل: أشهدك يا رسول الله أن حائطي هذه صدقة مقبوضة على فقراء المسلمين من أهل الصدقة. فأنزل الله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (1)»(2).وعن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «ما من عبد يقول إذا أصبح قبل طلوع الشمس: (اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيراً، وَسُبْحَانَ اللَّهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ كَثِيراً، لاَ شَرِيكَ له، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ)، إلا ابتدرهن ملك وجعلهن في جوف جناحه وصعد بهن إلى السماء الدنيا فتقول الملائكة: ما معك؟. فيقول: معي كلمات قالهن رجل من المؤمنين وهي كذا وكذا. فيقولون: رحم الله من قال هؤلاء الكلمات وغفر له - قال: - وكلّما مر بسماء قال لأهلها مثل ذلك. فيقولون: رحم الله من قال هؤلاء الكلمات وغفر له، حتى ينتهي بهن إلى حملة العرش فيقول لهم: إن معي كلمات تكلم بهن رجل من المؤمنين وهي كذا وكذا. فيقولون: رحم الله هذا العبد وغفر له، انطلق بهن إلى حفظة كنوز مقالة المؤمنين، فإن هؤلاء كلمات الكنوز حتى تكتبهن في ديوان الكنوز»(3).

ص: 132


1- سورة الليل: 5- 7.
2- روضة الواعظين: ج2 ص370 مجلس في ذكر الحث على اصطناع المعروف.
3- الكافي: ج2 ص 526- 527 باب القول عند الإصباح والإمساء ح14.

..............................

التصدي لأكاذيب الظالم

مسألة: يجب التصدي لأكاذيب الظالم وشبهاته التي يلقيها على الناس بالإجابة، ويلزم الانتقال من صرف التكذيب إلى الاستدلال فيما إذا لم يكف مجرد الرد - كما صنعت الصديقة الطاهرة (علیها السلام)، وينبغي الإعداد المسبق للإجابة المقنعة لمن لم يكن حاضر البديهة، أما المعصوم (علیه السلام) فعلمه لدنيّ كما هو واضح.

والوجوب فيما إذا كان عدم الجواب الإجمالي أو التفصيلي سبباً لوقوع الناس في اللبس والاشتباه، أو كان الجواب تصدياً للبدعة، أو شبه ذلك.

قال الإمام الصادق (علیه السلام): «فإن فينا أهل البيت في كل خلف عدولاً ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين»(1).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «يحمل هذا الدين في كل قرن عدول ينفون عنه تأويل المبطلين، وتحريف الغالين، وانتحال المبطلين، كما ينفي الكير خبث الحديد»(2).

وقال أبو عبد الله (علیه السلام): «صعد رسول الله (صلی الله علیه و آله)المنبر فتغيرت وجنتاه والتمع لونه، ثم أقبل بوجهه فقال (صلی الله علیه و آله):يا معشر المسلمين، إني إنما بعثت أنا والساعة كهاتين - قال (علیه السلام):ثم ضم (صلی الله علیه و آله) السباحتين - ثم قال:يا معشر المسلمين، إن أفضل الهدي هدي محمد (صلی الله علیه و آله)، وخير الحديث كتاب الله، وشر الأمور محدثاتها، إلا وكل بدعة ضلالة، ألا وكل ضلالة ففي النار»(3).

ص: 133


1- وسائل الشيعة: ج27 ص78 ب8 ح33247.
2- بحار الأنوار: ج2 ص92- 93 ب14 ح22.
3- مستدرك الوسائل: ج12 ص324 ب38 ح14207.

..............................

وعن سلمان الفارسي (رضوان الله عليه) قال: خطبنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: «معاشر الناس، إني راحل عنكم عن قريب، ومنطلق إلى المغيب، أوصيكم في عترتي خيراً، وإياكم والبدع فإن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة وأهلها في النار»(1).

وعن الرضا (علیه السلام) أنه قال: «من ذكر عنده الصوفية ولم ينكرهم بلسانه وقلبه فليس منا، ومن أنكرهم فكأنما جاهد الكفار بين يدي رسول الله(صلی الله علیه و آله)»(2).

وعن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: «من رد على صاحب بدعة بدعته فهو في سبيل الله تعالى»(3).

دفع التهمة

مسألة: يجب دفع التهمة عن المؤمن، ويتأكد وجوب الدفع في التهم والافتراءات إذا كانت موجهة للرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته الطاهرين (علیهم السلام) ومنها المفتريات من الأحاديث.

والتأكد لكلتا الجهتين الذاتية والطريقية، لأن(4) فعلهم وقولهم وتقريرهم (علیهم السلام) حجة، فإذا لم يدفع عنهم افتراء المفترين ولم يبين تلك الروايات المخترعة صارت تلك المفتريات من الدين، وذلك بدعة محرمة يجب ردعها.

ص: 134


1- بحار الأنوار: ج36 ص289 ب41 ح111.
2- مستدرك الوسائل: ج12 ص323 ب37 ح14204.
3- الجعفريات: ص172 باب المكر والخيانة والخديعة.
4- الظاهر أن هذا تعليل للطريقية.

..............................

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله):«لا تكذبوا عليّّ؛ فإنه من كذب عليَّ متعمداً يلج النار»(1).

وقال أبو الحسن موسى (علیه السلام): «المؤمن أخو المؤمن لأبيه وأمه، ملعون ملعون من اتهم أخاه، ملعون ملعون من غش أخاه، ملعون ملعون من لم ينصح أخاه، ملعون ملعون من احتجب عن أخيه، ملعون ملعون من اغتاب أخاه»(2).

وقال أبو عبد الله (علیه السلام): «من اتهم أخاه في دينه فلا حرمة بينهما»(3).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) في حديث: «أحب الخلق إلى الله أطوعهم لله، وأبغض الخلق إلى الله من اتهم الله»(4).

ومن الواضح أن الافتراء على الرسول (صلی الله علیه و آله) افتراء على الله، لأنه (صلی الله علیه و آله) ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.

قال تعالى: انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَىاللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (5).

وقال سبحانه: وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لايَعْقِلُونَ (6). وقال تعالى: أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (7).

ص: 135


1- كشف الغمة: ج1 ص286 في ذكر رسوخ الإيمان في قلبه (علیه السلام).
2- وسائل الشيعة: ج12 ص231 ب130 ح16165.
3- الكافي: ج2 ص361 باب التهمة وسوء الظن ح2.
4- راجع مكارم الأخلاق: ص320 ب10 ف4 في الاستخارة.
5- سورة النساء: 50.
6- سورة المائدة: 103.
7- سورة يونس: 68- 69.

..............................

وفي تفسير قوله سبحانه: انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ (1)، «هم هؤلاء الثلاثة»(2).

الدفاع عن المؤمن

مسألة: يجب الدفاع عن المؤمن، والدفاع أعم من الدفاع عن نفسه أو ماله أو عرضه، والعرض أعم من أمثال التقوّل عليه.

وما سبق من كلام الصديقة الطاهرة (علیها السلام) يعد من مصاديقه حيثالدفاع عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) من افتراء المفترين كما لا يخفى، ودفاعها (علیها السلام) هاهنا كان عن العرض بالمعنى الأعم، وعن المال أيضاً، وقبلهما عن: الشريعة وأحكام الله عزوجل، وعن ولاية أمير المؤمنين (علیها السلام) التي بها كمل الدين وتمت النعمة ورضي الله الإسلام لنا ديناً، حيث قال عزوجل: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً (3).

ثم إن الذب عن حريم رسول الله (صلی الله علیه و آله) هو ذب عن حريم الله عزوجل.

قال النبي (صلی الله علیه و آله) لأبي ذر (رحمة الله) في علي (علیه السلام): «يا أبا ذر، هذا الإمام الأزهر، ورمح الله الأطول، وباب الله الأكبر، فمن أراد الله فليدخل الباب. يا أبا ذر، هذا القائم بقسط الله، والذاب عن حريم الله، والناصر لدين الله، وحجة الله على خلقه»(4).

ص: 136


1- سورة النساء: 50.
2- بحار الأنوار: ج9 ص193 ب1 ح37.
3- سورة المائدة: 3.
4- تأويل الآيات الظاهرة: ص831 سورة الإخلاص.

..............................

أنواع الكذب

مسألة: الكذب حرام، والكذب على المؤمن أشد حرمة، وعلى الرسول (صلی الله علیه و آله) وآله الأطهار (علیهم السلام) أشد وأشد، هذا في الشؤون العادية فكيف بالأحكام الشرعية، وكيف بأصل من أصول الدين وهي الخلافة والإمامة.

وقد كذب خصمها (علیها السلام) على رسول الله (صلی الله علیه و آله) في مسألة شرعية خطيرة، وهي الإرث، كما كذب - ضمناً - على كل الأنبياء (علیهم السلام) بدعواه عدم توريثهم.

ثم إن الكذب قد يسمعه شخص فينخدع به، وقد يسمعه الألوف فينخدعون، والعقوبة على الأخير أشد بعدد من ضل منذ ذلك الزمن وإلى يوم القيامة. حيث قال (صلی الله علیه و آله) : «من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» (1).

وقال (صلی الله علیه و آله): «يا بن مسعود إياك أن تسن سنة بدعة، فإن العبد إذا سن سنة سيئة لحقه وزرها ووزر من عمل بها»(2).

وقال أمير المؤمنين علي (صلوات اللهعليه) وهو في الرحبة جالس: «انتدبوا»، وهو على المسير من السواد، فانتدبوا نحو من مائة، فقال: «ورب السماء ورب الأرض لقد حدثني خليلي رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن الأمة ستغدر بي من بعده عهداً معهوداً وقضاءً مقضياً، وقد خاب من افترى»(3).

ص: 137


1- الفصول المختارة: ص136.
2- مكارم الأخلاق: ص454 ب12 ف4.
3- الأمالي للطوسي: ص476 المجلس17 ح1039.

..............................

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «يا علي، من كذب عليَّ متعمداً، فليتبوأ مقعده من النار»(1). وقال (صلی الله علیه و آله): «من كذب عليَّ متعمداً، أو ردّ شيئاً أمرت به، فليتبوأ بيتاً في جهنم»(2).

وقال الإمام الباقر (علیه السلام): «يا أخا أهل الشام اسمع حديثنا ولا تكذب علينا، فإنه من كذب علينا في شي ء فقد كذب على رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ومن كذب على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقد كذب على الله، ومن كذب على الله عذبه اللهعزوجل»(3).

وفي (تفسير القمي): « إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (4) يعني: أمير المؤمنين (علیه السلام) ومن غصبه حقه، ثم ذكر أيضاً أعداء آل محمد ومن كذب على الله وعلى رسوله وادعى ما لم يكن له فقال: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ (5) يعني: بما جاء به رسول الله (صلی الله علیه و آله) من الحق وولاية أمير المؤمنين (علیه السلام)، ثم ذكر رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (علیه السلام) فقال: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ يعني: أمير المؤمنين (علیه السلام) أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (6)»(7).

ص: 138


1- وسائل الشيعة: ج12 ص249 ب139 ح16223.
2- بحار الأنوار: ج2 ص212 ب26 ح115.
3- الكافي: ج4 ص187 باب بدء البيت والطواف ح1.
4- سورة الزمر: 30- 31.
5- سورة الزمر: 32.
6- سورة الزمر: 33.
7- تفسير القمي: ج2 ص249 ما ذا يعطي الله وليه في الجنان.

..............................

أقسام التهمة

مسألة: التهمة تنقسم إلى بسيطة ومركبة. والإثم في المركبة مركب.

وقد كانت التهمة المنسوبة للرسول (صلی الله علیه و آله)(1) مركبة(2) فكان الإثم والعقوبة فيها كذلك.

قولها (علیها السلام): «عن كتاب الله صادفاً، ولا لأحكامه مخالفاً». الفرق بين الصدف عن كتاب الله وبين مخالفة أحكامه، أن الأول لا يعمل بكتاب الله بينما الثاني يعمل بخلاف ما أمر الله به، فالأول - مثلاً - : لا يصلي، والثاني: يصلي بلا وضوء أو باتجاه الصنم.

والأول مثلاً: كمن لا يلتزم ولا يعمل بمقتضى الأخوة الإسلامية، والثاني: كمن يبرمج ويخطط للقضاء عليها. ومصداق كلا الأمرين دعواه ونسبته تلك الرواية للرسول (صلی الله علیه و آله) فإن (نحن معاشر الأنبياء لا نورّث) مصداق للأول(3)،و(ما كان لنا من طعمة فلولي الأمر..) مصداق للثاني.

هذا وقد يراد بالمخالفة الأعم من الصدف عن الشيء(4)، وقد يراد بالصادف الأعم(5).

ص: 139


1- وهي الرواية المنسوبة إليه (صلی الله علیه و آله).
2- توضيحه: إنه لو نسب إلى الرسول (صلی الله علیه و آله) كذباً أنه قال: (إن سليمان النبي لا يورّث) لكانت تهمة واحدة. أما حينما نسب إلى الرسول (صلی الله علیه و آله) كذباً قوله: (إنا معاشر الأنبياء) فإنه قد اتهمه (صلی الله علیه و آله) بعدد الأنبياء كلهم أجمعين، فهي تهمة ظاهرها بسيط وباطنها مركب.
3- هذا إذا كان الحديث كله مجعولاً لا الجزء الأخير فقط.
4- أي: إن المخالف أعم من التارك ومن الذي يعمل بالضد (أي من السلب والإيجاب).
5- أي: الأعم من التارك والمنصرف.

..............................

وعلى الأول فالأمر من باب ذكر العام بعد الخاص، وعلى الثاني فالأمر من قبيل ذكر الخاص بعد العام(1)، أو من قبيل عطف البيان(2).

والرسول (صلی الله علیه و آله) لم يكن صادفاً ولا مخالفاً للكتاب العزيز، كما هو من أوضح الواضحات.

حرمة الإعراض عن الكتاب

مسألة: الصدف والإعراض عن كتاب الله محرم.والصدف عن الكتاب ربما يراد به الأعم من عدم العمل بأحكامه الشرعية، وعدم الاتعاظ بمواعظه، وعدم الاهتداء بهديه، وعدم مدارسته وقراءته وتلاوته وفهمه وترويجه وما أشبه.

وقد سبق الحديث عن تفصيل ذلك(3).

قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «ما بال أقوام غيروا سنة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعدلوا عن وصيه، لا يتخوّفون أن ينزل بهم العذاب - ثم تلا هذه الآية -: ألَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ»(4) - ثم قال: - نحن النعمة التي أنعم الله بها على عباده، وبنا يفوز من فاز يوم القيامة»(5).

ص: 140


1- الخاص (لأحكامه مخالفاً) بناء على اختصاصه بالمعارض (أي العامل بالضد)، والعام قد سبقه وهو (صادف) على الأعم.
2- بناء على إرادة الأعم من كليهما، فالصور إذن أربعة، أولاها كانت عطف المبائن على المبائن.
3- راجع المجلدات السابقة من هذا الكتاب.
4- سورة إبراهيم: 28- 29.
5- الكافي: ج1 ص217 باب أن النعمة التي ذكرها الله عزوجل في كتابه الأئمة (علیهم السلام) ح1.

..............................

وفي قول الله عزوجل: « فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبانِ (1) أبالنيي أم بالوصي تكذبان، نزل في الرحمن»(2).وعن أبي يوسف البزاز قال: تلا أبو عبد الله (علیه السلام) هذه الآية: فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ (3) وقال: «أتدري ما آلاء الله؟». قلت:لا. قال: «هي أعظم نعم الله على خلقه وهي ولايتنا»(4).

وعن عبد الرحمن بن كثير قال:سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن قول الله عزوجل: ألَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً الآية(5) قال: «عنى بها قريشاً قاطبة الذي عادوا رسول الله (صلی الله علیه و آله) ونصبوا له الحرب وجحدوا وصية وصيه»(6).

قولها (علیها السلام): «ما كان أبي..»، رد على ما أجابها أبو بكر بحديث موضوع قائلاً: إني سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: «نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ذهباً ولا فضة، ولا داراً ولا عقاراً، وإنما نورث الكتاب والحكمة، والعلم والنبوة، وما كان لنا من طعمة فلولي الأمر بعدنا أن يحكم فيه بحكمه». فأجابته الصديقة الطاهرة (علیها السلام) بقولها:«سبحان الله»، وهذه كلمة تعجب أي: إني أسبح الله وأنزهه عن كل منقصة، ومن النقص أن يكون لله تعالى رسول يصدف عن كتابه

ص: 141


1- سورة الرحمن: 13و16و18و...
2- بحار الأنوار: ج24 ص59 ب29 ح37.
3- سورة الأعراف: 69و74.
4- تأويل الآيات الظاهرة: ص183 سورة الأعراف.
5- سورة إبراهيم: 28.
6- الكافي: ج1 ص217 باب أن النعمة التي ذكرها الله عزوجل في كتابه الأئمة (علیهم السلام) ح4.

..............................

ويخالف أحكامه، ولذا لم تقتصر على «سبحان الله» بل قالت:«ما كان أبي رسول الله...».

قولها (علیها السلام): «صادفاً»، الصادف عن الشيء: المعرض والصادّ، أي: كيف يمكن أن يتحدث أبي (صلی الله علیه و آله) بهذا الحديث مع العلم أنه إعراض عن حكم الله سبحانه، ومخالفة لكتابه الذي نطق بإرث الأولاد من الآباء بشكل عام، وصرّح بذكر مصاديق من إرث أولاد الأنبياء (علیهم السلام) بشكل خاص أيضاً.

«ولا لأحكامه مخالفاً»؛ فإن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لم يكن يخالف أحكام القرآن، بأن يقول القرآن شيئاً ويقول هو (صلی الله علیه و آله) شيئاً آخر، وحاشاه ذلك.

وبذلك يظهر أن الصادف عن كتاب الله والمخالف لأحكامه هو ابن أبي قحافة ومن اتبعه - لا النبي (صلی الله علیه و آله) - فقد انطبق على الأول عنوانان:

1. عنوان الصدف عن كتاب الله والمخالفة في المسألة الفرعية(الإرث).

2. وعنوان مخالفة الكتاب بشكل عام، بل وغيرها من العناوين أيضاً (1).

من صفات القيادة

مسألة: يعلم من كلامها (علیها السلام) رداً على ابن أبي قحافة، لزوم أن يتحلى القائد الإسلامي بعدم الصدف عن كتاب الله وعدم مخالفته لأحكام الله، وكذلك غير القائد أيضاً لكن الوجوب فيه آكد.

عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: خطب أمير المؤمنين (علیه السلام) الناس فقال:

ص: 142


1- إشارة إلى ما سبق: من الكذب والتزوير والتهمة و...

..............................

«أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا بَدْءُ وُقُوعِ الْفِتَنِ أَهْوَاءٌ تُتَّبَعُ، وَأَحْكَامٌ تُبْتَدَعُ، يُخَالَفُ فِيهَا كِتَابُ اللَّهِ، يَتَوَلَّى فِيهَا رِجَالٌ رِجَالاً، فَلَوْ أَنَّ الْبَاطِلَ خَلَصَ لَمْ يَخْفَ عَلَى ذِي حِجىً، وَلَوْ أَنَّ الْحَقَّ خَلَصَ لَمْ يَكُنِ اخْتِلاَفٌ، وَلَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ وَمِنْ هَذَا ضِغْثٌ فَيُمْزَجَانِ فَيَجِيئَانِ مَعاً، فَهُنَالِكَ اسْتَحْوَذَ الشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ، وَنَجَا الَّذِينَسَبَقَتْ لهمْ مِنَ اللَّهِ الْحُسْنَى»(1).

وقال أبو الحسن الأول (علیه السلام): «يا يونس، لا تكونن مبتدعاً، من نظر برأيه هلك، ومن ترك أهل بيت نبيه (صلی الله علیه و آله) ضل، ومن ترك كتاب الله وقول نبيه

كفر»(2).

ص: 143


1- الكافي: ج1 ص54 باب البدع والرأي و المقاييس ح1.
2- وسائل الشيعة: ج27 ص40 ب6 ح33157.

بل كان (صلی الله علیه و آله) يتبع أثره، ويقفو سوره

اشارة

-------------------------------------------

شمولية إتباع الكتاب

مسألة: الواجب الإتباع الشمولي للكتاب الكريم، كما على الإنسان أن يتبع أثر القرآن وأن يقفو سوره، وذلك لأن القرآن دستور السماء للبشر، ورسول الله (صلی الله علیه و آله) أسوة بصريح الكتاب، وكل ما صدر منه (صلی الله علیه و آله) يجب أن يُقتدى به، وقد صرحت الصديقة الزهراء (علیها السلام) بأن الرسول (صلی الله علیه و آله) كان يتبع أثر القرآن ويقفو سوره، والتاريخ كله دليل على ذلك.

ثم إن إتباعه (صلی الله علیه و آله) أثر القرآن شامل: للعقائد والعبادات والمعاملات والعقود والإيقاعات والأحكام والتاريخ والأخبار الغيبية والمواعظ والعبر والآداب والسنن وشتى العلوم الطبيعية وغيرها.

ولربما يقول البعض إن ذلك بديهي، فنقول:

أولاً: بداهته نشأت ببركة أمثال هذه الكلمات من بضعته وعترته ونفسه (صلی الله علیه و آله).

ثانياً: أراد البعض أن ينكر حتى البديهيات لكي يستولي على الخلافة،فلم يكن لهم مانع من اتهام رسول الله (صلی الله علیه و آله)، كما قالوا في حقه (صلی الله علیه و آله) (إنه ليهجر)(1) والعياذ بالله.

ثالثاً: إن الكثيرين - مع ذلك - لا يتبعون أثر القرآن، والشواهد كثيرة فجاء التأكيد على ضرورة الإتباع.

ص: 144


1- هذا ما قاله ابن الخطاب في حق رسول الله (صلی الله علیه و آله) راجع الصوارم المهرقة في جواب الصواعق المحرقة: ص224.

..............................

ومنهم(1): من يقول بالشريعة والطريقة، فإنه بهذا التخريج يترك إتباع الأثر ويفر من قفو السور ويقول بعدد من المنكرات.

ومنهم: من يقول بما قاله بعض الفلاسفة من العقول العشرة، وقِدَم العالم، والفيض المنبسط، والواحد لا يصدر منه إلا الواحد، ووحدة الوجود، وشبه ذلك مما هو مخالف لإتباع أثر الكتاب وإعراض عن قفو سوره التي تصرح ب- «خالِقُ كُلِّ شَيْ ء»(2) و «خَلَقَ السَّمَاوَاتِوَالأَْرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ»(3) و«يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ»(4) إلى غيرها من الآيات الكريمة الصريحة، وتفصيل البحث في علم الكلام(5).

ومنهم: من ينكر الشفاعة، والمعاد الجسماني.

ومنهم: من يقول بالتجسيم، وما إلى ذلك من العقائد الفاسدة.

ومنهم: من يقول بأن القرآن أو عدداً من آياته، نزل لزمان خاص أو مكان خاص فلا يكون دستوراً أبدياً.

ولربما تمسك بعض أولئك بآي من الكتاب، إلا أن ذلك لا يخرجه عن كونه غير متبع لأثر القرآن، غير مقتفٍ لأثره، إذ غاية الأمر تمسكه بمتشابه من الكتاب وهو نابع من قلب مريض أو جهل ذريع، قال تعالى: «فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ»(6).

ص: 145


1- أي ممن لا يتبع أثر القرآن ...
2- سورة الأنعام: 102، سورة الرعد: 16، سورة الزمر: 62، سورة غافر: 62.
3- سورة الأعراف: 54، سورة يونس: 3، سورة هود: 7، سورة الحديد: 4.
4- سورة فاطر: 15.
5- راجع موسوعة (الفقه) للإمام الشيرازي (رحمة الله): كتاب العقائد.
6- سورة آل عمران: 7.

..............................

ثم إن توهم الإتباع غير الأتباع، وغير المتبع غير متبع وإن قطع بكونه متبعاً، غايته الجهل المركب.

ولعل الفرق بين إتباع الأثر وقفو السور: أن إتباع الأثر معناه إتباع أحكام القرآن والقول بما قال به من الغيبيات والمواعظ والقصص وغير ذلك. أما قفو السور: ففي قبال التقدم على سور القرآن، حيث قال سبحانه: «لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ»(1)، فكما لا يجوز للناس التقدم عليهما، كذلك لا يجوز للرسول (صلی الله علیه و آله) التقدم على الله سبحانه وتعالى، ولعل من مصاديق ذلك أو ما يشابهه قوله سبحانه: لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتّبِعْ قُرْآنَهُ (2).

وقوله تعالى: وَلَوْ تَقَوّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ * لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنكُمْ مّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (3).

ديدن الرسول (صلی الله علیه و آله)

مسألة: التذكير بهذه الحقيقة وهي أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان ديدنه إتباع أثر الكتاب العزيز وقفو سوره، بشكل كامل وشامل لا ينقص حتى في أبسط الجزئيات والمفردات، من الواجبات في الجملة.

قولها (صلوات الله عليها): «بل كان يتبع أثره»، أي: أثر القرآن، فكلما قاله القرآن يقوله (صلی الله علیه و آله)، بالإضافة إلى أنه (صلی الله علیه و آله) يشرحه ويوضحه ويبينه.

ص: 146


1- سورة الحجرات: 1.
2- سورة القيامة: 16- 18.
3- سورة الحاقة: 44- 47.

..............................

قولها (سلام الله عليها): «ويقفو سوره»، أي: يتبع سور القرآن، فكلما ذكر في سورة من حكم كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يتبع تلك السورة في الالتزام بالحكم والعمل بما جاء به القرآن الحكيم في تلك السورة.

عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «خطب النبي (صلی الله علیه و آله) بمنى فقال:أيها الناس ما جاءكم عني يوافق كتاب الله فأنا قلته، وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله»(1).ثم إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته (علیهم السلام) هم الذين يعرفون الكتاب وعلومه وأسراره دون غيرهم.

قال أبو عبد اللّه (علیه السلام): «ما من أمر يختلف فيه اثنان إلا وله أصل في كتاب الله عزوجل، ولكن لا تبلغه عقول الرجال»(2).

وعن عن عبد الأعلى بن أعين قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: «قد ولدني رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأنا أعلم كتاب الله، وفيه بدء الخلق وما هو كائن إلى يوم القيامة، وفيه خبر السماء، وخبر الأرض، وخبر الجنة، وخبر النار، وخبر ما كان، وخبر ما هو كائن، أعلم ذلك كأنما أنظر إلى كفي إن الله يقول: فيه تبيان كل شي ء»(3).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم، وفصل ما بينكم ونحن نعلمه»(4).

ص: 147


1- الكافي: ج1 ص69 باب الأخذ بالسنة وشواهد الكتاب ح5.
2- تهذيب الأحكام: ج9 ص357 ب35 ح9.
3- بصائر الدرجات: ص197- 198 ب8 ح2.
4- بحار الأنوار: ج89 ص98 ب8 ح67.

..............................

وعن سماعة، عن أبي الحسن موسى(علیه السلام) قال:قلت له:أكل شي ء في كتاب الله وسنة نبيه (صلی الله علیه و آله) أو تقولون فيه؟. قال: «بل كل شي ء في كتاب الله وسنة نبيه (صلی الله علیه و آله)»(1).

وعن عبد الله بن جندب أنه كتب إليه الرضا (علیه السلام): «أما بعد فإن محمداً (صلی الله علیه و آله) كان أمين الله في خلقه فلما قبض (صلی الله علیه و آله) كنا أهل البيت ورثته فنحن أمناء الله في أرضه، عندنا علم البلايا والمنايا وأنساب العرب ومولد الإسلام، وإنا لنعرف الرجل إذا رأيناه بحقيقة الإيمان وحقيقة النفاق، وإن شيعتنا لمكتوبون بأسمائهم وأسماء آبائهم، أخذ الله علينا وعليهم الميثاق، يردون موردنا ويدخلون مدخلنا، ليس على ملة الإسلام غيرنا وغيرهم، نحن النجباء النجاة، ونحن أفراط الأنبياء ونحن أبناء الأوصياء ونحن المخصوصون في كتاب الله عزوجل، ونحن أولى الناس بكتاب الله، ونحن أولى الناس برسول الله (صلی الله علیه و آله) ونحن الذين شرع الله لنا دينه فقال في كتابه: شَرَعَ لَكُمْ يا آل محمد مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً قد وصانا بما وصى به نوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ وَمَا وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى فقد علمنا وبلغنا علم ما علمنا واستودعنا علمهم نحن ورثة أولي العزم من الرسل أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ يا آل محمد وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ وكونوا على جماعة كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ من أشرك بولاية علي مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ من ولاية علي إن اللَّهَ يا محمد ... يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (2) من يجيبك إلى ولاية علي (علیه السلام)»(3).

ص: 148


1- الكافي: ج1 ص32 باب الرد إلى الكتاب والسنة ح10.
2- سورة الشورى: 13.
3- الكافي: ج1 ص223 باب أن الأئمة ورثوا علم النبي وجميع الأنبياء والأوصياء الذين من قبلهم ح1.

أفتجمعون إلى الغدر

اشارة

-------------------------------------------

حرمة الغدر

مسألة: يحرم الغدر - كما سبق - وحرمته عقلية قبل أن تكون شرعية؛ لأن الغدر من الظلم القبيح، وإذا فشا ذلك في المجتمع وغدر كل بالآخر انفصمت عروة المجتمع، ويبدأ بالتآكل والتلف، وينعدم التآلف والتآخي، ويظهر الهرج والمرج، ومن الواضح أن انفصام المجتمع واختلال النظام أصل كل شر.

والغدر: ضد الوفاء، وما فعله القوم كان غدراً في حق رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعترته الطاهرة (علیهم السلام).

ورد في حديث جنود العقل وجنود الجهل: «والوفاء وضده الغدر»(1).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «ثلاث هن شين الدين: الفجور، والغدر، والخيانة»(2). وقال (علیه السلام): «الغدر شيمة اللئام»(3).وقال (علیه السلام): «الغدر يضاعف السيئات»(4).

وعن أمير المؤمنين (علیه السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) ذات يوم: « يا علي، علمت أن جبرئيل (علیه السلام) أخبرني أن أمتي تغدر بك من بعدي، فويل ثم ويل ثم ويل لهم - ثلاث مرات -. قلت: يا رسول الله، وما ويل؟. قال: واد في جهنم أكثر أهله معادوك والقاتلون لذريتك والناكث لبيعتك،فطوبى ثم طوبى ثم طوبى

ص: 149


1- الكافي: ج1 ص22 كتاب العقل والجهل ح14.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: ص462 ق6 ب5 ف6 ح10597.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: ص291 ق3 ب3 ف1 الغدر ح6498.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: ص291 ق3 ب3 ف1 الغدر ح6499.

..............................

- ثلاث مرات - لمن أحبك ووفى لك. قلت: يا رسول الله، وما طوبى؟. قال: شجرة في دارك في الجنة، ليس دار من دور شيعتك في الجنة إلا وفيها غصن من تلك الشجرة تهدل عليهم بكل ما يشتهون»(1).

وفي (نهج البلاغة): «إِنَّ الْوَفَاءَ تَوْأَمُ الصِّدْقِ، وَلاَ أَعْلَمُ جُنَّةً أَوْقَى مِنْهُ، وَمَا يَغْدِرُ مَنْ عَلِمَ كَيْفَ الْمَرْجِعُ، وَلَقَدْ أَصْبَحْنَا فِي زَمَانٍ قَدِ اتَّخَذَ أَكْثَرُ أَهْلِهِ الْغَدْرَ كَيْساً، وَنَسَبَهُمْ أَهْلُ الْجَهْلِ فِيهِإِلَى حُسْنِ الْحِيلَةِ، مَا لَهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ قَدْ يَرَى الْحُوَّلُ الْقُلَّبُ وَجْهَ الْحِيلَةِ وَدُونَهَا مَانِعٌ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ، فَيَدَعُهَا رَأْيَ عَيْنٍ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، وَيَنْتَهِزُ فُرْصَتَهَا مَنْ لاَ حَرِيجَةَ له فِي الدِّينِ»(2).

وعن ابن نباتة قال: أتى ابن ملجم أمير المؤمنين (علیه السلام) فبايعه فيمن بايع ثم أدبر عنه، فدعاه أمير المؤمنين (علیه السلام) فتوثق منه وتوكد عليه أن لا يغدر ولا ينكث ففعل، ثم أدبر عنه فدعاه أمير المؤمنين (علیه السلام) الثانية فتوثق منه وتوكد عليه أن لايغدر ولا ينكث ففعل، ثم أدبر عنه فدعاه أمير المؤمنين (علیه السلام) الثالثة فتوثق منه وتوكد عليه ألا يغدر ولا ينكث. فقال ابن ملجم: والله يا أمير المؤمنين ما رأيتك فعلت هذا بأحد غيري؟. فقال أمير المؤمنين (علیه السلام):

أريد حباءه و يريد قتلي *** عذيرك من خليلك من مراد

امض يا ابن ملجم فوالله ما أرى أن تفي بما قلت»(3).

ص: 150


1- تفسير فرات الكوفي: ص215 ومن سورة الرعد ح215-288.
2- نهج البلاغة، الخطب: 41 ومن خطبة له (علیه السلام) وفيها ينهى عن الغدر ويحذر منه.
3- الإرشاد للشيخ المفيد: ج1 ص12 فصل فمن الأخبار التي جاءت بذكره (علیه السلام) الحادث قبل كونه وعلمه به قبل حدوثه.

..............................

الاجتماع المحرم

مسألة: يحرم الاجتماع على الغدر، وخاصة في الغدر على النبي والوصي والعترة الطاهرة (علیهم السلام).

وفي الحديث: «إن الشياطين اجتمعوا إلى إبليس، فقالوا له: ألم تكن أخبرتنا أن محمداً إذا مضى نكثت أمته عهده ونقضت سنته، وأن الكتاب الذي جاء به يشهد بذلك، وهو قوله: «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ»(1)، فكيف يتم هذا وقد نصب لأمته عَلَماً وأقام لهم إماماً؟.

فقال لهم إبليس: لا تجزعوا من هذا، فإن أمته ينقضون عهده ويغدرون بوصيه من بعده، ويظلمون أهل بيته، ويهملون ذلك لغلبة حب الدنيا على قلوبهم، وتمكن الحمية والضغائن في نفوسهم، واستكبارهم وعزهم، فأنزل الله تعالى «وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ»(2)»(3).وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) في وصيته لأمير المؤمنين (علیه السلام): «يا علي، إن قريشاً ستظاهر عليك وتجتمع كلمتهم على ظلمك وقهرك، فإن وجدت أعواناً فجاهدهم، وإن لم تجد أعواناً فكف يدك واحقن دمك، فإن الشهادة من ورائك، لعن الله قاتلك»(4).

ص: 151


1- سورة آل عمران: 144.
2- سورة سبأ: 20.
3- بحار الأنوار: ج66 ص83-84 ب30 ح29، والبحار: ج90 ص59-60 ب128.
4- مستدرك الوسائل: ج11 ص74 ب28 ح12461.

اعتلالاً عليه بالزور

اشارة

-------------------------------------------

التستر على الغدر بالزور

مسألة: يحرم التستر على الغدر بالزور، والذي يعني ذلك(1) الكذب والدجل، وبعبارة أخرى: يحرم جمع الغدر مع الزور فإنهما معصيتان، فإذا اجتمعتا كانت الحرمة أشد، فإن التستر والجمع يزيد المحرمين حرمة(2)، فتأمل.

قال تعالى: «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ»(3).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «شاهد الزور لا تزول قدماه حتى تجب له النار»(4).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «لا ينقضي كلام شاهد الزور من بين يدي الحاكم حتى يتبوأ مقعده من النار،وكذلك من كتم الشهادة»(5).

وفي رسالة خرجت من أبي عبد الله (علیه السلام) إلى أصحابه: «فاتقوا الله وكفوا ألسنتكم إلا من خير، وإياكم أن تذلقوا ألسنتكم بقول الزور والبهتان والإثم والعدوان، فإنكم إن كففتم ألسنتكم عما يكرهه الله مما نهاكم عنه كان خيرا لكم عند ربكم من أن تذلقوا ألسنتكم به، فإن ذلق اللسان فيما يكرهه الله وفيما ينهى

ص: 152


1- أي هذا التستر هو الخداع.
2- أي لو فرض أن الغدر كانت حرمته مغلظة بمقدار عشر درجات وكذلك الزور، فإن التستر على الغدر بالزور يزيد غلظة حرمة كل منها إلى 12 درجة مثلاً.
3- سورة الحج: 30.
4- وسائل الشيعة: ج27 ص324 ب9 ح33846.
5- الكافي: ج7 ص383 باب من شهد بالزور ح3.

..............................

عنه مرداة للعبد عند الله، ومقت من الله وصمم وبكم وعمى يورثه الله إياه يوم القيامة، فتصيروا كما قال الله: «صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ»(1) يعني: لاينطقون «وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ»(2) وإياكم وما نهاكم الله عنه أن تركبوه وعليكم بالصمت إلا فيما ينفعكم الله به من أمر آخرتكم ويأجركم عليه»(3).

سياسة الطغاة

مسألة: يمكن أن يستنبط من كلام الصديقة فاطمة (علیها السلام) هاهنا قاعدة شبه مطردة تكشف عن منهجية الطغاة والمنحرفين، وهي أنهم لا يقتصرون على الغدر والخيانة، بل لابد وأن ينساقوا نحو جريمة أخرى هي الزور والدجل، فالغدر والزور متلازمان عادة، وكل طاغية أو غادر يحاول التستر على جريمته بذلك وإضفاء الشرعية الكاذبة عليها.

روى نصر عن عمر بن سعد بإسناده، قال: قال معاوية لعمرو: يا أبا عبد الله، إني أدعوك إلى جهاد هذا الرجل الذي عصى الله! وشق عصا المسلمين، وقتل الخليفة، وأظهر الفتنة، وفرق الجماعة، وقطع الرحم!. فقال عمرو: من هو؟. قال: علي. قال: والله يا معاوية، ما أنت وعلي بحملي بعير، ليس لك هجرته ولا سابقته، ولا صحبته ولا جهاده، ولا فقهه ولا علمه، ووالله إن له مع ذلك لحظاً في الحرب ليس لأحد غيره، ولكني قد تعودت من الله تعالى إحساناً و بلاءً جميلاً، فما تجعل لي إن شايعتك على حربه وأنت تعلم ما فيه من

ص: 153


1- سورة البقرة: 171.
2- سورة المرسلات: 36.
3- بحار الأنوار: ج75 ص211-212 ب23 ح93.

..............................

الغرر والخطر؟. قال: حكمك. فقال: مصرطعمة»(1).

وفي حديث قال معاوية لعمرو بن عاص: يا أبا عبد الله، إني أكره أن يتحدث العرب عنك أنك إنما دخلت في هذا الأمر لغرض الدنيا. قال: دعني عنك. قال معاوية: إني لو شئت أن أمنيك وأخدعك لفعلت. قال عمرو: لالعمر الله ما مثلي يخدع لأنا أكيس من ذلك. قال له معاوية: ادن مني برأسك أسارك. قال: فدنا منه عمرو يساره فعض معاوية أذنه، وقال: هذه خدعة»(2).

حرمة الزور

مسألة: يحرم الزور بشكل عام، وخاصة على رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته الأطهار (علیهم السلام)، أي أن حرمته تشتد وتتأكد، والعقوبة تتضاعف وتتغلظ.

والزور: هو الكذب والباطل، وهاهنا بمعنى أن ينسب إليهم ما لم يقولوه، وقد ادعى غاصبو فدك أن الرسول (صلی الله علیه و آله) قال: (نحن معاشر الأنبياء لانورث وما تركناه صدقة)، وهذه النسبةإلى الرسول (صلی الله علیه و آله) غدر وزور.

قولها (علیها السلام): «أفتجمعون إلى الغدر اعتلالاً عليه بالزور»، يمكن أن تقرأ (أ فَتَجْمَعُون...) من الثلاثي المجرد، والمعنى هل تضمون إلى سيئة الغدر سيئة الزور وتجمعونهما؟. حيث جمعوا بين (الغدر) وبين (الاعتلال عليه بالزور والكذب) فيكون (اعتلالاً) مفعولاً ل- (تجمعون).

ص: 154


1- شرح نهج البلاغة: ج2 ص64-65 قدوم عمرو بن العاص على معاوية.
2- وقعة صفين: ص38 حديث عمرو مع معاوية.

وهذا بعد وفاته » شبيه بما بُغي له من الغوائل في حياته

اشارة

-------------------------------------------

ويمكن أن تقرأ (أَ فَتُجْمِعُون) من باب الإفعال، من أجمع القوم على الشيء، أي اتفقوا عليه وعزموا، والمعنى هل تتفقون وتعزمون على الغدر وتعتلّون وتستدلون عليه بقول الزور؟. ف- (اعتلالاً) على هذا (حال).

وربما يقوى الأول لمكان (إلى)(1)، فتأمل.

وهذا بعد وفاته » شبيه بما بُغي له من الغوائل في حياته

هل أصحاب النبي » كلهم كالنجوم؟

مسألة: يستفاد من كلام الصديقة الطاهرة (علیها السلام):

أولاً: إن الغدر برسول الله (صلی الله علیه و آله) جرى في زمن حياة الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) وقد استمر إلى ما بعد وفاته، وأن هناك من كان يبغي للنبي (صلی الله علیه و آله) الغوائل في حياته.

وثانياً: إن التزوير على رسول الله (صلی الله علیه و آله) جرى في حياته، وبعد مماته أيضاً، ولذلك قال الرسول (صلی الله علیه و آله): «كثرت عليَّ الكذابة»(2).

ومن كلامها (علیها السلام) هذا - والأدلة على ذلك كثيرة - يعرف أن ما يذهب إليه جمع من أبناء العامة من تنزيه الصحابة بأجمعهم خطأ وباطل، فهل من يغدر برسول الله (صلی الله علیه و آله) نزيه؟. وهل يعقل أن يقول الرسول (صلی الله علیه و آله): (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم)؟.

ص: 155


1- إذ يقال: (أجمع القوم على كذا) لا إلى كذا، وفي كلام الصديقة الكبرى (علیها السلام) (أفتجمعون إلى ..).
2- الكافي: ج1 ص62 باب اختلاف الحديث ح1.

..............................

قال ابن عباس: وضع رسول الله (صلی الله علیه و آله) يده على صدره فقال: «أنا المنذر»، وأومأ إلى منكب علي (علیه السلام) وقال: «أنت الهادي يا علي، بك يهتدي المهتدون بعدي»(1).

وقال العلامة المجلسي (رحمة الله): وبهذه الأخبار يظهر أن حديث: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" من مفترياتهم، كما اعترف بكونه موضوعاً شارح الشفاء وضعّف رواته، وكذا ابن حزم والحافظ زين الدين العراقي، وسيأتي القول في ذلك إن شاء الله تعالى(2).

وفي (دعائم الإسلام): إنما قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «الأئمة من أهل بيتي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم»، ولو كان كما قالت العامة: "أصحابي" - وهم كل من رآه و صحبه كما زعموا - لكان هذا القول يبيح قتلهم أجمعين؛ لأنهم قد تحاجزوا بعده واختلفوا وقتل بعضهم بعضاً، ولو أن مقتدياً اقتدى بواحد منهم لحل له قتل الطائفة التي قاتلها علي (علیه السلام) على قولهم، ثم يبدو له فيقتدي بآخر من الطائفة الأخرى فيحل له قتل الطائفة الأولى والطائفة التيهو فيها، ولن يأمر الله عزوجل ولا رسوله (صلی الله علیه و آله) بالإقتداء بقوم مختلفين لا يعلم المأمور بالإقتداء بهم من يقتدي به منهم، وهذا قول بيِّن الفساد ظاهر فساده يغني عن الاحتجاج على قائله(3).

وفي (الصوارم المهرقة) - بعد الإشارة إلى ما رووه من "أصحابي كالنجوم فبأيهم اقتديتم اهتديتم" - قال: وفيه بحث سنداً ومتناً:

ص: 156


1- بحار الأنوار: ج35 ص406 ب20 ضمن ح29.
2- بحار الأنوار: ج35 ص406 ب20.
3- دعائم الإسلام: ج1 ص86-87 ذكر من يجب أن يؤخذ عنه العلم.

..............................

أما أولاً: فلما قال بعض الفضلاء من أولاد الشافعي في شرح كتاب (الشفاء) للقاضي عياض المالكي: إن حديث " أصحابي كالنجوم" أخرجه الدارقطني في (الفضائل)، وابن عبد في (العلم) من طريقه من حديث جابر، وقال: هذا إسناد لا يقوم به حجة؛ لأن في طريقه الحارث بن غضين وهو مجهول. ورواه عبد بن حميد في (مسنده) من رواية عبد الرحيم بن زيد، عن أبيه، عن المسيب، عن عمر، قال البزار: منكر لا يصح. ورواه ابن عدي في (الكامل) من رواية حمزة بن أبي حمزة النصيبي، عن نافع، عن عمر، بلفظ: "بأيهم أخذتم" بدل قوله:"اقتديتم" وإسناده ضعيف؛ لأجل حمزة لأنه متهم بالكذب. ورواه البيهقي في (المدخل) من حديث ابن عباس وقال: متنه مشهور وأسانيده ضعيفة لم يثبت في هذا الباب إسناد. وقال ابن حزم: إنه مكذوب موضوع باطل. وقال الحافظ زين الدين العراقي: وكان ينبغي للمصنف أن لايذكر هذا الحديث بصيغة الجزم لما عرفت حاله عند علماء الفن...

وأما ثانياً: فلأن المخاطبين في متن الحديث بلفظ: "اقتديتم واهتديتم" إن كانوا هم الصحابة أو الصحابة مع غيرهم فلا يستقيم، إذ لا مساغ للفصيح أن يقول لأصحابه أو لهم مع غيرهم: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" وهو ظاهر، وإن كانوا غير الصحابة فهو خلاف الظاهر، إذ الظاهر أن كل من خاطبه النبي (صلی الله علیه و آله) بهذا الخطاب المتبادر منه الخطاب الشفاهي كان بمرأى منه (صلی الله علیه و آله) فكان صحابياً، ولو سلم ذلك لكان الظاهر إخبار راويه بأن الرسول (صلی الله علیه و آله) قال لجميع من أسلم غير الصحابة: "أصحابي كالنجوم" إلى آخره، ولما لم يكن في روايتكم شي ء من هذا التخصيص بطل ادعاؤكم في ذلك.

ص: 157

..............................

وأيضاً يلزم على هذا التقدير أن كل من اقتدى بقول بعض الجهال بل الفساق من الصحابة أو المنافقين منهم وترك العمل بقول بعض العلماء الصالحين منهم يكون مهتدياً!، ويلزم أن يكون المقتدي بقتلة عثمان والذي تقاعد عن نصرته تابعا للحق مهتدياً، وأن يكون المقتدي بعائشة وطلحة والزبير الذين بغوا وخرجوا على علي (علیه السلام) وقاتلوه مهتدياً!، وأن يكون المقتول من الطرفين في الجنة!، ولو أن رجلاً اقتدى بمعاوية في صفين فحارب معه إلى نصف النهار ثم عاد في نصفه فحارب مع علي (علیه السلام) إلى آخر النهار لكان في الحالين جميعاً مهتدياً تابعاً للحق!، والتوالي بأسرها باطلة ضرورة واتفاقاً.

والذي يسد باب كون عموم الصحابة كالنجوم ما قال الفاضل التفتازاني في (شرح المقاصد) من أن: ما وقع بين الصحابة من المحاربات والمشاجرات على الوجه المسطور في كتب التواريخ والمذكور على ألسنة الثقات يدل بظاهره على أن بعضهم قد حاد عن طريق الحق وبلغ حد الظلم والفسق، وكان الباعث عليه الحقد والعناد والحسدواللداد وطلب الملك والرئاسات والميل إلى اللذات والشهوات، إذ ليس كل صحابي معصوماً، ولا كل من لقي النبي (صلی الله علیه و آله) بالخير موسوماً، إلا أن العلماء لحسن ظنهم بأصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) ذكروا لها محامل وتأويلات بها يليق وذهبوا إلى أنهم محفوظون عما يوجب التضليل والتفسيق صوناً لعقائد المسلمين من الزيغ والضلالة في حق كبار الصحابة سيما المهاجرين منهم والأنصار المبشرين بالثواب في دار القرار، انتهى.

ويتوجه إلى ما ذكره آخراً من تعليل ذكر العلماء المحامل والتأويلات لما وقع

ص: 158

..............................

بين الصحابة بحسن ظنهم فيه: أن بعد العلم بوقوع ما وقع بينهم لا وجه لحسن الظن بالكل إلا التعصب فيهم، وأما من زعموه كبار الصحابة وعنوا به الثلاثة فهم أول من أسس أساس الظلم والعدوان بغصب الخلافة عن أهل البيت (علیهم السلام) والإقدام بكيت وكيت، وإنما صاروا كباراً بغصبهم الخلافة وحكومتهم على الناس بالجلافة، ولهذا قال بعض علماء العامة: كلٌ زينته الخلافة إلاعلي بن أبي طالب (علیه السلام) . روي أنه لما دخل علي (علیه السلام) الكوفة دخل عليه حكيم من العرب فقال: والله يا أمير المؤمنين لقد زيّنتَ الخلافة وما زينتك، ورفعتها وما رفعتك، وهي كانت أحوج إليك منك إليها، انتهى.

وأما ما ذكره من البشارة لهم بالثواب في دار القرار، فإن أشار به إلى حديث بشارة العشرة فهو موضوع لا يصح إلا في واحد منهم عليه السلام كما سيأتي بيانه، وإن أشار به إلى غيره من الأحاديث فلعل بعد ظهور صحته يكون بشارة الثواب فيه مشروطاً بشروطه...

والحاصل: أنه لا يتحتم بمجرد الصحابية الحكم بالإيمان والعدالة وحسن الظن فيهم واستيهالهم للإقتداء بهم والاستهداء منهم؛ وذلك لأنه لا ريب في أن الصحابي من لقي النبي (صلی الله علیه و آله) مؤمناً به وموته على الإسلام، وأن الإيمان والعدالة مكسبان وليسا طبعيين جبليين، فالصحابي كغيره في أنه لا يثبت إيمانه إلا بحجة، لكن قد جازف أهل السنة كل المجازفة فحكموا بعدالة كل الصحابة من لابس منهم الفتن ومن لم يلابس، وقد كان فيهم المقهورون على الإسلام، والداخلون على غير بصيرة، والشكاك كما وقع من فلتات ألسنتهم كثيراً، وكان فيهم: شاربو الخمر وقاتلو النفس وسارقوالرداء وغيرها من المناكير، بل كان فيهم

ص: 159

..............................

المنافقون كما أخبر به الباري جل ثناؤه ورواه البخاري في (صحيحه) وغيره في غيره، وكانوا في عهده (صلی الله علیه و آله) ساكنين في مدينته يصحبونه ويجلسون في مجلسه ويخاطبهم ويخاطبونه ويدعون بالصحابة ولم يكونوا بالنفاق معروفين ولامتميزين ظاهراً، قال الله سبحانه: «وَلَوْ نَشاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ»(1)، بل كان فيهم من يبتغي له الغوائل ويتربص به الدوائر ويمكر ويسعى في هدم أمره، كما ذكره أبو بكر أحمد البيهقي في كتاب (دلائل النبوة) حيث قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وذكر الإسناد مرفوعاً إلى أبي الأسود عن عروة قال:

لما رجع رسول الله (صلی الله علیه و آله) من تبوك إلى المدينة حتى إذا كان ببعض الطريق مكر به ناس من أصحابه، فأتمروا أن يطرحوه من عقبة في الطريق وأرادوا أن يسلكوه معه، فأخبر رسول الله (صلی الله علیه و آله)خبرهم فقال: «من شاء منكم أن يأخذ بطن الوادي فإنه أوسع لكم»، فأخذ النبي (صلی الله علیه و آله) العقبة وأخذ الناس بطن الوادي إلا النفر الذين أرادوا المكر به فاستعدوا وتلثموا، وأمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر فمشيا معه، وأمر عماراً أن يأخذ بزمام الناقة وأمر حذيفة أن يسوقها، فبينا هم يسيرون إذ سمعوا ذكرة القوم من ورائهم قد غشوهم، فغضب رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأمر حذيفة أن يردهم فرجعوا متلثمين فرعبهم الله حين أبصروا حذيفة وظنوا أن مكرهم قد ظهر وأسرعوا حتى خالطوا الناس، وأقبل حذيفة حتى أدرك رسول الله (صلی الله علیه و آله) فلما أدركه، قال له: «اضرب الراحلة يا حذيفة، وامش أنت يا عمار»، فأسرعوا وخرجوا من العقبة ينتظرون الناس،

ص: 160


1- سورة محمد: 30.

..............................

فقال النبي (صلی الله علیه و آله): «يا حذيفة هل عرفت من هؤلاء الرهط والركب أحداَ؟». فقال حذيفة: عرفت راحلة فلان وفلان وكانت ظلمة الليل غشيتهم وهم ملتثمون. فقال (صلی الله علیه و آله): «هل علمتما ما شأن الركب وماأرادوا؟». قالا:لا يا رسول الله (صلی الله علیه و آله). قال: «فإنهم مكروا ليسيروا معي حتى إذا أظلمت لي العقبة طرحوني منها». قالا: أفلا تأمر بهم يا رسول الله إذا جاءك الناس فنضرب أعناقهم. قال: «أكره أن يتحدث الناس ويقولون: إن محمداً قد وضع يده في أصحابه». فسماهم لهما ثم قال: «اكتماهم». وفي كتاب أبان بن عثمان، قال الأعمش: وكانوا اثني عشر سبعة من قريش!.

وعلى تقدير ثبوت الإيمان والعدالة يمكن زوالهما كما في بلعم صاحب موسى (علیه السلام) حيث قال سبحانه وتعالى: «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأ الَّذِي آتَيْنَاهُ آياتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ»(1)، وكان بلعم أوتي علم بعض كتب الله، وقيل: يعرف اسم الله الأعظم ثم كفر بآيات الله، وكما وقع من الطامة الكبرى في سبعين ألفاً من بني إسرائيل وأولاد الأنبياء الذين كانوا في دينموسى (علیه السلام) فارتدوا في حياته بمجرد غيبته عنهم مدة قليلة إلى الطور، واستضعفوا وصية هارون النبي (علیه السلام) وكادوا يقتلونه ويدفعونه باليد والرجل واقتدوا بالسامري في عبادة العجل، وإذا كان هذا حال هؤلاء النجباء من أولاد الأنبياء الذين لم يدنسهم سبق الشرك والكفر في حياة نبيهم

ص: 161


1- سورة الأعراف: 175- 176.

..............................

ووجود نبي آخر ووصيه فيهم، فما ظنك بحال جماعة مضى أكثر عمرهم في الكفر والجاهلية، بعد وفاة نبيهم، مع أنه لم يكن يحصل لهؤلاء عن ذلك العجل الحنيذ جاه أو مال عتيد، وكان لمن وافق أبا بكر في غصب خلافة نبينا الحميد من طمع الجاه والمال ما ليس عليه مزيد، فعقدوا لواء السلطنة بسيفهم خالد بن الوليد، وسدوا لسان أبي سفيان بتفويض ولاية الشام إلى ولده يزيد، ودفعوا فتنة زبير بما أراد وأريد، وفوضوا إلى غيرهم كمغيرة وأبا عبيدة حكومة صنعاء وزبيد، إلى غير ذلك مما يطول به النشيد، وإذا كان كذلك فلابد من تتبع أحوالهم وأقوالهم في حياة النبي (صلی الله علیهو آله) وبعد موته، ليعلم من مات منهم على الإيمان والعدالة ومن مات ميتة جاهلية، انتهى(1).

وقد يستفاد من كلامها (علیها السلام) خاصة بلحاظ كلمة (شبيه) أن من بغوا الغوائل له (صلی الله علیه و آله) بعد مماته هم نفس من بغوا له الغوائل في حياته (صلی الله علیه و آله)!

ويدل كلامها (علیها السلام) أيضاً على تعدد بل كثرة الغوائل التي خططوا لها في حياته (صلی الله علیه و آله) بلحاظ الجمع المحلى، وبلحاظ القرائن المقالية والمقامية أيضاً.

فعن محمد بن موسى بن نصر الرازي، قال: حدثني أبي، قال: سُئل الرضا (علیه السلام) عن قول النبي (صلی الله علیه و آله): "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم"، وعن قوله (صلی الله علیه و آله): "دعوا لي أصحابي"؟. فقال (علیه السلام): «هذا صحيح يريد من لم يغير بعده ولم يبدل». قيل: وكيف يعلم أنهم قد غيروا أوبدلوا؟. قال: «لما يروونه من أنه (صلی الله علیه و آله) قال: "ليذادن برجال من أصحابي يوم القيامة عن حوضي كما تذاد غرائب الإبل عن الماء، فأقول: يا رب أصحابيأصحابي؟. فيقال لي:

ص: 162


1- الصوارم المهرقة: ص3-9.

..............................

إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: بُعداً لهم وسحقاً"، أفترى هذا لمن لم يغير ولم يبدل»(1).

وفي (تفسير العياشي): عن الحسين بن المنذر، قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن قول الله: «أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ» القتل أم الموت؟. قال: «يعني أصحابه الذين فعلوا ما فعلوا»(2).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): « ليجيئن قوم من أصحابي من أهل العلية والمكانة مني ليمروا على الصراط، فإذا رأيتهم ورأوني وعرفتهم وعرفوني اختلجوا دوني، فأقول: أي رب أصحابي أصحابي؟. فيقال: ما تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم ارتدوا على أدبارهم حيث فارقتهم. فأقول: بُعداً وسحقاً»(3).وفي صحاحهم بإسنادهم إلى ابن عباس قال: خطب رسول الله » فقال: «يا أيها الناس، إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلاً - ثم قال - «كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ»(4)»، إلى آخر الآية، ثم قال: «ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم، ألا وإنه يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: يا رب أصيحابي؟. فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول: كما قال العبد الصالح: «وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ»(5). فيقال: إن هؤلاء لم يزالوا

ص: 163


1- عيون أخبار الرضا (علیه السلام): ج2 ص87 ب22 ح33.
2- تفسير العياشي: ج1 ص200 من سورة آل عمران ح153.
3- كتاب سليم بن قيس: ص599 الحديث الرابع.
4- سورة الأنبياء: 104.
5- سورة المائدة: 117.

..............................

مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم»(1).

ورووا عن أنس: أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: «ليردن عليَّ الحوض رجال ممن صاحبني حتى إذا رأيتهم ورفعوا اليَّ اختلجوا دوني، فلأقولن: أي رب أصيحابي أصيحابي؟. فليقالن لي:إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك»(2).

وفي البخاري: أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: «بينا أنا قائم فإذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم. فقال: هلم. فقلت: أين؟. قال: إلى النار والله. قلت: وما شأنهم؟. قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى، ثم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم. فقال: هلم. قلت: أين؟. قال: إلى النار والله. قلت: ما شأنهم؟. قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى، فلا أراه يخلص منهم إلاّ مثل همل النعم»(3).

ورووا عن عائشة قالت: سمعت رسول الله » يقول - وهو بين ظهراني أصحابه -: إني على الحوض انتظر من يرد عليَّ منكم، فو الله ليقتطعن دوني رجال فلأقولن: أي رب مني ومن أمتي. فيقول: إنك لا تدري ما عملوا بعدك ما زالوا يرجعون على أعقابهم»(4).

ورووا عن أسماء بنت أبي بكر قالت: قال رسول الله (صلی الله علیه وآله): «إني على

ص: 164


1- صحيح البخاري: ج5 ص191-192 كتاب تفسير القرآن، صحيح مسلم: ج8 ص157 باب في صفة يوم القيامة.
2- صحيح مسلم: ج7 ص70-71 باب إثبات حوض نبينا » وصفاته، صحيح البخاري: ج7 ص207 كتاب الرقاق.
3- صحيح البخاري: ج7 ص 208 كتاب الرقاق.
4- صحيح مسلم: ج7 ص66 باب إثبات حوض نبينا » وصفاته.

..............................

الحوض حتى انظر من يرد عليَّ منكم، وسيؤخذ ناس من دوني فأقول: يا رب مني ومن أمتي. فيقال: هل شعرت ما عملوا بعدك، والله ما برحوا يرجعون على أعقابهم»(1).

ورووا عن أم سلمة (رضي الله عنها) عن النبي (صلی الله علیه و آله)، أنه قال: «إني لكم فرط على الحوض فإياي لا يأتين أحدكم فيذب عني كما يذب البعير الضال، فأقول: فيم هذا؟. فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول: سحقاً»(2).

ورووا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «والذي نفسي بيده لأذودن رجالاً عن حوضي كما تذاد الغريبة من الإبل عن الحوض»(3).

إلى غير ذلك من الروايات التي رووها وهي تدل على عدم صحة ما ادعوهمن عدالة جميع الصحابة كما هو واضح.

التخطيط للمستقبل

مسألة: كما أن الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) خطط وعمل للحاضر وحال حياته وللمستقبل وبعد مماته(4) في قبال تخطيط الأعداء في حياته ولما بعد مماته والذي أشارت إليه هاهنا الصديقة الزهراء (علیها السلام) .. كذلك يجب على المصلح أن يعمل

ص: 165


1- صحيح البخاري: ج7 ص209 كتاب الرقاق، صحيح مسلم: ج7 ص66 باب إثبات حوض نبينا » وصفاته.
2- صحيح مسلم: ج7 ص67 باب إثبات حوض نبينا » وصفاته.
3- صحيح البخاري: ج3 ص78 كتاب المساقاة، صحيح مسلم: ج7 ص70 باب إثبات حوض نبينا » وصفاته.
4- عبر سيل من الإرشادات والخطط ومنها استخلافه الثقلين - الكتاب والعترة - على الناس من بعده حيث قال (صلی الله علیه و آله): «إني تارك فيكم الثقلين ... ».

..............................

ويخطط للمستقبل ولما بعد وفاته، كما يعمل ويخطط للحاضر وفي حال حياته، إذ إن (المسؤولية) و(واجب الأمر والنهي) لا يمُتثل بمجرد الهداية والإرشاد طوال العمر فقط، إذ بالمقدور عبر تأسيس المؤسسات الاستراتيجية وعبر تربية الأفراد وعبر التخطيط المستقبلي: هداية كم أكبر ولمدة أطول وعلى امتداد الأزمان.

وعلى هذا فالواجب لمن يعرف أن العدو يبتغي الغوائل (حسب تعبيرها (علیها السلام)) في زمن حياة المصلحين (وعلى رأسهم سيد المرسلين (صلی اللهعلیه و آله)) وبعد وفاتهم، أن يتخذ الحيطة والحذر، وأن يخطط لإحباط ذلك أو لفضحه على الأقل، كما فعلت الصديقة الكبرى (علیها السلام). وهكذا كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (علیه السلام).

روي أنه دخل ضرار صاحب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) على معاوية بن أبي سفيان بعد وفاته (علیه السلام) فقال له معاوية: يا ضرار، صف لي علياً؟. قال: أوتعفيني. قال: لا أعفيك. قال: ما أصف منه، كان والله شديد القوى، بعيد المدى، يتفجر العلم من أنحائه، والحكمة من أرجائه، حسن المعاشرة، سهل المباشرة»(1).

ما لقي الرسول » من الغوائل

مسألة: يستحب بيان ما لقي الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) في حياته من الغوائل والمشاكل، ولا يصح التعلل لعدم ذلك بأن فيه فضحاً وتعرية لعدد من الصحابة، إذ أية حرمة لمن يبغي لرسول الله (صلی الله علیه و آله) الغوائل؟.

ص: 166


1- شرح نهج البلاغة: ج18 ص225.

..............................

وقد يجب بيان ذلك، فإن ذكر ما لاقى الرسول (صلی الله علیه و آله) من المشاكل والمصاعب يوجب الاعتقاد به (صلی الله علیه و آله) والتأسي بوجوده أكثر فأكثر؛ لأن المصلحين الذين يلاقون العنت والإرهاق والشدائد يكونون أسوة للمصلحين الآتين الذين يريدون تغيير المجتمع من السيئ إلى الحسن، أو من الحسن إلى الأحسن.

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «ما أوذي نبي مثل ما أوذيت»(1).

وقال تعالى: «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ»(2). وقال عزوجل: «قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ»(3).

وقال سليم: وحدثني علي بن أبي طالب (علیه السلام) قال: «كنت أمشي مع رسول الله » في بعض طرق المدينة فأتينا على حديقة. فقلت: يا رسول الله، ما أحسنها من حديقة؟. قال: ما أحسنها ولك في الجنة أحسن منها.

ثم أتينا على حديقة أخرى فقلت: يارسول الله، ما أحسنها من حديقة؟.

قال: ما أحسنها ولك في الجنة أحسن منها.

حتى أتينا على سبع حدائق أقول: يا رسول الله، ما أحسنها؟. ويقول: لك في الجنة أحسن منها.

فلما خلا له الطريق اعتنقني ثم أجهش باكياً وقال: بأبي الوحيد الشهيد.

فقلت: يا رسول الله، ما يبكيك؟.

ص: 167


1- المناقب: ج3 ص247 فصل مساواته يعقوب ويوسف (علیهما السلام).
2- سورة الأحزاب: 21.
3- سورة الممتحنة: 4.

..............................

فقال: ضغائن في صدور أقوام لايبدونها لك إلا من بعدي، أحقاد بدر وترات أحُد. قلت: في سلامة من ديني؟.

قال: في سلامة من دينك، فأبشر يا علي فإن حياتك وموتك معي، وأنت أخي، وأنت وصيي، وأنت صفيي ووزيري ووارثي والمؤدي عني، وأنت تقضي ديني وتنجز عداتي عني، وأنت تبرئ ذمتي وتؤدي أمانتي، وتقاتل على سنتي الناكثين من أمتي والقاسطين والمارقين، وأنت مني بمنزلة هارون من موسى ولك بهارون أسوة حسنة، إذ استضعفه قومه وكادوا يقتلونه، فاصبر لظلم قريش إياك وتظاهرهم عليك، فإنك بمنزلة هارون من موسى ومن تبعه وهم بمنزلة العِجل ومن تبعه، وإن موسى أمر هارون حين استخلفه عليهم إن ضلوا فوجد أعواناًأن يجاهدهم بهم، وإن لم يجد أعواناً أن يكف يده ويحقن دمه ولا يفرق بينهم.

يا علي، ما بعث الله رسولاً إلا وأسلم معه قوم طوعاً وقوم آخرون كرهاً، فسلط الله الذين أسلموا كرهاً على الذين أسلموا طوعاً، فقتلوهم ليكون أعظم لأجورهم. يا علي، وإنه ما اختلفت أمة بعد نبيها إلا ظهر أهل باطلها على أهل حقها، وإن الله قضى الفرقة والاختلاف على هذه الأمة ولو شاء لجمعهم على الهدى حتى لا يختلف اثنان من خلقه، ولا يتنازع في شيء من أمره، ولا يجحد المفضول ذا الفضل فضله، ولو شاء عجل النقمة فكان منه التغيير حتى يكذب الظالم، ويعلم الحق أين مصيره، ولكن جعل الدنيا دار الأعمال، وجعل الآخرة دار القرار «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِمَا عَمِلُوا ويَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى» (1).

ص: 168


1- سورة النجم: 31.

..............................

فقلت: الحمد لله شكراً على نعمائه وصبراً على بلائه، وتسليماً ورضىً بقضائه»(1).

حرمة إثارة المشاكل

مسألة: يحرم على الإنسان أن يثير المشاكل ويحيك المؤامرات ضد الرسول (صلی الله علیه و آله)، أو ضد آله الأطهار (علیهم السلام)، أو ضد منهجه ودعوته ورسالته (صلی الله علیه و آله)، في حياته وبعد مماته (صلی الله علیه و آله) وإلى يومنا هذا وحتى قيام الساعة، وتشمل الحرمة كل من قام بذلك في أي زمن من الأزمان.

قال تعالى: «وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ»(2).

وقال عزوجل: «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالآْخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً»(3).

فإن الواجب هو مناصرة الرسول (صلی الله علیه و آله) لا أن يكون الإنسان حيادياً بالنسبة إليه، فكيف بابتغاء المشاكل عليه (صلی الله علیه و آله)؟! فإنه من أشد المحرمات.

قال سبحانه: «أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ له نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ»(4).وفي (البحار) عن أمير المؤمنين (علیه السلام) أنه قال عند توجههما - أي طلحة والزبير - إلى مكة للاجتماع مع عائشة في التأليب عليه بعد أن حمد الله تعالى

ص: 169


1- كتاب سليم بن قيس: ص569-570 الحديث الثاني.
2- سورة التوبة: 61.
3- سورة الأحزاب: 57.
4- سورة التوبة: 63.

..............................

وأثنى عليه: «أما بعد، فإن الله عزوجل بعث محمداً » للناس كافة وجعله رحمة للعالمين، فصدع بما أمر به، وبلغ رسالة ربه، فلمّ به الصدع، ورتق به الفتق، وآمن به السبل، وحقن به الدماء، وألف به بين ذوي الإحن والعداوة، والوغر في الصدور، والضغائن الراسخة في القلوب، ثم قبضه الله إليه حميداً، لم يقصر في الغاية التي إليها أدى الرسالة، ولأبلغ شيئاً كان في التقصير عنه القصد، وكان من بعده ما كان من التنازع في الإمرة، فتولى أبو بكر وبعده عمر، ثم تولى عثمان فلما كان من أمره ما كان أتيتموني فقلتم: بايعنا. فقلت: لاأفعل. قلتم: بلى. فقلت: لا.وقبضت يدي فبسطتموها،ونازعتكم فجذبتموها، وحتى تداككتم عليَّ كتداكك الإبل الهيم على حياضها يوم ورودها حتى ظننت أنكم قاتليّ، وأن بعضكم قاتل بعض، وبسطت يدي فبايعتموني مختارين، وبايعني فيأولكم طلحة والزبير طائعين غير مكرهين، ثم لم يلبثا أن استأذناني في العمرة، والله يعلم أنهما أرادا الغدرة، فجددت عليهما العهد في الطاعة، وأن لا يبغيا الأمة الغوائل، فعاهداني ثم لم يفيا لي ونكثا بيعتي، ونقضا عهدي، فعجباً لهما من انقيادهما لأبي بكر وعمر وخلافهما لي، ولست بدون أحد الرجلين، ولو شئت أن أقول لقلت: اللهم اغضب عليهما بما صنعا وأظفرني بهما»(1).

معنى الغوائل

قولها (علیها السلام): «وهذا بعد وفاته شبيه بما بغي له من الغوائل في حياته» الغوائل بمعنى: الشرور والدواهي والحوادث المهلكة، وكانت المهالك والمشاكل

ص: 170


1- بحار الأنوار: ج32 ص98-99 ب1 ح69.

..............................

التي أوجدوها لرسول الله (صلی الله علیه و آله) في حياته كثيرة جداً وفي مختلف الشؤون الدينية والدنيوية.

فالمراد أن غدركم وزوركم بعد وفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله) شبيه بغدركم وزوركم عليه في حال حياته(صلی الله علیه و آله)؛ لأنهم كثيراً ما غدروا به حينذاك خصوصاً في ليلة العقبة، كما زوروا عليه وقالوا عنه ما لم يقله حتى قال (صلی الله علیه و آله): «كثرت عليَّ الكذابة، فمن كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار»(1).

والتعبير ب- (بغي له من الغوائل) يفصح عن محاولاتهم إهلاك الرسول (صلی الله علیه و آله) بخطط خفية، فإن الغائلة هي الحادثة المهلكة والداهية، وغاله: أهلكه وأخذه من حيث لا يدري، فبغي له من الغوائل يعني حاولوا إهلاكه وقتله غيلة وغدراً ومن حيث لا يعلم - حسب زعمهم - كما في العقبتين حيث أرادوا قتل النبي (صلی الله علیه و آله) والوصي(علیه السلام) (2)، وهكذا غدروا وغاولوا إلى أن وصل بهم الأمر أن دسوا السم إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقضى مسموماً شهيداً..

ففي (البحار)، عن (تفسير العياشي)، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «تدرون مات النبي (صلی الله علیه و آله)أو قُتل، إن الله يقول: «أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقابِكُمْ»(3) فسُمّ قبل الموت، إنهما سمتاه». فقلنا: إنهما وأبويهما شر من خلق الله(4).

ص: 171


1- الكافي: ج1 ص62 باب اختلاف الحديث ح1.
2- للتفصيل انظر بحار الأنوار: ج21 ص185 ب29.
3- سورة آل عمران: 144.
4- بحار الأنوار: ج28 ص20-21 ب1 ح28.

هذا كتاب الله حكماً عدلاً، وناطقاً فصلاً

اشارة

-------------------------------------------

القرآن هو الحَكَم

مسألة: يجب اتخاذ وجعل كتاب الله الحَكَم في المخاصمات، والرجوع إليه في معرفة الحق من الباطل؛ فإنه المصدر الأول لتبيين الحق وهو العدل والفصل، كما يجب الرجوع إلى العترة الطاهرة (علیهم السلام) فإنهم عِدل القرآن.

قال سبحانه: «لّقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ مّبَيّنَاتٍ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ»(1). وعن يونس بن عبد الرحمن قال: قلت لأبي الحسن الأول (علیه السلام): بما أوحد الله؟. فقال: «يا يونس، لا تكونن مبتدعاً، من نظر برأيه هلك، ومن ترك أهل بيت نبيه (صلی الله علیه و آله) ضلّ، ومن ترك كتاب الله وقول نبيه (صلی الله علیه و آله) كفر»(2).

وقال تعالى: «إِنّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوَاْ إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَ-َئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»(3)، والدعوة إلىالله سبحانه وتعالى معناها الدعوة إلى كتابه في أصول الدين وفروعه، وفي حل المنازعات وما أشبه ذلك.

على خلاف غير المؤمنين حيث قال عنهم: «وَيِقُولُونَ آمَنّا بِاللّهِ وَبِالرّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمّ يَتَوَلّىَ فَرِيقٌ مّنْهُمْ مّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَآ أُوْلَ-َئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوَاْ إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ مّعْرِضُونَ»(4).

ص: 172


1- سورة النور: 46.
2- وسائل الشيعة: ج27 ص40 ب6 ح33157.
3- سورة النور: 51.
4- سورة النور: 47 - 48.

..............................

روى السدي: أنه لما غنم النبي » بني النضير وقسم أموالهم، قال عثمان لعلي (علیه السلام): ائت النبي » واسأله كذا فإن أعطاك فأنا شريكك، وأنا أسأله فإن أعطاني فأنت شريكي. فسأله عثمان أولاً فأعطاه فأبى أن يشرك علياً، فقاضاه إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فأبى وقال: إنه ابن عمه فأخاف أن يقضي له. فنزلت «وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ» - إلى قوله - «بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ»(1)، فلما بلغه ما أنزل فيه جاء إلى النبي » وأقربالحق لعلي (علیه السلام) (2).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «إن الله تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كل شيء، حتى والله ما ترك الله شيئاً يحتاج إليه العباد، حتى لا يستطيع عبد يقول: لو كان هذا أنزل في القرآن إلاّ وقد أنزله الله فيه»(3).

وقال أبو جعفر (علیه السلام): «إذا حدثتكم بشيء فاسألوني عن كتاب الله عزوجل»(4). وقال أبو عبد الله (علیه السلام): «ما من أمر يختلف فيه اثنان إلا وله أصل في كتاب الله عزوجل ولكن لا تبلغه عقول الرجال»(5).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وفصل ما بينكم، ونحن نعلمه»(6).

ص: 173


1- سورة النور: 47 - 51.
2- الصراط المستقيم: ج3 ص37 النوع الثالث في عثمان.
3- الكافي: ج1 ص59 باب الرد إلى الكتاب والسنة ح1.
4- تهذيب الأحكام: ج7 ص231 ب21 ح30.
5- وسائل الشيعة: ج26 ص294 ب4 ح33025.
6- بحار الأنوار: ج89 ص98 ب8 ح67.

..............................

وعن سليم بن قيس الهلالي، قال: قلت لأمير المؤمنين (علیه السلام): إني سمعت من سلمان والمقداد وأبي ذر شيئاً من تفسير القرآن ومن الرواية عن النبي »، ثم سمعت منك تصديق ما سمعت منهم، ورأيت في أيدي الناس أشياء كثيرة من تفسير القرآن ومن الأحاديث عن النبي » تخالف الذي سمعته منكم، وأنتم تزعمون أن ذلك باطل، أفترى الناس يكذبون على رسول الله » متعمدين ويفسرون القرآن برأيهم؟.

قال: فأقبل عليَّ (علیه السلام) فقال لي: «يا سليم، قد سألت فافهم الجواب. إن في أيدي الناس حقاً وباطلاً، وصدقاً وكذباً، وناسخاً ومنسوخاً، وخاصاً وعاماً، ومحكماً ومتشابهاً، وحفظاً ووهماً، وقد كذب على رسول الله » على عهده حتى قام فيهم خطيباً، فقال: أيها الناس، قد كثرت عليَّ الكذابة، فمن كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار. ثم كذب عليه من بعده حين توفي رحمة الله على نبي الرحمة وصلى الله عليه وآله، وإنما يأتيك بالحديث أربعة نفر ليس لهم خامس:

رجل منافق مظهر للإيمان متصنع بالإسلام، لا يتأثم ولا يتحرج أن يكذب على رسول الله » متعمداً، فلو علم المسلمون أنه منافق كذاب لم يقبلوا منه ولم يصدقوه، ولكنهم قالوا: هذاصاحب رسول الله » رآه وسمع منه، وهو لا يكذب ولا يستحل الكذب على رسول الله »، وقد أخبر الله عن المنافقين بما أخبر، ووصفهم بما وصفهم، فقال الله عزوجل: «وإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ»(1)، ثم بقوا بعده وتقربوا إلى أئمة الضلال

ص: 174


1- سورة المنافقون: 4.

..............................

والدعاة إلى النار بالزور والكذب والنفاق والبهتان، فولوهم الأعمال وحملوهم على رقاب الناس، وأكلوا بهم من الدنيا، وإنما الناس مع الملوك في الدنيا إلاّ من عصم الله، فهذا أول الأربعة.

ورجل سمع من رسول الله » شيئاً فلم يحفظه على وجهه، ووهم فيه ولم يتعمد كذباً، وهو في يده يرويه ويعمل به، ويقول: أنا سمعته من رسول الله ». فلو علم المسلمون أنه وهم لم يقبلوا، ولو علم هو أنه وهم فيه لرفضه.

ورجل ثالث سمع من رسول الله » شيئاً أمر به ثم نهى عنه وهو لايعلم، أو سمعه نهى عن شيء ثم أمر به وهو لا يعلم، حفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ، فلو علم أنه منسوخ لرفضه، ولو علمالمسلمون أنه منسوخ إذ سمعوه لرفضوه.

ورجل رابع لم يكذب على الله ولا على رسوله بغضاً للكذب، وتخوفاً من الله وتعظيماً لرسوله »، ولم يوهم بل حفظ ما سمع على وجهه، فجاء به كما سمعه ولم يزد فيه ولم ينقص، وحفظ الناسخ من المنسوخ، فعمل بالناسخ ورفض المنسوخ.

وإن أمر رسول الله » ونهيه مثل القرآن: ناسخ ومنسوخ، وعام وخاص، ومحكم ومتشابه، وقد كان يكون من رسول الله » الكلام له وجهان: كلام خاص، وكلام عام. مثل القرآن يسمعه من لا يعرف ما عنى الله به وما عنى به رسول الله »، وليس كل أصحاب رسول الله » كان يسأله فيفهم، وكان منهم من يسأله ولا يستفهم، حتى أن كانوا ليحبون أن يجيء الطارئ والأعرابي فيسأل رسول الله » حتى يسمعوا منه.

ص: 175

..............................

وكنت أدخل على رسول الله » كل يوم دخلة وفي كل ليلة دخلة، فيخليني فيها أدعه حيث دار، وقد علم أصحاب رسول الله » أنه لم يكن يصنع ذلك بأحد من الناس غيري، وربما كان ذلك في منزلي يأتيني رسول الله »، فإذا دخلت عليه في بعض منازله خلا بي وأقام نساءه فلميبق غيري وغيره، وإذا أتاني للخلوة في بيتي لم تقم من عندنا فاطمة (علیها السلام) ولا أحد من ابنيّ (علیهما السلام).

وكنتُ إذا سألته أجابني، وإذا سكتُ أو نفدت مسائلي ابتدأني، فما نزلت عليه آية من القرآن إلا أقرأنيها وأملاها عليَّ، فكتبتها بخطي ودعا الله أن يفهمني إياها ويحفظني، فما نسيت آية من كتاب الله منذ حفظتها وعلمني تأويلها، فحفظته وأملاه عليَّ فكتبته.

وما ترك شيئاً علمه الله من حلال وحرام، أو أمر ونهي، أو طاعة ومعصية، كان أو يكون إلى يوم القيامة إلاّ وقد علمنيه، وحفظته ولم أنس منه حرفاً واحداً، ثم وضع يده على صدري ودعا الله أن يملأ قلبي علماً وفهماً، وفقهاً وحكماً ونوراً، وأن يعلمني فلا أجهل، وأن يحفظني فلا أنسى.

فقلت له ذات يوم: يا نبي الله، إنك منذ يوم دعوت الله لي بما دعوت لم أنس شيئاً مما علمتني، فلِمَ تمليه عليَّ وتأمرني بكتابته، أتتخوف علي النسيان؟.

فقال: يا أخي، لست أتخوف عليك النسيان ولا الجهل»(1).

ص: 176


1- كتاب سليم بن قيس: ص620- 626 الحديث العاشر.

..............................

في باب التعارض

مسألة: في تعارض الخبرين أو الطائفتين من الروايات، يجب الرجوع إلى القرآن الحكيم فهو (المرجع) وليس (المرجّح).

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إن على كل حق حقيقة وعلى كل صواب نوراً، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه»(1).

وعن ابن أبي يعفور، قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به ومنهم من لا نثق به؟. قال: «إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب الله أو من قول رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وإلا فالذي جاءكم به أولى به»(2).

وعن أيوب بن الحر، قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: «كل شيء مردود إلى الكتاب والسنة، وكل حديث لايوافق كتاب الله فهو زخرف»(3).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «ما لم يوافق من الحديث القرآنَ فهو زخرف»(4).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «خطب النبي (صلی الله علیه و آله) بمنى فقال: أيها الناس، ما جاءكم عني يوافق كتاب الله فأنا قلته، وما جاءكم يخالف كتاب الله

ص: 177


1- الكافي: ج1 ص69 باب الأخذ بالسنة وشواهد الكتاب ح1.
2- وسائل الشيعة: ج27 ص110 ب9 ح33344.
3- بحار الأنوار: ج2 ص242 ب29 ح37.
4- الكافي: ج1 ص69 باب الأخذ بالسنة وشواهد الكتاب ح4.

..............................

فلم أقله»(1).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «من خالف كتاب الله وسنة محمد (صلی الله علیه و آله) فقد كفر»(2).

الظواهر حجة بدون الضميمة

مسألة: كلام الصديقة الطاهرة (علیها السلام) صريح في حجية ظواهر الكتاب العزيز - إلاّ ما خرج بالدليل-، وصحة بل لزوم التمسك بها، خلافاً لبعض من لايرى ذلك، وقد سبق نظيره.

لا يقال: تمسكها (علیها السلام) بها في المقام هو المتمم، وبه أمكن التمسك كما قال البعض؟.

لأنه يقال: ظاهر (الحَكَمية) غير ذلك، وكذلك ظاهر (ناطقاً فصلاً)(3).

وهذا لا ينافي ضرورة الرجوع إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأهل البيت (علیهم السلام) لمعرفة تفسير القرآن وعلومه، كما أنه لا ينافي ضرورة تأويل مثل قوله تعالى: «يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ»(4)، وقوله عزوجل: «إِلَىَ رَبّهَا نَاظِرَةٌ»(5) لقيام الدليل القطعي على ذلك.

عن عبد الله بن سنان، عن أبيه، قال: حضرت أبا جعفر محمد بن علي

ص: 178


1- وسائل الشيعة: ج27 ص111 ب9 ح33348.
2- الكافي: ج1 ص70 باب الأخذ بالسنة وشواهد الكتاب ح6.
3- أي ظاهر تعبيرها ب- (حكماً) أنه الحاكم بالاستقلال، وكذا ظاهر (ناطقاً فصلاً) لا بالضميمة.
4- سورة الفتح: 10.
5- سورة القيامة: 23.

..............................

الباقر (علیه السلام) ودخل عليه رجل من الخوارج. فقال: يا أبا جعفر أي شيء تعبد؟. قال: «الله». قال: رأيتَه؟.قال: «لم تره العيون بمشاهدة العيان، ورأته القلوب بحقائق الإيمان، لا يُعرف بالقياس، ولا يُدرك بالحواس، ولا يُشبّه بالناس، موصوف بالآيات، معروف بالعلامات، لا يجور في حكمه، ذلك الله لا إله إلا هو». قال: فخرج الرجل وهو يقول: الله أعلم حيث يجعل رسالته(1).

وقال علي بن موسى الرضا (علیه السلام) في قول الله عزوجل: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ * إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ»(2)، قال: «يعني مشرقة تنتظر ثواب ربها»(3).

وعن الهروي، قال: قلت لعلي بن موسى الرضا (علیه السلام): يا ابن رسول الله، ما تقول في الحديث الذي يرويه أهل الحديث "أن المؤمنين يزورون ربهم في منازلهم في الجنة"؟.

فقال (علیه السلام): «يا أبا الصلت، إن الله تبارك وتعالى فضل نبيه محمداً » على جميع خلقه من النبيين والملائكة، وجعل طاعته طاعته، ومتابعته متابعته، وزيارته في الدنيا والآخرة زيارته، فقال عزوجل: «مَنْ يُطِعِالرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ»(4)، وقال: «إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ»(5)، وقال النبي »: من زارني في حياتي أو بعد موتي فقد زار الله تعالى. ودرجة النبي » في الجنة أرفع الدرجات، فمن زاره في درجته في الجنة من منزله فقد

ص: 179


1- الأمالي للصدوق: ص278 المجلس47 ح4.
2- سورة القيامة: 23.
3- التوحيد: ص116 ب8 ح19.
4- سورة النساء: 80.
5- سورة الفتح: 10.

..............................

زار الله تبارك وتعالى».

قال: فقلت له: يا ابن رسول الله »، فما معنى الخبر الذي رووه "أن ثواب لا إله إلاّ الله النظر إلى وجه الله تعالى"؟.

فقال (علیه السلام): «يا أبا الصلت، من وصف الله تعالى بوجه كالوجوه فقد كفر، ولكن وجه الله تعالى أنبياؤه ورسله وحججه (صلوات الله عليهم) هم الذين بهم يتوجه إلى الله عزوجل وإلى دينه ومعرفته، وقال الله تعالى: «كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (علیهم

السلام) ويَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ والإِكْرامِ»(1)، وقال عزوجل: «كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ»(2)، فالنظر إلىأنبياء الله تعالى ورسله وحججه (علیهم السلام) في درجاتهم ثواب عظيم للمؤمنين يوم القيامة، وقد قال النبي »: من أبغض أهل بيتي وعترتي لم يرني ولم أره يوم القيامة، وقال: إن فيكم من لا يراني بعد أن يفارقني. يا أبا الصلت، إن الله تبارك وتعالى لا يوصف بمكان، ولا يُدرك بالأبصار والأوهام...»(3).

وعن محمد بن الفضيل، قال: سألت أبا الحسن (علیه السلام) هل رأى رسول الله (صلی الله علیه و آله) ربه عزوجل؟. فقال: «نعم بقلبه رآه، أما سمعت الله عزوجل يقول: «مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى»(4)، لم يره بالبصر ولكن رآه بالفؤاد»(5).

ص: 180


1- سورة الرحمن: 26-27.
2- سورة القصص: 88.
3- عيون أخبار الرضا (علیه السلام): ج1 ص115- 116 ب11 ح3.
4- سورة النجم: 11.
5- بحار الأنوار: ج4 ص43 ب5 ضمن ح19.

..............................

التأكيد على حَكَمية القرآن

مسألة: يجب العمل على تكريس هذه الحقيقة في أذهان الناس وهي أن القرآن حَكَم وعدل وناطق وفصل.

فالقرآن يحكم بين الأطراف المتنازعة، ويقضي على من عليه الحق لمن له ذلك، وهو عادل في حكمه فلا يجور، كما أن القرآن ناطق فصل، ونطقه هو ظهور مفاده، وليس مثل بعض الآيات الكونية حيث إنها ليست ناطقة بمنزلة نطق القرآن، وإن كانت هي ناطقة أيضاً، بمعنى تسبيحها ودلالتها على وجود الله سبحانه وتعالى وجملة من صفاته.

قال تعالى: «تُسَبّحُ له السّمَاوَاتُ السّبْعُ وَالأرْضُ وَمَن فِيهِنّ وَإِن مّن شَيْءٍ إِلاّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ وَلَ-َكِن لاّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ»(1).

والقرآن فصل بين الحق والباطل سواء في المنازعات العقائدية أم غيرها، فهو يظهر ويبين جانب الحق، كما أنه يعري جانب الباطل ويكشف زيفه، قال سبحانه: «وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَوَفَصْلَ الْخِطَابِ»(2).

عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «يا سعد، تعلموا القرآن؛ فإن القرآن يأتي يوم القيامة في أحسن صورة نظر إليها الخلق - إلى أن قال - حتى ينتهي إلى رب العزة فيناديه تبارك وتعالى: يا حجتي في الأرض وكلامي الصادق الناطق ارفع رأسك وسل تعط، واشفع تشفع، كيف رأيت عبادي؟. فيقول: يا رب، منهم من

ص: 181


1- سورة الإسراء: 44.
2- سورة ص: 20.

..............................

صانني وحافظ عليّ ولم يضيع شيئاً، ومنهم من ضيعني واستخف بحقي وكذب بي، وأنا حجتك على جميع خلقك. فيقول الله عزوجل: وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لأُثيبن عليك اليوم أحسن الثواب، ولأُعاقبن عليك اليوم أليم العقاب»(1).

وقال أبو جعفر (علیه السلام): قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «أنا أول وافد على العزيز الجبار يوم القيامة وكتابه وأهل بيتي ثم أمتي، ثم أسألهم ما فعلتم بكتاب الله وبأهل بيتي»(2).قولها (علیها السلام): «هذا كتاب الله حكماً وعدلاً وناطقاً فصلاً». أي: كيف تنسبون إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) الحديث المكذوب والحال أن كتاب الله حَكَم بيننا وبينكم، وهو يدل على كذب هذا الحديث وعدم صدوره عن الرسول (صلی الله علیه و آله)؟.

ثم إن هذا الحاكم عادل لا يجور، وناطق وفاصل فهو يفصل بين الحق والباطل، ونطقه عبارة عن: ظهور مفاده وخصوصياته وأحكامه.

لا يقال: كيف يكون القرآن ناطقاً فصلاً والحال أننا لا نراه يفصل في كثير من الخصومات العقائدية والفكرية والاجتماعية وغيرها؟.

لأنه يقال: القرآن ناطق فصل بمعنى الاقتضاء، فهو كلمة الله الكاشفة عن الحقيقة ومن شأنه الفصل في الخصومة، لا بمعنى الجبر والقسر في فعليته، بل هذه الكلمة شأنها الفصل لو أراد الناس فصلاً إلهياً. وبعبارة أخرى: القرآن جُعل مقتضياً للفصل وليس علة تامة مما يستلزم الجبر، بل لفاصليته الفعلية شروط

ص: 182


1- وسائل الشيعة: ج6 ص165 ب1 ح7636.
2- الكافي: ج2 ص600 كتاب فضل القرآن ح4.

..............................

ومنها قابلية القابل وخضوعه للحق وعدم عناده، قال تعالى: «أَنَزَلَ مِنَالسّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا»(1)، فالقرآن ناطق فصل تشريعاً، أي شرع هكذا، أما تكويناً وفي مرحلة التطبيق فحسب القابليات وما أشبه.

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) عن آبائه (علیهم السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) - في حديث -: «إذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن؛ فإنه شافع مُشفّع، وماحل مصدّق، ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار، وهو الدليل يدل على خير سبيل، وهو كتاب فيه تفصيل، وبيان وتحصيل، وهو الفصل ليس بالهزل، وله ظهر وبطن، فظاهره حكم وباطنه علم، ظاهره أنيق وباطنه عميق، له نجوم وعلى نجومه نجوم، لا تحصى عجائبه، ولا تُبلى غرائبه، فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة، ودليل على المعرفة لمن عرف الصفة، فليجل جال بصره، وليبلغ الصفة نظره، ينج من عطب، ويتخلص من نشب؛ فإن التفكر حياة قلب البصير، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور، فعليكم بحسن التخلص، وقلة التربص»(2).

هل متشابه القرآن فصل؟

مسألة: كل القرآن ناطق فصل وحَكَم عدل حتى المتشابه منه؛ فإن المتشابه متشابه ظاهره وواضح الدلالة والمقصود في واقعه، وإن كان لا نعلم به، فوضوحه عند من نزل الكتاب في بيوتهم، وبعبارة أخرى: إن المتشابه متشابه

ص: 183


1- سورة الرعد: 17.
2- وسائل الشيعة: ج6 ص171 ب3 ح7657.

..............................

عند البعض وليس عند الكل، فهو متشابه على من لم يخاطب به. فيلزم الرجوع إلى الرسول (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته الطاهرين (علیهم السلام) لمعرفة المراد من المتشابه منه، وحينئذ يكون فصلاً وحَكَماً.

والفرق بين المحكم والمتشابه:

إن المحكم غير متوقف فهمه إلا على الشروط العامة، مثل أن يكون من أهل اللغة عارفاً بها، وإلا فإن من لا يعرف العربية لا يفهم من المحكم شيئاً إلا بعد الترجمة وما أشبه، كما هو واضح.

والمتشابه يتوقف على شرط إضافي هو لزوم صدور التوضيح ممن نزل القرآن في بيوتهم ومن خوطبوا به. ولتقريب المعنى إلى الذهن نمثل بكلمات رمزية اتفق عليها شخصان؛ فإنها لهما محكمة وللثالث متشابهة، لكنه لو اطلع علىالرمز أضحت لديه محكمة أيضاً. وبعبارة أخرى: يكون التشابه بالعرض وليس بالذات، وذلك لمصحلة رآها الباري عزوجل، ولكي يبين الناس ضرورة الرجوع إلى العترة الطاهرة (علیهم السلام).

قال تعالى: «هُوَ الّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مّحْكَمَاتٌ هُنّ أُمّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمّا الّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاّ اللّهُ وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلّ مّنْ عِندِ رَبّنَا وَمَا يَذّكّرُ إِلاّ أُوْلُواْ الألْبَابِ»(1). وفي تفسير الآية أن الراسخون في العلم: «أمير المؤمنين (علیه السلام) والأئمة (علیهم السلام)»(2).

ص: 184


1- سورة آل عمران: 7.
2- الكافي: ج1 ص415 باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية ح15.

..............................

وفي حديث آخر: «الراسخون في العلم هم آل محمد (علیهم السلام)»(1).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله):«من عمل بالمقاييس فقد هلك وأهلك، ومن أفتى الناس وهو لا يعلم الناسخ من المنسوخ والمحكم من المتشابه فقد هلك وأهلك»(2).

وعن أمير المؤمنين (علیه السلام) - في حديث - قال: «والمحكم من القرآن مما تأويله في تنزيله، مثل قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرءُوُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ»، وهذا من المحكم الذي تأويله في تنزيله، لا يحتاج تأويله إلى أكثر من التنزيل»(3).

وقال الإمام الصادق (علیه السلام): «دعوا عنكم ما اشتبه عليكم مما لا علم لكم به، وردّوا العلم إلى أهله تؤجروا وتُعذروا عند الله»(4).

ص: 185


1- تفسير العياشي: ج1 ص163 من سورة آل عمران ح4.
2- الأمالي للصدوق: ص421 المجلس65 ح16.
3- وسائل الشيعة: ج1 ص399 ب15 ح1042.
4- تحف العقول: ص353 احتجاجه (علیه السلام) على الصوفية لما دخلوا عليه.

يقول: «يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ»، ويقول: «وَوَرِثَ....

اشارة

-------------------------------------------

يقول: ]يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ»(1)، ويقول: «وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ»(2) وبيّن عزوجل فيما وزع من الأقساط، وشرع من الفرائض والميراث، وأباح(3) من حظ الذكران والإناث ما أزاح به علة المبطلين.

آيات الإرث

مسألة: لكلامها (علیها السلام) عقد إيجاب وعقد سلب، فعقد الإيجاب أن ما وزعه الله من الأقساط على الورثة وشرّعه لهم ينبغي أن يعطى لكل منهم كما وزعه الباري عزوجل وشرّع. وعقد السلب عدم جواز أن يُعطى لغيرهم قسط، وكذلك الفقرتان اللاحقتان، فما فعله ابن أبي قحافة كان مخالفاً لكلا عقدي السلب والإيجاب.

قولها (علیها السلام): «يقول: «يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ»(4)، ويقول: «وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ داوُد»(5)». قد تقدم بيان الآيتين وأنهما وردتا في إرث الأنبياء (علیهم السلام)، بالإضافة إلى آيات الإرث العامة المتقدمة.ثم إنه ليس ذكرها (علیها السلام) الآية الثانية الدالة على إرث سليمان النبي (علیه السلام) مجرد بيان مصداق آخر لتأكيد المدعى، بل فيها فوائد أخرى أيضاً، فإن الآية الأولى دعاء وطلب، والثانية إخبار وتحقق(6).

ص: 186


1- سورة مريم: 6.
2- سورة النمل: 16.
3- وفي بعض النسخ: (أتاح).
4- سورة مريم: 6.
5- سورة النمل: 16.
6- فلا يبقى مجال لاعتراض من ربما يقول: إن «فَهَبْ لِي مِن لّدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ» سورة مريم: 5- 6، دعاء وطلب وليس دليلاً على أن الله قد أقر ذلك وأعطاه. والجواب أولاً: إن الآية الثانية دليل على أن الله قد أقر ذلك كما في المتن. وثانياً: إنه لا يعقل أن يطلب النبي (علیه السلام) ما لم يشرّعه الله، أي: ما هو خلاف الشرع، ولا يعقل أن يكون النبي جاهلاً بهذا الحكم الواضح.

..............................

لا يقال: ما وجه استدلالها (علیها السلام) بإرث سليمان من داود ويحيى من ذكريا (علیهم السلام) مع أن الشريعة الإسلامية ناسخة للأديان السابقة، والاحتجاج في إرثها من الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله)؟.

إذ يقال:

أولاً: كلامها (علیها السلام) رد على ابن أبي قحافة حيث استدل بما نسبه إلى الرسول (صلی الله علیه و آله) من الرواية: «إنا معاشر الأنبياء لا نورّث ...»، وهي معارضة بصريح الكتاب العزيز، بدليل إرث سليمان من داودوغيره من غيره (علیهم السلام).

وثانياً: إن الشريعة الإسلامية لم تنسخ كل ما كان في الشرائع السابقة كما هو بديهي(1) بل بعضه فقط، فما قام الدليل على نسخه نسخ، وإلا كان على ما كان، لاستصحاب الشرائع السابقة، بل للعمومات والاطلاقات وغيرها على ما ذكرناه في (الأصول)(2).

قولها (علیها السلام): «وبيّن عزوجل فيما وزّع من الأقساط»؛ لأن الله سبحانه جعل لكل وارث قسطاً من التركة. والتوزيع: التقسيم، والأقساط: جمع القسط أي الحصة.

ص: 187


1- إذ الأمور الاعتقادية وكثير من الأحكام الشرعية: (كالحج والصلاة و...في العبادات، وكذا النكاح والطلاق والبيع والشراء و...في العقود والإيقاعات، والإرث والقصاص و...في الأحكام)، وكثير من الأخلاق والآداب وشبهها أبقيت على ما كانت أو جرى فيها بعض التغيير فحسب، وفي صورة الشك يستصحب ذلك على ما بين في علم الأصول.
2- الأصول: من تأليفات الإمام الشيرازي (رحمة الله) ويقع في ثمانية أجزاء.

..............................

«وشرع من الفرائض والميراث»: فإنه تعالى فرض لكل وارث إرثاً. و(الفرائض): جمع الفريضة، بمعنى الحصة المفروضة والمقدرة.

ولعل الحكمة في مقابلة الميراثبالفرائض - في هذه الخطبة الشريفة - هو أن هناك مواريث فرض ومواريث غير فرض، قال سبحانه: «وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَىَ وَالْيَتَامَىَ وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مّعْرُوفاً»(1)، حيث يستحب إعطاؤهم على ما هو مذكور في محله(2).

قولها (علیها السلام): «وأباح من حظ الذكران والإناث»، أي: إن الله سبحانه وتعالى أباح وحلّل التركة للذكران والإناث من الأولاد وغيرهم من الأقرباء بعد ما كان ممنوعاً عليهم في حياة المورّث، أو أن ذلك في قبال الحظر على غيرهم.

والذكران: جمع الذكر، والإناث: جمع الأنثى.

قولها (علیها السلام): «ما أزاح به علة المبطلين»، أي: أزال به علة أهل الباطل، أو الذين يريدون الإبطال فيحكم إعطاء الإرث وعدم منح الورثة حقهم، أو المبدعين في الزيادة والنقيصة عما فرضه الله سبحانه وتعالى.

ص: 188


1- سورة النساء: 8.
2- راجع تفسير (تبيين القرآن): ج1 سورة النساء، وفيه: «وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ» أي: قسمة التركة، «أُوْلُواْ الْقُرْبَىَ» بأن شهد وقت القسمة فقراء قرابة الميت الذين لا يرثون، «وَالْيَتَامَىَ وَالْمَسَاكِينُ» ويتاماهم ومساكينهم، «فَارْزُقُوهُمْ مّنْهُ» أي: أعطوهم شيئاً من التركة على وجه الندب، وذلك فيما إذا رضي سائر الورثة وكانوا كباراً، «وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مّعْرُوفاً» حسناً غير خشن؛ فإنه كثيراً ما يتوقع هؤلاء أن يُعطوا شيئاً كثيراً من التركة.

..............................

سبب تركيزها (علیها السلام) على فدك

ربما يتساءل البعض عن السبب في تشدد الصديقة فاطمة (علیها السلام) في قضية الميراث، ومحاجة القوم أشد المحاجة حولها وهي قضية مادية، وأهل البيت (علیهم السلام) أرفع شأناً من الترافع في القضايا المادية الدنيوية، فكيف بشن معركة وإدارة صراع وتحمل أخطار في ذلك، حيث أدى ذلك إلى ما أدى إليه من ظلم وجور في حقها (صلوات الله عليها)!! إضافة إلى وجود قضية أخرى أهم هي مسألة الخلافة، فربما كان الأحرى التركيز عليها؟.

والجواب:

أولاً: إن القضية كانت مسألة (التلاعب بأحكام الله) - في إرث أولاد الأنبياء (علیهم السلام) وربما الأعم من ذلك - و(محاولة نسف حكم شرعي) قبل أن تكون قضية إرث مادي.

ثانياً: إن القضية كانت بمثابة وضع الحجر الأساس لبدء مسيرة البدعة والتحريف في أحكام الله، والدس والوضع على رسول الله (صلی الله علیه و آله) ومخالفة كتاب الله، وكان بدايتها هذا الحديث المجعول وتضييع آيات الإرث.فكان لابد من التصدي بكل حزم لأية محاولة تحريف، وكان لابد من فضح قادة التحريف ليقفوا عند حدهم، أو (ليتحجموا) على أقل الفروض بعد أن يشاهدوا افتضاح أمرهم من بعد تلك المقاومة من قبل العترة الطاهرة (علیهم السلام) وخاصة من قبل الصديقة الزهراء (علیها السلام).

ثالثاً: إن الرأي العام كان أكثر تقبلاً لطرح ظلامة غصب فدك من طرح

ص: 189

..............................

ظلامة غصب الخلافة(1)، فلذلك كان تأثير الكلام أشد عند طرح القضية الأولى من طرح الثانية.

رابعاً: إن طرح قضية الإرث وإثباتها والمطالبة بها، كان من طرق طرح قضية الخلافة وإثباتها والمطالبة بها.

خامساً: إن فدك - بما كانت تدر من محصول هائل - كانت سلاحاً اقتصادياً كبيراً بيد الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام)، وكان الغاصبون للخلافة يرمونإلى تجريده (علیه السلام) من هذا السلاح وهذه القوة الاقتصادية، والدفاع عن الحق المالي واجب، فكيف لو كان يرام منه تشييد دعائم الدين ونصرة المظلوم والتصدي للظالم؟.

وإلا فقد قال أمير المؤمنين (علیه السلام) في كتابه إلى عثمان بن حنيف الأنصاري: «وَنِعْمَ الْحَكَمُ اللَّهُ، وَمَا أَصْنَعُ بِفَدَكٍ وَغَيْرِ فَدَكٍ»(2).

لا ضريبة على الإرث

مسألة: كلامها (علیها السلام) واضح الدلالة فيما هو الظاهر من آيات الإرث من أن ما يخلفه الميت يقسّم بين الورثة لا غير، فلا يحق للدولة فرض ضريبة على الإرث، ومن يرتكب ذلك فإنه من (المبطلين) حسب كلامها (علیها السلام)، فإنه تعالى قد وزع الأقساط وشرّع من الفرائض والميراث كما ورد في الآيات وصرحت

ص: 190


1- وذلك لعلل عديدة منها: إن القوم كانت لهم تارات مع الإمام علي (علیه السلام) لما قتل من أشياخهم وأقربائهم ببدر وحنين وغيرها، وكانوا يتخوفون - لشدة عدله - من خلافته، ولم تكن لهم تارات على السيدة الزهراء (علیها السلام) كما أن قضيتهم كانت الخلافة لا فدك.
2- نهج البلاغة، الخطب: 45 ومن كتاب له (علیه السلام) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري وكان عامله على البصرة.

..............................

(عليها السلام) بذلك في خطبتها، ولم يكن منه الضرائب على الإرث، فهي أمر غير شرعي وغير مباح، فالضرائب على الإرثكما هو في بعض الدول الإسلامية! مما لم يوزعه الله ولم يشرعه ولم يبحه.

مضافاً إلى حرمة مطلق الضرائب إلا ما قرره الشرع من الخمس والزكاة وما أشبه.

و(من) في قولها (علیها السلام): بيانية (1) وليست تبعيضية كما هو واضح.

من مصاديق اللطف

مسألة: إزاحة علة المبطلين لطف، وهو واجب على الله تعالى في الجملة، - كما قرر في علم الكلام - إلا أن البحث قد يأتي في المصاديق(2) والحدود(3) والتزاحم(4)، وقد يستكشف بالبرهان الإني(5).

قال تعالى: «لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ»(6).وقال سبحانه: «فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ»(7).

ص: 191


1- أي: إن (من الأقساط) بيان ل- (ما وزع)، و(من الفرائض) بيان ل- (ما شرع) إذ شرع معطوف على وزع، و(من حظ) بيان ل- (ما أباح).
2- أي: ما هو مصداق اللطف؟. وهل هذا مصداق أو لا؟.
3- أي: في حدود اللطف الواجب.
4- أي: مزاحمة بأمر أهم.
5- أي: يستكشف اللطف وأن هذا لطف عبر معلوله.
6- سورة النساء: 165.
7- سورة الأنعام: 149.

..............................

إزاحة علة المبطلين

مسألة: يلزم إزاحة علة المبطلين؛ فإن إبطال حجج أهل الباطل والتصدي لها واجب، وهذا هو معنى إزاحة العلة، حتى لا يكون للناس حجة على الله سبحانه وتعالى في أعمالهم الباطلة.

وفي قولها (علیها السلام) إشارة واضحة إلى أن ابن أبي قحافة من المبطلين وأهل الباطل، فإن المبطلين في مقابل المحقين وهم أهل الحق.

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «في كل خلف من أمتي عدلاً من أهل بيتي ينفي عن هذا الدين تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجهال، وإن أئمتكم وفدكم إلى الله فانظروا من توفدوا في دينكم وصلواتكم»(1).

وقال تعالى: «فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَالْمُبْطِلُونَ»(2).

وقال سبحانه: «وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُواً»(3).

وقال عزوجل: «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَْحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ»(4).

ص: 192


1- قرب الإسناد: ص37.
2- سورة غافر: 78.
3- سورة الكهف: 56.
4- سورة غافر: 5.

وأزال التظنّي والشبهات في الغابرين

اشارة

-------------------------------------------

هل إزالة التظني تكوينية؟

مسألة: يجب إزالة التظني، في الجملة.

وليس المراد من (أزال التظني) الإزالة التكوينية التامة، وإلا لزم تخلف مراده عن إرادته وهو خلف، بل المراد الإزالة بنحو المقتضي، أو الإزالة التشريعية وهي جزء العلة للإزالة التكوينية.

نعم قوله تعالى: «لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً»(1) المراد به الإذهاب تكويناً أيضاً، فهو أعم مما هو باختيارهم (علیهم السلام) وما ليس باختيارهم(2).

قولها (علیها السلام): «وأزالالتظني»، التظني: إعمال الظن والأخذ بالشبهة، وأصله التظنن فأبدل من أحدى النونات ياء.

وفي اللغة: التظني: التحري، وهو من التظنن، حذفت النون الأخيرة وجعلوا اشتقاق الفعل على ميزان تفعلي(3).

و«الشبهات»: تشمل الشك والوهم.

ص: 193


1- سورة الأحزاب: 33.
2- أي: إن الله تعالى قد أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، وهذا الإذهاب بلحاظ (ما اُذهب) على قسمين: فما لم يكن باختيارهم (كالطينة المباركة، والجينات الوراثية، والأصلاب والأرحام) تعلقت إرادة الله بانتخاب الأفضل الأطهر، وما كان داخل دائرة اختيارهم (كعدم ارتكاب المحرمات، والمكروهات وما أشبه) فإنهم بريؤون عن الرجس فيهن بإرادتهم، وصح نسبة ذلك إلى الله كما في «وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ» - سورة الأنفال: 17 - فقد أذهب الله عنهم الرجس إما مباشرة إو تسبيباً.
3- كتاب العين: ج8 ص151 مادة ظنن.

..............................

فإنه لولا القرآن الحكيم لكان من الممكن التظني والشبهة بالنسبة إلى الأحكام السابقة والسابقين(1)، فإن الغابر يأتي بمعنى السابق كما يأتي بمعنى اللاحق، وهو من ألفاظ الأضداد - على اصطلاحهم - وقد ذكرنا في بعض كتبنا أن الظاهر في أمثال هذه الألفاظ أن الضدين فيها من باب المصاديق لا من باب وضع اللفظ لأحدهما مرة وللآخر مرة (2).

ويمكن أن يكون المراد من «في الغابرين» أي: في الآتين، وهم الذين يأتون بعد نزول القرآن، فلا يكون لهمتظن وشبهات بالنسبة إلى أحكام الإرث وغيره.

عن محمد بن مسلم، عن الإمام الباقر (علیه السلام): «إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، وليس بالرأي والتظني»(3).

ومن أدعية الصحيفة السجادية: ­«اللَّهُمَّ اجْعَلْ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِي رُوعِي مِنَ التَّمَنِّي وَالتَّظَنِّي وَالْحَسَدِ ذِكْراً لِعَظَمَتِكَ، وَتَفَكُّراً فِي قُدْرَتِكَ، وَتَدْبِيراً عَلَى عَدُوِّكَ»(4).

إثارة الشبهات محرمة

مسألة: من الواجب رد الشبهات ودفع الشكوك وإن كانت بالنسبة إلى الغابرين.

أما (إثارة الشبهة) في أذهان الناس فهي محرمة، حتى إذا كانت بحجة إثراء

ص: 194


1- حيث اتهم ابن أبي قحافة السابقين من الأنبياء (علیهم السلام) أيضاً بعدم الإرث.
2- فاللفظ وضع للجامع فهو من المشترك المعنوي لا اللفظي.
3- من لا يحضره الفقيه: ج2 ص123 باب الصوم للرؤية والفطر للرؤية ح1908.
4- الصحيفة السجادية: الدعاء رقم 20 وكان من دعائه (علیه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.

..............................

البحث وتحريك العقول، فإنها تناقضفلسفة القرآن الكريم الذي جاء «هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقَانِ»(1) ومناقض لقولها (علیها السلام) في وصف القرآن: «أزال التظني والشبهات في الغابرين».

نعم إذا كان طرح الشبهة في مقام دفعها تحصيناً وتعليماً وللرد بشروطه كان جائزاً ، ومن الشروط قابلية القابل(2)، وأن يكون الدفع دافعاً للشبهة حقيقة.

ومن الواضح أن إثارة الشبهات مع عدم تحقق الشرطين إضلال.

عن ابن أبي نصر، عن أبي الحسن (علیه السلام) في قول الله عزوجل: «وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ»(3)، قال: «يعني من اتخذ دينه رأيه بغير إمام من أئمة الهدى»(4).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم، وأكثروا منسبهم والقول فيهم والوقيعة، وباهتوهم كيلا يطمعوا في الفساد في الإسلام، ويحذرهم الناس، ولايتعلمون من بدعهم، يكتب الله لكم بذلك الحسنات، ويرفع لكم به الدرجات في الآخرة»(5).

وفي الحديث: «من أتى ذا بدعة فعظّمه فإنما سعى في هدم الإسلام»(6).

ص: 195


1- سورة البقرة: 185.
2- أي قابلية المستمع لأن يتفهم ويستوعب ويقتنع بالرد كما استمع للشبهة.
3- سورة القصص: 50.
4- الكافي: ج1 ص374 باب فيمن دان الله عزوجل بغير إمام من الله جل جلاله ح1.
5- وسائل الشيعة: ج16 ص267 ب39 ح21531.
6- المحاسن: ج1 ص208 ب6 ح72.

كلا بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً

اشارة

-------------------------------------------

وعن أبي عبد الله (علیه السلام)، عن أبيه (علیه السلام)، عن علي (علیه السلام)، قال: «من مشى إلى صاحب بدعة فوقره فقد مشى في هدم الإسلام»(1).

وهكذا يجب رد أهل الشبهة والبدعة.

كلا بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً

دوافع الظلم والغدر

مسألتان: من اللازم استكشاف الدوافع الحقيقية وراء التعليلات الظاهرية التي يتخذها المبطلون، ويحرم الانخداع بالتلبيسات الشيطانية فيما كان اختيارياً ولو باختيارية مقدماته،وقضية فدك من أظهر مصاديق ذلك كما ظهر من كلاماتها (علیها السلام) حيث غصبها القوم إتباعاً للشيطان وهوى النفس.

قولها (علیها السلام): «كلا» أي ليس الأمر كما تزعمون من أن الرسول (صلی الله علیه و آله) قال هذا الحديث، «بل سولت لكم أنفسكم أمراً»، أي: أظهرت لكم أنفسكم إظهاراً سوءً في أمر فدك واغتصابها، وبعبارة أخرى زينت لكم أنفسكم أمراً قبيحاً وسهلته لكم، ومعنى ذلك أنه لم تكن مصادرتكم لفدك عن باعث عقلي ولا لدافع شرعي على خلاف ما ادعاه ابن أبي قحافه ونسبه إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) من قوله في الحديث المفترى: «نحن معاشر الأنبياء ...»، وإنما كان ذلك بدافع هوى النفس وحرصاً على الدنيا وطمعاً في لذائذها، وكان سحقاً لحق (أي فدك) وتكريساً لغصب حق آخر ومصادرته وهو الخلافة.

ص: 196


1- وسائل الشيعة: ج16 ص267-268 ب39 ح21533.

..............................

قولها (علیها السلام): «سولت»، التسويل بمعنى تحسين ما ليس بحسن وتحبيبه إلى الإنسان ليقوم به. وهذا هو عمل إبليس (لعنه الله)، وفي الحديث عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «كان عابد في بني إسرائيل لم يقارف من أمرالدنيا شيئاً، فنخر إبليس نخرة فاجتمع إليه جنوده، فقال: من لي بفلان؟.

فقال بعضهم: أنا.

فقال: من أين تأتيه؟.

فقال: من ناحية النساء.

قال: لست له، لم يجرب النساء.

قال له آخر: فأنا له.

قال: من أين تأتيه؟.

قال: من ناحية الشراب واللذات.

قال: لست له، ليس هذا بهذا.

قال آخر: فأنا له.

قال: من أين تأتيه؟.

قال: من ناحية البر.

قال: انطلق فأنت صاحبه.

فانطلق إلى موضع الرجل فأقام حذاءه يصلي، قال: وكان الرجل ينام والشيطان لا ينام، ويستريح والشيطان لا يستريح، فتحول إليه الرجل وقد تقاصرت إليه نفسه واستصغر عمله.

فقال: يا عبد الله، بأي شي ء قويت على هذه الصلاة؟.

ص: 197

..............................

فلم يجبه ثم أعاد عليه. فقال: يا عبد الله، إني أذنبت ذنباً وأنا تائب منه، فإذا ذكرت الذنب قويت على الصلاة.

قال: فأخبرني بذنبك حتى أعملهوأتوب؛ فإذا فعلته قويت على الصلاة.

قال: ادخل المدينة فسل عن فلانة البغية، فأعطها درهمين ونل منها.

قال: ومن أين لي الدرهمين، وما أدري ما الدرهمين؟.

فتناول الشيطان من تحت قدميه درهمين فناوله إياهما، فقام ودخل المدينة بجلابيبه يسأل عن منزل فلانة البغية، فأرشده الناس وظنوا أنه جاء يعظها، فجاء إليها بالدرهمين وقال: قومي.

فقامت فدخلت منزلها، وقالت: ادخل، وقالت: إنك جئتني في هيئة ليس يؤتى مثلي في مثلها، فأخبرني بخبرك، فأخبرها.

فقالت له: يا عبد الله، إن ترك الذنب أهون من طلب التوبة، وليس كل من طلب التوبة وجدها، وإنما ينبغي أن يكون هذا شيطاناً مثل لك، فانصرف فإنك لا ترى شيئاً.

فانصرف وماتت من ليلتها فأصبحت وإذا على بابها مكتوب: احضروا فلانة البغية؛ فإنها من أهل الجنة. فارتاب الناس فمكثوا ثلاثاً لا يدفنونها ارتياباً في أمرها، فأوحى الله عزوجل إلى نبي من الأنبياء لا أعلمه إلاّ موسى بن عمران (علیه السلام): أن ائت فلانة فصلّ عليها، وأمر الناس أن يصلوا عليها؛ فإني قد غفرت لها، وأوجبت لها الجنةبتثبيطها عبدي فلاناً عن خطيئته»(1).

ص: 198


1- قصص الأنبياء للجزائري: ص466-467 خاتمة الكتاب في نوادر أخبار بني إسرائيل وأحوال بعض الملوك.

..............................

وفي الحديث، قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «والشبهة على أربع شعب: على الإعجاب بالزينة، وتسويل النفس، وتأول العوج، ولبس الحق بالباطل»(1).

وعن كميل بن زياد، عن أمير المؤمنين (علیه السلام)، أنه قال - في كلام له في تسويل الشياطين -: «إِنَّهُمْ يَخْدَعُوكَ بِأَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا لَمْ تُجِبْهُمْ مَكَرُوا بِكَ وَبِنَفْسِكَ، بِتَحْبِيبِهِمْ إِلَيْكَ شَهَوَاتِكَ، وَإِعْطَائِكَ أَمَانِيَّكَ وَإِرَادَتَكَ، وَيُسَوِّلُونَ لَكَ وَيُنْسُونَكَ، وَيَنْهَوْنَكَ وَيَأْمُرُونَكَ، وَيُحَسِّنُونَ ظَنَّكَ بِاللَّهِ حَتَّى تَرْجُوَهُ، فَتَغْتَرَّ بِذَلِكَ فَتَعْصِيَهُ، وَجَزَاءُ الْعَاصِي لَظَى»(2).

وقال (علیه السلام): «ردع النفس عن تسويل الهوى شيمة العقلاء»(3).وفي الغرر: «ردع النفس عن تسويل الهوى ثمرة النبل»(4).

وقال (علیه السلام): «سلوا الله سبحانه العافية من تسويل الهوى وفتن الدنيا»(5).

ص: 199


1- تحف العقول: ص167 خطبته (علیه السلام) التي يذكر فيها الإيمان ودعائمه وشعبه والكفر ودعائمه وشعبه.
2- مستدرك الوسائل: ج11 ص337-338 ب41 ح13204.
3- مستدرك الوسائل: ج12 ص114 ب81 ضمن ح13668.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: ص241 ق3 ب2 ف1 مخافة الهوى ح4878.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: ص306 ق3 ب3 ف5 ذم الهوى ح7003.

فصبر جميل

اشارة

-------------------------------------------

أقسام الصبر

مسائل: الصبر صبران: صبر جميل وغيره، ولعل المنصرف من الآيات والروايات الواردة في الأثر الوضعي والجزاء الأخروي على الصبر هو الأول، وربما يقال بأن الأثر والأجر الكاملين هو للجميل منهما وإن كان قسيمه أيضاً لايخلو من شيء، وربما يقال بأن غير الجميل أنواع، بعضها يحبط الأجر كاملاً وبعضها في الجملة.

ثم إن الصبر الجميل له مراتب ودرجات، وما كان أصله واجباً كان الفضل من مراتب الفضل.

أما صبر الصديقة الطاهرة (علیها السلام) فكان صبراً جميلاً بأعلى درجاته.

والصبر الجميل هو الذي لا يخالطه شكاية ولا جزع ولا ما شابه ذلك، ويقابله الصبر المقرون بالجزع والشكوى وعدم الرضا بالقضاء القدر.

ومن الواضح أن رضاها (علیها السلام) بالقضاء - لا صبرها فحسب - كان في أعلى الدرجات.

وهكذا كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) والعترة الطاهرة (علیهم السلام).

قال أمير المؤمنين علي (علیهالسلام) يوم ما سموه بالشورى حين عرضوا عليه العمل بسيرة الشيخين: «بل أجتهد برأيي..» وقال: «ليس هذا بأول يوم تظاهرتم فيه علينا فصبر جميل والله المستعان عَى ما تصفون»(1).

ص: 200


1- شرح نهج البلاغة: ج1 ص194 قصة الشورى.

..............................

وقال علي (علیه السلام) لابن عباس: «يا ابن عباس، هداهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) في حياته بوحي من الله يأمرهم بموالاتي، فحمل القوم ما حملهم مما حقد على أبينا آدم (علیه السلام) من حسد اللعين له، فخرج من روح الله ورضوانه، وألزم اللعنة لحسده لولي الله، وما ذاك بضاري إن شاء الله شيئاً. يا ابن عباس، أراد كل امرئ أن يكون رأساً مطاعاً تميل إليه الدنيا وإلى أقاربه، فحمله هواه ولذة دنياه وإتباع الناس إليه أن يغصب ما جعل لي، ولولا اتقائي على الثقل الأصغر أن يبيد، فينقطع شجرة العلم وزهرة الدنيا، وحبل الله المتين، وحصنه الأمين، ولد رسول الله رب العالمين، لكان طلب الموت والخروج إلى الله عزوجل ألذ عندي من شربة ظمآن ونوم وسنان، ولكني صبرت وفي الصدربلابل، وفي النفس وساوس، «فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ»(1)، ولقديماً ظُلم الأنبياء، وقُتل الأولياء قديماً في الأمم الماضية والقرون الخالية، فتربصوا حتى يأتي الله بأمره. والله أحلف يا ابن عباس، أنه كما فتح بنا يختم بنا، وما أقول لك إلا حقاً. يا ابن عباس، إن الظلم يتسق لهذه الأمة، ويطول الظلم، ويظهر الفسق، وتعلو كلمة الظالمين...»(2)، الحديث.

وقال أبو عبد الله (علیه السلام): «إنا صُبَّر»(3).

وعن الإمام الكاظم (علیه السلام) عن أبيه (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) في وصيته لعلي (علیه السلام): «يا علي، اصبر على ظلم الظالمين؛ فإن الكفر يقبل والردة

ص: 201


1- سورة يوسف: 18.
2- اليقين: ص325 ب122.
3- الكافي: ج2 ص93 باب الصبر ح25.

..............................

والنفاق مع الأول منهم، ثم الثاني وهو شر منه وأظلم ثم الثالث، ثم يجتمع لكشيعة تقاتل بهم الناكثين والقاسطين، والمتبعين المضلين، واقنت عليهم هم الأحزاب وشيعتهم»(1).

وفي وصية رسول الله (صلی الله علیه و آله) قرب وفاته: «يا علي، ما أنت صانع لو قد تآمر القوم عليك بعدي وتقدموا عليك، وبعث إليك طاغيتهم يدعوك إلى البيعة، ثم لببت بثوبك تقاد كما يقاد الشارد من الإبل مذموماً مخذولاً محزوناً مهموماً، وبعد ذلك ينزل بهذه الذل؟». قال: فلما سمعت فاطمة ما قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) صرخت وبكت، فبكى رسول الله (صلی الله علیه و آله) لبكائها، وقال: «يا بنية، لاتبكين ولا تؤذين جلساءكِ من الملائكة، هذا جبرئيل بكى لبكائكِ وميكائيل وصاحب سر الله إسرافيل. يا بنية، لا تبكين فقد بكت السماوات والأرض لبكائكِ». فقال علي (علیه السلام): «يا رسول الله، أنقاد للقوم وأصبر على ما أصابني من غير بيعة لهم، ما لم أصب أعواناً لم أناجز القوم». فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «اللهم اشهد»(2).

قولها (علیها السلام): «فصبر جميل»،أي فصبري جميل، أو الصبر الجميل أولى. قالوا: إنما يكون الصبر جميلاً إذا قصد به وجه الله تعالى، وفعل للوجه الذي وجب، ذكره السيد المرتضى(3) (رضوان الله عليه).

ص: 202


1- بحار الأنوار: ج22 ص488-489 ب1 ح33.
2- بحار الأنوار: ج22 ص493 ب1 ح38.
3- أبو القاسم علي بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن الإمام موسى الكاظم (علیه السلام)، المشهور ب- (السيد المرتضى) و(الشريف المرتضى) و(ذي الثمانين) و(ذي المجدين) و(علم الهدى)، لقبه بهذا اللقب أمير المؤمنين (علیه السلام) في قصة معروفة. ولد (رحمة الله) في بغداد عام 355ه- من أسرة هاشمية عالية النسب، فله نسب شريف من ناحية أبيه وأمه. كان السيد المرتضى عالماً جامعاً، ومتكلماً فقيهاً، وأديباً. جمع من العلوم ما لم يجمعه أحد، كان نقيب الطالبيين في عصره. وكان يحظى بمنزلة سامية في العلم والفقه قل نظيرها. صار إماماً في الفقه والكلام ومرجعاً للإمامية في عصره بعد وفاة الشيخ المفيد. له تصانيف مشهورة منها: (الشافي في الإمامة) وكتاب (الطيف والخيال) وكتاب (الغرر والدرر)، وله ديوان شعر فيه أكثر من عشرين ألف بيت. قيل: إنه خلف بعد وفاته 80 ألف مجلداً من مقرئاته ومصنفاته ومحفوظاته. توفي (رحمة الله) في بغداد عام 436ه، وصلى عليه ابنه .

والله المستعان على ما تصفون

اشارة

-------------------------------------------

وعن علي بن محمد العسكري (علیه السلام) عن آبائه (علیهم السلام) عن الصادق (علیه السلام): في قول الله عزوجل في قول يعقوب: «فَصَبْرٌ جَمِيلٌ»(1) قال: «بلاشكوى»(2).

والله المستعان على ما تصفون

الاستعانة بالله

مسألة: الاستعانة بالله مستحبة وقد تجب، كل منهما في مورده.

ومعناها: طلب العون من الله تعالى، وهو بالقلب واللفظ، وتشمل كل أفعال الإنسان.

وفي سورة الحمد: «إِيّاكَ نَعْبُدُ وإِيّاكَ نَسْتَعِينُ»(3) بحذف المتعلق حيث يفيد العموم.

والفرق بينها وبين التوكل مذكور في محله.

فعلى الإنسان أن يتوكل ويستعين بالله جل وعلا فيما ليس بيده، كما عليه

ص: 203


1- سورة يوسف: 18.
2- بحار الأنوار: ج12 ص267-268 ب9 ح38.
3- سورة الفاتحة: 5.

..............................

ذلك فيما بيده أيضاً، حيث اللازم أن يعمله ويتوكل، فإن دائرة الاستعانة والتوكل غير دائرة العمل والسعي، وإن كان العمل والسعي أيضاً من الله سبحانه وتعالى لأنه عزوجل مسبّب الأسباب، كماسبق شبه ذلك بالنسبة إلى كل ما في دائرة قدرة الإنسان وما ليس في دائرة قدرته، ومنه أيضاً يتضح المراد ب- «الأمر بين الأمرين» الذي ذكره الإمام (عليه الصلاة والسلام) نافياً الجبر والتفويض(1).

قولها (علیها السلام) : «بل سولت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون»، اقتباس من الآية المباركة في قصة يوسف (عليه الصلاة والسلام) حيث قال سبحانه: «وَجَآءُوا عَلَىَ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىَ مَا تَصِفُونَ»(2).

وفي هذا الاقتباس إشارات ودلالات لمن تدبره.

قال تعالى: «قَالَ مُوسَىَ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُوَاْ إِنّ الأرْضَ للّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتّقِينَ»(3).

وقال الإمام الحسن المجتبى (علیه السلام): «فعليكم عباد الله بتقوى الله وطاعته، والجد والصبر والاستعانة بالله،والخفوف إلى ما دعاكم إليه أمير المؤمنين (علیه السلام) »(4).

وفي نهج البلاغة: «وَأَكْثِرِ الاِسْتِعَانَةَ بِاللَّهِ يَكْفِكَ مَا أَهَمَّكَ، وَيُعِنْكَ عَلَى مَا يُنْزِلُ بِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ»(5).

ص: 204


1- راجع الكافي: ج1 ص160 باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين ح13.
2- سورة يوسف: 18.
3- سورة الأعراف: 128.
4- شرح نهج البلاغة: ج14 ص12-13 أخبار علي (علیه السلام) عند مسيره إلى البصرة ورسله إلى أهل الكوفة.
5- نهج البلاغة، الرسائل: 34 ومن كتاب له (علیه السلام) إلى محمد بن أبي بكر لما بلغه توجده من عزله بالأشترعن مصر.

..............................

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «ألا فاذكروا هادم اللذات، ومنغص الشهوات، وقاطع الأمنيات عند المشاورة للأعمال القبيحة، واستعينوا بالله على أداء واجب حقه، وما لا يحصى من أعداد نعمه وإحسانه»(1).

فائدة الاستعانة

مسألة: قد يتساءل عن مراد الصديقة فاطمة (علیها السلام) من الاستعانة بالله، وعن الفائدة المتوخاة فيها، فهل هي استعانة به لاسترجاع فدك؟.

أم هي استعانة به لاستعادة الخلافة المغصوبة؟.أم هي استعانة به لفضح الغاصبين والظالمين؟.

أم هي استعانة به لكي يمنعهم من المزيد من الظلم والجور؟.

أم هي استعانة به عليهم في الآخرة؟.

والجواب: إن استعانتها (علیها السلام) به عزوجل في ما عدا الأولين واضح الوجه، وواضح التحقق والفائدة، أما الاستعانة فيهما فهي وظيفة، فكما لايلزم في الدعاء إحراز الإجابة، بل المطلوب الطلب والدعاء فإنه من مصاديق العبودية، كذلك الاستعانة حتى مع إحراز عدم الإجابة فرضاً، بالشكل الذي طلبه، فإن للاستعانة والدعاء موضوعية أيضاً.

ثم إن الدعاء يجاب حتماً - على ما ذكرناه في بعض كتبنا - وإن كانت الإجابة متأخرة، أو بشكل آخر، أو في زمن دون زمن، أو في عالم دون عالم(2).

ص: 205


1- إرشاد القلوب: ج1 ص191 ب52.
2- والقدر المسلم استجابة هذه الدعوة زمن ظهور منقذ البشرية عجل الله تعالى فرجه الشريف.

..............................

كما أن في نفس الاستعانة بالله عليهم فضحاً للظالمين، إلى غير ذلك من فوائدها.

استنباطات

مسائل: ربما يستنبط من اقتباسها (علیها السلام) الآية الشريفة هاهنا بكاملها أمور:

منها: أن الكثير من الآيات القرآنية كليات وقواعد عامة وإن صيغت في قالب جزئي أو شخصي أو في قالب حكاية تاريخية، ولعل هذا من معاني ما ورد في الروايات من أن القرآن كالشمس(1).

ومنها: أن من الجائز استخدام الآيات الشريفة في المصاديق المشابهة للاستخدام القرآني، كقراءة آية «إِنّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مّنْهُمْ يُذَبّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ»(2) وتطبيقها على طواغيت العصر من باب المصداق.

ومنها: إن الواجب الحذر من تسويل النفس.

ومنها: كفاية كلامها (علیها السلام) هذا في إدانة القوم وأن نواياهم كانت سيئة وعلى غير ما أظهروها، فإنها (صلوات الله عليها) الصديقة التي يرضىلرضاها الرب ويغضب لغضبها - كما قال رسول الله (صلی الله علیه و آله)(3) - ولا يعقل في من حالها هذه أن تتهم جمعاً كبيراً من المسلمين بغير الحق.

ص: 206


1- راجع الكافي: ج2 ص610 باب البيوت التي يقرأ فيها القرآن.
2- سورة القصص: 4.
3- راجع بحار الأنوار: ج43 ص19 ب3 ح2.

..............................

ومنها: كفاية كلامها (علیها السلام) هذا وما سبقه ويلحقه في تفسيق القوم.

ومنها: دلالة هذا الكلام ونظائره على كون الذين خاطبتهم الصديقة الطاهرة (علیها السلام) - وعلى رأسهم ابن أبي قحافة - ظالمين جائرين، وهو كافٍ في إسقاطهم عن صلاحية الخلافة، فلو فرض - وفرض المحال ليس بمحال - أن الرسول (صلی الله علیه و آله) لم يعهد ولم يوص بالخلافة للإمام علي (علیه السلام) ..ولو فرض أيضاً - من باب التسليم - أنهم جاءوا للخلافة بالشورى واختيار المسلمين - ولم يكن شورى ولا اختيار - فإنهم بشهادتها (علیها السلام) هذه وأنهم كذبوا على رسول الله (صلی الله علیه و آله) ووضعوا الحديث وغيّروا حكم الله في الإرث و… لا يصلحون للخلافة في علتها المبقية، كما يستكشف عن عدم صلاحيتهم في علتها المحدثة، هذا بالإضافة إلى ما سيأتي في باقي الخطبة الشريفة وغيره في غيرها منعدم صلاحيتهم للخلافة حدوثاً وبقاءً.

قال تعالى: «وَإِذِ ابْتَلَىَ إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمّهُنّ قَالَ إِنّي جَاعِلُكَ لِلنّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرّيّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ»(1).

ص: 207


1- سورة البقرة: 124.

فقال أبو بكر: صدق الله ورسوله وصدقت ابنته، أنتِ معدن....

اشارة

-------------------------------------------

فقال أبو بكر: صدق الله ورسوله وصدقت ابنته، أنتِ معدن الحكمة، وموطن الهدى والرحمة، وركن الدين، وعين الحجة، لا أبعد صوابكِ، ولا أنكر خطابكِ، هؤلاء المسلمون بيني وبينك قلّدوني ما تقلّدت، وباتفاق منهم أخذت ما أخذت، غير مكابر ولا مستبد ولا مستأثر، وهم بذلك شهود.

مكانة الصديقة (علیها السلام) في نفوس المسلمين

إلفات: يمكن لمن يعتقدون بأبي بكر أن يكتشفوا من تصريحه هذا مدى مكانة الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء (علیها السلام) في نفوس المسلمين الأوائل، وأنهم كانوا يرونها ركن الدين وعين الحجة ومعدن الحكمة - لا حكيمة فحسب - وموطن الهدى والرحمة ...

ثم إن مثل هذا التصريح - بل الأقل منه بكثير - لم يصدر عن أبي بكر تجاه عائشة وحفصة، ومنه يعلم البون الشاسع حتى في أعين مخالفي الزهراء (علیها السلام) بينها وبين معارضاتها.

إقرار ابن أبي قحافة

إلفات آخر: إن إقرار ابن أبي قحافة بكل ذلك إبطال لنفسه بنفسه، حيث أبطل به كل كلماته السابقة واللاحقة في موضوع فدك وغصب الخلافة، وإقراره هذا يؤخذ به دون معاكساته؛ لأن تلك جرالنار إلى قرصه، ولاحتفافها بقرائن الجعل الأخرى دون هذا الإقرار.

وقوله: (صدق الله وصدق رسوله وصدقت ابنته)، تصديق منه لتوارث الأنبياء (علیهم السلام) ودلالة الآيات الشريفة على إرث البنت من أبيها، وأن الأمر كما

ص: 208

..............................

ذكرته الصديقة الطاهرة (علیها السلام).. وأن حديث (نحن معاشر...) الذي رواه كذب.

وقوله: (ركن الدين وعين الحجة)، إقرار بأن الصديقة (علیها السلام) وأهل البيت (علیهم السلام) قوام الدين فلا دين بدونهم، فإن الشيء لا يقوم بلا ركن، كما هو إقرار بأن الصديقة (علیها السلام) وأهل البيت (علیهم السلام) لهم الحجة والحجية، فهم حجج الله حقاً، وكلامهم وفعلهم حجة، ومن هنا فإن من يقف في قبال ركن الدين وعين الحجة لا يكون إلا على باطل.

وكذلك قوله: (لا أبعد صوابكِ، ولا اُنكر خطابكِ)، اعتراف صريح بصدق الصديقة الطاهرة (علیها السلام) وصواب ما قالته، وإقرار بجميع خطابها (علیها السلام) في إرثها وإرث الأنبياء (علیهم السلام) ومسألة الخلافة.قوله: (قلدوني ما تقلدت)، هذا إقرار منه بأن غصبه للخلافة ولفدك لم يكن بأمر من الله ولا من قبل رسوله (صلی الله علیه و آله) ولا طبق الكتاب العزيز، بل من جهة اجتماع هؤلاء القوم على ذلك.

سكوت القوم

إلفات ثالث: قوله (هم بذلك شهود)، لا دليل على صحته حتى بالنسبة إلى الحاضرين في المسجد، فكانت هذه مجرد دعوى لا دليل عليها، بل الدليل على عدمها.

وأما سكوت جمع منهم عن تكذيبه، فليس دليل على التسليم بكلامه، إذ من الواضح خوف الناس من معارضة الحاكم وتكذيبه، والأدلة التاريخية كثيرة على جو الإرهاب الذي فرض على الناس ساعتئذ، فليراجع في مظانه.

ص: 209

..............................

ثم إن السكوت لا يكفي في مقام الشهادة، كما أنه لايدل على الرضا إلا فيما استثني كما ذكره الفقهاء في باب النكاح ورضا البكر(1).

بين السكوت والرضا

مسألة: كما أن السكوت على الباطل محرم كذلك الرضا به على ما سبق.

عن معمر بن عمر، قال: قال أبو عبد الله (علیه السلام): «لعن الله القدرية، لعن الله الحرورية، لعن الله المرجئة، لعن الله المرجئة».

قلت: كيف لعنت هؤلاء مرة ولعنت هؤلاء مرتين؟.

فقال: «إن هؤلاء زعموا أن الذين قتلونا كانوا مؤمنين فثيابهم ملطخة بدمائنا إلى يوم القيامة، أما تسمع لقول الله: «الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا» إلى قوله: «فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ»(2) - قال: - وكان بين الذين خوطبوا بهذا القول وبين القاتلين خمسمائة عام، فسماهم الله قاتلين برضاهم بما صنع أولئك»(3).

وعن محمد بن الهيثم التميمي، عن أبي عبد الله (علیه السلام) في قوله تعالى: «كَانُوا لاَ يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ». قال: «أما إنهم لم يكونوا يدخلون مداخلهم ولا يجلسونمجالسهم، ولكن كانوا إذا لقوهم ضحكوا في وجوههم وآنسوا بهم»(4).

ص: 210


1- راجع موسوعة الفقه للإمام الشيرازي (قدس سره): كتاب النكاح.
2- سورة آل عمران: 183.
3- وسائل الشيعة: ج16 ص268-269 ب39 ح21536.
4- تفسير العياشي: ج 1 ص335 من سورة المائدة ح161.

..............................

خدعة الغاصبين

لقد حاول أبو بكر أن يبرأ ساحته، وينقل المعركة من معركة بينه وبين الصديقة الزهراء (علیها السلام) إلى معركة بين (المسلمين) - حسب تعبيره - وبينها (علیها السلام)، وهذا من أخطر أنواع المكر.

ثم إن ذلك لا ينفي عنه تجرؤه على الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) بوضعه الحديث وكذبه على رسول الله (صلی الله علیه و آله) حيث وضَعَ تلك الرواية أولاً، ولكنه عندما حاججته الصديقة (علیها السلام) بالقرآن تراجع وقال: (صدقت ابنته..)، وهذا مما يُلزم به هو وأتباعه.

ثم إن استدلاله أضعف من الضعيف، أفهل للمسلمين - على فرض أن كانوا كما قال قد قلدوه ما تقلد ... - أن يحكموا بخلاف القرآن؟.

وهل الإجماع على فرضه حجة في مقابل الكتاب؟. وقد قال تعالى: «فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتّىَ يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمّ لاَيَجِدُواْ فِيَ أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مّمّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً»(1).

أو ما كان الأحرى به أن يلتزم بحكم القرآن ويدعو الناس أيضاً إلى الالتزام به؟!

«كَلاّ بَلْ رَانَ عَلَىَ قُلُوبِهِمْ مّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ»(2).

ص: 211


1- سورة النساء: 65.
2- سورة المطففين: 14.

..............................

آيات في وجوب الطاعة وحرمة المعصية

قال تعالى: «قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ»(1).

وقال سبحانه: «وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ»(2).

وقال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً»(3).

وقال سبحانه: «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ»(4).

وقال تعالى: «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْكُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ»(5).

وقال سبحانه: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ»(6).

ص: 212


1- سورة آل عمران: 32.
2- سورة النساء: 13-14.
3- سورة النساء: 59.
4- سورة المائدة: 92.
5- سورة الأنفال: 1.
6- سورة الأنفال: 20.

..............................

وقال تعالى: «وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ»(1).

وقال سبحانه: «قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ»(2).

وقال تعالى: «وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِيناً»(3).

وقال سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً * خالِدِينَ فِيها أَبَداً لايَجِدُونَ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيراً * يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ»(4).

وقال تعالى: «وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً»(5).

وقال سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ»(6).

ص: 213


1- سورة النور: 52.
2- سورة النور: 54.
3- سورة الأحزاب: 36.
4- سورة الأحزاب: 64-66.
5- سورة الفتح: 17.
6- سورة المجادلة: 20-21.

..............................

وقال تعالى: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ»(1).

وقال سبحانه: «وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ»(2). وقال تعالى: «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ»(3).

روايات في وجوب الطاعة وحرمة المعصية

عن عاصم بن حميد، عن أبي إسحاق النحوي، قال: دخلت على أبي عبد الله (علیه السلام) فسمعته يقول: «إن الله عزوجل أدّب نبيه على محبته فقال: «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ»(4)، ثم فوّض إليه فقال عزوجل: «وَمَا آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا»(5)، وقال عزوجل: «مَنْيُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ»(6) - ثم قال - وإن نبي الله فوض إلى علي (علیه السلام) وائتمنه، فسلّمتم وجحد الناس، فوالله لنحبكم أن تقولوا إذا قلنا، وتصمتوا إذا صمتنا، ونحن فيما بينكم وبين الله عزوجل، ما جعل الله لأحد خيراً في خلاف أمرنا»(7).

ص: 214


1- سورة الحشر: 4.
2- سورة الحشر: 7.
3- سورة التغابن: 12.
4- سورة القلم: 4.
5- سورة الحشر: 7.
6- سورة النساء: 80.
7- بحار الأنوار: ج17 ص3-4 ب13 ح1.

..............................

وعن زرارة، قال: سمعت أبا جعفر وأبا عبد الله (علیهما السلام) يقولان: «إن الله عزوجل فوض إلى نبيه (صلی الله علیه و آله) أمر خلقه لينظر كيف طاعتهم - ثم تلا هذه الآية -: «مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا»(1)»(2).

وعن فضيل بن يسار قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول لبعض أصحاب قيس الماصر: «إن الله عزوجل أدب نبيه فأحسن أدبه، فلما أكمل له الأدب قال: «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ»(3)، ثم فوض إليهأمر الدين والأمة ليسوس عباده، فقال عزوجل: «مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا»(4)، وإن رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان مسدداً موفقاً مؤيداً بروح القدس لا يزل ولا يخطئ في شيء مما يسوس به الخلق فتأدب بآداب الله ... وليس لأحد أن يرخص ما لم يرخصه رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فوافق أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) أمر الله عزوجل ونهيه نهي الله عزوجل، ووجب على العباد التسليم له كالتسليم لله تبارك وتعالى»(5).

وعن زرارة، عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «وضع رسول الله (صلی الله علیه و آله) دية العين ودية النفس، وحرم النبيذ وكل مسكر». فقال له رجل: وضع رسول الله (صلی الله علیه و آله) من غير أن يكون جاء فيه شيء(6)؟. فقال: «نعم، ليعلم من يطيع الرسول

ص: 215


1- سورة الحشر: 7.
2- الكافي: ج 1 ص266 باب التفويض إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وإلى ا لأئمة (علیهم السلام) في أمر الدين ح3.
3- سورة القلم: 4.
4- سورة الحشر: 7.
5- بحار الأنوار: ج17 ص4-5 ب13 ح3.
6- أي من القرآن، وإلا فالرسول (صلی الله علیه و آله) لا ينطق عنه نفسه بل مشيئته ميشئة الله عزوجل وإرادته إرادة الله عزوجل.

..............................

ممن يعصيه»(1).

في نوادر محمد بن سنان قال: قال أبو عبد الله (علیه السلام): «لا والله ما فوض الله إلى أحد من خلقه إلا إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وإلى الأئمة (علیهم السلام)، فقال: «إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَراكَ اللَّهُ»(2)، وهي جارية في الأوصياء»(3).

وعن عبد الله بن سليمان، عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «إن الله أدب محمداً (صلی الله علیه و آله) تأديبا ففوض إليه الأمر وقال: «مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا»(4)، وكان مما أمره الله في كتابه فرائض الصلب وفرض رسول الله (صلی الله علیه و آله) للجدّ فأجاز الله ذلك له، وحرم الله في كتابه الخمر بعينها وحرّم رسول الله (صلی الله علیه و آله) كل مسكر فأجاز الله ذلك له»(5).

ص: 216


1- وسائل الشيعة: ج25 ص354 ب24 ح32109.
2- سورة النساء: 105.
3- بصائر الدرجات: ص386 ب5 ح12.
4- سورة الحشر: 7.
5- بحار الأنوار: ج17 ص9-10 ب13 ح17.

فالتفتت فاطمة (علیها السلام) إلى الناس وقالت:

اشارة

-------------------------------------------

معاشر المسلمين المسرعة إلى قيل الباطل

حرمة الإسراع إلى الباطل

مسألة: يحرم الإسراع إلى قيل الباطل، فإن الذهاب إلى الباطل محرم، والإسراع إليه أشد حرمة، كما قلنا مثل ذلك في بعض البنود السابقة.

وبما أن أبا بكر أجابها بجواب مضمونه أن المسلمين هم الذين وافقوا على ما فعلت وفوّضوا الأمر إليه، فكان اللازم أن توجّه الصديقة الزهراء (علیها السلام) الخطاب إلى أولئك الذين آزروه على غصبه للخلافة ولفدك، فتقصدهم باللوم والعتاب مباشرة.. ولهذا قالت الصديقة (علیها السلام): «معاشر المسلمين»، وفي بعض النسخ: «معاشر الناس».

(معاشر): جمع معشر، والمعشر بمعنى: الجماعة. ولعل السبب في التعبير ب- (معاشر) دون معشر؛ لأنهم كانوا مجاميع لاعلى قلب واحد، بل لكل هوى وهدف ومصلحة وسبب في معاضدته للباطل أو سكوته عليه، إذ كانوا جماعات أنصار ومهاجرين وفي كل واحدمن هذين جماعات(1) ولو كانوا على قلب واحد وإيمان واحد لكان التعبير بمعشر المسلمين.

(قيل الباطل): أي قول الباطل، فإن القيل والقال في القول الشر والباطل، فهما مصدران أيضاً، وقيل: بأنهما اسما مصدر للقول، أما (قيل) المجهول في قبال (قال) المعلوم فهو من الفعل كما لا يخفى.

ص: 217


1- فكان البعض ينطلق خوفاً والبعض طمعاً والبعض عصبية والبعض حسداً و..

..............................

والظاهر أن (المسرعة إلى قيل الباطل) قيد احترازي وليس توضيحياً، فقد قيدت (علیها السلام) ما أطلقه أبو بكر (هؤلاء المسلمين) محاولاً أخذ الشرعية من أنهم أعطوه الصلاحية! فأجابت عن ذلك ضمناً بأن المسلمين المسرعين إلى قيل الباطل المغضين عن الفعل القبيح الخاسر هم الذين أعطوه الصلاحية لا كل المسلمين، فلا إجماع في البين.

هل كانت (معاشر المسلمين) أقلية؟

لا يقال: كيف تقول الصديقة (علیها السلام): «معاشر المسلمين»، والحال أنهم كانوا الأقلية من الأقلية كماسبق؟.

إذ يقال: أولاً: (معاشر المسلمين) و(معاشر الناس) وغيرها تطلق على من هم طرف الخطاب وإن كانوا مجموعة غير كبيرة مجتمعة في مسجد - كما في هذه الخطبة - أو قاعة أو ما أشبه، ألا ترى صحة أن يخاطب الخطيب أو إمام الجماعة من حضر في مسجده أو مجلسه ب- (معاشر الناس أوصيكم بتقوى الله) وما أشبه؟. هذا وفي بعض النسخ: «معاشر المسرعة» من دون إضافة إلى الناس أو المسلمين.

وثانياً: لقد قلنا إن الذين بايعوا أبا بكر كانوا الأقلية من الأقلية - إذ كانوا مجموعة من أهل المدينة فحسب - وخطابها الآن لهم وللذين غضوا الطرف عن ظلامتها وسكتوا على ظلمها، فلو فرض دلالة خطابها العام على العموم لم يكن دالاً على عمومية البيعة كما هو واضح من أن يخفى.

وثالثاً:لقد ثبت أن من بايع لم يكن بملء اختياره وإرادته،بل كان الأكثر منهم خوفاً ومجموعة منهم طمعاً (1) أما من بايع اقتناعاً فكان (النادر) لا (الأقلية)

ص: 218


1- بحار الأنوار: ج28 ص175 ب4 ح1.

..............................

فحسب، وقد قال عمر بن الخطاب: (كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله المسلمين شرها)(1).

ورابعاً: لو فرض دلالة الجملة على جمهرة كثيرة، فإن من غير البعيد أن خطابها (علیها السلام) لمعاشر المسلمين في ذلك الزمن وعلى مر الأزمان ممن تبع أولئك الأوائل ولا يزال مسرعاً إلى قيل الباطل ومغضياً عن الفعل القبيح الخاسر، فلا دلالة إذن على كونهم جمهرة كبيرة في ذلك الزمن.

لا يقال: لماذا استجابتها (علیها السلام) لمحاولته الخدعة بتحويل الصراع بينه وبينها إلى المسلمين معها؟ أي لماذا وجهت خطابها إلى المسلمين ولامتهم بدل أن تعود مرة أخرى لعتابه والإشكال عليه؟.

إذ يقال: لأنها (علیها السلام) أتمت الحجة على أبي بكر فيما سبق من الكلام، فبقي أن تتم الحجة على الناس أيضاً، بل هي إتمام الحجة للجميع على مر الدهور والأزمان، فقد أرادت (علیها السلام) لخطبتها أن تكون مدرسة متكاملة في شتى البحوث ولشتى المستويات، منها الحاكم ومنها المحكومون، ومنها المخاطبون ومنها الآتون فيما بعد، إلى غير ذلك.

الإشاعات المغرضة

مسألة: قد يستفاد من كلام الصديقة الطاهرة (علیها السلام) ذم ظاهرة اجتماعية قد تكون عامة،وهي أن الناس عادة تسرع إلى الأقاويل الباطلة،ومنها الإشاعات

المغرضة ضد المصلحين، فيتوجب على المرء الانتباه وأن لا يخدعه الجمهور، كما يتوجب على المصلح اليقظة والحذر والتخطيط لتلافي ذلك.

ص: 219


1- بحار الأنوار: ج30 ص448 ب22 الرابع.

المغضية على الفعل القبيح الخاسر

اشارة

-------------------------------------------

السكوت على القبائح

مسألة: يحرم الإغضاء على الفعل القبيح الخاسر، إذا كان مما استقل العقل بقبحه بحيث يمنعه من النقيض (كالظلم)، أو مما حرّمه الشارع. فإن اللازم على الناس تغيير القبيح لا أن يغضوا الطرف عنه أو يكونوا محايدين بالنسبة إليه، بل يجب النهي عن المنكر.

ونسبة الخسران إلى الفعل القبيح من باب علاقة السبب والمسبب كما قيل في (البلاغة)، وإلا فالإنسان الفاعل للقبيح هو الخاسر، وذلك كقوله تعالى:«فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ»(1) حيث نسبة الربح إلى التجارة من باب السبب.

نعم، ربما يقال بحقيقية النسبة وذلك بلحاظ تجسم الأعمال، فإن العمل يكون خاسراً أو رابحاً كما لا يخفى على المتأمل.

(المغضية): إغضاء البصر بمعنى خفضه والنظر إلى الأرض، وهذا يستدعي عدم رؤية الإنسان أمامه، كما في قوله تعالى: «قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ»(2)، وقال عزوجل: «وَقُل لّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنّ»(3).

ولعل في قولها (علیها السلام): «القبيح» تنبيهاً إلى أن غصب الإرث وفدك والكذب على الرسول (صلی الله علیه و آله) وغصب الخلافة قبيح عقلاً قبل أن يكون قبيحاً شرعاً، فهو نوع من إثارة دفائن عقولهم، ويتضح ذلك مما لو كان التعبير ب-

ص: 220


1- سورة البقرة: 16.
2- سورة النور: 30.
3- سورة النور: 31.

..............................

(الفعل المحرم) فهي (علیها السلام) بهذه الكلمة تحاول إثارة عقولهم وفطرتهم،وب- (الخاسر) تحاول ردعهم عبر التنبيه على الآثار.

(الخاسر): صفة الفعل القبيح، أي أن هذا الفعل يوجب الخسارة، فهو من باب وصف الشيء بحال متعلقه، ويحتمل - بعيداً - أن يكون صفة معاشر المسلمين على الإنفراد أي: كل واحد منهم خاسر، أو معشر معشر منهم خاسر، من قبيل: «فَانْظُرْ إِلَىَ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنّهْ»(1) أي: لم يتسنه كل واحد منهما.

ثم إن (الفعل الخاسر) أعم من الخسارة الدنيوية والأخروية، فإنهم لو لم يقوموا بتلك الجرائم من غصب الخلافة وغصب فدك وإبعاد أهل البيت (علیهم السلام) عن مقامهم، وسكوتهم على الباطل، كانوا كما قال تعالى: «وَلَوْ أَنّ أَهْلَ الْقُرَىَ آمَنُواْ وَاتّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مّنَ السّمَاءِ وَالأرْضِ وَلَ-َكِن كَذّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ»(2).

من عادة الناس

مسألة: يستفاد من كلام الصديقة (علیها السلام) ظاهرة اجتماعية أخرى بحاجة إلى إعادة النظر والسعي للقضاء عليها، وهي أن الناس عادةً لا تصطدمبالحكام الظلمة ولا بالطغاة والفراعنة، وبشكل عام فإنها تفضل السكوت على الباطل والإغضاء عن الجرائم والجنايات التي يرتكبها (الكُبّار) أو غيرهم في المجتمع،

ص: 221


1- سورة البقرة: 259.
2- سورة الأعراف: 96.

..............................

وذلك خوفاً على مصالحهم الشخصية، فإن «الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم، يحوطونه ما درّت معايشهم، فإذا محصوا بالبلاء قلّ الديانون»(1).

وهذا التاريخ - بل الحياة المعاصرة - أكبر شاهد على ما نقول.

وقد قال النبي عيسى (علیه السلام) في مواعظه لعبيد الدنيا:

«ويلكم يا عبيد السوء، كيف ترجون أن يؤمنكم الله من فزع يوم القيامة وأنتم تخافون الناس في طاعة الله، وتطيعونهم في معصيته، وتفون لهم بالعهود الناقضة لعهده، بحق أقول لكم لا يؤمن الله من فزع ذلك اليوم من اتخذ العباد أرباباً من دونه.

ويلكم يا عبيد السوء، من أجل دنيا دنية وشهوة رديئة تفرطون في ملك الجنة، وتنسون هول يوم القيامة.ويلكم يا عبيد الدنيا، من أجل نعمة زائلة وحياة منقطعة تفرون من الله وتكرهون لقاءه، فكيف يحب الله لقاءكم وأنتم تكرهون لقاءه، وإنما يحب الله لقاء من يحب لقاءه، ويكره لقاء من يكره لقاءه، وكيف تزعمون أنكم أولياء الله من دون الناس وأنتم تفرون من الموت وتعتصمون بالدنيا...»(2).

ص: 222


1- تحف العقول: ص245 وعنه (علیه السلام) في قصار هذه المعاني.
2- بحار الأنوار: ج14 ص308 ب21 ح16.

أفلا تتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها؟

اشارة

-------------------------------------------

ترك التدبر محرم

مسألة: يحرم الترك المطلق للتدبر في القرآن الكريم، أي عامة الناس في عامة آياته، فإنه من أجلى مصاديق اتخاذ القرآن مهجوراً، وهو إعراض عن الآيات التي تأمر بالتدبر وتنهى عن الهجر، إلى غير ذلك. قال تعالى: «كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الأَلْبَابِ»(1).

وقال سبحانه: «أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً»(2).

وقال تعالى: «أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا»(3).

وقال سبحانه: «أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جََاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ»(4).

لكن هل يحرم على الفرد ترك التدبر مطلقاً بعد عمل العموم به؟.الظاهر ذلك لنفس الأدلة، ولكن لا يلزم التدبر في كل الآيات على مر الأزمنة، بل الواجب بمقدار الصدق العرفي كماً وكيفاً.

والمراد بالتدبر: استخراج أحكامه وفهم الحياة ومعرفة الحق وأخذ العبرة منه - كما في أحوال الأمم السالفة - والاستعداد للآخرة.

ص: 223


1- سورة ص: 29.
2- سورة النساء: 82.
3- سورة محمد (صلی الله علیه و آله): 24.
4- سورة (المؤمنون): 68.

..............................

ثم إن التدبر يختلف معناه عن التفسير بالرأي(1) الذي ورد فيه: «من فسّر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار»(2)، وقد أشرنا إلى الفرق فيما سبق.

قولها: «أفلا تتدبرون» اقتباس من الآية الكريمة : «أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْعَلى قُلُوبٍ أَقْفالُهَا»(3).

وفي الروايات: إن معنى الآية أفلايتدبرون القرآن فيقضوا بما عليهم من الحق(4).

الدعوة للتدبر

مسألة: يستحب إرشاد الناس ودعوتهم للتدبر في القرآن، وقد يجب ذلك كل في مورده، ففي مورد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير الواجب يكون واجباً، فإن عدم التدبر في القرآن كان من أهم أسباب تخلف المسلمين، لآن آياته تكفلت سعادة الدنيا والآخرة «إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ»(5).

كما أن من الواجب على دعاة النهضة والتغيير، إضافة إلى توجيه الناس للتدبر في القرآن، أن يرشدوهم لضوابطه وقواعده كي يحولوا دون استغلال المستغلين وتحريفات الضالين.

ص: 224


1- فإن التدبر ينطلق من القواعد والأصول، والتفسير بالرأي ينطلق خارجاً عنها. فالمتدبر يلاحظ مثلاً الروايات الواردة عن أهل البيت (علیهم السلام) في تفسير الآيات - حيث إنهم قد نزل القرآن في بيوتهم فهم الأعرف به - كما يلاحظ المطلق والمقيد والعام والخاص و... ثم يستخرج حكماً مثلاً، والمتدبر يتبع المحكم، بينما المفسر بالرأي يتبع المتشابه ويتصرف بالمحكم كما يشاء و...
2- غوالي اللآلئ: ج4 ص104 الجملة الثانية في الأحاديث المتعلقة بالعلم وأهله وحامليه ح154.
3- سورة محمد (صلی الله علیه و آله): 24.
4- بحار الأنوار: ج29 ص305-306 ب11.
5- سورة الأنفال: 24.

..............................

قولها (علیها السلام): «أفلا تتدبرون...» أي: هل تعجزون عن التدبر والتأمل في القرآن؟ أم أنكم قادرونلكن تأبى أنفسكم ذلك، هذا إذا كان (أم) بمعنى: أحد الأمرين، أما إذا كان بمعنى: الإضراب، فمعناه: بل الأقفال التي على قلوبكم تمنعكم من التدبر.

والمراد بالأقفال هو: الطبع على القلب(1)؛ لأن الإنسان إذا تمادى في المعصية طُبع على قلبه كأن على قلبه القفل، وهذا اقتباس من القرآن أيضاً.

قال سبحانه: «تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ»(2).

وقال تعالى: «ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ»(3).

وقال سبحانه: «أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ»(4).

وقال تعالى: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُعَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ»(5).

ص: 225


1- أو الأعم منه ومن الأهواء والشهوات.
2- سورة الأعراف: 101.
3- سورة يونس: 74.
4- سورة النحل: 108.
5- سورة محمد (صلی الله علیه و آله): 16.

..............................

وقال سبحانه: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لايَفْقَهُونَ»(1).

طبع على قلوبهم

مسألة: يستفاد من قول الصديقة الطاهرة(علیها السلام):«أفلا تتدبرون القرآن.. » أن أولئك القوم لم يكونوا من المتدبرين للكتاب عموماً، والمورد لا يخصص الوارد خاصة بعد تأييد قرائن المقام، وكون سيرتهم العملية على عدم التدبر عموماً، فإنهم لو تدبروا لأرعووا ولما وصلوا إلى ما وصلوا إليه من الخسران المبين، ولما حصل حتى حروبهم المسماة بالردة وغيرها.

ويستفاد من كلامها (علیها السلام) أيضاً: إن القوم كانوا ممن طبع الله على قلوبهم وكانت الأقفال عليها.

قال تعالى: «كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ»(2).

وقال سبحانه: «الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِاللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ»(3).

ص: 226


1- سورة (المنافقون): 3.
2- سورة الروم: 59
3- سورة غافر: 35.

كلا بل ران على قلوبكم ما أسأتم من أعمالكم

اشارة

-------------------------------------------

تأثير الأعمال السيئة

مسألة: يستحب بيان أن الأعمال السيئة تؤثر على قلب الإنسان فيؤخذ بسمعه وبصره، وقد يجب بيانه كما ذكر في البند السابق، وإنما تؤثر الأعمال السيئة على قلب الإنسان؛ لأنها توحي إلى القلب، كما أن في عكسه: الأعمال الحسنة توحي إلى الملكات الحسنة، وقد ذكرنا في بعض ما سبق أن كلاً من النفس والبدن يؤثر أحدهما على الآخر وفيه، فليس المراد بالقلب: القلب الصنوبري، وإنما يراد به: النفس، وهذا اقتباس من قوله سبحانه وتعالى: «كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ»(1).

و(الرين) هو الوسخ الذي يعلو المرآة ونحوها، وهذا تشبيه للمعقول بالمحسوس؛ لأن الإنسان إذا أساء في العمل انحرف قلبه عن جادة الصواب شيئاً فشيئاً فكأنّ هناك غطاء على قلبه. قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه منه وإن زاد زادت، فذلك الرين الذيذكره الله في كتابه: «كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ»(2)»(3). وفي الغرر قال مولانا أمير المؤمنين (علیه السلام): «قد قادتكم أزمة الحين، واستغلقت على قلوبكم أقفال الرين»(4).

ص: 227


1- سورة المطففين: 14.
2- سورة المطففين: 14.
3- روضة الواعظين: ج2 ص414 مجلس في معرفة القلب.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: ص123 ق1 ب5 ف2 ذم زمانه وأهل زمانه ح2141.

..............................

وفي نهج البلاغة قال (علیه السلام): «وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ابْتَعَثَهُ وَالنَّاسُ يَضْرِبُونَ فِي غَمْرَةٍ، وَيَمُوجُونَ فِي حَيْرَةٍ، قَدْ قَادَتْهُمْ أَزِمَّةُ الْحَيْنِ وَاسْتَغْلَقَتْ عَلَى أَفْئِدَتِهِمْ أَقْفَالُ الرَّيْنِ»(1).

قال الجوهري: (الرين الطبع والدنس. يقال: ران على قلبه ذنبه يرين ريناً وريوناً، أي: غلب)(2).

وقال بعضهم: الرين الطبع والتغطية.

وقال بعضهم: الرين الصداء.

وقيل: الرين الذنب على الذنب حتىيموت القلب.

وقيل: معنى ران غطى وغشي.

تسلسل السيئات

مسألة: الواجب الحذر من السيئات بل من صغارها أيضاً، فإن السيئات بعضها آخذ بعنق بعض، كما أن الحسنات كذلك، على ما ورد في الرواية.

وهذا ما يستفاد من كلامها (علیها السلام) إذ أن سيئتهم الكبرى هذه كانت امتداداً لسيئات سابقة لهم، حيث قالت (علیها السلام): «ما أسأتم من أعمالكم».

ص: 228


1- نهج البلاغة، الخطب: 191 ومن خطبة له (علیه السلام) يحمد الله ويثني على نبيه (صلی الله علیه و آله) ويوصي بالزهد والتقوى.
2- الصحاح للجوهري: ج5 ص2129 مادة رين.

..............................

شهادتان من الزهراء (علیها السلام)

مسألة: هاهنا شهادتان من سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (علیها السلام):

أولاهما: إنهم أساءوا في أعمالهم، أي الكثير من أعمالهم إن لم نقل كلها، لمكان الجمع المضاف، فتأمل.

فيكشف ذلك أن سيئتهم هذه كانت نتيجة لسيئات أخرى كثيرة، وفي ذلك عبرة للعالمين وأية عبرة.

وثانيتهما: إن قلوبهم أيضاً أصبحت ملوثة ومغطاة بالدنس «وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ»(1).

قال الإمام الصادق (علیه السلام): «إن الله عزوجل يقول: «فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ»(2)، وكيف يهتدي من لم يبصر، وكيف يبصر من لم يتدبر، اتبعوا رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته (علیهم السلام)، وأقروا بما نزل من عند الله، واتبعواآثار الهدى، فإنهم علامات الأمانة والتقى، واعلموا أنه لو أنكر رجل عيسى ابن مريم (علیه السلام) وأقر بمن سواه من الرسل لم يؤمن، اقتصوا الطريق بالتماس المنار، والتمسوا من وراء الحجب الآثار، تستكملوا أمر دينكم وتؤمنوا بالله ربكم»(3).

وفي التوقيع الشريف من أبي محمد (علیه السلام) لإسحاق بن إسماعيل:

ص: 229


1- سورة الحج: 46.
2- سورة الحج: 46.
3- الكافي: ج1 ص182 باب معرفة الإمام (علیه السلام) والرد إليه ح6.

..............................

«يا إسحاق بن إسماعيل، سترنا الله وإياك بستره، وتولاك في جميع أمورك بصنعه، قد فهمت كتابك رحمك الله، ونحن بحمد الله ونعمته أهل بيت نرق على موالينا، ونسر بتتابع إحسان الله إليهم وفضله لديهم، ونعتد بكل نعمة ينعمها الله عزوجل عليهم، فأتم الله عليكم بالحق، ومن كان مثلك ممن قد رحمه وبصره بصيرتك، ونزع عن الباطل، ولم يعم في طغيانه بعمه، فإن تمام النعمة دخولك الجنة، وليس من نعمة وإن جل أمرها وعظم خطرها إلا والحمد لله تقدست أسماؤه عليها يؤدي شكرها، وأنا أقول: الحمد لله مثل ما حمد الله به حامد إلى أبد الأبد بما منّ به عليك من نعمته، ونجاك منالهلكة، وسهل سبيلك على العقبة، وأيم الله إنها لعقبة كئود، شديد أمرها، صعب مسلكها، عظيم بلاؤها، طويل عذابها، قديم في الزبر الأولى ذكرها. ولقد كانت منكم أمور في أيام الماضي (علیه السلام) إلى أن مضى لسبيله (صلى الله على روحه) وفي أيامي هذه كنتم فيها غير محمودي الشأن، ولا مسددي التوفيق. واعلم يقيناً يا إسحاق أن من خرج من هذه الحياة الدنيا «أَعْمى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً»(1)، إنها يا ابن إسماعيل ليس تعمى الأبصار«وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ»(2) وذلك قول الله عزوجل في محكم كتابه للظالم: «رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً»(3) قالَ الله عزوجل: «كَذلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى»(4)، وأي آية يا إسحاق أعظم من حجة الله عزوجل على خلقه، وأمينه

ص: 230


1- سورة الإسراء: 72.
2- سورة الحج: 46.
3- سورة طه: 125.
4- سورة طه: 126.

..............................

في بلاده، وشاهده على عباده، من بعدما سلف من آبائه الأولين من النبيين، وآبائه الآخرين من الوصيين (عليهم أجمعين رحمة الله وبركاته). فأين يُتاه بكم؟! وأين تذهبون كالأنعام على وجوهكم؟! عن الحق تصدفون، وبالباطل تؤمنون، وبنعمة الله تكفرون أو تكذبون، فمن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض «فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ» ومن غيركم «إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيا»(1) الفانية، وطول عذاب الآخرة الباقية، وذلك والله الخزي العظيم.

إن الله بفضله ومنّه لما فرض عليكم الفرائض لم يفرض ذلك عليكم لحاجة منه إليكم، بل رحمة منه لا إله إلا هو عليكم لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَلِيَبْتَلِيَ... مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ، ولتألفوا إلى رحمته، ولتتفاضل منازلكم في جنته، ففرض عليكم الحج والعمرة، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والصوم، والولاية، وكفى بهم لكم باباً ليفتحوا أبواب الفرائض، ومفتاحاً إلى سبيله، ولولا محمد (صلی الله علیه و آله) والأوصياء من بعده لكنتم حيارى كالبهائم لا تعرفون فرضاً من الفرائض، وهل يدخل قرية إلا من بابها، فلما منّ عليكم بإقامة الأولياء بعد نبيه قال الله عزوجل لنبيه (صلی الله علیه و آله): «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْدِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً»(2)، وفرض عليكم لأوليائه حقوقاً أمركم بأدائها إليهم ليحل لكم ما وراء ظهوركم من أزواجكم، وأموالكم، ومأكلكم، ومشربكم، ويعرفكم بذلك النماء والبركة والثروة، وليعلم من يطيعه منكم بالغيب، قال الله عزوجل: «قُلْ لاَ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً

ص: 231


1- سورة البقرة: 85.
2- سورة المائدة: 3.

..............................

إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى»(1). واعلموا أن «مَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ» على نفسه وأن الله هو «الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ»(2) لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ ... فاعملوا من بعد ما شئتم «فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ» ثم تردون «إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»(3)، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ والحمد لله كثيراً رب العالمين»(4).

بُعدا الإصلاح

مسألة: الواجب على الإنسان - في إصلاح نفسه - أن يتجه اتجاهين ويتحرك حركتين:

مسألة: الواجب على الإنسان - في إصلاح نفسه - أن يتجه اتجاهين ويتحرك حركتين:

1: حركة إلى الداخل، بتطهير قلبه من الشرك والحسد والحقد والبغضاء والنفاق و...

2: حركة إلى الخارج، بتطهير جوارحه عن اجتراح المعاصي.

ومن ذلك يعرف أن واجب المصلحين هو تطهير المجتمع في كلا البعدين واللازم وضع برامج تفي بكلا الجانبين.

قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «ليخشع لله سبحانه قلبك، فمن خشع قلبه خشعت جميع جوارحه»(5).

ص: 232


1- سورة الشورى: 23.
2- سورة محمد (صلی الله علیه و آله): 38.
3- سورة التوبة: 105.
4- بحار الأنوار: ج50 ص319-322 ب4 ح16.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: ص67 ق1 ب1 ف13 القلب السليم آثاره وعلائمه ح907.

..............................

وعن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه سُئل ما القلب السليم؟ فقال: «دين بلا شك وهوى، وعمل بلا سمعة ورياء»(1).

وفي تفسير القمي «إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ»(2)، قال: «القلب السليم الذي يلقى الله وليس فيه أحد سواه»(3).وقال الإمام الصادق (علیه السلام): «صاحب النية الصادقة صاحب القلب السليم؛ لأن سلامة القلب من هواجس المحذورات بتخليص النية لله تعالى في الأمور كلها، قال الله تعالى: «يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ»(4)»(5).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «أَحْيِ قَلْبَكَ بِالْمَوْعِظَةِ، وَأَمِتْهُ بِالزَّهَادَةِ، وَقَوِّهِ بِالْيَقِينِ، وَنَوِّرْهُ بِالْحِكْمَةِ، وَذَلِّلْهُ بِذِكْرِ الْمَوْتِ، وَقَرِّرْهُ بِالْفَنَاءِ، وَبَصِّرْهُ فَجَائِعَ الدُّنْيَا»(6).

وقال (علیه السلام): «طهّروا قلوبكم من درن السيئات تضاعف لكم الحسنات»(7).

ص: 233


1- مستدرك الوسائل: ج1 ص113 ب12 ح124.
2- سورة الشعراء: 89.
3- تفسير القمي: ج2 ص123 قصة موسى (علیه السلام) وفرعون.
4- سورة الشعراء: 88-89.
5- مصباح الشريعة: ص53 ب23.
6- نهج البلاغة، الرسائل: 31 ومن وصية له (علیه السلام) للحسن بن علي (علیه السلام) كتبها إليه بحاضرين عند انصرافه من صفين.
7- غرر الحكم ودرر الكلم: ص67 ق1 ب1 ف13 القلب السليم آثاره وعلائمه ح905.

..............................

بين الإساءة والرين

مسألة: هناك ترابط وثيق بين (الإساءة في العمل) وبين (الرين و الطبع على القلب) وبين (تزيين الشيطان)، وكل منها يؤثر في الآخر ويتأثر به أيضاً، وقد أشارت الصديقة الطاهرة (علیها السلام) إلى الأولين هاهنا وإلى الثالث فيما سبق(1).

قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «من مات قلبه دخل النار»(2).

وقال (علیه السلام): «الرجل بجنانه»(3).

وعن زرارة، عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: قال: «ما من عبد إلا وفي قلبه نكتة بيضاء، فإذا أذنب ذنباً خرج في النكتة نكتة سوداء، فإن تاب ذهب ذلك السواد وإن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتى يغطي البياض، فإذا غطى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبداً، و هو قول الله عزوجل: «كَلاَّ بَلْ رانَعَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ»(4)»(5).

كما قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إن العبد كلما أذنب ذنباً حصل في قلبه نكتة سوداء حتى يسود قلبه»(6).

ص: 234


1- عند قولها: «وتستجيبون لهتاف الشيطان الغوي»، و«اطلع الشيطان رأسه من مفرزة هاتف بكم..».
2- نهج البلاغة، قصار الحكم: 349.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: ص66 ق1 ب1 ف13 أهمية القلب ح876.
4- سورة المطففين: 14.
5- الكافي: ج2 ص273 باب الذنوب ح20.
6- بحار الأنوار: ج70 ص334 ب137 ضمن ح17.

..............................

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إذا أذنب العبد كان نقطة سوداء على قلبه، فإن هو تاب وأقلع واستغفر صفا قلبه منها، وإن هو لم يتب ولم يستغفر كان الذنب على الذنب، والسواد على السواد حتى يغمر القلب فيموت بكثرة غطاء الذنوب عليه، وذلك قوله تعالى: «بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ»(1)»(2).

وعن أبي بصير، قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: «إذا أذنب الرجل خرج في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب انمحت وإن زاد زادت، حتى تغلب على قلبه فلا يفلح بعدها أبداً»(3).وعن النبي (صلی الله علیه و آله): «قلب المؤمن أجرد فيه سراج يزهر، وقلب الكافر أسود منكوس»(4).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «إن الرجل ليذنب الذنب فيحرم صلاة الليل، وإن عمل السيئ أسرع في صاحبه من السكين في اللحم»(5).

وعن المدائني، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: سمعته يقول: «كان أبي يقول: إن الله قضى قضاءً حتماً لا ينعم على العبد بنعمة فيسلبها إياه حتى يحدث العبد ذنباً يستحق بذلك النقمة»(6).

وهذه بعض آثار الذنوب والتفصيل في مظانه.

ص: 235


1- سورة المطففين: 14.
2- مستدرك الوسائل: ج11 ص333 ب40 ح13190.
3- بحار الأنوار: ج70 ص327 ب137 ح10.
4- بحار الأنوار: ج67 ص59 ب44 ح39.
5- المحاسن: ج1 ص115 ب56 ح119.
6- وسائل الشيعة: ج15 ص303 ب40 ح20581.

فأخذ بسمعكم وأبصاركم

اشارة

-------------------------------------------

الأخذ بالسمع والبصر

مسألة: هل يحرم فعل كل ما يأخذ بالسمع والبصر؟. فمثلاً هل تحرم مجالسة البطالين، أو مجالسة أصدقاء السوء، أو النظر إلى برامج عبثية، أو ما أشبه ذلك؟.

قال الإمام السجاد (علیه السلام):«أو لعلك رأيتني آلف مجالس البطالين فبيني وبينهم خليتني»(1).

الظاهر أن المحرم هو ما وقع طريقاً إلى المعصية ولو بالواسطة(2)، فإن (حب الشيء يعمي ويصم)، وحينئذ لا يسمع الإنسان الحق ولا يبصر الحق وإنما يسمع ويبصر ما يوافق شهواته وأهواءه.

هذا وربما أمكن القول بحرمة بعض المراتب منها.

أي: أن هذا الرين أخذ بسمع قلوب القوم وأبصارها، فأصبحت لا تسمع ولا تبصر، كما قال تعالى: «وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإِْنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولئِكَ كَالأَْنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ»(3).

وفي الحديث: قام رجل إلى علي (علیه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرنا عن الناس وأشباه الناس والنسناس؟.

ص: 236


1- مصباح المتهجد: ص588 دعاء السحر في شهر رمضان.
2- يبدو أن المراد أن المشاركة في مجلس البطالين مثلاً قد يكون طريقاً مباشراً للمعصية كشرب الخمر أو الغيبة، وقد يكون سبباً لموت القلب والأخذ بالسمع والبصر الذي يكون سبباً للمعصية.
3- سورة الأعراف: 179.

..............................

قال: فقال علي (علیه السلام): «أجبه يا حسن».

قال: فقال له الحسن (علیه السلام): «سألت عن الناس فرسول الله (صلی الله علیه و آله) الناس؛ لأن الله تعالى يقول: «ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ»(1) ونحن منه، وسألت عن أشباه الناس فهم شيعتنا وهم منا وهم أشباهنا، وسألت عن النسناس فهم هذا السواد الأعظم وهو قول الله تعالى في كتابه: «إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً»(2)»(3).

قولها (علیها السلام): «فأخذ بسمعكم وأبصاركم»؛ لأن الذي يرين على قلبه لاتطيعه جوارحه إلى الحق، فيسمع غير الحق، ويبصر غير الحق، ويتكلم بغير الحق، وغير ذلك من حواسه، فإنها كلها تتجه إلى جادة الخطأ.

ص: 237


1- سورة البقرة: 199.
2- سورة الفرقان: 44.
3- تفسير فرات الكوفي: ص64 ومن السورة التي تذكر فيها البقرة ح64-30.

ولبئس ما تأوّلتم

اشارة

-------------------------------------------

التأويل والمكيدة الشيطانية

مسألة: يحرم التأويل الشخصي(1) للأمور الدينية على خلاف ما أمر الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) به، فإن هذا النوع من التأويل هو إحدى مكائد الشيطان وشباكه وبواباته نحو البدعة والضلالة، ومن ذلك يتضح حرمة كثير من تؤيلات الصوفية والعرفاء والفلاسفة وأضرابهم للآيات والنصوص الشريفة، وكذلك تأويلات الظالمين والطغاة والمستكبرين لها، ومنها ما يحاولون به تثبيت حكومتهم على الناس كوجوب إطاعة ولي الأمر - وهو الحاكم عندهم فاسقاً كان أم عادلاً - مع أن المراد به هو المعصوم (علیه السلام)، إلى غير ذلك.

قال تعالى: «يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ»(2)، ومن أهم مصاديق التحريف هو حمله على غير المراد.

وفي تفسير القمي: «وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْمَواضِعِهِ»(3) قال: من نحّى أمير المؤمنين (علیه السلام) عن موضعه، والدليل على ذلك أن الكلمة أمير المؤمنين (علیه السلام) (4).

قولها (علیها السلام): «ولبئس ما تأولتم» أي: ما تطلبتم من التأويل لإبطال الحق وإحياء الباطل، أو آل إليه أمركم من ذلك.

ص: 238


1- وهو التأويل الذي لا يستند إلى حجة كعدم الاعتماد على قول من نزل القرآن في بيوتهم.
2- سورة المائدة: 41.
3- سورة المائدة: 13.
4- تفسير القمي: ج1 ص163-164 القمار في الجاهلية.

..............................

مآل القوم

مسألة: يستفاد من كلام الصديقة الطاهرة (علیها السلام) أن مآل أمر القوم بئيس، حيث قالت: «ولبئس ما تأوّلتم».

ومعنى التأويل ما ينتهي إليه الأمر من (آل يؤول)، كما قال سبحانه: «وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً»(1).

أو المراد: بئس تأويلكم وصرفكم القرآن والأحكام عن واقعها.

أو: بئس تأويلكم وصرفكم الخلافة عن أمير المؤمنين (علیه السلام) إلى منلايستحقها.

ويؤيده ما بعده من الجمل.

ص: 239


1- سورة النساء: 59، سورة الإسراء: 35.

وساء ما به أشرتم

اشارة

-------------------------------------------

الإشارة بالباطل

مسألة: تحرم الإشارة بالباطل، ويستحب أن يبين للناس ما ارتكبه الغاصبون من الإشارة المنحرفة، وربما كان واجباً على ما ذكرناه سابقاً.

و(أشار إليه) بمعنى: دل عليه وأرشده إليه، فذكر له بأن الطريق هذا لاذاك، وأن الصراط هذا لا ذاك.

ومن الواضح أن الإشارة إلى الباطل - بالمعنى المذكور - محرمة، كما أن الإشارة إلى الحق واجبة، وربما كانت مستحبة في الحق المستحب كما ذكره الفقهاء في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وفي قصة الأعرابي الذي سأل عن خليفة رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأرشدوه إلى أبي بكر، فلما عجز عن جوابه جاؤوا به إلى أبي الحسن علي (علیه السلام) فأخذ الجواب، قال الأعرابي: ويحكم يا أصحاب رسول الله والذي أشرتم إليه بالخلافة - يعني ابن أبي قحافة - ليس فيه من هذه الخلال خلة.

فعن المفضل بن عمر، عن أبي عبد الله (علیه السلام): «أن أعرابياً بدوياً خرجمن قومه حاجاً محرماً، فورد على أدحي نعام فيه بيض فأخذه واشتواه وأكل منه، وذكر أن الصيد حرام في الإحرام، فورد المدينة فقال الأعرابي: أين خليفة رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقد جنيت جناية عظيمة؟.

فأرشد إلى أبي بكر، فورد عليه الأعرابي وعنده ملأ من قريش فيهم: عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وطلحة، والزبير، وسعد، وسعيد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح، وخالد بن الوليد، والمغيرة بن شعبة.

ص: 240

..............................

فسلّم الأعرابي عليهم فقال: يا قوم، أين خليفة رسول الله (صلی الله علیه و آله)؟.

فقالوا: هذا خليفة رسول الله (صلی الله علیه و آله).

فقال: أفتني.

فقال له أبو بكر: قل يا أعرابي.

فقال: إني خرجت من قومي حاجاً، فأتيت على أدحي فيه بيض نعام فأخذته فاشتويته وأكلته، فماذا لي من الحج وما عليَّ فيه، أحلالاً ما حرم عليَّ من الصيد أم حراماً؟.

فأقبل أبو بكر على من حوله فقال: حواري رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأصحابه أجيبوا الأعرابي.قال له الزبير من بين الجماعة: أنت خليفة رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فأنت أحق بإجابته!.

فقال أبو بكر: يا زبير، حب بني هاشم في صدرك؟.

قال: وكيف لا وأمي صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله (صلی الله علیه و آله).

فقال الأعرابي: إنا لله ذهبت فتياي فتنازع القوم فيما لا جواب فيه، فقال: يا أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) استرجع بعد محمد (صلی الله علیه و آله) دينه فنرجع عنه؟.

فسكت القوم، فقال الزبير: يا أعرابي، ما في القوم إلا من يجهل ما جهلت.

قال الأعرابي: ما أصنع؟.

قال له الزبير: لم يبق في المدينة من تسأله بعد من ضمه هذا المجلس إلا صاحب الحق الذي هو أولى بهذا المجلس منهم.

ص: 241

..............................

قال الأعرابي: فترشدني إليه؟.

قال له الزبير: إن إخباري يسر قوماً ويسخط قوماً آخرين.

قال الأعرابي: وقد ذهب الحق وصرتم تكرهونه؟.

فقال عمر: إلى كم تطيل الخطاب ياابن العوام، قوموا بنا والأعرابي إلى علي (علیه السلام) فلا تسمع جواب هذه المسألة إلاّ منه.

فقاموا بأجمعهم والأعرابي معهم حتى صاروا إلى منزل أمير المؤمنين (علیه السلام) فاستخرجوه من بيته وقالوا: يا أعرابي، اقصص قصتك على أبي الحسن (علیه السلام).

فقال الأعرابي: فلِمَ أرشدتموني إلى غير خليفة رسول الله (صلی الله علیه و آله)؟.

فقالوا: يا أعرابي، خليفة رسول الله (صلی الله علیه و آله) أبو بكر! وهذا وصيه في أهل بيته، وخليفته عليهم، وقاضي دينه، ومنجز عداته، ووارث علمه.

قال: ويحكم يا أصحاب رسول الله والذي أشرتم إليه بالخلافة ليس فيه من هذه الخلال خلة.

فقالوا: يا أعرابي، سل عما بدا لك ودع ما ليس من شأنك.

قال الأعرابي: يا أبا الحسن، يا خليفة رسول الله إني خرجت من قومي محرماً.

فقال له أمير المؤمنين (علیه السلام): تريد الحج فوردت على أدحي وفيه بيض نعام فأخذته واشتويته وأكلته.

فقال الأعرابي: نعم يا مولاي.فقال له: وأتيت تسأل عن خليفة رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأرشدت إلى مجلس أبي بكر وعمر، فأبديت بمسألتك فاختصم القوم ولم يكن فيهم من يجيبك على مسألتك؟.

ص: 242

..............................

فقال: نعم يا مولاي.

فقال له: يا أعرابي، الصبي الذي بين يدي مؤدبه صاحب الذؤابة فإنه ابني الحسن (علیه السلام)، فسله فإنه يفتيك.

قال الأعرابي: إنا لله وإنا إليه راجعون، مات دين محمد (صلی الله علیه و آله) بعد موته وتنازع القوم وارتدوا.

فقال أمير المؤمنين (علیه السلام): حاش لله يا أعرابي، ما مات دين محمد (صلی الله علیه و آله) ولن يموت.

قال الأعرابي: أفمن الحق أن أسأل خليفة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وحواريه وأصحابه فلا يفتوني ويحيلوني عليك فلا تجيبني وتأمرني أن أسأل صبياً بين يدي المعلم، ولعله لا يفصل بين الخير والشر.

فقال له أمير المؤمنين (علیه السلام): يا أعرابي، لا تقف ما ليس لك به علم، فاسأل الصبي فإنه ينبئك.

فمال الأعرابي إلى الحسن (علیه السلام) وقلمه في يده ويخط في صحيفتهخطاً، ويقول مؤدبه: أحسنت، أحسنت، أحسن الله إليك.

فقال الأعرابي: يا مؤدب الحسن الصبي فتعجب من إحسانه وما أسمعك تقول له شيئاً حتى كأنه مؤدبك.

فضحك القوم من الأعرابي وصاحوا به: ويحك يا أعرابي سل وأوجز.

قال الأعرابي: فديتك يا حسن، إني خرجت حاجاً محرماً، فوردت على أدحي فيه بيض نعام فشويته وأكلته عامداً وناسياً؟.

قال الحسن (علیه السلام): زدت في القول يا أعرابي، قولك عامداً لم يكن هذا من مسألتك هذا عبث.

ص: 243

..............................

قال الأعرابي: صدقت ما كنت إلاَّ ناسياً.

فقال له الحسن (علیه السلام) - وهو يخط في صحيفته -: يا أعرابي، خذ بعدد البيض نوقاً فاحمل عليها فنيقاً فما نتجت من قابل فاجعله هدياً بالغ الكعبة؛ فإنه كفارة فعلك.

فقال الأعرابي: فديتك يا حسن، إن من النيق ما يزلقن.

فقال الحسن (علیه السلام): يا أعرابي، إن من البيض ما يمرقن.

فقال الأعرابي: أنت صبي محدق محرر في علم الله مغرق، ولو جاز أن يكون ماأقوله قلته: إنك خليفة رسول الله (صلی الله علیه و آله).

فقال له الحسن (علیه السلام): يا أعرابي، أنا الخلف من رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأبي أمير المؤمنين (علیه السلام) الخليفة.

فقال الأعرابي: وأبو بكر ماذا؟.

قال الحسن (علیه السلام): سلهم يا أعرابي.

فكبر القوم وعجبوا مما سمعوا من الحسن (علیه السلام).

فقال أمير المؤمنين (علیه السلام): الحمد لله الذي جعل فيَّ وفيَّ ابني هذا ما جعله في داود وسليمان إذ يقول الله عز من قائل: «فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ»(1)»(2).

ص: 244


1- سورة الأنبياء: 79.
2- مستدرك الوسائل: ج9 ص266-271 ب17 ح10871.

..............................

الاستشارة المحرمة

مسألة: إذا قلنا بوجوب الاستشارة ووجوب الإشارة - بحدودها كما ذكرناه في كتاب (الشورى في الإسلام)(1)وغيره(2)، فإن الاستشارة والإشارة بشرائط معاكسة للشرائط المطلوبة محرمة ولو في الجملة(3).

وربما كان بعض المصاديق منها مكروهاً.

ص: 245


1- من تأليفات سماحة الإمام الشيرازي (أعلى الله مقامه) في قم المقدسة بتاريخ 1408 ه. يقع الكتاب في 143 صفحة قياس 20 × 14. تناول سماحته فيه المواضيع التالية: الفصل الأول: توضيح جوانب من الشورى، المشير والمستشير، المشورة، هل تلزم المشورة، هل يلزم المستشار، كم قدر المشورة. الفصل الثاني: تفصيل الحزب وأقسامه، الأحزاب الدكتاتورية، فشل الأحزاب السياسية في العالم الثالث، الهيكلية العامة للأحزاب السياسية، العلاقات الداخلية في التنظيمات، أقسام التمركز، بدل العضوية، الأحزاب الديمقراطية والدكتاتورية، الأحزاب السياسية والمؤسسات الحكومية، النظام القائم على الحزبين، التجمعات الضاغطة، اللجوء إلى السرية، الفرق بين مجموعات النفوذ والأحزاب السياسية، الزعماء الحقيقيون للأحزاب السياسية، الرأي العام، النظام الحزبي، البرلمان، الحزب والانتخابات. الفصل الثالث: جملة من روايات المشورة. طبع الكتاب عدة مرات في لبنان وقم المقدسة، منها طبعة دار الفردوس بيروت عام 1409ه. ومؤسسة الوعي الإسلامي بيروت عام 1420ه-. ومطبعة الشهيد قم المقدسة، والطبعة العاشرة هيئة محمد الأمين الكويت، عام 1420ه / 1999م. ترجم الكتاب إلى اللغة الفارسية تحت عنوان (شورا در إسلام) وطبع في انتشارات الوعي الإسلامي 1373ه ش. وكانت الطبعة السادسة في انتشارات آل الرسول (صلی الله علیه و آله) قم المقدسة.
2- الحكم في الإسلام.
3- كأن يتخذ بطانة من الأشرار ليستشيرهم في الشؤون الخطيرة.

..............................

وفي الغرر(1) تحت عنوان (لا تشاور هؤلاء):

قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «مشاورة الجاهل المشفق خطر».

وقال (علیه السلام): «استشر عدوك العاقل، واحذر رأي صديقك الجاهل».

وقال (علیه السلام): «لا تشاورن في أمرك من يجهل».

وقال (علیه السلام): «لا تشاور عدوك واستره خبرك».

وقال (علیه السلام): «لا تدخلن في مشورتك بخيلاً، فيعدل بك عن القصد، ويعدك الفقر».وقال (علیه السلام): «لا تشركن في رأيك جباناً، يضعفك عن الأمر (الأمور)، ويعظم عليك ما ليس بعظيم».

وقال (علیه السلام): «لا تشركن في مشورتك حريصاً، يهون عليك الشر، ويزين لك الشره».

وقال (علیه السلام): «لا تستشر الكذاب؛ فإنه كالسراب يقرب عليك البعيد، ويبعد عليك (إليك) القريب».

وقال (علیه السلام): «آفة المشاورة انتقاض الآراء».

وقال (علیه السلام): «إذا ازدحم الجواب نفي الصواب».

وقال (علیه السلام): «شر الآراء ما خالف الشريعة».

ص: 246


1- غرر الحكم ودرر الكلم: ص442 ق6 ب4 ف1 لا تشاور هؤلاء ح10085-10095.

..............................

المستشار الأجنبي

مسألة: ملاك كلامها (علیها السلام) يعطي - وربما بالأولوية(1)- حرمة اتخاذ مستشارين من الكفار فيما إذا ترتب عليه الإضرار بالمسلمين، أو سيطرة الأجانب على البلاد والعباد.

قولها (علیها السلام): «وساء ما به أشرتم»، فإنهم أشاروا إلى خلاف الصواب بسكوتهم على اغتصاب فدك والسلطة.

وبتعبير آخر: إن الذين أشاروا وإن كانوا عدداً محدوداً منهم، إلاّ أن الباقين حيث سكتوا شاركوهم الإثم فصح نسبة الإشارة إليهم بأجمعهم.

والترتيب بين الجملتين على حسب الطبع، فإن التأويل يسبق الإشارة(2) كما لا يخفى.

ص: 247


1- فإنه إذا حرم اتخاذ مستشار ضال مسلم، فكيف باتخاذ مستشار ضال كافر.
2- إذ الأول عمل قلبي وذهني، والثاني عمل خارجي.

وشرّ ما منه اغتصبتم

اشارة

-------------------------------------------

وشرّ ما منه اغتصبتم(1)

الغصب درجات

مسألة: يحرم ما اغتصبوه أو اعتاضوه، أشد الحرمة.

فإن الغصب حرام ولو كان بمقدار مثقال ذرة، فكيف بالغصب الذي هو بهذا الحجم، وفي مثل هذا الموضع، ومن سيدة نساء العالمين (علیها السلام) التي يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها؟.

وكيف بغصب الخلافة حيث ترتب عليه أكبر المفاسد من جيل إلى جيل وإلى يوم ينظرون؟.

فإن الغصب بعضه أشد حرمة من بعض، من ناحية الكمّ ومن ناحية الكيف أيضاً، وكذلك من حيث المصاديق والآثار.

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إن الله عزوجل غافر كل ذنب إلاّ رجل اغتصب أجيراً أجره، أو مهر امرأة»(2).

وفي حديث المناهي عن النبي (صلی الله علیه و آله): «من خان جاره شبراً من الأرض جعله الله طوقاً في عنقه من تخومالأرض السابعة حتى يلقى الله يوم القيامة مطوقاً إلا أن يتوب ويرجع»(3).

وفي نهج البلاغة: «الحجر الغصيب في الدار رهن على خرابها»(4).

ص: 248


1- وفي بعض النسخ: (اعتضتم)، وفي بعضها: (اعتصمتم).
2- مستدرك الوسائل: ج14 ص31 ب5 ح16024، والمستدرك: ج15 ص72 ب11 ح17571.
3- من لا يحضره الفقيه: ج4 ص12 باب ذكر جمل من مناهي النبي (صلی الله علیه و آله) ح4968.
4- نهج البلاغة، قصار الحكم: 240.

..............................

غصب فدك بداية المسيرة

مسألة: قولها (علیها السلام): «وشر ما منه اغتصبتم» يدل على أن ما قام به القوم من اغتصاب الخلافة، واغتصاب فدك، كان شراً عظيماً عليهم بالفعل، لا أنه سيتحول شراً فقط، لظهور العناوين في الفعلية.

ولعل كلمة: (منه) للتبعيض باعتبار أن فدك إنما اغتصبت منها السيطرة والوارد والثمرة وما أشبه؛ لأن الأرض باقية مكانها، وهذا في مقابل الأشياء المنقولة التي تغتصب أعيانها أيضاً وتنقل إلى غير مكانها، فتأمل، لأن غصب كل شيء بحسبه.

وكذلك بالنسبة إلى الخلافة حيث يغتصب الظاهري منها فقط، أما الواقعيوهي الإمامة فباقية لأمير المؤمنين (علیه السلام) وذريته الطاهرين (علیهم السلام).

ويحتمل أن تكون (من) هاهنا بمعنى الابتداء(1)، أي أن ما بدأتم منه الغصب (وهو فدك) شر عظيم، إذ أن غصبهم فدكاً كان بداية لأنواع أخرى من الغصب عديدة وكثيرة، كما ظهر طوال تاريخ الثلاثة والأمويين والعباسيين، فقد غصبوا أموال الناس وأغاروا عليهم، وغصبوا النساء والجواري(2)، وفرضوا الضرائب(3) إلى غير ذلك مما هو كثير وكثير.. ويعدّ هذا المعنى إخباراً منها (صلوات الله عليها) بما سيجري في المستقبل متضمناً كل ذلك في كلمة (مِن).

ص: 249


1- وذلك كما تقول لمن ابتدأ سيره من نقطة معينة: شر ما منه سرت.
2- كما في حروب الردة وفي قصة مالك بن نويرة وغيرها. راجع بحار الأنوار: ج29 ص457-461 ب13 بيان.
3- كما فرض بعضهم الضرائب على الخيل وغيره.

..............................

وفي بعض النسخ: «وشر ما منه اعتضتم» من الاعتياض وهو أخذ العوض؛ لأنهم باعوا دينهم ودنياهم وأخذوا عوضذلك فدك(1)، كما في قول سبحانه: «لَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ»(2).

وفي بعضها: «وشر ما منه اعتصمتم» حيث اعتصموا بالدنيا وتركوا حبل الله الذي أمر الله بالاعتصام به وهو أمير المؤمنين علي (علیه السلام) قال تعالى:

ƒوَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ النّارِ فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ (3).

ص: 250


1- كلمة (فدك) يجوز فيها أن تكون منصرفة وغيرمنصرفة.
2- سورة البقرة: 102.
3- سورة آل عمران: 103.

لتجدّن والله محمله ثقيلاً

اشارة

-------------------------------------------

تحذير الطغاة

مسألة: تحذير الطغاة ومن يدور في فلكهم واجب في الجملة، والتحذير أعم من التخويف بالعذاب الأخروي والتخويف بالآثار الدنيوية.

والمراد بالمحمل: الحمل، فهو مصدر ميمي. و(الثقل): إشارة إلى عظيم ما يترتب على فعلهم من الخسران والعذاب الدنيوي والأخروي، ومن الواضح أن مطلق المحرمات محمله ثقيل، إلا أن بعضها أثقل من بعض.

فقولها (علیها السلام) يدل أيضاً على أن أوزار ابن أبي قحافة، وأوزار من دار في فلكه ثقيل في الآخرة.

قال تعالى: «لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُونَ»(1).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «وأيما داعٍ دعا إلى ضلالة فاتبع، فإن عليه مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزراهم شيء»(2).وقال (صلی الله علیه و آله): «ومن استَنّ شراً فاستُنّ به فعليه وزره ومثل أوزار من اتبعه من غير منتقص من أوزارهم»(3).

والوزر في اللغة: هو الثقل، وإنما سميت الذنوب بأنها أوزار؛ لأنها يثقل كاسبها وحاملها.

ص: 251


1- سورة النحل: 25.
2- مستدرك الوسائل: ج12 ص230 ب15 ح13961.
3- مستدرك الوسائل: ج12 ص232 ب15 ح13968.

..............................

وفي تفسير القمي: قال علي بن إبراهيم(رحمة الله) في قوله: «لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ»(1) قال: يحملون آثامهم، يعني الذين غصبوا أمير المؤمنين (علیه السلام) وآثام كل من اقتدى بهم، وهو قول الصادق (علیه السلام): «والله ما أهريقت محجمة من دم، ولا قرعت عصاً بعصا، ولا غصب فرج حرام، ولا أخذ مال من غير حله، إلا ووزر ذلك في أعناقهما(2) من غير أن ينقص من أوزار العالمين بشيء»(3).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام)- في حديث -: «ورجلان(4) أسسا ذلك لهم، وعليهما مثل جميع أوزار هذه الأمة إلى يوم القيامة»(5).

القسم الواجب

مسألة: القسم في مثل هذا الموضع واجب إذا توقف عليه النهي عن المنكر أو تأكيده بالقدر الواجب.

وقسم الصديقة (علیها السلام) في هذا الموطن لدفع أدنى شبهة في صحة وصدق كلامها (علیها السلام)، إذ هل يعقل أن تقسم من يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها على باطل؟!

فلا شك في أن الغاصبين لفدك وللخلافة محملهم ثقيل وغبهم وبيل...

ص: 252


1- سورة النحل: 25.
2- أي الأول والثاني.
3- تفسير القمي: ج1 ص383 سورة النحل.
4- أي الأول والثاني.
5- بحار الأنوار: ج31 ص427 ب27.

وغبّه وبيلاً

اشارة

-------------------------------------------

الغب الوبيل

مسألة: الغب الوبيل والعاقبة السوء والعذاب الأخروي لمن غصب الخلافة وفدك، ويلزم الاعتقاد بذلك وبيانه للناس.

والغبّ بالكسر: العاقبة والمستقبل،فإن مستقبل هذه المعصية الكبيرة الشديدة وبال وعقاب.

والوبال: الثقل والمكروه الشديد العظيم، ويراد به العذاب الثقيل الشديد.

أي: إن عاقبة اغتصابكم فدك والخلافة وسكوتكم على الباطل سوف يكون شديداً عليكم في الدنيا والآخرة.

ويحتمل أن يكون قولها (علیها السلام): «محمله ثقيلاً» إشارة لحمله في الدنيا، و«غبه وبيلاً» إشارة لعذاب الآخرة.

ثم إن ثقل الحمل في الدنيا نفسي وجسدي وتاريخي، فإن مطلق الغاصب - فكيف بغاصب فدك وغاصب الخلافة - يعيش في أشد أنواع وخز(1) الضمير وتأنيبه وعذاب الوجدان مما يؤثر على أعصابه وجسده، وذلك أيضاً يخلّف له سوء السمعة في الحياة وبعد الممات.

ص: 253


1- الوخز في اللغة: الطعن، وخزه بالرمح والخنجر يخزه وخزا: إذا طعنه. واستعمل في الطعن غير النافذ والنافذ معاً.

إذا كشف لكم الغطاء، وبان ما وراءه الضراء، وبدا لكم من...

اشارة

-------------------------------------------

إذا كشف لكم الغطاء، وبان ما وراءه الضراء، وبدا لكم من ربكم ما لم تكونوا تحتسبون «وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ»(1).

إذا كشف الغطاء

مسألة: ينبغي أن يتذكر الإنسان دائماً يوم يُكشف الغطاء فيه، ويذكّر الآخرين بذلك اليوم خاصة الظلمة وأعوانهم ليرتدعوا وليتم الحجة عليهم.

فإن كشف الغطاء يبدأ بعد الموت ويستمر في عالم البرزخ ثم يوم القيامة، حيث ينكشف العالم الآخر للإنسان ويرى الثواب والعقاب بمجرد الموت، كما قال سبحانه: «فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ»(2).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من مات فقد قامت قيامته»(3).

وقال النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله): «فإن أحدكم إذا مات فقد قامت قيامته يرى ما له من خير أو شر»(4).

وحدة العالمين

مسألة: قد يستظهر من قول الصديقة (علیها السلام) هاهنا ما ذهب إليه بعض المتكلمين، وذكرناه في موضع آخر في تفسير قوله تعالى «وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌبِالْكَافِرِينَ»(5) بلحاظ أن إطلاقه يقتضي الإحاطة في الدنيا أيضاً إلاّ أن النوافذ نحوها مغلقة.

ص: 254


1- سورة غافر: 78.
2- سورة ق: 22.
3- بحار الأنوار: ج58 ص7 ب42.
4- إرشاد القلوب: ج1 ص18 ب2.
5- سورة التوبة: 49، سورة العنكبوت: 54.

..............................

فكلامها (علیها السلام): «إذا كشف لكم الغطاء .. وبان... وبدا... » قد يستظهر منه وحدة العالمَين في الجملة إلا أن هنالك غطاء على الحواس قبل الممات، فالأمر ليس انتقالاً بالمعنى الدقيق بل رفع حاجز، وذلك كالأعمى الذي لا يبصر مايحيط به من أزهار وأشجار أو أشواك وأحجار، فمع امتلاكه البصر ينكشف له ماحوله ويبين ويبدو، لا أنه ينتقل لمكان آخر، وكذلك فاقد سائر الحواس بالنسبة إليها. والحديث كله في الجملة ومجرد احتمال كما لا يخفى، فلا ينفي الانتقال في مراحل لاحقة أو أزمنة كذلك(1) بل المراد أصل احتمال أن قسماً من الأمر قد يكون برفع الحاجز.

قولها (علیها السلام): «وبان ما وراءه الضرّاء»، أي: ظهر لكم الضرّاء ورأيتم العذاب بعدما انكشف الغطاء.

عذاب الآخرة

مسألة: يظهر من قول الصديقة (علیها السلام): «وبدا لكم من ربكم ما لم تكونوا تحتسبون»، أن عذاب الآخرة فوق كل ما يتخيل أو يتعقل في أقصى درجاتهما كماً وكيفاً، ويظهر أنها (علیها السلام) أخبرت بأن عذاب القوم فوق ما يتصور.. وكذلك الراضي بفعلهم، والساكت عن جرمهم في الأزمنة اللاحقة، لوحدة الملاك مع الساكتين ذلك الزمن، أو للإطلاق كما أشرنا آنفاً.

مسألة: يظهر من قول الصديقة (علیها السلام): «وبدا لكم من ربكم ما لم تكونوا تحتسبون»، أن عذاب الآخرة فوق كل ما يتخيل أو يتعقل في أقصى درجاتهما كماً وكيفاً، ويظهر أنها (علیها السلام) أخبرت بأن عذاب القوم فوق ما يتصور.. وكذلك الراضي بفعلهم، والساكت عن جرمهم في الأزمنة اللاحقة، لوحدة الملاك مع الساكتين ذلك الزمن، أو للإطلاق كما أشرنا آنفاً.

وقولها (علیها السلام): «وبدا لكم...» اقتباس من الآية الكريمة: «وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ»(2).

ص: 255


1- أي لاحقة.
2- سورة الزمر: 47.

..............................

محطة الخسارة الكبرى

مسألة: إن القوم - وعلى رأسهم من غصب الخلافة وفدك - مبطلون وخاسرون، حيث قالت الصديقة الطاهرة (علیها السلام): «وخسر هنالك المبطلون» وهي الآية المباركة من سورة غافر(1)، والمراد بالمبطلين: الذين يستبدلون الحق بالباطل؛ فإن القوم أبطلوا الحق في فدك والخلافة وجعلوا مكانه الباطل.ومن السر في قوله: «هنالك» أي يوم القيامة مع أن المبطلين يخسرون في الدنيا أيضاً، هو أن (الخسارة الحقيقية) والمصداق الأجلى لها هو هنالك، فإن خسارة المبطلين وإن كانت دنيوية أيضاً لكنها قد لا تتحقق ولا تظهر بشكل كامل كيفاً ودائمٍ زمناً في الدنيا، وإنما تتحقق وتظهر في الآخرة كيفا وكماً لجميع الناس.

قال تعالى: «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَْشْهَادُ»(2).

وفي الدعاء: «ولا تفضحني على رؤوس الأشهاد»(3)؛ لأن الأعمال تنكشف بشكل كامل أمام الناس في الآخرة، قال تعالى: «يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ»(4).

بين الوحدة والسكوت عن الحق

مسألة: يجب بيان أن القوم كانوا مبطلين وأنهم في الآخرة من الخاسرين، وأنهم سيجدون محمل عملهم ثقيلاً وعاقبته وبيلاً و...، ولا ينبغي الإصغاء لمن

ص: 256


1- سورة غافر: 78.
2- سورة غافر: 51.
3- العدد القوية: ص24 اليوم الخامس عشر.
4- سورة الطارق: 9.

..............................

يردع عن ذلك بدعوى أنه مخل بالوحدة إذ:

أولاً: لا تعني (الوحدة) عدم البحث والحوار والدفاع عن المعتقد، بل تعني (التنسيق والتعاون) في قبال العدو المشترك وفي نقاط الاشتراك، بل إن الوحدة المبنية على فتح باب الحوار بحرية تامة ستكون أعمق وأوثق، وستدفع نحو التقارب الثقافي والفكري أكثر فأكثر، وغيرها ليس أكثر من تظاهر ونفاق عادةً، وبعبارة أخرى ينبغي أن تتكامل قيمة الوحدة مع قيمة الحرية لا أن تلغيها.

وثانياً: لو صح ذلك لكان الرسول (صلی الله علیه و آله) أول مخل للوحدة عندما عيّن أمير المؤمنين علياً (علیه السلام)، وأخذ يؤكد على مناقبه وخلافته - وهو يعلم بأن العديد سوف لا يستجيبون؛ لأن بينهم وبينه ثارات بدر وحنين، ولغير ذلك -.

وثالثاً: نفس كلام الصديقة (علیها السلام) هذا وسائر ما احتجت به عليهم، دليل على أن الوحدة المطلوبة لا يصح أن تمنع الإنسان عن بيان معتقده ورأيه.

ورابعاً: لا يمكن إهمال مثل: «الساكت عن الحق شيطان أخرس»(1)، وأدلة النهيعن المنكر، وتنبيه الغافل وإرشاد الجاهل وما إلى غير ذلك، وتفصيل الكلام في محله.

ومن الواضح أن الوحدة لا تشمل المعتقدات، بل تشمل - في الجملة - الأمور السياسية وما شابهها بحسب الموازين الشرعية.

ص: 257


1- في غرر الحكم ودرر الكلم: ص70 ق1 ب1 ف14 قولوا بالحق ولا تمسكوا عن إظهاره ح991: «لا خير في السكوت عن الحق، كما أنه لا خير في القول بالجهل».

ثم عطفت (علیها السلام) على قبر النبي (صلی الله علیه و آله)

اشارة

-------------------------------------------

محورية قبر الرسول (صلی الله علیه و آله)

مسألة: يستحب العطف على قبر النبي (صلی الله علیه و آله) مطلقاً (1)، كما يستحب العطف على قبور الأنبياء والأوصياء والصلحاء (علیهم السلام) مطلقاً، وذلك للأدلة الكثيرة العقلية والنقلية المذكورة في مظانها، ومنها(2):

لجريان سيرة الصديقة الطاهرة (علیها السلام) على زيارة قبر رسول الله (صلی الله علیه و آله).. ومن قبله زيارة قبر عمها حمزة (علیه السلام)(3) في أحد.

مضافاً إلى عطفها (علیها السلام) في هذا الموطن على قبر الرسول (صلی الله علیه و آله)؛ فإن الفعل وإن قالوا بأنه لا جهة له إلا أنه باحتفافهبالقرائن - كالمقام - يفيد الرجحان.

ولما ورد من أن السلام على النبي (صلی الله علیه و آله) في مماته كالسلام عليه في حياته (صلی الله علیه و آله)(4) وفيه نفس الأجر والثواب(5). ولما ورد من فضل زيارة القبور مطلقاً(6).

ولما ورد من أن الإمام السجاد (صلوات الله عليه) وضع خده على قبر الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) في (زيارة أمين الله) المباركة(7).

ص: 258


1- أي سواء للمظلوم وغيره، لطلب الشفاعة في قضاء الحوائج وعدمه، بل مجرد الزيارة والعطف نحو القبر الشريف مستحب في ذاته.
2- بعض الأدلة الآتية بتنقيح المناط والملاك وبعضها بالإطلاق.
3- مستدرك الوسائل: ج2 ص365 ب46 ح2203.
4- راجع وسائل الشيعة: ج14 ص340 ب5.
5- راجع بحار الأنوار: ج97 ص181 ب3.
6- راجع بحار الأنوار: ج97 ص116 ب2.
7- راجع وسائل الشيعة: ج14 ص395 ب30 ح19451.

..............................

إضافة إلى أن كل ذلك يزيد من محورية الرسل والأوصياء (علیهم السلام) والتأسي بهم (صلوات الله عليهم)، وغير خفي ما لذلك من التأثير الكبير على إصلاح الفرد والمجتمع، وبعثه نحو كل معاني الخير والصلاح.. ومن هنا يعلم السر الشيطاني والحقد الكبير والمغزى الخبيث الكائن وراء الدعوة إلى هدم قبورهم(1) (علیهم السلام)، أو تحريمقصدهم والصلاة عندهم، أو نقل الجنائز إليهم وما أشبه ذلك، فإنهم أرادوا بذلك القضاء على قيم الإسلام وتعاليمه.

قال تعالى: «يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَىَ اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ»(2).

زيارتها (علیها السلام) لقبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقبر حمزة وقبور الشهداء

عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «عاشت فاطمة (علیها السلام) بعد أبيها خمسةً وسبعين يوماً لم تُرَ كاشرةً ولا ضاحكة، تأتي قبور الشهداء في كل جمعة مرتين الاثنين والخميس، فتقول: هاهنا كان رسول الله (صلی الله علیه و آله)، هاهنا كانالمشركون»(3).

ص: 259


1- في صبيحة يوم الاثنين الثالث والعشرين من شهر محرم الحرام عام 1427ه المصادف للعشرين من شهر شباط عام 2006م قام الإرهابيون التكفيريون بالاعتداء الآثم على مرقد الإمامين العسكريين (علیهما السلام) في مدينة سامراء المقدسة، حيث قاموا بزرع العبوات الناسفة والمتفجرات في جميع أنحاء المرقد الشريف ومن ثم تفجيره وتدميره بالكامل مؤكدين حقدهم وعدائهم لآل البيت (علیهم السلام) مقتدين بأسلافهم الوهابيين في هدم قبور أئمة البقيع (علیهم السلام) ، ولكن هيهات هيهات أن يتم لهم ما أرادوه، فهذه سنة الله جارية في خلقه بأن الأرض يورثها عباده الصالحون ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون.
2- سورة التوبة: 32.
3- الكافي: ج3 ص228 باب زيارة القبور ح3.

..............................

وفي رواية أخرى: عن أبي عبد الله (علیه السلام): «أنها (علیها السلام) كانت تصلي هناك وتدعو حتى ماتت (علیها السلام)»(1). وعن يونس، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «إن فاطمة (علیها السلام) كانت تأتي قبور الشهداء في كل غداة سبت، فتأتي قبر حمزة (علیه السلام) وتترحم عليه وتستغفر له»(2).

وعن محمد بن المفضل، قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: «جاءت فاطمة (علیها السلام) إلى سارية في المسجد وهي تقول وتخاطب النبي (صلی الله علیه و آله):

قد كان بعدك أنباء وهنبثة *** لو كنت شاهدها لم يكثر الخطب

إنا فقدناك فقد الأرض وابلها *** واختل قومك فأشهدهم ولا تغب»(3)

السلام على النبي (صلی الله علیه وآله) والمعصومين (علیهم السلام) بعد مماتهم

عن الحسن بن علي الوشاء، قال: سمعت أبا الحسن الرضا (علیه السلام) يقول: «إن لكل إمام عهداً في عنق أوليائهم وشيعتهم، وإن من تمام الوفاء بالعهد وحسن الأداء زيارة قبورهم، فمن زارهم رغبة في زيارتهم وتصديقاً لما رغبوا فيه، كان أئمتهم شفعاءهم يوم القيامة»(4).

وعن جعفر بن محمد (علیه السلام) عن أبيه (علیه السلام): أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: «من زارني حياً وميتاً كنت له شفيعاً يوم القيامة»(5).

ص: 260


1- الكافي: ج4 ص561 باب إتيان المشاهد وقبور الشهداء ح3.
2- وسائل الشيعة: ج3 ص224 ب55 ح3468.
3- بحار الأنوار: ج43 ص195-196 ب7 ح25.
4- تهذيب الأحكام: ج6 ص78-79 ب26 ح3، والتهذيب: ج6 ص93 ب43 ح2.
5- قرب الإسناد: ص31.

..............................

وعن ياسر الخادم، قال: قال علي بن موسى الرضا (علیه السلام): «لا تشد الرحال إلى شيء من القبور إلا إلى قبورنا، ألا وإني مقتول بالسُم ظلماً ومدفون في موضع غربة، فمن شد رحله إلى زيارتي استجيب دعاؤه وغفر لهذنوبه»(1).

وفي حديث الأربعمائة قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه): «أتموا برسول الله (صلی الله علیه و آله) حجكم إذا خرجتم إلى بيت الله؛ فإن تركه جفاء وبذلك أمرتم، وأتموا بالقبور التي ألزمكم الله عزوجل حقها وزيارتها، واطلبوا الرزق عندها»(2).

وعن أبي حجر الأسلمي، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من أتى مكة حاجاً ولم يزرني إلى المدينة جفوته يوم القيامة، ومن أتاني زائراً وجبت له شفاعتي ومن وجبت له شفاعتي وجبت له الجنة، ومن مات في أحد الحرمين مكة والمدينة لم يعرض ولم يحاسب، ومن مات مهاجراً إلى الله عزوجل حشر يوم القيامة مع أصحاب بدر»(3).

وقال الحسين بن علي بن أبي طالب (علیه السلام) لرسول الله (صلی الله علیه و آله): «يا أبتاه، ما جزاء من زارك؟. فقال رسول الله (صلیالله علیه و آله): يا بني، من زارني حياً أو ميتاً، أو زار أباك، أو زار أخاك، أو زارك، كان حقاً عليَّ أن أزوره يوم القيامة وأخلصه من ذنوبه»(4).

ص: 261


1- وسائل الشيعة: ج14 ص562 ب84 ح19828.
2- الخصال: ج2 ص616 علم أمير المؤمنين (علیه السلام) أصحابه في مجلس واحد أربعمائة باب مما يصلح للمسلم في دينه ودنياه ح10.
3- الكافي: ج4 ص548 باب زيارة النبي (صلی الله علیه و آله) ح5.
4- من لا يحضره الفقيه: ج2 ص577 باب ثواب زيارة النبي والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) ح3159.

..............................

وروي عن أبي محمد الحسن بن علي العسكري (علیه السلام) أنه قال: «من زار جعفراً وأباه (علیهما السلام) لم يشتك عينه، ولم يصبه سقم، ولم يمت مبتلى»(1). وروي عن الصادق (علیه السلام) أنه قال: «من زارني غفرت له ذنوبه، ولم يمت فقيراً»(2). وعن الحسن بن محمد القمي، قال: قال لي الرضا (علیه السلام): «من زار قبر أبي (علیه السلام) ببغداد كان كمن زار قبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقبر أمير المؤمنين (علیه السلام)، إلا أن لرسول الله (صلی الله علیه و آله) ولأمير المؤمنين (علیه السلام) فضلهما»(3). إلى غير ذلكمما حث على زيارتهم ودل على أنهم (علیهم السلام) أحياء عند ربهم يرزقون ولا فرق بين حيهم وميتهم.

زيارة القبور

وهناك الروايات الكثيرة من الفريقين على استحباب زيارة مطلق القبور، نشير إلى بعضها من مصادرنا:

عن أبي عبد الله (علیه السلام) - في زيارة القبور - قال: «إنهم يأنسون بكم، فإذا غبتم عنهم استوحشوا»(4).

وعن إسحاق بن عمار، عن أبي الحسن (علیه السلام)، قال: قلت له: المؤمن يعلم بمن يزور قبره؟. قال: «نعم، ولا يزال مستأنساً به ما دام عند قبره، فإذا قام وانصرف من قبره دخله من انصرافه عن قبره وحشة»(5).

ص: 262


1- تهذيب الأحكام: ج6 ص78 ب26 ح2.
2- بحار الأنوار: ج97 ص145 ب 1 ح34.
3- وسائل الشيعة: ج14 ص545 ب80 ح19787.
4- وسائل الشيعة: ج3 ص222 ب54 ح3464.
5- الكافي: ج3 ص228 باب زيارة القبور ح4.

..............................

وعن عمرو بن أبي المقدام، قال: مررت مع أبي جعفر (علیه السلام) بالبقيع، فمررنا بقبر رجل من أهل الكوفة من الشيعة قال: فوقف عليه (علیه السلام) فقال: «اللهم ارحم غربته، وصل وحدته، وآنسوحشته، وأسكن إليه من رحمتك ما يستغني بها عن رحمة من سواك، وألحقه بمن كان يتولاه»(1).

العطف على قبور الأولياء (علیهم السلام)

وقد ورد في الزيارات:

ثم انكب على القبر وقل: «السلام عليك يا حجة الله وابن حجته... »(2).

ثم انكب على الضريح فقبّله وقل: «يا ولي الله إن بيني وبين الله عزوجل ذنوباً كثيرة لا يأتي عليها إلا رضى الله ورضاكم، فبحق من ائتمنكم على سره، واسترعاكم أمر خلقه، وقرن طاعتكم بطاعته، وموالاتكم بموالاته، لما استوهبتم ذنوبي، وكنتم شفعائي إلى الله تعالى...»(3).

ثم انكب على قبره وقال: «بأبي أنت وأمي يا أمير المؤمنين يا حجة الخصام، بأبي أنت وأمي يا باب المقام...»(4).ثم انكب على القبر وقل: «اللهم لرحتمك تعرضت، وبإزاء قبر أخي نبيك وقفت، عائذاً به من النار، فأعذني من نقتمك وسخطك... »(5).

ص: 263


1- الكافي: ج3 ص229 باب زيارة القبور ح6.
2- ورد ذلك في زيارة مولانا أبي عبد الله الحسين (علیه السلام). راجع تهذيب الأحكام: ج6 ص61 ب18 ح1.
3- مستدرك الوسائل: ج10 ص425 ب86 ح12274.
4- فرحة الغري: ص95 ب6.
5- بحار الأنوار: ج97 ص300 ب4 ح21.

..............................

ثم انكب على القبر فقبّله وقل: «سلام الله وسلام ملائكته المقربين والمسلمين لك بقلوبهم يا أمير المؤمنين... »(1).

ثم اعطف على علي بن الحسين (علیه السلام) وهو عند رجل الحسين (علیه السلام) وقل: «السلام عليك يا ابن رسول الله... »(2).

إلى غيرها وغيرها.

رواية صفوان الجمال

وفي رواية صفوان دلالات على ما ذكرناه من استحباب العطف على قبور المعصومين (علیهم السلام) وزيارتهم والتوسل بهم وبيان بعض ثوابها، إلى غيرها من الروايات الكثيرة الكثيرة وقد نقلنا بعضها في كتاب (الدعاءوالزيارة)(3).

ص: 264


1- بحار الأنوار: ج97 ص306 ب4 ح23.
2- بحار الأنوار: ج98 ص354 ب30 ح1.
3- من تأليفات الإمام الشيرازي (أعلى الله مقامه) في كربلاء المقدسة، وانتهى سماحته (رحمة الله) من تأليفه ليلة 6رمضان المبارك1375ه. يقع الكتاب في 1072 صفحة قياس 24×17، وقد تناول (أعلى الله مقامه) فيه الأدعية والصلوات والزيارات، التعقيبات المشتركة والمختصة، أدعية الصباح والمساء، أدعية أيام الأسبوع، النوافل اليومية والصلوات المستحبة، جملة من الأدعية المأثورة كدعاء الصباح وكميل والعشرات والاحتجاب والسمات والاعتقاد والعلوي المصري والمشلول ويستشير والحرز اليماني والمجير والجوشن الكبير والصغير ومكارم الأخلاق وأدعية أخرى، الصلاة على النبي » والأئمة (علیهم السلام)، أدعية للحوائج، أعمال السنة وملحقاتها، أعمال شهر رجب، أعمال شهر شعبان، أعمال شهر رمضان، أعمال شهر شوال، أعمال ذي القعدة، أعمال ذي الحجة، أعمال شهر محرم، أعمال شهر صفر الخير، أعمال شهر ربيع الأول، أعمال شهر ربيع الثاني، أعمال شهر جمادى الأولى، أعمال شهر جمادى الآخرة، أعمال وآداب متفرقة، أعمال يوم النيروز، أعمال شهر نيسان، آداب السفر، آداب الزيارة، زيارة الرسول الأعظم »، ملحقات زيارة النبي »، زيارة فاطمة الزهراء (علیها السلام)، زيارة أئمة البقيع (علیهم السلام)، سائر الزيارات في المدينة المنورة، زيارة أمير المؤمنين (علیه السلام)، أعمال مسجد الكوفة، زيارة قبر مسلم بن عقيل وهاني بن عروة 5، أعمال مسجد السهلة، عمل مسجد زيد ومسجد صعصعة ومسجد الجعفي ومسجد بني كاهل ومسجد غني، زيارة الإمام الحسين (علیه السلام)، زيارة الناحية المقدسة، التبرك بتربة الحسين (علیه السلام)، زيارة الكاظمين (علیهما السلام)، فضل مسجد براثا، زيارة النواب الأربعة 7، زيارة سلمان الفارسي 0، زيارة الإمام الرضا (علیه السلام)، زيارة السيد محمد (علیه السلام)، زيارة الإمامين العسكريين (علیهما السلام)، زيارة أم القائم (علیها السلام)، زيارة السيدة حكيمة (علیها السلام)، زيارة الإمام المهدي f، دعاء العهد، دعاء الندبة، الزيارات الجامعة الكبيرة، زيارة المعصومين (علیهم السلام)، الزيارة بالنيابة عن الغير، زيارة السيدة زينب الكبرى (علیها السلام)، زيارة بيت المقدس، زيارة الأنبياء (علیهم السلام)، زيارة أولاد الأئمة (علیهم السلام)، زيارة فاطمة المعصومة (علیها السلام)، زيارة العلماء والمؤمنين، حديث الكساء، رقاع الحاجة و… وقد طبع عدة مرات منها: طبعة مؤسسة البلاغ، بيروت عام 1414. وطبعة مؤسسة الفكر الإسلامي بيروت عام 1415ه. وطبعة مكتبة الألفين، الكويت. وطبع في إيران، باللغتين العربية والفارسية. كما أعادت طبعه مؤسسة الفكر الإسلامي قم المقدسة عام 1408 ه باللغتين العربية والفارسية، بخط محمود اشرفي تبريزي. وقد ترجمه آية الله الشيخ اختر عباس النجفي إلى اللغة الأردية تحت عنوان (مفاتيح الجنان جديد)، ويقع في 1069 صفحة قياس 24×17، وقامت بطبعه إدارة نشر معارف إسلامي لاهور باكستان، ومؤسسة الرسول الأعظم » لاهور باكستان.

..............................

في (إرشاد القلوب): عن صفوان الجمال، قال: لما وافيت مع مولاي جعفر بن محمد الصادق (علیه السلام) الغري يريد أبا جعفر المنصور. قال لي: «يا صفوان، أنخ الناقة؛ فإن هذا حرم جدي أمير المؤمنين (علیه السلام)». فأنختها، فنزل واغتسل وغير ثوبه وتحفى،وقال لي:«افعل مثل ما أفعل».

ففعلت، ثم أخذ نحو الذكوات وقال لي: «قصّر خطاك وألق عينيك إلى الأرض؛فإن لك بكل خطوة مائة ألف حسنة، وتمحى مائة ألف سيئة، وترفع لك مائة ألف درجة، وتقضى لك مائة ألف حاجة، ويكتب لك ثواب كل صديق وشهيد مات أو قتل».

ص: 265

..............................

ثم مشى ومشيت معه حافياً وعلينا السكينة نسبح الله ونقدسه ونهلله إلى أن بلغنا القبر، فوقف عليه ونظر يمنة ويسرة وخط بعكازته، وقال لي: «اطلب». فطلبت فإذا أثر القبر في الخط، ثم أرسل دمعة وقال: «إنا لله وإنا إليه راجعون». ثم قال:

«السلام عليك أيها الوصي البر التقي، السلام عليك أيها النبأ العظيم، السلام عليك أيها الصديق الشهيد، السلام عليك أيها الرضي الزكي، السلام عليك يا وصي رسول رب العالمين، السلام عليك يا خيرة الله من الخلائق أجمعين، أشهد أنك حبيب الله وخاصة الله وخالصته، السلام عليك يا ولي الله، وموضع سره، وعيبة علمه، وخازن وحيه».

ثم انكب (علیه السلام) على القبر الشريف، وقال: «بأبي أنت وأمي يا أمير المؤمنين، بأبي أنت وأمي يا نورالله التام، أشهد أنك قد بلغت عن الله تعالى وعن رسوله (صلی الله علیه و آله) ما حملت، ورعيت ما استحفظت، وحفظت ما استودعت، وحللت حلال الله، وحرمت حرام الله، وأقمت أحكام الله، ولم تتعد حدود الله، وعبدت الله مخلصاً حتى أتاك اليقين، صلى الله عليك وعلى الأئمة من بعدك».

ثم قام (علیه السلام) فصلّى ركعتين عند الرأس الكريم، ثم قال: «يا صفوان، من زار أمير المؤمنين بهذه الزيارة وصلّى بهذه الصلاة، رجع إلى أهله مغفوراً ذنبه، مشكوراً سعيه، وكتب له ثواب كل من زاره من الملائكة المقربين، وأنه ليزوره في كل ليلة سبعون قبيلة من الملائكة».

قلت: وكم القبيلة؟. قال: «مائة ألف».

ص: 266

..............................

ثم خرج القهقرى وهو يقول: «يا جداه، يا سيداه، يا طيباه، يا ظاهراه، لا جعله الله تعالى آخر العهد من زيارتك، ورزقني العود إليك، والمقام في حرمك، والكون معك ومع الأبرار من ولدك، صلى الله عليك وعلى الملائكة المحدقين بك». فقلت: يا سيدي أ تأذن لي أن أخبر أصحابك من أهل الكوفة؟.

فقال: «نعم». وأعطاني دراهم فأصلحتالقبر(1).

التجاء المظلومين للرسول (صلی الله علیه و آله)

مسألة: يستحب عطف المظلوم على قبر النبي (صلی الله علیه و آله) وقصده والالتجاء إليه والتوسل به، وكذلك سائر مراقد الأنبياء والأئمة والأولياء (علیهم السلام)، وهذا مصداق من مصاديق ذلك الأمر العام؛ فإن النبي (صلی الله علیه و آله) في مماته كما هو في حياته، حيّ عند ربه يُرزق، يسمع الكلام ويرد الجواب(2)، ويتمكن من الدعاء للمظلوم والشفاعة له حتى يرفع الله ظلامته.

ويعتبر هذا البحث من العقائد الإسلامية المسلّمة، وقد تحدث عنه العلماء في كتب أصول الدين في بحث الشفاعة والتوسل إلى الله بأوليائه الطاهرين.

شمولية الاستحباب

مسألة: لا يختص استحباب العطف على الرسول (صلی الله علیه و آله) وزيارته والالتجاء إليه والتوسل به وكذلكالأولياء المعصومين (علیهم السلام) بالظلم الشخصي الفردي، بل هو أعم منه ومن الظلم النوعي على أمة، ومن ذلك يعلم رجحان تشكيل

ص: 267


1- إرشاد القلوب: ج2 ص441 وفي فضل زيارته (علیه السلام) ومما جاء من الأخبار والآثار.
2- راجع وسائل الشيعة: ج14 ص337 ب4.

..............................

لجان وهيئات تهتم بإرسال المظلومين في مجاميع إلى مراقد المعصومين (علیهم السلام).. وكذلك حال المسيرات الجماهيرية الراجلة وغيرها نحو مراقدهم الشريفة عند نزول بلاء عام كحاكم جائر أو فقر أو غلاء أو مرض عام أو ما أشبه..

وقد يلزم كل ذلك على حسب تشخيص الفقيه أو شورى الفقهاء المراجع، وما أحوجنا اليوم إلى مثل هذه التضرعات والتوسلات.

قبر الوالدين

مسألة: يستحب عطف البنت على قبر أبيها مطلقاً، وهكذا الابن، وكذلك قبر الأم، على ما يستفاد من الروايات.

وهذا أيضاً مصداق آخر للكليات الواردة، إضافة إلى أنه تأسٍ بالصديقة الطاهرة (صلوات الله عليها)، فإن عطف البنت أو الولد على قبر الأب أو الجد مما يندب إليه، خصوصاً إذا كان الأب من أولياء الله الصالحين.نعم ربما يستثنى من استحباب ذلك قبر الكافر والمنافق، وربما كان محرماً في بعض المصاديق، قال سبحانه: «وَلاَ تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ»(1).

عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «زوروا موتاكم؛ فإنهم يفرحون بزيارتكم، وليطلب أحدكم حاجته عند قبر أبيه وعند قبر أمه بما يدعو لهما»(2).

ص: 268


1- سورة التوبة: 84.
2- الكافي: ج3 ص229-230 باب زيارة القبور ح10.

..............................

من هندسة المسجد النبوي

تقول السيدة زينب (علیها السلام) راوية هذه الخطبة الشريفة:

(ثم عطفت - أي الصديقة الطاهرة (علیها السلام) - على قبر رسول الله (صلی الله علیه و آله)).

حيث كانت الخطبة في المسجد النبوي الشريف، وقبر النبي (صلی الله علیه و آله) ملاصق للمسجد؛ لأن القبر الطاهر كان في بيت أمير المؤمنين علي وفاطمة(عليهما الصلاة والسلام) حيث كانت وفاته (صلی الله علیه و آله) في نفس البيت ودفن هناك، كما جاء ذلك في جملة من الأحاديث التي رواها العامة والخاصة بأنه (صلی الله علیه و آله) توفي في بيت فاطمة (علیها السلام).

فإن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما بنى مسجده بنى حوله بيوتاً صغاراً لنفسه وأزواجه وفاطمة (علیها السلام) وزوجها (علیه السلام) ولأصحابه، وكان من هندسة البيوت أن جعل لكل بيت من تلك البيوتات بابين، باباً إلى المسجد وباباً في الطرف الآخر إلى الشارع، ولما جاء الأمر الإلهي بسد الأبواب كلها إلاّ باب علي وفاطمة (صلوات الله عليهما) بقي لبيت علي وفاطمة (علیهما السلام) بابان، أما سائر البيوت فلم يبق لها إلا باب واحد إلى الشارع، والقوم عندما هجموا على دار فاطمة وخرجوا بعلي (عليه الصلاة والسلام) إلى المسجد جاءوا به من الباب الذي في الشارع لا الباب الذي كان إلى المسجد.

ص: 269

وقالت: قد كان بعدك أنباء وهنبثة

اشارة

-------------------------------------------

وقالت: قد كان بعدك أنباء وهنبثة *** لو كنتَ شاهدها لم تكثر الخطب

الشعر عند قبر النبي (صلی الله علیه و آله)

مسألة: يستحب إنشاد مثل هذا الشعر وإنشاؤه على قبر النبي (صلی الله علیه و آله).

فإن الشعر المكروه هو الشعر الذي ليس بحق، أما شعر الحق فهو بين مستحب ومباح ولربما وجب، ولذا كان لرسول الله (صلی الله علیه و آله) شاعر اسمه حسان(1).

ص: 270


1- حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار. كنيته: أبو الوليد، ويقال: أبو الحسام. وهو من الأنصار ومن قبيلة الخزرج. عاش في الجاهلية فقصد ملوك المناذرة والغساسنة ومدحهم ونال جوائزهم، ثم أدرك الإسلام فأسلم وأصبح شاعر رسول الله (صلی الله علیه و آله) وصاحبه. كان النبي (صلی الله علیه و آله) يضع له منبراً في المسجد يقوم عليه قائماً ينافح عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) ورسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: «إن الله يؤيد حسان بروح القدس ما نافح عن رسول الله (صلی الله علیه و آله)». ويروى أن عمر مر بحسان وهو ينشد الشعر في المسجد فلحظه. فقال حسان: قد كنت أنشد فيه وفيه خير منك. قال: صدقت. لم يشهد مع النبي (صلی الله علیه و آله) مشهداً وكان يجبن، يقول ابن الكلبي: كان حسان لسناً شجاعاً فأصابته علة أحدثت فيه الجبن. ولما كان يوم الأحزاب، قال النبي (صلی الله علیه و آله):«من يحمي أعراض المسلمين؟». قال كعب بن مالك: أنا. وقال ابن رواحة: أنا. وقال حسان: أنا. فقال (صلی الله علیه و آله): نعم، اهجهم أنت وسيعينك عليهم روح القدس». وعن عائشة: إن النبي (صلی الله علیه و آله)، قال: «اهج قريشاً؛ فإنه أشد عليهم من رشق النبل». ويروى أنه قيل لابن عباس: قدم حسان اللعين!. فقال ابن عباس: ما هو بلعين، قد جاهد مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) بنفسه ولسانه. وعن أم عروة بنت جعفر بن الزبير بن العوام، عن أبيها، عن جدها، قال: لما خلف رسول الله (صلی الله علیه و آله) نساءه يوم أحد، خلفهن في فارع وفيهن صفية بنت عبد المطلب، وخلف فيهن حسان. فأقبل رجل من المشركين ليدخل عليهن. فقالت صفية لحسان: عليك الرجل. فجبن وأبى عليها - وفي رواية أخرى - أنه قال: لو كان ذاك فيَّ لكنت مع رسول الله (صلی الله علیه و آله). فتناولت السيف فضربت به المشرك حتى قتلته، ثم قطعت رأسه وقالت لحسان: قم فاطرحه على اليهود وهم تحت الحصن. قال: والله ما ذاك فيَّ. - وفي رواية أخرى - أنها قالت لحسان: قم فاسلبه؛ فإني امرأة وهو رجل. فقال: ما لي بسلبه يا بنت عبد المطلب من حاجة. فأخذت رأسه فرميت به عليهم. فقالوا: قد علمنا والله إن هذا لم يكن ليترك أهله خلوفاً ليس معهم أحد، فتفرقوا. كف بصره آخر عمره بعدما عاش مائة ونيفاً من السنين، توفي سنة أربع وخمسين، وقيل: سنة أربعين. وقيل: زمن معاوية.

..............................

وكان أمير المؤمنين علي (عليه الصلاة والسلام) ينشئ الشعر بنفسه كما في ديوانه المنسوب إليه(1).وكذلك بعض الأئمة الطاهرين (علیهم السلام) كانوا ينشئون الأشعار(2).

ص: 271


1- (ديوان أمير المؤمنيني (علیه السلام)) وهو يشمل أشعاراً منسوبة للإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام) ومتضمنة لمضامين الروايات والآيات القرآنية، كما وتشمل المباحث الأخلاقية والعقائدية والحماسية. وقد رتبت أشعار هذا الديوان على ترتيب حروف الهجاء وتبتدئ قوافي الأشعار من «الألف» وتنتهي ب- «الياء». وبعض هذه الأشعار غير صادرة عن الإمام (علیه السلام)؛ فإنه (علیه السلام) أنشد بعضها جواباً لآخرين. يقول العلامة الشيخ آقا بزرك الطهراني e: بأن الديوان المنسوب لأمير المؤمنين (علیه السلام) جمع من قبل قطب الدين الكيدري شارح (نهج البلاغة)، وهو الشيخ أبو الحسن محمد بن الحسن البيهقي النيشابوري من تلامذة المرحوم الطبرسي، جمع هذه الأشعار على أساس ما جمعه أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد الفنجكردي النيشابوري المتوفى سنة 513ه-. إن النسخة الموجودة والمطبوعة من ديوان الإمام (علیه السلام) قريبة من النسخة التي جمعها ودونها قطب الدين الكيدري إلا أن في هذه النسخة قد حذفت المصادر والأسانيد لهذه الأشعار، علماً بأن أقدم نسخة من الكتاب جمعها ابن أحمد عبد العزيز الجلودي المتوفى سنة 332 باسم (شعر علي (علیه السلام)). ترجم هذه الأشعار إلى الشعر الفارسي وشرحها الحسين بن معين الدين الميبدي من كبار علماء السنة سنة 890ه-. لقد جمع هذا الديوان وشرحه سبعة عشر شخصاً وربما أكثر، وتوجد ما يقارب من ثلاثين نسخة من الديوان وشرحه في المكتبات العامة لمدينتي مشهد وقم في إيران.
2- مثل شعر الإمام الهادي (علیه السلام) عندما أحضره المتوكل العباسي وطلب منه أن ينشده الشعر، فأنشده (علیه السلام): باتوا على قلل الأجبال تحرسهم *** غلب الرجال فلم تنفعهم القلل واستنزلوا بعد عز من معاقلهم *** وأسكنوا حفرا يا بئسما نزلوا ناداهم صارخ من بعد دفنهم *** أين الأساور والتيجان والحلل أين الوجوه التي كانت منعمة *** من دونها تضرب الأستار والكلل فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم *** تلك الوجوه عليها الدود تقتتل قد طال ما أكلوا دهراً وقد شربوا *** وأصبحوا اليوم بعد الأكل قد أكلوا قال: فبكى المتوكل حتى بلت لحيته دموع عينيه وبكى الحاضرون. راجع بحار الأنوار: ج50 ص211-212 ب4 ضمن ح25.

..............................

والإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام) في كربلاء أنشأ الشعر مكرراً (1). وهكذا أنشأه جملة من الصالحين بحضور الأئمة(صلوات الله عليهم أجمعين) (2).

ص: 272


1- مثل قوله (علیه السلام): يا دهر أف لك من خليل *** كم لك بالإشراق والأصيل من صاحب وطالب قتيل *** والدهر لا يقنع بالبديل وإنما الأمر إلى الجليل *** وكل حي سالك سبيل وقوله (علیه السلام) مخاطباً ابنته سكينة (علیها السلام): سيطول بعدي يا سكينة فاعلمي *** منك البكاء إذا الحمام دهاني لا تحرقي قلبي بدمعك حسرة *** ما دام مني الروح في جثماني وإذا قتلت فأنتِ أولى بالذي *** تأتينه يا خيرة النسوان راجع المناقب ج4 ص99 و109 فصل في مقتله (علیه السلام).
2- مثل قصيدة الفرزق الميمية في مدح الإمام زين العابدين (علیه السلام) والتي قالها في حضور هشام الأموي الذي تظاهر بعدم معرفته بالإمام (علیه السلام) في قصة معروفة لدى الكعبة المشرفة، وكذلك قصيدة دعبل الخزاعي التائية والتي قالها في محضر الإمام الرضا (علیه السلام) فأكرمه الإمام (علیه السلام)، وغير ذلك مما هو كثير ضمته كتب التاريخ والأدب.

..............................

وغير خفي أن هذه الأشعار - التي قالتها الصديقة (علیها السلام) - بكل كلماته حجة، سواء كانت إنشاءً منها (علیها السلام) أو إنشاداً (1).

خطاب المعصومين (علیهم السلام)

مسألة: ينبغي أن يخاطب الإنسان النبي (صلی الله علیه و آله) والأئمة والأولياء (علیهم السلام) بعد مماتهم كما يخاطبهم حال حياتهم، كما خاطبت الصديقة الزهراء (علیها السلام) أباها (صلی الله علیه و آله) من حيث الاطمئنان بأنه (صلی الله علیه و آله) يسمع الكلامويرى المقام ويرد الجواب، إذ إنهم «أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ»(2).

وقد ورد الأمر بهذا الخطاب كما في الزيارات المأثورة:

جاء في الزيارة الجامعة للأئمة المعصومين (علیهم السلام) ما نصه: «وَأَشْهَدُ أَنَّكُمُ الأَئِمَّةُ الرَّاشِدُونَ الْمَهْدِيُّونَ، الْمَعْصُومُونَ الْمُكَرَّمُونَ، الْمُقَرَّبُونَ الْمُتَّقُونَ، الصَّادِقُونَ الْمُصْطَفَوْنَ، الْمُطِيعُونَ لِلَّهِ، الْقَوَّامُونَ بِأَمْرِهِ، الْعَامِلُونَ بِإِرَادَتِهِ، الْفَائِزُونَ بِكَرَامَتِهِ، اصْطَفَاكُمْ بِعِلْمِهِ، وَارْتَضَاكُمْ لِغَيْبِهِ، وَاخْتَارَكُمْ لِسِرِّهِ، وَاجْتَبَاكُمْ بِقُدْرَتِهِ، وَأَعَزَّكُمْ بِهُدَاهُ، وَخَصَّكُمْ بِبُرْهَانِهِ، وَانْتَجَبَكُمْ بِنُورِهِ، وَأَيَّدَكُمْ بِرُوحِهِ، وَرَضِيَكُمْ خُلَفَاءَ فِي أَرْضِهِ، وَحُجَجاً عَلَى بَرِيَّتِهِ، وَأَنْصَاراً لِدِينِهِ، وَحَفَظَةً لِسِرِّهِ، وَخَزَنَةً لِعِلْمِهِ، وَمُسْتَوْدَعاً لِحِكْمَتِهِ، وَتَرَاجِمَةً لِوَحْيِهِ، وَأَرْكَاناً لِتَوْحِيدِهِ، وَشُهَدَاءَ عَلَى خَلْقِهِ، وَأَعْلاَماً لِعِبَ-ادِهِ، وَمَنَاراً فِ-ي بِلاَدِهِ، وَأَدِلاَّءَ عَلَى

ص: 273


1- حيث قال بعض: بأن البيتين الأوليين من باب التمثيل وهما لهند بنت أثاثة، وباقي الأبيات مما أنشأتها الصديقة (علیها السلام).
2- سورة آل عمران: 169.

..............................

صِرَاطِهِ، عَصَمَكُمُ اللَّهُ مِنَ الزَّلَلِ، وَآمَنَكُمْ مِنَ الْفِتَنِ، وَطَهَّرَكُمْ مِنَ الدَّنَسِ، وَأَذْهَبَ عَنْكُمُالرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَطَهَّرَكُمْ تَطْهِيراً»(1).

وجاء في زيارة أمير المؤمنين (علیه السلام) ما نصه: «السلام عليك يا أمير المؤمنين، أنا عبدك وابن عبدك وابن أمتك، جئتك زائراً لائذاً بحرمك، متوسلاً إلى الله بك في مغفرة ذنوبي كلها، متضرعاً إلى الله تعالى وإليك لمنزلتك عند الله، عارفاً عالماً إنك تسمع كلامي وترد سلامي، لقوله تعالى: «وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ»(2). فيا مولاي، إني لو وجدت إلى الله تعالى شفيعا أقرب منك لقصدت إليه، فما خاب راجيكم، ولاضلّ داعيكم، أنتم الحجة والمحجة إلى الله، فكن لي إلى الله شفيعاً، فما لي وسيلة أوفى من قصدي إليك، وتوسلي بك إلى الله، فأنت كلمة الله وكلمة رسوله (صلی الله علیه و آله)، وأنت خازن وحيه، وعيبة علمه، وموضع سرّه، والناصح لعبيد الله، والتالي لرسوله، والمواسي له بنفسه، والناطق بحجته، والداعي إلى شريعته، والماضي على سنته، فلقد بلغت عن النبي (صلی الله علیه و آله) ما حملت، ورعيت ما استحفظت، وحفظت ما استودعت، وحللتحلاله، وحرمت حرامه، وأقمت أحكامه، ولم تأخذك في الله لومة لائم، فجاهدت القاسطين في حكمه، والمارقين عن أمره، والناكثين لعهده صابراً محتسباً، صلّى الله عليك وسلّم أفضل ما صلى على أحد من أصفيائه وأنبيائه وأوليائه إنه حميد مجيد»(3).

ص: 274


1- من لا يحضره الفقيه: ج2 ص611 زيارة جامعة لجميع الأئمة (علیهم السلام) ح3213.
2- سورة آل عمران: 169.
3- بحار الأنوار: ج97 ص295 ب4 ح20.

..............................

وجاء في زيارة سيد الشهداء الإمام الحسين (علیه السلام) ما نصه: «السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا وَتْرَ اللَّهِ الْمَوْتُورَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، أَشْهَدُ أَنَّ دَمَكَ سَكَنَ فِي الْخُلْدِ، وَاقْشَعَرَّتْ له أَظِلَّةُ الْعَرْشِ، وَبَكَى له جَمِيعُ الْخَلاَئِقِ، وَبَكَتْ له السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرَضُونَ السَّبْعُ وَمَا فِيهِنَّ وَمَا بَيْنَهُنَّ، وَمَنْ فِي الْجَنَّةِ وَالنَّارِ مِنْ خَلْقِ رَبِّنَا مَا يُرَى وَمَا لاَ يُرَى»(1).

وذكر العلامة أحمد بن فهد(رحمة الله) في (عدة الداعي): روي عن الصادق (علیه السلام): «من كانت له حاجة إلى الله عزوجل فليقف عند رأس الحسين (علیه السلام) وليقل: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، أَشْهَدُ أَنَّكَ تَشْهَدُ مَقَامِي، وَتَسْمَعُ كَلاَمِي، وَأَنَّكَ حَيٌّعِنْدَ رَبِّكَ تُرْزَقُ، فَاسْأَلْ رَبَّكَ وَرَبِّي فِي قَضَاءِ حَوَائِجِي، فإنها تقضى إن شاء الله تعالى»(2).

وجاء في زيارة الإمام الكاظم (علیه السلام) ما نصه: «أشهد أنك أقمت الصلاة، وآتيت الزكاة، وأمرت بالمعروف، ونهيت عن المنكر، وتلوت الكتاب حق تلاوته، وجاهدت في الله حق جهاده، وصبرت على الأذى في جنبه محتسباً، وعبدته مخلصاً حتى أتاك اليقين، أشهد أنك أولى بالله وبرسوله، وأنك ابن رسول الله حقاً، أبرأ إلى الله من أعدائك، وأتقرب إلى الله بموالاتك، أتيتك يا مولاي عارفاً بحقك، موالياً لأوليائك، معادياً لأعدائك، فاشفع لي عند ربك»(3).

ص: 275


1- تهذيب الأحكام: ج6 ص55 ب18 ح1.
2- مستدرك الوسائل: ج10 ص345 ب59 ح12149.
3- بحار الأنوار: ج99 ص11 ب2 ح7.

..............................

وجاء في زيارة الإمامين العسكريين (علیهما السلام) ما نصه: «السلام عليكما يا وليي الله، السلام عليكما يا حجتي الله، السلام عليكما يا نوري الله في ظلمات الأرض، السلام عليكما يا من بدا لله في شأنكما، أتيتكما زائراً عارفاً بحقكما، معادياً لأعدائكما، موالياًلأوليائكما، مؤمناً بما آمنتما به، كافراً بما كفرتما به، محققاً لما حققتما، مبطلاً لما أبطلتما، أسأل الله ربي وربكما أن يجعل حظي من زيارتكما الصلاة على محمد وآله، وأن يرزقني مرافقتكما في الجنان مع آبائكما الصالحين، وأسأله أن يعتق رقبتي من النار، ويرزقني شفاعتكما ومصاحبتكما، ويعرف بيني وبينكما، ولا يسلبني حبكما وحب آبائكما الصالحين، وأن لا يجعله آخر العهد من زيارتكما، ويحشرني معكما في الجنة برحمته»(1).

إلى غيرها مما هو كثير.

عدة مسائل

مسألة: ربما يستفاد من ذلك أيضاً استحباب إقامة مجالس العزاء عند قبور المعصومين (علیهم السلام)، وكان عملها مصداقاً من مصاديقه.

مسألة: ويستفاد - من ملاكه - استحباب إقامة الاحتفالات الدينية بمناسبة مواليدهم (علیهم السلام) عند مراقدهم، مع حفظ الآداب الشرعية.

مسألة: ويستفاد استحباب المطالبة بالحقوق عند مراقدهم (علیهم السلام)، وكذلك عقد الندوات والمؤتمرات وإلقاء المحاضرات حول ذلك.كل ذلك مع حفظ الموازين الشرعية ورعاية الآداب اللازمة.

ص: 276


1- بحار الأنوار: ج99 ص61 ب6 ح5.

..............................

رثاء البنت

مسألة: يستحب للبنت أن ترثي(1) أباها.

وهذا ليس خاصاً بالبنت والأب، بل ما فعلته الصديقة الزهراء (عليها الصلاة والسلام) مصداق من المصاديق العامة، فالأولاد والآباء والأقرباء إذا تحنن بعضهم على بعض كان له الأجر والثواب، وهو نوع صلة رحم وبرّ كما لايخفى.

عن جميل بن دراج، قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن قول الله جل ذكره: «وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَائَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً»(2)؟. قال: فقال: «هي أرحام الناس إن الله عزوجل أمر بصلتها وعظمها ألا ترى أنه جعلها منه»(3).

وعن إسحاق بن عمار، قال: بلغني عنأبي عبد الله (علیه السلام): «أن رجلاً أتى النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: يا رسول الله، إن أهل بيتي أبوا إلاّ توثباً عليَّ وقطيعة لي فأرفضهم؟.

فقال: إذاً يرفضكم الله جميعاً. قال: فكيف أصنع؟.

قال: تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك؛ فإنك إذا فعلت ذلك كان لك من الله عزوجل عليهم ظهير»(4).

ص: 277


1- وفي اللغة: رثى فلان فلاناً يرثيه رثياً: أي يبكيه ويمدحه، والاسم المرثية، ورثى له: أي رق له ورحمه، ورثيت له: أي ترحمت وترفقت.
2- سورة النساء: 1.
3- الكافي: ج2 ص150 باب صلة الرحم ح1.
4- وسائل الشيعة: ج21 ص538 ب18 ح27800.

..............................

وعن عبد الله بن سنان، قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): إن لي ابن عم أصله فيقطعني حتى هممت لقطيعته إياي أن أقطعه؟. قال: «إنك إن وصلته وقطعك وصلكما الله جميعاً، وإن قطعته وقطعك قطعكما الله»(1).

وعن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «لما خرج أمير المؤمنين (علیه السلام) يريد البصرة نزل بالربذة، فأتاه رجل من محارب، فقال: يا أمير المؤمنين، إني تحملت في قومي حمالة وإني سألت في طوائف منهم المواساة والمعونة، فسبقت إليَّ ألسنتهم بالنكد، فمُرهم يا أميرالمؤمنين بمعونتي وحثهم على مواساتي. فقال: أين هم؟. فقال: هؤلاء فريق منهم حيث ترى. قال: فنص راحلته فادلفت كأنها ظليم، فادلف بعض أصحابه في طلبها فلأياً بلأيٍ ما لحقت، فانتهى إلى القوم فسلم عليهم وسألهم ما يمنعهم من مواساة صاحبهم فشكوه وشكاهم. فقال أمير المؤمنين (علیه السلام): وصل امرؤ عشيرته فإنهم أولى ببره وذات يده، ووصلت العشيرة أخاها إن عثر به دهر وأدبرت عنه دنيا؛ فإن المتواصلين المتباذلين مأجورون، وإن المتقاطعين المتدابرين موزورون. قال: ثم بعث راحلته وقال: حل»(2).

دراسة التاريخ

مسألة: يجب دراسة التاريخ والتعرف على السلبيات والإيجابيات والعوامل والعلل والنتائج، ومن صغريات ذلك دراسة ما جرى بعد الرسول (صلی الله علیه و آله) وذلك لشدة ارتباط المستقبل بالماضي وتأثره به، ومن مفردات ذلك المسألة اللاحقة.

ص: 278


1- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: ج2 ص197.
2- الكافي: ج2 ص153-154 باب صلة الرحم ح18.

..............................

ما حدث بعد الرسول (صلی الله علیه و آله)

مسألة: يستحب أو يجب بيان أن بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) حدثت أنباء وهنبثة، كما قالت الصديقة (علیها السلام)؛ وبيان ذلك يوجب التعرف على المشاكل التي لاقاها المسلمون والفتن التي واجهوها بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فإن تلك المشاكل تعتبر الأساس لمشاكل المسلمين إلى هذا اليوم وجذورها وعللها.

إن الانقلاب على أوامر الرسول (صلی الله علیه و آله) والإعراض عن خليفته أمير المؤمنين علي (علیه السلام) بما يتضمن من إعراض عن مناهجه التي أوضحها خليفته.. لا يزال هو السبب الرئيسي لتخلف المسلمين، كما صرح رسول الله (صلی الله علیه و آله) بقوله: «إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض»(1).

ولكن المسلمين لما تركوا الثقلين الكتاب والعترة ضلوا وأضلوا.

عن أبان بن تغلب، عن مسلم، قال: سمعت أبا ذر، والمقداد بن الأسود،وسلمان الفارسي، قالوا: كنا قعوداً عند رسول الله (صلی الله علیه و آله) ما معنا غيرنا، إذ أقبل ثلاثة رهط من المهاجرين البدريين. فقال رسول الله: «تفترق أمتي بعدي ثلاث فرق: فرقة أهل حق لا يشوبونه بباطل، مثلهم كمثل الذهب كلما فتنته بالنار ازداد جودة وطيباً وإمامهم هذا أحد الثلاثة، وهو الذي أمر الله به في كتابه «إِمَاماً وَرَحْمَةً»(2). وفرقة أهل باطل لا يشوبونه بحق، مثلهم كمثل خبث

ص: 279


1- وسائل الشيعة: ج27 ص33 ب5 ح33144.
2- سورة هود: 17، سورة الأحقاف: 12.

..............................

الحديد كلما فتنته بالنار ازداد خبثاَ وإمامهم هذا أحد الثلاثة. وفرقة أهل ضلالة مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء وإمامهم هذا أحد الثلاثة». قال: فسألتهم عن أهل الحق وإمامهم؟. فقال: «هذا علي بن أبي طالب إمام المتقين»، وأمسك عن الاثنين فجهدت أن يسميهما فلم يفعل(1).

وعن يحيى البكاء، عن علي (علیه السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیهو آله): «ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، فرقة منها ناجية والباقون هالكون، والناجون الذين يتمسكون بولايتكم ويقتبسون من علمكم ولا يعملون برأيهم، فأولئك ما عليهم من سبيل»(2).

وعن رسول الله (صلی الله علیه و آله)، قال: «ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة، أعظمها فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم فيحرمون الحلال ويحللون الحرام»(3).

وعن زيد بن أسلم، عن أنس بن مالك، قال: كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: «تفرقت أمة موسى (علیه السلام) على إحدى وسبعين ملة [ فرقة « سبعون منها في النار وواحدة في الجنة، وتفرقت أمة عيسى (علیه السلام) على اثنتين وسبعين فرقة إحدى وسبعون فرقة في النار وواحدة في الجنة، وتعلو أمتي على الفرقتين جميعا بملة، واحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار». قالوا: من هم يا رسول الله؟. قال: «الجماعات الجماعات».

ص: 280


1- الطرائف: ج1 ص241 ما شهد به العامة على أنهم خالفوا وصايا نبيهم ح346.
2- وسائل الشيعة: ج27 ص49-50 ب6 ح33180.
3- مستدرك الوسائل: ج17 ص257 ب6 ح21274.

..............................

وقال يعقوب بن زيد: كان علي بن أبي طالب (علیه السلام) إذا حدث هذا الحديث عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) تلا فيه قرآناً: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ» - إلى قوله - «سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ»(1)، وتلا أيضاً: «وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ»(2)، يعني: «أمة محمد (صلی الله علیه و آله)»(3).

وروي عن أمير المؤمنين (علیه السلام) أنه قال لرأس اليهود: «على كم افترقتم؟». فقال: على كذا وكذا فرقة. فقال علي (علیه السلام): «كذبت».

ثم أقبل (علیه السلام) على الناس فقال: «والله لو ثنيت لي الوسادة لقضيت بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم، وبين أهل الزبور بزبورهم، وبين أهل القرآن بقرآنهم. افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة سبعون منها في النار وواحدة ناجية في الجنة وهي التي اتبعت يوشع بن نون وصي موسى (علیه السلام)، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة إحدىوسبعون فرقة في النار وواحدة بالجنة وهي التي اتبعت شمعون الصفا وصي عيسى (علیه السلام)، وتفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة اثنتان وسبعون فرقة في النار وواحدة في الجنة وهي التي اتبعت وصي محمد (صلی الله علیه و آله)».

وضرب (علیه السلام) بيده على صدره ثم قال: «ثلاث عشرة فرقة من الثلاث وسبعين فرقة كلها تنتحل مودتي وحبي واحدة منها في الجنة وهي النمط الأوسط واثنتا عشرة في النار»(4).

ص: 281


1- سورة المائدة: 65-66.
2- سورة الأعراف: 181.
3- تفسير العياشي: ج1 ص331 من سورة المائدة ح151.
4- الاحتجاج: ج1 ص263 احتجاجه ع على من قال بالرأي في الشرع والاختلاف في الفتوى.

..............................

وعن زرارة، عن أبي جعفر (علیه السلام): في قوله: ]لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ»(1)، قال: «زرارة، أولم تركب هذه الأمة بعد نبيها طبقاً عن طبق في أمر فلان وفلان وفلان»(2).

وعن حمزة بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه، عن النبي (صلی الله علیه و آله)، قال: «أتزعمون أن رحم نبي الله لا تنفع قومه يوم القيامة، بلى والله إن رحمي لموصولةفي الدنيا والآخرة - ثم قال - يا أيها الناس، أنا فرطكم على الحوض، فإذا جئت وقام رجال يقولون: يا نبي الله، أنا فلان بن فلان. وقال آخر: يا نبي الله، أنا فلان بن فلان. وقال آخر: يا نبي الله، أنا فلان بن فلان. فأقول: أما النسب فقد عرفته ولكنكم أحدثتم بعدي وارتددتم القهقرى»(3).

وعن خير بن نوف أبي الوداك، قال: قلت لأبي سعيد الخدري: والله ما يأتي علينا عام إلا وهو شر من الماضي، ولا أمير إلا وهو شر ممن كان قبله؟! فقال أبو سعيد: سمعته من رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول ما تقول، ولكن سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: «لا يزال بكم الأمر حتى يولد في الفتنة والجور من لايعرف عددها حتى تملأ الأرض جوراً فلا يقدر أحد يقول: الله، ثم يبعث الله عزوجل رجلاً مني ومن عترتي فيملأ الأرض عدلاً كما ملأها من كان قبله جوراً، وتخرج له الأرض أفلاذ كبدها، ويحثو المال حثواً، ولا يعده عداً، وذلك حين يضرب الإسلام بجرانه»(4).

ص: 282


1- سورة الانشقاق: 19.
2- تفسير القمي: ج2 ص413 سورة الانشقاق.
3- الأمالي للطوسي: ص269 المجلس العاشر ح500-38.
4- بحار الأنوار: ج28 ص18 ب1 ح25، والبحار: ج51 ص68 ب1 ح9.

..............................

وفي الطرائف والعمدة، بإسنادهما إلى صحيحي البخاري ومسلم والجمع بين الصحيحين، بإسنادهم إلى ابن عباس، قال: خطب رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: «يا أيها الناس، إنكم محشورون إلى الله عراة حفاتاً غرلاً - ثم تلا - «كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ»(1) - ثم قال - ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم، وإنه يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال. فأقول: يا رب أصحابي!! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول كما قال العبد الصالح: «وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ»(2). فيقال: إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم»(3).

نتائج فقد القائد

مسألة: يستحب بيان أن الرسول (صلی الله علیه و آله) - وهو أعظم قائد رآه العالم - لو كان حياً وحاضراً وشاهداً لما كثر الخطب، ولما ازدادت المحن والمصائب على الصديقة الطاهرة (علیهاالسلام)، وعلى أمير المؤمنين (علیه السلام)، وعلى أهل البيت الطاهرين (علیهم السلام)، وعلى الأمة الإسلامية جمعاء.

كما يستحب بيان أن بعض القوم كانوا ينتظرون موته (صلی الله علیه و آله) ليغتصبوا الخلافة، كما تنتظر كل أمة متخلفة وكل شريحة ضالة موت القائد أو تغييبه.

ص: 283


1- سورة الأنبياء: 104.
2- سورة المائدة: 117.
3- بحار الأنوار: ج28 ص24-25 ب1 ح35.

..............................

وهذا يكشف عن عظمة الرسول (صلی الله علیه و آله) ومدى منزلته ومكانته وإدارته، وهي مما تحبّبه إلى الناس فيلتفون حوله، وكل ما أوجب الإلتفاف حول الرسول (صلی الله علیه و آله) أكثر فأكثر فهو مستحب، بل قد يكون واجباً أيضاً.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى: إن ذلك يكشف عن سوء سريرة القوم وإضمارهم الغدر، وأن وجوده (صلی الله علیه و آله) الشريف كان هو المانع، فكان النفاق متأصلاً في بعضهم زمن حياته(صلی الله علیه و آله) وقد تجلّى بعد وفاته، وكان على رأس هؤلاء المنافقين من اغتصب الخلافة وفدك وهجم على دار الصديقة الزهراء (علیها السلام) وأحرق البيت، وضرب بضعة الرسول(صلی الله علیه و آله) حتىأدماها وكسر ضلعها وأسقط جنينها المحسن (علیه السلام). فلذلك تقول الصديقة:«لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب».

لا يقال: ألم يكن الإمام علي (علیه السلام) موجوداً وهو من الرسول (صلی الله علیه و آله) كالنفس من النفس بشهادة «وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ»(1)، وكان المثل الأعلى في الحكمة والإدارة والعلم وغير ذلك؟.

إذ يقال: إن وجود القائد الكفوء والمثالي لايكفي وحده في استتباب الأمر وانتظام الأمور في كثير من الأحيان، كما أن وجود هارون (علیه السلام) خليفة لموسى (علیه السلام) لم يكف في منع السامري والحيلولة دون عبادة العجل، وكما أن وجود آدم (علیه السلام) لم يكف في منع قابيل من قتل هابيل (علیه السلام)، وكما في سائر أنبياء الله (علیهم السلام).. حتى الرسول (صلی الله علیه و آله) بالنسبة للمنافقين وأضرابهم، بل لابد من قابلية القابل أيضاً.. فكثرت الدواهي رغم وجود الإمام علي (علیه السلام)؛ لأن القوم أعرضوا عنه حسداً وحقداً نتيجة ثارات بدر وحنين وغيرها.

ص: 284


1- سورة آل عمران: 61.

..............................

الثُلمة العظمى

مسألة: أجلى المصاديق للرواية التالية: «إذا مات العالم - أو المؤمن الفقيه - ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها شيء إلى يوم القيامة»(1)، هو وفات رسول الله (صلی الله علیه و آله) بل استشهاده (صلی الله علیه و آله)، الذي ذكرته الصديقة (علیه السلام) إشارة بقولها: «لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب»، فوفاته (صلی الله علیه و آله) الثلمة العظمى التي لا يسدها شيء، ووجود سائر المعصومين (علیهم السلام) أيضاً لا يسد تلك الثلمة، فإن لكل وجود من وجوداتهم المباركة خير في حد ذاته، وهو بركة للمعصوم اللاحق أيضاً، ولذا قالت (علیها السلام): «إنا فقدناك فقد الأرض وابلها».. ولا ريب أن بعض الآثار تحفظ بالمعصوم اللاحق (علیه السلام) إذ بوجود كل منهم (رُزق الورى، وبوجوده ثبتت الأرض والسماء)(2)، وتفصيل الكلام في محله.

وقد ورد في حديث الإمام الرضا (علیه السلام):«إِنَّ الإِمَامَةَ زِمَامُ الدِّينِ، وَنِظَامُ الْمُسْلِمِينَ، وَصَلاَحُ الدُّنْيَا، وَعِزُّ الْمُؤْمِنِينَ.

إِنَّ الإِمَامَةَ أُسُّ الإِسْلاَمِ النَّامِي، وَفَرْعُهُ السَّامِي.

بِالإِمَامِ تَمَامُ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ، وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ، وَالْجِهَادِ وَتَوْفِيرُ الْفَيْءِ وَالصَّدَقَاتِ، وَإِمْضَاءُ الْحُدُودِ وَالأَحْكَامِ، وَمَنْعُ الثُّغُورِ وَالأَطْرَافِ.

الإِمَامُ يُحِلُّ حَلاَلَ اللَّهِ، وَيُحَرِّمُ حَرَامَ اللَّهِ، وَيُقِيمُ حُدُودَ اللَّهِ، وَيَذُبُّ عَنْ دِينِ اللَّهِ، وَيَدْعو إِلَى سَبِيلِ رَبِّهِ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَالْحُجَّةِ الْبَالِغَةِ.

ص: 285


1- مستدرك الوسائل: ج9 ص51 ب106 ح10171.
2- شجرة طوبى: ص270 المجلس السادس عشر.

..............................

الإِمَامُ كَالشَّمْسِ الطَّالِعَةِ الْمُجَلِّلَةِ بِنُورِهَا لِلْعَالَمِ وَهِيَ فِي الأُفُقِ بِحَيْثُ لاَتَنَالُهَا الأَيْدِي وَالأَبْصَارُ.

الإِمَامُ الْبَدْرُ الْمُنِيرُ، وَالسِّرَاجُ الزَّاهِرُ، وَالنُّورُ السَّاطِعُ، وَالنَّجْمُ الْهَادِي فِي غَيَاهِبِ الدُّجَى وَأَجْوَازِ الْبُلْدَانِ وَالْقِفَارِ وَلُجَجِ الْبِحَارِ.

الإِمَامُ الْمَاءُ الْعَذْبُ عَلَى الظَّمَأ، وَالدَّالُّ عَلَى الْهُدَى، وَالْمُنْجِي مِنَ الرَّدَى.

الإِمَامُ النَّارُ عَلَى الْيَفَاعِ الْحَارُّ لِمَنِ اصْطَلَى بِهِ، وَالدَّلِيلُ فِي الْمَهَالِكِ، مَنْ فَارَقَهُ فَهَالِكٌ.

الإِمَامُ السَّحَابُ الْمَاطِرُ، وَالْغَيْثُالْهَاطِلُ، وَالشَّمْسُ الْمُضِيئَةُ، وَالسَّمَاءُ الظَّلِيلَةُ، وَالأَرْضُ الْبَسِيطَةُ، وَالْعَيْنُ الْغَزِيرَةُ، وَالْغَدِيرُ وَالرَّوْضَةُ.

الإِمَامُ الأَنِيسُ الرَّفِيقُ، وَالْوَالِدُ الشَّفِيقُ، وَالأَخُ الشَّقِيقُ، وَالأُمُّ الْبَرَّةُ بِالْوَلَدِ الصَّغِيرِ، وَمَفْزَعُ الْعِبَادِ فِي الدَّاهِيَةِ النَّآدِ.

الإِمَامُ أَمِينُ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ، وَحُجَّتُهُ عَلَى عِبَادِهِ، وَخَلِيفَتُهُ فِي بِلاَدِهِ، وَالدَّاعِي إِلَى اللَّهِ، وَالذَّابُّ عَنْ حُرَمِ اللَّهِ.

الإِمَامُ الْمُطَهَّرُ مِنَ الذُّنُوبِ، وَالْمُبَرَّأُ عَنِ الْعُيُوبِ، الْمَخْصُوصُ بِالْعِلْمِ، الْمَوْسُومُ بِالْحِلْمِ، نِظَامُ الدِّينِ، وَعِزُّ الْمُسْلِمِينَ، وَغَيْظُ الْمُنَافِقِينَ، وَبَوَارُ الْكَافِرِينَ.

الإِمَامُ وَاحِدُ دَهْرِهِ، لاَ يُدَانِيهِ أَحَدٌ، وَلاَ يُعَادِلُهُ عَالِمٌ، وَلاَ يُوجَدُ مِنْهُ بَدَلٌ، وَلاَ له مِثْلٌ وَلاَ نَظِيرٌ، مَخْصُوصٌ بِالْفَضْلِ كُلِّهِ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ مِنْهُ له وَلاَ اكْتِسَابٍ، بَلِ اخْتِصَاصٌ مِنَ الْمُفْضِلِ الْوَهَّابِ.

ص: 286

..............................

فَمَنْ ذَا الَّذِي يَبْلُغُ مَعْرِفَةَ الإِمَامِ، أَوْ يُمْكِنُهُ اخْتِيَارُهُ، هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ ضَلَّتِ الْعُقُولُ، وَتَاهَتِ الْحُلُومُ، وَحَارَتِ الأَلْبَابُ، وَخَسَأَتِ الْعُيُونُ، وَتَصَاغَرَتِ الْعُظَمَاءُ،وَتَحَيَّرَتِ الْحُكَمَاءُ، وَتَقَاصَرَتِ الْحُلَمَاءُ، وَحَصِرَتِ الْخُطَبَاءُ، وَجَهِلَتِ الأَلِبَّاءُ، وَكَلَّتِ الشُّعَرَاءُ، وَعَجَزَتِ الأُدَبَاءُ،وَعَيِيَتِ الْبُلَغَاءُ عَنْ وَصْفِ شَأْنٍ مِنْ شَأْنِهِ، أَوْ فَضِيلَةٍ مِنْ فَضَائِلِهِ، وَأَقَرَّتْ بِالْعَجْزِ وَالتَّقْصِيرِ.

وَكَيْفَ يُوصَفُ بِكُلِّهِ، أَوْ يُنْعَتُ بِكُنْهِهِ، أَوْ يُفْهَمُ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِهِ، أَوْ يُوجَدُ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ، وَيُغْنِي غِنَاهُ، لاَ كَيْفَ وَأَنَّى وَهُوَ بِحَيْثُ النَّجْمِ مِنْ يَدِ الْمُتَنَاوِلِينَ، وَوَصْفِ الْوَاِفِينَ.

فَأَيْنَ الاِخْتِيَارُ مِنْ هَذَا، وَأَيْنَ الْعُقُولُ عَنْ هَذَا، وَأَيْنَ يُوجَدُ مِثْلُ هَذَا، أَ تَظُنُّونَ أَنَّ ذَلِكَ يُوجَدُ فِي غَيْرِ آلِ الرَّسُولِ مُحَمَّدٍ (صلی الله علیه و آله).

كَذَبَتْهُمْ وَاللَّهِ أَنْفُسُهُمْ، وَمَنَّتْهُمُ الأَبَاطِيلَ، فَارْتَقَوْا مُرْتَقاً صَعْباً دَحْضاً، تَزِلُّ عَنْهُ إِلَى الْحَضِيضِ أَقْدَامُهُمْ، رَامُوا إِقَامَةَ الإِمَامِ بِعُقُولٍ حَائِرَةٍ بَائِرَةٍ نَاقِصَةٍ، وَآرَاءٍ مُضِلَّةٍ، فَلَمْ يَزْدَادُوا مِنْهُ إِلاَ بُعْداً قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ.

وَلَقَدْ رَامُوا صَعْباً، وَقَالُوا إِفْكاً، وَضَلُّوا ضَلاَلاً بَعِيداً، وَوَقَعُوا فِي الْحَيْرَةِ إِذْ تَرَكُوا الإِمَامَ عَنْ بَصِيرَةٍ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ، رَغِبُوا عَنِ اخْتِيَارِ اللَّهِ وَاخْتِيَارِ رَسُولِ اللَّهِ (صلی الله علیه و آله) وَأَهْلِ بَيْتِهِ إِلَى اخْتِيَارِهِمْ، وَالْقُرْآنُ يُنَادِيهِمْ:

«وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُالْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالى عَمَّا يُشْرِكُونَ»(1)، وَقَ-الَ عَزَّوَجَ-لَّ:«وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ

ص: 287


1- سورة القصص: 68.

..............................

وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ»(1) الآيَةَ، وَقَالَ: «مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ * سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ * أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صادِقِينَ»(2)، وَقَالَ عَزَّوَجَلَّ: «أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا»(3)، أَمْ طُبِعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَيَفْقَهُونَ، أَمْ قَالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ، «إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَيَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ»(4)، أَمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا بَلْ هُوَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.

فَكَيْفَ لَهُمْ بِاخْتِيَارِ الإِمَامِ، وَالإِمَامُعَالِمٌ لاَ يَجْهَلُ، وَرَاعٍ لاَ يَنْكُلُ، مَعْدِنُ الْقُدْسِ وَالطَّهَارَةِ، وَالنُّسُكِ وَالزَّهَادَةِ، وَالْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ، مَخْصُوصٌ بِدَعْوَةِ الرَّسُولِ (صلی الله علیه و آله)، وَنَسْلِ الْمُطَهَّرَةِ الْبَتُولِ، لاَ مَغْمَزَ فِيهِ فِي نَسَبٍ، وَلاَ يُدَانِيهِ ذُو حَسَبٍ فِي الْبَيْتِ مِنْ قُرَيْشٍ، وَالذِّرْوَةِ مِنْ هَاشِمٍ، وَالْعِتْرَةِ مِنَ الرَّسُولِ (صلی الله علیه و آله)، وَالرِّضَا مِنَ اللَّهِ عَزَّوَجَلَّ، شَرَفُ الأَشْرَافِ، وَالْفَرْعُ مِنْ عَبْدِ مَنَافٍ، نَامِي الْعِلْمِ، كَامِلُ الْحِلْمِ، مُضْطَلِعٌ بِالإِمَامَةِ، عَالِمٌ بِالسِّيَاسَةِ، مَفْرُوضُ الطَّاعَةِ، قَائِمٌ بِأَمْرِ اللَّهِ عَزَّوَجَلَّ، نَاصِحٌ لِعِبَادِ اللَّهِ، حَافِظٌ لِدِينِ اللَّهِ»(5).

ص: 288


1- سورة الأحزاب: 36.
2- سورة القلم: 36-41.
3- سورة محمد: 24.
4- سورة الأنفال: 22-23.
5- الكافي: ج1 ص200-202 باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته ح1.

..............................

أوزار المستقبل على الأوائل أيضاً

مسألة: لايبعد كون «قد كان بعدك أنباء وهنبثة» إشارة للماضي، أي لما حدث بعد وفاته (صلی الله علیه و آله) مباشرة، و«لم تكثر الخطب» أعم مما جرى بعد الوفاة ومما سيجري في المستقبل إلى يوم الظهور، فإن (قد كان بعدك) إشارة للأسس و(لم تكثر) إشارة للنتائج على مر الأزمان، أي (لم تكثر الخطب) في هذا الزمن وفي الأزمان اللاحقة.. وهذا إشارة إلى أن كافة المظالم علىمر التاريخ وزرها عليهما ومن آزرهما أو رضي بفعلهما إلى يوم القيامة،كما نصت على ذلك روايات عديدة. عن أبي حمزة،عن أبي جعفر(علیه السلام) في قوله:« «لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ» يعني: ليستكملوا الكفر يوم القيامة، «وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ» يعني: كفر الذين يتولونهم، قال الله: «أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُونَ»(1)»(2).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «وَمَا أُحْدِثَتْ بِدْعَةٌ إِلاَّ تُرِكَ بِهَا سُنَّةٌ، فَاتَّقُوا الْبِدَعَ وَالْزَمُوا الْمَهْيَعَ، إِنَّ عَوَازِمَ الأُمُورِ أَفْضَلُهَا وَإِنَّ مُحْدِثَاتِهَا شِرَارُهَا»(3).

وقال (علیه السلام): «أظلم الناس من سن سنن الجور ومحا سنن العدل»(4).

وعن النبي (صلی الله علیه و آله)، قال: «أيما داع دعا إلى الهدى فاتبع فله مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيء، وأيما داع دعا إلى ضلالة واتبع فإن عليه مثل أوزار من اتبعهمن غير أن ينقص من أوزارهم شي ء»(5).

ص: 289


1- سورة النحل: 25.
2- تفسير العياشي: ج2 ص257 من سورة النحل ح16.
3- نهج البلاغة، الخطب: 145 ومن خطبة له (علیه السلام).
4- غرر الحكم: ص455 ق6 ب5 ف1 ذم الظلم ح10389.
5- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: ج2 ص127.

..............................

وعن ميمون القداح، عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «أيما عبد من عباد الله سنّ سنة هدى كان له مثل أجر من عمل بذلك من غير أن ينقص من أجورهم شيء، وأيما عبد من عباد الله سنّ سنة ضلال كان عليه مثل وزر من فعل ذلك من غير أن ينقص من أوزارهم شيء»(1).

وعن إسماعيل الجعفي، قال: سمعت أبا جعفر (علیه السلام) يقول: «من سنّ سنة عدل فاتبع كان له مثل أجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن استن بسنة جور فاتبع كان له مثل وزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء»(2).

وعن عبد الرحمن بن أبي عبد الله، قال: قال أبو عبد الله (علیه السلام): «لايتكلم الرجل بكلمة حق يؤخذ بها إلا كان له مثل أجر من أخذ بها، ولا يتكلم بكلمة ضلال يؤخذ بها إلا كان عليه مثل وزر منأخذ بها»(3).

وعن أبي عبيدة الحذاء، عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «من علّم باب هدى فله مثل أجر من عمل به ولا ينقص أولئك من أجورهم شيئاً، ومن علّم باب ضلال كان عليه مثل أوزار من عمل به ولا ينقص أولئك من أوزارهم شيئاً»(4).

وجاء في الحديث:إن سائلاً قام على عهد النبي (صلی الله علیه و آله) فسأل فسكت القوم. ثم إن رجلاَ أعطاه فأعطاه القوم. فقال النبي (صلی الله علیه و آله): «من استن خيراً فاستن به فله أجره ومثل أجور من اتبعه من غير منتقص من أجورهم،ومن استن شراً فاستن به

ص: 290


1- وسائل الشيعة: ج16 ص173-174 ب16 ح21274.
2- مستدرك الوسائل: ج12 ص228-229 ب15 ح13955.
3- بحار الأنوار: ج2 ص19 ب8 ح52.
4- الكافي: ج1 ص35 باب ثواب العالم والمتعلم ح4.

..............................

فعليه وزره ومثل أوزار من اتبعه غير منتقص من أوزارهم»(1).

وعن قيس بن أبي حازم، قال: سمعت علياً (علیه السلام) يقول: «يا معشر المسلمين، يا أبناء المهاجرين، انفروا إلى أئمة الكفر وبقية الأحزابوأولياء الشيطان، انفروا إلى من يقاتل على دم حمال الخطايا، فو الذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه ليحمل خطاياهم إلى يوم القيامة لا ينقص من أوزارهم شيئاً»(2).

وعن علي (علیه السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من يشفع شفاعة حسنة، أو يأمر بمعروف، أو ينه عن منكر، أو دل على خير، أو أشار به فهو شريك. ومن أمر بشر، أو دل عليه، أو أشار به فهو شريك»(3). إلى غيرها من الروايات.

قولها (صلوات الله عليها): «أنباء» جمع نبأ بمعنى الخبر، والمراد بها ما حدث من غصب الخلافة وفدك، والمنازعات والمحاورات والانقلاب على تعاليم السماء.

قولها (علیها السلام): «هنبثة» أي: الأمر الشديد، وربما كانت بمعنى الاختلاط في القول وما أشبه.

قولها (علیها السلام): «شاهدها» أي لو كنتَ حاضراً.

قولها (علیها السلام): «لم تكثر الخطب» أي: لم يستفحل الأمر بهذه الشدة التي وقعت بعدك، فإن (الخطب) في المقام بمعنى: المصيبة العظيمة.ومن المحتمل أن تكون جمع خطبة، أي لم يكثر القيل والقال، بل كان القول قولك يا رسول الله (صلی الله علیه و آله) وما كان لأحد أن يخالفك.

ص: 291


1- تفسير مجمع البيان: ج10 ص286 سورة الانفطار.
2- الغارات: ج1 ص26 في استنفاره الناس.
3- مستدرك الوسائل: ج12 ص178 ب1 ح13813.

إنا فقدناك فقد الأرض وابلها....

اشارة

-------------------------------------------

إنا فقدناك فقد الأرض وابلها *** واختل قومك فاشهدهم فقد نكبوا(1)

الآثار التكوينية للرسول (صلی الله علیه و آله)

مسألة: يحرم التشكيك في الآثار والبركات التكوينية للرسول (صلی الله علیه و آله) والمعصومين (علیهم السلام)، بل في الولاية التكوينية لهم أيضاً، والتفصيل في محله.

وقد أشرنا إلى بعض البحث في كتاب البيع(2).

قال تعالى: «قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ»(3).

وقال سبحانه: «وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ»(4).

وقال تعالى: «فَسَخَّرْنَا لَ-هُ الرِّيحَ تَجْرِيبِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ»(5).

وقال سبحانه: «وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأَْبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ»(6).

ص: 292


1- وفي بعض النسخ: (ولا تغب) بدل (فقد نكبوا).
2- انظر موسوعة (الفقه) كتاب البيع المجلد الرابع والخامس.
3- سورة النمل: 40.
4- سورة الأنبياء: 79.
5- سورة ص: 36.
6- سورة آل عمران: 49.

..............................

نماذج من الولاية التكوينية للمعصومين (علیهم السلام)

إني قد أمرت كل شيء بطاعتك

عن محمد، قال: حدثني يونس، قال: قال لي أبو عبد الله (علیه السلام): «اجتمعوا أربعة عشر رجلاً أصحاب العقبة ليلة أربع عشرة من ذي الحجة. فقالوا للنبي (صلی الله علیه و آله): ما من نبي إلا وله آية فما آيتك في ليلتك هذه؟.

فقال النبي (صلی الله علیه و آله): ما الذي تريدون؟.

فقالوا: إن يكن لك عند ربك قدر فأمر القمر أن ينقطع قطعتين!.

فهبط جبرئيل (علیه السلام) وقال: يا محمد، إن الله يقرؤك السلام ويقول لك: إني قد أمرت كل شيء بطاعتك.

فرفع (صلی الله علیه و آله) رأسه فأمر القمر أن ينقطع قطعتين فانقطع قطعتين، فسجد النبي (صلی الله علیه و آله) شكراً لله وسجد شيعتنا. ثم رفع النبي (صلی الله علیه و آله) رأسه ورفعوا رؤوسهم.

ثم قالوا: يعود كما كان، فعاد كما كان، ثم قالوا: ينشق رأسه. فأمرهفانشق، فسجد النبي (صلی الله علیه و آله) شكراً لله وسجد شيعتنا. فقالوا: يا محمد، حين تقدم سفارنا من الشام واليمن فنسألهم ما رأوا في هذه الليلة، فإن يكونوا رأوا مثل ما رأينا علمنا أنه من ربك، وإن لم يروا مثل ما رأينا علمنا أنه سحر سحرتنا به، فأنزل الله: «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ»(1) إلى آخر السورة(2).

ص: 293


1- سورة القمر: 1.
2- تفسير القمي: ج2 ص341 معجزة شق القمر.

..............................

أرني قبره ومقتله

روي عن أمير المؤمنين علي (علیه السلام) أنه كان يطلب قوماً من الخوارج، فلما بلغ الموضع المعروف اليوم بساباط ... أتاه رجل من شيعته، وقال: يا أمير المؤمنين، أنا لك شيعة ومحب، ولي أخ وكنت شفيقاً عليه فبعثه عمر في جنود سعد بن أبي وقاص إلى قتال أهل المدائن فقُتل هناك، وكان من وقت مقتله إلى اليوم سنين كثيرة. فقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «فما الذي تريد منه؟». قال: أريد أن تحييه لي. قال علي (علیه السلام): «لا فائدة لك في حياته». قال: لابد من ذلكيا أمير المؤمنين. قال له: «إذا أبيت إلا ذلك فأرني قبره ومقتله». فأراه إياه، فمد (علیه السلام) الرمح وهو راكب بغلته الشهباء فركز القبر بأسفل الرمح، فخرج رجل أسمر طويل يتكلم بالعجمة. فقال له أمير المؤمنين (علیه السلام): «لم تتكلم بالعجمة وأنت رجل من العرب؟». فقال: بلى، ولكن بغضك في قلبي ومحبة أعدائك في قلبي، فانقلب لساني في النار».

فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، رده من حيث جاء فلا حاجة لنا فيه. فقال له أمير المؤمنين (علیه السلام): «ارجع»، فرجع إلى القبر وانطبق عليه(1).

الأرض تحدثه ويحدثها

عن أسماء بنت واثلة بن الاسقع، قالت: سمعت أسماء بنت عميس الخثعمية تقول: سمعت سيدتي فاطمة (علیها السلام) تقول: «ليلة دخل بي علي بن أبي طالب (علیه السلام) أفزعني في فراشي». قلت: فبما فزعتِ يا سيدة النساء؟.

قالت: «سمعت الأرض تحدثه ويحدثها، فأصبحت وأنا فزعةفأخبرتُ

ص: 294


1- الفضائل: ص67 خبر آخر معجزة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام).

..............................

والدي (صلی الله علیه و آله) فسجد سجدة طويلة ثم رفع رأسه، وقال: يا فاطمة، أبشري بطيب النسل؛ فإن الله فضل بعلكِ على سائر خلقه وأمر الأرض أن تحدثه بأخبارها وما يجري على وجهها من شرقها إلى غربها»(1).

ولاية على الكواكب

عن إبراهيم بن منصور، قال: رأيت الحسن بن علي (علیه السلام) وقد خرج مع قوم يستسقون. فقال للناس: «أيما أحب إليكم المطر أم البرد أم اللؤلؤ؟.

فقالوا: يا ابن رسول الله، ما أحببت. فقال: «على أن لا يأخذ أحد منكم لدنياه شيئا بالثلاثة». قال: ورأيناه يأخذ الكواكب من السماء ثم يرسلها فتطير كما تطير العصافير إلى مواضعها(2).

نور للروحانيين

عن محمد بن حجارة، قال: رأيت الحسن بن علي (علیه السلام) وقد مرت به صريمة من الظباء، فصاح بهن، فأجابته كلها بالتلبية حتى أتت بين يديه.

عن محمد بن حجارة، قال: رأيت الحسن بن علي (علیه السلام) وقد مرت به صريمة من الظباء، فصاح بهن، فأجابته كلها بالتلبية حتى أتت بين يديه.

فقلنا: يا ابن رسول الله، هذا وحش فأرنا آية من السماء؟.

فأومأ (علیه السلام) نحو السماء ففتحت الأبواب ونزل نور أحاط بدور المدينة، ونزلت الدور حتى كادت أن تخرب. فقلنا: ردها يا ابن رسول الله؟. فقال: «نحن الأولون والآخرون، ونحن الآمرون، ونحن النور ننوّر الروحانيين بنور الله، ونروحهم بروحه، فينا مسكنه وإلينا معدنه، الآخر منا كالأول، والأول منا

ص: 295


1- مدينة المعاجز: ج1 ص120-121 السادس عشر أنه (علیه السلام) تحدثه الأرض بأخبارها ح68.
2- دلائل الإمامة: ص64 ذكر معجزاته (علیه السلام).

..............................

كالآخر»(1).

ويلك ليس بسحر

عن محمد الكناني، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «خرج الحسين بن علي (علیهما السلام) في بعض أسفاره ومعه رجل من ولد الزبير بن العوام يقول بإمامته، فنزلوا من تلك المنازل تحت نخل يابس قد يبس من العطش، ففرشللحسين (علیه السلام) تحتها والزبيري بإزائه تحت نخل أخرى وليس عليها رطب.

قال: فرفع (علیه السلام) يده فدعا بكلام لم أفهمه، فاخضرت النخلة وصارت إلى حالها وأورقت وحملت رطباً. فقال الجمال الذي اكترى منه: هذا سحر والله!. فقال الحسين (علیه السلام): ويلك ليس بسحر، ولكنها دعوة ابن نبي مستجابة. قال: فصعدوا إلى النخلة حتى حووا منها كلهم»(2).

قوموا حتى نصير إليها

عن يحيى ابن أم الطويل، قال: كنا عند الحسين (علیه السلام) إذ دخل عليه شاب يبكي. فقال له الحسين (علیه السلام): «ما يبكيك؟». قال: إن والدتي توفيت في هذه الساعة ولم توص ولها مال، وكانت قد أمرتني أن لا أحدث في أمرها شيئاً حتى أعلمك خبرها. فقال الحسين (علیه السلام): «قوموا حتى نصير إلى هذه الحرة».

فقمنا معه حتى انتهينا إلى باب البيت الذي توفيت فيه المرأة وهي مسجاة، فأشرف (علیه السلام) على البيت ودعا الله ليحييها حتى توصي بما تحب من وصيتها،

ص: 296


1- دلائل الإمامة: ص65 ذكر معجزاته (علیه السلام).
2- مدينة المعاجز: ج3 ص459-460 الثاني والعشرون النخلة اليابسة أخرج منها الرطب ح977/30.

..............................

فأحياها الله، وإذا المرأة جلست وهي تتشهد ثم نظرت إلى الحسين (علیه السلام)،فقالت: ادخل البيت يا مولاي ومرني بأمرك. فدخل وجلس على مخدة ثم قال لها: «وصي يرحمكِ الله». فقالت: يا ابن رسول الله، لي من المال كذا وكذا في مكان كذا وكذا فقد جعلت ثلثه إليك لتضعه حيث شئت من أوليائك، والثلثان لابني هذا إن علمت أنه من مواليك وأوليائك، وإن كان مخالفاً فخذه إليك فلاحق(1) في المخالفين في أموال المؤمنين، ثم سألته أن يصلي عليها وأن يتولى أمرها، ثم صارت المرأة ميتة كما كانت(2).

السحاب المسخر

أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، قال: حدثنا عبد الله بن محمد البلوي، قال: سمعت عمارة بن يزيد، قال: حدثني إبراهيم بن سعد، قال: لما كانت وقعة الحرة وأغار الجيش على المدينة وأباحها ثلاثاً، وجه بردعة الحمار صاحبيزيد بن معاوية في طلب علي بن الحسين (علیه السلام) ليقتله أو يسمّه فوجدوه في منزله، فلما دخلوا عليه ركب السحاب وجاء حتى وقف فوق رأسه، وقال: «أيما أحب إليك تكف أو آمر الأرض أن تبلعك؟». قال: ما أردت إلا إكرامك والإحسان إليك. ثم نزل عن السحاب فجلس بين يديه، فقرب إليه أقداحاً فيها ماء ولبن وعسل، فاختار علي بن الحسين (علیهما السلام) لبناً وعسلاً، ثم غاب من بين يديه حيث لا يعلم(3).

ص: 297


1- أي الحق المعنوي، أما الحق المادي فكما هو مقرر في الإرث والفرائض.
2- بحار الأنوار: ج44 ص180-181 ب25 ح3.
3- مدينة المعاجز: ج4 ص256 الثالث ركوبه السحاب ح1287/35.

..............................

ولاية الصنع بإذن الله

قال أبو جعفر: حدثنا عبد الله بن منير، قال: أخبرنا محمد بن إسحاق الصاعدي وأبو محمد ثابت بن ثابت، قالا: حدثنا جمهور بن حكيم، قال: رأيت علي بن الحسين (علیه السلام) وقد ثبت له أجنحة بريش فطار ثم نزل. فقال: «رأيت الساعة جعفر بن أبي طالب في أعلى عليين». فقلت: وهل تستطيع أن تصعد؟. فقال: «نحن صنعناها فكيف لا نستطيع أن نصعد إلى ما صنعناه، نحن حملة العرش ونحن على العرش، والعرش والكرسي لنا». ثم أعطاني طلعاً في غير أوانه(1).

إنه وارث سليمان (علیه السلام)

عن أنس بن مالك، قال: لقيت علي بن الحسين (علیه السلام) وهو خارج إلى ينبع ماشياً. فقلت: يا بن رسول الله لو ركبت؟. فقال: «ههنا ما هو أيسر فانظر»، فحملته الريح وحفت به الطير من كل جانب، فما رأيت مرفوعاً أحسن منه يرفد إلى الطير لتناغيه والريحتكلمه(2).

الطين المسخر

قال أبو جعفر: وحدثنا أحمد بن منصور الرماني، قال: حدثنا شاذان بن عمر، قال: حدثنا مرة بن قبيصة بن عبد الحميد، قال: قال لي جابر بن يزيد

ص: 298


1- دلائل الإمامة: ص86 ذكر شي ء من معجزاته (علیه السلام).
2- مدينة المعاجز: ج4 ص260-261 الحادي عشر أنه (علیه السلام) حملته الريح وحفت به الطير ح1295/43.

..............................

الجعفي: رأيت مولاي الباقر (علیه السلام) وقد صنع فيلاً من طين، فركبه وطار في الهواء حتى ذهب إلى مكة عليه وعاد. فلم أصدق ذلك منه حتى رأيت الباقر (علیه السلام)، فقلت له: أخبرني جابر عنك بكذا وكذا فصنع مثله، وركب وحملني معه إلى مكة وردّني(1).

نبعة من عصا موسى (علیه السلام):

أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، قال: حدثنا أبو محمد، قال: حدثنا إبراهيم بن سعد، قال: حدثنا حكم بنسعد، قال: لقيت أبا جعفر محمد بن علي الباقر (علیه السلام) وبيده عصا يضرب به الصخر فينبع منه الماء. فقلت: يا بن رسول الله ما هذا؟. قال: «نبعة من عصا موسى التي يتعجبون منها»(2).

نعم بإذن الله

عن أبي بصير، قال: دخلت على أبي جعفر (علیه السلام). فقلت له: أنتم ورثة رسول الله (صلی الله علیه و آله)؟. قال: «نعم». قلت: رسول الله (صلی الله علیه و آله) وارث الأنبياء، علم كل ما علموا؟. قال لي: «نعم». قلت: فأنتم تقدرون على أن تحيوا الموتى وتبرءوا الأكمه والأبرص؟. قال: «نعم بإذن الله». ثم قال لي: «ادن مني يا أبا محمد». فدنوت منه فمسح على وجهي وعلى عيني،فأبصرت الشمس والسماء والأرض والبيوت وكل شيء في البلد، ثم قال لي: «أتحب أن تكون هكذا ولك ما للناس وعليك ما عليهم يوم القيامة، أو تعود كما كنت ولك الجنة خالصاً؟».

ص: 299


1- دلائل الإمامة: ص96 ذكر معجزاته (علیه السلام).
2- مدينة المعاجز: ج5 ص10-11 السابع أنه (علیه السلام) يضرب الصخر فينبع منه الماء ح1423/7.

..............................

قلت: أعود كما كنت. فمسح على عينيفعدت كما كنت.

قال: فحدثت ابن أبي عمير بهذا، فقال: أشهد أن هذا حق كما أن النهار حق(1).

سمكة مملوحة

قال أبو جعفر: وحدثنا أبو محمد، قال: حدثنا عمارة بن زيد، قال: حدثنا إبراهيم بن سعيد، قال: رأيت الصادق (علیه السلام) وقد جيء إليه بسمك مملوح فمسح يده على سمكه فمشت بين يديه، ثم ضرب بيده إلى الأرض فإذا دجلة والفرات تحت قدميه، ثم أرانا سفن البحر، ثم أرانا مطلع الشمس ومغربها أسرع من لمح البصر(2).

ولكن رحمة الله وسعت كل شيء

أبو جعفر محمد بن جرير الطبري: قال: حدثنا أبو محمد، عن وكيع، عن عبد الله بن قيس، عن أبي قناقب الصدوجي، قال: رأيت أبا عبد الله جعفر بن محمد (علیه السلام) وقد سئل عن مسألة، فغضب حتى امتلأ منه مسجد الرسول (صلی الله علیه و آله) وبلغ أفق السماء، وهاجت لغضبه ريح سوداء حتى كادت تقلعالمدينة، فلما هدأ هدأت لهدوئه. فقال (علیه السلام): «لو شئت لقلبتها على من عليها ولكن رحمة الله وسعت كل شيء»(3).

ص: 300


1- الكافي: ج1 ص470 باب مولد أبي جعفر محمد بن علي (علیه السلام) ح3.
2- دلائل الإمامة: ج113 ذكر معجزاته (علیه السلام).
3- مدينة المعاجز: ج5 ص215 السابع أنه (علیه السلام) هاجت لغضبه ريح سوداء ح1576/6.

..............................

والشمس مسخرة لهم

قال أبو جعفر: وحدثنا عبد الله، قال: حدثنا عمارة بن زيد، قال: حدثنا إبراهيم بن سعيد، قال: قلت للصادق (علیه السلام): أتقدر أن تمسك الشمس بيدك؟.

فقال: «لو شئت لحجبتها عنك». فقلت: افعل. فرأيته قد جرها كما يجر الدابة بعنانها، فاسودت وانكشفت، وذلك بعين أهل المدينة كلهم حتى ردها (1).

المشي في النار

عن المفضل بن عمر، قال: وجه المنصور إلى حسن بن زيد - وهو واليه على الحرمين -: أن أحرق على جعفر بن محمد داره.

فألقى النار في دار أبي عبد الله(علیه السلام) فأخذت النار في الباب والدهليز، فخرج أبو عبد الله (علیه السلام) يتخطى النار ويمشي فيها ويقول: «أنا ابن أعراق الثرى، أنا ابن إبراهيم خليل الله»(2).

إنه وارث موسى (علیه السلام)

عن رشيق مولى الرشيد، قال: وجه بي الرشيد في قتل موسى بن جعفر (علیه السلام) لأقتله، فهز (علیه السلام) عصا كانت في يده فإذا هي أفعى، وأخذ هارون الحمى ووقعت الأفعى في عنقه حتى وجه إليَّ بإطلاقه فأطلقت عنه(3).

ص: 301


1- دلائل الإمامة: ص113 ذكر معجزاته (علیه السلام).
2- المناقب: ج4 ص236 فصل في خرق العادات له (علیه السلام).
3- دلائل الإمامة: ج158 ذكر معجزاته (علیه السلام).

..............................

حربة من السماء

عن إبراهيم بن الأسود، قال: رأيت موسى بن جعفر (علیه السلام) صعد إلى السماء ونزل ومعه حربة من نور. فقال: «أتخوفوني بهذا - يعني الرشيد - لو شئت لطعنته بهذه الحربة». فأبلغ ذلك الرشيد فأغمي ثلاثاً وأطلقه(1).

إخراج الماء من الصخر

قال أبو جعفر: حدثنا سفيان، قال: حدثنا وكيع، قال: رأيت علي بن موسى الرضا (علیه السلام) في آخر أيامه. فقلت: يا ابن رسول الله، أريد أحدث عنك معجزة فأرنيها؟. فرأيته أخرج لنا ماء من صخرة فسقانا وشربت(2).

الجماد يعترف بإمامته

أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، قال: حدثنا علي بن قنطرة الموصلي، قال: حدثنا سعد بن سلام، قال: أتيت على بن موسى الرضا (علیهما السلام) وقد جاش الناس فيه، وقالوا: لا يصلح للإمامة؛ فإن أباه لم يوص إليه. فقعد منا عشرة رجال فكلموه، فسمعت الجماد الذي من تحته يقول: هو إمامي وإمام كل شيء. وإنه دخل المسجد الذي في المدينة - يعني مدينة أبي جعفر - فرأيت الحيطان والخشب تكلّمه وتسلّم عليه(3).

ص: 302


1- مدينة المعاجز: ج6 ص201 الحادي عشر صعوده (علیه السلام) إلى السماء ونزوله بالحربة ح1945/15.
2- دلائل الإمامة: ص186 ذكر معجزاته (علیه السلام).
3- مدينة المعاجز: ج7 ص23 الثالث عشر نطق الجماد بإمامته (علیه السلام) وتسليمها عليه ح2120/18.

..............................

وما تشاء؟

عن معبد بن عبد الله الشامي، قال: دخلت على علي بن موسى الرضا (علیه السلام). فقلت له: قد كثر الخوض فيك وفي عجائبك، فلو شئت أثبت بشيء وأحدثه عنك؟. قال: «وما تشاء؟». قلت له: تحيي لي أبي وأمي. فقال: «انصرف إلى منزلك فقد أحييتهما». فانصرفت وإذا هما والله حيان في البيت، وأقاما عندي عشرة أيام ثم قبضهما الله تعالى إليه(1).

ترزقين بعد الموت ولدا

قال أبو جعفر: حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد, قال: حدثنا إبراهيم بن سهيل، قال: لقيت علي بن موسى الرضا (علیه السلام) وهو على حماره. فقلت له: من أركبك هذا وتزعم أكثر شيعتك أن أباك لم يوصك ولم يقعدك هذا المقعد، وادعيت لنفسك ما لم يكن لك؟! فقال له: «وما دلالة الإمام عندك؟». قلت: أن يكلم ما وراء البيت، وأن يحيي ويميت. فقال: «أنا أفعل، أما الذي معك فخمسة دنانير، وأما أهلك فإنها ماتت منذ سنة وقد أحييتها الساعة، وأتركها معك سنة أخرى ثم أقبضها إليَّ لتعلم أني إمام بلا خلاف».فوقع عليَّ الرعد. فقال: «أخرج روعك فإنك آمن». ثم انطلقت إلى منزلي فإذا بأهلي جالسة. فقلت لها: ما الذي جاء بكِ؟. فقالت: كنت نائمة إذا أتاني آت ضخم شديد السمرة، فوصفت لي صفه الرضا (علیه السلام) فقال لي: يا هذه قومي وارجعي إلى زوجك؛ فإنك ترزقين بعد الموت ولداً. فرزقت والله(2).

ص: 303


1- فرج المهموم: ص231-232 ب10.
2- دلائل الإمامة: ص187 ذكر معجزاته (علیه السلام).

..............................

السدرة اليابسة

عن أبي هاشم الجعفري، قال: صليت مع أبي جعفر (علیه السلام) في مسجد المسيب وصلى بنا في موضع القبلة سواء، وذكر أن السدرة التي في المسجد كانت يابسة ليس عليها ورق، فدعا بماء وتهيأ تحت السدرة فعاشت السدرة وأورقت وحملت من عامها(1).

البحر وسفنه

عن حكيم بن حماد، قال: رأيت سيدي محمد بن علي (علیه السلام) وقد ألقى في الدجلة خاتماً، فوقفت كل سفينةصاعداً وهابطاً، وأهل العراق يومئذ يتزايدون، ثم قال لغلامه: «أخرج الخاتم». فسارت الزوارق(2).

أغثني فإنا من مواليكم

قال أبو هاشم الجعفري: جاء رجل إلى محمد بن علي بن موسى (علیه السلام). فقال: يا ابن رسول الله، إن أبي مات وكان له مال ففاجأه الموت، ولست أقف على ماله ولي عيال كثير، وأنا من مواليكم فأغثني.

فقال له أبو جعفر (علیه السلام): «إذا صليت العشاء الآخرة فصل على محمد وآل محمد؛ فإن أباك يأتيك في النوم ويخبرك بأمر المال». ففعل الرجل ذلك فرأى أباه في النوم فقال: يا بني، مالي في موضع كذا فخذه واذهب به إلى ابن رسول الله

ص: 304


1- الكافي: ج1 ص497 باب مولد أبي جعفر محمد بن علي الثاني (علیه السلام) ح10.
2- مدينة المعاجز: ج7 ص320 السادس والعشرون وقوف السفن في البحر ح2355/47.

..............................

فأخبره أني دللتك على المال. فذهب الرجل فأخذ المال وأخبر الإمام (علیه السلام) بخبر المال، وقال: الحمد لله الذي أكرمك واصطفاك(1).

من طيور الجنة

قال أبو جعفر: حدثنا عبد الله بن محمد، قال: حدثنا عمارة بن زيد، قال: قلت لأبي الحسن: أتقدر أن تصعد إلى السماء حتى تأتي بشيء ليس في الأرض حتى نعلم ذلك؟. فارتفع في الهواء وأنا أنظر إليه حتى غاب، ثم رجع ومعه طير من ذهب في أذنيه أشنقة من ذهب وفي منقاره درة،وهو يقول:"لا إله إلا الله محمد رسول الله علي ولي الله". فقال: «هذا طير من طيور الجنة». ثم سيبه فرجع(2).

الولاية على الأرض

عن محمد بن يزيد، قال: كنت عند علي بن محمد (علیه السلام) إذ دخل عليه قوم يشكون الجوع، فضرب يده إلى الأرض وكان لهم براً ودقيقاً(3).

اتّسع بهذا واكتم ما رأيت

عن أبي هاشم الجعفري، قال: خرجت مع أبي الحسن (علیه السلام) إلى ظاهر سر من رأى يتلقى بعض القادمين فأبطئوا، فطرح لأبي الحسن (علیه السلام) غاشية السرج فجلس عليها،ونزلت عن دابتي وجلست بين يديه وهو يحدثني، فشكوت إليه قصر يدي وضيق حالي، فأهوى بيده إلى رمل كان عليه جالساً فناولني منه كفاً.

ص: 305


1- الخرائج والجرائح: ج2 ص665-666 فصل في أعلام الإمام محمد بن علي التقي (علیه السلام).
2- دلائل الإمامة: ج218 ذكر بعض معجزاته (علیه السلام).
3- مدينة المعاجز: ج7 ص443 الثاني والعشرون البر والدقيق الذي من الأرض ح2444/24.

..............................

قال: «اتسع بهذا يا أبا هاشم واكتم ما رأيت». فخبأته معي ورجعنا فأبصرته فإذا هو يتقد كالنيران ذهباً أحمر، فدعوت صائغاً إلى منزلي وقلت له: اسبك لي هذه السبيكة. فسبكها وقال لي: ما رأيت ذهباً أجود من هذا وهو كهيئة الرمل، فمن أين لك هذا، فما رأيت أعجب منه!! قلت: كان عندي قديماً(1).

الطبع في الحصاة

قال أبو هاشم الجعفري: استؤذن لرجل جميل طويل من أهل اليمن على أبي محمد (علیه السلام) فجلس إلى جنبي. فقلت في نفسي: ليت شعري من هذا؟. فقال أبو محمد: «هذا من ولد الأعرابية صاحبة الحصاة التي طبع آبائي فيها - ثم قال - هاتها»، فأخرج حصاة فطبع في موضع منها أملس. فقلت لليماني: رأيته قط؟. قال: لا والله وإني منذ دهر لحريص على رؤيته حتى كان الساعة أتاني شابلست أراه، فقال: قم فادخل، فدخلت. ثم نهض وهو يقول: رحمة الله وبركاته عليكم منا أهل البيت، ذرية بعضها من بعض. فسألته عن اسمه؟. فقال: اسمي مهجع بن الصلت بن عقبة بن سمعان بن غانم ابن أم غانم(2).

الولاية على المطر

قال أبو جعفر: ودخل قوم على الحسن بن علي (علیه السلام) يشكون قلة الأمطار في سواد العراق وكانوا من أهله، فكتب لهم كتاباً فأمطروا، ثم جاءوا يشكون كثرته فختم في الأرض فأمسك المطر(3).

ص: 306


1- بحار الأنوار: ج50 ص138 ب3 ح22.
2- المناقب: ج4 ص441 فصل في آياته (علیه السلام).
3- دلائل الإمامة: ص224 ذكر بعض معجزاته (علیه السلام).

..............................

لا ظل له

قال أبو جعفر: رأيت الحسن بن على (علیه السلام) يمشي في أسواق سر من رأى ولا ظل له(1).

ورق الآس دراهم

قال أبو جعفر: رأيته يأخذ الآسفيجعلها ورقاً، ويرفع طرفه نحو السماء ويده فيردها ملأى لؤلؤاً (2).

إلى غيرها وغيرها مما هو كثير جداً وفي كل عصر وزمان.

بركات المعصوم التكوينية

مسألة: يمكن استفادة الآثار التكوينية لوجود المعصوم (علیه السلام) من كلامها (صلوات الله عليها) هذا - إضافة إلى سائر الأدلة العقلية والنقلية على ذلك - فإن المجاز لا يصار إليه إلا مع تعذر الحقيقة، والمعنى الحقيقي هنا(3) غير متعذر، بل الأدلة عليه.

ومن ذلك يعلم أن لا حاجة للحصر في المعنوي وللقول بأن للرسول (صلی الله علیه و آله) وابلاً معنوياً وإن كان أهم من الوابل المادي؛ لأن فائدة الوابل المادي إنما تكون بسبب الوابل المعنوي.

ص: 307


1- مدينة المعاجز: ج7 ص574 الحادي والأربعون أنه لا ظل له ح2562/44.
2- دلائل الإمامة: ص224 ذكر بعض معجزاته (علیه السلام).
3- فكما أن الوابل إذا انزل (اهتزت وربت وانبتت من كل زوج بهيج) بتأثير تكويني حقيقي كذلك الرسول (صلی الله علیه و آله) والمعصومين (علیهم السلام).

..............................

ويتضح ذلك بملاحظة أن الآية التالية: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَْرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا»(1) تنطق ب- (الأثر التكويني) الذي جعله الله تعالى للإيمان والتقوى وإنهما في سلسلة العلل، فكيف بوجود سيد الخلائق أجمعين(صلی الله علیه و آله)؟.

وقوله تعالى: «وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ»(2) دليل آخر على وجود الترابط التكويني الذي أقره الله سبحانه بين وجود الرسول (صلی الله علیه و آله) وبين بعض الظواهر الكونية(3).

الشكوى للرسول (صلی الله علیه و آله) بعد الوفاة

مسألة: يستحب للأمة أن تشكو ما بها إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) في حياته وبعد وفاته، فإن الشكاية تكون إلى كبير القوم، وحيث إنه لا فرق بين حياته (صلی الله علیه و آله) وموته، فإن مثل هذه الشكوى إليه مستحبة.

وفائدة الشكوى: التظلم أولاً، وفضحالظالم ثانياً، وكشف القناع عن وجه الحق ثالثاً(4)، ثم التوسل به (صلی الله علیه و آله) وطلب الرسول (صلی الله علیه و آله) إلى الله سبحانه وتعالى - في حياته المعنوية - لحل المشكلة وإرجاع الحق إلى أهله رابعاً.

هذا بالإضافة إلى أن التحريض لبثّ الهم والحزن والشكوى إلى الرسول (صلی الله علیه و آله) وسائر المعصومين (علیهم السلام) يوجب مزيد التلاحم والارتباط النفسي والروحي

ص: 308


1- سورة الأعراف: 160.
2- سورة الأنفال: 33.
3- المقصود بها هاهنا رفع العذاب بل دفعه.
4- الثالث أعم من الثاني ولم يدرج الثاني فيه لأهمية إفراده بالذكر.

..............................

والمعنوي مع القمم السامقة في الفضيلة والتقوى والعلم والجهاد و...

عن أبي معاوية، قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: «من شكا إلى مؤمن فقد شكا إلى الله عزوجل ومن شكا إلى مخالف فقد شكا الله عزوجل»(1).

وخرج الإمام الحسين (علیه السلام) من منزله ذات ليلة وأقبل إلى قبر جده (صلی الله علیه و آله)، فقال: «السلام عليك يا رسول الله، أنا الحسين بن فاطمة فرخك وابن فرختك، وسبطك الذي خلفتنيفي أمتك، فاشهد عليهم يا نبي الله إنهم قد خذلوني وضيعوني ولم يحفظوني، وهذه شكواي إليك حتى ألقاك». قال: ثم قام فصفّ قدميه فلم يزل راكعاً ساجداً(2).

وروي: أن أبا بكر وعمر لما أرادا استرضاء فاطمة الزهراء (علیها السلام) فأبت أن تأذن لهما فطلبا من أمير المؤمنين أن يدخلهما عليها: فدخل علي (علیه السلام) على فاطمة (علیها السلام) فقال: «يا بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله)، قد كان من هذين الرجلين ما قد رأيتِ، وقد تردد مراراً كثيرة ورددتِهما ولم تأذني لهما، وقد سألاني أن أستأذن لهما عليكِ». فقالت: «والله لا آذن لهما ولا أكلمهما كلمة من رأسي حتى ألقى أبي فأشكوهما إليه بما صنعاه وارتكباه مني»(3).

وفي قصة الاسترضاء أيضاً لما دخلا عليها، قالت (علیها السلام): «نشدتكما بالله هل سمعتما رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: فاطمة بضعة مني، فمن آذاها فقد آذاني». قالا: نعم. فرفعت يدها إلى السماء فقالت: «اللهم إنهما قد آذياني، فأنا أشكوهما إليك وإلى رسولك، لا والله لا أرضى عنكما أبداً حتى ألقىأبي

ص: 309


1- وسائل الشيعة: ج2 ص412 ب6 ح2503.
2- بحار الأنوار: ج44 ص327 ب37.
3- علل الشرائع: ج1 ص186 ب149 ح2.

..............................

رسول الله وأخبره بما صنعتما، فيكون هو الحاكم فيكما»(1).

وروي: أن قوماً مشاةً أدركهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) فشكوا إليه شدة المشي. فقال لهم: «استعينوا بالنسل»(2).

وسأل معاوية بن عمار أبا عبد الله (علیه السلام)ك عن رجل عليه دين أعليه أن يحج؟. قال: «نعم، إن حجة الإسلام واجبة على من أطاق المشي من المسلمين، ولقد كان أكثر من حج مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) مشاةً، ولقد مر رسول الله (صلی الله علیه و آله) بكراع الغميم فشكوا إليه الجهد والطاقة والإعياء. فقال: شدوا أزركم واستبطنوا ففعلوا ذلك فذهب ذلك عنهم»(3).

وعن إبراهيم بن عبد الحميد، عن أبيالحسن (علیه السلام)، قال: «أتى رسول الله (صلی الله علیه و آله) قوم فشكوا إليه سرعة نفاد طعامهم.فقال(صلی الله علیه و آله): تكيلون أو تهيلون؟ فقالوا: نهيل يا رسول الله،يعنون الجزاف.فقال لهم:كيلوا فإنه أعظم للبركة»(4).

وعن عيسى بن جعفر العلوي، عن آبائه (علیهم السلام): أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: «مر أخي عيسى (علیه السلام) بمدينة وإذا في ثمارها الدود فشكوا إليه ما بهِم. فقال: دواء هذا معكم وليس تعلمون، أنتم قوم إذا غرستم الأشجار صببتم التراب وليس هكذا يجب، بل ينبغي أن تصبوا الماء في أصول الشجر ثم تصبوا التراب؛ لكيلا يقع فيه الدود، فاستأنفوا كما وصف فذهب ذلك عنهم»(5).

ص: 310


1- كتاب سليم بن قيس: ص869 الحديث الثامن والأربعون.
2- من لا يحضره الفقيه: ج2 ص295 باب المشي في السفر ح2502.
3- من لا يحضره الفقيه: ج2 ص295 باب المشي في السفر ح2503.
4- تهذيب الأحكام: ج7 ص163 ب13 ح27.
5- وسائل الشيعة: ج19 ص32 ب2 ح24083.

..............................

وعن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: «ما مطر قوم إلا برحمته، وما قحطوا إلا بسخطه». وقال (صلی الله علیه و آله): «قال ربي: لو أن عبادي أطاعوني لسقيتهم المطر بالليل، وأطلعت عليهم الشمس بالنهار، ولم أسمعهم صوتالرعد». ووفد قوم إليه (صلی الله علیه و آله) فشكوا إليه القحط. فقال: «اجثوا على ركبكم، وتضرعوا إلى ربكم، واسألوا يسقكم». ففعلوا ذلك فسقوا حتى سألوا أن يكشف عنهم»(1).

وفي رواية أبي الجارود، عن أبي جعفر (علیه السلام) في قوله تعالى: « «قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ»(2)، فإنها نزلت لما هاجر رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى المدينة وأصاب أصحابه الجهد والعلل والمرض، فشكوا ذلك إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فأنزل الله: «قُلْ» لهم يا محمد «أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ»، أي: إنه لا يصيبكم إلاّ الجهد والضر في الدنيا، فأما العذاب الأليم الذي فيه الهلاك لايصيب إلاّ القوم الظالمين»(3).

وروي: أن أهل المدينة مطروا مطراً عظيماً، فخافوا الغرق فشكوا إليه. فقال (صلی الله علیه و آله): «اللهم حوالينا ولا علينا». فانجابت السحابعن المدينة على هيئة الإكليل لا تمطر في المدينة وتمطر حواليها، فعاين مؤمنهم وكافرهم أمراً لم يعاينوا مثله(4).

وروي: أن رجلاً مات وإذا الحفارون لم يحفروا شيئاً، فشكوا إلى رسول

ص: 311


1- مستدرك الوسائل: ج6 ص190 ب7 ح6740.
2- سورة الأنعام: 47.
3- بحار الأنوار: ج9 ص204 ب1 ضمن ح68.
4- الخرائج والجرائح: ج1 ص29 فصل من روايات العامة.

..............................

الله (صلی الله علیه و آله)، وقالوا: حديدنا لا يعمل في الأرض كما نضرب في الصفا. قال: «ولِمَ، إن كان صاحبكم لحسن الخلق، ائتوني بقدح من ماء». فأدخل يده فيه ثم رشه على الأرض رشاً، فحفر الحفارون فكأنما رمل يتهايل عليهم(1).

وعن جابر بن عبد الله: اشتد علينا في حفر الخندق كدية، فشكوا إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فدعا بإناء من ماء فتفل فيه، ثم دعا بما شاء الله أن يدعو، ثم نضح الماء على تلك الكدية فعادت كالكندر(2). إلى غيرها من الروايات التي تبين جواز الشكوى إلىرسول الله (صلی الله علیه و آله) وربما رجحانها.

بعد وفاة القائد المؤسس

مسألة: هل أن قولها (علیها السلام): «واختل قومك» يكشف عن مصداق لقاعدة كلية هي أن اختلال النظم أو الأمر سنة اجتماعية تحكم المجتمعات - عادة - بعد وفاة القائد المؤسس، أم أنها صغرى جزئية، والجزئي لا يكون كاسباً ولامكتسباً؟. الظاهر: إنها قضية خارجية ولا يمكن التعميم إلا بإلغاء الخصوصية وكشف الملاك، عبر معرفة شتى العوامل التي تؤدي إلى ذلك، نعم ربما يقال: بأنها قضية شبه طبيعية أي من طبيعة المجتمع ذلك، وسيأتي البحث عنه في موضع آخر إن شاء الله تعالى.

قولها (علیها السلام): «فقدناك» الفقد أن يرى الشيء غائباً بعد ما كان حاضراً.

«الوابل»: المطر، بل المطر الشديد الضخم القطر، كما في اللغة(3).

ص: 312


1- بحار الأنوار: ج17 ص377-378 ب4 ح45.
2- بحار الأنوار: ج17 ص382 ب4 ضمن ح50.
3- انظر لسان العرب: ج11 ص720 مادة (وبل).

..............................

«اختل قومك»: من الخلل أي تفرقوا عن الحق وحصل فيهم الخلل.«فاشهدهم»: الشهود الحضور، وهو يحمل على المعنى الحقيقي لإمكانه كما سبق، فلا مجال لحصره في الحمل على المعنى المجازي فقط كما لا يخفى.

انحراف القوم

مسألة: يدل قول الصديقة الطاهرة (علیها السلام) «وقد نكبوا» - مضافا إلى سائر الأدلة - على انحرافهم وعدم عدالة كثير منهم، على خلاف من ادعى عدالة جميع الصحابة. فإن «نكبوا»: أي انحرفوا عن الطريق. و(نكب) بفتح الكاف وكسره كنصر وفرح: أي عدل ومال.

وفي اللغة: نَكَبَ عن الشيءِ وعن الطريق يَنْكُب نَكْباً ونُكُوباً، ونَكِبَ نَكَباً، ونَكَّبَ، وتَنَكَّبَ: عَدَلَ؛ قال الأَزهري: وسمعت العرب تقول: نَكَبَ فلانٌ عن الصواب يَنْكُبُ نُكُوباً، إِذا عَدَل عنه(1).

وعن زيد بن وهب: أن علياً (علیه السلام) قال للناس - وهو أول كلام له بعد النهروان وأمور الخوارج التي كانت - فقال: «يا أيها الناس، استعدوا إلى عدو في جهادهم القربة من الله وطلب الوسيلة إليه، حيارى عن الحق لا يبصرونه، وموزعين بالكفر والجور لا يعدلون به، جفاة عن الكتاب، نكب عنالدين، يعمهون في الطغيان، ويتسكعون في غمرة الضلال، «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ»(2)،وتوكلوا على الله وكفى بالله وكيلاً وكفى بالله

ص: 313


1- لسان العرب: ج1 ص770 مادة (نكب).
2- سورة الأنفال: 60.

..............................

نصيراً»(1).

هذا وفي بعض النسخ: (واختل قومك لما غبت وانقلبوا)، فيكون إشارة إلى قوله تعالى: «أَفإِنْ مّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَىَ أَعْقَابِكُمْ»(2).

روى الواقدي وغيره من نقلة أخبارهم: أن النبي (صلی الله علیه و آله) لما فتح خيبر اصطفى لنفسه قرى من قرى اليهودي، فنزل جبرئيل بهذه الآية: «وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ»(3). فقال محمد (صلی الله علیه و آله): «ومن ذو القربى وما حقه؟». قال: فاطمة تدفع إليها فدكاً والعوالي. فاستغلتها حتى توفي أبوها، فلما بويع أبو بكر منعها فكلمته في ردها عليها. وقالت: «إنها لي وإن أبي دفعها إليَّ». فقال أبوبكر: فلا أمنعكِ ما دفع إليكِ أبوكِ. فأراد أن يكتب لها كتاباً فاستوقفه عمر، وقال: إنها امرأة فطالبها بالبينة على ما ادعت. فأمرها أبو بكر فجاءت بأم أيمن، وأسماء بنت عميس مع علي (علیه السلام) فشهدوا بذلك. فكتب لها أبو بكر(4)، فبلغ ذلك عمر فأخذ الصحيفة ومزقها فمحاها، فحلفت أن لا تكلمهما وماتت ساخطة عليهما(5).

وفي البخاري: أن فاطمة أرسلت إلى أبي بكر وسألته ميراثها من رسول الله (صلی الله علیه و آله) مما أفاء الله عليه بالمدينة من فدك وما بقي من خمس خيبر. فقال أبو بكر: إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: لا نورث ما تركناه صدقة، وإنما يأكل آل محمد من هذا

ص: 314


1- الغارات: ج1 ص21-22 في استنفاره الناس.
2- سورة آل عمران: 144.
3- سورة الإسراء: 26.
4- ولا يبعد أن أبابكر كان يكتب لها الكتاب ثم يرسل إلى عمر لكي يمزقه.
5- نهج الحق: ص357 مناوأة فاطمة وغصب فدك.

..............................

المال، وإني والله لا أغير شيئاً من صدقة رسول الله (صلی الله علیه و آله) عن حالها التي كانت عليه. وأبى أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً، فوجدت فاطمة على أبي بكر فهجرته فلم تتكلم معه حتى توفيت، وعاشت بعد النبي (صلی الله علیهو آله) ستة أشهر، فلما توفيت دفنها علي ليلاً ولم يؤذن بها أبو بكر، وصلى عليها علي (علیه السلام) (1).

وروى العلامة المجلسي(رحمة الله) في البحار: قال عمر - حين حضره الموت -: أتوب إلى الله من ثلاث: من اغتصابي هذا الأمر أنا وأبو بكر من دون الناس، ومن استخلافي عليهم، ومن تفضيلي المسلمين بعضهم على بعض. وقال أيضاً: أتوب إلى الله من ثلاث: من ردي رقيق اليمن، ومن رجوعي عن جيش أسامة بعد أن أمره رسول الله (صلی الله علیه و آله) علينا، ومن تعاقدنا على أهل البيت إن قبض رسول الله أن لا نولي منهم أحداً. ورووا عن عبد الله بن شداد بن الهاد، قال: كنت عند عمر وهو يموت فجعل يجزع. فقلت: يا أمير، أبشر بروح الله وكرامته. فجعلت كلما رأيت جزعه قلت هذا، فنظر إليَّ فقال: ويحك فكيف بالممالأة على أهل بيت محمد (صلی الله علیه و آله)(2).

وعن عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه، قال: قال أبو بكر في مرضه الذي قبض فيه: أما إني لا آسى من الدنيا إلا على ثلاث فعلتها ووددت أني تركتها، وثلاثتركتها ووددت أني فعلتها، وثلاث وددت أني كنت سألت عنهن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أما التي وددت أني تركتها: فوددت أني لم أكن كشفت بيت فاطمة وإن كان أعلن عليَّ الحرب، ووددت أني لم أكن

ص: 315


1- نهج الحق: ص360 مناوأة فاطمة وغصب فدك.
2- بحار الأنوار: ج30 ص122-123 ب19 ح1.

..............................

أحرقت الفجاءة وأني قتلته سريحاً أو أطلقته نجيحاً، ووددت أني يوم سقيفة بني ساعدة كنت قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين عمر أو أبي عبيدة، فكان أميراً وكنت وزيراً. الخبر (1).

وروى أبان عن سليم بن قيس في قصة موت معاذ بن جبل بالطاعون حيث قال معاذ: ويل لي ويل لي ويل لي ويل لي، فلما سُئل عن ذلك قال: لموالاتي عدو الله على ولي الله. فقالوا له: إنك لتهجر. فقال: والله ما أهجر هذا رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعلي بن أبي طالب (علیه السلام) يقولان: «يا معاذ بن جبل، أبشر بالنار أنت وأصحابك الذين قلتم: إن مات رسول الله أو قتل زوينا الخلافة عن علي فلن يصل إليها» الحديث(2).

المؤامرة على أهل البيت (علیهم السلام)

مسألة: في بعض النسخ هكذا:

إنا فقدناك فقد الأرض وابلها *** واجتث أهلك مذ غيبت واغتصبوا

وهو يدل على عظيم المصيبة التي حلّ بأهل بيت رسول الله (صلی الله علیه و آله) بمجرد أن غاب عنهم الرسول (صلی الله علیه و آله) وارتحل إلى ربه عزوجل، ومن المعلوم حرمة ذلك أشد الحرمة.

ص: 316


1- الخصال: ج1 ص171 قول أبي بكر لا آسى من الدنيا إلا على ثلاث ح228.
2- كتاب سليم بن قيس: ص816-825 الحديث السابع والثلاثون.

وكل أهل له قربى ومنزلة *** عند الإله على الأدنين مقترب

اشارة

-------------------------------------------

الحقوق الامتدادية

مسألة: من مصاديق حق الشخص: الحقوق الامتدادية، ومنها حقوقه في ذريته وأهله طولياً وعرضياً(1)، فكل إكرام للأهل عُدّ إكراماً للشخص الواجب الإكرام، واجب في الجملة، إذ (يحفظ المرء في ولده)(2).

وكلامها (علیها السلام) دليل على أن من له منزلة وقرب من الله تعالى فإن شيئاً من منزلته وقربه يترشح على أهله وأقربائه في الجملة عند الله تعالى، ولا عكس في المبعد(3)، وبذلك يحكم العقل، وعليه جرت الشرائع كلها.

ويعدّ كلامها (علیها السلام) من الأدلة على نقض القاعدة الماركسيةالتي تحصر للشخص ما يكتسبه بنفسه فقط -- بل أقل من ذلك(4) -- بالمعنى الضيق الذي فسروه، والتي استندوا إليها في نفي الإرث باعتبار أن الإرث ليس من جهد الشخص فيكون للدولة، فإنها قاعدة لا دليل عليها بل العقل على خلافها، والتفصيل في محله(5).

قولها (علیها السلام): «كل أهل» أي كل جماعة ...

ص: 317


1- الطولية في الأبناء والآباء، والعرضية في الأخوة والأخوات وأبناء العمومة وما أشبه.
2- من أقوال رسول الله (صلی الله علیه و آله) وردت بمعناه روايات متعددة، ذكرته الصديقة الطاهرة (علیها السلام) في خطبتها التي أوردتها في المسجد النبوي الشريف، راجع الاحتجاج: ج1 ص 103 احتجاج فاطمة الزهراء (علیها السلام) على القوم لما منعوها فدك.
3- أي أن المبعد من رحمة الله والمغضوب لا يترشح من بعده لأهله عند الله.. إذ لا تزور وازرة وزر أخرى.
4- حيث قالوا: بأن على كل شخص أن يعمل بقدر طاقته ولا يستفيد إلا بقدر حاجته.
5- راجع (الفقه: الاقتصاد) للإمام المؤلف (قدس سره).

..............................

«قربى»: أي تقرب إلى الله عزوجل بالإيمان والعمل الصالح.

«منزلة»: أي درجة ومرتبة.

«الأدنين»: جمع أدنى أي الأقرب.

وحاصله: إنا أهل بيت رسول الله (صلی الله علیه و آله) والأقربون إليه فكيف يتعامل معنا هكذا ظلماً وجوراً، وغصباً وهتكاً؟.

فهذا البيت إشارة إلى أن القوم غصبوا ميراثنا مع إنا قربى الرسول (صلی الله علیه و آله) ونستحق ميراثه، وقد تقدم أن المراد بالميراث إماالإرث حقيقة لأن القوم ادعوا أن فدكاً(1) إرث وأن فاطمة (علیها السلام) لا ترث، وأما الإرث بمعناه الأعم مما يتركه الميت سواء بالنحلة أم بالميراث، فيتصرف فيهما الورثة بعده.

ص: 318


1- كلمة فدك وردت منصرفة وغير منصرفة.

أبدت رجال لنا نجوى صدورهم...

اشارة

-------------------------------------------

أبدت رجال لنا نجوى(1) صدورهم *** لما مضيت(2) وحالت دونك الترب(3)

ضغائن الصدور

مسألة: يستحب بيان أن بعض الصحابة أبدوا ما في صدورهم من الضغائن بعد فقد الرسول (علیه السلام).

وهذا الأمر قد يكون مستحباًً، وقد يكون واجباً، حسب اختلاف الموارد، بالإضافة إلى أن بيان مثل ذلك يكون درساًً للأجيال الآتية حتى يعلموا أن القائد إذا مات أو قُتل يختلف الناس بعده - عادة - مما يوجب اتخاذ العُدة للحد من الاختلاف والفتن وسائر المفاسد بالقدر الممكن.

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعلي (علیه السلام): «اتق الضغائن التي لك في صدور من لايظهرها إلا بعد موتي، أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون». ثم بكى النبي (صلی الله علیهو آله) فقيل: مم بكاؤك يا رسول الله؟. فقال (صلی الله علیه و آله): «أخبرني جبريل (علیه السلام) أنهم يظلمونه ويمنعونه حقه، ويقاتلونه ويقتلون ولده ويظلمونهم بعده»(4).

وعن علي بن أبي طالب (علیه السلام) قال: «كنت أمشي مع النبي (صلی الله علیه و آله) في بعض طرق المدينة،فأتينا على حديقة وهي الروضة ذات الشجر. فقلت: يا رسول الله،

ص: 319


1- في بعض النسخ: (فحوى).
2- وفي بعض النسخ: (لما نأيت). وفي بعضها: (لما قضيت). وفي بعضها: (لما فقدت وكل الإرث قد غصبوا).
3- وفي بعض النسخ: (حالت دونك الحجب)، وفي بعضها: (حالت دونك الكثب)، وفي بعضها: (حالت بيننا الكثب)
4- كشف اليقين: ص467 المبحث الخامس والثلاثون في أمر الله تعالى النبي (صلی الله علیه و آله) بتبليغ فضائل علي (علیه السلام).

..............................

ما أحسن هذه الحديقة!. فقال: ما أحسنها، ولك في الجنة أحسن منها. ثم أتينا على حديقة أخرى فقلت: يا رسول الله، ما أحسنها من حديقة!. فقال: لك في الجنة أحسن منها. حتى أتينا على سبع حدائق أقول: يا رسول الله، ما أحسنها!. فيقول (صلی الله علیه و آله): لك في الجنة أحسن منها. فلما خلا له الطريق اعتنقني وأجهش باكياً فقلت: يا رسول الله، ما يبكيك؟. قال (صلی الله علیه و آله): ضغائن في صدور أقوام لايبدونها إلا بعدي. فقلت: في سلامة من ديني؟.قال (صلی الله علیه و آله): في سلامة من دينك»(1).

وعن زيد بن أرقم، قال: سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول لعلي بن أبي طالب (علیه السلام): «أنت سيد الأوصياء، وابناك سيدا شباب أهل الجنة، ومن صلب الحسين يخرج الله عزوجل الأئمة التسعة، فإذا متَُ ظهرت لك الضغائن في صدور قوم، ويمنعونك حقك ويتمالون عليك». وبإسناده عن زيد بن أرقم، قال: ما كنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلا ببغضهم علي بن أبي طالب وولده (علیهم السلام)(2).

وعن أبان بن أبي عياش، عن سليم بن قيس، قال: كنت عند عبد الله بن عباس في بيته ومعنا جماعة من شيعة علي (علیه السلام)، فحدثنا فكان فيما حدثنا أن قال: يا إخوتي، توفي رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوم توفي فلم يوضع في حفرته حتى نكث الناس وارتدوا وأجمعوا على الخلاف، واشتغل علي بن أبي طالب (علیه السلام) برسول الله (صلی الله علیه وآله) حتى فرغ من غسله وتكفينه وتحنيطه ووضعه في حفرته، ثم أقبل على

ص: 320


1- كشف الغمة: ج1 ص98 في محبة الرسول (صلی الله علیه و آله) إياه وتحريضه على محبته وموالاته ونهيه عن بغضه.
2- بحار الأنوار: ج36 ص320 ب41 ح172.

..............................

تأليف القرآن(1) وشغل عنهم بوصية رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ولم يكن همته الملك لما كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) أخبره عن القوم، فلما افتتن الناس بالذي افتتنوا به من الرجلين، فلم يبق إلا علي وبنو هاشم وأبو ذر والمقداد وسلمان في أناس معهم يسير، قال عمر لأبي بكر: يا هذا، إن الناس أجمعين قد بايعوك ما خلا هذا الرجل وأهل بيته وهؤلاء النفر، فابعث إليه.

فبعث إليه ابن عم لعمر يقال له: قنفذ.

فقال له: يا قنفذ، انطلق إلى علي فقل له أجب خليفة رسول الله!.

فانطلق فأبلغه، فقال علي (علیه السلام): «ما أسرع ما كذبتم على رسول الله، نكثتم وارتددتم، والله ما استخلف رسول الله غيري، فارجع يا قنفذ فإنما أنت رسول فقل له: قال لك علي: والله ما استخلفك رسول الله، وإنك لتعلم من خليفةرسول الله» الحديث(2).

وفيه إشارة إلى بعض تلك الضغائن التي كانت في صدورهم فأبدوها بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله).

الحقد الخفي

مسألة: المخفي من الحقد والضغينة من رذائل الأخلاق لو كان بالنسبة إلى غير المعصومين وما لم يظهر، وأما بالنسبة لهم (علیهم السلام) فإنه من علائم النفاق ومن أشدّ المحرمات، والحاقد عليهم وإن أخفى حقده آثم باعتبار اختيارية الأمر ولو باختيارية المقدمات، ولو أظهره ازداد إثماً.

ص: 321


1- أي تأليف تفسيره وعلومه، وإلا فالقرآن جمع كما هو اليوم في عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله) وبأمر منه (صلی الله علیه و آله).
2- كتاب سليم بن قيس: ص862-868 الحديث الثامن والأربعون.

..............................

نفاق القوم وعصيانهم

مسألة: إن (إبداء القوم نجوى صدورهم) يكشف - بتصريحها (علیها السلام) - عن نفاقهم أولاً، ثم تجاهرهم بالمعصية ثانياً، وهذا البيت شهادة منها بذلك وهي صادقة مصدقة، وعندئذ كيف يمكن إتباع المنافقين والعصاة؟.

وأما السر في تنكيرها كلمة الرجال، فقد يكون لأنه الأبلغ فيالدلالة من التعريف؛ فإن التنكير قد يكشف عن جو التقية والرعب والرهبة الذي كان حاكماً آنذاك على الناس، وقد يكون لغرض دفع المستمعين للتحقيق مما يسبب علوق القضية بأذهانهم أكثر فأكثر، وقد يدفع إلى الفحص في دائرة أوسع نظراً لوجود العلم الإجمالي، وربما يكتشف أمور أخرى أيضاً.

قولها (علیها السلام): «أبدت» بمعنى أظهرت.

«نجوى»: المخفي من الحقد والضغينة - بقرينة المقام - وهو اسم مصدر لنجوته، والمعنى: إن القوم أظهروا ما في صدورهم من الحقد والعداوة.

«لما مضيت»: كناية عن الموت، ومن الواضح أن إثبات الشيء لا ينفي ما عداه إذ كان هذا البعض وغيرهم قد أبدوا في زمان الرسول (صلی الله علیه و آله) أيضاً نجوى صدورهم، ولكن ما أبدوه بعد وفاته كان أشد وأقسى وأكثر وأوضح وأكثر علانية.

«حالت»: الحيلولة هنا ظاهرية وليست واقعية كما هو واضح.

«الترب»: التراب والتربة.

وفي بعض النسخ: «الكثب» جمع كثيب أي: ما اجتمع من الرمل.

ص: 322

تجهمتنا رجال واستخف بنا *** لما فقدت وكل الأرض مغتصب

اشارة

-------------------------------------------

تجهمتنا رجال واستخف بنا *** لما فقدت وكل الأرض(1) مغتصب(2)

حرمة التجهم والاستخفاف

مسألتان: يحرم التجهم بأهل البيت (علیهم السلام) كما يحرم الاستخفاف بهم.

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «حرمت الجنة على من ظلم أهل بيتي، وقاتليهم، والمعين عليهم، ومن سبهم «أُولئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلايَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ»(3)»(4).

وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه أبي ليلى، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من نفسه، وتكون عترتي إليه أعز من عترته، ويكون أهلي أحب إليه من أهله، وتكون ذاتي أحب إليه منذاته»(5).

وعن حنان بن سدير، عن سديف المكي، قال: حدثني محمد بن علي (علیه السلام) وما رأيت محمدياً قط يعدله، قال: «حدثني جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: نادى رسول الله (صلی الله علیه و آله) في المهاجرين والأنصار فحضروا بالسلاح، وصعد النبي (صلی الله علیه و آله) المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا معاشر المسلمين، من أبغضنا أهل البيت بعثه الله يوم القيامة يهودياً. قال جابر: فقمت إليه فقلت: يا رسول الله، وإن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟!. فقال: وإن شهد أن

ص: 323


1- وفي بعض النسخ: (كل الإرث)
2- وفي بعض النسخ: (بعد النبي وكل الخير مغتصب)، وفي بعضها: (إذ غبت عنا ونحن اليوم نغتصب)، وفي بعضها: (جهراً وقد أدركونا بالذي طلبوا).
3- سورة آل عمران: 77.
4- جامع الأخبار: ص160 الفصل الخامس والعشرون والمائة.
5- علل الشرائع: ج1 ص140 ب117 ح3.

..............................

لاإله إلا الله؛ فإنما احتجز من سفك دمه أو يؤدي الجزية عن يد وهو صاغر. ثم قال (صلی الله علیه و آله): من أبغضنا أهل البيت بعثه الله يوم القيامة يهودياً، فإن أدرك الدجال كان معه، وإن هو لم يدركه بعث في قبره فآمن به، إن ربي عزوجل مثل لي أمتي في الطين وعلمني أسماءهم كما علم آدم الأسماء كلها، فمر بي أصحاب الراياتفاستغفرت الله لعلي وشيعته»(1).

وعن جابر، عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «من لم يعرف سوء ما أتى إلينا من ظلمنا، وذهاب حقنا، وما ركبنا به، فهو شريك من أتى إلينا فيما ولينا به»(2).

وروي: أن العباس شكا إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) ما يلقون من قريش من تعبيسهم في وجوههم، وقطعهم حديثهم عند لقائهم. فغضب (صلی الله علیه و آله) غضباً شديداً حتى احمرّ وجهه ودرّ عرق بين عينيه، وقال: «والذي نفسي بيده لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم لله ورسوله». وفي رواية أخرى قال (صلی الله علیه و آله): «ما بال أقوام إذا رأوا الرجل من أهل بيتي قطعوا حديثهم، والله لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبهم لله ولقرابتهم مني»(3).

وفي البحار عن أبي هريرة، عنه (صلی الله علیه و آله): «ما بال أقوام يؤذون نسبي وذا رحمي، ألا من آذى نسبي وذا رحمي فقد آذاني، ومن آذاني فقدآذى الله عزوجل»(4).

ص: 324


1- الأمالي للمفيد: ص126 المجلس الخامس عشر ح4.
2- بحار الأنوار: ج27 ص55 ب1 ح11.
3- الصوارم المهرقة: ص115-116.
4- بحار الأنوار: ج27 ص225 ب10 ح19.

..............................

وعن هشام بن سالم، عن الصادق جعفر بن محمد (علیه السلام)، قال: «من جالس لنا عائباً، أو مدح لنا قالياً، أو وصل لنا قاطعاً، أو قطع لنا واصلاً، أو والى لنا عدواً، أو عادى لنا ولياً، فقد كفر بالذي أنزل السبع المثاني والقرآن العظيم»(1).

وعن ابن عباس، قال: قلت للنبي (صلی الله علیه و آله): أوصني؟. قال: «عليك بمودة علي بن أبي طالب (علیه السلام)، والذي بعثني بالحق نبياً لا يقبل الله من عبد حسنة حتى يسأله عن حب علي بن أبي طالب (علیه السلام) وهو تعالى أعلم؛ فإن جاءه بولايته قبل عمله على ما كان منه، وإن لم يأت بولايته لم يسأله عن شيء ثم أمر به إلى النار. يا ابن عباس، والذي بعثني بالحق نبياً إن النار لأشد غضباً على مبغض علي (علیه السلام) منها على من زعم أن لله ولداً. يا ابن عباس، لو أن الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين اجتمعوا على بغضه ولن يفعلوا لعذبهمالله بالنار». قلت: يا رسول الله، وهل يبغضه أحد؟. قال: «يا ابن عباس، نعم يبغضه قوم يذكرون أنهم من أمتي لم يجعل الله لهم في الإسلام نصيباً. يا ابن عباس، إن من علامة بغضهم له تفضيلهم من هو دونه عليه، والذي بعثني بالحق ما بعث الله نبياً أكرم عليه مني، ولا أوصياء أكرم عليه من وصيي علي». قال ابن عباس: فلم أزل له كما أمرني رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأوصاني بمودته، وإنه لأكبر عملي عندي(2).

وعن ابن عباس: أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: «المخالف لعلي بعدي كافر،

ص: 325


1- وسائل الشيعة: ج16 ص264 ب38 ح21523.
2- بحار الأنوار: ج27 ص219-220 ب10 ح4.

..............................

والشاك به مشرك مغادر، والمحب له مؤمن صادق، والمبغض له منافق، والمحارب له مارق، والراد عليه زاهق، والمقتفي لأثره لاحق»(1).

ثم إنه ينبغي ملاحظة أن ما لا يعد تجهماً واستخفافاً بالنسبة إلى شخص قد يكون تجهماً واستخفافاً بالنسبة لشخص آخر، فعدم القيام مثلاً لرجل من عامة الناس قد لا يكون استخفافاً به لكنهبالنسبة إلى عالم كبير يعد استخفافاً.. وبالنسبة إلى أهل البيت (علیهم السلام) الأمر أدق وأعظم، وبذلك يمكن الاستناد في وجوب إقامة المواليد ومجالس العزاء عليهم - في الجملة - إلى هذا الدليل باعتبار أن تركها استخفاف بشأنهم في الجملة، وكذلك عدم الدفاع عنهم لو تعرضوا لهجوم على صفحات الجرائد أو في مختلف وسائل الإعلام، فإنه قد يكون نوعاً من التجهم أو الاستخفاف بهم وبشأنهم وبحقهم (علیهم السلام).

هذا كله بالنسبة إلى أهل البيت (علیهم السلام) أما بالنسبة إلى غيرهم من عامة الناس فالحكم يختلف باختلاف الموارد وينقسم إلى الأحكام الخمسة.

قولها (علیها السلام): «تجهمتنا» التجهم: عبارة عن تقطيب الوجه وعدم البشر، والاستقبال بوجه كريه، يقال: تجهمته إذا كلحت في وجهه، ورجل جهم الوجه أي كالح، وتجهمه وتجهم له: إذا استقبله بوجه كريه، وتجهم: أي استقبله بما يكره.

وفي بعض النسخ: (تهجمتنا) أي هجمت علينا.

وفي بعضها: (تهضمتنا) من الهضم أي الظلم.

ص: 326


1- بحار الأنوار: ج27 ص226 ب10 ح22.

..............................

تجهم بعض الصحابة

مسألة: يستحب بيان أن بعض الصحابة - بعد وفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله) - تجهموا على أهل البيت (علیهم السلام) واستخفوا بهم.

وهذا من باب الموضوع، وما ذكرناه في البحث الآنف من باب الحكم، فإن التجهم - الذي قام به بعض الصحابة تجاه أهل البيت (علیهم السلام) - كان حراماً بل من أشد المحرمات، وكذلك الاستخفاف بالنسبة إليهم كما لا يخفى.

رثاء الفقيد

مسألة: يجوز لصاحب المصيبة أن يرثي فقيده بمثل هذا الرثاء مع رعاية سائر الموازين.

والمقصود من قولها (علیها السلام): «.. وكل الأرض مغتصب»، الأراضي التي كانت منحة من الرسول (صلی الله علیه و آله) إياها (علیها السلام) من العوالي وفدك، ويمكن أن يراد من كل الأرض: أراضي البلاد الإسلامية كلها، فإنها بأجمعها كان المفروض أن تكون تحت سلطة خليفة رسول الله (صلی الله علیه و آله) الذي نصبه وعيّنه بأمر السماء وفي يوم الإنذار ويوم غدير خم وفي غيرهما من الأيام، وهو الإمام علي بن أبي طالب (عليه أفضل الصلاة والسلام).ويمكن أن يراد باغتصاب الأرض المعنى الكنائي وهو القيادة الإسلامية التي زالت عن موضعها لأنهم (عليهم الصلاة والسلام) هم وراث الأرض بالمعنى الأعم، فسيطرة غيرهم عليها غير جائز، قال سبحانه: «أَنَّ الأَْرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ»(1)، وقال تعالى: «وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُ-ونَ

ص: 327


1- سورة الأنبياء: 105.

..............................

مَشَارِقَ الأَْرْضِ وَمَغَارِبَهَا»(1).

وفي بعض النسخ: (كل الإرث) أي إرث المال وإرث الخلافة.

الحكومات والكفاءات

مسألة: من المحرم تنحية الأكفاء وعزل الكفاءات، وهي سياسة الحكومات الاستبدادية عادة، والديمقراطية أحياناً.

أما الاستبدادية فلأن الكفاءات لا تخضع للمستبد، ولأنها(2) لا تستطيع التعامل إلا مع العبيد والإمعات..

وأما الديمقراطية فلصراع الخطوط ولتعارض المصالح أو للرؤى الحزبيةالضيقة.

وكان الذين أبعدوا أهل البيت (علیهم السلام) مجموعة من المستبدين الذين لم يكونوا يمتلكون الكفاءة الدينية ولا الدنيوية، وقد عبرت عنهم الصديقة الزهراء (علیها السلام) فيما مضى من كلامها ب- «نبغ خامل الأقلين»، و«بئس للظالمين بدلاً»، و«خسر هنالك المبطلون»، و…

وقد صرحوا هم بذلك كما قال الثاني: (كل الناس أفقه من عمر حتى المخدرات في البيوت)(3) إلى غير ذلك..

وكما قال الأول: (أقيلوني أقيلوني، فلست بخيركم)(4).

ص: 328


1- سورة الأعراف: 137.
2- أي الحكومات الاستبدادية.
3- كشف اليقين: ص63 ف3 ب1 المطلب الأول، المبحث الثاني العلم.
4- الطرائف: ج2 ص402 في استقالة أبي بكر من الخلافة.

..............................

الكفاءات الإلهية

مسألة: وأشد من ذلك حرمة مضايقة الكفاءات والاستخفاف بهم، وتتأكد الحرمة وتشتد في أهل بيت الرسول(صلی الله علیه و آله)؛ لأن الاستخفاف بهم استخفاف به (صلی الله علیه و آله) وهواستخفاف بالله عزوجل، وإيذائهم إيذاء له (صلی الله علیه و آله) وهو إيذاء الله تعالى، هذا أولا. وثانياً: لأنهم (علیهم السلام) القمة العليا في الكفاءات الأهلية والقرب من الله.. ومن الواضح اشتداد قبح التعدي والاستخفاف واشتداد العقوبة(1) كلما ازداد المعتدى عليه والمستخف به منزلة ومكانة ومقاماً.

أهكذا يمتثل أمر الرسول(صلی الله علیه و آله)

مسألة: من كلامها (علیها السلام) هذا وما سبقه ويلحقه، يعلم هل أن القوم امتثلوا أمر الله ورسوله في أهل البيت (علیهم السلام)(2) حيث قال تعالى: «قُلْ لاَ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى»(3)، وقال (صلی الله علیه و آله): «إني تارك فيكم الثقلين كتاب اللهوعترتي أهل بيتي»(4). قولها (علیها السلام): «استخف» بصيغة المجهول. و«المغتصب» بالفتح أي المغصوب. أي لم يقدرونا بل استخفوا بنا ومنعونا حقنا من الإرث في الخلافة وفدك.

ص: 329


1- ويكتشف منه بالبرهان الآني اشتداد الحرمة. (منه (قدس سره)).
2- من غصب الخلافة وزويها عن أمير المؤمنين (علیه السلام)، ومنع الزهراء (علیها السلام) إرثها وما نحلها رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ومن ثم الهجوم على دارها وحرق الدار عليها وضربها وكسر ضلعها وإسقاط جنينها ...، وإخراج أمير المؤمنين (علیه السلام) ملبباً بحمائل سيفه ليبايع القوم، وغير ذلك مما جرى على أهل البيت (علیهم السلام) من ظلم وقتل وتشريد مما يطول شرحه.
3- سورة الشورى: 23.
4- مستدرك الوسائل: ج7 ص255 ب47 ح8181.

وكنت بدراً ونوراً يستضاء به *** عليك ينزل من ذي العزة الكتب

اشارة

-------------------------------------------

وكنت بدراً ونوراً يستضاء به *** عليك ينزل(1) من ذي العزة الكتب

ألقاب ممدوحة

مسألة: يستحب مخاطبة الرسول (صلی الله علیه و آله) بالألقاب التي خاطبته بها الصديقة الطاهرة (علیها السلام) كالبدر والنور وما أشبه ذلك، وهكذا بالنسبة إلى سائر المعصومين (علیهم السلام).

وفي القرآن الكريم في وصفه (صلی الله علیه و آله): «وَسِرَاجاً مُنِيراً»(2). ومن شعر العباس عم النبي (صلی الله علیه و آله) في وصفه (صلوات الله عليه وعلى آله الطاهرين) (3):

يا مخجل الشمس والبدر المنير إذا *** تبسم الثغر لمع البرق منه أضا

كم معجزات رأينا منك قد ظهرت *** يا سيداً ذكره يشفي به المرضى

وقال الشاعر لما حملت آمنة بنت وهب (علیها السلام) برسول الله (صلی الله علیه و آله) وأتوا أهل مكة يهنئونها حيث أضاء النور في وجهها:

يا آمنة بشراكِ *** رب السما هناكِ

بمحمد مناكِ *** سبحان من أعطاكِ

هذا البشير *** هذا النذير

هذا هو البدر المنير *** يا حبذا بشراكِ

صلوا على خير الأنام *** المصطفى بدر التمام

يشفع إلى كل الأنام *** هو سيد الأملاك(4)

ص: 330


1- وفي بعض النسخ (تنزل).
2- سورة الأحزاب: 46.
3- بحار الأنوار: ج16 ص30 ب5.
4- الأنوار في مولد النبي (صلی الله علیه و آله): ص138.

..............................

وقال الشاعر في معجزة شق القمر:

والقمر البدر المنير شقه *** فقيل سحر عجب لما رأى(1)

وقال السيد الحميري رحمة الله في مدح أمير المؤمنين (علیه السلام):

علي أميرالمؤمنين وعزهم *** إذا الناس خافوا مهلكات العواقب

علي هو الحامي المرجى فعاله *** لدى كل يوم باسل الشر غاصب

علي هو المرهوب و الذائد الذي *** يذود عن الإسلام كل مناصب

علي هو الغيث الربيع مع الحبا *** إذا نزلت بالناس إحدى المصائب

علي هو العدل الموفق والرضا *** وفارج لبس المبهمات الغرائب

علي هو المأوى لكل مطرد *** شريد ومنحوب من الشر هارب

علي هو المهدي والمقتدى به *** إذا الناس حاروا في فنون المذاهب

علي هو القاضي الخطيب بقوله *** يجيء بما يعيى به كل خاطب

علي هو الخصم القوول بحجة *** يرد بها قول العدو المشاغب

علي هو البدر المنير ضياؤه *** يضيء سناه في ظلام الغياهب

علي أعز الناس جاراً وحامياً *** وأقتلهم للقرن يوم الكتائب

علي أعم الناس حلماً ونائلاً *** وأجودهم بالمال حقاً لطالب

علي أكف الناس عن كل محرم *** وأبقاهم لله في كل جاب

هل النور علة للهداية؟

مسألة: (النور) - وهو الرسول (صلی الله علیه و آله) - مقتض للهداية وليس علة تامة، وإلا لزم الجبر كما هو واضح، وعلى ذلك فالواجب على الجميع - كفائياً - توفير شروط الهداية،والمحرم على الجميع إيجاد موانعها،قال تعالى: «فَالَّذِينَ آمَنُوا بِ-هِ

ص: 331


1- المناقب: ج1 ص123 فصل في معجزات أفعاله (علیه السلام).

..............................

وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ»(1)، وقال جل وعلا: «يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ»(2)، فهو (صلی الله علیه و آله) قائم بالهداية بالمعنى الأول(3) وهو مع ذلك مقتضٍ لها، إذ لا تجب الخوارق لإيصال الرسالة إلى جميع البشرية مع وجود الموانع التي يصنعها الناس، ولذلك سيعرض الحق على القاصر يوم القيامة.

وأما المعنى الثاني للهداية(4) فقد يقال بعدم وجوبها عليه (صلی الله علیه و آله) وإن كان قد قام بما أمكن من باب اللطف.

قولها (علیها السلام): «نوراً» لعل الوجه في استخدامها صفة النور للنبي (صلی الله علیه و آله) لاالضياء الإشارة إلى مرآتيّته (صلی الله علیه و آله) لتعاليم الله وعدم استقلاليته عنه عزوجل، بل هو (الرسول) بمعنى الكلمة - وهذا لا ينافي ما فوض إليه في أمر التشريع والتكوين على تفصيل مذكور في محله - إذ أن الضياء يطلق على (ما منه النور) والنور يطلق على (ما عَبْرَهالنور)، قال تعالى: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً»(5)، فهو واسطة الفيض الإلهي هذا كله لو لوحظ منسوباً إلى الله تعالى وإلا - بأن لوحظ منسوباً للعالمين فإنه ضياء وغيره نور - بالقدر الذي استقى منه.

ص: 332


1- سورة الأعراف: 157.
2- سورة الصف: 8.
3- أي (إراءة الطريق).
4- أي (الإيصال للمطلوب).
5- سورة يونس: 5.

..............................

الاستضاءة بالرسول (صلی الله علیه و آله)

مسألة: الاستضاءة بالرسول (صلی الله علیه و آله) واجبة، وكذلك بالهداة والدعاة المعصومين (علیهم السلام).

و(يستضاء به) يراد به الفعلية أو الأعم منه ومن الشأنية، ولا يمنعه ما قيل من استعمال المشترك في أكثر من معنى لما ذكرناه في (الأصول).

لا يقال: الرسول (صلی الله علیه و آله) بدر ونور يستضاء به في حياته وبعد مماته، فكيف عبرت (علیها السلام) ب- (كنت)؟.

إذ يقال:

أولاً: من المحتمل تجرد (كان) هاهنا عن الزمن، كما في «وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً»(1) ونظائره، فتأمل(2).

ثانياً: يقال: إن الرسول (صلی الله علیه و آله) بوجوده الخارجي نوروبدر، وبوجوده عند الله حياً يرزق نور وبدر، وبكلماته وسيرته نور وبدر، وبامتداده عبر ذريته وغير ذلك نور وبدر، و(كان) بلحاظ فقد الأول فحسب، أو يراد الأعم والمضي بلحاظ الأول فقط.

ص: 333


1- سورة النساء: 17و92و104و111و170، سورة الفتح: 4.
2- إذ الظاهر أنها (علیها السلام) في مقام بيان نتائج فقده (صلی الله علیه و آله) وما نجم من الآثار السلبية عليه، وما سبق قرينة على ذلك (إنا فقدناك فقد الأرض وابلها..) الخ.

..............................

الإرشاد إلى الاستضاءة

مسألة: إرشاد الناس إلى الاستضاءة بنور رسول الله (صلی الله علیه و آله) وإقناعهم - عبر السبل العلمية والعاطفية وغيرها - بأنه (صلی الله علیه و آله) (النور) الظاهر بنفسه المظهر لغيره (من الحقائق الأخلاقية والتربوية والاجتماعية والسياسية وغيرها) - في قبال من يطرح بدائل أخرى، وفي مقابل تشكيكات المشككين - واجب.

فإن بيان ذلك وبيان مصاديقه من أحواله (صلی الله علیه و آله) وأخلاقه وحكمه ومواعظه وسلوكه و… تعظيم له وتعريف به مما يوجب التفاف الناس حوله (صلی الله علیه و آله) أكثر فأكثر، والتفاف الناس حول الرسول (صلی الله علیه و آله) واجب؛ لأنه يؤدي إلى الانقياد والطاعة والسعادة في الدارين قال سبحانه: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ»(1)، وقال تعالى: «أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَْمْرِ مِنْكُمْ»(2) إلى غير ذلك.

قولها (علیها السلام): «الكتب» أيالسور والآيات؛ لأن جبرئيل (علیه السلام) كان يأتي بها وينزلها على رسول الله (صلی الله علیه و آله) تارة بعد تارة ومرة بعد أخرى، وربما يكون هذا السبب في الإتيان بصيغة الجمع، والمعنى أنت صاحب القرآن والكتب السماوية والأعرف بأحكام الله، وقد حكمت لنا بالإرث والخلافة، ولكن القوم غيروا الكتاب وبدلوا السنة وغصبوا الخلافة والميراث.

ص: 334


1- سورة النساء: 64.
2- سورة النساء: 59.

..............................

السر في النزول التدريجي للقرآن

مسألة: هناك أسرار وحِكَم في النزول التدريجي للقرآن ينبغي الإشارة إليها وبيانها.

وربما يستفاد من قولها (علیها السلام): «عليك ينزل من ذي العزة الكتب» أن المراد بالكتب الأعم من القرآن الكريم، إذ أن ما كان ينزل على الرسول (صلی الله علیه و آله) ينقسم إلى قسمين: (الفرقان) و(الحديث القدسي)، وربما كانت الأقسام الأخرى أكثر قال تعالى: «وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى»(1).عن عبد الله بن سنان، قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام): عن القرآن والفرقان؟. قال: «القرآن جملة الكتاب وأخبار ما يكون، والفرقان المحكم الذي يعمل به، وكل محكم فهو فرقان»(2).

ثم إن هناك وجوه دقيقة في نزول القرآن على الرسول (صلی الله علیه و آله) بالتدريج خلال ثلاث وعشرين سنة، رغم نزوله عليه (صلی الله علیه و آله) دفعة واحدة ليلة القدر:

منها: إن نزوله الثاني التدريجي كان بلحاظ المقامات المختلفة والتطبيقات وشبه ذلك.

ومنها: إن النزول الثاني ربما تضمن أو تطلب شرحاً وتفسيراً وتوضيحاً.

ومنها:ما ذكر في وجه إطالة موسى (علیه السلام) الجواب في «قَالَ هِيَ عَصَايَ.. »(3).

ص: 335


1- سورة النجم: 3-4.
2- تفسير العياشي: ج1 ص9 في ما أنزل القرآن ح2.
3- سورة طه: 18.

..............................

ومنها: الترابط المستمر مع الله فإنه لطف منه تعالى به (صلی الله علیه و آله) وعروج له (صلی الله علیه و آله) وأنهحبل ربط مستمر وتكامل له (صلی الله علیه و آله).

ومنها: أن بيان التشريع الجديد وكذلك تطبيقه بحاجة إلى التدرج عادة، إلى غير ذلك.

قال العلامة المجلسي (قدس سره): في قوله: «وَقُرْآناً فَرَقْناهُ» أي: وأنزلنا عليك قرآناً فصلناه سوراً وآيات، أو فرقنا به الحق عن الباطل، أو جعلنا بعضه خبراً وبعضه أمراً وبعضه نهياً وبعضه وعداً وبعضه وعيداً، أو أنزلناه متفرقاً لم ننزله جميعاً إذ كان بين أوله وآخره نيف وعشرون سنة، «لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ» أي: على تثبت وتؤدة ليكون أمكن في قلوبهم، وقيل: لتقرأه عليهم مفرقاً شيئاً بعد شيء، «وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً»(1) على حسب الحاجة ووقوع الحوادث(2).

وجاء في علة تحريم الخمر عن الإمام الكاظم (علیه السلام): «إن الله عزوجل إذا أراد أن يفترض فريضة أنزلها شيئاً بعد شيء حتى يوطن الناس أنفسهم عليها ويسكنوا إلى أمر الله عزوجل ونهيه فيها، وكان ذلك من فعل الله عزوجل على وجه التدبير فيهم أصوب وأقرب لهم إلىالأخذ بها وأقل لنفارهم منها»(3).

ص: 336


1- سورة الإسراء: 106.
2- بحار الأنوار: ج9 ص122 ب1.
3- الكافي: ج6 ص406 باب تحريم الخمر في الكتاب ح2.

وكان جبرئيل بالآيات يؤنسنا*** فقد فقدت وكلّ الخير محتجب

اشارة

-------------------------------------------

وكان جبرئيل بالآيات يؤنسنا(1) *** فقد فقدت(2) وكلّ الخير محتجب

العلاقة بين العترة والسماء

مسألتان: يجب - عينياً - معرفة العلاقة بين عترة الرسول (صلی الله علیه و آله) والسماء في الجملة، ويجب - كفائياً - بيان العلاقة للناس، وأما ذكر المفردات والمصاديق، كالمصداق الذي ذكرته الصديقة الكبرى (علیها السلام) هاهنا: (وكان جبرئيل بالآيات يؤنسنا) فهو مستحب.

والظاهر أن أنسهم (علیهم السلام) كان بشيئين: بجبرائيل (علیه السلام) وبالآيات حتى لو كانت الباء هاهنا(3) للسببية لا المعية.

والظاهر من هذا أن أنسهم بجبرائيل (علیه السلام) كان مباشرة لا بالواسطة، إذ كانوا يسمعون الصوت ويحسون بوجوده وإن لم يروا شخصه أحياناً(4) كما قال أمير المؤمنين (علیه السلام) في نهجالبلاغة: «كنت أسمع الصوت وأبصر الضوء سنين سبعاً ورسول الله (صلی الله علیه و آله) حينئذ صامت ما أذن له بالإنذار والتبليغ»(5).

علماً بأن المعصومين (علیهم السلام) كانوا يرون الملائكة ومنهم جبرئيل في كثير من الأحيان، وهذا لا يعني رؤيته للوحي، فإن الرؤية للوحي المعهود القرآني كان خاصاً بالرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله).

ص: 337


1- وفي بعض النسخ: (وكان جبريل روح القدس زائرنا).
2- وفي بعض النسخ: (فغبت عنا)، وفي بعضها: (فغاب عنا).
3- أي: في (بالآيات).
4- راجع بحار الأنوار: ج26 ص18 ب1.
5- شرح نهج البلاغة: ج1 ص15 القول في نسب أمير المؤمنين علي (علیه السلام) وذكر لمع يسيرة من قضائه.

..............................

إيناس الغير

مسألة: يستحب أن يؤنس الإنسان غيره - في حدود الشريعة - مطلقاً، وبالآيات بصورة خاصة.

وقد يكون ذلك واجباً، على ما ذكرناه في ما سبق.

وكان أنسهم (عليهم الصلاة والسلام) بالآيات لأنها الرابط بينهم وبين إله العالمين، إضافة إلى أنها كانت ترفع وحشتهم عن مشاكل ومصاعب الحياة، فإنهم (عليهم الصلاة والسلام) كانوا يعانون من شتى المشاكل والمصائب والمحن السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها التي كان يثيرها ضدهم الكفار والمنافقون والحاقدون والجاهلون ومن أشبه، فكانت الآيات خير مؤنس لهم.

حجب كل الخير

مسألة: يستحب بيان أن الخير كله قد احتجب بفقد الرسول (صلی الله علیه و آله).

والمراد بكل الخير: كل الخير المنبعث من وجود رسول الله (صلی الله علیه و آله) الذي انقطع بموته، لا كل خيراتالسماء والأرض التي هي أعم من ذلك، ولا كل خيره (صلی الله علیه و آله) المستمر بعد موته.

وبعبارة أخرى: المحتجب هو (كل الخير)، لا (الخير كله)، أي المجموع هو المحتجب لا الجميع، ويحتمل الإبقاء على الظاهر، من باب المبالغة.

ص: 338

ضاقت عليَّ بلادي بعد ما رحبت *** وسيمَ سبطاك خسفاً فيه لي نصب

اشارة

-------------------------------------------

ضاقت البلاد عليها

مسألة: يستحب بيان أن البلاد ضاقت على الصديقة فاطمة (علیها السلام) لما لاقته من الظلم والعدوان، وقد صرحت (علیها السلام) بذلك في هذا الشعر وغيره.

وهذا البيت مما ذكره السيد المرتضى(رحمة الله).

أي: إن الأرض ضاقت عليَّ بعد ما كانت رحبة بوجودك يا رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وهو كناية عن عظم المصائب التي وردت على الصديقة الطاهرة (علیها السلام) بعد أبيها (صلی الله علیه و آله).

مكانة السبطين

مسألة: يلزم الاعتقاد بمكانة السبطين الحسن والحسين (علیهما السلام) وفي حقهم روايات كثيرة عن الفريقين.

في البحار عن أبي هريرة، قال: قلت لرسول الله (صلی الله علیه و آله): إن لكل نبي وصياً وسبطين، فمن وصيك وسبطاك؟. فسكت ولم يرد عليَّ الجواب، فانصرفت حزيناً، فلما حان الظهر. قال: «ادن يا أبا هريرة». فجعلت أدنو وأقول: أعوذبالله من غضب الله وغضب رسوله، ثم قال: «إن الله بعث أربعة آلاف نبي، وكان لهم أربعة آلاف وصي وثمانية آلاف سبط، فو الذي نفسي بيده لأنا خير النبيين، ووصيي خير الوصيين، وإن سبطَي خير الأسباط - ثم قال(صلی الله علیه و آله) - سبطي خير الأسباط الحسن والحسين سبطا هذه الأمة، وإن الأسباط كانوا من ولد يعقوب وكانوا اثني عشر رجلاً، وإن الأئمة بعدي اثنا عشر رجلاً من أهل بيتي، علي أولهم، وأوسطهم محمد، وآخرهم محمد، وهو مهدي هذه الأمة

ص: 339

..............................

الذي يصلي عيسى خلفه، ألا إن من تمسك بهم بعدي فقد تمسك بحبل الله، ومن تخلى منهم فقد تخلى من حبل الله»(1).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) في حق الحسين (علیه السلام) إذ دخل عليه فأخذه (صلی الله علیه و آله) وقبّله ثم قال: «اللهم إني أحبه فأحبه وأحب من يحبه. يا حسين، أنت الإمام، ابن الإمام، أبو الأئمة، التسعة من ولدك أئمة أبرار»(2).وعن أبي أيوب الأنصاري، قال: مرض رسول الله (صلی الله علیه و آله) مرضة فأتته فاطمة (علیها السلام) تعوده، فلما رأت ما برسول الله (صلی الله علیه و آله) من المرض والجهد استعبرت وبكت حتى سالت دموعها على خديها. فقال لها النبي (صلی الله علیه و آله): «يا فاطمة، إني لكرامة الله إياكِ زوّجتكِ أقدمهم سلماً، وأكثرهم علماً، وأعظمهم حلماً. إن الله تعالى اطلع إلى أهل الأرض اطلاعة فاختارني منها فبعثني نبياً، واطلع إليها ثانية فاختار بعلكِ فجعله وصياً». فسرت فاطمة (علیها السلام) فاستبشرت.

فأراد رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن يزيدها مزيد الخير. فقال: «يا فاطمة، إنا أهل بيت أعطينا سبعاً لم يعطها أحد قبلنا ولا يعطاها أحد بعدنا: نبينا أفضل الأنبياء وهو أبوكِ، ووصينا أفضل الأوصياء وهو بعلكِ، وشهيدنا أفضل الشهداء وهو عمكِ، ومنا من جعل الله له جناحين يطير بهما مع الملائكة وهو ابن عمكِ، ومنا سبطا هذه الأمة وهما ابناكِ. والذي نفسي بيده لا بد لهذه الأمة من مهدي وهو والله من ولدكِ»(3).

ص: 340


1- بحار الأنوار: ج36 ص312 ب41 ح157.
2- كفاية الأثر: ص81-83 باب ما جاء عن أبي هريرة عن النبي (صلی الله علیه و آله) في النصوص على الأئمة الاثني عشر (علیهم السلام).
3- الأمالي للطوسي: ص154-155 المجلس السادس ح256-8.

..............................

وعن ليث بن أبي سليم، قال: أتى النبي (صلی الله علیه و آله) علي وفاطمة والحسن والحسين (علیهم السلام) كلهم يقول: «أنا أحب إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله)». فأخذ (صلی الله علیه و آله) فاطمة مما يلي بطنه، وعلياً مما يلي ظهره، والحسن عن يمينه، والحسين عن يساره، ثم قال (صلی الله علیه و آله): «أنتم مني وأنا منكم»(1).

وعن علي بن أبي طالب (علیه السلام)، قال: «أخذ رسول الله (صلی الله علیه و آله) بيد الحسن والحسين (علیهما السلام)، فقال: من أحب هذين وأباهما وأمهما كان معي في درجتي يوم القيامة»(2).

وعن حنان بن سدير الصيرفي، قال: حدثنا أبي، قال: حدثني محمد بن علي بن الحسين (علیهم السلام)، قال: «كان النبي (صلی الله علیه و آله) جالساً في مسجده، فجاء علي (علیه السلام) فسلم وجلس، ثم جاء الحسن بن علي (علیه السلام) فأخذه النبي (صلی الله علیه و آله) وأجلسه في حجره وضمه إليه وقبله، ثم قال له: اذهب فاجلس مع أبيك، ثم جاء الحسين (علیه السلام) ففعل النبي (صلی الله علیه و آله) مثل ذلك، وقال له: اجلس مع أبيك، إذ دخل رجل المسجد فسلم على النبي (صلی الله علیه و آله) خاصة، وأعرض عن علي والحسن والحسين (علیهم السلام)، فقال له النبي (صلی الله علیه و آله): ما منعك أن تسلم على علي وولديه، فو الذي بعثني بالهدى ودين الحق لقد رأيت الرحمة تنزل عليه وعلى ولديه»(3).

وعن زيد بن أرقم، قال: خرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) وإذا علي وفاطمة والحسن والحسين (علیهم السلام)، فقال: أنا حرب لمن حاربكم وسلم لمن سالمكم»(4).

ص: 341


1- الأمالي للصدوق: ص13 المجلس الرابع ح2.
2- الأمالي للصدوق: ص229 المجلس الأربعون ح11.
3- الأمالي للطوسي: ج223 المجلس الثامن ح387-37.
4- بحار الأنوار: ج37 ص42-43 ب50 ح18.

..............................

وعن أنس قال: اتكأ النبي (صلی الله علیه و آله) على علي. فقال: «يا علي، أما ترضى أن تكون أخي وأكون أخاك، وتكون وليي ووصيي ووارثي، تدخل رابع أربعة الجنة: أنا وأنت والحسن والحسين وذريتنا خلف ظهورنا ومنتبعنا من أمتنا عن أيمانهم وشمائلهم. قال: بلى يا رسول الله»(1).

وعن حذيفة، قال النبي (صلی الله علیه و آله) في خبر: «أما رأيت العارض الذي عرض لي؟».

قلت: بلى.

قال: «ذاك ملك لم يهبط إلى الأرض قبل الساعة، فاستأذن الله تعالى أن يسلم عليَّ ويبشرني أن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وأن فاطمة سيده نساء أهل الجنة»(2).

الخسف بالسبطين

مسألة: يحرم خسف السبطين الحسن والحسين (علیهما السلام) وإرادة الشر بهما كما يحرم إيذاؤهما؛ فإن ذلك إيذاء للصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (علیها السلام)، وإيذاؤها إيذاء لرسول الله (صلی الله علیه و آله)، وإيذاؤه إيذاء الله عزوجل كما في الروايات(3).

ص: 342


1- بشارة المصطفى: ص243.
2- المناقب: ج3 ص394 فصل في معالي أمورهما (علیهما السلام).
3- راجع غوالي اللآلئ: ج4 ص93 الجملة الثانية في الأحاديث المتعلقة بالعلم وأهله وحامليه ح131، وفيه قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «فاطمة بضعة مني، من آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله أكبه الله في النار».

..............................

عن ابن عباس، قال: قال النبي (صلی الله علیه و آله): «إن علياً وصيي وخليفتي، وزوجته فاطمة سيدة نساء العالمين ابنتي، والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ولداي، من والاهم فقد والاني ومن عاداهم فقد عاداني، ومن ناوأهم فقد ناوأني، ومن جفاهم فقد جفاني، ومن برهم فقد برني، وصل الله من وصلهم، وقطع الله من قطعهم، ونصر الله من أعانهم، وخذل الله من خذلهم. اللهم من كان له من أنبيائك ورسلك ثقل وأهل بيت فعلي وفاطمة والحسن والحسين أهل بيتي وثقلي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً»(1).

قولها (علیها السلام): «سبطاك» الحسن والحسين (علیهما السلام)

والنصب: التعب.

أي: أن القوم أرادوا خسف السبطين وهذا ما أوجب تعبي.

ص: 343


1- من لا يحضره الفقيه: ج4 ص179 باب الوصية من لدن آدم (علیه السلام) ح5404.

فليت قبلك كان الموت صادفنا *** لما مضيت وحالت دونك الكثب

اشارة

-------------------------------------------

تمني الموت في رثاء الفقيد

مسألة: يجوز إظهار تمني الموت في رثاء الفقيد.

وهذا من باب الرثاء وبيان عظمة المصاب، فيكون تعبيراً مجازياً لبيان شدة المصيبة، وإن كان يجوز ذلك من باب الواقع أيضاً أي بالمعنى الحقيقي إذا كان تمني الموت في مورده، كما في مصاب المعصومين (علیهم السلام)... على عكس الذين لايتمنونه أبداً بما قدمت أيديهم كما قال سبحانه: «فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ * وَلاَ يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ»(1).

المظلوم وتمنى الموت

مسألة: تمني الموت بشكل عام مكروه، ولكنه جائز للمظلوم.

وفي المقابل يستحب الدعاء بطول العمر، كما ورد ذلك في المأثور:

عن محمد بن عطية، عن أبي عبد الله (علیه السلام) - في دعاء كل ليلة من شهر رمضان المبارك - تقول: «اللَّهُمَّإِنِّي أَسْأَلُكَ فِيمَا تَقْضِي وَتُقَدِّرُ مِنَ الأَمْرِ الْمَحْتُومِ فِي الأَمْرِ الْحَكِيمِ مِنَ الْقَضَاءِ الَّذِي لاَ يُرَدُّ وَلاَ يُبَدَّلُ أَنْ تَكْتُبَنِي مِنْ حُجَّاجِ بَيْتِكَ الْحَرَامِ الْمَبْرُورِ حَجُّهُمْ، الْمُكَفَّرِ عَنْهُمْ سَيِّئَاتُهُمْ، الْمَغْفُورِ ذُنُوبُهُمْ، الْمَشْكُورِ سَعْيُهُمْ، وَأَنْ تَجْعَلَ فِي مَا تَقْضِي وَتُقَدِّرُ مِنَ الأَمْرِ الْمَحْتُومِ فِي الأَمْرِ الْحَكِيمِ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنَ الْقَضَاءِ الَّذِي لاَ يُرَدُّ وَلاَ يُبَدَّلُ أَنْ تُطِيلَ عُمُرِي، وَأَنْ تُوَسِّعَ عَلَيَّ فِي

ص: 344


1- سورة الجمعة: 6- 7.

..............................

رِزْقِي، وَأَنْ تَجْعَلَنِي مِمَّنْ تَنْتَصِرُ بِهِ لِدِينِكَ، وَلاَ تَسْتَبْدِلْ بِي غَيْرِي»(1).

وفي دعاء بعد صلاة الفجر يوم الفطر: «اللهم إني أسألك أن تجعل فيما شئت وأردت، وقضيت وقدرت، وحتمت وأنفذت، أن تطيل عمري، وتنسئ في أجلي»(2).

وفي دعاء بعد صلاة أربع ركعات في يوم الجمعة: «أن تصلي على محمد وآله وأن تسمع دعائي، وتجيب ندائي، وترحم تضرعي، وتقبل عليَّ، وتقبل توبتي، وتديم عافيتي، وتسهل قضاء حاجتيوديني، وتوسع عليَّ في رزقي، وتصح جسمي، وتطيل عمري، وتغفر ذنبي، وتوفقني لما يرضيك، وتقلبني إلى رضوانك»(3).

وفي دعاء السحر لمولانا علي بن الحسين زين العابدين (علیه السلام) الذي رواه أبو حمزة الثمالي: «وأن تجعل فيما تقضي وتقدر أن تطيل عمري، وتوسع رزقي، وتؤدي عني أمانتي وديني، آمين رب العالمين»(4).

كراهة تمني الموت

عن أبي محمد العسكري (علیه السلام)، عن آبائه (علیهم السلام)، قال: «جاء رجل إلى الصادق (علیه السلام). فقال: قد سئمت الدنيا فأتمنى على الله الموت؟.

فقال (علیه السلام): «تمن الحياة لتطيع لا لتعصي؛ فلأن تعيش فتطيع خير لك من

ص: 345


1- الكافي: ج4 ص161-162 باب الدعاء في العشر الأواخر من شهر رمضان ح3.
2- بحار الأنوار: ج88 ص3 ب2 ح1.
3- جمال الأسبوع: ص317-318 ف31 الدعاء بعد هذه الصلاة.
4- مصباح الكفعمي: ص622-623 ف45.

..............................

أن تموت فلا تعصي ولاتطيع»(1).وفي (الأمالي) للشيخ الطوسي، عن أم الفضل، قالت: دخل رسول الله (صلی الله علیه و آله) على رجل يعوده وهو شاك فتمنى الموت. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «لاتتمن الموت؛ فإنك إن تك محسناً تزدد إحساناً إلى إحسانك، وإن تك مسيئاً فتؤخر تستعتب، فلا تمنوا الموت»(2).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «لا يتمنين أحدكم الموت بضر نزل به»(3).

وقال(صلی الله علیه و آله): «لا يتمنين أحدكم الموت؛ فإن هول المطلع شديد، وإن من سعادة المرء أن يطول عمره، ويرزقه الله الإنابة»(4).

تمني الموت في فقد المعصوم (علیه السلام)

مسألة: يجوز تمني الموت في فقد الرسول (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته (علیهم السلام) وقد يكون مستحباً، والإفراد بالذكر للأهمية كما في بعض أقسام الخاص بعد العام، فإنه من بابأجلى المصاديق لما تقدم.

نعم، أصل تمني الموت مكروه كما سبق، لكنه قد يستحب تمنيه في بعض الأحيان، كما تمنت الصديقة الطاهرة (علیها السلام) الموت لفقد أبيها (صلی الله علیه و آله)، وتمنته ثانية لكثرة ما ورد عليها من المصائب(5)..

ص: 346


1- بحار الأنوار: ج6 ص128 ب4 ح15.
2- الأمالي للطوسي: ج385 المجلس الثالث عشر ح837-88
3- الدعوات: ص122 فصل في فنون شتى من حالات العافية والشكر عليها ح296.
4- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: ج1 ص7.
5- راجع بحار الأنوار: ج43 ص176 ب7 ح15.

..............................

وكما تمناه أمير المؤمنين (علیه السلام) في قصص عديدة مشهورة، حيث قال(علیه السلام): «أنتظر أشقاها أن يخضب لحيتي من دم رأسي بعهد معهود أخبرني به حبيبي رسول الله (صلی الله علیه و آله)»(1).

وقال الإمام السجاد (علیه السلام) في الشعر المنسوب إليه:

«فيا ليت أمي لم تلدني ولم أكن *** يزيد يراني في البلاد أسير»

وكما قالت السيدة زينب (عليها الصلاة والسلام) في يوم كربلاء: «ليت الموت أعدمني الحياة»(2).

وكما تمناه الإمام موسى بن جعفر (علیه السلام) حيث قال: «يَا سَيِّدِي،نَجِّنِي مِنْ حَبْسِ هَارُونَ وَخَلِّصْنِي مِنْ يَدِهِ. يَا مُخَلِّصَ الشَّجَرِ مِنْ بَيْنِ رَمْلٍ وَطِينٍ وَمَاءٍ، وَيَا مُخَلِّصَ اللَّبَنِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ، وَيَا مُخَلِّصَ الْوَلَدِ مِنْ بَيْنِ مَشِيمَةٍ وَرَحِمٍ، وَيَا مُخَلِّصَ النَّارِ مِنْ بَيْنِ الْحَدِيدِ وَالْحَجَرِ، وَيَا مُخَلِّصَ الأَرْوَاحِ مِنْ بَيْنِ الأَحْشَاءِ وَالأَمْعَاءِ، خَلِّصْنِي مِنْ يَدِ هَارُونَ»(3).

قولها (علیها السلام) : «الكثب»، أي التراب.

الدعاء على النفس بالموت

مسألة: يعلم مما سبق حكم الدعاء على النفس بالموت وكراهته في الأصل، إلا أنه قد يستفاد رجحانه في ما كان من قبيل قولها (علیها السلام) : «اللهم عجل وفاتي سريعاً».

ص: 347


1- وسائل الشيعة: ج2 ص84 ب41 ح1559.
2- بحار الأنوار: ج42 ص2 بقية الباب 37 ح2.
3- وسائل الشيعة: ج8 ص140 ب32 ح10253.

إنا رزئنا بما لم يرز ذو شجن *** من البرية لا عجم ولا عرب

اشارة

-------------------------------------------

إنا رزئنا بما لم يرز ذو شجن من البرية(1) لا عجم ولا عرب

مصيبة وفاة الرسول (صلی الله علیه و آله)

مسألة: يستحب بيان أن مصيبة وفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله) لا تعدلها مصيبة إطلاقاً، لأنه لا يعدل الرسول (صلی الله علیه و آله) شيء في الكون كله إطلاقاً، حسب ما دل على ذلك العقل والنقل. وإذا كان كذلك فإن إقامة العزاء على فقده على مر الأزمان أولى من كل مصاب مهما جد وقرب.

والوجه في قولها (علیها السلام): «إنا رزئنا.. » بصيغة الجمع، أن رزية فقده (صلی الله علیه و آله) رزية عامة عمت آثارها جميع المسلمين، بل البشرية جمعاء في ذلك الزمن إلى يومنا هذا وإلى يوم القيامة، بل الكائنات بأجمعها، وهو واضح ثبوتاً واثباتاً(2).

أما قولها: «من البرية» الظاهر أنه بيان ل- «ذو شجن»، مع أن ما رزئوابه لم يرزأ به ذو شجن لا من البرية ولا من غيرها(3)، فلأنه محط الحاجة على حسب قابلية القابل.

الرزء: المصيبة بفقد الأعزة.

الشجن: الحزن.

العجم: غير العرب من الفرس والترك والهنود وغيرهم.

ص: 348


1- وفي بعض النسخ: (من البلية) فيكون بياناً ل- (ما).
2- فإنهم الأقرب والمحطة الأولى للفيوضات، ثم أن من يعرف قيمة المفقود والفقيد أكثر رزءاً وهماً وغماً ممن لا يعرف قيمته.
3- كالملائكة والجن وسائر مخلوقات الله تعالى.

وقد رزينا به محضاً خليقته *** صافي الضرائب والأعراق والنسب

اشارة

-------------------------------------------

الطهر الطاهر

مسألة: يلزم الاعتقاد بأن رسول الله (صلی الله علیه و آله) طهر طاهر مطهر، من طهر طاهر مطهر، وكذلك والديه وأجداده إلى آدم (علیهم السلام) بأجمعهم من المؤمنين الطاهرين، فلم يكن (صلی الله علیه و آله) إلا في صلب طاهر ورحم طاهر. وأنه (صلی الله علیه و آله) كان من أشرف الخلق والأعراق والأنساب.

قال تعالى: «الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ»(1).

وعن أبي الجارود، قال: سألت أبا جعفر (علیه السلام) عن قول الله عزوجل:«وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ»(2)؟. قال: «يرى تقلبه في أصلاب النبيين من نبي إلى نبي، حتى أخرجه من صلب أبيه من نكاح غير سفاح من لدن آدم (علیه السلام)»(3).

قال الشيخ المفيد (رضوان الله عليه): (اعتقادنا في آباء النبي (صلی الله علیه و آله) أنهم مسلمون من آدم إلى أبيه عبد الله، وأن أبا طالب كان مسلماً، وأمه آمنة بنت وهب كانت مسلمة. وقال النبي (صلی الله علیه و آله): «خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لن آدم». وروي أن عبد المطلب كان حجة وأبا طالب كان وصيه)(4).

وقال العلامة المجلسي (قدس سره): (اتفقت الإمامية (رضوان الله عليهم) على أن والدي الرسول (صلی الله علیه و آله) وكل أجداده إلى آدم (علیهم السلام) كانوا مسلمين، بل كانوا من الصديقين إما أنبياء مرسلين، أو أوصياء معصومين، ولعل بعضهم لم يظهر

ص: 349


1- سورة الشعراء: 218-219.
2- سورة الشعراء: 219.
3- تأويل الآيات الظاهرة: ص393 سورة الشعراء وما فيها من الآيات في الأئمة الهداة.
4- الاعتقادات، للشيخ المفيد: ص110 باب الاعتقاد في آباء النبي (صلی الله علیه و آله).

..............................

الإسلام لتقية أو لمصلحة دينية. قال أمين الدين الطبرسي (رحمه الله) في (مجمع البيان): قال أصحابنا: إن آزر كان جد إبراهيم (علیه السلام) لأمه أو كان عمه، من حيث صح عندهم أن آباء النبي (صلی الله علیه و آله) إلى آدم (علیهم السلام) كلهم كانوا موحدين وأجمعت الطائفة على ذلك. ورووا عن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه قال: «لم يزل ينقلني الله من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهرات حتى أخرجني في عالمكم هذا لم يدنسني بدنس الجاهلية». ولو كان في آبائه (علیهم السلام) كافر لم يصف جميعهم بالطهارة مع قوله سبحانه: «إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ»(1)، ولهم في ذلك أدلة ليس هنا موضع ذكرها، انتهى)(2).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «نزل جبرئيل (علیه السلام) على النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: يا محمد، إن ربك يقرؤك السلام ويقول: إني قد حرمت النار على صلب أنزلك، وبطن حملك، وحجر كفلك، فالصلب صلب أبيك عبد الله بنعبد المطلب، والبطن الذي حملك فآمنة بنت وهب، وأما حجر كفلك فحجر أبي طالب»(3).

قولها (علیها السلام): «محضا» أي خالصة.

خليقته: أي خُلُقه.

الضرائب: جمع الضريبة وهي الطبيعة.

الأعراق: جمع العرق وهو أصل كل شيء، أي الآباء والأجداد.

ص: 350


1- سورة التوبة: 28.
2- بحار الأنوار: ج15 ص117 ب1.
3- الكافي: ج1 ص446 باب مولد النبي (صلی الله علیه و آله) ووفاته ح21.

فأنت خير عباد الله كلهم *** وأصدق الناس حيث الصدق والكذب

اشارة

-------------------------------------------

خير العباد

مسألة: الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) هو أشرف الخلق وهو خير عباد الله كلهم، ويلزم الاعتقاد بذلك، ويأتي من بعده علي أمير المؤمنين وفاطمة (سلام الله عليهما)، ومن بعدهما الحسن والحسين (علیهما السلام) ثم المهدي (عجل الله تعالى فرجه) ثم سائر الأئمة (عليهم أفضل الصلاة والسلام) على ما يستفاد من الروايات.

عن أبي هارون العبدي، قال: أتيت أبا سعيد الخدري فقلت له: هل شهدت بدراً؟. قال: نعم. فقلت له: ألاتحدثني بشيء مما سمعته من رسول الله (صلی الله علیه و آله) في علي (علیه السلام) وفضله؟. فقال: بلى أخبرك أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) مرض مرضة نقه منها. فدخلت عليه فاطمة (علیها السلام) تعوده وأنا جالس عن يمين رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فلما رأت ما برسول الله (صلی الله علیه و آله) من الضعف خنقتها العبرة حتى بدت دموعها على خدها، فقال لها رسول الله (صلی الله علیه و آله): ما يبكيكِ يا فاطمة!. قالت: «أخشى الضيعة يا رسول الله». فقال (صلی الله علیه و آله): «يا فاطمة، أما علمتِ أن الله اطلع إلى الأرض اطلاعة فاختار منهم أباكِ فبعثه نبياً، ثم اطلع ثانية فاختار منهم بعلكِ فأوحى إليَّ فأنكحته واتخذته وصياً، أما علمتِ أنكِ بكرامة الله إياكِ زوجكِ أغزرهم علماً، وأكثرهم حلماً، وأقدمهم سلماً».

فاستبشرت فأراد رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن يزيدها مزيد الخير كله الذي قسمه الله لمحمد وآل محمد، فقال لها: «يا فاطمة ولعلي ثمانية أضراس - يعني:مناقب - إيمان بالله، ورسوله، وحكمته، وزوجته، وسبطاه الحسن والحسين، وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر. يا فاطمة، إنا أهل بيت أعطينا ست خصال لم يعطها أحد من

ص: 351

..............................

الأولين ولا يدركها أحد من الآخرين غيرنا: نبينا خير الأنبياء وهو أبوكِ، ووصينا خير الأوصياء وهو بعلكِ، وشهيدنا خيرنا الشهداء وهو حمزة عم أبيكِ، ومنا سبطا هذه الأمة وهما ابناكِ، ومنا مهدي الأمة الذي يصلي عيسى خلفه - ثم ضرب على منكب الحسين (علیه السلام) فقال - من هذا مهدي الأمة»(1).

وعن الأعمش، عن جعفر بن محمد (علیه السلام)، قال: سألته عن أفضل الخلق بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأحقهم بالأمر؟. فقال: «علي بن أبي طالب (علیه السلام)، وبعده الحسن ثم الحسين سبطا رسول الله وابنا خيرة النسوان، ثم علي بن الحسين، ثم محمد بن علي، ثم جعفر بن محمد، ثم من بعده الأئمة الهداة المهديون (علیهم السلام)؛ فإن فيهم الورع، والعفة، والصدق، والصلاح، والاجتهاد، وأداء الأمانة إلى البر والفاجر، وطول السجود، وقيام الليل، واجتناب المحارم، وانتظار الفرج بالصبر، وحسنالصحبة، وحسن الجوار»(2).

وعن أصبغ بن نباتة الحنظلي، قال: رأيت أمير المؤمنين (علیه السلام) يوم افتتح البصرة وركب بغلة رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ثم قال: «أيها الناس، ألا أخبركم بخير الخلق يوم يجمعهم الله». فقام إليه أبو أيوب الأنصاري فقال: بلى يا أمير المؤمنين حدثنا؛ فإنك كنت تشهد ونغيب. فقال: «إن خير الخلق يوم يجمعهم الله سبعة من ولد عبد المطلب لا ينكر فضلهم إلا كافر، ولا يجحد به إلا جاحد». فقام عمار بن ياسر (رحمه الله) فقال: يا أمير المؤمنين، سمهم لنا لنعرفهم؟. فقال: «إن خير الخلق يوم يجمعهم الله الرسل، وإن أفضل الرسل محمد (صلی الله علیه و آله)، وإن أفضل

ص: 352


1- كشف الغمة: ج2 ص481-482 ب9.
2- إرشاد القلوب: ج2 ص421 باب فيه بعض قضاياه (علیه السلام) في الحد وفي أخذ الحد.

..............................

كل أمة بعد نبيها وصي نبيها حتى يدركه نبي، ألا وإن أفضل الأوصياء وصي محمد (عليه وآله السلام)، ألا وإن أفضل الخلق بعد الأوصياء الشهداء، ألا وإن أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب، وجعفر بن أبي طالب له جناحان خضيبانيطير بهما في الجنة لم ينحل أحد من هذه الأمة جناحان غيره شيء كرم الله به محمداً (صلی الله علیه و آله) وشرفه، والسبطان الحسن والحسين والمهدي (علیهم السلام) يجعله الله من شاء منا أهل البيت - ثم تلا هذه الآية: - «وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً * ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً»(1)»(2).

وعن عبد الله بن ميمون القداح، عن جعفر، عن أبيه، قال: قال علي بن أبي طالب (علیه السلام): «منا سبعة خلقهم الله عزوجل لم يخلق في الأرض مثلهم: منا رسول الله (صلی الله علیه و آله) سيد الأولين والآخرين وخاتم النبيين، ووصيه خير الوصيين، وسبطاه خير الأسباط حسناً وحسيناً، وسيد الشهداء حمزة عمه، ومن قد طاف [ طار « مع الملائكة جعفر، والقائم»(3).

وعن الأصبغ بن نباتة، قال: سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) يقول: «سمعت رسول الله (صلی اللهعلیه و آله) يقول: أفضل الكلام قول: لا إله إلا الله، وأفضل الخلق أول من قال: لا إله إلا الله. فقيل: يا رسول الله، ومن أول من قال: لا إله إلا الله؟. قال: أنا، وأنا نور بين يدي الله جل جلاله وأوحده وأسبحه، وأكبره وأقدسه وأمجده، ويتلوني نور شاهد مني. فقيل: يا رسول الله،

ص: 353


1- سورة النساء: 69-70.
2- الكافي: ج1 ص450 باب مولد النبي (صلی الله علیه و آله) ووفاته ح34.
3- قرب الإسناد: ص13- 14.

..............................

ومن الشاهد منك؟ فقال:علي بن أبي طالب أخي وصفيي، ووزيري وخليفتي ووصيي وإمام أمتي، وصاحب حوضي وحامل لوائي. فقيل له: يا رسول الله، فمن يتلوه؟. فقال: الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، ثم الأئمة من ولد الحسين إلى يوم القيامة»(1).

وعن ابن عباس، قال: خرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) ذات يوم وهو آخذ بيد علي (علیه السلام) وهو يقول: «يا معشر الأنصار، يا معشر بني هاشم، يا معشر بني عبد المطلب، أنا محمد، أنا رسول الله، ألا إني خلقت من طينة مرحومة في أربعة من أهل بيتي: أنا وعلي وحمزة وجعفر». فقال قائل: يا رسول الله، هؤلاء معك ركبان يوم القيامة؟. فقال:«ثكلتك أمك، إنه لن يركب يومئذ إلا أربعة أنا وعلي وفاطمة وصالح نبي الله، فأما أنا فعلى البراق، وأما فاطمة ابنتي فعلى ناقتي العضباء، وأما صالح فعلى ناقة الله التي عقرت،، وأما علي فعلى ناقة من نوق الجنة زمامها من ياقوت، عليه حلتان خضراوان، فيقف بين الجنة والنار وقد ألجم الناس من العرق يومئذ، فتهب ريح من قبل العرش فتنشف عنهم عرقهم، فيقول الملائكة والأنبياء والصديقون: ما هذا إلا ملك مقرب أو نبي مرسل! فينادي مناد: ما هذا ملك مقرب ولا نبي مرسل ولكنه علي بن أبي طالب أخو رسول الله (صلی الله علیه و آله) في الدنيا والآخرة»(2).

وعن عمار بن ياسر (رضوان الله عليه)، أنه قال: لما سار أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) إلى صفين وقف بالفرات وقال لأصحابه: «أين المخاض؟».

ص: 354


1- كمال الدين: ج2 ص669 ب58 ح14.
2- الخصال: ج1 ص204-205 الركبان يوم القيامة أربعة ح20.

..............................

قالوا: يا مولانا، ما نعلم أين المخاض. فقال لبعض أصحابه: «امض إلى هذا التل وناد: يا جلندى، أينالمخاض؟». قال: فسار حتى وصل إلى التل ونادى: يا جلندى، أين المخاض؟. قال: فأجابه من تحت الأرض خلق كثير فبهت ولم يعلم ما يصنع، فأتى إلى الإمام (علیه السلام) وقال: يا مولاي، جاوبني خلق كثير.

فقال (علیه السلام): «يا قنبر، امض وقل: يا جلندى بن كركر، أين المخاض؟». قال: فمضى قنبر وقال: يا جلندى بن كركر، أين المخاض؟». فكلمه واحد وقال: (ويلكم من عرف اسمي واسم أبي وأنا في هذا المكان قد صرت تراباً وقد بقي قحف رأسي عظماً نخرة رميماً ولي ثلاثة آلاف سنة ما يعلم أين المخاض، فهو والله أعلم بالمخاض مني، ويلكم ما أعمى قلوبكم، وأضعف يقينكم، ويلكم امضوا إليه واتبعوه فأين خاض خوضوا معه؛ فإنه أشرف الخلق على الله بعد رسول الله(صلی الله علیه و آله)) (1).

قال الشيخ المفيد(رحمة الله): (واعتقاد إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام)، وأنه كان الخليفة لرسول الله (صلی الله علیه و آله) في مقامه، والإمام المقدم على الكافة بعد وفاته، وأنه أفضل الخلق من بعده، وأن الموالاة له موالاة لرسول الله،والمعاداة له معاداة لرسول الله (صلی الله علیه و آله)، وأنه كان القائم بالقسط في دين الله بمودته، والبراءة من أعدائه الدائبين بمخالفته. واعتقاد إمامة الحسن والحسين (علیهما السلام) من بعده، وأن الأئمة بعد الحسين (علیه السلام) من ولده بالنص عليهم، والتوقيف على إمامتهم، والدعوة إلى اعتقاد فرض طاعتهم، والقربة إلى الله بولايتهم، والبراءة إليه ممن انطوى على داوتهم، وانتظار دولة الحق في عاقبتهم، والقطع على أنهم

ص: 355


1- الفضائل: ص140 وفي ذكر اللوح المحفوظ الذي نزل به جبرئيل على النبي (صلی الله علیه و آله).

..............................

أفضل من سائر رعيتهم. واعتقاد وجوب ولاية أمير المؤمنين، وعداوة الكافرين، والمودة لأهل الطاعة في الدين، والنصيحة لأهل التوحيد والمعرفة واليقين)(1).

الصادق المصدق

مسألة: يجب الاعتقاد بأن رسول الله (صلی الله علیه و آله) هو أصدق الخلق، فما أخبر به من وحي وحكم وتاريخ وغيب وغيرها صدق صحيح بلا شك.

وفي الحديث: «الصادق المصدق رسولالله (صلی الله علیه و آله)»(2).

وفي (مكارم الأخلاق): «إن رسولك الصادق المصدق قال:...»(3).

وفي (البحار): عن زاذان، عن ابن عمر، قال: حدثنا النبي (صلی الله علیه و آله) وهو الصادق المصدق، قال: «إذا كان يوم القيامة وجمع الله الأولين والآخرين نادى مناد بصوت يسمع به البعيد كما يسمع به القريب: أين علي بن أبي طالب (علیه السلام) أين علي الرضا (علیه السلام)؟. فيؤتى بعلي الرضا (علیه السلام) فيحاسبه حساباً يسيراً، ويكسى حلتان خضراوان، ويعطى عصاه من الشجرة وهي شجرة طوبى، فيقال له: قف على الحوض فاسق من شئت وامنع من شئت»(4).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام) عند ما أخبر عن مقتل ولده الحسين (علیه السلام) بكربلاء: «والذي نفس علي بيده لقد حدثني الصادق المصدق أبو القاسم (صلی الله علیه و آله) أني سأراها في خروجي إلى أهل البغي علينا، وهذه أرض كرب وبلاء يدفن فيها

ص: 356


1- أحكام النساء: ص15-16 باب ما يعم كافة المكلفين فرضه ولا يسقط عنهم مع كمال عقولهم.
2- وسائل الشيعة: ج17 ص209 ب49 ح22354.
3- مكارم الأخلاق: ص284 ب10 ف2 دعاء آخر.
4- بحار الأنوار: ج8 ص25 ب20 ح23.

..............................

الحسين وسبعة عشر رجلاً من ولدي وولد فاطمة، وإنها لفي السماوات معروفة تذكر أرض كرب وبلاء كما تذكر بقعة الحرمين وبقعة بيت المقدس»(1).

وقال علي (علیه السلام) وهو ينعى نفسه: «إن الصادق المصدق عهد إليَّ لينبعثن أشقاها فليقتلك كما انبعث أشقى ثمود»(2).

ومن دعائهم (علیهم السلام): «اللهم صل على محمد وآل محمد، اللهم إن الصادق المصدق محمداً (صلی الله علیه و آله) قال: إنك قلت: ما ترددت في شيء أنا فاعله كترددي في قبض روح عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته. اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل لوليك الفرج والعافية والنصر، ولا تسؤني في نفسي ولا في أحد من أحبت برحمتك يا أرحم الراحمين.

قالوا (علیهم السلام): من قال ذلك في دبر كل صلاة فريضة عاش حتى ملّ الحياة»(3).

ص: 357


1- الأمالي للصدوق: ص598 المجلس السابع والثمانون ح5.
2- شواهد التنزيل: ج2 ص434 ومن سورة والشمس ح1097.
3- الدعوات: ص134 فصل في فنون شتى من حالات العافية والشكر عليها ح332.

فسوف نبكيك ما عشنا وما بقيت *** لنا العيون بتهمال له سكب

اشارة

-------------------------------------------

البكاء على الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله)

مسألة: يستحب البكاء على فقد رسول الله (صلی الله علیه و آله) ما عاش الإنسان وما بقيت له عين تسكب، كما قالت الصديقة الطاهرة (علیها السلام) في هذه الخطبة، وكما بكت هي (صلوات الله عليها) كذلك حتى التحقت بأبيها (صلی الله علیه و آله) فكانت من البكائين.

قال أبو عبد الله (علیه السلام):

«البكاءون خمسة: آدم، ويعقوب، ويوسف، وفاطمة بنت محمد، وعلي بن الحسين (علیه السلام) ... أما فاطمة فبكت على رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى تأذى بها أهل المدينة. فقالوا لها: قد آذيتنا بكثرة بكائكِ. فكانت تخرج إلى المقابر، مقابر الشهداء فتبكي حتى تقضي حاجتها ثم تنصرف»(1).

قولها (علیها السلام) «تهمال»: من الهمل كالتكرار، هملت عينه أي فاضت.

سكب الماء: أي صبه.

الاجتماع للبكاء

مسألة: ربما يستفاد من كلامها (علیها السلام) «نبكيك» بصيغة المخاطب مع الغير، أنه يستحب الاجتماع وعقد مجالس الحزن والبكاء على رسول الله (صلی الله علیه و آله) وآله الأطهار (علیهم السلام)، كما هو المتعارف اليوم بين الشيعة أعزهم الله.

ص: 358


1- الخصال: ج1 ص272-273 البكاءون خمسة ح15.

..............................

عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال لفضيل: «تجلسون وتحدثون؟».

قال: نعم جعلت فداك.

قال: «إن تلك المجالس أحبها، فأحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا. يا فضيل، من ذكرنا أو ذكرنا عنده فخرج من عينه مثل جناح الذباب غفر الله له ذنوبه ولو كانت أكثر من زبد البحر»(1).

وعن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «اجتمعوا وتذاكروا تحف بكم الملائكة، رحم الله من أحيا أمرنا»(2).

وقال الصادق (علیه السلام): «حدثواعنا ولا حرج، رحم الله من أحيا أمرنا»(3).

ص: 359


1- قرب الإسناد: ص18.
2- وسائل الشيعة: ج12 ص22 ب10 ح15540.
3- الدعوات: ص63 ب1 فصل في ألح الدعاء وأوجزه.

سيعلم المتولي ظلم حامتنا *** يوم القيامة أنى سوف ينقلب

اشارة

-------------------------------------------

المتولي للظلم

مسألة: ينبغي تنبيه المتولي للظلم بعاقبة أمره وأنه النار، حيث قالت (علیها السلام): «يوم القيامة أنى سوف ينقلب»، أي: في نار جهنم. والمتولي هو المباشر للشيء، وهو إشارة إلى ابن أبي قحافة وابن الخطاب ومن ساندهم من القوم على غصب الخلافة وغصب فدك والظلم على أهل بيت النبوة (علیهم السلام).

قولها (علیها السلام): «حامتنا» حامة الشخص خاصته، والمراد به أهل البيت (علیهم السلام) وفي الحديث المتواتر المروي عن الفريقين: إن النبي (صلی الله علیه و آله) جلل على حسن وحسين وعلي وفاطمة (علیهم السلام) ثم قال: «هؤلاء أهل بيتي وحامتي، أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً»(1).

المؤسس لظلم أهل البيت (صلی الله علیه و آله)

مسألة: يستفاد من كلامها (علیها السلام) حيث قالت: «ظلم حامتنا» ولم تقل (ظلمي) بأن ما فعله القوم كان هوالأساس في ظلم ذريتها والأئمة المعصومين (علیهم السلام) إلى يوم القيامة، وينبغي بيان ذلك للناس.

فالأول والثاني هما من أسس الظلم على أهل البيت (علیهم السلام)، فلولا إحراق بيت فاطمة (علیها السلام) لما تجرأ القوم على حرق خيام الحسين (علیه السلام) في يوم عاشوراء بكربلاء(2)، ولما تجرأ المنصور على حرق دار الإمام الصادق (علیه السلام)(3).

ص: 360


1- بحار الأنوار: ج35 ص226 ب5.
2- لواعج الأشجان للسيد محسن الأمين: ص155.
3- راجع الكافي: ج1 ص473 باب مولد أبي عبد الله جعفر بن محمد (علیه السلام) ح2.

..............................

ولولا ضرب الثاني الصديقة الطاهرة (علیها السلام) بكعب السيف(1) ولطم الوجه(2) وغير ذلك، لما تجرؤوا على ضرب زينب (سلام الله عليها)(3) ولولا غصبهم الخلافة من علي (علیه السلام) لما تجرأ بنو أمية وبنو العباس على غصب الخلافة من الأئمة الطاهرين (سلام الله عليهم أجمعين).وقد ورد في الزيارات: «وَلَعَنَ اللَّهُ أُمَّةً أَسَّسَتْ أَسَاسَ الظُّلْمِ لَكُمْ، وَمَهَّدَتِ الْجَوْرَ عَلَيْكُمْ، وَطَرَّقَتْ إِلَى أَذِيَّتِكُمْ وَتَحَيُّفِكُمْ، وَجَارَتْ ذَلِكَ فِي دِيَارِكُمْ وَأَشْيَاعِكُمْ، بَرِئْتُ إِلَى اللَّهِ عَزَّوَجَلَّ وَإِلَيْكُمْ يَا سَادَاتِي وَمَوَالِيَّ وَأَئِمَّتِي مِنْهُمْ وَمِنْ أَشْيَاعِهِمْ وَأَتْبَاعِهِمْ»(4).

وفي زيارة عاشوراء المقدسة: «فلعن الله أمة أسست أساس الظلم والجور عليكم أهل البيت، ولعن الله أمة دفعتكم عن مقامكم، وأزالتكم عن مراتبكم التي رتبكم الله فيها»(5).

وفي الزيارة أيضا: «أشهد أنك حجة الله في أرضه، وأشهد أن الذين خالفوك وأن الذين قتلوك والذين خذلوك وأن الذين جحدوا حقك ومنعوك إرثك ملعونون على لسان النبي الأمي وقد خاب من افترى، لعن الله الظالمين لكم من الأولين والآخرين وضاعف لهم العذاب الأليم، عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين... السلام عليك يا أول مظلوم انتهك دمه، وضيعت فيه حرمة

ص: 361


1- راجع كتاب سليم بن قيس الهلالي: ص864 الحديث الثامن والأربعون.
2- راجع بحار الأنوار: ج29 ص192 ب11.
3- راجع بحار الأنوار: ج45 ص116 ب39.
4- مستدرك الوسائل: ج10 ص413 ب86 ح12273.
5- كامل الزيارات: ص176 ب71.

..............................

الإسلام، فلعن الله أمة أسست أساس الظلموالجور عليكم أهل البيت»(1).

وأيضاً: «لعن الله أمة قتلتك، لعن الله أمة ظلمتك، لعن الله أمة أسست أساس الظلم والجور والبدعة عليكم أهل البيت»(2).

وعن سعيد بن المسيب: أنه لما ورد نعي الحسين (علیه السلام) المدينة وقتل ثمانية عشر من أهل بيته وثلاث وخمسين رجلا من شيعته وقتل علي ابنه بين يديه بنشابة وسبي ذراريه، خرج عبد الله بن عمر إلى الشام منكراً لفعل يزيد ومستنفرا للناس عليه حتى أتى يزيد وأغلظ له القول، فخلا به يزيد وأخرج إليه طوماراً طويلاً كتبه عمر إلى معاوية وأظهر فيه أنه على دين آبائه من عبادة الأوثان وأن محمداً كان ساحراً غلب على الناس بسحره وأوصاه بأن يكرم أهل بيته ظاهراً ويسعى في أن يجتثهم عن جديد الأرض ولا يدع أحداً منهم عليها... فلما قرأه ابن عمر رضي بذلك ورجع وأظهر للناس أنه محق فيما أتى به ومعذور فيما فعله، ولنعم ما قيل:

ما قتل الحسين (علیه السلام) إلا في يوم السقيفة، فلعنة الله على من أسس أساس الظلم والجور على أهل بيت النبي صلوات الله عليهم أجمعين»(3).

ص: 362


1- بحار الأنوار: ج98 ص237 ب18 ص38.
2- عيون أخبار الرضا (علیه السلام): ج2 ص269-270 ب68 ح1.
3- بحار الأنوار: ج45 ص328 ب47.

ثم انكفأت (علیها السلام)

اشارة

-------------------------------------------

رجوع الزهراء (علیها السلام) إلى المنزل

مسألة: الانكفاء قد يدل على الرجوع بدون الوصول إلى المقصد الذي خرج الإنسان لأجله(1)، لذا تقدم منها (عليها الصلاة والسلام): «فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه»، أي: لا يرجع خائباً بل يرجع ظافراً. ولعل هذه الجملة تدل على استحباب الرجوع إذا لم يجد الإنسان ما أراده وكان بقاؤه من أسباب الوهن والضعف.

قولها (علیها السلام): «ثم انكفأت» أي رجعت إلى الدار، والظاهر أن رجوعها كان من طريق الشارع لا من الباب المشرع إلى المسجد.

وانكفأ: أي رجع، من قولهم: كفأت القوم إذا أرادوا وجهاً فصرفتهم عنه إلى غيره، فانكفئوا أي رجعوا.

وربما يدل (ثم) على أن الصديقة (علیها السلام) لم تخرج من المسجد فورانتهاء خطبتها، بل إنها تريثت قليلاً ثم خرجت، ولعل السبب في ذلك حالتها الصحية أثر ما جرى عليها من الظلم والضرب وكسر الضلع وإسقاط الجنين، فكانت حالتها مؤلمة جداً، وقد أنهكتها الخطبة أيضاً، فكانت بحاجة إلى نوع تريث ثم الخروج، فصلوات الله وسلامه عليها، ولعنة الله على من ظلمها وجحد حقها وحق بعلها وبنيها (علیهم السلام).

ص: 363


1- وفي اللغة: انكفأت بهم السفينة انقلبت. وانكفأ: مال ورجع. أنكفأ القوم: انهزموا ولم يصلوا إلى ما أرادوا.

..............................

سبل مواجهة الطاغوت

مسألة: المواجهة مع الطاغوت قد تتخذ شكل الكر والفر، وربما لزم الانسحاب المؤقت، كما لو كان استمرار الهجوم ناقضاً للغرض، سواء في جبهات القتال، أو في الحرب الإعلامية، أو الحرب السياسية والدبلوماسية، أو غيرها.

وهذا ما يستفاد من مواقف الصديقة الكبرى (علیها السلام) ومنها هذا الموقف، حيث (انكفأت)، إذ لم يكن في البقاء بعدها في المسجد فائدة، وكان لابد من مواصلة الهجوم على الباطل والدفاع عن الحق بعد العودة للمنزل وبطريقة أخرى.

ص: 364

وأمير المؤمنين (علیه السلام)

اشارة

-------------------------------------------

اللقب المناسب

مسألة: ما ذكرناه سابقاً من استحباب ذكر لقب (أمير المؤمنين) عند التحدث عن الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام) - كما عبرت في المقام السيدة زينب (علیها السلام) راوية هذه الخطبة الشريفة - لا ينفي استحباب وصفه (علیه السلام) والإشارة إليه بسائر ألقابه أو كناه، فيكون الأمر عندئذ من قبيل تزاحم المستحبات، أو من قبيل الاستحباب التخييري، أو ما أشبه.. والبلاغة تقتضي انتخاب الأنسب بالمقام.

ولا تخفى الدقة والبلاغة في انتخاب السيدة زينب (علیها السلام) لقب (أمير المؤمنين) هاهنا، حيث الكلام عن الخلافة وغصبها ومن هو الأحق بها، فإن هذا اللقب بالإضافة إلى التصريح به في الروايات، منحه رسول الله (صلي الله عليه و آله) لعلي (علیه السلام) حين قال في غدير خم: «سلموا عليه بإمرة المؤمنين»(1).

ثم إن إطلاق هذا اللقب على الإمام (علیه السلام) قد يكون واجباً كما يقالفي مورد الرواية وما يشاركه في الملاك، فتأمل. نعم الاعتقاد بأنه (علیه السلام) أمير المؤمنين واجب كما لا يخفى. ومن المعلوم أن المراد بالمؤمنين: الأعم من المؤمنين بألسنتهم أو بقلوبهم، فإن للمؤمن ثلاثة اطلاقات:

1: إطلاق بالمعنى الخاص(2).

2: وإطلاق بالمعنى الأخص(3).

ص: 365


1- الأمالي للصدوق: ص355 المجلس56 ح10.
2- وهو كل مؤمن بالله والرسول والولاية.
3- وهو المؤمن بالمعنى السابق زائداً الالتزام بتعاليم الشريعة والولاية.

..............................

3: وإطلاق بالمعنى الأعم(1).

كما لا يخفى على من راجع الآيات والروايات.

عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: قلت له: ما الإسلام؟. فقال: «دين الله اسمه الإسلام، وهو دين الله قبل أن تكونوا حيث كنتم وبعد أن تكونوا، فمن أقر بدين الله فهو مسلم، ومن عمل بما أمر الله عزوجل به فهو مؤمن»(2).وعن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: سألته عن الإيمان؟. فقال: «شهادة أن لا إله إلا الله، والإقرار بما جاء من عند الله، وما استقر في القلوب من التصديق بذلك». قال: قلت: الشهادة أليست عملاً؟. قال: «بلى». قلت: العمل من الإيمان؟. قال: «نعم، الإيمان لا يكون إلا بعمل والعمل منه، ولا يثبت الإيمان إلا بعمل»(3).

وعن الوشاء، عن أبي الحسن (علیه السلام)، قال: سمعته يقول: «الإيمان فوق الإسلام بدرجة، والتقوى فوق الإيمان بدرجة، واليقين فوق التقوى بدرجة، وما قسم في الناس شيء أقل من اليقين»(4).

وعن سفيان بن السمط، قال: سأل رجل أبا عبد الله (علیه السلام) عن الإسلام والإيمان ما الفرق بينهما، فلم يجبه ثم سأله فلم يجبه، ثم التقيا في الطريق وقد أزف من الرجل الرحيل. فقال له أبو عبد الله(علیه السلام): «كأنه قد أزف منك رحيل؟» فقال: نعم. فقال (علیه السلام): «فالقني في البيت». فلقيه فسأله عن الإسلاموالإيمان ما

ص: 366


1- وهو كل مسلم، وأمير المؤمنين في بعض معانيه يراد به هذا المعنى، إذ هو (علیه السلام) أمير لكل مسلم.
2- الكافي: ج2 ص38 باب في أن الإيمان مبثوث لجوارح البدن كلها ح4.
3- بحار الأنوار: ج66 ص22 ب30 ح4.
4- بحار الأنوار: ج67 ص136 ب52 ح2.

..............................

الفرق بينهما؟. فقال (علیه السلام): «الإسلام هو الظاهر الذي عليه الناس، شهادة أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصيام شهر رمضان فهذا الإسلام - وقال: - الإيمان معرفة هذا الأمر مع هذا فإن أقر بها ولم يعرف هذا الأمر كان مسلماً وكان ضالاً»(1).

وعن سماعة، قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): أخبرني عن الإسلام والإيمان أهما مختلفان؟. فقال: «إن الإيمان يشارك الإسلام والإسلام لا يشارك الإيمان». فقلت: فصفهما لي؟. فقال: «الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله والتصديق برسول الله (صلي الله عليه و آله)، به حقنت الدماء، وعليه جرت المناكح والمواريث، وعلى ظاهره جماعة الناس. والإيمان الهدى وما يثبت في القلوب من صفة الإسلام، وما ظهر من العمل به، والإيمان أرفع من الإسلام بدرجة، إن الإيمان يشارك الإسلام في الظاهر، والإسلام لا يشارك الإيمان فيالباطن، وإن اجتمعا في القول والصفة»(2).

وعن خضر بن عمرو، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: سمعته يقول: «المؤمن مؤمنان: مؤمن وفى لله بشروطه التي شرطها عليه، فذلك مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، وذلك من يَشفع ولايُشفع له، وذلك ممن لا تصيبه أهوال الدنيا ولا أهوال الآخرة. ومؤمن زلت به قدم فذلك كخامة الزرع كيفما كفأته الريح انكفأ، وذلك ممن تصيبه أهوال الدنيا والآخرة، ويُشفع له وهو على خير»(3).

ص: 367


1- الكافي: ج2 ص24-25 باب أن الإسلام يحقن به الدم وتؤدى به الأمانة وأن الثواب على الإيمان ح4.
2- بحار الأنوار: ح65 ص248 ب24 الأخبار ح8.
3- الكافي: ج2 ص248 باب في أن المؤمن صنفان ح2.

..............................

وعن الكناني، قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): أيهما أفضل الإيمان أم الإسلام، فإن من قبلنا يقولون: إن الإسلام أفضل من الإيمان؟. فقال: «الإيمان أرفع من الإسلام». قلت: فأوجدني ذلك؟. قال: «ما تقول فيمن أحدث في المسجد الحرام متعمداً؟». قال: قلت: يضرب ضرباً شديداً. قال: «أصبت، فما تقول فيمن أحدث في الكعبة متعمداً؟». قلت: يقتل. قال: «أصبت، ألا ترى أنالكعبة أفضل من المسجد وأن الكعبة تشرك المسجد والمسجد لا يشرك الكعبة، وكذلك الإيمان يشرك الإسلام والإسلام لا يشرك الإيمان»(1).

وعن عبد العزيز القراطيسي، قال: دخلت على أبي عبد الله (علیه السلام) فذكرت له شيئاً من أمر الشيعة ومن أقاويلهم. فقال: «يا عبد العزيز، الإيمان عشر درجات بمنزلة السلّم له عشر مراقي، وترتقي منه مرقاة بعد مرقاة، فلا يقولن صاحب الواحدة لصاحب الثانية لست على شيء، ولا يقولن صاحب الثاية لصاحب الثالثة لست على شيء، حتى انتهى إلى العاشرة - قال - وكان سلمان في العاشرة، وأبوذر في التاسعة، والمقداد في الثامنة. يا عبد العزيز، لاتسقط من هو دونك فيسقطك من هو فوقك، إذا رأيت الذي هو دونك فقدرت أن ترفعه إلى درجتك رفعاً رفيقاً فافعل، ولا تحملن عليه ما لايطيقه فتكسره؛ فإنه من كسر مؤمناً فعليه جبره، لأنك إذا ذهبت تحمل الفصيل حمل البازل فسخته»(2).

ص: 368


1- بحار الأنوار: ج65 ص250 ب24 الأخبار ح11.
2- الخصال: ج2 ص448 الإيمان عشر درجات ح49.

يتوقع رجوعها ويتطلع طلوعها عليه

اشارة

-------------------------------------------

علم بمواقف الزهراء (علیها السلام)

مسألة: من الواضح أن ذهاب الصديقة الطاهرة (صلوات الله عليها) إلى المسجد وإلقاءها الخطبة كان بعلم من أمير المؤمنين (علیه السلام) وبتنسيق معه، وقولها: «وأمير المؤمنين يتوقع رجوعها إليه» و«يتطلع طلوعها عليه» مما يلمح إلى ذلك.

بل كان موقفها (علیها السلام) بأمر من رسول الله (صلي الله عليه و آله) وبحكم من السماء، مضافاً إلى كونها (علیها السلام) وكونهم (علیهم السلام) أوعية مشيئة الله عزوجل ولهم الولاية التشريعية على ما هو مذكور في محله.

والفرق بين (يتطلع) و(يتوقع): أن التوقع يحصل ولو بكون الإنسان في داخل الدار، أما التطلع فالمنصرف منه تكرار الخروج والنظر إلى الطريق بانتظار عودة الغائب، كأنه يلحظه ساعة بعد ساعة، وكأنه يخرج مرة ويدخل أخرى وهكذا كالذي ينتظر إنساناً آتياً.

من مصاديق الانتظار

مسائل: هل يستفاد من فعله (علیهالسلام) (توقعه رجوعها) و(تطلعه طلوعها) استحباب انتظار الزوج رجوع زوجته؟. واستحباب انتظار رجوع المظلوم عن ظلامته؟. وكذلك استحباب انتظار عودة المعصوم (علیه السلام)؟. وما شابهها(1).

لا يبعد ذلك(2).

ص: 369


1- كانتظار الزوجة لرجوع زوجها.
2- وذلك بتنقيح المناط أو إلغاء الخصوصية ولأدلة الأسوة.

..............................

قال أبو عبد الله (علیه السلام) في قوله تعالى: ]ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ»(1). قال: «أولئك كانوا قوماً بين عيسى ومحمد ينتظرون مجيء محمد (صلي الله عليه و آله)»(2).

وعن أبي الجارود، قال: خرج أبو جعفر (علیه السلام) على أصحابه يوماً وهم ينتظرون خروجه. فقال لهم: «تنجزوا البشرى من الله، ما أحد يتنجز البشرى من الله غيركم»(3).وقال أبو عبد الله (علیه السلام): «كأني أنظر إلى القائم (علیه السلام) على ظهر النجف، فإذا استوى على ظهر النجف ركب فرساً أدهم أبلق بين عينيه شمراخ، ثم ينتفض به فرسه فلا يبقى أهل بلدة إلا وهم يظنون أنه معهم في بلادهم، فإذا نشر راية رسول الله (صلي الله عليه و آله) انحط إليه ثلاثة عشر ألف ملك وثلاثة عشر ملكاً كلهم ينتظر القائم (علیه السلام)، وهم الذين كانوا مع نوح (علیه السلام) في السفينة، والذين كانوا مع إبراهيم الخليل (علیه السلام) حيث ألقي في النار، وكانوا مع عيسى (علیه السلام) حيث رفع، وأربعة آلاف مسومين ومردفين، وثلاثمائة وثلاثة عشر ملكاً يوم بدر، وأربعة آلاف ملك الذين هبطوا يريدون القتال مع الحسين بن علي (علیه السلام) فلم يؤذن لهم، فصعدوا في الاستئذان وهبطوا وقد قتل الحسين (علیه السلام)، فهم شعث غبر يبكون عند قبر الحسين (علیه السلام) إلى يوم القيامة، وما بين قبر الحسين (علیه السلام) إلى السماء مختلف الملائكة»(4).

ص: 370


1- سورة المائدة: 82.
2- تفسير العياشي: ج1 ص335-336 من سورة المائدة ح162.
3- المحاسن: ج1 ص160 ب28 ح102.
4- كمال الدين: ج2 ص671-672 ب58 ح22.

..............................

وقال (علیه السلام): «الختم على طين قبر الحسين (علیه السلام) أن يقرأ عليه «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ»(1)». وروي: «إذا أخذته فقل: بسم الله اللهم بحق هذه التربة الطاهرة، وبحق البقعة الطيبة، وبحق الوصي الذي تواريه، وبحق جده وأبيه، وأمه وأخيه، والملائكة الذين يحفون به، والملائكة العكوف على قبر وليك ينتظرون نصره (صلى الله عليهم أجمعين)، اجعل لي فيه شفاء من كل داء، وأماناً من كل خوف، وغنى من كل فقر، وعزّاً من كل ذل، وأوسع به علي في رزقي وأصح به جسمي»(2).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «إذا كان المؤمن يحاسب تنتظره أزواجه على عتبات الأبواب كما ينتظرن أزواجهن في الدنيا من الغيبة. قال: فيجيء الرسول فيبشرهن، فيقول: قد والله انقلب فلان من الحساب. قال: فيقلن: بالله!. فيقول: قد والله لقد رأيته انقلب من الحساب. قال: فإذا جاءهن قلن: مرحباً وأهلاً، ما أهلك الذين كنت عندهم في الدنيا بأحق بك منا»(3).

انتظار المعصوم (علیه السلام)

مسألة: انتظار (المعصوم (علیه السلام)) عبادة سواء كان انتظاراً لظهوره، أم للطفه، وسواء كان في زمن الغيبة أم غيرها.

وفي رواية هجرة النبي (صلي الله عليه و آله) إلى المدينة: «لما قدم رسول الله (صلي الله عليه و آله) إلى قباء فنزل بهم ينتظر قدوم علي (علیه السلام). فقال له أبو بكر: انهض بنا إلى المدينة؛ فإن

ص: 371


1- سورة القدر.
2- مستدرك الوسائل: ج10 ص341 ب56 ح12138.
3- الزهد: ص91 ب17 ح244.

..............................

القوم قد فرحوا بقدومك و هم يستريثون إقبالك إليهم، فانطلق بنا ولا تقم هاهنا تنتظر علياً فما أظنه يقدم إليك إلى شهر!.

فقال له رسول الله (صلي الله عليه و آله): كلا ما أسرعه، ولست أريم حتى يقدم ابن عمي وأخي في الله عزوجل وأحب أهل بيتي إليَّ، فقد وقاني بنفسه من المشركين. قال: فغضب عند ذلك أبو بكر واشمأز وداخله من ذلك حسد لعلي (علیه السلام)، وكان ذلك أول عداوة بدت منه لرسول الله (صلي الله عليه و آله) في علي (علیه السلام)، وأول خلاف على رسول الله (صلي الله عليه و آله)، فانطلق حتى دخل المدينة وتخلف رسول الله (صلي الله عليه و آله) بقباء حتى ينتظر علياً(علیه السلام)»(1).

تهيئة المقدمات

مسألة: تهيئة المقدمات - وهي من مقومات الانتظار - عبادة أخرى.

وأما في المقام (انتظار قدوم الصديقة (علیها السلام) من المسجد)، فإن أمير المؤمنين (علیه السلام) لم يكن مأموراً في هذه الفترة بأكثر من ذلك فاكتفى بالانتظار والتطلع، وربما كان يأتي ببعض المقومات لا نعلمها.

قال رسول الله (صلي الله عليه و آله): «أفضل أعمال أمتي انتظار فرج الله تعالى»(2).

وفي خبر الشيخ الشامي الذي قدم على أمير المؤمنين (علیه السلام)، قال: فأي الأعمال أحب إلى الله عزوجل؟.

قال (علیه السلام): «انتظار الفرج»(3).

ص: 372


1- بحار الأنوار: ج19 ب116 ب7 ح2.
2- صحيفة الرضا (علیه السلام): ص54 متن الصحيفة ح62.
3- معاني الأخبار: ص199 باب معنى الغايات ح4.

..............................

وقال الإمام الرضا (علیه السلام): «ما أحسن الصبر وانتظار الفرج، أما سمعت قول العبد الصالح: «وَارْتَقِبُوا إِنِّيمَعَكُمْ رَقِيبٌ»(1) و «فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ»(2)، فعليكم بالصبر؛ فإنه إنما يجيء الفرج على اليأس، وقد كان الذين من قبلكم أصبر منكم»(3).

وعن أبي حمزة الثمالي، عن أبي خالد الكابلي، قال: دخلت على سيدي علي بن الحسين زين العابدين (علیه السلام). فقلت له: يا ابن رسول الله، أخبرني بالذين فرض الله طاعتهم ومودتهم وأوجب على خلقه الاقتداء بهم بعد رسول الله (صلي الله عليه و آله) - إلى أن قال - فقلت: يا ابن رسول الله، ثم يكون ماذا؟. قال (علیه السلام): «ثم تمتد الغيبة بولي الله الثاني عشر من أوصياء رسول الله والأئمة بعده يا أبا خالد، إن أهل زمان غيبته القائلين بإمامته والمنتظرين لظهوره أفضل أهل كل زمان؛ لأن الله تعالى ذكره أعطاهم من العقول والأفهام والمعرفة ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة، وجعلهم في ذلك الزمان بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله (صلي الله عليه و آله) بالسيف، أولئك المخلصون حقاً وشيعتنا صدقاً، والدعاة إلى دين الله سراً وجهراً - و قال(علیه السلام) - انتظار الفرج من أعظم الفرج»(4).

وعن عمرو بن شمر، عن جابر، قال: دخلنا على أبي جعفر محمد بن علي (علیه السلام) ونحن جماعة بعد ما قضينا نسكنا فودعناه، وقلنا له: أوصنا يا ابن رسول الله. فقال: «ليعن قويكم ضعيفكم، وليعطف غنيكم على فقيركم،

ص: 373


1- سورة هود: 93.
2- سورة الأعراف: 71، سورة يونس: 20و102.
3- قرب الإسناد: ص168.
4- الاحتجاج: ج2 ص318 احتجاجه (علیه السلام) في أشياء شتى من علوم الدين وذكر طرف من مواعظه البليغة.

..............................

ولينصح الرجل أخاه كنصحه لنفسه، واكتموا أسرارنا، ولا تحملوا الناس على أعناقنا، وانظروا أمرنا، وما جاءكم عنا فإن وجدتموه في القرآن موافقاً فخذوا به، وإن لم تجدوا موافقاً فردوه، وإن اشتبه الأمر عليكم فقفوا عنده وردوه إلينا حتى نشرح لكم من ذلك ما شرح لنا، فإذا كنتم كما أوصيناكم ولم تعدوا إلى غيره فمات منكم ميت قبل أن يخرج قائمنا كان شهيداً، ومن أدرك قائمنا فتقتل معه كان له أجر شهيدين، ومن قتل بين يديه عدواً لنا كان له أجر عشرينشهيداً»(1).

مطلق الانتظار

مسألة: انتظار الخير عبادة في الجملة، وهو بين واجب ومستحب.

نعم، مطلق الانتظار على أقسام، فمنه - مضافاً إلى ما سبق من الوجوب والاستحباب - ما هو محرم ومكروه ومباح بحسب اختلاف الموارد، على ما ورد في الفقه. قال تعالى: «وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ»(2).

وقال سبحانه: «قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ»(3).

وقال تعالى: «قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ»(4).

وقال سبحانه: «مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً»(5).

ص: 374


1- بحار الأنوار: ج52 ص122-123 ب22 ح5.
2- سورة البقرة: 280.
3- سورة الأنعام: 158.
4- سورة يونس: 102.
5- سورة الأحزاب: 23.

وعن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن محمد بن عبد الله، قال: قلت للرضا (علیه السلام): إن أبي حدثني، عن آبائك (علیهم السلام)، أنه قيل لبعضهم: إنفي بلادنا موضع رباط يقال له: قزوين، وعدواً يقال له: الديلم، فهل من جهاد أو هل من رباط؟. فقال: عليكم بهذا البيت فحجوه، ثم قال فأعاد عليه الحديث ثلاث مرات كل ذلك يقول: عليكم بهذا البيت فحجوه - إلى أن قال - فقال أبو الحسن (علیه السلام): «صدق هو على ما ذكر»(1).

وعن منصور بن حازم، قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن رجل مجوسي أو مشرك من غير أهل الكتاب كانت تحته امرأة فأسلم أو أسلمت؟. قال: «ينتظر بذلك انقضاء عدتها، وإن هو أسلم أو أسلمت قبل أن تنقضي عدتها فهما على نكاحهما الأول، وإن هو لم يسلم حتى تنقضي العدة فقد بانت منه»(2).

وعن أبي عبد الله أو أبي الحسن (علیهما السلام)، قال: قلت له: رجل طلق امرأته، فلما مضت ثلاثة أشهر ادعت حبلاً؟. قال: «ينتظر بها تسعة أشهر»(3).

وعن يونس، عن الرضا (علیه السلام)، في السمك الجلال أنه سأله عنه؟. فقال:«ينتظر به يوم وليلة»(4).

وقال رسول الله (صلي الله عليه و آله): «أكرموا الخبز». قيل: يا رسول الله، وما إكرامه؟. قال: «إذا وضع لم ينتظر به غيره»(5).

وعن علي بن يقطين، قال: سألت أبا الحسن (علیه السلام) عن رجل أوصى إلى

ص: 375


1- وسائل الشيعة: ج11 ص122- 123 ب44 ح14411.
2- الكافي: ج5 ص435-436 باب نكاح أهل الذمة والمشركين يسلم بعضهم ولا يسلم بعض ... ح3.
3- وسائل الشيعة: ج22 ص224 ب25 ح28445.
4- تهذيب الأحكام: ج9 ص13 ب1 ح48.
5- وسائل الشيعة: ج24 ص391 ب83 ح30860.

..............................

امرأة فأشرك في الوصية معها صبياً؟. فقال: «يجوز ذلك، وتمضي المرأة الوصية ولا ينتظر بلوغ الصبي»(1).

وعن أبي بصير قال: قلت لأبي جعفر (علیه السلام): ما ترى في رجل ضرب امرأة شابة على بطنها فعقر رحمها وأفسد طمثها، وذكرت أنه قد ارتفع طمثها عنها لذلك، وقد كان طمثها مستقيماً؟. قال: «ينتظر بها سنة، فإن صلح رحمها وعاد طمثها إلى ما كان وإلا استحلفت، وأغرم ضاربها ثلث ديتها لفساد رحمها، وارتفاع طمثها»(2).وكان رسول الله (صلي الله عليه و آله) يقول: «من حبس نفسه على صلاة فريضة ينتظر وقتها فصلاها في أول وقتها، فأتم ركوعها وسجودها وخشوعها، ثم مجد الله عزوجل وعظمه وحمده، حتى يدخل وقت صلاة أخرى لم يلغ بينهما، كتب الله له كأجر الحاج المعتمر،س وكان من أهل عليين»(3).

وقال أبو عبد اللّه (علیه السلام): «خمسة ينتظر بهم إلا أن يتغيروا: الغريق، والمصعوق، والمبطون، والمهدوم، والمدخن»(4).

وعن يعقوب بن شعيب، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: قال: سألته عن الرجل ينام عن الغداة حتى تبزغ الشمس، أيصلي حين يستيقظ أو ينتظر حتى تنبسط الشمس؟.

فقال: «يصلي حين يستيقظ». قلت: يوتر أو يصلي ركعتين؟.

ص: 376


1- الكافي: ج7 ص46 باب من أوصى إلى مدرك وأشرك معه الصغير ح1.
2- من لا يحضره الفقيه: ج4 ص151 باب ما يجب على من ركل امرأة في فرجها فزعمت أنها لا تحيض ح5335.
3- وسائل الشيعة: ج4 ص116 ب2 ح4663.
4- تهذيب الأحكام: ج1 ص337 ب13 ح156.

..............................

قال: «بل يبدأ بالفريضة»(1).

وعن حفص بن البختري، قال: «من خرج من مكة أو المدينة أو مسجد الكوفة أوحائر الحسين (صلوات الله عليه) قبل أن ينتظر الجمعة، نادته الملائكة: أين تذهب لا ردك الله»(2).

وفي الغيبة للنعماني: (باب ما روي فيما أمر به الشيعة من الصبر والكف والانتظار للفرج وترك الاستعجال بأمر الله وتدبيره)(3).

وعن عبد الرحمن بن كثير، قال: كنت عند أبي عبد الله (علیه السلام) يوماً وعنده مهزم الأسدي. فقال: جعلني الله فداك، متى هذا الأمر الذي تنتظرونه فقد طال علينا؟.

فقال (علیه السلام): «يا مهزم، كذب المتمنون، وهلك المستعجلون، ونجا المسلّمون، وإلينا يصيرون»(4).

هذه بعض مصاديق الانتظار المختلفة في الحكم بين واجب ومستحب ومكروه ومحرم ومباح.

ص: 377


1- الاستبصار: ج1 ص286 ب156 ح2.
2- بحار الأنوار: ج97 ص132 ب3 ح19.
3- الغيبة، للنعماني: ص194 ب11.
4- الغيبة، للنعماني: ص197- 198 ب11 ح8.

فلما استقرت بها الدار، قالت لأمير المؤمنين (علیه السلام) :

اشارة

-------------------------------------------

التكلم بعد الاستقرار

مسألة: هل يستفاد من هذا استحباب أن يتكلم الإنسان بعد الاستقرار، لا في حالة الحركة والاضطراب؟.

لا يبعد ذلك.

وقد يقال: بالعدم(1)؛ لأن فعلها (علیها السلام) أعم من كونه لذلك أو لجهة أخرى(2).

وهناك روايات عديدة في آداب الكلام نشير إلى بعضها:

عن أبي حمزة، عن علي بن الحسين (علیه السلام) قال: «إن لسان ابن آدم يشرف كل يوم على جوارحه كل صباح فيقول: كيف أصبحتم؟. فيقولون: بخير إن تركتنا. ويقولون: الله الله فينا. ويناشدونه ويقولون: إنما نثاب ونعاقب بك»(3).وعن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «لا يزال العبد المؤمن يكتب محسناً ما دام ساكتاً، فإذا تكلم كتب محسناً أو مسيئاً»(4).

وعن القاسم بن سليمان، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «سمعت أبي يقول: من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»(5).

ص: 378


1- أي: عدم الدلالة لا عدم الاستحباب؛ فإنه مسكوت عنه.
2- كالتعب والإرهاق وغير ذلك.
3- وسائل الشيعة: ج12 ص189 ب119 ح16046.
4- الكافي: ج2 ص116 باب الصمت وحفظ اللسان ح21.
5- الزهد: ص10 باب الصمت إلا بخير وترك الرجل ما لا يعنيه والنميمة ح19.

..............................

وعن علي (علیه السلام)، قال: قال رسول الله (صلي الله عليه و آله): «الكلام ثلاثة: فرابح وسالم وشاجب، فأما الرابح الذي يذكر الله، وأما السالم فالساكت، وأما الشاجب فالذي يخوض في الباطل»(1).

وقال رسول الله (صلي الله عليه و آله): «إياكم وجدال المفتون! فإن كل مفتون ملقى حجته إلى انقضاء مدته، فإذا انقضت مدته أحرقته فتنته بالنار»(2).

وجاء في وصية النبي (صلي الله عليه و آله) لأبي ذر (رحمة الله): «يا أبا ذر، إن الله عزوجلعند لسان كل قائل، فليتق الله امرؤ وليعلم ما يقول. يا أبا ذر، اترك فضول الكلام وحسبك من الكلام ما تبلغ به حاجتك. يا أبا ذر، كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما يسمع. يا أبا ذر، ما من شيء أحق بطول السجن من اللسان»(3).

وعن سليمان بن جعفر الجعفري، قال: سمعت موسى بن جعفر (علیه السلام) يقول: حدثني أبي (علیه السلام) عن أبيه (علیه السلام) عن سيد العابدين علي بن الحسين (علیه السلام) عن سيد الشهداء حسين بن علي بن أبي طالب (علیهم السلام)، قال: «مر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) برجل يتكلم بفضول الكلام، فوقف عليه ثم قال: يا هذا، إنك تملي على حافظيك كتاباً إلى ربك، فتكلم بما يعنيك ودع ما لايعنيك»(4).

وسئل علي بن الحسين (علیه السلام) عن الكلام والسكوت أيهما أفضل؟.

فقال (علیه السلام): «لكل واحد منهما آفات، فإذا سلما من الآفات فالكلام

ص: 379


1- مستدرك الوسائل: ج5 ص293 ب5 ح5894.
2- وسائل الشيعة: ج12 ص198-199 ب120 ح16077.
3- بحار الأنوار: ج74 ص87 ب4 ح3.
4- الأمالي للصدوق: ص32-33 المجلس التاسع ح4.

..............................

أفضل من السكوت». قيل: وكيف ذاك يا ابن رسول الله؟. قال: «لأن الله عزوجل ما بعث الأنبياء والأوصياء بالسكوت إنما يبعثهم بالكلام، ولا استحقت الجنة بالسكوت، ولا استوجب ولاية الله بالسكوت، ولا توقيت النار بالسكوت، ولا تجنب سخط الله بالسكوت، إنما ذلك كله بالكلام، وما كنت لأعدل القمر بالشمس، إنك تصف فضل السكوت بالكلام ولست تصف فضل الكلام بالسكوت»(1).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «كان المسيح (علیه السلام) يقول: لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله؛ فإن الذين يكثرون الكلام في غير ذكر الله قاسية قلوبهم ولكن لا يعلمون»(2).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) - في رسالته إلى أصحابه - قال:

«فاتقوا الله وكفوا ألسنتكم إلا من خير - إلى أن قال: - وعليكم بالصمت إلا فيما ينفعكم الله به من أمر آخرتكم ويأجركم عليه، وأكثروا من التهليل والتقديس، والتسبيح والثناء على الله،والتضرع إليه والرغبة فيما عنده من الخير الذي لا يقدر قدره، ولايبلغ كنهه أحد، فاشغلوا ألسنتكم بذلك عما نهى الله عنه من أقاويل الباطل التي تعقب أهلها خلوداً في النار من مات عليها ولم يتب إلى الله ولم ينزع عنها»(3).

ص: 380


1- الاحتجاج: ج2 ص315 احتجاجه (علیه السلام) في أشياء شتى من علوم الدين وذكر طرف من مواعظه البليغة.
2- الكافي: ج2 ص114 باب الصمت وحفظ اللسان ح11.
3- وسائل الشيعة: ج12 ص196- 197 ب120 ح16073.

..............................

استقرار الدار

مسألة: لا يبعد أن يراد ب- (فلما استقرت بها الدار) المعنى الحقيقي(1)، حيث إن الجمادات - على عكس ما نتصوره - تشعر وتتفاعل، كما صرح القرآن الكريم بذلك والأحاديث الكثيرة:

قال تعالى: «قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ»(2).

وقال سبحانه: «إِنَّا عَرَضْنَا الأَْمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا»(3).

وقال تعالى: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ»(4).

وقال سبحانه: «يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ»(5).

وما ورد من شهادة أعضاء الإنسان عليه(6) وشهادة مصلاه له(7).إلى غير ذلك.

وعلى هذا فلا يستغرب من إرادة المعنى الحقيقي، وهو أن الدار قد استقرت برجوع الصديقة (علیها السلام) إليها حقيقة بعد أن اضطربت لمغادرتها.

ص: 381


1- في قبال المعنى المجازي، أي: استقرت هي (علیها السلام) في الدار.
2- سورة فصلت: 11.
3- سورة الأحزاب: 72.
4- سورة الإسراء: 44.
5- سورة سبأ: 10.
6- إشارة إلى قوله تعالى: «يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» سورة النور: 24.
7- راجع من لا يحضره الفقيه: ج2 ص299 باب الموت في الغربة ح2510.

..............................

وأما المعنى المجازي فهو مبني على القلب(1) أي: سكنت، كأنها (علیها السلام) اضطربت بخروجها وخطبتها.

فلسفة الحوار

مسألة: ليس هذا الخطاب عتاباً بالمعنى الحقيقي، فإن الحوار بين أمير المؤمنين علي (علیه السلام) والصديقة الزهراء (علیها السلام) بهذا الأسلوب كان بياناً للواقع وأهميته وشدة الظلامة التي جرت عليها، ولم يكن على وجه العتاب المعهود بلا شك ولا إشكال، فقد يبين الإنسان الواقع بشكل مجرد عادي، وقد يبينه في تمثيل وتشيبه وبلاغة وأدب تصويري وفي شكلحوار، مضافاً إلى أنه كان من اللازم أن يعرف الناس سبب صبر الإمام (علیه السلام) حيث كان ذلك بأمر خاص من الله ورسوله (صلي الله عليه و آله) حفظاً للإسلام والمسلمين في تلك الظروف الحرجة.

ولعل ما ورد من حديث الملائكة مع الله سبحانه وتعالى(2) كان من هذا القبيل. وكذلك قصة النبي (صلي الله عليه و آله) في ليلة المعراج حيث راجع الله تعالى مراراً للتخفيف من الصلوات وركعاتها(3).

وإلا فالنبي (صلي الله عليه و آله) «مَا يَنْطِ-قُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى»(4)،

ص: 382


1- أي: إنها (علیها السلام) استقرت في الدار، ولكن اللفظ مقلوب فعبر باستقرار الدار بها.
2- ربما يكون إشارة إلى قول الملائكة: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَتَعْلَمُونَ» سورة البقرة: 30.
3- راجع تفسير القمي: ج2 ص12 معراج رسول الله (صلی الله علیه و آله).
4- سورة النجم: 3-4.

..............................

والملائكة «بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ * لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ»(1). بل من المحتمل قريباً أن تكون قصة النبي موسى (علیه السلام) والخضر (علیه السلام) من هذاالقبيل(2)..

إذ كيف يمكن حسب المتعارف، أن نبياً من أولي العزم -- بعد أن وطن نفسه على التعلم من غيره، وكان ذلك الغير شخصاً عينه الله لتعليمه وكان أيضاً نبياً من أنبياء الله سبحانه، وبعد أن وعده أن لا يسأله إلا بعد تمام الأمر -- يكرر السؤال والاعتراض؟! إذا لم يكن كل ذلك على سبيل التعليم بهذه الصورة الحوارية.

ومن الاستطراد في الاطراد أن نقول: إن بكاء النبي يعقوب (علیه السلام) على يوسف (علیه السلام) - وهو نبي والنبي أعظم شأناً وأرفع مكانة وأسمى روحاً من كافة البشرية - مدة أربعين سنة، وهو يعلم أن ولده حي، وأن رؤيا يوسف (علیه السلام) سوف تتحقق بعد تلك المدة.. لابد أن يكون لهذا البكاء الطويل معنى حكيم غير ظاهره، بما في ذلك أنه قد يقال إن الله سبحانه أراد أن يجعل للعاطفة والحنان (ينبوعاً) تستقي منه البشرية على مر التاريخ، وإلا لربما كان لقائل أن يقول: إن مثل ذلك لا يفعله حتى الإنسان العادي فكيف بنبي من أنبياء الله. فإن المعنويات كالماديات لها منابع يستقي منها، فكما أن البحر مستقى الماء، والشمسمصدر الطاقة، والهواء محطة للأمواج ومنبع التنفس للإنسان والحيوان والنبات، كذلك الأمر في المعنويات فالعلم والحلم والشجاعة والسماحة والعاطفة وغيرها من المعنويات يلزم أن يكون لها معادن وينابيع يستقي الناس منها تلك الصفات،

ص: 383


1- سورة الأنبياء: 26- 27.
2- راجع سورة الكهف: 65-82.

..............................

وينبغي أن يكون لها انموذج وقمم ليتخذها الإنسان أسوة؛ لأن الإنسان - بطبعه - ينظر إلى من هو فوقه ويستقي منه الفضيلة، فأراد الله سبحانه أن يكون النبي يعقوب (علیه السلام) ذلك المستقى العاطفي للناس، والله سبحانه العال..

وربما يكون ذلك أيضاً من علل تجلي بعض الصفات في إمام وتجلي صفات أخرى في إمام آخر، والله العالم.

والحاصل: إن هذا الحوار والخطاب الموجه من الصديقة (علیها السلام) للإمام (علیه السلام) لم يكن للعتاب المعهود قطعاً، بل لجهة أو جهات ذكرت إجمالاً وسيأتي نوع من التفصيل والتوضيح بعد قليل إن شاء الله.

لماذا صبر الإمام (علیه السلام)؟

مسألة: كان صبر الإمام علي (علیهالسلام) على ما لاقته الصديقة الطاهرة (علیها السلام) من الظلم، وصبره على غصب الخلافة.. من أكبر أنواع الجهاد في سبيل الله عزوجل، حيث إنه أخذ بتطبيق وتنفيذ ما وصاه رسول الله (صلي الله عليه و آله) في اللحظات الأخيرة من حياته الشريفة بالصبر على كل ذلك، فقد نزل جبرئيل بأمر الله عزوجل وأخذ العهد على ذلك.

فبالإسناد إلى أبي الحسن (علیه السلام)، قلت: ألا تذكر ما في الوصية؟. قال: «ذلك سر الله ورسوله». قلت: أكان فيها خلاف القوم على علي؟. قال: نعم حرفاً حرفاً، والله والله لقد قال رسول الله (صلي الله عليه و آله) لعلي وفاطمة: فهمتما ما شرط ربكما وكتب لكما. قالا: قبلنا وصبرنا على ما ساءنا»(1).

ص: 384


1- الصراط المستقيم: ج2 ص92 ب9 ف17 ح11.

..............................

وقال رسول الله (صلي الله عليه و آله): «يا علي، ما أنت صانع إذا قام القوم عليك وتقدموك وبعثوا طاغيتهم إليك يدعوك إلى البيعة، ثم لببت بثوبك تنقاد كما يقاد الشارد من الإبل مخذولاً مذموماً محزوناً مهموماً»؟. فقال علي (علیه السلام): «أنقاد لهم وأصبر على ماأصابني من غير بيعة لهم»(1).

وفي موضع آخر قال جبرائيل لمحمد (صلي الله عليه و آله): «قل لعلي (علیه السلام): إن ربك يأمرك أن تغسل ابن عمك؛ فإنها السنة لا يغسل الأنبياء غير الأوصياء، وهي حجة الله لمحمد على أمته فيما أجمعوا عليه من قطيعة ما أمرهم به». ثم دفع جبرائيل الصحيفة التي كتبها القوم إلى رسول الله (صلي الله عليه و آله) فدفعها النبي (صلي الله عليه و آله) إلى علي (علیه السلام) وقال: «أمسكها فإن فيها الشروط على قطيعتك وذهاب حقك، وما قد أزمعوا عليه من ظلمك تكون عندك توافيني غداً بها وتحاجهم بها»(2).

وفي الحديث: لما ثقل النبي (صلي الله عليه و آله) وخيف عليه الموت دعا بعلي وفاطمة والحسنين، وأخرج من في البيت واستدنى علياً (علیه السلام) وأخذ بيد فاطمة (علیها السلام) بعد بكاء الجميع ووضعها في يد علي. وقال: «هذه وديعة الله ووديعة رسوله عندك فاحفظني فيها فإنك الفاعل، هذه والله سيدة نساء العالمين، هذه مريم الكبرى، والله ما بلغت نفسي هذا الموضع حتى سألت الله لها ولكم فأعطاني. يا علي، أنفذ ما أمرتك به فاطمة فقد أمرتها بأشياء أمرنيبها جبرائيل وهي الصادقة الصدوقة، واعلم أني راض عمن رضيَت عنه ابنتي فاطمة، وكذلك ربي والملائكة، وويل لمن ظلمها وابتزها حقها، اللهم إني منهم بري ء». ثم سماهم

ص: 385


1- بحار الأنوار: ج22 ص493 ب1 ح38.
2- الصراط المستقيم: ج2 ص94-95 ب9 ف17 ح14.

..............................

ثم ضم الأربعة إليه، وقال: «اللهم إني لهم ولمن شايعهم سلم وزعيم يدخلون الجنة، وحرب لمن عاداهم ولمن شايعهم زعيم أن يدخلوا النار. يا فاطمة، لاأرضى حتى ترضى، ثم والله والله لا أرضى حتى ترضى، ثم والله والله لا أرضى حتى ترضى»(1). وقال علي (علیه السلام): «كنت مسنداً للنبي (صلي الله عليه و آله) إلى صدري. فقال لي: تحول أمامي. فتحولت وأسنده جبرائيل، فقال لي: ضم كفيك بعضها إلى بعض. ففعلت، فقال: قد عهدت إليك وأخذت العهد من أمين ربي جبرائيل وميكائيل، فبحقهما عليك إلا أنفذت وصيتي، وعليك بالصبر والورع ومنهاجي لا طريق فلان وفلان، وخذ ما آتاك الله بقوة. وأدخل يديه مضمومتين فيما بين كفي فكأنه أفرغ بينهما شيئاً. وقال: قد أفرغت بين يديك الحكمة فلا يعزب عنك من أمري شي ء، فإذا حضرتك الوفاة أوص إلى وصيك منبعدك على ما أوصيتك، واصنع هكذا لا كتاب ولا صحيفة»(2).

وعن كتاب (خصائص الأئمة) للسيد الرضي الموسوي (رحمة الله): ثم قال له: «يا أخي، إن القوم سيشغلهم عني ما يريدون من عرض الدنيا وهم عليه قادرون فلا يشغلك عني ما شغلهم، فإنما مثلك في الأمة مثل الكعبة نصبها الله علماً، وإنما تؤتى من كل فج عميق وناد سحيق، وإنما أنت العلم علم الهدى، ونور الدين وهو نور الله. يا أخي، والذي بعثني بالحق لقد قدمت إليهم بالوعيد، ولقد أخبرت رجلاً رجلاً بما افترض الله عليهم من حقك، وألزمهم من طاعتك، فكل أجاب إليك وسلم الأمر إليك، وإني لأعرف خلاف قولهم، فإذا قبضت

ص: 386


1- الصراط المستقيم: ج2 ص92-93 ب9 ف17 ح12.
2- الصراط المستقيم: ج2 ص92 ب9 ف17 ح11.

..............................

وفرغت من جميع ما وصيتك به وغيبتني في قبري، فالزم بيتك واجمع القرآن على تأليفه(1)، والفرائض والأحكام على تنزيله، ثم امض ذلك على عزائمه وعلى ما أمرتك به، وعليك بالصبر على ماينزل بك منهم حتى تقدم عليَّ»(2).

وقال علي أمير المؤمنين (علیه السلام): «دعاني النبي (صلي الله عليه و آله) عند موته، وأخرج من في البيت غيري وفيه: جبرائيل والملائكة أسمع الحس ولا أرى شيئاً، فدفع إليَّ وصية مختومة. وقال لي: أتاني بها جبرائيل الساعة، ففضها واقرأها. ففعلت فإذا فيها كل ما كان النبي (صلي الله عليه و آله) يوصيه لا تغادر حرفاً، وكان في أول الوصية: هذا ما عهد محمد بن عبد الله وأوصى به وأسنده إلى وصيه علي بن أبي طالب، وشهد جبرائيل وميكائيل وإسرافيل على ما أوصى وقبضه وصيه، وضمانه على ما ضمن يوشع لموسى ووصي عيسى والأوصياء من قبلهم، على أن محمداً أفضل النبيين، وعلياً أفضل الوصيين، وقبض على الوصية على ما أوصت الأنبياء وسلمه إليه، وهذا أمر الله وطاعته على أن لا نبوة لعلي ولا لغيره بعد محمد وكفى بالله شهيداً. ثم كان فيما شرط عليه النبي (صلي الله عليه و آله) بأمر جبرائيل بأمر الرب الجليل موالاة أولياء الله ورسوله، والبراءة والعداوة لمن عادى الله ورسوله، والصبر وكظم الغيظ على انتهاك الحرمة والقتل،فقبل ذلك. فدعا النبي (صلي الله عليه و آله) بفاطمة والحسن والحسين (علیهم السلام) وأعلمهم بذلك فقبلوا كذلك، وختمت الوصية بخواتيم من ذهب لم تمسه النار ودفعت إلى علي (علیه السلام) »(3).

ص: 387


1- أي: جمع تفسير القرآن وتأويله وعلومه، وإلا فإن القرآن جمع بهذا الشكل في حياة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وبأمر مباشر منه.
2- خصائص الأئمة (علیهم السلام): ص72 قطعة من الأخبار المروية في إيجاب ولاء أمير المؤمنين (علیه السلام).
3- الصراط المستقيم: ج2 ص91 ب9 ف17 ح9.

يا بن أبي طالب

اشارة

-------------------------------------------

احترام الزوجة

مسألتان: يستفاد استحباب احترام الزوجة لزوجها، ورجحان التكنية له من خطابها (علیها السلام) لأمير المؤمنين (علیه السلام) ب- (يا ابن أبي طالب)، فتأمل(1).

وكذلك بالنسبة إلى كل إنسان محترم، فإن الكنية فيها من الاحترام ما ليس في الاسم الصريح.

أبو طالب (علیه السلام) والمواقف المشرفة

لعل عناية الصديقة (علیها السلام) بانتخاب هذه الكنية (يا ابن أبي طالب) للتلميح بأن أبا طالب (علیه السلام) هو ذلك الشخص العظيم الشجاع الذي أوقف نفسه للدفاع عن الرسول (صلي الله عليه و آله).. فمن الحري بابنه أن يقوم بنفس الدور أيضاً في هذا اليوم، فيحامي عن بنت الرسول (صلي الله عليه و آله).قال أبو طالب (علیه السلام) وهو يخاطب النبي (صلي الله عليه و آله):

والله لن يصلوا إليك بجمعهم *** حتى أوسد في التراب دفينا

فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة *** وأبشر بذاك وقر منه عيونا

ودعوتني وعلمت أنك ناصحي *** ولقد دعوت وكنت ثم أمينا

ولقد علمت بأن دين محمد *** من خير أديان البرية دينا

ص: 388


1- ربما يكون وجهه أن تكنيتها (علیها السلام) قد يكون لجهة أخرى كالتي سيذكرها المصنف e بعد أسطر، وربما كان لجهات عديدة منها الاحترام وما سيأتي.

..............................

وكان رسول الله » يقول: «لما مات أبو طالب نالت قريش مني من الأذى ما لم تكن تطمع فيه في حياة أبي طالب»(1).

وقال النبي » أيضاً: «ما نالت قريش مني شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب»(2).

ولما رأى رسول الله (صلي الله عليه و آله) قريشاً تهجموا على أذيته، قال »: «يا عم، ما أسرع ما وجدت بعدك»(3).

إلى غير ذلك مما يدل على قمة إيمان أبي طالب (علیه السلام) وشدة حمايته عن رسول الله (صلي الله عليه و آله).. على ما ذكرناهفي بعض كتبنا (4).

ص: 389


1- أسنى المطالب في نجاة أبي طالب: ص20.
2- أسنى المطالب في نجاة أبي طالب: ص20.
3- أسنى المطالب في نجاة أبي طالب: ص20.
4- راجع كتاب (من المساجد والمزارات في الحرمين الشريفين) للإمام الشيرازي الراحل (قدس سره).

اشتملت شملة الجنين

اشارة

-------------------------------------------

خذلان القوم للإمام (علیه السلام)

مسألة: يستحب بيان أن القوم خذلوا الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) حتى بلغ من المظلومية أنه اشتمل شملة الجنين، وقعد حجرة الظنين.

قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «فَنَظَرْتُ فَإِذَا لَيْسَ لِي مُعِينٌ إِلاَّ أَهْلُ بَيْتِي، فَضَنِنْتُ بِهِمْ عَنِ الْمَوْتِ،وَأَغْضَيْتُ عَلَى الْقَذَى، وَشَرِبْتُ عَلَى الشَّجَا، وَصَبَرْتُ عَلَى أَخْذِ الْكَظَمِ، وَعَلَى أَمَرَّ مِنْ طَعْمِ الْعَلْقَمِ»(1).

وقال (علیه السلام): «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَعْدِيكَ عَلَى قُرَيْشٍ وَمَنْ أَعَانَهُمْ؛ فَإِنَّهُمْ قَدْ قَطَعُوا رَحِمِي، وَأَكْفَئُوا إِنَائِي، وَأَجْمَعُوا عَلَى مُنَازَعَتِي حَقّاً كُنْتُ أَوْلَى بِهِ مِنْ غَيْرِي، وَقَالُوا: أَلاَ إِنَّ فِي الْحَقِّ أَنْ تَأْخُذَهُ وَفِي الْحَقِّ أَنْ تُمْنَعَهُ فَاصْبِرْ مَغْمُوماً أَوْ مُتْ مُتَأَسِّفاً، فَنَظَرْتُ فَإِذَا لَيْسَ لِي رَافِدٌ وَلاَ ذَابٌّ وَلاَ مُسَاعِدٌ إِلاَّ أَهْلَ بَيْتِي فَضَنَنْتُ بِهِمْ عَنِ الْمَنِيَّةِ، فَأَغْضَيْتُ عَلَى الْقَذَى، وَجَرِعْتُ رِيقِي عَلَى الشَّجَا، وَصَبَرْتُ مِنْ كَظْمِ الْغَيْظِ عَلَى أَمَرَّ مِنَ الْعَلْقَمِ،وَآلَمَ لِلْقَلْبِ مِنْ وَخْزِ الشِّفَارِ»(2).

ولما تظلم (علیه السلام) قال له الأشعث بن قيس: لِمَ لم تقاتل؟.

فأجاب (علیه السلام): «بأن لي أسوة بسنة الأنبياء».

وأجاب (علیه السلام) الأشعث مرة أخرى: «بأنه عهد النبي (صلي الله عليه و آله) إليَّ أن لاأجاهد إلا إذا وجدت أعواناً فلو وجدت أعواناً لجاهدت، وقد طفت على المهاجرين

ص: 390


1- نهج البلاغة، الخطب: 26- ومن خطبة له (علیه السلام) وفيها يصف العرب قبل البعثة ثم يصف حاله قبل البيعة له.
2- نهج البلاغة، الخطب: 217- ومن كلام له (علیه السلام) في التظلم والتشكي من قريش.

..............................

والأنصار فلم أجد سوى أربعة، ولو وجدت أربعين يوم بويع لأخي تيم لجاهدتهم»(1).

ومن كتاب معاوية المشهور إلى علي (علیه السلام): (وأعهدك أمس تحمل قعيدة بيتك ليلاً على حمار ويداك في يدي ابنيك الحسن والحسين يوم بويع أبو بكر، فلم تدع أحداً من أهل بدر والسوابق إلا دعوتهم إلى نفسك، ومشيت إليهم بامرأتك، وأدليت إليهم بابنيك، واستنصرتهم على صاحب رسول الله فلم يجبك منهم إلا أربعة أو خمسة ... ومهما نسيت فلا أنسى قولك لأبي سفيان لماحركك وهيجك: لو وجدت أربعين ذوي عزم منهم لناهضت القوم)(2).

ويقول ابن أبي الحديد: (فأما قوله: لم يكن لي معين إلا أهل بيتي فضننت بهم عن الموت، فقول ما زال علي (علیه السلام) يقوله، ولقد قاله عقيب وفاة رسول الله (صلي الله عليه و آله) قال: لو وجدت أربعين ذوي عزم)(3).

وعن عبد الله بن عبد الرحمن، عن أبي جعفر محمد بن علي (علیه السلام): «أن علياً (علیه السلام) حمل فاطمة (صلوات الله عليها) على حمار، وسار بها ليلاً إلى بيوت الأنصار يسألهم النصرة، وتسألهم فاطمة (علیها السلام) الانتصار له، فكانوا يقولون: يا بنت رسول الله، قد مضت بيعتنا لهذا الرجل لو كان ابن عمك سبق إلينا أبا بكر ما عدلناه به!. فقال علي (علیه السلام): أكنت أترك رسول الله (صلي الله عليه و آله) ميتاً في بيته لاأجهزه، وأخرج إلى الناس أنازعهم في سلطانه.. وقالت فاطمة(علیها السلام): ما صنع

ص: 391


1- الصراط المستقيم: ج3 ص12 النوع الثاني في عمر.
2- شرح نهج البلاغة: ج2 ص47 حديث السقيفة.
3- شرح نهج البلاغة: ج2 ص22 حديث السقيفة.

..............................

أبو الحسن إلا ما كان ينبغي له،وصنعوا هم ما الله حسيبهم عليه»(1).

وعن سدير، قال: كنا عند أبي جعفر (علیه السلام) فذكرنا ما أحدث الناس بعد نبيهم (صلي الله عليه و آله) واستذلالهم أمير المؤمنين (علیه السلام). فقال رجل من القوم: أصلحك الله، فأين كان عز بني هاشم وما كانوا فيه من العدد؟!. فقال أبو جعفر (علیه السلام): «ومن كان بقي من بني هاشم إنما كان جعفر وحمزة فمضيا، وبقي معه رجلان ضعيفان ذليلان(2) حديثا عهد بالإسلام عباس وعقيل وكانا من الطلقاء، أما والله لو أن حمزة وجعفراً كانا بحضرتهما ما وصلا إلى ما وصلا إليه، ولو كانا شاهديهما لأتلفا نفسيهما»(3).

وعن عمرو بن ثابت، قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: «إن النبي (صلي الله عليه و آله) لما قبض ارتد الناس على أعقابهم كفاراً إلا ثلاثاً: سلمان، والمقداد، وأبوذر الغفاري. إنه لما قبض رسول الله (صلي الله عليه و آله) جاء أربعون رجلاً إلى علي بن أبي طالب (علیه السلام)، فقالوا: لا والله لا نعطي أحداً طاعة بعدك أبداً. قال:ولِمَ؟. قالوا: إنا سمعنا من رسول الله (صلي الله عليه و آله) فيك يوم غدير خم. قال: وتفعلون؟. قالوا: نعم. قال: فأتوني غداً محلقين. قال: فما أتاه إلا هؤلاء الثلاثة. قال: وجاءه عمار بن ياسر بعد الظهر فضرب يده على صدره، ثم قال له: ما لك أن تستيقظ من نومه الغفلة، ارجعوا فلا حاجة لي فيكم، أنتم لم تطيعوني في حلق الرأس فكيف تطيعوني في قتال جبال الحديد، ارجعوا فلا حاجة لي فيكم»(4).

ص: 392


1- بحار الأنوار: ج28 ص352 ب4 تبيين.
2- أي استذلهما القوم.
3- الكافي: ج8 ص189-190 حديث قوم صالح (علیه السلام) ح216.
4- الاختصاص: ص6 المقدمة.

..............................

وعن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (علیه السلام)، في قوله عزوجل: «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ»(1). قال: «ذاك والله حين قالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير»(2).

وعن عبد الرحيم القصير، قال: قلت لأبي جعفر (علیه السلام): إن الناس يفزعون إذا قلنا: إن الناس ارتدوا؟. فقال: «يا عبد الرحيم، إن الناس عادوا بعد ما قبض رسول الله (صلي الله عليه و آله) أهل جاهلية، إن الأنصار اعتزلت فلم تعتزلبخير جعلوا يبايعون سعداً وهم يرتجزون ارتجاز الجاهلية:

يا سعد أنت المرجى *** وشعرك المرجل

وفحلك المرجم»(3)

تأملات في «اشتملت...»

مسألة: صبر الإمام (علیه السلام) على تلك الظلامات لم يكن عن رغبة منه، وإليه يلمح قولها (علیها السلام): «اشتملت شملة الجنين»، بل كان الصبر لإرادة قاهرة وأمر جازم، إذ لم يكن له (علیه السلام) خيار آخر، بل كان ذلك خياره الوحيد؛ فإن الجنين: لا مناص له من المشيمة ولا خيار آخر له.

والإمام (علیه السلام) لم يكن راغباً في السكون والقعود إلا أن الأمر الإلهي

ص: 393


1- سورة الروم: 41.
2- الكافي: ج8 ص58 رسالة منه (علیه السلام) إليه أيضاً ح19.
3- الكافي: ج8 ص296 حديث نوح (علیه السلام) يوم القيامة ح455.

..............................

ووصية الرسول (صلي الله عليه و آله) وملاحظة المصلحة العامة للإسلام والمسلمين، هي التياضطرته لذلك و قيدته وجعلته جليس بيته، وذلك أسمى درجات الإطاعة والانقياد والشجاعة.

قال الشاعر:

قيدته وصية من أخيه *** رب قيد يقيد الضرغاما

علماً بأن ذلك السكون كان هو الذي يحمل في داخله وطياته بذور النمو والتقدم، وحفظ مدرسة الإسلام والقرآن، ونشر تعاليم الرسول (صلي الله عليه و آله) وأهل البيت (علیهم السلام).. وينبئ عن أن المرحلة مرحلة الوقاية وحفظ الذات، ومرحلة البناء لقطف الثمار في المستقبل.. لا الثورة؛ فإن المشيمة للجنين وقاية وحفظ، وهي له أيضاً العامل الرئيسي للنمو والرشد، وكلامها (علیها السلام) هذا يحمل إدانة للقوم بالتلويح الذي هو أقرب للتصريح، وهو من أرقى أنواع البلاغة.

لماذا اشتمال شملة الجنين؟

مسألة: (الثورة) قد تكون واجبة، وقد يكون السكون و(القعود) هو الواجب، وذلك على حسب الشروط والظروف المتعاكسة.. فالثائر ولما تكتمل الشروط عاص، والقاعد وقد اكتملت آثم، ولقد كانت الظروف والشروط بعد استشهاد الرسول (صلي الله عليه و آله) تفرض (القعود) بلأجلى مصاديقه، ويستفاد ذلك من قولها (علیها السلام): (اشتملت...)، فالمراد به تقرير الحالة وإدانة القوم(1) لا الاعتراض عليه (علیه السلام) .

ص: 394


1- بالدلالة الالتزامية.

..............................

قولها (علیها السلام): «اشتملت... » يقال: اشتمل الثوب إذا أداره على جسده، والشملة: بالكسر هيئة الاشتمال، وبالفتح ما يشتمل به، وفسر بمطلق الكساء وربما بكساءً خاصً(1)، والمقصود هنا مشيمة الجنين وهي محل استقرار الجنين في الرحم، وهذا تشبيه لجلوسه (عليه الصلاة والسلام) بالجنين الذي في الرحم حيث إنه محاصر من جميع الجهات، ومحدود لا يتمكن من القبض والبسط والحركة وما أشبه ذلك.

فالجنين مشتمل بغطاء مادي، وهو (علیه السلام) مشتمل شملةً معنوية قيدته، كما هو حال الجنين المقيد.

وفي مكارم الأخلاق: «وكان رسول الله (صلي الله عليه و آله) يلبس الشملة ويأتز بها»(2).وقال ابن عباس: (اسمه في التوراة أحمد الضحوك القتال، يركب البعير، ويلبس الشملة، ويجتزي بالكسرة، سيفه على عاتقه، ومن أسمائه (صلي الله عليه و آله) الماحي)(3).

وروي: «أنه لما نزلت هذه الآية على النبي (صلي الله عليه و آله): «وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ»(4)، بكى النبي (صلي الله عليه و آله) بكاء شديداً وبكت صحابته لبكائه، ولم يدروا ما نزل به جبرئيل (علیه السلام)، ولم يستطع أحد من صحابته أن يكلمه، وكان النبي (صلي الله عليه و آله) إذا رأى فاطمة (علیها السلام) فرح

ص: 395


1- وهي دون القطيفة، وقيل: إنها كساء فيها خطوط سود وبيض، وقيل: بردة من صوف تلبسها الأعراب.
2- مكارم الأخلاق: ص35 ب1 ف5 في لباسه (صلی الله علیه و آله).
3- كشف الغمة: ج1 ص7 ذكر أسمائه.
4- سورة الحجر: 43- 44.

..............................

بها. فانطلق بعض أصحابه إلى باب بيتها، فوجد بين يديها شعيراً وهي تطحن فيه، وتقول: «وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى»(1)، فسلم عليها وأخبرها بخبر النبي (صلي الله عليه و آله) وبكائه. فنهضت والتفت بشملة لها خلقة قد خيطت في اثني عشر مكاناً بسعف النخل، فلما خرجت نظر سلمانالفارسي (رحمة الله) إلى الشملة وبكى، وقال: واحزناه، إن بنات قيصر وكسرى لفي السندس والحرير وابنة محمد (صلي الله عليه و آله) عليها شملة صوف خلقة قد خيطت في اثني عشر مكاناً. فلما دخلت فاطمة (علیها السلام) على النبي (صلي الله عليه و آله)، قالت: يا رسول الله، إن سلمان تعجب من لباسي، فوالذي بعثك بالحق ما لي ولعلي (علیه السلام) منذ خمس سنين إلا مسك كبش نعلف عليها بالنهار بعيرنا فإذا كان الليل افترشناه، وإن مرفقتنا لمن أدم حشوها ليف. فقال النبي(صلي الله عليه و آله): يا سلمان إن ابنتي لفي الخيل السوابق.

ثم قالت: يا أبتِ فديتك، ما الذي أبكاك؟!

فذكر (صلي الله عليه و آله) لها ما نزل به جبرئيل من الآيتين المتقدمتين.

قال: فسقطت فاطمة (علیها السلام) على وجهها وهي تقول: الويل ثم الويل لمن دخل النار»(2).

وعن زاذان خادم سلمان، قال: لما جاء أمير المؤمنين (علیه السلام) ليغسل سلمان وجده قد مات، فرفع الشملة عن وجهه، فتبسم وهم أن يقعد! فقال له أمير المؤمنين (علیهالسلام): «عد إلى موتك»، فعاد(3).

ص: 396


1- سورة القصص: 60، سورة الشورى: 36.
2- بحار الأنوار: ج43 ص87-88 ب4 ح9.
3- بحار الأنوار: ج22 ص384 ب11 ح21.

..............................

المقاومة السلبية

مسألة: ينبغي للمظلوم - في بعض الأحيان - الاعتكاف في الدار والجلوس في البيت إذا كان ذلك يشكل إدانةً للحكومة الجائرة ويعدّ احتجاجاً واستنكاراً لقراراتها الظالمة، وإذا كان فيه فضحها وتعريتها، أو إذا كان ذلك يسبب الحد من مقدرة الجائر على التحرش والظلم والتحدي.

فإن الجلوس في الدار من أوجه المقاومة السلبية، ومن أشد العوامل الضاغطة على الحكومات، بالإضافة إلى الاعتصامات والمظاهرات السلمية.. وكان جلوس أمير المؤمنين (علیه السلام) في الدار يرمز إلى ذلك ويكشف عن مدى الجور والظلم الذي لحقه فاضطره - وهو باب مدينة علم الرسول (صلي الله عليه و آله) وأسد الله وأسد رسوله (صلي الله عليه و آله) - إلى الاعتزال، كما اعتزل إبراهيم (علیه السلام) قومه، قال تعالى: «فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا له إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيًّا»(1).

طرق مختلفة للحوار

مسألة: إن الكلام - كالعمل والإشارة - له مناح متعددة، وأحكام مختلفة، فقد يقول الإنسان قولاً أو يعمل عملاً بقصد الجد، وقد يكون بقصد التعلم أو التعليم، أو النقد أو الاستيضاح، أو لسان الحال، أو إظهار الانزجار من الغير، وقد يكون لغير ذلك من الدواعي المختلفة في مختلف الموارد.

ص: 397


1- سورة مريم: 49.

..............................

فالتعليم كما في قضية الإمامين الحسن والحسين (علیهما السلام) حيث توضئا لتعليم ذلك الشيخ - الجاهل بكيفية الوضوء - فقولهما: «أحكم بيننا»، لم يكن بقصد الجد في أن أيهما أحسن وضوءً(1).

والتعلم كما في قضية السيد عبد العظيم الحسني (علیه السلام) حيث عرض أصول دينه على الإمام (علیه السلام) بقصد أن يتأكد من صحة عقيدته(2)، وفيه التعليم أيضاً.

والاعتراض: كما اعترض الشيطان على الله سبحانه لماذا أمره بالسجود وهو خيرمن آدم؛ لأنه مخلوق من النار وآدم من التراب،والنار - في نظر الشيطان - أفضل وسبب للأفضلية.

والاستيضاح: مثل سؤال الملائكة من الله سبحانه «أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ»(3).

ولسان الحال: كقول أمير المؤمنين علي (علیه السلام):

«قال الحبيب وكيف لي بجوابكم *** وأنا رهين جنادل وتراب».

وإظهار الانزجار: مثل «وَأَلْقَى الأَْلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ»(4)، حيث إن هذين العملين كانا من موسى (علیه السلام) لإظهار الانزجار من عبدة العجل، ولم يكن إظهاراً للانزجار من الألواح كما هو واضح، أو من أخيه بقصد إهانته كما هو واضح أيضاً، وهذا متعارف فإنك إذا أردت الانزجار من مجلس أو كلام

ص: 398


1- راجع المناقب: ج3 ص400 فصل في مكارم أخلاقهما (علیهما السلام).
2- راجع صفات الشيعة: ص48-50 ح68.
3- سورة البقرة: 30.
4- سورة الأعراف: 150.

..............................

أخذت بيد أو كتف أو حتى برأس(1) صديقك وجذبته إليك بانزجار قائلاً له بغضب: تعال لنذهب، مما يوهم الأمر على منيجهل الحال فيتصور أنك غضبت على ذلك الصديق وأنك منزجر منه، كما في كل مجاز لا يعرف الإنسان الآخر قرينة الحال أو المقال فيزعم أن المراد به الواقع والجد والمعنى الحقيقي(2)، كما تصور عمر أن الرسول (صلي الله عليه و آله) - أراد حقيقة قطع لسان السائل فأدركه أمير المؤمنين علي (علیه السلام) وقال إنه (صلي الله عليه و آله) أراد إعطاءه شيئاً من المال.

روي: أن النبي (صلي الله عليه و آله) لما مدحه شاعر من الشعراء قال لرجل بحضرته: «اقطع لسانه». فذهب ليقطع لسانه بالسكين!، فأدركه أمير المؤمنين (علیه السلام) وقال: «المراد أحسن إليه»(3).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) أنه قال: «جاء شاعر إلى النبي (صلي الله عليه و آله) فسأله وأطراه، فقال لبعض أصحابه: قم معه فاقطع لسانه، فخرج ثم رجع، فقال: يا رسول الله أقطع لسانه؟! قال إنما أمرتك أن تقطع لسانه بالعطاء»(4).إذا عرفت هذا فاعلم أن الحوار الذي دار بين الإمام علي (علیه السلام) والصديقة الزهراء (علیها السلام) كان بهدف بيان الانزجار من القوم، وتعبيراً عن السخط والغضب عليهم، حيث قيدوا أسد الله وأسد رسوله (صلي الله عليه و آله).. إضافة لاحتمال إرادتها الاستيضاح من باب تسائل العارف لكي يعرف الآخرون فلسفة سكوت

ص: 399


1- حسب الأعراف المختلفة.
2- كما أن من لا يعرف المعنى الكنائي ل- (كثير الرماد) أو (جبان الكلب) يتصور أن الطرف الآخر حقيقة كثير الرماد أو له كلب وكلبه جبان مع أن المقصود هو الكرم.
3- شرح أصول الكافي للمولي محمد صالح المازندراني: ج10 ص280.
4- دعائم الإسلام: ج2 ص323 ف2 ح1219.

..............................

الإمام (علیه السلام) وصبره على ما ارتكبه المخالفون.

أما احتمال الجد أو النقد أو ما أشبه فغير وارد إطلاقاً، بالإضافة إلى أنه يتنافى مع العصمة ومع إخبار الرسول (صلي الله عليه و آله) لهما (علیهما السلام) عن كل تلك القضايا بتفاصيلها وجزئياتها وأخذ الميثاق منهما، ومع علمها (علیها السلام) بأمر الرسول (صلي الله عليه و آله) للإمام علي (علیه السلام) بالصبر - كما سبق -.

اللجوء إلى الإمام (علیه السلام)

مسألة: يلزم أن تلجأ الأمة في شكواها ومحنها وآلامها إلى الإمام المعصوم (علیه السلام) في حال حضوره، وإلى وكلائه حال غيبته (علیه السلام)؛ فإنهم حجج الله على الخلق، قال (علیهالسلام): «أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله»(1).

كما يجب على الأمة الاستماع لإرشاداته والالتزام بأوامره، ولو كان ذلك قد تم لسعد الناس وصلح المجتمع، وهذا مما يستفاد من جملة من الأدلة ومما يلمح إليه شكايتها (علیها السلام) هنا للإمام (علیه السلام).. هذا كله في البلايا العامة، وأما الرزايا الخاصة فربما يستحب أن يشكوها، على ما سبق بعض الكلام في ذلك.

عن عمر بن حنظلة، قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن رجلين من أصحابنا يكون بينهما منازعة في دين أو ميراث فيتحاكمان إلى السلطان أو إلى القضاة، أيحل ذلك؟. فقال (علیه السلام): «من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنما يأخذ سحتاً وإن كان حقه ثابتاً؛ لأنه أخذ بحكم الطاغوت وقد ما أمر الله تعالى أن يكفر به،قال الله تعالى: «يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا

ص: 400


1- وسائل الشيعة: ج27 ص140 ب11 ح33424.

..............................

إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ»(1)».

فقال: كيف يصنعان؟. فقال (علیه السلام): «ينظران إلى من كان منكم ممن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما بحكم الله استخف وعلينا رد، والراد علينا كالراد على الله، فهو على حد الشرك بالله»(2).

وعن جميل بن دراج، قال: دخلت على أبي عبد الله (علیه السلام) فاستقبلني رجل خارج من عند أبي عبد الله (علیه السلام) من أهل الكوفة من أصحابنا، فلما دخلت على أبي عبد الله (علیه السلام) قال لي: «لقيت الرجل الخارج من عندي». فقلت: بلى، هو رجل من أصحابنا من أهل الكوفة. فقال: لا قدس الله روحه ولا قدس مثله، إنه ذكر أقواماً كان أبي (علیه السلام) ائتمنهم على حلال الله وحرامه، وكانوا عيبة علمه، وكذلك اليوم هم عندي، هم مستودع سري أصحاب أبي (علیه السلام) حقاً، إذا أراد الله بأهل الأرض سوءًً صرف بهم عنهمالسوء، هم نجوم شيعتي أحياء وأمواتاً، يحيون ذكر أبي (علیه السلام)، بهم يكشف الله كل بدعة، ينفون عن هذا الدين انتحال المبطلين، وتأول الغالين». ثم بكى.

فقلت: من هم؟. فقال: «من عليهم صلوات الله ورحمته أحياء وأمواتاً: بريد العجلي وزرارة وأبوبصير ومحمد بن مسلم، أما إنه يا جميل سيبين لك أمر هذا الرجل إلى قريب». قال جميل: فو الله ما كان إلا قليلاً حتى رأيت ذلك الرجل ينسب إلى آل أبي الخطاب، قلت: الله يعلم حيث يجعل رسالته، قال

ص: 401


1- سورة النساء: 60.
2- غوالي اللآلي: ج4 ص133-134 الجملة الثانية في الأحاديث المتعلقة بالعلم وأهله وحامليه ح231.

..............................

جميل: وكنا نعرف أصحاب أبي الخطاب ببغض هؤلاء رحمة الله عليهم(1).

وعن أحمد بن إسحاق، عن أبي الحسن (علیه السلام)، قال: سألته وقلت: من أعامل وعمن آخذ وقول من أقبل؟. فقال: «العَمري ثقتي، فما أدى إليك عني فعني يؤدي، وما قال لك عني فعني يقول،فاسمع له وأطع؛فإنه الثقة المأمون». قال: وسألت أبا محمد (علیه السلام) عن مثل ذلك. فقال: «العمري وابنه ثقتان، فما أديا إليك عني فعنييؤديان، وما قالا لك فعني يقولان، فاسمع لهما وأطعهما؛ فإنهما الثقتان المأمونان»(2).

وعن أبي خديجة، قال: بعثني أبو عبد الله (علیه السلام) إلى أصحابنا. فقال: «قل لهم: إياكم إذا وقعت بينكم خصومة، أو تدارى بينكم في شيء من الأخذ والعطاء، أن تتحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفساق، اجعلوا بينكم رجلاً ممن قد عرف حلالنا وحرامنا؛ فإني قد جعلته قاضياً، وإياكم أن يخاصم بعضكم بعضاً إلى السلطان الجائر»(3).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام)، قال رسول الله (صلي الله عليه و آله): «اللهم ارحم خلفائي. قيل: يا رسول الله، ومن خلفاؤك؟. قال: الذين يأتون من بعدي يروون حديثي وسنتي»(4).

وعن الهروي، قال: سمعت أبا الحسن علي بن موسى الرضا (علیه السلام) يقول: «رحم الله عبداً أحيا أمرنا». فقلت له: وكيف يحيي أمركم؟. قال: «يتعلم

ص: 402


1- رجال الكشي: ص137- 138 زرارة بن أعين ح220.
2- وسائل الشيعة: ج27 ص138 ب11 ح33419.
3- تهذيب الأحكام: ج6 ص303 ب92 ح53.
4- من لا يحضره الفقيه: ج4 ص420 ومن ألفاظ رسول الله (صلی الله علیه و آله) الموجزة التي لم يسبق إليها ح5919.

..............................

علومنا ويعلمها الناس؛ فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا». قال: قلت: يا ابن رسول الله، فقد روي لنا عن أبي عبد الله (علیه السلام) أنه قال: من تعلم علماً ليماري به السفهاء، أو يباهي به العلماء، أو ليقبل بوجوه الناس إليه فهو في النار. فقال (علیه السلام): «صدق جدي (علیه السلام)، أفتدري من السفهاء؟».

فقلت: لا يا ابن رسول الله. قال: «هم قصاص مخالفينا، وتدري من العلماء؟». فقلت: لا يا ابن رسول الله. فقال: «هم علماء آل محمد (علیهم السلام) الذين فرض الله طاعتهم وأوجب مودتهم - ثم قال: - وتدري ما معنى قوله: أو ليقبل بوجوه الناس إليه؟». قلت: لا. قال: «يعني والله بذلك ادعاء الإمامة بغير حقها، ومن فعل ذلك فهو في النار»(1).

وعن حمزة بن حمران، قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: «من استأكل بعلمه افتقر». فقلت له: جعلت فداك، إن في شيعتك ومواليك قوماً يتحملون علومكم ويبثونها في شيعتكم، فلا يعدمون على ذلك منهم البر والصلةوالإكرام. فقال (علیه السلام): «ليس أولئك بمستأكلين، إنما المستأكل بعلمه الذي يفتي بغير علم ولا هدى من الله عزوجل ليبطل به الحقوق طمعاً في حطام الدنيا»(2).

الزوجة وشكواها

مسألة: يستحب للزوجة أن تشكو آلامها إلى زوجها، كما شكت الصديقة الطاهرة (علیها السلام) لأمير المؤمنين (علیه السلام).

ص: 403


1- بحار الأنوار: ج2 ص30 ب9 ح13.
2- معاني الأخبار: ص181 باب معنى الاستئكال بالعلم ح1.

..............................

وكذلك بالنسبة إلى كل مشكوٍ إليه (في الجملة) إذا كان مؤمناً، فإن الشكاية إلى المؤمن شكاية إلى الله سبحانه وتعالى كما في الروايات(1)، فلا خصوصية للزوج والزوجة من الجهة العامة، وإنما الخصوصية لها مَن جهة إن الرجل قيم عليها، فهو أفضل من تشتكي إليه.

عن يونس بن عمار، قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: «أيما مؤمن شكا حاجته وضره إلى كافر أو إلى منيخالفه على دينه فكأنما شكا الله عزوجل إلى عدو من أعداء الله، وأيما رجل مؤمن شكا حاجته وضره إلى مؤمن مثله كانت شكواه إلى الله عزوجل»(2). وعن الحسن بن راشد، قال: قال أبو عبد الله (علیه السلام): «يا حسن، إذا نزلت بك نازلة فلا تشكها إلى أحد من أهل الخلاف ولكن اذكرها لبعض إخوانك؛ فإنك لن تعدم خصلة من خصال أربع: إما كفاية بمال، وإما معونة بجاه، أو دعوة تستجاب، أو مشورة برأي»(3).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «من أبدى إلى الناس ضره فقد فضح نفسه، وخير الغنى ترك السؤال، وشر الفقر لزوم الخضوع»(4).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام) - في حديث الأربعمائة -: «إذا ضاق المسلم فلايشكون ربه عزوجل وليشتك إلى ربه الذي بيده مقاليد الأمور وتدبيرها»(5).

ص: 404


1- راجع وسائل الشيعة: ج2 ص412 ب6 ح2503.
2- الكافي: ج8 ص144 حديث محاسبة النفس ح113.
3- وسائل الشيعة: ج2 ص411- 412 ب6 ح2502.
4- كنز الفوائد: ج2 ص194 فصل في ذكر الغنى والفقر.
5- الخصال: ج2 ص624 علم أمير المؤمنين (علیه السلام) أصحابه في مجلس واحد أربعمائة باب مما يصلح للمسلم في دينه ودنياه ح10.

..............................

وعن أبي هاشم الجعفري، قال: أصابتني ضيقة شديدة، فصرت إلى أبي الحسن علي بن محمد (علیه السلام) فأذن لي، فلما جلست قال: «يا أبا هاشم، أي نعم الله عزوجل عليك تريد أن تؤدي شكرها؟».

قال أبو هاشم: فوجمت فلم أدر ما أقول له.

فابتدأ (علیه السلام) فقال: «رزقك الإيمان فحرم به بدنك على النار، ورزقك العافية فأعانتك على الطاعة، ورزقك القنوع فصانك عن التبذل. يا أبا هاشم، إنما ابتدأتك بهذا لأني ظننت أنك تريد أن تشكو إلى من فعل بك هذا، وقد أمرت لك بمائة دينار فخذها»(1).

إخبار الزوج

مسألة: يستحب للزوجة أن تخبر زوجها بما وقع عليها وجرى لها، كما أخبرت الصديقة فاطمة (علیها السلام) بذلك، وربما كان ذلك من صفات الصالحات.

وهناك روايات عديدة في مواصفات الزوجة الصالحة، نشير إلى بعضها:عن إبراهيم الكرخي، قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): «إن صاحبتي هلكت وكانت لي موافقة، وقد هممت أن أتزوج. فقال لي: «انظر أين تضع نفسك، ومن تشركه في مالك، وتطلعه على دينك وسرك، فإن كنت لابد فاعلاً فبكراً تنسب إلى الخير وإلى حسن الخلق، واعلم أنهن كما قال:

ألا إن النساء خلقن شتى *** فمنهن الغنيمة والغرام

ومنهن الهلال إذا تجلى *** لصاحبه ومنهن الظلام

فمن يظفر بصالحهن يسعد *** ومن يغبن فليس له انتقام

ص: 405


1- الأمالي للصدوق: ص412- 413 المجلس الرابع والستون ح11.

..............................

وهن ثلاث: فامرأة ولود ودود تعين زوجها على دهره لدنياه وآخرته ولاتعين الدهر عليه، وامرأة عقيمة لا ذات جمال ولا خلق ولا تعين زوجها على خير، وامرأة صخابة ولاجة همازة تستقل الكثير ولا تقبل اليسير»(1).

وعن سليمان الجعفري،عن أبي الحسن الرضا (علیه السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «خير نسائكم الخمس. قيل: وما الخمس؟. قال: الهينةاللينة المؤاتية التي إذا غضب زوجها لم تكتحل بغمض حتى يرضى، وإذا غاب عنها زوجها حفظته في غيبته، فتلك عامل من عمال الله وعامل الله لا يخيب»(2).

وعن عبد الله بن سنان، عن بعض أصحابنا، قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: «إنما المرأة قلادة فانظر ما تتقلد، وليس لامرأة خطر لا لصالحتهن ولا لطالحتهن، فأما صالحتهن فليس خطرها الذهب والفضة هي خير من الذهب والفضة، وأما طالحتهن فليس خطرها التراب التراب خير منها»(3).

وعن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: كنا جلوساً مع رسول الله (صلي الله عليه و آله)

- قال: - فتذاكرنا النساء وفضل بعضهن على بعض. فقال رسول الله (صلي الله عليه و آله): «ألا أخبركم بخير نسائكم؟». قالوا: بلى يا رسول الله. فأخبرنا، قال (صلي الله عليه و آله): «إن من خير نسائكم الولود الودود، الستيرة العفيفة، العزيزة في أهلها، الذليلة مع بعلها، المتبرجة مع زوجها، الحصان مع غيره، التي تسمع قوله وتطيع أمره، وإذا خلا بها بذلت له ما أراد منها، ولم تبذل له تبذل الرجل»(4).

ص: 406


1- الكافي: ج5 ص323 باب أصناف النساء ح3.
2- وسائل الشيعة: ج20 ص29 ب6 ح24944.
3- بحار الأنوار: ج100 ص233 ب3 ح12.
4- من لا يحضره الفقيه: ج3 ص389 باب ما يستحب ويحمد من أخلاق النساء ح4367.

..............................

وعن إبراهيم بن الحسن بن الحسن، عن أمه فاطمة بنت الحسين، عن أبيها الحسين بن علي (علیهم السلام)، عن أبيه علي بن أبي طالب (علیه السلام)، قال: قال رسول الله (صلي الله عليه و آله): «من أعطي أربع خصال أعطي خير الدنيا والآخرة وفاز بحظه منهما: ورع يعصمه من محارم الله، وحسن خلق يعيش به في الناس، وحلم يدفع به جهل الجاهل، وزوجة صالحة تعينه على أمر الدنيا والآخرة»(1).

وعن حسين بن علوان، عن الصادق (علیه السلام) عن آبائه (علیهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلي الله عليه و آله): «حسن البشر نصف العقل، والتقدير نصف المعيشة، والمرأة الصالحة أحد الكاسبين»(2).

وعن ربيعة بن كعب، قال سمعت النبي (صلي الله عليه و آله) يقول: «من أعطي له خمساً لم يكن له عذر في ترك عمل الآخرة: زوجة صالحة تعينه على أمر دنياه وآخرته، وبنون أبرار، ومعيشة في بلده، وحسن خلق يداري به الناس، وحب أهلبيتي»(3).

وقال الإمام الصادق (علیه السلام): «ملعونة ملعونة امرأة تؤذي زوجها وتغمه، وسعيدة سعيدة امرأة تكرم زوجها ولا تؤذيه، وتطيعه في جميع أحواله»(4).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «سألت أم سلمة رسول الله (صلي الله عليه و آله) عن فضل النساء في خدمة أزواجهن. فقال (صلي الله عليه و آله): ما من امرأة رفعت من بيت زوجها شيئاً من موضع إلى موضع تريد به صلاحاً إلا نظر الله إليها، ومن نظر الله إليه

ص: 407


1- مستدرك الوسائل: ج14 ص170-171 ب8 ح16410.
2- بحار الأنوار: ج100 ص238 ب3 ح39.
3- الدعوات: ص40 ب1 ف2 ح97.
4- كنز الفوائد: ج1 ص150 شرح قوله ولعن آخر أمتكم أولها.

..............................

لم يعذبه. فقالت أم سلمة (رضوان الله عليها): زدني في النساء المساكين من الثواب بأبي أنت وأمي. فقال (صلي الله عليه و آله): يا أم سلمة، إن المرأة إذا حملت كان لها من الأجر كمن جاهد بنفسه وماله في سبيل الله عزوجل، فإذا وضعت قيل لها: قد غفر لكِ ذنبكِ فاستأنفي العمل، فإذا أرضعت فلها بكل رضعة تحرير رقبة من ولد إسماعيل»(1).وعن عمرو بن جميع، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، عن أبيه (علیه السلام)، قال: قال رسول الله (صلي الله عليه و آله): «خير نسائكم الطيبة الريح الطيبة الطعام، التي إذا أنفقت أنفقت بمعروف، وإذا أمسكت أمسكت بمعروف، فتلك من عمال الله وعامل الله لا يخيب»(2).

ص: 408


1- الأمالي للطوسي: ص618 المجلس29 ح1273.
2- تهذيب الأحكام: ج7 ص402 ب34 ح14.

وقعدت حجرة الظنين

اشارة

-------------------------------------------

وقعدت حجرة(1) الظنين

القعود عن الحق

مسألة: ربما يجب على الإنسان أن يصبر عن المطالبة بحقه وحق زوجته أو من يتعلق به، وبعبارة أخرى أن يقعد حجرة الظنين المتهم؛ وذلك للمصلحة الأهم وفق موازين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما إذا رأى عدم التأثير واحتمل الضرر الكثير، ولغير ذلك مما هو مذكور في محله.

قولها (علیها السلام): «وقعدت حجرة الظنين»، الحجرة: البيت، والظنين: المتهم، فإن الإنسان إذا كان متهماً في المجتمع يجلس في بيته ولا يخرج حذراً من أن يشار إليه بالسوء. وهذا كناية عن قعود الإمام (علیه السلام) عن حقه وحق زوجته وعدم المطالبة بذلك، فكأنه نزل منزلة الخائف المتهم، وقد أشرنا إلى ما دعا بالإمام (علیه السلام) ليتخذ هذا الموقف الشجاع.

تقبل الشكاية

مسألة: ينبغي أن يتسع صدر الزوجلشكاية الزوجة، وذلك مما يقوي الأواصر بينهما، ويزيد الألفة والمحبة بينهما، ويدفع بالعديد من المشاكل والأمراض..

والمشاهد أن بعض الأزواج لا يفسح المجال لزوجته لكي تبث إليه همومها لكن ذلك غير صحيح، والتأسي بالإمام (علیه السلام) يقتضي ذلك.

ص: 409


1- وفي بعض النسخ: (حجزة).

..............................

قال رسول الله (صلي الله عليه و آله): «ألا خيركم خيركم لنسائه، وأنا خيركم لنسائي»(1).

وعن مسعدة، قال: قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر (علیه السلام): «إن عيال الرجل أسراؤه، فمن أنعم الله عليه نعمة فليوسع على أسرائه؛ فإن لم يفعل أوشك أن تزول عنه تلك النعمة»(2).

وقال الإمام الصادق (علیه السلام): «رحم الله عبداً أحسن فيما بينه وبين زوجته؛ فإن الله عزوجل قد ملكه ناصيتها وجعله القيم عليها»(3).

وعن يونس بن عمار، قال: زوجني أبو عبد الله (علیه السلام) جارية كانتلإسماعيل ابنه. فقال: «أحسن إليها». فقلت: وما الإحسان إليها؟. فقال: «أشبع بطنها، واكس جثتها، واغفر ذنبها - ثم قال - اذهبي وسطك الله ما له»(4).

الشكاية لولي الأمر (علیه السلام)

مسألة: يستحب شكاية المظلوم حالته إلى ولي أمره، حيث شكت الصديقة (علیها السلام) لأمير المؤمنين (علیه السلام) إذ أن رزيتها كان لها كلا الجانبين العام والخاص، وكذلك بالنسبة إلى وكلاء المعصومين (علیهم السلام) وهم في زمن الغيبة مراجع التقليد، وكذلك من أشبههم ممن جعلهم الله سبحانه وتعالى - بصورة خاصة أو بصورة عامة - مأوى للناس وملجأً لهم؛ فإن الشكاية إليهم نوع رجوع

ص: 410


1- وسائل الشيعة: ج20 ص171 ب88 ح25340.
2- الأمالي للصدوق: ج442 المجلس68 ح3.
3- مكارم الأخلاق: ص217 ب8 ف5 في حق المرأة على الزوج.
4- الكافي: ج5 ص511 باب حق المرأة على الزوج ح4.

..............................

ونوع اعتراف بالمرجعية الشرعية(1) فلابد من عدم العدول لغيرهم مهما أمكن.

ثم إنه ليست الشكوى للإمام المعصوم (علیه السلام) خاصة بحال حياته، بلتشمل ما بعد وفاته أيضاً إذ هم «أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ»(2).

العتاب وشبهه

مسألة: يجوز للمظلوم أن يعاتب من يستنصره في الجملة؛ وذلك لبيان شدة الظلم، وإن كان في توجيه العتاب لهم (علیهم السلام) يلزم مراعاة الموازين اللازمة.

وقد يكون من هذا الباب ما ظاهره العتاب كأشعار السيد الحلي(رحمة الله)(3) يخاطب بها الإمام المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف)؛ فإنها بيان لعظم المصيبة وليس المقصود به العتاب الحقيقي كما لا يخفى.

وهكذا ما ظاهره العتاب من الصديقة(علیها السلام) في هذه الخطبة، فقد سبق أنه كان بهدف إبداء التنفّر والانزجار من جرائم المخالفين فقط ولم يكن إلا عتاباً شكلياً لا حقيقياً.

ص: 411


1- ربما يكون المراد بها المعنى اللغوي.
2- سورة البقرة: 54.
3- ولد شاعر أهل البيت السيد حيدر بن سليمان بن داود بن حيدر بن أحمد بن عمر الحلي الحسيني المعروف بالسيد حيدر الحلي في قرية بيرمانة من توابع الحلة في منتصف شهر شعبان عام 1246ه-. مات أبوه وهو طفل فنشأ في حجر عمه مهدي بن داود . تميز بشعره الحسن والذي ترفع به عن المدح والاستجداء، وأشهر شعره حولياته في رثاء الإمام الحسين (علیه السلام). كان (رحمة الله) موصفاً بالسخاء. له ديوان سماه (الدر اليتيم)، وكتاب (العقد المفصل في قبيلة المجد المؤثل) جزءان ، و(الأشجان في مراثي خير إنسان)، و(دمية القصر في شعراء العصر). توفي (رحمة الله) في الحلة في شهر ربيع الثاني عام 1304ه- ودفن في النجف الأشرف.

..............................

أعلى درجات الصبر

مسألة: يستحب التأكيد على مدى صبر الإمام (علیه السلام) وشدة مرارته، وقوة إرادته وتحمله(علیه السلام) حفاظاً على الإسلام؛ فإن بيان مثل هذه الأمور له فوائده:

منها: التأسي في مواطن الصبر.

ومنها: إن ذكر صفاتهم (عليهم الصلاة والسلام) مما يوجب التفاف الناس حولهم أكثر فأكثر.

ومنها: إيضاح الرؤية وتعميق المعرفة بهم (عليهم الصلاة والسلام)، وأنهم كانوا يعملون بما يُؤمرون وما يأمرون، فحيث كانوا يؤمرون بالصبر يصبرون، وكما كانوا يأمرون به كانوا يعملون، وحيث كانوا يأمرون ويؤمرون بالتضحية كانوا يضحون، وهكذا.

قال أمير المؤمنين (علیه السلام) في خطبة يذكر فيها آل محمد (صلوات

الله عليهم أجمعين) ويبين فضلهم: «هُمْ عَيْشُ الْعِلْمِ، وَمَوْتُ الْجَهْلِ، يُخْبِرُكُمْ حِلْمُهُمْ عَنْعِلْمِهِمْ، وَظَاهِرُهُمْ عَنْ بَاطِنِهِمْ، وَصَمْتُهُمْ عَنْ حِكَمِ مَنْطِقِهِمْ، لاَ يُخَالِفُونَ الْحَقَّ وَلاَيَخْتَلِفُونَ فِيهِ، وَهُمْ دَعَائِمُ الإِسْلاَمِ وَوَلاَئِجُ الاِعْتِصَامِ، بِهِمْ عَادَ الْحَقُّ إِلَى نِصَابِهِ، وَانْزَاحَ الْبَاطِلُ عَنْ مُقَامِهِ، وَانْقَطَعَ لِسَانُهُ عَنْ مَنْبِتِهِ، عَقَلُوا الدِّينَ عَقْلَ وِعَايَةٍ وَرِعَايَةٍ، لاَ عَقْلَ سَمَاعٍ وَرِوَايَةٍ؛ فَإِنَّ رُوَاةَ الْعِلْمِ كَثِيرٌ وَرُعَاتَهُ قَلِيلٌ»(1).

وعن ابن عباس، أنه قال: قال النبي (صلي الله عليه و آله): «من سره أن يحيا حياتي، ويموت مماتي، ويسكن جنة عدن التي غرسها ربي،فليوال علياً (علیه السلام) من بعدي،

ص: 412


1- نهج البلاغة الخطب: 239 ومن خطبة له (علیه السلام) يذكر فيها آل محمد (صلی الله علیه و آله).

..............................

وليوال وليه، وليقتد بالأئمة من بعدي؛ فإنهم عترتي، خلقوا من طينتي، وزقوا فهماً وعلماً، ويل للمكذبين بفضلهم من أمتي، القاطعين منهم صلتي، لاأنالهم الله شفاعتي»(1).

وعن يونس بن يعقوب، قال: أمرني أبو عبد الله (علیه السلام) أن آتي المفضل وأعزيه بإسماعيل، وقال: «أقرئالمفضل السلام وقل له: إنا قد أصبنا بإسماعيل فصبرنا فاصبر كما صبرنا، إنا أردنا أمراً وأراد الله عزوجل أمراً فسلمنا لأمر الله عزوجل»(2).

وعن زرارة، عن أبي جعفر (علیه السلام) - في حديث في الإمامة - قال: «أما لو أن رجلاً قام ليله، وصام نهاره، وتصدق بجميع ماله، وحج جميع دهره، ولم يعرف ولاية ولي الله فيواليه، ويكون جميع أعماله بدلالته إليه، ما كان له على الله حق في ثوابه، ولا كان من أهل الإيمان»(3).

وعن زرارة، قال: كنت قاعدًا عند أبي جعفر (علیه السلام). فقال له رجل من أهل الكوفة يسأله عن قول أمير المؤمنين (علیه السلام): سلوني عما شئتم ولا تسألوني عن شيء إلا أنبأتكم به؟.

فقال (علیه السلام): «إنه ليس أحد عنده علم إلا خرج من عند أمير المؤمنين (علیه السلام)، فليذهب الناس حيث شاءوا، فو الله ليأتيهم الأمر من هاهنا» وأشار بيده إلى المدينة(4).

ص: 413


1- المناقب: ج1 ص292 فصل فيما روته العامة.
2- الكافي: ج2 ص92 باب الصبر ح16.
3- وسائل الشيعة: ج27 ص65- 66 ب7 ح33213.
4- مستدرك الوسائل: ج17 ص275 ب7 ح21327.

..............................

بيان المظلومية

مسألة: يستحب بيان مدى مظلومية أمير المؤمنين علي (علیه السلام) حيث صبر على الأذى بالرغم من قدرته الكاملة على تصفية خصومه وأخذ حقه بالقوة.

فإن بيان مظلوميته (علیه السلام) أدعى للالتفاف حوله، إذ أن قلوب الناس مع المظلوم، كما سبق ..

وبيانها أيضاً فضح لظالميه وإسقاط لشخصياتهم، وإدانة لمنهجهم، ومحاكمة لفكرهم وتراثهم..

عن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «إن الله عزوجل أوحى إلى نبي من أنبيائه في مملكة جبار من الجبارين: أن ائت هذا الجبار فقل له: إنني لم أستعملك على سفك الدماء واتخاذ الأموال، وإنما استعملتك لتكف عني أصوات المظلومين، فإني لم أدع ظلامتهم وإن كانوا كفاراً»(1).

مضافاً إلى أن بيان مظلومية علي (علیه السلام) وأولاده المعصومين (علیهم السلام) نوع عبادة في ذاته، حيث ورد أن «نفس المهموم لظلمناتسبيح وهمه لنا عبادة»(2).

قال أمير المؤمنين (علیه السلام) - في حديث الأربعمائة -: «إن الله تبارك وتعالى اطلع إلى الأرض فاختارنا واختار لنا شيعة ينصروننا، ويفرحون لفرحنا، ويحزنون لحزننا، ويبذلون أموالهم وأنفسهم فينا، أولئك منا وإلينا»(3).

ص: 414


1- الكافي: ج2 ص333 باب الظلم ح14.
2- الظاهر أن الاستدلال ب-(الأولوية)، فإذا كان نفس المهموم للظلم تسبيحاً والهم عبادة فبيان مظلوميتهم للناس عبادة بشكل أولى.
3- الخصال: ج2 ص635 علم أمير المؤمنين (علیه السلام) أصحابه في مجلس واحد أربعمائة باب مما يصلح للمسلم في دينه ودنياه ح10.

..............................

وفي (كتاب الإخوان) بإسناده، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «تجلسون وتحدثون؟». قلت: نعم. قال: «تلك المجالس أحبها، فأحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا. يا فضيل، من ذكرنا أو ذكرنا عنده فخرج عن عينيه مثل جناح الذباب غفر الله له ذنوبه ولو كانت أكثر من زبد البحر»(1).

وعن بكر بن محمد، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: من ذكرنا أوذكرنا عنده فخرج من عينه دمع مثل جناح بعوضة، غفر الله له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر»(2).

وعن علي بن الحسن بن علي بن فضال، عن أبيه، قال: قال الرضا (علیه السلام): «من تذكر مصابنا وبكى لما ارتكب منا كان معنا في درجتنا يوم القيامة، ومن ذكر بمصابنا فبكى وأبكى لم تبكِ عينه يوم تبكي العيون، ومن جلس مجلساً يحيا فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب»(3). وعن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «كان علي بن الحسين (علیه السلام) يقول: أيما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين بن علي (علیه السلام) دمعة حتى تسيل على خده بوأه الله بها في الجنة غرفاً يسكنها أحقاباً، وأيما مؤمن دمعت عيناه دمعاً حتى تسيل على خده لأذى مسنا من عدونا في الدنيا بوأه الله مبوأ صدق في الجنة، وأيما مؤمن مسه أذى فينا فدمعت عيناه حتى تسيل دمعه على خديه من مضاضة ما أوذي فينا صرف الله عن وجهه الأذى وآمنه يوم القيامة من سخطه والنار»(4).

ص: 415


1- وسائل الشيعة: ج12 ص20 ب10 ح15532.
2- بحار الأنوار: ج44 ص278 ب34 ح3.
3- الأمالي للصدوق: ج73 المجلس السابع عشر ح4.
4- تفسير القمي: ج2 ص291-292 ثواب بكاء الحسين (علیه السلام).

..............................

وعن محمد بن أبي عمارة الكوفي، قال: سمعت جعفر بن محمد (علیه السلام) يقول: «من دمعت عينه فينا دمعة لدم سفك لنا، أو حق لنا نقصناه، أو عرض انتهك لنا، أو لأحد من شيعتنا، بوأه الله تعالى بها في الجنة حقباً»(1).

من فلسفة صبر الإمام (علیه السلام)

مسألة: إنما لم يتعرض الإمام (علیه السلام) لهم عسكرياً، لخوفه من القضاء على الإسلام؛ فإن دولة الإسلام كانت فتية وكان الفرس والروم الإمبراطوريتان القويتان يتربصان بالمسلمين، فإذا وقع بينهم نزاع وتحارب، استغل الفرس أو الروم هذه المحاربة للقضاء على الإسلام، ولعله كان يمُحى من الوجود، كما أشار إلى ذلك الإمام (عليه الصلاة والسلام) حيث قال لفاطمة الزهراء (علیها السلام):

إن أخذت سيفي وحاربتهم لم تسمعي بعدها ذكراً لهذا الاسم - أي: اسم محمد رسول الله (صلي الله عليه و آله) -.

وقد روي عنه (علیه السلام) أن فاطمة(علیها السلام) حرضته يوماً على النهوض والوثوب فسمع صوت المؤذن:(أشهد أن محمداً رسول الله). فقال لها: «أيسركِ زوال هذا النداء من الأرض؟». قالت: «لا». قال: «فإنه ما أقول لكِ»(2).

إضافة إلى أن الإسلام كان جديداً على النفوس ولم يكن متركزاً في أكثرها فكانت أية معركة داخلية بذلك المستوى تؤدي ربما إلى انهيار داخلي هائل وفتنة لا تطفأ.

ص: 416


1- بحار الأنوار: ج44 ص279 ب34 ح7.
2- بحار الأنوار: ج29 ص625، وشرح نهج البلاغة: ج11 ص113.

نقضت قادمة الأجدل، فخانك ريش الأعزل

اشارة

-------------------------------------------

صقور الكفر

مسألة: ينبغي القضاء على صقور الكفر، وهو بين واجب ومستحب في موارده المذكورة ووفق الموازين الشرعية، كما قام أمير المؤمنين (علیه السلام) بذلك في حياة رسول الله (صلي الله عليه و آله) حيث نقض قادمة الأجدل.

قولها (علیها السلام) : «نقضت...» النقض: ضد الإبرام، و(القادمة): واحدة القوادم، وهي: مقاديم ريش الطائر القوية، يقال: إن في كل جناح من أجنحة الصقر عشرة من هذه القوادم. و(الأجدل) الصقر، من الجدل بمعنى الاستحكام والقوة وقد سمي الطائر به لقوته.

يعني: إنك تمكنت من صناديد قريش في شتى المواجهات، وفي عشرات الحروب والغزوات فقصصت أجنحة أولئك الطغاة الجبابرة.. فما ذا صار بك؟!.

الخيانة سلاح الضعفاء

مسألة: الخيانة سلاح الضعفاء، وكان القوم قد خانوا الله ورسوله (صلي الله عليه و آله) في ابنته (علیها السلام) ووصيه علي (علیه السلام) وينبغي بيان ذلك.

ثم إنها (صلوات الله عليها) لم تقل:(تركت ريش الأعزل) بل أسندت الفعل في الفقرة الأولى (نقضت قادمة الأجدل) إليه (علیه السلام) وفي الفقرة الثانية إلى القوم، تأكيداً على أنه لم يترك التصدي والدفاع، بل كانت هنالك (خيانة) من القوم، والخيانة هي من شيم الضعفاء الجبناء فهم كالريش للطائر الأعزل إلا أن (خيانتهم) هي التي مكنتهم من السيطرة على مقاليد الأمور.

قولها (علیها السلام): «فخانك ريش الأعزل» العزل: الذي لا سلاح له، أو الصقر الذي نقضت قوادمه فلم يبق له إلا الريش الضعيف.

ص: 417

..............................

أي: فكيف بك لم تتمكن من أن تنقض ريش الحيوان الأعزل الذي لاقوة لريشه كقوة القوادم؟!مع أنك تمكنت من قص جناح الصقور أي صناديد قريش.

وربما أريد بالأعزل: أراذل الناس، فيكون المعنى: إنك نازعت الأبطال فغلبتهم واليوم يغلبك هؤلاء الضعفاء!.

وفي هذا إشارة منها (صلوات الله عليها) إلى خيانة القوم، فإنهم لم يتغلبوا على علي (علیه السلام) بالقوة والقدرة والمواجهة، وإلا فالإمام (علیه السلام) كان أقواهم، بل بالمؤامرة والخيانة والحيلة، ولذلك عبرت (علیها السلام)ب- (فخانك ريش الأعزل).

كما دل كلامها (علیها السلام) على شدة قوة إبرازها في بدو الأمر حيث (نقضت) وغاية إخفائها في النهاية حيث (خانك ريش...).

يقول الشاعر:

جمعت في صفاتك الأضداد *** فلهذا عزت لك الأنداد

زاهد حاكم، حليم شجاع *** ناسك فاتك، فقير جواد

شيم ما جمعن في بشر *** قط ولا حاز مثلهن العباد

إنهم كريش أعزل

مسألة: يستحب بيان أن القوم كانوا كريش الأعزل بالنسبة إلى أمير المؤمنين علي(علیه السلام)،فإن معرفة ما كان عليه الإمام (علیه السلام) من الشجاعة الفائقة وما كان يعاني منه أعداؤه المخالفون من الضعف الشديد.. هذه المعرفة ترشدنا إلى عظمة الإمام (علیه السلام) يوم التزم الصبر امتثالاً لأمر الله سبحانه. كما أن هذه المعرفة تدفعنا للتأسي به (علیه السلام) والاهتداء بهديه في الظروف المشابهة، وبذلك يكون الاقتراب إلى الله سبحانه وتعالى أكثر وإطاعة أمره بالنحو الأتم.

ص: 418

هذا ابن أبي قحافة

اشارة

-------------------------------------------

اسم الخصم

مسألة: ينبغي التصريح باسم الخصم أو كنيته أو لقبه حتى يعرف على مدى التاريخ ويكون أتم للحجة و«لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ»(1).

ولذلك - وربما لغيره أيضاً - كان تصريح الصديقة (علیها السلام) بكنية الغاصب، وإلا فإن أمير المؤمنين علياً (علیه السلام) كان يعلم بذلك.

ولذلك - وربما لغيره أيضاً - كان تصريح القرآن الكريم بأسماء أعداء الله، كفرعون وقابيل وهامان، وكذلك تصريح الرسل والأنبياء والأئمة (علیهم السلام) بأسماء أعدائهم وأعداء الله..

ومن فوائد ذلك أن توجه اللعنة إليهم على مدى الأيام..

ومن الفوائد أن يُعرفوا فيجتنبوا.

وكذلك في كل مورد يكون من هذا القبيل مما يسجل في التاريخ، وتكون فيه فائدة مادية أو معنوية، دينية أو دنيوية.

نعم هناك موارد للتقية ينبغي مراعاتها.

وفي حديث الهجوم على بيت فاطمة(علیها السلام):

(ثم قام عمر فمشى معه جماعة حتى أتوا باب فاطمة (علیها السلام) فدقوا الباب، فلما سمعت أصواتهم نادت بأعلى صوتها باكية: «يا رسول الله، ما ذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة!.

ص: 419


1- سورة الأنفال: 42.

..............................

فلما سمع القوم صوتها وبكاءها انصرفوا باكين، فكادت قلوبهم تتصدع، وأكبادهم تتفطر، وبقي عمر ومعه قوم فأخرجوا علياً ومضوا به إلى أبي بكر، فقالوا: بايع.

فقال: «إن أنا لم أفعل فمه؟».

قالوا: إذاً والله الذي لا إله إلا هو نضرب عنقك!

قال: «إذاً تقتلون عبد الله وأخا رسوله».

فقال عمر: أما عبد الله فنعم، وأما أخا رسوله فلا!، وأبو بكر ساكت لايتكلم)(1).

وفي الخطبة الشقشقية قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى، ينحدرعني السيل ولا يرقى إليَّ الطير، فسدلت دونها ثوباً، وطويت عنها كشحاً، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء، أو أصبر على طخية عمياء، يشيب فيها الصغير ويهرم فيها الكبير، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه، فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجا، أرى تراثي نهباً، حتى إذا مضى الأول لسبيله فأدلى بها إلى عمر من بعده!، فيا عجباً بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته لشد ما تشطرا ضرعيها» الخطبة(2).

ص: 420


1- بحار الأنوار: ج28 ص356 ب4 تبيين.
2- الاحتجاج: ج1 ص191-192 احتجاجه (علیه السلام) في الاعتذار من قعوده عن قتال من تآمر عليه من الأولين وقيامه إلى قتال من بغى عليه من الناكثين والقاسطين والمارقين.

يبتزني نحلة أبي وبلغة ابنيّ!

اشارة

-------------------------------------------

الغصب والابتزاز

مسألة: الغصب محرم مطلقاً، سواء كان مجرداً عن الابتزاز أم لا، وتتأكد حرمته إذا صاحبه ذلك، وكان ما قام به ابن أبي قحافة ابتزازاً، لا غصباً فقط، كما صرحت الصديقة (علیها السلام) بذلك.

والابتزاز: هو الاستلاب وأخذ الشيءبالقهر والغلبة والتهديد.

الغصب الأشد عقوبة

مسألة: إن حرمة الغصب تتأكد أيضاً فيما إذا كان متعلقه حقاً لغير واحد، وعلى ذلك تكون العقوبة أشد..

ولم تكن جريمة ابن أبي قحافة مقتصرة على غصبه فدكاً من الصديقة الزهراء (علیها السلام) ولم يكن غصبه تعدياً على حقها فحسب، بل كان تعدياً على رسول الله (صلي الله عليه و آله) أيضاً، وعلى الإمامين الحسن والحسين (علیهما السلام)، وتعدياً على القرآن ورسالة السماء، بل على الباري عزوجل.

ولذلك أشارت الصديقة (علیها السلام) بقولها: «يبتزني نحلة أبي وبلغة ابنيّ...».

ولا يخفى أن الجماعة لم يأخذوا فدكاً والعوالي فحسب، وإنما منعوا أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) حتى من الخمس المقرر لهم، ولعل قولها (عليها الصلاة والسلام): (بلغة ابنيّ) إشارة إلى الأمرين.

قال تعالى: «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتَامى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنا

ص: 421

..............................

عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»(1).

الغصب الطولي

مسألة: كلما تجدد للغصب مصداق - عرضي أو طولي - تجددت للغاصب حرمة وعقوبة.

فلو غصب(2) مالاً من زيد، فمات وورثه أبناؤه استحق الغاصب عقوبة أخرى على غصبه مالهم الذي كان ملكاً للمورّث المغصوب منه.

وذلك نظير «من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة»(3).

ولعل لذلك أشارت الصديقة (علیها السلام) بقولها: «يبتزني.. بلغة ابنيّ» إذ أن النحلة كانت ملكاً لها (علیها السلام) وبعد شهادتها ورثها الحسنان (علیهما السلام) وكان المفروض أن يكون بلغة لهما (علیهما السلام).

لماذا طالبت (علیها السلام) بفدك؟

مسألة: من الواضح أن هدف الصديقةالزهراء (علیها السلام) لم يكن المادة والدنيا، وينبغي بيان ذلك.

بل كان من أهدافها:

أ: إحقاق الحق وبيان الواقع، أمانة للناس والتاريخ.

ص: 422


1- سورة الأنفال: 41.
2- هذا مثال للغصب الطولي.
3- الفصول المختارة: ص136 فصل.

..............................

ب: من المحبوب عند الله تعالى عمران الدنيا والآخرة معاً، قال سبحانه: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآْخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا»(1).

وقال تعالى: «وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا»(2).

فالمطالبة بمتاع الدنيا الحلال لاتخاذه جسراً إلى الآخرة فضيلة مضاعفة، فإن فدك والعوالي كان واردهما كبيراً، إذ كانتا قريتين كبيرتين وفيهما البيوت والأشجار والمزارع وغيرها، حتى ذكر بعض المؤرخين أن واردها كان سبعين ألف دينار ذهباً، فإذا كانت في أيدي الحسن والحسين (عليهما الصلاة والسلام) كانا يقومان بالإنفاق على فقراء المسلمين وحوائجهم، وعلى الدفاع عن المظلومين، وعلى رفع رايةالحق والدين المبين، ونشر تعاليمه وأحكامه، بينما إذا أعوزهما المال انتفى الإنفاق بقدره على الفقراء والمحتاجين، ولم يكن للحق ما يدعمه اقتصادياً.

ج: النهي عن المنكر، لأن السكوت عن الغصب سكوت عن المنكر، والنهي عنه واجب ولو في أدنى مراتبه.

د: إن الحق كان حقاً لابنيها الحسنين (علیهما السلام) أيضاً، إذ كانت فدك بلغة لهما، ولو جاز سكوت المرء عن حقه لم يجز سكوته عن حق من يتعلق به.

ه-: إن فضح غاصبي فدك هو فضح لسائر أعمالهم وممارساتهم ولغصبهم الخلافة أيضاً كما سبق، وهذا هو أهم الأهداف لكي يتبين للأمة الطريق الصحيح

ص: 423


1- سورة البقرة: 201-202.
2- سورة القصص: 77.

..............................

لرسالة رسول الله (صلي الله عليه و آله) دون المزيفين والذين غصبوا الخلافة وحكموا باسم الدين وباسم الرسول الكريم (صلي الله عليه و آله).

قولها (علیها السلام): «يبتزني نحلة أبي...» (يبتزني): أي يسلبني بالقهر والغلبة ويأخذه مني، و(النحلة): الهبة والعطية، والنُحيلة تصغيرها، وحيث لم يكن هذا في مقامالاحتجاج صرحت (عليها الصلاة والسلام) بأن فدك نحلة.

و(البلغة): ما يبلغ الإنسان به حاجته من العيش ويكتفي به.

والمراد ب- (ابنيَّ): الحسن والحسين (صلوات الله عليهما).

ولا يخفى أن (البلغة) ليست بلغة العيش الشخصي، بل هي بالمعنى الأعم الشامل لما يبلغ به الإنسان هدفه.

لا يقال:لماذا لم تذكر (عليها الصلاة والسلام) البنتين:زينب وأم كلثوم(علیهما السلام).

لأنه يقال:

أولاً: لما ذكرناه من أن الهدف من استرجاع فدك هو القيام بقضاء الحوائج ودعم الخلافة الحقة، وكان القائم بذلك الحسنان (عليهما الصلاة والسلام) بعد أبيهما أمير المؤمنين (علیه السلام).

وثانياً: إن البنت - عادةً - تتزوج وتكون في كفالة الزوج ومسئوليته.

عالم الأسباب والمسببات

مسألة: إن الله سبحانه لما جعل في عالم التكوين بعض الأمور سبباً وبعضها الآخر مسبباً فلا يتحقق المسبب بغير السبب، ولا يؤثر السبب في غير المسبب، مثلاً النار علة الإحراق فلا غير النار - وما شابهها - يحرق، ولا النار تفعل غير الإحراق، إلا بمشيئته سبحانه..

ص: 424

..............................

كذلك جعل الأمر في عالم التشريع والاعتبار، فلايتحقق النكاح بوضع الرجل يده على رأس من يريد أن يتزوجها، ولا الطلاق برفع اليد مثلاً، بل لابد من اللفظ الشرعي الذي اعتبره الشارع سببا له.

قال الإمام الصادق (علیه السلام): «إنما يحلل الكلام ويحرم الكلام»(1).

وهذا ما يمكن أن يستفاد من قول الصديقة (علیها السلام): «بلغة ابنيَّ» فليدقق. فإن فدك كان سبباً للبلغة وما أشبه. والمطالبة بها مطالبة بالبلغة.

لا يقال: يصح ذلك في اعتبار العقلاء، فإن أي نحو وضعوا الاعتبار يكون كذلك، كما نرى ذلك في النقود حيث تعتبر الدولة الورقة النقدية الخاصة تعادل كذا، والتي لها لون آخر تعادل مبلغاً آخر، ولها قوة شرائية معينة زيادة أو نقيصة أو مساواة وموازاة، أي لعملة أخرى.

لأنه يقال: (اعتبار خصوصية) قد يكون لخصوصية لا نعلمها، وقد لايكون ذلك لاعتبار خصوصية خاصة، إلا أن اعتبار تلك الخصوصية كان من باب أنهافرد ومصداق، وحيث أريد التنسيق وضرب القانون جعل الفرد الخاص و(اعتبر) هو المقياس حتى لايقع الاضطراب، فإذا كان يكفي في النظافة(2) فرضاً ثلاث مرات من الوضوء، فيصح - بما هو هو - أن يجعل في ثلاثة أوقات مهما كانت، لكن إعطاء اختياره بيد الناس يسبب الاضطراب بأن يتوضأ زيد في الساعة الأولى ويستأنف كل ثمان ساعات، وعمرو في الساعة الثانية وهكذا، وعامر في الساعة الثالثة وهكذا مما يخل بالنظم العام والمظهر الجامع - وهذا المثال

ص: 425


1- الكافي: ج5 ص201 باب الرجل يبيع ما ليس عنده ح6.
2- قد يصح ذلك إذا عممنا النظافة للظاهرية والباطنية كما ورد (الوضوء نور).

..............................

لتقريب الذهن فقط كما لا يخفى - فالتنسيق منضماً إلى التكوين في النظافة سبباً هذا الجعل الخاص.

وبهذا تبين أن كون الشمس تنير العالم، والمطر يروي الأرض، ليس معناه الإطلاق والعلية التامة، بل بشرطها وشروطها، ومنها عدم الموانع، فإنهما لايؤثران تلك التأثيرات في داخل الكهوف وأعماق البحار، ولا الأماكن المسقفة وما إلى ذلك..

وهكذا يكون حال الدعاء مثل:(اللهم اغن كل فقير) و(أشبع كل جائع)(1) ففي مائة مليون فقير وجائع مثلاً يؤثر هذا الدعاء في الموضع القابل، فإن قابلية القابل شرط، وهي أيضاً - على تقدير وجودها - على درجات كما قال تعالى: «أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا»(2) فليس الدعاء بلا أثر إطلاقاً، كما وليس مؤثراً بنحو مطلق وعلة تامة، حاله حال التكوين فليس الدواء الفلاني مؤثراً إطلاقاً ولا بدون أثر إطلاقاً، فإن البلاء كالنعمة ينزلان كقطر المطر - كما قال أمير المؤمنين علي (علیه السلام) بالنسبة إلى البلاء(3) - ففي الموضع القابل يؤثر كل واحد منهما(4) أثره، وهذا ما عبر عنه الحكماء والمتكلمون بفاعلية الفاعل وقابلية القابل..

ومن المعلوم أنه اعتبر - ارتكازاً أو ما أشبه - الشرط والمعد والمانع والقاطع

ص: 426


1- مستدرك الوسائل: ج7 ص447 ب14 ح8623.
2- سورة الرعد: 17.
3- راجع نهج البلاغة، الخطب: 23 ومن خطبة له (علیه السلام) وتشتمل على تهذيب الفقراء بالزهد وتأديب الأغنياء بالشفقة.
4- أي من الدعاء والبلاء.

..............................

في الكليتين المذكورتين، فكون فدك بلغة الحسنين (علیهما السلام) من هذا الباب، فلايقال إنها (علیها السلام) كانت زاهدة ومتوكلة على الله سبحانه فلماذا نطقت بهذا الكلام وطالبت بفدك؟.

بلغة الأبناء

مسألة: يستحب للوالدة - وكذا الوالد - الاهتمام ببلغة الأبناء، أي ما يتبلغ به من العيش ويكتفى به، وهو سبب بلوغ العمر إلى الغاية والأجل إلى النهاية.

وهذا من فلسفة توزيع الإرث على الورثة فإنه بلغة لهم.

عن عامر بن سعد، عن أبيه: أنه مرض بمكة مرضة أشفى منها فعاده رسول الله (صلي الله عليه و آله). فقال: يا رسول الله، ليس يرثني إلا البنت، أفأوصي بثلثي مالي؟. فقال: «لا». قال: أفأوصي بنصف مالي؟. - وفي رواية: بشطر مالي؟- فقال: «لا». فقال: أفأوصي بثلث مالي؟. فقال (صلي الله عليه و آله): «بالثلث، والثلث كثير - وقال - إنك أن تدع أولادك أغنياء خيراً من أن تدعهم عالة يتبلبون الناس»(1).

وروى السكوني عن جعفر بن محمد(علیه السلام) عن أبيه (علیه السلام) عن آبائه (علیهم السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «الوصية بالخمس؛ لأن الله عزوجل رضي لنفسه بالخمس - وقال - الخمس اقتصاد، والربع جهد، والثلث حيف»(2).

وعن أبي بصير، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «من لم يحسن عند الموت وصيته كان نقصاً في مروءته وعقله - قال: - وإن رسول الله (صلي الله عليه و آله) أوصى إلى علي (علیه السلام)، وأوصى علي إلى الحسن، وأوصى الحسن إلى الحسين، وأوصى الحسين

ص: 427


1- غوالي اللآلي: ج3 ص268 باب الوصايا ح2.
2- من لا يحضره الفقيه: ج4 ص185 باب مقدار ما يستحب الوصية به ح5421.

..............................

إلى علي بن الحسين، وأوصى علي بن الحسين إلى محمد بن علي (علیهم السلام) »(1).

وعن علي (صلوات الله عليه) أنه قال: «من أوصى بأكثر من الثلث أو أوصى بماله كله فإنه لايجوز، ويرد إلى المعروف غير المنكر، فمن ظلم نفسه في الوصية وخاف فيها فإنها ترد إلى المعروف،ويترك لأهل الميراث حقهم»(2).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «من أوصى ولم يحف ولم يضاد كان كمن تصدق به في حياته - وقال: - ما أبالي أضررت بورثتي أو سرقتهم ذلك المال»(3).

وعن ثوبان، قال: قال رسول الله (صلي الله عليه و آله): «أفضل دينار: دينار أنفقه الرجل على عياله، ودينار أنفقه على دابته في سبيل الله، ودينار أنفقه على أصحابه في سبيل الله - ثم قال: - وأي رجل أعظم أجراً من رجل سعى على عياله صغاراً يعفهم ويغنيهم الله به»(4).

وعن الحسن بن علي الحلال، عن جده، قال: سمعت الحسين بن علي (صلوات الله عليهما) يقول: سمعت رسول الله (صلي الله عليه و آله) يقول: «ابدأ بمن تعول: أمك، وأباك، وأختك، وأخاك، ثم أدناك فأدناك، - وقال: - لا صدقة وذو رحم محتاج»(5).

ص: 428


1- وسائل الشيعة: ج19 ص265 ب6 ح24557.
2- دعائم الإسلام: ج2 ص357 كتاب الوصايا ف2 ح1301.
3- روضة الواعظين: ج2 ص482 مجلس في ذكر الوصية.
4- مستدرك الوسائل: ج7 ص241 ب39 ح8142، والمستدرك: ج13 ص55 ب20 ح14730.
5- بحار الأنوار: ج93 ص147 ب15 ح24.

لقد أجهد في خصامي

اشارة

-------------------------------------------

لقد أجهد(1) في خصامي

إرهاب الحاكم

مسألة: الإرهاب أحد أهم عوامل تراجع نصرة الناس للمظلوم وهو من أكبر المحرمات، وهذا ما قام به ابن أبي قحافة تماماً (لقد أجهد.. وكان الألد)؛ لأن امتناع القوم من نصرة الصديقة (علیها السلام) كان خوفاً من الحاكم، حيث رأوه أجهد في خصامها وألدّ في كلامها.. ولهذا انسحبوا، كما هو عادة الناس غالباً إذا رأوا أن القوة الحاكمة مصرة على موقفها، فإنهم يتحاشون إغضابها والوقوف بوجهها رعاية لمصالحهم الشخصية وما أشبه.

منع نصرة المظلوم

مسألة: يحرم منع الآخرين عن نصرة المظلوم.

فإن مصادرة الحق وغصبه حرام، ومنع الذين يتمكنون من إرجاع الحق إلى صاحبه حرام آخر.

ترك النصرة

مسألة: امتناع القوم عن نصرة أهل البيت (علیهم السلام)كان حراماً، بل هومن أشد المحرمات، والأدلة عليها كثيرة، يكفي منها أن رسول الله (صلي الله عليه و آله) طلب منهم - بأمر من الله عزوجل - كأجر للرسالة مودة أهل البيت (علیهم السلام) والمودة هي إظهار المحبة، قال تعالى: «قُلْ لاَ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى»(2) ويا للعجب

ص: 429


1- وفي بعض النسخ: (أجهر).
2- سورة الشورى: 23.

..............................

من كيفية عملهم بوصية رسول الله (صلي الله عليه و آله)، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون والعاقبة للمتقين.

الأشد عداوة

مسألة: ينبغي بيان أن ابن أبي قحافة كان أشد خصوم فاطمة الزهراء(علیها السلام) وأجهدهم في خصامها، وذلك بتصريح الصديقة الصادقة المصدقة (علیها السلام).

وكيف يجوز للأشد عداوة لسيدة النساء (علیها السلام) أن يتصدى لخلافة رسول الله (صلي الله عليه و آله)، وقد قال تعالى: «لاَ يَنَالُعَهْدِي الظَّالِمِينَ»(1) ؟.

قال الإمام الصادق (علیه السلام) في وصف الثاني إنه: «سيئة من سيئات الأول»(2).

قولها (علیها السلام): «خصامي» الخصام مصدر بمعنى المخاصمة، ويمكن أن يكون جمع الخصم.

عن أبي حمزة الثمالي عن علي بن الحسين (علیه السلام) قال: قلت له: أسألك جعلت فداك عن ثلاث خصال أنفي عني فيه التقية، قال: فقال: ذلك لك، قلت: أسألك عن فلان وفلان؟ قال: فعليهما لعنة الله بلعناته كلها ماتا والله وهما كافران مشركان بالله العظيم»(3).

وقال علي بن إبراهيم: فقال الله عزوجل: «لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ»(4) قال: يحملون آثامهم يعني

ص: 430


1- سورة البقرة: 124.
2- قصص الأنبياء للجزائري: ص42 ب1 ف3.
3- بصائر الدرجات: ص269-270 ب3 ح2.
4- سورة النحل: 25.

..............................

الذين غصبوا أمير المؤمنين (علیهالسلام) وآثام كل من اقتدى بهم، وهو قول الصادق (علیه السلام): «والله ما أهريقت محجمة من دم، ولا قرع عصاً بعصا، ولا غصب فرج حرام، ولا أخذ مال من غير حله، إلا ووزر ذلك في أعناقهما من غير أن ينقص من أوزار العاملين بشيء»(1).

وقال علي بن إبراهيم: في قوله: («يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ» فإنها كناية عن الذين غصبوا آل محمد حقهم، «يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ» يعني في أمير المؤمنين (علیه السلام)، «وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ» وهما رجلان، والسادة والكبراء هما أول من بدا بظلمهم وغصبهم، وقوله: «فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ» أي: طريق الجنة، والسبيل أمير المؤمنين (علیه السلام) ثم يقولون «رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً»(2)(3).

وجاء في تفسير قوله تعالى: «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ»، قال العالم (علیه السلام): «من الجن، إبليس الذي أشار على قتلرسول الله (صلي الله عليه و آله) في دار الندوة وأضل الناس بالمعاصي، وجاء بعد وفاة رسول الله (صلي الله عليه و آله) إلى فلان فبايعه، ومن الإنس فلان «نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ»(4)»(5).

ص: 431


1- تفسير القمي: ج1 ص383 سورة النحل.
2- سورة الأحزاب: 67-68.
3- تفسير القمي: ج2 ص197 نزول آية الحجاب.
4- سورة فصلت: 29.
5- بحار الأنوار: ج30 ص155- 156 ب20 ح13.

وألفيته ألد في كلامي

اشارة

-------------------------------------------

دراسة التاريخ

مسألة: دراسة التاريخ أمر واجب في الجملة، للعديد من الأدلة(1) ومن مصاديقه:

معرفة الشخصيات الفاعلة سلباً وإيجاباً للتأسي بالصالحين منهم وتجنب الضالين، ولذلك ولغيره سلطت الصديقة الزهراء (علیها السلام) الأضواء على شخصية خصمها فقالت: «لقد أجهد.. وألد..».

ويعرف من كلامها (علیها السلام) هذا: إن الرأس والعقل المخطط لكل تلك المؤامرات كان هو ابن أبي قحافة، كما يعرف من كلامها (علیها السلام) أن ما يتصوره البعض من أنه كان ليناً مدارياً على عكس صاحبه حيث كان خشناً،غير صحيح فإنها (علیها السلام) تصرح ب- «لقد أجهد في خصامي.. وألفيته الألد في كلامي».

هل كانت البيعة فلتة؟

مسألة: يستفاد من قول الصديقة (علیها السلام): (أجهد) أي بذل غاية الجهد في خصام الزهراء (علیها السلام)، ومنه يعرف أن ما قالوه من كونها (كانت فلتة..) ليس على ظاهره، بل كان أمراً مخططاً دُبر له بليل وعن سابق عمد وإصرار.. مع الالتزام بكل لوازمه بما فيه بذل غاية الجهد في خصام بضعة الرسول (صلي الله عليه و آله) وسيدة

ص: 432


1- من قبيل أسر (سر في ديارهم وانظر إلى آثارهم)، ومن قبيل العلة التي كانت وراء ذكر القرآن الكريم لقصص الماضين، وللتصريح بأسماء فرعون ونمرود وهامان وغيرهم من الطغاة، ومن قبيل التأسي والتجنب إلى غير ذلك.

..............................

نساء العالمين (علیها السلام).

كما يعرف أن الأول شحذ كل طاقاته، وحرك كل خيوطه، وقام بكل ما لا يصح من وراء الكواليس، كما كان هو الواجهة أيضاً (أجهد.. ألفيته..)، وإن حاول التستر خلف شخصيات أخرى، وخلف دعوى أن المسلمين هم الذين دفعوه لذلك.

وهذا هو ديدن الحكومات الجائرة، فإنها تحاول القضاء على المصلحين أو تحديدهم بكل الصور وبشتى الأساليب الخفية والظاهرة.

وعلى المصلحين أن يعدوا أنفسهم لذلك، ويعرفوا أن طريق الله صعب، وأن أمرهم (علیهم السلام) مستصعب(1)، فلاتهولنهم مخاوف الدرب، وليتأسوا بالصديقة الكبرى (علیها السلام) في مقارعة الظالمين ومجاهرتهم بكلمة الحق.

حقيقة الرجل

مسألة: لو لم يكن لنا من التاريخ ومن الروايات أي خبر وحديث إلا قولها (علیها السلام) هذا عن ابن أبي قحافة، لكفى في الكشف عن حقيقته، وفي معرفة هويته ومدى حجم جنايته وخصامه لبضعة رسول الله (صلي الله عليه و آله).

قولها (علیها السلام): «وألفيته...» أي وجدته، و(الألد): شديد الخصومة، أي وجدت ابن أبي قحافة شديد الخصومة معي.

ص: 433


1- راجع مستدرك الوسائل: ج12 ص296-297 ب23 ح14131.

..............................

حرمة خصامها (علیها السلام)

مسألة: يحرم خصام الصديقة فاطمة (علیها السلام)؛ فإن من خاصمها خاصم رسول الله (صلي الله عليه و آله)، ومن خاصمه خاصم الله عزوجل على ما يستفاد من الروايات الشريفة.

عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال: سألت رسول الله (صلي الله عليه و آله) أي النساء أحب إليك؟. قال: «فاطمة». قلت: من الرجال؟. قال: «زوجها»(1).

وعن السلامي مسنداً: أن جميعاً التيمي قال: (دخلت مع عمتي على عائشة. فقالت لها عمتي: ما حملكِ على الخروج على علي؟. فقالت عائشة: دعينا، فو الله ما كان أحد من الرجال أحب إلى رسول الله من علي، ولا من النساء أحب إليه من فاطمة)(2).

وقال علي بن إبراهيم القمي: وقوله: «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً»(3)، قال: نزلت فيمن غصب أميرالمؤمنين (علیه السلام) حقه وأخذ حق فاطمة (علیها السلام) وآذاها، وقد قال رسول الله (صلي الله عليه و آله): «من آذاها في حياتي كمن آذاها بعد موتي، ومن آذاها بعد موتي كمن آذاها في حياتي، و من آذاها فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله»، و هو قول الله: «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» الآية، وقوله: «وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ

ص: 434


1- المناقب: ج3 ص331 فصل في حب النبي إياها.
2- بحار الأنوار: ج43 ص38 ب3.
3- سورة الأحزاب: 57.

..............................

وَالْمُؤْمِنَاتِ» يعني علياً وفاطمة «بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَ إِثْماً مُبِيناً»(1) وهي جارية في الناس كلهم(2).

وعن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر الباقر محمد بن علي (علیه السلام)، عن أبيه (علیه السلام) عن جده (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلي الله عليه و آله): «إن الله ليغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها»(3).

وعن موسى بن جعفر (علیه السلام) عن آبائه (علیهم السلام)، قال (علیه السلام): «إن رسول الله (صلي الله عليه و آله) دخل على ابنتهفاطمة (علیها السلام) وإذا في عنقها قلادة، فأعرض عنها فقطعتها ورمت بها، فقال لها رسول الله (صلي الله عليه و آله): أنتِ مني يا فاطمة. ثم جاء سائل فناوله القلادة، ثم قال رسول الله (صلي الله عليه و آله): اشتد غضب الله على من أهرق دمي وآذاني في عترتي»(4).

وعن عبد الله بن الحارث بن نوفل، قال: سمعت سعد بن مالك - يعني: ابن أبي وقاص - يقول: سمعت رسول الله (صلي الله عليه و آله) يقول: «فاطمة بضعة مني، من سرها فقد سرني، ومن ساءها فقد ساءني، فاطمة أعز البرية عليَّ»(5).

وعن الزهري، وابن أبي مليكة، والمسور بن مخرمة: أن النبي (صلي الله عليه و آله) قال: «إنما فاطمة شجنة مني، يقبضني ما يقبضها، ويبسطني ما يبسطها»(6).

ص: 435


1- سورة الأحزاب: 58.
2- تفسير القمي: ج2 ص196 نزول آية التطهير.
3- الأمالي للمفيد: ص94-95 المجلس الحادي عشر ح4.
4- كشف الغمة: ج1 ص471 فاطمة (علیها السلام).
5- الأمالي للطوسي: ص24 المجلس الأول ح30.
6- بحار الأنوار: ج43 ص39 ب3.

..............................

وعن مجاهد، قال: خرج رسول الله (صلي الله عليه و آله) وقد أخذ بيد فاطمة (علیها السلام)، وقال: «من عرف هذه فقد عرفها، ومن لم يعرفها فهي فاطمة بنت محمد، وهي بضعة مني، وهي قلبي الذي بين جنبي، فمنآذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله»(1).

وعن أبي خالد عمرو بن خالد الواسطي، قال: حدثني زيد بن علي (علیه السلام) وهو آخذ بشعره، قال: حدثني أبي علي بن الحسين (علیه السلام) وهو آخذ بشعره، قال: سمعت أبي الحسين بن علي (علیه السلام) وهو آخذ بشعره، قال: سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) وهو آخذ بشعره، قال: سمعت رسول الله (صلي الله عليه و آله) وهو آخذ بشعره، قال: «من آذى شعرة مني فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله عزوجل، ومن آذى الله عزوجل لعنه ملأ السماوات وملأ الأرض، وتلا: «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً»(2)»(3).

ص: 436


1- كشف الغمة: ج1 ص467 فاطمة (علیها السلام).
2- سورة الأحزاب: 57.
3- الأمالي للطوسي: ج451 المجلس السادس عشر ح1006.

حتى حبستني قيلة نصرها والمهاجرة وصلها

اشارة

-------------------------------------------

حتى حبستني قيلة نصرها(1) والمهاجرة وصلها

حرمة حبس النصرة عنها

مسألتان: يحرم حبس النصرة عن الصديقة الطاهرة (علیها السلام) كما يحرم حبس صلتها (علیها السلام)، وقد ارتكب القوم هاتين المعصيتين الكبيرتين، فحبست الأنصار نصرها وحبست المهاجرة وصلها.

وصلة الصديقة (علیها السلام) أوجب من صلة الأرحام كما هو واضح، وفي الحديث القدسي أوحى الله إلى موسى (علیه السلام) في المناجاة: «...واقرن مع ذلك صلة الأرحام؛ فإني أنا الله الرحمن الرحيم، والرحم أنا خلقتها فضلاً من رحمتي ليتعاطف بها العباد، ولها عندي سلطان في معاد الآخرة، وأنا قاطع من قطعها وواصل من وصلها، وكذلك أفعل بمن ضيع أمري...»(2).

وعن رسول الله(صلي الله عليه و آله) عن جبرئيل عن الله تعالى: «أنا الرحمن شققت الرحم من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته»(3).قال تعالى: «وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ»(4).

وفي (الكافي): عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: سمعته يقول: «إن الرحم معلقة بالعرش تقول: اللهم صل من وصلني، واقطع من قطعني وهي رحم آل محمد، وهو قول الله عزوجل: «الَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ

ص: 437


1- وفي بعض النسخ: (حين منعتني الأنصار نصرها).
2- الكافي: ج8 ص45 حديث موسى (علیه السلام) ح8.
3- مستدرك الوسائل: ج15 ص237-238 ب11 ح18112.
4- سورة الرعد: 21.

..............................

بِهِ أَنْ يُوصَلَ»(1)، ورحم كل ذي رحم»(2).

وعن عمر بن يزيد، قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): «الَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ»(3)؟.

قال (علیه السلام): «نزلت في رحم آل محمد (صلي الله عليه و آله)»(4).

وعن محمد بن الفضيل، قال: سمعت العبد الصالح (علیه السلام) يقول: «وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ»(5)،قال:

«هي رحم محمد وآل محمد (علیهم السلام) معلقة بالعرش، تقول: اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني»(6).

وعن ابن مريم، قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن قول الله: «وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ»(7)؟. قال: «من ذلك صلة الرحم، وغاية تأويلها صلتك إيانا»(8).

قولها (علیها السلام): «حتى حبستني» (حتى) بمعنى: الغاية، يعني: إن ابن أبي قحافة خاصمني وبلغ في الخصومة درجة حتى أن الصحابة خافوا من نصرتي

ص: 438


1- سورة الرعد: 21.
2- الكافي: ج2 ص151 باب صلة الرحم ح7.
3- سورة الرعد: 21.
4- بحار الأنوار: ج71 ص130 ب3 ح95.
5- سورة الرعد: 21.
6- مستدرك الوسائل: ج15 ص236 ب11 ح18104.
7- سورة الرعد: 21.
8- تفسير العياشي: ج2 ص208 من سورة الرعد ح30.

..............................

والوقوف إلى جانبي، رغم معرفتهم بمكانتي من رسول الله (صلي الله عليه و آله) وبمنزلتي عند رب السماوات والأرض، وقد قال (صلي الله عليه و آله): «إن الله يرضى لرضى فاطمة ويغضب لغضبها»(1).و«قيلة» أي: بنو قيلة، وهي اسم أم الأوس والخزرج، وقد تقدم أنهما قبيلتان من الأنصار.

قولها (علیها السلام): «والمهاجرة» أي الطائفة المهاجرة، والمراد بهم: المهاجرون من مكة، أو المهاجرون من مختلف البلاد الذين كانوا قادمين إلى المدينة المنورة في زمان الرسول (صلي الله عليه و آله)..

و«وصلها»: بمعنى عونها، فإنهم امتنعوا عن معونتها وصلتها.

ص: 439


1- راجع إرشاد القلوب: ج2 ص232 في فضائل ومناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وغزواته (علیه السلام).

وغضت الجماعة دوني طرفها

اشارة

-------------------------------------------

اتخاذ موقف الحياد

مسألة: اتخاذ موقف الحياد أمام ظلم الظالم محرم، وقولها (علیها السلام): «وغضت الجماعة دوني طرفها» كناية عن وقوف القوم موقف الحياد تجاه الصراع الذي دار بين ابن أبي قحافة وبين الصديقة الزهراء (عليها الصلاة والسلام)، ويستفاد منه حرمة (غض الطرف عن نصرة المظلوم)(1).

وقد يكون في كلامها (علیها السلام) تلميح إلى ما سيحيق بالقوم، حيث إن من يغض بصره لا يرى أمامه فلا يتخذ التدبير اللازم في مسيره، فيكون للكلام - بهذا اللحاظ - دلالة تحذيرية مما سيترتب على سكوتهم من الآثار السيئة والمخاطر الدنيوية، إضافة للعواقب الأخروية، وذلك كما في (الضبع) التي تنام على طول اللدم(2)؛ فإن من سنن اللهتعالى: أن من يسكت على الظلم يلحقه الذل والعار ويلقى العنتَ في الدنيا قبل الآخرة.

ومن ذلك يعرف أن ما يذهب إليه البعض من التزامهم بالحياد أمام الظالم بتذرع عدم التدخل في السياسة غير صحيح، إذ أنه إضافة إلى حرمته الذاتية، لايجنبهم المخاطر التي منها فروا، بل الأمر بالعكس تماماً.

ص: 440


1- المراد حرمة ما كني عنه ب- (غض البصر) وليس المقصود تحريم الغض بنفسه.
2- اللدم - بسكون الدال -: ضرب الحجر أو غيره على الأرض ليس بالقوي. ويحكى أن الضبع تستغفل بمثل ذلك لتسكن حتى تصاد. مجمع البحرين: ج6 ص162 مادة (لدم). ومن كلام لأمير المؤمنين (علیه السلام) لما أشير عليه بأن لا يتبع طلحة والزبير ولا يرصد لهما القتال، وفيه يبين عن صفته بأنه (علیه السلام) لا يخدع، قال: «وَاللَّهِ لاَ أَكُونُ كَالضَّبُعِ تَنَامُ عَلَى طُولِ اللَّدْمِ حَتَّى يَصِلَ إِلَيْهَا طَالِبُهَا، وَيَخْتِلَهَا رَاصِدُهَا»، نهج البلاغة: الخطبة رقم 6.

..............................

قال مولى الموحدين (عليه السلام): «جاهدوا تورثوا أبناءكم عزاً»(1).

نعم قد تكون هناك ظروف التقية وما أشبه، فيلزم فيها مراعاة الموازين الشرعية.

روايات حرمة الموقف الحياد

عن عمرو بن قيس المشرقي، قال: دخلت على الحسين (عليه السلام) أنا وابن عم ليوهو في قصر بني مقاتل. فسلّمنا عليه فقال له ابن عمي: يا أبا عبد الله، هذا الذي أرى خضاب أو شعرك؟!. فقال: «خضاب والشيب إلينا بني هاشم يعجل». ثم أقبل علينا فقال: «جئتما لنصرتي؟». فقلت: إني رجل كبير السن، كثير الدَين، كثير العيال، وفي يدي بضائع للناس ولا أدري ما يكون، وأكره أن أضيع أمانتي. وقال له ابن عمي مثل ذلك. قال (عليه السلام) لنا: «فانطلقا فلا تسمعا لي واعية، ولا تريا لي سواداً؛ فإنه من سمع واعيتنا، أو رأى سوادنا فلم يجبنا ولم يعنا، كان حقاً على الله عزوجل أن يكبه على منخريه في النار»(2).

وروى ابن رياح، قال: لقيت رجلاً أعمى قد حضر قتل الحسين (عليه السلام)، فسُئل عن ذهاب بصره؟. قال: كنت عاشر عشرة غير أني لم أضرب ولم أرمِ، فلما رجعت إلى منزلي وصليت فأتاني آتٍ في منامي، فقال: أجب رسول الله (صلی الله علیه و آله). فقلت: ما لي وله، فأخذني يقودني إليه. فإذا هو جالس في صحراء حاسر عن ذراعيه آخذ بحربة، وملك قائم بين يديه وفي يده سيف من نار فقتل

ص: 441


1- راجع الكافي: ج5 ص8 باب فضل الجهاد ح12، وفيه: عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: قال النبي (صلی الله علیه و آله): «اغزوا تورثوا أبناءكم مجداً».
2- ثواب الأعمال: ص259 عقاب من سمع واعية أهل البيت (علیهم السلام) ورأى سوادهم فلم يجبهم.

..............................

أصحابي، فكلما ضرب ضربة التهبت أنفسهم ناراً. فدنوت وجثوت بين يديه وقلت: السلام عليك يا رسول الله، فلم يرد عليَّ، ومكث طويلاً ثم رفع رأسه وقال: «يا عبد الله، انتهكت حرمتي وقتلت عترتي ولم ترع حقي»!. فقلت: يا رسول الله، والله ما ضربت بسيف، ولا طعنت برمح، ولا رميت بسهم. قال: «صدقت ولكنك كثّرت السواد، ادن مني». فدنوت فإذا طشت مملوء دماً، فقال: «هذا دم ولدي الحسين»، فكحلني منه، فانتبهت لا أرى شيئاً(1).

وقال السدي لرجل: أنت تبيع القطران(2)؟!. قال: والله ما رأيتالقطران، إلا أنني كنت أبيع المسمار في عسكر عمر بن سعد في كربلاء. فرأيت في منامي رسول الله » وعلي بن أبي طالب (عليه السلام) يسقيان الشهداء، فاستسقيت علياً (عليه السلام) فأبى، فأتيت النبي » فاستسقيت فنظر إليَّ وقال: «أ لست ممن أعان علينا». فقلت: يا رسول الله، إنني محترق ووالله ما حاربتهم. فقال: «اسقه قطراناً». فسقاني شربة قطران، فلما انتبهت كنت أبول ثلاثة أيام القطران، ثم انقطع وبقيت رائحته(3).

وقال الشعبي: رأيت رجلاً متعلقاً بأستار الكعبة وهو يقول: اللهم اغفر

ص: 442


1- مثير الأحزان: ص80 رواية ابن رياح في قتل الحسين (علیه السلام) وما جرى للأعمى فيه.
2- قال تعالى: سرابيلهم من قطران [50/44« هو بفتح القاف وكسر الطاء: الذي يطلى به الإبل التي فيها الجرب، يتخذ من حمل شجر العرعر فيطبخ بها ثم يهنأ به، وسكون الطاء وفتح القاف وكسرها لغة، وقد أوعد الله المشركين أن يعذبهم به لمعان أربعة: للذعه وحرقته، واشتعال النار فيه، وإسراعها في المطلي به، وسواد لونه بحيث تشمئز عنه النفوس من نتن رائحته، فتطلى به جلودهم حتى يعود طلاؤه لهم كالسرابيل، لأنهم كانوا يستكبرون عن عبادته فألبسهم بذلك الخزي و الهوان. وقطران بمعنى نحاس قد انتهى حره أيضاً، ويقال الحديد المذاب.
3- المناقب: ج4 ص58 فصل في آياته بعد وفاته (علیه السلام).

..............................

لي ولا أراك تغفر لي. فسألته عن ذنبه؟. فقال: كنت من الوكلاء على رأس الحسين (عليه السلام) وكان معي خمسون رجلاً، فرأيت غمامة بيضاء من نور وقد نزلت من السماء إلى الخيمة وجمعاً كثيراً أحاطوا بها، فإذا فيهم آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى (علیهم السلام)، ثم نزلت أخرى وفيها النبي (صلی الله علیه و آله) وجبرائيل وميكائيل وملكالموت (علیهم السلام). فبكى النبي » وبكوا معه جميعاً، فدنا ملك الموت وقبض تسعاً وأربعين فوثب عليَّ فوثبت على رجلي، وقلت: يا رسول الله، الأمان الأمان فو الله ما شايعت في قتله ولا رضيت. فقال: «ويحك وأنت تنظر إلى ما يكون». فقلت: نعم. فقال: «يا ملك الموت، خل عن قبض روحه؛ فإنه لابد أن يموت يوماً». فتركني وخرجت إلى هذا الموضع تائباً على ما كان مني(1).

عدم نصرة أهل البيت (علیهم السلام)

مسألة: يحرم غض البصر عن نصرة الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (علیها السلام) ، كما يحرم عدم نصرة أهل البيت (علیهم السلام).

والمسألة هذه من مصاديق الكلي المتقدم، والإفراد بالذكر للأهمية وللآكدية ولشدة الحرمة؛ فإن المظلوم إذا كان من أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) فإن غض الطرف عن التهجم عليهم أو التنقيص من قدرهم يكون أكثر حرمة، والنصرة أشد وجوباً، فكيف بالصديقة فاطمة (علیها السلام) وهي حجة الله على أهل البيت (علیهم السلام).قال الإمام جعفر بن محمد (عليه السلام): «احفظوا فينا ما حفظ العبد الصالح في

ص: 443


1- بحار الأنوار: ج45 ص303 ب46.

..............................

اليتيمين - قال: - وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً (1)»(2).

وعن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال: «لما نزلت هذه الآية: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ (3). قال المسلمون: يا رسول الله، ألستَ إمام الناس كلهم أجمعين؟. قال: فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): أنا رسول الله إلى الناس أجمعين، ولكن سيكون من بعدي أئمة على الناس من الله من أهل بيتي يقومون في الناس فيُكَذَّبون ويَظلمهم أئمة الكفر والضلال وأشياعهم، فمن والاهم واتبعهم وصدّقهم فهو مني ومعي وسيلقاني، ألا ومن ظلمهم وكذبهم فليس مني ولا معي وأنا منه بريء»(4).

وعن زيد بن علي بن الحسين (علیهمالسلام) قال: قرأ وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا (5)، ثم قال: «حفظهما ربهما لصلاح أبيهما، فمن أولى بحسن الحفظ منا، رسول الله (صلی الله علیه و آله) جدنا، وابنته سيدة نساء الجنة أُمنا، وأول من آمن بالله ووحّده وصلّى أبونا»(6).

وعن الكلبي ولوط بن يحيى الأزدي: أن ابن قيس بن زرارة الشاذي - فخذ من همدان - قدم على علي (عليه السلام) فأخبره بخروج بُسر. فندب علي (عليه السلام) الناس

ص: 444


1- سورة الكهف: 82.
2- كشف الغمة: ج2 ص162 وأما مناقبه وصفاته.
3- سورة الإسراء: 71.
4- الكافي: ج1 ص215 باب أن الأئمة في كتاب الله إمامان إمام يدعو إلى الله وإمام يدعو إلى النار ح1.
5- سورة الكهف: 82.
6- الأمالي للمفيد: ص116 المجلس الثالث عشر ح9

..............................

فتثاقلوا عنه، فقال: «أتريدون أن أخرج بنفسي في كتيبة تتبع كتيبة في الفيافي والجبال، ذهب والله منكم أولو النهى والفضل الذين كانوا يُدعون فيجيبون، ويُؤمرون فيطيعون، لقد هممت أن أخرج عنكم فلا أطلب بنصركم ما اختلف الجديدان». فقام جارية بن قدامة فقال: أنا أكفيكهم يا أمير المؤمنين. فقال: «أنت لعمري لميمونالنقيبة، حسن النية، صالح العشيرة». وندب معه ألفين وقال بعضهم ألفا، وأمره أن يأتي البصرة فيضم إليه مثلهم(1).

وفي رواية عن أبي الوداك، قال: قدم زرارة بن قيس فخبر علياً (عليه السلام) بالقدمة التي خرج فيها بسر. فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «أما بعد، أيها الناس إن أول فرقتكم وبدء نقصكم ذهاب أولي النهى وأهل الرأي منكم، الذين كانوا يلقون فيصدقون، ويقولون فيعدلون، ويُدعون فيجيبون، وأنا والله قد دعوتكم عوداً وبدءً، وسراً وجهاراً، وفي الليل والنهار، والغدو والآصال، فما يزيدكم دعائي إلا فراراً وإدباراً. أما تنفعكم العظة والدعاء إلى الهدى والحكمة، وإني لعالم بما يُصلحكم ويقيم أودكم، ولكني واللّه لاأصلحكم بفساد نفسي، ولكن أمهلوني قليلاً فكأنكم والله بامرئ قد جاءكم يحرمكم ويعذبكم، فيعذبه الله كما يعذبكم. إن مِن ذُلّ المسلمين وهلاك الدين أن ابن أبي سفيان يدعو الأراذل والأشرار فيُجاب، وأدعوكم وأنتم الأفضلون الأخيار وتدافعون، ما هذا بفعل المتّقين. إن بُسر بن أبي أرطاة وجه إلى الحجاز، وما بُسر (لعنه الله)لينتدب إليه منكم عصابة حتى تردوه عن سننه، فإنما خرج في ستمائة أو يزيدون».

ص: 445


1- الغارات: ج2 ص427 مسير جارية بن قدامة.

..............................

قال: فأسكت القوم ملياً لا ينطقون. فقال: «ما لكم مخرسون لاتكلمون»(1).

وفي (نهج البلاغة) لما تواترت الأخبار على أمير المؤمنين (عليه السلام) باستيلاء أصحاب معاوية على البلاد، وقدم عليه عاملاه على اليمن وهما: عبيد الله بن عباس وسعيد بن نمران، قام (عليه السلام) على المنبر ضجراً بتثاقل أصحابه عن الجهاد ومخالفتهم له في الرأي، فقال (عليه السلام):

«أُنْبِئْتُ بُسْراً قَدِ اطَّلَعَ الْيَمَنَ، وَإِنِّي وَاللَّهِ لأَظُنُّ أَنَّ هَؤُلاَءِ الْقَوْمَ سَيُدَالُونَ مِنْكُمْ بِاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى بَاطِلِهِمْ وَتَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ، وَبِمَعْصِيَتِكُمْ إِمَامَكُمْ فِي الْحَقِّ وَطَاعَتِهِمْ إِمَامَهُمْ فِي الْبَاطِلِ، وَبِأَدَائِهِمُ الأَمَانَةَ إِلَى صَاحِبِهِمْ وَخِيَانَتِكُمْ، وَبِصَلاَحِهِمْ فِي بِلاَدِهِمْ وَفَسَادِكُمْ، فَلَوِ ائْتَمَنْتُ أَحَدَكُمْ عَلَى قَعْبٍ لَخَشِيتُ أَنْ يَذْهَبَ بِعِلاَقَتِهِ. اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ مَلِلْتُهُمْ وَمَلُّونِي، وَسَئِمْتُهُمْ وَسَئِمُونِي، فَأَبْدِلْنِي بِهِمْ خَيْراً مِنْهُمْ، وَأَبْدِلْهُمْ بِي شَرّاً مِنِّي. اللَّهُمَّ مِثْ قُلُوبَهُمْكَمَا يُمَاثُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ، أَمَا وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ لِي بِكُمْ أَلْفَ فَارِسٍ مِنْ بَنِي فِرَاسِ بْنِ غَنْمٍ»(2).

لماذا نبش التاريخ؟

مسألة: لا فرق فيما ذكر من حرمة اتخاذ موقف الحياد، بين الحاضر والماضي وحتى المستقبل (كأخبار الظهور)، كما إذا كان الهجوم تاريخياً، فلا يصح الفرار من النصرة بدعوى أنها قضايا تاريخية أكل الدهر عليها وشرب، إذ:

ص: 446


1- بحار الأنوار: ج34 ص14 ب31.
2- نهج البلاغة، الخطب: 25 ومن خطبة له (علیه السلام) وقد تواترت عليه الأخبار باستيلاء أصحاب معاوية على البلاد.

..............................

أولاً: إن من منهج القرآن الكريم هو التطرق إلى التاريخ وذكر الأنبياء والأولياء (علیهم السلام) الماضين من جهة، وذكر الطغاة والأعداء كذلك وذمهم ولعنهم من جهة أخرى.

ثانياً: لقانون التأسي وعدمه، فالحديث عن الصالحين ليتخذوا أسوة، والحديث عن الفراعنة ليُجتنبوا.

ثالثاً: إن عدم فضح عدو الله والظالم المتستر بلباس الدين، يجعل سائر أقواله وأفعاله حجة وربما استمرتللأجيال القادمة أو مدى الدهر.

رابعاً: القدح والمدح يقعان في سلسلة الأجر والعقاب اللذين قررهما الله تعالى للصالحين والطالحين في الدنيا قبل الآخرة، ولذلك طلب إبراهيم (عليه السلام) من الله الذكر الحسن: ]وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآْخِرِينَ»(1)، وقال تعالى: «وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ»(2).

خامساً: المستقبل وليد الماضي بنحو المقتضي(3).

إلى غير ذلك مما هو مذكور في دراسة التاريخ وخاصة ما يرتبط بالمعتقدات.

في الحديث الشريف: «من ورخ مؤمناً فقد أحياه»(4). وفي وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) لابنه الإمام الحسن (عليه السلام) كما في (نهج البلاغة):

ص: 447


1- سورة الشعراء: 84.
2- سورة المؤمنون: 44.
3- المراد أن الماضي السيئ يؤثر في صنع المستقبل السيئ، فكان لابد من دراسته ومعرفته حتى يمكن تجنب مساوئه.
4- انظر كتاب مستدرك سفينة البحار: ج10 ص278، وكشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون: ج1 ص3، وفيه: «من ورخ مؤمنا فكأنما أحياه».

..............................

«أَحْيِ قَلْبَكَ بِالْمَوْعِظَةِ، وَأَمِتْهُ بِالزَّهَادَةِ، وَقَوِّهِ بِالْيَقِينِ، وَنَوِّرْهُ بِالْحِكْمَةِ، وَذَلِّلْهُ بِذِكْرِ الْمَوْتِ، وَقَرِّرْهُ بِالْفَنَاءِ، وَبَصِّرْهُ فَجَائِعَ الدُّنْيَا، وَحَذِّرْهُ صَوْلَةَ الدَّهْرِ، وَفُحْشَ تَقَلُّبِ اللَّيَالِي وَالأَيَّامِ، وَاعْرِضْ عَلَيْهِ أَخْبَارَ الْمَاضِينَ، وَذَكِّرْهُ بِمَا أَصَابَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِنَ الأَوَّلِينَ، وَسِرْ فِي دِيَارِهِمْ وَآثَارِهِمْ، فَانْظُرْ فِيمَا فَعَلُوا وَعَمَّا انْتَقَلُوا، وَأَيْنَ حَلُّوا وَنَزَلُوا؛ فَإِنَّكَ تَجِدُهُمْ قَدِ انْتَقَلُوا عَنِ الأَحِبَّةِ، وَحَلُّوا دِيَارَ الْغُرْبَةِ، وَكَأَنَّكَ عَنْ قَلِيلٍ قَدْ صِرْتَ كَأَحَدِهِمْ، فَأَصْلِحْ مَثْوَاكَ وَلاَ تَبِعْ آخِرَتَكَ بِدُنْيَاكَ»(1).

وقال الإمام الصادق (عليه السلام) في حديثه للمفضل: «تأمل يا مفضل ما أنعم الله تقدست أسماؤه به على الإنسان من هذا المنطق الذي يعبر به عما في ضميره، وما يخطر بقلبه وينتجه فكره، وبه يفهم عن غيره ما في نفسه. ولولا ذلك كان بمنزلة البهائم المهملة التي لا تخبر عن نفسها بشيء، ولا تفهم عن مخبر شيئاً. وكذلك الكتابة التي بها تقيد أخبار الماضين للباقين، وأخبار الباقين للآتين، وبها تخلد الكتب فيالعلوم والآداب وغيرها»(2).

هل جماعة المسلمين معصومة؟

مسألة: المراد من (الجماعة) في قولها (علیها السلام): «وغضت الجماعة دوني طرفها» الأوس والخزرج والكثير من المهاجرين والأنصار، وليس المراد جميع المسلمين ولا أكثرهم، ولا جميع أهل الحل والعقد ولا أكثرهم، إذ:

ص: 448


1- نهج البلاغة، الرسائل: 31 ومن وصية له (علیه السلام) للحسن بن علي (علیه السلام) كتبها إليه بحاضرين عند انصرافه من صفين.
2- توحيد المفضل: ص79 اختصاص الإنسان بالمنطق والكتابة.

..............................

أولاً: كان أكثر المسلمين خارج المدينة المنورة - وقت الحدث - وكان مجموع أهل المدينة أقلية بالقياس إلى كل المسلمين(1).

وثانياً: كان أهل البيت (علیهم السلام) من المعارضين للغاصبين، ومن أشد المناصرين للصديقة الطاهرة (علیها السلام).

وثالثاً: كان العديد من كبار الصحابة من المناصرين للصديقة فاطمة (علیها السلام) كسلمان وعمار وأبي ذروالمقداد وغيرهم (رضوان الله عليهم).

ثم لو فرض أن المراد من (الجماعة) هو عامة المسلمين لكان كلامها (علیها السلام) دليلاً قاطعاً على بطلان ما ذهب إليه العامة من أن جماعة المسلمين معصومة، اللهم إلاّ جماعة المسلمين التي تضم في ضمنها أهل البيت (علیهم السلام) فإنها هي المعنية بقوله (صلی الله علیه و آله): «لا تجتمع أمتي على خطأ»(2)، وذلك(3) هو وجه حجية الإجماع عندنا، إذ المحور هو دخول المعصوم (عليه السلام) بينهم حدساً أو تشرفاً أو حساً ... الخ، فالإجماع ليس دليلاً مستقلاً بل هو كاشف عن السنة على ما ذكره الأصوليون، وتفصيل الكلام في علم الأصول.

قولها (علیها السلام): «وغضّت...» أي كأنهم لم يروني ولم يسمعوا كلامي، وهذه كناية عن عدم الدفاع عنها (علیها السلام) والوقوف إلى جانبها.

وفي (إرشاد القلوب): روي عن الصادق (عليه السلام): «أن أبا بكر لقي أمير المؤمنين (عليه السلام) في سكة من سكك بني النجار فسلّ-م عليه وصافحه. وقال له:

ص: 449


1- إذ عدد نفوس أهل المدينة - مسلمين وغير مسلمين - كان حوالي عشرة آلاف على ما ذكره المؤرخون، والمسلمون كانوا أضعاف ذلك فقد اجتمع منهم في غدير خم مائة وثمانون ألف على بعض الروايات.
2- شرح نهج البلاغة: ج8 ص123.
3- أي دخول المعصوم (علیه السلام) في ضمن المجمعين.

..............................

يا أبا الحسن، أفي نفسك شيء من استخلاف الناس إياي وما كان من يوم السقيفة وكراهيتك للبيعة، والله ما كان ذلك من إرادتي إلا أن المسلمين أجمعوا على أمر لم يكن لي أن أخالفهم فيه؛ لأن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: لا تجتمع أمتي على الضلال!.

فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): يا أبا بكر، اُمته الذين أطاعوه في عهده من بعده، وأخذوا بهداه، وأوفوا بما عاهدوا الله عليه، ولم يغيروا ولم يبدلوا.

قال له أبو بكر: والله يا علي لو شهد عندي الساعة من أثق به أنك أحق بهذا الأمر سلمته إليك، رضي من رضي وسخط من سخط!.

فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): يا أبا بكر، هل تعلم أحداً أوثق من رسول الله وقد أخذ بيعتي عليك في أربعة مواطن، وعلى جماعة منكم وفيهم عمر وعثمان: في يوم الدار، وفي بيعه الرضوان تحت الشجرة يوم جلوسه في بيت أم سلمة، وفي يوم الغدير بعد رجوعه من حجة الوداع، فقلتم بأجمعكم: سمعنا وأطعنا لله ولرسوله. فقال لكم: الله ورسوله عليكم من الشاهدين. فقلتمبأجمعكم: الله ورسوله علينا من الشاهدين. فقال لكم: فليشهد بعضكم على بعض، وليبلغ شاهدكم غائبكم، ومن سمع منكم فليسمع من لم يسمع. فقلتم: نعم يا رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وقمتم بأجمعكم تهنون رسول الله » وتهنوني بكرامة الله لنا، فدنا عمر وضرب على كتفي وقال بحضرتكم: بخ بخ يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى المؤمنين؟.

فقال أبو بكر: ذكرتني أمراً يا أبا الحسن لو يكون رسول الله (صلی الله علیه و آله) شاهداً فأسمعه منه.

ص: 450

..............................

فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): ورسوله عليك من الشاهدين، يا أبا بكر إن رأيت رسول الله » حياً يقول لك: إنك ظالم في أخذ حقي الذي جعله الله ورسوله لي دونك ودون المسلمين أن تسلم هذا الأمر إليَّ وتخلع نفسك منه.

فقال أبو بكر: يا أبا الحسن، وهذا يكون! أن أرى رسول الله » حياً بعد موته فيقول لي ذلك!.

فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): نعم يا أبا بكر.

قال: فأرني إن كان ذلك حقاً.

فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): واللهورسوله عليك من الشاهدين إنك تفي بما تقول؟. قال أبو بكر: نعم.

فضرب أمير المؤمنين (عليه السلام) على يده، وقال: تسعى معي نحو مسجد قبا. فلما ورده تقدّم أمير المؤمنين (عليه السلام) فدخل المسجد وأبو بكر من ورائه، فإذا هو برسول الله (صلی الله علیه و آله) جالس في قبلة المسجد، فلما رآه أبو بكر سقط لوجهه كالمغشي عليه، فناداه رسول الله (صلی الله علیه و آله): ارفع رأسك أيها الضليل المفتون.

فرفع أبو بكر رأسه وقال: لبيك يا رسول الله، أحياة بعد الموت يا رسول الله!.

فقال: ويلك يا أبا بكر، إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1). قال: فسكت أبو بكر وشخصت عيناه نحو رسول الله (صلی الله علیه و آله).

فقال: ويلك يا أبا بكر، أنسيت ما عهدت الله ورسوله عليه في المواطن الأربع لعلي (عليه السلام).

ص: 451


1- سورة فصلت: 39.

فقال: ما نسيتها يا رسول الله.

فقال: ما بالك اليوم تناشد علياً فيها ويذكرك فتقول نسيت؟.

وقص عليه رسول الله » ما جرى بينه وبين علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى آخر،فما نقص منه كلمة وما زاد فيه كلمة.

فقال أبو بكر: يا رسول الله، فهل من توبة، وهل يعفو الله عني إذا سلمت هذا الأمر إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)؟.

قال: نعم يا أبا بكر، وأنا الضامن لك على الله ذلك إن وفيت.

قال: وغاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) عنهما.

فتشبث أبو بكر بعلي (عليه السلام) وقال: الله، الله فيَّ يا علي سر معي إلى منبر رسول الله » حتى أعلو المنبر وأقص على الناس ما شاهدت ورأيت من أمر رسول الله وما قال لي وما قلت له وأمرني به، وأخلع نفسي من هذا الأمر وأسلمه إليك.

فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): أنا معك إن تركك شيطانك.

فقال أبو بكر: إن لم يتركني تركته وعصيته.

فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): إذاً تطيعه ولا تعصيه، وإنما رأيت ما رأيت لتأكيد الحجة عليك.

وأخذ بيده وخرجا من مسجد قبا يريدان مسجد رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأبو بكر يخفق بعضه بعضاً ويتلون ألواناً، والناس ينظرون إليه ولا يدرون ما الذي كان حتى لقيه عمر بن الخطاب. فقال له: يا خليفة رسول الله ما شأنك،وما الذي دهاك؟، إلى آخر الحديث(1).

ص: 452


1- راجع إرشاد القلوب: ج2 ص264-266 ، وبحار الأنوار: ج29 ص35 ب5.

فلا دافع ولا مانع

اشارة

-------------------------------------------

خذلان رسول الله (صلی الله علیه و آله)

مسألة: خذلان القوم لفاطمة الزهراء (علیها السلام) خذلان لرسول الله (صلی الله علیه و آله)، فإن قولها (علیها السلام): «دوني» بضميمة قوله (صلی الله علیه و آله): «فاطمة بضعة مني» يفيد أن الجماعة خذلوا رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ومن الواضح ما يترتب على خذلانه (صلی الله علیه و آله) من الحرمة والفسق وسوء العذاب.

دافع ومانع

مسألة: يجب أن يكون هناك دافع ومانع على مر الأزمان، وذلك للدفاع عن حق أهل البيت (علیهم السلام) ومنع الظالمين والغاصبين من مكائدهم. فإن أتباع من ظلم أهل البيت (علیهم السلام) بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) يظلمونهم اليوم ويظلمون شيعتهم ويتآمرون عليهم. في (منية المريد) عن التفسير المنسوب للإمام العسكري (عليه السلام):قال محمد بن علي (عليه السلام): «إن من تكفل بأيتام آل محمد المنقطعين عن إمامهم، المتحيرين في جهلهم، الأسراء في أيدي شياطينهم وفي أيدي النواصب من أعدائنا، فاستنقذهم منهم وأخرجهم من حيرتهم، وقهر الشياطين بردّ وسواسهم، وقهر الناصبين بحجج ربهم ودليل أئمتهم، ليفضلوا عند الله على العابد بأفضل المواقع، بأكثر من فضل السماء على الأرض، والعرش على الكرسي، والحجب على السماء، وفضلهم على هذا العابد كفضل القمر ليلة البدر على أخفى كوكب في السماء»(1).

ص: 453


1- منية المريد: ص118 ف4.

..............................

وفي (المنية) أيضاً، عن التفسير المنسوب:

وقال علي بن محمد (عليه السلام): «لولا من يبقى بعد غيبة قائمكم من العلماء الداعين إليه، والدالين عليه، والذابين عن دينه بحجج الله، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته، ومن فخاخ النواصب الذين يمسكون أزمة قلوب ضعفاء الشيعة كما يمسك السفينة سكانها، لما بقي أحد إلا ارتد عن دينالله، أولئك هم الأفضلون عند الله عزوجل»(1).

قولها (علیها السلام): «فلا دافع ولا مانع» أي: لم يكن مانع أمام ابن أبي قحافة يمنعه من اغتصاب فدك، ولا دفعه أحد بعد الغصب حتى يُرجع الحق إلى أهله(2).

ص: 454


1- منية المريد: ص118 ف4.
2- قد يقال: المنع يتضمن معنى سلبياً، والدفع يتضمن معنى إيجابياً، ف- (المانع) هو من يقف سداً أمام العدو، و(الدافع) هو من يهاجمه.

خرجتُ كاظمة

اشارة

-------------------------------------------

كلي الظلامة وجزئيها

مسألة: كما يجب - أو يستحب حسب الموارد - ذكر كلي ظلامة آل الرسول (علیهم السلام)، يجب أو يستحب ذكر الجزئيات والمفردات، ومن ذلك بيان أن الصديقة فاطمة (علیها السلام) خرجت كاظمة.

و(الكاظمة): الممتلئة غيظاً.. الصابرة عليه؛ فإن الإنسان الذي يمتلأ غيظاً ولايُظهِره يكون كاظماً. و(الكظم): هو تجرع الغيظ مع الصبر، وكظم غيضه كظماً: إذا تجرعه وحبسه وهو قادر على إمضائه، يعني أنها (علیها السلام) خرجت من الدار وهي ممتلئة غيظاً لكنها كظمت غيظها وكان خروجها محاولة لاسترجاع فدك وإحقاق الحق حسب الموازين الشرعية.

و(الكاظم) لقب مولانا موسى بن جعفر (عليه السلام).. وفي (المجمع): سمي بذلك لأنه (عليه السلام) كان يعلم من يجحد بعده إمامته ويكظم غيظه عليهم، وقد سقي السم في سبع تمرات ومات في حبس سندي بن شاهك من عمال هارون(1).وجاء في وصف المؤمن: «كظام بسام»(2).

وقال تعالى: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ (3).

وقال أبو عبد الله (عليه السلام): «ما من عبد كظم غيظاً إلا زاده الله عزوجل عزاً في الدنيا والآخرة، وقد قال الله عزوجل: وَالْكَاظِمِينَ

الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَ-نِ

ص: 455


1- مجمع البحرين: ج6 ص155 مادة (كظم).
2- الكافي: ج2 ص226 باب المؤمن وعلاماته وصفاته ح1.
3- سورة آل عمران: 134.

..............................

النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (1)، وأثابه الله مكان غيظه ذلك»(2).

وروي: أن عبداً لموسى بن جعفر (عليه السلام) قدم إليه صفحة فيها طعام حار فعجل، فصبها على رأسه ووجهه فغضب. فقال له: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ . قال (عليه السلام): «قد كظمت». قال: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ . قال (عليه السلام) : «قد عفوت». قال: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (3). قال (عليه السلام): أنتحرّ لوجه الله وقد نحلتك ضيعتي الفلانية»(4).

والوجه في كون الصديقة (علیها السلام) خرجت كاظمة(5) إضافة إلى غصبهم الخلافة وغصبهم فدكاً الموجبين لأشد الغيظ: إن الخروج إلى الأعداء والمحاجة معهم مما يشق على النفس أشد المشقة.. فكيف لو كانت التي خرجت هي سيدة نساء العالمين وريحانة رسول الله »؟ وكيف لو كان الخروج إلى من تعلم أنهم سوف لا ينصفونها بل يزيدونها غماً إلى غم وهماً فوق هم؟.

ولعل الوجه في (كاظمة) أنها (علیها السلام) كان بمقدورها الدعاء عليهم لاستئصال شأفتهم، ولكنها لم تفعل فقد كظمت غيظها من هذه الجهة أيضاً.

ص: 456


1- سورة آل عمران: 134.
2- بحار الأنوار: ج68 ص409-410 ب93 ح24.
3- سورة آل عمران: 134.
4- شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد: ج18 ص46 نبذ من الأقوال الحكيمة.
5- أي الوجه في كون الخروج حالة كظم الغيظ.

وعدتُ راغمة

اشارة

-------------------------------------------

كيف عادت الزهراء (علیها السلام)؟

مسألة: يستحب بيان أن فاطمة الزهراء (علیها السلام) رجعت بعد محاجة أبي بكر راغمة، وقد يجب بيان ذلك حسب الموارد. و(الراغمة) بمعنى: المرغَمة، والرغام هو التراب، وهذا كناية عن الإنسان الذي يُهان من قبل خصمه ولم يتحقق هدفه ويرجع صفر اليدين عما خرج من أجله.

قولها (علیها السلام): «عدتُ راغمة» يُشكّل إدانة أخرى للقوم، حيث كان الواجب عليهم أن يرضوها حيث إن الله يرضى لرضاها(1) لكنهم لم يرضوها فحسب، بل لم ينصفوها، بل أسخطوها حتى عادت راغمة.

المظلوم المهان

مسألة: يحرم إرجاع المظلوم راغماً مهاناً ذليلاً.

عن سماعة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «كان أبي يقول: اتقوا الظلم؛ فإندعوة المظلوم تصعد إلى السماء»(2).

وعن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «اتقوا الظلم؛ فإنه ظلمات يوم القيامة»(3).

ص: 457


1- إرضاء الله على درجات، منها الواجب ومنها المستحب، وكذلك إرضاؤها (علیها السلام) بين واجب ومستحب - منه (قدس سره).
2- وسائل الشيعة: ج7 ص128-129 ب52 ح8917.
3- وسائل الشيعة: ج16 ص46 ب77 ح20941.

..............................

وعن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إياكم ودعوة المظلوم؛ فإنها ترفع فوق السحاب حتى ينظر الله عزوجل إليها فيقول: ارفعوها حتى أستجيب له. وإياكم ودعوة الوالد؛ فإنها أحدّ من السيف»(1).

وعن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إن الله عزوجل أوحى إلى نبي من الأنبياء في مملكة جبار من الجبابرة: أن ائت هذا الجبار فقل له: إني لم أستعملك على سفك الدماء واتخاذ الأموال، وإنما استعملتك لتكف عني أصوات المظلومين؛ فإني لن أدع ظلامتهم وإن كانوا كفاراً»(2).وعن الوليد بن صبيح، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «ما من مظلمة أشد من مظلمة لا يجد صاحبها عليها عوناً إلا الله عزوجل»(3).

وعن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «ما من أحد يظلم مظلمة إلا أخذه الله بها في نفسه وماله، فأما الظلم الذي بينه وبين الله فإذا تاب غفر له»(4).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عزوجل:ƒإِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (5)، قال: «قنطرة على الصراط لا يجوزها عبد بمظلمة»(6).

ص: 458


1- الكافي: ج2 ص509 باب من تستجاب دعوته ح3.
2- ثواب الأعمال: ص272 عقاب من ظلم.
3- الكافي: ج2 ص331 باب الظلم ح4.
4- وسائل الشيعة: ج16 ص47 ب77 ح20942.
5- سورة الفجر: 14.
6- ثواب الأعمال: ص272 عقاب من ظلم.

..............................

من سيرة النبي والوصي (علیهما السلام)

هذا وقد كان رسول الله » وأمير المؤمنين » أفضل أسوة للدفاع عن المظلوم والأخذ بحقه، وما أكثر القصص في هذا الباب:

عن عاصم بن حمزة السلولي، قال: سمعت غلاماً بالمدينة وهو يقول: يا أحكم الحاكمين، احكم بيني وبين أمي!.

فقال له عمر بن الخطاب: يا غلام، لم تدعو على أمك؟.

فقال: يا أمير، إنها حملتني في بطنها تسعة أشهر وأرضعتني حولين، فلما ترعرعت وعرفت الخير من الشر، ويميني عن شمالي، طردتني وانتفت مني، وزعمت أنها لا تعرفني.

فقال عمر: أين تكون الوالدة؟.

قال: في سقيفة بني فلان.

فقال عمر: عليَّ بأم الغلام.

قال: فأتوا بها مع أربعة إخوة لها، وأربعين قسامة يشهدون لها أنها لاتعرف الصبي، وأن هذا الغلام غلام مدعٍ ظلومٌ غشوم يريد أن يفضحها في عشيرتها، وأن هذه جارية من قريش لمتتزوج قط، وأنها بخاتم ربها.

فقال عمر: يا غلام، ما تقول؟.

فقال: يا أمير ، هذه والله أمي حملتني في بطنها تسعة أشهر وأرضعتني حولين، فلما ترعرعت وعرفت الخير من الشر، ويميني من شمالي، طردتني وانتفت مني وزعمت أنها لا تعرفني.

ص: 459

..............................

فقال عمر: يا هذه، ما يقول الغلام؟.

فقالت: يا أمير، والذي احتجب بالنور فلا عين تراه، وحق محمد وما ولد، ما أعرفه ولا أدري من أي الناس هو، وإنه غلام مدعٍ يريد أن يفضحني في عشيرتي، وإني جارية من قريش لم أتزوج قط، وإني بخاتم ربي.

فقال عمر: ألكِ شهود؟.

فقالت: نعم هؤلاء.

فتقدم الأربعون القسامة فشهدوا عند عمر أن الغلام مدع يريد أن يفضحها في عشيرتها، وأن هذه جارية من قريش لم تتزوج قط، وأنها بخاتم ربها.

فقال عمر: خذوا هذا الغلام وانطلقوا به إلى السجن حتى نسأل عن الشهود، فإن عدلت شهادتهم جلدته حد المفتري.

فأخذوا الغلام ينطلق به إلى السجن،فتلقاهم أمير المؤمنين (عليه السلام) في بعض الطريق، فنادى الغلام: يا ابن عم رسول الله (صلی الله علیه و آله)، إنني غلام مظلوم.

وأعاد عليه الكلام الذي كلم به عمر، ثم قال: وهذا عمر قد أمر بي إلى الحبس!.

فقال علي (عليه السلام): «ردوه إلى عمر».

فلما ردوه، قال لهم عمر: أمرت به إلى السجن فرددتموه إليَّ.

فقالوا: يا أمير، أمرنا علي بن أبي طالب (عليه السلام) أن نرده إليك، وسمعناك وأنت تقول: لا تعصوا لعلي (عليه السلام) أمراً.

فبينا هم كذلك إذ أقبل علي (عليه السلام) فقال: «عليَّ بأم الغلام».

فأتوا بها، فقال علي (عليه السلام): «يا غلام، ما تقول؟».

ص: 460

..............................

فأعاد الكلام، فقال علي (عليه السلام) لعمر: «أ تأذن لي أن أقضي بينهم».

فقال عمر: سبحان الله، وكيف لا وقد سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: أعلمكم علي بن أبي طالب.

ثم قال للمرأة: «يا هذه، ألكِ شهود».

قالت: «نعم».فتقدم الأربعون قسامة فشهدوا بالشهادة الأولى. فقال علي (عليه السلام):

«لأقضين اليوم بقضية بينكما هي مرضاة الرب من فوق عرشه علمنيها حبيبي رسول الله (صلی الله علیه و آله) - ثم قال لها - ألكِ ولي؟».

قالت: نعم هؤلاء إخوتي.

فقال لإخوتها: «أمري فيكم وفي أختكم جائز؟».

فقالوا: نعم يا ابن عم محمد (صلی الله علیه و آله)، أمرك فينا وفي أختنا جائز.

فقال علي (عليه السلام): «أشهد الله وأشهد من حضر من المسلمين أني قد زوجت هذا الغلام من هذه الجارية بأربعمائة درهم والنقد من مالي، يا قنبر عليَّ بالدراهم». فأتاه قنبر بها فصبها في يد الغلام، قال: «خذها فصبها في حجر امرأتك، ولا تأتنا إلاّ وبك أثر العرس»، يعني: الغسل.

فقام الغلام فصب الدراهم في حجر المرأة، ثم تلببها فقال لها: قومي.

فنادت المرأة: النار النار يا ابن عم محمد، تريد أن تزوجني من ولدي هذا، والله ولدي زوجني إخوتي هجيناً فولدت منه هذا الغلام، فلما ترعرع وشب أمروني أن أنتفي منه وأطرده، وهذا واللهولدي وفؤادي يتقلى أسفاً على ولدي.

ص: 461

..............................

قال: ثم أخذت بيد الغلام وانطلقت، ونادى عمر: وا عمراه، لولا علي لهلك عمر»(1).

ما شأنك يا جارية؟

عن أبان الأحمر، عن الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) قال: «جاء رجل إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقد بلى ثوبه، فحمل إليه اثني عشر درهماً.

فقال: يا علي، خذ هذه الدراهم فاشتر لي ثوباً ألبسه.

قال علي (عليه السلام): فجئت إلى السوق فاشتريت له قميصاً باثني عشر درهماً، وجئت به إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فنظر إليه.

فقال: يا علي، غير هذا أحب إليَّ، أترى صاحبه يقيلنا؟.

فقلت: لا أدري. فقال: انظر. فجئت إلى صاحبه فقلت: إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد كره هذا، يريد ثوباً دونه فأقلنا فيه. فرد عليَّ الدراهم وجئت به إلى رسول الله (صلی الله علیه وآله)، فمشى معي إلى السوق ليبتاع قميصاً، فنظر إلى جارية قاعدة على الطريق تبكي، فقال لها رسول الله (صلی الله علیه و آله): ما شأنكِ؟.

قالت: يا رسول الله، إن أهل بيتي أعطوني أربعة دراهم لأشتري لهم بها حاجة فضاعت فلا أجسر أن أرجع إليهم.

فأعطاها رسول الله (صلی الله علیه و آله) أربعة دراهم، وقال: ارجعي إلى أهلكِ.

ومضى رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى السوق فاشترى قميصاً بأربعة دراهم ولبسه وحمد الله، وخرج فرأى رجلاً عرياناً يقول: من كساني كساه الله من ثياب

ص: 462


1- الكافي: ج7 ص423 باب النوادر ح6.

..............................

الجنة. فخلع رسول الله (صلی الله علیه و آله) قميصه الذي اشتراه وكساه السائل، ثم رجع إلى السوق فاشترى بالأربعة التي بقيت قميصاً آخر فلبسه وحمد الله ورجع إلى منزله، وإذا الجارية قاعدة على الطريق، فقال لها رسول الله (صلی الله علیه و آله): ما لكِ لاتأتين أهلكِ؟.

قالت: يا رسول الله، إني قد أبطأت عليهم وأخاف أن يضربوني.

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): مري بين يدي ودليني على أهلكِ.فجاء رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى وقف على باب دارهم، ثم قال: السلام عليكم يا أهل الدار. فلم يجيبوه، فأعاد السلام فلم يجيبوه، فأعاد السلام، فقالوا: عليك السلام يا رسول الله ورحمة الله وبركاته.

فقال لهم: ما لكم تركتم إجابتي في أول السلام والثاني؟.

قالوا: يا رسول الله، سمعنا سلامك فأحببنا أن تستكثر منه.

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): إن هذه الجارية أبطأت عليكم فلا تؤاخذوها.

فقالوا: يا رسول الله، هي حرة لممشاك.

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): الحمد لله، ما رأيت اثني عشر درهماً أعظم بركة من هذه، كسا الله بها عريانين وأعتق بها نسمة»(1).

ولد لستة أشهر

وروي أنه كان الهيثم في جيش، فلما جاء جاءت امرأته بعد قدومه لستة أشهر بولد، فأنكر ذلك منها وجاء إلى عمر وقص عليه،فأمر برجمها!، فأدركها

ص: 463


1- بحار الأنوار: ج16 ص214-215 ب9 ح1

..............................

علي (عليه السلام) من قبل أن ترجم، ثم قال لعمر: «اربع على نفسك، إنها صدقت إن الله تعالى يقول: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً (1)، وقال: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ (2)، فالحمل والرضاع ثلاثون شهراً».

فقال عمر: لولا علي لهلك عمر، وخلى سبيلها وألحق الولد بالرجل(3).

ألم يقتله مرة

وعن الإمام الرضا (عليه السلام) - في خبر -: «أنه أقر رجل بقتل ابن رجل من الأنصار فدفعه عمر إليه ليقتله به، فضربه ضربتان بالسيف حتى ظن أنه هلك، فحمل إلى منزله وبه رمق فبرأ الجرح بعد ستة أشهر، فلقيه الأب وجره إلى عمر فدفعه إليه عمر، فاستغاث الرجل إلى أمير المؤمنين. فقال لعمر: «ما هذا الذي حكمت به على هذا الرجل! ». فقال: النفس بالنفس. قال: «أ لم يقتله مرة». قال: قد قتلته ثم عاش. قال: «فيقتل مرتين! ». فبهت ثم قال: فاقض ما أنت قاض. فخرج (عليه السلام)، فقال للأب: «أ لم تقتله مرة؟». قال: بلى، فيبطلدم ابني!. قال: «لا ولكن الحكم أن تدفع إليه فيقتص منك مثل ما صنعت به، ثم تقتله بدم ابنك». قال: «هو و الله الموت ولابد منه». قال: «لابد أن يأخذ بحقه». قال: فإني قد صفحت عن دم ابني ويصفح لي عن القصاص. فكتب بينهما كتاباً بالبراءة، فرفع عمر يده إلى السماء وقال: الحمد لله أنتم أهل بيت الرحمة يا أبا الحسن - ثم قال - لو لا علي لهلك عمر»(4).

ص: 464


1- سورة الأحقاف: 15.
2- سورة البقرة: 233.
3- مستدرك الوسائل: ج15 ص123 ب12 ح17730.
4- المناقب: ج2 ص365-366 فصل في ذكر قضاياه (علیه السلام) في عهد عمر.

أضرعت خدك يوم أضعت حدك

اشارة

-------------------------------------------

لماذا أضرع الإمام (عليه السلام) خده؟

مسألة: ربما يكون الواجب بالعنوان الأولي من أشد المحرمات بالعنوان الثانوي، وكذلك المحرم قد يتحول إلى واجب إذا طرأ العنوان الثانوي عليه، فتعريض النفس للقتل وإلقاؤها في التهلكة حرام.. ولكنه من أعظم القربات في ساحة القتال والجهاد المشروع، والتعرض للأسر والذل محرم إلا أنه يكون من أعظم الطاعات عندما يكون السبب في إعلاء راية الإسلام في الأرض، والسبب في فضح الظالم على مدى الدهر،ولذلك عرّض سيد الشهداء (عليه السلام) أهل بيته (علیهم السلام) وهم حُرم رسول الله (صلی الله علیه و آله) للأسر باصطحابهم معه إلى كربلاء.

ولذلك السبب كان موقف أسد الله الغالب علي بن أبى طالب (عليه السلام) من ظالميه وغاصبي حقه ومن ظالمي زوجته الطاهرة فاطمة الزهراء (علیها السلام) وغاصبي حقها، فقد «أضرع خده وأضاع حده» وذلك بأمر صريح ووصية واضحة من رسول الله (صلی الله علیه و آله) على ما مر، فإن هذا الصبر لهو أكبر الجهاد: أن يصبر المرء على أذى وهو قادر على إزاحته، امتثالاً لأمر الله تعالى.. كما صبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) طوال فترة وجوده في مكة ولم يأذن للمسلمين بالدفاع عن أنفسهم أو عن أي مظلوم منهم، بل كان يمر هو (صلی الله علیه و آله) عليهم وهم يُعذَبون أشد التعذيب فيأمرهم بالصبر ثم الصبر ثم الصبر..

قال (صلی الله علیه و آله): «صبراً يا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة»(1).

وهذا الصبر هو أجلى مصاديق الصبر الواجب ذي الأجر العظيم، وقد قال

ص: 465


1- شرح نهج البلاغة: ج13 ص255 القول في إسلام أبي بكر وعلي وخصائص كل منهما.

..............................

تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (1).

ومن ذلك يتضح أن خطاب الصديقة الزهراء (علیها السلام) لبعلها الإمام علي (عليه السلام) ب- «أضرعت خدك يوم أضعت حدك» ليس نقداً له (عليه السلام) وعتاباً - كما قد يتصوره سطحيو التفكير - كيف وهي (علیها السلام) عالمة بوصية رسول الله (صلی الله علیه و آله) له وأمره إياه بالصبر وعدم التصدي للقوم بالقوة؟.

بل إن هذا الخطاب منها (علیها السلام) له (عليه السلام) وهو كالعتاب في ظاهر الأمر، لتوضح عظمة الإمام (عليه السلام) وعظمة موقفه حيث ضحى بمكانته ومهابته وحدّه امتثالاً لأمر الله ورسوله (صلی الله علیه و آله)، ولكيلا تمحى كلمة (لا إله إلا الله.. محمد رسول الله) من وجه الأرض.

قولها (عليه السلام): «أضرعت» بمعنى: أذللت، ضرع الرجل: خضع وذل.

و(الخد) كناية عن الشخصية، بالإضافة إلى أن حالة العز والذل تظهر عادة على ملامح الوجه والخد.

و«أضعت حدك» بمعنى: أهملت قدرك، من الإضاعة والضياع.

يعني: إن القوم لم يخافوك ولم يهابوك فلم يردوا عليَّ فدك.وقد سبق أن ذلك منه (عليه السلام) كان من أعظم الجهاد، حيث ضحى بمهابته ومكانته وقدرته على التصدي، التزاماً بأمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) ووصيته.

قال النبي (صلی الله علیه و آله): «ومن صبر على الطاعة كتب الله له ستمائة درجة، ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى علو العرش»(2).

ص: 466


1- سورة الزمر: 10.
2- إرشاد القلوب: ج1 ص127-128 ب38.

افترست الذئاب وافترشت التراب

اشارة

-------------------------------------------

وقال علي بن الحسين (عليه السلام): «الصبر والرضا عن الله رأس طاعة الله»(1).

وعن أبي جعفر (عليه السلام): «من صبر نال بصبره درجة الصائم القائم، ودرجة الشهيد الذي قد ضرب بسيفه قدام محمد (صلی الله علیه و آله)»(2).

وقال (صلی الله علیه و آله): «من صبر على مصيبة فله من الأجر بوزن جبال الدنيا»(3).افترست الذئاب وافترشت التراب

مقياس الإيمان

مسألة: يلزم على المؤمن أن يتصف بالصفات المتضادة(4) في المواقف المتضادة كل بحسبه وامتثالاً أمر الله تعالى، فإن المقياس في الإيمان ليس هو نوعية موقف الإنسان حالة الرخاء فقط، ولا موقفه حالة الشدة فحسب، ولا موقفه في السلم دون الحرب أو العكس، أو موقفه محكوماً إذا غاير موقفه حاكماً.

بل المؤمن هو المسلّم لأمر الله، المتحري رضوانه، في الشدة والرخاء(5)، وفي المنزل وخارجه، وفي السلم والحرب، ومع العدو(6) والصديق، وفي القوة

ص: 467


1- الكافي: ج2 ص60 باب الرضا بالقضاء ح3.
2- ثواب الأعمال: ص198 ثواب الاسترجاع عند المصيبة.
3- مستدرك الوسائل: ج2 ص430 ب64 ح2374.
4- المقصود ما يبدو متضاداً وإن كان في واقعه يشكل الصورة المتكاملة، كما في قوله تعالى: «أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ» سورة الفتح: 29.
5- في الشدة صبور وفي الرخاء شكور.
6- مثل الالتزام بقوله: وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا سورة المائدة: 8.

..............................

والضعف(1)، ففي موطن الحرب أسد باسل لا يخاف من مواجهة الأعداء.. وفي محراب العبادة عبد ذليل خاضع، وهكذا وهلم جراً.

ولقد تجلت تلك الصفات المتضادة - في بدو النظر - أشد التجلي في الإمام علي (عليه السلام) فكان كما قال القائل(2):

جمعت في صفاتك الأضداد *** فلهذا عزت لك الأنداد

زاهد حاكم حليم شجاع *** ناسك فاتك فقير جواد

شيم ما جمعن في بشر*** قط ولا حاز مثلهن العباد

وقد أشارت الصديقة الكبرى (علیها السلام) إلى تجلي صفتين من أعظم تلك الصفات - التي قد تبدو متضادة - في مولى الموحدين وأمير المؤمنين (عليه السلام) حيث قالت: «افترست الذئاب» و«افترشت التراب».

فعندما كانت مسؤوليته (عليه السلام) الحرب والقتال لم يتوان ولم يضعف، بل (افترس الذئاب).

وعندما كانت مسؤوليته (عليه السلام) الصبروكظم الغيظ لم ينفجر ولم يقاتل، بل (افترش التراب).

وما أندر من استطاع أن يجمع كلتا الصفتين؟.

ولا أحد - غير أمير المؤمنين علي (عليه السلام) - استطاع أن يجمعهما بتلك الدرجة العظيمة.

ص: 468


1- فعند القوة لا يطغى، وعند الضعف لا يجبن، ولا يتملق للطاغي.
2- وهو صفي الدين الحلي عبد العزيز بن السرايا تلميذ المحقق الحلي (رحمة الله).

..............................

شجاعة الإمام (عليه السلام)

مسألة: يستحب التحدث عن شجاعة الإمام علي (عليه السلام) كما قالت الصديقة الطاهرة (علیها السلام): «افترست الذئاب» وقد يجب ذلك، فإن التحدث عن شجاعته (عليه

الصلاة والسلام) تعظيم له وتخليد لذكره، بالإضافة إلى أنه يوجب التفاف الناس حوله؛ لأنهم يحبون ذوي الشجاعة كما يحبون أصحاب الفضائل ويلتفون حولهم، وبذلك يكون بيان الشجاعة تحريضاً على الالتفاف، كما أنه يبعث على التأسي، وعلى تجذر صفة الشجاعة في الناس وتوسع دائرتها. وهكذا كان سائر الأئمة (علیهم السلام) قمة في الشجاعة. عن علي بن جعفر، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: «نحن في العلم والشجاعة سواء، وفي العطايا على قدرما نؤمر»(1).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «أعطينا أهل البيت سبعة لم يعطهن أحد كان قبلنا ولا يعطاهن أحد بعدنا: الصباحة،والفصاحة،والسماحة، والشجاعة، والعلم، والحلم، والمحبة للنساء»(2).

وقال (صلی الله علیه و آله): «إن الله يحب الشجاعة ولو على قتل حية»(3).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «الشجاعة زين»(4).

وقال (عليه السلام): «الشجاعة عز حاضر»(5).

ص: 469


1- بحار الأنوار: ج25 ص357 ب12 ح7.
2- النوادر للراوندي: ص15.
3- مستدرك الوسائل: ج8 ص297 ب39 ح9490.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: ص259 ق3 ب2 ف2 الشجاعة والفتوة ح5524.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: ص259 ق3 ب2 ف2 الشجاعة والفتوة ح5525.

..............................

وقال (عليه السلام): «السخاء والشجاعة غرائز شريفة يضعها الله سبحانه فيمن أحبه وامتحنه»(1).وفي يوم الخندق عند ما قال ابن عبد ود في المبارزة:

ولقد بححت من النداء *** بجمعكم هل من مبارز

ووقفت إذ جبن المشجع *** موقف البطل المناجز

إن السماحة والشجاعة *** في الفتى خير الغرائز

أجابه أمير المؤمنين (عليه السلام):

لاتعجلن فقد أتاك *** مجيب صوتك غير عاجز

ذو نية وبصيرة *** والصدق منجي كل فائز

إني لأرجو أن أقيم *** عليك نائحة الجنائز

من ضربة نجلاء يبقى*** ذكرها عند الهزاهز(2)

مظلومية الإمام (عليه السلام)

مسألة: يستحب التأكيد على مظلومية الإمام علي (عليه السلام) وعلى عظيم صبره، وقد يجب ذلك لما سبق ذكره، خاصة أن بيان الظلامة يوجب إثارة عواطف الناس وإنشدادهم - عاطفياً - له (عليه الصلاة والسلام) إضافة للإنشداد العقلي والفكريوالعلمي والعقائدي، فإن الإنشداد العاطفي أقوى في بعض الأحيان، وهو إلى ذلك يعمق ويركز سائر الانتماءات الفكرية والعقائدية.. فإن

ص: 470


1- غرر الحكم ودرر الكلم: ص375 ق5 ب4 ف1 مدحها وفضيلتها ح8443.
2- بحار الأنوار: ج20 ص203-204 ب17.

..............................

الناس عادةً يتعاطفون مع المظلوم ويجتمعون حوله ويهتفون باسمه؛ لأن المظلومية مقرونة بالمحبوبيّة.

ولذا نرى التفاف الناس حول الإمام الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) والأئمة الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين) وهذا يوجب الإقتداء بهم والاستعداد للتضحية بكل غال ونفيس في سبيل الله سبحانه.

بالإضافة إلى أن التحدث عن ظلامة أهل البيت (علیهم السلام) يوجب تعرية الظالم وفضحه وكشف القناع المزيف عن وجهه الحقيقي كما سبق.

قولها (علیها السلام): «افترست الذئاب وافترشت التراب»، يعني أنك في السابق كنت تفترس الذئاب فكانوا يخافونك ويهابونك ويحذرون من بأسك، أما اليوم فقد افترشت التراب وقعدت في البيت حتى تجرؤوا عليك وغصبوا نحلة زوجتك، ولعل في الكلام تلميحاً إلى جبن القوم وهشاشتهم حيث إنهم لم يفعلوا ما فعلوا إلا عندما علموا أن الإمام (عليه السلام) قد افترش التراب وأنه مأموربالصبر.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَعْدِيكَ عَلَى قُرَيْشٍ وَمَنْ أَعَانَهُمْ؛ فَإِنَّهُمْ قَدْ قَطَعُوا رَحِمِي، وَأَكْفَئُوا إِنَائِي، وَأَجْمَعُوا عَلَى مُنَازَعَتِي حَقّاً كُنْتُ أَوْلَى بِهِ مِنْ غَيْرِي، وَقَالُوا: أَلاَ إِنَّ فِي الْحَقِّ أَنْ تَأْخُذَهُ وَفِي الْحَقِّ أَنْ تُمْنَعَهُ فَاصْبِرْ مَغْمُوماً أَوْ مُتْ مُتَأَسِّفاً، فَنَظَرْتُ فَإِذَا لَيْسَ لِي رَافِدٌ وَلاَ ذَابٌّ وَلاَ مُسَاعِدٌ إِلاَّ أَهْلَ بَيْتِي فَضَنَنْتُ بِهِمْ عَنِ الْمَنِيَّةِ، فَأَغْضَيْتُ عَلَى الْقَذَى، وَجَرِعْتُ رِيقِي عَلَى الشَّجَا، وَصَبَرْتُ مِنْ كَظْمِ الْغَيْظِ عَلَى أَمَرَّ مِنَ الْعَلْقَمِ، وَآلَمَ لِلْقَلْبِ مِنْ وَخْزِ الشِّفَارِ»(1).

ص: 471


1- نهج البلاغة، الخطب: 217 ومن كلام له (علیه السلام) في التظلم والتشكي من قريش.

..............................

وعن إسحاق بن موسى، عن أبيه موسى بن جعفر (عليه السلام)، عن أبيه جعفر بن محمد (عليه السلام) عن آبائه (علیهم السلام) قال: «خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) خطبة بالكوفة، فلما كان في آخر كلامه قال: ألا وإني لأولى الناس بالناس، وما زلت مظلوماً منذ قبض رسول الله (صلی الله علیه و آله)».

فقام إليه أشعث بن قيس فقال: يا أمير المؤمنين، لم تخطبنا خطبة منذقدمت العراق إلا وقلت: والله إني لأولى الناس بالناس، فما زلت مظلوماً منذ قبض رسول الله ولما ولي تيم وعدي، ألا ضربت بسيفك دون ظلامتك؟.

فقال أمير المؤمنين: «يا ابن الخمارة، قد قلت قولاً فاسمع مني، والله ما منعني من ذلك إلا عهد أخي رسول الله (صلی الله علیه و آله) أخبرني وقال لي: يا أبا الحسن، إن الأمة ستغدر بك وتنقض عهدي، وإنك مني بمنزلة هارون من موسى. فقلت: يا رسول الله فما تعهد إليَّ إذا كان ذلك كذلك. فقال: إن وجدت أعواناً فبادر إليهم وجاهدهم، وإن لم تجد أعواناً فكفّ يدك واحقن دمك حتى تلحق بي مظلوماً، فلما توفي رسول الله (صلی الله علیه و آله) اشتغلت بدفنه والفراغ من شأنه، ثم آليت يميناً أني لا أرتدي إلا للصلاة حتى أجمع القرآن(1)، ففعلت ثم أخذته وجئت به فأعرضته عليهم، قالوا: لا حاجة لنا به، ثم أخذت بيد فاطمة وابني الحسن والحسين (علیهم السلام) ثم درت على أهل بدر وأهل السابقة فأنشدتهم حقي ودعوتهم إلى نصرتي، فما أجابني منهم إلا أربعة رهط: سلمان، وعمار، والمقداد، وأبو ذر، وذهب من كنت أعتضد بهم على دين اللهمن أهل بيتي، وبقيت بين حفيرين قريبي العهد بجاهلية عقيل والعباس.

ص: 472


1- أي جمع تفسيره وتأويله وعلومه، أما القرآن فقد جمع في عهد رسول الله » وبأمر مباشر منه.

..............................

فقال له الأشعث: كذلك كان عثمان لما لم يجد أعواناً كف يده حتى قتل.

فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): يا ابن الخمارة، ليس كما قست إن عثمان جلس في غير مجلسه، وارتدى بغير ردائه، صارع الحق فصرعه الحق، والذي بعث محمداً » بالحق لو وجدت يوم بويع أخو تيم أربعين رهطاً لجاهدتهم في الله إلى أن أبلي عذري - ثم قال - أيها الناس، إن الأشعث لا يزن عند الله جناح بعوضة، وإنه أقل في دين الله من عفطة عنز»(1).

ولما دفن أمير المؤمنين (عليه السلام) الصديقة فاطمة (علیها السلام) ليلاً وجاءه فلان وفلان فقالا: يا أبا الحسن ما حملك على أن تدفن بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) ولم نحضرها؟.

قال (عليه السلام): «ذلك عهدها إليَّ».

فقال الثاني: هذا والله شيء في جوفك.

فثار إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) فأخذبتلابيبه ثم جذبه فاسترخى في يده، ثم قال: «والله لولا كتاب سبق وقول من الله، والله لقد فررتَ يوم خيبر وفي مواطن، ثم لم ينزل الله لك توبة حتى الساعة»(2).

وفي الحديث: أن الأول والثاني بعد خطبة الصديقة فاطمة (علیها السلام) في المسجد تآمرا على قتل أمير المؤمنين (عليه السلام) وكلفا خالد بن الوليد بهذه المهمة، فلما جلس الأول في التشهد ندم على ما قال وخاف الفتنة، وعرف شدة علي (عليه السلام) وبأسه، فلم يزل متفكراً لا يجسر أن يسلّم حتى ظن الناس أنه قد سها، ثم التفت إلى خالد فقال: يا خالد لا تفعلن ما أمرتك والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 473


1- راجع الاحتجاج: ج1 ص190-191 احتجاجه (علیه السلام) في الاعتذار من قعوده عن قتال من تآمر عليه من الأولين، وقيامه إلى قتال من بغى عليه من الناكثين والقاسطين والمارقين.
2- راجع بحار الأنوار: ج29 ص112-113 ب11.

..............................

فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «يا خالد، ما الذي أمرك به؟».

فقال: أمرني بضرب عنقك.

قال: «أوكنت فاعلاً»؟.

قال: إي والله لولا أنه قال لي: لا تقتله قبل التسليم لقتلتك.

قال: فأخذه علي (عليه السلام) فجلد به الأرض، فاجتمع الناس عليه وقالوا: يا أبا الحسن، الله الله بحق صاحب القبر. فخلى (عليه السلام)عنه ثم التفت إلى الثاني فأخذ بتلابيبه وقال: «يا ابن صهاك، والله لولا عهد من رسول الله » وكتاب من الله سبق لعلمت أينا أضعف ناصراً وأقل عدداً»، ودخل منزله(1).

في قصة السقيفة وامتناع أمير المؤمنين (عليه السلام) من البيعة لأبي بكر، فقد أرسل أبو بكر عدة من الناس ليأتوا بأمير المؤمنين (عليه السلام) إليه، فاعترضتهم فاطمة الزهراء (علیها السلام) فعادوا، فقالوا: إن فاطمة قالت كذا وكذا، فتحرجنا أن ندخل بيتها بغير إذن. فغضب عمر وقال: ما لنا وللنساء.

ثم أمر أناساً حوله أن يحملوا الحطب فحملوا الحطب وحمل معهم عمر، فجعلوه حول منزل علي وفاطمة وابنيهما (علیهم السلام)، ثم نادى الثاني حتى أسمع علياً وفاطمة (علیهما السلام): والله لتخرجن يا علي ولتبايعن خليفة رسول الله وإلا أضرمت عليك بيتك النار.

فقالت فاطمة (علیها السلام): «يا فلان، ما لنا ولك».

فقال: افتحي الباب وإلا أحرقنا عليكم بيتكم.

ص: 474


1- راجع الاحتجاج: ج1 ص94-95 احتجاج أمير المؤمنين (علیه السلام) على أبي بكر وعمر لما منعا فاطمة الزهراء (علیها السلام) فدك بالكتاب والسنة.

..............................

فقالت: «أما تتقي الله، تدخل على بيتي».

فأبى أن ينصرف ودعا بالنار فأضرمها في الباب، ثم دفعه فدخل فاستقبلته فاطمة (علیها السلام) وصاحت: «يا أبتاه، يا رسول الله».

فرفع الثاني السيف وهو في غمده فوجأ به جنبها، فصرخت (علیها السلام): «يا أبتاه»، فرفع السوط فضرب به ذراعها فنادت: «يا رسول الله، لبئس ما خلفك فلان وفلان».

فوثب علي (عليه السلام) فأخذ بتلابيبه ثم نتره فصرعه، ووجأ أنفه ورقبته وهمّ بقتله، فذكر قول رسول الله (صلی الله علیه و آله) وما أوصاه به. فقال: «والذي كرم محمداً بالنبوة يا ابن صهاك، لولا كتاب من الله سبق وعهد عهده إليَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعلمت أنك لا تدخل بيتي» الحديث(1).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) وقد سمع صارخاً ينادي: أنا مظلوم. فقال (عليه السلام): «هلم فلنصرخ معاً فإني ما زلتمظلوماً»(2).

وروي: أن أعرابياً أتى أمير المؤمنين (عليه السلام) و هو في المسجد فقال: مظلوم. قال (عليه السلام): «ادن مني». فدنا فقال: يا أمير المؤمنين، مظلوم. قال (عليه السلام): «ادن». فدنا حتى وضع يديه على ركبتيه قال: «ما ظلامتك؟». فشكا ظلامته فقال: «يا أعرابي، أنا أعظم ظلامة منك، ظلمني المدر والوبر، ولم يبق بيت من العرب إلا وقد دخلت مظلمتي عليهم، وما زلت مظلوماً حتى قعدت مقعدي هذا، ثم كتب له بظلامته ورحل(3).

ص: 475


1- راجع كتاب سليم بن قيس: ص585-586 الحديث الرابع.
2- راجع شرح نهج البلاغة: ج9 ص307.
3- راجع الخرائج والجرائح: ج1 ص180 ب2.

..............................

وعن عبد الله بن شريك، عن أبيه، قال: صعد علي (عليه السلام) المنبر يوم جمعة، فقال: «أنا عبد الله وأخو رسوله، لا يقولها بعدي إلا كذاب، ما زلت مظلوماً منذ قبض رسول الله (صلی الله علیه و آله)، أمرني رسول الله (صلی الله علیه و آله) بقتال الناكثين: طلحة والزبير، والقاسطين: معاوية وأهل الشام، والمارقين: وهم أهل النهروان، ولو أمرني بقتال الرابعة لقاتلتهم»(1).وروي أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال للحسن (عليه السلام): «وايم الله يا بني ما زلت مظلوما مبغياً عليَّ منذ هلك جدك صلى الله عليه وآله»(2).

بيان حقيقة القوم

مسألة: يستحب - وقد يجب - بيان حقيقة القوم وما كانوا عليه من السبعية والضراوة والتوحش، وكفى بوصف الصديقة الزهراء (علیها السلام) لأسلافهم ب- «الذئاب» شاهد صدق على ذلك.

روي أنه أتى رجل إلى عمر فقال: يا أمير ، إن فلاناً ظلمني فأعدني عليه. فرفع في السماء درّته وضرب بها رأسه!، وقال: تدعون عمر وهو معرض

لكم حتى إذا شغل في أمر المسلمين أتيتموه أعدني أعدني. فانصرف الرجل يتذمر(3).

وذكروا أنه غضب عمر على بعض عماله، فكلم امرأة من نساء عمر في أن تسترضيه له، فكلمته فيه، فغضب وقال:وفيم أنتِ من هذا يا عدوة الله، إنما

ص: 476


1- الأمالي للطوسي: ص726 مجلس44 ح1526.
2- بحار الأنوار: ج29 ص628 ب15 بيان.
3- شرح نهج البلاغة: ج12 ص18 نكت من كلام عمر وسيرته وأخلاقه.

..............................

أنت لعبة نلعب بكِ وتفركين(1).

وقال محمد بن إسحاق: وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) لما استشار أبا بكر وعمر وسعد بن معاذ في أمر الأسارى(2)، غلظ عمر عليهم غلظة شديدة. فقال: يا رسول الله، أطعني فيما أشير به عليك فإني لا آلوك نصحاً، قدّم عمك العباس فاضرب عنقه بيدك!، وقدّم عقيلاً إلى علي أخيه يضرب عنقه!، وقدّم كل أسير منهم إلى أقرب الناس إليه يقتله!.

قال: فكره رسول الله (صلی الله علیه و آله) ذلك ولم يعجبه(3).

وعن أنس بن مالك، قال: لما ماتت رقية بنت النبي (صلی الله علیه و آله) فبكت النساء عليها، فجاء عمر يضربهن بسوطه، فأخذ النبي (صلی الله علیه و آله) بيده وقال:

«يا عمر، دعهن يبكين - وقال لهن: - ابكين وإياكن ونعيق الشيطان؛ فإنه مهما يكن من العين والقلب فمن الله ومنالرحمة، ومهما يكن من اليد واللسان فمن الشيطان».

فبكت فاطمة (عليه السلام) وهي على شفير القبر، فجعل النبي (صلی الله علیه و آله) يمسح الدمع من عينيها بطرف ثوبه(4).

ص: 477


1- شرح نهج البلاغة: ج12 ص23 نكت من كلام عمر وسيرته وأخلاقه.
2- أي أسرى بدر.
3- شرح نهج البلاغة: ج14 ص183 القول فيما جرى في الغنيمة والأسارى.
4- مستدرك الوسائل: ج2 ص467 ب74 ح2482.

ما كففت قائلاً

اشارة

-------------------------------------------

عدم كف الأذى لأمر أهم

مسألة: كف الأذى عن الغير واجب في الجملة، إلا إذا كان لأمر أهم، فإنه إذا تعارض أهم ومهم يلزم تقديم الأهم عقلاً وشرعاً..

فبينما يجب كف الأذى عن الصديقة فاطمة (عليها الصلاة والسلام) بل عن كل مظلوم، نرى أن أمير المؤمنين علياً (عليه الصلاة والسلام) - حيث كان مُوصى من قبل الرسول (صلی الله علیه و آله) - صبر محتسباً لله سبحانه وتعالى.. حيث كان عدم محاربة القوم لأمر أهم كما سبق الإلماع إليه.

قولها (علیها السلام): «ما كففتَ..» أي: ما منعت القائل الذي يقول الباطل، حتى يقف عند حده ولا يتمادى في بطلانه وغيه.

كتب الإمام الصادق (عليه السلام) لعبد الله النجاشي - بعدما وصل إليه كتابه يطلب منه نصيحته - فقال: «واعلم أن خلاصك ونجاتك في حقن الدماء وكف الأذى عن أولياء الله والرفق بالرعية»(1).

ص: 478


1- كشف الريبة: ص87 ف5 ح10.

ولا أغنيت باطلاً

اشارة

-------------------------------------------

إبطال الباطل

مسألة: إبطال الباطل واجب في الجملة، وقد يترك لأمر أهم؛ فإن القوم كانوا على باطل في غصبهم للخلافة ولفدك، ولكن أمير المؤمنين (عليه السلام) صبر لأمر أهم كما سبق.

قولها (علیها السلام): «ولا أغنيتَ ..» إغناء الباطل كناية عن إبطاله؛ فإن الإغناء بمعنى الإجزاء والكفاية.

وفي بعض النسخ: «ولا أغنيت طائلاً» كما في رواية السيد (رحمة الله)، وفي اللغة: (هذا أمر لا طائل فيه) أي لا فائدة ولا مزية.

عن عاصم بن حميد، رفعه قال:

جاء رجل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام). فقال: أخبرني عن السنة والبدعة، وعن الجماعة، وعن الفرقة؟.

فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «السنة ما سن رسول الله (صلی الله علیه و آله)، والبدعة ما أحدث من بعده، والجماعة أهل الحق وإن كانوا قليلاً، والفرقة أهل الباطل وإن كانوا كثيراً»(1).

ص: 479


1- معاني الأخبار: ص154-155 باب معنى الجماعة والفرقة والسنة والبدعة ح3.

ولا خيار لي

اشارة

-------------------------------------------

فرض الحصار على المظلوم

مسألة: يحرم فرض (الحصار) على المظلوم بحيث لا يبقى له خيار في استرجاع حقه، وهذه هي سياسة الحكومات الجائرة، فإنهم يضغطون على المظلوم بشتى أنواع الضغط حتى لا يبقى له منفذ يطالب فيه بحقه ويسترجعه..

وقولها (علیها السلام): «لا خيار لي» يستكشف منه أن ابن أبي قحافة لم يكتف بمجرد ظلمها، بل أحكم الحصار حولها حتى لم يبق لها أي خيار.. وهذه الجملة تؤكد مظلوميتها (علیها السلام) وأنها قد بلغت الغاية فيها؛ فإن من لا خيار له وتصب عليه المحن والآلام يكون في غاية الظلامة، إذ ألم (الحصار) والإحساس بالمحاصرة يزيد من ألم الظلم والظلامة.

ثم إن من الواضح أن عدم وجود خيار آخر لها (عليها الصلاة والسلام) إنما هو بالنسبة إلى المعادلات الظاهرية، وإلا فإنهم (علیهم السلام) يمتلكون القدرة على قلب كل المعادلات، مستمدة من قدرة الله سبحانه وتعالى، كما هو مذكور في باب الولاية التكوينية، لكنهم ليسوا مأمورين باستخدام تلك القدرة إلا فيمواضع الإعجاز وما أشبه، كما ثبت ذلك بالنسبة إلى الأنبياء والأئمة (عليهم الصلاة والسلام).

قولها (علیها السلام): «ولا خيار..» إما تمهيد لقولها (عليها الصلاة والسلام): «ليتني مت قبل هينتي» أو تعقيب لما سبق، والمعنى: لا خيار لي ولا اختيار حتى أتمكن من استرجاع فدك وأكف الباطل وأغني طائلاً.

ص: 480

..............................

الدفاع حتى آخر الخيارات

مسألة: يجب بذل الوسع في الدفاع عن المظلوم وكذلك لإحقاق الحق؛ فإنه يلزم في ذلك القيام بكل ما يمكن، ولا يسقط التكليف إلا بعد انعدام كل الخيارات.. وهذا هو ما حصل للصديقة الطاهرة (علیها السلام) فإنه مدلول كلامها هذا، حيث بذلت كل ما بوسعها في المطالبة بحقها والدفاع عن بعلها (عليه السلام)، وأن ما قامت به كان غاية ما يمكن أن تقوم به، ولا خيار آخر لها على الإطلاق ولا سبيل ولا مجال.

ولعل في قولها (علیها السلام): «لا خيار لي» نوع اعتذار منه (عليه السلام) حيث إن أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) كان إمامزمانها (علیها السلام) فكان الواجب الدفاع عنه، فهي تقول بأنني قد بذلت قصارى جهدي في الدفاع عن حقك وحقي - الذي هو حقه (عليه السلام) بالمآل - وفي التصدي ل- (الباطل) ولقول (القائل)(1) ولا قدرة لي على الأكثر ولا خيار.. والله العالم.

قال أبو عبد الله الصادق (عليه السلام) في رسالته إلى جماعة شيعته وأصحابه: «إياكم أن تعينوا على مسلم مظلوم يدعو الله عليكم ويستجاب له فيكم؛ فإن أبانا رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: إن دعوة المسلم المظلوم مستجابة»(2).

وعن وهب بن عبد ربه وعبيد الله الطويل،عن شيخ من النخع،قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): إني لم أزل والياً منذ زمن الحجاج إلى يومي هذا فهل لي

ص: 481


1- وهو أبو بكر وعمر.
2- تحف العقول: ص315 رسالته (علیه السلام) إلى جماعة شيعته وأصحابه.

..............................

من توبة؟. قال: فسكت، ثم أعدت عليه. فقال: «لا حتى تؤدي إلى كل ذي حقحقه»(1).

وعن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «من عذر ظالماً بظلمه سلط الله عليه من يظلمه، فإن دعا لم يستجب له ولم يأجره الله على ظلامته»(2).

وجاء في صحيفة الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) وكلامه في الزهد قوله: «إياكم وصحبة العاصين، ومعونة الظالمين، ومجاورة الفاسقين، احذروا فتنتهم وتباعدوا من ساحتهم»(3).

وروي في حديث: أنه دخل على الصادق (عليه السلام) رجل، فمت له بالإيمان أنه من أوليائه فولى عنه بوجهه، فدار الرجل إليه وعاود اليمين فولى عنه، فأعاد اليمين ثالثة. فقال له (عليه السلام): «يا هذا، من أين معاشك؟». فقال: إني أخدم السلطان وإني والله لك محب. فقال (عليه السلام): «روى أبي عن أبيه عن جده (علیهم السلام) عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنه قال: إذا كان يوم القيامة نادى مناد من السماء من قبل الله عزوجل: أين الظلمة، أين أعوان أعوان الظلمة، أين من برئ لهم قلماً، أين من لاق لهم دواة، أين من جلس معهم ساعة؟. فيؤتىبهم جميعاً فيؤمر بهم أن يضرب عليهم بسور من نار، فهم فيه حتى يفرغ الناس من الحساب ثم يرمى بهم إلى النار»(4).

ص: 482


1- الكافي: ج2 ص331 باب الظلم ح3.
2- وسائل الشيعة: ج16 ص56 ب80 ح20966.
3- الأمالي للمفيد: ص203 المجلس23 ح33.
4- غوالي اللآلي: ج4 ص69 الجملة الثانية ح31.

ليتني متّ قبل هينتي ودون ذلتي

اشارة

-------------------------------------------

تمني الموت

مسألة: يجوز تمني الموت عند شدة المصاب أو كثرة المصائب، وقد يرجح في الجملة، وإن كان ذلك بما هو هو مرجوحاً على ما سبق.

وتمني الصديقة (علیها السلام) للموت هاهنا يدل على فداحة الإهانة التي أهينت بها، وشدة الإذلال الذي تعرضت له مما يكشف عن عظيم جرم القوم وخطير وزرهم.

وقد سبق أنه لولا وجود جهة مرجحة كما في المقام فإن الأفضل أن يسأل الإنسان من الله سبحانه وتعالى طول العمر كما في الأحاديث والأدعية: «أن تطيل عمري في خير وعافية»(1).

ومن مصاديق جواز تمني الموت - بالمعنى الأعم أي بما يشمل الرجحان -عند خوف الوقوع في المعاصي - في الجملة -، كما ورد في الدعاء المروي عن مولانا زين العابدين (عليه الصلاة والسلام) في الصحيفة السجادية، قال (عليه السلام) : «وَعَمِّرْنِي مَا كَانَ عُمُرِي بِذْلَةً فِي طَاعَتِكَ، فَإِذَا كَانَ عُمُرِي مَرْتَعاً لِلشَّيْطَانِ فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ قَبْلَ أَنْ يَسْبِقَ مَقْتُكَ إِلَيَّ، أَوْ يَسْتَحْكِمَ غَضَبُكَ عَلَيَّ»(2).

وكان أبو ذر الغفاري (رحمة الله) يقول: «اللهم إن كان ما عندك خيراً لي فاقبضني إليك غير مبدل ولا مغير»(3).

ص: 483


1- إقبال الأعمال: ص61 دعاء آخر في كل ليلة منه.
2- الصحيفة السجادية: الدعاء رقم20 وكان من دعائه (علیه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.
3- بحار الأنوار: ج22 ص395 ب12 ح2.

..............................

وفي الدعاء: «اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت في الناس فتنة فاقبضني إليك غير مفتون برحمتك يا رحمان يا رحيم، يا عزيز يا عليم»(1).

وأيضاً: «اللهم ومُدّ لي في العمر ما دامت الحياة موصولة بطاعتك، مشغولة بعبادتك، فإذا صارت الحياة مرتعة للشيطان فاقبضني إليك قبل أن يسبقإليَّ مقتك، ويستحكم عليَّ سخطك»(2).

سلب الشرعية

مسألة: يلزم سلب الشرعية عن الطغاة والظلمة والغاصبين، ولا يخفى الأثر العظيم الذي خلّفه كلام الصديقة (علیها السلام) حيث إنها بأقوالها هذه سلبت الشرعية من ابن أبي قحافة وجردته من القناع الذي كان يتظاهر به بالصلاح، وبيّنت لجميع الناس إلى يوم القيامة مظلوميتها ومظلومية بعلها أمير المؤمنين (عليه السلام): «لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ»(3).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبته المعروفة بالشقشقية:

«أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ تَقَمَّصَهَا فُلاَنٌ وَإِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَى، يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ وَلاَ يَرْقَى إِلَيَّ الطَّيْرُ، فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْباً، وَطَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً، وَطَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَةٍ عَمْيَاءَ،يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ،وَيَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ،وَيَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ،

ص: 484


1- العدد القوية: ص23 اليوم الخامس عشر.
2- بحار الأنوار: ج98 ص248 ب18 ح38.
3- سورة الأنفال: 42.

..............................

فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى، فَصَبَرْتُ وَفِي الْعَيْنِ قَذىً، وَفِي الْحَلْقِ شَجاً، أَرَى تُرَاثِي نَهْباً، حَتَّى مَضَى الأَوَّلُ لِسَبِيلِهِ فَأَدْلَى بِهَا إِلَى فُلاَنٍ بَعْدَهُ - ثُمَّ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ الأَعْشَى -:

شَتَّانَ مَا يَوْمِي عَلَى كُورِهَا *** وَيَوْمُ حَيَّانَ أَخِ-ي جَابِرِ

فَيَا عَجَباً بَيْنَا هُوَ يَسْتَقِيلُهَا فِي حَيَاتِهِ إِذْ عَقَدَهَا لآخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ، لَشَدَّ مَا تَشَطَّرَا ضَرْعَيْهَا، فَصَيَّرَهَا فِي حَوْزَةٍ خَشْنَاءَ، يَغْلُظُ كَلْمُهَا، وَيَخْشُنُ مَسُّهَا، وَيَكْثُرُ الْعِثَارُ فِيهَا، وَالاِعْتِذَارُ مِنْهَا، فَصَاحِبُهَا كَرَاكِبِ الصَّعْبَةِ إِنْ أَشْنَقَ لَهَا خَرَمَ، وَإِنْ أَسْلَسَ لَهَا تَقَحَّمَ، فَمُنِيَ النَّاسُ لَعَمْرُ اللَّهِ بِخَبْطٍ وَشِمَاسٍ، وَتَلَوُّنٍ وَاعْتِرَاضٍ، فَصَبَرْتُ عَلَى طُولِ الْمُدَّةِ وَشِدَّةِ الْمِحْنَةِ، حَتَّى إِذَا مَضَى لِسَبِيلِهِ جَعَلَهَا فِي جَمَاعَةٍ زَعَمَ أَنِّي أَحَدُهُمْ، فَيَا لَلَّهِ وَلِلشُّورَى، مَتَى اعْتَرَضَ الرَّيْبُ فِيَّ مَعَ الأَوَّلِ مِنْهُمْ حَتَّى صِرْتُ أُقْرَنُ إِلَى هَذِهِ النَّظَائِرِ، لَكِنِّي أَسْفَفْتُ إِذْ أَسَفُّوا، وَطِرْتُ إِذْ طَارُوا، فَصَغَا رَجُلٌ مِنْهُمْ لِضِغْنِهِ، وَمَالَ الآخَرُ لِصِهْرِهِ، مَعَ هَنٍ وَهَنٍ، إِلَى أَنْ قَامَ ثَالِثُ الْقَوْمِ نَافِجاً حِضْنَيْهِ بَيْنَ نَثِيلِهِ وَمُعْتَلَفِهِ، وَقَامَ مَعَهُ بَنُو أَبِيهِ يَخْضَمُونَ مَالَ اللَّهِ خِضْمَةَ الإِبِلِ نِبْتَةَ الرَّبِيعِ، إِلَى أَنِ انْتَكَثَ عَلَيْهِ فَتْلُهُ، وَأَجْهَزَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ، وَكَبَتْ بِهِ بِطْنَتُهُ, فَمَارَاعَنِي إِلاَّ وَالنَّاسُ كَعُرْفِ الضَّبُعِ إِلَيَّ يَنْثَالُونَ عَلَيَّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، حَتَّى لَقَدْ وُطِئَ الْحَسَنَانِ، وَشُقَّ عِطْفَايَ، مُجْتَمِعِينَ حَوْلِي كَرَبِيضَةِ الْغَنَمِ، فَلَمَّا نَهَضْتُ بِالأَمْرِ نَكَثَتْ طَائِفَةٌ، وَمَرَقَتْ أُخْرَى، وَقَسَطَ آخَرُونَ، كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (1)، بَل-َ-ى وَاللَّهِ

ص: 485


1- سورة القصص: 83.

..............................

لَقَدْ سَمِعُوهَا وَوَعَوْهَا وَلَكِنَّهُمْ حَلِيَتِ الدُّنْيَا فِي أَعْيُنِهِمْ، وَرَاقَهُمْ زِبْرِجُهَا، أَمَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ لَوْلاَ حُضُورُ الْحَاضِرِ، وَقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ، وَمَا أَخَذَ اللَّهُ عََى الْعُلَمَاءِ أَلاَّ يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ، وَلاَ سَغَبِ مَظْلُومٍ، لأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا، وَلَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا، وَلأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ»(1).

وعن محمد بن عذافر، عن أبيه، قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): «يا عذافر، إنك تعامل أبا أيوب والربيع، فما حالكإذا نودي بك في أعوان الظلمة» قال: فوجم أبي. فقال له أبو عبد الله (عليه السلام) لما رأى ما أصابه - أي عذافر -: «إنما خوفتك بما خوفني الله عزوجل به». قال محمد: فقدم أبي فلم يزل مغموماً مكروباً حتى مات(2).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إياكم وأبواب السلطان وحواشيها! فإن أقربكم من أبواب السلطان وحواشيها أبعدكم من الله تعالى، ومن آثر السلطان على الله تعالى أذهب الله عنه الورع وجعله حيران»(3).

وعن صفوان بن مهران الجمال، قال: دخلت على أبي الحسن الأول (عليه السلام) فقال لي: «يا صفوان، كل شيء منك حسن جميل ما خلا شيئاً واحداً». قلت: جعلت فداك أي شيء؟. قال: «إكراؤك جمالك من هذا الرجل - يعني: هارون». قلت: والله ما أكريته أشراً ولا بطراً ولا للصيد ولا للّهو، ولكني أكريته

ص: 486


1- نهج البلاغة، الخطب: 3 ومن خطبة له (علیه السلام) وهي المعروفة بالشقشقية، وتشتمل على الشكوى من أمر الخلافة، ثم ترجيح صبره عنها، ثم مبايعة الناس له.
2- الكافي: ج5 ص105 باب عمل السلطان وجوائزهم ح1.
3- ثواب الأعمال: ص260 عقاب من اقترب من سلطان جائر.

..............................

لهذا الطريق - يعني: طريق مكة - ولاأتولاه بنفسي، ولكني أبعث معه غلماني. فقال لي: «يا صفوان، أيقع كراؤك عليهم؟». قلت: نعم جعلت فداك. قال: فقال لي: «أتحب بقاءهم حتى يخرج كراؤك؟». قلت: نعم. قال: «من أحب بقاءهم فهو منهم، ومن كان منهم كان ورد النار». قال صفوان: فذهبت فبعت جمالي عن آخرها، فبلغ ذلك إلى هارون فدعاني. فقال لي: يا صفوان، بلغني أنك بعت جمالك!. قلت: نعم. قال: ولِمَ؟. قلت: أنا شيخ كبير وإن الغلمان لا يفون بالأعمال. فقال: هيهات هيهات إني لأعلم من أشار عليك بهذا، أشار عليك بهذا موسى بن جعفر. قلت: ما لي ولموسى بن جعفر؟. فقال: دع هذا عنك، فو الله لولا حسن صحبتك لقتلتك(1).

وعن محمد بن مسلم، قال: كنت قاعداً عند أبي جعفر (عليه السلام) على باب داره بالمدينة، فنظر إلى الناس يمرون أفواجاً. فقال لبعض من عنده: «حدث بالمدينة أمر؟». فقال: جعلت فداك، ولي المدينة والٍ فغدا الناس يهنئونه. فقال: «إن الرجل ليغدى عليه بالأمر تهنأ به وإنه لباب من أبواب النار»(2).وعن سليمان الجعفري، قال: قلت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام): ما تقول في أعمال السلطان؟. فقال: «يا سليمان، الدخول في أعمالهم والعون لهم والسعي في حوائجهم عديل الكفر، والنظر إليهم على العمد من الكبائر الذي يستحق به النار»(3).

ص: 487


1- وسائل الشيعة: ج17 ص182- 183 ب42 ح22305.
2- الكافي: ج5 ص107 باب عمل السلطان وجوائزهم ح6.
3- مستدرك الوسائل: ج11 ص356 ب46 ح13246.

..............................

حرمة إهانة الصديقة (علیها السلام)

مسألة: من المحرمات إهانة المؤمن وإذلاله، وكذلك المؤمنة، بل ربما قيل بحرمة إهانة مطلق الإنسان وإذلاله في الجملة، ومن أشدها حرمة إهانة أولياء الله والصالحين، وأشدها حرمة إهانة بضعة الرسول (صلی الله علیه و آله) وسيدة النساء العالمين ومحور الكائنات أجمعين الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (صلوات الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها).

وكلامها (علیها السلام) صريح في أنها أُهينت وأُذلت، فالويل لمن أهانها وأذلها.

وما سبق من كلامها واضح الدلالة علىأن ابن أبي قحافة وابن الخطاب كانا هما اللذان أذلاها وأهاناها بالدرجة الأولى، وسكوت الأصحاب - إلاّ أمثال سلمان وأبي ذر والمقداد وعمار - مشاركة منهم لهما في هذه الإهانة بل هو من مصاديق الإهانة(1).

عن معلى بن خنيس، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سمعته يقول: «قال الله عزوجل: ليأذن بحرب مني من أذل عبدي المؤمن، وليأمن غضبي من أكرم عبدي المؤمن»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «من حقر مؤمناً فقيراً لم يزل الله عزوجل له حاقراً ماقتاً حتى يرجع عن محقرته إياه»(3).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «لقد أسرى ربي بي

ص: 488


1- بل أية إهانة أكبر من أن تستنجد بضعة الرسول (صلی الله علیه و آله) بالقوم فيهملون أمرها ويتنكرون لها؟.
2- وسائل الشيعة: ج12 ص269 ب147 ح16278.
3- مستدرك الوسائل: ج9 ص103 ب127 ح10351.

..............................

فأوحى إليَّ من وراء الحجاب ما أوحى وشافهني إلى أن قال لي: يا محمد، من أذل لي ولياً فقد أرصدني بالمحاربة،ومن حاربني حاربته. قلت: يا رب، ومن وليك هذا فقد علمت أن من حاربك حاربته. قال لي: ذاك من أخذت ميثاقه لك ولوصيك ولذريتكما بالولاية»(1).

وعن الرضا (عليه السلام) عن آبائه (علیهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من استذل مؤمناً أو مؤمنة أو حقره لفقره أو قلة ذات يده شهره الله تعالى يوم القيامة ثم يفضحه»(2). وعن معلى بن خنيس، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) «قال الله عزوجل: قد نابذني من أذل عبدي المؤمن»(3).

وعن إسماعيل بن مخلد السراج، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: خرجت هذه الرسالة من أبي عبد الله (عليه السلام) إلى أصحابه - إلى أن قال -: «وعليكم بحب المساكين المسلمين؛ فإنه من حقرهم وتكبر عليهم فقد زل عن دين الله، والله له حاقر ماقت، وقد قال أبونا رسول الله (صلی الله علیه و آله): أمرني ربي بحب المساكين المسلمين منهم. واعلموا أن من حقر أحداً من المسلمين ألقى الله عليه المقتمنه والمحقرة حتى يمقته الناس والله له أشد مقتاً، فاتقوا الله في إخوانكم المسلمين المساكين فإن لهم عليكم حقاً أن تحبوهم؛ فإن الله أمر رسوله (صلی الله علیه و آله) بحبهم فمن لم يحب من أمر الله بحبه فقد عصى الله ورسوله، ومن عصى الله ورسوله ومات على ذلك مات وهو من الغاوين»(4).

ص: 489


1- الكافي: ج2 ص353 باب من آذى المسلمين واحتقرهم ح10.
2- بحار الأنوار: ج69 ص44 ب94 ح52.
3- وسائل الشيعة: ج12 ص271 ب147 ح16283.
4- الكافي: ج8 ص7 كتاب الروضة ح1.

..............................

أقسام الإهانة

مسألة: إن الإهانة والإذلال على أقسام، وكثير مما نشاهده في المجتمع، من مصاديقهما ومن أقسامهما:كاستهزاء البعض بالعلماء، أو استخفافه بالصالحين، وكالتعبير عنهم وعن المؤمنين بمثل (الرجعي) و(المتحجر) وما أشبه ذلك؛ فإن كل ذلك من الحرام.

وربما كان من المصاديق: عدم استجابة بعض أصحاب الأموال لمن يراجعونهم في المشاريع الخيرية في الجملة؛ فإنه نوع إهانة وإذلال إلى غير ذلك.

عن إسحاق بن عمار، قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): «يا إسحاق، كيف تصنعبزكاة مالك إذا حضرت؟». قال: يأتوني إلى المنزل فأعطيهم. فقال لي: «ما أراك يا إسحاق إلاّ قد أذللت المؤمنين، فإياك إياك، إن الله تعالى يقول: من أذل لي ولياً فقد أرصد لي بالمحاربة»(1).

وعن أبي بصير، قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): الرجل من أصحابنا يستحيي أن يأخذ من الزكاة فأعطيه من الزكاة ولا أسمي له أنها من الزكاة؟. فقال: «أعطه ولا تسم له، ولا تذل المؤمن»(2).

وعن داود الرقي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إن الله عزوجل خلق المؤمن من عظمة جلاله وقدرته، فمن طعن عليه أو ردّ عليه قوله فقد رد على الله»(3).

ص: 490


1- وسائل الشيعة: ج9 ص315-316 ب58 ح12109.
2- وسائل الشيعة: ج9 ص314-315 ب58 ح12107.
3- بحار الأنوار: ج72 ص142 ب56 ح1.

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) - في حديث الأربعمائة -: «لا تحقروا ضعفاء إخوانكم؛ فإنه من احتقر مؤمناً لم يجمع الله عزوجل بينهما في الجنة إلاّ أن يتوب»(1).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله):«رُبّ أشعث أغبر ذي طمرين يدفع بالأبواب لو أقسم على الله تعالى لأبره»(2).

التحرز من الذل والمهانة

مسألة: يحرم ترك امتثال التكليف الإلهي فراراً مما يسببه للإنسان من المهانة والذلة في الجملة، كما تراه عند كثير من الناس حيث يتركون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حذراً من إهانة الناس لهم والاستهزاء بهم، ويتركون كثيراً من الواجبات(3) أو يقتحمون عدداً من المحرمات(4) خوفاً مما يخيل إليهم من أنه ذل ومهانة.

وغير خفي أن الذل الظاهري والإهانة الدنيوية من شرور هذه الدنيا الدنية التي تصيب المؤمن.. ولكنها لا تسبب له المهانة والذلة الواقعية، بل إن ذلك يزيد المؤمن عزاً وشرفاً وسؤدداً عند الله تعالى، بل وعند الناس أيضاً، وفي محكمة التاريخ كما هو واضح.

وذلك نظير ما جرى للصديقةالكبرى (علیها السلام) في هذه القضية.. وللإمام

ص: 491


1- الخصال: ج2 ص614 علم أمير المؤمنين (علیه السلام) أصحابه في مجلس واحد أربعمائة باب مما يصلح للمسلم في دينه ودنياه ح10.
2- الأمالي للطوسي: ص429 المجلس15 ح959.
3- كترك الصلاة لخوف الاستهزاء في بعض البلاد غير الإسلامية.
4- كمصافحة الأجنبية في البلاد الغربية خوفاً من رميه بالرجعية وما أشبه، وكاشتراكه في مجالس الغيبة والتهمة خوفاً من السخرية إذا غادر المجلس أو احتج عليهم.

..............................

الحسن (عليه السلام) في صلحه.. وللإمام السجاد (عليه السلام) وعقيلة بني هاشم (علیها السلام) في الأسر بعد واقعة كربلاء الدامية.

وقد أقدمت الصديقة الزهراء (علیها السلام) على الخروج للمسجد ومقارعة القوم ومحاججتهم رغم علمها بالمهانة والذلة الظاهرية اللتين ستمنى بهما لما سبق. واليوم نرى العزة لله ولرسوله ولبضعته الطاهرة (علیها السلام) والذل والهوان لأعدائها.

سعي القوم لإهانتها

مسألة: يستحب بيان أن القوم عموماً وابن أبي قحانة خصوصاً قد سعى في إهانة الصديقة فاطمة الزهراء (علیها السلام) وإذلالها حتى تحقق له ما أراد - من الناحية الظاهرية - فإنه من الواضح أن غصب حقها وعدم تلبية طلبها، ومن ثم إهانة بعلها، وتكذيبها في قولها وكلامها، من أكبر الإذلال لها (عليها الصلاة والسلام). وينبغي التنبيه إلى أن القوم كانوا يبيتون لها الإهانة.. ولم يكن كل ما جرى لمجرد الاستحواذ على فدك والخلافة فقط، بل كانت فيأنفسهم أشياء من رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (عليه السلام)، وأحقاد بدرية وخيبرية وحنينية أفرغوها على ابنته وبضعته (علیها السلام) في أول فرصة سانحة، قال تعالى: أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ (1) ف- إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (2) .. وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (3) .. وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (4).

ص: 492


1- سورة آل عمران: 144.
2- سورة البقرة: 156.
3- سورة الشعراء: 227.
4- سورة الأعراف: 128، سورة القصص: 83.

ولا يخفى أن ما ذكرناه من الاستحباب في جملة من البنود السابقة وهذا البند أيضاً، إنما هو فيما إذا لم يكن الأمر واجباً لموازينه، وإلاّ فهو منه(1)، فكل من الواجب والمستحب - وكذلك الجائز فيما ذكرناه في قولها (علیها السلام): «ليتني مت» - إنما هو بموازينه العامة المذكورة في الفقه.

قولها (علیها السلام): «قبل هينتي» أي مهانتي حتى لا أكون فأهان بمثل هذهالإهانة العظيمة.

و(الهين): الذي لا كرامة له. يقال: أهنت فلاناً وتهاونت به واستهنت به(2).

قولها (علیها السلام): «ودون ذلتي» أي قبل أن أذل بسبب رد ابن أبي قحافة عليَّ مقالي على رؤوس الملأ واغتصابه نحلتي.

ص: 493


1- أي من الواجب.
2- انظر كتاب العين: ج4 ص92 مادة (هون).

عذيري الله منه عادياً ومنك حامياً

اشارة

-------------------------------------------

الاستنصار بالله

مسألتان: يجب الاعتقاد بأن الله سبحانه هو الناصر - عند توفر النصير وعدمه - فإن الأسباب بيده.

أزمة الأمور طراً بيده *** والكل مستمد من مدده

ويجب الاستنصار بالله تعالى.

والذي يبدو أن معنى قول الصديقة (علیها السلام): «عذيري الله منه» وفي بعض النسخ «منك» أي: نصيري منه هو الله، أو عوضاً عنك وبدلاً منك، فإذا لم تكن أنت قادراً على نصرتي - نظراً لوصية رسول الله (صلی الله علیه و آله) - فإن الله قادر على ذلك. فإن من معاني العذير: النصير. ومن معاني العُذر: الغلبة والنجح.

فإذا كانت النسخة: (عذيري الله منه عادياً ومنك حامياً) كان المعنى أن الله هو نصيري من عدوان ابن أبي قحافة، ونصيري بدلاً عنك وعن حمايتك، فيكون ضمير (منه) راجعاً إلى ابن أبي قحافة، وعادياً من العدوان والاعتداء.

وإن كانت النسخة: (عذيري الله منك عادياً ومنك حامياً) كان معنى عادياً هو صارفاً، من عدوت فلاناً عن الأمر أي صرفته عنه، فالعادي هو الصارف أينصيري الله بدلاً عنك حالة كونك عادياً أي صارفاً نصرتك عني، وقد سبق أن صرف النصرة كان لأمر من الله ووصية خاصة من رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالصبر والسكوت، وكانت (علیها السلام) تعلم بكل ذلك. وتكون (من) هنا للبدل كما أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآْخِرَةِ (1).

ص: 494


1- سورة التوبة: 38.

..............................

شبهة وإجابة

ثم إنه لو فرض أن (عادياً) في قولها (علیها السلام) من العدوان، فإن المراد به تجاوز الحد في المقام وهو (الحد الظاهري) لا (الحد المأمور به)، إذ لم يتجاوز الإمام (عليه السلام) الحد الذي حده الله له بل التزم به وصبر، فكان تجاوزاً للحد العرفي الذي قد يظن بعض الناس أنه كان عليه أن لا يتجاوزه.

لا يجوز إنكار ظلامتها (علیها السلام)

مسألة: لا يجوز إنكار ما فعله القوم من الهجوم على بيت فاطمة (علیها السلام)، وإحراق الدار، وضرب الصديقة الطاهرة (علیها السلام) وكسرضلعها .. حتى أسقطت جنينها... إلى غيرها من الحقائق التاريخية، لورود النصوص بذلك، ولمتواتر الروايات، ولمختلف القرائن التي تفيد العلم.

ومن ذلك يتضح بطلان ما ربما يقال من استغراب أو إنكار الهجوم على دارها وضربها وإسقاط جنينها.. بدعوى أن ذلك لا يعقل مع وجود أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو أسد الله الغالب.. فيكف يصبر (عليه السلام) على ضربهم زوجته سيدة نساء العالمين (علیها السلام)؟.

إذ من الثابت أن الإمام (عليه السلام) كان مأموراً بالصبر، ولولاه لما صبر ولأوقفهم عند حدهم، وذلك نظير صبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) طوال فترة وجوده في مكة وكان يرى أصحابه يُعذبون، بل ويأمر أصحابه بالصبر وعدم القتال.

إضافة إلى أن الأمر لم يكن كما يزعمه هؤلاء من أن علياً (عليه السلام) كان جالساً ينظر إلى زوجته وهي تُضرب ولا يحرك ساكناً، بل إن فاطمة (علیها السلام) كانت خلف

ص: 495

..............................

الباب تكلم القوم وتحذّرهم من مغبة أعمالهم والباب مغلق - ولذلك لم يكنعليها خمار(1) - وإذا بابن الخطاب وصحبه رفسوا الباب بعنف وقسوة فجأة، وعصروها عصرة حتى أسقطت جنينها، كما هاجموا فاطمة (علیها السلام) بالضرب على بطنها ووجهها، ويبدو أنهم أرادوا قتل الزهراء (علیها السلام) حتى لا يبقى للإمام علي (عليه السلام) ناصر ولا معين؛ فإن الصديقة (علیها السلام) كانت أكبر ناصر للإمام (عليه السلام) وهي التي استطاعت أن تسلب شرعيتهم وتبين للعالم إلى يوم القيامة غصبهم للخلافة.

وعند هجوم القوم وثب الإمام (عليه السلام) ومسك بتلابيب الرجل وصرعه، ثم قال: «والذي كرّم محمداً بالنبوة يا ابن صهاك لولا كتاب من الله سبق وعهد عهده إليَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعلمتأنك لا تدخل بيتي»(2) ولولا تلك الوصية لقتله، ونظراً لرد فعل الإمام (عليه السلام) السريع والقوي تراجع القوم عن قتل فاطمة وابنيها والإمام (صلوات الله عليهم أجمعين) فإنهم أرادوا ذلك(3).

ص: 496


1- قال الفاضل العلامة السيد محمد بن السيد مهدي القزويني الحلي النجفي ( ت 1335 ه ق) في أبيات له: قال سليم قلت يا سلمان *** هل دخلوا ولم يك استئذان فقال إي وعزة الجبار *** ليس على الزهراء من خمار لكنها لاذت وراء الباب *** رعاية للستر والحجاب فمذ رأوها عصروها عصرة *** كادت بروحي أن تموت حسرة تصيح يا فضة اسنديني*** فقد وربي قتلوا جنيني فأسقطت بنت الهدى واحزنا *** جنينها ذاك المسمى محسنا
2- كتاب سليم بن قيس: ص586 ح4.
3- للتفصيل انظر كتاب سليم بن قيس: ص584-592 ح4، وبحار الأنوار: ج28 ص264-282.

..............................

معاني أخرى لكلامها (علیها السلام)

هذا وربما يمكن أن يقال في معنى كلام الصديقة (علیها السلام): «عذيري الله...» أو قد قيل في ذلك وجوه أخر نقتصر على ثلاثة منها:

الوجه الأول:

إن قولها (علیها السلام): «عذيري الله منك عادياً ومنك حامياً» يعني أن الله سبحانه وتعالى ليعذرني منك في كلتا حالتي سكوتك عن المطالبة بحقي وحمايتك لي للأخذ بظلامتي، والمعنى: أنها تطلب من الله سبحانه وتعالى أن يعذره (عليه السلام) في كلتا الحالتين - كما هو كذلك، إذ أنه (عليه السلام) كان مأموراً بالصبر -والاعتذار عن القصور حسن.

والعذير: العاذر وهو الذي يرفع اللوم والذنب، أي إن الذي يرفع لَوْمي وعتبي عليك هو الله، والمراد به المآل، أي مآل العتب واللوم وليس نفسه، إذ لا عتب ولوم حقيقي منها له (علیهما السلام)، بل هو كناية عن شدة ما جرى عليها كما لايخفى، والمآل هو استرجاع الحق إذ هذا هو ما يقصد من اللوم في نهاية الأمر.

وبعبارة أخرى: كأن الله يعذرها من جهته، فكأنها تطلب من الله إعذارها من جهة موقف بعلها، فتأمل.

الوجه الثاني:

إن عذيرك من فلان، يعني هات من يعذرك فيه، فيكون (عذيري) منصوباً (والله) مجروراً بالقسم(1).

ص: 497


1- ربما يكون مقصود المصنف من هذا أن معنى (عذيري الله منك) أنها تقول: والله سآتي بمن يعذرني منك (من جهتك) أي بمن يطلب لي العذر من جهتك، أي يبرأ ساحتك، وهو الرسول (صلی الله علیه و آله) باعتباره أمر علياً (علیه السلام) بالصبر.

..............................

وقيل: منه قول أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) حين نظر إلى ابن ملجم (لعنه الله) وقال:

أريد حباءه ويريد قتلي *** عذيرك (1) من خليلك من مراد(2)

ومنه قوله (عليه السلام) حينما خرج طلحة والزبير لقتاله: «عذيري من طلحة والزبير بايعاني طائعين غير مكرهين ثم نكثا بيعتي من غير حدث، ثم تلا هذه الآية: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (3)»(4).

الوجه الثالث:

الطلب من الله أن يعذرها (علیها السلام) فيما قالت وفعلت - بالنسبة إليه (عليه السلام) - فكأنها (علیها السلام) تعتذر منه (عليه السلام) لما بدر منها مما ظاهره العتاب.. وهو وإن لم يكن عتاباً واقعاً بل كان لكشف حقائق القوم ومدى ظلمهم، وقد صيغ في شكل عتاب له كناية إلا أنذلك أيضاً استدعى اعتذارها منه ومن الله، إذ هي مضطرة لعدم الرعاية الظاهرية مما يتصوره البعض عتاباً، ومثل هذا الكلام مستحب؛ فإنه يستحب للإنسان أن يطلب من الله أن يعذره في كل قول أو فعل صدر منه.

ص: 498


1- قد يكون المعنى: هات من يعذرك من أي واحد من أخلائك من قبيلة (مراد)، أي لا يوجد من يعذرك في قتلي حتى من أصدقائك في قبيلتك.
2- شرح نهج البلاغة: ج9 ص118 ومن كلام له (علیه السلام) قبل موته.
3- سورة التوبة: 12.
4- الأمالي للمفيد: ص72-73 المجلس الثامن ح7.

..............................

لا يقال: إن ما قالت وفعلت كان بين واجب ومستحب وجائز - بل الجائز منه مستحب كما ذكرناه في موطن آخر - وكل ذلك لا يحتاج إلى طلب العذر من الله سبحانه وتعالى؟.

لأنه يقال: كلامها (علیها السلام) ذلك ينبع من عظيم معرفتها بالله وشديد خضوعها له سبحانه وتعالى، وهذا الاعتراف وطلب العذر هو مقتضى العبودية لله عزوجل كما فصل في محله، فكل ما يفعله الإنسان - حتى الواجب - بحاجة إلى الاعتذار من الله سبحانه وتعالى.

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إني استغفر الله كل يوم سبعين مرة من غير ذنب»(1)، وذلك لأن مقام الله عظيم جداًوفوق ما لا يتناهى بما لا يتناهى، ومن هنا فإن الأعمال التي يقدمها العبد مهما كانت فإنها لا تناسب شأنه سبحانه وتعالى، فعلى العبد أن يستغفر الله دائماً وأبداً، كما ذكره بعض العلماء في مسألة أدعيتهم التي يعترفون فيها بالذنوب، مثل قول الإمام السجاد (عليه الصلاة والسلام) في (دعاء أبي حمزة): «أنا الذي.. أنا الذي.. الخ»(2)، وكذلك أدعية رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (عليه السلام)(3) وسائر الأئمة الطاهرين (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)، فإن تلك التعابير هي مقتضى العبودية ورعاية لحق الربوبية، لا أنه - والعياذ بالله - صدر من المعصوم ذنب، كما هو واضح.

ولهذه الأدعية وجه آخر ذكر في محله، والله العالم بحقائق الأمور.

ص: 499


1- وسائل الشيعة: ج16 ص85 ب92 ح21050، وفيه:عن ابن بكير، عن أبي عبد الله (علیه السلام) - في حديث - قال: «إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان يتوب إلى الله كل يوم سبعين مرة من غير ذنب».
2- المصباح للكفعمي: ص594 دعاء السحر لعلي بن الحسين (علیه السلام) رواه حمزة الثمالي.
3- كما في دعاء كميل (علیه السلام).

..............................

عذير المعصوم (عليه السلام) هو الله

مسألة: عذير المعصوم (عليه السلام) هو الله تعالى فيما يفعله أو يتخذه من موقف،فإن المعصوم (عليه السلام) لا يفعل إلاّ ما أراده الله عزوجل؛ لأنهم (علیهم السلام) أوعية مشيئة الله عزوجل، وقد أمر الباري بطاعتهم (علیهم السلام).

ومن هنا قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا»(1).

وعن أبي محمد العسكري (عليه السلام) عن آبائه (علیهم السلام) عن الباقر (عليه السلام)، قال: «أوصى النبي (صلی الله علیه و آله) إلى علي والحسن والحسين (علیهم السلام) - ثم قال - في قول الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ (2)، قال: الأئمة من ولد علي وفاطمة (علیهم السلام) إلى أن تقوم الساعة»(3).

وعن داود بن فرقد، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) - وعنده إسماعيل ابنه (عليه السلام) - يقول: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ (4) الآية، قال: فقال:«الملك العظيم افتراض الطاعة»(5).

وعن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «ذروة الأمر وسنامه ومفتاحه وباب الأنبياء ورضى الرحمن الطاعة للإمام بعد معرفته - ثم قال - إن الله يقول: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ إلى حَفِيظاً (6) أما لو أن رجلاً قام ليله

ص: 500


1- المناقب: ج3 ص394 فصل في معالي أمورهما (علیهما السلام).
2- سورة النساء: 59.
3- بحار الأنوار: ج23 ص286 ب17 ح3.
4- سورة النساء: 54.
5- تفسير العياشي: ج1 ص248 من سورة النساء ح162.
6- سورة النساء: 80.

..............................

وصام نهاره وتصدق بجميع ماله وحج جميع دهره ولم يعرف ولاية ولي الله فيواليه، ويكون جميع أعماله بدلالة منه إليه، ما كان له على الله حق في ثوابه، ولا كان من أهل الإيمان - ثم قال - أولئك المحسن منهم يدخله الله الجنة بفضله ورحمته»(1).

وعن أبي إسحاق النحوي، قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إن الله أدب نبيه على محبته فقال: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (2) - إلى أن قال - وإن رسول الله (صلی الله علیه و آله) فوض إلى علي (عليه السلام)فائتمنه فسلمتم وجحد الناس، فوالله لنحبكم أن تقولوا إذا قلنا، وتصمتوا إذا صمتنا، ونحن فيما بينكم وبين الله، ما جعل الله لأحد خيراً في خلاف أمرنا»(3).

عن جعفر بن محمد الفزاري معنعناً، عن أبي جعفر (عليه السلام) في هذه الآية من قول الله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4). قال: «الفتنة الكفار». قال: يا أبا جعفر، حدثني فيمن نزلت؟. قال: «نزلت في رسول الله (صلی الله علیه و آله) وجرى مثلها من النبي (صلی الله علیه و آله) في الأوصياء في طاعتهم»(5).

وعن بريد العجلي، عن أبي جعفر (عليه السلام)، في قول الله تبارك وتعالى: فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً . قال: «جعل

ص: 501


1- بحار الأنوار: ج23 ص294 ب17 ح33.
2- سورة القلم: 4.
3- وسائل الشيعة: ج27 ص73 ب7 ح33234.
4- سورة النور: 63.
5- تفسير فرات الكوفي: ص289 ومن سورة النور ح392.

ويلاي في كل شارق.. ويلاي في كل غارب..

اشارة

-------------------------------------------

منهم الرسل والأنبياء والأئمة، فكيفيقرون في آل إبراهيم (عليه السلام) وينكرونه في آل محمد (صلی الله علیه و آله)». قال: قلت: وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً ؟. قال: «الملك العظيم أن جعل فيهم أئمة من أطاعهم أطاع الله، ومن عصاهم عصى الله فهو الملك العظيم»(1).

ويلاي في كل شارق.. ويلاي في كل غارب..

طلب الويل والإخبار عنه

مسألة: يجوز الإخبار عن الويل الذي تعرض له الإنسان، كما يجوز طلبه (بالمعنى الذي سيأتي)؛ فإنه يجوز للمظلوم والمصاب بمال أو عزيز أو نفس أو ما أشبه أن يقول هذه الكلمة، دلالة على عظيم ما أصابه من المصاب في نفسه، أو ذوي قرابته، أو أحبته وأصحابه، أوما أشبه ذلك.

وهذا لا يعني الجزع، وإن كان الجزع في مصاب أهل البيت (علیهم السلام) جائزاً بل راجحاً.

عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «ما من عبد يصاب بمصيبة فيسترجع عند ذكر المصيبة ويصبر حين تفجأه إلا غفر الله له ماتقدم من ذنبه، وكلما ذكر مصيبة فاسترجع عند ذكره المصيبة غفر له كل ذنب اكتسبه فيما بينهما»(2).

وعن داود بن رزين، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «من ذكر مصيبته ولو

ص: 502


1- الكافي: ج1 ص206 باب أن الأئمة (علیهم السلام) ولاة الأمر وهم الناس المحسودون الذين ذكرهم الله عزوجل ح5.
2- مشكاة الأنوار: ص278-279 ف1.

..............................

بعد حين فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون والحمد لله رب العالمين، اللهم آجرني على مصيبتي وأخلف عليَّ أفضل منها، كان له من الأجر مثل ما كان عند أول صدمة»(1).

معنى (ويلاي)

مسألة: من المستحب بيان ما جرى على الصديقة الطاهرة (علیها السلام) من المصائب حتى قالت: «ويلاي في كل شارق.. ويلاي في كل غارب».. وقد يجب ذلك.

والذي يظهر أن معنى قولها (علیها السلام): «ويلاي» هو أن البؤس والشدة (وهما معنى الويل) أصبحا ملازمين لي، وذلك نتيجة غصبهم حقي وحق بعلي (عليه السلام) وإهانتي وإيذائي.. وقد كنَّتْ عن الملازمة ب- (كل شارق وغارب) أي كلصباح ومساء..

ومن الواضح أن كلامها هذا إخبار وليس إنشاءً ودعاءً.

ومن معاني الويل: حلول الشر.. ومن معانيه: الهلاك.. فكأنها (علیها السلام) تقول: إن الشر (والمراد به المرض والعنت والهوان بسبب ما لحقها من مواقف وتصرفات القوم وغاصبي الخلافة) يحل بي كل صباح ومساء، وذلك إما كناية عن الدوام كما سبق.. أو إشارة لتجدد آلامها وأحزانها كل صباح ومساء.

وكذلك الهلاك.. فكأنهما قتلاها في كل صباح ومساء، إذ أن الذل والهوان المستمرين قد يكونان أسوأ وأشد وأقسى وأمرّ من أن يقتل المرء مئات المرات.. وكفاهما ذلك إثماً وجرماً.

ص: 503


1- الكافي: ج3 ص224 باب الصبر والجزع والاسترجاع ح6.

مات العَمَد، ووهن العضد

اشارة

-------------------------------------------

ومن المحتمل أن تكون (ويلاي) دعاءً فيكون المعنى: إنها تتمنى الموت كل صباح ومساء، إذ إنه أهون وأخف من المهانة الاجتماعية التي ألحقاها بها.

وفي اللغة: الويل: الحزن والهلاك، وكل من وقع في الهلكة دعا بالويل، وفي الندبة يقال: ويلاه.مات العَمَد، ووهن العَضُد

بين حياته (صلی الله علیه و آله) وموته

مسألة: لا ينبغي الريب في أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) والصديقة الكبرى (علیها السلام) والأئمة (علیهم السلام) والشهداء أحياء بعد موتهم، كما قال تعالى: وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (1)، و(الموت) بالنسبة إليهم ليس بالمعنى الذي يفهمه الناس منه من عدم القدرة على التصرف في شؤون هذه الدنيا.

إلاّ أن الفرق بين حياة النبي (صلی الله علیه و آله) وموته هو:

أولاً: عدم تصرفه (صلی الله علیه و آله) عبر جسده المادي عادةً، إلا فيما خرج بالدليل.

وثانياً: ترتب بعض الآثار على حياته المباركة فحسب، وليس كلها، كما في قوله تعالى: «وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ»(2) حيث إن حياته المادية كانت إحدى سببي رفع العذاب، فتأمل.

ص: 504


1- سورة آل عمران: 169.
2- سورة الأنفال: 33.

..............................

فقولها (علیها السلام): «مات العَمَد..»،إشارة إلى فقدانها (علیها السلام) بموته (صلی الله علیه و آله) جانباً (1) من حمايته وتصرفاته التي انقطعت بموته (صلی الله علیه و آله).

و(العَمَد):هو ما يُعتمد عليه في الأمور.

و(العَضُد) للإنسان بمنزلة يده حيث يقبض ويبسط ويدفع ويجذب بسبب اليد.. والعضد هي محور القدرة في كل ذلك.

ومن الواضح أن الرسول (صلی الله علیه و آله) - بالنسبة إلى المسلمين عامة والصديقة الزهراء (عليها الصلاة والسلام) خاصة - كان عمداً وعضداً.

هذا ويحتمل أن يكون المراد من (العمد): الرسول (صلی الله علیه و آله)، ومن (العضد): الإمام علي (عليه السلام).. ووهنه (عليه السلام) أولاً لفقده أول مدافع عنه وهو الرسول (صلی الله علیه و آله)وثانياً لتقييده بوصيته (صلی الله علیه و آله).. مضافاً إلى تكالب الأعداء عليه وظلمهم له.

قولها (علیها السلام): (مات ..ووهن) تشير به إلى أن ذلك كان هوالسبب في عدم استرجاع الحق في فدك والخلافة.

الاعتماد على الرسول (صلی الله علیه و آله)

مسألة: يستحب أن يُتخذ الرسول (صلی الله علیه و آله) عمداً وأمير المؤمنين (عليه السلام) عضداً، وهذا لا يعني الشرك كما هو واضح، بل ابتغاء الوسيلة إلى الله عزوجل حيث قال تعالى: وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ (2) على ما هو مذكور في العقائد.

وفي الحديث: «إن الشيطان إذا سمع منادياً ينادي: يا محمد، يا علي، ذاب

ص: 505


1- أي:ليس كل تصرفاته وحمايته قد انقطع، ولذلك كانت الشكوى (أي بلحاظ ما بقي).
2- سورة المائدة: 35.

..............................

كما يذوب الرصاص»(1).

وفي الدعاء: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ الَّذِينَ أَمَرْتَنَا بِطَاعَتِهِمْ، وَعَجِّلِ اللَّهُمَّ فَرَجَهُمْ بِقَائِمِهِمْ، وَأَظْهِرْ إِعْزَازَهُ، يَا مُحَمَّدُ يَا عَلِيُّ، يَا عَلِيُّ يَا مُحَمَّدُ- اكْفِيَانِي فَإِنَّكُمَا كَافِيَانِي، يَا مُحَمَّدُ يَا عَلِيُّ، يَا عَلِيُّ يَا مُحَمَّدُ انْصُرَانِي فَإِنَّكُمَانَاصِرَانِي، يَا مُحَمَّدُ يَا عَلِيُّ، يَا عَلِيُّ يَا مُحَمَّدُ احْفَظَانِي فَإِنَّكُمَا حَافِظَانِي، يَا مَوْلاَيَ يَا صَاحِبَ الزَّمَانِ - ثَلاَثَ مَرَّاتٍ - الْغَوْثَ، الْغَوْثَ، أَدْرِكْنِي، أَدْرِكْنِي، الأَمَانَ، الأَمَانَ»(2).

وفي بعض الصلوات المستحبة(3): «ثم تضع خدك الأيمن على الأرض وتقول مائة مرة في سجودك: يَا مُحَمَّدُ يَا عَلِيُّ، يَا عَلِيُّ يَا مُحَمَّدُ، اكْفِيَانِي فَإِنَّكُمَا كَافِيَايَ، وَانْصُرَانِي فَإِنَّكُمَا نَاصِرَايَ»(4).

وفي بعضها(5): «ثم يقلب خده الأيسر على الأرض ويقول: يَا مُحَمَّدُ، يَا عَلِيُّ، يَا جَبْرَئِيلُ، بِكُمْ أَتَوَسَّلُ إِلَى اللَّهِ، ثم يسجد ويكرر هذا القول ويسأل حاجته»(6).

وفي صلاة الغياث: عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إذا كانت لأحدكم استغاثة إلى الله تعالى فليصلّ ركعتين، ثم يسجد ويقول: يَا مُحَمَّدُ يَا رَسُولَ اللَّهِ

ص: 506


1- الكافي: ج6 ص20 باب الأسماء والكنى ح12.
2- وسائل الشيعة: ج8 ص186 ب53 ح10374.
3- وهي صلاة لدفع شر السلطان.
4- راجع مستدرك الوسائل: ج6 ص308-310 ب19 ح6885.
5- وهي صلاة يوم الاثنين.
6- راجع جمال الأسبوع: ص71-72 صلاة أخرى ليوم الاثنين.

..............................

يَا عَلِيُّ يَا سَيِّدَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، بِكُمَا أَسْتَغِيثُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، يَا مُحَمَّدُ يَا عَلِيُّ أَسْتَغِيثُ بِكُمَا يَا غَوْثَاهُ بِاللَّهِ وَبِمُحَمَّدٍ وَعَلِيٍّ وَفَاطِمَ - وَتَعُدُّ الأئِمَّةَ (علیهم السلام) - بِكُمْ أَتَوَسَّلُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فإنك تُغاث من ساعتك إذ شاء الله تعالى»(1).

وفي حرب أُحُد: كان النبي » يقول: «يا علي رد هذه الكتيبة عني»، «يا علي اكفني هذه الكتيبة»(2)، فكانت تقارب خمسين فارسا وعلي (عليه السلام) راجل فما زال يضربها بالسيف حتى تتفرق عن رسول الله »، ثم تجتمع عليه هكذا مراراً... حتى قال جبرئيل (عليه السلام) لرسول الله »: يا محمد إن هذه المواساة!، لقد عجبت الملائكة من مواساة هذا الفتى، فقال رسول الله » : وما يمنعه مني وهو مني وأنا منه، وقال جبرائيل: وأنا منكما، وسمع ذلك اليوم صوت من قبل السماء لا يرى الشخص الصارخ به، ينادي مرارا:

لا فتى إلا علي *** لا سيف إلا ذو الفقار(3)

فإنه لما عصى المسلمون أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) وتركوا الثغرة التي وكلهم بها، ولم يبق فيها سوى نفر قليل، حمل عليهم خالد بن الوليد فقتلهم، بعد أن تراموا بالنبال، وتطاعنوا بالرماح، وتقاتلوا بالسيوف، ثم جاء من ظهر رسول الله (صلی الله علیه و آله) يريده، فنظر إلى النبي (صلی الله علیه و آله) وهو في قلّة من أصحابه فقال لمن معه: دونكم هذا الذي تطلبون فشأنكم به.

ص: 507


1- مكارم الأخلاق: ص330-331 ف4 صلاة الغياث.
2- راجع بحار الأنوار: ج20 ص127 ب12.
3- راجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج14 ص250-251 قصة غزوة أحد.

..............................

وبصرت قريش في هزيمتها إلى الراية قد رفعت فلاذوا بها، فحملوا على رسول الله (صلی الله علیه و آله) حملة رجل واحد ضرباً بالسيوف، وطعناً بالرماح، ورمياً بالنبل، ورضخاً بالحجارة.

وجعل أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقاتلون عنه حتى قتل منهم سبعون رجلاً، أربعة من المهاجرين: حمزة، ومصعب بن عمير، وعثمان بن شماس، وعبدالله بن جحش، وسائرهم من الأنصار، فانهزم على أثره الباقون، ولم يثبت للقوم إلاّ علي (عليه السلام)، وأبو دجانة، وسهل بن حنيف، يدفعون عن النبي (صلی الله علیه و آله) وقد كثر عليهم المشركون.

فالتفت النبي (صلی الله علیه و آله)إلى علي (عليه السلام)، وقال: «ما صنع الناس يا علي؟».

قال (عليه السلام): «كفروا يا رسول الله وولّوا الدبر من العدو وأسلموك».

قال: «ما لك لاتذهب مع القوم؟».

فقال: «أذهب وأدعك يا رسول الله؟ أكُفرٌ بعد ايمان؟! إنّ لي بك اُسوة والله لا برحت حتى اُقتل، أو ينجز الله لك ما وعدك من النصر»، فثبت معه يدفع عنه الكتائب.

فنظر رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى كتيبة قد أقبلت إليه، فقال لعلي (عليه السلام): «ردّ عني يا علي هذه الكتيبة»، فحمل عليها وفرَّقها، وكلّما حملت طائفة على رسول الله (صلی الله علیه و آله) استقبلهم علي (عليه السلام) فيدفعهم عنه، ويقتلهم حتى تقطّع سيفه ثلاث قطع(1).

ص: 508


1- راجع كتاب (ولأول مرة في تاريخ العالم) للإمام الشيرازي (قدس سره): ج1 ص147 غزوة أحد المسلمون لما عصوا الرسول (صلی الله علیه و آله).

شكواي إلى أبي

اشارة

-------------------------------------------

لمن الشكوى

مسألة: يستحب بث الشكوى إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) والأئمة (علیهم السلام) والصالحين في الجملة، أحياءًوأمواتاً، وهذا مما يدل على تأثير وجوده (صلی الله علیه و آله) حتى بعد موته، فإنه لو كانت الشكوى له بعد موته لغواً لما شكت إليه الصديقة الزهراء (علیها السلام) ظلامتها بعد موته ».

واستفادة الاستحباب لأدلة الأسوة وحجية قولها (علیها السلام) وفعلها وتقريرها وما أشبه.

ومنه يعلم أن ما جرت عليه سيرة المؤمنين من اللجوء إلى أضرحة المعصومين والأولياء والصالحين (علیهم السلام) وبث الشكوى لهم هو نوع تضرع إلى الله فإنهم (علیهم السلام) الطريق إليه عزوجل والدليل عليه، قال عزوجل: وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ (1).

مضافاً إلى ما تقدم من كونه تأسياً بالصديقة الكبرى(علیها السلام)(2) والأئمة الأطهار (علیهم السلام).. فإن الشكوى إلى الرسول والأئمة الطاهرين والزهراء (صلوات

الله عليهم أجمعين) سبيل إلى الشكوى إلى الله سبحانه، لأنهم شفعاء إلى الله، وهم الوسيلة إليه لقضاء الحوائج وكشف النوائب، بل إن الشكوى إلى هؤلاء بنفسه أيضاً مستحب، لأنهم محل مشيئةالله وأوعية علمه كما ورد في الروايات.

وهناك روايات وقصص كثيرة في الشكوى إلى المعصوم (عليه السلام) منها:

ص: 509


1- سورة المائدة: 35.
2- في قولها هذا وفي لجوئها إلى قبره (صلی الله علیه و آله) وقبر عمه حمزة (علیه السلام).

..............................

روى أبو علي بن راشد، عن أبي هاشم الجعفري، قال: شكوت إلى أبي محمد الحسن بن علي (عليه السلام) الحاجة، فحك بسوطه الأرض فأخرج منها سبيكة فيها نحو الخمسمائة دينار، فقال: «خذها يا أبا هاشم و أعذرنا»(1).

ودخل أبو عمرو عثمان بن سعيد، وأحمد بن إسحاق الأشعري، وعلي بن جعفر الهمداني على أبي الحسن العسكري (عليه السلام)، فشكا إليه أحمد بن إسحاق دَيناً عليه. فقال: «يا أبا عمرو - وكان وكيله - ادفع إليه ثلاثين ألف دينار، وإلى علي بن جعفر ثلاثين ألف دينار، وخذ أنت ثلاثين ألف دينار»، فهذه معجزة لا يقدر عليها إلا الملوك، وما سمعنا بمثل هذا العطاء(2).

وقال محمد بن عبد الله البكري: قدمت المدينة أطلب بها دَيناً فأعياني.فقلت: لو ذهبت إلى أبي الحسن موسى (عليه السلام) وشكوت إليه، فأتيته بنعمي في ضيعته، فخرج إليَّ ومعه غلام معه منسف فيه قديد مجزع ليس معه غيره، فأكل وأكلت معه، ثم سألني عن حاجتي، فذكرت له قصتي، فدخل فلم يقم إلا يسيراً حتى خرج إليَّ فقال لغلامه: «اذهب فمد يده إليَّ», فدفع صرة فيها ثلاثمائة دينار ثم قام فولى، فقمت فركبت دابتي و انصرفت(3).

وعن إسحاق بن إبراهيم بن يعقوب، قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) وعنده المعلى بن خنيس إذ دخل عليه رجل من أهل خراسان. فقال: يا ابن رسول الله، أنا من مواليكم أهل البيت تعرف موالاتي إياكم، وبيني وبينكم شقة بعيدة، وقد قلّ ذات يدي ولا أقدر أن أتوجه إلى أهلي إلاّ أن تعينني. قال: فنظر

ص: 510


1- الإرشاد: ج2 ص328-329 باب ذكر طرف من أخبار أبي محمد (علیه السلام) ومناقبه وآياته ومعجزاته.
2- المناقب: ج4 ص409 فصل في معجزاته (علیه السلام).
3- دلائل الإمامة: ص150 ذكر ولده (علیه السلام).

..............................

أبو عبد الله (عليه السلام) يميناً وشمالاً وقال: «ألا تسمعون ما يقول أخوكم، إنما المعروف ابتداءً، فأما ما أعطيت بعد ما سأل فإنما هو مكافأة لما بذل لك من وجهه - ثم قال - فيبيت ليلة متأرقاً متململاً بين اليأس والرجاء لا يدري أين يتوجهبحاجته، فيعزم على القصد إليك فأتاك وقلبه يجب وفرائصه ترتعد، وقد نزل دمه في وجهه وبعد هذا فلا يدري أينصرف من عندك بكآبة الرد أم بسرور النجح، فإن أعطيته رأيت أنك قد وصلته، وقد قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لما يتجشم من مسألته إياك أعظم مما ناله من معروفك». قال: فجمعوا للخراساني خمسة آلاف درهم(1).

وعن اليسع بن حمزة، قال: كنت في مجلس أبي الحسن الرضا(عليه السلام) أحدثه وقد اجتمع إليه خلق كثير يسألونه عن الحلال والحرام، إذ دخل عليه رجل طوال آدم. فقال: السلام عليك يا ابن رسول الله، رجل من محبيك ومحبي آبائك وأجدادك، مصدري من الحج وقد افتقدت نفقتي وما معي ما أبلغ به مرحلة، فإن رأيت أن تنهضني إلى بلدي، ولله عليَّ نعمة فإذا بلغت بلدي تصدقت بالذي توليني عنك فلست بموضع صدقة. فقال له: «اجلس رحمك الله»، وأقبل على الناس يحدثهم حتى تفرقوا وبقي هو وسليمان الجعفري وخيثمة وأنا. فقال: «أتأذنون لي في الدخول». فقال له سليمان: قدم الله أمرك. فقام ودخل الحجرة وبقي ساعة ثم خرج ورد البابوأخرج يده من أعلى الباب، وقال: «أين الخراساني؟». فقال: ها أنا ذا. فقال: «خذ هذه المائتي دينار فاستعن بها في مئونتك ونفقتك وتبرك بها، ولا تصدق بها عني واخرج فلا أراك ولاتراني».

ص: 511


1- مستدرك الوسائل: ج7 ص: 236 ب36 ح8126.

..............................

ثم خرج (عليه السلام) فقال سليمان: جعلت فداك، لقد أجزلت ورحمت فلماذا سترت وجهك عنه؟. فقال:«مخافة أن أرى ذل السؤال في وجهه لقضائي حاجته، أما سمعت حديث رسول الله (صلی الله علیه و آله): المستتر بالحسنة تعدل سبعين حجة، والمذيع بالسيئة مخذول والمستتر بها مغفور له.

أما سمعت قول الأول:

متى آته يوماً أطالب حاجة *** رجعت إلى أهلي ووجهي بمائه(1)

وعن الحارث الهمداني، قال: سامرت أمير المؤمنين (عليه السلام). فقلت: يا أمير المؤمنين، عرضت لي حاجة. قال: «فرأيتني لها أهلاً؟».

قلت: نعم يا أمير المؤمنين.

قال: «جزاك الله عني خيراً».

ثم قام إلى السراج فأغشاها وجلس ثم قال: «إنما أغشيت السراج لئلا أرىذل حاجتك في وجهك فتكلم؛ فإني سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: الحوائج أمانة من الله في صدور العباد فمن كتمها كتب له عبادة، ومن أفشاها كان حقاً على من سمعها أن يعينه»(2).

ص: 512


1- وسائل الشيعة: ج9 ص456-457 ب39 ح12489.
2- بحار الأنوار: ج41 ص36 ب102 ح13.

وعدواي إلى ربي

اشارة

-------------------------------------------

تهديد الظالم

مسألتان: ينبغي تهديد الظالم برفع أمره إلى الله عزوجل، كما ينبغي - في مرحلة الثبوت - إيكال الأمر إليه تعالى وإحالة الانتقام من العدو عليه.

قولها (علیها السلام): «عدواي إلى ربي»، أي: أسأل الله أن يقاضي عدوي وأن يجزيه بالعدوان عدواناً.

ويسمى جزاء التعدي بالتعدي للمشاكلة، كما قال سبحانه: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ (1) ، وهو من أبواب البلاغة، وفي القرآن الحكيم أيضاً عن لسان عيسى (عليه الصلاة والسلام): تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ (2) وقوله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ (3) إلى غير ذلك من أمثلة المشاكلة.

وفي اللغة (العدوى): طلبك إلى والٍليعديك على من ظلمك أي ينتقم منه(4).

فالمشتكى إليه هو رسول الله (صلی الله علیه و آله) والذي يطلب منه الفصل أخيراً وعقوبة المعتدي هو الله سبحانه وتعالى. فهي (صلوات الله عليها) تقول: إني أذهب بشكواي إلى أبي (صلی الله علیه و آله) وأطلب من الله سبحانه وتعالى أن يرد تعديهم عليَّ.

ص: 513


1- سورة البقرة: 194.
2- سورة المائدة: 116.
3- سورة الشورى: 40.
4- لسان العرب: ج15 ص39 مادة (عدو).

..............................

شكوى الأنبياء

مسألة: ينبغي بيان أن الصديقة الطاهرة (علیها السلام) قد اشتكت من القوم إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وطلبت من الله عزوجل أن ينتقم منهم من تلك المظلمة التي ظلموها بها. وهذه هي سيرة الأولياء والأنبياء (علیهم السلام) ، وهناك آيات عديدة وروايات كثيرة في شكوى الأنبياء (علیهم السلام) إلى الله من قومهم وطلب نزول العذاب عليهم: قال تعالى: قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَ نَهَاراً (علیهم السلام) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِراراً (علیهم السلام) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً (علیهمالسلام) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً (علیهم السلام) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً (1).

وقال سبحانه: قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً (علیهم السلام) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (2).

وقال تعالى: وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً (علیهم السلام) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً (علیهم السلام) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (3).

وقال سبحانه: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (4).

ص: 514


1- سورة نوح: 5-9.
2- سورة نوح: 21-22.
3- سورة نوح: 26-28.
4- سورة الفرقان: 30.

..............................

وقال تعالى: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (علیهم السلام) فَاسْتَجَبْنَا له فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْرَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرى لِلْعَابِدِينَ (1).

وقال سبحانه: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (علیهم السلام) فَاسْتَجَبْنَا له وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (علیهم السلام) وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (علیهم السلام) فَاسْتَجَبْنَا له وَوَهَبْنَا له يَحْيى وَأَصْلَحْنَا له زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَ يَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (2).

وقال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (3).

وفي البحار: قال رسول الله » لابنته فاطمة (علیها السلام): «يا بنية أنت المظلومة بعدي، وأنت المستضعفة بعدي، فمن آذاك فقد آذاني، ومن غاظك فقد غاظني، ومن سرك فقد سرني، ومن برّك فقد برني، ومن جفاك فقد جفاني، ومن وصلك فقد وصلني، ومن قطعك فقد قطعني، ومن أنصفك فقد أنصفني، ومن ظلمك فقدظلمني، لأنك مني وأنا منك، وأنت بضعة مني وروحي التي بين جنبي، ثم قال »: إلى الله أشكو ظالميك من أمتي»(4).

ص: 515


1- سورة الأنبياء: 83-84.
2- سورة الأنبياء: 87-90.
3- سورة البقرة: 214.
4- بحار الأنوار: ج28 ص76 ب2 ح34.

اللهم إنك أشد منهم قوة وحولاً، وأشد بأساً وتنكيلاً

اشارة

-------------------------------------------

وقال ابن عباس: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من سره أن يحيا حياتي، ويموت ميتتي، ويدخل جنة عدن منزلي، قصباً غرسه ربي عزوجل ثم قال له: كن فكان، فليتول علي بن أبي طالب ولياً، ثم بالأوصياء من ولده؛ فإنهم عترتي خلقوا من طينتي، إلى الله أشكو أعداءهم من أمتي، المنكرين لفضلهم، القاطعين فيهم صلتي، وايم الله ليقتلن بعدي ابني الحسين لا أنالهم الله شفاعتي»(1).

اللهم إنك أشد منهم قوة وحولاً، وأشد بأساً وتنكيلاً

الاستنجاد بالله

مسائل: يجب الاستنجاد بالله عزوجلكما استنجدت الصديقة (علیها السلام)، ويجب إيكال الأمر إليه كما فعلت (علیها السلام)، وينبغي الإعلان عن ذلك والجهر به كما صنعت (علیها السلام).

والقوة: عبارة عن القدرة التي يفعل الله سبحانه وتعالى بها ما يشاء.

والحول: عبارة عن تحويله الحال إلى حال آخر، من حسن إلى أحسن، ومن حسن إلى حسن آخر(2)، ومن حسن إلى سيئ، ومن الأحسن إلى الحسن أو السيئ، وكذلك من جانب السوء.

ص: 516


1- روضة الواعظين: ج1 ص101 مجلس في ذكر الإمامة وإمامة علي ابن أبي طالب وأولاده (صلوات الله عليهم أجمعين).
2- كفردي كلي حسن متساويين في الحسن مختلفين في المصداق.

..............................

والبأس: العذاب ونحو العذاب كالخوف الشديد، وربما كان بمعنى العذاب الشديد أيضاً(1). قال سبحانه: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا (2). أي شدة عذابنا. وقال عزوجل:ƒوَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (3).

وقال تعالى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْيَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ (4). وقال سبحانه: أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (5).

وقال عزوجل: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (6).

وقال سبحانه: فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (7).

وقال تعالى: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (8).

والتنكيل: العقوبة بما يظهر أثره، فإنه يسمى قطع الأنف والأذن وما أشبه بالتنكيل. وفي اللغة: تنكيل المولى بعبده بأن يجدع أنفه أو يقطع أذنه ونحو ذلك(9).

ص: 517


1- انظر لسان العرب: ج6 ص20 مادة (بأس).
2- سورة غافر: 84.
3- سورة الأعراف: 4.
4- سورة الأعراف: 97
5- سورة الأعراف: 98.
6- سورة يوسف: 110.
7- سورة الأنبياء: 12.
8- سورة غافر: 85.
9- مجمع البحرين: ج5 ص486 مادة (نكل).

..............................

وهذا (1) من باب ضيق اللفظ، وإلاّ فلا تقاس نسبة حول الله وقوته وبأسه وتنكيله بالإنسان إلاّ قياساً يعدّ أبعد من البعيد حتى أضحى كالمجاز مثل قوله: هُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (2) وهو أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (3) أو ما أشبه ذلك.

وكأنها (صلوات الله عليها) توجهت في قولها هذا إلى الله سبحانه وتعالى قائلة - في خضوع ودعاء وتضرع - أنت القوي في أخذ حقي ولا قوة أقوى من قوتك، وأنت القادر على تحويل الحال من هذا الحال السيئ إلى الحسن، فكلامها تضرع لله واستنجاد به ودعاء على القوم. وفي بعض النسخ : «وأحدّ بأساً وتنكيلاً» أي: إن بأسك حاد ونافذ كالسكين الحاد الذي ينفذ في اللحم.

لماذا لم يحوّل الله الحال؟

لا يقال: لماذا لم يحوّل سبحانه وتعالى الحال ولم ينتقم من القوم، رغم أنه جل وعلا أشد منهم حولاً وقوة وأحد باساً وتنكيلاً؟.

إذ يقال: أولاً: الدنيا دار ابتلاء وامتحان، ولذلك جرى على الأنبياءوالأوصياء والصالحين (علیهم السلام) ما جرى من الظلم والتعدي حتى وصل الأمر في كثير منهم إلى التعذيب والتنكيل والقتل، والتغيير الإعجازي خلاف فلسفة الامتحان والإمهال(4) والإمداد(5)، إلا فيما خرج بالدليل.

ص: 518


1- أي قولها (علیها السلام): «اللهم إنك أشد منهم قوة وحولاً، وأشد بأساً وتنكيلاً».
2- سورة المؤمنون: 72، سورة سبأ: 39.
3- سورة المؤمنون: 14، سورة الصافات: 125.
4- إشارة إلى (إن الله يمهل ولا يهمل) كما ورد.
5- إشارة إلى قوله تعالى:«كُلاًّ نُمِدُّ» سورة الإسراء: 20.

..............................

وثانياً: إن استجابة الله لدعائها (علیها السلام) هي كما في قوله: «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ»(1)، وقد فسر ذلك في بعض الأحاديث بزمن ظهور خاتم الأوصياء الحجة المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف)(2).

وثالثاً: ما ذكرناه في مواضع من (الفقه) من أن عقوبة الله - في الدنيا قبل الآخرة وقبل الظهور - تتجلى في العديد من المحاكم منها: محكمة البدن، ومحكمة النفس، ومحكمةالاجتماع، ومحكمة التاريخ، ومحكمة الطبيعة(3)، وما أشبه، وقد حصلت هذه العقوبات وستحصل في مراتب أشد وأكثر.

وفي مستدرك الوسائل: عن الشيخ الكفعمي في (مصباحه)، عن النعماني في كتاب (دفع الهموم والأحزان)، عن علي (عليه السلام):

«أنه من ظُلم ولم يرجع ظالمه عنه فليفضّ الماء على نفسه، ويسبغ الوضوء ويصلي ركعتين، ويقول:

اللَّهُمَّ إِنَّ فُلاَنَ بْنَ فُلاَنٍ ظَلَمَنِي وَاعْتَدَى عَلَيَّ، وَنَصَبَ لِي وَأَمَضَّنِي وَأَرْمَضَنِي، وَأَذَلَّنِي وَأَخْلَقَنِي، اللَّهُمَّ فَكِلْهُ إِلَى نَفْسِهِ، وَهُدَّ رُكْنَهُ، وَعَجِّلْ جَائِحَتَهُ، وَاسْلُبْهُ نِعْمَتَكَ عِنْدَهُ، وَاقْطَعْ رِزْقَهُ، وَابْتُرْ عُمُرَهُ، وَامْحُ أَثَرَهُ، وَسَلِّطْ عَلَيْهِ عَدُوَّهُ، وَخُذْهُ فِي مَأْمَنِهِ كَمَا ظَلَمَنِي وَاعْتَدَى عَلَيَّ، وَنَصَبَ لِي وَأَمَضَّ وَأَرْمَضَ، وَأَذَلَّ وَأَخْلَقَ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَعْدِيكَ عَلَى فُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ فَأَعِدْنِي، فَإِنَّكَ

ص: 519


1- سورة غافر: 51.
2- راجع العمدة: ص428-429 فصل في ذكر ما جاء في المهدي (علیه السلام) من متون الصحاح الستة ح897.
3- كما في لعن كثير من الموجودات (من الجمادات والحيوانات والملائكة) لهم، وغير ذلك مما نعلمه وما لا نعلمه.

فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): لا ويل لكِ، بل الويل لشانئكِ

اشارة

-------------------------------------------

أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً؛ فَإِنَّهُ لاَ يُمْهَلُ إِنْشَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلاثاً»(1).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إن الله تعالى يُمهل الظالم حتى يقول: أهملني، ثم إذا أخذه أخذه أخذة رابية»(2).

فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): لا ويل لكِ، بل الويل لشانئكِ

تسلية المظلوم

مسألة: يستحب تسلية(3) المظلوم والتخفيف عن آلامه والتفريج عنه، فإنها من مصاديقه، وتفريج كربة المكروب من أفضل القربات.

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من أكرم أخاه المسلم بكلمة يلطفه بها وفرج عنه كربته لم يزل في ظل الله الممدود عليه الرحمة ما كان في ذلك»(4).وفي الحديث: «من عزى مصاباً فله مثل أجره، ومن عزى ثكلى كُسِيَ بُرداً في الجنة»(5).

ص: 520


1- مستدرك الوسائل: ج6 ص298 ب11 ح6868.
2- كنز الفوائد: ج1 ص135 فصل مما ورد في ذكر الظلم.
3- سلاّه عن همّه: أي أزال همه وغمه، وسلّى يسلِّي تسليةً فلاناً عن كذا: أي أنساه ذلك المصاب أو الهم وصرف فكره عنه أو طيب نفسه.
4- الكافي: ج2 ص206 باب في إلطاف المؤمن وإكرامه ح5.
5- راجع مستدرك الوسائل: ج2 ص348 ب40 ح2161 وفيه: وسئل النبي (صلی الله علیه و آله) عن التصافح في التعزية؟. فقال: «هو سكن للمؤمن، ومن عزى مصاباً فله مثل أجره». وفي ح2163 قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من عزى ثكلى كسي برداً في الجنة».

..............................

وعن أبي عبد الله (عليه السلام): «من عزى أخاه المؤمن كسي في الموقف حلة»(1).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من عزى مصاباً كان له مثل أجره من غير أن ينقصه الله من أجره شيئاً»(2).

وقال النبي (صلی الله علیه و آله): «من عزى أخاه المؤمن من مصيبة كساه الله عزوجل حلة خضراء يحبر بها يوم القيامة». قيل: يا رسول الله، ما يحبر بها؟. قال: «يغبط بها»(3).

وروي: «أن إبراهيم (عليه السلام) سأل ربه قال: يا رب، فما جزاء من يصبّر الحزين ابتغاء وجهك؟. قال: أكسوه ثوباً منالإيمان يتبوأ بها في الجنة، ويتقى بها من النار»(4).

وروي: «أن داود (عليه السلام) قال: إلهي ما جزاء من يعزّي الحزين على المصاب ابتغاء مرضاتك؟. قال: جزاؤه أن أكسوه رداءً من أردية الإيمان أستره به من النار»(5).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «التعزية تورث الجنة»(6).

وروي أنه: «من عزى حزيناً كسي في الموقف حلة يحبر بها»(7).

ص: 521


1- مستدرك الوسائل: ج2 ص348 ب40 ح2158.
2- مسكن الفؤاد: ص115 وأما الخاتمة.
3- بحار الأنوار: ج79 ص94 ب16 ضمن ح46.
4- مسكن الفؤاد: ص117 وأما الخاتمة.
5- مستدرك الوسائل: ج2 ص349 ب40 ح2165.
6- من لا يحضره الفقيه: ج1 ص174 باب التعزية والجزع عند المصيبة ح507.
7- مستدرك الوسائل: ج2 ص350 ب40 ح2169.

..............................

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «من عزى الثكلى أظله الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله»(1).

إلى غير ذلك من الروايات الواردة في باب التسلية والتعزية.

وفي الحديث القدسي قال الله عزوجل:«إني تطولت على عبادي بثلاث: ألقيت عليهم الريح بعد الروح ولولا ذلك ما دفن حميم حميماً، وألقيت عليهم السلوة بعد المصيبة ولولا ذلك لم يتهن أحد منهم بعيشه، وخلقت هذه الدابة وسلطتها على الحنطة والشعير ولولا ذلك لكنزهما ملوكهم كما يكنزون الذهب والفضة»(2).

تسلية المريض والمهموم

مسألة: تسلية المتألم نفسياً، والمتألم جسدياً - كتسلية المظلوم - مستحبة، ومن مصاديقها عيادته والدعاء له؛ فإن إطلاق قوله (صلی الله علیه و آله): «من سلى (عزى) مصاباً له مثل أجره»(3) السابق الذكر كما يشمل المظلوم يشمل غيره، ويعمّ كل (مصاب) ب- (ظلم) أو (مرض) أو (فقر) أو (فقد عزيز) أو ما أشبه ذلك.

والصديقة الزهراء (علیها السلام) كانت مظلومة ومضطهدة ومتألمة نفسياً وجسدياً لشدة ما جرى عليها من المصائب ف- «ما زالت بعد أبيها رسول الله (صلی الله علیه و آله) معصبة الرأس، ناحلة الجسم، يُغشى عليها ساعة بعدساعة»(4).

ص: 522


1- الكافي: ج3 ص227 باب ثواب التعزية ح3.
2- الخصال: ج1 ص112 تطول الله عزوجل على عباده بثلاث ح87.
3- الكافي: ج3 ص205 باب ثواب من عزى حزيناً ح2.
4- المناقب: ج3 ص362 فصل في وفاتها وزيارتها (علیها السلام).

..............................

عن جعفر بن يحيى الخزاعي، عن أبيه، قال: دخلت مع أبي عبد الله (عليه السلام) على بعض مواليه يعوده، فرأيت الرجل يكثر من قول: آه. فقلت له: يا أخي، اذكر ربك واستغث به. فقال أبو عبد الله (عليه السلام): «آه اسم من أسماء الله، فمن قال: آه، استغاث بالله عزوجل»(1).

وعن محمد بن المنكدر، قال: مرض عون بن عبد الله بن مسعود فأتيته أعوده. فقال: أفلا أحدثك بحديث عن عبد الله بن مسعود؟. قال: بلى. قال: قال عبد الله: بينا نحن عند رسول الله (صلی الله علیه و آله) إذ تبسم. فقلت: ما لك يا رسول الله تبسمت؟. قال: «عجبت من المؤمن وجزعه من السقم، ولو يعلم ما له في السقم من الثواب لأحب أن لا يزال سقيماً حتى يلقى ربه عزوجل»(2).

وعن الأرقط - وهو ابن أخت أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) - قال: مرضت مرضاً شديداًوأرسلت أمي إلى خالي، فجاء وأمي خارجة في باب البيت - وهي أم سلمة بنت محمد بن علي - وهي تقول: وا شباباه. فرآها خالي فقال: «ضمي عليكِ ثيابكِ ثم ارقي فوق البيت، ثم اكشفي قناعكِ حتى تبرزي شعركِ إلى السماء ثم قولي: ربِ أنت أعطيتنيه وأنت وهبته لي، اللهم فاجعل هبتك اليوم جديدة إنك قادر مقتدر، ثم اسجدي فإنكِ لا ترفعين رأسكِ حتى يبرأ ابنكِ». فسمعت ذلك وفعلته، قال: فقمت من ساعتي فخرجت مع خالي إلى المسجد»(3).

وروي: أن صفوان بن يحيى قال: قال لي العبدي: قالت أهلي: قد طال

ص: 523


1- بحار الأنوار: ج78 ص202 ب2 ح3.
2- الأمالي للصدوق: ص501 المجلس الخامس والسبعون ح14.
3- طب الأئمة (علیهم السلام): ص122 دعاء الوالدة للولد من فوق البيت.

..............................

عهدنا بالصادق (عليه السلام)، فلو حججنا وجددنا به العهد. فقلت لها: والله ما عندي شيء أحج به. فقالت: عندنا كسو وحلي فبع ذلك وتجهز به. ففعلت فلما صرنا قرب المدينة مرضت مرضاً شديداً وأشرفت على الموت، فلما دخلنا المدينة خرجت من عندها وأنا آيس منها، فأتيت الصادق (عليه السلام) وعليه ثوبان ممصران، فسلمت عليه فأجابني وسألني عنها، فعرفته خبرهاوقلت: إني خرجت وقد أيست منها، فأطرق ملياً ثم قال: «يا عبدي، أنت حزين بسببها؟». قلت: نعم. قال: «لا بأس عليها، فقد دعوت الله لها بالعافية، فارجع إليها فإنك تجدها قاعدة والخادمة تلقمها الطبرزد». قال: فرجعت إليها مبادراً فوجدتها قد أفاقت وهي قاعدة والخادمة تلقمها الطبرزد. فقلت: ما حالكِ؟. قالت: قد صب الله عليَّ العافية صباً وقد اشتهيت هذا السكر. فقلت: خرجت من عندك آيساً، فسألني الصادق عنكِ فأخبرته بحالكِ، فقال: لا بأس عليها ارجع إليها فهي تأكل السكر. قالت: خرجت من عندي وأنا أجود بنفسي، فدخل عليَّ رجل عليه ثوبان ممصران، قال: ما لكِ؟. قلت: أنا ميتة وهذا ملك الموت قد جاء يقبض روحي. فقال: يا ملك الموت. قال: لبيك أيها الإمام. قال: ألست أُمرت بالسمع والطاعة لنا؟. قال: بلى. قال: فإني آمرك أن تؤخر أمرها عشرين سنة. قال: السمع والطاعة. قالت: فخرج هو وملك الموت فأفقت من ساعتي»(1).

وعن أبي يحيى، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «تمام العيادة أن تضع يدك علىالمريض إذا دخلت عليه»(2).

ص: 524


1- بحار الأنوار: ج47 ص115-116 ب5 ح152.
2- وسائل الشيعة: ج2 ص426 ب16 ح2546.

..............................

وعن موسى بن القاسم، قال: حدثني أبو زيد، قال: أخبرني مولى لجعفر بن محمد (عليه السلام)، قال: مرض بعض مواليه فخرجنا إليه نعوده ونحن عدة من موالي جعفر، فاستقبلنا جعفر (عليه السلام) في بعض الطريق، فقال لنا: «أين تريدون؟» فقلنا: نريد فلاناً نعوده. فقال لنا: «قفوا». فوقفنا، فقال: «مع أحدكم تفَاحة، أو سفرجلة، أو أترجة، أو لعقة من طيب، أو قطعة من عود بخور؟». فقلنا: ما معنا شيء من هذا. فقال: «أما تعلمون أن المريض يستريح إلى كل ما أدخل به عليه»(1).

وعن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: إن من أعظم العواد أجراً عند الله لمن إذا عاد أخاه خفف الجلوس إلا أن يكون المريض يحب ذلك ويريده ويسأله ذلك - وقال - من تمام العيادة أن يضع العائد إحدى يديه على الأخرى أو علىجبهته»(2).

تسلية الزوج زوجته

مسألة: يستحب أن يُسَلّي الزوج زوجته عند المصاب، وذلك من مصاديق المعاشرة بالمعروف المأمور به في الكتاب الكريم(3)، وهي بين واجب ومستحب كما ذكرناه في (الفقه)(4).

ولا يخفى أن اجتماع عنوانين مرجحين بل العناوين المرجحة سبب لآكدية

ص: 525


1- الكافي: ج3 ص118 باب في كم يعاد المريض وقدر ما يجلس ح3.
2- وسائل الشيعة: ج2 ص425-426 ب15 ح2544.
3- قال تعالى: «وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ»، سوة النساء: 19.
4- راجع (الفقه: النكاح) و(الفقه: الواجبات والمحرمات).

..............................

الطلب ولزيادة الثواب، كعكسه أيضاً(1)، فكونه مصاباً سبب لاستحباب تسليته، فإذا كان المصاب رحماً أو زوجةً تأكد الاستحباب وزاد الثواب لقوله عزوجل: وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ (2)، وقوله سبحانه: هُنَّلِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ (3)، إلى غير ذلك مما يدل على هذه الأولوية في جميع الأبواب.

والصديقة فاطمة (علیها السلام) قد جمعت إلى كل ما سبق كونها بضعة الرسول (صلی الله علیه و آله)، وأم الأئمة النجباء (علیهم السلام)، وسيدة نساء العالمين، والحجة على أهل العالمين بما فيهم أبناؤها الهداة حتى الإمام القائم (عجل الله فرجه الشريف)، كما ورد في الحديث عن العسكري (عليه السلام) (4).

قوله (عليه السلام): «لا ويل لكِ» فإنه لا منافاة بين قول الزهراء (علیها السلام) وقول الإمام علي (عليه السلام) إذ قولها على سبيل المجاز والظاهر، وقوله على سبيل الواقع والحقيقة.

الدعاء على أعداء آل البيت (علیهم السلام)

مسألتان: الدعاء على العدو والظالم جائز، بما(5) يجوز، أما الدعاء بغيرهفمرجوح أو محرم(6).

ص: 526


1- أي إن اجتماع عنوانين أو عناوين مرجوحة سبب لآكدية النهي وأشدية العقاب.
2- سورة الأنفال: 75، سورة الأحزاب: 6.
3- سورة البقرة: 187.
4- قال الإمام الحسن العسكري (علیه السلام): «وأمنا فاطمة حجة علينا». يذكر النص؟؟؟
5- متعلق بالدعاء.
6- كأن يدعو عليه بإيقاع أهله في الحرام، أو إيقاعه هو في الحرام كالزنا، أو ما أشبه.

..............................

أما الدعاء على أعداء أهل البيت (علیهم السلام) بالويل والثبور واللعن وشبه ذلك فهو من أعظم القربات إلى الله تعالى وهو بين مستحب وواجب، ويدل عليه الآيات والروايات المتواترة الآمرة باللعن أو الناطقة به، ومنها دعاء أمير المؤمنين (عليه السلام) عليهم هنا حيث قال: «بل الويل لشانئكِ»، والظاهر أنه إنشاء..

ويحتمل كونه إخباراً بأن البؤس والهلاك الحقيقي والشقاء على أعدائها (صلوات الله عليها).

ثم إن إثبات كون الويل للشانئ لا ينفي كونه أيضاً لغير المحب وغير الموالي العارف بهم أو المقصر في معرفتهم، فإن البؤس والشقاء لمن لم يعرف الحق وأهله وإن لم يبغضهم وقد فصلنا الحديث عن ذلك في موضع آخر.

قال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً»(1) وإيذاء أهل البيتإيذاء له (صلی الله علیه و آله).

وقال عزوجل: «ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ»(2).

وقال سبحانه: «أُولئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»(3). وقال تعالى: «أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ»(4).

وقال سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ»(5).

ص: 527


1- سورة الأحزاب: 57.
2- سورة آل عمران: 61.
3- سورة آل عمران: 87.
4- سورة هود: 18.
5- سورة البقرة: 159.

..............................

إلى غيرها مما نزل في أعداء أهل البيت (علیهم السلام) أو كانوا من أبرز مصاديقها، أي كان اللعن على من ظلمهم أو كذبهم أو آذاهم من أبرز المصاديق.

عن النبي (صلی الله علیه و آله): «تصلي ليلة عاشوراء أربع ركعات في كل ركعة الحمد مرةً وƒقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)خمسين مرةً، فإذا سلمت من الرابعة فأكثر ذكر الله تعالى، والصلاة على رسوله، واللعن لأعدائهم ما استطعت»(2).

وعن ذريح المحاربي، قال: قال له الحارث بن المغيرة النصري - أي لأبي عبد الله (عليه السلام) -: إن أبا معقل المزني حدثني عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه صلى بالناس المغرب فقنت في الركعة الثانية، فلعن معاوية وعمرو بن العاص وأبا موسى الأشعري وأبا الأعور السلمي؟. قال الشيخ (عليه السلام): «صدق فالعنهم»(3).

وعن عبد الله بن معقل عن علي (عليه السلام): أنه قنت في الصبح فلعن معاوية، وعمرو بن العاص، وأبا موسى، وأبا الأعور، وأصحابهم(4).

وروي: أن النبي (صلی الله علیه و آله) قنت في الصبح ودعا على جماعة وسماهم(5).

وقال الصادق (عليه السلام): «طوبى للذين هم كما قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله،ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين. فقال له رجل: يا ابن رسول الله، إني عاجز ببدني عن نصرتكم، ولست أملك إلا البراءة من أعدائكم واللعن عليهم، فكيف حالي؟

ص: 528


1- سورة الإخلاص.
2- وسائل الشيعة: ج8 ص182 ب50 ح10370.
3- مستدرك الوسائل: ج4 ص410 ب10 ح5035.
4- الأمالي للطوسي: ص725 مجلس43 ح1525.
5- عوالي اللآلي: ج2 ص43 ب1 المسلك الرابع ح107.

..............................

فقال له الصادق (عليه السلام): «حدثني أبي عن أبيه عن جده (علیهم السلام) عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنه قال: من ضعف عن نصرتنا أهل البيت فلعن في خلواته أعداءنا، بلغ الله صوته جميع الأملاك من الثرى إلى العرش، فكلما لعن هذا الرجل أعداءنا لعناً ساعدوه فلعنوا من يلعنه ثم ثنوا فقالوا: اللهم صل على عبدك هذا الذي قد بذل ما في وسعه، ولو قدر على أكثر منه لفعل، فإذا النداء من قبل الله تعالى: قد أجبت دعاءكم، وسمعت نداءكم، وصليت على روحه في الأرواح، وجعلته عندي من المصطفين الأخيار»(1).

وقال الشهيد في (الذكرى): يجوز الدعاء فيه للمؤمنين بأسمائهم والدعاء على الكفرة والمنافقين؛ لأن النبي (صلی الله علیه و آله) دعا فيقنوته لقوم بأعيانهم وعلى آخرين بأعيانهم، كما روي أنه (صلی الله علیه و آله) قال: «اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين، واشدد وطأتك على مضر ورعل وذكوان»(2).

وفي تفسير الإمام العسكري (عليه السلام): «إن أشرف أعمالهم - أي المؤمنين - في مراتبهم التي قد رتبوا فيها من الثرى إلى العرش: الصلاة على محمد وآله الطيبين، واستدعاء رحمة الله ورضوانه لشيعتهم المتقين، واللعن للمتابعين لأعدائهم المجاهرين والمنافقين»(3).

وروي عنهم (علیهم السلام)، قال: «إذا أتيت قبر علي بن موسى (عليه السلام) بطوس فاغتسل ... والبس أطهر ثيابك وامش حافياً وعليك السكينة والوقار بالتكبير

ص: 529


1- تفسير الإمام العسكري (علیه السلام): ص47 ص21 أعظم الطاعات.
2- مستدرك الوسائل: ج4 ص41 ب10 ح5038.
3- تفسير الإمام العسكري (علیه السلام): ص591 في عقاب من كتم شيئاً من فضائلهم (علیهم السلام) ح353.

..............................

والتهليل والتسبيح والتمجيد وقصّر خطاك - إلى أن قال: - ابتهل في اللعن على قاتل أمير المؤمنين (عليه السلام) وعلى قتلة الحسن والحسين (علیهما السلام) وعلىجميع قتلة أهل بيت رسول الله (صلی الله علیه و آله) »(1).

الويل لأعداء فاطمة (علیها السلام)

مسألة: يجب الاعتقاد بأن الويل لأعداء الصديقة الطاهرة (علیها السلام) ومبغضيها، كما يلزم بيان ذلك للناس، وهو فرع من فروع الإيمان بالله ورسوله(2)، قال تعالى: «أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ له نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ»(3) فإن محادتها (علیها السلام) محادة لله ورسوله (صلی الله علیه و آله) للحديث النبوي المجمع عليه بين الشيعة والسنة: «إن الله يرضى لرضى فاطمة ويغضب لغضبها»(4)، و«من أذاها فقد أذاني ومن أذاني فقد أذى الله»(5)، وكما قال أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام): «الويل لشانئكِ» أي لمبغضكِ؛ فإن الويلالحقيقي هو ويل الدنيا والآخرة حيث العقاب فيهما للإنسان الذي يبغض أهل البيت (علیهم السلام) ويتعدى على حقهم (علیهم السلام).

عن سديف المكي، قال: حدثني محمد بن علي الباقر (عليه السلام) - وما رأيت محمدياً قط يعدله - قال:حدثنا جابر بن عبد الله الأنصاري،قال:خطبنا رسول الله

ص: 530


1- مستدرك الوسائل: ج10 ص361 ب68 ح12185.
2- فإن الإيمان يتقوم بالتولي لأولياء الله والتبري من أعداء الله.
3- سورة التوبة: 63.
4- راجع الاحتجاج: ج2 ص354 احتجاج أبي عبد الله الصادق (علیه السلام) في أنواع شتى من العلوم الدينية على أصناف كثيرة من أهل الملل والديانات.
5- شرح نهج البلاغة: ج16 ص273 ف3.

..............................

(صلی الله علیه و آله) فقال: «أيها الناس، من أبغضنا أهل البيت بعثه الله يوم القيامة يهودياً». قال: قلت: يا رسول الله، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم؟. فقال: «وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم»(1).

وعن محمد بن مروان، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من أبغضنا أهل البيت بعثه الله عزوجل يهودياً. قيل: يا رسول الله (صلی الله علیه و آله) وإن شهد الشهادتين؟. قال: قال: نعم، إنما احتجب بهاتين الكلمتين عند سفك دمه، أو يؤدي إليّ الجزية وهو صاغر - ثم قال: - من أبغضنا أهل البيت بعثه الله يهودياً. قيل: وكيف يا رسول الله؟. قال:إن أدرك الدجال آمن به»(2).

عن ابن عباس، قال: قلت للنبي (صلی الله علیه و آله): أوصني. قال: «عليك بمودة علي بن أبي طالب (عليه السلام)، والذي بعثني بالحق نبياً لا يقبل الله من عبد حسنة حتى يسأله عن حب علي بن أبي طالب (عليه السلام) وهو تعالى أعلم؛ فإن جاءه بولايته قبل عمله على ما كان منه، وإن لم يأت بولايته لم يسأله عن شيء ثم أمر به إلى النار. يا ابن عباس، والذي بعثني بالحق نبياً إن النار لأشدّ غضباً على مبغض علي (عليه السلام) منها على من زعم أن لله ولداً. يا ابن عباس، لو أن الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين اجتمعوا على بغضه ولن يفعلوا لعذبهم الله بالنار». قلت: يا رسول الله، وهل يبغضه أحد؟. قال: «يا ابن عباس، نعم يبغضه قوم يذكرون أنهم من أمتي لم يجعل الله لهم في الإسلام نصيباً. يا ابن عباس، إن من علامة بغضهم له تفضيلهم من هو دونه عليه، والذي بعثني بالحق ما بعث الله نبياً أكرم عليه مني ولا أوصياء أكرم عليه من وصيي علي». قال ابن عباس: فلم

ص: 531


1- ثواب الأعمال: ص204 عقاب من أبغض أهل البيت (علیهم السلام).
2- بحار الأنوار: ج27 ص218 ب10 ح1.

..............................

أزل له كما أمرني رسول الله (صلی اللهعلیه و آله) وأوصاني بمودته وإنه لأكبر عملي عندي(1).

وقال رسول الله » في حديث: «يا علي ادنُ مني»، فدنا منه فقال: «إن السعيد حق السعيد من أحبك وأطاعك، وإن الشقي كل الشقي من عاداك ونصب لك وأبغضك. يا علي، كذب من زعم أنه يحبني ويبغضك. يا علي، من حاربك فقد حاربني، ومن حاربني فقد حارب الله عزوجل. يا علي، من أبغضك فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض الله، وأتعس الله جده وأدخله نار جهنم»(2). وعن الربيع بن المنذر، عن أبيه، قال: سمعت محمد بن الحنفية يحدث عن أبيه قال: «ما خلق الله عزوجل شيئاً أشر من الكلب والناصب أشر منه»(3). وعن خالد بن يزيد القسري، قال: حدثني أمي الصيرفي، قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام) يقول: «برئ الله ممن تبرأ منا، لعن الله من لعننا، أهلك الله من عادانا، اللهم إنك تعلم أنا سبب الهدى لهم وإنما يعادونا لك فكن أنت المنفردبعذابهم»(4).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «حرمت الجنة على من ظلم أهل بيتي، وعلى من قاتلهم، وعلى المعين عليهم، وعلى من سبهم، أولئك لا خلاق لهم في الآخرة، ولا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم»(5).

ص: 532


1- بحار الأنوار: ج27 ص219-220 ب10 ح4.
2- الأمالي للصدوق: ص382-383 المجلس60 ح11.
3- بحار الأنوار: ج27 ص221 ب10 ح7.
4- الأمالي للمفيد: ص311-312 المجلس37 ح4.
5- عيون أخبار الرضا (علیه السلام): ج2 ص34 ب31 ح65.

نهنهي عن وجدك

اشارة

-------------------------------------------

الأمر بالصبر

مسألة: يستحب الأمر بالصبر مطلقاً، من العالي للداني، وعكسه، وللماثل، وللأعلى، أو الأدنى(1)، وأمره (عليه السلام) لها (علیها السلام) بالصبر المستفاد من قوله «نهنهي» من قبيل الثالث(2).

وقد يجب - على حسب اختلاف حال المتعلق - قال تعالى: «وَتَواصَوْا بِالْحَقِّوَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ»(3)، وقال سبحانه وتعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ»(4)، ومن الواضح أن كل الأربع صبر إما بلفظه وإما بغيره.

فإن (صابروا) بمعنى المصابرة، أي: صبر بعضهم بعضاً.

و(رابطوا) يتقوم بالصبر أيضاً، فإن الرباط يحتاج إلى الصبر في الليل والنهار، وعلى الحر والبرد، والضيق والخوف والغربة وما أشبه ذلك.

و(اتقوا) عبارة عن الصبر مدى الحياة في شتى الجهات، فصبر على الطاعة، وصبر عن المعصية، وصبر في المصيبة حتى لا يجزع، إلى غير ذلك، وقد جاءت مادة الصبر في القرآن الحكيم في أكثر من خمسين موضعاً.

لا يقال: هل يحتاج مثلها (علیها السلام) إلى الوصية بالصبر؟.

ص: 533


1- فهذه ست صور: العالي للداني، عكسه أي الداني للعالي، وللداني، وللمماثل، أي من العالي للعالي ومن الداني للداني، وكذا من العالي للأعلى، ومن الداني للأدنى.
2- أي المماثل للمماثل.
3- سورة العصر: 3.
4- سورة آل عمران: 200.

..............................

إذ يقال:

أولاً: إن ذلك كأمره سبحانه وتعالى رسوله (صلی الله علیه و آله) بالصبر «فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَالرُّسُلِ»(1).

ثانياً: الصبر حقيقة تشكيكية ذا مراتب، وعلى حسب عظمة المصيبة تكون درجة الصبر، وعلى حسب مقام الشخص يكون مستوى درجة المأمور به(2) فليدقق.

قوله (عليه السلام): «نهنهي» بمعنى: كفّي، من نهنهت الرجل عن الشيء فتنهنه أي كففته وزجرته فكفّ.

و(الوجد) يأتي بمعنى الغضب، وبمعنى الحزن وهو الأنسب للمقام، خاصة بلحاظ التفريع اللاحق، إضافة إلى أن الأول(3) يتعدى ب- (على).

والمعنى: كفّي عن بث آلامكِ المقرحة للقلب. ويمكن تفسيره بأن مقصوده (عليه السلام) مرحلة الثبوت، أي كفّي وامتنعي عن حزنك المتزايد فإنه اختياري في الجملة.

هذا وفي كتبهم: (ماتت فاطمة وهي واجدة على أبي بكر)(4)، أيغاضبة.

ص: 534


1- سورة الأحقاف: 35.
2- المأمور به هو الصبر في المقام، فذو المقام الداني يوصى بدرجة الصبر التي من شأنه تحملها، وذو المقام العالي لا يوصى بمثل ذلك لأنه قد تجاوز تلك المرحلة بكثير بل يوصى بالمراتب الأسمى من الصبر.
3- أي الوجد بمعنى الغضب.
4- شرح نهج البلاغة: ج6 ص50 ذكر أمر فاطمة مع أبي بكر.

يا ابنة الصفوة وبقية النبوة

اشارة

-------------------------------------------

إكرام الزوجة

مسألة: يستحب أن يكرم الزوج زوجته وأن يبين فضائلها.

فإن تكريم الزوج لزوجته والعكس، وكذلك بيان كل واحد منهما فضائل الآخر من آداب حسن المعاشرة، قال سبحانه: «هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ»(1)، وقال تعالى: «وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ»(2)، وقال عزوجل: «وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ»(3).

وهناك روايات عديدة في الآداب الزوجية والمعاشرة بالمعروف، منها:

عن سليمان بن خالد، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إن قوماً أتوا رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقالوا: يا رسول الله، إنا رأينا أناساً يسجد بعضهم لبعض. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لوأمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها»(4).

وعن الأصبغ بن نباتة، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «كتب الله الجهاد على الرجال والنساء، فجهاد الرجل أن يبذل ماله ونفسه حتى يُقتل في سبيل الله، وجهاد المرأة أن تصبر على ما ترى من أذى زوجها وغيرته»(5).

وفي حديث آخر: «جهاد المرأة حسن التبعل»(6).

ص: 535


1- سورة البقرة: 187.
2- سورة البقرة: 228.
3- سورة النساء: 19.
4- وسائل الشيعة: ج20 ص162-163 ب81 ح25313.
5- تهذيب الأحكام: ج6 ص126 ب57 ح1.
6- الكافي: ج5 ص9 باب جهاد الرجل والمرأة ح1.

..............................

وعن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: «من كان له امرأة تؤذيه لم يقبل الله صلاتها ولا حسنةً من عملها حتى تعينه وترضيه، وإن صامت الدهر وقامت، وأعتقت الرقاب، وأنفقت الأموال في سبيل الله، وكانت أول من ترد النار» ثم قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «وعلى الرجل مثل ذلك الوزر والعذاب إذا كان لها مؤذياً ظالماً، ومن صبر على سوء خلق امرأته واحتسبه أعطاه الله بكل مرة يصبر عليها من الثواب مثل ما أعطى أيوب على بلائه، وكان عليها منالوزر في كل يوم وليلة مثل رمل عالج، فإن ماتت قبل أن تعتبه وقبل أن يرضى عنها حشرت يوم القيامة منكوسةً مع المنافقين في الدرك الأسفل من النار، ومن كانت له امرأة ولم توافقه ولم تصبر على ما رزقه الله وشقت عليه وحملته ما لم يقدر عليه، لم يقبل الله لها حسنةً تتقي بها النار وغضب الله عليها ما دامت كذلك»(1).

وعن يونس بن يعقوب، قال: سمعت الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) يقول: ملعونة ملعونة امرأة تؤذي زوجها وتغمه، وسعيدة سعيدة امرأة تكرم زوجها ولا تؤذيه وتطيعه في جميع أحواله»(2).

ابنة الصفوة

مسألة: يستحب بيان أن الصديقة الطاهرة فاطمة (علیها السلام) هي ابنة الصفوة.

عن جعفر بن محمد (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام) عن جده (عليه السلام) عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) عن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه قال له: «يا علي، أوصيك بوصية فاحفظها، فلا تزال بخير ما حفظت وصيتي ... يا علي، إن الله عزوجل أشرف على أهلالدنيا

ص: 536


1- وسائل الشيعة: ج20 ص163-164 ب82 ح25315.
2- كنز الفوائد: ج1 ص150 شرح قوله: ولعن آخر أمتكم أولها.

..............................

فاختارني منها على رجال العالمين، ثم اطلع الثانية فاختارك على رجال العالمين، ثم اطلع الثالثة فاختار الأئمة من ولدك على رجال العالمين، ثم اطلع الرابعة فاختار فاطمة على نساء العالمين»(1).

وعن مسروق، قالت عائشة: أقبلت فاطمة تمشي كأن مشيتها مشية رسول الله (صلی الله علیه و آله). فقال رسول الله: «مرحباً بابنتي»، فأجلسها عن يمينه وأسر إليها ... ثم قال: «ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين المؤمنين»(2).

والقاضي أبو محمد الكرخي في كتابه، عن الصادق (عليه السلام): «قالت فاطمة (علیها السلام):لما نزلت لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً (3)، هبت رسول الله » أن أقول له: يا أبة، فكنت أقول: يا رسول الله.فأعرض عني مرة واثنتين أوثلاثاً، ثم أقبل عليَّ فقال: يا فاطمة، إنها لم تنزل فيكِ، ولا في أهلكِ، ولا في نسلكِ، أنت مني وأنا منك، إنما نزلت في أهل الجفاء والغلظة من قريش أصحاب البذخ والكبر، قولي: يا أبة؛ فإنها أحيا للقلب، وأرضى للرب»(4).

وعن ابن عباس، قال: خرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) ذات يوم وهو آخذ بيد علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وهو يقول: «يا معشر الأنصار، يا معشر بني هاشم، يا معشر بني عبد المطلب، أنا محمد رسول الله.. ألا إني خلقت من طينة مرحومة في أربعة من أهل بيتي: أنا وعلي وحمزة وجعفر».

ص: 537


1- من لا يحضره الفقيه: ج4 ص374 باب النوادر وهو آخر أبواب الكتاب ح5762.
2- روضة المناقب: ج3 ص362 فصل في وفاتها وزيارتها (علیها السلام).
3- سورة النور: 63.
4- المناقب: ج3 ص320 فصل في تفضيلها على النساء.

..............................

فقال قائل: يا رسول الله، هؤلاء معك ركبان يوم القيامة؟.

فقال: «ثكلتك أمك إنه لن يركب يومئذ إلا أربعة: أنا وعلي وفاطمة وصالح نبي الله، فأما أنا فعلى البراق، وأما فاطمة ابنتي فعلى ناقتي العضباء، وأما صالح فعلى ناقة الله التي عقرت، وأما علي فعلى ناقة من نوقالجنة»(1).

وعن الثمالي عن الباقر (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام) عن جده (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إن الله ليغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها»(2).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إن الله تبارك وتعالى اختار من كل شي ء أربعة ... واختار من النساء أربعة: مريم، وآسية، وخديجة، وفاطمة»(3).

وقال النبي (صلی الله علیه و آله): «الحسن والحسين خير أهل الأرض بعدي وبعد أبيهما، وأمهما أفضل نساء أهل الأرض»(4).

وعن الحسن بن زياد العطار، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): قول رسول الله: «فاطمة سيدة نساء أهل الجنة»، أسيدة نساء عالمها؟.

قال: «ذاك مريم، وفاطمة سيدة نساء أهل الجنة من الأولين والآخرين».

فقلت: فقول رسول الله (صلی الله علیه وآله): «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة؟».

قال: «هما والله سيدا شباب أهل الجنة من الأولين والآخرين»(5).

ص: 538


1- راجع بحار الأنوار: ج7 ص232 ب8 ح2 عن الخصال والأمالي للصدوق.
2- بحار الأنوار: ج43 ص19 ب3 ح2.
3- روضة الواعظين: ج2 ص405 مجلس في ذكر فضائل مكة حماها الله تعالى.
4- عيون أخبار الرضا (علیه السلام): ج2 ص62 ب31 ح252.
5- الأمالي للصدوق: ص125 المجلس26 ح7.

..............................

بقية النبوة

مسألة: يستحب بيان أن الصديقة الزهراء (علیها السلام) هي بقية النبوة.

قوله (عليه السلام): «بقية النبوة» يدل على أنها (علیها السلام) البقية الباقية من رسول الله (صلی الله علیه و آله) بصفته نبياً، وهذا كمال المدح.

وينبغي أن يلاحظ أنه (عليه السلام) لم يعبر ب- (بقية النبي) بل عبر ب- (بقية النبوة) وهذا أدل على المقصود، وإن كان التعبير ب- (بقية النبي) بما هو نبي أي بصفته نبياً يفيد نفس المعنى إلا أن ذاك أوضح وأقوى دلالة، فهي (علیها السلام) ذلك الامتداد الحقيقي للنبوة، وهي خلاصة سائر الأنبياء (علیهم السلام).. وقد يكون إشارة إلى (والسر المستودع فيها). ويحتمل إرادة أنها (صلوات الله عليها) هي الباقية من النبي (صلی الله علیه و آله) في الطبقة الأولى من الوراث.

عن جعفر بن محمد (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام): «أن فاطمة بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) دخل عليها علي (عليه السلام) وبه كآبة شديدة. فقالت: ما هذه الكآبة؟. فقال: سألنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) عنمسألة ولم يكن عندنا جواب لها. فقالت: وما المسألة؟ قال: سألنا عن المرأة ما هي؟. قلنا: عورة. قال: فمتى تكون أدنى من ربها فلم ندر؟. قالت: ارجع إليه فأعلمه أن أدنى ما تكون من ربها أن تلزم قعر بيتها. فانطلق فأخبر النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: ماذا من تلقاء نفسك يا علي؟. فأخبره أن فاطمة (علیها السلام) أخبرته. فقال: صدقت إن فاطمة بضعة مني»(1).

وعن جعفر بن محمد (عليه السلام)، أنه قال: «استأذن أعمى على فاطمة (علیها السلام)

ص: 539


1- مستدرك الوسائل: ج14 ص182 ب21 ح16450.

..............................

فحجبته. فقال لها النبي (صلی الله علیه و آله): لم تحجبينه وهو لا يراكِ؟.

قالت: يا رسول الله، إن لم يكن يراني فإني أراه، وهو يشم الريح.

فقال رسول الله »: أشهد أنك بضعة مني»(1).

وعن جعفر بن محمد (عليه السلام)، وعن جابر الأنصاري: أنه رأى النبي (صلی الله علیه و آله) فاطمة (علیها السلام) وعليهاكساء من أجلة الإبل وهي تطحن بيديها وترضع ولدها، فدمعت عينا رسول الله (صلی الله علیه و آله). فقال: «يا بنتاه، تعجلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة». فقالت: يا رسول الله، الحمد لله على نعمائه، والشكر لله على آلائه، فأنزل الله: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (2)»(3).

فضائل الحسب والنسب

مسألة: يستحب -- عند ذكر فضائل أهل البيت (علیهم السلام) -- بيان الفضائل التي تتعلق بالحسب والتي تتعلق بالنسب معاً.

ومن المصاديق استحباب بيان أنها (صلوات الله عليها) ابنة الصفوة وبقية النبوة، فإن كونها (عليها الصلاة والسلام) ابنة الصفوة وبقية النبوة يدل على النسب الأرفع والحسب الأشرف، ورفعتها بنفسها، إذ الولد سرّ أبيه فكيف بها (علیها السلام) وهي بضعة منه (صلی الله علیه و آله) وروحه التي بين جنبيه، فهاتان الجملتان مدح لها ولأبيها (صلوات الله عليهما).

ص: 540


1- دعائم الإسلام: ج2 ص214 ف4 ح792.
2- سورة الضحى: 5.
3- بحار الأنوار: ج43 ص85-86 ب4 ضمن ح8.

..............................

قال رسول الله »: «إن فاطمة بضعة مني وهي نور عيني وثمرة فؤادي يسوؤني ما ساءها ويسرني ما سرها»(1).

وقال »: «وأما ابنتي فاطمة، فإنها سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، وهي بضعة مني، وهي نور عيني، وهي ثمرة فؤادي، وهي روحي التي بين جنبيّ، وهي الحوراء الأنسية، متى قامت في محرابها بين يدي ربها جل جلاله زهر نورها لملائكة السماء، كما يزهر نور الكواكب لأهل الأرض، ويقول الله عزوجل لملائكته: يا ملائكتي انظروا إلى أمتي فاطمة سيدة إمائي، قائمة بين يدي ترتعد فرائصها من خيفتي، وقد أقبلت بقلبها على عبادتي، أشهدكم أني قد آمنت شيعتها من النار»(2).

ص: 541


1- بحار الأنوار: ج43 ص24 ب3 ح20.
2- راجع بشارة المصطفى لشيعة المرتضى: ص197.

فما ونيت عن ديني، ولا أخطأت مقدوري

اشارة

-------------------------------------------

الاعتقاد بالعصمة ودرجاتها

مسألة: يجب الاعتقاد بعصمة الأنبياء والأئمة الطاهرين (علیهم السلام)، كما يجب الاعتقاد بأن رسول الله (صلی الله علیه و آله) والصديقة فاطمة (علیها السلام) والأئمة من ذريتها (علیهم السلام) كانوا في أعلى درجات العصمة الشمولية، فهم معصومون عن المعصية والسهو والخطأ وحتى عن المكروه وحتى عن ترك الأولى.. ومن مصاديق ذلك:

الاعتقاد بأن أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) ما ونى عن دينه ولا أخطأ مقدوره بالنسبة إلى ما جرى على الصديقة الطاهرة (علیها السلام)؛ فإن ما عمله (عليه السلام) من السكوت كان عين الدين لما قد وصاه النبي (صلی الله علیه و آله) بذلك، وذلك مثل صلح الحديبية حيث كان عين الدين، وكذا قعود الإمام الحسن (عليه السلام) (1) إذ إن الله سبحانه وتعالى كان قد أمره على لسان نبيه (صلی الله علیه و آله)بذلك، وكان ذلك مقدوره الشرعي أيضاً(2) وإن كان مقدوره العقلي والبدني فوق ذلك، كما قال الشاعر:

قيدته وصية من أخيه *** ربّ حلم يقيد الضرغاما

بيان العصمة

مسألة: يجب بيان عصمتهم (علیهم السلام) للناس، فإنه من أكبر عوامل الهداية والإرشاد، إذ أن النموذج كلما كان أسمى وأرفع في نظر الناس كان اهتداؤهم

ص: 542


1- إشارة إلى قوله (صلی الله علیه و آله): «الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا». روضة الواعظين: ج1 ص156 مجلس في ذكر إمامة السبطين ومناقبهما (علیهما السلام).
2- إذا كان ذلك هو الذي قدره الله له في عالم التشريع.

..............................

بهديه وخضوعهم له أكبر.

كما يلزم على المسلم - رجل دين كان أم تاجراً أم طالباً في المدرسة أم غير ذلك - أن يذكر فضائلهم (علیهم السلام) وأنهم كيف كانوا يأتمرون بأوامر الله سبحانه وتعالى في الشدة والرخاء والراحة والبلاء، وأن صبره (عليه

الصلاة والسلام) ليس أقل من شجاعته (عليه السلام) في ميادين الحرب إن لم يكن أكثر؛ لأنه من أكبر درجات السيطرة على النفس، ومن المعلوم أن السيطرة على النفس هو الجهاد الأكبر في مقابل الحرب الذي هوالجهاد الأصغر حسب تعبير الرسول (صلی الله علیه و آله).

فعن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام): «أن النبي (صلی الله علیه و آله) بعث بسرية فلما رجعوا، قال: مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي الجهاد الأكبر. قيل: يا رسول الله (صلی الله علیه و آله) وما الجهاد الأكبر؟. قال: جهاد النفس»(1).

وفي الخبر: «رجعتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر وهو مجاهدة النفس»(2).

وفي الغرر: «ردع النفس عن الهوى الجهاد الأكبر»(3).

التقصير في الدين

مسألة: يحرم التقصير في الدين؛ فإنه من أشد المحرمات، بل اللازم أن يسير الإنسان وفق التعاليم الدينية بلا زيادة ولا نقيصة. وعليه أن يتبع حماة الدين وهم أهل البيت (علیهم السلام) لايتقدم عليهم ولا يتأخر، قال (عليه السلام): «المتقدم

ص: 543


1- الكافي: ج5 ص12 باب وجوه الجهاد ح3.
2- بحار الأنوار: ج64 ص360 ب14 ضمن ح62.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: ص241 ق3 ب2 ف1 مخالفة الهوى ح4876.

..............................

لهم مارق، والمتأخر عنهم زاهق، واللازم لهم لاحق»(1).

وعن سعد بن طريف، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من أحب أن يحيا حياة تشبه حياة الأنبياء، ويموت ميتة تشبه ميتة الشهداء، ويسكن الجنان التي غرسها الرحمن، فليتول علياً (عليه السلام) وليوال وليه، وليقتد بالأئمة من بعده؛ فإنهم عترتي خلقوا من طينتي، اللهم ارزقهم فهمي وعلمي، وويل للمخالفين لهم من أمتي، اللهم لا تنلهم شفاعتي»(2).

وعن أبي حمزة الثمالي، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إن الله تبارك وتعالى يقول: إن من استكمال حجتي على الأشقياء من أمتك من ترك ولاية علي واختار ولاية من والى أعداءه، وأنكر فضله وفضل الأوصياء من بعده؛ فإن فضلك فضلهم، وحقك حقهم، وطاعتك طاعتهم، ومعصيتك معصيتهم، وهم الأئمة الهداة من بعدك، جرى فيهم روحك، وروحك ماجرى فيك من ربك، وهم عترتك من طينتك ولحمك ودمك، قد أجرى الله فيهم سنتك وسنة الأنبياء قبلك، وهم خزاني على علمي من بعدك، حقاً عليَّ لقد اصطفيتهم وانتجبتهم، وأخلصتهم وارتضيتهم، ونجا من أحبهم ووالاهم وسلم بفضلهم - ثم قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) - ولقد أتاني جبرئيل بأسمائهم، وأسماء آبائهم، وأحبائهم، والمسلمين لفضلهم»(3).

وعن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «الروح والراحة،والفلج والفلاح،والنجاح والبركة، والعفو والعافية والمعافاة،والبشرى

ص: 544


1- البلد الأمين: ص186 شهر شعبان.
2- الكافي: ج1 ص208 باب ما فرض الله عزوجل ورسوله (صلی الله علیه و آله) من الكون مع الأئمة (علیهم السلام) ح3.
3- بصائر الدرجات: ص54 ب23 ح3.

..............................

والنصرة، والرضا والقرب والقرابة، والنصر والظفر والتمكين، والسرور والمحبة من الله تبارك وتعالى على من أحب علي بن أبي طالب، وحق علي أن أدخلهم في شفاعتي، وحق على ربي أن يستجيب لي فيهم، وهم أتباعي ومن تبعني فإنه مني، جرى فيَّ مثل إبراهيم (عليه السلام) وفي الأوصياء من بعدي؛ لأني من إبراهيم وإبراهيم مني، دينه ديني، وسنته سنتي، وأنا أفضل منه، وفضلي منفضله، وفضله من فضلي، وتصديق قولي قول ربي: ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)»(2).

وعن أبي عبيدة الحذاء، عن أبي جعفر (عليه السلام) - في حديث الاستطاعة - قال: «الناس كلهم مختلفون في إصابة القول وكلهم هالك». قال: قلت: إلا من رحم ربك؟. قال: «هم شيعتنا ولرحمته خلقهم، وهو قوله: وَلاَ يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ (3)، يقول: طاعة الإمام الرحمة التي يقول: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْء (4)، يقول: علم الإمام ووسع علمه الذي هو من علمه كل شيء، هم شيعتنا - إلى أن قال: - وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ (5) أخذ العلم من أهله وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ (6) والخبائث قول من خالف»(7).

ص: 545


1- سورة آل عمران: 34.
2- المحاسن: ج1 ص152 ب20 ح74.
3- سورة هود: 118-119.
4- سورة الأعراف: 156.
5- سورة الأعراف: 157.
6- سورة الأعراف: 157.
7- وسائل الشيعة: ج27 ص67-68 ب7 ح33218.

..............................

وعن جميل، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سمعته يقول: «يغدو الناس على ثلاثة أصناف: عالم ومتعلم وغثاء، فنحن العلماء، وشيعتنا المتعلمون، وسائر الناس غثاء»(1).

وعن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام)، قال: «أما إنه ليس عند أحد من الناس حق ولا صواب إلا شيء أخذوه منا أهل البيت، ولا أحد من الناس يقضي بحق ولا عدل إلاّ ومفتاح ذلك القضاء وبابه وأوله وسننه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فإذا اشتبهت عليهم الأمور كان الخطأ من قبلهم إذا أخطئوا، والصواب من قبل علي بن أبي طالب (عليه السلام) إذا أصابوا»(2).

دفع الشبهة والدفاع عن النفس

مسألتان: يجوز - بالمعنى الأعم - أن يدفع الإنسان الشبهة ويدافع عن نفسه، فربما قد يتصور البعض أن الإمام (عليه السلام) ونى عن دينه - والعياذ بالله - أو أخطأ مقدوره، وذلك في قضية الدفاع عن الصديقة الطاهرة (علیها السلام)،فأراد الإمام (عليه السلام) أن يبين صحة موقفه حيث كان مطابقاً للدين كل المطابقة، فهو (عليه السلام) وإن كان يخاطب الزهراء (علیها السلام) ولكنه أراد إفهام الغير، وإلاّ فإنها (علیها السلام) كانت تعلم بصحة موقفه (عليه السلام) قطعاً.

عن أبي مريم، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «من قتل دون مظلمته فهو شهيد - ثم قال - يا أبا مريم، هل تدري ما دون مظلمته؟».

ص: 546


1- الكافي: ج1 ص34 باب أصناف الناس ح4.
2- مستدرك الوسائل: ج17 ص283 ب7 ح21354.

..............................

قلت: جعلت فداك الرجل يقتل دون أهله، ودون ماله، وأشباه ذلك. فقال: «يا أبا مريم، إن من الفقه عرفان الحق»(1).

إضاءات

يمكن استفادة عدة نقاط من هاتين الجملتين:

منها: إن قوله (عليه السلام): «فما ونيت عن ديني» سد لباب توهم من قد يتوهم - على مر التاريخ - بأنه (عليه السلام) قد ضعف واستكان في الدفاع عن الصديقة (علیهاالسلام) أو عن حقه في الخلافة، فهو (عليه السلام) يؤكد أن موقفه لم يكن عن ضعف في الدين دون ريب - وهو الصادق المصدق الذي قال عنه الرسول (صلی الله علیه و آله): «علي مع الحق»(2) أي في قوله وفعله وتقريره ومواقفه(3) وحالاته .. «والحق مع علي» كذلك في كل حالاته ومواقفه وأقواله وأفعاله وتقاريره.

ومنها: إن فاء التفريع تدل على أن حزن الصديقة فاطمة (علیها السلام) لم يكن على فدك لما هي هي، بل على غصب الخلافة، فكأنها (علیها السلام) سألت عن عدم تصديه (عليه السلام) لهم وإرجاع الأمر إلى نصابه، فأجاب ب- «فما ونيت عن ديني» فربما يكون هذا هو الأنسب بذاك.

ومنها: إن الأمام (عليه السلام) يشير إلى حقيقتين تكمل إحداهما الأخرى:

الأولى: تتعلق به (عليه السلام) وبفلسفة طريقة تعامله مع الأحداث التي جرت بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله).

ص: 547


1- الكافي: ج5 ص52 باب من قتل دون مظلمته ح2.
2- إعلام الورى: ص159 ب2.
3- الموقف: من مصاديق الفعل كما لا يخفى.

..............................

والثانية: تتعلق بالتقدير الإلهي العام وتكشف عن معرفته (عليه السلام) والتزامهبه(1).

وقد أشار (عليه السلام) إلى الحقيقة الأولى بقوله: «فما ونيت عن ديني»، وإلى الثانية بقوله: «ولا أخطأت مقدوري».

ومنها: إن قوله (عليه السلام) «ما ونيت عن ديني» ليس إخباراً لها (علیها السلام) بما لاتعلمه، إذ الأمر بديهي بالنسبة لها وهي عالمة بسمو منزلته (عليه السلام) وعالمة بوصية رسول الله (صلی الله علیه و آله) له بالصبر، بل من باب (إياك أعني واسمعي يا جاره)(2).

قوله (عليه السلام) : «فما ونيت» بمعنى ما ضعفت، من (ونى يَني ونياً) بمعنى العجز والضعف. وفي اللغة: (ونيت في الأمر: ضعفت وفترت)(3).

لماذا لم يقم (عليه السلام) بالأمر؟

مسألة: يشير الإمام (عليه السلام) بقوله: «ولا أخطأت مقدوري» إلى أنه لم يكن في مقدوره الشرعي أكثر من الذي عمله، أي أنه (عليه السلام) قد عرف ما قدره الله له والتزم به ولم يتجاوزه لا قصوراً ولا تقصيراً.فإن القدرة قد يراد بها القدرة العقلية، وقد يراد بها القدرة الشرعية، وأمير المؤمنين علي (عليه السلام) وإن كانت له القدرة العقلية لكن الشرع أمره فائتمر بالصبر حتى لا تحدث الفتنة التي كان يتربصها الأعداء من الفرس والروم وغيرهم للقضاء على الإسلام والمسلمين إذ قد سبق أن بيّنا أن قيامه (عليه السلام) بالأمر وإشهاره

ص: 548


1- غير خفي أن الحقيقة الأولى من مصاديق الحقيقة الثانية.
2- الكافي: ج2 ص630-631 باب النوادر ح14.
3- انظر لسان العرب مادة (ونى) ومجمع البحرين: مادة (ونى).

..............................

السلاح كان يوجب وقوع حرب داخلية شعواء لا يمكن السيطرة على نتائجها، فينتهز الفرس والروم الفرصة للانقضاض على الإسلام واقتلاعه من الجذور، إضافة إلى أنه لو تحارب المسلمون في المدينة، ارتدت الجزيرة العربية عن الإسلام لأنه كان جديداً عليهم ولم يتجذر في نفوسهم، ولذا قال (عليه السلام) حينما أرادوا نبش قبر الصديقة الزهراء (صلوات الله عليها) ومنعهم عن ذلك: «أما حقي فقد تركته مخافة أن يرتد الناس»(1).

لا يقال: كيف ذاك(2) وهو (عليه السلام) كانيقول إذا وجدت أربعين شخصاً فسأقوم بالأمر(3) وما أشبه؟.

إذ يقال: لعله (عليه السلام) كان بالأربعين شخصاً يسيطر على الوضع فلا تحدث فتنة ولا هرج ومرج ولا حرب.

هذا ولعله كان جواباً على حسب عقلية السائلين أو من سيصل الجواب إليهم(4)، كما قال النبي (صلی الله علیه و آله): «إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم»(5).

ص: 549


1- انظر بحار الأنوار: ج43 ص171 ب7.
2- أي لو كانت ثورته سبباً لانقضاض الروم والفرس وسبباً لارتداد الناس فكيف كان يقول إنه كان سيقوم بالأمر ويثور لو توفّر له الأربعون، ألم يكن الأمر حينئذٍ أيضاً كذلك (أي ألم تكن ثورته وله الأربعون أيضاً سبباً لانقضاض الروم ولارتداد الناس)؟.
3- راجع شرح نهج البلاغة: ج2 ص22 حديث السقيفة.
4- إذ لعل السائل يعرف، لكن الإجابة لكي تصل لغيره.
5- الكافي: ج1 ص23 كتاب العقل والجهل ح15، والكافي: ج8 ص268 حديث نوح (علیه السلام) يوم القيامة ح394.

..............................

هذا كله بعد استشهاد الرسول (صلی الله علیه و آله) إلى حين، لكن لما قوى الإسلام ولم يكن خوف الارتداد، ولا انقضاض ما بقي من الفرس والروم ككل، قام (عليه السلام) بالأمر واستعد لأن يحارب - دفاعاً - في الجمل والنهروان وصفين.

نقل عاصمة الخلافة

ومن نافلة القول أن نشير إلى أن أمير المؤمنين (عليه السلام) إنما نقل الخلافة إلى الكوفة، ولم يرجعها إلى المدينة المنورة؛ لأن المدينة لم تكن حاضرة ذا سوابق تاريخية بحيث يمكن أن تكون مركز ثقل الإسلام بعد توسعه شرقاً وغرباً، نعم هي كانت أفضل مكان لعاصمة الإسلام في عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله).

أما الكوفة فقد كانت قريبة من عاصمة الفرس بغداد التي تمرست في الحكم، ولذا نقل الإمام (عليه السلام) عاصمة دولة الإسلام إليها، فإن الحكم وإن أمكن ابتداؤه في مكان غير متمرس إلا أنه لا يمكن دوامه كذلك، ولذا نشاهد أن مركز الحكم انتقل أيضاً من الكوفة - بعد قرن تقريباً - إلى بغداد العاصمة المتمرسة ذات البُنى المؤسساتية، كما أن حكم بني أمية في الشام كان وضعاً للشيء في غير موضعه، وفي المقابل كان من أسباب تمكن العثمانيين في القسطنطينية والاستمرار لعدة قرون أن القسطنطينية كانت عاصمة الروم المتمرسة في الحكم، ولنفس السبب لم تتمكن سامراء من أن تحتوي الحكومة العباسية وتبقى عاصمة ولذا عادت بعدلأيٍ(1) إلى بغداد. وتفصيل البحث في الكتب السياسية وما يرتبط بنظام الحكم وقوام استقرار الدول.

ص: 550


1- أي فترة ومكث.

فإن كنتِ تريدين البلغة فرزقكِ مضمون

اشارة

-------------------------------------------

طمأنة المظلوم

مسألة: يستحب مواساة المظلوم وطمأنته، تأسياً بالإمام (عليه السلام) في كلامه هذا ولسائر الأدلة، ومن مصاديق ذلك أن يبين له بأن رزقه مضمون، هذا بالنسبة إلى المظلوم في رزقه، وأما المظلوم من جهة تعرضه لاعتداء يمس جسده كالضرب، أو روحه كتلويث سمعته أو ما أشبه، فينبغي أن يبيَّن له أن الله سبحانه وتعالى يعوّضه أجراً وثواباً - كما سيأتي - وأنه عزوجل سينتقم من ظالمه، إلى غير ذلك؛ فإنه كله مصداق لقوله تعالى: «وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ»(1).

المراد ب- (البلغة) و (الرزق)؟

قوله (عليه السلام): «فإن كنتِ تريدين البلغة» يحتمل فيه إرادة الأعم من البلغة الشخصية والبلغة النوعية وإن احتملالانصراف للأول، فإن (البلغة) ما يبلغ به الإنسان مراده، وما يراد بلوغه قد يكون مراداً شخصياً - كضمان وضعه الخاص - وقد يكون نوعياً كخدمة الناس وهدايتهم إلى الصراط المستقيم والذب عن حياض الشريعة.

و(الرزق) أيضاً يطلق على كلا النوعين، إذ لا شك أن ما يحصل عليه المرء من مال ليبذله في سبيل الله رزق للإنسان، فقوله (عليه السلام): «فإن كنتِ تريدين البلغة فرزقكِ مضمون» لا يبعد أن يراد به الأعم الشامل للجانبين الشخصي والنوعي وهذا هو الأنسب بمقام الصديقة الطاهرة (علیها السلام).

ص: 551


1- سورة العصر: 3.

..............................

ولو فرض أن المراد هو الجانب الشخصي فقط فنقول:

أولاً: إن هذا كمال وليس نقصاً، إذ طلب الرزق من الله ابتغاء من فضله قال تعالى: «وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ»(1) وهو مطلوب، والمطالبة بالحق الشخصي محبذة شرعاً حتى ورد عن رسول الله (صلی الله علیه و آله):

«من قتل دون ماله فهو شهيد»(2).وفي رواية أخرى: «فهو بمنزلة الشهيد»(3).

وفي الرضوي (عليه السلام): «والجهاد واجب مع الإمام العدل، ومن قُتل دون ماله فهو شهيد»(4).

وفي رواية أخرى: «فقُتل دون ماله ورحله ونفسه فهو شهيد»(5).

ثانياً: يمكن أن يكون الحوار كله بلحاظ من يبلغهم الخطاب فهو على قدر فهم السامعين(6) إذ أن إثارة الجانب الشخصي قد تكون أشد إثارة للعواطف وأقوى في مقام محاجة القوم، خاصة مع لحاظ أن القوم عزموا على حرمانهم من حقهم في الخلافة، وهو (عليه السلام) قد جمع في حديثه بين الجانب النوعي (فما ونيت عن ديني ...) والشخصي، على فرضه كما سبق.

ثالثاً: القضية الشرطية - كما هو ثابت في المنطق - تصدق حتى مع عدم

ص: 552


1- سورة الجمعة: 10.
2- من لا يحضره الفقيه: ج4 ص95 باب تحريم الدماء والأموال بغير حقها ح5161.
3- الكافي: ج5 ص52 باب من قتل دون مظلمته ح3.
4- عيون أخبار الرضا (علیه السلام): ج2 ص124 ب35 ح1.
5- وسائل الشيعة: ج15 ص49 ب12 ح19963.
6- وقد يكون بقصد أن يصل للخصم أن كل ما يقوم به لا يؤدي لغرضه وأن ما خطط له لا يصل إليه.

..............................

وقوع المقدم بل حتى مع استحالته - كما في «لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا»(1) - وعلى هذا فلا دلالة في «وإن كنتِ تريدين البلغة» على إرادتها للبلغة(2) فعلاً، فليتأمل جيداً.

قوله (عليه السلام): «فإن كنتِ تريدين البلغة فرزقكِ مضمون»، البلغة: الكفاية لها ولأولادها، فإنها ما يتبلّغ به من العيش وهو قدر الكفاف والعفاف في المعيشة، وما دام الرزق مضموناً فلا فرق فيه بين رزق الوالدة وأولادها ولذلك لم يذكر (عليه الصلاة والسلام) بلغة الأولاد لأنه يفهم من قوله (عليه السلام) (مضمون).

ص: 553


1- سورة الأنبياء: 22.
2- إذا فسرت بالمعنى الشخصي.

وكفيلك مأمون

اشارة

-------------------------------------------

روح التوكل على الله

مسألة: ينبغي إشاعة وبث وتقوية روح التوكل على الله في الناس عامة، وفي المظلومين خاصة، ومن مصاديقه أن يبّين للمظلوم أن ما أعدّ الله له أفضل مما قطعوا عنه، كما صنع (عليه السلام) في كلامه لها (علیها السلام)؛ فإن من الواضح أن ما أعدّ الله سبحانه وتعالى في الآخرة للمتقين والصابرين والمظلومين خير من الدنيا وما فيها، فكيف بذلك الجزء البسيط الذي قطع عن الإنسان في هذه الدنيا الزائلة؟! ذلك أن الإنسان سيرى في الآخرة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، كما ورد بذلك النص(1).

وقد فصل في محله أن حالة (التوكل على الله) لا تعني (التواكل) بل هي تضاده وتعاكسه، فلا يقال: إن في ذلك تثبيطاً لهمم المظلومين.

عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إن الغنى والعز يجولان فإذا ظفرا بموضع التوكلأوطناه»(2).

وعن علي بن سويد، عن أبي الحسن الأول (عليه السلام)، قال: سألته عن قول الله عزوجل: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ (3)؟. فقال: «التوكل على الله درجات منها: أن تتوكل على الله في أمورك كلها، فما فعل بك كنت عنه راضياً تعلم أنه لايألوك خيراً وفضلاً،وتعلم أن الحكم في ذلك له فتوكل على الله

ص: 554


1- راجع من لا يحضره الفقيه: ج1 ص295 باب الأذان والإقامة وثواب المؤذنين ح905.
2- مستدرك الوسائل: ج11 ص216 ب11 ح12782.
3- سورة الطلاق: 3.

..............................

بتفويض ذلك إليه وثق به فيها وفي غيرها»(1).

وعن معاوية بن وهب، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «من أُعطي ثلاثاً لم يمنع ثلاثاً: من أعطي الدعاء أعطي الإجابة، ومن أعطي الشكر أعطي الزيادة، ومن أعطي التوكل أعطي الكفاية - ثم قال - أتلوت كتاب الله عزوجل: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ (2) وقال: لَئِنْ شَكَرْتُمْلأَزِيدَنَّكُمْ (3) وقال: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ (4)»(5).

وعن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «ليس شيء إلا وله حد». قال: قلت: جعلت فداك، فما حد التوكل؟. قال: «اليقين». قلت: فما حد اليقين؟. قال: «أن لا تخاف مع الله شيئاً»(6).

وعن أبي حرب بن أبي الأسود الدؤلي، عن أبيه، عن أبي ذر، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «يا أبا ذر، إن سرّك أن تكون أقوى الناس فتوكل على الله، وإن سرّك أن تكون أكرم الناس فاتق الله عزوجل، وإن سرّك أن تكون أغنى الناس فكن بما في يدي الله عزوجل أوثق منك بما في يديك. يا أبا ذر، لو أن الناس كلهم أخذوا بهذه الآية لكفتهم وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ له مَخْرَجاً (علیهم السلام) وَيَرْزُقْهُ مِ-نْ حَيْ-ثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَ-نْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ

ص: 555


1- الكافي: ج2 ص63 باب التفويض إلى الله والتوكل عليه ح5.
2- سورة الطلاق: 3.
3- سورة إبراهيم: 7.
4- سورة غافر: 60.
5- بحار الأنوار: ج68 ص129 ب63 ح6.
6- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: ج2 ص184.

..............................

أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرا (1)»(2).

قوله (عليه السلام): «وكفيلكِ مأمون» المراد بالكفيل: هو الله سبحانه وتعالى، ويحتمل أن يكون المراد به هو الإمام (عليه السلام) إذ هو المتكفل بشؤونها (علیها السلام) وهو الكفيل لها.

و(المأمون) من لا يحتمل فيه أن يخلف وعده أو يكذب.

أما بالنسبة إلى كلي تكفل الله سبحانه بالأرزاق، فإن المراد به طبيعة الأمر، فلا يقال: فكيف يموت كثير من الناس جوعاً؟.

وذلك كما ورد: أن الدعاء يستجاب كما قال تعالى: «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ»(3) أي طبيعة الدعاء، أو ما يقال: من أن الدواء الفلاني شفاء للمرض الكذائي ونحو ذلك؛ فإنه على نحو المقتضي، ولابد فيه من توفر الشروط وانتفاء الموانع أيضاً وليس على نحو العلية التامة والقضية الخارجية في كل مورد مورد، كما سبقت الإشارة إلى ذلك.

ص: 556


1- سورة الطلاق: 2-3.
2- مستدرك الوسائل: ج11 ص216 ب11 ح12781.
3- سورة غافر: 60.

وما أعدّ لكِ أفضل مما قطع عنكِ

اشارة

-------------------------------------------

ثواب الله أعظم

مسألة: يلزم الاعتقاد بأن ما أعدّه الله للصديقة فاطمة (علیها السلام) من الأجر والثواب والمقام(1) وما شابه أفضل مما غُصب منها، ويستحب بيان ذلك للناس.

وهذه صغرى من صغريات ما تقدم.

ثم إن فاطمة الزهراء (عليها الصلاة والسلام) لها من الأجر والثواب والفضيلة والكرامة في الآخرة ما لأمير المؤمنين علي (عليه السلام)، وهما في المرتبة الثانية بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) في الفضائل والمقامات الأخروية حسب بعض الروايات التي ذكرها السيد البحراني(2) (قدس سره) في (معالمالزلفى)، وغيره في غيره.

ص: 557


1- كمقام الشفاعة الكبرى.
2- السيد هاشم بن سليمان بن إسماعيل بن عبد الجواد بن علي بن سليمان بن السيد ناصر الحسيني البحراني التوبلي الكتكاني، كان (رضوان الله عليه) من أولاد السيد المرتضى علم الهدى (رضوان الله عليه). ولد (رحمة الله) في كتكان في النصف الأول من القرن الحادي عشر الهجري القمري. رحل إلى النجف الأشرف وأقام فيها مدة من الزمن طلباً للعلم. انتهت إلى السيد (رحمة الله) رئاسة البلد بعد الشيخ محمد بن ماجد بن مسعود البحراني الماحوزي، فقام بالقضاء في البلاد وتولي الأمور الحسبية وقام بذلك أحسن قيام، وقمع أيدي الظلمة والحكام، ونشر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبالغ في ذلك وأكثر ، ولم تأخذه لومة لائم في الدين، وكان من الأتقياء المتورعين، شديداً على الملوك والسلاطين. صنف (رحمة الله) كتباً عديدة تشهد بعمق تتبعه وسعة اطلاعه تبلغ خمسة وسبعين مؤلفاً بين صغير ووسيط وكبير، منها: 1: إثبات الوصية، 2: احتجاج المخالفين على إمامة أمير المؤمنين (علیه السلام)، 3: الإنصاف في النص على الأئمة الأشراف من آل عبد مناف، 4: إيضاح المسترشدين في بيان تراجم الراجعين إلى ولاية أمير المؤمنين (علیه السلام)، وقد يعبر عنه ب- (هداية المستبصرين)، 5:البرهان في تفسير القرآن، 6:البهجة المرضية في إثبات الخلافة والوصية، 7: بهجة النظر في إثبات الوصاية والإمامة للأئمة الاثني عشر، 8: تبصرة الولي فيمن رأي المهدي (علیه السلام) في زمان أبيه (علیه السلام) وفي أيام الغيبة الصغرى والكبرى، 9: التحفة البهية في إثبات الوصية لعلي (علیه السلام)، 10: ترتيب التهذيب، وغيرها. توفي (رحمة الله) سنة (1107) أو (1109) من الهجرة في قرية نعيم، ونقل جثمانه الشريف إلى قرية توبلي، ودفن في مقبرة ماتيني من مساجد القرية المشهورة، وقبره مزار معروف.

..............................

مقام فاطمة (علیها السلام) في القيامة

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إذا كان يوم القيامة نادى مناد: يامعشر الخلائق، غضوا أبصاركم حتى تمر فاطمة بنت محمد (صلی الله علیه و آله)»(1).

وفي رواية أخرى: «إذا كان يوم القيامة قيل: يا أهل الجمع، غضّوا أبصاركم تمر فاطمة بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله). فتمر وعليها ريطتان حمراوان»(2).

وعن الرضا (عليه السلام)، عن آبائه (علیهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «تحشر ابنتي فاطمة (علیها السلام) عليها حلة الكرامة قد عجنت بماء الحيوان، تنظر إليها الخلائق فيتعجبون منها، ثم تُكسى حلة من حلل الجنة، وهي ألف حلة مكتوب على كل حلة بخط أخضر: (أدخلوا ابنة محمد الجنة على أحسن صورة وأحسن كرامة وأحسن منظر) فتزف إلى الجنة كما تزف العروس، ويوكل بها سبعون ألف جارية»(3).

وعن جابر بن عبد الله الأنصاري (رحمة الله) يقول: قال رسول الله (صلی الله علیه وآله): «إذا كان يوم القيامة تقبل ابنتي فاطمة (علیها السلام) على ناقة من نوق الجنة، مدبجة الجنبين،

ص: 558


1- تفسير فرات الكوفي: ص443 ومن سورة الطور ح585.
2- بحار الأنوار: ج43 ص220-221 ب8 ح5.
3- دلائل الإمامة: ص58 أخبار في مناقبها (علیها السلام).

..............................

خطمها من لؤلؤ رطب، قوائمها من الزمرد الأخضر، ذنبها من المسك الأذفر، عيناها ياقوتتان حمراوان، عليها قبة من نور، يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، داخلها عفو الله، وخارجها رحمة الله، على رأسها تاج من نور، للتاج سبعون ركناً، كل ركن مرصع بالدر والياقوت، يضيء كما يضيء الكوكب الدري في أفق السماء، وعن يمينها سبعون ألف ملك، وعن شمالها سبعون ألف ملك، وجبرئيل آخذ بخطام الناقة ينادي بأعلى صوته: غضوا أبصاركم حتى تجوز فاطمة بنت محمد (صلی الله علیه و آله). فلا يبقى يومئذ نبي ولا رسول، ولا صديق ولا شهيد إلا غضوا أبصارهم حتى تجوز فاطمة (علیها السلام).

فتسير حتى تحاذي عرش ربها جل جلاله فتزج بنفسها عن ناقتها وتقول: إلهي وسيدي، احكم بيني وبين من ظلمني. اللهم احكم بيني وبين من قتل ولدي.

فإذا النداء من قبل الله جل جلاله: يا حبيبتي وابنة حبيبي، سليني تعطى (أعطك)، واشفعي تشفعي، فو عزتي وجلالي لا جازني ظلم ظالم.

فتقول: إلهي وسيدي، ذريتي وشيعتي،وشيعة ذريتي، ومحبي، ومحبي ذريتي.

فإذا النداء من قبل الله جل جلاله: أين ذرية فاطمة وشيعتها، ومحبوها، ومحبو ذريتها؟. فيقبلون وقد أحاط بهم ملائكة الرحمة، فتقدمهم فاطمة (علیها السلام) حتى تدخلهم الجنة»(1).

ص: 559


1- الأمالي، للصدوق: ص17-18 المجلس الخامس ح4.

..............................

وعن النبي (صلی الله علیه و آله)، قال: «إذا كان يوم القيامة ووقف الخلائق بين يدي الله تعالى، نادى مناد من وراء الحجاب: أيها الناس، غضوا أبصاركم ونكسوا من رؤوسكم؛ فإن فاطمة بنت محمد (علیها السلام) تجوز على الصراط»(1).

وفي حديث أبي أيوب: «فتمر معها سبعون جارية من الحور العين كالبرق اللامع»(2).

وعن ابن عباس، عن النبي (صلی الله علیه و آله): «إذا كان يوم القيامة نادى مناد: يا معشر الخلائق، غضوا أبصاركم حتى تمر فاطمة بنت محمد (صلی الله علیه و آله). فتكون أول من تٌكسى،ويستقبلها من الفردوس اثنا عشر ألف حوراء لم يستقبلن أحداً قبلها ولا أحداً بعدها على نجائب من ياقوت أجنحتها وأزمتها اللؤلؤ، عليها رحائل من درّ، على كل رحالة منها نمرقة من سندس، وركابها زبرجد. فيجزن بها الصراط حتى ينتهين بها إلى الفردوس، فيتباشر بها أهل الجنان. وفي بطنان الفردوس قصور بيض، وقصور صفر من اللؤلؤ من غرز واحد، وإن في القصور البيض لسبعين ألف دار، منازل محمد وآله (صلی الله علیه و آله)، وإن في القصور الصفر لسبعين ألف دار، مساكن إبراهيم وآله (عليه السلام)، فتجلس على كرسي من نور، ويجلسن حولها ويبعث إليها ملك لم يبعث إلى أحد قبلها ولا يبعث إلى أحد بعدها، فيقول: إن ربك يقرؤك السلام ويقول: سليني أعطكِ. فتقول: قد أتم عليَّ نعمته، وهنأني كرامته، وأباحني جنته، أسأله ولدي وذريتي ومن ودّهم بعدي، وحفظهم من بعدي. فيوحي الله إلى الملك من غير أن يزول من مكانه: أن سرها وبشرها أني

ص: 560


1- المناقب: ج3 ص326 فصل في منزلتها عند الله تعالى.
2- بحار الأنوار: ج43 ص223 ب 8 ح10.

..............................

قد شفّعتها في وُلدها ومن ودّهم بعدها وحفظهم فيها. فتقول: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِيأَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ (1)»(2).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إذا كان يوم القيامة جاءت فاطمة (علیها السلام) في لمة من نسائها، فيقال لها: ادخلي الجنة. فتقول: لا أدخل حتى أعلم ما صنع بولدي من بعدي. فيقال لها: انظري في قلب القيامة. فتنظر إلى الحسين (عليه السلام) قائماً وليس عليه رأس،فتصرخ صرخة وأصرخ لصراخها،وتصرخ الملائكة لصراخها. فيغضب الله عزوجل عند ذلك فيأمر ناراً يقال لها: هبهب، قد أوقد عليها ألف عام حتى اسودت، لا يدخلها رَوح أبداً ولا يخرج منها غم أبداً. فيقال: التقطي قتلة الحسين، فتلتقطهم. فإذا صاروا في حوصلتها صهلت وصهلوا بها، وشهقت وشهقوا بها، وزفرت وزفروا بها، فينطقون بألسنة ذلقة طلقة: يا ربنا، فيما أوجبت لنا النار قبل عبدة الأوثان؟. فيأتيهم الجواب عن الله تعالى: أن من علم ليس كمن لا يعلم»(3).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إذا كان يوم القيامة نصب لفاطمة (علیها السلام) قبة من نور، ويقبلالحسين (عليه السلام) ورأسه في يده، فإذا رأته شهقت شهقة لا يبقى في الجمع ملك مقرب ولا نبي مرسل إلاّ بكى لها، فيمثله الله عزوجل لها في أحسن صورة وهو يخاصم قتلته بلا رأس، فيجمع الله عزوجل لها قتلته والمجهزين عليه ومن شركهم في قتله، فأقتلهم حتى آتي على آخرهم، ثم ينشرون فيقتلهم أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)، ثم ينشرون فيقتلهم الحسن (عليه السلام)، ثم ينشرون فيقتلهم

ص: 561


1- سورة فاطر: 34.
2- تفسير فرات الكوفي: ص443 ومن سورة الطور ح585.
3- راجع بحار الأنوار: ج7 ص127 ب6 ح6، ومثير الأحزان: ص81.

..............................

الحسين (عليه السلام)، ثم ينشرون فلا يبقى أحد من ذريتنا إلا قتلهم قتلة، فعند ذلك يكشف الغيظ وينسى الحزن». ثم قال الصادق (عليه السلام): «رحم الله شيعتنا، شيعتنا هم والله المؤمنون، فقد والله شركونا في المصيبة بطول الحزن والحسرة»(1).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «يمثل لفاطمة (علیها السلام) رأس الحسين (عليه السلام) متشحطاً بدمه. فتصيح: وا ولداه، وا ثمرة فؤاداه. فتصعق الملائكة لصيحة فاطمة (علیها السلام)، وينادي أهل القيامة: قتل الله قاتل ولدك يا فاطمة - قال - فيقول الله عزوجل: ذلكأفعل به وبشيعته وأحبائه وأتباعه. وإن فاطمة (علیها السلام) في ذلك اليوم على ناقة من نوق الجنة، مدبجة الجنبين، واضحة الخدين، شهلاء العينين، رأسها من الذهب المصفى، وأعناقها من المسك والعنبر، خطامها من الزبرجد الأخضر، رحائلها در مفضض بالجوهر، على الناقة هودج غشاؤها من نور الله، وحشوها من رحمة الله، خطامها فرسخ من فراسخ الدنيا، يحف بهودجها سبعون ألف ملك بالتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير والثناء على رب العالمين، ثم ينادي مناد من بطنان العرش: يا أهل القيامة، غضوا أبصاركم فهذه فاطمة بنت محمد رسول الله (صلی الله علیه و آله) تمر على الصراط. فتمر فاطمة (علیها السلام) وشيعتها على الصراط كالبرق الخاطف. قال النبي (صلی الله علیه و آله): ويلقى أعداؤها وأعداء ذريتها في جهنم»(2).

وعن ابن عباس، قال: سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) يقول: «دخل رسول الله (صلی الله علیه و آله) ذات يوم على فاطمة (علیها السلام) وهي حزينة. فقال لها: ما حزنك يا بنية؟. قالت: يا أبة، ذكرت المحشرووقوف الناس عراة يوم

ص: 562


1- اللهوف: ص137-139 المسلك الثاني في وصف حال القتال وما يقرب من تلك الحال.
2- بحار الأنوار: ج43 ص222-223 ب8 ح9. عن ثواب الأعمال.

..............................

القيامة. قال: يا بنية، إنه ليوم عظيم، ولكن قد أخبرني جبرئيل (عليه السلام) عن الله عزوجل أنه قال: أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة أنا، ثم أبي إبراهيم، ثم بعلك علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ثم يبعث الله إليكِ جبرئيل في سبعين ألف ملك، فيضرب على قبركِ سبع قباب من نور، ثم يأتيكِ إسرافيل بثلاث حلل من نور، فيقف عند رأسكِ فيناديكِ: يا فاطمة ابنة محمد، قومي إلى محشركِ. فتقومين آمنة روعتكِ، مستورة عورتكِ، فيناولكِ إسرافيل الحلل فتلبسينها، ويأتيك روفائيل بنجيبة من نور، زمامها من لؤلؤ رطب، عليها محفة من ذهب، فتركبينها ويقود روفائيل بزمامها، وبين يديك سبعون ألف ملك، بأيديهم ألوية التسبيح، وإذا جد بك السير استقبلتك سبعون ألف حوراء يستبشرون بالنظر إليكِ، بيد كل واحدة منهن مجمرة من نور يسطع منها ريح العود من غير نار، وعليهن أكاليل الجوهر مرصع بالزبرجد الأخضر فيسرن عن يمينكِ، فإذا مثل الذي سرت من قبركِ إلى أن لقينكِ استقبلتكِ مريم بنت عمران (علیها السلام) في مثل من معكِ من الحور، فتسلم عليك وتسير هي ومنمعها عن يسارك، ثم استقبلتكِ أمكِ خديجة بنت خويلد (علیها السلام) أول المؤمنات بالله ورسوله ومعها سبعون ألف ملك بأيديهم ألوية التكبير، فإذا قربتِ من الجمع استقبلتكِ حواء (علیها السلام) في سبعين ألف حوراء ومعها آسية بنت مزاحم (علیها السلام) فتسير هي ومن معها معكِ، فإذا توسطتِ الجمع وذلك أن الله يجمع الخلائق في صعيد واحد فيستوي بهم الأقدام، ثم ينادي مناد من تحت العرش يسمع الخلائق: غضوا أبصاركم حتى تجوز فاطمة الصديقة ابنة محمد (صلی الله علیه و آله) ومن معها. فلا ينظر إليكِ يومئذ إلاّ إبراهيم خليل الرحمن (صلوات الله وسلامه عليه) وعلي بن أبي طالب (عليه السلام)، ويطلب آدم حواء

ص: 563

..............................

فيراها مع أمكِ خديجة أمامكِ، ثم ينصب لكِ منبر من نور فيه سبع مراق، بين المرقاة إلى المرقاة صفوف الملائكة بأيديهم ألوية النور، وتصطف الحور العين عن يمين المنبر وعن يساره، وأقرب النساء منكِ عن يساركِ حواء وآسية بنت مزاحم، فإذا صرت في أعلى المنبر أتاكِ جبرئيل (عليه السلام)، فيقول لكِ: يا فاطمة، سلي حاجتك. فتقولين: يا رب، أرني الحسن والحسين (علیهما السلام).فيأتيانك وأوداج الحسين تشخب دماً وهو يقول: يا رب، خذ لي اليوم حقي ممن ظلمني. فيغضب عند ذلك الجليل وتغضب لغضبه جهنم والملائكة أجمعون.

فتزفر جهنم عند ذلك زفرة، ثم يخرج فوج من النار فيلتقط قتلة الحسين وأبناءهم وأبناء أبنائهم. ويقولون: يا رب، إنا لم نحضر الحسين (عليه السلام). فيقول الله لزبانية جهنم: خذوهم بسيماهم بزرقة الأعين وسواد الوجوه، خذوا بنواصيهم فألقوهم في الدرك الأسفل من النار، فإنهم كانوا أشد على أولياء الحسين من آبائهم الذين حاربوا الحسين فقتلوه. فيسمع شهيقهم في جهنم»(1).

وفي الحديث: «ثم يقول جبرئيل (عليه السلام): يا فاطمة، سلي حاجتك.

فتقولين: يا رب شيعتي. فيقول الله: قد غفرت لهم.

فتقولين: يا رب، شيعة ولدي. فيقول الله: قد غفرت لهم.

فتقولين: يا رب، شيعة شيعتي.

فيقول الله: انطلقي فمن اعتصم بكِ فهو معكِ في الجنة.

فعند ذلك يود الخلائق أنهم كانوا فاطميين!، فتسيرين ومعكِ شيعتكِ وشيعة ولدكِ وشيعة أمير المؤمنين (عليه السلام) آمنةروعاتهم، مستورة عوراتهم، قد

ص: 564


1- تفسير فرات الكوفي: ص 444-446 ومن سورة الطور ح587.

..............................

ذهبت عنهم الشدائد، وسهلت لهم الموارد، يخاف الناس وهم لا يخافون، ويظمأ الناس وهم لا يظمئون، فإذا بلغتِ باب الجنة تلقتكِ اثنا عشر ألف حوراء لم يتلقين أحداً كان قبلكِ ولا يتلقين أحداً كان بعدكِ، بأيديهم حراب من نور، على نجائب من نور، رحائلها من الذهب الأصفر والياقوت، أزمتها من لؤلؤ رطب، على كل نجيبة نمرقة من سندس منضود، فإذا دخلتِ الجنة تباشر بكِ أهلها، ووضع لشيعتكِ موائد من جوهر على أعمدة من نور، فيأكلون منها والناس في الحساب، وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (1).

فإذا استقر أولياء الله في الجنة زاركِ آدم (عليه السلام) ومن دونه من النبيين (علیهم السلام)، وإن في بطنان الفردوس للؤلؤتان من عرق واحد، لؤلؤة بيضاء ولؤلؤة صفراء فيها قصور ودور، في كل واحدة سبعون ألف دار، البيضاء منازل لنا ولشيعتنا، والصفراء منازل لإبراهيم وآل إبراهيم (علیهم السلام).

قالت: يا أبة، فما كنت أحب أن أرى يومك وأبقى بعدك.قال: يا بنية، لقد أخبرني جبرئيل (عليه السلام) عن الله أنكِ أول من يلحقني من أهل بيتي، فالويل كله لمن ظلمكِ، والفوز العظيم لمن نصركِ».

قال عطاء: وكان ابن عباس إذا ذكر هذا الحديث تلا هذه الآية: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (2)،(3).

وفي (البحار): عن أبي ذر (رحمة الله عليه) قال: رأيت سلمان وبلالاً يقبلان

ص: 565


1- سورة الأنبياء: 102.
2- سورة الطور: 21.
3- تفسير فرات الكوفي: ص 446-447 ومن سورة الطور ح587.

..............................

إلى النبي (صلی الله علیه و آله) إذا انكب سلمان على قدم رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقبلها، فزجره النبي (صلی الله علیه و آله) عن ذلك ثم قال له: «يا سلمان، لا تصنع بي ما تصنع الأعاجم بملوكها، أنا عبد من عبيد الله آكل مما يأكل العبد وأقعد كما يقعد العبد».

فقال سلمان: يا مولاي، سألتك بالله إلا أخبرتني بفضل فاطمة (علیها السلام) يوم القيامة؟.قال: فأقبل النبي (صلی الله علیه و آله) ضاحكاً مستبشراً ثم قال: «والذي نفسي بيده، إنها الجارية التي تجوز في عرصة القيامة على ناقة رأسها من خشية الله، وعيناها من نور الله، وحطامها من جلال الله، وعنقها من بهاء الله، وسنامها من رضوان الله، وذنبها من قدس الله، وقوائمها من مجد الله، إن مشت سبّحت، وإن رغت قدّست، عليها هودج من نور، فيه جارية إنسية، حورية عزيزة، جمعت فخلقت، وصنعت ومثلت من ثلاثة أصناف، فأولها من مسك أذفر، وأوسطها من العنبر الأشهب، وآخرها من الزعفران الأحمر، عجنت بماء الحيوان، لو تفلت تفلة في سبعة أبحر مالحة لعذبت، ولو أخرجت ظفر خنصرها إلى دار الدنيا يغشى الشمس والقمر، جبرئيل عن يمينها، وميكائيل عن شمالها، وعلي (عليه السلام) أمامها، والحسن والحسين (علیهما السلام) وراءها، والله يكلؤها ويحفظها، فيجوزون في عرصة القيامة، فإذا النداء من قبل الله جل جلاله: معاشر الخلائق، غضوا أبصاركم ونكسوا رؤوسكم هذه فاطمة بنت محمد نبيكم، زوجة علي إمامكم، أم الحسن والحسين، فتجوز الصراط وعليها ريطتان بيضاوان، فإذا دخلت الجنة ونظرت إلى ما أعد الله لها من الكرامة قرأت: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّرَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (علیهم السلام) الَّذِي أَحَلَّنَ-ا دارَ

ص: 566

..............................

الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (1). قال: فيوحي الله عزوجل إليها: يا فاطمة، سليني أعطكِ وتمني عليَّ أُرضكِ. فتقول: إلهي أنت المنى وفوق المنى، أسألك أن لا تُعذّب محبي ومحبي عترتي بالنار. فيوحي الله إليها: يا فاطمة، وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لقد آليت على نفسي من قبل أن أخلق السماوات والأرض بألفي عام أن لا أعذب محبيكِ ومحبي عترتكِ بالنار»(2).

تعويض المظلوم

مسألة: ينبغي أن يُبين للمظلوم ما سيعوضه الله تعالى ويعدّه له من الثواب والأجر، وهذا مما يحافظ على نفسية المظلوم ويجعله صابراً مثابراً، وهو سبب أيضاً لعدم إصابته بالإحباط والكآبة وما أشبه من الأمراض النفسية.

عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إذا كان يوم القيامة يقوم عنق من الناسفيأتون باب الجنة فيضربونه، فيقال لهم: من أنتم؟. فيقولون: نحن أهل الصبر. فيقال لهم: على ما صبرتم؟. فيقولون: كنا نصبر على طاعة الله، ونصبر عن معاصي الله. فيقول الله عزوجل: صدقوا أدخلوهم الجنة، وهو قوله عزوجل: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (3) »(4).

وعن أبي الحسن الثالث (عليه السلام) عن آبائه (علیهم السلام) عن الصادق (صلوات الله عليهم)

ص: 567


1- سورة فاطر: 34-35.
2- بحار الأنوار: ج27 ص139-141 ب4 ح144.
3- سورة الزمر: 10.
4- مشكاة الأنوار: ص112 ب3 ف2.

..............................

قال: «ثلاث دعوات لا يحجبن عن الله تعالى: دعاء الوالد لولده إذا برّه ودعوته عليه إذا عقّه، ودعاء المظلوم على ظالمه ودعاؤه لمن انتصر له منه، ورجل مؤمن دعا لأخ له مؤمن واساه فينا ودعاؤه عليه إذا لم يواسه مع القدرة عليه واضطرار أخيه إليه»(1).

وعن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه قال: «دعوة المظلوم مستجابة »(2).

وعن الحارث، عن علي (عليه السلام)، قال: قالرسول الله (صلی الله علیه و آله): «يقول الله عزوجل: اشتد غضبي على من ظلم من لا يجد ناصراً غيري»(3).

وعن سعد بن طريف، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «الظلم ثلاثة: ظلم يغفره الله، وظلم لا يغفره الله، وظلم لا يدعه الله. فأما الظلم الذي لا يغفره فالشرك، وأما الظلم الذي يغفره فظلم الرجل نفسه فيما بينه وبين الله، وأما الظلم الذي لا يدعه فالمداينة بين العباد»(4).

وعن حسين بن عثمان ومحمد بن أبي حمزة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إن الله يبغض الغني الظلوم»(5).

ص: 568


1- بحار الأنوار: ج72 ص310 ب79 ح10.
2- وسائل الشيعة: ج7 ص130 ب52 ح8922.
3- الأمالي، للطوسي: ص405 المجلس14 ح908-56.
4- الكافي: ج2 ص330 باب الظلم ح1.
5- ثواب الأعمال: ص274 عقاب من ظلم.

فاحتسبي الله

اشارة

-------------------------------------------

احتساب المصائب عند الله

مسألتان: يستحب احتساب المصائب عند الله تعالى، كما يستحب الأمر باحتسابها كذلك. ولا ينبغي أن يتوهم أن قوله لها (علیهما السلام): «احتسبي» طلب لغير الحاصل، إذ هو كقولهم (علیهم السلام) في صلواتهم:«اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ»(1) وقد سبق بيان عدة أجوبة عن ذلك(2).

ثم إن الخطاب وإن كان لها (علیها السلام) إلا أنه يعم ويشمل الجميع، كخطابات الكتاب العزيز الموجهة أولاً للرسول (صلی الله علیه و آله) والشاملة لغيره، إلا ما علم اختصاصه به (صلی الله علیه و آله) على ما هو مذكور في بحث الخطابات القرآنية.

وإنما قلنا بالاستحباب، لأن الأمر باحتساب المصائب عند الله سبحانه وتعالى من الأمر بالمعروف المستحب؛ فإن الاحتساب من أفضل درجات الصابرين المسلِّمين أمرهم لله عزوجل وهو مشموللقوله سبحانه: «الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (علیهم السلام) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ»(3).

قوله(عليه السلام): «فاحتسبي الله» أي:اجعلي ما ورد عليك من الظلم والعدوان على حساب الله سبحانه وتعالى؛ لأنه بعين الله، والله هو المتكفل بالأمر، وهو الذي سيعوضك بأفضل الجزاء ويعطيك أسنى العطاء.

ص: 569


1- سورة الفاتحة: 6.
2- منها إرادة المستقبل باعتبار تجدد العزم آناً فآناً، ومنها إرادة المرتبة الأسمى، إلى غير ذلك، فليراجع.
3- سورة البقرة: 156-157.

..............................

وماذا عن اسم الله الأعظم؟

لا يقال: لماذا لم يستفد الإمام (عليه السلام) من قدراته الخاصة كعلمه بالاسم الأعظم ودعائه المستجاب وقدرته على الإعجاز وما أشبه؛ وذلك لكشف هذه الغمة وإرجاع الحق إلى نصابه واجتثاث جذور الظلمة فوراً، ولماذا لم يأمرها باستخدام تلك القدرات، بل أمرها (علیها السلام) بالصبر والاحتساب عند الله، كما صبر بنفسه (عليه السلام) (1) مع أنهما (علیهما السلام) مستجابا الدعوة قطعاً؟.إذ يقال:

أولاً: الدنيا دار ابتلاء وامتحان، وقد خلقها الله على ذلك وأرادها كذلك، ومن هنا نرى قتل الكثير من الأنبياء (علیهم السلام) وأنهم عُذبوا بأشد التعذيب، وكذلك أوصياؤهم (علیهم السلام) على مر الدهور، مع أنه كان بمقدورهم الدعاء المستجاب والطلب من الله لرفع ذلك البلاء والإعجاز لقلب الأمر، ولكنهم لم يستفيدوا من هذه القدرات الإعجازية إلا في أقصى الضرورات وذلك «لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ»(2)، وقد قال تعالى: «أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ (علیهم السلام) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ»(3)، إلى غيرها(4).

ص: 570


1- بل أمر سلمان أن يطلب منها (علیها السلام) عدم كشف رأسها للدعاء.
2- سورة الأنفال: 37.
3- سورة العنكبوت: 2-3.
4- فالدعاء الحتمي الإجابة إذا كان يغير المعادلات الكونية دائماً ويوجب التدخل الغيبي المستمر، فإنه يناقض الهدف من الخلقة والامتحان كما لا يخفى.

..............................

عن عبد الرحمن بن الحجاج، قال: ذكر عند أبي عبد الله (عليه السلام) البلاء وما يخص الله عزوجل به المؤمن. فقال: «سئل رسولالله (صلی الله علیه و آله): من أشد الناس بلاءً في الدنيا؟. فقال: النبيون ثم الأمثل فالأمثل، ويبتلى المؤمن بعدُ على قدر إيمانه وحسن أعماله، فمن صح إيمانه وحسن عمله اشتد بلاؤه، ومن سخف إيمانه وضعف عمله قل بلاؤه»(1).

وعن معاوية بن عمار، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «إن الله لم يؤمن المؤمن من بلايا الدنيا ولكن آمنه من العمى في الآخرة، ومن الشقاء يعني عمى البصر»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إن الله عزوجل يبتلي المؤمن بكل بلية ويميته بكل ميتة ولا يبتليه بذهاب عقله، أما ترى أيوب (عليه السلام) كيف سلط إبليس على ماله وعلى ولده وعلى أهله وعلى كل شيء منه ولم يسلط على عقله ترك له ليوحد الله به»(3).

وعن زيد الشحام، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إن عظيم الأجر لمع عظيم البلاء، وما أحب الله قوماً إلا ابتلاهم»(4).

وعن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)،قال: «إن لله عباداً في الأرض من خالص عباده، ليس ينزل من السماء تحفة للدنيا إلاّ صرفها عنهم إلى غيرهم، ولا ينزل من السماء بلاء للآخرة إلاّ صرفه إليهم،وهم شيعة علي (عليه السلام)

ص: 571


1- الكافي: ج2 ص252 باب شدة ابتلاء المؤمن ح2.
2- صفات الشيعة: ص33 ح50.
3- مستدرك الوسائل: ج2 ص145 ب39 ح1656.
4- وسائل الشيعة: ج3 ص263 ب77 ح3593.

..............................

وأهل بيته»(1).

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «إن الله تبارك وتعالى إذا أحب عبداً غته بالبلاء غتاً، وثجه بالبلاء ثجاً، فإذا دعاه قال: لبيك عبدي، لئن عجلت لك ما سألت إني على ذلك لقادر، ولئن ادخرت لك فما ادخرت لك خير لك»(2).

وعن زيد أبي أسامة الشحام، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إن عظيم البلاء يكافأ به عظيم الجزاء، وإذا أحب الله عبداً ابتلاه بعظيم البلاء، فمن رضي فله الرضا عند الله عزوجل، ومن سخط البلاء فله السخط»(3).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: «وعك أبو ذر، فأتيت رسول الله (صلی الله علیه وآله) فقلت: يا رسول الله، إن أبا ذر قد وعك. فقال: امض بنا إليه نعوده. فمضينا إليه جميعاً،فلما جلسنا قال له رسول الله(صلی الله علیه و آله): كيف أصبحت يا أبا ذر؟. قال: أصبحت وعكاً يا رسول الله. فقال: أصبحت في روضة من رياض الجنة، قد انغمست في ماء الحيوان، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك فأبشر يا أبا ذر»(4).

وعن الباقر (عليه السلام)، قال: «إنما يبتلى المؤمن في الدنيا على قدر دينه - أو قال - على حسب دينه»(5).

وروي: «أن نبياً من الأنبياء مر برجل قد جهده البلاء. فقال: يا رب، أما

ص: 572


1- التمحيص: ص35 ب1 ح26.
2- مشكاة الأنوار: ص297 ب7 ف7.
3- الخصال: ج1 ص18 إذا أحب الله عزوجل عبدا ابتلاه بعظيم البلاء ح64.
4- الدعوات: ص167-168 ب3 فصل في صلاة المريض وصلاحه وأدبه ودعائه عند المرض ح467.
5- مشكاة الأنوار: ص298 ب7 ف7.

..............................

ترحم هذا مما به؟. فأوحى الله إليه: كيف أرحمه مما به أرحمه»(1).

ثانياً: كما أنه في عالم التكوينيات والماديات مُعدّ ومقتضٍ وشروط وموانع، كذلك في عالمالمعنويات والماورائيات وعالم التأثيرات الغيبية على الظواهر الطبيعية، فمثلاً في عالم الأمور التكوينية يُعدّ إطلاق الرصاص مؤثراً في قتل الإنسان، إلاّ أنه ليس بعلة تامة، إذ اللازم - بعد أن تتوفر في الآلة القاتلة (كالمسدس مثلاً) كافة الشرائط في حد ذاتها - أن يكون المطلق ذا شأنية ومقدرة على الإطلاق أولاً، وعلى التوجيه نحو الهدف ثانياً، كما يلزم عدم وجود حائل أو مانع مبطل لأثر الطلقة بعد إطلاقها وهي في الطريق والفضاء، كما تبطل الصواريخ في الهواء بسبب صاروخ مضاد - ثالثاً.

كذلك الأمر في عالم التأثيرات الغيبية على الظواهر الطبيعية، مثل تأثير اسم الله الأعظم الذي «إذا دعي به على مغالق أبواب السماء للفتح بالرحمة انفتحت...»(2)، إلى آخر (دعاء السمات) في هذا الباب وغيره.

ولمزيد التوضيح نقول: إن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ من اسم الله الأعظم، كما يستفاد من بعض الروايات(3)، فهو -ولا مناقشة في الأمثال -: كالرصاص المطلق، لكن الكلام في من يتفوه بالبسملة وينطق بها (4)، وهل هو

ص: 573


1- كنز الفوائد: ج1 ص379 فصل من ذكر المرضى والعيادة.
2- البلد الأمين: ص90 دعاء مروي عن النبي (صلی الله علیه و آله) في الساعة التي يستجاب فيها الدعاء يوم الجمعة
3- راجع تهذيب الأحكام: ج2 ص289 ب15 ح15وفيه: عن عبد الله بن يحيى الكاهِلي عن أبي عبد الله (علیه السلام) عن أبيه (علیه السلام) قال: «بسم الله الرحمن الرحيم أقرب إلى اسم الله الأعظم من ناظر العين إلى بياضها».
4- فهل هو طاهر من المعاصي، وهل نطق بها عن يقين بتأثيرها، أم عن احتمال ووهم، أو شك أو ظن، وهل قالها بتجربة أم عن إيمان تام؟.

..............................

عارف بإصابة الهدف وشرائطها، وهل هنالك حائل بين الأمرين؟، إلى غيرها مما مر ذكرها.

فالنبي الأعظم (صلی الله علیه و آله)، والإمام (عليه السلام)، والصديقة الزهراء (علیها السلام)، وسائر الأنبياء والأولياء (علیهم السلام)، المستجابو الدعاء مَثلَهم - على اختلاف في الدرجات - مَثَل المطلِق المستجمع للشرائط، العارف بالتهديف، الخبير بالموانع، حيث إنهم (علیهم السلام) - يعرفون الهدف وشرائط الإصابة وموانعها، مضافاً إلى مقامهم عند الله عزوجل، ولذا إذا دعوا به استجيب لهم، وفي القرآن الحكيم: «قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ...»(1). ومنهنا نجدهم في بعض الموارد لا يدعون(2)؛ لأنهم أعرف بالمصالح والخصوصيات والشرائط والموانع وبباب التزاحم، حالهم - ولا مناقشة في الأمثال - حال الطبيب الذي يعرف أن هذا المريض لا يبرأ فإنه لا يعطيه الدواء(3) لما يعرف من عدم توفر الشرائط.

وإذا عرفنا ذلك ارتفع ما يتوهم من الإشكال عن عدم التأثير أحياناً في مثل ما ورد من «استجابة الدعاء تحت قبته (عليه السلام)، والشفاء في تربته (عليه السلام) »(4)، وهو ما يجاب به عن التساؤلات حول «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ»(5) إلى غير ذلك.

وبذلك يجاب أيضاً عن أن علياً أمير المؤمنين (عليه السلام) كان قادراً - بالقدرة

ص: 574


1- سورة النمل: 40.
2- كما في بعض الروايات من عدم دعاء الإمام (علیه السلام) لمريض خاص؟؟؟ أذكر بعض الروايات. ع- 34
3- وإذا أعطاه فإنه يعطيه تسلية له لا غير وإن كان عالماً بأنه غير نافع له، وكذلك إذا دعا الإمام (علیه السلام) له وهو يعلم بعدم التأثير.
4- راجع وسائل الشيعة: ج14 ص537 ب76 ح19773.
5- سورة غافر: 60.

فقالت: «حسبي الله» وأمسكَت.

اشارة

-------------------------------------------

الظاهرية أو القدرة الغيبية الخارقة- على اجتثاث جذور الفتن، وقطع دابر الأعداء، وحل المشاكل التي أثيرت في أيام حكومته (عليه السلام)؛ فإن لم يكن قادراً فكيف وهم (علیهم السلام) أوعية قدرة الله ومشيئته؟ وإن كان قادراً فلماذا لم يفعل؟.

هذا بالإضافة إلى النقض بقدرة الله سبحانه، وقدرة الرسول (صلی الله علیه و آله)، وكل الأنبياء والأولياء (علیهم السلام)، في كل أمثال ذلك(1) ولم يفعلوا، فليدقق.

فقالت: «حسبي الله» وأمسكَت.

حسبي الله

مسألة: يستحب - عند ورود المصائب - قول: (حسبي الله) تأسياً بالصديقة الطاهرة (علیها السلام).. ولسائر الأدلة، ويستحب تكرار ذلك في كل المصائب سواء كانت مصائب جسدية كالمرض وما أشبه، أم مالية، أم روحية، أم نفسية(2)، أو في سائر الشؤون المتعلقة بالإنسان، وسواء كانتمما يتعلق بنفسه أم أسرته أم عشيرته أم مجتمعه أم أمته..

ولا فرق بين أن يقول: (حسبي الله) أو (حسبنا الله) أو (الله حسبنا) أو ما أفاد معنى ذلك،باللغة العربية أو بسائر اللغات؛لأن المقصود هو حسبان المشكلة على الله سبحانه وتعالى، والالتجاء إليه، وإبراز ذلك، وإن كان النطق ب- (حسبنا الله) وما أشبهه مما ورد في القرآن الكريم أو السنة المطهرة بلحاظ وروده أفضل.

ص: 575


1- من اجتثاث جذور الفتن، وقطع دابر الأعداء، وحل المشاكل التي أثيرت في أيامهم...
2- ومن ذلك ما يرتبط بالسّمعة والعِرض - بالمعنى العام -.

..............................

قال تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (1).

وقال سبحانه: وَلَوْ أنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (2).

وقال عزوجل: وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (3).وقال تعالى:ƒيَا أيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (4).

وقال سبحانه: وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (5).

وقال تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (6). وقال سبحانه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (7).

ص: 576


1- سورة آل عمران: 173.
2- سورة التوبة: 59.
3- سورة الأنفال: 62.
4- سورة الأنفال: 64.
5- سورة الطلاق: 3.
6- سورة الأنفال: 129.
7- سورة الزمر: 38.

..............................

وقال تعالى: فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (1).

وقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّشَيْءٍ حَسِيباً (2).

وقال تعالى: الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (3).

وفي (الكافي)، عن أبي حمزة، قال: استأذنت على أبي جعفر (عليه السلام)، فخرج إليَّ وشفتاه تتحركان، فقلت له. فقال: «أفطنت لذلك يا ثمالي؟». قلت: نعم جعلت فداك. قال: «إني والله تكلمت بكلام ما تكلم به أحد قط إلا كفاه الله ما أهمه من أمر دنياه وآخرته». قال: قلت له: أخبرني به. قال: «نعم من قال حين يخرج من منزله: بِسْمِ اللَّهِ، حَسْبِيَ اللَّهُ، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَ أُمُورِي كُلِّهَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ خِزْيِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الآخِرَةِ، كفاه الله ما أهمه من أمر دنياه وآخرته»(4).

وعن محمد بن الفرج، أنه قال: كتب إليّ أبو جعفر محمد بن علي الرضا (عليه السلام) بهذا الدعاء وعلّمنيه وقال: من دعا به في دبر صلاة الفجر، لم يلتمس حاجة إلا يسرت له، وكفاه الله ما أهمه (بِسْمِ اللَّهِ وَبِاللَّهِ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَأُفَوِّضُأَمْرِي إِلَى اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ، فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَاسْتَجَبْنَا له وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ، وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ، حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِ-نَ

ص: 577


1- سورة النساء: 6.
2- سورة النساء: 86.
3- سورة الأحزاب: 39.
4- الكافي: ج2 ص541 باب الدعاء إذا خرج الإنسان من منزله ح3.

..............................

اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ، مَا شَاءَ اللَّهُ، لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ، مَا شَاءَ اللَّهُ، لاَ مَا شَاءَ النَّاسُ، مَا شَاءَ اللَّهُ وَإِنْ كَرِهَ النَّاسُ، حَسْبِيَ الرَّبُّ مِنَ الْمَرْبُوبِينَ، حَسْبِيَ الْخَالِقُ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ، حَسْبِيَ الرَّازِقُ مِنَ الْمَرْزُوقِينَ، حَسْبِيَ الَّذِي لَمْ يَزَلْ حَسْبِي، حَسْبِي مَنْ كَانَ مُنْذُ كُنْتُ حَسْبِي لَمْ يَزَلْ حَسْبِي، حَسْبِيَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ»(1).

وفي أحاديث نقوش خواتم الأئمة (علیهم السلام) أن «في خاتم الحسن والحسين (علیهما السلام): حسبي الله»(2).

وعن يونس بن عبد الرحمن، قال: سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن نقش خاتمه وخاتم أبيه (عليه السلام) قال: «نقش خاتمي: (مَا شَاءَ اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ)،ونقش خاتم أبي: (حَسْبِيَ اللَّهُ)، وهو الذي كنت أختم به»(3).

الاعتقاد بكفاية الله عبدَه

مسألة: أصل الاعتقاد بأن الله هو كافٍ عبده وهو حسبه واجب، والمستحب هو المراتب اللاحقة؛ لأنه مما يرتبط بأصول الدين الذي منه واجب ومنه مستحب، فالمستحب مثل: الاعتقاد ببعض خصوصيات الجنة والنار والقبر، وبعض خصوصيات الأئمة الطاهرين (عليهم الصلاة والسلام) مثل معرفة أمهاتهم وأحوالهن وما أشبه، فليس المراد بأصول الدين المستحبة - إذ أطلق

ص: 578


1- من لا يحضره الفقيه: ج1 ص326-327 باب التعقيب ح959.
2- الكافي: ج6 ص473 باب نقش الخواتيم ح2.
3- وسائل الشيعة: ج5 ص100 ب62 ح6035.

..............................

ذلك(1) - الأصول الخمسة بالمعنى المنصرف إليه، وإلاّ فهي من أوجب الواجبات العقلية والشرعية.

عن المفضل، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال:«أوحى الله عزوجل إلى داود: ما اعتصم بي عبد من عبادي دون أحد من خلقي عرفت ذلك من نيته ثم تكيده السماوات و الأرض ومن فيهن إلاّ جعلت له المخرج من بينهن، وما اعتصم عبد من عبادي بأحد من خلقي عرفت ذلك من نيته إلا قطعت أسباب السماوات من يديه وأسخت الأرض من تحته ولم أبال بأي واد هلك»(2).

وعن عبد الله بن القاسم، عن الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام) عن جده (عليه السلام) عن علي (عليه السلام)، قال: «كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو؛ فإن موسى بن عمران (عليه السلام) خرج يقتبس لأهله ناراً فكلمه الله عزوجل فرجع نبياً، وخرجت ملكة سبأ فأسلمت مع سليمان، وخرج سحرة فرعون يطلبون العزة لفرعون فرجعوا مؤمنين»(3).

تأكد الوجوب

مسألة: قد يتأكد الوجوب والاستحباب في بعض المصاديق، فبالنسبة للمظلوم والمصاب والمفجوع يتأكد لزوم ترسيخ الاعتقاد بكفاية الله عبدَه،ويتأكد تلفظه ونطقه بما يدل عليه، وهذا مصداق من مصاديق ما تقدم، فإن احتساب

ص: 579


1- أي إذا أطلق (أصول الدين المستحبة) في قبال (أصول الدين الواجبة) - إذ هو محذوف المضاف أي (خصوصيات أصول الدين) و(المستحبة) أي المستحب معرفتها والاعتقاد بها.
2- بحار الأنوار: ج68 ص125-126 ب63 ح2.
3- الأمالي للصدوق: ص178 المجلس33 ح7.

..............................

الأمور لله سبحانه وتعالى والاعتماد عليه وتفويض الأمور إليه وما أشبه ذلك عام بالنسبة إلى المظلوم وغير المظلوم، والمصاب وغير المصاب، لكنه في المظلوم والمصاب آكد، إذ هو مأمور به في الشريعة بصورة خاصة، بالإضافة إلى أنه يسبب التخفيف النفسي والترفيه الروحي على ما تقدم. إضافة إلى أن المصاب والمفجوع قد يكون في معرض تزلزل اعتقاده أكثر من غيره، فكان لابد من مزيد العناية والرعاية بلحاظ المقدمية إضافة إلى النفسية(1).

إطاعة الإمام (عليه السلام)

مسألة: يجب إطاعة الإمام (عليه السلام) وقد يجب إظهار ذلك، كما صنعته الصديقة (علیها السلام) حيث امتثلت كلامه (عليه السلام)، فقالت: «حسبي الله».

والوجوب بالنسبة إلى طاعة الإمام (عليه الصلاة والسلام) في ما صدر عنه (عليه السلام) مولوياً على نحو الإلزام، أو في الواجب إرشاداً(2)، كما يستحب أحياناً(3).وهل الأمر هنا من قبيل الواجب أو المستحب حيث امتثلت الصديقة الزهراء (عليها الصلاة والسلام) كلامه (صلوات الله عليه) وقالت: «حسبي الله»؟.

احتمالان، ومن المعلوم أن امتثال أمر الإمام (عليه السلام) حتى في الأمور المستحبة مندوب إليه شرعاً.

ص: 580


1- المقصود الوجوب أو الاستحباب النفسي، أي: ما هو بحد ذاته واجب أو مستحب وليس لمقدميته.
2- فإذا أمر الإمام (علیه السلام) بالواجب عقلاً، كما في ما يلزم من المولوية فيه الدور، أو المستقلات العقلية، فإنه إرشاد بل ربما يقال حتى في مثل (صلّ) على بعض الوجوه - فتأمل - وقد يقال بعدم وجوب زائد على أصل الوجوب فلا يستحق عقوبتين بالترك، وقد يتأمل في بعض الموارد على حسب المستفاد من الأدلة أو المركوز في أذهان المتشرعة ولو بالأشدية (للعقوبة) والآكدية (للطلب) - منه (قدس سره).
3- أي فيما عدا ذلك.

..............................

عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «ذروة الأمر وسنامه ومفتاحه وباب الأشياء ورضا الرحمن تبارك وتعالى الطاعة للإمام بعد معرفته - ثم قال - إن الله تبارك وتعالى يقول: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (1)»(2).

وعن أبي الصباح الكناني، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «يا أبا الصباح، نحنقوم فرض الله طاعتنا، لنا الأنفال ولنا صفو المال، ونحن الراسخون في العلم، ونحن المحسودون الذين قال الله في كتابه: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ (3)»(4).

وعن أبي الصباح، قال: أشهد أني سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «أشهد أن علياً إمام فرض الله طاعته، وأن الحسن إمام فرض الله طاعته، وأن الحسين إمام فرض الله طاعته، وأن علي بن الحسين إمام فرض الله طاعته، وأن محمد بن علي إمام فرض الله طاعته»(5).

وعن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سألته عن الأئمة (علیهم السلام) هل يجرون في الأمر والطاعة مجرى واحد؟. قال: «نعم»(6).

وعن الفضيل، قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام): أي شي ء أفضل ما يتقرب

ص: 581


1- سورة النساء: 80.
2- الكافي: ج1 ص185-186 باب فرض طاعة الأئمة (علیهم السلام) ح1.
3- سورة النساء: 54.
4- تفسير العياشي: ج1 ص247 من سورة النساء ح155.
5- الكافي: ج1 ص186 باب فرض طاعة الأئمة (علیهم السلام) ح2.
6- الكافي: ج1 ص187 باب فرض طاعة الأئمة (علیهم السلام) ح9.

..............................

به العباد إلى الله فيما افترض عليهم؟.فقال: «أفضل ما يتقرب به العباد إلى الله طاعة الله وطاعة رسوله، وحب الله وحب رسوله (صلی الله علیه و آله) وأولي الأمر»، وكان أبو جعفر (عليه السلام) يقول: «حبنا إيمان وبغضنا كفر»(1).

وعن أبي سلمة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: «نحن الذين فرض الله طاعتنا، لا يسع الناس إلا معرفتنا، ولا يعذر الناس بجهالتنا، من عرفنا كان مؤمناً، ومن أنكرنا كان كافراً، ومن لم يعرفنا ولم ينكرنا كان ضالاً حتى يرجع إلى الهدى الذي افترض الله عليه من طاعتنا الواجبة؛ فإن يمت على ضلالته يفعل الله به ما يشاء»(2).

امتثال الزوج

مسألة: يستحب للزوجة امتثال أمر زوجها في شؤون الحياة.

فإن على الزوجة آداباً بالنسبة إلى الزوج واجبة، وآداباً مستحبة، كما ذكره الفقهاء في كتاب النكاح.

عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «جاءت امرأة إلى النبي (صلی الله علیه و آله). فقالت: يا رسول الله، ماحق الزوج على المرأة؟. فقال لها: أن تطيعه ولاتعصيه، ولا تصدق من بيته إلا بإذنه، ولا تصوم تطوعاً إلا بإذنه، ولا تمنعه نفسها وإن كانت على ظهر قتب، ولا تخرج من بيتها إلا بإذنه، وإن خرجت من بيتها بغير إذنه لعنتها ملائكة السماء وملائكة الأرض وملائكة الغضب وملائكة الرحمة حتى ترجع إلى بيتها. فقالت: يا رسول الله، من أعظم الناس حقاً على

ص: 582


1- المحاسن: ج1 ص150 ب20 ح68.
2- بحار الأنوار: ج32 ص325 ب8 ح302.

..............................

الرجل؟. قال: والده. فقالت: يا رسول الله، من أعظم الناس حقاً على المرأة؟. قال: زوجها»(1).

وقال أبو عبد الله (عليه السلام): «أيما امرأة باتت وزوجها عليها ساخط في حق، لم يتقبل منها صلاة حتى يرضى عنها، وأيما امرأة تطيبت لغير زوجها لم تقبل منها صلاة حتى تغتسل من طيبها كغسلها من جنابتها»(2).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «الحج جهاد كل ضعيف، وجهاد المرأةحسن التبعّل»(3).

وعن عمرو بن جبير العزرمي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «جاءت امرأة إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله). فقالت: يا رسول الله، ما حق الزوج على المرأة؟. قال: أكثر من ذلك. قالت: فخبرني عن شيء منه؟. قال: ليس لها أن تصوم إلاّ بإذنه - يعني: تطوعاً - ولا تخرج من بيتها بغير بإذنه، وعليها أن تطيب بأطيب طيبها، وتلبس أحسن ثيابها، وتزين بأحسن زينتها، وتعرض نفسها عليه غدوة وعشية، وأكثر من ذلك حقوقه عليها»(4).

وعن الحسين بن زيد عن جعفر بن محمد (عليه السلام) عن آبائه (علیهم السلام) - في حديث المناهي - قال: «نهى رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن تخرج المرأة من بيتها بغير إذن زوجها؛ فإن خرجت لعنها كل ملك في السماء، وكل شيء تمر عليه من الجن والإنس حتى ترجع إلى بيتها. ونهى أن تتزين لغير زوجها؛ فإن فعلت كان حقاً على الله

ص: 583


1- الكافي: ج5 ص506-507 باب حق الزوج على المرأة ح1.
2- وسائل الشيعة: ج3 ص339 ب30 ح3812، والوسائل: ج20 ص160 ب80 ح25305.
3- مستدرك الوسائل: ج8 ص8 ب1 ح8919.
4- وسائل الشيعة: ج20 ص158 ب79 ح25301.

..............................

أن يحرقها بالنار»(1).

وفي مسائل علي بن جعفر، قال: سألته (عليه السلام) عن المرأة المغاضبة زوجها هل لها صلاة أو ما حالها؟. قال (عليه السلام): «لا تزال عاصية حتى يرضى عنها»(2).

تطابق القول والفعل

مسألة: قد يكون من الواجب - فيما كان فعله واجباً - إبراز ذلك بالقول أو غيره، وإظهار الالتزام، بحيث يكون (القول) كاشفاً عن الفعل والالتزام(3)، وقد يكون ذلك(4) مستحباً، وقد لا يكون أياً منهما، وذلك حسب العناوين التي تعرض. وقد يكون من المستحب - فيما كان فعله مستحباً - التجلي على الجوارح، وقد لا يكون كذلك(5).

ويمكن استفادة مطلق رجحان الإبراز والإظهار من قولها (علیها السلام): «حسبي الله» وإمساكها عملياً، ويمكنالقول بأن من الأفضل في الأمور المستحبة أن يظهر أثر ذلك الشيء على مجموع القلب واللسان والجوارح.

كما أن في الأمور الواجبة قد يتعلق الوجوب بالكل الواجب، وقد ينفرد بعضها بمتعلَّقيه الواجب، فيكون عقد القلب فقط مثلاً هو الواجب، أو يكون

ص: 584


1- وسائل الشيعة: ج20 ص161-162 ب80 ح25310.
2- مسائل علي بن جعفر(علیه السلام): ص185.
3- قد تكون من الأمثلة: البيعة في بعض الموارد والعقود لو حدث أن كان أصلها واجباً (كما فيمن وجب عليه الزواج خوف الوقوع في الحرام) فتأمل.
4- أي الإبراز والإظهار.
5- أي على حسب العناوين الطارئة.

..............................

الواجب متعلقاً بأحد الجوارح فقط حسب ما ذكروه في الكتب الفقهية والأصولية والكلامية.

قوله (عليه السلام): «وأمسكت» أي لم تتكلم (علیها السلام) بعد ذلك في هذا الشأن مع أمير المؤمنين علي (عليه الصلاة والسلام) وهذا من كمال التسليم وتمام الطاعة.

فصلوات الله وسلامه عليها وعلى بعلها وبنيها عدد ما أحاط به علمه، واللعنة على أعدائها أعداء الله، والحمد لله أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

قم المقدسة

محمد الشيرازي 1414ه-

ص: 585

إلى هنا تم بحمد الله تعالى

المجلد الخامس من كتاب (من فقه الزهراء (علیها السلام))

وذلك بتمام الخطبة الشريفة

التي ألقتها الصديقة الطاهرة (علیها السلام) في المسجد

وسيأتي بعده المجلد السادس ويبدأ ب- (خطبة الدار)

التي ألقتها (علیها السلام) على نساء المهاجرين والأنصار

في البيت عند عيادتهن لها

ص: 586

المجلد السادس : خطبتها علیها السلام في الدار 1

هوية الكتاب

الفقه موسوعة استدلالية في الفقه الإسلامي من فقه الزهراء (علیها السلام)

المجلد السادس : خطبتها علیها السلام في الدار 1

المرجع الديني الراحل آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (أعلى الله درجاته)

ص: 1

اشارة

الطبعة الأولى

1439 ه 2018م

تهميش وتعليق:

مؤسسة المجتبى للتحقيق والنشر

كربلاء المقدسة

ص: 2

الفقه

من فقه الزهراء (علیها السلام)

المجلد السادس

خطبتها علیها السلام في الدار

القسم الأول

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

ولعنة الله على أعدائهم أجمعين

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الصِّدِيقَةُ الشَّهِيدَةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الرَّضِيَةُ المَرْضِيَّةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الفَاضِلةُ الزَّكِيَةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الحَوْراءُ الإِنْسِيَّةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا التَّقِيَّةُ النَّقِيَّةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا المُحَدَّثَةُ العَليمَةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا المَظْلومَةُ المَغْصُوبَةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا المُضْطَهَدَةُ المَقْهُورَةُ

السَّلامُ عَليْكِ يا فاطِمَةُ بِنْتَ رَسُول اللهِ

وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ

البلد الأمين ص278. مصباح المتهجد ص711

بحار الأنوار ج97 ص195 ب12 ح5 ط بيروت

ص: 4

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.

أما بعد: فهذا الجزء السادس من كتاب (من فقه الزهراء) صلوات الله وسلامه عليها، ويشتمل على خطبة الصديقة (عليها السلام) في دارها على نساء المهاجرين والأنصار، لما جئن لعيادتها، وكان ذلك بعد مرضها الشديد التي توفيت فيها مظلومة شهيدة، حيث هجم القوم عليها أكثر من مرة، وكان القصد قتل فاطمة (سلام الله عليها)؛ لأنها كانت تفضحهم بأقوالها وأفعالها، وحتى ببكائها ليل نهار.

وهذه بعض الكلمات في شرح خطبة الدار، وبعض ما يمكن استنباطه منها من المسائل الشرعية، والله ولي التوفيق.

قم المقدسة

محمد الشيرازي

ص: 5

ص: 6

خطبة الصديقة الزهراء (صلوات الله عليها) في نساء المهاجرين والأنصار

بسم الله الرحمن الرحيم

قال سويد بن غفلة: لَمَّا مَرِضَتْ فَاطِمَةُ (عليها السلام) الْمَرْضَةَ الَّتِي تُوُفِّيَتْ فِيهَا، دَخَلَتْ عَلَيْهَا نِسَاءُ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ يَعُدْنَهَا.

فَقُلْنَ لَهَا: كَيْفَ أَصْبَحْتِ مِنْ عِلَّتِكِ يَا ابْنَةَ رَسُولِ اللهِ؟.

فَحَمِدَتِ اللهَ وَصَلَّتْ عَلَى أَبِيهَا (صلى الله عليه وآله)، ثُمَّ قَالَتْ: «أَصْبَحْتُ وَاللهِ عَائِفَةً لِدُنْيَاكُنَّ، قَالِيَةً لِرِجَالِكُنَّ، لَفَظْتُهُمْ بَعْدَ أَنْ عَجَمْتُهُمْ، وَسَئمْتُهُمْ بَعْدَ أَنْ سَبَرْتُهُمْ، فَقُبْحاً لِفُلُولِ الْحَدِّ، وَاللَّعِبِ بَعْدَ الْجِدِّ، وَقَرْعِ الصَّفَاةِ، وَصَدْعِ الْقَنَاةِ، وَخَتَلِ الآرَاءِ، وَزَلَلِ الأَهْوَاءِ، وَبِئْسَ «مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ»(1).

ص: 7


1- سورة المائدة: 80.

لاَ جَرَمَ لَقَدْ قَلَّدْتُهُمْ رِبْقَتَهَا، وَحَمَّلْتُهُمْ أَوْقَتَهَا، وَشَنَنْتُ عَلَيْهِمْ غَارَاتهَا، فَجَدْعاً وَعَقْراً، وَ«بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ»(1).

وَيْحَهُمْ أَنَّى زَعْزَعُوهَا (زحزحوها) عن رَوَاسِي الرِّسَالَةِ، وَقَوَاعِدِ النُّبُوَّةِ وَالدَّلاَلَةِ، وَمَهْبِطِ الرُّوحِ الأَمِينِ، وَالطَّبِينِ بِأُمُورِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، «أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ»(2).

وَمَا الَّذِي نَقَمُوا مِنْ أَبِي الْحَسَنِ (عليه السلام)، نَقَمُوا مِنْهُ وَاللهِ نَكِيرَ سَيْفِهِ، وَقِلَّةَ مُبَالاَتِهِ لِحَتْفِهِ، وَشِدَّةَ وَطْأَتِهِ، وَنَكَالَ وَقْعَتِهِ، وَتَنَمُّرَهُ فِي ذَاتِ اللهِ، وَتَاللهِ لَوْ مَالُوا، عن الْمَحَجَّةِ اللاَّئِحَةِ، وَزَالُوا، عن قَبُولِ الْحُجَّةِ الْوَاضِحَةِ، لَرَدَّهُمْ إِلَيْهَا، وَحَمَلَهُمْ عَلَيْهَا، وَلَسَارَ بِهِمْ سَيْراً سُجُحاً، لاَ يَكْلُمُ حشَاشُهُ، وَلاَ يَكِلُّ سَائِرُهُ، وَلاَ يُمَلُّ رَاكِبُهُ، وَلأَوْرَدَهُمْ مَنْهَلاً نَمِيراً صَافِياً رَوِيّاً، تَطْفَحُ ضَفَّتَاهُ، وَلاَ يَتَرَنَّقُ جَانِبَاهُ، وَلأَصْدَرَهُمْ بِطَاناً، وَنَصَحَ لَهُمْ سِرّاً وَإِعْلاَناً، وَلَمْ يَكُنْ يَتَحَلَّى مِنَ الدُّنْيا بِطَائِلٍ، وَلاَ يَحْظَى مِنَها بِنَائِلٍ، غَيْرَ رَيِّ النَّاهِلِ، وَشُبْعَةِ الكَافِلِ، وَلَبَانَ لَهُمُ الزَّاهِدُ مِنَ الرَّاغِبِ، وَالصَّادِقُ مِنَ الْكَاذِبِ، «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْكَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ»(3)، «وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ»(4).

ص: 8


1- سورة هود: 44.
2- سورة الزمر: 15.
3- سورة الأعراف: 96.
4- سورة الزمر: 51.

أَلاَ هَلُمَّ فَاسْمَعْ، وَمَا عِشْتَ أَرَاكَ الدَّهْرَ عَجَباً، «وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ»(1)، لَيْتَ شَعْرِي إِلَى أَيِّ سِنَادٍ اسْتَنَدُوا، وَإلى أَيِّ عِمَادٍ اعْتَمَدُوا، وَبِأَيَّةِ عُرْوَةٍ تَمَسَّكُوا، وَعَلَى أَيَّةِ ذُرِّيَّةٍ أَقْدَمُوا وَاحْتَنَكُوا، «لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ»(2) وَ«بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا»(3)، اسْتَبْدَلُوا وَاللهِ الذَّنَابَى بِالْقَوَادِمِ، وَالْعَجُزَ بِالْكَاهِلِ، فَرَغْماً لِمَعَاطِسِ قَوْمٍ «يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً»(4)، «أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لَا يَشْعُرُونَ»(5)، وَيْحَهُمْ «أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ»(6).

أَمَا لَعَمْرِي لَقَدْ لَقِحَتْ فَنَظِرَةٌ رَيْثَمَا تُنْتَجُ، ثُمَّ احْتَلَبُوا مِلْ ءَ الْقَعْبِ دَماً عَبِيطاً، وَذُعَافاً مُبِيداً، هُنَالِكَ «يَخْسَرُالْمُبْطِلُونَ»(7)، وَيُعْرَفُ التَّالُونَ غِبَّ مَا أُسِّسَ الأَوَّلُونَ.

ثُمَّ طِيبُوا، عن دُنْيَاكُمْ أَنْفُساً، وَاطْمَئِنُّوا لِلْفِتْنَةِ جَأْشاً، وَأَبْشِرُوا بِسَيْفٍ صَارِمٍ، وَسَطْوَةِ مُعْتَدٍ غَاشِمٍ، وَبِهَرْجٍ شَامِلٍ، وَاسْتِبْدَادٍ مِنَ الظَّالِمِينَ، يَدَعُ فَيْئَكُمْ زَهِيداً، وَجَمْعَكُمْ حَصِيداً، فَيَا حَسْرَةً لَكُمْ، وَأَنَّى بِكُمْ، وَقَدْ عَمِيَتْ عَلَيْكُمْ،

ص: 9


1- سورة الرعد: 5.
2- سورة الحج: 13.
3- سورة الكهف: 50.
4- سورة الكهف: 104.
5- سورة البقرة: 12.
6- سورة يونس: 35.
7- سورة الجاثية: 27.

«أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كَارِهُونَ» (1) ».

قال سويد بن غفلة: فأعادت النساء قولها (عليها السلام) على رجالهن. فجاء إليها قوم من وجوه المهاجرين والأنصار معتذرين، وقالوا: يا سيدة النساء، لو كان أبو الحسن ذكر لنا هذا الأمر من قبل أن نبرم العهد ونحكِّم العقدد لما عدلنا عنه إلى غيره.

فقالت (عليها السلام): «إِلَيْكُمْ عَنِّي، فَلاَ عُذْرَ بَعْدَ تَعْذِيرِكُمْ، وَلاَ أَمْرَ بَعْدَ تَقْصِيرِكُمْ»(2).

ص: 10


1- سورة هود: 28.
2- بحار الأنوار: ج43 ص159 - 161، كتاب تاريخ فاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام)، الباب7 من أبواب تاريخ سيدة نساء العالمين، ح9.

بسم الله الرحمن الرحيم

قال سويد بن غفلة: لَمَّا مَرِضَتْ فَاطِمَةُ (عليها السلام) الْمَرْضَةَ الَّتِي...

اشارة

-------------------------------------------

قال سويد بن غفلة: لَمَّا مَرِضَتْ فَاطِمَةُ (عليها السلام) الْمَرْضَةَ الَّتِي تُوُفِّيَتْ فِيهَا، دَخَلَتْ عَلَيْهَا نِسَاءُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ يَعُدْنَهَا.

عيادة المريض

مسألة: يستحب عيادة المريض، ويدل عليه تقرير الصديقة الطاهرة فاطمة (عليها السلام)، وكذلك تقرير بعلها أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)، إضافة إلى الروايات الكثيرة الدالة على ذلك(1).

ولعل من وجوه الحكمة في الاستحباب - إضافة للتأسي بهم (صلوات

الله عليهم) - أنها إدخال السرور في قلب المؤمن وهو مستحب، وتخفيف الأذى والألم عنه، وأن ذلك مما يوجب تكاتف المجتمع وتؤازره وتماسكه، وأنه من مصاديق «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ»(2)، ولعله يوجب - تكويناً - خفة المرض، عن المريض وتخفيفه، ويسرع في شفائه ليس فقط نفسياً وعصبياً - وهو ثابت - بل غيبياًأيضاً، إضافة إلى أنه تذكرة للإنسان بضعفه، وتذكرة له بربه، حيث يوجب تجديد تذكر الإنسان للخالق، والالتجاء إليه.

ص: 11


1- راجع الكافي: ج3 ص119، كتاب الجنائز، باب ثواب عيادة المريض.
2- سورة التوبة: 71.

..............................

كما أنه يوجب للإنسان أن يعرف قدر عافيته، ويشكر الله على ذلك.

ومن الطريف الإلفات إلى أنه قد يأتي يوم يقول فيه «السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ»(1): إن عيادة المريض شرك! كما قالوا: إن زيارة القبور شرك، لوحدة الملاك، وحسب مصطلحاتهم: للقياس، بل حتى للاستحسان، أو المصالح المرسلة، أو ما أشبه.

روايات في عيادة المرضى

عن ميسر، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: «مَنْ عَادَ امْرَأً مُسْلِماً فِي مَرَضِهِ، صَلَّى عَلَيْهِ يَوْمَئِذٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، إِنْ كَانَ صَبَاحاً حَتَّى يُمْسُوا، وَإِنْ كَانَ مَسَاءً حَتَّى يُصْبِحُوا، مَعَ أَنَّ لَهُ خَرِيفاً فِي الْجَنَّةِ»(2).

وعن فضيل بن يسار، عن أبي عبد الله(عليه السلام)، قال: «مَنْ عَادَ مَرِيضاً شَيَّعَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، يَسْتَغْفِرُونَ لَهُ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى مَنْزِلِهِ»(3).

وعن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «أَيُّمَا مُؤْمِنٍ عَادَ مُؤْمِناً خَاضَ فِي الرَّحْمَةِ خَوْضاً، فَإِذَا جَلَسَ غَمَرَتْهُ الرَّحْمَةُ، فَإِذَا انْصَرَفَ وَكَّلَ اللهُ بِهِ سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ يَسْتَغْفِرُونَ لَهُ، وَيَسْتَرْحِمُونَ عَلَيْهِ، وَيَقُولُونَ: طِبْتَ وَطَابَتْ

ص: 12


1- سورة البقرة: 142.
2- الكافي: ج3 ص119، كتاب الجنائز، باب ثواب عيادة المريض، ح1.
3- وسائل الشيعة: ج2 ص415، تتمة كتاب الطهارة، الباب10 من أبواب الاحتضار وما يناسبه، ح2510.

..............................

لَكَ الْجَنَّةُ، إِلَى تِلْكَ السَّاعَةِ مِنْ غَدٍ. وَكَانَ لَهُ - يَا أَبَا حَمْزَةَ - خَرِيفٌ فِي الْجَنَّةِ». قلت: ومَا الْخَرِيفُ جُعِلْتُ فِدَاكَ؟.قال: «زَاوِيَةٌ فِي الْجَنَّةِ يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِيهَا أَرْبَعِينَ عَاماً»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «أَيُّمَا مُؤْمِنٍ عَادَ مُؤْمِناً فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي مَرَضِهِ، وَكَّلَ اللهُ بِهِ مَلَكاً مِنَ الْعُوَّادِ يَعُودُهُ فِي قَبْرِهِ، وَيَسْتَغْفِرُ لَهُ إِلَى يَوْمِالْقِيَامَةِ»(2).

وعن صفوان الجمال، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «مَنْ عَادَ مَرِيضاً مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ أَبَداً سَبْعِينَ أَلْفاً مِنَ الْمَلاَئِكَةِ يَغْشَوْنَ رَحْلَهُ، وَيُسَبِّحُونَ فِيهِ، وَيُقَدِّسُونَ وَيُهَلِّلُونَ وَيُكَبِّرُونَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، نِصْفُ صَلاَتِهِمْ لِعَائِدِ الْمَرِيضِ»(3).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «مَنْ عَادَ مَرِيضاً، وَكَّلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ مَلَكاً يَعُودُهُ فِي قَبْرِهِ»(4).

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «كَانَ فِيمَا نَاجَى بِهِ مُوسَى رَبَّهُ أَنْ قال: يَا رَبِّ، مَا بَلَغَ مِنْ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ مِنَ الأَجْرِ؟. فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: أُوَكِّلُ بِهِ مَلَكاً

ص: 13


1- الكافي: ج3 ص120، كتاب الجنائز، باب ثواب عيادة المريض، ح3.
2- الكافي: ج3 ص120، كتاب الجنائز، باب ثواب عيادة المريض، ح4.
3- وسائل الشيعة: ج2 ص414 - 415، تتمة كتاب الطهارة، الباب10 من أبواب الاحتضار وما يناسبه، ح2509.
4- وسائل الشيعة: ج2 ص415 - 416، تتمة كتاب الطهارة، الباب10 من أبواب الاحتضار وما يناسبه، ح2513.

..............................

يَعُودُهُ فِي قَبْرِهِ إِلَى مَحْشَرِهِ»(1).وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَنْ عَادَ مَرِيضاً، نَادَاهُ مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ بِاسْمِهِ: يَا فُلاَنُ، طِبْتَ وَطَابَ لَكَ مَمْشَاكَ بِثَوَابٍ مِنَ الْجَنَّةِ»(2).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «ضَمِنْتُ لِسِتَّةٍ الْجَنَّةَ، مِنْهُمْ: رَجُلٌ خَرَجَ يَعُودُ مَرِيضاً فَمَاتَ، فَلَهُ الْجَنَّةُ»(3).

كراهة ترك العيادة

مسألة: يستفاد من بعض الروايات مضافاً إلى استحباب عيادة المريض، كراهة ترك عيادته، وقد عنون صاحب الوسائل الباب بذلك، قال: بَابُ اسْتِحْبَابِ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ الْمُسْلِمِ وَكَرَاهَةِ تَرْكِ عِيَادَتِهِ.

عن موسى بن جعفر (عليه السلام)، عن آبائه (عليهم السلام)، عن النبي (صلى الله عليه وآله)، قال: «يُعَيِّرُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَبْداً مِنْ عِبَادِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَيَقُولُ: عَبْدِي، مَا مَنَعَكَ إِذَا مَرِضْتُ أَنْ تَعُودَنِي!. فَيَقُولُ:سُبْحَانَكَ! سُبْحَانَكَ! أَنْتَ رَبُّ الْعِبَادِ لاَ تَأْلَمُ وَلاَ تَمْرَضُ. فَيَقُولُ: مَرِضَ أَخُوكَ الْمُؤْمِنُ فَلَمْ تَعُدْهُ، وَعِزَّتِي

ص: 14


1- الكافي: ج3 ص121، كتاب الجنائز، باب ثواب عيادة المريض، ح9.
2- الكافي: ج3 ص121، كتاب الجنائز، باب ثواب عيادة المريض، ح10.
3- وسائل الشيعة: ج2 ص416-417، تتمة كتاب الطهارة، الباب10 من أبواب الاحتضار وما يناسبه، ح2516.

..............................

وَجَلاَلِي لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ، ثُمَّ لَتَكَفَّلْتُ بِحَوَائِجِكَ فَقَضَيْتُهَا لَكَ، وَذَلِكَ مِنْ كَرَامَةِ عَبْدِيَ الْمُؤْمِنِ، وَأَنَا الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ»(1).

وقت العيادة

مسألة: لا تختص العيادة بوقت دون وقت، فهي مستحبة في الصباح والمساء وما أشبه. نعم، إن كان يوجب تضييقاً على المريض، فينبغي مراعاة ذلك، بحيث لا يوجب ضجره. فعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «لاَ تَكُونُ عِيَادَةٌ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، فَإِذَا وَجَبَتْ فَيَوْمٌ وَيَوْمٌ لاَ، فَإِذَا طَالَتِ الْعِلَّةُ تُرِكَ الْمَرِيضُ وَعِيَالَهُ»(2).وفي رواية: «وَالْمَرِيضُ فَلاَ تَغِيظُوهُ وَلاَ تُضْجِرُوهُ»(3).

كما يستحب تكرار العيادة.

عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «أَيُّمَا مُؤْمِنٍ عَادَ مُؤْمِناً مَرِيضاً حِينَ يُصْبِحُ شَيَّعَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، فَإِذَا قَعَدَ غَمَرَتْهُ الرَّحْمَةُ وَاسْتَغْفَرُوا لَهُ حَتَّى

ص: 15


1- وسائل الشيعة: ج2 ص417، تتمة كتاب الطهارة، الباب10 من أبواب الاحتضار وما يناسبه، ح2518.
2- الكافي: ج3 ص117، كتاب الجنائز، باب في كم يعاد المريض وقدر ما يجلس عنده وتمام العيادة، ح1.
3- الكافي: ج2 ص509، كتاب الدعاء، باب من تستجاب دعوته، ح1.

..............................

يُمْسِيَ، وَإِنْ عَادَهُ مَسَاءً كَانَ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ حَتَّى يُصْبِحَ»(1).

دعاء المريض

مسألة: يستحب للعائد أن يلتمس من المريض الدعاء له، وأن يتوقى دعاءه عليه بترك إضجاره.

قال أبو عبد الله (عليه السلام): «إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ عَلَى أَخِيهِ عَائِداً لَهُ،فَلْيَسْأَلْهُ يَدْعُو لَهُ؛ فَإِنَّ دُعَاءَهُ مِثْلُ دُعَاءِ الْمَلاَئِكَةِ»(2).

وقال الصادق (عليه السلام): «ثَلاَثَةٌ دَعْوَتُهُمْ مُسْتَجَابَةٌ: الْحَاجُّ، وَالْغَازِي، وَالْمَرِيضُ. فَلاَ تَغِيظُوهُ وَلاَ تُضْجِرُوهُ»(3).

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «مَنْ عَادَ مَرِيضاً فِي اللهِ، لَمْ يَسْأَلِ الْمَرِيضُ لِلْعَائِدِ شَيْئاً إِلاَّ اسْتَجَابَ اللهُ لَهُ»(4).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام)، قال: «عَادَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله)

ص: 16


1- وسائل الشيعة: ج2 ص418 -419، تتمة كتاب الطهارة، الباب11 من أبواب الاحتضار وما يناسبه ح2521.
2- الكافي: ج3 ص117، كتاب الجنائز، باب المريض يؤذن به الناس، ح3.
3- وسائل الشيعة: ج2 ص420، تتمة كتاب الطهارة، الباب12 من أبواب الاحتضار وما يناسبه، ح2525.
4- وسائل الشيعة: ج2 ص420، تتمة كتاب الطهارة، الباب12 من أبواب الاحتضار وما يناسبه، ح2526.

..............................

سَلْمَانَ فِي عِلَّتِهِ. فَقَالَ: يَا سَلْمَانُ، إِنَّ لَكَ فِي عِلَّتِكَ ثَلاَثَ خِصَالٍ: أَنْتَ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ بِذُكْرٍ، وَدُعَاؤُكَ فِيهِ مُسْتَجَابٌ، وَلاَ تَدَعُ الْعِلَّةُ عَلَيْكَ ذَنْباً إِلاَّ حَطَّتْهُ. مَتَّعَكَ اللَّهُ بِالْعَافِيَةِ إِلَى انْقِضَاءِ أَجَلِكَ»(1).وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «عُودُوا مَرْضَاكُمْ وَسَلُوهُمُ الدُّعَاءَ؛ فَإِنَّهُ يَعْدِلُ دُعَاءَ الْمَلاَئِكَةِ»(2).

استحباب قبول العيادة

مسألة: كما يستحب العيادة للعائد، كذلك يستحب قبول العيادة من قبل المريض، ومن يتولى شؤونه أيضاً، إلا إذا كان لأمر أهم، كفضح الظالم وما أشبه. ومن هنا يعلم السر في عدم قبول الصديقة فاطمة (عليها السلام) لعيادة من ظلمها، وإن قبلت بعد ذلك لإتمام الحجة عليهم.

عيادة مرضى النساء

مسألة: يستحب للنساء عيادة المرضى من النساء. وأما مرضى الرجال، فيختلف الحكم باختلاف موارده.

ص: 17


1- وسائل الشيعة: ج2 ص420-421، تتمة كتاب الطهارة، الباب12 من أبواب الاحتضار وما يناسبه ح2527.
2- وسائل الشيعة: ج2 ص421، تتمة كتاب الطهارة، الباب12 من أبواب الاحتضار وما يناسبه، ح2528.

..............................

والظاهر أن هذا مصداق للكليالسابق، وليس مجمعاً لعنوانين، ولا دليل على تأكد الاستحباب. والدليل على ذلك عمومات الروايات السابقة، فإنها تشمل الرجل والمرأة، وقد ذكرنا في بعض المباحث أن الأصل هو الاشتراك في الأحكام، إلا ما خرج بالدليل.

إطلاق الاستحباب

مسألة: عيادة المريض مستحبة مطلقاً، رجلاً كان أو امرأة، كبيراً أو صغيراً، صديقاً أو غريباً، إلا ما خرج بالدليل. لكن هل الاستحباب شامل لما لم يشعر المريض بالزيارة؟.

إطلاق الأدلة(1) يقتضي ذلك، والانصراف بدوي، ولعل الحِكَم الآنفة الذكر وشبهها تساعد على التمسك بالإطلاق.

ص: 18


1- أي الإطلاق الأحوالي.

فَقُلْنَ لَهَا: كَيْفَ أَصْبَحْتِ مِنْ عِلَّتِكِ يَا ابْنَةَ رَسُولِ اللهِ؟.

اشارة

-------------------------------------------

السؤال عن حال المريض

مسألة: يستحب سؤال المريض عن أحواله، وإن علم السائل بحاله، لبعض ما سبق من الِحكَم. ويستفاد الاستحباب هنا من تقرير الصديقة (عليها السلام) لسؤال النسوة، مضافاً إلى العمومات في سائر الأدلة؛ فإن العيادة العرفية تشتمل على السؤال عن صحة المريض، كما لا يخفى.

عن ابن عباس: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) - في خطبة له -:

«وَمَنْ عَادَ مَرِيضاً، فَلَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ خَطَاهَا حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى مَنْزِلِهِ سَبْعُونَ أَلْفَ أَلْفِ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَ عَنْهُ سَبْعُونَ أَلْفَ أَلْفِ سَيِّئَةٍ، وَيُرْفَعُ لَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ أَلْفِ دَرَجَةٍ، وَوُكِّلَ بِهِ سَبْعُونَ أَلْفَ أَلْفِ مَلَكٍ يَعُودُونَهُ فِي قَبْرِهِ، وَيَسْتَغْفِرُونَ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»(1).

ص: 19


1- ثواب الأعمال وعقاب الأعمال: ص292، كتاب عقاب الأعمال، عقاب مجمع عقوبات الأعمال.

فَحَمِدَتِ اللهَ

اشارة

-------------------------------------------

حمد الله مطلقاً

مسائل: يستحب حمد الله تعالى مطلقاً.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَنْ حَمِدَ اللهَ مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَ أَفْضَلَ مِنْ حُمْلاَنِ مِائَةِ فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللهِ بِسُرُجِهَا، وَلُجُمِهَا، وَرُكُبِهَا»(1).

ويتأكد استحباب الحمد عند سؤال الغير عن الحال، كما صنعت الصديقة فاطمة (صلوات الله عليها).

كما يستحب للمريض أن يحمد ربه مطلقاً، سُئل أو لم يُسأل.

ومن المستحب الجهر بحمد الله عزوجل، ويتأكد في حالات منها هذه الحالة(2)، ولعل تأكد استحباب الجهر بالحمد هنا؛ لكونه أقوى تأثيراً في الشفاء، وفي التذكير بالله تعالى، إلى غير ذلك.

مضافاً إلى أن الباري عزَّ وجل هو الذي لا يحمد على مكروه سواه.

وفي سجدة زيارة عاشوراء: «اَللّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، حَمْدَ الشَّاكِرينَ لَكَ عَلى مُصابِهِمْ، اَلْحَمْدُ للهِ عَلى عَظيمِ رَزِيَّتي»(3).

وعن عبيد بن زرارة، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إِنَّ

ص: 20


1- الكافي: ج2 ص505، كتاب الدعاء، باب التسبيح والتهليل والتكبير، ح1.
2- أي حالة سؤال المريض عن حاله.
3- المزار، للشهيد الأول: ص184، ذكر زيارات أبي عبد الله (عليه السلام) المخصوصة بالأيام والشهور، زيارة يوم عاشوراء.

..............................

الْمُؤْمِنَ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لَبِأَفْضَلِ مَكَانٍ ثَلاَثاً، إِنَّهُ لَيَبْتَلِيهِ بِالْبَلاَءِ، ثُمَّ يَنْزِعُ نَفْسَهُ عُضْواً عُضْواً مِنْ جَسَدِهِ، وَهُوَ يَحْمَدُ اللهَ عَلَى ذَلِكَ»(1).

وعن زيد الزراد، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ عَظِيمَ الْبَلاَءِ يُكَافَأُ بِهِ عَظِيمُ الْجَزَاءِ، فَإِذَا أَحَبَّ اللهُ عَبْداً ابْتَلاَهُ بِعَظِيمِ الْبَلاَءِ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ عِنْدَ اللهِ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ الْبَلاَءَ فَلَهُ عِنْدَ اللهِ السَّخَطُ»(2).

فإن الله عزوجل يعوض المصاب بالأجر العظيم، ما يتمنى أنه كان في الدنيا قد ابتلي بأكثر مما ابتلي؛ لينالعظيم المثوبة.

عن عبد الله بن أبي يعفور، قال: شَكَوْتُ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) مَا أَلْقَى مِنَ الأَوْجَاعِ - وَكَانَ مِسْقَاماً - فَقَالَ لِي: «يَا عَبْدَ اللهِ، لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ مَا لَهُ مِنَ الأَجْرِ فِي الْمَصَائِبِ، لَتَمَنَّى أَنَّهُ قُرِّضَ بِالْمَقَارِيضِ»(3).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً لاَ يَبْلُغُهَا عَبْدٌ إِلاَّ بِالاِبْتِلاَءِ فِي جَسَدِهِ»(4).

ص: 21


1- بحار الأنوار: ج64 ص211 - 212، كتاب الإيمان والكفر، الباب12 من أبواب الإيمان والإسلام والتشيع ومعانيها وفضلها وصفاتها، ح15.
2- الكافي: ج2 ص253، كتاب الإيمان والكفر، باب شدة ابتلاء المؤمن، ح8.
3- الكافي: ج2 ص255، كتاب الإيمان والكفر، باب شدة ابتلاء المؤمن، ح15.
4- وسائل الشيعة: ج3 ص258، تتمة كتاب الطهارة، الباب76 من أبواب الدفن وما يناسبه، ح3570. والوسائل: ج3 ص261، تتمة كتاب الطهارة، الباب77 من أبواب الدفن وما يناسبه، ح3585.

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيَتَعَاهَدُ الْمُؤْمِنَ بِالْبَلاَءِ، كَمَا يَتَعَاهَدُ الرَّجُلُ أَهْلَهُ بِالْهَدِيَّةِ مِنَ الْغَيْبَةِ»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال:«إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ بَلاَءً: الأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ»(2).

وعن عبد الرحمن بن الحجاج، قال: ذُكِرَ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) الْبَلاَءُ، وَمَا يَخُصُّ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ الْمُؤْمِنَ. فَقَالَ:

«سُئِلَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): مَنْ أَشَدُّ النَّاسِ بَلاَءً فِي الدُّنْيَا؟. فَقَالَ: النَّبِيُّونَ، ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، وَيُبْتَلَى الْمُؤْمِنُ بَعْدُ عَلَى قَدْرِ إِيمَانِهِ وَحُسْنِ أَعْمَالِهِ. فَمَنْ صَحَّ إِيمَانُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ اشْتَدَّ بَلاَؤُهُ، وَمَنْ سَخُفَ إِيمَانُهُ وَضَعُفَ عَمَلُهُ قَلَّ بَلاَؤُهُ»(3).

وعن زيد الشحام، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إِنَّ عَظِيمَ الأَجْرِ لَمَعَ عَظِيمِ الْبَلاَءِ، وَمَا أَحَبَّ اللهُ قَوْماً إِلاَّ ابْتَلاَهُمْ»(4).

وعن يونس بن رباط، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إِنَّ أَهْلَ الْحَقِّ لَمْ يَزَالُوا مُنْذُ كَانُوا فِيشِدَّةٍ، أَمَا إِنَّ ذَلِكَ إِلَى مُدَّةٍ قَلِيلَةٍ وَعَافِيَةٍ

ص: 22


1- بحار الأنوار: ج64 ص213، كتاب الإيمان والكفر، الباب12 من أبواب الإيمان والإسلام والتشيع ومعانيها وفضلها وصفاتها، ح19. والبحار: ج78 ص197، تتمة كتاب الطهارة، الباب1 من أبواب أبواب الجنائز ومقدماتها ولواحقها، ضمن ح53.
2- الكافي: ج2 ص252، كتاب الإيمان والكفر، باب شدة ابتلاء المؤمن، ح1.
3- بحار الأنوار: ج64 ص207، كتاب الإيمان والكفر، الباب12 من أبواب الإيمان والإسلام والتشيع ومعانيها وفضلها وصفاتها، ح6
4- وسائل الشيعة: ج3 ص263، تتمة كتاب الطهارة، الباب77 من أبواب الدفن وما يناسبه، ح3593.

..............................

طَوِيلَةٍ»(1).

بين الشكر والحمد

مسألة: الحمد عند البلاء مطلوب ومستحب؛ فإنه للنعمة والبلاء. أما الشكر فهو للنعمة خاصة، إلا إذا أريد به المعنى الأعم، قال تعالى: «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزيدَنَّكُمْ»(2).

عن معمر بن خلاد، قال: سمعت أبا الحسن (صلوات الله عليه) يقول: «مَنْ حَمِدَ اللهَ عَلَى النِّعْمَةِ فَقَدْ شَكَرَهُ، وَكَانَ الْحَمْدُ أَفْضَلَ مِنْ تِلْكَ النِّعْمَةِ»(3).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «مَا أَنْعَمَ اللهُ عَلَى عَبْدٍ مِنْ نِعْمَةٍ، فَعَرَفَهَا بِقَلْبِهِ، وَحَمِدَ اللهَ ظَاهِراً بِلِسَانِهِ، فَتَمَّكَلاَمُهُ حَتَّى يُؤْمَرَ لَهُ بِالْمَزِيدِ»(4).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام)، قال: «شُكْرُ النِّعْمَةِ اجْتِنَابُ الْمَحَارِمِ، وَتَمَامُ الشُّكْرِ قَوْلُ الرَّجُلِ: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ»(5).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «شُكْرُ كُلِّ نِعْمَةٍ - وَإِنْ عَظُمَتْ - أَنْ

ص: 23


1- الكافي: ج2 ص255، كتاب الإيمان والكفر، باب شدة ابتلاء المؤمن، ح16.
2- سورة إبراهيم: 7.
3- البرهان في تفسير القرآن: ج3 ص288 - 289، سورة إبراهيم: الآية 7، ح5682.
4- تفسير الصافي: ج3 ص80، سورة إبراهيم: الآية 7.
5- الكافي: ج2 ص95، كتاب الإيمان والكفر، باب الشكر، ح10.

..............................

تَحْمَدَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهَا»(1).

وعن حماد بن عثمان، قال: خَرَجَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه

السلام) مِنَ الْمَسْجِدِ وَقَدْ ضَاعَتْ دَابَّتُهُ، فَقَالَ: «لَئِنْ رَدَّهَا اللهُ عَلَيَّ لأَشْكُرَنَّ اللَّهَ حَقَّ شُكْرِهِ». قال: فَمَا لَبِثَ أَنْ أُتِيَ بِهَا، فَقَالَ: «الْحَمْدُ للهِ». فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، أَ لَيْسَ قُلْتَ: لأَشْكُرَنَّ اللهَ حَقَّ شُكْرِهِ؟. فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام):«أَ لَمْ تَسْمَعْنِي قُلْتُ: الْحَمْدُ للهِ»(2).

ص: 24


1- بحار الأنوار: ج68 ص40 - 41، تتمة كتاب الإيمان والكفر، الباب61 من تتمة أبواب مكارم الأخلاق، ح30.
2- الكافي: ج2 ص97، كتاب الإيمان والكفر، باب الشكر، ح18.

وَصَلَّتْ عَلَى أَبِيهَا (صلى الله عليه وآله)

اشارة

-------------------------------------------

تأكد الصلاة على النبي J في مواطن

مسألة: تستحب الصلاة على رسول الله (صلى الله عليه وآله) مطلقاً، وتتأكد في المواطن المهمة، كما في الشروع في عمل مهم، أو عند طلب حاجة من الله تعالى، أو عند بدأ عظة ونصيحة، أو في بداية خطبة، كما صنعت الصديقة فاطمة (صلوات الله عليها)؛ وذلك لأن البدأ في خطبتها هذه بالصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله)، إضافة إلى ما له من الأجر بذاته، يسبب قوة التأثير، والسداد، والبركة، وغير ذلك.

كما يتأكد استحباب الصلاة عليه (صلى الله عليه وآله) في الأزمنة المهمة، كالأسحار، وأيام الجمعة. وكذلك(1) في الأمكنة كذلك(2)، كالمساجد والمشاهد المشرفة، ومنها كربلاء المقدسة وغيرها.

ومن المستحب رفع الصوت بذلك بمايناسب المقام.

أما قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ

ص: 25


1- أي يتأكد استحباب الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله) وآله (عليهم السلام).
2- أي المهمة.

..............................

اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ»(1)، فإنه كان رفعاً للصوت بما يؤذي رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويكون إهانة له، ومثله رفع الصوت بالجدال والأمور الدنيوية بمحضر المعصوم (عليه السلام)، وإلا فرفع الصوت بالأذان، والدعاء، وقراءة القرآن، والخطب الدينية، وقصائد المدح، وقراءة العزاء الحسيني، وما أشبه لابأس به، بل هو راجح.

وقد نزلت هذه الآيات الرادعة عما كان يفعله ابن أبي قحافة وابن الخطاب من رفع الصوت، وإيذاء رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وندائه من وراء الحجرات.

روى العلامة المجلسي (رحمه الله)، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) - في حديث طويل في ذكر شهادة الإمام الحسن (عليه السلام) - قال: «فَلَمَّا أَنْ صُلِّيَعَلَيْهِ، حُمِلَ فَأُدْخِلَ الْمَسْجِدَ. فَلَمَّا أُوقِفَ عَلَى قَبْرِ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، بَلَغَ عَائِشَةَ الْخَبَرُ وَقِيلَ لَهَا: إِنَّهُمْ قَدْ أَقْبَلُوا بِالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (عليه السلام)؛ لِيُدْفَنَ مَعَ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله). فَخَرَجَتْ مُبَادِرَةً عَلَى بَغْلٍ بِسَرْجٍ، فَكَانَتْ أَوَّلَ امْرَأَةٍ رَكِبَتْ فِي الإِسْلاَمِ سَرْجاً. فَوَقَفَتْ فَقَالَتْ: نَحُّوا ابْنَكُمْ، عن بَيْتِي؛ فَإِنَّهُ لاَ يُدْفَنُ فِيهِ شَيْءٌ، وَلاَ يُهْتَكُ عَلَى رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) حِجَابُهُ!.

فَقَالَ لَهَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ (عليه السلام): قَدِيماً هَتَكْتِ أَنْتِ وَأَبُوكِ حِجَابَ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، وَأَدْخَلْتِ بَيْتَهُ مَنْ لاَ يُحِبُّ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه

ص: 26


1- سورة الحجرات: 2-5.

..............................

وآله) قُرْبَهُ، وَإِنَّ اللهَ سَائِلُكِ عن ذَلِكِ. يَا عَائِشَةُ، إِنَّ أَخِي أَمَرَنِي أَنْ أُقَرِّبَهُ مِنْ أَبِيهِ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)؛ لِيُحْدِثَ بِهِ عَهْداً، وَاعْلَمِي أَنَّ أَخِي أَعْلَمُ النَّاسِ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَأَعْلَمُ بِتَأْوِيلِ كِتَابِهِ مِنْ أَنْ يَهْتِكَ عَلَى رَسُولِ اللهِ (صلى

الله عليه وآله) سِتْرَهُ؛ لأَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ»(1)، وَقَدْ أَدْخَلْتِ أَنْتِ بَيْتَ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) الرِّجَالَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَقَدْ قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: «يَا أَيُّهَاالَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ»(2). وَلَعَمْرِي لَقَدْ ضَرَبْتِ أَنْتِ لأَبِيكِ وَفَاروقِهِ عِنْدَ أُذُنِ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) الْمَعَاوِلَ، وَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: «إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُوْلئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى»(3). وَلَعَمْرِي لَقَدْ أَدْخَلَ أَبُوكِ وَفَارُوقُهُ عَلَى رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) بِقُرْبِهِمَا مِنْهُ الأَذَى، وَمَا رَعَيَا مِنْ حَقِّهِ مَا أَمَرَهُمَا اللهُ بِهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله). إِنَّ اللهَ حَرَّمَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَمْوَاتاً مَا حَرَّمَ مِنْهُمْ أَحْيَاءً، وَتَاللهِ - يَا عَائِشَةُ - لَوْ كَانَ هَذَا الَّذِي كَرِهْتِيهِ مِنْ دَفْنِ الْحَسَنِ (عليه السلام) عِنْدَ أَبِيهِ (صلوات الله عليهما) جَائِزاً فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ اللهِ، لَعَلِمْتِ أَنَّهُ سَيُدْفَنُ وَإِنْ رَغِمَ مَعْطِسُكِ»(4).

ص: 27


1- سورة الأحزاب: 53.
2- سورة الحجرات: 2.
3- سورة الحجرات: 3.
4- بحار الأنوار: ج17 ص31 - 32، الباب14 من تتمة كتاب تاريخ نبينا (صلى الله عليه وآله)، ح13.

..............................

وفي البحار، عن الترمذي، قال: (إِنَّ الأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ (صلى

الله عليه وآله). فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، اسْتَعْمِلْهُ عَلَى قَوْمِهِ.. فَقَالَ عُمَرُ: لاَ تَسْتَعْمِلْهُ يَا رَسُولَ اللهِ. فَتَكَلَّمَا عِنْدَ النَّبِيِّ(صلى الله عليه وآله) حَتَّى عَلَتْ أَصْوَاتُهُمَا. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ: مَا أَرَدْتَ إِلاَّ خِلاَفِي. فَقَالَ: مَا أَرَدْتُ خِلاَفَكَ. قال: فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ»(1)(2).

روايات في استحباب الصلوات والجهر بها

عن أبي عبد الله (عليه السلام)، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قال: «ارْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ بِالصَّلاَةِ عَلَيَّ؛ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِالنِّفَاقِ»(3).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: «الصَّلاةُ عَلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) أَمْحَقُ لِلْخَطَايَا مِنَ الْمَاءِ لِلنَّارِ، وَالسَّلاَمُ عَلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) أَفْضَلُ مِنْ عِتْقِ رَقَابٍ، وَحُبُّ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) أَفْضَلُ مِنْ مُهَجِ الأَنْفُسِ - أَوْ قَالَ - ضَرْبِ السُّيُوفِ فِي سَبِيلِ اللهِ»(4).

ص: 28


1- سورة الحجرات: 2.
2- بحار الأنوار: ج30 ص279-280، الباب20 من تتمة كتاب الفتن والمحن.
3- الكافي: ج2 ص493، كتاب الدعاء، باب الصلاة على النبي محمد وأهل بيته ح13.
4- ثواب الأعمال وعقاب الأعمال: ص154، ثواب الصلاة والسلام على النبي (صلى الله عليه وآله) وثواب حبه.

..............................

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إِذَا ذُكِرَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) فَأَكْثِرُوا الصَّلاةَ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلاةً وَاحِدَةً، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ أَلْفَ صَلاَةٍ فِي أَلْفِ صَفٍّ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ، وَلَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِمَّا خَلَقَ اللهُ إِلاَّ صَلَّى عَلَى ذَلِكَ الْعَبْدِ؛ لِصَلاَةِ اللهِ عَلَيْهِ وَصَلاَةِ مَلاَئِكَتِهِ، وَلاَ يَرْغَبُ عَنْ هَذَا إِلاَّ جَاهِلٌ مَغْرُورٌ، قَدْ بَرِئَ اللهُ مِنْهُ وَرَسُولُهُ»(1).

وعن جعفر بن محمد (عليه السلام)، عن أبيه (عليه السلام)، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أَنَا عِنْدَ الْمِيزَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ ثَقُلَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ، جِئْتُ بِالصَّلاَةِ عَلَيَّ؛ حَتَّى أُثَقِّلَ بِهَا حَسَنَاتِهِ»(2).

وعن عبد السلام بن نعيم، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه

السلام): إني دخلت البيت(3)، فلم يحضرني شيء من الدعاء إلا الصلاة على النبي وآله؟. فقال (عليه السلام): «وَلَمْ يَخْرُجْ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّاخَرَجْتَ»(4).

وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): «كُلُّ دُعَاءٍ مَحْجُوبٍ مِنَ السَّمَاءِ، حَتَّى يُصَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ»(5).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «وَجَدْتُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ: مَنْ

ص: 29


1- بحار الأنوار: ج91 ص57، تتمة كتاب الذكر والدعاء، الباب29 من تتمة أبواب الدعاء، ح32.
2- وسائل الشيعة: ج7 ص195، تتمة كتاب الصلاة، الباب34 من أبواب الذكر، ح9097.
3- أي الكعبة المشرفة.
4- ثواب الأعمال وعقاب الأعمال: ص155، ثواب الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله).
5- مكارم الأخلاق: ص312، ب10 ف3، في الصلاة على النبي وآله (عليه وعليهم السلام).

..............................

صَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، كَتَبَ اللهُ لَهُ مِائَةَ حَسَنَةٍ. وَمَنْ قَالَ: صَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَهْلِ بَيْتِهِ، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَلْفَ حَسَنَةٍ»(1).

وقال أبو عبد الله (عليه السلام) : «إِنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله). فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، إِنِّي جَعَلْتُ ثُلُثَ صَلاَتِي لَكَ. فَقَالَ لَهُ خَيْراً. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، إِنِّي جَعَلْتُ نِصْفَ صَلاَتِي لَكَ. فَقَالَ: ذَلِكَ أَفْضَلُ. قَالَ: قَدْ جَعَلْتُ كُلَّ صَلاَتِي لَكَ. قَالَ: إِذاً يَكْفِيَكَ اللهُ مَا أَهَمَّكَ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكَ وَآخِرَتِكَ. فَقَالَلَهُ رَجُلٌ: أَصْلَحَكَ اللهُ، كَيْفَ يَجْعَلُ صَلاَتَهُ لَهُ؟. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): لاَ يَسْأَلُ اللهَ شَيْئاً إِلاَّ بَدَأَ بِالصَّلاَةِ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذات يوم لأمير المؤمنين (عليه السلام): «أَلاَ أُبَشِّرُكَ. فَقَالَ: بَلَى بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، فَإِنَّكَ لَمْ تَزَلْ مُبَشِّراً بِكُلِّ خَيْرٍ. فَقَالَ: أَخْبَرَنِي جَبْرَئِيلُ آنِفاً بِالْعَجَبِ. فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ (عليه السلام): وَمَا الَّذِي أَخْبَرَكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟. فَقَالَ: أَخْبَرَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْ أُمَّتِي إِذَا صَلَّى عَلَيَّ، وَأَتْبَعَ بِالصَّلاَةِ عَلَيَّ أَهْلَ بَيْتِي، فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَصَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلاَئِكَةُ سَبْعِينَ صَلاَةً، وَإِنْ كَانَ مُذْنِباً خَطَّاءً - وَإِنَّهُ لَمُذْنِبٌ خَطَّاءٌ - ثُمَّ تَتَحَاتُّ عَنْهُ الذُّنُوبُ، كَمَا يَتَحَاتُّ الْوَرَقُ مِنَ الشَّجَرِ.

ص: 30


1- بحار الأنوار: ج91 ص58، تتمة كتاب الذكر والدعاء، الباب29 من تتمة أبواب الدعاء، ح37.
2- ثواب الأعمال وعقاب الأعمال: ص157، ثواب من جعل ثلث صلاته أو نصف صلاته أو كل صلاته للنبي.

..............................

وَيَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: لَبَّيْكَ يَا عَبْدِي وَسَعْدَيْكَ. وَيَقُولُ اللهُ لِمَلاَئِكَتِهِ: يَا مَلاَئِكَتِي، أَنْتُمْ تُصَلُّونَ عَلَيْهِ سَبْعِينَ صَلاَةً، وَأَنَا أُصَلِّي عَلَيْهِ سَبْعَمِائَةِ صَلاَةٍ. وَإِذَا صَلَّى عَلَيَّ وَلَمْ يُتْبِعْ بِالصَّلاَةِ عَلَى أَهْلِبَيْتِي، كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ السَّمَاءِ سَبْعُونَ حِجَاباً، وَيَقُولُ اللهُ جَلَّ جَلاَلُهُ: لاَ لَبَّيْكَ وَلاَ سَعْدَيْكَ. يَا مَلاَئِكَتِي، لاَ تُصْعِدُوا دُعَاءَهُ إِلاَّ أَنْ يَلْحَقَ بِنَبِيِّهِ عِتْرَتَهُ. فَلاَ زَالَ مَحْجُوباً حَتَّى يُلْحِقَ بِي أَهْلَ بَيْتِي»(1).

وعن عمار بن موسى الساباطي، قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فقال رجل: اللهم صل على محمد وأهل بيت محمد. فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): «يَا هَذَا لَقَدْ ضَيَّقْتَ عَلَيْنَا، أَ مَا عَلِمْتَ أَنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ خَمْسَةٌ أَصْحَابُ الْكِسَاءِ». فقال الرجل: كيف أقول؟. قال: «قُلِ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، فَسَنَكُونُ نَحْنُ وَشِيعَتُنَا قَدْ دَخَلْنَا فِيهِ»(2).

وفي تفسير الإمام أبي محمد الحسن العسكري (عليه السلام): إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أتى إلى جبل بالمدينة - في حديث طويل - فسأله، فقال: «إِنِّي أَسْأَلُكَ بِجَاهِ مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّيِّبِينَ، الَّذِينَ بِذِكْرِ أَسْمَائِهِمْ خَفَّفَ اللهُ الْعَرْشَ عَلَى كَوَاهِلِ ثَمَانِيَةٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ، بَعْدَ أَنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى تَحْرِيكِهِ وَهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ- لاَ يَعْرِفُعَدَدَهُمْ غَيْرُ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ»(3).

ص: 31


1- الأمالي للصدوق: ص580، المجلس الخامس والثمانون، ح18.
2- وسائل الشيعة: ج7 ص205، تتمة كتاب الصلاة، الباب42 من أبواب الذكر، ح9121.
3- تفسير الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): ص287، معجزة عظيمة من معجزات النبي (صلى الله عليه وآله) باقتراح اليهود.

..............................

وقال الإمام (عليه السلام) - في حديث طويل - قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا خَلَقَ الْعَرْشَ، خَلَقَ لَهُ ثَلاَثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ أَلْفَ رُكْنٍ، وَخَلَقَ عِنْدَ كُلِّ رُكْنٍ ثَلاَثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ أَلْفَ مَلَكٍ، لَوْ أَذِنَ اللهُ تَعَالَى لأَصْغَرِهِمْ فَالْتَقَمَ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَالأَرَضِينَ السَّبْعَ، مَا كَانَ ذَلِكَ بَيْنَ لَهَوَاتِهِ إِلاَّ كَالرَّمْلَةِ فِي الْمَفَازَةِ الْفَضْفَاضَةِ.

فَقَالَ اللهُ تَعَالَى لَهُمْ: يَا عِبَادِي، احْمِلُوا عَرْشِي هَذَا.

فَتَعَاطَوْهُ، فَلَمْ يُطِيقُوا حَمْلَهُ وَلاَ تَحْرِيكَهُ. فَخَلَقَ اللهُ تَعَالَى مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَاحِداً، فَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يُزَعْزِعُوهُ، فَخَلَقَ اللهُ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَشْرَةً، فَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يُحَرِّكُوهُ، فَخَلَقَ اللهُ تَعَالَى بِعَدَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِثْلَ جَمَاعَتِهِمْ، فَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يُحَرِّكُوهُ.

فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لِجَمِيعِهِمْ: خَلُّوهُ عَلَيَّ، أُمْسِكْهُ بِقُدْرَتِي.

فَخَلَّوْهُ، فَأَمْسَكَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِقُدْرَتِهِ.ثُمَّ قَالَ لِثَمَانِيَةٍ مِنْهُمْ: احْمِلُوهُ أَنْتُمْ.

فَقَالُوا: يَا رَبَّنَا، لَمْ نُطِقْهُ نَحْنُ وَهَذَا الْخَلْقُ الْكَثِيرُ وَالْجَمُّ الْغَفِيرُ، فَكَيْفَ نُطِيقُهُ الآنَ دُونَهُمْ.

فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِنِّي أَنَا اللهُ الْمُقَرِّبُ لِلْبَعِيدِ، وَالْمُذَلِّلُ لِلْعَنِيدِ، وَالْمُخَفِّفُ لِلشَّدِيدِ، وَالْمُسَهِّلُ لِلْعَسِيرِ، أَفْعَلُ مَا أَشَاءُ، وَأَحْكُمُ بِمَا أُرِيدُ، أُعَلِّمُكُمْ كَلِمَاتٍ تَقُولُونَهَا، يُخَفَّفْ بِهَا عَلَيْكُمْ.

قَالُوا: وَمَا هِيَ يَا رَبَّنَا؟.

ص: 32

..............................

قَالَ: تَقُولُونَ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّيِّبِينَ.

فَقَالُوهَا، فَحَمَلُوهُ وَخَفَّ عَلَى كَوَاهِلِهِمْ، كَشَعْرَةٍ نَابِتَةٍ عَلَى كَاهِلِ رَجُلٍ جَلْدٍ قَوِيٍّ.

فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لِسَائِرِ تِلْكَ الأَمْلاَكِ: خَلُّوا عَلَى كَوَاهِلِ هَؤُلاَءِ الثَّمَانِيَةِ عَرْشِي لِيَحْمِلُوهُ، وَطُوفُوا أَنْتُمْ حَوْلَهُ، وَسَبِّحُونِي وَمَجِّدُونِي وَقَدِّسُونِي؛ فَإِنِّي أَنَا اللهُ الْقَادِرُ عَلَى مَا رَأَيْتُمْ، وَأَنَا عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»(1).

روايات في أوقات الصلوات وأماكنها

سبق أن بعض الأوقات والأماكن يستحب فيها الصلاة على محمد وآل محمد بصورة خاصة، وإن كان مطلقها(2) مستحب في مطلقها(3) ومطلقها(4).

عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِائَةَ صَلاَةٍ، قَضَى اللهُ لَهُ سِتِّينَ حَاجَةً: ثَلاَثُونَ لِلدُّنْيَا، وَثَلاَثُونَ لِلآخِرَةِ»(5).

ص: 33


1- تفسير الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) ص146-148، أركان العرش وحملته.
2- أي مطلق الصلاة على محمد وآل محمد، بأي صيغة كانت.
3- أي مطلق الأوقات.
4- أي مطلق الأماكن.
5- ثواب الأعمال وعقاب الأعمال: ص156، ثواب من صلى على النبي (صلى الله عليه وآله) يوم الجمعة مائة صلاة.

..............................

وعن الصباح بن سيابة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «أَ لاَ أُعَلِّمُكَ شَيْئاً يَقِي اللهُ بِهِ وَجْهَكَ مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ». قَالَ: قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: «قُلْ بَعْدَ الْفَجْرِ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، يَقِي اللهُ بِهَا وَجْهَكَ مِنْ حَرِّجَهَنَّمَ»(1).

وعن أبي المغيرة، قال: سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول: «مَنْ قَالَ فِي دُبُرِ صَلاَةِ الصُّبْحِ وَصَلاَةِ الْمَغْرِبِ، قَبْلَ أَنْ يَثْنِيَ رِجْلَيْهِ أَوْ يُكَلِّمَ أَحَداً: «إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً»(2)، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَذُرِّيَّتِهِ. قَضَى اللهُ لَهُ مِائَةَ حَاجَةٍ: سَبْعِينَ فِي الدُّنْيَا، وَثَلاَثِينَ فِي الآخِرَةِ».

قَالَ: قُلْتُ لَهُ: مَا مَعْنَى صَلاَةِ اللهِ وَصَلاَةِ مَلاَئِكَتِهِ، وَصَلاَةِ الْمُؤْمِنِينَ؟.

قَالَ: «صَلاَةُ اللهِ رَحْمَةٌ مِنَ اللهِ، وَصَلاَةُ مَلاَئِكَتِهِ تَزْكِيَةٌ مِنْهُمْ لَهُ، وَصَلاَةُ الْمُؤْمِنِينَ دُعَاءٌ مِنْهُمْ لَهُ. وَمِنْ سِرِّ آلِ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) فِي الصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ وَآلِهِ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ فِي الأَوَّلِينَ، وَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ فِي الآخِرِينَ، وَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ فِي الْمَلإَِ الأَعْلَى، وَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ فِي الْمُرْسَلِينَ. اللَّهُمَّ أَعْطِ مُحَمَّداً الْوَسِيلَةَ، وَالشَّرَفَ، وَالْفَضِيلَةَ، وَالدَّرَجَةَ الْكَبِيرَةَ. اللَّهُمَّ إِنِّي آمَنْتُ بِمُحَمَّدٍ وَلَمْ أَرَهُ، فَلاَ

ص: 34


1- وسائل الشيعة: ج6 ص479، تتمة كتاب الصلاة، الباب25 من أبواب التعقيب وما يناسبه، ح8491.
2- سورة الأحزاب: 56.

..............................

تَحْرِمْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ رُؤْيَتَهُ، وَارْزُقْنِي صُحْبَتَهُ، وَتَوَفَّنِي عَلَى مِلَّتِهِ، وَاسْقِنِي مِنْ حَوْضِهِ مَشْرَباً رَوِيّاً، سَائِغاً هَنِيئاً، لاَ أَظْمَأُ بَعْدَهُ أَبَداً، إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. اللَّهُمَّ كَمَا آمَنْتُ بِمُحَمَّدٍ وَلَمْ أَرَهُ، فَعَرِّفْنِي فِي الْجِنَانِ وَجْهَهُ. اللَّهُمَّ بَلِّغْ رُوحَ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) عَنِّي تَحِيَّةً كَثِيرَةً وَسَلاَماً؛ فَإِنَّ مَنْ صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) بِهَذِهِ الصَّلَوَاتِ، هُدِمَتْ ذُنُوبُهُ، وَمُحِيَتْ خَطَايَاهُ، وَدَامَ سُرُورُهُ، وَاسْتُجِيبَ دُعَاؤُهُ، وَأُعْطِيَ أَمَلَهُ، وَبُسِطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَأُعِينَ عَلَى عَدُوِّهِ، وَهِيَ لَهُ سَبَبُ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ، وَيُجْعَلُ مِنْ رُفَقَاءِ نَبِيِّهِ فِي الْجِنَانِ الأَعْلَى، يَقُولُهُنَّ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ غُدْوَةً، وَثَلاَثَ مَرَّاتٍ عَشِيَّةً»(1).

وعن حماد بن عثمان، أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام)، عن أفضل الأعمال يوم الجمعة؟.

قال: «الصَّلاَةُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ مِائَةَ مَرَّةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَمَا زِدْتَ فَهُوَأَفْضَلُ»(2).

وعن أحدهما (عليهما السلام)، قال: «إِذَا صَلَّيْتَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَقُلِ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، الأَوْصِيَاءِ الْمَرْضِيِّينَ بِأَفْضَلِ صَلَوَاتِكَ، وَبَارِكْ عَلَيْهِمْ بِأَفْضَلِ بَرَكَاتِكَ، وَالسَّلاَمُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ وَعَلَى أَرْوَاحِهِمْ وَأَجْسَادِهِمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ. كَتَبَ اللهُ لَكَ مِائَةَ أَلْفِ حَسَنَةٍ، وَمَحَا عَنْكَ مِائَةَ أَلْفِ سَيِّئَةٍ،

ص: 35


1- بحار الأنوار: ج83 ص95 - 96، الباب41 من تتمة كتاب الصلاة، ح3. والبحار: ج91 ص58- 59، تتمة كتاب الذكر والدعاء، الباب29 من تتمة أبواب الدعاء، ح38.
2- المحاسن: ج1 ص59، الباب75 من كتاب ثواب الأعمال، ح96.

..............................

وَقَضَى لَكَ بِهَا مِائَةَ أَلْفِ حَاجَةٍ، وَرَفَعَ لَكَ بِهَا مِائَةَ أَلْفِ دَرَجَةٍ»(1).

وروى الشيخ الصدوق (رحمه الله) بإسناده، عن الإمام الباقر (عليه السلام)، أنه سئل ما أفضل الأعمال يوم الجمعة؟. قال: «لاَ أَعْلَمُ عَمَلاً أَفْضَلَ مِنَ الصَّلاَةِ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ»(2).

وذكر الشيخ المفيد (رحمه الله) فيالمقنعة، عن الإمام الصادق (عليه السلام)، أنه قال: «إِذَا كَانَتْ عَشِيَّةُ الْخَمِيسِ وَلَيْلَةُ الْجُمُعَةِ، نَزَلَتْ مَلاَئِكَةٌ مِنَ السَّمَاءِ مَعَهَا أَقْلاَمُ الذَّهَبِ وَصُحُفُ الْفِضَّةِ، لاَ يَكْتُبُونَ إِلاَّ الصَّلاَةَ عَلَى النَّبِيِّ وَآلِهِ، إِلَى أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ مِنْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ»(3).

وذكر - أيضاً - عن الصادق (عليه السلام)، أنه قال: «الصَّدَقَةُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ وَيَوْمَهَا بِأَلْفِ، وَالصَّلاَةِ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بِأَلْفٍ مِنَ الْحَسَنَاتِ، وَ يَحُطُّ اللهُ فِيهَا أَلْفاً مِنَ السَّيِّئَاتِ، وَيَرْفَعُ فِيهَا أَلْفاً مِنَ الدَّرَجَاتِ. وَإِنَّ الْمُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ وَآلِهِ في لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ يَزْهَرُ نُورُهُ فِي السَّمَوَاتِ إِلَى يَوْمِ السَّاعَةِ، وَإِنَّ مَلاَئِكَةَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي السَّمَوَاتِ لَيَسْتَغْفِرُونَ لَهُ، وَيَسْتَغْفِرُ لَهُ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِقَبْرِ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ»(4).

وعن الإمام جعفر بن محمد (عليه السلام)، قال: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْخَمِيسِ عِنْدَ

ص: 36


1- ثواب الأعمال وعقاب الأعمال: ص158، ثواب من صلى على النبي وآله الأوصياء المرضيين يوم الجمعة بعد الصلاة.
2- تأويل الآيات الظاهرة في فضائل العترة الطاهرة: ص454، سورة الأحزاب الآية 56.
3- المقنعة: ص157، كتاب الصلاة، الباب13 من أبواب الصلوات.
4- المقنعة: ص156، كتاب الصلاة، الباب13 من أبواب الصلوات.

..............................

الْعَصْرِ، أَهْبَطَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مَلاَئِكَةً مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ، مَعَهَا صَحَائِفُ مِنْ فِضَّةٍ، بِأَيْدِيهِمْ أَقْلاَمٌ مِنْ ذَهَبٍ، تَكْتُبُ الصَّلاَةَ عَلَى مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ»(1).

دعاء للأب

مسألة: يستحب الدعاء للأب مطلقاً، ويتأكد إذا كان ولياً أو عالماً، فكيف إذا كان نبياً، تأسياً بالصديقة الطاهرة (صلوات الله عليها)، حيث صلت على أبيها (صلوات الله عليه وآله الطاهرين).

كما يتأكد الاستحباب في أوقات وأمكنة وحالات خاصة، كمرضه، أو حاجته، أو ما أشبه.

مما يستحب للمريض

مسألة: يستحب للمريض أن يصلي على محمد وآله الطاهرين (عليهم أفضل الصلاة والسلام)؛ فإنهم (عليهم السلام) أولياء النعم، وبهم يُستشفى من السقم، فالتوسل بهم والصلاة عليهم لا يردا حتى في يوم القيامة.عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «إِنَّ عَبْداً مَكَثَ فِي النَّارِ

ص: 37


1- محاسبة النفس: ص22، ب3، فصل في فضل الصلاة على محمد (صلى الله عليه وآله) بعد العصر من يوم الخميس.

..............................

سَبْعِينَ خَرِيفاً، وَالْخَرِيفُ سَبْعُونَ سَنَةً - قَالَ - ثُمَّ إِنَّهُ سَأَلَ اللهَ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ وَأَهْلِ بَيْتِهِ لَمَّا رَحِمْتَنِي. فَأَوْحَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى جَبْرَئِيلَ، أَنِ اهْبِطْ إِلَى عَبْدِي وَأَخْرِجْهُ. قَالَ: يَا رَبِّ، كَيْفَ لِي بِالْهُبُوطِ فِي النَّارِ!. قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: إِنِّي أَمَرْتُهَا أَنْ تَكُونَ عَلَيْكَ بَرْداً وَسَلاَماً. قَالَ: يَا رَبِّ، فَأَعْلِمْنِي بِمَوْضِعِهِ؟. قَالَ: إِنَّهُ فِي جُبٍّ فِي سِجِّيلٍ.

قَالَ: فَهَبَطَ جَبْرَئِيلُ عَلَى النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ، فَأَخْرَجَهُ. فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا عَبْدِي، كَمْ لَبِثْتَ فِي النَّارِ؟. قَالَ: مَا أُحْصِي يَا رَبِّ. فَقَالَ لَهُ: وَعِزَّتِي، لَوْلاَ مَا سَأَلْتَنِي بِهِ لأَطَلْتُ هَوَانَكَ فِي النَّارِ، وَلَكِنِّي حَتَمْتُ عَلَى نَفْسِي أَلاَّ يَسْأَلَنِي عَبْدٌ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ وَأَهْلِ بَيْتِهِ، إِلاَّ غَفَرْتُ لَهُ مَا كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ الْيَوْمَ»(1).

مما يستحب لذوي المريض

مسألة: يستحب لذوي المريض ومن يرتبط به، الصلاة على رسول الله وآله الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين) استشفاءً وتبركاً.

وما تعارف عند بعض المؤمنين من تحديد عدد معين كأربعة عشر ألف مرة فله مزيد الفائدة، وإن لم يرد بخصوصه نص(2)،

ص: 38


1- ثواب الأعمال وعقاب الأعمال: ص154- 155، ثواب من سأل الله بحق محمد (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته.
2- والتحديد ببعض الأعداد من المجربات.

..............................

فإن في الزيادة استزادة(1)، أما مع ورود نص مطلقاً(2) بعدد، فإن قاعدة التسامح في أدلة السنن تشمله.

نعم، لا يصح الإسناد بمجرد كونه من المجربات، أو للرؤيا، أو ما أشبه.

الصحابيات عالمات بما جرى عليها

كانت نساء المهاجرين والأنصار يعلمن بما جرى على الصديقة فاطمة (عليها

السلام)، وبعلّتها، وشدة مرضها، وما جرى عليها من ظلم القوم لها، حيثاجتمعن عندها وقلن لها: (كَيْفَ أَصْبَحْتِ مِنْ عِلَّتِكِ يَا ابْنَةَ رَسُولِ اللهِ؟).

وكانت علّتها بسبب هجوم القوم عليها، وإحراق دارها، وضربها، وعصرها بين الحائط والباب، وإسقاط جنينها المحسن (عليه السلام)، وكسر ضلعها، وغيرها.

ص: 39


1- أي من الأجر والبركات.
2- أي حتى إذا كان ضعيفاً.

ثُمَّ قَالَتْ: أَصْبَحْتُ وَاللهِ عَائِفَةً لِدُنْيَاكُنَّ،

اشارة

-------------------------------------------

المريض والروحانية

مسألة: يستحب للمريض أن يجيب عمن يسأله عن صحته، بحمد الله أولاً، ثم يبين حالته بما يناسب المقام، تأسياً بالصديقة الطاهرة (صلوات الله عليها)؛ فإن ذلك سبب في لطف الله تعالى بالمريض وبزواره، إضافة إلى أنه ينشر جواً من الروحانية في المجتمع، فإن المرضى إذا التزموا بذلك، تغير وجه المجتمع، وعمت الفضيلة بشكل كبير، إضافة إلى كونه تعالى مسبب الأسباب, وعالم الشهود مسخر لعالم الغيب، قال تعالى: «فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا»(1).

ثم إن المريض لو حمد الله تعالى، وقصد بذلك التأسي بالصديقة الطاهرة (صلوات الله عليها) كان له أجران: أجر الحمد، وأجر تذكرها (عليها السلام) والتأسي بها؛ فإن تذكرها في حد ذاته عبادة، وقصد التأسي بها طاعة.

المظلوم وحمد الله تعالى

مسألة: يستحب للمظلوم أن يجيب من سأله عن حاله بحمد الله أولاً، ثم يبين له حالته، وذلك لما سبق وغيره، ككون ذلك سبباً لفضح الظالم، وكونه موجباً لاطمئنان النفس، فإن بذكر الله تطمئن القلوب.

ص: 40


1- سورة الأنعام: 43.

..............................

عدة مسائل

مسائل: حيث اجتمع فيها (صلوات الله عليها) عنوان المريض، وعنوان المظلوم، بل اجتمعت فيها عناوين عدة: المظلوم، والمريض، وابنة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأم الحسنين (عليهما السلام)، وزوج الوصي (عليه السلام) و... لذا تترتب أحكام عديدة بعددها(1).

فمثلاً إذا زارها إنسان في حياتها، أو بعد استشهادها، قاصداً عنواناً واحداً حظي بأجره، ولو قصد عنوانين حظي بأجرين، وإذا قصد عدة عناوين حظي بأجرها مضاعفة بما لا يعلمه إلا الله، فإن«الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى»(2).

لا يقال: مع انطباق العنوانين في المقام: عنوان المريض، وعنوان المظلوم، وقد بدأت (صلوات الله عليها) الجواب بحمد الله، فلا يعلم أن السبب فيه هو انطباق العنوان الأول أو الثاني، فلا يصح استنباط استحباب الحمد في كلتا الحالتين منفردة، أي فيما لو انفك إحداهما عن الأخرى؟.

إذ يقال: الظاهر عرفاً في مثل هذه الموارد هو كفاية كل من العنوانين(3)، ولو بقرينة إلغاء الخصوصية، فلا حاجة بعد ذلك إلى التمسك بالعمومات

ص: 41


1- أي بعدد العناوين.
2- مصباح الشريعة: ص53، الباب الثالث والعشرون في النية.
3- وإن كان يمكن القول بأن وجه المظلومية هو الأرجح.

..............................

الأخرى(1)، حتى يلزم من ذلك عدم التمسك بكلامها (عليها السلام) ههنا، من باب إجمال وجه الفعل أو القول، وعدم حجية العمل بما هو هو، فتأمل.

هذا وهناك آداب ومستحبات للمريض،ذكرنا بعضها في (الآداب والسنن)(2) وما أشبه، ومنها: استحباب أن يتصدق المريض بيده، ويسأل السائل أن يدعو له.

قال الإمام الصادق (عليه السلام): «يُسْتَحَبُّ لِلْمَرِيضِ أَنْ يُعْطِيَ السَّائِلَ بِيَدِهِ، وَيَأْمُرَ السَّائِلَ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ»(3).

كيف أصبحت

مسألة: يرجح السؤال عن صحة الشخص ب: كيف أصبحت، وما يؤدي مؤداه، وقد ورد مثل ذلك في الروايات الشريفة.

عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مِنْ تَمَامِ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ إِذَا دَخَلْتَ عَلَيْهِ، أَنْ تَضَعَ يَدَكَ عَلَى رَأْسِهِ، وَتَقُولَ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ

ص: 42


1- الدالة على استحباب الحمد بشكل عام.
2- من تأليفات سماحة الإمام الشيرازي (أعلى الله مقامه) في مدينة قم المقدسة عام 1406ه. ضمن موسوتعة (الفقه)، ويقع الكتاب في أربعة أجزاء قياس24 × 17، وقد تم طبع هذا الكتاب عدة مرات منها: طبعة دار القرآن الحكيم - قم المقدسة، وطبعة مؤسسة الفكر الإسلامي - قم المقدسة، وطبعة دار العلوم - بيروت، عام 1410ه / 1989م.
3- الكافي: ج4 ص3 -4، تتمة كتاب الزكاة، أبواب الصدقة، باب فضل الصدقة، ح9.

..............................

وَكَيْفَ أَمْسَيْتَ. فَإِذَا جَلَسْتَ عِنْدَهُ غَمَرَتْكَ الرَّحْمَةُ، وَإِذَا خَرَجْتَ مِنْ عِنْدِهِ خُضْتَهَا مُقْبِلاً وَمُدْبِراً، وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى حِقْوَيْهِ»(1).

وروى الطبرسي في مكارم الأخلاق، قال النبي (صلى الله عليه وآله): «تَمَامُ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ، أَنْ يَضَعَ أَحَدُكُمْ يَدَهُ عَلَيْهِ، وَيَسْأَلَهُ: كَيْفَ أَنْتَ، كَيْفَ أَصْبَحْتَ، وَكَيْفَ أَمْسَيْتَ، وَتَمَامُ تَحِيَّتِكُمُ الْمُصَافَحَةُ»(2).

وعن إسحاق بن عمار، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إِنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) صَلَّى بِالنَّاسِ الصُّبْحَ، فَنَظَرَ إِلَى شَابٍّ فِي الْمَسْجِدِ، وَهُوَ يَخْفِقُ وَيَهْوِي بِرَأْسِهِ، مُصْفَرّاً لَوْنُهُ، قَدْ نَحِفَ جِسْمُهُ، وَغَارَتْ عَيْنَاهُ فِي رَأْسِهِ.

فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا فُلاَنُ؟.

قَالَ: أَصْبَحْتُ يَا رَسُولَ اللهِ مُوقِناً.

فَعَجِبَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) مِنْ قَوْلِهِ، وَقَالَ: إِنَّ لِكُلِّ يَقِينٍ حَقِيقَةً، فَمَاحَقِيقَةُ يَقِينِكَ؟.

فَقَالَ: إِنَّ يَقِينِي - يَا رَسُولَ اللهِ - هُوَ الَّذِي أَحْزَنَنِي، وَأَسْهَرَ لَيْلِي، وَأَظْمَأَ هَوَاجِرِي، فَعَزَفَتْ نَفْسِي عن الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، حَتَّى كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي وَقَدْ نُصِبَ لِلْحِسَابِ، وَحُشِرَ الْخَلاَئِقُ لِذَلِكَ وَأَنَا فِيهِمْ، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَنَعَّمُونَ فِي الْجَنَّةِ وَيَتَعَارَفُونَ، وَعَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى

ص: 43


1- الأمالي للطوسي: ص639، المجلس 32، ح1320.
2- مكارم الأخلاق: ص359 -360، ب11 ف1، في عيادة المريض.

..............................

أَهْلِ النَّارِ وَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُونَ مُصْطَرِخُونَ، وَكَأَنِّي الآنَ أَسْمَعُ زَفِيرَ النَّارِ يَدُورُ فِي مَسَامِعِي.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) لأَصْحَابِهِ: هَذَا عَبْدٌ نَوَّرَ اللَّهُ قَلْبَهُ بِالإِيمَانِ - ثُمَّ قَالَ لَهُ - الْزَمْ مَا أَنْتَ عَلَيْهِ.

فَقَالَ الشَّابُّ: ادْعُ اللَّهَ لِي - يَا رَسُولَ اللهِ - أَنْ أُرْزَقَ الشَّهَادَةَ مَعَكَ.

فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ خَرَجَ فِي بَعْضِ غَزَوَاتِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله)، فَاسْتُشْهِدَ بَعْدَ تِسْعَةِ نَفَرٍ، وَكَانَ هُوَ الْعَاشِرَ»(1).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: «وُعِكَ أَبُو ذَرٍّ (رضوان الله عليه)، فَأَتَيْتُرَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَبَا ذَرٍّ قَدْ وُعِكَ.

فَقَالَ: امْضِ بِنَا إِلَيْهِ نَعُودُهُ.

فَمَضَيْنَا إِلَيْهِ جَمِيعاً، فَلَمَّا جَلَسْنَا قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا أَبَا ذَرٍّ؟.

قَالَ: أَصْبَحْتُ وَعِكاً يَا رَسُولَ اللهِ.

فَقَالَ: أَصْبَحْتَ فِي رَوْضَةٍ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، قَدِ انْغَمَسْتَ فِي مَاءِ الْحَيَوَانِ، وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا يَقْدَحُ مِنْ دِينِكَ، فَأَبْشِرْ يَا أَبَا ذَرٍّ»(2).

وَقَالَ (صلى الله عليه وآله): «الْحُمَّى حَظُّ كُلِّ مُؤْمِنٍ مِنَ النَّارِ، الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ

ص: 44


1- الكافي: ج2 ص53، كتاب الإيمان والكفر، باب حقيقة الإيمان واليقين، ح2.
2- الدعوات للراوندي: ص167- 168، ب3، فصل في صلاة المريض وصلاحه وأدبه ودعائه عند المرض، ح467.

..............................

جَهَنَّمَ، الْحُمَّى رَائِدُ الْمَوْتِ»(1).

المعنى الأعم لأصحبت

ثم إن (كَيْفَ أَصْبَحْتِ): أي على أي حال دخلت في الصباح، وربما كان بمعنى كيفصرتِ، وحينئذٍ ربما يقال بتجرد (أصبحت) عن الدلالة على المعنى الخاص في الزمن الخاص(2)، بل يستخدم في أمثال المقام للدلالة على التحول من حال إلى حال.

لكنه في المقام قد يكشف عن زيارة النسوة لها صباحاً، فابتدأنها بالسؤال: (كَيْفَ أَصْبَحْتِ مِنْ عِلَّتِكِ يَا ابْنَةَ رَسُولِ اللهِ؟)، فأجابت (عليها السلام) طبق السؤال.

وقد عقد العلامة المجلسي (رحمه الله) باباً خصه فيما قيل في جواب كيف أصبحت، وذكر فيه الروايات التالية:

قِيلَ لِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (عليه السلام): كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ؟.

قَالَ: «أَصْبَحْتُ مَطْلُوباً بِثَمَانِ خِصَالٍ: اللهُ تَعَالَى يَطْلُبُنِي بِالْفَرَائِضِ، وَالنَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) بِالسُّنَّةِ، وَالْعِيَالُ بِالْقُوتِ، وَالنَّفْسُ بِالشَّهْوَةِ، وَالشَّيْطَانُ بِالْمَعْصِيَةِ، وَالْحَافِظَانِ بِصِدْقِ الْعَمَلِ، وَمَلَكُ الْمَوْتِ بِالرُّوحِ، وَالْقَبْرُ بِالْجَسَدِ،

ص: 45


1- بحار الأنوار: ج78 ص188، تتمة كتاب الطهارة، الباب1 من أبواب الجنائز ومقدماتها ولواحقها، ضمن ح45.
2- فليس في مقابل أمسيت.

..............................

فَأَنَا بَيْنَ هَذِهِ الْخِصَالِ مَطْلُوبٌ»(1).وَقِيلَ لِلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ (عليه السلام): كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ؟.

فَقَالَ: «أَصْبَحْتُ وَلِي رَبٌّ فَوْقِي، وَالنَّارُ أَمَامِي، وَالْمَوْتُ يَطْلُبُنِي، وَالْحِسَابُ مُحْدِقٌ بِي، وَأَنَا مُرْتَهَنٌ بِعَمَلِي، لاَ أَجِدُ مَا أُحِبُّ، وَلاَ أَدْفَعُ مَا أَكْرَهُ، وَالأُمُورُ بِيَدِ غَيْرِي، فَإِنْ شَاءَ عَذَّبَنِي، وَإِنْ شَاءَ عَفَا، فَأَيُّ فَقِيرٍ أَفْقَرُ مِنِّي»(2).

وقيل لأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟.

فَقَالَ: «كَيْفَ يُصْبِحُ مَنْ كَانَ للهِ عَلَيْهِ حَافِظَانِ، وَعَلِمَ أَنَّ خَطَايَاهُ مَكْتُوبَةٌ فِي الدِّيوَانِ، إِنْ لَمْ يَرْحَمْهُ رَبُّهُ فَمَرْجِعُهُ إِلَى النِّيرَانِ»(3).

وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: دَخَلْتُ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) يَوْماً. فَقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟.

قَالَ: «آكُلُ رِزْقِي».

قَالَ جَابِرٌ: مَا تَقُولُ فِي دَارِ الدُّنْيَا؟.قَالَ: «مَا نَقُولُ فِي دَارٍ أَوَّلُهَا غَمٌّ، وَآخِرُهَا الْمَوْتُ».

قَالَ: فَمَنْ أَغْبَطُ النَّاسِ؟.

ص: 46


1- بحار الأنوار: ج73 ص15، تتمة كتاب العشرة، الباب99 من أبواب التحية والتسليم والعطاس وما يتعلق بها، ح1.
2- بحار الأنوار: ج73 ص15، تتمة كتاب العشرة، الباب99 من أبواب التحية والتسليم والعطاس وما يتعلق بها، ح2.
3- بحار الأنوار: ج73 ص15، تتمة كتاب العشرة، الباب99 من أبواب التحية والتسليم والعطاس وما يتعلق بها، ضمن ح2.

..............................

قَالَ: «جَسَدٌ تَحْتَ التُّرَابِ، أَمْنٌ مِنَ الْعِقَابِ وَيَرْجُو الثَّوَابَ»(1).

وَقِيلَ لِسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟.

قَالَ: كَيْفَ يُصْبِحُ مَنْ كَانَ الْمَوْتُ غَايَتَهُ، وَالْقَبْرُ مَنْزِلَهُ، وَالدِّيدَانُ جِوَارَهُ، وَإِنْ لَمْ يُغْفَرْ لَهُ فَالنَّارُ مَسْكَنُهُ(2).

وقِيلَ لِحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟.

قَالَ: كَيْفَ يُصْبِحُ مَنْ كَانَ اسْمُهُ عَبْداً، وَيُدْفَنُ غَداً فِي الْقَبْرِ وَحْداً، وَيُحْشَرُ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ فَرْداً(3).

وعَنِ الْمُسَيَّبِ، قَالَ: خَرَجَ أَمِيرُالْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) يَوْماً مِنَ الْبَيْتِ، فَاسْتَقْبَلَهُ سَلْمَانُ.

فَقَالَ (عليه السلام) لَهُ: «كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ؟».

قَالَ: أَصْبَحْتُ فِي غُمُومٍ أَرْبَعَةٍ.

فَقَالَ لَهُ: «وَمَا هُنَّ؟».

قَالَ: غَمُّ الْعِيَالِ يَطْلُبُونَ الْخُبْزَ وَالشَّهَوَاتِ، وَالْخَالِقِ يَطْلُبُ الطَّاعَةَ، وَالشَّيْطَانِ يَأْمُرُ بِالْمَعْصِيَةِ، وَمَلَكِ الْمَوْتِ يَطْلُبُ الرُّوحَ».

ص: 47


1- بحار الأنوار: ج73 ص16، تتمة كتاب العشرة، الباب99 من أبواب التحية والتسليم والعطاس وما يتعلق بها، ضمن ح2.
2- بحار الأنوار: ج73 ص16، تتمة كتاب العشرة، الباب99 من أبواب التحية والتسليم والعطاس وما يتعلق بها، ضمن ح2.
3- بحار الأنوار: ج73 ص16، تتمة كتاب العشرة، الباب99 من أبواب التحية والتسليم والعطاس وما يتعلق بها، ضمن ح2.

..............................

فَقَالَ لَهُ: «أَبْشِرْ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ فَإِنَّ لَكَ بِكُلِّ خَصْلَةٍ دَرَجَاتٍ، وَإِنِّي كُنْتُ دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) ذَاتَ يَوْمٍ.

فَقَالَ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا عَلِيُّ؟. فَقُلْتُ: أَصْبَحْتُ وَلَيْسَ فِي يَدِي شَيْءٌ غَيْرُ الْمَاءِ، وَأَنَا مُغْتَمٌّ لِحَالِ فَرْخَيَّ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ (عليهما السلام).

فَقَالَ لِي: يَا عَلِيُّ، غَمُّ الْعِيَالِ سِتْرٌ مِنَ النَّارِ، وَطَاعَةُ الْخَالِقِ أَمَانٌ مِنَ الْعَذَابِ، وَالصَّبْرُ عَلَى الطَّاعَةِ جِهَادٌ، وَأَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ سِتِّينَ سَنَةً، وَغَمُّ الْمَوْتِ كَفَّارَةُ الذُّنُوبِ. وَاعْلَمْ - يَا عَلِيُّ - أَنَّ أَرْزَاقَ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ سُبْحَانَهُ، وَغَمَّكَ لَهُمْ لاَ يَضُرُّكَ وَلاَ يَنْفَعُ غَيْرَ أَنَّكَ تُؤْجَرُ عَلَيْهِ،وَإِنَّ أَغَمَّ الْغَمِّ غَمُّ الْعِيَالِ»(1).

وقِيلَ لِعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ (عليه السلام): كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا رُوحَ اللهِ؟.

قَالَ: «أَصْبَحْتُ وَرَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْ فَوْقِي، وَالنَّارُ أَمَامِي، وَالْمَوْتُ فِي طَلَبِي، لاَ أَمْلِكُ مَا أَرْجُو، وَلاَ أُطِيقُ دَفْعَ مَا أَكْرَهُ، فَأَيُّ فَقِيرٍ أَفْقَرُ مِنِّي»(2).

وَقِيلَ لِلنَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله): كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟.

قَالَ: «بِخَيْرٍ مِنْ رَجُلٍ لَمْ يُصْبِحْ صَائِماً، وَلَمْ يَعُدْ مَرِيضاً، وَلَمْ يَشْهَدْ جَنَازَةً»(3).

ص: 48


1- بحار الأنوار: ج73 ص16- 17، تتمة كتاب العشرة، الباب99 من أبواب التحية والتسليم والعطاس وما يتعلق بها، ضمن ح2.
2- بحار الأنوار: ج73 ص17، تتمة كتاب العشرة، الباب99 من أبواب التحية والتسليم والعطاس وما يتعلق بها، ح3.
3- بحار الأنوار: ج73 ص17، تتمة كتاب العشرة، الباب99 من أبواب التحية والتسليم والعطاس وما يتعلق بها، ضمن ح3.

..............................

وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الأَنْصَارِيُّ: لَقِيتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) ذَاتَ يَوْمٍ صَبَاحاً. فَقُلْتُ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟.

قَالَ: «بِنِعْمَةِ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ، مِنْ رَجُلٍ لَمْيَزُرْ أَخاً، وَلَمْ يُدْخِلْ عَلَى مُؤْمِنٍ سُرُوراً».

قُلْتُ: وَمَا ذَلِكَ السُّرُورُ؟.

قَالَ: «يُفَرِّجُ عَنْهُ كَرْباً، أَوْ يَقْضِي عَنْهُ دَيْناً، أَوْ يَكْشِفُ عَنْهُ فَاقَةً»(1).

وقَالَ جَابِرٌ: وَلَقِيتُ عَلِيّاً يَوْماً، فَقُلْتُ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟.

قَالَ: «أَصْبَحْنَا وَبِنَا مِنْ نِعَمِ اللهِ وَفَضْلِهِ مَا لاَ نُحْصِيهِ، مَعَ كَثِيرِ مَا نُحْصِيهِ، فَمَا نَدْرِي أَيَّ نِعْمَةٍ نَشْكُرُ، أَ جَمِيلَ مَا يَنْتَشِرُ، أَمْ قَبِيحَ مَا يَسْتُرُ»(2).

وَقِيلَ لأَبِي ذَرٍّ (رضي الله عنه): كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا صَاحِبَ رَسُولِ اللهِ؟.

قَالَ: أَصْبَحْتُ بَيْنَ نِعْمَتَيْنِ: بَيْنَ ذَنْبٍ مَسْتُورٍ، وَثَنَاءٍ مَنِ اغْتَرَّ بِهِ فَهُوَ الْمَغْرُورُ(3).

وَقِيلَ لأُوَيْسِ بْنِ عَامِرٍ الْقَرَنِيِّ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا أَبَا عَامِرٍ؟.

ص: 49


1- بحار الأنوار: ج73 ص17، تتمة كتاب العشرة، الباب99 من أبواب التحية والتسليم والعطاس وما يتعلق بها، ضمن ح3.
2- بحار الأنوار: ج73 ص17، تتمة كتاب العشرة، الباب99 من أبواب التحية والتسليم والعطاس وما يتعلق بها، ضمن ح3.
3- بحار الأنوار: ج73 ص17، تتمة كتاب العشرة، الباب99 من أبواب التحية والتسليم والعطاس وما يتعلق بها، ضمن ح3.

..............................

قَالَ: مَا ظَنُّكُمْ بِمَنْ يَرْحَلُ إِلَى الآخِرَةِ كُلَّ يَوْمٍ مَرْحَلَةً، لاَ يَدْرِي إِذَا انْقَضَى سَفَرُهُ، أَ عَلَى جَنَّةٍ يَرِدُ أَمْ عَلَى نَارٍ(1).

وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الطَّيَّارُ: دَخَلْتُ عَلَى عَمِّي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) صَبَاحاً وَكَانَ مَرِيضاً، فَقُلْتُ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟.

قَالَ: «يَا بُنَيَّ، كَيْفَ أَصْبَحَ مَنْ يَفْنَى بِبَقَائِهِ، وَيَسْقُمُ بِدَوَائِهِ، وَيُؤْتَى مِنْ مَأْمَنِهِ»(2).

وَقِيلَ لابْنِهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ (عليه السلام): كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟. قَالَ: «أَصْبَحْنَا غَرْقَى فِي النِّعْمَةِ، مَوْقُورِينَ بِالذُّنُوبِ، يَتَحَبَّبُ إِلَيْنَا إِلَهُنَا بِالنِّعَمِ، وَنَتَمَقَّتُ إِلَيْهِ بِالْمَعَاصِي، وَنَحْنُ نَفْتَقِرُ إِلَيْهِ، وَهُوَ غَنِيٌّ عَنَّا»(3).

وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كُنَّا مَارِّينَ فِيأَزِقَّةِ الْمَدِينَةِ يَوْماً، إِذْ أَقْبَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام)، فَقَالَ: «السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ». فَقَالَ: «وَعَلَيْكَ السَّلاَمُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟». قَالَ: «أَصْبَحْتُ وَنَوْمِي خَطَرَاتٌ، وَيَقَظَتِي فَزَعَاتٌ، وَفِكْرَتِي فِي يَوْمِ الْمَمَاتِ»(4).

ص: 50


1- بحار الأنوار: ج73 ص17، تتمة كتاب العشرة، الباب99 من أبواب التحية والتسليم والعطاس وما يتعلق بها، ضمن ح3.
2- بحار الأنوار: ج73 ص18، تتمة كتاب العشرة، الباب99 من أبواب التحية والتسليم والعطاس وما يتعلق بها، ضمن ح3.
3- بحار الأنوار: ج73 ص18، تتمة كتاب العشرة، الباب99 من أبواب التحية والتسليم والعطاس وما يتعلق بها، ضمن ح3.
4- بحار الأنوار: ج73 ص18، تتمة كتاب العشرة، الباب99 من أبواب التحية والتسليم والعطاس وما يتعلق بها، ضمن ح3.

..............................

كيف أصبحت وبيان الظلامة

مسألة: يستحب أو يجب كل في مورده، بيان الظلامة في جواب كيف أصبحت، وذلك هدايةً للناس إلى الطريق الصحيح، وفضح الظلمة والطغاة، كما قالت الصديقة فاطمة (عليها السلام) في جواب نسوة القوم، وقالت في جواب السيدة أم سلمة (رضوان الله عليها)، وقال الإمام زين العابدين (عليه السلام) في جواب المنهال.

في تفسير القمي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: لَقِيَ الْمِنْهَالُ بْنُ عَمْرٍو عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ (عليه السلام)، فَقَالَ لَهُ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ؟.قَالَ: «وَيْحَكَ أَمَا آنَ لَكَ أَنْ تَعْلَمَ كَيْفَ أَصْبَحْتُ. أَصْبَحْنَا فِي قَوْمِنَا مِثْلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي آلِ فِرْعَوْنَ، يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَنَا، وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَنَا، وَأَصْبَحَ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ يُلْعَنُ عَلَى الْمَنَابِرِ، وَأَصْبَحَ عَدُوُّنَا يُعْطَى الْمَالَ وَالشَّرَفَ، وَأَصْبَحَ مَنْ يُحِبُّنَا مَحْقُوراً مَنْقُوصاً حَقُّهُ، وَكَذَلِكَ لَمْ يَزَلِ الْمُؤْمِنُونَ، وَأَصْبَحَتِ الْعَجَمُ تَعْرِفُ لِلْعَرَبِ حَقَّهَا بِأَنَّ مُحَمَّداً كَانَ مِنْهَا، وَأَصْبَحَتِ الْعَرَبُ تَعْرِفُ لِقُرَيْشٍ حَقَّهَا بِأَنَّ مُحَمَّداً كَانَ مِنْهَا، وَأَصْبَحَتْ قُرَيْشٌ تَفْتَخِرُ عَلَى الْعَرَبِ بِأَنَّ مُحَمَّداً كَانَ مِنْهَا، وَأَصْبَحَتِ الْعَرَبُ تَفْتَخِرُ عَلَى الْعَجَمِ بِأَنَّ مُحَمَّداً كَانَ مِنْهَا، وَأَصْبَحْنَا أَهْلَ بَيْتِ مُحَمَّدٍ لا يُعْرَفُ لَنَا حَقٌّ، فَهَكَذَا أَصْبَحْنَا يَا مِنْهَالُ»(1).

ص: 51


1- تفسير القمي: ج2 ص134- 135، سورة القصص الآيات 1 إلى 6.

..............................

وفي المناقب لابن شهرآشوب: دَخَلَتْ أُمُّ سَلَمَةَ عَلَى فَاطِمَةَ (عليها السلام)، فَقَالَتْ لَهَا: كَيْفَ أَصْبَحْتِ عن لَيْلَتِكِ يَا بِنْتَ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)؟.

قَالَتْ: «أَصْبَحْتُ بَيْنَ كَمَدٍ وَكَرْبٍ، فُقِدَ النَّبِيُّ، وَظُلِمَ الْوَصِيُّ، وَهُتِكَ وَاللهِ حُجُبُهُ، أَصْبَحَتْ إِمَامَتُهُ مَقْتَصَةً عَلَى غَيْرِ مَا شَرَعَ اللهُفِي التَّنْزِيلِ، وَسَنَّهَا النَّبِيُّ فِي التَّأْوِيلِ، وَلَكِنَّهَا أَحْقَادٌ بَدْرِيَّةٌ، وَتِرَاتٌ أُحُدِيَّةٌ، كَانَتْ عَلَيْهَا قُلُوبُ النِّفَاقِ مُكْتَمِنَةً لإِمْكَانِ الْوُشَاةِ، فَلَمَّا اسْتُهْدِفَ الأَمْرُ، أَرْسَلَتْ عَلَيْنَا شَآبِيبَ الآثَارِ مِنْ مَخِيلَةِ الشِّقَاقِ، فَيَقْطَعُ وَتَرَ الإِيمَانِ مِنْ قِسِيِّ صُدُورِهَا، وَلَبِئْسَ عَلَى مَا وَعَدَ اللهُ مِنْ حِفْظِ الرِّسَالَةِ، وَكَفَالَةِ الْمُؤْمِنِينَ. أَحْرَزُوا عَائِدَتَهُمْ غُرُورَ الدُّنْيَا بَعْدَ اسْتِنْصَارٍ، مِمَّنْ فَتَكَ بِآبَائِهِمْ فِي مَوَاطِنِ الْكَرْبِ، وَمَنَازِلِ الشَّهَادَاتِ»(1).

كيف أصبحت وبيان الحقائق

مسألة: قد يجاب عن السؤال بكيف أصبحت، ببيان الحقائق، والنصح، وما يفيد الآخرين، وهو راجح بالمعنى الأعم.

وعن حنش بن المعتمر، قال: دَخَلْتُ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) وَهُوَ فِي الرَّحْبَةِ مُتَّكِئاً. فَقُلْتُ: السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟.

قَالَ: فَرَفَعَ رَأْسَهُ وَرَدَّ عَلَيَّ، وَقَالَ: «أَصْبَحْتُ مُحِبّاً لِمُحِبِّنَا، صَابِراً عَلَى

ص: 52


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام): ج2 ص205 - 206، باب ما تفرد من مناقبه (عليه السلام)، فصل في ظلامة أهل البيت (عليهم السلام).

..............................

بُغْضِ مَنْ يُبْغِضُنَا. إِنَّ مُحِبَّنَا يَنْتَظِرُ الرَّوْحَ وَالْفَرَجَ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَإِنَّ مُبْغِضَنَا بَنَى بِنَاءً فَ- «أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ»، فَكَأَنَّ بُنْيَانَهُ قَدْ هَارَ «فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ»(1).

يَا أَبَا الْمُعْتَمِرِ، إِنَّ مُحِبَّنَا لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُبْغِضَنَا، وَإِنَّ مُبْغِضَنَا لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُحِبَّنَا. إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى جَبَلَ قُلُوبَ الْعِبَادِ عَلَى حُبِّنَا، وَخَذَلَ مَنْ يُبْغِضُنَا، فَلَنْ يَسْتَطِيعَ مُحِبُّنَا بُغْضَنَا، وَلَنْ يَسْتَطِيعَ مُبْغِضُنَا حُبَّنَا، وَلَنْ يَجْتَمِعَ حُبُّنَا وَحُبُّ عَدُوِّنَا فِي قَلْبٍ وَاحِدٍ، «مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ»(2)، يُحِبُّ بِهَذَا قَوْماً، وَيُحِبُّ بِالآخَرِ أَعْدَاءَهُمْ»(3).

وفي الرواية: سُئِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟.

فقال: «أَصْبَحْتُ وَأَنَا الصِّدِّيقُ الأَكْبَرُ، وَالْفَارُوقُ الأَعْظَمُ، وَأَنَا وَصِيُّ خَيْرِ الْبَشَرِ، وَأَنَا الأَوَّلُ وَأَنَا الآخِرُ، وَأَنَا الْبَاطِنُ وَأَنَا الظَّاهِرُ، وَأَنَا بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وَأَنَا عَيْنُ اللهِ، وَأَنَا جَنْبُ اللهِ، وَأَنَا أَمِينُ اللهِعَلَى الْمُرْسَلِينَ. بِنَا عُبِدَ اللهُ، وَنَحْنُ خُزَّانُ اللهِ فِي أَرْضِهِ وَسَمَائِهِ، وَأَنَا أُحْيِي، وَأَنَا أُمِيتُ، وَأَنَا حَيٌّ لاَ أَمُوتُ».

فَتَعَجَّبَ الأَعْرَابِيُّ مِنْ قَوْلِهِ.

فقال (عليه السلام): «أَنَا الأَوَّلُ: أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِرَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله).

ص: 53


1- سورة التوبة: 109.
2- سورة الأحزاب: 4.
3- الأمالي للمفيد: ص233، المجلس السابع والعشرون، ح4.

..............................

وَأَنَا الآخِرُ: آخِرُ مَنْ نَظَرَ فِيهِ لَمَّا كَانَ فِي لَحْدِهِ.

وَأَنَا الظَّاهِرُ: ظَاهِرُ الإِسْلاَمِ.

وَأَنَا الْبَاطِنُ: بَطِينٌ مِنَ الْعِلْمِ.

وَأَنَا بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ: فَإِنِّي عَلِيمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ أَخْبَرَ اللهُ بِهِ نَبِيَّهُ فَأَخْبَرَنِي بِهِ.

فَأَمَّا عَيْنُ اللهِ: فَأَنَا عَيْنُهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَفَرَةِ.

وَأَمَّا جَنْبُ اللهِ: فَ- «أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ»(1)، وَمَنْ فَرَّطَ فِيَّ فَقَدْ فَرَّطَ فِي اللهِ، وَلَمْ يَجُزْ لِنَبِيٍّ نُبُوَّةً حَتَّى يَأْخُذَ خَاتَماً مِنْ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله)؛ فَلِذَلِكَ سُمِّيَ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ مُحَمَّدٌ سَيِّدُ النَّبِيِّينَ وَأَنَا سَيِّدُ الْوَصِيِّينَ.

وَأَمَّا خُزَّانُ اللهِ فِي أَرْضِهِ: فَقَدْ عَلِمْنَا مَا عَلَّمَنَا رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) بِقَوْلٍ صَادِقٍ.وَأَنَا أُحْيِي: أُحْيِي سُنَّةَ رَسُولِ اللهِ.

وَأَنَا أُمِيتُ: أُمِيتُ الْبِدْعَةَ.

وَأَنَا حَيٌّ لاَ أَمُوتُ: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: «وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ»(2)»(3).

ص: 54


1- سورة الزمر: 56.
2- سورة آل عمران: 169.
3- بحار الأنوار: ج39 ص347 - 348، تتمة كتاب تاريخ أمير المؤمنين (عليه السلام)، الباب90 من تتمة أبواب فضائله ومناقبه (صلوات الله عليه) ، ح20.

..............................

الهدفية

مسألة: الهدفية واجبة وقد تكون مستحبة، وهذا مما نستفيده من الصديقة الكبرى (عليها السلام)، حيث إنها وضعت الهدف (وهو إحقاق الحق والدفاع، عن الولاية وعن ولي المؤمنين وأميرهم (عليه السلام))، وكذا (إبطال الباطل، وفضح غاصبي الخلافة) نصب عينيها، فاستغلت حتى مثل هذا السؤال البسيط العرفي العادي، وهو السؤال عن صحتها، لتحويله إلى منبر لإحقاق الحق وإبطال الباطل.

فالمقصود بالهدفية: أن يسخر الإنسان كل طاقاته، وكل الظروف، وكل الطوارئ - الهام منها والعادي -للوصول إلى الهدف المشروع، وذلك بين واجب ومستحب. وإن أمكن القول بأن الهدف هنا - وهو واجب كفائي بل أكبر واجب(1) - حيث لم يقم به من فيه الكفاية، صار واجباً عينياً.

القسم للمهمات

مسألة: يجوز الحلف لبيان الأمور المهمة، والجواز هنا بالمعنى الأعم، كما قالت (عليها السلام): «أَصْبَحْتُ وَاللهِ».

ص: 55


1- وذلك لقول الإمام الباقر (عليه السلام): (بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: عَلَى الصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالْحَجِّ، وَالْوَلَايَةِ. وَلَمْ يُنَادَ بِشَيْءٍ كَمَا نُودِيَ بِالْوَلَايَةِ) - الكافي: ج2 ص18، كتاب الإيمان والكفر، باب دعائم الإسلام، ح1.

..............................

فإنه قد يكون واجباً إذا توقف إحقاق الحق وإقناع الناس، أو فضح عدو الله وعدو الرسول (صلى الله عليه وآله)، وعدو أهل البيت (عليهم السلام) عليه.

وغير خفي أنه قسمها (عليها السلام) للتأكيد، وإلا فهي معصومة يجب قبول قولها، فإن القوم لو كانوا يعقلون أو يفقهون حديثاً، فإنها التي أذهب الله عنها الرجس وطهرها تطهيراً من كل دنس، أو خطأ، أو خطل، أو زلة، فكيف بمثلالكذب، قال تعالى: «إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً »(1).

وهي (عليها السلام) التي يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها، في كل الأزمان وفي كل الحالات ... إلى غير ذلك من الأدلة، إلا أن القوم حيث كانوا «لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً»(2) اختارت (صلوات الله عليها) القسم، فالقسم للتأكيد ولنزع أية شائبة تشكيك في القلوب، ولمزيد إتمام الحجة، كما في القسم الوارد في القرآن الكريم.

الدنيا المذمومة والممدوحة

مسألة: الدنيا قد تكون مذمومة، وقد تكون ممدوحة، فما حكم الدنيا بما هي هي، أي لا بشرط؟.

ص: 56


1- سورة الأحزاب: 56.
2- سورة النساء: 78.

..............................

قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في النهج: «دَارُ صِدْقٍ لِمَنْ صَدَقَهَا، وَدَارُ عَافِيَةٍ لِمَنْ فَهِمَ عَنْهَا، وَدَارُ غِنًى لِمَنْ تَزَوَّدَ مِنْهَا»(1). فعن ابن نباتة، قال:كنت جالساً عند أمير المؤمنين (عليه السلام)، فجاء إليه رجل فشكا إليه الدنيا وذمها. فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «إِنَّ الدُّنْيَا مَنْزِلُ صِدْقٍ لِمَنْ صَدَقَهَا، وَدَارُ غِنًى لِمَنْ تَزَوَّدَ مِنْهَا، وَدَارُ عَاقِبَةٍ لِمَنْ فَهِمَ عَنْهَا، مَسْجِدُ أَحِبَّاءِ اللهِ، وَمَهْبِطُ وَحْيِ اللهِ، وَمُصَلَّى مَلاَئِكَتِهِ، وَمَتْجَرُ أَوْلِيَائِهِ. اكْتَسَبُوا فِيهَا الْجَنَّةَ، وَرَبِحُوا فِيهَا الرَّحْمَةَ، فَلِمَاذَا تَذُمُّهَا! وَقَدْ آذَنَتْ بِبَيْنِهَا، وَنَادَتْ بِانْقِطَاعِهَا، وَنَعَتْ نَفْسَهَا وَأَهْلَهَا، فَمَثَّلَتْ بِبَلاَئِهَا إِلَى الْبَلاَءِ، وَشَوَّقَتْ بِسُرُورِهَا إِلَى السُّرُورِ. رَاحَتْ بِفَجِيعَةٍ، وَابْتَكَرَتْ بِعَافِيَةٍ، تَحْذِيراً وَتَرْغِيباً وَتَخْوِيفاً، فَذَمَّهَا رِجَالٌ غَدَاةَ النَّدَامَةِ وَحَمِدَهَا آخَرُونَ، ذَكَّرَتْهُمْ فَذَكَرُوا، وَحَدَّثَتْهُمْ فَصَدَّقُوا. فَيَا أَيُّهَا الذَّامُّ لِلدُّنْيَا الْمُعْتَلُّ بِتَغْرِيرِهَا، مَتَى اسْتَذَمَّتْ إِلَيْكَ الدُّنْيَا وَغَرَّتْكَ، أَ بِمَنَازِلِ آبَائِكَ مِنَ الثَّرَى، أَمْ بِمَضَاجِعِ أُمَّهَاتِكَ مِنَ الْبِلَى، كَمْ مَرَّضْتَ بِكَفَّيْكَ، وَكَمْ عَلَّلْتَ بِيَدَيْكَ، تَبْتَغِي لَهُ الشِّفَاءَ، وَتَسْتَوْصِفُ لَهُ الأَطِبَّاءَ، لَمْ يَنْفَعْهُ إِشْفَاقُكَ، وَلَمْ تَعُقْهُ طَلِبَتُكَ، مَثَّلَتْ لَكَ بِهِ الدُّنْيَا نَفْسَكَ، وَبِمَصْرَعِهِ مَصْرَعَكَ، فَجَدِيرٌ بِكَ أَنْ لاَ يَفْنَى بِهِ بُكَاؤُكَ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لاَ يَنْفَعُكَ أَحِبَّاؤُكَ»(2).فالدنيا إن اتخذت مزرعة للآخرة، وطريقاً إلى الجنة، واستثمرت لعمل الصالحات، كانت مطلوبة. وإن اتخذت أداة للشر، وطريقاً إلى النار، كانت

ص: 57


1- نهج البلاغة: قصار الحكم، رقم 127.
2- الزهد: ص47 - 48، باب8 ما جاء في الدنيا ومن طلبها.

..............................

مكروهة، هذا بالنسبة إلى الشخص نفسه.

وكذا بالنسبة إلى الآخرين، فإن كانت الدنيا مسخرة للظلمة، يعيثون فيها فساداً، ويهلكون الحرث والنسل، فإنها دار لا يريدها المؤمن، ويسأل الله منها الخلاص.

وذلك هو ما أشارت إليه الصديقة الكبرى فاطمة (صلوات الله عليها)، حيث قالت: (أَصْبَحْتُ وَاللهِ عَائِفَةً لِدُنْيَاكُنَّ)، فالدنيا أصبحت مكروهة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وبعد غصب حق الولي المرتضى.. بعد أن كانت محبوبة بوجود الحبيب المصطفى (صلى الله عليه وآله)، وتحت قيادته ورايته.

فكره الصديقة فاطمة (عليها السلام) للدنيا لا بما هي هي، بل لما دارت السنين، وانقلب القوم على أعقابهم، وحكم أئمة الجور والضلال.

* قولها (عليها السلام) : «عَائِفَةً» من عاف الشخص الطعام يعافه عيافاً إذا كرهه، أي: إني أكره دنياكن؛ فإن هذه الدنيا التي يكون فيها إبطال الحق وإحياءالباطل، هي دنيا مكروهة.

ص: 58

..............................

كره الدنيا

مسألة: يستحب التأسي بالصديقة فاطمة (صلوات الله عليها) في كرهها للدنيا، بعدما حكمها الظالمون بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، بل قد يقال بوجوبه في الجملة(1).

وكما يستحب أو يجب كره تلك الدنيا بتلك الخصوصيات، وبلحاظ حكم الظالمين والغاصبين فيها، يستحب أو يجب كره أي دنيا في أي زمن آخر يحكم فيه الطغاة.

ولعل لذلك وصف المؤمن في الدنيا بأنه غريب، قال (عليه السلام): «طُوبَى لِلْغُرَبَاءِ»(2).

وفي الحديث: «إِنَّ الْقَلْبَ إِذَا صَفَا ضَاقَتْ بِهِ الأَرْضُ حَتَّى يَسْمُوَ»(3).وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «مَرَّ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) بِجَدْيٍ أَسَكَّ، مُلْقًى عَلَى مَزْبَلَةٍ مَيْتاً. فَقَالَ لأَصْحَابِهِ: كَمْ يُسَاوِي هَذَا؟. فَقَالُوا: لَعَلَّهُ لَوْ كَانَ حَيّاً لَمْ يُسَاوِ دِرْهَماً. فَقَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ

ص: 59


1- إذا انطبق عليه عنوان التبري من أعداء الله بمرتبة وجوبه، أو بلحاظ ما سيأتي منه (رحمه الله) بعد صفحة تحت عنوان (لدنياكن): (لأن كرهها للدنيا مساوق لغضبها على من يحبها...).
2- المحاسن: ج1 ص272، كتاب مصابيح الظلم، باب37 تصديق رسول الله (صلى الله عليه وآله) والتسليم له، ح366.
3- الكافي: ج2 ص130، كتاب الإيمان والكفر، باب ذم الدنيا والزهد فيها، ضمن ح10.

..............................

لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ هَذَا الْجَدْيِ عَلَى أَهْلِهِ»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا إِضْرَاراً بِالآخِرَةِ، وَفِي طَلَبِ الآخِرَةِ إِضْرَاراً بِالدُّنْيَا، فَأَضِرُّوا بِالدُّنْيَا؛ فَإِنَّهَا أَوْلَى بِالإِضْرَارِ»(2).

وعن ابن أبي يعفور، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «فِيمَا نَاجَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ مُوسَى (عليه السلام): يَا مُوسَى، لاَ تَرْكَنْ إِلَى الدُّنْيَا رُكُونَ الظَّالِمِينَ، وَرُكُونَ مَنِ اتَّخَذَهَا أَباً وَأُمّاً. يَا مُوسَى، لَوْ وَكَلْتُكَ إِلَى نَفْسِكَ لِتَنْظُرَ لَهَا، إِذاً لَغَلَبَ عَلَيْكَ حُبُّ الدُّنْيَا وَزَهْرَتُهَا. يَامُوسَى، نَافِسْ فِي الْخَيْرِ أَهْلَهُ وَاسْتَبِقْهُمْ إِلَيْهِ؛ فَإِنَّ الْخَيْرَ كَاسْمِهِ، وَاتْرُكْ مِنَ الدُّنْيَا مَا بِكَ الْغِنَى عَنْهُ، وَلاَ تَنْظُرْ عَيْنُكَ إِلَى كُلِّ مَفْتُونٍ بِهَا، وَمُوكَلٍ إِلَى نَفْسِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ فِتْنَةٍ بَدْؤُهَا حُبُّ الدُّنْيَا، وَلاَ تَغْبِطْ أَحَداً بِكَثْرَةِ الْمَالِ؛ فَإِنَّ مَعَ كَثْرَةِ الْمَالِ تَكْثُرُ الذُّنُوبُ لِوَاجِبِ الْحُقُوقِ. وَلاَ تَغْبِطَنَّ أَحَداً بِرِضَى النَّاسِ عَنْهُ، حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّ اللهَ رَاضٍ عَنْهُ. وَلاَ تَغْبِطَنَّ مَخْلُوقاً بِطَاعَةِ النَّاسِ لَهُ؛ فَإِنَّ طَاعَةَ النَّاسِ لَهُ، وَاتِّبَاعَهُمْ إِيَّاهُ عَلَى غَيْرِ الْحَقِّ هَلاَكٌ لَهُ وَلِمَنِ اتَّبَعَهُ»(3).

ص: 60


1- بحار الأنوار: ج70 ص55، تتمة كتاب الإيمان والكفر، باب122 من تتمة أبواب الكفر ومساوي الأخلاق، ح27.
2- الكافي: ج2 ص131، كتاب الإيمان والكفر، باب ذم الدنيا والزهد فيها، ح12.
3- بحار الأنوار: ج70 ص73، تتمة كتاب الإيمان والكفر، باب122 من تتمة أبواب الكفر ومساوي الأخلاق، ح37.

..............................

الزهد في الدنيا أو كرهها

مسألة: كون الإنسان زاهداً في الدنيا أمر، وكونه عائفاً وكارهاً لها أمر آخر، وقد أشارت الصديقة (صلوات الله عليها) ههنا إلى الأمر الثاني، وأنها أصبحت عائفة لدنياهن.

والأول مستحب بالنظر إلى الدنيا بما هي هي.

والثاني مستحب أو واجب بالنظر إلىالدنيا لا بما هي هي، بل بما هي دنيا الظالمين، ودنيا اتخذت طريقاً للمعاصي والظلم والشر.

وقد ورد في الحديث في معنى الزهد ما مضمونه: (ليس الزهد أن لا تملك شيئاً، بل الزهد أن لا يملكك شيء).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قيل لأمير المؤمنين (عليه السلام): «مَا الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا؟. قَالَ: تَنَكُّبُ حَرَامِهَا»(1).

وعن السكوني، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «لَيْسَ الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا بِإِضَاعَةِ الْمَالِ، وَلاَ بِتَحْرِيمِ الْحَلاَلِ، بَلِ الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا أَنْ لاَ تَكُونَ بِمَا فِي يَدِكَ أَوْثَقَ مِنْكَ بِمَا فِي يَدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ»(2).

وعن أبي جعفر الثاني، عن أبيه، عن جده (عليهم السلام)، قال:

ص: 61


1- معاني الأخبار: ص251، باب معنى الزهد، ح1.
2- بحار الأنوار: ج67 ص310، تتمة كتاب الإيمان والكفر، باب58 من تتمة أبواب مكارم الأخلاق، ح4.

..............................

«سُئِلَ الصَّادِقُ (عليه السلام) عن الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا؟. قَالَ: الَّذِي يَتْرُكُ حَلاَلَهَا مَخَافَةَ حِسَابِهِ، وَيَتْرُكُ حَرَامَهَا مَخَافَةَعَذَابِهِ»(1).

وعن حفص، قال: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): جُعِلْتُ فِدَاكَ، مَا حَدُّ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا؟. فَقَالَ: «فَقَدْ حَدَّهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: «لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ»(2). إِنَّ أَعْلَمَ النَّاسِ بِاللهِ أَخْوَفُهُمْ بِاللهِ، وَأَخْوَفَهُمْ لَهُ أَعْلَمُهُمْ بِهِ، وَأَعْلَمَهُمْ بِهِ أَزْهَدُهُمْ فِيهَا»(3).

وفي رواية: سَأَلَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) جَبْرَئِيلَ (عليه السلام) عَنْ تَفْسِيرِ الزُّهْدِ؟. قال: «الزَّاهِدُ يُحِبُّ مَنْ يُحِبُّ خَالِقَهُ، وَيُبْغِضُ مَنْ يُبْغِضُ خَالِقَهُ، وَيَتَحَرَّجُ مِنْ حَلاَلِ الدُّنْيَا، وَلاَ يَلْتَفِتُ إِلَى حَرَامِهَا؛ فَإِنَّ حَلاَلَهَا حِسَابٌ، وَحَرَامَهَا عِقَابٌ، وَيَرْحَمُ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا يَرْحَمُ نَفْسَهُ، وَيَتَحَرَّجُ مِنَ الْكَلاَمِ كَمَا يَتَحَرَّجُ مِنَ الْمَيْتَةِ الَّتِي قَدِ اشْتَدَّ نَتْنُهَا، وَيَتَحَرَّجُ عَنْ حُطَامِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا كَمَا يَتَجَنَّبُ النَّارَ أَنْ يَغْشَاهَا، وَأَنْ يُقَصِّرَ أَمَلَهُ وَكَأَنَّ بَيْنَ عَيْنَيْهِ أَجَلَهُ»(4).وقال الصادق (عليه السلام): «الزُّهْدُ مِفْتَاحُ بَابِ الآخِرَةِ، وَالْبَرَاءَةُ مِنَ النَّارِ، وَهُوَ تَرْكُكَ كُلَّ شَيْءٍ يَشْغَلُكَ عَنِ اللهِ مِنْ غَيْرِ تَأَسُّفٍ عَلَى فَوْتِهَا، وَلاَ إِعْجَابٍ

ص: 62


1- معاني الأخبار: ص287، باب معنى الزاهد في الدنيا، ح1.
2- سورة الحديد: 23.
3- بحار الأنوار: ج67 ص311، تتمة كتاب الإيمان والكفر، باب58 من تتمة أبواب مكارم الأخلاق، ح8.
4- معاني الأخبار: ص261، باب معنى التوكل على الله عز وجل والصبر والقناعة والرضا والزهد والإخلاص واليقين، ح1.

..............................

فِي تَرْكِهَا، وَلاَ انْتِظَارِ فَرَجٍ مِنْهَا، وَلاَ طَلَبِ مَحْمَدَةٍ عَلَيْهَا، وَلاَ عِوَضٍ مِنْهَا، بَلْ تَرَى فَوْتَهَا رَاحَةً، وَكَوْنَهَا آفَةً، وَتَكُونُ أَبَداً هَارِباً مِنَ الآفَةِ، مُعْتَصِماً بِالرَّاحَةِ. وَالزَّاهِدُ الَّذِي يَخْتَارُ الآخِرَةَ عَلَى الدُّنْيَا، وَالذُّلَّ عَلَى الْعِزِّ، وَالْجَهْدَ عَلَى الرَّاحَةِ، وَالْجُوعَ عَلَى الشِّبَعِ، وَعَاقِبَةَ الآجِلِ عَلَى مَحَبَّةِ الْعَاجِلِ، وَالذِّكْرَ عَلَى الْغَفْلَةِ، وَتَكُونُ نَفْسُهُ فِي الدُّنْيَا وَقَلْبُهُ فِي الآخِرَةِ»(1).

فوائد الزهد وكره الدنيا

ثم إن فوائد الزهد أكثر من أن تحصى، على ما هو مذكور في كتب الأخلاق، وقد ألمعنا في (الفضيلة الإسلامية)(2)إلى طرف من ذلك.

وأما كره الدنيا إذا كانت دنيا باطلة، ففوائدها جمة، منها: تمحيص الإنسان من الاغترار والانجرار ونحوها.

ص: 63


1- مصباح الشريعة: ص137، الباب الرابع والستون في الزهد.
2- هذا الكتاب من تأليفات الإمام الشيرازي (رحمه الله) بتوصية من والده المعظم آية الله العظمى السيد ميرزا مهدي الشيرازي (قدس سره) في مدينة كربلاء المقدسة. وقد طبع في أجزاء مستقلة في العراق وإيران قياس 20×14، كما قامت بطبعه مؤسسة الوفاء - بيروت/ لبنان في مجلد واحد يقع في (501) صفحة عام 1402ه، وأعادت طبعه لجنة أهل البيت (عليهم السلام) الخيرية - الكويت في مجلد واحد. وقد كتب الإمام الشيرازي (رحمه الله) في الخاتمة ما هذا نصه: «وقد فكرت ذات مرة إن كان للوقت متسع وللتوفيق سعة، لكان بالإمكان إنهاء أجزاء الكتاب إلى الخمسين؛ لما للفضيلة من عرض عريض، كما لا يخفى لمن راجع "الوسائل"، و"المستدرك"، و"البحار"، و"جامع السعادات"، و"مكارم الأخلاق"، وغيرها».

..............................

ومنها: إن القلب الذي كره هذه الدنيا يذوق حلاوة العبادة، ويدرك بعض درجات لذة المناجاة مع الله، حسب درجات كرهه لدنيا الظلم والضلال.. ولهذا بحث طويل نتركه لمظانه.

قال الإمام الصادق (عليه السلام): «إِذَا تَخَلَّى الْمُؤْمِنُ مِنَ الدُّنْيَا سَمَا، وَوَجَدَ حَلاَوَةَ حُبِّ اللهِ، وَكَانَ عِنْدَ أَهْلِ الدُّنْيَا كَأَنَّهُقَدْ خُولِطَ، وَإِنَّمَا خَالَطَ الْقَوْمَ حَلاَوَةُ حُبِّ اللهِ، فَلَمْ يَشْتَغِلُوا بِغَيْرِهِ»(1).

وقال (عليه السلام): «إِنَّ فِي كِتَابِ عَلِيٍّ (عليه السلام): إِنَّمَا مَثَلُ الدُّنْيَا كَمَثَلِ الْحَيَّةِ، مَا أَلْيَنَ مَسَّهَا وَفِي جَوْفِهَا السَّمُّ النَّاقِعُ. يَحْذَرُهَا الرَّجُلُ الْعَاقِلُ، وَيَهْوِي إِلَيْهَا الصَّبِيُّ الْجَاهِلُ»(2).

وقال (عليه السلام): «مَثَلُ الدُّنْيَا كَمَثَلِ مَاءِ الْبَحْرِ، كُلَّمَا شَرِبَ مِنْهُ الْعَطْشَانُ ازْدَادَ عَطَشاً حَتَّى يَقْتُلَهُ»(3).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): «مَثَلُ الْحَرِيصِ عَلَى الدُّنْيَا كَمَثَلِ دُودَةِ الْقَزِّ، كُلَّمَا ازْدَادَتْ عَلَى نَفْسِهَا لَفّاً، كَانَ أَبْعَدَ لَهَا مِنَ الْخُرُوجِ، حَتَّى تَمُوتَ غَمّاً»(4).

ص: 64


1- الكافي: ج2 ص130، كتاب الإيمان والكفر، باب ذم الدنيا والزهد فيها، ضمن ح10.
2- وسائل الشيعة: ج16 ص17، تتمة كتاب الجهاد، الباب63 ح20845.
3- بحار الأنوار: ج70 ص79، تتمة كتاب الإيمان والكفر، باب122 من تتمة أبواب الكفر ومساوي الأخلاق، ح40.
4- وسائل الشيعة: ج16 ص19 - 20، تتمة كتاب الجهاد، الباب64 من بقية أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ح20853.

..............................

ما هي الدنيا المكروهة

مسألة: هنا التفاتة لطيفة حيث إنها (صلوات الله عليها) لم تقل: (أصبحت عائفة للدنيا) بل قالت: (أصبحت عائفة لدنياكن).

فالمكروه هو (دنياهن) وليست الدنيا بما هي هي، كما سبق.

والمقصود ب (دنياكن) هو: الدنيا التي ألفنها، وأنسن بها، ورضين بها، أو استسلمن لها، وهي دنيا الخضوع للسلطان الجائر، ودنيا السكوت، أو تأييد غصب الخلافة، ودنيا الإعراض عن خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ودنيا تحكيم الإرهاب ومنطق القوة على قوة المنطق، ودنيا الإعراض عن منهج رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الحريات، والعدل، وعدم الإثرة، والإحسان، والأخوة الإسلامية... إلى غير ذلك مما أكدت عليه الآيات الكريمة والروايات النبوية الشريفة.

إنها (صلوات الله عليها) تكره هذه الدنيا، فيجب علينا - كما سبق - أن نكره أيضاً تلك الدنيا؛ لأن كرهها لها مساوق لغضبها لها ولمن يحبها، وغضبها مساوق لغضب الله، حيث قال (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ اللهَ لَيَغْضَبُ لِغَضَبِ فَاطِمَةَ، وَيَرْضَىلِرِضَاهَا»(1).

ص: 65


1- الأمالي للمفيد: ص95، المجلس الحادي عشر، ح4.

..............................

نساء زاهدات

مسألة: يستحب أو يجب كل في مورده، أن تتأسى مجموعة من النساء في كل جيل، بالصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) في الزهد بالدنيا وفي كره الدنيا، وأن يسعينَ ليكنَّ أسوة للأخريات في ذلك، ولو قصدن في ذلك - أي في الزهد والكره للدنيا بما يستلزم ذلك من مظاهره - إضافة إلى كونه مطلوباً لذاته، لحاظ أنه تأسٍ بالزهراء (صلوات الله عليها) ولحاظ أن يكنَّ أسوة، كان الأجر مضاعفاً.

قد يقال: إن لحاظ أن يكنَّ أسوة للأخريات من النساء لا حاجة إليه، إذ الصديقة الطاهرة (عليها السلام) أسوة، وأية أسوة إنها في القمة، فلا حاجة لغيرها ولا مجال لغيرها ليتأسى بها؟.

لكن فيه: أن لا مانعة جمع، فإن بعضاً من الناس لا يتأسى بالعظيم ويتأسى بمن دونه؛ إما لأنه يراه ويعاشره، وإما لأنه يراه في مستوى يقارب مستواه، فيشجعه ذلك على التأسي به، دون العظيم حيث يرى الفارق بينه وبينه، و يحدث له الشيطان وشبهه بعدم التأسي بهم، لأن أولئك معصومون فأيننحن منهم؟ وأننا لا نقدر على التأسي بهم؟ وبذلك يمكر الشيطان بالبعض لمنعه من الاقتداء بهم، فكما فتح الله باب التأسي بأولئك الأطهار (عليهم السلام)، كذلك فتح باب التأسي بالمؤمنات الصالحات ممن يكن في طريقهم ليغلق على الشيطان بابه.

ص: 66

..............................

القدوة في ترك الدنيا

مسألة: ينبغي لمن هو في مقام الأسوة، كالحاكم والعالم، أن يكون عائفاً للدنيا وكارهاً لها.

وفوائد تحلي القيادة بذلك كبيرة جداً وهامة، ولهذا البحث مكان آخر وتكفي ههنا الإشارة، فإن منها ما يعود إلى النفس، ومنها ما يعود إلى الروح، ومنها ما يعود إلى الجسد، ومنها ما يعود إلى المجتمع والشعب، ومنها ما يعود إلى دنياه، ومنها ما يعود إلى آخرته.

عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَا لِي وَلِلدُّنْيَا، إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُهَا كَمَثَلِ الرَّاكِبِ رُفِعَتْ لَهُ شَجَرَةٌ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ فَقَالَ(1) تَحْتَهَا ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا»(2).

وفي دعاء الندبة: «بَعْدَ أَنْ شَرَطْتَ عَلَيْهِمُ الزُّهْدَ فِي دَرَجَاتِ هَذِهِ الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ، وَزُخْرُفِهَا وَزِبْرِجِهَا، فَشَرَطُوا لَكَذَلِكَ، وَعَلِمْتَ مِنْهُمُ الْوَفَاءَ بِهِ، فَقَبِلْتَهُمْ وَقَرَّبْتَهُمْ، وَقَدَّمْتَ لَهُمُ الذِّكْرَ الْعَلِيَّ، وَالثَّنَاءَ الْجَلِيَّ، وَأَهْبَطْتَ عَلَيْهِمْ مَلاَئِكَتَكَ، وَكَرَّمْتَهُمْ بِوَحْيِكَ، وَرَفَدْتَهُمْ بِعِلْمِكَ، وَجَعَلْتَهُمُ الذَّرَائِعَ إِلَيْكَ، وَالْوَسِيلَةَ إِلَى رِضْوَانِكَ»(3).

ص: 67


1- أي نام القيلولة وهي نصف النهار، أو استراح عندها وإن لم يكن معها نوم.
2- الكافي: ج2 ص134، كتاب الإيمان والكفر، باب ذم الدنيا والزهد فيها، ضمن ح19.
3- إقبال الأعمال (الطبعة القديمة): ج1 ص295، الباب37 من أبواب أحكام شهر رمضان، دعاء آخر بعد صلاة العيد ويدعى به في الأعياد الأربعة.

..............................

تربية الناس على كره الدنيا

مسألة: يستحب لمن هو في مقام الأسوة كالحاكم والعالم، أن يربي الناس على كره الدنيا بما هي دار غرور، ودنيا في مقابل الآخرة كما سبق، لا الدنيا التي هي مزرعة الآخرة. كما كانت (صلوات الله عليها) كارهة للدنيا عائفة لها.

وذلك يتوقف - فيما يتوقف - على أن يكون هو التجسيد الحقيقي لذلك في مخبره ومظهره.

فقولها (عليها السلام): (أَصْبَحْتُ وَاللهِ عَائِفَةً لِدُنْيَاكُنَّ) يتضمن توجيهاً وتربية.

المريض وترك الدنيا

مسألة: يستحب للمريض خاصة أن يكون عائفاً للدنيا، فإن من حكمة الله تعالى أن خلق الأمراض؛ لما فيها من إرجاع الإنسان إلى الله؛ وإحساسه بحاجته إليه؛ وتضرعه له مما يسبب سعادته في الدنيا والآخرة، ولما فيها من عبرة وعظة؛ وصرف للإنسان عن العجب والغرور.

وفي الحديث قال النبي (صلى الله عليه وآله): «لَوْلاَ ثَلاَثَةٌ فِي ابْنِ آدَمَ مَا طَأْطَأَ رَأْسَهُ شَيْءٌ: الْمَرَضُ، وَالْمَوْتُ، وَالْفَقْرُ، وَكُلُّهُنَّ فِيهِ وَإِنَّهُ مَعَهُنَّ لَوَثَّابٌ»(1).

ص: 68


1- الدعوات: ص171، الباب3، فصل في صلاة المريض وصلاحه وأدبه ودعائه عند المرض، ح479.

..............................

وبعبارة أخرى: إن في المرض تذكيراً للإنسان بضعفه، وبربه، وبآخرته، وهو أفضل صارف للإنسان - لو اعتبر - عن الغرور والطغيان.

ولذلك ينبغي للمريض خاصة أن يكون كارهاً للدنيا، ولو لم يكن كذلك فعليه أن يذكر نفسه ويلفتها ويلقنها بذلك حتى تكون كذلك.

ولو لم يفعل كان الندم أكبر والخزي - لو ترتب محرم - أشد.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لِلْمَرِيضِأَرْبَعُ خِصَالٍ: يُرْفَعُ عَنْهُ الْقَلَمُ، وَيَأْمُرُ اللهُ الْمَلَكَ فَيَكْتُبُ لَهُ كُلَّ فَضْلٍ كَانَ يَعْمَلُ فِي صِحَّتِهِ، وَيَتَّبَّعُ مَرَضُهُ كُلَّ عُضْوٍ فِي جَسَدِهِ فَيَسْتَخْرِجُ ذُنُوبَهُ مِنْهُ، فَإِنْ مَاتَ مَاتَ مَغْفُوراً لَهُ، وَإِنْ عَاشَ عَاشَ مَغْفُوراً لَهُ»(1).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِذَا مَرِضَ الْمُسْلِمُ، كَتَبَ اللهُ لَهُ بِأَحْسَنِ مَا كَانَ يَعْمَلُ فِي صِحَّتِهِ، وَتَسَاقَطَتْ ذُنُوبُهُ كَمَا تَسَاقَطَ وَرَقُ الشَّجَرِ»(2).

وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أنه تبسَّم فسئل عن تبسمه؟. فقال: «عَجِبْتُ مِنَ الْمُؤْمِنِ وَجَزَعِهِ مِنَ السُّقْمِ، وَلَوْ يَعْلَمُ مَا لَهُ فِي السُّقْمِ مِنَ الثَّوَابِ، لأَحَبَّ أَنْ لاَ يَزَالَ سَقِيماً حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ»(3).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «أَيُّمَا رَجُلٍ اشْتَكَى فَصَبَرَ وَاحْتَسَبَ،

ص: 69


1- مكارم الأخلاق: ص358، ب11 ف1، في ثواب المريض.
2- وسائل الشيعة: ج2 ص402، تتمة كتاب الطهارة، الباب1 من أبواب الاحتضار وما يناسبه، ح2468.
3- الأمالي للصدوق: ص501، المجلس الخامس والسبعون، ح14.

..............................

كَتَبَ اللهُ لَهُ مِنَ الأَجْرِ أَجْرَ أَلْفِ شَهِيدٍ»(1).

وعن الرضا (عليه السلام)، قال: «الْمَرَضُ لِلْمُؤْمِنِ تَطْهِيرٌ وَرَحْمَةٌ، وَلِلْكَافِرِ تَعْذِيبٌ وَلَعْنَةٌ، وَإِنَّ الْمَرَضَ لاَ يَزَالُ بِالْمُؤْمِنِ حَتَّى لاَ يَكُونَ عَلَيْهِ ذَنْبٌ»(2).

وعن جعفر بن محمد (عليه السلام)، عن آبائه (عليهم السلام) - فِي وَصِيَّةِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) لِعَلِيٍّ (عليه السلام) - قال: «يَا عَلِيُّ، أَنِينُ الْمُؤْمِنِ تَسْبِيحٌ، وَصِيَاحُهُ تَهْلِيلٌ، وَنَوْمُهُ عَلَى الْفِرَاشِ عِبَادَةٌ، وَتَقَلُّبُهُ مِنْ جَنْبٍ إِلَى جَنْبٍ جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَإِنْ عُوفِيَ مَشَى فِي النَّاسِ وَمَا عَلَيْهِ مِنْ ذَنْبٍ»(3).

بين ترك الدنيا والمطالبة بالحق

مسألة: يستحب للمظلوم خاصة أن يكون عائفاً للدنيا، أي كارهاً لها، كما كانت (صلوات الله عليها). وذلك لا يعني عدم المطالبة بحقه كما سيأتي توضيحه، كما صنعت (صلوات الله عليها) أيضاً.والمظلوم أعم من المظلوم في ماله، أو فكره، أو دينه، أو عرضه الأعم من ماء الوجه. والمظلومية هي داع إضافي لكره الدنيا المذمومة، فإن المظلوم يمكنه أن يزيد كره الدنيا - دنيا الغرور، والضلال، و... - في قلبه عندما يتأمل مظلوميته وحاله، ويستمد منها العون لإخراج حتى الذرة من حب الدنيا من قلبه.

ص: 70


1- طب الأئمة (عليهم السلام): ص71، باب استحباب احتساب المرض والصبر عليه.
2- ثواب الأعمال وعقاب الأعمال: ص193، ثواب المرض.
3- من لا يحضره الفقيه: ج4 ص364، باب النوادر، ح5762.

وهذا - كما ذكر - لا ينافي التصدي للمطالبة بحقه، إذ المطالبة بالحق واجب شرعاً في الجملة، وهو ليس دنياً بل هو آخرة.

والكره للدنيا يتعلق بالقلب، ويتجلى على الجوارح بعدم التشبث بزخارف الحياة الدنيا ولهوها وباطلها، أما السعي وراء الدنيا كالمال والسلطة، لأجل الآخرة فهو آخرة وليس دنيا.

قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): «وَلأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ»(1).

وقال (عليه السلام) في خطبته عند خروجه لقتال أهل البصرة، ما رواه عبد الله بن العباس، قال: دَخَلْتُ عَلَى أَمِيرِالْمُؤْمِنِينَ بِذِي قَارٍ، وَهُوَ يَخْصِفُ نَعْلَهُ. فَقَالَ لِي: «مَا قِيمَةُ هَذِهِ النَّعْلِ؟». فَقُلْتُ: لاَ قِيمَةَ لَهَا. قَالَ: «وَاللهِ لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ إِمْرَتِكُمْ إِلاَّ أَنْ أُقِيمَ حَقّاً، أَوْ أَدْفَعَ بَاطِلاً»(2).

ومما سبق يتضح خطأ مفهوم الانتظار السلبي أيضاً.

ضرورة نبش التاريخ

مسألة: يستحب وقد يجب بيان أن الصديقة الكبرى (عليها السلام) قد كرهت الدنيا؛ لما ورد عليها من المصاب، ولما رأت من خيانة الأصحاب، حيث قالت: «أَصْبَحْتُ وَاللهِ عَائِفَةً لِدُنْيَاكُنَّ، قَالِيَةً لِرِجَالِكُنَّ».

ص: 71


1- نهج البلاغة: الخطب رقم3، ومن خطبة له (عليه السلام) وهي المعروفة بالشقشقية.
2- نهج البلاغة: الخطب رقم33، ومن خطبة له (عليه السلام) عند خروجه لقتال أهل البصرة.

..............................

ولا ينبغي الالتفات لما يقوله بعض الجهلة: من أن هذا تاريخ قد مضى، ولا يستحسن إثارة ما مضى وقته ولزم أجله، مما يثير الأحقاد، ويزرع البغضاء في قلوب الناس.

إذا التاريخ يعيد نفسه، فلو لم يدرس ويمحص، ويدان الطغاة؛ لتكررتالمآسي من جديد، وعاد الظلم والإرهاب، ولذلك ترى القرآن الكريم يذكر قصص الأمم الماضية، ويدين العتاة والمستكبرين والظلمة بالاسم، كفرعون وهامان وقابيل و...، قال تعالى: «كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَديدُ الْعِقابِ»(1).

وقال سبحانه: «إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ»(2).

ثم إن القول بالسكوت عن غاصبي حق الزهراء (عليها السلام)، هو كمن يقول: لنسكت عن جرائم هتلر والشيوعيين ومن أشبههم من الطغاة؛ لأنها تاريخ قد مضى، ويجب أن لا نثير الأحقاد، ونزرع البغض في قلوب الناس!.

مع الفارق الكبير، حيث إن جرائم أعداء الزهراء (عليها السلام) هي الأساس لكل جرائم العالم إلى يوم القيامة.

ص: 72


1- سورة الأنقال: 52.
2- سورة القصص: 4.

..............................

ثم إن من الواضح أن الدين قائم على التولي والتبري معاً، ورفض التبري يعني رفض القرآن الكريم، بل نسفالدين كله، وذلك بدءً من كلمة التوحيد، حيث إنه سلب وإيجاب (لا إله إلا الله)، والآيات القرآنية مليئة بالتبري من أعداء الله والرسل والأنبياء والصالحين، وبالتشهير بهم وإدانتهم، والتحذير منهم والتهديد لهم.

ولعل في هذا كفاية لمن كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد.

عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «كُلُّ مَنْ لَمْ يُحِبَّ عَلَى الدِّينِ، وَلَمْ يُبْغِضْ عَلَى الدِّينِ، فَلاَ دِينَ لَهُ»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «مِنْ أَوْثَقِ عُرَى الإِيمَانِ أَنْ تُحِبَّ فِي اللهِ، وَتُبْغِضَ فِي اللهِ، وَتُعْطِيَ فِي اللهِ، وَتَمْنَعَ فِي اللهِ»(2).

وعن فضيل بن يسار، قال: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) عَنِ الْحُبِّ وَالْبُغْضِ، أَ مِنَ الإِيمَانِ هُوَ؟. فقال: «وَهَلِ الإِيمَانُ إِلاَّ الْحُبُّ وَالْبُغْضُ - ثُمَّ تَلاَ هَذِهِ الآيَةَ - «حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ»(3)»(4).

ص: 73


1- الكافي: ج2 ص127، كتاب الإيمان والكفر، باب الحب في الله والبغض في الله، ح16.
2- الزهد: ص17، باب الأدب والحث على الخير.
3- سورة الحجرات: 7.
4- وسائل الشيعة: ج16ص170، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما يلق به، الباب15 من أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، ح21264.

..............................

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «ثَلاَثٌ مِنْ عَلاَمَاتِ الْمُؤْمِنِ: عِلْمُهُ بِاللهِ، وَمَنْ يُحِبُّ، وَمَنْ يُبْغِضُ»(1).

المرأة والزهد في الدنيا

مسألة: يستحب للمرأة أن تكون عائفة للدنيا، زاهدة فيها، كما يستحب ذلك للرجل.

ويدل عليه العمومات والإطلاقات التي تشمل الذكر والأنثى، فإن الأصل في الأحكام الإلزامية وغيرها الاشتراك بينهما إلا ما خرج بالدليل، وليس ما نحن فيه منه. قال الله تعالى: «أَنِّي لَا أُضيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ»(2).

وقال سبحانه: «إِنَّ

الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرينَ وَ الصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقِاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظِاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثيراً وَالذَّاكِرِاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةًوَأَجْراً عَظيماً»(3).

ص: 74


1- المحاسن: ج1 ص263، كتاب مصابيح الظلم، الباب34 الحب والبغض في الله، ح332.
2- سورة آل عمران: 195.
3- سورة الأحزاب: 35.

..............................

وقال تعالى: «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزيزٌ حَكيمٌ»(1).

وقال سبحانه: «يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظيمُ»(2).

وقال تعالى: «إِنَّ الْمُصَّدِّقينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَريمٌ»(3).

المريض والحمد أولاً

مسألة: يستحب للمريض أن يجيب عمن يسأله عن صحته بحمد الله أولاً، ثم يبين حالته.

فإنه مضافاً إلى عمومات الحمد وإطلاقاته، يدل على ذلك ما قالته الصديقة (عليها السلام) من الحمد أولاً،حينما سُئلت عن صحتها.

ص: 75


1- سورة التوبة: 71.
2- سورة الحديد: 12.
3- سورة الحديد: 18.

..............................

المظلوم والحمد أولاً

مسألة: يستحب للمظلوم أن يجيب عمن يسأله، عن حاله بحمد الله أولاً ثم يبين حالته.

فإنه مضافاً إلى عمومات الحمد وإطلاقاته، يدل على ذلك ما قالته الصديقة (عليها السلام) من الحمد أولاً حينما سئلت عن ظلامتها.

قال الإمام الصادق (عليه السلام): «وَتَمَامُ الشُّكْرِ قَوْلُ الرَّجُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ»(1).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) إِذَا وَرَدَ عَلَيْهِ أَمْرٌ يَسُرُّهُ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ، وَإِذَا وَرَدَ عَلَيْهِ أَمْرٌ يَغْتَمُّ بِهِ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ»(2).

ص: 76


1- الكافي: ج2 ص95 باب الشكر ح10.
2- الكافي: ج2 ص97 باب الشكر ح19.

قَالِيَةً لِرِجَالِكُنَّ

اشارة

-------------------------------------------

غضب الصديقة على بعض الصحابة

مسألة: يستحب بيان أن الصديقة الزهراء (عليها السلام) كانت تبغض بعض الرجال، كما قالت (صلوات الله عليها): «قَالِيَةً لِرِجَالِكُنَّ».

و(القالية) بمعنى المبغضة، من القِلَى: البغض، وقَلَيْتُهُ أَقْلِيهِ قِلىً: أبغضته(1)، كما قال تعالى: «مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلى»(2).

ومن أبغضته الصديقة فاطمة (عليها السلام) كان من أهل النار، ولا يمكن أن يتولى أمر الأمة.

قال تعالى: «فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِين»(3).

قال الشيخ الصدوق (رحمه الله) في اعتقاداته: (وأما فاطمة (صلوات الله عليها) فاعتقادنا فيها أنها سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، وأن الله يغضب لغضبها، ويرضى لرضاها، وأنها خرجت من الدنيا ساخطة على ظالميها،وغاصبيها، ومانعي إرثها.

ص: 77


1- كتاب العين: ج5 ص215، مادة (قلي).
2- سورة الضحى: 3.
3- سورة الحشر: 17. وانظر في تأويل الآية: بحار الأنوار: ج28 ص193 ب4.

..............................

وقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «إِنَّ فَاطِمَةَ بَضْعَةٌ مِنِّي، مَنْ آذَاهَا فَقَدْ آذَانِي، وَمَنْ غَاظَهَا فَقَدْ غَاظَنِي، وَمَنْ سَرَّهَا فَقَدْ سَرَّنِي».

وقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «إِنَّ فَاطِمَةَ بَضْعَةٌ مِنِّي، وَهِيَ رُوحِيَ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيَّ، يَسُوؤُنِي مَا سَاءَهَا، وَيَسُرُّنِي مَا سَرَّهَا».

واعتقادنا في البراءة أنها واجبة من الأوثان الأربعة، ومن الأنداد الأربعة، ومن جميع أشياعهم وأتباعهم، وأنهم شر خلق الله، ولا يتم الإقرار بالله وبرسوله وبالأئمة إلاّ بالبراءة من أعدائهم)(1).

وروى الشيخ المفيد (رحمه الله) بسنده: عن عروة بن الزبير، قال: لَمَّا بَايَعَ النَّاسُ أَبَا بَكْرٍ، خَرَجَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) فَوَقَفَتْ عَلَى بَابِهَا، وَقَالَتْ: «مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ قَطُّ حَضَرُوا أَسْوَأَ مَحْضَرٍ، تَرَكُوا نَبِيَّهُمْ (صلى

الله عليه وآله) جِنَازَةً بَيْنَ أَظْهُرِنَا، وَاسْتَبَدُّوابِالأَمْرِ دُونَنَا»(2).

ونقل العلامة المجلسي (رحمه الله) ما رواه أبو محمد بن مسلم بن قتيبة - من أعاظم علماء المخالفين ومؤرخيهم - في تاريخه المشهور: عن أبي عفير، عن أبي عون، عن عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري، قصة السقيفة بطولها نحواً مما رواه ابن أبي الحديد من كتاب السقيفة - إلى أن قال: - فقال عمر لأبي بكر: انطلق بنا إلى فاطمة؛ فإنَّا قد أغضبناها. فانطلقا جميعاً، فاستأذنا على فاطمة، فلم تأذن لهما. فأتيا علياً (عليه السلام) فكلماه، فأدخلهما عليها.

ص: 78


1- اعتقادات الإماميه للصدوق: ص105- 106 ب38.
2- الأمالي للمفيد: ص95، المجلس الحادي عشر، ح5.

..............................

فلما قعدا عندها، حوَّلت وجهها إلى الحائط، فسلَّما عليها، فلم ترد عليهما السلام.

فتكلم أبو بكر، فقال: يا حبيبة رسول الله، والله إن قرابة رسول الله أحب إليَّ أن أصل من قرابتي، وإنكِ لأحب إليَّ من عائشة ابنتي، ولوددت يوم مات أبوك أني متُّ ولا أبقى بعده، أ فتراني أعرفك وأعرف فضلك وشرفك، وأمنعك حقكوميراثك من رسول الله، إلاّ أني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: نحن معاشر الأنبياء لا نورث، وما تركناه فهو صدقة(1).

فقالت: «أَرَأَيْتَكُمَا إِنْ حَدَّثْتُكُمَا حَدِيثاً مِنْ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، أَتَعْرِفَانِهِ وَتَعْقِلاَنِهِ؟». قالا: نعم. فقالت: «نَشَدْتُكُمَا بِاللهِ، أَ لَمْ تَسْمَعَا مِنْ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ: رِضَا فَاطِمَةَ مِنْ رِضَايَ، وَسَخَطُ فَاطِمَةَ مِنْ سَخَطِي، وَمَنْ أَحَبَّ فَاطِمَةَ ابْنَتِي فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَرْضَى فَاطِمَةَ فَقَدْ أَرْضَانِي، وَمَنْ أَسْخَطَ فَاطِمَةَ فَقَدْ أَسْخَطَنِي». قالا: نعم سمعناه من رسول الله (صلى الله عليه وآله). قالت: «فَإِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ، أَنَّكُمَا أَسْخَطْتُمَانِي وَمَا أَرْضَيْتُمَانِي، وَلَئِنْ لَقِيتُ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) لأَشْكُوَنَّكُمَا إِلَيْهِ». قال أبو بكر: عائذاً بالله من سخطه وسخطك يا فاطمة. ثم انتحب أبو بكر باكياً، يكاد نفسه أن تزهق وهي تقول: «وَاللهِ لأَدْعُوَنَّ اللهَ عَلَيْكَ فِي كُلِّ صَلاِةٍ أُصَلِّيهَا»(2).

ص: 79


1- وهذا دليل مكرهم في قصة العيادة، فإنهم حتى في محضرها كذبوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فألزمتهم الصديقة (عليها السلام) بحديث آخر وأعلنت غضبها عليهم.
2- بحار الأنوار: ج28 ص357، الباب4 من كتاب الفتن والمحن، تبيين، ح69.

..............................

درجات البغض لله

مسألة: بغض الصديقة (عليها السلام) لرجالهن له درجات، فإنه تابع لدرجة وعمق سوء السريرة، كما أنه تابع لنوع الجريمة التي ارتكبوها، وحجمها وتأثيرها.

ثم إن من الواضح أن هذا البغض كان لله تعالى، فإن «اللهَ لَيَغْضَبُ لِغَضَبِ فَاطِمَةَ، وَيَرْضَى لِرِضَاهَا»(1).

أصحابي كالنجوم

مسألة: كان الواجب المؤكد على الأصحاب أن يغيروا ما هم عليه من الخذلان تجاه العترة الطاهرة (عليهم السلام)، عندما علموا بموقف الصديقة الطاهرة فاطمة (عليها السلام) وبعتبها عليهم، بل قليها لهم، إلا أن أكثرهم لم يحرك ساكناً، فكانوا بحق من المنقلبين على الأعقاب، قال تعالى: «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ»(2).وهذا مما يثبت مجعولية مثل: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم)،

ص: 80


1- الأمالي للمفيد: ص95، المجلس الحادي عشر، ح4.
2- سورة آل عمران: 144.

..............................

و(العشرة المبشرة بالجنة)، حيث كان العديد منهم ممن خذل الزهراء (عليها السلام)، وقام بظلمها، وشمله غضبها، كما شمله دعاؤها عليهم، فكيف يرضى الله عنهم ويدخلهم الجنة!.

بغض من أبغضت الزهراء (عليها السلام)

مسألة: ومن ذلك يتضح أننا لابد أن نبغض أولئك الذين أبغضتهم الصديقة الزهراء (عليها السلام)؛ تأسياً بها (صلوات الله عليها)، وطلباً لرضاها، ورضى الله جل وعلا، لأنه يرضى لرضاها ويغضب لغضبها.

هذا والبغض ينبغي أن يتجلى على الجوارح أيضاً: لعناً، وكتابةً، وإقامةً لمجالس التبري وفرحة الصديقة (عليها السلام) مع حفظ الموازين الشرعية والتي منها التقية في مواردها، وأيضاً إقامة معارض دائمة ودورية لظلامات الصديقة الطاهرة (عليها السلام)، وكذلك سائر أهل البيت (عليهم السلام) ولجنايات أعدائهم، وما إلى ذلك.عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «مِنْ أَوْثَقِ عُرَى الإِيمَانِ، أَنْ تُحِبَّ فِي اللهِ، وَتُبْغِضَ فِي اللهِ، وَتُعْطِيَ فِي اللهِ، وَتَمْنَعَ فِي اللهِ»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأصحابه: «أَيُّ عُرَى الإِيمَانِ أَوْثَقُ؟. فَقَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ بَعْضُهُمُ:

ص: 81


1- الكافي: ج2 ص125، كتاب الإيمان والكفر، باب الحب في الله والبغض في الله، ح2.

..............................

الصَّلاَةُ، وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الزَّكَاةُ، وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الصِّيَامُ، وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْحَجُ وَالْعُمْرَةُ، وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْجِهَادُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): لِكُلِّ مَا قُلْتُمْ فَضْلٌ وَلَيْسَ بِهِ، وَلَكِنْ أَوْثَقُ عُرَى الإِيمَانِ الْحُبُّ فِي اللهِ، وَالْبُغْضُ فِي اللهِ، وَتَوَالِي أَوْلِيَاءِ اللهِ، وَالتَّبَرِّي مِنْ أَعْدَاءِ اللهِ»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «ثَلاَثٌ مِنْ عَلاَمَاتِ الْمُؤْمِنِ: عِلْمُهُ بِاللهِ، وَمَنْ يُحِبُّ، وَمَنْ يُبْغِضُ»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال:«إِنَّ الرَّجُلَ لَيُحِبُّكُمْ وَمَا يَعْرِفُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، فَيُدْخِلُهُ اللهُ الْجَنَّةَ بِحُبِّكُمْ. وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُبْغِضُكُمْ وَمَا يَعْرِفُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، فَيُدْخِلُهُ اللهُ بِبُغْضِكُمُ النَّارَ»(3).

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ فِيكَ خَيْراً، فَانْظُرْ إِلَى قَلْبِكَ فَإِنْ كَانَ يُحِبُّ أَهْلَ طَاعَةِ اللهِ، وَيُبْغِضُ أَهْلَ مَعْصِيَتِهِ، فَفِيكَ خَيْرٌ وَاللهُ يُحِبُّكَ. وَإِنْ كَانَ يُبْغِضُ أَهْلَ طَاعَةِ اللهِ، وَيُحِبُّ أَهْلَ مَعْصِيَتِهِ، فَلَيْسَ فِيكَ خَيْرٌ وَاللهُ يُبْغِضُكَ. وَالْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ»(4).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «كُلُّ مَنْ لَمْ يُحِبَّ عَلَى الدِّينِ، وَلَمْ يُبْغِضْ عَلَى الدِّينِ، فَلاَ دِينَ لَهُ»(5).

ص: 82


1- الكافي: ج2 ص125- 126، كتاب الإيمان والكفر باب الحب في الله والبغض في الله، ح6.
2- الكافي: ج2 ص126، كتاب الإيمان والكفر، باب الحب في الله والبغض في الله، ح9.
3- الكافي: ج2 ص126، كتاب الإيمان والكفر، باب الحب في الله والبغض في الله، ح10.
4- الكافي: ج2 ص126- 127، كتاب الإيمان والكفر، باب الحب في الله والبغض في الله، ح11.
5- الكافي: ج2 ص127، كتاب الإيمان والكفر، باب الحب في الله والبغض في الله، ح16.

..............................

معركة دائمة

مسألة: يستحب أو يجب على المظلوم - حتى وهو على فراش مرض الموت، وفي حالة الاحتضار - أن يبث شكواه، ويفضحالظالمين.

لا يقال: ما الفائدة من ذلك؟. لأنه يقال: الفائدة

أولاً: فضح الظالم.

وثانياً: إنه جزء العلة المعدة، وتراكم أمثال ذلك؛ رادع لأصل الظلم، أو لكميته، أو كيفيته، ولو بمرور الزمان، ولو بالنسبة للأجيال اللاحقة، كما نجد ذلك واضحاً في تظلم الصديقة فاطمة الزهراء (عليها السلام) هذا، وفي تظلم ابنتها السيدة زينب (عليها السلام) ، وكذلك الإمام السجاد (عليه السلام) في مجلس يزيد، وإلى آخر عمره الشريف في كل يوم، إلى غير ذلك.

وثالثاً: الثواب والأجر، ودرجات منه.

ورابعاً: إتماماً للحجة، قال تعالى: «لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا»(1).

وخامساً: وعلى أقل الفروض «مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ»(2).

ص: 83


1- سورة النساء: 165.
2- سورة الأعراف: 164، وتمام الآية: «وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَديداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُون».

..............................

وإلى ذلك يشير الشاعر بقوله:

عَلَى الْمَرءِ أَنْ يَسْعَى بِمِقْدَارِ جُهْدِهِ *** وَلَيْسَ عَلَيهِ أَنْ يَكُونَ مُوَفَقاً

نظرية عدالة الصحابة

مسألة: يدل كلام الصديقة فاطمة (عليها السلام) على عدم صحة نظرية عدالة جميع الصحابة، وعدم صحة ما يقال من أنه لا يجوز الخدش في بعضهم حتى الذين آذوا الله ورسوله!.

فإن (رجالهن) كانوا كلهم من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ومع ذلك أبغضتهم الصديقة الزهراء (عليها السلام)، وفضحتهم، وخدشت فيهم، ودعت عليهم.

وذلك كما فضحهم الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) من قبل في القرآن الكريم، وعلى لسان نبيه الكريم (صلى الله عليه وآله)، في سورة (المنافقون) و(التوبة) وغيرهما.

وكما صرح به الرسول (صلى الله عليه وآله) وعترته الطاهرة (عليهم السلام) في عشرات الروايات بل مئاتها، الدالة مطابقةً، أو تضمناً، أو التزاماً، أو بدلالة الاقتضاء، أو الإشارة، أو ما أشبه.

فإن عدداً من الفرق بدأت بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) مباشرة، وكانوا من أصحابه، بل من مشاهيرهم، وكانوا - حسب نص الرسول (صلى الله عليه وآله) - منأصحاب النار.

ص: 84

..............................

عن أبي ذر والمقداد وسلمان، قالوا: كنا قعوداً عند النبي (صلى الله عليه وآله)، إذ أقبل ثلاثة من المهاجرين. فقال (صلى الله عليه وآله): «تفترق أمتي بعدي ثلاث فرق: فرقة أهل حق لا يشوبونه بباطل، مثلهم كالذهب، كلما فتنته النار زاد جودة وطيباً، وإمامهم هذا - وأشار إلى أحد الثلاثة - وهو الذي أخبر الله به في كتابه: «إِماماً وَرَحْمَةً»(1). وفرقة أهل باطل لا يشوبونه بحق، مثلهم كخبث الحديد، كلما فتنته النار زاد خبثاً، وإمامهم هذا». فسألتهم عن أهل الحق وإمامهم. فقالوا: علي بن أبي طالب إمام المتقين. وأمسكوا عن الآخرين، فجهدت في الآخرين أن يسموهما، فلم يفعلوا(2).

وعن الباقر (عليه السلام)، قال: «لما نزل قوله تعالى: «وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍمُبِينٍ»(3).

قيل: يا رسول الله هو التوراة والإنجيل أو القرآن. فقال (صلى الله عليه وآله): لا. فأقبل علي (عليه السلام)، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): هذا هو الإمام المبين، الذي أحصى الله فيه كل شيء»(4).

ص: 85


1- سورة هود: 17.
2- الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم: ج1 ص269 - 270، الباب الثامن فيما جاء في تعيينه من كلام ربه.
3- سورة ياسين: 12.
4- الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم: ج1 ص270، الباب الثامن فيما جاء في تعيينه من كلام ربه.

..............................

وعن علي (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، فِرْقَةٌ مِنْهَا نَاجِيَةٌ وَالْبَاقُونَ هَالِكُونَ، وَالنَّاجُونَ الَّذِينَ يَتَمَسَّكُونَ بِوَلاَيَتِكُمْ، وَيَقْتَبِسُونَ مِنْ عِلْمِكُمْ، وَلاَ يَعْمَلُونَ بِرَأْيِهِمْ، فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ»، الحديث(1).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «وَسَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلاَّ مِلَّةً وَاحِدَة»(2).وعن علي أمير المؤمنين (عليه السلام)، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قال: «وَإِنَّ أُمَّتِي سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، فِرْقَةٌ نَاجِيَةٌ وَالْبَاقُونَ فِي النَّارِ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، (صلى الله عليه وآله) وَمَا النَّاجِيَةُ؟. فَقَالَ: الْمُتَمَسِّكُ بِمَا أَنْتَ عَلَيْهِ وَأَصْحَابُكَ»(3).

ص: 86


1- وسائل الشيعة: ج27 ص49 - 50، كتاب القضاء، الباب6 من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به، ح33180.
2- بحار الأنوار: ج28 ص30، الباب1 من كتاب الفتن والمحن.
3- نهج الحق وكشف الصدق: ص331، ما جاء في كتب القوم من المطاعن، المطلب الخامس، تألم علي (عليه السلام) من الصحابة.

لَفَظْتُهُمْ بَعْدَ أَنْ عَجَمْتُهُمْ،

اشارة

-------------------------------------------

لماذا كرهتهم الزهراء (عليها السلام)

مسألة: يلزم أن يكره الإنسان من كرهتهم الصديقة الطاهرة (عليها السلام) من الأصحاب، حيث قالت: «لَفَظْتُهُمْ بَعْدَ أَنْ عَجَمْتُهُمْ»، واللفظ بمعنى: أن ترمي بشيء كان في فيك، والفعل لَفَظَ يَلْفِظُ لَفْظاً. والأرض تَلْفِظُ الميت أي ترمي به، والبحر يَلْفِظُ الشيء يرمي به إلى الساحل، والدنيا لاَفِظَة ترمي بمن فيها إلى الآخرة(1).

و(العَجْمُ: عَضٌّ شديدٌ بالأَضراس دُون الثّنايا. وعَجَم الشيءَ يَعْجُمُه عَجْماً وعُجوماً: عَضّه ليَعْلَم صلابَتَه من خَوَرِه، وقيل: لاكَه للأَكْل أَو للخِبْرة... وعَجمْتُ العُودَ إذا عَضَضْتَه لِتَنْظُرَ أَصُلْبٌ أَم رخْوٌ)(2).

والمعنى: إنني عجمت رجالكن واختبرتهم، ولما رأيتهم أهل غدر ومكر ونكث بيعة، غير وافين بالوعد، ولاملتزمين بالدين، لفظتهم أي: أعرضت عنهم وتركتهم، ورميت بهم، ولا يعني ذلك عدم الاعتناء بهم، فحسب بل كرههم أيضاً، وذلك مما يدل عليه المقام والسياق بل وحتى لفظة «لَفَظْتُهُمْ».

قولها (عليها السلام): «عَجَمْتُهُمْ»؛ لأنها اختبرتهم مراراً عديدة، وقد خذلوها

ص: 87


1- كتاب العين: ج8 ص161، حرف الظاء، باب الثلاثي الصحيح، باب الظاء واللام والفاء معهما، لفظ.
2- لسان العرب: ج12 ص390، حرف الميم، فصل العين المهملة، عجم.

..............................

في كل مرة وسقطوا في الامتحان أي سقوط، ومن تلك المرات عندما مرت على بيوتهم طالبة النصرة، فأعرضوا عنها وردوها متألمة غاضبة.

ومنها عندما استنجدت بهم في المسجد حين الخطبة.

إلى غير ذلك من الموارد العديدة.

وفي شرح النهج لابن أبي الحديد: (يقال: إنه (عليه السلام) لما استنجد بالمسلمين، عقيب يوم السقيفة وما جرى فيه، وكان يحمل فاطمة (عليها السلام) ليلاً على حمار، وابناها بين يدي الحمار، وهو (عليه السلام) يسوقه، فيطرق بيوت الأنصار وغيرهم، ويسألهم النصرة والمعونة، أجابه أربعون رجلاً، فبايعهم على الموت، وأمرهم أن يصبحوا بكرة محلقي رؤوسهم ومعهم سلاحهم، فأصبح لم يوافه منهم إلاّ أربعة: الزبير، والمقداد، وأبو ذر، وسلمان. ثم أتاهممن الليل فناشدهم، فقالوا: نصبحك غدوة. فما جاءه منهم إلا أربعة، وكذلك في الليلة الثالثة)(1).

لا يجوز اتباع هؤلاء

مسألة: لا يجوز اتباع من لفظتهم الصديقة الطاهرة (عليها السلام) من الأصحاب، بل يلزم اتباع علي أمير المؤمنين (عليه السلام)، وفاطمة الزهراء (عليها السلام)، فإن غيرهم لا يتمتع بالشرعية، وذلك للفظهم من قبل الصديقة (عليها

ص: 88


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج11 ص14، تتمة باب الخطب والأوامر، 198- ومن كلام له (عليه السلام) كلم به طلحة والزبير بعد بيعته بالخلافة.

..............................

السلام)، وفي اتباعهم مخالفة لسيرة الرضية المرضية (عليها السلام)، وهذا ما ينافي رضا الله عز وجل، فإن رضاها (عليها السلام) رضاه (عز وجل).

قال النبي (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ اللهَ لَيَغْضَبُ لِغَضَبِ فَاطِمَةَ، وَيَرْضَى لِرِضَاهَا»(1).وقال النبي (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ فَاطِمَةَ بَضْعَةٌ مِنِّي، مَنْ آذَاهَا فَقَدْ آذَانِي، وَمَنْ غَاظَهَا فَقَدْ غَاظَنِي، وَمَنْ سَرَّهَا فَقَدْ سَرَّنِي»(2).

وقال النبي (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ فَاطِمَةَ بَضْعَةٌ مِنِّي، وَهِيَ رُوحِيَ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيَّ، يَسُوؤُنِي مَا سَاءَهَا، وَيَسُرُّنِي مَا سَرَّهَا»(3).

وعن عروة بن الزبير، قال: لَمَّا بَايَعَ النَّاسُ أَبَا بَكْرٍ، خَرَجَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) فَوَقَفَتْ عَلَى بَابِهَا، وَقَالَتْ: «مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ قَطُّ حَضَرُوا أَسْوَأَ مَحْضَرٍ، تَرَكُوا نَبِيَّهُمْ (صلى الله عليه وآله) جِنَازَةً بَيْنَ أَظْهُرِنَا، وَاسْتَبَدُّوا بِالأَمْرِ دُونَنَا»(4).

ص: 89


1- الأمالي للمفيد: ص95، المجلس الحادي عشر، ح4.
2- اعتقادات الإماميه للصدوق: ص105، ب38.
3- اعتقادات الإماميه للصدوق: ص105، ب38.
4- الأمالي للمفيد: ص95، المجلس الحادي عشر، ح5.

..............................

لا للعقوبة قبل الجناية

مسألة: ربما يستفاد من قولها (عليها السلام): «لَفَظْتُهُمْ بَعْدَ أَنْ عَجَمْتُهُمْ»، عدم جواز العقوبة قبل الجناية، على ما هو المقرر في القوانين الجزائية في الإسلام، وقد ذكره الفقهاء في كتاب الحدود والقصاص والديات.

فإنها (عليها السلام) رغم أنها كانت تعرف - بإخبار الرسول (صلى الله عليه وآله)، وبعمود النور، وبالنكت في القلب، والنقر في الأسماع، والعلم اللدني، وما أشبهها مما حباهم الله به للعلم بالغيب - أنهم سيصنعون ما صنعوا، وسيخذلون وسينقلبون على الأعقاب، إلا أنها (عليها السلام) رغم ذلك لم تلفظهم إلا بعد أن عجمتهم.

عن المفضل بن عمر، قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام) رُوِّينَا عن أبي عبد الله (عليه السلام)، أنه قال: «إِنَّ عِلْمَنَا غَابِرٌ وَمَزْبُورٌ، وَنَكْتٌ فِي الْقُلُوبِ، وَنَقْرٌ فِي الأَسْمَاعِ». فقال: «أَمَّا الْغَابِرُ فَمَا تَقَدَّمَ مِنْ عِلْمِنَا، وَأَمَّا الْمَزْبُورُ فَمَا يَأْتِينَا، وَأَمَّا النَّكْتُ فِي الْقُلُوبِ فَإِلْهَامٌ، وَأَمَّا النَّقْرُ فِي الأَسْمَاعِ فَأَمْرُالْمَلَكِ»(1).

ومن ذلك يمكن أن يستفاد أن منهج الحكومات الجائرة، بل حتى الكثير من الناس، من الأخذ بالعقوبة - فكيف بالقصاص - قبل الجناية، أمر خاطئ، وحكم جائر، لا يجوزه الشرع.

ولعل ذلك من حِكَم إخفاء الله المستقبل على الناس، إذ أنهم لو علموا ما

ص: 90


1- الكافي: ج1 ص264، كتاب الحجة، باب جهات علوم الأئمة (عليهم السلام)، ح3.

..............................

سيصير إليه حال بعضهم، لما استقر حجر على حجر، ولما قام لهم سوق، ولتفكك المجتمع، بل انهار ولسادت الفوضى والهرج والمرج.

وإنما أعطى الله علم الغيب للأنبياء، والأئمة الطاهرين، والصديقة الطاهرة، وبعض الأولياء (عليهم السلام)، ودرجات معرفة الغيب مختلفة حسب درجاتهم، لعلمه بأنهم (عليهم

السلام) يتحملون ذلك، ولا يستخدمون علومهم على خلاف الظواهر، إلا فيما إذن لهم الله عز وجل، وذلك مما يفسر به شرب الإمام (عليه السلام) للسم المقدّم إليه مثلاً، إذ كان غير مكلف بالعمل بعلمه الغيبي، بل كان مكلفاًبعدم العمل به، ولذلك أجوبة أخرى مذكورة في علم الكلام، وقد أشرنا إلى ذلك في بعض كتبنا الكلامية والتاريخية.

الإيمان مستقر ومستعار

مسألة: الإيمان مستقر ومستعار، وهؤلاء الذين لفظتهم الزهراء (عليها السلام) بعد أن عجمتهم كانوا فريقين: فريق إيمانه مستعار، ثم زال بامتحان واحد وبالتمحيص. وفريق لم يكن مؤمناً أصلاً، بل كان كافراً أو منافقاً، وقد كشفت الأحداث والامتحانات والمواقف، عن ذلك.

توضيح ذلك:

إن الإيمان المستقر هو ما يبقى مع الإنسان إلى القبر، والمستعار ما كان متحققاً في النفس ثبوتاً، إلا أنه زال بعد ذلك في تقلب الأحوال، كفتنة أو

ص: 91

..............................

امتحان، ومنه كان إيمان بلعم بن باعوراء، قال تعالى: «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُآَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا»(1).

والقسم الثالث: هو من لا إيمان له ثبوتاً بل تظاهر بالإيمان، ثم تكشف الأحداث، أو يكشف الله يوم القيامة عن ذلك. وهذا القسم لا إيمان له، لا أنه مؤمن إيماناً مستعاراً أو غير مستقر.

وقد كان الأول والثاني من القسم الثالث، كما في صريح الروايات الواردة، عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام).

وقد لفظت الصديقة الزهراء (عليها السلام)، القسم الثاني (من له إيمان مستعار)، والقسم الثالث (ما لم يكن له إيمان)، وعلينا أن نلفظهم أيضاً، وهذا دليل على حرمة اتباعهم، والاعتقاد بولايتهم، وخلافتهم كما سبق.

عن زيد بن الجهم الهلالي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سمعته يقول: «لَمَّا نَزَلَتْ وَلاَيَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام)، وَكَانَ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله): سَلِّمُوا عَلَى عَلِيٍّ بِإِمْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ.

فَكَانَ مِمَّا أَكَّدَ اللهُ عَلَيْهِمَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ - يَا زَيْدُ - قَوْلُ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) لَهُمَا: قُومَا فَسَلِّمَا عَلَيْهِ بِإِمْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالاَ: أَمِنَ اللهِ أَوْ مِنْ رَسُولِهِ يَا رَسُولَ اللهِ؟.

فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله):مِنَ اللهِ وَمِنْ رَسُولِهِ.

فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: «وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ

ص: 92


1- سورة الأعراف: 175.

..............................

اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ»(1)، يَعْنِي بِهِ قَوْلَ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) لَهُمَا، وَقَوْلَهُمَا: أَمِنَ اللهِ أَوْ مِنْ رَسُولِهِ» (2) الحديث.

ولاية الشيطان

مسألة: عندما لفظتهم الصديقة الزهراء (عليها السلام) بعد أن خرجوا من ولاية الله، وولاية رسوله (صلى الله عليه وآله)، وولاية العترة الطاهرة (عليهم السلام)، دخلوا في ولاية الشيطان وصاروا من حزب إبليس، وبذلك استحقوا مزيداً من العقوبة.

وذلك كمن يعصي رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ثم يفتح له الرسول (صلى الله عليه وآله) باب العودة والتوبة، ويبعث من يسترجعه، ولكنه يصر ويكابر ويعاند، فإنه يستحق عقوبة أشد وأكثر مما قبل ذلك.ومثله في العرف، حال الأب مع ابنه لو كابر وعاند، وكذلك بناء العقلاء في حال الحكومة مع الخارج عليها، مع قطع النظر عن شرعية الحكومة وعدمها، وشرعية فعلها وعدمها.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «اللَّهُمَّ إِنَّكَ قَدْ قُلْتَ لِنَبِيِّكَ (صلى الله عليه وآله) - فِيمَا أَخْبَرْتَهُ بِهِ مِنْ دِينِكَ -: يَا مُحَمَّدُ، مَنْ عَطَّلَ حَدّاً مِنْ حُدُودِي فَقَدْ عَانَدَنِي،

ص: 93


1- سورة النحل: 91.
2- الكافي: ج1 ص292، كتاب الحجة، باب الإشارة والنص على أمير المؤمنين (عليه السلام) ح1.

..............................

وَطَلَبَ مُضَادَّتِي»(1).

وعن عمر الحلال، قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام): أخبرني عمن عاندك ولم يعرف حقك من ولد فاطمة، هو وسائر الناس سواء في العقاب؟. فقال: «كَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) يَقُولُ: عَلَيْهِمْ ضِعْفَا الْعِقَابِ»(2).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «وَمَنْ عَانَدَ الْحَقَّ لَزِمَهُ الْوَهْنُ»(3).وعن المفضل بن عمر، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ: أَيْنَ الصُّدُودُ لأَوْلِيَائِي. فَيَقُومُ قَوْمٌ لَيْسَ عَلَى وُجُوهِهِمْ لَحْمٌ - قَالَ - فَيُقَالُ: هَؤُلاَءِ الَّذِينَ آذَوُا الْمُؤْمِنِينَ، وَنَصَبُوا لَهُمْ، وَعَانَدُوهُمْ، وَعَنَّفُوهُمْ فِي دِينِهِمْ - قَالَ - ثُمَّ يُؤْمَرُ بِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ». قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «كَانُوا وَاللهِ لاَ يَقُولُونَ بِقَوْلِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ حَبَسُوا حُقُوقَهُمْ، وَأَذَاعُوا عَلَيْهِمْ سِرَّهُمْ»(4).

وعن هشام بن سالم، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: لِيَأْذَنْ بِحَرْبٍ مِنِّي مَنْ آذَى عَبْدِيَ الْمُؤْمِنَ، وَلْيَأْمَنْ غَضَبِي مَنْ أَكْرَمَ عَبْدِيَ الْمُؤْمِنَ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ خَلْقِي فِي الأَرْضِ فِيمَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ إِلاَّ مُؤْمِنٌ وَاحِدٌ مَعَ إِمَامٍ عَادِلٍ، لاَسْتَغْنَيْتُ بِعِبَادَتِهِمَا عَنْ جَمِيعِ مَا خَلَقْتُ فِي أَرْضِي، وَلَقَامَتْ سَبْعُ سَمَاوَاتٍ وَأَرَضِينَ بِهِمَا، وَلَجَعَلْتُ لَهُمَا مِنْ

ص: 94


1- المحاسن: ج2 ص310، كتاب العلل، ح23.
2- الكافي: ج1 ص377، كتاب الحجة باب فيمن عرف الحق من أهل البيت ومن أنكر، ح2.
3- تحف العقول: ص95، باب ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، خطبته المعروفة بالوسيلة.
4- ثواب الأعمال وعقاب الأعمال: ص257، عقاب من آذى المؤمنين ونصب لهم وعاندهم.

..............................

إِيمَانِهِمَا أُنْساً لاَ يَحْتَاجَانِ إِلَى أُنْسِسِوَاهُمَا»(1).

الامتحان لكشف الحقائق

مسألة: حكمة الله في الكون اقتضت - رغم علمه تعالى بحقائق الناس وبواطنهم، وما ستؤول إليه أحوالهم، ومن سيثبت على الطريقة، ومن سينقلب على عقبيه، ومن سينجح في الامتحان ومن سيسقط - أن يعرّض الناس للامتحان ثم يجازيهم، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، كما قال عزوجل في سورة طه: «وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى»(2).

وقال تعالى في سورة القصص: «وَ لَوْلَا أَنْ تُصيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنينَ»(3)،(4).

ص: 95


1- الكافي: ج2 ص350، كتاب الإيمان والكفر، باب من آذى المسلمين واحتقرهم، ح1.
2- سورة طه: 134.
3- سورة القصص: 47.
4- قال الإمام المؤلف (قدس سره) في تفسيره تبيين القرآن: «مُصِيبَةٌ» عقوبة «بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ» من الكفر والمعاصي... لولا هذا القول منهم حال عقابهم لم نرسلك؛ لأنا نعلم عنادهم.

..............................

وبقولها (عليها السلام): «لَفَظْتُهُمْ بَعْدَ أَنْ عَجَمْتُهُمْ»، تمت عليهم الحجة في الدنيا والآخرة، فاستحقوا الخزي والعار في الدنيا، والعقاب والنار في الآخرة.

مما يستحب بيانه

مسألة: يستحب بيان أن الصديقة الطاهرة (عليها السلام) لفظتهم بعد أن عجمتهم، وأنهم سقطوا في الامتحان.

وهي (صلوات الله عليها) تشير بقولها: «لَفَظْتُهُمْ... » إلى أن ذلك(1)، لم يكن ارتجالاً ولا تجنياً - حاشاها (عليها السلام) من ذلك، وهي التي أذهب الله عنها الرجس وطهرها تطهيراً، وهي التي يرضى الله لرضاها، ويغضب لغضبها بإطلاقه الأزماني والأحوالي - بل كان عن اختبار دقيق، وتمحيص شديد، وعلم قاطع.

استخدام الكنايات والمجازات

مسألة: ينبغي استخدام المجاز والكناية في الخطاب، على ما هو مذكور في علم البلاغة، كما قالت (عليها السلام): «لَفَظْتُهُمْ»، وقد سبق الحديث عن ذلك فيمجلدات سابقة.

ص: 96


1- أي موقفها من الأول والثاني ومن سائر المناصرين لهما.

..............................

لا للتعجل في الحكم

مسألة: ينبغي عدم التعجل في الحكم على الناس، أو اتخاذ موقف منهم، بل ينبغي أن يكون ذلك بعد العجم والاختبار؛ تأسياً بالصديقة الطاهرة (صلوات الله عليها)، فإن في العجلة الندامة، وفي التأني السلامة، وذلك من الحكمة والاتقان، وهو سبب صيانة الحقوق.

عن أبي عبد الله (عليه السلام) - في حديث - قال:

«إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَوْحَى إِلَى دَاوُدَ (عليه السلام) أَنِ اتَّخِذْ وَصِيّاً مِنْ أَهْلِكَ...

فَأَوْحَى اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى دَاوُدَ أَنْ لاَ تَعْجَلْ دُونَ أَنْ يَأْتِيَكَ أَمْرِي. فَلَمْ يَلْبَثْ دَاوُدُ (عليه السلام) أَنْ وَرَدَ عَلَيْهِ رَجُلاَنِ يَخْتَصِمَانِ فِي الْغَنَمِ وَالْكَرْمِ، فَأَوْحَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى دَاوُدَ أَنِ اجْمَعْ وُلْدَكَ، فَمَنْ قَضَى بِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ فَأَصَابَ، فَهُوَ وَصِيُّكَ مِنْ بَعْدِكَ... »، الحديث(1).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام):«أَشَدُّ النَّاسِ نَدَامَةً، وَأَكْثَرُهُمْ مَلاَمَةً، الْعَجِلُ النَّزِقُ، الَّذِي لا يُدْرِكُهُ عَقْلُهُ إِلاَّ بَعْدَ فَوْتِ أَمْرِهِ»(2).

ص: 97


1- الكافي: ج1 ص278-279، كتاب الحجة، باب أن الإمامة عهد من الله عز وجل معهود من واحد إلى واحد (عليهم السلام)، ح3.
2- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: ص266، ب2 ف4، العجلة، ح5769.

وقال (عليه السلام): «لاَ تَسْتَعْجِلُوا بِمَا لَمْ يُعَجِّلْهُ اللهُ لَكُمْ»(1).

وقال (عليه السلام): «مَنْ رَكِبَ الْعَجَلَ أَدْرَكَ الزَّلَلَ»(2).

وقال (عليه السلام): «ذَرِ الْعَجَلَ؛ فَإِنَّ الْعَجِلَ فِي الأُمُورِ لا يُدْرِكُ مَطْلَبَهُ، وَلاَ يُحْمَدُ أَمْرُهُ»(3).

ص: 98


1- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: ص266، ب2 ف4، العجلة، ح5774.
2- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: ص267، ب2 ف4، العجلة، ح5778.
3- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: ص267، ب2 ف4، العجلة، ح5791.

وَسَئمْتُهُمْ بَعْدَ أَنْ سَبَرْتُهُمْ

اشارة

-------------------------------------------

خبث جوهرهم

مسألة: يدل على خبث جوهرهم ما قالته الصديقة الطاهرة (عليها السلام) في هذه الخطبة: «وَسَئمْتُهُمْ بَعْدَ أَنْ سَبَرْتُهُمْ»، وسَئِمْتُهُ أي ضَجِرْتُهُ ومَلِلْتُهُ، والسبر بمعنى الاختبار، وسبر الماء أو الجرح: امتحن غوره ليعرف مقداره، وسبر الأمر: اختبره وجربه.

ف (سَبَرْتُهُمْ) يعني اكتشفتُ عمقهم وجوهرهم وباطنهم.

فالمعنى: ضجرتهم ومللتهم بعد امتحانهم، وكشف واقعهم وخبثهم، وأنهم لا ينتهون عن المنكر، ولا يأتمرون بالمعروف، ويخذلون الحق، وينصرون الباطل، طمعاً في دنيا زائلة.

ولعل الفرق بين الجملتين: «لَفَظْتُهُمْ بَعْدَ أَنْ عَجَمْتُهُمْ» و«سَئمْتُهُمْ بَعْدَ أَنْ سَبَرْتُهُمْ»، أن الأولى: عبارة عن شناعة أمرهم الظاهري، والثانية: عبارة عن خبث سرائرهم الباطنة.

الصديقة سئمتهم

مسألة: يستحب بيان أن الصديقة فاطمة (عليها السلام) سئمت رجال القوم بعد أنسبرتهم، وقد يجب.

ويكفي في استحباب ذلك، أن فيه إدخالاً للسرور على قلبها المبارك (صلوات الله عليها)، والوجوب من باب المقدمية أو غيرها، كما سبق في مواضع أخرى.

ص: 99

..............................

بطلان مسلك حب الجميع

مسألة: يستحب أو يجب أن يشنأ المؤمن ويبغض كل من شنأته الصديقة الطاهرة (عليها السلام) وسئمت منه.

ومن ذلك يعرف أن بعض المبطلين(1) الذين يرفعون عناوين كعنوان: "حب الجميع" و"وحدة جوهر الأديان" و"المساواة المطلقة"، مخطئون أو مغرضون.

وذلك كمن يتسلح بسلاح "حب الجميع"؛ للدعوة إلى حب السراق، والقتلة، والسفاكين، وهتاكي الأعراض والحرمات.

فإن ذلك إضافة إلى كونه خلافاً للفطرة، وكونه خلاف الحقيقة، إذ «وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ * وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ»(2)؛ فإنه يمهد الطريق للإضلال، والانحراف الفكري،والعقيدي، والعملي.

ووحدة الجوهر - لو فرض، إذ لا يوجد في مثل عابد الصنم - لا ينفي تباين الأفعال أو المظهر، ولذا كان هابيل المقتول حرياً بالحب، وقابيل القاتل حرياً بالبغض.. وهكذا الصديقة الطاهرة (عليها السلام) وفي قبالها أعداؤها ممن هجموا عليها، وغصبوا حقها، وأسقطوا جنينها... فلا يجتمع حبها (صلوات الله عليها) وحب من غصب حقها.

ص: 100


1- كالبهائية.
2- سورة فاطر: 19-22.

..............................

فالمساواة بقول مطلق، وبالنسبة إلى الجميع بما يوجب إبطال الحقوق باطلة، والصحيح العدالة، وقد ألمعنا إلى ذلك في العديد من كتبنا.

قال تعالى: «مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ»(1).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَا أَطَّلِعُ عَلَى قَلْبِ عَبْدٍ، فَأَعْلَمُ فِيهِ حُبَّ الإِخْلاَصِ لِطَاعَتِي لِوَجْهِي وَابْتِغَاءِ مَرْضَاتِي، إِلاَّ تَوَلَّيْتُ تَقْوِيمَهُ وَسِيَاسَتَهُ، وَتَقَرَّبْتُ مِنْهُ»(2).وفي رواية أبي الجارود، عن أبي جعفر (عليه السلام)، في قوله: «مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ»(3)، قال علي بن أبي طالب (عليه السلام): «لاَيَجْتَمِعُ حُبُّنَا وَحُبُّ عَدُوِّنَا فِي جَوْفِ إِنْسَانٍ؛ إِنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ، فَيُحِبُّ هَذَا وَيُبْغِضُ هَذَا. فَأَمَّا مُحِبُّنَا فَيُخْلِصُ الْحُبَّ لَنَا كَمَا يُخْلَصُ الذَّهَبُ بِالنَّارِ لاَ كَدَرَ فِيهِ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْلَم حُبَّنَا فَلْيَمْتَحِنْ قَلْبَهُ، فَإِنْ شَارَكَهُ فِي حُبِّنَا حُبُّ عَدُوِّنَا، فَلَيْسَ مِنَّا وَلَسْنَا مِنْهُ، وَاللهُ عَدُوُّهُمْ وَجَبْرَئِيلُ وَمِيكَائِيلُ، وَاللهُ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ»(4).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حديث طويل: «وَأَمَّا زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ ... جَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ مُنَافِقِي عَسْكَرِهِ، يُرِيدُ التَّضْرِيبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ

ص: 101


1- سورة الأحزاب: 4.
2- مصباح الشريعة: ص92، الباب الواحد والأربعون في السجود.
3- سورة الأحزاب: 4.
4- تفسير القمي: ج2 ص171-172، سورة الأحزاب: الآيات 4 إلى 5.

..............................

(عليه السلام)، وَإِفْسَادَ مَا بَيْنَهُمَا. فَقَالَ لَهُ: بَخْ بَخْ، أَصْبَحْتَ لاَ نَظِيرَ لَكَ فِي أَهْلِ بَيْتِ رَسُولِ اللهِ وَصَحَابَتِهِ، هَذَا بَلاَؤُكَ، وَهَذَا الَّذِي شَاهَدْنَاهُ نُورُكَ.

فَقَالَ لَهُ زَيْدٌ: يَا عَبْدَ اللهِ، اتَّقِ اللهَ وَلاَ تُفْرِطْ فِي الْمَقَالِ، وَلاَ تَرْفَعْنِي فَوْقَ قَدْرِي؛فَإِنَّكَ للهِ بِذَلِكَ مُخَالِفٌ، وَبِهِ كَافِرٌ، وَإِنِّي إِنْ تَلَقَّيْتُ مَقَالَتَكَ هَذِهِ بِالْقَبُولِ لَكُنْتُ كَذَلِكَ. يَا عَبْدَ اللهِ، أَلاَ أُحَدِّثُكَ بِمَا كَانَ فِي أَوَائِلِ الإِسْلاَمِ وَمَا بَعْدَهُ، حَتَّى دَخَلَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) الْمَدِينَةَ وَزَوَّجَهُ فَاطِمَةَ (عليهما السلام)، وَوُلِدَ لَهُ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ (عليهما السلام).

قَالَ: بَلَى.

قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) كَانَ لِي شَدِيدَ الْمَحَبَّةِ حَتَّى تَبَنَّانِي لِذَلِكَ، فَكُنْتُ أُدْعَى: زَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ، إِلَى أَنْ وُلِدَ لِعَلِيٍّ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ (عليهما السلام)، فَكَرِهْتُ ذَلِكَ لأَجْلِهِمَا، وَقُلْتُ لِمَنْ كَانَ يَدْعُونِي: أُحِبُّ أَنْ تَدْعُوَنِي زَيْداً مَوْلَى رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)؛ فَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُضَاهِيَ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ (عليه السلام)، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ حَتَّى صَدَّقَ اللهُ ظَنِّي، وَأَنْزَلَ عَلَى مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله): «مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ»(1)، يَعْنِي قَلْباً يُحِبُّ مُحَمَّداً وَآلَهُ وَيُعَظِّمُهُمْ، وَقَلْباً يُعَظِّمُ بِهِ غَيْرَهُمْ كَتَعْظِيمِهِمْ، أَوْ قَلْباً يُحِبُّ بِهِ أَعْدَاءَهُمْ، بَلْ مَنْ أَحَبَّ أَعْدَاءَهُمْ فَهُوَ يُبْغِضُهُمْ وَلاَ يُحِبُّهُمْ، وَمَنْ سَوَّى بِهِمْ مَوَالِيَهُمْ، فَهُوَ يُبْغِضُهُمْ وَلاَ يُحِبُّهُمْ.

ثُمَّ قَالَ: «وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا

ص: 102


1- سورة الأحزاب: 4.

..............................

جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ» إلى قوله تعالى: «وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ» يَعْنِي الْحَسَنُ (عليه السلام) وَالْحُسَيْنُ (عليه السلام) أَوْلَى بِبُنُوَّةِ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) فِي كِتَابِ اللهِ وَفَرْضِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ «إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا» إِحْسَاناً وَإِكْرَاماً لاَ يَبْلُغُ ذَلِكَ مَحَلَّ الأَوْلاَدِ «كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا»(1)، فَتَرَكُوا ذَلِكَ وَجَعَلُوا يَقُولُونَ: زَيْدٌ أَخُو رَسُولِ اللهِ. فَمَا زَالَ النَّاسُ يَقُولُونَ لِي هَذَا وَأَكْرَهُهُ، حَتَّى أَعَادَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) الْمُؤَاخَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام).

ثُمَّ قَالَ زَيْدٌ: يَا عَبْدَ اللهِ، إِنَّ زَيْداً مَوْلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام)، كَمَا هُوَ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، فَلا تَجْعَلْهُ نَظِيرَهُ، وَلاَ تَرْفَعْهُ فَوْقَ قَدْرِهِ، فَتَكُونَ كَالنَّصَارَى لَمَّا رَفَعُوا عِيسَى (عليه السلام) فَوْقَ قَدْرِهِ، فَكَفَرُوا بِاللهِ الْعَلِيِ الْعَظِيمِ»(2).

مسألتان:

الأولى: ينبغي أن يكون الشنآن بعد السبر والتمحيص، وهذا يدعونا إلى التثبت قبل اتخاذ القرار.

ص: 103


1- سورة الأحزاب: 4 - 6.
2- تفسير الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): ص642- 645، وجه تسمية شعبان.

..............................

الثانية: سوء الظن بالمؤمنين أو الناس مرجوح أو محرم، وينبغي السبر أولاً ثم البناء على مؤداه، ولا يكفي الفحص العادي التسامحي في مثل هذه الأمور، بل لابد أن يبلغ مرحلة السبر واستجلاء العمق... كما أشارت (عليها السلام): «بَعْدَ أَنْ سَبَرْتُهُمْ».

قال الإمام الصادق (عليه السلام): «لاَ تَدَعِ الْيَقِينَ بِالشَّكِّ، وَالْمَكْشُوفَ بِالْخَفِيِّ، وَلاَ تَحْكُمْ مَا لَمْ تَرَهُ بِمَا تُرَوَّى عَنْهُ. قَدْ عَظَّمَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ أَمْرَ الْغِيبَةِ وَسُوءِ الظَّنِّ بِإِخْوَانِكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَكَيْفَ بِالْجُرْأَةِ عَلَى إِطْلاَقِ قَوْلٍ، وَاعْتِقَادِ زُورٍ وَبُهْتَانٍ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله). قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ (1)، وَمَا دُمْتَ تَجِدُ إِلَى تَحْسِينِ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ فِي غَيْبَتِك َ وَحَضْرَتِكَ سَبِيلاً، فَلاَ تَتَّخِذْ غَيْرَهُ»(2).وقَالَ الإمام الصَّادِقُ (عليه السلام): «لاَ يُعَظِّمُ حُرْمَةَ الْمُؤْمِنِينَ إِلاَّ مَنْ قَدْ عَظَّمَ اللهُ حُرْمَتَهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَمَنْ كَانَ أَبْلَغَ حُرْمَةً للهِ وَرَسُولِهِ كَانَ أَشَدَّ تَعْظِيماً لِحُرْمَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَنِ اسْتَهَانَ لِحُرْمَةِ الْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ هَتَكَ سِتْرَ إِيمَانِهِ.

وقَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): إِنَّ مِنْ إِجْلاَلِ اللهِ إِعْظَامَ ذَوِي الْقُرْبَى فِي الإِيمَانِ.

ص: 104


1- سورة النور: 15.
2- مصباح الشريعة: ص67-68، الباب التاسع والعشرون في معرفة الصحابة.

..............................

وقَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيراً، وَلاَ يُوَقِّرْ كَبِيراً فَلَيْسَ مِنَّا، وَلاَ تُكَفِّرْ مُسْلِماً تُكَفِّرُهُ التَّوْبَةُ، إِلاَّ مَنْ ذَكَرَ اللهُ فِي كِتَابِهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ (1)، وَاشْتَغِلْ بِشَأْنِكَ الَّذِي أَنْتَ بِهِ مُطَالَب»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إِذَا اتَّهَمَ الْمُؤْمِنُ أَخَاهُ، انْمَاثَ الإِيمَانُ مِنْ قَلْبِهِ، كَمَا يَنْمَاثُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ»(3).وعن أَبَي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، قال: «مَنِ اتَّهَمَ أَخَاهُ فِي دِينِهِ فَلاَ حُرْمَةَ بَيْنَهُمَا، وَمَنْ عَامَلَ أَخَاهُ بِمِثْلِ مَا عَامَلَ بِهِ النَّاسَ، فَهُوَ بَرِيءٌ مِمَّا يَنْتَحِلُ»(4).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلام له: «ضَعْ أَمْرَ أَخِيكَ عَلَى أَحْسَنِهِ، حَتَّى يَأْتِيَكَ مَا يَغْلِبُكَ مِنْهُ، وَلاَ تَظُنَّنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ أَخِيكَ سُوءاً وَأَنْتَ تَجِدُ لَهَا فِي الْخَيْرِ مَحْمِلاً»(5).

ص: 105


1- سورة النساء: 145.
2- مصباح الشريعة: ص69، الباب الثلاثون في حرمة المؤمنين.
3- الكافي: ج2 ص361، باب التهمة وسوء الظن، ح1.
4- الكافي: ج2 ص361، باب التهمة وسوء الظن، ح2.
5- الكافي: ج2 ص362، باب التهمة وسوء الظن، ح3.

فَقُبْحاً لِفُلُولِ الْحَدِّ

اشارة

-------------------------------------------

القبح لأعداء الصديقة (عليها السلام)

مسألة: القبح لأعداء الزهراء (صلوات الله عليها)، ولمن خذلها ولم ينصرها.

والظاهر أن (قبحاً) مفعول فعل مقدر، أي قبحهم الله قبحاً لفلول حدهم.

والفلّ: هو الكسر أو الثلمة في حد السيف، فكما أن السيف الذي كسر حده لا يستفاد منه، كذلك هؤلاء الرجال الذين لا حد لهم بدفع الأعداء، فإن حد الرجل هو بأسه وشدته وتصلبه في إظهار الحق وإبطال الباطل.

بل إن السيف الذي كسر حده أو انثلم ليس فقط لايستفاد منه، بل إنه خطر ومضر، إذ يخدع صاحبه فيورده المهالك وهو يظن أن بيده ما يحصنه ويحميه.. وهذا هو حال المنقلبين على الأعقاب.

وفي كتاب أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى معاوية: «وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: «أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ»(1)، فَأَنْتَ وَشُرَكَاؤُكَ - يَا مُعَاوِيَةُ - الْقَوْمُ الَّذِينَ انْقَلَبُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ، وَارْتَدُّوا، وَنَقَضُوا الأَمْرَ وَالْعَهْدَ فِيمَا عَاهَدُوا اللهَ، وَنَكَثُوا الْبَيْعَةَوَلَمْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً»(2).

ص: 106


1- سورة آل عمران: 144.
2- الغارات: ج1 ص197، كتاب علي (عليه السلام) الى معاوية.

..............................

الحسن والقبح العقليان

مسألة: العقل يحكم بانقسام الأفعال الاختيارية إلى حسن وقبيح، وكلام الصديقة (عليها السلام) هنا يشير إلى ذلك، فإن (فلول الحد) - وكان اختيارياً منهم - قبيح، وليس (قبحاً) مبنياً على (الحسن ما حسنه الشارع والقبيح ما قبحه) حتى يقال إن تقبيحها (عليها السلام) هو الذي جعل فلول حدهم قبيحاً، بل إن تقبيحها (عليها السلام) كشف عن القبح الواقعي لا أنه حققه.

تقبيح القبيح

مسألة: يستحب أو يجب تقبيح القبيح، فإنه نوع ردع، كما يجب أو يستحب تركه في الجملة.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «جِمَاعُ الدِّينِ فِي إِخْلاَصِ الْعَمَلِ، وَتَقْصِيرِ الأَمَلِ، وَبَذْلِ الإِحْسَانِ، وَالْكَفِّ عَنِ الْقَبِيحِ»(1).

وقال (عليه السلام): «قَدْ كَثُرَ الْقَبِيحُحَتَّى قَلَّ الْحَيَاءُ مِنْهُ»(2).

وقال (عليه السلام): «أَحْسَنُ الْفِعْلِ الْكَفُّ عَنْ الْقَبِيحِ»(3).

ص: 107


1- عيون الحكم والمواعظ: ص223، ب5، ح4339.
2- عيون الحكم والمواعظ: ص366، ب21 ف1، ح6139.
3- عيون الحكم والمواعظ: ص122، ب1 ف9، ح2770.

..............................

وقال (عليه السلام): «إِيَّاكَ وَفِعْلَ الْقَبِيحِ؛ فَإِنَّهُ يُقَبِّحُ ذِكْرَكَ، وَيُكْثِرُ وِزْرَكَ»(1).

وقال (عليه السلام): «مَنْ أَقْبَلَ عَلَى النَّصِيحِ، أَعْرَضَ عَنْ الْقَبِيحِ»(2).

وقال (عليه السلام): «لَمْ يُوَفَّقْ مَنِ اسْتَحْسَنَ الْقَبِيحَ، وَأَعْرَضَ عَنْ قَوْلِ النَّصِيحِ»(3).

وقال (عليه السلام): «الْحَيَاءُ يَصُدُّ عَنْ فِعْلِ الْقَبِيحِ»(4).

من الأدلة على انحراف القوم

مسألة: يستفاد من قول الصديقة (عليها السلام): «فَقُبْحاً لِفُلُولِ الْحَدِّ»، دليل جديد على إنحراف العديد من الأصحاب، عن منهج رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهو عبارة أخرى عن قوله تعالى: «انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ»(5).

ثم هل هو إخبار أم إنشاء(6)؟.

الظاهر إنه إنشاء، ولا مانع من الجمع، فإن كلامهم (صلوات الله عليهم) كآيات

ص: 108


1- عيون الحكم والمواعظ: ص95، ب1 ف5، ح2202.
2- عيون الحكم والمواعظ: ص461، ب24 ف1، ح8372.
3- عيون الحكم والمواعظ: ص414، ب23 ف5، ح7024.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: ص74، ف1، ح1435.
5- سورة آل عمران: 144.
6- أي: هل أنها (عليها السلام) تخبر عن تقبيح الله لهم، أم تدعو عليهم بذلك.

..............................

القرآن فيه أكثر من معنى(1).

تقبيح أفعالهم

مسألة: يستحب أو يجب بيان أن الصديقة الطاهرة (عليها السلام) قبحت أفعالهم، فإن هذا البيان هو امتداد لبيانها، وتحقيق لبعض غرضها وهدفها، واستجابةلصرختها (صلوات الله عليها).

قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ»(2)، والاستجابة للصديقة فاطمة (عليها السلام) استجابة لله عزوجل وللرسول (صلى الله عليه وآله) كما لا يخفى، فإن « فَاطِمَةَ بَضْعَةٌ مِنِّي، مَنْ آذَاهَا فَقَدْ آذَانِي»(3)، و«إِنَّ اللهَ لَيَغْضَبُ لِغَضَبِ فَاطِمَةَ، وَيَرْضَى لِرِضَاهَا»(4)، و«إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا»(5).

ص: 109


1- يرى الإمام المؤلف (قدس سره) أنه لا مانع من استعمال اللفظ وإرادة أكثر من معنى، على تفصيل ذكره في (الأصول).
2- سورة الأنفال: 24.
3- اعتقادات الإماميه للصدوق: ص105، ب38.
4- الأمالي للمفيد: ص95، المجلس الحادي عشر، ح4.
5- سورة الأحزاب: 33.

..............................

سقوط الأمم

مسألة: يستفاد من قول الصديقة (عليها السلام): «فَقُبْحاً لِفُلُولِ الْحَدِّ، وَاللَّعِبِ بَعْدَ الْجِدِّ»، أنه سنة من سنن الله عبر التاريخ، وهي: سقوط الأمم بعوامل تعود إليهم.

قال تعالى: «إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَابِأَنْفُسِهِمْ»(1).

وقال عزوجل: «وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلَا مَرَدَّ لَهُ»(2).

وقوله سبحانه: «أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا»(3).

وقد وضح القسم الأول من الآيات القسم الثاني منها، وأن إرادة الله السوء بقوم هو لما قاموا به بأنفسهم، وبعبارة أخرى: «وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً» مؤطر بإطار «حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ»، والكلام بنحو الاقتضاء لا العلية التامة، فتأمل.

وهناك أجوبة أخرى مذكورة في التفاسير وكتب الكلام.

وقد نهض الرسول (صلى الله عليه وآله) بالأمة وكانوا في صعود مستمر ما داموا تحت قيادته الحكيمة (صلى الله عليه وآله)، إلا أنهم بدؤوا بالسقوط السريع عند

ص: 110


1- سورة الرعد: 11.
2- سورة الرعد: 11.
3- سورة الإسراء: 16.

..............................

ما انقلبوا عن قيادته، حيث عين (صلى الله عليه وآله) الأمام علياً أمير المؤمنين (عليه السلام) خليفة من بعده وقائداً على الأمة، ولكنهم خالفوه.

ولا يزال السقوط مستمراً - باستثناءبعض الفترات التي عادوا فيها إلى قيادة أهل البيت (عليهم السلام) - إلاّ أن يعودوا إلى قيادتهم الشرعية واتباع أهل البيت (عليهم السلام)، أو أن يظهر ولي الله المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، «لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ»(1)، وذلك يكون «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ»(2)، «وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا»(3)، حسب الروايات الكثيرة الموضحة لبطون الآيات.

بين الحكم والإرشاد

مسألة: هل يستفاد مِن «فَقُبْحاً لِفُلُولِ الْحَدِّ» الحرمة، أم أنه إرشاد؟.

فإن الالتزام بالحرمة ليس مبنياً على أنه إخبار أم إنشاء، إذ يمكن استفادة الحرمة على كلا المسلكين على ما بين في (الأصول)، والظاهر ولو بقرينة المقام وأهمية الأمر: الحرمة.

ص: 111


1- سورة التوبة: 33.
2- سورة إبراهيم: 48.
3- سورة الزمر: 69.

..............................

بداية السقوط

مسألة: مسيرة السقوط تبدأ ب «فُلُولِ الْحَدِّ»، ثم تستمر حتى تصل إلى الانقلاب على الأعقاب، وإلى توجيه الحراب والسيوف للأصدقاء والأعوان بدل الأعداء.

ففلول الحد له حرمته الذاتية، وهو محرم طريقياً أيضاً على القول بحرمة المقدمة كوجوبها، على تفصيل مذكور في (الأصول).

علامات الانقلاب على الأعقاب

مسألة: الأمم المنقلبة على الأعقاب لها مظاهر وعلامات، ولانقلابها نُذُر وشواهد ودلالات.

منها: فلول الحد، ومنها اللعب بعد الجد.

ويلزم على الباحثين أن يدرسوها بدقة في كل مجتمع؛ ليستنبطوا العبر والدروس كي لا تقع الأمة فيها، ولا يقع التجمع أو الحزب أو الدولة أو من أشبه أو ما أشبه فيها.

قال تعالى: «فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ»(1).

وفي الحديث، عن أبي جعفر (عليه السلام): «وَإِنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلِ الْعِلْمَ جَهْلاً،

ص: 112


1- سورة الحشر: 2.

..............................

وَلَمْ يَكِلْ أَمْرَهُ إِلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، لاَ إِلَى مَلَكٍ مُقَرَّبٍ، وَلاَ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، وَلَكِنَّهُ أَرْسَلَ رَسُولاً مِنْ مَلاَئِكَتِهِ فَقَالَ لَهُ: قُلْ كَذَا وَكَذَا. فَأَمَرَهُمْ بِمَا يُحِبُّ، وَنَهَاهُمْ عَمَّا يَكْرَهُ، فَقَصَّ عَلَيْهِمْ أَمْرَ خَلْقِهِ بِعِلْمٍ، فَعَلِمَ ذَلِكَ الْعِلْمَ، وَعَلَّمَ أَنْبِيَاءَهُ وَأَصْفِيَاءَهُ مِنَ الأَنْبِيَاءِ وَالأَصْفِيَاءِ».

إلى أن قال: «وَلِوُلاَةِ الأَمْرِ اسْتِنْبَاطُ الْعِلْمِ وَلِلْهُدَاةِ - ثم قال - فَمَنِ اعْتَصَمَ بِالْفُضَّلِ، انْتَهَى بِعِلْمِهِمْ وَنَجَا بِنُصْرَتِهِمْ. وَمَنْ وَضَعَ وُلاَةَ أَمْرِ اللهِ، وَأَهْلَ اسْتِنْبَاطِ عِلْمِهِ، فِي غَيْرِ الصَّفْوَةِ مِنْ بُيُوتَاتِ الأَنْبِيَاءِ، فَقَدْ خَالَفَ أَمْرَ اللهِ، وَجَعَلَ الْجُهَّالَ وُلاَةَ أَمْرِ اللهِ، وَالْمُتَكَلِّفِينَ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ أَهْلُ اسْتِنْبَاطِ عِلْمِ اللهِ، فَقَدْ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَرَغِبُوا عَنْ وَصِيِّهِ وَطَاعَتِهِ، وَلَمْ يَضَعُوا فَضْلَ اللهِ حَيْثُ وَضَعَهُ اللهُ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا أَتْبَاعَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ حُجَّةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

إلى أن قال في قوله تعالى: «فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ»(1): فَإِنَّهُ وَكَّلَ بِالْفُضَّلِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَالإِخْوَانِ وَالذُّرِّيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: إِنْ تَكْفُرْ بِهِأُمَّتُكَ، فَقَدْ وَكَّلْتُ أَهْلَ بَيْتِكَ بِالإِيمَانِ الَّذِي أَرْسَلْتُكَ بِهِ، فَلاَ يَكْفُرُونَ بِهِ أَبَداً، وَلاَ أُضِيعُ الإِيمَانَ الَّذِي أَرْسَلْتُكَ بِهِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ مِنْ بَعْدِكَ عُلَمَاءِ أُمَّتِكَ، وَوُلاَةِ أَمْرِي بَعْدَكَ، وَأَهْلِ اسْتِنْبَاطِ الْعِلْمِ، الَّذِي لَيْسَ فِيهِ كَذِبٌ، وَلاَ إِثْمٌ، وَلاَ زُورٌ، وَلاَ بَطَرٌ، وَلاَ رِيَاءٌ، فَهَذَا بَيَانُ مَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ أَمْرُ هَذِهِ الأُمَّةِ. إِنَّ اللهَ جَلَّ وَعَزَّ طَهَّرَ أَهْلَ بَيْتِ نَبِيِّهِ (عليهم السلام)، وَسَأَلَهُمْ أَجْرَ الْمَوَدَّةِ، وَأَجْرَى لَهُمُ الْوَلايَةَ، وَجَعَلَهُمْ أَوْصِيَاءَهُ وَأَحِبَّاءَهُ، ثَابِتَةً بَعْدَهُ فِي أُمَّتِهِ.

ص: 113


1- سورة الأنعام: 89.

..............................

فَاعْتَبِرُوا - يَا أَيُّهَا النَّاسُ - فِيمَا قُلْتُ، حَيْثُ وَضَعَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلاَيَتَهُ وَطَاعَتَهُ وَمَوَدَّتَهُ وَاسْتِنْبَاطَ عِلْمِهِ وَحُجَجَهُ، فَإِيَّاهُ فَتَقَبَّلُوا، وَبِهِ فَاسْتَمْسِكُوا، تَنْجُوا بِهِ وَتَكُونُ لَكُمُ الْحُجَّةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَطَرِيقُ رَبِّكُمْ جَلَّ وَعَزَّ، وَلاَ تَصِلُ وَلاَيَةٌ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلاَّ بِهِمْ. فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ حَقّاً عَلَى اللهِ أَنْ يُكْرِمَهُ وَلاَ يُعَذِّبَهُ، وَمَنْ يَأْتِ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ بِغَيْرِ مَا أَمَرَهُ، كَانَ حَقّاً عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُذِلَّهُ، وَأَنْ يُعَذِّبَهُ»(1).

ص: 114


1- الكافي: ج8 ص117-120، كتاب الروضة، حديث آدم (عليه السلام) مع الشجرة.

وَاللَّعِبِ بَعْدَ الْجِدِّ

اشارة

-------------------------------------------

اللعب بعد الجد

مسألة: يكره أو يحرم اللعب بعد الجد؛ وذلك لما قد يكون في اللعب من تضييع الحقوق، وإضاعة الواجبات، وعندئذٍ يحرم وإلا كان مكروهاً، إلا ما دخل منه في دائرة المباح أو المستحب، مما هو واضح من الشريعة، وعندئذٍ قد لا يصدق عليه (اللعب) موضوعاً أو حكماً، كالسباحة وسباق الخيل وما أشبه، فهو استثناء منقطع على بعض الاحتمالات، فتأمل.

واللعب بعد الجد كأنه كناية، عن استخفافهم بالدين وحماته، بل استهزاؤهم بهما.

قال الإمام الكاظم (عليه السلام): «لاَ نَسْتَحِبُّ شَيْئاً مِنَ اللَّعِبِ غَيْرَ الرِّهَانِ وَالرَّمْيِ»(1).

وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَمَشْغُولٌ عَنِ اللَّعِبِ»(2).وفي حديث المناهي، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) : «أَنَّهُ نَهَى عَنِ الضَّرْبِ بِالدَّفِّ وَالرَّقْصِ وَعَنِ اللَّعِبِ كُلِّهِ»(3).

ص: 115


1- وسائل الشيعة: ج17 ص315، كتاب التجارة، الباب100 من أبواب ما يكتسب به، ح22639.
2- بحار الأنوار: ج76 ص230 - 231، تتمة كتاب الروضة، الباب98 من أبواب المعاصي والكبائر وحدودها، ح4.
3- غوالي اللألئ: ج1 ص260، ف10، ح41.

..............................

وفي نهج البلاغة: «وَاللهِ إِنِّي لَيَمْنَعُنِي مِنَ اللَّعِبِ ذِكْرُ الْمَوْتِ»(1).

وفي النهج أيضاً: «فَإِنَّهُ وَاللهِ الْجِدُّ لاَ اللَّعِبُ، وَالْحَقُّ لاَ الْكَذِبُ، وَمَا هُوَ إِلاَّ الْمَوْتُ، أَسْمَعَ دَاعِيهِ، وَأَعْجَلَ حَادِيهِ، فَلاَ يَغُرَّنَّكَ سَوَادُ النَّاسِ مِنْ نَفْسِكَ، وَقَدْ رَأَيْتَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ، مِمَّنْ جَمَعَ الْمَالَ، وَحَذِرَ الإِقْلاَلَ»(2).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «لاَ يَثُوبُ الْعَقْلِ مَعَ اللَّعِبِ»(3).

وقال (عليه السلام): «نَكَدُ الْعِلْمِ الْكَذِبُ، وَنَكَدُ الْجِدِّ اللَّعِبُ»(4).وقال (عليه السلام): «لاَ يَرْأَسُ مَنْ خَلاَ عَنْ الأَدَبِ، وَصَبَا إِلَى اللَّعِبِ»(5).

وقال (عليه السلام): «احْذَرِ الْهَزْلَ وَاللَّعِبَ، وَكَثْرَةَ الْمَزْحِ وَالضَّحِكِ وَالتُّرَّهَاتِ»(6).

وقال (عليه السلام): «شَرُّ مَا ضُيِّعَ فِيهِ الْعُمُرُ اللَّعِبُ»(7).

ص: 116


1- نهج البلاغة: باب الخطب، 84: ومن خطبة له (عليه السلام) في ذكر عمرو بن العاص.
2- نهج البلاغة: باب الخطب، 132: ومن خطبة له (عليه السلام) يعظ فيها ويزهد في الدنيا.
3- عيون الحكم والمواعظ: ص537، ب28، ف2، ح9866.
4- عيون الحكم والمواعظ: ص499، ب25، ف2، ح9196 و9197.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: ص790، ف86، ح438.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: ص162، ف4، ح25.
7- عيون الحكم والمواعظ: ص294، ب13، ف2، ح5240.

..............................

اللعب بعد اللعب

مسألة: يقبح أمران، وقد يحرمان:

1: اللعب بعد الجد، وهو ما ذكرته الصديقة (صلوات الله عليها) ههنا.

2: واللعب بعد اللعب.

إلا أن قبح الأول أشد بشهادة الوجدان، فإن الكافر بعد إيمان أسوأ من المستمر على كفره.

وكذلك هؤلاء القوم، الذين آمنوا برسول الله (صلى الله عليه وآله) أو أظهروا الإيمان، ثم خانوه وانقلبوا على أعقابهم.

وكذلك كل أمة تبدأ النهوض وتحارب الأعداء، ثم رغم ما لمسته من آثار وتقدم، تتراجع القهقرى وتخذل المجاهدين في سبيل الله، وتبتعد عن الجادة، وتركن إلى الدعة والكسل.

قال تعالى: «أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً»(1).

الرجوع القهقرى

مسألة: ينبغي بيان أن القوم تراجعواالقهقرى بدل أن يتقدموا، وأحجموا بعد أن يقدموا، وتنازلوا بدل أن يتكاملوا، وانشغلوا باللعب بدل أن يجدوا،

ص: 117


1- سورة إبراهيم: 28.

..............................

فكانوا مصداق «وَمَنْ كَانَ يَوْمُهُ شَرّاً مِنْ أَمْسِهِ فَهُوَ مَلْعُونٌ»(1).

عن زرارة، عن أحدهما (عليهما السلام)، قال: «أَصْبَحَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَوْماً كَئِيباً حَزِيناً. فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ (عليه السلام): مَا لِي أَرَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ كَئِيباً حَزِيناً؟. فَقَالَ: وَكَيْفَ لاَ أَكُونُ كَذَلِكَ، وَقَدْ رَأَيْتُ فِي لَيْلَتِي هَذِهِ أَنَّ بَنِي تَيْمٍ وَبَنِي عَدِيٍّ وَبَنِي أُمَيَّةَ يَصْعَدُونَ مِنْبَرِي هَذَا، يَرُدُّونَ النَّاسَ عن الإِسْلاَمِ الْقَهْقَرَى. فَقُلْتُ: يَا رَبِّ، فِي حَيَاتِي أَوْ بَعْدَ مَوْتِي؟. فَقَالَ: بَعْدَ مَوْتِكَ»(2).

وفي الفقيه: (أُرِيَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) فِي مَنَامِهِ بَنِي أُمَيَّةَ يَصْعَدُونَ مِنْبَرَهُ مِنْ بَعْدِهِ، يُضِلُّونَ النَّاسَ عن الصِّرَاطِ الْقَهْقَرَى. فَأَصْبَحَ كَئِيباً حَزِيناً، فَهَبَطَعَلَيْهِ جَبْرَئِيلُ (عليه السلام)، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا لِي أَرَاكَ كَئِيباً حَزِيناً؟. قال: يَا جَبْرَئِيلُ، إِنِّي رَأَيْتُ بَنِي أُمَيَّةَ فِي لَيْلَتِي هَذِهِ يَصْعَدُونَ مِنْبَرِي مِنْ بَعْدِي، يُضِلُّونَ النَّاسَ عن الصِّرَاطِ الْقَهْقَرَى. فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ نَبِيّاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ مَا اطَّلَعْتُ عَلَيْهِ. ثُمَّ عَرَجَ إِلَى السَّمَاءِ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ نَزَلَ عَلَيْهِ بِآيٍ مِنَ الْقُرْآنِ يُؤْنِسُهُ بِهَا: «أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ»(3)، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ: «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ»(4)، جَعَلَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ

ص: 118


1- إرشاد القلوب إلى الصواب: ج1 ص73، الباب الثامن عشر وصايا وحكم بليغة.
2- الكافي: ج8 ص345، كتاب الروضة، حديث إسلام علي (عليه السلام)، ح543.
3- سورة الشعراء: 205 -207.
4- سورة القدر: 1 - 3.

..............................

لِنَبِيِّهِ (صلى الله عليه وآله) خَيْراً مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ مِنْ مُلْكِ بَنِي أُمَيَّة»(1).

وفي البحار، قال (صلى الله عليه وآله): «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَقُولُونَ: إِنَّ رَحِمَ رَسُولِ اللهِ (صلى

الله عليه وآله) لا يَنْفَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. بَلَى وَاللهِ، إِنَّ رَحِمِي لَمَوْصُولَةٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَإِنِّي - أَيُّهَا النَّاسُ - فَرَطُكُمْعَلَى الْحَوْضِ، فَإِذَا جِئْتُمْ قَالَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَا فُلاَنُ بْنُ فُلاَنٍ، وَقَالَ الآخَرُ: أَنَا فُلاَنُ بْنُ فُلاَنٍ. فَأَقُولُ: أَمَّا النَّسَبُ فَقَدْ عَرَفْتُهُ، وَلَكِنَّكُمْ أَحْدَثْتُمْ بَعْدِي وَارْتَدَدْتُمُ الْقَهْقَرَى»(2).

وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قال: «إِنِّي عَلَى الْحَوْضِ، أَنْظُرُ مَنْ يَرِدُ عَلَيَّ مِنْكُمْ، وَلَيُقْطَعَنَّ بِرِجَالٍ دُونِي. فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، أَصْحَابِي أَصْحَابِي!. فَيُقَالُ: إِنَّكَ لاَ تَدْرِي مَا عَمِلُوا بَعْدَكَ، إِنَّهُمْ مَا زَالُوا يَرْجِعُونَ عَلَى أَعْقَابِهِمُ الْقَهْقَرَى»(3).

وفي البحار، عن البخاري، أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، قال: «بَيْنَا أَنَا قَائِمٌ عَلَى الْحَوْضِ، إِذَا زُمْرَةٌ حَتَّى إِذَا عَرَفْتُهُمْ، خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ. فَقَالَ لَهُمْ: هَلُمَّ. قُلْتُ: إِلَى أَيْنَ؟. قال: إِلَى النَّارِ وَاللهِ. فَقُلْتُ: وَمَا شَأْنُهُمْ؟!. قال: إِنَّهُمْ قَدِ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ الْقَهْقَرَى. ثُمَّ إِذَا زُمْرَةٌ أُخْرَى حَتَّى إِذَا عَرَفْتُهُمْ، خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ. فَقَالَ لَهُمْ: هَلُمَّ. فَقُلْتُ: إِلَى أَيْنَ؟. قال:

ص: 119


1- من لا يحضره الفقيه: ج2 ص157، كتاب الصوم، باب الغسل في الليالي المخصوصة في شهر رمضان، ح2022.
2- بحار الأنوار: ج23 ص165، كتاب الإمامة، الباب7 من أبواب جمل أحوال الأئمة الكرام (عليهم السلام).
3- أمالي الشيخ المفيد: ص37 - 38، المجلس الخامس، ح4.

..............................

إِلَى النَّارِ وَاللهِ. قُلْتُ: مَا شَأْنُهُمْ؟!. قال: إِنَّهُمْ قَدِ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ. فَلا أُرَاهُ يَخْلُصُ مِنْهُمْ إِلاَّ مِثْلُ هَمَلِ النَّعَم»(1).

وفي رواية أخرى: «إنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) قَدْ رَأَى رِجَالاً مِنْ نَارٍ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نَارٍ، وَيَرُدُّونَ النَّاسَ عَلَى أَعْقَابِهِمُ الْقَهْقَرَى، وَلَسْنَا نُسَمِّي أَحَداً»(2).

وفي رواية سلام الجعفي، عنه (عليه السلام)، أنه قال: «إِنَّا لاَ نُسَمِّي الرِّجَالَ بِأَسْمَائِهِمْ، وَلَكِنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) رَأَى قَوْماً عَلَى مِنْبَرِهِ يُضِلُّونَ النَّاسَ بَعْدَهُ عن الصِّرَاطِ الْقَهْقَرَى»(3).

وسُئِلَ رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن هذه الآية: «وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ» سورة الإسراء: 60. فقال: «إِنِّي رَأَيْتُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلاً مِنْ أَئِمَّةِ الضَّلاَلِ، يَصْعَدُونَ مِنْبَرِي وَيَنْزِلُونَ، يَرُدُّونَ أُمَّتِي عَلَى أَدْبَارِهِمُ الْقَهْقَرَى، فِيهِمْ رَجُلَيْنِ مِنْ حَيَّيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ مُخْتَلِفَيْنِ، وَثَلاَثَةٌ مِنْ بَنِيأُمَيَّةَ، وَسَبْعَةٌ مِنْ وُلْدِ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ. وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: إِنَّ بَنِي أَبِي الْعَاصِ إِذَا بَلَغُوا خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلاً، جَعَلُوا كِتَابَ اللهِ دَخَلاً، وَعِبَادَ اللهِ خَوَلاً»(4).

ص: 120


1- بحار الأنوار: ج28 ص27، الباب1 من أبواب كتاب الفتن والمحن، ضمن ح370.
2- تفسير العياشي: ج2 ص298، سورة الإسراء الآية 60، ح96.
3- البرهان في تفسير القرآن: ج3 ص543، سورة الإسراء الآية 60، ح6415.
4- بحار الأنوار: ج58 ص169، تتمة كتاب السماء والعالم، الباب44 ح24.

وَقَرْعِ الصَّفَاةِ، وَصَدْعِ الْقَنَاةِ،

اشارة

-------------------------------------------

إضاعة الوقت

مسألة: يحرم أو يكره إضاعة الوقت فيما لا طائل تحته، أو فيما ينتج عكس المأمور به، كقارع الصفاة.

قال الإمام الصادق (عليه السلام): «الاِشْتِغَالُ بِالْفَائِتِ تَضْيِيعُ الْوَقْتِ»(1).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : «احْذَرِ اللَّهْوَ وَاللَّعِبَ وَالْهَزْلَ، وَكَثْرَةَ الضَّحِكِ وَالْمَزْحِ وَالتُّرَّهَاتِ»(2).

وقال (عليه السلام): «عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ وَالتَّقْوَى فَالْزَمُوهُمَا، وَإِيَّاكُمْ وَمُحَالاَتِ الْبَاطِلِ وَالتُّرَّهَاتِ»(3).

وقال (عليه السلام): «عَلَيْكُمْ بِمُوجِبَاتِ الْحَقِّ فَالْزَمُوهَا، وَإِيَّاكُمْ وَمُحَالاتِ التُّرَّهَاتِ»(4).

وعن رقية بنت إسحاق بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب، عن أبيها، عن آبائه(عليهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَشَبَابِهِ فِيمَا أَبْلاَه، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ كَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ، وَعَنْ حُبِّنَا

ص: 121


1- مجموعة ورام: ج2 ص107.
2- عيون الحكم والمواعظ: ص104، ب1 ف7، ح2350.
3- عيون الحكم والمواعظ: ص340 - 341، ب8 ف5، ح5810.
4- عيون الحكم والمواعظ: ص341، ب8 ف8، ح5834.

أَهْلَ الْبَيْتِ»(1).

وعن جميل بن صالح، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «لاَ يَغُرُّكَ النَّاسُ مِنْ نَفْسِكَ؛ فَإِنَّ الأَمْرَ يَصِلُ إِلَيْكَ مِنْ دُونِهِمْ. وَلاَ تَقْطَعِ النَّهَارَ بِكَذَا وَكَذَا؛ فَإِنَّ مَعَكَ مَنْ يَحْفَظُ عَلَيْكَ. وَلَمْ أَرَ شَيْئاً قَطُّ أَشَدَّ طَلَباً وَلا أَسْرَعَ دَرَكاً مِنَ الْحَسَنَةِ لِلذَّنْبِ الْقَدِيمِ. وَلاَ تُصَغِّرْ شَيْئاً مِنَ الْخَيْرِ؛ فَإِنَّكَ تَرَاهُ غَداً حَيْثُ يَسُرُّكَ. وَلاَ تُصَغِّرْ شَيْئاً مِنَ الشَّرِّ؛ فَإِنَّكَ تَرَاهُ غَداً حَيْثُ يَسُوؤُكَ. إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: «إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ»(2)»(3).

بين طريق الردى والهدى

مسألة: يحرم الاتجاه والسير في طريق الردى والعماية بدل طريق الهدىوالولاية.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «أَيُّهَا النَّاسُ، لاَ تَسْتَوْحِشُوا فِي طَرِيقِ الْهُدَى لِقِلَّةِ أَهْلِهِ؛ فَإِنَّ النَّاسَ قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى مَائِدَةٍ شِبَعُهَا قَصِيرٌ، وَجُوعُهَا طَوِيلٌ»(4).

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ الْقَلِيلَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كَثِيرٌ»(5).

ص: 122


1- أمالي الشيخ الصدوق: ص39، المجلس العاشر، ح9.
2- سورة هود: 114
3- بحار الأنوار: ج68 ص181 - 182، تتمة كتاب الإيمان والكفر، الباب64 ح37.
4- نهج البلاغة: باب الخطب، 201، ومن كلام له (عليه السلام) يعظ بسلوك الطريق الواضح.
5- بحار الأنوار: ج2 ص266، تتمة كتاب العقل والعلم والجهل، الباب32 من تتمة أبواب العلم، ح26.

وقال النبي (صلى الله عليه وآله): «فِي الْقَلْبِ نُورٌ لاَ يُضِيءُ إِلاَّ مِنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ، وَقَصْدِ السَّبِيلِ، وَهُوَ نُورٌ مِنَ الْمُرْسَلِينَ الأَنْبِيَاءِ، مُوَدَّعٌ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ»(1).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «انْظُرُوا أَهْلَ بَيْتِ نَبِيِّكُمْ فَالْزَمُوا سَمْتَهُمْ، وَاتَّبِعُوا أَثَرَهُمْ، فَلَنْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ هُدًى، وَلَنْ يُعِيدُوكُمْ فِي رَدًى، فَإِنْ لَبَدُوا فَالْبُدُوا، وَإِنْ نَهَضُوا فَانْهَضُوا، وَلاَ تَسْبِقُوهُمْ فَتَضِلُّوا، وَلاَ تَتَأَخَّرُوا عَنْهُمْفَتَهْلِكُوا»(2).

قول الصديقة (عليها السلام): «وَقَرْعِ الصَّفَاةِ، وَصَدْعِ الْقَنَاةِ» أو «وَخَوْرِ الْقَنَاةِ»: قرع الباب أي دقه، وقرع رأسه بالعصاة أي ضربه بها، وقرع صفاته أي عابه وتنقصه.

والصفاة: الحجر الضخم الصلد، و(فلان لا تقرع له صفاة) أي لا يناله أحد بسوء.

والصدع: الشق في شيء صلب، و(صدع الشيء): شقّه ولم يفترق، و(صدع القومَ): فرقهم.

والقناة: الرمح.

أما (خور) فبمعنى: ضعف وفتر، وكذا: انكسر.

ص: 123


1- بحار الأنوار: ج2 ص265، تتمة كتاب العقل والعلم والجهل، الباب32 من تتمة أبواب العلم، ح20.
2- نهج البلاغة: باب الخطب، 97، ومن خطبة له (عليه السلام) في أصحابه وأصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله).

..............................

ف «قَرْعِ الصَّفَاةِ» يعني إنهم حيث أخطأوا طريق الهدى والولاية، ومالوا إلى طريق الردى والعماية، فهم كقارع الحجر الصلد الضخم لا يجني شيئاً ولاينتفع بشيء.. بل لا يحصد إلا التعب والنصب.

وهذا كناية، عن أن حكومتهم لا خير فيها ولا نفع، وأنهم خسروا دنياهموآخرتهم بالاستحواذ عليها، وإبعاد أهل البيت (عليهم السلام) عنها، كمن يضرب ويقرع الصفاة والحجر الصلد، فإن وقته يضيع هباءً، وبدنه يتعب، وعمره ينقضي، ولا يحصل على شيء.

ويتضح ذلك أكثر إذا لاحظنا الزارع، فإنه لو بدأ بدل حرث الأرض بضرب الصخور الصلدة الصماء الضخمة؛ ليزرع فيها الأشجار والنخيل، فإنه أضاع حظه، وأتلف عمره عادة.

تقبيح عمل القوم

مسألة: هناك احتمال آخر في معنى «وَقَرْعِ الصَّفَاةِ»، وهو أن الصديقة (عليها السلام) كنَّت، عن أهل البيت (عليهم السلام) ب (الصفاة)، فقبَّحت عمل القوم الظالمين بحقهم، حيث حاولوا قرع أهل البيت (عليهم السلام)، وظلمهم وضربهم، ظاهراً وباطناً، معنوياً ومادياً.

فأولئك الأشرار المنقلبين على الأعقاب، بدل أن يكونوا لأهل البيت (عليهم السلام) عضداً وسنداً، انقلبوا عليهم وقرعوا صفاتهم.

ص: 124

..............................

والكناية لها وجه آخر لطيف، وهو أن أهل البيت (عليهم السلام) أقوى وأسمىوأعلى، من أن يحط من قدرهم انقلاب الناس عليهم، وإنكارهم لفضلهم ومواقعهم، إذ هم تلك البيوت التي «أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ»(1)، فالضارب صفاتهم هو الخاسر الفاشل دنياً وأخرى، وإن توهم الناس عكس ذلك، لقصور نظرهم وشدة جهلهم.

قال تعالى: «كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي»(2)، وذلك كما أشار إليه الشاعر بقوله:

زَعَمُوا بِأَنْ قَتَلَ الْحُسَينَ يَزِيدُهُمْ *** لَكِنَّمَا قَتَلَ الْحُسَينُ يَزَيدَا

فأهل البيت (عليهم السلام) هم أوتاد الأرض، و(بيمنهم رزق الورى، وبوجودهم ثبتت الأرض والسماء)(3)، سواء انقلب الناس عليهم أم لا، فالقارع صفاتهم هو الخاسر الأكبر، ولا يضرهم ذلك شيئاً، بل يزيدهم علواً وارتفاعاً، وسمواً ومنزلةً، ومقاماً عند الله تعالى، وفي الكون كله.

وهناك احتمال ثالث في قولها (عليها السلام): «فَقُبْحاً لِ-»، و«قَرْعِ الصَّفَاةِ»، وهو: أن قرع صفاته يأتي بمعنى عابه وتنقصه.

ص: 125


1- سورة النور: 36.
2- سورة المجادلة: 21.
3- هذا النص مأخوذ مما جاء في دعاء العديلة الكبير، حول الإمام المنتظر المهدي (عليه السلام): «وَبِيُمْنِهِ رُزِقَ الْوَرَى، وَبِوُجُودِهِ ثَبَتَتِ الْأَرْضُ وَالسَّمَاءُ». زاد المعاد، للعلامة المجلسي: ص423، دعاء العديلة الكبير.

وفي (الصفاة) إشارة أيضاً إلى سموهم (عليهم السلام)، عن أن يعابوا أو ينتقصوا، فالعائب لهم كالقارع للصفاة، الضارب للحجر الصلد الكبير الذي لا يتأثر.

ومن قولها (عليها السلام) هذا نشير للمسألة التالية:

تعييب الآخرين

مسألة: يحرم عيب الآخرين والتنقيص من شأنهم، وأما عيب أولياء الله فهو أشد حرمة، وأعظم جرماً، وبالنسبة إلى الأئمة المعصومين وأهل البيت (عليهم السلام)، فهو من أكبر الكبائر التي يستحق عليها النار وبئس القرار.

عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «ثَلاَثُ خِصَالٍ مَنْ كُنَّ فِيهِ أَوْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ، كَانَ فِي ظِلِّ عَرْشِ اللهِ، يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ: رَجُلٌ أَعْطَى النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ مَا هُوَ سَائِلُهُمْ، وَرَجُلٌ لَمْ يُقَدِّمْ رِجْلاً وَلَمْ يُؤَخِّرْ رِجْلاً حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ لِلهِ رِضًا، وَرَجُلٌ لَمْ يَعِبْ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ بِعَيْبٍ حَتَّى يَنْفِيَ ذَلِكَ الْعَيْبَ عَنْ نَفْسِهِ؛ فَإِنَّهُ لاَ يَنْفِي مِنْهَا عَيْباً إِلاَّ بَدَا لَهُ عَيْبٌ، وَكَفَى بِالْمَرْءِ شُغُلاً بِنَفْسِهِ عَنِ النَّاسِ»(1).وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «إِنَّ أَسْرَعَ الْخَيْرِ ثَوَاباً الْبِرُّ، وَإِنَّ أَسْرَعَ الشَّرِّ عُقُوبَةً الْبَغْيُ، وَكَفَى بِالْمَرْءِ عَيْباً أَنْ يُبْصِرَ مِنَ النَّاسِ مَا يَعْمَى عَنْهُ مِنْ نَفْسِهِ، أَوْ يُعَيِّرَ النَّاسَ بِمَا لاَ يَسْتَطِيعُ تَرْكَهُ، أَوْ يُؤْذِيَ جَلِيسَهُ بِمَا لاَ يَعْنِيهِ»(2).

ص: 126


1- الكافي: ج2، ص147، كتاب الإيمان والكفر، باب الإنصاف والعدل، ح16.
2- الكافي: ج2 ص459 - 460، كتاب الإيمان والكفر، باب من يعيب الناس، ح1.

..............................

وعن أبي حمزة، قال: سمعت علي بن الحسين (عليه السلام) يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «كَفَى بِالْمَرْءِ عَيْباً أَنْ يُبْصِرَ مِنَ النَّاسِ مَا يَعْمَى عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ، وَأَنْ يُؤْذِيَ جَلِيسَهُ بِمَا لاَ يَعْنِيهِ»(1).

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «كَفَى بِالْمَرْءِ عَيْباً أَنْ يَتَعَرَّفَ مِنْ عُيُوبِ النَّاسِ مَا يَعْمَى عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ نَفْسِهِ، أَوْ يَعِيبَ عَلَى النَّاسِ أَمْراً هُوَ فِيهِ لاَ يَسْتَطِيعُ التَّحَوُّلَ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، أَوْ يُؤْذِيَ جَلِيسَهُ بِمَا لاَ يَعْنِيهِ»(2).وعن أبي جعفر وعلي بن الحسين (صلوات الله عليهما)، قالا: «إِنَّ أَسْرَعَ الْخَيْرِ ثَوَاباً الْبِرُّ، وَأَسْرَعَ الشَّرِّ عُقُوبَةً الْبَغْيُ، وَكَفَى بِالْمَرْءِ عَيْباً أَنْ يَنْظُرَ فِي عُيُوبِ غَيْرِهِ مَا يَعْمَى عَلَيْهِ مِنْ عَيْبِ نَفْسِهِ، أَوْ يُؤْذِيَ جَلِيسَهُ بِمَا لاَ يَعْنِيهِ، أَوْ يَنْهَى النَّاسَ عَمَّا لاَ يَسْتَطِيعُ تَرْكَهُ»(3).

تحويل القوة إلى الضعف

قول الصديقة (عليها السلام): «وَصَدْعِ الْقَنَاةِ» إشارة إلى أن القوم كانوا أشداء على الكفار، فكانوا كالرمح القوية تعين حاملها ومستخدمها على الأعداء.. إلا أنهم صاروا بخذلانهم لأهل البيت (عليهم السلام) كالرمح المتصدعة المتشققة التي لا تنفع صاحبها، بل إنها تشكل خطراً عليه أيضاً، إذ يظنها معينة

ص: 127


1- الكافي: ج2 ص460، كتاب الإيمان والكفر، باب من يعيب الناس، ح2.
2- الكافي: ج2 ص460، كتاب الإيمان والكفر، باب من يعيب الناس، ح3.
3- الكافي: ج2 ص460، كتاب الإيمان والكفر، باب من يعيب الناس، ح4.

..............................

نافعة فيستند إليها لقتال الأعداء فتخذله ساعة النزال.

ومن قول الصديقة (عليها السلام) هذا نشير للمسألة التالية:

مسألة: يحرم تحويل القوة إلى ضعف فيأمثال هذا الموطن، بل ذلك في أمثاله من أشد المحرمات، وهو من مصاديق «أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارِ»(1).

والمصاديق لذلك(2) كثيرة، تشمل: قوة العلم، وقوة التعاون، وقوة السلاح، وقوة الاجتماع، وقوة التنظيم، وألف قوة وقوة.

ومن مصاديق تحويلها إلى ضعف: التنازع، قال تعالى: «وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ»(3).

ومن مصاديق تحويل القوة إلى ضعف أيضاً: حرف القوة - علماً كانت أم سلاحاً أم تنظيماً أم غير ذلك - إلى غير الحق، أي اتخاذها وسيلة للباطل(4)، كما صنع القوم المنقلبون على الأعقاب الذين أدانتهم الزهراء (عليها السلام) ههنا بقولها: «فَقُبْحاً لِفُلُولِ الْحَدِّ، وَاللَّعِبِ بَعْدَ الْجِدِّ، وَقَرْعِ الصَّفَاةِ، وَصَدْعِ

ص: 128


1- سورة إبراهيم: 28 - 29.
2- أي تحويل القوة إلى ضعف.
3- سورة الأنفال: 46.
4- فإن حرف القوة لتأييد الباطل وإن توهم أنه قوة إلا أنه في جوهره ضعف، فهو ك« خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ» وهو طريق سريع لزوال هذه القوة. (منه قدس سره).

..............................

الْقَنَاةِ».

وفي نسخة: «وَخَوْرِ الْقَنَاةِ»، والخور كما سبق: الضعف والفتور، وقد يطلق على الانكسار.

وهذا أوضح دلالةً على المقصود من النسخة الأخرى «وَصَدْعِ الْقَنَاةِ»، وإن كان الثاني أبلغ من حيث الكناية، ولكل وجه، والله العالم.

ص: 129

وَخَتَلِ الْآرَاءِ

اشارة

-------------------------------------------

حرمة الدجل والخداع

قول الصديقة (عليها السلام): «خَتَلِ الْآرَاءِ» أو «خَطَلِ الْآرَاءِ».

الختل: الخداع، والمخاتلة: المخادعة، وختله: خدعه، وتخاتلوا: تخادعوا.

والخَطَل: المنطق الفاسد المضطرب، كما في المجمع(1).

ويقال: (خطل في منطقه): أخطأ، و(خطل في كلامه): أتى بكلام كثير فاسد.

والخطل أيضاً بمعنى الحمق والخفة.

ومعنى كلامها (عليها السلام) بناءً على كونه «خَتَلِ الْآرَاءِ»، أي قبحاً لآرائكم المخادعة والماكرة .. فإنهم حاولوا إلباس خيانتهم وخذلانهم لأهل البيت (عليهم السلام) وخاصة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) لباساً من المكر والخداع، ليوهموا بأن موقفهم كان له وجه وجيه أو عذر مقبول، وكان من تلك الوجوه الماكرة(2): أننا بايعنا ابنأبي قحافة، ولو كان كلامك قبل البيعة لما صنعنا ما صنعنا، وكان منها: أننا اضطررنا إلى ذلك، وكان منها: إن المصلحة كانت في عدم تولي أمير المؤمنين علي (عليه السلام) الخلافة(3).

ص: 130


1- مجمع البحرين: ج5 ص364، كتاب اللام، باب ما أوله الخاء، خطل.
2- بلسان الحال والقال أو أحدهما، قبل الخطبة هذه أو بعدها. (منه قدس سره).
3- لأن فيه دعابة.. أو لأن قريش تطلبه بثارات بدر وحنين، أو ما أشبه ذلك.

..............................

وربما يكون «خَتَلِ الْآرَاءِ» بمعنى المخاتلة أيضاً، إذ قد خدع بعضهم بعضاً، وهذا حال المبطلين إذ يصطنع كل منهم مبرراً لباطله كي يبرر باطله أمام صاحبه وبالعكس، وذلك يعد نوعاً من محاولة إسكات الضمير وخداع الوجدان والتغطية على النفس اللوامة، فكلما صرخ الوجدان ولامتهم أنفسهم كلما استند بعضهم إلى بعض في اختلاق العذر والمبرر.

ومن كلامها (عليها السلام) هذا نشير إلى المسألة التالية:

الدجل والخداع

مسألة: يحرم الدجل والخداع في أصول الدين، ويحرم في فروع الدين أيضاً، كما يحرم في المعاملات والعقود والإيقاعات، فإن فيه فوت الحق وإقامةالباطل.

فالخداع في أصول الدين: كمحاولة إقامة الأدلة على خلاف الحقيقة، في الله وصفاته وأفعاله، أو في شؤون النبوة والإمامة أو المعاد، كالمغالطة في عدم كونه عادلاً، أو كونه جسماً، أو عدم إمامة الأئمة الأثني عشر، أو عدم المعاد، أو إنكار خصوص الجسماني منه.

وفي الفروع: كمحاولات الكثيرين للختل والخداع لتحريم حلال الله، وتحليل حرامه، كالشطرنج والاستبداد، ولو كان بلباس الفقيه وبأعذار دينية.

وفي المعاملات: كالتدليس في الأسعار أو شبهها(1).

ص: 131


1- كتدليس الماشطة بما يكون حراماً.

..............................

وفي نسخة: (خَطَلِ الْآرَاءِ).

والخطل في الرأي هو: الفساد والاضطراب والخطأ فيه، وربما يكون الخطل قد أشرب معنى الكثرة أيضاً، أي الآراء الكثيرة المضطربة الفاسدة.

وكل رأي وكل منهج وكل طريق غير الحق فهو فاسد مضطرب، فيقض سماؤه أرضه وعاليه سافله.

والقوم عند ما أعرضوا، عن علي(عليه السلام) وقعوا في خطل وفساد واضطراب هائل في آرائهم في الكليات والجزئيات.

فساد الرأي

مسألة: يحرم الخطل والفساد في الرأي، فيما يرتبط بحقوق الله أو حقوق الناس.

لا يقال: الخطل في الرأي غير اختياري.

لأنه يقال: بل هو اختياري، فإن التأني وعدم التعجل والاستشارة وشبهها من مقومات سداد الرأي كلها اختيارية، ولا تنفي الصعوبة أحياناً اختياريتها.

ولو فرض وصول الأمر في فساد الرأي واضطرابه إلى حالة لا اختيارية، فإنه أيضاً يستحق العقاب، لأن ما بالاختيار لا ينافي الاختيار، إذ المقدمات اختيارية.

ص: 132

..............................

مقدمات سداد الرأي

مسألة: يجب بالوجوب المقدمي، تهيئة مقدمات لسداد الرأي في العقائد وفي الفروع، وفي سائر الشؤون كالسياسة والاقتصاد وغيرها.

فإن من لم يدرس ولم يطالع ولميتأمل، وكذلك من لم يتخذ مستشاراً في السياسة والاقتصاد وغيرها، فإنه يرتطم عادة بخطل الرأي وفساده واضطرابه مما يعود عليه بالوبال إذا كان أمراً شخصياً، أو عليه وعلى عائلته، أو عليه وعلى منظمته، أو عليه وعلى مجتمعه أو حكومته، حسب نوع المطلب.

ص: 133

وَزَلَلِ الْأَهْوَاءِ

اشارة

-------------------------------------------

اتباع الهوى

كلام الصديقة (عليها السلام) صريح في أن كل ما قام به أولئك الصحابة من انقلاب على وصي رسول الله (صلى الله عليه وآله) الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ومن ملزوماته وملازماته ولوازمه، فإنما هو ضلال في ضلال، وفساد في الرأي، وأهواء متبعة فاسدة ضالة، وزلل كبير.

مسألة: يحرم اتباع الهوى ويحرم - مقدمياً - أن يجعل الإنسان نفسه في معرض الزلل الأهوائي، فإن «مَنْ حَامَ حَوْلَ الْحِمَى أُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ»(1).

ثم إن الهوى المحرم إتباعه هو الهوى المحظور شرعاً، وليس مطلقاً ما صدق عليه عرفاً هوى محرماً، ولا حقيقة شرعية في هذا المصطلح، بل أي هوى صدق عليه عنوان محرم(2) كان حراماً، وما عداه فإنه مذموم، وذلك كهوى تملك مالكثير، فإنه بما هو هو رذيلة، ولو كانت مقدمة للاحتكار مثلاً حرم عقلاً، أو عقلاً وشرعاً حسب الخلاف في حرمة المقدمة.

قال تعالى: «أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَ فَلَا

ص: 134


1- انظر: وسائل الشيعة: ج27 ص167، كتاب القضاء، الباب12 من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به، ح33507.
2- كالزنا واللواط وشرب الخمر.

..............................

تَذَكَّرُونَ»(1).

وقال سبحانه: «وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَديدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ»(2).

وقال تعالى: «وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصيرٍ»(3).

وقال سبحانه: «وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ»(4).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ اثْنَانِ: اتِّبَاعُ الْهَوَى، وَطُولُ الأَمَلِ. فَأَمَّااتِّبَاعُ الْهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ، وَأَمَّا طُولُ الأَمَلِ فَيُنْسِي الآخِرَةَ»(5).

وعن أبي محمد الوابشي، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «احْذَرُوا أَهْوَاءَكُمْ كَمَا تَحْذَرُونَ أَعْدَاءَكُمْ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَعْدَى لِلرِّجَالِ مِنِ اتِّبَاعِ

ص: 135


1- سورة الجاثية: 23.
2- سورة ص: 26.
3- سورة البقرة: 120.
4- سورة القصص: 50.
5- نهج البلاغة: باب الخطب والرسائل، رقم42 ومن كلام له (عليه السلام) وفيه يحذر من اتباع الهوى وطول الأمل في الدنيا.

..............................

أَهْوَائِهِمْ، وَحَصَائِدِ أَلْسِنَتِهِمْ»(1).

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَعِزَّتِي وَجَلاَلِي، وَعَظَمَتِي وَكِبْرِيَائِي، وَنُورِي وَعُلُوِّي وَارْتِفَاعِ مَكَانِي، لاَ يُؤْثِرُ عَبْدٌ هَوَاهُ عَلَى هَوَايَ إِلاَّ شَتَّتُّ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَلَبَّسْتُ عَلَيْهِ دُنْيَاهُ، وَشَغَلْتُ قَلْبَهُ بِهَا، وَلَمْ أُؤْتِهِ مِنْهَا إِلاَّ مَا قَدَّرْتُ لَهُ. وَعِزَّتِي وَجَلاَلِي، وَعَظَمَتِي وَنُورِي، وَعُلُوِّي وَارْتِفَاعِ مَكَانِي، لاَ يُؤْثِرُ عَبْدٌ هَوَايَ عَلَى هَوَاهُ إِلاَّ اسْتَحْفَظْتُهُ مَلاَئِكَتِي، وَكَفَّلْتُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرَضِينَ رِزْقَهُ، وَكُنْتُ لَهُ مِنْ وَرَاءِ تِجَارَةِ كُلِّ تَاجِرٍ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ»(2).وعن عبد الرحمن بن الحجاج، قال: قال لي أبو الحسن (عليه السلام): «اتَّقِ الْمُرْتَقَى السَّهْلَ إِذَا كَانَ مُنْحَدَرُهُ وَعْراً - قال - وَكَانَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: لاَ تَدَعِ النَّفْسَ وَهَوَاهَا؛ فَإِنَّ هَوَاهَا فِي رَدَاهَا، وَتَرْكُ النَّفْسِ وَمَا تَهْوَى أَذَاهَا، وَكَفُّ النَّفْسِ عَمَّا تَهْوَى دَوَاهَا»(3).

فضح القوم

مسألة: يجب أو يستحب كشف حقيقة القوم وفضحهم وأنهم قد زلوا زللاً كبيراً في أهوائهم، وأخطأوا خطأ جسيماً في آرائهم.

ص: 136


1- الكافي: ج2 ص335، كتاب الإيمان والكفر، باب اتباع الهوى، ح1.
2- الكافي: ج2 ص335، كتاب الإيمان والكفر، باب اتباع الهوى، ح2.
3- الكافي: ج2 ص335 - 336، كتاب الإيمان والكفر، باب اتباع الهوى، ح4.

وَبِئْسَ «مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ»

اشارة

-------------------------------------------

وَبِئْسَ «مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ»(1).

مسائل عديدة مستفادة من الآية الكريمة

ويستفاد من استشهاد الصديقة (صلوات الله عليها) بهذه الآية الشريفة أمور ومسائل عديدة.منها: إن ما فعله القوم بحق الصديقة الطاهرة (صلوات الله عليها) هو بئس ما قدموه لأنفسهم ليوم الحسرة والقيامة، وأنهم يحاسبون عليه أشد الحساب.

ومنها: إنه يستحب - وقد يجب - بيان ذلك للناس على مر الأزمان والدهور.

ومنها: إن ما فعله القوم ظلماً بحقها (صلوات الله عليها) سبب سخط الله عليهم.. وأن سخط الله يتجلى في الدنيا بأنحاء، وفي الآخرة يكون له التجلي الأكبر بالعذاب الخالد، قال تعالى: «وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ»(2).

ومنها: إن من سخط الله عليه ساقط عن العدالة.

ومنها: إنه بشكل أولى لا يليق بالإمامة والخلافة.

ومنها: إن من تقمصها لم يكن ظالماً فيما مضى فحسب بعبادته الصنم،

ص: 137


1- سورة المائدة: 80.
2- سورة الحج: 11.

..............................

بل لم تفارقه صفة الظلم، فلا ينحصر إثبات عدم أهليته للخلافة بإثبات أن المشتق حقيقة في الأعم من المتلبس بالمبدأ والمنقضي عنه المبدأ، أوبإثبات أن الظلم آناً ما كاف في عدم الصلاحية أبداً، نظراً لجلالة منصب الإمامة، وإن قلنا بأن المشتق مجاز في المنقضي، كما لا ينحصر بإثبات استمرار عبادته للصنم، بل يكفي في عدم الصلاحية هذا الوجه أيضاً(1)، وإن كان كل واحد مما ذكر كافياً.

ومنها: إن ما فعله القوم ظلماً لها (عليها السلام) ولبعلها علي (عليه السلام) سبب خلودهم في العذاب.

وأي كلام أعظم من كتاب الله عز وجل، حيث استشهدت بضعة النبي (صلى الله عليه وآله) بالآية القرآنية على أن أولئك الصحابة الذين انقلبوا على الأعقاب هم خالدون في النار.

ومنها: إن حديث العشرة المبشرة بالجنة كذب محض، وافتراء على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وكيف يكون صحيحاً وعدد منهم هم من المنقلبين على الأعقاب الذين استشهدت الصديقة فاطمة (عليها السلام) بهذه الآية على أنهم من الخالدين في النار؟.

إضافة إلى عدم معقولية صحة هذاالحديث؛ لأن العشرة قاتل بعضهم بعضاً، وقتل بعضهم بعضاً، وقُتل بسبب قتالهم الآلاف من المسلمين، فهل يعقل أن يكونوا جميعاً من أهل الجنة؟ كيف وقد خرج بعضهم على إمام زمانه؟

ص: 138


1- وهو: أنهم مغضوب عليهم بالفعل من الله، وأنه ساخط عليه بتصريح الطاهرة الزهراء (عليها السلام) التي أجمع المسلمون على أنها صديقة، وقد قال القرآن الكريم بعصمتها في آية التطهير وغيرها.

..............................

وتفصيل الحديث موكول إلى محله من كتب الكلام والعقائد والمناظرات والتاريخ وما أشبه(1).

ومنها: جواز لعن أولئك الصحابة الذين انقلبوا على أعقابهم، كونهم قد سخط الله عليهم وخلَّدهم في عذابه.

ومنها: إنه يستحب أو يجب - حسب اختلاف المواطن - بيان ما سبق(2)؛ وذلك لبيان الله تعالى، وبيان الصديقة الزهراء (عليها السلام) له، ولعموم أدلة النهي عن المنكر، والتبري من الطاغوت، والدفاع عن أهل البيت (عليه السلام)، بل عن مطلق المظلوم، فكيف بهم (صلوات الله عليهم).

ومنها: إنه يحرم فعل ما يوجب سخط الله تعالى.ومنها: إنه يحرم فعل ما يوجب العذاب والخلود فيه.

وهل لهذين حرمة نفسية مستقلة عن حرمة نفس المحرمات المعنونة في الآيات والروايات، كالقتل والجرح وسائر أنواع الظلم كغصب الخلافة وغصب الممتلكات كفدك وغيرها؟.

الظاهر انطباق هذين الكليين(3) على تلك العناوين. نعم قد ينفكان عنها، كما لو زوحم الواجب بواجب أهم، وكان القيام به موجباً لتفويت الأهم، فإن

ص: 139


1- للتفصيل، عن هذه الأمور راجع كتاب (ليالي بيشاور)، و(النص والاجتهاد)، و(الغدير)، و(المراجعات)، وغيرها.
2- من سخط الله عليهم وأنهم في العذاب خالدون.
3- أي ما يوجب سخط الله وما يوجب العذاب والخلود فيه.

..............................

الواجب المهم قد يكون عندئذٍ مما يوجب القيام به سخط الله؛ لأنه فوت الأهم كإنقاذ النفس المحترمة، فتأمل.

مسألة: يفهم ارتداد القوم من استشهادها (صلوات الله عليها) بهذه الآية، فإنه يعد دليلاً على ارتدادهم وانقلابهم، فإن الآية جاءت في سياق الآيات الدالة على ارتداد بعض بني إسرائيل من قوم موسى (عليه السلام) وارتداد بعض قوم عيسى (عليه السلام)، ثمإن صدرها شاهد أيضاً، فلنلاحظ الآيات مزجاً مع ما ذكرناه في تبيين القرآن:

قال تعالى: «لُعِنَ الَّذينَ كَفَرُوا مِنْ بَني إِسْرَائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ» لعنهم داود (عليه السلام) حين اعتدوا في السبت فمسخوا قردة «وَ» لسان «عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ» حين كفروا بعد نزول المائدة فمسخوا خنازير «ذَلِكَ» اللعن «بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ»... «تَرَى» يا رسول الله «كَثيرًا مِنْهُمْ» من أهل الكتاب «يَتَوَلَّوْنَ» يوالون ويصادقون «الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ» إلى الآخرة من العقاب «لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ» بسبب كفرهم وعصيانهم «وَ فِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ»(1).

ص: 140


1- تبيين القرآن: ص133، سورة المائدة 78 - 80.

..............................

بين العدالة والخلود

مسألة: قد ذكرنا في مباحث أصول الدين أن الخلود لا ينافي العدالة الربانية، إذ العذاب يكون بقدر العمل السيء، لقوله سبحانه: «وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ»(1) أما بقاؤهم إلى الأبد بالنسبة إلى البعض فربما يكون نتيجة العناد، إذ يظل قسم منهم مصراً معانداً حتى وهو في نار جهنم، وربما يكون في البعض بحيث لا يحس بالعذاب إلا بقدر استحقاقه للعذاب، وقد يؤيده قوله: «وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُون»(2) فتأمل، إذ ذكرنا في التبيين: «لَهُمْ فِيهَا زَفيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ»(3) أي كلاماً حسناً أو شيئاً لشدة العذاب(4).

وفي بعض الروايات: إنهم يغشى عليهم من شدة العذاب أزمنة طويلة، فلا منافاة بين الخلود وبين كون حسهم وشعورهم بالعذاب بقدر استحقاقهم.وقد ذكر العلامة المجلسي (رحمه الله) وغيره أن الخلود من ضروريات الدين، (والمقصود الخلود الحقيقي لا النسبي) وتفصيله في مباحث الكلام.

هذا كله بالنسبة إلى المعصية بشكل عام، أما معصية ظلم الصديقة الزهراء

ص: 141


1- سورة الشورى: 40.
2- سورة الأنبياء: 100.
3- سورة الأنبياء: 100.
4- تبيين القرآن: ص342، سورة الأنبياء: 100.

..............................

(عليها السلام) وغصب الخلافة فلم تكن معصية وقتية فحسب، بل ترتب عليها جميع الآثام والانحرافات إلى يوم القيامة، فمرتكبوها يستحقون أشد العقوبات وأطولها والخلود في أشد النار، مضافاً إلى استمرارهم في اللجاج والعناد حتى في الآخرة، إضافة إلى خبث الطوية وقاعدة السنخية(1) إلى غير ذلك، والتفصيل في علم الكلام وما يرتبط به.

ص: 142


1- فإن سنخهم ناري كما أن سنخ بعض الموجودات نوري.. وفي مباحث تجسم الأعمال .. وأخبار الطينة والمعادن وغيرها ما يفي بالمقصود، فليراجع البحار وغيره.

لَا جَرَمَ لَقَدْ قَلَّدْتُهُمْ رِبْقَتَهَا،

اشارة

-------------------------------------------

الجزاء من سنخ العمل

(لا جرم) كلمة تأتي لتحقيق شيء وتأكيده، كأنك قلت: لا شك أو لابد أو لا محالة أو حقاً.

وكأن ما بعدها معلول لما قبلها، فقد قلدوا ربقتها، أي حملوا وزرها، من جهة ضعفكم ووهنكم وإعراضكم عن الحق، وزلل أهوائكم وخطل آرائكم، فمن أجل ذلك كله قلدتم ربقتها، والضمير راجع إلى الحكومة والسلطة أو إلى فدك، أو إلى مجموع حقوقهم التي غصبت ومنها ذانك الحقان.

وبعبارة أخرى: جعلت آثام هذه الجرائم لازمة لرقابهم كالقلادة المطوقة للجيد.

و(الرِبقة) بكسر الراء وسكون الباء، وقد تفتح الراء: حبل مستطيل فيه عرى (جمع عروة أي عقدة) تربط فيه صغار البهم، توضع في أعناقها أو يدها لتمسكها، عن الفرار أو الضياع.

فهذا الحبل العقود فيه عدة عقد قد وضع في أعناقهم، بسبب زلل أهوائهم وخطل آرائهم، وهو إشارة إلى أن هذا الحبل هو حبل يقودهم إلى النار، كما أنه حبل العبودية للطاغوت، وهو حبلالذلة، وهو حبل يستتبع الدمار والعار في الدنيا قبل الآخرة.

والعقد فيه ترمز إلى أنواع تجبرهم وطغيانهم وأهوائهم، أو إلى أنواع العقد والمشاكل والمصاعب التي ستقضي مضاجعهم وتحطم مستقبلهم، كما حدث

ص: 143

..............................

ذلك تماماً.

ومن كلام الصديقة (عليها السلام) هذا يمكن الإشارة إلى المسائل التالية:

مسألة: الجزاء هو من سنخ العمل، فإن ما لحق (لا جرم) هو نتيجة طيبيعة لما سبقها.

قال تعالى: «وَلْيَخْشَ الَّذينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا»(1).

وقال تعالى: «وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا»(2).

وقال الشاعر: (لا يجتني الجاني من الشوك العنب)(3).مسألة: الجزاء ليس خاصاً بالآخرة، بل يتلقى الإنسان جزاء سيئاته أو بعضه في الدنيا أيضاً.

مسألة: قد يكون بعض الجزاء بنحو الأثر الوضعي على دنيا الشخص أو دينه أو على نسله وذريته.

ص: 144


1- سورة النساء: 9.
2- سورة الكهف: 49.
3- مثل عربي ورد هكذا: (إنك لا تجني من الشوك العنب)، ويضرب هذا المثل لمن يرجو المعروف من غير أهله، أو لمن يعمل الشر فينتظر من ورائه الخير، أو لمن يحاول إصلاح شخص خسيس الأصل سيء التربية، وأصل القصة أن صبياً رأى والده يغرس شجراً في البستان، وبعد عدة أشهر ظهرت ثماره عنباً حلواً لذيذاً، فظن الصبي أن كل ما يغرسه يخرج عنباً، وذات يوم وجد شجرة شوك فغرسها، وانتظر مدة فوجد الشوك يظهر في أغصانها، فقال له أبوه: (إنك لا تجني من الشوك عنباً) فلا تنتظر الشيء من غير أصله.

..............................

والأثر الوضعي لازم للإنسان حتى لو أنكره أو أنكر مسبباته(1)، مضافاً إلى أنه قد يقال بلزومه للشخص في الجملة حتى لو تاب واستغفر، فإن التوبة ترفع العذاب، أما الأثر الوضعي فربما لا يرتفع كله بالتوبة والندم إلا في بعض مراتبه أو مصاديقه، ولهذا المبحث مجال آخر.

ص: 145


1- أي الجريمة التي ارتكبها.

وَحَمَّلْتُهُمْ أَوْقَتَهَا،

اشارة

-------------------------------------------

حرمة الخيانة

مسألة: الخيانة محرمة ولها أوق وشؤم.

(الأوق) الثقل والشؤم، مثلاً يقال: ألقى عليه أوقه أي ثقله، وبه أوق أي شؤم.

فإن الخيانة لها ثقل ولها شؤم أيضاً، ومن يخون الأمانة ستثقل على قلبه كما ستثقل عليه حياته الدنيوية ثم الأخروية أيضاً، وسيتبعه وسيلزمه شؤمها إلى يوم القيامة.

والقوم قد خانوا أعظم أمانة، إذ زحزحوا الخلافة، عن رواسي الرسالة، وحولوها إلى مداحض الشياطين.

مسألة: يجب إتمام الحجة وإفهام الناس أن الخيانة وكذا سائر المعاصي لها وزر وثقل، وأنها تحول حياة الإنسان إلى جحيم قبل آخرته، قال تعالى: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ»(1).

مسألة: يجب إفهام الناس بأن الرسول (صلى الله عليه وآله) جاء لكي «يَضَعُ

عَنْهُمْ إِصْرَهُمْوَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ»(2)، والإصر هو الحمل الثقيل.

ص: 146


1- سورة الأعراف: 96.
2- سورة الأعراف: 157.

..............................

مسألة: يجب إفهام الناس بأن أولئك الصحابة الذين انقلبوا على الأعقاب أرجعوا الناس - قدر ما استطاعوا - إلى الإصر والأغلال.

مسألة: وأن ذلك الإصر والأغلال ستستمر - بدرجة أو أخرى - إلى يوم ظهور القائم المنتظر (عجل الله فرجه الشريف) حيث ترتفع بشكل كلي لعودة الحق كله في الأرض كلها إلى نصابه.

وأما قبل ظهوره (عليه السلام) فالأمر له درجات، فكلما تمسك أهل منطقة أو دولة بأهل البيت (عليهم السلام) وتعاليمهم، وكلما اتبعت الحكومة بما ورد في الكتاب والسنة الشريفة المؤكدة على الثقلين، كلما قل الإصر وزالت الأغلال أو انمحت بالنسبة في تلك المنطقة، أما العدل الشامل الكلي ورفع الأغلال والآصار كلها من على وجه الأرض كله، فلا يكون إلا بظهور ولي الله الأعظم، عجل الله تعالى له الفرج، وسهل له المخرج، وجعلنا من أنصاره وأعوانهوالمستشهدين بين يديه، إنه سميع مجيب.

مسألة: ولقد حملتهم الصديقة الزهراء (عليها السلام) المسؤولية والوزر والثقل على مر الأزمان والدهور، فهو ظاهر إطلاق كلامها (عليها السلام) وظاهر قرينة المقام، وليس تحميلها المسؤولية خاصاً بذلك الجيل أو تلك الحقبة.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»(1).

ص: 147


1- تفسير نور الثقلين: ج1 ص73، سورة البقرة الآيات 40 إلى 44، ح163.

..............................

مسألة: وزر الخيانة والمعصية يزداد بتحميل الخائن المسؤولية من جانب ولي من أولياء الله، فكيف إذا كانت سيدة نساء العالمين (عليها السلام) ومحور أصحاب الكساء (عليهم أفضل الصلاة والسلام).

فقول الصديقة (عليها السلام): «لا جَرَمَ لَقَدْ قَلَّدْتُهُمْ رِبْقَتَهَا، وَحَمَّلْتُهُمْ أَوْقَتَهَا»، يزيدهم ثقلاً على ثقل، وعاراً على عار، ومسؤوليةً على مسؤولية.

وتوضيح ذلك بالمثال:إن شخصاً لو سرق، فواجهه أبوه أو الحاكم بالسرقة، وحمله عارها ووزرها، فإنه من الواضح أن ذلك يثقل على قلبه أي إثقال(1)، ثم إنه لو لم يرتدع بعد ذلك، لكان وزره أعظم وجرمه أكبر؛ لأن الحجة عليه أتم، ولأن عدم ارتداعه هتك جديد للحرمة.

ص: 148


1- وكذلك في مجتمعه، فإن شأنه ينحط أكثر من مجرد ما لو علم الناس بسرقته، دون معاقبة الحاكم له.

وَشَنَنْتُ عَلَيْهِمْ غَارَاتهَا،

اشارة

-------------------------------------------

التوقي من غضب أولياء الله

شن الغارة عبارة، عن الهجوم الصاعق من الجوانب المختلفة، وكأن القوم مهاجمون من إدانتها وكلماتها (عليها السلام)، بحيث لا يجدون مفراً أو عذراً أو رداً أو تخلصاً، فهم مجرمون لا يجدون أدنى عذر، أو حيلة للدفاع أو التخلص، قال تعالى: «بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ»(1).

وكأن هذا الكلام مقتبس من جوهر قوله تعالى: «فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ»(2).

وحيث «إِنَّ اللهَ لَيَغْضَبُ لِغَضَبِ فَاطِمَةَ، وَيَرْضَى لِرِضَاهَا»(3)، وحيث إن الرضا والغضب حقائق مشككة ذات مراتب، فإن هجومها (صلوات الله عليها) الشديد والصاعق عليهم بهذه الكلمات القوية، دليل على أن غضبها قد بلغ الذروة النهائية، وأن غضب الله تعالى عليهم بلغ كذلك الذروة النهائية، فهم أكبر الخاسرين:«قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(4)،

ص: 149


1- سورة القيامة: 14-15.
2- سورة البقرة: 279.
3- الأمالي للمفيد: ص95، المجلس الحادي عشر، ح4.
4- سورة الزمر: 15.

..............................

وتنطبق عليهم كل آثار غضب الله الشديد المشار إليها في القرآن الكريم.

قال تعالى: «فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرينَ عَذَابٌ مُهِينٌ»(1).

وقال سبحانه: «قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ»(2).

وقال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ»(3).

وقال سبحانه: «وَالَّذينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ»(4).

وقال تعالى: «وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْمَصِيرًا»(5).

ص: 150


1- سورة البقرة: 90.
2- سورة المائدة: 60.
3- سورة الأعراف: 152.
4- سورة الشورى: 16.
5- سورة الفتح: 6.

..............................

ولا يبقى بعد ذلك أي عذر لأي إنسان في أن يشكك في فسق وضلالة أولئك المنقلبين على الأعقاب.

مسألة: يجب الحذر والتوقي من غضب أولياء الله تعالى.

مسألة: يجب الحذر والتوقي بأشد درجاته من إغضاب الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، والصديقة فاطمة (عليها السلام)، والأئمة الاثني عشر (عليهم السلام)، سواء في حياتهم أم بعد استشهادهم، إذ «أَشْهَدُ أَنَّكَ تَسْمَعُ كَلاَمِي، وَتَشْهَدُ مَقَامِي»(1)؛ فإنهم «أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون»(2).

مسألة: يحرم انتخاب النار على العار، كما صنع الثاني حيث قال: (النار ولا العار).

والحرمة هذه يمكن أن تكون إرشادية(3)، ويمكن أن تكون مولوية.مسألة: اختيار العار محرم إذا كان مصداقه محرماً، وإلا بأن كان عاراً عرفاً فقد يحرم من باب الشهرة(4)، أو إذا شجع على الفاحشة(5)، أو انطبق عليه عنوان محرم أو ما أشبه.

ص: 151


1- المزار الكبير لابن المشهدي: ص211، ق3، ب13، زيارة اخرى لأمير المؤمنين (صلوات الله عليه).
2- سورة آل عمران: 169.
3- أي إرشاد إلى حكم العقل بتجنب النار.
4- كما في لباس الشهرة على القول بحرمته.
5- كجلوس من له شأن مع الفسقة بدون وجود ما يبرر ذلك ما يشجع الشباب على معاشرتهم ومن ثم الانجراف معهم.

..............................

أما المقام وهو الإعراض عن خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) الحقيقي، وتهديد ابنته الطاهرة (عليها السلام)، بل ضربها ولطمها وكسر ضلعها وقتل جنينها المحسن (عليه السلام)، فهو أشد أنواع العار المحرم لذاته، وبلحاظات أخر أيضاً.

مسألة: الظالم سوف يحيط به عار جريمته وظلمه في الدنيا قبل الآخرة، وليس الأمر منوطاً بعلمه فقد يعلم وقد لا يعلم، فإن الثبوت لا يلازم الإثبات كما لا يخفى.

في الكافي: عن أبي جعفر (عليه السلام) - في حديث وقد تلا: «إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ»(1) - قال (عليه السلام): «فَلاَ تَرَى صَاحِبَ بِدْعَةٍ إِلاَّ ذَلِيلاً، أَوْ مُفْتَرِياً عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَلَى رَسُولِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ (عليهم السلام) إِلاَّ ذَلِيلاً»(2).

ص: 152


1- سورة الأعراف: 152.
2- الكافي: ج2 ص16، كتاب الإيمان والكفر، باب الإخلاص، ح6.

فَجَدْعاً وَعَقْراً، وَ«بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ»

اشارة

-------------------------------------------

فَجَدْعاً وَعَقْراً، وَ«بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ»(1)

الدعاء على الظالم

الجدع: قطع الأنف. والعقر: الجرح، وضرب قوائم البعير أو الفرس أو غيرهما بالسيف ونحوه، قال تعالى: «فَعَقَرُوا النَّاقَةَ»(2)، ثم توسع فيه واستعمل في مطلق القتل والهلاك.

«فَجَدْعاً وَعَقْراً» تشبيهاً لهم بالدابة التي يجدع أنفها وتعقر بضرب أرجلها، فهي مشوهة الظاهر وعاجزة، عن الحركة وآيلة إلى الهلاك، فهم كذلك تماماً، الظاهر قبيح مشوه، والباطن أقبح وأدهى وأمر.

وفي بعض النسخ: (وسحقاً للقوم الظالمين).

والسحق: البعد والابتعاد، وسحقه الله سحقاً: أي أبعده من رحمته، والسحيق: البعيد، وسحقه سَحقاً: أي أهلكه وكذا أسحقه: أهلكه.

وهذا منها (صلوات الله عليها) دعاء شديد عليهم، بأن ينتقم الله منهم، وينكل بهم، ويضرب عاليهم وسافلهم، وظاهرهم وباطنهم، ويبعدهم عن الخير، ويطردهمعن الرحمة، كما طرد إبليس من رحمته، قال تعالى: «فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ»(3).

ص: 153


1- سورة هود: 44.
2- سورة الأعراف: 77.
3- سورة الحجر: 34.

..............................

مسألة: يجوز بالمعنى الأعم الدعاء على الظالم، وعلى من أعانه ورضي بفعله، كما قالت (صلوات الله عليها): «فَجَدْعاً وَعَقْراً، وَ«بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» (1)».

مسألة: الدعاء على القوم الظالمين قد يكون واجباً لذاته(2)، وقد يجب عقلاً أو عقلاً وشرعاً لمقدميته، وذلك كما لو كان مقدمة لإزالة باطلهم، أو إحدى العلل المعدة لذلك، أو طريقاً لفضحهم، أو وسيلة لهداية غيرهم، أو ما أشبه.

ثم إن آثار الدعاء على الظالم لا تنحصر في الآثار الأخروية، بل تشمل الدنيا أيضاً، فإن أمثال هذا الدعاء زلزل عروش الظالمين ونقص من سلطانهم كماً وكيفاً وجهةً، ولولا هذا الدعاء وأمثاله، لكان الظلم والبغي قد ازداد بشكل غريب، ولكان العالم كله في كلمناطقه، وعلى مر الأيام يعيش تحت حكومة مثل: الحجاج وصدام، بل لازداد سوءاً عن حكومة هذين أيضاً.

مسألة: يجب أو يستحب بيان أن الصديقة الطاهرة (عليها السلام) قد دعت على القوم الذين ظلموها، وظلموا بعلها أمير المؤمنين (عليه السلام).

مسألة: يجوز الدعاء على الظالم بإنزال أنواع البلاء عليه، سواء كان البلاء أخروياً أم دنيوياً، كأن يدعو عليه بعمي عينه، أو جدع أنفه، أو صلم أذنه، أو ما أشبه.

ص: 154


1- سورة هود: 44.
2- فإنه مصداق للتبري من أعداء الله.

..............................

ودعاؤها (عليها السلام) بالجدع والعقر وإن كان الظاهر أنه كناية، إلا أنه يستفاد منه بالملاك أو الأولوية جواز ذلك.

مسألة: الإنسان له ظاهر به يتعامل مع الآخرين، وبه يقدرونه ويحترمونه، وأجدع الأنف قبيح المنظر ومشوه الطلعة، لذلك لا يقدر أن يقيم علاقات سوية مع الآخرين عادة، ودعاؤها (عليها

السلام) عليهم بالجدع قد يشير إلى هذا الجانب، وأن ما أسسوه من الباطل مشوه وقبيح المنظر، بل نقول إن هذاالتشويه هو سبب ابتعاد الناس عن الإسلام، فعليهم يقع وزر أن الملايين بل مئات الملايين من الناس على مر الأزمان لم يدخلوا في الإسلام لما رأوه من التشويه فيه، حيث ظنوا أولئك الصحابة هم وجه الإسلام والممثلون له(1).

ثم إن الإنسان له أدوات يستعين بها على حوائجه، ومن أبرزها الرجلين، فربما كان كلامها (صلوات الله عليها) دعاء عليهم كناية بأن لا تمشي أمورهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، سواء كانوا في الحكم أم خارجه، وذلك إشارة إلى حقيقة خارجية، كما هو دعاء عليهم بذلك.

فكما أن الناقة التي عقرت لا تستطيع المشي، بل تبقى في مكانها إلى أن تهلك، كذلك أولئك الطغاة الذين غصبوا الخلافة من أمير المؤمنين علي بن أبي

ص: 155


1- ومن الأمثلة الواضحة لذلك: بعض أصحاب صحاحههم ومن أشبه حيث يعرضون صورة مشوهة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) تنفر الناس، مثل: رواية بوله (صلى الله عليه وآله) في الطريق أمام أحد الأصحاب، ورواية استماعه مع عائشة لغناء القيان والنظر إلى رقص الأحباش، وروايتهم بأنه (صلى الله عليه وآله) هو الذي عبس وتولى، وغير ذلك مما يتنافى مع كرامة وشأن الإنسان العادي، فما بالك برسول رب العالمين!!

..............................

طالب (عليه السلام)، فإنهم كمثل الناقة دون أرجل، أو القارب دون محرك ودون مجاديف(1)، لا يمكن أن تصل على المقصد، فكيف بأن توصل الغير إليه.

مسألة: حيث وصفتهم الصديقة الطاهرة (عليها السلام) بالقوم الظالمين تشملهم الآيات التالية:

قال تعالى: «وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ»(2).

وقال سبحانه: «وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ»(3).

وقال تعالى: «كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إَيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ»(4).

وقال سبحانه: «وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ»(5).

وقال تعالى: «إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَمِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ»(6).

ص: 156


1- مجاديف: جمع مجداف، خشب طويل في رأس كل منها لوح عريض، تُدفع بها القوارب.
2- سورة البقرة: 124.
3- سورة آل عمران: 57 و140.
4- سورة آل عمران: 86.
5- سورة آل عمران: 151.
6- سورة المائدة: 29.

..............................

وقال سبحانه: «إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ»(1).

وقال تعالى: «قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ»(2).

وقال سبحانه: «وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ»(3).

وقال تعالى: «لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ»(4).

وقال سبحانه: «وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ»(5).

وقال تعالى: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى

ص: 157


1- سورة المائدة: 51، سورة الأنعام: 144، سورة القصص: 50، سورة الأحقاف: 10.
2- سورة الأنعام: 33.
3- سورة الأنعام: 129.
4- سورة الأعراف: 41.
5- سورة الأعراف: 44.

..............................

الظَّالِمِينَ»(1).

وقال سبحانه: «وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ»(2).

وقال تعالى: «إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَليمٌ»(3).

وقال سبحانه: «ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا»(4).

وقال تعالى: «يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ»(5).

وقال سبحانه: «أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ في عَذَابٍ مُقِيمٍ»(6).

وقال تعالى: «فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ»(7).

ص: 158


1- سورة هود: 18.
2- سورة هود: 44.
3- سورة إبراهيم: 22، سورة الشورى: 21.
4- سورة مريم: 72.
5- سورة غافر: 52.
6- سورة الشورى: 45.
7- سورة الحشر: 17.

..............................

لعن الظالمين

مسألة: من هذا الدعاء «وَسُحْقًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» يتبين أنه يجوز لعن الظالمين، وخاصة من ظلم الصديقة الطاهرة (عليها السلام) وغصب حقها، وحق زوجها أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهجم على دارها، وكسر ضلعها، وأسقط جنينها، وكذلك من ظلم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وسائر أهل بيته الطاهرين والأئمة المعصومين (عليهم السلام).

وذلك أن اللعن هو بمعنى السحق والطرد، كما سبق شرحه.

قال في لسان العرب: (اللعن: الإبعاد والطرد من الخير. وقيل: الطرد والإبعاد من الله)(1)، والثاني مصداق الأول كما لا يخفى بل أبرز مصاديقه.

وقال في مجمع البحرين: (اللعن الطرد من الرحمة ... واللعن: الإبعاد، وكانت العرب إذا تمرد الرجل منهم أبعدوه منهم وطردوه لئلا تلحقهم جرائره فيقال: لعن بني فلان)(2).وقد سبق أن السحق له معنيان:

الأول: البعد والإبعاد عن رحمة الله، وهو على هذا مرادف للعن.

الثاني: الإهلاك، وهو على هذا من أظهر مصاديق اللعن.

ص: 159


1- لسان العرب: ج13 ص387، حرف النون، فصل اللام، مادة (لعن).
2- مجمع البحرين: ج6 ص309، كتاب النون، باب ما أوله اللام، مادة (لعن).

وَيْحَهُمْ

اشارة

-------------------------------------------

استخدام كلمة ويح

مسألة: يجوز - بالمعنى الأعم - استخدام كلمة (ويحهم) و(ويحه) و(ويحها) وما أشبه بالنسبة للقوم الظالمين.

مسألة: يجب أو يستحب بيان أنها (صلوات الله عليها) خاطبتهم وقرعتهم وواجهتهم بهذه الكلمة.

ثم إن «وَيْحَهُمْ» كلمة تستعمل تارة في الترحم، وأخرى في التعجب، وثالثة في التوجع، ورابعة في التقبيح.

عن سيبويه (كما في مجمع البحرين): (ويح: زجر لمن أشرف على الهلكة، وويل لمن وقع فيها)(1).

وبعض اللغويين يستعمل كلاً من (ويح)و(ويل) مكان الآخر.

والواضح أن استخدام الصديقة الطاهرة (عليها السلام) كلمة (ويح) هنا أتت بمعنى: ويلهم، إذ قد وقعوا في الهلكة، حيث (زحزحوها، عن رواسي الرسالة...)، ولا مانع من أن تكون - ولو بقرينة المقام - قد أشربت معاني التوجع والتعجب والتقبيح، فإن استخدام ويح في مثل المقام يدل على توجع المتكلم، وتعجبه الشديد من الفعلة النكراء غير المتوقعة عادةً، وعلى تقبيحه لهم على دعائه عليهم.

ص: 160


1- مجمع البحرين: ج2 ص425، كتاب الحاء، باب ما أوله الواو، مادة (ويح).

أَنَّى زَحْزَحُوهَا عَنْ رَوَاسِي الرِّسَالَةِ، وَقَوَاعِدِ النُّبُوَّةِ وَالدَّلاَلَةِ

اشارة

-------------------------------------------

أَنَّى زَحْزَحُوهَا(1) عَنْ رَوَاسِي الرِّسَالَةِ، وَقَوَاعِدِ النُّبُوَّةِ وَالدَّلاَلَةِ

زحزحة الخلافة

(أنّى) تأتي استفهامية بمعنى كيف، وتأتي ظرفية زماناً بمعنى متى، ومكاناً بمعنى أين.

وزحزحه، عن مكانه: أي باعده أو أزاله عنه، وزحه، عن مكانه: نحّاه ودفعه، وكأن زحزح أشرب معنى التحريك الصعب البطيء.

«أَنَّى زَحْزَحُوهَا» أي: أبعدوا الخلافة وحولوها من مكانها اللائق بها والمتعين لها، وهو الإمام علي (عليه السلام) وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام) إلى الغاصبين الظالمين.

(رواسي) الرواسي من الجبال: الرواسخ الثوابت، ورسى رسوا ورُسّوا: ثبت ورسخ، ورست السفينة: وقفت على المرساة.

و(قواعد) البيت: أُسسه.

وههنا نقاط:

الأولى: لعل السبب في استخدام الصديقة (صلوات الله عليها) الجمع: (رَوَاسِي الرِّسَالَةِ، وَقَوَاعِدِ النُّبُوَّةِ)، هو الإشارة إلى سائر الأئمة المعصومين (عليهم السلام) من أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله)؛ لأن الأئمة الاثني عشر هم رواسي الرسالة وقواعد النبوة على مر الأزمان والدهور، فتنحية الإمام علي (عليه السلام) عن الخلافة كان تنحية للأئمة الاثني عشر كلهم واحداً بعد الآخر،

ص: 161


1- وفي بعض النسخ: زعزعوها.

..............................

أي كان سبباً لزحزحة الخلافة عن خلفاء الرسول الأثني عشر (عليهم السلام) جميعاً كما حدث ذلك في التاريخ.

فكلامها (عليها السلام) يتضمن كشفاً عن المستقبل، ونبوءة صادقة تستند إلى علم إلهي أودعه رسول الله (صلى الله عليه وآله) في صدرها الطاهر (صلوات الله عليها).فكما أن كلامها (عليها السلام) هذا: «أَنَّى زَحْزَحُوهَا عَنْ رَوَاسِي الرِّسَالَةِ، وَقَوَاعِدِ النُّبُوَّةِ وَالدَّلاَلَةِ» يتضمن تحميلهم كل الآثام والمعاصي والشرور التي نشأت من حكومات بني أمية وبني العباس وبني عثمان وغيرهم، وكل الآثام التي لا تزال ترتكب في مختلف الدول من مختلف الحكومات الجائرة.

الثانية: هناك دقة كبيرة في استخدامها (عليها السلام) كلمة (رواسي) للرسالة، وكلمة (قواعد) للنبوة، ويتضح ذلك من ملاحظة الفرق بين الرسول والنبي، والفرق بين القواعد والرواسي، فتأمل.

الثالثة: يتضح من كلامها (عليها السلام) أيضاً: إن للرسول (صلى الله عليه وآله) ثلاث مراتب: مرتبة النبوة، ومرتبة الرسالة، ومرتبة الدلالة. وكما أنه ليس كل نبي رسولاً، كذلك ليس كل دال ودليل إلى الحق والهدى بنبي أو رسول، فالدلالة أعم من النبوة والرسالة. نعم، دلالة الرسول ودلالة النبي أقوى وأتم، وهي محض الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ»(1).

ص: 162


1- سورة الصف: 10.

..............................

فجناية أولئك الأصحاب المنقلبين على الأعقاب، جناية بحق مقام النبوة، ومقام الرسالة، ومقام الدلالة أيضاً.

ويحتمل أن تكون (الدلالة) إشارة إلى دلالته على الله تعالى، كما ورد في زيارتهم (عليهم السلام): «الْأَدِلَّاءِ عَلَى اللهِ»(1)، و«الْأَدِلَّاءِ عَلَى مَرْضَاةِ اللهِ»(2).

مسألة: تحرم زحزحة الخلافة عن رواسي الرسالة وقواعد النبوة والدلالة، وهم أهل بيت النبوة والعترة الطاهرة (عليهم السلام)، وذلك بالقيام بأي شيء يسبب إبعاد أهل البيت (عليهم السلام) عن حقهم الإلهي في الخلافة.

عدة مسائل

مسألة: لهذه الحرمة عرض عريض، فإنها تنبسط بانبساط شعاع الخلافة وتتسع باتساعها.

وبعبارة أخرى: الخلافة أصل تتفرعمنه ملايين الفروع، فمن ساهم في زحزحة الخلافة، عن رواسيها فقد اشترك في آثام كل تلك الفروع والمصاديق إلى يوم القيامة.

ومثاله: ما لو سرق شخص فيلحقه إثمها، وقد يُعلّم شخصاً طريقة السرقة

ص: 163


1- من لا يحضره الفقيه: ج2 ص608، كتاب الحج، باب ما يجزي من القول عند زيارة جميع الأئمة (عليهم السلام)، ح3212.
2- تهذيب الأحكام: ج6 ص96، الباب46 من كتاب المزار، ح1.

..............................

فيسرق طوال سنوات آلاف المرات، فإن المعلّم شريك في آثام كل تلك السرقات، فإن «مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»(1).

مسألة: لأولئك (الويل) و(الويح) بعدد كل ما ترتب على زحزحة الخلافة عن رواسيها.

مسألة: وليس ذلك خاصاً بمن عاصروا فترة غصب الخلافة وشاركوا في تلك الزحزحة، بل كل من يشارك في الزحزحة إلى زمن الظهور، فإن كل من يفعل ما يسبب طول الغيبة فإن الويل والثبور له، وكذا كل من يسبب عدم تعرف الناس على الحق وعلى أئمة الهدى من العترة الطاهرة (عليهم السلام).

مسألة: ويشمل أيضاً كل من يشارك فيزحزحة نواب الأئمة (عليهم السلام) الخاصين، وكذلك النواب العامين وهم مراجع التقليد الجامعين للشرائط، عن التصدي لهداية الناس والأخذ بزمام الأمور، فإن زحزحة النائب انتهاك لأمر المنوب ولحقه وتجاوز لصلاحيته وولايته.

مسألة: وكما يحرم على عامة الناس زحزحة نائب الإمام عن الأخذ بزمام الأمور، كذلك يحرم على أحد النواب أن يزحزح سائر النواب عن ذلك، ومن هنا دعونا إلى (شورى الفقهاء المراجع) على تفصيل ذكرناه في بعض الكتب.

مسألة: يستحب أو يجب بيان أن القوم قد زحزحوا الخلافة عن رواسي الرسالة وقواعد النبوة والدلالة.

وأصل بيان المطلب واجب، وأما بيانه بهذه الكيفية التي عبرت عنها

ص: 164


1- تفسير نور الثقلين: ج1 ص73، سورة البقرة الآيات 40 إلى 44، ح163.

الصديقة الطاهرة (عليها السلام)(1) فهو مستحب.

مسألة: ويستحب بيان أن الإمام علي (عليه السلام) وأهل بيته (عليهم السلام) كانوا رواسي الرسالة دون غيرهم، ويجب الاعتقاد بذلك، وبيانه واجب لو توقفإحقاق الحق عليه.

قواعد النبوة

مسألة: إن حكمة الله كما اقتضت في عالم التكوين أن تكون للبيوت - مثلاً - قواعد، وكلما كان البناء أعلى وأضخم كانت القواعد أعمق وأمتن، ولو لم يكن ذلك لتعرض البناء لخطر الانهيار، كذلك فإنه جعل للنبوة قواعد، ولأن النبوة هي أسمى حقيقة وأثقل أمانة، فإن القواعد يجب أن تكون أقوى القواعد وأمتنها بحيث لا يأتيها الباطل من بين أيديها ومن خلفها، وبحيث تتحمل ثقل هذا الحمل الهائل.

والقواعد بنص الصديقة الطاهرة ههنا هم خلفاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالحق، وهم علي (عليه السلام) وأبناؤه الطاهرون: الحسن المجتبى (عليه السلام)، ثم الحسين سيد الشهداء (عليه السلام)، ثم علي السجاد (عليه السلام)، ثم محمد الباقر (عليه السلام)، ثم جعفر الصادق (عليه السلام)، ثم موسى الكاظم (عليه السلام)، ثم علي الرضا (عليه السلام)، ثم محمد الجواد (عليه السلام)، ثم علي الهادي (عليه السلام)، ثم الحسن العسكري (عليه السلام) ثم المهدي المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف).

ص: 165


1- أي بعبارة الزحزحة عن رواسي الرسالة وقواعد النبوة والدلالة.

..............................

وكما أن قاعدة البيت تسبب بقاءه، كذلك النبوة تحتاج إلى القاعدة التي تمنحها البقاء والاستمرارية. وعلى هذا فحامل النبوة هو محمد المصطفى وهو النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله)، وقواعده هم أهل بيته الأطهار (عليه الصلاة والسلام).

ومن هنا يتبين عمق إجرام أولئك الأشرار حيث حاولوا زعزعة تلك القواعد التي أرسى الله دعائم النبوة عليها، وهي البيوت التي قال عنها تعالى: «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ»(1)، وقال: «رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ»(2).

رواسي الرسالة

مسألة: وكما اقتضت حكمة الله أن تكون للسفينة مرساة أو مراسٍ(3)، تحفظها من الأمواج الهادرة والتيارات الهائلة، كذلك اقتضت حكمته أن تكون للرسالة مراس كالجبال الشامخات تحفظها، عن الأعداء والغارات والأخطار.وبعبارة أخرى: كما أن الجبال الشامخات رواسٍ للأرض تحفظها عن الاضطراب والتزحزح، وعن أن تموج بأهلها وتسيح بهم.

قال تعالى: «وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا»(4)، كذلك هؤلاء الأئمة الأطهار (عليهم

ص: 166


1- سورة النور: 36.
2- سورة هود: 73.
3- وهي ما تسمى بأنجر أو أنكر معربة (لنكَر) بالفارسية.
4- سورة النبأ: 7.

..............................

السلام) كانوا رواسي شامخات في عالم النبوة والرسالة والولاية.

وهذا وجه من وجوه قوله (صلى الله عليه وآله): «حُسَيْنٌ مِنِّي وَأَنَا مِنْ حُسَيْنٍ»(1).

ولذلك قال (صلى الله عليه وآله): «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ، مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا لَنْ تَضِلُّوا: كِتَابَ اللهِ، وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي»(2).

والحديث في هذا الجانب طويل يترك لمظانه.

مسألة: يلزم للرسالة أن تكون ذاترواس، فكما «إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا»(3) بأسباب قررها(4) هو جل وتعالى لحكمته البالغة، التي اقتضت أن يجعل الكون مبنياً على الأسباب والمسببات، كذلك بالنسبة إلى الرسالة.

قال تعالى: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ»(5)، وذلك بأسباب قررها هو جل وعلا، فقرر أن تكون للرسالة (رواسي) كما قرر أن

ص: 167


1- الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد: ج2 ص127، باب تاريخ الإمام الحسين وفضله، فصل في فضائل الإمام الحسين ومناقبه.
2- الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد: ج1 ص233، باب تاريخ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، كلامه (عليه السلام) في أهل البدع والقول بالرأي ومخالفة الحق.
3- سورة فاطر: 41.
4- مثلاً القوة الطاردة والجاذبة نحو المركز.
5- سورة الحجر: 9.

..............................

تكون للنبوة (قواعد)، وقرر أن تكون لبيته الحرام (قواعد): «وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ»(1).

الإمامة استمرار للنبوة

مسألة: الخلافة والإمامة هي استمرار للنبوة والرسالة، وعلة مبقية لها، وبها تصل الرسالة لعلتها الغائية.

رُوِيَ عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «أَنَّ عَلِيّاً (عليه السلام) مَرَّ يَوْماًفِي أَزِقَّةِ الْكُوفَةِ، فَانْتَهَى إِلَى رَجُلٍ وَقَدْ اعْتَرَضَ عَلَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) وَلَمْ يَرْضَ بِقَولِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ مَاتَ فَحُمِلَ إِلَى قَبْرِهِ. فَلَمَّا دُفِنَ جَاءَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) مَعَ جَمَاعَةٍ إِلَى قَبْرِهِ، فَدَعَا اللهَ ثُمَّ رَفَسَهُ بِرِجْلِهِ، فَإِذَا الرَّجُلُ قَائِمٌ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَهُوَ يَقُولُ: الرَّادُّ عَلَى عَلِيٍّ كَالرَّادِّ عَلَى اللهِ وَعَلَى رَسُولِهِ. وَقَالَ لَهُ: عُدْ فِي قَبْرِكَ. فَعَادَ فِيهِ فَانْطَبَقَ الْقَبْرُ عَلَيْهِ»(2).

وعن هشام بن الحكم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) - أَنَّهُ قَالَ لِلزِّنْدِيقِ الَّذِي سَأَلَهُ مِنْ أَيْنَ أَثْبَتَّ الأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ - قَالَ: «إِنَّا لَمَّا أَثْبَتْنَا أَنَّ لَنَا خَالِقاً صَانِعاً مُتَعَالِياً عَنَّا، وَعَنْ جَمِيعِ مَا خَلَقَ، وَكَانَ ذَلِكَ الصَّانِعُ حَكِيماً مُتَعَالِياً، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُشَاهِدَهُ خَلْقُهُ وَلاَ يُلاَمِسُوهُ، فَيُبَاشِرَهُمْ وَيُبَاشِرُوهُ، وَيُحَاجَّهُمْ وَيُحَاجُّوهُ، ثَبَتَ أَنَّ

ص: 168


1- سورة البقرة: 127.
2- الخرائج والجرائح: ج1 ص174، الباب الثاني في معجزات أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ح6.

..............................

لَهُ سُفَرَاءَ فِي خَلْقِهِ، يُعَبِّرُونَ عَنْهُ إِلَى خَلْقِهِ وَعِبَادِهِ، وَيَدُلُّونَهُمْ عَلَى مَصَالِحِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ وَمَا بِهِ بَقَاؤُهُمْ، وَفِي تَرْكِهِ فَنَاؤُهُمْ. فَثَبَتَ الآمِرُونَ وَالنَّاهُونَ عَنِالْحَكِيمِ الْعَلِيمِ فِي خَلْقِهِ، وَالْمُعَبِّرُونَ عَنْهُ جَلَّ وَعَزَّ، وَهُمُ الأَنْبِيَاءُ (عليهم السلام) وَصَفْوَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ، حُكَمَاءَ مُؤَدَّبِينَ بِالْحِكْمَةِ، مَبْعُوثِينَ بِهَا، غَيْرَ مُشَارِكِينَ لِلنَّاسِ عَلَى مُشَارَكَتِهِمْ لَهُمْ فِي الْخَلْقِ وَالتَّرْكِيبِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ، مُؤَيَّدِينَ مِنْ عِنْدِ الْحَكِيمِ الْعَلِيمِ بِالْحِكْمَةِ، ثُمَّ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي كُلِّ دَهْرٍ وَزَمَانٍ، مِمَّا أَتَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَالأَنْبِيَاءُ مِنَ الدَّلَائِلِ وَ الْبَرَاهِينِ؛ لِكَيْلاَ تَخْلُوَ أَرْضُ اللهِ مِنْ حُجَّةٍ، يَكُونُ مَعَهُ عِلْمٌ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِهِ، وَجَوَازِ عَدَالَتِهِ»(1).

وعن منصور بن حازم، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إِنَّ اللهَ أَجَلُّ وَأَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُعْرَفَ بِخَلْقِهِ، بَلِ الْخَلْقُ يُعْرَفُونَ بِاللهِ.

قال (عليه السلام): «صَدَقْتَ».

قلت: إِنَّ مَنْ عَرَفَ أَنَّ لَهُ رَبّاً، فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ لِذَلِكَ الرَّبِّ رِضًا وَسَخَطاً، وَأَنَّهُ لاَ يُعْرَفُ رِضَاهُ وَسَخَطُهُ إِلاَّ بِوَحْيٍ أَوْ رَسُولٍ، فَمَنْ لَمْ يَأْتِهِ الْوَحْيُ فَقَدْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَطْلُبَ الرُّسُلَ، فَإِذَا لَقِيَهُمْ عَرَفَ أَنَّهُمُ الْحُجَّةُ، وَأَنَّ لَهُمُ الطَّاعَةَ الْمُفْتَرَضَةَ.

وقلت للناس: تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) كَانَ هُوَ الْحُجَّةَ مِنَ اللهِ عَلَىخَلْقِهِ.

قالوا: بَلَى.

ص: 169


1- الكافي: ج1 ص168، كتاب الحجة، باب الاضطرار إلى الحجة، ح1.

..............................

قلت: فَحِينَ مَضَى رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) مَنْ كَانَ الْحُجَّةَ عَلَى خَلْقِهِ؟.

فقالوا: الْقُرْآنُ.

فَنَظَرْتُ فِي الْقُرْآنِ، فَإِذَا هُوَ يُخَاصِمُ بِهِ الْمُرْجِئُ وَالْقَدَرِيُّ وَالزِّنْدِيقُ الَّذِي لاَ يُؤْمِنُ بِهِ حَتَّى يَغْلِبَ الرِّجَالَ بِخُصُومَتِهِ، فَعَرَفْتُ أَنَّ الْقُرْآنَ لاَ يَكُونُ حُجَّةً إِلاَّ بِقَيِّمٍ، فَمَا قَالَ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ كَانَ حَقّاً.

فقلت لهم: مَنْ قَيِّمُ الْقُرْآنِ؟.

فقالوا: ابْنُ مَسْعُودٍ قَدْ كَانَ يَعْلَمُ، وَعُمَرُ يَعْلَمُ، وَحُذَيْفَةُ يَعْلَمُ.

قلت: كُلَّهُ؟.

قالوا: لاَ.

فَلَمْ أَجِدْ أَحَداً يُقَالُ إِنَّهُ يَعْرِفُ ذَلِكَ كُلَّهُ إِلاَّ عَلِيّاً (عليه السلام)، وَإِذَا كَانَ الشَّيْءُ بَيْنَ الْقَوْمِ. فَقَالَ: هَذَا لاَ أَدْرِي، وَقَالَ: هَذَا لاَ أَدْرِي، وَقَالَ: هَذَا لاَ أَدْرِي، وَقَالَ: هَذَا أَنَا أَدْرِي. فَأَشْهَدُ أَنَّ عَلِيّاً (عليه السلام) كَانَ قَيِّمَ الْقُرْآنِ، وَكَانَتْ طَاعَتُهُ مُفْتَرَضَةً، وَكَانَ الْحُجَّةَ عَلَى النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، وَأَنَّ مَا قَالَ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ حَقٌّ.فقال (عليه السلام): «رَحِمَكَ اللهُ»(1).

وعن يونس بن يعقوب، قال: كَانَ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، مِنْهُمْ: حُمْرَانُ بْنُ أَعْيَنَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ النُّعْمَانِ، وَهِشَامُ بْنُ سَالِمٍ،

ص: 170


1- الكافي: ج1 ص168-169، كتاب الحجة، باب الاضطرار إلى الحجة، ح2.

..............................

وَالطَّيَّارُ، وَجَمَاعَةٌ فِيهِمْ هِشَامُ بْنُ الْحَكَمِ وَهُوَ شَابٌّ.

فقال أبو عبد الله (عليه السلام): «يَا هِشَامُ، أَ لاَ تُخْبِرُنِي كَيْفَ صَنَعْتَ بِعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ، وَكَيْفَ سَأَلْتَهُ؟».

فقال هشام: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، إِنِّي أُجِلُّكَ وَأَسْتَحْيِيكَ، وَلاَ يَعْمَلُ لِسَانِي بَيْنَ يَدَيْكَ.

فقال أبو عبد الله (عليه السلام): «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَافْعَلُوا».

قال هشام: بَلَغَنِي مَا كَانَ فِيهِ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، وَجُلُوسُهُ فِي مَسْجِدِ الْبَصْرَةِ، فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَيَّ، فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ وَدَخَلْتُ الْبَصْرَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَأَتَيْتُ مَسْجِدَ الْبَصْرَةِ، فَإِذَا أَنَا بِحَلْقَةٍ كَبِيرَةٍ فِيهَا عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، وَعَلَيْهِ شَمْلَةٌ سَوْدَاءُ مُتَّزِراً بِهَا مِنْ صُوفٍ، وَشَمْلَةٌ مُرْتَدِياً بِهَا،وَالنَّاسُ يَسْأَلُونَهُ.

فَاسْتَفْرَجْتُ النَّاسَ فَأَفْرَجُوا لِي، ثُمَّ قَعَدْتُ فِي آخِرِ الْقَوْمِ عَلَى رُكْبَتَيَّ، ثُمَّ قُلْتُ: أَيُّهَا الْعَالِمُ، إِنِّي رَجُلٌ غَرِيبٌ، تَأْذَنُ لِي فِي مَسْأَلَةٍ.

فقال لي: نَعَمْ.

فقلت له: أَ لَكَ عَيْنٌ؟.

فقال: يَا بُنَيَّ، أَيُّ شَيْءٍ هَذَا مِنَ السُّؤَالِ! وَشَيْءٌ تَرَاهُ كَيْفَ تَسْأَلُ عَنْهُ!.

فقلت: هَكَذَا مَسْأَلَتِي.

فقال: يَا بُنَيَّ، سَلْ وَإِنْ كَانَتْ مَسْأَلَتُكَ حَمْقَاءَ.

قلت: أَجِبْنِي فِيهَا.

قال لي: سَلْ.

ص: 171

..............................

قلت: أَ لَكَ عَيْنٌ؟.

قال: نَعَمْ.

قلت: فَمَا تَصْنَعُ بِهَا؟.

قال: أَرَى بِهَا الأَلْوَانَ وَالأَشْخَاصَ.

قلت: فَلَكَ أَنْفٌ؟.

قال: نَعَمْ.

قلت: فَمَا تَصْنَعُ بِهِ؟.

قال: أَشَمُّ بِهِ الرَّائِحَةَ.

قلت: أَ لَكَ فَمٌ؟.

قال: نَعَمْ.

قلت: فَمَا تَصْنَعُ بِهِ؟.قال: أَذُوقُ بِهِ الطَّعْمَ.

قلت: فَلَكَ أُذُنٌ؟.

قال: نَعَمْ.

قلت: فَمَا تَصْنَعُ بِهَا؟.

قال: أَسْمَعُ بِهَا الصَّوْتَ.

قلت: أَ لَكَ قَلْبٌ؟.

قال: نَعَمْ.

قلت: فَمَا تَصْنَعُ بِهِ؟.

ص: 172

..............................

قال: أُمَيِّزُ بِهِ كُلَّ مَا وَرَدَ عَلَى هَذِهِ الْجَوَارِحِ وَالْحَوَاسِّ.

قلت: أَ وَ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْجَوَارِحِ غِنًى عَنِ الْقَلْبِ؟.

فقال: لاَ.

قلت: وَكَيْفَ ذَلِكَ وَهِيَ صَحِيحَةٌ سَلِيمَةٌ؟.

قال: يَا بُنَيَّ، إِنَّ الْجَوَارِحَ إِذَا شَكَّتْ فِي شَيْءٍ شَمَّتْهُ، أَوْ رَأَتْهُ، أَوْ ذَاقَتْهُ، أَوْ سَمِعَتْهُ، رَدَّتْهُ إِلَى الْقَلْبِ، فَيَسْتَيْقِنُ الْيَقِينَ، وَيُبْطِلُ الشَّكَّ.

قال هشام: فَقُلْتُ لَهُ: فَإِنَّمَا أَقَامَ اللهُ الْقَلْبَ لِشَكِّ الْجَوَارِحِ؟.

قال: نَعَمْ.

قلت: لاَبُدَّ مِنَ الْقَلْبِ، وَإِلاَّ لَمْ تَسْتَيْقِنِ الْجَوَارِحُ؟.

قال: نَعَمْ.

فقلت له: يَا أَبَا مَرْوَانَ، فَاللهُ تَبَارَكَوَتَعَالَى لَمْ يَتْرُكْ جَوَارِحَكَ حَتَّى جَعَلَ لَهَا إِمَاماً، يُصَحِّحُ لَهَا الصَّحِيحَ، وَيَتَيَقَّنُ بِهِ مَا شُكَّ فِيهِ، وَيَتْرُكُ هَذَا الْخَلْقَ كُلَّهُمْ فِي حَيْرَتِهِمْ وَشَكِّهِمْ وَاخْتِلاَفِهِمْ، لاَ يُقِيمُ لَهُمْ إِمَاماً، يَرُدُّونَ إِلَيْهِ شَكَّهُمْ وَحَيْرَتَهُمْ، وَيُقِيمُ لَكَ إِمَاماً لِجَوَارِحِكَ، تَرُدُّ إِلَيْهِ حَيْرَتَكَ وَشَكَّكَ؟.

قال: فَسَكَتَ وَلَمْ يَقُلْ لِي شَيْئاً، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ فَقَالَ لِي: أَنْتَ هِشَامُ بْنُ الْحَكَمِ؟.

فقلت: لاَ.

قال: أَ مِنْ جُلَسَائِهِ؟.

قلت: لاَ.

ص: 173

..............................

قال: فَمِنْ أَيْنَ أَنْتَ؟.

قال: قُلْتُ: مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ.

قال: فَأَنْتَ إِذاً هُوَ.

ثُمَّ ضَمَّنِي إِلَيْهِ، وَأَقْعَدَنِي فِي مَجْلِسِهِ، وَزَالَ عَنْ مَجْلِسِهِ، وَمَا نَطَقَ حَتَّى قُمْتُ.

قال: فَضَحِكَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، وَقَالَ: «يَا هِشَامُ، مَنْ عَلَّمَكَ هَذَا؟».

قلت: شَيْءٌ أَخَذْتُهُ مِنْكَ وَأَلَّفْتُهُ. فقال (عليه السلام): «هَذَا وَاللهِ مَكْتُوبٌ فِي «صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى»(1)»(2).

الفقهاء المراجع

مسألة: يجب تأييد ومساندة الفقهاء المراجع الذين اجتمعت فيهم الشروط الشرعية، فإنهم الوكلاء - بالوكالة والنيابة العامة - لخلفاء الرسول والأئمة المعصومين (عليهم السلام) على استمرارية منهج الرسول (صلى الله عليه وآله) وعلى تحقق العلة الغائية للرسالة، وقد ورد عنهم (عليهم السلام): «الراد عليهم كالراد علينا، والراد علينا كالراد على الله».

ص: 174


1- سورة الأعلى: 19.
2- الكافي: ج1 ص169- 171، كتاب الحجة، باب الاضطرار إلى الحجة، ح3.

..............................

عن عمر بن حنظلة، قال: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) عَنْ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِنَا بَيْنَهُمَا مُنَازَعَةٌ فِي دَيْنٍ أَوْ مِيرَاثٍ، فَتَحَاكَمَا إِلَى السُّلْطَانِ وَإِلَى الْقُضَاةِ، أَيَحِلُّ ذَلِكَ؟.

قَالَ (عليه السلام): «مَنْ تَحَاكَمَ إِلَيْهِمْ فِي حَقٍّ أَوْ بَاطِلٍ، فَإِنَّمَا تَحَاكَمَ إِلَى الطَّاغُوتِ، وَمَا يَحْكُمُ لَهُ فَإِنَّمَا يَأْخُذُ سُحْتاً، وَإِنْ كَانَ حَقّاً ثَابِتاً؛ لأَنَّهُ أَخَذَهُ بِحُكْمِ الطَّاغُوتِ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُكْفَرَ بِهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: «يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْأُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ» (1) ».

قُلْتُ: فَكَيْفَ يَصْنَعَانِ؟.

قَالَ (عليه السلام): «يَنْظُرَانِ إِلَى مَنْ كَانَ مِنْكُمْ، مِمَّنْ قَدْ رَوَى حَدِيثَنَا، وَنَظَرَ فِي حَلاَلِنَا وَحَرَامِنَا، وَعَرَفَ أَحْكَامَنَا، فَلْيَرْضَوْا بِهِ حَكَماً؛ فَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُهُ عَلَيْكُمْ حَاكِماً، فَإِذَا حَكَمَ بِحُكْمِنَا فَلَمْ يَقْبَلْهُ مِنْهُ، فَإِنَّمَا اسْتَخَفَّ بِحُكْمِ اللهِ وَعَلَيْنَا رَدَّ، وَالرَّادُّ عَلَيْنَا الرَّادُّ عَلَى اللهِ، وَهُوَ عَلَى حَدِّ الشِّرْكِ بِاللهِ»(2).

وقال الإمام العسكري (عليه السلام): «فَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَ الْفُقَهَاءِ صَائِناً لِنَفْسِهِ، حَافِظاً لِدِينِهِ، مُخَالِفاً لِهَوَاهُ، مُطِيعاً لأَمْرِ مَوْلاَهُ، فَلِلْعَوَامِّ أَنْ يُقَلِّدُوهُ»(3).

ص: 175


1- سورة النساء: 60.
2- الكافي: ج1 ص67، كتاب فضل العلم، باب اختلاف الحديث، ح10.
3- تفسير الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): ص300، سورة البقرة: الآيات 78 إلى 79.

..............................

وعن معاوية بن عمار، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): رَجُلٌ رَاوِيَةٌ لِحَدِيثِكُمْ - إلى أن قال - فقال (عليه السلام): «الرَّاوِيَةُ لِحَدِيثِنَا يَشُدُّ بِهِ قُلُوبَشِيعَتِنَا، أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ»(1).

وعن أبي خديجة، قال: بَعَثَنِي أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) إِلَى أَصْحَابِنَا, فَقَالَ: «قُلْ لَهُمْ: إِيَّاكُمْ إِذَا وَقَعَتْ بَيْنَكُمْ خُصُومَةٌ، أَوْ تَدَارَى فِي شَيْءٍ مِنَ الأَخْذِ وَ الْعَطَاءِ، أَنْ تَحَاكَمُوا إِلَى أَحَدٍ مِنْ هَؤُلاَءِ الْفُسَّاقِ. اجْعَلُوا بَيْنَكُمْ رَجُلاَ قَدْ عَرَفَ حَلاَلَنَا وَحَرَامَنَا؛ فَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُهُ عَلَيْكُمْ قَاضِياً، وَإِيَّاكُمْ أَنْ يُخَاصِمَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً إِلَى السُّلْطَانِ الْجَائِرِ»(2).

ص: 176


1- وسائل الشيعة: ج27 ص137، كتاب القضاء، الباب11 من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به، ح33417.
2- وسائل الشيعة: ج27 ص139، كتاب القضاء، الباب11 من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به، ح33421.

وَمَهْبِطِ الرُّوحِ الأَمِينِ

اشارة

-------------------------------------------

بيت الزهراء (عليها السلام) مهبط الوحي

(مهبط) هنا اسم مكان، والمراد به هنا بيت علي وفاطمة (صلوات الله عليهما)، وذلك باعتبار كثرة تواجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيه حين نزول الوحي، فكان جبرئيل يهبط على رسول الله (صلى الله عليه وآله) في بيت علي وفاطمة (عليهما السلام) في الكثير من الأحيان.

وبعبارة أخرى: كان منزلهما هو المكان المفضل لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، كما تدل على ذلك التواريخ والروايات. وهذا دليل على شدة العلاقة التي كانت تربط رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعلي وفاطمة (عليهما السلام).

ثم إن بيتهما - الذي أحرقت بابه، وهاجمه أولئك الطغاة الظلمة - هو نفس ذلك البيت الذي كان جبرائيل (عليه السلام) يكثر النزول فيه على قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله).

مسألة: يستحب أو يجب بيان أن بيت علي وفاطمة وأهل البيت (عليهم السلام)، كان مهبط الروح الأمين (عليه السلام). قال تعالى: «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِالصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ»(1).

ص: 177


1- سورة النور: 36 - 37.

..............................

ارتباط الأوصياء بالسماء

مسألة: يجب أن يكون خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) مرتبطاً بالسماء.

وارتباطه على أنحاء متعددة، منها كما في الروايات:

عمود النور، والنكت في القلب، والنقر في الأذن، وسماع الصوت - أي صوت جبرائيل - دون رؤيته شخصاً، وربما مع رؤيته، فإن الرسول (صلى الله عليه وآله) فقط هو الذي يرى رسول الوحي جبرائيل (عليه السلام) بما هو رسول الوحي(1).

ومنها أيضاً: اللعاب المبارك لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، أو الإمام السابق بالنسبة للاحقه، حيث إن مص لسانه (صلى الله عليه وآله) سبب لنقل ما لا يتصور من العلوم إلى الوصي (عليه السلام).. ولذلك تفصيل يطلب من محله.ومنها: العلم اللدني بإفاضة الباري عز وجل، وقد تكون هناك طرق أخرى للارتباط بالسماء.

ص: 178


1- أي بما أنه ينزل الوحي فإنه ينزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقط، أما نزوله ورؤيته لا للوحي القرآني فلا مانع منه للأولياء (عليهم السلام).

..............................

منزلة جبرائيل (عليه السلام)

مسألة: يجب الاعتقاد بأن جبرئيل (عليه السلام) أمين على الوحي.

مسألة: يحرم الاعتقاد أو القول بكون جبرئيل (عليه السلام) عدواً، كما قالته اليهود.

قال تعالى: «قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنينَ»(1).

وقال سبحانه: «مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ»(2).

قال الطوسي (رحمه الله): (رُوِيَ أَنَّ ابْنَ صُورِيَا وَجَمَاعَةً مِنْ يَهُودِ فَدَكَ، أَتَوُا النَّبِيَّ (صلى

الله عليه وآله)، فَسَأَلُوهُ عَنْ مَسَائِلَ فَأَجَابَهُمْ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ صُورِيَا: خَصْلَةٌ وَاحِدَةٌ إِنْ قُلْتَهَا آمَنْتُ بِكَ وَاتَّبَعْتُكَ، أَيُّ مَلَكٍ يَأْتِيكَ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ؟. قَالَ: فَقَالَ: جَبْرَئِيلُ. قَالَ: ذَلِكَ عَدُوُّنَا، وَيَنْزِلُ بِالْقِتَالِ وَالشِّدَّةِ وَالْحَرْبِ، وَمِيكَائِيلُ يَنْزِلُ بِالْيُسْرِ وَالرَّخَاءِ، فَلَوْكَانَ مِيكَائِيلُ هُوَ الَّذِي يَأْتِيكَ لآمَنَّا بِكَ. فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ: «فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ»)(3).

ص: 179


1- سورة البقرة: 97.
2- سورة البقرة: 98.
3- بحار الأنوار: ج56 ص148، تتمة كتاب السماء والعالم، الباب23 من أبواب الملائكة.

..............................

اتهامات وافتراءات

مسألة: من أشد التهم ومن أكبر المحرمات، الإتهامات الحاقدة على شيعة العترة الطاهرة (عليهم السلام)، بأنهم يقولون بخيانة جبرئيل (عليه السلام) في نزول الوحي على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، حيث اتُهِمُوا بأنهم قالوا: كان قد قرر الله أن ينزل جبرئيل على علي (عليه السلام) بالنبوة، لكنه خان ونزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله)! فإنه بهتان عظيم، وسيعلم هؤلاء الظالمون المتهمون أي منقلب ينقلبون.

مسألة: يلزم السعي لدفع مختلف التهم المغرضة عن كل مظلوم، وخاصة ما يرتبط بالعقيدة الصحيحة، كما في أتباع أهل البيت (عليهم السلام)، وإيضاح الصورة المشرقة لهم لمختلف الناس؛ فإنه من طرق الهداية.

مسألة: يحرم إنكار أن جبرئيل (عليه السلام) كان هو وسيط الوحي بين الله تعالى وبين رسوله المصطفى (صلى الله عليه وآله).

عن حذيفة بن اليمان، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) - في حديث - أنه قال: «إن الله عز وجل اختارنا: أنا، وعلياً، وحمزة، وجعفر، يوم بعثني برسالته، وكنت نائماً بالأبطح، وعليٌ نائم عن يميني، وحمزة عن يساري، وجعفر عند رجلي، فما انتبهت إلاّ بحفيف أجنحة الملائكة، فنظرت فاذا أربعة من الملائكة، وأحدهم يقول لصاحبه: يا جبرائيل، إلى أي الأربعة أُرسلت؟. فرفسني برجله وقال: إلى هذا.

ص: 180

..............................

قال: ومن هذا؟.

قال: محمد سيد المرسلين.

قال: ومن هذا عن يمينه؟.

قال: علي سيد الوصيين.

قال: ومن هذا عن يساره؟.

قال: حمزة سيد الشهداء.

قال: ومن هذا عند رجليه؟.

قال: جعفر الطيار في الجنة»(1).

ص: 181


1- شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار (عليهم السلام): ج1 ص120، علي (عليه السلام) أمير المؤمنين والوصي والخليفة، ح46.

وَالطَّبِينِ بِأُمُورِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ

اشارة

-------------------------------------------

المعصوم هو الفطن الحاذق

الطبين: هو الفطن الحاذق، وطَبَن وطَبِن أي فطن.

مسألة: يجب الاعتقاد بأن أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) كان هو الفطن الحاذق بأمور الدنيا والدين، بل كان هو الطبين والفطن والعالم والعارف الأول بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) دون العالمين.

فإن ذلك هو مقتضى قوله (صلى الله عليه وآله): «أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ وَعَلِيٌّ بَابُهَا، فَمَنْ أَرَادَ الْمَدِينَةَ والحكمة فَلْيَأْتِهَا مِنْ بَابِهَا»(1).

وقوله (صلى الله عليه وآله): «أَقْضَاكُمْ عَلِيٌّ»(2).

وقوله (صلى الله عليه وآله): «أَعْلَمُكُمْعَلِيُّ»(3).

إلى غيرها من متواتر الروايات الدالة على أنه (عليه السلام) كان خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ومستودع علمه، والمنصوب من قبل الله سبحانه وتعالى، فضلاً عن كونه بديهياً لكل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شيهد، وذلك يعترف به كل مسلم، سنياً كان أم شيعياً، باستثناء بعض النواصب،

ص: 182


1- عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج1 ص233، باب23 ذكر مجلس الرضا (عليه السلام) مع المأمون في الفرق بين العترة و الأمة، ح1.
2- بحار الأنوار: ج40 ص87، تتمة كتاب تاريخ أمير المؤمنين (عليه السلام)، الباب91 من تتمة أبواب فضائله ومناقبه (صلوات الله عليه).
3- الكافي: ج7 ص424، كتاب القضاء والأحكام، باب النوادر، ح6.

..............................

وذلك - إلى جانب سائر الصفات والمواصفات - هو السبب في أن الله جعله خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله).

لا تقديم على المعصوم

مسألة: يحرم تفضيل الآخرين على الإمام علي (عليه السلام) من بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، بل ذلك من أكبر الكبائر، وتفضيل غيره عليه سواء كان علماً أم حكماً أم إعلاماً أم تصدياً لأمور الخلافة أم غيرها، فإنه (عليه السلام) الأفضل علىالإطلاق من بعد النبي (صلى الله عليه وآله).

قال أمير المؤمنين (عليه السلام) - وهو يتحدث عن مناقبه التي لم يشركه فيها أحد: «وَأَمَّا السَّابِعَةُ وَالثَّلاَثُونَ: فَإِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ خَصَّنِي مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) بِعِلْمِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، وَالْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ، وَالْخَاصِّ وَالْعَامِّ، وَذَلِكَ مِمَّا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَيَّ وَعَلَى رَسُولِهِ. وَقَالَ لِيَ الرَّسُولُ (صلى الله عليه وآله): يَا عَلِيُّ، إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَنِي أَنْ أُدْنِيَكَ وَلاَ أُقْصِيَكَ، وَأُعَلِّمَكَ وَلاَ أَجْفُوَكَ، وَحَقٌّ عَلَيَّ أَنْ أُطِيعَ رَبِّي، وَحَقٌّ عَلَيْكَ أَنْ تَعِيَ»(1).

وعن فطر بن خليفة، قال: سَمِعْتُ أَبَا الطُّفَيْلِ يَقُولُ: كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) يَقُوُ: (لَقَد كَاَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِب (عليه السلام) مِنَ

ص: 183


1- الخصال: ج2 ص576، أبواب السبعين و ما فوقه، لأمير المؤمنين (عليه السلام) سبعون منقبة لم يشركه فيها أحد من الأئمة، ح1.

..............................

السَّوَابِقِ مَا لَوْ أَنَّ سَابِقَةً مِنْهَا قُسِمَتْ بَيْنَ الْخَلاَئِقِ لأَوْسَعَتْهُمْ خَيْراً)(1).وعن ابن عباس، قال: (دَعَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ نَفَراً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، فَحَضَرَتِ الصَّلاةُ، فَقَدَّمُوا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ؛ لأَنَّهُ كَانَ أَقْرَأَهُمْ)(2).

الدين والدنيا معاً

مسألة: يلزم الاهتمام بأمور الدنيا والدين معاً، فإن الله أراد من الإنسان أن يهتم بكلا الجانبين، فلا يجوز إهمال شؤون الدنيا، ولذا كان تعلم الصناعات والعلوم واجباً كفائياً، كما لا يجوز إهمال شؤون الآخرة، فإن ذلك هو الخسران المبين.

قال تعالى: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً»(3).

ومن يقتصر على شؤون الدنيا دون الآخرة، أو العكس، مثله كمثل طائر يريد الطيران بجناح واحد، أو طائرة تطير بجناح واحد، فلابد أن تسقط وتتحطم، فمن ينكمش عن السياسة الصحيحة، والاقتصاد الإسلامي، وسائر

ص: 184


1- شواهد التنزيل لقواعد التفضيل: ج1 ص28، ف1، قول أحمد بن حنبل البغدادي، ح10.
2- شواهد التنزيل لقواعد التفضيل: ج1 ص33، ف2، ح16.
3- سورة البقرة: 201.

..............................

شؤون الحياة؛ فإنه ترك جانباً مهماً من مسؤولياته، إلا إذا لم يكن قادراً على الجمع.

ولذلك نجد أن القرآن الكريم مليء بشؤون الآخرة، كما هو مليء بشؤون الدنيا، حتى الشؤون الطبية والعسكرية، مثلاً:

قوله تعالى: «وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا»(1).

وقوله سبحانه: «وَأَعِدُّوا لَهمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ»(2).

ومن هنا ورد التأكيد على القرآن الكريم كما ورد ذلك في العترة الطاهرة (عليهم السلام). عن (كتاب الوصية) لأبي الضرير عيسى بن المستفاد من أصحاب الكاظم (عليه

السلام)، عنه (عليه السلام)، عن أبيه (عليه السلام) - في حديث -: أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) قَالَ لِلأَنْصَارِ أَيَّامَ وَفَاتِهِ فِيمَا أَوْصَى بِهِ إِلَيْهِمْ: «كِتَابَ اللهِ وَأَهْلَ بَيْتِي؛ فَإِنَّ الْكِتَابَ هُوَ الْقُرْآنُ، وَفِيهِ الْحُجَّةُ وَالنُّورُ وَالْبُرْهَانُ، كَلاَمُ اللهِ غَضٌّ جَدِيدٌ طَرِيٌّ، شَاهِدٌ وَحَكَمٌ عَادِلٌ، قَائِدٌ بِحَلاَلِهِ وَحَرَامِهِ وَأَحْكَامِهِ، بَصِيرٌ بِهِ، قَاضٍ بِهِ، مَضْمُومٌفِيهِ، يَقُومُ غَداً فَيُحَاجُّ بِهِ أَقْوَاماً، فَتَزِلُّ أَقْدَامُهُمْ عَنِ الصِّرَاطِ»(3)، الخبر.

ص: 185


1- سورة الأعراف: 31.
2- سورة الأنفال: 60.
3- مستدرك الوسائل: ج4 ص237، تتمة كتاب الصلاة، الباب2 من أبواب قراءة القرآن ولو في غير الصلاة، ح4588.

..............................

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «فَضْلُ الْقُرْآنِ عَلَى سَائِرِ الْكَلاَمِ، كَفَضْلِ اللهِ عَلَى خَلْقِهِ»(1).

وقال (صلى الله عليه وآله): «الْقُلُوبُ أَرْبَعَةٌ: فَقَلْبٌ فِيهِ إِيمَانٌ وَلَيْسَ فِيهِ قُرْآنٌ، وَقَلْبٌ فِيهِ قُرْآنٌ وَإِيمَانٌ، وَقَلْبٌ فِيهِ قُرْآنٌ وَلَيْسَ فِيهِ إِيمَانٌ، وَقَلْبٌ لاَ قُرْآنَ فِيهِ وَلاَ إِيمَانَ. فَأَمَّا الْقَلْبُ الَّذِي فِيهِ إِيمَانٌ وَلَيْسَ فِيهِ قُرْآنٌ، كَالثَّمَرَةِ طَيِّبٌ طَعْمُهَا لَيْسَ لَهَا رِيحٌ. وَأَمَّا الْقَلْبُ الَّذِي فِيهِ قُرْآنٌ وَلَيْسَ فِيهِ إِيمَانٌ، كَالأُشْنَةِ طَيِّبٌ رِيحُهَا خَبِيثٌ طَعْمُهَا. وَأَمَّا الْقَلْبُ الَّذِي فِيهِ إِيمَانٌ وَقُرْآنٌ، كَجِرَابِ الْمِسْكِ إِنْ فُتِحَ فُتِحَ طَيِّباً، وَإِنْ وَعَى وَعَى طَيِّباً. وَأَمَّا الْقَلْبُ الَّذِي لاَ قُرْآنَ فِيهِ وَلاَ إِيمَانَ، كَالْحَنْظَلَةِ خَبِيثٌ رِيحُهَا خَبِيثٌطَعْمُهَا»(2).

وعن معاذ بن جبل، قال: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) فِي سَفَرٍ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، حَدِّثْنَا بِمَا لَنَا فِيهِ نَفْعٌ؟.

فقال (صلى الله عليه وآله): «إِنْ أَرَدْتُمْ عَيْشَ السُّعَدَاءِ، وَمَوْتَ الشُّهَدَاءِ، وَالنَّجَاةَ يَوْمَ الْحَشْرِ، وَالظِّلَّ يَوْمَ الْحَرُورِ، وَالْهُدَى يَوْمَ الضَّلالَةِ، فَادْرُسُوا الْقُرْآنَ؛ فَإِنَّهُ كَلاَمُ الرَّحْمَنِ، وَحِرْزٌ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَرُجْحَانٌ فِي الْمِيزَانِ»(3).

ص: 186


1- مستدرك الوسائل: ج4 ص237، تتمة كتاب الصلاة، الباب2 من أبواب قراءة القرآن ولو في غير الصلاة، ح4589.
2- مستدرك الوسائل: ج4 ص231 - 232، تتمة كتاب الصلاة، الباب1 من أبواب قراءة القرآن ولو في غير الصلاة، ح4568.
3- مستدرك الوسائل: ج4 ص232، تتمة كتاب الصلاة، الباب1 من أبواب قراءة القرآن ولو في غير الصلاة، ح4570.

..............................

وعن النبي (صلى الله عليه وآله)، قال: «تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ، وَتَعَلَّمُوا غَرَائِبَهُ، وَغَرَائِبُهُ فَرَائِضُهُ وَحُدُودُهُ؛ فَإِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ عَلَى خَمْسَةِ وُجُوهٍ: حَلاَلٍ، وَحَرَامٍ، وَمُحْكَمٍ، وَمُتَشَابِهٍ، وَأَمْثَالٍ. فَاعْمَلُوا بِالْحَلاَلِ وَدَعُوا الْحَرَامَ، وَاعْمَلُوا بِالْمُحْكَمِ وَدَعُوا الْمُتَشَابِهَ، وَاعْتَبِرُوابِالأَمْثَالِ»(1).

المؤمن فطن حاذق

مسألة: يستحب أن يكون الإنسان فطناً حاذقاً في شؤون وأمور الدنيا، بل يجب في بعضها مما يحتاجه المجتمع، أو يتوقف عليه عز الإسلام كالسياسة والاقتصاد والشؤون العسكرية...

وقد قال الإمام الصادق (عليه السلام) لمن اعترض عليه عند ما وجده (عليه السلام) يماكس حين شرائه البضاعة: «إِنَّ الْمَغْبُونَ لاَ مَحْمُودٌ وَلاَ مَأْجُورٌ»(2)، ومحمود يشير إلى الدنيا، أو عند الناس، و(مأجور) يشير إلى الآخرة أو عند الله تعالى.

إعداد الخبراء

مسألة: يجب أن تهتم الدولة الإسلامية والمنظمات الدينية والعلماء والشخصيات، بإعداد سيل من الخبراء في أمور الدنيا والدين، بحيث يكون

ص: 187


1- مستدرك الوسائل: ج4 ص234، تتمة كتاب الصلاة، الباب1 من أبواب قراءة القرآن ولو في غير الصلاة، ح4575.
2- الكافي: ج4 ص496، كتاب الحج، باب البدنة والبقرة عن كم تجزئ، ح3.

..............................

للمسلمين العدد الوافي من الخبراء الحاذقين الفطنين في الفقه والعقائد والكلام والأصول، كما في الفلك والرياضيات والسياسة والاقتصاد والاجتماع والحقوق وغيرها.

وبذلك يحكم العقل والنقل، وفي ذلك عزة الأمة والإسلام والمسلمين.

ولو أن الناس كانوا سلموا زمام الأمور للإمام علي (عليه السلام) الطبين بأمور الدنيا والدين، كما قالت الصديقة الطاهرة (عليها السلام)، لسعدوا في الدنيا وفازوا أكبر الفوز في الآخرة.

قال تعالى: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ»(1).

وقال سبحانه: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ»(2).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَا وَلَّتْ أُمَّةٌ قَطُّ أَمْرَهَا رَجُلاً وَفِيهِمْ أَعْلَمُ مِنْهُ، إِلاَّ لَمْ يَزَلْ أَمْرُهُمْ يَذْهَبُ سَفَالاً، حَتَّىيَرْجِعُوا إِلَى مَا تَرَكُوا، فَمَا الْوِلايَةُ غَيْرَ الإِمَارَةِ عَلَى الأُمَّةِ»(3).

ص: 188


1- سورة المائدة: 65.
2- سورة الأعراف: 96.
3- كتاب سليم بن قيس الهلالي: ج2 ص651، الحديث الحادي عشر.

..............................

وعن النبي (صلى الله عليه وآله)، أنه قال: «من تولى شيئاً من أمور المسلمين، فولى رجلاً شيئاً من أمورهم وهو يعلم مكان رجل هو أعلم منه، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين»(1).

وعن ابن عباس، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ: «عَلِيٌّ مَعَ الْحَقِّ وَالْحَقُّ مَعَ عَلِيٍّ، وَهُوَ الإِمَامُ وَالْخَلِيفَةُ مِنْ بَعْدِي، فَمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ فَازَ وَنَجَا، وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ ضَلَّ وَغَوَى»(2).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «سَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي، فَوَ الَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، إِنِّي لأَعْلَمُ بِالتَّوْرَاةِ مِنْ أَهْلِ التَّوْرَاةِ، وَإِنِّي لأَعْلَمُ بِالإِنْجِيلِ مِنْ أَهْلِ الإِنْجِيلِ، وَإِنِّي لأَعْلَمُبِالْقُرْآنِ مِنْ أَهْلِ الْقُرْآنِ»(3).

وفي الشورى قال ابن الخطاب لابنه عبد الله: «إِنْ بَايَعُوا أَصْلَعَ بَنِي هَاشِمٍ، حَمَلَهُمْ عَلَى الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ، وَأَقَامَهُمْ عَلَى كِتَابِ رَبِّهِمْ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِمْ»(4).

ص: 189


1- التعجب من أغلاط العامة في مسألة الإمامة: ص59، الفصل السادس في أغلاطهم في علم الإمام.
2- كفاية الأثر في النص على الأئمة الإثني عشر: ص20 - 21، باب ما جاء عن عبد الله بن العباس.
3- كتاب سليم بن قيس الهلالي: ج2 ص942، الحديث الثامن والسبعون.
4- كتاب سليم بن قيس الهلالي: ج2 ص652، الحديث الحادي عشر.

..............................

المسائل التي يبتلى بها

مسألة: يجب الاهتمام بأمور الدين في المبتلى به، أما غير المبتلى به فيستحب، وقد يجب إذا كان لتعليم الغير أو حفظ الشريعة وما أشبه، في صورة التوقف عليه مثلاً.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «ثَلاَثٌ بِهِنَّ يَكْمُلُ الْمُسْلِمُ: التَّفَقُّهُ فِي الدِّينِ، وَالتَّقْدِيرُ فِي الْمَعِيشَةِ، وَالصَّبْرُ عَلَى النَّوَائِبِ»(1).

وقال (عليه السلام): «لاَ يَذُوقُ الْمَرْءُ مِنْ حَقِيقَةِ الإِيمَانِ، حَتَّى يَكُونَ فِيهِ ثَلاَثُ خِصَالٍ: الْفِقْهُ فِي الدِّينِ، وَالصَّبْرُ عَلَى الْمَصَائِبِ، وَحُسْنُ التَّقْدِيرِ فِي الْمَعَاشِ»(2).

وعن سفيان بن عيينة، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه

السلام) يَقُولُ: «وَجَدْتُ عِلْمَ النَّاسِ كُلِّهِمْ فِي أَرْبَعٍ: أَوَّلُهَا أَنْ تَعْرِفَ رَبَّكَ، وَالثَّانِيَةُ أَنْ تَعْرِفَ مَا صَنَعَ بِكَ،وَالثَّالِثَةُ أَنْ تَعْرِفَ مَا أَرَادَ مِنْكَ، وَالرَّابِعَةُ أَنْ تَعْرِفَ مَا يُخْرِجُكَ مِنْ دِينِكَ»(3).

ص: 190


1- بحار الأنوار: ج1 ص210، كتاب العقل والعلم و الجهل، الباب6 من أبواب العلم وآدابه وأنواعه وأحكامه، ح3.
2- بحار الأنوار: ج1 ص210، كتاب العقل والعلم و الجهل، الباب6 من أبواب العلم وآدابه وأنواعه وأحكامه، ح4.
3- بحار الأنوار: ج1 ص212، كتاب العقل والعلم و الجهل، الباب6 من أبواب العلم وآدابه وأنواعه وأحكامه، ح6.

..............................

وعن إسحاق بن عمار، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «لَيْتَ السِّيَاطَ عَلَى رُؤوسِ أَصْحَابِي حَتَّى يَتَفَقَّهُوا فِي الْحَلاَلِ وَالْحَرَامِ»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «حَدِيثٌ فِي حَلاَلٍ وَحَرَامٍ تَأْخُذُهُ مِنْ صَادِقٍ، خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ»(2).

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «تَفَقَّهُوا فِي الْحَلاَلِ وَالْحَرَامِ؛ وَإِلاّ فَأَنْتُمْ أَعْرَابٌ»(3).

الزمان والاهتمام الأكبر بالدين

مسألة: أمور الدين الواجب الاهتمام بها في هذا الزمان قد تكون أوسع دائرة من بعض الأزمان السابقة، فالواجب الاهتمام بها أجمع، ومن أسباب الأوسعية: تجدد موضوعات كثيرة، أو تجدد تأثير موضوعات صرفة على جوانب دينية، أو التطور العلمي والصناعي، أو غير ذلك، فلابد للإنسان من تقسيم أوقاته بشكل يفي بمسؤولياته.

ص: 191


1- بحار الأنوار: ج1 ص213، كتاب العقل والعلم و الجهل، الباب6 من أبواب العلم وآدابه وأنواعه وأحكامه، ح12.
2- بحار الأنوار: ج1 ص214، كتاب العقل والعلم و الجهل، الباب6 من أبواب العلم وآدابه وأنواعه وأحكامه، ح13.
3- بحار الأنوار: ج1 ص214، كتاب العقل والعلم و الجهل، الباب6 من أبواب العلم وآدابه وأنواعه وأحكامه، ح14.

..............................

قال الإمام الرضا (عليه السلام): «لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَرَكَ دُنْيَاهُ لِدِينِهِ وَدِينَهُ لِدُنْيَاهُ»(1).

وقال الإمام الرضا (عليه السلام): «اجْتَهِدُوا أَنْ يَكُونَ زَمَانُكُمْ أَرْبَعَ سَاعَاتٍ: سَاعَةً مِنْهُ لِمُنَاجَاتِهِ، وَسَاعَةً لأَمْرِ الْمَعَاشِ، وَسَاعَةً لِمُعَاشَرَةِ الإِخْوَانِ الثِّقَاتِ وَالَّذِينَ يُعَرِّفُونَكُمْ عُيُوبَكُمْ وَيَخْلُصُونَ لَكُمْ فِي الْبَاطِنِ، وَسَاعَةً تَخْلُونَ فِيهَا لِلَذَّاتِكُمْ، وَبِهَذِهِ السَّاعَةِ تَقْدِرُونَ عَلَىالثَّلاَثِ السَّاعَاتِ»(2).

التفقه في الدين

مسألة: يستحب وقد يجب إن يكون الإنسان حاذقاً فطناً في أمور الدين. ومن مصاديق ذلك أن يعرف الإنسان المداخل والمخارج الشرعية، والعلاج الشرعي للمسائل التي هي مورد الابتلاء، كالرباء وغيره.

من صفات القائد

مسألة: يجب أن يكون القائد - بصورة عامة - عارفاً بأمور الدنيا والدين، والمراد بالمعرفة: معرفته بشخصه بالمقدار المحتاج إليه، ومعرفته ولو بواسطة المستشارين فيما لا يتوقف إدارة البلاد على معرفته المباشرة، بل يكتفي بقدرته ولو عبر المستشارين على التشخيص الصحيح والإدارة التامة.

ص: 192


1- الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا (عليه السلام): ص337، باب89 حق النفوس.
2- الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا (عليه السلام): ص337، باب89 حق النفوس.

..............................

نعم، دلت الأدلة الكثيرة على اشتراط الأعلمية المطلقة، والأفضليةالمطلقة في خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، كما دلت الأدلة على اشتراط الاجتهاد إلى جانب سائر الشروط في حاكم الدولة الإسلامية في غياب المعصوم (عليه السلام).

أما ما عدا ذلك فلا دليل عليه، فيكتفى بالاجتهاد مثلاً في الحاكم زمن الغيبة مع المقدرة على الإدارة بواسطة المستشارين الأكفاء.

من شروط الإمامة

مسألة: يجب أن يكون الخليفة من بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) عارفاً بأمور الدنيا والدين، وذلك لأنه الحجة من الله على الخلق في البعدين، ولأنه الوسيط لكليهما، فلابد من المعرفة الكاملة وإلاّ دل على العجز أو الجهل أو الظلم أو عدم الحكمة، تعالى عنه ذلك علوا كبيراً.

وأما من غصب الخلافة، فكان من الواضح جهلهم حتى بكثير من الأوليات، قال: (كُلُّ النَّاسِ أَفْقَهُ مِنْ عُمَرَ حَتَّى الْمُخَدَّرَاتُ فِي الْبُيُوتِ)(1).وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ لا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْوَالِي عَلَى الْفُرُوجِ وَالدِّمَاءِ وَالْمَغَانِمِ وَالأَحْكَامِ وَإِمَامَةِ الْمُسْلِمِينَ، الْبَخِيلُ؛ فَتَكُونَ فِي

ص: 193


1- راجع بحار الأنوار: ج30 ص655، الباب23من تتمة كتاب الفتن و المحن، السادس، وفيه: (وَقَالَ - عمر - : مَنْ غَالَى فِي مَهْرِ ابْنَتِهِ أَجْعَلْهُ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِشُبْهَةِ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) زَوَّجَ فَاطِمَةَ (عليها السلام) بِخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ. فَقَامَتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ وَنَبَّهَتْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: «وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطًاَرًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا» - سورة النساء: 20- عَلَى جَوَازِ الْمُغَالاَةِ. فَقَالَ: كُلُّ النَّاسِ أَفْقَهُ مِنْ عُمَرَ حَتَّى الْمُخَدَّرَاتِ فِي الْبُيُوتِ).

..............................

أَمْوَالِهِمْ نَهْمَتُهُ. وَلاَ الْجَاهِلُ؛ فَيُضِلَّهُمْ بِجَهْلِهِ. وَلاَ الْجَافِي فَيَقْطَعَهُمْ بِجَفَائِهِ. وَلاَ الْحَائِفُ لِلدُّوَلِ؛ فَيَتَّخِذَ قَوْماً دُونَ قَوْمٍ. وَلاَ الْمُرْتَشِي فِي الْحُكْمِ؛ فَيَذْهَبَ بِالْحُقُوقِ وَيَقِفَ بِهَا دُونَ الْمَقَاطِعِ. وَلاَ الْمُعَطِّلُ لِلسُّنَّةِ؛ فَيُهْلِكَ الأُمَّة»(1).

وعن عبد العزيز بن مسلم، قال: كُنَّا مَعَ الرِّضَا (عليه

السلام) بِمَرْوَ، فَاجْتَمَعْنَا فِي الْجَامِعِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي بَدْءِ مَقْدَمِنَا، فَأَدَارُوا أَمْرَ الإِمَامَةِ، وَذَكَرُوا كَثْرَةَ اخْتِلاَفِ النَّاسِ فِيهَا. فَدَخَلْتُ عَلَى سَيِّدِي (عليه السلام) فَأَعْلَمْتُهُ خَوْضَ النَّاسِ فِيهِ، فَتَبَسَّمَ (عليه السلام) ثُمَّ قَالَ: «يَا عَبْدَالْعَزِيزِ، جَهِلَ الْقَوْمُ وَخُدِعُوا عَنْ آرَائِهِمْ. إِنَّ اللهَ عَزَّ وَ جَلَّ لَمْ يَقْبِضْ نَبِيَّهُ (صلى الله عليه وآله) حَتَّى أَكْمَلَ لَهُ الدِّينَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ فِيهِ تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ، بَيَّنَ فِيهِ الْحَلاَلَ وَالْحَرَامَ، وَالْحُدُودَ وَالأَحْكَامَ، وَجَمِيعَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ النَّاسُ كَمَلاً، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: «مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ»(2)، وَ أَنْزَلَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ - وَهِيَ آخِرُ عُمُرِهِ (صلى الله عليه وآله) -: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلًامَ دِينًا»(3)، وَأَمْرُ الإِمَامَةِ مِنْ تَمَامِ الدِّينِ، وَلَمْ يَمْضِ (صلى الله عليه وآله) حَتَّى بَيَّنَ لأُمَّتِهِ مَعَالِمَ دِينِهِمْ، وَأَوْضَحَ لَهُمْ سَبِيلَهُمْ، وَتَرَكَهُمْ عَلَى قَصْدِ سَبِيلِ الْحَقِّ، وَأَقَاَ لَهُمْ عَلِيّاً (عليه السلام) عَلَماً وَإِمَاماً، وَمَا تَرَكَ لَهُمْ شَيْئاً يَحْتَاجُ إِلَيْهِ

ص: 194


1- نهج البلاغة: باب الخطب والرسائل: 131-ومن كلام له (عليه السلام)، وفيه يبين سبب طلبه الحكم، ويصف الإمام الحق.
2- سورة الأنعام: 38.
3- سورة المائدة: 3.

..............................

الأُمَّةُ إِلاَّ بَيَّنَهُ، فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُكْمِلْ دِينَهُ، فَقَدْ رَدَّ كِتَابَ اللهِ، وَمَنْ رَدَّ كِتَابَ اللهِ فَهُوَ كَافِرٌ بِهِ.

هَلْ يَعْرِفُونَ قَدْرَ الإِمَامَةِ وَمَحَلَّهَا مِنَ الأُمَّةِ، فَيَجُوزَ فِيهَا اخْتِيَارُهُمْ. إِنَّ الإِمَامَةَ أَجَلُّ قَدْراً، وَأَعْظَمُ شَأْناً، وَأَعْلَى مَكَاناً، وَأَمْنَعُ جَانِباً، وَأَبْعَدُ غَوْراً، مِنْأَنْ يَبْلُغَهَا النَّاسُ بِعُقُولِهِمْ، أَوْ يَنَالُوهَا بِآرَائِهِمْ، أَوْ يُقِيمُوا إِمَاماً بِاخْتِيَارِهِمْ.

إِنَّ الإِمَامَةَ خَصَّ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ (عليه السلام) بَعْدَ النُّبُوَّةِ، وَالْخُلَّةِ مَرْتَبَةً ثَالِثَةً، وَفَضِيلَةً شَرَّفَهُ بِهَا، وَأَشَادَ بِهَا ذِكْرَهُ، فَقَالَ: «إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا». فَقَالَ الْخَلِيلُ (عليه السلام) سُرُوراً بِهَا: «وَمِنْ ذُرِّيَّتِي». قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى «لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمينَ»(1).

فَأَبْطَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ إِمَامَةَ كُلِّ ظَالِمٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَصَارَتْ فِي الصَّفْوَةِ، ثُمَّ أَكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ جَعَلَهَا فِي ذُرِّيَّتِهِ أَهْلِ الصَّفْوَةِ وَالطَّهَارَةِ، فَقَالَ: «وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صالِحينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ»(2).

فَلَمْ تَزَلْ فِي ذُرِّيَّتِهِ، يَرِثُهَا بَعْضٌ عَنْ بَعْضٍ، قَرْناً فَقَرْناً، حَتَّى وَرَّثَهَا اللهُ تَعَالَى النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله)، فَقَالَ جَلَّ وَتَعَالَى: «إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ

ص: 195


1- سورة البقرة: 124.
2- سورة الأنبياء: 72 - 73.

..............................

لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمؤْمِنِينَ»(1).فَكَانَتْ لَهُ خَاصَّةً، فَقَلَّدَهَا (صلى الله عليه وآله) عَلِيّاً (عليه السلام) بِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى عَلَى رَسْمِ مَا فَرَضَ اللهُ، فَصَارَتْ فِي ذُرِّيَّتِهِ الأَصْفِيَاءِ، الَّذِينَ آتَاهُمُ اللهُ الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: «وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ»(2). فَهِيَ فِي وُلْدِ عَلِيٍّ (عليه السلام) خَاصَّةً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، إِذْ لاَ نَبِيَّ بَعْدَ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله)، فَمِنْ أَيْنَ يَخْتَارُ هَؤُلاَءِ الْجُهَّالُ.

إِنَّ الإِمَامَةَ هِيَ مَنْزِلَةُ الأَنْبِيَاءِ، وَإِرْثُ الأَوْصِيَاءِ. إِنَّ الإِمَامَةَ خِلاَفَةُ اللهِ، وَخِلاَفَةُ الرَّسُولِ (صلى الله عليه وآله)، وَمَقَامُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)، وَمِيرَاثُ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ (عليهما السلام).

إِنَّ الإِمَامَةَ زِمَامُ الدِّينِ، وَنِظَامُ الْمُسْلِمِينَ، وَصَلاَحُ الدُّنْيَا وَعِزُّ الْمُؤْمِنِينَ. إِنَّ الإِمَامَةَ أُسُّ الإِسْلاَمِ النَّامِي، وَفَرْعُهُ السَّامِي. بِالإِمَامِ تَمَامُ الصَّلاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالْحَجِّ، وَالْجِهَادِ، وَتَوْفِيرُ الْفَيْءِ، وَالصَّدَقَاتِ، وَإِمْضَاءُ الْحُدُودِ وَالأَحْكَامِ، وَمَنْعُ الثُّغُورِ وَالأَطْرَافِ.

الإِمَامُ يُحِلُّ حَلاَلَ اللهِ، وَيُحَرِّمُ حَرَامَ اللهِ، وَيُقِيمُ حُدُودَ اللهِ، وَيَذُبُّ عَنْ دِينِ اللهِ، وَيَدْعُو إِلَى سَبِيلِ رَبِّهِ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَالْحُجَّةِ الْبَالِغَةِ. الإِمَامُ كَالشَّمْسِ الطَّالِعَةِ، الْمُجَلِّلَةِ بِنُورِهَالِلْعَالَمِ وَهِيَ فِي الأُفُقِ، بِحَيْثُ لاَتَنَالُهَا الأَيْدِي وَالأَبْصَارُ. الإِمَامُ الْبَدْرُ الْمُنِيرُ، وَالسِّرَاجُ الزَّاهِرُ،وَالنُّورُ السَّاطِعُ، وَالنَّجْمُ

ص: 196


1- سورة آل عمران: 68.
2- سورة الروم: 56.

..............................

الْهَادِي فِي غَيَاهِبِ الدُّجَى، وَأَجْوَازِ الْبُلْدَانِ وَالْقِفَارِ، وَلُجَجِ الْبِحَارِ.

الإِمَامُ الْمَاءُ الْعَذْبُ عَلَى الظَّمَأِ، وَالدَّالُّ عَلَى الْهُدَى، وَالْمُنْجِي مِنَ الرَّدَى. الإِمَامُ النَّارُ عَلَى الْيَفَاعِ الْحَارُّ لِمَنِ اصْطَلَى بِهِ، وَالدَّلِيلُ فِي الْمَهَالِكِ، مَنْ فَارَقَهُ فَهَالِكٌ. الإِمَامُ السَّحَابُ الْمَاطِرُ، وَالْغَيْثُ الْهَاطِلُ، وَالشَّمْسُ الْمُضِيئَةُ، وَالسَّمَاءُ الظَّلِيلَةُ، وَالأَرْضُ الْبَسِيطَةُ، وَالْعَيْنُ الْغَزِيرَةُ، وَالْغَدِيرُ وَالرَّوْضَةُ.

الإِمَامُ الأَنِيسُ الرَّفِيقُ، وَالْوَالِدُ الشَّفِيقُ، وَالأَخُ الشَّقِيقُ، وَالأُمُّ الْبَرَّةُ بِالْوَلَدِ الصَّغِيرِ، وَمَفْزَعُ الْعِبَادِ فِي الدَّاهِيَةِ النَّآدِ. الإِمَامُ أَمِينُ اللهِ فِي خَلْقِهِ، وَحُجَّتُهُ عَلَى عِبَادِهِ، وَخَلِيفَتُهُ فِي بِلاَدِهِ، وَالدَّاعِي إِلَى اللهِ، وَالذَّابُّ عَنْ حُرَمِ اللهِ.

الإِمَامُ الْمُطَهَّرُ مِنَ الذُّنُوبِ، وَالْمُبَرَّأُ عَنِ الْعُيُوبِ، الْمَخْصُوصُ بِالْعِلْمِ، الْمَوْسُومُ بِالْحِلْمِ، نِظَامُ الدِّينِ، وَعِزُّ الْمُسْلِمِينَ، وَغَيْظُ الْمُنَافِقِينَ، وَبَوَارُ الْكَافِرِينَ. الإِمَامُ وَاحِدُ دَهْرِهِ، لاَ يُدَانِيهِ أَحَدٌ، وَلاَيُعَادِلُهُ عَالِمٌ، وَلاَ يُوجَدُ مِنْهُ بَدَلٌ، وَلاَ لَهُ مِثْلٌ وَلاَ نَظِيرٌ، مَخْصُوصٌ بِالْفَضْلِ كُلِّهِ، مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ مِنْهُ لَهُ وَلاَ اكْتِسَابٍ، بَلِ اخْتِصَاصٌ مِنَ الْمُفْضِلِ الْوَهَّابِ، فَمَنْ ذَا الَّذِي يَبْلُغُ مَعْرِفَةَ الإِمَامِ، أَوْ يُمْكِنُهُ اخْتِيَارُهُ.

هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ، ضَلَّتِ الْعُقُولُ، وَتَاهَتِ الْحُلُومُ، وَحَارَتِ الأَلْبَابُ، وَخَسَأَتِ الْعُيُونُ، وَتَصَاغَرَتِ الْعُظَمَاءُ، وَتَحَيَّرَتِ الْحُكَمَاءُ، وَتَقَاصَرَتِ الْحُلَمَاءُ، وَحَصِرَتِ الْخُطَبَاءُ، وَجَهِلَتِ الأَلِبَّاءُ، وَكَلَّتِ الشُّعَرَاءُ، وَعَجَزَتِ الأُدَبَاءُ، وَعَيِيَتِ الْبُلَغَاءُ عَنْ وَصْفِ شَأْنٍ مِنْ شَأْنِهِ، أَوْ فَضِيلَةٍ مِنْ فَضَائِلِهِ، وَأَقَرَّتْ بِالْعَجْزِ وَالتَّقْصِيرِ.

ص: 197

..............................

وَكَيْفَ يُوصَفُ بِكُلِّهِ، أَوْ يُنْعَتُ بِكُنْهِهِ، أَوْ يُفْهَمُ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِهِ، أَوْ يُوجَدُ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ، وَيُغْنِي غِنَاهُ. لاَ كَيْفَ وَأَنَّى وَهُوَ بِحَيْثُ النَّجْمُ مِنْ يَدِ الْمُتَنَاوِلِينَ، وَوَصْفِ الْوَاصِفِينَ، فَأَيْنَ الاِخْتِيَارُ مِنْ هَذَا، وَأَيْنَ الْعُقُولُ عَنْ هَذَا، وَأَيْنَ يُوجَدُ مِثْلُ هَذَا.

أَ تَظُنُّونَ أَنَّ ذَلِكَ يُوجَدُ فِي غَيْرِ آلِ الرَّسُولِ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله)، كَذَبَتْهُمْ وَاللهِ أَنْفُسُهُمْ، وَمَنَّتْهُمُ الأَبَاطِيلَ، فَارْتَقَوْا مُرْتَقًى صَعْباً دَحْضاً، تَزِلُّ عَنْهُ إِلَى الْحَضِيضِ أَقْدَامُهُمْ. رَامُوا إِقَامَةَ الإِمَامِ بِعُقُولٍ حَائِرَةٍ بَائِرَةٍ نَاقِصَةٍ، وَآرَاءٍ مُضِلَّةٍ، فَلَمْيَزْدَادُوا مِنْهُ إِلاَّ بُعْداً «قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ»(1).

وَلَقَدْ رَامُوا صَعْباً، وَقَالُوا إِفْكاً، وَ«ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا»(2)، وَوَقَعُوا فِي الْحَيْرَةِ، إِذْ تَرَكُوا الإِمَامَ عَنْ بَصِيرَةٍ، «وَزَيَّنَ لَهمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ»(3). رَغِبُوا عَنِ اخْتِيَارِ اللهِ، وَاخْتِيَارِ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) وَأَهْلِ بَيْتِهِ إِلَى اخْتِيَارِهِمْ، وَالْقُرْآنُ يُنَادِيهِمْ: «وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهمُ الْخيَرَةُ سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ»(4)، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: «وَمَاكَانَ لِمؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ

ص: 198


1- سورة التوبة: 30.
2- سورة النساء: 167.
3- سورة العنكبوت: 38.
4- سورة القصص: 68.

..............................

لَهمُ الْخيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ»(1) الآيَةَ، وَقَالَ: «مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ * سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ * أَمْ لَهمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُواصَادِقِينَ»(2)، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: «أَ فَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُها»(3)، أَمْ «طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ»(4)، أَمْ «قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ»(5)، أَمْ «قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا»(6)، بَلْ هُوَ «فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ»(7).

فَكَيْفَ لَهُمْ بِاخْتِيَارِ الإِمَامِ، وَالإِمَامُ عَالِمٌ لاَ يَجْهَلُ، وَرَاعٍ لاَ يَنْكُلُ، مَعْدِنُ الْقُدْسِ وَالطَّهَارَةِ، وَالنُّسُكِ وَالزَّهَادَةِ، وَالْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ، مَخْصُوصٌ بِدَعْوَةِ

ص: 199


1- سورة الأحزاب: 36.
2- سورة القلم: 36 - 41.
3- سورة محمد: 24.
4- سورة التوبة: 93.
5- سورة الأنفال: 21 - 23.
6- سورة البقرة: 93.
7- سورة الجمعة: 4.

..............................

الرَّسُولِ (صلى الله عليه وآله)، وَنَسْلِ الْمُطَهَّرَةِ الْبَتُولِ، لاَ مَغْمَزَ فِيهِ فِي نَسَبٍ، وَلاَ يُدَانِيهِ ذُو حَسَبٍ، فِي الْبَيْتِ مِنْ قُرَيْشٍ، وَالذِّرْوَةِ مِنْ هَاشِمٍ، وَالْعِتْرَةِ مِنَ الرَّسُولِ (صلى الله عليه وآله)، وَالرِّضَا مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ،شَرَفُ الأَشْرَافِ، وَالْفَرْعُ مِنْ عَبْدِ مَنَافٍ، نَامِي الْعِلْمِ، كَامِلُ الْحِلْمِ، مُضْطَلِعٌ بِالإِمَامَةِ، عَالِمٌ بِالسِّيَاسَةِ، مَفْرُوضُ الطَّاعَةِ، قَائِمٌ بِأَمْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، نَاصِحٌ لِعِبَادِ اللهِ، حَافِظٌ لِدِينِ اللهِ.

إِنَّ الأَنْبِيَاءَ وَالأَئِمَّةَ (صلوات الله عليهم أجمعين) يُوَفِّقُهُمُ اللهُ، وَيُؤْتِيهِمْ مِنْ مَخْزُونِ عِلْمِهِ وَحِكَمِهِ مَا لاَ يُؤْتِيهِ غَيْرَهُمْ، فَيَكُونُ عِلْمُهُمْ فَوْقَ عِلْمِ أَهْلِ الزَّمَانِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: «أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ»(1)، وَقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: «وَمَنْ يُؤْتَ الْحكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا»(2)، وَقَوْلِهِ - فِي طَالُوتَ -: «إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ»(3)، وَقَالَ لِنَبِيِّهِ (صلى الله عليه وآله): «أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَم تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا»(4)،

وَقَالَ فِي الأَئِمَّةِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّهِ وَعِتْرَتِهِ وَذُرِّيَّتِهِ (صلى الله عليه وآله):

ص: 200


1- سورة يونس: 35.
2- سورة البقرة: 269.
3- سورة البقرة: 247.
4- سورة النساء: 113.

..............................

«أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً * فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا»(1).

وَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اخْتَارَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لأُمُورِ عِبَادِهِ، شَرَحَ صَدْرَهُ لِذَلِكَ، وَأَوْدَعَ قَلْبَهُ يَنَابِيعَ الْحِكْمَةِ، وَأَلْهَمَهُ الْعِلْمَ إِلْهَاماً، فَلَمْ يَعْيَ بَعْدَهُ بِجَوَابٍ، وَلاَ يُحَيَّرُ فِيهِ عَنِ الصَّوَابِ، فَهُوَ مَعْصُومٌ مُؤَيَّدٌ، مُوَفَّقٌ مُسَدَّدٌ، قَدْ أَمِنَ مِنَ الْخَطَايَا وَالزَّلَلِ وَالْعِثَارِ، يَخُصُّهُ اللهُ بِذَلِكَ؛ لِيَكُونَ حُجَّتَهُ عَلَى عِبَادِهِ، وَشَاهِدَهُ عَلَى خَلْقِهِ، وَ«ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ»(2).

فَهَلْ يَقْدِرُونَ عَلَى مِثْلِ هَذَا فَيَخْتَارُونَهُ، أَوْ يَكُونُ مُخْتَارُهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَيُقَدِّمُونَهُ، تَعَدَّوْا وَبَيْتِ اللهِ الْحَقَّ وَنَبَذُوا «كِتَابَ اللهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ»(3)، وَفِي كِتَابِ اللهِ الْهُدَى وَالشِّفَاءُ، فَنَبَذُوهُ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ، فَذَمَّهُمُ اللهُ وَمَقَّتَهُمْ وَأَتْعَسَهُمْ، فَقَالَ جَلَّ وَتَعَالَى: «وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمينَ»(4)،

ص: 201


1- سورة النساء: 54 - 55.
2- سورة الجمعة: 4.
3- سورة البقرة: 101.
4- سورة القصص: 50.

..............................

وَقَالَ: «فَتَعْسًا لَهمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهمْ»(1)، وَقَالَ: «كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ»(2)، وَصَلَّى اللهُ عَلَى النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيماً كَثِيراً»(3).

وعن إسحاق بن غالب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) - في خطبة له يذكر فيها حال الأئمة (عليه السلام) وصفاتهم -: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَوْضَحَ بِأَئِمَّةِ الْهُدَى مِنْ أَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّنَا عَنْ دِينِهِ، وَأَبْلَجَ بِهِمْ عَنْ سَبِيلِ مِنْهَاجِهِ، وَفَتَحَ بِهِمْ عَنْ بَاطِنِ يَنَابِيعِ عِلْمِهِ، فَمَنْ عَرَفَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) وَاجِبَ حَقِّ إِمَامِهِ، وَجَدَ طَعْمَ حَلاَوَةِ إِيمَانِهِ، وَعَلِمَ فَضْلَ طُلاَوَةِ إِسْلاَمِهِ؛ لأَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى نَصَبَ الإِمَامَ عَلَماً لِخَلْقِهِ، وَجَعَلَهُ حُجَّةً عَلَى أَهْلِ مَوَادِّهِ وَعَالَمِهِ، وَأَلْبَسَهُ اللهُ تَاجَ الْوَقَارِ، وَغَشَّاهُ مِنْ نُورِ الْجَبَّارِ، يُمَدُّ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ، لاَ يَنْقَطِعُ عَنْهُ مَوَادُّهُ، وَلاَ يُنَالُ مَا عِنْدَ اللهِ إِلاَّ بِجِهَةِ أَسْبَابِهِ، وَلاَ يَقْبَلُ اللهُ أَعْمَالَ الْعِبَادِ إِلاَّ بِمَعْرِفَتِهِ.

فَهُوَ عَالِمٌ بِمَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ مُلْتَبِسَاتِ الدُّجَى، وَمُعَمَّيَاتِ السُّنَنِ، وَمُشَبِّهَاتِ الْفِتَنِ. فَلَمْ يَزَلِ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَىيَخْتَارُهُمْ لِخَلْقِهِ مِنْ وُلْدِ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) مِنْ عَقِبِ كُلِّ إِمَامٍ، يَصْطَفِيهِمْ لِذَلِكَ وَيَجْتَبِيهِمْ، وَيَرْضَى بِهِمْ لِخَلْقِهِ وَيَرْتَضِيهِمْ، كُلَّمَا مَضَى مِنْهُمْ إِمَامٌ، نَصَبَ لِخَلْقِهِ مِنْ عَقِبِهِ إِمَاماً، عَلَماً بَيِّناً، وَهَادِياً نَيِّراً, وَإِمَاماً قَيِّماً, وَحُجَّةً عَالِماً، أَئِمَّةً مِنَ اللهِ «يَهْدُونَ بِالْحقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ»(4).

ص: 202


1- سورة محمد: 8.
2- سورة غافر: 35.
3- الكافي: ج1 ص198- 203، كتاب الحجة، باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته، ح1.
4- سورة الأعراف: 181.

..............................

حُجَجُ اللهِ وَدُعَاتُهُ، وَرُعَاتُهُ عَلَى خَلْقِهِ، يَدِينُ بِهَدْيِهِمُ الْعِبَادُ، وَتَسْتَهِلُّ بِنُورِهِمُ الْبِلاَدُ، وَيَنْمُو بِبَرَكَتِهِمُ التِّلاَدُ. جَعَلَهُمُ اللهُ حَيَاةً لِلأَنَامِ، وَمَصَابِيحَ لِلظَّلاَمِ، وَمَفَاتِيحَ لِلْكَلاَمِ، وَدَعَائِمَ لِلإِسْلاَمِ، جَرَتْ بِذَلِكَ فِيهِمْ مَقَادِيرُ اللهِ عَلَى مَحْتُومِهَا.

فَالإِمَامُ هُوَ الْمُنْتَجَبُ الْمُرْتَضَى، وَالْهَادِي الْمُنْتَجَى، وَالْقَائِمُ الْمُرْتَجَى، اصْطَفَاهُ اللهُ بِذَلِكَ، وَاصْطَنَعَهُ عَلَى عَيْنِهِ، فِي الذَّرِّ حِينَ ذَرَأَهُ، وَفِي الْبَرِيَّةِ حِينَ بَرَأَهُ، ظِلاًّ قَبْلَ خَلْقِ نَسَمَةٍ عَنْ يَمِينِ عَرْشِهِ. مَحْبُوّاً بِالْحِكْمَةِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَهُ، اخْتَارَهُ بِعِلْمِه،ِ وَانْتَجَبَهُ لِطُهْرِهِ، بَقِيَّةً مِنْ آدَمَ (عليه السلام)، وَخِيَرَةً مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ، وَمُصْطَفًى مِنْ آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَسُلاَلَةً مِنْ إِسْمَاعِيلَ، وَصَفْوَةً مِنْ عِتْرَةِ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله).لَمْ يَزَلْ مَرْعِيّاً بِعَيْنِ اللهِ، يَحْفَظُهُ وَيَكْلَؤُهُ بِسِتْرِهِ، مَطْرُوداً عَنْهُ حَبَائِلُ إِبْلِيسَ وَجُنُودِهِ، مَدْفُوعاً عَنْهُ وُقُوبُ الْغَوَاسِقِ، وَنُفُوثُ كُلِّ فَاسِقٍ، مَصْرُوفاً عَنْهُ قَوَارِفُ السُّوءِ، مُبْرَأً مِنَ الْعَاهَاتِ، مَحْجُوباً عَنِ الآفَاتِ، مَعْصُوماً مِنَ الزَّلاَّتِ، مَصُوناً عَنِ الْفَوَاحِشِ كُلِّهَا، مَعْرُوفاً بِالْحِلْمِ وَالْبِرِّ فِي يَفَاعِهِ، مَنْسُوباً إِلَى الْعَفَافِ وَالْعِلْمِ وَالْفَضْلِ عِنْدَ انْتِهَائِهِ، مُسْنَداً إِلَيْهِ أَمْرُ وَالِدِهِ، صَامِتاً عَنِ الْمَنْطِقِ فِي حَيَاتِهِ.

فَإِذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ وَالِدِهِ إِلَى أَنِ انْتَهَتْ بِهِ مَقَادِيرُ اللهِ إِلَى مَشِيئَتِهِ، وَجَاءَتِ الإِرَادَةُ مِنَ اللهِ فِيهِ إِلَى مَحَبَّتِهِ، وَبَلَغَ مُنْتَهَى مُدَّةِ وَالِدِهِ (عليه السلام) فَمَضَى، وَصَارَ أَمْرُ اللهِ إِلَيْهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَقَلَّدَهُ دِينَهُ، وَجَعَلَهُ الْحُجَّةَ عَلَى عِبَادِهِ، وَقَيِّمَهُ فِي بِلاَدِهِ، وَأَيَّدَهُ بِرُوحِهِ، وَآتَاهُ عِلْمَهُ، وَأَنْبَأَهُ فَصْلَ بَيَانِهِ، وَاسْتَوْدَعَهُ سِرَّهُ، وَانْتَدَبَهُ لِعَظِيمِ

ص: 203

..............................

أَمْرِهِ، وَأَنْبَأَهُ فَضْلَ بَيَانِ عِلْمِهِ، وَنَصَبَهُ عَلَماً لِخَلْقِهِ، وَجَعَلَهُ حُجَّةً عَلَى أَهْلِ عَالَمِهِ، وَضِيَاءً لأَهْلِ دِينِهِ، وَالْقَيِّمَ عَلَى عِبَادِهِ، رَضِيَ اللهُ بِهِ إِمَاماً لَهُمُ، اسْتَوْدَعَهُ سِرَّهُ، وَاسْتَحْفَظَهُ عِلْمَهُ، وَاسْتَخْبَأَهُ حِكْمَتَهُ، وَاسْتَرْعَاهُ لِدِينِهِ، وَانْتَدَبَهُ لِعَظِيمِ أَمْرِهِ،وَأَحْيَا بِهِ مَنَاهِجَ سَبِيلِهِ، وَفَرَائِضَهُ وَحُدُودَهُ.

فَقَامَ بِالْعَدْلِ عِنْدَ تَحَيُّرِ أَهْلِ الْجَهْلِ وَتَحْيِيرِ أَهْلِ الْجَدَلِ، بِالنُّورِ السَّاطِعِ وَالشِّفَاءِ النَّافِعِ بِالْحَقِّ الأَبْلَجِ، وَالْبَيَانِ اللاَّئِحِ مِنْ كُلِّ مَخْرَجٍ عَلَى طَرِيقِ الْمَنْهَجِ، الَّذِي مَضَى عَلَيْهِ الصَّادِقُونَ مِنْ آبَائِهِ (عليه السلام).

فَلَيْسَ يَجْهَلُ حَقَّ هَذَا الْعَالِمِ إِلاَّ شَقِيٌّ، وَلاَ يَجْحَدُهُ إِلاَّ غَوِيٌّ، وَلاَ يَصُدُّ عَنْهُ إِلاَّ جَرِيٌّ عَلَى اللهِ جَلَّ وَعَلاَ»(1).

بين الدين والدنيا

مسألة: لا انفكاك بين الدنيا والدين، بل «الدُّنْيَا مَزْرَعَةُ الآخِرَةِ»(2).

قال تعالى: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَ قِنَا عَذَابَ النَّارِ»(3).

ص: 204


1- الكافي: ج1 ص203- 205، كتاب الحجة، باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته، ح2.
2- مجموعة ورام: ج1 ص183، بيان ما يحمد من الجاه.
3- سورة البقرة: 201.

..............................

لا رهبانية في الإسلام

مسألة: لا رهبانية في الإسلام، ومن قال بها فإنه ممن (يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض)(1)، ولذلك قالت (صلوات الله عليها): «وَالطَّبِينِ بِأُمُورِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ».

وههنا أمور:

منها: قولها (عليها السلام): «الطَّبِينِ بِأُمُورِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ»، فيه عناية من حيث تقديم الدنيا على الدين.

ومنها: أن إضافة (أمور) إلى (الدنيا) وإلى (الدين) تفيد عموم علمه (عليه السلام) بكل أمور الدنيا، الأعم من السياسة والاقتصاد والطب والفلك وعلم طبقات الأرض(2) وغيرها، وكذلك كل أمور الدين، فإن الجمع المضاف يفيد العموم.

ومنها: أن كلاً من (الدين) و(الدنيا) مفرد محلى بأل، وهو يفيدالإطلاق أو العموم، وقد ذكرنا في (الأصول): إن الظهور في المطلق لا يحتاج إلا إلى عدم القرينة على الخلاف، وليس بحاجة إلى مقدمات الحكمة(3).

ص: 205


1- مقتبس من قوله تعالى: «أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ» سورة البقرة: 85.
2- المسمى حالياً ب (الجيولوجيا).
3- راجع (الأصول): ص561، بحث مقدمات الحكمة.

..............................

الخسران الأعظم

مسألة: حيث أبعد أولئك الصحابة المنقلبون على الأعقاب، علياً (عليه السلام) عن الخلافة وعن تولي الأمور، خسروا الدين والدنيا معاً، وإن تصوروا أنهم ربحوا الدنيا، لكن ذلك لم يكن إلا وهماً أو سراباً، فإنهم لو أسلموا القياد لعلي (عليه السلام) «لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ»(1)، ولتحولت الدنيا إلى جنة، قال تعالى: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ»(2).

ولذلك قالت الصديقة (صلوات الله عليها): «أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخسْرَانُ الْمبِينُ»(3).

رعاية الأمور البلاغية

مسألة: ينبغي التأكيد والإلفات والتنبيه بمثل (ألا) إذا كان الأمر مهماً.قال تعالى: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجنَّةَ وَلَمَا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَ الضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذينَ

ص: 206


1- سورة المائدة: 66.
2- سورة الأعراف: 96.
3- سورة الزمر: 15.

..............................

آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَريبٌ»(1).

وعن أبي عبد اللهِ (عليه السلام) قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، أَلاَ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ بُغَاةَ الْعِلْمِ»(2).

وعن أبي إسحاق السبيعي، عمن حدثه، قال: سَمِعْتُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) يَقُولُ: «أَيُّهَا النَّاسُ، اعْلَمُوا أَنَّ كَمَالَ الدِّينِ طَلَبُ الْعِلْمِ وَالْعَمَلُ بِهِ، أَلاَ وَإِنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ أَوْجَبُ عَلَيْكُمْ مِنْ طَلَبِ الْمَالِ. إِنَّ الْمَالَ مَقْسُومٌ مَضْمُونٌ لَكُمْ، قَدْ قَسَمَهُ عَادِلٌ بَيْنَكُمْ، وَضَمِنَهُ وَسَيَفِي لَكُمْ، وَالْعِلْمُ مَخْزُونٌ عِنْدَ أَهْلِهِ، وَقَدْ أُمِرْتُمْ بِطَلَبِهِ مِنْ أَهْلِهِ فَاطْلُبُوهُ»(3).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «أَلاَأُخْبِرُكُمْ بِالْفَقِيهِ حَقِّ الْفَقِيهِ، مَنْ لَمْ يُقَنِّطِ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، وَلَمْ يُؤْمِنْهُمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ، وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُمْ فِي مَعَاصِي اللهِ، وَلَمْ يَتْرُكِ الْقُرْآنَ رَغْبَةً عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ. أَلاَ لاَ خَيْرَ فِي عِلْمٍ لَيْسَ فِيهِ تَفَهُّمٌ، أَلاَ لاَ خَيْرَ فِي قِرَاءَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَدَبُّرٌ، أَلاَ لاَ خَيْرَ فِي عِبَادَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَفَكُّرٌ»، وفي رواية أخرى: «أَلاَ لاَ خَيْرَ فِي عِلْمٍ لَيْسَ فِيهِ تَفَهُّمٌ، أَلاَ لاَ خَيْرَ فِي قِرَاءَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَدَبُّرٌ، أَلاَ لاَ خَيْرَ فِي عِبَادَةٍ لاَ فِقْهَ فِيهَا، أَلاَ لاَ خَيْرَ فِي نُسُكٍ لاَ وَرَعَ فِيهِ»(4).

ص: 207


1- سورة البقرة: 214.
2- الكافي: ج1 ص30 كتاب فضل العلم باب فرض العلم ووجوب طلبه والحث عليه، ح1.
3- الكافي: ج1 ص30 كتاب فضل العلم باب فرض العلم ووجوب طلبه والحث عليه، ح4.
4- الكافي: ج1 ص36، كتاب فضل العلم، باب صفة العلماء، ح3.

..............................

وعن حسين الصيقل، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «لاَ يَقْبَلُ اللهُ عَمَلاً إِلاَّ بِمَعْرِفَةٍ، وَلاَ مَعْرِفَةَ إِلاَّ بِعَمَلٍ، فَمَنْ عَرَفَ دَلَّتْهُ الْمَعْرِفَةُ عَلَى الْعَمَلِ، وَمَنْ لَمْ يَعْمَلْ فَلاَ مَعْرِفَةَ لَهُ، أَلاَ إِنَّ الإِيمَانَ بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «إِنَّ الْقَائِمَإِذَا قَامَ بِمَكَّةَ، وَأَرَادَ أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَى الْكُوفَةِ، نَادَى مُنَادِيهِ: أَلاَ لاَ يَحْمِلْ أَحَدٌ مِنْكُمْ طَعَاماً وَلاَ شَرَاباً، وَيَحْمِلُ حَجَرَ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ أ وَهُوَ وِقْرُ بَعِيرٍ - فَلاَ يَنْزِلُ مَنْزِلاً إِلاَّ انْبَعَثَ عَيْنٌ مِنْهُ، فَمَنْ كَانَ جَائِعاً شَبِعَ، وَمَنْ كَانَ ظَامِئاً رَوِيَ، فَهُوَ زَادُهُمْ حَتَّى يَنْزِلُوا النَّجَفَ مِنْ ظَهْرِ الْكُوفَةِ»(2).

بين الزحزحة والخسارة

مسألة: إن زحزحة الخلافة عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) عاقبتها هي الخسران المبين؛ وذلك لأن نجاح وفشل، وتقدم وتأخر، وسعادة وشقاء أية أُمة، مرهونة أساساً بالقائد والحاكم. فإن كان عالماً صالحاً حكيماً، ازدهرت البلاد، وآمنت العباد، وساد العدل والإنصاف، وانكمش الظلم والإجحاف. وإن كان جاهلاً، أو فاسداً، أو أحمق، أو سفيهاً - إدارياً أو مالياً أو سياسياً أو ما أشبه - أفسد العباد والبلاد.

ص: 208


1- الكافي: ج1 ص44، كتاب فضل العلم، باب من عمل بغير علم ، ح2.
2- الكافي: ج1 ص231، كتاب الحجة، باب ما عند الأئمة من آيات الأنبياء (عليهم السلام)، ح3.

..............................

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِي، إِذَا صَلَحَا صَلَحَتْ أُمَّتِي، وَإِذَا فَسَدَا فَسَدَتْ أُمَّتِي: الأُمَرَاءُ وَالْقُرَّاءُ»(1).

وفي رواية: «الْفُقَهَاءُ وَالأُمَرَاءُ»(2).

وفي رواية: «الأُمَرَاءُ وَالْعُلَمَاءُ»(3).

وقد بعث الله في مقابل الطغاة كفرعون ونمرود ومن أشبه، الأنبياء (عليهم السلام) كإبراهيم وموسى (عليهما السلام)، والقرآن الكريم مليء بالآيات التي تتحدث عن (الملأ) و(المستكبرين) وما أشبه.

قال تعالى: «قَالَ الْملَأُ الَّذينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذينَ اسْتُضْعِفُوا لِمنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ»(4).

وقال سبحانه: «قَالَ الْملَأُ الَّذينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَ لَوْ كُنَّا كَارِهِينَ»(5).

ص: 209


1- الأمالي، للصدوق: ص366، المجلس الثامن والخمسون، ح10.
2- تحف العقول: ص50، وروي عنه (صلى الله عليه وآله) في قصار هذه المعاني.
3- إرشاد القلوب، للديلمي: ج1 ص70، الباب السادس عشر في أشراط الساعة و أهوالها.
4- سورة الأعراف: 75.
5- سورة الأعراف: 88.

..............................

وقال تعالى: «قَالَ الْملَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذالَسَاحِرٌ عَليمٌ»(1).

وقال سبحانه: «وَقَالَ الْملَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَ تَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ»(2).

وقال تعالى: «وَقَالَ الْملَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحياةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَا تَشْرَبُونَ»(3).

وقال سبحانه: «وَانْطَلَقَ الْملَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ»(4).

وقال تعالى: «إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا»(5).

وقال سبحانه: «وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا»(6).

إلى غيرها من الآيات والروايات.

ص: 210


1- سورة الأعراف: 109.
2- سورة الأعراف: 127.
3- سورة المؤمنون: 33.
4- سورة ص: 6.
5- سورة القصص: 4.
6- سورة الأعراف: 65، سورة هود: 50.

..............................

والتاريخ شاهد على ذلك، كما أن الوجدان والفطرة دليل عليه، فإن هتلر وصدام وستالين وأشباههم دمروا بلادهم وحطموا كل شيء، وكذلك عمل الذينانقلبوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ونحّوا خليفته المنصوص من قبله الإمام علي (عليه السلام)، ولذلك قالت (صلوات الله عليها): «وَيْحَهُمْ أَنَّى زَعْزَعُوهَا عن رَوَاسِي الرِّسَالَةِ، وَقَوَاعِدِ النُّبُوَّةِ وَالدَّلاَلَةِ... «أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخسْرَانُ الْمبِينُ»(1)». و(المبين): بمعنى الواضح البين.

تنبيه:

ربما يسأل البعض عن استخدامها (عليها السلام) كلمة (المبين) لذلك، أي لغصب الخلافة، فهل هو مبين وبين وواضح، وعند من يكون بيناً؟.

والجواب: إن غصب الخلافة خسران مبين عند أهل الإنصاف، وعند أهل التحقيق، وعند أولياء الله، وعند جنود الله كالملائكة والربانيين، وعند الأنبياء والمرسلين، وقبل ذلك كله عند إله العالمين، فهو إذن خسران مبين ثبوتاً دون غبار، وخسران مبين إثباتاً عند أهل الإنصاف والتحقيق.

نعم، يستثنى من ذلك السفهاء من الناس، قال تعالى: «سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتي كَانُوا عَلَيْهَا»(2).

ص: 211


1- سورة الزمر: 15.
2- سورة البقرة: 142.

..............................

وقال سبحانه: «وَإِذَا قِيلَ لَهمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَ نُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ»(1).

إذن: إنكار أولئك وجحدهم لحق علي (عليه السلام) في الخلافة خسران مبين ثبوتاً وإثباتاً، يقول تعالى: «بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ»(2)، وقال عزوجل: «وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ»(3).

ولو فرض وجود من طبع الله على قلبه بحيث كان سفيهاً حقاً وجاهلاً واقعاً، قصوراً أو تقصيراً، فإن ذلك لا يخلّ بكون خسرانه خسراناً مبيناً، إذ المبين كما سبق بمعنى الواضح، ولا يخلّ جهل البعض بالوضوح الثبوتي، بل حتى بالوضوح الإثباتي، إذ المعيار هو الصدق من الله والرسل والملائكة والمنصفين والمحققين، ولذلك صح القول بالبديهيات رغم إنكار السوفسطائيين، بل لو فرض تحولهم إلى أكثرية، فإن ذلك لا يخل ببداهة البديهي، ولكي يتضح نمثل بالشمس، فإنها بينة وإن لم يعلم بها أو أنكرها الأعمى، أو من يعيش فيالغار أو من أشبه، والمثال الآخر القرآن الكريم فإنه (كتاب مبين) بنص العزيز العليم، وإن أنكره من أنكره جهلاً قصورياً أو تقصيرياً.

ص: 212


1- سورة البقرة: 13.
2- سورة القيامة: 14 - 15.
3- سورة النمل: 14.

..............................

عدة مسائل

مسألة: يجب الاعتقاد بأن إبعاد أمير المؤمنين علي (عليه السلام) عن الخلافة وزحزحته عنها هو الخسران المبين.

مسألة: يستحب بيان أن ما فعله القوم كان من أجلى مصاديق الخسران المبين بل من أجلى أجلاها.

مسألة: يحرم فعل ما يسبب الخسران بله الخسران المبين في الدنيا أو الآخرة، سواء كان ما يسبب بنحو المقتضي أم الشرط أم المعد، وسواء كان سبباً قريباً أم بعيداً، وذلك بحكم العقل أو هو والشرع معاً حسب الخلاف في أمر المقدمة.

وهل يعد منه ما كان سبباً بعيداً جداً بحيث لا يعد عرفاً واقعاً في طريقه، وجهان: من أن الأحكام صبت مصباً عرفياً، ومن أن المقدمية حكم عقلي وهو أمردقي، فتأمل.

قال تعالى: «فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْليهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخسْرَانُ الْمبِينُ»(1).

وقال سبحانه: «مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُو

ص: 213


1- سورة الزمر: 15.

..............................

الْخسْرَانُ الْمبِينُ»(1).

وفي الرواية الشريفة عن الإمام الصادق (عليه السلام) - عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ» - قَالَ: «إِنَّ الآيَةَ تَنْزِلُ فِي الرَّجُلِ ثُمَّ تَكُونُ فِي أَتْبَاعِهِ». قَالَ: قُلْتُ: كُلُّ مَنْ نَصَبَ دُونَكُمْ شَيْئاً فَهُوَ مِمَّنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ؟. فَقَالَ: «نَعَمْ، وَقَدْ يَكُونُ مَحْضاً»(2).

تنبيه آخر

قول الصديقة (عليها السلام): «أَلَا ذَلِكَ هُوَالْخسْرَانُ الْمبِينُ» (3)، إشارة للخسران حقاً، فإن الخسران ذو مراتب، وخسران من غصب حق علي (عليه السلام)، أو أعان، أو رضي به، هو الخسران حقاً بما للكلمة من معنى، فطبيعة الخسران بأعلى درجاتها هي المقصودة هنا، حتى كان هذا هو الخسران ولا غير لشدته وضعف غيره بالقياس إليه، ولذلك ورد «وَلَمْ يُنَادَ بِشَيْءٍ كَمَا نُودِيَ بِالْوَلاَيَةِ»(4).

وقال الشاعر(5) مستلهماً من الروايات الصحيحة:

ص: 214


1- سورة الحج: 11.
2- الكافي: ج2 ص397- 398، كتاب الإيمان والكفر، باب الشرك، ح4.
3- سورة الزمر: 15.
4- الكافي: ج2 ص18، كتاب الإيمان والكفر، باب دعائم الإسلام، ح1.
5- الفيلسوف نصير الدين محمد بن محمد الطوسي، وهناك من ينسب هذه الأبيات إلى الناصر العباسي كما في "النصائح الكافية لمن يتولى معاوية"، والله العالم بحقيقة الحال.

..............................

لَوْ أَنَ عَبْداً أَتَى بِالصَّالِحاتِ غَداً *** وَوُدِ كُلِّ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ وَوَلِي

وَقَامَ مَا قَامَ قَوَّاماً بِلا كَسَلٍ *** وَصَام مَا صَام صَوَّاماً بِلَا مَلَلِ

وَحَجَّ مَا حَجَّ مِنْ فَرْضٍ وَمِنْ سُنَنِ *** وَطَافَ بَالْبَيْتِ حَافٍ غَيْرَ مُنْتَعَلِ

وَطَارَ فِي الْجوِ لا يَأْوِي إِلَى أَحَدٍ *** وَغَاصَ فِي الْبَحْرِ مَأْمُوناً مِنَ الْبِلَلِ

وَعَاشَ فِي النَّاسِ آلَافاً مُؤَلَفَةً *** خِلْواً مِنَ الذَّنْبِ مَعْصَوماً مِنَ الزَّلَلِ

يَكْسُو الَيْتَامَى مِنْ الدِّيبَاجِ كُلِّهُمُ *** وَيُطْعِمُ الْبَائِسِينَ الْبُّرَ بِالْعَسَلِ

مَا ذَلِكَ فِي الْحشْرِ عِنْدَ اللهِ مُنْتَفِعاً *** إِلاّ بِحُبِّ أَمِيرِ الْمؤمِنِينَ عَلِي(1)

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «أُمِرَ النَّاسُ بِمَعْرِفَتِنَا، وَالرَّدِّ إِلَيْنَا، وَالتَّسْلِيمِ لَنَا - ثم قال - وَإِنْ صَامُوا، وَصَلَّوْا، وَشَهِدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَجَعَلُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أَنْ لاَ يَرُدُّوا إِلَيْنَا، كَانُوا بِذَلِكَ مُشْرِكِينَ»(2).

أي حيث أطاعوا الشيطان، والطاعة هي للرحمان فقط.

وقال أبو عبد الله (عليه السلام):

«لَوْ أَنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللهَ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ، وَآتَوُا الزَّكَاةَ، وَحَجُّوا الْبَيْتَ، وَصَامُوا شَهْرَ رَمَضَانَ، ثُمَّ قَالُوا لِشَيْءٍ صَنَعَهُ اللهُ، أَوْ صَنَعَهُ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله)، أَلاَّ صَنَعَ خِلاَفَ الَّذِي صَنَعَ، أَوْ وَجَدُوا ذَلِكَ فِي قُلُوبِهِمْ، لَكَانُوا بِذَلِكَ مُشْرِكِينَ - ثم تلا هذه الآية -:

ص: 215


1- الأربعون حديثاً في إثبات إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) - الشيخ سليمان الماحوزي البحراني: ص98، ما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله) في محبة أهل بيته.
2- الكافي: ج2 ص398، كتاب الإيمان والكفر، باب الشرك، ح5.

..............................

«فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا»(1).

ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): «فَعَلَيْكُمْ بِالتَّسْلِيمِ»(2).

ص: 216


1- سورة النساء: 65.
2- الكافي: ج2 ص398، كتاب الإيمان والكفر، باب الشرك، ح6.

وَمَا الَّذِي نَقَمُوا مِنْ أَبِي الْحَسَنِ (عليه السلام)

اشارة

-------------------------------------------

النقمة على الأولياء

وفي بعض النسخ: «وَمَا نَقَمُوا مِنْ أَبِي الْحسَنِ».

مسألة: تحرم النقمة على أولياء الله من حيث هم أولياء الله.

مسألة: تحرم النقمة على الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) من كل الجهات:

فتحرم النقمة عليه لذاته.

كما تحرم النقمة عليه لفعله.

كما تحرم النقمة عليه لقوله.

كما تحرم النقمة عليه لتقريره.

وحرمة النقمة عليه لأفعاله أو لأقواله أو لتقريراته عامة، شاملة لما إذا كره فعلاً من أفعاله بما هو هو، أو بما هو مستند إليه، إذ أفعاله (عليه السلام) كلها وأقواله وتقريراته كذلك محض الحق، والنقمة عليه بما الفعل مستند إليه أشد حرمة.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يَا عَلِيُّ، لاَ يُحِبُّكَ إِلاَّ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يُبْغِضُكَ إِلاَّ مُنَافِقٌ»(1).وقال (صلى الله عليه وآله): «عَلِيٌّ مَعَ الْحَقِّ، وَالْحَقُّ مَعَ عَلِيٍّ، يَدُورُ مَعَهُ حَيْث

ص: 217


1- الأمالي للشيخ الطوسي: ص206، المجلس الثامن، ح353-3.

..............................

مَا دَارَ»(1).

وعن أبي حمزة، عن أحدهما (عليهما السلام) - في قول الله جلَّ وعزَّ - «بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ» سورة البقرة: 81 - قال: «إِذَا جَحَدَ إِمَامَةَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) «فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» سورة البقرة: 81»(2).

وقال الشيخ الصدوق (رحمه الله): (واعتقادنا فيمن جحد إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والأئمة من بعده (عليهم السلام) أنه بمنزلة من جحد نبوة جميع الأنبياء)(3).

وعن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: لَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ: «فِي عَلِيٍّ (عليه السلام) خِصَالاً، لَوْ كَانَتْوَاحِدَةٌ مِنْهَا فِي جَمِيعِ النَّاسِ، لاَكْتَفَوْا بِهَا فَضْلاً». قَوْلُهُ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ فَعَلِيٌّ مَوْلاَهُ». وَقَوْلُهُ (صلى الله عليه وآله): «عَلِيٌّ مِنِّي كَهَارُونَ مِنْ مُوسَى». وَقَوْلُهُ (صلى الله عليه وآله): «عَلِيٌّ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ». وَقَوْلُهُ (صلى الله عليه وآله): «عَلِيٌّ مِنِّي كَنَفْسِي، طَاعَتُهُ طَاعَتِي، وَمَعْصِيَتُهُ مَعْصِيَتِي». وَقَوْلُهُ (صلى الله عليه وآله): «حَرْبُ عَلِيٍّ حَرْبُ اللهِ، وَسِلْمُ عَلِيٍّ سِلْمُ اللهِ». وَقَوْلُهُ (صلى الله عليه وآله): «وَلِيُّ عَلِيٍّ وَلِيُّ اللهِ، وَعَدُوُّ عَلِيٍّ عَدُوُّ اللهِ». وَقَوْلُهُ (صلى الله عليه وآله): «عَلِيٌّ حُجَّةُ اللهِ، وَخَلِيفَتُهُ عَلَى عِبَادِهِ».

ص: 218


1- إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات: ج3 ص387، الفصل الثاني عشر، ح164.
2- الكافي: ج1 ص429، كتاب الحجة، باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية، ح82.
3- اعتقادات الإماميه للصدوق: ص104، باب38 الاعتقاد في الظالمين.

..............................

وَقَوْلُهُ (صلى الله عليه وآله): «حُبُّ عَلِيٍّ إِيمَانٌ، وَبُغْضُهُ كُفْرٌ». وَقَوْلُهُ (صلى الله عليه وآله): «حِزْبُ عَلِيٍّ حِزْبُ اللهِ، وَحِزْبُ أَعْدَائِهِ حِزْبُ الشَّيْطَانِ». وَقَوْلُهُ (صلى الله عليه وآله): «عَلِيٌّ مَعَ الْحَقِّ وَالْحَقُّ مَعَهُ، لاَ يَفْتَرِقَانِ حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ». وَقَوْلُهُ (صلى الله عليه وآله): «عَلِيٌّ قَسِيمُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ». وَقَوْلُهُ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ فَارَقَ عَلِيّاً فَقَدْ فَارَقَنِي، وَمَنْ فَارَقَنِي فَقَدْ فَارَقَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ». وَقَوْلُهُ (صلى الله عليه وآله): «شِيعَةُ عَلِيٍّ هُمُ الْفَائِزُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(1).ثم إن حرمة النقمة تعم النقمة عليه من أية جهة تتعلق به (عليه السلام)، كذريته الأطهار مثلاً.

ونقم من فلان - بفتح القاف وكسرها - يراد به: كرهه غاية الكره وعابه وعاقبه، وكذا نقم على فلان، وغير خفي أن نقم ليس مرادفاً لكره أو عاب، بل ذكر هذين المعنيين تقريباً للذهن إلى معناه، إذ هو أقوى في الدلالة من كره أو عاب.

أي ما الذي كرهوه من أبي الحسن (عليه السلام)؟!.

أو ما الذي عابوه منه؟!. وظاهر السياق هو الأول، ويمكن إرادة كل المعنيين، وليس من الضروري أن يكون بمعنى استعمال اللفظ في أكثر من معنى بلحاظ واحد، بل بمعنى الاستعمال في الجامع أو بلحاظين أو أكثر، وإن كان قد بين في الأصول أنه لا مانع منه.

ص: 219


1- الخصال: ج2 ص496، أبواب الثلاثة عشر، ثلاث عشرة خصلة من فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام)، ح5.

..............................

النقمة القلبية

مسألة: إن حرمة النقمة على أولياء الله - وخاصة المعصومين (عليهم السلام) - لاتخص ما إذا ظهر ذلك على الجوارح، بل الحرمة عامة للأمر القلبي المحض حتى وإن لم يظهر، فإنه من الواضح الحرمة مطلقاً بالنسبة إلى المعصومين (عليهم السلام)، وعلى رأسهم بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) مولانا أبو الحسن المرتضى (عليه السلام)، فإن حبه إيمان وبغضه نفاق(1)، و«حُبُّ عَلِيٍّ عِبَادَةٌ، وَخَيْرُ الْعِبَادَةِ مَا كُتِمَتْ»(2).

وأما إشكال اللا اختيارية فمدفوع باختيارية المقدمات، كما سبق في موضع آخر. والظاهر حرمة النقمة وإن لم يعقد قلبه عليها، إذ الإيمان والكفر والحب والبغض أمر، وعقد القلب عليه أمر إضافي، قال تعالى: «وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ»(3).

وعلى هذا فإذا وجد شخص من نفسه نقمة على أبي الحسن (عليه

السلام) والعياذ بالله، أو على أحد المعصومين (عليهم السلام)، ولو على فعل من أفعالهم، أو قول من أقوالهم، وجب عليه أن يطهر نفسه فوراً، وأن يتوب إلى ربه، وأن يملأ قلبه إيماناً ورضاً وحباً وتسليماًبكل ما قالوه أو عملوه (صلوات الله عليهم أجمعين).

ص: 220


1- الأمالي للشيخ الطوسي: ص206، المجلس الثامن، ح3.
2- بشارة المصطفى لشيعة المرتضى: ج2 ص86، ظاهر الفضل بن دكين التشيع وله بيتان فى ذلك.
3- سورة النمل: 14.

..............................

وذلك كما في أفعال الله تعالى حيث الرضا بها واجب، والنقمة عليها حرام.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أَيُّهَا النَّاسُ، عَظِّمُوا أَهْلَ بَيْتِي فِي حَيَاتِي وَمِنْ بَعْدِي، وَأَكْرِمُوهُمْ وَفَضِّلُوهُمْ؛ فَإِنَّهُ لاَ يَحِلُّ لأَحَدٍ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ لأَحَدٍ، إِلاَّ لأَهْلِ بَيْتِي. إِنِّي لَوْ أَخَذْتُ بِحَلْقَةِ بَابِ الْجَنَّةِ، ثُمَّ تَجَلَّى لِي رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَسَجَدْتُ وَأُذِنَ لِي بِالشَّفَاعَةِ، لَمْ أُوثِرْ عَلَى أَهْلِ بَيْتِي أَحَداً.

أَيُّهَا النَّاسُ، انْسُبُونِي مَنْ أَنَا.

فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ: نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ غَضَبِ اللهِ، وَمِنْ غَضَبِ رَسُولِهِ. أَخْبِرْنَا يَا رَسُولَ اللهِ مَنِ الَّذِي آذَاكَ فِي أَهْلِ بَيْتِكَ؛ حَتَّى نَضْرِبَ عُنُقَهُ، وَلْيُبَرْ عِتْرَتُهُ»(1).

وعن أبي جعفر (عليه السلام): «أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مَاتَ ابْنٌ لَهَا فَأَقْبَلَتْ. فَقَالَ لَهَا الثَّانِي: غَطِّي قُرْطَكِ؛ فَإِنَّ قَرَابَتَكِ مِنْ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) لاَ تَنْفَعُكِ شَيْئاً. فَقَالَتْ لَهُ: هَلْ رَأَيْتَ لِي قُرْطاً يَا ابْنَ اللَّخْنَاءِ. ثُمَّ دَخَلَتْ عَلَىرَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) فَأَخْبَرَتْهُ بِذَلِكَ وَبَكَتْ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) فَنَادَى الصَّلاَةَ جَامِعَةً. فَاجْتَمَعَ النَّاسُ فَقَالَ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَزْعُمُونَ أَنَّ قَرَابَتِي لاَ تَنْفَعُ، لَوْ قَدْ قَرُبْتُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ لَشَفَعْتُ فِي أَحْوَجِكُمْ، لاَ يَسْأَلُنِي الْيَوْمَ أَحَدٌ مِنْ أَبَوَاهُ إِلاَّ أَخْبَرْتُهُ. فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ، فَقَالَ: مَنْ أَبِي؟. فَقَالَ: أَبُوكَ غَيْرُ الَّذِي تُدْعَى لَهُ، أَبُوكَ فُلاَنُ بْنُ فُلاَنٍ. فَقَامَ آخَرُ،فَقَالَ:مَنْ أَبِي يَا رَسُولَ اللهِ؟

ص: 221


1- كتاب سليم بن قيس الهلالي: ج2 ص687 - 688، الحديث الرابع عشر.

..............................

فَقَالَ: أَبُوكَ الَّذِي تُدْعَى لَهُ. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): مَا بَالُ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّ قَرَابَتِي لاَ تَنْفَعُ لاَ يَسْأَلُنِي عَنْ أَبِيهِ!. فَقَامَ إِلَيْهِ الثَّانِي، فَقَالَ لَهُ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنْ غَضَبِ اللهِ وَغَضَبِ رَسُولِهِ، اعْفُ عَنِّي عَفَا اللهُ عَنْكَ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ» إلى قوله «ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ» »(1).

وعن علي بن إبراهيم - في قوله: «أَ لَم تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ» - قال: «نَزَلَتْ فِي الثَّانِي؛ لأَنَّهُ مَرَّ بِهِ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) وَهُوَ جَالِسٌ عِنْدَ رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ، وَيَكْتُبُ خَبَرَ رَسُولِ اللهِ (صلى

الله عليهوآله). فَأَنْزَلَ اللهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: «أَ لَم تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ»، فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله). فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): رَأَيْتُكَ تَكْتُبُ عَنِ الْيَهُودِ، وَقَدْ نَهَى اللهُ عَنْ ذَلِكَ!. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَتَبْتُ عَنْهُ مَا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ صِفَتِكَ. وَأَقْبَلَ يَقْرَأُ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) وَهُوَ غَضْبَانُ. فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: وَيْلَكَ! أَ مَا تَرَى غَضَبَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) عَلَيْكَ. فَقَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ غَضَبِ اللهِ وَغَضَبِ رَسُولِهِ؛ إِنِّي إِنَّمَا كَتَبْتُ ذَلِكَ لِمَا وَجَدْتُ فِيهِ مِنْ خَبَرِكَ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): يَا فُلانُ، لَوْ أَنَّ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ فِيهِمْ قَائِماً، ثُمَّ أَتَيْتَهُ رَغْبَةً عَمَّا جِئْتَ بِهِ، لَكُنْتَ كَافِراً بِمَا جِئْتَ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: «اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً» أَيْ: حِجَاباً بَيْنَهُمْ وَبَيْن

ص: 222


1- تفسير القمي: ج1 ص188، سورة المائدة: الآيات 96 إلى 105.

..............................

الْكُفَّارِ، وَإِيمَانُهُمْ إِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ، وخَوْفاً مِنَ السَّيْفِ، وَرَفْعَ الْجِزْيَةِ»(1).

ويذكر المؤرخون: إِنَّ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) يَوْمَ وَادَعَ قُرَيْشاً فِي يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَكَتَبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ كِتَاباً، عَلَى أَنَّ مَنْ خَرَجَ إِلَيْهِمْ مِنْ قِبَلِهِ لَمْيَرُدُّوهُ، وَمَنْ خَرَجَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ رَدُّوهُ إِلَيْهِمْ. فَغَضِبَ الثَّانِي وَقَالَ لِصَاحِبِهِ: يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ وَهُوَ يَرُدُّ النَّاسَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ.

ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله)، فَقَالَ: أَ لَسْتَ بِرَسُولِ اللهِ حَقّاً؟. قَالَ (صلى الله عليه وآله): «بَلَى». قَالَ: وَنَحْنُ الْمُسْلِمُونَ حَقّاً؟. قَالَ (صلى الله عليه وآله): «بَلَى». قَالَ: وَهُمُ الْكَافِرُونَ؟. قَالَ (صلى الله عليه وآله): «بَلَى». قَالَ: فَعَلاَمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): «إِنَّمَا أَعْمَلُ بِمَا يَأْمُرُنِي بِهِ اللهُ رَبِّي، إِنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنْهَا إِلَيْهِمْ رَاغِباً فَلاَ خَيْرَ لَنَا فِي مَقَامِهِ بَيْنَ أَظْهُرِنَا، وَمَنْ رَغِبَ فِينَا مِنْهُمْ فَسَيَجْعَلُ اللهُ لَهُ مَخْرَجاً وَمَخْرَجاً».

فَقَالَ الثَّانِي: وَاللهِ مَا شَكَكْتُ فِي الإِسْلاَمِ إِلاَّ حِينَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ ذَلِكَ!!.

وَقَامَ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) مُتَسَخِّطاً لأَمْرِ اللهِ وَأَمْرِ رَسُولِهِ، غَيْرَ رَاضٍ بِذَلِكَ، ثُمَّ أَقْبَلَ يَمْشِي فِي النَّاسِ، وَيُؤَلِّبُ عَلَى رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، وَيَعْرِضُ بِهِ وَيَقُولُ: وَعَدَنَا بِرُؤْيَاهُ الَّتِي زَعَمَ أَنَّهُ رَآهَا يَدْخُلُ مَكَّةَ، وَقَدْ صُدِدْنَا عَنْهَا وَمُنِعْنَا مِنْهَا، ثُمَّ نَنْصَرِفُ الآنَ وَقَدْ أَعْطَيْنَاهُ الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا!. وَاللهِ لَوْ أَنَّ مَعِي أَعْوَاناً مَا أَعْطَيْتُ الدَّنِيَّةَ أَبَداً.فَقَدْ كَانَ أُعْطِيَ الأَعْوَانَ،وَقِيلَ لَهُ يَوْمَ أُحُدٍ:

ص: 223


1- تفسير القمي: ج1 ص357 - 358، سورة المجادلة: الآيات 14 إلى 16.

..............................

قَاتِلْ، وَيَوْمَ خَيْبَرَ، فَفَرَّ بِأَعْوَانِهِ، وَبَلَغَ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: «إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي قَوْلُكَ، فَأَيْنَ كُنْتُمْ يَوْمَ أُحُدٍ؟! وَأَنْتُمْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ، وَأَنَا أَدْعُوكُمْ فِي آخِرِكُمْ؟!».

فَقَالَ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنْ غَضَبِ اللهِ وَغَضَبِ رَسُولِهِ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ مِمَّا كَانَ مِنِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ كَانَ الشَّيْطَانُ رَكِبَ عُنُقِي فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ»(1).

النقمة والعلم بالسبب وعدمه

مسألة: لا فرق في حرمة النقمة على أبي الحسن (عليه السلام) وسائر المعصومين (عليهم السلام)، بين أن يعلم الكاره الناقم وجه تصرفهم - كمساواته (عليه السلام) في العطاء عندما تولى الخلافة الظاهرية مما أسخط وجوه القوم كطلحة والزبير، وكأمره بإجراء الحد على فلان وفلان، وبين أن لا يعلم، وبين أن يقتنع بعدم صحته لجهله المركب.

قال تعالى: «وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىَ أُوْلِي الْأمْرِمِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ»(2).

وقال سبحانه: «فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيَ أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا»(3).

ص: 224


1- المسترشد في إمامة علي بن أبي طالب (عليه السلام): ص536 - 538، ب9، تحريم عمر المتعتان وحي على خير العمل، ح213.
2- سورة النساء: 83.
3- سورة النساء: 65.

..............................

وقال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا»(1).

كما ينبغي أن يقال لمن اقتنع جهلاً بعدم صحة تصرف من تصرفاتهم (عليهم

السلام)، كما قال سبحانه: «وَمَا نَقَمُوَاْ إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ»(2). فكل ما يتوهمه المرء مما يوجب النقمة - في عقله القاصر - على الله ورسوله والمعصومين (عليهم

السلام)، فهو في الحقيقة خير له أو لغيره، وفيه الصلاح لو كانوا يعقلون. وقد ذكرنا في (التبيين): «وَمَا نَقَمُوَاْ» أي ما أنكروا من الرسول (صلى الله عليه وآله) «إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ» بالغنائم بعد أن كانوا فقراء، أي لميصبهم من الرسول (صلى الله عليه وآله) إلا الخير، لا ما يوجب النقمة «فَإِنْ يَتُوبُوا» عن نفاقهم «يَكُ» رجوعهم وتوبتهم «خَيْرًا لَهمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا» يعرضوا عن التوبة «يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذَابًا أَلِيمًا» مؤلماً «فِي الدُّنْيا» بالقتل والإهانة «وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ» يلي أمورهم «وَلَا نَصيرٍ» ينصرهم من عذاب الله(3).

ص: 225


1- سورة النساء: 59.
2- سورة التوبة: 74.
3- تبيين القرآن: ص211، سورة التوبة: آية 74.

..............................

خطاب الزوجة زوجها

مسألة: يستحب للزوجة أن تذكر زوجها بالكنية في أمثال المقام، كما ذكرت (عليها السلام) زوجها بالكنية في أمثال المقام، وفيه نوع احترام كما لا يخفى، وقد مر نظيره في حديث الكساء وغيره، وهكذا يستحب تكني الأولاد وسائر الأرحام، بل عموم المؤمنين.

عن أبي جعفر (عليه السلام) - في حديث - قال: «إِنَّا لَنُكَنِّي أَوْلاَدَنَا فِي صِغَرِهِمْ؛ مَخَافَةَ النَّبَزِ أَنْ يَلْحَقَ بِهِمْ»(1).

وعن زرارة، قال: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ(عليه السلام) يَقُولُ: إِنَّ رَجُلاً كَانَ يَغْشَى عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ (عليه السلام)، وَكَانَ يُكَنَّى: أَبَا مُرَّةَ. فَكَانَ إِذَا اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ يَقُولُ: أَبُو مُرَّةَ بِالْبَابِ. فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (عليه السلام): بِاللهِ إِذَا جِئْتَ إِلَى بَابِنَا فَلاَ تَقُولَنَّ أَبُو مُرَّةَ»(2).

وفي الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا (عليه السلام)، قال: «فَإِذَا وُلِدَ لَكَ مَوْلُودٌ، فَأَذِّنْ فِي أُذُنِهِ الأَيْمَنِ، وَأَقِمْ فِي أُذُنِهِ الأَيْسَرِ، وَحَنِّكْهُ بِمَاءِ الْفُرَاتِ إِنْ قَدَرْتَ عَلَيْهِ، أَوْ بِالْعَسَلِ سَاعَةَ يُولَدُ، وَسَمِّهِ بِأَحْسَنِ الاسْمِ، وَكَنِّهِ بَأَحْسَنِ الْكُنَى، وَلاَ يُكَنَّى بِأَبِي عِيسَى، وَلاَ بِأَبِي الْحَكَمِ، وَلاَ بِأَبِي الْحَارِثِ، وَلاَ بِأَبِي الْقَاسِمِ إِذَا كَانَ الاسْمُ مُحَمَّداً،...»(3).

ص: 226


1- الكافي: ج6 ص20، كتاب العقيقة، باب الأسماء والكنى، ح11.
2- الكافي: ج6 ص21، كتاب العقيقة، باب الأسماء والكنى، ح17.
3- الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا (عليه السلام): ص239، باب العقيقة.

..............................

وعن محمد بن الحنفية، عن أبيه (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِنْ وُلِدَ لَكَ غُلاَمٌ، فَسَمِّهِ بِاسْمِي، وَكَنِّهِ بِكُنْيَتِي، وَهُوَ لَكَ رُخْصَةٌ دُونَ النَّاسِ»(1).وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «السُّنَّةُ وَالْبِرُّ أَنْ يُكَنَّى الرَّجُلُ بِاسْمِ أَبِيهِ»(2).

وعن جابر، قال: أَرَادَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام) الرُّكُوبَ إِلَى بَعْضِ شِيعَتِهِ لِيَعُودَهُ. فَقَالَ: «يَا جَابِرُ، الْحَقْنِي». فَتَبِعْتُهُ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى بَابِ الدَّارِ، خَرَجَ عَلَيْنَا ابْنٌ لَهُ صَغِيرٌ. فَقَالَ لَهُ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «مَا اسْمُكَ؟». قَالَ: مُحَمَّدٌ. قَالَ: «فَبِمَا تُكَنَّى؟». قَالَ: بِعَلِيٍّ. فَقَالَ لَهُ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «لَقَدِ احْتَظَرْتَ مِنَ الشَّيْطَانِ احْتِظَاراً شَدِيداً؛ إِنَّ الشَّيْطَانَ إِذَا سَمِعَ مُنَادِياً يُنَادِي: يَا مُحَمَّدُ، يَا عَلِيُّ، ذَابَ كَمَا يَذُوبُ الرَّصَاصُ، حَتَّى إِذَا سَمِعَ مُنَادِياً يُنَادِي بِاسْمِ عَدُوٍّ مِنْ أَعْدَائِنَا، اهْتَزَّ وَاخْتَالَ»(3).

بيان الحق حتى عند الموت

مسألة: يجوز - بالمعنى الأعم الشامل للوجوب والاستحباب - بيان الحق

ص: 227


1- بحار الأنوار: ج101 ص131، تتمة كتاب العقود والإيقاعات، الباب من أبواب أبواب الأولاد وأحكامهم، ح23.
2- بحار الأنوار: ج101 ص131، تتمة كتاب العقود والإيقاعات، الباب من أبواب أبواب الأولاد وأحكامهم، ح30.
3- الكافي: ج6 ص20، كتاب العقيقة، باب الأسماء والكنى، ح12.

..............................

حتى وإن كان على فراش الموت.

ومن هنا نرى الصالحين يوصون أولادهم وذراريهم ومن يتعلق بهم - بل وكل الناس - بالخير، والعمل الصالح، وهم على فراش الموت.

عن عبد الله بن العباس، قال: لَمَّا ثَقُلَ رَسُولُ اللهِ (صلى

الله عليه وآله)، جَمَعَ كُلَّ مُحْتَلِمٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَامْرَأَةٍ وَصَبِيٍّ قَدْ عَقَلَ، فَجَمَعَهُمْ جَمِيعاً، فَلَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمْ غَيْرُهُمْ إِلاَّ الزُّبَيْرُ؛ فَإِنَّمَا أَدْخَلَهُ لِمَكَانِ صَفِيَّةَ، وَعُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ هَؤُلاَءِ الثَّلاَثَةَ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ»، وَقَالَ: «أُسَامَةُ مَوْلاَنَا وَمِنَّا»، إلى أن قال: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى

الله عليه وآله) لِعَلِيٍّ (عليه السلام): «يَا أَخِي، أَقْعِدْنِي». فَأَقْعَدَهُ عَلِيٌّ (عليه السلام)، وَأَسْنَدَهُ إِلَى نَحْرِهِ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، اتَّقُوا اللهَ وَاعْبُدُوهُ، «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا»(1)، وَلاَ تَخْتَلِفُوا، إِنَّ الإِسْلاَمَ بُنِيَ عَلَى خَمْسَةٍ، عَلَى: الْوَلاَيَةِ، وَالصَّلاَةِ، وَالزَّكَاةِ، وَصَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَالْحَجِّ. فَأَمَّا الْوَلاَيَةُ: فَلِلَّهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلِلْمُؤْمِنِينَ، «الَّذِينَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّحِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ»(2)»(3).

ومن وصية لأمير المؤمنين (عليه السلام) أوصى بها الحسن والحسين (عليهما السلام) لما ضربه ابن ملجم (لعنه الله)، قال: «أُوصِيكُمَا بِتَقْوَى اللهِ، وَأَلاَّ تَبْغِيَا الدُّنْيَا

ص: 228


1- سورة آل عمران: 103.
2- سورة المائدة: 55 - 56.
3- كتاب سليم بن قيس الهلالي: ج2 ص905 - 906، الحديث الحادي و الستون.

..............................

وَإِنْ بَغَتْكُمَا، وَلاَ تَأْسَفَا عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا زُوِيَ عَنْكُمَا، وَقُولاَ بِالْحَقِّ، وَاعْمَلاَ لِلأَجْرِ، وَكُونَا لِلظَّالِمِ خَصْماً، وَلِلْمَظْلُومِ عَوْناً.

أُوصِيكُمَا - وَجَمِيعَ وَلَدِي وَأَهْلِي وَمَنْ بَلَغَهُ كِتَابِي - بِتَقْوَى اللهِ، وَنَظْمِ أَمْرِكُمْ، وَصَلاَحِ ذَاتِ بَيْنِكُمْ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ جَدَّكُمَا (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ: صَلاَحُ ذَاتِ الْبَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ الصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ.

اللهَ اللهَ فِي الأَيْتَامِ، فَلاَ تُغِبُّوا أَفْوَاهَهُمْ، وَلاَ يَضِيعُوا بِحَضْرَتِكُمْ. وَاللهَ اللهَ فِي جِيرَانِكُمْ؛ فَإِنَّهُمْ وَصِيَّةُ نَبِيِّكُمْ، مَا زَالَ يُوصِي بِهِمْ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُمْ. وَاللهَ اللهَ فِي الْقُرْآنِ، لاَ يَسْبِقُكُمْ بِالْعَمَلِ بِهِ غَيْرُكُمْ. وَاللهَ اللهَ فِي الصَّلاَةِ؛ فَإِنَّهَا عَمُودُ دِينِكُمْ. وَاللهَ اللهَ فِي بَيْتِ رَبِّكُمْ، لا تُخَلُّوهُ مَا بَقِيتُمْ؛ فَإِنَّهُ إِنْ تُرِكَ لَمْ تُنَاظَرُوا. وَاللهَ اللهَ فِيالْجِهَادِ بِأَمْوَالِكُمْ، وَأَنْفُسِكُمْ، وَأَلْسِنَتِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ.

وَعَلَيْكُمْ بِالتَّوَاصُلِ وَالتَّبَاذُلِ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّدَابُرَ وَالتَّقَاطُعَ. لاَ تَتْرُكُوا الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ؛ فَيُوَلَّى عَلَيْكُمْ شِرَارُكُمْ، ثُمَّ تَدْعُونَ فَلاَ يُسْتَجَابُ لَكُمْ. ثُمَّ قَالَ: يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لاَ أُلْفِيَنَّكُمْ تَخُوضُونَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ خَوْضاً، تَقُولُونَ: قُتِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، قُتِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، أَلاَ لاَ تَقْتُلُنَّ بِي إِلاَّ قَاتِلِي. انْظُرُوا إِذَا أَنَا مِتُّ مِنْ ضَرْبَتِهِ هَذِهِ، فَاضْرِبُوهُ ضَرْبَةً بِضَرْبَةٍ، وَلاَ تُمَثِّلُوا بِالرَّجُلِ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ: إِيَّاكُمْ وَالْمُثْلَةَ، وَلَوْ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ»(1).

ص: 229


1- نهج البلاغة، باب رسائل أمير المؤمنين (عليه السلام): 47-ومن وصية له (عليه السلام) للحسن والحسين (عليهما السلام) لما ضربه ابن ملجم (لعنه الله).

..............................

ومن كلام له (عليه السلام) قاله قبل موته على سبيل الوصية، لما ضربه ابن ملجم (لعنه الله): «وَصِيَّتِي لَكُمْ: أَلاَّ تُشْرِكُوا بِاللهِ شَيْئاً، وَمُحَمَّدٌ (صلى الله عليه وآله) فَلاَ تُضَيِّعُوا سُنَّتَهُ. أَقِيمُوا هَذَيْنِ الْعَمُودَيْنِ، وَأَوْقِدُوا هَذَيْنِ الْمِصْبَاحَيْنِ، وَخَلاَكُمْ ذَمٌّ.

أَنَا بِالأَمْسِ صَاحِبُكُمْ، وَالْيَوْمَ عِبْرَةٌلَكُمْ، وَغَداً مُفَارِقُكُمْ. إِنْ أَبْقَ فَأَنَا وَلِيُّ دَمِي، وَإِنْ أَفْنَ فَالْفَنَاءُ مِيعَادِي، وَإِنْ أَعْفُ فَالْعَفْوُ لِي قُرْبَةٌ، وَهُوَ لَكُمْ حَسَنَةٌ، فَاعْفُوا «أَ لَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ»(1).

وَاللهِ، مَا فَجَأَنِي مِنَ الْمَوْتِ وَارِدٌ كَرِهْتُهُ، وَلاَ طَالِعٌ أَنْكَرْتُهُ، وَمَا كُنْتُ إِلاَّ كَقَارِبٍ وَرَدَ، وَطَالِبٍ وَجَدَ، «وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ»(2)»(3).

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «لَمَّا حَضَرَ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) الْوَفَاةُ، ضَمَّنِي إِلَى صَدْرِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا بُنَيَّ، أُوصِيكَ بِمَا أَوْصَانِي بِهِ أَبِي (عليه السلام) حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، وَبِمَا ذَكَرَ أَنَّ أَبَاهُ أَوْصَاهُ بِهِ، قَالَ: يَا بُنَيَّ، إِيَّاكَ وَظُلْمَ مَنْ لاَ يَجِدُ عَلَيْكَ نَاصِراً إِلاَّ اللهَ»(4).

ص: 230


1- سورة النور: 22.
2- سورة آل عمران: 98.
3- نهج البلاغة، باب رسائل أمير المؤمنين (عليه السلام): 23 - ومن كلام له (عليه السلام) قاله قبل موته على سبيل الوصية لما ضربه ابن ملجم (لعنه الله).
4- الكافي: ج2 ص331،كتاب الإيمان والكفر، باب الظلم، ح5.

..............................

الدفاع عن الولاية حتى عند الموت

مسألة: يجب أو يستحب الدفاع عن ولاية أمير المؤمنين علي (عليه السلام) حتى وإن كان على فراش الموت، وقد سبق ذلك.

وكان ميثم التمار (رضوان الله عليه) مصداقاً للدفاع عن أمير المؤمنين (عليه السلام) حتى آخر لحظة، حيث كان يبين للناس فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو مصلوب على النخلة، فأمر ابن زياد بقطع لسانه وطعنه فقُتل رضوان الله عليه.

وكان ميثم عبد امرأة من بني أسد، فاشتراه أمير المؤمنين (عليه السلام) منها فأعتقه، فقال له: ما اسمك؟. فقال: سالم. قال: فأخبرني رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن اسمك الذي سماك به أبواك في العجم ميثم. قال: صدق الله ورسوله وصدقت يا أمير المؤمنين. قال: فارجع إلى اسمك الذي سماك به رسول الله (صلى الله عليه وآله) ودع سالماً، فرجع إلى ميثم، واكتنى بأبي سالم.

فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام) ذات يوم: إنك تؤخذ بعدي وتصلب لجذعة، فإذا كان يوم الثالث ابتدر منخراك وفمك دماً فتخضب لحيتك، فانتظر ذلك الخضاب، وتصلب على باب دار عمرو بن حريث، أنت عاشر عشرة، أنت أقصرهم خشبة وأقربهم من المطهرة، وأراه النخلة التي يصلب على جذعها.وكان ميثم يأتيها فيصلي عندها ويقول: بوركت من نخلة، لك خلقت، ولي غذيت، ولم يزل يتعاهدها حتى قطعت،وكان يلقي عمرو بن حريث فيقول

ص: 231

..............................

له: إني مجاورك فأحسن جواري، وهو لا يعلم ما يريد.

وحج في السنة التي قتل فيها، فدخل على أم سلمة. فقالت: من أنت؟. فقال: أنا ميثم. فقالت: والله لربما سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوصي بك علياً (عليه السلام) في جوف الليل. فسألها عن الحسين (عليه السلام). فقالت: هو في حائط له. قال: فأخبريه أنني قد أحببت السلام عليه، ونحن ملتقون عند رب العالمين إن شاء الله تعالى، فدعت بطيب وطيبت لحيته وقالت: أما إنها تخضب بدم. فقدم ميثم الكوفة فأخذه عبيد الله بن زياد، وقال: ما أخبرك صاحبك أني فاعل بك؟. قال: أخبرني أنك تصلبني عاشر عشرة، أنا أقصرهم خشبة، وأقربهم إلى المطهرة.

قال: لنخالفنه. قال: كيف تخالفه، فو الله ما أخبرني إلا عن النبي (صلى الله عليه وآله)، عن جبرئيل (عليه السلام)، عن الله عز وجل، وكيف تخالف هؤلاء، ولقد عرفت الموضع الذي أصلب عليه أين هو منالكوفة، وأنا أول خلق الله ألجم في الإسلام.

فحبسه وحبس معه المختار بن أبي عبيدة. فقال ميثم للمختار: إنك تفلت وتخرج ثائراً بدم الحسين (عليه السلام)، فتقتل هذا الذي يقتلنا، فلما دعا عبيد الله المختار ليقتله، طلع بريد بكتاب يزيد يأمره بتخلية سبيله فخلاه، وأمر بميثم أن يصلب. فأخرج فقال له رجل لقيه: ما كان أغناك عن هذا يا ميثم. فتبسم وقال - وهو يومئ إلى النخلة -: لها خلقت ولي غذيت. فلما رفع على الخشبة، اجتمع الناس حوله على باب عمرو بن حريث. قال عمرو: قد كان والله يقول لي: إني مجاورك. فلما صلب أمر جاريته بكنس تحت خشبته ورشه وتجميره.

ص: 232

..............................

فجعل ميثم يحدث بفضائل بني هاشم، فقيل لابن زياد: فضحكم هذا العبد. قال: ألجموه. فكان أول خلق الله ألجم في الإسلام.

وكان مقتل ميثم قبل قدوم الحسين بن علي (عليه السلام) إلى العراق بعشرة أيام، فلما كان اليوم الثالث من صلبه طعن ميثم بالحربة، فكبر ثم انبعث فيآخر النهار أنفه وفمه دماً(1).

ص: 233


1- إعلام الورى: ص172-174، الركن الثاني، الباب الثالث.

نَقَمُوا مِنْهُ وَاللهِ نَكِيرَ سَيْفِهِ

اشارة

-------------------------------------------

القسم وأحكامه

النكير فعيل بمعنى منكر، وهو من إضافة الصفة إلى موصوفه، أي: (سيفه المنكر)، فسيفه (عليه السلام) هو منكر عند أعداء الحق، قال تعالى: «ذَلِكَ بِأَنّهُمْ كَرِهُواْ مَا أَنزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهمْ»(1). وقال سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّواْ عَلَىَ أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهمُ الْهدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهمْ وَأَمْلَىَ لَهمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إِذَا تَوَفّتْهُمُ الْملَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتّبَعُواْ مَا أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهمْ»(2).

وقال تعالى: «بَلْ جَآءَهُمْ بِالْحقّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ»(3).

وقال سبحانه: «وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ»(4).

وقال تعالى: «لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحقِّ وَلَ-َكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ»(5).

ص: 234


1- سورة محمد: 9.
2- سورة محمد: 25-28.
3- سورة المؤمنون: 70.
4- سورة الأنفال: 5.
5- سورة الزخرف: 78.

..............................

مسألة: القسم بعنوانه الأولي مكروه حتى في مثل استرجاع حق مادي، أما في مثل المقام مما يراد به إحقاق الحق وإبطال الباطل، وهو من أعظم المقامات حيث إنه إحقاق حق الإمام المعصوم (عليه السلام) واستمرار لرسالات السماء، فإنه يدور أمره بين الواجب والمستحب، وقد سبق تفصيل الكلام عنه.

استحباب الشجاعة

مسألة: الشجاعة مستحبة، وقد تكون واجبة، بمعنى لزوم تهيئة المقدمات التي تؤدي إلى أن يكون الإنسان شجاعاً، من إيجاء ذاتي وتلقين وممارسة وتمرين ودعاء وتوسل وإيمان وغير ذلك.

مسألة: يستحب بيان أن علياً (عليه السلام) كان أشجع الناس بل في قمة الشجاعة، وكان نكير السيف لأعداء الله ورسوله، فإنه لا يصل إليه أحد في الشجاعة إلا رسول الله (صلى الله عليه وآله).

لكن يلزم أن لا يساء استغلال ذلك من قبل الجهلة والمغرضين حيث أطلق بعضهم شعار: (عدالة فلان وشجاعة علي (عليه السلام))، فإن علياً (عليه

السلام) كان القمة التي لا تجارى في العدالة والشجاعة والعلم والتقوى، وكلالفضائل على اختلاف رتبها ودرجاتها، أما غيره ممن انقلب على عقبيه فكان قمة في الظلم والجور والخوف والجبن وغيرها من الرذائل.

يقول الشاعر:

ص: 235

..............................

بآل محمد عرف الصواب *** وفي أبياتهم نزل الكتاب

هم الكلمات والأسماء لاحت *** لآدم حين عز له المتاب

وهم حجج الإله على البرايا *** بهم وبحكمهم لايستراب

وأنوار ترى في كل عصر *** لإرشاد الورى فهم شهاب

ولا سيما أبوحسن علي *** له في الحرب مرتبة تهاب

علي الدر والذهب المصفى *** وباقي الناس كلهم تراب

كأن سنان ذابله ضمير *** فليس عن القلوب له ذهاب

وصارمه كبيعته بخم *** معاقدها من القوم الرقاب

إذا لم تبر من أعداء علي *** فما لك في محبته ثواب

هو البكاء في المحراب ليلاً *** هو الضحاك إن جد الضراب

هو النبأ العظيم وفلك نوح *** وباب الله وانقطع الخطاب

فهو (صلوات الله عليه) عين العدالة التي لا تشوبها شائبة باطل أبداً، قال (عليه

السلام): «وَاللهِ لَوْ تَظَاهَرَتِ الْعَرَبُ عَلَى قِتَالِيلَمَا وَلَّيْتُ عَنْهَا»(1).

إلى غيرها من الروايات الشريفة.

ص: 236


1- نهج البلاغة: رسائل أمير المؤمنين (عليه السلام)، الرقم45 ومن كتاب له (عليه السلام) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري، وكان عامله على البصرة، وقد بلغه أنه دُعِيَ إلى وليمة قوم من أهلها، فمضى إليها.

..............................

شجاعة الزهراء (عليها السلام)

مسألة: يستحب بيان أن الصديقة فاطمة الزهراء (عليها السلام) كانت القمة في الشجاعة والتضحية في سبيل الله، وخطبتها هذه، وفي المسجد، وتصديها للعصابة الحاكمة بالظلم واستبداد، في مواطن شتى، من الأدلة الواضحة على ذلك.

إضافة إلى أن ذلك هو مقتضى أفضليتها (عليها السلام) من كل الخلائق بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهي كفو لبعلها أمير المؤمنين (عليه السلام)، كما نصت على ذلك الروايات الشريفة.

روايات في فضلها

عن يونس بن ظبيان، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «لَوْلاَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لِفَاطِمَةَ (عليهما السلام) مَا كَانَ لَهَا كُفْؤٌ عَلَى الأَرْضِ»(1).

وعن النبي (صلى الله عليه وآله)، قال: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَوَقَفَ الْخَلاَئِقُ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ تَعَالَى، نَادَى مُنَادٍ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ: أَيُّهَا النَّاسُ، غُضُّوا أَبْصَارَكُمْ،وَنَكِّسُوا مِنْ رُءُوسِكُمْ؛ فَإِنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ تَجُوزُ عَلَى الصِّرَاطِ - وفي حديث أبي أيوب - فَيَمُرُّ مَعَهَا سَبْعُونَ جَارِيَةً مِنَ الْحُورِ الْعِينِ كَالْبَرْقِ

ص: 237


1- أمالي الشيخ الطوسي: ص43، المجلس الثاني، ح15.

..............................

اللاَّمِعِ»(1).

وعن سنان الأوسي، قال النبي (صلى الله عليه وآله): «حَدَّثَنِي جَبْرَئِيلُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمَّا زَوَّجَ فَاطِمَةَ عَلِيّاً (عليهما السلام) أَمَرَ رِضْوَانَ، فَأَمَرَ شَجَرَةَ طُوبَى، فَحَمَلَتْ رِقَاعاً لِمُحِبِّي أَهْلِ بَيْتِ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ أَمْطَرَهَا مَلائِكَةً مِنْ نُورٍ بِعَدَدِ تِلْكَ الرِّقَاعِ، فَأَخَذَ تِلْكَ الْمَلاَئِكَةُ الرِّقَاعَ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَاسْتَوَتْ بِأَهْلِهَا، أَهْبَطَ اللهُ الْمَلاَئِكَةَ بِتِلْكَ الرِّقَاعِ، فَإِذَا لَقِيَ مَلَكٌ مِنْ تِلْكَ الْمَلاَئِكَةِ رَجُلاً مِنْ مُحِبِّي آلِ بَيْتِ مُحَمَّدٍ، دَفَعَ إِلَيْهِ رُقْعَةَ بَرَاءَةٍ مِنَ النَّارِ»(2).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أَوَّلُشَخْصٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ فَاطِمَةُ»(3).

وعن جعفر بن محمد (عليه السلام)، قال النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي: «هَلْ تَدْرِي لِمَ سُمِّيَتْ فَاطِمَةُ؟».

قال علي: «لِمَ سُمِّيَتْ فَاطِمَةُ يَا رَسُولَ اللهِ؟». قال: «لأَنَّهَا فُطِمَتْ هِيَ وَشِيعَتُهَا مِنَ النَّارِ»(4).

ص: 238


1- مناقب آل أبي طالب - ابن شهرآشوب: ج3 ص326، باب مناقب فاطمة الزهراء (عليه السلام)، فصل في منزلتها عند الله تعالى.
2- مناقب آل أبي طالب - ابن شهرآشوب: ج3 ص328، باب مناقب فاطمة الزهراء (عليه السلام)، فصل في منزلتها عند الله تعالى.
3- مناقب آل أبي طالب - ابن شهرآشوب: ج3 ص329، باب مناقب فاطمة الزهراء (عليه السلام)، فصل في منزلتها عند الله تعالى.
4- مناقب آل أبي طالب - ابن شهرآشوب: ج3 ص329-330، باب مناقب فاطمة الزهراء (عليه السلام)، فصل في منزلتها عند الله تعالى.

..............................

شجاعة النساء

مسألة: يستحب تربية النساء ومنها البنات على الشجاعة، كما كانت الصديقة فاطمة (عليها السلام) والسيدة زينب (عليها السلام) وسائر حرائر النبوة وربائبها كذلك.

والمراد بالشجاعة في مقابل ما يهدد الدين، أو عند الدفاع الواجب شرعاً، وليس الشجاعة التي تعرضها لخطر غير مبرر المسمى بالتهور، أو ما لا يكون وفق الموازين الشرعية، كما لايخفى.

روى ابن طيفور في (بلاغات النساء) قال: حدثنا العباس بن بكار، قال: حدثنا أبو بكر الهذلي، عن الزهري وسهل بن أبي سهل التميمي، عن أبيه، قالا: لما قُتِلَ علي بن أبي طالب (عليه السلام)، بعث معاوية في طلب شيعته، فكان في من طلب عمرو بن الحمق الخزاعي فراغ منه، فأرسل إلى امرأته آمنة بنت الشريد، فحبسها في سجن دمشق سنتين.

ثم إن عبد الرحمن بن الحكم ظفر بعمرو بن الحمق في بعض الجزيرة فقتله، وبعث برأسه إلى معاوية - وهو أول رأس حمل في الإسلام - فلما أتى معاوية الرسول بالرأس، بعث به إلى آمنة في السجن، وقال للحرسي: احفظ ما تتكلم به حتى تؤديه إليَّ، واطرح الرأس في حجرها.

ففعل هذا، فارتاعت له ساعة، ثم وضعت يدها على رأسها، وقالت: واحزني لصغره في دار هوان، وضيق من ضيمة سلطان، نفيتموه عني طويلاً،

ص: 239

..............................

وأهديتموه إليَّ قتيلاً، فأهلاً وسهلاً بمن كنت له غير قالية، وأنا له اليوم غير ناسية. ارجع به أيها الرسول إلىمعاوية فقل له - ولا تطوه دونه -: أيتم الله ولدك، وأوحش منك أهلك، ولا غفر لك ذنبك.

فرجع الرسول إلى معاوية، فأخبره بما قالت. فأرسل إليها فأتته، وعنده نفر فيهم: إياس بن حسل، أخو مالك بن حسل، وكان في شدقيه نتوء عن فيه، لعظم كان في لسانه، وثقل إذا تكلم.

فقال لها معاوية: أ أنتِ يا عدوة الله صاحبة الكلام الذي بلغني؟!.

قالت: نعم، غير نازعة عنه، ولا معتذرة منه، ولا منكرة له. فلعمري لقد اجتهدت في الدعاء إن نفع الاجتهاد، وإن الحق لمن وراء العباد، و ما بلغت شيئاً من جزائك، وإن الله بالنقمة من ورائك.

فأعرض عنها معاوية، فقال إياس: اقتل هذه يا أمير، فو الله ما كان زوجها أحق بالقتل منها.

فالتفتت إليه، فلما رأته ناتئ الشدقين، ثقيل اللسان، قالت: تباً لك، ويلك بين لحيتيك كجثمان الضفدع، ثم أنت تدعوه إلى قتلي، كما قتل زوجي بالأمس، «إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمصْلِحِينَ»(1).

فضحك معاوية، ثم قال: للهِ دركِ،اخرجي ثم لا أسمع بكِ في شيء من الشام.

ص: 240


1- سورة القصص: 19.

..............................

قالت: وأبي لأخرجن، ثم لا تسمع لي في شيء من الشام، فما الشام لي بحبيب، ولا أعرج فيها على حميم، وما هي لي بوطن، ولا أحن فيها إلى سكن، ولقد عظم فيها ديتي، وما قرت فيها عيني، وما أنا فيها إليك بعائدة، ولا حيث كنت بحامدة.

فأشار إليها ببنانه: اُخرجي، فخرجت وهي تقول: وا عجبي لمعاوية يكف عني لسانه، ويشير إليَّ الخروج ببنانه. أما والله ليعارضنه عمرو بكلام مؤيد سديد، أوجع من نوافذ الحديد، أو ما أنا بابنة الشريد.

فخرجت وتلقاها الأسود الهلالي، وكان رجلاً أسود أصلع أسلع أصعل، فسمعها وهي تقول ما تقول. فقال: لمن تعني هذه، أ للأمير تعني، عليها لعنة الله؟.

فالتفتت إليه، فلما رأته قالت: خزياً لك وجدعاً، أ تلعنني واللعنة بين جنبيك، وما بين قرنيك إلى قدميك. اخسأ يا هامة الصعل، ووجه الجعل، فأذلل بك نصيراً، وأقلل بك ظهيراً.

فبهت الأسلع ينظر إليها، ثم سأل عنها فأُخْبِرَ، فأقبل إليها معتذراً خوفاًمن لسانها.

فقالت: قد قبلت عذرك، وإن تعد أعد، ثم لا أستقيل ولا أراقب فيك.

فبلغ ذلك معاوية، فقال: زعمت يا أسلع أنك لا تواقف من يغلبك، أما علمت أن حرارة المتبول ليست بمخالسة نوافذ الكلام، عند مواقف الخصام، أفلا تركت كلامها قبل البصبصة منها، والاعتذار إليها.

ص: 241

..............................

قال: إي والله يا أمير!، لم أكن أرى شيئاً من النساء يبلغ من معاضيل الكلام ما بلغت هذه المرأة، حالستها فإذا هي تحمل قلباً شديداً، ولساناً حديداً، وجواباً عتيداً. وهالتني رعباً، وأوسعتني سباً.

ثم التفت معاوية إلى عبيد بن أوس، فقال: ابعث لها ما تقطع به عنا لسانها، وتقضي به ما ذكرت من دينها، وتخف به إلى بلادها. وقال: اللهم اكفني شر لسانها.

فلما أتاها الرسول بما أمر به معاوية، قالت: يا عجبي لمعاوية، يقتل زوجي ويبعث إليَّ بالجوائز!. فليت أبي كرب سد عني حره صلة خذ من الرضعة ما عليها. فأخذت ذلك وخرجت تريد الجزيرة، فمرت بحمص فقتلها الطاعون.فبلغ ذلك الأسلع، فأقبل إلى معاوية كالمبشر له. فقال له: أفرخ روعك يا أمير، قد استجيبت دعوتك في ابنة الشريد، وقد كفيت شر لسانها.

قال: وكيف ذلك؟. قال: مرت بحمص فقتلها الطاعون.

فقال له معاوية: فنفسك فبشر بما أحببت، فإن موتها لم يكن على أحد أروح منه عليك. ولعمري ما انتصفت منها حين أفرغت عليك شؤبوباً وبيلاً.

فقال الأسلع: ما أصابني من حرارة لسانها شيء، إلا وقد أصابك مثله أو أشد منه(1).

* وروى ابن طيفور في (بلاغات النساء) قال: روى ابن عائشة، عن حماد بن سلمة، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك، قال: دخلت أروى

ص: 242


1- بلاغات النساء: ص87-89، كلام آمنة بنت الشريد.

..............................

بنت الحارث بن عبد المطلب على معاوية بن أبي سفيان بالموسم، وهي عجوز كبيرة، فلما رآها قال: مرحباً بك يا عمة.

قالت: كيف أنت يا ابن أخي؟، لقد كفرت بعدي بالنعمة، وأسأت لابن عمكالصحبة، وتسميت بغير اسمك، وأخذت غير حقك، بغير بلاء كان منك، ولا من آبائك في الإسلام، ولقد كفرتم بما جاء به محمد (صلى الله عليه وآله)، فأتعس الله منكم الجدود، وأصعر منكم الخدود، حتى رد الله الحق إلى أهله، وكانت «كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا»(1)، ونبينا محمد (صلى الله عليه وآله) هو المنصور على من ناوأه «وَلَوْ كَرِهَ الْمشْرِكُونَ»(2)، فكنا أهل البيت أعظم الناس في الدين حظاً ونصيباً وقدراً، حتى قبض الله نبيه (صلى الله عليه وآله) مغفوراً ذنبه، مرفوعاً درجته، شريفاً عند الله مرضياً، فصرنا أهل البيت منكم بمنزلة قوم موسى من آل فرعون، يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم، وصار ابن عم سيد المرسلين فيكم بعد نبينا بمنزلة هارون من موسى، حيث يقول: «ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي»(3)، ولم يجمع بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) لنا شمل، ولم يسهل لنا وعر، وغايتنا الجنة، وغايتكم النار.

قال عمرو بن العاص: أيتها العجوز الضالة، أقصري من قولكِ، وغضي من طرفكِ.

ص: 243


1- سورة التوبة: 40.
2- سورة التوبة: 33.
3- سورة الأعراف: 150.

..............................

قالت: ومن أنت لا أم لك؟!.

قال: عمرو بن العاص.

قالت: يا ابن اللخناء النابغة، أ تكلمني اربع على ظلعك، وأعن بشأن نفسك. فو الله، ما أنت من قريش في اللباب من حسبها، ولا كريم منصبها، ولقد ادعاك ستة من قريش كله يزعم أنه أبوك. ولقد رأيت أمك أيام منى بمكة مع كل عبد عاهر، فأتم بهم فإنك بهم أشبه.

فقال مروان بن الحكم: أيتها العجوز الضالة، ساخ بصركِ مع ذهاب عقلكِ، فلا يجوز شهادتكِ.

قالت: يا بني، أ تتكلم فو الله لأنت إلى سفيان بن الحارث بن كلدة أشبه منك بالحكم، وإنك لشبهه في زرقة عينيك، وحمرة شعرك، مع قصر قامته، وظاهر دمامته. ولقد رأيت الحكم ماد القامة، ظاهر الأمة، سبط الشعر، وما بينكما قرابة إلا كقرابة الفرس الضامر من الأتان المقرب، فاسأل أمك عما ذكرت لك، فإنها تخبرك بشأن أبيك إن صدقت.

ثم التفتت إلى معاوية، فقالت: واللهِ ما عرضني لهؤلاء غيرك، وإن أُمك القائلة في أُحُد في قتل حمزة (رحمة الله عليه):

نحن جزيناكم بيوم بدر *** والحرب يوم الحرب ذات سعر

ما كان عن عتبة لي من صبر *** أبي وعمي وأخي وصهري

شفيت وحشي غليل صدري *** شفيت نفسي وقضيت نذري

فشكر وحشي عليَّ عمري *** حتى تغيب أعظمي في قبري

ص: 244

..............................

فأجبتها:

يا بنت رقاع عظيم الكفر *** خزيت في بدر وغير بدر

صبحك الله قبيل الفجر *** بالهاشميين الطوال الزهر

بكل قطاع حسام يفري *** حمزة ليثي وعلي صقري

إذ رام شبيب وأبوك غدري *** أعطيت وحشي ضمير الصدر

هتك وحشي حجاب الستر *** ما للبغايا بعدها من فخر

فقال معاوية لمروان وعمرو: ويلكما، أنتما عرضتماني لها، وأسمعتماني ما أكره.

ثم قال لها: يا عمة، اقصدي قصد حاجتك، ودعي عنك أساطير النساء.

قالت: تأمر لي بألفي دينار، وألفي دينار، وألفي دينار.

قال: ما تصنعين يا عمة بألفي دينار؟!.

قالت: أشتري بها عيناً خرخارة، في أرض خوارة، تكون لولد الحارث بنالمطلب. قال: نِعْمَ الموضع وضعتها، فما تصنعين بألفي دينار؟!.

قالت: أزوج بها فتيان عبد المطلب من أكفائهم.

قال: نِعْمَ الموضع وضعتها، فما تصنعين بألفي دينار؟!.

قالت: أستعين بها على عسر المدينة، وزيارة بيت الله الحرام.

قال: نِعْمَ الموضع وضعتها، هي لك نعم وكرامة، ثم قال: أما والله لو كان علي (عليه السلام) ما أمر لك بها.

ص: 245

..............................

قالت: صدقت إن علياً (عليه السلام) أدى الأمانة، وعمل بأمر الله وأخذ به، وأنت ضيعت أمانتك، وخنت الله في ماله، فأعطيت مال الله من لايستحقه، وقد فرض الله في كتابه الحقوق لأهلها وبينها، فلم تأخذ بها، ودعانا - أي علي (عليه السلام) - إلى أخذ حقنا الذي فرض الله لنا، فشغل بحربك عن وضع الأمور مواضعها، وما سألتك من مالك شيئاً فتمن به، إنما سألتك من حقنا، ولا نرى أخذ شيء غير حقنا. أ تذكر علياً (عليه السلام)، فض الله فاك، وأجهد بلاءك.

ثم علا بكاؤها، وقالت:

ألا يا عين ويحك أسعدينا *** ألا وابكي أميرالمؤمنينا

رزينا خير من ركب المطايا *** وفارسها ومن ركب السفينا

ومن لبس النعال أو احتذاها *** ومن قرأ المثاني والمئينا

إذا استقبلت وجه أبي حسين *** رأيت البدر راع الناظرينا

ولا والله لاأنسى علياً *** وحسن صلاته في الراكعينا

أ في الشهر الحرام فجعتمونا *** بخير الناس طراً أجمعينا

قال: فأمر لها بستة آلاف دينار، وقال لها: يا عمة، أنفقي هذه فيما تحبين، فإذا احتجتِ فاكتبي إلى ابن أخيكِ، يحسن صفدكِ ومعونتكِ إن شاء الله(1).

ولا يخفى أن معاوية كان يضطر أحياناً لبذل مثل هذه الأموال - وهي أموال المسلمين - خوفاً من الفتنة على حكمه، ولم يكن ذلك كرماً منه.

ص: 246


1- بلاغات النساء: ص43 - 46، كلام أروى بنت الحارث بن عبد المطلب.

..............................

نكير السيف على الأعداء

مسألة: يجب أن يكون المؤمن كمولانا علي (عليه السلام)، نكير السيف على أعداء الله والرسول (صلى الله عليه وآله) والمعصومين (عليهم السلام)، وفق الموازين الشرعية المذكورة في باب الجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.قال تعالى: «يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَنْ يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَآءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ»(1).

وقال سبحانه: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَم يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَاَ الْمؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ»(2).

وقال تعالى: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجنَّةَ وَلَمَا يَعْلَمِ اللهُ الَّذينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ»(3).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «الْخَيْرُ كُلُّهُ فِي السَّيْفِ، وَتَحْتَ ظِلِّ السَّيْفِ، وَلاَ يُقِيمُ النَّاسَ إِلاَّ السَّيْفُ،

ص: 247


1- سورة المائدة: 54.
2- سورة التوبة: 16.
3- سورة آل عمران: 142.

..............................

وَالسُّيُوفُ مَقَالِيدُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لِلْجَنَّةِ بَابٌ يُقَالُ لَهُ: بَابُ الْمُجَاهِدِينَ، يَمْضُونَ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ مَفْتُوحٌ، وَهُمْ مُتَقَلِّدُونَ بِسُيُوفِهِمْ،وَالْجَمْعُ فِي الْمَوْقِفِ، وَالْمَلاَئِكَةُ تُرَحِّبُ بِهِمْ - ثُمَّ قَالَ - فَمَنْ تَرَكَ الْجِهَادَ أَلْبَسَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ ذُلاًّ، وَفَقْراً فِي مَعِيشَتِهِ، وَمَحْقاً فِي دِينِهِ. إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَغْنَى أُمَّتِي بِسَنَابِكِ خَيْلِهَا، وَمَرَاكِزِ رِمَاحِهَا»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ بَعَثَ رَسُولَهُ بِالإِسْلاَمِ إِلَى النَّاسِ عَشْرَ سِنِينَ، فَأَبَوْا أَنْ يَقْبَلُوا حَتَّى أَمَرَهُ بِالْقِتَالِ، فَالْخَيْرُ فِي السَّيْفِ، وَتَحْتَ السَّيْفِ، وَالأَمْرُ يَعُودُ كَمَا بَدَأَ»(3). أي أمره بالقتال الدفاعي، أما قبله فكان المشركون يعتدون على من يسلم بتعذيبه وقتله ولم يؤمر المسلمون بالقتال.

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «مَا قُدِّسَتْ أُمَّةٌ لَمْ يُؤْخَذْ لِضَعِيفِهَا مِنْ قَوِيِّهَا بِحَقِّهِ غَيْرَ مُتَعْتَعٍ»(4).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام): «أَنَّ رَجُلاً مِنْ خَثْعَمَ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللهِ (صلى

الله عليه وآله)، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَخْبِرْنِي مَا أَفْضَلُ الإِسْلاَمِ؟. قَالَ: الإِيمَانُ بِاللهِ. قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟. قَالَ: ثُمَّ صِلَةُ الرَّحِمِ. قَالَ:ثُمَّ مَاذَا؟. قَالَ: الأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ

ص: 248


1- الكافي: ج5 ص2، كتاب الجهاد، باب فضل الجهاد، ح1.
2- الكافي: ج5 ص2، كتاب الجهاد، باب فضل الجهاد، ح2.
3- الكافي: ج5 ص7، كتاب الجهاد، باب فضل الجهاد، ح7.
4- الكافي: ج5 ص56، كتاب الجهاد، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح2.

..............................

قَالَ: فَقَالَ الرَّجُلُ: فَأَيُّ الأَعْمَالِ أَبْغَضُ إِلَى اللهِ؟. قَالَ: الشِّرْكُ بِاللهِ. قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟. قَالَ: قَطِيعَةُ الرَّحِمِ. قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟. قَالَ: الأَمْرُ بِالْمُنْكَرِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمَعْرُوفِ»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) أَنْ نَلْقَى أَهْلَ الْمَعَاصِي بِوُجُوهٍ مُكْفَهِرَّةٍ»(2).

وقال النبي (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيُبْغِضُ الْمُؤْمِنَ الضَّعِيفَ الَّذِي لاَ دِينَ لَهُ».

فقيل له: وَمَا الْمُؤْمِنُ الَّذِي لاَ دِينَ لَهُ؟!.

قال: «الَّذِي لاَ يَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ»(3).

حرمة موادة الأعداء

مسألة: يحرم موادة أعداء الله تعالى والرسول (صلى الله عليه وآله) وأهل البيت (عليهم السلام).

قال تعالى: «لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوَاْ آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَ-َئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا

ص: 249


1- الكافي: ج5 ص58، كتاب الجهاد، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح9.
2- الكافي: ج5 ص58 - 59، كتاب الجهاد، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح10.
3- الكافي: ج5 ص59، كتاب الجهاد، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح15.

..............................

الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أُوْلَ-َئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمفْلِحُونَ»(1).

قوله: يوادون أي يحبون ويوالون، نعم أصل محبة الوالدين لكونهما والديه وهكذا من أشبه من الأقارب جائز وإن كانوا كفاراً، والحرام منه ما يكون تأييداً وتقوية للظلم والكفر.

عن أبي الحسن (عليه السلام)، قال: «لاَ لُؤْمَ عَلَى مَنْ أَحَبَّ قَوْمَهُ، وَإِنْ كَانُوا كُفَّاراً» الحديث(2).

وعن ابن فضال، قال: سَمِعْتُ الرِّضَا(عليه السلام) يَقُولُ: «مَنْ وَاصَلَ لَنَا قَاطِعاً، أَوْ قَطَعَ لَنَا وَاصِلاً، أَوْ مَدَحَ لَنَا عَائِباً، أَوْ أَكْرَمَ لَنَا مُخَالِفاً، فَلَيْسَ مِنَّا وَلَسْنَا مِنْهُ»(3).

وعن ابن فضال، عن الإمام الرضا (عليه السلام)، أنه قال: «مَنْ وَالَى أَعْدَاءَ اللهِ فَقَدْ عَادَى أَوْلِيَاءَ اللهِ، وَمَنْ عَادَى أَوْلِيَاءَ اللهِ فَقَدْ عَادَى اللهَ، وَحَقٌّ عَلَى اللهِ أَنْ يُدْخِلَهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ»(4).

ص: 250


1- سورة المجادلة: 22.
2- بحار الأنوار: ج65 ص390، تتمة كتاب العشرة، الباب85 من تتمة أبواب حقوق المؤمنين بعضهم على بعض وبعض أحوالهم، ح7.
3- بحار الأنوار: ج65 ص391، تتمة كتاب العشرة، الباب85 من تتمة أبواب حقوق المؤمنين بعضهم على بعض وبعض أحوالهم، ح11.
4- بحار الأنوار: ج65 ص391، تتمة كتاب العشرة، الباب85 من تتمة أبواب حقوق المؤمنين بعضهم على بعض وبعض أحوالهم، ضمن ح11.

..............................

وعن الوشاء، عن الإمام الرضا (عليه السلام)، قال: «إِنَّ مِمَّنْ يَتَّخِذُ مَوَدَّتَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ، لَمَنْ هُوَ أَشَدُّ فِتْنَةً عَلَى شِيعَتِنَا مِنَ الدَّجَّالِ».

فقلت: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، بِمَاذَا؟!.

قال (عليه السلام): «بِمُوَالاةِ أَعْدَائِنَا، وَمُعَادَاةِ أَوْلِيَائِنَا، إِنَّهُ كَانَ كَذَلِكَ اخْتَلَطَ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ وَاشْتَبَهَ الأَمْرُ، فَلَمْيُعْرَفْ مُؤْمِنٌ مِنْ مُنَافِقٍ»(1).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام)، قال: «مَنْ أَشْبَعَ عَدُوّاً لَنَا فَقَدْ قَتَلَ وَلِيّاً لَنَا»(2). أي أشبعه مع جوع الموالي وعدم وجود مزاحم في ذلك، أو كان الإشباع تقويةً لغيّه لا سبيلاً لإرشاده أو إرشاد أمثاله.

وعن عجلان أبي صالح، قال: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): أَوْقِفْنِي عَلَى حُدُودِ الإِيمَانِ؟.

فقال (عليه السلام): «شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، وَالإِقْرَارُ بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَصَلاَةُ الْخَمْسِ، وَأَدَاءُ الزَّكَاةِ، وَصَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَحِجُّ الْبَيْتِ، وَوَلاَيَةُ وَلِيِّنَا، وَعَدَاوَةُ عَدُوِّنَا، وَالدُّخُولُ مَعَ الصَّادِقِينَ»(3).

ص: 251


1- بحار الأنوار: ج65 ص391، تتمة كتاب العشرة، الباب85 من تتمة أبواب حقوق المؤمنين بعضهم على بعض وبعض أحوالهم، ضمن ح11.
2- بحار الأنوار: ج65 ص391، تتمة كتاب العشرة، الباب85 من تتمة أبواب حقوق المؤمنين بعضهم على بعض وبعض أحوالهم، ضمن ح11.
3- بحار الأنوار: ج65 ص330، تتمة كتاب الإيمان والكفر، الباب27 من تتمة أبواب الإيمان والإسلام والتشيع ومعانيها وفضلها وصفاتها، ح4.

..............................

وعن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسَةِ أَشْيَاءَ، عَلَى: الصَّلاَةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالْحَجِّ، وَالْوَلاَيَةِ».

قال زرارة: فَقُلْتُ: وَأَيُّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَفْضَلُ؟.

قال (عليه السلام): «الْوَلاَيَةُ أَفْضَلُ؛ لأَنَّهَا مِفْتَاحُهُنَّ، وَالْوَالِي هُوَ الدَّلِيلُ عَلَيْهِنَّ»(1).

فسق القوم

مسألة: قولها (عليها السلام): «نَقَمُوا مِنْهُ وَاللهِ نَكِيرَ سَيْفِهِ»، دليل على فسق أولئك القوم، وقد يستشم من بعض مقاطع كلامها الدلالة على كفر بعضهم، من حيث إن النقمة كانت ل «تَنَمُّرَهِ فِي ذَاتِ اللهِ»، وهذا من الأدلة على بطلان دعوى عدالة جميع الصحابة.

روى الشيخ المفيد (رحمه الله) بسنده، قال: لَمَّا بَعَثَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (صلوات الله عليه) صَعْصَعَةَ بْنَ صُوحَانَ إِلَى الْخَوَارِجِ.

قالوا له: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلِيٌّ (عليه السلام) مَعَنَا فِي مَوْضِعِنَا، أَتَكُونُ مَعَهُ؟.

قال: نَعَمْ.

قالوا: فَأَنْتَ إِذاً مُقَلِّدٌ عَلِيّاً دِينَكَ، ارْجِعْ فَلاَ دِينَ لَكَ.

ص: 252


1- بحار الأنوار: ج65 ص332، تتمة كتاب الإيمان والكفر، الباب27 من تتمة أبواب الإيمان والإسلام والتشيع ومعانيها وفضلها وصفاتها، ح10.

..............................

فقال لهم صعصعة: وَيْلَكُمْ! أَلاَ أُقَلِّدُ مَنْ قَلَّدَ اللهَ فَأَحْسَنَ التَّقْلِيدَ، فَاضْطَلَعَ بِأَمْرِ اللهِ صَدِيقاً لَمْ يَزَلْ، أَ وَ لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) إِذَا اشْتَدَّتِ الْحَرْبُ قَدَّمَهُ فِي لَهَوَاتِهَا، فَيَطَأُ صِمَاخَهَا بِأَخْمَصِهِ، وَيُخْمِدُ لَهَبَهَا بِحَدِّهِ، مَكْدُوداً فِي ذَاتِ اللهِ، عَنْهُ يَعْبُرُ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) وَالْمُسْلِمُونَ، فَأَنَّى تُصْرَفُونَ! وَأَيْنَ تَذْهَبُونَ! وَإِلَى مَنْ تَرْغَبُونَ! وَعَمَّنْ تَصْدِفُونَ! عَنِ الْقَمَرِ الْبَاهِرِ، وَالسِّرَاجِ الزَّاهِرِ، وَصِرَاطِ اللهِ الْمُسْتَقِيمِ، وَحَسَّانِ الأَعَدِّ الْمُقِيمِ، قَاتَلَكُمُ اللهُ أَنَّى تُؤْفَكُونَ. أَفِي الصِّدِّيقِ الأَكْبَرِ، وَالْغَرَضِ الأَقْصَى تَرْمُونَ، طَاشَتْ عُقُولُكُمْ، وَغَارَتْ حُلُومُكُمْ، وَشَاهَتْ وُجُوهُكُمْ، لَقَدْ عَلَوْتُمُ الْقُلَّةَ مِنَ الْجَبَلِ، وَبَاعَدْتُمُ الْعَلَّةَ مِنَ النَّهَلِ. أَتَسْتَهْدِفُونَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (صلوات

الله عليه) وَوَصِيَّ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، لَقَدْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ خُسْرَاناً مُبِيناً، فَبُعْداً وَسُحْقاً لِلْكَفَرَةِ الظَّالِمِينَ، عَدَلَ بِكُمْ عَنِ الْقَصْدِ الشَّيْطَانُ، وَعَمِيَ لَكُمْ عَنْ وَاضِحِالْمَحَجَّةِ الْحِرْمَانُ(1).

من أسباب الانقلاب على الحق

مسألة: يجب البيان للناس أن انقلاب القوم على خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) - ألا وهو أمير المؤمنين علي (عليه السلام) - لم يكن للأسباب التي حاولوا اختلاقها، كما قالوا: (إن فيه دعابة) وما أشبه، بل السبب كان كما قالت الصديقة

ص: 253


1- الإختصاص: ص121- 122، طائفة من أحاديث الأئمة (عليهم السلام) وأصحابهم وغيرهم، حديث علي (عليه السلام) مع الخوارج وإرسال صعصعة بن صوحان إليهم.

..............................

الزهراء (عليها السلام): « نَقَمُوا مِنْهُ وَاللهِ نَكِيرَ سَيْفِهِ... وَتَنَمُّرَهُ فِي ذَاتِ اللهِ»، إضافة إلى الحسد، وحب الرئاسة، والتخطيط للقضاء على الإسلام، وتعاليم الرسول (صلى الله عليه وآله)، وما أشبه.

عن سعيد بن كلثوم، قال: كُنْتُ عِنْدَ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (عليه السلام)، فَذَكَرَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ (عليه

السلام) فَأَطْرَاهُ، وَمَدَحَهُ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: «وَاللَّهِ مَا أَكَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مِنَالدُّنْيَا حَرَاماً قَطُّ حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ، وَمَا عَرَضَ لَهُ أَمْرَانِ قَطُّ هُمَا للهِ رِضًى، إِلاَّ أَخَذَ بِأَشَدِّهِمَا عَلَيْهِ فِي دِينِهِ، وَمَا نَزَلَتْ بِرَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) نَازِلَةٌ قَطُّ، إِلاَّ دَعَاهُ ثِقَةً بِهِ، وَمَا أَطَاقَ أَحَدٌ عَمَلَ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ غَيْرُهُ، وَإِنْ كَانَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ رَجُلٍ كَأَنَّ وَجْهَهُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، يَرْجُو ثَوَابَ هَذِهِ وَيَخَافُ عِقَابَ هَذِهِ، وَلَقَدْ أَعْتَقَ مِنْ مَالِهِ أَلْفَ مَمْلُوكٍ فِي طَلَبِ وَجْهِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ، مِمَّا كَدَّ بِيَدَيْهِ، وَرَشَحَ مِنْهُ جَبِينُهُ، وَأَنَّهُ كَانَ لَيَقُوتُ أَهْلَهُ بِالزَّيْتِ وَالْخَلِّ وَالْعَجْوَةِ، وَمَا كَانَ لِبَاسُهُ إِلاَّ الْكَرَابِيسَ، إِذَا فَضَلَ شَيْءٌ عَنْ يَدِهِ مِنْ كُمِّهِ دَعَا بِالْجَلَمِ فَقَصَّهُ، وَلاَ أَشْبَهَهُ مِنْ وُلْدِهِ وَلاَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ أَحَدٌ أَقْرَبُ شَبَهاً بِهِ فِي لِبَاسِهِ وَفِقْهِهِ مِنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (عليه السلام)».

وَلَقَدْ دَخَلَ ابْنُهُ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام) عَلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ قَدْ بَلَغَ مِنَ الْعِبَادَةِ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ أَحَدٌ، فَرَآهُ قَدِ اصْفَرَّ لَوْنُهُ مِنَ السَّهَرِ، وَرَمِضَتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْبُكَاءِ، وَدَبِرَتْ جَبْهَتُهُ، وَانْخَرَمَ أَنْفُهُ مِنَ السُّجُودِ، وَوَرِمَتْ سَاقَاهُ وَقَدَمَاهُ مِنَ الْقِيَامِ فِي الصَّلاَةِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): فَلَمْ أَمْلِكْ حِينَ رَأَيْتُهُ بِتِلْكَ الْحَالِ الْبُكَاءَ، فَبَكَيْتُ رَحْمَةً لَهُ، وَإِذَا هُوَ يُفَكِّرُ، فَالْتَفَتَ إِلَيَّ بَعْدَ هُنَيْهَةٍ مِنْ دُخُولِي، وَقَاَ: يَا بُنَيَّ،

ص: 254

..............................

أَعْطِنِي بَعْضَ تِلْكَ الصُّحُفِ الَّتِي فِيهَا عِبَادَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام)، فَأَعْطَيْتُهُ فَقَرَأَ فِيهَا شَيْئاً يَسِيراً، ثُمَّ تَرَكَهَا مِنْ يَدِهِ تَضَجُّراً، وَقَالَ: مَنْ يَقْوَى عَلَى عِبَادَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام)»(1).

وقال العلامة الديلمي في إرشاده: رُوِيَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ (عليه

السلام) كَانَ يُسْمَعُ مِنْهُ فِي صَلاَتِهِ أَزِيزٌ، كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ مِنْ خَوْفِ اللهِ تَعَالَى فِي صَدْرِهِ، وكان سيدنا رسول الله (صلى

الله عليه وآله) كذلك، وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) إذا قال: « «وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ»(2)»، يتغير وجهه، ويصفر لونه، فيعرف ذلك في وجهه من خيفة الله تعالى، وأعتق ألف مملوك من كد يمينه، وكان يغرس النخل ويبيعها، ويشتري بثمنها العبيد ويعتقهم، ويعطيهم مع ذلك ما يغنيهم عن الناس. وَأَخْبَرَهُ بَعْضُ عَبِيدِهِ، أَنَّهُ قَدْ نَبَعَ فِي بُسْتَانِهِ عَيْنٌ، فَيَنْبُعُ الْمَاءُ مِنْهَا مِثْلُ عُنُقِ الْبَعِيرِ. فَقَالَ: «بَشِّرِ الْوَارِثَ، بَشِّرِ الْوَارِثَ، بَشِّرِ الْوَارِثَ». ثُمَّ أَحْضَرَ شُهُوداً،فَأَشْهَدَهُمْ أَنَّهُ أَوْقَفَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ حَتَّى يَرِثَ اللهُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها، وَقَالَ: «إِنَّمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ؛ لِيَصْرِفَ اللهُ عَنْ وَجْهِيَ النَّارَ». وَأَعْطَى مُعَاوِيَةُ لِلْحَسَنِ (عليه السلام) فِيهَا مِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ. فَقَالَ: «مَا كُنْتُ لأَبِيعَ شَيْئاً أَوْقَفَهُ أَبِي فِي سَبِيلِ اللهِ». وَمَا عَرَضَ لَهُ أَمْرَانِ إِلاَّ عَمِلَ بِأَشَدِّهِمَا طَاعَةً، وكان إذا سجد سجدة الشكر غشي عليه من خشية الله تعالى»(3).

ص: 255


1- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص85، ذكر الإمام الرابع أبي الحسن علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)، وثبتت له الإمامة من وجوه.
2- سورة الأنعام: 79.
3- إرشاد القلوب: ج1 ص105، الباب 28 في الخوف من الله تعالى.

..............................

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «أَمَا وَاللهِ، لَقَدْ عَهِدْتُ أَقْوَاماً عَلَى عَهْدِ خَلِيلِي رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) وَإِنَّهُمْ لَيُصْبِحُونَ وَيُمْسُونَ شُعْثاً غُبْراً خُمْصاً، بَيْنَ أَعْيُنِهِمْ كَرُكَبِ الْمِعْزَى، يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً، يُرَاوِحُونَ بَيْنَ أَقْدَامِهِمْ وَجِبَاهِهِمْ، يُنَاجُونَ رَبَّهُمْ وَيَسْأَلُونَهُ فَكَاكَ رِقَابِهِمْ مِنَ النَّارِ، وَاللهِ لَقَدْ رَأَيْتُهُمْ مَعَ هَذَا وَهُمْ خَائِفُونَ مُشْفِقُونَ»(1).

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، أنه قال: «وَاللهِ، إِنْ كَانَ عَلِيٌّ (عليه السلام) لَيَأْكُلُ أَكْلَالْعَبْدِ، وَيَجْلِسُ جِلْسَةَ الْعَبْدِ وَإِنْ كَانَ لَيَشْتَرِي الْقَمِيصَيْنِ السُّنْبُلَانِيَّيْنِ، فَيُخَيِّرُ غُلاَمَهُ خَيْرَهُمَا، ثُمَّ يَلْبَسُ الآخَرَ، فَإِذَا جَازَ أَصَابِعَهُ قَطَعَهُ، وَإِذَا جَازَ كَعْبَهُ حَذَفَهُ. وَلَقَدْ وَلِيَ خَمْسَ سِنِينَ مَا وَضَعَ آجُرَّةً عَلَى آجُرَّةٍ، وَلاَ لَبِنَةً عَلَى لَبِنَةٍ، وَلاَ أَقْطَعَ قَطِيعاً، وَلاَ أَوْرَثَ بَيْضَاءَ وَلاَ حَمْرَاءَ، وَإِنْ كَانَ لَيُطْعِمُ النَّاسَ خُبْزَ الْبُرِّ وَاللَّحْمَ، وَيَنْصَرِفُ إِلَى مَنْزِلِهِ وَيَأْكُلُ خُبْزَ الشَّعِيرِ وَالزَّيْتَ وَالْخَلَّ، وَمَا وَرَدَ عَلَيْهِ أَمْرَانِ كِلاَهُمَا للهِ رِضًا، إِلاَّ أَخَذَ بِأَشَدِّهِمَا عَلَى بَدَنِهِ. وَلَقَدْ أَعْتَقَ أَلْفَ مَمْلُوكٍ مِنْ كَدِّ يَدِهِ، وَتَرِبَتْ فِيهِ يَدَاهُ، وَعَرِقَ فِيهِ وَجْهُهُ. وَمَا أَطَاقَ عَمَلَهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، وَإِنْ كَانَ لَيُصَلِّي فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ أَلْفَ رَكْعَةٍ، وَإِنْ كَانَ أَقْرَبُ النَّاسِ شَبَهاً بِهِ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ (عليه السلام)، وَمَا أَطَاقَ عَمَلَهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ بَعْدَهُ»(2).

ص: 256


1- وسائل الشيعة: ج1 ص87، الباب20 من أبواب مقدمة العبادات، ح206.
2- وسائل الشيعة: ج1 ص88 - 89، الباب20 من أبواب مقدمة العبادات، ح209.

وَقِلَّةَ مُبَالَاتِهِ لِحَتْفِهِ

اشارة

-------------------------------------------

قلة المبالاة بالموت في سبيل الله

مسألة: من الفضائل قلة المبالاة بالحتف في سبيل الله عزوجل.

وقلة المبالاة كناية عن عدم الحرص على الحياة الدنيا، ولا يقصد المعنى الحرفي للقلة، فلا يراد به ما يقابل مقابل (عدم مبالاته بحتفه)، فإنه (عليه السلام) لم يكن مبالياً بحتفه أصلاً، حيث قال كما في نهج البلاغة: «وَاللهِ لَابْنُ أَبِي طَالِبٍ آنَسُ بِالْموْتِ مِنَ الطِّفْلِ بِثَدْيِ أُمِّهِ»(1).

وفي البحار: «فَوَ اللهِ لَابْنُ أَبِي طَالِبٍ آنَسُ بِالْموْتِ مِنَ الطِّفْلِ إِلَى مَحَالِبِ أُمِّهِ» (2).

أو يقال في معنى (قلة مبالاته بحتفه): إن هذا هو ما تلقاه الناس، أي إشارة لمرحلة الإثبات لا الثبوت، إذ إنه (عليه السلام) كان عديم المبالاة بالحتف مطلقاً في سبيل الله.أو يقال: إن القلة بالقياس إلى كلي المواطن، فإن أكثرها يقتضي عدم المبالاة كمواطن الجهاد، وبعضها ما يقتضي الحذر والاحتياط، فلحاظ مجموع المواضع يوحي ب (قلة مبالاته بحتفه)، فتأمل.

ص: 257


1- نهج البلاغة: باب خطب أمير المؤمنين (عليه السلام)،الرقم 5، ومن خطبة له (عليه السلام) لما قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخاطبه العباس وأبو سفيان بن حرب في أن يبايعا له بالخلافة.
2- بحار الأنوار: ج29 ص141، الباب11 من تتمة كتاب الفتن والمحن، ح30.

..............................

وربما كان التعبير بالقلة عرفياً، حيث يعبر عن عدم المبالاة بقلته.

أو يقال: إنه (عليه السلام) في عين حال كونه في الحروب مقداماً شجاعاً فإنه كان حذراً أيضاً، ولذا كان يتلفت حوله في المعركة دوماً، عكس حمزة سيد الشهداء (عليه السلام) في زمانه، الذي من هنا استطاع وحشي أن يغتاله، وهذا المجموع هو الذي سبب صحة ودقة إطلاق (قلة مبالاته بحتفه)، فتأمل.

بين إهلاك النفس وقلة المبالاة بالحتف

مسألة: يظهر مما ذكر الفرق بين إلقاء النفس في التهلكة الذي هو محرم، وبين قلة مبالاته بحتفه في سبيل الله التي هي فضيلة.فإن الأصل هو «وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ»(1)، فيحرم الانتحار بكل أشكاله، ومن المحرم أيضاً العمليات الانتحارية التي يسمع بها في زماننا هذا حتى ضد الأعداء، فإنها من مصاديق العنف المحرم.

وكذا يحرم تعريض النفس للخطر لأمر باطل، كالتقاتل لغير الحق، أو في غير جبهة الحق، وأما القتال وتعريض النفس للخطر دفاعاً عن الدين أو النفس أو العرض أو المال - في بعض صوره - فإنه بشروطه المذكورة في كتاب الجهاد واجب وخارج عن (التهلكة) إما موضوعاً(2) أو حكماً.

ص: 258


1- سورة البقرة: 195.
2- حيث لا يعد من يخوض ساحات القتال مجاهداً في سبيل الله ممن ألقى بنفسه في التهلكة إذ لا تعد هذه تهلكة عرفاً ولا شرعاً ولا عقلاً.

..............................

قال تعالى: «وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبيلِ اللهِ وَالْمسْتَضْعَفينَ»(1).

والظاهر أن الخروج الموضوعي في أمثال ذلك، إذ قد أخذ في مفهوم مادة (هلك) بمشتقاتها ومنها (التهلكة): كونها ميتة سوء أو باطل، كما صرح بهعدد من أهل اللغة، وكما هو المتفاهم عرفاً، وكما عليه الاستعمال القرآني:

قال تعالى: «وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَا ظَلَمُوا»(2).

وقال سبحانه: «فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ»(3).

وقال تعالى: «وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحرْثَ وَالنَّسْلَ»(4).

وعن زيد بن وهب، قال: كَانَ الَّذِينَ أَنْكَرُوا عَلَى أَبِي بَكْرٍ جُلُوسَهُ فِي الْخِلاَفَةِ، وَتَقَدُّمَهُ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلاً مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، وَكَانَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ: خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَالْمِقْدَادُ بْنُ الأَسْوَدِ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، وَأَبُو ذَرٍّ الْغِفَارِيُّ، وَسَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَبُرَيْدَةُ الأَسْلَمِيُّ.

وَكَانَ مِنَ الأَنْصَارِ: خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ ذُو الشَّهَادَتَيْنِ، وَسَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، وَأَبُو أَيُّوبَ الأَنْصَارِيُّ، وَأَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ، وَغَيْرُهُمْ.

ص: 259


1- سورة النساء: 75.
2- سورة يونس: 13.
3- سورة الأنعام: 6، سورة الأنفال: 54.
4- سورة البقرة: 205.

..............................

فَلَمَّا صَعِدَ الْمِنْبَرَ، تَشَاوَرُوا بَيْنَهُمْفِي أَمْرِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَلاَّ نَأْتِيهِ فَنُنَزِّلَهُ عَنْ مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله). وَقَالَ آخَرُونَ: إِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ أَعَنْتُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: «وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ»، وَلَكِنِ امْضُوا بِنَا إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام)، نَسْتَشِيرُهُ وَنَسْتَطْلِعُ أَمْرَهُ.

فَأَتَوْا عَلِيّاً (عليه السلام)، فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، ضَيَّعْتَ نَفْسَكَ، وَتَرَكْتَ حَقّاً أَنْتَ أَوْلَى بِهِ، وَقَدْ أَرَدْنَا أَنْ نَأْتِيَ الرَّجُلَ، فَنُنْزِلَهُ عَنْ مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)؛ فَإِنَ الْحَقَّ حَقُّكَ، وَأَنْتَ أَوْلَى بِالأَمْرِ مِنْهُ، فَكَرِهْنَا أَنْ نُنْزِلَهُ مِنْ دُونِ مُشَاوَرَتِكَ.

فَقَالَ لَهُمْ عَلِيٌّ (عليه السلام): «لَوْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ، مَا كُنْتُمْ إِلاَّ حَرْباً لَهُمْ، وَلاَ كُنْتُمْ إِلاَّ كَالْكُحْلِ فِي الْعَيْنِ، أَوْ كَالْمِلْحِ فِي الزَّادِ، وَقَدِ اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الأُمَّةُ التَّارِكَةُ لِقَوْلِ نَبِيِّهَا، وَالْكَاذِبَةُ عَلَى رَبِّهَا.

وَلَقَدْ شَاوَرْتُ فِي ذَلِكَ أَهْلَ بَيْتِي، فَأَبَوْا إِلاّ السُّكُوتَ؛ لِمَا تَعْلَمُونَ مِنْ وَغْرِ صُدُورِ الْقَوْمِ، وَبُغْضِهِمْ للهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلأَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّهِ (عليهم السلام)، وَإِنَّهُمْ يُطَالِبُونَ بِثَارَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ.

وَاللهِ، لَوْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ لَشَهَرُوا سُيُوفَهُمْ مُسْتَعِدِّينَ لِلْحَرْبِ وَالْقِتَالِ، كَمَا فَعَلُوا ذَلِكَ حَتَّى قَهَرُونِي، وَغَلَبُونِي عَلَى نَفْسِيوَلَبَّبُونِي، وَقَالُوا لِي: بَايِعْ وَإِلاَّ قَتَلْنَاكَ!. فَلَمْ أَجِدْ حِيلَةً إِلاَّ أَنْ أَدْفَعَ الْقَوْمَ عَنْ نَفْسِي، وَذَاكَ أَنِّي ذَكَرْتُ قَوْلَ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله): يَا عَلِيُّ، إِنَّ الْقَوْمَ نَقَضُوا أَمْرَكَ، وَاسْتَبَدُّوا بِهَا دُونَكَ،وَعَصَوْنِي فِيكَ،فَعَلَيْكَ بِالصَّبْرِ حَتَّى يَنْزِلَ الأَمْرُ، أَلاَ وَإِنَّهُمْ سَيَغْدِرُونَ بِكَ

ص: 260

..............................

لاَ مَحَالَةَ، فَلاَ تَجْعَلْ لَهُمْ سَبِيلاً إِلَى إِذْلاَلِكَ وَسَفْكِ دَمِكَ؛ فَإِنَّ الأُمَّةَ سَتَغْدِرُ بِكَ بَعْدِي، كَذَلِكَ أَخْبَرَنِي جَبْرَئِيلُ (عليه السلام) عَنْ رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَلَكِنِ ائْتُوا الرَّجُلَ فَأَخْبِرُوهُ بِمَا سَمِعْتُمْ مِنْ نَبِيِّكُمْ، وَلاَ تَجْعَلُوهُ فِي الشُّبْهَةِ مِنْ أَمْرِهِ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَعْظَمَ لِلْحُجَّةِ عَلَيْهِ وَأَزْيَدَ، وَأَبْلَغَ فِي عُقُوبَتِهِ إِذَا أَتَى رَبَّهُ، وَقَدْ عَصَى نَبِيَّهُ، وَخَالَفَ أَمْرَهُ»(1).

من فضائل الإمام

مسألة: يستحب بيان أن الإمام علياً (عليه السلام) كان قليل المبالاة بحتفه في سبيل الله. وهذا البيان هو نوع عبادة في حد ذاته؛ لأنه ذكر لفضيلة من بحارفضائل علي بن أبي طالب (عليه السلام)، إضافة إلى أنه يبعث في الناس الشجاعة والتضحية في سبيل الله، فإن بيان أمثال هذه القضايا من أهم طرق تربية الناس على الشجاعة، واستنهاض المسلمين للتضحية في سبيل الله، لأن للأسوة تأثيرها الكبير في الإنسان بما يفوق التصور.

استحباب التضحية

مسألة: تستحب التضحية في سبيل الله وقلة المبالاة بالموت في طريقه، هذا في غير ما يتوقف عليه الواجب من الدفاع عن الدين وما أشبه، إذا توقف على قلة المبالاة، وإلاّ وجب.

ص: 261


1- الخصال: ج2 ص461 - 462، أبواب الاثني عشر، ح4.

..............................

عن أبي حيان التيمي، عن أبيه - وكان مع علي (عليه السلام) يوم صفين - قال: بَيْنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) يُعَبِّئُ الْكَتَائِبَ يَوْمَ صِفِّينَ، وَمُعَاوِيَةُ مُسْتَقْبِلُهُ عَلَى فَرَسٍ لَهُ يَتَأَكَّلُ تَحْتَهُ تَأَكُّلاً، وَعَلِيٌّ (عليه السلام) عَلَى فَرَسِ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) الْمُرْتَجِزِ، وَبِيَدِهِ حَرْبَةُ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، وَهُوَ مُتَقَلِّدٌ سَيْفَهُ ذُو الْفَقَارِ.

فقال رجل من أصحابه: احْتَرِسْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؛ فَإِنَّا نَخْشَى أَنْ يَغْتَالَكَهَذَا الْمَلْعُونُ.

فقال (عليه السلام): «لَئِنْ قُلْتَ ذَاكَ، إِنَّهُ غَيْرُ مَأْمُونٍ عَلَى دِينِهِ، وَإِنَّهُ لأَشْقَى الْقَاسِطِينَ، وَأَلْعَنُ الْخَارِجِينَ عَلَى الأَئِمَّةِ الْمُهْتَدِينَ، وَلَكِنْ كَفَى بِالأَجَلِ حَارِساً، لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ إِلاَّ وَمَعَهُ مَلاَئِكَةٌ حَفَظَةٌ، يَخْفَظُونَهُ مِنْ أَنْ يَتَرَدَّى فِي بِئْرٍ، أَوْ يَقَعَ عَلَيْهِ حَائِطٌ، أَوْ يُصِيبَهُ سُوءٌ، فَإِذَا حَانَ أَجَلُهُ، خَلَّوْا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يُصِيبُهُ. وَكَذَلِكَ أَنَا، إِذَا حَانَ أَجَلِي، انْبَعَثَ أَشْقَاهَا فَخَضَّبَ هَذِهِ مِنْ هَذَا - وَأَشَارَ إِلَى لِحْيَتِهِ وَرَأْسِهِ - عَهْداً مَعْهُوداً، وَوَعْداً غَيْرَ مَكْذُوبٍ»(1).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «قَدَّرَ اللهُ الْمَقَادِيرَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ»(2).

وعن جعفر بن محمد، قال: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ (عليهم السلام)

ص: 262


1- التوحيد للشيخ الصدوق: ص367 - 368، باب60 القضاء والقدر والفتنة والأرزاق والأسعار والآجال، ح5.
2- التوحيد للشيخ الصدوق: ص368، باب60 القضاء والقدر والفتنة والأرزاق والأسعار والآجال، ح7.

..............................

قَالَ: «دَخَلَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ (عليه السلام)عَلَى مُعَاوِيَةَ. فَقَالَ لَهُ: مَا حَمَلَ أَبَاكَ عَلَى أَنْ قَتَلَ أَهْلَ الْبَصْرَةِ، ثُمَّ دَارَ عَشِيّاً فِي طُرُقِهِمْ فِي ثَوْبَيْنِ؟.

فَقَالَ (عليه السلام): حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ عِلْمُهُ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَأَنَّ مَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ. قَالَ: صَدَقْتَ.

وقَالَ: وَقِيلَ لأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) - لَمَّا أَرَادَ قِتَالَ الْخَوَارِجِ -: لَوِ احْتَرَزْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ (عليه السلام):

أَيَّ يَوْمَيَّ مِنَ الْمْتِ أَفِرُّ *** أَ يَوْمَ لَم يُقْدَرْ أَمْ يَوْمَ قُدِر

يَوْمَ مَا قُدِّرَ لَا أَخْشَى الرَّدَى *** وَ إِذَا قُدِّرَ لَم يُغْنِ الْحذَر(1)

وعن يحيى بن أبي كثير، قال: قِيلَ لأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): أَلاَ نَحْرُسُكَ؟.

قال (عليه السلام): «حَرَسُ كُلِّ امْرِئٍ أَجَلُهُ»(2).

وعن سعيد بن وهب قال: كُنَّا مَعَ سَعِيدِ بْنِ قَيْسٍ بِصِفِّينَ لَيْلاً، وَالصَّفَّانُ يَنْظُرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ، حَتَّى جَاءَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)، فَنَزَلْنَا عَلَى فِنَائِهِ.

فقال له سعيد بن قيس: أَ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَ مَا خِفْتَشَيْئاً!.

ص: 263


1- التوحيد للشيخ الصدوق: ص374 - 375، باب60 القضاء والقدر والفتنة والأرزاق والأسعار والآجال، ح19.
2- التوحيد للشيخ الصدوق: ص379، باب60 القضاء والقدر والفتنة والأرزاق والأسعار والآجال، ح25.

..............................

قال (عليه السلام): «وَأَيَّ شَيْءٍ أَخَافُ، إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ إِلا وَمَعَهُ مَلَكَانِ مُوَكَّلاَنِ بِهِ أَنْ يَقَعَ فِي بِئْرٍ، أَوْ تَضُرَّ بِهِ دَابَّةٌ، أَوْ يَتَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ، حَتَّى يَأْتِيَهُ الْقَدَرُ، فَإِذَا أَتَى الْقَدَرُ خَلَّوْا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ»(1).

وعن الزهري، قال: قَالَ رَجُلٌ لِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (عليه السلام): جَعَلَنِيَ اللهُ فِدَاكَ، أَ بِقَدَرٍ يُصِيبُ النَّاسَ مَا أَصَابَهُمْ أَمْ بِعَمَلٍ؟.

فقال (عليه السلام): «إِنَّ الْقَدَرَ وَالْعَمَلَ بِمَنْزِلَةِ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ، فَالرُّوحُ بِغَيْرِ جَسَدٍ لاَ تُحَسُّ، وَالْجَسَدُ بِغَيْرِ رُوحٍ صُورَةٌ لاَ حَرَاكَ بِهَا. فَإِذَا اجْتَمَعَا قَوِيَا وَصَلُحَا، كَذَلِكَ الْعَمَلُ وَالْقَدَرُ، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْقَدَرُ وَاقِعاً عَلَى الْعَمَلِ، لَمْ يُعْرَفِ الْخَالِقُ مِنَ الْمَخْلُوقِ، وَكَانَ الْقَدَرُ شَيْئاً لاَ يُحَسُّ. وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْعَمَلُ بِمُوَافَقَةٍ مِنَ الْقَدَرِ، لَمْ يَمْضِ وَلَمْ يَتِمَّ، وَلَكِنَّهُمَا بِاجْتِمَاعِهِمَا قَوِيَا، وَللهِ فِيهِ الْعَوْنُ لِعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ - ثم قال (عليه السلام) - أَلاَ إِنَّ مِنْ أَجْوَرِ النَّاسِ مَنْ رَأَى جَوْرَهُ عَدْلاً، وَعَدْلَ الْمُهْتَدِي جَوْراً.أَلاَ إِنَّ لِلْعَبْدِ أَرْبَعَةَ أَعْيُنٍ، عَيْنَانِ يُبْصِرُ بِهِمَا أَمْرَ آخِرَتِهِ، وَعَيْنَانِ يُبْصِرُ بِهِمَا أَمْرَ دُنْيَاهُ، فَإِذَا أَرَادَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِعَبْدٍ خَيْراً، فَتَحَ لَهُ الْعَيْنَيْنِ اللَّتَيْنِ فِي قَلْبِهِ، فَأَبْصَرَ بِهِمَا الْعَيْبَ. وَإِذَا أَرَادَ غَيْرَ ذَلِكَ، تَرَكَ الْقَلْبَ بِمَا فِيهِ - ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى السَّائِلِ عَنِ الْقَدَرِ - فَقَالَ: هَذَا مِنْهُ، هَذَا مِنْهُ»(2).

ص: 264


1- التوحيد للشيخ الصدوق: ص379، باب60 القضاء والقدر والفتنة والأرزاق والأسعار والآجال، ح26.
2- التوحيد للشيخ الصدوق: ص366 - 367، باب60 القضاء والقدر والفتنة والأرزاق والأسعار والآجال، ح4.

وَشِدَّةَ وَطْأَتِهِ، وَنَكَالَ وَقْعَتِهِ

اشارة

-------------------------------------------

شدة الوطأة على الأعداء في الجملة

الوطئ والوطئة: الأخذ الشديد، وأصله السحق بالقدم، فكأنما يطأ الشيء بقدمه فقد استقضى في هلاكه وإهانته وإذلاله.

وكان الإمام علي (عليه السلام) شديد الوطئة على الكفار المحاربين لله ولرسوله (صلى الله عليه وآله) وللإسلام، فكان شديداً في إذلالهم وإهانتهم ومنعهم عن النيل من الإسلام والمسلمين، فيما كان الأمر يقتضي الشدة.

مسألة: يستحب وقد يجب أن يكون الإنسان شديد الوطئة على أعداء الله، كما قال تعالى: «أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ»(1). ففف

وغير خفي أن شدة الوطئة على أعداء الله والدين والرسول (صلى الله عليه وآله) وأهل البيت (عليهم السلام) في موضع الشدة، وهذا لا يتنافى مع أصالة الرحمة والعطف واللين والأخلاق وما أشبه التي هي الأصل في الإسلام، فإن لكل أصل استثناء بشرائطه، محدد بلسان الشرعأو بحكم العقل.

فالإرهابي أو الخارجي مثلاً إذا رفع السلاح على الأبرياء، فإنه يجب أن يواجه بشدة بعد اليأس عن المحاولات الأخرى، لكنه إذا وضع السلاح فإنه يعامل وفق الأصل أي الرفق والأخلاق، كما في الخوارج في زمن علي (عليه السلام) حيث إنهم بعد وضع السلاح عاملهم الإمام (عليه السلام) برفق وعفو

ص: 265


1- سورة الفتح: 29.

وتسامح وأجرى لهم العطاء من بيت المال.

وكذا الكفار فإن الأصل بالنسبة إليهم الرفق أيضاً، إلا إذا واجهونا بالحرب، أما إذا طلبوا الصلح والإصلاح، أو كانوا على حياد، أو على معاهدة، أو ما أشبه فالمسألة تختلف، قال تعالى: «وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ»(1). فلكل من الشدة واللين موطن، والأصل اللين والرفق حتى مع الأعداء، قال تعالى: «لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذينَ لَم يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَم يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ»(2).

وقد ذكرنا تفصيل الكلام في الفقه(3).

حرمة الشدة في غير محلها

مسألة: يحرم أن يستخدم الشدة في موطن الرحمة واللين، أو أن يستخدم اللين واللطف في موطن لزوم الشدة، إذ كثيراً ما يحدث أن الإنسان يخلط أهواءه الشخصية وعواطفه وإحساساته، فيتخذ موقفاً من الشدة أو اللين على غير ما يقتضيه المقام والعقل والدين، وذلك كما في قضية حاطب بن أبي بلتعة.

وقد روي: أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) لَمَّا أَرَادَ فَتْحَ مَكَّةَ، سَأَلَ اللهَ جَلَّ اسْمُهُ أَنْ يُعْمِيَ أَخْبَارَهُ عَلَى قُرَيْشٍ لِيَدْخُلَهَا بَغْتَةً، وَكَانَ (صلى الله عليه وآله) قَدْ بَنَى الأَمْرَ فِي مَسِيرِهِ إِلَيْهَا عَلَى الاِسْتِسْرَارِ بِذَلِكَ.

ص: 266


1- سورة الأنفال: 61.
2- سورة الممتحنة: 8.
3- للتفصيل انظر كتاب (الفقه: السلم والسلام) للإمام المؤلف (قدس سره).

..............................

فَكَتَبَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ يُخْبِرُهُمْ بِعَزِيمَةِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) عَلَى فَتْحِهَا، وَأَعْطَى الْكِتَابَ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَتْ وَرَدَتِ الْمَدِينَةَ تَسْتَمِيحُ النَّاسَ وَتَسْتَبِرُّهُمْ، وَجَعَلَ لَهَا جُعْلاً أَنْ تُوصِلَهُ إِلَى قَوْمٍ سَمَّاهُمْ لَهَا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَأَمَرَهَا أَنْ تَأْخُذَ عَلَى غَيْرِ الطَّرِيقِ.

فَنَزَلَ الْوَحْيُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) بِذَلِكَ، فَاسْتَدْعَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)، وَقَالَ لَهُ: «إِنَّ بَعْضَ أَصْحَابِي قَدْ كَتَبَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ يُخْبِرُهُمْ بِخَبَرِنَا، وَقَدْ كُنْتُ سَأَلْتُ اللهَ أَنْ يُعْمِيَ أَخْبَارَنَاعَلَيْهِمْ، وَالْكِتَابُ مَعَ امْرَأَةٍ سَوْدَاءَ قَدْ أَخَذَتْ عَلَى غَيْرِ الطَّرِيقِ، فَخُذْ سَيْفَكَ وَالْحَقْهَا وَانْتَزِعِ الْكِتَابَ مِنْهَا، وَخَلِّهَا وَصِرْ بِهِ إِلَيَّ».

ثُمَّ اسْتَدْعَى الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ، وَقَالَ لَهُ: «امْضِ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي هَذَا الْوَجْهِ». فَمَضَيَا وَأَخَذَا عَلَى غَيْرِ الطَّرِيقِ فَأَدْرَكَا الْمَرْأَةَ، فَسَبَقَ إِلَيْهَا الزُّبَيْرُ فَسَأَلَهَا عَنِ الْكِتَابِ الَّذِي مَعَهَا، فَأَنْكَرَتْ وَحَلَفَتْ أَنَّهُ لاَ شَيْءَ مَعَهَا وَبَكَتْ. فَقَالَ الزُّبَيْرُ: مَا أَرَى يَا أَبَا الْحَسَنِ مَعَهَا كِتَاباً، فَارْجِعْ بِنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) نُخْبِرْهُ بِبَرَاءَةِ سَاحَتِهَا.

فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «يُخْبِرُنِي رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) أَنَّ مَعَهَا كِتَاباً وَيَأْمُرُنِي بِأَخْذِهِ مِنْهَا، وَتَقُولُ أَنْتَ: إِنَّهُ لاَ كِتَابَ مَعَهَا».

ثُمَّ اخْتَرَطَ (عليه السلام) السَّيْفَ، وَتَقَدَّمَ إِلَيْهَا فَقَالَ: «أَمَا وَاللهِ لَئِنْ لَمْ تُخْرِجِي الْكِتَابَ لأَكْشِفَنَّكِ، ثُمَّ لأَضْرِبَنَّ عُنُقَكِ».

فَقَالَتْ: إِذَا كَانَ لاَبُدَّ مِنْ ذَلِكَ، فَأَعْرِضْ يَا ابْنَ أَبِي طَالِبٍ بِوَجْهِكَ عَنِّي،

ص: 267

..............................

فَأَعْرَضَ بِوَجْهِهِ عَنْهَا، فَكَشَفَتْ قِنَاعَهَا وَأَخْرَجَتِ الْكِتَابَ مِنْ عَقِيصَتِهَا، فَأَخَذَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه

السلام)، وَصَارَ بِهِإِلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله)، فَأَمَرَ أَنْ يُنَادَى: الصَّلاَةَ جَامِعَةً، فَنُودِيَ فِي النَّاسِ، فَاجْتَمَعُوا إِلَى الْمَسْجِدِ حَتَّى امْتَلأَ بِهِمْ، ثُمَّ صَعِدَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) إِلَى الْمِنْبَرِ وَأَخَذَ الْكِتَابَ بِيَدِهِ، وَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي كُنْتُ سَأَلْتُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُخْفِيَ أَخْبَارَنَا عَنْ قُرَيْشٍ، وَإِنَّ رَجُلاً مِنْكُمْ كَتَبَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ يُخْبِرُهُمْ بِخَبَرِنَا، فَلْيَقُمْ صَاحِبُ الْكِتَابِ، وَإِلاَّ فَضَحَهُ الْوَحْيُ». فَلَمْ يَقُمْ أَحَدٌ، فَأَعَادَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) مَقَالَتَهُ ثَانِيَةً، وَقَالَ: «لِيَقُمْ صَاحِبُ الْكِتَابِ، وَإِلاَّ فَضَحَهُ الْوَحْيُ».

فَقَامَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ، وَهُوَ يَرْعُدُ كَالسَّعَفَةِ فِي يَوْمِ الرِّيحِ الْعَاصِفِ، فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ صَاحِبُ الْكِتَابِ، وَمَا أَحْدَثْتُ نِفَاقاً بَعْدَ إِسْلاَمِي، وَلاَ شَكّاً بَعْدَ يَقِينِي.

فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): «فَمَا الَّذِي حَمَلَكَ عَلَى أَنْ كَتَبْتَ هَذَا الْكِتَابَ؟!».

قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي أَهْلاً بِمَكَّةَ، وَلَيْسَ لِي بِهَا عَشِيرَةٌ، فَأَشْفَقْتُ أَنْ تَكُونَ دَائِرَةٌ لَهُمْ عَلَيْنَا، فَيَكُونُ كِتَابِي هَذَا كَفّاً لَهُمْ عَنْ أَهْلِي، وَيَداً لِي عِنْدَهُمْ، وَلَمْ أَفْعَلْ ذَلِكَ لِلشَّكِّ فِي الدِّينِ.

فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مُرْنِي بِقَتْلِهِ، فَإِنَّهُ مُنَافِقٌ.فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): «إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ وَلَعَلَّ اللهَ تَعَالَى اطَّلَعَ عَلَيْهِمْ فَغَفَرَ لَهُمْ، أَخْرِجُوهُ مِنَ الْمَسْجِدِ».

ص: 268

..............................

قَالَ: فَجَعَلَ النَّاسُ يَدْفَعُونَ فِي ظَهْرِهِ حَتَّى أَخْرَجُوهُ، وَهُوَ يَلْتَفِتُ إِلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) لِيَرِقَّ عَلَيْهِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى اله عليه وآله) بِرَدِّهِ، وَقَالَ لَهُ: «قَدْ عَفَوْتُ عَنْكَ وَعَنْ جُرْمِكَ، فَاسْتَغْفِرْ رَبَّكَ وَلا تَعُدْ بِمِثْلِ مَا جَنَيْتَ»(1).

وكما فيما أشار إليه تعالى بقوله: «لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ في قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ»(2).

وعلى هذا فيجب أن يتجرد الإنسان من أهوائه بينه وبين الله عند اتخاذه المواقف من الناس، أصدقاءً كانوا أم أعداءً. قال تعالى: «وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى»(3).

وكذلك كان الإمام علي (عليه السلام)حيث كان كما وصفته الصديقة الطاهرة (عليها السلام) شديد الوطأة على أعداء الله والرسول، وإن كان يعلم بأن ذلك يضر به وبمستقبله أكبر الضرر، ويؤدي إلى اضطهاده وضرب ثم قتل حليلته الصديقة فاطمة (عليها السلام) وابنه المحسن الشهيد (عليه السلام).. وهذا ما حدث، حيث قام المنافقون والصحابة المنقلبون على الأعقاب بانقلاب على خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) في (سقيفة بني ساعدة) وتنحيته عن الخلافة، وغصبوا حقه

ص: 269


1- بحار الأنوار: ج21 ص119- 121، تتمة كتاب تاريخ نبينا (صلى الله عليه وآله)، تتمة أبواب أحواله (صلى الله عليه وآله) من البعثة إلى نزول المدينة، ب26 فتح مكة، ح18، عن الإرشاد.
2- سورة المجادلة: 22.
3- سورة المائدة: 8.

..............................

وأحرقوا داره وضربوا زوجته وكسروا ضلعها وأسقطوا جنينها محسناً، وجرى كل الذي جرى لأنه (عليه السلام) كان لا يهادن في الحق، ولا يحيد عن الصدق، ولا يراوغ ولا يمالئ الباطل، ولا يلين في مواطن الشدة، ولا يشتد في مواطن اللين.

التأسي بالإمام (عليه السلام)

مسألة: يجب بيان ما سبق من أن علياً (عليه السلام) كان شديداً وطأته، نكالاً وقعته في مواردهما، ويجب التأسي به في كل ذلك، فإنه (عليه السلام) كان شديداًفي موضع الشدة، ورؤوفاً وعطوفاً في موضع العطف، ولذا تعامل مع الخوارج بمنتهى اللطف لما وضعوا السلاح.

وهذه صفة من صفات الباري عزَّ وجل التي يجب تعلمها حيث ورد في الحديث: «تَخَلَّقُوا بِأَخْلاَقِ اللهِ» (1)، فإنه جل وعلا «أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فِي مَوْضِعِ الْعَفْوِ وَالرَّحْمَةِ، وَأَشَدُّ الْمُعَاقِبِينَ فِي مَوْضِعِ النَّكَالِ وَالنَّقِمَةِ»(2)، وهو «شَدِيدُ الْعِقَابِ»(3) في موضعه، وهو «أَرْحَمُ الرَّاحِمينَ»(4) في موضعه.

ص: 270


1- بحار الأنوار: ج58 ص129، تتمة كتاب السماء والعالم، الباب42 من تتمة أبواب الإنسان والروح والبدن وأجزائه وقواهما وأحوالهما، تتميم.
2- تهذيب الأحكام: ج3 ص108،ب5، دعاء أول يوم من شهر رمضان، ح38.
3- سورة البقرة: 196، واثنا عشر موضعاً آخر من القرآن الكريم.
4- سورة الأعراف: 151، وثلاثة مواضع أخرى من القرآن الكريم.

..............................

مسألة: يجب أن يكون الإنسان كعلي أمير المؤمنين (عليه السلام) في التنكيل بالأعداء حيث اقتضى الأمر ذلك.

و(النكال) هو أن يصنع به صنيعاً يحذر به غيره، ويجعله عبرة له،والنكال: العقوبة، ونكَّل بفلان: صنع به ما يحذر به غيره عند رؤيته أو السماع عنه. قال تعالى: «فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِما بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا»(1)، أي جعلنا قرية أهل السبت عبرة لما بين يديها من القرى وما خلفها ليتعظوا بها.

وإلى ذلك أشارة الصديقة (عليها السلام) في صفة أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث قالت: «وَنَكَالَ وَقْعَتِهِ».

والوقعة: الصدمة في الحرب ونحوها، ووقعة السيف: نزوله بالضربة، أي إن علياً (عليه السلام) كان ينكل بهم في الحروب دفاعاً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعن دين الله و«لاَ تَأْخُذُهُ فِي اللهِ لَوْمَةُ لاَئِمٍ»(2).

قال تعالى: «يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ»(3).

وقال سبحانه: «فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ»(4).

ص: 271


1- سورة البقرة: 66.
2- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص127، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في الاستنابة والولاية.
3- سورة المائدة: 54.
4- سورة الأنفال: 57.

..............................

وهذا الصنيع الذي يشرد به من خلفهم واجب، لأنه يدفع ضرراً أكبر، إذ يحول دون أن يعاود الكفار الهجوم فتقع حرب أخرى وسيل من القتلى والجرحى.

وواضح أن كل ذلك في إطار العدل والحد المسموح في الحرب، بل إن ذلك كان كله في إطار (الإحسان إلى العدو)، ولذا نجد الإمام علي (عليه السلام) سمح لجيش معاوية بالشرب من النهر لما ملكه، رغم أنهم منعوه وجيشه من الشرب عندما ملكوا النهر(1).

وكذلك صنع الإمام الحسين (عليه السلام) مع جيش الحر، حيث سقاهم الماء بل أمر (عليه السلام) بترشيف خيولهم، قال: «وَرَشِّفُوا الْخَيْلَ تَرْشِيفاً»(2).

فالشدة ونكال الوقعة كانت بقدر الضرورة القصوى فقط، وما عداه كان كله لطف وإحسان وعفو وصفح وهو الأصل في الإسلام كما بينا.

وكذلك منَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله)على أهل مكة(3)، ومنَّ علي (عليه السلام) على أهل البصرة(4)، وفتح المجال للمعارضة السياسية والعقائدية بأوسع الأبواب، كما ذكرنا بعض تفصيله في كتاب (الإمام علي (عليه السلام) شمس في

ص: 272


1- بحار الأنوار: ج32 ص443، تتمة كتاب الفتن والمحن، الباب11 من أبواب ما جرى بعد قتل عثمان من الفتن والوقائع والحروب وغيرها، ح393.
2- وقعة الطف - أبو مخنف: ص168، خروج الحسين (عليه السلام) من مكة، منازل الطريق، ذو حسم.
3- الكافي: ج3 ص513، كتاب الزكاة، باب أقل ما يجب فيه الزكاة من الحرث، ح2.
4- تفسير فرات الكوفي: ص111- 112، سورة النساء الآيات 69 إلى 70، ح113.

..............................

أفق البشرية) (1) وفي كتاب (الصياغة) (2) وغيرهما(3).

تقييم التاريخ

مسألة: يجب إعادة النظر في التاريخ على ضوء خطبة الصديقة الزهراء (عليها السلام)، وكلمات الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، وخطب أمير المؤمنين (عليه السلام)، وروايات سائر أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، ويجب عرض كل مقطع تاريخي على سيرتهم (عليهم السلام)؛ ليعرف مدى صوابه أو خطئه، ويعرف مدى التزام الأشخاص بها وتخلفهم عنها.

ص: 273


1- طبع الكتاب باللغة الفارسية تحت عنوان (أمير المؤمنين عليه السلام خورشيدي در أفق بشريت).
2- واسمه الكامل: (الصياغة الجديدة لعالم الإيمان والحرية والرفاه والسلام)، وهو من تأليفات سماحة الإمام الشيرازي (أعلى الله مقامه) في قم المقدسة. يقع الكتاب في 736 صفحة قياس 24×17. طبع كراراً في إيران ولبنان.
3- انظر كتاب: (ولأول مرة في تاريخ العالم ج1 و2)، وكتاب (من حياة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله)، و(من حياة أمير المؤمنين عليه السلام) للإمام المؤلف (قدس سره).

وَتَنَمُّرَهُ فِي ذَاتِ اللهِ

اشارة

-------------------------------------------

التنمر في ذات الله

يقال: تنمَّر فلان، أي تغير وتنكر وأوعد؛ لأن النمر لا تلقاه عادة إلا متنكراً غضباناً.

وأما (في ذات الله) فمعناه يتضح بعد التدقيق في معنى (ذات) فإن الذات تطلق على:

ألف: الشيء نفسه، تقول: شاهدته بذاته أي بعينه ونفسه، وتقول: رأيت الشيء ذاته أو بذاته أي بنفسه.

ب: الحقيقة، تقول: وما أدراني بذاته؟ أي بحقيقته وواقعه.

ج: الخلقة والبنية أو الطينة، تقول: فلان صالح في ذاته أو طالح في ذاته، أي في خلقته وطينته، أي إنه مجبول على الخير.

د: وقد يراد بالذات الأحوال المتعلقة بالشيء أو ما يتضمن الشيء، قال سبحانه: «إِنَّهُ عَليمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ»(1)، أي بالمضمرات التي في صدور الناس.

وقال تعالى: «وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ»(2)، أيالحالة التي بينكم فلا تفسدوها، أي علاقاتكم وروابطكم، وهي من الأحوال المتعلقة بالإنسان.

ص: 274


1- سورة الأنفال: 43.
2- سورة الأنفال: 43.

..............................

وللذات معان أخر ليس هنا محل ذكرها(1).

والمقصود من كلامها (عليها السلام): «وَتَنَمُّرَهُ فِي ذَاتِ اللهِ» أي في مختلف الشؤون التي تتعلق بالله جل وعلا، فكل ما يرتبط بالعقيدة أو الشريعة، وبالأنبياء والرسل والأوصياء، وبأوامره ونواهيه، وفيما يتلقاه الناس في الأمور العامة أم الأحوال الشخصية، و على مختلف الأصعدة السياسية منها أو العبادية أو الاقتصادية أو ما أشبه، فإنه (عليه السلام) متنمر في الدفاع عما يرتبط بالله عز وجل، و(لا تأخذه في الله لومة لائم).

مسألة: يستحب وقد يجب التنمر في ذات الله.

ولا فرق في ذلك بين شؤون العقيدة وشؤون الشريعة، ولا بين ما يتصوره الناس صغيراً أو كبيراً، قال تعالى:«وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظيمٌ»(2).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «أَشَدُّ الذُّنُوبِ مَا اسْتَهَانَ بِهِ صَاحِبُهُ»(3).

وقال تعالى: «أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ»(4).

ص: 275


1- مثلاً قوله تعالى: «وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ» أي طرفه وجهته، سورة الكهف: 18.
2- سورة النور: 15.
3- نهج البلاغة: حكم أمير المؤمنين (عليه السلام) الرقم354.
4- سورة البقرة: 85.

..............................

ومن أهم مصاديق ما يجب له التنمر في الله، ما إذا تعرض أوصياء الرسول (صلى الله عليه وآله) لهجوم أو نقد، أو تقليل من شأنهم، أو إنكار لأحقيتهم بالخلافة، أو إنكار لأي حق من حقوقهم كفدك، أو التهوين من أمر الظلم الذي وقع عليهم، أو ما أشبه، فإن الواجب أن يبذل الإنسان جهده ليلاً ونهاراً في الدفاع عنهم، باللسان والقلم والمال والفكر وما أشبه ذلك.

التنمر لله عز وجل لا للهوى

مسألة: يلزم أن يكون التنمر لله، وليسلهوى النفس أو شهرة أو رياسة أو جلب منفعة أو دفع مضرة، ولو تطابق ذلك فإن نية الإنسان ينبغي أن تكون لله، لا لما طابقه من شهرة أو رياسة، وإلا فإنه لا يؤجر على ذلك.

قال تعالى في الحديث القدسي : «أَنَا خَيْرُ شَرِيكٍ، مَنْ عَمِلَ لِي وَلِغَيْرِي، فَهُوَ لِمَنْ عَمِلَ لَهُ دُونِي»(1).

هذا لو تطابق العمل لله مع ما فيه الشهرة والرياسة أو ما أشبه مما يتطابق مع الأهواء، أما لو تطابق مع جلب منفعة أو دفع مضرة، فإن قصد بهما الآخرة أيضاً فلا إشكال(2).

ص: 276


1- تفسير العياشي: ج2 ص353، سورة الكهف: آية 110، ح95.
2- كما لو شارك في معركة ضد الكفار تنمراً في ذات الله، ولأجل أن يحصل على الغنائم أيضا لينفقها في سبيل الله كبناء مسجد، «أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ» سورة البلد: 14 - 16.

..............................

وإن لم يقصد بهما الآخرة أو القربة بل بما هما، فإن كان بنحو الداعي على الداعي لم يضر بصحة العمل وقبوله إن كان قصده الأول هو الله، وإلا فلم يؤجر، وإن كان تعبدياً في الأخير بطل.عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «نِيَّةُ الْمَرْءِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ، وَنِيَّةُ الْفَاجِرِ شَرٌّ مِنْ عَمَلِهِ، وَكُلُّ عَامِلٍ يَعْمَلُ بِنِيَّتِهِ»(1).

وعن محمد بن مسلم، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «مَنْ حَسُنَتْ نِيَّتُهُ زَادَ اللهُ فِي رِزْقِهِ»(2).

وعن إسحاق بن عمار ويونس، قالا: سَأَلْنَا أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) عَنْ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: «خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ»(3)، أَقُوَّةٌ فِي الأَبْدَانِ أَوْ قُوَّةٌ فِي الْقَلْبِ؟. قال (عليه السلام): «فِيهِمَا جَمِيعاً»(4).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ الْفَقِيرَ لَيَقُولُ: يَا رَبِّ ارْزُقْنِي؛ حَتَّى أَفْعَلَ كَذَا وَكَذَا مِنَ الْبِرِّ وَوُجُوهِ الْخَيْرِ، فَإِذَا عَلِمَ اللهُ ذَلِكَ مِنْهُ بِصِدْقِ نِيَّتِهِ، كَتَبَ اللهُ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلَ مَا يَكْتُبُ لَهُ لَوْ عَمِلَهُ، إِنَّ اللهَ وَاسِعٌكَرِيمُ»(5).

ص: 277


1- المحاسن: ج1 ص260، كتاب مصابيح الظلم، باب النية، ح315.
2- المحاسن: ج1 ص261، كتاب مصابيح الظلم، باب النية، ح318.
3- سورة البقرة: 63 و93، سورة الأعراف: 171.
4- المحاسن: ج1 ص261، كتاب مصابيح الظلم، باب النية، ح319.
5- المحاسن: ج1 ص261، كتاب مصابيح الظلم، باب النية، ح320.

..............................

وعن خيثمة بن عبد الرحمن الجعفي، قال: سَأَلَ عِيسَى بْنُ عَبْدِ اللهِ الْقُمِّيُّ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) وَأَنَا حَاضِرٌ، فَقَالَ: مَا الْعِبَادَةُ؟. فقال (عليه السلام): «حُسْنُ النِّيَّةِ بِالطَّاعَةِ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي يُطَاعُ اللهُ مِنْهُ».

وفي حديث آخر، قال (عليه السلام): «حُسْنُ النِّيَّةِ بِالطَّاعَةِ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ»(1).

وعن الحكم بن عيينة، قال: لَمَّا قَتَلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) الْخَوَارِجَ يَوْمَ النَّهْرَوَانِ، قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، طُوبَى لَنَا إِذْ شَهِدْنَا مَعَكَ هَذَا الْمَوْقِفَ، وَقَتَلْنَا مَعَكَ هَؤُلاَءِ الْخَوَارِجَ.

فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، لَقَدْ شَهِدَنَا فِي هَذَا الْمَوْقِفِ أُنَاسٌ لَمْ يَخْلُقِ اللهُ آبَاءَهُمْ وَلاَ أَجْدَادَهُمْ بَعْدُ».فقال الرجل: وَكَيْفَ شَهِدَنَا قَوْمٌ لَمْ يُخْلَقُوا؟!.

قال (عليه السلام): «بَلَى قَوْمٌ يَكُونُونَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، يَشْرَكُونَنَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، وَهُمْ يُسَلِّمُونَ لَنَا، فَأُولَئِكَ شُرَكَاؤُنَا فِيمَا كُنَّا فِيهِ حَقّاً حَقّاً»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إِنَّ اللهَ يَحْشُرُ النَّاسَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(3).

ص: 278


1- المحاسن: ج1 ص261، كتاب مصابيح الظلم، باب النية، ح321.
2- المحاسن: ج1 ص261 -232، كتاب مصابيح الظلم، باب النية، ح322.
3- المحاسن: ج1 ص262، كتاب مصابيح الظلم، باب النية، ح325.

..............................

من أوصاف الأمير (عليه السلام)

مسألة: يستحب بيان أن علياً (عليه السلام) كان متنمراً في ذات الله، كما وصفته الصديقة فاطمة (عليها السلام).

والفرق بين أمير المؤمنين (عليه السلام) وغيره أن تنمره في ذات الله كان في أعلى المراتب، كيفاً وجهةً وكماً، فكان في جميع الأحوال وفي جميع الأزمان كذلك، وكان في أعلى درجات ذلك في الصور والحالات والأزمنة كلها.

وقد ورد في وصف آخر له (عليه السلام): «مَكْدُوداً فِي ذَاتِ اللهِ»(1)، أي من بلغه الكد والتعب والأذى في سبيل الله.

وفي وصف آخر: «لَخشِنٌ فِي ذَاتِ اللهِ»(2)، أي لا يداهن في دين الله عزوجل.

إلى غير ذلك من متواتر الروايات والقصص والأحداث، مما يدل على تنمَّره(عليه السلام) في ذات الله، كعدم قتله عمرو بن عبدود فوراً؛ حيث تفل في وجه الإمام (عليه السلام) (3)، ومبيته في الفراش ليلة المبيت، وقصة يوم الإنذار،

ص: 279


1- الإختصاص: ص121، طائفة من أحاديث الأئمة (عليهم السلام) وأصحابهم وغيرهم، حديث علي (عليه السلام) مع الخوارج وإرسال صعصعة بن صوحان إليهم.
2- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص110، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في المسابقة بالعدل والأمانة.
3- روي أنه لَمَّا أَدْرَكَ علي (عليه السلام) عَمْرَو بْنَ عَبْدَ وُدٍّ لَمْ يَضْرِبْهُ، فَوَقَعُوا فِي عَلِيٍّ (عليه السلام)، فَرَدَّ عَنْهُ حُذَيْفَةُ. فَقَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): «مَهْ يَا حُذَيْفَةُ، فَإِنَّ عَلِيّاً سَيَذْكُرُ سَبَبَ وَقْفَتِهِ».◄ ►ثُمَّ إِنَّهُ ضَرَبَهُ، فَلَمَّا جَاءَ سَأَلَهُ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) عَنْ ذَلِكَ. فَقَالَ: «قَدْ كَانَ شَتَمَ أُمِّي، وَتَفَلَ فِي وَجْهِي، فَخَشِيتُ أَنْ أَضْرِبَهُ لِحَظِّ نَفْسِي، فَتَرَكْتُهُ حَتَّى سَكَنَ مَا بِي، ثُمَّ قَتَلْتُهُ فِي اللهِ». مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص115، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في حلمه وشفقته.

..............................

وفي خيبر، وغيرها وغيرها(1).

فضائل الزوج

مسألة: يستحب للزوجة بيان فضائل زوجها، وقد يجب كما في مثل المقام، أي فيما كان إحقاقاً للحق ودفعاًللباطل وتوقف على ذلك.

وهذا مما يدل أيضاً على اهتمام الإسلام بإسعاد الحياة الزوجية، وهناك تعاليم أخرى مذكورة في محلها.

وعن أبي إبراهيم (عليه السلام)، قال: «جِهَادُ الْمَرْأَةِ حُسْنُ التَّبَعُّلِ»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام): «أَنَّ قَوْماً أَتَوْا رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله), فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا رَأَيْنَا أُنَاساً يَسْجُدُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): لَوْ أَمَرْتُ أَحَداً أَنْ يَسْجُدَ لأَحَدٍ، لأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا»(3).

ص: 280


1- راجع كتاب (ولأول مرة في تاريخ العالم) ج1 و2، وكتاب (من حياة أمير المؤمنين عليه السلام) للمؤلف (قدس سره).
2- الكافي: ج5 ص507، كتاب النكاح، باب حق الزوج على المرأة، ح4.
3- الكافي: ج5 ص507 - 508، كتاب النكاح، باب حق الزوج على المرأة، ح6.

..............................

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله). فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا حَقُّ الزَّوْجِ عَلَى الْمَرْأَةِ؟. قَالَ: أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ. فَقَالَتْ: فَخَبِّرْنِي عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ؟. فَقَالَ: لَيْسَ لَهَا أَنْ تَصُومَ إِلاَّ بِإِذْنِهِ - يَعْنِي تَطَوُّعاً - وَلاَ تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِهَا إِلاَّ بِإِذْنِهِ، وَعَلَيْهَا أَنْ تَطَيَّبَ بِأَطْيَبِ طِيبِهَا، وَتَلْبَسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهَا، وَتَزَيَّنَ بِأَحْسَنِ زِينَتِهَا،وَتَعْرِضَ نَفْسَهَا عَلَيْهِ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً، وَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ حُقُوقُهُ عَلَيْهَا»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «أَتَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله). فَقَالَتْ: مَا حَقُّ الزَّوْجِ عَلَى الْمَرْأَةِ؟. فَقَالَ: أَنْ تُجِيبَهُ إِلَى حَاجَتِهِ وَإِنْ كَانَتْ عَلَى قَتَبٍ، وَلاَ تُعْطِيَ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِهِ، فَإِنْ فَعَلَتْ فَعَلَيْهَا الْوِزْرُ وَلَهُ الأَجْرُ، وَلاَ تَبِيتَ لَيْلَةً وَهُوَ عَلَيْهَا سَاخِطٌ. قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ ظَالِماً؟. قَالَ: نَعَمْ».(2).

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) للنساء: «لاَ تُطَوِّلْنَ صَلاَتَكُنَّ لِتَمْنَعْنَ أَزْوَاجَكُنَّ»(3).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إِنَّ امْرَأَةً أَتَتْ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) لِبَعْضِ الْحَاجَةِ. فَقَالَ لَهَا: لَعَلَّكِ مِنَ الْمُسَوِّفَاتِ.

قَالَتْ: وَمَا الْمُسَوِّفَاتُ يَا رَسُولَ اللهِ؟.

ص: 281


1- الكافي: ج5 ص508، كتاب النكاح، باب حق الزوج على المرأة، ح7.
2- الكافي: ج5 ص508، كتاب النكاح، باب حق الزوج على المرأة، ح8.
3- الكافي: ج5 ص508، كتاب النكاح، باب كراهية أن تمنع النساء أزواجهن، ح1.

..............................

قَالَ: الْمَرْأَةُ الَّتِي يَدْعُوهَا زَوْجُهَا لِبَعْضِ الْحَاجَةِ، فَلاَ تَزَالُ تُسَوِّفُهُ حَتَّى يَنْعُسَ زَوْجُهَا وَيَنَامَ، فَتِلْكَ لاَ تَزَالُ الْمَلاَئِكَةُ تَلْعَنُهَا حَتَّى يَسْتَيْقِظَ زَوْجُهَا»(1).

ص: 282


1- الكافي: ج5 ص508 - 509، كتاب النكاح، باب حق الزوج على المرأة، ح2.

وَاللهِ لَوْ تَكَافُّوا عَنْ زِمَامٍ نَبَذَهُ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) إِلَيْهِ لَاعْتَلَقَهُ

اشارة

-------------------------------------------

وَاللهِ لَوْ تَكَافُّوا عَنْ زِمَامٍ نَبَذَهُ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) إِلَيْهِ لَاعْتَلَقَهُ(1)

وجوب التكاف

وفي نسخة: «وَتَاللهِ لَوْ مَالُوا عَنِ الْمَحَجَّةِ اللاَّئِحَةِ، وَزَالُوا عَنِ قَبُولِ الْحُجَّةِ الْوَاضِحَةِ، لَرَدَّهُمْ إِلَيْهَا، وَحَمَلَهُمْ عَلَيْهَا».

وبناءً على النسخة الأولى، فإن التكاف: تفاعل من الكف، أي لو كف بعضهم بعضاً عن غصب الخلافة، وعن التعرض للزمام الذي سلَّمه رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأمر الله تعالى لعلي بن أبي طالب (عليه السلام)، حيث قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَم تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ»(2)، بأن لم يهجموا عليه، ولم يتعاونوا على غصب وسلب ذلك الزمام عن علي (عليه السلام)، بل كان يبقى الزمام بيد الإمام (عليه السلام)، لرأوا كيف يسير بهم الإمام (عليه السلام) سيراً مريحاً لا عوج فيه ولا أمتاً.

مسألة: التكاف واجب بالنسبة للمنكرات، وهو أكثر من عدم التعاون والمعونة، إذ هو إيجابي، وهذا سلبي.وأما قوله تعالى: «وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ»(3)، فإن أُريد من «وَلَا تَعَاوَنُوا» عدم إعانة بعضهم بعضاً فقط،

ص: 283


1- هذه الفقرة موجودة في بعض نسخ الخطبة.
2- سورة المائدة: 67.
3- سورة المائدة: 2.

..............................

فإن (التكاف) منهي عنه ومحرم بالأولوية القطعية، وإن أُريد منه الأعم كان شاملاً له(1)، وإن كانت الحرمة والعقوبة أشد بحكم العقل.

ويستفاد من قولها (عليها السلام): «وَاللهِ لَوْ تَكَافُّوا» أن التكاف واجب، ويفهم ذلك من السياق ومن الغاية(2).

وعلى ذلك، فلو ظهر منكر في المجتمع واتجه إليه الناس، وجب على كل منهم إضافة إلى كف نفسه أن يكف الآخرين أيضاً، ومن أمثلة ذلك: مسارعة الناس إلى تأييد الحكومات الباطلة، أو التهافت على بعض البرامج التلفزيونية الفاسدة، أو الذهاب إلىالسينما الفاسدة، أو الترويج لشخص ضال أو فئة ضالة، خصوصاً عند ما تطبل لها وسائل الإعلام وتزمر، أو ما أشبه ذلك.

قال أبو جعفر (عليه السلام): «صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السَّوْءِ، وَكُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ، وَأَهْلُ الْمَعْرُوفِ فِي الدُّنْيَا هُمْ أَهْلُ الْمَعْرُوفِ فِي الآخِرَةِ، وَأَهْلُ الْمُنْكَرِ فِي الدُّنْيَا هُمْ أَهْلُ الْمُنْكَرِ فِي الآخِرَةِ، وَإِنَّ أَوَّلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولاً إِلَى الْجَنَّةِ أَهْلُ الْمَعْرُوفِ، وَإِنَّ أَوَّلَ أَهْلِ النَّارِ دُخُولاً إِلَى النَّارِ أَهْلُ الْمُنْكَرِ»(3).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إِنَّ اللهَ بَعَثَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ نَبِيّاً يُقَالُ لَهُ: أَرْمِيَا. فَقَالَ: قُلْ لَهُمْ: مَا بَلَدٌ بِنَفْسِهِ مِنْ كِرَامِ الْبُلْدَانِ، وَغُرِسَ فِيهِ مِنْ

ص: 284


1- أي إن أريد من قوله تعالى: «وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ» الأعم من مجرد عدم التعاون ومن التعاون على الإثم والعدوان، كان قوله تعالى: «وَلَا تَعَاوَنُوا» شاملاً له أي للتكاف الذي يعني أن يكف بعضهم بعضاً.
2- الغاية هي ما ذكرته (صلوات الله عليها): «لاعْتَلَقَهُ»، و«لَسَارَ بِهِمْ سَيْراً سُجُحاً».
3- الزهد: ص30 - 31، باب المعروف والمنكر، ح77.

..............................

كِرَامِ الْغُرُوسِ، وَنَقَّيْتُهُ نَفْسَهُ مِنْ كُلِّ غَرْسَةٍ غَرِيبَةٍ، فَأَخْلَفَ فَأَنْبَتَ خُرْنُوباً. فَضَحِكُوا مِنْهُ وَاسْتَهْزَءُوا بِهِ، فَشَكَاهُمْ إِلَى اللهِ، فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ: أَنْ قُلْ لَهُمْ: إِنَّ الْبَلَدَ الْبَيْتُ الْمُقَدَّسُ، وَالْغَرْسَ بَنُو إِسْرَائِيلَ، نَقَّيْتُهُمْ مِنْ كُلِّ غَرِيبَةٍ، وَنَحَّيْتُ عَنْهُمْ كُلَّجَبَّارٍ، فَأَخْلَفُوا فَعَمِلُوا بِمَعَاصِيَّ، فَلأُسَلِّطَنَّ عَلَيْهِمْ فِي بَلَدِهِمْ مَنْ يَسْفِكُ دِمَاءَهُمْ، وَيَأْخُذُ أَمْوَالَهُمْ، وَإِنْ بَكَوْا لَمْ أَرْحَمْ بُكَاءَهُمْ، وَإِنْ دَعَوْا لَمْ أَسْتَجِبْ دُعَاءَهُمْ، فَشِلُوا وَفَشِلَتْ أَعْمَالُهُمْ، وَلأُخَرِّبَنَّهَا مِائَةَ عَامٍ، ثُمَّ لأَعْمُرَنَّهَا.

قَالَ: فَلَمَّا حَدَّثَهُمْ جَزِعَتِ الْعُلَمَاءُ. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا ذَنْبُنَا نَحْنُ وَلَمْ نَكُنْ نَعْمَلُ بِعَمَلِهِمْ، فَعَاوِدْ لَنَا رَبَّكَ. فَصَامَ سَبْعاً فَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ، فَأَكَلَ أَكْلَةً ثُمَّ صَامَ سَبْعاً، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الْوَاحِدُ وَالْعِشْرُونَ يَوْماً، أَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ: لَتَرْجِعَنَّ عَمَّا تَصْنَعُ أَنْ تُرَاجِعَنِي فِي أَمْرٍ قَدْ قَضَيْتُهُ، أَوْ لأَرُدَّنَّ وَجْهَكَ عَلَى دُبُرِكَ. ثُمَّ أَوْحَى إِلَيْهِ: أَنْ قُلْ لَهُمْ: إِنَّكُمْ رَأَيْتُمُ الْمُنْكَرَ فَلَمْ تُنْكِرُوهُ، وَسُلِّطَ عَلَيْهِمْ بُخْتَ نَصَّرُ، فَفَعَلَ بِهِمْ مَا قَدْ بَلَغَكَ»(1).

وعن حبشي، قال: خَطَبَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) النَّاسَ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَذَكَرَ ابْنَ عَمِّهِ مُحَمَّداً (صلى

الله عليه وآله) فَصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِحَيْثُ مَا عَمِلُوا مِنَ الْمَعَاصِي، وَلَمْ يَنْهَهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا تَمَادَوْا فِي الْمَعَاصِي، نَزَلَتْ بِهِمُ الْعُقُوبَاتُ، فَمُرُوابِالْمَعْرُوفِ وَانْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ.

ص: 285


1- الزهد: ص105، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح287.

..............................

وَاعْلَمُوا أَنَّ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ لاَ يُقَرِّبَانِ أَجَلاً، وَلاَيَقْطَعَانِ رِزْقاً، فَإِنَّ الأَمْرَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ كَقَطْرِ الْمَطَرِ، إِلَى كُلِّ نَفْسٍ مَا قَدَّرَ اللهُ مِنْ زِيَادَةٍ وَنُقْصَانٍ، فَإِنْ أَصَابَتْ أَحَدَكُمْ مُصِيبَةٌ فِي أَهْلٍ وَمَالٍ وَنَفْسٍ، وَرَأَى عِنْدَ أَخِيهِ عُقُوبَةً، فَلاَ يَكُونَنَّ عَلَيْهِ فِتْنَةٌ، يَنْتَظِرُ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ، إِمَّا دَاعٍ إِلَى اللهِ فَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لَهُ، وَإِمَّا الرِّزْقُ مِنَ اللهِ فَإِذَا هُوَ ذُو أَهْلٍ وَمَالٍ، وَالْبَنُونَ لِحَرْثِ الدُّنْيَا، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ لِحَرْثِ الآخِرَةِ، وَقَدْ يَجْمَعَهُمَا اللهُ لأَقْوَامٍ»(1).

وعن أبي شيبة الزهري، عن أحدهما (عليهما السلام)، قال: «وَيْلٌ لِقَوْمٍ لاَ يَدِينُونَ اللهَ بِالأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «وَيْلٌ لِمَنْ يَأْمُرُ بِالْمُنْكَرِ، وَيَنْهَى عَنِالْمَعْرُوفِ»(3).

زمام الخلافة

مسألة: يجب وجوباً كفائياً بيان أن زمام الخلافة قد نبذه رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فإنه الإمام والخليفة من بعده، بمتواتر النصوص والأدلة، كما في حادثة الإنذار والطائر المشوي والغدير وخيبر وغيرها.

ص: 286


1- الزهد: ص105- 106، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح288.
2- الزهد: ص106، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح289.
3- الزهد: ص106، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح290.

..............................

قول الصديقة (عليها السلام): «زِمَامٍ نَبَذَهُ».

الزمام: ما يزم به الشيء، أي ما يشد به ويمسكه لئلا يتحرك اعتباطاً، والقائد في يده زمام الأمر، أي لو تركوا له أن يحكم ويقضي بما شاء.

و(الزمام) يطلق على مقود الدابة، وقد شبه أمر الخلافة بزمامها، حيث إن الإنسان الذي بيده الزمام يوجه الدابة حيث شاء.

و(النبذ): الرمي والإلقاء، وهو رمي الشيء وطرحه لقلة الاعتداد به، وهذا كناية عن عدم أهمية الخلافة له (عليه السلام) إلا أن يقيم حقاً ويبطل باطلاً.

وربما يكون في استخدامها (عليها السلام) كلمة (نبذ) إشارة إلى أن الخلافة بما هي هي ليست بذات شأن عندها وعند الإمام (عليه السلام) فليس اعتراضها ومطالبته (عليه السلام) حرصاً على الدنيا، كما هو بديهي، إلا أن الجهلة يعمون حتى عن نور الشمس، بل المطالبة والاعتراض إنما هو لأجل أن الخلافة أمانة من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ألقاها إليه (عليه السلام).

فكلامها (عليها السلام) هذا عبارة أخرى عن قوله (عليه السلام) : (لَوْلاَ حُضُورُ الْحَاضِرِ، وَقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ، وَمَا أَخَذَ اللهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ أَلاَّ يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ، وَلاَ سَغَبِ مَظْلُومٍ، لأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا، وَلَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا، وَلأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ)(1).

ص: 287


1- نهج البلاغة: خطب أمير المؤمنين (عليه السلام)، الرقم3 ومن خطبة له (عليه السلام) وهي المعروفة بالشقشقية.

..............................

وجه آخر:

وربما يكون وجه التعبير ب «زِمَامٍنَبَذَهُ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) إِلَيْهِ» أن ذلك هو ما يصور الواقع الذي جرى حقيقة وبالدقة، إذ لم تقل (صلوات الله عليها): (زمام سلمه إليه رسول الله) بل (نبذه)، والنبذ قد يوحي بما فيه من مشقة وزحمة عكس سلّم أو أعطى.

قال تعالى: «وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا»(1).

وقد يكون الوجه في (نبذه) دون (سلمه) أن الخلافة الظاهرية - وليس الواقعية إذ هي محققه له (عليه السلام) ثبوتاً ومبرهنة له إثباتاً - نبذها إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأمر (صلى الله عليه وآله) بتسليمها له (عليه السلام) من بعده، والقوم عصوا وخالفوا واغتصبوا الخلافة، إذ لم يكن تسليم وتسلم من الناحية الظاهرية بل النبي (صلى الله عليه وآله) نبذها ورماها وألقاها إليه (عليه السلام) ولكن القوم سرقوها واغتصبوها في وسط الطريق ولما تصل إليه، فتأمل.

مسألة: يجب الاعتقاد بأن الرسول (صلى الله عليه وآله) قد نبذ زمام الخلافة إلى الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، والاعتقاد بالعدم بل عدم الاعتقاد كلاهما محرم.

ص: 288


1- سورة مريم: 16.

..............................

تعيين الخليفة بيد الله

مسألة: خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) على الأمة من بعده، يجب:

أولاً: أن يكون معيناً من قبله (صلى الله عليه وآله) وليس للناس أن يعينوه.

وثانياً: أن يكون بأمر الله سبحانه.

وكلاهما مبرهن في كتب الكلام والعقائد، ويشعر بهما كلامها (صلوات الله عليها) حيث قالت: «زِمَامٍ نَبَذَهُ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) إِلَيْهِ»، فقد نبذه إليه (عليه السلام) بما هو رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولذا لم تقل (صلوات الله عليها): نبذه إليه أبي أو محمد أو ما أشبه، وهذا نظير ما قالوا في تعليق الحكم على الوصف المشعر بالعلية.

ومن الأدلة على ذلك أن الخليفة هو حجة الله على الأرض، وكما لا يستطيع الناس اختيار النبي والرسول، لا يستطيعون اختيار وصيه وخليفته ليكون حجة الله على الأرض، فإنهم يجهلون بواطن الأشخاص، ثم هم يجهلون مستقبل الأشخاص، وهل يعقل أن يفوض الله دينه وخلافته على الأرض إلى انتخاب أناس لا يعرفون بواطن من ينتخبون ولا مستقبلهم، وأن إيمانهم مستقر أو مستودع؟.وإذا كان موسى النبي (عليه السلام) وهو من الأنبياء أولي العزم، لا يستطيع اكتشاف البواطن، قال تعالى: «وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ» أي من قومه «سَبْعينَ رَجُلًا لِميقَاتِنَا فَلَمَّا» جاءوا قالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله عياناً ف «أَخَذَتْهُمُ

ص: 289

..............................

الرَّجْفَةُ» أي الزلزلة جميعاً فماتوا «قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَ تُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا» وهو السبعون الذي طلبوا رؤية الله «إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ»(1).

أقول: إذا كان موسى النبي (عليه السلام) ينتخب من يصرح هو لاحقاً بأنهم سفهاء، فكيف بعامة الناس؟.

قال تعالى: «وَمَا كَانَ لِمؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهمُ الْخيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ»(2).

وقال سبحانه: «وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهمُ الْخيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ»(3).

وقال العلامة القمي (رحمه الله) في تفسير الآية المباركة أعلاه: (يختار الله الإمام،وليس لهم أن يختاروا)(4).

وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «أَ مَا تَرَى اللهَ يَقُولُ: «مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا»(5)، يَقُولُ: لَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَنْصِبُوا إِمَاماً مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِكُم،

ص: 290


1- سورة الأعراف: 155.
2- سورة الأحزاب: 36.
3- سورة القصص: 68.
4- تفسير القمي: ج2 ص143، سورة القصص: آية 68.
5- سورة النمل: 60.

..............................

تُسَمُّونَهُ مُحِقّاً بِهَوَى أَنْفُسِكُمْ وَإِرَادَتِكُمْ - ثم قال الصادق (عليه السلام) - ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلاَ يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: مَنْ أَنْبَتَ شَجَرَةً لَمْ يُنْبِتْهُ اللهُ، يَعْنِي مَنْ نَصَبَ إِمَاماً لَمْ يَنْصِبْهُ اللهُ، أَوْ جَحَدَ مَنْ نَصَبَهُ اللهُ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ لِهَذَيْنِ سَهْماً فِي الإِسْلاَمِ، وَقَدْ قَالَ اللهُ: «وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهمُ الْخيَرَةُ»(1)»(2).

وقال الإمام الرضا (عليه السلام): «هَلْ يَعْرِفُونَ قَدْرَ الإِمَامَةِ، وَمَحَلَّهَا مِنَ الأُمَّةِ، فَيَجُوزَ فِيهَا اخْتِيَارُهُمْ. إِنَّ الإِمَامَةَ أَجَلُّقَدْراً، وَأَعْظَمُ شَأْناً، وَأَعْلَى مَكَاناً، وَأَمْنَعُ جَانِباً، وَأَبْعَدُ غَوْراً، مِنْ أَنْ يَبْلُغَهَا النَّاسُ بِعُقُولِهِمْ، أَوْ يَنَالُوهَا بِآرَائِهِمْ، أَوْ يُقِيمُوا إِمَاماً بِاخْتِيَارِهِمْ. إِنَّ الإِمَامَةَ خَصَّ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ (عليه السلام) - بَعْدَ النُّبُوَّةِ وَالْخُلَّةِ - مَرْتَبَةً ثَالِثَةً، وَفَضِيلَةً شَرَّفَهُ بِهَا، وَأَشَادَ بِهَا ذِكْرَهُ، فَقَالَ: «إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا» فَقَالَ الْخَلِيلُ (عليه السلام) سُرُوراً بِهَا: «وَمِنْ ذُرِّيَّتِي» قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: «لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمينَ»(3)، فَأَبْطَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ إِمَامَةَ كُلِّ ظَالِمٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَصَارَتْ فِي الصَّفْوَةِ»(4).

هذا مع قطع النظر عن الأدلة الدالة على أن الإمامة أعلى من مقام النبوة

ص: 291


1- سورة القصص: 68.
2- تحف العقول: ص328 - 329، وروي عن الإمام الصادق أبي عبد الله جعفر بن محمد (صلوات الله عليه) في طوال هذه المعاني.
3- سورة البقرة: 124.
4- الكافي: ج1 ص199، كتاب الحجة، باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته، ح1.

..............................

أي الرسالة، ومنها قوله تعالى لإبراهيم النبي (عليه السلام): «قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا»(1)، فكيف يفوض الله الأعلى لمن لم يفوض إليهم الأدنى.والحديث طويل والأدلة كثيرة يراجع فيها مظانها.

عن الجعفري، قال: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ الرِّضَا (عليه السلام) يَقُولُ: «الأَئِمَّةُ خُلَفَاءُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي أَرْضِهِ»(2).

وعن أبي بصير، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «الأَوْصِيَاءُ هُمْ أَبْوَابُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ الَّتِي يُؤْتَى مِنْهَا، وَلَوْلاَهُمْ مَا عُرِفَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَبِهِمُ احْتَجَّ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى خَلْقِهِ»(3).

وعن عبد الله بن سنان، قال: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) عَنْ قَوْلِ اللهِ جَلَّ جَلاَلُهُ: «وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ»(4)؟. قَالَ (عليه السلام): «هُمُ الأَئِمَّةُ»(5).

* قول الصديقة (عليها السلام): «لاَعْتَلَقَهُ»، من علق بمعنى أن علياً (عليه السلام)

ص: 292


1- سورة البقرة: 124.
2- الكافي: ج1 ص193، كتاب الحجة، باب أن الأئمة (عليهم السلام) خلفاء الله عز وجل في أرضه وأبوابه التي منها يؤتى، ح1.
3- الكافي: ج1 ص193، كتاب الحجة، باب أن الأئمة (عليهم السلام) خلفاء الله عز وجل في أرضه وأبوابه التي منها يؤتى، ح2.
4- سورة القصص: 55.
5- الكافي: ج1 ص193- 194، كتاب الحجة، باب أن الأئمة (عليهم السلام) خلفاء الله عز وجل في أرضه وأبوابه التي منها يؤتى، ح3.

..............................

كان يأخذ ذلك الزمام ويعلق به، وذلك لأنه مكلف به ومأمور من قبل الرسول (صلى الله عليه وآله) فكان تعلقه به امتثالاً لأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولإحقاق الحق وإبطال الباطل.

الزهد في عوامل القوة

مسألة: لا يجوز ترك عوامل القوة التي بها يتحقق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متعللاً بالزهد في الدنيا، فهي المقدمات الوجودية للواجب.

قال تعالى: «وَأَعِدُّوا لَهمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ»(1).

وقالت الصديقة الزهراء (عليها السلام) في هذه الخطبة: «وَاللهِ لَوْ تَكَافُّوا عَنْ زِمَامٍ نَبَذَهُ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) إِلَيْهِ لاَعْتَلَقَه».

ف (السلطة) و(المال) و(القوة) و(العلاقات الاجتماعية) وغيرها، يلزم تحصيلها ولا يجوز الإعراض عنها إذا كانت مطية لإحقاق الحق وإبطال الباطل، ووسيلة للفوز في الآخرة، وإصلاح شأنالناس في الدارين.

وكلها مكروهة إذا كانت مطلوبة لذاتها ولأغراض دنيوية مذمومة، أو محرمة إذا استحصلت من غير حلها أو أنفقت في غير ما حلله الشارع.

وقد تكون بما هي هي مباحة.

وتعرضها لسائر الأحكام الأربعة فحسب الغاية منها.

ص: 293


1- سورة الأنفال: 60.

وبذلك يجمع بين الروايات الدالة على ذم الرئاسة والداعية لها، فإن «مَلْعُونٌ مَنْ تَرَأَّسَ»(1) المراد به من طلب الرئاسة هوىً وشهوةً، واستخدمها في الحرام، أما من أراد بها رفع راية الإسلام وراية أهل البيت (عليهم السلام) فإنه مثاب ومأجور أكبر الأجر والثواب.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «إِنَّ النَّاسَ لاَ يُصْلِحُهُمْ إِلاَّ إِمَامٌ بَرٌّ أَوْ فَاجِرٌ، فَإِنْ كَانَ بَرّاً فَلِلرَّاعِي وَالرَّعِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ فَاجِراً عَبَدَ الْمُؤْمِنُ رَبَّهُ فِيهَا، وَعَمِلَ فِيهَا الْفَاجِرُ إِلَى أَجَلِهِ»(2).

وعن معمَّر بن خلاَّد، عن أبي الحسن (عليه السلام)، أنه ذكر رجلاً، فقال: إِنَّهُيُحِبُّ الرِّئَاسَةَ. فقال (عليه السلام): «مَا ذِئْبَانِ ضَارِيَانِ فِي غَنَمٍ قَدْ تَفَرَّقَ رِعَاؤُهَا، بِأَضَرَّ فِي دِينِ الْمُسْلِمِ مِنَ الرِّئَاسَةِ»(3).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «مَنْ طَلَبَ الرِّئَاسَةَ هَلَكَ»(4).

وعن عبد الله بن مسكان، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «إِيَّاكُمْ وَهَؤُلاَءِ الرُّؤَسَاءَ الَّذِينَ يَتَرَأَّسُونَ، فَوَ اللهِ مَا خَفَقَتِ النِّعَالُ خَلْفَ رَجُلٍ إِلاَّ هَلَكَ وَأَهْلَكَ»(5).

وقال أبو عبد الله (عليه السلام): «مَلْعُونٌ مَنْ تَرَأَّسَ، مَلْعُونٌ مَنْ هَمَّ بِهَا، مَلْعُونٌ مَنْ حَدَّثَ بِهَا نَفْسَهُ»(6).

ص: 294


1- الكافي: ج2 ص298، كتاب الإيمان والكفر، باب طلب الرئاسة، ح4.
2- الغارات: ج2 ص438، قدوم عبيد الله بن العباس وسعيد بن نمران على علي (عليه السلام) بالكوفة.
3- الكافي: ج2 ص297، كتاب الإيمان والكفر، باب طلب الرئاسة، ح1.
4- الكافي: ج2 ص297، كتاب الإيمان والكفر، باب طلب الرئاسة، ح2.
5- الكافي: ج2 ص297، كتاب الإيمان والكفر، باب طلب الرئاسة، ح3.
6- الكافي: ج2 ص298، كتاب الإيمان والكفر، باب طلب الرئاسة، ح4.

..............................

وعن أبي حمزة الثمالي، قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): «إِيَّاكَ وَالرِّئَاسَةَ! وَإِيَّاكَ أَنْ تَطَأَ أَعْقَابَ الرِّجَالِ».

قلت: جُعِلْتُ فِدَاكَ، أَمَّا الرِّئَاسَةُ فَقَدْ عَرَفْتُهَا، وَأَمَّا أَنْ أَطَأَ أَعْقَابَ الرِّجَالِ، فَمَا ثُلُثَا مَا فِي يَدِي إِلاَّ مِمَّا وَطِئْتُ أَعْقَابَ الرِّجَالِ؟!.

فقال لي: «لَيْسَ حَيْثُ تَذْهَبُ، إِيَّاكَ أَنْ تَنْصِبَ رَجُلاً دُونَ الْحُجَّةِ، فَتُصَدِّقَهُ فِي كُلِّ مَا قَالَ»(1).

وعن أبي الربيع الشامي، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قال لي: «وَيْحَكَ يَا أَبَا الرَّبِيعِ، لاَ تَطْلُبَنَّ الرِّئَاسَةَ، وَلاَ تَكُنْ ذِئْباً، وَلاَ تَأْكُلْ بِنَا النَّاسَ فَيُفْقِرَكَ اللهُ، وَلاَ تَقُلْ فِينَا مَا لاَ نَقُولُ فِي أَنْفُسِنَا؛ فَإِنَّكَ مَوْقُوفٌ وَمَسْئُولٌ لاَ مَحَالَةَ، فَإِنْ كُنْتَ صَادِقاً صَدَّقْنَاكَ، وَإِنْ كُنْتَ كَاذِباً كَذَّبْنَاكَ»(2).

وعن محمد بن مسلم، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «أَتَرَى لاَ أَعْرِفُ خِيَارَكُمْ مِنْ شِرَارِكُمْ، بَلَى وَاللهِ، وَإِنَّ شِرَارَكُمْ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوطَأَ عَقِبُهُ، إِنَّهُ لاَبُدَّ مِنْ كَذَّابٍ أَوْ عَاجِزِ الرَّأْيِ»(3).

ص: 295


1- الكافي: ج2 ص298، كتاب الإيمان والكفر، باب طلب الرئاسة، ح5.
2- الكافي: ج2 ص298، كتاب الإيمان والكفر، باب طلب الرئاسة، ح6.
3- الكافي: ج2 ص299، كتاب الإيمان والكفر، باب طلب الرئاسة، ح8.

..............................

منع حق الوصي

مسألة: كلام الصديقة (صلوات الله عليها) دليل آخر على أن الإمام علياً (صلوات الله عليه) لم يجلس في البيت اختياراً، بل إنه مُنع ودُفع عن حقه، ولم يكن له خيار إلا الجلوس في البيت والاشتغال بمثل الزراعة وما أشبه، وكذلك تربية من أمكنه من الأصحاب.

عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «لَقَدْ قَضَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (صلوات الله عليه) بِقَضِيَّةٍ مَا قَضَى بِهَا أَحَدٌ كَانَ قَبْلَهُ، وَكَانَتْ أَوَّلَ قَضِيَّةٍ قَضَى بِهَا بَعْدَ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، وَأَفْضَى الأَمْرُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ. فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: أَ شَرِبْتَ الْخَمْرَ؟. فَقَالَ الرَّجُلُ: نَعَمْ. فَقَالَ: وَلِمَ شَرِبْتَهَا وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ؟. فَقَالَ: إِنَّنِي لَمَّا أَسْلَمْتُ وَمَنْزِلِي بَيْنَ ظَهْرَانَيْ قَوْمٍ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْتَحِلُّونَهَا، وَلَوْ أَعْلَمُ أَنَّهَا حَرَامٌ فَأَجْتَنِبُهَا. قَالَ: فَالْتَفَتَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى عُمَرَ، فَقَالَ: مَا تَقُولُ يَا أَبَا حَفْصٍ فِيأَمْرِ هَذَا الرَّجُلِ؟. فَقَالَ: مُعْضِلَةٌ وَأَبُو الْحَسَنِ لَهَا. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا غُلاَمُ، ادْعُ لَنَا عَلِيّاً. قَالَ عُمَرُ: بَلْ يُؤْتَى الْحَكَمُ فِي مَنْزِلِهِ. فَأَتَوْهُ وَمَعَهُ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ، فَأَخْبَرَهُ بِقِصَّةِ الرَّجُلِ، فَاقْتَصَّ عَلَيْهِ قِصَّتَهُ. فَقَالَ عَلِيٌّ (عليه السلام) لأَبِي بَكْرٍ: ابْعَثْ مَعَهُ مَنْ يَدُورُ بِهِ عَلَى مَجَالِسِ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، فَمَنْ كَانَ تَلاَ عَلَيْهِ آيَةَ التَّحْرِيمِ فَلْيَشْهَدْ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَلاَ عَلَيْهِ آيَةَ التَّحْرِيمِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ. فَفَعَلَ أَبُو بَكْرٍ بِالرَّجُلِ مَا قَالَ عَلِيٌّ (عليه السلام)، فَلَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَخَلَّى سَبِيلَهُ.

ص: 296

..............................

فَقَالَ سَلْمَانُ لِعَلِيٍّ (عليه السلام): لَقَدْ أَرْشَدْتَهُمْ. فَقَالَ عَلِيٌّ (عليه السلام): إِنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أُجَدِّدَ تَأْكِيدَ هَذِهِ الآيَةِ فِيَّ وَفِيهِمْ: «أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ»(1)»(2).

مآخذ خطيرة على الفتوحات

لا يقال: لو كان الأمر كذلك لما فتح القوم تلك الفتوحات الهائلة التي أدخلت الناس في الإسلام بهذا الحد الكبير مما ذكره المؤرخون؟.

لأنه يقال:

أولاً: إذا تركوا الأمر على النهج الذي نهجه رسول الله (صلى الله عليه وآله) من تنصيب علي أمير المؤمنين (عليه السلام) وأولاده الطاهرين المعصومين (عليهم السلام) لكان للعالم اليوم وجه آخر، فكان الناس جميعاً مسلمين، وكان الجميع يتمتع ويتنعم بالسعة والغنى والعلم والرفاه والصحة والأمان من دون حاجة إلى تلك الفتوحات، كما قال الشاعر(3):

ولو قلدوا الموصى إليه زمامها *** لزمت بمأمون عن الخطرات

ص: 297


1- سورة يونس: 35.
2- الكافي: ج7 ص247، كتاب الحدود، باب من زنى أو سرق أو شرب الخمر بجهالة لا يعلم أنها محرمة، ح4.
3- دعبل بن علي الخزاعي، والبيت من فصيدته التائية المعروفة التي قالها في حضرة الإمام الرضا (عليه السلام) بخراسان.

..............................

فلو كانت القيادة بعد الرسول (صلى الله عليه وآله) بيد علي أمير المؤمنين (عليه السلام) لسار على نهج رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولدخل الناس الإسلام والإيمان أفواجاً .

ثانياً: إن الإيجابيات في تلك الفتوحات كانت ببركة الاندفاع الكبير الذيأوجده رسول الله (صلى الله عليه وآله) في المسلمين، فكانت امتداداً لروح الجهاد التي أوجدها في أمته، والأمة - كما هو معلوم في علم الاجتماع - إذا نهضت وتحركت استمرت نهضتها إلى فترة طويلة، وإذا ركدت استمر ركودها فترة طويلة.

فالفتوحات كانت لذلك لا لما صنعه الأولان، بل لو كانا تركا الأمر كما صنع رسول الله (صلى الله عليه وآله) من إيجاد الاندفاع، بإضافة عدم الابتداء بالهجوم، لكانت الفتوحات شاملة كاملة، ولعمت الكرة الأرضية كلها.

ومثال ذلك: ما لو أوجد القائد السابق بنية اقتصادية أو زراعية قوية للبلد، ثم مات قبل استثمار ذلك كاملاً، فإن الحاكم الجديد يظهر وكأن الانجاز له، والحال إنه منتفع من مائدة غيره، لو كانوا يعلمون.

ثالثاً: إن فتوحاتهم لم تكن لنشر الإسلام، بل كانت للرئاسة والتسلط، ف «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى»(1).

ومثله لو قام صدام بفتح بلد كافر، فإنه ليس فقط لا يمدح عليه، بل يذم لأنالغاية هي الهوى والرئاسة وليست الغاية لله والمستضعفين.

ومآل الجواب الأول والثاني: إلى القبح الفعلي لتلك الفتوحات، ومآل الجواب الثالث إلى القبح الفاعلي لها وإن فرض الحسن الفعلي.

ص: 298


1- مصباح الشريعة: ص53، الباب الثالث والعشرون في النية.

..............................

قال تعالى: «وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَبَاءً مَنْثُورًا»(1)

وقال سبحانه: «أَعْمَالُهمْ كَسَرَابٍ بِقيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَم يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحسَابِ»(2).

ورابعاً: إن الله لا يخدع عن جنته، كما في الرواية(3)، فالعمل لو فرض كبيراً فإنه يحبط بما شمله ولحقه من المعاصي والظلم المختلط به والتالي له، وما أعظم الظلم الذي خلطوه بتلك الفتوحات، فكم قُتِلَ من أبرياء، وكم صودرت من أموال، وكم هتكت من أعراض؟.

عن أحمد بن الحسن الميثمي، عن رجلمن أصحابه، قال: قَرَأْتُ جَوَاباً مِنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللهِ، فَإِنَّ اللهَ قَدْ ضَمِنَ لِمَنِ اتَّقَاهُ أَنْ يُحَوِّلَهُ عَمَّا يَكْرَهُ إِلَى مَا يُحِبُّ، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ. فَإِيَّاكَ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَخَافُ عَلَى الْعِبَادِ مِنْ ذُنُوبِهِمْ، وَيَأْمَنُ الْعُقُوبَةَ مِنْ ذَنْبِهِ؛ فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لاَ يُخْدَعُ عَنْ جَنَّتِهِ، وَلاَ يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إِلاَّ بِطَاعَتِهِ إِنْ شَاءَ اللهُ»(4).

ص: 299


1- سورة الفرقان: 23.
2- سورة النور: 39.
3- الكافي: ج8 ص49، كتاب الروضة، حديث موسى (عليه السلام)، ح9.
4- الكافي: ج8 ص49، كتاب الروضة، حديث موسى (عليه السلام)، ح9.

..............................

سلوك الرسول (صلى الله عليه وآله)

مسألة: من مقومات نهج رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي أشرنا إليه كان الأمور التالية:

الأول: عدم الابتلاء بالهجوم، بل كان يكتفي بالدفاع، وهكذا كان الرسول (صلى الله عليه وآله) في كافة حروبه، وألمعنا إلى ذلك في كتاب (في ظل الإسلام)، فإن من المعلوم أن الحكومات لم تكن تتحمل تقدم الإسلام وميلان شعوبها إليه، فكانت تشن حرباً ضد المسلمين، فيقومون بدورالدفاع، فيتصف الإسلام والمسلمون بالمظلومية والحكومات بالظالمية، مما يوجب التفاف الناس حول الإسلام أكثر فأكثر، كما حدث ذلك في حياة الرسول (صلى الله عليه وآله).

أما بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقد بدأ من غصب الخلافة بالهجوم مما شوه سمعة الإسلام والمسلمين وصورتهم، وسبب وصف الكفار المسلمين بالمعتدين، ووصف الإسلام بأنه قام بالسيف، مما أوجب نفرة كثير من الناس من الإسلام إلى هذا اليوم، وإن كان هذا الوصف ليس تاما أبداً، كما ذكره ذلك المسيحي الذي فيه مسحة من الإنصاف في كتابه (الدعوة إلى الإسلام).

الثاني: العفو والتسامح، وقاعدة (عفا الله عما سلف)، و(اذهبوا فأنتم الطلقاء) مما زخرت به سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله) على عكس ما قام به من غصب الخلافة.

الثالث: زهد القيادة وواقعيتها، وعدالتها وعدم قوميتها، وعدم استبدادها، بل استشاريتها، ورعايتها الأبوية لجميع الأمة على مختلف أشكالها،

ص: 300

..............................

وتطبيق سائر قوانين الإسلام السمحاء على الرعية بأجمعهم.

إلى غير ذلك مما لم يكن يفسح المجال لأمثال معاوية ويزيد والحجاج وهارون والمتوكل وغيرهم من الظلمة والمستبدين الذي ملئوا الدنيا بالمخازي والموبقات وظلم الناس وتضييع الحقوق، فسببوا تنفير الناس عن الإسلام إلى اليوم.

الرابع: تطبيق كافة قوانين الإسلام في السياسة والاقتصاد والأراضي وغيرها، مثل: «دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقِ اللهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضِ»(1) و«الأَرْضَ للهِ وَلِمَنْ عَمَرَهَا» (2)، وعدم الضرائب، وعدم السجون، وعدم الكبت والإرهاب، إلى غير ذلك مما ذكرنا تفصيله في: (الفقه: السياسة)، و(الفقه: الاقتصاد)، و(الفقه: الحقوق)، وغيرها.

ص: 301


1- الأمالي للشيخ الطوسي: ص396 - 397، المجلس الرابع عشر، ح879/27.
2- الكافي: ج5 ص279، كتاب المعيشة، باب في إحياء أرض الموات، ح2.

وَتَاللهِ لَوْ مَالُوا عَنِ الْمَحَجَّةِ اللاَّئِحَةِ، وَزَالُوا عن قَبُولِ الْحُجَّةِ...

اشارة

-------------------------------------------

وَتَاللهِ لَوْ مَالُوا عَنِ الْمَحَجَّةِ اللاَّئِحَةِ، وَزَالُوا عن قَبُولِ الْحُجَّةِ الْوَاضِحَةِ، لَرَدَّهُمْ إِلَيْهَا، وَحَمَلَهُمْ عَلَيْهَا

مراقبة الأتباع

(المحجة): هي جادة الطريق، أي وسطه، ووجه تسميتها بذلك أنها تقصد ويحج إليها.

(اللائحة): أي الظاهرة.

مسألة: يجب على القائد أن يراقب أتباعه كي لا ينحرفوا عن الطريق، سواء كان قائداً لأسرة، أم لقبيلة، أم لمنظمة، أم لشعب، أم لدولة.

قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا»(1).

وقال سبحانه: «وَ تَوَاصَوْا بِالْحقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر»(2)

وقال تعالى: «وَأَمَرُوا بِالْمعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمنْكَرِ»(3).

وقال سبحانه: «فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ»(4).

وقال تعالى: «ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحكْمَةِوَالْموْعِظَةِ الْحسَنَةِ»(5).

ص: 302


1- سورة التحريم: 6.
2- سورة العصر: 3.
3- سورة الحج: 41.
4- سورة التوبة: 122.
5- سورة النحل: 125.

..............................

ورُوِيَ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ الْعَالِمَ (عليه السلام) عَنْ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: «قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً»(1)؟. قال (عليه السلام): «يَأْمُرُهُمْ بِمَا أَمَرَهُمُ اللهُ، وَيَنْهَاهُمْ عَمَّا نَهَاهُمْ، فَإِنْ أَطَاعُوا كَانَ قَدْ وَقَاهُمْ، وَإِنْ عَصَوْهُ كَانَ قَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ»(2).

وعن جابر، قال: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «دَخَلَ عَلَى أَبِي (عليه السلام) رَجُلٌ. فَقَالَ: رَحِمَكَ اللهُ أُحَدِّثُ أَهْلِي؟. قَالَ: نَعَمْ، إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحجَارَةُ»(3)، وَقَالَ: «وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا»(4)»(5).

وعن أبي عبد الله (صلوات الله عليه) قال: «لاَيَزَالُ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يُورِثُ أَهْلَ بَيْتِهِ الْعِلْمَ وَالأَدَبَ الصَّالِحَ، حَتَّى يُدْخِلَهُمُ الْجَنَّةَ جَمِيعاً، حَتَّى لاَ يَفْقِدَ مِنْهُمْ صَغِيراً وَلاَ كَبِيراً، وَلاَ خَادِماً وَلاَ جَاراً. وَلاَ يَزَالُ الْعَبْدُ الْعَاصِي يُورِثُ أَهْلَ بَيْتِهِ الأَدَبَ السَّيِّئَ، حَتَّى يُدْخِلَهُمُ النَّارَ جَمِيعاً، حَتَّى لاَ يَفْقِدَ فِيهَا مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ صَغِيراً وَلاَ كَبِيراً، وَلاَ خَادِماً وَلاَ جَاراً»(6).

ص: 303


1- سورة التحريم: 6.
2- الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا (عليه السلام): ص375 باب104 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
3- سورة التحريم: 6.
4- سورة طه: 132.
5- الأصول الستة عشر: ص70، كتاب جعفر بن محمد بن شريح الحضرمي، أخبار حميد بن شعيب عن جابر الجعفي، ح265/61.
6- دعائم الإسلام: ج1 ص82، مقدمة في أصول الدين، ذكر الرغائب في العلم ...

وعنه (صلوات الله عليه)، أنه قال: «لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا»(1). قَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ نَقِي أَنْفُسَنَا وَأَهْلِينَا؟.

قَالَ: اعْمَلُوا الْخَيْرَ وَذَكِّرُوا بِهِ أَهْلِيكُمْ، فَأَدِّبُوهُمْ عَلَى طَاعَةِ اللهِ، ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «أَلاَ تَرَى أَنَّ اللهَ يَقُولُ لِنَبِيِّهِ: «وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا»(2)، وَقَالَ: «وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا»(3)»(4).وعن جعفر بن محمد (عليه السلام): «أَنَّ عَلِيّاً (عليه السلام) قَالَ: إِنَّ فِي جَهَنَّمَ رَحًى تَطْحَنُ، أَفَلاَ تَسْأَلُونِّي مَا طَحِينُهَا. فَقِيلَ: وَمَا طَحِينُهَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟. فَقَالَ: الْعُلَمَاءُ الْفَجَرَةُ، وَالْقُرَّاءُ الْفَسَقَةُ، وَالْجَبَابِرَةُ الظَّلَمَةُ، وَالْوُزَرَاءُ الْخَوَنَةُ، وَالْعُرَفَاءُ الْكَذَبَةُ. وَإِنَّ فِي النَّارِ لَمَدِينَةً يُقَالُ: الْحَصِينَةُ. أَوَ لاَ تَسْأَلُونِّي مَا فِيهَا. فَقِيلَ لَهُ: وَمَا فِيهَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟. قَالَ: فِيهَا بَعْضُ أَيْدِي النَّاكِثِينَ»(5).

ص: 304


1- سورة التحريم: 6.
2- سورة طه: 132.
3- سورة مريم: 54 - 55.
4- دعائم الإسلام: ج1 ص82، مقدمة في أصول الدين، ذكر الرغائب في العلم والحض عليه وفضائل طالبيه.
5- ثواب الأعمال وعقاب الأعمال: ص254، عقاب العلماء الفجرة والقراء الفسقة والجبابرة الظلمة والوزراء الخونة والعرفاء الكذبة والناكثين.

..............................

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «بَيْنَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ (عليه السلام) فِي سِيَاحَتِهِ، إِذْ مَرَّ بِقَرْيَةٍ، فَوَجَدَ أَهْلَهَا مَوْتَى فِي الطَّرِيقِ وَالدُّورِ. فَقَالَ: إِنَّ هَؤُلاَءِ مَاتُوا بِسَخَطٍ، وَلَوْ مَاتُوا بِغَيْرِهَا تَدَافَنُوا. قَالَ: فَقَالَ أَصْحَابُهُ: وَدِدْنَا تُعَرِّفُنَا قِصَّتَهُمْ؟. فَقِيلَ لَهُ: نَادِهِمْ يَا رُوحَ اللهِ. فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْقَرْيَةِ. فَأَجَابَهُ مُجِيبٌ مِنْهُمْ: لَبَّيْكَ يَا رُوحَ اللهِ. قَالَ: مَا حَالُكُمْ وَمَا قِصَّتُكُمْ؟!. قَالَ: أَصْبَحْنَا فِيعَافِيَةٍ، وَبِتْنَا فِي الْهَاوِيَةِ. فَقَالَ: مَا الْهَاوِيَةُ؟. فَقَالَ: بِحَارٌ مِنْ نَارٍ، فِيهَا جِبَالٌ مِنَ النَّارِ. قَالَ: وَمَا بَلَغَ بِكُمْ مَا أَرَى؟!. قَالَ: حُبُّ الدُّنْيَا، وَعِبَادَةُ الطَّاغُوتِ. قَالَ: وَمَا بَلَغَ بِكُمْ مِنْ حُبِّ الدُّنْيَا؟. قَالَ: كَحُبِّ الصَّبِيِّ لأُمِّهِ، إِذَا أَقْبَلَتْ فَرِحَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ حَزِنَ. قَالَ: وَمَا بَلَغَ مِنْ عِبَادَتِكُمُ الطَّاغُوتَ؟. قَالَ: كَانُوا إِذَا أَمَرُونَا أَطَعْنَاهُمْ. قَالَ: فَكَيْفَ أَجَبْتَنِي مِنْ دُونِهِمْ؟!. قَالَ: لأَنَّهُمْ مُلْجَمُونَ بِلُجُمٍ مِنْ نَارٍ، عَلَيْهِمْ مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ، وَإِنَّنِي كُنْتُ فِيهِمْ وَلَمْ أَكُنْ مِنْهُمْ، فَلَمَّا أَصَابَهُمُ الْعَذَابُ أَصَابَنِي مَعَهُمْ، فَأَنَا مُعَلَّقٌ بِشَعْرَةٍ أَخَافُ أَنْ أَنْكَبَّ فِي النَّارِ. قَالَ: فَقَالَ عِيسَى (عليه السلام) لأَصْحَابِهِ: النَّوْمُ عَلَى دُبُرِ الْمَزَابِلِ، وَأَكْلُ خُبْزِ الشَّعِيرِ، يَسِيرٌ مَعَ سَلاَمَةِ الدِّينِ»(1).

وعن محمد بن عرفة، قال: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ الرِّضَا (عليه السلام) يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ: إِذَا أُمَّتِي تَوَاكَلَتِ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَلْتَأْذَنْ بِوِقَاعٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى»(2).

ص: 305


1- ثواب الأعمال وعقاب الأعمال: ص254، عقاب حب الدنيا وعبادة الطاغوت.
2- تهذيب الأحكام: ج6 ص177،الباب80 من كتاب الجهاد وسيرة الإمام (عليه السلام)، ح7.

..............................

سيرة الوصي وسياسته

مسألة: يجب بيان أن أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) كان على عكس الثلاثة، فكان (صلوات الله عليه) رقيباً أميناً على شريعة الله وحلاله وحرامه، وإنه كلما رأى زللاً وزيغاً وانحرافاً حاول ردهم إلى جادة الحق والصواب، أما أولئك الثلاثة فقد كانوا أساس الميل عن المحجة اللائحة، وأساس الرفض للحجة الواضحة، وكانوا يجارون الناس في باطلهم، ويجرونهم معهم نحو الخسران المبين، بل كانوا هم الأساس للجور والباطل.

للتفصيل يمكن مراجعة كتاب (النص والاجتهاد) للمرحوم شرف الدين العاملي، و(الغدير) للعلامة الأميني (رضوان الله عليهما)، وغيرهما.

في (قُوتُ الْقُلُوبِ): قِيلَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام): إِنَّكَ خَالَفْتَ فُلاَناً فِي كَذَا؟. فَقَالَ (عليه السلام): «خَيْرُنَا أَتْبَعُنَا لِهَذَا الدِّينِ»(1).وَضَافَهُ رَجُلٌ ثُمَّ خَاصَمَ إِلَيْهِ رَجُلاً. فَقَالَ (عليه السلام): «تَحَوَّلْ عَنَّا؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) نَهَانَا أَنْ نُضِيفَ رَجُلاً إِلاَّ وَأَنْ يَكُونَ خَصْمُهُ مَعَهُ»(2).

أي فيما يحتاج إلى الحكم بينهما وما أشبه.

ص: 306


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص146، باب درجات أمير المؤمنين (عليهم السلام)، فصل في المسابقة بالحزم وترك المداهنة.
2- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص146، باب درجات أمير المؤمنين (عليهم السلام)، فصل في المسابقة بالحزم وترك المداهنة.

..............................

وَنَوَّشَهُ - استضافه - الْحَارِثُ الأَعْوَرُ. فَقَالَ (عليه السلام): «قَدْ أَجَبْتُكَ عَلَى أَنْ تَضْمَنَ لِي ثَلاَثَ خِصَالٍ: لاَ تُدْخِلْ عَلَيْنَا شَيْئاً مِنْ خَارِجٍ، وَلاَ تَدَّخِرْ عَنَّا شَيْئاً فِي الْبَيْتِ، وَلاَ تُجْحِفْ بِالْعِيَالِ»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، أنه قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لابن الخطاب: «ثَلاَثٌ إِنْ حَفِظْتَهُنَّ وَعَلِمْتَهُنَّ كَفَتْكَ مَا سِوَاهُنَّ، وَإِنْ تَرَكْتَهُنَّ لَمْ يَنْفَعْكَ شَيْءٌ سِوَاهُنَّ».

قال: وَمَا هُنَّ يَا أَبَا الْحَسَنِ؟.قال (عليه السلام): «إِقَامَةُ الْحُدُودِ عَلَى الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، وَالْحُكْمُ بِكِتَابِ اللهِ فِي الرِّضَا وَالسَّخَطِ، وَالْقَسْمُ بَيْنَ النَّاسِ بِالْعَدْلِ بَيْنَ الأَحْمَرِ وَالأَسْوَدِ».

فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لَعَمْرِي لَقَدْ أَوْجَزْتَ وَأَبْلَغْتَ(2).

وعن زرارة، قال: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) يَقُولُ: «أُقِيمَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَقَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ، فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ أَنْ يُضْرَبَ، فَلَمْ يَتَقَدَّمْ إِلَيْهِ أَحَدٌ يَضْرِبُهُ، حَتَّى قَامَ عَلِيٌّ (عليه السلام) بِنِسْعَةٍ مَثْنِيَّةٍ، فَضَرَبَهُ بِهَا أَرْبَعِينَ»(3).

وعن زرارة، قال: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) يَقُولُ: إِنَّ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ

ص: 307


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص146، باب درجات أمير المؤمنين (عليهم السلام)، فصل في المسابقة بالحزم وترك المداهنة.
2- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص147، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في المسابقة بالحزم وترك المداهنة.
3- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص147، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في المسابقة بالحزم وترك المداهنة.

..............................

حِينَ شُهِدَ عَلَيْهِ شُرْبُ الْخَمْرِ. قَالَ عُثْمَانُ لِعَلِيٍّ: اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ شَرِبَ الْخَمْرَ، فَأَمَرَ عَلِيٌّ أَنْيُضْرَبَ بِسَوْطٍ لَهُ شُعْبَتَانِ أَرْبَعِينَ جَلْدَةً»(1).

وَأَخَذَ (عليه السلام) رَجُلاً مِنْ بَنِي أَسَدٍ فِي حَدٍّ، فَاجْتَمَعَ قَوْمُهُ لِيُكَلِّمُوا فِيهِ، وَطَلَبُوا إِلَى الْحَسَنِ أَنْ يَصْحَبَهُمْ. فَقَالَ (عليه السلام): «ائْتُوهُ فَهُوَ أَعْلَى بِكُمْ عَيْناً». فَدَخَلُوا عَلَيْهِ وَسَأَلُوهُ. فَقَالَ (عليه السلام): «لاَ تَسْأَلُونِّي شَيْئاً أَمْلِكُ إِلاَّ أَعْطَيْتُكُمْ». فَخَرَجُوا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ قَدْ أَنْجَحُوا، فَسَأَلَهُمْ الْحَسَنُ فَقَالُوا: أَتَيْنَا خَيْرَ مَأْتِيٍّ. وَحَكَوْا لَهُ قَوْلَهُ، فَقَالَ (عليه السلام): «مَا كُنْتُمْ فَاعِلِينَ إِذَا جُلِدَ صَاحِبُكُمْ فَاصْنَعُوهُ». فَأَخْرَجَهُ عَلِيٌّ (عليه السلام) فَحَدَّهُ، ثُمَّ قَالَ: «هَذَا وَاللهِ لَسْتُ أَمْلِكُهُ»(2).

وفي "تهذيب الأحكام": أَنَّهُ أُتِيَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بِالنَّجَاشِيِّ الشَّاعِرِ، وَقَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَضَرَبَهُ ثَمَانِينَ جَلْدَةً، ثُمَّ حَبَسَهُ لَيْلَةً، ثُمَّ دَعَا بِهِ مِنَ الْغَدِ فَضَرَبَهُ عِشْرِينَ سَوْطاً. فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، ضَرَبْتَنِي ثَمَانِينَ جَلْدَةً فِي شُرْبِ الْخَمْرِ، وَهَذِهِ الْعِشْرِينَ مَا هِيَ؟!.قَالَ (عليه السلام): «هَذَا لِتَجَرِّيكَ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ»(3).

ص: 308


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص147، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في المسابقة بالحزم وترك المداهنة.
2- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص147، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في المسابقة بالحزم وترك المداهنة.
3- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص147، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في المسابقة بالحزم وترك المداهنة.

..............................

وَبَلَغَ مُعَاوِيَةَ أَنَّ النَّجَاشِيَّ هَجَاهُ، فَدَسَّ قَوْماً شَهِدُوا عَلَيْهِ عِنْدَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) أَنَّهُ شَرِبَ الْخَمْرَ. فَأَخَذَهُ عَلِيٌّ فَحَدَّهُ، فَغَضِبَ جَمَاعَةٌ عَلَى عَلِيٍّ فِي ذَلِكَ، مِنْهُمْ طَارِقُ بْنُ عَبْدِ اللهِ النَّهْدِيُّ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا كُنَّا نَرَى أَنَّ أَهْلَ الْمَعْصِيَةِ وَالطَّاعَةِ، وَأَهْلَ الْفُرْقَةِ وَالْجَمَاعَةِ، عِنْدَ وُلاَةِ الْعَقْلِ وَمَعَادِنِ الْفَضْلِ سِيَّانِ فِي الْجَزَاءِ، حَتَّى مَا كَانَ مِنْ صَنِيعِكَ بِأَخِي الْحَارِثِ - يَعْنِي النَّجَاشِيَّ - فَأَوْغَرْتَ صُدُورَنَا، وَشَتَّتَّ أُمُورَنَا، وَحَمَّلْتَنَا عَلَى الْجَادَّةِ الَّتِي كُنَّا نَرَى أَنْ سَبِيلَ مَنْ رَكِبَهَا النَّارُ. فَقَالَ عَلِيٌّ (صلوات الله عليه): « «إِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ»(1). يَا أَخَا بَنِي نَهْدٍ، هَلْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ انْتَهَكَ حُرْمَةً مِنْ حُرَمِ اللهِ، فَأَقَمْنَا عَلَيْهِ حَدَّهَا، زَكَاةً لَهُ وَتَطْهِيراً. يَا أَخَا بَنِي نَهْدٍ، إِنَّهُ مَنْ أَتَى حَدّاً فَأُقِيمَ كَانَ كَفَّارَتَهُ. يَاأَخَا بَنِي نَهْدٍ، إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ: «وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى»(2)». فَخَرَجَ طَارِقٌ وَالنَّجَاشِيُّ مَعَهُ إِلَى مُعَاوِيَةَ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ رَجَعَ(3).

وعن مطر الوراق وابن شهاب الزهري - في خبر -: إِنَّهُ لَمَّا شَهِدَ أَبُو زَيْنَبَ الأَسَدِيُّ وَأَبُو مُزَرِّعٍ وَسَعِيدُ بْنُ مَالِكٍ الأَشْعَرِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ خُنَيْسٍ الأَزْدِيُّ وَعَلْقَمَةُ بْنُ زَيْدٍ الْبَكْرِيُّ عَلَى الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ أَنَّهُ شَرِبَ الْخَمْرَ، أَمَرَ عُثْمَاَ بِإِقَامَةِ

ص: 309


1- سورة البقرة: 45.
2- سورة المائدة: 8.
3- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص147 - 148، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في المسابقة بالحزم وترك المداهنة.

..............................

الْحَدِّ عَلَيْهِ جَهْراً وَنَهَى سِرّاً، فَرَأَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) أَنَّهُ يَدْرَأُ عَنْهُ الْحَدَّ، قَامَ وَالْحَسَنُ مَعَهُ لِيَضْرِبَهُ. فَقَالَ: نَشَدْتُكَ اللهَ وَالْقَرَابَةَ. قَالَ (عليه السلام): «اسْكُتْ أَبَا وَهْبٍ، فَإِنَّمَا هَلَكَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِتَعْطِيلِهِمُ الْحُدُودَ». فَضَرَبَهُ وَقَالَ: «لَتَدْعُونِي قُرَيْشٌ بَعْدَ هَذَا جَلاَّدَهَا»(1).

شمولية الحجة

مسألة: الحجة الواضحة والمحجة اللائحة ليست خاصة بشؤون العبادات، بل تشمل العقيدة والشريعة بشتى شعبها من أحوال شخصية وسياسة واقتصاد وحقوق وغيرها.

قال العرباض بن سارية: وَعَظَنَا رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) مَوْعِظَةً ذَرَفَتِ الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ. فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ هَذِهِ لَمَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَمَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟. قَالَ: «لَقَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لاَ يَزِيغُ بَعْدَهَا إِلاَّ هَالِكٌ، وَمَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى اخْتِلاَفاً كَثِيراً، فَعَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمُ مِنْ سُنَّتِي بَعْدِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، فَعَضُّوا عَلَيْهِمْ بِالنَّواجِدِ، وَأَطِيعُوا الْحَقَّ وَلَوْ كَانَ صَاحِبُهُ عَبْداً حَبَشِيّاً؛ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ كَالْجَمَلِ الأَلُوفِ حَيْثُ مَا قِيدَ اسْتَقَادَ»(2).

ص: 310


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص148، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في المسابقة بالحزم وترك المداهنة.
2- إرشاد القلوب إلى الصواب للديلمي: ج1 ص37، الباب الخامس في التخويف والترهيب.

..............................

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) لعبد الله بن عمر - في قضية الشورى -: «أَنْشُدُكَ بِاللهِ، مَا قَالَ لَكَ حِينَ خَرَجْنَا؟». فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: أَمَّا إِذْ نَاشَدْتَنِي، فَإِنَّهُ قَالَ: إِنْ بَايَعُوا أَصْلَعَ بَنِي هَاشِمٍ، حَمَلَهُمْ عَلَى الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ، وَأَقَامَهُمْ عَلَى كِتَابِ رَبِّهِمْ، وَسُنَّةِ نَبِيِّهِمْ»(1).

وقال ابن الخطاب مخاطباً أمير المؤمنين (عليه السلام) - في قضية الشورى -: وَأَمَّا أَنْتَ يَا عَلِيُّ، فَوَ اللهِ لَوْ وُزِنَ إِيمَانُكَ بِإِيمَانِ أَهْلِ الأَرْضِ لَيَرْجِحُهُمْ. فَقَامَ عَلِيٌّ مُوَلِّياً. فَقَالَ عُمَرُ: وَاللهِ، إِنِّي لأَعْلَمُ لَكُمْ مَكَانَ رَجُلٍ لَوْ وَلَّيْتُمُوهَا إِيَّاهُ؛ لَحَمَلَكُمْ عَلَى الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ. قَالُوا: مَنْ هُوَ؟. قَالَ: هَذَا الْمُوَلِّي مِنْ بَيْنِكُمْ. قَالُوا: فَمَا يَمْنَعُكَ مِنْ ذَلِكَ؟!. قَالَ: لَيْسَ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلٌ(2).

وعن حذيفة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «وَإِنْ تُوَلُّوا عَلِيّاً (عليه السلام) تَجِدُوهُ هَادِياً مَهْدِيّاً، يَسْلُكُ بِكُمُ الطَّرِيقَالْمُسْتَقِيمَ»(3).

وعن اليمان - مولى مصعب بن الزبير - قال: قال ابن الخطاب: مَنْ تَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُوَلُّونَ الأَمْرَ غَداً؟. قَالُوا: عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ. قَالَ: فَأَيْنَ هُمْ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، يَحْمِلُهُمُ عَلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ(4).

وعن حذيفة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِنْ وَلَّيْتُمُوهَا عَلِيّاً،

ص: 311


1- كتاب سُليم بن قيس الهلالي: ج2 ص652، الحديث الحادي عشر.
2- تقريب المعارف - أبو الصلاح الحلبي: ص349، القسم الثاني في المثالب، وأما الأحداث الواقعة من عمر بن الخطاب في ولايته، ومنها: شويرة الشورى.
3- شواهد التنزيل لقواعد التفضيل: ج1 ص83، سورة الفاتحة: آية 6، ح101.
4- شواهد التنزيل لقواعد التفضيل: ج1 ص84، سورة الفاتحة: آية 6، ح103.

..............................

فَهَادٍ مُهْتَدٍ، يُقِيمُكُمْ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ»(1).

وعن الحافظ أبي نعيم - بثلاثة طرق - عن حذيفة بن اليمان، قال النبي (صلى الله عليه وآله): «إِنْ تَسْتَخْلِفُوا عَلِيّاً - وَمَا أَرَاكُمْ فَاعِلِينَ - تَجِدُوهُ هَادِياً مَهْدِيّاً، يَحْمِلُكُمْ عَلَى الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ»(2).

دفع الانحراف ورفعه

مسألة: يجب دفع الانحراف كما يجب رفعه، فإن القائد لو رأى ميلاً عن المحجة اللائحة وعن قبول الحجة الواضحة، وجب أن يردهم إليها، ولو احتمل أو علم أنه سيحدث ميل وجب عليه الحيلولة دون حصوله مقدمة، وهو ما يصطلح عليه بالدفع.

لا يقال: لماذا عبرت الصديقة (عليها السلام) ب «لَوْ مَالُوا ... لَرَدَّهُمْ إِلَيْهَا» وهو ظاهر في الرفع، فأين الدفع؟.

إذ يقال:

أولاً: ربما كان ذلك إشارة للدفع، فإن الميل نحو الباطل مقدمة له، أي قبل الارتطام فيه، بل بصرف مجرد الميل الذي سيؤدي إليه لو لم يكن مانع أو رادع.

ص: 312


1- شواهد التنزيل لقواعد التفضيل: ج1 ص84 - 85، سورة الفاتحة: آية 6، ح104.
2- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج3 ص83، باب تعريف باطنه (عليه السلام)، فصل في أنه النور والهدى والهادي.

..............................

ثانياً: على فرض إرادة الرفع فربما يكون السبب أن ذلك هو ما كانت تتحمله عقولهم.

وبعبارة أخرى: اقتصرت على ما لا مجال للنقاش فيه أو الاعتراض عليه، وقد يكون لذلك وجود آخر، فتأمل.قال في الدعائم: وَرُوِّينَا عَنْهُ (صلوات الله عليه)، أنه خطب الناس بعد أن بايعوه فقال - في خطبته -: «أَلاَ وَكُلُّ قِطْعَةٍ أَقْطَعَهَا عُثْمَانُ، أَوْ مَالٍ أَعْطَاهُ مِنْ مَالِ اللهِ، فَهُوَ رَدٌّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي بَيْتِ مَالِهِمْ؛ فَإِنَّ الْحَقَّ لاَ يُذْهِبُهُ الْبَاطِلُ. وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، لَوْ وَجَدْتُهُ قَدْ تُزُوِّجَ بِهِ النِّسَاءُ، وَتَفَرَّقَ فِي الْبُلْدَانِ، لَرَدَدْتُهُ عَلَى أَهْلِهِ؛ فَإِنَّ فِي الْحَقِّ وَالْعَدْلِ لَكُمْ سَعَةً، وَمَنْ ضَاقَ بِهِ الْعَدْلُ، فَالْجَوْرُ بِهِ أَضْيَقُ»(1).

وقال علي (عليه السلام): «أُحَاجُّ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِتِسْعٍ: بِإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالْعَدْلِ فِي الرَّعِيَّةِ، وَالْقَسْمِ بِالسَّوِيَّةِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ وَأَشْبَاهِهِ»(2).

وعن ابن مردويه، أَنَّهُ لَمَّا أَقْبَلَ مِنَ الْيَمَنِ، تَعَجَّلَ إِلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله)، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى جُنْدِهِ الَّذِينَ مَعَهُ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِهِ، فَعَمَدَ ذَلِكَ الرَّجُلُ،فَكَسَا كُلَّ رَجُلٍ مِنَ الْقَوْمِ حُلَّةً مِنَ الْبَزِّ الَّذِي كَانَ مَعَ عَلِيٍّ. فَلَمَّا دَنَا جَيْشُهُ، خَرَجَ

ص: 313


1- دعائم الإسلام: ج1 ص396، كتاب الجهاد، ذكر الحكم في غنائم أهل البغي.
2- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص 107، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في المسابقة بالعدل والأمانة.

..............................

عَلِيٌّ لِيَتَلَقَّاهُمْ، فَإِذَا هُمْ عَلَيْهِمُ الْحُلَلُ، فَقَالَ: «وَيْلَكَ مَا هَذَا؟!». قَالَ: كَسَوْتُهُمْ؛ لِيَجْمُلُوا بِهِ إِذَا قَدِمُوا فِي النَّاسِ. قَالَ: «وَيْلَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله). قَالَ: فَانْتَزَعَ الْحُلَلَ مِنَ النَّاسِ، وَرَدَّهَا فِي الْبَزِّ، وَأَظْهَرَ الْجَيْشُ شِكَايَةً لِمَا صَنَعَ بِهِمْ (1).

ومن كتاب لأمير المؤمنين (عليه السلام) إلى بعض عماله: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي كُنْتُ أَشْرَكْتُكَ فِي أَمَانَتِي، وَجَعَلْتُكَ شِعَارِي وَبِطَانَتِي، وَلَمْ يَكُنْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِي أَوْثَقَ مِنْكَ فِي نَفْسِي؛ لِمُوَاسَاتِي وَمُوَازَرَتِي، وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ إِلَيَّ. فَلَمَّا رَأَيْتَ الزَّمَانَ عَلَى ابْنِ عَمِّكَ قَدْ كَلِبَ، وَالْعَدُوَّ قَدْ حَرِبَ، وَأَمَانَةَ النَّاسِ قَدْ خَزِيَتْ، وَهَذِهِ الأُمَّةَ قَدْ فَتَكَتْ وَشَغَرَتْ، قَلَبْتَ لابْنِ عَمِّكَ ظَهْرَ الْمِجَنِّ، فَفَارَقْتَهُ مَعَ الْمُفَارِقِينَ، وَخَذَلْتَهُ مَعَ الْخَاذِلِينَ، وَخُنْتَهُ مَعَ الْخَائِنِينَ، فَلاَ ابْنَعَمِّكَ آسَيْتَ، وَلاَ الأَمَانَةَ أَدَّيْتَ، وَكَأَنَّكَ لَمْ تَكُنِ اللهَ تُرِيدُ بِجِهَادِكَ، وَكَأَنَّكَ لَمْ تَكُنْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكَ، وَكَأَنَّكَ إِنَّمَا كُنْتَ تَكِيدُ هَذِهِ الأُمَّةَ عَنْ دُنْيَاهُمْ، وَتَنْوِي غِرَّتَهُمْ عَنْ فَيْئِهِمْ، فَلَمَّا أَمْكَنَتْكَ الشِّدَّةُ فِي خِيَانَةِ الأُمَّةِ، أَسْرَعْتَ الْكَرَّةَ، وَعَاجَلْتَ الْوَثْبَةَ، وَاخْتَطَفْتَ مَا قَدَرْتَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِهِمُ الْمَصُونَةِ لأَرَامِلِهِمْ وَأَيْتَامِهِمُ، اخْتِطَافَ الذِّئْبِ الأَزَلِّ دَامِيَةَ الْمِعْزَى الْكَسِيرَةَ، فَحَمَلْتَهُ إِلَى الْحِجَازِ، رَحِيبَ الصَّدْرِ بِحَمْلِهِ، غَيْرَ مُتَأَثِّمٍ مِنْ أَخْذِهِ، كَأَنَّكَ - لاَ أَبَا لِغَيْرِكَ - حَدَرْتَ إِلَى أَهْلِكَ تُرَاثَكَ مِنْ أَبِيكَ وَ أُمِّكَ

ص: 314


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص 110، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في المسابقة بالعدل والأمانة.

..............................

فَسُبْحَانَ اللهِ! أَمَا تُؤْمِنُ بِالْمَعَادِ، أَوَ مَا تَخَافُ نِقَاشَ الْحِسَابِ، أَيُّهَا الْمَعْدُودُ كَانَ عِنْدَنَا مِنْ أُولِي الأَلْبَابِ، كَيْفَ تُسِيغُ شَرَاباً وَطَعَاماً وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ تَأْكُلُ حَرَاماً، وَتَشْرَبُ حَرَاماً، وَتَبْتَاعُ الإِمَاءَ، وَتَنْكِحُ النِّسَاءَ مِنْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ، وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدِينَ، الَّذِينَ أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الأَمْوَالَ، وَأَحْرَزَ بِهِمْ هَذِهِ الْبِلاَدَ.

فَاتَّقِ اللهَ، وَارْدُدْ إِلَى هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ أَمْوَالَهُمْ؛ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ، ثُمَّ أَمْكَنَنِي اللهُ مِنْكَ، لأُعْذِرَنَّ إِلَى اللهِ فِيكَ، وَلأَضْرِبَنَّكَبِسَيْفِي، الَّذِي مَا ضَرَبْتُ بِهِ أَحَداً إِلا دَخَلَ النَّارَ. وَوَاللهِ، لَوْ أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ فَعَلاَ مِثْلَ الَّذِي فَعَلْتَ، مَا كَانَتْ لَهُمَا عِنْدِي هَوَادَةٌ، وَلاَ ظَفِرَا مِنِّي بِإِرَادَةٍ، حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُمَا، وَأُزِيحَ الْبَاطِلَ عَنْ مَظْلَمَتِهِمَا.

وَأُقْسِمُ بِاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، مَا يَسُرُّنِي أَنَّ مَا أَخَذْتَهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ حَلاَلٌ لِي، أَتْرُكُهُ مِيرَاثاً لِمَنْ بَعْدِي. فَضَحِّ رُوَيْداً، فَكَأَنَّكَ قَدْ بَلَغْتَ الْمَدَى، وَدُفِنْتَ تَحْتَ الثَّرَى، وَعُرِضَتْ عَلَيْكَ أَعْمَالُكَ بِالْمَحَلِّ الَّذِي يُنَادِي الظَّالِمُ فِيهِ بِالْحَسْرَةِ، وَيَتَمَنَّى الْمُضَيِّعُ فِيهِ الرَّجْعَةَ، «وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ»(1)»(2).

ص: 315


1- سورة ص: 3.
2- نهج البلاغة: رسائل أمير المؤمنين (عليه السلام)، الرقم41 ومن كتاب له (عليه السلام) إلى بعض عماله.

وَلَسَارَ بِهِمْ سَيْراً سُجُحاً

اشارة

-------------------------------------------

السير السمح بالناس

(سجح) على وزن (عنق) يأتي بمعنى اللين والسهل، ورجل سجح أي حسن الخلق.

ويقال: في عقله رجاحة وفي خلقه سجاحة أي سهولة.

والإسجاح: حسن العفو، يقال: إذا ملكت فاسجح، أي أحسن العفو وسهل.

كما أن من معانيه: الوسط، فالسجح من الطريق وسطه.

ومن معانيه: القدر، يقال: بيوتهم على سجح واحد، أي على قدر واحد.

والمعنى الأول هو الأظهر، وإن كان يمكن توجيه النص بما يوافق الأخيرين أيضاً.

أي: إنه (عليه الصلاة والسلام) كان يسير بهم سيراً سهلاً، يبعدهم فيه عن المآسي، والمشاق والجرائم، والمحن والمصاعب، والفقر والجهل، والرذيلة والانحطاط، والفساد الأخلاقي والإداري والمالي وشبه ذلك، وكان منهجه (عليه السلام) منهج العفو بل حسن العفو.

وينقل عن بعض علماء العامة، أنه قال: رأيت في المنام علي بن أبي طالب(عليه السلام). فقلت له: يا أمير المؤمنين، تفتحون مكة فتقولون: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ثم يتم على ولدك الحسين في يوم الطف ما تم؟!.

ص: 316

..............................

فقال (عليه السلام): أما سمعت أبيات ابن الصيفي في هذا.

فقلت: لا.

فقال: اسمعها منه، ثم استيقظت فبادرت إلى دار (حيص بيص) فخرج إليَّ، فذكرت له الرؤيا، فشهق وأجهش بالبكاء، وحلف بالله بأن كانت خرجت من فمي أو خطى إلى أحد، وإن كنت نظمتها إلا في ليلتي هذه، ثم أنشدني الأبيات:

ملكنا فكان العفو منا سجية *** فلما ملكتم سال بالدم أبطح

وحللتم قتل الأسارى وطالما *** غدونا عن الأسرى نعف ونصفح

فحسبكم هذا التفاوت بيننا *** وكل إناء بالذي فيه ينضح

عن أبي مطر البصري: أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) مَرَّ بِأَصْحَابِ التَّمْرِ، فَإِذَا هُوَ بِجَارِيَةٍ تَبْكِي. فَقَالَ: «يَا جَارِيَةُ، مَا يُبْكِيكِ؟». فَقَالَ: بَعَثَنِي مَوْلاَيَ بِدِرْهَمٍ، فَابْتَعْتُ مِنْ هَذَا تَمْراً، فَأَتَيْتُهُمْ بِهِ فَلَمْ يَرْضَوْهُ، فَلَمَّا أَتَيْتُهُ بِهِ أَبَى أَنْ يَقْبَلَهُ. قَالَ (عليه السلام): «يَا عَبْدَ اللهِ،إِنَّهَا خَادِمٌ وَلَيْسَ لَهَا أَمْرٌ، فَارْدُدْ إِلَيْهَا دِرْهَمَهَا، وَخُذِ التَّمْرَ». فَقَامَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ فَلَكَزَهُ. فَقَالَ النَّاسُ: هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ. فَرَبَا الرَّجُلُ وَاصْفَرَّ، وَأَخَذَ التَّمْرَ وَرَدَّ إِلَيْهَا دِرْهَمَهَا، ثُمَّ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، ارْضَ عَنِّي. فَقَالَ (عليه السلام): «مَا أَرْضَانِي عَنْكَ إِنْ أَصْلَحْتَ أَمْرَكَ - وفي "فضائل أحمد - إِذَا وَفَيْتَ النَّاسَ حُقُوقَهُمْ»(1).

ص: 317


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص112 - 113، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في حلمه وشفقته.

..............................

وَدَعَا (عليه السلام) غُلاَماً لَهُ مِرَاراً فَلَمْ يُجِبْهُ، فَخَرَجَ فَوَجَدَهُ عَلَى بَابِ الْبَيْتِ. فَقَالَ (عليه السلام): «مَا حَمَلَكَ عَلَى تَرْكِ إِجَابَتِي؟!». قَالَ: كَسِلْتُ عَنْ إِجَابَتِكَ، وَأَمِنْتُ عُقُوبَتَكَ. فَقَالَ (عليه السلام): «الْحَمْدُ للهِ الَّذِي جَعَلَنِي مِمَّنْ تَأْمَنُهُ خَلْقُهُ، امْضِ فَأَنْتَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللهِ»(1).

وَكَانَ عَلِيٌّ (عليه السلام) فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ. فَقَالَ ابْنُ الْكَوَّاءِ - مِنْ خَلْفِهِ -: «وَلَقَدْأُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ»(2). فَأَنْصَتَ عَلِيٌّ تَعْظِيماً لِلْقُرْآنِ حَتَّى فَرَغَ مِنَ الآيَةِ، ثُمَّ عَادَ فِي قِرَاءَتِهِ، ثُمَّ أَعَادَ ابْنُ الْكَوَّاءِ الآيَةَ، فَأَنْصَتَ عَلِيٌّ أَيْضاً ثُمَّ قَرَأَ، ثُمَّ أَعَادَ ابْنُ الْكَوَّاءِ، فَأَنْصَتَ عَلِيٌّ (عليه السلام)، ثُمَّ قَالَ: « «فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ»(3)»، ثُمَّ أَتَمَّ السُّورَةَ وَرَكَعَ(4).

وَبَعَثَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) إِلَى لَبِيدِ بْنِ الْعُطَارِدِ التَّيْمِيِّ فِي كَلاَمٍ بَلَغَهُ، فَمَرَّ بِهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي بَنِي أَسَدٍ، فَقَامَ إِلَيْهِ نُعَيْمُ بْنُ دَجَاجَةَ الأَسَدِيُّ فَأَفْلَتَهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) فَأَتَوْهُ بِهِ، وَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُضْرَبَ. فَقَالَ لَهُ

ص: 318


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص113، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في حلمه وشفقته.
2- سورة الزمر: 65.
3- سورة الروم: 60.
4- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص113، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في حلمه وشفقته.

..............................

نُعَيْمٌ: وَاللهِ إِنَّ الْمُقَامَ مَعَكَ لَذُلٌّ، وَإِنَّ فِرَاقَكَ لَكُفْرٌ. فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ مِنْهُ، قَالَ: «قَدْ عَفَوْنَا عَنْكَ، إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ:«ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ»(1). أَمَّا قَوْلُكَ: إِنَّ الْمُقَامَ مَعَكَ لَذُلٌّ فَسَيِّئَةٌ اكْتَسَبْتَهَا، وَأَمَّا قَوْلُكَ: إِنَّ فِرَاقَكَ لَكُفْرٌ فَحَسَنَةٌ اكْتَسَبْتَهَا، فَهَذِهِ بِهَذِهِ»(2).

ومَرَّتْ امْرَأَةٌ جَمِيلَةٌ، فَرَمَقَهَا الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ. فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «إِنَّ أَبْصَارَ هَذِهِ الْفُحُولِ طَوَامِحُ، وَإِنَّ ذَلِكَ سَبَبُ هَنَاتِهَا، فَإِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى امْرَأَةٍ تُعْجِبُهُ فَلْيَلْمَسْ أَهْلَهُ، فَإِنَّمَا هِيَ امْرَأَةٌ كَامْرَأَةٍ». فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْخَوَارِجِ: قَاتَلَهُ اللهُ كَافِراً مَا أَفْقَهَهُ. فَوَثَبَ الْقَوْمُ لِيَقْتُلُوهُ، فَقَالَ عَلِيٌّ (عليه السلام): «رُوَيْداً، إِنَّمَا هُوَ سَبٌّ بِسَبٍّ، أَوْ عَفْوٌ عَنْ ذَنْبٍ»(3).

وَجَاءَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَكَانَ يُكَلِّمُ فِيهِ، وَأَسْمَعَهُ فِي الْيَوْمِ الْمَاضِي، وَسَأَلَهُ حَوَائِجَهُ فَقَضَاهَا، فَعَاتَبَهُ أَصْحَابُهُ عَلَى ذَلِكَ. فَقَالَ (عليه السلام): «إِنِّي لأَسْتَحْيِي أَنْيَغْلِبَ جَهْلُهُ عِلْمِي، وَذَنْبُهُ عَفْوِي، وَمَسْأَلَتُهُ جُودِي»(4).

ص: 319


1- سورة المؤمنون: 96.
2- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص113، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في حلمه وشفقته.
3- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص113، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في حلمه وشفقته.
4- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص114، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في حلمه وشفقته.

..............................

وفي (العقد الفريد) و(نُزْهَةِ الأَبْصَارِ): قَالَ قَنْبَرُ: دَخَلْتُ مَعَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى عُثْمَانَ، فَأَحَبَّ الْخَلْوَةَ. فَأَوْمَى إِلَيَّ بِالتَّنَحِّي، فَتَنَحَّيْتُ غَيْرَ بَعِيدٍ، فَجَعَلَ عُثْمَانُ يُعَاتِبُهُ، وَهُوَ مُطْرِقٌ رَأْسَهُ، وَأَقْبَلَ إِلَيْهِ عُثْمَانُ، فَقَالَ: مَا لَكَ لاَ تَقُولُ؟!. فَقَالَ (عليه السلام): «لَيْسَ جَوَابُكَ إِلاَّ مَا تَكْرَهُ، وَلَيْسَ لَكَ عِنْدِي إِلاَّ مَا تُحِبُّ»، ثُمَّ خَرَجَ قَائِلاً:

وَلَوْ أَنَّنِي جَاوَبْتُهُ لَأَمَضَّهُ *** نَوَاقِدُ قَوْلِي وَاحْتِضَارُ جَوَابِي

وَلَكِنَّنِي أُغْضِي عَلَى مَضَضِ الْحشَا *** وَلَوْ شِئْتُ إِقْدَاماً لَأُنْشِبُ نَابِي (1)

وَأَسَرَ مَالِكٌ الأَشْتَرُ يَوْمَ الْجَمَلِ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ، فَعَاتَبَهُ (عليه السلام) وَأَطْلَقَهُ(2).

وَقَالَتْ عَائِشَةُ يَوْمَ الْجَمَلِ: مَلَكْتَفَأَسْجِحْ. فَجَهَّزَهَا أَحْسَنَ الْجَهَازَ، وَبَعَثَ مَعَهَا بِتِسْعِينَ امْرَأَةً أَوْ سَبْعِيْنَ، وَاسْتَأْمَنَتْ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ فَآمَنَهُ، وَآمَنَ مَعَهُ سَائِرُ النَّاسِ(3).

وَجِيءَ بِمُوسَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ. فَقَالَ لَهُ: «قُلْ: أَسْتَغْفِرُ اللهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ». وَخَلَّى سَبِيلَهُ، وَقَالَ: «اذْهَبْ حَيْثُ شِئْتَ، وَمَا وَجَدْتَ لَكَ

ص: 320


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص114، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في حلمه وشفقته.
2- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص114، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في حلمه وشفقته.
3- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص114، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في حلمه وشفقته.

..............................

فِي عَسْكَرِنَا مِنْ سِلاَحٍ أَوْ كُرَاعٍ فَخُذْهُ، وَاتَّقِ اللهَ فِيمَا تَسْتَقْبِلُهُ مِنْ أَمْرِكَ، وَاجْلِسْ فِي بَيْتِكَ»(1).

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «كَانَ عَلِيٌّ (عليه السلام) إِذَا أَخَذَ أَسِيراً فِي حُرُوبِ الشَّامِ، أَخَذَ سِلاَحَهُ وَدَابَّتَهُ، وَاسْتَحْلَفَهُ أَنْ لاَ يُعِينَ عَلَيْهِ»(2).وعن عرفجة، عن أبيه، قالا: لَمَّا قَتَلَ عَلِيٌّ أَصْحَابَ النَّهَرِ، جَاءَ بِمَا كَانَ فِي عَسْكَرِهِمْ، فَمَنْ كَانَ يَعْرِفُ شَيْئاً أَخَذَهُ، حَتَّى بَقِيَتْ قَدْرٌ، ثُمَّ رَأَيْتُهَا بَعْدُ قَدْ أُخِذَتْ(3).

وقال الطبرِي: لَمَّا ضَرَبَ عَلِيٌّ طَلْحَةَ الْعَبْدَرِيَّ بَرَكَهُ، فَكَبَّرَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) وَقَالَ لِعَلِيٍّ: «مَا مَنَعَكَ أَنْ تُجْهِزَ عَلَيْهِ؟». قَالَ (عليه السلام): «إِنَّ ابْنَ عَمِّي نَاشَدَنِي اللهَ وَالرَّحِمَ حِينَ انْكَشَفَتْ عَوْرَتُهُ، فَاسْتَحْيَيْتُهُ»(4).

وَلَمَّا أَدْرَكَ عَمْرَو بْنَ عَبْدَ وُدٍّ لَمْ يَضْرِبْهُ، فَوَقَعُوا فِي عَلِيٍّ (عليه السلام)، فَرَدَّ عَنْهُ حُذَيْفَةُ. فَقَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): «مَهْ يَا حُذَيْفَةُ، فَإِنَّ عَلِيّاً سَيَذْكُرُ سَبَبَ

ص: 321


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص114، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في حلمه وشفقته.
2- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص114، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في حلمه وشفقته.
3- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص114، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في حلمه وشفقته.
4- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص114 - 115، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في حلمه وشفقته.

..............................

وَقْفَتِهِ». ثُمَّ إِنَّهُ ضَرَبَهُ، فَلَمَّا جَاءَ سَأَلَهُ النَّبِيُّ عَنْ ذَلِكَ. فَقَالَ: «قَدْ كَانَ شَتَمَأُمِّي، وَتَفَلَ فِي وَجْهِي، فَخَشِيتُ أَنْ أَضْرِبَهُ لِحَظِّ نَفْسِي، فَتَرَكْتُهُ حَتَّى سَكَنَ مَا بِي، ثُمَّ قَتَلْتُهُ فِي اللهِ»(1).

وَرُوِيَ: أَنَّهُ لَمَّا طَالَبُوهُ بِالْبَيْعَةِ، قَالَ لَهُ الأَوَّلُ: بَايِعْ. قَالَ (عليه السلام): «فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ». قَالَ: وَاللهِ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ نَضْرِبُ عُنُقَكَ. قَالَ: فَالْتَفَتَ عَلِيٌّ إِلَى الْقَبْرِ، فَقَالَ: «يَا «ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي»(2)»(3).

وقال الجاحظ في (البيان والتبيين): إِنَّ أَوَّلَ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) قَوْلُهُ: «قَدْ مَضَتْ أُمُورٌ لَمْ تَكُونُوا فِيهَا بِمَحْمُودِي الرَّأْيِ، أَمَا لَوْ أَشَاءُ أَنْ أَقُولَ لَقُلْتُ، وَلَكِنْ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ، سَبَقَ الرَّجُلاَنِ، وَقَامَ الثَّالِثُ كَالْغُرَابِ هِمَّتُهُ بَطْنُهُ. يَا وَيْلَهُ، لَوْ قُصَّ جَنَاحُهُ، وَقُطِعَ رَأْسُهُ، لَكَانَ خَيْراً لَهُ»(4).ونَظَرَ عَلِيٌّ (عليه السلام) إِلَى امْرَأَةٍ عَلَى كَتِفِهَا قِرْبَةُ مَاءٍ، فَأَخَذَ مِنْهَا الْقِرْبَةَ، فَحَمَلَهَا إِلَى مَوْضِعِهَا، وَسَأَلَهَا عَنْ حَالِهَا. فَقَالَتْ: بَعَثَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ صَاحِبِيإِلَى بَعْضِ الثُّغُورِ فَقُتِلَ، وَتَرَكَ عَلِيٌّ صِبْيَاناً يَتَامَى، وَلَيْسَ عِنْدِي شَيْءٌ،

ص: 322


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص115، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في حلمه وشفقته.
2- سورة الأعراف: 150.
3- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص115، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في حلمه وشفقته.
4- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص115، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في حلمه وشفقته.

..............................

فَقَدْ أَلْجَأَتْنِي الضَّرُورَةُ إِلَى خِدْمَةِ النَّاسِ. فَانْصَرَفَ وَبَاتَ لَيْلَتَهُ قَلِقاً، فَلَمَّا أَصْبَحَ حَمَلَ زِنْبِيلاً فِيهِ طَعَامٌ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَعْطِنِي أَحْمِلْهُ عَنْكَ. فَقَالَ (عليه

السلام): «مَنْ يَحْمِلُ وِزْرِي عَنِّي يَوْمَ الْقِيَامَةِ». فَأَتَى وَقَرَعَ الْبَابَ، فَقَالَتْ: مَنْ هَذَا؟. قَالَ (عليه السلام): «أَنَا ذَلِكَ الْعَبْدُ الَّذِي حَمَلَ مَعَكِ الْقِرْبَةَ، فَافْتَحِي فَإِنَّ مَعِي شَيْئاً لِلصِّبْيَانِ». فَقَالَتْ: رَضِيَ اللهُ عَنْكَ، وَحَكَمَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. فَدَخَلَ وَقَالَ: «إِنِّي أَحْبَبْتُ اكْتِسَابَ الثَّوَابِ، فَاخْتَارِي بَيْنَ أَنْ تَعْجَنِينَ وَتَخْبِزِينَ، وَبَيْنَ أَنْ تُعَلِّلِينَ الصِّبْيَانَ لأَخْبِزَ أَنَا. فَقَالَتْ: أَنَا بِالْخُبْزِ أَبْصَرُ، وَعَلَيْهِ أَقْدَرُ، وَلَكِنْ شَأْنَكَ وَالصِّبْيَانَ، فَعَلِّلْهُمْ حَتَّى أَفْرُغَ مِنَ الْخَبْزِ. فَعَمَدَتْ إِلَى الدَّقِيقِ فَعَجَنَتْهُ، وَعَمَدَ عَلِيٌّ (عليه السلام) إِلَى اللَّحْمِ فَطَبَخَهُ، وَجَعَلَ يُلْقِمُ الصِّبْيَانَ مِنْ اللَّحْمِ وَالتَّمْرِ وَغَيْرِهِ، فَكُلَّمَا نَاوَلَ الصِّبْيَانَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئاً، قَالَ لَهُ: «يَا بُنَيَّ، اجْعَلْ عَلِيَّ بْنَأَبِي طَالِبٍ فِي حِلٍّ مِمَّا مَرَّ فِي أَمْرِكَ». فَلَمَّا اخْتَمَرَ الْعَجِينُ، قَالَتْ: يَا عَبْدَ اللهِ، سُجِرَ التَّنُّورُ. فَبَادَرَ لِسَجْرِهِ، فَلَمَّا أَشْعَلَهُ وَلَفَحَ فِي وَجْهِهِ، جَعَلَ يَقُولُ: «ذُقْ - يَا عَلِيُّ - هَذَا جَزَاءُ مَنْ ضَيَّعَ الأَرَامِلَ وَالْيَتَامَى». فَرَأَتْهُ امْرَأَةٌ تَعْرِفُهُ، فَقَالَتْ: وَيْحَكِ هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: فَبَادَرَتِ الْمَرْأَةُ وَهِيَ تَقُولُ: وَا حَيَايَ مِنْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ (عليه السلام): «بَلْ وَا حَيَايَ مِنْكِ يَا أَمَةَ اللهِ فِيمَا قَصَّرْتُ فِي أَمْرِكِ»(1).

ص: 323


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص115- 116، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في حلمه وشفقته.

..............................

أفضل تشريع وأفضل قيادة

مسألة: يجب وجوباً كفائياً إيضاح هذه الصورة المشرقة التي أشارت إليها الصديقة فاطمة (عليها السلام) عن حكومة الإمام علي (عليه السلام) للناس، وأن الناس لو سلموا إليه الزمام وانقادوا له لتحولت الأرض إلى جنة، كما قال تعالى: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ»(1).

وذلك بديهي بعد ملاحظة أن أفضل تشريع لو ضم إلى أفضل قيادة، فإنه ينتج أفضل سعادة، وأفضل حكومة، وأفضل اقتصاد واستقرار وازدهار.

وكان ذلك هو ما أراده الله للبشر، إلا أنهم - وقد منحهم الاختيار - أعرضوا عن كتابه الصامت وكتابه الناطق، فاستحقوا الضنك في الدنيا قبل عقاب الآخرة.

قال تعالى: «ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذيقَهُمْ بَعْضَ الَّذي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ»(2). وقال سبحانه: «وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَعَلَيْكُمْ مِدْراراً وَ يَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ»(3).

ص: 324


1- سورة الأعراف: 96.
2- سورة الروم: 41.
3- سورة هود: 52.

..............................

وقال سبحانه: «فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا»(1).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «أَكْثِرُوا الاِسْتِغْفَارَ تَجْلِبُوا الرِّزْقَ»(2).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِنِّي لأَعْلَمُ آيَةً لَوْ أَخَذَ بِهَا النَّاسُ لَكَفَتْهُمْ، «وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ»(3) الآيَةَ فَمَا زَالَ يَقُولُهَا وَيُعِيدُهَا»(4).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام): « «وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ»(5)، أَيْ: يُبَارِكُلَهُ فِيمَا آتَاهُ»(6).

وعن علي (عليه السلام): «مَنْ أَتَاهُ اللهُ بِرِزْقٍ لَمْ يَخْطُ إِلَيْهِ بِرِجْلِهِ، وَلَمْ يَمُدَّ إِلَيْهِ يَدَهُ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ بِلِسَانِهِ، وَلَمْ يَشُدَّ إِلَيْهِ ثِيَابَهُ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ، كَانَ مِمَّنْ ذَكَرَ اللهَ عَزَّ وَ جَلَّ فِي كِتَابِهِ: «وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ»(7) الآيَةَ»(8).

ص: 325


1- سورة نوح: 10 - 12.
2- الخصال: ج2 ص615، باب الواحد إلى المائة، علم أمير المؤمنين (عليه السلام) أصحابه في مجلس واحد أربعمائة باب مما يصلح للمسلم في دينه ودنياه، ح10.
3- سورة الطلاق: 2.
4- بحار الأنوار: ج67 ص281، تتمة كتاب الإيمان والكفر، الباب56 من تتمة أبواب مكارم الأخلاق.
5- سورة الطلاق: 3.
6- بحار الأنوار: ج67 ص281، تتمة كتاب الإيمان والكفر، الباب56 من تتمة أبواب مكارم الأخلاق.
7- سورة الطلاق: 2.
8- بحار الأنوار: ج67 ص281، تتمة كتاب الإيمان والكفر، الباب56 من تتمة أبواب مكارم الأخلاق.

..............................

وقال النبي (صلى الله عليه وآله): «مَنِ اتَّقَى اللهَ عَاشَ قَوِيّاً،وَسَارَ فِي بِلاَدِ عَدُوِّهِ آمِناً»(1).

ورُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، أَنَّهُ قَالَ: «خَصْلَةٌ مَنْ لَزِمَهَا، أَطَاعَتْهُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ، وَرَبِحَ الْفَوْزَ بِالْجَنَّةِ». قِيلَ: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟. قَالَ: «التَّقْوَى، مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ أَعَزَّ النَّاسِ، فَلْيَتَّقِ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ - ثُمَّ تَلاَ - «وَمَنْ يَتَّقِ اللهَيَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ»(2)»(3).

وعن الحسن بن علي (عليه السلام): أَنَّهُ وَفَدَ عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَلَمَّا خَرَجَ تَبِعَهُ بَعْضُ حُجَّابِهِ، وَقَالَ: إِنِّي رَجُلٌ ذُو مَالٍ، وَلاَ يُولَدُ لِي، فَعَلِّمْنِي شَيْئاً لَعَلَّ اللهَ يَرْزُقُنِي وَلَداً. فَقَالَ (عليه السلام): «عَلَيْكَ بِالاسْتِغْفَارِ». فَكَانَ يُكْثِرُ الاِسْتِغْفَارَ، حَتَّى رُبَّمَا اسْتَغْفَرَ فِي الْيَوْمِ سَبْعَمِائَةِ مَرَّةٍ، فَوُلِدَ لَهُ عَشَرَةُ بَنِينَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ: هَلاَّ سَأَلْتَهُ مِمَّ قَالَ ذَلِكَ؟. فَوَفَدَهُ وَفْدَةً أُخْرَى عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَسَأَلَهُ الرَّجُلُ. فَقَالَ (عليه السلام): «أَ لَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ اللهِ عَزَّ اسْمُهُ فِي قِصَّةِ هُودٍ (عليه السلام): «وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ»(4)، وَفِي قِصَّةِ نُوحٍ (عليه السلام): «وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ»(5)»(6).

ص: 326


1- بحار الأنوار: ج67 ص283 تتمة كتاب الإيمان والكفر، الباب56 ح5.
2- سورة الطلاق: 2 - 3.
3- بحار الأنوار: ج67 ص285 تتمة كتاب الإيمان والكفر، الباب56 ح7.
4- سورة هود: 52.
5- سورة نوح: 12.
6- مكارم الأخلاق: ص226، ب8 ف6، في طلب الولد.

..............................

القائد كالأب الرحيم

مسألة: يجب أن يكون القائد كالأبالرحيم للأُمة، كما كان الإمام علي (عليه السلام)، أما من غصب الخلافة فإنهم كانوا نقمةً على الأُمة.

ولذلك نجده (عليه السلام) يقول: «مَنَنْتُ عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ، كَمَا مَنَّ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ» (1)، رغم أنهم أثاروا حرباً عسكرية شعواء، وأثاروا انشقاقاً كبيراً في الأمة الاسلامية، إلا أنه (عليه السلام) بمجرد الانتصار تعامل معهم كالأب الرحيم، فلم يعف فحسب، بل كان حسن العفو، كما مر في معنى الإسجاح.

وكان من ذلك أن أكرم عائشة وبعث لحمايتها أربعين امرأة ملثمة بلثام الرجال من البصرة إلى المدينة، وانتخب (عليه السلام) أربعين امرأة حفظاً لكرامتها إلى هذه الدرجة، وكن لابسات ملابس الرجال وملثمات كالرجال كي لا يطمع طامع أو يغير مغير على عائشة استصغاراً لشأن حماتها باعتبارهن نسوة، وذلك هو القمة في الحكمة والرحمة.

قال الإمام الرضا (عليه السلام): «الإِمَامُ الأَنِيسُ الرَّفِيقُ، وَالْوَالِدُالشَّفِيقُ، وَالأَخُ الشَّقِيقُ، وَالأُمُّ الْبَرَّةُ بِالْوَلَدِ الصَّغِيرِ، وَمَفْزَعُ الْعِبَادِ فِي الدَّاهِيَةِ النَّآدِ. الإِمَامُ أَمِينُ اللهِ فِي خَلْقِهِ، وَحُجَّتُهُ عَلَى عِبَادِهِ، وَخَلِيفَتُهُ فِي بِلاَدِهِ، وَالدَّاعِي إِلَىاللهِ،

ص: 327


1- المسترشد في إمامة علي بن أبي طالب (عليه السلام): ص393، ب5، مناشدته (عليه السلام) مع الخوارج.

..............................

وَالذَّابُّ عَنْ حُرَمِ اللهِ»(1).

قلة السجون في الإسلام

مسألة: لا سجون في الإسلام إلاّ في موارد قليلة جداً، ولا مصادرة للأموال، ولا سحق للحقوق، ولا منع للسفر أو الإقامة أو الزواج أو التملك بدعوى أنه من بلد آخر، فإن ذلك كله مقتضى «وَلَسَارَ بِهِمْ سَيْراً سُجُحاً»، وقد ذكرنا تفصيلها في (فقه الحريات) و(الصياغة الجديدة) وغيرهما، وفي الحديث: «الرِّفْقُ بِالأَتْبَاعِ مِنْ كَرَمِ الطِّبَاعِ»(2).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «الرِّفْقُنِصْفُ الْعَيْشِ»(3).

وقال (صلى الله عليه وآله): «إِذَا أَرَادَ اللهُ بِأَهْلِ بَيْتٍ خَيْراً: فَقَّهَهُمْ فِي الدِّينِ، وَرَزَقَهُمُ الرِّفْقَ فِي مَعَايِشِهِمْ، وَالْقَصْدَ فِي شَأْنِهِمْ»(4).

وقال (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ اللهَ لَيُبْغِضُ الْمُؤْمِنَ الضَّعِيفَ الَّذِي لاَ رِفْقَ بِهِ»(5).

ص: 328


1- الكافي: ج1 ص200، كتاب الحجة، باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته، ح1.
2- مستدرك الوسائل: ج11ص295، تتمة كتاب الجهاد، الباب27 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ضمن ح13075.
3- مستدرك الوسائل: ج11ص292، تتمة كتاب الجهاد، الباب27 ح13061.
4- مستدرك الوسائل: ج11ص292، تتمة كتاب الجهاد، الباب27 ح13062.
5- مستدرك الوسائل: ج11ص292، تتمة كتاب الجهاد، الباب27 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ح13063.

..............................

الأصل الرفق واللين

مسألة: الأصل في التعامل مع الناس هو السير بهم سيراً سجحا ليناً، وإن كانت له بعض العوارض والسلبيات، كما قال علي (عليه السلام): «إِنْ كَانَتِ الرَّعَايَا قَبْلِي لَتَشْكُو حَيْفَ رُعَاتِهَا، وَإِنَّنِي الْيَوْمَ لأَشْكُو حَيْفَ رَعِيَّتِي، كَأَنَّنِي الْمَقُودُ وَهُمُ الْقَادَةُ، أَوِ الْمَوْزُوعُ وَهُمُ الْوَزَعَةُ»(1)، إلاّأنه هو الأصح والأسلم.

ف (السلم والسلام أحمد عاقبة) كما ذكرنا تفصيله في كتاب (السبيل)(2).

وعلى ذلك يجب على الحاكم السير بالناس برفق ولين، وأن يعفو عن مسيئهم عفواً حسناً، وإن سبّب ذلك تجرء بعض الناس على الحاكم، أو الانتقاص من شأنه، أو نقده علناً في المحافل والمجالس والجرائد والمجلات، فإن كل ذلك من الحكمة، ومن بعد النظر، ومن أسباب دوام الحكم والذكر الحسن على مر التاريخ.

فإن حبل الظلم والاستبداد قصير وإن طال، وإن حبل العدل والإحسان والسير السجح اللين الرفيق متين قوي طويل مستمر وإن تعرض للإساءات.

وقد ورد «إِنَّ اللهَ يُمْهِلْ وَلاَ يُهْمِلْ» (3).

ص: 329


1- نهج البلاغة: حِكَم أمير المؤمنين (عليه السلام) الرقم261، ومن كلامه (عليه السلام) لما بلغه إغارة أصحاب معاوية على الأنبار.
2- السبيل إلى إنهاض المسلمين: ص147، القسم الأول، الأساس الرابع، السلام أحمد عاقبة.
3- رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين: ج3 ص120 شرح الدعاء السادس عشر.

..............................

وقال تعالى: «وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ»(1)، ولسيتالعاقبة للمتقين في الآخرة فقط، بل في الدنيا أيضاً، وليس ذلك فقط في زمن ظهور الإمام المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف وفرج به عنا وعن المؤمنين أجمع)، وإن كان لو لم يكن غيره لكفى بل وزاد أيضاً.

ألا ترى أن معاوية ويزيد وأضرابهما أضحيا في مزبلة التاريخ، لكن الإمام الحسين (عليه السلام) أضحى له على مر ألوف السنين الحكومة العليا على قلوب الناس، بل حتى ابنته الصغيرة السيدة رقية (سلام الله عليها) أضحى لها مزار مهيب في الشام يقصده الناس من أكناف الأرض ليأخذوا حوائجهم، وقبر معاوية مزبلة من مزابل الشام!.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَا وُضِعَ الرِّفْقُ عَلَى شَيْءٍ إِلاَّ زَانَهُ، وَلاَ وُضِعَ الْخُرْقُ عَلَى شَيْءٍ إِلاَّ شَانَهُ، فَمَنْ أُعْطِيَ الرِّفْقَ أُعْطِيَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَنْ حُرِمَهُ حُرِمَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ»(2).

وقال (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُعْطِي الثَّوَابَ، وَيُحِبُّ كُلَّ رَفِيقٍ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ»(3).وقال (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيُعِينُ عَلَيْهِ»(4).

ص: 330


1- سورة الأعراف: 128، سورة القصص: 83.
2- مستدرك الوسائل: ج11ص292، تتمة كتاب الجهاد، الباب27 ح13064.
3- مستدرك الوسائل: ج11ص293، تتمة كتاب الجهاد، الباب27 ح13066.
4- مستدرك الوسائل: ج11ص293، تتمة كتاب الجهاد، الباب27 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ح13065.

..............................

وقال (صلى الله عليه وآله): «الرِّفْقُ يُمْنٌ، وَالْخُرْقُ شُؤْمٌ»(1).

وعن هشام بن الحكم، عن الإمام الكاظم (عليه السلام)، أنه قال: «يَا هِشَامُ، عَلَيْكَ بِالرِّفْقِ؛ فَإِنَّ الرِّفْقَ خَيْرٌ، وَالْخُرْقَ شُؤْمٌ. إِنَّ الرِّفْقَ وَالْبِرَّ وَحُسْنَ الْخُلُقِ، يَعْمُرُ الدِّيَارَ، وَيَزِيدُ فِي الرِّزْقِ»(2).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام)، أنَه قال لولده الحسين (عليه السلام): «يَا بُنَيَّ، رَأْسُ الْعِلْمِ الرِّفْقُ، وَآفَتُهُ الْخُرْقُ»(3).وعن علي بن الحسين (عليه السلام)، قال: «كَانَ آخِرُ مَا أَوْصَى بِهِ الْخَضِرُ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ، أَنَّهُ قَالَ: لاَ تُعَيِّرَنَّ أَحَداً بِذَنْبٍ؛ فَإِنَّ أَحَبَّ الأُمُورِ إِلَى اللهِ ثَلاَثَةٌ: الْقَصْدُ فِي الْجِدَةِ، وَالْعَفْوُ فِي الْمَقْدُرَةِ، وَالرِّفْقُ بِعِبَادِ اللهِ. وَمَا أَرْفَقَ أَحَدٌ بِأَحَدٍ فِي الدُّنْيَا، إِلاَّ رَفَقَ اللهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(4).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام)، أنه قال: «مَا ارْتَجَّ امْرُؤٌ، وَأَحْجَمَ عَلَيْهِ الرَّأْيُ، وَأَعْيَتْ بِهِ الْحِيَلُ، إِلاَّ كَانَ الرِّفْقُ مِفْتَاحَهُ»(5).

ص: 331


1- مستدرك الوسائل: ج11ص293، تتمة كتاب الجهاد، الباب27 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ح13067.
2- مستدرك الوسائل: ج11ص294، تتمة كتاب الجهاد، الباب27 ضمن ح13070.
3- مستدرك الوسائل: ج11ص294، تتمة كتاب الجهاد، الباب27 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ضمن ح13071.
4- مستدرك الوسائل: ج11ص294، تتمة كتاب الجهاد، الباب27 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ضمن ح13072.
5- مستدرك الوسائل: ج11ص295، تتمة كتاب الجهاد، الباب27 ضمن ح13073.

..............................

وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «الرِّفْقُ رَأْسُ الْحِكْمَةِ. اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ شَيْئاً مِنْ أُمُورِ أُمَّتِي، فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ، وَمَنْ شَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ»(1).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال:«الرِّفْقُ يُيَسِّرُ الصِّعَابَ، وَيُسَهِّلُ الأَسْبَابَ»(2).

الشيعة والسير السجح

مسألة: ينبغي على أتباع أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وشيعته أن يسيروا مع أهلهم وأصدقائهم وشركائهم بل وحتى منافسيهم وأعدائهم سيراً سجحاً ليناً، عكس ما يسير عليه أتباع من غصب الخلافة، ولذا نرى النواصب والإرهابيين قطعة من الخشونة والعنف والخرق والجريمة.

وعن شعيب العقرقوفي، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ لأَصْحَابِهِ: «اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا إِخْوَةً بَرَرَةً، مُتَحَابِّينَ فِي اللهِ، مُتَوَاصِلِينَ مُتَرَاحِمِينَ، تَزَاوَرُوا وَتَلاَقَوْا وَتَذَاكَرُوا أَمْرَنَا وَأَحْيُوهُ»(3).

وعن كليب الصيداوي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «تَوَاصَلُوا، وَتَبَارُّوا، وَتَرَاحَمُوا، وَكُونُوا إِخْوَةً بَرَرَةً، كَمَا أَمَرَكُمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ»(4).

ص: 332


1- مستدرك الوسائل: ج11ص295، تتمة كتاب الجهاد، الباب27 ضمن ح13074.
2- مستدرك الوسائل: ج11ص295، تتمة كتاب الجهاد، الباب27 ضمن ح13075.
3- الكافي: ج2 ص175، كتاب الإيمان والكفر، باب التراحم والتعاطف، ح1.
4- الكافي: ج2 ص175، كتاب الإيمان والكفر، باب التراحم والتعاطف، ح2.

..............................

وعن عبد الله بن يحيى الكاهلي، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «تَوَاصَلُوا وَتَبَارُّوا، وَتَرَاحَمُوا وَتَعَاطَفُوا»(1).

وعن أبي المغراء، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «يَحِقُّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الاِجْتِهَادُ فِي التَّوَاصُلِ، وَالتَّعَاوُنُ عَلَى التَّعَاطُفِ، وَالْمُوَاسَاةُ لأَهْلِ الْحَاجَةِ، وَتَعَاطُفُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، حَتَّى تَكُونُوا كَمَا أَمَرَكُمُ اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ: «رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ»(2)، مُتَرَاحِمِينَ مُغْتَمِّينَ لِمَا غَابَ عَنْكُمْ مِنْ أَمْرِهِمْ، عَلَى مَا مَضَى عَلَيْهِ مَعْشَرُ الأَنْصَارِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)»(3).

تحري رضا العامة

مسألة: يجب أن يتحرى الحاكم رضا عامة الناس، قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة: «وَلْيَكُنْ أَحَبَّ الأُمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ، وَأَعَمُّهَا فِيالْعَدْلِ، وَأَجْمَعُهَا لِرِضَا الرَّعِيَّةِ، فَإِنَّ سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَا الْخَاصَّةِ، وَإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَا الْعَامَّةِ»(4).

ف «لَسَارَ بِهِمْ سَيْراً سُجُحاً» يراد به بعامة الناس وبخاصتهم أيضاً، إلاّ لدى التعارض، فإن رضا العامة مقدم.

ص: 333


1- الكافي: ج2 ص175، كتاب الإيمان والكفر، باب التراحم والتعاطف، ح3.
2- سورة الفتح: 29.
3- الكافي: ج2 ص175، كتاب الإيمان والكفر، باب التراحم والتعاطف، ح4.
4- نهج البلاغة: رسائل أمير المؤمنين (عليه السلام)، الرقم53 ومن كتاب له (عليه السلام) كتبه للأشتر النخعي (رحمه الله) لما ولاه على مصر وأعمالها حين اضطرب أمر أميرها محمد بن أبي بكر.

..............................

وأغلب الحكام يرجحون - جهلاً أو ضعفاً أو خبثاً أو هوىً أو ما أشبه - رضا الخاصة على رضا العامة، فيوردون أنفسهم وشعبهم المهالك، « فَباءُو بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ»(1).

قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه): «إِنَّمَا يَجْمَعُ النَّاسَ الرِّضَا وَالسَّخَطُ، فَمَنْ رَضِيَ أَمْراً فَقَدْ دَخَلَ فِيهِ، وَمَنْ سَخِطَهُ فَقَدْ خَرَجَ مِنْهُ»(2).

وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قال: «شِرَارُ النَّاسِ مَنْ بَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَاهُ،وَشَرٌّ مِنْ ذَلِكَ مَنْ بَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ»(3).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام)، أنه قال: «شَرُّ النَّاسِ مَنْ يُعِينُ عَلَى الْمَظْلُومِ»(4).

العدل والإحسان

مسألة: يستحب أن يسير القائد بالناس سيراً سجحاً ليناً سهلاً، وهو أمر زائد على العدل، فهو من مصاديق الإحسان، قال تعالى: «إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ»(5).

ص: 334


1- سورة البقرة: 90.
2- المحاسن: ج1 ص262، كتاب مصابيح الظلم، باب33 النية، ح323.
3- مستدرك الوسائل: ج12 ص109، تتمة كتاب الجهاد، الباب80 ح13653.
4- مستدرك الوسائل: ج12 ص109، تتمة كتاب الجهاد، الباب80 ح13654.
5- سورة النحل: 90.

..............................

وقد ذكرنا في موضع أنه لا يبعد وجوب الإحسان في الجملة، ومما يمكن أن يستشهد به لذلك هذه الآية، لوحدة السياق، ووقوع الإحسان متعلقاً لمادة الأمر، فتأمل.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «اعْرِفُوا اللهَ بِاللهِ، وَالرَّسُولَ بِالرِّسَالَةِ،وَأُولِي الأَمْرِ بِالأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، عن أبيه، قال: «إِنَّ الإِمَامَةَ لاَ تَصْلُحُ إِلاَّ لِرَجُلٍ فِيهِ ثَلاَثُ خِصَالٍ: وَرَعٌ يَحْجُزُهُ عَنِ الْمَحَارِمِ، وَحِلْمٌ يَمْلِكُ بِهِ غَضَبَهُ، وَحُسْنُ الْخِلاَفَةِ عَلَى مَنْ وُلِّيَ عَلَيْهِ حَتَّى يَكُونَ لَهُ كَالْوَالِدِ الرَّحِيمِ»(2).

وعن عمرو بن عثمان التيمي القاضي، قال: خَرَجَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (صلوات الله عليه) عَلَى أَصْحَابِهِ، وَهُمْ يَتَذَاكَرُونَ الْمُرُوءَةَ. فَقَالَ (عليه السلام): «أَيْنَ أَنْتُمْ مِنْ كِتَابِ اللهِ». قَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فِي أَيِّ مَوْضِعٍ؟!. فَقَالَ (عليه السلام): «فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: «إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ»(3). فَالْعَدْلُ الإِنْصَافُ، وَالإِحْسَانُ التَّفَضُّلُ»(4).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أَعْدَلُ النَّاسِ مَنْ رَضِيَ لِلنَّاسِ مَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ،وَكَرِهَ لَهُمْ مَا يَكْرَهُ لِنَفْسِهِ»(5).

ص: 335


1- الكافي: ج1 ص85، كتاب التوحيد، باب أنه لا يعرف إلا به، ح1.
2- الإمامة والتبصرة من الحيرة: ص138، حول إمامة القائم (عليه السلام)، ب36، ح156.
3- سورة النحل: 90.
4- معاني الأخبار: ص257، باب معنى المروءة، ح1.
5- بحار الأنوار: ج72 ص25، تتمة كتاب العشرة، الباب35 ح1.

..............................

وفي خبر الشيخ الشامي، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «يَا شَيْخُ، ارْضَ لِلنَّاسِ مَا تَرْضَى لِنَفْسِكَ، وَآتِ إِلَى النَّاسِ مَا تُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْكَ»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «أَحِبُّوا لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّونَ لأَنْفُسِكُمْ»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «مَنْ أَنْصَفَ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ رُضِيَ بِهِ حَكَماً لِغَيْرِهِ»(3).

وعن جعفر بن محمد، عن أبيه (عليهما السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليهوآله): «مَنْ وَاسَى الْفَقِيرَ، وَأَنْصَفَ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ، فَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ حَقّاً»(4).

وعن معاوية بن وهب، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «مَا نَاصَحَ اللهَ عَبْدٌ مُسْلِمٌ فِي نَفْسِهِ، فَأَعْطَى الْحَقَّ مِنْهَا، وَأَخْذَ الْحَقَّ لَهَا، إِلاَّ أُعْطِيَ خَصْلَتَيْنِ: رِزْقاً مِنَ اللهِ يَقْنَعُ بِهِ، وَرِضًى عَنِ اللهِ يُنْجِيهِ»(5).

ص: 336


1- بحار الأنوار: ج72 ص25، تتمة كتاب العشرة، الباب35 من تتمة أبواب حقوق المؤمنين بعضهم على بعض وبعض أحوالهم، ح2.
2- بحار الأنوار: ج72 ص25، تتمة كتاب العشرة، الباب35 من تتمة أبواب حقوق المؤمنين بعضهم على بعض وبعض أحوالهم، ح3.
3- بحار الأنوار: ج72 ص25، تتمة كتاب العشرة، الباب35 من تتمة أبواب حقوق المؤمنين بعضهم على بعض وبعض أحوالهم، ح4.
4- بحار الأنوار: ج72 ص25، تتمة كتاب العشرة، الباب35 من تتمة أبواب حقوق المؤمنين بعضهم على بعض وبعض أحوالهم، ح5.
5- بحار الأنوار: ج72 ص25 - 26، تتمة كتاب العشرة، الباب35 من تتمة أبواب حقوق المؤمنين بعضهم على بعض وبعض أحوالهم، ح6.

..............................

وعن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «ثَلاَثَةٌ هُمْ أَقْرَبُ الْخَلْقِ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَفْرُغَ مِنَ الْحِسَابِ: رَجُلٌ لَمْ تَدْعُهُ قُدْرَتُهُ فِي حَالِ غَضَبِهِ إِلَى أَنْ يَحِيفَ عَلَى مَنْ تَحْتَ يَدَيْهِ، وَرَجُلٌ مَشَى بَيْنَ اثْنَيْنِ فَلَمْ يَمِلْ مَعَ أَحَدِهِمَا عَلَى الآخَرِ بِشَعِيرَةٍ، وَرَجُلٌ قَالَ الْحَقَّ فِيمَا عَلَيْهِ وَلَهُ»(1).

الرفق واللين في كل شيء

مسألة: يستحب الرفق واللين في كل شيء، وقد يجب ذلك، وفي الحديث: «مَا وُضِعَ الرِّفْقُ عَلَى شَيْءٍ إِلاَّ زَانَهُ، وَلاَ وُضِعَ الْخُرْقُ عَلَى شَيْءٍ إِلاَّ شَانَهُ»(2)، سواء كان ذلك في السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع أو غير ذلك، وكذلك في العائلة والشركة والمنظمة والدائرة وغيرها.

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِذَا أَرَادَ اللهُ بِأَهْلِ بَيْتٍ خَيْراً: أَرْشَدَهُمْ لِلرِّفْقِ وَالتَّأَنِّي، وَمَنْ حُرِمَ الرِّفْقَ فَقَدْ حُرِمَ الْخَيْرَ»(3).

وقال (صلى الله عليه وآله): «إِذَا أَرَدْتَ أَمْراً فَعَلَيْكَ بِالرِّفْقِ وَالتُّؤَدَةِ، حَتَّى يَجْعَلَ اللهُ لَكَ مِنْهُ فَرَجاً»(4).

ص: 337


1- بحار الأنوار: ج72 ص26، تتمة كتاب العشرة، الباب35 ح7.
2- مستدرك الوسائل: ج11ص292، تتمة كتاب الجهاد، الباب27 ح13064.
3- مستدرك الوسائل: ج11ص293 - 294، تتمة كتاب الجهاد، الباب27 ح13069.
4- مستدرك الوسائل: ج11ص294، تتمة كتاب الجهاد، الباب27 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ضمن ح13069.

..............................

وقال (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأُمُورِ كُلِّهَا»(1).

شمولية الرفق واللين زمناً

مسألة: استحباب الرفق واللين غير خاص بزمن دون آخر، بل هو مستحب في كل الأزمنة والحالات.

قال تعالى: «وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ»(2).

فسواء كان الإنسان في صحة أم مرض، في شدة أو رخاء، في سراء أو ضراء، تابعاً أو متبوعاً... عليه أن يتخذ الرفق والإسجاح ديدناً، وقد ذكرنا تفصيل ذلك وغيره في بعض كتبنا(3).

عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لاَ يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ»(4).

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «إِنَّلِكُلِّ شَيْءٍ قُفْلاً، وَقُفْلُ الإِيمَانِ الرِّفْقُ»(5).

ص: 338


1- مستدرك الوسائل: ج11ص294، تتمة كتاب الجهاد، الباب27 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ضمن ح13069.
2- سورة الشورى: 37.
3- انظر: (اللاعنف في الإسلام)، و(اللاعنف منهج وسلوك)، و(الفقه: السلم والسلام)، وغيرها من مؤلفات الإمام الشيرازي الراحل (قدس سره).
4- وسائل الشيعة: ج15 ص269، كتاب الجهاد، الباب27 ح20478.
5- وسائل الشيعة: ج15 ص269، كتاب الجهاد، الباب27 ح20479.

..............................

وقال أبو جعفر (عليه السلام): «مَنْ قُسِمَ لَهُ الرِّفْقُ قُسِمَ لَهُ الإِيمَانُ»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «أَيُّمَا أَهْلِ بَيْتٍ أُعْطُوا حَظَّهُمْ مِنَ الرِّفْقِ، فَقَدْ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِمْ فِي الرِّزْقِ، وَالرِّفْقُ فِي تَقْدِيرِ الْمَعِيشَةِ خَيْرٌ مِنَ السَّعَةِ فِي الْمَالِ، وَالرِّفْقُ لاَ يَعْجِزُ عَنْهُ شَيْءٌ، وَالتَّبْذِيرُ لاَ يَبْقَى مَعَهُ شَيْءٌ. إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ»(2).

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لَوْ كَانَ الرِّفْقُ خَلْقاً يُرَى، مَا كَانَ مِمَّا خَلَقَ اللهُ شَيْءٌ أَحْسَنَ مِنْهُ»(3).

وعن أبي الحسن (عليه السلام)، قال:«الرِّفْقُ نِصْفُ الْعَيْشِ»(4).

وعن النبي (صلى الله عليه وآله)، قال: «إِنَّ فِي الرِّفْقِ الزِّيَادَةَ وَالْبَرَكَةَ، وَمَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ يُحْرَمِ الْخيْرَ»(5).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «مَا زُوِيَ الرِّفْقُ عَنْ أَهْلِ بَيْتٍ إِلاَّ زُوِيَ عَنْهُمُ الْخيْرُ»(6).

ص: 339


1- وسائل الشيعة: ج15 ص269، كتاب الجهاد، الباب27 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ح20480.
2- وسائل الشيعة: ج15 ص270، كتاب الجهاد، الباب27 ح20481.
3- وسائل الشيعة: ج15 ص270، كتاب الجهاد، الباب27 ح20482.
4- وسائل الشيعة: ج15 ص270، كتاب الجهاد، الباب27 ح20483.
5- وسائل الشيعة: ج15 ص271، كتاب الجهاد، الباب27 ح20486.
6- وسائل الشيعة: ج15 ص271، كتاب الجهاد، الباب27 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ح20487.

..............................

وعن هشام بن أحمر، عن أبي الحسن (عليه السلام)، قال: قال لي - وَجَرَى بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنَ الْقَوْمِ كَلاَمٌ - فَقَالَ لِي: «ارْفُقْ بِهِمْ؛ فَإِنَّ كُفْرَ أَحَدِهِمْ فِي غَضَبِهِ، وَلاَ خَيْرَ فِيمَنْ كَانَ كُفْرُهُ فِي غَضَبِهِ»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ اللهَ رَفِيقٌيُحِبُّ الرِّفْقَ وَيُعِينُ عَلَيْهِ»(2).

وقال (عليه السلام): «مَا اصْطَحَبَ اثْنَانِ إِلاَّ كَانَ أَعْظَمُهُمَا أَجْراً وَأَحَبُّهُمَا إِلَى اللهِ أَرْفَقَهُمَا بِصَاحِبِهِ»(3).

وعن الفضيل بن عثمان، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «مَنْ كَانَ رَفِيقاً فِي أَمْرِهِ، نَالَ مَا يُرِيدُ مِنَ النَّاسِ»(4).

ص: 340


1- وسائل الشيعة: ج15 ص271، كتاب الجهاد، الباب27 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ح20488.
2- وسائل الشيعة: ج15 ص271، كتاب الجهاد، الباب27 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ح20489.
3- وسائل الشيعة: ج15 ص271-272، كتاب الجهاد، الباب27 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ح20490.
4- وسائل الشيعة: ج15 ص272، كتاب الجهاد، الباب27 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ح20492.

لاَ يَكْلُمُ حِشَاشُهُ

اشارة

-------------------------------------------

لاَ يَكْلُمُ حِشَاشُهُ(1)

بين الحزم والرفق

مسألة: يجب في القائد أن يجمع بين الضبط وبين اللين والرفق، وهو ما يسمى بالحزم(2).

فالضبط بأن يضع ضوابط وقواعد ورقابة ومحاسبة.

واللين والرفق بأن لا يستخدم ذلك بالشدة والعنف، كما قالت (عليها السلام): «لاَ يَكْلُمُ خِشَاشُهَ»، كما في بعض النسخ، أي هنالك خشاش به تتم السيطرة على الوضع وضبط الأمور، لكن برفق وحكمة حتى لا يكلم ولا يجرح.

و(الكلم): الجرح.

و(الخشاش): ما يجعل في أنف البعير ويشد به زمامه ليكون أسرع في الانقياد.

كتب أمير المؤمنين (عليه السلام) في مدح مالك الأشتر: «وَقَدْ أَمَّرْتُ عَلَيْكُمَا - وَعَلَى مَنْ فِي حَيِّزِكُمَا - مَالِكَ بْنَ الْحَارِثِالأَشْتَرَ، فَاسْمَعَا لَهُ وَأَطِيعَا، وَاجْعَلاَهُ دِرْعاً وَمِجَنّاً؛ فَإِنَّهُ مِمَّنْ لاَ يُخَافُ وَهْنُهُ، وَلاَ سَقْطَتُهُ، وَلاَ بُطْؤُهُ عَمَّا الإِسْرَاعُ إِلَيْهِ أَحْزَمُ، وَلاَ إِسْرَاعُهُ إِلَى مَا الْبُطْءُ عَنْهُ أَمْثَلُ»(3).

ص: 341


1- وفي بعض النسخ: خشاشه.
2- عرف الحزم بأنه شدة في لين، والمقصود قوة في لين.
3- نهج البلاغة: الرسائل، الرقم13 ومن كتاب له (عليه السلام) إلى أميرين من أمراء جيشه.

..............................

ومن كتاب كتبه الإمام الصادق (عليه السلام) يسدي فيه النصيحة إلى عبد الله النجاشي لما ابتلي بوِلاية الأهواز،قال: «وَاعْلَمْ أَنِّي سَأُشِيرُ عَلَيْكَ بِرَأْيٍ، إِنْ أَنْتَ عَمِلْتَ بِهِ تَخَلَّصْتَ مِمَّا أَنْتَ مُتَخَوِّفُهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ خَلاَصَكَ وَنَجَاتَكَ مِنْ حَقْنِ الدِّمَاءِ فِي حَقْنِ الدُّنْيَا، وَكَفِّ الأَذَى عَنْ أَوْلِيَاءِ اللهِ، وَالرِّفْقِ بِالرَّعِيَّةِ، وَالتَّأَنِّي وَحُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ، مَعَ لِينٍ فِي غَيْرِ ضَعْفٍ، وَشِدَّةٍ مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ، وَمُدَارَاةِ صَاحِبِكَ، وَمَنْ يَرِدُ عَلَيْكَ مِنْ رُسُلِهِ، وَارْتُقْ فَتْقَ رَعِيَّتِكَ، بِأَنْ تُوقِفَهُمْ عَلَى مَا وَافَقَ الْحَقَّ وَالْعَدْلَ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. وَإِيَّاكَ وَالسُّعَاةَ وَأَهْلَ النَّمَائِمِ، فَلاَ يَلْتَزِقَنَّ مِنْهُمْ بِكَ أَحَداً، وَلاَ يَرَاكَ اللهُ يَوْماً وَلَيْلَةً وَ أَنْتَ تَقْبَلُ مِنْهُمْ صَرْفاً وَلاَ عَدْلاً، فَيَسْخَطَ اللهُ عَلَيْكَ وَيَهْتِكَ سِتْرَكَ»(1).وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ ثَمَانُ خِصَالٍ: وَقُورٌ عِنْدَ الْهَزَاهِزِ، صَبُورٌ عِنْدَ الْبَلاَءِ، شَكُورٌ عِنْدَ الرَّخَاءِ، قَانِعٌ بِمَا رَزَقَهُ اللهُ، لاَ يَظْلِمُ الأَعْدَاءَ، وَلاَ يَتَحَامَلُ لِلأَصْدِقَاءِ، بَدَنُهُ مِنْهُ فِي تَعَبٍ وَالنَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ. إِنَّ الْعِلْمَ خَلِيلُ الْمُؤْمِنِ، وَالْحِلْمَ وَزِيرُهُ، وَالصَّبْرَ أَمِيرُ جُنُودِهِ، وَالرِّفْقَ أَخُوهُ، وَاللِّينَ وَالِدُهُ»(2).

وعن علي بن الحسين (عليه السلام)، قال: «الْمُؤْمِنُ يَصْمُتُ لِيَسْلَمَ، وَيَنْطِقُ لِيَغْنَمَ، لاَ يُحَدِّثُ أَمَانَتَهُ الأَصْدِقَاءَ، وَلاَ يَكْتُمُ شَهَادَتَهُ مِنَ الْبُعَدَاءِ، وَلاَ يَعْمَلُ شَيْئاً مِن الْخَيْرِ رِيَاءً، وَلاَ يَتْرُكُهُ حَيَاءً، إِنْ زُكِّيَ خَافَ مِمَّا يَقُولُونَ، وَيَسْتَغْفِرُ اللهَ لِمَا

ص: 342


1- كشف الريبة: ص87 - 88، الحديث العاشر.
2- الكافي: ج2 ص230 - 231، كتاب الإيمان والكفر، باب المؤمن وعلاماته وصفاته ح2.

..............................

لاَيَعْلَمُونَ، لاَ يَغُرُّهُ قَوْلُ مَنْ جَهِلَهُ، وَيَخَافُ إِحْصَاءَ مَا عَمِلَهُ»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال:«الْمُؤْمِنُ لَهُ قُوَّةٌ فِي دِينٍ، وَحَزْمٌ فِي لِينٍ، وَإِيمَانٌ فِي يَقِينٍ، وَحِرْصٌ فِي فِقْهٍ، وَنَشَاطٌ فِي هُدًى، وَبِرٌّ فِي اسْتِقَامَةٍ، وَعِلْمٌ فِي حِلْمٍ، وَكَيْسٌ فِي رِفْقٍ، وَسَخَاءٌ فِي حَقٍّ، وَقَصْدٌ فِي غِنًى، وَتَجَمُّلٌ فِي فَاقَةٍ، وَعَفْوٌ فِي قُدْرَةٍ، وَطَاعَةٌ للهِ فِي نَصِيحَةٍ، وَانْتِهَاءٌ فِي شَهْوَةٍ، وَوَرَعٌ فِي رَغْبَةٍ، وَحِرْصٌ فِي جِهَادٍ، وَصَلاَةٌ فِي شُغُلٍ، وَصَبْرٌ فِي شِدَّةٍ، وَفِي الْهَزَاهِزِ وَقُورٌ، وَفِي الْمَكَارِهِ صَبُورٌ، وَفِي الرَّخَاءِ شَكُورٌ، وَلاَ يَغْتَابُ، وَلاَ يَتَكَبَّرُ، وَلاَيَقْطَعُ الرَّحِمَ، وَلَيْسَ بِوَاهِنٍ، وَلاَ فَظٍّ، وَلاَ غَلِيظٍ، وَلاَ يَسْبِقُهُ بَصَرُهُ، وَلاَيَفْضَحُهُ بَطْنُهُ، وَلاَ يَغْلِبُهُ فَرْجُهُ، وَلاَ يَحْسُدُ النَّاسَ، يُعَيَّرُ وَلاَ يُعِيِّرُ، وَلاَيُسْرِفُ، يَنْصُرُ الْمَظْلُومَ، وَيَرْحَمُ الْمِسْكِينَ، نَفْسُهُ مِنْهُ فِي عَنَاءٍ وَالنَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ، لاَ يَرْغَبُ فِي عِزِّ الدُّنْيَا، وَلاَ يَجْزَعُ مِنْ ذُلِّهَا، لِلنَّاسِ هَمٌّ قَدْ أَقْبَلُوا عَلَيْهِ، وَلَهُ هَمٌّ قَدْ شَغَلَهُ، لاَ يُرَى فِي حُكْمِهِ نَقْصٌ، وَلاَ فِي رَأْيِهِ وَهْنٌ، وَلاَ فِي دِينِهِ ضَيَاعٌ، يُرْشِدُ مَنِ اسْتَشَارَهُ، وَيُسَاعِدُ مَنْ سَاعَدَهُ، وَيَكِيعُ عَنِ الْخَنَا وَالْجَهْلِ»(2).

وعن صفوان الجمال، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُ الَّذِي إِذَا غَضِبَ لَمْ يُخْرِجْهُ غَضَبُهُ مِنْ حَقٍّ، وَإِذَا رَضِيَ لَمْ يُدْخِلْهُ رِضَاهُ فِي بَاطِلٍ، وَإِذَا قَدَرَلَمْ يَأْخُذْ أَكْثَرَ مِمَّا لَهُ»(3).

ص: 343


1- الكافي: ج2 ص231، كتاب الإيمان والكفر، باب المؤمن وعلاماته وصفاته، ح3.
2- الكافي: ج2 ص231، كتاب الإيمان والكفر، باب المؤمن وعلاماته وصفاته، ح4.
3- الكافي: ج2 ص233، كتاب الإيمان والكفر، باب المؤمن وعلاماته وصفاته، ح11.

..............................

وعن سليمان بن خالد، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): «يَا سُلَيْمَانُ، أَ تَدْرِي مَنِ الْمُسْلِمُ؟».

قلت: جُعِلْتُ فِدَاكَ، أَنْتَ أَعْلَمُ.

قال (عليه السلام): «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ».

ثم قال (عليه السلام): «وَتَدْرِي مَنِ الْمُؤْمِنُ؟».

قال: قُلْتُ: أَنْتَ أَعْلَمُ.

قال (عليه السلام): «إِنَّ الْمُؤْمِنَ مَنِ ائْتَمَنَهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، وَالْمُسْلِمُ حَرَامٌ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَظْلِمَهُ، أَوْ يَخْذُلَهُ، أَوْ يَدْفَعَهُ دَفْعَةً تُعَنِّتُهُ»(1).

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُ الَّذِي إِذَا رَضِيَ لَمْ يُدْخِلْهُ رِضَاهُ فِي إِثْمٍ وَلاَ بَاطِلٍ، وَإِذَا سَخِطَ لَمْ يُخْرِجْهُ سَخَطُهُ مِنْ قَوْلِ الْحَقِّ، وَالَّذِي إِذَاقَدَرَ لَمْ تُخْرِجْهُ قُدْرَتُهُ إِلَى التَّعَدِّي إِلَى مَا لَيْسَ لَهُ بِحَقٍّ»(2).

وعن أبي البختري رفعه، قال: سَمِعْتُهُ (عليه السلام) يَقُولُ: «الْمُؤْمِنُونَ هَيْنُونَ لَيْنُونَ، كَالْجَمَلِ الأَنِفِ إِذَا قِيدَ انْقَادَ، وَإِنْ أُنِيخَ عَلَى صَخْرَةٍ اسْتَنَاخَ»(3).

ص: 344


1- الكافي: ج2 ص233 - 234، كتاب الإيمان والكفر، باب المؤمن وعلاماته وصفاته، ح12.
2- الكافي: ج2 ص234، كتاب الإيمان والكفر، باب المؤمن وعلاماته وصفاته، ح13.
3- الكافي: ج2 ص234، كتاب الإيمان والكفر، باب المؤمن وعلاماته وصفاته، ح14.

..............................

اللامركزية الإدارية

مسألة: من هذا التعبير الدقيق للصديقة الطاهرة (عليها السلام): «لاَ يَكْلُمُ خِشَاشُهَ» يمكن استكشاف قاعدة مهمة في علم الإدارة، وهي أن اللامركزية بقول مطلق باطلة، كما هو الحال بالنسبة للمركزية، واللازم هو الوسط والاعتدال. بأن تكون هنالك كما سبق: ضوابط وقواعد وسلطة حتى لا تكون الأمور منفلتة، لكن في ظل حرية جيدة لحركة الأشخاص والمؤسسات، بحيث تنطلق قدراتهم الإبداعية وقواهم الذاتية وكفاءاتهم.

وبعبارة أخرى يجمع بين الآيات التالية: «يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ»(1)، و«لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ»(2).

وبين: «قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْليكُمْ»(3)، و«أَنْذِرْ»(4)،و«وَأَنْزَلْنَا الْحدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ»(5)، و«وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْميزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ»(6).

ص: 345


1- سورة الأعراف: 157.
2- سورة البقرة: 256.
3- سورة التحريم: 6.
4- سورة الأنعام: 51، سورة إبراهيم: 44، سورة الشعراء: 214.
5- سورة الحديد: 25.
6- سورة الحديد: 25.

وَلاَ يَكِلُّ سَائِرُهُ

اشارة

-------------------------------------------

لا إثقال على الناس

مسألة: يجب تأسياً بأمير المؤمنين (عليه السلام)، وكما وصفته الصديقة الطاهرة (عليها السلام) بأنه يسير بالناس سيراً لا يكل سائره، أن لا يثقل الإنسان على الناس بما ينفرهم من الدين.

وتلك الرواية معروفة حيث اهتدى كتابي على يد مسلم لكنه ارتد عند ما ضغط عليه المسلم بالعبادة ليل نهار.

ِ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ الضَّحَّاكِ، عَنْ رَجُلٍ(1)، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) - فِي حَدِيثٍ - أَنَّهُ جَرَى ذِكْرُ قَوْمٍ، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّا لَنَبْرَأُ مِنْهُمْ، إِنَّهُمْ لاَ يَقُولُونَ مَا نَقُولُ.

قَالَ: فَقَالَ: «يَتَوَلَّوْنَا وَلاَ يَقُولُونَ مَا تَقُولُونَ، تَبْرَءُونَ مِنْهُمْ!».

قُلْتُ: نَعَمْ.قَالَ: «فَهُوَ ذَا عِنْدَنَا مَا لَيْسَ عِنْدَكُمْ، فَيَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَبْرَأَ مِنْكُمْ - إلى أن قال - فَتَوَلَّوْهُمْ وَلاَ تَبْرَءُوا مِنْهُمْ. إِنَّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ لَهُ سَهْمٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ سَهْمَانِ، وَمِنْهُمْ مِنْ لَهُ ثَلاَثَةُ أَسْهُمٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ سِتَّةُ أَسْهُمٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ سَبْعَةُ أَسْهُمٍ، فَلَيْسَ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ صَاحِبُ السَّهْمِ عَلَى مَا عَلَيْهِ صَاحِبُ السَّهْمَيْنِ، وَلاَ صَاحِبُ السَّهْمَيْنِ عَلَى مَا عَلَيْهِ صَاحِبُ الثَّلاَثَةِ، وَلاَ صَاحِبُ الثَّلاَثَةِ عَلَى مَا عَلَيْهِ صَاحِبُ الأَرْبَعَةِ،

ص: 346


1- في المصدر: عن رجل من أصحابنا سراج، وكان خادماً لأبي عبد الله (عليه السلام).

..............................

وَلاَ صَاحِبُ الأَرْبَعَةِ عَلَى مَا عَلَيْهِ صَاحِبُ الْخَمْسَةِ، وَلاَ صَاحِبُ الْخَمْسَةِ عَلَى مَا عَلَيْهِ صَاحِبُ السِّتَّةِ، وَلاَ صَاحِبُ السِّتَّةِ عَلَى مَا عَلَيْهِ صَاحِبُ السَّبْعَةِ، وَسَأَضْرِبُ لَكَ مَثَلاً.

إِنَّ رَجُلاً كَانَ لَهُ جَارٌ - وَكَانَ نَصْرَانِيّاً - فَدَعَاهُ إِلَى الإِسْلاَمِ، وَزَيَّنَهُ لَهُ فَأَجَابَهُ، فَأَتَاهُ سُحَيْراً، فَقَرَعَ عَلَيْهِ الْبَابَ.

فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟.

قَالَ: أَنَا فُلاَنٌ.

قَالَ: وَمَا حَاجَتُكَ؟.

قَالَ: تَوَضَّأْ، وَالْبَسْ ثَوْبَيْكَ، وَمُرَّ بِنَا إِلَى الصَّلاَةِ.

قَالَ: فَتَوَضَّأَ، وَلَبِسَ ثَوْبَيْهِ، وَخَرَجَمَعَهُ.

قَالَ: فَصَلَّيَا مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ صَلَّيَا الْفَجْرَ، ثُمَّ مَكَثَا حَتَّى أَصْبَحَا. فَقَامَ الَّذِي كَانَ نَصْرَانِيّاً يُرِيدُ مَنْزِلَهُ.

فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: أَيْنَ تَذْهَبُ! النَّهَارُ قَصِيرٌ، وَالَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَ الظُّهْرِ قَلِيلٌ.

قَالَ: فَجَلَسَ مَعَهُ إِلَى أَنْ صَلَّى الظُّهْرَ - ثُمَّ قَالَ - وَمَا بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ قَلِيلٌ.

فَاحْتَبَسَهُ حَتَّى صَلَّى الْعَصْرَ - قَالَ - ثُمَّ قَامَ وَأَرَادَ أَنْ يَنْصَرِفَ إِلَى مَنْزِلِهِ.

فَقَالَ لَهُ: إِنَّ هَذَا آخِرُ النَّهَارِ، وَأَقَلُّ مِنْ أَوَّلِهِ، فَاحْتَبَسَهُ حَتَّى صَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَنْصَرِفَ إِلَى مَنْزِلِهِ.

ص: 347

..............................

فَقَالَ لَهُ: إِنَّمَا بَقِيَتْ صَلاَةٌ وَاحِدَةٌ - قَالَ - فَمَكَثَ حَتَّى صَلَّى الْعِشَاءَ الآخِرَةَ ثُمَّ تَفَرَّقَا. فَلَمَّا كَانَ سُحَيْراً، غَدَا عَلَيْهِ فَضَرَبَ عَلَيْهِ الْبَابَ.

فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟. قَالَ: أَنَا فُلاَنٌ.

قَالَ: وَمَا حَاجَتُكَ؟. قَالَ: تَوَضَّأْ، وَالْبَسْ ثَوْبَيْكَ، وَاخْرُجْ فَصَلِّ.

قَالَ: اطْلُبْ لِهَذَا الدِّينِ مَنْ هُوَ أَفْرَغُ مِنِّي، وَأَنَا إِنْسَانٌ مِسْكِينٌ، وَعَلَيَّ عِيَالٌ.

فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): أَدْخَلَهُ فِي شَيْءٍ أَخْرَجَهُ مِنْهُ - أَوْ قَالَ - أَدْخَلَهُمِنْ مِثْلِ ذِهْ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ مِثْلِ هَذَا»(1).

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ، وَلاَ تُبَغِّضْ إِلَى نَفْسِكَ عِبَادَةَ اللهِ، فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لاَ أَرْضاً قَطَعَ وَلاَ ظَهْراً أَبْقَى»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يَا عَلِيُّ، إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ، وَلاَ تُبَغِّضْ إِلَى نَفْسِكَ عِبَادَةَ رَبِّكَ. إِنَّ الْمُنْبَتَّ - يَعْنِي الْمُفْرِطَ - لاَ ظَهْراً أَبْقَى، وَلاَ أَرْضاً قَطَعَ، فَاعْمَلْ عَمَلَ مَنْ يَرْجُو أَنْ يَمُوتَ هَرِماً، وَاحْذَرْ حَذَرَ مَنْ يَتَخَوَّفُ أَنْ يَمُوتَ غَدا»(3).

وهذه ضابطة عامة في السياسة والاقتصاد والاجتماع.

ص: 348


1- وسائل الشيعة: ج16 ص160 - 161، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما يلق به، الباب14 من أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، ح21242.
2- المجازات النبوية: ص244، المجاز 207.
3- الكافي: ج2 ص87، كتاب الإيمان والكفر، باب الاقتصاد في العبادة، ح6.

..............................

الاحتياطات الزائدة

مسألة: يعرف مما ذكر أن الإثقال على الناس بالاحتياطات الزائدة في الرسائل العملية وما أشبه غير وجيه، ولذا وصى صاحب الجواهر (رحمه الله) الشيخ الأنصاري (قدس سره) بقوله: (يا شيخ، قلل من احتياطاتك)(1).

وقد ورد في الروايات - حتى في شأن العبادات - أنه يلزم أن لا يُثقل الإنسان على نفسه بحيث يؤثر سلباً عليه، بل متى ما رأى إقبالاً في نفسه أقبل على العبادة.

في الكافي: عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «إِنَّ لِلْقُلُوبِ إِقْبَالاً وَإِدْبَاراً،فَإِذَا أَقْبَلَتْ فَتَنَفَّلُوا، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَعَلَيْكُمْ بِالْفَرِيضَةِ»(2).

وفي نهج البلاغة: عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: «إِنَّ لِلْقُلُوبِ إِقْبَالاً

ص: 349


1- بعد وفاة الشيخ حسن كاشف الغطاء (رحمه الله)، انتقلت المرجعية العليا للشيخ صاحب الجواهر (قدس سره)، وبعد أربع سنوات مرض صاحب الجواهر، فأمر بتشكيل مجلس يحوي جمعاً من العلماء، ولما تم الاجتماع قال صاحب الجواهر: أين الشيخ المرتضى؟. فبحثوا عنه ووجدوه في حرم أمير المؤمنين (عليه السلام) يدعو لصاحب الجواهر بالشفاء، فقالوا له: أجب صاحب الجواهر. ولما حضر الشيخ الأنصاري، أجلسه صاحب الجواهر على فراشه، وأخذ بيده ووضعها على قلبه، وقال: الآن طاب لي الموت - ثم قال للحاضرين - هذا مرجعكم من بعدي. ثم قال للشيخ: قلل من احتياطاتك؛ فإن الشريعة سمحة وسهلة. فاستلم الشيخ الأنصاري (رحمه الله) زعامة الشيعة ومرجعيتها، وله من العمر اثنان وخمسون سنة.
2- الكافي: ج3 ص454، كتاب الصلاة، باب تقديم النوافل وتأخيرها وقضائها وصلاة الضحى، ح16.

..............................

وَإِدْبَاراً، فَإِذَا أَقْبَلَتْ فَاحْمِلُوهَا عَلَى النَّوَافِلِ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاقْتَصِرُوا بِهَا عَلَى الْفَرَائِضِ»(1).

وقال الإمام الرضا (عليه السلام): «إِنَّ لِلْقُلُوبِ إِقْبَالاً وَإِدْبَاراً، وَنَشَاطاً وَفُتُوراً، فَإِذَا أَقْبَلَتْ بَصُرَتْ وَفَهِمَتْ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ كَلَّتْ وَمَلَّتْ، فَخُذُوهَا عِنْدَ إِقْبَالِهَا وَنَشَاطِهَا، وَاتْرُكُوهَا عِنْدَ إِدْبَارِهَا وَفُتُورِهَا»(2).

ومنه يعلم عدم صحة ما يقوم به بعض الأزواج من الضغط الزائد على زوجاتهم في الخروج والدخول والمأكل والملبسوما أشبه على خلاف القدر الذي هو مصداق لقوله تعالى: «وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمعْرُوفِ»(3).

ص: 350


1- نهج البلاغة: حكم أمير المؤمنين (عليه السلام)، الرقم312.
2- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: ص129، لمع من كلام الإمام الرضا أبي الحسن على بن موسى بن جعفر (عليهم السلام)، ح15.
3- سورة النساء: 19.

وَلا يُتَعْتَعُ رَاكِبُهُ

اشارة

-------------------------------------------

وَلا يُتَعْتَعُ (1) رَاكِبُهُ

الإمام وحقوق الخلافة

التعتعة بمعنى الإقلاق والإزعاج، وتعتعه: أي حركه بعنف وقلقله.

وقولها (عليها السلام) يعني أن علياً أمير المؤمنين (عليه السلام) يكون كآخذ زمام البعير إذا ركبه إنسان، فإنه لا يؤذي البعير «لا يكلم خشاشه»، ولا يزعج الراكب «وَلَا يُتَعْتَعُ رَاكِبُهُ».

هذا وربما يكون «وَلَا يُكَلُّ سَائِرَهُ» إشارة للصنف الثالث وهو القائد أو السائق للجمل، وإن كان السائر يطلق على الراكب أيضاً، وذلك كناية عن أنه (عليه السلام) لو تسلم زمام الأمور فإنه كان يؤدي للخلافة حقها، كما كان يعطي للناس حقوقهم أيضاً.

فإن للخلافة حقوقاً يجب على الخليفة أن يؤديها، وإلاّ كان خائنا للأمانة، كما خان الثلاثة الأمانة أصلاً وفرعاً، أما أصلاً فبغصب الخلافة، وأما فرعاً فبتضييع واجباتها وارتكاب محرماتها.

ومن حقوق الخلافة على الخليفة: أن ينزهها من الظلم، ومن اتخاذ الحواشيالظلمة، ويبعد الأمور عن غير الأكفاء.

فقد جاء في العهد الذي كتبه أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى مالك الأشتر، قوله: «وَإِنَّمَا عِمَادُ الدِّينِ، وَجِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ، وَالْعُدَّةُ لِلأَعْدَاءِ: الْعَامَّةُ مِنَ الأُمَّةِ.

ص: 351


1- في بعض النسخ: ولا يملّ.

..............................

فَلْيَكُنْ صِغْوُكَ لَهُمْ، وَمَيْلُكَ مَعَهُمْ، وَلْيَكُنْ أَبْعَدَ رَعِيَّتِكَ مِنْكَ، وَأَشْنَأَهُمْ عِنْدَكَ: أَطْلَبُهُمْ لِمَعَايِبِ النَّاسِ؛ فَإِنَّ فِي النَّاسِ عُيُوباً الْوَالِي أَحَقُّ مَنْ سَتَرَهَا، فَلاَ تَكْشِفَنَّ عَمَّا غَابَ عَنْكَ مِنْهَا، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ تَطْهِيرُ مَا ظَهَرَ لَكَ، وَاللهُ يَحْكُمُ عَلَى مَا غَابَ عَنْكَ، فَاسْتُرِ الْعَوْرَةَ مَا اسْتَطَعْتَ، يَسْتُرِ اللهُ مِنْكَ مَا تُحِبُّ سَتْرَهُ مِنْ رَعِيَّتِكَ.

أَطْلِقْ عَنِ النَّاسِ عُقْدَةَ كُلِّ حِقْدٍ، وَاقْطَعْ عَنْكَ سَبَبَ كُلِّ وِتْرٍ، وَتَغَابَ عَنْ كُلِّ مَا لاَ يَضِحُ لَكَ، وَلاَ تَعْجَلَنَّ إِلَى تَصْدِيقِ سَاعٍ؛ فَإِنَّ السَّاعِيَ غَاشٌّ وَإِنْ تَشَبَّهَ بِالنَّاصِحِينَ.

وَلاَ تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ: بَخِيلاً، يَعْدِلُ بِكَ عَنِ الْفَضْلِ وَيَعِدُكَ الْفَقْرَ، وَلاَ جَبَاناً يُضْعِفُكَ عَنِ الأُمُورِ، وَلاَ حَرِيصاً يُزَيِّنُ لَكَ الشَّرَهَ بِالْجَوْرِ؛ فَإِنَّ الْبُخْلَ وَالْجُبْنَ وَالْحِرْصَ غَرَائِزُ شَتَّى يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللهِ.

إِنَّ شَرَّ وُزَرَائِكَ مَنْ كَانَ لِلأَشْرَارِ قَبْلَكَ وَزِيراً، وَمَنْ شَرِكَهُمْ فِي الآثَامِ، فَلاَ يَكُونَنَّلَكَ بِطَانَةً؛ فَإِنَّهُمْ أَعْوَانُ الأَثَمَةِ، وَإِخْوَانُ الظَّلَمَةِ، وَأَنْتَ وَاجِدٌ مِنْهُمْ خَيْرَ الْخَلَفِ، مِمَّنْ لَهُ مِثْلُ آرَائِهِمْ وَنَفَاذِهِمْ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ مِثْلُ آصَارِهِمْ وَأَوْزَارِهِمْ وَآثَامِهِمْ، مِمَّنْ لَمْ يُعَاوِنْ ظَالِماً عَلَى ظُلْمِهِ، وَلاَ آثِماً عَلَى إِثْمِهِ، أُولَئِكَ أَخَفُّ عَلَيْكَ مَئُونَةً، وَأَحْسَنُ لَكَ مَعُونَةً، وَأَحْنَى عَلَيْكَ عَطْفاً، وَأَقَلُّ لِغَيْرِكَ إِلْفاً، فَاتَّخِذْ أُولَئِكَ خَاصَّةً لِخَلَوَاتِكَ وَحَفَلاتِكَ.

ثُمَّ لْيَكُنْ آثَرُهُمْ عِنْدَكَ أَقْوَلَهُمْ بِمُرِّ الْحَقِّ لَكَ، وَأَقَلَّهُمْ مُسَاعَدَةً فِيمَا يَكُونُ مِنْكَ، مِمَّا كَرِهَ اللهُ لأَوْلِيَائِهِ، وَاقِعاً ذَلِكَ مِنْ هَوَاكَ حَيْثُ وَقَعَ.

ص: 352

..............................

وَالْصَقْ بِأَهْلِ الْوَرَعِ وَالصِّدْقِ، ثُمَّ رُضْهُمْ عَلَى أَلاَّ يُطْرُوكَ وَلاَ يَبْجَحُوكَ بِبَاطِلٍ لَمْ تَفْعَلْهُ؛ فَإِنَّ كَثْرَةَ الإِطْرَاءِ تُحْدِثُ الزَّهْوَ، وَتُدْنِي مِنَ الْعِزَّةِ.

وَلاَ يَكُونَنَّ الْمُحْسِنُ وَالْمُسِي ءُ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَةٍ سَوَاءٍ؛ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ تَزْهِيداً لأَهْلِ الإِحْسَانِ فِي الإِحْسَانِ، وَتَدْرِيباً لأَهْلِ الإِسَاءَةِ عَلَى الإِسَاءَةِ، وَأَلْزِمْ كُلاًّ مِنْهُمْ مَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ»(1).

تعتة الراكب

مسألة: يحرم تعتعة الراكب وإقلاقه بكلا المعنيين الحقيقي والمجازي؛ لإنه إيذاء وتصرف في الغير دون إذنه، ولغير ذلك.

وفي بعض النسخ: «وَلَا يُمَلُّ رَاكِبُهُ»، والفرق بين (يمل) و(يكل) أن الكلل يطلق على الجسماني منه، إذ (كلّ) بمعنى تعب وأعيى، و(الملل) يطلق على النفسي منه. قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «خَالِطُوا النَّاسَ مُخَالَطَةً إِنْ مِتُّمْ مَعَهَا بَكَوْا عَلَيْكُمْ، وَإِنْ عِشْتُمْ حَنُّوا إِلَيْكُمْ»(2).

وقال (عليه السلام): «أَعْجَزُ النَّاسِ مَنْ عَجَزَ عَنِ اكْتِسَابِ الإِخْوَانِ، وَأَعْجَزُ مِنْهُ مَنْ ضَيَّعَ مَنْ ظَفِرَ بِهِ مِنْهُمْ»(3).

ص: 353


1- نهج البلاغة: رسائل أمير المؤمنين (عليه السلام)، الرقم53 ومن كتاب له (عليه السلام) كتبه للأشتر النخعي (رحمه الله) لما ولاه على مصر وأعمالها.
2- نهج البلاغة: حكم أمير المؤمنين (عليه السلام)، الرقم10.
3- نهج البلاغة: حكم أمير المؤمنين (عليه السلام)، الرقم12.

..............................

وعن أبي جعفر الثاني (عليه السلام)، قال: «قَامَ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) رَجُلٌ بِالْبَصْرَةِ. فَقَالَ: أَخْبِرْنَا عَنِ الإِخْوَانِ؟.

فَقَالَ: الإِخْوَانُ صِنْفَانِ: إِخْوَانُ الثِّقَةِ، وَإِخْوَانُ الْمُكَاشَرَةِ. فَأَمَّا إِخْوَانُ الثِّقَةِ: فَهُمْ كَالْكَفِّ وَالْجَنَاحِ، وَالأَهْلِ وَالْمَالِ، فَإِذَا كُنْتَ مِنْ أَخِيكَ عَلَى ثِقَةٍ، فَابْذُلْ لَهُ مَالَكَ وَيَدَكَ، وَصَافِ مَنْ صَافَاهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ، وَاكْتُمْ سِرَّهُ، وَأَعِنْهُ، وَأَظْهِرْ مِنْهُ الْحَسَنَ، وَاعْلَمْ أَيُّهَا السَّائِلُ أَنَّهُمْ أَعَزُّ مِنَ الْكِبْرِيتِ الأَحْمَرِ.

وَأَمَّا إِخْوَانُ الْمُكَاشَرَةِ: فَإِنَّكَ تُصِيبُ مِنْهُمْ لَذَّتَكَ فَلاَ تَقْطَعَنَّ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَلاَ تَطْلُبَنَّ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ ضَمِيرِهِمْ، وَابْذُلْ لَهُمْ مَا بَذَلُوا لَكَ مِنْ طَلاَقَةِ الْوَجْهِ، وَحَلاَوَةِ اللِّسَانِ»(1).

وقال الإمام الباقر (عليه السلام): «عَظِّمُوا أَصْحَابَكُمْ وَوَقِّرُوهُمْ، وَلاَ يَتَهَجَّمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلاَ تَضَارُّوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا»(2).

وقال لقمان لابنه: «اتَّخِذْ أَلْفَ صَدِيقٍ وَأَلْفٌ قَلِيلٌ، وَلا تَتَّخِذْ عَدُوّاً وَاحِداًوَالْوَاحِدُ كَثِيرٌ»(3).

وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «أَكْثِرُوا مِنَ الأَصْدِقَاءِ فِي الدُّنْيَا؛ فَإِنَّهُمْ يَنْفَعُونَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ»(4).

ص: 354


1- وسائل الشيعة: ج12 ص13، تتمة كتاب الحج، الباب3 ح15515.
2- هداية الأمة إلى أحكام الأئمة (عليهم السلام): ج5، ص136، الكتاب الثامن، الباب الأول، المقدمة العاشرة، ح850.
3- هداية الأمة إلى أحكام الأئمة (عليهم السلام): ج5، ص137،ح854.
4- هداية الأمة إلى أحكام الأئمة (عليهم السلام): ج5، ص137، ح855.

..............................

توفير الرفاهية

مسألة: سبق حرمة تعتة الراكب وإقلاقه، لكن هل عكسه واجب؟. أي: هل يجب على الحاكم بالنسبة لشعبه، أو الأب بالنسبة لأسرته، ومن أشبه، توفير الرفاهية والترفيه للناس أو للأسرة، بحيث لا يملوا أو لا يكلوا؟.

لا دليل على وجوب ذلك. نعم، إنه مستحب من باب إدخال السرور في قلب المؤمن، أو قضاء حاجته، أو ما أشبه. وأما الوجوب فلا، إلاّ إذا فرضت المقدمية كي لا يميلوا إلى الباطل مثلاً، خاصة الشباب في مثل هذا الزمن، حيث إنهم إذا لم يراعوا، ولم يحتووا، ولم توفر لهم وسائل الترفيه والرفاهية، والتطور والتقدم، وماأشبه، فإن كثيراً منهم يقع في مصائد الفرق الضالة، أو الأديان الباطلة، أو ما أشبه.

قال الإمام الرضا (عليه السلام): «احْرِصُوا عَلَى قَضَاءِ حَوَائِجِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَيْهِمْ، وَدَفْعِ الْمَكْرُوهِ عَنْهُمْ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الأَعْمَالِ عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ بَعْدَ الْفَرَائِضِ أَفْضَلَ مِنْ إِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَى الْمُؤْمِنِ»(1).

وعن محمد بن جمهور، قال: كَانَ النَّجَاشِيُّ - وَهُوَ رَجُلٌ مِنَ الدَّهَاقِينِ - عَامِلاً عَلَى الأَهْوَازِ وَفَارِسَ. فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ عَمَلِهِ لأَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): إِنَّ فِي دِيوَانِ النَّجَاشِيِّ عَلَيَّ خَرَاجاً، وَهُوَ مُؤْمِنٌ يَدِينُ بِطَاعَتِكَ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَكْتُبَ لِي إِلَيْهِ كِتَاباً.

ص: 355


1- الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا (عليه السلام): ص339، باب89 حق النفوس.

..............................

قَالَ: فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، سُرَّ أَخَاكَ يَسُرَّكَ اللهُ».

قَالَ: فَلَمَّا وَرَدَ الْكِتَابُ عَلَيْهِ، دَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مَجْلِسِهِ، فَلَمَّا خَلاَ نَاوَلَهُ الْكِتَابَ، وَقَالَ: هَذَا كِتَابُ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام).فَقَبَّلَهُ وَوَضَعَهُ عَلَى عَيْنَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: مَا حَاجَتُكَ؟.

قَالَ: خَرَاجٌ عَلَيَّ فِي دِيوَانِكَ.

فَقَالَ لَهُ: وَكَمْ هُوَ؟.

قَالَ: عَشَرَةُ آلاَفِ دِرْهَمٍ.

فَدَعَا كَاتِبَهُ، وَأَمَرَهُ بِأَدَائِهَا عَنْهُ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنْهَا، وَأَمَرَ أَنْ يُثْبِتَهَا لَهُ لِقَابِلٍ.

ثُمَّ قَالَ لَهُ: سَرَرْتُكَ.

فَقَالَ: نَعَمْ، جُعِلْتُ فِدَاكَ.

ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِمَرْكَبٍ، وَجَارِيَةٍ، وَغُلاَمٍ، وَأَمَرَ لَهُ بِتَخْتِ ثِيَابٍ، فِي كُلِّ ذَلِكَ يَقُولُ لَهُ: هَلْ سَرَرْتُكَ؟.

فَيَقُولُ: نَعَمْ، جُعِلْتُ فِدَاكَ.

فَكُلَّمَا قَالَ نَعَمْ زَادَهُ حَتَّى فَرَغَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: احْمِلْ فُرُشَ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي كُنْتُ جَالِساً فِيهِ حِينَ دَفَعْتَ إِلَيَّ كِتَابَ مَوْلايَ الَّذِي نَاوَلْتَنِي فِيهِ، وَارْفَعْ إِلَيَّ حَوَائِجَكَ.

قَالَ: فَفَعَلَ، وَخَرَجَ الرَّجُلُ فَصَارَ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) بَعْدَ ذَلِكَ، فَحَدَّثَهُ الرَّجُلُ بِالْحَدِيثِ عَلَى جِهَتِهِ، فَجَعَلَ يُسَرُّ بِمَا فَعَلَ.

ص: 356

..............................

فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، كَأَنَّهُ قَدْ سَرَّكَ مَا فَعَلَ بِي؟!.فَقَالَ: «إِي وَاللهِ، لَقَدْ سَرَّ اللهَ وَرَسُولَهُ»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «مَنْ مَشَى لاِمْرِئٍ مُسْلِمٍ فِي حَاجَتِهِ فَنَصَحَهُ فِيهَا، كَتَبَ اللهُ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ حَسَنَةً، وَمَحَا عَنْهُ سَيِّئَةً، قُضِيَتِ الْحَاجَةُ أَوْ لَمْ تُقْضَ. فَإِنْ لَمْ يَنْصَحْهُ، فَقَدْ خَانَ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) خَصْمَهُ»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام): «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ انْتَخَبَ قَوْماً مِنْ خَلْقِهِ لِقَضَاءِ حَوَائِجِ فُقَرَاءَ مِنْ شِيعَةِ عَلِيٍّ (عليه السلام)؛ لِيُثِيبَهُمْ بِذَلِكَ الْجَنَّةَ»(3).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «أَيُّمَا مُؤْمِنٍ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ سَبْعِينَ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، وَكُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ - قال - وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُؤْمِنٍ وَهُوَ مُعْسِرٌ، يَسَّرَ اللهُ لَهُ حَوَائِجَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. وَمَنْ سَتَرَ عَلَى مُؤْمِنٍ عَوْرَةً، سَتَرَ اللهُ عَلَيْهِ سَبْعِينَ عَوْرَةً مِنْ عَوْرَاتِهِ الَّتِي يُخَلِّفُهَا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ- قال - وَإِنَّ اللهَ لَفِي عَوْنِ الْمُؤْمِنِ، مَا كَانَ الْمُؤْمِنُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ، فَانْتَفِعُوا فِي الْعِظَةِ، وَارْغَبُوا فِي الْخَيْرِ»(4).

ص: 357


1- الكافي: ج2 ص190 - 191، كتاب الإيمان والكفر، باب إدخال السرور على المؤمنين، ح9.
2- المؤمن: ص46، باب5 ثواب قضاء حاجة المؤمن وتنفيس كربه وإدخال الرفق عليه، ح107.
3- المؤمن: ص46، باب5 ثواب قضاء حاجة المؤمن وتنفيس كربه وإدخال الرفق عليه، ح108.
4- المؤمن: ص46 - 47، باب5 ثواب قضاء حاجة المؤمن وتنفيس كربه وإدخال الرفق عليه، ح109.

..............................

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَنْ سَرَّ مُؤْمِناً فَقَدْ سَرَّنِي، وَمَنْ سَرَّنِي فَقَدْ سَرَّ اللهَ»(1).

وعن مسمع، قال: سَمِعْتُ الصَّادِقَ (عليه السلام) يَقُولُ: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الآخِرَةِ، وَخَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ وَهُوَ ثَلِجُ الْفُؤَادِ»(2).

وعن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «تَبَسُّمُ الرَّجُلِ فِي وَجْهِ أَخِيهِ حَسَنَةٌ، وَصَرْفُ الْقَذَى عَنْهُ حَسَنَةٌ، وَمَا عُبِدَ اللهُ بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَى اللهِ مِنْ إِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَىالْمُؤْمِنِ»(3).

وعن عبيد الله بن الوليد الوصافي، قال: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ فِيمَا نَاجَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ عَبْدَهُ مُوسَى (عليه السلام)، قَالَ: إِنَّ لِي عِبَاداً أُبِيحُهُمْ جَنَّتِي وَأُحَكِّمُهُمْ فِيهَا. قَالَ: يَا رَبِّ، وَمَنْ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ تُبِيحُهُمْ جَنَّتَكَ وَتُحَكِّمُهُمْ فِيهَا؟. قَالَ: مَنْ أَدْخَلَ عَلَى مُؤْمِنٍ سُرُوراً - ثُمَّ قَالَ - إِنَّ مُؤْمِناً كَانَ فِي مَمْلَكَةِ جَبَّارٍ، فَوَلَعَ بِهِ فَهَرَبَ مِنْهُ إِلَى دَارِ الشِّرْكِ، فَنَزَلَ بِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ، فَأَظَلَّهُ وَأَرْفَقَهُ وَأَضَافَهُ. فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ، أَوْحَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ: وَعِزَّتِي وَجَلاَلِي، لَوْ كَانَ لَكَ فِي جَنَّتِي مَسْكَنٌ لأَسْكَنْتُكَ فِيهَا، وَلَكِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَى مَن مَاَ بِيمُشْرِكاً، وَلَكِنْ يَا نَارُ هِيدِيهِ وَلاَ تُؤْذِيهِ. وَيُؤْتَى بِرِزْقِهِ طَرَفَيِ

ص: 358


1- المؤمن: ص47، باب5 ثواب قضاء حاجة المؤمن ... ح114.
2- المؤمن: ص47، باب5 ثواب قضاء حاجة المؤمن ... ح115.
3- الكافي: ج2 ص188، كتاب الإيمان والكفر، باب إدخال السرور على المؤمنين، ح2.

..............................

النَّهَارِ». قُلْتُ: مِنَ الْجَنَّةِ؟. قَالَ (عليه السلام): «مِنْ حَيْثُ شَاءَ اللهُ»(1).وعن علي بن الحسين (صلوات الله عليه)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ إِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «أَوْحَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى دَاوُدَ (عليه السلام): إِنَّ الْعَبْدَ مِنْ عِبَادِي لَيَأْتِينِي بِالْحَسَنَةِ فَأُبِيحُهُ جَنَّتِي. فَقَالَ دَاوُدُ: يَا رَبِّ، وَمَا تِلْكَ الْحَسَنَةُ؟. قَالَ: يُدْخِلُ عَلَى عَبْدِيَ الْمُؤْمِنِ سُرُوراً وَلَوْ بِتَمْرَةٍ. قَالَ دَاوُدُ: يَا رَبِّ، حَقٌّ لِمَنْ عَرَفَكَ أَنْ لاَ يَقْطَعَ رَجَاءَهُ مِنْكَ»(3).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «لاَ يَرَى أَحَدُكُمْ إِذَا أَدْخَلَ عَلَى مُؤْمِنٍ سُرُوراً أَنَّهُ عَلَيْهِ أَدْخَلَهُ فَقَطْ، بَلْ وَاللهِ عَلَيْنَا، بَلْ وَاللهِ عَلَى رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)»(4).

ص: 359


1- الكافي: ج2 ص188 - 189، كتاب الإيمان والكفر، باب إدخال السرور على المؤمنين، ح3.
2- الكافي: ج2 ص189، كتاب الإيمان والكفر، باب إدخال السرور على المؤمنين، ح4.
3- الكافي: ج2 ص189، كتاب الإيمان والكفر، باب إدخال السرور على المؤمنين، ح5.
4- الكافي: ج2 ص189، كتاب الإيمان والكفر، باب إدخال السرور على المؤمنين، ح6.

وَلأَوْرَدَهُمْ مَنْهَلاً نَمِيراً صَافِياً رَوِيّاً، تَطْفَحُ ضَفَّتَاهُ، وَلاَ يَتَرَنَّقُ جَانِبَاهُ

اشارة

-------------------------------------------

جنة الدنيا في ظل حكم الإمام

(المنهل): المورد أو خصوص ما كان منه على الطريق، وهو محل ورود الإنسان والحيوان إلى الماء، سواء كان نهراً أم بئراً أم عيناً أم غيرها.

(النمير): الماء العذب، وقيل: الزاكي والناجع من الماء عذب أو لم يعذب، والناجع أي المريء الهنيء.

(الروي): التام المشبع.

(تطفح): تمتلئ حتى تفيض.

(ضفتا النهر): جانباه وطرفاه، حيث يقصدهما الوارد لأخذ الماء.

(الترنق): التكدر من طين وغيره.

مسألة: قول الصديقة (عليها السلام): «لأَوْرَدَهُمْ»، الضمير يعود لا إلى الصحابة في ذلك الزمان فحسب، بل إلى كل الناس، وعلى مر الأزمان والأجيال، ورجوعه الظاهري لأولئك من باب الحاجة إلى طرف خطاب، كآيات الكتاب، وذلك لايحتاج إلى مزيد برهان.

وقدرته (عليه السلام) على أن يورد كل البشر على مر الأزمان وتتالي الدهور«مَنْهَلاً نَمِيراً صَافِياً...» رغم فترته البسيطة، تنبع من شيئين:

1: إنه (عليه السلام) كان يحكم بمنهج القرآن ومنهج رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الحكم، وهو المنهج الذي يكفل للبشرية السعادة بأكمل صورها.

ص: 360

..............................

2: ومن أنه (عليه السلام) كان سيسلم الحكومة من بعده إلى خير القيادة وأفضل خلق الله، وهم باقي خلفاء رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فمن بعده: الحسن المجبتى (عليه السلام)، ثم الإمام الحسين (عليه السلام) إلى الإمام المهدي المنتظر (عجل الله فرجه الشريف)، فلو لم يغتصب أولئك المنقلبون على الأعقاب الخلافة من وصي رسول الله (صلى الله عليه وآله)، لكانت بيد أهلها إلى يوم القيامة، ولكانت الدنيا جنة وأية جنة! ولذلك ورد في الروايات أن كل إثم وظلم وغصب إلى آخر الزمن، فإنه في عنق الأول والثاني؛ لأنهما حرّفا مسيرة الأمة إلى يوم ظهور الإمام المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف).

عن محمد بن أبي كثير الكوفي، قال: كُنْتُ لاَ أَخْتِمُ صَلاَتِي وَلاَ أَسْتَفْتِحُهَا إِلاَّ بِلَعْنِهِمَا، فَرَأَيْتُ فِي مَنَامِي طَائِراً مَعَهُتَوْرٌ مِنَ الْجَوْهَرِ، فِيهِ شَيْءٌ أَحْمَرُ شِبْهُ الْخَلُوقِ، فَنَزَلَ إِلَى الْبَيْتِ الْمُحِيطِ بِرَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، ثُمَّ أَخْرَجَ شَخْصَيْنِ مِنَ الضَّرِيحِ، فَخَلَّقَهُمَا بِذَلِكَ الْخَلُوقِ فِي عَوَارِضِهِمَا، ثُمَّ رَدَّهُمَا إِلَى الضَّرِيحِ، وَعَادَ مُرْتَفِعاً. فَسَأَلْتُ مَنْ حَوْلِي مَنْ هَذَا الطَّائِرُ؟. وَمَا هَذَا الْخَلُوقُ؟. فَقَالَ: هَذَا مَلَكٌ يَجِيءُ فِي كُلِّ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ يُخَلِّقُهُمَا، فَأَزْعَجَنِي مَا رَأَيْتُ، فَأَصْبَحْتُ لاَ تَطِيبُ نَفْسِي بِلَعْنِهِمَا، فَدَخَلْتُ عَلَى الصَّادِقِ (عليه السلام)، فَلَمَّا رَآنِي ضَحِكَ وَقَالَ: «رَأَيْتَ الطَّائِرَ؟». فَقُلْتُ: نَعَمْ يَا سَيِّدِي. فَقَالَ: «اقْرَأْ: «إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ»(1)، فَإِذَا رَأَيْتَ شَيْئاً تَكْرَهُ فَاقْرَأْهَا. وَاللهِ مَا هُوَ بِمَلَكٍ مُوَكَّلٍ بِهِمَا لإِكْرَامِهِمَا، بَلْ هُو

ص: 361


1- سورة المجادلة: 10.

..............................

مَلَكٌ مُوَكَّلٌ بِمَشَارِقِ الأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، إِذَا قُتِلَ قَتِيلٌ ظُلْماً أَخَذَ مِنْ دَمِهِ فَطَوَّقَهُمَا بِهِ فِي رِقَابِهِمَا؛ لأَنَّهُمَا سَبَبُ كُلِّ ظُلْمٍ مُذْ كَانَا»(1).

وعن الورد بن زيد، قال: قُلْتُ لأَبِي جَعْفَرٍ (عليه

السلام): جَعَلَنِيَ اللهُ فِدَاكَ، قَدِمَالْكُمَيْتُ. فَقَالَ: «أَدْخِلْهُ». فَسَأَلَهُ الْكُمَيْتُ عَنِ الشَّيْخَيْنِ؟. فَقَالَ لَهُ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «مَا أُهْرِيقَ دَمٌ، وَلاَ حُكِمَ بِحُكْمٍ غَيْرِ مُوَافِقٍ لِحُكْمِ اللهِ وَحُكْمِ رَسُولِهِ (صلى الله عليه وآله) وَحُكْمِ عَلِيٍّ (عليه السلام)، إِلاَّ وَهُوَ فِي أَعْنَاقِهِمَا». فَقَالَ الْكُمَيْتُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، حَسْبِي حَسْبِي(2).

وعن سُلَيْمٍ، قال: سَمِعْتُ سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ يَقُولُ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، يُؤْتَى بِإِبْلِيسَ مَزْمُوماً بِزِمَامٍ مِنْ نَارٍ، وَيُؤْتَى بِزُفَرَ مَزْمُوماً بِزِمَامَيْنِ مِنْ نَارٍ. فَيَنْطَلِقُ إِلَيْهِ إِبْلِيسُ فَيَصْرَخُ وَيَقُولُ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، مَنْ أَنْتَ! أَنَا الَّذِي فَتَنْتُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، وَأَنَا مَزْمُومٌ بِزِمَامٍ وَاحِدٍ، وَ أَنْتَ مَزْمُومٌ بِزِمَامَيْنِ؟!. فَيَقُولُ: أَنَا الَّذِي أَمَرْتُ فَأُطِعْتُ، وَأَمَرَ اللَّهُ فَعُصِيَ(3).

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، أنه قال: «يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِم عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَم أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا»(4) قَالَ: «يَقُولُ الأَوَّلُ لِلثَّانِي»(5).

ص: 362


1- بحار الأنوار: ج30 ص236 - 237، باب20 من تتمة كتاب الفتن والمحن، ح104.
2- بحار الأنوار: ج30 ص240، باب20 من تتمة كتاب الفتن والمحن، ح107.
3- بحار الأنوار: ج30 ص241، باب20 من تتمة كتاب الفتن والمحن، ح109.
4- سورة الفرقان: 27 - 28.
5- بحار الأنوار: ج30 ص245، باب20 من تتمة كتاب الفتن والمحن، ح112.

..............................

وعن الكميت بن زيد، قال: لَمَّا أَنْشَدْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) مَدَائِحَهُمْ، قَالَ لِي: «يَا كُمَيْتُ، طَلَبْتَ بِمَدْحِكَ إِيَّانَا لِثَوَابِ الدُّنْيَا أَوْ لِثَوَابِ آخِرَةٍ؟». قَالَ: قُلْتُ: لاَ وَاللهِ مَا طَلَبْتُ إِلاَّ ثَوَابَ الآخِرَةِ. فَقَالَ: أَمَا لَو قُلْتَ ثَوَابَ الدُّنْيَا، قَاسَمْتُكَ مَالِي حَتَّى النَّعْلَ وَالْبَغْلَ». قَالَ: قُلْتُ: جَعَلَنِيَ اللهُ فِدَاكَ، أَخْبِرْنِي عَنْهُمَا؟. قَالَ: «مَا أُهَرِيقَتْ مِحْجَمَةٌ مِنْ دَمٍ ظُلْماً، وَلاَ رُفِعَ حَجَرٌ لِغَيْرِ حَقِّهِ، وَلاَ حُكم بَاطِلٌ إِلاَّ وَهُوَ فِي أَعْنَاقِهِمَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ». قَالَ: قُلْتُ: أَبْعَدَهُمَا اللهُ جُعِلْتُ فِدَاكَ، فَمَا تَأْمُرُنِي فِي الشِّعْرِ فِيكُمْ؟. قَالَ: «لَكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) لِحَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ: لَنْ يَزَالَ مَعَكَ رُوحُ الْقُدُسِ مَا دُمْتَ تَمْدَحُنَا أَهْلَ الْبَيْتِ»(1).

وقال علي بن إبراهيم القمي في تفسيره - فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: «لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ»(2) - قال: يَحْمِلُونَ آثَامَهُمْ - يَعْنِي الَّذِينَ غَصَبُوا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (عليه

السلام) وآثَامَ كُلِّ مَنِ اقْتَدَى بِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ الصَّادِقِ (عليه السلام): «وَاللهِ، مَا أُهْرِيقَتْ مِحْجَمَةٌ مِنْ دَمٍ، وَلاَ قُرِعَ عَصًا بِعَصًا، وَلاَ غُصِبَ فَرْجُ حَرَامٍ، وَلاَ أُخِذَ مَالٌ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ، إِلاَّ وَوِزْرُ ذَلِكَ فِي أَعْنَاقِهِمَا، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِ الْعَامِلِينَ بِشَيْءٍ»(3).

ص: 363


1- الأصول الستة عشر: ص304 - 305، المجموعة الثانية، كتاب عبد الملك بن حكيم، ح458/5.
2- سورة النحل: 25.
3- تفسير القمي: ج1 ص383، سورة النحل: الآيات 1 الى 36.

..............................

وعن حنان بن سدير، عن أبيه، قال: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه

السلام) عَنْهُمَا. فَقَالَ: يَا أَبَا الْفَضْلِ، مَا تَسْأَلُنِي عَنْهُمَا، فَوَ اللهِ مَا مَاتَ مِنَّا مَيِّتٌ قَطُّ إِلا سَاخِطاً عَلَيْهِمَا، وَمَا مِنَّا الْيَوْمَ إِلا سَاخِطاً عَلَيْهِمَا، يُوصِي بِذَلِكَ الْكَبِيرُ مِنَّا الصَّغِيرَ. إِنَّهُمَا ظَلَمَانَا حَقَّنَا، وَمَنَعَانَا فَيْئَنَا، وَكَانَا أَوَّلَ مَنْ رَكِبَ أَعْنَاقَنَا، وَبَثَقَا عَلَيْنَا بَثْقاً فِي الإِسْلاَمِ، لاَ يُسْكَرُ أَبَداً حَتَّى يَقُومَ قَائِمُنَا، أَوْ يَتَكَلَّمَ مُتَكَلِّمُنَا - ثُمَّ قَالَ - أَمَا وَاللهِ لَوْ قَدْ قَامَ قَائِمُنَا، أَوْ تَكَلَّمَ مُتَكَلِّمُنَا لأَبْدَى مِنْ أُمُورِهِمَا مَا كَانَ يُكْتَمُ، وَلَكَتَمَ مِنْ أُمُورِهِمَا مَا كَانَ يُظْهَرُ. وَاللهِ مَا أُسِّسَتْ مِنْ بَلِيَّةٍ، وَلاَ قَضِيَّةٍ تَجْرِي عَلَيْنَا أَهْلَ الْبَيْتِ، إِلاَّ هُمَا أَسَّسَا أَوَّلَهَا، فَعَلَيْهِمَا لَعْنَةُ اللهِوَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»(1).

تلويث البيئة

مسألة: تلويث المياه حرام في الجملة، وذلك فيما إذا عد فساداً في الأرض، أو إخلالاً باقتصاد البلاد، أو تضييعاً لحق الناس، أو ضرراً كبيراً على البشر، أو ما أشبه، قال تعالى: «وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ»(2).

وقد ذكرنا تفصيل ذلك في (فقه البيئة).

قال تعالى: «وَجَعَلْنَا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ»(3).

ص: 364


1- الكافي: ج8 ص245، كتاب الروضة، حديث القباب، ح340.
2- سورة البقرة: 205.
3- سورة الأنبياء: 30.

..............................

وقال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه): «الْمَاءُ سَيِّدُ الشَّرَابِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، أنهقال: «مَنْ تَلَذَّذَ بِالْمَاءِ فِي الدُّنْيَا، لَذَّذَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ أَشْرِبَةِ الْجَنَّةِ»(2).

وعن الحسين بن علوان، قال: سَأَلَ رَجُلٌ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) عَنْ طَعْمِ الْمَاءِ؟. فَقَالَ: «سَلْ تَفَقُّهاً وَلاَ تَسْأَلْ تَعَنُّتاً، طَعْمُ الْمَاءِ طَعْمُ الْحَيَاةِ»(3).

وعن محمد بن مسلم، قال: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: «وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا»(4)- قَالَ: «لَيْسَ مِنْ مَاءٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ وَقَدْ خَالَطَهُ مَاءُ السَّمَاءِ»(5).

وعن حكيم بن جبير، قال: سَمِعْتُ سَيِّدَنَا عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ مَلَكاً يَهْبِطُ مِنَ السَّمَاءِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ، مَعَهُ ثَلاَثَةُ مَثَاقِيلَ مِسْكاً مِنْ مِسْكِ الْجَنَّةِ، فَيَطْرَحُهَا فِي الْفُرَاتِ، وَمَا مِنْ نَهَرٍ فِي شَرْقِ الأَرْضِ وَلاَ غَرْبِهَا أَعْظَمَ بَرَكَةً مِنْهُ»(6).

ويُرْوَى أنه (صلى الله عليه وآله) قاليوماً لأصحابه: «كَيفَ تَقُولَوَ لَيْس

ص: 365


1- الكافي: ج6 ص380، كتاب الأشربة، باب فضل الماء، ح1.
2- الكافي: ج6 ص381، كتاب الأشربة، باب فضل الماء، ح6.
3- الكافي: ج6 ص381، كتاب الأشربة، باب فضل الماء، ح7.
4- سورة ق: 9.
5- الكافي: ج6 ص387، كتاب الأشربة، باب ماء السماء، ح1.
6- الكافي: ج6 ص389، كتاب الأشربة، باب ماء السماء، ح6.

..............................

الطِّيبُ إِلاَّ الْمشْكَ! لَيْسَ الطِّيبُ إِلاَّ الْماءَ»(1).

الأمن المائي

مسألة: توفير الأمن المائي واجب في الجملة، ويظهر ذلك أكثر - من باب المقدمة - لو علمنا أن العلماء يتوقعون أن حروب المستقبل سيكون قسم كبير منها على المياه، وأن الاستعمار قد يستغل ذلك لايقاع الفتنة بين المسلمين، كما نرى النزاع الدائم بين العراق وسوريا وتركيا على مياه الفرات.

وحسب تصريح الصديقة الطاهرة (عليها السلام) لو أن أولئك الصحابة المنقلبين على الأعقاب لم يغصبوا الخلافة، لكان الناس يردون - وعلى مر الأزمان كما سبق - المناهل الصافية الروية، ولتوفر (الأمن المائي) على مر التاريخ.عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمَاءِ وَالْكَلإِ وَالنَّارِ(2).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «المسلمون شركاء في ثلاث، في: الكلأ، والماء، والنار». وقال: «ثلاث لا يمنعن: الماء، والكلأ، والنار». وقال: «لا حمى إلا لله ولرسوله»(3).

ص: 366


1- كتاب الماء: ج1 ص31 - 32، الماء.
2- دعائم الإسلام: ج2 ص20، كتاب البيوع والأحكام فيها، فصل2 ذكر ما نهي عن بيعه، ح33.
3- راجع: صحيح البخاري: ج3 ص141، سنن أبي داود: ج2 ص101، ابن ماجة: ج2 ص94، كتاب الأم للشافعي: ج3 ص207، التاج الجامع للأصول: ج2 ص237.

..............................

وسُئِلَ أَبُو الْحَسَنِ (عليه السلام) عَنْ مَاءِ الْوَادِي؟. فَقَالَ: «إِنَّ الْمُسْلِمِينَ شُرَكَاءُ فِي: الْمَاءِ، وَالنَّارِ، وَالْكَلاَءِ»(1).

وروي: «مَنِ اسْتَخْرَجَ مَاءً فَهُوَ لَهُ»(2).

وروي: «أَنَّ مَانِعَ الْمَاءِ الْمُنْتَابِمَلْعُونٌ»(3)، والمنتاب أي بالنوبة.

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «قَاتَلْتُ النَّاكِثِينَ، وَهَؤُلاَءِ الْقَاسِطِينَ، وَسَأُقَاتِلُ الْمَارِقِينَ». ثُمَّ رَكِبَ فَرَسَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) وَقَصَدَهُ فِي تِسْعِينَ أَلْفاً. وَخَرَجَ مُعَاوِيَةُ فِي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ أَلْفاً يَتَقَدَّمُهُمْ مَرْوَانُ، وَقَدْ تَقَلَّدَ بِسَيْفِ عُثْمَانَ، فَنَزَلَ صِفِّينَ فِي الْمُحَرَّمِ عَلَى شَرِيعَةِ الْفُرَاتِ. وَمَنَعُوا عَلِيّاً وَأَصْحَابَهُ الْمَاءَ، فَأَنْفَذَ عَلِيٌّ شَبَثَ بْنَ رِبْعِيٍّ الرِّيَاحِيَّ وَصَعْصَعَةَ بْنَ صُوحَانَ، فَقَالاَ فِي ذَلِكَ لُطْفاً وَعُنْفاً. فَقَالُوا: أَنْتُمْ قَتَلْتُمْ عُثْمَانَ عَطَشاً. فَقَالَ (عليه السلام): «أَرْوُوا السُّيُوفَ مِنَ الدِّمَاءِ تُرْوَوْا مِنَ الْمَاءِ، وَالْمَوْتُ فِي حَيَاتِكُمْ مَقْهُورِينَ خَيْرٌ مِنْ الْحَيَاةِ فِي مَوْتِكُمْ قَاهِرِينَ». وَحَمَلاَ فِي سَبْعَةَ عَشَرَ أَلْفَ رَجُلٍ، حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَفَرَّقَ بَعْضَهُمْ وَانْهَزَمَ الْبَاقُونَ، فَأَمَرَ عَلِيٌّ (عليه السلام) أَنْ لاَ يَمْنَعُوهُمُ الْمَاءَ»(4).

ص: 367


1- هداية الأمة إلى أحكام الأئمة (عليهم السلام): ج8 ص261، الكتاب الخامس، 5-المسلمون شركاء في الماء والكلاء والنار، ح10.
2- هداية الأمة إلى أحكام الأئمة (عليهم السلام): ج8 ص261، الكتاب الخامس ح11.
3- هداية الأمة إلى أحكام الأئمة (عليهم السلام): ج8 ص261، الكتاب الخامس، 5-المسلمون شركاء في الماء والكلاء والنار، ح12.
4- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج3 ص167 - 168، باب مختصر من مغازيه (صلوات الله عليه)، فصل في حرب صفين.

..............................

وعن أبي جعفر وزيد بن الحسن، قَالاَ: فَنَادَى الأَشْعَثُ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ. فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا ابْنَ الْعَاصِ، خَلِّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمَاءِ، فَوَ اللهِ لَئِنْ لَمْ تَفْعَلْ لَتَأْخُذُنَا وَإِيَّاكُمُ السُّيُوفُ. فَقَالَ عَمْرٌو: وَاللهِ، لاَ نُخَلِّي عَنْهُ حَتَّى تَأْخُذَنَا السُّيُوفُ وَإِيَّاكُمْ، فَيَعْلَمَ رَبُّنَا سُبْحَانَهُ أَيُّنَا أَصْبَرُ الْيَوْمَ. فَتَرَجَّلَ الأَشْعَثُ وَالأَشْتَرُ وَذَوُو الْبَصَائِرِ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ (عليه السلام)، وَتَرَجَّلَ مَعَهُمَا اثْنَا عَشَرَ أَلْفاً، فَحَمَلُوا عَلَى عَمْرٍو وَأَبِي الأَعْوَرِ وَمَنْ مَعَهُمَا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَأَزَالُوهُمْ عَنِ الْمَاءِ حَتَّى غُمِسَتْ خَيْلُ عَلِيٍّ (عليه السلام) سَنَابِكُهَا فِي الْمَاءِ. قَالَ نَصْرٌ: فَرَوَى لَنَا عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ أَنَّ عَلِيّاً (عليه السلام) قَالَ ذَاكَ الْيَوْمَ: «هَذَا يَوْمٌ نُصِرْتُمْ فِيهِ بِالْحَمِيَّةِ». قَالَ نَصْرٌ: فَحَدَّثَنَا عَمْرٌو، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: خَطَبَ عَلِيٌّ (عليه السلام) يَوْمَ الْمَاءِ. فَقَالَ: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْقَوْمَ قَدْ بَدَءُوكُمْ بِالظُّلْمِ، وَفَاتَحُوكُمْ بِالْبَغْيِ، وَاسْتَقْبَلُوكُمْ بِالْعُدْوَانِ، وَقَدِ اسْتَطْعَمُوكُمُ الْقِتَالَ حَيْثُ مَنَعُوكُمُ الْمَاءَ، فَأَقِرُّوا عَلَى مَذَلَّةٍ وَتَأْخِيرِ مَحَلَّةِ، أَوْ رَوُّوا السُّيُوفَ مِنَ الدِّمَاءِ تَرْوَوْا مِنَ الْمَاءِ، فَالْمَوْتُ فِي حَيَاتِكُمْ مَقْهُورِينَ، وَالْحَيَاةُ فِي مَوْتِكُمْ قَاهِرِينَ. أَلاَ وَإِنَّ مُعَاوِيَةَ قَادَ لُمَةً مِنَ الْغُوَاةِ، وَعَمَّسَ عَلَيْهِمُ الْخَبَرَ، حَتَّى جَعَلَ نُحُورَهُمْ أَغْرَاضَالْمَنِيَّةِ»(1).

ص: 368


1- بحار الأنوار: ج32 ص442، تتمة كتاب الفتن والمحن، الباب11 من أبواب ما جرى بعد قتل عثمان من الفتن والوقائع والحروب وغيرها، ح393.

..............................

جانب الدين والدنيا

مسألة: يلزم أن يراعي الإنسان جانبي الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً»(1)، وكما يستظهر من قولها (عليها السلام): «وَلَأَوْرَدَهُمْ مَنْهَلاً»، حيث إن فيه إشارة إلى أن كل ذلك النعيم والهناء والتقدم، إنما هو طريق للآخرة، فالدنيا وكل ما يوفر فيها لصالح البشرية يلاحظ فيه جانب الطريقية للآخرة.

وذلك ما يستظهر من استخدامها (صلوات الله عليها) كلمة (منهل)، إذ المنهل المورد الذي على الطريق،

ولو قلدوا الموصى إليه زمامها *** لزمت بمأمون عن الخطرات(2)

و(الخطرات) تشمل الدنيوية والأخروية.

فإن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان سيوردهم «منهلاً نميراً» قد لوحظ فيهجانب الدنيا والآخرة معاً، فهو هنيء مريء دنياً وأخرى، أي يعطي الرضا للناس والنعيم الدنيوي، وهو يعد في طريق الآخرة لأنه من حله وفي محله فيتخذ سُلماً لنعيم الآخرة.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «إِنَّ الأَئِمَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ غُرِسُوا فِي هَذَا الْبَطْن

ص: 369


1- سورة البقرة: 201.
2- قائل البيت هو: دعبل بن علي الخزاعي، والبيت من فصيدته التائية المعروفة التي قالها في حضرة الإمام الرضا (عليه السلام) بخراسان.

..............................

مِنْ هَاشِمٍ، لاَ تَصْلُحُ عَلَى سِوَاهُمْ، وَلاَ تَصْلُحُ الْوُلاَةُ مِنْ غَيْرِهِمْ»(1).

وعن أبي ذر، قال النبي (صلى الله عليه وآله): «لاَ تُضَادُّوا عَلِيّاً (عليه اسلام) فَتَكْفُرُوا، وَلاَ تُفَضِّلُوا عَلَيْهِ فَتَرْتَدُّوا»(2).

وعن أبي عبيد بن محمد بن عمار بن ياسر، عن أبيه، عن جده عمار، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): «أُوصِي مَنْ آمَنَ بِي وَصَدَّقَنِي بِوَلاَيَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. مَنْ تَوَلاَّهُ فَقَدْ تَوَلاَّنِي، وَمَنْ تَوَلاَّنِيفَقَدْ تَوَلَّى اللهَ، وَمَنْ أَحَبَّهُ فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَحَبَّنِي فَقَدْ أَحَبَّ اللهَ، وَمَنْ أَبْغَضَهُ فَقَدْ أَبْغَضَنِي، وَمَنْ أَبْغَضَنِي فَقَدْ أَبْغَضَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ»(3).

من ميزات المنهج الإسلامي

مسألة: الأوصاف المذكورة في كلامها (سلام الله عليها): «مَنْهَلاً نَمِيراً صَافِياً رَوِيّاً، تَطْفَحُ ضَفَّتَاهُ، وَلاَ يَتَرَنَّقُ جَانِبَاهُ»، إشارة مجازية دقيقة وعميقة وشاملة للمنهج والطريقة والأسلوب والوسيلة في الحكومة التي كان الإمام علي (عليه السلام) سيسير بها وسيتعامل بها مع الناس في شتى المناحي السياسية والاقتصادية

ص: 370


1- نهج البلاغة: خطب أمير المؤمنين (عليه السلام)، الرقم144 ومن خطبة له (عليه السلام).
2- بحار الأنوار: ج38 ص29، تتمة كتاب تاريخ أمير المؤمنين (عليه السلام)، الباب57 من تتمة أبواب النصوص الدالة على الخصوص على إمامة أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) من طرق الخاصة والعامة، ضمن ح2.
3- بحار الأنوار: ج38 ص31، تتمة كتاب تاريخ أمير المؤمنين (عليه السلام)، الباب57 من تتمة أبواب النصوص الدالة على الخصوص على إمامة أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) من طرق الخاصة والعامة، ضمن ح8.

..............................

والاجتماعية والثقافية والعبادية وغيرها.

فإن منهجه (عليه السلام) هو منهج رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو الإسلام الحقيقي الشمولي المتكامل، فإن المنهج الإسلامي يتميز بالمواصفات التالية:فهو (منهل) ومورد يرده الظمآن، وليس سراباً، وليست نتائجه على عكس المدعى، فالاقتصاد الإسلامي مثلاً هو المنهل وليس الاقتصاد الشيوعي أو الرأسمالي أو التوزيعي أو غيره، مما ذكرنا تفصيلها في (الفقه: الاقتصاد) مما يزيد الفقراء فقراً والأغنياء غنى.

وكذلك حال السياسة والحقوق وغيرها.

وهو (نمير) يوفر السعادة للإنسان دنيا وآخرة، إذ هو ناجع نافع هنيء مري. وهو (صاف) لا تشوبه المكدرات والمنغصات، أي ظاهره ومنظره رائق صاف زاه وباطنه طاهر طيب.

وهو (روي) يشبع كل حاجات الإنسان الجسمية والروحية والفكرية وغيرها، لا كالغرب المادي الذي يهمل حاجات الروح ويلبي بعض حاجات الجسد وبطريقة فاسدة ومفسدة أيضاً.

وهو (فضفاض) (1) فيه سعة دون ضيق، ووفرة وكثرة في الأرزاق والمعيشة والعلاقات وحرية السفر والحضر والإقامة والتجارة والإعلام وغير ذلك.

وهو (تطفح ضفتاه) إذ قد بلغ من النعيم غايته، ومن الآمال قمتها، ومن الأحلام أجملها وأكملها وأجلاها.

ص: 371


1- في بعض النسخ: (منهلاً نميراً فضفاضاً).

..............................

فهناك وفرة في الأجهزة والصناعة، ووفرة في الأرزاق، ووفرة في سبل التعليم والتعلم، ووفرة في كل شيء.

(ولا يترنق جانباه) فهو الجنة على الأرض دون شك.

هكذا كانت وستكون حكومة الإمام (عليه السلام) لو أفسحوا له المجال ولم يغصبوا الخلافة منه، ثم لم يشاكسوا ولم يخربوا ضده فترة حكومته الظاهرية، قال تعالى: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ»(1).

والحديث التفصيلي عن هذه الصفات التي ذكرتها الصديقة الطاهرة (عليها السلام) يحتاج إلى مجلد ضخم وربما مجلدات.

من واجبات القائد

مسألة: يجب على القائد أن يورد الرعية والناس منهلاً نميراً صافياً روياً فضفاضاً تطفح ضفتاه ولا يترنق جانباه، وذلك لا يمكن إلا بمعرفة الحاكم التفصيلية بقوانين الإسلام في السياسةوالاقتصاد والحقوق والاجتماع وما أشبه، وإلا بالعمل بالمنهج الإسلامي من شورى وحرية وتعددية وغير ذلك، وإلاّ بالامتثال للقادة المعصومين (عليهم السلام)، وفي غير المعصوم بانتخاب القادة الأكفاء الذين جمعوا التقوى وسعة الصدر والحكمة والحزم من جهة، والخبرة

ص: 372


1- سورة الأعراف: 96.

..............................

والتخصص من جهة أخرى، والمعرفة بروايات أهل البيت (عليهم السلام) وعلومهم من جهة ثالثة، قال تعالى: «إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأمِينُ»(1).

وقد أشرنا إلى تفاصيل هذا البحث في بعض كتبنا(2).

التخلص من مآسي العالم

مسألة: يستحب وقد يجب، بيان أن الإمام علياً (عليه السلام) لو أخذ بزمام الأمور لأوردهم منهلاً نميراً صافياً روياًفضفاضاً... وهذا عام لجميع البشر، شيعة وسنة، مسلمين وكفاراً، فإن الكل كان يتنعم بعدله وإحسانه، قال تعالى: «إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ»(3).

كما يستحب - وقد يجب - بيان أن ما عاناه البشر منذ غصب الخلافة، ويعانيه إلى يوم ظهور قائم آل محمد (عجل الله تعالى فرجه الشريف وجعلنا من خيرة أنصاره وأشياعه والذابين عنه والمستشهدين بين يديه) من المشاكل والمآسي والفقر والحرمان والظلم والاستبداد فهو من جراء ما فعله القوم وظلمهم الإمام علياً وفاطمة الزهراء وسائر أهل البيت (عليهم السلام) وتنحيتهم عن مسند الخلافة الظاهرية.

ص: 373


1- سورة القصص: 26.
2- راجع من موسوعة الفقه: (الإدارة) و(الحقوق) و(القانون) و(السياسة) و(الاقتصاد) وغيرها.
3- سورة النحل: 90.

..............................

وكان الغاصبون للخلافة يفقدون مقومات الإمامة من النص والعصمة وسائر صفات الإمام المذكور في الروايات.

عن أبي عبد الله جعفر بن محمد (عليه السلام)، قال: «عَشْرُ خِصَالٍ مِنْ صِفَاتِ الإِمَامِ: الْعِصْمَةُ، وَالنُّصُوصُ، وَأَنْ يَكُونَ أَعْلَمَ النَّاسِ، وَأَتْقَاهُمْ للهِ، وَأَعْلَمَهُمْ بِكِتَابِ اللهِ، وَأَنْ يَكُونَ صَاحِبَ الْوَصِيَّةِ الظَّاهِرَةِ، وَيَكُونَ لَهُ الْمُعْجِزُ وَالدَّلِيلُ، وَتَنَامَ عَيْنُهُ وَلاَيَنَامَ قَلْبُهُ، وَلاَ يَكُونَ لَهُ فَيْءٌ، وَيَرَى مِنْ خَلْفِهِ كَمَا يَرَى مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ»(1).

وعن أبي الحسن علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، قال: «لِلإِمَامِ عَلاَمَاتٌ: يَكُونُ أَعْلَمَ النَّاسِ، وَأَحْكَمَ النَّاسِ، وَأَتْقَى النَّاسِ، وَأَحْلَمَ النَّاسِ، وَأَشْجَعَ النَّاسِ، وَأَسْخَى النَّاسِ، وَأَعْبَدَ النَّاسِ، وَيُولَدُ مَخْتُوناً، وَيَكُونُ مُطَهَّراً، وَيَرَى مِنْ خَلْفِهِ كَمَا يَرَى مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَلاَ يَكُونُ لَهُ ظِلٌّ، وَإِذَا وَقَعَ إِلَى الأَرْضِ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ وَقَعَ عَلَى رَاحَتَيْهِ، رَافِعاً صَوْتَهُ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَلاَ يَحْتَلِمُ، وَتَنَامُ عَيْنُهُ وَلاَ يَنَامُ قَلْبُهُ، وَيَكُونُ مُحَدَّثاً، وَيَسْتَوِي عَلَيْهِ دِرْعُ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، وَلاَ يُرَى لَهُ بَوْلٌ، وَلاَ غَائِطٌ؛ لأَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ وَكَّلَ الأَرْضَ بِابْتِلاَعِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ، وَتَكُونُ رَائِحَتُهُ أَطْيَبَ مِنْ رَائِحَةِ الْمِسْكِ، وَيَكُونُ أَوْلَى بِالنَّاسِ مِنْهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ، وَأَشْفَقَ عَلَيْهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، وَيَكُونُ أَشَدَّ النَّاسِ تَوَاضُعاً للهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَيَكُونُ آخَذَ النَّاسِ بِمَا يَأْمُرُ بِهِ، وَأَكَفَّ النَّاسِ عَمَّا يَنْهَى عَنْهُ، وَيَكُونُ

ص: 374


1- الخصال: ج2 ص428، باب العشرة، عشر خصال من صفات الإمام (عليه السلام)، ح5.

دُعَاؤُهُ مُسْتَجَاباً، حَتَّى إِنَّهُ لَوْ دَعَا عَلَى صَخْرَةٍ لاَنْشَقَّتْ بِنِصْفَيْنِ، وَيَكُونُعِنْدَهُ سِلاَحُ رَسُوِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، وَسَيْفُهُ ذُو الْفَقَارِ، وَتَكُونُ عِنْدَهُ صَحِيفَةٌ فِيهَا

..............................

أَسْمَاءُ شِيعَتِهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَصَحِيفَةٌ فِيهَا أَسْمَاءُ أَعْدَائِهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَتَكُونُ عِنْدَهُ الْجَامِعَةُ - وَهِيَ صَحِيفَةٌ طُولُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً - فِيهَا جَمِيعُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ وُلْدُ آدَمَ، وَيَكُونُ عِنْدَهُ الْجَفْرُ الأَكْبَرُ وَالأَصْفَرُ، إِهَابُ مَاعِزٍ، وَإِهَابُ كَبْشٍ، فِيهِمَا جَمِيعُ الْعُلُومِ حَتَّى أَرْشُ الْخَدْشِ، وَحَتَّى الْجَلْدَةُ، وَنِصْفُ الْجَلْدَةِ، وَثُلُثُ الْجَلْدَةِ، وَيَكُونُ عِنْدَهُ مُصْحَفُ فَاطِمَةَ (عليها السلام)»(1).

ص: 375


1- بحار الأنوار: ج25ص116 - 117، تتمة كتاب الإمامة، الباب4 من أبواب علامات الإمام وصفاته وشرائطه وما ينبغي أن ينسب إليه وما لا ينبغي، ح1.

تَطْفَحُ ضَفَّتَاهُ، وَلَا يَتَرَنَّقُ جَانِبَاهُ

اشارة

-------------------------------------------

ميزات أخرى للحكومة الإسلامية

مسألة: هناك ميزات للحكومة الإسلامية، وربما تشير الصفات السابقة: «نَمِيراً صَافِياً رَوِيّاً فضفاضاً»، إلى صفات الذات وإلى الجوهر في الحكومة الإسلامية، وتشير هاتان الصفاتان الأخيرتان إلى الأعراض، وبعبارة أخرى: الحواشي والأطراف.

فإن الدار مثلاً قد تكون كاملة البناء جيدة التصميم، إلا أن أطرافها كالساحة المحيطة بها أو الحديقة تكون ناقصة مشوهة، وكذلك الحكومة والإدارة، إذ قد توفر الحاجات الأساسية للناس لكنها تفشل في الكماليات والثانويات، فلا رفاهية ولا دعة ولا سعة في العيش.

أما الحكومة الإسلامية فإنها لو كانت سلمت لوصي رسول الله (صلى الله عليه وآله) حقاً، لكان الجوهر والمظهر، والصميم والحواشي، والأساسيات والكماليات، كلها قمة في الكمال والجمال وتلبية الحاجات.

ومن الأساسيات: الأمن، والطعام، والصحة، والسكن، وغيرها من الحاجات الضرورية.

ومن الكماليات: كل وسائل الراحةوالرفاهية من الدار الواسعة والقدرة على السفر للنزهة والزيارة وما أشبه.

ومنها حكومة فضائل الأخلاق المستحبة كالإحسان، فضلاً عن الواجبة كالعدل.

ص: 376

..............................

عن محمد بن أبي حمزة، عن رجل بلغ به أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: مَرَّ شَيْخٌ مَكْفُوفٌ كَبِيرٌ يَسْأَلُ. فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «مَا هَذَا؟!». فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، نَصْرَانِيٌّ. قَالَ: فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «اسْتَعْمَلْتُمُوهُ، حَتَّى إِذَا كَبِرَ وَعَجَزَ مَنَعْتُمُوهُ. أَنْفِقُوا عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ»(1).

وعن علي بن أبي طالب (عليه السلام)، قال: «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا أَفْضَلُ حَالٍ أُعْطِيَ لِلرَّجُلِ؟. قَالَ (صلى الله عليه وآله): الْخُلُقُ الْحَسَنُ. إِنَّ أَدْنَاكُمْ مِنِّي وَأَوْجَبَكُمْ عَلَيَّ شَفَاعَةً، أَصْدَقُكُمْ حَدِيثاً، وَأَعْظَمُكُمْ أَمَانَةً، وَأَحْسَنُكُمْ خُلُقاً»(2).

وروى البلاذري نقلاً عن المدائني،قال: كَانَتْ غُلَّةُ عَلَيٍّ (عليه السلام) أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَجَعَلَهَا صَدَقَةً. وَبَاعَ (عليه السلام) سَيْفَهُ وَقَالَ: لَوْ كَانَ عِنْدِي عِشَاءً مَا بِعْتَهُ . وَأَعْطَتْهُ الْخَادِمُ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي قَطِيفَةً، فَأَنْكَرَ دِفَأَهَا. فَقَالَ (عليه السلام): «مَا هَذِهِ؟!». قَالَتِ الْخَادِمُ: هَذِهِ مِنْ فَضْلِ الصَّدَقَةِ. فَأَلْقَاهَا وَقَالَ (عليه السلام): «أَصْرَدْتُمُونَا بَقِيَّةَ لَيْلَتِنَا»(3).

وقال العلامة ابن شهر آشوب: وَقَدِمَ عَلَيْهِ عَقِيلٌ. فَقَالَ (عليه السلام) لِلْحَسَنِ: «اكْسُ عَمَّكَ». فَكَسَاهُ قَمِيصاً مِنْ قَمِيصِهِ، وَرِدَاءً مِنْ أَرْدِيَتِهِ, فَلَمَّا حَضَرَ الْعَشَاءُ، فَإِذَا هُوَ خُبْزٌ وَمِلْحٌ. فَقَالَ عَقِيلٌ: لَيْسَ مَا أَرَى!. فَقَالَ (عليه السلام):

ص: 377


1- تهذيب الأحكام: ج6 ص293، كتاب القضايا والأحكام، الباب92 من الزيادات في القضايا والأحكام، ح18.
2- الجعفريات: ص150، كتاب السير والآداب، باب التقوى وحسن الخلق.
3- أنساب الأشراف: ج2 ص117، نبذة من أقوال علي بن أبي طالب وسيرته، ح68.

..............................

«أَوَ لَيْسَ هَذَا مِنْ نِعْمَةِ اللهِ، فَلَهُ الْحَمْدُ كَثِيراً». فَقَالَ: أَعْطِنِي مَا أَقْضِي بِهِ دَيْنِي، وَعَجِّلْ سَرَاحِي حَتَّى أَرْحَلَ عَنْكَ. قَالَ (عليه

السلام): «فَكَمْ دَيْنُكَ يَا أَبَا يَزِيدَ؟». قَالَ: مِائَةُ أَلْفِ دِرْهَمٍ. قَالَ (عليه السلام): «وَاللهِ، مَا هِيَ عِنْدِي وَلاَ أَمْلِكُهَا، وَلَكِنْ اصْبِرْ حَتَّى يَخْرُجَ عَطَايَ فَأُوَاسِيَكَهُ، وَلَوْلاَ أَنَّهُ لاَبُدَّ لِلْعِيَالِ مِنْ شَيْءٍ لأَعْطَيْتُكَ كُلَّهُ». فَقَالَ عَقِيلٌ: بَيْتُ الْمَالِ فِي يَدِكَ، وَأَنْتَتُسَوِّفُنِي إِلَى عَطَائِكَ، وَكَمْ عَطَاؤُكَ، وَمَا عَسَى يَكُونُ، وَلَوْ أَعْطَيْتَنِيهِ كُلَّهُ. فَقَالَ (عليه السلام): «مَا أَنَا وَأَنْتَ فِيهِ إِلاَّ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ».

وَكَانَا يَتَكَلَّمَانِ فَوْقَ قَصْرِ الإِمَارَةِ، مُشْرِفِينَ عَلَى صَنَادِيقِ أَهْلِ السُّوقِ. فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ (عليه السلام): «إِنْ أَبَيْتَ يَا أَبَا يَزِيدَ مَا أَقُولُ، فَانْزِلْ إِلَى بَعْضِ هَذِهِ الصَّنَادِيقِ، فَاكْسِرْ أَقْفَالَهُ وَخُذْ مَا فِيهِ». فَقَالَ: وَمَا فِي هَذِهِ الصَّنَادِيقِ؟. قَالَ (عليه السلام): «فِيهَا أَمْوَالُ التُّجَّارِ». قَالَ: أَ تَأْمُرُنِي أَنْ أَكْسِرَ صَنَادِيقَ قَوْمٍ قَدْ تَوَكَّلُوا عَلَى اللهِ، وَجَعَلُوا فِيهَا أَمْوَالَهُمْ!. فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «أَ تَأْمُرُنِي أَنْ أَفْتَحَ بَيْتَ مَالِ الْمُسْلِمِينَ فَأُعْطِيَكَ أَمْوَالَهُمْ، وَقَدْ تَوَكَّلُوا عَلَى اللهِ وَأَقْفَلُوا عَلَيْهَا. وَإِنْ شِئْتَ أَخَذْتَ سَيْفَكَ وَأَخَذْتُ سَيْفِي، وَخَرَجْنَا جَمِيعاً إِلَى الْحِيرَةِ، فَإِنَّ بِهَا تُجَّاراً مَيَاسِيرَ، فَدَخَلْنَا عَلَى بَعْضِهِمْ فَأَخَذْنَا مَالَهُ». فَقَالَ: أَوَ سَارِقٌ جِئْتُ!. قَالَ (عليه السلام): «تَسْرِقُ مِنْ وَاحِدٍ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَسْرِقَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ جَمِيعاً». قَالَ لَهُ: أَفَتَأْذَنُ لِي أَنْ أَخْرُجَ إِلَى مُعَاوِيَةَ. فَقَالَ لَهُ: «قَدْ أَذِنْتُ لَكَ». قَالَ: فَأَعِنِّي عَلَى سَفَرِي هَذَا. قَالَ (عليه السلام): «يَا حَسَنُ، أَعْطِ عَمَّكَ أَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ».فَخَرَجَ عَقِيلٌ وَهُوَ يَقُولُ:

ص: 378

..............................

سَيُغْنِينِي الَّذِي أَغْنَاكَ عَنِّي *** وَيَقْضِي دَيْنَنَا رَبٌّ قَرِيبٌ (1)

وَذَكَرَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، أَنَّ عَقِيلاً لَمَّا سَأَلَ عَطَاهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. قَالَ لَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «تُقِيمُ إِلَيَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ». فَأَقَامَ فَلَمَّا صَلَّى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْجُمُعَةَ، قَالَ لِعَقِيلٍ: «مَا تَقُولُ فِيمَنْ خَانَ هَؤُلاَءِ أَجْمَعِينَ؟». قَالَ: بِئْسَ الرَّجُلُ ذَاكَ. قَالَ (عليه السلام): «فَأَنْتَ تَأْمُرُنِي أَنْ أَخُونَ هَؤُلاَءِ وَأُعْطِيَكَ (2).

ومن كلام لأمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: «وَاللهِ، لأَنْ أَبِيتَ عَلَى حَسَكِ السَّعْدَانِ مُسَهَّداً، أَوْ أُجَرَّ فِي الأَغْلَالِ مُصَفَّداً، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْقَى اللهَ وَرَسُولَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ظَالِماً لِبَعْضِ الْعِبَادِ، وَغَاصِباً لِشَيْ ءٍ مِنَ الْحُطَامِ، وَكَيْفَ أَظْلِمُ أَحَداً، لِنَفْسٍ يُسْرِعُ إِلَى الْبِلَى قُفُولُهَا، وَيَطُولُ فِي الثَّرَى حُلُولُهَا.

وَاللهِ، لَقَدْ رَأَيْتُ عَقِيلاً وَقَدْ أَمْلَقَ، حَتَّىاسْتَمَاحَنِي مِنْ بُرِّكُمْ صَاعاً، وَرَأَيْتُ صِبْيَانَهُ شُعْثَ الشُّعُورِ، غُبْرَ الأَلْوَانِ مِنْ فَقْرِهِمْ، كَأَنَّمَا سُوِّدَتْ وُجُوهُهُمْ بِالْعِظْلِمِ، وَعَاوَدَنِي مُؤَكِّداً، وَكَرَّرَ عَلَيَّ الْقَوْلَ مُرَدِّداً، فَأَصْغَيْتُ إِلَيْهِ سَمْعِي، فَظَنَّ أَنِّي أَبِيعُهُ دِينِي، وَأَتَّبِعُ قِيَادَهُ مُفَارِقاً طَرِيقَتِي.

فَأَحْمَيْتُ لَهُ حَدِيدَةً، ثُمَّ أَدْنَيْتُهَا مِنْ جِسْمِهِ لِيَعْتَبِرَ بِهَا، فَضَجَّ ضَجِيجَ ذِي دَنَفٍ مِنْ أَلَمِهَا، وَكَادَ أَنْ يَحْتَرِقَ مِنْ مِيسَمِهَا. فَقُلْتُ لَهُ: ثَكِلَتْكَ الثَّوَاكِلُ يَا عَقِيلُ، أَ تَئِنُّ مِنْ حَدِيدَةٍ أَحْمَاهَا إِنْسَانُهَا لِلَعِبِهِ، وَتَجُرُّنِي إِلَى نَارٍ سَجَرَهَا جَبَّارُهَا

ص: 379


1- مناقب آل أبي طالب: ج2 ص108 - 109، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في المسابقة بالعدل والأمانة.
2- مناقب آل أبي طالب: ج2 ص109، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام) ...

..............................

لِغَضَبِهِ! أَ تَئِنُّ مِنَ الأَذَى، وَلاَ أَئِنُّ مِنْ لَظَى»(1).

وروى الحاكم النيسابوري في "المستدرك" بسنده، عن أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه)، قال: قَالَ نَبِيُّ اللهِ (صلى الله عليه وآله): «يَنْزِلُ بِأُمتَِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ بَلاَءٌ شَدِيدٌ مِنْ سُلْطَانِهِم، لَمْ يُسْمَعُ بَلاَءٌ أَشَدَّ مِنْهُ حَتَّى تَضِيقُ عَنْهُمُ الأَرْضَ الرَّحْبَةَ، وَحَتَّى يَمْلأُ الأَرْضَ جَوْراً وَظُلْماً، لاَ يَجِدُ الْمؤْمِنُ مَلْجَأً يَلْتَجِئُ إِلَيهِ مِنَالظُّلْمِ، فَيَبْعَثُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ رَجُلاً مِنْ عِتْرَتِي، فَيَمْلأُ الأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً، كَمَا مُلِئَتْ ظُلْماً وَجَوْراً، يَرْضَى عَنْهُ سَاكِنُ السَّمَاءِ وَسَاكِنُ الأَرْضِ، لاَ تَدَّخِرُ الأَرْضُ مِنْ بَذْرِهَا شَيْئاً إِلاَّ أَخْرَجَتْهُ، وَلاَ السَّمَاءُ مِنْ قَطْرِهَا شَيْئاً إِلاَّ صَبَّهُ اللهُ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً، يَعِيشُ فِيهُمُ سَبْعَ سِنِينَ أَوْ ثَمَانٍ أَوْ تِسْعٍ، تَتَمَنَى الأَحْيَاءُ الأَمْوَاتَ مِمَّا صَنَعَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِأَهْلِ الأَرْضِ مِنُ خَيْرِهِ»(2).

وعن أبي سعيد، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): «أَبْشِرُوا بِالْمَهْدِيِّ - قَالَ ثَلاَثاً - يَخْرُجُ عَلَى حِينِ اخْتِلاَفٍ مِنَ النَّاسِ، وَزِلْزَالٍ شَدِيدٍ، يَمْلأُ الأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً، كَمَا مُلِئَتْ ظُلْماً وَجَوْراً، يَمْلأُ قُلُوبَ عِبَادِهِ عِبَادَةً، وَيَسَعُهُمْ عَدْلُهُ»(3).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) - في حديث الأربعمائة : «لَوْ قَدْ قَامَ قَائِمُنَا لأَنْزَلَتِ السَّمَاءُ قَطْرَهَا، وَلأَخْرَجَتِ الأَرْضُ نَبَاتَهَا، وَلَذَهَبَتِ الشَّحْنَاءُ مِنْ قُلُوبِ

ص: 380


1- نهج البلاغة: خطب أمير المؤمنين (عليه السلام)، الرقم224 ومن كلام له (عليه السلام) يتبرأ من الظلم.
2- المستدرك على الصحيحين: ج4 ص465، ذكر خروج المهدي (عليه السلام).
3- الغيبة للشيخ الطوسي: ص179، فصل1 في الكلام في الغيبة، الكلام على الواقفة.

..............................

الْعِبَادِ، وَاصْطَلَحَتِ السِّبَاعُ وَالْبَهَائِمُ،حَتَّى تَمْشِيَ الْمَرْأَةُ بَيْنَ الْعِرَاقِ إِلَى الشَّامِ لاَ تَضَعُ قَدَمَيْهَا إِلاَّ عَلَى النَّبَاتِ، وَعَلَى رَأْسِهَا زِينَتُهَا، لاَ يُهَيِّجُهَا سَبُعٌ وَلاَ تَخَافُهُ»(1).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) - في خطبة البيان -: «وَبَعْدَ ذَلِكَ يَمْلُكُ الْمهْدِيُ مَشَارِقَ الأَرْضِِِِِِِِِِِِِِِِِِِ وَمَغَارِبِهَا، وَيَفْتَحُهَا مِنْ جَابَرْقَا إِلَى جَابَرْصَا، وَيَسْتَتِمُ أَمْرَهُ، وَيَعْدِلُ بَيْنَ النَّاسِ، حَتَّى تَرْعَى الشَّاةُ مَعَ الذِّئْبَ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَتَلْعَبُ الصِّبْيَانُ بِالْحيَّةِ وَالْعَقْرَبِ وَلاَ يَضُرُّهُمْ، وَيَذْهَبُ الشَّرُ وَيَبْقَى الْخيْرُ. وَيَزْرَعُ الرَّجُلُ الشَّعِيرَ وَالْحنْطَةَ، فَيخْرُجُ مِنْ كُلِّ مَنٍّ مِائَةُ مَنٍّ، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: «فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمنْ يَشَاءُ»(2). وَيَرْتَفِعُ الزِّنَا، وَالرِّبَا، وَشِرْبُ الْخمْرِ، وَالْغِنَاءُ، وَلاَ يَعْمَلَهُ أَحَدٌ إِلاَّ وَقَتَلَهُ الْمهْدِيُ، وَكَذَا تَارِكُ الصَّلاَةِ. وَيَعْتَكِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِفونَ النَّاسُ عَلَى الْعِبَادَةِ، وَالطَّاعَةِ، وَالْخشُوعِ، وَالدِّيَانَةِ. وَكَذَا تَطُولُ الأَعْمَارُ، وَتَحْمِلُ الأَشْجَارُ الأَثْمَارَ فِي كُلِّسَنَةٍ مَرَّتَينِ»(3).

ص: 381


1- الخصال: ج2 ص626، علم أمير المؤمنين (عليه السلام) أصحابه في مجلس واحد أربعمائة باب مما يصلح للمسلم في دينه ودنياه، ح10.
2- سورة البقرة: 261.
3- إلزام الناصب في إثبات الحجة الغائب: ج2 ص172، الغصن الثامن، الفرع الرابع، الريحان الأول: في الخطبة التي خطبها في البصرة المعروفة بخطبة البيان.

..............................

أقسام التكدر

مسألة: التكدر على قسمين:

التكدر الديني، كالارتطام بالربا وبيع الكالي بالكالي، وارتكاب المحرمات في المعاملات وغيرها.

والتكدر الدنيوي، كأمراض البيئة.

ولو سلّموا الموصى إليه زمامها، لأنقذ الناس من كلا النوعين رفعاً لما هو موجود، ودفعاً لما يوجد فيما بعد(1).

وقولها (عليها السلام): « وَلا يَتَرَنَّقُ جَانِبَاهُ» أعم من كلا النوعين من التكدر.

قال الإمام الرضا (عليه السلام): «وَاعْلَمْ أَنَّ الرِّبَا رِبَاءَانِ: رِبًا يُؤْكَلُ، وَرِبًا لاَ يُؤْكَلُ. وَأَمَّا الرِّبَا الَّذِي يُؤْكَلُ: فَهُوَ هَدِيَّتُكَ إِلَى رَجُلٍ يُطْلَبُ الثَّوَابُ أَفْضَلُمِنْهُ. فَأَمَّا الَّذِي لا يُؤْكَلُ: فَهُوَ مَا يُكَالُ وَيُوزَنُ. فَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إِلَى رَجُلٍ عَشَرَ دَرَاهِمَ عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْهَا، فَهُوَ الرِّبَا الَّذِي نَهَى اللهُ عَنْهُ، فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا»(2) الآيَةَ، عَنَى بِذَلِكَ أَنْ يَرُدَّ الْفَضْلَ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَى رَأْسِ مَالِهِ»(3).

ص: 382


1- أي بعد غصب الخلافة.
2- سورة البقرة: 278.
3- الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا (عليه السلام): ص258، الباب38 الربا والسلم والدين والعينة.

..............................

وعن عبد الله بن الفضيل، عن أبيه، قال: سَمِعْتُ أَبَا خَالِدٍ الْكَابُلِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ زَيْنَ الْعَابِدِينَ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) يَقُولُ: «الذُّنُوبُ الَّتِي تُغَيِّرُ النِّعَمَ: الْبَغْيُ عَلَى النَّاسِ، وَالزَّوَالُ عَنِ الْعَادَةِ فِي الْخَيْرِ وَاصْطِنَاعِ الْمَعْرُوفِ، وَكُفْرَانُ النِّعَمِ، وَتَرْكُ الشُّكْرِ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: «إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ»(1).

وَالذُّنُوبُ الَّتِي تُورِثُ النَّدَمَ: قَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: «وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ»(2)، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِيقِصَّةِ قَابِيلَ حِينَ قَتَلَ أَخَاهُ هَابِيلَ فَعَجَزَ عَنْ دَفْنِهِ: فَسَوَّلَتْ «لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ»(3) فَقَتَلَهُ «فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ»(4)، وَتَرْكُ صِلَةِ الْقَرَابَةِ حَتَّى يَسْتَغْنُوا، وَتَرْكُ الصَّلاَةِ حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا، وَتَرْكُ الْوَصِيَّةِ وَرَدِّ الْمَظَالِمِ وَمَنْعُ الزَّكَاةِ حَتَّى يَحْضُرَ الْمَوْتُ وَيَنْغَلِقَ اللِّسَانُ.

وَالذُّنُوبُ الَّتِي تُنْزِلُ النِّقَمَ: عِصْيَانُ الْعَارِفِ بِالْبَغْيِ، وَالتَّطَاوُلُ عَلَى النَّاسِ، وَالاِسْتِهْزَاءُ بِهِمْ، وَالسُّخْرِيَّةُ مِنْهُمْ.

وَالذُّنُوبُ الَّتِي تَدْفَعُ الْقِسَمَ: إِظْهَارُ الاِفْتِقَارِ، وَالنَّوْمُ عَنِ الْعَتَمَةِ وَعَنْ صَلاَةِ الْغَدَاةِ، وَاسْتِحْقَارُ النِّعَمِ، وَشَكْوَى الْمَعْبُودِ عَزَّ وَجَلَّ.

ص: 383


1- سورة الرعد: 11.
2- سورة الإنعام: 151.
3- سورة المائدة: 30.
4- سورة المائدة: 31.

..............................

وَالذُّنُوبُ الَّتِي تَهْتِكُ الْعِصَمَ: شُرْبُ الْخَمْرِ، وَاللَّعِبُ بِالْقِمَارِ، وَتَعَاطِي مَا يُضْحِكُ النَّاسَ مِنَ اللَّغْوِ وَالْمِزَاحِ، وَذِكْرُ عُيُوبِ النَّاسِ، وَمُجَالَسَةُ أَهْلِ الرَّيْبِ.

وَالذُّنُوبُ الَّتِي تُنْزِلُ الْبَلاَءَ: تَرْكُ إِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ، وَتَرْكُ مُعَاوَنَةِ الْمَظْلُومِ، وَتَضْيِيعُ الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ.

وَالذُّنُوبُ الَّتِي تُدِيلُ الأَعْدَاءَ:الْمُجَاهَرَةُ بِالظُّلْمِ، وَإِعْلاَنُ الْفُجُورِ، وَإِبَاحَةُ الْمَحْظُورِ، وَعِصْيَانُ الأَخْيَارِ، وَالاِنْطِبَاعُ لِلأَشْرَارِ.

وَالذُّنُوبُ الَّتِي تُعَجِّلُ الْفَنَاءَ: قَطِيعَةُ الرَّحِمِ، وَالْيَمِينُ الْفَاجِرَةُ، وَالأَقْوَالُ الْكَاذِبَةُ، وَالزِّنَاءُ، وَسَدُّ طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ، وَادِّعَاءُ الإِمَامَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ.

وَالذُّنُوبُ الَّتِي تَقْطَعُ الرَّجَاءَ: الْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ، وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، وَالثِّقَةُ بِغَيْرِ اللهِ، وَالتَّكْذِيبُ بِوَعْدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.

وَالذُّنُوبُ الَّتِي تُظْلِمُ الْهَوَاءَ: السِّحْرُ وَالْكِهَانَةُ، وَالإِيمَانُ بِالنُّجُومِ، وَالتَّكْذِيبُ بِالْقَدَرِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ.

وَالذُّنُوبُ الَّتِي تَكْشِفُ الْغِطَاءَ: الاِسْتِدَانَةُ بِغَيْرِ نِيَّةِ الأَدَاءِ، وَالإِسْرَافُ فِي النَّفَقَةِ عَلَى الْبَاطِلِ، وَالْبُخْلُ عَلَى الأَهْلِ وَالْوَلَدِ وَذَوِي الأَرْحَامِ، وَسُوءُ الْخُلُقِ، وَقِلَّةُ الصَّبْرِ، وَاسْتِعْمَالُ الضَّجَرِ وَالْكَسَلِ، وَالاِسْتِهَانَةُ بِأَهْلِ الدِّينِ.

وَالذُّنُوبُ الَّتِي تَرُدُّ الدُّعَاءَ: سُوءُ النِّيَّةِ وَخُبْثُ السَّرِيرَةِ، وَالنِّفَاقُ مَعَ الإِخْوَانِ، وَتَرْكُ التَّصْدِيقِ بِالإِجَابَةِ، وَتَأْخِيرُ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ حَتَّى تَذْهَبَ أَوْقَاتُهَا، وَتَرْكُ التَّقَرُّبِ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالْبِرِّ وَالصَّدَقَةِ، وَاسْتِعْمَالُ الْبَذَاءِ وَالْفُحْشِ فِي الْقَوْلِ.

وَالذُّنُوبُ الَّتِي تَحْبِس غَيْثَ السَّمَاءِ: جَوْرُ الْحُكَّامِ فِي الْقَضَاءِ، وَشَهَادَةُ

ص: 384

..............................

الزُّورِ، وَكِتْمَانُ الشَّهَادَةِ، وَمَنْعُ الزَّكَاةِ وَالْقَرْضِ وَالْمَاعُونِ، وَقَسَاوَةُ الْقُلُوبِ عَلَى أَهْلِ الْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ، وَظُلْمُ الْيَتِيمِ وَالأَرْمَلَةِ، وَانْتِهَارُ السَّائِلِ وَرَدُّهُ بِاللَّيْلِ»(1).

وعن إسحاق بن عمار، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «كَانَ أَبِي (عليه السلام) يَقُولُ: نَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِي تُعَجِّلُ الْفَنَاءَ، وَتُقَرِّبُ الآجَالَ، وَتُخْلِي الدِّيَارَ، وَهِيَ: قَطِيعَةُ الرَّحِمِ، وَالْعُقُوقُ، وَتَرْكُ الْبِرِّ»(2).

وقال أبو عبد اللهِ (عليه السلام): «إِذَا فَشَا أَرْبَعَةٌ ظَهَرَتْ أَرْبَعَةٌ: إِذَا فَشَا الزِّنَا ظَهَرَتِ الزَّلْزَلَةُ، وَإِذَا فَشَا الْجَوْرُ فِي الْحُكْمِ احْتَبَسَ الْقَطْرُ، وَإِذَا خُفِرَتِ الذِّمَّةُ أُدِيلَ لأَهْلِ الشِّرْكِ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ، وَإِذَا مُنِعَتِ الزَّكَاةُ ظَهَرَتِ الْحَاجَةُ»(3).

وعن يعقوب بن شعيب، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: كَانَ مِنْ دُعَائِهِ يَقُولُ:«يَا نُورُ يَا قُدُّوسُ، يَا أَوَّلَ الأَوَّلِينَ، وَيَا آخِرَ الآخِرِينَ، يَا رَحْمَانُ يَا رَحِيمُ، اغْفِرْ لِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي تُغَيِّرُ النِّعَمَ، وَاغْفِرْ لِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي تُحِلُّ النِّقَمَ، وَاغْفِرْ لِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي تَهْتِكُ الْعِصَمَ، وَاغْفِرْ لِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي تُنْزِلُ الْبَلاَءَ، وَاغْفِرْ لِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي تُدِيلُ الأَعْدَاءَ، وَاغْفِرْ لِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي تُعَجِّلُ الْفَنَاءَ، وَاغْفِرْ لِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي تَقْطَعُ الرَّجَاءَ، وَاغْفِرْ لِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي تُظْلِمُ الْهَوَاءَ، وَاغْفِرْ لِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي تَكْشِفُ الْغِطَاءَ، وَاغْفِرْ لِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي تَرُدُّ الدُّعَاءَ، وَاغْفِرْ لِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي تَرُدُّ غَيْثَ السَّمَاءِ»(4).

ص: 385


1- معاني الأخبار: ص270 - 271، باب معنى الذنوب، ح2.
2- الكافي: ج2 ص448، كتاب الإيمان والكفر، باب في تفسير الذنوب، ح2.
3- الكافي: ج2 ص448، كتاب الإيمان والكفر، باب في تفسير الذنوب، ح3.
4- الكافي: ج2 ص589 - 590، كتاب الدعاء، باب دعوات موجزات ... ح29.

وَلأَصْدَرَهُمْ بِطَاناً

اشارة

-------------------------------------------

الاهتمام بالاقتصاد

مسألة: يجب على الدولة الإسلامية والقائد الإسلامي الاهتمام البالغ الأكيد بالاقتصاد بشتى أبعاده، فإنه مسؤول عن دين الناس ودنياهم معاً.

قال تعالى: «فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ»(1).وقال سبحانه: «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْميزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ»(2).

و(البطان): أي ممتلئ البطن من الشبع، أي امتلاؤه طعاماً، ومثله (البطنة) وقد تمثل أمير المؤمنين (عليه السلام) بقول الأعشى:

وَحَسْبُكَ دَاءً أَنْ تَبِيتَ بِبِطْنَةٍ *** وَحَوْلَكَ أَكْبَادٌ تَحِنُّ إِلَى الْقِدِّ (3)

ويقال: فلان عريض البطان، أي غني أو رخي البال.

ف «أَصْدَرَهُمْ بِطَاناً»، كناية عن توفر كافة حاجاتهم المادية.

ولا يمكن للقائد الإسلامي أن يحقق العدل الاقتصادي، وأن يصل إلى

ص: 386


1- سورة قريش: 3 - 4.
2- سورة الحديد: 25.
3- نهج البلاغة: رسائل أمير المؤمنين (عليه السلام)، الرقم45 ومن كتاب له (عليه السلام) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري، وكان عامله على البصرة، وقد بلغه أنه دُعِيَ إلى وليمة قوم من أهلها، فمضى إليها.

..............................

«أَصْدَرَهُمْ بِطَاناً» كما وصفت الصديقة الطاهرة (عليها السلام)، إلا بتطبيق قوانين الإسلام الاقتصادية في التجارة والزراعة، ومنها:«دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقِ اللهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضِ»(1).

و: «الأَرْضَ للهِ وَلِمَنْ عَمَرَهَا»(2).

و: «مَنْ سَبَقَ إِلَى مَا لَمْ يَسْبِقُ إِلَيْهِ مُسْلِمٌ»(3).

فكل إنسان حر في أن يزرع ويبني ويرعى في أي مقدار شاء من الأراضي، بدون حاجة لإجازة من الدولة أو رخصة أو دفع رسوم أو ما أشبه من التعقيد الإداري، إذ «الأَرْضَ للهِ وَلِمَنْ عَمَرَهَا» وهذا من بديهيات أحكام الإسلام.

وكان من أسرار سقوط المسلمين الإعراض عن هذا القانون وغيره من القوانين الإسلامية، فصار الزمام بيد الغرب الذي أخذ هو بجانب من قوانين الإسلامية فتقدم نسبياً، فإن قوانينه الكابتة للحريات أقل من القوانين الموجودة اليوم في بلادنا، وبهذا المقدار تقدم علينا.

وقد حذر من ذلك أمير المؤمنين (عليه السلام)، حيث قال: « اللهَ اللهَ فِي الْقُرْآنِلاَ يَسْبِقُكُمْ بِالْعَمَلِ بِهِ غَيْرُكُمْ»(4)، مما ذكرنا تفصيله في: (فقه الاقتصاد)، و(فقه الحريات)، و (فقه الحقوق)، و (فقه القانون)، وكذلك في (الصياغة)،

ص: 387


1- الأمالي للشيخ الطوسي: ص396 - 397، المجلس الرابع عشر، ح879/27.
2- الكافي: ج5 ص279، كتاب المعيشة، باب في إحياء أرض الموات، ح2.
3- تذكرة الفقهاء: ج2 ص403، المقصد الحادي عشر في إحياء الموات، حكم المعادن.
4- نهج البلاغة: رسائل أمير المؤمنين (عليه السلام)، الرقم47 ومن وصية له (عليه السلام) للحسن والحسين (عليهما السلام)، لما ضربه ابن ملجم (لعنه الله).

..............................

و(السبيل)، و(الممارسة)، وغيرها.

حرمة إفقار الشعب

مسألة: يحرم كل ما يؤدي إلى أن يعيش الشعب حالة الفقر والجوع والحرمان، كسن القوانين الكابتة للحريات، ووضع الآصار والأغلال في أيدي الناس من الضرائب والمكوس وقوانين الجمارك، وتقييد حرية السفر والإقامة والحضر والبناء والتجارة وغيرها.

مقومات أخرى للقائد الإسلامي

مسألة: سبق أنه لا يمكن للقائد أن يحقق العدالة الاقتصادية ويطبق (إصدار الناس بطاناً) إلا بالعمل بقوانين الإسلام، وينبغي بالإضافة إلى ذلك لكييتحقق العدل الاقتصادي، أن يتخذ الحاكم بنفسه الزهد في حياته الشخصية، كما عليه من جانب آخر أن يستعين بالخبراء الزمنيين، وأن يشكل لجنة من الحوزة والجامعة مشتركة تضع السبل والآليات الكفيلة بتحقيق ذلك.

فإن زهد الحاكم، عامل محرك هائل يؤثر على المجتمع كله، ويحول بأثره الوضعي والنفسي والإعلامي وغيرها دون طغيان الولاة وكبار المسؤولين والموظفين وظلمهم، كما يؤثر على التجار فيجعلهم أقرب للعدل والإحسان وأبعد من الجشع، فإن «النَّاسُ عَلَى دِينِ مُلَوكِهِمْ»(1).

ص: 388


1- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج2 ص21، ذكر الإمام الثالث أبي عبد الله الحسين الزكي (عليه السلام)، السادس في علمه وشجاعته وشرف نفسه.

..............................

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «أَلاَ وَإِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ، وَمِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ»(1).

وقال (عليه السلام): «وَلأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْهَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ»(2).

وأما الاستعانة بالخبراء الزمنيين وتكوين لجنة مشتركة من العلماء والخبراء، كخبراء الاقتصاد والزراعة والتجارة ومن أشبه، فلأن المفروض أن تتطابق الآليات والقوانين مع الشريعة، ولا يعرف ذلك إلا الفقهاء، وأن يستفاد من العلوم الحديثة والتطور العلمي ولا يعرف ذلك إلا الخبراء.

عن محمد بن سنان - رفعه - قال: قال عيسى ابن مريم (عليه السلام): «يَا مَعْشَرَ الْحَوَارِيِّينَ، لِي إِلَيْكُمْ حَاجَةٌ اقْضُوهَا لِي. قَالُوا: قُضِيَتْ حَاجَتُكَ يَا رُوحَ اللهِ. فَقَامَ فَغَسَلَ أَقْدَامَهُمْ. فَقَالُوا: كُنَّا نَحْنُ أَحَقَّ بِهَذَا يَا رُوحَ اللهِ. فَقَالَ: «إِنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِالْخِدْمَةِ الْعَالِمُ، إِنَّمَا تَوَاضَعْتُ هَكَذَا؛ لِكَيْمَا تَتَوَاضَعُوا بَعْدِي فِي النَّاسِ كَتَوَاضُعِي لَكُمْ - ثُمَّ قَالَ عِيسَى (عليه السلام) - بِالتَّوَاضُعِ تُعْمَرُ الْحِكْمَةُ لاَ بِالتَّكَبُّرِ، وَكَذَلِكَ فِي السَّهْلِ يَنْبُتُ الزَّرْعُ لاَ فِي الْجَبَلِ»(3).

وعن سُلَيْمِ بن قيس، قال: سَمِعْتُ أَمِيرَالْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) يَقُولُ: قَالَ

ص: 389


1- نهج البلاغة: رسائل أمير المؤمنين (عليه السلام)، الرقم45 ومن كتاب له (عليه السلام) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري، وكان عامله على البصرة، وقد بلغه أنه دُعِيَ إلى وليمة قوم من أهلها، فمضى إليها.
2- نهج البلاغة: خطب أمير المؤمنين (عليه السلام)، الرقم3 ومن خطبة له (عليه السلام) وهي المعروفة بالشقشقية.
3- الكافي: ج1 ص37، كتاب فضل العلم، باب صفة العلماء، ح6.

..............................

رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْهُومَانِ لا يَشْبَعَانِ: طَالِبُ دُنْيَا، وَطَالِبُ عِلْمٍ. فَمَنِ اقْتَصَرَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَا أَحَلَّ اللهُ لَهُ سَلِمَ، وَمَنْ تَنَاوَلَهَا مِنْ غَيْرِ حِلِّهَا هَلَكَ إِلاَّ أَنْ يَتُوبَ أَوْ يُرَاجِعَ. وَمَنْ أَخَذَ الْعِلْمَ مِنْ أَهْلِهِ وَعَمِلَ بِعِلْمِهِ نَجَا، وَمَنْ أَرَادَ بِهِ الدُّنْيَا فَهِيَ حَظُّهُ»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «مَنْ أَرَادَ الْحَدِيثَ لِمَنْفَعَةِ الدُّنْيَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الآخِرَةِ نَصِيبٌ. وَمَنْ أَرَادَ بِهِ خَيْرَ الآخِرَةِ، أَعْطَاهُ اللهُ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إِذَا رَأَيْتُمُ الْعَالِمَ مُحِبّاً لِدُنْيَاهُ، فَاتَّهِمُوهُ عَلَى دِينِكُمْ؛ فَإِنَّ كُلَّ مُحِبٍّ لِشَيْ ءٍ يَحُوطُ مَا أَحَبَّ. وَقَالَ (صلوات

الله عليه): أَوْحَى اللهُ إِلَى دَاوُدَ (عليه السلام): لاَ تَجْعَلْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ عَالِماً مَفْتُوناً بِالدُّنْيَا، فَيَصُدَّكَ عَنْ طَرِيقِ مَحَبَّتِي؛ فَإِنَّ أُولَئِكَ قُطَّاعُ طَرِيقِ عِبَادِيَ الْمُرِيدِينَ. إِنَّ أَدْنَى مَا أَنَا صَانِعٌبِهِمْ، أَنْ أَنْزِعَ حَلاَوَةَ مُنَاجَاتِي عَنْ قُلُوبِهِمْ»(3).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): «الْفُقَهَاءُ أُمَنَاءُ الرُّسُلِ مَا لَمْ يَدْخُلُوا فِي الدُّنْيَا. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا دُخُولُهُمْ فِي الدُّنْيَا؟!. قَالَ: اتِّبَاعُ السُّلْطَانِ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فَاحْذَرُوهُمْ عَلَى دِينِكُمْ»(4).

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ، أَوْ

ص: 390


1- الكافي: ج1 ص46، كتاب فضل العلم، باب المستأكل بعلمه والمباهي به ، ح1.
2- الكافي: ج1 ص46، كتاب فضل العلم، باب المستأكل بعلمه والمباهي به ، ح2.
3- الكافي: ج1 ص46، كتاب فضل العلم، باب المستأكل بعلمه والمباهي به ، ح4.
4- الكافي: ج1 ص46، كتاب فضل العلم، باب المستأكل بعلمه والمباهي به ، ح5.

..............................

يُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ، أَوْ يَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ. إِنَّ الرِّئَاسَةَ لاَ تَصْلُحُ إِلاَّ لأَهْلِهَا»(1).

كراهة الفقر أو حرمته

مسألة: يكره أن يعيش الإنسان حالة الفقر، ويستحب أن يسعى للغنى، فإنهنعم العون على الدين والتقوى(2).

أما إذا كان الفقر سبباً لتضييع الحقوق الواجبة - كنفقة واجبي النفقة - فإنه محرم.

عن أبي عبد الله (عليه السلام) - فِي قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: «رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً»(3) «- رِضْوَانُ اللهِ وَالْجَنَّةُ فِي الآخِرَةِ، وَالْمَعَاشُ وَحُسْنُ الْخُلُقِ فِي الدُّنْيَا»(4).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «سَلُوا اللهَ الْغِنَى فِي الدُّنْيَا وَالْعَافِيَةَ، وَفِي الآخِرَةِ الْمَغْفِرَةَ وَالْجَنَّةَ»(5).

ص: 391


1- الكافي: ج1 ص46، كتاب فضل العلم، باب المستأكل بعلمه والمباهي به ، ح6.
2- إشارة إلى قوله (عليه السلام): «نِعْمَ الْعَوْنُ عَلَى تَقْوَى اللهِ الْغِنَى». الكافي: ج5 ص71، كتاب المعيشة، باب الاستعانة بالدنيا على الآخرة، ح1.
3- سورة البقرة: 197.
4- الكافي: ج5 ص71، كتاب المعيشة، باب الاستعانة بالدنيا على الآخرة، ح2.
5- الكافي: ج5 ص71، كتاب المعيشة، باب الاستعانة بالدنيا على الآخرة، ح4.

..............................

وعن عمرو بن جُمَيْعٍ، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه

السلام) يَقُولُ: «لاَ خَيْرَ فِي مَنْ لاَ يُحِبُّ جَمْعَ الْمَالِ مِنْ حَلاَلٍ: يَكُفُّ بِهِ وَجْهَهُ، وَيَقْضِي بِهِ دَيْنَهُ، وَيَصِلُ بِهِرَحِمَهُ»(1).

وعن القاسم بن الربيع في وصيته للمفضل بن عمر، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «اسْتَعِينُوا بِبَعْضِ هَذِهِ عَلَى هَذِهِ، وَلاَ تَكُونُوا كُلُولاً عَلَى النَّاسِ»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَلْعُونٌ مَنْ أَلْقَى كَلَّهُ عَلَى النَّاسِ»(3).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «نِعْمَ الْعَوْنُ: الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ»(4).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «نِعْمَ الْعَوْنُ عَلَى الآخِرَةِ الدُّنْيَا»(5).

وعن عبد الله بن أبي يعفور، قال: قَالَ رَجُلٌ لأَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): وَاللهِ إِنَّا لَنَطْلُبُ الدُّنْيَا وَنُحِبُّ أَنْ نُؤْتَاهَا. فَقَالَ:«تُحِبُّ أَنْ تَصْنَعَ بِهَا مَا ذَا؟». قَالَ: أَعُودُ بِهَا عَلَى نَفْسِي وَعِيَالِي، وَأَصِلُ بِهَا، وَأَتَصَدَّقُ بِهَا، وَأَحُجُّ وَأَعْتَمِرُ. فَقَالَ (عليه السلام): «لَيْسَ هَذَا طَلَبَ الدُّنْيَا، هَذَا طَلَبُ الآخِرَةِ»(6).

ص: 392


1- الكافي: ج5 ص72، كتاب المعيشة، باب الاستعانة بالدنيا على الآخرة، ح5.
2- الكافي: ج5 ص72، كتاب المعيشة، باب الاستعانة بالدنيا على الآخرة، ح6.
3- الكافي: ج5 ص72، كتاب المعيشة، باب الاستعانة بالدنيا على الآخرة، ح7.
4- الكافي: ج5 ص72، كتاب المعيشة، باب الاستعانة بالدنيا على الآخرة، ح8.
5- الكافي: ج5 ص72، كتاب المعيشة، باب الاستعانة بالدنيا على الآخرة، ح9.
6- الكافي: ج5 ص72، كتاب المعيشة، باب الاستعانة بالدنيا على الآخرة، ح10.

..............................

وعن أحمد بن محمد بن خالد - رفعه - قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «غِنًى يَحْجُزُكَ عَنِ الظُّلْمِ، خَيْرٌ مِنْ فَقْرٍ يَحْمِلُكَ عَلَى الإِثْمِ»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يُصْبِحُ الْمُؤْمِنُ أَوْ يُمْسِي عَلَى ثَكَلٍ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يُصْبِحَ أَوْ يُمْسِيَ عَلَى حَرَبٍ، فَنَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الْحَرَبِ»(2).

وعن أبي البختري - رفعه - قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «بَارِكْ لَنَا فِي الْخُبْزِ وَلاَ تُفَرِّقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، فَلَوْلاَ الْخُبْزُ مَا صَلَّيْنَا، وَلاَ صُمْنَا، وَلاَ أَدَّيْنَافَرَائِضَ رَبِّنَا»(3).

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «نِعْمَ الْعَوْنُ: الدُّنْيَا عَلَى طَلَبِ الآخِرَةِ»(4).

الحكومات مسؤولة عن فقر الناس

مسألة: المسؤول عن فقر الناس وجوعهم بالدرجة الأولى هم الحكام، ثم سائر طبقات الناس والاستعمار، ولكل نصيبه من الإثم.

عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «كَادَ

ص: 393


1- الكافي: ج5 ص72، كتاب المعيشة، باب الاستعانة بالدنيا على الآخرة، ح11.
2- الكافي: ج5 ص72 - 73، كتاب المعيشة، باب الاستعانة بالدنيا على الآخرة، ح12.
3- الكافي: ج5 ص73، كتاب المعيشة، باب الاستعانة بالدنيا على الآخرة، ح13.
4- الكافي: ج5 ص73، كتاب المعيشة، باب الاستعانة بالدنيا على الآخرة، ح14.

..............................

الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْراً، وَكَادَ الْحَسَدُ أَنْ يَغْلِبَ الْقَدَرَ»(1).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «وَلَوْ شِئْتُ لاَهْتَدَيْتُ الطَّرِيقَ إِلَى مُصَفَّى هَذَا الْعَسَلِ، وَلُبَابِ هَذَا الْقَمْحِ، وَنَسَائِجِ هَذَا الْقَزِّ، وَلَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ،وَيَقُودَنِي جَشَعِي إِلَى تَخَيُّرِ الأَطْعِمَةِ؛ وَلَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوْ الْيَمَامَةِ مَنْ لاَ طَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْصِ، وَلاَ عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ، أَوْ أَبِيتَ مِبْطَاناً وَحَوْلِي بُطُونٌ غَرْثَى، وَأَكْبَادٌ حَرَّى، أَوْ أَكُونَ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ:

وَحَسْبُكَ دَاءً أَنْ تَبِيتَ بِبِطْنَةٍ *** وَحَوْلَكَ أَكْبَادٌ تَحِنُّ إِلَى الْقِدِّ

أَأَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ: هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَلاَ أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِهِ الدَّهْرِ، أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ الْعَيْشِ، فَمَا خُلِقْتُ لِيَشْغَلَنِي أَكْلُ الطَّيِّبَاتِ، كَالْبَهِيمَةِ الْمَرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلَفُهَا، أَوِ الْمُرْسَلَةِ شُغُلُهَا تَقَمُّمُهَا، تَكْتَرِشُ مِنْ أَعْلاَفِهَا، وَتَلْهُو عَمَّا يُرَادُ بِهَا، أَوْ أُتْرَكَ سُدًى، أَوْ أُهْمَلَ عَابِثاً، أَوْ أَجُرَّ حَبْلَ الضَّلاَلَةِ، أَوْ أَعْتَسِفَ طَرِيقَ الْمَتَاهَةِ»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ وَاحِدٌ. فَقَالَ لَهُ: أَصْلَحَكَ اللهُ، إِنِّي رَجُلٌ مُنْقَطِعٌ إِلَيْكُمْ بِمَوَدَّتِي، وَقَدْ أَصَابَتْنِي حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ، وَقَدْ تَقَرَّبْتُ بِذَلِكَ إِلَى أَهْلِ بَيْتِي وَقَوْمِي، فَلَمْ يَزِدْنِي بِذَلِكَ مِنْهُمْ إِلاَّ بُعْداً. قَالَ: «فَمَا آتَاكَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا أَخَذَ مِنْكَ». قَالَ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، ادْعُ اللهَ أَنْيُغْنِيَنِي عَنْ خَلْقِهِ». قَالَ:

ص: 394


1- الكافي: ج2 ص307، كتاب الإيمان والكفر، باب الحسد، ح4.
2- نهج البلاغة: رسائل أمير المؤمنين (عليه السلام)، الرقم45 ومن كتاب له (عليه السلام) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري - وكان عامله على البصرة - وقد بلغه أنه دُعي إلى وليمة قوم من أهلها فمضى إليها.

..............................

«إِنَّ اللهَ قَسَمَ رِزْقَ مَنْ شَاءَ عَلَى يَدَيْ مَنْ شَاءَ، وَلَكِنِ اسْأَلِ اللهَ أَنْ يُغْنِيَكَ عَنِ الْحَاجَةِ الَّتِي تَضْطَرُّكَ إِلَى لِئَامِ خَلْقِهِ»(1).

لا فقر في حكم المعصوم

مسألة: يستحب - وقد يجب - بيان أن علياً (عليه الصلاة والسلام) لو أخذ بزمام الأمور لم يبق فقير ولا جائع على وجه الأرض، كما قالت الصديقة فاطمة (عليها السلام): «وَلَأَصْدَرَهُمْ بِطَاناً».

وكما قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «وَلَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوْ الْيَمَامَةِ مَنْ لاَ طَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْصِ، وَلاَ عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ»(2)، رغم أنه لم يمض على حكمه (عليه السلام) إلا أقل من أربعة سنين،ورغم كل المشاكل والحروب التي أثاروها ضده خلال هذه الفترة الوجيزة.

غصب الخلافة سبب رئيس للفقر

مسألة: يلزم إعلام الناس بأن المسؤول الأول عن فقر الشعوب والأفراد وجوعهم إلى زمن الظهور، هم الذين غصبوا خلافة رسول الله (صلى الله عليه وآله).

ص: 395


1- بحار الأنوار: ج69 ص4، تتمة كتاب الإيمان والكفر، الباب94 تتمة أبواب مكارم الأخلاق، ح2.
2- نهج البلاغة: رسائل أمير المؤمنين (عليه السلام)، الرقم45 ومن كتاب له (عليه السلام) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري - وكان عامله على البصرة - وقد بلغه أنه دُعي إلى وليمة قوم من أهلها فمضى إليها.

..............................

قال تعالى: «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذيقَهُمْ بَعْضَ الَّذي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ»(1).

ولولا غصب الثلاثة لما وجدت الحكومات الاستعمارية على مر التاريخ، ولما وجد حكام ظلمة أو جائرين، وتفصيل البحث في محله.

عن عمار بن مروان، قال: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) عَنِ الْغُلُولِ؟. فَقَالَ: «كُلُّ شَيْءٍ غُلَّ مِنَ الإِمَامِ فَهُوَ سُحْتٌ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ سُحْتٌ. وَالسُّحْتُ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا: مَا أُصِيبَ مِنْ أَعْمَالِ الْوُلاَةِ الظَّلَمَةِ، وَمِنْهَا: أُجُورُ الْقُضَاةِ، وَأُجُورُ الْفَوَاجِرِ، وَثَمَنُ الْخَمْرِ وَالنَّبِيذِ وَالْمُسْكِرِ، وَالرِّبَا بَعْدَ الْبَيِّنَةِ. فَأَمَّا الرِّشْوَةُ - يَا عَمَّارُ - فِي الأَحْكَامِ فَإِنَّذَلِكَ الْكُفْرُ بِاللهِ الْعَظِيمِ وَرَسُولِهِ»(2).

وعن يزيد بن فرقد، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سَأَلْتُهُ عَنِ السُّحْتِ؟. فَقَالَ: «الرِّشَا فِي الْحُكْمِ»(3).

وعن الأصبغ، عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: «أَيُّمَا وَالٍ احْتَجَبَ عَنْ حَوَائِجِ النَّاسِ، احْتَجَبَ اللهُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَنْ حَوَائِجِهِ، وَإِنْ أَخَذَ هَدِيَّةً كَانَ غُلُولاً، وَإِنْ أَخَذَ الرِّشْوَةَ فَهُوَ مُشْرِكٌ»(4).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «مَنْ عَذَرَ ظَالِماً بِظُلْمِهِ، سَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِ

ص: 396


1- سورة الروم: 41.
2- معاني الأخبار: ص211، باب معنى الغلول والسحت، ح1.
3- وسائل الشيعة: ج17 ص93، كتاب التجارة، الباب5 من أبواب ما يكتسب به، ح22060.
4- وسائل الشيعة: ج17 ص94، كتاب التجارة، الباب5 من أبواب ما يكتسب به، ح22066.

..............................

مَنْ يَظْلِمُهُ، فَإِنْ دَعَا لَمْ يَسْتَجِبْ لَهُ، وَلَمْ يَأْجُرْهُ اللهُ عَلَى ظُلاَمَتِهِ»(1).

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «مَا انْتَصَرَ اللهُ مِنْ ظَالِمٍ إِلاَّ بِظَالِمٍ، وَذَلِكَ قَوْلُهُعَزَّ وَجَلَّ: «وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمينَ بَعْضًا»(2)»(3).

وعن أبي بصير، قال: دَخَلَ رَجُلاَنِ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) فِي مُدَارَاةٍ بَيْنَهُمَا وَمُعَامَلَةٍ، فَلَمَّا أَنْ سَمِعَ كَلاَمَهُمَا، قَالَ: «أَمَا إِنَّهُ مَا ظَفِرَ أَحَدٌ بِخَيْرٍ مِنْ ظَفَرٍ بِالظُّلْمِ، أَمَا إِنَّ الْمَظْلُومَ يَأْخُذُ مِنْ دِينِ الظَّالِمِ أَكْثَرَ مِمَّا يَأْخُذُ الظَّالِمُ مِنْ مَالِ الْمَظْلُومِ - ثُمَّ قَالَ - مَنْ يَفْعَلِ الشَّرَّ بِالنَّاسِ فَلاَ يُنْكِرِ الشَّرَّ إِذَا فُعِلَ بِهِ، أَمَا إِنَّهُ إِنَّمَا يَحْصُدُ ابْنُ آدَمَ مَا يَزْرَعُ، وَلَيْسَ يَحْصُدُ أَحَدٌ مِنَ الْمُرِّ حُلْواً، وَلاَ مِنَ الْحُلْوِ مُرّاً، فَاصْطَلَحَ الرَّجُلاَنِ قَبْلَ أَنْ يَقُومَا»(4).

العودة للأسس الحيوية

مسألة: يجب أن تعود الأمة إلى الأسس كلما رأت فقراً وجوعاً وجريمةً وتخلفاً واستعماراً.

والأسس هي أولاً: القيادة الصحيحة المتمثلة بأهل البيت الأطهار (عليهم

السلام)، أولهم أمير المؤمنين (عليه السلام)، وآخرهم المهدي المنتظر (عجل الله تعالى فرجه) وفي زمن الغيبة وكلاؤهم ممنجمع العدالة والاجتهاد وسائر الشرائط.

ص: 397


1- الكافي: ج2 ص334، كتاب الإيمان والكفر، باب الظلم، ح18.
2- سورة الأنعام: 129.
3- الكافي: ج2 ص334، كتاب الإيمان والكفر، باب الظلم، ح19.
4- الكافي: ج2 ص334، كتاب الإيمان والكفر، باب الظلم، ح22.

..............................

وثانياً: المنهج الإسلامي الصحيح في السياسة والإدارة والاقتصاد وغير ذلك، التي صرحت بها الآيات الحيوية في القرآن الكريم، ومنها:

آية الشورى: «وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ»(1).

وآية الحرية: «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ»(2).

وآية التعددية: «وَفي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمتَنَافِسُونَ»(3).

وآية الأخوة: «إِنَّمَا الْمؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ»(4).

وآية الأمة الواحدة: «وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً»(5).

وآية العدل والإحسان: «إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ»(6).

إلى سائر الآيات.عن أبي ذر (رضي الله عنه) أنه قال - في حديث له -: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ يَقُولُ: «مَثَلُ أَهْلِ بَيْتِي فِي أُمَّتِي كَمَثَلِ سَفِينَةِ نُوحٍ فِي قَوْمِهِ، مَنْ رَكِبَهَا نَجَا وَمَنْ تَرَكَهَا غَرِقَ، وَمَثَلِ بَابِ حِطَّةٍ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ»(7).

ص: 398


1- سورة الشورى: 38.
2- سورة البقرة: 256.
3- سورة المطففين: 26.
4- سورة الحجرات: 10.
5- سورة المؤمنون: 52.
6- سورة النحل: 90.
7- كتاب سليم بن قيس الهلالي: ج2 ص937، الحديث الخامس والسبعون.

..............................

وعن علي بن فضَّال، قال: كَانَ عَلِيٌّ (عليه السلام) يَعْلَمُ كَمَا كَانَ يَعْلَمُ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، لَمْ يُعَلِّمِ اللهُ رَسُولَهُ شَيْئاً إِلاَّ وَقَدْ عَلَّمَهُ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إِنَّ اللهَ عَلَّمَ رَسُولَهُ الْحَلاَلَ وَالْحَرَامَ وَالتَّأْوِيلَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ النَّاسُ، فَعَلَّمَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) عَلِيّاً (عليه السلام) ذَلِكَ كُلَّهُ»(2).

وعن سماعة، عن العبد الصالح (عليه السلام)، قال: سَأَلْتُهُ فَقُلْتُ: إِنَّ أُنَاساً مِنْ أَصْحَابِنَا قَدْ لَقُوا أَبَاكَ وَجَدَّكَ، وَسَمِعُوامِنْهُمَا الْحَدِيثَ، فَرُبَّمَا كَانَ الشَّيْءُ يَبْتَلِي بِهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا، وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ يُفْتِيهِ، وَعِنْدَهُمْ مَا يُشْبِهُهُ، يَسَعُهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا بِالْقِيَاسِ؟. فَقَالَ: «إِنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ إِلاَّ وَقَدْ جَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ»(3).

وعن محمد بن حكيم، عن أبي الحسن (عليه السلام)، قال: قُلْتُ لَهُ: تَفَقَّهْنَا فِي الدِّينِ وَرُوِّينَا، وَرُبَّمَا وَرَدَ عَلَيْنَا رَجُلٌ قَدِ ابْتُلِيَ بِشَيْءٍ صَغِيرٍ، الَّذِي مَا عِنْدَنَا فِيهِ بِعَيْنِهِ شَيْءٌ، وَعِنْدَنَا مَا هُوَ يُشْبِهُهُ مِثْلَهُ، أَ فَنُفْتِيهِ بِمَا يُشْبِهُهُ؟.

قَالَ: «لاَ، وَمَا لَكُمْ وَالْقِيَاسَ فِي ذَلِكَ! هَلَكَ مَنْ هَلَكَ بِالْقِيَاسِ».

قَالَ: قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، أَتَى رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) بِمَا يَكْتَفُوَ

ص: 399


1- بصائر الدرجات في فضائل آل محمد: ج1 ص291، ب10 ح5.
2- بصائر الدرجات في فضائل آل محمد: ج1 ص292، ب10 ح12.
3- بصائر الدرجات في فضائل آل محمد: ج1 ص302، ب15 ح3.

..............................

بِهِ؟.

قَالَ: «أَتَى رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) بِمَا اسْتَفْتَوْا بِهِ فِي عَهْدِهِ، وَبِمَا يَكْتَفُونَ بِهِ مِنْ بَعْدِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ».

قَالَ: قُلْتُ: ضَاعَ مِنْهُ شَيْءٌ؟.قَالَ: «لاَ، هُوَ عِنْدَ أَهْلِهِ»(1).

***

إلى هنا انتهى الجزء السادس.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

ص: 400


1- بصائر الدرجات في فضائل آل محمد: ج1 ص302، ب15 ح4.

الفهرس

المقدمة 5

خطبة الصديقة الزهراء (صلوات الله عليها) في نساء المهاجرين والأنصار 7

عيادة المريض.. 11

روايات في عيادة المرضى. 12

كراهة ترك العيادة 14

وقت العيادة 15

دعاء المريض.. 16

استحباب قبول العيادة 17

عيادة مرضى النساء 17

إطلاق الاستحباب.. 18

السؤال عن حال المريض.. 19

حمد الله مطلقاً 20

بين الشكر والحمد 23

تأكد الصلاة على النبي J في مواطن. 25

روايات في استحباب الصلوات والجهر بها 28

روايات في أوقات الصلوات وأماكنها 33

دعاء للأب.. 37

مما يستحب للمريض.. 37

مما يستحب لذوي المريض.. 38

ص: 401

الصحابيات عالمات بما جرى عليها 39

المريض والروحانية 40

المظلوم وحمد الله تعالى. 40

عدة مسائل. 41

كيف أصبحت؟.. 42

المعنى الأعم لأصحبت.. 45

كيف أصبحت وبيان الظلامة 51

كيف أصبحت وبيان الحقائق. 52

الهدفية 55

القسم للمهمات.. 55

الدنيا المذمومة والممدوحة 56

كره الدنيا 59

الزهد في الدنيا أو كرهها 61

فوائد الزهد وكره الدنيا 63

ما هي الدنيا المكروهة 65

نساء زاهدات.. 66

القدوة في ترك الدنيا 67

تربية الناس على كره الدنيا 68

المريض وترك الدنيا 68

بين ترك الدنيا والمطالبة بالحق. 70

ضرورة نبش التاريخ. 71

المرأة والزهد في الدنيا 74

المريض والحمد أولاً. 75

المظلوم والحمد أولاً. 76

غضب الصديقة (عليها السلام) على بعض الصحابة 77

ص: 402

درجات البغض لله. 80

أصحابي كالنجوم 80

بغض من أبغضت الزهراء (عليها السلام) 81

نظرية عدالة الصحابة 84

لماذا كرهتهم الزهراء (عليها السلام) 87

لا يجوز اتباع هؤلاء 88

لا للعقوبة قبل الجناية 90

الإيمان مستقر ومستعار 91

ولاية الشيطان. 93

الامتحان لكشف الحقائق. 95

مما يستحب بيانه 96

استخدام الكنايات والمجازات.. 96

لا للتعجل في الحكم 97

خبث جوهرهم 99

الصديقة (عليها السلام) سئمتهم 99

بطلان مسلك حب الجميع 100

مسألتان. 103

القبح لأعداء الصديقة (عليها السلام) 106

الحسن والقبح العقليان. 107

تقبيح القبيح. 107

من الأدلة على انحراف القوم 108

تقبيح أفعالهم 109

سقوط الأمم 110

بين الحكم والإرشاد 111

بداية السقوط. 112

ص: 403

علامات الانقلاب على الأعقاب.. 112

اللعب بعد الجد 115

اللعب بعد اللعب.. 117

الرجوع القهقرى. 117

إضاعة الوقت.. 121

بين طريق الردى والهدى. 122

تقبيح عمل القوم 124

تعييب الآخرين. 126

تحويل القوة إلى الضعف.. 127

حرمة الدجل والخداع. 130

الدجل والخداع. 131

فساد الرأي. 132

مقدمات سداد الرأي. 133

اتباع الهوى. 134

فضح القوم 136

مسائل عديدة مستفادة من الآية الكريمة 137

بين العدالة والخلود 141

الجزاء من سنخ العمل. 143

حرمة الخيانة 146

التوقي من غضب أولياء الله. 149

الدعاء على الظالم. 153

لعن الظالمين. 159

استخدام كلمة (ويح) 160

زحزحة الخلافة 161

عدة مسائل. 163

ص: 404

قواعد النبوة 165

رواسي الرسالة 166

الإمامة استمرار للنبوة 168

الفقهاء المراجع 174

بيت الزهراء (عليها السلام) مهبط الوحي. 177

ارتباط الأوصياء بالسماء 178

منزلة جبرائيل (عليه السلام) 179

اتهامات وافتراءات.. 180

المعصوم هو الفطن الحاذق. 182

لا تقديم على المعصوم 183

الدين والدنيا معاً 184

المؤمن فطن حاذق. 187

إعداد الخبراء 187

المسائل التي يبتلى بها 190

الزمان والاهتمام الأكبر بالدين. 191

التفقه في الدين. 192

من صفات القائد 192

من شروط الإمامة 193

بين الدين والدنيا 204

لا رهبانية في الإسلام 205

الخسران الأعظم 206

رعاية الأمور البلاغية 206

بين الزحزحة والخسارة 208

تنبيه 211

عدة مسائل. 213

ص: 405

تنبيه آخر 214

النقمة على الأولياء 217

النقمة القلبية 220

النقمة والعلم بالسبب وعدمه 224

خطاب الزوجة زوجها 226

بيان الحق حتى عند الموت.. 227

الدفاع عن الولاية حتى عند الموت.. 231

القسم وأحكامه 234

استحباب الشجاعة 235

شجاعة الزهراء (عليها السلام) 237

روايات في فضلها 237

شجاعة النساء 239

نكير السيف على الأعداء 247

حرمة موادة الأعداء 249

فسق القوم 252

من أسباب الانقلاب على الحق. 253

قلة المبالاة بالموت في سبيل الله. 257

بين إهلاك النفس وقلة المبالاة بالحتف.. 258

من فضائل الإمام 261

استحباب التضحية 261

شدة الوطأة على الأعداء في الجملة 265

حرمة الشدة في غير محلها 266

التأسي بالإمام (عليه السلام) 270

تقييم التاريخ. 273

التنمر في ذات الله. 274

ص: 406

التنمر لله عز وجل لا للهوى. 276

من أوصاف الأمير (عليه السلام) 279

فضائل الزوج. 280

وجوب التكاف.. 283

زمام الخلافة 286

تعيين الخليفة بيد الله. 289

الزهد في عوامل القوة 293

منع حق الوصي. 296

مآخذ خطيرة على الفتوحات.. 297

سلوك الرسول (صلى الله عليه وآله) 300

مراقبة الأتباع. 302

سيرة الوصي وسياسته 306

شمولية الحجة 310

دفع الانحراف ورفعه 312

السير السمح بالناس. 316

أفضل تشريع وأفضل قيادة 324

القائد كالأب الرحيم 327

قلة السجون في الإسلام 328

الأصل الرفق واللين. 329

الشيعة والسير السجح. 332

تحري رضا العامة 333

العدل والإحسان. 334

الرفق واللين في كل شيء 337

شمولية الرفق واللين زمناً 338

بين الحزم والرفق. 341

ص: 407

اللامركزية الإدارية 345

لا إثقال على الناس. 346

الاحتياطات الزائدة 349

الإمام وحقوق الخلافة 351

تعتة الراكب.. 353

توفير الرفاهية 355

جنة الدنيا في ظل حكم الإمام 360

تلويث البيئة 364

الأمن المائي. 366

جانب الدين والدنيا 369

من ميزات المنهج الإسلامي. 370

من واجبات القائد 372

التخلص من مآسي العالم. 373

ميزات أخرى للحكومة الإسلامية 376

أقسام التكدر 382

الاهتمام بالاقتصاد 386

حرمة إفقار الشعب.. 388

مقومات أخرى للقائد الإسلامي. 388

كراهة الفقر أو حرمته 391

الحكومات مسؤولة عن فقر الناس. 393

لا فقر في حكم المعصوم 395

غصب الخلافة سبب رئيس للفقر 395

العودة للأسس الحيوية 397

الفهرس. 401

ص: 408

المجلد السابع : خطبتها علیها السلام في الدار 2

هوية الكتاب

الفقه موسوعة استدلالية في الفقه الإسلامي من فقه الزهراء (علیها السلام)

المجلد السابع : خطبتها علیها السلام في الدار 2

المرجع الديني الراحل آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (أعلى الله درجاته)

ص: 1

اشارة

الطبعة الأولى

1439 ه 2018م

تهميش وتعليق:

مؤسسة المجتبى للتحقيق والنشر

كربلاء المقدسة

ص: 2

الفقه

من فقه الزهراء (علیها السلام)

المجلد السابع

خطبتها علیها السلام في الدار

القسم الثاني

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

ولعنة الله على أعدائهم أجمعين

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الصِّدِيقَةُ الشَّهِيدَةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الرَّضِيَةُ المَرْضِيَّةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الفَاضِلةُ الزَّكِيَةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الحَوْراءُ الإِنْسِيَّةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا التَّقِيَّةُ النَّقِيَّةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا المُحَدَّثَةُ العَليمَةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا المَظْلومَةُ المَغْصُوبَةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا المُضْطَهَدَةُ المَقْهُورَةُ

السَّلامُ عَليْكِ يا فاطِمَةُ بِنْتَ رَسُول اللهِ

وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ

البلد الأمين ص278. مصباح المتهجد ص711

بحار الأنوار ج97 ص195 ب12 ح5 ط بيروت

ص: 4

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.

أما بعد: فهذا الجزء السابع من كتاب (من فقه الزهراء) صلوات الله وسلامه عليها، ويشتمل على تتمة خطبة الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) في دارها على نساء المهاجرين والأنصار، لما جئن لعيادتها، أسأل الله التوفيق والقبول، إنه سميع الدعاء.

قم المقدسة

محمد الشيرازي

ص: 5

ص: 6

وَنَصَحَ لَهُمْ سِرّاً وَإِعْلاَناً

معنيان للنصيحة

نصح نَصحاً ونُصحاً، فلاناً ولفلان، لها معنيان: وَعَظَه، وأخلص له في المودة.

قال تعالى: «وَلاَ يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللهُ يُريدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ»(1).

وفي معجم مقاييس اللغة: (النون والصاد والحاء أصل يدل على ملائمة بين شيئين وإصلاح لهما.. والناصح: الخياط..).

وفي مجمع البحرين: (انتصح فلان: قبل النصيحة).

ومنه يعرف أن النصيحة لا تنحصر بمعنى الخلوص(2). نعم، الخلوص كالوعظ مصداقان للمعنى الأصلي للنصيحة، وهو الملائمة بين شيئين، كما سبق عن المعجم.

وعلى أي، فإن كلا المعنيين يمكن أن يكون مراداً من قولها (صلوات الله عليها): «وَنَصَحَ لَهُمْ سِرّاً وَإِعْلاَناً».

فعلى الأول: محضهم النصيحة ووعظهم،في العلن بخاطباته في المسجد وغيره، وفي السر في جلساته الخاصة معهم.

ص: 7


1- سورة هود: 34.
2- قال في لسان العرب مادة نصح: (وأصل النصح: الخلوص).

..............................

وعلى الثاني: أخلص الإمام (عليه السلام) المودة لرعيته في السر والعلن.

وإن كان المعنى الأول أظهر، والجمع بينهما يفيد أنه (عليه السلام) أخلص لهم المودة وأخلص لهم في القول والعمل سراً وعلانيةً.

وفي الرواية النبوية الشريفة: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ»(1).

وفي رواية أخرى: قال (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ، إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ، إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ». قَالُوا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟. قَالَ: «للهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمُؤْمِنِينَ، وَعَامَّتِهِمْ»(2).

فالنصيحة لله: صحة الاعتقاد في وحدانيته، وإخلاص النية في عبادته.

والنصيحة لكتاب الله: التصديق به، والعمل بما فيه.والنصيحة لرسوله: التصديق بنبوته ورسالته، والانقياد لما أمر به ونهى عنه.

والنصيحة لأئمة المسلمين: أي التصديق بإمامة أمير المؤمنين (عليه السلام)، وأولاده المعصومين (صلوات الله عليهم أجمعين).

والنصيحة للمؤمنين وعامة الناس: هو إرشادهم للمصالح ودفع المفاسد عنهم، حسب ضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ص: 8


1- مستدرك الوسائل: ج13 ص327، كتاب التجارة، الباب6 من أبواب أحكام العيوب، ح15494.
2- روضة الواعظين: ج2 ص424، مجلس في ذكر النصيحة والحسد.

..............................

شفافية الحاكم

مسألة: لا يجوز للقائد أن يكون منافقاً مع شعبه، فيكون ظاهره شيئاً وباطنه شيئا آخر، بل يجب أن يكون ظاهره كباطنه متصفاً بالموازين الشرعية للقيادة.

فعلى القائد أن يضع الشعب في صورة الأمور، مما يعبر عنه اليوم بالشفافية، ويطلعهم على المشاكل والأزمات والأخطار الداخلية والخارجية، الإدارية منها والاقتصادية والسياسية وغيرها، وأن يخبرهم بالحلول المقترحة ويأخد برأيهم فيها، لا كما يفعله الحكام المستبدون والعملاء من تدبير كل الأمور بليل ومن دون استشارة حقيقية، ثم إظهار غير الحقيقة للناس، فإن ذلك محرم شرعاً، وهو من أسباب سقوط الحكومات؛ لأن الحكومة تستمد قوتها من الناس، فلو نافقت معهم ظهر ذلك للناس ولو بعد حين، ففقدوا ثقتهم بها مما يؤول إلى سقوطها ولو بعد حين.

ومن أدلة الحرمة: إنه لا يجوز للحاكم أن يتصرف في أموال الناس أو في أنفسهم إلا برضاهم، كما أشرنا إلىهذه القاعدة في كتاب (القواعد الفقهية) وغيره، أما أدلة ولاية الفقيه - بعد فرض كونه جامعاً للشرائط - فهي مقيدة بأدلة الشورى، وبأدلة اشتراط رضا الناس، بل أدلة الشورى حاكمة عليها، على ما ذكرناه في (الشورى في الإسلام)، و(البيع)، و(الدولة الإسلامية)، وغيرها.

ومن الوجوه: توقف إحقاق الحق على ذلك، وكذا العدل.

ص: 9

..............................

ومنها: قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا»(1).

وقال سبحانه في آية أخرى: «يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ»(2).

والقيام بالقسط فكيف بالقوامية به، وكذلك الشهادة بالقسط، تتوقف على معرفة الحقائق، ونفاق الحكام أكبر حائل دون معرفتها.ومنها: قولها (عليها السلام) ها هنا: «وَنَصَحَ لَهُمْ سِرّاً وَإِعْلاَناً»، فإنه وإن كان إخباراً إلا أنه يفيد الثبوت واللزوم والإنشاء بدلالة الإشارة وغيرها.

ومنها: ما دل على ذم النفاق، الدالة على الحرمة في مثل المقام، فتأمل.

عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقاً - وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ -: مَنْ إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ. إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ فِي كِتَابِهِ: «إِنَّ

ص: 10


1- سورة النساء: 135.
2- سورة المائدة: 8.

..............................

اللهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ»(1) وَ قَالَ: «أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ»(2)، وَفِي قَوْلِهِ: «وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا»(3)»(4).

وعن محمد بن الفضيل، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، قال: كَتَبْتُ إِلَيْهِأَسْأَلُهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ. فَكَتَبَ إِلَيَّ: «أَنَّ اللهَ يَقُولُ: «إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ - إِلَى قَوْلِهِ - سَبِيلًا»(5) لَيْسُوا مِنْ عِتْرَةِ رَسُولِ اللهِ، وَلَيْسُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَيْسُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، يُظْهِرُونَ الإِيمَانَ، وَيُسِرُّونَ الْكُفْرَ وَالتَّكْذِيبَ لَعَنَهُمُ اللهُ»(6).

وعن محمد بن جعفر، عن أبيه، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «خَلَّتَانِ لاَ تَجْتَمِعَانِ فِي مُنَافِقٍ: فِقْهٌ فِي الإِسْلاَمِ، وَحُسْنُ سَمْتٍ فِي الْوَجْهِ»(7).

ص: 11


1- سورة الأنفال: 58.
2- سورة النور: 7.
3- سورة مريم: 54.
4- وسائل الشيعة: ج15 ص339 - 340، كتاب الجهاد، الباب49 ح20687.
5- سورة النساء: 142.
6- بحار الأنوار: ج69 ص175، تتمة كتاب الإيمان و الكفر، الباب102 من أبواب الكفر ومساوي الأخلاق، ح1.
7- بحار الأنوار: ج69 ص176، تتمة كتاب الإيمان و الكفر، ح2.

..............................

وقال الصادق (عليه السلام): «أَرْبَعٌ مِنْ عَلامَاتِ النِّفَاقِ: قَسَاوَةُ الْقَلْبِ، وَجُمُودُ الْعَيْنِ، وَالإِصْرَارُ عَلَى الذَّنْبِ، وَالْحِرْصُ عَلَى الدُّنْيَا»(1).وعن عبَّاد بن صهيب، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «لاَيَجْمَعُ اللهُ لِمُنَافِقٍ وَلاَ فَاسِقٍ: حُسْنَ السَّمْتِ، وَالْفَقْرَ وَحُسْنَ الْخُلُقِ أَبَداً»(2).

ومن خطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام) يصف فيها المنافقين، قال: «نَحْمَدُهُ عَلَى مَا وَفَّقَ لَهُ مِنَ الطَّاعَةِ، وَذَادَ عَنْهُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، وَنَسْأَلُهُ لِمِنَّتِهِ تَمَاماً، وَبِحَبْلِهِ اعْتِصَاماً. وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، خَاضَ إِلَى رِضْوَانِ اللهِ كُلَّ غَمْرَةٍ، وَتَجَرَّعَ فِيهِ كُلَّ غُصَّةٍ، وَقَدْ تَلَوَّنَ لَهُ الأَدْنَوْنَ، وَتَأَلَّبَ عَلَيْهِ الأَقْصَوْنَ، وَخَلَعَتْ إِلَيْهِ الْعَرَبُ أَعِنَّتَهَا، وَضَرَبَتْ إِلَى مُحَارَبَتِهِ بُطُونَ رَوَاحِلِهَا، حَتَّى أَنْزَلَتْ بِسَاحَتِهِ عَدَاوَتَهَا مِنْ أَبْعَدِ الدَّارِ، وَأَسْحَقِ الْمَزَارِ.

أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللهِ بِتَقْوَى اللهِ، وَأُحَذِّرُكُمْ أَهْلَ النِّفَاقِ، فَإِنَّهُمُ الضَّالُّونَ الْمُضِلُّونَ، وَالزَّالُّونَ الْمُزِلُّونَ، يَتَلَوَّنُونَ أَلْوَاناً، وَيَفْتَنُّونَ افْتِنَاناً، وَيَعْمِدُونَكُمْ بِكُلِّ عِمَادٍ، وَيَرْصُدُونَكُمْ بِكُلِّ مِرْصَادٍ. قُلُوبُهُمْ دَوِيَّةٌ، وَصِفَاحُهُمْ نَقِيَّةٌ، يَمْشُونَ الْخَفَاءَ، وَيَدِبُّونَ الضَّرَاءَ، وَصْفُهُمْ دَوَاءٌ، وَقَوْلُهُمْ شِفَاءٌ، وَفِعْلُهُمُ الدَّاءُ الْعَيَاءُ، حَسَدَةُالرَّخَاءِ، وَمُؤَكِّدُو الْبَلاَءِ، وَمُقْنِطُو الرَّجَاءِ.

ص: 12


1- بحار الأنوار: ج69 ص176، تتمة كتاب الإيمان و الكفر، الباب102 من أبواب الكفر ومساوي الأخلاق، ح4.
2- بحار الأنوار: ج69 ص176، تتمة كتاب الإيمان و الكفر، الباب102 من أبواب الكفر ومساوي الأخلاق، ح5.

..............................

لَهُمْ بِكُلِّ طَرِيقٍ صَرِيعٌ، وَإِلَى كُلِّ قَلْبٍ شَفِيعٌ، وَلِكُلِّ شَجْوٍ دُمُوعٌ، يَتَقَارَضُونَ الثَّنَاءَ، وَيَتَرَاقَبُونَ الْجَزَاءَ، إِنْ سَأَلُوا أَلْحَفُوا، وَإِنْ عَذَلُوا كَشَفُوا، وَإِنْ حَكَمُوا أَسْرَفُوا، قَدْ أَعَدُّوا لِكُلِّ حَقٍّ بَاطِلاً، وَلِكُلِّ قَائِمٍ مَائِلاً، وَلِكُلِّ حَيٍّ قَاتِلاً، وَلِكُلِّ بَابٍ مِفْتَاحاً، وَلِكُلِّ لَيْلٍ مِصْبَاحاً.

يَتَوَصَّلُونَ إِلَى الطَّمَعِ بِالْيَأْسِ؛ لِيُقِيمُوا بِهِ أَسْوَاقَهُمْ، وَيُنْفِقُوا بِهِ أَعْلاَقَهُمْ، يَقُولُونَ فَيُشَبِّهُونَ، وَيَصِفُونَ فَيُمَوِّهُونَ، قَدْ هَوَّنُوا الطَّرِيقَ، وَأَضْلَعُوا الْمَضِيقَ، فَهُمْ لُمَةُ الشَّيْطَانِ، وَحُمَةُ النِّيرَانِ، «أُوْلئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ»(1)»(2).

الرقابة على الحاكم

مسألة: يجب على الحاكم أن يوفر كل ما يعطي الناس القدرة على الرقابة عليه،ويحول دون تحوله - ولو بالتدريج - إلى مخادع أو منافق، لا ينصح للناس سراً أو إعلاناً.

وعلى ذلك يجب أن يوفر الصحف الحرة والإذاعات الحرة والفضائيات الحرة، وأن تكون للعلماء والخطباء والكتاب والمفكرين مطلق الحرية في الاطلاع على ما يفعل ويقرر ومع من يستشير وكيف يتخذ قراراته وما مصادر معلوماته،

ص: 13


1- سورة المجادلة: 19.
2- نهج البلاغة: خطب أمير المؤمنين (عليه السلام)، الرقم194 ومن خطبة له (عليه السلام) يصف فيها المنافقين.

..............................

وأن تكون لهم مطلق الحرية في أن ينتقدوه ويعظوه بل ويردعوه بالمظاهرات والإضرابات والاعتصامات السليمة وغير ذلك.

نصح الشعب

مسألة: يجب على القائد نصح الشعب سراً وعلانية والإخلاص لهم.

ولا يكفي أن تكون أعماله كلها على الأصول وحسب مقتضى القاعدة، بل لابد من نصح لهم وإخلاصه أيضاً؛ لأنه وكيل عنهم - في غير منصوب المعصوم (عليه

السلام) بعينه - ولو لم يكن مخلصاً لهم وأوهمهم ذلك لينتخبوه كان مدلساً وهو حرام في مثل المقام، إضافة على أنهشرط ارتكازي للمنتخب والحديث طويل في هذا الباب يترك لمظانه.

مسألة: النصح واجب في موارد ومستحب في موارد، وهو أمر سيال في الحكومة والمنظمات والعائلة وغيرها.

ولا يختص وجوب النصح أو استحبابه بصورة الطلب بل الأمر في النصح الابتدائي كذلك، لكن قد يتأكد الاستحباب أو الوجوب في صورة الطلب وقد يستفاد ذلك من الروايات كروايات نصح المستشير وحقوق المؤمن وما أشبه.

قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «لاَ غِنَى كَالْعَقْلِ، وَلاَ فَقْرَ كَالْجَهْلِ، وَلاَ مِيرَاثَ كَالأَدَبِ، وَلاَ ظَهِيرَ كَالْمُشَاوَرَةِ»(1).

وَقَالَ (عليه السلام): «مَنِ اسْتَبَدَّ بِرَأْيِهِ هَلَكَ، وَمَنْ شَاوَرَ الرِّجَالَ شَارَكَهَا فِي

ص: 14


1- نهج البلاغة: حِكَم أمير المؤمنين (عليه السلام)، الرقم54.

..............................

عُقُولِهَا»(1).

وقال (عليه السلام): «الاِسْتِشَارَةُ عَيْنُ الْهِدَايَةِ، وَقَدْ خَاطَرَ مَنِ اسْتَغْنَىبِرَأْيِهِ»(2).

وعن جعفر بن محمد، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا الْحَزْمُ؟. قَالَ: مُشَاوَرَةُ ذَوِي الرَّأْيِ وَاتِّبَاعُهُمْ»(3).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «فِيمَا أَوْصَى بِهِ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) عَلِيّاً (عليه السلام) قَالَ: لاَ مُظَاهَرَةَ أَوْثَقُ مِنَ الْمُشَاوَرَةِ، وَلاَ عَقْلَ كَالتَّدْبِيرِ»(4).

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «فِي التَّوْرَاةِ أَرْبَعَةُ أَسْطُرٍ: مَنْ لاَ يَسْتَشِرْ يَنْدَمْ، وَالْفَقْرُ الْمَوْتُ الأَكْبَرُ، كَمَا تَدِينُ تُدَانُ، وَمَنْ مَلَكَ اسْتَأْثَرَ»(5).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «لَنْيَهْلِكَ امْرُؤٌ عَنْ مَشُورَةٍ»(6).

ص: 15


1- نهج البلاغة: حكم أمير المؤمنين (عليه السلام)، الرقم161.
2- نهج البلاغة: حكم أمير المؤمنين (عليه السلام)، الرقم211.
3- وسائل الشيعة: ج12 ص39، تتمة كتاب الحج، الباب21 من أبواب أحكام العشرة في السفر والحضر، ح15582.
4- وسائل الشيعة: ج12 ص39، تتمة كتاب الحج، الباب21 من أبواب أحكام العشرة في السفر والحضر، ح15583.
5- وسائل الشيعة: ج12 ص39، تتمة كتاب الحج، الباب21 من أبواب أحكام العشرة في السفر والحضر، ح15584.
6- وسائل الشيعة: ج12 ص40، تتمة كتاب الحج، الباب21، ح15585.

..............................

وعن المفضل بن عمر، قال: قال الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام): «مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَاعِظٌ مِنْ قَلْبِهِ، وَزَاجِرٌ مِنْ نَفْسِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ قَرِينٌ مُرْشِدٌ، اسْتَمْكَنَ عَدُوُّهُ مِنْ عُنُقِهِ»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «اسْتَشِرْ فِي أَمْرِكَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ»(2).

وعن سليمان بن خالد، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «اسْتَشِرِ الْعَاقِلَ مِنَ الرِّجَالِ الْوَرِعَ؛ فَإِنَّهُ لاَ يَأْمُرُ إِلاَّ بِخَيْرٍ. وَإِيَّاكَ وَالْخِلاَفَ! فَإِنَّ مُخَالَفَةَ الْوَرِعِ الْعَاقِلِ مَفْسَدَةٌ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا»(3).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مُشَاوَرَةُالْعَاقِلِ النَّاصِحِ رُشْدٌ وَيُمْنٌ، وَتَوْفِيقٌ مِنَ اللهِ، فَإِذَا أَشَارَ عَلَيْكَ النَّاصِحُ الْعَاقِلُ، فَإِيَّاكَ وَالْخِلاَفَ؛ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ الْعَطَبَ»(4).

وعن المعلى بن خُنَيْسٍ، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «مَا يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ إِذَا وَرَدَ عَلَيْهِ مَا لاَ قِبَلَ لَهُ بِهِ، أَنْ يَسْتَشِيرَ رَجُلاً عَاقِلاً لَهُ دِينٌ وَوَرَعٌ - ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام) - أَمَا إِنَّهُ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَخْذُلْهُ اللهُ، بَلْ يَرْفَعُهُ اللهُ، وَرَمَاهُ بِخَيْرِ الأُمُورِ وَأَقْرَبِهَا إِلَى اللهِ»(5).

ص: 16


1- وسائل الشيعة: ج12 ص41، تتمة كتاب الحج، الباب22 ح15590.
2- وسائل الشيعة: ج12 ص41، تتمة كتاب الحج، الباب22 ح15592.
3- وسائل الشيعة: ج12 ص42، تتمة كتاب الحج، الباب22 ح15594.
4- وسائل الشيعة: ج12 ص42، تتمة كتاب الحج، الباب22 ح15595.
5- وسائل الشيعة: ج12 ص42، تتمة كتاب الحج، الباب22 ح15596.

..............................

وعن الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال: «إِنَّ الْمَشُورَةَ لاَ تَكُونُ إِلاَّ بِحُدُودِهَا، فَمَنْ عَرَفَهَا بِحُدُودِهَا وَإِلاَّ كَانَتْ مَضَرَّتُهَا عَلَى الْمُسْتَشِيرِ أَكْثَرَ مِنْ مَنْفَعَتِهَا لَهُ. فَأَوَّلُهَا أَنْ يَكُونَ الَّذِي تُشَاوِرُهُ عَاقِلاً، وَالثَّانِيَةُ أَنْ يَكُونَ حُرّاً مُتَدَيِّناً، وَالثَّالِثَةُ أَنْ يَكُونَ صَدِيقاً مُؤَاخِياً، وَالرَّابِعَةُ أَنْ تُطْلِعَهُ عَلَى سِرِّكَ، فَيَكُونَ عِلْمُهُ بِهِ كَعِلْمِكَ بِنَفْسِكَ، ثُمَّ يُسِرَّ ذَلِكَ وَيَكْتُمَهُ؛ فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ عَاقِلاًانْتَفَعْتَ بِمَشُورَتِهِ، وَإِذَا كَانَ حُرّاً مُتَدَيِّناً أَجْهَدَ نَفْسَهُ فِي النَّصِيحَةِ لَكَ، وَإِذَا كَانَ صَدِيقاً مُؤَاخِياً كَتَمَ سِرَّكَ إِذَا أَطْلَعْتَهُ عَلَيْهِ، وَإِذَا أَطْلَعْتَهُ عَلَى سِرِّكَ فَكَانَ عِلْمُهُ بِهِ كَعِلْمِكَ، تَمَّتِ الْمَشُورَةُ وَكَمَلَتِ النَّصِيحَةُ»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «مَنِ اسْتَشَارَ أَخَاهُ فَلَمْ يَنْصَحْهُ مَحْضَ الرَّأْيِ، سَلَبَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ رَأْيَهُ»(2).

ص: 17


1- وسائل الشيعة: ج12 ص43، تتمة كتاب الحج، الباب22 من أبواب أحكام العشرة في السفر والحضر، ح15597.
2- وسائل الشيعة: ج12 ص44، تتمة كتاب الحج، الباب23 من أبواب أحكام العشرة في السفر والحضر، ح15599.

وَلَمْ يَكُنْ يَتَحَلَّى مِنَ الدُّنيا بِطَائِلٍ

اشارة

وَلَمْ يَكُنْ يَتَحَلَّى(1) مِنَ الدُّنيا بِطَائِلٍ

-------------------------------------------

التحلي من الدنيا

في بعض النسخ: (يحلى): أي يصيب ويستفيد، وأما (يتحلى) على النسخة الأخرى فالوجه فيه - بعد معرفة أن الدنيا وما فيها ليس شيئاً يتحلى ويتزين فيه المؤمن، فكيف بمثل الإمام علي (عليه السلام) - أن ذلك التعبير هو حسب الظاهر وحسب ما يفهمه الناس.

ولذا قال تعالى: «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ»(2).

وقال عز وجل: «حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ»(3).

وقال سبحانه: «الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا»(4).

ولعل النكتة في تعبيرها (صلوات الله عليها) ب «يَتَحَلَّى» الإشارة إلى إغراء الدنيا للحكام والسلاطين، والذين عادة ما يسحرهم ويسوقهم إلى النار، قالتعالى: «إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً»(5)، فهو (عليه السلام) كان رغم ذلك «لَمْ يَكُنْ يَتَحَلَّى مِنَ الدُّنْيا بِطَائِلٍ» فلماذا أعرضتم

ص: 18


1- وفي بعض النسخ: يحلى.
2- سورة آل عمران: 14.
3- سورة يونس: 24.
4- سورة الكهف: 46.
5- سورة الكهف: 7.

..............................

عنه ورجحتم عليه من سحرته الدنيا؟!.

وبعبارة أخرى: هذا تعريض واضح للثلاثة الذين غصبوا الخلافة وأشباههم بأنهم أهل الهوى والدنيا، وإن أراد بعضهم أن يتظاهر بالزهد.

و(الطائل): أي كثير الفائدة، ويراد به: الغنى والقدرة والمنفعة، يقال هذا أمر لا طائل فيه، أي لا منفعة، أو لا كثير منفعة.

السلطة مطية الحاكم

مسألة: يحرم على القائد أن يتخذ السلطة مطية لمصالحه الشخصية، فيما يعد استغلالاً منكراً(1) لمنصبه، أو كانتضييعاً لحقوق الناس، أو كان تصرفاً في حقوقهم، أو كان على خلاف ارتكازهم في توكيله، بناء على كونه وكيلاً عنهم، بل حتى على مسلك الولاية نظراً لاشتراط فعليتها في غير المعصوم (عليه السلام) برضى الناس، كما فصلناه في بعض كتبنا(2).

ص: 19


1- وقوله (استغلالاً منكراً) قد يكون الوجه فيه أن المعروف والمنكر ليس حقيقة شرعية فكل ما عد عرفاً منكراً، ولم يرد من الشارع توسعة أو تضييق أي كشف مما لا نعرفه من حقيقته مما لو عرفناه لفهمنا أنه ليس منكراً - وإن توهمنا أنه منكر - أو أنه منكر وإن توهمنا أنه غير منكر، إما لتزاحم أو لغيره. قال تعالى: «يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ» سورة الأعراف: 157. وقال عزوجل: «وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ» سورة النحل: 90.
2- إذن فإن الإمام المؤلف (قدس سره) قيد الحرمة بهذه الصور الأربعة.

..............................

ومنه يعرف حرمة أن يقوم الحاكم:

بإغلاق الصحف، لنقدها له.

أو تجميد أو تعطيل المؤسسات والمنظمات والنقابات والاتحادات.

أو إغلاق دور النشر والمطابع.

أو أن يعقد اتفاقات اقتصادية كبرى مع شركات أو دول لصالحه الشخصي، مستعيناً باعتباره كحاكم، أو أن يقوم بحيازة مقدار من الأراضي مما يعد أكثر من شأنه كشخص، بل بلحاظ أنه حاكم،فتأمل.

قال الإمام الصادق (عليه السلام): «بَلَغَنِي أَنَّهُ سُئِلَ كَعْبُ الأَحْبَارِ: مَا الأَصْلَحُ فِي الدِّينِ، وَمَا الأَفْسَدُ؟. فَقَالَ: الأَصْلَحُ الْوَرَعُ، وَالأَفْسَدُ الطَّمَعُ. فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ: صَدَقْتَ يَا كَعْبُ. وَالطَّمَعُ خَمْرُ الشَّيْطَانِ يَسْقِي بِيَدِهِ لِخَوَاصِّهِ، فَمَنْ سَكِرَ مِنْهُ لاَ يَصْحُو إِلاَّ فِي أَلِيمِ عَذَابِ اللهِ تَعَالَى بِمُجَاوَرَةِ سَاقِيهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الطَّمَعِ سَخْطَةٌ إِلاَّ مُشَارَاةُ الدِّينِ بِالدُّنْيَا، لَكَانَ سَخَطاً عَظِيماً. قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: «أُوْلئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ»(1)»(2).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «تَفَضَّلْ عَلَى مَنْ شِئْتَ فَأَنْتَ أَمِيرُهُ، وَاسْتَغْنِ عَمَّنْ شِئْتَ فَأَنْتَ نَظِيرُهُ، وَافْتَقِرْ إِلَى مَنْ شِئْتَ فَأَنْتَ أَسِيرُهُ. وَالطَّامِعُ مَنْزُوعٌ عَنْهُ الإِيمَانُ وَهُوَ لاَ يَشْعُرُ؛ لأَنَّ الإِيمَانَ يَحْجُزُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الطَّمَعِ فِي الْخَلْقِ. فَيَقُولُ:يَا صَاحِبِي، خَزَائِنُ اللهِ تَعَالَى مَمْلُوَّةٌ مِنَ الْكَرَامَاتِ، وَهُوَ لاَيُضِيعُ

ص: 20


1- سورة البقرة: 175.
2- مصباح الشريعة: ص105، الباب التاسع والأربعون في الطمع.

..............................

أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً، وَمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ مَشُوبٌ بِالْعِلَلِ، وَيَرُدُّهُ إِلَى التَّوَكُّلِ،وَالْقَنَاعَةِ، وَقَصْرِ الأَمَلِ، وَلُزُومِ الطَّاعَةِ، وَالْيَأْسِ مِنَ الْخَلْقِ. فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَزِمَهُ فَقَدْ صَلَحَ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ تَرَكَهُ مَعَ شُؤْمِ الطَّبْعِ وَفَارَقَهُ»(1).

الحاكم وثروة الناس

مسألة: يكره للحاكم - في غير ما سبق - أن يحلى ويصيب ويستفيد من الغنى شيئاً، قليلاً أو كثيراً، فإن الحاكم أسوة، فعليه أن يلاحظ أضعف الناس، قال (عليه السلام): «إِنَّ اللهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَى أَئِمَّةِ الْعَدْلِ أَنْ يُقَدِّرُوا أَنْفُسَهُمْ بِضَعَفَةِ النَّاسِ؛ كَيْلاَ يَتَبَيَّغَ(2) بِالْفَقِيرِ فَقْرُهُ»(3)، كما في نهج البلاغة.

ولذلك ورد أن علياً (عليه السلام) لم يأكل اللحم طول السنة أيام خلافته الظاهرية إلا يوم عيد الأضحى، وعللّه (عليه السلام) بما مضمونه أنه في مثل العيد لا يوجد شخص ليس بمقدوره أكل اللحم. ثم إن الحاكم أشد خطورة من غيره فياحتمال أن تسحره الدنيا وتغره وتضره، فلابد أن يحتاط بشدة فيبتعد عنها أكثر مما ينبغي ويُطلب من عامة الناس، فإن (الحمى) بالنسبة له أوسع وأشد، ضرورة «مَنْ حَامَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ»(4).

ص: 21


1- مصباح الشريعة: ص106، الباب التاسع والأربعون في الطمع.
2- أي يهيج بالفقير فقره.
3- نهج البلاغة: خطب أمير المؤمنين (عليه السلام)، الرقم209 ومن كلام له (عليه السلام) بالبصرة، وقد دخل على العلاء بن زياد الحارثي وهو من أصحابه يعوده.
4- المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء: ج5 ص57، كتاب شرح عجائب القلب...

..............................

حطام الدنيا

مسألة: يكره للإنسان بشكل عام أن ينكب على الدنيا وحطامها بما هي هي، هذا إذا اكتسبها من حلها، وإلا كان حراماً كما هو واضح.

والكراهة تكون فيما إذا لم يستخدمها طريقاً للآخرة، كتأسيس المؤسسات النافعة، وإنقاذ اليتامى والمساكين، بله العزة في مقابل الكفار والمنحرفين.

عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ أَوَّلَ مَا عُصِيَ اللهُ بِهِ سِتٌّ: حُبُّ الدُّنْيَا، وَحُبُّ الرِّئَاسَةِ، وَحُبُّ الطَّعَامِ، وَحُبُّ النِّسَاءِ، وَحُبُّ النَّوْمِ، وَحُبُّ الرَّاحَةِ»(1).وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «مَنْ زَهِدَ فِي الدُّنْيَا أَثْبَتَ اللهُ الْحِكْمَةَ فِي قَلْبِهِ، وَأَنْطَقَ بِهَا لِسَانَهُ، وَبَصَّرَهُ عُيُوبَ الدُّنْيَا دَاءَهَا وَدَوَاءَهَا، وَأَخْرَجَهُ مِنَ الدُّنْيَا سَالِماً إِلَى دَارِ السَّلاَمِ»(2).

وعن حفص بن غياث، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: جُعِلَ الْخَيْرُ كُلُّهُ فِي بَيْتٍ، وَجُعِلَ مِفْتَاحُهُ الزُّهْدَ فِي الدُّنْيَا - ثم قال - قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): لاَ يَجِدُ الرَّجُلُ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ فِي قَلْبِهِ، حَتَّى لاَ يُبَالِيَ مَنْ أَكَلَ الدُّنْيَا. ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): حَرَامٌ عَلَى قُلُوبِكُمْ أَنْ تَعْرِفَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ، حَتَّى تَزْهَدَ فِي الدُّنْيَا»(3).

ص: 22


1- المحاسن: ج1 ص295، كتاب مصابيح الظلم، باب48 المكروهات، ح459.
2- الكافي: ج2 ص128، كتاب الإيمان والكفر، باب ذم الدنيا والزهد فيها، ح1.
3- الكافي: ج2 ص128، كتاب الإيمان والكفر، باب ذم الدنيا والزهد فيها، ح2.

..............................

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «إِنَّ مِنْ أَعْوَنِ الأَخْلاَقِ عَلَى الدِّينِ: الزُّهْدَ فِي الدُّنْيَا»(1).وعن علي بن هاشم بن البريد، عن أبيه، أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) عَنِ الزُّهْدِ؟. فَقَالَ: عَشَرَةُ أَشْيَاءَ. فَأَعْلَى دَرَجَةِ الزُّهْدِ أَدْنَى دَرَجَةِ الْوَرَعِ، وَأَعْلَى دَرَجَةِ الْوَرَعِ أَدْنَى دَرَجَةِ الْيَقِينِ، وَأَعْلَى دَرَجَةِ الْيَقِينِ أَدْنَى دَرَجَةِ الرِّضَا، أَلاَ وَإِنَّ الزُّهْدَ فِي آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: «لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ»(2)»(3).

وعن سفيان بن عُيَيْنَةَ، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) وَهُوَ يَقُولُ: كُلُّ قَلْبٍ فِيهِ شَكٌّ أَوْ شِرْكٌ فَهُوَ سَاقِطٌ، وَإِنَّمَا أَرَادُوا بِالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا؛ لِتَفْرُغَ قُلُوبُهُمْ لِلآخِرَةِ»(4).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «إِنَّ عَلاَمَةَ الرَّاغِبِ فِي ثَوَابِ الآخِرَةِ، زُهْدُهُ فِي عَاجِلِ زَهْرَةِ الدُّنْيَا. أَمَا إِنَّ زُهْدَ الزَّاهِدِ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لاَ يَنْقُصُهُ مِمَّا قَسَمَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ فِيهَا وَإِنْ زَهِدَ، وَإِنَّ حِرْصَ الْحَرِيصِ عَلَى عَاجِلِ زَهْرَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لاَ يَزِيدُهُ فِيهَا وَإِنْ حَرَصَ، فَالْمَغْبُونُ مَنْ حُرِمَ حَظَّهُمِنَ الآخِرَةِ»(5).

ص: 23


1- الكافي: ج2 ص128، كتاب الإيمان والكفر، باب ذم الدنيا والزهد فيها، ح3.
2- سورة الحديد: 23.
3- الكافي: ج2 ص128، كتاب الإيمان والكفر، باب ذم الدنيا والزهد فيها، ح4.
4- الكافي: ج2 ص129، كتاب الإيمان والكفر، باب ذم الدنيا والزهد فيها، ح5.
5- الكافي: ج2 ص129، كتاب الإيمان والكفر، باب ذم الدنيا والزهد فيها، ح6.

..............................

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «مَا أَعْجَبَ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ فِيهَا جَائِعاً خَائِفاً»(1).

الحذر من الدنيا

مسألة: ينبغي للمرء أن يحذر، فإن الدنيا كثيراً ما تأخذ الإنسان برونقها وزخرفها، وإن كان في البداية غير مبال بها، لكن بمجرد أن ينجح في تجارته أو تستقر له السلطة فإنه قد يتغير، لذا من اللازم أن يحتاط لذلك بتذكر الموت والآخرة دائماً، وبالصدقة والتوسل وإتخاذ صديق صدوق رقيباً عليه، والذهاب للمقابر وعيادة المرضى بالمستشفيات للاعتبار، بل فسح المجال لشخص معارض، ووضع الأسس لمثل حزب منافس، وغير ذلك ضمن الضوابط الشرعية.

عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «إِنَّاللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: وَعِزَّتِي وَجَلاَلِي، وَعَظَمَتِي وَعُلُوِّي، وَارْتِفَاعِ مَكَانِي، لاَ يُؤْثِرُ عَبْدٌ هَوَايَ عَلَى هَوَى نَفْسِهِ، إِلاَّ كَفَفْتُ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ، وَضَمَّنْتُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ رِزْقَهُ، وَكُنْتُ لَهُ مِنْ وَرَاءِ تِجَارَةِ كُلِّ تَاجِرٍ»(2).

عصمة الإمام (عليه السلام)

مسألة: قولها (عليها السلام) في حقه (عليه السلام): «وَلَمْ يَكُنْ يَتَحَلَّى مِنَ الدُّنْيا بِطَائِلٍ»، كان نتيجة عصمته (عليه السلام).

ص: 24


1- الكافي: ج2 ص129، كتاب الإيمان والكفر، باب ذم الدنيا والزهد فيها، ح7.
2- الكافي: ج2 ص137، كتاب الإيمان والكفر، باب، ح1.

..............................

ولا يتوهم من سببية العصمة لذلك الجبر، فإنه بالاختيار، كما أن عصمة الإنسان العادي عن أكل العذرة مثلاً إنما هو باختياره النابع عن علمه بقذارته، والمعصوم (عليه السلام) بالنسبة إلى كل الرذائل والمحرمات كذلك، بل وكل المكروهات، بل وحتى ترك الأولى أيضاً، على تفصيل ذكرناه في بعض كتبنا.

عن محمد بن أبي عمير، قال: مَا سَمِعْتُ وَلاَ اسْتَفَدْتُ مِنْ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ فِي طُولِ صُحْبَتِي إِيَّاهُ شَيْئاً، أَحْسَنَ مِنْ هَذَاالْكَلاَمِ فِي صِفَةِ عِصْمَةِ الإِمَامِ، فَإِنِّي سَأَلْتُهُ يَوْماً عَنِ الإِمَامِ أَ هُوَ مَعْصُومٌ؟. قَالَ: نَعَمْ.

قُلْتُ لَهُ: فَمَا صِفَةُ الْعِصْمَةِ فِيهِ، وَبِأَيِّ شَيْءٍ تُعْرَفُ؟.

قَالَ: إِنَّ جَمِيعَ الذُّنُوبِ لَهَا أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ لاَ خَامِسَ لَهَا: الْحِرْصُ، وَالْحَسَدُ، وَالْغَضَبُ، وَالشَّهْوَةُ، فَهَذِهِ مَنْفِيَّةٌ عَنْهُ.

لاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَرِيصاً عَلَى هَذِهِ الدُّنْيَا، وَهِيَ تَحْتَ خَاتَمِهِ؛ لأَنَّهُ خَازِنُ الْمُسْلِمِينَ، فَعَلَى مَا ذَا يَحْرِصُ.

وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَسُوداً؛ لأَنَّ الإِنْسَانَ إِنَّمَا يَحْسُدُ مَنْ هُوَ فَوْقَهُ، وَلَيْسَ فَوْقَهُ أَحَدٌ، فَكَيْفَ يَحْسُدُ مَنْ هُوَ دُونَهُ.

وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَغْضَبَ لِشَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ غَضَبُهُ للهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِ إِقَامَةَ الْحُدُودِ، وَأَنْ لاَ تَأْخُذَهُ فِي اللهِ لَوْمَةُ لاَئِمٍ، وَلاَ رَأْفَةٌ فِي دِينِهِ، حَتَّى يُقِيمَ حُدُودَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.

وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَتَّبِعَ الشَّهَوَاتِ، وَيُؤْثِرَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ؛ لأَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ حَبَّبَ إِلَيْهِ الآخِرَةَ، كَمَا حَبَّبَ إِلَيْنَا الدُّنْيَا، فَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى الآخِرَةِ كَمَا نَنْظُرُ إِلَى الدُّنْيَا.

ص: 25

..............................

فَهَلْ رَأَيْتَ أَحَداً تَرَكَ وَجْهاً حَسَناً لِوَجْهٍ قَبِيحٍ، وَطَعَاماً طَيِّباً لِطَعَامٍ مُرٍّ، وَثَوْباًلَيِّناً لِثَوْبٍ خَشِنٍ، وَنِعْمَةً دَائِمَةً بَاقِيَةً لِدُنْيَا زَائِلَةٍ فَانِيَةٍ(1).

وعن محمد بن علي التميمي قال: حَدَّثَنِي سَيِّدِي عَلِيُّ بْنُ مُوسَى الرِّضَا (عليه السلام)، عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام)، عَنْ عَلِيٍّ (عليه السلام)، عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله)، أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الْقَضِيبِ الْيَاقُوتِ الأَحْمَرِ، الَّذِي غَرَسَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِيَدِهِ، وَيَكُونَ مُتَمَسِّكاً بِهِ، فَلْيَتَوَلَّ عَلِيّاً وَالأَئِمَّةَ مِنْ وُلْدِهِ؛ فَإِنَّهُمْ خِيَرَةُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَصَفْوَتُهُ، وَهُمُ الْمَعْصُومُونَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وَخَطِيئَةٍ»(2).

وعن محمد بن عمار بن ياسر، عن أبيه، قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ إِنَّ حَافِظَيْ عَلِيٍّ لَيَفْخَرَانِ عَلَى سَائِرِ الْحَفَظَةِ بِكَوْنِهِمَا مَعَ عَلِيٍّ (عليه السلام) وَ ذَلِكَ أَنَّهُمَا لَمْ يَصْعَدَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ بِشَيْ ءٍ مِنْهُ فَيُسْخِطَهُ»(3).وعن موسى بن جعفر، عن أبيه، عن جده، عن علي بن الحسين (عليهم السلام)، قال: «الإِمَامُ مِنَّا لاَ يَكُونُ إِلاَّ مَعْصُوماً، وَلَيْسَتِ الْعِصْمَةُ فِي ظَاهِرِ الْخِلْقَةِ فَيُعْرَفَ بِهَا، فَلِذَلِكَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ مَنْصُوصاً».

فَقِيلَ لَهُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، فَمَا مَعْنَى الْمَعْصُومِ؟.

ص: 26


1- أمالي الشيخ الصدوق: ص632-633، المجلس الثاني والتسعون، ح5.
2- بحار الأنوار: ج25 ص193، تتمة كتاب الإمامة، الباب6 من أبواب علامات الإمام وصفاته وشرائطه، ح2.
3- بحار الأنوار: ج25 ص194، تتمة كتاب الإمامة، الباب6 من أبواب علامات الإمام وصفاته وشرائطه، ح4.

..............................

فَقَالَ: «هُوَ الْمُعْتَصِمُ بِحَبْلِ اللهِ، وَحَبْلُ اللهِ هُوَ الْقُرْآنُ، لاَ يَفْتَرِقَانِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالإِمَامُ يَهْدِي إِلَى الْقُرْآنِ، وَالْقُرْآنُ يَهْدِي إِلَى الإِمَامِ، وَذَلِكَ قَوْلُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ»(1)»(2).

وعن الحسين الأشقر، قال: قلت لهشام بن الحكم: مَا مَعْنَى قَوْلِكُمْ: إِنَّ الإِمَامَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ مَعْصُوماً؟.

قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) عَنْ ذَلِكَ. فَقَالَ: «الْمَعْصُومُ هُوَ الْمُمْتَنِعُ بِاللهِ مِنْ جَمِيعِ مَحَارِمِ اللهِ، وَقَدْ قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: «وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍمُسْتَقِيمٍ»(3)»(4).

ص: 27


1- سورة الإسراء: 9.
2- بحار الأنوار: ج25 ص194، تتمة كتاب الإمامة، الباب6 من أبواب علامات الإمام وصفاته وشرائطه، ح5.
3- سورة آل عمران: 101.
4- بحار الأنوار: ج25 ص194- 195، تتمة كتاب الإمامة، الباب6 من أبواب علامات الإمام وصفاته وشرائطه، ح6.

وَلاَ يَحْظَى مِنَهَا بِنَائِلٍ

اشارة

-------------------------------------------

ضبط الحاكم

(يحظى): أي يظفر، وينال حظاً من الشيء كالرزق.

و(النائل): العطية والمعروف.

وربما تكون الجملة هذه تأكيداً للسابقة، ويحتمل أن يكون المراد بهذه: الأساسيات وبما سبقها الكماليات، أو غير ذلك.

مسألة: يلزم توفير الأسباب التي تؤدي إلى ضبط الحاكم بحيث لا يستغل منصبه لكي (يحلى من الدينا بطائل أو يحظى منها بنائل)، وقد أشرنا في بعض الكتب إلى تفصيله(1).

الحاكم ورد الهدايا

مسألة: يستحب أو يجب على القائد أن لا يحظى من الدنيا بنائل وعطية.

وربما يكون من فروع ذلك أن يغلق الحاكم باب أخذ الهدية بصفة كونه حاكماً مطلقاً، وإن كانت غير مشوبة بشبهة الرشوة، ويمكن أن توضع قوانين: مثل أن تعطى كل الهدايا المقدمةللحاكم إلى متحف، أو إلى الفقراء، أو ما أشبه ذلك.

وكان ديدن بعض العلماء أنه يوزع ما يهدى له على طلبة العلوم الدينية أو الفقراء أو سائر المؤمنين، وهكذا ينبغي أن يكون الحاكم، وقد يكون ذلك نوع

ص: 28


1- انظر الفقه السياسة، الفقه الاجتماع و...

..............................

ضمان لعدم انجرار الحاكم نحو الدنيا، وعدم طمع أصحاب القلوب المريضة فيه وفي حكمه.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ، طَارِقٌ طَرَقَنَا بِمَلْفُوفَةٍ فِي وِعَائِهَا، وَمَعْجُونَةٍ شَنِئْتُهَا، كَأَنَّمَا عُجِنَتْ بِرِيقِ حَيَّةٍ أَوْ قَيْئِهَا.

فَقُلْتُ: أَ صِلَةٌ! أَمْ زَكَاةٌ! أَمْ صَدَقَةٌ! فَذَلِكَ مُحَرَّمٌ عَلَيْنَا أَهْلَ الْبَيْتِ».

فَقَالَ: لاَ ذَا وَلاَ ذَاكَ، وَلَكِنَّهَا هَدِيَّةٌ.

فَقُلْتُ: هَبِلَتْكَ الْهَبُولُ، أَعَنْ دِينِ اللَّهِ أَتَيْتَنِي لِتَخْدَعَنِي، أَ مُخْتَبِطٌ أَنْتَ! أَمْ ذُو جِنَّةٍ! أَمْ تَهْجُرُ!.

وَاللهِ، لَوْ أُعْطِيتُ الأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلاَكِهَا، عَلَى أَنْ أَعْصِيَ اللهَ فِي نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جُلْبَ شَعِيرَةٍ مَا فَعَلْتُهُ. وَإِنَّ دُنْيَاكُمْ عِنْدِي لأَهْوَنُ مِنْ وَرَقَةٍ فِي فَمِ جَرَادَةٍ تَقْضَمُهَا، مَا لِعَلِيٍّ وَلِنَعِيمٍ يَفْنَى،وَلَذَّةٍ لاَ تَبْقَى. نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ سُبَاتِ الْعَقْلِ، وَقُبْحِ الزَّلَلِ، وَبِهِ نَسْتَعِينُ»(1).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام)، أنه قال: «مِنَ السُّحْتِ: الْهَدِيَّةُ يَلْتَمِسُ بِهَا مُهْدِيهَا مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا، وَذَلِكَ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: «وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ»(2)»(3).

وعن جعفر بن محمد (عليه السلام)، أنه قال - فِي قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ:

ص: 29


1- نهج البلاغة: خطب أمير المؤمنين (عليه السلام)، الرقم224 ومن كلام له (عليه السلام) يتبرأ من الظلم.
2- سورة المدثر: 6.
3- دعائم الإسلام: ج2 ص327، كتاب العطايا، ف3، ح1235.

..............................

«وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَا فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ»(1) ، فقال: «هِيَ هَدِيَّتُكَ إِلَى الرَّجُلِ تَطْلُبُ بِهَا مِنَ الثَّوَابِ أَفْضَلُ مِنْهَا، فَذَلِكَ رِبًا»(2).

وعن جعفر بن محمد (عليه السلام)، أنه قال: «فِي الرَّجُلِ يَسْأَلُ الرَّجُلَ الْحَاجَةَ، أَوْ يَسْأَلُهُ أَنْ يَسْأَلَ لَهُ السُّلْطَانَ أَوْ غَيْرَالسُّلْطَانِ فِي حَاجَةٍ، يُهْدِي إِلَيْهِ عَلَى ذَلِكَ، مَا تَرَى فِي قَبُولِ الْهَدِيَّةِ عَلَى هَذَا؟. قال: لاَ يَحِلُّ قَبُولُهَا، وَهِيَ سُحْتٌ وَعَوْنُ الْمُؤْمِنِ فِي هَذَا وَمِثْلُهُ، يَنْبَغِي لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، فَمَنْ قَدَرَ عَلَى عَوْنِ أَخِيهِ فَلْيُعِنْهُ، فَإِنْ أَخَذَ عَلَى ذَلِكَ جُعْلاً، أَوْ هَدِيَّةً، أَوْ أَطْعَمَ عَلَيْهِ طَعَاماً، فَكُلُّ ذَلِكَ سُحْتٌ لاَ يَحِلُّ أَكْلُهُ»(3).

ص: 30


1- سورة الروم: 39.
2- دعائم الإسلام: ج2 ص327، كتاب العطايا، ف3، ح1236.
3- دعائم الإسلام: ج2 ص327، كتاب العطايا، ف3، ح1237.

غَيْرَ رَيِّ النَّاهِلِ

اشارة

-------------------------------------------

الدنيا والاقتصار على الضرورة

(رِيّ) و(رَيّ): مصدر بمعنى الشرب.

و(الناهل): العطشان، وهو من أسماء الأضداد، فيطلق على الريان أيضاً(1).

أي إنه يشرب إذا كان عطشاناً فقط، وهو كناية عن أنه يقتصر على الضرورة من الدنيا، لا أنه يدخر زخارفها لنفسه أو لأقربائه أو بطانته أو عشيرته أو من ينتسب إليه بالصداقة وما أشبه.

مسألة: ينبغي للقائد أن لا يستفيد من الدنيا إلا بقدر ري الناهل، فإن اقتصر عليه فهو الرابح، لأن «فِي حَلالِهَا حِسَاباً، وَفي حَرَامِهَا عِقَاباً، وَفِي الشُّبُهَاتِ عِتَاباً»(2).

عن جعفر، عن أبيه (عليهما السلام)،قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِي، إِذَا صَلَحَا صَلَحَتْ أُمَّتِي، وَإِذَا فَسَدَا فَسَدَتْ أُمَّتِي. قِيلَ: يَا

ص: 31


1- ولو كان المراد بالناهل الريان - وهو بعيد هاهنا - فالمراد أنه لا يأخذ من الدنيا إلا أقل القليل كالريان الذي لو شرب الماء فإنه لا يشرب إلا القليل منه.
2- كفاية الأثر في النص على الأئمة الإثني عشر: ص227، باب ما جاء عن الحسن (عليه السلام) ما يوافق هذه الأخبار ونصه على أخيه الحسين (عليه السلام). ومستدرك الوسائل: ج12 ص51 ب63 ح13489.

..............................

رَسُولَ اللهِ، وَمَنْ هُمَا؟. قَالَ: الْفُقَهَاءُ وَالأُمَرَاءُ»(1).

وعن محمد بن عبد الجبار رفعه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أنه قال: «رَجُلاَنِ لاَ تَنَالُهُمَا شَفَاعَتِي: صَاحِبُ سُلْطَانٍ عَسُوفٍ غَشُومٍ، وَغَالٍ فِي الدِّينِ مَارِقٌ»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «ثَلاَثَةٌ يُدْخِلُهُمُ اللهُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَثَلاَثَةٌ يُدْخِلُهُمُ اللهُ النَّارَ بِغَيْرِ حِسَابٍ. فَأَمَّا الَّذِينَ يُدْخِلُهُمُ اللهُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ: فَإِمَامٌ عَادِلٌ، وَتَاجِرٌ صَدُوقٌ، وَشَيْخٌ أَفْنَى عُمُرَهُ فِي طَاعَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَأَمَّا الثَّلاَثَةُ الَّذِينَ يُدْخِلُهُمُ النَّارَ بِغَيْرِ حِسَابٍ: فَإِمَامٌ جَائِرٌ، وَتَاجِرٌ كَذُوبٌ، وَشَيْخٌزَانٍ»(3).

وعن الصادق (عليه السلام)، قال: «إِنِّي لأَرْجُو النَّجَاةَ لِهَذِهِ الأُمَّةِ لِمَنْ عَرَفَ حَقَّنَا مِنْهُمْ، إِلاَّ لأَحَدِ ثَلاَثَةٍ: صَاحِبِ سُلْطَانٍ جَائِرٍ، وَصَاحِبِ هَوًى، وَالْفَاسِقِ الْمُعْلِنِ»(4).

ص: 32


1- بحار الأنوار: ج72 ص336، تتمة كتاب العشرة، الباب81 من تتمة أبواب حقوق المؤمنين بعضهم على بعض وبعض أحوالهم، ح2.
2- بحار الأنوار: ج72 ص336، تتمة كتاب العشرة، الباب81 من تتمة أبواب حقوق المؤمنين بعضهم على بعض وبعض أحوالهم، ح3.
3- بحار الأنوار: ج72 ص336-337، تتمة كتاب العشرة، الباب81 من تتمة أبواب حقوق المؤمنين بعضهم على بعض وبعض أحوالهم، ح5.
4- بحار الأنوار: ج72 ص337، تتمة كتاب العشرة، الباب81 من تتمة أبواب حقوق المؤمنين بعضهم على بعض وبعض أحوالهم، ح6.

..............................

وعن الصادق (عليه السلام)، عن آبائه (عليهم السلام)، عن النبي (صلى الله عليه وآله)، قال: «تُكَلِّمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلاَثَةً: أَمِيراً، وَقَارِئاً، وَذَا ثَرْوَةٍ مِنَ الْمَالِ.

فَتَقُولُ لِلأَمِيرِ: يَا مَنْ وَهَبَ اللهُ لَهُ سُلْطَاناً فَلَمْ يَعْدِلْ، فَتَزْدَرِدُهُ كَمَا يَزْدَرِدُ الطَّيْرُ حَبَّ السِّمْسِمِ.

وَتَقُولُ لِلْقَارِئِ: يَا مَنْ تَزَيَّنَ لِلنَّاسِ وَبَارَزَ اللهَ بِالْمَعَاصِي، فَتَزْدَرِدُهُ.

وَتَقُولُ لِلْغَنِيِّ: يَا مَنْ وَهَبَهُ اللهُ دُنْيَا كَثِيرَةً وَاسِعَةً فَيْضاً، وَسَأَلَهُ الْحَقِيرَ الْيَسِيرَ قَرْضاً، فَأَبَى إِلاَّ بُخْلاً،فَتَزْدَرِدُهُ»(1).

ص: 33


1- بحار الأنوار: ج72 ص337، تتمة كتاب العشرة، الباب81 من تتمة أبواب حقوق المؤمنين بعضهم على بعض وبعض أحوالهم، ح7.

وَشُبْعَةِ الكَافِلِ

اشارة

-------------------------------------------

للحاكم ما يكفيه ليومه

(الكافل): المحتاج إلى الطعام، ويطلق على الضامن والعائل، وعلى الذي يصل الصيام، و(بات فلان كافلاً) أي لم يحصل على غداء ولا عشاء.

والمراد ها هنا: الجائع الذي لم يحصل على الطعام، وهذا كناية عن أن الحاكم لا يأكل من الدنيا ولا يغرف منها إلا عند الحاجة وبقدرها.

مسألة: ينبغي وضع رقابة على الحاكم، في تصرفاته المالية والاقتصادية والسياسية وغيرها، فتلاحظ نفقات أسفاره، ونفقات أكله وشربه، ونفقات سكنه وسائر مصاريف حياته، لتكون ضمن الضوابط الشرعية ومن دون تصرف في بيت المال وأموال الناس.

مسألة: ينبغي أن يأخذ الحاكم من الدنيا ما يكفيه ليومه فقط، ولا يدخر شيئاً لغد.

ومن ذلك يعلم أن ما جرى عليه الحكام من ملء خزانتهم وفتح الحسابات في المصارف الأجنبية وغيرها وتملك العمارات والقصور في شتى البلاد، وإن كان فرضاً أنها من أموالهم الخاصة كما لو فرض أنه كان تاجراً قبل أن يتولى الحكومة أو وصله بميراث - مرجوح إن لم يكن حراماً بأحد الوجوه الأربعة السابقة على ما تقدم.

يقول أمير المؤمنين (عليهم السلام): «يَا ابْنَ آدَمَ، لاَ تَحْمِلْ هَمَّ يَوْمِكَ الَّذِي

ص: 34

..............................

لَمْ يَأْتِكَ عَلَى يَوْمِكَ الَّذِي قَدْ أَتَاكَ؛ فَإِنَّهُ إِنْ يَكُ مِنْ عُمُرِكَ يَأْتِ اللهُ فِيهِ بِرِزْقِكَ»(1).

شبعة الكافل

مسألة: (شبعة الكافل) في كلام الصديقة الطاهرة (عليها السلام) قد تكون كناية عن الأقل من حاجة اليوم، بل حاجة هذه الساعة، فإن الشُبعة بضم الشين هي قدر ما يشبع مرة.

وعلى هذا يستحب للإنسان أن لا يقلق على رزقه في المستقبل ولو بعد ساعة وكذا سائر شؤونه.

ولا يتنافى هذا مع مثل: «كَانَ وَاللهِ بَعِيدَ الْمُدَى»(2)، إذ الجمع هو: «اعْمَلْلِدُنْيَاكَ كَأَنَّكَ تَعِيشُ أَبَداً، وَاعْمَلْ لآِخِرَتِكَ كَأَنَّكَ تَمُوتُ غَداً»(3).

وبعبارة أخرى:

التخطيط للمستقبل لازم، أما الحرص فهو باطل، وكذلك كل ما يعني عدم التوكل على الله، وتفصيل البحث في كتب الأخلاق.

ص: 35


1- نهج البلاغة: حكم أمير المؤمنين (عليه السلام)، الرقم267.
2- كشف اليقين في فضائل أمير المؤمنين: ص116، ف3 ب1، المطلب الأول، المبحث الثامن في حسن الخلق.
3- من لا يحضره الفقيه: ج3 ص156، كتاب المعيشة، باب المعايش والمكاسب والفوائد والصناعات، ح3569.

..............................

حرمة الاحتكار

مسألة: الاحتكار حرام، أما إدخار الحاكم الطعام للناس خوف القحط وشبهه أو لدفع احتمال الغلاء(1) فبين واجب ومستحب، فإن المرجوح هو الإدخار للنفس لا للغير، أي الاحتكار لصالح نفسه لا لصالح الناس.

من هنا كان ما قام به يوسف الصديق(عليه السلام) راجحاً بل لازماً، حيث ادخر الطعام لصالح الناس وليس لمصحلته الشخصية.

عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «لَيْسَ الْحُكْرَةُ إِلاَّ فِي الْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ، وَالزَّبِيبِ، وَالسَّمْنِ»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «نَفِدَ الطَّعَامُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، فَأَتَاهُ الْمُسْلِمُونَ. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ نَفِدَ الطَّعَامُ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ إِلاَّ عِنْدَ فُلاَنٍ، فَمُرْهُ يَبِيعُهُ النَّاسَ. قَالَ: فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا فُلاَنُ، إِنَّ الْمُسْلِمِينَ ذَكَرُوا أَنَّ الطَّعَامَ قَدْ نَفِدَ إِلاَّ شَيْئاً عِنْدَكَ، فَأَخْرِجْهُ وَبِعْهُ كَيْفَ شِئْتَ، وَلاَ تَحْبِسْهُ»(3).

وعن الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «الْحُكْرَةُ أَنْ يَشْتَرِيَ طَعَاماً

ص: 36


1- بأن يدخر احتياطاً لصورة تناقص الأطعمة مما يسبب ارتفاع الأسعار، فكلما قلت الأرزاق وخيف ارتفاع الأسعار، كلما صبت الحكومة أو الشركات من الاحتياطي في السوق ليتوازن العرض والطلب ولا يحدث غلاء.
2- الكافي: ج5 ص164، كتاب المعيشة، باب الحكرة، ح1.
3- الكافي: ج5 ص164، كتاب المعيشة، باب الحكرة، ح2.

..............................

لَيْسَ فِي الْمِصْرِ غَيْرُهُ فَيَحْتَكِرَهُ، فَإِنْ كَانَ فِي الْمِصْرِ طَعَامٌ أَوْ يُبَاعُ غَيْرُهُ، فَلاَ بَأْسَ بِأَنْ يَلْتَمِسَ بِسِلْعَتِهِ الْفَضْلَ». قَالَ:وَسَأَلْتُهُ عَنِ الزَّيْتِ؟. فَقَالَ: «إِنْ كَانَ عِنْدَ غَيْرِكَ فَلاَ بَأْسَ بِإِمْسَاكِهِ»(1).

وعن أبي الفضل سالم الحناط، قال: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «مَا عَمَلُكَ؟». قُلْتُ: حَنَّاطٌ، وَرُبَّمَا قَدِمْتُ عَلَى نَفَاقٍ، وَرُبَّمَا قَدِمْتُ عَلَى كَسَادٍ، فَحَبَسْتُ. فَقَالَ: «فَمَا يَقُولُ مَنْ قِبَلَكَ فِيهِ؟». قُلْتُ: يَقُولُونَ: مُحْتَكِرٌ. فَقَالَ: «يَبِيعُهُ أَحَدٌ غَيْرُكَ؟». قُلْتُ: مَا أَبِيعُ أَنَا مِنْ أَلْفِ جُزْءٍ جُزْءاً. قَالَ: «لاَ بَأْسَ، إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ يُقَالُ لَهُ: حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَكَانَ إِذَا دَخَلَ الطَّعَامُ الْمَدِينَةَ اشْتَرَاهُ كُلَّهُ، فَمَرَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله). فَقَالَ: يَا حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ، إِيَّاكَ أَنْ تَحْتَكِرَ»(2).

وعن الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يَحْتَكِرُ الطَّعَامَ وَيَتَرَبَّصُ بِهِ، هَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ؟. فقال: «إِنْ كَانَ الطَّعَامُ كَثِيراً يَسَعُ النَّاسَ فَلاَ بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ قَلِيلاً لاَ يَسَعُ النَّاسَ، فَإِنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يَحْتَكِرَ الطَّعَامَ، وَيَتْرُكَ النَّاسَ لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ»(3).وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): «الْجَالِبُ مَرْزُوقٌ، وَالْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ»(4).

ص: 37


1- الكافي: ج5 ص164- 165، كتاب المعيشة، باب الحكرة، ح3.
2- الكافي: ج5 ص165، كتاب المعيشة، باب الحكرة، ح4.
3- الكافي: ج5 ص165، كتاب المعيشة، باب الحكرة، ح5.
4- الكافي: ج5 ص165، كتاب المعيشة، باب الحكرة، ح6.

..............................

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قَالَ: «الْحُكْرَةُ فِي الْخِصْبِ أَرْبَعُونَ يَوْماً، وَفِي الشِّدَّةِ وَالْبَلاَءِ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ، فَمَا زَادَ عَلَى الأَرْبَعِينَ يَوْماً فِي الْخِصْبِ فَصَاحِبُهُ مَلْعُونٌ، وَمَا زَادَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْعُسْرَةِ فَصَاحِبُهُ مَلْعُونٌ»(1).

وعن حماد بن عثمان، قال: أَصَابَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ غَلاَءٌ وَقَحْطٌ، حَتَّى أَقْبَلَ الرَّجُلُ الْمُوسِرُ يَخْلِطُ الْحِنْطَةَ بِالشَّعِيرِ وَيَأْكُلُهُ، وَيَشْتَرِي بِبَعْضِ الطَّعَامِ. وَكَانَ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) طَعَامٌ جَيِّدٌ قَدِ اشْتَرَاهُ أَوَّلَ السَّنَةِ. فَقَالَ لِبَعْضِ مَوَالِيهِ: «اشْتَرِ لَنَا شَعِيراً، فَاخْلِطْ بِهَذَا الطَّعَامِ أَوْ بِعْهُ؛ فَإِنَّا نَكْرَهُ أَنْ نَأْكُلَ جَيِّداً، وَيَأْكُلُ النَّاسُ رَدِيّاً»(2).

وعن مُعَتِّبٍ، قال: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللهِ(عليه السلام) - وَقَدْ تَزَيَّدَ السِّعْرُ بِالْمَدِينَةِ -: «كَمْ عِنْدَنَا مِنْ طَعَامٍ؟». قَالَ: قُلْتُ: عِنْدَنَا مَا يَكْفِيكَ أَشْهُراً كَثِيرَةً. قَالَ: «أَخْرِجْهُ وَبِعْهُ». قَالَ: قُلْتُ لَهُ: وَلَيْسَ بِالْمَدِينَةِ طَعَامٌ!. قَالَ: «بِعْهُ». فَلَمَّا بِعْتُهُ، قَالَ: «اشْتَرِ مَعَ النَّاسِ يَوْماً بِيَوْمٍ - وَقَالَ - يَا مُعَتِّبُ، اجْعَلْ قُوتَ عِيَالِي نِصْفاً شَعِيراً وَنِصْفاً حِنْطَةً؛ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُ أَنِّي وَاجِدٌ أَنْ أُطْعِمَهُمُ الْحِنْطَةَ عَلَى وَجْهِهَا، وَلَكِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَرَانِيَ اللهُ قَدْ أَحْسَنْتُ تَقْدِيرَ الْمَعِيشَةِ»(3).

وعن مُعَتِّبٍ، قَالَ: كَانَ أَبُو الْحَسَنِ (عليه السلام) يَأْمُرُنَا إِذَا أَدْرَكَتِ الثَّمَرَةُ أَنْ نُخْرِجَهَا فَنَبِيعَهَا، وَنَشْتَرِيَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ يَوْماً بِيَوْمٍ(4).

ص: 38


1- الكافي: ج5 ص165، كتاب المعيشة، باب الحكرة، ح7.
2- الكافي: ج5 ص166، كتاب المعيشة، باب، ح1.
3- الكافي: ج5 ص166، كتاب المعيشة، باب، ح2.
4- الكافي: ج5 ص166، كتاب المعيشة، باب، ح3.

وَلَبَانَ لَهُمُ الزَّاهِدُ مِنَ الرَّاغِبِ

اشارة

-------------------------------------------

كشف حقيقة الحكام

مسألة: يلزم كشف حقائق القادة والحكام للناس، ليعرفوا من هو (الراغب في الدنيا، المكلب عليها، المفتون بها) ومن هو (الزاهد فيها، المعرض عنها). فإنه نوع صد عن الاستبداد والظلم وأكل الأموال بالباطل.

وكذلك ليعرفوا من هو الشجاع ومن هو الجبان الذي يسلمهم إلى الأعداء عند الحرب، أو عند الضغوط السياسية والاقتصادية وغيرها، وكذلك من هو المدير المدبر من غيره وما أشبه ذلك، فإن مصائر الناس بأيديهم، فلابد أن يعرفهم الناس ليحسنوا الانتخاب.

وهكذا الحال في سائر المسؤولين.

وإذا كان الحاكم والوزير والنائب كذلك، فكيف بمن يدعي أنه خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ظلماً وعدواناً، كالثلاثة وبني أمية وبني العباس.

وما ذكرناه من مستثنيات الغيبة قطعاً، لأنه إذا كان الاستعلام جائزاً عن حال خادم يريد الانسان أن يستخدمه، أوشاب يريد أن يزوجه ابنته، وجاز للمستشار أن يذكر عيوبه فيما يرتبط بنصح المستشير، فكيف بمن يريد أن يصبح نائباً في المجلس، أو وزيراً، أو حتى بمن يدعي أنه مرجع تقليد وسيتصرف في أموال القصر ومن لا ولي له وفي الحقوق الشرعية وما أشبه؟.

ص: 39

..............................

علي (عليه السلام) هو الزاهد

مسألة: يجب وجوباً كفائياً إعلام العالم بأن الإمام علي (عليه السلام) كان هو الزاهد في الدنيا، وأن الثلاثة كانوا الراغبين فيها وإن تظاهر الأولان بغير ذلك. قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «وَاللهِ لَدُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَهْوَنُ فِي عَيْنِي مِنْ عُرَاقِ خِنْزِيرٍ فِي يَدِ مَجْذُوم»(1).

وقال (عليه السلام): «دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ»(2).

فيجب بيان ذلك للناس، ليعرفوه ويوالوه وليتبعوه وليتأسوا به. قال النبي (صلى الله عليه وآله): «عَلِيٌّ لاَ يَرْزَأُ مِنَ الدُّنْيَا، وَلاَ تَرْزَأُ الدُّنْيَا مِنْهُ»(3).

وقال (صلى الله عليه وآله): «يَا عَلِيُّ، إِنَّ اللهَ قَدْ زَيَّنَكَ بِزِينَةٍ، لَمْ يُزَيِّنِ الْعِبَادَبِزِينَةٍ أَحَبَّ إِلَى اللهِ مِنْهَا، زَيَّنَكَ بِالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَجَعَلَكَ لاَ تَزْرَأُ مِنْهَا شَيْئاً، وَلاَ تَزْرَأُ مِنْكَ شَيْئاً، وَوَهَبَكَ حُبَّ الْمَسَاكِينِ، فَجَعَلَكَ تَرْضَى بِهِمْ أَتْبَاعاً، وَيَرْضَوْنَ بِكَ إِمَاماً»(4).

ص: 40


1- نهج البلاغة: حكم أمير المؤمنين (عليه السلام)، الرقم236.
2- نهج البلاغة: خطب أمير المؤمنين (عليه السلام)، الرقم3 ومن خطبة له (عليه السلام) وهي المعروفة بالشقشقية.
3- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: ج2 ص94، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في المسابقة بالزهد والقناعة.
4- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: ج2 ص94، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في المسابقة بالزهد والقناعة.

..............................

وقال عمر بن عبد العزيز: «مَا عَلِمْنَا أَحَداً كَانَ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ أَزْهَدَ مِنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بَعْدَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله)(1).

وقال ابن عيينة: أَزْهَدُ الصَّحَابَةِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ(2).

وعن ابن عباس، قال: «فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا»(3) هُوَ: عَلْقَمَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ. «وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقامَ رَبِّهِ»(4) عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، خَافَ فَانْتَهَى عَنِ الْمَعْصِيَةِ،وَنَهَى عَنِ الْهَوَى نَفْسَهُ، «فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى»(5) خَاصّاً لِعَلِيٍّ، وَمَنْ كَانَ عَلَى مِنْهَاجِهِ هَكَذَا عَامّاً»(6).

وعن ابن عباس - فِي قَوْلِهِ: «إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً»(7) -: هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، سَيِّدُ مَنِ اتَّقَى عَنِ ارْتِكَابِ الْفَوَاحِشِ - ثُمَّ سَاقَ التَّفْسِيرَ إِلَى قَوْلِهِ - «جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ»(8) لأَهْلِ بَيْتِكَ خَاصّاً لَهُمْ، وَلِلْمُتَّقِينَ عَامّاً»(9).

ص: 41


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: ج2 ص94، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في المسابقة بالزهد والقناعة.
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: ج2 ص94، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام).
3- سورة النازعات: 37-38.
4- سورة النازعات: 40.
5- سورة النازعات: 41.
6- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: ج2 ص94، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام).
7- سورة النبأ: 31.
8- سورة النبأ: 36.
9- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: ج2 ص94، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام).

وقال سالم بن الجعد: رَأَيْتُ الْغَنَمَ تَبْعُرُ فِي بَيْتِ الْمَالِ فِي زَمَنِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) (1).

وعن الشعبي قال: كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) يَنْضَحُهُ وَيُصَلِّي فِيهِ(2).وعن سالم الجحدري، قال: شَهِدْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أُتِيَ بِمَالٍ عِنْدَ الْمَسَاءِ. فَقَالَ: «اقْتَسِمُوا هَذَا الْمَالَ». فَقَالُوا: قَدْ أَمْسَيْنَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَخِّرْهُ إِلَى غَدٍ. فَقَالَ لَهُمْ: «تَقْبَلُونَ لِي أَنْ أَعِيشَ إِلَى غَدٍ». قَالُوا: مَا ذَا بِأَيْدِينَا. فَقَالَ: «لاَ تُؤَخِّرُوهُ حَتَّى تَقْسِمُوهُ»(3).

وَيَرْوِي: أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي عَلَيْهِ وَقْتٌ لاَ يَكُونُ عِنْدَهُ قِيمَةُ ثَلاَثَةِ دَرَاهِمَ يَشْتَرِي بِهَا إِزَاراً وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، ثُمَّ يَقْسِمُ كُلَّ مَا فِي بَيْتِ الْمَالِ عَلَى النَّاسِ، ثُمَّ يُصَلِّي فِيهِ، وَيَقُولُ: «الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي أَخْرَجَنِي مِنْهُ كَمَا دَخَلْتُهُ»(4).

وَرَوَى أَبُو جَعْفَرٍ الطُّوسِيُّ: أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (عليه

السلام) قِيلَ لَهُ: أَعْطِ هَذِهِ الأَمْوَالَ لِمَنْ يُخَافُ عَلَيْهِ مِنَ النَّاسِ وَفِرَارُهُ إِلَى مُعَاوِيَةَ. فَقَالَ (عليه السلام): «أَتَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ، لاَ وَاللهِ لاَ أَفْعَلُ مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ، وَمَا لاَحَ فِي السَّمَاءِ نَجْمٌ. وَاللهِ، لَوْ كَانَ مَالُهُمْ لِي لَوَاسَيْتُ بَيْنَهُمْ، وَكَيْفَ وَإِنَّمَا هِيَأَمْوَالُهُمْ»(5).

ص: 42


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: ج2 ص94، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)...
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: ج2 ص94، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)...
3- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: ج2 ص95، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)...
4- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: ج2 ص95، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)...
5- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: ج2 ص95، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في المسابقة بالزهد والقناعة.

..............................

وَأُتِيَ إِلَيْهِ بِمَالٍ، فَكَوَّمَ كُومَةً مِنْ ذَهَبٍ، وَكُومَةً مِنْ فِضَّةٍ، وَقَالَ: «يَا صَفْرَاءُ اصْفَرِّي، يَا بَيْضَاءُ ابْيَضِّي، وَغُرِّيَ غَيْرِي

هَذَا جَنَايَ وَخِيَارُهُ فِيهِ *** وَكُلُّ جَانٍ يَدُهُ إِلَى فِيهِ (1)

وقال الإمام الباقر (عليه السلام) - في خبر -: «وَلَقَدْ وَلِيَ خَمْسَ سِنِينَ، وَمَا وَضَعَ آجُرَّةً عَلَى آجُرَّةٍ، وَلاَ لَبِنَةً عَلَى لَبِنَةٍ، وَلاَ أَقْطَعَ قَطِيعاً، وَلاَ أَوْرَثَ بَيْضاً وَلاَ حُمْراً»(2).

وعن سفيان الثوري: أَنَّ عَيْناً نَبَعَتْ فِي بَعْضِ مَالِهِ، فَبُشِّرَ بِذَلِكَ. فَقَالَ (عليه السلام): «بَشِّرِ الْوَارِثَ». وَسَمَّاهَا عَيْنَ يَنْبُعَ(3).

وعن الزمخشري: أَنَّ عَلِيّاً (عليه السلام) اشْتَرَى قَمِيصاً، فَقَطَعَ مَا فَضَلَ عَنْ أَصَابِعِهِ،ثُمَّ قَالَ لِلرَّجُلِ: «حُصَّهُ»، أَيْ خُطَّ كِفَافَهُ(4).

وعن أبي الحسن البلخي: أَنَّهُ اجْتَازَ بِسُوقِ الْكُوفَةِ، فَتَعَلَّقَ بِهِ كُرْسِيٌّ فَتَخَرَّقَ قَمِيصُهُ، فَأَخَذَهُ بِيَدِهِ، ثُمَّ جَاءَ بِهِ إِلَى الْخَيَّاطِينَ. فَقَالَ: «خِيطُوا لِي ذَا بَارَكَ اللهُ فِيكُمْ»(5).

وعن الأشعث العبدي، قال: رَأَيْتُ عَلِيّاً اغْتَسَلَ فِي الْفُرَاتِ يَوْمَ جُمُعَةٍ، ثُمَّ ابْتَاعَ قَمِيصاً كَرَابِيسَ بِثَلاَثَةِ دَرَاهِمَ، فَصَلَّى بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ، وَمَا خِيطَ جُرُبَّانُهُ

ص: 43


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: ج2 ص95، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)..
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: ج2 ص95، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)..
3- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: ج2 ص95، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)..
4- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: ج2 ص96، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)..
5- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: ج2 ص96، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)..

..............................

بَعْدُ(1).

وعن شبيكة، قال: رَأَيْتُ عَلِيّاً يَأْتَزِرُ فَوْقَ سُرَّتِهِ، وَيَرْفَعُ إِزَارَهُ إِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ(2).

وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «كَانَ عَلِيٌّ (عليه السلام) يَلْبَسُ الْقَمِيصَ الزَّابِيَّ، ثُمَّ يَمُدُّ يَدَهُ فَيَقْطَعُ مَعَ أَطْرَافِأَصَابِعِهِ»(3).

وفي حديث عبد الله بن الهذيل: كَانَ إِذَا مَدَّهُ بَلَغَ الظُّفُرَ، وَإِذَا أَرْسَلَهُ كَانَ مَعَ نِصْفِ الذِّرَاعِ(4).

وقال علي بن ربيعة: رَأَيْتُ عَلِيّاً يَأْتَزِرُ، فَرَأَيْتُ عَلَيْهِ ثِيَاباً فَقُلْتُ لَهُ فِي ذَلِكَ. فَقَالَ: «وَأَيُّ ثَوْبٍ أَسْتَرُ مِنْهُ لِلْعَوْرَةِ، وَأَنْشَفُ لِلْعَرَقِ»(5).

وَفِي "فَضَائِلِ أَحْمَدَ": رُئِيَ عَلِيٌّ (عليه السلام) إِزَارٌ غَلِيظٌ اشْتَرَاهُ بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ، وَرُئِيَ عَلَيْهِ إِزَارٌ مَرْقُوعٌ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ. فَقَالَ (عليه السلام): «يَقْتَدِي بِهِ الْمُؤْمِنُونَ، وَيَخْشَعُ لَهُ الْقَلْبُ، وَتَذِلُّ بِهِ النَّفْسُ، وَيَقْصِدُ بِهِ الْمُبَالِغُ - وفي رواية - أَشْبَهُ بِشِعَارِ الصَّالِحِينَ - وفي رواية - أَحْصَنُ لِفَرْجِي - وفي رواية - هَذَا أَبْعَدُ لِي مِنَ

ص: 44


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: ج2 ص96، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في المسابقة بالزهد والقناعة.
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: ج2 ص96.
3- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: ج2 ص96.
4- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: ج2 ص96.
5- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: ج2 ص96، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في المسابقة بالزهد والقناعة.

..............................

الْكِبْرِ، وَأَجْدَرُ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ الْمُسْلِمُ»(1).

وفي "مُسْنَدُ أَحْمَدَ"، أَنَّهُ قَالَ الْجَعْدِيُّ بْنُ نَعْجَةَ الْخَارِجِيُّ: اتَّقِ اللهَ يَا عَلِيُّ إِنَّكَ مَيِّتٌ. قَالَ: «بَلْ وَاللهِ قَتْلاً ضَرْبَةً عَلَى هَذَا، قَضَاءً مَقْضِيّاً، وَعَهْداً مَعْهُوداً، وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى». وَكَانَ كُمُّهُ لاَ يُجَاوِزُ أَصَابِعَهُ، وَيَقُولُ: «لَيْسَ لِلْكُمَّيْنِ عَلَى الْيَدَيْنِ فَضْلٌ». وَنَظَرَ (عليه السلام) إِلَى فَقِيرٍ انْخَرَقَ كُمُّ ثَوْبِهِ، فَخَرَقَ كُمَّ قَمِيصِهِ، وَأَلْقَاهُ إِلَيْهِ(2).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «مَا كَانَ لَنَا إِلاَّ إِهَابُ كَبْشٍ، أَبِيتُ مَعَ فَاطِمَةَ بِاللَّيْلِ، وَيُعْلَفُ عَلَيْهَا النَّاضِحُ»(3).

وفي "مُسْنَدِ الْمَوْصِلِيِّ": الشَّعْبِيُّ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ (عليه السلام)، قَالَ: «مَا كَانَ لَيْلَةَ أَهْدَتْ لِي فَاطِمَةُ (عليها السلام) شَيْءٌ يُنَامُ عَلَيْهِ إِلاَّ جِلْدُ كَبْشٍ»(4).وَاشْتَرَى (عليه السلام) ثَوْباً فَأَعْجَبَهُ، فَتَصَدَّقَ بِهِ(5).

ص: 45


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: ج2 ص96، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في المسابقة بالزهد والقناعة.
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: ج2 ص96، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في المسابقة بالزهد والقناعة.
3- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: ج2 ص96، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في المسابقة بالزهد والقناعة.
4- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: ج2 ص9697.
5- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: ج2 ص97.

..............................

وقال الغزالي في "الإحياء": كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَمْتَنِعُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ حَتَّى يَبِيعَ سَيْفَهُ، وَلاَ يَكُونُ لَهُ إِلاَّ قَمِيصٌ وَاحِدٌ، فِي وَقْتِ الْغُسْلِ لاَ يَجِدُ غَيْرَهُ(1).

وَرَأَى عَقِيلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْخَوْلاَنِيُّ عَلِيّاً (عليه السلام) جَالِساً عَلَى بَرْدَعَةِ حِمَارٍ مُبْتَلَّةٍ. فَقَالَ لأَهْلِهِ فِي ذَلِكَ. فَقَالَتْ: لاَ تَلُومُونِي، فَوَ اللهِ مَا يَرَى شَيْئاً يُنْكِرُهُ، إِلاَّ أَخَذَهُ وَطَرَحَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ(2).

وفي "فضائل أحمد": قال زيد بن محجن، قال علي: «مَنْ يَشْتَرِي سَيْفِي هَذَا. فَوَ اللهِ، لَوْ كَانَ عِنْدِي ثَمَنُ إِزَارٍ مَا بِعْتُهُ»(3).وعن الأصبغ وأبو مسعدة والإمام الباقر (عليه السلام): أَنَّهُ أَتَى الْبَزَّازِينَ، فَقَالَ لِرَجُلٍ: «بِعْنِي ثَوْبَيْنِ». فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، عِنْدِي حَاجَتُكَ. فَلَمَّا عَرَفَهُ مَضَى عَنْهُ، فَوَقَفَ عَلَى غُلاَمٍ، فَأَخَذَ ثَوْبَيْنِ أَحَدَهُمَا بِثَلاَثَةِ دَرَاهِمَ، وَالآخَرَ بِدِرْهَمَيْنِ. فَقَالَ: «يَا قَنْبَرُ، خُذِ الَّذِي بِثَلاَثَةٍ». فَقَالَ: أَنْتَ أَوْلَى بِهِ، تَصْعَدُ الْمِنْبَرَ وَتَخْطُبُ النَّاسَ. قَالَ: «أَنْتَ شَابٌّ وَلَكَ شَرَهُ الشَّبَابِ، وَأَنَا أَسْتَحْيِي مِنْ رَبِّي أَنْ أَتَفَضَّلَ عَلَيْكَ. سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ: أَلْبِسُوهُمْ

ص: 46


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: ج2 ص97، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في المسابقة بالزهد والقناعة.
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: ج2 ص97، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في المسابقة بالزهد والقناعة.
3- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: ج2 ص97، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في المسابقة بالزهد والقناعة.

..............................

مِمَّا تَلْبَسُونَ، وَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ». فَلَمَّا لَبِسَ الْقَمِيصَ، مَدَّ كُمَّ الْقَمِيصِ، فَأَمَرَ بِقَطْعِهِ وَاتِّخَاذِهِ قَلاَنِسَ لِلْفُقَرَاءِ. فَقَالَ الْغُلاَمُ: هَلُمَّ أَكُفَّهُ. قَالَ: «دَعْهُ كَمَا هُوَ؛ فَإِنَّ الأَمْرَ أَسْرَعُ مِنْ ذَلِكَ». فَجَاءَ أَبُو الْغُلاَمِ، فَقَالَ: إِنَّ ابْنِي لَمْ يَعْرِفْكَ، وَهَذَانِ دِرْهَمَانِ رِبْحُهُمَا. فَقَالَ: «مَا كُنْتُ لأَفْعَلَ، قَدْ مَاكَسْتُ وَمَاكَسَنِي، وَاتَّفَقْنَا عَلَى رِضًى»(1).

وعن علي بن أبي عمران، قال: خَرَجَابْنٌ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (عليه السلام)، وَعَلَيٌّ فِي الرَّحْبَةِ، وَعَلَيْهِ قَمِيصُ خَزٍّ، وَطَوْقٌ مِنْ ذَهَبٍ. فَقَالَ: «ابْنِي هَذَا؟!». قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَدَعَاهُ، فَشَقَّهُ عَلَيْهِ وَأَخَذَ الطَّوْقَ مِنْهُ، فَجَعَلَهُ قِطَعاً قِطَعاً(2).

وعن عمرو بن نعجة السكوني، قال: أُتِيَ عَلِيٌّ (عليه السلام) بِدَابَّةِ دِهْقَانٍ لِيَرْكَبَهَا، فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الرِّكَابِ، قَالَ: «بِسْمِ اللهِ». فَلَمَّا وَضَعَ يَدَهُ عَلَى الْقَرَبُوسِ زَلَّتْ يَدُهُ مِنَ الصُّفَّةِ. فَقَالَ: «أَ دِيبَاجٌ هِيَ؟! ». قَالَ: نَعَمْ. فَلَمْ يَرْكَبْ(3).

وفي كتاب "الإحياء" عن الغزالي، أَنَّهُ كَانَ لَهُ سَوِيقٌ فِي إِنَاءٍ مَخْتُومٍ يَشْرَبُ مِنْهُ. فَقِيلَ لَهُ:أَ تَفْعَلُ هَذَا بِالْعِرَاقِ مَعَ كَثْرَةِ طَعَامِهِ؟ فَقَالَ: «أَمَا إِنِّي لاَ أَخْتِمُهُ بُخْلاً

ص: 47


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: ج2 ص97، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في المسابقة بالزهد والقناعة.
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: ج2 ص97، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في المسابقة بالزهد والقناعة.
3- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: ج2 ص97-98، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في المسابقة بالزهد والقناعة.

..............................

بِهِ، وَلَكِنِّي أَكْرَهُ أَنْ يُجْعَلَ فِيهِ مَا لَيْسَمِنْهُ، وَأَكْرَهُ أَنْ يَدْخُلَ بَطْنِي غَيْرُ طَيِّبٍ»(1).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام)، قال: «كَانَ عَلِيٌّ (عليه السلام) لاَ يَأْكُلُ مِمَّا هَنَأَ، حَتَّى يُؤْتَى بِهِ مِنْ ثَمَّ»، يَعْنِي الْحِجَازَ(2).

الزهد ومصاديقه

مسألة: يستحب - بشكل عام - التحلي بالزهد، وقد يجب في القائد في بعض الصور مما أشرنا إليه سابقاً.

والزهد له مصاديق، فمنها الزهد في المال، ومنها الزهد في الشهرة، ومنها الزهد في الرئاسة والسلطة، ومنها الزهد في الشهوات والنساء، ومنها غير ذلك.

عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «مَنْ زَهِدَ فِي الدُّنْيَا: أَثْبَتَ اللهُ الْحِكْمَةَ فِي قَلْبِهِ، وَأَنْطَقَ بِهَا لِسَانَهُ، وَبَصَّرَهُ عُيُوبَ الدُّنْيَا دَاءَهَا وَدَوَاءَهَا، وَأَخْرَجَهُ مِنْهَا سَالِماً إِلَى دَارِ السَّلاَمِ»(3).وعن أبي حمزة، قال: مَا سَمِعْتُ بِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ كَانَ أَزْهَدَ مِنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (عليه السلام)، إِلاَّ مَا بَلَغَنِي عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام). قَالَ:

ص: 48


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: ج2 ص98، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في المسابقة بالزهد والقناعة.
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: ج2 ص98، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في المسابقة بالزهد والقناعة.
3- وسائل الشيعة: ج16 ص10، تتمة كتاب الجهاد، الباب62 من بقية أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ح20827.

..............................

وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) إِذَا تَكَلَّمَ فِي الزُّهْدِ وَوَعَظَ، أَبْكَى مَنْ بِحَضْرَتِهِ. قَالَ أَبُو حَمْزَةَ: وَقَرَأْتُ صَحِيفَةً فِيهَا كَلاَمُ زُهْدٍ مِنْ كَلاَمِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (عليه السلام)، فَكَتَبْتُ مَا فِيهَا ثُمَّ أَتَيْتُ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ (صلوات الله عليه)، فَعَرَضْتُ مَا فِيهَا عَلَيْهِ، فَعَرَفَهُ وَصَحَّحَهُ، وَكَانَ مَا فِيهَا: «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، كَفَانَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ كَيْدَ الظَّالِمِينَ، وَبَغْيَ الْحَاسِدِينَ، وَبَطْشَ الْجَبَّارِينَ. أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الطَّوَاغِيتُ وَأَتْبَاعُهُمْ مِنْ أَهْلِ الرَّغْبَةِ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، وَاحْذَرُوا مَا حَذَّرَكُمُ اللهُ مِنْهَا، وَازْهَدُوا فِيمَا زَهَّدَكُمُ اللهُ فِيهِ مِنْهَا، وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى مَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا رُكُونَ مَنِ اتَّخَذَهَا دَارَ قَرَارٍ، وَمَنْزِلَ اسْتِيطَانٍ - إلى أن قال - وَلَيْسَ يَعْرِفُ تَصَرُّفَ أَيَّامِهَا، وَتَقَلُّبَ حَالاتِهَا، وَعَاقِبَةَ ضَرَرِ فِتَنِهَا، إِلاَّ مَنْ عَصَمَهُ اللهُ، وَنَهَجَ سَبِيلَ الرُّشْدِ، وَسَلَكَ طَرِيقَ الْقَصْدِ، ثُمَّ اسْتَعَانَ عَلَى ذَلِكَ بِالزُّهْدِ، فَكَرَّرَالْفِكْرَ، وَاتَّعَظَ بِالصَّبْرِ، وَزَهِدَ فِي عَاجِلِ بَهْجَةِ الدُّنْيَا، وَتَجَافَى عَنْ لَذَّتِهَا، وَرَغِبَ فِي دَائِمِ نَعِيمِ الآخِرَةِ، وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «إِنَّ عَلاَمَةَ الرَّاغِبِ فِي ثَوَابِ الآخِرَةِ، زُهْدٌ فِي عَاجِلِ زَهْرَةِ الدُّنْيَا. أَمَا إِنَّ زُهْدَ الزَّاهِدِ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لاَ يَنْقُصُهُ مِمَّا قَسَمَ اللهُ لَهُ فِيهَا وَإِنْ زَهِدَ، وَإِنَّ حِرْصَ الْحَرِيصِ عَلَى عَاجِلِ زَهْرَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لاَ يَزِيدُهُ فِيهَا وَإِنْ حَرَصَ. فَالْمَغْبُونُ مَنْ غُبِنَ حَظَّهُ مِنَ الآخِرَةِ»(2).

ص: 49


1- وسائل الشيعة: ج16 ص11، تتمة كتاب الجهاد، الباب62 من بقية أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ح20828.
2- وسائل الشيعة: ج16 ص11-12، تتمة كتاب الجهاد، ب62 ح20829.

..............................

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «إِنَّ مِنْ أَعْوَنِ الأَخْلاَقِ عَلَى الدِّينِ الزُّهْدَ فِي الدُّنْيَا»(1).

وعن حفص بن غياث، عن أبي عبد الله(عليه السلام)، قال: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «جُعِلَ الْخَيْرُ كُلُّهُ فِي بَيْتٍ، وَجُعِلَ مِفْتَاحُهُ الزُّهْدَ فِي الدُّنْيَا - ثم قال - قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): لاَ يَجِدُ الرَّجُلُ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ حَتَّى لا يُبَالِيَ مَنْ أَكَلَ الدُّنْيَا». ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): «حَرَامٌ عَلَى قُلُوبِكُمْ أَنْ تَعْرِفَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ حَتَّى تَزْهَدَ فِي الدُّنْيَا»(2).

وعن علي بن هاشم بن البريد، عن أبيه: أَنَّ رَجُلاًًًًًًًًًًًًًًًًًًً سَأَلَ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) عَنِ الزُّهْدِ؟. فَقَالَ: «عَشَرَةُ أَشْيَاءَ: فَأَعْلَى دَرَجَةِ الزُّهْدِ أَدْنَى دَرَجَةِ الْوَرَعِ، وَأَعْلَى دَرَجَةِ الْوَرَعِ أَدْنَى دَرَجَةِ الْيَقِينِ، وَأَعْلَى دَرَجَاتِ الْيَقِينِ أَدْنَى دَرَجَاتِ الرِّضَا. أَلاَ وَإِنَّ الزُّهْدَ فِي آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ: «لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ»(3)»(4).

وعن سفيان بن عُيَيْنَةَ، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «كُلُّ

ص: 50


1- وسائل الشيعة: ج16 ص12، تتمة كتاب الجهاد، الباب62 من بقية أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ح20830.
2- وسائل الشيعة: ج16 ص12، تتمة كتاب الجهاد، الباب62 من بقية أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ح20831.
3- سورة الحديد: 23.
4- وسائل الشيعة: ج16 ص12، تتمة كتاب الجهاد، الباب62 من بقية أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ح20832.

..............................

قَلْبٍ فِيهِ شَكٌّ أَوْ شِرْكٌ فَهُوَ سَاقِطٌ، وَإِنَّمَا أَرَادُوا بِالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا؛ لِتَفْرُغَ قُلُوبُهُمْ لِلآخِرَةِ»(1).

وعن عبد الله بن القاسم، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدٍ خَيْراً: زَهَّدَهُ فِي الدُّنْيَا، وَفَقَّهَهُ فِي الدِّينِ، وَبَصَّرَهُ عُيُوبَهَا، وَمَنْ أُوتِيَهُنَّ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ - وقال - لَمْ يَطْلُبْ أَحَدٌ الْحَقَّ بِبَابٍ أَفْضَلَ مِنَ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ ضِدٌّ لِمَا طَلَبَ أَعْدَاءُ الْحَقِّ». قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، مِمَّاذَا؟. قَالَ: «مِنَ الرَّغْبَةِ فِيهَا - وقال - أَ لاَ مِنْ صَبَّارٍ كَرِيمٍ فَإِنَّمَا هِيَ أَيَّامٌ قَلاَئِلُ، أَلاَ إِنَّهُ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ أَنْ تَجِدُوا طَعْمَ الإِيمَانِ حَتَّى تَزْهَدُوا فِي الدُّنْيَا». قال: وَسَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «إِذَا تَخَلَّى الْمُؤْمِنُ مِنَ الدُّنْيَا سَمَا، وَوَجَدَ حَلاَوَةَ حُبِّ اللهِ، فَلَمْ يَشْتَغِلُوا بِغَيْرِهِ». قال: وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «إِنَّ الْقَلْبَ إِذَا صَفَا ضَاقَتْ بِهِ الأَرْضُ حَتَّى يَسْمُوَ»(2).وعن أبي جعفر (عليه السلام) - في حديث - أن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: «أَلاَ وَكُونُوا مِنَ الزَّاهِدِينَ فِي الدُّنْيَا الرَّاغِبِينَ فِي الآخِرَةِ، أَلاَ إِنَّ الزَّاهِدِينَ فِي الدُّنْيَا قَدِ اتَّخَذُوا الأَرْضَ بِسَاطاً، وَالتُّرَابَ فِرَاشاً، وَالْمَاءَ طِيباً، وَقُرِّضُوا مِنَ الدُّنْيَا تَقْرِيضاً»(3).

ص: 51


1- وسائل الشيعة: ج16 ص13، تتمة كتاب الجهاد، الباب62 من بقية أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ح20833.
2- وسائل الشيعة: ج16 ص13، تتمة كتاب الجهاد ب62 ح20834.
3- وسائل الشيعة: ج16 ص13-14، تتمة كتاب الجهاد، الباب62 من بقية أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ح20835.

..............................

وعن عمرِو بن سعيد بن هلال، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه

السلام): إِنِّي لاَ أَلْقَاكَ إِلاَّ فِي السِّنِينَ، فَأَوْصِنِي بِشَيْءٍ حَتَّى آخُذَ بِهِ. قال: «أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللهِ، وَالْوَرَعِ، وَالاِجْتِهَادِ. وَإِيَّاكَ أَنْ تَطْمَحَ إِلَى مَنْ فَوْقَكَ، وَكَفَى بِمَا قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لِرَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله): «وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا»(1)، وَقَالَ: «فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ»(2). فَإِنْ خِفْتَ ذَلِكَ فَاذْكُرْ عَيْشَ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، فَإِنَّمَا كَانَ قُوتُهُ مِنَ الشَّعِيرِ، وَحَلْوَاهُ مِنَ التَّمْرِ، وَوَقُودُهُ مِنَ السَّعَفِ إِذَا وَجَدَهُ. وَإِذَا أُصِبْتَبِمُصِيبَةٍ فِي نَفْسِكَ، أَوْ مَالِكَ، أَوْ وُلْدِكَ، فَاذْكُرْ مُصَابَكَ بِرَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)؛ فَإِنَّ الْخَلاَئِقَ لَمْ يُصَابُوا بِمِثْلِهِ قَطُّ»(3).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «قِيلَ لأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): مَا الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا؟. قَالَ: تَنَكُّبُ حَرَامِهَا»(4).

وعن أبي الطفيل، قال: سَمِعْتُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) يَقُولُ: «الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا قَصْرُ الأَمَلِ، وَشُكْرُ كُلِّ نِعْمَةٍ، وَالْوَرَعُ عَمَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْكَ»(5).

ص: 52


1- سورة طه: 131.
2- سورة التوبة: 55.
3- وسائل الشيعة: ج16 ص14، تتمة كتاب الجهاد، الباب62 ح20836.
4- وسائل الشيعة: ج16 ص15، تتمة كتاب الجهاد، الباب62 ح20837.
5- وسائل الشيعة: ج16 ص15، تتمة كتاب الجهاد، الباب62 من بقية أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ح20838.

..............................

وعن إسماعيل بن مسلم، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «لَيْسَ الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا بِإِضَاعَةِ الْمَالِ، وَلاَ بِتَحْرِيمِ الْحَلاَلِ، بَلِ الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا أَنْ لاَ تَكُونَ بِمَا فِي يَدِكَ أَوْثَقَ مِنْكَ بِمَا فِي يَدِ اللهِ عَزَّوَجَلَّ»(1).

وعن حفص بن غياث، قال: سَمِعْتُ مُوسَى بْنَ جَعْفَرٍ (عليه السلام) عِنْدَ قَبْرٍ وَهُوَ يَقُولُ: «إِنَّ شَيْئاً هَذَا آخِرُهُ لَحَقِيقٌ أَنْ يُزْهَدَ فِي أَوَّلِهِ، وَإِنَّ شَيْئاً هَذَا أَوَّلُهُ لَحَقِيقٌ أَنْ يُخَافَ مِنْ آخِرِهِ»(2).

وعن عبد الله بن الحسن بن علي، عن أمه فاطمة بنت الحسين، عن أبيها (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ صَلاَحَ أَوَّلِ هَذِهِ الأُمَّةِ بِالزُّهْدِ وَالْيَقِينِ، وَهَلاَكَ آخِرِهَا بِالشُّحِّ وَالأَمَلِ»(3).

وعن الحسن بن علي العسكري (عليه السلام)، عن آبائه (عليهم

السلام)، عن الصادق (عليه السلام)، أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الزَّاهِدِ فِي الدُّنْيَا؟. قَالَ: «الَّذِي يَتْرُكُ حَلاَلَهَا مَخَافَةَ حِسَابِهِ، وَيَتْرُكُ حَرَامَهَا مَخَافَةَعِقَابِهِ»(4).

ص: 53


1- وسائل الشيعة: ج16 ص15، تتمة كتاب الجهاد، الباب62 من بقية أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ح20839.
2- وسائل الشيعة: ج16 ص15، تتمة كتاب الجهاد، الباب62 من بقية أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ح20840.
3- وسائل الشيعة: ج16 ص15- 16، تتمة كتاب الجهاد، الباب62 من بقية أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ح20841.
4- وسائل الشيعة: ج16 ص16، تتمة كتاب الجهاد، الباب62 من بقية أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ح20842.

..............................

الرغبة في الدنيا

مسألة: تكره الرغبة في الدنيا والحرص عليها، وقد تكون محرمة بالنسبة للقائد في بعض الصور، وذلك فيما إذا كانت مقدمة للحرام، كتفريطه بحقوق الأُمة، على البحث في حرمة مطلق المقدمة، أم خصوص الموصلة منها، وأنها محرمة شرعاً وعقلاً، أم عقلاً فقط، والتفصيل مذكور في الأصول.

عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): «مَثَلُ الْحَرِيصِ عَلَى الدُّنْيَا مَثَلُ دُودَةِ الْقَزِّ، كُلَّمَا ازْدَادَتْ عَلَى نَفْسِهَا لَفّاً، كَانَ أَبْعَدَ لَهَا مِنَ الْخُرُوجِ حَتَّى تَمُوتَ غَمّاً»(1).

وقال أبو عبد الله (عليه السلام): «أَغْنَى الْغِنَى مَنْ لَمْ يَكُنْ لِلْحِرْصِ أَسِيراً»(2).وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «أَبْعَدُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا لَمْ يُهِمَّهُ إِلاَّ بَطْنُهُ وَفَرْجُهُ»(3).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «مَنْ كَثُرَ اشْتِبَاكُهُ فِي الدُّنْيَا، كَانَ أَشَدَّ لِحَسْرَتِهِ عِنْدَ فِرَاقِهَا»(4).

ص: 54


1- وسائل الشيعة: ج16 ص19- 20، تتمة كتاب الجهاد، ب64 ح20853.
2- وسائل الشيعة: ج16 ص19 - 20، تتمة كتاب الجهاد، ب64 ح20853.
3- وسائل الشيعة: ج16 ص20، تتمة كتاب الجهاد، ب64 ح20854.
4- وسائل الشيعة: ج16 ص20، تتمة كتاب الجهاد، الباب64 من بقية أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ح20855.

..............................

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «حُرِمَ الْحَرِيصُ خَصْلَتَيْنِ وَلَزِمَتْهُ خَصْلَتَانِ: حُرِمَ الْقَنَاعَةَ فَافْتَقَدَ الرَّاحَةَ، وَحُرِمَ الرِّضَا فَافْتَقَدَ الْيَقِينَ»(1).

الزهد ملكة نفسانية

مسألة: الزهد ملكة نفسانية لا ترتبط بوجود مغريات وعدمها، أو فرص وعدمها، فإنه (ليس الزهد أن لا تملك شيئاً، بل الزهد أن لا يملكك شيء).

نعم، وجود الفرصة يكشف عنهاللناس، ولذلك قالت (عليها السلام): «وَلَبَانَ لَهُمُ الزَّاهِدُ مِنَ الرَّاغِبِ»، أي إنه (عليه السلام) إذا وصل للحكم والخلافة الظاهرية لبان للناس، وظهر لهم الحاكم الزاهد في الدنيا من الراغب الحريص عليها، وأما في مرحلة الثبوت فإنه (عليه السلام) كان في كل شؤونه كما قال: «لَوْ كُشِفَ لِيَ الْغِطَاءُ مَا ازْدَدْتُ يَقِيناً» (2).

عن الأصبغ بن نباتة، قال عَلِيٌّ (عليه السلام): «دَخَلْتُ بِلاَدَكُمْ بِأَشْمَالِي هَذِهِ، وَرَحْلَتِي وَرَاحِلَتِي هَا هِيَ، فَإِنْ أَنَا خَرَجْتُ مِنْ بِلاَدِكُمْ بِغَيْرِ مَا دَخَلْتُ، فَإِنَّنِي مِنَ الْخَائِنِينَ» وفي رواية: «يَا أَهْلَ الْبَصْرَةِ، مَا تَنْقِمُونَ مِنِّي! إِنَّ هَذَا لَمِنْ غَزْلِ أَهْلِي»، وَأَشَارَ إِلَى قَمِيصِهِ(3).

ص: 55


1- وسائل الشيعة: ج16 ص20، تتمة كتاب الجهاد، ب64 ح20856.
2- الروضة في فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) لابن شاذان القمي: ص235، ح193احتجاج حرة على الحجاج.
3- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: ج2 ص98، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في المسابقة بالزهد والقناعة.

..............................

وَرَآهُ سُوَيْدُ بْنُ غَفَلَةَ، وَهُوَ يَأْكُلُ رَغِيفاً يَكْسِرُ بِرُكْبَتَيْهِ، وَيُلْقِيهِ فِي لَبَنٍ حَاذِرِ، يَجِدُ رِيحَهُ مِنْ حُمُوضَتِهِ. فَقُلْتُ: وَيْحَكِ يَا فِضَّةُ، أَ مَا تَتَّقُونَ اللهَ تَعَالَى فِيهَذَا الشَّيْخِ، فَتَنْخَلُون لَهُ طَعَاماً لِمَا أَرَى فِيهِ مِنَ النُّخَالِ. فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ: «بِأَبِي وَأُمِّي مَنْ لَمْ يُنْخَلْ لَهُ طَعَامٌ، وَلَمْ يَشْبَعْ مِنْ خُبْزِ الْبُرِّ حَتَّى قَبَضَهُ اللهُ»(1).

وقال (عليه السلام) لعقبة بن علقمة: «يَا أَبَا الْجَنُوبِ، أَدْرَكْتُ رَسُولَ اللهِ يَأْكُلُ أَيْبَسَ مِنْ هَذَا، وَيَلْبَسُ أَخْشَنَ مِنْ هَذَا؛ فَإِنْ أَنَا لَمْ آخُذْ بِهِ خِفْتُ أَنْ لاَ أَلْحَقَ بِهِ»(2).

وَتَرَصَّدَ غَدَاةً عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ، فَأَتَتْ فِضَّةُ بِجِرَابٍ مَخْتُومٍ، فَأَخْرَجَ مِنْهُ خُبْزاً مُتَغَيِّراً خَشِناً. فَقَالَ عَمْرٌو: يَا فِضَّةُ، لَوْ نَخَلْتِ هَذَا الدَّقِيقَ وَطَيَّبْتِهِ. قَالَتْ: كُنْتُ أَفْعَلُ فَنَهَانِي، وَكُنْتُ أَضَعُ فِي جِرَابِهِ طَعَاماً طَيِّباً فَخَتَمَ جِرَابَهُ. ثُمَّ إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) فَتَّهُ فِي قَصْعَةٍ، وَصَبَّ عَلَيْهِ الْمَاءَ، ثُمَّ ذَرَّ عَلَيْهِ الْمِلْحَ، وَحَسَرَ عَنْ ذِرَاعِهِ. فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: «يَا عَمْرُو، لَقَدْ حَانَتْ هَذِهِ - وَمَدَّ يَدَهُ إِلَى مَحَاسِنِهِ - وَخَسِرَتْ هَذِهِ أَنْ أُدْخِلَهَا النَّارَ مِنْ أَجْلِ الطَّعَامِ، وَهَذَا يُجْزِينِي»(3).وَرَآهُ (عليه السلام) عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ شَنَّةٌ فِيهَا قَرَاحُ مَاءٍ ، وَكِسَرَاتٌ

ص: 56


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: ج2 ص98، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في المسابقة بالزهد والقناعة.
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: ج2 ص98، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في المسابقة بالزهد والقناعة.
3- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: ج2 ص98، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في المسابقة بالزهد والقناعة.

..............................

مِنْ خُبْزِ شَعِيرٍ وَمِلْحٌ. فَقَالَ: إِنِّي لاَ أَرَى لَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَتَظَلُّ نَهَارَكَ طَاوِياً مُجَاهِداً، وَبِاللَّيْلِ سَاهِراً مُكَايِداً، ثُمَّ يَكُونُ هَذَا فَطُورَكَ!. فَقَالَ (عليه السلام): «عَلِّلِ النَّفْسَ بِالْقُنُوعِ، وَإِلاَّ طَلَبَتْ مِنْكَ فَوْقَ مَا يَكْفِيهَا»(1).

وقال سويد بن غفلة: دَخَلْتُ عَلَيْهِ يَوْمَ عِيدٍ، فَإِذَا عِنْدَهُ فَاثُورٌ عَلَيْهِ خُبْزُ السَّمْرَاءِ، وَصَحْفَةٌ فِيهَا خَطِيفَةٌ وَمِلْبَنَةٌ. فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، يَوْمُ عِيدٍ وَخَطِيفَةٌ!. فَقَالَ (عليه السلام): «إِنَّمَا هَذَا عِيدُ مَنْ غُفِرَ لَهُ»(2).

وقال ابن بطة في "الإبانة": عَنْ جُنْدَبٍ، أَنَّ عَلِيّاً (عليه السلام) قَدِمَ إِلَيْهِ لَحْمٌ غَثٌّ. فَقِيلَ لَهُ: نَجْعَلُ لَكَ فِيهِ سَمْناً. فَقَالَ (عليه السلام): «إِنَّا لا نَأْكُلُ أَدَمَيْنِجَمِيعاً»(3).

وَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ (عليه السلام) فِي يَوْمِ عِيدٍ أَطْعِمَةٌ. فَقَالَ: «أَجْعَلُهَا بَاجاً». وَخَلَطَ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ، فَصَارَتْ كَلِمَتُهُ مَثَلاً.

وقال الْعُرَنِيُّ: وُضِعَ خِوَانٌ مِنْ فَالُوذَجٍ بَيْنَ يَدَيْهِ (عليه السلام)، فَوَجَا بِإِصْبَعِهِ حَتَّى بَلَغَ أَسْفَلَهُ، ثُمَّ سَلَّهَا وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئاً، وَتَلَمَّظَ بِإِصْبَعِهِ، وَقَالَ: «طَيِّبٌ طَيِّبٌ، وَمَا هُوَ بِحَرَامٍ، وَلَكِنْ أَكْرَهُ أَنْ أُعَوِّدَ نَفْسِي بِمَا لَمْ أُعَوِّدْهَا». وفي خبر عن

ص: 57


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: ج2 ص98، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في المسابقة بالزهد والقناعة.
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: ج2 ص99، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في المسابقة بالزهد والقناعة.
3- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: ج2 ص99، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في المسابقة بالزهد والقناعة.

..............................

الإمام الصادق (عليه السلام): «أَنَّهُ مَدَّ يَدَهُ إِلَيْهِ ثُمَّ قَبَضَهَا، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ. فَقَالَ: ذَكَرْتُ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) أَنَّهُ لَمْ يَأْكُلْهُ قَطُّ، فَكَرِهْتُ أَنْ آكُلَهُ». وفي خبر آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام): «أَنَّهُ قَالُوا لَهُ: تُحَرِّمُهُ؟. قَالَ: لاَ، وَلَكِنْ أَخْشَى أَنْ تَتُوقَ إِلَيْهِ نَفْسِي، ثُمَّ تَلاَ: «أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا»(1)»(2).وعن الإمام الباقر (عليه السلام) في خبر: «كَانَ (عليه السلام) لَيُطْعِمُ خُبْزَ الْبُرِّ وَاللَّحْمَ، وَيَنْصَرِفُ إِلَى مَنْزِلِهِ وَيَأْكُلُ خُبْزَ الشَّعِيرِ وَالزَّيْتَ وَالْخَلَ»(3).

وفي (فضائل أحمد): قَالَ عَلِيٌّ (عليه السلام): «مَا أَصْبَحَ بِالْكُوفَةِ أَحَدٌ إِلاَّ نَاعِماً، إِنَّ أَدْنَاهُمْ مَنْزِلَةً لَيَأْكُلُ الْبُرَّ، وَيَجْلِسُ فِي الظِّلِّ، وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءِ الْفُرَاتِ»(4).

ص: 58


1- سورة الأحقاف: 20.
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: ج2 ص99، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في المسابقة بالزهد والقناعة.
3- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: ج2 ص99، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في المسابقة بالزهد والقناعة.
4- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: ج2 ص99، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في المسابقة بالزهد والقناعة.

وَالصَّادِقُ مِنَ الْكَاذِبِ

اشارة

-------------------------------------------

الصادق بقول مطلق

مسألة: تأكيد من الصديقة الطاهرة (صلوات الله عليها) على أن الإمام علي (عليه السلام) هو (الصادق) بقول مطلق، وفي كل الحالات والظروف، وفي جميع الأزمنة، فلم يكذب في قول ولا فعل(1)، ولا إشارة ولا تقرير، في الخطير من الأمور والحقير منها.

قال (عليه السلام): «وَاللهِ مَا كَذَبْتُ وَلاَ كُذِبْتُ»(2).

وفي المقابل أولئك المنقلبين على الأعقاب الذين كانت حياتهم سلسلة من الكذب والخداع والتدليس والمكروالخديعة والظلم.

كتب أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى سهل بن حنيف: «أَ مَا عَلِمْتَ أَنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ، وَيَسُدُّ فَاقَةَ جُوعِهِ بِقُرْصَيْهِ، وَلاَ يَأْكُلُ الْفِلْذَةَ فِي حَوْلَيْهِ، إِلاَّ فِي سَنَةِ أُضْحِيَّةٍ يَسْتَشْرِقُ الإِفْطَارَ عَلَى أَدَمَيْهِ، وَلَقَدْ آثَرَ الْيَتِيمَةَ عَلَى سِبْطَيْهِ، وَلَمْ تَقْدِرُوا عَلَى ذَلِكَ.

ص: 59


1- لعل مقصود الإمام المؤلف (رحمه الله) من الصدق في الفعل: مطابقة أفعاله كلها لأحكام الله، فهو نوع تجوز لطيف في كلمة الصدق التي هي مطابقة القول للخارج أي مطابقة الخبر للمخبر عنه أو للاعتقاد، على الخلاف في التعريف.
2- الإرشاد: ج1 ص16، فصل في علم علي (عليه السلام) بالغائبات قبل حدوثها، في نعيه نفسه إلى أهله وأصحابه قبل شهادته (عليه السلام). الإرشاد: ج1 ص317، فصل في إخباره (عليه السلام) بالغائبات والكائن قبل كونه، في ما ذكره (عليه السلام) في الفرق الثلاث بعد بيعته قبل قتالهم.

..............................

فَأَعِينُونِي بِوَرَعٍ وَاجْتِهَادٍ، وَاللهِ مَا كَنَزْتُ مِنْ دُنْيَاكُمْ تِبْراً، وَلاَ ادَّخَرْتُ مِنْ غَنَائِمِهَا وَفْراً، وَلاَ أَعْدَدْتُ لِبَالِي ثَوْبِي طِمْراً، وَلاَ ادَّخَرْتُ مِنْ أَقْطَارِهَا شِبْراً، وَمَا أَقْتَاتُ مِنْهَا كَقُوتِ أَتَانٍ دَبِرَةٍ، وَلَهِيَ فِي عَيْنِي أَهْوَنُ مِنْ عَصْفَةٍ، وَلَقَدْ رَقَّعْتُ مِدْرَعَتِي هَذِهِ حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَاقِعِهَا.

فَقَالَ قَائِلٌ: أَلْقِهَا، فَذُو الأُتُنِ لاَ تَرْضَى لِبَرَاذِعِهَا.

فَقُلْتُ: اعْزُبْ عَنِّي، فَعِنْدَ الصَّبَاحِ يَحْمَدُ الْقَوْمُ السُّرَى»(1).

وكتب (عليه السلام) إلى ابن عباس: «أَمَّا بَعْدُ، فَلاَ يَكُنْ حَظُّكَ فِي وِلاَيَتَكَ مَا لاَ تَسْتَفِيدُهُ، وَلاَ غَيْظاً تَشْتَفِيهِ، وَلَكِنْ إِمَاتَةَبَاطِلٍ، وَإِحْيَاءَ حَقٍ»(2).

ودخل ابن عباس على أميرِ المؤمنين (عليه السلام)، وقال: إِنَّ الْحَاجَّ قَدِ اجْتَمَعُوا لِيَسْمَعُوا مِنْكَ. وَهُوَ (عليه السلام) يَخْصِفُ نَعْلاً، قَالَ: «أَمَا وَاللهِ لَهُمَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَمْرِكُمْ هَذَا، إِلاَّ أَنْ أُقِيمَ حَدّاً، أَوْ أَدْفَعَ بَاطِلاً»(3).

وقال (عليه السلام): «يَا دُنْيَا يَا دُنْيَا، أَ بِي تَعَرَّضْتِ أَمْ إِلَيَّ تَشَوَّقْتِ، لاَ حَانَ حِينُكِ، هَيْهَاتَ غُرِّي غَيْرِي، لاَ حَاجَةَ لِي فِيكِ، قَدْ طَلَّقْتُكِ ثَلاَثاً لاَ رَجْعَةَ لِي فِيكِ»(4).

ص: 60


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: ج2 ص101، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في المسابقة بالزهد والقناعة.
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: ج2 ص101، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في المسابقة بالزهد والقناعة.
3- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: ج2 ص101.
4- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: ج2 ص102.

..............................

وَلَهُ (عليه السلام):

طَلِّقِ الدُّنْيَا ثَلَاثاً *** وَ اتَّخِذْ زَوْجاً سِوَاهَا

إِنَّهَا زَوْجَةُ سَوْءٍ *** لَا تُبَالِي مَنْ أَتَاهَا (1)ويروى أن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان في بعض حيطان فدك، وفي يده مسحاة، فهجمت عليه امرأة من أجمل النساء.

فقالت: يَا ابْنَ أَبِي طَالِبٍ، إِنْ تَزَوَّجْتَنِي أُغْنِيكَ عَنْ هَذِهِ الْمِسْحَاةِ، وَأَدُلُّكَ عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ، وَيَكُونُ لَكَ الْمُلْكُ مَا بَقِيتَ.

قال لها: «فَمَنْ أَنْتِ حَتَّى أَخْطُبَكِ مِنْ أَهْلِكِ؟».

قالت: أَنَا الدُّنْيَا.

فقال (عليه السلام): «ارْجِعِي فَاطْلُبِي زَوْجاً غَيْرِي، فَلَسْتِ مِنْ شَأْنِي».

وَأَقْبَلَ عَلَى مِسْحَاتِهِ، وَأَنْشَأَ:

لَقَدْ خَابَ مَنْ غَرَّتْهُ دُنْيَا دَنِيَّةٌ *** وَمَا هِيَ إِنْ غَرَّتْ قُرُوناً بِبَاطِلٍ

أَتَتْنَا عَلَى زِيِّ الْعَرُوسِ بُثَيْنَةُ *** وَ زِينَتُهَا فِي مِثْلِ تِلْكَ الشَّمَائِلِ

فَقُلْتُ لَهَا غُرِّي سِوَايَ فَإِنَّنِي *** عَزُوفٌ عَنِ الدُّنْيَا وَلَسْتُ بِجَاهِلٍ

وَمَا أَنَا وَالدُّنْيَا وَإِنَّ مُحَمَّداً *** رَهِينٌ بِقَفْرٍ بَيْنَ تِلْكَ الْجَنَادِلِ

وَهَبْهَا أَتَتْنِي بِالْكُنُوزِ وَدُرِّهَا *** وَأَمْوَالِ قَارُونَ وَمُلْكِ القَبَائِلِ

ص: 61


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: ج2 ص102، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في المسابقة بالزهد والقناعة.

..............................

أَ لَيْسَ جَمِيعاً لِلْفَنَاءِ مَصِيرُنَا *** وَيُطْلَبُ مِنْ خُزَّانِهَا بِالطَّوَائِلِ

فَغُرِّي سِوَايَ إِنَّنِي غَيْرُ رَاغِبٍ *** لِمَا فِيكِ مِنْ عِزٍّ وَمُلْكٍ وَنَائِلٍ

وَقَدْ قَنِعَتْ نَفْسِي بِمَا قَدْ رُزِقْتُهُ *** فَشَأْنَكِ يَا دُنْيَا وَأَهْلَ الْغَوَائِلِ

فَإِنِّي أَخَافُ اللهَ يَوْمَ لِقَائِهِ *** وَأَخْشَى عَذَاباً دَائِماً غَيْرَ زَائِلٍ(1)

وقال الإمام الباقر (عليه السلام): «مَا وَرَدَ عَلَيْهِ أَمْرَانِ كِلاَهُمَا رِضَى اللهِ، إِلاَّ أَخَذَ بِأَشَدِّهِمَا عَلَى بَدَنِهِ»(2).

وَقَالَ مُعَاوِيَةُ لِضِرَارِ بْنِ ضَمْرَةَ: صِفْ لِي عَلِيّاً؟.

قَالَ: (كَانَ - وَاللهِ - صَوَّاماً بِالنَّهَارِ، قَوَّاماً بِاللَّيْلِ، يُحِبُّ مِنَ اللِّبَاسِ أَخْشَنَهُ، وَمِنَ الطَّعَامِ أَجْشَبَهُ، وَكَانَ يَجْلِسُ فِينَا، وَيَبْتَدِئُ إِذَا سَكَتْنَا، وَيُجِيبُ إِذَا سَأَلْنَا، يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ، وَيَعْدِلُ فِي الرَّعِيَّةِ، لاَ يَخَافُ الضَّعِيفُ مِنْ جَوْرِهِ، وَلاَ يَطْمَعُ الْقَوِيُّ فِي مَيْلِهِ.

وَاللهِ، لَقَدْ رَأَيْتُهُ لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي، وَقَدْ أَسْبَلَ الظَّلاَمُ سُدُولَهُ، وَغَارَتْ نُجُومُهُ، وَهُوَ يَتَمَلْمَلُ فِي الْمِحْرَابِ تَمَلْمُلَ السَّلِيمِ، وَيَبْكِي بُكَاءَ الْحَزِينِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ مُسِيلاً لِلدُّمُوعِ عَلَى خَدِّهِ، قَابِضاً عَلَى لِحْيَتِهِ،يُخَاطِبُ دُنْيَاهُ فَيَقُولُ: يَا دُنْيَا، أَبِي تَشَوَّقْتِ وَلِي تَعَرَّضْتِ، لاَ حَانَ حِينُكِ، فَقَدْ أَبَنْتُكِ ثَلاَثاً لاَ رَجْعَةَ لِي

ص: 62


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: ج2 ص102، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في المسابقة بالزهد والقناعة.
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: ج2 ص103، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في المسابقة بالزهد والقناعة.

..............................

فِيكِ، فَعَيْشُكِ قَصِيرٌ، وَخَطَرُكِ يَسِيرُ. آهْ مِنْ قِلَّةِ الزَّادِ، وَبُعْدِ السَّفَرِ، وَوَحْشَةِ الطَّرِيقِ»(1).

من هم الصادقون

مسألة: يجب وجوباً كفائياً إعلام البشرية بأن الصادق في إبلاغ رسالات الله للعالمين من بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) خليفته على الخلائق، دون غيره ممن تقمص الخلافة.

قال تعالى: «لِيَسْئَلَ الصَّادِقينَ عَنْ صِدْقِهِمْ»(2)، وقد ذكرنا في "التبيين": (أي «الصَّادِقينَ» في عهدهم مع الله «عَنْ صِدْقِهِمْ» عما قالوه لقومهم من الكلام الصادق، أي أخذنا منهم الميثاق لنسألهم عن أنهم هل أدوا الرسالة أم لا)(3).عن ابن مسعود - في قوله: «إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا»(4) - قال: (زِينَةُ الأَرْضِ الرِّجَالُ، وَزِينَةُ الرِّجَالِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ)(5).

ص: 63


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: ج2 ص103، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)...
2- سورة الأحزاب: 8.
3- تبيين القرآن: ص431، سورة الأحزاب: 8.
4- سورة الكهف: 7.
5- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: ج2 ص107، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)...

..............................

وعن أبي جعفر (عليه السلام) - فِي قَوْلِهِ: «هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ»(1) - قال: «هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ «يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» »(2).

وفي (فضائل أحمد بن حنبل): قال علي (عليه السلام): «أُحَاجُّ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِتِسْعٍ: بِإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالْعَدْلِ فِي الرَّعِيَّةِ، وَالْقَسْمِ بِالسَّوِيَّةِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ وَأَشْبَاهِهِ»(3).وفي "التهذيب" قال علي بن رافع - وكان على مال أمير المؤمنين (عليه السلام) -: أَخَذَتْ مِنِّي ابْنَتُهُ عِقْدَ لُؤْلُؤٍ عَارِيَّةً مَضْمُونَةً، مَرْدُودَةً بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، فِي أَيَّامِ الأَضْحَى. فَرَآهُ عَلَيْهَا فَعَرَفَهُ، وَقَالَ لِي: «أَ تَخُونُ الْمُسْلِمِينَ!». فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ، وَقُلْتُ: قَدْ ضَمِنْتُهُ مِنْ مَالِي. فَقَالَ: «رُدَّهُ مِنْ يَوْمِكَ هَذَا، وَإِيَّاكَ أَنْ تَعُودَ لِمِثْلِ هَذَا فَتَنَالَكَ عُقُوبَتِي» ثم قال: «لَوْ كَانَتْ ابْنَتِي أَخَذَتْ هَذَا الْعِقْدَ عَلَى غَيْرِ عَارِيَّةٍ مَضْمُونَةٍ، لَكَانَتْ إِذاً أَوَّلَ هَاشِمِيَّةٍ قُطِعَتْ يَدُهَا عَلَى سَرِقَةٍ». فَقَالَتْ ابْنَتُهُ فِي ذَلِكَ مَقَالاً. فَقَالَ: «يَا بِنْتَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، لاَ تَذْهَبِنَّ بِنَفْسِكِ عَنِ الْحَقِّ، أَ كُلُّ

ص: 64


1- سورة النحل: 76.
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: ج2 ص107، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في المسابقة بالعدل والأمانة.
3- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: ج2 ص107، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في المسابقة بالعدل والأمانة.

..............................

نِسَاءِ الْمُهَاجِرِينَ تَتَزَيَّنُ فِي هَذَا الْعِيدِ بِمِثْلِ هَذَا»(1).

وعن زاذان: أَنَّ قَنْبَراً قَدَّمَ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) جَامَاتٍ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ فِي الرَّحْبَةِ، وَقَالَ: إِنَّكَ لاَ تَتْرُكُ شَيْئاً إِلاَّ قَسَمْتَهُ، فَخَبَأْتُ لَكَ هَذَا. فَسَلَّ سَيْفَهُ وَقَالَ: «وَيْحَكَ، لَقَدْ أَحْبَبْتَ أَنْ تُدْخِلَبَيْتِي نَاراً». ثُمَّ اسْتَعْرَضَهَا بِسَيْفِهِ، فَضَرَبَهَا حَتَّى انْتَثَرَتْ مِنْ بَيْنِ إِنَاءٍ مَقْطُوعٍ بَضْعَةً وَثَلاَثِينَ، وَقَالَ: «عَلَيَّ بِالْعُرَفَاءِ». فَجَاءُوا فَقَالَ: «هَذَا بِالْحِصَصِ»، وَهُوَ يَقُولُ:

هَذَا جَنَايَ وَخِيَارُهُ فِيهِ *** وَكُلُّ جَانٍ يَدُهُ إِلَى فِيهِ(2)

مسائل في الصدق

مسألة: يجب - أو يستحب حسب المصداق - أن يكون الإنسان صادقاً مع نفسه، ومع مجتمعه، ومع ربه، كما كان أمير المؤمنين علي (عليه السلام) كذلك.

قال (عليه السلام): «وَاللهِ، مَا كَتَمْتُ وَشْمَةً، وَلاَ كَذَبْتُ كِذْبَةً»(3).

وعلمه كان في العوالم السابقة على هذا العالم، فكان إذن مقارناً بل سابقاً على أول لحظة من لحظات حياته في هذه الدنيا(4).

ص: 65


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: ج2 ص108، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام) ...
2- مناقب آل أبي طالب: ج2 ص108، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)...
3- نهج البلاغة: خطب أمير المؤمنين (عليه السلام)، الرقم16 ومن كلام له (عليه السلام) لما بويع في المدينة.
4- هذا دفع دخل حتى لا يتوهم أحد أن قوله (عليه السلام): (ما كذبت كذبة قط مذ علمت ...) له مفهوم.

..............................

والصدق مع النفس: أن لا يمنيها بالباطل، ولا يحاول خداعها، بإلباس الباطل ثوب الحق واختلاق الأعذار، بل بأن يحاسبها حساباً عسيراً على كل ما صدر منها.

والصدق مع المجتمع: ينقسم إلى الصدق مع أهله، ومع جيرانه، ومع شركائه في العمل، ومع منافسيه، وحتى مع أعدائه.

وكذلك صدق الحكومة مع الشعب، ومطلق المدير مع المدار، وبالعكس(1).

وأما الصدق مع الله: فهو صدق النية بإخلاص مطلق لا تشوبه شائبة رياء أو سمعة، وصدق القول وصدق العمل، بل صدق التوجه أيضاً، وليطلب تفصيل ذلك من مظانه.

عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «كُونُوا دُعَاةً لِلنَّاسِ بِالْخَيْرِ بِغَيْرِ أَلْسِنَتِكُمْ، لِيَرَوْا مِنْكُمُ الاِجْتِهَادَ، وَالصِّدْقَ، وَالْوَرَعَ»(2).

وعن أبي بصير، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه

السلام) يَقُولُ: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الصَّادِقِينَ،وَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ مِنَ الْكَاذِبِينَ. فَإِذَا صَدَقَ قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: صَدَقَ وَبَرَّ، وَإِذَا كَذَبَ قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: كَذَبَ وَفَجَرَ»(3).

ص: 66


1- راجع (الفقه: الاجتماع) وغيره.
2- وسائل الشيعة: ج12 ص162، تتمة كتاب الحج، الباب108 ح15955.
3- وسائل الشيعة: ج12 ص162، تتمة كتاب الحج، الباب108 ح15957.

..............................

وعن حسن بن زياد الصيقلِ، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «مَنْ صَدَقَ لِسَانُهُ زَكَا عَمَلُهُ، وَمَنْ حَسُنَتْ نِيَّتُهُ زِيدَ فِي رِزْقِهِ، وَمَنْ حَسُنَ بِرُّهُ بِأَهْلِ بَيْتِهِ مُدَّ لَهُ فِي عُمُرِهِ»(1).

وعن عمرو بن أبي المقدام، قال: قال لي أبو جعفر (عليه السلام) في أول دخلة دخلت عليه: «تَعَلَّمُوا الصِّدْقَ قَبْلَ الْحَدِيثِ»(2).

وعن الفضيل بن يسار، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «يَا فُضَيْلُ، إِنَّ الصَّادِقَ أَوَّلُ مَنْ يُصَدِّقُهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ يَعْلَمُ أَنَّهُ صَادِقٌ، وَتُصَدِّقُهُ نَفْسُهُ تَعْلَمُ أَنَّهُصَادِقٌ»(3).

وعن أحمد بن النضر الخراز، عن جده الربيع بن سعد، قال: قال لي أبو جعفر (عليه السلام): «يَا رَبِيعُ، إِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكْتُبَهُ اللهُ صِدِّيقاً»(4).

وعن زيد بن علي، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ أَقْرَبَكُمْ مِنِّي غَداً، وَأَوْجَبَكُمْ عَلَيَّ شَفَاعَةً: أَصْدَقُكُمْ لِلْحَدِيثِ، وَآدَاكُمْ لِلأَمَانَةِ، وَأَحْسَنُكُمْ خُلُقاً، وَأَقْرَبُكُمْ مِنَ النَّاسِ»(5).

وعن محمد بن إسماعيل، رفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أُوصِيكَ يَا عَلِيُّ فِي نَفْسِكَ بِخِصَالٍ - اللَّهُمَّ أَعِنْهُ -:

ص: 67


1- وسائل الشيعة: ج12 ص162، تتمة كتاب الحج، الباب108 ح15958.
2- وسائل الشيعة: ج12 ص163، تتمة كتاب الحج، الباب108 ح15959.
3- وسائل الشيعة: ج12 ص163، تتمة كتاب الحج، الباب108 ح15960.
4- وسائل الشيعة: ج12 ص163، تتمة كتاب الحج، الباب108 ح15961.
5- وسائل الشيعة: ج12 ص163، تتمة كتاب الحج، الباب108 ح15962.

..............................

الأُولَى الصِّدْقُ، وَلاَ يَخْرُجُ مِنْ فِيكَ كَذِبَةٌ أَبَداً»(1).

الخلافة للصادقين

مسألة: لا يجوز أن يتولى خلافة رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلاّ الصادقون بقول مطلق(2)، وهم الأئمة الأثنى عشر (عليهم السلام) فقط دون غيرهم، وهم الذين عينهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأمر من الله عز وجل.

قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ»(3).

وعن بريد بن معاوية العجلي، قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: «اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ»؟. قال: «إِيَّانَا عَنَى»(4).

وعن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) في قول الله عز وجل: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ» قال: «الصَّادِقُونَ هُمُ الأَئِمَّةُ، وَالصِّدِّيقُونَ

ص: 68


1- وسائل الشيعة: ج12 ص163- 164، تتمة كتاب الحج، الباب108 من أبواب أحكام العشرة في السفر والحضر، ح15963.
2- قد شرح الإمام المؤلف (رحمه الله) معنى الصدق بقول مطلق في المسائل السابقة، ونضيف أن الصدق أمر مشكك ذو مراتب، وأعلى درجاته هو الخاص المنطبق على الأئمة المعصومين (عليهم السلام)، وبما أنهم أفضل خلائق الله من هذه الجهة، يستحقون خلافة رسول الله بقول مطلق بعده (صلى الله عليه وآله).
3- سورة التوبة: 119.
4- الكافي: ج1 ص208، كتاب الحجة، باب ما فرض الله عز وجل ورسوله (صلى الله عليه وآله) من الكون مع الأئمة (عليهم السلام)، ح1.

..............................

بِطَاعَتِهِمْ»(1).

وروى جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) - في قوله: «وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ» - قال: «مَعَ آلِ مُحَمَّدٍ (عليهم السلام) »(2).

وعن ابن عباس - في قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ» -: أَيْ كُونُوا مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام)(3).

وقال عز وجل: «قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمينَ»(4).

والكاذب ولو لمرة واحدة طوال عمره ظالم، وقد سبق أنه ليس الاستدلال بذلك متوقفاً على صدق المشتق على المنقضيعنه المبدأ، حتى يكون بحثاً مبنائياً، بل يتم الاستدلال ولو على القول بكونه مجازاً في المنقضي عنه المبدأ. ويمكن الاستدلال على ذلك بوجوه عديدة، نذكر وجها عقلياً واحداً ، وهو:

إن طلب النبي إبراهيم (عليه السلام): «قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمينَ»(5) لا يخلو من أربع صور:

ص: 69


1- الكافي: ج1 ص208، كتاب الحجة، باب ما فرض الله عز وجل ورسوله (صلى الله عليه وآله) من الكون مع الأئمة (عليهم السلام)، ح2.
2- شواهد التنزيل لقواعد التفضيل: ج1 ص343، سورة التوبة: آية 119، ح353.
3- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) لابن شهرآشوب: ج3 ص92، باب تعريف باطنه (عليه السلام)، فصل في أنه الصديق والفاروق والصدق والصادق.
4- سورة البقروة: 124.
5- سورة البقروة: 124.

..............................

1: فإن الظالم إما ظالم في الماضي والحاضر، أي وقت طلب إعطائه الإمامة.

2: وإما غير ظالم في الماضي وظالم في الحاضر.

3: وإما ظالم في الماضي وغير ظالم في الحاضر.

4: وإما غير ظالم في الماضي وغير ظالم في الحاضر.

والصورتان الأُوْلَيان يستحيل أن يطلبهما إبراهيم (عليه السلام) بل أي حكيم عاقل، والثالثة نفتها الآية، فبقيت الرابعة وهو المطلوب.

القائد وحرمة الكذب

مسألة: يحرم الكذب، خاصة على القائد، ليس لأنه ممن يتأسى به فحسب، بل لموقعه أيضاً.

قال الإمام الصادق (عليه السلام): «إِنَّ الْحَسَنَ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ حَسَنٌ، وَإِنَّهُ مِنْكَ أَحْسَنُ؛ لِمَكَانِكَ مِنَّا. وَإِنَّ الْقَبِيحَ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ قَبِيحٌ، وَإِنَّهُ مِنْكَ أَقْبَحُ»(1).

وعن أبي النعمان، قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): «يَا أَبَا النُّعْمَانِ، لاَتَكْذِبْ عَلَيْنَا كَذِبَةً فَتُسْلَبَ الْحَنِيفِيَّةَ، وَلاَ تَطْلُبَنَّ أَنْ تَكُونَ رَأْساً فَتَكُونَ ذَنَباً، وَلاَتَسْتَأْكِلِ النَّاسَ بِنَا فَتَفْتَقِرَ؛ فَإِنَّكَ مَوْقُوفٌ لاَ مَحَالَةَ وَمَسْئُولٌ، فَإِنْ صَدَقْت

ص: 70


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) لابن شهرآشوب: ج4 ص236، باب إمامة أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)، فصل في خرق العادات له (عليه السلام).

..............................

صَدَّقْنَاكَ، وَإِنْ كَذَبْتَ كَذَّبْنَاكَ»(1).

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «كَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (صلوات الله عليه) يَقُولُ لِوُلْدِهِ: اتَّقُوا الْكَذِبَ الصَّغِيرَ مِنْهُ وَالْكَبِيرَ، فِي كُلِّ جِدٍّ وَهَزْلٍ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَإِذَا كَذَبَ فِي الصَّغِيرِ اجْتَرَى عَلَى الْكَبِيرِ. أَ مَا عَلِمْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) قَالَ: مَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَصْدُقُ حَتَّى يَكْتُبَهُ اللهُ صِدِّيقاً، وَمَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَكْذِبُ حَتَّى يَكْتُبَهُ اللهُ كَذَّاباً»(2).

وعن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ لِلشَّرِّ أَقْفَالاً، وَجَعَلَ مَفَاتِيحَ تِلْكَ الأَقْفَالِ الشَّرَابَ، وَالْكَذِبُ شَرٌّ مِنَ الشَّرَابِ»(3).

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «إِنَّ الْكَذِبَ هُوَ خَرَابُ الإِيمَانِ»(4).

وعن أبي خديجة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «الْكَذِبُ عَلَى اللهِ وَعَلَى رَسُولِهِ (صلى الله عليه وآله) مِنَ الْكَبَائِرِ»(5).

وعن فضيل بن يسار، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «إِنَّ أَوَّلَ مَنْ يُكَذِّبُ الْكَذَّابَ: اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ الْمَلَكَانِ اللَّذَانِ مَعَهُ، ثُمَّهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ»(6).

ص: 71


1- الكافي: ج2 ص338، كتاب الإيمان والكفر، باب الكذب، ح1.
2- الكافي: ج2 ص338، كتاب الإيمان والكفر، باب الكذب، ح2.
3- الكافي: ج2 ص338 - 339، كتاب الإيمان والكفر، باب الكذب، ح3.
4- الكافي: ج2 ص339، كتاب الإيمان والكفر، باب الكذب، ح4.
5- الكافي: ج2 ص339، كتاب الإيمان والكفر، باب الكذب، ح5.
6- الكافي: ج2 ص339، كتاب الإيمان والكفر، باب الكذب، ح6.

..............................

وعن عمر بن يزيد، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ الْكَذَّابَ يَهْلِكُ بِالْبَيِّنَاتِ، وَيَهْلِكُ أَتْبَاعُهُ بِالشُّبُهَاتِ»(1).

وعن معاوية بن وهب، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يقول: «إِنَّ آيَةَ الْكَذَّابِ بِأَنْ يُخْبِرَكَ خَبَرَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَالمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، فَإِذَا سَأَلْتَهُ عَنْ حَرَامِ اللهِ وَحَلاَلِهِ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ شَيْءٌ»(2).

وعن أبي بصير، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ الْكَذِبَةَ لَتُفَطِّرُ الصَّائِمَ». قُلْتُ: وَأَيُّنَا لاَ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ. قَالَ (عليه السلام): «لَيْسَ حَيْثُ ذَهَبْتَ، إِنَّمَا ذَلِكَ الْكَذِبُ عَلَى اللهِ، وَعَلَى رَسُولِهِ، وَعَلَى الأَئِمَّةِ (صلوات الله عليهم)»(3).وعن أحمد بن محمد بن عيسى، عن بعض أصحابه رفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: ذُكِرَ الْحَائِكُ لأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) أَنَّهُ مَلْعُونٌ. فَقَالَ (عليه السلام): «إِنَّمَا ذَاكَ الَّذِي يَحُوكُ الْكَذِبَ عَلَى اللهِ وَعَلَى رَسُولِهِ (صلى الله عليه وآله)»(4).

ص: 72


1- الكافي: ج2 ص339، كتاب الإيمان والكفر، باب الكذب، ح7.
2- الكافي: ج2 ص340، كتاب الإيمان والكفر، باب الكذب، ح8.
3- الكافي: ج2 ص340، كتاب الإيمان والكفر، باب الكذب، ح9.
4- الكافي: ج2 ص340، كتاب الإيمان والكفر، باب الكذب، ح10.

..............................

القائد والتحلي بالصدق

مسألة: يجب التحلي بالصدق خاصة على القائد.

لا يقال: حرمة الكذب لا تستلزم وجوب الصدق.

لأنه يقال: ليس الاستدلال على وجوب الصدق بحرمة الكذب، إذ هو أعم ولا تلازم كما لا يخفى، بل لما دل على وجوبه في مواطن أخر، كما يدل عليه بالالتزام أدلة الهداية والإرشاد في الشؤون العقائدية وفي كل إرشاد واجب.

قال تعالى: «فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ»(1).

وقال سبحانه: «وَقُلِ الْحقُّ مِنْ رَبِّكُمْ»(2).

وعن علي (عليه السلام)، قال: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ: إِنَّ مِنْ مَكَارِمِ الأَخْلاَقِ صِدْقَ الْحَدِيثِ»(3).

وفي كتاب الأخلاق، قال: قيل لرسولالله (صلى الله عليه وآله): بِمَ يُعْرَفُ الْمُؤْمِنُ؟. قال: «بِوَقَارِهِ، وَلِينِهِ، وَصِدْقِ حَدِيثِهِ»(4).

ص: 73


1- سورة التوبة: 122.
2- سورة الكهف: 29.
3- مستدرك الوسائل: ج8 ص454، الباب91 من أبواب أحكام العشرة في السفر والحضر، ح9983.
4- مستدرك الوسائل: ج8 ص455، الباب91 ح9985.

..............................

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يَبْعَثْ نَبِيّاً قَطُّ إِلاَّ بِصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ إِلَى الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ»(1).

وقال علي (عليه السلام): «الصِّدْقُ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَالْبِرُّ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ أَحَدُكُمْ يَصْدُقُ حَتَّى لاَ يَبْقَى فِي قَلْبِهِ مَوْضِعُ إِبْرَةٍ مِنْ كَذِبٍ، حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ اللهِ صَادِقاً»(2).

وقال (عليه السلام): «إِنَّ مِنْ حَقِيقَةِ الإِيمَانِ أَنْ يُؤْثِرَ الْعَبْدُ الصِّدْقَ حَيْثُ يَضُرُّ، عَلَى الْكَذِبِ حَيْثُ يَنْفَعُ، وَلاَ يَعْدُو الْمَرْءُ بِمَقَالِهِ عَمَلَهُ»(3).

وقال (عليه السلام) - في خطبة طويلة -: «أَيُّهَا النَّاسُ، أَلاَ فَاصْدُقُوا إِنَّ اللهَ مَعَالصَّادِقِينَ، وَجَانِبُوا الْكَذِبَ فَإِنَّهُ مُجَانِبٌ لِلإِيمَانِ، أَلاَ إِنَّ الصَّادِقَ عَلَى شَفَا مَنْجَاةٍ وَكَرَامَةٍ، أَلاَ إِنَّ الْكَاذِبَ عَلَى شَفَا رَدًى وَهَلَكَةٍ»(4).

وعن علي بن الحسين (عليه السلام)، قال: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَمَلَ إِسْلاَمُهُ، وَمُحِيَتْ ذُنُوبُهُ، وَلَقِيَ رَبَّهُ وَهُوَ عَنْهُ رَاضٍ: وَفَاءٌ للهِ بِمَا يَجْعَلُ عَلَى نَفْسِهِ لِلنَّاسِ، وَصِدْقُ لِسَانِهِ مَعَ النَّاسِ، وَالاِسْتِحْيَاءُ مِنْ كُلِّ قَبِيحٍ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ النَّاسِ، وَحُسْنُ خُلُقِهِ مَعَ أَهْلِهِ»(5).

ص: 74


1- مستدرك الوسائل: ج8 ص455، الباب91 ح9986.
2- مستدرك الوسائل: ج8 ص455-456 ح9988.
3- مستدرك الوسائل: ج8 ص456، الباب91 ح9989.
4- مستدرك الوسائل: ج8 ص456، الباب91 ح9990.
5- مستدرك الوسائل: ج8 ص456، الباب91 من أبواب أحكام العشرة في السفر والحضر، ح9991.

..............................

وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «الصِّدْقُ نُورٌ مُتَشَعْشَعٌ فِي عَالَمِهِ، كَالشَّمْسِ يَسْتَضِيءُ بِهَا كُلُّ شَيْ ءٍ بِمَعْنَاهُ، مِنْ غَيْرِ نُقْصَانٍ يَقَعُ عَلَى مَعْنَاهَا»، إلى أن قال: «وَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ (عليه السلام): الصِّدْقُ سَيْفُ اللهِ فِي أَرْضِهِ وَسَمَائِهِ، أَيْنَمَا هَوَى بِهِ نَفَدَ»(1).وعن رسول اللهِ (صلى الله عليه وآله)، أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ: «يَا ابْنَ مَسْعُودٍ، عَلَيْكَ بِالصِّدْقِ، وَلاَ تَخْرُجَنَّ مِنْ فِيكَ كَذِبَةٌ أَبَداً»(2).

وعن عبد الله بن عمر، قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله). فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا عَمَلُ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟. قَالَ: «الصِّدْقُ، إِذَا صَدَقَ الْعَبْدُ بَرَّ، وَإِذَا بَرَّ آمَنَ، وَإِذَا آمَنَ دَخَلَ الْجَنَّةَ»(3).

وعن النبي (صلى الله عليه وآله)، قال: «تَحَرَّوُا الصِّدْقَ، فَإِنْ رَأَيْتُمْ فِيهِ الْهَلَكَةَ فَإِنَّ فِيهِ النَّجَاةَ». وقال (صلى الله عليه وآله): «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّهُ مِنَ الْبِرِّ، وَإِنَّهُ فِي الْجَنَّةِ»(4).

ص: 75


1- مستدرك الوسائل: ج8 ص457، الباب91 من أبواب أحكام العشرة في السفر والحضر، ح9994.
2- مستدرك الوسائل: ج8 ص457، الباب91 من أبواب أحكام العشرة في السفر والحضر، ح9995.
3- مستدرك الوسائل: ج8 ص457، الباب91 من أبواب أحكام العشرة في السفر والحضر، ح9997.
4- مستدرك الوسائل: ج8 ص457-458، الباب91 من أبواب أحكام العشرة في السفر والحضر، ح9998.

«وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ....

اشارة

«وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ»(1)

مسائل في الاستشهاد بالآية

مسألة: يستحب الاستشهاد بالآيات الكريمة في الخطب والكتب والرسائل وغيرها، وقد يجب ذلك إذا كان حفظاً للكتاب من الاندراس أو توقف عليه تأثير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويحرم الترك إذا عدّ هتكاً، وقد سبق تفصيله.

مسألة: يستفاد من استشهادها (عليها السلام) بهذه الآية، أنها (صلوات الله عليها) كانت ترى - وقد شهدت أيضاً - بأن القوم لم يؤمنوا ولم يتقوا، والمضاد للإيمان الكفر، والمضاد للتقوى الفسق.

قال تعالى: «هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإيمَانِ»(2).

وقال سبحانه: «فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فقد استَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى»(3).

وقال تعالى: «فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَفَلْيَكْفُرْ»(4).

ص: 76


1- سورة الأعراف: 96.
2- سورة آل عمران: 167.
3- سورة البقرة: 256.
4- سورة الكهف: 29.

..............................

وقال سبحانه: «وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ»(1).

مسألة: ويستفاد من استشهادها (عليها السلام) بالآية، أن إنكار الولاية مساوق للكفر، فمنكرها كافر بالكفر العملي على ما سبق. نعم، يترتب عليه أحكام الإسلام ظاهراً.

معنى «أخذناهم» غيبياً ومادياً

يستفاد من استشهادها (عليها السلام) بهذه الآية المباركة أن القوم حيث تركوا ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) فلم يؤمنوا ولم يتقوا، لم يفتح الله عليهم بركات من السماء والأرض، بل حيث إنهم كذّبوا، أخذهم الله بما كانوا يكسبون، ويستحب بيان ذلك.

والآية ومفادها بالإضافة إلى كونها غيبية(2)، واقعية وظاهرة، لأن الذينيؤمنون بالله(3) ويتقونه سبحانه وتعالى، يوفّرون لأنفسهم خير السماء والأرض، أما الأرض فخيرها بالعمارة والزراعة والتجارة والتعاون وحيازة المباحات والزواج وكثرة النسل وقلة المشاكل ونحوها، وأما السماء فإذا كثرت المزارع والأنهار والعيون - وغيرها من موارد الماء - تصعد الأبخرة إلى الأعلى فتولد

ص: 77


1- سورة البقرة: 108.
2- أي إخبار عن الغيب والمستقبل، أو الماضي اللولائي.
3- أي به ورسالاته ومناهجه ومنها دساتيره في الاقتصاد الذي هو الأفضل للبشر على الإطلاق من غيره.

..............................

السحاب الممطر بقدرة الله سبحانه وتعالى مما يسبب كثرة زراعة الأرض وعمارتها وقوة الاجتماع.

مضافاً إلى أن من الواضح كون الإيمان يسبب اطمئنان النفس وهدوء الأعصاب وعدم الكآبة والقلق(1)وما أشبهمن الأمراض النفسية الخطيرة،من الأمراض النفسية الخطيرة،من الأمراض النفسية الخطيرة،من الأمراض النفسية الخطيرة،وهذا

ص: 78


1- تشير الإحصاءات إلى وجود مئات الملايين من البشر مبتلون بمرض الكآبة، وبديهي أن المبتلى بمرض الكآبة لا يستطيع أن يفكر جيداً أو ينتج جيداً وأن علاقته بمن حوله ستكون علاقة سلبية.فالإحصاءات وواقع الأرقام تدل على مدى انتشار الاكتئاب النفسي في العالم في العصر الحالي، فإن هناك زيادة هائلة في حالات الاكتئاب، كما تدل على ذلك الإحصائيات التي وردت مؤخراً في مراجع الطب النفسي، وفي تقارير منظمة الصحة العالمية، ورغم أن هذه الأرقام تؤكد زيادة انتشار حالات الاكتئاب، إلا أن الغالبية العظمى من مرضى الاكتئاب لا يعرف أحد عنهم شيئاً؛ لأنهم لا يذهبون إلى الأطباء، ولا تبدو عليهم بصورة واضحة مظاهر الاكتئاب النفسي. ويعتبر الاكتئاب من أكثر الأمراض النفسية انتشاراً، حيث تقدر إحصائيات منظمة الصحة العالمية عدد مرضى الاكتئاب في العالم بما يزيد على (500) مليون إنسان وفي بعض الإحصاءات أكثر من (800) مليون. كما تشير بعضها إلى أن نسبة انتشار الاكتئاب تصل إلى (7%) من سكان العالم. ومن المتوقع أن تزيد هذه النسبة إلى (10%) في خلال أعوام قليلة، وتشير إحصائية لمنظمة الصحة العالمية أجريت في عام (1994م) إلى أن نسبة حالات الاكتئاب تصل إلى (18%) من العينة التي شملتها الدراسة، وهذا الرقم يعني أن هؤلاء الأشخاص قد أصيبوا بالاكتئاب في مرحلة ما من مراحل حياتهم، وتم تصنيف (6ر4%) منهم كحالات اكتئاب شديدة، (7ر7%) كحالات اكتئاب متوسطة، (7ر5%) كحالات اكتئاب بسيطة. وفي إحصائية أخرى على المرضى المترددين على عيادات الأطباء من التخصصات المختلفة، تبين أن نسبة (15%) منهم يعانون من حالات الاكتئاب النفسي، ومن هذه الأرقام فقط يتبين أن الاكتئاب يعتبر من أكثر الأمراض انتشاراً بصفة عامة. .............................. وهناك حالات يطلق عليها حالات (الاكتئاب المقنع - Ma«ked De«»e««i»n)، وتعني أن المريض لا تبدو عليه مظاهر الاكتئاب، لكنه يشكو من أعراض أخرى، مثل: الصداع، وألم الظهر، وضيق الصدر، وعسر الهضم. ويتردد على الأطباء من التخصصات المختلفة، دون أن يعلم أحد أن هذه الأعراض هي مجرد مظاهر جسدية تدل على إصابته بالاكتئاب، وهذه الحالات لا يتم تشخيصها في معظم الأحيان، ويظل المريض يعاني لسنوات طويلة دون أن يتم تشخيص حالته بواسطة الأطباء، وبالطبع فإن هذه الحالات لا يمكن أن تحيط بها الأرقام والإحصائيات. وقد أظهرت دراسة ميدانية موسعة أجريت في خريف عام 1974م، اشترك فيها حوالي (15000) طبيب ينتمون إلى عدة بلدان، منها: ألمانيا، وفرنسا، واستراليا، وسويسرا، وغيرها، أن ما يقرب من (80%) من مرضى الاكتئاب لا يذهبون إلى الأطباء، ولا يتم اكتشافهم. أما البقية الباقية من حالات الاكتئاب، فإن ما يقرب من (13-15%) منهم يذهبون إلى الأطباء الممارسين، والذين يعملون في التخصصات المختلفة غير الطب النفسي، ولايذهب إلى الأطباء النفسيين سوى (2%) فقط من مرضى الاكتئاب. وهناك نسبة من المرضى يقدمون مباشرة على الانتحار دون أن يتم تشخيص حالتهم. كما تشير الإحصائيات - عن انتشار مرض الاكتئاب في الدول الأوربية والولايات المتحدة - إلى زيادة نسبة الإصابة بالاكتئاب، حيث ذكرت بعض الدراسات: إن الاكتئاب ينتشر في كل الطبقات الاجتماعية، وخصوصاً في طبقات المجتمع العليا. وفي دراسة أُجريت في مدينة شيكاغو الأمريكية - لانتشار الأمراض النفسية في إحياء المدينة - لوحظ زيادة انتشار حالات الاكتئاب النفسي في الأحياء الراقية بالمدينة، بينما لوحظ زيادة انتشار مرض الفصام العقلي "شيزوفرنيا" في الأحياء الفقيرة. ولقد أدى ذلك إلى التفكير في ارتباط زيادة الإصابة بالاكتئاب بارتفاع المستوى الاجتماعي، وتشير الأرقام عن انتشار الاكتئاب في بعض الدول الأوربية، إلا أن مرضى الاكتئاب يشكلون (20 - 30%) من مجموع المرضى النفسيين. وبالرغم من عدم وجود إحصائيات موثوقة في دول العالم الثالث، حول انتشار الأمراض النفسية بصفة عامة، فإن بعض الدراسات تشير إلى أن ما يقرب من (20%) من المرضى - الذين يترددون على العيادات النفسية - في مصر يعانون من الاكتئاب النفسي، وتصل نسبة هذه الحالات في السودان إلى (33%) من عدد المرضى النفسيين. ورغم أن الأرقام التي ذكرتها منظمة الصحة العالمية مؤخراً - عن عدد حالات الانتحار في العالم - تدل على زيادة هذه الحالات تصل إلى (800000) شخص كل عام، فإن نسبة الانتحار في المجتمعات الشرقية تظل أقل كثيراً من دول أوروبا وأمريكا؛ نظراً لتعاليم الدين الإسلامي الواضحة بشأن تحريم قتل النفس. لكن هناك الكثير من المؤشرات، التي تدل على وجود حالات الاكتئاب النفسي في المجتمع، بنسبة تقترب من انتشار الاكتئاب في الدول المتقدمة. كما تشير الأرقام إلى زيادة انتشار الاكتئاب النفسي لدى المرأة، بنسبة تفوق حدوث هذه الحالات بين الرجال. ففي بعض الدراسات تقدر نسبة الإصابة بالاكتئاب بين المرأة والرجل بحوالي (1:2)، وفي دراسات أخرى وجد أن هذه النسبة (2:3)، ويدل ذلك على أن مقابل كل حالة اكتئاب في الرجال يوجد حالتين في النساء، أو مقابل كل حالتين في الرجال يوجد ثلاث حالات في السيدات. وتشير إحصائيات أخرى إلى أن احتمال إصابة المرأة بالاكتئاب على مدى سنوات العمر يصل (28) في الألف، بينما يبلغ في الرجال حوالي (15) في الألف. وأخيراً، فإن هذه الأرقام التي تم عرضها من الشرق والغرب، من واقع التقارير الأخيرة عن انتشار مرض الاكتئاب النفسي، لابد أن تعطي مؤشراً على تزايد هذه المشكلة في كل بلاد العالم، وتؤكد ضرورة الاهتمام برصد هذا المرض، وتعاون كل الجهات من أجل مواجهته. كما أشارت إحصائيات عالمية إلى زيادة مضطردة في صرف وتناول الأدوية المضادة للاكتئاب، وكذلك الأدوية المضادة للقلق (البنزوديازابين)، وهي التي تُعرف المهدئات الصغرى. ففي الولايات المتحدة، قالت الإحصائيات: بأن أكثر من (120) وصفة من الأدوية المضادة للاكتئاب، و(98) مليوناً وصفة للأدوية المهدئة الصغرى، وكان الدواء الأكثر صرفاً بين الأدوية المهدئة هو دواء الزاناكس (Xanax) يليه الأتيفان. وفي لبنان تحدث أحد الأطباء - عضو في البرلمان اللبناني -: بأن صرف الأدوية المهدئة في لبنان زاد ازدياداً مطرداً خلال سنة ماضية، حيث إن كمية الأدوية المهدئة (البنزودايازابين) تشكل (15%) من الأدوية بشكل عام، وهذا ثلاثة أضعاف النسبة العالمية، حيث إن النسبة العالمية هي صرف (5%) من مجموع الأدوية بشكلٍ عام، وطالب برقابة على صرف هذه الأدوية؛ لأنها تقود إلى الإدمان إذا لم يتم السيطرة عليها.

ص: 79

ص: 80

.............................

الاطمئنان من أهم أسباب التقدم، إذ النفس المطمئنة تجعل كل أطرافها من البدن والروح والاجتماع - عائليةً ومنظمةً وحكومةً - والطبيعة أشجاراً وجماداً وجبالاً وودياناً وغيرها، في حال خير وسعادة، بخلاف النفس القلقة، فإنها توجب أمراض البدن وغيره، فإن كل واحد من النفس والبدن يؤثر أحدهما في الآخر، ولذا قالوا: سلامة الروح توجب سلامة البدن.

ومن المعلوم أن الروح والجسم إذا مرضا أوجبا هدم الاجتماع، كما أنهما يوجبان عدم الاعتناء بالطبيعة لإنمائها وازدهارها والاستفادة الصحيحة منها.

هذا إضافة إلى أن الإيمان يبعد الإنسان عن المعاصي التي توجب هدم الطبيعة والبدن والعقل والعائلة والمجتمع، في سياسته واقتصاده وحقوقه وغير ذلك، مثل شرب الخمر والزنا والربا والسرقة والاستبداد والظلم والعدوان، والقوانين الكابتة للحريات كحرية الزراعة والتجارة والرعي وغير ذلك، مما يوجب بوار الأراضي وهلاك الحرث والنسل وشيوع الأمراض وغيرها مما مآل ذلك إلى ذهاب وزوال بركاتالسماء والأرض.

أما التقوى فهو السير في جادة الله سبحانه وامتثال أوامره، والله أعلم بالصلاح والفساد، ولم يأمر الناس إلاّ بما يُصلح دينهم ودنياهم وآخرتهم، ويضمن لهم سعادة الدارين.

وإذا اتبع الناس منهج الباري سبحانه في السياسة والاقتصاد والاجتماع وفي حياته الحياة الشخصية، انتفى الفقر والمرض والجهل والفوضى والعوز، ولذا روي أن في عصر مولانا الإمام المهدي المنتظر (عجل الله فرجه الشريف) يكون كل تلك

ص: 81

..............................

الخيرات، فإن الفقر وليد سوء الاستفادة أو سوء توزيع الثروة أو ما أشبه، والمرض وليد سوء التغذية أو سوء اللبس أو سوء المباشرة الجنسية أو نحوها، وكل ذلك ينتفي بسبب المناهج الصحيحة في سلوك الحياة.

نعم، لا شك أن شيئاً من المرض والفقر ونحوهما ما هو من لوازم الإنسان ومن طبيعة الدنيا، لكن الكلام ليس في ذلك، بل فيما نشاهده اليوم من كثرة الأمراض وأنواعها المختلفة والحديثة، فالكلام في المرض العام والفقر العام وانهدام الاجتماع بأبشعالوجوه.

كما أن الجهل والتخلف الثقافي ينتفي بسبب المناهج العلمية الصحيحة، قال سبحانه: «لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ..»(1)، فإنه بين واجب عيني وكفائي وفضيلة.

وبعد ذلك كله لم يكن مجال للفوضى، لأنه وليد الثلاثة الآنفة الذكر، والصدّيقة الطاهرة (صلوات الله عليها) أشارت في كلامها إلى هذا الأمر واستشهدت بالآية المباركة.

ص: 82


1- سورة التوبة: 122.

«وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ .....

اشارة

«وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ»(1).

الجزاء من سنخ العمل

مسألة: يستحب - وقد يجب - بيان أن القوم حيث تركوا ولاية علي (عليه السلام) وظلموا فاطمة (عليها السلام) شملتهم هذه الآية: «وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ»(2).

وقد أخذت الصديقة الطاهرة (عليها السلام) هذه الآية من سورة الزمر، فإن الظالم لابد وأن يرتد إليه ظلمه، كما أن المحسن لابد وأن يعود إليه إحسانه، ولا يتمكن الإنسان مهما كان، أن يعجز الله سبحانه وتعالى أو أن يسبقه.

والسين كما هو معلوم للمستقبل القريب، عكس (سوف) التي هي للبعيد، فقوله تعالى: «سَيُصِيبُهُمْ» وعيد من الله وإنذار بأن ما سيصيبهم من العقاب قريب، سواء كان ما يصيبهم في الدنيا أم ما سيصيبهم في الآخرة، إذ ما أقرب الآخرة للإنسان، قال تعالى: «اقْتَرَبَتِالسَّاعَةُ»(3).

وقال عزوجل: «إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا»(4).

ص: 83


1- سورة الزمر: 51.
2- سورة الزمر: 51.
3- سورة القمر: 1.
4- سورة المعارج: 6 - 7.

..............................

فالظالمون هم الخاسرون وإن ظنوا - في سكرة انتصارهم وسلطتهم - أنهم الرابحون، قال عزوجل: «كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ»(1)، والأمر كما قال الشاعر:

ظَنُّوا بِأَنْ قَتَلَ الْحسَيْنَ يَزِيدُهُمْ *** لَكِنَّمَا قَتَلَ الُحسَيْنُ يَزِيدَا

عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «الظُّلْمُ ثَلاَثَةٌ: ظُلْمٌ يَغْفِرُهُ اللهُ، وَظُلْمٌ لاَ يَغْفِرُهُ اللهُ، وَظُلْمٌ لاَ يَدَعُهُ اللهُ. فَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لاَ يَغْفِرُهُ فَالشِّرْكُ، وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي يَغْفِرُهُ فَظُلْمُ الرَّجُلِ نَفْسَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ، وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لاَ يَدَعُهُ فَالْمُدَايَنَةُ بَيْنَ الْعِبَادِ»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) في قولالله عز وجل: «إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمرْصَادِ»(3)، قال: «قَنْطَرَةٌ عَلَى الصِّرَاطِ لا يَجُوزُهَا عَبْدٌ بِمَظْلِمَةٍ»(4).

وعن شيخ من النخع، قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): إِنِّي لَمْ أَزَلْ وَالِياً مُنْذُ زَمَنِ الْحَجَّاجِ إِلَى يَوْمِي هَذَا، فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟. قَالَ: فَسَكَتَ، ثُمَّ أَعَدْتُ عَلَيْهِ. فَقَالَ (عليه السلام): «لاَ حَتَّى تُؤَدِّيَ إِلَى كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ»(5).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «مَا مِنْ مَظْلِمَةٍ أَشَدَّ مِنْ مَظْلِمَةٍ لاَيَجِدُ

ص: 84


1- سورة المجادلة: 21.
2- الكافي: ج2 ص330 - 331، كتاب الإيمان والكفر، باب الظلم، ح1.
3- سورة الفجر: 14.
4- الكافي: ج2 ص331، كتاب الإيمان والكفر، باب الظلم، ح2.
5- الكافي: ج2 ص331، كتاب الإيمان والكفر، باب الظلم، ح3.

..............................

صَاحِبُهَا عَلَيْهَا عَوْناً إِلاَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ»(1).

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «لَمَّا حَضَرَ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) الْوَفَاةُ، ضَمَّنِي إِلَى صَدْرِهِ ثُمَّ قَالَ: يَا بُنَيَّ، أُوصِيكَ بِمَا أَوْصَانِي بِهِ أَبِي (عليه السلام) حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، وَبِمَا ذَكَرَ أَنَّأَبَاهُ أَوْصَاهُ بِهِ قَالَ: يَا بُنَيَّ، إِيَّاكَ وَظُلْمَ مَنْ لاَ يَجِدُ عَلَيْكَ نَاصِراً إِلاَّ اللهَ»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه): «مَنْ خَافَ الْقِصَاصَ كَفَّ عَنْ ظُلْمِ النَّاسِ»(3).

وعن إسحاق بن عمار، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «مَنْ أَصْبَحَ لاَ يَنْوِي ظُلْمَ أَحَدٍ، غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا أَذْنَبَ ذَلِكَ الْيَوْمَ، مَا لَمْ يَسْفِكْ دَماً، أَوْ يَأْكُلْ مَالَ يَتِيمٍ حَرَاماً»(4).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَنْ أَصْبَحَ لاَ يَهُمُّ بِظُلْمِ أَحَدٍ غَفَرَ اللهُ مَا اجْتَرَمَ»(5).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «مَنْ ظَلَمَ مَظْلِمَةً أُخِذَ بِهَا فِي نَفْسِهِ، أَوْ فِي مَالِهِ، أَوْ فِي وُلْدِهِ»(6).

ص: 85


1- الكافي: ج2 ص331، كتاب الإيمان والكفر، باب الظلم، ح4.
2- الكافي: ج2 ص331، كتاب الإيمان والكفر، باب الظلم، ح5.
3- الكافي: ج2 ص331، كتاب الإيمان والكفر، باب الظلم، ح6.
4- الكافي: ج2 ص331 -332، كتاب الإيمان والكفر، باب الظلم، ح7.
5- الكافي: ج2 ص332، كتاب الإيمان والكفر، باب الظلم، ح8.
6- الكافي: ج2 ص332، كتاب الإيمان والكفر، باب الظلم، ح9.

..............................

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «اتَّقُوا الظُّلْمَ؛ فَإِنَّهُ ظُلُمَاتُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ»(1).

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «مَا مِنْ أَحَدٍ يَظْلِمُ بِمَظْلِمَةٍ، إِلاَّ أَخَذَهُ اللهُ بِهَا فِي نَفْسِهِ، وَمَالِهِ. وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ، فَإِذَا تَابَ غَفَرَ اللهُ لَهُ»(2).

عدل الله تعالى

قوله تعالى: «فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ»(3)، الباء دليل على أن العقوبة جزاء، وهذه الآية من أدلة عدل الله، على خلاف ما زعمه الأشاعرة، وهي تفيد أن الجزاء على قدر المعصية كماً وكيفاً، بلا زيادة عن الاستحقاق، ولا نقيصة إلا فيما كان من لطف الله أو شفاعة أوليائه الطاهرين (عليهم السلام).

هذا، وقد أصاب القوم بالفعل سيئات ما كسبوا في حياتهم الدنيا قبل الآخرة، في أنفسهم وأهليهم، وفيسياستهم واقتصادهم واجتماعهم وغير ذلك،مما يستدعي مجلدات لبيان تفصيلها، ولعل الله يقيّض من يكتب في هذا المجال.

قال النبي (صلى الله عليه وآله): «بِالْعَدْلِ قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ» (4).

ص: 86


1- الكافي: ج2 ص332، كتاب الإيمان والكفر، باب الظلم، ح10.
2- الكافي: ج2 ص332، كتاب الإيمان والكفر، باب الظلم، ح12.
3- سورة الأعراف: 96.
4- غوالي اللآلي: ج4 ص103، الخاتمة، الجملة الثانية في الأحاديث المتعلقة بالعلم وأهله وحامليه.

..............................

وعن الحلبي، قال: أَخْبَرَنِي أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) أَنَّ أَبَاهُ (عليه السلام) حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) أَعْطَى خَيْبَرَ بِالنِّصْفِ أَرْضَهَا وَنَخْلَهَا، فَلَمَّا أَدْرَكَتِ الثَّمَرَةُ، بَعَثَ عَبْدَ اللهِ بْنَ رَوَاحَةَ، فَقَوَّمَ عَلَيْهِمْ قِيمَةً. فَقَالَ لَهُمْ: إِمَّا أَنْ تَأْخُذُوهُ وَتُعْطُونِي نِصْفَ الثَّمَنِ، وَإِمَّا أَنْ أُعْطِيَكُمْ نِصْفَ الثَّمَنِ وَآخُذَهُ. فَقَالُوا: بِهَذَا قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ»(1).

وعن أبي الصباح، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه

السلام) يَقُولُ: «إِنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) لَمَّا افْتَتَحَ خَيْبَرَ تَرَكَهَا فِي أَيْدِيهِمْ عَلَى النِّصْفِ، فَلَمَّا بَلَغَتِ الثَّمَرَةُ،بَعَثَ عَبْدَ اللهِ بْنَ رَوَاحَةَ إِلَيْهِمْ، فَخَرَصَ عَلَيْهِمْ. فَجَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) فَقَالُوا لَهُ: إِنَّهُ قَدْ زَادَ عَلَيْنَا. فَأَرْسَلَ إِلَى عَبْدِ اللهِ فَقَالَ: مَا يَقُولُ هَؤُلاءِ؟. قَالَ: قَدْ خَرَصْتُ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ، فَإِنْ شَاءُوا يَأْخُذُونَ بِمَا خَرَصْنَا، وَإِنْ شَاءُوا أَخَذْنَا. فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ: بِهَذَا قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «اعْرِفُوا اللهَ بِاللهِ، وَالرَّسُولَ بِالرِّسَالَةِ، وَأُولِي الأَمْرِ بِالأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ»(3).

وعن العبد الصالح (عليه السلام) في حديث له قال: «إِنَّ اللهَ لَمْ يَتْرُكْ شَيْئاً مِنْ

ص: 87


1- الكافي: ج5 ص267، كتاب المعيشة، باب قبالة الأرضين والمزارعة بالنصف والثلث والربع، ح2.
2- الكافي: ج5 ص267، كتاب المعيشة، باب قبالة الأرضين والمزارعة بالنصف والثلث والربع، ح2.
3- الكافي: ج1 ص85، كتاب التوحيد، باب أنه لا يعرف إلا به، ح1.

..............................

صُنُوفِ الأَمْوَالِ إِلاَّ وَقَدْ قَسَمَهُ، وَأَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، الْخَاصَّةَ وَالْعَامَّةَ، وَالْفُقَرَاءَ وَالْمَسَاكِينَ، وَكُلَّ صِنْفٍ مِنْ صُنُوفِ النَّاسِ. فَقَالَ: لَوْ عُدِلَ فِي النَّاسِ لاَسْتَغْنَوْا» ثمقال: «إِنَّ الْعَدْلَ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، وَلاَ يَعْدِلُ إِلاَّ مَنْ يُحْسِنُ الْعَدْلَ»(1).

وعن علي بن الحسين (عليه السلام)، قال: «كَانَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ فِي آخِرِ خُطْبَتِهِ: طُوبَى لِمَنْ طَابَ خُلُقُهُ، وَطَهُرَتْ سَجِيَّتُهُ، وَصَلَحَتْ سَرِيرَتُهُ، وَحَسُنَتْ عَلاَنِيَتُهُ، وَأَنْفَقَ الْفَضْلَ مِنْ مَالِهِ، وَأَمْسَكَ الْفَضْلَ مِنْ قَوْلِهِ، وَأَنْصَفَ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «مَنْ يَضْمَنُ لِي أَرْبَعَةً بِأَرْبَعَةِ أَبْيَاتٍ فِي الْجَنَّةِ: أَنْفِقْ وَلاَ تَخَفْ فَقْراً، وَأَفْشِ السَّلاَمَ فِي الْعَالَمِ، وَاتْرُكِ الْمِرَاءَ وَإِنْ كُنْتَ مُحِقّاً، وَأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ»(3).

وعن جارود أبي المنذر، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه

السلام) يَقُولُ: «سَيِّدُ الأَعْمَالِ ثَلاَثَةٌ: إِنْصَافُ النَّاسِ مِنْ نَفْسِكَ حَتَّى لاَ تَرْضَى بِشَيْءٍ إِلاَّ رَضِيتَ لَهُمْ مِثْلَهُ، وَمُوَاسَاتُكَ الأَخَ فِي الْمَالِ، وَذِكْرُ اللهِ عَلَىكُلِّ حَالٍ، لَيْسَ: سُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْد لِلهِ وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ فَقَطْ، وَلَكِنْ إِذَا وَرَدَ عَلَيْكَ شَيْءٌ أَمَرَ اللهُ

ص: 88


1- الكافي: ج1 ص542، كتاب الحجة، أبواب التاريخ، باب الفيء والأنفال وتفسير الخمس وحدوده وما يجب فيه، ح4.
2- الكافي: ج2 ص144، كتاب الإيمان والكفر، باب الإنصاف والعدل، ح1.
3- الكافي: ج2 ص144، كتاب الإيمان والكفر، باب الإنصاف والعدل، ح2.

..............................

عَزَّوَجَلَّ بِهِ أَخَذْتَ بِهِ، أَوْ إِذَا وَرَدَ عَلَيْكَ شَيْءٌ نَهَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ تَرَكْتَهُ»(1).

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلام له: «أَلاَ إِنَّهُ مَنْ يُنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ لَمْ يَزِدْهُ اللهُ إِلاَّ عِزّاً»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «ثَلاَثَةٌ هُمْ أَقْرَبُ الْخَلْقِ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَفْرُغَ مِنَ الْحِسَابِ: رَجُلٌ لَمْ تَدْعُهُ قُدْرَةٌ فِي حَالِ غَضَبِهِ إِلَى أَنْ يَحِيفَ عَلَى مَنْ تَحْتَ يَدِهِ، وَرَجُلٌ مَشَى بَيْنَ اثْنَيْنِ فَلَمْ يَمِلْ مَعَ أَحَدِهِمَا عَلَى الآخَرِ بِشَعِيرَةٍ، وَرَجُلٌ قَالَ بِالْحَقِّ فِيمَا لَهُ وَعَلَيْهِ»(3).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «أَلاَأُخْبِرُكُمْ بِأَشَدِّ مَا فَرَضَ اللهُ عَلَى خَلْقِهِ» فذكر ثلاثة أشياء «أَوَّلُهَا إِنْصَافُ النَّاسِ مِنْ نَفْسِكَ»(4).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «سَيِّدُ الأَعْمَالِ إِنْصَافُ النَّاسِ مِنْ نَفْسِكَ، وَمُوَاسَاةُ الأَخِ فِي اللهِ، وَذِكْرُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى كُلِّ حَالٍ»(5).

ص: 89


1- الكافي: ج2 ص144، كتاب الإيمان والكفر، باب الإنصاف والعدل، ح3.
2- الكافي: ج2 ص144، كتاب الإيمان والكفر، باب الإنصاف والعدل، ح4.
3- الكافي: ج2 ص145، كتاب الإيمان والكفر، باب الإنصاف والعدل، ح5.
4- الكافي: ج2 ص145، كتاب الإيمان والكفر، باب الإنصاف والعدل، ح6.
5- الكافي: ج2 ص145، كتاب الإيمان والكفر، باب الإنصاف والعدل، ح7.

أَلا هَلُمَّ فَاسْمَعْ

اشارة

-------------------------------------------

أدوات التنبيه والتحضيض

(ألا) حرف تنبيه لافتتاح الكلام، كقوله تعالى: «أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ»(1).

وكما قال الشاعر: (ألا يا صاح هل) (2).

كما تأتي للتحضيض أيضاً، كقوله سبحانه: «أَ لَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ»(3). وكما يقال: (ألا تتوب وترعوي عن ضلالك).

و(هلم) من أسماء الأفعال بمعنى تعال وأقبل، إذ هي تعني الدعاء إلى الشيء، فهي لازمة، وتأتي بنفس اللفظة للواحد والمثنى والجمع، وللمذكر والمؤنث، ولكن نجد يصرفونها فيقولون: هلما وهلموا وهلمي وهلممن، وقد قال جمع من الأدباء إن الإفراد في الجميع أفصح.مسألة: (هلم) في كلامها (عليها السلام) خطاب لكل الناس والأجيال على مر التاريخ، وليس خاصاً بجيل ذلك الزمن، كما ليس خاصاً بأهل المدينة..

ص: 90


1- سورة هود: 8.
2- وتمام الشعر: ألا يا صاح هل شاهدت يوماً *** يتيماً راضياً يختار يتماً فليس ثرى البلاد لنا وطاء *** ولكني أراه أباً وأماً
3- سورة النور: 22.

..............................

ولذلك قالت (عليها السلام): (هلم) ولم تقل (هلموا) فإن بعض الأدباء ذهبوا - كما في مجمع البحرين - أن (لفظ هلم خطاب لمن يصلح أن يجيب وإن لم يكن حاضراً، ولفظ هلموا موضوع للموجودين الحاضرين، ويفسره الحديث «هلم إلى الحج» فلو نادى «هلموا إلى الحج» لم يحج يومئذ إلاّ من كان إنسياً مخلوقاً).

مسألة: التنبيه بين واجب ومستحب، وقد يكون المنبه عليه شأناً من شؤون الآخرة، وقد يكون شأناً من شؤون الدنيا.

مسألة: التحضيض على الخير كذلك.

مسألة: وكذلك التحذير من الشر.

والجامع في المسائل الثلاثة انطباق أحد العناوين التالية: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإرشاد الجاهل وتنبيه الغافل، والإحسان للإخوان وقضاء حوائجهم، وما أشبه ذلك، أو ما يقع مقدمة لذلك فتأمل.قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ: كَيْفَ بِكُمْ إِذَا لَبَسَتْكُمْ فِتْنَةٌ، يَرْبُو فِيهَا الْوَلِيدُ، وَيَزِيدُ فِيهَا الْكَبِيرُ، يَجْرِي النَّاسُ عَلَيْهَا فَيَتَّخِذُونَهَا سُنَّةً، فَإِذَا غُيِّرَ مِنْهَا شَيْءٌ، قِيلَ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ أَتَوْا مُنْكَراً. ثُمَّ يَشْتَدُّ الْبَلاَءُ، وَتُسْبَى الذُّرِّيَّةُ، وَتَدُقُّهُمُ الْفِتَنُ كَمَا تَدُقُّ النَّارُ الْحَطَبَ، وَكَمَا تَدُقُ الرَّحَى بِثِفَالِهَا. يَتَفَقَّهُ النَّاسُ لِغَيْرِ الدِّينِ، وَيَتَعَلَّمُونَ لِغَيْرِ الْعَمَلِ، وَيَطْلُبُونَ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الآخِرَةِ»(1).

ص: 91


1- كتاب سليم بن قيس الهلالي: ج2 ص719-720، الحديث الثامن عشر.

..............................

وعن جعفر، عن أبيه (عليهما السلام)، أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله)، قَالَ: «كَيْفَ بِكُمْ إِذَا فَسَدَ نِسَاؤُكُمْ، وَفَسَقَ شُبَّانُكُمْ، وَلَمْ تَأْمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَلَمْ تَنْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ!.

فَقِيلَ لَهُ: وَيَكُونُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟!.

قَالَ (صلى الله عليه وآله): نَعَمْ، وَشَرٌّ مِنْ ذَلِكَ. كَيْفَ بِكُمْ إِذَا أَمَرْتُمْ بِالْمُنْكَرِ، وَنَهَيْتُمْ عَنِ الْمَعْرُوفِ!.

قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ؟!.

قَالَ (صلى الله عليه وآله): «نَعَمْ، وَشَرٌّ مِنْ ذَلِكَ. كَيْفَ بِكُمْ إِذَا رَأَيْتُمُ الْمَعْرُوفَمُنْكَراً، وَالْمُنْكَرَ مَعْرُوفاً!»(1).

وعن شرحبيل، عن علي (عليه السلام)، قال: «كَيْفَ بِكُمْ وَإِمَارَةَ الصِّبْيَانِ مِنْ قُرَيْشٍ! قَوْمٌ يَكُونُونَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَتَّخِذُونَ الْمَالَ دُولَةً، وَيَقْتُلُونَ الرِّجَالَ». فقال الأوس بن حجر الثمالي: إِذًا نُقَاتِلُهُمْ وَكِتَابِ اللهِ. قال (عليه السلام): «كَذَبْتَ وَكِتَابِ اللهِ»(2).

وعن علي (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «كَيْفَ بِكُمْ إِذَا كَانَ الْحَجُّ فِيكُمْ مَتْجَراً!. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَكَيْفَ ذَلِكَ!. قَالَ: قَوْمٌ يَأْتُونَ مِنْ بَعْدِكُمْ يَحُجُّونَ عَنِ الأَمْوَاتِ وَالأَحْيَاءِ، فَيَسْتَفْضِلُونَ الْفَضْلَةَ فَيَأْكُلُونَهَا. كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا تَهَيَّأَ أَحَدُكُمْ لِلْجُمُعَةِ عَشِيَّةَ الْخَمِيسِ، كَمَا تَهَيَّأَ الْيَهُودُ عَشِيَّةَ الْجُمُعَةِ

ص: 92


1- قرب الإسناد: ص54 - 55، عن الإمام الصادق (عليه السلام) أحاديث متفرقة ح178.
2- الغارات: ج1 ص113 - 114، خطبة لأمير المؤمنين علي (عليه السلام).

..............................

لِسَبْتِهِمْ»(1).وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «كَيْفَ بِكُمْ وَبِزَمَانٍ يُغَرْبَلُ النَّاسُ فِيهِ، وَيَبْقَى حُثَالَةٌ مِنَ النَّاسِ، قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وَأَمَانَاتُهُمْ»(2).

وعن أبي عبد الله جعفر بن محمد (عليه السلام)، قال: «بَلَغَ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) عَنْ قَوْمٍ مِنْ قُرَيْشٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: أَيَرَى مُحَمَّدٌ أَنَّهُ قَدْ أَحْكَمَ الأَمْرَ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ، وَلَئِنْ مَاتَ لَنَعْزِلَنَّهَا عَنْهُمْ، وَلَنَجْعَلُهَا فِي سِوَاهُمْ. فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) حَتَّى قَامَ فِي مَجْمَعِهِمْ ثُمَّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، كَيْفَ بِكُمْ وَقَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدِي! ثُمَّ رَأَيْتُمُونِي فِي كَتِيبَةٍ مِنْ أَصْحَابِي أَضْرِبُ وُجُوهَكُمْ وَرِقَابَكُمْ بِالسَّيْفِ. فَنَزَلَ جَبْرَئِيلُ (عليه السلام) فِي الْحَالِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ رَبَّكَ يُقْرِئُكَ السَّلاَمَ، وَيَقُولُ لَكَ: قُلْ: إِنْ شَاءَ اللهُ، أَوْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): إِنْ شَاءَ اللهُ، أَوْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَتَوَلَّى ذَلِكَ مِنْكُمْ»(3).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «كَيْفَ بِكُمْ إِذَا مَرَجَ الدِّينُ وَظَهَرَتِ الرَّغْبَةُ!»(4).

ص: 93


1- الجعفريات: ص66، كتاب المناسك، باب الترغيب في الحج.
2- المجازات النبوية: ص102، المجاز 62.
3- أمالي الشيخ المفيد: ص113، المجلس الثالث عشر، ح4.
4- مجموعة ورام: ج2 ص281، باب ذكر جمل من مناهي رسول الله (صلى الله عليه وآله).

وَمَا عِشْتَ أَرَاكَ الدَّهْرَ عَجَباً

اشارة

-------------------------------------------

عجائب الدهر

مسألة: العجائب محيطة بالإنسان من كل جانب، بل الحق أن كل شيء في كل جهاته عجيب، فإنه تجل لعظمة الله سبحانه وتعالى ودليل عليه، إلا أن بعض الناس قد يدرك من جهات العجب شيئاً أقل، والبعض قد يدرك شيئاً أكثر، وربما البعض لا يدرك شيئاً.

فقولها (عليها السلام): «وَمَا عِشْتَ أَرَاكَ الدَّهْرَ عَجَباً» على إطلاقه تام، فإن الإنسان مهما عمّر وبقي في الحياة الدنيا، فإنه يرى كل يوم شيئاً عجباً من الأمور الكونية والاجتماعية وغيرهما، ومن تقلب الأحوال وتصرف الأمور وغيرها.

مسألة: ينبغي السعي لاستكشاف الأكثر فالأكثر من عجائب الخلق والعالم، فإنه طريق معرفة الباري وحكمته وعلمه وعظمته، وهو طريق كمال الإنسان وتكامله.

ففي الحديث: «وَسِرْ فِي دِيَارِهِمْ وَآثَارِهِمْ، فَانْظُرْ فِيمَا فَعَلُوا، وَعَمَّا انْتَقَلُوا، وَأَيْنَ حَلُّوا وَنَزَلُوا»(1).وفي الآيات الشريفة الكثير مما يؤكد على التفكر في ملكوت السماوات والأرض، وعلى التدبر والتأمل.

ص: 94


1- نهج البلاغة: رسائل أمير المؤمنين (عليه السلام)، الرقم 31 ومن وصية له (عليه السلام) للحسن بن علي (عليه السلام) كتبها إليه بحاضرين عند انصرافه من صفين.

..............................

قال تعالى: «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهمْ أَنَّهُ الْحقُّ أَوَ لَم يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهيدٌ»(1).

وقال سبحانه: «أَوَ لَم يَتَفَكَّرُوا في أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ»(2).

وقال تعالى: «فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذلِكَ لَمحْيِ الْموْتَى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَديرٌ»(3).

وقال سبحانه: «إِنَّ في خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ»(4).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) يَقُولُ:نَبِّهْ بِالتَّفَكُّرِ قَلْبَكَ، وَجَافِ عَنِ اللَّيْلِ جَنْبَكَ، وَاتَّقِ اللهَ رَبَّكَ»(5).

ص: 95


1- سورة فصلت: 53.
2- سورة الروم: 8.
3- سورة الروم: 50.
4- سورة آل عمران: 190 - 191.
5- الكافي: ج2 ص54، كتاب الإيمان والكفر، باب التفكر، ح1.

..............................

وعن الحسن الصيقل، قال: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) عَمَّا يَرْوِي النَّاسُ أَنَّ تَفَكُّرَ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةٍ، قُلْتُ: كَيْفَ يَتَفَكَّرُ؟. قَالَ: «يَمُرُّ بِالْخَرِبَةِ أَوْ بِالدَّارِ فَيَقُولُ: أَيْنَ سَاكِنُوكِ؟ أَيْنَ بَانُوكِ؟ مَا بَالُكِ لاَ تَتَكَلَّمِينَ»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ إِدْمَانُ التَّفَكُّرِ فِي اللهِ وَفِي قُدْرَتِهِ»(2).

وعن معمر بن خلاد، قال: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ الرِّضَا (عليه السلام) يَقُولُ: لَيْسَ الْعِبَادَةُ كَثْرَةَ الصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ، إِنَّمَا الْعِبَادَةُ التَّفَكُّرُ فِي أَمْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ»(3).

وعن ربعي، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): قال أمير المؤمنين (صلوات اللهعليه): «إِنَّ التَّفَكُّرَ يَدْعُو إِلَى الْبِرِّ وَالْعَمَلِ بِهِ»(4).

العجائب وحكمة الخالق

مسألة: إن اشتمال الكون في كل جوانبه على العجائب، دليل حكمة الخالق وقدرته سبحانه وتعالى.

لذا يستحب أن يتأمل الإنسان في ملكوت السماوات والأرض، وأن لايستهين بأية ظاهرة مهما بدت بسيطة أو عادية، ومهما خالها غير مفيدة.

ص: 96


1- الكافي: ج2 ص54 - 55، كتاب الإيمان والكفر، باب التفكر، ح2.
2- الكافي: ج2 ص55، كتاب الإيمان والكفر، باب التفكر، ح3.
3- الكافي: ج2 ص55، كتاب الإيمان والكفر، باب التفكر، ح4.
4- الكافي: ج2 ص55، كتاب الإيمان والكفر، باب التفكر، ح5.

..............................

وقضية التفاحة والجاذبية وشبههما من أمثلة الأول، ومثال بنات وردان(1) ومعالجة تلك الدمل المستعصية منأمثلة الثاني(2).

إلفات:

قول الصديقة (عليها السلام): «وَمَا عِشْتَ أَرَاكَ الدَّهْرَ عَجَباً» العجب مطلق، وهو يشمل العجب في نفسه، كما قال تعالى: «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهمْ أَنَّهُ الْحقُّ»(3)، والعجب في مجتمعه، وفي عالم النبات والحيوان والجماد، وفي مختلف الجوانب أيضاً.

ص: 97


1- بنات وَردان - بفتح الواو -: وتسمى فالية الأفاعي، وهي: دويبة تتولد في الأماكن الندية، وأكثر ما تكون في الحمامات والسقايات، ومنها: الأسود، والأحمر، والأبيض، والأصهب. وإذا تكونت تسافدت وباضت بيضاً مستطيلاً، وهي تألف الحشوش، واحدها حش، بفتح الحاء المهملة وضمها. راجع حياة الحيوان الكبرى للدميري: ج2 ص552، باب الواو، بنات وردان.
2- القصة هي أن رجلاً كان يمشي في الصحراء، فرأى نوعاً من الخنافس تسمى: (أم وردان)، وبالفارسية: (بشكل غلطان)، وهي حشرة تدحرج البعرة أمامها. فاستخف بها، وشكك في حكمة الله عز وجل من خلق هكذا دويبة، فابتلي بدمل مؤلمة جداً عجز عن علاجها الأطباء، إلى أن أوصاه طبيب حاذق بأخذ (أم وردان)، ثم وضع رمادها بعد قتلها وحرقها على الدمل. ففعل فشوفي تماماً، فعرف وجهاً واحداً من وجوه حكمة الله تعالى في خلق هذه الدويبة.
3- سورة فصلت: 53.

..............................

الاعتبار من العجائب

مسألة: يلزم الاعتبار من عجائب الدهر، فإنه ورد «مَا أَكْثَرَ الْعِبَرَ وَأَقَلَّ الاِعْتِبَار»(1).

فقول الصديقة (عليها السلام): «وَمَا عِشْتَ... » يستدعي بدلالة الإشارة ضرورة الاعتبار، فإن العاقل من اتعظ بالتجارب والعبر.

عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «كَانَ أَكْثَرُ عِبَادَةِ أَبِي ذَرٍّ (رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ) التَّفَكُّرَ وَالاِعْتِبَارَ»(2).

وفي خبر أبي ذر (رحمه الله)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ لَهُ ثَلاَثُ سَاعَاتٍ: سَاعَةٌ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَسَاعَةٌ يُحَاسِبُ فِيهَا نَفْسَهُ، وَسَاعَةٌ يَتَفَكَّرُ فِيمَا صَنَعَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ، وَسَاعَةٌ يَخْلُو فِيهَا بِحَظِّ نَفْسِهِ مِنَ الْحَلاَلِ»(3).وعن أبي الحسن الثالث (عليه السلام)، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: «الْعِلْمُ وِرَاثَةٌ كَرِيمَةٌ، وَالآدَابُ حُلَلٌ حِسَانٌ، وَالْفِكْرَةُ مِرْآةٌ صَافِيَةٌ»(4).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) فيما أوصى به الحسن (عليه السلام): «لاَ عِبَادَةَ

ص: 98


1- نهج البلاغة: حِكَم أمير المؤمنين (عليه السلام)، الرقم297.
2- بحار الأنوار: ج68 ص323، تتمة كتاب الإيمان والكفر، الباب80 ح6.
3- بحار الأنوار: ج68 ص323، تتمة كتاب الإيمان والكفر، الباب80 ح7.
4- بحار الأنوار: ج68 ص323 - 324، تتمة كتاب الإيمان والكفر، الباب80 ح10.

..............................

كَالتَّفَكُّرِ فِي صَنْعَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ»(1).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أَغْفَلُ النَّاسِ مَنْ لَمْ يَتَّعِظْ بِتَغَيُّرِ الدُّنْيَا مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ»(2).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «السَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ»(3).

وعن إسماعيل بن بشر بن عمار، قال:كَتَبَ هَارُونُ إِلَى مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ (عليه السلام): عِظْنِي وَأَوْجِزْ. قَالَ: فَكَتَبَ إِلَيْهِ: «مَا مِنْ شَيْءٍ تَرَاهُ عَيْنُكَ إِلاَّ وَفِيهِ مَوْعِظَةٌ»(4).

وقال أبو عبد الله (عليه السلام): «الْخَيْرُ كُلُّهُ فِي ثَلاَثِ خِصَالٍ، فِي: النَّظَرِ، وَالسُّكُوتِ، وَالْكَلاَمِ. فَكُلُّ نَظَرٍ لَيْسَ فِيهِ اعْتِبَارٌ فَهُوَ سَهْوٌ، وَكُلُّ سُكُوتٍ لَيْسَ فِيهِ فِكْرَةٌ فَهُوَ غَفْلَةٌ، وَكُلُّ كَلاَمٍ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرٌ فَهُوَ لَغْوٌ. فَطُوبَى لِمَنْ كَانَ نَظَرُهُ اعْتِبَاراً، وَسُكُوتُهُ فِكْرَةً، وَكَلاَمُهُ ذِكْراً، وَبَكَى عَلَى خَطِيئَتِهِ، وَأَمِنَ النَّاسُ شَرَّهُ»(5).

ص: 99


1- بحار الأنوار: ج68 ص324، تتمة كتاب الإيمان والكفر، الباب80 ح11.
2- بحار الأنوار: ج68 ص324، تتمة كتاب الإيمان والكفر، الباب80 ح12.
3- بحار الأنوار: ج68 ص324، تتمة كتاب الإيمان والكفر، الباب80 ح13.
4- بحار الأنوار: ج68 ص324، تتمة كتاب الإيمان والكفر، الباب80 ح14.
5- بحار الأنوار: ج68 ص324، تتمة كتاب الإيمان والكفر، الباب80 من تتمة أبواب مكارم الأخلاق، ح15.

..............................

قرائن العدول عن الظاهر

مسألة: الأفعال وإن كانت ظاهرة الدلالة على القصد، إلاّ أنه يعدل عن الظاهر للقرينة، فقولها (عليها

السلام): «أَرَاكَ الدَّهْرَ»المقصود من الإرائة ما هو بمقتضى طبع الدهر، لا أن الدهر قاصد للإراءة، وإن كان له - لدى الدقة والتأمل - وجه، فإن كل شيء يشعر ويدرك ويشهد أيضاً.

قال عز وجل: «وَقَالُوا لِجلُودِهِمْ لِم شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا»(1).

وورد أن اليوم يخاطب الإنسان قائلاً: «أَنَا يَوْمٌ جَدِيدٌ، وَأَنَا عَلَيْكَ شَهِيدٌ، فَقُلْ فِيَّ خَيْراً، وَاعْمَلْ فِيَّ خَيْراً»(2).

وأن الأرض تشهد لمن صلى عليها، لذا يستحب تغيير مكان الصلاة(3).

وأن الأرض تلعن بعض من يمشي عيلها(4).

إلى آخر الأمثلة.

والشاهد أن قولها (عليها السلام): «أَرَاكَ الدَّهْرَ» لا مانع عقلاً من حمله على ظاهره من القصدية بالمعنى الأعم.

ص: 100


1- سورة فصلت: 21.
2- الكافي: ج2 ص523، كتاب الدعاء، باب القول عند الإصباح والإمساء، ح8.
3- علل الشرائع: ج2 ص343، باب46 العلة التي من أجلها يستحب تفريق النوافل في البقاع، ح1.
4- الاختصاص: ص360، كتاب صفة الجنة والنار، باب صفة النار.

..............................

عن جعفر بن محمد الصادق، عن أبيه (عليهما السلام)، قال: «مَا مِنْ يَوْمٍ يَأْتِي عَلَى ابْنِ آدَمَ إِلاَّ قَالَ ذَلِكَ الْيَوْمُ: يَا ابْنَ آدَمَ، أَنَا يَوْمٌ جَدِيدٌ، وَأَنَا عَلَيْكَ شَهِيدٌ، فَافْعَلْ بِي خَيْراً، وَاعْمَلْ فِيَّ خَيْراً، أُسَهِّلْ لَكَ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ فَإِنَّكَ لَنْ تَرَانِي بَعْدَهَا أَبَداً»(1).

وعن جعفر بن محمد الصادق، عن أبيه (عليهما السلام)، قال: «إِنَّ اللَّيْلَ إِذَا أَقْبَلَ نَادَى مُنَادٍ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ الْخَلاَئِقُ إِلاَّ الثَّقَلَيْنِ: يَا ابْنَ آدَمَ، إِنِّي خَلْقٌ جَدِيدٌ، إِنِّي عَلَى مَا فِيَّ شَهِيدٌ، فَخُذْ مِنِّي؛ فَإِنِّي لَوْ قَدْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ لَمْ أَرْجِعْ إِلَى الدُّنْيَا، ثُمَّ لَمْ تَزْدَدْ فِيَّ حَسَنَةً، وَلَمْ تَسْتَعْتِبْ فِيَّ مِنْ سَيِّئَةٍ. وَكَذَلِكَ يَقُولُ النَّهَارُ إِذَا أَدْبَرَ اللَّيْلُ»(2).

وعن علي بن الحسين (عليه السلام)، قال: «إِنَّ الْمَلَكَ الْمُوَكَّلَ بِالْعَبْدِ يَكْتُبُ فِي صَحِيفَةِ أَعْمَالِهِ، فَاعْمَلُوا بِأَوَّلِهَا وَآخِرِهَا خَيْراً؛ يُغْفَرْ لَكُمْ مَا بَيْنَ ذَلِكَ»(3).وعن الإمام الصادق (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «طُوبَى لِمَنْ وَجَدَ فِي صَحِيفَةِ عَمَلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَحْتَ كُلِّ ذَنْبٍ: أَسْتَغْفِرُ اللهَ»(4).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إِنَّ النَّهَارَ إِذَا جَاءَ قَالَ: يَا ابْنَ آدَمَ، اعْمَلْ فِي يَوْمِكَ هَذَا خَيْراً، أَشْهَدْ لَكَ بِهِ عِنْدَ رَبِّكَ يَوْمَ الْقِيَامَة؛ فَإِنِّي لَم آتِكَ

ص: 101


1- محاسبة النفس، للسيد ابن طاووس: ص14، الباب الثاني.
2- محاسبة النفس، للسيد ابن طاووس: ص14، الباب الثاني.
3- محاسبة النفس، للسيد ابن طاووس: ص14 - 15، الباب الثاني.
4- محاسبة النفس، للسيد ابن طاووس: ص15، الباب الثاني.

..............................

فِيمَا مَضَى، وَلاَ آتِيكَ فِيمَا بَقِيَ. وَإِذَا جَاءَ اللَّيْلُ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ»(1).

وعن جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)، عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: «لاَ تَقْطَعُوا نَهَارَكُمْ بِكَذَا وَكَذَا، وَفَعَلْنَا كَذَا وَكَذَا؛ فَإِنَّ مَعَكُمْ حَفَظَةً يُحْصُونَ عَلَيْكُمْ وَعَلَيْنَا»(2).

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «يَا أَبَا النُّعْمَانِ، وَلاَ يَغُرَّنَّكَ النَّاسُ مِنْنَفْسِكَ، فَإِنَّ الأَمْرَ يَصِلُ إِلَيْكَ دُونَهُمْ، وَلاَ تَقْطَعْ نَهَارَكَ بِكَذَا وَكَذَا؛ فَإِنَّ مَعَكَ مَنْ يَحْفَظُ عَلَيْكَ عَمَلَكَ سَيِّئاً أَوْ حَسَناً، فَإِنِّي لاَ أَرَى شَيْئاً أَسْرَعَ دَرَكاً، وَلاَ أَسْرَعَ طَلَباً، مِنْ حَسَنَةٍ مُحْدَثَةٍ لِذَنْبٍ قَدِيمٍ»(3).

ص: 102


1- محاسبة النفس، للسيد ابن طاووس: ص15، الباب الثاني.
2- محاسبة النفس، للسيد ابن طاووس: ص15، الباب الثاني.
3- محاسبة النفس، للسيد ابن طاووس: ص15 - 16، الباب الثاني.

«وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهمْ»

اشارة

«وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهمْ»(1)

التعجب من المنكر

مسألة: ينبغي التعجب من المنكر، إذا كان التعجب سبباً للتغيير ونوعاً من الردع، فإن المبطل لو عرف أن الناس سيستغربون قوله ويتعجبون منه ولا يصدقونه، فإنه يرتدع في كثير من الأحيان.

مسألة: ينبغي التعجب أشد العجب مما قاله القوم، ومما عملموه بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، حيث قلبوا لأهل بيت الرسول (صلى الله عليه وآله) ظهر المجن، وحيث (زحزحوها عن رواسي الرسالة وقواعد النبوة والدلالة). قال تعالى: «بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ * وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ * وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ»(2).

مسألة: ويستحب إظهار هذا التعجب للناس على مر التاريخ، وبيان أن قول القوم هو العجب حيث خالفوا نص كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله).

مسألة: القول بالمعنى الأعم قد يطلق على الفكر والعمل واللفظ، ولذايقولون: قال بيده كذا أي أشار، ويقولون: قلت في نفسي كذا بمعنى فكرت. وقد يكون من العمل والفعل قوله تعالى: «فَقُلْنَا لَهمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ»(3).

ص: 103


1- سورة الرعد: 5.
2- سورة الصافات: 12- 14.
3- سورة البقرة: 65.

..............................

قال العلامة الطبرسي (رحمه الله) في المجمع: «فَقُلْنَا لَهمْ كُونُوا قِرَدَةً» وهذا إخبار عن سرعة فعله، ومسخه إياهم، لا أن هناك أمراً. ومعناه: وجعلناهم قردة، كقوله تعالى: «فَقَالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ»(1)، ولم يكن هناك قول، وإنما أخبر عن تسهل الفعل عليه، وتكوينه بلا مشقة(2).

لذا فإن قول الصديقة (عليها السلام): «وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهمْ»، ربما يكون المقصود من (قولهم) الأعم من القول والفعل.

ومعنى كلامها (عليها السلام): إن ما يستحق الاستغراب والتعجب هو قول وفعل أولئك الذين غصبوا فدك وغصبوا الخلافة من علي أمير المؤمنين (عليه السلام)، فإذا كان لك أن تتعجب فاعجب من هذا،وإذا أردت أن تتعجب من شيء فما أجدرك أن تتعجب من هذا.

العَجَب المكروه

مسألة: يكره العَجَب أو لا ينبغي مما لا طائلة تحته، كمن يعجب ببعض الحكايات وما لا فائدة فيه.

قَالَ الصَّادِقُ (عليه السلام): «الْمَغْرُورُ فِي الدُّنْيَا مِسْكِينٌ وَفِي الآخِرَةِ مَغْبُونٌ،

ص: 104


1- سورة فصلت: 11.
2- مجمع البيان في تفسير القرآن: ج1 ص248، سورة البقرة.

..............................

لِأَنَّهُ بَاعَ الْأَفْضَلَ بِالأَدْنَى، وَلا تَعْجَبْ مِنْ نَفْسِكَ حَيْثُ رُبَّمَا اغْتَرَرْتَ بِمَالِكَ وَصِحَّةِ جِسْمِكَ أَنْ لَعَلَّكَ تَبْقَى، وَرُبَّمَا اغْتَرَرْتَ بِطُولِ عُمُرِكَ وَأَوْلَادِكَ وَأَصْحَابِكَ لَعَلَّكَ تَنْجُو بِهِمْ، وَ رُبَّمَا اغْتَرَرْتَ بِحَالِكَ وَ مُنْيَتِكَ وَ إِصَابَتِكَ مَأْمُولَكَ وَهَوَاكَ وَظَنَنْتَ أَنَّكَ صَادِقٌ وَ مُصِيبٌ»(1) الحديث.

وربما ورد النهي عن العَجَب لبيان عظمة الشيء، فهو بالإرشادي أشبه.

ففي الرواية: «وَلا تَعْجَبْ مِنْ هَذَا الْفَضْلِ الَّذِي ذَكَرْتُهُ فِي هَذَا الدُّعَاءِ فَإِنَّ فِيهِ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى الأَعْظَمَ»(2).

وفي رواية: «ثُمَّ قَالَ (عليه السلام):لَعَلَّكَ عَجِبْتَ مِنْ كَلَامِي إِيَّاهُمْ بِالْحَبَشَةِ، قُلْتُ: إِي وَاللَّهِ، قَالَ: لا تَعْجَبْ فَمَا خَفِيَ عَلَيْكَ مِنْ أَمْرِي أَعْجَبُ وَأَعْجَبُ، وَمَا الَّذِي سَمِعْتَهُ مِنِّي إِلاّ كَطَائِرٍ أَخَذَ بِمِنْقَارِهِ مِنَ الْبَحْرِ قَطْرَةً، أَفَتَرَى هَذَا الَّذِي يَأْخُذُهُ بِمِنْقَارِهِ يَنْقُصُ مِنَ الْبَحْرِ، وَالإِمَامُ بِمَنْزِلَةِ الْبَحْرِ لا يَنْفَدُ مَا عِنْدَهُ وَ عَجَائِبُهُ أَكْثَرُ مِنْ عَجَائِبِ الْبَحْرِ»(3).

وعَنْ زَيْدٍ النَّرْسِيِّ قَالَ: كُنْتُ مَعَ مُعَاوِيَةَ بْنِ وَهْبٍ فِي الْمَوْقِفِ وَهُوَ يَدْعُو فَتَفَقَّدْتُ دُعَاءَهُ فَمَا رَأَيْتُهُ يَدْعُو لِنَفْسِهِ بِحَرْفٍ وَرَأَيْتُهُ يَدْعُو لِرَجُلٍ رَجُلٍ مِنَ الآفَاقِ وَيُسَمِّيهِمْ وَيُسَمِّي آبَاءَهُمْ حَتَّى أَفَاضَ النَّاسُ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا عَمِّ لَقَدْ عَجِبْتُ مِنْكَ وَمِنْ إِيثَارِكَ إِخْوَانَكَ عَلَى نَفْسِكَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَقَالَ: لا تَعْجَبْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ مَوْلايَ وَمَوْلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَ مُؤْمِنَةٍ جَعْفَرَ الصَّادِقِ (عليه السلام) وَإِلاّ صَمَّتْ

ص: 105


1- مصباح الشريعة: ص142 ب67 في الغرور.
2- بحار الأنوار: ج92 ص336 ب129 ضمن الرقم 22.
3- بحار الأنوار: ج48 ص70 ب4 معجزاته واستجابة دعواته ... ح93 عن الخرائج والجرائح.

..............................

أُذُنَا مُعَاوِيَةَ وَعَمِيَتْ عَيْنَاهُ، وَلا نَالَتْهُ شَفَاعَةُ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) إِنْ لَمْ أَكُنْ سَمِعْتُ مِنْهُ، وَهُوَ يَقُولُ: مَنْ دَعَا لأَخِيهِ الْمُؤْمِنِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ نَادَاهُ مَلَكٌ مِنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا: يَا عَبْدَ اللَّهِ وَلَكَ مِائَةُأَلْفِ ضِعْفِ مَا طَلَبْتَ لأَخِيكَ، وَيُنَادِيهِ مَلَكٌ مِنَ السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ: يَا عَبْدَ اللَّهِ وَلَكَ مِائَتَا أَلْفِ ضِعْفِ مَا دَعَوْتَ، وَهَكَذَا كُلُّ سَمَاءٍ يُزَادُ فِيهَا مِائَةُ أَلْفٍ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَيُنَادِيهِ مَلَكٌ: يَا عَبْدَ اللَّهِ وَلَكَ سَبْعُمِائَةِ أَلْفِ ضِعْفِ مَا دَعَوْتَ، فَيُنَادِيهِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: أَنَا الْغَنِيُّ لَا أَفْتَقِرُ، يَا عَبْدِي لَكَ أَلْفُ أَلْفِ ضِعْفِ مَا دَعَوْتَ»(1).

وعَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ (رحمه الله) قَالَ: بَعَثَنِي النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) أَدْعُو عَلِيّاً (عليه السلام) فَأَتَيْتُ بَيْتَهُ وَنَادَيْتُهُ فَلَمْ يُجِبْنِي، فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) فَقَالَ: عُدْ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ فِي الْبَيْتِ، وَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَرَأَيْتُ الرَّحَى تَطْحَنُ وَلا أَحَدَ عِنْدَهَا، فَقُلْتُ لِعَلِيٍّ: إِنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) يَدْعُوكَ، فَخَرَجَ مُتَوَحِّشاً حَتَّى أَتَى النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) بِمَا رَأَيْتُ، فَقَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ لا تَعْجَبْ، فَإِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَيَّاحُونَ فِي الأَرْضِ مُوَكَّلُونَ بِمَعُونَةِ آلِ مُحَمَّدٍ»(2).

ص: 106


1- بحار الأنوار: ج90 ص390 ب26 ضمن الرقم 22.
2- بحار الأنوار: ج43 ص45 ب3 ضمن الرقم 44.

لَيْتَ شَعْرِي إِلَى أَيِّ سِنَادٍ اسْتَنَدُوا

اشارة

-------------------------------------------

فضح المبطلين

مسألة: يجب فضح المبطلين إعلامياً، ومنه بيان أنهم يفقدون الدليل والمستند.

مسألة: ومن أهم مصاديق ذلك بيان أن القوم لم يستندوا إلى أي سناد فيما فعلوه من غصب فدك والسلطة والحكومة والخلافة.

فلم يكن لهم مستند شرعي ولا عقلي ولا حتى عرفي.

وما أرادوا أن يستندوا إليها فهي مما يضحك الثكلى، كقول الثاني: (لولا أن فيه دعابة) (1)، وقولهم: (إن النبوة والملوكية لا تجتمعان في بيت واحد) (2) وهو بديهي البطلان، فقد اجتمعتا في داود وسليمان (عليهما السلام)،

والعديد منالأنبياء (عليهم السلام)، إضافة إلى أنها لم تكن ملوكية - بالمعنى المعهود للكلمة - بل كانت خلافة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) بأمر الله.

ثم إنه حتى المنطق العرفي يدل على العكس، إذ من هو الأولى بالنبي (صلى الله عليه وآله) ومن هو خليفته وإن كانت ملوكية فرضاً، أ ليس هو الأعلم الأتقى الأعرف بصالح الناس والأحرص على مصالحهم والذي كان أخاً لرسول الله

ص: 107


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج1 ص186، قصة الشورى. وفيه: ثم أقبل على علي (عليه السلام)، فقال: لله أنت، لو لا دعابة فيك. أما والله لئن وليتهم لتحملنهم على الحق الواضح، والمحجة البيضاء),
2- راجع كتاب سليم بن قيس الهلالي: ج2، الحديث 4 و10 و11 و14 و19، وفيها: (إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ لِيَجْمَعَ لَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ النُّبُوَّةَ وَالْخِلاَفَةَ)، مع اختلاف بسيط في بعض الألفاظ.

..............................

(صلى الله عليه وآله).

إن مستندات من غصب الخلافة أوهن حتى من مستندات فرعون ضد موسى (عليه السلام) حيث قال: «إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ»(1).

ومن الناحية العملية كان مستند القوم السيف والكبت والإرهاب فقط، حيث هددوا الجميع بالسيف، واعتدوا على بيت الرسالة وعلى ابنة رسول الله (صلى

الله عليه وآله) وبضعته وتفاحة الفردوس، وعصروها بين الحائط والباب، حتى كسروا ضلعها وأسقطوا جنينها، وحرقوا الباب عليها وضربوها حتى ماتت شهيدةمقتولة مظلومة، بأسوأ صورة وحشية عرفها التاريخ، كل ذلك كان حقداً على رسول الله (صلى الله عليه وآله) من جانب، وتهديداً للمعارضة، وإشعاراً لها بأنهم لا يتورعون عن قتل ابنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فما بالك بسائر الناس، وهكذا كان مستندهم الإرهاب والسلاح الظالم على شاكلة العتاة الطغاة دائماً كفرعون وهامان وأشباههما.

وكان مستند المستند أهواء النفس والانقياد إلى الشيطان الرجيم، قال تعالى: «اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللهِ»(2).

وقال سبحانه: «أَ تَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ»(3).

ص: 108


1- سورة غافر: 26.
2- سورة المجادلة: 19.
3- سورة الذاريات: 53.

..............................

وفي القرآن الكريم حكاية عن الشيطان: « فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمخْلَصِينَ»(1).

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَعِزَّتِي وَجَلاَلِي، وَكِبْرِيَائِي وَنُورِي، وَعُلُوِّي وَارْتِفَاعِ مَكَانِي، لاَ يُؤْثِرُ عَبْدٌهَوَاهُ عَلَى هَوَايَ، إِلاَّ شَتَّتُّ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَلَبَّسْتُ عَلَيْهِ دُنْيَاهُ، وَشَغَلْتُ قَلْبَهُ بِهَا، وَلَمْ آتِهِ مِنْهَا إِلاَّ مَا قَدَّرْتُ لَهُ. وَعِزَّتِي وَجَلاَلِي، وَعَظَمَتِي وَنُورِي، وَعُلُوِّي وَارْتِفَاعِ مَكَانِي، لاَ يُؤْثِرُ عَبْدٌ هَوَايَ عَلَى هَوَاهُ، إِلاَّ اسْتَحْفَظْتُهُ مَلاَئِكَتِي، وَكَفَّلْتُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرَضِينَ رِزْقَهُ، وَكُنْتُ لَهُ مِنْ وَرَاءِ تِجَارَةِ كُلِّ تَاجِرٍ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: إِنِّي لَسْتُ كُلَّ كَلاَمِ الْحِكْمَةِ أَتَقَبَّلُ، إِنَّمَا أَتَقَبَّلُ هَوَاهُ وَهَمَّهُ، فَإِنْ كَانَ هَوَاهُ وَهَمُّهُ فِي رِضَايَ، جَعَلْتُ هَمَّهُ تَقْدِيساً وَتَسْبِيحاً»(3).

وقال (عليه السلام): «جَاهِدْ هَوَاكَ كَمَا تُجَاهِدُ عَدُوَّكَ»(4).

ص: 109


1- سورة ص: 82 - 83.
2- وسائل الشيعة: ج15 ص279، كتاب الجهاد، الباب32 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ح20511.
3- وسائل الشيعة: ج15 ص279 -280، كتاب الجهاد، الباب32 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ح20512.
4- وسائل الشيعة: ج15 ص280، كتاب الجهاد، الباب32 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ح20513.

..............................

وعن أبي حمزة، قال: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَالْحُسَيْنِ (عليه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ اللهَ جَلَّ جَلاَلُهُ يَقُولُ: وَعِزَّتِي وَجَلاَلِي، وَعَظَمَتِي وَجَمَالِي، وَبَهَائِي وَعُلُوِّي، وَارْتِفَاعِ مَكَانِي، لاَ يُؤْثِرُ عَبْدٌ هَوَايَ عَلَى هَوَاهُ، إِلاَّ جَعَلْتُ هَمَّهُ فِي آخِرَتِهِ، وَغِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَكَفَفْتُ عَنْهُ ضَيْعَتَهُ، وَضَمَّنْتُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ رِزْقَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ»(1).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام)، أنه قال - في خطبة له -: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ اثْنَتَانِ: اتِّبَاعُ الْهَوَى، وَطُولُ الأَمَلِ. فَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ، وَأَمَّا طُولُ الأَمَلِ فَيُنْسِي الآخِرَةَ»(2).

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «خَطَبَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) النَّاسَ. فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا بَدْءُ وُقُوعِ الْفِتَنِ: أَهْوَاءٌ تُتَّبَعُ، وَأَحْكَامٌ تُبْتَدَعُ، يُخَالَفُ فِيهَا كِتَابُ اللهِ، يَتَوَلَّى فِيهَا رِجَالٌ رِجَالاً. فَلَوْ أَنَّ الْبَاطِلَ خَلَصَ لَمْ يَخْفَ عَلَى ذِي حِجًى، وَلَوْ أَنَّ الْحَقَّ خَلَصَ لَمْ يَكُنِاخْتِلاَفٌ، وَلَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ وَمِنْ هَذَا ضِغْثٌ، فَيُمْزَجَانِ فَيَجِيئَانِ مَعاً، فَهُنَالِكَ اسْتَحْوَذَ الشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ، وَنَجَا الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللهِ الْحُسْنَى»(3).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِذَا ظَهَرَتِ الْبِدَعُ فِي أُمَّتِي، فَلْيُظْهِرِ

ص: 110


1- وسائل الشيعة: ج15 ص280، كتاب الجهاد، الباب32 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ح20514.
2- وسائل الشيعة: ج15 ص280، كتاب الجهاد، الباب32 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ح20515.
3- الكافي: ج1 ص54، كتاب فضل العلم، باب البدع والرأي والمقاييس، ح1.

..............................

الْعَالِمُ عِلْمَهُ، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ»(1).

وقال (صلى الله عليه وآله): «مَنْ أَتَى ذَا بِدْعَةٍ فَعَظَّمَهُ، فَإِنَّمَا يَسْعَى فِي هَدْمِ الإِسْلاَمِ»(2).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أَبَى اللَّهُ لِصَاحِبِ الْبِدْعَةِ بِالتَّوْبَةِ». قيل: يَا رَسُولَ اللهِ، وَكَيْفَ ذَلِكَ؟!. قال: «إِنَّهُ قَدْ أُشْرِبَ قَلْبُهُ حُبَّهَا»(3).

ليت شعري

(ليت شعري) معناه: ليتني كنت أعلم أو أشعر، وهذا كناية عن أن مواقف القوم وتصرفاتهم وغصبهم لفدك والخلافة لا وجه له أبداً، لا من عقل ولا من شرع، ولا من ضمير ولا وجدان، ولا من العرف القبلي والعشائري وغيره. (إلى أي سناد استندوا) في أقوالهم وأفعالهم؟

فهل استندوا إلى الكتاب؟ والكتاب منهم براء, أو استندوا إلى السنة المطهرة؟ والسنة هي التي حاربوها (قولاً) بقولهم: (حسبنا كتاب الله) وشبهه، و(فعلاً) بحرق كتب الأحاديث ومطاردة وقتل وسجن ونفي ومضايقة أهل البيت (عليهم السلام) وحملة السنة كعمار وأبي ذر الغفاري وغيرهم (رضوان الله عليهم).

أم إلى السيرة النبوية؟ والسيرة على إحقاق الحق وإبطال الباطل، لا على إبطال الحق وإحقاق الباطل.

ص: 111


1- الكافي: ج1 ص54، كتاب فضل العلم، باب البدع والرأي والمقاييس، ح2.
2- الكافي: ج1 ص54، كتاب فضل العلم، باب البدع والرأي والمقاييس، ح3.
3- الكافي: ج1 ص54، كتاب فضل العلم، باب البدع والرأي والمقاييس، ح4.

..............................

أم إلى سيرة العقلاء؟ ولم تكن سيرة العقلاء بما هم عقلاء على جحود النعمة والانقلاب على المنعم، وحرق منزل ابنته وغصب حقها والانقلاب على خليفته.

أو إلى دليل العقل؟ والعقل قاض بقبح ترجيح المرجوح، وقبح مجازاة الإحسان بالإساءة.

أم إلى الإجماع؟ وهو باطل صغرى،ومناقش كبرى، أما صغرى فلم يكن إجماع، بل لم تكن أكثرية بل لم تكن حتى أقلية، إذ كانت أقلية الأقلية فإن الذين اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة كانوا حوالي خمسين وأهل المدينة كانوا حوالي عشرة آلاف، والمسلمون في العالم كانوا حوالي ثلاثة أرباع المليون وربما أكثر، فلم تكن مشورة من مسلمي سائر الأقطار، بل كان فرض رأي من قسم من أهل المدينة فقط، وإذا كان هذا إجماعاً فالإجماع اذن منعقد بصورة أفضل لهتلر وصدام والحجاج وفرعون والشيطان من قبل.

ثم إن الإجماع حجة كبرى فيما إذا كان كاشفاً عن موافقة الشرع ورأي المعصوم (عليه السلام) دخولاً أو حدساً أو لطفاً أو حساً أو غير ذلك مما حقق في الأصول، أما لو كان الإجماع على خلاف الشرع، وعلى خلاف رأي المعصوم (عليه السلام) وعلى خلاف العقل، فإنه باطل بالإجماع أيضاً(1)، أ رأيت لو أجمعوا على حلية الخمر وحرمة الصلاة، هل كان هذا الإجماع حجة؟.

ص: 112


1- لا يخفى اللطف في قوله: (بالإجماع أيضاً)، أي باطل هذا الإجماع المخالف للشرع عقلاً وشرعاً وبإجماع الأمة أيضاً.

وَإلَى أَيِّ عِمَادٍ اعْتَمَدُوا

اشارة

-------------------------------------------

عماد القوم

مسألة: اعتمد القوم الذين غصبوا الخلافة على الجهل والجهلة، وعلى الغدر والختل والمكر، وعلى الإرهاب والعدوان وعلى تسويلات الشيطان، ويجب وجوباً كفائياً بيان ذلك وأنهم لم يعتمدوا على أي عماد شرعي أو عقلي أو عرفي فيما فعلوه كما سبق.

مسألة: يجب القضاء على أعمدة الباطل، وهي كما سبق الجهل والغدر والمكر والإرهاب والعدوان وتسويلات الشيطان، وللتصدي لكل منها والقضاء عليها إذا كانت صفات نفسية، طرق مذكورة في كتب الأخلاق وعلم الاجتماع وغيرها(1).

والفرق بين «إِلَى أَيِّ سِنَادٍ اسْتَنَدُوا» و«إلَى أَيِّ عِمَادٍ اعْتَمَدُوا»، هو أن السند ما يستند إليه الإنسان ويتكئ عليه من الأدلة، وأما العماد فهو من عمد وهو ما يعتمد عليه في جعله ظهيراً له وتقوية لذاته.

وكتوضيح بالمصداق فإن السند: الدليل مثلاً، والعماد القوة والأفراد، إذ كان معتمدهم السفهاء من الناس.

ص: 113


1- راجع جامع السعادات للمرحوم النراقي (قدس سره)، والفضيلة الإسلامية للإمام المؤلف (رحمه الله).

وَبِأَيَّةِ عُرْوَةٍ تَمَسَّكُوا

اشارة

-------------------------------------------

لا عروة للقوم

(العروة) من الكوز والأبريق ونحوهما هو المقبض الذي تقبضه باليد، وهي إشارة إلى الوسيلة(1) التي تمسكوا بها واتكأوا عليها لزحزحة الخلافة عن رواسيها ومراسيها.

مسألة: يجب وجوباً كفائياً بيان أن القوم لم يكن لهم مستمسك أبداً، ولم تكن لهم أية عروة شرعية أو عقلية أو عرفية فيما فعلوه من غصب الخلافة وغصب فدك وإيذاء الصديقة (عليها السلام) وظلمها والهجوم على دارها التي كانت المصداق الأبرز لقوله تعالى: «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ»(2).

مسألة: يستحب - وقد يجب - تأكيد ذلك بألفاظ مختلفة وبأساليب متنوعة، كما أكدت (صلوات الله عليها) ذلك بعباراتمختلفة.

قال أمير المؤمننين (عليه السلام): «أَمَا وَاللهِ، لَقَدْ تَقَمَّصَهَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ، وَإِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَى، يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ، وَلاَيَرْقَى

ص: 114


1- أو ما يعبر عنه اليوم بالآلية والأدوات.
2- سورة النور: 36 - 38.

..............................

إِلَيَّ الطَّيْرُ. فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْباً، وَطَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً، وَطَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ، أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَةٍ عَمْيَاءَ، يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ، وَيَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ، وَيَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ. فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى، فَصَبَرْتُ وَفِي الْعَيْنِ قَذًى، وَفِي الْحَلْقِ شَجًا، أَرَى تُرَاثِي نَهْباً، حَتَّى مَضَى الأَوَّلُ لِسَبِيلِهِ، فَأَدْلَى بِهَا إِلَى فُلاَنٍ بَعْدَهُ - ثُمَّ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ الأَعْشَى -:

شَتَّانَ مَا يَوْمِي عَلَى كُورِهَا *** وَيَوْمُ حَيَّانَ أَخِي جَابِرِ

فَيَا عَجَباً بَيْنَا هُوَ يَسْتَقِيلُهَا فِي حَيَاتِهِ، إِذْ عَقَدَهَا لآخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ، لَشَدَّ مَا تَشَطَّرَا ضَرْعَيْهَا، فَصَيَّرَهَا فِي حَوْزَةٍ خَشْنَاءَ، يَغْلُظُ كَلْمُهَا، وَيَخْشُنُ مَسُّهَا، وَيَكْثُرُ الْعِثَارُ فِيهَا، وَالاِعْتِذَارُ مِنْهَا, فَصَاحِبُهَا كَرَاكِبِ الصَّعْبَةِ، إِنْ أَشْنَقَ لَهَا خَرَمَ، وَإِنْ أَسْلَسَ لَهَا تَقَحَّمَ. فَمُنِيَ النَّاسُ - لَعَمْرُ اللهِ - بِخَبْطٍ وَشِمَاسٍ، وَتَلَوُّنٍ وَاعْتِرَاضٍ، فَصَبَرْتُ عَلَى طُولِ الْمُدَّةِ، وَشِدَّةِالْمِحْنَةِ، حَتَّى إِذَا مَضَى لِسَبِيلِهِ، جَعَلَهَا فِي جَمَاعَةٍ، زَعَمَ أَنِّي أَحَدُهُمْ. فَيَا للهِ وَلِلشُّورَى، مَتَى اعْتَرَضَ الرَّيْبُ فِيَّ مَعَ الأَوَّلِ مِنْهُمْ، حَتَّى صِرْتُ أُقْرَنُ إِلَى هَذِهِ النَّظَائِرِ، لَكِنِّي أَسْفَفْتُ إِذْ أَسَفُّوا، وَطِرْتُ إِذْ طَارُوا. فَصَغَا رَجُلٌ مِنْهُمْ لِضِغْنِهِ، وَمَالَ الآخَرُ لِصِهْرِهِ، مَعَ هَنٍ وَهَنٍ، إِلَى أَنْ قَامَ ثَالِثُ الْقَوْمِ نَافِجاً حِضْنَيْهِ، بَيْنَ نَثِيلِهِ وَمُعْتَلَفِهِ، وَقَامَ مَعَهُ بَنُو أَبِيهِ، يَخْضَمُونَ مَالَ اللهِ خِضْمَةَ الإِبِلِ نِبْتَةَ الرَّبِيعِ، إِلَى أَنِ انْتَكَثَ عَلَيْهِ فَتْلُهُ، وَأَجْهَزَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ، وَكَبَتْ بِهِ بِطْنَتُهُ»(1).

ص: 115


1- نهج البلاغة: خطب أمير المؤمنين (عليه السلام)، الرقم3 و من خطبة له (عليه السلام) وهي المعروفة بالشقشقية.

..............................

وعن عثمان بن أبان، قال: سَأَلْتُ الصَّادِقَ (عليه السلام) عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: «الْمسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِم أَهْلُهَا»(1) الآيَةَ؟. قال: «نَحْنُ ذَلِكَ»(2).وعن أبي سعيد الخدري، قال: ذَكَرَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) لِعَلِيٍّ مَا يَلْقَى بَعْدَهُ، قَالَ: فَبَكَى عَلِيٌّ (عليه السلام) وَقَالَ: «أَسْأَلُكَ بِحَقِّ قَرَابَتِي وَصُحْبَتِي، إِلاَّ دَعَوْتَ اللهَ أَنْ يَقْبِضَنِي إِلَيْهِ». قَالَ: «يَا عَلِيُّ، تَسْأَلُنِي أَنْ أَدْعُوَ اللهَ لأَجَلٍ مُؤَجَّلٍ»(3).

وقال أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «بَيْنَا أَنَا وَفَاطِمَةُ وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، إِذِ الْتَفَتَ إِلَيَّ فَبَكَى. فَقُلْتُك: مَا يُبْكِيكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟!. قَالَ: أَبْكِي مِنْ ضَرَبْتِكَ عَلَى الْقَرْنِ، وَلَطْمِ فَاطِمَةَ خَدَّهَا، وَطَعْنِ الْحَسَنِ فِي فَخِذِهِ، وَالسَّمِّ الَّذِي يُسْقَاهُ، وَقَتْلِ الْحُسَيْنِ»(4).

وَسُئِلَ الْبَاقِرُ (عليه السلام): عَنِ الْخُمُسِ؟. فَقَالَ: «الْخُمُسُ لَنَا، فَمُنِعْنَا فَصَبَرْنَا»(5).

ص: 116


1- سورة النساء: 75.
2- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) لابن شهرآشوب: ج2 ص209، فصل في مصائب أهل البيت (عليهم السلام).
3- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) لابن شهرآشوب: ج2 ص209.
4- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) لابن شهرآشوب: ج2 ص209.
5- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) لابن شهرآشوب: ج2 ص210.

وَعَلَى أَيَّةِ ذُرِّيَّةٍ أَقْدَمُوا

اشارة

-------------------------------------------

الذرية الطاهرة

مسألة: يستحب وقد يجب بيان مقام ذريةرسول الله (صلى الله عليه وآله) ومنزلتهم عند الله وعند رسوله، وعظمتهم وخطر شأنهم وجلالة قدرهم وعظيم حرمتهم، كما أشارت الصديقة (عليها السلام) إلى ذلك.

قام أبو ذر (رحمه الله) خطيباً بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال: (أَيَّتُهَا الأُمَّةُ الْمُتَحَيِّرَةُ بَعْدَ نَبِيِّهَا، الْمَخْذُولَةُ بِعِصْيَانِهَا، إِنَّ اللهَ يَقُولُ: «إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ»(1)، وَآلُ مُحَمَّدٍ الأَخْلاَفُ مِنْ نُوحٍ، وَآلُ إِبْرَاهِيمَ مِنْ إِبْرَاهِيمَ، وَالصَّفْوَةُ وَالسُّلاَلَةُ مِنْ إِسْمَاعِيلَ، وَعِتْرَةُ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ، أَهْلُ بَيْتِ النُّبُوَّةِ، وَمَوْضِعُ الرِّسَالَةِ، وَمُخْتَلَفُ الْمَلاَئِكَةِ، وَهُمْ كَالسَّمَاءِ الْمَرْفُوعَةِ، وَالْجِبَالِ الْمَنْصُوبَةِ، وَالْكَعْبَةِ الْمَسْتُورَةِ، وَالْعَيْنِ الصَّافِيَةِ، وَالنُّجُومِ الْهَادِيَةِ، وَالشَّجَرَةِ الْمُبَارَكَةِ، أَضَاءَ نُورُهَا، وَبُورِكَ زَيْتُهَا، مُحَمَّدٌ خَاتَمُ الأَنْبِيَاءِ وَسَيِّدُ وُلْدِ آدَمَ، وَعَلِيٌّ وَصِيُّ الأَوْصِيَاءِ، وَإِمَامُ الْمُتَّقِينَ، وَقَائِدُ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِينَ، وَهُوَ الصِّدِّيقُ الأَكْبَرُ، وَالْفَارُوقُ الأَعْظَمُ، وَوَصِيُّ مُحَمَّدٍ، وَوَارِثُ عِلْمِهِ، وَأَوْلَى النَّاسِ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، كَمَا قَالَ اللهُ: «النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِاللهِ»(2)، فَقَدِّمُوا

ص: 117


1- سورة آل عمران: 33 - 34.
2- سورة الأحزاب: 6.

..............................

مَنْ قَدَّمَ اللهُ، وَأَخِّرُوا مَنْ أَخَّرَ اللهُ، وَاجْعَلُوا الْوَلاَيَةَ وَالْوِرَاثَةَ لِمَنْ جَعَلَ اللهُ)(1).

وروى أحمد في مُسْنَدِهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) أَخَذَ بِيَدِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ وَقَالَ: «مَنْ أَحَبَّنِي وَأَحَبَّ هَذَيْنِ وَأَبَاهُمَا وَأُمَّهُمَا، كَانَ مَعِي فِي دَرَجَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(2).

وعن حذيفة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِقَصَبَةِ الْيَاقُوتِ الَّتِي خَلَقَهَا اللهُ تَعَالَى بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ لَهَا: كُونِي، فَكَانَتْ، فَلْيَتَوَلَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ مِنْ بَعْدِي»(3).

وعن ابن مسعود: (حُبُّ آلِ مُحَمَّدٍ يَوْماً خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سَنَةٍ، وَمَنْ مَاتَ عَلَيْهِ دَخَلَالْجَنَّة)(4).

وعن أبي سعيد الخدري، أن النبي (صلى الله عليه وآله)، قال: «إِنِّي أَوْشَكَ أَنْ أُدْعَى فَأُجِيبَ، فَإِنِّي تَارِكُ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ: كِتَابَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعِتْرَتِي. كِتَابَ اللهِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، وَإِنَّ اللَّطِيفَ الْخَبِيرَ أَخْبَرَنِي، أَنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ، فَانْظُرُوا بِمَاذَا تَخْلُفُونِّي»(5).

وقال أبو عبد الله (عليه السلام): «مَنْ أَحَبَّنَا للهِ نَفَعَهُ اللهُ بِذَلِكَ،وَلَوْ كَانَ أَسِيراً

ص: 118


1- كتاب سليم بن قيس الهلالي: ج2 ص592، الحديث الرابع.
2- كشف اليقين في فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام): ص221، ف3 ب2، المبحث السادس في وجوب محبته ومودته.
3- كشف اليقين في فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام): ص223، ف3 ب2، المبحث السادس.
4- كشف اليقين في فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام): ص225، ف3 ب2، المبحث السادس.
5- معاني الأخبار: ص90، باب معنى الثقلين والعترة، ح2.

..............................

فِي يَدِ الدَّيْلَمِ. وَمَنْ أَحَبَّنَا لِغَيْرِ اللهِ، فَإِنَّ اللهَ يَفْعَلُ بِهِ مَا يَشَاءُ. إِنَّ حُبَّنَا - أَهْلَ الْبَيْتِ - لَيَحُطُّ الذُّنُوبَ عَنِ الْعِبَادِ، كَمَا تَحُطُّ الرِّيحُ الشَّدِيدَةُ الْوَرَقَ عَنِ الشَّجَرِ»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «لِكُلِّ شَيْءٍ أَسَاسٌ، وَأَسَاسُ الإِسْلاَمِ حُبُّنَا أَهْلَالْبَيْتِ»(2).

وعن حفص الدهان، قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): «إِنَّ فَوْقَ كُلِّ عِبَادَةٍ عِبَادَةٌ، وَحُبُّنَا أَهْلَ الْبَيْتِ أَفْضَلُ عِبَادَةٍ»(3).

وعن الفضيل، قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام): أَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ الْعِبَادُ إِلَى اللهِ فِيمَا افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ؟. فقال (عليه السلام): «أَفْضَلُ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ الْعِبَادُ إِلَى اللهِ: طَاعَةُ اللهِ، وَطَاعَةُ رَسُولِهِ، وَحُبُّ اللهِ وَحُبُّ رَسُولِهِ (صلى الله عليه وآله) وَأُولِي الأَمْرِ. وَكَانَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام) يَقُولُ: حُبُّنَا إِيمَانٌ، وَبُغْضُنَا كُفْرٌ»(4).

وعن الحسن بن محمد بن الفضل الهاشمي، عن أبيه، قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): «إِنَّ حُبَّنَا أَهْلَ الْبَيْتِ لَيُنْتَفَعُ بِهِ فِي سَبْعِ مَوَاطِنَ: عِنْدَ اللهِ، وَعِنْدَ الْمَوْتِ، وَعِنْدَ الْقَبْرِ، وَيَوْمَ الْحَشْرِ، وَعِنْدَ الْحَوْضِ، وَعِنْدَ الْمِيزَانِ، وَعِنْدَ الصِّرَاطِ»(5).

ص: 119


1- قرب الإسناد: ص39، عن الإمام الصادق (عليه السلام)، أحاديث متفرقة، ح126.
2- المحاسن: ج1 ص150، كتاب الصفوة والنور والرحمة، ب20 باب الحب، ح66.
3- المحاسن: ج1 ص150، كتاب الصفوة والنور والرحمة، ب20 باب الحب، ح67.
4- المحاسن: ج1 ص150، كتاب الصفوة والنور والرحمة، ب20 باب الحب، ح68.
5- المحاسن: ج1 ص152، كتاب الصفوة والنور والرحمة، ب20 باب الحب، ح75.

..............................

وعن أبي حمزة الثمالي، عن علي بن الحسين (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «فِي الْجَنَّةِ ثَلاَثُ دَرَجَاتٍ، وَفِي النَّارِ ثَلاَثُ دَرَكَاتٍ. فَأَعْلَى دَرَجَاتِ الْجَنَّةِ لِمَنْ أَحَبَّنَا بِقَلْبِهِ، وَنَصَرَنَا بِلِسَانِهِ وَيَدِهِ. وَفِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ مَنْ أَحَبَّنَا بِقَلْبِهِ، وَنَصَرَنَا بِلِسَانِهِ. وَفِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ مَنْ أَحَبَّنَا بِقَلْبِهِ. وَفِي أَسْفَلِ دَرْكٍ مِنَ النَّارِ مَنْ أَبْغَضَنَا بِقَلْبِهِ، وَأَعَانَ عَلَيْنَا بِلِسَانِهِ وَيَدِهِ. وَفِي الدَّرْكِ الثَّانِيَةِ مِنَ النَّارِ مَنْ أَبْغَضَنَا بِقَلْبِهِ، وَأَعَانَ عَلَيْنَا بِلِسَانِهِ. وَفِي الدَّرْكِ الثَّالِثَةِ مِنَ النَّارِ مَنْ أَبْغَضَنَا بِقَلْبِهِ»(1).

احترام الذرية النبوية

مسألة: يلزم احترام ذرية رسول الله (صلى الله عليه وآله) كرامة للرسول (صلى الله عليه وآله).

وفي الحديث عنه (صلى الله عليه وآله)، قال: «أَحِبُّوا أَوْلادِي، الصَّالِحُونَ للهِ،وَالطَّالِحُونَ لِي»(2). وكما قيل في المثل: (لأجل عين ألف عين تكرم)(3).

والأدلة الدالة على منزلة ذراري رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولزوم إكرامهم كثيرة، خاصة وعلى رأسهم الأئمة المعصومون من ذريته (صلوات الله عليهم أجمعين).

ص: 120


1- المحاسن: ج1 ص153، كتاب الصفوة والنور والرحمة، ب21 باب من أحبنا بقلبه، ح76.
2- مستدرك الوسائل: ج12 ص376، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الباب17 من أبواب فعل المعروف، ح14339.
3- هذا عجز بيت شعر صدره: (فلأهلها من أجلها أنا مكرم و...)، راجع خزانة الأدب وغاية الأرب لابن حجة الحموي: ج2 ص205، ذكر التورية.

..............................

وبناء العقلاء وسيرتهم بل وحكم العقل أيضاً يدل على ذلك بالنسبة إلى كل من له حق على الإنسان، فكيف بحق رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو واسطة اللطف الإلهي على جميع البشر بل على جميع الخلق(1)، وقد قال تعالى: «قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْموَدَّةَ فِي الْقُرْبَى»(2).بل إن إكرام واحترام وإطاعة الذرية - والمقصود بالدرجة الأولى الأئمة الأطهار (عليهم السلام) ثم الصالحون من أبنائهم - يعود بالنفع للإنسان أولاً، قال تعالى: «قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ»(3)، فإن عز المسلمين وسعادتهم بإكرام ذرية رسول الله (صلى الله عليه وآله) والالتفاف حولهم.

عن أبي عبد الله (عليه السلام)، أنه قال: قال جدُّنا محمد (صلى الله عليه وآله): «إِنِّي سَأَشْفَعُ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَرْبَعِ طَوَائِفَ، وَلَوْ كَانَ لَهُمْ مِثْلُ ذُنُوبِ أَهْلِ الدُّنْيَا: الأَوَّلُ مَنْ سَلَّ سَيْفَهُ لِذُرِّيَّتِي وَنَصَرَهُمْ، الثَّانِيَةُ مَنْ أَعَانَهُمْ فِي حَالِ فَقْرِهِمْ وَفَاقَتِهِمْ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَالِ، الثَّالِثَةُ مَنْ أَحَبَّهُمْ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ، وَالرَّابِعَةُ مَنْ قَضَى حَوَائِجَهُمْ إِذَا اضْطُرُّوا إِلَيْهَا وَسَعَى فِيهَا»(4).

ص: 121


1- فإن احترام الذرية وإكرامها نوع من رد الإحسان، و«هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ» سورة الرحمن: 60.
2- سورة الشورى: 23.
3- سورة سبأ: 47.
4- مستدرك الوسائل: ج12 ص375، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الباب17 من أبواب فعل المعروف، ح14336.

..............................

وعن هُذيل بن حنان، عن أخيه، قال: قلت للصادق (عليه السلام): كَانَ لِي عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ (عليهم السلام) حَقٌّ لايُوَفِّيهِ، وَيُمَاطِلُنِي فِيهِ، فَأَغْلَظْتُ عَلَيْهِ الْقَوْلَ، وَأَنَا نَادِمٌ مِمَّا صَنَعْتُ. فقال الصادق (عليه السلام): «أَحْبِبْ آلَ مُحَمَّدٍ، وَأَبْرِئْ ذِمَمَهُمْ، وَاجْعَلْهُمْ فِي حِلٍّ، وَبَالِغْ فِي إِكْرَامِهِمْ، وَإِذَا خَالَطْتَ بِهِمْ وَعَامَلْتَهُمْ فَلاَ تَغْلُظْ عَلَيْهِمُ الْقَوْلَ وَلاَ تَسُبَّهُمْ»(1).

وقال (عليه السلام) - في قوله تعالى: «وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا»(2) الآية -: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَنْ رَعَى حَقَّ قَرَابَاتِ أَبَوَيْهِ أُعْطِيَ فِي الْجَنَّةِ أَلْفَ دَرَجَةٍ، بُعْدُ مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ حُضْرُ الْفَرَسِ الْجَوَادِ الْمُضَمَّرِ مِائَةَ أَلْفِ سَنَةٍ، إِحْدَى الدَّرَجَاتِ مِنْ فِضَّةٍ، وَالأُخْرَى مِنْ ذَهَبٍ، وَالأُخْرَى مِنْ لُؤْلُؤٍ، وَالأُخْرَى مِنْ زُمُرُّدٍ، وَالأُخْرَى مِنْ زَبَرْجَدٍ، وَالأُخْرَى مِنْ مِسْكٍ، وَأُخْرَى مِنْ عَنْبَرٍ، وَأُخْرَى مِنْ كَافُورٍ، وَتِلْكَ الدَّرَجَاتُ مِنْ هَذِهِ الأَصْنَافِ. وَمَنْ رَعَى حَقَّ قُرْبَى مُحَمَّدٍ وَعَلِيٍّ (صلوات الله عليهما) أُوتِيَ مِنْ فَضْلِ الدَّرَجَاتِ، وَزِيَادَةِ الْمَثُوبَاتِ عَلَى قَدْرِ زِيَادَةِ فَضْلِ مُحَمَّدٍ وَعَلِيٍّ (صلوات الله عليهما) عَلَى أَبَوَيْ نَسَبِهِ»(3).وقال الحسن بن علي (عليه السلام): «عَلَيْكَ بِالإِحْسَانِ إِلَى قَرَابَاتِ أَبَوَيْ دِينِكَ مُحَمَّدٍ وَعَلِيٍّ (صلوات الله عليهما)، وَإِنْ أَضَعْتَ قَرَابَاتِ أَبَوَيْ نَسَبِك؛ فَإنَّ

ص: 122


1- مستدرك الوسائل: ج12 ص375 - 376، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الباب17 من أبواب فعل المعروف، ح14337.
2- سورة البقرة: 83، سورة النساء: 36، سورة الأنعام: 151، سورة الإسراء: 23.
3- مستدرك الوسائل: ج12 ص377- 378، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الباب17 من أبواب فعل المعروف، ح14341.

..............................

شُكْرَ هَؤُلاَءِ إِلَى أَبَوَيْ دِينِكَ مُحَمَّدٍ وَعَلِيٍّ (صلوات الله عليهما) أَثْمَرُ لَكَ مِنْ شُكْرِ هَؤُلاَءِ إِلَى أَبَوَيْ نَسَبِكَ. إِنَّ قَرَابَاتِ أَبَوَيْ دِينِكَ إِذَا شَكَرَكَ عِنْدَهُمَا بِأَقَلِّ قَلِيلٍ يُظْهِرُهُمَا لَكَ، يَحُطُّ عَنْكَ ذُنُوبَكَ وَلَوْ كَانَتْ مِلْ ءَ مَا بَيْنَ الثَّرَى إِلَى الْعَرْشِ، وَإِنَّ قَرَابَاتِ أَبَوَيْ نَسَبِكَ إِنْ شَكَرُوكَ عِنْدَهُمَا وَقَدْ ضَيَّعْتَ قَرَابَاتِ أَبَوَيْ دِينِكَ لَمْ يُغْنِيَا عَنْكَ فَتِيلاً»(1).

وقال علي بن الحسين (عليه السلام): «حَقُّ قَرَابَاتِ أَبَوَيْ دِينِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلِيٍّ (صلوات الله عليهما وأوليائهِما) أَحَقُّ مِنْ قَرَابَاتِ نَسَبِنَا. إِنَّ أَبَوَيْ دِينِنَا يُرْضِيَانِ عَنَّا أَبَوَيْ نَسَبِنَا، وَأَبَوَيْ نَسَبِنَا لاَ يَقْدِرَانِ أَنْ يُرْضِيَا عَنَّا أَبَوَيْ دِينِنَا مُحَمَّداً وَعَلِيّاً (صلوات الله عليهما وقراباتهما)»(2).وقال محمد بن علي (عليه السلام): «مَنْ كَانَ أَبَوْا دِينِهِ مُحَمَّدٌ وَعَلِيٌّ (صلوات الله عليهما) وَقَرَابَاتُهُمَا آثَرَ لَدَيْهِ وَأَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْ أَبَوَيْ نَسَبِهِ وَقَرَابَاتِهِمَا، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَضَّلْتَ الأَفْضَلَ، وَآثَرْتَ الأَوْلَى بِالإِيثَارِ، لأَجْعَلَنَّكَ بِدَارِ قَرَارِي، وَمُنَادَمَةُ أَوْلِيَائِي أَوْلَى»(3).

وقال جعفر بن محمد (عليه السلام): «مَنْ ضَاقَ عَنْ قَضَاءِ حَقِّ قَرَابَةِ أَبَوَيْ دِينِهِ وَأَبَوَيْ نَسَبِهِ، وَقَدَحَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الآخَرِ، فَقَدَّمَ قَرَابَةَ أَبَوَيْ دِينِهِ عَلَى قَرَابَة أَبَويْ نَسَبِهِ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: كَمَا قَدَّمَ قَرَابَاتِ أَبَوَيْ دِينِه

ص: 123


1- مستدرك الوسائل: ج12 ص378، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الباب17 من أبواب فعل المعروف، ح14342.
2- مستدرك الوسائل: ج12 ص379 الباب17 من أبواب فعل المعروف، ح14343.
3- مستدرك الوسائل: ج12 ص379، الباب17 من أبواب فعل المعروف، ح14344.

..............................

فَقَدِّمُوهُ إِلَى جِنَانِي، فَيَزْدَادُ فَوْقَ مَا كَانَ أَعَدَّ لَهُ مِنَ الدَّرَجَاتِ أَلْفَ أَلْفِ ضِعْفِهَا»(1).

وعن عمران بن معقل، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «لاَ تَدَعُو صِلَةَ آلِ مُحَمَّدٍ (عليهم السلام) مِنْ أَمْوَالِكُمْ،مَنْ كَانَ غَنِيّاً فَعَلَى قَدْرِ غِنَاهُ، وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَعَلَى قَدْرِ فَقْرِهِ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَقْضِيَ اللهُ لَهُ أَهَمَّ الْحَوَائِجِ، فَلْيَصِلْ آلَ مُحَمَّدٍ (عليهم السلام) وَشِيعَتَهُمْ بِأَحْوَجِ مَا يَكُونُ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ»(2).

وعن جابر بن يزيد، عن أبي جَعْفَرٍ (عليه السلام)، قال: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «إِنَّ الرَّحِمَ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَقُولُ: اللَّهُمَّ صِلْ مَنْ وَصَلَنِي، وَاقْطَعْ مَنْ قَطَعَنِي، وَهِيَ رَحِمُ آلِ مُحَمَّدٍ (عليهم السلام)، وَهُوَ قَوْلُهُ: «وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ»(3)، وَ كُلَّ ذِي رَحِمٍ»(4).

ص: 124


1- مستدرك الوسائل: ج12 ص379، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الباب17 من أبواب فعل المعروف، ح14345.
2- مستدرك الوسائل: ج12 ص382 - 383، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الباب17 من أبواب فعل المعروف، ح14352.
3- سورة الرعد: 21.
4- مستدرك الوسائل: ج12 ص383، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الباب17 من أبواب فعل المعروف، ح14353.

..............................

من آذى الذرية الطاهرة

مسألة: يجب وجوباً كفائياً بيان أن القوم آذوا ذرية رسول الله (صلى الله عليه وآله) على عكس ما وصاهم به، وعلى خلاف ما نزلت به الآيات الشريفة.

والبيان تأسٍ بالصديقة الطاهرة (صلوات الله عليها) وبالرسول (صلى الله عليه وآله) وبسائر الأئمة الأطهار (عليهم السلام) حيث حرصوا على بيان ذلك.

ثم إن ذلك هو المائز بين الحق والباطل، والمعرف للناس من هو المظلوم ومن هو الظالم، مما يسبب لهم السعادة باتباع الحق والتبري عن الظالم، سعادة دينية ودنيوية.

الإيذاء الأشد حرمة

مسألة: إيذاء ذرية الرسول (صلى الله عليه وآله) أشد حرمة وأشد عقوبة من إيذاء غيرهم؛ لأنه إيذاء للرسول (صلى الله عليه وآله) أيضاً، وإيذاء لأنبياء الله العظام من أجداده كإبراهيم الخليل (عليه وعليهم السلام) أيضاً، ولأنه هتك لحرمتهم جميعاً، واستخفاف بهم، وهذا مع قصد العنوان(1)لا ريب فيه، وكذلك بدون قصد العنوان، لتفاوت الرتبة وضعاً(2).

ص: 125


1- أي لكونهم آل رسول الله وآل إبراهيم الخليل؛ أو لأنهم المنصوبون من قبله (صلى الله عليه وآله).
2- المقصود : للحرمات رتب بعضها أشد من بعض: كالكذب، والزنا، وقتل المؤمن. ولا ترتبط شدة الحرمة والعقوبة بقصد عنوان أو معرفة بالأشدية.

..............................

قول الصديقة (عليها السلام): «وَعَلَى أَيَّةِ ذُرِّيَّةٍ أَقْدَمُوا»، أي: في إيذائهم لتلك الذرية الطاهرة، والمراد بالذرية هو نفس الصديقة الطاهرة (صلوات الله عليها) والإمام الحسن والحسين (عليهما السلام)، بل والإمام علي (عليه السلام) أيضاً.

قال سبحانه: «ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ»(1).

وقال تعالى: «قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي»(2).

وقال سبحانه: «ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ»(3).

وقال تعالى: «إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ»(4).

ص: 126


1- سورة آل عمران: 34.
2- سورة البقرة: 124.
3- سورة الإسراء: 3.
4- سورة يونس: 83.

وَاحْتَنَكُوا

اشارة

-------------------------------------------

حرمة الاستيلاء على الذرية الطاهرة

الاحتناك: الاستيلاء، والمراد الاستيلاء على الذرية الطاهرة من خلال الاستيلاء على القيادة والخلافة، فالمجاز في الحذف، أو المراد الاستيلاء على الأعم من الخلافة، كفدك وكعدد من حقوقهم الأخرى.

ويمكن الحمل على المجاز في الإسناد أيضاً، كما جاء في الدعاء: «وَحَمَلُوا النَّاسَ عَلَى أَكْتَافِ آلِ مُحَمَّدٍ»(1).

وفي استخدام كلمة (احتنكوا)، إشارة إلى أن القوم إنما هدموا بيوت أنفسهم بهذه الأعمال التي عملوها، والجرائر التي اجترحوها ضد آل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله).

وقد يكون في انتخابها (صلوات الله عليها) كلمة (احتنكوا)، إشارة إلى أن ما قاموا به هو امتداد لما أقسم عليه الشيطان، حيث قال: «قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا»(2).وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «بَلَى كَانَتْ فِي أَيْدِينَا فَدَكٌ مِنْ كُلِّ مَا أَظَلَّتْهُ السَّمَاءُ، فَشَحَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ، وَسَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ آخَرِينَ. وَنِعْمَ الْحَكَمُ اللهُ، وَمَا أَصْنَعُ بِفَدَكٍ وَغَيْرِ فَدَكٍ، وَالنَّفْسُ مَظَانُّهَا فِي غَدٍ جَدَثٌ، تَنْقَطِعُ فِي ظُلْمَتِهِ آثَارُهَا، وَتَغِيبُ أَخْبَارُهَا، وَحُفْرَةٌ لَوْ زِيدَ فِي فُسْحَتِهَا، وَأَوْسَعَت يَدَا

ص: 127


1- كامل الزيارات: ص313، الباب الثاني والمائة زيارة قبر أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، ح2.
2- سورة الإسراء: 62.

..............................

حَافِرِهَا، لأَضْغَطَهَا الْحَجَرُ وَالْمَدَرُ، وَسَدَّ فُرَجَهَا التُّرَابُ الْمُتَرَاكِمُ»(1).

وقال العلامة القمي (رحمه الله) في تفسيره:

(وقوله: «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهمْ عَذَابًا مُهِينًا»(2)، قال: نزلت فيمن غصب أمير المؤمنين (عليه السلام) حقه، وأخذ حق فاطمة (عليها السلام) وآذاها. وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْآذَاهَا فِي حَيَاتِي كَمَنْ آذَاهَا بَعْدَ مَوْتِي، وَمَنْ آذَاهَا بَعْدَ مَوْتِي كَمَنْ آذَاهَا فِي حَيَاتِي، وَمَنْ آذَاهَا فَقَدْ آذَانِي، وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللهَ»، وهو قول الله: «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ» الآية. وقوله: «وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمؤْمِنِينَ وَالْمؤْمِنَاتِ» يعني علياً وفاطمة «بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا»(3)، وهي جارية في الناس كلهم)(4).

وعن أبي بكر بن عبيد الله بن أبي مليكة، عن أبيه، قال: جاء رجل من أهل الشام، فسب علياً (عليه السلام) عند ابن عباس، فحصبه ابن عباس، فقال: (يا عدو الله، آذيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَ رَسُولَهُ

ص: 128


1- نهج البلاغة: رسائل أمير المؤمنين (عليه السلام)، الرقم45 ومن كتاب له (عليه السلام) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري، وكان عامله على البصرة، وقد بلغه أنه دُعِيَ إلى وليمة قوم من أهلها، فمضى إليها.
2- سورة الأحزاب: 57.
3- سورة الأحزاب: 58.
4- تفسير القمي: ج2 ص196، سورة الأحزاب: آية 57.

..............................

لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهمْ عَذَابًا مُهِينًا»(1)، لو كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) حياً لآذيته)(2).

وعن عمر بن الخطاب، قال: كُنْتُ أَجْفُوعَلِيّاً، فَلَقِيَنِي رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله). فَقَالَ: «إِنَّكَ آذَيْتَنِي يَا عُمَرُ». فَقُلْتُ: أَعُوذُ بِاللهِ مِمَّنْ آذَى رَسُولَهُ. قَالَ (صلى الله عليه وآله): «إِنَّكَ قَدْ آذَيْتَ عَلِيّاً، وَمَنْ آذَى عَلِيّاً فَقَدْ آذَانِي»(3).

وعن سعد بن أبي وقاص، قال: كُنْتُ أَنَا وَرَجُلاَنِ فِي الْمَسْجِدِ، فَنِلْنَا مِنْ عَلِيٍّ. فَأَقْبَلَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) مُغْضَباً، فَقَالَ (صلى الله عليه وآله): «مَا لَكُمْ وَلِي، مَنْ آذَى عَلِيّاً فَقَدْ آذَانِي»(4).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَنْ آذَى مُؤْمِناً فَقَدْ آذَانِي، وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللهَ، وَمَنْ آذَى اللهَ فَهُوَ مَلْعُونٌ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَالْفُرْقَانِ» وفي خبر آخر: «فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»(5).

ص: 129


1- سورة الأحزاب: 57.
2- مستدرك الحاكم النيسابوري: ج3 ص121 - 122.
3- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج3 ص211، باب ما يتعلق بالآخرة من مناقبه (عليه السلام)، فصل في أذاه (عليه السلام).
4- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج3 ص211، باب ما يتعلق بالآخرة من مناقبه (عليه السلام)، فصل في أذاه (عليه السلام).
5- جامع الأخبار - الشعيري: ص147، الفصل العاشر والمائة في إيذاء المؤمن.

«لَبِئْسَ الْموْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ»

اشارة

«لَبِئْسَ الْموْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ»(1)

مولى الظالمين وعشيرهم

مسألة: يجب وجوبا كفائياً بيان أن مولى أولئك الذين غصبوا الخلافة وآذوا الصديقة فاطمة (عليها السلام) وبعلها الإمام علياً (عليه السلام) كان بئس المولى، وأن عشيرهم كان بئس العشير.

عن أبي ذر الغفاري، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «من ناصب علياً في الخلافة بعدي فهو كافر، وقد حارب الله ورسوله، ومن شك في علي فهو كافر»(2).

وعن عبد الله بن بريدة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «من ناصب وصيي ووارثي فهو كافر، وإن وصيي ووارثي علي بن أبي طالب»(3).

وعن عبد الله بن عباس - في تأويل قوله تعالى: «وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً»(4) - قال: لما نزلت هذه الآية، قالالنبي (صلى الله عليه وآله): «من ظلم علياً مقعدي هذا بعد وفاتي، فكأنما جحد نبوتي ونبوة الأنبياء قبلي»(5).

ص: 130


1- سورة الحج: 13.
2- إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات: ج 3 ص355، ملحق الباب العاشر، الفصل الثالث، ح37.
3- إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات: ج 3 ص355، ملحق الباب العاشر، الفصل الثالث، ح38.
4- سورة الأنفال: 25.
5- إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات: ج 3 ص355-356، ملحق ب10 ف3 ح39.

..............................

وعن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يا ابن مسعود، إنه قد أنزل عليَّ آية: «اتَّقُوا فِتْنَةً»(1) الآية، وأنا مستودعكها، ومسمٍّ لك خاصة الظلمة، فكن لما أقول واعياً، وعني له مؤدياً: من ظلم علياً مجلسي هذا، فقد جحد نبوتي ونبوة من كان قبلي»(2).

وعن عمر،قال: (بلغني أن قائلاً منكم يقول: لو مات عمر بايعت فلاناً، فلا يغتر امرؤ أن يقول: إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت، ألا وإنها قد كانت كذلك، ولكن الله وقى شرها)(3).

وروى الطبري في تاريخه، قال: (أتىعمر بن الخطاب منزل علي (عليه السلام) وقال: والله لأحرقن عليكم البيت، أو لتخرجن إلى البيعة. فخرج عليه الزبير مصلتاً بالسيف، فعثر وسقط السيف من يده، فوثبوا عليه فأخذوه)(4).

وذكر الواقدي: (أن عمر جاء إلى علي في عصابة، فقال: اخرجوا أو لنحرقنها عليكم)(5).

وذكر ابن جبير في غرره، قال زيد بن أسلم: (أنا كنت ممن حمل الحطب مع عمر إلى باب فاطمة، حين امتنع علي وأصحابه عن البيعة أن يبايعوا.

ص: 131


1- سورة الأنفال: 25.
2- إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات: ج 3 ص356، ملحق الباب العاشر، الفصل الثالث، ح40.
3- إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات: ج 3 ص358، ملحق ب10 ف3 ح47.
4- إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات: ج 3 ص358، ملحق ب10 ف3 ح49.
5- إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات: ج 3 ص358، ملحق ب10 ف3 ح50.

..............................

فقال عمر لفاطمة: أخرجي من في البيت، وإلا أحرقته ومن فيه. قال: وفي البيت: علي، والحسن، والحسين، وجماعة من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله). فقالت فاطمة: تحرق على ولدي!. قال: أي والله، أو ليخرجن، أو ليبايعن)(1).

وروى ابن عبد ربه في الجزء الرابعمن كتاب العقد - في ذكر الذين تخلفوا عن بيعة أبي بكر - قال ما هذا لفظه: (فأما علي والعباس فقعدا في بيت فاطمة، حتى بعث إليهما أبو بكر عمر بن الخطاب ليخرجهما من بيت فاطمة، وقال: إن أبيا فقاتلهما. فأقبل بقبس من نار على أن يضرم عليهما النار، فلقيته فاطمة (عليها السلام) فقالت: يا ابن الخطاب، أجئت لتحرق ديارنا؟!. قال: نعم)(2).

وروى الشافعي ابن المغازلي في كتاب المناقب بإسناده، عن النبي (صلى الله عليه وآله)، أنه قال لعلي (عليه السلام): «إن الأمة ستغدر بك بعدي»(3).

وروى ابن مردويه في المناقب، بإسناده عن ابن عباس، عن النبي (صلى الله عليه وآله) - في حديث - أنه بكى, فقال علي (عليه السلام): «ما يبكيك يا رسول الله!». قال: «ضغائن في صدور قوم لا يبدونها لك حتى يفقدوني»(4).وعن أبي بكر، أنه قال على المنبر: (إن النبي كان يعصم بالوحي، وإن لي

ص: 132


1- إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات: ج 3 ص359، ملحق ب10 ف3 ح51.
2- إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات: ج 3 ص359، ملحق ب10 ف3 ح52.
3- إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات: ج 3 ص362، ملحق ب10 ف3 ح63.
4- إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات: ج 3 ص362، ملحق الباب العاشر، الفصل الثالث، ح64.

..............................

شيطاناً يعتريني، فإن استقمت فأعينوني، وإن زغت فقوموني)(1).

وقال أيضاً: (أقيلوني فلست بخيركم وعلي فيكم)(2).

وقال عند احتضاره: (ليتني كنت تبنة في لبنة، ليت أمي لم تلدني)(3).

وروى أبو نعيم الحافظ في كتاب حلية الأولياء: (إن عمر لما احتضر قال: يا ليتني كنت كبشاً لقومي قسموني ما بدا لهم، ثم جاءهم أحب قومهم إليهم، فذبحوني فجعلوا نصفي شواء، ونصفي قديداً فأكلوني، فأكون عذرة ولا أكون بشراً)(4).

من هو المولى

مسألة: يحرم اتخاذ مولى غير من عينه الله مولى، فإن (المولى) هو الله ثم الرسول (صلى الله عليه وآله)، ثم من عينه رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأمر الله عز وجل وهم الأئمة الاثنى عشر (عليهم السلام) ومن بعدهم الوكلاء والنواب العامون عنهم وهم الفقهاء مراجع التقليد الجامعي للشرائط.

عن أبي عبد الله (عليه السلام) - في حديث - قال: «وَاللهِ لَنُحِبُّكُمْ أَنْ تَقُولُوا إِذَا قُلْنَا، وَتَصْمُتُوا إِذَا صَمَتْنَا، وَنَحْن فِيمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، مَا جَعَلَ اللهُ

ص: 133


1- إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات: ج 3 ص368 - 369، ملحق الباب العاشر، الفصل الخامس، ح100.
2- إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات: ج 3 ص369، ملحق ملحق ب10 ف5 ح101.
3- إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات: ج 3 ص369، ملحق ملحق ب10 ف5 ح103.
4- إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات: ج 3 ص369، ملحق ملحق ب10 ف5 ح107.

..............................

لأَحَدٍ خَيْراً فِي خِلاَفِ أَمْرِنَا»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) - في حديث - قال: «حَسْبُكُمْ أَنْ تَقُولُوا مَا نَقُولُ، وَتَصْمُتُوا عَمَّا نَصْمُتُ. إِنَّكُمْ قَدْ رَأَيْتُمْ أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَجْعَلْ لأَحَدٍ فِي خِلاَفِنَا خَيْراً»(2).وعن المفضل بن عمر، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «مَنْ دَانَ اللهَ بِغَيْرِ سَمَاعٍ عَنْ صَادِقٍ، أَلْزَمَهُ اللهُ التَّيْهَ إِلَى الْفَنَاءِ. وَمَنِ ادَّعَى سَمَاعاً مِنْ غَيْرِ الْبَابِ الَّذِي فَتَحَهُ اللهُ فَهُوَ مُشْرِكٌ، وَذَلِكَ الْبَابُ الْمَأْمُونُ عَلَى سِرِّ اللهِ الْمَكْنُونِ»(3).

وعن إبراهيم بن أبي محمود، عن الرضا (عليه السلام) - في حديث طويل - قال: أخبرني أبي، عن آبائه (عليهم السلام)، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قال: «مَنْ أَصْغَى إِلَى نَاطِقٍ فَقَدْ عَبَدَهُ، فَإِنْ كَانَ النَّاطِقُ عَنِ اللهِ فَقَدْ عَبَدَ اللهَ، وَإِنْ كَانَ النَّاطِقُ عَنْ إِبْلِيسَ فَقَدْ عَبَدَ إِبْلِيسَ» إلى أن قال: «يَا ابْنَ أَبِي مَحْمُودٍ، إِذَا أَخَذَ النَّاسُ يَمِيناً وَشِمَالاً فَالْزَمْ طَرِيقَتَنَا؛ فَإِنَّهُ مَنْ لَزِمَنَا لَزِمْنَاهُ، وَمَنْ فَارَقَنَا فَارَقْنَاهُ؛ فَإِنَّ أَدْنَى مَا يَخْرُجُ بِهِ الرَّجُلُ مِنَ الإِيمَانِ، أَنْ يَقُولَ لِلْحَصَاةِ: هَذِهِ نَوَاةٌ،

ص: 134


1- وسائل الشيعة: ج27 ص127، كتاب القضاء، الباب10 من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به، ح33391.
2- وسائل الشيعة: ج27 ص128، كتاب القضاء، الباب10 من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به، ح33392.
3- وسائل الشيعة: ج27 ص128، كتاب القضاء، الباب10 من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به، ح33393.

..............................

ثُمَّ يَدِينَ بِذَلِكَ وَيَبْرأَ مِمَّنْ خَالَفَهُ. يَاابْنَ أَبِي مَحْمُودٍ، احْفَظْ مَا حَدَّثْتُكَ بِهِ، فَقَدْ جَمَعْتُ لَكَ فِيهِ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ»(1).

وعن الرضا، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَنْ دَانَ بِغَيْرِ سَمَاعٍ، أَلْزَمَهُ اللهُ الْبَتَّةَ إِلَى الْفَنَاءِ. وَمَنْ دَانَ بِسَمَاعٍ مِنْ غَيْرِ الْبَابِ الَّذِي فَتَحَهُ اللهُ لِخَلْقِهِ فَهُوَ مُشْرِكٌ، وَالْبَابُ الْمَأْمُونُ عَلَى وَحْيِ اللهِ مُحَمَّدٌ (صلى الله عليه وآله)»(2).

وعن محمد بن خالد، عن أخيه سفيان بن خالد، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «إِيَّاكَ وَالرِّئَاسَةَ! فَمَا طَلَبَهَا أَحَدٌ إِلاَّ هَلَكَ». فقلت: قَدْ هَلَكْنَا إِذاً، لَيْسَ أَحَدٌ مِنَّا إِلاَّ وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يُذْكَرَ وَيُقْصَدَ وَيُؤْخَذَ عَنْهُ. فقال: «لَيْسَ حَيْثُ تَذْهَبُ، إِنَّمَا ذَلِكَ أَنْ تَنْصِبَ رَجُلاً دُونَ الْحُجَّةِ، فَتُصَدِّقَهُ فِي كُلِّ مَا قَالَ، وَتَدْعُوَ النَّاسَ إِلَى قَوْلِهِ»(3).وعن إبراهيم بن زياد، قال: قال الصادق (عليه السلام): «كَذَبَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَعْرِفُنَا، وَهُوَ مُسْتَمْسِكٌ بِعُرْوَةِ غَيْرِنَا»(4).

ص: 135


1- وسائل الشيعة: ج27 ص128-129، كتاب القضاء، الباب10 من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به، ح33394.
2- وسائل الشيعة: ج27 ص129، كتاب القضاء، الباب10 من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به، ح33395.
3- وسائل الشيعة: ج27 ص129، كتاب القضاء، الباب10 من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به، ح33396.
4- وسائل الشيعة: ج27 ص129، كتاب القضاء، الباب10، ح33397.

..............................

وعن سُليم بن قيس الهلالي، قال: سَمِعْتُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) يَقُولُ: «احْذَرُوا عَلَى دِينِكُمْ ثَلاَثَةً: رَجُلاً قَرَأَ الْقُرْآنَ حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ عَلَيْهِ بَهْجَتَهُ، اخْتَرَطَ سَيْفَهُ عَلَى جَارِهِ وَرَمَاهُ بِالشِّرْكِ». فقلت: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَيُّهُمَا أَوْلَى بِالشِّرْكِ؟. قال: الرَّامِي. وَرَجُلاً اسْتَخَفَّتْهُ الأَكَاذِيبُ، كُلَّمَا أَحْدَثَ أُحْدُوثَةَ كَذِبٍ مَدَّهَا بِأَطْوَلَ مِنْهَا. وَرَجُلاً آتَاهُ اللهُ سُلْطَاناً، فَزَعَمَ أَنَّ طَاعَتَهُ طَاعَةُ اللهِ، وَمَعْصِيَتَهُ مَعْصِيَةُ اللهِ، وَكَذَبَ؛ لأَنَّهُ لاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ، لاَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمَخْلُوقُ حُبُّهُ لِمَعْصِيَةِ اللهِ، فَلاَ طَاعَةَ فِي مَعْصِيَتِهِ، وَلاَ طَاعَةَ لِمَنْ عَصَى اللهَ. إِنَّمَا الطَّاعَةُ للهِ، وَلِرَسُولِهِ (صلى الله عليه وآله)، وَلِوُلاَةِ الأَمْرِ. وَإِنَّمَا أَمَرَ اللهُ بِطَاعَةِ الرَّسُولِ (صلى الله عليه وآله)؛ لأَنَّهُ مَعْصُومٌ مُطَهَّرٌ، لاَ يَأْمُرُ بِمَعْصِيَتِهِ. وَإِنَّمَا أَمَرَ بِطَاعَةِ أُولِي الأَمْرِ؛ لأَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ مُطَهَّرُونَ، لا يَأْمُرُونَبِمَعْصِيَتِهِ»(1).

وعن الفضيل بن يسار، قال: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) يَقُولُ: «كُلُّ مَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ هَذَا الْبَيْتِ فَهُوَ بَاطِلٌ»(2).

وعن الحجاج بن الصباح، قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): إِنَّا نُحَدِّثُ عَنْكَ بِالْحَدِيثِ، فَيَقُولُ بَعْضُنَا: قَوْلُنَا قَوْلُهُمْ. قال: «فَمَا تُرِيدُ، أَ تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ إِمَاماً يُقْتَدَى بِكَ، مَنْ رَدَّ الْقَوْلَ إِلَيْنَا فَقَدْ سَلِمَ»(3).

ص: 136


1- وسائل الشيعة: ج27 ص129-130، كتاب القضاء، الباب10 من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به، ح33398.
2- وسائل الشيعة: ج27 ص130، كتاب القضاء، الباب10 من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به، ح33399.
3- وسائل الشيعة: ج27 ص130، كتاب القضاء، الباب10 ح33400.

..............................

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «مَنْ أَخَذَ دِينَهُ مِنْ أَفْوَاهِ الرِّجَالِ أَزَالَتْهُ الرِّجَالُ، وَمَنْ أَخَذَ دِينَهُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ زَالَتِ الْجِبَالُ وَلَمْ يَزُلْ»(1).

عشير السوء

مسألة: يحرم اتخاذ عشير سوء يقود الإنسان للمعاصي والجحيم، من باب المقدمية، ولو لم يقد فإنه مرجوح ومذموم دون شك، ومن مصاديق ذلك أن تتزوج فاسقاً أو يتزوج فاسقة، إلا لو أحرز قدرته على هدايته أو هدايتها، أو كان لأمر أهم، كما في زواج بعض الأنبياء من غير الصالحات.

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «لاَ عَلَيْكَ أَنْ تَصْحَبَ ذَا الْعَقْلِ وَإِنْ لَمْ تَحْمَدْ كَرَمَهُ، وَلَكِنِ انْتَفِعْ بِعَقْلِهِ، وَاحْتَرِسْ مِنْ سَيِّئِ أَخْلاَقِهِ. وَلاَ تَدَعَنَّ صُحْبَةَ الْكَرِيمِ وَإِنْ لَمْ تَنْتَفِعْ بِعَقْلِهِ، وَلَكِنِ انْتَفِعْ بِكَرَمِهِ بِعَقْلِكَ، وَافْرِرْ كُلَّ الْفِرَارِ مِنَ اللَّئِيمِ الأَحْمَقِ»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) إِذَا صَعِدَ الْمِنْبَرَ، قَالَ: يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَجَنَّبَ مُؤَاخَاةَ ثَلاثَةٍ: الْمَاجِنِ الْفَاجِرِ، وَالأَحْمَقِ، وَالْكَذَّابِ.

ص: 137


1- وسائل الشيعة: ج27 ص132، كتاب القضاء، الباب10 من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به، ح33403.
2- وسائل الشيعة: ج12 ص19، تتمة كتاب الحج، الباب8 من أبواب أحكام العشرة في السفر والحضر، ح15530.

..............................

فَأَمَّا الْمَاجِنُ الْفَاجِرُ: فَيُزَيِّنُ لَكَ فِعْلَهُ، وَيُحِبُّ أَنْ تَكُونَ مِثْلَهُ، وَلاَ يُعِينُكَ عَلَى أَمْرِ دِينِكَ وَمَعَادِكَ، وَمُقَارَنَتُهُ جَفَاءٌ وَقَسْوَةٌ، وَمَدْخَلُهُ وَمَخْرَجُهُ عَارٌ عَلَيْكَ.

وَأَمَّا الأَحْمَقُ: فَإِنَّهُ لاَ يُشِيرُ عَلَيْكَ بِخَيْرٍ، وَلاَ يُرْجَى لِصَرْفِ السُّوءِ عَنْكَ وَلَوْ أَجْهَدَ نَفْسَهُ، وَرُبَّمَا أَرَادَ مَنْفَعَتَكَ فَضَرَّكَ، فَمَوْتُهُ خَيْرٌ مِنْ حَيَاتِهِ، وَسُكُوتُهُ خَيْرٌ مِنْ نُطْقِهِ، وَبُعْدُهُ خَيْرٌ مِنْ قُرْبِهِ.

وَأَمَّا الْكَذَّابُ: فَإِنَّهُ لاَ يَهْنِئُكَ مَعَهُ عَيْشٌ، يَنْقُلُ حَدِيثَكَ وَيَنْقُلُ إِلَيْكَ الْحَدِيثَ، كُلَّمَا أَفْنَى أُحْدُوثَةً مَطَّهَا بِأُخْرَى مِثْلِهَا، حَتَّى إِنَّهُ يُحَدِّثُ بِالصِّدْقِ فَمَا يُصَدَّقُ، وَيُفَرِّقُ بَيْنَ النَّاسِ بِالْعَدَاوَةِ، فَيُنْبِتُ السَّخَائِمَ فِي الصُّدُورِ. فَاتَّقُوا اللهَ وَانْظُرُوا لأَنْفُسِكُمْ»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «لاَ يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ الْمُسْلِمِ أَنْ يُؤَاخِيَ الْفَاجِرَ؛ فَإِنَّهُ يُزَيِّنُ لَهُ فِعْلَهُ، وَيُحِبُّ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ، وَلاَ يُعِينُهُ عَلَى أَمْرِ دُنْيَاهُ، وَلاَ أَمْرِ مَعَادِهِ، وَمَدْخَلُهُ إِلَيْهِ وَمَخْرَجُهُ مِنْعِنْدِهِ شَيْنٌ عَلَيْهِ»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «لاَ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُؤَاخِيَ الْفَاجِرَ، وَلاَ الأَحْمَقَ، وَلاَ الْكَذَّابَ»(3).

ص: 138


1- وسائل الشيعة: ج12 ص28 - 29، تتمة كتاب الحج، الباب15 من أبواب أحكام العشرة في السفر والحضر، ح15556.
2- وسائل الشيعة: ج12 ص29، تتمة كتاب الحج، الباب15 من أبواب أحكام العشرة في السفر والحضر، ح15557.
3- وسائل الشيعة: ج12 ص29، تتمة كتاب الحج، الباب15 ح15558.

..............................

وعن عبيد بن زرارة، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «إِيَّاكَ وَمُصَادَقَةَ الأَحْمَقِ! فَإِنَّكَ أَسَرَّ مَا تَكُونُ مِنْ نَاحِيَتِهِ، أَقْرَبُ مَا يَكُونُ إِلَى مَسَاءَتِكَ»(1).

وعن عمار بن موسى، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «يَا عَمَّارُ، إِنْ كُنْتَ تُحِبُّ أَنْ تَسْتَتِبَّ لَكَ النِّعْمَةُ، وَتَكْمُلَ لَكَ الْمُرُوءَةُ، وَتَصْلُحَ لَكَ الْمَعِيشَةُ، فَلاَ تُشَارِكِ الْعَبِيدَ وَالسَّفِلَةَ فِي أَمْرِكَ؛ فَإِنَّهُمْ إِنِ ائْتَمَنْتَهُمْ خَانُوكَ، وَإِنْ حَدَّثُوكَ كَذَبُوكَ، وَإِنْ نُكِبْتَ خَذَلُوكَ، وَإِنْ وَعَدُوكَ أَخْلَفُوكَ»(2).وقال (عليه السلام): «حُبُّ الأَبْرَارِ لِلأَبْرَارِ ثَوَابٌ لِلأَبْرَارِ، وَحُبُّ الْفُجَّارِ لِلأَبْرَارِ فَضِيلَةٌ لِلأَبْرَارِ، وَبُغْضُ الْفُجَّارِ لِلأَبْرَارِ زَيْنٌ لِلأَبْرَارِ، وَبُغْضُ الأَبْرَارِ لِلْفُجَّارِ خِزْيٌ عَلَى الْفُجَّارِ»(3).

وقال لقمان لابنه: «يَا بُنَيَّ، لاَ تَقْتَرِبْ فَيَكُونَ أَبْعَدَ لَكَ، وَلاَ تَبْعُدْ فَتُهَانَ. كُلُّ دَابَّةٍ تُحِبُّ مِثْلَهَا، وَإِنَّ ابْنَ آدَمَ يُحِبُّ مِثْلَهُ. وَلاَ تَنْشُرْ بِرَّكَ إِلاَّ عِنْدَ بَاغِيهِ. كَمَا لَيْسَ بَيْنَ الذِّئْبِ وَالْكَبْشِ خُلَّةٌ، كَذَلِكَ لَيْسَ بَيْنَ الْبَارِّ وَالْفَاجِرِ خُلَّةٌ. مَنْ يَقْرَبْ مِنَ الزِّفْتِ يَعْلَقْ بِهِ بَعْضُهُ، كَذَلِكَ مَنْ يُشَارِكِ الْفَاجِرَ يَتَعَلَّمْ مِنْ طُرُقِهِ. مَنْ يُحِبَّ الْمِرَاءَ يُشْتَمْ، وَمَنْ يَدْخُلْ مَدَاخِلَ السَّوْءِ يُتَّهَمْ، وَمَنْ يُقَارِنْ قَرِينَ السَّوْءِ لاَ يَسْلَمْ، وَمَنْ لاَ يَمْلِكْ لِسَانَهُ يَنْدَمْ»(4).

ص: 139


1- وسائل الشيعة: ج12 ص29 - 30، تتمة كتاب الحج، الباب15 من أبواب أحكام العشرة في السفر والحضر، ح15559.
2- وسائل الشيعة: ج12 ص30 - 31، تتمة كتاب الحج، الباب16، ح15561.
3- وسائل الشيعة: ج12 ص31، تتمة كتاب الحج، الباب16، ضمن ح15561.
4- وسائل الشيعة: ج12 ص31، تتمة كتاب الحج، الباب16، ح15562.

..............................

وعن معاوية بن وهب، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «كَانَ أَبِي (عليه السلام) يَقُولُ: قُمْ بِالْحَقِّ وَلاَ تَعَرَّضْ لِمَا فَاتَكَ، وَاعْتَزِلْ مَا لاَ يَعْنِيكَ، وَتَجَنَّبْ عَدُوَّكَ، وَاحْذَرْ صَدِيقَكَ مِنَ الأَقْوَامِإِلاَّ الأَمِينَ، وَالأَمِينُ مَنْ خَشِيَ اللهَ. وَلاَ تَصْحَبِ الْفَاجِرَ، وَلاَ تُطْلِعْهُ عَلَى سِرِّكَ، وَلاَ تَأْمَنْهُ عَلَى أَمَانَتِكَ، وَاسْتَشِرْ فِي أُمُورِكَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ»(1).

الاضطرار في سوء العشير

مسألة: لو اضطر الإنسان إلى اتخاذ عشير سوء، لزم أن يقتصر على قدر الضرورة كأكل الميتة.

وعن أبي عبد الله، عن أبيه (عليهما السلام)، قال: قال لي أبي علي بن الحسين (عليه السلام): «يَا بُنَيَّ، انْظُرْ خَمْسَةً فَلاَ تُصَاحِبْهُمْ، وَلاَ تُحَادِثْهُمْ، وَلاَ تُرَافِقْهُمْ فِي طَرِيقٍ». فَقُلْتُ: «يَا أَبَهْ، مَنْ هُمْ عَرِّفْنِيهِمْ؟». قَالَ: «إِيَّاكَ وَمُصَاحَبَةَ الْكَذَّابِ! فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ السَّرَابِ، يُقَرِّبُ لَكَ الْبَعِيدَ، وَيُبَعِّدُ لَكَ الْقَرِيبَ. وَإِيَّاكَ وَمُصَاحَبَةَ الْفَاسِقِ! فَإِنَّهُ بَائِعُكَ بِأُكْلَةٍ، وَأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ. وَإِيَّاكَ وَمُصَاحَبَةَ الْبَخِيلِ! فَإِنَّهُ يَخْذُلُكَ فِي مَالِهِ أَحْوَجَ مَا تَكُونُ إِلَيْهِ. وَإِيَّاكَ وَمُصَاحَبَةَ الأَحْمَقِ! فَإِنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَنْفَعَكَ فَيَضُرُّكَ. وَإِيَّاكَ وَمُصَاحَبَةَ الْقَاطِعِ لِرَحِمِهِ! فَإِنِّي وَجَدْتُهُ مَلْعُوناً فِي كِتَابِ اللهِ فِي ثَلاَثَةِ مَوَاضِعَ: قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ:«فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدوا

ص: 140


1- وسائل الشيعة: ج12 ص31 - 32، تتمة كتاب الحج، الباب16 من أبواب أحكام العشرة في السفر والحضر، ح15564.

..............................

فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ»(1)، وَقَالَ: «وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهمُ اللَّعْنَةُ وَلَهمْ سُوءُ الدَّارِ»(2)، وَقَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: «الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ»(3)»(4).

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «لاَ تُقَارِنْ وَلاَ تُؤَاخِ أَرْبَعَةً: الأَحْمَقَ، وَالْبَخِيلَ، وَالْجَبَانَ، وَالْكَذَّابَ, أَمَّا الأَحْمَقُ: فَيُرِيدُ أَنْ يَنْفَعَكَ فَيَضُرُّكَ. وَأَمَّا الْبَخِيلُ: فَإِنَّهُ يَأْخُذُ مِنْكَ وَلاَ يُعْطِيكَ. وَأَمَّا الْجَبَانُ: فَإِنَّهُ يَهْرُبُ عَنْكَ وَعَنْ وَالِدَيْهِ. وَأَمَّا الْكَذَّابُ: فَإِنَّهُ يَصْدُقُ وَلاَ يُصَدَّقُ»(5).وعن جعفر بن محمد، عن أبيه (عليهما السلام) قال: «أَرَدْتُ سَفَراً، فَأَوْصَى إِلَيَّ أَبِي عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (عليه السلام)، فَقَالَ فِي وَصِيَّتِهِ: إِيَّاكَ يَا بُنَيَّ أَنْ تُصَاحِب

ص: 141


1- سورة محمد: 22-23.
2- سورة الرعد: 25.
3- سورة البقرة: 27.
4- وسائل الشيعة: ج12 ص32 - 33، تتمة كتاب الحج، الباب17 من أبواب أحكام العشرة في السفر والحضر، ح15565.
5- وسائل الشيعة: ج12 ص34، تتمة كتاب الحج، الباب17 من أبواب أحكام العشرة في السفر والحضر، ح15568.

..............................

الأَحْمَقَ أَوْ تُخَالِطَهُ، وَاهْجُرْهُ وَلاَ تُحَادِثْهُ؛ فَإِنَّ الأَحْمَقَ هُجْنَةٌ، عَيَّابٌ غَائِباً كَانَ أَوْ حَاضِراً. إِنْ تَكَلَّمَ فَضَحَهُ حُمْقُهُ، وَإِنْ سَكَتَ قَصَرَ بِهِ عِيُّهُ، وَإِنْ عَمِلَ أَفْسَدَ، وَإِنِ اسْتُرْعِيَ أَضَاعَ. لاَ عِلْمُهُ مِنْ نَفْسِهِ يُغْنِيهِ، وَلاَ عِلْمُ غَيْرِهِ يَنْفَعُهُ، وَلاَ يُطِيعُ نَاصِحَهُ، وَلاَ يَسْتَرِيحُ مُقَارِنُهُ. تَوَدُّ أُمُّهُ أَنَّهَا ثَكِلَتْهُ، وَامْرَأَتُهُ أَنَّهَا فَقَدَتْهُ، وَجَارُهُ بُعْدَ دَارِهِ، وَجَلِيسُهُ الْوَحْدَةَ مِنْ مُجَالَسَتِهِ. إِنْ كَانَ أَصْغَرَ مَنْ فِي الْمَجْلِسِ أَعْنَى مَنْ فَوْقَهُ، وَإِنْ كَانَ أَكْبَرَهُمْ أَفْسَدَ مَنْ دُونَهُ»(1).

فرض مولى السوء

مسألة: لو فرض على الإنسان مولى سوء - حاكماً كان أم ملكاً أم قائداً أم شبه ذلك - لزم عليه مقاومته، والسعيلإرجاع الحق إلى نصابه قدر المستطاع مع مراعاة الموازين الشرعية، بالتثقيف والتوعية والتنظيم وتأسيس المؤسسات الإعلامية والحقوقية والضغط الجماهيري والرأي العام والإضرابات والمظاهرات السلمية وما أشبه.

مصادر الضلالة

مسألة: الضلال الخارجي مصدره الأساس إما المولى وإما العشير، أما الداخلي فمصدره النفس والشيطان والهوى، قال الشاعر:

نَفْسِي وَشَيْطَانِي وَدُنْيَا وَالْهوَى*** كَيْفَ الْخلاصُ وَكُلَّهُمْ أَعْدَائِي

ص: 142


1- وسائل الشيعة: ج12 ص34 - 35، تتمة كتاب الحج، الباب17 من أبواب أحكام العشرة في السفر والحضر، ح15569.

..............................

روى نصر بن مزاحم في "كتاب صفين"، قال: لَمَّا قَدِمَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى الْكُوفَةِ - إلى أن قال - ثُمَّ صَعِدَ المِنْبَرَ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: «أَمَّا بَعْدُ يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ- فَإِنَّ لَكُمْ فِي الإِسْلاَمِ فَضْلاً مَا لَمْ تَبَدَّلُوا وَتَغَيَّرُوا - إلى أن قال - أَلاَ إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ: اتِّبَاعُ الْهَوَى، وَطُولُ الأَمَلِ. فَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ، وَأَمَّا طُولُ الأَمَلِ فَيُنْسِي الآخِرَةَ»(1).وعن هشام بن الحكم، قال: قال موسى بن جعفر (عليه السلام): «يَا هِشَامُ، مَنْ سَلَّطَ ثَلاَثاً عَلَى ثَلاَثٍ، فَكَأَنَّمَا أَعَانَ عَلَى هَدْمِ عَقْلِهِ: مَنْ أَظْلَمَ نُورَ تَفَكُّرِهِ بِطُولِ أَمَلِهِ، وَمَحَا طَرَائِفَ حِكْمَتِهِ بِفُضُولِ كَلاَمِهِ، وَأَطْفَأَ نُورَ عِبْرَتِهِ بِشَهَوَاتِ نَفْسِهِ، فَكَأَنَّمَا أَعَانَ هَوَاهُ عَلَى هَدْمِ عَقْلِهِ، وَمَنْ هَدَمَ عَقْلَهُ أَفْسَدَ عَلَيْهِ دِينَهُ وَدُنْيَاهُ»(2).

ورواه الحسن بن علي بن شعبة في (تحف العقول) وزاد فيه: «يَا هِشَامُ، أَوْحَى اللهُ إِلَى دَاوُدَ: يَا دَاوُدُ، حَذِّرْ وَأَنْذِرْ أَصْحَابَكَ عَنْ حُبِّ الشَّهَوَاتِ؛ فَإِنَّ الْمُعَلَّقَةَ قُلُوبُهُمْ بِشَهَوَاتِ الدُّنْيَا قُلُوبُهُمْ مَحْجُوبَةٌ عَنِّي»(3).

وعن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، أنه قال: «كَانَ فِيمَا وَعَظَ اللهُ بِهِ عِيسَى (عليه السلام) أَنْ قَالَ لَهُ: وَافْطِمْ نَفْسَكَ عَنِ الشَّهَوَاتِ الْمُوبِقَاتِ، وَكُلَّ شَهْوَةٍ تُبَاعِدُكَ مِنِّي فَاهْجُرْهَا»(4).

ص: 143


1- مستدرك الوسائل: ج11 ص305، تتمة كتاب الجهاد، الباب32 ، ح13107.
2- مستدرك الوسائل: ج11 ص340، تتمة كتاب الجهاد، الباب42، ح13210.
3- مستدرك الوسائل: ج11 ص340، تتمة كتاب الجهاد، الباب42، ضمن ح13210.
4- مستدرك الوسائل: ج11 ص340 - 341، تتمة كتاب الجهاد، الباب42، ح13211.

..............................

وعن ابن سنان، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «كَانَ الْمَسِيحُ (عليه السلام) يَقُولُ لأَصْحَابِهِ: إِنْ كُنْتُمْ أَحِبَّائِي وَإِخْوَانِي فَوَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ عَلَى الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ مِنَ النَّاسِ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَلَسْتُمْ بِإِخْوَانِي. إِنَّمَا أُعَلِّمُكُمْ لِتَعْمَلُوا، وَلاَ أُعَلِّمُكُمْ لِتُعْجَبُوا، إِنَّكُمْ لَنْ تَنَالُوا مَا تُرِيدُونَ إِلاَّ بِتَرْكِ مَا تَشْتَهُونَ، وَبِصَبْرِكُمْ عَلَى مَا تَكْرَهُونَ»(1).

وعن أبي عبد الله جعفر بن محمد (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «طُوبَى لِمَنْ تَرَكَ شَهْوَةً حَاضِرَةً لِمَوْعُودٍ لَمْ يَرَهُ قَطُّ»(2).

وعن الصادق (عليه السلام) في حديث قال: «وَمَنْ شُغِفَ بِمَحَبَّةِ الْحَرَامَ وَشَهْوَةِ الزِّنَا، فَهُوَ شِرْكُ الشَّيْطَانِ»(3).

وقال ابن فهد (رحمه الله) في (عُدَّةِ الدَّاعِي): قال عيسى (عليه السلام): «بِحَقٍ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ الزِّقَّ إِذَا لَمْ يَنْخَرِقْ يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ وِعَاءَ الْعَسَلِ، كَذَلِكَ الْقُلُوبُ إِذَا لَمْ تَخْرِقْهَا الشَّهَوَاتُ، أَوْ يُدَنِّسْهَا الطَّمَعُ، أَوْ يُقْسِهَا النَّعِيمُ، فَسَوْفَ تَكُونُ أَوْعِيَةَ الْحِكْمَةِ»(4).

ص: 144


1- مستدرك الوسائل: ج11 ص341، تتمة كتاب الجهاد، الباب42 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ح13212.
2- مستدرك الوسائل: ج11 ص341، تتمة كتاب الجهاد، الباب42 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ح13213.
3- مستدرك الوسائل: ج11 ص341، تتمة كتاب الجهاد، الباب42 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ح13214.
4- مستدرك الوسائل: ج11 ص341 - 342، تتمة كتاب الجهاد، الباب42، ح13215.

..............................

وعن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ - وَأَقْبَلَ عَلَى أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ - فَقَالَ: «يَا أُسَامَةُ، عَلَيْكَ بِطَرِيقِ الْحَقِّ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَخْتَلِجَ دُونَهُ بِزَهْرَةِ رَغَبَاتِ الدُّنْيَا، وَغَضَارَةِ نَعِيمِهَا، وَبَائِدِ سُرُورِهَا، وَزَائِلِ عَيْشِهَا». فَقَالَ أُسَامَةُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا أَيْسَرُ مَا يَنْقَطِعُ بِهِ ذَلِكَ الطَّرِيقُ؟. قَالَ: «السَّهَرُ الدَّائِمُ، وَالظَّمَأُ فِي الْهَوَاجِرِ، وَكَفُّ النَّفْسِ عَنِ الشَّهَوَاتِ، وَتَرْكُ اتِّبَاعِ الْهَوَى، وَاجْتِنَابُ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا»(1).

القيادة والأجواء الصحيحة

مسألة: يجب على حملة الإسلام ودعاةالتغيير أن يوفروا للناس كلا العاملين:

1: المولى والقيادة الصحيحة الجامعة للشرائط.

2: والجو الإيماني وشبكة العلاقات السليمة التي تحيط بالعاملين والناشطين والمؤمنين.

جاء في وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) لابنه الإمام الحسن (عليه السلام)، قوله: «لاَ تَخَافُنَّ فِي اللهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ فَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ، وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً كَمَا أَمَرَكُمُ اللهُ. وَلاَ تَتْرُكُنَّ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ؛ فَيُوَلِّيَ اللهُ الأَمْرَ أَشْرَارَكُمْ، وَتَدْعُونَ فَلاَ يُسْتَجَابُ لَكُمْ. عَلَيْكُمْ يَا بَنِيَّ بِالتَّوَاصُلِ وَالتَّبَاذُلِ وَالتَّبَارِّ،

ص: 145


1- مستدرك الوسائل: ج11 ص342، تتمة كتاب الجهاد، الباب42 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ح13216.

..............................

وَإِيَّاكُمْ وَالنِّفَاقَ وَالتَّقَاطُعَ وَالتَّدَابُرَ وَالتَّفَرُّقَ، «وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ»(1)»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «جَاءَ جَبْرَئِيلُ إِلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله). فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، رَبُّكَ يُقْرِئُكَ السَّلامَوَيَقُولُ لَكَ: دَارِ خَلْقِي»(3).

وقال (صلى الله عليه وآله): «أَمَرَنِي رَبِّي بِمُدَارَاةِ النَّاسِ، كَمَا أَمَرَنِي بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ»(4).

وعن الإمام أبي محمد العسكري (عليه السلام) في تفسيره - في قوله تعالى: «وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا»(5) -: قال الصادق (عليه السلام): «قُولُوا لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ حُسْناً مُؤْمِنِهِمْ وَمُخَالِفِهِمْ. أَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَيَبْسُطُ لَهُمْ وَجْهَهُ، وَأَمَّا الْمُخَالِفُونَ فَيُكَلِّمُهُمْ بِالْمُدَارَاةِ؛ لاِجْتِذَابِهِمْ إِلَى الإِيمَانِ، فَإِنِ اسْتَتَرَ مِنْ ذَلِكَ يَكُفَّ شُرُورَهُمْ عَنْ نَفْسِهِ، وَعَنْ إِخْوَانِهِ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ الإِمَامُ (عليه السلام): إِنَّ مُدَارَاةَ أَعْدَاءِ اللهِ مِنْ أَفْضَلِ صَدَقَةِ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ وَإِخْوَانِهِ. كَانَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) فِي مَنْزِلِهِ، إِذِ اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي سَلُولٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ، ائْذَنُوا لَهُ. فَأَذِنُوا لَهُ، فَلَمَّا دَخَلَ أَجْلَسَهُ وَبَشَرَ فِي وَجْهِهِ.

ص: 146


1- سورة المائدة: 2.
2- كتاب سليم بن قيس الهلالي: ج2 ص927، الحديث التاسع والستون.
3- مستدرك الوسائل: ج9 ص35، تتمة كتاب الحج، الباب104 من تتمة أبواب أحكام العشرة في السفر والحضر، ح10134.
4- مستدرك الوسائل: ج9 ص35، تتمة كتاب الحج، الباب104، ضمن ح10134.
5- سورة البقرة: 83.

..............................

فَلَمَّا خَرَجَ قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللهِ، قُلْتَ فِيهِ مَا قُلْتَ، وَفَعَلْتَ بِهِ مِنَ الْبِشْرِ مَا فَعَلْتَ!. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): يَا عُوَيْشُ، يَا حُمَيْرَاءُ، إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ يُكْرَمُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ. وَقَالَ الإِمَامُ (عليه السلام): مَا مِنْ عَبْدٍ وَلاَ أَمَةٍ دَارَى عِبَادَ اللهِ بَأَحْسَنِ الْمُدَارَاةِ، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا فِي بَاطِلٍ، وَلَمْ يَخْرُجْ بِهَا مِنْ حَقٍّ، إِلاَّ جَعَلَ اللهُ نَفَسَهُ تَسْبِيحاً، وَزَكَّى أَعْمَالَهُ، وَأَعْطَاهُ لِصَبْرِهِ عَلَى كِتْمَانِ سِرِّنَا، وَاحْتِمَالِ الْغَيْظِ لِمَا يَحْتَمِلُهُ مِنْ أَعْدَائِنَا، ثَوَابَ الْمُتَشَحِّطِ بِدَمِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ»(1).

وعن أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، قال: «لاَ يَكُونُ الْمُؤْمِنُ مُؤْمِناً، حَتَّى يَكُونَ فِيهِ ثَلاَثُ خِصَالٍ: سُنَّةٌ مِنْ رَبِّهِ، وَسُنَّةٌ مِنْ نَبِيِّهِ، وَسُنَّةٌ مِنْ وَلِيِّهِ. فَأَمَّا السُّنَّةُ مِنْ رَبِّهِ فَكِتْمَانُ السِّرِّ، وَأَمَّا السُّنَّةُ مِنْ نَبِيِّهِ (صلى الله عليه وآله) فَمُدَارَاةُ النَّاسِ، وَأَمَّا السُّنَّةُ مِنْ وَلِيِّهِ فَالصَّبْرُ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ»(2).وعن خط الشهيد الأول، عن الصادق (عليه السلام)، أنه قال: «كَمَالُ الأَدَبِ وَالْمُرُوَّةِ فِي سَبْعِ خِصَالٍ: الْعَقْلِ، وَالْحِلْمِ، وَالصَّبْرِ، وَالرِّفْقِ، وَالصَّمْتِ، وَحُسْنِ الْخُلُقِ، وَالْمُدَارَاةِ»(3).

ص: 147


1- مستدرك الوسائل: ج9 ص36-37، تتمة كتاب الحج، الباب104 من تتمة أبواب أحكام العشرة في السفر والحضر، ح10136.
2- مستدرك الوسائل: ج9 ص37، تتمة كتاب الحج، الباب104 من تتمة أبواب أحكام العشرة في السفر والحضر، ح10138.
3- مستدرك الوسائل: ج9 ص38، تتمة كتاب الحج، الباب104 من تتمة أبواب أحكام العشرة في السفر والحضر، ح10141.

..............................

وروي أنه: «سَمِعَ سُلَيْمَانُ عُصْفُوراً يَقُولُ لِلْهُدْهُدِ: مَا رَأَيْتُ أَحْسَنَ مِنْ لِقَائِكَ لِلْحِدَأَةِ وَالْبَازِ وَهُمَا عَدُوَّاكَ. فَقَالَ الْهُدْهُدُ: يَا أَخِي، مَنْ حَسُنَتْ مُدَارَاتُهُ طَابَتْ حَيَاتُهُ. فَقَالَ سُلَيْمَانُ: صَدَقَ وَاللهِ الْهُدْهُدُ»(1).

وعن كتاب (قضاء الحقوق) للصوري، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) - فيما أوصى به رفاعة بن شداد البجلي في رسالة إليه -: «دَارِ الْمُؤْمِنَ مَا اسْتَطَعْتَ؛ فَإِنَّ ظَهْرَهُ حِمَى اللهِ، وَنَفْسَهُ كَرِيمَةٌ عَلَى اللهِ، وَلَهُ يَكُونُ ثَوَابُ اللهِ، وَظَالِمَهُ خَصْمُ الله، فَلاَ تَكُنْ خَصْمَهُ»(2).وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن جده (عليهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أَعْقَلُ النَّاسِ أَشَدُّهُمْ مُدَارَاةً لِلنَّاسِ»(3).

وعن سماعة، عنه (عليه السلام) - في حديث - أنه قال: «وَيَحِقُّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الاِجْتِهَادُ وَالتَّوَاصُلُ عَلَى التَّعَطُّفِ، وَالْمُوَاسَاةُ لأَهْلِ الْحَاجَةِ وَالتَّعَطُّفُ مِنْكُمْ، يَكُونُونَ عَلَى أَمْرِ اللهِ رُحَمَاءَ بَيْنَهُمْ مُتَرَاحِمِينَ، مُهِمِّينَ لِمَا غَابَ عَنْهُمْ مِنْ أَمْرِهِمْ، عَلَى مَا مَضَى عَلَيْهِ الأَنْصَارُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)»(4).

ص: 148


1- مستدرك الوسائل: ج9 ص38 - 39، تتمة كتاب الحج، الباب104 من تتمة أبواب أحكام العشرة في السفر والحضر، ح10142.
2- مستدرك الوسائل: ج9 ص39، تتمة كتاب الحج، الباب104، ح10143.
3- مستدرك الوسائل: ج9 ص39، تتمة كتاب الحج، الباب104، ح10144.
4- مستدرك الوسائل: ج9 ص54، تتمة كتاب الحج، الباب107 من تتمة أبواب أحكام العشرة في السفر والحضر، ح10180.

..............................

وعن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام)، أنه قال: «تَوَاصَلُوا، وَتَبَاذَلُوا، وَتَبَارُّوا، وَتَرَاحَمُوا، وَكُونُوا إِخْوَاناً بَرَرَةً، كَمَا أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى»(1).وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أنه قال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لاَ يَضَعُ اللهُ الرَّحْمَةَ إِلاَّ عَلَى رَحِيمٍ». قالوا: يَا رَسُولَ اللهِ، كُلُّنَا رَحِيمٌ. قال: «لَيْسَ الَّذِي يَرْحَمُ نَفْسَهُ وَأَهْلَهُ خَاصَّةً، وَلَكِنِ الَّذِي يَرْحَمُ الْمُسْلِمِينَ». وقال (صلى الله عليه وآله): «قَالَ تَعَالَى: إِنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ رَحْمَتِي فَارْحَمُوا»(2).

القيادة الفاسدة والأعوان الفساق

مسألة: قد يستفاد من كلامها (صلوات الله عليها) حقيقة تاريخية واجتماعية وسياسية أيضاً، وهي أن القوم المنقلبين على الأعقاب كانت قيادتهم قيادة فاسدة ضالة، وكان أعوانهم والمعاشرين معهم مثلهم، وأنهم بهاتين الدعامتين استطاعوا زحزحة الحق عن أهله وصرفه عن نصابه.

معاني المولى والعشير

(المولى) له عدة معان، وكذلك (العشير).

قال الشيخ الصدوق (رحمه الله):(المولى) في اللغة يحتمل أن يكون:

ص: 149


1- مستدرك الوسائل: ج9 ص54، تتمة كتاب الحج، الباب107 من تتمة أبواب أحكام العشرة في السفر والحضر، ح10181.
2- مستدرك الوسائل: ج9 ص54، تتمة كتاب الحج، الباب107 من تتمة أبواب أحكام العشرة في السفر والحضر، ح10182.

..............................

1: مالك الرق، كما يملك المولى عبيده، وله أن يبيعه ويهبه.

2: الْمُعْتَق من الرق.

3: الْمُعْتِق.

وهذه الأوجه الثلاثة مشهورة عند الخاصة والعامة، فهي ساقطة في قول النبي (صلى الله عليه وآله)؛ لأنه لا يجوز أن يكون عنى بقوله: «فَمَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ فَعَلِيٌّ مَوْلاَهُ» واحدة منها، لأنه لا يملك بيع المسلمين، ولا عتقهم من رق العبودية، ولا أعتقوه (عليه السلام).

4: ابن العم، قال الشاعر:

مَهْلًا بَنِي عَمِّنَا مَهْلًا مَوَالَينَا *** لِم تُظْهِرُونَ لَنَا مَا كَانَ مَدْفُونَا

5: العاقبة، قال الله عز وجل: «مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ»(1)،« أي عاقبتكم وما يؤول بكم الحال إليه.

6: لما يلي الشيء، مثل: خلفه وقدامه، قال الشاعر:

فَغَدَتْ كِلَا الْفَرْجَيْنِ تَحْسُبُ أَنَّهُ *** مَوْلَى الْمخَافَةَ خَلْفَهَاوَأَمَامَهَا

ولم نجد أيضاً شيئاً من هذه الأوجهيجوز أن يكون النبي (صلى الله عليه وآله) عناه بقوله: «فَمَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ فَعَلِيٌّ مَوْلاَهُ»؛ لأنه لا يجوز أن يقول: من كنت ابن عمه فعلي ابن عمه، لأن ذلك معروف معلوم، وتكريره على المسلمين عبث بلا فائدة.وليس يجوز أن يعني به عاقبة أمرهم،ولا خلف ولا قدام؛ لأنه لامعنى

ص: 150


1- سورة الحديد: 15.

..............................

له ولا فائدة.

ووجدنا اللغة تجيز أن يقول الرجل: فلان مولاي إذا كان مالك طاعته، فكان هذا هو المعنى الذي عناه النبي (صلى الله عليه وآله) بقوله: «فَمَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ فَعَلِيٌّ مَوْلاَهُ»؛ لأن الأقسام التي تحتملها اللغة لم يجز أن يعنيها بما بيناه، ولم يبق قسم غير هذا، فوجب أن يكون هو الذي عناه بقوله (صلى الله عليه وآله): ««فَمَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ فَعَلِيٌّ مَوْلاَهُ».

ومما يؤكد ذلك قوله (صلى الله عليه وآله): «أَلَسْتُ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» ثم قال «فَمَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ فَعَلِيٌّ مَوْلاَهُ»، فدل ذلك على أن معنى مولاه هو أنه أولى بهم من أنفسهم؛ لأن المشهور في اللغة والعرف، أن الرجل إذا قال لرجل: إنك أولى بي من نفسي، فقد جعله مطاعاً آمراً عليه، ولا يجوز أن يعصيه.وإنا لو أخذنا بيعة على رجل وأقر بأنا أولى به من نفسه، لم يكن له أن يخالفنا في شيء مما نأمره به؛ لأنه إن خالفنا بطل معنى إقراره بأنا أولى به من نفسه، ولأن العرب أيضاً إذا أمر منهم إنسان إنساناً بشيء، وأخذه بالعمل به، وكان له أن يعصيه فعصاه، قال له: يا هذا، أنا أولى بنفسي منك، إن لي أن أفعل بها ما أريد، وليس ذلك لك مني.

فإذا كان قول الإنسان: أنا أولى بنفسي منك، يوجب له أن يفعل بنفسه ما يشاء، إذا كان في الحقيقة أولى بنفسه من غيره، وجب لمن هو أولى بنفسه منه أن يفعل به ما يشاء، ولا يكون له أن يخالفه ولا يعصيه، إذا كان ذلك كذلك.

ص: 151

..............................

ثم قال النبي (صلى الله عليه وآله): «أَ لَسْتُ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ»، فأقروا له (عليه السلام) بذلك، ثم قال متبعاً لقوله الأول بلا فصل: «فَمَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ فَعَلِيٌّ مَوْلاَهُ»، فقد علم أن قوله (مولاه)، عبارة عن المعنى الذي أقروا له بأنه أولى بهم من أنفسهم، فإذا كان إنما عنى بقوله: «فَمَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ فَعَلِيٌّ مَوْلاَهُ» أي أولى به، فقد جعل ذلك لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) بقوله: «فَعَلِيٌّ مَوْلاَهُ»؛ لأنه لا يصلح أن يكون عنى بقوله: «فَعَلِيٌّ مَوْلاَهُ» قسماً من الأقسام التي أحلنا أن يكون النبي (صلى الله عليه وآله) عناها في نفسه؛ لأن الأقسام هي أن يكون مالك رق، أو معتقاً، أو ابن عم، أو عاقبة، أو خلفاً، أو قداماً. فإذا لم يكن لهذه الوجوه فيه (صلى الله عليه وآله) معنى، لم يكن لها في علي (عليه السلام) أيضاً معنى، وبقي ملك الطاعة، فثبت أنه عناه.

وإذا وجب ملك طاعة المسلمين لعلي (عليه السلام)، فهو معنى الإمامة؛ لأن الإمامة إنما هي مشتقة من الايتمام بالإنسان، والايتمام هو الإتباع والاقتداء، والعمل بعمله، والقول بقوله، وأصل ذلك في اللغة سهم يكون مثالاً يعمل عليه السهام، ويتبع بصنعة صنعها، وبمقداره مقدارها، فإذا وجبت طاعة علي (عليه السلام) على الخلق استحق معنى الإمامة... إلى آخر كلامه (رحمه الله) وهو طويل أخذنا منه موضع الحاجة(1).

وأما العشير، قال ابن منظور: (العَشِيرُ:الزوج. وقوله تعالى: «لَبِئْسَ

ص: 152


1- معاني الأخبار: ص: 68 - 71، باب معنى قول النبي (صلى الله عليه وآله): «فَمَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ فَعَلِيٌّ مَوْلاَهُ».

..............................

الْموْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ»(1)، أَي لبئس الْمُعاشِر. ومَعْشَرُ الرجل: أَهله. والمَعْشَرُ: الجماعة، متخالطين كانوا أو غير ذلك؛ قال ذو الإِصبع العَدْوانيّ:

وَأَنْتُمُ مَعْشَرٌ زيْدٌ عَلَىمِائَةٍ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ طُرًّا فَكِيدُونِي

والمَعْشَر والنَّفَر والقَوْم والرَّهْط معناهم: الجمع، لا واحد لهم من لفظهم، للرجال دون النساء. قال: والعَشِيرة أَيضاً الرجال والعالَم أَيضاً للرجال دون النساء. وقال الليث: المَعْشَرُ كل جماعة أَمرُهم واحد نحو مَعْشر المسلمين ومَعْشَر المشركين. والمَعاشِرُ: جماعاتُ الناس. والمَعْشَرُ: الجن والإِنس. وفي التنزيل: «يَا مَعْشَرَ الْجنِّ وَالْإِنْسِ»(2))(3).

ص: 153


1- سورة الحج: 13.
2- سورة الأنعام: 130، سورة الرحمن: 33.
3- لسان العرب: ج4 ص574، حرف الراء، فصل العين المهملة، عشر.

وَ«بِئْسَ لِلظَّالِمينَ بَدَلًا»

اشارة

-------------------------------------------

وَ«بِئْسَ لِلظَّالِمينَ بَدَلًا»(1)

من هم الظالمون

مسألة: استشهاد الصديقة (عليها السلام) بهذه الآية، دليل على أنها (صلوات الله عليها) ترى أن أولئك القوم كانوا ظالمين، وحيث إن ظلم غصب الخلافة وإيذاء بضعة الرسول (صلى الله عليه وآله) وإغضابها، بل ضربها وقتلها وجنينها، هو أسوأ الظلم، فإنهم من أهل النار دون شك.

وأنهم استبدلوا الأحسن لا بالحسن ولا بالسيء بل بالأسوأ، ويستفاد هذا من الإطلاق وسائر القرائن، فتأمل.

مسألة: يجب وجوباً كفائياً بيان أن القوم كانوا ظالمين، وأنهم اختاروا أسوأ الخيارات على الإطلاق، أخروياً ودنيوياً، لهم ولمجتمعهم، في الحال وللأجيال القادمة.

عن أبي بصير، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «مَنْ أَكَلَ مِنْ مَالِ أَخِيهِ ظُلْماً وَلَمْ يَرُدَّهُ إِلَيْهِ، أَكَلَ جَذْوَةً مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(2).وعن أبي عبيدة الحذاء، قال: قال أبو جعفر (عليه السلام)، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَنِ اقْتَطَعَ مَالَ مُؤْمِنٍ غَصْباً بِغَيْرِ حَقِّهِ، لَمْ يَزَلِ اللهُ مُعْرِضاً عَنْهُ، مَاقِتاً لأَعْمَالِهِ الَّتِي يَعْمَلُهَا مِنَ الْبِرِّ وَالْخَيْرِ، لاَ يُثْبِتُهَا فِي حَسَنَاتِهِ حَتَّى يَتُوَ

ص: 154


1- سورة الكهف: 50.
2- وسائل الشيعة: ج16 ص53، تتمة كتاب الجهاد، الباب78 من بقية أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ح20960.

..............................

وَيَرُدَّ الْمَالَ الَّذِي أَخَذَهُ إِلَى صَاحِبِهِ»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) - في وصيته لأصحابه - قال: «وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُعِينُوا عَلَى مُسْلِمٍ مَظْلُومٍ، فَيَدْعُوَ عَلَيْكُمْ فَيُسْتَجَابَ لَهُ فِيكُمْ؛ فَإِنَّ أَبَانَا رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) كَانَ يَقُولُ: إِنَّ دَعْوَةَ الْمُسْلِمِ الْمَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ. وَلْيُعِنْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً؛ فَإِنَّ أَبَانَا رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) كَانَ يَقُولُ: إِنَّ مَعُونَةَ الْمُسْلِمِ خَيْرٌ وَأَعْظَمُ أَجْراً مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَاعْتِكَافِهِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ»(2).

وعن عبد الله بن سنان، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه

السلام) يَقُولُ: «مَنْ أَعَانَظَالِماً عَلَى مَظْلُومٍ، لَمْ يَزَلِ اللهُ عَلَيْهِ سَاخِطاً حَتَّى يَنْزِعَ عَنْ مَعُونَتِهِ»(3).

وعن جعفر بن محمد، عن آبائه (عليهم السلام) - في وصية النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام) - قال: «يَا عَلِيُّ، شَرُّ النَّاسِ مَنْ بَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَاهُ، وَشَرٌّ مِنْهُ مَنْ بَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ»(4).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام)، أنه قال: «لِلظَّالِمِ مِنَ الرِّجَالِ ثَلاَثُ عَلاَمَاتٍ: يَظْلِمُ مَنْ فَوْقَهُ بِالْمَعْصِيَةِ، وَمَنْ دُونَهُ بِالْغَلَبَةِ، وَيُظَاهِرُ الْقَوْمَ الظَّلَمَةَ»(5).

ص: 155


1- وسائل الشيعة: ج16 ص53، تتمة كتاب الجهاد، الباب78 من بقية أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ح20962.
2- وسائل الشيعة: ج16 ص56، تتمة كتاب الجهاد، الباب80، ح20967.
3- وسائل الشيعة: ج16 ص57، تتمة كتاب الجهاد، الباب80، ح20969.
4- وسائل الشيعة: ج16 ص56، تتمة كتاب الجهاد، الباب80، ح20968.
5- وسائل الشيعة: ج16 ص57، تتمة كتاب الجهاد، الباب80، ح20970.

..............................

قاعدة:

إن الظالم بطبعه يميل إلى استبدال الشيء بالسيء، في الأفكار والأفعال والأقوال والأشخاص وغير ذلك، فكلما عرض له طريقان: طريق الهدى وطريق الهوى، مال إلى طريق الهوى، فإن (شبه الشيء منجذب إليه).وكلما خيّر بين شخصين وصديقين وقائدين: صالح وطالح، أو ضال ومهتد، أو عادل وفاسق، انتخب أقربها إلى طباعه لقاعدة السنخية، وقد قال الشاعر(1) ما معناه: (الطير يميل للطير من جنسه والصقر للصقر.. فإن المماثل يطير مع مماثله أبداً). وقال الشاعر:

عَنِ الْمرْءِ لا تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ *** فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمقَارِنِ يَقْتَدِي

وعن أبي الحسن (عليه السلام)، قال: قال عيسى ابن مريم (عليه السلام): «إِنَّ صَاحِبَ الشَّرِّ يُعْدِي، وَقَرِينَ السَّوْءِ يُرْدِي، فَانْظُرْ مَنْ تُقَارِنُ»(2).

وعن موسى بن القاسم، قال: سمعت المحاربي يروي عن أبي عبد الله (عليه السلام)، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «ثَلاَثَةٌ مُجَالَسَتُهُمْ تُمِيتُ الْقَلْبَ: الْجُلُوسُ مَعَ الأَنْذَالِ، وَالْحَدِيثُ مَعَ النِّسَاءِ، وَالْجُلُوسُ مَعَ الأَغْنِيَاءِ»(3).

ص: 156


1- أصل الشعر بالفارسية وهي: كبوتر با كبوتر باز با باز *** كند همجنس با همجنس برواز
2- الكافي: ج2 ص640، كتاب العشرة، باب من تكره مجالسته ومرافقته، ح4.
3- الكافي: ج2 ص641، كتاب العشرة، باب من تكره مجالسته ومرافقته، ح8.

..............................

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، أنه قال: «لاَ تَصْحَبُوا أَهْلَ الْبِدَعِ وَلاَتُجَالِسُوهُمْ، فَتَصِيرُوا عِنْدَ النَّاسِ كَوَاحِدٍ مِنْهُمْ. قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ وَقَرِينِهِ»(1).

وعن زيد النرسي في أصله، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «إِيَّاكُمْ وَعِشَارَ الْمُلُوكِ وَأَبْنَاءِ الدُّنْيَا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُصَغِّرُ نِعْمَةَ اللهِ فِي أَعْيُنِكُمْ، وَيُعَقِّبُكُمْ كُفْراً. وَإِيَّاكُمْ وَمُجَالَسَةَ الْمُلُوكِ وَأَبْنَاءِ الدُّنْيَا؛ فَفِي ذَلِكَ ذَهَابُ دِينِكُمْ، وَيُعَقِّبُكُمْ نِفَاقاً، وَذَلِكَ دَاءٌ دَوِيٌّ لاَ شِفَاءَ لَهُ، وَيُورِثُ قَسَاوَةَ الْقَلْبِ، وَيَسْلُبُكُمُ الْخُشُوعَ. وَعَلَيْكُمْ بِالأَشْكَالِ مِنَ النَّاسِ، وَالأَوْسَاطِ مِنَ النَّاسِ، فَعِنْدَهُمْ تَجِدُونَ مَعَادِنَ الْجَوَاهِرِ. وَإِيَّاكُمْ أَنْ تَمُدُّوا أَطْرَافَكُمْ إِلَى مَا فِي أَيْدِي أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، فَمَنْ مَدَّ طَرْفَهُ إِلَى ذَلِكَ طَالَ حَزَنُهُ، وَلَمْ يُشْفَ غَيْظُهُ، وَاسْتَصْغَرَ نِعْمَةَ اللهِ عِنْدَهُ، فَيَقِلُّ شُكْرُهُ للهِ. وَانْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ دُونَكَ، فَتَكُونَ لأَنْعُمِ اللهِ شَاكِراً، وَلِمَزِيدِهِ مُسْتَوْجِباً، وَلِجُودِهِ سَاكِناً»(2).وعن مسعدة بن صدقة، عن الصادق، عن أبيه (عليهما السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أَرْبَعٌ يُمِتْنَ الْقَلْبَ: الذَّنْبُ عَلَى الذَّنْبِ، وَكَثْرَةُ مُنَافَسَةِ النِّسَاءِ - يَعْنِي مُحَادَثَتَهُنَّ - وَمُمَارَاةُ الأَحْمَقِ تَقُولُ وَيَقُولُ وَلاَ يَرْجِعُ إِلَى خَيْرٍ، وَمُجَالَسَةُ الْمَوْتَى. فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ الله، وَمَا الْمَوْتَى!. قَالَ: كُلُّ غَنِيٍّ مُتْرَفٍ»(3).

ص: 157


1- الكافي: ج2 ص642، كتاب العشرة، باب من تكره مجالسته ومرافقته، ح10.
2- مستدرك الوسائل: ج8 ص337، كتاب الحج، الباب17، ح9595.
3- مستدرك الوسائل: ج8 ص337-338، كتاب الحج، الباب17، ح9596.

..............................

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «وَمَنْ سَفِهَ عَلَى النَّاسِ شُتِمَ، وَمَنْ خَالَطَ الأَنْذَالَ حَقِّرَ» إلى أن قال: «لَيْسَ مَنْ جَالَسَ الْجَاهِلَ بِذِي مَعْقُولٍ، مَنْ جَالَسَ الْجَاهِلَ فَلْيَسْتَعِدَّ لِقِيلٍ وَقَالٍ»(1).

وعن النبي (صلى الله عليه وآله)، أنه قال: «الْوَحْدَةُ خَيْرٌ مِنَ الْجَلِيسِ السَّوْءِ، وَالْجَلِيسُ الصَّالِحُ خَيْرٌ مِنَ الْوَحْدَةِ»(2).

قاعدة:

الاستدراج بشكل عام حتى في الخير من سنن الله في الكون، والاستدراج نحو الشر والفساد والرذيلة من أساليب إبليس، فإن الظالم قد يبدأ بظلم يبدو له صغيراً، إلاّ أنه ينجر شيئاً فشيئاً إلى ظلم أكبر فأكبر فأكبر.

وهكذا تكون المعاصي، وهي ظلم الإنسان لنفسه، وقد تكون ظلماً لغيره أيضاً.

ففي مضمون الرواية: الحسنات بعضها آخذ بعنق بعض، والسيئات بعضها آخذ بعنق بعض. أي إن معصية واحدة تجر الإنسان إلى معصية أخرى وهكذا حتى تورده النار والعياذ بالله، ما لم يتمسك بحبل التوبة والاستغفار ويراقب نفسه دائماً.

ص: 158


1- مستدرك الوسائل: ج8 ص338، كتاب الحج، الباب17 من أبواب أحكام العشرة في السفر والحضر، ح9597.
2- مستدرك الوسائل: ج8 ص338-339، كتاب الحج، الباب17، ح9599.

..............................

قاعدة:

أساس كل فساد - أو من الأسس الأساسية فيه - هو استبدال القيادة الصالحة بالقيادة السيئة.

من هنا ورد التأكيد الكبير على الولاية، حيث قال (عليه السلام): «وَلَمْيُنَادَ بِشَيْءٍ كَمَا نُودِيَ بِالْوَلاَيَةِ »(1).

قال تعالى: «أَ تَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ»(2).

وحيث إن القوم أعرضوا عن القيادة السماوية الصحيحة المتمثلة في الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وتمسكوا بالقيادة السقيمة المنحرفة، فإنه قد وضعوا بذلك الأساس لكل انحراف وفساد «إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمعْلُومِ»(3).

ص: 159


1- الكافي: ج2 ص18، كتاب الإيمان والكفر، باب دعائم الإسلام، ح1.
2- سورة البقرة: 61.
3- سورة الحجر: 38، سورة ص: 81.

اسْتَبْدَلُوا - وَاللهِ - الذَّنَابَى بِالْقَوَادِمِ

اشارة

-------------------------------------------

تقديم المفضول

مسألة: لا يحوز اختيار القائد المفضول على الفاضل، وهل هذا على إطلاقه، أي هل يجوز انتخاب المفضول لقيادة التنظيم أو لإدارة مجلس الأمة أو لرئاسة الوزراء، أو حتى لإدارة مختلف المؤسسات كالحسينية والمكتبة والمدرسة وصناديق الإقراض الخيري وشبه ذلك؟.

للمسألة تفصيل وصور، إذ يختلف حال ما يتعلق منها بالشأن العام عما هو أمر خاص وشأن يرتبط بالشخص نفسه، كما يختلف نوع المفضولية ودرجة تأثيرها، وكذلك المفضولية النسبية والمطلقة، ولتفصيل البحث مجال آخر.

ولكن مما لا شك فيه أن خلافة رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا تكون إلاّ للأفضل وهو الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) دون غيره.

عن أنس بن مالك، قال: كنا نتهيب أن نسأل رسول الله (صلى

الله عليه وآله)، فلما نزلت: «إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ»(1) رأينا أن نفسه نعيت إليه. فقلنا: يا رسولالله، أ رأيت إن كان شيء فمن نسأل بعدك؟. فقال: «أخي ووزيري وخليفتي في أهلي، وخير من أترك بعدي، يقضي ديني، وينجز موعدي علي بن أبي طالب (صلوات الله عليه)»(2).

وعن السدي،قال: دخل علي (صلوات الله عليه) على رسول الله (صلى الله عليه

ص: 160


1- سورة النصر: 1.
2- شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار: ج1 ص195 تفضيل علي (عليه السلام) ح155.

..............................

وآله) وعائشة جالسة. فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مرحبا بسيد العرب». فقالت عائشة: يا رسول الله، أ و لست سيد العرب!. قال: «أنا سيد ولد آدم (عليه السلام) ولا فخر، وعلي سيد العرب»(1).

وعن جابر بن عبد الله الأنصاري (رحمه الله)، إنه ذكر عنده علي (عليه السلام)، فقال: (ذلك خير البرية - أو قال - خير البشر. يعني علياً (صلوات الله عليه))(2).

وعنه - أيضاً - إنه ذكر علياً (عليه السلام)، فقال: (علي (عليه السلام) خيرالبشر، لا يشك فيه إلا منافق)(3).

وعن عمار بن ياسر (رحمه الله)، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، إنه قال: «علي خير البشر، فمن أبى فقد كفر». وقال: «ما من قوم ولوا أمورهم رجلاً وفيهم من هو خير منه، إلا كان أمرهم الى سفال»(4).

وعن محمد بن قيس، عن أبيه، قال: (كنا عند الأعمش فتذاكرنا الاختلاف. فقال: أنا أعلم من أين وقع الاختلاف. قلت: من أين وقع؟. قال: ليس هذا موضع ذكر ذلك. قال: فأتيته بعد ذلك فخلوت به. وقلت: ذكرنا الاختلاف الواقع وذكرت أنك تعلم من أين وقع، فسألتك عن ذلك، فقلت:

ص: 161


1- شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار: ج1 ص195 تفضيل علي (عليه السلام) ح156.
2- شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار: ج1 ص195- 196 تفضيل علي (عليه السلام) ح157.
3- شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار: ج1 ص196 تفضيل علي (عليه السلام) ح158.
4- شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار: ج1 ص196 تفضيل علي (عليه السلام) ح159.

..............................

ليس هذا موضع ذلك. وقد جئتك خالياً، فأخبرني من أين وقع الاختلاف؟. قال: نعم، ولي أمر هذه الأمة من لم يكن عنده علم فسئل. فسأل الناس فاختلفوا، فلو ردوا هذا الأمر في موضعه ما كان اختلاف. قلت: إلى من؟. قال: إلى من كان يُسأل بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)وما سئل أحد غيره، إلى من كان يقول: سلوني قبل أن تفقدوني، وإنكم لن تجدوا أعلم بما بين اللوحين مني، إلى من كان يضرب بيده على صدره، ويقول: إن هاهنا لعلماً جماً لم أجد له حمله، إلى من قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيه: «أقضاكم علي بن أبي طالب»(1).

وعن عمر المرادي، قال: (كنت أرى رأي الخوارج؛ لأني لم أر قوماً أشد منهم اجتهاداً، ولا أسخى نفوساً بالموت، وكنت آتي القضاة والفقهاء. فقال لي رجل يوماً من الأيام: هل أدلك على امرأة ليس بالبصرة فقيه ولا مجتهد إلا وهو يأتيها. قلت: وددت ذلك. فوصف لي منزلها، فدخلت عليها، فإذا بامرأة قد طعنت في السن، عليها أثر العبادة، في ناحية من دارها رجل ملتف في خلق، فظننت أنه بعض من يخدمها. فقالت لي: ما حاجتك يا عبد الله؟. قلت: إني رجل أرى رأي الخوارج؛ لأني رأيتهم أشد الناس اجتهاداً، وأسخاهم نفوساً بالموت. فرفع إليَّ الشيخ رأسه، وقال: إنك لتحطب في حبل قوم في النار، يسبون الله ورسوله بسبهم أفضل الناس بعد رسول الله (صلى

الله عليه وآله). فأقبلت عليهكالمنكر لما قال.

ص: 162


1- شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار: ج1 ص196- 197 تفضيل علي (عليه السلام) ح160.

..............................

فقالت لي المرأة: يا عبد الله، أ تدري من هذا الشيخ؟ هذا أبو الحمراء خادم رسول الله (صلى الله عليه وآله). فقلت له: ما عرفتك، فأخبرني عما عندك في علي (عليه

السلام). قال: أخبرك بما رأت عيناي، وسمعت أذناي، ومشت فيه قدماي، بينا أنا بين يدي رسول الله (صلوات الله عليه وآله) أخدمه، إذ قال لي: «يا أبا الحمراء، أخرج فأتني بمائة رجل من العرب»، وسماهم لي، وخرجت فأتيته بهم، فصفهم صفاً بين يديه. ثم قال لي: «أخرج فأتني بكذا وكذا من العجم»، وسماهم لي. فأتيته بهم فصفهم صفاً خلف صف العرب، ثم قال لي: «أخرج فائتني بقوم من القبط»، وسماهم لي، فأتيته بهم، فصفهم وراء العجم، ثم قال لي: «ائتني بنفر من الحبش»، وسماهم لي، فأتيته بهم، فصفهم من وراء القبط، ثم أقبل على جميعهم، وقال: «أ تشهدون إني مولى المؤمنين، وأولى بهم من أنفسهم». قالوا: اللهم نعم. قال: «من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، هل سمعتم و أطعتم». قالوا: نعم، يا رسول الله. قال: «اللهماشهد», ثم قال لي: «يا أبا الحمراء، ائتني بأديم ودواة». فأتيته بذلك، ثم قال لي: «أكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أقرت به العرب والعجم والقبط والحبش، إن الله جل ثناؤه مولى رسوله، ورسوله مولى المؤمنين وأولى بهم من أنفسهم، وإن من كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) مولاه فعلي مولاه. اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله». ثم أخذ الكتاب فختمه ودفعه إلى علي، فو الله ما أدري ما صنع به)(1).

..............................

ص: 163


1- شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار: ج1 ص198- 200 تفضيل علي (عليه السلام) ح163.

وعن علي بن حزور يرفعه، قال: لما فرغ أمير المؤمنين (صلوات

الله عليه) من قتال أهل البصرة، فوقف (صلوات الله عليه) على أفواه ثلاث سكك، ووقف الناس من حوله، فقال (عليه السلام): «ألا أخبركم بخير الخلق عند الله يوم القيامة». قالوا: نعم، يا أمير المؤمنين فخبرنا. فقال: «هم شيعة من ولد عبد المطلب». قال له عمار بن ياسر: سمهم لنا يا أمير المؤمنين؟. قال: «ما حدثتكم إلا وأنا اريد أن أخبركمبأسمائهم، هم: رسول الله، وصاحبكم وصيه، وحمزة، وجعفر، والحسن، والحسين، والمهدي منا أهل البيت (صلوات الله عليهم أجمعين)»(1).

وعن ربيعة السعدي، قال: لما كان من أمر عثمان ما كان، بايع الناس علياً (عليه السلام)، وكان حذيفة اليماني على المدائن يوم قتل عثمان، فبعث إليه علي (عليه السلام) بعهده، وأخبره بما كان من أمر الناس وبيعتهم إياه. فنادى حذيفة الصلاة فاجتمع الناس، فقام فيهم خطيباً، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، وذكر النبي (صلى الله عليه وآله) بما هو أهله، وأخبرهم بأمر علي (عليه السلام) وما كتب به إليه، وقال: قد والله وليكم أمير المؤمنين حقاً، ورددها سبع مرات، ويحلف لهم بالله على ذلك. فقام إليه رجل، فقال: أيها الأمير، متى كان أمير المؤمنين اليوم حين ولي، أو قد كان قبل ذلك، فإنا نسمعك كررت ذلك سبعاً تحلف عليه، ولا أظن ذلك إلا لأمر تقدم عندك فيه. قال له حذيفة: إن شئت أخبرتكم وإلا فبيني وبينك علي (عليه السلام) فإنه أعلم الناس بما أقوله. قال: فخبرني

ص: 164


1- شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار: ج1 ص200 تفضيل علي (عليه السلام) ح164.

..............................

.

فقال حذيفة: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يقول لنا: «إذا رأيتم دحية الكلبي عندي جالساً فلا يقربني أحد منكم». وكان جبرائيل يأتيه في صورة دحية الكلبي، وأني أتيته يوماً لأسلم عليه فرأيته نائماً، ورأسه في حجر دحية الكلبي، فغمضت عيني ورجعت، فلقيني علي بن أبي طالب (صلوات الله عليه)، فقال لي: «من أين جئت؟». قلت: من عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأخبرته الخبر. فقال لي: «ارجع معي، فلعلك أن تكون لنا شاهداً على الخلق». فمشى ومشيت معه حتى أتينا باب النبي (صلى الله عليه وآله) فجلست من وراء الباب، ودخل علي (صلوات الله عليه) فقال: «السلام عليكم و رحمة الله و بركاته». فأجابه دحية الكلبي: «وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، يا أمير المؤمنين أدن مني فخذ رأس ابن عمك من حجري، فأنت أولى به مني». فوضع رأس النبي (صلى الله عليه وآله) في حجر علي (عليه السلام)، ثم نظرت فلم أره. ومكث النبي (صلى الله عليه وآله) ملياً ثم انتبه، فنظر الى علي (عليه السلام). فقال: «يا علي، من حجر من أخذت رأسي». قال: «من حجر دحية الكلبي يا رسول الله». قال: «بل أخذته من حجرجبرائيل، فأي شيء قلت حين دخلت؟ وما الذي قال لك؟». قال: قلت: «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فقال لي: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته يا أمير المؤمنين، أدن مني فخذ رأس ابن عمك من حجري، فأنت أولى به مني». فقال: «صدق، أنت أولى بي منه، فهنيئاً لك يا علي، رضي عنك أهل السماء، وسلمت عليك الملائكة بإمرة المؤمنين، فليهنئك هذه الفضيلة والكرامة من الله جل وعز». وما لبث أن خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) فرآني من وراء الباب، فقال لي: «يا حذيفة، أسمعت شيئاً؟».

ص: 165

..............................

فقلت: إي والله سمعته، وأخبرته الخبر. فقال لي: «حدث بما سمعت من جبرائيل (عليه السلام)»(1).

قاعدة:

القائد الذَنَب في فكره أو نفسيته أو إدارته أو ما أشبه، يوجب تأخر الأمة، على عكس القائد الكفوء الذي هو من القوادم، فإنه يوجب تقدم الأمة،وذلك في شتى النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية وغيرها، وهذا بديهي وواضح دلت عليه التجربة وشهد له العقل والبرهان، وقديما قالوا: (الناس على دين ملوكهم). وإن كان التأخر قد يبدو للناس بطيئاً غير ملحوظ في البدء، إلا أنه من الواضح أن كون القائد ذنباً يؤثر في حاضر الناس ومستقبلهم في القضايا الهامة وغيرها.

ومن أسباب ذلك إضافة إلى عدم كفاءة وخبرة ومعرفة القائد الذنب، حيث قال تعالى: « قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ»(2)، أن القائد الذنب يجمع حوله الأذناب والإمعات، فيزيد الأمر خبالاً ووبالاً، «فَزَادُوهُمْ رَهَقًا»(3).

ص: 166


1- شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار: ج1 ص200-202، تفضيل علي (عليه السلام)، ح165.
2- سورة الزمر: 9.
3- سورة الجن: 6.

..............................

والسبب في أن الذنب والإمعة يجمع حوله الأذناب والأمعات، أن الأذناب أطوع له وأكثر انقياداً، إضافة للتجانس والسنخية، وأن الذنب يشعر في قرارة نفسه بالدناءة والذلة عندما يشاهد من هو أكفأ وأسمى منه، ولا يرتاح إلا لمنيشعر بتفوقه هو عليه، وإن كان البعض يلتذ بعكس ذلك أي بأن يرى الأكفأ الأعلم منه مستعبَداً له وخادماً وتابعاً بإغراء ثورة أو رياسة أو سطوة أو شهوة أو خوف أو ما أشبه.

قال الإمام الكاظم (عليه السلام) لفضل بن يونس: «أَبْلِغْ خَيْراً وَقُلْ خَيْراً، وَلاَ تَكُنْ إِمَّعَةً». قُلْتُ: وَمَا الإِمَّعَةُ؟. قال (عليه السلام): «لاَ تَقُلْ أَنَا مَعَ النَّاسِ، وَأَنَا كَوَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ؛ إِنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا هُمَا نَجْدَانِ: نَجْدُ خَيْرٍ وَنَجْدُ شَرٍّ، فَلاَ يَكُنْ نَجْدُ الشَّرِّ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ نَجْدِ الْخَيْرِ»(1).

وعن أبي إسحاق السبيعي، عمن حدثه ممن يوثق به، قال: سَمِعْتُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ النَّاسَ آلُوا بَعْدَ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) إِلَى ثَلاَثَةٍ: آلُوا إِلَى عَالِمٍ عَلَى هُدًى مِنَ اللهِ، قَدْ أَغْنَاهُ اللهُ بِمَا عَلِمَ عَنْ عِلْمِ غَيْرِهِ. وَجَاهِلٍ مُدَّعٍ لِلْعِلْمِ لاَ عِلْمَ لَهُ، مُعْجَبٍ بِمَا عِنْدَهُ، قَدْ فَتَنَتْهُ الدُّنْيَا وَفَتَنَ غَيْرَهُ. وَمُتَعَلِّمٍ مِنْ عَالِمٍ عَلَى سَبِيلِ هُدًى مِنَ اللهِ وَنَجَاةٍ. ثُمَّ هَلَكَ مَنِ ادَّعَى، وَخابَ مَنِافْتَرى»(2).

ص: 167


1- تحف العقول: ص413، وروي عنه (عليه السلام) في قصار هذه المعاني.
2- الكافي: ج1 ص33 - 34، كتاب فضل العلم، باب أصناف الناس، ح1.

..............................

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «النَّاسُ ثَلاَثَةٌ: عَالِمٌ، وَمُتَعَلِّمٌ، وَغُثَاءٌ»(1).

وعن جميل، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «يَغْدُو النَّاسُ عَلَى ثَلاَثَةِ أَصْنَافٍ: عَالِمٍ، وَمُتَعَلِّمٍ، وَغُثَاءٍ. فَنَحْنُ الْعُلَمَاءُ، وَشِيعَتُنَا الْمُتَعَلِّمُونَ، وَسَائِرُ النَّاسِ غُثَاءٌ»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «اغْدُ عَالِماً، أَوْ مُتَعَلِّماً، أَوْ أَحِبَّ الْعُلَمَاءَ، وَلاَ تَكُنْ رَابِعاً فَتَهْلِكَ بِبُغْضِهِمْ»(3).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «اغْدُ عَالِماً، أَوْ مُتَعَلِّماً، أَوْ مُسْتَمِعاً، أَوْ مُحَدِّثاً، وَلاَ تَكُنِ الْخَامِسَ فَتَهْلِكَ».»(4).وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «اغْدُ عَالِماً، أَوْ مُتَعَلِّماً، وَلاَ تَكُنِ الثَّالِثَ فَتَعْطَبَ»(5).

وعن ابن أبي عمير، رفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «النَّاسُ اثْنَانِ: عَالِمٌ وَمُتَعَلِّمٌ، وَسَائِرُ النَّاسِ هَمَجٌ، وَالْهَمَجُ فِي النَّارِ»(6).

ص: 168


1- الكافي: ج1 ص34، كتاب فضل العلم، باب أصناف الناس، ح2.
2- الكافي: ج1 ص34، كتاب فضل العلم، باب أصناف الناس، ح4.
3- الخصال: ج1 ص123، باب الثلاثة، الناس ثلاثة، ح117.
4- كنز الفوائد: ج2 ص31، فصل من عيون الحكم ونكت من جواهر الكلام.
5- كنز الفوائد: ج2 ص109، فصل في ذكر العلم وأهله ووصف شرفه وفضله والحث عليه والأدب فيه.
6- بحار الأنوار: ج1 ص187، كتاب العقل والعلم والجهل، الباب2، ح3.

..............................

وعن كميل بن زياد، قال: خَرَجَ إِلَيَّ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام)، فَأَخَذَ بِيَدِي وَأَخْرَجَنِي إِلَى الْجَبَّانِ، وَجَلَسَ وَجَلَسْتُ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيَّ، فَقَالَ: «يَا كُمَيْلُ، احْفَظْ عَنِّي مَا أَقُولُ لَكَ, النَّاسُ ثَلاَثَةٌ: عَالِمٌ رَبَّانِيٌّ، وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ، وَهَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ، يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَلْجَئُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ»(1).

إفهام الناس

مسألة: يجب كفائياً - كما سبق - بيان ذلك، وأن القوم استبدلوا الذنابى بالقوادم، ومن فوائده أن الناس ستهتدي إلى طريق الهدى عند معرفة القوادم والذنابى.

قيادة الكفاءات

مسألة: يجب السعي لإيصال الكفاءات إلى القيادة.

والكفاءات من جمع العلم والتقوى، قال تعالى: «إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمينُ»(2).

وقال سبحانه: «قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ»(3).

..............................

ص: 169


1- بحار الأنوار: ج1 ص187- 188، كتاب العقل والعلم والجهل، الباب2 من أبواب العلم وآدابه وأنواعه وأحكامه، ح4.
2- سورة القصص: 26.
3- سورة يوسف: 55.

وقال تعالى: «قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ»(1).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) في عهده للأشتر النخعي (رحمه الله) لما ولاه على مصر وأعمالها: «فَوَلِّ مِنْ جُنُودِكَ أَنْصَحَهُمْ فِي نَفْسِكَ للهِ وَلِرَسُولِهِ وَلإِمَامِكَ،وَأَنْقَاهُمْ جَيْباً، وَأَفْضَلَهُمْ حِلْماً، مِمَّنْ يُبْطِئُ عَنِ الْغَضَبِ، وَيَسْتَرِيحُ إِلَى الْعُذْرِ، وَيَرْأَفُ بِالضُّعَفَاءِ، وَيَنْبُو عَلَى الأَقْوِيَاءِ، وَمِمَّنْ لاَ يُثِيرُهُ الْعُنْفُ، وَلاَ يَقْعُدُ بِهِ الضَّعْفُ. ثُمَّ الْصَقْ بِذَوِي الْمُرُوءَاتِ وَالأَحْسَابِ، وَأَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ، وَالسَّوَابِقِ الْحَسَنَةِ، ثُمَّ أَهْلِ النَّجْدَةِ وَالشَّجَاعَةِ، وَالسَّخَاءِ وَالسَّمَاحَةِ؛ فَإِنَّهُمْ جِمَاعٌ مِنَ الْكَرَمِ وَشُعَبٌ مِنَ الْعُرْفِ» إلى أن قال: «ثُمَّ انْظُرْ فِي أُمُورِ عُمَّالِكَ، فَاسْتَعْمِلْهُمُ اخْتِبَاراً، وَلاَ تُوَلِّهِمْ مُحَابَاةً وَأَثَرَةً؛ فَإِنَّهُمَا جِمَاعٌ مِنْ شُعَبِ الْجَوْرِ وَالْخِيَانَةِ، وَتَوَخَّ مِنْهُمْ أَهْلَ التَّجْرِبَةِ وَالْحَيَاءِ، مِنْ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ، وَالْقَدَمِ فِي الإِسْلاَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ؛ فَإِنَّهُمْ أَكْرَمُ أَخْلاَقاً، وَأَصَحُّ أَعْرَاضاً، وَأَقَلُّ فِي الْمَطَامِعِ إِشْرَاقاً، وَأَبْلَغُ فِي عَوَاقِبِ الأُمُورِ نَظَراً»(2).

..............................

ص: 170


1- سورة الرعد: 43.
2- نهج البلاغة: رسائل أمير المؤمنين (عليه السلام)، الرقم53 ومن كتاب له (عليه السلام) كتبه للأشتر النخعي (رحمه الله) لما ولاه على مصر وأعمالها.

معنى الذنابى

(الذُنابى): يراد به الأتباع، وهو لغة جمع ذنب، والذنب ذيل الطائر، وقيل: الذنابى منبت الذنب.

وقال بعض: الذنابى شبه المخاط يقع من أنوف الإبل، ورد عليه آخرون: بأن المعنى المذكور للذنانى بنونين، مأخوذ من الذنين وهو الذي يسيل من فم الإنسان والمعزى(1).

(القوادم): هي ريشات قوية في مقدم الجناح، ولا يمكن للطائر الطيران إلاّ بها.

أي إن القوم قدموا من حقه التأخير، وأخروا من حقه التقديم، وذلك شأن كل سفيه، فإنه يقدم المفضول على الفاضل، ويتضح قبح ذلك ومآله أيضاً بمثال عرفي، فمن ينتخب لقيادة الطائرة أو السفينة شخصاً جاهلاً، فإنه لا محالة سيهلك ويهلك كل من ركب معه.

ولعل الوجه في قولها (عليها السلام): «الذَّنَابَى بِالْقَوَادِمِ» أن القوم لم يغيروا الخليفة والرأس فقط، بل كان الاستبدال في مختلف مستويات الحكومة، فتم إبعادالإمام علي (عليه السلام) عن الخلافة الظاهرية، كما تم إبعاد مثل عمار وسلمان والمقداد وأبي ذر وسائر الأولياء والأصحاب المنتجبين (رضوان الله عليهم) والكفاءات الصالحة من خيرة الخيرة من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين

ص: 171


1- انظر لسان العرب مادة (ذنب).

..............................

(عليه السلام).

وكان ذلك هو المنهج العام وديدنهم في الحكم، أما تولية مثل سلمان (رضوان الله عليه) على المدائن وغيرها لفترة من الزمن فهو استثناء، والذي يبدو أنه كان بضغط من الرأي العام، أو محاولة لامتصاص النقمة لدى الكثير من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) والتابعين أو ما أشبه ذلك.

ص: 172

وَالْعَجُزَ بِالْكَاهِلِ

اشارة

-------------------------------------------

استبدال العجز بالكاهل

(العجز) هو المؤخر من كل شيء.

(والكاهل) هو ما بين الكتفين، وفي اللغة: الكاهل مقدّم أعلى الظهر مما يلي العنق(1).

والكاهل هو أقوى موضع في الجسم على حمل الأثقال، فالحكمة تقتضي وضع الأثقال عليه، أما العجز فلا يمكنه حمل الأثقال ثم إنه في معرض الانزلاق إضافة إلى أنه محل القذرات في الحيوان.

وهذا تشبيه دقيق جداً للذين غصبوا الخلافة:

فهم أولاً: كانوا غير قادرين على حمل أعبائها في أنفسهم.

وهم ثانياً: كانوا غير قادرين على الحفاظ عليها من أن تتدكدك بل أن تتحول بلاءً وآفة، كما حدث ذلك، فإن النعمة تتحول نقمة إذا لم يؤد حقها، قال تعالى: «أَ لَم تَرَ إِلَى الَّذينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّواقَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرَارُ»(2).

هذا كله إضافة إلى ما أحاط بالسلطة التي اغتصبوها من مظاهر الفساد

ص: 173


1- لسان العرب: مادة كهل. وفيه أيضاً: (وقيل: الكاهِلُ من الإِنسان ما بين كتفيه، وقيل: هو مَوْصِل العنُق في الصُّلْب، وقيل: هو في الفرس خلْف المِنْسَج، وقيل: هو ما شَخَص من فُروعِ كتفيه إِلى مُسْتَوى ظهره).
2- سورة إبراهيم: 28-29.

..............................

وبواطنه، سواء في الأموال أم الأنفس أم الأعراض أم غير ذلك، مما يطلب من مظانه كالغدير والنص والاجتهاد وغيرهما.

عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «ثَلاَثٌ مِنَ الذُّنُوبِ تُعَجَّلُ عُقُوبَتُهَا وَلاَ تُؤَخَّرُ إِلَى الآخِرَةِ: عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَالْبَغْيُ عَلَى النَّاسِ، وَكُفْرُ الإِحْسَانِ»(1).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «فَاللهَ اللهَ فِي عَاجِلِ الْبَغْيِ، وَآجِلِ وََخَامَةِ الظُّلْمِ، وَسُوءِ عَاقِبَةِ الْكِبْرِ! فَإِنَّهَا مَصْيَدَةُ إِبْلِيسَ الْعُظْمَى، وَمَكِيدَتُهُ الْكُبْرَى، الَّتِي تُسَاوِرُ قُلُوبَ الرِّجَالِ مُسَاوَرَةَ السُّمُومِ الْقَاتِلَةِ، فَمَا تُكْدِي أَبَداً، وَلاَ تُشْوِي أَحَداً، لاَ عَالِماً لِعِلْمِهِ، وَلاَ مُقِلاًّ فِيطِمْرِهِ»(2).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «أَيُّهَا النَّاسُ، عَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ وَالْمَعْرِفَةِ بِمَنْ لاَ تَعْتَذِرُونَ بِجَهَالَتِهِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ الَّذِي هَبَطَ بِهِ آدَمُ، وَجَمِيعَ مَا فُضِّلَتْ بِهِ النَّبِيُّونَ إِلَى خَاتَمِ النَّبِيِّينَ فِي عِتْرَةِ نَبِيِّكُمْ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله)، فَأَنَّى يُتَاهُ بِكُمْ، بَلْ أَيْنَ تَذْهَبُونَ. يَا مَنْ نَسَخَ مِنْ أَصْلاَبِ السَّفِينَةِ هَذِهِ مِثْلُهَا فِيكُمْ فَارْكَبُوهَا، فَكَمَا نَجَا فِي هَاتِيكَ مَنْ نَجَا، فَكَذَلِكَ يَنْجُو فِي هَذِهِ مَنْ دَخَلَهَا. أَنَا رَهِينٌ بِذَلِكَ قَسَماً حَقّاً وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ، وَالْوَيْلُ لِمَنْ تَخَلَّفَ، ثُمَّ الْوَيْلُ لِمَنْ تَخَلَّفَ. أَمَا بَلَغَكُمْ مَا قَالَ فِيكُمْ نَبِيُّكُمْ (صلى الله عليه وآله) حَيْثُ يَقُولُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ:

ص: 174


1- وسائل الشيعة: ج16 ص312، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما يلق به، الباب8 من أبواب فعل المعروف، ح21633.
2- نهج البلاغة: الخطبة 192 ومن خطبة له (عليه السلام) تسمى القاصعة.

..............................

إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ، مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا لَنْ تَضِلُّوا: كِتَابَ اللهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، وَإِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ، فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِّي فِيهِمَا. أَلاَ هذا عَذْبٌ فُراتٌ فَاشْرَبُوا،وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ فَاجْتَنِبُوا»(1).

الشؤون العامة والقيادة الكفوءة

مسألة: يحرم في الشؤون العامة، وفي كل حق للناس وكان الشخص وكيلاً أو أميناً أو متولياً، استبدال العجز بالكاهل، أي تقديم العجز.

ففي الشؤون الاقتصادية يحرم مثلاً أن يعين شخصاً غير خبير وزيراً للاقتصاد، أو مستشارا للوزارة، أو رئيساً للشركة، وكذا في سائر الشؤون والتخصصات، فإن ذلك تضييع لحق الناس ولحق ذوي الحقوق، فلو ترك ثلثاً وأوصى باستثماره وإنفاق حاصله في وجوه البر ولم يعين وصياً، أو عينه ولم يكن خبيراً، فإن على الوصي إن لم يكن خبيراً، أو الحاكم الشرعي أن يعين خبيراً في الاستثمار، وإلا ربما كان آثماً تكليفاً، وربما ضامنا وضعاً أيضاً، والمسألة فقهية تبحث في أبوابها.

قال تعالى: «لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ»(2).

وقال سبحانه: «وَالَّذينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْرَاعُونَ»(3).

ص: 175


1- بحار الأنوار: ج2 ص285، تتمة كتاب العقل والعلم والجهل، الباب34 من تتمة أبواب العلم، ضمن ح2.
2- سورة البقرة: 188، سورة النساء: 29.
3- سورة المؤمنون: 8، سورة المعارج: 32.

..............................

وقال عزوجل: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»(1).

فإن خلاف ما ذكر أكل للمال بالباطل، وتفريط بالأمانة، وعدم الوفاء، وخلاف للشرط الارتكازي في العقد، إلى غير ذلك من العمومات والإطلاقات المرتبطة بالبحث.

ص: 176


1- سورة المائدة: 1.

فَرَغْماً لِمَعَاطِسِ قَوْمٍ «يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا»

اشارة

فَرَغْماً لِمَعَاطِسِ قَوْمٍ «يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا»(1)

-------------------------------------------

استعمال كلمة (رغماً)

مسألة: يجوز استعمال كلمات مثل: (رغماً) في الظالمين والكفار والملحدين، سواء كان إنشاءً أم إخباراً، كما صنعت الصديقة (صلوات الله عليها) هاهنا، وفي مواضع أُخر، وكما ورد في القرآن الكريم العديد من أمثاله:

قال تعالى: «عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ»(2).

وقال سبحانه: «تَبَّتْ يَدَا أَبي لَهبٍ وَتَبَّ»(3).

وقال عزوجل: «أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ»(4).

وذلك بين خارج خروجاً موضوعياً من السبّ، أو خارجاً خروجاً حكمياً، فإن السب كالكذب حرام ولكن قد يكون واجباً، كما في الكذب في الإصلاح، والسب الرادع عن الظلم دفعاً أو رفعاً، وربما كان مكروهاً أو مستحباً بحسب الموارد الشرعية المقررة. قال تعالى: «فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ»(5).

ص: 177


1- سورة الكهف: 104.
2- سورة القلم: 13.
3- سورة المسد: 1.
4- سورة البينة: 6.
5- سورة البقرة: 194.

..............................

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ، وَلَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ، وَذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ، كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ، وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ»(1).

استهداف الباطل

مسألة: ينبغي استهداف الباطل في أقوى نقاط قوته، وفي أسمى مظاهر أبهته وخيلائه وعظمته الظاهرية المتوهمة، فإن ذلك أقوى في ضربه وإسقاطه من أعين الناس.

سواء كان ذلك في الدعاء، كما قالت (عليها السلام): «فَرَغْماً لِمَعَاطِسِ قَوْمٍ»، أو في الإعلام، أو في التخطيط الثقافي أو العسكري في موارده المقررة شرعاً، أو في غيرها، فإن إنهيار أقوى قلعةواستسلام القائد العام مثلاً يقرب ويسهل سقوط باقي جبهة الضلال بشكل أسرع.

قال تعالى: «اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى»(2).

وقال سبحانه: «سَنَسِمُهُ عَلَى الْخرْطُومِ»(3).

ص: 178


1- نهج البلاغة: خطب أمير المؤمنين (عليه السلام)، الرقم206 ومن كلام له (عليه السلام) وقد سمع قوماً من أصحابه يسبون أهل الشام أيام حربهم بصفين.
2- سورة طه: 43.
3- سورة القلم: 16.

..............................

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنِّي فَقَأْتُ عَيْنَ الْفِتْنَةِ، وَلَمْ يَكُنْ لِيَجْتَرِئَ عَلَيْهَا أَحَدٌ غَيْرِي» (1).

وقد ورد الذم للكبراء وقيادات الباطل كثيراً في القرآن الكريم، قال تعالى: «وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ»(2).

وقال سبحانه: «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ»(3).وقال تعالى: «إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ»(4). وقال سبحانه: «وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى»(5).

وقال تعالى: «تَبَّتْ يَدَا أَبي لَهبٍ وَتَبَّ»(6).

ص: 179


1- نهج البلاغة: خطب أمير المؤمنين (عليه السلام)، الرقم93 ومن خطبة له (عليه السلام) وفيها ينبه أمير المؤمنين على فضله وعلمه ويبين فتنة بني أمية.
2- سورة الأعراف: 137.
3- سورة الأعراف: 175- 176.
4- سورة القصص: 76.
5- سورة طه: 79.
6- سورة المسد: 1.

..............................

وعن عبد الأعلى بن أعين، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام)، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ أَعْظَمَ الْكِبْرِ غَمْصُ الْخَلْقِ، وَسَفَهُ الْحَقِّ. قَالَ: قُلْتُ: وَمَا غَمْصُ الْخَلْقِ وَسَفَهُ الْحَقِّ؟. قَالَ: يَجْهَلُ الْحَقَّ، وَيَطْعُنُ عَلَى أَهْلِهِ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ نَازَعَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ رِدَاءَهُ»(1).

ما فعله القوم من الظلم

مسألة: يجب إعلام الناس وبيان أن ما قام به القوم من الانقلاب على الأعقاب وإقصاء مولانا علي (عليه السلام) وسائر ما فعلوا من الظلم كان من أظهر مصاديققوله تعالى: «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا»(2).

وقد كان القوم على صنفين:

1: صنف ربما يحسب أنه يحسن صنعاً، وهؤلاء كانوا جهلة من عوام الناس ممن اختلط عليه الأمر والتبس، فكانوا في جهل مركب، ولا يضر جهلهم المركب بكونهم «الْأَخْسَرينَ أَعْمَالًا»، وكونهم من «الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحيَاةِ الدُّنْيَا»، إذ الخسران أمر ثبوتي، وكذل ضلال السعي، ولا يغيره عما هو عليه جهل الضال الخاسر أنه ضال خاسر، إذ العلم والجهل لا يغيران الواقع

ص: 180


1- بحار الأنوار: ج70 ص217، تتمة كتاب الإيمان و الكفر، الباب130 من تتمة أبواب الكفر ومساوي الأخلاق، ح9.
2- سورة الكهف: 103- 104.

..............................

عما هو عليه، وإلا لم يكونا علماً وجهلاً، وهذا خلف، إذ العلم كاشف وليس علة، والجهل إنما هو جهل بما هو واقع.

ولذا جاحد الخالق كافر، وإن جهل أنه كافر وجاهل للحقيقة، والقائل بشريك الباري مشرك وإن كان جهله مركباً، فالكافر والمشرك من «الْأَخْسَرينَ أَعْمَالًا» ومن «الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحيَاةِ الدُّنْيَا» وإن توهموا عكس ذلك.ويتضح ذلك بملاحظة أن شخصاً لو ضل الطريق في غابة خطرة أو صحراء موحشة فإنه (ضال) وإن لم يعلم بذلك، بل وإن علم جهلاً مركباً أنه بالاتجاه الصحيح، وسيقع هذا الإنسان طعمة أسد كاسر أو وحش آخر، أو سيموت جوعاً وعطشاً في الصحراء ولا يشفع جهله فهو ضال وخاسر، علم أم لم يعلم.

نعم في شؤون الآخرة، من لطف الله أن الجاهل غير المقصر أي القاصر، يعاد امتحانه من جديد يوم القيامة.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «إنَّ أَبْغَضَ الْخَلاَئِقِ إِلَى اللهِ تَعَالَى رَجُلاَنِ: رَجُلٌ وَكَلَهُ اللهُ إِلَى نَفْسِهِ، فَهُوَ جَائِرٌ عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ، مَشْغُوفٌ بِكَلاَمِ بِدْعَةٍ، وَدُعَاءِ ضَلاَلَةٍ، فَهُوَ فِتْنَةٌ لِمَنِ افْتَتَنَ بِهِ، ضَالٌّ عَنْ هَدْيِ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ، مُضِلٌّ لِمَنِ اقْتَدَى بِهِ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ وَفَاتِهِ، حَمَّالٌ خَطَايَا غَيْرِهِ، رَهْنٌ بِخَطِيئَتِهِ. وَرَجُلٌ قَمَشَ جَهْلاً، مُوضِعٌ فِي جُهَّالِ الأُمَّةِ، عَادٍ فِي أَغْبَاشِ الْفِتْنَةِ، عَمٍ بِمَا فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ، قَدْ سَمَّاهُ أَشْبَاهُ النَّاسِ عَالِماً وَلَيْسَ بِهِ، بَكَّرَ فَاسْتَكْثَرَ مِنْ جَمْعٍ، مَا قَلَّ مِنْهُ خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ، حَتَّى إِذَا ارْتَوَى مِنْ مَاءٍ آجِنٍ، وَاكْتَثَرَ مِنْ غَيْرِ طَائِلٍ، جَلَسَ بَيْنَ النَّاسِ

ص: 181

..............................

قَاضِياً ضَامِناً، لِتَخْلِيصِ مَا الْتَبَسَ عَلَىغَيْرِهِ، فَإِنْ نَزَلَتْ بِهِ إِحْدَى الْمُبْهَمَاتِ، هَيَّأَ لَهَا حَشْواً رَثًّا مِنْ رَأْيِهِ ثُمَّ قَطَعَ بِهِ، فَهُوَ مِنْ لَبْسِ الشُّبُهَاتِ فِي مِثْلِ نَسْجِ الْعَنْكَبُوتِ، لاَ يَدْرِي أَصَابَ أَمْ أَخْطَأَ، فَإِنْ أَصَابَ خَافَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخْطَأَ، وَإِنْ أَخْطَأَ رَجَا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصَابَ، جَاهِلٌ خَبَّاطُ جَهَالاتٍ، عَاشٍ رَكَّابُ عَشَوَاتٍ، لَمْ يَعَضَّ عَلَى الْعِلْمِ بِضِرْسٍ قَاطِعٍ، يَذْرُو الرِّوَايَاتِ ذَرْوَ الرِّيحِ الْهَشِيمَ، لاَ مَلِيٌّ وَاللهِ إِصْدَارِ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ، وَلاَ أَهْلٌ لِمَا قُرِّظَ بِهِ، لا يَحْسَبُ الْعِلْمَ فِي شَيْءٍ مِمَّا أَنْكَرَهُ، وَلاَ يَرَى أَنَّ مِنْ وَرَاءِ مَا بَلَغَ مَذْهَباً لِغَيْرِهِ، وَإِنْ أَظْلَمَ عَلَيْهِ أَمْرٌ اكْتَتَمَ بِهِ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ جَهْلِ نَفْسِهِ، تَصْرُخُ مِنْ جَوْرِ قَضَائِهِ الدِّمَاءُ، وَتَعَجُّ مِنْهُ الْمَوَارِيثُ. إِلَى اللهِ أَشْكُو مِنْ مَعْشَرٍ يَعِيشُونَ جُهَّالاً وَيَمُوتُونَ ضُلاَّلاً، لَيْسَ فِيهِمْ سِلْعَةٌ أَبْوَرُ مِنَ الْكِتَابِ إِذَا تُلِيَ حَقَّ تِلاَوَتِهِ، وَلاَ سِلْعَةٌ أَنْفَقُ بَيْعاً وَلاَ أَغْلَى ثَمَناً مِنَ الْكِتَابِ إِذَا حُرِّفَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَلاَ عِنْدَهُمْ أَنْكَرُ مِنَ الْمَعْرُوفِ، وَلاَ أَعْرَفُ مِنَ الْمُنْكَرِ»(1).

2: وصنف يعلمون الحقيقة ويوهمون الغير أن ما هم عليه من الباطل هوالحق، ف «هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا»(2)، بناءً على أن (يحسبون) بمعنى أنهم يصورن للناس كذلك، أو يتعاملون تعامل من يحسب أنه يحسن صنعاً، أو يراد ب (يحسبون) نظير الحقيقة الادعائية وإن علم الحقيقة.

ص: 182


1- نهج البلاغة: خطب أمير المؤمنين (عليه السلام)، الرقم17 ومن كلام له (عليه السلام) في صفة من يتصدى للحكم بين الأمة و ليس لذلك بأهل.
2- سورة الكهف: 104.

..............................

قال تعالى: «وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ»(1). وقال سبحانه: «بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ»(2).

هذا ويحتمل أن يراد بقوله عز وجل: «وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا»(3) أي فيما يرتبط بدنياهم، فإن العاصي ربما يتصور أنه يتمتع بالملذات وما أشبه وأنه يحسن صنعاً، وهو لا يعلم بأن هذه الملذات وقتية وسيصاب بأمراض ومشاكل في الدنيا قبل الآخرة، وهكذا من غصب الخلافة فربما كانوا يزعمون بانتصارهم الدنيوي - كما زعم يزيد في قتل الإمام الحسين (عليه السلام) - ولكن انقلب عليهم الأمر في الدنيا قبل الآخرة. وكذلك عمربن سعد حيث زعم أنه ينال ملك الري ولكنه خسر الدنيا والآخرة معاً بقتل ريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله).

في رواية أَنَّ الصَّادِقَ (عليه السلام)، قال لأبي حنيفة - لما دخل عليه -: «مَنْ أَنْتَ؟». قَالَ: أَبُو حَنِيفَةَ. قَالَ (عليه السلام): «مُفْتِي أَهْلِ الْعِرَاقِ». قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «بِمَا تُفْتِيهِمْ؟». قَالَ: بِكِتَابِ اللهِ. قَالَ (عليه السلام): «وَإِنَّكَ لَعَالِمٌ بِكِتَابِ اللهِ، نَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ، وَمُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِهِ؟». قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «فَأَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: «وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ»(4) أَيُّ

ص: 183


1- سورة النمل: 14.
2- سورة القيامة: 14- 15.
3- سورة الكهف: 104.
4- سورة سبأ: 18.

..............................

مَوْضِعٍ هُوَ؟». قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ مَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ. فَالْتَفَتَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) إِلَى جُلَسَائِهِ، وَقَالَ: «نَشَدْتُكُمْ بِاللهِ هَلْ تَسِيرُونَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَلاَ تَأْمَنُونَ عَلَى دِمَائِكُمْ مِنَ الْقَتْلِ، وَعَلَى أَمْوَالِكُمْ مِنَ السَّرَقِ؟». فَقَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «وَيْحَكَ يَا أَبَا حَنِيفَةَ، إِنَّ اللهَ لاَ يَقُولُ إِلاَّ حَقّاً. أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: «وَمَنْ دَخَلَهُكَانَ آمِنًا»(1) أَيُّ مَوْضِعٍ هُوَ». قَالَ: ذَلِكَ بَيْتُ اللهِ الْحَرَامُ. فَالْتَفَتَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) إِلَى جُلَسَائِهِ، وَقَالَ: «نَشَدْتُكُمْ بِاللهِ هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ زُبَيْرٍ وَسَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ دَخَلاَهُ فَلَمْ يَأْمَنَا الْقَتْلَ». قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه

السلام): وَيْحَكَ يَا أَبَا حَنِيفَةَ، إِنَّ اللهَ لا يَقُولُ إِلاَّ حَقّاً». فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ لِي عِلْمٌ بِكِتَابِ اللهِ، إِنَّمَا أَنَا صَاحِبُ قِيَاسٍ. فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «فَانْظُرْ فِي قِيَاسِكَ إِنْ كُنْتَ مُقِيساً أَيُّمَا أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ الْقَتْلُ أَوِ الزِّنَا؟». قَالَ: بَلِ الْقَتْلُ. قَالَ: «فَكَيْفَ رَضِيَ فِي الْقَتْلِ بِشَاهِدَيْنِ، وَلَمْ يَرْضَ فِي الزِّنَا إِلاَّ بِأَرْبَعَةٍ - ثُمَّ قَالَ لَهُ - الصَّلاَةُ أَفْضَلُ أَمِ الصِّيَامُ؟». قَالَ: بَلِ الصَّلاَةُ أَفْضَلُ». قَالَ (عليه السلام): «فَيَجِبُ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِكَ عَلَى الْحَائِضِ قَضَاءُ مَا فَاتَهَا مِنَ الصَّلاَةِ فِي حَالِ حَيْضِهَا دُونَ الصِّيَامِ، وَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهَا قَضَاءَ الصَّوْمِ دُونَ الصَّلاَةِ - ثُمَّ قَالَ لَهُ - الْبَوْلُ أَقْذَرُ أَمِ الْمَنِيُّ؟». قَالَ: الْبَوْلُ أَقْذَرُ. قَالَ (عليه السلام): «يَجِبُ عَلَى قِيَاسِكَ أَنْ يَجِبَ الْغُسْلُ مِنَ الْبَوْلِ دُونَ الْمَنِيِّ، وَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ تَعَالَى الْغُسْلَ مِنَ الْمَنِيِّ دُونَ الْبَوْلِ». قَالَ: إِنَّمَا أَنَا صَاحِبُ رَأْيٍ. قَالَ(عليه السلام): «فَمَا تَرَى فِي رَجُلٍ كَانَ لَه

ص: 184


1- سورة آل عمران: 97.

..............................

عَبْدٌ، فَتَزَوَّجَ وَزَوَّجَ عَبْدَهُ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ، فَدَخَلاَ بِامْرَأَتَيْهِمَا فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ سَافَرَا وَجَعَلاَ امْرَأَتَيْهِمَا فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ، فَوَلَدَتَا غُلاَمَيْنِ فَسَقَطَ الْبَيْتُ عَلَيْهِمْ، فَقَتَلَ الْمَرْأَتَيْنِ وَبَقِيَ الْغُلاَمَانِ، أَيُّهُمَا فِي رَأْيِكَ الْمَالِكُ وَأَيُّهُمَا الْمَمْلُوكُ، وَأَيُّهُمَا الْوَارِثُ وَأَيُّهُمَا الْمَوْرُوثُ؟». قَالَ: إِنَّمَا أَنَا صَاحِبُ حُدُودٍ. قَالَ: «فَمَا تَرَى فِي رَجُلٍ أَعْمَى فَقَأَ عَيْنَ صَحِيحٍ، وَأَقْطَعَ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ، كَيْفَ يُقَامُ عَلَيْهِمَا الْحَدُّ؟». قَالَ: إِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ عَالِمٌ بِمَبَاعِثِ الأَنْبِيَاءِ. قَالَ: «فَأَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى لِمُوسَى وَهَارُونَ حِينَ بَعَثَهُمَا إِلَى فِرْعَوْنَ: «لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى»(1) وَلَعَلَّ مِنْكَ شَكٌّ؟». قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «فَكَذَلِكَ مِنَ اللهِ شَكٌّ إِذْ قَالَ لَعَلَّهُ؟». قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لاَ عِلْمَ لِي. قَالَ: «تَزْعُمُ أَنَّكَ تُفْتِي بِكِتَابِ اللهِ وَلَسْتَ مِمَّنْ وَرِثَهُ. وَتَزْعُمُ أَنَّكَ صَاحِبُ قِيَاسٍ، وَأَوَّلُ مَنْ قَاسَ إِبْلِيسُ، وَلَمْ يُبْنَ دَيْنُ الإِسْلاَمِ عَلَى الْقِيَاسِ. وَتَزْعُمُ أَنَّكَ صَاحِبُ رَأْيٍ، وَكَانَ الرَّأْيُ مِنْ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) صَوَاباً، وَمِنْ دُونِهِ خَطَأً؛ لأَنَّ اللهَ تَعَالَىقَالَ: احْكُمْ بَيْنَهُمْ «بِمَا أَرَاكَ اللهُ»(2)، وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ. وَتَزْعُمُ أَنَّكَ صَاحِبُ حُدُودٍ، وَمَنْ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ أَوْلَى بِعِلْمِهَا مِنْكَ. وَتَزْعُمُ أَنَّكَ عَالِمٌ بِمَبَاعِثِ الأَنْبِيَاءِ، وَلَخَاتَمُ الأَنْبِيَاءِ أَعْلَمُ بِمَبَاعِثِهِمْ مِنْكَ. لَوْلاَ أَنْ يُقَالَ: دَخَلَ عَلَى ابْنِ رَسُولِ اللهِ فَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْ شَيْءٍ مَا سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ، فَقِسْ إِنْ كُنْتَ مُقِيساً». قَالَ: لاَ تَكَلَّمْتُ بِالرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ فِي دِينِ اللهِ بَعْدَ هَذَا الْمَجْلِسِ. قَالَ: «كَلاَّ إِنَّ حُبَّ الرِّئَاسَةِ غَيْرُ تَارِكِكَ، كَمَا لَمْ يَتْرُكْ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ»(3).

..............................

ص: 185


1- سورة طه: 44.
2- سورة النساء: 105.
3- بحار الأنوار: ج2 ص287-288، تتمة كتاب العقل والعلم والجهل، ب34 ح4.

وعن عيسى بن عبد الله القرشي، قال: دَخَلَ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام). فَقَالَ: «يَا أَبَا حَنِيفَةَ، قَدْ بَلَغَنِي أَنَّكَ تَقِيسُ». فَقَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: «لاَتَقِسْ؛ فَإِنَّ أَوَّلَ مَنْ قَاسَ إِبْلِيسُ (لَعَنَهُ اللهُ) حِينَ قَالَ: «خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ»(1)، فَقَاسَ مَا بَيْنَ النَّارِ وَالطِّينِ، وَلَوْ قَاسَ نُورِيَّةَ آدَمَ بِنُورِيَّةِ النَّارِ، عَرَفَ مَا بَيْنَ النُّورَيْنِ،وَضِيَاءَ أَحَدِهِمَا عَلَى الآخَرِ»(2).

وسَأَلَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ أَبَا الْحَسَنِ مُوسَى (عليه السلام) بِمَحْضَرٍ مِنَ الرَّشِيدِ وَهُمْ بِمَكَّةَ. فَقَالَ لَهُ: أَ يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يُظَلِّلَ عَلَيْهِ مَحْمِلَهُ؟. فَقَالَ لَهُ مُوسَى (عليه السلام): «لاَ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ مَعَ الاِخْتِيَارِ». فَقَالَ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: أَ فَيَجُوزُ أَنْ يَمْشِيَ تَحْتَ الظِّلاَلِ مُخْتَاراً؟. فَقَالَ لَهُ: «نَعَمْ». فَتَضَاحَكَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَنْ ذَلِكَ. فَقَالَ لَهُ أَبُو الْحَسَنِ مُوسَى (عليه السلام): «أَ فَتَعْجَبُ مِنْ سُنَّةِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) وَتَسْتَهْزِئُ بِهَا. إِنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) كَشَفَ ظِلاَلَهُ فِي إِحْرَامِهِ، وَمَشَى تَحْتَ الظِّلاَلِ وَهُوَ مُحْرِمٌ إِنَّ أَحْكَامَ اللهِ تَعَالَى - يَا مُحَمَّدُ - لاَتُقَاسُ، فَمَنْ قَاسَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ». فَسَكَتَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ لاَ يَرْجِعُ جَوَاباً(3).

وقال العلامة المجلسي (رحمه الله): وَقَدْ جَرَى لأَبِي يُوسُفَ مَعَ أَبِي الْحَسَنِ مُوسَى (عليه السلام) بِحَضْرَةِ الْمَهْدِيِّ مَا يَقْرُبُ مِنْ ذَلِكَ،وَهُوَ أَنَّ مُوسَى (عليه السلام)

..............................

ص: 186


1- سورة الأعراف: 12.
2- بحار الأنوار: ج2 ص288، تتمة كتاب العقل والعلم والجهل، ب34 ح5.
3- بحار الأنوار: ج2 ص289 - 290، تتمة كتاب العقل والعلم والجهل، ب34 ح6.

سَأَلَ أَبَا يُوسُفَ عَنْ مَسْأَلَةٍ لَيْسَ عِنْدَهُ فِيهَا شَيْءٌ. فَقَالَ لأَبِي الْحَسَنِ مُوسَى (عليه السلام): إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ شَيْءٍ. قَالَ: «هَاتِ». فَقَالَ: مَا تَقُولُ فِي التَّظْلِيلِ لِلْمُحْرِمِ؟. قَالَ: «لاَ يَصْلُحُ». قَالَ: فَيَضْرِبُ الْخِبَاءَ فِي الأَرْضِ فَيَدْخُلُ فِيهِ؟. قَالَ: «نَعَمْ». قَالَ: فَمَا فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَذَاكَ؟. قَالَ أَبُو الْحَسَنِ مُوسَى (عليه السلام): «مَا تَقُولُ فِي الطَّامِثِ تَقْضِي الصَّلاَةَ؟». قَالَ: لاَ. قَالَ: «تَقْضِي الصَّوْمَ؟». قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «وَلِمَ؟». قَالَ: إِنَّ هَذَا كَذَا جَاءَ. قَالَ أَبُو الْحَسَنِ (عليه السلام): «وَكَذَلِكَ هَذَا». قَالَ الْمَهْدِيُّ لأَبِي يُوسُفَ: مَا أَرَاكَ صَنَعْتَ شَيْئاً. قَالَ: يَا أَمِير رَمَانِي بِحُجَّةٍ(1).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «تَرِدُ عَلَى أَحَدِهِمُ الْقَضِيَّةُ فِي حُكْمٍ مِنَ الأَحْكَامِ، فَيَحْكُمُ فِيهَا بِرَأْيِهِ، ثُمَّ تَرِدُ تِلْكَ الْقَضِيَّةُ بِعَيْنِهَا عَلَى غَيْرِهِ، فَيَحْكُمُ فِيهَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ، ثُمَّ يَجْتَمِعُ الْقُضَاةُ بِذَلِكَ عِنْدَ الإِمَامِ الَّذِي اسْتَقْضَاهُمْ، فَيُصَوِّبُ آرَاءَهُمْ جَمِيعاً، وَإِلَهُهُمْ وَاحِدٌ، وَنَبِيُّهُمْ وَاحِدٌ، وَكِتَابُهُمْ وَاحِدٌ. أَ فَأَمَرَهُمُ اللهُ سُبْحَانَهُ بِالاِخْتِلاَفِ فَأَطَاعُوهُ، أَمْ نَهَاهُمْعَنْهُ فَعَصَوْهُ، أَمْ أَنْزَلَ اللهُ سُبْحَانَهُ دِيناً نَاقِصاً فَاسْتَعَانَ بِهِمْ عَلَى إِتْمَامِهِ، أَمْ كَانُوا شُرَكَاءَ لَهُ فَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا وَعَلَيْهِ أَنْ يَرْضَى، أَمْ أَنْزَلَ اللهُ سُبْحَانَهُ دِيناً تَامّاً فَقَصَّرَ الرَّسُولُ (صلى الله عليه وآله) عَنْ تَبْلِيغِهِ وَأَدَائِهِ، وَاللهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: «مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ»(2)، وَفِيهِ تِبْيَانٌ لِكُلِّ شَيْ ءٍ، وَذَكَرَ أَنَّ الْكِتَابَ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضاً، وَأَنَّهُ لاَ اخْتِلاَفَ فِيهِ، فَقَاَ

ص: 187


1- بحار الأنوار: ج2 ص290، تتمة كتاب العقل والعلم والجهل، الباب34 من تتمة أبواب العلم، ضمن ح6.
2- سورة الأنعام: 38.

..............................

سُبْحَانَهُ: «وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا»(1)، وَإِنَّ الْقُرْآنَ ظَاهِرُهُ أَنِيقٌ، وَبَاطِنُهُ عَمِيقٌ، لاَ تَفْنَى عَجَائِبُهُ، وَلاَ تَنْقَضِي غَرَائِبُهُ، وَلاَتُكْشَفُ الظُّلُمَاتُ إِلاَّ بِهِ»(2).

وعن ابن أبي ليلى، قال: دَخَلْتُ أَنَا وَالنُّعْمَانُ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (عليه السلام)، فَرَحَّبَ بِنَا. فَقَالَ: «يَا ابْنَ أَبِي لَيْلَى، مَنْ هَذَا الرَّجُلُ؟». فَقُلْتُ:جُعِلْتُ فِدَاكَ، هَذَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، لَهُ رَأْيٌ وَبَصِيرَةٌ وَنَفَاذٌ». قَالَ: «فَلَعَلَّهُ الَّذِي يَقِيسُ الأَشْيَاءَ بِرَأْيِهِ - ثُمَّ قَالَ - يَا نُعْمَانُ، هَلْ تُحْسِنُ أَنْ تَقِيسَ رَأْسَكَ؟». قَالَ: لاَ. قَالَ: «مَا أَرَاكَ تُحْسِنُ أَنْ تَقِيسَ شَيْئاً، وَلاَ تَهْتَدِي إِلاَّ مِنْ عِنْدِ غَيْرِكَ، فَهَلْ عَرَفْتَ الْمُلُوحَةَ فِي الْعَيْنَيْنِ، وَالْمَرَارَةَ فِي الأُذُنَيْنِ، وَالْبُرُودَةَ فِي الْمَنْخِرَيْنِ، وَالْعُذُوبَةَ فِي الْفَمِ؟». قَالَ: لاَ. قَالَ: «فَهَلْ عَرَفْتَ كَلِمَةً أَوَّلُهَا كُفْرٌ وَآخِرُهَا إِيمَانٌ؟». قَالَ: لاَ. قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، لاَ تَدَعْنَا فِي عَمْيَاءَ مِمَّا وَصَفْتَ لَنَا. قَالَ: «نَعَمْ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ آبَائِي (عليهم السلام) أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) قَالَ: إِنَّ اللهَ خَلَقَ عَيْنَيِ ابْنِ آدَمَ شَحْمَتَيْنِ، فَجَعَلَ فِيهِمَا الْمُلُوحَةَ، فَلَوْلاَ ذَلِكَ لَذَابَتَا، وَلَمْ يَقَعْ فِيهِمَا شَيْءٌ مِنَ الْقَذَى إِلاَّ أَذَابَهُمَا، وَالْمُلُوحَةُ تَلْفِظُ مَا يَقَعُ فِي الْعَيْنَيْنِ مِنَ الْقَذَى. وَجَعَلَ الْمَرَارَةَ فِي الأُذُنَيْنِ حِجَاباً لِلدِّمَاغِ، وَلَيْسَ مِنْ دَابَّةٍ تَقَعُ فِي الأُذُنِ إِلاَّ الْتَمَسَتِ الْخُروجَ،

ص: 188


1- سورة النساء: 82.
2- نهج البلاغة: خطب أمير المؤمنين (عليه السلام)، الرقم18 ومن كلام له (عليه السلام) في ذم اختلاف العلماء في الفتيا.

..............................

وَلَوْلاَ ذَلِكَ لَوَصَلَتْ إِلَى الدِّمَاغِ. وَجَعَلَ الْبُرُودَةَ فِي الْمَنْخِرَيْنِ حِجَاباً لِلدِّمَاغِ،وَلَوْلاَ ذَلِكَ لَسَالَ الدِّمَاغُ. وَجَعَلَ الْعُذُوبَةَ فِي الْفَمِ مَنّاً مِنَ اللهِ تَعَالَى عَلَى ابْنِ آدَمَ؛ لِيَجِدَ لَذَّةَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ. وَأَمَّا كَلِمَةٌ أَوَّلُهَا كُفْرٌ وَآخِرُهَا إِيمَانٌ، فَقَوْلُ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، أَوَّلُهَا كُفْرٌ وَآخِرُهَا إِيمَانٌ - ثُمَّ قَالَ - يَا نُعْمَانُ، إِيَّاكَ وَالْقِيَاسَ! فَإِنَّ أَبِي حَدَّثَنِي عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام) أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) قَالَ: مَنْ قَاسَ شَيْئاً مِنَ الدِّينِ بِرَأْيِهِ، قَرَنَهُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَعَ إِبْلِيسَ فِي النَّارِ، فَإِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ قَاسَ حَيْثُ قَالَ: «خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ»(1)، فَدَعُوا الرَّأْيَ وَالْقِيَاسَ؛ فَإِنَّ دِينَ اللهِ لَمْ يُوضَعْ عَلَى الْقِيَاسِ»(2).

معنى الرغم والمعاطس

قولها (عليها السلام): « فَرَغْماً لِمَعَاطِسِ قَوْمٍ».

الرغم: كناية عن الذل والإذلال، قإن الرغام هو التراب، ومن يرغم أنفه في التراب فإنه يكون ذليلاً، وهذا تشبيه للمعقول بالمحسوس، فإن أصل المثل في مصارعة بطلين حيث إن الغالب يمرغ أنف المغلوب بالتراب كناية عن تمام الغلبة والنصر.

والمعاطس: جمع معطس وهو الأنف، على وزن مَفْعَلْ أي مكان العطسة، أو مِفْعَلآلة العطسة، فإن (مَفْعَل) يأتي للزمان والمكان ومصدراً ميمياً، و(مِفْعَل) اسم آلة.

ص: 189


1- سورة الأعراف: 12.
2- بحار الأنوار: ج2 ص286، تتمة كتاب العقل والعلم والجهل، ب34 ح3.

..............................

أي إنهم سيذلون أنفسهم بأعمالهم السيئة وإن حسبوا - بكلا المعنيين أو المعاني السابقة - أنهم يحسنون صنعاً.

وهذا اقتباس من قوله تعالى في سورة الكهف: «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا»(1).

شمول الذل

قاعدة: الذلة وإرغام الأنف والصغار التي تصيب هؤلاء القوم الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، هي ذلة عند الله وذلة عند الملائكة وما لا نعلمه من العوالم الأخرى، وذلة عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) وذلة عند أهل بيته (عليهم السلام) وذلة عند الأولياء وذلة عند المؤمنين، وذلة في أنفسهم، وذلة في مجتمعهم، وذلة في التاريخ، وذلة في القبر والبرزخ، وذلة في القيامة، وذلة في النار، وقد أشرنا إلى بعض التفصيل في بعض كتبنا.إلفات: الذلة التي تصيبهم عامة شاملة لمختلف نواحي الحياة، من سياسية واقتصادية واجتماعية وغيرها، على تفصيل ذكرناه في موضع آخر.

ص: 190


1- سورة الكهف: 103-104.

..............................

رغم المعاطس والخلود في النار

مسألة: بما أن الجزاء يكون من سنخ العمل ومتناسباً معه، فإن أولئك القوم المنقلبين على الأعقاب يجازون بذلة وصغار وإرغام معاطس كما آذوا أولياء الله، وحيث إن درجة الجريمة تقاس بعظمة من أجرم بحقه، فإن إرغام أنوف أولئك الطغاة لا يعدل ما اجترحوا بحق أولياء الله إلا بخلودهم في النار مرغمين أذلة(1)،وتفصيله يطلب من مظانه.

ص: 191


1- فإن لحظة اقتياد أمير المؤمنين ومولى الموحدين علي (عليه السلام) بالحبال ظلماً وجوراً لا تغسلها ملايين السنين من العقوبة، ويرشد إلى ذلك ما قاله الإمام زين العابدين (عليه السلام) عن عصيان الله من أنه لو اجترح الإنسان معصية واحدة فقط فإنه يستحق بها الخلود في النار: (يَا إِلَهِي لَوْ بَكَيْتُ إِلَيْكَ حَتَّى تَسْقُطَ أَشْفَارُ عَيْنَيَّ، وَانْتَحَبْتُ حَتَّى يَنْقَطِعَ صَوْتِي، وَقُمْتُ لَكَ حَتَّى تَتَنَشَّرَ قَدَمَايَ، وَرَكَعْتُ لَكَ حَتَّى يَنْخَلِعَ صُلْبِي، وَسَجَدْتُ لَكَ حَتَّى تَتَفَقَّأَ حَدَقَتَايَ، وَأَكَلْتُ تُرَابَ الأَرْضِ طُولَ عُمُرِي، وَشَرِبْتُ مَاءَ الرَّمَادِ آخِرَ دَهْرِي، وَذَكَرْتُكَ فِي خِلاَلِ ذَلِكَ حَتَّى يَكِلَّ لِسَانِي، ثُمَّ لَمْ أَرْفَعْ طَرْفِي إِلَى آفَاقِ السَّمَاءِ اسْتِحْيَاءً مِنْكَ، مَا اسْتَوْجَبْتُ بِذَلِكَ مَحْوَ سَيِّئَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ سَيِّئَاتِي. وَإِنْ كُنْتَ تَغْفِرُ لِي حِينَ أَسْتَوْجِبُ مَغْفِرَتَكَ، وَتَعْفُو عَنِّي حِينَ أَسْتَحِقُّ عَفْوَكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ وَاجِبٍ لِي بِاسْتِحْقَاقٍ، وَلاَ أَنَا أَهْلٌ لَهُ بِاسْتِيجَابٍ، إِذْ كَانَ جَزَائِي مِنْكَ فِي أَوَّلِ مَا عَصَيْتُكَ النَّارَ، فَإِنْ تُعَذِّبْنِي فَأَنْتَ غَيْرُ ظَالِمٍ لِي)، الصحيفة السجادية: الدعاء الرقم16، وكان من دعائه (عليه السلام) إذا استقال من ذنوبه أو تضرع في طلب العفو عن عيوبه.

..............................

رغم المعاطس ما دامت الدنيا

مسألة: أولئك المنقلبون على الأعقاب يستحقون رغم معاطسهم لا لما قاموا به مباشرة فحسب، بل لأنهم أسسوا أساس الظلم والجور إلى يوم القيامة، فهم يستحقون صغار ودناءة وإرغام أنف لكل ما تسببوا

فيه من الجرائم، ومن إيذاء إولياء الله إلى يوم القيامة، وهذا وجه آخر من وجوه استحقاقهم الإذلال والدنائة أبد الآبدين، فتأمل.

والوجه الآخر ما أشارت إليه الآيات والروايات من «وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ»(1)، فإصرارهم وعدم توبتهم عما فعلوا بأولياء الله حتى وهم في نار جهنم، هو السبب الآخر لاستحقاقهم الخلود في النار أذلة صاغرين.

ص: 192


1- سورة الأنعام: 28.

«أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمفْسِدُونَ وَلكِنْ لَا يَشْعُرُونَ»

اشارة

«أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمفْسِدُونَ وَلكِنْ لَا يَشْعُرُونَ»(1)

هم المفسدون

مسألة: يجب وجوباً كفائياً بيان أن من غصب الخلافة ومن ساعده على ذلك ورضي به أنهم هم المفسدون، ودل على ذلك استشهاد الصديقة (عليها السلام) بهذه الآية المباركة.

قال الإمام الصادق (عليه السلام): «فَسَادُ الظَّاهِرِ مِنْ فَسَادِ الْبَاطِنِ، وَمَنْ أَصْلَحَ سَرِيرَتَهُ أَصْلَحَ اللهُ عَلاَنِيَتَهُ، وَمَنْ خَافَ اللهَ فِي السِّرِّ لَمْ يَهْتِكِ اللهُ عَلاَنِيَتَهُ، وَمَنْ خَانَ اللهَ فِي السِّرِّ هَتَكَ اللهُ سِتْرَهُ فِي الْعَلاَنِيَةِ. وَأَعْظَمُ الْفَسَادِ أَنْ يَرْضَى الْعَبْدُ بِالْغَفْلَةِ عَنِ اللهِ تَعَالَى، وَهَذَا الْفَسَادُ يَتَوَلَّدُ مِنْ طُولِ الأَمَلِ، وَالْحِرْصِ، وَالْكِبْرِ، كَمَا أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ قَارُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: «وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمفْسِدِينَ»(2)، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَساداً»(3) إِلَى آخِرِهَا، وَكَانَتْ هَذِهِ الْخِصَالُ مِنْ صُنْعِ قَارُونَ وَاعْتِقَادِهِ، وَأَصْلُهَا مِنْ حُبِّ الدُّنْيَا وَجَمْعِهَا، وَمُتَابَعَةِ النَّفْسِ وَهَوَاهَا، وَإِقَامَةِ شَهَوَاتِهَا، وَحُبِّالْمَحْمَدَةِ، وَمُوَافَقَةِ الشَّيْطَانِ، وَاتِّبَاعِ خُطُوَاتِهِ وَكُلُّ ذَلِكَ يَجْتَمِعُ تَحْتَ الْغَفْلَةِ عَنِ اللهِ، وَنِسْيَانِ مِنَنِهِ، وَعِلاَجُ ذَلِكَ الْفِرَارُ مِنَ النَّاسِ، وَرَفْضُ الدُّنْيَا، وَطَلاَقُ الرَّاحَةِ، وَالاِنْقِطَاعُ عَنِ الْعَادَاتِ وَقَطْعُ

ص: 193


1- سورة البقرة: 12.
2- سورة القصص: 77.
3- سورة القصص: 83.

..............................

عُرُوقِ مَنَابِتِ الشَّهَوَاتِ بِدَوَامِ الذِّكْرِ للهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلُزُومُ الطَّاعَةِ لَهُ، وَاحْتِمَالُ جَفَاءِ الْخَلْقِ، وَمُلاَزَمَةِ الْقَرِينِ، وَشَمَاتَةِ الْعَدُوِّ مِنَ الأَهْلِ وَالْقَرَابَةِ، فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ فَقَدْ فَتَحْتَ عَلَيْكَ بَابَ عَطْفِ اللهِ، وَحُسْنِ نَظَرِهِ إِلَيْكَ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَخَرَجْتَ مِنْ جُمْلَةِ الْغَافِلِينَ، وَفَكَكْتَ قَلْبَكَ مِنْ أَسْرِ الشَّيْطَانِ، وَقَدِمْتَ بَابَ اللهِ فِي مَعْشَرِ الْوَارِدِينَ إِلَيْهِ، وَسَلَكْتَ مَسْلَكاً رَجَوْتَ الإِذْنَ بِالدُّخُولِ عَلَى الْمَلِكِ الْكَرِيمِ، الْجَوَادِ الرَّحِيمِ، وَاسْتِبْطَاءِ بِسَاطِهِ عَلَى شَرْطِ الإِذْنِ، وَمَنْ وَطِئَ بِسَاطَ الْمَلِكِ عَلَى شَرْطِ الإِذْنِ لاَ يُحْرَمُ سَلاَمَتَهُ وَكَرَامَتَهُ؛ لأَنَّهُ الْمَلِكُ الْكَرِيمُ، وَالْجَوَادُ الرَّحِيمُ»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِذَا رَأَيْتُمْ أَهْلَ الرَّيْبِ وَالْبِدَعِ مِنْ بَعْدِي، فَأَظْهِرُوا الْبَرَاءَةَ مِنْهُمْ، وَأَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ،وَالْقَوْلَ فِيهِمْ، وَالْوَقِيعَةَ، وَبَاهِتُوهُمْ؛ كَيْلاَ يَطْمَعُوا فِي الْفَسَادِ فِي الإِسْلاَمِ، وَيَحْذَرَهُمُ النَّاسُ، وَلاَ يَتَعَلَّمُوا مِنْ بِدَعِهِمْ، يَكْتُبِ اللهُ لَكُمْ بِذَلِكَ الْحَسَنَاتِ، وَيَرْفَعْ لَكُمْ بِهِ الدَّرَجَاتِ فِي الآخِرَةِ»(2).

شمولية فسادهم

مسألة: فساد القوم وإفسادهم ليس خاصاً بالأرض فقط، بل شمل البحر والفضاء، قال تعالى: «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ»(3).

ص: 194


1- مصباح الشريعة: ص107-108، الباب الخمسون في الفساد.
2- الكافي: ج2 ص375، كتاب الإيمان والكفر، باب مجالسة أهل المعاصي، ح4.
3- سورة الروم: 41.

..............................

وقال عزوجل: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ»(1).

* قول الصديقة (عليها السلام): «وَلكِنْ لَا يَشْعُرُونَ»، فإنهم يفسدون وتعود عاقبة فسادهم على أنفسهم أيضاً، وهو اقتباس من قوله تعالى: «وَإِذَا قِيلَ لَهمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَايَشْعُرُونَ»(2).

لا يقال: إنهم كانوا يشعرون بذلك، ولذا قال تعالى: «يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ»(3)، وقال سبحانه: «وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ»(4).

إذ يقال:

أولاً: المراد «وَلكِنْ لَا يَشْعُرُونَ» شعوراً مفيداً، كما يقال للإنسان العالم الذي يعمل عمل الجهال: إنه جاهل، أو لمن يتصابى: إنه لا يفهم أو ما أشبه مما هو كثير في البلاغة.

ثانياً: قد يكون المراد «وَلكِنْ لَا يَشْعُرُونَ» بكل آثار فسادهم وعواقبه ونتائجه، إذ هم يعلمون جانباً بسيطاً من آثار إفسادهم، ولربما لو علموا بكل

ص: 195


1- سورة الأعراف: 96.
2- سورة البقرة: 11 - 12.
3- سورة البقرة: 146، سورة الأنعام: 20.
4- سورة النمل: 14.

..............................

الفساد لهالهم الأمر وأوحشهم، فتأمل.

ثالثاً: أو «لَا يَشْعُرُونَ» بكنه فسادهم وفداحة جرحهم، وهذا راجع للشيء نفسه، وما سبقه راجع لآثاره كما لا يخفى.

رابعاً: أو يراد ب «لَا يَشْعُرُونَ»: يعملون عملمن لا يشعر، أي يبنون على ذلك وكأنه لا فساد ولا إفساد.

والظاهر من مختلف الأدلة أن ما قاموا به كان عن حقد لا عن جهل.

الاقتباس من القرآن

مسألة: يستحب الاقتباس من القرآن الحكيم وروايات أهل البيت (عليهم السلام) وقد سبق تفصيله، وهكذا كانت سيرة العترة الطاهرة (عليهم السلام) حيث يقتبسون من الآيات الكريمة في أحاديثهم وخطبهم.

عن أبي ذكوان، قال: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْعَبَّاسِ يَقُولُ: (مَا رَأَيْتُ الرِّضَا (عليه السلام) يُسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ قَطُّ إِلاَّ عَلِمَ، وَلاَ رَأَيْتُ أَعْلَمَ مِنْهُ بِمَا كَانَ فِي الزَّمَانِ الأَوَّلِ إِلَى وَقْتِهِ وَعَصْرِهِ، وَكَانَ الْمَأْمُونُ يَمْتَحِنُهُ بِالسُّؤَالِ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ فَيُجِيبُ فِيهِ، وَكَانَ كَلاَمُهُ كُلُّهُ وَجَوَابُهُ وَتَمَثُّلُهُ انْتِزَاعَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ)(1).

وعن أبي حمزة قال: مَا سَمِعْتُ بِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ كَانَ أَزْهَدَ مِنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (عليه السلام)، إِلاَّ مَا بَلَغَنِي مِنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام).

ص: 196


1- عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج2 ص180، ب44، ح4.

..............................

قال أبو حمزة: كَانَ الإِمَامُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) إِذَا تَكَلَّمَ فِي الزُّهْدِ وَوَعَظَ، أَبْكَى مَنْ بِحَضْرَتِهِ. قال أبو حمزة: وَقَرَأْتُ صَحِيفَةً فِيهَا كَلاَمُ زُهْدٍ مِنْ كَلاَمِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (عليه السلام)، وَكَتَبْتُ مَا فِيهَا ثُمَّ أَتَيْتُ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ (صلوات الله عليه)، فَعَرَضْتُ مَا فِيهَا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُ وَصَحَّحَهُ، وَكَانَ مَا فِيهَا: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، كَفَانَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ كَيْدَ الظَّالِمِينَ، وَبَغْيَ الْحَاسِدِينَ، وَبَطْشَ الْجَبَّارِينَ. أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الطَّوَاغِيتُ وَأَتْبَاعُهُمْ مِنْ أَهْلِ الرَّغْبَةِ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، الْمَائِلُونَ إِلَيْهَا، الْمُفْتَتِنُونَ بِهَا، الْمُقْبِلُونَ عَلَيْهَا، وَعَلَى حُطَامِهَا الْهَامِدِ، وَهَشِيمِهَا الْبَائِدِ غَداً.

وَاحْذَرُوا مَا حَذَّرَكُمُ اللهُ مِنْهَا، وَازْهَدُوا فِيمَا زَهَّدَكُمُ اللهُ فِيهِ مِنْهَا، وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى مَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، رُكُونَ مَنِ اتَّخَذَهَا دَارَ قَرَارٍ، وَمَنْزِلَ اسْتِيطَانٍ. وَاللهِ، إِنَّ لَكُمْ مِمَّا فِيهَا عَلَيْهَا لَدَلِيلاً وَتَنْبِيهاً، مِنْ تَصْرِيفِ أَيَّامِهَا، وَتَغَيُّرِ انْقِلاَبِهَا وَمَثُلاَتِهَا، وَتَلاَعُبِهَا بِأَهْلِهَا.

إِنَّهَا لَتَرْفَعُ الْخَمِيلَ، وَتَضَعُ الشَّرِيفَ، وَتُورِدُ أَقْوَاماً إِلَى النَّارِ غَداً، فَفِي هَذَا مُعْتَبَرٌ وَمُخْتَبَرٌ، وَزَاجِرٌ لِمُنْتَبِهٍ. إِنَّ الأُمُورَ الْوَارِدَةَ عَلَيْكُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مِنْ مُظْلِمَاتِ الْفِتَنِ، وَحَوَادِثِ الْبِدَعِ، وَسُنَنِالْجَوْرِ، وَبَوَائِقِ الزَّمَانِ، وَهَيْبَةِ السُّلْطَانِ، وَوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ؛ لَتُثَبِّطُ الْقُلُوبَ عَنْ تَنَبُّهِهَا، وَتُذْهِلُهَا عَنْ مَوْجُودِ الْهُدَى، وَمَعْرِفَةِ أَهْلِ الْحَقِّ، إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ عَصَمَ اللهُ.

فَلَيْسَ يَعْرِفُ تَصَرُّفَ أَيَّامِهَا، وَتَقَلُّبَ حَالاتِهَا، وَعَاقِبَةَ ضَرَرِ فِتْنَتِهَا، إِلاَّ مَنْ عَصَمَ اللهُ، وَنَهَجَ سَبِيلَ الرُّشْدِ، وَسَلَكَ طَرِيقَ الْقَصْدِ، ثُمَّ اسْتَعَانَ عَلَى ذَلِكَ بِالزُّهْدِ. فَكَرَّرَ الْفِكْرَ، وَاتَّعَظَ بِالصَّبْرِ فَازْدَجَرَ، وَزَهِدَ فِيعَاجِلِ بَهْجَة الدُّنْيَا،

ص: 197

..............................

وَتَجَافَى عَنْ لَذَّاتِهَا، وَرَغِبَ فِي دَائِمِ نَعِيمِ الآخِرَةِ، وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا، وَرَاقَبَ الْمَوْتَ، وَشَنَأَ الْحَيَاةَ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، نَظَرَ إِلَى مَا فِي الدُّنْيَا بِعَيْنٍ نَيِّرَةٍ، حَدِيدَةَ الْبَصَرِ، وَأَبْصَرَ حَوَادِثَ الْفِتَنِ، وَضَلاَلَ الْبِدَعِ، وَجَوْرَ الْمُلُوكِ الظَّلَمَةِ.

فَلَقَدْ - لَعَمْرِي - اسْتَدْبَرْتُمُ الأُمُورَ الْمَاضِيَةَ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ مِنَ الْفِتَنِ الْمُتَرَاكِمَةِ، وَالاِنْهِمَاكِ فِيمَا تَسْتَدِلُّونَ بِهِ عَلَى تَجَنُّبِ الْغُوَاةِ، وَأَهْلِ الْبِدَعِ وَالْبَغْيِ، وَالْفَسَادِ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، فَاسْتَعِينُوا بِاللهِ وَارْجِعُوا إِلَى طَاعَةِ اللهِ، وَطَاعَةِ مَنْ هُوَ أَوْلَى بِالطَّاعَةِ، مِمَّنِ اتُّبِعَ فَأُطِيعَ.فَالْحَذَرَ، الْحَذَرَ! مِنْ قَبْلِ النَّدَامَةِ وَالْحَسْرَةِ، وَالْقُدُومِ عَلَى اللهِ، وَالْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْهِ. وَتَاللهِ، مَا صَدَرَ قَوْمٌ قَطُّ عَنْ مَعْصِيَةِ اللهِ إِلاَّ إِلَى عَذَابِهِ، وَمَا آثَرَ قَوْمٌ قَطُّ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ إِلاَّ سَاءَ مُنْقَلَبُهُمْ، وَسَاءَ مَصِيرُهُمْ. وَمَا الْعِلْمُ بِاللهِ وَالْعَمَلُ إِلاَّ إِلْفَانِ مُؤْتَلِفَانِ، فَمَنْ عَرَفَ اللهَ خَافَهُ، وَحَثَّهُ الْخَوْفُ عَلَى الْعَمَلِ بِطَاعَةِ اللهِ، وَإِنَّ أَرْبَابَ الْعِلْمِ وَأَتْبَاعَهُمُ الَّذِينَ عَرَفُوا اللهَ، فَعَمِلُوا لَهُ وَرَغِبُوا إِلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ اللهُ: «إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ»(1).

فَلاَ تَلْتَمِسُوا شَيْئاً مِمَّا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا بِمَعْصِيَةِ اللهِ، وَاشْتَغِلُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا بِطَاعَةِ اللهِ، وَاغْتَنِمُوا أَيَّامَهَا، وَاسْعَوْا لِمَا فِيهِ نَجَاتُكُمْ غَداً مِنْ عَذَابِ اللهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ أَقَلُّ لِلتَّبِعَةِ، وَأَدْنَى مِنَ الْعُذْرِ، وَأَرْجَى لِلنَّجَاةِ. فَقَدِّمُوا أَمْرَ اللهِ وَطَاعَةَ مَنْ أَوْجَبَ اللهُ طَاعَتَهُ بَيْنَ يَدَيِ الأُمُورِ كُلِّهَا، وَلاَ تُقَدِّمُوا الأُمُورَ الْوَارِدَةَ عَلَيْكُمْ، مِنْ طَاعَةِ الطَّوَاغِيتِ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا، بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَطَاعَتِهِ، وَطَاعَةِ أُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ.

ص: 198


1- سورة فاطر: 28.

..............................

وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ عَبِيدُ اللهِ وَنَحْنُ مَعَكُمْ، يَحْكُمُ عَلَيْنَا وَعَلَيْكُمْ سَيِّدٌ حَاكِمٌ غَداً، وَهُوَمُوقِفُكُمْ وَمُسَائِلُكُمْ، فَأَعِدُّوا الْجَوَابَ قَبْلَ الْوُقُوفِ وَالْمُسَاءَلَةِ، وَالْعَرْضِ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، يَوْمَئِذٍ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ لاَ يُصَدِّقُ يَوْمَئِذٍ كَاذِباً، وَلاَ يُكَذِّبُ صَادِقاً، وَلاَ يَرُدُّ عُذْرَ مُسْتَحِقٍّ، وَلاَ يَعْذِرُ غَيْرَ مَعْذُورٍ، لَهُ الْحُجَّةُ عَلَى خَلْقِهِ بِالرُّسُلِ، وَالأَوْصِيَاءِ بَعْدَ الرُّسُلِ.

فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، وَاسْتَقْبِلُوا فِي إِصْلاَحِ أَنْفُسِكُمْ، وَطَاعَةِ اللهِ، وَطَاعَةِ مَنْ تَوَلَّوْنَهُ فِيهَا؛ لَعَلَّ نَادِماً قَدْ نَدِمَ فِيمَا فَرَّطَ بِالْأَمْسِ فِي جَنْبِ اللَّهِ، وَضَيَّعَ مِنْ حُقُوقِ اللهِ، وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ، وَتُوبُوا إِلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ، وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَةِ، وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ.

وَإِيَّاكُمْ وَصُحْبَةَ الْعَاصِينَ، وَمَعُونَةَ الظَّالِمِينَ، وَمُجَاوَرَةَ الْفَاسِقِينَ، احْذَرُوا فِتْنَتَهُمْ، وَتَبَاعَدُوا مِنْ سَاحَتِهِمْ. وَاعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ خَالَفَ أَوْلِيَاءَ اللهِ، وَدَانَ بِغَيْرِ دِينِ اللهِ، وَاسْتَبَدَّ بِأَمْرِهِ دُونَ أَمْرِ وَلِيِّ اللَّهِ، كَانَ فِي نَارٍ تَلْتَهِبُ، تَأْكُلُ أَبْدَاناً قَدْ غَابَتْ عَنْهَا أَرْوَاحُهَا، وَغَلَبَتْ عَلَيْهَا شِقْوَتُهَا، فَهُمْ مَوْتَى لاَ يَجِدُونَ حَرَّ النَّارِ، وَلَوْ كَانُوا أَحْيَاءً لَوَجَدُوا مَضَضَ حَرِّ النَّارِ، وَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الأَبْصارِ، وَاحْمَدُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ.

وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ لاَ تَخْرُجُونَ مِنْ قُدْرَةِ اللهِ إِلَى غَيْرِ قُدْرَتِهِ، وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْوَرَسُولُهُ، ثُمَّ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ، فَانْتَفِعُوا بِالْعِظَةِ، وَتَأَدَّبُوا بِآدَابِ الصَّالِحِينَ»(1).

ص: 199


1- الكافي: ج8 ص14- 17صحيفة علي بن الحسين (عليه السلام) وكلامه في الزهد، ح2.

..............................

وعن أبي الحسن موسى (عليه السلام)، قال: «كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) يُوصِي أَصْحَابَهُ، وَيَقُولُ: أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ؛ فَإِنَّهَا غِبْطَةُ الطَّالِبِ الرَّاجِي، وَثِقَةُ الْهَارِبِ اللاَّجِي، وَاسْتَشْعِرُوا التَّقْوَى شِعَاراً بَاطِناً، وَاذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً خَالِصاً؛ تَحْيَوْا بِهِ أَفْضَلَ الْحَيَاةِ، وَتَسْلُكُوا بِهِ طَرِيقَ النَّجَاةِ.

انْظُرُوا فِي الدُّنْيَا نَظَرَ الزَّاهِدِ الْمُفَارِقِ لَهَا؛ فَإِنَّهَا تُزِيلُ الثَّاوِيَ السَّاكِنَ، وَتَفْجَعُ الْمُتْرَفَ الآمِنَ، لاَ يُرْجَى مِنْهَا مَا تَوَلَّى فَأَدْبَرَ، وَلاَ يُدْرَى مَا هُوَ آتٍ مِنْهَا فَيُنْتَظَرَ. وُصِلَ الْبَلاَءُ مِنْهَا بِالرَّخَاءِ، وَالْبَقَاءُ مِنْهَا إِلَى فَنَاءٍ، فَسُرُورُهَا مَشُوبٌ بِالْحُزْنِ، وَالْبَقَاءُ فِيهَا إِلَى الضَّعْفِ وَالْوَهْنِ.

فَهِيَ كَرَوْضَةٍ اعْتَمَّ مَرْعَاهَا، وَأَعْجَبَتْ مَنْ يَرَاهَا، عَذْبٌ شُرْبُهَا، طَيِّبٌ تُرْبُهَا، تَمُجُّ عُرُوقُهَا الثَّرَى، وَتَنْطُفُ فُرُوعُهَا النَّدَى، حَتَّى إِذَا بَلَغَ الْعُشْبُ إِبَّانَهُ، وَاسْتَوَى بَنَانُهُ، هَاجَتْ رِيحٌ تَحُتُّ الْوَرَقَ، وَتُفَرِّقُ مَااتَّسَقَ، فَأَصْبَحَتْ كَمَا قَالَ اللهُ: «هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا»(1). انْظُرُوا فِي الدُّنْيَا فِي كَثْرَةِ مَا يُعْجِبُكُمْ، وَقِلَّةِ مَا يَنْفَعُكُمْ»(2).

أسلوب الربط التاريخي

مسألة: من الحسن إتباع منهج وأسلوب ربط الحاضر بالتاريخ، لما فيه من العبرة والاعتبار والعظة والاتعاظ.

ص: 200


1- سورة الكهف: 45.
2- الكافي: ج8 ص17، كتاب الروضة، صحيفة علي بن الحسين (عليه السلام)... ح3.

..............................

وفي اقتباسها (صلوات الله عليها) من الآية الشريفة إشعار بذلك، وتنبيه على أن المنقلبين على الأعقاب قد سلكوا طريق بني إسرائيل الذين انقلبوا على موسى (عليه السلام) وقالوا: (اجعل لنا آلهة). قال تعالى: «وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَها كَمَا لَهمْ آلِهةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ»(1).

وفي الروايات أن أُمة الإسلام لها مواقف وعقبات كأُمة موسى (عليه السلام).

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لَتَرْكَبُنَّسُنَّةَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ، وَالْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ، وَلاَ تُخْطِئُون طَرِيقَتَهُمْ شِبْرٌ بِشِبْرٍ، وَذِرَاعٌ بِذِرَاعٍ، وَبَاعٌ بِبَاعٍ، حَتَّى أَنْ لَوْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ دَخَلَ جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ». قَالُوا: الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى تَعْنِي يَا رَسُولَ اللهِ؟. قَالَ: «فَمَنْ أَعْنِي، لَيُنْقَضُ عُرَى الإِسْلاَمِ عُرْوَةً عُرْوَةً، فَيَكُونُ أَوَّلُ مَا تَنْقُضُونَ مِنْ دِينِكُمُ الإِمَامَةَ، وَآخِرُهُ الصَّلاَةَ»(2).

وعن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) - فِي قَوْلِهِ: «لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ»(3) - قَالَ: «يَا زُرَارَةُ، أَ وَ لَمْ تَرْكَبْ هَذِهِ الأُمَّةُ بَعْدَ نَبِيِّهَا طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ فِي أَمْرِ فُلاَنٍ، وَفُلاَنٍ، وَفُلاَنٍ»(4).

وعن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده،عن أبيه الحسين بن علي بن أبي

ص: 201


1- سورة الأعراف: 138.
2- تفسير القمي: ج2 ص413، سورة الانشقاق: الآيات 1 إلى 25.
3- سورة الانشقاق: 19.
4- تفسير القمي: ج2 ص413، سورة الانشقاق: الآيات 1 إلى 25.

..............................

طالب (عليهم السلام)، قال: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ: إِنَّ أُمَّةَ مُوسَى (عليه السلام) افْتَرَقَتْ بَعْدَهُ عَلَى إِحْدَىوَسَبْعِينَ فِرْقَةً، فِرْقَةٌ مِنْهَا نَاجِيَةٌ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ. وَافْتَرَقَتْ أُمَّةُ عِيسَى (عليه السلام) بَعْدَهُ عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، فِرْقَةٌ مِنْهَا نَاجِيَةٌ وَإِحْدَى وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ. وَإِنَّ أُمَّتِي سَتَفَرَّقُ بَعْدِي عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، فِرْقَةٌ مِنْهَا نَاجِيَةٌ وَاثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ»(1).

وعن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «سَيَأْتِي عَلَى أُمَّتِي مَا أَتَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مِثْلٌ بِمِثْلٍ، وَإِنَّهُمْ تَفَرَّقُوا عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَسَتَفَرَّقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، تَزِيدُ عَلَيْهِمْ وَاحِدَةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ غَيْرَ وَاحِدَةٍ». قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا تِلْكَ الْوَاحِدَةُ؟. قَالَ: «هُوَ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ الْيَوْمَ، أَنَا وَأَهْلُ بَيْتِي»(2).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام)، أنه قال لرأس اليهود: «عَلَى كَمِ افْتَرَقْتُمْ؟». قَالَ: عَلَى كَذَا وَكَذَا فِرْقَةً. فَقَالَ (عليه السلام): «كَذَبْتَ». ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: «وَاللهِ، لَوْ ثُنِيَتْ لِيَ الْوِسَادَةُ لَقَضَيْتُ بَيْنَ أَهْلِ التَّوْرَاةِ بِتَوْرَاتِهِمْ، وَبَيْنَ أَهْلِالإِنْجِيلِ بِإِنْجِيلِهِمْ، وَبَيْنَ أَهْلِ الْقُرْآنِ بِقُرْآنِهِمْ. افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، سَبْعُونَ مِنْهَا فِي النَّارِ وَوَاحِدَةٌ نَاجِيَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَهِيَ الَّتِي اتَّبَعَتْ يُوشَعَ بْنَ نُونٍ وَصِيَّ مُوسَى (عليه السلام). وَافْتَرَقَتِ النَّصَارَى عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، إِحْدَى وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَهِيَ الَّتِي اتَّبَعَت

ص: 202


1- بحار الأنوار: ج28 ص4، الباب1 من كتاب الفتن والمحن، ح3.
2- بحار الأنوار: ج28 ص4، الباب1 من كتاب الفتن والمحن، ح4.

..............................

شَمْعُونَ وَصِيَّ عِيسَى (عليه السلام). وَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الأُمَّةُ عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، اثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ فِرْقَةً فِي النَّارِ وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَهِيَ الَّتِي اتَّبَعَتْ وَصِيَّ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) - وَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى صَدْرِهِ ثُمَّ قَالَ - ثَلاَثَ عَشْرَةَ فِرْقَةً مِنَ الثَّلاَثِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا تَنْتَحِلُ مَوَدَّتِي وَحُبِّي، وَاحِدَةٌ مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ وَهُمُ النَّمَطُ الأَوْسَطُ، وَاثْنَتَا عَشْرَةَ فِي النَّارِ»(1).

وعن أبي الصهبان البكري، قال: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) وَقَدْ دَعَا رَأْسَ الْجَالُوتِ وَأُسْقُفَّ النَّصَارَى، فَقَالَ: «إِنِّي سَائِلُكُمَا عَنْ أَمْرٍ، وَأَنَا أَعْلَمُ بِهِ مِنْكُمَا، فَلاَ تَكْتُمَانِي يَا رَأْسَالْجَالُوتِ بِالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى (عليه السلام) وَأَطْعَمَكُمُ الْمَنَّ وَ السَّلْوى، وَضَرَبَ لَكُمْ فِي الْبَحْرِ طَرِيقاً يَبَساً، وَفَجَّرَ لَكُمْ مِنَ الْحَجَرِ الطُّورِيِّ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ عَيْناً، لِكُلِّ سِبْطٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَيْناً، إِلاَّ مَا أَخْبَرْتَنِي عَلَى كَمِ افْتَرَقَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ بَعْدَ مُوسَى؟». فَقَالَ: وَلاَ إِلاَّ فِرْقَةً وَاحِدَةً. فَقَالَ: «كَذَبْتَ وَالَّذِي لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ، لَقَدِ افْتَرَقَتْ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلاَّ وَاحِدَةً؛ فَإِنَّ اللهَ يَقُولُ: «وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ»(2)، فَهَذِهِ الَّتِي تَنْجُو»(3).

ص: 203


1- بحار الأنوار: ج28 ص4-5، الباب1 من كتاب الفتن والمحن، ح5.
2- سورة الأعراف: 159.
3- بحار الأنوار: ج28 ص5-6، الباب1 من كتاب الفتن والمحن، ح7.

وَيْحَهُمْ

اشارة

-------------------------------------------

توبيخ الظالم وزجره

(ويح) اسم فعل تستعمل في مقام الترحم، وفي مقام التوبيخ والزجر، والمقام من الثاني، كما أن من المقام الأول قوله (صلى الله عليه وآله): «وَيْحَ عَمَّارٍ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ»(1)، وما أشبه ذلك مما هو كثير في كلماتهم (عليهم السلام) وكلمات البلغاء. وعن سيبويه: (ويح زجر لمن أشرف على الهلكة، وويل لمن وقع فيها) (2).

مسألة: توبيخ الظالم جائز، والمراد بالجواز هنا المعنى الأعم الشامل للواجب بشروطه.

مسألة: زجر الظالم جائز بالمعنى الأعم كما سبق، وقد سبق وجوبه في الجملة، ولو لم يحتمل التأثير لانطباق عناوين أخرى كردع الغير وإتمام الحجة وغير ذلك.قول الصديقة (عليها السلام): «وَيْحَهُمْ» زجر لهم وللأجيال القادمة، فإن القرآن الكريم والرسول العظيم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) جرى ديدنهم على توجيه الخطاب للحاضرين وإرادة الأعم منهم ومن الغائبين وقد سبق تفصيله.

ص: 204


1- نهج الحق وكشف الصدق: ص306، المسألة الخامسة في الإمامة، المبحث الخامس، ما جاء في كتب القوم من المطاعن، المطلب الرابع، معاوية وأصحابه هم الفئة الباغية.
2- مجمع البحرين: ج2 ص425، كتاب الحاء، باب ما أوله الواو، ويح.

..............................

عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ، يُتَّبَعُ فِيهِمْ قَوْمٌ، مُرَاءُونَ يَتَقَرَّءُونَ وَيَتَنَسَّكُونَ، حُدَثَاءُ سُفَهَاءُ، لاَ يُوجِبُونَ أَمْراً بِمَعْرُوفٍ، وَلاَ نَهْياً عَنْ مُنْكَرٍ، إِلاَّ إِذَا أَمِنُوا الضَّرَرَ، يَطْلُبُونَ لأَنْفُسِهِمُ الرُّخَصَ وَالْمَعَاذِيرَ، يَتَّبِعُونَ زَلاَّتِ الْعُلَمَاءِ وَفَسَادَ عَمَلِهِمْ، يُقْبِلُونَ عَلَى الصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ وَمَا لا يَكْلِمُهُمْ فِي نَفْسٍ وَلاَ مَالٍ، وَلَوْ أَضَرَّتِ الصَّلاَةُ بِسَائِرِ مَا يَعْمَلُونَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَبْدَانِهِمْ لَرَفَضُوهَا، كَمَا رَفَضُوا أَسْمَى الْفَرَائِضِ وَأَشْرَفَهَا.

إِنَّ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَرِيضَةٌ عَظِيمَةٌ بِهَا تُقَامُ الْفَرَائِضُ، هُنَالِكَ يَتِمُّ غَضَبُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِمْ فَيَعُمُّهُمْ بِعِقَابِهِ، فَيُهْلَكُ الأَبْرَارُ فِي دَارِ الْفُجَّارِ، وَالصِّغَارُ فِي دَارِ الْكِبَارِ.

إِنَّ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ سَبِيلُ الأَنْبِيَاءِ، وَمِنْهَاجُالصُّلَحَاءِ، فَرِيضَةٌ عَظِيمَةٌ بِهَا تُقَامُ الْفَرَائِضُ، وَتَأْمَنُ الْمَذَاهِبُ، وَتَحِلُّ الْمَكَاسِبُ، وَتُرَدُّ الْمَظَالِمُ، وَتُعْمَرُ الأَرْضُ، وَيُنْتَصَفُ مِنَ الأَعْدَاءِ، وَيَسْتَقِيمُ الأَمْرُ. فَأَنْكِرُوا بِقُلُوبِكُمْ، وَالْفِظُوا بِأَلْسِنَتِكُمْ، وَصُكُّوا بِهَا جِبَاهَهُمْ، وَلاَ تَخَافُوا فِي اللهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ، فَإِنِ اتَّعَظُوا وَإِلَى الْحَقِّ رَجَعُوا، فَلاَ سَبِيلَ عَلَيْهِمْ، «إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحقِّ أُولئِكَ لَهمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ»(1)، هُنَالِكَ فَجَاهِدُوهُمْ بِأَبْدَانِكُمْ، وَأَبْغِضُوهُمْ بِقُلُوبِكُمْ، غَيْرَ طَالِبِينَ سُلْطَاناً، وَلاَ بَاغِينَ مَالاً، وَلاَ مُرِيدِينَ بِظُلْمٍ ظَفَراً- حَتَّى يَفِيئُوا إِلَى أَمْرِ اللهِ، وَيَمْضُوا عَلَى طَاعَتِهِ.

ص: 205


1- سورة الشورى: 42.

..............................

قَالَ: وَأَوْحَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى شُعَيْبٍ النَّبِيِّ (صلوات الله وسلامه عليه): أَنِّي مُعَذِّبٌ مِنْ قَوْمِكَ مِائَةَ أَلْفٍ، أَرْبَعِينَ أَلْفاً مِنْ شِرَارِهِمْ، وَسِتِّينَ أَلْفاً مِنْ خِيَارِهِمْ. فَقَالَ (عليه السلام): يَا رَبِّ، هَؤُلاَءِ الأَشْرَارُ فَمَا بَالُ الأَخْيَارِ! فَأَوْحَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ: دَاهَنُوا أَهْلَ الْمَعَاصِي، وَلَمْ يَغْضَبُوا لِغَضَبِي»(1).وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «مَا قُدِّسَتْ أُمَّةٌ لَمْ يُؤْخَذْ لِضَعِيفِهَا مِنْ قَوِيِّهَا بِحَقِّهِ غَيْرَ مُتَعْتَعٍ»(2).

وعن أبي سعيد الزهري، عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «وَيْلٌ لِقَوْمٍ لاَ يَدِينُونَ اللهَ بِالأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ»(3).

وقال أبو جعفر (عليه السلام): «بِئْسَ الْقَوْمُ قَوْمٌ يَعِيبُونَ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ»(4).

وعن حسن، قال: خَطَبَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ:

«أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَيْثُ مَا عَمِلُوا مِنَ الْمَعَاصِي، وَلَمْ يَنْهَهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ ذَلِكَ، وَإِنَّهُمْ لَمَّا تَمَادَوْا فِي الْمَعَاصِي وَلَمْ يَنْهَهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ ذَلِكَ، نَزَلَتْ بِهِمُ الْعُقُوبَاتُ.

ص: 206


1- الكافي: ج5 ص55 - 56، كتاب الجهاد، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح1.
2- الكافي: ج5 ص56، كتاب الجهاد، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح2.
3- الكافي: ج5 ص56 - 57، كتاب الجهاد، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح4.
4- الكافي: ج5 ص57، كتاب الجهاد، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح5.

..............................

فَأْمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ لَمْ يُقَرِّبَا أَجَلاً، وَلَمْ يَقْطَعَا رِزْقاً. إِنَّ الأَمْرَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ كَقَطْرِ الْمَطَرِ إِلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا قَدَّرَ اللهُ لَهَا مِنْ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، فَإِنْ أَصَابَ أَحَدَكُمْ مُصِيبَةٌ فِي أَهْلٍ أَوْ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ، وَرَأَى عِنْدَ أَخِيهِ غَفِيرَةً فِي أَهْلٍ أَوْ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ، فَلاَ تَكُونَنَّ عَلَيْهِ فِتْنَةً.

فَإِنَّ الْمَرْءَ الْمُسْلِمَ لَبَرِيءٌ مِنَ الْخِيَانَةِ، مَا لَمْ يَغْشَ دَنَاءَةً تَظْهَرُ فَيَخْشَعُ لَهَا إِذَا ذُكِرَتْ، وَيُغْرَى بِهَا لِئَامُ النَّاسِ، كَانَ كَالْفَالِجِ الْيَاسِرِ الَّذِي يَنْتَظِرُ أَوَّلَ فَوْزَةٍ مِنْ قِدَاحِهِ تُوجِبُ لَهُ الْمَغْنَمَ، وَيُدْفَعُ بِهَا عَنْهُ الْمَغْرَمُ، وَكَذَلِكَ الْمَرْءُ الْمُسْلِمُ الْبَرِي ءُ مِنَ الْخِيَانَةِ، يَنْتَظِرُ مِنَ اللهِ تَعَالَى إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ:

إِمَّا دَاعِيَ اللهِ فَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لَهُ.

وَإِمَّا رِزْقَ اللهِ، فَإِذَا هُوَ ذُو أَهْلٍ وَمَالٍ وَمَعَهُ دِينُهُ وَحَسَبُهُ.

إِنَّ الْمَالَ وَ الْبَنِينَ حَرْثُ الدُّنْيَا، وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ حَرْثُ الآخِرَةِ، وَقَدْ يَجْمَعُهُمَا اللهُ لأَقْوَامٍ، فَاحْذَرُوا مِنَ اللهِ مَا حَذَّرَكُمْ مِنْ نَفْسِهِ، وَاخْشَوْهُ خَشْيَةً لَيْسَتْ بِتَعْذِيرٍ. وَ اعْمَلُوا فِي غَيْرِ رِيَاءٍ وَلاَ سُمْعَةٍ؛ فَإِنَّهُ مَنْ يَعْمَلْ لِغَيْرِ اللهِ يَكِلْهُ اللهُ إِلَى مَنْ عَمِلَ لَهُ، نَسْأَلُ اللهَ مَنَازِلَالشُّهَدَاءِ، وَمُعَايَشَةَ السُّعَدَاءِ، وَمُرَافَقَةَ الأَنْبِيَاءِ»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «أَمَرَنَا

ص: 207


1- الكافي: ج5 ص57 - 58، كتاب الجهاد، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح6.

..............................

رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) أَنْ نَلْقَى أَهْلَ الْمَعَاصِي بِوُجُوهٍ مُكْفَهِرَّةٍ»(1).

وعن محمد بن عرفة، قال: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ الرِّضَا (عليه السلام) يَقُولُ:

«كَانَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ: إِذَا أُمَّتِي تَوَاكَلَتِ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَلْيَأْذَنُوا بِوِقَاعٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى»(2).

ص: 208


1- الكافي: ج5 ص58 - 59، كتاب الجهاد، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح10.
2- الكافي: ج5 ص59، كتاب الجهاد، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح13.

«أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ....

اشارة

«أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ»(1)؟.

القائد والهداية إلى الحق

مسألة: يجب أن يكون القائد ممن يهدي إلى الحق.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «فَيَنْبَغِي أَنْ لاَ يَكُونَ الْخَلِيفَةُ عَلَى الأُمَّةِ إِلاَّ أَعْلَمَهُمْ بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ، وَقَدْ قَالَ اللهُ: «أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ»(2)، وَقَالَ: «وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجسْمِ»(3)، وَقَالَ: «أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ»(4)، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): مَا وَلَّتْ أُمَّةٌ قَطُّ أَمْرَهَا رَجُلاً وَفِيهِمْ أَعْلَمُ مِنْهُ إِلاَّ لَمْ يَزَلْ أَمْرُهُمْ يَذْهَبُ سَفَالاً، حَتَّى يَرْجِعُوا إِلَى مَا تَرَكُوا»(5).

وعن أبي جعفر (عليه السلام) - فِي قَوْلِهِ: «أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّاأَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ»(6) -:

ص: 209


1- سورة يونس: 35.
2- سورة يونس: 35.
3- سورة البقرة: 247.
4- سورة الأحقاف: 4.
5- كتاب سليم بن قيس الهلالي: ج2 ص651، الحديث الحادي عشر.
6- سورة يونس: 35.

..............................

«فَأَمَّا مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ فَهُمْ: مُحَمَّدٌ وَآلُ مُحَمَّدٍ مِنْ بَعْدِهِ، وَأَمَّا مَنْ «لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى» فَهُوَ: مَنْ خَالَفَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ أَهْلَ بَيْتِهِ مِنْ بَعْدِهِ»(1).

وقال الإمام الرضا (عليه السلام): «إِنَّ الأَنْبِيَاءَ وَالأَئِمَّةَ (صلوات الله عليهم) يُوَفِّقُهُمُ اللهُ، وَيُؤْتِيهِمْ مِنْ مَخْزُونِ عِلْمِهِ وَحِكَمِهِ مَا لاَ يُؤْتِيهِ غَيْرَهُمْ، فَيَكُونُ عِلْمُهُمْ فَوْقَ عِلْمِ أَهْلِ الزَّمَانِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: «أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ»(2)، وَقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: «وَمَنْ يُؤْتَ الْحكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً»(3)، وَقَوْلِهِ فِي طَالُوتَ: «إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ»(4)، وَقَالَ لِنَبِيِّهِ (صلى الله عليه وآله): «أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمتَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً»(5)، وَقَالَ فِي الأَئِمَّةِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّهِ وَعِتْرَتِهِ وَذُرِّيَّتِهِ (صلى الله عليه وآله): «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ

ص: 210


1- تفسير القمي: ج1 ص312، سورة يونس: الآيات 27 إلى 40.
2- سورة يونس: 35.
3- سورة البقرة: 269.
4- سورة البقرة: 247.
5- سورة النساء: 113.

..............................

وَالْحكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا * فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا»(1)،وَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اخْتَارَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لأُمُورِ عِبَادِهِ شَرَحَ صَدْرَهُ لِذَلِكَ، وَأَوْدَعَ قَلْبَهُ يَنَابِيعَ الْحِكْمَةِ، وَأَلْهَمَهُ الْعِلْمَ إِلْهَاماً، فَلَمْ يَعْيَ بَعْدَهُ بِجَوَابٍ، وَلاَ يُحَيَّرُ فِيهِ عَنِ الصَّوَابِ»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «لَقَدْ قَضَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (صلوات الله عليه) بِقَضِيَّةٍ مَا قَضَى بِهَا أَحَدٌ كَانَ قَبْلَهُ، وَكَانَتْ أَوَّلَ قَضِيَّةٍ قَضَى بِهَا بَعْدَ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللهِ (صلى

الله عليه وآله)، وَأَفْضَى الأَمْرُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ. فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: أَشَرِبْتَ الْخَمْرَ؟. فَقَالَ الرَّجُلُ: نَعَمْ. فَقَالَ: وَلِمَ شَرِبْتَهَا وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ؟. فَقَالَ: إِنَّنِي لَمَّا أَسْلَمْتُ وَمَنْزِلِيبَيْنَ ظَهْرَانَيْ قَوْمٍ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْتَحِلُّونَهَا، وَلَوْ أَعْلَمُ أَنَّهَا حَرَامٌ فَأَجْتَنِبُهَا. قَالَ: فَالْتَفَتَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى عُمَرَ، فَقَالَ: مَا تَقُولُ يَا أَبَا حَفْصٍ فِي أَمْرِ هَذَا الرَّجُلِ؟. فَقَالَ: مُعْضِلَةٌ وَأَبُو الْحَسَنِ لَهَا. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا غُلاَمُ، ادْعُ لَنَا عَلِيّاً. قَالَ عُمَرُ: بَلْ يُؤْتَى الْحَكَمُ فِي مَنْزِلِهِ. فَأَتَوْهُ وَمَعَهُ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ، فَأَخْبَرَهُ بِقِصَّةِ الرَّجُلِ، فَاقْتَصَّ عَلَيْهِ قِصَّتَهُ. فَقَالَ عَلِيٌّ (عليه السلام) لأَبِي بَكْرٍ: ابْعَثْ مَعَهُ مَنْ يَدُورُ بِهِ عَلَى مَجَالِسِ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، فَمَنْ كَانَ تَلا عَلَيْهِ آيَةَ التَّحْرِيمِ فَلْيَشْهَدْ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَلاَ عَلَيْهِ آيَةَ التَّحْرِيمِ، فَلاَ شَيْ ءَ عَلَيْهِ. فَفَعَلَ أَبُو بَكْرٍ بِالرَّجُلِ مَا قَالَ عَلِيٌّ (عليه السلام)، فَلَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَخَلَّى سَبِيلَهُ.

ص: 211


1- سورة النساء: 54- 55.
2- الكافي: ج1 ص202، كتاب الحجة، باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته، ح1.

..............................

فَقَالَ سَلْمَانُ لِعَلِيٍّ (عليه السلام): لَقَدْ أَرْشَدْتَهُمْ. فَقَالَ عَلِيٌّ (عليه السلام): إِنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أُجَدِّدَ تَأْكِيدَ هَذِهِ الآيَةِ فِيَّ وَفِيهِمْ: «أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ»(1)»(2).وعن أبي العزرمي، عن أبيه رفع الحديث إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قال: «مَنْ أَمَّ قَوْماً وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ وَأَفْقَهُ، لَمْ يَزَلْ أَمْرُهُمْ إِلَى سَفَالٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»(3).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْماً لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ، وَيُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ، وَيَصْرِفَ بِهِ النَّاسَ إِلَى نَفْسِهِ، يَقُولُ: أَنَا رَئِيسُكُمْ، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ - ثُمَّ قَالَ - إِنَّ الرِّئَاسَةَ لاَ تَصْلُحُ إِلاَّ لأَهْلِهَا، فَمَنْ دَعَا النَّاسَ إِلَى نَفْسِهِ وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ، لَمْ يَنْظُرِ اللهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(4).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِمَامُ الْقَوْمِ وَافِدُهُمْ، فَقَدِّمُوا أَفْضَلَكُمْ»(5).

وقال الإمام الباقر (عليه السلام): «إِنْ سَرَّكُمْ أَنْ تُزَكُّوا صَلاَتَكُمْ، فَقَدِّمُوا خِيَارَكُمْ»(6).

ص: 212


1- سورة يونس: 35.
2- الكافي: ج7 ص249، كتاب الحدود، باب من زنا أو سرق ... ح4.
3- ثواب الأعمال وعقاب الأعمال: ص206، عقاب من أم قوماً وفيهم من هو أعلم منه وأفقه.
4- الاختصاص: ص251، في بيان جملة من الحكم والمواعظ والوصايا عنهم (عليهم السلام).
5- وسائل الشيعة: ج8 ص347، تتمة كتاب الصلاة، الباب26 ح10867.
6- وسائل الشيعة: ج8 ص347، تتمة كتاب الصلاة، الباب26 ح10868.

وعن جعفر بن محمد، عن آبائه (عليهم السلام)، أن النبي (صلى الله عليه وآله)، قال: «إِنَّ أَئِمَّتَكُمْ وَفْدُكُمْ إِلَى اللهِ، فَانْظُرُوا مَنْ تُوفِدُونَ فِي دِينِكُمْ وَصَلَوَاتِكُمْ»(1).

وعن النبي (صلى الله عليه وآله)، قال: «مَنْ صَلَّى خَلْفَ عَالِمٍ، فَكَأَنَّمَا صَلَّى خَلْفَ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)»(2).

لا طاعة مطلقة لغير المعصوم

مسألة: لا يجوز اتباع القائد غير المعصوم بشكل مطلق وفي كافة الجهات، ولا إطاعة مطلقة لغير المعصوم (عليه السلام)، فمجرد أن يكون الشخص يهدي إلى الحق في جهة، لا يعني لزوم اتباعه في جميع الجهات، كما يفعل كثير من الناس.

فالقائد إذا كان قائداً سياسياً وفرض خبرويته واستقامته في هدايته السياسية للناس، فإنه لا يتبع في القضايا الاقتصادية، لعدم خبرته واستقامته وهدايته في هذا الجانب، كما يفعل الكثير من التعميم للاتباع.

ومثاله الواضح الذي ينبغي الالتفاتإليه: العديد ممن يتصف بالأخلاق وحسن السيرة أو التفوق في مجال من المجالات كالرياضة والطب وما أشبه، وهو غير خبير في السياسة والاقتصاد، فإنه لا يصح له الحكم فيهما ما دام ليس له العلم اللازم في ذلك.

فإنه لا يجوز اتباع من لا خبرة له لمجرد خبرته في شأن آخر، وهذا من مزال الأقدام.

ص: 213


1- وسائل الشيعة: ج8 ص347، تتمة كتاب الصلاة، الباب26 ح10869.
2- وسائل الشيعة: ج8 ص348، تتمة كتاب الصلاة، الباب26 ح10870.

..............................

وقد استخدم استخداماً غير صحيح من الطرفين، سلباً وإيجاباً، فيحتاج الأمر إلى تثبت شديد بلا إفراط ولا تفريط، وبدون أن يتخذ ذلك ذريعة للفرار من تحت راية الدين كما يحاول الاستعمار وأذنابه ذلك.

ومثاله الآخر: بعض المثقفين أو المفكرين، ممن يتجاوز نطاق اختصاصه ليفتي في شؤون الدين! فيحسبه البعض أنه حجة لازمة الاتباع، مع أنه لا اختصاص له فيه، ولا حجية لقوله، فإن مثل ذلك مثل من يتبع آراء الطبيب في القضايا الهندسية عندما يرى من حذاقة في الطب، أو بالعكس.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ اللهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعاً يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّىإِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالاً، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا»(1).

وعن النبي (صلى الله عليه وآله)، قال: «إِنِّي لاَ أَتَخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي مُؤْمِناً وَلاَ مُشْرِكاً، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَحْجُزُهُ إِيمَانُهُ، وَأَمَّا الْمُشْرِكُ فَيَقْمَعُهُ كُفْرُهُ، وَلَكِنْ أَتَخَوَّفُ عَلَيْكُمْ مُنَافِقاً عَلِيمَ اللِّسَانِ، يَقُولُ مَا تَعْرِفُونَ، وَيَعْمَلُ مَا تُنْكِرُونَ»(2).

وعن علي بن سويد السائي، قال: كَتَبَ إِلَيَّ أَبُو الْحَسَنِ الأَوَّلُ (عليه السلام) وَهُوَ فِي السِّجْنِ: «وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ - يَا عَلِيُّ - مِمَّنْ تَأْخُذُ مَعَالِمَ دِينِكَ، لاَ تَأْخُذَنَّ مَعَالِمَ دِينِكَ عَنْ غَيْرِ شِيعَتِنَا؛ فَإِنَّكَ إِنْ تَعَدَّيْتَهُمْ أَخَذْتَ دِينَكَ عَنِ الْخَائِنِينَ، الَّذِينَ خَانُوا اللهَ وَرَسُولَهُ،وَخَانُوا أَمَانَاتِهِمْ.إِنَّهُمُ اؤْتُمِنُوا عَلَى كِتَابِ اللهِ جَلَّ وَعَلاَ

ص: 214


1- بحار الأنوار: ج2 ص110، تتمة كتاب العقل والعلم والجهل، الباب15 ح19.
2- بحار الأنوار: ج2 ص110، تتمة كتاب العقل والعلم والجهل، الباب15 ح20.

..............................

فَحَرَّفُوهُ وَبَدَّلُوهُ، فَعَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ، وَلَعْنَةُ رَسُولِهِ وَمَلاَئِكَتِهِ، وَلَعْنَةُ آبَائِيَ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَلَعْنَتِي وَلَعْنَةُ شِيعَتِي إِلَى يَوْمِالْقِيَامَةِ»(1).

وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «اعْرِفُوا مَنَازِلَ شِيعَتِنَا بِقَدْرِ مَا يُحْسِنُونَ مِنْ رِوَايَاتِهِمْ عَنَّا؛ فَإِنَّا لاَ نَعُدُّ الْفَقِيهَ مِنْهُمْ فَقِيهاً حَتَّى يَكُونَ مُحَدَّثاً». فَقِيلَ لَهُ: أَ وَ يَكُونُ الْمُؤْمِنُ مُحَدَّثاً؟!. قَالَ (عليه السلام): «يَكُونُ مُفَهَّماً، وَالْمُفَهَّمُ مُحَدَّثٌ»(2).

من لا يهدّي لا يتبع

مسألة: لا يجوز اتباع من لا يهدي إلا أن يهدى.

وهذا تعريض من الصديقة (صلوات الله عليها) بمن غصب الخلافة من أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، فإنهم صرحوا بعدم هدايتهم في مواطن شتى، قال الثاني: (لَوْلاَ عَلِيٌّ لَهَلَكَ عُمَرُ) (3). وقال: (كُلُّ النَّاسِ أَفْقَهُ مِنْ عُمَرَ حَتَّى الْمُخَدَّرَاتُفِي الْحِجَالِ) (4). وغير ذلك (5).

ص: 215


1- بحار الأنوار: ج2 ص82، تتمة كتاب العقل والعلم والجهل، الباب14 ح2.
2- بحار الأنوار: ج2 ص82، تتمة كتاب العقل والعلم والجهل، الباب14 ح1.
3- البرهان في تفسير القرآن: ج1 ص374، سورة البقرة: آية 173، ح777.
4- بحار الأنوار: ج48 ص97، الباب4 من أبواب تاريخ الإمام الكاظم (عليه السلام).
5- يقول العلامة ابن شهرآشوب المازندراني في كتاب المناقب: (فأما قول عمر بن الخطاب في ذلك فكثير: رواه الخطيب في الأربعين، قال عمر: الْعِلْمُ سِتَّةُ أَسْدَاسٍ، لِعَلِيٍّ مِنْ ذَلِكَ خَمْسَةُ أَسْدَاسٍ، وَلِلنَّاسِ سُدُسٌ، وَلَقَدْ شَارَكَنَا فِي السُّدُسِ، حَتَّى لَهُوَ أَعْلَمُ بِهِ مِنَّا. ◄ ►عكرمة، عن ابن عباس، أن عمر بن الخطاب، قال له: يَا أَبَا الْحَسَنِ- إِنَّكَ لَتَعْجَلُ فِي الْحُكْمِ وَالْفَصْلِ لِلشَّيْءِ إِذَا سُئِلْتَ عَنْهُ. قَالَ: فَأَبْرَزَ عَلِيٌّ كَفَّهُ، وَقَالَ لَهُ: «كَمْ هَذَا؟». فَقَالَ عُمَرُ: خَمْسَةٌ. فَقَالَ: «عَجِلْتَ يَا أَبَا حَفْصٍ». قَالَ: لَمْ يَخْفَ عَلَيَّ. فَقَالَ عَلِيٌّ: «وَأَنَا أُسْرِعُ فِيمَا لاَ يَخْفَى عَلَيَّ». وَاسْتُعْجِمَ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَنَازَعَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ، فَكَتَبَا إِلَيْهِ أَنْ يَتَجَشَّمَ بِالْحُضُورِ. فَكَتَبَ إِلَيْهِمَا: «الْعِلْمُ يُؤْتَى وَلاَ يَأْتِي». فَقَالَ عُمَرُ: هُنَاكَ شَيْخٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، وَأَثَارَةٌ مِنْ عِلْمٍ، يُؤْتَى إِلَيْهِ وَلاَ يَأْتِي. فَصَارَ إِلَيْهِ فَوَجَدَهُ مُتَّكِئاً عَلَى مِسْحَاةٍ، فَسَأَلَهُ عَمَّا أَرَادَ، فَأَعْطَاهُ الْجَوَابَ. فَقَالَ عُمَرُ: لَقَدْ عَدَلَ عَنْكَ قَوْمُكَ، وَإِنَّكَ لأَحَقُّ بِهِ. فَقَالَ (عليه السلام): « «إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا» سورة النبأ: 17». يونس، عن عبيد، قال الحسن: إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَضِيهَةٍ لَيْسَ لَهَا عَلِيٌّ عِنْدِي حَاضِراً. إبانة ابن بُطَّةَ: كَانَ عُمَرُ يَقُولُ فِيمَا يَسْأَلُهُ عَنْ عَلِيٍّ فَيُفَرِّجُ عَنْهُ: لاَ أَبْقَانِيَ اللهُ بَعْدَكَ. تاريخ البلاذري: لاَ أَبْقَانِيَ اللهُ لِمُعْضِلَةٍ لَيْسَ لَهَا أَبُو الْحَسَنِ. الإبانة والفائق: أَعُوذُ بِاللهِ مِنْ مُعْضِلَةٍ لَيْسَ لَهَا أَبُو حَسَنٍ. وقد ظهر رجوعه إلى علي (عليه السلام) في ثلاث وعشرين مسألة، حتى قال: لَوْلاَ عَلِيٌّ لَهَلَكَ عُمَرُ، وقد رواه الخلق، منهم: أبو بكر بن عباس، وأبو المظفر السمعاني) راجع: مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) - ابن شهرآشوب: ج2 ص31، باب درجات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فصل في المسابقة بالعلم.

..............................

وكلامها (صلوات الله عليها) هذا اقتباس من الآية الكريمة في سورة يونس(1).

و(يهدّي) بالتشديد: بمعنى يهتدي.

وهذا قانون عقلي، فإن الهادي يجب أن يقتدى به، لا الشخص الذي

ص: 216


1- سورة يونس: 35.

..............................

لايتمكن بنفسه من الهداية إلا أن يُهدى، فإن هذا الشخص على قسمين، إما هو ضال فإنه لايصح إتباعه كما هو واضح، وإما هو غير مهتدٍ في ذاته لكن بهداية هادٍ اهتدى، فإن ذلك الهادي أحق بالاتباع.

فالغاصبون ضالون، وعلى رأي أصحابهم مفضولون بتصريحهم، فكيف يُتبعون؟!.

اتباع المهتدي طريقي وموضوعي

مسألة: هل وجوب إتباع من يهدي إلى الحق، كرسول الله (صلى الله عليه وآله) والأئمة الأطهار (عليهم السلام) طريقي أم موضوعي؟.

الظاهر أن فيه جانب الطريقية وجانب الموضوعية معاً.

إذ فيه الوصول إلى الواقع، وشيء من (المصلحة السلوكية) إن صح التعبير، وفي مضمون الروايات: من طلب الهداية من غير طريقنا أهل البيت ضل، وضل أي في الطلب نفسه، وربما في الوصول للمطلوب أيضاً.

قال أبو جعفر (عليه السلام) لسلمة بن كهيل والحكم بن عتيبة: «شَرِّقَا وَغَرِّبَا، فَلاَ تَجِدَانِ عِلْماً صَحِيحاً إِلاَّ شَيْئاً خَرَجَ مِنْ عِنْدِنَا أَهْلَ الْبَيْتِ»(1).

وعن الإمام الحجة (عليه السلام): (طلب المعارف من غير طريقنا أهل البيت مساوق لإنكارنا)(2).

ص: 217


1- الكافي: ج1 ص399، كتاب الحجة، باب أنه ليس شيء من الحق في يد الناس إلا ما خرج من عند الأئمة (عليهم السلام) وأن كل شيء لم يخرج من عندهم فهو باطل، ح3.
2- كان العالم الشهير الميرزا مهدي الإصفهاني (رحمة الله عليه) يدرس في النجف الأشرف وقد مال إلى التيارات الفلسفية وبقي في حيرة من أمره لا يدري ما هو الطريق؟ يقول الميرزا الإصفهاني: فذهبت إلى وادي السلام وجعلت أتوسل وأبكي لكي يهديني الله إلى الطريق الصحيح، وبينا أنا كذلك وإذا بنور ولي ّ الله الأعظم (عليه السلام) يشرق عليّ ورأيت عبارة كتبت بنور أخضر وهي: (طلب المعارف من غير طريقنا أهل البيت مساوق لإنكارنا، وقد أقامني الله وأنا الحجة بن الحسن). وهذه العبارة هي التي أنقذته من الضياع الفكري ورسمت له الخط الذي يجب أن يسلكه. وعاد الشيخ الإصفهاني من النجف الأشرف إلى مشهد المقدسة ورفع الراية المهدوية وكثير من الذين يرفعون راية المهدوية في إيران والعالم اليوم هم من تلاميذ الشيخ الإصفهاني ومدرسته.

..............................

ولا يستغرب ذلك، فإن الله أراد أن يطاع من حيث أمر، ولذلك استحق إبليس اللعن والإبعاد لأنه رفض السجود لآدم (عليه السلام) رغم أنه عرض على الله أن يسجد بدل ذلك لربه آلاف السنين.

كما لا تقبل طاعات الإنسان وإن عمل ما عمل إذا أنكر رسالة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فكما أن قبول الرسالة شرط قبول الأعمال، كذلك قبول الولاية، وكما أن (التوحيد) شرط قبول الأعمال كذلك قبول الرسالة والولاية، فلو أشرك الإنسان بالله ثم صلى أبد الدهر لم يقبل منه.

عن محمد بن مسلم، قال: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه

السلام) يَقُولُ: «لَيْسَ عِنْدَ أَحَدٍمِنَ النَّاسِ حَقٌّ وَلاَ صَوَابٌ، وَلاَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ يَقْضِي بِقَضَاءٍ حَقٍّ، إِلاَّ مَا خَرَجَ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ، وَإِذَا تَشَعَّبَتْ بِهِمُ الأُمُورُ كَانَ الْخَطَأُ مِنْهُمْ، وَالصَّوَابُ مِنْ عَلِيٍّ (عليه السلام)»(1).

ص: 218


1- الكافي: ج1 ص399، كتاب الحجة، باب أنه ليس شيء من الحق في يد الناس إلا ما خرج من عند الأئمة (عليهم السلام) وأن كل شيء لم يخرج من عندهم فهو باطل، ح1.

..............................

وعن زرارة، قال: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام). فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، يَسْأَلُهُ عَنْ قَوْلِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): سَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ، فَلاَ تَسْأَلُونِّي عَنْ شَيْءٍ إِلاَّ أَنْبَأْتُكُمْ بِهِ؟. قَالَ: «إِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ عِنْدَهُ عِلْمُ شَيْءٍ، إِلاَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)، فَلْيَذْهَبِ النَّاسُ حَيْثُ شَاءُوا، فَوَ اللهِ لَيْسَ الأَمْرُ إِلاَّ مِنْ هَاهُنَا»، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى بَيْتِهِ(1).

وعن معلى بن عثمان، عن أبي بصير، قال: قال لي: إِنَّ الْحَكَمَ بْنَ عُتَيْبَةَ مِمَّنْ قَالَ اللهُ: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْبِمُؤْمِنِينَ»(2)، فَلْيُشَرِّقِ الْحَكَمُ وَلْيُغَرِّبْ، أَمَا وَاللهِ لاَ يُصِيبُ الْعِلْمَ إِلاَّ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ نَزَلَ عَلَيْهِمْ جَبْرَئِيلُ»(3).

وعن سلاّم بن سعيد المخزومي، قال: بَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، إِذْ دَخَلَ عَلَيْهِ عَبَّادُ بْنُ كَثِيرٍ عَابِدُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَابْنُ شُرَيْحٍ فَقِيهُ أَهْلِ مَكَّةَ، وَعِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) مَيْمُونٌ الْقَدَّاحُ مَوْلَى أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام). فَسَأَلَهُ عَبَّادُ بْنُ كَثِيرٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، فِي كَمْ ثَوْبٍ كُفِّنَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله)؟. قَالَ: «فِي ثَلاَثَةِ أَثْوَابٍ، ثَوْبَيْنِ صُحَارِيَّيْنِ وَثَوْبٍ حِبَرَةٍ، وَكَانَ فِي الْبُرْدِ قِلَّةٌ». فَكَأَنَّمَا ازْوَرَّ عَبَّادُ بْنُ كَثِيرٍ مِنْ ذَلِكَ.

ص: 219


1- الكافي: ج1 ص399، كتاب الحجة، باب أنه ليس شيء من الحق في يد الناس إلا ما خرج من عند الأئمة (عليهم السلام) وأن كل شيء لم يخرج من عندهم فهو باطل، ح2.
2- سورة البقرة: 8.
3- الكافي: ج1 ص399- 400، كتاب الحجة، باب أنه ليس شيء من الحق في يد الناس إلا ما خرج من عند الأئمة (عليهم السلام) وأن كل شيء لم يخرج من عندهم فهو باطل، ح4.

..............................

فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): إِنَّ نَخْلَةَ مَرْيَمَ (عليها السلام) إِنَّمَا كَانَتْ عَجْوَةً، وَنَزَلَتْ مِنَ السَّمَاءِ، فَمَا نَبَتَ مِنْ أَصْلِهَا كَانَ عَجْوَةً، وَمَا كَانَ مِنْ لُقَاطٍ فَهُوَ لَوْنٌ. فَلَمَّا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ، قَالَ عَبَّادُبْنُ كَثِيرٍ لابْنِ شُرَيْحٍ: وَاللهِ، مَا أَدْرِي مَا هَذَا الْمَثَلُ الَّذِي ضَرَبَهُ لِي أَبُو عَبْدِ اللهِ. فَقَالَ ابْنُ شُرَيْحٍ: هَذَا الْغُلاَمُ يُخْبِرُكَ؛ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ يَعْنِي مَيْمُونٌ، فَسَأَلَهُ. فَقَالَ مَيْمُونٌ: أَمَا تَعْلَمُ مَا قَالَ لَكَ؟. قَالَ: لاَ وَاللهِ. قَالَ: إِنَّهُ ضَرَبَ لَكَ مَثَلَ نَفْسِهِ، فَأَخْبَرَكَ أَنَّهُ وَلَدٌ مِنْ وُلْدِ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، وَعِلْمُ رَسُولِ اللهِ عِنْدَهُمْ، فَمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِهِمْ فَهُوَ صَوَابٌ، وَمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِهِمْ فَهُوَ لُقَاطٌ(1).

وعن أبي بصير، قال: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) عَنْ شَهَادَةِ وَلَدِ الزِّنَا تَجُوزُ؟. فَقَالَ: «لاَ». فَقُلْتُ: إِنَّ الْحَكَمَ بْنَ عُتَيْبَةَ يَزْعُمُ أَنَّهَا تَجُوزُ. فَقَالَ: «اللَّهُمَّ لاَ تَغْفِرْ ذَنْبَهُ، مَا قَالَ اللهُ لِلْحَكَمِ: «إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ»(2)، فَلْيَذْهَبِ الْحَكَمُ يَمِيناً وَشِمَالاً، فَوَ اللهِ لاَ يُؤْخَذُ الْعِلْمُ إِلاَّ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ نَزَلَ عَلَيْهِمْ جَبْرَئِيلُ (عليه السلام)»(3).

يقول الشاعر:

ص: 220


1- الكافي: ج1 ص400، كتاب الحجة، باب أنه ليس شيء من الحق في يد الناس إلا ما خرج من عند الأئمة (عليهم السلام) وأن كل شيء لم يخرج من عندهم فهو باطل، ح6.
2- سورة الزخرف: 44.
3- الكافي: ج1 ص400، كتاب الحجة، باب أنه ليس شيء من الحق في يد الناس إلا ما خرج من عند الأئمة (عليهم السلام) وأن كل شيء لم يخرج من عندهم فهو باطل، ح5.

..............................

لو أن عبداً أتى بالصالحات غداً *** وود كل نبي مرسل وولي

وقام ما قام قواماً بلا كسل *** وصام ما صام صواماً بلا ملل

وحج ما حج من فرض ومن سنن *** وطاف بالبيت حاف غير منتعل

وطار في الجو لا يأوي إلى أحد *** وغاص في البحر لا يخشى من البلل

وعاش في الناس آلافاً مؤلفة *** خلواً من الذنب معصوماً من الزلل

يكسو اليتامى من الديباج كلهم *** ويطعم البائسين البُر بالعسل

ما كان في الحشر عند الله منتفعاً *** إلا بحب أمير المؤمنين علي

ص: 221

أَمَا لَعَمْرِي

اشارة

-------------------------------------------

الحلف ب (لعمري)

مسألة: يجوز الحلف بهذه الكلمة (لعمري) ويمكن إضافتها إلى مختلف الضمائر، مثل: (لعمرك)، (لعمره)، (لعمرها)، (لعمرنا) وهكذا، كما حلفت الصديقة الطاهرة (صلوات الله عليها).

ولا يتوهم من اختصاص الحلف بالله تبارك وتعالى عدم جواز غيره، بل المقصود أن بعض الأحكام الفقهية للقسم مختصة بالقسم بالله عزَّ وجل كما في لزوم الوفاء وترتب الحنث والكفارة وبعض مسائل القضاء وما أشبه، وإلا فأصل الحلف بغير الله جائز، كما ورد كثيراً في القرآن الكريم والسنة المطهرة.

قال تعالى: «وَالنَّجْمِ إِذا هَوَى»(1).

وقال سبحانه: «لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ»(2).

وقال تعالى: «وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ»(3).وقال سبحانه: «وَالضُّحَى»(4).

ص: 222


1- سورة النجم: 1.
2- سورة الحجر: 72.
3- سورة الطارق: 1.
4- سورة الضحى: 1.

..............................

وقال تعالى: «وَالْعَصْرِ»(1).

وقال سبحانه: «وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى»(2).

وقال تعالى: «وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا»(3).

وقال سبحانه: «وَالْفَجْرِ»(4).

وكذلك قوله تعالى: «لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ»(5) بناءً على كون لا زائدة، بل وإن لم تكن زائدة على ما ذهبنا إليه فإنه نوع قسم.

و(عَمْر) وجمعه (أعمار) بمعنى الحياة، أو خصوص الحياة الطويلة، والأول أظهر.

فالصديقة (صلوات الله عليها) تقسم بعمرها وحياتها وما أقدس عمرها وحياتها، فإنها (عليها السلام) محور عالم الإمكان، ففي الحديث القدسي: «يا أحمد، لولاك لماخلقت الأفلاك، ولولا علي لما خلقتك، ولولا فاطمة لما خلقتكما».

ولا يستغرب ذلك فإنها (عليها السلام) العلة المبقية، ولولاها لم يفِ الغرض بخلق الرسول (صلى الله عليه وآله) وخلق علي أمير المؤمنين (عليه السلام)، وكان عدم

ص: 223


1- سورة العصر: 1.
2- سورة الليل: 1.
3- سورة الشمس: 1.
4- سورة الفجر: 1.
5- سورة البلد: 1.

..............................

خلقها (عليها السلام) نقضاً للغرض، على تفصيل مذكور في محله.

كما لا ينبغي أن يتوهم منه أفضلية الصديقة (عليها السلام) عليهما (صلوات الله عليهما)، إذ الرسول (صلى الله عليه وآله) أفضل منها بلا شك، والإمام علي (عليه السلام) كفو لها، وقيل بأنه أفضل منها، ولا يلزم من كون الشيء الجزء الأخير المحقق للغرض كونه أفضل، كما أن الأمر كذلك بالنسبة لخاتم الأوصياء الإمام المهدي المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، فإنه لولاه لما خلق الله محمداً وعلياً وسائر الأئمة (عليهم السلام) بنفس الملاك.

و(عمْر) يستعمل إضافة إلى الإنسان، كما يستعمل إضافة إلى الله تعالى، فيقال (لعمر الله). وهو مبتدأ، وخبره (قسمي) المقدر، وهكذا (لعمره) و(لعمرك).

والظاهر أن الضمير في (لعمرك) كما في قوله تعالى: «لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْيَعْمَهُونَ»(1)، هو كل من له شأنية الاستماع، ومن يتأتى منه استماعه، فهو مثل قوله تعالى: «وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُؤُسِهِمْ»(2). وإن كان بعض آيات القسم أو الخطاب خاصاً برسول الله (صلى الله عليه وآله)، مثل: «إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ»(3) وما أشبه ذلك.

ص: 224


1- سورة الحجر: 72.
2- سورة السجدة: 12.
3- سورة الكوثر: 1.

..............................

حرمة الشك والتشكيك في كلام الصديقة

مسألة: يحرم تكذيب مثل فاطمة الزهراء (عليها السلام)، أو التشكيك في كلامها، وحتى الشك فيما لو كانت مقدماته اختيارية.

وفي غير الاختياري لابد من العمل على المقدمات، فيقوي إيمانه بالله والرسول (صلى الله عليه وآله) والعترة الطاهرة (عليهم السلام).

وتشتد الحرمة في ما كان لمثلها (صلوات الله عليها) به عناية، أو ما زادت التأكيد عليه، كما في المقام حيث أقسمت (صلوات الله عليها) بعمرها.فلا يجوز التشكيك بكلامها المجرد عن القسم فكيف بما إذا أقسمت.

عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «الْكَذِبُ عَلَى اللهِ، وَعَلَى رَسُولِ اللهِ، وَعَلَى الأَوْصِيَاءِ، مِنَ الْكَبَائِرِ». وَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ قَالَ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقَلُّهُ، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»(1).

وعن أبي النعمان، قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): «يَا أَبَا النُّعْمَانِ، لاَتَكْذِبْ عَلَيْنَا كَذِبَةً فَتُسْلَبَ الْحَنِيفِيَّةَ، وَلاَ تَطْلُبَنَّ أَنْ تَكُونَ رَأْساً فَتَكُونَ ذَنَباً، وَلاَ تَسْتَأْكِلِ النَّاسَ بِنَا فَتَفْتَقِرَ؛ فَإِنَّكَ مَوْقُوفٌ لاَ مَحَالَةَ وَمَسْئُولٌ، فَإِنْ صَدَقْتَ صَدَّقْنَاكَ، وَإِنْ كَذَبْتَ كَذَّبْنَاكَ»(2).

وعن أبي بصير، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ الْكَذِبَةَ

ص: 225


1- المحاسن: ج1 ص118، 60عقاب الكذب على الله وعلى رسول الله وعلى الأوصياء، ح127.
2- الكافي: ج2 ص338، كتاب الإيمان والكفر، باب الكذب، ح1.

..............................

لَتُفَطِّرُ الصَّائِمَ». قُلْتُ: وَأَيُّنَا لاَ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ!. قَالَ: «لَيْسَ حَيْثُ ذَهَبْتَ، إِنَّمَا ذَلِكَ الْكَذِبُ عَلَى اللهِ، وَعَلَى رَسُولِهِ، وَعَلَىالأَئِمَّةِ (صلوات الله عليهم)»(1).

وعن أحمد بن محمد بن عيسى، عن بعض أصحابه، رفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: ذُكِرَ الْحَائِكُ لأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) أَنَّهُ مَلْعُونٌ. فَقَالَ: «إِنَّمَا ذَاكَ الَّذِي يَحُوكُ الْكَذِبَ عَلَى اللهِ وَعَلَى رَسُولِهِ (صلى الله عليه وآله)»(2).

وعن جابر بن يزيد الجعفي، قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): «مَا أَحَدٌ أَكْذَبَ عَلَى اللهِ وَلاَ عَلَى رَسُولِهِ، مِمَّنْ كَذَّبَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ، أَوْ كَذَبَ عَلَيْنَا؛ لأَنَّا إِنَّمَا نُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) وَعَنِ اللهِ، فَإِذَا كَذَّبَنَا فَقَدْ كَذَّبَ اللهَ وَرَسُولَهُ»(3).

ص: 226


1- الكافي: ج2 ص340، كتاب الإيمان والكفر، باب الكذب، ح9.
2- الكافي: ج2 ص340، كتاب الإيمان والكفر، باب الكذب، ح10.
3- مستدرك الوسائل: ج9 ص91- 92، تتمة كتاب الحج، الباب121 من تتمة أبواب أحكام العشرة في السفر والحضر، ح10309.

لَقَدْ لَقِحَتْ

اشارة

-------------------------------------------

الأثر الوضعي وأنواعه

مسألة: الأثر الوضعي هو نوع جزاء للإنسان، فالصديقة (صلوات الله عليها) تصرح بأن ما فعله القوم كان علة، وهذا الأثر الوضعي وهو الحمل بالفتنة هو المعلول، فهم الملامون، وهم الذين يتحملون مسؤولية قبيح أفعالهم كاملاً.

وهكذا تكون لكثير من الذنوب الآثار الوضعية من تغيير النعم وزوالها وما أشبه.

عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «الذُّنُوبُ الَّتِي تُغَيِّرُ النِّعَمَ: الْبَغْيُ، وَالذُّنُوبُ الَّتِي تُورِثُ النَّدَمَ: الْقَتْلُ، وَالَّتِي تُنْزِلُ النِّقَمَ: الظُّلْمُ، وَالَّتِي تَهْتِكُ السِّتْرَ: شُرْبُ الْخَمْرِ، وَالَّتِي تَحْبِسُ الرِّزْقَ: الزِّنَا، وَالَّتِي تُعَجِّلُ الْفَنَاءَ: قَطِيعَةُ الرَّحِمِ، وَالَّتِي تَرُدُّ الدُّعَاءَ وَتُظْلِمُ الْهَوَاءَ: عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ»(1).

وعن إسحاق بن عمار، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه

السلام) يَقُولُ: «كَانَ أَبِي (عليه السلام) يَقُولُ: نَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِيتُعَجِّلُ الْفَنَاءَ، وَتُقَرِّبُ الآجَالَ، وَتُخْلِي الدِّيَارَ، وَهِيَ: قَطِيعَةُ الرَّحِمِ، وَالْعُقُوقُ، وَتَرْكُ الْبِرِّ»(2).

وعن صفوان بن يحيى، قال: حَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «إِذَا فَشَا أَرْبَعَةٌ ظَهَرَتْ أَرْبَعَةٌ: إِذَا فَشَا الزِّنَا ظَهَرَتِ الزَّلْزَلَةُ، وَإِذَا

ص: 227


1- الكافي: ج2 ص447 - 448، كتاب الإيمان والكفر، باب في تفسير الذنوب ، ح1.
2- الكافي: ج2 ص448، كتاب الإيمان والكفر، باب في تفسير الذنوب ، ح2.

..............................

فَشَا الْجَوْرُ فِي الْحُكْمِ احْتَبَسَ الْقَطْرُ، وَإِذَا خُفِرَتِ الذِّمَّةُ أُدِيلَ لأَهْلِ الشِّرْكِ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ، وَإِذَا مُنِعَتِ الزَّكَاةُ ظَهَرَتِ الْحَاجَةُ»(1).

شمولية الأثر الوضعي

مسألة: الأثر الوضعي غير خاص بالفعل، بل إن التفكير أيضاً له أثر وضعي، والتصديق والتكذيب، والنية الصالحة والطالحة، والرضا بفعل والسخط عليه، وكذلك الكلام، وهكذا مختلف أنواعالتصرفات الجوانحية والجوارحية، كل منها له (لقاح) وله (نظرة ريثما ينتج).

(لقد لقحت) لقح أي حمل، ولقحت الدابة: حملت، ولقحت الحرب: هاجت بعد سكن.

والمعنى أن هذه الفتنة التي أشعلوا نارها، وهذا الانقلاب على رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي قاموا به، حملت بمآسي ومشاكل وفجائع كبرى ستظهر بعد حين.

وقد ورد في الزيارة: «فَحُشِرَ سِفْلَةُ الأَعْرَابِ، وَبَقَايَا الأَحْزَابِ، إِلَى دَارِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَمَهْبِطِ الْوَحْيِ وَالْمَلائِكَةِ، وَمُسْتَقَرِّ سُلْطَانِ الْوَلاَيَةِ، وَمَعْدِنِ الْوَصِيَّةِ وَالْخِلاَفَةِ وَالإِمَامَةِ، حَتَّى نَقَضُوا عَهْدَ الْمُصْطَفَى فِي أَخِيهِ عَلَمِ الْهُدَى، وَالْمُبَيِّنِ طَرِيقَ النَّجَاةِ مِنْ طُرُقِ الرَّدَى، وَجَرَحُوا كَبِدَ خَيْرِ الْوَرَى، فِي ظُلْمِ ابْنَتِهِ،

ص: 228


1- الكافي: ج2 ص448، كتاب الإيمان والكفر، باب في تفسير الذنوب ، ح3.

..............................

وَاضْطِهَادِ حَبِيبَتِهِ، وَاهْتِضَامِ عَزِيزَتِهِ، وَبَضْعَةِ لَحْمِهِ، وَفِلْذَةِ كَبِدِهِ، وَخَذَلُوا بَعْلَهَا، وَصَغَّرُوا قَدْرَهُ، وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُ، وَقَطَعُوا رَحِمَهُ، وَأَنْكَرُوا أُخُوَّتَهُ، وَهَجَرُوا مَوَدَّتَهُ، وَنَقَضُوا طَاعَتَهُ، وَجَحَدُوا وَلايَتَهُ، وَأَطْمَعُوا الْعَبِيدَ فِي خِلاَفَتِهِ،وَقَادُوهُ إِلَى بَيْعَتِهِمْ، مُصْلِتَةً سُيُوفَهَا، مُشْرِعَةً أَسِنَّتَهَا، وَهُوَ سَاخِطُ الْقَلْبِ، هَائِجُ الْغَضَبِ، شَدِيدُ الصَّبْرِ، كَاظِمُ الْغَيْظِ، يَدْعُونَهُ إِلَى بَيْعَتِهِمُ الَّتِي عَمَّ شُؤْمُهَا الإِسْلاَمَ، وَزَرَعَتْ فِي قُلُوبِ أَهْلِهَا الآثَامَ، وَعَقَّتْ سَلْمَانَهَا، وَطَرَدَتْ مِقْدَادَهَا، وَنَفَتْ جُنْدَبَهَا، وَفَتَقَتْ بَطْنَ عَمَّارِهَا، وَحَرَّفَتِ الْقُرْآنَ، وَبَدَّلَتِ الأَحْكَامَ، وَغَيَّرَتِ الْمَقَامَ، وَأَبَاحَتِ الْخُمُسَ لِلطُّلَقَاءِ، وَسَلَّطَتْ أَوْلاَدَ اللُّعَنَاءِ عَلَى الْفُرُوجِ، وَخَلَطَتِ الْحَلالَ بِالْحَرَامِ، وَاسْتَخَفَّتْ بِالإِيمَانِ وَالإِسْلاَمِ، وَهَدَمَتِ الْكَعْبَةَ، وَأَغَارَتْ عَلَى دَارِ الْهِجْرَةِ يَوْمَ الْحَرَّةِ، وَأَبْرَزَتْ بَنَاتِ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ لِلنَّكَالِ وَالسَّوْءَةِ، وَأَلْبَسَتْهُنَّ ثَوْبَ الْعَارِ وَالْفَضِيحَةِ، وَرَخَّصَتْ لأَهْلِ الشُّبْهَةِ فِي قَتْلِ أَهْلِ بَيْتِ الصَّفْوَةِ، وَإِبَادَةِ نَسْلِهِ، وَاستيطال [اسْتِيصَالِ] شَافَتِهِ، وَسَبْيِ حَرَمِهِ، وَقَتْلِ أَنْصَارِهِ، وَكَسْرِ مِنْبَرِهِ، وَقَلْبِ مَفْخَرِهِ، وَإِخْفَاءِ دِينِهِ، وَقَطْعِ ذِكْرِهِ»(1).

الآثار الطولية للأعمال

مسألة: يحمل الإنسان إثم ومسؤولية كل ما نتج عن أفعاله، سواء كانت آثاراًمباشرة أو بالواسطة، فإن الآثام الطولية هي آثار للمعاصي، سواء علم بأن

ص: 229


1- المزار الكبير لابن المشهدي: ص297 - 298، ق3 ب3 ح14 زيارة جامعة لسائر الأئمة (صلوات الله عليهم).

..............................

ذلك سينتج كل تلك الآثار أم لم يعلم، فلو قتل امرأة فمات رضيعها على أثر موتها، يعاقب في الآخرة عقوبتين(1)، وإن لم يعلم بوجود رضيع لها، أو وإن لم يقصد ذلك.

ولذلك فإن كل المعاصي والآثام على مرور الأزمان والدهور آثامها على كاهل الأول والثاني، فإنهما السبب في انحراف وفساد العالم بأجمعه.

قال ابن الخطاب: (مُتْعَتَانِ كَانَتَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ، أَنَا أَنْهَى عَنْهُمَا وَمُعَاقِبٌ عَلَيْهِمَا) (2).

وقال الحكم بن عيينة، قال علي (عليه السلام): «لَوْلاَ أَنَّ عُمَرَ نَهَى عَنِ الْمُتْعَةِ، مَا زَنَى إِلاَّ شَقِيٌّ»(3).وعن عبد الله بن سليمان، قال: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) يَقُولُ: «كَانَ عَلِيٌّ (عليه السلام) يَقُولُ: لَوْلاَ مَا سَبَقَنِي بِهِ بَنِي الْخَطَّابِ، مَا زَنَى إِلاَّ شَقِيٌّ»(4).

وعن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إِنَّ عُمَرَ لَمَّا وُلِّيَ خَطَبَ عَلَى مِنْبَرِ مَكَّةَ. فَقَالَ: أَمْرَانِ حَلاَلٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَأَنَا أَضْرِبُكُمْ عَلَيْهِمَا، وَأَنْهَاكُمْ عَنْهُمَا: مُتْعَةُ النِّسَاءِ، وَمُتْعَةُ الْحَجِّ. ثُمَّ نَزَلَ، فَأَتَاهُ عُنُقٌ مِنَ النَّاسِ فَقَالُوا... قَالَ: مَا نَظَرْتُ فِي ذَلِكَ إِلاَّ لَكُمْ، نَظَرْتُ إِلَى مَكَّةَ، فَرَأَيْتُهَا جَدْبَةً

ص: 230


1- أما بالنسبة إلى العقوبة الدنيوية فهي خاضعة للموازين الشرعية المذكورة في باب القصاص والحدود والقضاء وما أشبه.
2- فقه القرآن: ج2 ص106، كتاب النكاح، باب المتعة وأحكامها.
3- فقه القرآن: ج2 ص106، كتاب النكاح، باب المتعة وأحكامها.
4- الكافي: ج 5 ص448، كتاب النكاح، أبواب المتعة، ح2.

..............................

سَدِيدَةَ الْمَعِيشِ. فَقُلْتُ: إِذَا دَخَلَ النَّاسُ مُتَمَتِّعِينَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ قَائِماً لَهُمْ سُوقٌ وَاحِدَةٌ فِي السَّنَةِ، وَإِذَا أَخَذَتْهُمْ بِالْعُمْرَةِ عَلَى وَاحِدَةٍ، وَالْحَجُّ عَلَى وَاحِدَةٍ، كَانَ لَهُمْ سُوقَانِ فِي السَّنَةِ، فَهُوَ عَيْشٌ لَهُمْ. وَأَمَّا مُتْعَةُ النِّسَاءِ، فَمَنْ ذَا الَّذِي يَطِيبُ نَفْسُهُ أَنْ يُزَوِّجَ أُخْتَهُ وَابْنَتَهُ وَخَالَتَهُ وَعَمَّتَهُ رَجُلاً لاَ يَدْرِي مَنْ هُوَ وَلاَ نِسْبَتَهُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ يَأْخُذُ الرَّجُلُ الطَّرِيقَ فَيَذْهَبُ، فَيَلِدُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلاَ يَدْرِي إِلَى مَنْ يَنْسُبُهُ. قَالَ: فَخَرَجُوا يُصَفِّقُونَبِأَيْدِيهِمْ، وَيَقُولُونَ: الْقَوْلُ قَوْلُهُ». قَالَ: فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «لَوْلاَ مَا هُوَ مَا زَنَى إِلاَّ شَقِيٌ»(1).

ومن كتاب لأمير المؤمنين (عليه السلام) كتبه لمعاوية (لعنه الله)، قال: «وَاللهِ، لَقَدْ أَخْبَرَنِي رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) وَعَرَّفَنِي، أَنَّهُ رَأَى عَلَى مِنْبَرِهِ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلاً أَئِمَّةَ ضَلاَلٍ مِنْ قُرَيْشٍ، يَصْعَدُونَ مِنْبَرَ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) وَيَنْزِلُونَ، عَلَى صُورَةِ الْقُرُودِ، يَرُدُّونَ أُمَّتَهُ عَلَى أَدْبَارِهُمْ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، قَدْ خَبَّرَنِي بِأَسْمَائِهِمْ رَجُلاً رَجُلاً، وَكَمْ يَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ، عَشَرَةٌ مِنْهُمْ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ، وَرَجُلاَنِ مِنْ حَيَّيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ، عَلَيْهِمَا مِثْلُ أَوْزَارِ الأُمَّةِ جَمِيعاً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمِثْلُ جَمِيعِ عَذَابِهِمْ، فَلَيْسَ مِنْ دَمٍ يُهَرَاقُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ، وَلاَ فَرْجٍ يُغْشَى حَرَاماً، وَلاَ حُكْمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ، إِلاَّ كَانَ عَلَيْهِمَا وِزْرُهُ. وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: إِنَّ بَنِي الْعَاصِ إِذَا بَلَغُوا ثَلاَثِينَ رَجُلاً، جَعَلُوا كِتَابَ اللهِ دَخَلاً، وَعِبَادَ اللهِ خَوَلاً، وَمَالَ اللهِ دُوَلاً»(2).

ص: 231


1- الدعوات للراوندي: ص111 - 112، ما يعمل في طول الدهر 250.
2- كتاب سليم بن قيس الهلالي: ج2 ص766 - 767، الحديث الخامس والعشرون.

..............................

وعن المنذر الثوري، قال: سَمِعْتُ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ (عليهما السلام) يَقُولُ: «إِنَّ ابن أبي قحافة وابن الخطاب عَمَدَا إِلَى الأَمْرِ - وَهُوَ لَنَا كُلُّهُ - فَجَعَلاَ لَنَا فِيهِ سَهْماً كَسَهْمِ الْجَدَّةِ. أَمَا وَاللهِ لَتَهْمِزُ بِهِمَا أَنْفُسُهُمَا، يَوْمَ يَطْلُبُ النَّاسُ فِيهِ شَفَاعَتَنَا»(1).

وروي عنه (عليه السلام) أنه سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ ابن أبي قحافة وابن الخطاب فَقَالَ: «وَاللهِ لَقَدْ ضَيَّعَانَا، وَذَهَبَا بِحَقِّنَا، وَجَلَسَا مَجْلِساً كُنَّا أَحَقَّ بِهِ مِنْهُمَا، وَوَطِئَا عَلَى أَعْنَاقِنَا، وَحَمَلاَ النَّاسَ عَلَى رِقَابِنَا»(2).

وعن أبي الجارود زياد بن المنذر، قال: سُئِلَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (عليهما السلام) عَنْ ابن أبي قحافة وابن الخطاب، فَقَالَ: «أَضَعَنَا بِآيَاتِنَا، وَاضْطَجَعَا بِسَبِيلِنَا، وَحَمَلاَ النَّاسَ عَلَى رِقَابِنَا»(3).وعن القاسم بن مسلم، قال: كُنْتُ مَعَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (عليهما السلام) بِيَنْبُعَ يَدِي فِي يَدِهِ، فَقُلْتُ: مَا تَقُولُ فِي هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ، أَ تَبْرَأُ مِنْ عَدُوِّهِمَا؟. فَغَضِبَ وَرَمَى بِيَدِهِ مِنْ يَدِي، ثُمَّ قَالَ: «وَيْحَكَ - يَا قَاسِمُ - هُمَا أَوَّلُ مَنْ أَضَعَنَا بِآيَاتِنَا، وَاضْطَجَعَا بِسَبِيلِنَا، وَحَمَلاَ النَّاسَ عَلَى رِقَابِنَا، وَجَلَسَا مَجْلِساً كُنَّا أَحَقَّ

ص: 232


1- تقريب المعارف: ص243، ق2، النكير على الرجلين وأمور متفرقة، نكير الإمام الحسين (عليه السلام).
2- تقريب المعارف: ص243 - 244، ق2، النكير على الرجلين وأمور متفرقة، نكير الإمام الحسين (عليه السلام).
3- تقريب المعارف: ص244، ق2، النكير على الرجلين وأمور متفرقة، نكير الإمام السجاد (عليه السلام).

..............................

بِهِ مِنْهُمَا»(1).

وعن كثير النواء، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: سَأَلْتُهُ عَنْ ابن أبي قحافة وابن الخطاب؟. فَقَالَ: «هُمَا أَوَّلُ مَنِ انْتَزَى عَلَى حَقِّنَا، وَحَمَلاَ النَّاسَ عَلَى أَعْنَاقِنَا وَأَكْتَافِنَا، وَأَدْخَلاَ الذُّلَّ بُيُوتَنَا»(2).

وعن بشير، قال: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) عَنْ ابن أبي قحافة وابن الخطاب, فَلَمْ يُجِبْنِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَلَمْيُجِبْنِي، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الثَّالِثَةِ، قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، أَخْبِرْنِي عَنْهُمَا؟. فَقَالَ: «مَا قُطِرَتْ قَطْرَةُ دَمٍ مِنْ دِمَائِنَا، وَلاَ مِنْ دِمَاءِ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، إِلاَّ وَهِيَ فِي أَعْنَاقِهِمَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»(3).

ص: 233


1- تقريب المعارف: ص244، ق2، النكير على الرجلين وأمور متفرقة، نكير الإمام السجاد (عليه السلام).
2- تقريب المعارف: ص245، ق2، النكير على الرجلين وأمور متفرقة، نكير الإمام الباقر (عليه السلام).
3- تقريب المعارف: ص245، ق2، النكير على الرجلين وأمور متفرقة، نكير الإمام الباقر (عليه السلام).

فَنَظِرَةٌ رَيْثَمَا تُنْتَجُ،

اشارة

-------------------------------------------

وجوب تحذير الظالم

مسألتان: يجب في الجملة تحذير الظالم وتنبيهه لعواقب ظلمه، كما يجب تنبيه الناس لعواقب ظلم الظالم عليهم، وما سيترتب على ذلك من المشاكل والمساوئ والمآسي والفجائع والعقوبات.

ووجوب التحذير والتنبيه ليس خاصاً بما إذا علم أو ظن أو احتمل التأثير، بل ربما حتى إذا علم بعدمه، في صورة كونه معذرة، قال تعالى: «وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ»(1)، وإتماماً للحجة، قال سبحانه: «رُسُلًا مُبَشِّرينَ وَمُنْذِرينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا»(2).

وكذا في صورة تأثيره على الآخرين، كما صنعت الصديقة الطاهرة (صلوات الله عليها) هاهنا.

و(النظرة): على وزن كتفة، من الانتظار أي الإمهال والتأخير في الأمر، أي انتظروا إلى زمن انتاجها، كقولهتعالى: «فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ»(3).

وكأنه خبر لمبتدأ محذوف، أي الواجب النظرة، أو اللازم، أو المطلوب.

ص: 234


1- سورة الأعراف: 164.
2- سورة النساء: 165.
3- سورة البقرة: 280.

..............................

أو مصدر لفعل مقدر منصوب، أي فانتظرة نظرة، أي بقدر ما تنتج هذه الفتنة كنتاج الناقة.

عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «اتَّقُوا الظُّلْمَ! فَإِنَّهُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(1).

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «مَا مِنْ أَحَدٍ يَظْلِمُ مَظْلِمَةً، إِلاَّ أَخَذَهُ اللهُ بِهَا فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ فَإِذَا تَابَ غَفَرَ لَهُ»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «مَنْ ظَلَمَ مَظْلِمَةً أُخِذَ بِهَا فِي نَفْسِهِ، أَوْفِي مَالِهِ، أَوْ فِي وُلْدِهِ»(3).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) - فِي قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: «إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ»(4) - قَالَ: «قَنْطَرَةٌ عَلَى الصِّرَاطِ لاَ يَجُوزُهَا عَبْدٌ بِمَظْلِمَةٍ»(5).

وعن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «لَمَّا حَضَرَ

ص: 235


1- وسائل الشيعة: ج16 ص46، تتمة كتاب الجهاد، الباب77 من بقية أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ح20941.
2- وسائل الشيعة: ج16 ص47، تتمة كتاب الجهاد، الباب77 من بقية أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ح20942.
3- وسائل الشيعة: ج16 ص47، تتمة كتاب الجهاد، الباب77 من بقية أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ح20943.
4- سورة الفجر: 14.
5- وسائل الشيعة: ج16 ص47، تتمة كتاب الجهاد، الباب77 من بقية أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ح20944.

..............................

عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) الْوَفَاةُ ضَمَّنِي إِلَى صَدْرِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا بُنَيَّ، أُوصِيكَ بِمَا أَوْصَانِي بِهِ أَبِي حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، وَبِمَا ذَكَرَ أَنَّ أَبَاهُ أَوْصَاهُ بِهِ قَالَ: يَا بُنَيَّ، إِيَّاكَ وَظُلْمَ مَنْ لاَ يَجِدُ عَلَيْكَ نَاصِراً إِلاَّ اللهَ»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «مَنْخَافَ الْقِصَاصَ كَفَّ عَنْ ظُلْمِ النَّاسِ»(2).

وعن إسحاق بن عمار، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «مَنْ أَصْبَحَ لاَ يَنْوِي ظُلْمَ أَحَدٍ، غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا أَذْنَبَ ذَلِكَ الْيَوْمَ، مَا لَمْ يَسْفِكْ دَماً، أَوْ يَأْكُلْ مَالَ يَتِيمٍ حَرَاماً»(3).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) - في حديث - قال: «أَمَا إِنَّهُ مَا ظَفِرَ بِخَيْرٍ مَنْ ظَفِرَ بِالظُّلْمِ، أَمَا إِنَّ الْمَظْلُومَ يَأْخُذُ مِنْ دِينِ الظَّالِمِ أَكْثَرَ مِمَّا يَأْخُذُ الظَّالِمُ مِنْ مَالِ الْمَظْلُومِ» ثُمَّ قَالَ: «مَنْ يَفْعَلِ الشَّرَّ بِالنَّاسِ فَلاَ يُنْكِرِ الشَّرَّ إِذَا فُعِلَ بِهِ»(4).

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «الظُّلْمُ فِي الدُّنْيَا هُوَ الظُّلُمَاتُ فِي الآخِرَةِ»(5).

ص: 236


1- وسائل الشيعة: ج16 ص48، تتمة كتاب الجهاد، الباب77 ح20945.
2- وسائل الشيعة: ج16 ص48، تتمة كتاب الجهاد، الباب77 ح20946.
3- وسائل الشيعة: ج16 ص48 - 49، تتمة كتاب الجهاد، الباب77 ح20947.
4- وسائل الشيعة: ج16 ص49، تتمة كتاب الجهاد، الباب77 من بقية أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ح20948.
5- وسائل الشيعة: ج16 ص49، تتمة كتاب الجهاد، الباب77 من بقية أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ح20949.

..............................

وعن علي بن سالمٍ، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: وَعِزَّتِي وَجَلاَلِي، لاَ أُجِيبُ دَعْوَةَ مَظْلُومٍ دَعَانِي فِي مَظْلِمَةٍ ظُلِمَهَا، وَلأَحَدٍ عِنْدَهُ مِثْلُ تِلْكَ الْمَظْلِمَةِ»(1).

وعن زيد بن علي بن الحسين، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: «يَأْخُذُ الْمَظْلُومُ مِنْ دِينِ الظَّالِمِ أَكْثَرَ مِمَّا يَأْخُذُ الظَّالِمُ مِنْ دُنْيَا الْمَظْلُومِ»(2).

وعن جعفر بن محمد (عليه السلام)، قال: «مَنِ ارْتَكَبَ أَحَداً بِظُلْمٍ بَعَثَ اللهُ مَنْ ظَلَمَهُ مِثْلَهُ، أَوْ عَلَى وُلْدِهِ، أَوْ عَلَى عَقِبِهِ مِنْ بَعْدِهِ»(3).

وعن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «أَعْظَمُ الْخَطَايَا اقْتِطَاعُ مَالِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ»(4).وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُبْغِضُ الْغَنِيَّ الظَّلُومَ»(5).

ص: 237


1- وسائل الشيعة: ج16 ص49، تتمة كتاب الجهاد، الباب77 من بقية أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ح20950.
2- وسائل الشيعة: ج16 ص49 -50، تتمة كتاب الجهاد، الباب77 من بقية أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ح20951.
3- وسائل الشيعة: ج16 ص50، تتمة كتاب الجهاد، الباب77 من بقية أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ح20952.
4- وسائل الشيعة: ج16 ص50، تتمة كتاب الجهاد، الباب77 من بقية أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ح20953.
5- وسائل الشيعة: ج16 ص50، تتمة كتاب الجهاد، الباب77، ح20954.

..............................

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِنِّي لَعَنْتُ سَبْعاً لَعَنَهُمُ اللهُ وَكُلُّ نَبِيٍّ مُجَابٍ. قِيلَ: وَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟. قَالَ: «الزَّائِدُ فِي كِتَابِ اللهِ، وَالْمُكَذِّبُ بِقَدَرِ اللهِ، وَالْمُخَالِفُ لِسُنَّتِي، وَالْمُسْتَحِلُّ مِنْ عِتْرَتِي مَا حَرَّمَ اللهُ، وَالْمُسَلَّطُ بِالْجَبَرُوتِ لِيُعِزَّ مَنْ أَذَلَّ اللهُ وَيُذِلَّ مَنْ أَعَزَّ اللهُ، وَالْمُسْتَأْثِرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِفَيْئِهِمْ مُنْتَحِلاً لَهُ، وَالْمُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ»(1).

الإمهال وليس الإهمال

مسألة: من سنن الله تعالى أنه يُنظِر ويُمهِل ولكنه لا يُهمِل، فيجب الحذر والاعتبار من المهلة التي يعطيها الله للعاصي والطاغي، حذراً من كونه كما قالسبحانه: «وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ»(2).

قال أبو عبد الله (عليه السلام): «إِنَّ اللهَ إِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ خَيْراً فَأَذْنَبَ ذَنْباً، أَتْبَعَهُ بِنَقِمَةٍ، وَيُذَكِّرُهُ الاِسْتِغْفَارَ. وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ شَرّاً فَأَذْنَبَ ذَنْباً، أَتْبَعَهُ بِنِعْمَةٍ لِيُنْسِيَهُ الاِسْتِغْفَارَ، وَيَتَمَادَى بِهَا، وَهُوَ قَوْلُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: «سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ»(3) بِالنِّعَمِ عِنْدَ الْمَعَاصِي»(4).

ص: 238


1- وسائل الشيعة: ج16 ص51، تتمة كتاب الجهاد، الباب77، ح20956.
2- سورة آل عمران: 178.
3- سورة الأعراف: 182.
4- الكافي: ج2 ص452، كتاب الإيمان والكفر، باب الاستدراج، ح1.

..............................

وسُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) عَنِ الاِسْتِدْرَاجِ. فَقَالَ: «هُوَ الْعَبْدُ يُذْنِبُ الذَّنْبَ، فَيُمْلَى لَهُ وَتُجَدَّدُ لَهُ عِنْدَهَا النِّعَمُ، فَتُلْهِيهِ عَنِ الاِسْتِغْفَارِ مِنَ الذُّنُوبِ، فَهُوَ مُسْتَدْرَجٌ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُ»(1).

وعن سماعة بن مهران، قال: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه

السلام) عَنْ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: «سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ»(2)؟. قَالَ: «هُوَالْعَبْدُ يُذْنِبُ الذَّنْبَ، فَتُجَدَّدُ لَهُ النِّعْمَةُ مَعَهُ، تُلْهِيهِ تِلْكَ النِّعْمَةُ عَنِ الاِسْتِغْفَارِ مِنْ ذَلِكَ الذَّنْبِ»(3).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «كَمْ مِنْ مَغْرُورٍ بِمَا قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ، وَكَمْ مِنْ مُسْتَدْرَجٍ بِسَتْرِ اللهِ عَلَيْهِ، وَكَمْ مِنْ مَفْتُونٍ بِثَنَاءِ النَّاسِ عَلَيْهِ»(4).

تغيير المستقبل

مسألة: في مثل موارد قول الصديقة (صلوات الله عليها): «فَنَظِرَةٌ رَيْثَمَا تُنْتَجُ»، هل يمكن تغيير المستبقل؟.

أي هل يمكن الحيلولة دون الآثار الوضعية لما اقترفه الإنسان أو المجتمع بحق نفسه أو الآخرين؟.

ص: 239


1- الكافي: ج2 ص452، كتاب الإيمان والكفر، باب الاستدراج، ح2.
2- سورة الأعراف: 182.
3- الكافي: ج2 ص452، كتاب الإيمان والكفر، باب الاستدراج، ح3.
4- الكافي: ج2 ص452، كتاب الإيمان والكفر، باب الاستدراج، ح4.

..............................

قد يكون في الجملة ممكناً، وذلك بالتوجه الصادق وبالتضرع إلى الله وبمحاولة جبر ما أمكن من الكسر.

قال تعالى: «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاؤُكَفَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا»(1).

وقولنا: (في الجملة)؛ لأن قسماً من الآثار لا يمكن تداركها، كما في قوله: «سبقتكم دعوة مستجابة»، وتفصيل البحث في مظانه.

عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «إِنَّهُ مَا مِنْ سَنَةٍ أَقَلَّ مَطَراً مِنْ سَنَةٍ، وَلَكِنَّ اللهَ يَضَعُهُ حَيْثُ يَشَاءُ. إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا عَمِلَ قَوْمٌ بِالْمَعَاصِي، صَرَفَ عَنْهُمْ مَا كَانَ قَدَّرَ لَهُمْ مِنَ الْمَطَرِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَإِلَى الْفَيَافِي، وَالْبِحَارِ، وَالْجِبَالِ. وَإِنَّ اللهَ لَيُعَذِّبُ الْجُعَلَ فِي جُحْرِهَا بِحَبْسِ الْمَطَرِ عَنِ الأَرْضِ الَّتِي هِيَ بِمَحَلِّهَا، بِخَطَايَا مَنْ بِحَضْرَتِهَا، وَقَدْ جَعَلَ اللهُ لَهَا السَّبِيلَ فِي مَسْلَكٍ سِوَى مَحَلَّةِ أَهْلِ الْمَعَاصِي» قَالَ: ثُمَّ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام):« «فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ»(2)»(3).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إِنَّ الرَّجُلَ يُذْنِبُ الذَّنْبَ فَيُحْرَمُ صَلاَةَ اللَّيْلِ، وَإِنَّ الْعَمَلَ السَّيِّءَ أَسْرَعُ فِيصَاحِبِهِ مِنَ السِّكِّينِ فِي اللَّحْمِ»(4).

ص: 240


1- سورة النساء: 64.
2- سورة الحشر: 2.
3- الكافي: ج2ص272، كتاب الإيمان والكفر، باب الذنوب، ح15.
4- الكافي: ج2ص272، كتاب الإيمان والكفر، باب الذنوب، ح16.

..............................

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «مَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلاَ يَعْمَلْهَا؛ فَإِنَّهُ رُبَّمَا عَمِلَ الْعَبْدُ السَّيِّئَةَ، فَيَرَاهُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَيَقُولُ: وَعِزَّتِي وَجَلاَلِي، لاَ أَغْفِرُ لَكَ بَعْدَ ذَلِكَ أَبَداً»(1).

وعن أبي الحسن (عليه السلام)، قال: «حَقٌّ عَلَى اللهِ أَنْ لاَ يُعْصَى فِي دَارٍ إِلاَّ أَضْحَاهَا لِلشَّمْسِ حَتَّى تُطَهِّرَهَا»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ الْعَبْدَ لَيُحْبَسُ عَلَى ذَنْبٍ مِنْ ذُنُوبِهِ مِائَةَ عَامٍ، وَإِنَّهُ لَيَنْظُرُ إِلَى أَزْوَاجِهِ فِي الْجَنَّةِ يَتَنَعَّمْنَ»(3).

وعن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قال: «مَا مِنْ عَبْدٍ إِلاَّ وَفِيقَلْبِهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، فَإِذَا أَذْنَبَ ذَنْباً خَرَجَ فِي النُّكْتَةِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِنْ تَابَ ذَهَبَ ذَلِكَ السَّوَادُ، وَإِنْ تَمَادَى فِي الذُّنُوبِ، زَادَ ذَلِكَ السَّوَادُ حَتَّى يُغَطِّيَ الْبَيَاضَ، فَإِذَا غَطَّى الْبَيَاضَ لَمْ يَرْجِعْ صَاحِبُهُ إِلَى خَيْرٍ أَبَداً، وَهُوَ قَوْلُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: «كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ»(4)»(5).

وعن علي بن أسباط، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «لاَ تُبْدِيَنَّ عَنْ وَاضِحَةٍ وَقَدْ عَمِلْتَ الأَعْمَالَ الْفَاضِحَةَ،

ص: 241


1- الكافي: ج2ص272، كتاب الإيمان والكفر، باب الذنوب، ح17.
2- الكافي: ج2ص272، كتاب الإيمان والكفر، باب الذنوب، ح18.
3- الكافي: ج2ص272، كتاب الإيمان والكفر، باب الذنوب، ح19.
4- سورة المطففين: 14.
5- الكافي: ج2ص273، كتاب الإيمان والكفر، باب الذنوب، ح20.

..............................

وَلاَتَأْمَنِ الْبَيَاتَ وَقَدْ عَمِلْتَ السَّيِّئَاتِ»(1).

وعن أبي عمرو المدائني، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «كَانَ أَبِي (عليه السلام) يَقُولُ: إِنَّ اللهَ قَضَى قَضَاءً حَتْماً، أن لا يُنْعِمَ عَلَى الْعَبْدِ بِنِعْمَةٍ فَيَسْلُبَهَا إِيَّاهُ حَتَّى يُحْدِثَ الْعَبْدُ ذَنْباً يَسْتَحِقُّ بِذَلِكَ النَّقِمَةَ»(2).وعن سدير، قال: سَأَلَ رَجُلٌ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) عَنْ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: «فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ»(3) الآيَةَ؟. فَقَالَ: «هَؤُلاَءِ قَوْمٌ كَانَتْ لَهُمْ قُرًى مُتَّصِلَةٌ، يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَأَنْهَارٌ جَارِيَةٌ، وَأَمْوَالٌ ظَاهِرَةٌ، فَكَفَرُوا نِعَمَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَغَيَّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ عَافِيَةِ اللهِ، فَغَيَّرَ اللهُ مَا بِهِمْ مِنْ نِعْمَةٍ، وَ«إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ»(4)، فَأَرْسَلَ اللهُ «عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ»(5) فَغَرَّقَ قُرَاهُمْ، وَخَرَّبَ دِيَارَهُمْ، وَأَذْهَبَ أَمْوَالَهُمْ، وَأَبْدَلَهُمْ مَكَانَ جَنَّاتِهِمْ «جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ»(6)، ثُمَّ قَالَ:«ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ»(7)»(8).

ص: 242


1- الكافي: ج2ص273، كتاب الإيمان والكفر، باب الذنوب، ح21.
2- الكافي: ج2ص273، كتاب الإيمان والكفر، باب الذنوب، ح22.
3- سورة سبأ: 19.
4- سورة الرعد: 11.
5- سورة سبأ: 16.
6- سورة سبأ: 16.
7- سورة سبأ: 19.
8- الكافي: ج2ص274، كتاب الإيمان والكفر، باب الذنوب، ح23.

..............................

وعن سماعة،قال:سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «مَا أَنْعَمَ اللهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً فَسَلَبَهَا إِيَّاهُ، حَتَّى يُذْنِبَ ذَنْباًيَسْتَحِقُّ بِذَلِكَ السَّلْبَ»(1).

وعن الهيثم بن واقد الجزري، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ بَعَثَ نَبِيّاً مِنْ أَنْبِيَائِهِ إِلَى قَوْمِهِ، وَأَوْحَى إِلَيْهِ أَنْ قُلْ لِقَوْمِكَ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ وَلاَ أُنَاسٍ كَانُوا عَلَى طَاعَتِي فَأَصَابَهُمْ فِيهَا سَرَّاءُ فَتَحَوَّلُوا عَمَّا أُحِبُّ إِلَى مَا أَكْرَهُ إِلاَّ تَحَوَّلْتُ لَهُمْ عَمَّا يُحِبُّونَ إِلَى مَا يَكْرَهُونَ. وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ وَلاَ أَهْلِ بَيْتٍ كَانُوا عَلَى مَعْصِيَتِي فَأَصَابَهُمْ فِيهَا ضَرَّاءُ فَتَحَوَّلُوا عَمَّا أَكْرَهُ إِلَى مَا أُحِبُّ إِلاَّ تَحَوَّلْتُ لَهُمْ عَمَّا يَكْرَهُونَ إِلَى مَا يُحِبُّونَ. وَقُلْ لَهُمْ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي، فَلاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَتِي؛ فَإِنَّهُ لاَ يَتَعَاظَمُ عِنْدِي ذَنْبٌ أَغْفِرُهُ. وَقُلْ لَهُمْ: لاَ يَتَعَرَّضُوا مُعَانِدِينَ لِسَخَطِي، وَلاَ يَسْتَخِفُّوا بِأَوْلِيَائِي؛ فَإِنَّ لِي سَطَوَاتٍ عِنْدَ غَضَبِي، لاَ يَقُومُ لَهَا شَيْءٌ مِنْ خَلْقِي»(2).

وعن سليمان الجعفري، عن الرضا (عليه السلام) قال: «أَوْحَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى نَبِيٍّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ: إِذَا أُطِعْتُ رَضِيتُ، وَإِذَا رَضِيتُ بَارَكْتُ، وَلَيْسَ لِبَرَكَتِي نِهَايَةٌ. وَإِذَا عُصِيتُ غَضِبْتُ، وَإِذَا غَضِبْتُ لَعَنْتُ، وَلَعْنَتِيتَبْلُغُ السَّابِعَ مِنَ الْوَرَى»(3).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، أنه قال: «إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَكْثُرُ بِهِ الْخَوْفُ مِنَ

ص: 243


1- الكافي: ج2ص274، كتاب الإيمان والكفر، باب الذنوب، ح24.
2- الكافي: ج2ص274 - 275، كتاب الإيمان والكفر، باب الذنوب، ح25.
3- الكافي: ج2ص275، كتاب الإيمان والكفر، باب الذنوب، ح26.

..............................

السُّلْطَانِ، وَمَا ذَلِكَ إِلاَّ بِالذُّنُوبِ، فَتَوَقَّوْهَا مَا اسْتَطَعْتُمْ وَلاَ تَمَادَوْا فِيهَا»(1).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «لاَ وَجَعَ أَوْجَعُ لِلْقُلُوبِ مِنَ الذُّنُوبِ، وَلاَ خَوْفَ أَشَدُّ مِنَ الْمَوْتِ، وَكَفَى بِمَا سَلَفَ تَفَكُّراً، وَكَفَى بِالْمَوْتِ وَاعِظاً»(2).

وعن العباس بن هلال الشامي - مولى لأبي الحسن موسى (عليه السلام) - قال: سَمِعْتُ الرِّضَا (عليه السلام) يَقُولُ: «كُلَّمَا أَحْدَثَ الْعِبَادُ مِنَ الذُّنُوبِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَعْمَلُونَ، أَحْدَثَ اللهُ لَهُمْ مِنَ الْبَلاَءِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ»(3).

ص: 244


1- الكافي: ج2ص275، كتاب الإيمان والكفر، باب الذنوب، ح27.
2- الكافي: ج2ص275، كتاب الإيمان والكفر، باب الذنوب، ح28.
3- الكافي: ج2ص275، كتاب الإيمان والكفر، باب الذنوب، ح29.

ثُمَّ احْتَلَبُوا مِلْ ءَ الْقَعْبِ دَماً عَبِيطاً،

اشارة

-------------------------------------------

إنذار القوم

إن الناقة إذا ولدت، فإنها يحلب منها اللبن، أما الفتنة فإنها إذا لقحت ثم أنتجت فإنها يحلب منها الدم لا اللبن.

(القعب) القدح الضخم الغليظ، الذي يستحلب فيه.

(العبيط) الطري الغليظ.

وهذا أكبر تحذير وإنذار من الصديقة فاطمة (صلوات الله عليها) لهم، حيث أنذرتهم بأن المستقبل مظلم ومخيف وخطر، فإن قدحهم، أي معيشتهم وحياتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، سيمتلأ من الدم الطري الغليظ.

وذلك لأن غصب الخلافة سبب خراب بلاد المسلمين والضياع والإنحراف والفتن، وقد حصل كل ذلك للأمة من أول يوم وإلى يومنا هذا، من قصة اعتداء خالد بن الوليد على مالك بن نويرة وعشيرته وما أشبه، ثم تحكم الدكتاتوريات على مر التاريخ، بل والفساد الذي عم الاقتصاد والاجتماع حتى في أفضل الأزمنة السابقة نسبياً، مما لولاها لكانت الأرضجنة، كما قال تعالى: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ»(1).

ص: 245


1- سورة الأعراف: 96.

..............................

وقال سبحانه: «كَذَّبُوا بِآياتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزيزٍ مُقْتَدِرٍ»(1).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) لما أراده الناس على البيعة بعد قتل عثمان: «دَعُونِي وَالْتَمِسُوا غَيْرِي؛ فَإِنَّا مُسْتَقْبِلُونَ أَمْراً لَهُ وُجُوهٌ وَأَلْوَانٌ، لاَ تَقُومُ لَهُ الْقُلُوبُ، وَلاَ تَثْبُتُ عَلَيْهِ الْعُقُولُ، وَإِنَّ الآفَاقَ قَدْ أَغَامَتْ، وَالْمَحَجَّةَ قَدْ تَنَكَّرَتْ. وَاعْلَمُوا أَنِّي إِنْ أَجَبْتُكُمْ رَكِبْتُ بِكُمْ مَا أَعْلَمُ، وَلَمْ أُصْغِ إِلَى قَوْلِ الْقَائِلِ، وَعَتْبِ الْعَاتِبِ، وَإِنْ تَرَكْتُمُونِي فَأَنَا كَأَحَدِكُمْ، وَلَعَلِّي أَسْمَعُكُمْ وَأَطْوَعُكُمْ لِمَنْ وَلَّيْتُمُوهُ أَمْرَكُمْ، وَأَنَا لَكُمْ وَزِيراً خَيْرٌ لَكُمْ مِنِّي أَمِيراً»(2).

من آثار الخذلان

مسألة: لكل معصية آثار، وخذلان المعصومين (عليهم السلام) من أكبر المعاصي على الإطلاق، وآثارها لا يمكن أن تعد أو تحصى أو تتصور.

وأكبر نتائج خذلان المرء أو الأمة لأولياء الله المعصومين (صلوات الله عليهم أجمعين)، هو أن الباري سبحانه وتعالى سيخذل من خذلهم، وإذا خذل الله الإنسان فإنه سوف لن يجد نصيراً من دونه، قال تعالى: «وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ»(3)، وسيخسر الإنسان عند ذلك آخرته ودنياه.

ص: 246


1- سورة القمر: 42.
2- نهج البلاغة: خطب أمير المؤمنين (عليه السلام)، رقم92 ومن كلام له (عليه السلام) لما أراده الناس على البيعة بعد قتل عثمان.
3- سورة آل عمران: 160.

..............................

وخذلان الله للإنسان هو من أهم العقوبات وربما أهمها على الإطلاق، التي يواجهها البشر، ولذلك جعله الله عقوبة الشرك به الذي عده أعظم الجرائم، قال تعالى: «لَا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا»(1).

وقال سبحانه: «إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ»(2).

شمولية احتلاب الدم فرداً وزمناً

مسألة: (احتلاب الدم العبيط) لم يكن خاصاً بالغاصبين للخلافة والراضين بفعله، بل عم الجميع، كما قال تعالى: «وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً»(3).

مسألة: واحتلاب الدم العبيط لم يكن خاصا أيضاً بذلك الزمن، وبذلك الجيل، بل استمر وسيستمر على كر الأيام والدهور وإلى زمن الظهور.

وهذا ما نشاهده جلياً في عالم اليوم، فإنه نتيجة عدم تحكيم مناهج الله وعدم اتباع الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) فإننا نرى الفساد ظاهراً في الأرض كلها بمشارقها ومغاربها.

ص: 247


1- سورة الإسراء: 22.
2- سورة النساء: 48 و116.
3- سورة الأنفال: 25.

..............................

قال تعالى: «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ»(1).

وعلى مر التاريخ

مسألة : يستفاد من قول الصديقة (عليهاالسلام): «مِلْ ءَ الْقَعْبِ» فيضان المشاكل والمآسي، وامتلاء كعب وإناء البشرية على مر التاريخ بالنتائج السلبية لغصب الخلافة.

إذن ليست المشاكل والأزمات والآثار السلبية لغصب الخلافة بالشيء القليل، أو حتى الكثير، بل حسب قولها (عليها السلام) وهي صديقة مصدقة، وهي بضعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومحور الخمسة الطيبة من أصحاب الكساء، والتي يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها، ولا يعقل أن ينيط الله رضاه برضاها وغضبه بغضبها دون أن تكون في أعلى درجات العصمة من الخطأ والخطل والسهو والنسيان والذنب والعصيان واللغو ورمي الكلام على عواهنه: فإن المشاكل ستملأ حياة البشرية حتى يعودوا إلى رشدهم، ويضعوا الحق في نصابه، ويرجعوه إلى أهله الطاهرين (عليهم السلام). قال تعالى: «وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْري فَإِنَّ لَهُ مَعيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى»(2).

ص: 248


1- سورة الروم: 41.
2- سورة طه: 124.

وعن محمد بن عبد الجبار، عن بعض أصحابنا رفعه إلى أبي عبد الله (عليه

السلام)، قال: قُلْتُ لَهُ: مَا الْعَقْلُ؟. قَالَ: «مَا عُبِدَ بِهِ الرَّحْمَنُ، وَاكْتُسِبَ بِهِ الْجِنَانُ». قَالَ: قُلْتُ: فَالَّذِي كَانَ فِيمُعَاوِيَةَ؟. فَقَالَ: «تِلْكَ النَّكْرَاءُ، تِلْكَ الشَّيْطَنَةُ، وَهِيَ شَبِيهَةٌ بِالْعَقْلِ وَلَيْسَتْ بِالْعَقْلِ»(1).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «مَنِ اسْتَحْكَمَتْ لِي فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ احْتَمَلْتُهُ عَلَيْهَا، وَاغْتَفَرْتُ فَقْدَ مَا سِوَاهَا، وَلاَ أَغْتَفِرُ فَقْدَ عَقْلٍ وَلاَ دِينٍ؛ لأَنَّ مُفَارَقَةَ الدِّينِ مُفَارَقَةُ الأَمْنِ، فَلاَ يَتَهَنَّأُ بِحَيَاةٍ مَعَ مَخَافَةٍ، وَفَقْدُ الْعَقْلِ فَقْدُ الْحَيَاةِ، وَلاَ يُقَاسُ إِلاَّ بِالأَمْوَاتِ»(2).

وعن مفضل بن عمر، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «يَا مُفَضَّلُ، لاَيُفْلِحُ مَنْ لاَ يَعْقِلُ، وَلاَ يَعْقِلُ مَنْ لاَ يَعْلَمُ، وَسَوْفَ يَنْجُبُ مَنْ يَفْهَمُ، وَيَظْفَرُ مَنْ يَحْلُمُ، وَالْعِلْمُ جُنَّةٌ، وَالصِّدْقُ عِزٌّ، وَالْجَهْلُ ذُلٌّ، وَالْفَهْمُ مَجْدٌ، وَالْجُودُ نُجْحٌ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ مَجْلَبَةٌ لِلْمَوَدَّةِ، وَالْعَالِمُ بِزَمَانِهِ لاَ تَهْجُمُ عَلَيْهِ اللَّوَابِسُ، وَالْحَزْمُ مَسَاءَةُ الظَّنِّ، وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَالْحِكْمَةِ نِعْمَةُ، الْعَالِمِ وَالْجَاهِلُ شَقِيٌّ بَيْنَهُمَا، وَاللهُ وَلِيُّ مَنْ عَرَفَهُ، وَعَدُوُّ مَنْ تَكَلَّفَهُ، وَالْعَاقِلُ غَفُورٌ، وَالْجَاهِلُ خَتُورٌ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تُكْرَمَ فَلِنْ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تُهَانَ فَاخْشُنْ، وَمَنْ كَرُمَ أَصْلُهُ لاَنَ قَلْبُهُ، وَمَنْ خَشُنَ عُنْصُرُهُ غَلُظَ كَبِدُهُ، وَمَنْ فَرَّطَ تَوَرَّطَ، وَمَنْ خَافَ الْعَاقِبَةَ تَثَبَّتَ عَنِ التَّوَغُّلِ فِيمَا لاَ يَعْلَمُ، وَمَنْ هَجَمَ عَلَى أَمْرٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ جَدَعَ أَنْفَ نَفْسِهِ، وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ لَمْيَفْهَمْ، وَمَنْ لَمْ يَفْهَمْ لَمْ يَسْلَمْ، وَمَنْ لَمْ يَسْلَمْ لَمْ يُكْرَمْ، وَمَنْ لَمْ يُكْرَمْ يُهْضَمْ، وَمَنْ يُهْضَمْ كَانَ أَلْوَمَ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ أَحْرَى أَنْ يَنْدَمَ»(3).

ص: 249


1- الكافي: ج1 ص11، كتاب العقل والجهل، ح3.
2- الكافي: ج1 ص27، كتاب العقل والجهل، ح30.
3- الكافي: ج1 ص26-27، كتاب العقل والجهل، ح29.

..............................

تبديل نعمة الله

مسألة: يحرم تبديل نعمة الله إلى نقمة، وقول الصديقة (عليها السلام): «دَماً» يشير إلى ذلك.

قال تعالى: «أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوارِ»(1).

فإن ما كان يفترض أن يجلب هو اللبن، «لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ»(2)، وهو كناية عن كافة الخيرات والنعم الإلهية.

لكنهم بظلمهم وغصبهم الخلافة حولوا اللبن إلى دم عبيط، وبدلوا نعمة الله كفراً، واستعاضوا بالرخاء الشقاء، وبالعدل الظلم، وبالقسط الإجحاف.

وفي الروايات اللعن على من يقطع سبيل المعروف بل ذم من لا يشكرالمخلوق المتفضل.

عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «لَعَنَ اللهُ قَاطِعِي سَبِيلِ الْمَعْرُوفِ». قِيلَ: وَمَا قَاطِعُو سَبِيلِ الْمَعْرُوفِ؟. قَالَ: «الرَّجُلُ يُصْنَعُ إِلَيْهِ الْمَعْرُوفُ فَيَكْفُرُهُ، فَيَمْتَنِعُ صَاحِبُهُ مِنْ أَنْ يَصْنَعَ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِهِ»(3).

ص: 250


1- سورة إبراهيم: 28.
2- سورة النحل: 66.
3- وسائل الشيعة: ج16 ص309، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ب8 ح21624.

..............................

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَنْ أُتِيَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ فَلْيُكَافِئْ بِهِ، فَإِنْ عَجَزَ فَلْيُثْنِ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ كَفَرَ النِّعْمَةَ»(1).

وعن عمار الدهني، قال: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ كُلَّ قَلْبٍ حَزِينٍ، وَيُحِبُّ كُلَّ عَبْدٍ شَكُورٍ. يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِعَبْدٍ مِنْ عَبِيدِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَ شَكَرْتَ فُلاَناً. فَيَقُولُ: بَلْ شَكَرْتُكَ يَا رَبِّ. فَيَقُولُ: لَمْ تَشْكُرْنِي إِنْ لَمْ تَشْكُرْهُ - ثُمَّ قَالَ - أَشْكَرُكُمْ للهِ أَشْكَرُكُمْ لِلنَّاسِ»(2).وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «الطَّاعِمُ الشَّاكِرُ لَهُ مِنَ الأَجْرِ كَأَجْرِ الصَّائِمِ الْمُحْتَسِبِ، وَالْمُعَافَى الشَّاكِرُ لَهُ مِنَ الأَجْرِ كَأَجْرِ الْمُبْتَلَى الصَّابِرِ، وَالْمُعْطَى الشَّاكِرُ لَهُ مِنَ الأَجْرِ كَأَجْرِ الْمَحْرُومِ الْقَانِعِ»(3).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَا فَتَحَ اللهُ عَلَى عَبْدٍ بَابَ شُكْرٍ فَخَزَنَ عَنْهُ بَابَ الزِّيَادَةِ»(4).

ص: 251


1- وسائل الشيعة: ج16 ص309-310، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الباب8 من أبواب فعل المعروف، ح21625.
2- وسائل الشيعة: ج16 ص310، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ب8 ح21626.
3- وسائل الشيعة: ج16 ص310، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، الباب8 من أبواب فعل المعروف، ح21627.
4- وسائل الشيعة: ج16 ص311، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، الباب8 من أبواب فعل المعروف، ح21628.

..............................

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ: اشْكُرْ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْكَ، وَأَنْعِمْ عَلَى مَنْ شَكَرَكَ؛ فَإِنَّهُ لاَ زَوَالَ لِلنَّعْمَاءِ إِذَا شُكِرَتْ، وَلاَ بَقَاءَ لَهَا إِذَا كُفِرَتْ. الشُّكْرُ زِيَادَةٌ فِي النِّعَمِ، وَأَمَانٌ مِنَ الْغِيَرِ»(1).

وقال الإمام الباقر (عليه السلام): «مَاأَنْعَمَ اللهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً فَشَكَرَهَا بِقَلْبِهِ، إِلاَّ اسْتَوْجَبَ الْمَزِيدَ قَبْلَ أَنْ يُظْهِرَ شُكْرَهُ عَلَى لِسَانِهِ»(2).

وقال أبو عبد الله (عليه السلام): «مَنْ قَصُرَتْ يَدُهُ بِالْمُكَافَأَةِ، فَلْيُطِلْ لِسَانَهُ بِالشُّكْرِ»(3).

وقال (عليه السلام): «مِنْ حَقِّ الشُّكْرِ للهِ أَنْ تَشْكُرَ مَنْ أَجْرَى تِلْكَ النِّعْمَةَ عَلَى يَدِهِ»(4).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «ثَلاَثٌ مِنَ الذُّنُوبِ تُعَجَّلُ عُقُوبَتُهَا وَلاَ تُؤَخَّرُ إِلَى الآخِرَةِ: عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَالْبَغْيُ عَلَى النَّاسِ، وَكُفْرُ الإِحْسَانِ»(5).

ص: 252


1- وسائل الشيعة: ج16 ص311، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ب8 ح21629.
2- وسائل الشيعة: ج16 ص311، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ب8 ح21630.
3- وسائل الشيعة: ج16 ص311، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، الباب8 من أبواب فعل المعروف، ح21631.
4- وسائل الشيعة: ج16 ص311، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، الباب8 من أبواب فعل المعروف، ح21632.
5- وسائل الشيعة: ج16 ص312، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، الباب8 من أبواب فعل المعروف، ح21633.

..............................

وعن الإمام الرضا، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله): «أَسْرَعُ الذُّنُوبِ عُقُوبَةً كُفْرَانُ النِّعْمَةِ»(1).

وقال النبي (صلى الله عليه وآله): «يُؤْتَى الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُوقَفُ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَأْمُرُ بِهِ إِلَى النَّارِ. فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، أَمَرْتَ بِي إِلَى النَّارِ وَقَدْ قَرَأْتُ الْقُرْآنَ!. فَيَقُولُ اللهُ: أَيْ عَبْدِي، إِنِّي قَدْ أَنْعَمْتُ عَلَيْكَ وَلَمْ تَشْكُرْ نِعْمَتِي. فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، أَنْعَمْتَ عَلَيَّ بِكَذَا وَشَكَرْتُكَ بِكَذَا، وَأَنْعَمْتَ عَلَيَّ بِكَذَا وَشَكَرْتُكَ بِكَذَا، فَلاَ يَزَالُ يُحْصِي النِّعْمَةَ وَيُعَدِّدُ الشُّكْرَ. فَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى: صَدَقْتَ عَبْدِي، إِلاَّ أَنَّكَ لَمْ تَشْكُرْ مَنْ أَجْرَيْتُ لَكَ النِّعْمَةَ عَلَى يَدَيْهِ، وَإِنِّي قَدْ آلَيْتُ عَلَى نَفْسِي أَنْ لاَ أَقْبَلَ شُكْرَ عَبْدٍ لِنِعْمَةٍ أَنْعَمْتُهَا عَلَيْهِ، حَتَّى يَشْكُرَ مَنْ سَاقَهَا مِنْ خَلْقِي إِلَيْهِ»(2).

وعن مالك بن أعين الجهني، قال: أَوْصَى عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) بَعْضَ وُلْدِهِ. فَقَالَ: «يَا بُنَيَّ، اشْكُرْ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْكَ، وَأَنْعِمْ عَلَى مَنْ شَكَرَكَ؛ فَإِنَّهُ لاَ زَوَالَ لِلنَّعْمَاءِ إِذَا شُكِرَتْ، وَلاَ بَقَاءَ لَهَا إِذَا كُفِرَتْ، وَالشَّاكِرُ بِشُكْرِهِ أَسْعَدُ مِنْهُبِالنِّعْمَةِ الَّتِي وَجَبَ عَلَيْهَا الشُّكْرُ - وَتَلاَ - «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ»(3)»(4).

ص: 253


1- وسائل الشيعة: ج16 ص312، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ب8 ح21634.
2- وسائل الشيعة: ج16 ص312، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ب8 ح21635.
3- سورة إبراهيم: 7.
4- وسائل الشيعة: ج16 ص313، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ب8 ح21636.

..............................

ومحمد بن علي بن الحسين، قال: مِنْ أَلْفَاظِ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله): «لاَ يَشْكُرُ اللهَ مَنْ لاَ يَشْكُرُ النَّاسَ»(1).

وعن إبراهيم بن أبي محمود، قال: سَمِعْتُ الرِّضَا (عليه السلام) يَقُولُ: «مَنْ لَمْ يَشْكُرِ الْمُنْعِمَ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ، لَمْ يَشْكُرِ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إِنَّ اللهَ مَنَّ عَلَى قَوْمٍ بِالْمَوَاهِبِ فَلَمْ يَشْكُرُوا، فَصَارَتْ عَلَيْهِمْ وَبَالاً. وَابْتَلَى قَوْماً بِالْمَصَائِبِ فَصَبَرُوا، فَصَارَتْ عَلَيْهِمْ نِعْمَةً»(3).

تجدد البلاء والمحن

مسألة: يستفاد من قول الصديقة (عليها السلام): «عَبِيطاً»، وهو الدم الطري الغليظ الخالص: إن المحن والمشاكل والبلايا تتجدد يوماً بعد يوم على الناس، ما داموا معرضين عن الأئمة الأطهار (صلوات الله عليهم أجمعين).

وهذا ما نشاهده جلياً واضحاً على امتداد الزمان، فإن عذاب الله للناس

ص: 254


1- وسائل الشيعة: ج16 ص313، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، الباب8 من أبواب فعل المعروف، ح21637.
2- وسائل الشيعة: ج16 ص313، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، الباب8 من أبواب فعل المعروف، ح21638.
3- وسائل الشيعة: ج16 ص313 - 314، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، الباب8 من أبواب فعل المعروف، ح21639.

..............................

لايقتصر على أنواع تتكرر، بل يستجد منها كل يوم جديد، وما الأمراض المستجدة(1) إلاّ مثالاً على ذلك، وما خفي وما هو قادم أعظم وأعظم، أعاذنا الله منها.

ولا ملجأ منه تعالى إلا إليه، وذلك بالعودة إلى خلفائه الاثني عشر (عليهم السلام)، الذين نصبهم على لسان رسولالله (صلى الله عليه وآله) أئمةً وسادةً وقادةً وسفنَ النجاة التي مَنْ ركبها نجى، ومن تخلف عنها غرق وهوى.

قال تعالى: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَ كَثيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ»(2).

وقال تعالى: «وَالَّذينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ميثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ»(3).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ عِرْقٍ يَضْرِبُ، وَلاَ نَكْبَةٍ، وَلاَ صُدَاعٍ، وَلاَ مَرَضٍ، إِلاَّ بِذَنْبٍ، وَذَلِكَ قَوْلُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ:

ص: 255


1- من أمثال: الأيدز، والزهايمر، والسكتة القلبية والدماغية، وغير ذلك مما يستجد في المستقبل.
2- سورة المائدة: 65- 66.
3- سورة الرعد: 25.

..............................

«وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ»(1) - ثُمَّ قَالَ - وَمَا يَعْفُو اللهُ أَكْثَرُ مِمَّا يُؤَاخِذُ بِهِ»(2).

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «مَامِنْ نَكْبَةٍ تُصِيبُ الْعَبْدَ إِلاَّ بِذَنْبٍ، وَمَا يَعْفُو اللهُ عَنْهُ أَكْثَرُ»(3).

وعن أبي أسامة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ سَطَوَاتِ اللهِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ». قَالَ: قُلْتُ لَهُ: وَمَا سَطَوَاتُ اللهِ؟. قَالَ: «الأَخْذُ عَلَى الْمَعَاصِي»(4).

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيُذْنِبُ الذَّنْبَ، فَيُزْوَى عَنْهُ الرِّزْقُ»(5).

وعن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «إِنَّ الذَّنْبَ يَحْرِمُ الْعَبْدَ الرِّزْقَ»(6).

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيُذْنِبُ الذَّنْبَ، فَيُدْرَأُ عَنْهُ الرِّزْقُ - وَتَلاَ هَذِهِ الآيَةَ - «إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلَا يَسْتَثْنُونَ *

ص: 256


1- سورة الشورى: 30.
2- الكافي: ج2ص269، كتاب الإيمان والكفر، باب الذنوب، ح3.
3- الكافي: ج2ص269، كتاب الإيمان والكفر، باب الذنوب، ح4.
4- الكافي: ج2ص269، كتاب الإيمان والكفر، باب الذنوب، ح6.
5- الكافي: ج2ص270، كتاب الإيمان والكفر، باب الذنوب، ح8.
6- الكافي: ج2ص271، كتاب الإيمان والكفر، باب الذنوب، ح11.

..............................

فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ»(1)»(2).

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «إِنَّ الْعَبْدَ يَسْأَلُ اللهَ الْحَاجَةَ، فَيَكُونُ مِنْ شَأْنِهِ قَضَاؤُهَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ، أَوْ إِلَى وَقْتٍ بَطِيءٍ، فَيُذْنِبُ الْعَبْدُ ذَنْباً، فَيَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِلْمَلَكِ: لاَ تَقْضِ حَاجَتَهُ، وَاحْرِمْهُ إِيَّاهَا؛ فَإِنَّهُ تَعَرَّضَ لِسَخَطِي، وَاسْتَوْجَبَ الْحِرْمَانَ مِنِّي»(3).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِذَا عَصَانِي مَنْ عَرَفَنِي، سَلَّطْتُ عَلَيْهِ مَنْ لاَ يَعْرِفُنِي»(4).

وعن أبي الحسن (عليه السلام)، قال: «إِنَّ للهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مُنَادِياً يُنَادِي: مَهْلاً مَهْلاً عِبَادَ اللهِ عَنْ مَعَاصِي اللهِ؛ فَلَوْلاَ بَهَائِمُ رُتَّعٌ، وَصِبْيَةٌ رُضَّعٌ، وَشُيُوخٌ رُكَّعٌ، لَصُبَّ عَلَيْكُمُ الْعَذَابُ صَبّاً، تُرَضُّونَ بِهِ رَضّاً»(5).

إعلام العالم بالحق

مسائل: يستحب - وقد يجب - إيضاح تلك الحقيقة التي صرحت بها الصديقة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وإعلام العالم بأن كل المشاكل الموجودة في

ص: 257


1- سورة القلم: 17- 19.
2- الكافي: ج2ص271، كتاب الإيمان والكفر، باب الذنوب، ح12.
3- الكافي: ج2ص271، كتاب الإيمان والكفر، باب الذنوب، ح14.
4- الكافي: ج2ص276، كتاب الإيمان والكفر، باب الذنوب، ح30.
5- الكافي: ج2ص276، كتاب الإيمان والكفر، باب الذنوب، ح31.

..............................

العالم، الإسلامي وغيره، منذ الصدر الأول (أي منذ الانقلاب على رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد وفاته، حيث قال تعالى: «أَ فَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ»(1) وإلى هذا اليوم - من سفك الدماء و هتك الأعراض ومصاردة الأموال و... كان كل ذلك نتيجة غصب الخلافة من الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وظلم أهل البيت (عليهم السلام) وكان حجر الأساس في كل ذلك هو مؤامرة السقيفة.

ويجب بيان ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة؛ لأن العالم يستمر غارقاً في الظلم والظلام إلى أن يعود إلى إتباع أهل البيت (عليهم السلام).

ويلزم أن يتحمل الإنسان الأذى الذييواجهه في هذا الطريق، فإن الحق مر، لكن إنقاذ العباد هو الأهم، ولو تسلح الإنسان بالسلم المطلق في قوله وعمله، وتحلى بالحكمة والموعظة الحسنة، لبلغت الأضرار إلى الحد الأقل.

ويلزم أن نعلم بأن ما يخسره الإنسان بسبب جهاده وتضحيته هو أقل مما لو لم يجاهد، فإن الله سيبتليه وذريته بما هو أشد وأمر وأقسى، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله): «اغْزُوا تُورِثُوا أَبْنَاءَكُمْ مَجْداً»(2).

ص: 258


1- سورة آل عمران: 144.
2- الكافي: ج5 ص8، كتاب الجهاد، باب فضل الجهاد، ح12.

وَذُعَافاً مُبِيداً

اشارة

وَذُعَافاً مُبِيداً (1)،

-------------------------------------------

تغيير منهج الله

الذعاف: السم القاتل، و(الذعف) السم الذي يقتل من ساعته.

المبيد: الذي يبيد الإنسان ويقضي عليه تماماً.

الممقر - كما في بعض النسخ -: الصبر الذي هو أشد درجات المرارة.

مسألة: من أشد المحرمات أن يغير الإنسان منهج الله أو يغير القيادة الشرعية التي عينها رب العباد، فإنه حرام في حد ذاته، ثم إنه يقود إلى إهلاك الحرث والنسل، كما قالت الصديقة (صلوات الله عليها): «ثُمَّ احْتَلَبُوا مِلْ ءَ الْقَعْبِ دَماً عَبِيطاً، وَذُعَافاً مُبِيداً».

وقال تعالى: «وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ»(2).

ثم إن السبب الرئيسي لذلك كله هو: الحكام الجائرون، وعلماء السوء، وجهل الأمة.فاللازم التخطيط الشامل الدقيق للقضاء على كل مقومات الظلم، عبر توعية الناس وتثقيفهم، وعبر الضغط على الحكام وعلماء السوء بكل السبل

ص: 259


1- وفي بعض النسخ: ممقراً.
2- سورة البقرة: 205.

..............................

السلمية المتاحة، ومنها الإضرابات العامة والمظاهرات السلمية، ومنها تكوين اللجان والمنظمات الضاغطة داخل الدولة وخارجها.

عن أبي جعفر، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «بِئْسَ الزَّادُ إِلَى الْمَعَادِ الْعُدْوَانُ عَلَى الْعِبَادِ»(1).

وعن ابن أبي يعفور، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «مَنْ زَرَعَ حِنْطَةً فِي أَرْضٍ، فَلَمْ يُزَكِّ أَرْضَهُ وَزَرْعَهُ، وَخَرَجَ زَرْعُهُ كَثِيرَ الشَّعِيرِ، فَبِظُلْمِ عَمَلِهِ فِي مِلْكِ رَقَبَةِ الأَرْضِ، أَوْ بِظُلْمٍ لِمُزَارِعِهِ وَأَكَرَتِهِ؛ لأَنَّ اللهَ يَقُولُ: «فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ»(2)»(3).وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قال: «إِيَّاكُمْ وَالْفُحْشَ! فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لاَ يُحِبُّ الْفَاحِشَ الْمُتَفَحِّشَ. وَإِيَّاكُمْ وَالظُّلْمَ! فَإِنَّ الظُّلْمَ عِنْدَ اللهِ هُوَ الظُّلُمَاتُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَإِيَّاكُمْ وَالشُّحَّ! فَإِنَّهُ دَعَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ حَتَّى سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ، وَدَعَاهُمْ حَتَّى قَطَّعُوا أَرْحَامَهُمْ، وَدَعَاهُمْ حَتَّى انْتَهَكُوا وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ»(4).

ص: 260


1- بحار الأنوار: ج72 ص309، تتمة كتاب العشرة، الباب79 من تتمة أبواب حقوق المؤمنين بعضهم على بعض وبعض أحوالهم، ح4.
2- سورة النساء: 160.
3- بحار الأنوار: ج72 ص309، تتمة كتاب العشرة، الباب79 من تتمة أبواب حقوق المؤمنين بعضهم على بعض وبعض أحوالهم، ح5.
4- بحار الأنوار: ج72 ص309، تتمة كتاب العشرة، الباب79 من تتمة أبواب حقوق المؤمنين بعضهم على بعض وبعض أحوالهم، ح7.

..............................

وعن موسى بن جعفر، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: «سُئِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): أَيُّ الْخَلْقِ أَشَحُّ؟. قَالَ: مَنْ أَخَذَ الْمَالَ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ، فَجَعَلَهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ»(1).

سم الأجساد وسم الأرواح

مسألة: للأجساد ذعاف مبيد، وكذلكللأرواح، وكلاهما محرم.

وقد يكون كلام الصديقة (صلوات الله عليها) أعم، وإن كان منصرفه الثاني، أو هو كناية، والأخير أرجح.

ويقصد بذعاف الأرواح كل ما يسبب هلاك الأرواح، ومنه: إضلالها مما يسوقها إلى جهنم، ومنه كل ما يسبب تحول الحياة إلى الجحيم مما نرى آثاره واضحة في عالم اليوم، حيث إن الحياة جحيم حقيقة، فقد امتلأت بالفساد والخيانات الزوجية(2)،

ص: 261


1- بحار الأنوار: ج72 ص311، تتمة كتاب العشرة، الباب79 من تتمة أبواب حقوق المؤمنين بعضهم على بعض وبعض أحوالهم، ح13.
2- أكدت دراسة جديدة أعدتها مؤسسة "مؤشر الإنترنت العالمي" ومقرها لندن: إن الخيانة هي العنوان الصارخ للعلاقات التي تتم عبر منصات التواصل الاجتماعي المختلفة. وتضرب المؤسسة مثالاً على هذه الحالة بتطبيق "تيندر" المخصص لتسهيل لقاءات أشخاص يبحثون عن شركاء. وحسب التقرير فإن 30% من الباحثين عن علاقات على هذا التطبيق متزوجون، بينما يوجد من بين كل عشرة أشخاص يرتادون هذا التطبيق أربعة مرتبطون أصلاً بعلاقات عاطفية مع أشخاص آخرين. ووجدت الدراسة أن واحداً من كل عشرة أشخاص على "تيندر"، له أصلاً شريكة أو شريك يخرج معه. وتفيد الدراسة البريطانية أن 40% من النساء اللواتي يستخدمن "تيندر" متزوجات، في حين أن ثلث المستخدمات يقمن علاقات غرامية خارج التطبيق بشكل أو بآخر. وبالنسبة للرجال فإن ثلثهم يقيم أصلاً علاقات عاطفية، بينما تربط 23% منهم التزامات مع نساء خارج "تيندر". ويشير كتاب صدر حديثاً للمؤلف البريطاني "ديفيد سبيغ هالتر" تحت عنوان: "الجنس في أرقام"، أن الخيانة في بريطانيا مثلاً تنتشر بين النساء أكثر من الرجال. علماً بأن ثلثي مستخدمي التطبيقات مثل "تيندر" هم من الرجال، وواحد من بين كل خمسة رجال يستخدمون مثل هذه التطبيقات مستعد لدفع الرسوم الضرورية في حال وجودها. ويتركز أكثر مستخدمي "تيندر" في الإمارات العربية المتحدة، والفلبين، والبرازيل، وتركيا، والهند. ومنذ اطلاقه سنة 2012م تم تحميل هذا التطبيق أكثر من 50 مليون مرة.

..............................

وبارتفاع نسبة الطلاق(1)،

ص: 262


1- أظهرت الدراسات في المملكة العربية السعودية، أن دخول الإنترنت الى البيوت ساهم بشكلٍ كبيرٍ في ارتفاع نسبة الطلاق، فاصبحت الكومبيوترات المحمولة والهواتف الذكية بمثابة ضرة للزوجات. وتبين أن معدلات الطلاق في المملكة قد زادت بشكل ملحوظ خلال السنوات الأخيرة، لاسيما في العاصمة الرياض، وأن حوالي 24% من حالات الطلاق كانت بسبب استعمال أحد الشريكين للأنترنت "بالشكل السيء" من خلال الدخول الى مواقع الدردشة والتعارف. وفي إيران فقد أعلنت شرطة الأنترنت أن مواقع التواصل الاجتماعي يعتبر المسبب الرئيسي لثلث حالات الطلاق في إيران. وفي إيطاليا أظهرت دراسة حول مستخدمي غرف المحادثة والدردشة عبر شبكة الأنترت،أن ثلاثة ملايين إيطالي يستخدمون هذا النوع من المواقع لمدة ساعتين على الأقل في اليوم، وأن 70% منهم هم من النساء. وأشارت الدراسة الى إرتفاع في نسبة حالات الإنفصال والطلاق في المجتمع الإيطالي بسبب "الخيانة الزوجية " عبر شبكة العنكبوتية. وفي الأردن أظهرت الدراسات الرسمية الأخيرة في المملكة زيادة ملحوظة في نسب الطلاق التي بلغت نسبتها حوالي 25% في المجتمع الأردني، واعتبرت هذه الدراسات أن انتشار وسائل التعارف والإتصال الالكتروني أسهمت بشكلٍ كبيرٍ في حدوث هذه الظاهرة. وفي الولايات المتحدة الأميركية يزداد اهتمام علماء النفس الأميركيين بظاهرة الإدمان على الأنترنت، الذي أُعتبر مرضاً نفسياً جديداً من قبل الأطباء النفسيين. وقد بينت الإحصاءات وجود ملايين الاشخاص الذين يعانون من هذا الإدمان الى حد جعلهم يفقدون حياتهم الزوجية ووظائفهم. وفي الكويت اعتبرت المراجع العدلية والقضائية أن الأنترنت هو أحد أبرز أسباب الطلاق، وقد أثبتت الإحصاءات في هذا المجال أن 63% من مستخدمي الأنترنت في الكويت يعزلون أنفسهم في غرفهم لساعات يومياً في حين أن 8% منهم يستخدمون الانترنت في المقاهي المخصصة. وفي فرنسا أظهر استفتاء فرنسي أجراه موقع "طلاق أون لاين" وشارك فيه 5 آلاف مطلق ومطلقة أن شبكة "الفيسبوك" كانت وراء طلب طلاق ثلث عدد هؤلاء المطلقين. وفي بريطانيا كشفت دراسة بريطانية أجراها موقع إجتماعي يُعنى بشؤون الزواج والطلاق أن 33 % من دعاوى الطلاق التي تم رفعها في السنوات الثلاث الاخيرة كان من أهم مسببابها موقع "الفيسبوك". وفي العراق أثبتت دراسات اجتماعية أجريت أن دخول التكنولوجيا إلى العراق في السنوات الأخيرة فاقم ظاهرة الطلاق بشكل كبير، وضاعف نسبتها، الأمر الذي أدى إلى تفكك العديد من الأسر العراقية. وفي مصر تبين من خلال دراسةٍ صادرة عن جهاز التعبئة والإحصاء، أن مصر قد شهدت أكثر من 75000 حالة طلاق في العام 2012م. أما في ما خص دوافع هذه الطلاقات، فتبين أن حوالي 40000 حالة منها قد حصلت بسبب هوس الزوج بالأنترنت وانشغاله عن أسرته وإنغماسه في مواقع التواصل الإجتماعي أو مواقعٍ أخرى غير أخلاقية. وأشارت الدراسة عينها إلى أن معدلات الطلاق إرتفعت خلال ال50 عاماً الماضية بنسبة 40%، فأصبحت مصر تشهد حالياً حالة طلاق كل 6 دقائق.

ص: 263

..............................

ونسبة البطالة(1)، والأمراض الروحية(2)

ص: 264


1- تشير الإحصاءات التي نشرتها منظمة العمل الدولية إلى أن عدد العاطلين عن العمل يبلغ مليار نسمة في العالم كله، وعدد الموظفين الذين لا يعملون بطاقتهم الكاملة (750 مليون) نسمة، وعدد الأشخاص الباحثين عن وظائف في سن 15- 24 سنة (760 مليون) نسمة. هذا وقد ارتفعت نسبة البطالة في الأردن فوصلت إلى 15%، وأن 12% من القوى العاملة في روسيا تعاني من البطالة. وفي إيران وصلت نسبة البطالة 14% من قوة العمل. إن النمو الديموغرافي (السكاني) الذي يشهده العالم العربي، يتطلب توفر حوالي خمسة ملايين فرصة عمل جديدة سنوياً. كما أن تخلف نظام التعليم العربي وعدم مواكبته لمتطلبات سوق العمل، يؤدي إلى إضافة الأعداد الهائلة من خريجي الجامعات إلى صفوف العاطلين عن العمل. ولقد اعتبر تقرير منظمة العمل الدولي، المنطقة العربية من المناطق التي تعيش تدهوراً خطيراً في وضعها الاقتصادي، حيث يشير التقرير إلى تراجع نسبة النمو الإجمالي للناتج القومي الداخلي من 6% في العام 2000م إلى 5ر1% في العام 2001م. ونتيجة لإعادة هيكلة النظم الاقتصادية والتجارية والمالية في البلدان العربية، أو ما يسمى اليوم بعملية خصخصة القطاع العام، قد أدى إلى تسريح أعداد كبيرة من العمال، وفي مختلف المجالات والاختصاصات. فقد بلغت نسبة البطالة أكثر من 6ر17% من مجموع القوى العاملة أي حوالي 22 مليون عاطل عن العمل. وتأتي الجزائر في المقدمة بحوالي 30%، تتبعها المغرب، ثم سلطنة عمان، فالسعودية.
2- بينت دراسة حديثة أن الشعور الذي ينتاب الأجانب - على العموم - في هولندا، هم أكثر عرضة للأمراض النفسية، التي بدأت تأخذ إظهار الإصابة عند أغلب أولئك المصابين نفسياً بإصابتهم فسيولوجياً أي بأمراض جسمانية، فبالمقارنة بين أصحاب البلد الهولنديين ونظرائهم الأجانب الذين يعيشون في ظروف مماثلة تقريباً، تبين أن سن الشيخوخة وآثارها تبدو أكثر على الأجانب، وبهذا المعنى بينت الدراسة التي أعدها "مركز الأجانب في امستردام"، وأنجزت خلال خمسة أعوام، وأجريت على (100) ألف شخص من أصل أجنبي في هولندا، وخرجت الدراسة بعدة نتائج خطيرة في مقدمتها، أن الأجانب يصابون بأمراض نفسية تزيد عن أحوال إصابات الهولنديين بمقدار (37%) وبمقدار تلك الأمراض الاكتئاب، القلق الدائم، والرغبة في الانتحار، وقالت الدراسة: (إن نسبة الانتحار بين الفتيات الأجنبيات ذوات الأعمار ما بين 15-24 سنة. وأكدت الدراسة أن وصول الأجانب إلى سن الشيخوخة بفارق مدة تصل إلى (15) سنة ضد أعمارهم مقارنة مع نفس الفئات العمرية من المواطنين الهولنديين وهذا ما جعل الكثير من الأجانب يبدون أكبر من سنهم المعتاد المقدر. على صعيد آخر، أكدت مصادر قريبة من أوساط الطلبة الجامعيين في إيران، تزايد حالات الاكتئاب والأزمات النفسية المختلفة لدى هذه الشريحة الاجتماعية المهمة، وعزت السبب في ذلك إلى تفشي القلق في أوساط الطلبة من المستقبل المجهول، وضياع الهدفية، وعدم الاطمئنان النفسي في ظل التشوهات الخطيرة التي تعتري المجتمع الإيراني بوجه عام، واتساع نطاق حالات الهروب من الواقع الاجتماعي المرير، التي تنعكس في السقوط في وهدة الإدمان على المخدرات والمواد المسكرة المختلفة، أو اللا أبالية في أحسن الحالات. كما حذرت دراسة طبية من ارتفاع معدل الإصابة بالكآبة بين السيدات والشباب دون سن الخامسة عشرة. وأكدت الدراسة أنه رغم التطور الملحوظ في دراسة هذه الظاهرة من جوانبها المختلفة فإن الكثير من الحالات لا يتم تشخيصها بدقة الأمر الذي يؤدي إلى إصابة المرضى بمضاعفات. يقول المختصون: إن وجود 48 نوعاً من أمراض الاكتئاب التي تصيب الإنسان يشكل صعوبة في التشخيص لدى بعض الأطباء، خاصة أن أعراض المرض تتشابه في معظمها، ورأوا أن الاكتئاب النفسي هو السبب المباشر لمعظم الأمراض التي تتعلق بالمناعة الذاتية للجسم كالأورام والسرطان والسكر وضغط الدم وأمراض الكبد والإعاقة الذهنية، والاكتئاب عادة يصيب الإنسان عندما يفقد الأمل في المستقبل أو يتعرض للبطالة والفقر الشديد والعجز والحرمان. وقال الأخصائيون: إن مزاولة الرياضة خاصة التي على الأقدام والاختلاط بالناس والتحدث إليهم يخفض الاكتئاب، كذلك الإنصات إلى القرآن الكريم والاستمتاع بمشاعر الحب والإيمان والاقتداء بأهل الثقة يمنع حدوث المرض. وتشير بعض الدراسات إلى ارتفاع نسبة الإصابة بالاكتئاب بين سكان المدن عن القرى نظراً للضوضاء والزحام والانطواء وتكالب الناس على المادة. ويذكر هناك نحو (340) مليون كئيب في العالم اليوم - طبقاً لتقرير لمنظمة الصحة العالمية - ينتحر كثير منهم سنوياً. وتقول الأرقام: إن هناك (11) مليون أمريكي مصابون بالاكتئاب سنوياً، كما إن نسبة إصابة الاكتئاب عند الرجال أقل منها عند المرأة. ويرى المختصون أن الاكتئاب - وخاصة الشديد عند الرجل - قد تكون عواقبه خطيرة إذا لم يعالج منه الرجل؛ لأن الرجل عرضة للانتحار بنسبة أربع مرات عن المرأة، و80% من نسبة المنتحرين في الولايات المتحدة من الرجال، وعادة ما ينجحون في ذلك؛ لأنهم يستخدمون طرقاً مميتة وقاتلة.

ص: 265

..............................

أشخاصاً وحكومات، وغير ذلك.

قال تعالى: «الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍبَعِيدٍ»(1).

وقال سبحانه: «قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ»(2).

وعن جعفر بن محمد، عن أبيه (عليهما السلام)، قال: «خَرَجَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) قَابِضاً عَلَى شَيْئَيْنِ فِي يَدِهِ، فَفَتَحَ يَدَهُ الْيُمْنَى ثُمَّ قَالَ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، كِتَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ بِأَعْدَادِهِمْ، وَأَحْسَابِهِمْ، وَأَنْسَابِهِمْ، مُجْمَلٌ عَلَيْهِمْ لاَ يَنْقُصُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَلاَ يُزَادُ فِيهِمْ أَحَدٌ.

ص: 266


1- سورة إبراهيم: 3.
2- سورة ق: 27.

..............................

ثُمَّ فَتَحَ يَدَهُ الْيُسْرَى، فَقَالَ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، كِتَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي أَهْلِ النَّارِ بِأَعْدَادِهِمْ، وَأَحْسَابِهِمْ، وَأَنْسَابِهِمْ، مُجْمَلٌ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لاَ يُنْقَصُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَلاَ يُزَادُ فِيهِمْ أَحَدٌ. وَقَدْ يُسْلَكُ بِالسُّعَدَاءِ طَرِيقَ الأَشْقِيَاءِ، حَتَّى يُقَالَ: هُمْ مِنْهُمْ هُمْ هُمْ، مَا أَشْبَهَهُمْ بِهِمْ، ثُمَّ يُدْرِكُ أَحَدَهُمْ سَعَادَتُهُ قَبْلَ مَوْتِهِ، وَلَوْ بِفُوَاقِ نَاقَةٍ. وَقَدْ يُسْلَكُ بِالأَشْقِيَاءِ طَرِيقَ أَهْلِ السَّعَادَةِ، حَتَّى يُقَالَ: هُمْ مِنْهُمْ هُمْ هُمْ، مَا أَشْبَهَهُمْبِهِمْ، ثُمَّ يُدْرِكُ أَحَدَهُمْ شِقَاهُ وَلَوْ قَبْلَ مَوْتِهِ، وَلَوْ بِفُوَاقِ نَاقَةٍ. فَقَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): الْعَمَلُ بِخَوَاتِيمِهِ، الْعَمَلُ بِخَوَاتِيمِهِ، الْعَمَلُ بِخَوَاتِيمِهِ»(1).

وعن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه، عن علي (عليهم السلام)، أنه قال: «حَقِيقَةُ السَّعَادَةِ أَنْ يُخْتَمَ الرَّجُلُ عَمَلُهُ بِالسَّعَادَةِ، وَحَقِيقَةُ الشَّقَاءِ أَنْ يُخْتَمَ الْمَرْءُ عَمَلُهُ بِالشَّقَاءِ»(2).

وفي عيون أخبار الرضا (عليه السلام)، قَالَ الرِّضَا (عليه السلام): قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله): يَا رَسُولَ اللهِ، هَلَكَ فُلاَنٌ يَعْمَلُ مِنَ الذُّنُوبِ كَيْتَ وَكَيْتَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): بَلْ قَدْ نَجَا، وَلاَ يَخْتِمُ اللهُ تَعَالَى عَمَلَهُ إِلاَّ بِالْحُسْنَى، وَسَيَمْحُو اللهُ عَنْهُ السَّيِّئَاتِ وَيُبَدِّلُهَا لَهُ حَسَنَاتٍ، إِنَّهُ كَانَ مَرَّةً يَمُرُّ فِي طَرِيقٍ عَرَضَ لَهُ مُؤْمِنٌ، قَدِ انْكَشَفَ عَوْرَتُهُ وَهُوَ لاَ يَشْعُرُ، فَسَتَرَهَا عَلَيْهِ وَلَمْ يُخْبِرْهُ بِهَا، مَخَافَةَ أَنْ يَخْجَلَ. ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الْمُؤْمِنَ عَرَفَهُ فِي مَهْوَاةٍ، فَقَالَ لَهُ:

ص: 267


1- بحار الأنوار: ج5 ص153، كتاب العدل والمعاد، الباب6 من أبواب العدل، ح2.
2- بحار الأنوار: ج5 ص154، كتاب العدل والمعاد، الباب6 من أبواب العدل، ح5.

..............................

أَجْزَلَ اللهُ لَكَ الثَّوَابَ، وَأَكْرَمَ لَكَ الْمَآبَ، وَلاَ نَاقَشَكَ الْحِسَابَ. فَاسْتَجَابَ اللهُ لَهُ فِيهِ، فَهَذَا الْعَبْدُ لاَ يُخْتَمُ لَهُ إِلاَّ بِخَيْرٍ بِدُعَاءِ ذَلِكَ الْمُؤْمِنِ. فَاتَّصَلَ قَوْلُ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) بِهَذَا الرَّجُلِ، فَتَابَ وَأَنَابَ وَأَقْبَلَ إِلَى طَاعَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَلَمْ يَأْتِ عَلَيْهِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ حَتَّى أُغِيرَ عَلَى سَرْحِ الْمَدِينَةِ، فَوَجَّهَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) فِي أَثَرِهِمْ جَمَاعَةً، ذَلِكَ الرَّجُلُ أَحَدُهُمْ، فَاسْتُشْهِدَ فِيهِمْ»(1).

وعن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، فِي قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: «قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا»(2)، قَالَ: «بِأَعْمَالِهِمْ شَقُوا»(3).

وعن ابن أبي عمير، قال: سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ مُوسَى بْنَ جَعْفَرٍ (عليه السلام) عَنْ مَعْنَى قَوْلِ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله): «الشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَالسَّعِيدُ مَنْ سَعِدَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ»؟.

فَقَالَ: «الشَّقِيُّ مَنْ عَلِمَ اللهُ - وَهُوَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ - أَنَّهُ سَيَعْمَلُ أَعْمَالَ الأَشْقِيَاءِ، وَالسَّعِيدُ مَنْ عَلِمَ اللهُ - وَهُوَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَنَّهُ سَيَعْمَلُ أَعْمَالَ السُّعَدَاءِ». قُلْتُ لَهُ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ (صلى الله عليه وآله): «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ»؟. فَقَالَ: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ الْجِنَّ وَالإِنْسَ لِيَعْبُدُوهُ، وَلَمْ يَخْلُقْهُمْ لِيَعْصُوهُ؛ وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:«وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ»(4)، فَيَسَّرَ

ص: 268


1- بحار الأنوار: ج5 ص155- 156، كتاب العدل والمعاد، الباب6 من أبواب العدل، ح7.
2- سورة المؤمنون: 106.
3- بحار الأنوار: ج5 ص157، كتاب العدل والمعاد، الباب6 من أبواب العدل، ح9.
4- سورة الذاريات: 56.

..............................

كُلاًّ لِمَا خَلَقَ لَهُ، فَالْوَيْلُ لِمَنِ اسْتَحَبَّ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ السَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ خَلْقَهُ، فَمَنْ عَلِمَهُ اللهُ سَعِيداً لَمْ يُبْغِضْهُ أَبَداً، وَإِنْ عَمِلَ شَرّاً أَبْغَضَ عَمَلَهُ وَلَمْ يُبْغِضْهُ. وَإِنْ عَلِمَهُ شَقِيّاً لَمْ يُحِبَّهُ أَبَداً، وَإِنْ عَمِلَ صَالِحاً أَحَبَّ عَمَلَهُ، وَأَبْغَضَهُ لِمَا يَصِيرُ إِلَيْهِ، فَإِذَا أَحَبَّ اللهُ شَيْئاً لَمْ يُبْغِضْهُ أَبَداً، وَإِذَا أَبْغَضَ شَيْئاً لَمْ يُحِبَّهُ أَبَداً»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) - فِي قَوْلِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ: «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ»(3) - قَالَ: «يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْبَاطِلَ حَقٌّ». وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ بِالْمَوْتِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «إِنَّ اللهَ يَنْقُلُ الْعَبْدَ مِنَ الشَّقَاءِ إِلَى السَّعَادَةِ، وَلاَ يَنْقُلُهُ مِنَ السَّعَادَةِ إِلَى الشَّقَاءِ»(4).

ص: 269


1- بحار الأنوار: ج5 ص157، كتاب العدل والمعاد، الباب6 من أبواب العدل، ح10.
2- بحار الأنوار: ج5 ص157، كتاب العدل والمعاد، الباب6 من أبواب العدل، ح11.
3- سورة الأنفال: 24.
4- بحار الأنوار: ج5 ص158، كتاب العدل والمعاد، الباب6 من أبواب العدل، ح12.

..............................

الدفاع عن العترة الطاهرة

مسألة: الدفاع عن أهل البيت (عليهم السلام) في مثل هذا الزمن، آكد في الوجوب، وتركه أشد حرمة، وأجره أكبر، فإن خير الأعمال أحمزها، وهو واجب كفائي وإذا لم يقم به من فيه الكفاية إثم الجميع.

حرمة ما يبيد الإنسان

مسألة: يحرم فعل كل ما يسبب إبادة الإنسان وإبادة الأمة، فصنع القنبلة الذرية والنووية والقنابل الكيماوية والجرثومية، من أشد المحرمات، وكل ذلك وأمثاله هو نتاج ذلك الانقلاب على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، كما قالت (عليها السلام): «أَمَا لَعَمْرِي لَقَدْ لَقِحَتْ، فَنَظِرَةٌ رَيْثَمَا تُنْتَجُ، ثُمَّ احْتَلَبُوا مِلْ ءَ الْقَعْبِ دَماً عَبِيطاً، وَذُعَافاً ممقراً مُبِيداً».

ص: 270

هُنَالِكَ «يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ»

اشارة

هُنَالِكَ «يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ»(1)،

-------------------------------------------

خسارة المبطلين ثبوتاً وإثباتاً

قول الصديقة (عليها السلام): «يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ» إشارة إما لعالم الثبوت، أو عالم الإثبات.

فإن كان الأول، فالمعنى: هنالك يخسر المبطلون أي الخسران الأكبر، وإلا فإنهم بالفعل خاسرون الآن.

وإن كان الثاني فالمعنى هنالك يظهر خسرانهم أو يرون خسرانهم، أي بعد أن أنتجت فتنتهم هنالك يرى المبطلون كيف خسروا في الدنيا والآخرة، لأنهم يخسرون أنفسهم وأهليهم وأموالهم في الحروب وفي مختلف الفتن، كما يخسرون التاريخ أيضاً، إذ يتحولون إلى لعنة بدل الذكر الحسن.

في الآية الشريفة: «وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ»(2).

ثم إنهم يخسرون أنفسهم وأهليهم في الآخرة أيضا، كما قال سبحانه: «قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ»(3).وهذا هو ما حدث، فإن كثيراً من الخلفاء والأمراء والأمم قُتلوا أو أسروا

ص: 271


1- سورة الجاثية: 27.
2- سورة الشعراء: 84.
3- سورة الزمر: 15.

..............................

أو انتهكت أعراضهم وصودرت أموالهم.. إلى غير ذلك. وفي ضمن أولئك عمت الفتنة المؤمنين والمصلحين والصادقين أيضاً، كما قال سبحانه: «وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً»(1).

ومثال ذلك السفينة لو خرفها السفهاء فإن الكل يغرق، السفهاء وغيرهم، من لم يعلم، ومن علم ورضي، ومن علم وحاول الحيلولة دون ذلك فلم يقدر.

عن النبي (صلى الله عليه وآله)، أنه قال: «إِنَّ قَوْماً رَكِبُوا سَفِينَةً فِي الْبَحْرِ وَاقْتَسَمُوا، فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَوْضِعَهُ، فَنَقَرَ رَجُلٌ مَوْضِعَهُ بِفَأْسٍ. فَقَالُوا: مَا تَصْنَعُ؟!. قَالَ: هُوَ مَكَانِي أَصْنَعُ بِهِ مَا شِئْتُ. فَإِنْ أَخَذُوا عَلَى يَدَيْهِ نَجَا وَنَجَوْا، وَإِنْ لَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ هَلَكَ وَهَلَكُوا»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال:«إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ بَعَثَ مَلَكَيْنِ إِلَى أَهْلِ مَدِينَةٍ؛ لِيَقْلِبَاهَا عَلَى أَهْلِهَا. فَلَمَّا انْتَهَيَا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَجَدَا رَجُلاً يَدْعُو اللهَ وَيَتَضَرَّعُ. فَقَالَ أَحَدُ الْمَلَكَيْنِ لِصَاحِبِهِ: أَ مَا تَرَى هَذَا الدَّاعِيَ!. فَقَالَ: قَدْ رَأَيْتُهُ، وَلَكِنْ أَمْضِي لِمَا أَمَرَ بِهِ رَبِّي. فَقَالَ: لاَ، وَلَكِنْ لاَ أُحْدِثُ شَيْئاً حَتَّى أُرَاجِعَ رَبِّي. فَعَادَ إِلَى اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَقَالَ: يَا رَبِّ، إِنِّي انْتَهَيْتُ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَوَجَدْتُ عَبْدَكَ فُلاَناً يَدْعُوكَ وَيَتَضَرَّعُ إِلَيْكَ. فَقَالَ: امْضِ بِمَا أَمَرْتُكَ بِهِ؛ فَإِنَّ ذَا رَجُلٌ لَمْ يَتَمَعَّرْ وَجْهُهُ غَيْظاً لِي قَطُّ»(3).

ص: 272


1- سورة الأنفال: 25.
2- مجموعة ورام: ج2 ص294، باب ذكر جمل من مناهي رسول الله (صلى الله عليه وآله).
3- الكافي: ج5 ص58، كتاب الجهاد، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح8.

..............................

وعن أبي عبد الله (عليه السلام): «أَنَّ رَجُلاً مِنْ خَثْعَمَ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله). فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَخْبِرْنِي مَا أَفْضَلُ الإِسْلاَمِ؟. قَالَ: الإِيمَانُ بِاللهِ. قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟. قَالَ: ثُمَّ صِلَةُ الرَّحِمِ. قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟. قَالَ: الأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ» قَالَ: فَقَالَ الرَّجُلُ: فَأَيُّ الأَعْمَالِ أَبْغَضُ إِلَى اللهِ؟. قَالَ: الشِّرْكُ بِاللهِ. قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟. قَالَ: قَطِيعَةُ الرَّحِمِ. قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟. قَالَ: الأَمْرُ بِالْمُنْكَرِوَالنَّهْيُ عَنِ الْمَعْرُوفِ»(1).

وعن يعقوب بن يزيد رفعه، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «الأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ خُلُقَانِ مِنْ خُلُقِ اللهِ، فَمَنْ نَصَرَهُمَا أَعَزَّهُ اللهُ، وَمَنْ خَذَلَهُمَا خَذَلَهُ اللهُ»(2).

وعن غياث بن إبراهيم، قال: كَانَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) إِذَا مَرَّ بِجَمَاعَةٍ يَخْتَصِمُونَ، لاَ يَجُوزُهُمْ حَتَّى يَقُولَ ثَلاَثاً: «اتَّقُوا اللهَ»، يَرْفَعُ بِهَا صَوْتَهُ(3).

وعن محمد بن عرفة، قال: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ الرِّضَا (عليه السلام) يَقُولُ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ: إِذَا أُمَّتِي تَوَاكَلَتِ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَلْيَأْذَنُوا بِوِقَاعٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى»(4).

وقال النبي (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيُبْغِضُ الْمُؤْمِنَ الضَّعِيفَ الَّذِي لاَ دِينَ لَهُ». فَقِيلَ لَهُ: وَمَا الْمُؤْمِنُ الَّذِي لاَدِينَ لَهُ؟!. قَالَ: «الَّذِي لاَ يَنْهَى

ص: 273


1- الكافي: ج5 ص58، كتاب الجهاد، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح9.
2- الكافي: ج5 ص59، كتاب الجهاد، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح11.
3- الكافي: ج5 ص59، كتاب الجهاد، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح12.
4- الكافي: ج5 ص59، كتاب الجهاد، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح13.

..............................

عَنِ الْمُنْكَرِ»(1).

المبطل الخاسر

مسألة: يستحب - وقد يجب - بيان أن (المبطل) من الخاسرين في الدنيا والآخرة، كما بينت الصديقة (صلوات الله عليها)، فإن ذلك من طرق الردع ومن وسائل النهي عن المنكر.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «مَعَاشِرَ النَّاسِ اتَّقُوا اللهَ. فَكَمْ مِنْ مُؤَمِّلٍ مَا لاَ يَبْلُغُهُ، وَبَانٍ مَا لا يَسْكُنُهُ، وَجَامِعٍ مَا سَوْفَ يَتْرُكُهُ، وَلَعَلَّهُ مِنْ بَاطِلٍ جَمَعَهُ، وَمِنْ حَقٍّ مَنَعَهُ، أَصَابَهُ حَرَاماً، وَاحْتَمَلَ بِهِ آثَاماً، فَبَاءَ بِوِزْرِهِ، وَقَدِمَ عَلَى رَبِّهِ، آسِفاً لاَهِفاً، قَدْ «خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ»(2)»(3).وعن الرضا (عليه السلام)، أنه قال: قال علي بن الحسين (عليه السلام): «إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ قَدْ حَسُنَ سَمْتُهُ وَهَدْيُهُ، وَتَمَاوَتَ فِي مَنْطِقِهِ، وَتَخَاضَعَ فِي حَرَكَاتِهِ، فَرُوَيْداً لاَ يَغُرَّنَّكُمْ؛ فَمَا أَكْثَرَ مَنْ يُعْجِزُهُ تَنَاوُلُ الدُّنْيَا وَرُكُوبُ الْحَرَامِ مِنْهَا، لِضَعْفِ نِيَّتِهِ وَمَهَانَتِهِ، وَجُبْنِ قَلْبِهِ. فَنَصَبَ الدِّينَ فَخّاً لَهَا، فَهُوَ لاَ يَزَالُ يَخْتِلُ النَّاسَ بِظَاهِرِهِ، فَإِنْ تَمَكَّنَ مِنْ حَرَامٍ اقْتَحَمَهُ.

ص: 274


1- الكافي: ج5 ص59، كتاب الجهاد، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح15.
2- سورة الحج: 11.
3- نهج البلاغة: حكم أمير المؤمنين (عليه السلام)، رقم 344.

..............................

وَإِذَا وَجَدْتُمُوهُ يَعِفُّ عَنِ الْمَالِ الْحَرَامِ، فَرُوَيْداً لاَ يَغُرَّنَّكُمْ؛ فَإِنَّ شَهَوَاتِ الْخَلْقِ مُخْتَلِفَةٌ، فَمَا أَكْثَرَ مَنْ يَنْبُو عَنِ الْمَالِ الْحَرَامِ وَإِنْ كَثُرَ، وَيَحْمِلُ نَفْسَهُ عَلَى شَوْهَاءَ قَبِيحَةٍ، فَيَأْتِي مِنْهَا مُحَرَّماً.

فَإِذَا وَجَدْتُمُوهُ يَعِفُّ عَنْ ذَلِكَ، فَرُوَيْداً لاَ يَغُرَّنَّكُمْ، حَتَّى تَنْظُرُوا مَا عُقْدَةُ عَقْلِهِ؛ فَمَا أَكْثَرَ مَنْ تَرَكَ ذَلِكَ أَجْمَعَ، ثُمَّ لاَ يَرْجِعُ إِلَى عَقْلٍ مَتِينٍ، فَيَكُونُ مَا يُفْسِدُ بِجَهْلِهِ، أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُهُ بِعَقْلِهِ.

فَإِذَا وَجَدْتُمْ عَقْلَهُ مَتِيناً، فَرُوَيْداً لاَ يَغُرَّكُمْ تَنْظُرُوا، أَمَعَ هَوَاهُ يَكُونُ عَلَى عَقْلِهِ، أَمْ يَكُونُ مَعَ عَقْلِهِ عَلَى هَوَاهُ، وَكَيْفَ مَحَبَّتُهُ لِلرِّئَاسَاتِ الْبَاطِلَةِ وَزُهْدُهُ فِيهَا؛ فَإِنَّ فِي النَّاسِ مَنْ «خَسِرَ الدُّنْيَاوَالْآخِرَةَ»(1)، يَتْرُكُ الدُّنْيَا لِلدُّنْيَا، وَيَرَى أَنَّ لَذَّةَ الرِّئَاسَةِ الْبَاطِلَةِ، أَفْضَلُ مِنْ لَذَّةِ الأَمْوَالِ وَالنِّعَمِ الْمُبَاحَةِ الْمُحَلَّلَةِ، فَيَتْرُكُ ذَلِكَ أَجْمَعَ طَلَباً لِلرِّئَاسَةِ، حَتَّى «إِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ»(2).

فَهُوَ يَخْبِطُ خَبْطَ عَشْوَاءَ، يُوقِدُهُ أَوَّلَ بَاطِلٍ إِلَى أَبْعَدِ غَايَاتِ الْخَسَارَةِ، وَيُمِدُّهُ رَبُّهُ بَعْدَ طَلَبِهِ لِمَا لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ فِي طُغْيَانِهِ، فَهُوَ يُحِلُّ مَا حَرَّمَ اللهُ، وَيُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ، لاَ يُبَالِي مَا فَاتَ مِنْ دِينِهِ، إِذَا سَلِمَتْ لَهُ الرِّئَاسَةُ، الَّتِي قَدْ شَقِيَ مِنْ أَجْلِهَا، فَأُولَئِكَ الَّذِينَ «غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ»(3) وَ«أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا

ص: 275


1- سورة الحج: 11.
2- سورة البقرة: 206.
3- سورة الفتح: 6.

..............................

مُهِينًا»(1).

وَلَكِنَّ الرَّجُلَ، كُلَّ الرَّجُلِ، نِعْمَ الرَّجُلُ، هُوَ الَّذِي جَعَلَ هَوَاهُ تَبَعاً لأَمْرِ اللهِ، وَقُوَاهُ مَبْذُولَةً فِي رِضَى اللهِ، يَرَى الذُّلَّ مَعَ الْحَقِّ أَقْرَبَ إِلَى عِزِّ الأَبَدِ مِنَ الْعِزِّ فِي الْبَاطِلِ، وَيَعْلَمُ أَنَّ قَلِيلَ مَا يَحْتَمِلُهُ مِنْ ضَرَّائِهَا، يُؤَدِّيهِ إِلَى دَوَامِ النَّعِيمِ فِي دَارٍ لاَ تَبِيدُوَلاَ تَنْفَدُ، وَأَنَّ كَثِيرَ مَا يَلْحَقُهُ مِنْ سَرَّائِهَا إِنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ، يُؤَدِّيهِ إِلَى عَذَابٍ لاَ انْقِطَاعَ لَهُ وَلاَ يَزُولُ.

فَذَلِكُمُ الرَّجُلُ، نِعْمَ الرَّجُلُ، فِيهِ فَتَمَسَّكُوا، وَبِسُنَّتِهِ فَاقْتَدُوا، وَإِلَى رَبِّكُمْ فَتَوَسَّلُوا؛ فَإِنَّهُ لاَ تُرَدُّ لَهُ دَعْوَةٌ، وَلاَ يُخَيَّبُ لَهُ طَلِبَةٌ»(2).

وقال عيسى (عليه السلام): «يَا عُلَمَاءَ السَّوْءِ، تَأْمُرُونَ النَّاسَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ، وَلاَ تَفْعَلُونَ مَا تَأْمُرُونَ، وَتَدْرُسُونَ مَا لاَ تَعْلَمُونَ. فَيَا سَوْءَ مَا تَحْكُمُونَ، تَتُوبُونَ بِالْقَوْلِ وَالأَمَانِيِّ، وَتَعْمَلُونَ بِالْهَوَى، وَمَا يُغْنِي عَنْكُمْ أَنْ تُنَقُّوا جُلُودَكُمْ وَقُلُوبُكُمْ دَنِسَةٌ.

وَبِحَقٍّ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ تَكُونُوا كَالْمُنْخُلِ، يَخْرُجُ مِنْهُ الدَّقِيقُ الطَّيِّبُ، وَيَبْقَى فِيهِ النُّخَالَةُ. كَذَلِكَ أَنْتُمْ تُخْرِجُونَ الْحِكْمَةَ مِنْ أَفْوَاهِكُمْ، وَيَبْقَى الْغِلُّ فِي صُدُورِكُمْ. يَا عَبِيدَ الدُّنْيَا، كَيْفَ يُدْرِكُ الآخِرَةَ مَنْ لاَ تَنْقَضِي مِنَ الدُّنْيَا شَهْوَتُهُ، وَلاَتَنْقَطِعُ مِنْهَا رَغْبَتُهُ.

ص: 276


1- سورة الأحزاب: 57.
2- الاحتجاج للطبرسي: ج2 ص320 - 321، احتجاجه (عليه السلام) في أشياء شتى من علوم الدين وذكر طرف من مواعظه البليغة.

..............................

بِحَقٍّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ قُلُوبَكُمْ تَبْكِي مِنْأَعْمَالِكُمْ، جَعَلْتُمُ الدُّنْيَا تَحْتَ أَلْسِنَتِكُمْ، وَالْعَمَلَ تَحْتَ أَقْدَامِكُمْ.

بِحَقٍّ أَقُولُ لَكُمْ: لَقَدْ أَفْسَدْتُمْ آخِرَتَكُمْ، فَصَلاَحُ الدُّنْيَا أَحَبُّ إِلَيْكُمْ مِنْ صَلاَحِ الآخِرَةِ، فَأَيُّ النَّاسِ أَخْسَرُ مِنْكُمْ لَوْ تَعْلَمُونَ. وَيْلَكُمْ حَتَّى مَتَى تَصِفُونَ الطَّرِيقَ لِلْمُدْلِجِينَ، وَتُقِيمُونَ فِي مَحَلِّ الْمُتَحَيِّرِينَ، كَأَنَّكُمْ تَدْعُونَ أَهْلَ الدُّنْيَا لِيَلُوكُوهَا لَكُمْ.

مَهْلاً مَهْلاً، وَيْلَكُمْ مَاذَا يُغْنِي عَنِ الْبَيْتِ الْمُظْلِمِ أَنْ يُوضَعَ السِّرَاجُ فَوْقَ ظَهْرِهِ، وَجَوْفُهُ وَحِشٌ مُظْلِمٌ. كَذَلِكَ لاَ يُغْنِي عَنْكُمْ أَنْ يَكُونَ نُورُ الْعِلْمِ بِأَفْوَاهِكُمْ، وَأَجْوَافُكُمْ مِنْهُ وَحْشِيَّةٌ مُعَطَّلَةٌ.

يَا عَبِيدَ الدُّنْيَا، لاَ كَعَبِيدٍ أَتْقِيَاءَ، وَلاَ كَأَحْرَارٍ كِرَامٍ، يُوشِكُ الدُّنْيَا أَنْ تَقْلَعَكُمْ عَنْ أُصُولِكُمْ، فَتُلْقِيكُمْ عَلَى وُجُوهِكُمْ، ثُمَّ تُكِبُّكُمْ عَلَى مَنَاخِرِكُمْ، ثُمَّ تَأْخُذُ خَطَايَاكُمْ بِنَوَاصِيكُمْ، ثُمَّ يَدْفَعُكُمُ الْمُعَلِّمُ مِنْ خَلْفِكُمْ، حَتَّى يُسَلِّمَكُمْ إِلَى الْمَلِكِ الدَّيَّانِ عُرَاةً فُرَادَى، فَيُوقِفُكُمْ عَلَى سَوْءَاتِكُمْ، ثُمَّ يَجْزِيكُمْ بِسُوءِ أَعْمَالِكُمْ»(1).

ص: 277


1- مجموعة ورام: ج1 ص176، بيان ذم الغنى ومدح الفقر.

وَيَعْرِفُ التَّالُونَ غِبَّ مَا أُسِّسَ الأَوَّلُونَ.

اشارة

-------------------------------------------

التاريخ وفضح الظلم والظالمين

(غِبّ) بالكسر: يعني العاقبة، وجمعه (أغباب)، تقول: (للإمر غب) أي عاقبة، فهو والمغبة بمعنى واحد.

(التالون): التابعون واللاحقون.

والمقصود ليس المعرفة المجردة فحسب، بل المراد الشمول أيضاً، أي: إن غب وعاقبة ما أسسه الأولون سيشمل اللاحقين أيضاً، بمعنى أن الفتنة ستعمهم، وسيتجرعون من كأس السم، شاؤوا أم أبوا.

فمثلاً: سعد بن عبادة تعرض للاغتيال والقتل، وكان هو ممن أشعل نار الفتنة في السقيفة، ثم أعلن الذين قتلوه: أن الجن قتله، ونقلوا على لسان الجن شعراً في قتله وهو:

قد قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة *** ورميناه بسهمين ولم نخطأ فؤاده

وغير ذلك من الأمثلة مما ملأت صفحات التاريخ.مسألة: يستحب وقد يجب إيضاح هذه الحقيقة التي ذكرتها الصديقة الطاهرة (عليها السلام) للناس، فالظلم والظالم والظلامات، ستنكشف يوماً ما للناس، ولو للأجيال اللاحقة والأمم التالية، وسيعرفها الجميع ولو بعد حين، قال تعالى: «لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ

ص: 278

..............................

جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ»(1).

ويمكن أن يسأل هل سيعرف كل التالين غب ونتيجة ما أسسه الأولون؟. والحال أننا نرى أن أكثر الناس يجهلون الحقيقة؟.

الجواب:

أولاً: يمكن أن يكون المراد في زمن الظهور.

ثانياً: أو في يوم القيامة.

ثالثاً: ويمكن أن يكون المراد قبل زمن الظهور حقيقة، إذ يحتمل أن يتطور العلم والثقافة ليكتشف الناس كل الحقيقة.

رابعاً: ويمكن أن يكون المراد الأعم الأغلب، أو معظم التالين أو العديدمنهم.

وخامساً: أو يكون المراد الرؤوس بقرينة (ما أسسه).

معرفة تاريخ الأمم

مسألة: معرفة تاريخ الأمم والحكام والملوك، ومَن العادل ومَن الجائر، وأسباب نهوض الأمم وسقوطها، ونتائج الظلم، وآثار العدل وشبه ذلك لازمة، وربما تكون واجبة أي في الجملة.

قال تعالى: «لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ»(2).

ص: 279


1- سورة آل عمران: 196- 197.
2- سورة يوسف: 111.

..............................

وفي الحديث: «وَسِرْ فِي دِيَارِهِمْ وَآثَارِهِمْ، فَانْظُرْ فِيمَا فَعَلُوا»(1).

الكتابة الواعية

مسألة: يجب على الدولة الإسلامية، وعلى الحوزات العلمية وما أشبه، أن تشجع الكتابة الواعية عن التاريخ، بل أن تؤسس لجاناً ومراكز دراسات مهمتها التنقيب عن التاريخ وعن حركتهومراحله وتطوره، وعن كل خصوصياته، فإن التاريخ يتجدد.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْراً بِشِبْرٍ وَذِرَاعاً بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلَ أَحَدُهُمْ فِي جُحْرِ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ»(2).

ويقول الإمام علي (عليه السلام) «وَاعْتَبِرْ بِمَا مَضَى مِنَ الدُّنْيَا لِمَا بَقِيَ مِنْهَا، فَإِنَّ بَعْضَهَا يُشْبِهُ بَعْضاً، وَآخِرَهَا لاَحِقٌ بِأَوَّلِهَا، وَكُلُّهَا حَائِلٌ مُفَارِقٌ»(3).

فليست الفائدة في الكتابة عن التاريخ تنحصر في ضرورية تشخيص المحق من المبطل، وهو نوع جزاء دنيوي قرره الله تعالى، بل للاعتبار أيضاً، ولبناء المستقبل ثالثاً، إلى غير ذلك.

ص: 280


1- نهج البلاغة: رسائل أمير المؤمنين (عليه السلام)، رقم31 ومن [وصيته] وصية له (عليه السلام) للحسن بن علي (عليه السلام) كتبها إليه بحاضرين عند انصرافه من صفين.
2- بحار الأنوار: ج23 ص165، كتاب الإمامة، الباب7 من أبواب جمل أحوال الأئمة الكرام (عليهم السلام) ودلائل إمامتهم وفضائلهم ومناقبهم وغرائب أحوالهم.
3- نهج البلاغة: رسائل أمير المؤمنين (عليه السلام)، رقم69 ومن كتاب له (عليه السلام) إلى الحارث [الهمداني] الهمذاني.

..............................

وفي الكافي: عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) - فِي قَوْلِهِ: «لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًاعَنْ طَبَقٍ»(1) - قال: «يَا زُرَارَةُ، أَ وَ لَمْ تَرْكَبْ هَذِهِ الأُمَّةُ بَعْدَ نَبِيِّهَا طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ فِي أَمْرِ فُلاَنٍ وَفُلاَنٍ وَفُلاَنٍ»(2).

قال العلامة المجلسي (رحمه الله) في البحار بعد نقل هذه الرواية: (بيان: أي كانت ضلالتهم بعد نبيهم مطابقة لما صدر من الأمم السابقة، من ترك الخليفة، واتباع العجل والسامري، وأشباه ذلك، كما قال علي بن إبراهيم في تفسير تلك الآية: يَقُولُ حَالاً بَعْدَ حَالٍ، يَقُولُ: لَتَرْكَبُنَّ سُنَّةَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ، وَالْقَذَّةِ بِالْقَذَّةِ، لاَ تُخْطِئُونَ طَرِيقَهُمْ وَلاَ يُخْطِئُ، شِبْرٌ بِشِبْرٍ، وَذِرَاعٌ بِذِرَاعٍ، وَبَاعٌ بِبَاعٍ، حَتَّى أَنْ لَوْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ دَخَلَ جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ. قَالُوا: الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى تَعْنِي يَا رَسْولَ اللهِ؟. قَالَ: فَمَنْ أَعْنِي، لَتَنْقُضُنَّ عُرَى الإِسْلاَمِ عُرْوَةً عُرْوَةً، فَيَكُونُ أَوَّلَ مَا تَنْقُضُونَ مِنْ دِينِكُمُ الأَمَانَةُ وَآخِرَهُ الصَّلاَةُ)(3).

ص: 281


1- سورة الانشقاق: 19.
2- الكافي: ج1 ص415، كتاب الحجة، باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية، ح17.
3- بحار الأنوار: ج24 ص350، تتمة كتاب الإمامة، الباب67 من تتمة أبواب الآيات النازلة فيهم، ذيل ح64.

ثُمَّ طِيبُوا عن دُنْيَاكُمْ أَنْفُساً،

اشارة

-------------------------------------------

الغرور بظاهر الدنيا

قول الصديقة (عليها السلام): «طِيبُوا» فيه طعن عليهم وتعريض وتنقيص، كقوله تعالى: «ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ»(1)، وقوله سبحانه: «فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ»(2).

و(طاب فلان نفساً عن كذا) أي: رضي من دون أن يكرهه عليه أحد، و(طابت نفسه عن كذا) أي: رضي ببدله، بعكس طابت نفسه بكذا، فهما متقابلان.

و(نفساً) منصوب على التمييز.

ولا يتصور أن يكون المراد بذلك إشارة مجازية إلى فترة راحة واستقرار يمرون بها، وإن أعقب ذلك عذاب وانهيار، وذلك بملاحظة «وَاطْمَئِنُّوا لِلْفِتْنَةِ جَأْشاً، وَأَبْشِرُوا بِسَيْفٍ صَارِمٍ، وَسَطْوَةِ مُعْتَدٍ غَاشِمٍ».

ثم إن «طِيبُوا عن دُنْيَاكُمْ» وإن كان ظاهره خاصاً بذلك الجيل، إلا أنه - أو ملاكه - عام، كما سبق نظيره.

مسألة: هل يحرم أن يطيب الإنسان عندنياه نفساً؟. لا دليل على إطلاقه، إلا فيما عاد إلى إنكار أصل أو فرع أو شبه ذلك، فليتأمل.

ص: 282


1- سورة الدخان: 49.
2- سورة لقمان: 7، سورة الجاثية: 8.

..............................

مسألة: يحرم في الجملة أن يغتر الإنسان بظاهر الدنيا وزخرفها وزبرجها، فإنها «لَيِّنٌ مَسُّهَا وَالسَّمُّ النَّاقِعُ فِي جَوْفِهَا»(1).

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ».

وقال (صلى الله عليه وآله): «الدُّنْيَا جِيفَةٌ وَطَالِبُهَا كِلاَبٌ، أَ لاَ تَرَى كَيْفَ أَحَبَّ مَا أَبْغَضَهُ اللهُ، وَأَيُّ خَطِيئَةٍ أَشَدُّ جُرْماً مِنْ هَذَا».

وقال بعض أهل البيت (عليهم السلام): «لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا بِأَجْمَعِهَا لُقْمَةً فِي فَمِ طِفْلٍ لَرَحِمْنَاهُ، فَكَيْفَ حَالُ مَنْ نَبَذَ حُدُودَ اللهِ تَعَالَى وَرَاءَ ظُهُورِهِ فِي طَلَبِهَا وَالْحِرْصِ عَلَيْهَا، وَالدُّنْيَا دَارٌ لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى سَاكِنِهَا لَرَحِمَتْكَ وَلأَحَبَّتْكَ، وَأَحْسَنَتْ وَدَاعَكَ».

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لَمَّا خَلَقَ اللهُ تَعَالَى الدُّنْيَا أَمَرَهَا بِطَاعَتِهِ، فَأَطَاعَتْ رَبَّهَا. فَقَالَ لَهَا: خَالِفِي مَنْطَلَبَكِ، وَوَافِقِي مَنْ خَالَفَكِ، وَهِيَ عَلَى مَا عَهِدَ اللهُ إِلَيْهَا، وَطَبَعَهَا عَلَيْهَا»(2).

وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «الدُّنْيَا بِمَنْزِلَةِ صُورَةٍ: رَأْسُهَا الْكِبْرُ، وَعَيْنُهَا الْحِرْصُ، وَأُذُنُهَا الطَّمَعُ، وَلِسَانُهَا الرِّيَاءُ، وَيَدُهَا الشَّهْوَةُ، وَرِجْلُهَا الْعُجْبُ، وَقَلْبُهَا الْغَفْلَةُ، وَكَوْنُهَا الْفَنَاءُ، وَحَاصِلُهَا الزَّوَالُ. فَمَنْ أَحَبَّهَا أَوْرَثَتْهُ الْكِبْرَ، وَمَنِ اسْتَحْسَنَهَا أَوْرَثَتْهُ الْحِرْصَ، وَمَنْ طَلَبَهَا أَوْرَثَتْهُ الطَّمَعَ، وَمَنْ مَدَحَهَا أَلْبَسَتْهُ الرِّيَاءَ، وَمَنْ أَرَادَهَا مَكَّنَتْهُ مِنَ الْعُجْبِ، وَمَنْ رَكَنَ إِلَيْهَا أَوْلَتْهُ الْغَفْلَةَ، وَمَنْ

ص: 283


1- نهج البلاغة: حِكَم أمير المؤمنين (عليه السلام)، رقم119.
2- مصباح الشريعة: ص138، الباب الرابع والستون في الزهد.

..............................

أَعْجَبَهُ مَتَاعُهَا أَفْتَنَتْهُ وَلاَ تَبْقَى، وَمَنْ جَمَعَهَا وَبَخِلَ بِهَا، رَدَّتْهَا إِلَى مُسْتَقَرِّهَا، وَهِيَ النَّارُ»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «مَنْ زَهِدَ فِي الدُّنْيَا أَثْبَتَ اللهُ الْحِكْمَةَ فِي قَلْبِهِ، وَأَنْطَقَ بِهَا لِسَانَهُ، وَبَصَّرَهُ عُيُوبَ الدُّنْيَا دَاءَهَا وَدَوَاءَهَا، وَأَخْرَجَهُ مِنَالدُّنْيَا سَالِماً إِلَى دَارِ السَّلاَمِ»(2).

وعن حفص بن غياث، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «جُعِلَ الْخَيْرُ كُلُّهُ فِي بَيْتٍ، وَجُعِلَ مِفْتَاحُهُ الزُّهْدَ فِي الدُّنْيَا» ثُمَّ قَالَ (عليه السلام): قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): «لاَ يَجِدُ الرَّجُلُ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ فِي قَلْبِهِ، حَتَّى لاَ يُبَالِيَ مَنْ أَكَلَ الدُّنْيَا». ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «حَرَامٌ عَلَى قُلُوبِكُمْ أَنْ تَعْرِفَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ حَتَّى تَزْهَدَ فِي الدُّنْيَا»(3).

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «إِنَّ مِنْ أَعْوَنِ الأَخْلاَقِ عَلَى الدِّينِ الزُّهْدَ فِي الدُّنْيَا»(4).

وعن علي بن هاشم بن البريد، عن أبيه، أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) عَنِ الزُّهْدِ؟. فَقَالَ: «عَشَرَةُ أَشْيَاءَ: فَأَعْلَى دَرَجَةِ الزُّهْدِ أَدْنَى دَرَجَةِ الْوَرَعِ، وَأَعْلَى دَرَجَةِ الْوَرَعِ أَدْنَى دَرَجَةِ الْيَقِينِ، وَأَعْلَى دَرَجَةِ الْيَقِينِ أَدْنَى دَرَجَةِ

ص: 284


1- مصباح الشريعة: ص139، الباب الخامس والستون في صفة الدنيا.
2- الكافي: ج2 ص128، كتاب الإيمان والكفر، باب ذم الدنيا والزهد فيها، ح1.
3- الكافي: ج2 ص128، كتاب الإيمان والكفر، باب ذم الدنيا والزهد فيها، ح2.
4- الكافي: ج2 ص128، كتاب الإيمان والكفر، باب ذم الدنيا والزهد فيها، ح3.

..............................

الرِّضَا. أَلاَ وَإِنَّ الزُّهْدَ فِي آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: «لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ»(1)»(2).

وعن سفيان بن عيينة، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) وَهُوَ يَقُولُ: «كُلُّ قَلْبٍ فِيهِ شَكٌّ أَوْ شِرْكٌ فَهُوَ سَاقِطٌ، وَإِنَّمَا أَرَادُوا بِالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا؛ لِتَفْرُغَ قُلُوبُهُمْ لِلآخِرَةِ»(3).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «إِنَّ عَلاَمَةَ الرَّاغِبِ فِي ثَوَابِ الآخِرَةِ، زُهْدُهُ فِي عَاجِلِ زَهْرَةِ الدُّنْيَا. أَمَا إِنَّ زُهْدَ الزَّاهِدِ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لا يَنْقُصُهُ مِمَّا قَسَمَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ فِيهَا وَإِنْ زَهِدَ، وَإِنَّ حِرْصَ الْحَرِيصِ عَلَى عَاجِلِ زَهْرَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لا يَزِيدُهُ فِيهَا وَإِنْ حَرَصَ، فَالْمَغْبُونُ مَنْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الآخِرَةِ»(4).وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «مَا أَعْجَبَ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ فِيهَا جَائِعاً خَائِفاً»(5).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «خَرَجَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) وَهُوَ مَحْزُونٌ، فَأَتَاهُ مَلَكٌ وَمَعَهُ مَفَاتِيحُ خَزَائِنِ الأَرْضِ. فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، هَذِهِ مَفَاتِيحُ

ص: 285


1- سورة الحديد: 23.
2- الكافي: ج2 ص128، كتاب الإيمان والكفر، باب ذم الدنيا والزهد فيها، ح4.
3- الكافي: ج2 ص129، كتاب الإيمان والكفر، باب ذم الدنيا والزهد فيها، ح5.
4- الكافي: ج2 ص129، كتاب الإيمان والكفر، باب ذم الدنيا والزهد فيها، ح6.
5- الكافي: ج2 ص129، كتاب الإيمان والكفر، باب ذم الدنيا والزهد فيها، ح7.

..............................

خَزَائِنِ الأَرْضِ, يَقُولُ لَكَ رَبُّكَ: افْتَحْ وَخُذْ مِنْهَا مَا شِئْتَ، مِنْ غَيْرِ أَنْ تُنْقَصَ شَيْئاً عِنْدِي. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): الدُّنْيَا دَارُ مَنْ لاَ دَارَ لَهُ، وَلَهَا يَجْمَعُ مَنْ لاَ عَقْلَ لَهُ. فَقَالَ الْمَلِكُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ نَبِيّاً، لَقَدْ سَمِعْتُ هَذَا الْكَلاَمَ مِنْ مَلَكٍ يَقُولُهُ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ، حِينَ أُعْطِيتُ الْمَفَاتِيحَ»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «مَرَّ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) بِجَدْيٍ أَسَكَّ مُلْقًى عَلَى مَزْبَلَةٍ مَيْتاً. فَقَالَ لأَصْحَابِهِ: كَمْ يُسَاوِي هَذَا؟. فَقَالُوا: لَعَلَّهُ لَوْ كَانَ حَيّاً لَمْ يُسَاوِ دِرْهَماً. فَقَالَ النَّبِيُّ (صلى اللهعليه وآله): وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ هَذَا الْجَدْيِ عَلَى أَهْلِهِ»(2).

ص: 286


1- الكافي: ج2 ص129، كتاب الإيمان والكفر، باب ذم الدنيا والزهد فيها، ح8.
2- الكافي: ج2 ص129، كتاب الإيمان والكفر، باب ذم الدنيا والزهد فيها، ح9.

وَاطْمَئِنُّوا لِلْفِتْنَةِ جَأْشاً،

اشارة

-------------------------------------------

اطمئنان النفس بالفتنة

(الجأش): النفس والقلب، ورابط الجأش: أي شجاع لأنه رابط القلب وقويه.

(الفتنة): اسم جنس وليس التاء هنا للوحدة، على ما هو مذكور في البلاغة.

وهو تعريض كما سبق، أي لتكن قلوبكم مطمئنة بنزول الفتنة، وهذا يراد به العكس، وهو الأسلوب الأبلغ والأوقع كما لا يخفى.

مسألة: اطمئنان الإنسان نفساً بالفتنة أمر قبيح، لأنه يدل على خبث الطوية وسوء السريرة والنية. ولكن هل يحرم ذلك؟.

إن عاد إلى إنكار اصل أو فرع، أو بغض لأولياء الله حرم، وكذا لو كان مقدمة حرام بناء على المبنى في المسألة، وإلا فإنه بما هو هو لا دليل على حرمته، فتأمل.

نعم، فيما نحن فيه من أشد المحرمات، لأنه من مصاديق إيذاء العترة الطاهرة (عليهم السلام).

ص: 287

..............................

مسألتان :

مسألة: يستحب، وقد يجب على المؤمنين اكتشاف من اتصفوا بهذه الصفات المشار إليها في كلام الصديقة (صلوات الله عليها)؛ لأنهم عون الأعداء، ومن يخاف منهم على بيضة الإسلام(1).

مسألة: يستحب وقد يجب على من ابتلي بتلك الصفات، أن يجاهد نفسه ليغير تلك الحالات(2)، فإنها مبغوضة لله، مزلة للأقدام.

ص: 288


1- وهم من يطلق عليهم في عالم اليوم: الرتل الخامس.
2- أي اطمئنانه بالفتنة جأشاً، وطيبة عن دنياه نفساً.

وَأَبْشِرُوا بِسَيْفٍ صَارِمٍ،

اشارة

-------------------------------------------

مستقبل الأمة بعد الرسول

الصارم والصروم: السيف القاطع.

والحاكم الصارم: هو الذي ليست عنده مسامحة في العقاب والتأديب.

وحكم صارم: أي شديد وقاس.

ورجل صرامة: مستبد برأيه.

وقد أشارت الصديقة الطاهرة (عليها السلام) بذلك إلى مستقبل الأمة، على إثر الانقلاب على خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنه سوف يحكم فيهم السيف القاطع، وسيقتل بعضهم بعضاً، كما سيقتل الحكام الناس، ويغتال الناس الحكام أيضاً، فإن «أَبْشِرُوا» عام يشمل الحكام والمحكومين معاً.

وذلك هو الأثر الوضعي لأفعالهم، فإن النتيجة تتبع المقدمات كماً وكيفاً وجهة(1).

قال تعالى: «وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةًضِعِافًا خاَفُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا»(2).

ص: 289


1- فإن من غرس عشرة أشجار برتقال - مثلاً - سيحصل بنفس المقدار كماً وكيفاً - نوع البرتقال - وجهةً: فإنها لمن زرع أو وقف أو ما أشبه.
2- سورة النساء: 9.

..............................

وقال عزوجل: «وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً»(1).

وقال الشاعر:

لاَ تَجْنِ شَرًّا تَبْتَغِي بِهِ الأَرَبْ إِنَّكَ لاَ تَجْنِي مِنَ الشَّوْكِ الْعِنَبْ

ومن الواضح أن الطريق إذا كان أوله خطأ، لم ينته إلا إلى خطأ أو تباب أو هلاك أو دمار، إلى صحراء قاحلة(2) أو غابة مخوفة، أو واد سحيق أو ما أشبه.

قال تعالى: «وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ»(3).

فهو يجمع بين الهلاك والهول.

وقال سبحانه: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ»(4).والسيف الصارم الذي أنذرتهم به الصديقه الطاهرة (سلام الله عليها) قد لايشير على ما يصرم رؤوسهم فقط، بل ربما يشير إلى ما يصرم ويهلك ويدمر حياتهم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وغيرها، كما فصلناه في مكان آخر.

ص: 290


1- سورة الأنفال: 25.
2- أي يابسة.
3- سورة الحج: 31.
4- سورة الأعراف: 96.

..............................

إنذار الظالم

مسألة: يستحب بشارة الظالم وإنذاره بالسيف الصارم، بل قد يجب إذا كان في ذلك احتمال الردع.

ثم إن لإنذار الظالم طرقاً مختلفة، فيجب على الدعاة سلوكها في هذا الزمن لأنها رادعة إلى حد بعيد عن ظلمهم ومنكرهم.

ومنها: تأسيس منظمات حقوق الإنسان، ومراكز الضغط، والمجلات والجرائد الهادفة، ومواقع الانترنيت وغير ذلك.

ومنها أيضاً: المظاهرات والإضرابات والاعتصامات السلمية وغيرها.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِماً أَوْ مَظْلُوماً، إِنْ يَكُ ظَالِماً فَارْدُدْهُ عَنْ ظُلْمِهِ، وَإِنْ يَكُ مَظْلُوماًفَانْصُرْهُ»(1).

وقال (صلى الله عليه وآله): «رَحِمَ اللهُ عَبْداً كَانَ لأَخِيهِ قِبَلَهُ مَظْلِمَةٌ فِي عِرْضٍ أَوْ مَالٍ، فَأَتَاهُ فَيُحَلِّلُهُ مِنْهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَيْسَ مَعَهُ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ»(2).

وعنه (صلى الله عليه وآله): «مَنِ اقْتَطَعَ شَيْئاً مِنْ مَالِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ، حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَإِنْ كَانَ شَيْئاً يَسِيراً؟!. قَالَ: «وَإِنْ كَانَ قَضِيباً مِنْ أَرَاكٍ»(3).

ص: 291


1- نهج الفصاحة: ص265، ح561.
2- مجموعة ورام: ج1 ص53، باب الظلم.
3- مجموعة ورام: ج1 ص53، باب الظلم.

..............................

وعن حذيفة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أَوْحَى اللهُ إِلَيَّ: أَنْ يَا أَخَا الْمُرْسَلِينَ، يَا أَخَا الْمُنْذِرِينَ، أَنْذِرْ قَوْمَكَ لاَ يَدْخُلُوا بَيْتاً مِنْ بُيُوتِي، وَلأَحَدٍ مِنْ عِبَادِي عِنْدَ أَحَدٍ مِنْهُمْ مَظْلِمَةٌ؛ فَإِنِّي أَلْعَنُهُ مَا دَامَ قَائِماً يُصَلِّي بَيْنَ يَدَيَّ، حَتَّى يَرُدَّ تِلْكَ الظُّلاَمَةَ إِلَى أَهْلِهَا، فَأَكُونَ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَأَكُونَ بَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَكُونَ مِنْ أَوْلِيَائِي وَأَصْفِيَائِي، وَيَكُونَ جَارِي مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَوَالشُّهَداءِ فِي الْجَنَّةِ»(1).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لاَ تَغْبِطَنَّ ظَالِماً بِظُلْمِهِ؛ فَإِنَّ لَهُ عِنْدَ اللهِ طَالِباً حَثِيثاً» ثُمَّ قَرَأَ:« «كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا»(2)»(3).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «مَنْ سَلَبَ نِعْمَةَ غَيْرِهِ سَلَبَهُ اللهُ نِعْمَتَهُ»(4).

وقال النبي (صلى الله عليه وآله): «لَوْ بَغَى جَبَلٌ عَلَى جَبَلٍ لَدُكَّ الْبَاغِي»(5).

ورُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) مَرْفُوعاً: «الْوَيْلُ لِظَالِمِ أَهْلِ بَيْتِي، عَذَابُهُمْ مَعَ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ»(6).

وَعَنْهُ (صلى الله عليه وآله): «لاَ يَكْبُرَنَّ عَلَيْكَ ظُلْمُ مَنْ ظَلَمَكَ؛ فَإِنَّهُ يَسْعَى فِي

ص: 292


1- مجموعة ورام: ج1 ص53، باب الظلم.
2- سورة الإسراء: 97.
3- مجموعة ورام: ج1 ص53، باب الظلم.
4- مجموعة ورام: ج1 ص53، باب الظلم.
5- مجموعة ورام: ج1 ص53، باب الظلم.
6- مجموعة ورام: ج1 ص54، باب الظلم.

..............................

مَضَرَّتِهِ وَنَفَعَكَ»(1).

وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، نَادَى مُنَادٍ: أَيْنَ الظَّلَمَةُ وَأَعْوَانُ الظَّلَمَةِ وَأَشْبَاهُ الظَّلَمَةِ، حَتَّى مَنْ بَرَى لَهُمْ قَلَماً، أَوْ لاَقَ لَهُمْ دَوَاةً، فَيُجْعَلُونَ فِي تَابُوتِ حَدِيدٍ، ثُمَّ يُرْمَى بِهِمْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ»(2).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: «أَوْحَى اللهُ إِلَى الْمَسِيحِ (عليه السلام): قُلْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: لا يَدْخُلُوا بَيْتاً مِنْ بُيُوتِي إِلاَّ بِأَبْصَارٍ خَاشِعَةٍ، وَقُلُوبٍ طَاهِرَةٍ، وَأَيْدٍ نَقِيَّةٍ. وَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي لاَ أَسْتَجِيبُ لأَحَدٍ مِنْهُمْ دَعْوَةً، وَلأَحَدٍ مِنْ خَلْقِي لَدَيْهِمْ مَظْلِمَةٌ»(3).

وقِيلَ لِلْمَنْصُورِ: فِي حَبْسِكَ مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ، فَلَوْ أَمَرْتَ بِإِحْضَارِهِ، وَمَسْأَلَتِهِ عَمَّا جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَلِكِ النُّوبَةِ. فَأَحْضَرَهُ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: صِرْتُ إِلَى جَزِيرَةِ النُّوبَةِ فِي آخِرِ أَمْرِنَا، فَأَمَرْتُ بِالْمَضَارِبِ فَضُرِبَتْ، فَخَرَجَ النُّوبُ يَتَعَجَّبُونَ، وَأَقْبَلَ مَلِكُهُمْ رَجُلٌ طَوِيلٌ، أَصْلَعُ حَافٍ، عَلَيْهِ كِسَاءٌ، فَسَلَّمَ وَجَلَسَ عَلَى الأَرْضِ. فَقُلْتُ: مَا لَكَ لاَ تَجْلِسُ عَلَى الْبِسَاطِ؟. فَقَالَ: أَنَا مَلِكٌ، وَحَقٌّ لِمَنْ رَفَعَهُ اللهُ أَنْ يَتَوَاضَعَ لَهُإِذَا رَفَعَهُ. ثُمَّ قَالَ: مَا بَالُكُمْ تَطَئُونَ الزَّرْعَ بِدَوَابِّكُمْ، وَالْفَسَادُ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ فِي كِتَابِكُمْ؟!. فَقُلْتُ: عَبِيدُنَا فَعَلُوهُ بِجَهْلِهِمْ. قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ تَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْكُمْ فِي دِينِكُمْ؟!. قُلْتُ: أَشْيَاعُنَا فَعَلُوهُ

ص: 293


1- مجموعة ورام: ج1 ص54، باب الظلم.
2- مجموعة ورام: ج1 ص54-55، باب الظلم.
3- مجموعة ورام: ج1 ص55، باب الظلم.

..............................

بِجَهْلِهِمْ. قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ تَلْبَسُونَ الدِّيبَاجَ وَتَسْتَحِلُّونَ بِالذَّهَبِ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ؟!. قُلْتُ: فَعَلَ ذَلِكَ أَعَاجِمُ مَنْ خَدَمَنَا كَرِهْنَا الْخِلاَفَ عَلَيْهِمْ. فَجَعَلَ يُكَرِّرُ مَعَاذِيرِي، وَيَنْظُرُ فِي وَجْهِي، وَيُكَرِّرُ مَعَاذِيرِي عَلَى وَجْهِ الاِسْتِهْزَاءِ، ثُمَّ قَالَ: لَيْسَ كَمَا تَقُولُ يَا ابْنَ مَرْوَانَ، وَلَكِنَّكُمْ قَوْمٌ مَلَكْتُمْ فَظَلَمْتُمْ، وَتَرَكْتُمْ مَا أُمِرْتُمْ، فَأَذَاقَكُمُ اللهُ وَبَالَ أَمْرِكُمْ، وَللهِ فِيكُمْ نِقَمٌ لَمْ تَبْلُغْ، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ تَنْزِلَ بِكَ وَأَنْتَ فِي أَرْضِي، فَتُصِيبَنِي مَعَكَ، فَارْتَحِلْ عَنِّي»(1).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ عَذَاباً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مَنْ أَشْرَكَهُ اللهُ فِي سُلْطَانِهِ، فَجَارَ فِي حُكْمِه»(2).

لا تسكت عن الظالم

مسألة: يستحب وقد يجب بيان تلك الحقيقة للناس، وهي أن الظالم سيسلط عليه سيف صارم، وأن عامة الناس لو سكتوا عن ظلم الظالم فإن ما سيلحقهم من الأذى والضرر والعقاب والأهوال أكبر وأشد وأنكى وأمر، مما حاولوا توقيه عبر السكوت عن ظلم الظالم.

عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «كَانَ أَبِي (عليه السلام) يَقُولُ: خَمْسُ دَعَوَاتٍ لا يُحْجَبْنَ عَنِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: دَعْوَةُ الإِمَامِ الْمُقْسِطِ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: لأَنْتَقِمَنَّ لَكَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ، وَدَعْوَةُ الْوَلَدِ الصَّالِحِ

ص: 294


1- مجموعة ورام: ج1 ص55-56، باب الظلم.
2- مجموعة ورام: ج1 ص56، باب الظلم.

..............................

لِوَالِدَيْهِ، وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ الصَّالِحِ لِوَلَدِهِ، وَدَعْوَةُ الْمُؤْمِنِ لأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ فَيَقُولُ: وَلَكَ مِثْلُهُ»(1).

وكان فيما وعظ الله عزَّ وجل به عيسى (عليه السلام)، أن قال: «يَا عِيسَى، تُبْ إِلَيَّ بَعْدَ الذَّنْبِ، وَذَكِّرْ بِيَ الأَوَّابِينَ، وَآمِنْ بِي، وَتَقَرَّبْ بِي إِلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَمُرْهُمْ يَدْعُونِي مَعَكَ. وَإِيَّاكَ وَدَعْوَةَ الْمَظْلُومِ! فَإِنِّي آلَيْتُ عَلَى نَفْسِي أَنْ أَفْتَحَ لَهَا بَاباًمِنَ السَّمَاءِ بِالْقَبُولِ، وَأَنْ أُجِيبَهُ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال: «إِنَّ الْحُسَيْنَ (عليه السلام) لَمَّا قُتِلَ، عَجَّتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ عَلَيْهِمَا، وَالْمَلاَئِكَةُ. فَقَالُوا: يَا رَبَّنَا، أَتَأْذَنُ لَنَا فِي هَلاَكِ الْخَلْقِ حَتَّى نَجُذَّهُمْ مِنْ جَدِيدِ الأَرْضِ، بِمَا اسْتَحَلُّوا حُرْمَتَكَ، وَقَتَلُوا صَفْوَتَكَ. فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِمْ: يَا مَلاَئِكَتِي، وَيَا سَمَائِي، وَيَا أَرْضِي، اسْكُنُوا. ثُمَّ كَشَفَ حِجَاباً مِنَ الْحُجُبِ، فَإِذَا خَلْفَهُ مُحَمَّدٌ (صلى الله عليه وآله) وَاثْنَا عَشَرَ وَصِيّاً لَهُ، فَأَخَذَ بِيَدِ فُلاَنٍ مِنْ بَيْنِهِمْ. فَقَالَ: يَا مَلاَئِكَتِي، وَيَا سَمَاوَاتِي، وَيَا أَرْضِي، بِهَذَا أَنْتَصِرُ مِنْهُمْ لِهَذَا، قَالَهَا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ»(3).

ص: 295


1- الكافي: ج2 ص509، كتاب الدعاء، باب من تستجاب دعوته، ح2.
2- الكافي: ج8 ص134، كتاب الروضة، حديث عيسى ابن مريم (عليهما السلام)، ح103.
3- الغيبة للنعماني: ص94 - 95، باب4 ما روي في أن الأئمة اثنا عشر إماماً وأنهم من الله وباختياره، ح26.

وَسَطْوَةِ مُعْتَدٍ غَاشِمٍ،

اشارة

-------------------------------------------

الضغط والقهر المشروع وغيره

(السطوة): شدة البطش، تقول: سطى عليه، أي: وثب عليه وقهره.

(الغاشم): الظالم والغاصب.

مسألة: ليس كل قهر محرماً، بل ما كان من المعتدي أي على نحو الاعتداء، ولذلك قالت (عليها السلام): «وَسَطْوَةِ مُعْتَدٍ غَاشِمٍ».

فإن القهر وإن لم يكن أصلاً في التعامل، حيث الأصل السلم واللاعنف، إلا أنه أحياناً لابد من القهر في الجملة لإصلاح بعض المجتمع، وإلا كانت البلاد مرتعاً للصوص والقتلة وأشباههم.

والأمم كلها مجمعة على ذلك، إلا أن الفرق في المصداق، فحتى الأمم المسماة بالمتحضرة تسجن وتضع الغرامات وغيرها، إلا أن ما وضعه الإسلام من الحدود والتعزيرات - بالشروط المقررة، والتي فصلناه في الفقه(1)، هو الأكثر ردعاً والأقل ضرراً، والأنزه منسائر القوانين، والأقرب إلى السلم والسلام.

مضافاً إلى أن في باب الحدود الشرعية، هناك شروط كثيرة وصعبة ربما تجعلها أقرب للتهديد من التنفيذ، لأنها صعبة التحقق، أو نادرة التحقق جداً(2).

ص: 296


1- منها مثلاً: أن يرى أربعة عدول كالميل في المكحلة، وواضح أن ذلك أندر من النادر.
2- مثلاً: ذكر الإمام المؤلف (طاب ثراه وجعل الله الجنة منقلبه ومثواه): إن إجراء الحدود لا يكون إلا بعد تطبيق سائر قوانين الإسلام في الاقتصاد وغيره، بحيث يكون الجو العام إسلامياً صالحاً، وذكر أن لإجراء حد قطع يد السارق أكثر من أربعين شرطاً، ولذا لم تقطع إلا ست أيد في الدولة الإسلامية الواسعة خلال مائتي سنة.

..............................

وذلك لأن الإسلام أراد أن يضع رادعاً قوياً، لتطهير المجتمع من الجريمة، وفي الوقت نفسه وضع شروطاً عسيرة جداً كي لا يكثر إجراء الحد.

قال الشيخ المفيد (رحمه الله): (من زنى وتاب قبل أن تقوم الشهادة عليه بالزنى، درأت عنه التوبة الحد. فإن تاب بعد قيام الشهادة عليه، كان للإمام الخيار في العفو عنه أو إقامة الحد عليه، حسب ما يراه من المصلحة في ذلك له ولأهل الإسلام. فإن لم يتب،لم يجز العفو عنه في الحد بحال)(1).

وقال (رحمه الله) أيضاً: (ولا تقام الحدود في المساجد، ولا في مشاهد الأئمة (عليهم السلام)، ومن فعل في المساجد أو المشاهد ما يوجب إقامة الحد عليه، أقيم عليه الحد خارجاً منها، ولم تقم عليه الحدود فيها إن شاء الله)(2).

وقال العلامة ابن إدريس (رحمه الله): (وإذا لاط رجل، ثم تاب قبل قيام البينة، لم يكن للإمام ولا غيره إقامة الحد عليه)(3).

وعن هشام بن أحمر، عن العبد الصالح (عليه السلام)، قال: كَانَ جَالِساً فِي الْمَسْجِدِ وَأَنَا مَعَهُ، فَسَمِعَ صَوْتَ رَجُلٍ يُضْرَبُ صَلاَةَ الْغَدَاةِ فِي يَوْمٍ شَدِيدِ الْبَرْدِ. فَقَالَ: «مَا هَذَا». قَالُوا: رَجُلٌ يُضْرَبُ. فَقَالَ: «سُبْحَانَ اللهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ! إِنَّهُ

ص: 297


1- المقنعة - الشيخ المفيد: ص777، كتاب الحدود والآداب، باب1 حدود الزناء.
2- المقنعة - الشيخ المفيد: ص783، كتاب الحدود والآداب، باب1 حدود الزناء.
3- السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي: ج3 ص460، كتاب الحدود، باب الحد في اللواط وما يتعلق بذلك.

..............................

لا يُضْرَبُ أَحَدٌ فِي شَيْءٍ مِنَ الْحُدُودِ فِي الشِّتَاءِ إِلاَّ فِي أَحَرِّ سَاعَةٍ مِنَ النَّهَارِ، وَلاَ فِي الصَّيْفِ إِلاَّ فِي أَبْرَدِ مَا يَكُونُ مِنَ النَّهَارِ»(1).

وعن جعفرِ بن محمد، عن أبيه (عليهما السلام)، عن علي (عليه السلام)، قال: «لا حَدَّ عَلَى مَجْنُونٍ حَتَّى يُفِيقَ، وَلاَ عَلَى صَبِيٍّ حَتَّى يُدْرِكَ، وَلاَ عَلَى النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ»(2).

وقال الشيخ المفيد (رحمه الله) في الإرشاد: رَوَتِ الْعَامَّةُ وَالْخَاصَّةُ، أَنَّ مَجْنُونَةً فَجَرَ بِهَا رَجُلٌ، وَقَامَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهَا. فَأَمَرَ عُمَرُ بِجَلْدِهَا الْحَدَّ، فَمَرَّ بِهَا عَلِيٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)، فَقَالَ: «مَا بَالُ مَجْنُونَةِ آلِ فُلاَنٍ تُقْتَلُ؟». فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ رَجُلاً فَجَرَ بِهَا فَهَرَبَ، وَقَامَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهَا، وَأَمَرَ عُمَرُ بِجَلْدِهَا. فَقَالَ لَهُمْ: «رُدُّوهَا إِلَيْهِ، وَقُولُوا لَهُ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ هَذِهِ مَجْنُونَةُ آلِ فُلاَنٍ، وَأَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) قَالَ: رُفِعَ الْقَلَمُ عَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَأَنَّهَا مَغْلُوبَةٌ عَلَى عَقْلِهَا وَنَفْسِهَا». فَرَدُّوهَا إِلَيْهِ، فَدَرَأَ عَنْهَا الْحَدَّ(3).وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «لاَ يُقَامُ عَلَى أَحَدٍ حَدٌّ بِأَرْضِ الْعَدُوِّ»(4).

ص: 298


1- وسائل الشيعة: ج28 ص21، كتاب الحدود والتعزيرات، ب7 ح34117.
2- وسائل الشيعة: ج28 ص22 - 23، كتاب الحدود والتعزيرات، ب8 ح34120.
3- وسائل الشيعة: ج28 ص23، كتاب الحدود والتعزيرات، الباب8 من أبواب مقدمات الحدود وأحكامها العامة، ح34121.
4- وسائل الشيعة: ج28 ص24، كتاب الحدود والتعزيرات، الباب10 من أبواب مقدمات الحدود وأحكامها العامة، ح34123.

..............................

وعن جعفر، عن أبيه، عن علي (عليهم السلام)، أنه قال: «لاَ أُقِيمُ عَلَى رَجُلٍ حَدّاً بِأَرْضِ الْعَدُوِّ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهَا؛ مَخَافَةَ أَنْ تَحْمِلَهُ الْحَمِيَّةُ فَيَلْحَقَ بِالْعَدُوِّ»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «لاَ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْمُسْتَحَاضَةِ حَتَّى يَنْقَطِعَ الدَّمُ عَنْهَا»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «أُتِيَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) بِرَجُلٍ أَصَابَ حَدّاً، وَ بِهِ قُرُوحٌ فِي جَسَدِهِ كَثِيرَةٌ. فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): أَقِرُّوهُ حَتَّى تَبْرَأَ؛ لا تُنْكَأُ عَلَيْهِ فَتَقْتُلُوهُ»(3).وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «لَوْ أَنَّ رَجُلاً دَخَلَ فِي الإِسْلاَمِ وَأَقَرَّ بِهِ، ثُمَّ شَرِبَ الْخَمْرَ وَزَنَى وَأَكَلَ الرِّبَا وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْحَلاَلِ وَالْحَرَامِ، لَمْ أُقِمْ عَلَيْهِ الْحَدَّ إِذَا كَانَ جَاهِلاً، إِلاَّ أَنْ تَقُومَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ قَرَأَ السُّورَةَ الَّتِي فِيهَا الزِّنَا وَالْخَمْرُ وَأَكْلُ الرِّبَا، وَإِذَا جَهِلَ ذَلِكَ أَعْلَمْتُهُ وَأَخْبَرْتُهُ، فَإِنْ رَكِبَهُ بَعْدَ ذَلِكَ جَلَدْتُهُ، وَأَقَمْتُ عَلَيْهِ الْحَدَّ»(4).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «السَّارِقُ إِذَا جَاءَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ تَائِباً إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، تُرَدُّ سَرِقَتُهُ إِلَى صَاحِبِهَا، وَلا قَطْعَ عَلَيْهِ»(5).

ص: 299


1- وسائل الشيعة: ج28 ص24 - 25، كتاب الحدود والتعزيرات، الباب10 ح34124.
2- وسائل الشيعة: ج28 ص29، كتاب الحدود والتعزيرات، الباب13 ح34133.
3- وسائل الشيعة: ج28 ص29، كتاب الحدود والتعزيرات، الباب13 ح34134.
4- وسائل الشيعة: ج28 ص32، كتاب الحدود والتعزيرات، الباب14 ح34141.
5- وسائل الشيعة: ج28 ص36، كتاب الحدود والتعزيرات، الباب16 ح34154.

..............................

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) - فِي حَدِيثِ الزَّانِي الَّذِي أَقَرَّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ - أَنَّهُ قَالَ لِقَنْبَرٍ:: «احْتَفِظْ بِهِ». ثُمَّ غَضِبَ وَقَالَ: «مَا أَقْبَحَ بِالرَّجُلِ مِنْكُمْ أَنْ يَأْتِيَ بَعْضَ هَذِهِ الْفَوَاحِشِ، فَيَفْضَحَ نَفْسَهُ عَلَى رُءُوسِ الْمَلإِ، أَ فَلاَ تَابَ فِي بَيْتِهِ. فَوَ اللهِ، لَتَوْبَتُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ أَفْضَلُ مِنْإِقَامَتِي عَلَيْهِ الْحَدَّ»(1).

وعن جميل بن درَّاج، عن رجل، عن أحدهما (عليه السلام) فِي رَجُلٍ سَرَقَ أَوْ شَرِبَ الْخَمْرَ أَوْ زَنَى، فَلَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ مِنْهُ، وَلَمْ يُؤْخَذْ حَتَّى تَابَ وَصَلَحَ، فَقَالَ: «إِذَا صَلَحَ وَعُرِفَ مِنْهُ أَمْرٌ جَمِيلٌ، لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ الْحَدُّ». قَالَ ابْنُ أَبِي عُمَيْرٍ: قُلْتُ: فَإِنْ كَانَ أَمْراً قَرِيباً لَمْ تُقَمْ؟. قَالَ: «لَوْ كَانَ خَمْسَةَ أَشْهُرٍ أَوْ أَقَلَّ، وَقَدْ ظَهَرَ مِنْهُ أَمْرٌ جَمِيلٌ لَمْ تُقَمْ عَلَيْهِ الْحُدُودُ»(2).

وعن فضيل بن يسار، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «لاَ حَدَّ لِمَنْ لاَ حَدَّ عَلَيْهِ، يَعْنِي لَوْ أَنَّ مَجْنُوناً قَذَفَ رَجُلاً لَمْ أَرَ عَلَيْهِ شَيْئاً، وَلَوْ قَذَفَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا زَانِ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَدٌّ»(3).

وعن اليعقوبي، عن أبيه، قال: أُتِيَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه

السلام) - وَهُوَ بِالْبَصْرَةِ - بِرَجُلٍ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ. قَالَ:فَلَمَّا قَرُبُوا وَنَظَرَ فِي وُجُوهِهِمْ - قَالَ:

ص: 300


1- وسائل الشيعة: ج28 ص36، كتاب الحدود والتعزيرات، الباب16 من أبواب مقدمات الحدود وأحكامها العامة، ح34155.
2- وسائل الشيعة: ج28 ص36- 37، كتاب الحدود والتعزيرات، الباب16 من أبواب مقدمات الحدود وأحكامها العامة، ح34156.
3- وسائل الشيعة: ج28 ص42، كتاب الحدود والتعزيرات، الباب19 من أبواب مقدمات الحدود وأحكامها العامة، ح34167.

..............................

فَأَقْبَلَ جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ. فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «يَا قَنْبَرُ، انْظُرْ مَا هَذِهِ الْجَمَاعَةُ؟». قَالَ: رَجُلٌ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ. قَالَ: فَلَمَّا قَرُبُوا وَنَظَرَ فِي وُجُوهِهِمْ، قَالَ: «لاَ مَرْحَباً بِوُجُوهٍ لاَ تُرَى إِلاَّ فِي كُلِّ سُوءٍ، هَؤُلاَءِ فُضُولُ الرِّجَالِ. أَمِطْهُمْ عَنِّي يَا قَنْبَرُ»(1).

الحكم الإسلامي قبل الظهور

مسألة: هل يستفاد من قول الصديقة (صلوات الله عليها): «وَسَطْوَةِ مُعْتَدٍ غَاشِمٍ»، أنه لا يمكن أن تقوم حكومة إسلامية عادلة أبداً حتى ظهور الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف)؟.

الظاهر أن كلامها (عليها السلام) لا يدل على ذلك، إذ لا إطلاق فيه من هذه الحيثية، فليست في مقام البيان من هذه الجهة.

إذن من الممكن أن تقوم حكومة إسلامية عادلة ولو في بعض الأرض، ولكنالإمكان شيء والوقوع شيء آخر، فالأمة تركت ما أودعه رسول الله (صلى الله عليه وآله) من الكتاب والعترة وتعاليمهما، فأحرمت نفسها من الحكومة العادلة بما للكلمة من معنى إلا في عصر الظهور.

نعم، إذا رجعت الأمة إلى الكتاب والعترة تنعمت بالعدل الإسلامي ولو نسبياً.

ص: 301


1- وسائل الشيعة: ج28 ص45، كتاب الحدود والتعزيرات، الباب22 من أبواب مقدمات الحدود وأحكامها العامة، ح34173.

..............................

ومما يوضحه أنه لم يكن السيف الصارم حاكماً كل البلاد الإسلامية في كل الأزمنة السابقة، بل كانت دول عديدة حظي الناس فيها بالرفاه والنعيم النسبي، ومنها فترات من حكم الصفويين، ومنها فترات حكم الشيعة في القرن الرابع الهجري، حيث كانت أكثر البلاد الإسلامية تحت سلطتهم، وقال المرحوم كاشف الغطاء: (دخلت إيران حيث لم أر فيها شاكياً ولا شاكيةً، ولا باكياً ولا باكيةً) (1).

فالمقصود من كلامها (صلوات الله عليها): في الجملة، أو المقصود الأعم الأغلب الذي لا ينافي وجود الاستثناء، فإن الظواهر المسلمة قابلة للاستثناء فكيفبغيرها، والاستثناء يؤكد العام ولا يعارضه.

خلافة الأئمة الطاهرين

جعل النبي (صلى الله عليه وآله) بأمر الله سبحانه الأئمة اثنى عشر (عليهم السلام) ونصبهم خلفاء له، ليقوموا بدور التبليغ وإدارة العباد والبلاد، بعيداً عن الظلم والجور، وبما يضمن للناس سعادة الدارين.

فإذا كان عصر الغيبة، قام الفقهاء المراجع بهذا الدور حسب الأمر الشرعي وتطبيقاً للأحكام الشرعية، بمعنى تأطيرها وردّ صغرياتها إلى كبريات الشريعة، وذلك بعيداً عن الظلم والاستبداد، حسب ما قررته الشريعة من

ص: 302


1- كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغراء: ج1 ص2، مقدمة المؤلف.

..............................

الشورى والاستشارة، قال تعالى: «وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ»(1).

وكما قال علي (عليه السلام): «أَنْ يَخْتَارُوا»(2)، على تفصيل ذكرناه في كتاب(الشورى في الإسلام) (3).

حينذاك لا يكون سيف صارم، لا من المسلمين على بعضهم البعض، ولا من غير المسلمين على المسلمين، بل ولا في العالم أجمع، حيث إن الكفار كانوا يتعرفون على رحمة الإسلام وتقدمه ويأخذون بمناهج المسلمين، كما اتخذوا الآن كثيراً من نظمهم وثقافتهم وحريتهموإتقانهم - ولو بقدر - من المسلمين، إذ إنهم يعترفون بأنهم استفادوا حضارتهم من الإسلام عندما تتلمذوا عند المسلمين

ص: 303


1- سورة الشورى: 38.
2- كتاب سليم بن قيس الهلالي: ج2 ص752، الحديث الخامس والعشرون.
3- من تأليفات سماحة الإمام الشيرازي (أعلى الله مقامه) في قم المقدسة بتاريخ 1408 ه. يقع الكتاب في 143 صفحة قياس 20 × 14. تناول سماحته فيه المواضيع التالية: الفصل الأول: توضيح جوانب من الشورى، المشير والمستشير، المشورة، هل تلزم المشورة، هل يلزم المستشار، كم قدر المشورة. الفصل الثاني: تفصيل الحزب وأقسامه، الأحزاب الدكتاتورية، فشل الأحزاب السياسية في العالم الثالث، الهيكلية العامة للأحزاب السياسية، العلاقات الداخلية في التنظيمات، أقسام التمركز، بدل العضوية، الأحزاب الديمقراطية والدكتاتورية، الأحزاب السياسية والمؤسسات الحكومية، النظام القائم على الحزبين، التجمعات الضاغطة، اللجوء إلى السرية، الفرق بين مجموعات النفوذ والأحزاب السياسية، الزعماء الحقيقيون للأحزاب السياسية، الرأي العام، النظام الحزبي، البرلمان، الحزب والانتخابات. الفصل الثالث: جملة من روايات المشورة. طبع الكتاب عدة مرات في إيران ولبنان والكويت. وترجم الكتاب إلى الفارسية تحت عنوان (شورا در إسلام)، وطبع عدة مرات.

..............................

في الأندلس وغيرها طوال القرون الوسطى(1).

كما أنه حينذاك يكون المال للجميع بحيث لا يَظلمون ولا يُظلمون.

أما ما حدث، فقد جاء السيف مكان المنطق، وأُقصي خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) من الحكم، وبعده أُقصي أولاده الطاهرون (عليهم السلام)، فمن الطبيعي أن الحاكم حينذاك يكون السيف، والحكم يكون بالظلم والجور، وهكذا كان إلى يومنا هذا، حيث يحكم السيف بين البشرية في كافة أنحاء الأرض، لا بين المسلمين فحسب، ويكون المال بين الأغنياء، حتى أن بعض التقارير يذكر أن نصف العالم يبيتون جائعين! ولا يقف الأمر عند الجوع فقط بل كل لوازم الفقر من الجهل والمرض والفوضى والفساد وسائر المآسي.والغريب أن عمر وعثمان قُتِلا، بل قال بعض: إن أبا بكر أيضاً مات بالسم أو ما أشبه(2)، وهذه نتيجة غصب الخلافة وتحكيم السيف.

أما قتل أمير المؤمنين (عليه السلام) بيد الخوارج فهو أشهر من أن يذكر، وقد وقع علي (عليه السلام) ضحية عمل الأولين، فإن الخوارج وليد صفين، وصفين وليد جمل، وجمل وليد عثمان وهكذا، ومعنى ذلك أن نفس أهل السقيفة الذين وضعوا السيف مكان المنطق، وقع السيف فيهم، وفي غيرهم، وقد استمرت في المسلمين الحروب من ذلك اليوم، في قصة مالك بن نويرة وإلى اليوم

ص: 304


1- صرح بذلك كبار مؤرخيهم ومفكريهم ومنهم (ارنولدتوينبي في قصة الحضارة) ومنهم (ريتشارد نكسون) في (أميركا ووالفرصة التاريخية) وغيرهم كثير.
2- انظر كتاب (اغتيال الخليفة أبي بكر) للشيخ نجاح الطائي.

..............................

بشكل أو بآخر.

أما الفقر فكان نصف بغداد أو أكثره من الفقراء الذين يحتاجون إلى لقمة الخبز، بينما هارون العباسي كان يعيش في قصر مساحته ثلاثة فراسخ، وفي مختلف أنواع النعيم المادي، إلى غير ذلك مما ذكر في التاريخ.

والصديقة الطاهرة (عليها السلام) معقطع النظر عن علمها بالغيب، بتعليم رسول الله (صلى الله عليه وآله) لها، وبالعلم اللدني وما أشبه، فإنها كانت تتكلم عن آثار الظلم والديكتاتورية وتوابع الاستبداد والإعراض عن منهج الله وخليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وغصب الخلافة.

روايات في الفقر

عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «كَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْراً، وَكَادَ الْحَسَدُ أَنْ يَغْلِبَ الْقَدَرَ»(1).

وقال (صلى الله عليه وآله): «الْفَقْرُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ»(2).

وقال النبي (صلى الله عليه وآله): «أَوْحَى اللهُ تَعَالَى إِلَى إِبْرَاهِيمَ (عليه السلام): خَلَقْتُكَ وَابْتَلَيْتُكَ بِنَارِ نُمْرُودَ، فَلَوِ ابْتَلَيْتُكَ بِالْفَقْرِ، وَرَفَعْتُ عَنْكَ الصَّبْرَ، فَمَا تَصْنَعُ؟. قَالَ إِبْرَاهِيمُ: يَا رَبِّ، الْفَقْرُ إِلَيَّ أَشَدُّ مِنْ نَارِ نُمْرُودَ. قَالَ اللهُ تَعَالَى: فَبِعِزَّتِي وَجَلاَلِي، مَا خَلَقْتُ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَشَدَّ مِنَ الْفَقْرِ»(3).

ص: 305


1- الكافي: ج2 ص307، كتاب الإيمان والكفر، باب الحسد، ح4.
2- جامع الأخبار للشعيري: ص109، الفصل السابع والستون في الفقراء.
3- جامع الأخبار للشعيري: ص109، الفصل السابع والستون في الفقراء.

..............................

وقال أمير المؤمنين للحسن (عليهما السلام): «لاَ تَلُمْ إِنْسَاناً يَطْلُبُ قُوتَهُ، فَمَنْ عَدِمَ قُوتَهُ كَثُرَ خَطَايَاهُ. يَا بُنَيَّ، الْفَقِيرُ حَقِيرٌ لاَ يُسْمَعُ كَلاَمُهُ، وَلاَ يُعْرَفُ مَقَامُهُ. وَلَوْ كَانَ الْفَقِيرُ صَادِقاً يُسَمُّونَهُ كَاذِباً، وَلَوْ كَانَ زَاهِداً يُسَمُّونَهُ جَاهِلاً. يَا بُنَيَّ، مَنِ ابْتُلِيَ بِالْفَقْرِ فَقَدِ ابْتُلِيَ بِأَرْبَعِ خِصَالٍ: بِالضَّعْفِ فِي يَقِينِهِ، وَالنُّقْصَانِ فِي عَقْلِهِ، وَالرِّقَّةِ فِي دِينِهِ، وَقِلَّةِ الْحَيَاءِ فِي وَجْهِهِ، فَنَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الْفَقْرِ»(1).

وقال (صلى الله عليه وآله): «الْفَقْرُ الْمَوْتُ الأَكْبَرُ»(2).

وقال (صلى الله عليه وآله): «الْفَقْرُ شَيْنٌ عِنْدَ النَّاسِ، وَزَيْنٌ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(3).

وقال (صلى الله عليه وآله): «مَنِ اسْتَذَلَّ مُؤْمِناً أَوْ مُؤْمِنَةً، أَوْ حَقَّرَهُ لِفَقْرِهِ وَقِلَّةِ ذَاتِ يَدِهِ، شَهَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّيَفْضَحُهُ»(4).

وقال الرضا (عليه السلام): «مَنْ لَقِيَ فَقِيراً مُسْلِماً، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ خِلاَفَ سَلاَمِهِ عَلَى الْغَنِيِّ، لَقِيَ اللهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ»(5).

هل الظلم ينافي الرحمة الإلهية؟

وهنا يبقى سؤال:أليست رحمة الله سبحانه تقتضي أن لا يترك الخلق بحيث

ص: 306


1- جامع الأخبار للشعيري: ص110، الفصل السابع والستون في الفقراء.
2- جامع الأخبار للشعيري: ص111، الفصل السابع والستون في الفقراء.
3- جامع الأخبار للشعيري: ص111، الفصل السابع والستون في الفقراء.
4- جامع الأخبار للشعيري: ص111، الفصل السابع والستون في الفقراء.
5- جامع الأخبار للشعيري: ص111، الفصل السابع والستون في الفقراء.

..............................

يظلم الإنسان نفسه، ويظلم بعضهم بعضاً، وتظلمهم الطبيعة، بل ويظلم الإنسان والحيوان الحيوان كذبح الإنسان له، وكافتراس بعضها لبعض؟.

والجواب: إن قانون الأسباب والمسببات، وقانون الاختبار والامتحان، وقانون حرية الإنسان كلها يقتضي ما أقره الله مما نراه.

وتوضيحه: إن الأمر دائر بين أن يجعل الله سبحانه للكون قوانين عامة تشمل الكل، كقانون الجاذبية وقوانين الشمس والمعادن وغيرها، وبين أن لايجعلها، بأن يحول دون نفوذ القوانين في موارد الظلم، بحيث إن الإنسان الذي يلقي بنفسه من شاهق أو يدفعه غيره لا يسقط، أو ينزل بهدوء حتى لا تتكسر عظامه.

فإن كان الأول: كان لابد من الظالم والمظلوم والمآسي وغيرها رعاية لقانون الأسباب والمسببات، وقانون الاختبار والامتحان، وقانون حرية الإنسان.

وإن كان الثاني: استحال امتحان الإنسان حتى يستحق الدرجات الرفيعة، فإن لم يخلق الله سبحانه الدرجات الرفيعة في الجنة كان نقصاً في الخلقة، وإن خلق وأعطاها لمن لا يستحق كان خلاف الحكمة، مثله مثل من يكرم الحيوان بما يستحقه الإنسان، أو يكرم الإنسان الأنزل بما يستحق الإنسان الأرفع.

أرأيت لو أن إنساناً أكرم حماراً بما يكرم به إنساناً في اللباس والأكل والمسكن وما أشبه، أ يكون قد فعل ما تقتضيه الحكمة؟!

هذا في إنسان يظلم نفسه أو إنساناً آخر.

وكذلك في الطبيعة حيث تشمل كوارثها الإنسان، من الزلزلة وإحراق

ص: 307

..............................

الشمس وإغراق الماء وما أشبه، فإن ذلك كله مقتضى قانون الأسباب والمسببات، ومقتضى امتحان الإنسان أيضاً.

وتفصيل الكلام في محله.

أما الحيوان الذي يُظلَم - مجهولاً(1)- بسبب إنسان أو حيوان آخر أو طبيعة، فهناك بعض الآيات التي يستفاد منها ثبوت الجزاء حتى للحيوان كقوله تعالى: «أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ»(2)، وقوله عز وجل: «وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ»(3)، إلى غيرهما من الآيات والروايات.

عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إِذَا أَخَذَ الْقَوْمُ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ، فَإِنْ كَانُوا رُكْبَاناً كَانُوا مِنْ خَيْلِ إِبْلِيسَ، وَإِنْ كَانُوا رَجَّالَةً كَانُوا مِنْ رَجَّالَتِهِ»(4).

وعن الهيثم بن واقد، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه

السلام) يَقُولُ: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ بَعَثَ نَبِيّاً إِلَى قَوْمِهِ، فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِأَنْ قُلْ لِقَوْمِكَ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ، وَلاَ أَهْلِ بَيْتٍ كَانُوا عَلَى طَاعَتِي فَأَصَابَهُمْ فِيهِمَا سُوءٌ، فَانْتَقَلُوا عَمَّا أُحِبُّ إِلَى مَا أَكْرَهُ، إِلاَّ تَحَوَّلْتُ لَهُمْ عَمَّا يُحِبُّونَ إِلَى مَا يَكْرَهُونَ»(5).

وعن معتب مولى الصادق (عليه السلام)، قال: قال الصادق (عليه السلام):

ص: 308


1- أي بصيغة المجهول والمبني للمفعول.
2- سورة الأنعام: 38.
3- سورة التكوير: 5.
4- المحاسن: ج1 ص116، كتاب عقاب الأعمال، 57-عقاب المعاصي، ح121.
5- المحاسن: ج1 ص117، كتاب عقاب الأعمال، 57-عقاب المعاصي، ح123.

..............................

«إِنَّمَا وُضِعَتِ الزَّكَاةُ اخْتِبَاراً لِلأَغْنِيَاءِ وَمَعُونَةً لِلْفُقَرَاءِ، وَلَوْ أَنَّ النَّاسَ أَدَّوْا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ مَا بَقِيَ مُسْلِمٌ فَقِيراً مُحْتَاجاً، وَلاَسْتَغْنَى بِمَا فَرَضَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ. وَإِنَّ النَّاسَ مَا افْتَقَرُوا، وَلاَ احْتَاجُوا، وَلاَ جَاعُوا، وَلاَ عَرُوا، إِلاَّ بِذُنُوبِ الأَغْنِيَاءِ، وَحَقِيقٌ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَمْنَعَ رَحْمَتَهُ مَنْ مَنَعَ حَقَّ اللهِ فِي مَالِهِ. وَأُقْسِمُ بِالَّذِي خَلَقَ الْخَلْقَ وَبَسَطَ الرِّزْقَ، أَنَّهُ مَا ضَاعَ مَالٌ فِي بَرٍّ وَلاَ بَحْرٍ إِلاَّ بِتَرْكِ الزَّكَاةِ، وَمَا صِيدَ صَيْدٌ فِي بَرٍّ وَلاَ بَحْرٍ إِلاَّ بِتَرْكِهِ التَّسْبِيحَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَإِنَّ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أَسْخَاهُمْ كَفّاً، وَأَسْخَى النَّاسِ مَنْ أَدَّى زَكَاةَ مَالِهِ، وَلَمْ يَبْخَلْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِمَا افْتَرَضَ اللهُ عَزَّوَجَلَّ لَهُمْ فِي مَالِهِ»(1).

وكتب الرضا علي بن موسى (عليهما السلام) إلى محمد بن سنانٍ، فيما كتب إليه من جواب مسائله: «أَنَّ عِلَّةَ الزَّكَاةِ مِنْ أَجْلِ قُوتِ الْفُقَرَاءِ، وَتَحْصِينِ أَمْوَالِ الأَغْنِيَاءِ؛ لأَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ كَلَّفَ أَهْلَ الصِّحَّةِ الْقِيَامَ بِشَأْنِ أَهْلِ الزَّمَانَةِ وَالْبَلْوَى، كَمَا قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: «لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ»(2)، فِي أَمْوَالِكُمْ إِخْرَاجُ الزَّكَاةِ، وَفِي أَنْفُسِكُمْ تَوْطِينُ الأَنْفُسِ عَلَى الصَّبْرِ، مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ أَدَاءِ شُكْرِ نِعَمِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالطَّمَعِ فِي الزِّيَادَةِ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الزِّيَادَةِ وَالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ لأَهْلِ الضَّعْفِ، وَالْعَطْفِ عَلَى أَهْلِ الْمَسْكَنَةِ، وَالْحَثِّ لَهُمْ عَلَى الْمُوَاسَاةِ، وَتَقْوِيَةِ الْفُقَرَاءِ، وَالْمَعُونَةِ لَهُمْ عَلَى أَمْرِ الدِّينِ، وَهُوَ عِظَةٌ لأَهْلِ الْغِنَى، وَعِبْرَةٌ لَهُمْ لِيَسْتَدِلُّوا عَلَى فُقَرَاءِ الآخِرَةِ بِهِمْ،وَمَا لَهُمْ مِنَ الْحَثِّ فِي ذَلِكَ عَلَى الشُّكْرِ للهِ

ص: 309


1- من لا يحضره الفقيه: ج2 ص7 - 8، أبواب الزكاة، باب علة وجوب الزكاة، ح1579.
2- سورة آل عمران: 186.

..............................

تَبَارَكَ وَتَعَالَى، لِمَا خَوَّلَهُمْ وَأَعْطَاهُمْ، وَالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَالْخَوْفِ مِنْ أَنْ يَصِيرُوا مِثْلَهُمْ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، فِي أَدَاءِالزَّكَاةِ، وَالصَّدَقَاتِ، وَصِلَةِ الأَرْحَامِ، وَاصْطِنَاعِ الْمَعْرُوفِ»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، أنه قال: «مَا مِنْ ذِي مَالٍ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ يَمْنَعُ زَكَاةَ مَالِهِ، إِلاَّ حَبَسَهُ اللهُ عَزَّوَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقَاعٍ قَرْقَرٍ، وَسَلَّطَ عَلَيْهِ شُجَاعاً أَقْرَعَ، يُرِيدُهُ وَهُوَ يَحِيدُ عَنْهُ، فَإِذَا رَأَى أَنَّهُ لاَ يَتَخَلَّصُ مِنْهُ أَمْكَنَهُ مِنْ يَدِهِ، فَقَضِمَهَا كَمَا يُقْضَمُ الْفُجْلُ، ثُمَّ يَصِيرُ طَوْقاً فِي عُنُقِهِ، وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَ: «سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(2). وَمَا مِنْ ذِي مَالٍ إِبِلٍ أَوْ بَقَرٍ أَوْ غَنَمٍ يَمْنَعُ زَكَاةَ مَالِهِ، إِلاَّ حَبَسَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقَاعٍ قَرْقَرٍ، يَطَؤُهُ كُلُّ ذَاتِ ظِلْفٍ بِظِلْفِهَا، وَيَنْهَشُهُ كُلُّ ذَاتِ نَابٍ بِنَابِهَا. وَمَا مِنْ ذِي مَالٍ نَخْلٍ أَوْ كَرْمٍ أَوْ زَرْعٍ يَمْنَعُ زَكَاتَهُ، إِلاَّ طَوَّقَهُ اللهُ تَعَالَى رَيْعَةَ أَرْضِهِ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»(3).

وعن أبي جعفرٍ (عليه السلام)، قال: «إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَرَنَ الزَّكَاةَ بِالصَّلاَةِ،فَقَالَ: «أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ»(4)، فَمَنْ أَقَامَ الصَّلاَةَ وَلَمْ يُؤْتِ الزَّكَاةَ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يُقِمِ الصَّلاَةَ»(5).

ص: 310


1- من لا يحضره الفقيه: ج2 ص8 - 9، أبواب الزكاة، باب علة وجوب الزكاة، ح1580.
2- سورة آل عمران: 180.
3- من لا يحضره الفقيه: ج2 ص9 - 10، أبواب الزكاة، باب ما جاء في مانع الزكاة، ح1583.
4- سورة البقرة: 43، وخمسة مواضع أخرى من القرآن.
5- من لا يحضره الفقيه: ج2 ص10، أبواب الزكاة، باب ما جاء في مانع الزكاة، ح1584.

..............................

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، أنه قال: «مَانِعُ الزَّكَاةِ يُطَوَّقُ بِحَيَّةٍ قَرْعَاءَ تَأْكُلُ مِنْ دِمَاغِهِ، وَذَلِكَ قَوْلُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: «سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(1)»(2).

وعنِ الصادقِ (عليه السلام)، أنه قال: «مَلْعُونٌ مَلْعُونٌ مَالٌ لاَ يُزَكَّى»(3).

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، أنه قال: «مَا مِنْ عَبْدٍ مَنَعَ مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ شَيْئاً، إِلاَّ جَعَلَ اللهُ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُعْبَاناً مِنْ نَارٍ مُطَوَّقاً فِي عُنُقِهِ، يَنْهَشُ مِنْ لَحْمِهِ حَتَّى يَفْرُغَ مِنَ الْحِسَابِ، وَهُوَ قَوْلُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ:«سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(4)، يَعْنِي مَا بَخِلُوا بِهِ مِنَ الزَّكَاةِ»(5).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، أنه قال: «مَا مِنْ رَجُلٍ يَمْنَعُ دِرْهَماً فِي حَقِّهِ، إِلاَّ أَنْفَقَ اثْنَيْنِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ. وَمَا مِنْ رَجُلٍ يَمْنَعُ حَقّاً فِي مَالِهِ، إِلاَّ طَوَّقَهُ اللهُ بِهِ حَيَّةً مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(6).

ص: 311


1- سورة آل عمران: 180.
2- من لا يحضره الفقيه: ج2 ص10، أبواب الزكاة، باب ما جاء في مانع الزكاة، ح1585.
3- من لا يحضره الفقيه: ج2 ص10، أبواب الزكاة، باب ما جاء في مانع الزكاة، ح1586.
4- سورة آل عمران: 180.
5- من لا يحضره الفقيه: ج2 ص10- 11، أبواب الزكاة، باب ما جاء في مانع الزكاة، ح1587.
6- من لا يحضره الفقيه: ج2 ص11، أبواب الزكاة، باب ما جاء في مانع الزكاة، ح1588.

..............................

لماذا لا يستجاب الدعاء؟

لكن قد يُسأل: لماذا لا يستجاب الدعاء لدفع الظلم والبلاء؟.

فالجواب النقضي: لماذا لا ينفع الدواء؟, فإن الله سبحانه كما جعل للأمراض الدواء، جعل لبعض الأمراض والمقاصد الدعاء، وتأثير كل واحد منهما في الجملة وعلى نحو الاقتضاء، لا على نحو الكلية والعلية التامة.

إذاً الأمر دائر بين الثلاث:

الأول: عدم الجعل مطلقاً.

الثاني: الجعل مطلقاً.

الثالث: الجعل في الجملة.

فالأول: لا صحة له، لأنه نقص في الخلقة، فكل شيء قابل للخلقة وليس فيه محذور، لزم أن يُخلق لأنه مقتضى الفياضية المطلقة فيه سبحانه على ما قالوا.

والثاني: لا صحة له، وإلا لزم خلاف الحكمة، إذ بذلك تتغير الدنيا عن كونها دنياً هكذا، بل تكون جنة، والمفروض أن الدنيا بهذه الكيفية نوع من الخلقة التي تتطلب الخلق بلسان الواقع، والفياض يخلق كل شيء فيهالحكمة بأن لم يكن فيه محذور(1).

ص: 312


1- إضافة إلى ما سبق منه (رحمه الله) من أن ذلك مقتضى دار الامتحان والاختبار، وإلى أجوبة أخرى كثيرة مذكورة في المفصلات، ومنها أن عدم استجابة الدعاء هو لصالح الإنسان 100% كما ورد في دعاء الافتتاح: «فَإِنْ أَبْطَأَ عَنِّي عَتَبْتُ بِجَهْلِي عَلَيْكَ، وَلَعَلَّ الَّذِي أَبْطَأَ عَنِّي هُوَ خَيْرٌ لِي، لِعِلْمِكَ بِعَاقِبَةِ الأُمُورِ» الدعاء والزيارة: ص368 - 369، الباب الثالث، الأعمال المشتركة لشهر رمضان، العشرون دعاء الافتتاح.

..............................

فيبقى الثالث.

لا يقال: ما أكثر ما يشفي الدواء؟.

لأنه يقال: وما أكثر ما يستجاب الدعاء، فإن كلاً منا يذكر أنه دعا للدَّيْن، والفقر، والمرض، والولد، والعدو، وألف شيء وشيء، وقد استجيب له. نعم، ليست الاستجابة فورية، ولا حتمية في كل دعاء، ولا لكل داعٍ.

كما استعمل الدواء للكثير من الأمراض. نعم، ليس كل مرض يعالج بالدواء، وإلاّ لم يكن هناك مرض وموت وهرم وعقم ونقص خلقة وغيرها.

فالدعاء من الأسباب الكونية المعنوية، كالدواء الذي هو من الأسباب المادية، لا ينجح كله ولا يفشل كله،كسائر الأسباب والمسببات التي ليست بنحو العلية التامة، وإنما لها شرائط وموانع ومعدات وقواطع، إلى غير ذلك، فقوله سبحانه: «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ»(1)، من باب المقتضي لا من باب العلية التامة(2).

عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: «إِنَّ الَّذِينَ

ص: 313


1- سورة غافر: 60.
2- ولا يبعد القول بالعلية التامة، بمعنى أن الدعاء يستجاب حتماً، فكلما دعونا تحقق كما قال عزوجل: «أَسْتَجِبْ لَكُمْ»، لكن لا يشترط فيها الاستجابة الفورية ولا في الدنيا ولا بنفس النوع الذي أراده الإنسان بل بجوهره، أي ولو بأن يعطيه الله الأفضل، فتأمل.

..............................

يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ»(1)، قَالَ: هُوَ الدُّعَاءُ»(2).

وعن حماد بن عيسى، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سَمِعْتُهُ يَقُولُ - فِي حَدِيثٍ -: «إِنَّ الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ. إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: «إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ»، وَقَالَ: «ادْعُونِي أَسْتَجِبْلَكُمْ»(3)»(4).

وعن أبي جعفر (عليه السلام) - في حديث - قال: «وَمَا أَحَدٌ أَبْغَضَ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مِمَّنْ يَسْتَكْبِرُ عَنْ عِبَادَتِهِ، وَلاَ يَسْأَلُ مَا عِنْدَهُ»(5).

وقال أبو عبد الله (عليه السلام): «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ الَّتِي قَالَ اللهُ: «إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ»(6)»(7).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) - في حديث - قال: «لَوْ أَنَّ عَبْداً سَدَّ فَاهُ وَلَمْ يَسْأَلْ، لَمْ يُعْطَ شَيْئاً، فَسَلْ تُعْطَ»(8).

ص: 314


1- سورة غافر: 60.
2- وسائل الشيعة: ج7 ص23، تتمة كتاب الصلاة، الباب1 من أبواب الدعاء، ح8599.
3- سورة غافر: 60.
4- وسائل الشيعة: ج7 ص23، تتمة كتاب الصلاة، الباب1 من أبواب الدعاء، ح8600.
5- وسائل الشيعة: ج7 ص23 - 24، تتمة كتاب الصلاة، الباب1 من أبواب الدعاء ح8601.
6- سورة غافر: 60.
7- وسائل الشيعة: ج7 ص24، تتمة كتاب الصلاة، الباب1 من أبواب الدعاء، ح8602.
8- وسائل الشيعة: ج7 ص24، تتمة كتاب الصلاة، الباب1 من أبواب الدعاء، ح8603.

..............................

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ فَضْلِهِافْتَقَرَ»(1).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يَدْخُلُ الْجَنَّةَ رَجُلاَنِ كَانَا يَعْمَلاَنِ عَمَلاً وَاحِداً، فَيَرَى أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَوْقَهُ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، بِمَا أَعْطَيْتَهُ وَكَانَ عَمَلُنَا وَاحِداً!. فَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى: سَأَلَنِي وَلَمْ تَسْأَلْنِي - ثُمَّ قَالَ - سَلُوا اللهَ وَأَجْزِلُوا؛ فَإِنَّهُ لاَ يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ»(2).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لَتَسْأَلُنَّ اللهَ أَوْ لَيَغْضَبَنَّ عَلَيْكُمْ. إِنَّ للهِ عِبَاداً يَعْمَلُونَ فَيُعْطِيهِمْ، وَآخَرِينَ يَسْأَلُونَهُ صَادِقِينَ فَيُعْطِيهِمْ، ثُمَّ يَجْمَعُهُمْ فِي الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ الَّذِينَ عَمِلُوا: رَبَّنَا عَمِلْنَا فَأَعْطَيْتَنَا، فَبِمَا أَعْطَيْتَ هَؤُلاَءِ؟. فَيَقُولُ: هَؤُلاَءِ عِبَادِي، أَعْطَيْتُكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَمْ أَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً، وَسَأَلَنِي هَؤُلاَءِ فَأَعْطَيْتُهُمْ، وَهُوَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ»(3).

ص: 315


1- وسائل الشيعة: ج7 ص24، تتمة كتاب الصلاة، الباب1 من أبواب الدعاء، ح8604.
2- وسائل الشيعة: ج7 ص24 - 25، تتمة كتاب الصلاة، الباب1 من أبواب الدعاء، ح8605.
3- وسائل الشيعة: ج7 ص25، تتمة كتاب الصلاة، الباب1 من أبواب الدعاء، ح8606.

وَبِهَرْجٍ شَامِلٍ،

اشارة

-------------------------------------------

مسائل عن الهرج والمرج

الهرج: الفتنة والاختلاف والقتل.

لكن هل المراد بالهرج الشامل: الذي يشمل كل المسلمين في ذلك الزمن، أم في كل الأزمنة، أم في الأعم الأغلب، أم في الجملة؟.

قد سبق نظيره فليراجع.

والهرج الشامل هو نتيجة ظلم الحاكم وغصب الخلافة، كما لا يخفى.

مسألة: يجب الاعتقاد بأن الصديقة (صلوات الله عليها) كانت تعلم الغيب بإذن الله ولطفه، كما يجب بيان ذلك في الجملة، والأدلة على علمها (عليها السلام) تنزلها منزلة البديهيات، فلتراجع المفصلات.

عن إسحاق بن جعفر بن محمد بن عيسى بن زيد بن علي، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «إِنَّمَا سُمِّيَتْ فَاطِمَةُ (عليها السلام) مُحَدَّثَةً؛ لأَنَّ الْمَلائِكَةَ كَانَتْ تَهْبِطُ مِنَ السَّمَاءِ، فَتُنَادِيهَا كَمَا تُنَادِي مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ، فَتَقُولُ: يَا فَاطِمَةُ، اللهُ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ، وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ. يَا فَاطِمَةُ، اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ، فَتُحَدِّثُهُمْوَيُحَدِّثُونَهَا.

فَقَالَتْ لَهُمْ ذَاتَ لَيْلَةٍ: أَلَيْسَتِ الْمُفَضَّلَةُ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ!

فَقَالُوا: إِنَّ مَرْيَمَ كَانَتْ سَيِّدَةَ نِسَاءِ عَالَمِهَا، وَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَكِ سَيِّدَةَ

ص: 316

..............................

نِسَاءِ عَالَمِكِ وَعَالَمِهَا، وَسَيِّدَةَ نِسَاءِ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ»(1).

وعن إسماعيل بن بشار، قال: حدثنا علي بن جعفر الحضرمي بمصر منذ ثلاثين سنة. قال: حدثنا سليمان. قال محمد بن أبي بكر: لَمَّا قَرَأَ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ وَلاَ مُحَدَّثٍ، وَهَلْ يُحَدِّثُ الْمَلاَئِكَةُ إِلاَّ الأَنْبِيَاءَ؟. قَالَ: مَرْيَمُ لَمْ تَكُنْ نَبِيَّةً وَكَانَتْ مُحَدَّثَةً، وَأُمُّ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ كَانَتْ مُحَدَّثَةً وَلَمْ تَكُنْ نَبِيَّةً، وَسَارَةُ امْرَأَةُ إِبْرَاهِيمَ قَدْ عَايَنَتِ الْمَلاَئِكَةَ، فَبَشَّرُوهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ، وَلَمْ تَكُنْ نَبِيَّةً، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) كَانَتْ مُحَدَّثَةً وَلَمْ تَكُنْ نَبِيَّةً»(2).وعن بريد بن معاوية العجلي، قال: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) عَنِ الرَّسُولِ وَالنَّبِيِّ وَالْمُحَدَّثِ؟. فَقَالَ: «الرَّسُولُ الَّذِي تَأْتِيهِ الْمَلاَئِكَةُ وَيُعَايِنُهُمْ، وَتُبْلِغُهُ عَنِ اللهِ تَعَالَى. وَالنَّبِيُّ الَّذِي يَرَى فِي مَنَامِهِ، فَمَا رَأَى فَهُوَ كَمَا رَأَى. وَالْمُحَدَّثُ الَّذِي يَسْمَعُ الْكَلامَ - كَلاَمَ الْمَلاَئِكَةِ - وَيُنْقَرُ فِي أُذُنَيْهِ، وَيُنْكَتُ فِي قَلْبِهِ»(3).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام):«وَأَمَّا الْمُحَدَّثُ فَهُوَ الَّذِي يَسْمَعُ كَلاَمَ الْمَلَكِ

ص: 317


1- علل الشرائع: ج1 ص182، باب146 العلة التي من أجلها سميت فاطمة (عليها السلام) محدثة، ح1.
2- علل الشرائع: ج1 ص182 - 183، باب146 العلة التي من أجلها سميت فاطمة (عليها السلام) محدثة، ح2.
3- الاختصاص للشيخ المفيد: ص328، في غرائب أحوالهم وأفعالهم (عليهم السلام)، أحاديث حول خصائص الأئمة (عليهم السلام).

..............................

وَلاَ يَرَاهُ، وَلاَ يَأْتِيهِ فِي الْمَنَامِ»(1).

وفي العوالم نقلاً عن المحتضر: روي أن فاطمة (عليها السلام) لما توفي أبوها (صلى الله عليه و آله وسلم) قالت لأمير المؤمنين (عليه السلام): «إني لأسمع من يحدثني بأشياء ووقائع تكون في ذريتي. قال: فإذا سمعتيه فأمليه عليَّ». فصارت تمليه وهو يكتبه، فروي أنه بقدرالقرآن ثلاث مرات ليس فيه شيء من القرآن، فلما كمله سماه: (مصحف فاطمة)؛ لأنها كانت محدثة تحدثها الملائكة(2).

حرمة ما يوجب الهرج

مسألة: يحرم فعل أي شيء يوجب الهرج الشامل، ومن مصاديقه إيقاع الفتنة الطائفية التي توجب هتك الأعراض وإراقة الدماء وغير ذلك.

عن سليم بن قيس، قال: صَعِدَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) الْمِنْبَرَ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، أَنَا الَّذِي فَقَأْتُ عَيْنَ الْفِتْنَةِ، وَلَمْ يَكُنْ لِيَجْتَرِئَ عَلَيْهَا غَيْرِي. وَايْمُ اللهِ، لَوْ لَمْ أَكُنْ فِيكُمْ لَمَا قُوتِلَ أَهْلُ الْجَمَلِ، وَلاَ أَهْلُ صِفِّينَ، وَلاَ أَهْلُ النَّهْرَوَانِ»(3).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لَتَشْمَلَنَّكُمْ فِتْنَةٌ يَرْبُو فِيهَا الْوَلِيدُ، وَيَنْشَأُ

ص: 318


1- الاختصاص للشيخ المفيد: ص329، في غرائب أحوالهم وأفعالهم (عليهم السلام)، أحاديث حول خصائص الأئمة (عليهم السلام).
2- عوالم العلوم (مستدرك سيدة النساء): ج11ق2 فاطمة، ص843، باب مصحفها (صلوات الله عليها)، ح21.
3- كتاب سليم بن قيس الهلالي: ج2 ص712، الحديث السابع عشر.

..............................

فِيهَا الْكَبِيرُ، يَجْرِي النَّاسُ عَلَيْهَا وَيَتَّخِذُونَهَا سُنَّةً، فَإِذَا غُيِّرَ مِنْهَا شَيْءٌ، قَالُوا: أَتَى النَّاسُ مُنْكَراً، غُيِّرَتِ السَّنَّةُ»(1).

وقام رجل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام). فقال: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، حَدِّثْنَا عَنِ الْفِتَنِ؟.

قال (عليه السلام): «إِنَّ الْفِتْنَةَ إِذَا أَقْبَلَتْ شَبَّهَتْ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ نَبَّهَتْ، يُشْبِهْنَ مُقْبِلاَتٍ، وَيُعْرَفْنَ مُدْبِرَاتٍ. إِنَّ الْفِتَنَ تَحُومُ كَالرِّيَاحِ، يُصِبْنَ بَلَداً وَيُخْطِئْنَ أُخْرَى، أَلاَ إِنَّ أَخْوَفَ الْفِتَنِ عِنْدِي عَلَيْكُمْ فِتْنَةُ بَنِي أُمَيَّةَ، إِنَّهَا فِتْنَةٌ عَمْيَاءُ مُظْلِمَةٌ مُطَيَّنَةٌ، عَمَّتْ فِتْنَتُهَا وَخَصَّتْ بَلِيَّتُهَا، وَأَصَابَ الْبَلاَءُ مَنْ أَبْصَرَ فِيهَا، وَأَخْطَأَ الْبَلاَءُ مَن عَمِيَ عَنْهَا، يَظْهَرُ أَهْلُ بَاطِلِهَا عَلَى أَهْلِ حَقِّهَا، حَتَّى تُمْلأَ الأَرْضُ عُدْوَاناً وَظُلْماً وَبِدَعاً، أَلاَ وَإِنَّ أَوَّلَ مَنْ يَضَعُ جَبَرُوتَهَا، وَيَكْسِرُ عُمُدَهَا، وَيَنْزِعُ أَوْتَادَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ»(2).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يَا عَلِيُّ، إِنَّ اللهَ قَضَى الْجِهَادَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي الْفِتْنَةِ مِنْ بَعْدِي. فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَكَيْفَ نُجَاهِدُالْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ فِي فِتْنَتِهِمْ آمِناً؟. قَالَ: يُجَاهِدُونَ عَلَى الأَحْدَاثِ فِي الدِّينِ، إِذَا عَمِلُوا بِالرَّأْيِ فِي الدِّينِ، وَلاَ رَأْيَ فِي الدِّينِ، إِنَّمَا الدِّينُ مِنَ الرَّبِّ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ»(3).

وعن عبد الرحمن بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى:

ص: 319


1- كتاب سليم بن قيس الهلالي: ج2 ص788، الحديث السادس والعشرون.
2- الغارات: ج1 ص7 - 8، مقدمة التحقيق.
3- تفسير فرات الكوفي: ص614 - 615، سورة النصر: الآيات 1 إلى 3، ح772.

..............................

«وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً»(1)، قال: «أصابت الناس فتنة بعد ما قبض الله نبيه، حتى تركوا علياً وبايعوا غيره، وهي الفتنة التي فتنوا بها، وقد أمرهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بإتباع علي والأوصياء من آل محمد (عليهم السلام)»(2).

وعن معمر بن خلاد، قال: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ (عليه

السلام) يَقُولُ: «الم * أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ»(3)، ثُمَّ قَالَ لِي:«مَا الْفِتْنَةُ؟». قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، الَّذِي عِنْدَنَا الْفِتْنَةُ فِي الدِّينِ. فَقَالَ: «يُفْتَنُونَ كَمَا يُفْتَنُ الذَّهَبُ» ثُمَّ قَالَ: «يُخْلَصُونَ كَمَا يُخْلَصُ الذَّهَبُ»(4).

الهرج من الكبائر

مسألة: فعل ما يوجب الهرج الشامل من الكبائر؛ لأنها تتضمن عدداً من أكبر الكبائر(5). عن أبي عبد الله (عليه السلام) فِي قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: «إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا»(6)،

ص: 320


1- سورة الأنفال: 25.
2- تفسير العياشي: ج2 ص53، سورة الأنفال: آية 25، ح40.
3- سورة العنكبوت: 1 - 2.
4- الكافي: ج1 ص370، كتاب الحجة، باب التمحيص والامتحان، ح4.
5- ولأن من أهم مقاصد الشريعة حفظ النظام كما عليه الفقهاء وعللوا به الكثير من الأحكام.
6- سورة النساء: 31.

..............................

قَالَ: «الْكَبَائِرُ الَّتِي أَوْجَبَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهَا النَّارَ»(1).

وعن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «الْكَبَائِرُ سَبْعٌ: قَتْلُ الْمُؤْمِنِ مُتَعَمِّداً،وَقَذْفُ الْمُحْصَنَةِ، وَالْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ، وَالتَّعَرُّبُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ ظُلْماً، وَأَكْلُ الرِّبَا بَعْدَ الْبَيِّنَةِ، وَكُلُّ مَا أَوْجَبَ اللهُ عَلَيْهِ النَّارَ»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه): «مَا مِنْ عَبْدٍ إِلاَّ وَعَلَيْهِ أَرْبَعُونَ جُنَّةً حَتَّى يَعْمَلَ أَرْبَعِينَ كَبِيرَةً، فَإِذَا عَمِلَ أَرْبَعِينَ كَبِيرَةً انْكَشَفَتْ عَنْهُ الْجُنَنُ. فَيُوحِي اللهُ إِلَيْهِمْ: أَنِ اسْتُرُوا عَبْدِي بِأَجْنِحَتِكُمْ. فَتَسْتُرُهُ الْمَلاَئِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا - قَالَ - فَمَا يَدَعُ شَيْئاً مِنَ الْقَبِيحِ إِلاَّ قَارَفَهُ، حَتَّى يَمْتَدِحَ إِلَى النَّاسِ بِفِعْلِهِ الْقَبِيحِ، فَيَقُولُ الْمَلاَئِكَةُ: يَا رَبِّ، هَذَا عَبْدُكَ مَا يَدَعُ شَيْئاً إِلاَّ رَكِبَهُ، وَإِنَّا لَنَسْتَحْيِي مِمَّا يَصْنَعُ. فَيُوحِي اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِمْ: أَنِ ارْفَعُوا أَجْنِحَتَكُمْ عَنْهُ. فَإِذَا فُعِلَ ذَلِكَ أَخَذَ فِي بُغْضِنَا أَهْلَ الْبَيْتِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَنْهَتِكُ سِتْرُهُ فِي السَّمَاءِ، وَسِتْرُهُ فِي الأَرْضِ، فَيَقُولُ الْمَلاَئِكَةُ: يَا رَبِّ، هَذَا عَبْدُكَ قَدْ بَقِيَ مَهْتُوكَ السِّتْرِ. فَيُوحِي اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِمْ: لَوْ كَانَتْ للهِ فِيهِ حَاجَةٌ، مَا أَمَرَكُمْ أَنْ تَرْفَعُوا أَجْنِحَتَكُمْ عَنْهُ»(3).

وعن مسعدة بن صدقة، قال: سَمِعْتُ أَبَاعَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «الْكَبَائِرُ: الْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، وَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ، وَالأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللهِ،

ص: 321


1- الكافي: ج2 ص276، كتاب الإيمان والكفر، باب الكبائر، ح1.
2- الكافي: ج2 ص277، كتاب الإيمان والكفر، باب الكبائر، ح3.
3- الكافي: ج2 ص279- 280، كتاب الإيمان والكفر، باب الكبائر، ح9.

..............................

وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ ظُلْماً، وَأَكْلُ الرِّبَا بَعْدَ الْبَيِّنَةِ، وَالتَّعَرُّبُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَةِ، وَالْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ». فَقِيلَ لَهُ: أَ رَأَيْتَ الْمُرْتَكِبُ لِلْكَبِيرَةِ يَمُوتُ عَلَيْهَا، أَ تُخْرِجُهُ مِنَ الإِيمَانِ؟ وَإِنْ عُذِّبَ بِهَا فَيَكُونُ عَذَابُهُ كَعَذَابِ الْمُشْرِكِينَ أَوْ لَهُ انْقِطَاعٌ؟. قَالَ: «يَخْرُجُ مِنَ الإِسْلاَمِ إِذَا زَعَمَ أَنَّهَا حَلاَلٌ، وَلِذَلِكَ يُعَذَّبُ أَشَدَّ الْعَذَابِ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَرِفاً بِأَنَّهَا كَبِيرَةٌ، وَهِيَ عَلَيْهِ حَرَامٌ، وَأَنَّهُ يُعَذَّبُ عَلَيْهَا، وَأَنَّهَا غَيْرُ حَلاَلٍ، فَإِنَّهُ مُعَذَّبٌ عَلَيْهَا، وَهُوَ أَهْوَنُ عَذَاباً مِنَ الأَوَّلِ، وَيُخْرِجُهُ مِنَ الإِيمَانِ، وَلاَ يُخْرِجُهُ مِنَ الإِسْلاَمِ»(1).

شمولية الهرج والمرج

مسألة: يحرم ما يوجب الهرج والمرج في مختلف مجالات الحياة الأساسية، فمايوجب الهرج والمرج والاضطراب الاقتصادي حرام، مثل الإخلال بقانون العرض والطلب عمداً بشكل كبير مضر بحيث يحطم الأسعار أو يسبب ارتفاعها بشكل استثنائي، وكذلك ما يسبب تحطيم العملة الوطنية مما يضر الناس ضرراً بالغاً، إلى غير ذلك.

وكذا ما يوجب الهرج والمرج والاضطراب الأمني والاجتماعي والسياسي وغيرها، إلا إذا زوحم بهرج ومرج أكبر لو لم يتم الأقل أو ما أشبه، فإنه حينئذٍ يكون من مصاديق الأهم والمهم.

ص: 322


1- الكافي: ج2 ص280، كتاب الإيمان والكفر، باب الكبائر، ح10.

..............................

ورد في التاريخ قصة ضرب عبد الملك بن مروان للعملة الإسلامية، ومفادها أن القراطيس(1) كانت للروم - وكان أكثر من بمصر نصرانياً على دين ملك الروم - وكانت تطرز بالرومية - أي يكتب عليها شعار الديانة المسيحية - وكان طرازها: الأب والابن وروح القدس، فلم يزل ذلك كذلك صدر الإسلام كله يمضي على ما كان عليه إلى أن ملك عبد الملك بن مروان فتنبه له وكان فطناً.

فبينا هو ذات يوم إذ مر به قرطاسفنظر إلى طرازه فأمر أن يترجم بالعربية فأنكره، وقال: ما أغلظ هذا في أمر الدين والإسلام أن يكون طراز القراطيس وغير ذلك مما يطرز من ستور وغيرها من عمل هذا البلد - أي مصر - على سعته وكثرة ماله وأهله فتخرج منه هذه القراطيس فتدور في الآفاق والبلاد وقد طرزت بشرك مثبت عليها.

فأمر بالكتاب إلى عبد العزيز بن مروان - وكان عامله بمصر - بإبطال ذلك الطراز على ما كان يطرز به من ثوب وقرطاس وستر وغير ذلك، وأن يأخذ صنَّاع القراطيس أن يطرزوها بسورة التوحيد وآية «شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ»(2). وكتب إلى عمال الآفاق جميعاً بإبطال ما في أعمالهم من القراطيس المطرزة بطراز الروم ومعاقبة من وجد عنده بعد هذا النهي شيء منها بالضرب الوجيع والحبس الطويل.

فلما أثبتت القراطيس بالطراز المحدث بالتوحيد وحُمل إلى بلاد الروم منها

ص: 323


1- وهي عبارة عن أكياس تعمل من القماش لحمل البضاعة بداخلها.
2- سورة آل عمران: 18.

..............................

انتشر خبرها ووصل إلى ملكهم فترجم له ذلك الطراز، فأنكره وغلظ عليهواستشاط غضباً.

فكتب إلى عبد الملك: إن عمل القراطيس بمصر وسائر ما يطرز هناك للروم، ولم يزل يطرز بطراز الروم إلى أن أبطلته، فإن كان من تقدمك من الخلفاء قد أصاب فقد أخطأت، وإن كنت قد أصبت فقد أخطئوا، فاختر من هاتين الحالتين أيهما شئت وأحببت، وقد بعثت إليك بهدية تشبه محلك، وأحببت أن تجعل رد ذلك الطراز إلى ما كان عليه في جميع ما كان يطرز من أصناف الأعلاق حاجة أشكرك عليها، وتأمر بقبض الهدية وكانت عظيم القدر.

فلما قرأ عبد الملك كتابه رد الرسول وأعلمه أن لا جواب له، ولم يقبل الهدية فانصرف بها إلى صاحبه، فلما وافاه أضعف الهدية ورد الرسول إلى عبد الملك، وقال: إني ظننتك استقللت الهدية فلم تقبلها ولم تجبني عن كتابي، فأضعفت لك الهدية وأنا أرغب إليك في مثل ما رغبت فيه من رد هذا الطراز إلى ما كان عليه أولاً.

فقرأ عبد الملك الكتاب ولم يجبه وردّ الهدية، فكتب إليه ملك الروم يقتضي أجوبة كتبه، ويقول: إنك قد استخففت بجوابي وهديتي ولم تسعفني بحاجتي، فتوهمتك استقللت الهدية فأضعفتها فجريت على سبيلك الأول وقد أضعفتها ثالثة، وأنا أحلف بالمسيحلتأمرن برد الطراز إلى ما كان عليه أو لآمرن بنقش الدنانير والدراهم؛ فإنك تعلم أنه لا ينقش شيء منها إلا ما ينقش في بلادي، فينقش عليها من شتم نبيك ما إذا قرأته ارفض جبينك له عرقاً، فأحب أن تقبل هديتي وترد الطراز إلى ما كان عليه، وتجعل ذلك هدية بررتني بها وتبقى على الحال بيني وبينك.

ص: 324

..............................

فلما قرأ عبد الملك الكتاب غلظ عليه وضاقت به الأرض، وقال: أحسبني أشأم مولود ولد في الإسلام؛ لأني جنيت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) من شتم هذا الكافر ما يبقى غابر الدهر ولا يمكن محوه من جميع مملكة العرب. إذ كانت المعاملات تدور بين الناس بدنانير الروم ودراهمهم.

فجمع أهل الإسلام واستشارهم فلم يجد عند أحد منهم رأياً يعمل به. فقال له روح بن زنباع: إنك لتعلم الرأي والمخرج من هذا الأمر ولكنك تتعمد تركه.

قال: ويحك من؟. قال: الباقر من أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله).

قال: صدقت ولكنه ارتج عليَّ الرأي فيه.فكتب إلى عامله بالمدينة: أن أشخص إليَّ محمد بن علي بن الحسين (عليه السلام) مكرماً، ومتعه بمائتي ألف درهم لجهازه وبثلاثمائة ألف درهم لنفقته، وأزح علته في جهازه وجهاز من يخرج معه من أصحابه. وأحتبس الرسول قِبَلَهُ إلى موافاته عليه، فلما وافى أخبره الخبر.

فقال له الباقر (عليه السلام): «لا يعظمن هذا عليك؛ فإنه ليس شيء من جهتين، إحداهما أن الله عز وجل لم يكن ليطلق ما تهددك به صاحب الروم في رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والأخرى وجود الحيلة فيه». قال: وما هي؟.

قال (عليه السلام): «تدعو في هذه الساعة بصنَّاع فيضربون بين يديك سككاً للدراهم والدنانير، وتجعل النقش عليها سورة التوحيد وذكر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أحدهما في وجه الدرهم والدينار والآخر في الوجه الثاني، وتجعل في

ص: 325

..............................

مدار الدرهم والدينار ذكر البلد الذي يُضرب فيه والسنة التي تُضرب فيه تلك الدراهم والدنانير، وتعمد إلى وزن ثلاثين درهماً عدداً من الأصناف الثلاثة التي العشرة منها وزن عشرة مثاقيل،وعشرة منها وزن ستة مثاقيل، وعشرة منها وزن خمسة مثاقيل، فتكون أوزانها جميعاً أوزانها واحداً وعشرين مثقالاً فتجزئها من الثلاثين فتصير العدة من الجميع وزن سبعة مثاقيل، وتصب صنجات من قوارير لا تستحيل إلى زيادة ولا نقصان، فتضرب الدراهم على وزن عشرة، والدنانير على وزن سبعة مثاقيل». ففعل عبد الملك ذلك وأمره محمد بن علي بن الحسين (عليه السلام) أن يكتب السكك في جميع بلدان الإسلام، وأن يتقدم إلى الناس في التعامل بها، وأن يتهدد بقتل من يتعامل بغير هذه السكك من الدراهم والدنانير وغيرها، وأن تبطل وترد إلى مواضع العمل حتى تعاد إلى السكك الإسلامية.

ففعل عبد الملك ذلك وردّ رسول ملك الروم إليه يعلمه بذلك ويقول: إن الله جل وعز مانعك مما قدرت أن تفعله، وقد تقدمت إلى أعمالي في أقطار البلاد بكذا وكذا، وبأبطال السكك والطراز الرومية.

فقيل لملك الروم: افعل ما كنت تهددت به ملك العرب.

فقال: إنما أردت أن أغيظه بما كتبت إليه؛ لأني كنت قادراً عليه والمال وغيره برسوم الروم فأما الآن فلا أفعل؛ لأن ذلك لا يتعامل به أهلالإسلام وامتنع من الذي قال.

وثبت ما أشار به محمد بن علي بن الحسين (عليه السلام) إلى اليوم(1).

ص: 326


1- أعيان الشيعة: ج1 ص654 - 655 ما أشار به على عبد الملك في ضرب الدراهم والدنانير.

وَاسْتِبْدَادٍ مِنَ الظَّالِمِينَ،

اشارة

-------------------------------------------

الاستبداد من أعظم المحرمات

معنى قول الصديقة (عليها السلام): «وَاسْتِبْدَادٍ مِنَ الظَّالِمِينَ»، أنهم يستبدون بالحكم والسلطة، وبالمال والثروات وما أشبه، ويتفردون بها وغيرها، من دون إشراك سائر المصلحين والرعية، كما قال الإمام (عليه السلام): «يأخذ مال الله دولاً، وعباده خولاً، ودينه دغلاً» (1).

مسألة: الاستبداد محرم، بل هو من أعظم المحرمات؛ لأنه مصداق مساماة الله في عظمته، كما قال (عليه السلام): «إِيَّاكَ وَمُسَامَاةَ اللهِ فِي عَظَمَتِه»(2)، ولأنه تسلط على أموال المسلمين وأنفسهم ودمائهم وأعراضهم بغير حق، ولأنه غصب لمقامالإمام أو نائبه بالحق، ولأنه طريق إلى سفك الدماء وهتك الأعراض وسحق سائر الحقوق(3)، ولأنه يسبب تشويه سمعة الإسلام والمسلمين، ولغير ذلك.

وقد ذكرنا في بعض الكتب أن الفقيه إذا استبد بالأمر سقط مشروعية حكمه.

ص: 327


1- نهج البلاغة: رسائل أمير المؤمنين (عليه السلام)، رقم62 ومن كتاب له (عليه السلام) إلى أهل مصر مع مالك الأشتر (رحمه الله) لما ولاه إمارتها، وفيه: «وَلَكِنَّنِي آسَى أَنْ يَلِيَ [هَذِهِ الأُمَّةَ] أَمْرَ هَذِهِ الأُمَّةِ سُفَهَاؤُهَا وَفُجَّارُهَا، فَيَتَّخِذُوا مَالَ اللهِ دُوَلاً، وَعِبَادَهُ خَوَلاً، وَالصَّالِحِينَ حَرْباً، وَالْفَاسِقِينَ حِزْباً».
2- نهج البلاغة: رسائل أمير المؤمنين (عليه السلام)، رقم53 ومن كتاب له (عليه السلام) كتبه للأشتر النخعي (رحمه الله) لما ولاه على مصر وأعمالها.
3- الفرق بين هذا والثاني: إن هذا طريقي، أما الثاني فهو موضوعي، إذ نفس ذلك التسلط حرام.

..............................

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «بِئْسَ الزَّادُ إِلَى الْمَعَادِ الْعُدْوَانُ عَلَى الْعِبَادِ»(1).

وقال (عليه السلام): «بِئْسَ الاِسْتِعْدَادُ الاِسْتِبْدَادُ»(2).

وقال (عليه السلام): «بِئْسَ السِّيَاسَةُ الْجَوْرُ»(3).

وقال (عليه السلام): «بِئْسَ السَّجِيَّةُ الْغُلُولُ»(4).وقال (عليه السلام): «حَقٌّ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَسْتَدِيمَ الاِسْتِرْشَادَ وَيَتْرُكَ الاِسْتِبْدَادَ»(5).

وقال (عليه السلام): «حَقٌّ عَلَى الْمَلِكِ أَنْ يَسُوسَ نَفْسَهُ قَبْلَ جُنْدِهِ»(6).

وقال (عليه السلام): «حَاسِبُوا نُفُوسَكُمْ بِأَعْمَالِهَا، وَطَالِبُوهَا بِأَدَاءِ الْمَفْرُوضِ عَلَيْهَا، وَخُذُوا مِنْ فَنَائِهَا لِبَقَائِهَا، وَتَزَوَّدُوا وَتَأَهَّبُوا قَبْلَ أَنْ تُبْعَثُوا»(7).

وقال (عليه السلام): «الاِسْتِبْدَادُ بِرَأْيِكَ يُزِلُّكَ وَيُهَوِّرُكَ فِي الْمَهَاوِي»(8).

ص: 328


1- عيون الحكم والمواعظ: ص193،الباب الثاني، الفصل الثالث بلفظ بئس، ح3962.
2- عيون الحكم والمواعظ: ص193، الباب الثاني، الفصل الثالث بلفظ بئس، ح3963.
3- عيون الحكم والمواعظ: ص193، الباب الثاني، الفصل الثالث بلفظ بئس، ح3970.
4- عيون الحكم والمواعظ: ص194، الباب الثاني، الفصل الثالث بلفظ بئس، ح3978.
5- عيون الحكم والمواعظ: ص233، الباب السادس، الفصل الثاني باللفظ المطلق، ح4460.
6- عيون الحكم والمواعظ: ص233، الباب السادس، الفصل الثاني باللفظ المطلق، ح4462.
7- عيون الحكم والمواعظ: ص234، الباب السادس، الفصل الثاني باللفظ المطلق، ح4488.
8- غرر الحكم ودرر الكلم: ص81، الفصل الأول، ح1547.

..............................

النسبة بين الظالم والمستبد

مسألة: هل النسبة بين الظالم والمستبدالعموم من وجه(1)، أم المطلق(2).

الظاهر الثاني، إذ لا يوجد وجه للقول بالمستبد العادل، فكل مستبد هو ظالم، لأن الاستبداد بحد ذاته ظلم وحرام، لأنه حرمان الناس من حقهم، بل من حقوقهم التي قررها الله لهم، إذ «النَّاسُ مُسَلَّطُونَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ»(3)، وكذلك (وأنفسهم)، فإن من يغصب بلداً بأكمله أسوأ حالاً وأشد ظلماً ممن يغصب داراً واحدة، ومن يمنع الناس حقوقهم(4) أسوأ وأشد ظلماً ممن يغصب ثروة شخص واحد. فالقول بالمستبد العادل قد يكون جمعاً بين المتناقضين، وهو كالقول بالعالم الجاهل! أو العادل الفاسق! أو ما أشبه(5).ثم إن قول الصديقة (عليها السلام): «وَاسْتِبْدَادٍ مِنَ الظَّالِمِينَ»، يراد به المجموع للمجموع، لا الجميع للجميع، ولا الجيمع للمجموع، ولا المجموع للجميع فدقق.

ص: 329


1- فالظالم غير المستبد كمن يغتاب أو يضرب شخصاً ظلماً، والمستبد غير الظالم كمستبد يعطي الناس حقوقهم، ويجتمعان في المستبد الذي يقتل ظلماً ويصادر أموال الناس وحقوقهم ظلماً.
2- أي كل مستبد ظالم، وليس كل ظالم مستبداً.
3- غوالي اللئالئ: ج1 ص222، المقدمة، الفصل التاسع، ح99.
4- بأن منعهم من حقهم الشرعي في حيازة المباحات والأنفال وغيرها، فكيف بمن صادر بالفعل أراضي الناس وأملاكهم كما هو دأب المستبدين.
5- ربما يمكن أن يقال بتصور المستبد العادل، إذا استبد بالحكم من دون ظلم الناس حقوقهم إلا حق عدم الاستبداد عليهم وتنازل الناس عن حقهم هذا بملأ اختيارهم، فتأمل.

يَدَعُ فَيْئَكُمْ زَهِيداً،

اشارة

-------------------------------------------

الاستبداد والاقتصاد

(الفيء) في اللغة: الرجوع، قال تعالى: «وَمَا أَفاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ»(1)، أي والذي أفاءه الله ورده من أموال اليهود، وهو عبارة عن الغنيمة والخراج وأموال المسلمين التي تقسم بينهم، نعم هناك من الأموال ما هو خاص بالمعصوم (عليه السلام) كما هو مقرر في الفقه.

(زهيداً): أي قليلاً.

ولهذا مصداقان:

الأول: أن يكون الفيء بنفسه وفي حد ذاته قليلاً، فإن الإعراض عن منهج الله في الاقتصاد والسياسة ينتج تحطم الزراعة والصناعة مما يسبب قلة الخراج، كما يسبب قلة الغنائم نتيجة الضعف السياسي والعسكري، كما لا يخفى.

الثاني: أن يكون ما يصل من الفيء لعامة المسلمين قليلاً، وذلك بسبب سرقة الحكام للفيء، فلا يرشح منه للناس إلاّ الزهيد القليل، كما هو ديدن الحكامالظلمة، ولا وجه تام لدعوى الانصراف للأول.

وكان الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) لا يجامل في الحق، بل يعطي كلاً بمقدار حقه من دون أن يحرم الآخرين على حساب البعض.

ص: 330


1- سورة الحشر: 6.

..............................

عن المغيرة الضبي، قال: (إِنَّ عَلِيّاً كَانَ لاَ يُعْطِي أَحَداً مِنَ الْفَيْءِ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ)(1).

وعن أبي إسحاق الهمداني: أَنَّ امْرَأَتَيْنِ أَتَتَا عَلِيّاً (عليه السلام) عِنْدَ الْقِسْمَةِ، إِحْدَاهُمَا مِنَ الْعَرَبِ وَالأُخْرَى مِنَ الْمَوَالِي. فَأَعْطَى كُلَّ وَاحِدَةٍ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَماً، وَكُرّاً مِنَ الطَّعَامِ. فَقَالَتِ الْعَرَبِيَّةُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي امْرَأَةٌ مِنَ الْعَرَبِ وَهَذِهِ امْرَأَةٌ مِنَ الْعَجَمِ.

فَقَالَ عَلِيٌّ (عليه السلام): «إِنِّي لاَ أَجِدُ لِبَنِي إِسْمَاعِيلَ فِي هَذَا الْفَيْ ءِ فَضْلاً عَلَى بَنِي إِسْحَاقَ»(2).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «إِنَّا لاَ يَسَعُنَا أَنْ نُؤْتِيَ امْرَأً مِنَ الْفَيْءِأَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ»(3).

وعن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: سمعته يقول: «إن الفيء والأنفال ما كان من أرض لم يكن فيها هراقة دم، أو قوم صالحوا، أو قوم أعطوا بأيديهم، وما كان من أرض خربة، أو بطون الأودية، فهذا كله من الفيء، فهذا لله و للرسول، فما كان لله فهو لرسوله يضعه حيث يشاء، وهو للإمام من بعد الرسول»(4).

وعن الثمالي، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: سمعته يقول - في الملوك

ص: 331


1- الغارات: ج1 ص29، في استنفاره الناس.
2- الغارات: ج1 ص45 - 46، سيرته (عليه السلام) في المال.
3- الغارات: ج1 ص47، سيرته (عليه السلام) في المال.
4- تفسير العياشي: ج2 ص47، سورة الأنفال: آية 1، ح7.

..............................

الذين يقطعون الناس -: «هي من الفي ء والأنفال وأشباه ذلك»(1).

وعن ابن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سمعته يقول في الغنيمة: «يخرج منها الخمس، ويقسم ما بقي فيمن قاتل عليه وولي ذلك، فأما الفي ءوالأنفال فهو خالص لرسول الله (صلى الله عليه وآله)»(2).

وعن زرارة ومحمد بن مسلم وأبي بصير، أنهم قالوا له: ما حق الإمام في أموال الناس؟. قال: «الفيء والأنفال والخمس، وكل ما دخل منه فيء أو أنفال أو خمس»(3).

وعن زرارة، قال: «الإِمَامُ يُجْرِي وَيُنَفِّلُ وَيُعْطِي مَا شَاءَ قَبْلَ أَنْ تَقَعَ السِّهَامُ، وَقَدْ قَاتَلَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) بِقَوْمٍ لَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ فِي الْفَيْءِ نَصِيباً، وَإِنْ شَاءَ قَسَمَ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ»(4).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «فَأَمَّا هَذَا الْفَيْءُ فَلَيْسَ لأَحَدٍ فِيهِ عَلَى أَحَدٍ أَثَرَةٌ، قَدْ فَرَغَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ قَسْمِهِ، فَهُوَ مَالُ اللهِ وَأَنْتُمْ عِبَادُ اللهِ الْمُسْلِمُونَ، وَهَذَا كِتَابُ اللهِ بِهِ أَقْرَرْنَا، وَعَلَيْهِ شَهِدْنَا، وَلَهُ أَسْلَمْنَا، وَعَهْدُ نَبِيِّنَا بَيْنَ أَظْهُرِنَا، فَسَلِّمُوا رَحِمَكُمُ اللهُ، فَمَنْ لَمْ يَرْضَ بِهَذَا، فَلْيَتَوَلَّ كَيْفَ شَاءَ؛ فَإِنَّ الْعَامِلَ بِطَاعَةِ اللهِ،وَالْحَاكِمَ بِحُكْمِ اللهِ، لاَ وَحْشَةَ عَلَيْهِ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ

ص: 332


1- تفسير العياشي: ج2 ص48، سورة الأنفال: آية 1، ح16.
2- تفسير العياشي: ج2 ص61، سورة الأنفال: آية 1، ح51.
3- تفسير العياشي: ج2 ص61، سورة الأنفال: آية 1، ح53.
4- الكافي: ج1 ص544، كتاب الحجة، أبواب التاريخ، باب الفيء والأنفال وتفسير الخمس وحدوده وما يجب فيه، ح9.

..............................

يَحْزَنُونَ، أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»(1).

مما يحرم على الحكام

مسألة: يحرم على الحكام أن يقوموا بما يسبب زهد فيء المسلمين، سواء المصداق الأول أم الثاني(2).

مسألة: يحرم مساعدة الحاكم على ذلك، ولو بمدة قلم أو كلمة دفاع أو تعليل، كما هو دأب بعض وعاظ السلاطين، وكتّاب الجرائد والمجلات، وحتى بعض نواب مجلس الأمة المنتخبين.

وعن علي بن الحسين (عليه السلام) - في حديث - قال: «إِيَّاكُمْ وَصُحْبَةَ الْعَاصِينَ وَمَعُونَةَ الظَّالِمِينَ»(3).وعن محمد بن عذافر عن أبيه، قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): يَا عُذَافِرُ، نُبِّئْتُ أَنَّكَ تُعَامِلُ أَبَا أَيُّوبَ وَالرَّبِيعَ، فَمَا حَالُكَ إِذَا نُودِيَ بِكَ فِي أَعْوَانِ الظَّلَمَةِ». قَالَ: فَوَجَمَ أَبِي، فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) - لَمَّا رَأَى مَا أَصَابَهُ أَيْ عُذَافِرُ -: «إِنِّي إِنَّمَا خَوَّفْتُكَ بِمَا خَوَّفَنِي اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ بِهِ». قَالَ مُحَمَّدٌ: فَقَدِمَ أَبِي، فَمَا زَالَ مَغْمُوماً مَكْرُوباً حَتَّى مَاتَ(4).

ص: 333


1- تحف العقول: ص184- 185، باب ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، خطبته (عليه السلام) عند ما أنكر عليه قوم تسويته بين الناس في الفيء.
2- ومن أمثلة ذلك عدم توفير ما يعبر عنه اليوم بالبنى التحتية لنهوض الزراعة والصناعة وما أشبه.
3- وسائل الشيعة: ج17 ص177، كتاب التجارة، الباب42 ح22289.
4- وسائل الشيعة: ج17 ص178، كتاب التجارة، الباب42 ح22291.

..............................

وعن حريز، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): يَقُولُ: «اتَّقُوا اللهَ وَصُونُوا دِينَكُمْ بِالْوَرَعِ، وَقَوُّوهُ بِالتَّقِيَّةِ، وَالاِسْتِغْنَاءِ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ إِنَّهُ مَنْ خَضَعَ لِصَاحِبِ سُلْطَانٍ، وَلِمَنْ يُخَالِفُهُ عَلَى دِينِهِ، طَلَباً لِمَا فِي يَدَيْهِ مِنْ دُنْيَاهُ، أَخْمَلَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَقَّتَهُ عَلَيْهِ، وَوَكَلَهُ إِلَيْهِ، فَإِنْ هُوَ غَلَبَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ دُنْيَاهُ، فَصَارَ إِلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ، نَزَعَ اللهُ جَلَّ اسْمُهُ الْبَرَكَةَ مِنْهُ، وَلَمْ يَأْجُرْهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ يُنْفِقُهُ فِي حَجٍّ، وَلاَ عِتْقٍ، وَلاَ بِرٍّ»(1).وعن أبي بصير، قال: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) عَنْ أَعْمَالِهِمْ. فَقَالَ لِي: «يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، لاَ وَلاَ مَدَّةَ قَلَمٍ؛ إِنَّ أَحَدَهُمْ لاَ يُصِيبُ مِنْ دُنْيَاهُمْ شَيْئاً، إِلاَّ أَصَابُوا مِنْ دِينِهِ مِثْلَهُ، أَوْ حَتَّى يُصِيبُوا مِنْ دِينِهِ مِثْلَهُ»(2).

وعن ابن أبي يعفور، قال: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، إِذْ دَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِنَا. فَقَالَ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِنَّهُ رُبَّمَا أَصَابَ الرَّجُلَ مِنَّا الضِّيقُ أَوِ الشِّدَّةُ، فَيُدْعَى إِلَى الْبِنَاءِ يَبْنِيهِ، أَوِ النَّهَرِ يَكْرِيهِ، أَوِ الْمُسَنَّاةِ يُصْلِحُهَا، فَمَا تَقُولُ فِي ذَلِكَ؟. فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «مَا أُحِبُّ أَنِّي عَقَدْتُ لَهُمْ عُقْدَةً، أَوْ وَكَيْتُ لَهُمْ وِكَاءً، وَإِنَّ لِي مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا، لاَ وَلاَ مَدَّةً بِقَلَمٍ؛ إِنَّ أَعْوَانَ الظَّلَمَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي سُرَادِقٍ مِنْ نَارٍ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَ الْعِبَادِ»(3).

ص: 334


1- وسائل الشيعة: ج17 ص178، كتاب التجارة، الباب42 من أبواب ما يكتسب به، ح22292.
2- وسائل الشيعة: ج17 ص179، كتاب التجارة، الباب42 من أبواب ما يكتسب به، ح22293.
3- وسائل الشيعة: ج17 ص179، كتاب التجارة، الباب42 ح22294.

..............................

وعن جهم بن حميد، قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): «أَ مَا تَغْشَى سُلْطَانَ هَؤُلاَءِ». قَالَ: قُلْتُ: لاَ. قَالَ: «وَلِمَ؟».قُلْتُ: فِرَاراً بِدِينِي. قَالَ: «وَعَزَمْتَ عَلَى ذَلِكَ؟». قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ لِيَ: «الآنَ سَلِمَ لَكَ دِينُكَ»(1).

وعن يونس بن يعقوب، قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): «لاَ تُعِنْهُمْ عَلَى بِنَاءِ مَسْجِدٍ»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «مَنْ سَوَّدَ اسْمَهُ فِي دِيوَانِ وُلْدِ سَابِعٍ، حَشَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِنْزِيراً»(3).

وعن الصادق (عليه السلام)، عن آبائه (عليهم السلام)، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) - في حديث المناهي - قال: «أَلاَ وَمَنْ عَلَّقَ سَوْطاً بَيْنَ يَدَيْ سُلْطَانٍ، جَعَلَ اللهُ ذَلِكَ السَّوْطَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُعْبَاناً مِنَ النَّارِ طُولُهُ سَبْعُونَ ذِرَاعاً، يُسَلِّطُهُ اللهُ عَلَيْهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ»(4).

وعن جعفر بن محمد (عليه السلام)، عن آبائه (عليهم

السلام)، قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ: أَيْنَ أَعْوَانُ الظَّلَمَةِ؟ وَمَنْ لاَقَ لَهُمْ دَوَاةً؟ أَوْ رَبَطَ كِيساً؟ أَوْ مَدَّ لَهُمْ مَدَّةَ قَلَمٍ؟ فَاحْشُرُوهُمْ مَعَهُمْ»(5).

ص: 335


1- وسائل الشيعة: ج17 ص180، كتاب التجارة، الباب42 من أبواب ما يكتسب به، ح22295.
2- وسائل الشيعة: ج17 ص180، كتاب التجارة، الباب42 ح22296.
3- وسائل الشيعة: ج17 ص180، كتاب التجارة، الباب42 ح22297.
4- وسائل الشيعة: ج17 ص180، كتاب التجارة، الباب42 ح22298.
5- وسائل الشيعة: ج17 ص180 - 181، كتاب التجارة، الباب42 ح22299.

..............................

وبهذا الإسناد، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَا اقْتَرَبَ عَبْدٌ مِنْ سُلْطَانٍ جَائِرٍ، إِلاَّ تَبَاعَدَ مِنَ اللهِ. وَلاَ كَثُرَ مَالُهُ، إِلاَّ اشْتَدَّ حِسَابُهُ. وَلاَ كَثُرَ تَبَعُهُ، إِلاَّ كَثُرَتْ شَيَاطِينُهُ»(1).

وبالإسناد، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِيَّاكُمْ وَأَبْوَابَ السُّلْطَانِ وَحَوَاشِيَهَا! فَإِنَّ أَقْرَبَكُمْ مِنْ أَبْوَابِ السُّلْطَانِ وَحَوَاشِيهَا، أَبْعَدُكُمْ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَمَنْ آثَرَ السُّلْطَانَ عَلَى اللهِ، أَذْهَبَ اللهُ عَنْهُ الْوَرَعَ، وَجَعَلَهُ حَيْرَاناً»(2).

المقاومة السلمية

مسألة: يجب مقاومة الحكام عندما يعملون ذلك، وحتى وهم مستمرون في ذلك، والمقاومة سلبية وإيجابية.

ولا نعني بالمقاومة العنيفة منها بل السلمية في جميع الجوانب، فإن السلم أحمد عاقبة على تفصيل ذكرناه في الفقه(3).

وبإسناده السابق - في عيادة المريض - عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) - في حديث - قال: «مَنْ تَوَلَّى خُصُومَةَ ظَالِمٍ أَوْ أَعَانَهُ عَلَيْهَا، نَزَلَ بِهِ مَلَكُ الْمَوْتِ بِالْبُشْرَى بِلَعْنِهِ، وَنَارِ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. وَمَنْ خَفَّ لِسُلْطَانٍ جَائِرٍ فِي حَاجَةٍ، كَانَ قَرِينَهُ فِي النَّارِ. وَمَنْ دَلَّ سُلْطَاناً عَلَى الْجَوْرِ، قُرِنَ مَعَ هَامَانَ، وَكَانَ هُوَ

ص: 336


1- وسائل الشيعة: ج17 ص181، كتاب التجارة، الباب42 ح22300.
2- وسائل الشيعة: ج17 ص181، كتاب التجارة، الباب42 ح22301.
3- انظر كتاب (الفقه: السلم والسلام).

..............................

وَالسُّلْطَانُ مِنْ أَشَدِّ أَهْلِ النَّارِ عَذَاباً. وَمَنْ عَظَّمَ صَاحِبَ دُنْيَا وَأَحَبَّهُ لِطَمَعِ دُنْيَاهُ، سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِ، وَكَانَ فِي دَرَجَتِهِ مَعَ قَارُونَ فِي التَّابُوتِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ. وَمَنْ عَلَّقَ سَوْطاً بَيْنَ يَدَيْ سُلْطَانٍ جَائِرٍ، جَعَلَهَا اللهُ حَيَّةً طُولُهَا سَبْعُونَ أَلْفَ ذِرَاعٍ، فَيُسَلِّطُهُ اللهُ عَلَيْهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، خَالِداً فِيهَا مُخَلَّداً.وَمَنْ سَعَى بِأَخِيهِ إِلَى سُلْطَانٍ، وَلَمْ يَنَلْهُ مِنْهُ سُوءٌ وَلاَ مَكْرُوهٌ، أَحْبَطَ اللهُ عَمَلَهُ، وَإِنْ وَصَلَ مِنْهُ إِلَيْهِ سُوءٌ أَوْ مَكْرُوهٌ أَوْ أَذًى، جَعَلَهُ اللهُ فِي طَبَقَةٍ مَعَ هَامَانَ فِي جَهَنَّمَ»(1).

وعن ورَّام بن أبي فراس في كتابه، قال: قال (عليه السلام): «مَنْ مَشَى إِلَى ظَالِمٍ لِيُعِينَهُ - وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ ظَالِمٌ - فَقَدْ خَرَجَ مِنَ الإِسْلاَمِ»(2).

من قُتل دون الفيء

مسألة: من قتل دون الفيء كالشهيد في الأجر والثواب، فإن قوله (عليه السلام): «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ»(3) يشمل ذلك أيضاً، لا ملاكاً بل إطلاقاً، فإن الفيء مال المسلمين والحاكم غاصب وسارق، بل أسوأ حالاً من السارق العادي.

وهل ذلك يحتاج إلى إذن الحاكم الشرعي؟.

الظاهر نعم، فيما لم يكن دفاعاً بل كان ابتداءً.

ص: 337


1- وسائل الشيعة: ج17 ص181-182، كتاب التجارة، الباب42 ح22302.
2- وسائل الشيعة: ج17 ص182، كتاب التجارة، الباب42 ح22303.
3- دعائم الإسلام: ج1 ص398، كتاب الجهاد، ذكر من يسع قتاله من أهل القبلة.

وَجَمْعَكُمْ حَصِيداً،

اشارة

-------------------------------------------

وَجَمْعَكُمْ (1) حَصِيداً،

حرمة تحطيم الاقتصاد

(الحصيد): فعيل بمعنى المفعول أي محصوداً.

و(جمعكم) أو (زرعكم حصيداً): كناية عن أخذ أموالهم بغير الحق، أو أنه أعم من الأموال حتى أن الأولاد أيضاً زرع الإنسان، فإن الله تعالى سماه نباتاً، قال عزوجل: «وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا»(2).

وفي قصة مريم (عليها السلام) قال سبحانه: «فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا»(3).

ومعنى كلام الصديقة (عليها السلام) أن هذه الفتنة - فتنة السقيفة - تقتل أولادهم في الحروب، وفي السجون، والنزاعات، وحتى الأمراض، كما تفني أموالهم، أو تسبب إنفاقها فيما يهلك دنياهم وأخراهم.

مسائل: يحرم على الحاكم أن يقوم بأي شيء يجعل زرع الأمة حصيداً، كما يحرم عليه أن يترك أي شيء يحافظ على زرع الأمة، بل يجب عليه أن يقوم بما ينميزرع الأمة في الجملة، فإنه منصوب لمصالح المسلمين ومؤتمن على ذلك أيضاً.

ص: 338


1- وفي بعض النسخ: (وزرعكم).
2- سورة نوح: 17.
3- سورة آل عمران: 37.

..............................

قال الإمام الصادق (عليه السلام): «فَكِّرْ يَا مُفَضَّلُ فِي هَذَا الرَّيْعِ الَّذِي جُعِلَ فِي الزَّرْعِ، فَصَارَتِ الْحَبَّةُ الْوَاحِدَةُ تُخَلِّفُ مِائَةَ حَبَّةٍ، وَأَكْثَرَ وَأَقَلَّ، وَكَانَ يَجُوزُ لِلْحَبَّةِ أَنْ تَأْتِيَ بِمِثْلِهَا، فَلِمَ صَارَتْ تَرِيعُ هَذَا الرَّيْعَ، إِلاَّ لِيَكُونَ فِي الْغَلَّةِ مُتَّسَعٌ لِمَا يَرِدُ فِي الأَرْضِ مِنَ الْبَذْرِ، وَمَا يَتَقَوَّتُ الزُّرَّاعُ إِلَى إِدْرَاكِ زَرْعِهَا الْمُسْتَقْبَلِ. أَ لاَ تَرَى أَنَّ الْمَلِكَ لَوْ أَرَادَ عِمَارَةَ بَلَدٍ مِنَ الْبُلْدَانِ، كَانَ السَّبِيلُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُعْطِيَ أَهْلَهُ مَا يَبْذُرُونَهُ فِي أَرْضِهِمْ، وَمَا يَقُوتُهُمْ إِلَى إِدْرَاكِ زَرْعِهِمْ، فَانْظُرْ كَيْفَ تَجِدُ هَذَا الْمِثَالَ قَدْ تَقَدَّمَ فِي تَدْبِيرِ الْحَكِيمِ، فَصَارَ الزَّرْعُ يَرِيعُ هَذَا الرَّيْعَ؛ لِيَفِيَ بِمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ لِلْقُوتِ وَالزِّرَاعَةِ. وَكَذَلِكَ الشَّجَرُ وَالنَّبْتُ وَالنَّخْلُ يَرِيعُ الرَّيْعَ الْكَثِيرَ، فَإِنَّكَ تَرَى الأَصْلَ الْوَاحِدَ حَوْلَهُ مِنْ فِرَاخِهِ أَمْراً عَظِيماً، فَلِمَ كَانَ كَذَلِكَ إِلاَّ لِيَكُونَ فِيهِ مَا يَقْطَعُهُ النَّاسُ، وَيَسْتَعْمِلُونَهُ فِي مَآرِبِهِمْ، وَمَا يُرَدُّ فَيُغْرَسُ فِي الأَرْضِ، وَلَوْ كَانَ الأَصْلُ مِنْهُ يَبْقَى مُنْفَرِداً لاَ يُفْرِخُ وَلاَ يَرِيعُ، لَمَا أَمْكَنَ أَنْ يُقْطَعَ مِنْهُ شَيْءٌ لِعَمَلٍ، وَلاَ لِغَرْسٍ، ثُمَّ كَانَإِنْ أَصَابَتْهُ آفَةٌ، انْقَطَعَ أَصْلُهُ فَلَمْ يَكُنْ مِنْهُ خَلَفٌ»(1).

تنويع مصادر الدخل

مسألة: يلزم على الحاكم الإسلامي وأعوانه أن ينوعوا في مصادر دخل الأمة، بين زراعة، وفيء، وصناعة، واستثمار، وغيرها، فإن ذلك ضمان لاقتصاد البلاد وحفظ لها عن تقلبات الأوضاع العالمية، وتحصين لها من ضغوط الاستعمار، ومن أسباب الاكتفاء الذاتي أيضاً، على تفصيل ذكرناه في الاقتصاد.

ص: 339


1- توحيد المفضل: ص154-155، المجلس الثالث، الريع في النبات وسببه.

..............................

قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في عهده إلى مالك الأشتر: «وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّعِيَّةَ طَبَقَاتٌ، لاَ يَصْلُحُ بَعْضُهَا إِلاَّ بِبَعْضٍ، وَلاَ غِنَى بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ، فَمِنْهَا جُنُودُ اللهِ، وَمِنْهَا كُتَّابُ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، وَمِنْهَا قُضَاةُ الْعَدْلِ، وَمِنْهَا عُمَّالُ الإِنْصَافِ وَالرِّفْقِ، وَمِنْهَا أَهْلُ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمُسْلِمَةِ النَّاسِ، وَمِنْهَا التُّجَّارُ وَأَهْلُ الصِّنَاعَاتِ، وَمِنْهَا الطَّبَقَةُ السُّفْلَى مِنْ ذَوِي الْحَاجَةِ وَالْمَسْكَنَةِ. وَكُلٌّ قَدْ سَمَّى اللهُ لَهُ سَهْمَهُ، وَوَضَعَ عَلَى حَدِّهِ فَرِيضَةً فِي كِتَابِهِ أَوْسُنَّةِ نَبِيِّهِ (صلى الله عليه وآله)، عَهْداً مِنْهُ عِنْدَنَا مَحْفُوظاً. فَالْجُنُودُ بِإِذْنِ اللهِ حُصُونُ الرَّعِيَّةِ وَزَيْنُ الْوُلاَةِ، وَعِزُّ الدِّينِ، وَسُبُلُ الأَمْنِ، وَلَيْسَ تَقُومُ الرَّعِيَّةُ إِلاَّ بِهِمْ، ثُمَّ لاَ قِوَامَ لِلْجُنُودِ إِلاَّ بِمَا يُخْرِجُ اللهُ لَهُمْ مِنَ الْخَرَاجِ، الَّذِي يَقْوَوْنَ بِهِ عَلَى جِهَادِ عَدُوِّهِمْ، وَيَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ فِيمَا يُصْلِحُهُمْ، وَيَكُونُ مِنْ وَرَاءِ حَاجَتِهِمْ، ثُمَّ لاَ قِوَامَ لِهَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ، إِلاَّ بِالصِّنْفِ الثَّالِثِ مِنَ الْقُضَاةِ وَالْعُمَّالِ وَالْكُتَّابِ، لِمَا يُحْكِمُونَ مِنَ الْمَعَاقِدِ، وَيَجْمَعُونَ مِنَ الْمَنَافِعِ، وَيُؤْتَمَنُونَ عَلَيْهِ مِنْ خَوَاصِّ الأُمُورِ وَعَوَامِّهَا، وَلاَ قِوَامَ لَهُمْ جَمِيعاً إِلاَّ بِالتُّجَّارِ وَذَوِي الصِّنَاعَاتِ، فِيمَا يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ مِنْ مَرَافِقِهِمْ، وَيُقِيمُونَهُ مِنْ أَسْوَاقِهِمْ، وَيَكْفُونَهُمْ مِنَ التَّرَفُّقِ بِأَيْدِيهِمْ، مَا لاَ يَبْلُغُهُ رِفْقُ غَيْرِهِمْ. ثُمَّ الطَّبَقَةُ السُّفْلَى مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ وَالْمَسْكَنَةِ، الَّذِينَ يَحِقُّ رِفْدُهُمْ وَمَعُونَتُهُمْ، وَفِي اللهِ لِكُلٍّ سَعَةٌ، وَلِكُلٍّ عَلَى الْوَالِي حَقٌّ بِقَدْرِ مَا يُصْلِحُهُ، وَلَيْسَ يَخْرُجُ الْوَالِي مِنْ حَقِيقَةِ مَا أَلْزَمَهُ اللهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ، إِلاَّ بِالاهْتِمَامِ وَالاِسْتِعَانَةِ بِاللهِ، وَتَوْطِينِ نَفْسِهِ عَلَى لُزُومِ الْحَقِّ، وَالصَّبْرِ عَلَيْهِ فِيمَا خَفَّ عَلَيْهِ أَوْ ثَقُل»(1).

ص: 340


1- نهج البلاغة: رسائل أمير المؤمنين (عليه السلام)، رقم53 ومن كتاب له (عليه السلام) كتبه للأشتر النخعي (رحمه الله) لما ولاه على مصر وأعمالها.

فَيَا حَسْرَةً لَكُمْ، وَأَنَّى بِكُمْ،

اشارة

-------------------------------------------

استحباب التحسر على الأمة

الحسرة: حالة نفسية نابعة من فقدان شيء مرجو، وهي قريبة من معنى التلهف على الشيء.

و(يا) داخلة على منادى مقدر، أي يا قوم إني أتحسر لكم وأتلهف على ما أصابكم.

(وأنى بكم) أي إلى أين مصيركم، وما الذي يجري وسيجري عليكم وقد انحرفتم من الطريق. يقال: أنى يسار بكم أي إلى أين يسار بكم؟.

هذا بناءً على كون (أنى) ظرف مكان، ويمكن أن تكون ظرف زمان، أي إلى أي مستقبل مجهول مصيركم، ويمكن أن تكون استفهامية بمعنى كيف، أي كيف بكم إذا نزل بكم البلاء؟ أو كيف الأمر بكم وأنتم على هذه الحال؟ أو ما أشبه ذلك.

والوجه في تحسرها (صلوات الله عليها) إضافة إلى كون أبيها المصطفى (صلى الله عليه وآله) رحمة للعالمين، أنها محور الخمسة الطيبة (عليهم السلام) وبها تمام العلة الغائية لرسالته (صلى الله عليه وآله). قال تعالى في حديث الكساء: «هم:فاطمة وأبوها، وبعلها وبنوها». وقال فيه أيضاً: «إني ما خلقت سماء مبنية، ولا أرضاً مدحية، ولا قمراً منيراً، وشمساً مضيئة، إلا لأجل هؤلاء الخمسة الذين هم تحت الكساء»(1).

ص: 341


1- ومن البين حزن وتحسر من يرى أبناءه ينحرفون أو من خلقوا له يضلون أو من قيضوا للتعليم يبتعدون.

..............................

مسألة: يستحب التحسر على الأمة وعلى انحرافها وعلى مشاكلها ومصائبها، كما تحسرت الصديقة (صلوات الله عليها).

لا يقال: قال تعالى: «فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ»(1).

إذ يقال: الحسرة درجات، فبعضها مطلوب والآخر مرغوب عنه، وهو ما خرج عن حده وأوجب الضرر كذهاب النفس أو حتى ما عاق عن العمل، أما أوجب منها تحريضاً على العمل أو تنبيهاً للناس أو تحذيراً أو شبه ذلك، فلا ريب في رجحانه ومطلوبيته.

قال تعالى: «وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ * لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَني إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ* فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ»(2).

وقال سبحانه: «وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْئَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَ أَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ

ص: 342


1- سورة فاطر: 8.
2- سورة فاطر: 41 - 44.

..............................

فَاسْمَعُونِ * قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ * وَمَا أَنْزَلْنا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ * إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ * يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ»(1).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَتَحَهُ اللهُ لِخَاصَّةِ أَوْلِيَائِهِ، وَهُوَ لِبَاسُ التَّقْوَى، وَدِرْعُ اللهِ الْحَصِينَةُ، وَجُنَّتُهُ الْوَثِيقَةُ، فَمَنْ تَرَكَهُ رَغْبَةً عَنْهُ، أَلْبَسَهُ اللهُ ثَوْبَ الذُّلِّ، وَشَمِلَهُ الْبَلاَءُ، وَدُيِّثَ بِالصَّغَارِ وَالْقَمَاءَةِ وَضُرِبَ عَلَى قَلْبِهِ بِالإِسْهَابِ، وَأُدِيلَ الْحَقُّ مِنْهُ بِتَضْيِيعِ الْجِهَادِ، وَسِيمَ الْخَسْفَ، وَمُنِعَ النَّصَفَ.

أَلا وَإِنِّي قَدْ دَعَوْتُكُمْ إِلَى قِتَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ، لَيْلاً وَنَهَاراً وَسِرّاً وَإِعْلاًناً، وَقُلْتُلَكُمُ: اغْزُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَغْزُوكُمْ. فَوَاللهِ، مَا غُزِيَ قَوْمٌ قَطُّ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إِلاَّ ذَلُّوا، فَتَوَاكَلْتُمْ وَتَخَاذَلْتُمْ، حَتَّى شُنَّتْ عَلَيْكُمُ الْغَارَاتُ، وَمُلِكَتْ عَلَيْكُمُ الأَوْطَانُ، وَهَذَا أَخُو غَامِدٍ، قَدْ وَرَدَتْ خَيْلُهُ الأَنْبَارَ، وَقَدْ قَتَلَ حَسَّانَ بْنَ حَسَّانَ الْبَكْرِيَّ، وَأَزَالَ خَيْلَكُمْ عَنْ مَسَالِحِهَا، وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ، كَانَ يَدْخُلُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ، وَالأُخْرَى الْمُعَاهِدَةِ، فَيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا وَقُلُبَهَا وَقَلاَئِدَهَا وَرُعُثَهَا، مَا تَمْتَنِعُ مِنْهُ إِلاَّ بِالاسْتِرْجَاعِ وَ الاِسْتِرْحَامِ، ثُمَّ انْصَرَفُوا وَافِرِينَ، مَا نَالَ رَجُلاً مِنْهُمْ كَلْمٌ، وَلاَ أُرِيقَ لَهُمْ دَمٌ، فَلَوْ أَنَّ امْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِنْ بَعْدِ هَذَا أَسَفاً، مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً، بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً.

ص: 343


1- سورة يس: 20 - 30.

..............................

فَيَا عَجَباً عَجَباً، وَاللهِ يُمِيتُ الْقَلْبَ، وَيَجْلِبُ الْهَمَّ، مِنَ اجْتِمَاعِ هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ عَلَى بَاطِلِهِمْ، وَتَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ. فَقُبْحاً لَكُمْ وَتَرَحاً حِينَ صِرْتُمْ غَرَضاً يُرْمَى، يُغَارُ عَلَيْكُمْ وَلاَ تُغِيرُونَ، وَتُغْزَوْنَ وَلاَ تَغْزُونَ، وَيُعْصَى اللهُ وَتَرْضَوْنَ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي أَيَّامِ الْحَرِّ، قُلْتُمْ: هَذِهِ حَمَارَّةُ الْقَيْظِ، أَمْهِلْنَا يُسَبَّخْ عَنَّا الْحَرُّ. وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي الشِّتَاءِ، قُلْتُمْ: هَذِهِ صَبَارَّةُ الْقُرِّ، أَمْهِلْنَا يَنْسَلِخْ عَنَّا الْبَرْدُ. كُلُّ هَذَا فِرَاراً مِنَ الْحَرِّوَالْقُرِّ، فَإِذَا كُنْتُمْ مِنَ الْحَرِّ وَالْقُرِّ تَفِرُّونَ، فَأَنْتُمْ وَاللهِ مِنَ السَّيْفِ أَفَرُّ.

يَا أَشْبَاهَ الرِّجَالِ وَلاَ رِجَالَ، حُلُومُ الأَطْفَالِ وَعُقُولُ رَبَّاتِ الْحِجَالِ، لَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَرَكُمْ وَلَمْ أَعْرِفْكُمْ، مَعْرِفَةً وَاللهِ جَرَّتْ نَدَماً، وَأَعْقَبَتْ سَدَماً، قَاتَلَكُمُ اللهُ لَقَدْ مَلأْتُمْ قَلْبِي قَيْحاً، وَشَحَنْتُمْ صَدْرِي غَيْظاً، وَجَرَّعْتُمُونِي نُغَبَ التَّهْمَامِ أَنْفَاساً، وَأَفْسَدْتُمْ عَلَيَّ رَأْيِي بِالْعِصْيَانِ وَالْخِذْلاَنِ، حَتَّى لَقَدْ قَالَتْ قُرَيْشٌ: إِنَّ ابْنَ أَبِي طَالِبٍ رَجُلٌ شُجَاعٌ، وَلَكِنْ لاَ عِلْمَ لَهُ بِالْحَرْبِ. للهِ أَبُوهُمْ، وَهَلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَشَدُّ لَهَا مِرَاساً، وَأَقْدَمُ فِيهَا مَقَاماً مِنِّي، لَقَدْ نَهَضْتُ فِيهَا وَمَا بَلَغْتُ الْعِشْرِينَ، وَهَا أَنَا ذَا قَدْ ذَرَّفْتُ عَلَى السِّتِّينَ، وَلَكِنْ لاَ رَأْيَ لِمَنْ لاَ يُطَاعُ»(1).

ص: 344


1- نهج البلاغة: خطب أمير المؤمنين (عليه السلام)، الرقم27 ومن خطبة له (عليه السلام) وقد قالها يستنهض بها الناس حين ورد خبر غزو الأنبار بجيش معاوية فلم ينهضوا.

..............................

من طرق الهداية

مسألة: يستحب بيان أن الصديقة (صلوات الله عليها) قد بينت للناس ما يردع عنهم البلاء، وأنها أنذرت وحذرت وتألمت وتحسرت، فإن ذلك نوع مواساة وطريق من طرق الهداية(1).

قال في الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا (عليه السلام): «اعْلَمْ - يَرْحَمُكَ اللهُ - أَنَّ حَقَّ الإِخْوَانِ فَرْضٌ لاَزِمٌ أَنْ تَفْدُوهُمْ بِأَنْفُسِكُمْ، وَأَسْمَاعِكُمْ، وَأَبْصَارِكُمْ، وَأَيْدِيكُمْ، وَأَرْجُلِكُمْ، وَجَمِيعِ جَوَارِحِكُمْ. وَهُمْ حُصُونُكُمُ الَّتِي تَلْجَئُونَ إِلَيْهَا فِي الشَّدَائِدِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، لاَ تُبَاطِئُوهُمْ وَلاَ تُخَالِفُوهُمْ وَلاَ تَغْتَابُوهُمْ، وَلاَ تَدَعُوا نُصْرَتَهُمْ وَلاَ مُعَاوَنَتَهُمْ، وَابْذُلُوا النُّفُوسَ وَالأَمْوَالَ دُونَهُمْ، وَالإِقْبَالَ عَلَى اللهِ جَلَّ وَعَزَّ بِالدُّعَاءِ لَهُمْ، وَمُوَاسَاتَهُمْ وَمُسَاوَاتَهُمْ فِي كُلِّ مَا يَجُوزُ فِيهِ الْمُسَاوَاةُ وَالْمُوَاسَاةُ، وَنُصْرَتَهُمْ ظَالِمِينَ وَمَظْلُومِينَ بِالدَّفْعِ عَنْهُمْ. وَرُوِيَ أَنَّهُ سُئِلَ الْعَالِمُ (عليه السلام) عَنِ الرَّجُلِ يُصْبِحُ مَغْمُوماً، لاَ يَدْرِي سَبَبَ غَمِّهِ؟. فَقَالَ:مَغْمُومٌ. وَكَذَلِكَ إِذَا أَصْبَحَ فَرْحَانَ لِغَيْرِ سَبَبٍ يُوجِبُ الْفَرَحَ، فَبِاللهِ نَسْتَعِينُ عَلَى حُقُوقِ الإِخْوَانِ، وَالأَخُ الَّذِي تَجِبُ لَهُ هَذِهِ الْحُقُوقُ الَّذِي لاَ فَرْقَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ فِي جُمْلَةِ الدِّينِ، وَتَفْصِيلِهِ ثُمَّ مَا يَجِبُ لَهُ بِالْحُقُوقِ عَلَى حَسَبِ قُرْبِ مَا بَيْنَ الإِخْوَانِ وَبُعْدِهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ»(2).

ص: 345


1- فهو باعتبار أو من جهة أمر بالمعروف، وباعتبار أو من جهة أخرى نهي عن المنكر.
2- الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا (عليه السلام): ص335، باب87 حق الإخوان.

..............................

وأَرْوِي عَنِ الْعَالِمِ (عليه السلام)، أَنَّهُ وَقَفَ حِيَالَ الْكَعْبَةِ - ثُمَّ قَالَ -: «مَا أَعْظَمَ حَقَّكِ يَا كَعْبَةُ. وَوَاللَّهِ إِنَّ حَقَّ الْمُؤْمِنِ لأَعْظَمُ مِنْ حَقِّكِ»(1).

وَرُوِيَ: «أَنَّ مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ كَتَبَ اللهُ لَهُ سِتَّةَ آلاَفِ حَسَنَةٍ، وَمَحَا عَنْهُ سِتَّةَ آلافِ سَيِّئَةٍ، وَرَفَعَ لَهُ سِتَّةَ آلاَفِ دَرَجَةٍ. وَقَضَاءُ حَاجَةِ الْمُؤْمِنِ أَفْضَلُ مِنْ طَوَافٍ وَطَوَافٍ»، حَتَّى عَدَّ عَشَرَةً(2).

وعن سماعة، قال: سَأَلْتُهُ عَنْ قَوْمٍ عِنْدَهُمْ فُضُولٌ، وَبِإِخْوَانِهِمْ حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ،يَشْبَعُوا وَيَجُوعَ إِخْوَانُهُمْ؛ فَإِنَّ الزَّمَانَ شَدِيدٌ؟. فَقَالَ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ، وَلاَ يَخْذُلُهُ، وَلاَ يَحْرِمُهُ. وَيَحِقُّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الاِجْتِهَادُ لَهُ، وَالتَّوَاصُلُ عَلَى الْعَطْفِ، وَالْمُوَاسَاةُ لأَهْلِ الْحَاجَةِ وَالتَّعَطُّفُ مِنْكُمْ، يَكُونُونَ عَلَى أَمْرِ اللهِ رُحَمَاءَ بَيْنَهُمْ مُتَرَاحِمِينَ، مُهِمِّينَ لِمَا غَابَ عَنْكُمْ مِنْ أَمْرِهِمْ، عَلَى مَا مَضَى عَلَيْهِ مَعْشَرُ الأَنْصَارِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)»(3).

وعن الخطاب الكوفي ومصعب بن عبد الله الكوفي، قالا: دَخَلَ سَدِيرٌ الصَّيْرَفِيُّ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، وَعِنْدَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ. فَقَالَ لَهُ: «يَا سَدِيرُ، لاَ تَزَالُ شِيعَتُنَا مَرْعِيِّينَ مَحْفُوظِينَ، مَسْتُورِينَ مَعْصُومِينَ، مَا أَحْسَنُوا النَّظَرَ لأَنْفُسِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ خَالِقِهِمْ، وَصَحَّتْ نِيَّاتُهُمْ لأَئِمَّتِهِمْ، وَبَرُّوا إِخْوَانَهُمْ، فَعَطَفُوا عَلَى ضَعِيفِهِمْ، وَتَصَدَّقُوا عَلَى ذَوِي الْفَاقَةِ مِنْهُمْ. إِنَّا لاَ نَأْمُرُ بِظُلْمٍ، وَلَكِنَّا

ص: 346


1- الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا (عليه السلام): ص335، باب87 حق الإخوان.
2- الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا (عليه السلام): ص335، باب87 حق الإخوان.
3- المؤمن: ص43 - 44، باب4 حق المؤمن على أخيه، ح101.

..............................

نَأْمُرُكُمْ بِالْوَرَعِ، الْوَرَعِ، الْوَرَعِ، وَالْمُوَاسَاةِ، الْمُوَاسَاةِ، الْمُوَاسَاةِ لإِخْوَانِكُمْ؛ فَإِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَمْ يَزَالُواالسلام)»(1).

وعن أبي المأمون الحارثي، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): مَا حَقُّ الْمُؤْمِنِ عَلَى الْمُؤْمِنِ؟.

قَالَ: «إِنَّ مِنْ حَقِّ الْمُؤْمِنِ عَلَى الْمُؤْمِنِ: الْمَوَدَّةَ لَهُ فِي صَدْرِهِ، وَالْمُوَاسَاةَ لَهُ فِي مَالِهِ، وَالْخَلَفَ لَهُ فِي أَهْلِهِ، وَالنُّصْرَةَ لَهُ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ، وَإِنْ كَانَ نَافِلَةٌ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ غَائِباً أَخَذَ لَهُ بِنَصِيبِهِ، وَإِذَا مَاتَ الزِّيَارَةَ إِلَى قَبْرِهِ، وَأَنْ لاَ يَظْلِمَهُ، وَأَنْ لاَ يَغُشَّهُ، وَأَنْ لاَ يَخُونَهُ، وَأَنْ لاَ يَخْذُلَهُ، وَأَنْ لا يُكَذِّبَهُ، وَأَنْ لاَ يَقُولَ لَهُ: أُفٍّ، وَإِذَا قَالَ لَهُ: أُفٍّ، فَلَيْسَ بَيْنَهُمَا وَلاَيَةٌ، وَإِذَا قَالَ لَهُ: أَنْتَ عَدُوِّي، فَقَدْ كَفَرَ أَحَدُهُمَا، وَإِذَا اتَّهَمَهُ انْمَاثَ الإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ، كَمَا يَنْمَاثُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ»(2).

التحسر على المؤمنين

مسألة: التحسر على المؤمنين له الأجر والثواب، أما التحسر على غيرهم، فما آل منه إلى التحسر على انحسار الدينوشبهه كان فيه الثواب أيضاً، كما في مورد الخطبة.

ص: 347


1- المحاسن: ج1 ص158، كتاب الصفوة و النور و الرحمة، باب26 خصائص المؤمن، ح95.
2- الكافي: ج2 ص171، كتاب الإيمان والكفر، باب حق المؤمن على أخيه وأداء حقه، ح7.

..............................

وكذلك ما يتحسر من باب الإنسانية، وأن «لكل كبد حرى أجر»(1)، وأنه «نظير لك في الخلق»(2)، وما أشبه.

فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعث رحمة للعالمين لا للمؤمنين فحسب، وكذلك العترة الطاهرة (صلوات الله عليها).

ص: 348


1- جامع الأخبار للشعيري: ص139، الفصل التاسع والتسعون في كسب الحلال.
2- نهج البلاغة: رسائل أمير المؤمنين (عليه السلام)، الرقم53.

وَقَدْ عَمِيَتْ عَلَيْكُمْ، «أَ نُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كَارِهُونَ»

اشارة

وَقَدْ عَمِيَتْ عَلَيْكُمْ، «أَ نُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كَارِهُونَ»(1)

-------------------------------------------

إضلال النفس والغير

«عَمِيَتْ عَلَيْكُمْ» أي التبست عليكم، وذلك كالأعمى الذي لا يبصر طريقه، فينحرف عن الجادة إلى الهاوية، والفرق أن تلك هاوية جهنم وهذه هاوية الدنيا، وتلك فيها خسارة الدار الآخرة وهذه خسران الحياة القصيرة الفانية.

وهذا مقتبس من قوله سبحانه في سورة هود: «قَالَ يَا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ آتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَ نُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ»(2).

وهذا كناية عن أن الإنسان لا يتمكن أن يلزم غيره شيئاً مما يرتبط بجوانحه، وهو يكرهه دون رضاه.

مسألة: لا فرق في الحرمة بين أن يعمي الإنسان طريق الهدى على غيره، وبين أن يعمي نفسه عن طريق الهدى.

وهل أشارت الصديقة (صلوات الله عليها) بقولها: «عَمِيَتْ عَلَيْكُمْ» إلى النوع الأول أم الثاني؟.

أي هل المقصود أنهم أعموا أعينهموقلوبهم عن حق أمير المؤمنين وحقها

ص: 349


1- سورة هود: 28.
2- سورة هود: 28.

..............................

(عليهما السلام) أم أنهم وقعوا تحت هيمنة وإعلام الآخرين؟.

يمكن أن يكون المقصود أعم، نظراً لأنهم كانوا خارجاً على قسمين، غير أنهم من أي فريق كانوا فهم مقصرون لا قاصرون، ومحاسبون فإنهم سمعوا الحق من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكان بمقدورهم أن يستوضحوا من أمير المؤمنين (عليه السلام) أو سلمان أو عمار أو المقداد (رضوان الله عليهم) أو من أشبه لو عرضت لبعضهم شبهة فرضاً، ودليل ذلك قولها (عليها السلام) : «أَ نُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ».

عن سماعة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قُلْتُ لَهُ: قَوْلُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: «مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاها فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا»(1)؟. قَالَ: «مَنْ أَخْرَجَهَا مِنْ ضَلاَلٍ إِلَى هُدًى فَكَأَنَّمَا أَحْيَاهَا، وَمَنْ أَخْرَجَهَا مِنْ هُدًى إِلَى ضَلاَلٍ فَقَدْ قَتَلَهَا»(2).وهذا من التأويل والتفسير بأهم المصاديق.

وعن فضيل بن يسار، قال: قُلْتُ لأَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام): قَوْلُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ: «وَمَنْ أَحْيَاها فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا»(3)؟. قَالَ: «مِنْ حَرَقٍ أَوْ غَرَقٍ». قُلْتُ: فَمَنْ أَخْرَجَهَا مِنْ ضَلاَلٍ إِلَى هُدًى؟. قَالَ: «ذَاكَ تَأْوِيلُهَا

ص: 350


1- سورة المائدة: 32.
2- الكافي: ج2 ص210، كتاب الإيمان والكفر، باب في إحياء المؤمن، ح1.
3- سورة المائدة: 32.

..............................

الأَعْظَمُ»(1).

وعن حمران، قال: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): أَسْأَلُكَ أَصْلَحَكَ اللهُ. فَقَالَ: «نَعَمْ». فَقُلْتُ: كُنْتُ عَلَى حَالٍ وَأَنَا الْيَوْمَ عَلَى حَالٍ أُخْرَى، كُنْتُ أَدْخُلُ الأَرْضَ فَأَدْعُو الرَّجُلَ وَالاِثْنَيْنِ وَالْمَرْأَةَ فَيُنْقِذُ اللهُ مَنْ شَاءَ، وَأَنَا الْيَوْمَ لاَ أَدْعُو أَحَداً. فَقَالَ: «وَمَا عَلَيْكَ أَنْ تُخَلِّيَ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ، فَمَنْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ ظُلْمَةٍ إِلَى نُورٍ أَخْرَجَهُ» ثُمَّ قَالَ: «وَلاَ عَلَيْكَ إِنْ آنَسْتَ مِنْ أَحَدٍ خَيْراً أَنْ تَنْبِذَ إِلَيْهِ الشَّيْءَ نَبْذاً». قُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ:«وَمَنْ أَحْيَاها فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا»(2)؟. قَالَ: «مِنْ حَرَقٍ أَوْ غَرَقٍ». ثُمَّ سَكَتَ ثُمَّ قَالَ: «تَأْوِيلُهَا الأَعْظَمُ أَنْ دَعَاهَا فَاسْتَجَابَتْ لَهُ»(3).

وعن سليمان بن خالد، قال: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): إِنَّ لِي أَهْلَ بَيْتٍ وَهُمْ يَسْمَعُونَ مِنِّي، أَفَأَدْعُوهُمْ إِلَى هَذَا الأَمْرِ؟. فَقَالَ: «نَعَمْ، إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ»(4)»(5).

أي أدعوهم إلى أمر الولاية.

ص: 351


1- الكافي: ج2 ص210 - 211، كتاب الإيمان والكفر، باب في في إحياء المؤمن، ح2.
2- سورة المائدة: 32.
3- الكافي: ج2 ص211، كتاب الإيمان والكفر، باب في في إحياء المؤمن، ح3.
4- سورة التحريم: 6.
5- الكافي: ج2 ص211، كتاب الإيمان والكفر، باب في الدعاء للأهل إلى الإيمان، ح1.

..............................

عدة مسائل

مسألة: يستحب بيان أنه قد عميت على القوم حيث تركوا أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) وقدموا غيره.

مسألة: قد يلزم التصريح للضال بأنه ضال، وقد يلزم التلميح له بذلك، بذكر عنوان كلي ينطبق عليه، أو بالإشارةإليه أو ما أشبه، وذلك حسب ما يشخص من أنه الرادع أو الأكثر ردعاً أو الأقوى احتمالاً في الردع، في باب النهي عن المنكر.

مسألة: يستحب بيان أن القوم كانوا يكرهون الحق، كما قالت الصديقة فاطمة (صلوات الله عليها): «أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ».

عن سليم بن قيس، قال: قَامَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) عَلَى الْمِنْبَرِ، حِينَ اجْتَمَعَ مَعَ مُعَاوِيَةَ. فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ مُعَاوِيَةَ زَعَمَ أَنِّي رَأَيْتُهُ لِلْخِلاَفَةِ أَهْلاً، وَلَمْ أَرَ نَفْسِي لَهَا أَهْلاً، وَكَذَبَ مُعَاوِيَةُ، أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِالنَّاسِ فِي كِتَابِ اللهِ، وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّ اللهِ. فَأُقْسِمُ بِاللهِ، لَوْ أَنَّ النَّاسَ بَايَعُونِي وَأَطَاعُونِي وَنَصَرُونِي؛ لأَعْطَتْهُمُ السَّمَاءُ قَطْرَهَا، وَالأَرْضُ بَرَكَتَهَا، وَلَمَا طَمِعْتَ فِيهَا يَا مُعَاوِيَةُ. وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): «مَا وَلَّتْ أُمَّةٌ أَمْرَهَا رَجُلاً قَطُّ، وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ، إِلاَّ لَمْ يَزَلْ أَمْرُهُمْ يَذْهَبُ سَفَالاً، حَتَّى يَرْجِعُوا إِلَى مِلَّةِ عَبَدَةِ الْعِجْلِ. وَقَدْ تَرَكَ بَنُو إِسْرَائِيلَ هَارُونَ، وَاعْتَكَفُوا عَلَى الْعِجْلِ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ هَارُونَ خَلِيفَةُ مُوسَى، وَقَدْ تَرَكَتِ الأُمَّةُ

ص: 352

..............................

عَلِيّاً، وَقَدْ سَمِعُوا رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ لِعَلِيٍّ: أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى غَيْرَ النُّبُوَّةِ، فَلاَ نَبِيَّ بَعْدِي»(1).

وعن عبد الكريم عتبة الهاشمي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) - في حديث - أنه أقبل على عمرو بن عبيد، فقال له: «اتَّقِ اللهَ، وَأَنْتُمْ أَيُّهَا الرَّهْطُ فَاتَّقُوا اللهَ؛ فَإِنَّ أَبِي حَدَّثَنِي - وَكَانَ خَيْرَ أَهْلِ الأَرْضِ، وَأَعْلَمَهُمْ بِكِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ (صلى الله عليه وآله) - أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) قَالَ: «مَنْ ضَرَبَ النَّاسَ بِسَيْفِهِ، وَدَعَاهُمْ إِلَى نَفْسِهِ، وَفِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ، فَهُوَ ضَالٌّ مُتَكَلِّفٌ»(2).

وكان المسيح (عليه السلام) يبشر الحواريين بالنبي محمد (صلى الله عليه وآله) فيقولون: هو منا ونحن شيعته. فكان في الانجيل: «لا يلي أمر الأمة رجل وفيهم من هو أعلم منه، إلا كان أمرهم إلى سفال»(3).وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «مَنْ دَعَا النَّاسَ إِلَى نَفْسِهِ، وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ، فَهُوَ مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ»(4).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَنْ صَلَّى بِقَوْمٍ وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ

ص: 353


1- كتاب سليم بن قيس الهلالي: ج2 ص938، الحديث السادس والسبعون.
2- الكافي: ج5 ص27، كتاب الجهاد، باب دخول عمرو بن عبيد والمعتزلة على أبي عبد الله (عليه السلام)، ح1.
3- اثبات الوصية: ص82، القسم الأول، بعث الله عز وجل المسيح عيسى بن مريم (عليه السلام).
4- تحف العقول: ص375، وروي عنه (عليه السلام) في قصار هذه المعاني.

..............................

لَمْ يَزَلْ أَمْرُهُمْ إِلَى سَفَالٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»(1).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْماً لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ، وَيُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ، وَيَصْرِفَ بِهِ النَّاسَ إِلَى نَفْسِهِ، يَقُولُ: أَنَا رَئِيسُكُمْ، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ الرِّئَاسَةَ لاَ تَصْلُحُ إِلاَّ لأَهْلِهَا، فَمَنْ دَعَا النَّاسَ إِلَى نَفْسِهِ، وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ، لَمْ يَنْظُرِ اللهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(2).

وعن النبي (صلى الله عليه وآله)، أنه قال: «من تولى شيئاً من أمور المسلمين، فولى رجلاً شيئاً من أمورهموهو يعلم مكان رجل هو أعلم منه، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين»(3).

قدرتهم (عليهم السلام) على الإجبار والإكراه

مسألة: المستفاد من قول الصديقة (عليها السلام): «أَ نُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ»، أنها (عليها السلام) - والأدق أنهم (عليهم السلام) - بلحاظ صيغة الجمع في «أَ نُلْزِمُكُمُوهَا»، كانوا قادرين على الإلزام والإجبار، إما غيبياً، أو حتى بالطرق الطبيعية(4)، لكنهم لم يقوموا بذلك للأمر الأهم وامتثالاً للباري عزوجل.

ص: 354


1- من لا يحضره الفقيه: ج1 ص378، أبواب الصلاة وحدودها، باب الجماعة ح1102.
2- الاختصاص: ص251، في بيان جملة من الحكم والمواعظ والوصايا عنهم (عليهم السلام).
3- التعجب من أغلاط العامة في مسألة الإمامة للكراجكي: ص59، الفصل السادس في أغلاطهم في علم الإمام.
4- إذ كان الإمام علي (عليه السلام) قادراً لو أراد على إفشال الإنقلاب العسكري بإنقلاب مضاد، لكنه لم يفعل لوصية رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولأنه كان يفتح الباب لتدخل الروم وغيرهم مما كان يستلزم استئصال شأفة الدين كما هو مذكور في المفصلات.

..............................

والسبب أن الله أراد أن تكون الدنيا دار امتحان، وأن يبقى الأئمة (عليهم

السلام) أسوة لكل خير، ولو شاء الأئمة(عليهم السلام) استخدام علمهم الغيبي وقدرتهم بإذن الله، حتى بدون المعجزات لكانت أزمة الأمور كلها بأيديهم ولم يبق مجال للامتحان.

توضيحه: أنه لا شك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) أعلم وأذكر وأكثر قدرة على التخطيط من أي شخص آخر، ولو أرادوا تسلم الحكم في مدة القرنين والنصف عبر إكراه الناس وإجبارهم وعبر الطرق التي استخدمها غيرهم لم يكن ذلك صعباً عليهم، لكن فلسفة الامتحان والمصلحة الإلهية في سنن الكون والحياة حالت دون ذلك.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «لَوْلاَ الدِّينُ لَكُنْتُ أَدْهَى الْعَرَبِ»(1).

وقال (عليه السلام) في حديث آخر: «هَيْهَاتَ لَوْلاَ التُّقَى لَكُنْتُ أَدْهَى الْعَرَبِ»(2). وفي رواية أخرى قال (عليه السلام): «لَوْلاَ الدِّينُ وَالتُّقَى لَكُنْتُ أَدْهَى الْعَرَبِ»(3).

ص: 355


1- الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم: ج1 ص164، ب7، الفصل الثاني أيضاً في شطر من فضائله التي اعترف به العدو.
2- الكافي: ج8 ص24، خطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام) وهي خطبة الوسيلة، ح4.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج1 ص28، القول في نسب أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وذكر لمع يسيرة من فضائله.

..............................

وفي نهج البلاغة: «وَلَوْلاَ كَرَاهِيَةُ الْغَدْرِ لَكُنْتُ مِنْ أَدْهَى النَّاسِ»(1).

أما تسلم رسول الله (صلى الله عليه وآله) الحكم، ثم الإمام علي (عليه السلام)، ثم الإمام الحسن (عليه السلام) لفترة وجيزة، فكان سبباً في تثبيت أصل الدين، ولم يكن فيه إجبار وإكراه، بل كان باختيار الناس ورضاهم، وكان لابد منه لئلا يندرس الدين بالمرة, ولولا ذلك لكان الظلام مخيماً، وانتفت حكمة الامتحان لذلك أيضاً، فليتأمل فإنه دقيق وتفصيله في محله.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «لَوْلاَ أَنَّ الْمَكْرَ وَالْخَدِيعَةَ فِي النَّارِ، لَكُنْتُ أَمْكَرَ النَّاسِ»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يَجِيءُ كُلُّ غَادِرٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِإِمَامٍ مَائِلٍ شِدْقُهُ حَتَّى يَدْخُلَ النَّارَ، وَيَجِيءُ كُلُّ نَاكِثٍ بَيْعَةَإِمَامٍ أَجْذَمَ حَتَّى يَدْخُلَ النَّارَ»(3).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاكَرَ مُسْلِماً»(4).

وعن طلحة بن زيد، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سَأَلْتُهُ عَنْ قَرْيَتَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَلِكٌ عَلَى حِدَةٍ،اقْتَتَلُوا ثُمَّ اصْطَلَحُوا،ثُمَّ إِنَّ

ص: 356


1- نهج البلاغة: خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) رقم200 ومن كلام له (عليه السلام) في معاوية.
2- الكافي: ج2 ص336، كتاب الإيمان و الكفر، باب المكر والغدر والخديعة، ح1.
3- الكافي: ج2 ص337، كتاب الإيمان و الكفر، باب المكر والغدر والخديعة، ح2.
4- الكافي: ج2 ص337، كتاب الإيمان و الكفر، باب المكر والغدر والخديعة، ح3.

..............................

أَحَدَ الْمَلِكَيْنِ غَدَرَ بِصَاحِبِهِ، فَجَاءَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ فَصَالَحَهُمْ عَلَى أَنْ يَغْزُوَ مَعَهُمْ تِلْكَ الْمَدِينَةَ؟. فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «لاَ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَغْدِرُوا، وَلاَ يَأْمُرُوا بِالْغَدْرِ، وَلاَ يُقَاتِلُوا مَعَ الَّذِينَ غَدَرُوا، وَلَكِنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدُوهُمْ، وَلاَ يَجُوزُ عَلَيْهِمْ مَا عَاهَدَ عَلَيْهِ الْكُفَّارُ»(1).

وعن الأصبغ بن نباتة، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ بِالْكُوفَةِ -: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، لَوْلاَ كَرَاهِيَةُ الْغَدْرِ كُنْتُ مِنْ أَدْهَى النَّاسِ، أَلاَ إِنَّ لِكُلِّ غُدَرَةٍ فُجَرَةً، وَلِكُلِّ فُجَرَةٍ كُفَرَةً، أَلاَ وَإِنَّ الْغَدْرَ وَالْفُجُورَ وَالْخِيَانَةَ فِي النَّارِ»(2).

الحرية الأصل

مسألة: الحرية هي الأصل، وربما يستفاد ذلك من قولها (صلوات الله عليها): «أَ نُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ»، إذ رغم أهمية وخطورة الأمر، بل إنه(3) كان من أخطر الأمور على الإطلاق، مع ذلك لم يرفع الإمام (عليه السلام) يده عن أصل الحرية للناس، أي لم يتسيطر عليهم بالقوة والسيف، فتأمل.

وأما سائر الأدلة من الكتاب والسنة على أصالة الحرية فهي أكثر من أن

ص: 357


1- الكافي: ج2 ص337، كتاب الإيمان و الكفر، باب المكر والغدر والخديعة، ح4.
2- الكافي: ج2 ص338، كتاب الإيمان و الكفر، باب المكر والغدر والخديعة، ح6.
3- أي أمر الخلافة.

..............................

تحصى، وقد ذكرنا بعض ما يرتبطويكفي هنا الإشارة إلى بعضها:

قال تعالى: «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ»(1).

وقال سبحانه: «يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ»(2).

ص: 358


1- سورة البقرة: 256.
2- سورة الأعراف: 157.

قال سويد بن غفلة: فأعادت النساء قولها (عليها السلام) على رجالهن.

اشارة

-------------------------------------------

دور النساء

مسألة: النساء مكلفات بالنهي عن المنكر كالرجال، قال تعالى: «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ»(1).

فلا يجوز التعلل بإدارة شؤون المنزل والأطفال، لترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذا إذا كانت الشروط مجتمعة على ما هو مذكور في كتاب (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).

عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام)، قالا: «وَيْلٌ لِقَوْمٍ لاَ يَدِينُونَ اللهَ بِالأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ»(2).

وقال أبو جعفر (عليه السلام): «بِئْسَ الْقَوْمُ قَوْمٌ يَعِيبُونَ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِوعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «أَدْنَى

ص: 359


1- سورة التوبة: 71.
2- تهذيب الأحكام: ج6 ص176، كتاب الجهاد وسيرة الإمام (عليه السلام)، باب80 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح2.

..............................

الإِنْكَارِ أَنْ يُلْقَى أَهْلُ الْمَعَاصِي بِوُجُوهٍ مُكْفَهِرَّةٍ»(1).

وعن محمد بن عرفة، قال: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ الرِّضَا (عليه السلام) يَقُولُ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ: إِذَا أُمَّتِي تَوَاكَلَتِ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَلْتَأْذَنْ بِوِقَاعٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «حَسْبُ الْمُؤْمِنِ عِزّاً إِذَا رَأَى مُنْكَراً أَنْ يَعْلَمَ اللهُ مِنْ نِيَّتِهِ أَنَّهُ لَهُ كَارِهٌ»(3).

النقل بالمضمون

مسألة: الأمانة في النقل واجبة، ولا مانع من النقل بالمضمون الذي لا يخل بالأمانة عرفاً(4).

عن محمد بن مسلم: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أَسْمَعُ الْحَدِيثَ مِنْكَ فَأَزِيدُ وَأَنْقُصُ. قَالَ: «إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ مَعَانِيَهُ فَلاَ بَأْسَ»(5).

ص: 360


1- تهذيب الأحكام: ج6 ص176- 177، كتاب الجهاد وسيرة الإمام (عليه السلام)، باب80 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح5.
2- تهذيب الأحكام: ج6 ص177، كتاب الجهاد وسيرة الإمام (عليه السلام)، باب80 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح7.
3- تهذيب الأحكام: ج6 ص178، كتاب الجهاد وسيرة الإمام (عليه السلام)، باب80 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح10.
4- للتفصيل انظر (الفقه حول السنة المطهرة) للإمام المؤلف (قدس سره).
5- الكافي: ج1 ص51، كتاب فضل العلم، باب رواية الكتب والحديث وفضل الكتابة والتمسك بالكتب، ح2.

..............................

وخبر داود بن فرقد، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إِنِّي أَسْمَعُ الْكَلاَمَ مِنْكَ فَأُرِيدُ أَنْ أَرْوِيَهُ كَمَا سَمِعْتُهُ مِنْكَ فَلاَ يَجِيءُ. قَالَ: «فَتَعَمَّدُ ذَلِكَ؟». قُلْتُ: لاَ. فَقَالَ: «تُرِيدُ الْمَعَانِيَ؟». قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: «فَلاَ بَأْسَ»(1).

وخبره الآخر حين سُئل: أَسْمَعُ الْحَدِيثَوَاجْلِسْ»(2).

ص: 361


1- الكافي: ج1 ص51، كتاب فضل العلم، باب رواية الكتب والحديث وفضل الكتابة والتمسك بالكتب، ح3.
2- بحار الأنوار: ج2 ص161، تتمة كتاب العقل والعلم والجهل، الباب21 من تتمة أبواب العلم، ح17.

فجاء إليها قوم من وجوه المهاجرين والأنصار معتذرين،

اشارة

-------------------------------------------

بين الرجال والنساء

مسائل: الاختلاط بين الرجال والنساء لا يجوز في الجملة، كالمشتمل على حرام، أما مجرد مجيء الرجال إلى مكان فيه امرأة، ومجيء النساء إلى مكان فيه رجل مع حفظ الموازين الشرعية، فهو جائز في حد ذاته ما لم يتضمن أو يستلزم محرماً(1).

وربما وجب فيما إذا توقف عليه معروف أو ردع منكر، وربما كان له حكم آخر من الأحكام الخمسة التكليفية.

قال الله تعالى: «يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ»(2).

وقال سبحانه: «قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدينَ زينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا

ص: 362


1- كالخضوع بالقول أو خوف الريبة أو الافتتان أو ما أشبه.
2- سورة الأحزاب: 32-33.

..............................

وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ»(1).

وقال عزوجل: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «نَهَى رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) أَنْ يَدْخُلَ الرِّجَالُ عَلَى النِّسَاءِ إِلاَّ بِإِذْنِهِنَّ»(3).

وبهذا الإسناد: «أَنْ يَدْخُلَ دَاخِلٌ عَلَى النِّسَاءِ إِلاَّ بِإِذْنِ أَوْلِيَائِهِنَّ»(4).

ص: 363


1- سورة النور: 30 - 31.
2- سورة النور: 58 - 59.
3- الكافي: ج5 ص528، كتاب النكاح، باب الدخول على النساء، ح1.
4- الكافي: ج5 ص528، كتاب النكاح، باب الدخول على النساء، ح2.

..............................

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «يَسْتَأْذِنُ الرَّجُلُ إِذَا دَخَلَ عَلَى أَبِيهِ، وَلاَ يَسْتَأْذِنُ الأَبُ عَلَى الاِبْنِ» قَالَ: «وَيَسْتَأْذِنُ الرَّجُلُ عَلَى ابْنَتِهِ وَأُخْتِهِ إِذَا كَانَتَا مُتَزَوِّجَتَيْنِ»(1).

وعن محمد بن علي الحلبي، قال: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): الرَّجُلُ يَسْتَأْذِنُ عَلَى أَبِيهِ؟. قَالَ: «نَعَمْ، قَدْ كُنْتُ أَسْتَأْذِنُ عَلَى أَبِي وَلَيْسَتْ أُمِّي عِنْدَهُ، إِنَّمَا هِيَ امْرَأَةُ أَبِي، تُوُفِّيَتْ أُمِّي وَأَنَا غُلاَمٌ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ خَلْوَتِهِمَا مَا لاَ أُحِبُّ أَنْ أَفْجَأَهُمَا عَلَيْهِ، وَلاَ يُحِبَّانِ ذَلِكَ مِنِّي، السَّلاَمُ أَصْوَبُ وَأَحْسَنُ»(2).

وعن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال:خَرَجَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) يُرِيدُ فَاطِمَةَ (عليها السلام) وَأَنَا مَعَهُ، فَلَمَّا انْتَهَيْتُ إِلَى الْبَابِ، وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ فَدَفَعَهُ، ثُمَّ قَالَ: «السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ».

فَقَالَتْ فَاطِمَةُ: «عَلَيْكَ السَّلاَمُ يَا رَسُولَ اللهِ».

قَالَ: «أَدْخُلُ». قَالَتْ: «ادْخُلْ يَا رَسُولَاللهِ». قَالَ: «أَدْخُلُ أَنَا وَمَنْ مَعِي». فَقَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللهِ، لَيْسَ عَلَيَّ قِنَاعٌ». فَقَالَ: «يَا فَاطِمَةُ، خُذِي فَضْلَ مِلْحَفَتِكِ فَقَنِّعِي بِهِ رَأْسَكِ». فَفَعَلَتْ ثُمَّ قَالَ: «السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ». فَقَالَتْ فَاطِمَةُ: «وَعَلَيْكَ السَّلاَمُ يَا رَسُولَ اللهِ». قَالَ: «أَدْخُلُ». قَالَتْ: «نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ». قَالَ: «أَنَا وَمَنْ مَعِي». قَالَتْ: «وَمَنْ مَعَكَ؟». قَالَ: «جَابِرٌ». فَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) وَدَخَلْتُ(3).

ص: 364


1- الكافي: ج5 ص528، كتاب النكاح، باب الدخول على النساء، ح3.
2- الكافي: ج5 ص528، كتاب النكاح، باب الدخول على النساء، ح4.
3- الكافي: ج5 ص528 - 529، كتاب النكاح، باب الدخول على النساء، ح5.

..............................

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «لِيَسْتَأْذِنِ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، كَمَا أَمَرَكُمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَمَنْ بَلَغَ الْحُلُمَ فَلاَ يَلِجُ عَلَى أُمِّهِ، وَلاَ عَلَى أُخْتِهِ، وَلاَ عَلَى خَالَتِهِ، وَلاَ عَلَى سِوَى ذَلِكَ إِلاَّ بِإِذْنٍ، فَلاَ تَأْذَنُوا حَتَّى يُسَلِّمَ، وَالسَّلاَمُ طَاعَةٌ للهِ عَزَّ وَجَلَّ».

وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «لِيَسْتَأْذِنْ عَلَيْكَ خَادِمُكَ إِذَا بَلَغَ الْحُلُمَ فِي ثَلَاثِ عَوْرَاتٍ، إِذَا دَخَلَ فِي شَيْءٍ مِنْهُنَّ، وَلَوْ كَانَ بَيْتُهُ فِي بَيْتِكَ» قَالَ: «وَلْيَسْتَأْذِنْ عَلَيْكَ بَعْدَ الْعِشَاءِ - الَّتِي تُسَمَّى الْعَتَمَةَ- وَحِينَ تُصْبِحُ، وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ، إِنَّمَا أَمَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِذَلِكَ لِلْخَلْوَةِ؛ فَإِنَّهَا سَاعَةُ غِرَّةٍ وَخَلْوَةٍ»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «لاَتَبْدَؤُوا النِّسَاءَ بِالسَّلاَمِ، وَلاَ تَدْعُوهُنَّ إِلَى الطَّعَامِ» الحديث(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، أنه قال: «لاَ تُسَلِّمْ عَلَى الْمَرْأَةِ»(3).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «كَانَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) يُسَلِّمُ عَلَى النِّسَاءِ وَيَرْدُدْنَ عَلَيْهِ، وَكَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) يُسَلِّمُ عَلَى النِّسَاءِ، وَكَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى الشَّابَّةِ مِنْهُنَّ، وَيَقُولُ: أَتَخَوَّفُ أَنْ يُعْجِبَنِي صَوْتُهَا، فَيَدْخُلَ عَلَيَّ أَكْثَرُ مِمَّا طَلَبْتُ مِنَ الأَجْرِ»(4).

ص: 365


1- الكافي: ج5 ص529، كتاب النكاح، باب آخر منه، ح1.
2- الكافي: ج5 ص534- 535، كتاب النكاح، باب التسليم على النساء، ح1.
3- الكافي: ج5 ص535، كتاب النكاح، باب التسليم على النساء، ح2.
4- الكافي: ج5 ص535، كتاب النكاح، باب التسليم على النساء، ح3.

..............................

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال:«إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى غَيُورٌ يُحِبُّ كُلَّ غَيُورٍ، وَلِغَيْرَتِهِ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ ظَاهِرَهَا وَبَاطِنَهَا»(1).

وعن عبد الله بن أبي يعفور، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «إِذَا لَمْ يَغَرِ الرَّجُلُ فَهُوَ مَنْكُوسُ الْقَلْبِ»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إِذَا أُغِيرَ الرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ أَوْ بَعْضِ مَنَاكِحِهِ مِنْ مَمْلُوكِهِ، فَلَمْ يَغَرْ وَلَمْ يُغَيِّرْ، بَعَثَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ طَائِراً يُقَالُ لَهُ: الْقَفَنْدَرُ، حَتَّى يَسْقُطَ عَلَى عَارِضَةِ بَابِهِ، ثُمَّ يُمْهِلَهُ أَرْبَعِينَ يَوْماً، ثُمَّ يَهْتِفَ بِهِ: إِنَّ اللهَ غَيُورٌ يُحِبُّ كُلَّ غَيُورٍ، فَإِنْ هُوَ غَارَ وَغَيَّرَ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ فَأَنْكَرَهُ، وَإِلاَّ طَارَ حَتَّى يَسْقُطَ عَلَى رَأْسِهِ، فَيَخْفِقَ بِجَنَاحَيْهِ عَلَى عَيْنَيْهِ ثُمَّ يَطِيرَ عَنْهُ، فَيَنْزِعُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ رُوحَ الإِيمَانِ، وَتُسَمِّيهِ الْمَلاَئِكَةُ الدَّيُّوثَ»(3).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «كَانَ إِبْرَاهِيمُ (عليه السلام) غَيُوراً، وَأَنَا أَغْيَرُمِنْهُ، وَجَدَعَ اللهُ أَنْفَ مَنْ لاَ يَغَارُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ»(4).

وعن إسحاق بن جرير، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ شَيْطَاناً يُقَالُ لَهُ: الْقَفَنْدَرُ، إِذَا ضُرِبَ فِي مَنْزِلِ الرَّجُلِ أَرْبَعِينَ صَبَاحاً بِالْبَرْبَطِ، وَدَخَلَ عَلَيْهِ الرِّجَالُ، وَضَعَ ذَلِكَ الشَّيْطَانُ كُلَّ عُضْوٍ مِنْهُ عَلَى مِثْلِهِ مِنْ صَاحِبِ

ص: 366


1- الكافي: ج5 ص535 - 536، كتاب النكاح، باب الغيرة، ح1.
2- الكافي: ج5 ص536، كتاب النكاح، باب الغيرة، ح2.
3- الكافي: ج5 ص536، كتاب النكاح، باب الغيرة، ح3.
4- الكافي: ج5 ص536، كتاب النكاح، باب الغيرة، ح4.

..............................

الْبَيْتِ، ثُمَّ نَفَخَ فِيهِ نَفْخَةً، فَلاَ يَغَارُ بَعْدَ هَذَا، حَتَّى تُؤْتَى نِسَاؤُهُ فَلاَ يَغَارُ»(1).

الاعتذار عن ترك الواجب

مسألة: الاعتذار عن ترك الواجب - كنصرة أهل البيت (عليهم السلام) - أو فعل محرم، بين واجب ومستحب.

فإن الاعتذار العملي واجب، وهو عبارة أخرى عن العمل نفسه كتدارك ما فات، فليس هنالك واجب آخر غير العمل.

وأما الاعتذار القولي فراجح، لما فيه من تطييب القلب وتطهير النفسوقمع الهوى والأسوة وإحقاق الحق وقد يجب في بعض الفروض.

هذا كله إذا كان القول يتبعه العمل، أما مجرد الاعتذار من دون العمل والتدارك فلا فائدة فيه عادة.

ثم إن الظاهر من الرواية: (فجاء إليها قوم من وجوه المهاجرين والأنصار) أن بعضهم قد جاء وليس كلهم، ولا نعلم عددهم أو نسبتهم للمجموع، مما يدل على خذلان كبير لأهل البيت (عليهم السلام) حتى في الذين جاؤوا للاعتذار، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

قال الله تعالى مخاطباً النبي (صلى الله عليه وآله) في ليلة المعراج: «يَا أَحْمَدُ، أَبْغِضِ الدُّنْيَا وَأَهْلَهَا، وَأَحِبَّ الآخِرَةَ وَأَهْلَهَا. قَالَ: يَا رَبِّ، وَمَنْ أَهْلُ الدُّنْيَا وَمَنْ أَهْلُ الآخِرَةِ؟.

ص: 367


1- الكافي: ج5 ص536، كتاب النكاح، باب الغيرة، ح5.

..............................

قَالَ: أَهْلُ الدُّنْيَا مَنْ كَثُرَ أَكْلُهُ وَضَحِكُهُ وَنَوْمُهُ وَغَضَبُهُ، قَلِيلُ الرِّضَا، لاَيَعْتَذِرُ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهِ، وَلاَ يَقْبَلُ عُذْرَ مَنِ اعْتَذَرَ إِلَيْهِ، كَسْلاَنُ عِنْدَ الطَّاعَةِ، شُجَاعٌ عِنْدَ الْمَعْصِيَةِ، أَمَلُهُ بَعِيدٌ، وَأَجَلُهُ قَرِيبٌ، لاَ يُحَاسِبُ نَفْسَهُ، قَلِيلُ الْمَنْفَعَةِ، كَثِيرُ الْكَلاَمِ، قَلِيلُ الْخَوْفِ، كَثِيرُ الْفَرَحِعِنْدَ الطَّعَامِ. وَإِنَّ أَهْلَ الدُّنْيَا لاَ يَشْكُرُونَ عِنْدَ الرَّخَاءِ، وَلاَ يَصْبِرُونَ عِنْدَ الْبَلاَءِ، كَثِيرُ النَّاسِ عِنْدَهُمْ قَلِيلٌ، يَحْمَدُونَ أَنْفُسَهُمْ بِمَا لاَ يَفْعَلُونَ، وَيَدَّعُونَ بِمَا لَيْسَ لَهُمْ، وَيَتَكَلَّمُونَ بِمَا يَتَمَنَّوْنَ، وَيَذْكُرُونَ مَسَاوِئَ النَّاسِ وَيُخْفُونَ حَسَنَاتِهِمْ»(1).

روايات في الاعتذار

وهناك روايات تحث على الاعتذار وقبوله، هذا في غير ما يرتبط بالعقائد الحقة بعد وضوحها، فإن الاعتذار فيها غير مقبول لا عقلاً ولا شرعاً.

في وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) لابنه محمد ابن الحنفية (رضوان الله عليه): «اقبل من متنصل عذره، فتنالك الشفاعة»(2).

وفي رواية: «من اعتذر إليه أخوه بمعذرة فلم يقبلها، كان عليه من الخطيئة مثل صاحب مكس. وهو ما يأخذه أعوان السلطان ظالماً عند البيعوالشراء»(3).

ص: 368


1- إرشاد القلوب للديلمي: ج1 ص201، الباب الرابع والخمسون فيما سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله) ربه ليلة المعراج.
2- رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين: ج5 ص284، الروضة الثامنة والثلاثون، شرح الدعاء الثامن والثلاثين.
3- رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين: ج5 ص284، الروضة 38، شرح الدعاء 38.

..............................

وعن النبي (صلى الله عليه وآله): «من لم يقبل من متنصل - صادقاً أو كاذباً - لم يرد عليَّ الحوض»(1).

وقال (صلى الله عليه وآله): «من اعتذر إليه أخوه من ذَنْبٍ فَرَدَّه، لَمْ يَرِدْ على الحوض إلا مُتَضَيِّحاً»(2).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «إِقْبَلْ عُذْرَ مَنِ اعْتَذَرَ إِلَيْكَ»(3).

وقال (عليه السلام): «مَا أَذْنَبَ مَنِ اعْتَذَرَ»(4).

وقال (عليه السلام): «أَجْمِلْ إِدْلاَلَ مَنْ أَدَلَّ عَلَيْكَ، وَاقْبَلْ عُذْرَ مَنِ اعْتَذَرَ إِلَيْكَ،وَأَحْسِنْ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ»(5).

وقال (عليه السلام): «مَنِ اعْتَذَرَ فَقَدِ اسْتَقَالَ وَأَنَابَ»(6).

وعن علي بن الحسين (عليه السلام)، قال: «إِنْ شَتَمَكَ رَجُلٌ عَنْ يَمِينِكَ، ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَى يَسَارِكَ فَاعْتَذَرَ إِلَيْكَ، فَاقْبَلْ مِنْهُ»(7).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

ص: 369


1- رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين: ج5 ص284، الروضة الثامنة والثلاثون، شرح الدعاء الثامن والثلاثين.
2- الفايق في غريب الحديث: ج2 ص294، حرف الضاد، الضاد مع الياء، ضيح.
3- عيون الحكم والمواعظ: ص79، الباب الأول، الفصل الثالث، ح1921.
4- عيون الحكم والمواعظ: ص476، الباب الرابع والعشرون، الفصل الثالث، ح8716.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: ص142، الفصل الثاني، ح185.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: ص669، الفصل السابع والسبعون، ح1572.
7- مشكاة الأنوار في غرر الأخبار: ص229، الباب الخامس، الفصل الثالث في العفو.

..............................

«اقْبَلُوا الْعُذْرَ مِنْ كُلِّ مُتَنَصِّلٍ مُحِقّاً كَانَ أَوْ مُبْطِلاً، وَمَنْ لَمْ يَقْبَلِ الْعُذْرَ مِنْهُ فَلاَ نَالَتْهُ شَفَاعَتِي»(1).

وقال (صلى الله عليه وآله): «مَنِ اعْتَذَرَ إِلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ، جَعَلَ اللهُ عَلَيْهِ إِصْرَ صَاحِبِ مَكْسٍ»(2).وعن ابن مسكان، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «إِنِّي لأَحْسَبُكَ إِذَا شُتِمَ عَلِيٌّ (عليه السلام) بَيْنَ يَدَيْكَ أن لَوْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَأْكُلَ أَنْفَ شَاتِمِهِ لَفَعَلْتَ». فَقُلْتُ: إِي وَاللهِ جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِنِّي لَهَكَذَا وَأَهْلَ بَيْتِي. قَالَ: «فَلاَ تَفْعَلْ، فَوَ اللهِ لَرُبَّمَا سَمِعْتُ مَنْ شَتَمَ عَلِيّاً، وَمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلاَّ أُسْطُوَانَةٌ فَأَسْتَتِرُ بِهَا، فَإِذَا فَرَغْتُ مِنْ صَلاَتِي، أَمُرُّ بِهِ فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَأُصَافِحُهُ»(3).

ص: 370


1- مشكاة الأنوار في غرر الأخبار: ص229، الباب الخامس، الفصل الثالث في العفو.
2- مشكاة الأنوار في غرر الأخبار: ص229، الباب الخامس، الفصل الثالث في العفو.
3- جامع الأخبار للشعيري: ص95، الفصل الثالث والخمسون في التقية.

وقالوا: يا سيدة النساء،

اشارة

-------------------------------------------

سيدة نساء العالمين

مسألة: يستحب بيان أن القوم كانوا يعرفون الصديقة (صلوات الله عليها) حق المعرفة، التي يوجب طاعتها وعدم إغضابها، وكانوا يعلمون بأنها سيدة النساء، ولذا قالوا: يا سيدة النساء.

مسألة: ينبغي التنويع عند ذكر الصديقة الطاهرة (صلوات الله عليها) بذكر مختلف ألقابها وصفاتها، حفظاً لتلك الأسماء والصفات، وصوناً من اندراسها، وقد يجب.

عن يونس بن ظبيان، قال: قال أبو عبد الله الصادق (عليه السلام): «لِفَاطِمَةَ (عليها السلام) تِسْعَةُ أَسْمَاءٍ عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: فَاطِمَةُ، وَالصِّدِّيقَةُ، وَالْمُبَارَكَةُ، وَالطَّاهِرَةُ، وَالزَّكِيَّةُ، وَالرَّضِيَّةُ، وَالْمَرْضِيَّةُ، وَالْمُحَدَّثَةُ، وَالزَّهْرَاءُ» ثُمَّ قَالَ: «تَدْرِي لأَيِّ شَيْءٍ سُمِّيَتْ فَاطِمَةَ (عليها السلام)؟». قُلْتُ: أَخْبِرْنِي يَا سَيِّدِي. قَالَ: «فُطِمَتْ مِنَ الشَّرِّ». قَالَ: ثُمَّ قَالَ: «لَوْلاَ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) تَزَوَّجَهَا، لَمَا كَانَ لَهَا كُفْوٌ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ إِلَى يَوْمِالْقِيَامَةِ آدَمُ فَمَنْ دُونَهُ»(1).

وقال العلامة ابن شهر آشوب في المناقب: (كُنَاهَا: أُمُّ الْحَسَنِ، وَأُمُّ الْحُسَيْنِ، وَأُمُّ الْمُحَسِّنِ، وَأُمُّ الأَئِمَّةِ، وَأُمُّ أَبِيهَا. وأَسْمَاؤُهَا عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَبُوجَعْفَرٍ الْقُمِّيُّ: فَاطِمَةُ، الْبَتُولُ، الْحَصَانُ، الْحُرَّةُ، السَّيِّدَةُ، الْعَذْرَاءُ، الزَّهْرَاءُ،

ص: 371


1- الأمالي للصدوق: ص592، المجلس السادس والثمانون، ح18.

..............................

الْحَوْرَاءُ، الْمُبَارَكَةُ، الطَّاهِرَةُ، الزَّكِيَّةُ، الرَّاضِيَةُ، الْمَرْضِيَّةُ، الْمُحَدَّثَةُ، مَرْيَمُ الْكُبْرَى، الصِّدِّيقَةُ الْكُبْرَى، وَيُقَالُ لَهَا فِي السَّمَاءِ: النُّورِيَّةُ، السَّمَاوِيَّةُ، الْحَانِيَةُ. وَقُلْنَا: الصِّدِّيقَةُ بِالأَقْوَالِ، وَالْمُبَارَكَةُ بِالأَحْوَالِ، وَالطَّاهِرَةُ بِالأَفْعَالِ، الزَّكِيَّةُ بِالْعَدَالَةِ، وَالرَّضِيَّةُ بِالْمَقَالَةِ، وَالْمَرْضِيَّةُ بِالدَّلاَلَةِ، الْمُحَدَّثَةُ بِالشَّفَقَةِ، وَالْحُرَّةُ بِالنَّفَقَةِ، وَالسَّيِّدَةُ بِالصَّدَقَةِ، الْحَصَانُ بِالْمَكَانِ، وَالْبَتُولُ فِي الزَّمَانِ، وَالزَّهْرَاءُ بِالإِحْسَانِ، مَرْيَمُ الْكُبْرَى فِي السِّتْرِ، وَفَاطِمُ بِالسِّرِّ، وَفَاطِمَةُ بِالْبِرِّ، النَّورِيَّةُ بِالشَّهَادَةِ، وَالسَّمَاوِيَّةُ بِالْعِبَادَةِ، وَالْحَانِيَةُ بِالزَّهَادَةِ، وَالْعَذْرَاءُ بِالْوِلاَدَةِ، الزَّاهِدَةُ الصَّفِيَّةُ، الْعَابِدَةُ الرَّضِيَّةُ، الرَّاضِيَةُالْمَرْضِيَّةُ، الْمُتَهَجِّدَةُ الشَّرِيفَةُ، الْقَانِتَةُ الْعَفِيفَةُ، سَيِّدَةُ النِّسْوَانِ، وَحَبِيبَةُ حَبِيبِ الرَّحْمَنِ، وَالْمُحْتَجَبَةُ عَنْ خُزَّانِ الْجِنَانِ، وَصَفِيَّةُ الرَّحْمَنِ، ابْنَةُ خَيْرِ الْمُرْسَلِينَ، وَقُرَّةُ عَيْنِ سَيِّدِ الْخَلاَئِقِ أَجْمَعِينَ، وَوَاسِطَةُ الْعَقْدِ بَيْنَ سَيِّدَاتِ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ، وَالْمُتَظَلِّمَةُ بَيْنَ يَدَيِ الْعَرْشِ يَوْمَ الدِّينِ، ثَمَرَةُ النُّبُوَّةِ، وَأُمُّ الأَئِمَّةِ، وَزُهْرَةُ فُؤَادِ شَفِيعِ الأُمَّةِ، الزَّهْرَاءُ الْمُحْتَرَمَةُ، وَالْغَرَّاءُ الْمُحْتَشَمَةُ، الْمَكَرَّمَةُ تَحْتَ الْقُبَّةِ الْخَضْرَاءُ، وَالإِنْسِيَّةُ الْحَوْرَاءُ، وَالْبَتُولُ الْعَذْرَاءُ، سِتُّ النِّسَاء، وَارِثَةُ سَيِّدِ الأَنْبِيَاءِ، وَقَرِينَةُ سَيِّدِ الأَوْصِيَاءِ، فَاطِمَةُ الزَّهْرَاءُ، الصِّدِّيقَةُ الْكُبْرَى، رَاحَةُ رُوحِ الْمُصْطَفَى، حَامِلَةُ الْبَلْوَى مِنْ غَيْرِ فَزَعٍ وَلاَ شَكْوَى، وَصَاحِبَةُ شَجَرَةِ طُوبَى، وَمَنْ أُنْزِلَ فِي شَأْنِهَا وَشَأْنِ زَوْجِهَا وَأَوْلاَدِهَا سُورَةُ هَلْ أَتَى، ابْنَةُ النَّبِيِّ، وَصَاحِبَةُ الْوَصِيِّ، وَأُمُّ السِّبْطَيْنِ، وَجَدَّةُ الأَئِمَّةِ، وَسَيِّدَةُ نِسَاءِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، زَوْجَةُ الْمُرْتَضَى، وَوَالِدَةُ الْمُجْتَبَى، وَابْنَةُ الْمُصْطَفَى، السَّيِّدَةُ الْمَفْقُودَةُ، الْكَرِيمَةُ الْمَظْلُومَةُ، الشَّهِيدَةُ، السَّيِّدَةُ الرَّشِيدَةُ، شَقِيقَةُ مَرْيَمَ، وَابْنَةُ مُحَمَّدٍ الأَكْرَمُ،الْمَفْطُومَةُ مِنْ كُلِّ شَرٍّ،الْمَعْلُومَةُ بِكُلِّ خَيْرٍ،الْمَنْعُوتَةُ فِي الإِنْجِيلِ،

ص: 372

..............................

الْمَوْصُوفَةُ بِالْبِرِّ وَالتَّبْجِيلِ، دُرَّةُ صَاحِبِالْوَحْيِ وَالتَّنْزِيلِ، جَدُّهَا الْخَلِيلُ، وَمَادِحُهَا الْجَلِيلُ، وَخَاطِبُهَا الْمُرْتَضَى بِأَمْرِ الْمَوْلَى جَبْرَئِيلُ)(1).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: «إِنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) سُئِلَ مَا الْبَتُولُ؛ فَإِنَّا سَمِعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ تَقُولُ: إِنَّ مَرْيَمَ بَتُولٌ، وَفَاطِمَةُ بَتُولٌ؟. فَقَالَ: الْبَتُولُ الَّتِي لَنْ تَرَ حُمْرَةً قَطُّ، أَيْ لَمْ تَحِضْ؛ فَإِنَّ الْحَيْضَ مَكْرُوهٌ فِي بَنَاتِ الأَنْبِيَاءِ»(2).

وعن عبد الله بن الفضل الهاشمي، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده (عليهم السلام)، قال: «كَانَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) ذَاتَ يَوْمٍ جَالِساً، وَعِنْدَهُ عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ (عليه السلام). فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ بَشِيراً، مَا عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ خَلْقٌ أَحَبَّ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلاَ أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنَّا. إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى شَقَّ لِي اسْماً مِنْ أَسْمَائِهِ، فَهُوَ مَحْمُودٌ وَأَنَا مُحَمَّدٌ، وَشَقَّ لَكَ يَا عَلِيُّ اسْماً مِنْ أَسْمَائِهِ، فَهُوَ الْعَلِيُّ الأَعْلَى وَأَنْتَ عَلِيٌّ، وَشَقَّ لَكَ يَا حَسَنُ اسْماً مِنْ أَسْمَائِهِ، فَهُوَالْمُحْسِنُ وَأَنْتَ حَسَنٌ، وَشَقَّ لَكَ يَا حُسَيْنُ اسْماً مِنْ أَسْمَائِهِ، فَهُوَ ذُو الإِحْسَانِ وَأَنْتَ حُسَيْنٌ، وَشَقَ لَكِ يَا فَاطِمَةُ اسْماً مِنْ أَسْمَائِهِ، فَهُوَ الْفَاطِرُ وَأَنْتِ فَاطِمَةُ».

ثُمَّ قَالَ (صلى الله عليه وآله):

ص: 373


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام): ج3 ص357 - 358، باب مناقب فاطمة الزهراء (عليها السلام)، فصل في حليتها وتواريخها (عليها السلام).
2- معاني الأخبار: ص64، باب معاني أسماء محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة (عليهم السلام)، ح17.

..............................

«اللَّهُمَّ إِنِّي أُشْهِدُكَ، أَنِّي سِلْمٌ لِمَنْ سَالَمَهُمْ، وَحَرْبٌ لِمَنْ حَارَبَهُمْ، وَمُحِبٌّ لِمَنْ أَحَبَّهُمْ، وَمُبْغِضٌ لِمَنْ أَبْغَضَهُمْ، وَعَدُوٌّ لِمَنْ عَادَاهُمْ، وَوَلِيٌّ لِمَنْ وَالاهُمْ؛ لأَنَّهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ»(1).

مريم سيدة نساء عالمها

مسألة: ينبغي الإيضاح للناس بأن مريم (عليها السلام) كانت سيدة نساء عالمها، أما الصديقة فاطمة (صلوات الله عليها) فهي سيدة نساء العالمين جميعاً.

عن عيسى بن زيد بن علي (عليه السلام)، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «سُمِّيَتْ فَاطِمَةُ مُحَدَّثَةً؛ لأَنَّ الْمَلاَئِكَةَ كَانَتْ تَهْبِطُ مِنَ السَّمَاءِ فَتُنَادِيهَا كَمَا كَانَتْفَاطِمَةُ، «إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ». يَا فَاطِمَةُ، «اقْنُتِي لِرَبِّكِ»(2)، الآيَةَ، وَتُحَدِّثُهُمْ وَيُحَدِّثُونَهَا. فَقَالَتْ لَهُمْ ذَاتَ لَيْلَةٍ: أَ لَيْسَتِ الْمُفَضَّلَةُ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ؟!. فَقَالُوا: إِنَّ مَرْيَمَ كَانَتْ سَيِّدَةَ نِسَاءِ عَالَمِهَا، وَإِنَّ اللهَ جَعَلَكِ سَيِّدَةَ عَالَمِكِ، وَسَيِّدَةَ نِسَاءِ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ»(3).

ص: 374


1- معاني الأخبار: ص55 - 56، باب معاني أسماء محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة (عليهم السلام)، ح17.
2- سورة آل عمران: 42 - 43.
3- دلائل الإمامة: ص80 - 81، فاطمة الزهراء (عليها السلام)، معنى المحدثة، ح20.

..............................

وعن ابن عباس، قال: إِنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) كَانَ جَالِساً ذَاتَ يَوْمٍ، وَعِنْدَهُ عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ (عليهم

السلام). فَقَالَ: «اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّ هَؤُلاَءِ أَهْلُ بَيْتِي، وَأَكْرَمُ النَّاسِ عَلَيَّ، فَأَحْبِبْ مَنْ يُحِبُّهُمْ، وَأَبْغِضْ مَنْ يُبْغِضُهُمْ، وَوَالِ مَنْ وَالاهُمْ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُمْ، وَأَعِنْ مَنْ أَعَانَهُمْ، وَاجْعَلْهُمْ مُطَهَّرِينَ مِنْ كُلِّ رِجْسٍ، مَعْصُومِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحِ الْقُدُسِ مِنْكَ - ثُمَّ قَالَ (صلى الله عليه وآله) - يَا عَلِيُّ، أَنْتَ إِمَامُ أُمَّتِي، وَخَلِيفَتِي عَلَيْهَا بَعْدِي، وَأَنْتَ قَائِدُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْجَنَّةِ، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى ابْنَتِي فَاطِمَةَنُورٍ، عَنْ يَمِينِهَا سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، وَعَنْ شِمَالِهَا سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، وَبَيْنَ يَدَيْهَا سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، وَخَلْفَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، تَقُودُ مُؤْمِنَاتِ أُمَّتِي إِلَى الْجَنَّةِ، فَأَيُّمَا امْرَأَةٍ صَلَّتْ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ خَمْسَ صَلَوَاتٍ، وَصَامَتْ شَهْرَ رَمَضَانَ، وَحَجَّتْ بَيْتَ اللهِ الْحَرَامِ، وَزَكَّتْ مَالَهَا، وَأَطَاعَتْ زَوْجَهَا، وَوَالَتْ عَلِيّاً بَعْدِي، دَخَلَتِ الْجَنَّةَ بِشَفَاعَةِ ابْنَتِي فَاطِمَةَ، وَإِنَّهَا لَسَيِّدَةُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ».

فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَ هِيَ سَيِّدَةُ نِسَاءِ عَالَمِهَا؟.

فَقَالَ (عَلَيْهِ وَآلِهِ السَّلامُ): «ذَاكَ لِمَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ، فَأَمَّا ابْنَتِي فَهِيَ سَيِّدَةُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ مِنَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، وَإِنَّهَا لَتَقُومُ فِي مِحْرَابِهَا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهَا سَبْعُونَ أَلْفاً مِنَ الْمَلاَئِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ، وَيُنَادُونَهَا بِمَا نَادَتْ بِهِ الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ مَرْيَمَ، فَيَقُولُونَ: يَا فَاطِمَةُ، إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ».

ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى عَلِيٍّ (عليه السلام)، فَقَالَ: «يَا عَلِيُّ، إِنَّ فَاطِمَةَ بَضْعَةٌ مِنِّي، هِيَ نُورُ عَيْنِي وَثَمَرَةُ فُؤَادِي، يَسُوؤُنِي مَا سَاءَهَا، وَيَسُرُّنِي مَا سَرَّهَا، وَإِنَّهَا أَوَّلُ

ص: 375

لُحُوقٍ يَلْحَقُنِي مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، فَأَحْسِنْ إِلَيْهَا مِنْ بَعْدِي، وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ فَهُمَا ابْنَايَ وَرَيْحَانَتَايَ، وَهُمَا سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَلْيَكُونَا عَلَيْكَ كَسَمْعِكَ وَبَصَرِكَ».

ثُمَّ رَفَعَ (صلى الله عليه وآله) يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْهَدُ أَنِّي مُحِبٌّ لِمَنْ أَحَبَّهُمْ، وَمُبْغِضٌ لِمَنْ أَبْغَضَهُمْ، وَسِلْمٌ لِمَنْ سَالَمَهُمْ، وَحَرْبٌ لِمَنْ حَارَبَهُمْ، وَعَدُوٌّ لِمَنْ عَادَاهُمْ، وَوَلِيٌّ لِمَنْ وَالاهُمْ»(1).

ص: 376


1- بشارة المصطفى لشيعة المرتضى: ج2 ص177 - 178، فاطمة تشفع لنساء أمة محمد (صلى الله عليه وآله).

لو كان أبو الحسن ذكر لنا هذا الأمر من قبل....

اشارة

لو كان أبو الحسن ذكر لنا هذا الأمر من قبل أن نبرم العهد ونحكِّم العقد لما عدلنا عنه إلى غيره!.

-------------------------------------------

الاستمرار على الباطل

مسألة: لا يجوز لمن عرف الحق أن يستمر على الباطل، ولا يقبل الله منه عدلاً ولا صرفاً، بل عليه أن يرتدع فور معرفته بالحق، ولو كان عالماً فعليه أن يتوب ويرعوي.

والقوم كانوا يعرفون أن الحق مع الإمام علي (عليه السلام) لكنهم اختلقوا لتخلفهم عن نصرة الحق عذراً، وربما كان العذر أقبح من الذنب، قالوا: (لو كان أبو الحسن ذكر لنا...)، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد ذكر لهم ذلك من قبل في يوم الغدير وغيره بمتواتر الروايات. كما أن الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) قد ذكر لهم ذلك عندما هجم القوم على بيته وجاؤوا به مكرهاً ليبايع ابن أبي قحافة فلم يبايع، بل حاججهم وذكّرهم بمكانته وما نص عليه رسول الله (صلى

الله عليه وآله) في خلافته(1)،وأنه الأحق بالخلافة دون غيره.

بل هناك العديد من الصحابة حاججوا أبابكر قبل أن تفرض عليهم البيعة بالسيف، كسلمان والمقداد وأبي ذر وغيرهم (رضوان الله عليهم).

ص: 377


1- راجع كتاب الاحتجاج، للعلامة الطبرسي: ج1 ص73 - 75، ذكر طرف مما جرى بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) من اللجاج والحجاج في أمر الخلافة من قبل من استحقها ومن لم يستحق، والإشارة إلى شيء من إنكار من أنكر على من تأمر على علي بن أبي طالب (عليه السلام) تأمره وكيد من كاده من قبل ومن بعد.

..............................

هذا ولو سلمنا أنه (عليه السلام) لم يذكر لهم من قبل، كما ادعوا وقالوا: (لو كان أبو الحسن ذكر لنا هذا الأمر من قبل أن نبرم العهد ونحكم العقد لما عدلنا عنه إلى غيره)، لكنه حتى إذا كان يذكر لهم ذلك من قبل أن يبرموا عهدهم ويحكموا عقدهم الباطل، لكانوا خذلوه أيضاً، ولعدلوا عنه إلى غيره، فإن المشكلة لم تكن في إتمام الحجة عليهم ومعرفتهم بالحق، إذ كان الرسول (صلى الله عليه وآله) قد أتم الحجة عليهم جميعاً من قبل يوم غدير خم، ويوم الانذار وفي خيبر وغيرها، بل المشكلة كانت في انحيازهم للباطل، خوفاً أو طمعاً أو حقداً أو ما أشبه، وأنهم كانوا ممن طبع الله على قلوبهم، ولذلك قالت (عليها السلام): «فَلا عُذْرَ بَعْدَ تَعْذِيرِكُمْ، وَلا أَمْرَ بَعْدَ تَقْصِيرِكُمْ».عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: «خَطَبَ النَّاسَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ (رحمة الله عليه) بَعْدَ أَنْ دُفِنَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) بِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، فَقَالَ فِيهَا:

أَلا - أَيُّهَا النَّاسُ - اسْمَعُوا عَنِّي حَدِيثِي، ثُمَّ اعْقِلُوهُ عَنِّي، أَلاَ وَإِنِّي أُوتِيتُ عِلْماً كَثِيراً، فَلَوْ حَدَّثْتُكُمْ بِكُلِّ مَا أَعْلَمُ مِنْ فَضَائِلِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) لَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ: هُوَ مَجْنُونٌ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَاتِلِ سَلْمَانَ. أَلاَ إِنَّ لَكُمْ مَنَايَا تَتْبَعُهَا بَلاَيَا، أَلاَ وَإِنَّ عِنْدَ عَلِيٍّ (عليه السلام) عِلْمَ الْمَنَايَا وَالْبَلاَيَا، وَمِيرَاثَ الْوَصَايَا، وَفَصْلَ الْخِطَابِ، وَأَصْلَ الأَنْسَابِ، عَلَى مِنْهَاجِ هَارُونَ بْنِ عِمْرَانَ مِنْ مُوسَى (عليه السلام)، إِذْ يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): أَنْتَ وَصِيِّي فِي أَهْلِ بَيْتِي،وَخَلِيفَتِي فِي أُمَّتِي،وَأَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ

ص: 378

..............................

مُوسَى، وَلَكِنَّكُمْ أَخَذَتْكُمْ سُنَّةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَخْطَأْتُمُ الْحَقَّ، فَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَلاَتَعْلَمُونَ. أَمَا وَاللهِ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ، حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ، وَالْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ. أَمَا وَالَّذِي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ، لَوْ وَلَّيْتُمُوهَا عَلِيّاً لأَكَلْتُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْتَحْتِ أَقْدَامِكُمْ، وَلَوْ دَعَوْتُمُ الطَّيْرَ لأَجَابَتْكُمْ فِي جَوِّ السَّمَاءِ، وَلَوْ دَعَوْتُمُ الْحِيتَانَ مِنَ الْبِحَارِ لأَتَتْكُمْ، وَلَمَا عَالَ وَلِيُّ اللهِ، وَلاَ طَاشَ لَكُمْ سَهْمٌ مِنْ فَرَائِضِ اللهِ، وَلاَ اخْتَلَفَ اثْنَانِ فِي حُكْمِ اللهِ، وَلَكِنْ أَبَيْتُمْ فَوَلَّيْتُمُوهَا غَيْرَهُ، فَأَبْشِرُوا بِالْبَلاَيَا، وَاقْنَطُوا مِنَ الرَّخَاءِ، وَقَدْ نَابَذْتُكُمْ عَلى سَواءٍ، فَانْقَطَعَتِ الْعِصْمَةُ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنَ الْوَلاَءِ. عَلَيْكُمْ بِآلِ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله)؛ فَإِنَّهُمُ الْقَادَةُ إِلَى الْجَنَّةِ، وَالدُّعَاةُ إِلَيْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. عَلَيْكُمْ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه

السلام)، فَوَ اللهِ لَقَدْ سَلَّمْنَا عَلَيْهِ بِالْوَلاَيَةِ وَإِمْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ مِرَاراً جَمَّةً مَعَ نَبِيِّنَا، كُلَّ ذَلِكَ يَأْمُرُنَا بِهِ وَيُؤَكِّدُهُ عَلَيْنَا، فَمَا بَالُ الْقَوْمِ عَرَفُوا فَضْلَهُ فَحَسَدُوهُ، وَقَدْ حَسَدَ هَابِيلَ قَابِيلُ فَقَتَلَهُ، وَكُفَّاراً قَدِ ارْتَدَّتْ أُمَّةُ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ، فَأَمْرُ هَذِهِ الأُمَّةِ كَأَمْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. فَأَيْنَ يُذْهَبُ بِكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ! وَيْحَكُمْ مَا لَنَا وَأَبُو فُلاَنٍ وَفُلاَنٍ! أَ جَهِلْتُمْ أَمْ تَجَاهَلْتُمْ، أَمْ حَسَدْتُمْ أَمْ تَحَاسَدْتُمْ. وَاللهِ لَتَرْتَدُّنَّ كُفَّاراً يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ بِالسَّيْفِ، يَشْهَدُ الشَّاهِدُ عَلَى النَّاجِي بِالْهَلَكَةِ، وَيَشْهَدُ الشَّاهِدُ عَلَى الْكَافِرِ بِالنَّجَاةِ. أَلاَ وَإِنِّي أَظْهَرْتُ أَمْرِي، وَسَلَّمْتُ لِنَبِيِّي، وَاتَّبَعْتُ مَوْلاَيَ وَمَوْلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ، عَلِيّاً أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)، وَسَيِّدَ الْوَصِيِّينَ، وَقَائِدَ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِينَ، وَإِمَامَ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ»(1).

ص: 379


1- الاحتجاج للعلامة الطبرسي: ج1 ص110- 112، احتجاج سلمان الفارسي في خطبة خطبها بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) على القوم لما تركوا أمير المؤمنين (عليه السلام) واختاروا غيره.

..............................

وعن محمد ويحيى ابني عبد الله بن الحسن، عن أبيهما، عن جدهما، عن علي بن أبي طالب (عليه السلام)، قال: «لَمَّا خَطَبَ أَبُو بَكْرٍ، قَامَ إِلَيْهِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ - وَكَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ أَوَّلُ يَوْمٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ - وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا مَرْضَاةَ اللهِ وَأَثْنَى اللهُ عَلَيْهِمْ فِي الْقُرْآنِ، وَيَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالإِيمانَ وَأَثْنَى اللهَ عَلَيْهِمْ فِي الْقُرْآنِ، تَنَاسَيْتُمْ أَمْ نَسِيتُمْ، أَمْ بَدَّلْتُمْ أَمْ غَيَّرْتُمْ، أَمْ خَذَلْتُمْ أَمْ عَجَزْتُمْ.

أَ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) قَامَ فِينَا مَقَاماً أَقَامَ فِيهِ عَلِيّاً (عليه السلام)، فَقَالَ: مَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ فَهَذَا مَوْلاَهُ - يَعْنِي عَلِيّاً - وَمَنْ كُنْتُ نَبِيَّهُ فَهَذَا أَمِيرُهُ.

أَ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) قَالَ: يَا عَلِيُّ، أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، طَاعَتُكَ وَاجِبَةٌ عَلَى مَنْ بَعْدِي كَطَاعَتِي فِي حَيَاتِي، غَيْرَ أَنَّهُ لاَ نَبِيَّ بَعْدِي.أَ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) قَالَ: أُوصِيكُمْ بِأَهْلِ بَيْتِي خَيْراً، فَقَدِّمُوهُمْ وَلاَ تَقَدَّمُوهُمْ، وَأَمِّرُوهُمْ وَلاَ تَأَمَّرُوا عَلَيْهِمْ.

أَ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) قَالَ: أَهْلُ بَيْتِي مَنَارُ الْهُدَى، وَالدَّالُّونَ عَلَى اللهِ.

أَ وَ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) قَالَ لِعَلِيٍّ (عليه السلام): أَنْتَ الْهَادِي لِمَنْ ضَلَّ.

أَ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) قَالَ: عَلِيٌّ الْمُحْيِي لِسُنَّتِي،

ص: 380

..............................

وَمُعَلِّمُ أُمَّتِي، وَالْقَائِمُ بِحُجَّتِي، وَخَيْرُ مَنْ أُخَلِّفُ مِنْ بَعْدِي، وَسَيِّدُ أَهْلِ بَيْتِي، وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ، طَاعَتُهُ كَطَاعَتِي عَلَى أُمَّتِي.

أَ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ كَانَ مَنْزِلُهُمَا فِي أَسْفَارِهِمَا وَاحِداً، وَارْتِحَالُهُمَا وَاحِداً.

أَ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَمْ يُوَلِّ عَلَى عَلِيٍّ أَحَداً مِنْكُمْ، وَوَلاَّهُ فِي كُلِّ غَيْبَتِهِ عَلَيْكُمْ.

أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا غِبْتُ فَخَلَّفْتُ عَلَيْكُمْ عَلِيّاً، فَقَدْ خَلَّفْتُ فِيكُمْ رَجُلاً كَنَفْسِي.

أَ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) قَبْلَ مَوْتِهِ قَدْ جَمَعَنَا فِي بَيْتِ ابْنَتِهِ فَاطِمَةَ (عليها السلام) فَقَالَ لَنَا: إِنَّ اللهَأَوْحَى إِلَى مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ أَنِ اتَّخِذْ أَخاً مِنْ أَهْلِكَ فَاجْعَلْهُ نَبِيّاً، وَاجْعَلْ أَهْلَهُ لَكَ وَلَداً، أُطَهِّرْهُمْ مِنَ الآفَاتِ، وَأُخَلِّصْهُمْ مِنَ الرَّيْبِ، فَاتَّخَذَ مُوسَى هَارُونَ أَخاً، وَوُلْدَهُ أَئِمَّةً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِهِ، الَّذِينَ يَحُلُّ لَهُمْ فِي مَسَاجِدِهِمْ مَا يَحُلُّ لِمُوسَى، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَيَّ أَنِ اتَّخِذْ عَلِيّاً أَخاً، كَمَا أَنَّ مُوسَى اتَّخَذَ هَارُونَ أَخاً، وَاتَّخِذْ وُلْدَهُ وُلْداً، فَقَدْ طَهَّرْتُهُمْ كَمَا طَهَّرْتُ وُلْدَ هَارُونَ، إِلاَّ أَنِّي قَدْ خَتَمْتُ بِكَ النَّبِيِّينَ فَلاَ نَبِيَّ بَعْدَكَ، فَهُمُ الأَئِمَّةُ الْهَادِيَةُ.

أَ فَمَا تُبْصِرُونَ! أَ فَمَا تَفْهَمُونَ! أَ فَمَا تَسْمَعُونَ! ضُرِبَ عَلَيْكُمُ الشُّبُهَاتُ، فَكَانَ مَثَلُكُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ فِي سَفَرٍ، فَأَصَابَهُ عَطَشٌ شَدِيدٌ حَتَّى خَشِيَ أَنْ يَهْلِكَ، فَلَقِيَ رَجُلاً هَادِياً فِي الطَّرِيقِ، فَسَأَلَهُ عَنِ الْمَاءِ. فَقَالَ لَهُ: أَمَامَكَ عَيْنَانِ، إِحْدَاهُمَا مَالِحَةٌ،وَالأُخْرَى عَذْبَةٌ،فَإِنْ أَصَبْتَ الْمَالِحَةَ ضَلَلْتَ،وَإِنْ أَصَبْتَ الْعَذْبَةَ

ص: 381

..............................

هُدِيتَ وَرَوِيتَ، فَهَذَا مَثَلُكُمْ أَيَّتُهَا الأُمَّةُ الْمُهْمَلَةُ كَمَا زَعَمْتُمْ. وَايْمُ اللهِ مَا أُهْمِلْتُمْ، لَقَدْ نُصِبَ لَكُمْ عَلَمٌ، يُحِلُّ لَكُمُ الْحَلاَلَ، وَيُحَرِّمُ عَلَيْكُمُ الْحَرَامَ، وَلَوْ أَطَعْتُمُوهُ مَا اخْتَلَفْتُمْ، وَلاَ تَدَابَرْتُمْ، وَلاَ تَقَاتَلْتُمْ، وَلاَ بَرِئَ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ. فَوَ اللهِ،إِنَّكُمْ بَعْدَهُ لَنَاقِضُونَ عَهْدَ رَسُولِ اللهِ (صلى

الله عليه وآله)، وَإِنَّكُمْ عَلَى عِتْرَتِهِ لَمُخْتَلِفُونَ، وَإِنْ سُئِلَ هَذَا عَنْ غَيْرِ مَا يَعْلَمُ أَفْتَى بِرَأْيِهِ، فَقَدْ أُبْعِدْتُمْ وَتَخَارَسْتُمْ، وَزَعَمْتُمْ أَنَّ الْخِلاَفَ رَحْمَةٌ، هَيْهَاتَ أَبَى الْكِتَابُ ذَلِكَ عَلَيْكُمْ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى جَدُّهُ: «وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ». ثُمَّ أَخْبَرَنَا بِاخْتِلاَفِكُمْ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: «وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ» أَيْ لِلرَّحْمَةِ، وَهُمْ آلُ مُحَمَّدٍ. سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ: يَا عَلِيُّ، أَنْتَ وَشِيعَتُكَ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَالنَّاسُ مِنْهَا بِرَاءٌ. فَهَلاَّ قَبِلْتُمْ مِنْ نَبِيِّكُمْ، كَيْفَ وَهُوَ خَبَّرَكُمْ بِانْتِكَاصَتِكُمْ عَنْ وَصِيِّهِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَمِينِهِ وَوَزِيرِهِ وَأَخِيهِ وَوَلِيِّهِ دُونَكُمْ أَجْمَعِينَ. وَأَطْهَرِكُمْ قَلْباً، وَأَقْدَمِكُمْ سِلْماً، وَأَعْظَمِكُمْ وَعْياً مِنْ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، أَعْطَاهُ تُرَاثَهُ، وَأَوْصَاهُ بِعِدَاتِهِ، فَاسْتَخْلَفَهُ عَلَى أُمَّتِهِ، وَوَضَعَ عِنْدَهُ سِرَّهُ، فَهُوَ وَلِيُّهُ دُونَكُمْ أَجْمَعِينَ، وَأَحَقُّ بِهِ مِنْكُمْ أَكْتَعِينَ، سَيِّدُ الْوَصِيِّينَ، وَوَصِيُّ خَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ، أَفْضَلُ الْمُتَّقِينَ، وَأَطْوَعُ الأُمَّةِ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، سَلَّمْتُمْ عَلَيْهِ بِإِمْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ، فِي حَيَاةِ سَيِّدِ النَّبِيِّينَ، وَخَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ. فَقَدْ أَعْذَرَ مَنْ أَنْذَرَ، وَأَدَّى النَّصِيحَةَ مَنْ وَعَظَ، وَبَصَّرَ مَنْ عَمَى، فَقَدْ سَمِعْتُمْ كَمَا سَمِعْنَا، وَرَأَيْتُمْ كَمَا رَأَيْنَا، وَشَهِدْتُمْ كَمَا شَهِدْنَا. فَقَامَإِلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ

ص: 382

..............................

الْجَرَّاحِ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ. فَقَالُوا: يَا أُبَيُّ، أَصَابَكَ خَبَلٌ أَمْ بِكَ جِنَّةٌ!. فَقَالَ: بَلِ الْخَبَلُ فِيكُمْ، وَاللهِ كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَوْماً، فَأَلْفَيْتُهُ يُكَلِّمُ رَجُلاً أَسْمَعُ كَلاَمَهُ وَلاَ أَرَى شَخْصَهُ، فَقَالَ فِيمَا يُخَاطِبُهُ: مَا أَنْصَحَهُ لَكَ وَلأُمَّتِكَ، وَأَعْلَمَهُ بِسُنَّتِكَ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): أَ فَتَرَى أُمَّتِي تَنْقَادُ لَهُ مِنْ بَعْدِي؟. قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، يَتْبَعُهُ مِنْ أُمَّتِكَ أَبْرَارُهَا، وَيُخَالِفُ عَلَيْهِ مِنْ أُمَّتِكَ فُجَّارُهَا، وَكَذَلِكَ أَوْصِيَاءُ النَّبِيِّينَ مِنْ قَبْلِكَ. يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ أَوْصَى إِلَى يُوشَعَ بْنِ نُونٍ، وَكَانَ أَعْلَمَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَخْوَفَهُمْ للهِ، وَأَطْوَعَهُمْ لَهُ، فَأَمَرَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَتَّخِذَهُ وَصِيّاً، كَمَا اتَّخَذْتَ عَلِيّاً وَصِيّاً، وَكَمَا أُمِرْتَ بِذَلِكَ، فَحَسَدَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ سِبْطُ مُوسَى خَاصَّةً، فَلَعَنُوهُ وَشَتَمُوهُ وَعَنَفُوهُ وَوَضَعُوا لَهُ، فَإِنْ أَخَذَتْ أُمَّتُكَ سُنَنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، كَذَّبُوا وَصِيَّكَ، وَجَحَدُوا إِمْرَتَهُ، وَابْتَزُّوا خِلاَفَتَهُ، وَغَالَطُوهُ فِي عِلْمِهِ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ هَذَا؟.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): هَذَا مَلَكٌ مِنْ مَلاَئِكَةِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ، يُنْبِئُنِي أَنَّ أُمَّتِي تَتَخَلَّفُ عَلَى وَصِيِّي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ(صلوات الله عليه)، وَإِنِّي أُوصِيكَ يَا أُبَيُّ بِوَصِيَّةٍ، إِنْ حَفِظْتَهَا لَمْ تَزَلْ بِخَيْرٍ. يَا أُبَيُّ، عَلَيْكَ بِعَلِيٍّ؛ فَإِنَّهُ الْهَادِي الْمَهْدِيُّ، النَّاصِحُ لأُمَّتِي، الْمُحْيِي لِسُنَّتِي، وَهُوَ إِمَامُكُمْ بَعْدِي، فَمَنْ رَضِيَ بِذَلِكَ لَقِيَنِي عَلَى مَا فَارَقْتُهُ عَلَيْهِ. يَا أُبَيُّ، وَمَنْ غَيَّرَ أَوْ بَدَّلَ لَقِيَنِي نَاكِثاً لِبَيْعَتِي، عَاصِياً أَمْرِي، جَاحِداً لِنُبُوَّتِي، لاَ أَشْفَعُ لَهُ عِنْدَ رَبِّي، وَلاَ أَسْقِيهِ مِنْ حَوْضِي.

فَقَامَتْ إِلَيْهِ رِجَالٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالُوا: اقْعُدْ رَحِمَكَ اللَّهُ يَا أُبَيُّ، فَقَدْ

ص: 383

..............................

أَدَّيْتَ مَا سَمِعْتَ الَّذِي مَعَكَ، وَوَفَيْتَ بِعَهْدِكَ»(1).

نقض بيعة الظالم

مسألة: يجب نقض البيعة مع الظالم، سواء بايع الشخص جاهلاً أو عالماً، قصوراً أو تقصيراً، فإن البيعة في الخلافة تكون لمن نص عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) دون غيره، فإذا بويع غيرهوجب النقض، لأن الاستمرار محرم أيضاً، فلا يعد ذلك قولهم عذراً حيث قالوا: (قد أبرم العهد وأحكم العقد).

إذ هذا العهد باطل والعقد باطل، فإنه تقليد للأمر لمن لا حق له فيه، وذلك كمن يبيع حراً لغيره، أو كمن يبيع ملك غيره للغير، فإن المشتري لا يمكنه أن يحتج بأن العقد قد أبرم، فأصبح الحر أو ملك غير البائع ملكاً لي، فإن العقد والعهد إنما يكون في المحل القابل، والظالم ليس محلاً قابلاً للخلافة، قال تعالى: «لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ»(2).

قولهم: (قبل أن نبرم العهد) أي عهد الخلافة مع الغاصب الأول، و(نحكِّم العقد) لأنها نوع عقد بين الحاكم ومن يبايعه.

وهذا القول من القوم دليل على أنهم كانوا يعلمون أن كل ظلم وقع على الصديقة الطاهرة (عليها السلام) كان ضمن خطة غصب الخلافة من علي أمير المؤمنين

ص: 384


1- الاحتجاج للعلامة الطبرسي: ج1 ص112- 115، احتجاج لأبي بن كعب على القوم مثل ما احتج به سلمان (رضوان الله عليه).
2- سورة البقرة: 124.

..............................

(عليه السلام)، وأن خطبتها واحتجاجها وغضبها ومطالبتها بحقها كان لإثبات حق بعلها علي (عليها لسلام) في الخلافة.من هنا رأى من غصب الخلافة أنه لابد من أن يقتلوا فاطمة (عليها السلام) وإلاّ فلم تسكت عن حق بعلها، وهذا كان يزلزل حكمهم ويقضي على سمعتهم ويفضحهم.

وانتصرت الصديقة (عليها السلام) حيث بها تبين الحق من الباطل إلى يومنا هذا.

ص: 385

فقالت (عليها السلام): «إِلَيْكُمْ عَنِّي، فَلَا عُذْرَ بَعْدَ تَعْذِيرِكُمْ،

اشارة

-------------------------------------------

طرد القوم ولوازمه

قول الصديقة (عليها السلام): «إِلَيْكُمْ عَنِّي» أي: قوموا عني.. وابتعدوا.. واذهبوا.

مسألة: المطرود من حضرة الصديقة (صلوات الله عليها) مطرود من حضرة الله ورحمته، فإن «الله لَيَغْضَبُ لِغَضَبِ فَاطِمَةَ، وَيَرْضَى لِرِضَاهَا»(1).

فهو ملعون يلعنه الله والملائكة والأنبياء والمرسلون والمؤمنون.

من يشاققها

مسألة: من شاق الصديقة فاطمة (صلوات الله عليها) فقد شاق رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ومن شاقه (صلى الله عليه وآله) فقد شاق الله ومصيره النار.

قال تعالى: «وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا»(2).يُشَاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ»(3).

ص: 386


1- الأمالي للمفيد: ص95، المجلس الحادي عشر، ح4.
2- سورة النساء: 115.
3- سورة الأنفال: 13.

..............................

وقال عز وجل: «ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ»(1).

الوقوف أمام الظالم وصحبه

مسألة: يجب الوقوف أمام الظالم وصحبه ومن رضي بفعله، كما يلزم عدم قبول عذره وعذرهم، لما لم تقبل (صلوات الله عليها) عذر القوم.

ثم إن الوقوف أمام الظالم وصبحه إنما هو بحسب الظلم والظالم، مراعياً شرائط الزمان والمكان، فإن مصداق النهي عن المنكر عرفي شرعي.

عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ يُتَّبَعُ فِيهِمْ قَوْمٌ مُرَاءُونَ، يَتَقَرَّءُونَ وَيَتَنَسَّكُونَ، حُدَثَاءُ سُفَهَاءُ، لاَ يُوجِبُونَ أَمْراً بِمَعْرُوفٍ وَلاَ نَهْياً عَنْ مُنْكَرٍ، إِلاَّ إِذَا أَمِنُوا الضَّرَرَ، يَطْلُبُونَ لأَنْفُسِهِمُ الرُّخَصَ وَالْمَعَاذِيرَ، يَتَّبِعُونَ زَلاَّتِ الْعُلَمَاءِ وَفَسَادَلاَ يَكْلِمُهُمْ فِي نَفْسٍ وَلاَ مَالٍ، وَلَوْ أَضَرَّتِ الصَّلاَةُ بِسَائِرِ مَا يَعْمَلُونَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَبْدَانِهِمْ لَرَفَضُوهَا، كَمَا رَفَضُوا أَسْمَى الْفَرَائِضِ وَأَشْرَفَهَا. إِنَّ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَرِيضَةٌ عَظِيمَةٌ بِهَا تُقَامُ الْفَرَائِضُ، هُنَالِكَ يَتِمُّ غَضَبُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِمْ فَيَعُمُّهُمْ بِعِقَابِهِ، فَيُهْلَكُ الأَبْرَارُ فِي دَارِ الْفُجَّارِ، وَالصِّغَارُ فِي دَارِ الْكِبَارِ. إِنَّ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ سَبِيلُ الأَنْبِيَاءِ، وَمِنْهَاجُ الصُّلَحَاءِ،

ص: 387


1- سورة الحشر: 4.

..............................

فَرِيضَةٌ عَظِيمَةٌ بِهَا تُقَامُ الْفَرَائِضُ، وَتَأْمَنُ الْمَذَاهِبُ، وَتَحِلُّ الْمَكَاسِبُ، وَتُرَدُّ الْمَظَالِمُ، وَتُعْمَرُ الأَرْضُ، وَيُنْتَصَفُ مِنَ الأَعْدَاءِ، وَيَسْتَقِيمُ الأَمْرُ. فَأَنْكِرُوا بِقُلُوبِكُمْ، وَالْفِظُوا بِأَلْسِنَتِكُمْ، وَصُكُّوا بِهَا جِبَاهَهُمْ، وَلاَ تَخَافُوا فِي اللهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ، فَإِنِ اتَّعَظُوا وَإِلَى الْحَقِّ رَجَعُوا، فَلاَ سَبِيلَ عَلَيْهِمْ، «إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ»(1)، هُنَالِكَ فَجَاهِدُوهُمْ بِأَبْدَانِكُمْ، وَأَبْغِضُوهُمْ بِقُلُوبِكُمْ، غَيْرَ طَالِبِينَ سُلْطَاناً، وَلاَ بَاغِينَ مَالاً، وَلاَ مُرِيدِينَ بِظُلْمٍ ظَفَراً، حَتَّى- قَالَ - وَأَوْحَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى شُعَيْبٍ النَّبِيِّ (صلوات الله عليه): أَنِّي مُعَذِّبٌ مِنْ قَوْمِكَ مِائَةَ أَلْفٍ، أَرْبَعِينَ أَلْفاً مِنْ شِرَارِهِمْ، وَسِتِّينَ أَلْفاً مِنْ خِيَارِهِمْ. فَقَالَ (عليه السلام): يَا رَبِّ، هَؤُلاَءِ الأَشْرَارُ، فَمَا بَالُ الأَخْيَارِ!. فَأَوْحَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ: دَاهَنُوا أَهْلَ الْمَعَاصِي، وَلَمْ يَغْضَبُوا لِغَضَبِي»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «مَا قُدِّسَتْ أُمَّةٌ لَمْ يُؤْخَذْ لِضَعِيفِهَا مِنْ قَوِيِّهَا بِحَقِّهِ غَيْرَ مُتَعْتَعٍ»(3).

وعن يحيى بن عقيل، عن حسن، قال: خَطَبَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَيْثُ مَا عَمِلُوا مِنَ الْمَعَاصِي، وَلَمْ يَنْهَهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ ذَلِكَ، وَإِنَّهُمْ لَمَّا تَمَادَوْا

ص: 388


1- سورة الشورى: 42.
2- الكافي: ج5 ص55 - 56، كتاب الجهاد، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح1.
3- الكافي: ج5 ص57، كتاب الجهاد، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح2.

..............................

فِي الْمَعَاصِي، وَلَمْ يَنْهَهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ ذَلِكَ، نَزَلَتْ بِهِمُ الْعُقُوبَاتُ. فَأْمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَانْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ،وَاعْلَمُوا أَنَّ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، لَمْ يُقَرِّبَا أَجَلاً، وَلَمْ يَقْطَعَا رِزْقاً. إِنَّ الأَمْرَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ كَقَطْرِ الْمَطَرِ إِلَى كُلِّ نَفْسٍ، بِمَا قَدَّرَ اللهُ لَهَا مِنْ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، فَإِنْ أَصَابَ أَحَدَكُمْ مُصِيبَةٌ فِي أَهْلٍ أَوْ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ، وَرَأَى عِنْدَ أَخِيهِ غَفِيرَةً فِي أَهْلٍ أَوْ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ، فَلاَ تَكُونَنَّ عَلَيْهِ فِتْنَةً؛ فَإِنَّ الْمَرْءَ الْمُسْلِمَ لَبَرِيءٌ مِنَ الْخِيَانَةِ، مَا لَمْ يَغْشَ دَنَاءَةً تَظْهَرُ، فَيَخْشَعُ لَهَا إِذَا ذُكِرَتْ، وَيُغْرَى بِهَا لِئَامُ النَّاسِ، كَانَ كَالْفَالِجِ الْيَاسِرِ، الَّذِي يَنْتَظِرُ أَوَّلَ فَوْزَةٍ مِنْ قِدَاحِهِ، تُوجِبُ لَهُ الْمَغْنَمَ، وَيُدْفَعُ بِهَا عَنْهُ الْمَغْرَمُ، وَكَذَلِكَ الْمَرْءُ الْمُسْلِمُ الْبَرِيءُ مِنَ الْخِيَانَةِ، يَنْتَظِرُ مِنَ اللهِ تَعَالَى إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ، إِمَّا دَاعِيَ اللهِ فَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لَهُ، وَإِمَّا رِزْقَ اللهِ، فَإِذَا هُوَ ذُو أَهْلٍ وَمَالٍ وَمَعَهُ دِينُهُ، وَحَسَبُهُ إِنَّ الْمَالَ وَالْبَنِينَ حَرْثُ الدُّنْيَا، وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ حَرْثُ الآخِرَةِ، وَقَدْ يَجْمَعُهُمَا اللهُ لأَقْوَامٍ. فَاحْذَرُوا مِنَ اللهِ مَا حَذَّرَكُمْ مِنْ نَفْسِهِ، وَاخْشَوْهُ خَشْيَةً لَيْسَتْ بِتَعْذِيرٍ، وَاعْمَلُوا فِي غَيْرِ رِيَاءٍ وَلاَ سُمْعَةٍ؛ فَإِنَّهُ مَنْ يَعْمَلْ لِغَيْرِ اللهِ يَكِلْهُ اللهُ إِلَى مَنْ عَمِلَ لَهُ، نَسْأَلُ اللهَ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَمُعَايَشَةَ السُّعَدَاءِ، وَمُرَافَقَةَ الأَنْبِيَاءِ»(1).وعن أبي إسحاق الخراساني، عن بعض رجاله، قال: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَوْحَى إِلَى دَاوُدَ (عليه السلام): أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ ذَنْبَكَ، وَجَعَلْتُ عَارَ ذَنْبِكَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. فَقَالَ: كَيْفَ يَا رَبِّ وَأَنْتَ لاَ تَظْلِمُ؟!. قَالَ: إِنَّهُمْ لَمْ يُعَاجِلُوكَ بِالنَّكَرَةِ»(2).

ص: 389


1- الكافي: ج5 ص57 - 58، كتاب الجهاد، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح6.
2- الكافي: ج5 ص58، كتاب الجهاد، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح7.

..............................

طرد الظالم

مسألة: طرد الظالم وأتباعه واجب في الجملة، والطرد قد يكون طرداً من مكان، وقد يكون طرداً من اعتبار، كالطرد من شركة أو مؤسسة أو نقابة أو منظمة أو حزب أو حكومة أو ما أشبه ذلك، والظاهر أن طردها (عليها السلام) لهم كان طرداً من حضرتها، فلم يكن طرداً مكانياً فحسب وإن استلزمه.

مسألة: يستحب - وربما وجب - بيان أن الصديقة (صلوات الله عليها) قالت للقوم: « إِلَيْكُمْ عَنِّي، فَلا عُذْرَ بَعْدَ تَعْذِيرِكُمْ... ».

فإن إيصال صوتها (عليها السلام) للعالم مسؤولية، وكشف الستار عن أولئك الظلمة بهذا الطريق نوع نهي عنالمنكر.

روى أبو محمد بن مسلم بن قتيبة في تاريخه قصة السقيفة، ومما جاء فيها: ثُمَّ قَامَ ابن الخطاب، فَمَشَى مَعَهُ جَمَاعَةٌ، حَتَّى أَتَوْا بَابَ فَاطِمَةَ (عليه السلام) فَدَقُّوا الْبَابَ، فَلَمَّا سَمِعَتْ أَصْوَاتَهُمْ، نَادَتْ بِأَعْلَى صَوْتِهَا بَاكِيَةً: «يَا رَسُولَ اللهِ، مَاذَا لَقِينَا بَعْدَكَ مِنِ ابْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِ أَبِي قُحَافَةَ». فَلَمَّا سَمِعَ الْقَوْمُ صَوْتَهَا وَبُكَاءَهَا، انْصَرَفُوا بَاكِينَ، فَكَادَتْ قُلُوبُهُمْ تَتَصَدَّعُ، وَأَكْبَادُهُمْ تَتَفَطَّرُ، وَبَقِيَ ابن الخطاب وَمَعَهُ قَوْمٌ، فَأَخْرَجُوا عَلِيّاً، وَمَضَوْا بِهِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ. فَقَالُوا: بَايِعْ. فَقَالَ: «إِنْ أَنَا لَمْ أَفْعَلْ فَمَهْ؟». قَالُوا: إِذاً وَاللهِ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ نَضْرِبَ عُنُقَكَ. قَالَ: «إِذاً تَقْتُلُونَ عَبْدَ اللهِ وَأَخَا رَسُولِهِ». فَقَالَ ابن الخطاب: أَمَّا عَبْدُ اللهُ فَنَعَمْ، وَأَمَّا أَخَا رَسُولِهِ فَلاَ. وَأَبُو بَكْرٍ سَاكِتٌ لا يَتَكَلَّمُ.

ص: 390

..............................

فَقَالَ لَهُ ابن الخطاب: أَ لاَ تَأْمُرُ فِيهِ بِأَمْرِكَ. فَقَالَ: لاَ أُكْرِهُهُ عَلَى شَيْءٍ مَا كَانَتْ فَاطِمَةُ إِلَى جَنْبِهِ.

فَلَحِقَ عَلِيٌّ (عليه السلام) بِقَبْرِ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَصِيحُ وَيَبْكِي وَيُنَادِي: «يَا ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي».فَقَالَ عُمَرُ لأَبِي بَكْرٍ: انْطَلِقْ بِنَا إِلَى فَاطِمَةَ؛ فَإِنَّا قَدْ أَغْضَبْنَاهَا. فَانْطَلَقَا جَمِيعاً فَاسْتَأْذَنَا عَلَى فَاطِمَةَ، فَلَمْ تَأْذَنْ لَهُمَا. فَأَتَيَا عَلِيّاً فَكَلَّمَاهُ، فَأَدْخَلَهُمَا عَلَيْهَا، فَلَمَّا قَعَدَا عِنْدَهَا حَوَّلَتْ وَجْهَهَا إِلَى الْحَائِطِ، فَسَلَّمَا عَلَيْهَا فَلَمْ تَرُدَّ عَلَيْهِمَا السَّلاَمَ. فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: يَا حَبِيبَةَ رَسُولِ اللهِ، وَاللهِ إِنَّ قَرَابَةَ رَسُولِ اللهِ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أَصِلَ مِنْ قَرَابَتِي، وَإِنَّكِ لأَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ عَائِشَةَ ابْنَتِي، وَلَوَدِدْتُ يَوْمَ مَاتَ أَبُوكِ أَنِّي مِتُّ وَلاَ أَبْقَى بَعْدَهُ، أَ فَتَرَانِي أَعْرِفُكِ وَأَعْرِفُ فَضْلَكِ وَشَرَفَكِ، وَأَمْنَعُكِ حَقَّكِ وَمِيرَاثَكِ مِنْ رَسُولِ اللهِ، إِلاَّ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ: نَحْنُ مَعَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ لاَ نُورَثُ، وَمَا تَرَكْنَاهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ!.

فَقَالَتْ: «أَرَأَيْتَكُمَا إِنْ حَدَّثْتُكُمَا حَدِيثاً مِنْ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) أَتَعْرِفَانِهِ وَتَعْقِلاَنِهِ؟». قَالاَ: نَعَمْ. فَقَالَتْ: «نَشَدْتُكُمَا بِاللهِ، أَ لَمْ تَسْمَعَا مِنْ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ: رِضَا فَاطِمَةَ مِنْ رِضَايَ، وَسَخَطُ فَاطِمَةَ مِنْ سَخَطِي، وَمَنْ أَحَبَّ فَاطِمَةَ ابْنَتِي فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَرْضَى فَاطِمَةَ فَقَدْ أَرْضَانِي، وَمَنْ أَسْخَطَ فَاطِمَةَ فَقَدْ أَسْخَطَنِي». قَالاَ: نَعَمْ سَمِعْنَاهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله).

قَالَتْ: «فَإِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ، أَنَّكُمَا أَسْخَطْتُمَانِي وَمَا أَرْضَيْتُمَانِي، وَلَئِنْلَقِيتُ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) لأَشْكُوَنَّكُمَا إِلَيْهِ».

ص: 391

..............................

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: عَائِذاً بِاللهِ مِنْ سَخَطِهِ وَسَخَطِكِ يَا فَاطِمَةُ. ثُمَّ انْتَحَبَ أَبُو بَكْرٍ بَاكِياً، يَكَادُ نَفْسُهُ أَنْ تَزْهَقَ، وَهِيَ تَقُولُ: «وَاللهِ لأَدْعُوَنَّ اللهَ عَلَيْكَ فِي كُلِّ صَلاَةٍ أُصَلِّيهَا»(1).

إعراضها عن القوم

قول الصديقة (عليها السلام): «فَلا عُذْرَ بَعْدَ تَعْذِيرِكُمْ»، التعذير هو التقصير كما في (المجمع)(2)، والتعذير في الأمر التقصير فيه(3).

وقالوا: عذر يعذر تعذيراً: أي لم يتم ولم يثبت له عذر، وذلك إذا لم يأتِ بعذر صحيح صادق.

فقولها (عليها السلام) بمعنى أنه لاالبطلان، فأعذاركم كاذبة، وأقوالكم باطلة.

أو بمعنى أنه لا عذر لكم بعد أن عذرتكم في المسجد وفي غيره، فقد أقمت عليكم الحجة وأتممتها عليكم ولم أترك لأحد عذراً.

وفي الحديث: «لَقَدْ أَعْذَرَ اللهُ مَنْ بَلَغَ مِنَ العُمْرِ سِتِّينَ سَنَةً»(4). أَي لم يُبْقِ فيه موضعاً للاعْتِذارِ، حيث أَمْهَلَه طُولَ هذه المدة.

ص: 392


1- بحار الأنوار: ج 28 ص356 - 358، كتاب الفتن والمحن، باب 4 شرح انعقاد السقيفة وكيفية السقيفة، تبيين، ح69.
2- مجمع البحرين: ج3 ص400، كتاب الراء، باب ما أوله العين، عذر.
3- لسان العرب: ج4 ص456، حرف الراء، فصل العين المهملة، مادة عذر.
4- النهاية في غريب الحديث والأثر: ج3 ص196، حرف العين، باب العين مع الذال، عذر.

..............................

من التعذير الباطل

عن عمرو بن ميمون، قال: (كنت شاهداً لعمر يوم طعن - فذكر حديثاً طويلاً ثم قال - قال عمر: ادعوا لي علياً وعثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص. فلم يكلَّم أحداً منهم غير علي وعثمان. فقال: يا علي، لعل هؤلاء سيعرفون لك قرابتك من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وصهرك، وما أنالك الله من الفقه والعلم، فإن وليت هذا الأمر فاتق الله فيه. ثم دعا بعثمان فقال: يا عثمان، لعل هؤلاء القوم يعرفون لك صهرك من رسول اللهتحمل آل أبي معيط على رقاب الناس. ثم قال: ادعوا لي صهيباً. فدعي، فقال: صل بالناس ثلاثاً، وليخل هؤلاء النفر في بيت، فإذا اجتمعوا على رجل منهم، فمن خالفهم فاضربوا رأسه. فلما خرجوا من عند عمر، قال : إن ولَّوها الأجلح سلك بهم الطريق. قال ابن عمر: فما يمنعك منه يا أمير؟، قال: أكره أن أتحملها حياً وميتاً)(1).

وفي رواية أخرى: (قال: لوليتها عثمان لحمل آل أبي معيط على رقاب الناس. والله لو فعلت لفعل، ولو فعل لأوشكوا أن يسيروا إليه حتى يجزوا رأسه. فقالوا: علي؟. قال: رجل قعدد. قالوا: طلحة؟. قال: ذاك رجل فيه بأو. قالوا: الزبير؟. قال: ليس هناك. قالوا: سعد؟. قال: صاحب فرس وقوس. فقالوا: عبد الرحمن بن عوف؟. قال: ذاك فيه إمساك شديد، ولا يصلح لهذا الأمر إلا معط في غير سرف، وممسك في غير تقتير)(2) .

ص: 393


1- أنساب الأشراف للبلاذري: ج5 ص501، أمر الشورى وبيعة عثمان، ح1290.
2- كتاب الآثار - القاضي أبو يوسف الأنصاري: ص217.

..............................

وعن ابن عباس، قال: (قال عمر: لا أدري ما أصنع بأمة محمد - وذلك قبليعني علياً -. قلت: نعم، هو أهل لها في قرابته برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وصهره وسابقته وبلائه. فقال عمر: إن فيه بطالة وفكاهة...)(1).

وعن الأسود بن يزيد، قال: (قلت لعائشة: أ لا تعجبين من رجل من الطلقاء ينازع أصحاب محمد في الخلافة. قالت: وما تعجب من ذلك، هو سلطان الله يؤتيه البر والفاجر، وقد ملك فرعون أهل مصر أربعمائة سنة)(2).

وأخرج الدارقطني عن مروان بن الحكم، أنه قال: (ما كان أحد أدفع عن عثمان من علي. فقيل له: ما لكم تسبونه على المنابر؟!. قال: إنه لا يستقيم لنا الأمر إلاّ بذلك)(3).

وعن أبي إسحاق، قال: (كان شمر بن ذي الجوشن يصلي معنا الفجر، ثم يقعد حتى يصبح، ثم يصلي فيقول: اللهم إنك شريف تحب الشرف، وأنت تعلم أني شريف، فاغفر لي. فقلت: كيف يغفر الله لك، وقدوآله) فأعنت على قتله. قال: ويحك فكيف نصنع. إن أمراءنا هؤلاء أمرونا بأمر فلم نخالفهم، ولو خالفناهم كنا شراً من هذه الحمر)(4).

ص: 394


1- أنساب الأشراف للبلاذري: ج5 ص501، أمر الشورى وبيعة عثمان، ح1291.
2- الدر المنثور: ج6 ص19، سورة حم الزخرف.
3- الصواعق المحرقة: ص55، الباب الثاني.
4- تاريخ الإسلام للذهبي: ج5 ص126، شمر بن ذي الجوشن.

..............................

وحدث صخر بن جويرية، عن نافع، قال: (لما خلع الناس يزيد بن معاوية، جمع ابن عمر بنيه وأهله، ثم تشهد ثم قال: أما بعد، فإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله، وإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة، يقال: هذه غدرة فلان. وإن من أعظم الغدر أن لا يكون له الإشراك بالله تعالى، أن يبايع رجل رجلاً على بيع الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) ثم ينكث بيعته، فلا يخلعن أحد منكم يزيد، ولا يشرفن أحد منكم في هذا الأمر، فيكون (صلى الله عليه وآله) بيني وبينه)(1).

وقال عبد الله بن عمرِو بن العاص لأبيه عمرو - حين قُتل عمار -: أ قتلتمما قال؟!. فقال عمرو لمعاوية: أ تسمع ما يقول عبد الله؟. فقال: إنما قتله من جاء به. فسمعه أهل الشام فقالوا إنما قتله من جاء به. فبلغت علياً (عليه السلام)، فقال: «أ يكون النبي (صلى الله عليه وآله) قاتل حمزة (رضي الله عنه)؛ لأنه جاء به»(2).

وعن عبد الله بن الحرث، قال: (إني لأسير مع معاوية في منصرفه من صفين بينه وبين عمرو بن العاص. قال: فقال عبد الله بن عمرو بن العاصي: يا أبت، ما سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول لعمار: ويحك يا ابن سمية تقتلك الفئة الباغية. قال: فقال عمرو لمعاوية: أ لا تسمع ما يقول هذا!. فقال معاوية: لا تزال تأتينا بهنة، أنحن قتلناه، إنما قتله الذين جاؤوا به)(3).

ص: 395


1- مسند أحمد: ج2 ص48، مسند عبد الله بن عمر بن الخطاب.
2- تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني: ج7 ص359، ترجمة رقم665 عمار بن ياسر.
3- مسند أحمد: ج2 ص161، مسند عبد الله بن عمرو بن العاص.

وَلا أَمْرَ بَعْدَ تَقْصِيرِكُمْ».

اشارة

-------------------------------------------

مسائل في التقصير

قول الصديقة (عليها السلام): «وَلا أَمْرَ بَعْدَ تَقْصِيرِكُمْ»، أي: لا أمر لي عليكم،الأولى الإعراض عنكم وطردكم بعد تلك المواقف المخزية منكم، وذلك الخذلان الغريب لأهل بيت نبيكم (صلى الله عليه وآله).

مسألة: التقصير في الواجبات محرم، من باب المقدمية، وهل التقصير في المستحبات مكروه؟.

مسألة: لو قصر في الواجب استحق العقوبة، حتى إذا خرج الواجب بعدئذٍ عن قدرته، فإن ما بالاختيار لا ينافي الاختيار.

مسألة: التقصير في أصول الدين مما يستوجب عليه النار، وأما لواحقها(1) فحسب الأدلة، وأنه من ضروريات الدين أم لا.

مسألة: إزالة العذر واجبة في الجملة، وهي قد تكون بالقول، وقد تكون بالعمل، كتمهيد مقدمات تؤدي إلى ذلك، وهي في زماننا كثيرة ومتشابكة، وقد ذكرنا قسماً منها في (السبيل) و(الصياغة) و(الممارسة)(2).

ص: 396


1- كتفاصيل الحشر والنشر وعذاب القبر والبعث الجسماني وغيرها.
2- ومنها: التنظيم المرجعي والنقابات والاتحادات، ومنها: تعدد الأحزاب الحرة المتنافسة على الوصول للحكم، لأجل خير الناس وصلاحهم، ومنها: تأسيس لجان تزويج العزاب وإصلاح ذات البين والإقراض الخيري .. وغير ذلك.

..............................

مسألة: إقامة العذر الباطل محرم، وربما كانت الأعذار مقدمة محرم.

مسألة: لا يقبل عذر بعد تعذير.

مسألة: لا أمر بعد تقصير.

وربما يعلم من كلام الصديقة (صلوات الله عليها) ها هنا أن الجاهل المقصر في حكم العالم.

هذا فيما إذا كانوا جاهلين جهلاً تقصيرياً فرضاً، أما إذا كانوا عالمين، فالتقصير يراد به هنا: التقصير والتهاون والتخاذل عن نصرتها ونصرة بعلها علي أمير المؤمنين (عليه السلام) رغم علمهم بالحق.

من دعاء الإمام زين العابدين (عليه السلام): «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَجَنِّبْنَا الإِلْحَادَ فِي تَوْحِيدِكَ، وَالْتَّقْصِيرَ فِي تَمْجِيدِكَ، وَالشَّكَّ فِي دِينِكَ، وَالْعَمَى عَنْ سَبِيلِكَ، وَالإِغْفَالَ لِحُرْمَتِكَ، وَالاِنْخِدَاعَ لِعَدُوِّكَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ»(1).ومن دعاء الإمام السجاد (عليه السلام): «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِنْ مَظْلُومٍ ظُلِمَ بِحَضْرَتِي فَلَمْ أَنْصُرْهُ، وَمِنْ مَعْرُوفٍ أُسْدِيَ إِلَيَّ فَلَمْ أَشْكُرْهُ، وَمِنْ مُسِيءٍ اعْتَذَرَ إِلَيَّ فَلَمْ أَعْذِرْهُ، وَمِنْ ذِي فَاقَةٍ سَأَلَنِي فَلَمْ أُوثِرْهُ، وَمِنْ حَقِّ ذِي حَقٍّ لَزِمَنِي لِمُؤْمِنٍ فَلَمْ أُوَفِّرْهُ، وَمِنْ عَيْبِ مُؤْمِنٍ ظَهَرَ لِي فَلَمْ أَسْتُرْهُ، وَمِنْ كُلِّ إِثْمٍ عَرَضَ لِي فَلَمْ أَهْجُرْهُ. أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ - يَا إِلَهِي - مِنْهُنَّ وَمِنْ نَظَائِرِهِنَّ اعْتِذَارَ نَدَامَةٍ، يَكُونُ وَاعِظاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنْ أَشْبَاهِهِنَّ. فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَاجْعَلْ نَدَامَتِي عَلَى مَا

ص: 397


1- الصحيفة السجادية: ص190، دعاء رقم 44 وكان من دعائه (عليه السلام) إذا دخل شهر رمضان.

..............................

وَقَعْتُ فِيهِ مِنَ الزَّلاَّتِ، وَعَزْمِي عَلَى تَرْكِ مَا يَعْرِضُ لِي مِنَ السَّيِّئَاتِ، تَوْبَةً تُوجِبُ لِي مَحَبَّتَكَ، يَا مُحِبَّ التَّوَّابِينَ»(1).

وقال الإمام العسكري (عليه السلام): «فَأَمَّا الطَّرِيقُ الْمُسْتَقِيمُ فِي الدُّنْيَا، فَهُوَ مَا قَصُرَ عَنِ الْعُلُوِّ، وَارْتَفَعَ عَنِ التَّقْصِيرِ، وَاسْتَقَامَ فَلَمْ يَعْدِلْ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْبَاطِلِ»(2).وقال الإمام العسكري (عليه السلام): «فَاتَّقُوا اللهَ وَلاَ تَتَعَرَّضُوا لِمَقْتِ اللهِ بِتَرْكِ التَّقِيَّةِ وَالتَّقْصِيرِ فِي حُقُوقِ إِخْوَانِكُمُ الْمُؤْمِنِينَ»(3).

وعن عيسى بن السري، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أَخْبِرْنِي عَنْ دَعَائِمِ الإِسْلاَمِ، الَّتِي عَلَيْهَا لاَ يَسَعُ أَحَداً مِنَ النَّاسِ التَّقْصِيرُ عَنْ مَعْرِفَةِ شَيْءٍ مِنْهَا، الَّتِي مَنْ قَصَّرَ عَنْ مَعْرِفَةِ شَيْءٍ مِنْهَا فَسَدَتْ عَلَيْهِ دِينُهُ، وَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ عَمَلُهُ، وَمَنْ عَرَفَهَا وَعَمِلَ بِهَا صَلَحَ لَهُ دِينُهُ، وَقُبِلَ مِنْهُ عَمَلُهُ، وَلَمْ يُضَيَّقْ مَا هُوَ فِيهِ بِحَمْلِ شَيْءٍ جَهِلَهُ؟. قَالَ: «شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَالإِيمَانُ بِرَسُولِهِ، وَالإِقْرَارُ بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَالزَّكَاةُ، وَالْوَلاَيَةُ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بِهَا، وَهِيَ وَلاَيَةُ آلِ مُحَمَّدٍ (عليهم السلام)».

ص: 398


1- الصحيفة السجادية: ص166، دعاء رقم38 وكان من دعائه (عليه السلام) في الاعتذار من تبعات العباد ومن التقصير في حقوقهم وفي فكاك رقبته من النار.
2- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): ص44، سورة الفاتحة: آية 6، ح20.
3- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): ص574، سورة البقرة: آية 163، ح337.

..............................

قال: قُلْتُ: هَلْ فِي الْوَلاَيَةِ شَيْءٌ دُونَ شَيْءٍ فَضْلٌ يُعْرَفُ لِمَنْ أَخَذَ بِهِ؟. قال: «نَعَمْ، قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَوَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ»(1)، فَكَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (عَلَيْهِمُ السَّلامُ وَالتَّحِيَّة)»(2).

الأمر بالمعروف وشرط التأثير

مسألة: واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يسقط إذا قام به المكلف، فيما لو يئس من التأثير بالتكرار، فإن الصديقة (صلوات الله عليها) كانت كذلك فأمرتهم ونهتم ولكن بعد ذلك تركتهم، حيث كان الخوف والجبن والحرص على الدنيا قد غلب على أولئك القوم مما لم يكن يرجى معه لهم الإنابة والتوبة والعودة إلى الصواب.

عن غياث بن إبراهيم، قال: كَانَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) إِذَا مَرَّ بِجَمَاعَةٍ يَخْتَصِمُونَ، لاَ يَجُوزُهُمْ حَتَّى يَقُولَ ثَلاَثاً: «اتَّقُوا اللهَ»، يَرْفَعُ بِهَا صَوْتَهُ(3).

وعن محمد بن عرفة، قال: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ الرِّضَا (عليه

السلام) يَقُولُ: «كَانَرَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ:إِذَا أُمَّتِي تَوَاكَلَتِ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ

ص: 399


1- سورة النساء: 59.
2- تفسير فرات الكوفي: ص109، سورة النساء: آية 59، ح111.
3- الكافي: ج5 ص59، كتاب الجهاد، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح12.

..............................

عَنِ الْمُنْكَرِ، فَلْيَأْذَنُوا بِوِقَاعٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى»(1).

وقال النبي (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَ جَلَّ لَيُبْغِضُ الْمُؤْمِنَ الضَّعِيفَ الَّذِي لاَ دِينَ لَهُ». فَقِيلَ لَهُ: وَمَا الْمُؤْمِنُ الَّذِي لاَ دِينَ لَهُ؟. قَالَ: «الَّذِي لاَ يَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) يَقُولُ - وَسُئِلَ عَنِ الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ - أَوَاجِبٌ هُوَ عَلَى الأُمَّةِ جَمِيعاً؟. فَقَالَ: «لاَ». فَقِيلَ لَهُ: وَلِمَ؟. قَالَ: «إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْقَوِيِّ الْمُطَاعِ الْعَالِمِ بِالْمَعْرُوفِ مِنَ الْمُنْكَرِ، لاَ عَلَى الضَّعِيفِ الَّذِي لاَ يَهْتَدِي سَبِيلاً إِلَى أَيٍّ مِنْ أَيٍّ، يَقُولُ مِنَ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ كِتَابُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ قَوْلُهُ: «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ»(3)، فَهَذَاخَاصٌّ غَيْرُ عَامٍّ، كَمَا قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: «وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ»(4)، وَلَمْ يَقُلْ عَلَى أُمَّةِ مُوسَى، وَلاَ عَلَى كُلِّ قَوْمِهِ، وَهُمْ يَوْمَئِذٍ أُمَمٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَالأُمَّةُ وَاحِدَةٌ فَصَاعِداً، كَمَا قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلهِ»(5)، يَقُولُ مُطِيعاً للهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَيْسَ عَلَى مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْهُدْنَةِ مِنْ حَرَجٍ، إِذَا كَانَ

ص: 400


1- الكافي: ج5 ص59، كتاب الجهاد، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح13.
2- الكافي: ج5 ص59، كتاب الجهاد، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح15.
3- سورة آل عمران: 104.
4- سورة الأعراف: 159.
5- سورة النحل: 120.

..............................

لاَ قُوَّةَ لَهُ وَلاَ عُذْرَ وَلاَ طَاعَةَ». قَالَ مَسْعَدَةُ: وَسَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ - وَسُئِلَ عَنِ الْحَدِيثِ الَّذِي جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله): إِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ إِمَامٍ جَائِرٍ، مَا مَعْنَاهُ؟. قَالَ: «هَذَا عَلَى أَنْ يَأْمُرَهُ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يُقْبَلُ مِنْهُ، وَإِلاَّ فَلاَ»(1).

كشف حقيقة القوم

مسألة: يستحب - وقد يجب - بيان أن القوم لم يكن لهم عذر بعد تعذيرهم، ولا أمر بعد تقصيرهم، حيث إنهم قدسمعوا من الصديقة فاطمة (عليها السلام) الخطبة في المسجد، بالإضافة إلى ما سمعوه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حق الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) مما بلغ حد الاستفاضة بل التواتر.

وقد بايعوا بأنفسهم علياً (عليه السلام) في يوم غدير خم، كما بايع أسيادهم، ومنهم غاصبوا الخلافة، وقالا كما ورد في كتب العامة أيضاً: (بخ بخ لك يا علي أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة) (2).

ولا يلتفت إلى ما يقوله البعض من عدم إثارة القضايا التاريخية الخلافية، فإنه خلاف مقتضى العقل والوجدان والشرع، ولذلك نلاحظ القرآن الكريم قد

ص: 401


1- الكافي: ج5 ص59 - 60، كتاب الجهاد، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح16.
2- راجع: مسند أحمد: ج4 ص281، تاريخ بغداد: ج8 ص290، مناقب ابن المغازلي: ص18، ح24، مناقب الخوارزمي: ص94، تاريخ ابن عساكر - ترجمة الإمام علي (عليه السلام): ج2 ص47 - 52، ح546 و547 و549 و550، تذكرة الخواص: ص36، ذخائر العقبى: ص67.

..............................

تطرق للقضايا التاريخية وللمواجهة بين جبهتي الحق والباطل كثيراً، بل وقد ذكر القرآن الحكيم أسماء الطواغيت كفرعون وهامان وأبي لهبوأوصافهم الدالة عليهم وتبرأ منهم، وقد فصلنا ذلك في موضع آخر لا داعي للتكرار، نعم لابد من مراعاة التقية في مواردها.

وهذا آخر ما أردنا بيانه في الفصل الثاني من هذا الكتاب(1).

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين, والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

قم المقدسة

محمد الشيرازي

ص: 402


1- كان الفصل الأول حديث الكساء وهو المجلد الأول، وكان الفصل الثاني خطبتها (صلوات الله عليها) في المسجد وخطبتها في البيت، وهو الجزء الثاني إلى نهاية السابع، وبعد ذلك يأتي الفصل الثالث في مختلف رواياتها وأحاديثها، وما يستنبط منها من المسائل الفقهية.

الفهرس

المقدمة 5

معنيان للنصيحة 7

شفافية الحاكم 9

الرقابة على الحاكم 13

نصح الشعب 14

التحلي من الدنيا 18

السلطة مطية الحاكم 19

الحاكم وثروة الناس 21

حطام الدنيا 22

الحذر من الدنيا 24

عصمة الإمام (عليه السلام) 24

ضبط الحاكم / الحاكم و ردّ الهدايا 28

الدنيا والاقتصار على الضرورة 31

للحاكم ما يكفيه ليومه 34

شبعة الكافل 35

حرمة الاحتكار 36

كشف حقيقة الحكام 39

علي (عليه السلام) هو الزاهد 40

الزهد ومصاديقه 48

الرغبة في الدنيا 54

ص: 403

الزهد ملكة نفسانية 55

الصادق بقول مطلق 59

من هم الصادقون؟ 63

مسائل في الصدق 65

الخلافة للصادقين 68

القائد وحرمة الكذب 70

القائد والتحلي بالصدق 73

مسائل في الاستشهاد بالآية 76

معنى «أخذناهم» غيبياً ومادياً 77

الجزاء من سنخ العمل 83

عدل الله تعالى 86

أدوات التنبيه والتحضيض 90

عجائب الدهر 94

العجائب وحكمة الخالق 96

الاعتبار من العجائب 98

قرائن العدول عن الظاهر 100

التعجب من المنكر 103

العَجَب المكروه 104

فضح المبطلين 107

ليت شعري 111

عماد القوم 113

لا عروة للقوم 114

الذرية الطاهرة 117

احترام الذرية النبوية 120

من آذى الذرية الطاهرة \ الإيذاء الأشد حرمة 125

حرمة الاستيلاء على الذرية الطاهرة 127

ص: 404

مولى الظالمين وعشيرهم 130

من هو المولى؟ 133

عشير السوء 137

الاضطرار في سوء العشير 140

فرض مولى السوء 142

مصادر الضلالة 142

القيادة والأجواء الصحيحة 145

القيادة الفاسدة والأعوان الفساق

\ معاني المولى والعشير 149

من هم الظالمون؟ 154

قاعدة 156

تقديم المفضول 160

إفهام الناس \ قيادة الكفاءات 169

معنى الذنابى 171

استبدال العجز بالكاهل 173

الشؤون العامة والقيادة الكفوءة 175

استعمال كلمة (رغماً) 177

استهداف الباطل 178

ما فعله القوم من الظلم 180

معنى الرغم والمعاطس 189

شمول الذل 190

رغم المعاطس والخلود في النار 191

رغم المعاطس ما دامت الدنيا 192

هم المفسدون 193

شمولية فسادهم 194

الاقتباس من القرآن 196

أسلوب الربط التاريخي 200

ص: 405

توبيخ الظالم وزجره 204

القائد والهداية إلى الحق 209

لا طاعة مطلقة لغير المعصوم 213

من لا يهدّي لا يتبع 215

اتباع المهتدي طريقي وموضوعي 217

الحلف ب (لعمري) 222

حرمة الشك والتشكيك في كلام الصديقة 225

الأثر الوضعي وأنواعه 227

شمولية الأثر الوضعي 228

الآثار الطولية للأعمال 229

وجوب تحذير الظالم 234

الإمهال وليس الإهمال 238

تغيير المستقبل 239

إنذار القوم 245

من آثار الخذلان 246

شمولية احتلاب الدم فرداً وزمناً 247

وعلى مر التاريخ 248

تبديل نعمة الله 250

تجدد البلاء والمحن 254

إعلام العالم بالحق 257

تغيير منهج الله 259

سم الأجساد وسم الأرواح 261

الدفاع عن العترة الطاهرة 270

حرمة ما يبيد الإنسان 270

خسارة المبطلين ثبوتاً وإثباتاً 271

المبطل الخاسر 274

ص: 406

التاريخ وفضح الظلم والظالمين 278

معرفة تاريخ الأمم 279

الكتابة الواعية 280

الغرور بظاهر الدنيا 282

اطمئنان النفس بالفتنة 287

مستقبل الأمة بعد الرسول 289

إنذار الظالم 291

لا تسكت عن الظالم 294

الضغط والقهر المشروع وغيره 296

الحكم الإسلامي قبل الظهور 301

خلافة الأئمة الطاهرين 302

روايات في الفقر 305

هل الظلم ينافي الرحمة الإلهية؟ 306

لماذا لا يستجاب الدعاء؟ 312

مسائل عن الهرج والمرج 316

حرمة ما يوجب الهرج 318

الهرج من الكبائر 320

شمولية الهرج والمرج 322

الاستبداد من أعظم المحرمات 327

النسبة بين الظالم والمستبد 329

الاستبداد والاقتصاد 330

مما يحرم على الحكام 333

المقاومة السلمية 336

من قُتل دون الفيء 337

حرمة تحطيم الاقتصاد 338

تنويع مصادر الدخل 339

ص: 407

استحباب التحسر على الأمة 341

من طرق الهداية 345

التحسر على المؤمنين 347

إضلال النفس والغير 349

قدرتهم (عليهم السلام) على الإجبار والإكراه 354

الحرية الأصل 357

دور النساء 359

النقل بالمضمون 360

بين الرجال والنساء 362

الاعتذار عن ترك الواجب 367

روايات في الاعتذار 368

سيدة نساء العالمين 371

مريم سيدة نساء عالمها 374

الاستمرار على الباطل 377

نقض بيعة الظالم 384

طرد القوم ولوازمه 386

من يشاققها 386

الوقوف أمام الظالم وصحبه 387

طرد الظالم 390

إعراضها عن القوم 392

من التعذير الباطل 393

مسائل في التقصير 396

الأمر بالمعروف وشرط التأثير 399

كشف حقيقة القوم 401

الفهرس 403

ص: 408

المجلد الثامن : رواياتها (علیها السلام) 1

هوية الكتاب

الفقه

موسوعة استدلالية في الفقه الإسلامي

من فقه الزهراء (علیها السلام)

المجلد الثامن

رواياتها (علیها السلام) 1

المرجع الديني الراحل آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (أعلى الله درجاته)

ص: 1

اشارة

الطبعة الأولى للناشر

1439 ه 2018 م

تهميش وتعليق:

مؤسسة المجتبى للتحقيق والنشر

كربلاء المقدسة

ص: 2

الفقه

من فقه الزهراء (علیها السلام)

المجلد الثامن

رواياتها (علیها السلام)

القسم الأول

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

ولعنة الله على أعدائهم أجمعين

السَّلامُ عَلَيْكِ أَيَّتُهَا الصِّدِيقَةُ الشَّهِيدَةُ

السَّلامُ عَلَيْكِ أَيَّتُهَا الرَّضِيَةُ المَرْضِيَّةُ

السَّلامُ عَلَيْكِ أَيَّتُهَا الْفَاضِلَةُ الزَّكِيَةُ

السَّلامُ عَلَيْكِ أَيَّتُهَا الحَوْراءُ الإِنْسِيَّةُ

السَّلامُ عَلَيْكِ أَيَّتُهَا التَّقِيَّةُ النَّقِيَّةُ

السَّلامُ عَلَيْكِ أَيَّتُهَا المُحَدِّثَةُ العَلِيمَةُ

السَّلامُ عَلَيْكِ أَيَّتُهَا المَظْلُومَةُ المَغْصُوبَةُ

السَّلامُ عَلَيْكِ أَيَّتُهَا المُضْطَهَدَةُ المَقْهُورَةُ

السَّلامُ عَلَيْكِ يا فاطِمَةُ بِنْتَ رَسُولِ اللهِ

وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ

البلد الأمين ص278. مصباح المتهجد ص711

بحار الأنوار ج97 ص195 ب12 ح5 ط بيروت

ص: 4

المقدمة

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين، إلى قيام يوم الدين.

أما بعد، فإن ممن روى عن الصديقة الزهراء (عليها الصلاة والسلام) من المعصومين (عليهم السلام) حسب ما وجدت, ولعلّ المتتبع يجد الأكثر، هم: علي أمير المؤمنين، والحسن، والحسين، والسجاد، والباقر، والصادق، والعسكري (عليهم أفضل الصلاة والسلام).

كيفية رواية المعصومين عن آبائهم

ورواية الأربعة الأواخر (عليهم السلام) عن الصديقة (عليها السلام) إما مباشرة من باب حضورهم، إذ هم (عليهم السلام) خُلقوا قبل الخلق(1)؛ فقد جعلهم الله

ص: 5


1- فقد ورد في الاختصاص عنهم (عليهم السلام): «إن الله خلقنا قبل الخلق بألفي ألف عام، فسبّحنا فسبّحت الملائكة لتسبيحنا». بحار الأنوار: ج25 ص1 ب1 ح2.

سبحانه أنواراً حول عرشه محدقين(1)،

كما في الزيارة الجامعة وغيرها(2), وقد ورد: إن علياً (عليه السلام) كان مع الأنبياء (عليهم السلام) سرّاً، ومع محمد (صلى الله عليه وآله) جهراً(3).وورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: «كنتُ نبياً وآدم بين الماء والطين»(4).

ص: 6


1- وفي زيارة الجامعة: «أشهد أن هذا سابق لكم فيما مضى، وجارٍ لكم فيما بقي، وأن أرواحكم ونوركم وطينتكم واحدة، طابت وطهرت بعضها من بعض، خلقكم الله أنواراً فجعلكم بعرشه محدقين، حتى مَنّ علينا بكم، فجعلكم في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه». من لايحضره الفقيه: ج2 ص613 ح3213 الزيارة الجامعة.
2- من ذلك ما حدثت به حبابة الوالبية حيث قالت له - أي لأبي جعفر (عليه السلام) -: بالذي أخذ ميثاقكم على النبيين أي شيء كنتم في الأظلة؟ قال: «يا حبابة، نوراً بين يدي العرش قبل أن يخلق الله عز وجل آدم (عليه السلام)، وأوحى الله تبارك وتعالى إلينا فسبّحنا فسبّحت الملائكة بتسبيحنا». الهداية الكبرى: ص240 الباب7. وسأل المفضل الإمام الصادقَ (عليه السلام): ما كنتم قبل أن يخلق الله السماوات والأرضين؟ قال (عليه السلام): «كنّا أنواراً حول العرش نسبّح الله ونقدّسه حتى خلق الله سبحانه الملائكة فقال لهم: سبّحوا، فقالوا: يا ربنا لا علم لنا، فقال لنا: سبّحوا، فسبّحنا فسبّحت الملائكة بتسبيحنا». بحار الأنوار: ج25 ص21 ب1 ح34.
3- حلية الأبرار، للسيد هاشم البحراني: ج2 ص17 ب2 ح5 وفيه: «يا علي إن الله أيّد بك النبيين سرّاً، وأيدني بك جهراً».
4- وهو من الأحاديث المشهورة الواردة في كتب الفريقين ومن مصادره: مناقب آل أبي طالب: ج1 ص183 فصل في اللطائف، والجامع الصغير للسيوطي: ج2 ص296 ح6424. كما ورد بألفاظ قريبة منه: قول السائل: متى كنت نبياً؟ قال (صلى الله عليه وآله): «وآدم بين الروح والجسد». أخرجه جماعة منهم: الحاكم وصححه في المستدرك: ج2 ص608، وقريب منه قوله: متى جعلت نبياً؟ .. إلى آخره. كما في مسند أحمد: ج4 ص66، وكذا قوله: متى كتبت نبياً؟.. إلى آخره. كما في مسند أحمد: ج5 ص59 وقد رواه الطبراني كذلك، وهكذا أحاديث أخرى متقاربة اللفظ والمعنى.

إلى غيرها من الروايات الكثيرة المفيدة لهذا الشأن.

وعلى هذا، فربما قد تلّقوا (عليهم السلام) من الصديقة (عليها السلام) مباشرةً بنحو يلائم العطاء والأخذ والتفهيم والتفهّم في ذلك العالم.

وقد يكون سماعاً، أو إلقاءً في القلب، أو غيرها(1).وإما من باب علمهم (عليهم السلام) بما كان(2).

وإما من باب التسلسل عن آبائهم (عليهم السلام)، وإن حذفوا السند, كما قال (عليه السلام): «حديثي عن أبي عن جدي ..»(3).

ص: 7


1- وكما في الرؤى الصادقة، فإنها تكون بشروطها حجة، وكما في الرواية بالإجازة عن مصحفها (عليها السلام) الذي كتبه أمير المؤمنين (عليه السلام) بإملاء منها، والذي كان عند الأئمة (عليهم السلام)، وكما عن طريق روح القدس الموكّل بهم، فقد جاء في رواية ولادة الإمام المهدي (عليه السلام): قالت حكيمة (عليها السلام): قلت فما هذا الطير؟ قال (عليه السلام): «هذا روح القدس الموكّل بالأئمة (عليهم السلام) يوفّقهم ويسدّدهم ويربّيهم العلم». مدينة المعاجز: ج8 ص19، إلى غيرها من الاحتمالات.
2- فقد روى الشيخ الجليل الثقة محمد بن الحسن الصفّار وغيره جملةً من الأحاديث في هذا الباب، ومن ذلك ما رواه الصفّار في بصائره: ج3 ص147148 الباب السادس (في علم الأئمة بما في السماوات والأرض والجنة والنار وما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة) وفيه ستة أحاديث، وفي ص149150 الباب السابع (في الأئمة عليهم السلام أنهم أُعطوا علم ما مضى وما بقي إلى يوم القيامة) وفيه أربعة أحاديث، فراجع، وغيرها فيه وفي غيره.
3- فعن هشام بن سالم وحماد بن عثمان وغيرهما قالوا: سمعنا أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين (عليه السلام)، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحديث رسول الله قول الله عزوجل». الكافي: ج1 ص53 باب رواية الكتب والحديث وفضل الكتابة والتمسّك بالكتب ح14.

ويحتمل فيه ظاهره(1)، كما يحتمل نقل بعضهم لبعض بطرق أخرى غير السماع، كما لعلّه يستظهر من بعض الأحاديث(2). وإما من باب أنهم (عليهم السلام) سمعوا عن مثل جابر، كما نُصّ بذلك في بعض الروايات(3)، وحذفوا

ص: 8


1- من سماعهم عن آبائهم (عليهم السلام) كلّما نقلوه عنهم.
2- مثل: ما ورد من أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وضع لسانه في فم علي (صلوات الله عليه) فنقل إليه علومه، وقد ورد في حديث كيفية ولادة أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه: «وضع رسول الله (صلى الله عليه وآله) لسانه في فيه، فانفجرت اثنتا عشرة عيناً، قال: فسمي ذلك اليوم يوم التروية». بحار الأنوار: ج35 ص18 ب1 ح14. ومثل ذلك حصل مع الحسين (عليه السلام)، فقد ورد أنه: «كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يأتيه في كل يوم فيضع لسانه في فم الحسين (عليه السلام) فيمصه حتى يروى، فأنبت الله تعالى لحمه من لحم رسول الله (صلى الله عليه وآله)». علل الشرائع: ج1 ص206 ب156 ح3.
3- وربما كان من أسباب روايتهم (عليهم السلام) عن بعض أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) الأخيار: لكراماته وجلالته عندهم، وليقبل حديثهم بين الناس خصوصاً مع تشدّد العامة في مسألة الأسانيد وعدم اعتقادهم بعصمة الائمة (عليهم السلام)، ويدّل على ذلك ما رواه الشيخ الكليني في الكافي: ج1 ص469470 باب مولد أبي جعفر محمد بن علي (عليهما السلام) ح2، بإسناده عن أبان بن تغلب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إن جابر بن عبد الله الأنصاري كان آخر من بقي من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكان رجلاً منقطعاً إلينا أهل البيت، وكان يقعد في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو معتجر بعمامة سوداء، وكان ينادي: يا باقر العلم، يا باقر العلم، فكان أهل المدينة يقولون: جابر يهجر، فكان يقول: لا والله ما أهجر، ولكني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: إنك ستدرك رجلاً مني اسمه اسمي، وشمائله شمائلي، يبقر العلم بقراً، فذاك الذي دعاني إلى ما أقول. قال: فبينا جابر يتردد ذات يوم في بعض طرق المدينة إذ مرّ بطريق في ذاك الطريق كُتّاب فيه محمد بن علي (عليه السلام) فلما نظر إليه قال: يا غلام أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، ثم قال: شمائل رسول الله (صلى الله عليه وآله) والذي نفسي بيده، يا غلام ما اسمك؟ قال: اسمي محمد بن علي بن الحسين، فأقبل عليه يقبل رأسه ويقول: بأبي أنت وأمي، أبوك رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقرؤك السلام ويقول ذلك .. فكان محمد بن علي (عليه السلام) يأتيه على وجه الكرامة لصحبته لرسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: فجلس (عليه السلام) يحدثهم عن الله تبارك وتعالى، فقال أهل المدينة: ما رأينا أحداً أجرأ من هذا؟! فلما رأى ما يقولون حدثهم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال أهل المدينة: ما رأينا أحداً قط أكذب من هذا يحدثنا عمن لم يره؟! فلما رأى ما يقولون حدثهم عن جابر بن عبد الله، قال: فصدّقوه، وكان جابر بن عبد الله يأتيه فيتعلم منه».

السند. إلى غيرذلك من المحتملات(1).ذلك من المحتملات(2).وأيضاً من الرواة عن الصديقة فاطمة (عليها السلام): السيدة خديجة أم

ص: 9


1- كاطّلاعهم (عليهم السلام) على أحاديث الصديقة (صلوات الله عليها) عن طريق النكت في القلوب أو النقر في الأسماع أو عن طريق عمود النور، كما دلّت الروايات على ذلك. روي عن محمد بن الفضيل، قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام): روينا عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: «إن علمنا غابر ومزبور، ونكت في القلب، ونقر في الأسماع، قال: فأما الغابر فما تقدم من علمنا، وأما المزبور فما يأتينا، وأما النكت في القلوب فالهام، وأما النقر في الأسماع فإنه من الملك». وروي عن علي السائي، قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن مبلغ علمهم. فقال (عليه السلام): «مبلغ علمنا ثلاث وجوه: ماضٍ وغابر وحادث، فأما الماضي فمفسر، وأما الغابر فمزبور، وأما الحادث فقذف في القلوب ونقر في الأسماع، وهو أفضل علمنا ولا نبي بعد نبينا». بصائر الدرجات: ج7 ص238239 ب4 ح2و3. وروي عن إسحاق بن عمار قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) أودعه، فقال: «اجلس شبه المغضب»، ثم قال: «يا إسحاق كأنك ترى أنا من هذا الخلق، أما علمت أن الإمام منّا بعد الإمام يسمع في بطن أمه، فإذا وضعته أمه كتب الله على عضده الأيمن: وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم، فإذا شبّ وترعرع نصب له عمود من السماء إلى الأرض ينظر به إلى أعمال العباد». بصائر الدرجات: ج7 ص453454 ب7 ح9.
2- كاطّلاعهم (عليهم السلام) على أحاديث الصديقة (صلوات الله عليها) عن طريق النكت في القلوب أو النقر في الأسماع أو عن طريق عمود النور، كما دلّت الروايات على ذلك. روي عن محمد بن الفضيل، قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام): روينا عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: «إن علمنا غابر ومزبور، ونكت في القلب، ونقر في الأسماع، قال: فأما الغابر فما تقدم من علمنا، وأما المزبور فما يأتينا، وأما النكت في القلوب فالهام، وأما النقر في الأسماع فإنه من الملك». وروي عن علي السائي، قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن مبلغ علمهم. فقال (عليه السلام): «مبلغ علمنا ثلاث وجوه: ماضٍ وغابر وحادث، فأما الماضي فمفسر، وأما الغابر فمزبور، وأما الحادث فقذف في القلوب ونقر في الأسماع، وهو أفضل علمنا ولا نبي بعد نبينا». بصائر الدرجات: ج7 ص238239 ب4 ح2و3. وروي عن إسحاق بن عمار قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) أودعه، فقال: «اجلس شبه المغضب»، ثم قال: «يا إسحاق كأنك ترى أنا من هذا الخلق، أما علمت أن الإمام منّا بعد الإمام يسمع في بطن أمه، فإذا وضعته أمه كتب الله على عضده الأيمن: وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم، فإذا شبّ وترعرع نصب له عمود من السماء إلى الأرض ينظر به إلى أعمال العباد». بصائر الدرجات: ج7 ص453454 ب7 ح9.

المؤمنين (عليها السلام)، والسيدة زينب بنت علي (عليه السلام)، وأبو ذر، وابن أبي مليكة، وأبو أيوب الأنصاري، وأبو سعيد الخدري، وأبو هريرة، وأبو عمرو، وأنس بن مالك، وأسماء بنت عميس، وأم سلمة، وأم كلثوم, وبشر بن زيد, وجابر بن عبد الله الأنصاري، والحكم بن أبي نعيم, وربعي بن فراش، وزينب بنت أبي رافع، وسلمان الفارسي، وسهل بن سعد الأنصاري, والساعدي، وشبيب بن أبي رافع، والعباس بن عبد المطلب، وعبد الله بن الحسن، وعبد الله بن العباس، وعبد الله بن مسعود، وعمار بن ياسر، وعائشة بنت أبي بكر، وعائشة بنت طلحة، وعوامة بن الحكم، وفاطمة بنت الحسين (عليها السلام)، والقاسم بن أبي سعيد الخدري, ونساء المهاجرين والأنصار حيث عدنها في مرضها وروين عنها, وهارون بن خارجة، وهشام بن محمد، ويزيد بن عبد الملك، وغيرهم(1).والتفصيل في العوالم والبحار وغيرهما من المجاميع وغيرها.

وفي هذا الفصل نذكر بعض الروايات المروية عن الصديقة فاطمة (عليها السلام) وما تيسر من الاستنباط الفقهي منها، فإنها (عليها السلام) الحجة على الحجج (عليهم السلام).

قم المقدسة

محمد الشيرازي

ص: 10


1- أقول: كعمرو بن أبي الشريك أو عمرو بن الشريد. انظر (وسائل الشيعة): ج5 ص88 ب52 من أبواب أحكام الملابس ح2. ومثل: الحسن بن الحسن. انظر (مسند أحمد): ج6 ص283، وجعفر بن عمرو بن أمية. نفس المصدر، وسلمى أم رافع زوج أبي رافع ، انظر (تهذيب الكمال): ج35 ص248، وغيرهم، وإن يظهر من بعضهم الرفع إليها (صلوات الله عليها).

يا أماه لا تحزني

اشارة

قالت خديجة (عليها السلام): «وا خيبة من كذّب محمداً (صلى الله عليه وآله)، وهو خير رسول ونبي, فنادت فاطمة (عليها السلام) من بطنها: يا أُماه لا تحزني, ولا ترهبي, فإن الله مع أبي»(1).

-------------------------------------------

تسلية المحزون

مسألة: يستحب تسلية المحزون، تأسّياً بفاطمة الزهراء (عليها السلام)، إذ سلّمتعلى أُمها، أو لغير ذلك(2).

ص: 11


1- وبداية هذا الحديث نقله المرجع الكبير السيد المرعشي (رحمه الله) عن العلامة الشيخ عبد الله الحنفي المتوفى بعد سنة 800ه في كتاب (الرقائق) المعروف بالإخوانيات: ص 250 مخطوط، قال: وروي عن بعض الرواة الكرام أن خديجة الكبرى (عليها السلام) تمنّت يوماً من الأيام على سيد الأنام أن تنظر إلى بعض فاكهة دار السلام، فجاء جبرئيل إلى المفضّل على الكونين بتفاحتين. وقال: يا محمد يقول لك من جعل لكل شيء قدراً: كُلْ واحدة وأَطعمْ الأخرى لخديجة الكبرى وأَغشها، فإني خالق منكما فاطمة الزهراء، ففعل المختار ما أشار به الأمين وأمره، فلما سأله الكفار أن يريهم انشقاق القمر وقد بان لخديجة حملها بفاطمة وظهر، قالت خديجة: «واخيبة من كذّب محمداً، وهو خير رسول ونبي، فنادت فاطمة من بطنها: يا أماه لاتحزني ولا ترهبي فإن الله مع أبي ..». شرح إحقاق الحق: ج4 ص474475.
2- لما في تسلية المحزون من عناوين عامة مستحبة، بل وأحياناً قد تكون واجبة، من نصرة المؤمنين وإدخال الفرح في قلوبهم وغير ذلك.

روي أن داود (عليه السلام) قال: «إلهي ما جزاء من يعزي الحزين على المصاب ابتغاء مرضاتك، قال: جزاؤه أن أكسوه رداء من أردية الإيمان أستره به من النار»(1).

وروي أن إبراهيم (عليه السلام) سأل ربه فقال: «أي رب ما جزاء من بَلَّ الدمع وجهه من خشيتك، قال: صلواتي ورضواني، قال: فما جزاء من يُصبّر الحزين ابتغاء وجهك، قال: اكسوه ثياباً من الإيمان يتبوأ بها الجنة، ويتقي بها النار»(2).

و(العمل) وإن كان لا جهة له، إلاّ أنه قد يكون ذا جهة بالقرائن الحالية.

ثم إن نفي الحجة عنه لا يراد به النفي المطلق، بل مطلق النفي؛ إذ عمل المعصوم (عليه السلام) له جهة من حيثنفيه الحرمة بل والكراهة بل والإباحة، نعم لا جهة له من حيث الوجوب والندب، كما قد لا تكون له جهة من حيث العنوان الأولي أو الثانوي، والمرجع عندئذٍ القواعد والأصول.

وهذا الاستحباب إنما هو في الحزن الحق لا الباطل، فتأمل.

فالأول: كالحزن على الدين أو الدنيا الصحيحة.

والثاني: كالحزن على دنيا فاسدة، كمن يحزن لفوت خمر أو بغاء أو قمار أو قتل محرم، مما يدل على سوء سريرته، وليس لحزنه هذا ثواب، ولا تستحب تسليته.

وقد وردت الروايات بأجر المحزون على أمر مشروع ديناً أو دنياً.

ص: 12


1- مستدرك الوسائل: ج2 ص349 ب40 من أبواب الدفن وما يناسبه ح8.
2- مستدرك الوسائل: ج2 ص349 ب40 من أبواب الدفن وما يناسبه ح9.

عن النبي (صلى الله عليه وآله): أنه سُئل ما بلغ وجد يعقوب على ابنه (عليهما السلام) قال: «وجد سبعين ثكلى». قيل: فما كان له من الأجر، قال: «أجر مائة شهيد، وما ساء ظنه بالله ساعة من ليل أو نهار»(1).وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): «من طال حزنه على نفسه في الدنيا، أقرّ الله عينه يوم القيامة وأحلّه دار المقامة»(2).

وعن عمار الدهني، قال: سمعت علي بن الحسين (عليهما السلام) يقول: «إن الله يحب كل قلب حزين»(3).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «نفس المهموم لنا، المغتم لمظلمتنا تسبيح، وهمّه لأمرنا عبادة»(4).

تسلية الكافر

فرع: هل يستحب تسلية الكافر المحزون على الدنيا حزناً غير محرم؟

لا يبعد الجواز، بل الاستحباب, لملاك الإطلاقات، مثل قوله تعالى:

«لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ

ص: 13


1- الدر المنثور: ج4 ص31، والظاهر أن أساس حزن النبي يعقوب على يوسف (عليهما السلام) كان أيضاً على عدم معرفة أخوته لقدره لكونه نبياً كريماً على الله، فحزنه حزن على الدين والنبوة، والله العالم.
2- عيون الحكم والمواعظ: ص427 الباب24 حرف الميم الفصل الأول: (مَن).
3- الكافي: ج2 ص99 باب الشكر ح30.
4- وسائل الشيعة: ج16 ص249 ب34 من أبواب الأمر والنهي ح10.

تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ»(1).وقوله (صلى الله عليه وآله): «لكل كبد حراء(2) أجر»(3)، وما أشبه ذلك.

التسلية على الباطل

فرع: وهل تستحب تسليته على الباطل عندنا والصحيح عنده، من باب قاعدة الإلزام؟

الظاهر: لا، لأنهم مكلّفون بالفروع كتكليفهم بالأصول، وقاعدة الإلزام لا تسري للقابل بل لا تشمل الفاعل، أما قاعدة الإمضاء فلا تشمل القابل منطوقاً، والملازمة(4) ممنوعة ولو للإنصراف.

التسلية الفعلية

فرع: ثم إن التسلية كما تحصل بالقول، كذلك تحصل بالفعل، لأنه من

ص: 14


1- سورة الممتحنة: 8.
2- لفظ (حرّاء) وإن ورد في بعض المصادر الفقهية، إلا أن الصحيح (حرّى)، لأنه مؤنث حرّان، وهو شديد العطش، كما في كتب اللغة، قال الشيخ الطريحي في مجمع البحرين: ج1 ص486 باب حرّى: (والحرّان: العطشان، والأنثى حرّى مثل عطشان وعطشى. ومنه الحديث: (أفضل الصدقة إبراد كبد حرّى)، و(لكل كبد حرّى أجر)، والمعنى أن في سقي كل كبد حرّى أجر، وقيل: أراد بالكبد الحرّى حياة صاحبها، لأنه إنما يكون كبد حرّى إذا كان فيه حياة، والمعنى أن في سقي كل ذي روح من الحيوان أجر) انتهى. هذا فضلاً عن ورود لفظ (حرّى) في بعض النصوص.
3- غوالي اللئالي: ج1 ص95 الفصل6 ح3.
4- لعلّ المراد: الملازمة بين جوازه له عندنا، أي إمضاء فعله، وبين صحة التسلية وشبهها.

مصاديقه، كغيره مما أشبه(1)، نعم خُرّج في الشرع الفعل في بعض الموارد حيث لايسدّ مسدّ القول، كالنكاح والطلاق فلا ينعقد إلاّ بالقول, في غير الأخرس ونحوه(2)، وقد ورد: «إنما يُحلّل الكلام ويُحرّم الكلام»(3).

كما أنه يلزم أن يكون كل من القول والفعل مصداقاً, فإذا قال: (بعتُ) مريداً به الصلح، أو (طلقتكما) مريداً به الواحدة، أو بالعكس, لم يصح على ما هو المذكور في الفقه.

وكذلك الفعل, كما إذا وضع يده على الحائط مريداً به البيع، إلاّ إذا صار ذلك إشارة، إلى غير ذلك.

التسلية والأدوات الحديثة

فرع: وتصدق (التسلية) إذا كانت بالأدوات الحديثة، كالمسجل والراديو والتلفزيون والبرقية والفاكس وما أشبه، للصدق العرفي، كما أن كثيراً من الأمور مثل التسلية في الصدق. وقد قال القرآن الحكيم: «لا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي»(4).

ولا يخفى أنه لا منافاة بين مثل ذلك، ومثل قوله سبحانه: «لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ»(5)، لأن المراد بالنفي: الخوف من المخوف الواقعي كالنار ونحوها,

ص: 15


1- ربما يكون المراد: لأن القول من مصاديق الفعل، كغيره القول.
2- كالعاجز عن النطق لمرض أو لغيره.
3- الكافي: ج5 ص201 باب الرجل يبيع ما ليس عنده ح6.
4- سورة القصص: 7.
5- سورة يونس: 62.

والمراد ب (لا تخافي): الشيء العالق بالنفس من الأسباب الخارجية التي هي أسباب تكوينية فلا تضارب.

ومنه يظهر وجه قوله: «إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ»(1).

و: «أَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ»(2).

وما أشبه ذلك(3).

وقد يجاب بوجه آخر(4).

التفجع وإظهار الحزن على المعاصي

مسألة: يجوز التفجّع وإظهار الحزن على ما يصنعه العصاة، بل قد يستحب، لأنه نوع مواساة(5)، كما قالت السيدة خديحة (عليها السلام): (وا خيبة

ص: 16


1- سورة القصص: 34.
2- سورة يوسف: 13.
3- كقوله تعالى: «فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ» سورة القصص: 18.
4- ربما كان المراد من الوجه الآخر: هو الخوف لا على النفس بل على الآخرين من المؤمنين أو الخوف على الدين.
5- والاستحباب آكد في الحزن على ما يفعله العصاة والمجرمين بالدين وأهله، وهذا ما ورد حتى في روايات العامة: روى أحمد بن حنبل والحاكم النيسابوري والطبراني وغيرهم أنه أقبل مروان يوماً فوجد رجلاً واضعاً وجهه على القبر، فقال: أتدري ما تصنع؟ فأقبل عليه فإذا هو أبو أيوب، فقال: نعم جئت رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم آت الحجر، سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: «لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله، ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله». انظر مسند أحمد: ج5 ص422، والمستدرك على الصحيحين: ج4 ص515، وقال: هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه، والمعجم الكبير: ج4 ص158 وغيرها من المصادر.

من كذّب محمداً).

والظاهر أنه ملحوق بتقرير الزهراء (عليها السلام)، إذ النهي الإرشادي لأجل التسلية، وأن يقوّى قلبها (عليها السلام) ولا تحزن، لا للنهي عن إظهار التفجّع، فإنه نوع مواساة.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبة له كما في (نهج البلاغة):«ولقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة فينتزع حجلها وقلبها وقلائدها ورعاثها ما تمتنع منه إلا بالاسترجاع والاسترحام، ثم انصرفوا وافرين، ما نال رجلاً منهم كلم ولا أريق لهم دم، فلو أن امرئً مسلماً مات من بعد هذا أسفاً ما كان به ملوماً، بل كان به عندي جديراً. فيا عجباً والله يميت القلب ويجلب الهمّ من اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم وتفرّقكم عن حقكم، فقبحاً لكم وترحاً حين صرتم غرضاً يرمى، يغار عليكم ولا تغيرون. وتُغزون ولا تَغزون. ويُعصى الله وترضون، فإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيام الحر قلتم: هذه حمارة القيظ أمهلنا يسبخ عنّا الحر، وإذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء قلتم: هذه صبارة القرّ أمهلنا ينسلخ عنّا البرد، كل هذا فراراً من الحرّ والقرّ، فإذا كنتم من الحرّ والقرّ تفرّون فإذا أنتم والله من السيف أفرّ.

يا أشباه الرجال ولا رجال. حلوم الأطفال. وعقول ربّات الحجال. لوددت أني لم أركم ولم أعرفكم، معرفة والله جرّت ندماً وأعقبت سدماً، قاتلكم الله لقد ملأتم قلبي قيحاً، وشحنتم صدري غيظاً، وجرّعتموني نغب التهمام أنفاساً، وأفسدتم على رأيي بالعصيان والخذلان،حتى لقد قالت قريش:

ص: 17

"إن ابن أبي طالب رجل شجاع ولكن لا علم له بالحرب"، لله أبوهم وهل أحد منهم أشد لها مراساً وأقدم فيها مقاماً مني؟! لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين، وها أنا ذا قد ذرفت على الستين. ولكن لا رأي لمن لا يطاع»(1).

حرمة تكذيب النبي

مسألة: يحرم تكذيب النبي (صلى الله عليه وآله) في صغائر الأمور وكبارها، وفي ما نطق به من شؤون الدين والدنيا، وهو واضح، والظاهر أن لتكذيبه الأثر الوضعي.

فعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «قال علي بن الحسين (عليهما السلام): «موت الفجأة تخفيف على المؤمن، وأسف على الكافر، وإن المؤمن ليعرف غاسله وحامله، فإن كان له عند ربه خيراً ناشد حملته بتعجيله، وإن كان غير ذلك ناشدهم أن يقصروا به».

فقال ضمرة بن سمرة: يا علي إن كانكما تقول لقفز من السرير، فضحك وأضحك.

فقال علي بن الحسين (عليه السلام): «اللهم إن كان ضمرة بن سمرة ضحك وأضحك من حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) فخذه أخذ أسف».

فعاش بعد ذلك أربعين يوماً ومات فجأة.

فأتى علي بن الحسين (عليهما السلام) مولى لضمرة فقال: أصلحك الله إن

ص: 18


1- نهج البلاغة: الخطبة 27، وقد قالها يستنهض بها الناس حين ورد خبر غزو الأنبار بجيش معاوية فلم ينهضوا، وفيها يذكر فضل الجهاد، ويستنهض الناس، ويذكر علمه بالحرب، ويلقي عليهم التبعة لعدم طاعته.

ضمرة عاش بعد ذلك الكلام الذي بينك وبينه أربعين يوماً ومات فجأة، وإني أقسم بالله لسمعت صوته، وأنا أعرفه كما كنت أعرفه في الدنيا وهو يقول: الويل لضمرة بن سمرة، تخلّى منه كل حميم، وحلّ بدار الجحيم، وبها مبيته والمقيل.

فقال علي بن الحسين (عليهما السلام): «الله أكبر هذا جزاء من ضحك وأضحك من حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله)» (1).

الإيمان بخير رسول

مسألة: يجب الإيمان بأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو خير رسولونبي.

بل إنه (صلى الله عليه وآله) خير خلقه مما يُعلم وما لا يُعلم، وعلى ذلك متواتر الروايات.

منها ما رواه الشيخ الصدوق، قال: «لما بعث الله عز وجل موسى بن عمران (عليه السلام) واصطفاه نجياً وفلق له البحر ونجى بني إسرائيل وأعطاه التوراة والألواح ورأي مكانه من ربه عز وجل فقال: يا رب لقد أكرمتني بكرامة لم تكرم بها أحداً قبلي، فقال الله جل جلاله : يا موسى أما علمت أن محمداً أفضل عندي من جميع ملائكتي وجميع خلقي»(2).

ص: 19


1- مختصر البصائر: ص279280 باب ما جاء في التسليم لما جاء عنهم (عليهم السلام) وفي من ردّه وأنكره.
2- علل الشرائع: ج2 ص417 ب157 ح3.

التذكير بالله

مسألة: يستحب شدّ قلوب المؤمنين والمؤمنات بتذكيرهم بالله تبارك وتعالى، ليكون اعتمادهم عليه، ورجاؤهم به, وقد قالت الصديقة فاطمة (عليها السلام) لأمها (عليها السلام) في هذا الحديث: «فإن الله مع أبي», ولم تقل مثلاً: إنهم يخيبون في مقاصدهم, ونحو ذلك.

ومن المعلوم التلازم بين الأمرين عرفاً، فبالدلالة الالتزامية وبالأدلة الأخرى دلّ كلامها (صلوات الله عليها) على أن الأعداء يخيبون في مقاصدهم، فتأمل.

الاعتماد على الله

مسألة: يجب الاعتماد على الله عزّ وجل.

وقولها (عليها الصلاة والسلام): «لا ترهبي» ملازم لذلك عرفاً أو لازم.

وإنما يلزم الاعتماد على الله عزّ وجلّ؛ لأنه الواقع, فإن الأمور كلها بيد الله سبحانه, وإنما ما يعمله الإنسان فهو أسباب ظاهرية، قد تطابق الواقع فيقع, وقد لا تطابق الواقع فلا يقع.

وفي الآية الشريفة: «وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَحَسْبُهُ»(1).

وفي الحديث الشريف: «من وثق بالله أراه السرور، ومن توكّل عليه كفاه

ص: 20


1- سورة الطلاق: 3.

الأمور»(1).

قال السبزواري:

أزمّة الأمور طراً بيده *** والكل مستمدة من مدده

ثم الظاهر أن حزنها ورهبتها كانت غير اختيارية، فلا ينافيان توكلّها على الله.

كما أن ظاهر قولها (عليها لسلام): «لا تحزني ولا ترهبي» أنه نهي تنزيهي، والمستظهر أن مثل هذا النهي يفيد الإخبار بعدم وجوب ما يقتضيهما، فيفيد التسلية بذلك(2) تكويناً، كما إذا كانا إراديين.

والحاصل: إن الحزن والرهبة إذا حصل بأسبابهما التكوينية، أمكن رفعهما بأسباب تكوينية أخرى عادة، ومنها الإخبار بل ومنها نفس الإنشاء حقيقةً أو تنزيلاً.

يا أماه

مسألة: يستحب للبنت أن تخاطب أُمها بكلمة: «يا أُماه»، كما خاطبت الزهراء (عليها السلام) أمها (عليها السلام) في هذا الحديث.

وهل هذا من باب الخصوصية أو أنه أحد المصاديق؟

لا يبعد الثاني.

نعم، يظهر منه عرفاً أن ذكر اسم الأم والخطاب بمثل: «يا خديجة» غير

ص: 21


1- بحار الأنوار: ج68 ص151 ب63 بعد ح51.
2- كما صرّحت (عليها السلام) بذلك بعده بقولها: «إن الله مع أبي».

مناسب لإكرامها وإعظامها واحترامها، وقد يستثنى من ذلك ما لو كان التلفظ بالاسم أحب للأُم في بعض الصور، أو كانت جهة خارجية مزاحمة.

ناصر النبي

مسألة: يستحب الإعلان عن أن الله تبارك وتعالى مع الرسول (صلى الله عليه وآله) وهو ناصره، كما قالت (عليها السلام): «فإن الله مع أبي».

وتختلف «مع» في هذه الرواية عن «مع» في قوله سبحانه: «وَهُوَ مَعَكُمْ»(1)، وفي قوله: «لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا»(2)، إذ الآية في مقام بيانحضور الله سبحانه مع كل شيء، دون إفادة النصرة والتأييد له، وذلك بقرينة ما بعده حيث قال عزوجل: «فَأَنْزَلَ اللهُ سَكينَتَهُ عَلَيْهِ وَ أَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها»(3)، حيث إفراد الضمير دون تثنيته.

أما ما نحن فيه، فإن المراد به النصرة كما هو واضح.

ذكر الأسباب

مسألة: يستحب ذكر السبب والعلة أو الحكمة إذا

كان مفيداً، كما قالت (صلوات الله عليها): «لا تحزني ولا ترهبي» ثم قالت: «فإن الله مع أبي» والفاء للتعليل.

ص: 22


1- سورة الحديد: 4.
2- سورة التوبة: 40.
3- سورة التوبة: 40.

وفي العديد من آيات القرآن الحكيم وكلمات البلغاء ذكر العلة أو الحكمة ولو بكلمة، مقدماً، مثل قوله تعالى: «فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا»(1)، وقوله سبحانه: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ»(2).

أو مؤخراً، مثل قوله تعالى: «فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِيأَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ»(3)، وقوله سبحانه: «أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي»(4).

ص: 23


1- سورة النساء: 160.
2- سورة آل عمران: 159.
3- سورة قريش: 34.
4- سورة طه: 14.

قومي يا أماه

اشارة

روي: أن خديجة (عليها السلام) كانت تصلي يوماً، فقصدت أن تسلّم في الثالثة، فنادتها فاطمة (عليها السلام) من بطنها: «قومي يا أماه فإنك في الثالثة»(1).

-------------------------------------------

تنبيه الشاك

مسألة: يستحب تنبيه الشاك(2)، ويدل على الرجحان - وقدره المتيقن الاستحباب - فعلها (صلوات الله عليها).

ويراد بالشاك هنا الأعم من الظانوالواهم(3), فيما إذا لم يكن الظن حجة,

ص: 24


1- عوالم العلوم والمعارف: ج2 ص855.
2- وقد يجب، فيما لو كان شكه وغفلته تؤديان به إلى الهلاك، قال العلامة الحلي (رحمه الله) في كشف المراد: ص479 تحقيق الآملي: (واستدل المصنف رحمه الله على وجوب البعثة في كل وقت بأن دليل الوجوب يعطي العمومية، أي دليل وجوب البعثة يعطي عمومية الوجوب في كل وقت، لأن في بعثته زجراً عن القبائح، وحثّاً على الطاعة فتكون لطفاً، ولأن فيه تنبيه الغافل وإزالة الاختلاف ودفع الهرج والمرج، وكل ذلك من المصالح الواجبة التي لا تتم إلاّ بالبعثة فتكون واجبة في كل وقت).
3- الشك: خلاف اليقين. الصحاح للجوهري: ج4 ص1594 باب (شكك)، معجم مقاييس اللغة: ج3 ص173 وغيرها.

كما ذكروا حجيته(1) في القبلة(2) وفي عدد الركعات, وقد ذكرنا في (الأصول): أن الظن العقلائي حجة في الجملة، لبنائهم عليه من غير رادع, وذكرنا معنى الآيات في الردع عن الظن فراجع.

و(التنبيه) يحصل بكل مصداق يكون من ذلك الكلي، كما هو كذلك في كل كلي له مصاديق لم يردع عن بعضها الشارع.

وبذلك ظهر أنه يستحب التنبيه فيما كان للشك الأثر، كما في عدد الركعات، وهو مورد الرواية، مضافاً للعقلائية من غير ردع من الشارع، إلا أن يدخل في محذور مثل الوسوسة وما أشبه.

أما نهي الإمام (عليه السلام) عن الذي نبّهه عن بقاء لمعة من بدنه جافاً(3)،فقد ذكرنا في الفقه الوجه والإشكال فيه روايةً وحكماً.

وإذا تأذى الشاك أو الغافل أو الناسي من التنبيه لم يستحب في الجملة؛ لأن الأذية من الاقتضائية، والاستحباب لا اقتضائي، وهو لا يقاومه، كما قرّره الشيخ (قدس سره) في المكاسب، وذكرنا تفصيله في كتاب البيع.

وهل يستحب التنبيه لو كان للعامل ظن معتبر؟

ص: 25


1- أي الظن المطلق.
2- قال الشيخ الطوسي في العُدة: (وأما الظن فعندنا أنه ليس بفاصل في الشريعة تنسب الأحكام إليه وإن كان تقف أحكام كثيرة عليه، نحو تنفيذ الحكم عند شهادة الشاهدين، ونحو جهات القبلة وما يجري مجراه) انتهى. عنه هداية المسترشدين: ج3 ص682.
3- عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «اغتسل أبي من الجنابة، فقيل له: قد أبقيت لمعة في ظهرك لم يصبها الماء، فقال له: ما كان عليك لو سكت، ثم مسح تلك اللمعة بيده». وسائل الشيعة: ج3 ص487 ب47 من أبواب النجاسات والأواني والجلود ح2.

قد يقال: بالانصراف(1) عن مثله، وقد يفصّل بين العالم بالخلاف، والظان اجتهاداً، أو تقليداً به، لبناء العقلاء على الأول دون الثاني، فتأمل.

اعتماد الشاك

مسألة: يجوز أن يعتمد الشاك على مخبره بأحد الطرفين أو الأطراف في الجملة.وإنما يصح ذلك إذا كان من البينة الشرعية، أو أوجب الاطمئنان، أو كان ثقةً، وقلنا بجواز الاعتماد على قوله وإن كان واحداً، كما لا يبعد ذلك, وإلاّ فقد قال البعض بعدم حجية قول الواحد(2).

والظاهر حجية قول الثقة الواحد في غير باب المنازعات والقضاء مما هي بحاجة إلى البينة، ولذا يعتمد المتشرعة على الثقة في الأموال والأعراض والدماء فيسلّمون كل ذلك إلى الطيّار والسفّان والسائق بمجرد الوثاقة.

وادعاء أنهم يطمئنون غير تام، لأنه كثيراً ما لا يعرفونهم فمن أين الاطمئنان؟

اللهم إلا أن يقال: إن الاطمئنان من القرائن المكتنفة، فتأمل.

هذا بالإضافة إلى قوله (عليه الصلاة والسلام): «إلا أن تستبين»(3) وقول الثقة من

ص: 26


1- أي انصراف أدلة إرشاد الجاهل عما لو عمل بظن معتبر، وإن كان في رأي مخالفه في الاجتهاد مخطئاً وجاهلاً إذ ليس بجاهل عرفاً.
2- كما هو المنسوب إلى السيد المرتضى (رحمه الله) وجماعة والمختار من ابن ادريس (رحمه الله) وغيره.
3- إشارة إلى ما رواه الشيخ الكليني بإسناده عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سمعته (عليه السلام) يقول: «كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون قد اشتريته وهو سرقة أو المملوك عندك ولعلّه حر قد باع نفسه أو خدع فبيع أو قهر أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة». الكافي: ج5 ص313 - 314 باب النوادر ح40. فجعل الاستبانة موازية للبينة دليل على كونها طريقاً تعبدياً مثلها مثل البينة في معرفة الأشياء.

الاستبانة.

تنبيه المشتبه

مسألة: يستحب تنبيه المشتبه, كما يدل عليه قول الصديقة (عليها السلام): «قومي يا أُماه».

والمشتبه أعم من الشاك، إذ يشمل الغالط والقاطع(1).

الطفل والأحكام التكليفة

مسألة: يستحب للطفل أيضاً ما سبق، وقد ذكرنا في (الفقه) أن الأحكام التكليفية تجري على الطفل في الجملة، كما تجري عليه الأحكام الوضعية كذلك أو مطلقاً.

العصمة الصغرى

مسألة: ربما يستفاد من هذا الحديث ومن غيره أن درجة عصمة الصديقة (عليها السلام) أعلى من أمها خديجة (عليها السلام)، فإن العصمة الكبرى لا يتطرّق في شأنه السهو والنسيان والغفلة.

ص: 27


1- المشتبه يشمل الغالط واضح، وأما أنه يشمل القاطع فيراد به الجاهل بالجهل المركب.

الشهادات الثلاث

اشارة

ورد في ولادة الصديقة فاطمة (عليها السلام) أنها نطقت بالشهادات الثلاث بالتوحيد والنبوة والولاية, وقالت: «أشهد أن لا إله إلا الله, وأن أبي رسول الله سيد الأنبياء, وأن بعلي سيد الأوصياء, ووُلدي سادة الأسباط»(1).

-------------------------------------------

الاعتقاد بالربوبية

مسألة: يجب الاعتقاد بوحدانية الله تعالى، بمعانيها الأربعة: توحيد الذات، وتوحيد الصفات، وتوحيد الأفعال، وتوحيد العبادة، وتجب الشهادة بها في الجملة، وقد أشرنا إلى ذلك في خطبتها (عليها السلام) الشريفة في المسجد.

ثم إن الاعتقاد بوحدانية الله تعالى اتساق مع الواقع, فإن الواقع اذا انعكس في نفس الإنسان قلباً ولساناً وعملاً يوجب تنسيق الإنسان نفسه مع الكون, في ذلك السير الصحيح إلى آخر المطاف وهو الجنة, وإلاّ كان ذلك موجباً للعطب.

أما إذا خالف الإنسان القوانين العامة لله سبحانه وتعالى، فإنه يصيبهالهلاك والعطب، أو العذاب والنَصَب، قريباً أو بعيداً.

ص: 28


1- الأمالي، للشيخ الصدوق: ص691 المجلس87 ح1.

تلقين الطفل

مسألة: يستحب تلقين الطفل - مهما أمكن ومتى أمكن في الجملة - بالشهادة بالوحدانية والنبوة والإمامة؛ تأسياً بالصديقة (صلوات الله عليها) أو بملاكه.

ومنه استحباب الأذان والإقامة في أذنه اليمنى واليسرى.

قال (عليه السلام): «المولود إذا ولد يؤذن في أذنه اليمنى ويقام في اليسرى»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَنْ وُلِدَ لَهُ مَوْلُودٌ فَلْيُؤَذِّنْ فِي أُذُنِهِ الْيُمْنَى بِأَذَانِ الصَّلاةِ، وَلْيُقِمْ فِي الْيُسْرَى فَإِنَّهَا عِصْمَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ»(2).

وعَنْ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى الرِّضَا (عليه السلام) قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (عليهم السلام)، قَالَ: حَدَّثَتْنِي أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ، قَالَتْ: حَدَّثَتْنِي فَاطِمَةُ (عليها السلام): «لَمَّا حَمَلْتُ بِالْحَسَنِ (عليه السلام) وَوَلَدْتُهُ جَاءَ النَّبِيُّ (صلى الله عليهوآله) فَقَالَ: يَا أَسْمَاءُ هَلُمِّي ابْنِي فَدَفَعْتُهُ إِلَيْهِ فِي خِرْقَةٍ صَفْرَاءَ فَرَمَى بِهَا النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) وَأَذَّنَ فِي أُذُنِهِ الْيُمْنَى وَأَقَامَ فِي أُذُنِهِ الْيُسْرَى»(3).

ص: 29


1- من لا يحضره الفقيه: ج1 ص299 ح911.
2- الكافي: ج6 ص24 باب ما يفعل بالمولود من التحنيك وغيره إذا وُلد ح6.
3- عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج 2 ص25 ب31 باب فيما جاء عن الرضا (عليه السلام) من الأخبار المجموعة ح5.

الاعتقاد بالرسالة

مسألة: يجب الاعتقاد التفصيلي بنبوة محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولايكفي الاعتقاد الإجمالي(1)، وتجب الشهادة بذلك في الجملة.

وكما وجب الاعتقاد بالله سبحانه وتعالى يجب الاعتقاد بنبوة الحبيب المصطفى (صلى الله عليه وآله) ونبوة سائر الأنبياء (عليهم السلام)، قال عزوجل: «لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ»(2).

فإن الاعتقاد يكون تفصيلياً كما في من عرفناهم من الأنبياء، وإجمالياً فيمن لم نعرفه منهم، على ما ثبت في علم الكلام.

بل الاعتقاد بمراتب المفاضلة أيضاً كذلك، مثلاً لا يجوز أن يعتقد الإنسان بتساوي منزلة عيسى ومحمد (صلوات الله عليهما) أو يعتقد أن عيسى (عليه السلام) أفضل من محمد (صلى الله عليه وآله)، فإن هذا اعتقاد باطل وهو محرّم في الشريعة(3).

الاعتقاد بالولاية

مسألة: يجب الاعتقاد بولاية علي أمير المؤمنين والأئمة من ولده (صلوات الله عليهم أجمعين).

وقد تجب الشهادة بذلك بعنوان عارض، وإن كانت مستحبة في نفسها.

ص: 30


1- بأن يعرف إجمالاً بوجود خاتم للأنبياء من غير أن يدري من هو؟.
2- سورة البقرة: 285.
3- لأنه خلاف قوله تعالى: «وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ» سورة الإسراء: 55.

وكذلك الاعتقاد بالصديقة الزهراء (عليها الصلاة والسلام)، وهكذا مريم الصديقة، وأوصياء الأنبياء مجملاً أو مفصّلاً على ما ذكر في علم الكلام.

العطف في الشهادة

مسألة: يكفي في الشهادة الثانية والثالثة العطف، ولا لزوم لتكرار لفظ الشهادة، كما صنعت الزهراء (عليها السلام) في الحديث، والظاهر أنه لا رجحان لتكرار اللفظ إلا لجهة خارجية، أو وروده في نص والتقيد به.

من صيغ الشهادة

مسألة: هل يستحب لذراري رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يقولوا في الشهادة - في غير مثل الصلاة(1) - : (وأشهد أن جديمحمداً رسول الله)؟.

قد يقال: (نعم) تأسياً بها (صلوات الله عليها) إذ قالت: «وأن أبي رسول الله سيد الأنبياء»، ولعلّ فيه نوعاً من ترويج الحق، فتأمل(2).

فضائل الوصي

مسألة: يستحب أو يجب، كل في مورده: بيان فضائل الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث قالت (سلام الله عليها): «سيد الأوصياء»(3).

ص: 31


1- دليل الاستثناء واضح، لكون الصلاة من الواجبات العبادية الموقوفة على النص.
2- لاحتمال خصوصية هكذا خطاب لها (عليها السلام).
3- والروايات الدالة على ذلك كثيرة، فقد قال النبي (صلى الله عليه وآله) برواية عائشة وغيرها: «ذكر علي عبادة». انظر: مناقب آل أبي طالب: ج3 ص5 باب فيما يتعلق بالآخرة من مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام)، والجامع الصغير، للسيوطي: ج1 ص665 ح4332. مضافاً إلى أن ذكر فضائله وفضائل أهل بيته (عليهم السلام) من إحياء أمرهم - كما هو واضح - وإحياء أمرهم محبوب عند المولى ومستحب بل قد يكون واجباً، فعن الفضيل بن يسار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: «تجلسون وتحدثون»، قال: قلت: نعم جعلت فداك. قال: قال: «تلك المجالس أحبها فأحيوا أمرنا، يا فضيل فرحم الله من أحيا أمرنا، يا فضيل من ذكرنا أو ذكرنا عنده فخرج من عينه مثل جناح الذباب غفر الله له ذنوبه ولو كانت أكثر من زبد البحر». جامع أحاديث الشيعة: ج16 ب55 من أبواب أحكام العشرة ح5.

وكون الإمام علي (عليه السلام) هو سيد الأوصياء، يراد به بالنسبة إلى سائر الأئمة الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين) فهو أفضلهم، وكذلك بالنسبة إلى جميع أوصياء سائر الأنبياء (عليهم السلام).

وقد ورد في الأحاديث أنه كان لكل نبي وصي(1)، وهذا مضافاً إلى كونه شرعياً، هو عقلي أيضاً، لوضوح استمرار خلافة الله سبحانه وتعالى في الأرض، فلا يعقل أن يرحل النبي بلا وصي.قال تعالى: «إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً»(2)، وهو ظاهر في الاستمرار

ص: 32


1- عن سلمان قال: قلت: يا رسول الله لكل نبي وصي فمن وصيك؟ فسكت عنّي فلما كان بعدُ رآني، فقال: «يا سلمان»، فأسرعت إليه قلت: لبيك، قال: «تعلم من وصي موسى؟» قلت: نعم يوشع بن نون، قال: «لم؟» قلت: لأنه كان أعلمهم، قال: «فإن وصيي وموضع سرّي وخير من أترك بعدي وينجز عدتي ويقضي ديني علي بن أبي طالب». المعجم الكبير للطبراني: ج6ص221. وفي دلائل الإمامة، لابن جرير: ص90: ثم قال النبي (صلى الله عليه وآله): «أيها الناس، اسمعوا قول نبيكم، إن الله بعث أربعة آلاف نبي، لكل نبي وصي، وأنا خير الأنبياء، ووصيي خير الأوصياء».
2- سورة البقرة: 30.

والدوام، لمكان اسم الفاعل(1)، مع مناسبة الحكم والموضوع، ولو خلا زمن من خليفة لما كان جاعلاً فيه خليفة، ولكان اللازم التقييد ببعض الأزمان، بأن يقول (إني جاعل في بعض الأزمان في الأرض خليفة) مثلاً.

فضائل الأئمة

مسألة: يستحب أو يجب - كلٌّ في مورده - بيان فضائل الأئمة المعصومين (عليهمالسلام)، حيث قالت (سلام الله عليها): «سادة الأسباط»(2).

ص: 33


1- قال المباركفوري - وهو من علماء العامة - في كتابه (تحفة الأحوذي في شرح صحيح الترمذي) نقلاً عن الطيبي: ج10 ص12: (لأن اسم الفاعل إذا أسند إلى الله تعالى يفيد الاستمرار من بدأ الخلق إلى الأبد، كما تقول: الله قادر عالم فلا تقصد زماناً دون زمان). وقال أبو السعود في تفسيره: ج2 ص109: (صيغة اسم الفاعل المنبئة عن الاستمرار). وقال الآلوسي في تفسيره: ج1 ص375: (وصيغة اسم الفاعل الدال على الاستمرار). وقال نجم الأئمة (رحمه الله) في شرحه على الكافية في النحو: ج2 ص221: (أو لم يكونا - أي اسم الفاعل أو المفعول - لأحد الأزمنة، بل كانا للإطلاق المستفاد منه الاستمرار، نحو: زيد ضامر بطنه).
2- ومن الروايات الواردة في استحباب ذكر فضلهم (عليهم السلام) ما ورد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إن من الملائكة الذين في السماء ليطّلعون إلى الواحد والاثنين والثلاثة وهم يذكرون فضل آل محمد، قال: فتقول: أما ترون إلى هؤلاء في قلّتهم وكثرة عدوهم يصفون فضل آل محمد (صلى الله عليه وآله)، قال: فتقول الطائفة الأخرى من الملائكة: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم». جامع أحاديث الشيعة: ج16 ص34 ب55 من أبواب أحكام العشرة ح10. وفي ص35 من نفس الباب ح13 ورد عن عباد بن كثير، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إني مررت بقاص يقص وهو يقول: هذا المجلس لا يشقى به جليس، قال: فقال أبو عبد الله (عليه السلام): «هيهات هيهات أخطأت أستاههم الحفرة، إن لله ملائكة سياحين سوى الكرام الكاتبين، فإذا مرّوا بقوم يذكرون محمداً وآل محمد قالوا: قفوا فقد أصبتم حاجتكم، فيجلسون فيتفقهون معهم، فإذا قاموا عادوا مرضاهم وشهدوا جنائزهم وتعاهدوا غائبهم، فذلك المجلس الذي لا يشقى به جليس». وفي نفس الصفحة الحديث14 عن أبي المغرا، قال: سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول: «ليس شيء أنكى لإبليس وجنوده من زيارة الأخوان في الله بعضهم لبعض، قال: وان المؤمنين يلتقيان فيذكران الله ثم يذكران فضلنا أهل البيت فلا يبقى على وجه إبليس مضغة لحم إلا تخدد، حتى أن روحه لتستغيث من شدة ما يجد من الألم، فتحسّ ملائكة السماء وخزّان الجنان فيلعنونه حتى لا يبقى ملك مقرب إلاّ لعنه، فيقع خاسئاً حسيراً مدحوراً». وغيرها من الأحاديث الكثيرة في ذلك.

والأسباط يشمل سائر أسباط رسول الله (صلى الله عليه وآله) مثل علي الأكبر (عليه السلام)، والسيد عبد العظيم الحسني (عليه السلام)، والسيد محمد بن الإمام الهادي (عليه السلام)، ومن أشبه، فإن الأئمة المعصومين (عليهم السلام) هم سادة على جميعهم، وكذلك يشمل أسباط سائر الأنبياء الذين أشير إليهم في القرآن الكريم(1)، فإن الأئمة (عليهم السلام) أفضلمن جميعهم.

ص: 34


1- قد ذكر لفظ الأسباط في القرآن الكريم في موارد عديدة، منها سورة البقرة الآية 136 والآية 140، وسورة آل عمران الآية 84، وسورة النساء الآية 163. ومن الأسباط إخوة يوسف (عليه السلام) أولاد النبي يعقوب (عليه السلام) وأحفاد النبي إسحاق وإبراهيم الخليل (عليهما السلام) فقد ورد في رواية أبي حمزة الثمالي، عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «ثم صارت - أي النبوة - بعد يوسف في الأسباط إخوته حتى انتهت إلى موسى بن عمران». وأما عدتهم فقد جاء في نفس الخبر السابق: «إن الله تبارك وتعالى أرسل الأسباط اثني عشر بعد يوسف». التفسير الصافي: ج2 ص223 - 224. وقد ورد بهذا المعنى أيضاً عند العامة فقد قال الشيخ في التبيان: ج1 ص482: وقال قتادة: (الأسباط يوسف وإخوته ولد يعقوب اثني عشر رجلاً فولد كل واحد منهم أمة من الناس فسمّوا الأسباط)، وبه قال: السدي والربيع وابن إسحاق. والسبط بالمعنى اللغوي والعرفي: ولد البنت وحفيده، فإنه يطلق على عدة من الأنبياء، منهم النبي عيسى (عليه السلام) لأنه ابن مريم وهي من أحفاد الأنبياء (عليهم السلام).

مراتب المعصومين

مسألة: يستحب ذكر مراتب المعصومين (عليهم السلام) العليا, مثل: «سيد الأنبياء», «سيد الأوصياء», «سادة الأسباط»، وهكذا (1).

وقد قال سبحانه: «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ»(2).

ومن المعلوم أن الأمر والتفضيل ليس خاصّاً بالرسل الذين ذُكروا في الآية المباركة؛ إذ إثبات الشيء لا ينفي ما عداه.

لأن الله سبحانه وتعالى: «أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى»(3).

وقد أعطى كل شيء حسب قابليته، سواء قيل بمقالة ابن سينا: (ما جعل الله المشمش مشمشاً بل أوجده)(4), أم لم يقل بمقالته، على بحث مفصّل في الحكمة.

ص: 35


1- انظر الزيارة الجامعة المروية عن الإمام الهادي (عليه السلام)، وفيها بيان العديد من مراتب المعصومين (عليهم السلام).
2- سورة البقرة: 253.
3- سورة طه: 50.
4- إشارة لإثبات الجعل البسيط للشيء ونفي الجعل المركب لاستحالته بين الذات ونفسها أو الذات وذاتياتها.

الشهادة الثالثة

مسألة: يستحب أو يلزم أن يقترن بالشهادتين، الشهادة الثالثة بولاية علي (عليه السلام) والأئمة من ولده (عليهم السلام) مطلقاً، وفي كل الحالات والأزمان، كلمّا تشهّد بالأُوليين، ومنه الأذان والإقامة.

والأقوى عندنا أن الشهادة الثالثة في الأذان والإقامة جزء، كما ذكرناه في الفقه(1)..

ص: 36


1- قال الإمام المؤلف (أعلى الله مقامه) في (الفقه) الصلاة: ج19 ص331 - 334: (وأما الشهادة لعلي عليه السلام بالولاية وأمرة المؤمنين فالظاهر أنها جزء من الأذان والاقامة كسائر الفصول، وإن قال المصنف أي السيد اليزدي: إنها ليست جزءاً منهما، أما وجه العدم فلأنه لم ترد هذه الشهادة في الروايات السابقة - أي الروايات المحددة لفصول الأذان والإقامة - وأما وجه الجزئية فلأنه ورد ذلك في جملة من الروايات التي ليست هي بأقل شأناً من روايات كثير من المستحبات، وعدم ذكرها في الروايات السابقة لا يضر، كيف وكل الأمور المركبة الشرعية لا تجدها مجموعة في رواية إلا شاذاً، فهل هيكل الصلاة بواجباتها ومستحباتها ونواقضها أو مفطرات الصيام أو أحكام الحج أو غيرها مذكورة مجموعة في رواية واحدة؟ أما الروايات فقد روى الشيخ عبد العظيم في كتابه السياسة الحسينية في مخطوط بالمكتبة الظاهرية بدمشق يسمى بالسلافة في أمر الخلافة تأليف الشيخ عبد الله المراغي من أعلام السنة في القرن السابع الهجري، قال: وفيه روايتان مضمون إحداهما أنه أذّن الفارسي فرفع الصحابة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه زاد في الأذان: أشهد أن علياً ولي الله، فجبههم النبي (صلى الله عليه وآله) بالتوبيخ والتأنيب اللاذع وأقرّ لسلمان هذه الزيادة، ومضمون الأخرى أنهم سمعوا أبا ذر الغفاري بعد بيعة الغدير يهتف بها في الأذان، فرفعوا ذلك إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال (صلى الله عليه وآله) لهم: أما وعيتم خطبتي يوم الغدير لعلي بالولاية، أما سمعتم قولي في أبي ذر: وما أظلت الخضراء وما أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر الغفاري، إنكم لمنقلبون بعدي على أعقابكم، إلخ - إلى أن يقول - : وعلى هذا فظاهر المجلسي والمستند والحدائق وظاهر الجواهر الميل إليه).

كما أن جماعة من أعاظم الفقهاء(1)ذكروا أن الشهادة الثالثة في الأذان والإقامة جزء، فلسنا منفردين في هذه الفتيا.

وأما في التشهد فالمشهور لم يقولوا به، ولكن يحتمل الجواز ولعلّه الأقرب(2)، لوجود رواية خاصة.

قال الإمام الرضا (عليه السلام): «فَإِذَا صَلَّيْتَ الرَّكْعَةَ الرَّابِعَةَ فَقُلْ فِي تَشَهُّدِكَ: بِسْمِ اللَّهِ وَبِاللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَالأَسْمَاءُ الْحُسْنَى كُلُّهَا لِلَّهِ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ، التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ الزَّاكِيَاتُ الْغَادِيَاتُ الرَّائِحَاتُ التَّامَّاتُ النَّاعِمَاتُ الْمُبَارَكَاتُ الصَّالِحَاتُ لِلَّهِ مَا طَابَ وَ زَكَى وَ طَهُرَ وَ نَمَى وَ خَلَصَ وَ مَا خَبُثَ فَلِغَيْرِ اللَّهِ، أَشْهَدُ أَنَّكَ نِعْمَ الرَّبُّ، وَأَنَّ مُحَمَّداً نِعْمَ الرَّسُولُ، وَأَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ نِعْمَ الْوَلِيُّ»(3).

ص: 37


1- كالعلامة المجلسي في بحاره: ج81 ص111، واستحسنه المحقق البحراني في حدائقه: ج7 ص404، وظاهر السيد صاحب الرياض في رياضه: ج1 ص151، وظاهر السيد مهدي بحر العلوم في درته، وظاهر المحقق النراقي في مستند الشيعة: ج4 ص487، والسيد محمد قليخان المفتي والد السيد حامد صاحب العقبات، والشيخ محمد حسين كاشف الغطاء في تعليقته على العروة الوثقى: ج2 ص412، وغيرهم. ومن المعاصرين: المرجع الديني الكبير السيد صادق الشيرازي (دام ظله)، واستقربه المرجع الكبير السيد محمد صادق الروحاني (دام ظله) في تعليقته على العروة الوثقى ج1 ص368، وغيرهما.
2- وقد أفتى بذلك سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الشيرازي (دام ظله)، راجع كتاب (استفتاءات) باللغة الفارسية: ج2 ص 109 المسالة 64.
3- مستدرك الوسائل: ج5 ص6 ب2 ح5237، وجامع أحاديث الشيعة: ج5 ص331 ب16 ح8 عن فقه الرضا (عليه السلام): ص108.

وعن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قالت له: لِمَ سُمِّيَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: اللَّهُ سَمَّاهُ وَهَكَذَا أَنْزَلَ فِي كِتَابِهِ: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ»(1) وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولِي وَأَنَّ عَلِيّاً أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ»(2).

أقول: أنزل أي في تأويله ومعناه، وإلا فالكتاب العزيز لم ينقص منه حتى حرف واحد كما أنه لم يزد فيه شيء على ما فصلناه في بعض كتبنا(3).

وعن عبد الرحمان بن كثير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عزوجل: «فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها»(4)، قال: «هِيَ التَّوْحِيدُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) وَ أَنَّ عَلِيّاً (عليه السلام) أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ»(5).

وفي كثير من الزيارات والأدعية وردت الشهادات الثلاث، ففي زيارة الإمام الرضا (عليه السلام):

«أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاّ اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَلَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عَلِيّاً وَلِيُّ اللَّهِ»(6).

ص: 38


1- سورة الأعراف: 172.
2- الكافي: ج1 ص412 باب نادر ح4.
3- راجع (متى جمع القرآن) وموسوعة (الفقه): ج98 (حول القرآن الكريم).
4- سورة الروم: 30.
5- اليقين: ص188 باب 40.
6- كامل الزيارات: ص310 باب102 ح2.

الشهادة بأصول الدين

مسألة: رجحان الشهادة بأصول الدين.

وإنما ذكرنا الرجحان دون الوجوب أو الاستحباب لكونه أعم حتى يطابق أيّاً منهما, والظاهر أنه هنا استحباب لا وجوب، لأن الصغير لا يجب عليه ذلك حسب القواعد الفقهية, وإن كانوا (عليهم الصلاة والسلام) صغيرهم كبير في واقعه، إلاّ أن الكلام في الأحكام الظاهرية.

وقد قال عيسى (عليه السلام) وهو طفل في المهد: «إِنِّي عَبْدُ اللهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا»(1).

ولعلّه مما يؤيد الاستحباب وعدم الوجوب أنها (صلوات الله عليها) لم تنطق هنا بالمعاد، مع أن المعاد من أصول الدين، وتسمية المقام بالشهادتين من جهة أن الإمامة امتداد النبوة، بل هي لازمة لها.

ولعلّ عدم ذكرها للمعاد من جهة أن الاعتقاد بالألوهية يلازم الاعتقاد بالمعاد أيضاً.

ص: 39


1- سورة مريم: 30.

الله هو السلام

اشارة

قالت الصديقة فاطمة (عليها السلام): «إن الله هو السلام, ومنه السلام، وإليه السلام»(1).

-------------------------------------------

الثناء على الله توقف

مسألة: يستحب أو يجب الثناء على الله بما هو أهله، ولا فرق في ذلك بين أن يسمعه أحد أو لا، كما لا فرق فيه بين الإسرار أو الإجهار.

قال سبحانه في محكم كتابه الكريم:«هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاّ هُوَ المَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ»(2).

ص: 40


1- الأمالي، للشيخ الطوسي: ص175 المجلس6 ح295، ونص الحديث بالكامل هكذا: عن بريد العجلي، قال: سمعت أبا عبد الله جعفر بن محمد (عليهما السلام) يقول: «لما توفيت خديجة (رضي الله عنها) جعلت فاطمة (صلوات الله عليها) تلوذ برسول الله (صلى الله عليه وآله) وتدور حوله، وتقول: يا أبه، أين أمي؟ قال: فنزل جبرئيل (عليه السلام) فقال له: ربك يأمرك أن تقرئ فاطمة السلام، وتقول لها: إن أمك في بيت من قصب، كعابه من ذهب، وعمده ياقوت أحمر، بين آسية ومريم بنت عمران، فقالت فاطمة (عليها السلام): إن الله هو السلام، ومنه السلام، وإليه السلام».
2- سورة الحشر: 23.

وينبغي على المؤمن أن يثني على ربه عزوجل في جملة ما يثني عليه بثنايا مركّزة وجميلة وشاملة, كما قالت (عليها السلام): «إن الله هو السلام، ومنه السلام، وإليه السلام».

ومن المحتملات القريبة في نحو: «إن الله هو السلام» أنه مثل: «إن الله عدل» ونحوه(1).

ولعلّ ذكرها (عليها الصلاة والسلام) لهذا الاسم، من جهة أهمية (السلام) في كل الشؤون, فإن (منه السلام) أي في جميع الجهات والأزمان، بمعنى أن كل ما كان منه تعالى فهو سلام.قال عزوجل: «مِنْ كُلِّ أَمْرٍ* سَلامٌ»(2).

أما الإنسان فقد يولد سالماً وقد لا يولد سالماً, وقد يبقى سالماً وقد لا يبقى سالماً, وقد يموت سالماً وقد لا يموت سالماً، وقد يحشر سالماً وقد لا يحشر سالماً، وقد ينتهي أمره إلى السلام في جنة عدن ورضوان من الله سبحانه وتعالى أكبر, وقد ينتهي أمره إلى غير السلام.

ثم إنه قد يكون سالماً من جهة دون أخرى، كأن يسلم في نفسه ويسقم في جسمه، أو يسلم من المعصية ولا يسلم من المرض، أو يكون سليماً في اقتصاده

ص: 41


1- والنعت بالمصدر يفيد المبالغة والتأكيد وما أشبه مما ذكر في البلاغة، قال ابن عقيل في شرحه: النعت بالمصدر على خلاف الأصل لأنه يدل على المعنى لا على صاحبه، ومع ذلك ورد كثيراً ولذا قال ابن مالك في ألفيته: ونعتوا بمصدر كثيراً * فالتزموا الافراد والتذكيرا. أقول: الإخبار نحو من أنحاء النعت كما لا يخفى فحكمه واحد، فضلاً عن أن العلة التي ذكرها النحاة من دلالة النعت على الحدث لا على صاحبه موجودة في الإخبار أيضاً.
2- سورة القدر: 4-5.

دون سياسته، وهكذا وكل ذلك من الله وبفضله.

وربما يكون المراد بأن الله سبحانه (هو السلام) أنه سالم من التغيّر، والجسمانية، والنقص، والحلول، والاتحاد(1)، والعينية(2)، والجهل(3)،والظلم،

ص: 42


1- لا كما قاله بعض الفلاسفة والعرفاء من وحدة الوجود بل وحدة الموجود. قال في الحكمة المتعالية: ج2 ص71: (ومما يجب أن يعلم أن إثباتنا لمراتب الوجودات المتكثرة ومواضعتنا في مراتب البحث والتعليم على تعددها وتكثرها لا ينافي ما نحن بصدده من ذي قبل إن شاء الله من إثبات وحدة الوجود والموجود ذاتاً وحقيقةً، كما هو مذهب الأولياء والعرفاء من عظماء أهل الكشف واليقين، وسنقيم البرهان القطعي على أن الوجودات وإن تكثرت وتمايزت إلاّ أنها من مراتب تعينات الحق الأول وظهورات نوره وشؤونات ذاته لا أنها أمور مستقلة وذوات منفصلة). وجاء في الهامش تعليقاً على هذا الموضوع: (القائل بالتوحيد إما أن يقول بكثرة الوجود والموجود جميعاً مع التكلم بكلمة التوحيد لساناً واعتقاداً بها إجمالاً، وأكثر الناس في هذا المقام، وإما أن يقول بوحدة الوجود والموجود جميعاً وهو مذهب بعض الصوفية، وإما أن يقول بوحدة الوجود وكثرة الموجود، وهو المنسوب إلى أذواق المتألهين، وعكسه باطل، وإما أن يقول بوحدة الوجود والموجود جميعاً في عين كثرتهما، وهو مذهب المصنف والعرفاء الشامخين). وهذا كله باطل عقلا ونقلاً ومخالف لما ورد عن الأئمة المعصومين (عليهم السلام).
2- ذكر بعض الفلاسفة أن صدور الأشياء منه لازم لذاته يستحيل انفكاكها عنه، لذا فالعالم قديم بنظرهم.
3- ذكر بعض الفلاسفة أنه تعالى جاهل بالأشياء على الوجه التفصيلي، بل علمه بها هو على النحو الإجمالي فقط. قال في نهاية الحكمة: الفصل11 من المرحلة12 ص350 - 356: في علمه تعالى أقوال عدة، أوصلها إلى عشرة أقوال وأشكل عليها بأجمعها، كان منها: (القول السابع: ما ينسب إلى أكثر المتأخرين، أن له تعالى علماً تفصيلياً بذاته، وهو علم إجمالي بالأشياء قبل الإيجاد، وأما علمه التفصيلي بالأشياء فهو بعد وجودها.

والقسر، وما أشبه ذلك.

عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الرِّضَا، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ (عليهم السلام) قَالَ: قَامَ رَجُلٌ إِلَى الرِّضَا (عليه السلام) فَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ صِفْ لَنَا رَبَّكَ، فَإِنَّ مَنْ قِبَلَنَا قَدِ اخْتَلَفُوا عَلَيْنَا.

فَقَالَ الرِّضَا (عليه السلام): «إِنَّهُ مَنْ يَصِفُ رَبَّهُ بِالْقِيَاسِ لَا يَزَالُ الدَّهْرَ فِي الِالْتِبَاسِ، مَائِلًا عَنِ الْمِنْهَاجِ، ظَاعِناً فِي الِاعْوِجَاجِ، ضَالًا عَنِ السَّبِيلِ، قَائِلًا غَيْرَ الْجَمِيلِ، أُعَرِّفُهُ بِمَا عَرَّفَ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ، وَأَصِفُهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ غَيْرِ صُورَةٍ، لا يُدْرَكُ بِالْحَوَاسِّ، وَلا يُقَاسُ بِالنَّاسِ، مَعْرُوفٌ بِغَيْرِ تَشْبِيهٍ، وَمُتَدَانٍ فِي بُعْدِهِ لا بِنَظِيرٍ، لا يُمَثَّلُ بِخَلِيقَتِهِ، وَلا يَجُورُ فِي قَضِيَّتِهِ، الْخَلْقُ إِلَى مَا عَلِمَ مُنْقَادُونَ، وَعَلَى مَا سَطَرَ فِي الْمَكْنُونِ مِنْ كِتَابِهِ مَاضُونَ، وَلا يَعْمَلُونَ خِلَافَ مَا عَلِمَ مِنْهُمْ، وَلا غَيْرَهُ يُرِيدُونَ، فَهُوَ قَرِيبٌ غَيْرُ مُلْتَزِقٍ، وَبَعِيدٌ غَيْرُ مُتَقَصٍّ، يُحَقَّقُ وَلَا يُمَثَّلُ، وَيُوَحَّدُ وَلَا يُبَعَّضُ، يُعْرَفُ بِالْآيَاتِ، وَيُثْبَتُ بِالْعَلَامَاتِ، فَلا إِلَهَ غَيْرُهُ، الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ»(1).

وعَنْ فَتْحِ بْنِ يَزِيدَ الْجُرْجَانِيِّ، قَالَ: كَتَبْتُ إِلَى أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا (عليه السلام)أَسْأَلُهُ عَنْ شَيْ ءٍ مِنَ التَّوْحِيدِ، فَكَتَبَ إِلَيَّ بِخَطِّهِ: قَالَ جَعْفَرٌ وَإِنَّ فَتْحاً أَخْرَجَ إِلَيَّ الْكِتَابَ فَقَرَأْتُهُ بِخَطِّ أَبِي الْحَسَنِ (عليه السلام):

«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمُلْهِمِ عِبَادَهُ الْحَمْدَ، وَفَاطِرِهِمْ عَلَى مَعْرِفَةِ رُبُوبِيَّتِهِ، الدَّالِّ عَلَى وُجُودِهِ بِخَلْقِهِ، وَبِحُدُوثِ خَلْقِهِ عَلَى أَزَلِهِ، وَبِأَشْبَاهِهِمْ عَلَى أَنْ لا شِبْهَ لَهُ، الْمُسْتَشْهِدِ آيَاتِهِ عَلَى قُدْرَتِهِ، الْمُمْتَنِعِ مِنَ

ص: 43


1- التوحيد: ص47 ب2 ح9.

الصِّفَاتِ ذَاتُهُ، وَمِنَ الْأَبْصَارِ رُؤْيَتُهُ، وَمِنَ الْأَوْهَامِ الْإِحَاطَةُ بِهِ، لَا أَمَدَ لِكَوْنِهِ، وَلا غَايَةَ لِبَقَائِهِ، لا يَشْمَلُهُ الْمَشَاعِرُ، وَلا يَحْجُبُهُ الْحِجَابُ، فَالْحِجَابُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ لِامْتِنَاعِهِ مِمَّا يُمْكِنُ فِي ذَوَاتِهِمْ، وَلِإِمْكَانِ ذَوَاتِهِمْ مِمَّا يَمْتَنِعُ مِنْهُ ذَاتُهُ، وَلِافْتِرَاقِ الصَّانِعِ وَالْمَصْنُوعِ، وَالرَّبِّ وَالْمَرْبُوبِ، والْحَادِّ وَالْمَحْدُودِ، أَحَدٍ لَا بِتَأْوِيلِ عَدَدٍ، الْخَالِقِ لَا بِمَعْنَى حَرَكَةٍ، السَّمِيعِ لَا بِأَدَاةٍ، الْبَصِيرِ لَا بِتَفْرِيقِ آلَةٍ، الشَّاهِدِ لَا بِمُمَاسَّةٍ، الْبَائِنِ لا بِبَرَاحِ مَسَافَةٍ، الْبَاطِنِ لا بِاجْتِنَانٍ، الظَّاهِرِ لا بِمُحَاذٍ، الَّذِي قَدْ حَسَرَتْ دُونَ كُنْهِهِ نَوَاقِدُ الْأَبْصَارِ، وَامْتَنَعَ وُجُودُهُ جَوَائِلَ الْأَوْهَامِ، أَوَّلُ الدِّيَانَةِ مَعْرِفَتُهُ، وَكَمَالُ الْمَعْرِفَةِ تَوْحِيدُهُ، وَكَمَالُ التَّوْحِيدِ نَفْيُ الصِّفَاتِ عَنْهُ، لِشَهَادَةِ كُلِّ صِفَةٍ أَنَّهَا غَيْرُ الْمَوْصُوفِ، وَشَهَادَةِ الْمَوْصُوفِ أَنَّهُ غَيْرُالصِّفَةِ، وَشَهَادَتِهِمَا جَمِيعاً عَلَى أَنْفُسِهِمَا بِالْبَيْنَةِ الْمُمْتَنِعِ مِنْهَا الْأَزَلُ، فَمَنْ وَصَفَ اللَّهَ فَقَدْ حَدَّهُ، وَمَنْ حَدَّهُ فَقَدْ عَدَّهُ، وَمَنْ عَدَّهُ فَقَدْ أَبْطَلَ أَزَلَهُ، وَمَنْ قَالَ كَيْفَ فَقَدِ اسْتَوْصَفَهُ، وَمَنْ قَالَ عَلَامَ فَقَدْ حَمَلَهُ، وَمَنْ قَالَ أَيْنَ فَقَدْ أَخْلَى مِنْهُ، وَمَنْ قَالَ إِلَامَ فَقَدْ وَقَّتَهُ، عَالِمٌ إِذْ لَا مَعْلُومَ، وَخَالِقٌ إِذْ لَا مَخْلُوقَ، وَرَبٌّ إِذْ لَا مَرْبُوبَ، وَإِلَهٌ إِذْ لَا مَأْلُوهَ، وَكَذَلِكَ يُوصَفُ رَبُّنَا وَهُوَ فَوْقَ مَا يَصِفُهُ الْوَاصِفُونَ»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ فِي شَيْ ءٍ أَوْ مِنْ شَيْ ءٍ أَوْ عَلَى شَيْ ءٍ فَقَدْ أَشْرَكَ، لَوْ كَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى شَيْ ءٍ لَكَانَ مَحْمُولًا، وَلَوْ كَانَ فِي شَيْ ءٍ لَكَانَ مَحْصُوراً، وَلَوْ كَانَ مِنْ شَيْ ءٍ لَكَانَ مُحْدَثاً»(2).

وعن أبي إبراهيم موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: ذُكِرَ عِنْدَهُ قَوْمٌ يَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَنْزِلُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ

ص: 44


1- التوحيد: ص56 ب2 ح14.
2- التوحيد: ص178 ب128 ح9.

وَتَعَالَى لا يَنْزِلُ وَلا يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يَنْزِلَ، إِنَّمَا مَنْظَرُهُ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ سَوَاءٌ، لَمْ يَبْعُدْ مِنْهُ قَرِيبٌ، وَلَمْ يَقْرُبْ مِنْهُ بَعِيدٌ، وَلَمْ يَحْتَجْ بَلْ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَهُوَ ذُو الطَّوْلِ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، أَمَّا قَوْلُالْوَاصِفِينَ إِنَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَنْزِلُ فَإِنَّمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَنْسُبُهُ إِلَى نَقْصٍ أَوْ زِيَادَةٍ، وَكُلُّ مُتَحَرِّكٍ مُحْتَاجٌ إِلَى مَنْ يُحَرِّكُهُ أَوْ يَتَحَرَّكُ بِهِ، فَظَنَّ بِاللَّهِ الظَّنُونَ فَهَلَكَ، فَاحْذَرُوا فِي صِفَاتِهِ مِنْ أَنْ تَقِفُوا لَهُ عَلَى حَدٍّ، تَحُدُّوهُ بِنَقْصٍ أَوْ زِيَادَةٍ أَوْ تَحَرُّكٍ أَوْ زَوَالٍ أَوْ نُهُوضٍ أَوْ قُعُودٍ، فَإِنَّ اللَّهَ جَلَّ عَنْ صِفَةِ الْوَاصِفِينَ وَنَعْتِ النَّاعِتِينَ وَتَوَهُّمِ الْمُتَوَهِّمِينَ، وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ، الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ، وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ»(1).

السلم في الحياة

مسألة: يستحب أو يجب - كل في مورده - السِّلم والتسالم، وقد قالت (صلوات الله عليها): «ومنه السلام».

وقال تعالى: «ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً»(2).

ومن المعلوم أن كل خير وشرّ من الله سبحانه، فإنه مسبب الأسباب، كما قال تعالى: «وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالخَيْرِ فِتْنَةً»(3)، و(السلام) من الخيرات، ولا ينافي هذا قوله: «فَمِنْنَفْسِكَ»(4) إذ هو من (الأمر بين الأمرين)(5).

ص: 45


1- التوحيد: ص183 ب128 ح18.
2- سورة البقرة: 208.
3- سورة الأنبياء: 35.
4- سورة النساء: 79 وتمام الآية: «مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ».
5- فقد ورد في الحديث عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين»، قال الراوي: قلت: وما أمر بين أمرين؟ قال: «مَثل ذلك: رجل رأيته على معصية فنهيته فلم ينته فتركته ففعل تلك المعصية فليس حيث لم يقبل منك فتركته كنت أنت الذي أمرته بالمعصية». الكافي: ج1 ص160 باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين ح13.

وعلى أي، فإن الشر الصادر من الإنسان كالمعاصي، حيث لم يكن بالقسر بل بإرادة منه واختيار، لذا صحّت نسبته إليه حقيقة، كما صحّت عقوبته، كما يصحّ القول في الوقت ذاته: «وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالخَيْرِ فِتْنَةً».

ثم إن كل شيء منه سبحانه وتعالى إما بلا واسطة، أو بواسطة من يعمله بإذن الله التكويني، سواء كان معه إذنه التشريعي أم لا(1)، كإماتة ملك الموتللناس وغير ذلك.

قال سبحانه: «أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ»(2).

وقال تعالى: «وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى»(3).

مصدر السلام

مسألة: يستحب بيان أن السلام والسلامة في كل شيء, وبين كل شيء وشيء آخر, فهو من الله عزّ وجل.

ص: 46


1- فالعامل بالطاعات يتمتع بالاثنين، والعاصي لا إذن تشريعي له بالمعصية، وإن كان له إذن تكويني إذ لو لم يعطه الله القدرة أو لو حال دونه لما أمكنه أن يفعل. راجع كفاية الأصول، نهاية مبحث الطلب والارادة.
2- سورة الواقعة: 64.
3- سورة الأنفال: 17.

وقولها (صلوات الله عليها): (منه السلام) مطلق شامل لكل شيء، فيستحب التذكير بذلك بكل مناسبة.

فمثلاً: السلام بعد الحرب، والسلامة بعد المرض، كله من الله عزّ وجلّ، وكذا السلام الحاكم بين الناس بعضهم مع بعض, وبين الحيوانات بعضهم مع بعض, وبين الإنسان والحيوان, والإنسان والنبات, والحيوان والنبات, والنبات والنبات، وبين سائر الموجودات مما يرى وما لا يرى.

وكذا السلامة في السفر والحضر، والسلامة في الأغذية والأشربة، والسلامةفي الأجسام والعناصر، والسلامة في الهواء والنور وغيرها، فمصدرها الباري عزّ وجلّ وهو الذي خلقها وأمر بها، وهي بإرادته.

التأكيد المناسب

مسألة: يستحب التأكيد فيما يحتاج إلى التأكيد، تأسياً بها (صلوات الله عليها) إذ قالت: (إن الله هو السلام, ومنه السلام، وإليه السلام)(1).

ص: 47


1- فإن في الجملة عدة تأكيدات كما لا يخفى منها: الحرف المشبه بالفعل، وضمير الفصل أو العماد، وإعادة لفظ الخبر بنفسه.

عمر النبي (صلی الله علیه و آله)

اشارة

روت الصديقة فاطمة (عليها السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه أخبرها وقال: «لا أراني إلاّ ذاهباً على رأس الستين»(1).

-------------------------------------------

القول التقريبي

مسألة: يجوز القول التقريبي فيما يناسبه, فإنه صدق أيضاً، كما قال (صلى الله عليه وآله) «على رأس الستين»، مع أن المشهور أنه (صلى الله عليه وآله) فارق الدنيا في الثالثة والستين(2).

ويحتمل في كلمة «رأس» معنى آخر، مثل مد كل العشرة إلى العشرة الثانية, وحينئذ لا يلزم منه التقريب.ويحتمل أن (العشرة) تقسّم إلى رأس ووسط وآخر(3).

ص: 48


1- المعجم الكبير للطبراني: ج22 ص418.
2- قال الفتال النيسابوري في روضة الواعظين: ص71 مجلس في وفاة خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله): اعلم أن النبي (صلى الله عليه وآله) قبض بالمدينة مسموماً يوم الاثنين: لليلتين بقيتا من صفر سنة عشر من هجرته وهو ابن ثلاث وستين سنة. كما أن العامة اتفقوا على ذلك أيضاً، فقد روى البخاري في صحيحه: ج4 ص163 باب وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) أنه توفي وهو ابن ثلاث وستين، وإن رووا أيضاً عن ابن عباس أن عمره كان خمسة وستين سنة، إلا أن هذا خلاف المشهور عندهم. انظر (مسند أحمد) ج1 ص215.
3- فالرأس من الواحد للثلاثة، والوسط من الأربعة للسبعة، والبواقي من الأخير.

كما يحتمل إرادة الستين السنة الشمسية لا القمرية، نظير قوله تعالى: «وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ» فإنها شمسية «وَازْدَادُوا تِسْعًا»(1) قمرية(2).

وأما احتمال (البداء) فالظاهر أنه ضعيف.

وفائدة الإخبار بالإضافة إلى أنه بيان الواقع: التهيؤ والاستعداد من السامعين, فإن موت العظماء يحتاج إلى استعداد من الناس حتى لا يقعوا في مشاكل مواجهة المجهول الشامل، قال سبحانه: «أَفَإِنْ مَاتَ أو قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ»(3).

وقالت الصديقة الطاهرة (صلوات الله عليها)في خطبتها: «أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا»(4).

حياة العظماء

مسألة: يستحب الإخبار بعمر العظيم، فإنه ذو فائدة بل فوائد.

ولعلّ وجه الرجحان أن الدنيا معلومات وقياسات, ومن الواضح أن

ص: 49


1- سورة الكهف: 25.
2- ففي تفسير البغوي ج2 ص158: روي عن علي (عليه السلام) أنه قال عن أهل الكهف: إنهم لبثوا ثلاثمائة شمسية، والله تعالى ذكر ثلاثمائة قمرية والتفاوت بين الشمسية والقمرية في كل مائة ثلاث سنين فيكون في ثلاثمائة تسع سنين، فلذلك قال: «وَازْدَادُوا تِسْعًا».
3- سورة آل عمران: 144.
4- سورة التوبة: 49، شرح الأخبار: ج3 ص36.

العلم بعمر العظيم من المعلومات الرفيعة، كما أن بمثل هذا العلم تقاس الأشياء، حيث يعرف أن العظيم في هذا العمر كم أنتج من الإنتاج للدنيا والآخرة؟ فيكون أسوة للآخرين.

من هنا يتلهّف الناس على معرفة أحوال العظماء وأعمارهم، فمثلاً كم عاش العلامة الحلي (قدس سره)؟ وكم عمّر العلامة المجلسي (قدس سره)؟ وهكذا، وحينئذ يكون إنتاجه الغزير في هذا العمر القصير نسبياً أسوة لمن أراد التقدم.

تواريخ الأولياء

مسألة: يستحب الاهتمام بحفظ وبيان ما يرتبط بأعمار المعصومين (عليهم السلام)، وتواريخ مواليدهم ووفياتهم، ومايرتبط بحياتهم الشخصية، كأسمائهم - بالمعنى الأعم مما يشمل الكنى والألقاب - ومكان سكنهم وعدد أولادهم ذكوراً وإناثاً، ومعجزاتهم، وحتى بيعهم وشرائهم وعملهم وزراعتهم وتجارتهم(1) وغير ذلك.

وهكذا الأمر بالنسبة إلى ذوي المعصومين (عليهم السلام) وكبار العلماء وصالح المؤمنين، حيث ورد: «من ورخ مؤمناً فقد أحياه»(2).

الإخبار بما يحزن

مسألة: الإخبار بما يُحزن ينقسم إلى الأحكام الخمسة، فإنه إن استلزم إيذاء

ص: 50


1- ذكر الإمام المؤلف (قدس سره) في (الفقه: المال) روايات حول إن الإمام (عليه السلام) أعطى أموالاً لأشخاص ليتجروا بها.
2- مستدرك سفينة البحار: ج10 ص279.

للمؤمن - دون مزاحم أهم - كان حراماً أو مكروهاً، وإن توقف عليه إحقاق حق كان واجباً مقدمياً، وإن كانت فيه جهة راجحة فمستحب، نعم قد يتأمل في وجود المباح(1)، فتأمل.

النبي عيسى

قالت فاطمة (عليها السلام) بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إن عيسى بن مريم لبث في بني إسرائيل أربعين سنة»(2).

أخبار الماضين

مسألة: يستحب بيان أخبار الماضين بتفصيلها، خصوصاً أخبار الأنبياء (عليهم السلام) والأولياء.

وقد بيّنت الصديقة فاطمة (عليها السلام) بعض أخبار النبي عيسى (عليه السلام) في روايتها هذه.

ولعلّ الأربعين تقريبي, وهل المراد مكثه فيهم، أو فترة تبليغه(3)، أو ما أشبه؟

ص: 51


1- لأنه من الأفعال التي تلازم التأثير في الغير ولو بالواسطة، وعليه ينقسم إلى الأحكام الاقتضائية.
2- فضائل سيدة النساء، لابن شاهين: ص19.
3- وهذا هو الظاهر، كما نص عليه الخبر التالي، فقد ورد عنه (صلى الله عليه وآله): «يا فاطمة ! إنه لم يبعث نبي إلاّ عمر الذي بعد نصف عمره، وإن عيسى ابن مريم بعث رسولاً لأربعين، وأني بعثت لعشرين». أي تقريباً.

وعلى بعض الوجوه لا يتنافى مع غيره، مضافاً إلى عدم المنافاة بين المثبتين كما ذكر في علم الأصول، وأن العدد لا مفهوم له.وربما يراد بالأربعين الكثرة، فلا يقال: الروايات في ذلك مختلفة، والله أعلم بحقائق الأمور.

ولا يخفى أن التاريخ عبرة وعظة، وقد سبق أنه ورد: «من ورَّخ مؤمناً فقد أحياه».

فإن الحياة قد تكون مادية، كحياة الإنسان في هذه الدنيا في عمر طبيعي، وقد تكون حياة معنوية، كحياة الإنسان بذكره الحَسَن، كما قال تعالى: «وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ»(1)، أو بأولاده في الدنيا، أو حياته في القبر، أو في القيامة، أو في الجنة.

أما النار، فقد قال سبحانه: «لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا»(2) والعياذ بالله.

وقال أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام): «وسر في ديارهم وآثارهم»(3).

وقد أكثر القرآن الحكيم من التاريخ للاعتبار, وذلك كي يعرف الإنسان مثلاً أن بني إسرائيل كيف فعلوا؟ وما هي أسباب نجاحهم وهلاكهم؟وأنّ آل فرعون ما ذا حلّ بهم؟ وهكذا بالنسبة إلى سائر الأقوام والملل, وفوائد التاريخ كثيرة مذكورة في الكتب المعنية بهذا الشأن.

ص: 52


1- سورة الشعراء: 84.
2- سورة طه: 74.
3- نهج البلاغة: ومن وصية له (عليه السلام) لولده الحسن (عليه السلام) وقد جمع من كل حكمة طرفاً.

ابن مريم

مسألة: قد يقال باستحباب وصف النبي عيسى (عليه السلام) بكونه (ابن مريم)، تأسياً بها (صلوات الله عليها)، ولما فيه من الدلالة والتذكير بالإعجاز والكرامة(1).

عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): لِأَيِّ عِلَّةٍ خَلَقَ اللَّهُ عَزَّوَجَلَّ آدَمَ (عليه السلام) مِنْ غَيْرِ أَبٍ وَأُمٍّ، وَخَلَقَ عِيسَى (عليه السلام) مِنْ غَيْرِ أَبٍ، وَخَلَقَ سَائِرَ النَّاسِ مِنَ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ؟

فَقَالَ: لِيَعْلَمَ النَّاسُ تَمَامَ قُدْرَتِهِ وَكَمَالَهَا، وَيَعْلَمُوا أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ خَلْقاً مِنْ أُنْثَى مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ، كَمَا هُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَهُ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ وَلَا أُنْثَى، وَأَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَعَلَ ذَلِكَ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِير»(2).

ص: 53


1- أقول: ولاتباع ما جاء في القرآن الكريم، فقد ذكره بالأوصاف التالية: «عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ» اثنتي عشرة مرة، و«الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ» خمس مرات، و«الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ» ثلاث مرات، و«ابْنُ مَرْيَمَ» مرتين.
2- علل الشرايع: ج1 ص15 باب12 العلة التي من أجلها خلق الله عز وجل آدم من غير أب وأم، وخلق عيسى من غير أب، وخلق سائر الخلق من الآباء والأمهات ح1.

لبث الأنبياء في أقوامهم

مسألة: التذكير بمدة لبث النبي (عليه السلام) في قومه مستحب، لما فيه من العبرة والحثّ على الصبر والتأسي والاقتداء، ولأنه نوع إحياء لأمرهم (عليهم السلام)، ولعل ما سبق وغيره(1) كان من جهات تحديدها (صلوات الله عليها) مدة مكثه (عليه السلام) في بني إسرائيل.

ص: 54


1- ومن تلك الجهات ما جاء في تتمة الخبر المذكور آنفاً، فقد جاء فيه: «يا فاطمة ! إنه لم يبعث نبي إلاّ عمر الذي بعد نصف عمره، وإن عيسى ابن مريم بعث رسولاً لأربعين، وأني بعثت لعشرين».

دفاعاً عن أبيها

اشارة

عن فاطمة (عليها السلام) قالت: «اجتمعت قريش في الحجر، فقالوا: إذا مرّ محمد علينا فليضربه كل واحد منّا ضربة، فسمعته(1) (عليها السلام) فدخلت على أبيها فذكرت ذلك له»(2).

-------------------------------------------

دفعاً لكيد الأعداء

مسألة: يستحب أو يجب - كل بحسبه - إعلام الشخص بكيد الناس له، والحكم بين الاقتضائي وغيره حسب اختلاف مراتب الكيد، فإن كان الكيد ضاراً ضرراً بالغاً وجب، من جهة وجوب حفظ المؤمنين وإنقاذهم فإنه من ضرورة الشريعة، بالإضافة إلى أنه من باب دفع المنكر, أما إذا كان الضرر خفيفاً مما لم يُعلم من الشارع وجوب دفعه، فيستحب الإعلامبالمكيدة.

ص: 55


1- أي سمعت قولهم واتفاقهم.
2- وتتمة الحديث: وهي تبكي وتقول: «تركت الملأ من قريش قد تعاقدوا في الحجر فحلفوا باللات والعزى ومناة وإساف ونائلة إذا هم رأوك يقومون إليك فيضربونك بأسيافهم فيقتلونك». فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يا بنية اسكتي - وفي لفظ لا تبكي» - ثم خرج (صلى الله عليه وآله) أي بعد أن توضأ فدخل عليهم المسجد فرفعوا رؤوسهم ثم نكسوا فأخذ قبضة من تراب فرمى بها نحوهم ثم قال: «شاهت الوجوه» فما أصاب رجلاً منهم إلا قتل ببدر.

فضح المؤامرات

مسألة: يجوز وقد يجب، الاستماع إلى الأقوال المتضمنة للمؤامرة على المؤمن، وهذا من موارد استثناء حرمة التجسس، فإنه يجوز على الأعداء، إذ بدون الاستماع لا يتيسر دفع الأذى عن المؤمن أو إعلامه به.

والظاهر أنها (عليها الصلاة والسلام) استمعت إلى أقوالهم، لصريح (فسمعته)، لا أنها علمت ذلك بالغيب, وإن كانت هي (عليها السلام) عالمة بما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة.

الاجتماع المحرم

مسألة: الاجتماع للتآمر ضد الدين والمؤمنين محرم، من باب المقدمة، بل قد يقال بحرمته ذاتاً(1) وإن لم يكنموصلاً، لما علم من كونه مبغوضاً للشارع،

ص: 56


1- وقد يكون التآمر ضد الدين نوع من النجوى - أي الإسرار والكلام الخفي - والنجوى بالمعصية محرمة بذاتها لقوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» سورة المجادلة: 810. كما أنه من أنواع الغدر والخيانة، وكلاهما من العناوين المحرمة بذاتها، قال تعالى: «وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ» سورة الأنفال: 58، وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ» سورة الحج: 38، فضلاً عن اتصاف التآمر بعناوين أخرى مثل الظلم والإفساد في الأرض ومحاربة الله ورسوله وغيرها من العناوين المحرمة.

ولعقوبة العقلاء عليه بذاته، فتأمل.

عن علي بن الحسين (عليه السلام) في حديث: «وَإِيَّاكُمْ وَصُحْبَةَ الْعَاصِينَ وَمَعُونَةَ الظَّالِمِينَ وَمُجَاوَرَةَ الْفَاسِقِينَ احْذَرُوا فِتْنَتَهُمْ وَتَبَاعَدُوا مِنْ سَاحَتِهِم»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «مَنْ أَعَانَ عَلَى مُؤْمِنٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيِسٌ مِنْ رَحْمَتِي»(2).

تحرير الأماكن المقدسة

مسألة: يجب استنقاذ (الحجر)(3) وسائر الأماكن المقدسة من أيدي الحكام الجائرين، ومن أيدي الظلمة والمفسدين.

عن الحلبي قال: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): لِمَ جُعِلَ اسْتِلَامُ الْحَجَرِ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَيْثُ أَخَذَ مِيثَاقَ بَنِي آدَمَ دَعَا الْحَجَرَ مِنَ الْجَنَّةِ فَأَمَرَهُ فَالْتَقَمَ الْمِيثَاقَ، فَهُوَ يَشْهَدُ لِمَنْ وَافَاهُ بِالْمُوَافَاةِ»(4).

وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام): أَنَّهُ إِنَّمَا يُقَبَّلُ

ص: 57


1- الكافي: ج 8 ص14 صحيفة علي بن الحسين (عليه السلام) وكلامه في الزهد ح2.
2- الكافي: ج 2 ص368 باب من أخاف مؤمناً ح3.
3- جاء في مجمع البحرين ج1 ص463: (الحجر: الحائط المستدير إلى جانب الكعبة الغربي، وحكى فتح الحاء، وكله من البيت أو ستة أذرع منه أو سبعة أقوال . نقل إن إسماعيل بن إبراهيم النبي (عليهما السلام) دفن أمه في الحجر فحجره عليها لئلا توطأ . وفي الحديث عن الصادق (عليه السلام): «دفن في الحجر مما يلي الركن الثالث عذارى بنات إسماعيل عليه السلام» . وفيه: «الحجر بيت إسماعيل وفيه قبر هاجر وقبر إسماعيل عليه السلام»).
4- وسائل الشيعة: ج13 ص317 ب13 ح17834.

الْحَجَرُ وَيُسْتَلَمُ لِيُؤَدَّى إِلَى اللَّهِ الْعَهْدُ الَّذِي أُخِذَ عَلَيْهِمْ فِي الْمِيثَاقِ، وَإِنَّمَا يُسْتَلَمُ الْحَجَرُ، لِأَنَّ مَوَاثِيقَ الْخَلَائِقِ فِيهِ، وَكَانَ أَشَدَّ بَيَاضاً مِنَ اللَّبَنِ فَاسْوَدَّ مِنْ خَطَايَابَنِي آدَمَ، وَلَوْ لَا مَا مَسَّهُ مِنْ أَرْجَاسِ الْجَاهِلِيَّةِ مَا مَسَّهُ ذُو عَاهَةٍ إِلَّا بَرَأَ»(1).

وعن محمد بن سنان قال: إنَّ أَبَا الْحَسَنِ عَلِيَّ بْنَ مُوسَى الرِّضَا (عليهما السلام) كَتَبَ إِلَيْهِ فِيمَا كَتَبَ مِنْ جَوَابِ مَسَائِلِهِ: عِلَّةُ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ، أَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَخَذَ مَوَاثِيقَ بَنِي آدَمَ الْتَقَمَهُ الْحَجَرُ، فَمِنْ ثَمَّ كُلِّفَ النَّاسُ بِتَعَاهُدِ ذَلِكَ الْمِيثَاقِ، وَمِنْ ثَمَّ يُقَالُ عِنْدَ الْحَجَرِ: أَمَانَتِي أَدَّيْتُهَا وَمِيثَاقِي تَعَاهَدْتُهُ لِتَشْهَدَ لِي بِالْمُوَافَاةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ سَلْمَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيَجِيئَنَّ الْحَجَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِثْلَ أَبِي قُبَيْسٍ، لَهُ لِسَانٌ وَشَفَتَانِ، وَيَشْهَدُ لِمَنْ وَافَاهُ بِالْمُوَافَاةِ»(2).

حفظ المعصوم

مسألة: يجب دفع الأذى عن المعصوم (عليه السلام)

والوجوب هنا آكد من الوجوب بالنسبة إلى سائر الناس، فإن دفع الأذى عن الناس واجب أيضاً في الجملة، بشرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ودفع المنكر.

أما دفع الأذى عن المعصوم (عليه الصلاةوالسلام) فإنه يجب بوجوب أكبر, ويتأكد بتأكد أكثر، وذلك من التخلّق بأخلاق الله سبحانه وتعالى، مضافاً إلى سائر الأدلة العقلية والنقلية(3).

ص: 58


1- وسائل الشيعة: ج13 ص318 ب13 ح17836.
2- وسائل الشيعة: ج13 ص318 ب13 ح17837.
3- قال تعالى: «وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ»- سورة القصص: 20 - وقد قامت سيرة المتشرعة على الدفاع عن المعصوم عليه السلام، بل هو من ضروريات الدين.

قال سبحانه: «إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا»(1).

وفي الحديث: «تخلّقوا بأخلاق الله»(2).

ودفع الأذى قد يكون باللفظ, وقد يكون بالكتابة، وقد يكون مباشرة, وقد يكون تسبّباً، إلى غير ذلك من مصاديق الدفع الواجب.

المسارعة في الانقاذ

مسألة: تجب المسارعة لإنقاذ المؤمن أو لاستنقاذ الحق، فكيف إذا كان معصوماً، كما صنعت (صلوات الله عليها).

والظاهر وجوبه مقدمةً، فإذا كان التأخير سبباً لضياع الحق كلاً أو بعضاً أو تعرضه لبعض الأذى حرم، وإلا كانتالمسارعة مستحبة.

قال تعالى «وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ»(3).

وقال سبحانه: «فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ»(4).

ص: 59


1- سورة الحج: 38.
2- بحار الأنوار: ج58 ص129.
3- سورة آل عمران: 133.
4- سورة البقرة: 148 وسورة المائدة: 48.

اغتياب المشرك

مسألة: لا غيبة للمشرك، حيث ذكرت (عليها السلام) ما قالوه للرسول (صلى الله عليه وآله) .

لوضوح أن قوله سبحانه: «أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا»(1)، يراد بالأخ فيه المؤمن، للانصراف ولغيره(2)، وإن كان ربما يطلق الأخ على الكافر والمشرك ومن أشبه أيضاً، ولكن الإطلاق بالمعنى الأعم.

قال سبحانه: «وَإِخْوَانُ لُوطٍ»(3).

وقال تعالى: «وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا»(4).وقال سبحانه: «وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا»(5).

إلى غير ذلك، وقد ذكرنا تفصيل الغيبة حرمةً وجوازاً في (الفقه: المكاسب

ص: 60


1- سورة الحجرات: 12.
2- قال الإمام المؤلف (قدس سره) في (الفقه: المكاسب المحرمة): ج1 ص260261: (شرائط الغيبة، ثم إن تحقق الغيبة موضوعاً وحرمتها حكماً يتوقف على أمور وشرائط، الشرط الأول: أن يكون المغتاب بالفتح أخاً في الدين كما في الآية - والتي مرت في صدر هذا الموضوع - وفي رواية عبد الرحمان بن سيابة عن الصادق (عليه السلام): «الغيبة أن تقول في أخيك ما ستره الله عليه، وأما الأمر الظاهر مثل الحِدة والعجلة فلا، والبهتان أن تقول ما ليس فيه» إلى غير ذلك من هذا القبيل من الروايات ومن اشتراط كونه أخاً يخرج الكافر والمنافق ونحوهما).
3- سورة ق: 13.
4- سورة الأعراف: 65.
5- سورة الأعراف: 73.

المحرمة) وغيرها(1).

ومن نافلة القول: إن المشركين أرادوا من قولهم (فليضربه كل واحد منّا ضربة) تضييع دمه (صلى الله عليه وآله) بينهم كي لا يمكن الأخذ بثأره، نظير ما حشدوا له في ليلة المبيت، مع احتمال أن يكون ذلك أيضاً للتشفي(2).

حرمة تضييع الحق

مسألة: يحرم تضييع الحق كما أرادوا تضييع دمه (صلوات الله عليه) بأن يشتركوا جميعاً في ضربه.

لكنه هل هو محرم آخر زائداً على حرمة أصل الفعل، قد يقال بذلك لملاك: «يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ»(3) وللارتكاز(4)،فتأمل.

ص: 61


1- الفقه، المكاسب المحرمة: ج1 ص258289.
2- أي ليأخذ كل منهم قسطه من التشفي بضربه.
3- سورة التوبة: 32، فاطفاء نور الله له مصاديق عديدة منها ابطال الحقوق وتضييعها.
4- أي الارتكاز العقلائي أو ارتكاز المتشرعة، والعقلاء يذمون بل يعاقبون من ضيع حق الآخرين باخفاء أو ما شابه.

سرّ الرسول (صلی الله علیه و آله)

اشارة

قالت الصديقة فاطمة (عليها السلام): «ما كنت لأفشي سرّ رسول الله (صلى الله عليه وآله)»(1).

-------------------------------------------

حرمة إفشاء السر

مسألة: إفشاء سرّ الغير حرام شرعاً وعقلاً, بل قد يحرم حتى بالنسبة إلى أسرار الإنسان نفسه في الجملة، قال يعقوب (عليه السلام) ليوسف (عليه السلام): «لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ»(2).

ولأن (السرّ) حق عرفاً، وإفشاؤه تضييع له.

ويدل عليه قاعدة التسلط: (الناس مسلطون)، والتي تشمل حقوقهم أيضاً.

ولا يبعد أن يكون الفرق: أن إفشاء الإنسان سرّ نفسه يحرم أحياناً ويكره أحياناً, وأما إفشاء سرّ غيره المحترم السرّ فإنه يحرم إلا بإذنه فيجوز، إن لم تكن فيه مفسدة أو انطباق عنوان إشاعة الفاحشة(3).

ص: 62


1- الأمالي، للشيخ الصدوق: ص692 المجلس87 ح942.
2- سورة يوسف: 5.
3- كما لو فعل حراماً سرّاً فإن الإعلان عنه إشاعة فاحشة.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «من أفشى سراً استودعه فقد خان»(1).

وعن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قَالَ: قَالَ لَهُ: (عَوْرَةُ الْمُؤْمِنِ عَلَى الْمُؤْمِنِ حَرَامٌ)، قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: يَعْنِي سُفْلَيْهِ، قَالَ: لَيْسَ هُوَ حَيْثُ تَذْهَبُ إِنَّمَا هُوَ إِذَاعَةُ سِرِّهِ»(2).

وعن الإمام الصادق (صلوات الله عليه): «إِفْشَاءُ السِّرِّ سُقُوط»(3).

وفي وصية رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأبي ذر (رضوان الله عليه): «يَا أَبَا ذَرٍّ، الْمَجَالِسُ بِالْأَمَانَةِ، وَإِفْشَاؤُكَ سِرَّ أَخِيكَ خِيَانَةٌ فَاجْتَنِبْ ذَلِك»(4).

سرّ النبي

مسألة: يحرم إفشاء ما يعدّ سرّاً للنبي (صلى الله عليه وآله).

وقول الصديقة (عليها السلام): (ما كنت) وإن كان إخباراً، إلاّ أنه مبنيعلى الحكم التكليفي في رتبة سابقة في اللفظ كاشف عنه عرفاً.

فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أوجب احتراماً من سائر الناس، فالحديث دالّ على شدّة حرمة إفشاء سرّه، وكذلك الأشدية والآكدية في سائر ما يرتبط بالنبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) وجوباً وتحريماً واستحباباً وكراهةً بالنسبة إلى الناس.

ص: 63


1- عيون الحكم والمواعظ: ص446 ب24 الفصل1.
2- معاني الأخبار: ص255 باب معنى قول العالم عليه السلام: عورة المؤمن على المؤمن حرام ح2.
3- تحف العقول: 315.
4- الأمالي، للشيخ الطوسي: ص538 المجلس19 ح1.

ويفهم من هذا الحديث: أن للنبي (صلى الله عليه وآله) أيضاً سرّاً وعلانيةً بالمعنى الصحيح، وإنما قلنا (أيضاً): لأن لكثير من الأشياء والأفراد سرّاً وعلانية، نعم ربما يوجد في بعض الخلق ما ليس له - ظاهراً - سرّ وعلانية، كما يشاهد في مثل الزجاج، وبعض الحيوانات، فقد رؤي بعض الأسماك يظهر باطنه من ظاهره وظاهره من باطنه، وكذلك ما قد ورد في صفات بعض قصور الجنة أو الحور.

هذا بالنظرة الأولى، إلا أنه لا يخفى على المتدبّر أن لتلك الأشياء سرّاً وعلانيةً(1)، وحكم العلانية يختلف باختلافموارده.

أسرار الجماعة

مسألة: وكما يحرم إفشاء سرّ الأفراد كأفراد، يحرم إفشاء سرّ الجماعات، كالعوائل والعشائر والجمعيات والأحزاب والمرجعيات والنقابات وغيرها بالشروط المذكورة، والمستثنى هناك مستثنى هنا أيضاً.

وهل يحرم إفشاء سر الدولة؟

إذا كانت الأسرار مما يضر إفشاؤها المواطنين المؤمنين فمشمول للاضرر.

وإلا فالحكومات الظالمة كما هي الغالب في الدول المعاصرة، لا حرمة لها ولا لأسرارها، بل قد يجب الإفشاء لو كان ردعاً للظلم، ومما تقتضيه مصالح الناس، إذا رعاية مصلحة الرعية هي الأهم.

ص: 64


1- (الزجاج) مثلاً يتركب من ذرات وأجزاء، وكل ذرة تتركب من إلكترون وبروتون، إلى غير ذلك، وحقيقتها وماهيتها سر وقد اكتشف العلم الحديث بعضه لا غير.

بين السرّ والعلانية

مسألة: يستحب أن يكون للإنسان سر وعلانية بالمعنى الصحيح، فإنه من الحكمة والإتقان وما أشبه، فإن كثيراً من الأمور ينبغي أن تكون سرّاً لأن من شأنها أن تُكتم(1)، أو لأن كل الناس لا يتحمّلون العلانية.

ولذا ورد: «استر ذهبك وذهابك ومذهبك»(2), فإن الذهب إذا كان ظاهراً كان معرضاً للسرقة، أو لإثارة الحسد أو العين أو ما أشبه، والذهاب إذا كان ظاهراً كان معرضاً لانتهاز الفرصة من قبل اللصوص أو الأعداء أو القتلة, والمذهب إذا كان ظاهراً في موضع التقية كان معرضاً للإهانة والأذى وربما القتل.

عن الإمام الرضا (عليه السلام) قال: «لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يكون فيه ثلاث خصال، سنة من ربه، وسنة من نبيه، وسنة من وليه، فالسنة من ربه كتمانسره، قال الله عز وجل: «عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ»(3)»(4).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «كتمان سرنا جهاد في سبيل الله»(5).

ص: 65


1- كما فيما يدور بين الزوجين فإن نقله قبيح وقد يحرم.
2- جاء في التحفة السنية للسيد عبد الله الجزائري: ص330: (وورد في وصايا الحكماء: استر ذهبك وذهابك ومذهبك).
3- سورة الجن: 26 - 27.
4- بحار الأنوار: ج72 ص68 ب45 ح2.
5- بحار الأنوار: ج72 ص70 ب45 ح7.

قبح إفشاء السر

مسألة: يقبح إفشاء السرّ مطلقاً.

فإن إفشاء السرّ قد يكون حراماً، وقد لا يصل إلى حد الحرمة فيكون مكروهاً.

ثم إن هذه مسألة كلامية إن دار البحث عن قبح إفشاء ما يتعلق بأصول الدين(1)، وإلا فأخلاقية.

عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «جُمِعَ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فِي كِتْمَانِ السِّرِّ، وَمُصَادَقَةِ الأَخْيَارِ، وَجُمِعَ الشَّرُّ فِي الإِذَاعَةِ وَمُؤَاخَاةِ الأَشْرَارِ»(2).

وعن عبد الله بن سنان، قال: قالت لأبي عبد الله (عليه السلام): «عَوْرَةُ الْمُؤْمِنِ عَلَى الْمُؤْمِنِ حَرَامٌ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: قُلْتُ: يَعْنِي سَبِيلَهُ، فَقَالَ: لَيْسَ حَيْثُ تَذْهَبُ إِنَّمَا هُوَ إِذَاعَةُ سِرِّهِ»(3).

وعن الصادق (عليه السلام): أنه قال: «مَنِ اطَّلَعَ مِنْ مُؤْمِنٍ عَلَى ذَنْبٍ أَوْ سَيِّئَةٍ فَأَفْشَى ذَلِكَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَكْتُمْهَا وَلَمْ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ لَهُ، كَانَ عِنْدَ اللَّهِ كَعَامِلِهَا،وَعَلَيْهِ وِزْرُ ذَلِكَ الَّذِي أَفْشَاهُ عَلَيْهِ، وَكَانَ مَغْفُوراً لِعَامِلِهَا وَكَانَ عِقَابُهُ مَا أَفْشَى عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا مَسْتُوراً عَلَيْهِ فِي الآخِرَةِ، ثُمَّ يَجِدُ اللَّهَ أَكْرَمَ مِنْ أَنْ يُثَنِّيَ عَلَيْهِ عِقَاباً فِي الْآخِرَةِ»(4).

ص: 66


1- كأسرار النبوة.
2- الاختصاص: ص218.
3- مستدرك الوسائل: ج9 ص134 ب137 ح10469.
4- الاختصاص: ص32.

وقال (عليه السلام) في وصيته لولده الحسن (عليه السلام): «وَلا تَخُنْ مَنِ ائْتَمَنَكَ وَإِنْ خَانَكَ، وَلا تُذِعْ سِرَّهُ وَ إِنْ أَذَاعَ سِرَّكَ»(1).

أسرار النبوة

مسألة: يستحب بيان إعلام واطلاع النبي (صلى الله عليه وآله) فاطمة (عليها السلام) على بعض أسراره، بل كلّها وأسرار النبوة، وهذا مما يدلّ على مدى قربها (عليها السلام) منه (عليها السلام).

فإنها(2) بضعة منه(3)،

ص: 67


1- بحار الأنوار: ج74 ص208 ب8 ح1.
2- دليل على التعميم لكل الأسرار.
3- حديث (البضعة) له ألفاظ عديدة وموارد متعددة مروية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهذه بعض مصادر الإمامية (أعزهم الله تعالى): منها قوله (صلى الله عليه وآله): «أشهد أنك بضعة مني» ، انظر (النوادر، للراوندي): ص119 عن الجعفريات. ومنها قوله (صلى الله عليه وآله): «إنها بضعة مني»، انظر (دعائم الإسلام): ج2 ص214 -215 ح792 -793. ومنها قوله (صلى الله عليه وآله): «إن فاطمة بضعة مني»، انظر (النوادر، للراوندي) ص119 عن الجعفريات. ومنها قوله (صلى الله عليه وآله): «وهي بضعة مني» انظر (الخصال): ص573 أبواب السبعين وما فوقه ح1. ومنها قوله (صلى الله عليه وآله): «وهي بضعة مني وهي نور عيني وهي ثمرة فؤادي وهي روحي التي بين جنبي وهي الحوراء الأنسية»، انظر(الأمالي، للشيخ الصدوق): ص175 المجلس24 ح2، و(بشارة المصطفى: ج6 ص306- 307 ح6. ومنها قوله (صلى الله عليه وآله): «إن فاطمة بضعة مني، وهي نور عيني وثمرة فؤادي يسؤني ما ساءها ويسرني ما سرها»، انظر(الأمالي، للشيخ الصدوق): ص575 المجلس73 ح18، و(بشارة المصطفى): ص275 ح89. ومنها قوله (صلى الله عليه وآله): «إن فاطمة بضعة مني وأنا منها، فمن آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذاها بعد موتي كان كمن آذاها في حياتي، ومن آذاها في حياتي كان كمن آذاها بعد موتي»، انظر(علل الشرائع): ج1 ص186- 187 ب149 ح2. ومنها قوله (صلى الله عليه وآله): «يا أباذر، إنها بضعة مني، فمن آذاها فقد آذاني»، انظر (كفاية الأثر): ص37 وص65 و(كتاب سليم بن قيس): ص391. ومنها قوله (صلى الله عليه وآله): «ألا إنك بضعة مني، من آذاك فقد آذاني»، انظر (كفاية الأثر): ص64. ومنها قوله (صلى الله عليه وآله): «بضعة مني، فمن آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله»، انظر (دلائل الإمامة): ص135 ح43، والاستغاثة: ج1 ص11. ومنها قوله (صلى الله عليه وآله): «إن فاطمة بضعة مني، من آذاها فقد آذاني، ومن غاضها فقد غاضني، ومن سرها فقد سرني»، انظر (الاعتقادات، للشيخ المفيد): ص105. ومنها قوله (صلى الله عليه وآله): «إن فاطمة بضعة مني وهي روحي التي بين جنبي، يسؤوني ما ساءها، ويسرني ما سرها»، انظر (الاعتقادات، للشيخ المفيد): ص105، إلى غيرها من الموارد.

وروحه التي بين جنبيه(1)، وهي منه وهو منها(2).

ص: 68


1- الأمالي، للشيخ الصدوق: ص175 المجلس24 ح2 ونصه: «وأما ابنتي فاطمة، فإنها سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، وهي بضعة مني، وهي نور عيني، وهي ثمرة فؤادي، وهي روحي التي بين جنبي، وهي الحوراء الإنسية، متى قامت في محرابها بين يدي ربها جل جلاله زهر نورها لملائكة السماء كما يزهر نور الكواكب لأهل الأرض».
2- علل الشرائع: ج1 ص186 ب149 ح2، ونصه: «إن فاطمة بضعة مني، وأنا منها، فمن آذاها فقد آذاني، من آذاني فقد آذى الله، ومن آذاها بعد موتى كان كمن آذاها في حياتي، ومن آذاها في حياتي كان كمن آذاها بعد موتي».

ويدلّ عليه أيضاً: ما دلّ علىمساواتها لعلي (صلوات الله عليهما) بل وحتى ما دلّ على كونها تالية في الفضل له.

بيان السرّ المستحب

مسألة: ربما يستحب اطلاع الغير إذا كان أهلاً على سرّ الإنسان مع ترتب الفائدة فيه(1).وقد يجب إذا كان في تركه محذور محرم، فتأمل.

وكذلك الأمر في الجماعات، شرط إحراز رضى الجميع، أو كونه في ضمن عهد أو عقد جرى بناؤهم عليه، وأما الدول فلا حق لها في إفشاء أسرارها

ص: 69


1- ولذا كان للأئمة (عليهم السلام) وللعلماء ولأهل الفضل في كل الأوقات ما يعرف بأصحاب السر، ويدل على ذلك ما رواه الشيخ الصدوق في عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج1 ص40 - 41 ب4 ح29: عن محمد بن سنان قال: دخلت على أبي الحسن (عليه السلام) قبل أن يحمل العراق بسنة، وعلي ابنه (عليه السلام) بين يديه، فقال لي: «يا محمد» فقلت: لبيك، قال: «إنه سيكون في هذه السنة حركة تجزع منها» ثم أطرق ونكت بيده في الأرض ورفع رأسه إلي وهو يقول: «ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء»، قلت: وما ذاك جعلت فداك؟ قال: «من ظَلَم ابني هذا حقه وجحد إمامته من بعدي، كان كمن ظلم علي بن أبي طالب (عليه السلام) حقه وجحد إمامته بعد محمد عليه السلام»، فعلمت أنه قد نعى إليّ نفسه ودلّ على ابنه، فقلت: والله لئن مدّ الله في عمري لأسلمن إليه حقه ولأقرن له بالإمامة وأشهد أنه من بعدك حجه الله تعالى على خلقه والداعي إلى دينه، فقال لي: «يا محمد يمد الله في عمرك وتدعو إلى إمامته وإمامة من يقوم مقامه من بعده»، فقلت: من ذاك جعلت فداك؟، قال: «محمد ابنه» قال: قلت: فالرضا والتسليم، قال: «نعم، كذلك وجدتك في كتاب أمير المؤمنين (عليه السلام): أما إنك في شيعتنا أبين من البرق في الليلة الظلماء». ثم قال: «يا محمد إن المفضل كان اُنسي ومستراحي، وأنت أنسهما ومستراحهما حرام على النار أن تمسك أبداً».

التي هي من حقوق شعوبها، لسائر الدول إلاّ برضى الناس أو ممثليهم.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): الْمَجَالِسُ بِالْأَمَانَةِ إِلَّا ثَلَاثَةَ مَجَالِسَ: مَجْلِسٌ سُفِكَ فِيهِ دَمٌ حَرَامٌ، وَمَجْلِسٌ اسْتُحِلَّ فِيهِ فَرْجٌ حَرَامٌ، وَمَجْلِسٌ اسْتُحِلَّ فِيهِ مَالٌ حَرَامٌ بِغَيْرِ حَقِّهِ»(1).

أمانة صاحب السر

مسألة: ينبغي ملاحظة الأمانة في من ينقل إليه السرّ، كما فعل النبي (صلى الله عليه وآله) حيث نقل إلى الزهراء (عليها السلام) دون نسائه مثلاً أسراره، فإنه إذا كان لابدّ من نقل السر, يستحب أويلزم - كل في مورده - أن ينقله إلى أمين أو أمينة..

أما نقل الإنسان سرّه إلى غير الأمين، فإنه تفريط بالسر؛ إذ هو السبب في إذاعته، فقد أفشى سرّه بنفسه(2)، ولا يلومنّ إلاّ نفسه إذا وقع في محذور من تلك الجهة.

عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «أربعة يذهبن ضياعاً: مودة تمنحها من لا وفاء له، ومعروف عند من لا يشكر له، وعلم عند من لا استماع له، وسر تودعه عند من لا حصافة له»(3).

ص: 70


1- الأمالي، للشيخ الطوسي: ج2 ص52 المجلس الثاني ح40.
2- وقد ذهب علماء الرجال إلى أن التعبير عن راو من الرواة بأنه: (صاحب سر الإمام أو كان من خواصه أو حواريه وما شابه) دلالة على وثاقة الراوي إن لم يدل على الأعلى من ذلك.
3- الخصال: ص264باب الأربعة ح144.

التحدث عن النفس وفضائلها

مسألة: يجوز للإنسان أن يتحدث عن نفسه، بل أن يبيّن فضائلها، خاصة إذا كان فيه الفائدة، من تحريض على صفةٍ فاضلة، أو حثٍّ على عمل خير أو ما أشبه، والجواز هنا بالمعنى الأعم، ولذا قالت الصديقة (عليها السلام): «ما كنت لأفشي سر رسول الله (صلى الله عليه وآله)»، فإنها أسوة وحجة يتمسك بفعلها وقولها وتقريرها (عليها السلام).

والفرق بين (ما كنت لأفشي) و(لا أفشي): أن الأول يدل على الصفة النفسية والحالة أو الملكة، دون الثاني.

وإنما قلنا إن الجواز هنا بالمعنى الأعم، لأنه قد يكون واجباً, كما إذا توقف معرفة الغير، الواجبة على ذلك(1)،مثل: قوله سبحانه: «إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا»(2).

وما ورد في أحاديث عرض الرسول (صلى الله عليه وآله) نفسه على القبائل، وكان (صلى الله عليه وآله) يبيّن أنه رسول من قبل الله سبحانه وتعالى(3).

وكذلك ما ورد في إخبار أمير المؤمنين علي (عليه الصلاة والسلام) عن نفسه

ص: 71


1- وكذا من باب تثبيت الحجة وإلزامهم، وكذا من باب تذكيرهم علّهم نسوا أو تناسوا فضله فذكرهم به، ويستحسن فيما لو كان ذكر الفائدة مطلوبة ومستحسنة، كما في ذكر الراوي الثقة فضل نفسه عن لسان المعصوم (عليه السلام)، وهذا الوجه أحد الوجوه التي يدفع به قول من ذهب إلى أن ذلك يدل على سوء نفسية الراوي.
2- سورة الأعراف: 158.
3- راجع بحار الأنوار: ج19 ص5 - 14 ب5 ح5.

وفضائلها(1).

وما ذكره الإمام الحسين (صلوات الله عليه) في كربلاء من قوله:

أنا الحسين بن علي *** آليت آن لا أنثني

الأبيات(2).

وروى الشيخ الصدوق في أماليه: ثم وثب الحسين (عليه السلام) متوكئاً على سيفه، فنادى بأعلى صوته، فقال: «أنشدكم الله، هل تعرفوني؟».

قالوا: نعم، أنت ابن رسول الله وسبطه.

قال: «أنشدكم الله، هل تعلمون أن جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟».

قالوا: اللهم نعم.

قال: «أنشدكم الله، هل تعلمون أن أمي فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله)؟».

قالوا: اللهم نعم.

ص: 72


1- وله موارد عديدة، منها حديث احتجاجه (عليه السلام) على جماعة كثيرة من المهاجرين والأنصار، انظر نصه في الاحتجاج للشيخ الطبرسي: ج1 ص210 - 225.
2- انظر (مناقب آل أبي طالب): ج3 باب إمامة أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) ص258.

قال: «أنشدكم الله، هل تعلمون أن أبي علي بن أبي طالب (عليه السلام)؟».

قالوا: اللهم نعم.

قال: «أنشدكم الله، هل تعلمون أن جدتي خديجة بنت خويلد (عليه االسلام)، أول نساء هذه الأمة إسلاما؟».

قالوا: اللهم نعم.

قال: «أنشدكم الله، هل تعلمون أن سيد الشهداء حمزة (عليه السلام) عم أبي؟».

قالوا: اللهم نعم.

قال: «فأنشدكم الله هل تعلمون أن جعفراً (عليه السلام) الطيار في الجنة عمي؟».

قالوا: اللهم نعم.

قال: «فأنشدكم الله، هل تعلمون أن هذا سيف رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنا متقلده؟».

قالوا: اللهم نعم.

قال: «فأنشدكم الله، هل تعلمون أنهذه عمامة رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنا لابسها؟».

قالوا: اللهم نعم.

قال: «فأنشدكم الله، هل تعلمون أن علياً (عليه السلام) كان أولهم إسلاماً، وأعلمهم علماً، وأعظمهم حلماً، وأنه ولي كل مؤمن ومؤمنة؟».

إلى آخر الحديث(1).

من مصاديق كشف السر

مسألة: من مصاديق كشف السرّ: إظهار الأمر قبل أن يستحكم، فإنه مفسدة له كما في الحديث، وكليّه إظهار السرّ قبل أن يحين وقته.

ص: 73


1- الأمالي، للشيخ الصدوق: ص222 - 223 المجلس30 ح1.

عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : «إظهار الشيء قبل أن يستحكم مفسدة له»(1).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «لَا تَعَجَّلُوا الْأَمْرَ قَبْلَ بُلُوغِهِ فَتَنْدَمُوا»(2).

وقال (عليه السلام): «وَإِيَّاكَ وَالْعَجَلَةَبِالْأُمُورِ قَبْلَ أَوَانِهَا»(3).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «الْأُمُورُ مَرْهُونَةٌ بِأَوْقَاتِهَا»(4).

العرف وكشف السر

مسألة: كشف السرّ أمر عرفي، يختلف باختلاف الأعراف والأزمنة والظروف والحالات والاعتبارات.

عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الْمَجَالِسُ بِالْأَمَانَةِ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُحَدِّثَ بِحَدِيثٍ يَكْتُمُهُ صَاحِبُهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ثِقَةً أَوْ ذِكْراً لَهُ بِخَيْرٍ»(5).

ص: 74


1- المحاسن: ج2 ص603 باب كتمان الوجع ح31.
2- تحف العقول: ص112.
3- نهج البلاغة: ص444 كتاب53 من كتاب له (عليه السلام) كتبه للأشتر النخعي (رحمه الله)
4- غوالي اللئالي: ج1 ص293 الفصل العاشر ح180، وعنه بحار الأنوار: ج74 ص165 ب7 ح2.
5- الكافي: ج 2 ص660 باب المجالس بالأمانة ح3.

من آداب النوم

اشارة

عن فاطمة الزهراء (صلوات الله عليها) قالت: «دخل عليّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد افترشت فراشي للنوم, فقال: يا فاطمة لا تنامي إلاّ وقد عملت أربعة: ختمت القرآن, وجعلت الأنبياء شفعاءك, وأرضيت المؤمنين عن نفسك, وحججت واعتمرت, قال هذا وأخذ في الصلاة, فصبرت حتى أتمّ صلاته. قلت: يا رسول الله أمرت بأربعة لا أقدر عليها في هذا الحال! فتبسّم (صلى الله عليه وآله) وقال: إذا قرأت: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» ثلاث مرات فكأنك ختمت القرآن, وإذا صليت عليّ وعلى الأنبياء قبلي كنّا شفعاءك يوم القيامة, وإذا استغفرت للمؤمنين رضوا كلهم عنك, وإذا قلت: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر, فقد حججت واعتمرت».

-------------------------------------------

مستحبات النوم

مسألة: المستحبات في وقت المنام كثيرة، منها: ما ورد في هذه الرواية، وقد ذكر الحاج النوري (رحمه الله) في (دار السلام) كثيراً منها, ولا يخفى أن بعضها متزاحمة، ولا بأس بذلك في المستحب، حيث إنه لا اقتضائي فلا محذور فيه من وجوب الإتيان بجميعها.

وربما كان ذكر المستحبات الكثيرة في الوقت الواحد، كمستحبات مثل ليلة القدر، مما لا يمكن الجمع بينها عادة، ليأخذ كل شخص بطرف منها، حسب

ص: 75

إقباله ورغبته وقابليته.

وقد يكون التنويع لمكان التنوع في الثواب عليه وأجرها.

نعم لا يصح تنجّز الوجوب في المتزاحمين، فيما لا يسع الوقت لهما، ولا يمكن جمعهما، لما حقّق في (الأصول) من قبح التكليف بما لا يسعه الوقت أو لا يطيقه الشخص.

افتراش الفرش

مسألة: هل يستحب افتراش الفراش أم الأفضل أن ينام حيث تيسر؟

لعلّ الأول أرجح، تأسياً بها (صلوات الله عليها)، ولما فيه من النظم، وقد أوصى به أمير المؤمنين (عليه السلام): (أوصيكم .. ونظم أمركم)(1)، ولغير ذلك(2).

وقد يستثنى من ذلك المجاهدون فيما لو زوحم بجهادهم وعملهم أو نخبة حركتهم وسرعة استجابتهم أو انتباههم ويقظتهم.

التعبيرات المجازية

مسألة: يجوز التعبير المجازي، ولا يعدّ المجاز من الكذب، كما هو مبيّن في علم البلاغة، وربما يستحسن مع مراعاة العلقة المشترطة على ما هو مذكور في

ص: 76


1- نهج البلاغة: ومن وصية له (عليه السلام) بعدما ضربه ابن ملجم: «أوصيكم وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ونظم أمركم.. ».
2- مثل ما في النوم في الفراش من الهدوء والسكينة، وما فيه من حفظ حق الزوج ورعايته أمر الزوجة.

مظانها، حيث قال (صلى الله عليه وآله): «ختمتِ القرآن» وقصد ما يكون كختم القرآن، ويحتمل كونه بنحو الحقيقة الادعائية.

وقد يطلق (العمل) على (الكلام)، كما أنه ربما يطلق العمل على العمل القلبي بالتفكّر والتذكّر وما أشبه, فإن كل واحد من اللسان والقلب إذا تحرّك كان عملاً، وهكذا بالنسبة إلى الأذن والشم، فإنّ ما يصدر منهما أعمال صادرة من النفس والجوارح، كما حقّق في علم التشريح.

فالعمل أعم من الجوارحي بأقسامه، والجوانحي كذلك.

التكلم مع المصلي

مسألة: يكره التكلم مع المصلي وهو في حال الصلاة، ويستحب الصبر إلى حينما يفرغ، ولعلّه يستفاد ذلك من قولها (عليها السلام): «فصبرت حتى أتمّ صلاته»، بالاستفادة العرفية.والصبر وإن كان فعلاً لا جهة له، إلا أنه قول ههنا.

ثم (لا جهة له) ليس مطلقاً، بل من حيث تحديد الوجوب والندب؛ لأنه ينفي الحرمة والكراهة بل والإباحة أيضاً؛ إذ لا يعملون (عليهم السلام) إلاّ الواجب والمستحب وقد سبق.

والحكم بالكراهة إذا لم تكن هناك جهة محرّمة أو جهة موجبة, فالجهة المحرّمة كما إذا أوجب الكلام معه إيذاءه من جهة وقوعه في الاشتباه وما أشبه، فيدخل في ضمن الإيذاء المحرّم, كما أنه قد يجب الكلام معه فيها إذا كان هناك خطر عليه من عقرب أو حيّة أو ما أشبه, فإذا لم ينبهه وقع في ما لا يجوز الوقوع

ص: 77

أو الإيقاع - ولو بترك التنبيه - فيه، وذلك لأن حفظ الإنسان لغيره واجب أيضاً في الجملة، إذا كان عدم حفظه يؤدي إلى ضرره ضرراً بالغاً، وكان الحفظ مقدوراً له.

استحباب السؤال

مسألة: يستحب السؤال عن (المجمل) في الجملة, كما سألت (عليها السلام) أباها (صلى الله عليه وآله) بقولها: «قلت: يا رسول الله ..».

والحكم بوجوب السؤال عن المجملوالمبهم في الجملة، لقوله تعالى: «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ»(1).

بل السؤال مطلقاً في مثل مورد الآية وما يتعلق بالتكاليف.

وأما استحبابه فلكون العلم كمالاً ونوراً فيستحب مطلقاً إلاّ ما ثبت من الشرع مرجوحيته على نحو الحرمة كالسحر(2) والقيافة في الجملة(3)، أو الكراهة كعلم الأنساب غير النافعة(4).

ص: 78


1- سورة النحل: 43.
2- قال الشيخ الأنصاري في المكاسب ج1 ص257: (المسألة العاشرة: السحر حرام في الجملة بلا خلاف بل هو ضروري).
3- قال الشيخ الأنصاري في المكاسب ج2 ص7: (المسألة السابعة عشر: القيافة حرام في الجملة، نسبه في الحدائق إلى الأصحاب، وفي الكفاية: لا أعرف خلافا، وعن المنتهى: الإجماع والقائف - كما عن الصحاح والقاموس والمصباح -: هو الذي يعرف الآثار. وعن النهاية ومجمع البحرين زيادة: أنه يعرف شبه الرجل بأخيه وأبيه). والحرمة تكون فيما إذا رتب عليها أثراً واعتبرها حجة.
4- لما فيه من إضاعة الوقت والعمر. وقد ورد عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: «دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله) المسجد فإذا جماعة قد أطافوا برجل، فقال: ما هذا؟ فقالوا: علاّمة يا رسول الله، فقال: وما العلامة؟ قالوا: أعلم الناس بأنساب العرب ووقائعها وأيام الجاهلية وبالأشعار، فقال (صلى الله عليه وآله): ذاك علم لا يضر من جهله ولا ينفع من علمه. ثم قال النبي (صلى الله عليه وآله): " إنما العلم ثلاثة: آية محكمة، أو فريضة عادلة، أو سنة قائمة. وما خلاهن فهو فضل» الكافي: ج1 ص32 باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء ح1.

قال سبحانه: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ»(1).

وأما المباح فكالرمل(2) والاسطرلاب(3)إن لم يترتب عليه جهة حرمة أو

ص: 79


1- سورة المائدة: 101.
2- ذهب السيد الكلبايكاني (قدس سره) في إرشاد السائل ص98: إلى عدم جواز تعلم الرمل، قال في جواب السؤال التالي: هل يجوز تعلم علمي الجفر والرمل، وهل يجوز الاعتقاد في صحة نتائجهما؟ قال قدس سره: بسمه تعالى: يجوز تعلم الجفر ولكن الجفر الكامل عند الأئمة " عليهم السلام " والذي عند الناس ناقص خطأه أكثر من صوابه، وأما الرمل فالظاهر عدم جوازه، والله العالم. وقالوا في تعريف الرمل: (هو علم يعرف به الاستدلال على أحوال المسألة حين السؤال بأشكال الرمل، وهي اثنا عشر شكلاً على عدد البروج، وأكثر مسائل هذا الفن أمور تخمينية مبنية على التجارب فليس بتام الكفاية، لأنهم يقولون كل واحد من البروج يقتضي حرفاً معيناً وشكلاً من أشكال الرمل، فإذا سئل عن المطلوب فحينئذ يقتضي وقوع أوضاع البروج شكلاً معيناً فيدل بسبب المدلولات وهى البروج على أحكام مخصوصة مناسبة لأوضاع تلك البروج، لكن المذكورات أمور تقريبية لا يقينية). كشف الظنون: ج1 ص912. وقيل: إنه علم علمه جبرئيل لإدريس (عليه السلام)، انظر (إلزام الناصب في إثبات الحجة الغائب): ج1 ص210.
3- قال الشيخ صاحب الذريعة (قدس سره): ج2 ص58: (الاسطرلاب: لفظ يوناني معناه ميزان الشمس، أو معرب فارسيه (استاره ياب) كما استظهره بعض مهرة الفن، وعلى كل فهو اسم للآلة المشهورة التي يتوسل بها إلى معرفة كثير من أحوال النجوم وأحكامها، وقد ألفت في صنعة هذه الآلة وتحقيق كيفية استعمالها لاستخراج تلك الأحوال والاحكام كتب كثيرة مختصرة ومبسوطة). وقال المحدث الشيخ عباس القمي (رحمه الله) في الكنى والألقاب: ج2 ص75: (قيل: إن أول من وضعه بطليموس صاحب المجسطي المعروف في الهيئة الذي قد حرره الخواجة نصير الدين الطوسي (قدس سره) .. قيل: إن بطليموس كان تلميذ جالينوس، وجالينوس تلميذ بليناس، وبليناس تلميذ أرسطو، وأرسطو تلميذ أفلاطون، وأفلاطون تلميذ سقراط، وسقراط تلميذ بقراط، وبقراط تلميذ جاماسب، وجاماسب أخو كشتاسب وهو من تلامذة لقمان الحكيم، مثل فيثاغورث الحكيم المشهور) انتهى.

كراهة، فتأمل(1).

الأصل الحكم التكليفي

مسألة: ظاهر النهي والأمر، الحرمة والوجوب التكليفيين، وأما إرادة

ص: 80


1- للتأمل وجه وجيه، فأما من ناحية علم الرمل فقد مرّ ما فيه، وأما علم الاسطرلاب فقد يقال برجحانه أو لزومه في بعض الحالات، لما فيه من مقدمة لمعرفة القبلة وأوقات الصلاة ووجهات السفر وما شابه، قال الشهيد الثاني في (روض الجنان): ص176: (ومن الطرق الدقيقة التي يعلم بها الزوال الأسطرلاب). وقال العلامة المجلسي في بحار الأنوار: ج81 ص86 ب10 تعليقاً لما أورده من (رسالة إزاحة العلة في معرفة القبلة) للشيخ الجليل شاذان بن جبرئيل: (أقول: إنما أوردت الرسالة بتمامها، لاشتهارها بين علمائنا المتأخرين، و تعويلهم عليها في أحكام القبلة، لكن العلامات التي ذكرها (رحمه الله) كثير منها مخالفة للتجربة، والقواعد الهيئاوية، بل لا يوافق بعضها بعضاً، ولم نتكلم في ذلك، لأن استيفاء القول فيها يوجب بسطاً لا يناسب الكتاب والرجوع إلى القواعد الرياضية، والآلات المعدة لذلك من الأسطرلاب والهندسة أضبط وأقوى، والتعويل عليها أحوط وأولى..).

الكراهة أو الندب، أو كونهما إرشاديين لا مولويين فبالقرينة.

وفي المقام حيث نهى (صلى الله عليه وآله) عن النوم إلاّ بعمل الأربعة المتضمن للأمر المحمول على الاستحباب، يحمل النهي والأمر على الندب أو الإرشاد، للإجماع على عدم الوجوب، ولما يستشعر من التعليل في آخر الرواية(1).

استحباب التبسّم

مسألة: يستحب التبسّم عند الإجابة في الجملة, وربما يكون مستحباً عند الخطاب والتكلم، وربما يكون مستحباً في الأعم مما ذكر، فإن من علامات المؤمن التبسّم، ولما فيه من إدخال السرور على قلب المؤمن، ولكونه (أحبولة المودة) كما قالوا(2).

عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «المؤمن يكون صادقاً في الدنيا، لطيف اللسان ، كثير التبسم ..»(3).

ومن أسماء رسول الله (صلى الله عليه وآله): «الضحوك» كما ورد في بحار الأنوار(4)،فإن الضحك والتبسم من مثل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير

ص: 81


1- قيل: (إن النهي المعلل يفيد الكراهة).
2- الأحبولة تعني: المصيدة، الشرك، الحيلة.
3- مستدرك الوسائل: ج11 ص174 ب4 من أبواب جهاد النفس ح11.
4- فقد ورد عن ابن عباس قال: لما دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) بكعب بن أسد ليضرب عنقه فأخرج، وذلك في غزوة بني قريظة، نظر إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال له: «يا كعب أما نفعك وصية ابن حواش الحبر المقبل من الشام؟» فقال: (تركت الخمر والخمير، وجئت إلى البؤس والتمور؛ لنبي يبعث، هذا أوان خروجه، يكون مخرجه بمكة، وهذه دار هجرته، وهو الضحوك القتال، يجتزئ بالكسرة والتميرات، ويركب الحمار العاري، في عينيه حمرة، وبين كتفيه خاتم النبوة، يضع سيفه على عاتقه، لا يبالي بمن لاقى، يبلغ سلطانه منقطع الخف والحافر)، قال كعب: قد كان ذلك يا محمد، ولولا أن اليهود تعيرني أني جبنت عند القتل لآمنت بك وصدقتك، ولكني على دين اليهودية عليه أحيى وعليه أموت. بحار الأنوار: ج15 ص206 ب2 ح24.

المؤمنين (عليه الصلاة والسلام)، بل من كل شريك وصديق ومعلّم ووالد وقريب وغيرهم، يوجب انجلاء الغمّة عن النفس وإدخال السرور.

وفي الرواية: «كان ضحك النبي (صلى الله عليه وآله) التبسم»(1).

وقال لقمان لابنه: «وأكثر التبسم في وجوههم»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام): «من ضحك في وجه أخيه المؤمن تواضعاً لله عزوجل أدخله الجنة»(3).

وقال (عليه السلام) : «تبسم المؤمن في وجه المؤمن حسنة»(4).

النهي عن الضحك

أما قوله سبحانه: «فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا»(5)، فهو لما أفاده تعالى بقوله: «جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ»(6)، فهو تنبيه وإرشاد، فإن المسيء

ص: 82


1- الأمالي للشيخ الطوسي: ص522 المجلس18 ح63.
2- الكافي: ج8 ص348 ح547.
3- فقه الرضا (عليه السلام): ص398.
4- وسائل الشيعة: ج12 ص120 ب84 ح15822. ومشكاة الأنوار: ص180 الفصل23.
5- سورة التوبة: 82.
6- سورة التوبة: 82.

يجب عليه أن يكون محزوناً لا أن يكون ضاحكاً، فقد ورد في الحديث: «من أذنب وهو يضحك دخل النار وهو يبكي».

وفي الحديث عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) عن علي (عليه السلام)، قال: «كَانَ ضَحِكُ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) التَّبَسُّمَ فَاجْتَازَ ذَاتَ يَوْمٍ بِفِتْيَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَإِذَا هُمْ يَتَحَدَّثُونَ وَيَضْحَكُونَ مِلْ ءَ أَفْوَاهِهِمْ، فَقَالَ: مَهْ يَا هَؤُلَاءِ، مَنْ غَرَّهُ مِنْكُمْ أَمَلُهُ وَقَصَرَ بِهِ فِي الْخَيْرِ عَمَلُهُ فَلْيَطَّلِعِ الْقُبُورَ وَلْيَعْتَبِرْ بِالنُّشُورِ وَاذْكُرُوا الْمَوْتَ فَإِنَّهُ هَادِمُ اللَّذَّاتِ»(1).

من أحكام التبسم

وقد يستحب الضحك والتبسّم لطرو عنوان خاص، كما في قوله:

هو البكّاء في المحراب ليلاً هوالضحّاك إذا اشتد الضراب(2)

ص: 83


1- وسائل الشيعة: ج12 ص119 ب83 ح15817.
2- من قصيدة للشاعر المعروف بابن الفارض المصري، انظر: مستدرك سفينة البحار: ج8 ص181، ومن أبياتها: بآل محمد عرف الصواب * وفي أبياتهم نزل الكتاب وهم حجج الإله على البرايا * بهم وبجدّهم لا يستراب ولا سيما أبو حسن علي * له في الحرب مرتبة تهاب طعام سيوفه مهج الأعادي * وفيض دم الرقاب لها شراب وضربته كبيعته بخم * معاقدها من القوم الرقاب علي الدر والذهب المصفى * وباقي الناس كلهم تراب هو البكاء في المحراب ليلا * هو الضحاك إذا اشتد الضراب هو النبأ العظيم وفلك نوح * وباب الله وانقطع الخطاب.

وهل ضحكه (عليه السلام) إذا اشتد الضراب، لأجل تثبيت المؤمنين وشدّ قلوبهم، إضافة إلى ظهور كونه علامة فرح ورضى بامتثال أمر الله تعالى في شدة الأهوال، وأن نفسه هاشة باشة بذلك رغم الشدائد والتعب والجراحات، لا يبعد ذلك.

ثم إن التبسّم قد يكون لأجل المخاطب، وقد يكون لأجل غيره من الآخرين، وقد يكون للغائبين أيضاً، كما قد يكون لنفسه.قال تعالى: «فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا»(1).

من الجمع المستحب

مسألة: قد يقال باستحباب أن يجمع الإنسان كلما أمكن في المقام الواحد بين ما يرتبط بربه، وما يرتبط بوسائطه في خلقه أي الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام)، وما يرتبط بسائر المؤمنين، ومايرتبط بنفسه.

ويشمل ذلك الإطلاقات، وقد يستفاد من هذا الحديث تنقيح المناط؛ فإن الأعمال الأربعة ترتبط بالجهات الأربعة الآنفة كما هو واضح.

قراءة سورة الإخلاص

مسألة: يستحب قراءة سورة التوحيد مطلقاً, وذلك لأهمية هذه السورة البالغة, حيث تعدل ثلاثة منها القرآن كله(2)، كما يتأكد الاستحباب في مقامات

ص: 84


1- سورة النمل: 19.
2- روى الشيخ الصدوق في الأمالي: ص86 المجلس9 ح5 قال سلمان: لكني سمعت حبيبي رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول لعلي (عليه السلام): «يا أبا الحسن، مثلك في أمتي مثل سورة التوحيد (قُلْ هُو اللهُ أَحَدٌ) فمن قرأها مرة فقد قرأ ثلث القرآن، ومن قرأها مرتين فقد قرأ ثلثي القرآن، ومن قرأها ثلاثا فقد ختم القرآن، فمن أحبك بلسانه فقد كمل له ثلث الإيمان، ومن أحبك بلسانه وقلبه فقد كمل له ثلثا الإيمان، ومن أحبك بلسانه وقلبه ونصرك بيده فقد استكمل الإيمان، والذي بعثني بالحق يا علي لو أحبك أهل الأرض كمحبة أهل السماء لك لما عُذب أحد بالنار، وأنا أقرأ (قُلْ هُو اللهُ أَحَدٌ) في كل يوم ثلاث مرات».

منها: المذكور في هذه الرواية.

عن عبد العزيز بن المهتدي قال: سألت الرضا (عليه السلام) عن التوحيد؟ فقال: «كل من قرأ "قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ" وآمن بها فقد عرف التوحيد»(1).

وعن معاذ بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «لا تدع أن تقرأ (قُلْ هُوَ اللهُ) و(قُلْ يا أَيُّها الْكَافِرُونَ) في سبعة مواطن: في الركعتين قبل الفجر، وركعتي الزوال، وركعتين بعد المغرب، وركعتين في أول صلاة الليل، وركعتي الإحرام، والفجر إذا أصبحت بها، وركعتي الطواف»(2).

وقال المحقق الهمداني في مصباحه:

(عن صفوان الجمال قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ تجزيفي خمسين صلاة»(3)، إذ الظاهر أن المقصود بالرواية بيان فضل (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) وكونها مجزية في الصلوات بأسرها من حيث الكمال لا مجرد الصحة التي يشاركها فيها سائر السور، وأوضح منه دلالة عليه ما رواه الكليني،

ص: 85


1- التوحيد: ص284 باب أدنى ما يجزئ من معرفة التوحيد ح3.
2- الكافي: ج3 ص316 باب قراءة القرآن ح22.
3- تهذيب الأحكام: ج2 ص96 باب كيفية الصلاة وصفتها .. ح360.

باسناده عن صفوان الجمال، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «صلاة الأوابين الخمسون كلها بقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ»(1)، وعن الصدوق في كتاب التوحيد بإسناده عن عمران بن الحصين: إن النبي (صلى الله عليه وآله) بعث سرية واستعمل عليها علياً (عليه السلام) فلما رجعوا سألهم فقالوا: كل خير، غير أنه قرأ بنا في كل الصلوات بقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، فقال: «يا علي لِمَ فعلت هذا؟» قال: «لحبي بقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ»، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): «ما أحببتها حتى أحبك الله»(2)، ويكره ترك قراءة (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) في جميع الفرائض لما رواه الكليني بإسناده عن منصور بن حازم، عن أبي عبد الله (عليهالسلام) قال: «من مضى به يوم واحد فصلى فيه خمس صلوات ولم يقرأ فيها بقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ قيل له: يا عبد الله لست من المصلين»(3)، ويظهر من جملة من الأخبار استحباب القراءة في الفرائض مطلقاً بالقدر والتوحيد حتى الفجر، واختيارهما على غيرهما، كخبر علي بن راشد قال: «قلت لأبي الحسن (عليه السلام): جعلت فداك إنك كتبت إلى محمد بن الفرج تعلمه أن أفضل ما يقرأ في الفرائض (إنّا أَنْزَلْناهُ) و(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) وإن صدري يضيق بقراءتهما في الفجر، فقال (عليه السلام): «لا يضيقن صدرك فإن الفضل والله فيهما»(4)، وعن الصدوق مرسلا قال: حكى من صحب الرضا (عليه السلام) إلى خراسان أنه كان يقرأ في الصلوات في اليوم والليلة في الركعة الأولى الحمد وإنا أنزلناه وفي الثانية الحمد وقُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ، وعنه في

ص: 86


1- الكافي: ج3 ص314 باب قراءة القرآن ح13.
2- التوحيد: ص94 باب تفسير (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) إلى آخرها ح11.
3- ثواب الأعمال: ص127 ثواب قراءة (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ).
4- انظر جامع أحاديث الشيعة: ج5 ص148 ب13 من أبواب القراءة في الصلاة ح10.

العيون بإسناده عن رجاء بن أبي الضحاك عن الرضا (عليه

السلام) نحوه(1)، وفي خبر عمر بن أذينة الوارد فيكيفية صلاة النبي (صلى الله عليه وآله) ليلة المعراج أنه تعالى أمره في الركعة الأولى بعد الحمد بقراءة التوحيد، فقال: «اقرأ قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ فإنها نسبتي ونعتي»، وفي الثانية بعد ما قرأ الحمد قال: «اقرأ إنّا أَنْزَلْناهُ فإنها نسبتك ونسبة أهل بيتك إلى يوم القيامة»(2)..)(3).

ولعلّ وجه أهمية سورة الإخلاص اشتمالها على ما يرتبط بأصول الدين أي: المبدأ تعالى.

ومن المعلوم أن أصول الدين بالمعنى الأعم ثلاثة - وإن كان من الصحيح أن تعد خمساً أيضاً -: التوحيد بما يشمل العدل, والنبوة بما يشمل الإمامة, والمعاد.

ولعلّ استحباب تكرار الإخلاص ثلاثة من جهة ملئ هذين الفراغين, أي ما كان في موضع النبوة والمعاد، أو غير ذلك.

ولعلّ كونها تعدل ثلث القرآن من جهة أن القرآن لبيان: التوحيد والنبوة والمعاد، وهي الأصول المتضمنة للأصلين الآخرين أيضاً, وسورة التوحيد تبيّن أحد هذه الثلاثة أي ثلثها, وحيثإنها تعدل ثلث القرآن تكون ثلاثة منها بمثابة القرآن كله، والله العالم.

ص: 87


1- وسائل الشيعة: ج6 ص79 ب23 من أبواب القراءة في الصلاة ح3.
2- انظر علل الشرائع: ج2 ص316 ب1 ح1.
3- مصباح الفقيه: ج2 ق1 ص307 ما يستحب قراءته من السور في الصلاة.

الصلاة على الأنبياء

مسألة: يستحب الصلاة على الأنبياء (عليهم أفضل الصلاة والسلام) في مختلف الأوقات والأزمنة، ويتأكد في أوقات كما فيما قبل النوم، وذلك للأهمية الكبيرة للصلاة على محمد وآله والأنبياء من قبله (عليهم السلام) باعتبار الشفاعة وغيرها(1).

مضافاً إلى أن الصلاة عليهم نوع من الشكر لما قاموا به من هداية البشر(2).

ص: 88


1- كالأثر الوضعي للصلاة عليهم؛ على الجوارح والجوانح، وعلى الأجواء والطبيعة.
2- لا يقال: إن الزهراء (عليها السلام) أفضل من الأنبياء (عليهم السلام) ما عدا أبيها (صلى الله عليه وآله) فكيف يكون الأنبياء (عليهم السلام) شفعاء لها (عليها السلام) وهي الأفضل. فيقال: أولاً: الشفاعة المذكورة لا تكون لها (عليها السلام) بالخصوص، فهي غنية عن الشفاعة، لأن الجنة والنار والسماوات والأرضين خلقت لأجلها، بل شفاعة الأنبياء (عليهم السلام) لها باعتبارها شفيعة لنساء أمة النبي الأعظم (صلوات الله عليه وآله) أو لشيعة أمير المؤمنين (عليه السلام) كما ورد هذان المعنيان في الروايات، ولا ضير في اجتماعهما، فشفاعتهم (عليهم السلام) شفاعة لمن تشفع فيهم، كما أن قوله تعالى: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) محمول على هذا المعنى أيضاً، ومن المعلوم أن بعض المؤمنين في دار الحق يحتاج إلى شفاعات متعددة ليصل إلى مراتب الجنة سواء أدناها أو أعلاها. ثانياً: إن الشفاعة مقام محبوب بذاته، ليرقى الإنسان من خلاله لمراتب أعلى وأعلى، والزهراء (صلوات الله عليها) وإن كانت في أعلى المراتب بلا شك ولا ريب، ولكن بزيادة شفاعة الأنبياء (عليهم السلام) لها (عليها السلام) تزداد علواً ومقاماً.

الاستغفار للمؤمنين

مسألة: يستحب الاستغفار للمؤمنين وخاصة الأموات منهم، لأن الاستغفار يوجب رضاهم وإدخال السرور عليهم وقضاء حوائجهم، بالإضافة إلى أن الاستغفار للمؤمنين والمؤمنات من حق الأموات علينا، وهو من أسباب القرب إلى الله سبحانه وتعالى ورضاه.

ورد عن أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام): «أحبب لغيرك ما تحب لنفسك»(1)، وفي حديث: «وهل الدين إلاّ الحب»(2) الدال على: أهمية الحب في الشريعة, سواء حب الله وأنبيائه وأوليائه، أو حب سائر المؤمنين، أو حب عمل الخير أوما أشبه، فالحصر إضافي.

كما أن من استغفر للناس استغفروا له، بإلهام من الله أو تموج من القلوب أو ما أشبه.

وقد أمر الله سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله) بالاستغفار للمؤمنين، قال تعالى: «وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ»(3).

وقال سبحانه: «رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ»(4).

كما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله) قوله: «من استغفر للمؤمنين والمؤمنات

ص: 89


1- نهج البلاغة: ج3 ومن وصية له (عليه السلام) لولده الحسن (عليه السلام).
2- المحاسن: ج1 ص263 باب الحب والبغض في الله ح327.
3- سورة محمد: 19.
4- سورة الحشر: 10.

كتب الله به بكل مؤمن ومؤمنة حسنة».

وعن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْأَمْوَاتِ، إِلاّ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ حَسَنَةً مُنْذُ بَعَثَ اللَّهُ آدَمَ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ»(1).

معرفة آداب النوم

مسألة: يستحب تعليم وتعلّم المستحبات مطلقاً، ومنها: آداب النوم.

وكذلك بالنسبة إلى المكروهات والمباحات، فإن الواجب من الأحكام الخمسة الاقتضائية يجب تعليمها وتعلمها، أما المستحب والمكروه والمباح فيستحب، لأن استحباب المقدمة أو وجوبها حسب غايتها للتلازم العرفي بينهما، بالإضافة إلى الأدلة العامة المذكورة في الفقه.

نعم قد تجب معرفة غير الواجب والحرام من باب حفظ الشريعة، فإنها(2) أعم من الاقتضائيات.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لا خَيْرَ فِي الْعَيْشِ إِلَّا لِمُسْتَمِعٍ وَاعٍ أَوْ عَالِمٍ نَاطِق»(3).

وقال (صلى الله عليه وآله): «أَعْلَمُ النَّاسِ مَنْ جَمَعَ عِلْمَ النَّاسِ إِلَى عِلْمِهِ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ قِيمَةً أَكْثَرُهُمْ عِلْماً، وَأَقَلُّ النَّاسِ قِيمَةً أَقَلُّهُمْ عِلْماً، وَأَوْلَى النَّاسِ

ص: 90


1- وسائل الشيعة: ج7 ص116 ب43 ح8891.
2- أي (الشريعة) أعم من الاقتضائي، فتشمل اللا اقتضائي (الإباحة والندب والكراهة)، وحفظ الشريعة بكلها واجب.
3- نوادر الراوندي: ص18.

بِالْحَقِّ أَعْمَلُهُمْ بِهِ، وَأَحْكَمُ النَّاسِ مَنْفَرّ َمِنْ جُهَّالِ النَّاس»(1).

وقال (صلى الله عليه وآله): رَحِمَ اللَّهُ مَنْ تَعَلَّمَ فَرِيضَةً أَوْ فَرِيضَتَيْنِ فَيَعْمَلُ بِهَا أَوْ يُعَلِّمُهَا مَنْ يَعْمَلُ بِهَا فَيَنْطَوِي عَلَيْهَا ثُمَّ يَحْمِلُهَا إِلَى أَخٍ لَهُ مُسْلِمٍ يُعَلِّمُهُ إِيَّاهَا وَإِنَّهَا لَتَعْدِلُ عِبَادَةَ سَنَة»(2).

وعن أبي بصير، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: مَنْ عَلَّمَ خَيْراً فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهِ، قُلْتُ: فَإِنْ عَلَّمَهُ غَيْرَهُ يَجْرِي ذَلِكَ لَهُ، قَالَ: إِنْ عَلَّمَهُ النَّاسَ كُلَّهُمْ جَرَى لَهُ، قُلْتُ: فَإِنْ مَاتَ، قَالَ وَإِنْ مَاتَ»(3).

السؤال للتعليم

مسألة: يستحب السؤال عما يعلمه الإنسان إذا كان ذلك لتعليم الآخرين, فإنه نوع تعليم، فإن الصديقة الطاهرة (عليها السلام) كانت تعلم ما قصده الرسول (صلى الله عليه وآله) ومع ذلك سألت لتعليم الناس.

عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:«النَّاسُ ثَلَاثَةٌ عَالِمٌ وَمُتَعَلِّمٌ

وَغُثَاءٌ»(4).

و(غثاء): بضم الغين المعجمة والثاء المثلثة والمد، ما يحمله السيل من الزبد والوسخ وغيره.

وعن أبي حمزة الثمالي، قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): «اغْدُ

ص: 91


1- روضة الواعظين: ج1 ص8.
2- مجموعة ورام (تنبيه الخواطر ونزهة النواظر): ج2 ص212.
3- الكافي: ج1 ص35 باب ثواب العالم والمتعلم ح3.
4- الكافي: ج 1 ص34 باب أصناف الناس ح2.

عَالِماً أَوْ مُتَعَلِّماً أَوْ أَحِبَّ أَهْلَ الْعِلْمِ، وَلا تَكُنْ رَابِعاً فَتَهْلِكَ بِبُغْضِهِمْ»(1).

وعن جميل، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سمعته يقول: «يَغْدُو النَّاسُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ، عَالِمٍ وَمُتَعَلِّمٍ وَغُثَاءٍ، فَنَحْنُ الْعُلَمَاءُ وَشِيعَتُنَا الْمُتَعَلِّمُونَ وَسَائِرُ النَّاسِ غُثَاءٌ»(2).

سؤال العارف

مسألة: قد يكون سؤال العارف في نفسه مستحباً، مع قطع النظر عن فائدة تعليم الآخرين، بل الاستحباب بالنسبة إلى نفس الإنسان، وذلك من جهة التكرار الموجب لقوة الملكة والتأكيد وما أشبه.

عن أبي جعفر (عليه السلام): «عالمينتفع بعلمه أفضل من سبعين ألف عابد»(3).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «إِنَّ النَّاسَ آلُوا (4) بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) إِلَى ثَلَاثَةٍ، آلُوا إِلَى عَالِمٍ عَلَى هُدًى مِنَ اللَّهِ قَدْ أَغْنَاهُ اللَّهُ بِمَا عَلِمَ عَنْ عِلْمِ غَيْرِهِ، وَجَاهِلٍ مُدَّعٍ لِلْعِلْمِ لا عِلْمَ لَهُ مُعْجَبٍ بِمَا عِنْدَهُ قَدْ فَتَنَتْهُ الدُّنْيَا وَفَتَنَ غَيْرَهُ، وَمُتَعَلِّمٍ مِنْ عَالِمٍ عَلَى سَبِيلِ هُدًى مِنَ اللَّهِ وَنَجَاةٍ ثُمَّ هَلَكَ مَنِ ادَّعَى وَ خَابَ مَنِ افْتَرَى»(5).

ص: 92


1- الكافي: ج 1 ص34 باب أصناف الناس ح3.
2- الكافي: ج 1 ص34 باب أصناف الناس ح4.
3- الكافي: ج 1 ص33 باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء ح8.
4- أي رجعوا.
5- الكافي: ج 1 ص33 باب أصناف الناس ح1.

استحباب البيان ورجحان الإجابة

مسألة: يستحب البيان، وترجّح الإجابة على سؤال من يعلم لأجل تعليم الآخرين، وللفوائد الأخرى المذكورة وغيرها، كما صنع الرسول (صلى الله عليه وآله) حين بيّن المستحبات للزهراء (سلام الله عليها) مع أنها كانت تعلم بذلك، وذلك تعليماً للناس.

وهكذا الاستحباب بالنسبة إلى نفس المعلَّم - بالفتح - من جهة التركيز في ذهنه أو ما أشبه.

وقد ورد أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان كثيراً ما يبيّن الحكم مرات، ويجيب مرات.

وقبل ذلك ذكر القرآن الحكيم بعض الآيات مكرراً(1)، مثل قوله سبحانه: «فَبِأَيِّ آَلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ»(2)، وإن كانت المصاديق في كل آية مختلفة، وكذلك الدلالاتالمقارنة، على القول بها(3).

وكذلك كرّر سبحانه قوله: «فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ»(4).

وهكذا نزلت بعض الآيات مكرراً، كقوله سبحانه: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ

ص: 93


1- رغم علم السامع بها باستماع قوله تعالى أول مرة.
2- سورة الرحمن: 13- 16- 18- 21- 23- 25- 28- 30- 32- 34- 36- 38- 40- 42- 45- 47- 49- 51- 53- 55- 57- 59- 61- 63- 65- 67- 69- 71- 73- 75- 77.
3- وهو ما احتمله الآخوند (قدس سره) في الكفاية.
4- سورة القمر: 15- 17- 22- 32- 40- 51.

عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا»(1)، حيث نزلت في أكثر من مناسبة(2).

ص: 94


1- سورة الأحزاب: 33.
2- فقد نزلت هذه الآية المباركة في بيت أمير المؤمنين (عليه السلام): فعن ابن حبان في صحيحه: ج15 ص432 - 433 باب مناقب الحسن والحسين (عليهما السلام): عن واثلة بن الأسقع قال: سألت عن علي في منزله، فقيل لي: ذهب يأتي برسول الله (صلى الله عليه وآله)، إذ جاء فدخل رسول الله (صلى الله عليه وآله) ودخلت، فجلس رسول الله (صلى الله عليه وآله) على الفراش وأجلس فاطمة عن يمينه، وعلياً عن يساره، وحسناً وحسيناً بين يديه، وقال: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا» «اللهم هؤلاء أهل بيتي». * ونزلت في بيت أم سلمة، فعنها (رضوان الله عليها) أنها قالت: في بيتي نزلت «إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت»، قالت: فأرسل رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) فقال: «هؤلاء أهل بيتي». قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه. المستدرك: ج3 ص146 مناقب أهل البيت (عليهم السلام). * ونزلت في بيت عائشة، فعن عائشة قالت: خرج النبي (صلى الله عليه وآله) غداة وعليه مرط مرجل من شعر أسود، فجاء الحسن والحسين فأدخلهما معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها معهما، ثم جاء علي فأدخله معهم، ثم قال: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا». قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. المستدرك: ج3 ص147 مناقب أهل البيت (عليهم السلام). * ونزلت في بيت صفية، فعن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، عن أبيه، قال: لما نظر رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى الرحمة هابطة، قال: «أدعوا لي أدعوا لي». فقالت صفية: من يا رسول الله؟ قال: «أهل بيتي علياً وفاطمة والحسن والحسين». فجيء بهم فألقى عليهم النبي (صلى الله عليه وآله) كساءً ثم رفع يديه. ثم قال: «اللهم هؤلاء آلي فصل على محمد وعلى آل محمد» . وأنزل الله عز وجل «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا». قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. المستدرك: ج3 ص148.

وقد ورد أن سورة الحمد أيضاً نزلت مكرراً، ولذا سميت بالسبع المثاني(1).بل: إن القرآن كلّه نزل على قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله) أكثر من مرة(2).

ختم القرآن

مسألة: يستحب ختم القرآن مطلقاً.

وذلك لجملة متواترة من الروايات، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «من ختم القرآن فكأنما أدرجت النبوة بين جنبيه ولكنه لا يوحي إليه»(3).هذا بالإضافة إلى أنه عقلي، فإن الإنسان الذي يكرّر قراءة القرآن ويختمه ينتقش القرآن في ذهنه أكثر فأكثر, مضافاً إلى أن الإنسان يلتذ بالكلام الحسن

ص: 95


1- قال الفخر الرازي في تفسيره: ج1 ص176 في ذكر الأسباب في تسمية الفاتحة بالسبع المثاني، قال: (الثامن: سميت مثاني لأن الله أنزلها مرتين).
2- عن حفص ابن غياث، قال: قلت للصادق جعفر بن محمد (عليه السلام): أخبرني عن قول الله عز وجل: «شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ»، كيف أنزل القرآن في شهر رمضان؟ وإنما أنزل القرآن في مدة عشرين سنة، أوله وآخره. فقال (عليه السلام): «أنزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان إلى البيت المعمور، ثم أنزل من البيت المعمور في مدة عشرين سنة». الأمالي للشيخ الصدوق: ص119 المجلس15 ح5. وعن ابن عباس قال: اُنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ثم اُنزل بعد ذلك بعشرين سنة، «وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا»، «وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلا». المستدرك: ج2 ص222.
3- الكافي: ج2 ص604 باب فضل حامل القرآن ح5.

الجميل وتتنور روحه به، فكيف بمثل القرآن الذي هو أرفع الكلام وأعلاه، قال المتنبي في أصل التلذذ بالكلام:

أسامياً لم تزده معرفةً *** وإنما لذة ذكرناها(1)

بالإضافة إلى أن تكرار القرآن يوجب عمق التدبّر، كما قال سبحانه: «أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا»(2).

ومن الواضح أن التدبّر في القرآن غير التفسير بالرأي، لأن معنى التدبّر اكتشاف ما أراده القرآن, والتفسيربالرأي هو أن يقول في القرآن برأيه، فلا منافاة بين قوله سبحانه: «أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ»(3) وبين ما ورد من أن «من فسّر القرآن برأيه فليتبؤ مقعده من النار»(4).

القرآن في عهد رسول الله

مسألة: يستحب بل قد يجب بيان أن القرآن قد جمع في عهد رسول الله

ص: 96


1- قالها أبو الطيّب المتنبي في قصيدته الهائية عند ما ورد على عضد الدولة البويهي بشيراز في جمادى الأولى سنة أربع وخمسين وثلاثمائة، وفي قصيدته: وقد رأيت الملوك قاطبة * وسرت حتى رأيت مولاها ومن مناياهم براحته * يأمرها فيهم وينهاها أبا شجاع بفارس عضد * الدولة فنا خسرو شهنشاها أساميا لم تزده معرفة * وإنما لذة ذكرناها
2- سورة محمد: 24.
3- سورة النساء: 82 وسورة محمد (صلى الله عليه وآله): 24.
4- غوالي اللئالي: ج4 ص104 ح154.

(صلى الله عليه وآله) بهذا الشكل الموجود بين أيدينا، من دون زيادة ولا نقيصة ولا تحريف حتى في كلمة واحدة.

وعلى ذلك الأدلة الكثيرة على ما فصّلناه في بعض كتبنا(1).

ومما يؤيد ذلك: إطلاق كلمة (الختم) في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومن جانبه (صلى الله عليه وآله) على القرآن، فلولا أنه مجموع كامل، لما صدق عليه الختم، فإن الختم يصدق على ما له أول وآخر.وفي هذه الرواية الشريفة قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إذا قرأت: «قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ» ثلاث مرات فكأنك ختمت القرآن».

وقال (صلى الله عليه وآله): «من ختم القرآن فكأنما أدرجت النبوة بين جنبيه ولكنه لا يوحي إليه»(2).

إلى غير ذلك.

تحصيلاً للشفاعة

مسألة: يجب أن يفعل الإنسان ما يوجب له شفاعة الأنبياء (عليهم السلام).

فإن النجاة من النار والفوز بالجنة من أوجب الواجبات عقلاً وشرعاً, والشفاعة مقدمة للأمرين، ومقدمة الواجب واجبة عقلاً، وقال جمع من الأصوليين: بأنها كذلك شرعاً، على ما ذكرناه في الأصول.

ص: 97


1- راجع كتاب (متى جمع القرآن) للإمام الشيرازي (قدس سره).
2- الكافي: ج2 ص604 باب فضل حامل القرآن ح5.

عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله: «فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ»(1)، قال: «الشَّافِعُونَ الْأَئِمَّةُ وَالصَّدِيقُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ»(2).وقال أبو جعفر (عليه السلام): «إِنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) شَفَاعَةً فِي أُمَّتِهِ»(3).

إرضاء الناس

مسألة: يستحب إرضاء الناس، مهما كان إلى ذلك سبيل، ما دام لم يزاحم بالأهم ولم يوجب سخط الباري عزوجل.

فإن إرضاءهم يوجب تماسك الاجتماع وقوته، وكلما كان الاجتماع أقوى تماسكاً يكون أرضى لله سبحانه وتعالى.

قال سبحانه: «وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ»(4).

إلى غير ذلك من الآيات والروايات المتواترة المذكورة في علمي الفقه والأخلاق.

نعم لا يجوز إرضاء الناس إذا كان بإسخاط الله، فإنه: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»(5).

ص: 98


1- سورة الشعراء: 100 - 101.
2- المحاسن: ج1 ص184 ب45 ح187.
3- المحاسن: ج1 ص184 ب45 ح188.
4- سورة الأنفال: 46.
5- دعائم الإسلام: ج1 ص350 ذكر ما يجب للأمراء وما يجب عليهم.

تبسّم الأب

مسألة: يستحب تبسّم الأب في وجه ابنته.

وهذا من باب المصداق لكلي استحباب التبسّم، وربما يكون آكد وأكثر أهمية وأفضل نسبة، بالنسبة للأقارب والأرحام وخاصّة الأب مع أولاده وبالأخص مع ابنته.

والحاصل: إن التبسّم مستحب مطلقاً، إذا لم يكن هناك محذور, والتبسّم بالنسبة إلى الأرحام أكثر استحباباً حيث إنه نوع صلة الرحم، وقد قالوا: إن التبسّم أحبولة المودة, وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يبتسّم بكثرة حتى لُقب بالضحوك, كما ورد خبر بذاك في «البحار»(1).

وهكذا ورد بالنسبة إلى أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام)(2)، حتى عابوا عليه أن به دعابة(3).

ص: 99


1- قال ابن عباس: (اسمه في التوراة أحمد الضحوك، القتال، يركب البعير، ويلبس الشملة، ويجتزي بالكسرة، سيفه على عاتقه). بحار الأنوار: ج16 ص114115 ب6 ح44.
2- انظر(الأنوار البهية): ص72.
3- عن ابن عباس قال: إني لأطوف بالمدينة مع عمر ويده على جنحي إذ زفر زفرة كادت تطير بأضلاعه فقلت: سبحان الله والله ما أخرج هذا منك إلا هم شديد؟ قال: أي والله هم شديد، قلت: ما هو؟، قال: هذا الأمر، لا أدري فيمن أضعه؟ ثم نظر إليّ فقال: لعلك تقول: إن علياً صاحبها، قال: قلت: إي والله إني لأقول ذاك وإني به أخبر الناس، فقال: وكيف ذاك؟ قال: قلت: لقرابته من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وصهره وسابقته و علمه وبلائه في الإسلام، فقال: إنه لكما تقول ولكنه رجل فيه دعابة. الإيضاح: ص162164.

عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «تبسّم المؤمن في وجه المؤمن حسنة»(1).

الحج والعمرة

مسألة: الحج والعمرة راجحان، وجوباً أو استحباباً، كل في مورده.

نعم قد يحرمان لعارض، كنهي المولى أو الزوج أو ما أشبه ذلك في المستحب منهما، وفي بعض أقسام الواجب كما لو عرّض نفسه لخطر القتل بذلك، أو رأى الفقيه في الذهاب للحج في سنة من السنين محذوراً ثانوياً(2).أما إذا ابتليا بالضد فليسا بمحرّمين من جهة الأمر بالضد، لما حققه الأصوليون من أن الأمر بالشيء لا ينهي عن ضدّه, نعم ذكر ذلك جماعة من الأصوليين والفقهاء, لكن الرأي الأوفق في التحقيق هو ما ذكره المتأخرون(3).

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِيمَانٌ لَا شَكَ فِيهِ وَغَزْوٌ لَا غُلُولَ فِيهِ وَحَجٌّ مَبْرُور»(4).

وفي الرواية: «حَجَّ الْحَسَنُ (عليه السلام) خَمْسَ عَشْرَةَ حِجَّةً مَاشِياً وَإِنَّ الْجَنَائِبَ لَتُقَادُ مَعَهُ»(5).

ص: 100


1- جامع أحاديث الشيعة: ج15 ص544 ب8 من أبواب العشرة ح1.
2- كما حرّم السيد أبو الحسن الأصفهاني (قدس سره) الذهاب للحج مؤقتاً لهتك الحكومة السعودية حرمة الحجاج وقتلها (أبا طالب) الحاج الإيراني.
3- راجع ما ذكره الإمام المؤلف (أعلى الله درجاته) في الأصول: ج3 ص346 -350.
4- عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج2 ص28 ب31 ح20.
5- بحار الأنوار: ج43 ص347 ب16 20.

وَعَنْ عَلِيٍّ (صلوات الله عليه) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) قَالَ: «مَنْ أَرَادَ دُنْيَا أَوْ آخِرَةً فَلْيَؤُمَ هَذَا الْبَيْتَ، مَا أَتَاهُ عَبْدٌ فَسَأَلَ اللَّهَ دُنْيَا إِلَّا أَعْطَاهُ مِنْهَا أَوْ سَأَلَهُ آخِرَةً إِلَّا ادَّخَرَ لَهُ مِنْهَا، أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَتَابِعُوا بَيْنَهُمَا، فَإِنَّهُمَا يَغْسِلَانِ الذُّنُوبَ كَمَا يَغْسِلُ الْمَاءُ الدَّرَنَ، وَيَنْفِيَانِ الْفَقْرَ كَمَا تَنْفِي النَّارُخَبَثَ الْحَدِيدِ»(1).

وعَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «عَلَيْكُمْ بِحَجِّ هَذَا الْبَيْتِ فَأَدْمِنُوهُ فَإِنَّ فِي إِدْمَانِكُمُ الْحَجَّ دَفْعَ مَكَارِهِ الدُّنْيَا عَنْكُمْ وَأَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَة»(2).

الاستغفار للأموات

مسألة: يستحب الاستغفار للمؤمنين الأموات كما يستحب للمؤمنين الأحياء، ولا يختص الغفران بالذنب لتنحصر فائدة الاستغفار فيمن له ذنب، بل يكون الاستغفار عن المكروه، وعن ترك الأولى، بل وعن القصور أيضاً، كما فصّلنا في الجواب عن شبهة معصية الأنبياء واستغفارهم، فإنه - كما بينا - عن القصور لا عن المكروه ولا عن ترك الأولى فهم (عليهم السلام) منزهون عن كل ذلك.

عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله): «يَلْزَمُ الْحَقُّ

ص: 101


1- دعائم الإسلام: ج1 ص295.
2- مستدرك الوسائل: ج8 ص49 باب استحباب الحج والعمرة عينا فی كل عام وإدمانها ولو بالاستنابة ح9045.

لِأُمَّتِي فِي أَرْبَعٍ يُحِبُّونَ التَّائِبَ وَيَرْحَمُونَالضَّعِيفَ وَيُعِينُونَ الْمُحْسِنَ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلْمُذْنِبِ»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «مَنْ قَالَ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَاً وَعِشْرِينَ مَرَّةً: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِعَدَدِ كُلِّ مُؤْمِنٍ مَضَى وَبِعَدَدِ كُلِّ مُؤْمِنٍ بَقِيَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ حَسَنَةً وَمَحَا عَنْهُ سَيِّئَةً وَرَفَعَ لَهُ دَرَجَةً»(2).

وعن الصادق (عليه السلام)، عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ أَوْ مُؤْمِنَةٍ مَضَى مِنْ أَوَّلِ الدَّهْرِ أَوْ هُوَ آتٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلَّا وَهُمْ شُفَعَاءُ لِمَنْ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيُؤْمَرُ بِهِ إِلَى النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُسْحَبُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ يَا رَبَّنَا هَذَا الَّذِي كَانَ يَدْعُو لَنَا فَشَفِّعْنَا فِيهِ فَيُشَفِّعُهُمُ اللَّهُ فَيَنْجُو»(3).

من لطف الباري عزوجل

مسألة: يستحب بيان لطف الله تعالى بأن جعل بعض ما يستسهل فعله بمنزلة مايصعب فعله من حيث الأجر والثواب.

ولذلك أمثلة كثيرة، من أبرزها ما يرتبط بالشعائر الحسينية المقدسة، من بكاء وإبكاء وتباك والزيارة، والمشي للزيارة، واللعن على أعداء وقاتلي الإمام الحسين (عليه السلام)، فإنها أمور بسيطة مقارنة بالثواب الذي تستوجبه.

ص: 102


1- بحار الأنوار: ج90 ص384 ب 26 ح7.
2- بحار الأنوار: ج90 ص384 ب 26 ح5.
3- بحار الأنوار: ج90 ص385 ب 26 ح10.

والتفصيل مذكور في مثل (كامل الزيارات) لابن قولويه القمي (رضوان الله عليه).

ثم إن اللطف الإلهي شمل كل شيء، حتى الحيوانات والجمادات، تشريعاً وتكويناً.

قال الصادق (عليه السلام): «انْظُرْ يَا مُفَضَّلُ إِلَى لُطْفِ اللَّهِ جَلَّ اسْمُهُ بِالْبَهَائِمِ كَيْفَ كُسِيَتْ أَجْسَامُهُمْ هَذِهِ الْكِسْوَةَ مِنَ الشَّعْرِ وَ الْوَبَرِ وَ الصُّوفِ، لِيَقِيَهَا مِنَ الْبَرْدِ وَكَثْرَةِ الْآفَاتِ، وَأُلْبِسَتِ الأَظْلافَ وَالْحَوَافِرَ وَالأَخْفَافَ لِيَقِيَهَا مِنَ الْحَفَاءِ، إِذْ كَانَتْ لا أَيْدِيَ لَهَا وَلا أَكُفَّ وَلا أَصَابِعَ مُهَيَّأَةً لِلْغَزْلِ وَالنَّسْجِ، فَكُفُوا بِأَنْ جُعِلَ كِسْوَتُهُمْ فِي خِلْقَتِهِمْ بَاقِيَةً عَلَيْهِمْ مَا بَقُوا، لا يَحْتَاجُونَ إِلَى تَجْدِيدِهَا وَالاسْتِبْدَالِ بِهَا»(1).

ص: 103


1- توحيد المفضل: ص106.

طعام الملائكة

اشارة

عن فاطمة الزهراء (عليها السلام) أنها دخلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقالت: «يا رسول الله هذه الملائكة طعامها التسبيح والتحميد والتهليل، فما طعامنا؟ قال: والذي بعثني بالحق ما اقتبس في آل محمد نار منذ ثلاثين يوماً, وقد أتانا أعنز فإن شئت أمرت لك بخمسة أعنز, وإن شئت علّمتك خمس كلمات علمنيهنّ جبرئيل. قالت: بل علّمني الخمس كلمات التي علمكهنّ جبرئيل. قال: يا فاطمة قولي: "يَا أوَّلَ الأوّلِينَ، وَيَا آخِرَ الآخِرِينَ، وَيَا ذَا الْقُوَّةِ المَتِينِ، وَيَا رَاحِمَ المَسَاكِينَ، وَيَا أرْحَمَ الرَّاحِمِينَ»(1).

-------------------------------------------

ص: 104


1- ورد في كتاب الدعاء للطبراني: ص319 ح1047: عن سويد بن غفلة، قال: أصابت علياً (عليه السلام) فاقة، فقال لفاطمة (عليها السلام): «لو أتيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) فسألتيه» وكان عند أم أيمن، فدقت الباب، فقال النبي (صلى الله عليه وآله) لأم أيمن: «إن هذا لدق فاطمة، ولقد أتتنا في ساعة ما عودتنا أن تأتينا في مثلها فقومي فافتحي لها الباب»، قالت: ففتحت لها الباب فقال: «يا فاطمة لقد أتيتنا في ساعة ما عودتنا أن تأتينا في مثلها»، فقالت: «يا رسول الله هذه الملائكة طعامها التسبيح والتحميد والتمجيد، فما طعامنا؟» قال: «والذي بعثني بالحق ما اقتبس في آل محمد نار منذ ثلاثين يوما، وقد أتانا أعنز فإن شئت أمرت لك بخمسة أعنز، وإن شئت علمتك خمس كلمات علمنيهن جبريل (عليه السلام) آنفاً». قالت: «بل علّمني الخمس كلمات التي علمكهن جبريل عليه السلام». قال: قولي: «يا أول الأولين، يا آخر الآخرين، ذا القوة المتين، ويا راحم المساكين، ويا أرحم الراحمين». قال: فانصرفت حتى دخلت على علي (عليه السلام) فقالت: «ذهبت من عندك إلى الدنيا وأتيتك بالآخرة، قال: «خيراً يأتيك، خيراً يأتيك».

مراقد المعصومين

مسألة: كما يستحب الدخول على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسائر الأئمة المعصومين (عليهم السلام) للتزود منهم والانتفاع بهم، كذلك يستحب الدخول إلى مراقدهم المطهرة، لتوسيطهم لدى الله تعالى للحاجات، وللدعاء بقول مطلق، ولنيل رحمة الله وثوابه.

كما يستحب الدخول إلى ما يتعلق بهم، كمنازلهم أو محاريب عبادتهم،كبيت علي (عليه السلام) ومحرابه بمسجده، وكمحل ولادة رسول الله (صلى الله عليه وآله)(1).

الدعاء المأثور

مسألة: يستحب قراءة هذا الدعاء المأثور.فإن الدعاء مستحب مطلقاً، مأثوراً أم غير مأثور، نعم الدعاء المأثور أو الدعاء بالمأثور أفضل(2).

ص: 105


1- وهو الآن مكتبة، وقد أغلقت من قبل السلطات السعودية.
2- وذلك لاشتمال المأثور على جهات من المحبوبية، فمنها: بألفاظ صدرت عن عيبة علم الله ومحل أسراره ومن هم أعرف بالله وبكيفية قبوله عز وجل للدعاء من غيرهم، ومنها انطباق سلوك المؤمن بآثار المعصومين (عليهم السلام) والتأسي بهم، ومنها تطبيق محورية المعصومين (عليهم السلام)، ومنها: تنور الإنسان بكلامهم، فإن كلامهم نور كما ورد في الزيارة الجامعة، إلى غيرها، ومنها الاطمئنان بصحة ما يقوم به وأنه كما ينبغي في الدعاء.

قال أبو جعفر (عليه السلام): «أفضل العبادة الدعاء»(1).

وعن سيف التمار قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «عليكم بالدعاء فإنكم لا تقربون بمثله»(2).

وعن عبد الله بن سنان قال: سمعت أبا عبد الله (عليه

السلام) يقول: «الدعاء يرد القضاء بعد ما أبرم إبراماً، فأكثر من الدعاء، فإنه مفتاح كل رحمة، ونجاح كل حاجة، ولا ينال ما عند الله عز وجل إلابالدعاء، وأنه ليس باب يكثر قرعه إلا يوشك أن يفتح لصاحبه»(3).

والدعاء المأثور قد يكون في الكتاب مثل: «رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ»(4).

و: «رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» (5).

و: «رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ»(6).

و: «رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ

ص: 106


1- الكافي: ج2 ص466 باب فضل الدعاء والحث عليه ح1.
2- الكافي: ج2 ص467 باب فضل الدعاء والحث عليه ح6.
3- الكافي: ج2 ص470 باب فضل الدعاء والحث عليه ح7.
4- سورة البقرة: 201.
5- سورة البقرة: 128.
6- سورة إبراهيم: 40.

الْوَهَّابُ»(1).

و: «رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أو أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ»(2).

وقد يكون في السنة المطهّرة الواردة عن المعصومين (صلوات الله عليهم أجمعين) وهي كثيرة، ومن أهمها ما وردفي الصحيفة السجادية المقدّسة.

وهل بعض الأدعية التي هي من تأليف العلماء والصالحين كذلك؟

احتمالان.

الدعاء في غير زمانه

مسألة: هل يستحب قراءة الدعاء المأثور حتى في غير زمانه ومكانه وشرائطه؟

مثل أدعية أيام شهر رمضان، وأدعية أيام رجب وما أشبه، إذا قرأها في غير أوقاتها, ومثل أدعية الطواف والسعي ونحوها مما هو مأثور أصلاً.

وكذلك إذا قرأ دعاء الافتتاح في غير ليالي شهر رمضان، أو قرأ أدعية رجب في شعبان وهكذا؟

لا ينبغي الإشكال في أنه جائز، وربما كان مستحباً من باب مطلق الدعاء،

ص: 107


1- سورة آل عمران: 8.
2- سورة البقرة: 286.

وإن لم يكن مأثوراً بمعنى الكلمة، بل كان مأثوراً في الجملة، إذ الظاهر أن الزمان والمكان لم يؤخذا إلا من باب تعدد المطلوب، لأقوائية تأثير الدعاء فيها أو لشبه ذلك.

التلطف في السؤال

مسألة: ينبغي التلطّف في السؤال، كماتلطّفت الصديقة (صلوات الله عليها) في سؤالها الطعام بقولها: «يا رسول الله هذه الملائكة.. »وهو من مصاديق (الحكمة) و(الأخلاق الحسنة).

عن العيص بن القاسم، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «إذا طلب أحدكم الحاجة فليثن على ربه وليمدحه، فإن الرجل إذا طلب الحاجة من السلطان هيأ له من الكلام أحسن ما يقدر عليه، فإذا طلبتم الحاجة فمجّدوا الله العزيز الجبار وامدحوه وأثنوا عليه، تقول: يا أجودَ مَن أعطَى، ويا خيرَ مَن سُئل، يا أرحم مَن استُرحم، يا أحدُ يا صمدُ، يا مَن لم يَلِدْ ولم يُولَد ولم يكن له كفواً أحد، يا مَن لم يَتَّخِذْ صاحِبةً ولا وَلَداً، يا مَن يَفْعلُ ما يَشاء وَيحَكُمُ ما يُريد ويَقْضي ما يُحِبّ، يا مَن يَحولُ بَينَ المَرْءِ وقَلْبه، يا مَن هُو بِالمَنْظَرِ الأعلى، يا مَن لَيسَ كَمِثلِه شَيء، يا سميعُ يا بصيرُ، وأكثر من أسماء الله عز وجل فإن أسماء الله عز وجل كثيرة، وصلّ على محمد وآل محمد وقل: اللهم أَوْسِعْ عَليَّ مِنْ رِزقِكَ الحلال ما أَكُفُّ به وَجْهي، وَأُؤَدّي بِه عَني أمانتي، وأَصِلْ به رَحِمي، ويَكُونُ عَوْناً لي في الحج والعُمرة، وقال: إن رجلا دخل المسجد فصلى ركعتين ثم سأل الله عز وجل، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): عجل العبد ربه، وجاء آخر فصلى

ص: 108

ركعتين ثم أثنى على الله عز وجل وصلى على النبي (صلى الله عليه وآله) فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): سل تعط»(1).

عالم الغيب

مسألة: يستحب - في الجملة - التطرّق لما في عالم الغيب من الخصوصيات بالقدر الذي ذكر في الروايات، فإنهم (عليهم السلام) يعلمون الغيب، مثل ذكر الملائكة وأوصافهم وخصوصياتهم ، كما صنعت الصديقة (صلوات الله عليها) إذ ذكرت نوع طعام الملائكة.

ومثل ما ورد في خصوصيات الجنة والنار وما أشبه.

تخيير السائل

مسألة: يستحب تخيير السائل والمحتاج بين ما يريده وبين ما ينفعه أكثر.

ومن مصاديقه: ما إذا طلب شيئاً مادياً، وكان الأمر المعنوي أهم, فإنه يخيّر بين الشيء وبين ما هو أفضل منه واقعاً, ليختار ما شاء، فإن لهذا التخيير ثم الاختيار الذي يقع بعده تأثيراً إيجابياً في النفس.

وإنما يستفاد الرجحان الشرعي لهذا التخيير، لأن النبي (صلى

الله عليه وآله) فعله بل قاله، كما يستفاد الاستحباب من القرائن الحافّة أيضاً، كما أن هذا الأسلوب يعد نوعاً من أنواع التعليمووسيلة من وسائل التربية.

وكأن الصديقة الزهراء (عليها الصلاة والسلام) بقولها: «يا رسول الله هذه

ص: 109


1- وسائل الشيعة: ج7 ص80 ب31 من أبواب الدعاء ح2.

الملائكة طعامها التسبيح والتحميد والتهليل، فما طعامنا؟» أرادت الطعام, ولذا قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «والذي بعثني بالحق..» إلى آخره.

ولعلّ السرّ في أنهم (عليهم السلام) كانوا لا توقد في دورهم النار في فترات متفاوتة، والمصرّح به في هذه الرواية: (منذ ثلاثين يوماً)، هو أنهم كانوا في ثورة عملية علمية ونهضة دينية، وكان هدفهم الأهم تقديم الأمة إلى الأمام وانتشالها من الهلكة والخسران، ومن الواضح حال الثائرين والناهضين في مأكلهم ومشربهم وملبسهم ومسكنهم.

فإن كل همهم هو تقديم الأمة إلى الأمام، فسائر الأمور لم تكن مهمة لديهم، كما يشاهد ذلك في أحوال الأنبياء والأئمة (عليهم الصلاة والسلام) مما وصل إلينا من أخبارهم.

وكذلك في من تأسّى بهم من العلماء الصالحين، وكبار المنقذين في مختلف المجتمعات.

هذا إضافة إلى زهدهم (صلوات الله عليهم) الذاتي وإعراضهم عن ملذات الحياةالدنيا، وإضافة إلى أنهم أرادوا التعليم أيضاً.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «وَمِمَّا يَدُلُّكَ عَلَى دَنَاءَةِ الدُّنْيَا، أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ زَوَاهَا عَنْ أَوْلِيَائِهِ وَأَحِبَّائِهِ نَظَراً وَاخْتِيَاراً، وَبَسَطَهَا لِأَعْدَائِهِ فِتْنَةً وَاخْتِبَاراً، فَأَكْرَمَ عَنْهَا مُحَمَّداً نَبِيَّهُ (صلى

الله عليه وآله) حِينَ عَصَبَ عَلَى بَطْنِهِ مِنَ الْجُوعِ، وَحَمَاهَا مُوسَى نَجِيَّهُ الْمُكَلَّمَ وَكَانَتْ تُرَى خَضِرَةُ الْبَقْلِ مِنْ صِفَاقِ بَطْنِهِ مِنَ الْهُزَالِ، وَمَا سَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ أَوَى إِلَى الظِّلِّ إِلَّا طَعَاماً يَأْكُلُهُ لِمَا جَهَدَهُ مِنَ الْجُوعِ، وَلَقَدْ جَاءَتِ الرِّوَايَةُ أَنَّهُ قَالَ: أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ إِذَا رَأَيْتَ الْغِنَى مُقْبِلًا فَقُلْ ذَنْبٌ عُجِّلَتْ عُقُوبَتُهُ، وَإِذَا رَأَيْتَ الْفَقْرَ مُقْبِلًا فَقُلْ مَرْحَباً بِشِعَارِ الصَّالِحِينَ،

ص: 110

وَصَاحِبِ الرُّوحِ وَالْكَلِمَةِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ (عليه السلام) إِذْ قَالَ: إِدَامِيَ الْجُوعُ، وَشِعَارِيَ الْخَوْفُ، وَلِبَاسِيَ الصُّوفُ، وَدَابَّتِي رِجْلَايَ، وَسِرَاجِي بِاللَّيْلِ الْقَمَرُ، وَصَلَايَ فِي الشِّتَاءِ مَشَارِقُ الشَّمْسِ، وَفَاكِهَتِي مَا أَنْبَتَتِ الْأَرْضُ لِلْأَنْعَامِ، أَبِيتُ وَلَيْسَ لِي شَيْ ءٌ، وَلَيْسَ أَحَدٌ أَغْنَى مِنِّي، وَسُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ وَمَا أُوتِيَ مِنَ الْمُلْكِ إِذْ كَانَ يَأْكُلُ خُبْزَ الشَّعِيرِ وَيُطْعِمُ أُمَّهُ الْحِنْطَةَ، وَإِذَا جَنَّهُ اللَّيْلُ لَبِسَ الْمُسُوحَ وَغَلَّ يَدَهُ إِلَى عُنُقِهِ وَبَاتَ بَاكِياً حَتَّى يُصْبِحَ، وَيُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَإِنْ لَمْ تَغْفِرْلِي وَتَرْحَمْنِي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ، لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَهَؤُلَاءِ أَنْبِيَاءُ اللَّهِ وَأَصْفِيَاؤُهُ تَنَزَّهُوا عَنِ الدُّنْيَا وَزَهِدُوا فِيمَا زَهَّدَهُمُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِيهِ مِنْهَا، وَأَبْغَضُوا مَا أَبْغَضَ، وَصَغَّرُوا مَا صَغَّرَ، ثُمَّ اقْتَصَّ الصَّالِحُونَ آثَارَهُمْ وَسَلَكُوا مِنْهَاجَهُمْ، وَأَلْطَفُوا الْفِكَرَ وَانْتَفَعُوا بِالْعِبَرِ، وَصَبَرُوا فِي هَذَا الْعُمُرِ الْقَصِيرِ مِنْ مَتَاعِ الْغُرُورِ، الَّذِي يَعُودُ إِلَى الْفَنَاءِ، وَيَصِيرُ إِلَى الْحِسَابِ، نَظَرُوا بِعُقُولِهِمْ إِلَى آخِرِ الدُّنْيَا وَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى أَوَّلِهَا، وَإِلَى بَاطِنِ الدُّنْيَا وَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى ظَاهِرِهَا، وَفَكَّرُوا فِي مَرَارَةِ عَاقِبَتِهَا فَلَمْ يَسْتَمْرِئْهُمْ حَلَاوَةُ عَاجِلِهَا، ثُمَّ أَلْزَمُوا أَنْفُسَهُمُ الصَّبْرَ، وَأَنْزَلُوا الدُّنْيَا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَالْمَيْتَةِ الَّتِي لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَشْبَعَ مِنْهَا إِلَّا فِي حَالِ الضَّرُورَةِ إِلَيْهَا، وَأَكَلُوا مِنْهَا بِقَدْرِ مَا أَبْقَى لَهُمُ النَّفَسَ وَأَمْسَكَ الرُّوحَ، وَجَعَلُوهَا بِمَنْزِلَةِ الْجِيفَةِ الَّتِي اشْتَدَّ نَتْنُهَا، فَكُلُّ مَنْ مَرَّ بِهَا أَمْسَكَ عَلَى فِيهِ، فَهُمْ يَتَبَلَّغَونَ بِأَدْنَى الْبَلَاغِ، وَلَا يَنْتَهُونَ إِلَى الشِّبَعِ مِنَ النَّتْنِ، وَيَتَعَجَّبُونَ مِنَ الْمُمْتَلِي مِنْهَا شِبَعاً، وَالرَّاضِي بِهَا نَصِيباً» الحديث(1).

ص: 111


1- بحار الأنوار: ج70 ص110 ب122 ضمن ح 110.

أهمية المعنويات

مسألة: يستحب إفهام الآخرين أن المعنويات أهم من الماديات، وأن الإنسان بحاجة إليها أكثر وبها الحياة الخالدة، وذلك بالتصريح أو بالتلميح، بالدلالة المطابقية أو الالتزامية أو غيرهما.

في الحديث القدسي: «يَا عِيسَى لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً، وَكُنْ مِنِّي عَلَى حَذَرٍ، وَلَا تَغْتَرَّ بِالصِّحَّةِ، وَلَا تُغَبِّطْ نَفْسَكَ فَإِنَّ الدُّنْيَا كَفَيْ ءٍ زَائِلٍ، وَمَا أَقْبَلَ مِنْهَا كَمَا أَدْبَرَ، فَنَافِسْ فِي الصَّالِحَاتِ جُهْدَكَ، وَ كُنْ مَعَ الْحَقِّ حَيْثُمَا كَانَ، وَإِنْ قُطِّعْتَ وَأُحْرِقْتَ بِالنَّارِ، فَلَا تَكْفُرْ بِي بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ، وَلَا تَكُنْ مَعَ الْجَاهِلِينَ»(1).

ترجيح المعنويات

مسألة: يستحب تفضيل وترجيح المعنويات على الماديات, بدليل: قول الصديقة (صلوات الله عليها): «علّمني الخمس كلمات».

فإن المعنويات أهم، وإن كانت الماديات لابد منها، ولكن يؤخذ منها بقدر الضرورة و(البلاغ)، لما ورد منأنه: «من لا معاش له لا معاد له».

وقبل ذلك قال القرآن الحكيم: «لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ»(2).

ص: 112


1- بحار الأنوار: ج14 ص299 ب21.
2- سورة قريش: 1 - 4.

وقال عزوجل: «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ»(1).

إلى غير ذلك مما ورد في الآيات والروايات مستثنىً ومستثنى منه.

بيان المعنويات

مسألة: ينبغي توفير الأجواء المعنوية للأفراد كالأفراد وللمجتمع كمجتمع؛ فإن الإنسان كفرد، والمجتمع كمجموعة بحاجة إلى المعنويات كما هو بحاجة إلى الماديات، وقد تكفّل الإسلام في كتابه العزيز وسيرة المعصومين (عليهم السلام) ببيان الجانبين كاملاً، وهذا يعتبر من أهم ما يميّز الإسلام على سائر القوانين الوضعية، فإن القانون الوضعي ناقص حتى في تقنين الماديات، كما أنه خالٍّ عما يرتبط بالمعنويات تماماً.

كما أن ذلك مما يميّز الإسلام على الأديان كالمسيحية والبوذية، حيث اقتصرتا على مجموعة قليلة منالتعاليم الروحية والأخلاقية وبعض القوانين المحدودة.

عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ: «خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، وَاللَّهِ مَا مِنْ شَيْ ءٍ يُقَرِّبُكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ وَيُبَاعِدُكُمْ مِنَ النَّارِ إِلَّا وَقَدْ أَمَرْتُكُمْ بِهِ، وَمَا مِنْ شَيْ ءٍ يُقَرِّبُكُمْ مِنَ النَّارِ وَيُبَاعِدُكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَّا وَقَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، أَلَا وَإِنَّ الرُّوحَ الْأَمِينَ نَفَثَ فِي رُوعِي أَنَّهُ لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، وَلَا يَحْمِلْ أَحَدَكُمْ

ص: 113


1- سورة الأعراف: 32.

اسْتِبْطَاءُ شَيْ ءٍ مِنَ الرِّزْقِ أَنْ يَطْلُبَهُ بِغَيْرِ حِلِّهِ، فَإِنَّهُ لَا يُدْرَكُ مَا عِنْدَ اللَّهِ إِلَّا بِطَاعَتِهِ»(1).

اليمين وأحكامه

مسألة: يجوز الحلف, والجواز هنا بالمعنى الأعم(2), لقوله (صلى الله عليه وآله): «والذي بعثني..»، وقد ذكرنا في المجلدات السابقة من هذا الكتاب ما يرتبط بأحكام اليمين وأقسامه.فإنه قد يجب الحلف لإنقاذ حق واجب الإنقاذ, وقد حلف القرآن الكريم مراراً، قال سبحانه: «وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا»(3).

وقال سبحانه: «لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ»(4).

نعم لا يجوز الحلف الكاذب، قال أبو عبد الله (عليه السلام): «من حلف على يمين وهو يعلم أنه كاذب فقد بارز الله»(5).

كما أنه يكره بعض أقسام الحلف(6)، قال سبحانه: «وَلا تَجْعَلُوا اللهَ

ص: 114


1- الكافي: ج2 ص74 باب الطاعة والتقوی ح2.
2- الشامل للوجوب والندب والإباحة، بل والكراهة أيضاً، إلا أن حلفه (صلى الله عليه وآله) يصلح دليلاً على أحد الثلاثة الأول بل الأولين فقط.
3- سورة الشمس: 1 - 2.
4- سورة الحجر: 72.
5- وسائل الشيعة: ج23 ص203 ب4 من أبواب كتاب الأيمان ح3.
6- وهو الحلف بالله صادقاً لكن لا لضرورة توجبه، وعليه روايات كثيرة فقد روى الحر العاملي في وسائله: ج23 ص197 - 200 باب كراهة اليمين الصادقة وعدم تحريمها، أحد عشر حديثاً بهذا الشأن، منها الحديث السابع: عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «لا تحلفوا بالله صادقين ولاكاذبين فان الله عز وجل قد نهى عن ذلك فقال عز وجل: «وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ» ».

عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ»(1).

الحلف بسائر الأسماء والصفات

مسألة: يجوز الحلف بأي اسم من أسماء الله تعالى، وبأية صفة من صفاته، مفردةً ومركبة، كما قال صلى الله عليه وآله: «والذي بعثني بالحق».

والجواز غير الانعقاد كما لا يخفى.

وفي انعقاد القسم يشترط أن يكون بلفظ الجلالة أو الاسماء والصفات المختصة بالباري، او ما تطلق عليه تعالى بكثرة كالخالق والرازق.

كما أن الحلف في مقام الدعاوي والقضاء لا يصح إذا كان بغير الله، إلا لغير المؤمن بالله على تفصيل ذكرناه في محله.

عن أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) أَنَّهُ قَالَ: «الْيَمِينُ الَّتِي تُكَفَّرُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: لا وَاللَّهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ»(2).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): «أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) اسْتَحْلَفَ يَهُودِيّاً بِالتَّوْرَاةِ الَّتِي أُنْزِلَتْ عَلَى مُوسَى (عليه السلام)»(3).

ص: 115


1- سورة البقرة: 224.
2- وسائل الشيعة: ج23 ص263 ب30 بَابُ أَنَّهُ لا يَجُوزُ الْحَلْفُ وَلا يَنْعَقِدُ إِلَّا بِاللَّهِ وَأَسْمَائِهِ الْخَاصَّة ح29531.
3- وسائل الشيعة: ج23 ص266 ب32 بَابُ حُكْمِ اسْتِحْلافِ الْكُفَّارِ بِغَيْرِ اللَّهِ مِمَّا يَعْتَقِدُونَه ح29539.

وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) يَقُولُ: «قَضَى عَلِيٌّ (عليه السلام) فِيمَنِ اسْتَحْلَفَ أَهْلَ الْكِتَابِ بِيَمِينِ صَبْرٍ أَنْ يُسْتَحْلَفَ بِكِتَابِهِ وَمِلَّتِهِ»(1).

وعَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ (عليهما السلام): أَنَّ عَلِيّاً (عليه السلام) كَانَ يَسْتَحْلِفُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بِكِتَابِهِمْ وَيَسْتَحْلِفُ الْمَجُوسَ بِبُيُوتِ نِيرَانِهِمْ»(2).

بيان طعام الملائكة

مسألة: يستحب معرفة ما يرتبط بعظمة الباري عزّ وجلّ في خلقه، ومن خلقه الملائكة، وما يرتبط بشؤونهم وأحوالهم، ومنها: طعامهم.

ومن المستحب بيان أن طعام الملائكة التهليل والتسبيح والتحميد؛ فإنه نوع من العلم, والعلم أفضل من الجهل في كل الأبعاد - إلاّ ما خرج بالدليل كالسحر لو عدّ علماً - خصوصاً فيما يرتبط بالملائكة حيث يجب علينا الإيمانبهم.

وفي ذلك فوائد أخر، من معرفة مخلوقات الباري عزّ وجلّ ومعرفة عظمته تعالى وما أشبه.

عن الإمام الصادق (عليه السلام): «يا مفضل، إِنَّ الشُّكَّاكَ جَهِلُوا الْأَسْبَابَ

ص: 116


1- وسائل الشيعة: ج23 ص267 ب32 بَابُ حُكْمِ اسْتِحْلافِ الْكُفَّارِ بِغَيْرِ اللَّهِ مِمَّا يَعْتَقِدُونَه ح29543.
2- وسائل الشيعة: ج23 ص268 ب32 بَابُ حُكْمِ اسْتِحْلافِ الْكُفَّارِ بِغَيْرِ اللَّهِ مِمَّا يَعْتَقِدُونَه ح29547.

وَالْمَعَانِيَ فِي الْخِلْقَةِ، وَقَصُرَتْ أَفْهَامُهُمْ عَنْ تَأَمُّلِ الصَّوَابِ وَالْحِكْمَةِ، فِيمَا ذَرَأَ الْبَارِي جَلَّ قُدْسُهُ وَبَرَأَ، مِنْ صُنُوفِ خَلْقِهِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَالسَّهْلِ وَالْوَعْرِ، فَخَرَجُوا بِقَصْرِ عُلُومِهِمْ إِلَى الْجُحُودِ، وَبِضَعْفِ بَصَائِرِهِمْ إِلَى التَّكْذِيبِ وَالْعُنُودِ، حَتَّى أَنْكَرُوا خَلْقَ الْأَشْيَاءِ، وَادَّعَوْا أَنَّ تَكَوُّنَهَا بِالْإِهْمَالِ، لا صَنْعَةَ فِيهَا وَلَا تَقْدِيرَ، وَلَا حِكْمَةَ مِنْ مُدَبِّرٍ وَلا صَانِعٍ، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَصِفُونَ، وَقاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ، فَهُمْ فِي ضَلَالِهِمْ وَغَيِّهِمْ وَتَجَبُّرِهِمْ بِمَنْزِلَةِ عُمْيَانٍ دَخَلُوا دَاراً قَدْ بُنِيَتْ أَتْقَنَ بِنَاءٍ وَأَحْسَنَهُ، وَفُرِشَتْ بِأَحْسَنِ الْفُرُشِ وَأَفْخَرِهِ، وَأُعِدَّ فِيهَا ضُرُوبُ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَآرِبِ الَّتِي يُحْتَاجُ إِلَيْهَا وَلا يُسْتَغْنَى عَنْهَا، وَوُضِعَ كُلُّ شَيْ ءٍ مِنْ ذَلِكَ مَوْضِعَهُ، عَلَى صَوَابٍ مِنَ التَّقْدِيرِ، وَحِكْمَةٍ مِنَ التَّدْبِيرِ، فَجَعَلُوا يَتَرَدَّدُونَ فِيهَا يَمِيناً وَشِمَالًا، وَيَطُوفُونَ بُيُوتَهَا إِدْبَاراً وَإِقْبَالًا، مَحْجُوبَةً أَبْصَارُهُمْ عَنْهَا، لَا يُبْصِرُونَ بُنْيَةَ الدَّارِ وَمَا أُعِدَّ فِيهَا، وَرُبَّمَا عَثَرَ بَعْضُهُمْ بِالشَّيْ ءِ الَّذِي قَدْ وُضِعَمَوْضِعُهُ، وَأُعِدَّ لِلْحَاجَةِ إِلَيْهِ وَهُوَ جَاهِلٌ لِلْمَعْنَى فِيهِ، وَلِمَا أُعِدَّ وَلِمَا ذَا جُعِلَ كَذَلِكَ، فَتَذَمَّرَ وَتَسَخَّطَ وَذَمَّ الدَّارَ وَبَانِيَهَا، فَهَذِهِ حَالُ هَذَا الصِّنْفِ فِي إِنْكَارِهِمْ مَا أَنْكَرُوا، مِنْ أَمْرِ الْخِلْقَةِ وَثَبَاتِ الصَّنْعَةِ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا عَزَبَتْ أَذْهَانُهُمْ عَنْ مَعْرِفَةِ الْأَسْبَابِ وَالْعِلَلِ فِي الْأَشْيَاءِ، صَارُوا يَجُولُونَ فِي هَذَا الْعَالَمِ حَيَارَى، فَلَا يَفْهَمُونَ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ إِتْقَانِ خِلْقَتِهِ، وَحُسْنِ صَنَعْتِهِ، وَصَوَابِ هَيْئَتِهِ، وَرُبَّمَا وَقَفَ بَعْضُهُمْ عَلَى الشَّيْ ءِ يَجْهَلُ سَبَبَهُ وَالْإِرْبَ فِيهِ، فَيُسْرِعُ إِلَى ذَمِّهِ وَوَصْفِهِ بِالْإِحَالَةِ وَالْخَطَأ، كَالَّذِي أَقْدَمَتْ عَلَيْهِ الْمَنَانِيَّةُ الْكَفَرَةُ، وَجَاهَرَتْ بِهِ الْمُلْحِدَةُ الْمَارِقَةُ الْفَجَرَةُ، وَأَشْبَاهُهُمْ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالِ، الْمُعَلِّلِينَ أَنْفُسَهُمْ بِالْمُحَالِ، فَيَحِقُّ عَلَى مَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِمَعْرِفَتِهِ، وَهَدَاهُ لِدِينِهِ، وَوَفَّقَهُ لِتَأَمُّلِ التَّدْبِيرِ فِي صَنْعَةِ الْخَلَائِقِ، وَالْوُقُوفِ عَلَى مَا خُلِقُوا لَهُ مِنْ لَطِيفِ التَّدْبِيرِ، وَصَوَابِ التَّقْدِيرِ

ص: 117

، بِالدَّلَالَةِ الْقَائِمَةِ الدَّالَّةِ عَلَى صَانِعِهَا، أَنْ يُكْثِرَ حَمْدَ اللَّهِ مَوْلَاهُ عَلَى ذَلِكَ، وَيَرْغَبَ إِلَيْهِ فِي الثَّبَاتِ عَلَيْهِ والزِّيَادَةِ مِنْهُ، فَإِنَّهُ جَلَّ اسْمُهُ يَقُولُ: «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ»(1)»(2).

التهليل والتسبيح

مسألة: يستحب التهليل والتسبيح والتحميد لله عزّ وجلّ مطلقاً.

ومما يدل على رجحانه أنه طعام الملائكة، فإنهم: «يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ»(3)، بدعوى أن أمرهم بشيء دال على رجحانه ذاتاً، على تأمل.

والاستحباب في ما ذكر في الجملة، وإلاّ فقد يكون واجباً، كالتهليل والتشهّد مما هو من شرائط الإيمان، حيث يقرّ المرء بالشهادتين.

ومما يدلّ على استحباب الثلاثة مطلقاً متواتر الروايات، بالإضافة إلى رجحانها العقلي.

عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أكثروا من قول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، فإنهن يأتين يوم القيامة لهن مقدمات ومؤخرات ومعقبات، وهن الباقيات الصالحات»(4).

ص: 118


1- سورة إبراهيم: 7.
2- توحيد المفضل: ص44.
3- سورة النحل: 50، سورة التحريم: 6.
4- وسائل الشيعة: ج7 ص186 ب31 من أبواب الذكر ح3.

سيرة آل محمد

مسألة: يستحب بيان سيرة آل محمد (عليهم السلام) وزهدهم وتفانيهم في الله، ومنه أنه حدث ذات مرة، ولعلّه حدث ذلك مراراً، أنه ما اقتبس في آل محمد (صلى الله عليه وآله) نار منذ ثلاثين يوماً، وربما كان ذلك واجباً.

فإنهم (صلوات الله عليهم) أسوة، فإذا عرف الناس حياتهم تأسّوا بهم، ومن أهم الأمور الإقتداء بهم في الزهد، وخاصّة للولاة والعلماء، فإن الزهد لازم عليهم.

وقد ورد في دعاء الندبة: «بعد أن شرطتَ عليهم الزهد في درجات هذه الدنيا الدنيّة وزُخْرفها وزِبْرجها»(1).

ثم إن الزهد لا يكون أمراً راجحاً مستحباً أو واجباً فقط، بل هو حلال للمشاكل، ويوجب راحة البال واطمئنان النفس والضمير، فإن الإنسان الحريص ونحوه يقع في متاعب كثيرة مما لا تحصى حتى في حياته الدنيوية.

كما أن الزهد اقتصادياً وخاصةً من قبل الحكام والوزراء والمسؤولين، يوفّر الشيء الكثير للناس, فإن المادةمحدودة فإذا قسّمت بين الجميع استفاد الكل, وأما إذا لم تقسّم وحجزها الحكام ومن أشبههم، لم ينتفع بها إلا البعض وحرُم منها الآخرون، قال (عليه الصلاة والسلام): «ما رأيت نعمةً موفورةً إلاّ وإلى جانبها حق مضيّع».

وكم رأينا في الحكام من التبذير والإسراف وسرقة أموال الناس، وفي

ص: 119


1- إقبال الأعمال: ج1 ص504.

المقابل الشعب يعالج السكرات من شدّة الفقر في كل أبعاد الحياة، من الأكل والشرب، والبيت والعمل، والسفر والحضر، والزواج وسائر المتطلبات.

فإن الحكام يبنون لأنفسهم ما لا ضرورة له، من عشرات القصور بما يكلف المليارات، والشعب محروم حتى من شبرٍ واحد من الأرض التي أحلّها الله للجميع، حيث «الأرض لله ولمن عمرها»(1)، والحال أنه لا يحق للدولة أن تمنع الناس من إحياء الأرض، كما لا يحق لها أن تمنعهم من استنشاق الهواء.

بيان المصادر

مسألة: يستحب بيان المصدر في الأقوال وما أشبه عند نقلها كلما أفاد الحثالأكثر على فعل الخيرات، تأسّياً به (صلوات الله عليه) حيث قال في هذا الحديث: «علمنيهنّ(2) جبرئيل»، وحيث نقلت ذلك عن أبيها (صلوات الله عليهما).

ص: 120


1- الكافي: ج5 ص279 باب في إحياء أرض الموات ح2.
2- ذكر النحاة عدم جواز الإتيان بالضمير منفصلاً مع إمكان إتيانه متصلاً، ولكن يستثنى من هذه القاعدة ثلاثة موارد، قال ابن مالك في ألفيته: وفي اختيار لا يجي المنفصل * إذا تأتى أن يجي المتصل وصل أو افصل هاء سلنيه وما * أشبهه، في كنته الخلف انتمى كذاك خلتنيه ، واتصالا * أختار ، غيري اختار الانفصالا والمورد الأول المستثناة من باب (سلنيه) وهو كل فعل يتعدّى إلى مفعولين وكان الأول أخص من الثاني، بأن كان الأول ضمير متكلم أو خطاب والثاني غائب، ولم يكن الثاني خبراً في الأصل، وحينئذ يجوز وصل الضميرين ويجوز فصلهما، فلك أن تقول: سلنيه أو سلني إياه. وجاء في الحديث تارة: (علمنيهن جبرئيل)، و(علمكهن جبرئيل) وتارة: (علمني الخمس) و(علمتك خمس كلمات)، وبهذا يُرد ظاهر قول سيبويه بأن الواجب الاتصال والانفصال مخصوص بالشعر. راجع (شرح ابن عقيل): ج1 ص102- 103.

فإن ذكر المصدر يوجب التأكيد الأكثر، والتوثيق الأكبر، ولو عند البعض، وهو نوع من الإتقان ومقتضى الحكمة، ولجبرئيل (عليه السلام) خصوصيةأنه (أمين وحي الله)(1).

عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «إذا حدثتم بحديث فأسندوه إلى الذي حدثكم، فإن كان حقاً فلكم، وإن كان كذباًفعليه»(2).

ص: 121


1- قال تعالى: «إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ» سورة التكوير: 1921 حيث فسرت هذه الآيات بجبرئيل عليه السلام، انظر (تفسير السيد عبد الله شبر): ص550. ثم إن من المسلّم أن المعصومين (عليهم السلام) هم أعلم من الملائكة بل هم معلمو الملائكة، كما في الروايات. وقد سأل المفضل الصادق (عليه السلام) ما كنتم قبل أن يخلق الله السماوات والأرضين؟ قال (عليه السلام): «كنا أنوارا حول العرش نسبح الله ونقدسه حتى خلق الله سبحانه الملائكة فقال لهم: سبحوا، فقالوا: يا ربنا لا علم لنا، فقال لنا: سبحوا، فسبحنا فسبحت الملائكة بتسبيحنا». بحار الأنوار: ج25 ص21 ب1 ح34. والجمع بين ما ذكر في الرواية السابقة من أن جبرئيل علّم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبين ما ذكر من وجوه: منها: إن هذا من باب تعلّم العالم من غيره، لبيان مكانة الطرف. ومنها: رعاية لفهم عقول الناس. ومنها: الفرق بين التعليم الإجمالي والتفصيلي. ومنها: الفرق بين المصاديق، وبين علم وعلم.
2- الكافي: ج1 ص52 باب رواية الكتب والحديث وفضل الكتابة والتمسك بالكتب ح7.

أول الأولين

مسألة: يجب الاعتقاد بأن الله تعالى هو أوّل الأولين، ويستحب بيان ذلك، وربما وجب، وهكذا بالنسبة إلى سائر صفاته عز وجل على ما هو مذكور في علم الكلام.

قال أبو عبد الله (عليه السلام) وَقَدْ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: «هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ»(1)، فَقَالَ (عليه السلام): «الْأَوَّلُ لا عَنْ أَوَّلٍ كَانَ قَبْلَهُ، وَلا عَنْ بَدْءٍ سَبَقَهُ، وَالْآخِرُ لا عَنْ نِهَايَةٍ، كَمَا يُعْقَلُ مِنْ صِفَةِ الْمَخْلُوقِينَ، وَلَكِنْ قَدِيمٌ أَوَّلٌ آخِرٌ، لَمْ يَزَلْ وَلا يَزَالُ، بِلا بَدْءٍ وَلا نِهَايَةٍ، لا يَقَعُ عَلَيْهِ الْحُدُوثُ، وَلا يُحَوَّلُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ»(2).

آخر الآخرين

مسألة: يلزم الاعتقاد بأن الله تعالى هو آخر الآخرين، ويستحب بيان ذلك، وربما وجب.

وكونه سبحانه آخر الآخرين بالنسبة إلى الدنيا واضح، فإن الدنيا ومافيها زائلة فانية، ويبقى الله سبحانه وتعالى دون غيره.

قال عزوجل: «وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلالِ وَ الْإِكْرامِ»(3).

ص: 122


1- سورة الحديد: 3.
2- التوحيد: ص314 باب47 باب معنى الأول والآخر ح1.
3- سورة الرحمان: 27.

وأما كونه آخر الآخرين بالنسبة إلى امتداد الجنة والنار حيث إنهما لا آخر لهما كما ثبت في ضرورة الإسلام، فالمراد به الآخر بالذات, وأما الجنة والنار فهما آخران بالغير.

ذو القوة المتين

مسألة: يلزم الاعتقاد بأن الله تعالى ذو القوة المتين، ويستحب بيان ذلك، وربما وجب.

ومعنى قوته حسب ما نفهمه إجمالاً(1): أنه ليس بضعيف.

ومتانة القوة: ما لا يشوبها ضعف في أية جهة من الجهات، ومن الضعف إسناد القوة للغير، فهو القادر بالذات، وهو تعالى صاحب القوة المطلقة.

قال تعالى: «أَنَّ الْقُوَّةَ للهِ جَميعاً»(2).وقال سبحانه: «إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتينُ»(3).

راحم المساكين

مسألة: يلزم الاعتقاد بكون الله تعالى راحم المساكين، ويستحب بيان ذلك، وربما وجب.

ص: 123


1- وذلك لما ثبت في علم الكلام بأن صفاته عين ذاته، ولا يمكن أن يعلم أحد ذاته تفصيلاً وهكذا صفاته.
2- سورة البقرة: 165.
3- سورة الذاريات: 58.

ثم إن إضافة الرحمة للمساكين من باب المصداق، وإلاّ فهو سبحانه وتعالى راحم للكل سواء كانوا مساكين أم غير مساكين، وفي القرآن الحكيم: «رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ»(1).

مضافاً إلى أن الكلّ بالنسبة إليه مسكين وفقير، كما هو واضح، ولعلّ تخصيص المساكين بالذكر أحياناً كما في هذا الحديث، لأوضحية حاجتهم للرحمة، أو لأشديتها، أو تحقق جهة حاجة إضافية على الجهات المشتركة مع الكل.

أرحم الراحمين

مسألة: يلزم الاعتقاد بكون الله تعالى أرحم الراحمين، ويستحب بيان ذلك،وربما وجب. ثم إن الرحمة من الله عزوجل، وإذا صدق الراحم على غيره، فإنه مستمد منه سبحانه وبإذنه، ومع ذلك فإنه تعالى أرحم من كل راحم, كما أنه أرأف من كل رؤوف، وأكثر عطاءً ورزقاً من كل رازق وهكذا.

ولذا ورد: «خَيرُ الرَّازِقِينَ»(2). وهكذا بالنسبة إلى بعض صفات جماله تعالى، مثل: «أَحْسَنُ الخَالِقِينَ»(3)، حيث إن غيره سبحانه أيضاً خالق بالمعنى

ص: 124


1- سورة الأعراف: 163.
2- سورة المائدة: 114، سورة الحج: 58، سورة المؤمنون: 72، سورة سبأ: 39، سورة الجمعة: 11.
3- سورة المؤمنون: 14، سورة الصافات: 125.

اللغوي، قال عيسى (عليه الصلاة والسلام): «أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ»(1) وهكذا.

قال الإمام الصادق (عليه السلام): «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَشَرَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى رَحْمَتَهُ حَتَّى يَطْمَعَ إِبْلِيسُ فِي رَحْمَتِهِ»(2).

وقيل للامام زين العابدين (عليه السلام) يوماً: إنّ الحسن البصري قال: ليس العجب ممّن هلك كيف هلك وإنّماالعجب ممّن نجا كيف نجا، فقال عليه السلام: «أنا أقول: ليس العجب ممّن نجا كيف نجا، وإنّما العجب ممّن هلك كيف هلك مع سعة رحمة اللّه تعالى»(3).

وعَنِ الرِّضَا، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (عليهم السلام) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: «اللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ»(4) قَالَ: «الْمُخْتَصُ بِالرَّحْمَةِ نَبِيُ اللَّهِ وَوَصِيُّهُ (صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا) إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ مِائَةَ رَحْمَةٍ تِسْعٌ

وَتِسْعُونَ رَحْمَةً عِنْدَهُ مَذْخُورَةٌ لِمُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) وَعَلِيٍّ (عليه السلام) وَعِتْرَتِهِمَا، وَرَحْمَةٌ وَاحِدَةٌ مَبْسُوطَةٌ عَلَى سَائِرِ الْمَوْجُودِين»(5).

ص: 125


1- سورة آل عمران: 56.
2- بحار الأنوار: ج 7 ص287 باب14 ما يظهر من رحمته تعالى يوم القيامة ح1
3- إعلام الورى بأعلام الهدى: ج 1 ص489.
4- سورة البقرة: 105.
5- بحار الأنوار: ج 24 ص62 ب29 ح45.

الإنسان القوي

مسألة: يستحب أن يكون المؤمن قوياً لا يطمع فيه الأعداء، ويمكن استفادة استحباب القوة من هذا الدعاء استناداً إلى قوله (عليه السلام): «تخلّقوا بأخلاق الله»(1).

فإن لله سبحانه قسمين من الصفات: قسم لا يجوز للإنسان الاتصاف بها لكونها من اختصاصاته عزّ وجل، لما ورد من مثل قوله (عليه الصلاة والسلام): «لا يعذّب بالنار إلا ربّ النار»(2)، ومثل: (المميت) و(المتكبر)، وما أشبه ذلك.

عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: «قال الله تعالى: يا موسى، إن الفخر ردائي، والكبرياء إزاري، فمن نازعني في شيء منهما عذبته بناري»(3).

وقسم ينبغي للإنسان أن يتخلّق بها كالرحمة والعطف على الآخرين والعفو عن المسيئين وما أشبه.

ومن المستحب أن يسعى الإنسان حتىيتخلّق بما يمكن أن يصل إليه من تلك الصفات ومراتبها حسب الإمكان الشرعي والعقلي.

روي في مناقب الإمام زين العابدين(عليه السلام): وكان (عليه السلام) إذا دخل شهر رمضان، يكتب على غلمانه ذنوبهم، حتّى إذا كان آخر ليلة دعاهم، ثمّ أظهر الكتاب، وقال: «يا فلان، فعلت كذا ولم أؤدّبك»، فيقروّن أجمع. فيقوم وسطهم، ويقول لهم: «ارفعوا أصواتكم وقولوا: يا عليّ بن الحسين، ربّك قد

ص: 126


1- جامع السعادات: ج3 ص116، بحار الأنوار: ج58 ص129.
2- الصراط المستقيم: ج2 ص305.
3- مستدرك الوسائل: ج12 ص30 ب58 من أبواب جهاد النفس ح14.

أحصى عليك ما عملت، كما أحصيت علينا، ولديه كتاب ينطق بالحقّ، لايغادر صغيرة ولا كبيرة، فاذكر ذلّ مقامك بين يدي ربّك، الّذي لا يظلم مثقال ذرّة وكفى بالله شهيداً، فاعف واصفح، يعف عنك المليك، لقوله تعالى: «وَلْيَعْفُوا ولْيَصْفَحُوا، أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ»، ويبكي وينوح، «وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ»(1)، مع كمال قدرته، فتخلّقوا بأخلاقه»(2).

العطف على الآخرين

مسألة: يستحب أن يرحم الإنسانالمسكين, و(الرحمة) تشمل من حيث المتعلق: الماديات والمعنويات، فتشمل إعطاءه المال، أو الوساطة لحلّ مشكله، أو تعليمه ما ينفعه لدينه أو دنياه، إلى غير ذلك.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «الراحمون يرحمهم الرحمان، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء»(3).

ويأتي هنا ما ذكرناه في المسألة السابقة فإن المعيار واحد.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يَضَعُ اللَّهُ الرَّحْمَةَ إِلاّ عَلَى رَحِيمٍ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كُلُّنَا رَحِيمٌ، قَالَ: «لَيْسَ الَّذِي يَرْحَمُ نَفْسَهُ وَأَهْلَهُ خَاصَّةً، وَلَكِنِ الَّذِي يَرْحَمُ الْمُسْلِمِينَ»(4).

ص: 127


1- سورة النور: 22.
2- تفسير كنز الدقائق وبحر الغرائب: ج 9 ص267.
3- غوالي اللئالي: ج1 ص361 المسلك 2 من الباب1 ح42.
4- مستدرك الوسائل: ج9 ص54 ب107 ح3 م10182.

وقال (صلى الله عليه وآله): «لا يَرْحَمُ اللَّهُ مَنْ لَا يَرْحَمُ النَّاسَ»(1).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) «يَا نَوْفُ ارْحَمْ تُرْحَمْ»(2).

وعن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام)قال: «تَوَاصَلُوا وَتَبَاذَلُوا وَتَبَارُّوا وَتَرَاحَمُوا وَكُونُوا إِخْوَاناً بَرَرَةً كَمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ تَعَالَى»(3).

الرحمة دائماً

مسألة: يستحب أن يتّصف الإنسان بالرحمة مطلقاً، إلا ما خرج بالدليل، أي فيما لا يكون منافياً للشرع.

قال سبحانه: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ»(4).

و: «إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ»(5).

كما قال سبحانه: «وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ»(6).

و: «أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ»(7).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «قَالَ تَعَالَى إِنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ رَحْمَتِي

ص: 128


1- مستدرك الوسائل: ج9 ص55 ب107 ح7 م10186.
2- مستدرك الوسائل: ج9 ص55 ب107 ح6 م10185.
3- مستدرك الوسائل: ج9 ص54 ب107 ح2 م10181.
4- سورة آل عمران: 159.
5- سورة هود: 119.
6- سورة النور: 2.
7- سورة الفتح: 29.

فَارْحَمُوا»(1).

وقال (صلى الله عليه وآله): «مَنْ لا يَرْحَمِالنَّاسَ لا يَرْحَمْهُ اللَّهُ»(2).

ف: (تخلّقوا بأخلاق الله) تعالى يستثنى منه ما لا يمكن، مثل: كونه أول الأولين وآخر الآخرين، ويستثنى منه ما نهى عنه الشرع كما ذكرناه, ويستثنى منه أيضاً صفات الباري المختصة كالكبرياء.

وفي ما عدا ذلك يكون من المستحب التخلّق بأخلاق الله سبحانه، وربما كان التخلّق ببعضها واجباً، كالصدق، فإنه يجب أن يكون الإنسان صادقاً فيما لو توقف عليه إحقاق الحق، ويحرم عليه الكذب.

ص: 129


1- مستدرك الوسائل: ج9 ص54 ب107 ح3 م10182.
2- مستدرك الوسائل: ج9 ص54 ب107 ح4 م10184.

حسبي الله وكفى

اشارة

عن فاطمة (عليها السلام) بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) قالت: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا فاطمة إذا أخذت مضجعك فقولي: «الحَمْدُ لِلهِ الكَافي, سُبْحَانَ اللهِ الأعْلَى, حَسْبِيَ اللهُ وَكَفَى, مَا شَاءَ اللهُ قَضَى, سَمِعَ اللهُ لِمَنْ دَعَا, لَيْسَ مِنَ اللهِ مَلْجَأٌ, وَلاَ مِنْ وَرَاءِ اللهِ مُلْتَجَأ, تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبّي وَرَبِّكُم, مَا مِنْ دَابّةٍ إلاّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إنَّ رَبّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم, الحَمْدُ للهِ الّذِي لَمْ يَتّخِذْ وَلَدَاً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ في المُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلّيٌ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً». قالت فاطمة (عليها السلام): «ثم قال النبي (صلى الله عليه وآله): ما من مسلم يقولها عند منامه ثم ينام وسط الشياطين والهوام فيضره»(1).

-------------------------------------------

نقل النصوص

مسألة: يستحب نقل نصوص الروايات، وإن كان النقل بالمضمون جائزاً أيضاً ما لم يخلّ بالمعنى كما في بعض الروايات(2)،والظاهر أنها (صلوات الله عليها)

ص: 130


1- روي هذا الحديث في كتب العامة أيضاً: انظر كنز العمال: ج15 ص340- 341 ح41303 عن ابن السني، وص513 ح42000 عن الديلمي، وكشف الخفاء: ج1 ص357 ح1135 نسبه إليهما، والدر المنثور: ج4 ص208 عنهما.
2- في الفوائد الرجالية: ص225 (كيفية نقل الحديث): ومن لا يعلم مقاصد الألفاظ وما يختل به معانيها ومقادير التفاوت بينها لم يجز له رواية الحديث بالمعنى بغير خلاف، بل يقتصر على رواية ما سمعه باللفظ الذي سمعه، وإن كان عالماً بذلك جاز على الأصح، كما يشهد به أحوال الصحابة والسلف وكثيرا ما كانوا ينقلون معنى واحدا بألفاظ مختلفة، والأخبار ورد في ذلك. منها: صحيحة محمد بن مسلم، قال : قلت لأبي عبد الله: أسمع الحديث منك فأزيد وأنقص؟ قال: «إن كنت تريد معانيه فلا بأس». مضافا إلى أن التعبير للعجمي بلسان العجم جائز اتفاقاً فبالعربية أولى، فتدبر.

نقلت نص كلامه (صلوات الله عليه وآله).

عن محمد بن مسلم، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أَسْمَعُ الْحَدِيثَ مِنْكَ فَأَزِيدُ وَأَنْقُصُ، قال: «إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ مَعَانِيَهُ فَلا بَأْسَ»(1).

وعن داود بن فرقد، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إِنِّي أَسْمَعُ الْكَلَامَ مِنْكَ فَأُرِيدُ أَنْ أَرْوِيَهُ كَمَا سَمِعْتُهُ مِنْكَ فَلا يَجِي ءُ، قَالَ: فَتَعَمَّدُ ذَلِكَ(2)، قُلْتُ: لا،فَقَالَ: تُرِيدُ الْمَعَانِيَ، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَلا بَأْسَ»(3).

أدعية النوم

مسألة: يستحب الدعاء بالمأثور وقت النوم للحفظ من الشياطين والهوام، بل يتأكد لكثرة ما ورد من الروايات حول ذلك، كما يستحب الدعاء بغير المأثور أيضاً.

ص: 131


1- الكافي: ج1 ص51 ح2.
2- في بعض النسخ (فتتعمد ذلك) بالتائين، وحذف إحداهما للتخفيف، والتعمد القصد، يقال: تعمدت الشي ء أي قصدته، يعني أتتعمد ترك حفظ الألفاظ وعدم المبالاة بضبطها، أو أنت نسيت فيقع ذلك منك بغير تقصير، أو المعنى أفتقصد وتريد أن ترويه كيف ما يجي ء زائداً على إفادة المعنى المقصود أو ناقصاً عنه. انظر مرآة العقول: ج1 ص175.
3- الكافي: ج1 ص51 ح3.

والدعاء وضعه(1) على ألوان:

منها: للحفظ من الشياطين والهوام.

ومنها: لتحصيل ثواب العبادة.

ومنها: للقيام للعبادة والطاعة.

ومنها: لغير ذلك(2)، كما لا يخفى على من راجع الروايات في هذا الباب.

ص: 132


1- أي الغرض منه والهدف من وضعه وإنشائه.
2- فمن تلك الجهات: * غفران الذنوب، فعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «من قال حين يأخذ مضجعه ثلاث مرات: "الحمد لله الذي علا فقهر، والحمد لله الذي بطن فخبر، والحمد لله الذي ملك فقدر، والحمد لله الذي يحيي الموتى ويميت الأحياء وهو على كل شيء قدير". خرج من الذنوب كهيئة يوم ولدته أمه». ثواب الأعمال: ص153 ثواب من قال هذا القول حين يأخذ مضجعه. * ومنها: تحصيل الثواب، فعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «من قال حين يأوي إلى فراشه: "لا إله إلا الله" مائة مرة، بنى الله له بيتاً في الجنة، ومن استغفر الله حين يأوي إلى فراشه مائة مرة تحاتت ذنوبه كما يسقط ورق الشجر». الخصال: ص594 أبواب الثمانين وما فوقه ح6. * ومنها: الأمن من الفزع، فعن محمد بن مسلم قال: قال لي أبو جعفر (عليه السلام): «إذا توسّد الرجل يمينه فليقل: "بسم الله اللهم إني أسلمتُ نفسي إليك، ووجهتُ وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، وتوكلت عليك، رهبة منك ورغبة إليك، لا ملجأ ولا منجأ منك إلاّ إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبرسولك الذي أرسلت" ثم سبح تسبيح الزهراء فاطمة (عليها السلام)، ومن أصابه فزع عند منامه فليقرأ إذا آوى إلى فراشه: المعوذتين وآية الكرسي». تهذيب الأحكام: ج2 ص116 باب كيفية الصلاة وصفتها .. ح435. * ومنها: الأمن من العذاب، فعن درست، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من قرأ «أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ» عند النوم وقي فتنة القبر».مصباح المتهجد: ص121 ما يستحب فعله بعد العشاء الآخرة. * ومنها: الأمن من اللص، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «إذا أراد أحدكم النوم فليضع يده اليمنى تحت خده الأيمن وليقل: "بسم الله وضعتُ جنبي لله وعلى ملة إبراهيم (عليه السلام) ودين محمد (صلى الله عليه وآله) وولاية من افترض الله طاعته، ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، أشهد أن الله على كل شيء قدير"، فإن من قال ذلك عند منامه حفظ من اللص والهدم، وتستغفر له الملائكة. ومن قرأ «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» عند مضجعه وكّل الله به خمسين ملكاً يحرسونه ليلته». بحار الأنوار: ج10 ص108 ب7 ضمن ح1. وروي أن من خاف اللصوص فليقرأ عند منامه: «قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ» إلى آخره السورة. مكارم الأخلاق: ص289 الفصل2 من الباب10 فيمن خاف من اللصوص. * ومنها: الأمن من الجنابة، فعن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إذا خفت الجنابة فقل في فراشك: "اللهم إني أعوذ بك من الاحتلام ومن سوء الأحلام ومن أن يتلاعب بي الشيطان في اليقظة والمنام"».مفتاح الفلاح: ص221 لدفع الاحتلام وسقوط البيت. * ومنها: الأمن من هدم الدار عليه، فعن أبي الحسن الرضا عن أبيه (عليهما السلام)، قال: «لم يقل أحد قط إذا أراد أن ينام «إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا» إلى آخر الآية - سورة فاطر - فسقط عليه البيت». مفتاح الفلاح: ص211- 212 لدفع الاحتلام وسقوط البيت. * ومنها: لدفع الأرق والسهر، قال الشيخ الطبرسي في مكارم الأخلاق: 290 الفصل2 من الباب10 في خوف الأرق: (إذا خفت الأرق فقل عند منامك: "سبحان الله ذي الشأن، دائم السلطان، عظيم البرهان، كل يوم هو في شأن "، ثم قل: " يا مشبع البطون الجائعة، ويا كاسي الجنوب العارية، ويا مسكن العروق الضاربة، ويا منوم العيون الساهرة، سكّن عروقي الضاربة، وائذن لعيني أن تنام عاجلا". (دعاء آخر): اقرأ " آية الكرسي" و«إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ» إلى آخر الآية، و«وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا».

ولعلّه يستفاد من (عند) الاتصال العرفي، فلو فصل كما لو حدث له طارئ فهل تستحب الإعادة، لا يبعد ذلك.

عن محمد بن مسلم، عن أحدهما (عليهما السلام) قال: «لا يدع الرجل أن

ص: 133

يقول عند منامه: "أعيذ نفسي وذريتي وأهل بيتي ومالي بكلمات الله التامات، من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة"، فذلك الذي عوّذ به جبرئيل الحسن والحسين عليهما السلام»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: «من بات على تسبيح فاطمة (عليها السلام) كان من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات»(2).

وعن الصادق (عليه السلام) قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله): «من أراد شيئاً من قيام الليل وأخذ مضجعه فليقل: "اللهم لا تؤمني مكرك، ولا تنسني ذكرك، ولا تجعلني من الغافلين، أقوم ساعة كذا وكذا " فإنه يوكل الله عز وجل به ملكاً ينبهه تلك الساعة»(3).

من أنواع البلاغة

مسألة: يصح خطاب الغائب, كما يدل عليه: (وربكم) مع فرض عدم مخاطب في البين ظاهراً، هذا إن لم يقصد من يسمعه من الملائكة والجن، بل حتى وإن قصد فإن (ربكم) المراد به الأعم ممن يسمعه.

وهو من أبواب البلاغة كما ذكره العلماء في كتبها(4), وقد يكون من باب

ص: 134


1- من لا يحضره الفقيه: ج1 ص470 ح1352.
2- جامع أحاديث الشيعة: ج17 ص72 باب14 من أبواب طلب الرزق وأسبابه ح4.
3- مكارم الأخلاق: ص291 الفصل2 من الباب10 فيمن أراد الانتباه للصلاة.
4- أي كتب البلاغة، وهو الانتقال من خطاب الحاضر إلى الغائب أو العكس، قال الشريف الرضي في حقائق التأويل ص35: (لأن للعرب مذهباً في خطاب الحاضر، ثم الانتقال عنه إلى خطاب الغائب، وعلى ذلك قوله سبحانه: «حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ» ..).

التحزّن أو ما أشبه.

أما في ما نحن فيه فهو اقتباس من الآية الشريفة(1).

وهذا ما يدل على استحباب الاقتباس من الآيات الكريمة، ومن كلمات العظماء، على ما ذكرناه في المجلدات السابقة في شرح الخطبة الشريفة.

أحوال الشياطين

مسألة: يستحب بيان أحوال الشيطان، ليحذر منه الإنسان(2).

ثم إنه على نسخة (وسط الشيطان) بالمفرد، قد يستفاد من الحديث أن الشيطان ربما يبسط جسمه بحيث يحيط بالشخص، فإنه جسم خفيف كالدخان مثلاً.

نعم من الممكن أن يكون المراد بالشيطان جنسه، فإن اللام قد تأتي للجنس(3)، فيراد به الشياطين لا الشيطان الواحد, فإن المفرد المحلى قد يأتي للجنس، مثل قوله: «الحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» على المشهور بين البلغاء بأن المراد جنس الحمد، كما أن المفرد غير المحلى قد يراد به الجنس مثل: «تمرة خير من

ص: 135


1- قال تعالى في سورة هود: 56 على لسان النبي هود (عليه السلام) في خطابه لقومه: «إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ».
2- فمعرفة أحواله وما يقوم به من أعمال وخطوات مقدمة لعدم اتباع ألاعيبه وحبائله، قال تعالى: «وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ» سورة البقرة: 168، 208، سورة الأنعام: 142.
3- بل الأصل في اللام كما قيل أن تكون لإفادة الجنس. انظر (منتهى الدراية في شرح الكفاية): ج3 ص441 - 442، قال صاحب الكفاية: (لأن الأصل في اللام أن تكون لتعريف الجنس).

جرادة» ومثل: «رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً»(1)، حيث: إن المراد بهما جنس التمرةوالجرادة(2)، وجنس الحسنة، إلى غير ذلك مما ذكرناه في الأصول.

وعلى هذا قد يستفاد من الحديث وجود مجموعة شياطين يحيطون بالإنسان وقت نومه، لقوله (صلى الله عليه وآله): (وسط الشيطان).

وربما يستفاد من الحديث أن الشيطان يضرّ بالإنسان مادياً أيضاً، فإنه لا شك في أنه يضر الإنسان معنوياًبإضلاله وتحريفه عن العقائد الصحيحة والأخلاق الطيبة وما أشبه ذلك، لكنه قد يضره مادياً أيضاً كما ورد بذلك الروايات، والقصص في ذلك كثيرة.

والعكس بالنسبة إلى الملائكة، حيث إنها تنفع الإنسان مادياً ومعنوياً، كما قال سبحانه: «تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلَائِكَةُ أَلاّ تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا»(3)، وكما في قصة

ص: 136


1- سورة البقرة: 201.
2- قال المحقق المدقق صاحب الفصول الحائري في فصوله ص172: (وأما في المفرد فهي ظاهرة في الإشارة إلى الحقيقة من حيث تعينها الجنسي حيث لا يكون تعين عهدي، نعم قد يؤخذ الحقيقة المشار إليها بالاعتبار الأول باعتبار تحققها في جميع الأفراد لا بدلالة اللام أو المعرف بها عليه، إذ ليس مدلولهما كما عرفت إلا الإشارة والحقيقة، بل بدلالة أمر آخر عليه كقرينة الاستثناء في الآية ونحوها، فيفيد العموم بمعونته، بل كما يؤخذ الحقيقة المشار إليها باللام المدلول عليها بلفظ معرف باعتبار تحققها في جميع الأفراد، ويدل عليه بأمر خارج، كذلك يؤخذ الحقيقة المجردة عن الإشارة المدلول عليها بلفظ منكر بالاعتبار المذكور، ويدل عليه بأمر خارج، كما في قوله تعالى: «عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ»، وقولهم (تمرة خير من جرادة)، فلا فرق في استفادة الاستغراق من المفردين بين معرفة ومنكرة، فكما أن المفيد له في الثاني غير لفظه فكذلك في الأول).
3- سورة فصلت: 30.

بدر(1)، وقصة حنين(2)، وغيرهما من سائر القصص.

المراد بالشيطان

الظاهر أن المراد ب (الشيطان) هو المخلوق المعهود من نسل إبليس الذييجري من ابن آدم مجرى الدم من جسده(3)، والذي يوسوس له(4)، ويزين له فعل الآثام(5)، وليس المراد به (الميكروب) كما ذكره البعض، والظاهر أن تفسيرهم

ص: 137


1- قال تعالى: «وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ» سورة: آل عمران: 123125.
2- قال تعالى: «لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ» سورة التوبة: 2526.
3- عن ابن بكير، عن أبي عبد الله أو عن أبي جعفر (عليهما السلام) قال: «إن آدم (عليه السلام) قال: يا رب سلّطت عليّ الشيطان وأجريته مني مجرى الدم فاجعل لي شيئاً، فقال: يا آدم جعلت لك أن من همّ من ذريتك بسيئة لم تكتب عليه، فإن عملها كتبت عليه سيئة ومن همّ منهم بحسنة فإن لم يعملها كتبت له حسنة فإن هو عملها كتبت له عشراً، قال: يا رب زدني، قال: جعلت لك أن من عمل منهم سيئة ثم استغفر له غفرت له، قال: يا رب زدني، قال: جعلت لهم التوبة - أو قال: بسطت لهم التوبة - حتى تبلغ النفس هذه، قال: يا رب حسبي». الكافي: ج2 ص440 باب فيما أعطى الله عز وجل آدم ( عليه السلام ) وقت التوبة ح1.
4- إشارة إلى قوله تعالى: «مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ» سورة الناس: 45.
5- إشارة إلى قوله تعالى: «وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» سورة الأنعام: 43.

بذلك ناشئ من ضيق الأفق حيث استبعدوا مخلوقاً غيبياً ففسروه بأمر مادي، ولو فتح باب التأويل هذا، لما استقر حجر على حجر، ولما بقي منالغيبيات عين ولا أثر، وتفصيل ذلك في موضعه.

الحذر من الهوام

مسألة: يستحب أو يلزم الوقاية من الهوام(1)، كلٌّ في مورده، وذلك بالسبل المادية كالأدوية، والمعنوية كالأدعية.

والاستحباب فيما إذا كان الضرر قليلاً، والوجوب إذا كان الضرر كثيراً، فإن: «لا ضرر»(2) يراد به الإنشاء أيضاً، ويدل على وجوب الاجتناب عن الضرر الكثير، على ما ذكرناه في بابه(3).

كما يجب على (الدولة) وقاية المدن والناس من الهوام والحشرات والجراثيم الضارة بالصحة العامة، بالتشجير والتعقيم وطمّ المستنقعات وغير ذلك؛فإنها موضوعة للمصالح العامة، كما أن ما يقي من الضار منها يحتسب من (النفقة)، وكذا كل ما عدّ من شأنه وإن لم يكن ضاراً ضرراً بالغاً.

ويجوز قتل الهوام المضرة حتى في الصلاة مع حفظ صورة الصلاة وعدم

ص: 138


1- الهوام: ما كان من خشاش الأرض - الخشاش بكسر الخاء وهي الحشرات - نحو العقارب وما أشبهها، الواحدة (هامة) لأنها تهمّ أي تدبّ وهميمها دبيبها. لسان العرب: ج12 ص621 همم.
2- مصادر حديث (لا ضرر ولا ضرار) كثيرة، منها ما رواه الشيخ الكليني في الكافي: ج5 ص280 باب الشفعة ح4، وج5: ص292 -293 باب الضرار ح2 وص294 ح6، وغيرها.
3- راجع موسوعة (الفقه) كتاب القواعد الفقهية، قاعدة لا ضرر.

الإخلال بشروطها، فعن محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يكون في الصلاة فيرى الحية أو العقرب يقتلهما إن آذياه؟ قال: «نعم»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) فِي الرَّجُلِ يَقْتُلُ الْبَقَّةَ وَالْبُرْغُوثَ وَالْقَمْلَةَ وَالذُّبَابَ فِي الصَّلَاةِ، أَيَنْقُضُ صَلَاتَهُ وَوُضُوءَهُ، قَالَ: «لا»(2).

وعن أبان، عن محمد، قال: (كَانَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام) إِذَا وَجَدَ قَمْلَةً فِي الْمَسْجِدِ دَفَنَهَا فِي الْحَصَى)(3).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إِذَا كُنْتَ فِي صَلَاةِ الْفَرِيضَةِ فَرَأَيْتَ غُلَاماًلَكَ قَدْ أَبَقَ، أَوْ غَرِيماً لَكَ عَلَيْهِ مَالٌ، أَوْ حَيَّةً تَخَافُهَا عَلَى نَفْسِكَ، فَاقْطَعِ الصَّلَاةَ وَاتْبَعِ الْغُلَامَ أَوْ غَرِيماً لَكَ وَاقْتُلِ الْحَيَّةَ»(4).

فوائد الأدعية

مسألة: يستحب بيان الفوائد والآثار المترتبة على الأدعية، كما قال (صلى الله عليه وآله): «ما من مسلم يقولها..».

فإن في ذكرها الترغيب والتشجيع لقراءتها، ولكن لا يجوز اختراع فوائد للأدعية من عند نفسه، كما لا يجوز اختراع الأدعية ونسبتها إلى المعصوم (عليه

ص: 139


1- الكافي: ج3 ص367 باب المصلي يعرض له شيء من الهوام فيقتله ح1.
2- الكافي: ج 3 ص367 باب المصلي يعرض له شيء من الهوام فيقتله ح2.
3- الكافي: ج 3 ص367 باب المصلي يعرض له شيء من الهوام فيقتله ح4.
4- الكافي: ج 3 ص367 باب المصلي يعرض له شيء من الهوام فيقتله ح5.

السلام)، نعم يجوز أن يدعو بما شاء من دون النسبة.

عن عبد الله بن سنان، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «سَتُصِيبُكُمْ شُبْهَةٌ فَتَبْقَوْنَ بِلَا عَلَمٍ يُرَى، ولَا إِمَامٍ هُدًى، وَلَا يَنْجُو مِنْهَا إِلَّا مَنْ دَعَا بِدُعَاءِ الْغَرِيقِ»، قُلْتُ: كَيْفَ دُعَاءُ الْغَرِيقِ؟ قَالَ: «يَقُولُ: يَا اللَّهُ يَا رَحْمَانُ يَا رَحِيمُ، يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ»، فَقُلْتُ: يَا اللَّهُ يَا رَحْمَانُ يَا رَحِيمُ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ وَالْأَبْصَارِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ،قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مُقَلِّبُ الْقُلُوبِ وَالْأَبْصَارِ وَلَكِنْ قُلْ كَمَا أَقُولُ لَكَ: يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِك»(1).

وقال رجل للإمام الصادق (عليه السلام): إِنِّي اخْتَرَعْتُ دُعَاءً، فَقَالَ: «دَعْنِي مِنِ اخْتِرَاعِكَ»(2).

روايات من بلغ

مسألة: الثواب المذكور على دعاء بعينه يترتب عليه للعامل به، وإن كان السند ضعيفاً، لعموم «من بلغه ثواب من الله على عمل فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب أوتيه وإن لم يكن الحديث كما بلغه»(3)، و«من سمع شيئاً من الثواب على شيء فصنعه كان له ذلك وإن لم يكن على ما بلغه»(4)، ولا ضرورة للتحقيق عن سند تلك الروايات، وذلك للتسامح في أدلة السنن.

ص: 140


1- كمال الدين وتمام النعمة: ج 2 ص351 ب33 ح50.
2- هداية الأمة إلی أحكام الأئمة (عليهم السلام): ص126 ب8 ح763.
3- الكافي: ج2 ص87 باب من بلغه ثواب من الله على عمل ح2.
4- الكافي: ج2 ص87 باب من بلغه ثواب من الله على عمل ح1.

عَنْ صَفْوَانَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «مَنْ بَلَغَهُ شَيْ ءٌ مِنَ الثَّوَابِ عَلَى شَيْ ءٍ مِنَ الْخَيْرِ فَعَمِلَهُ، كَانَ لَهُ أَجْرُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) لَمْ يَقُلْهُ»(1).

وعَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: مَنْ بَلَغَهُ عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) شَيْ ءٌ مِنَ الثَّوَابِ فَعَمِلَهُ كَانَ أَجْرُ ذَلِكَ لَهُ وإِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) لَمْ يَقُلْهُ(2).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «مَنْ بَلَغَهُ عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) شَيْ ءٌ مِنَ الثَّوَابِ فَفَعَلَ ذَلِكَ طَلَبَ قَوْلِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) كَانَ لَهُ ذَلِكَ الثَّوَابُ وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) لَمْ يَقُلْهُ»(3).

وعن أَحْمَدُ بْنُ فَهْدٍ فِي (عُدَّةِ الدَّاعِي) قَالَ: رَوَى الصَّدُوقُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ بِطُرُقِهِ إِلَى الْأَئِمَّةِ (عليهم السلام): «أَنَّ مَنْ بَلَغَهُ شَيْ ءٌ مِنَ الْخَيْرِ فَعَمِلَ بِهِ كَانَ لَهُ مِنَالثَّوَابِ مَا بَلَغَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَمَا نُقِلَ إِلَيْهِ»(4).

وعَنِ الصَّادِقِ (عليه السلام) قَالَ: «مَنْ بَلَغَهُ شَيْ ءٌ مِنَ الْخَيْرِ فَعَمِلَ بِهِ كَانَ لَهُ

ص: 141


1- وسائل الشيعة:ج 1 ص80 ب18 بَابُ اسْتِحْبَابِ الإِتْيَانِ بِكُلِّ عَمَلٍ مَشْرُوعٍ رُوِيَ لَهُ ثَوَابٌ عَنْهُمْ عليهم السلام ح182.
2- وسائل الشيعة: ج1 ص81 ب 18 بَابُ اسْتِحْبَابِ الإِتْيَانِ بِكُلِّ عَمَلٍ مَشْرُوعٍ رُوِيَ لَهُ ثَوَابٌ عَنْهُمْ عليهم السلام ح184.
3- وسائل الشيعة: ج1 ص81 ب 18 بَابُ اسْتِحْبَابِ الإِتْيَانِ بِكُلِّ عَمَلٍ مَشْرُوعٍ رُوِيَ لَهُ ثَوَابٌ عَنْهُمْ عليهم السلام ح185.
4- وسائل الشيعة: ج1 ص81 ب 18 بَابُ اسْتِحْبَابِ الإِتْيَانِ بِكُلِّ عَمَلٍ مَشْرُوعٍ رُوِيَ لَهُ ثَوَابٌ عَنْهُمْ عليهم السلام ح189.

أَجْرُ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَمَا بَلَغَهُ»(1).

إلى غيرها من الروايات.

حمد الباري

مسألة: يستحب الحمد لله مطلقاً، أي من دون تقييده بنعمة دون أخرى، وهذا لا ينافي استحباب الحمد على نعمة خاصة، وقد ورد في الدعاء الإطلاق والتقييد، ولكلٍ فضل.

وقد ذكروا في قوله سبحانه: «الحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ»(2) أن اللام للاستغراق أو للجنس وكلاهما يفيد الإطلاق والشمول.

وكلما كان الحمد أشمل كان أقرب إلى الواقع بقدر إمكان الإنسان، وإلاّ فاستيعاب الحمد غير ممكن مطلقاً.عن أبي عبد الله (عليه السلام)، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : «مَنْ ظَهَرَتْ عَلَيْهِ النِّعَمُ فَلْيُكْثِرِ الْحَمْدُ لِلَّهِ» الحديث(3).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ نِصْفُ الْمِيزَانِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ يَمْلَؤُهُ»(4).

وعن الهيثم بن واقد، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: مَا أَنْعَمَ

ص: 142


1- وسائل الشيعة: ج1 ص81 ب 18 بَابُ اسْتِحْبَابِ الإِتْيَانِ بِكُلِّ عَمَلٍ مَشْرُوعٍ رُوِيَ لَهُ ثَوَابٌ عَنْهُمْ (عليهم السلام) ح190.
2- سورة الفاتحة: 2.
3- وسائل الشيعة: ج 7 ص174 ب22 بَابُ اسْتِحْبَابِ كَثْرَةِ حَمْدِ اللَّهِ عِنْدَ تَظَاهُرِ النِّعَمِ ح9039.
4- وسائل الشيعة: ج 7 ص174 ب22 بَابُ اسْتِحْبَابِ كَثْرَةِ حَمْدِ اللَّهِ عِنْدَ تَظَاهُرِ النِّعَمِ ح9040.

اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ بِنِعْمَةٍ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ فَحَمِدَ اللَّهَ عَلَيْهَا إِلَّا كَانَ حَمْدُهُ لِلَّهِ أَفْضَلَ مِنْ تِلْكَ النِّعْمَةِ وَأَعْظَمَ وَأَوْزَنَ»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «الطَّاعِمُ الشَّاكِرُ لَهُ أَجْرُ الصَّائِمِ الْمُحْتَسِبِ، وَالْمُعَافَى الشَّاكِرُ مِثْلُ الْمُبْتَلَى الصَّابِرِ»(2).

وقَالَ أَبُوعَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): «يَا إِسْحَاقُ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً فَعَرَفَهَا بِقَلْبِهِ وَجَهَرَ بِحَمْدِ اللَّهِ عَلَيْهَا فَفَرَغَ مِنْهَاحَتَّى يُؤْمَرَ لَهُ بِالْمَزِيدِ»(3).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «شُكْرُ كُلِّ نِعْمَةٍ وإِنْ عَظُمَتْ أَنْ تَحْمَدَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ»(4).

وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ تَظَاهَرَتْ عَلَيْهِ النِّعَمُ فَلْيَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَمَنْ أَلَحَّ عَلَيْهِ الْفَقْرُ فَلْيُكْثِرْ مِنْ قَوْلِ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، فَإِنَّهُ كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ، وَفِيهِ شِفَاءٌ مِنِ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ دَاءً أَدْنَاهَا الْهَمُّ»(5).

ص: 143


1- وسائل الشيعة: ج 7 ص174 ب22 بَابُ اسْتِحْبَابِ كَثْرَةِ حَمْدِ اللَّهِ عِنْدَ تَظَاهُرِ النِّعَمِ ح9041.
2- وسائل الشيعة: ج 7 ص174 ب22 بَابُ اسْتِحْبَابِ كَثْرَةِ حَمْدِ اللَّهِ عِنْدَ تَظَاهُرِ النِّعَمِ ح9042.
3- وسائل الشيعة: ج 7 ص175 ب22 بَابُ اسْتِحْبَابِ كَثْرَةِ حَمْدِ اللَّهِ عِنْدَ تَظَاهُرِ النِّعَمِ ح9043.
4- وسائل الشيعة: ج 7 ص175 ب22 بَابُ اسْتِحْبَابِ كَثْرَةِ حَمْدِ اللَّهِ عِنْدَ تَظَاهُرِ النِّعَمِ ح9044.
5- وسائل الشيعة: ج 7 ص175 ب22 بَابُ اسْتِحْبَابِ كَثْرَةِ حَمْدِ اللَّهِ عِنْدَ تَظَاهُرِ النِّعَمِ ح9045.

الله الكافي

مسألة: يلزم الاعتقاد بأن الله تعالى هو الكافي.

فالوجوب في مورده والاستحباب في مورده، كما أشير إليه فيما سبق.

قال تعالى: «أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ»(1).

فإن الله سبحانه وتعالى يكفي عبده من كل شيء, بلطفه الخفي والجلي، لكن كفاية الله سبحانه وتعالى للإنسان مثل سائر صفاته تحتاج إلى قابلية المكان, فالفيض من جانب الفيّاض مطلق، لكن الأمكنة القابلة تختلف في قبول ذلك الفيض، كما قال سبحانه: «أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا»(2).

وما يتصور من أنه تعالى قد لا يكفي عبده بحسب الظاهر، فربما يكون للتعويض بالأفضل في الدنيا لاحقاً أو في الآخرة، أو لدفع بلاء آخر أعظم، بل قد يكون ما لم يفعله الله تعالى متوهّماً عدم كفايته، مع أن عدم فعله هو بالكفاية حقاً.

وفي دعاء الافتتاح: «ولعل الذي أبطأ عني هو خير لي، لعلمك بعاقبةالأمور»(3).

ص: 144


1- سورة الزمر: 36.
2- سورة الرعد: 17.
3- مصباح المتهجد: ج 2 ص579.

تسبيح الباري

مسألة: يستحب التسبيح بأن يقول: «سبحان الله».

والفرق بين (الحمد) و(التسبيح): أن الحمد ذكر الصفات الكمالية، والتسبيح تنزيه لله سبحانه عن النقائص، وإن كان كل واحد منهما ربما يطلق على الآخر إن انفردا بالذكر.

وذلك مثل: (الظرف والجار والمجرور)، و(الفقير والمسكين)، فإنهما إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ ثَلَاثَةَ آلَافِ حَسَنَةٍ، وَمَحَا عَنْهُ ثَلَاثَةَ آلَافِ سَيِّئَةٍ، وَرَفَعَ لَهُ ثَلَاثَةَ آلَافِ دَرَجَةٍ، وَيَخْلُقُ مِنْهَا طَائِراً فِي الْجَنَّةِ يُسَبِّحُ وَكَانَ أَجْرُ تَسْبِيحِهِ لَهُ»(1).

وقِيلَ لِلصَّادِقِ (عليه السلام): إِنَّ مِنْ سَعَادَةِ الْمَرْءِ خِفَّةَ عَارِضَيْهِ، فَقَالَ: «وَمَا فِي هَذَا مِنَ السَّعَادَةِ، إِنَّمَا السَّعَادَةُ خِفَّةُ مَاضِغَيْهِ بِالتَّسْبِيحِ»(2).وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ وبِحَمْدِهِ، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ حَسَنَةٍ، وَمَحَا عَنْهُ أَلْفَ أَلْفِ سَيِّئَةٍ، وَرَفَعَ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ دَرَجَةٍ، وَمَنْ زَادَ زَادَهُ اللَّهُ وَمَنِ اسْتَغْفَرَ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ»(3).

ص: 145


1- وسائل الشيعة: ج 7 ص182 ب29 بَابُ اسْتِحْبَابِ التَّسْبِيحِ ح9063.
2- وسائل الشيعة: ج 7 ص182 ب29 بَابُ اسْتِحْبَابِ التَّسْبِيحِ ح9064.
3- وسائل الشيعة: ج 7 ص183 ب29 بَابُ اسْتِحْبَابِ التَّسْبِيحِ ح9065.

وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «إِذَا قَالَ الْعَبْدُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، فَقَدْ أَنِفَ لِلَّهِ وَحَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ يَنْصُرَهُ»(1).

وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ تَعَجُّبٍ، خَلَقَ اللَّهُ مِنْهَا طَائِراً أَخْضَرَ يَسْتَظِلُّ بِظِلِّ الْعَرْشِ يُسَبِّحُ فَيُكْتَبُ لَهُ ثَوَابُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»(2).

هو الأعلى

مسألة: يجب الاعتقاد بأن الله تعالى هو الأعلى.

ومن الواضح أنه لا أعلى من الله سبحانه وتعالى.وربما تكون تكبيرة الإحرام : (الله أكبر) إشارة إلى ذلك، فإن حذف المتعلق يفيد العموم.

وكلما تواضع الإنسان أكثر في ظاهره وباطنه وراعى العبودية أزيد، يدرك علوّ الله سبحانه وتعالى أكثر، فيزداد بذلك درجات.

وقد ورد أنه لما نزلت كلمة (الأعلى) في الآية المباركة, قال النبي (صلى الله عليه وآله): «اجعلوها في سجودكم»(3).

ففي السجود يكون الإنسان في غاية التواضع لله عزّ وجلّ، فعليه أن يذكر الله سبحانه بقوله: «سبحان ربي الأعلى وبحمده».

ص: 146


1- وسائل الشيعة: ج 7 ص183 ب29 بَابُ اسْتِحْبَابِ التَّسْبِيحِ ح9066.
2- وسائل الشيعة: ج 7 ص183 ب29 بَابُ اسْتِحْبَابِ التَّسْبِيحِ ح9067.
3- علل الشرائع: ج2 ص333 ب30 ح6.

حسبي الله

مسألة: يلزم الإعتقاد بأن الله حسبه وكفى.

ومعنى (حسبه) أنه لا يحتاج إلى غيره واقعاً إطلاقاً، فإن الله سبحانه وتعالى هو القادر على أن يفيض على الإنسان كل ما يحتاج إليه، فإن (حسبي) مشتق من الحساب، ومعنى: (حسبه وكفى): كفاه عن غيره، فهو في الحساب كافٍ للإنسان، وهذا لا ينافي العلل الطبيعية، فإنها بإذن الله، وهي في طول إذنه ومشيئته عزوجل.

قال تعالى: «وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ»(1).

وقال سبحانه: «وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ»(2).

ما شاء الله

مسألة: يلزم الاعتقاد بأن ما شاء الله قضى.

فإن مشيئة الله سبحانه وتعالى ماضية في كل ما أراده عزّ وجلّ، إذ له الخلق والأمر، فما شاء سبحانه قضاه، أما ما شاء غيره فربما يكون وربما لا يكون،حسب إذن الله وعدمه.

وقد ذكرنا في بعض كتبنا الفرق بين القضاء والقدر(3)، وأن القدر

ص: 147


1- سورة الأنفال: 17.
2- سورة الإنسان: 30.
3- راجع موسوعة (الفقه) كتاب العقائد.

كالهندسة حيث يقدّر المهندس الأبعاد والحدود وغيرها، وأما القضاء فهو الإنفاذ.

وإن كانت له معان عديدة أخرى، وأنه الجامع بين القضاء التشريعي كما في «وَقَضَى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيَّاهُ»(1).

والتكويني ك: «فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ»(2)، وقد فُسّر الأول ب (حَكَمَ) أو (أَمَرَ)(3) والثاني ب (خَلَقَ)(4).

سميع الدعاء

مسألة: يلزم الاعتقاد بأن الله سبحانه سميع الدعاء.

فإنه عزّ وجلّ سميع لكل صوت، دعاءً وغير دعاء, أما أنه سميع الدعاء فهو من باب المصداق، فكل ما يقبل السمع فإنه تعالى يسمعه، كما أن كل ما يقبل البصر فالله يبصره، وكذلك كلما يقبل العلم فالله يعلمه وهكذا، ولا يبعد أن يكون لفظ (سميع) قد أُشرب معنى الاستجابة، إضافة إلى دلالة (فعيل) على الكثرة.

ص: 148


1- سورة الإسراء: 23.
2- سورة فصلّت: 12.
3- قال الشيخ الكفعمي في المصباح: ص345: (ومنه: «وَقَضَى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيَّاهُ» أي حكم وأمر ووصى).
4- قال الشيخ علي بن إبراهيم القمي في تفسيره: ج2 ص263: وقد سُئل أبو الحسن الرضا (عليه السلام) عمّن كلّم الله لا من الجن ولا من الأنس، فقال: «السماوات والأرض في قوله: «اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ» أي فخلقهن «سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ» ».

فعّال أو مفعال أو فعول *** في كثرة عن فاعل بديل

فيستحق ما له من عمل *** وفي فعيل قلّ ذا وفعل(1)

لا ملجأ إلا إليه

مسألة: يلزم الاعتقاد بأنه ليس من الله ملجأ، ولا من ورائه ملتجأ.

فإنه تعالى وحده هو الذي يتمكن منإجارة من التجأ إليه, أما غيره فربما يلتجأ الإنسان إليه وهو يريد أن يجيره لكنه لا يتمكن من إجارته, أو يتمكن من إجارته لكنه لا يجيره.

والعقل هو الحاكم بأنه «لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاّ إِلَيْهِ»(2) مطلقاً، والنكرة في سياق النفي تفيد العموم، وما يتصور ملجأً غيره فإنه في ظاهر الأمر دون باطنه، مضافا إلى كونه ليس بالاستقلال كما هو واضح.

عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام):

«إِذَا تَوَسَّدَ الرَّجُلُ يَمِينَهُ فَلْيَقُلْ: بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ، وَوَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، وَتَوَكَّلْتُ عَلَيْكَ، رَهْبَةً مِنْكَ وَرَغْبَةً إِلَيْكَ، لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَى مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ وَبِرَسُولِكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ، ثُمَّ سَبَّحَ تَسْبِيحَ الزَّهْرَاءِ فَاطِمَةَ (عليها السلام)

ص: 149


1- شرح ابن عقيل: ج2 ص111، وقد قال في شرح هذين البيتين: (يصاغ للكثرة: فعال، ومفعال، وفعول، وفعيل، وفعل، فيعمل عمل الفعل على حد اسم الفاعل، وإعمال الثلاثة الأول أكثر من إعمال فعيل وفعل، وإعمال فعيل أكثر من إعمال فعل).
2- سورة التوبة: 118.

وَمَنْ أَصَابَهُ فَزَعٌ عِنْدَ مَنَامِهِ فَلْيَقْرَأْ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ وَآيَةَ الْكُرْسِيِّ»(1).

التوكّل على الله

مسألة: يستحب التوكّل على الله تعالى.

ومعنى التوكّل أن يعمل الإنسان بقانون الأسباب والمسببات التي سنها الباري عزوجل، ويكل إليه سبحانه كلما ليس بيده ليكفيه.

وفي الآية الكريمة: «وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ»(2).

وقد لخّص النبي (صلى الله عليه وآله) مورد التوكل بقوله: «اعقل وتوكل»(3).

أما إذا كان الإنسان لا يعمل ما بإمكانه أن يعمله ثم يقول: توكّلت على الله، فهو ليس من التوكّل في شيء.

قال تعالى: «ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا»(4).

وفي الأثر: «أبى الله أن يجري الأمور إلاّ بأسبابها»(5).

وكلما ازداد توكل الإنسان على الله تعالى، كان حظّه من كفايته أكبر وأكثر.

ص: 150


1- وسائل الشيعة: ج6 ص447 ب12 باب استحباب الدعاء بالمأثور عند النوم ح8405.
2- سورة الطلاق: 3.
3- غوالي اللئالي: ج1 ص75 ح149.
4- سورة الكهف: 89، 91.
5- شرح أصول الكافي: ج8 ص209.

كل الأمور بيده

مسألة: يلزم الاعتقاد بأن جميع الأمور بيد الله تعالى، «مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا»(1).

والاستحباب والوجوب كل في مورده كما سبق في مباحث سابقة.

ثم «مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاّ هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا» من باب المثال, وإلاّ فكل شيء بيده سبحانه وتعالى، دابة كانت أو غيرها, كما قال الحاج السبزواري:

أزمة الأمور طُرّاً بيده والكل مستمدة من مدده

والأخذ بالناصية كناية عن التوجيه كيف يشاء، لأن الإنسان إذا أخذ بناصية إنسان أو حيوان يكون زمامه بيده يوجهه إلى حيث شاء، ذات اليمين وذات الشمال، والخلف والأمام، والفوق والتحت من الجهات الست.

وتخصيص (الدابة) للذكر ربما لكونها مجال توهم لأن أمرها بيدها دون الجامدات، فاقتضى التنصيص عليها(2).

ومن الواضح أن (آخِذٌ) نص في القيمومة الفعلية، وبذلك وغيره -وبالعقل أيضاً - يُنفى (التفويض) المطلق.

قال تعالى: «للهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْد»(3).

ص: 151


1- سورة هود: 56.
2- أي على الدابة.
3- سورة الروم: 4.

وقال سبحانه: «قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ للهِ»(1).

وفي نهج البلاغة: «اللَّهُمَّ إِنَّكَ آنَسُ الْآنِسِينَ لِأَوْلِيَائِكَ، وَأَحْضَرُهُمْ بِالْكِفَايَةِ لِلْمُتَوَكِّلِينَ عَلَيْكَ، تُشَاهِدُهُمْ فِي سَرَائِرِهِمْ، وَتَطَّلِعُ عَلَيْهِمْ فِي ضَمَائِرِهِمْ، وَتَعْلَمُ مَبْلَغَ بَصَائِرِهِمْ، فَأَسْرَارُهُمْ لَكَ مَكْشُوفَةٌ، وَقُلُوبُهُمْ إِلَيْكَ مَلْهُوفَةٌ، إِنْ أَوْحَشَتْهُمُ الْغُرْبَةُ آنَسَهُمْ ذِكْرُكَ، وَإِنْ صُبَّتْ عَلَيْهِمُ الْمَصَائِبُ لَجَئُوا إِلَى الِاسْتِجَارَةِ بِكَ، عِلْماً بِأَنَّ أَزِمَّةَ الْأُمُورِ بِيَدِكَ، وَمَصَادِرَهَا عَنْ قَضَائِكَ، اللَّهُمَّ إِنْ فَهِهْتُ عَنْ مَسْأَلَتِي أَوْ عَمِيتُ عَنْ طِلْبَتِي فَدُلَّنِي عَلَى مَصَالِحِي، وَخُذْ بِقَلْبِي إِلَى مَرَاشِدِي، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِنُكْرٍ مِنْ هِدَايَاتِكَ، وَلَا بِبِدْعٍ مِنْ كِفَايَاتِكَ، اللَّهُمَّ احْمِلْنِي عَلَى عَفْوِكَ، وَلا تَحْمِلْنِي عَلَى عَدْلِك»(2).

صراط الله

مسألة: يجب الاعتقاد بأن الصراط الصحيح هو: صراط الله.

قال سبحانه: «وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ»(3).

أما الصراط الذي هو من غير الله سبحانه، فإنه صراط منحرف. وما كان من الله، أعم من كونه بالفطرة أو بما يستقل به العقل أو بالإلهام الصحيح أو

ص: 152


1- سورة آل عمران: 154.
2- نهج البلاغة: ص349 الخطبة 227 من دعاء له (عليه السلام) يلجأ فيه إلى اللّه ليهديه إلى الرشاد.
3- سورة الأنعام: 153.

بالنقل عبر الرسل والأوصياء (عليهم السلام).

ثم إن الصراط وإن كان يمكن أن يكون ملتوياً, لكن الله سبحانه لا صراط ملتوي له إطلاقاً، فإن صراط الله مستقيم, وصراط غير الله سبحانه وتعالى منحرف لا يوصل إلى المقصود أبداً.

والصراط المستقيم لله عزّوجل هو الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، كما في الروايات.

عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: «اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ» قال: «هو أمير المؤمنين عليه السلام»(1). لأنهم (عليهم

السلام) الصراط إلى الله، والأدلاء على الله.

وعن بريدة في قول الله: «اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ» قال:«صراط محمد وآله»(2).

وعن ابن أبي يعفور، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «إن الله واحد، أحد، متوحّد بالوحدانية، متفرّد بأمره، خلق خلقاً ففوّض إليهم أمر دينه، فنحن هم يا ابن أبي يعفور، نحن حجة الله في عباده، وشهداؤه على خلقه، وأمناؤه على وحيه، و خزّانه على علمه، ووجهه الذي يؤتي منه وعينه في بريته، ولسانه الناطق، وقلبه الواعي، وبابه الذي يدل عليه، ونحن العاملون بأمره، والداعون إلى سبيله، بنا عُرف الله، وبنا عُبد الله، نحن الأدلاء على الله، ولولانا ما عبد الله»(3).

ص: 153


1- معاني الأخبار: ص32 ح3.
2- مناقب آل أبي طالب: ج2 ص271.
3- ففي كتاب التوحيد ص152 باب تفسير قول الله عز جل «كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ» ح9.

ولا يخفى أن القول بأن صراط الله هو صراط علي (عليه السلام)، متضمن أو لازم لكونه صراط رسول الله (صلى الله عليه وآله) بنفسه، لأن علياً (عليه السلام) باب مدينة علم الرسول(1)، ووصيه ووارثه(2)،فالتصريح بهذا يتضمن ذاك وزيادة في مرحلة الإثبات وإن كان في الثبوت صراط واحد يشار إليه بتعبيرين.

ثم إن الاعتقاد إجمالاً بأن صراط الله هو الصراط المستقيم واجب، وأما الاعتقاد التفصيلي فقد يفرق بين الواجب والمستحب، لكن الظاهر وجوب الاعتقاد بأن كل ما شرّعه الله واجباً كان أو مستحباً أو غيرهما فهو صحيح.

لا ولد له

مسألة: يحرم القول بأن الله عزّ وجلّ اتخذ ولداً.

وكذلك يحرم القول بأن الله اتخذ أباً أو أخاً أو أماً أو ما أشبه من الأقرباء، وكذلك الوزراء ونحوهم, بل ذلك من (الكبائر) التي أوجب عليها الله تعالى النار.

وهذا مربوط بالاعتقاد وليس بالعمل فقط.قال تعالى: «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ

ص: 154


1- روى الحاكم النيسابوري في المستدرك، وغيره في غيره، هذا الحديث المشهور، وقد رواه بعدة أسانيد عن ابن عباس وجابر بن عبد الله قالا: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد المدينة فليأت الباب (فليأتها من بابها)». انظر (المستدرك على الصحيحين): ج3 ص126127.
2- فقد روى ابن عساكر في تاريخه ج42 ص392 عن بريدة أنه قال: أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «إن لكل نبي وصياً ووارثاً وإن علياً وصيي ووارثي».

وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ»(1).

وقال سبحانه: «وَقَالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ»(2).

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: قُلْتُ قَوْلُهُ تَعَالَى: «وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً»(3)، قَالَ: هَذَا حَيْثُ قَالَتْ قُرَيْشٌ: إِنَّ لِلَّهِ وَلَداً وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ إِنَاثٌ، فَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى رَدّاً عَلَيْهِمْ: «لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا» أَيْ عَظِيماً «تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ...» مِمَّا قَالُوا «أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً» فَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: «وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً»(4) وَاحِداً وَاحِداً»(5).

وعَنِ الْمُفَضَّلِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه

السلام) يَقُولُ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْيَلِدْ فَيُورَثَ، وَلَمْ يُولَدْ فَيُشَارَكَ»(6).

ص: 155


1- سورة المائدة: 73.
2- سورة التوبة: 30.
3- سورة مريم: 88.
4- سورة مريم: 89 - 95.
5- بحار الأنوار: ج3 ص255 ب8 ح1.
6- بحار الأنوار: ج3 ص255 ب8 ح2.

لا شريك له

مسألة: يحرم القول بأن لله شريك.

فإنه سبحانه وتعالى «لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا»(1).

سواء كانت شركة في الذات، أم شركة في الصفات، أم شركة في الأفعال، أم شركة في العبادة، شريكاً قوياً، أم شريكاً ضعيفاً، موجوداً معه منذ الأزل أم لاحقاً به، وهذا في قبال الوثنيين والثنويين وغيرهم ممن يجعلون لله شريكاً.

قال تعالى: «قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ»(2).

وقال سبحانه: «إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ باللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً»(3).

وعَنْ أَبِي هَاشِمٍ الْجَعْفَرِيِّ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ الثَّانِي (عليه السلام): «قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ» مَا مَعْنَى الْأَحَدِ، قَالَ: «الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، أَمَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْمَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَر

ص: 156


1- سورة الإسراء: 111.
2- سورة آل عمران: 64.
3- سورة النساء: 48.

َ لَيَقُولُنَّ اللهُ» بَعْدَ ذَلِكَ لَهُ شَرِيكٌ وَصَاحِبَةٌ؟!»(1).

لا ولي له من الذل

مسألة: يحرم القول بأن لله ولي من الذل.

فإن الولي قد يكون ولياً ناشئاً من الذل، حيث إن الإنسان ذليل فيحتاج إلى الولي، وهذا المعنى لا يتصور بالنسبة إلى الباري عز وجل، فإنه الغني المطلق كما هو بديهي.

أما (ولي الله) بمعنى ولي من الله، أو المنسوب إلى الله، أو المجعول من قبل الله، أو بمعنى نصير الله أي نصير دين الله(2) فهذا صحيح، فإن كل مؤمن هو ولي من أولياء الله تعالى، كما قال سبحانه :«أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ»(3)، ولكن الفرق بالدرجات، ومثل الرسول وعلي وآلهما (عليهم جميعاً صلوات الله) هم أولياء الله(4) بقولمطلق بكل تلك المعاني السابقة.

ص: 157


1- بحار الأنوار: ج3 ص208 ب6 ح1.
2- وكذا بمعنى (محب الله).
3- سورة يونس: 62.
4- فقد روى الشيخ الكليني في الكافي: ج4 ص579 باب القول عند قبر أبي الحسن موسى وأبي جعفر الثاني (عليهما السلام) وما يجزئ من القول عند كلهم (عليهم السلام) ح2 عن الرضا (عليه السلام) قال: «سُئل أبي، عن إتيان قبر الحسين (عليه السلام) فقال: صلّوا في المساجد حوله ويجزئ في المواضع كلها أن تقول: " السلام على أولياء الله وأصفيائه، السلام على أمناء الله وأحبائه، السلام على أنصار الله وخلفائه، السلام على محالّ معرفة الله، السلام على مساكن ذكر الله، السلام على مظاهر أمر الله ونهيه، السلام على الدعاة إلى الله، السلام على المستقرين في مرضات الله، السلام على الممحصين في طاعة الله، السلام على الأدلاء على الله، السلام على الذين من والاهم فقد والى الله، ومن عاداهم فقد عادى الله، ومن عرفهم فقد عرف الله، ومن جهلهم فقد جهل الله، ومن اعتصم بهم فقد اعتصم بالله ومن تخلّى منهم فقد تخلّى من الله، اُشهد الله أني سلم لمن سالمتم وحرب لمن حاربتم مؤمن بسرّكم وعلانيتكم، مفوّض في ذلك كله إليكم، لعن الله عدو آل محمد من الجن والإنس، وأبرؤ إلى الله منهم، وصلى الله على محمد وآله».

ومن الواضح انه إذا كان (الولي) من هذا الجانب صادقاً، يكون من الجانب الآخر أيضاً صادقاً، لأنه من المتضايفين، فكلما تحقق أحدهما تحقق الآخر وصحت النسبة.

قال تعالى: «وَقُلِ الحَمْدُ للهِ الَّذي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَريكٌ فِي المُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبيراً»(1).

وقال الإمام الباقر (عليه السلام): فيتفسير الآية(2): «لَمْ يَذِلَّ فَيَحْتَاجَ إِلَى وَلِيٍّ فَيَنْصُرَهُ»(3).

استحباب التكبير

مسألة: يستحب التكبير، وربما وجب.

والتكبير عبارة عن أن يكبّر الإنسان الله سبحانه وتعالى في قلبه وفي لسانه ويجسده في عمله.

ص: 158


1- سورة الإسراء: 111.
2- سورة الإسراء: 111.
3- تفسير القمي: ج2 ص30.

ويوضّح ذلك ما ورد من أدعية النبي (صلى الله عليه وآله)(1)، والصديقة فاطمة (صلوات الله عليها)(2)، والأئمة الطاهرين (عليهم الصلاةوالسلام)(3)، فإن فيها تكبير الله عزّ وجلّ.

بين المقتضي والعلة التامة

مسألة: الظاهر أن (فيضرّه) من باب المقتضي لا العلة التامة، ويمكن توجيهه حتى عليها، وذلك بما يوجّه به مثل: «وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ»(4)، من التعميم في الاستجابة إلى ما يشمل البديل.

ص: 159


1- وهي كثيرة لا تحصى، ومن أهمها ما رواه الحر العاملي في وسائل الشيعة: ج6 ص123 ب51 من أبواب القراءة في الصلاة ح3، عن محمد بن عمران في حديث أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) فقال: لأي علة صار التسبيح في الركعتين الأخيرتين أفضل من القراءة؟ قال: «إنما صار التسبيح أفضل من القراءة في الأخيرتين لأن النبي (صلى الله عليه وآله) لما كان في الأخيرتين ذكر ما رأى من عظمة الله عز وجل فدهش فقال: "سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر" فلذلك صار التسبيح أفضل من القراءة».
2- روى الشيخ البرقي في المحاسن: ج1 ص36 باب ثواب تسبيح فاطمة الزهراء (عليها السلام) ح35 ما نصه: عن محمد بن عذافر، قال: دخلت مع أبي على أبي عبد الله (عليه السلام)، فسأله أبي عن تسبيح فاطمة (عليها السلام)، فقال: «الله أكبر»، حتى أحصاها أربعة وثلاثين، ثم قال: «الحمد لله»، حتى بلغ سبعة وستين، ثم قال: «سبحان الله»، حتى بلغ مائة، يحصيها بيده جملة واحدة.
3- فلا يخلو عادة دعاء لهم (عليهم السلام) من التكبير، فانظر مثلاً: مصباح المتهجد، مصباح الكفعمي، مفاتيح الجنان، الدعاء والزيارة، وغيرها.
4- سورة غافر: 60.

يا أعز مذكور

اشارة

روى الإمام الحسن بن علي (عليه السلام) عن أمه فاطمة (عليها السلام) بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنها قالت: «قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا فاطمة ألا أعلمك دعاءً لا يدعو به أحد إلاّ استجيب له, ولا يحيك في صاحبه سم ولا سحر, ولا يعرض له شيطان بسوء, ولا ترد له دعوة, وتقضى حوائجه التي يرغب فيها إلى الله تعالى كلها عاجلها وآجلها.

قلت: أجل يا أبة، لَهذا واللهِ أحبُّ إليّ من الدنيا وما فيها.

قال: تقولين: "يَا اللهُ، يَا أعَزَّ مَذْكُورٍ وَأقْدَمَهُ قِدَماً في الْعِزِّةِ وَالجَبَرُوتِ، يَا اللهُ، يَا رَحِيمَ كُلِّ مُسْتَرْحِمٍ، وَمَفْزَعَ كُلِّ مُلْهُوفٍ، يَا اللهُ، يَا رَاحِمَ كُلِّ حَزِين يَشْكُو بَثَّه وَحُزْنَهُ إلَيْهِ، يَا اللهُ، يَا خَيْرَ مَنْ طُلِبَ المَعْرُوفُ مِنْهُ وَأسْرَعَهُ إعْطَاءً، يَا اللهُ، يَا مَنْ تخَافُ المَلائِكَةُ المُتَوَقِّدَةُ بِالنّورِ مِنْهُ، أَسْأَلُكَ بِالأَسْماءِ الّتي يَدْعُوكَ بِها حَمَلَةُ عَرْشِكَ، وَمَنْ حَوْلَ عَرْشِكَ، يُسَبِّحُونَ بها شَفَقَةً مِنْ خَوْفِ عَذابِكَ، وَبِالأَسماءِ الّتي يَدْعُوكَ بِها جَبْرَئيلُ وَميكائيلُ وَإسْرافيلُ إلاّ أَجَبْتَني وَكَشَفْتَ يا إلهي كُرْبَتي وَسَتَرْتَ ذُنُوبي، يَا مَنْ أَمَرَ بِالنَّصيحَةِ في خَلْقِهِ فَإذا هُمْ بِالسّاهِرَةِ يُحْشَرونَ، أَسْأَلُكَ بِذلِكَ الاسْمِ الَّذي تُحْيي بِهِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيم، أَنْ تُحْييَ قَلْبي وَتَشْرَحَ صَدْري وَتُصْلِحَ شَأْني، يَا مَنْ خَصَّ نَفْسَهَ بِالْبَقاءِ، وَخَلَقَ لِبَريّتِهِ الْمَوْتَ وَالْفَناءَ، يَا مَنْ فِعْلُهُ قَوْلٌ، وَقَوْلُهُ أَمْرٌ، وَأَمْرُهُ ماضٍ عَلَى مَا يَشَاءُ، أَسْأَلُكَ بِالاسْمِ الَّذي دَعَاكَ بِهِ خَلِيلُكَ حينَ أُلْقِيَ في النَّارِ فَاسْتَجَبْتَ لَهُ وَقُلْتَ: يَا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى

ص: 160

إِبْراهِيمَ، وَبِالاسْمِ الَّذي دَعَاكَ بِهِ مُوسَى مِنْ جَانِبِالطّورِ الأَيْمَنِ فَاسْتَجَبْتَ لَهُ دُعاءَهُ، وَبِالاسْمِ الَّذي كَشَفْتَ بِهِ عَنْ أيّوبَ الضُّرَ، وَتُبْتَ بِهِ عَلَى داوُدَ، وَسَخَّرْتَ بِهِ لِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ تَجْري بِأَمْرِهِ وَالشّياطِينَ، وَعَلَّمْتَهُ مَنْطِقَ الطَّيرِ، وَبِالاسْم الَّذي وَهَبْتَ بِهِ لِزَكَريّا يَحْيى، وَخَلَقْتَ عِيسَى مِنْ رُوحِ الْقُدُسِ مِنْ غَيرِ أَبٍ، وَبِالاسْمِ الَّذي خَلَقْتَ بِهِ الْعَرْشَ وَالْكُرْسِيّ، وَبِالاسْمِ الَّذي خَلَقْتَ بِهِ الرُّوحانِيّينَ، وَبِالاسْمِ الَّذي خَلَقْتَ بِهِ الجِنَّ وَالإنْسَ، وَبِالاسْمِ الَّذي خَلَقْتَ بِهِ جَميع الخَلْقِ، وَجَمِيعَ مَا أَرَدْتَ مِنْ شَيْ ءٍ، وَبِالاسْمِ الَّذي قَدَرْتَ بِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، أَسْأَلُكَ بِهَذِهِ الأسْماءِ لمَاّ أَعْطَيْتَني سُؤْلي وَقَضَيْتَ بِها حَوَائِجِي يَا كَرِيمُ".

فإنه يقال لك: يا فاطمة، نعم نعم»(1).

-------------------------------------------

أدعية الاستجابة والحفظ

مسألة: يستحب قراءة الأدعية المأثورة لاستجابة الدعاء والحفظ من الشرور.

وقد سبق أن المراد في أمثال هذه الروايات الاقتضاء لا العلية التامة.

فإن المعنويات كالماديات، فكما أنه إذا قيل: الدواء الفلاني علاج المرض الفلاني، لا يراد على إطلاقه, بل المراد مع توفر الشرائط وانتفاء الموانع، كذلك بالنسبة إلى الدعاء.

وبعبارة أخرى: يراد أنه مع توفركافة الشروط وانتفاء الموانع، الظاهرة والباطنة، لا بد من حصوله، لكنه بمفرده مقتضٍ.

ص: 161


1- دلائل الإمامة: ص73 - 75 مسندها (عليها السلام) ح12.

ثم إنه يلزم العمل أيضاً في كل موضع حسب ما يقتضيه، مضافاً إلى الدعاء، حتى يستجاب للإنسان ويحفظ من الشرور، أما مجرد الدعاء الخالي عن العمل فإنه بوحده لا يكفي.

فإن الله سبحانه وتعالى جعل المعنويات والماديات متقارنة أحدهما بجنب الآخر, وجعل لكل منهما أسباباً، فإذا عمل الإنسان في الماديات والمعنويات عبر أسبابها وصل إلى الهدف المطلوب.

وهكذا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام)، ولذا أخذ النبي (صلى الله عليه وآله) بكل أسباب الفوز المادية في حرب بدر(1) وغير بدر، وفي

ص: 162


1- فقد ورد في بحار الأنوار: ج19 ص221- 222 ب10 غزوة بدر الكبرى: قال ابن عباس: لما كان يوم بدر واصطّف القوم للقتال قال أبو جهل: اللهم أولانا بالنصر فانصره، واستغاث المسلمون، فنزلت الملائكة ونزل قوله: «إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ» إلى آخره، وقيل: إن النبي (صلى الله عليه وآله) لما نظر إلى كثرة عدد المشركين وقلة عدد المسلمين استقبل القبلة وقال: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تُعبد في الأرض». فما زال يهتف ربه مادّاً يديه حتى سقط رداؤه من منكبه، فأنزل الله تعالى: «إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ» الآية. وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «ولما أمسى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وجنّه الليل ألقى الله على أصحابه النعاس، وكانوا قد نزلوا في موضع كثير الرمل لا تثبت فيه قدم، فأنزل الله عليهم المطر رذاذاً حتى لبد الأرض - لبد أي لصق بعضه ببعض - وثبتت أقدامهم، وكان المطر على قريش مثل العزالي، - جمع العزلاء وهو مصبّ الماء من القربة ونحوها إشارة إلى كثرة المطر وشدّته - وألقى الله في قلوبهم الرعب، كما قال: «سُألْقِي فِي قُلوبِ الذينَ كَفَرُوا الرُّعبَ» الآية». ثم قال العلامة المجلسي (رحمه الله): قوله: «إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ» أي تستجيرون بربكم يوم بدر من أعدائكم و تسألونه النصر عليهم لقلتكم وكثرتهم، فلم يكن لكم مفزع إلاّ التضرّع إليه، والدعاء له في كشف الضر عنكم، «فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ» أي مرسل إليكم مدداً لكم «بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ» أي متبعين ألفاً آخر من الملائكة، لأن مع كل واحد منهم ردف له، وقيل: معناه مترادفين متتابعين، وكانوا ألفاً بعضهم في أثر بعض، وقيل: بألف من الملائكة جاؤوا على آثار المسلمين، «وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ» أي ما جعل الإمداد بالملائكة إلا بشرى لكم بالنصر، ولتسكن به قلوبكم، وتزول الوسوسة عنها، وإلاّ فملك واحد كاف للتدمير عليهم كما فعل جبرئيل (عليه السلام) بقوم لوط فأهلكهم بريشة واحدة).

نفس الوقت كان يدعو أيضاً بل ويكثرمن الدعاء.

أما توهم أن الدعاء بوحده يكفي عن العمل، أو العمل بوحده يكفي عن الدعاء، فهو خلاف الآيات والروايات، وخلاف الحكمة والعقل والسنن الإلهية، وخلاف التجربيات الكثيرة في قصص غير محصورة.

وهذا حسب الأصل، وكما أن لكل قاعدة استثناءً، فهما أيضاً قابلان للاستثناء لمصالح، فقد يستجاب الدعاء وحده، وقد ينفع العمل وحده، والتفصيل موكول إلى المفصلات.

ثم إن العمل بدون الدعاء قد يوصل للمطلوب، لكنه لو كان مع الدعاء لخلا من المفاسد المقارنة والأضرار اللاحقة.

الدعاء للماديات

مسألة: يستحب الدعاء للماديات أيضاً، كما قال (صلى الله عليه وآله): «لايحيك في صاحبه سمّ ولا سحر»، ولإطلاقات أدلة الأدعية، مثل قوله تعالى: «قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ»(1).

ص: 163


1- سورة الفرقان: 77.

كما يستحب الدعاء لنفسه ولغيره، لكل صغيرة وكبيرة، للإطلاقات وغيرها، وفي الحديث: الأمر بالدعاء حتى في قطعشسع نعله، وفي علف شاته وملح عجينه وطعامه.

قال النبي (صلى الله عليه وآله): «سلوا الله عز وجل ما بدا لكم من حوائجكم حتى شسع النعل، فإنه إن لم ييسره لم يتيسر»(1).

وقال (صلى الله عليه وآله): «ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع»(2).

وفي الحديث القدسي: «يا موسى سلني كلما تحتاج إليه حتى علف شاتك وملح عجينك»(3).

وربما يقال: بوجوب الدعاء فيما لو كان المحتمل خطيراً، وكان الاحتمال بدفعه بالدعاء عقلائياً، بل وإن كان ضعيفاً في الجملة، حسب قاعدة (الاحتمال الضعيف في المحتمل الخطير منجز) أي إذا كان في الشؤون الخطيرة، لكن يضعفه عدم القول به، فتأمل(4).

ص: 164


1- مكارم الأخلاق: ص270.
2- مستدرك الوسائل: ج5 ص172 ب4 ح3 م5596.
3- عدة الداعي: ص134.
4- لعل من وجونه التأمل ما ذكره السيد مرتضى الفيروز آبادي في عناية الأصول: ج3 ص278: (ومن هنا يظهر أن العبرة في حكم العقل بوجوب الدفع وعدمه هو قوة المحتمل وعدم قوته، لا قوة الاحتمال وعدم قوته، كما هو ظاهر الأصحاب، حيث أطبقوا على وجوب دفع الضرر المظنون واختلفوا في المحتمل منه وأطبقوا على عدم وجوب دفع موهومه).

حفظ النفس

مسألة: يستحب أو يجب حفظ النفس من السم والسحر ومن أن يعرض له الشيطان بسوء.

والاستحباب فيما إذا كان الضرر قليلاً, أما إذا كان الضرر كثيراً فالواجب حفظ النفس من ذلك, نعم يمكن أن يقال: بوجوب حفظ النفس من السحر ولو كان ضرره قليلاً باعتبار أن السحر محرم، والتحفّظ عن المحرم واجب من باب المقدمة فتأمل(1)، فإنه يحتاج إلى نوع تأويل والتواء والمقدمية في عمل السحر لا في تعلقه.

وفي رسالة الحقوق للإمام زين العابدين (عليه السلام): «ثُمَّ أَوْجَبَهُ عَلَيْكَ لِنَفْسِكَ مِنْ قَرْنِكَ إِلَى قَدَمِكَ، عَلَى اخْتِلافِ جَوَارِحِكَ، فَجَعَلَ لِبَصَرِكَ عَلَيْكَ حَقّاً، وَلِسَمْعِكَ عَلَيْكَ حَقّاً، وَلِلِسَانِكَ عَلَيْكَ حَقّاً، وَلِيَدِكَ عَلَيْكَ حَقّاً، وَلِرِجْلِكَ عَلَيْكَ حَقّاً، وَلِبَطْنِكَ عَلَيْكَ حَقّاً، وَلِفَرْجِكَ عَلَيْكَ حَقّاً، فَهَذِهِ الْجَوَارِحُ السَّبْعُ الَّتِي بِهَا تَكُونُالْأَفْعَال»(2).

وروي أنَّ سَلْمَانَ (رضوان الله عليه) جَاءَ زَائِراً لِأَبِي الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ أَبِي الدَّرْدَاءِ مُبْتَذِلَةً، فَقَالَ مَا شَأْنُكِ، قَالَتْ: إِنَّ أَخَاكَ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي شَيْ ءٍ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا، قَالَ فَلَمَّا جَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رَحَّبَ بِسَلْمَانَ وَقَرَّبَ إِلَيْهِ طَعَاماً، فَقَالَ لَهُ

ص: 165


1- إشارة إلى ما هو المشهور بين الأصوليين من أن مقدمة الحرام ليست بمحرمة، إلا أن البعض قال بالتفصيل بين مقدمة الحرام التوليدية وغيرها.
2- مستدرك الوسائل: ج11 ص154 ب3 بَابُ جُمْلَةٍ مِمَّا يَنْبَغِي الْقِيَامُ بِهِ مِنَ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ وَالْمَنْدُوبَة ح12664.

سَلْمَانُ: اطْعَمْ، فَقَالَ: إِنِّي صَائِمٌ، فَقَالَ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ إِلَّا مَا طَعِمْتَ، فَقَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ، قَالَ: وَبَاتَ عِنْدَهُ، فَلَمَّا جَاءَ اللَّيْلُ قَامَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَحَبَسَهُ سَلْمَانُ ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقّاً، وَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقّاً، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقّاً، فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَصَلِّ وَنَمْ، وَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَأَتَى أَبُو الدَّرْدَاءِ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ لَهُ سَلْمَانُ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ قَوْلِ سَلْمَان (1).

يا أبه

مسألة: يستحب للبنت أن تخاطب أباهابكلمة «يا أبة»(2).

وبتنقيح المناط يفهم استحباب أن يخاطب بعض الأرحام بعضهم بلفظ يوجب الاحترام ويشدّ أواصر المحبة، بل لعله يفيد الأعم من ذلك في خطاب بعض الناس بعضهم.

ويؤيده إطلاقات أدلة احترام الغير، خصوصاً إذا كان الخطاب باللفظ المجرّد عن الاحترام موجباً للأذية لهم، فقد يكون ذلك واجباً بمعنى حرمة الأذية.

وحيث قد مضى في الأجزاء السابقة التفصيل، نكتفي بهذا القدر.

ص: 166


1- تنبيه الخواطر: ج1 ص2.
2- يا أبة: العرب تأتي بعلامة التأنيث عوضاً عن ياء الإضافة وكذا في الأم تقول: يا أمة، وتقف عليها بالهاء، إلا في القرآن الكريم فإنك تقف عليها بالتاء اتباعاً للرسم القرآني.

بين الدعاء والدنيا

مسألة: يستحب أن يكون الدعاء والارتباط بالله عزوجل أحبّ إلى الإنسان من الدنيا وما فيها.

قال تعالى: «قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ»(1).

فإن الارتباط المعنوي بالله سبحانه وتعالى موجب للقرب إليه تعالى، بل هو نوع شكر لنعمه سبحانه، ثم إنه ألّذ شيء للإنسان لو عقل وشعر، مما ليست الدنيا وما فيها شيئاً من تلك اللذة المعنوية، والإنسان بفطرته وبعقله يطلب اللّذة ويدفع الألم سواء، لجسده أم لروحه.

وإن كان هناك خلاف في أن اللذة تقابل الألم, أو أنها عدم الألم، وهو بحث حِكَمي لا يرتبط بالمقام(2).

لا يقال: كون الدعاء أو غيره أحب، غير اختياري فلا يصح الحكم باستحبابهأو وجوبه؟

لأنه يقال: بل هو اختياري باختيارية مقدماته، ومنها التلقين والإيحاء وما

ص: 167


1- سورة التوبة: 24.
2- كشف المراد: ص250 المقصد 2، الفصل 5، المسالة 24، الحكمة المتعالية: ج4 ص117 الفصل 4.

أشبه.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) فِي حَدِيثٍ قَالَ: «كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) رَجُلاً دَعَّاءً»(1).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) فِي رِسَالَةٍ طَوِيلَةٍ قَالَ: «أَكْثِرُوا مِنْ أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَدْعُوهُ، وَقَدْ وَعَدَ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ الِاسْتِجَابَةَ، وَاللَّهُ مُصَيِّرُ دُعَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَهُمْ عَمَلًا يَزِيدُهُمْ فِي الْخَيْرِ»(2).

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِنَانٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «الدُّعَاءُ يَرُدُّ الْقَضَاءَ بَعْدَ مَا أُبْرِمَ إِبْرَاماً، فَأَكْثِرْ مِنَ الدُّعَاءِ، فَإِنَّهُ مِفْتَاحُ كُلِّ رَحْمَةٍ، وَنَجَاحُ كُلِّ حَاجَةٍ، وَلَا يُنَالُ مَا عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا بِالدُّعَاءِ، وَإِنَّهُ لَيْسَ بَابٌ يُكْثَرُ قَرْعُهُ إِلَّا يُوشِكُ أَنْ يُفْتَحَ لِصَاحِبِهِ»(3).وقَالَ الْبَاقِرُ (عليه السلام): «وَلا تَمَلَّ مِنَ الدُّعَاءِ فَإِنَّهُ مِنَ اللَّهِ بِمَكَانٍ»(4).

وقَالَ الْبَاقِرُ (عليه السلام) لِبُرَيْدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَقَدْ سَأَلَهُ كَثْرَةُ الْقِرَاءَةِ أَفْضَلُ أَمْ كَثْرَةُ الدُّعَاءِ، فَقَالَ: «كَثْرَةُ الدُّعَاءِ أَفْضَلُ»، ثُمَّ قَرَأَ: «قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ»(5)»(6).

ص: 168


1- وسائل الشيعة: ج 7 ص26 ب2 بَابُ اسْتِحْبَابِ الْإِكْثَارِ مِنَ الدُّعَاء ح8609.
2- وسائل الشيعة: ج7 ص26 ب2 بَابُ اسْتِحْبَابِ الْإِكْثَارِ مِنَ الدُّعَاء ح8612.
3- وسائل الشيعة: ج7 ص27 ب2 بَابُ اسْتِحْبَابِ الْإِكْثَارِ مِنَ الدُّعَاء ح8613.
4- وسائل الشيعة: ج7 ص27 ب2 بَابُ اسْتِحْبَابِ الْإِكْثَارِ مِنَ الدُّعَاء ح8617.
5- سورة الفرقان: 77.
6- وسائل الشيعة: ج7 ص31 ب3 بَابُ اسْتِحْبَابِ اخْتِيَارِ الدُّعَاءِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْمُسْتَحَبَّة ح8630.

وعَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسَى، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «ادْعُ وَلا تَقُلْ قَدْ فُرِغَ مِنَ الأَمْرِ، فَإِنَّ الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ» إِلَى أَنْ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ:«ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ»(1)»(2).

الأدعية الطويلة

مسألة: يستحب الدعاء بالأدعية الطويلة، كما يستحب بالقصيرةوالمتوسطة، فإن في كل منها فوائد.

فالأدعية الطويلة تحتوي على تكلّم الإنسان مع رب الأرباب الله سبحانه أكثر، وعلى فترة أطول في تضرعه وعبادته، وهو مطلوب.

لكن من الواضح أن الدعاء الوارد إذا كان قصيراً لا ينبغي أن يزيد الإنسان عليه، بل عليه أن يلتزم باتباع الوارد.

بالإضافة إلى ما ورد من نهي الإمام (عليه الصلاة والسلام) من إضافة كلمة في الدعاء، فعن عبد الله بن سنان قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «ستصيبكم شبهة فتبقون بلا علم يرى، ولا إمام هدى، ولا ينجو منها إلاّ من دعا بدعاء الغريق»، قلت: كيف دعاء الغريق؟ قال: يقول: «يا الله يا رحمن يا رحيم، يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك»، فقلت: يا الله يا رحمن يا رحيم يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك، قال: إن الله عز وجل مقلب

ص: 169


1- سورة غافر: 60.
2- وسائل الشيعة: ج7 ص34 ب6 بَابُ كَرَاهَةِ تَرْكِ الدُّعَاءِ اتِّكَالًا عَلَى الْقَضَاء ح8640.

القلوب والأبصار، ولكن قل كما أقول لك: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك»(1).

والحاصل: إن الأدعية توقيفية(2)،ولعلّ من أسباب ذلك أن الباب لو فتح للإضافة والنقيصة أو التغيير لأوجب الخراب والفساد في بناء الدعاء ومادته، أو في هيئته وصورته، وهو كخراب البناء المادي قبيح.

الدعاء المشتمل على أسماء الله

مسألة: يستحب الدعاء بمختلف أسماء الله تعالى، كما يستفاد ذلك من هذا الدعاء وأدعية أخرى(3).ومن المعلوم أن كل اسم لله سبحانه وتعالى منشأ أثر من الآثار، كما أشرنا

ص: 170


1- كمال الدين: ص352 ب33 ح49.
2- فإن الدعاء هو العبادة بل أفضلها، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إن الله عز وجل يقول: «إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ»، قال: هو الدعاء وأفضل العبادة الدعاء»، قلت: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ»، قال: «الأواه هو الدعّاء». الكافي: ج2 ص466 باب فضل الدعاء والحثّ عليه ح1.
3- قال الفيض الكاشاني (رحمه الله) في تفسيره الصافي: ج3 ص227 سورة الإسراء: («قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ» سموا الله بأي الاسمين شئتم فإنهما سيان في حسن الإطلاق والمعني بهما واحد «أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى» أي: أي هذين الاسمين سميتم وذكرتم فهو حسن فوضع موضعه، (فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) للمبالغة والدلالة على ما هو الدليل عليه، فإنه إذا حسنت أسماؤه كلها حسن هذان الاسمان لأنهما منها، و(ما) مزيدة مؤكدة للشرط، والضمير في (له) للمسمى، لأن التسمية له لا للاسم، ومعنى كون أسمائه أحسن الأسماء استقلالها بمعاني التمجيد والتعظيم والتقديس ودلالتها على صفات الجلال والإكرام).

إليه سابقاً, فقد ذكر بعض العلماء أن الإنسان إذا كرّر اسماً من أسماء الباري عزّ وجلّ أفاده فائدة خاصة متجانسة مع ما ترتبط بمعناه, مثلاً إذا قال كثيراً: يا عالم، أو يا كريم، أثّر في أن يكون المكرّر - بالكسر - عالماً أو كريماً، وهكذا في غيرهما من الأسماء، وذلك ليس من باب التلقين والإيحاء النفسي فقط، بل له الأثر الغيبي والوضعي.

عَنِ الرِّضَا، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ آبَائِهِ، عَنْ عَلِيٍّ (عليهم السلام) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْماً، مَنْ دَعَا اللَّهَ بِهَا اسْتُجِيبَ لَهُ، وَمَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَ: «وَللهِ الْأَسْماءُ الحُسْنى فَادْعُوهُ بِها»(1)»(2).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ الْحَاجَةَ فَلْيُثْنِ عَلَى رَبِّهِ»، إِلَى أَنْ قَالَ: «وَأَكْثِرْ مِنْأَسْمَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ كَثِيرَةٌ»(3).

ص: 171


1- سورة الأعراف: 180.
2- وسائل الشيعة: ج7 ص140 ب63 بَابُ اسْتِحْبَابِ الدُّعَاءِ بِالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَغَيْرِهَا مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ ح8646.
3- وسائل الشيعة: ج7 ص140 ب63 بَابُ اسْتِحْبَابِ الدُّعَاءِ بِالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَغَيْرِهَا مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ ح8647.

الدعاء والآيات القرآنية

مسألة: يستحب أن يتضمن الدعاء آيات قرآنية.

قال في الجواهر: (وأحسن الأدعية: الأدعية القرآنية، ثم الأدعية المأثورة عن النبي والأئمة الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين)، فهي شفاء لصدور العالمين، ونجاح لمطالب العابدين)(1).

فإن الآيات القرآنية فيها نور وشفاء وخواص عديدة أخرى، مضافاً إلى كونها من كلام الباري عزوجل، فإذا تضمّن الدعاء الآيات كان أقرب للإجابة.

ويرجح ذكر الآيات حتى في الأدعية غير الواردة، فإذا أراد الإنسان أن يدعو بدعاء من نفسه فمن المستحب أن يضمّنه آيات كريمة.

فإن اتباعهم (عليهم الصلاة والسلام) في كل شيء ومنه ما نحن فيه، مشمول لأدلة مطلق الاتباع، كقوله تعالى: «فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ»(2)، وقوله سبحانه: «وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ»(3).ومن هنا كانت الأدعية المختصة بمكان أو زمان كأدعية مسجد الكوفة وغيره وأدعية الجمعة وغيرها، تقرأ في أماكنها وأوقاتها اتباعاً وتأسّياً، وإن جاز قراءتها في غيرهما على ما سبق من باب تعدد المطلوب.

كما يستحب أن يضمّن أدعيته غير الواردة، بعض الأدعية الواردة؛

ص: 172


1- جواهر الكلام: ج7 ص203.
2- سورة آل عمران: 31.
3- سورة الحشر: 7.

للإطلاقات.

مسائل عديدة أخرى

مسألة: يستحب الاستعلام لدى قصد التعليم، كما قال (صلى الله عليه وآله): «ألا أعلّمك»، وأما مع احتمال الإجابة بالنفي فيما ينبغي تعليمه، فلا.

مسألة: يستحب الحضّ في ضمن الاستعلام، فإن «ألا أعلمك» يتضمن الحث لمكانة (ألا).

مسألة: يستحب بيان فوائد الأدعية، حتى يكون ترغيباً في قراءتها، وفي تكرار ذكر الفوائد كلما اقتضى الأمر مزيد الثواب.

مسألة: يستحب قراءة الأحراز المأثورة في دفع الشيطان والعدو والأضرار المادية والمعنوية، وكلما أكثر منها كان أفضل، إلا أن يزاحم بالأهم.مسألة: يستحب تقبّل العلم والإصغاء إليه وإبداء الحبّ للتعلّم والرغبة فيه، كما فعلت الصديقة فاطمة (عليها السلام) حيث أظهرت حبها الشديد للدعاء بقولها: (لَهَذا والله أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها).

فائدة:

لا شك أن (وتقضى حوائجه التي يرغب فيها إلى الله تعالى) يراد به ما كان لصالحه منها دنيا وأخرى، لكن هل يشمل ذلك ما يدعوه الإنسان وهو في علم الله بضرره ديناً أو دنياً؟

قد يقال بالانصراف، خاصة مع وروده (وأصلح شأني) في الدعاء نفسه؛

ص: 173

فإن ما يتوهم من صلاح شأنه من باب الخطأ في التطبيق، لا يغيّر الواقع، لأن الألفاظ موضوعة لمسمياتها الثبوتية.

وقد يقال: إن مقتضى كرم الكريم، وقد ختم الدعاء ب (يا كريم)(1)، أن يقضي ما فيه نفع عبده دون ما يضرّه، وإن تصوّر العبد نفعه فيه، لكن للتأمل في ذلك مجال.

مسألة: يلزم الاعتقاد بأن الله عزّ وجلّأعزّ مذكور، وذلك مصداق، إذ إنه أعزّ من كل مذكور وغير مذكور.

مسألة: يلزم الاعتقاد بأن الله عزّ وجلّ الأقدم، حيث كان ولم يكن شيء، والمراد ب (القدم) الذاتي أيضاً لا الزماني فقط.

مسألة: يلزم الاعتقاد بأن لله عزّ وجلّ العزّ والجبروت، وفي مثل هذا الاعتقاد الطريقية، إضافة إلى ما فيه من الموضوعية.

مسألة: يلزم الاعتقاد بأن الله عزّ وجلّ رحيم كل مسترحم، ومثل هذا الاعتقاد يزيد الأمل بالله فيزيد الرغبة في الدعاء.

مسألة: يلزم الاعتقاد بأن الله عزّ وجلّ مفزع كل ملهوف، وكونه مفزعاً شامل - في أصل الشمول، وان اختلاف النسب - المؤمن به والكافر، إذ رحمته وسعت كل شيء.

مسألة: يلزم الاعتقاد بأن الله عزّ وجلّ راحم كل حزين.

والظاهر في هذه الثلاثة أنها أعم من البشر وغيرهم، والانصراف إن كان

ص: 174


1- وردت هذه الإضافة فيما رواه الشيخ الكفعي في مصباحه: ص303.

فبدوي.مسألة: يلزم الاعتقاد بأن الله عزّ وجلّ خير من سُئل.

مسألة: يلزم الاعتقاد بأن الله عزّ وجلّ الأسرع إعطاءً، وكلما حسن ظن الإنسان بالله تعالى أكثر كان أقرب إليه تعالى، وكانت دعواته أقرب للاستجابة.

مسألة: يستحب أن يكون الإنسان رحيماً للمسترحمين، ومفزعاً للملهوفين، وراحماً للمحزونين، وأن يعطي من سأله سريعاً، إلى غيرها من محاسن الأخلاق؛ نظراً لما ورد من «تخلّقوا بأخلاق الله» (1).

وعلى الإنسان إن لم يكن كذلك أن (يتطبع) كما ورد: «إن لم تكن حليماً فتحلّم»(2).

مسألة: يلزم الاعتقاد بأن الله عزّ وجلّ تخافه الملائكة المتوقدة بالنور، والباء يحتمل كونها سببية، ويحتمل كونها بمعنى (مع)، أما كيفية ذلك فمجهولة لنا.مسألة: ينبغي الخوف من الله عز وجل كما تخافه الملائكة، وهذا يعني الدوام، آناء الليل وأطراف النهار مدةً، وشدة الخوف كيفاً.

مسألة: يستحب دعاء الله بأسمائه التي تدعوه بها حملة العرش ولو إجمالاً، أي وإن لم يعلم تلك الأسماء تفصيلاً، بل يقول: كما ورد في هذا الدعاء.

ص: 175


1- بحار الأنوار: ج58 ص129.
2- قال عليه السلام: «إن لم تكن حليماً فتحلم، فإنه قلّ من تشبّه بقوم إلاّ أوشك أن يكون منهم». نهج البلاغة: ج4 باب المختار من حكم أمير المؤمنين (عليه السلام) ح207.

مسألة: يستحب الدعاء بالأسماء التي يدعو بها: جبرئيل و ميكائيل وإسرافيل (عليهم السلام)، ولو إجمالاً على ما سبق.

والظاهر: وجود خصوصية خاصة لتلك الأسماء أوجبت أن يلهموا بها أو يؤمروا بها خاصة.

مسألة: يستحب الدعاء بكشف الكربة، سواء كانت خاصة أم كانت عامة.

مسألة: يستحب الدعاء بستر الذنوب حتى الصغيرة منها، فإنه نوع اعتذار واستغفار.

مسألة: يستحب نداء الباري بما يذكّر بعظمته وعلوّ شأنه وجبروت سلطانه، كقوله: (يا من أمر بالصيحة..)، وفي ذلك تعظيم لله تعالى، وتحفيز على الخوف منه، وعلى طاعته واجتناب سخطه.مسألة: يستحب نداء الباري بما يتضمّن ما يدل على ضعف الإنسان كقوله: (أسألك بذلك الاسم الذي تحيي به العظام وهي رميم).

وقوله : (يا من خصّ نفسه بالبقاء، وخلق لبريته الموت والفناء)، فإن كل ما يذكّر الإنسان بضعفه أو يذكره بقدرة وعظمة خالقه، حسن مطلوب، قال تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إلى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ»(1).

مسألة: يستحب أن تشتمل الأدعية على المعارف مما يرتبط بأصول الدين وما أشبه.

مسألة: ينبغي في الحوزات العلمية وغيرها أن (تُدرَس) الأدعية و(تُدرَّس)،

ص: 176


1- سورة فاطر: 15.

كما يُدرّس المنطق والبلاغة، بل كما يُدرّس الفقه والأصول، لما فيها من المعارف، ولما توجبه من تهذيب النفس وحفظها عن الوقوع في المعاصي.

مسألة: يستحب وقد يجب ترويج الأدعية بالطبع والنشر والتوزيع وغيرها، كما ينبغي شرحها والتعليق عليها وترجمتها وغير ذلك.

مسألة: يستحب أن يدعو الإنسان بإحياء قلبه، وقد وردت في ذلك أدعية خاصة،منها ما ورد من تعليمه (صلى الله عليه وآله) دعاءً لمن شكى موت قلبه، فقرأه فاحتيى قلبه.

حيث روى الكفعمي في مصباحه: إن رجلاً رأى النبي (صلى الله عليه وآله) في منامه فقال يا رسول الله علمني شيئاً يحيي به الله تعالى قلبي، فقال: قل: «يَا حَيُ يَا قَيُّومُ، يَا لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَسْأَلُكَ أَنْ تُحْيِيَ قَلْبِي، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّد» فقال ذلك ثلاثة أيام، فأحيا الله تعالى قلبه(1).

مسألة: يستحب الدعاء بشرح الصدر، فإن شرح الصدر مطلوب، ويوجب المحبة في قلوب المؤمنين بل وسائر الناس، كما يوجب القرب إليه تعالى، قال تعالى: «رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي»(2).

مسألة: يستحب الدعاء بإصلاح الشأن، والمراد به الأعم من شأنه الفردي والعائلي، ومن شأنه المادي والمعنوي وغيرها.

مسألة: يستحب أن يشتمل الدعاء على ما يدل على قدرة الله تعالى، وسائر صفاته الجمالية أو الجلالية حسب اقتضاء المقام، كقوله: (يا من فعله

ص: 177


1- مصباح الكفعمي: ص198، المجتنى: ص20.
2- سورة طه: 2526.

قول، وقوله أمر..).

مسألة: يستحب أن يُقسم الإنسان على الله بأسمائه التي دعا بها الأنبياء من إبراهيم (عليه السلام) وموسى (عليه السلام) وعيسى (عليه السلام) ومحمد (صلى الله عليه وآله)، وفي ذلك نوع ربط للإنسان بأنبياء الله العظام.

مسألة: يستحب بيان قصة إبراهيم (عليه السلام) وكيف أن الباري عزّ وجلّ نجّاه من النار، استجابةً لدعائه.

مسألة: يستحب التذكير بقصة موسى (عليه السلام) وتأثير دعائه في الإجابة.

مسألة: يستحب الإرشاد بقصة عيسى (عليه السلام) وأن من أسمائه تعالى ما يكون به الخلق.

مسألة: يستحب توضيح قصة داود (عليه السلام) وأن من أسمائه ما يكون به التوبة.

مسألة: يستحب الإعلام بقصة سليمان (عليه السلام) وما سخّر الله له، وأن من أسمائه ما يسخّر به الكون أو بعضه للإنسان.

مسألة: يستحب معرفة ما يرتبط بالعرش والكرسي بمقدار ما ورد وما يستوعبه الإنسان، إذ كلما تعرّف الإنسان على عالم الغيب أكثر، سمى عن عالم المادةأكثر.

مسألة: يلزم الاعتقاد بأن الله عزّ وجلّ هو الذي خلق العرش والكرسي، ولا ينفي ذلك كونه تعالى خلقهما من بعض أنوار المعصومين (عليهم السلام) كما وردت بذلك روايات عديدة.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «فلما أراد الله تعالى أن ينشئ الصنعة فتق

ص: 178

نوري فخلق منه العرش، فنور العرش من نوري، ونوري خير من نور العرش. ثم فتق نور أخي علي بن أبي طالب (عليه السلام) فخلق منه نور الملائكة، فنور الملائكة من نور علي، فنور علي أفضل من الملائكة. ثم فتق نور ابنتي فاطمة (عليها السلام) فخلق منه نور السماوات والأرض، فنور ابنتي فاطمة أفضل من نور السماوات والأرض. ثم فتق نور ولدي الحسن (عليه السلام) فخلق منه الشمس والقمر، فنور ولدي الحسن أفضل من الشمس والقمر. ثم فتق نور ولدي الحسين (عليه السلام) فخلق منه الجنة والحور العين فنور ولدي الحسين أفضل من الجنة والحور العين»(1).

وفي حديث آخر: «ثم خلق من نور محمد (صلى الله عليه وآله) جوهرة، وقسمهاقسمين، فنظر إلى القسم الأول بعين الهيبة فصار ماء عذباً، ونظر إلى القسم الثاني بعين الشفقة فخلق منها العرش فاستوى على وجه الماء، فخلق الكرسي من نور العرش، وخلق من نور الكرسي اللوح، وخلق من نور اللوح القلم»(2).

وعن جابر بن عبد الله، قال: قلت لرسول الله (صلى الله عليه وآله): أول شيء خلق الله تعالى ما هو؟ فقال: «نور نبيك يا جابر، خلقه الله ثم خلق منه كل خير، ثم أقامه بين يديه في مقام القرب ما شاء الله، ثم جعله أقساماً، فخلق العرش من قسم، والكرسي من قسم، وحملة العرش وخزنة الكرسي من قسم، وأقام القسم الرابع في مقام الحب ما شاء الله، ثم جعله أقساماً فخلق القلم من

ص: 179


1- مدينة المعاجز: ج3 ص222223.
2- بحار الأنوار: ج15 ص29.

قسم، واللوح من قسم والجنة من قسم، وأقام القسم الرابع في مقام الخوف ما شاء الله، ثم جعله أجزاء فخلق الملائكة من جزء، والشمس من جزء، والقمر والكواكب من جزء، وأقام القسم الرابع في مقام الرجاء ما شاء الله، ثم جعله أجزاء فخلق العقل من جزء، والعلم والحلم من جزء، والعصمة والتوفيق من جزء، وأقام القسم الرابع في مقام الحياء ما شاءالله، ثم نظر إليه بعين الهيبة، فرشح ذلك النور وقطرت منه مائة ألف وأربعة وعشرون ألف قطرة، فخلق الله من كل قطرة روح نبي ورسول، ثم تنفست أرواح الأنبياء، فخلق الله من أنفاسها أرواح الأولياء والشهداء والصالحين»(1).

مسألة: يلزم الاعتقاد بأن الله عزّ وجلّ هو الذي خلق جميع الخلق، وأن كل ما يخلقه الخلق فهو بإذن الله تعالى وبإقداره، فإنه وإن صح إطلاق (خالق) على بعضهم لكنه في طول إرادته تعالى لا في عرض، «فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ»(2).

مسألة: يلزم الاعتقاد بأن الله عزّ وجلّ هو الذي خلق الجن والإنس، والجن يراد به كل ما استتر ، لا خصوص ذلك الموجود المعهود، فيشمل حتى مثل الجراثيم(3) مثلاً، كما يشمل أصناف الملائكة وغيرهم.

مسألة: يلزم الاعتقاد بوجود الجن، لتصريح القرآن الكريم بوجودهم، أما

ص: 180


1- بحار الأنوار: ج25 ص2122 ب1 ح37.
2- سورة المؤمنون: 14.
3- جمع جرثوم وجرثومة، كائن حي صغير جداً، لا يرى بالعين المجردة، منتشر في التراب والماء والهواء والأجسام.

ما يقوله البعض من أنه خرافة فهوباطل، والإنكار دليل جهل وغرور، كما هو دليل ضيق الأفق.

مسألة: يستحب نداء الباري في الأدعية بقول: (يا كريم).

مسألة: يستحب طلب الحوائج من الله تعالى والإلحاح في ذلك، كما ورد في هذا الدعاء: (لما أعطيتني سؤلي وقضيت بها حوائجي).

فائدة:

الحديث نص في أن الملائكة وغيرها من الكائنات، تجيب الصديقة فاطمة (عليها السلام) عند دعائها بهذا الدعاء، ب (يا فاطمة نعم نعم).

وهل يستفاد منه التعميم لكل داع وداعية ولو بنسبة، بأن يُجاب كل من دعى به باسمه، فيقال: (يا فلان نعم نعم).

لا يبعد نظراً لظاهر صدر الحديث: (لا يدعو به أحد إلا استجيب له ..)، مع احتمال اختصاص الخطاب والتسمية بها (عليها السلام) لما لها من الخصوصية.

مسألة: يستحب التدبّر في كلمات المعصومين (عليهم السلام)، وقد يجب فإنها نور(1) ومفتاح السعادة في الدنياوالآخرة.

إلى غيرها من المسائل الكثيرة التي يمكن استنباطها من هذا الدعاء الشريف المروي عن الصديقة فاطمة الزهراء (عليها الصلاة والسلام).

ص: 181


1- ورد في الزيارة الجامعة الكبيرة: «فما أحلى أسماءكم، وأكرم أنفسكم، وأعظم شأنكم، وأجلّ خطركم، وأوفى عهدكم، كلامكم نور، وأمركم رشد، ووصيتكم التقوى، وفعلكم الخير، وعادتكم الإحسان، وسجيتكم الكرم..». عيون أخبار الرضا عليه السلام: ج2 ص309 ب68 زيارة أخرى جامعة للرضا علي بن موسى عليه السلام ولجميع الأئمة عليه السلام ح1.

تسبيح الزهراء (علیها السلام)

اشارة

عن فاطمة الزهراء (عليها السلام) ابنة النبي (صلى الله عليه وآله)، أنها انطلقت إلى النبي (صلى الله عليه وآله) تسأله خادماً، فقال (صلى الله عليه وآله): «ألا أدلّك على ما هو خير لك من ذلك؟ إذا آويت إلى فراشك فسبّحي ثلاثاً وثلاثين, واحمدي ثلاثاً وثلاثين, وكبري أربعاً وثلاثين, فهو خير لك من ذلك, أرضيت يا بنية»، قالت: «قد رضيت»(1).

-------------------------------------------

طلب الحاجة من أهلها

مسألة: طلب الحاجة من غير أهلها مكروه وربما كان محرماً، أما طلبها من أهلها فجائز بالمعنى الأعم، الشامل للواجب والمندوب والمباح.

نعم قد يكره مطلق الطلب حتى من أهله، لمن بمقدوره أن يفعل من غير ضرورة ولا مزاحم أهم، كما يستفاد من بعض الروايات.

فقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) ينصح المؤمنين أن لا يسألوا الناس شيئاً، فكان أحدهم إذا سقط سوطه ينزل لتناوله، ولا يسأل من بحضرته منالمشاة أن يناوله(2).

ص: 182


1- الذرية الطاهرة النبوية: ص138139 ح173.
2- التحفة السنية، للسيد عبد الله الجزائري: ص227 كتاب الكسب.

عن ثوبان، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «من يتقبل لي واحدة أتقبل له الجنة»، فقال: «إنا لا نسأل الناس شيئاً»، فكان ثوبان إذا سقط سوطه لم يأمر أحداً أن يناوله و ينزل هو فيأخذه(1).

وعن الإمام الرضا (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) عَلِّمْنِي عَمَلًا لَا يُحَالُ بَيْنَهُ وَ بَيْنَ الْجَنَّةِ، قَالَ: لا تَغْضَبْ، وَلا تَسْأَلِ النَّاسَ شَيْئاً، وَارْضَ لِلنَّاسِ مَا تَرْضَى لِنَفْسِك»(2).

وقال سلمان الفارسي: أَوْصَانِي خَلِيلِي رَسُولُ اللَّهِ (صلى

الله عليه وآله) بِسَبْعٍ لا أَدَعُهُنَّ عَلَى كُلِّ حَالٍ، أَنْ أَنْظُرَ إِلَى مَنْ هُوَ دُونِي، وَلا أَنْظُرَ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقِي، وَأَنْ أُحِبَّ الْفُقَرَاءَ وَأَدْنُوَ مِنْهُمْ، وَأَنْ أَقُولَ الْحَقَّ وَإِنْ كَانَ مُرّاً، وَأَنْ أَصِلَ رَحِمِي وَإِنْ كَانَتْ مُدْبِرَةً، وَأَنْ لا أَسْأَلَ النَّاسَ شَيْئاً، وَأَوْصَانِي أَنْ أُكْثِرَ مِنْ قَوْلِ لا حَوْلَ وَ لا قُوَّةَ إِلاّ بِاللَّهِ، فَإِنَّهَا كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِالْجَنَّةِ»(3).

التسبيحات وقت النوم

مسألة: تستحب التسبيحات وقت النوم، وخاصة تسبيح الصديقة فاطمة (عليها السلام).

والظاهر أن استحباب التسبيح وقت النوم وغيره، وبالعدد المذكور والكيفية المأثورة من باب أفضل الأفراد، أو تعدد المطلوب الاستحبابي، وليس

ص: 183


1- مجموعة ورام: ج1 ص45.
2- مستدرك الوسائل: ج7 ص222 ب30 ح8088.
3- وسائل الشيعة: ج9 ص442 ب 32 ح12445.

للوقت حيثية تقيدية ولا مقوماً، وإلاّ فكل ذكر لله سبحانه وتعالى تسبيحاً وتحميداً وتكبيراً ولو لم يبلغ هذا العدد ولو لم يكن وقت النوم فهو مستحب.

كما ذكروا مثله في باب المستحبات الخاصة أنها من باب المستحب في المستحب، مثل: زيارة الحسين (عليه السلام) يوم عرفة, ودعاء الافتتاح ليالي شهر رمضان، إلى غير ذلك، نعم الثواب الخاص قد يتوقف على العمل بخصوصياته، ، كما أن هناك خصوصية في تسبيح الصديقة (عليها السلام) فهي أفضلها وأكثرها ثواباً.

تحصيل الخادم

مسألة: يجوز أخذ الخادم وربما استحب أو وجب، كما أنه قد يحرم.

وإنما يستحب تحصيل الخادم لما طلبته الصديقة الزهراء (عليها الصلاة والسلام) فإنه رفق بالإنسان نفسه(1)، ويشمله قوله سبحانه: «يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ»(2)، وهو نوع من الاستفادة من رخص الله تعالى، وقد ورد: «إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه»(3).

إضافة إلى أن اتخاذ الخادم، خدمة للخادم نفسه من جهة توفير عمل له

ص: 184


1- فإن الصديقة الطاهرة (عليها السلام) سألت الخادم حينما مجلت يداه - وهو ما إذا ثخن جلدها وتعجّر وظهر فيها ما يشبه البثر من العمل بالأشياء الصلبة الخشنة - فقد روي عن أم سلمة أنها قالت: جاءت فاطمة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) تشكو الخدمة فقالت: «يا رسول الله، لقد مجلت يدي من الرحى، أطحن مرة وأعجن أخرى..».
2- سورة البقرة: 185.
3- وسائل الشيعة: ج16 ص232 باب29 من أبواب الأمر والنهي ح20.

وإعطائه لقمة العيش، وما أشبه ذلك.

وأما حرمة اتخاذ الخادم، ففي المواطن التي يكون اتخاذه سبباً للفساد والإفساد في العوائل، سواء كانخادماً أو خادمة، والحرمة مقدمية كما لا يخفى.

وكما في الخادم كذلك (السائق) وشبهه، وعليه فاللازم إذا اتخذ خادماً أو خادمةً أن يراعي الاحتياط البالغ في عدم اختلاطه أو اختلاطهما بالأجنبي والأجنبية من أهل المنزل ومن سائر الخدم والحشم ومن أشبه.

كما أنه قد يكره إذا سبّب كسلاً أو ترهّلاً أو ما أشبه، والكراهة إرشادية وقد تكون مولوية، فتأمل.

وقد ورد في الدعاء عن الصادق (عليه السلام): «اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم والجبن والبخل والغفلة والقسوة والفترة والمسكنة»(1).

بين الدعاء والخادم

مسألة: الدعاء المأثور خير من اتخاذ الخادم في الجملة، وذلك لأنه ترك الشيء إلى الأفضل، وذلك فيما لم يُزاحَم بالأهم.ثم إن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يعطها (عليها السلام) خادماً، للتعليم والتأسي لمن كان في حال القيادة والإصلاح والتقدّم، فإنه يلزم أن يكون في تعب ونصب, وإلاّ فالذين يريدون الراحة لا يتمكنون من التقدّم.

ص: 185


1- الكافي: ج2 ص586 باب دعوات موجزات لجميع الحوائج ح24. وقد أورد الشيخ الكليني في الفروع باباً خاصاً سمّاه (باب كراهية الكسل) وأورد فيه تسعة أحاديث راجع: ج5 ص8586.

كما أن من كان في موقع القيادة فالناس ينظرون إليه، فعليه أن يعيش كأضعفهم، مواساةً لهم «كي لا يتبيغ بالفقير فقره».

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «إن الله فرض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس كيلا يتبيغ بالفقير فقره»(1).

وقال (عليه السلام): «إن الله جعلني إماماً لخلقه، ففرض عليّ التقدير في نفسي ومطعمي ومشربي وملبسي كضعفاء الناس، كي يقتدي الفقير بفقري، ولايطغى الغنى غناه»(2).

قال سبحانه: «مَا كَانَ لأهْلِ المَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ»(3).

ص: 186


1- نهج البلاغة: من كلام له في أن نعيم الدنيا يؤدي إلى الآخرة إن صلحت فيه النية وحسن العمل. والبيغ: ثوران الدم. تاج العروس: ج12 ص11 وهي كناية منه (عليه السلام) بهياج ألم الفقر بالفقير بهيجان الدم وثورانه ولذا ورد عنه (صلى الله عليه وآله) قوله في الحجامة: «احتجموا فإن الدم ربما يتبيغ بصاحبه فقتله». التحفة السنية: ص344.
2- حلية الأبرار: ج2 ص215 ب26 ح1.
3- سورة التوبة: 120.

رضا الطرف

مسألة: يستحب السؤال عن الرضا، إذا عُوّض الإنسان عن طلب بآخر، كما لو عوّضه عن مادي بأمر معنوي, ويدل عليه قوله (صلى الله عليه وآله): «أرضيت يا بنية»؟ فإنه نوع تطييب للخاطر، وائتلاف للقلوب.

وهذا ليس خاصّاً بالأمر المعنوي، بل في المادي أيضاً كذلك، بل قد يقال: باستحباب السؤال عن الرضا في الأعم من ذلك كلما أوجب تأليف القلوب وإدخال السرور في قلب المؤمن.

ولا يخفى أن رضا الطرف يترتّب عليه كثير من الأحكام الشرعية، ففي مثل العقود لولاه لما صح العقد، إذ (لا يحلّ مال امرئ إلاّ بطيب نفسه)(1).

ثم إن الرضا إنما ينفع فيما لا يحتاج إلى الإنشاء, وإلاّ فلا ينفع الرضا وحده, وقد ذكرنا في (الفقه) أن العقود والإيقاعات لا ينفع فيها الرضا المجرد بل يحتاج إلى المبرز وهوإنشاء الإيجاب فيهما، وإنشاء القبول في العقود، نعم قد يكون الإنشاء بغير اللفظ.

وأما (إنما يحلل الكلام ويحرم الكلام)(2) فذلك في النكاح والطلاق مما لا ينبغي الارتياب فيه كما ذكرناه في (الفقه)، لكن استظهرنا أن عقوداً كالبيع تكفي فيها المعاطاة، وهي نوع مبرز وإنشاء فعلي.

ص: 187


1- ورد في تحف العقول: ص34 خطبته (صلى الله عليه وآله) في حجة الوداع: «ولا يحلّ لمؤمن مال أخيه إلاّ عن طيب نفس منه». وفي غوالي اللئالي: ج3 ص424 - 425 ح16 قال النبي (صلى الله عليه وآله): «المسلم أخو المسلم لا يحل له ماله إلاّ من طيب نفس منه».
2- تهذيب الأحكام: ج7 ص50 باب البيع بالنقد والنسيئة ح16.

السؤال من العظيم

مسألة: يستحب السؤال من العظيم فيما من شأنه أن يسأل فيه، كما سألت الصديقة فاطمة (عليها السلام) من الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله).

فإن السؤال من الرسول (صلى الله عليه وآله) سؤال من الله سبحانه لأنه عزوجل أمر به, قال تعالى: «وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ»(1).

وقال سبحانه: «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا»(2)، وهذا من مصاديق السؤال.

نعم ينبغي أن لا يكون السؤال من العظيم مما يزاحمه الأهم، أو يشغله عن الأهم، أو عما ليس من شأنه السؤال عنه، أو ما أشبه.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في جمهور الناس في الكوفة: «سلوني قبل أن تفقدوني»(3).وقال (عليه السلام): «إن ههنا علماً جمّاً» - وأشار بيده الشريفة إلى صدره

ص: 188


1- سورة النساء: 32.
2- سورة النساء: 64.
3- هذه من الروايات المستفيضة أو المتواترة، وقد نقلها الفریقين: كتاب سليم بن قيس الهلالي: ج2 ص802 ، الأصول الستة عشر: ص242 ، الغارات: ج1 ص6 ، تفسير فرات الكوفي: ص68، تفسير العياشي: ج2 ص282 ، الغيبة للنعماني: ص87 ، كامل الزيارات: ص74 الباب الثالث والعشرون ، الأمالي والتوحيد للصدوق، بصائر الدرجات، نهج البلاغة: الخطبة 189 من كلام له عليه السلام في الإيمان ووجوب الهجرة، وغيرها وغيرها.

المبارك - «لو أصبت له حملة»(1).

إلى غيرها من الروايات، حيث كان (عليه السلام) يحض الناس ويحثهم على سؤاله قبل رحيله وشهادته.

إرشاد السائل

مسألة: يستحب دلالة السائل وإرشاده إلى ما هو خير له مما سأله(2)، وكما في السائل بالفعل كذلك السائل بالقوة، كما أنه لا فرق في السائل بين كونه فرداً أو جماعة(3). وقد دلّ الرسول (صلى اللهعليه وآله) فاطمة (عليها الصلاة والسلام) على خير مما سألته.

لا يقال: لماذا لم يعطِ الرسول (صلى الله عليه وآله) ما طلبته فاطمة (عليها السلام) مع أنها العزيزة عنده، ورضاها من رضا الله سبحانه وتعالى؟

لأنه يقال: إن الرسول (صلى الله عليه وآله) أراد أن يعلّم الأمة أن تكون في حالة تقشّف وتأهّب دائم لتتمكن من إنقاذ الناس من الظلمات إلى النور.

قال علي (عليه الصلاة والسلام): «تخفّفوا تلحقوا»(4).

ص: 189


1- الإرشاد، للشيخ المفيد: ج1 ص228.
2- ومثل ذلك ذكره علماء البلاغة في المحسنات المعنوية، وهو: (إجابة السائل بما ينبغي له حاله أن يسأل عنه)، كما في قوله تعالى: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ» سورة البقرة: 189، فهم سألوا عن سبب اختلاف أحوال القمر ومراحله، ولكن أجيبوا ببيان الهدف منه والغرض.
3- كمركز دراسات أو جامعة أو دولة أو شبه ذلك.
4- انظر (نهج البلاغة): ومن خطبة له (عليه السلام) في أول خلافته.

ولكي يكونوا أسوة وقدوة، ولكي يُحتج بهم على الحكام والأمراء والملوك الذين: «اتخذوا مال الله دولاً وعباده خولاً»(1).

وربما لم يعطها (صلوات الله عليهما) لما يعلم أنه في قرارة نفسها لم يكن طلبها إلا لتعليم الناس، أو لردّ تقوّلاتالبعض بأن النبي (صلى الله عليه وآله) يستفرد بالخدم لأهل بيته ولقرابته، أو لغيرها من الأسباب.

رضا السائل

مسألة: يستحب تحصيل رضا السائل(2)، بل من المستحب تحصيل رضا مطلق الناس في غير معاصي الله تعالى؛ إذ من الواضح أن اللاقتضائي لا يزاحم الاقتضائي.

ويدلّ على ذلك اهتمام رسول الله (صلى الله عليه وآله) برضى الناس مهما أمكن، وقد قال لذلك الأعرابي الذي غضب عليه من دون حق: قل لأصحابي: إنك رضيت عني.

وقد ورد أن علياً (عليه الصلاة والسلام) قال لبعض الناس: «ما أرضاني عنك إن أنت أرضيت الناس عن نفسك»(3).

ص: 190


1- انظر (نهج البلاغة): ومن كتاب له (عليه السلام) إلى أهل مصر مع الأشتر، ونصه: «ولكنني آسى أن يلي أمر هذه الأمة سفهاؤها وفجّارها، فيتخذوا مال الله دولاً، وعباده خولاً، والصالحين حرباً، والفاسقين حزباً».
2- الفرق بين هذه والمسألة السابقة واضح، إذ هذه عن (تحصيل رضا السائل)، وتلك عن (سؤال الطرف عن رضاه) وهي أسبق رتبة.
3- كشف الغمة: ج1 ص164 في وصف زهده في الدنيا وفيه: «ثم أتى أصحاب التمر فإذا خادمة تبكي فقال: ما يبكيك؟ قالت: باعني هذا الرجل تمراً بدرهم فردوه موالي فأبى أن يقبله فقال: «خذ تمرك وأعطها درهمها فإنها خادمة ليس لها أمر»، فدفعه فقلت: أتدري من هذا؟ قال: لا، قلت: علي بن أبي طالب أمير المؤمنين فصبّ تمره وأعطاها درهمها، وقال: أحب أن ترضى عني، فقال: «ما أرضاني عنك إذا وفيتهم حقوقهم».

كما يدل عليه عمومات استحباب قضاء حاجات المؤمن والناس(1).

رضا فاطمة (علیها السلام)

مسألة: يجب تحصيل رضا الصديقة فاطمة (عليها السلام) ويحرم إغضابها، فإن رضاها (صلوات الله عليها) رضا الله، ولابدّ من تحصيله.

ويدل على ذلك متواتر الروايات(2):

قال النبي (صلى الله عليه وآله) في هذا الحديث: «أرضيت يا بنية؟ فقالت: قد رضيت».

وفي الحديث: «إن الله يرضى لرضا فاطمة، ويغضب لغضبها»(3).

ص: 191


1- راجع كتاب وسائل الشيعة: ج16 ص357 - 374 باب25 استحباب قضاء حاجة المؤمن والاهتمام بها، باب26 استحباب اختيار قضاء حاجة المؤمن على غيرها، باب27 استحباب السعي في قضاء حاجة المؤمن، باب28 استحباب اختيار السعي في حاجة المؤمن، باب29 استحباب تفريج كرب المؤمن وغيرها من الأبواب.
2- يستفاد مطلوبية رضاها أيضاً من حديث البضعة، وقد تقدم.
3- ورد هذا الحديث بألفاظ متعددة في مصادر الإمامية (أعزهم الله تعالى)، انظر الأمالي للشيخ المفيد: ص95 المجلس11 ح4، وعيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج2 ص51 ب31 ح176، والتعجب: ص55، وإعلام الورى: ج1 ص294، والاحتجاج: ج2 ص103 باب قول النبي (صلى الله عليه وآله) لفاطمة (عليها السلام): إن الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك، وغوالي اللئالي: ج4 ص93 ح132، وغيرها من المصادر. ومن مصادر العامة بألفاظ متقاربة في كل من: (تهذيب الكمال): ج35 ص250، و(الإصابة): ج8 ص265، و(المستدرك على الصحيحين): ج3 ص153 وقال عنه: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، و(مجمع الزوائد): ج9 ص203 وقال عنه: رواه الطبراني واسناده حسن، و(الآحاد والمثاني): ج5 ص363 ح2959، و(الذرية الطاهرة النبوية): ص119، و(المعجم الكبير): ج1 ص108 ح182 وج22 ص401، و(تاريخ دمشق): ج3 ص156، و(أسد الغابة): ج5 ص522، و(ذيل تاريخ بغداد): ج2 ص140-141، وغيرها من المصادر.

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إنما فاطمة شجنة مني يبسطني ما يبسطها ويقبضني ما يقبضها»(1).ومنها قوله (صلى الله عليه وآله): «إن فاطمة بضعة مني، وهي روحي التي بين جنبي، يسؤوني ما ساءها، ويسرني ما سرها»(2).

كما أن هذه المسألة تعدّ من توابع أصول الدين بوجه، ومن فروع الدين

ص: 192


1- انظر هذا الحديث وأشباهه في كل من: (قرب الإسناد): ص113 ح389 بلفظ: «إنما فاطمة شجنة مني، يسرني ما سرها، ويسؤوني ما ساءها»، و(معاني الأخبار): ص303 باب معنى الشجنة ح2 بلفظ: «إن فاطمة شجنة مني يؤذيني ما آذاها ويسرني ما يسرها»، ومن كتب العامة: (مسند أحمد): ج4 ص332 بلفظ: «فاطمة شجنة مني يبسطني ما بسطها ويقبضني ما قبضها»، و(الآحاد والمثاني): ج5 ص362 ح2956 بلفظ: «فاطمة شجنة مني يقبضني ما يقبضها، ويبسطني ما يبسطها»، و(المعجم الكبير): ج22 ص405 بلفظ: «إن فاطمة شجنة مني يغضبني ما أغضبها، ويبسطني ما يبسطها»، والمستدرك على الصحيحين للحاكم: ج3 ص154 بلفظ: «إنما فاطمة شجنة مني يبسطني ما يبسطها ويقبضني ما يقبضها»، وتاريخ دمشق: ج70 ص21 بلفظ: «إنما فاطمة شجنة مني يرضيني ما أرضاها، ويسخطني ما أسخطها»، وغيرها من المصادر.
2- انظر (الاعتقادات، للشيخ المفيد): ص105.

بوجه آخر(1).

الرضا والشمولية الزمانية

مسألة: تحصيل رضا الصديقة فاطمة (صلوات الله عليها) غير خاص بزمان حياتها؛لأنهم «أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ»(2)، فإرضاؤها بإقامة مجالس عزاء ولدها الحسين (عليه السلاة والسلام) وبسائر مصاديق التولي والتبري وبنشر علومها وعلوم أبيها وبعلها وأبنائها، كل ذلك مما يرضى الله به لذاته ولرضاها به، بل من قصد ذلك ولو ارتكازاً فله أجران.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إن فاطمة بضعة مني وأنا منها، فمن آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذاها بعد موتي كان كمن آذاها في حياتي، ومن آذاها في حياتي كان كمن آذاها بعد موتي»(3).

المؤسسات والشخصيات الحقوقية

مسألة: كما يستحب وقد يجب على الأفراد الحقيقيين تحصيل رضا الزهراء (عليها السلام) ويحرم عليهم إغضابها، كذلك يلزم على المؤسسات تحصيل رضاها ويحرم عليها إسخاطها، فإن للمؤسسات وجوداً اعتبارياً، وهكذا بالنسبة إلى

ص: 193


1- تعد من الأصول لأن الاعتقاد بأن رضا الله من رضاها وغضبه من غضبها يدل على مكانتها ومكانة النبوة والإمامة التي هي محورهما، وتعد من فروع الدين لأن تحصيل رضاها نوع من تولي المؤمن لأولياء الله والتولي من فروع الدين، ولغيرها من الحيثيات.
2- سورة آل عمران: 169.
3- علل الشرائع: ج1 ص186-187 ب149 ح2.

الأشخاص الحقوقيين.لا يقال: ليست بعاقلة(1) لتُكلّف؟

إذ يقال: أمرها بيد القائمين عليها، كولي من لا ولي له، والحاصل: إن الفرد مسؤول عن نفسه، كما هو مسؤول عن مؤسسته، لتحقيق رضاها (عليها السلام) بواسطة ما يفعله بنفسه، وما تنتجه مؤسسته.

ويتضح ذلك بلحاظ ما تصدره الجامعات من إصدارات، أو ما تحدده من (كرسي) لبعض العظماء، أو ما تقرره من منح دراسية، أو ما تحدده من مادة البحث، فإن ذلك وغيره، قد يكون في طريقٍ يرضيها (عليها السلام)، وقد يكون فيما يسخطها(2).

بيان أهمية رضاها

مسألة: يستحب أو يجب بيان أهمية رضاية الصديقة فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)، وما لها من الأثر على دنيا الإنسان وآخرته.

عن سلمان الفارسي قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يا سلمان، من أحبفاطمة ابنتي فهو في الجنة معي، ومن أبغضها فهو في النار، يا سلمان حب فاطمة ينفع في مائة موطن، أيسر تلك المواطن: الموت والقبر والميزان والمحشر والصراط والمحاسبة، فمن رضيت عنه ابنتي فاطمة رضيتُ عنه، ومن رضيتُ عنه رضي الله عنه، ومن غضبت عليه فاطمة غضبتُ عليه، ومن

ص: 194


1- أي المؤسسات.
2- كالتمجيد بأعدائها وغاصبي حقوقها ونشر سننهم وما أشبه.

غضبتُ عليه غضب الله عليه، يا سلمان ويل لمن يظلمها ويظلم ذريتها وشيعتها»(1).

تأكيد الكلام بأدواته

مسألة: يستحب التأكيد في الجواب، أو الكلام مطلقاً إذا كان فيه الفائدة، والتأكيد يكون بأدواته وبغيرها، كما قالت (سلام الله عليها): «قد رضيت»، فإن (قد) من أدواته إذا دخلت على الماضي، وقد سبقت نظائره فلا نعيد.

التسبيح باللسان

مسألة: ظاهر - بل لعله نص - (فسبّحي) هو التسبيح باللسان، فلا يكفي إخطارهبالذهن والقلب، نعم كل من الجهر والإخفات مصداق ولكل منهما فضل.

وظاهر الذكر المستحب هو ما يذكره بلسانه.

وربما يكون للجهر فضل أكثر وإن كان للإخفات فضل، لما فيه من الفوائد الجمة، كتقوية النفس وتلقينها، وإشاعة التقوى والعبادة بين الناس، وغيرها.

ص: 195


1- بحار الأنوار: ج27 ص117 ب4 من أبواب ولايتهم وحبهم وبغضهم (صلوات الله عليهم) ح94.

عن أبي محمد الحسن العسكري (عليه السلام) إنه قال: «علامات المؤمن خمس: صلاة الخمسين، وزيارة الأربعين، والتختّم في اليمين، وتعفير الجبين، والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «ارفعوا أصواتكم بالصلاة عليّ فإنها تذهب بالنفاق»(2).

ص: 196


1- تهذيب الأحكام: ج6 ص52 باب فضل زيارته (عليه السلام) ح37.
2- الكافي: ج2 ص493 باب الصلاة على النبي محمد (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) ح13.

علم فاطمة (علیها السلام)

اشارة

عن حارثة بن قدامة(1) قال: حدّثني سلمان الفارسي، قال: حدّثني عمّار وقال: أُخبرك عجباً؟

قلت: حدّثني يا عمار, قال: نعم, شهدت علي بن أبي طالب (عليه السلام) وقد ولج(2) على فاطمة (عليها السلام), فلما بصرت به نادت: «أدن لأحدثك بما كان وما هو كائن وبما لم يكن إلى يوم القيامة حين تقوم الساعة».

قال عمار: فرأيت أمير المؤمنين (عليه السلام) يرجع القهقرى، فرجعت برجوعه إذ دخل على النبي (صلى الله عليه وآله), فقال له: «أدن يا أبا الحسن», فدنا فلما أطمأن به المجلس قال له: «تحدثني أم أحدثك»؟

فقال: «الحديث منك أحسن يا رسول الله».

فقال (صلى الله عليه وآله): «كأني بك وقد دخلت على فاطمة وقالت لك:كيت وكيت, فرجعت».

ص: 197


1- حارثة بن قدامة التميمي السعدي أبو عمرو، وقيل: جارية - واختاره جماعة واعتبروا أن الأول تصحيف كابن إدريس وغيره، ولم يستبعد المامقاني أن يكونا أخوين - وعلى كل، فهو من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) وكان نبيلاً شريفاً في قومه، وعدّه ابن إدريس من خواص أمير المؤمنين (عليه السلام)، وكان صاحب السرايا والألوية والخيل يوم صفين، وكان شجاعاً فتّاكاً في الحروب، وكان ممن يعتمد عليه الأمير (عليه السلام) في سراياه وحروبه مع أتباع معاوية.
2- أي دخل.

فقال علي (عليه السلام): «نور فاطمة من نورنا»؟

فقال (صلى الله عليه وآله): «أو لا تعلم»؟

فسجد علي (عليه السلام) شكراً لله تعالى.

قال عمار: فخرج أمير المؤمنين (عليه السلام) وخرجت بخروجه, فولج على فاطمة (عليها السلام) وولجت معه فقالت: «كأنك رجعت إلى أبي (صلى الله عليه وآله) فأخبرته بما قلته لك»؟

قال: «كان كذلك يا فاطمة».

فقالت: «اعلم يا أبا الحسن، إن الله تعالى خلق نوري وكان يسبح الله جل جلاله, ثم أودعه شجرة من شجر الجنة فأضاءت, فلما دخل أبي (صلى الله عليه وآله) الجنة أوحى الله تعالى إليه إلهاماً أن اقتطف الثمرة من تلك الشجرة وأدرها في لهواتك، ففعل فأودعني الله تعالى صلب أبي (صلى الله عليه وآله) ثم أودعني خديجة بنت خويلد (عليها السلام) فوضعتني وأنا من ذلك النور, أعلم ما كان وما يكون وما لم يكن، يا أبا الحسن المؤمن ينظر بنور الله تعالى»(1).

-------------------------------------------

معنى العلم بما لم يكن

المراد من قولها (عليها السلام): «وما لم يكن»، أي يُزعم أنه يكون ولكنه ليس بكائن، والله العالم.

وذلك لأنه حسب ما قاله أهل المعقول: (لا يعقل الإخبار عن الأعدام،ولا العلم بالأعدام بما هي أعدام)، وقد ذكر الحكماء: (إن العدم بما هو عدم لايوصف ولا يكون مؤثراً ولا متأثراً ولا يخبر عنه).

ص: 198


1- عيون المعجزات: ص46 - 47 تحدّث أمير المؤمنين عليه السلام بما كان ويكون.

وفي المقام ليس الأمر عدمياً محضاً، فإن العدم بلحاظ كونه مزعوماً، له حظ من الوجود، دون العدم المطلق.

وإذا رأينا ما ظاهره الإخبار عن العدم، مثل: (شريك الباري ليس بموجود)، فالمراد ما ذكره العلامة الحلي (قدس سره) في (شرح التجريد) وغيره في غيره: إن الشيء الذي يتصور في الذهن(1) ليس له انطباق في الخارج(2)، إلى غير ذلك.

وبعبارة أخرى: (ما لم يكن) أي مما أُحتمل(3) أنه كائن، مثل ما لو احتملالعلماء أن يطول عمر الفرد في العالم: خمسين مليوناً مثلاً ولكنه في علم الله لم يكن كذلك، فهذا غير كائن ولم يكن في الواقع كذلك، ومثل ما لو احتمل أن يكون لآدم (عليه الصلاة والسلام) عدداً أكبر من البنين والبنات مما لم يكن في الواقع كذلك.

وإلا فإذا أريد بها الأعدام، فإنها لا حصر لها ولا عدّ(4)، ولا يمكن الإحاطة بها إلاّ لعلاّم الغيوب، فتأمل(5).

ص: 199


1- أي الذي يتصور في الذهن أنه شريك الباري تعالى.
2- قال العلامة الحلي في كشف المراد (تحقيق الآملي) ص44: (لا يقال: العدم أمر معقول، وقد قضى العقل بمنافاته له، فكيف يصح قوله على الإطلاق أنه لا ينافيها؟ لأنا نقول: نمنع أولاً: كون العدم المطلق معقولاً، والعدم الخاص له حظ من الوجود، ولهذا افتقر إلى موضوع خاص كافتقار الملكة إليه).
3- لا يخفى أن هذا الاحتمال أعم من السابق إذ الاحتمال أعم من الزعم.
4- إضافة إلى أن العلم بها ليس فضلاً على إطلاقه.
5- وذلك لما يقال: بإمكان الإحاطة بالأعدام بمشيئة الله تعالى وإرادته.

كما يحتمل في (ما لم يكن) الأعدام الإضافية(1)، كعدم اتصاف زيد بكذا وكذا، أو عدم اتصاف هذه الجماعة أو هذه الأمة أو الدولة بكذا وكذا، أو عدم حصولهم على كذا وكذا، فإنها متناهية وإن بدت لا متناهية، كما أنها عدوم نافعة ولو من جهة.

ويحتمل في (ما لم يكن) إرادة ما كان فيه (البداء)، أي كل ما كان مسجلاًفي (لوح المحو والإثبات) أنه يكون، ولم يكن كذلك في (اللوح المحفوظ)، فإنها (عليها السلام) عالمة به، مما يعني إحاطتها - بإذن الله تعالى - بما في اللوح المحفوظ مما كان مغايراً لما في لوح المحو والإثبات(2).

النظر بنور الله

مسألة: النظر بنور الله سبحانه، قد يكون بحسب الموازين الطبيعية من قانون الأسباب والمسببات، وهذا في الأمور الظاهرة منها، لأن المؤمن له موازين الحياة ويتنبأ المستقبل باطلاعه على الأسباب الظاهرية التي أودعها الله في الكون، ولذا ورد في الحديث: «العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس»(3).

وقال (عليه السلام): «المؤمن كيّس فطن حذر»(4).

ص: 200


1- الفرق أن الأعدام التي سبق في المتن أنها ليست متناهية، يراد بها الأعم من العدم الإضافي والعدم المطلق، أي عدم الجوهر أيضاً.
2- كما يحتمل في (ما لم يكن) البدائل التي كان يمكن أن تكون فلم تكن، مما يعبّر عنه اليوم ب (السيناروهات) المتعددة للحدث الواحد المحتمل حدوثها في المستقبل.
3- تحف العقول: ص356 حِكَمُه - أي الصادق عليه السلام - ودرر كلامه.
4- بحار الأنوار: ج64 ص307 ب14 ح40.

فالمؤمن الكامل الذي ينظر بنور الله هو الذي يعرف النتائج من أسبابها، أما غيره فلا يعرف تلك المسببات عن الأسباب، حالهما حال الخبير الطبي أو الهندسي أو ما أشبه وحال الإنسان العادي, حيث إن الخبير يعرف من النتائج من أسبابها مما لا يعرفه الإنسان العادي.

وقد يكون التنبؤ بنور الله سبحانه وتعالى في غيرها بأسباب الغيب، وذلك بإلقاء المَلَك في القلب وما أشبه، كما ورد بذلك الأحاديث، وحينئذ يكون معنوياً أي بالأسباب المعنوية.

وبالنسبة إلى المعصوم (عليه السلام) فبالعلم اللدني، وعمود النور، وما أشبه(1) مما منحهم الله تعالى.

ولا يخفى أن المراد بالمؤمن الذي ينظر بنور الله هنا، وكذلك لفظ المؤمن في بعض الروايات هو الكامل في إيمانه، وليس ذلك إلاّ المعصوم (عليه السلام), بدليل أن النظر بتلك الصورة التي شرحتها الصديقة الزهراء (عليها السلام) ليس إلاّ للمعصوم (عليه السلام).

ولا يخفى أن ولفظ (المؤمن) له إطلاقات ثلاث أو أكثر:1: مقابل (الكافر).

2: ومقابل (المخالف).

3: ومقابل (غير كامل الإيمان).

ويحتمل أن يكون للنظر بنور الله مراتب ودرجات، وهي تتبع درجات

ص: 201


1- كالنقر في الأسماع والنكت في القلب كما ورد في بعض الروايات. وقد مرّت الإشارة إليها في هذا الكتاب.

الإيمان، فكلما كان إيمانه أقوى، كان نظره بنور الله أوسع وأشمل.

الطعام الطيّب الحلال

مسألة: يستحب أكل الطعام الطيّب الموجب لطيب المولد والولد, فإن الطعام يؤثّر في الطيّب والخبث, وذلك لأن (شبه الشيء منجذب إليه)(1)، كماقرره الله سبحانه وتعالى وسنّه في الكون, فآكل لحم الخنزير يُبتلى جسماً بالأمراض من جهة الجراثيم الموجودة في لحم الخنزير, كما يُبتلى روحاً بعدم الغيرة، لأن الخنزير لا غيرة له، ولهذا ذكر علماء الحيوان أن الخنزير لا يهمّه أن يتقدّم فحل آخر إلى شريكته.

وهكذا ذكروا في انتقال الصفات بالنسبة إلى لحم الغنم ولحم البقر ولحم الإبل، لأن صفات هذه الحيوانات تنتقل إلى آكلها على نحو المقتضي، وهكذا بالنسبة إلى آكل اللبن، وآكل الشيء الحرّيف(2), فإن اللبن يؤثر هدوء

ص: 202


1- نُسبت هذه الكلمة للغزالي المتوفى سنة 505ه، إلا أن الصحيح أنه من كلام المتنبي المتوفى سنة 354ه من قصيدة له في مدحه المغيث بن علي العجلي: فؤاد ما تسليه المدام * وعمر مثل ما يهب اللئام ودهر ناسه ناس صغار * وإن كانت لهم جثث ضخام وما أنا منهم بالعيش فيهم * ولكن معدن الذهب الرغام وشبه الشيء منجذب إليه * وأشبهنا بدنيانا الطغام ولو لم يعل إلا ذو محل * تعالى الجيش وانحط القتام ولو حيز الحفاظ بغير عقل * تجنب عنق صيقله الحسام. انظر (يتيمة الدهر) للثعالبي ت429ه: ج1 ص262.
2- في لسان العرب: بصل حِريف: يحرق الفم وله حرارة، وقيل: كل طعام يحرق فم آكله بحرارة مذاقه، حريف بالتشديد للذي يلذع اللسان بحرافته . انظر لسان العرب: ج9 ص45 مادة حرف.

الأعصاب، والشيء الحرّيف كالفلفل يؤثر هيجان الأعصاب(1).

وإذا علمنا أن كل واحد من الروح والبدن يؤثّر في الآخر، علمنا بأن الشيء الطيّب يؤثر في الروح أيضاً،والشيء الخبيث يؤثّر في الجسم أيضاً, ولذا قالوا: (العقل السليم في الجسم السليم)، وذلك على نحو الاقتضاء لا العليّة التامّة، كما هو في كثير من الأشياء.

ثم إن الاستحباب ممكن في هذا الطرف(2)، وإن كان قسيمه - أي أكل الطعام المغصوب أو النجس مثلاً - محرماً؛ إذ لا ضير في وجود حكمين للطرفين بعد العقلائية، أو يقال بأن قسيم أكل الطعام الطيب، هو أكل ما فيه شبهة وإن جاز، أو أكل المكروه كالجبن وحده نهاراً(3) أو ما أشبه.

ص: 203


1- لا يخفى أن هذا الأمر من باب المقتضي كما نبه عليه السيد المصنف (قدس سره) وإلا فقد يكون الأمر بالعكس في بعض الأحيان.
2- المراد ب (الطرف) الفعل، وقسيمه الترك، أو العكس.
3- يكره أكل الجبن في النهار لوحده، وترتفع الكراهة إما بأكله في الليل، أو أكله مع الجوز، ويدل على ذلك ما رواه الشيخ الكليني (رحمه الله) بإسناده عن عن محمد بن الفضل النيسابوري، عن بعض رجاله ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : سأله رجل عن الجبن، فقال: «داء لا دواء فيه». فلما كان بالعشي دخل الرجل على أبي عبد الله (عليه السلام) فنظر إلى الجبن على الخوان، فقال: جعلت فداك سألتك بالغداة عن الجبن، فقلت لي: إنه هو الداء الذي لا دواء له، والساعة أراه على الخوان؟ قال: فقال لي: «هو ضار بالغداة، نافع بالعشي ويزيد في ماء الظهر». الكافي: ج6 ص340 باب الجبن ح3. كما يدل على ذلك ما رواه كذلك بإسناده عن عبد العزيز العبدي، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «الجبن والجوز إذا اجتمعا في كل واحد منهما شفاء، وإن افترقا كان في كل واحد منهما داء». وقريب منه ما رواه كذلك باسناده عن عبيد بن زرارة، عن الصادق (عليه السلام)، راجع: الكافي: ج6 ص340 باب الجبن والجوز ح2 وح3.

الأصل الأسوة

مسألة: الظاهر أن الأصل في أفعال النبي (صلى الله عليه وآله) هو (الأسوة)، لإطلاق قوله تعالى: «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ»(1)، فيشمل أفعاله التي جرت وقت الإسراء والمعراج، وما فعله في الجنة وغيرها فيما يمكن فيه التأسي ولو في جامعه، إلا أن يقال بالانصراف، فتأمل.

ومن ذلك ما ورد من توسطه لتخفيف الله تعالى بعض التشريعات(2)، ومن

ص: 204


1- سورة الأحزاب: 21.
2- عن زيد بن علي (عليه السلام)، قال: سألت أبي سيد العابدين (عليه السلام) فقلت له: يا أبه، أخبرني عن جدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله)، لما عُرج به إلى السماء وأمره ربه عز وجل بخمسين صلاة، كيف لم يسأله التخفيف عن أمته حتى قال له موسى بن عمران (عليه السلام): ارجع إلى ربك فسله التخفيف، فإن أمتك لا تطيق ذلك؟ فقال: «يا بني، إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يقترح على ربه عز وجل ولا يراجعه في شيء يأمره به، فلما سأله موسى (عليه السلام) ذلك وصار شفيعاً لأمته إليه، لم يجز له رد شفاعة أخيه موسى (عليه السلام)، فرجع إلى ربه يسأله التخفيف، إلى أن ردها إلى خمس صلوات». قال: فقلت له: يا أبه ، فلِمَ لم يرجع إلى ربه عز وجل ولم يسأله التخفيف من خمس صلوات، وقد سأله موسى (عليه السلام) أن يرجع إلى ربه ويسأله التخفيف؟ فقال: «يا بني، أراد (صلى الله عليه وآله) أن يحصل لأمته التخفيف مع أجر خمسين صلاة، لقول الله عز وجل: «مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا»، ألا ترى أنه (صلى الله عليه وآله) لما هبط إلى الأرض نزل عليه جبرئيل (عليه السلام) فقال: يا محمد، إن ربك يقرئك السلام ويقول: إنها خمس بخمسين، «مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» ».الأمالي، للشيخ الصدوق: ص544 المجلس70 ح6.

ذلكالمقام حيث اقتطف (صلى الله عليه وآله) الثمرة من شجرة الجنة، فإن ذلك وإن لم يكن ممكناً بخصوصيته، لكن الجامع ممكن وهو الثمرة الطيبة المغروسة في أرض حلال المسقية بماء حلال، الموتى عاملُها أجرَها، والمشتراة من غير غش وتدليس، إلى غير ذلك.

نعم قد يستشكل باستبعاد استظهار ذلك من مثل ذلك الكلام عرفاً، فيبقى الاستشعار والتأييد وسائر القرائن.

الصحابة النجباء

مسألة: يستحب بيان قرب عمّار (رضوان الله عليه) ومن أشبهه من الصحابة الأخيار من أهل البيت (عليهم السلام), ولذا دخل على أمير المؤمنين (عليه السلام) بيته وفيها الصديقة الزهراء (عليها السلام).

ويحتمل عدم دخوله أولاً، بل إنه شاهد الإمام (عليه السلام) وهو يدخل فقط، وسمع صوت الصديقة (عليها السلام) وهي تناديه، ولعل المستظهر من (شهدت .. وقد ولج) هو ذلك، كما لعلّه ظاهر (فلما بصرت به نادت) إذ الإبصار هو بمجرد الدخول من الباب، نعم في المرة الثانية الظاهر أنه دخل معه.

فإن هؤلاء الأطهار (عليهم السلام) لم يكن قريباً منهم إلاّ أفراد قلائل، كسلمان وعمّار والمقداد وحذيفة ومن أشبه.

ص: 205

وذكرنا في بعض كتبنا أن حديث: «ارتد الناس(1) إلاّ ثلاث(2) أو أربع(3) أوخمس(4)»(5)، إما يراد به غير ظاهره، أيإنه مؤول، أو إنه مختلق(6).

كيف وكثير من الناس - داخل المدينة المنورة وخارجها - لم يرضوا بالخلافة

ص: 206


1- والظاهر أن المقصود من الارتداد هو الارتداد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) وعن الاعتقاد بولايته الحقة، لا الارتداد المقابل للإسلام، ويدل على ذلك ما ورد في ذيل رواية الاختصاص الآتية، عن أبي بكر الحضرمي، قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): «ارتد الناس إلاّ ثلاثة نفر: سلمان، وأبو ذر، و المقداد. قال: فقلت: فعمار؟ فقال: «قد كان جاض جيضة - حاد ومال -، ثم رجع، ثم قال: إن أردت الذي لم يشك ولم يدخله شيء فالمقداد، فأما سلمان فإنه عرض في قلبه عارض، أن عند ذا يعني أمير المؤمنين (عليه السلام) اسم الله الأعظم لو تكلّم به لأخذتهم الأرض وهو هكذا، فلبب ووجئت في عنقه حتى تركت كالسلعة - كالغدة في الجسد - ومرّ به أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: يا أبا عبد الله هذا من ذاك بايع، فبايع، وأما أبو ذر فأمره أمير المؤمنين (عليه السلام) بالسكوت ولم يكن تأخذه في الله لومة لائم، فأبى إلاّ أن يتكلم فمرّ به عثمان فأمر به، ثم أناب الناس بعدُ فكان أول من أناب أبو ساسان الأنصاري وأبو عمرة وفلان حتى عقد سبعة، ولم يكن يعرف حق أمير المؤمنين (عليه السلام) إلا هؤلاء السبعة».
2- وهم سلمان المحمدي وأبو ذر الغفاري والمقداد بن الأسود الكندي (رضوان الله تعالى عليهم).
3- بإضافة عمار بن ياسر (رضوان الله تعالى عليه).
4- بإضافة أبو ساسان وأبو عمرة الأنصاري، ويدل عليه رواية أبي بصير، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) ارتد الناس إلا ثلاثة: أبو ذر، وسلمان، والمقداد، قال: فقال أبو عبد الله (عليه السلام): «فأين أبو ساسان، وأبو عمرة الأنصاري؟». التحرير الطاووسي: ص663.
5- انظر (الاختصاص): ص10.
6- الظاهر عدم الاختلاق حتى مع الاحتمال الذي ذكره السيد المؤلف (قدس سره) لاحتمال - بل هو الظاهر من الروايات حين الجمع - أن المقصود من الناس ليس كل الناس، بل المتواجدين في المدينة المنورة في ذلك الوقت، وهذا الانصراف كما لا يخفى يزيل الإطلاق في الرواية، وسيأتي مزيد توضيح من المصنف (قدس سره) فانتظر.

المستحدثة بالقوة، والمغتصبة ظلماً، بل كانوا على ولائهم لأهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) كمالك بن نويرة وجماعته، إلى غيرهم(1) مما شهد به التاريخ.

وإما يأوّل حديث: «إرتد الناس» بأنهم لم يبقوا في الدرجة العالية من الإيمان والفضيلة, فإن الارتداد يمكن أن يحصل عن الإسلام مطلقاً، أو عن بعض أصوله، أو عن بعض فروعه، أو عن بعض مراتبه الكمالية، قال سبحانه: «إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا»(2)، مع وضوح أن المؤمن ليس منحصراً بمثل هؤلاء، وإنما ذكر ذلك من باب ذكر الدرجات العالية من الإيمان، فتأمل.كما يمكن أن يراد بالحديث الإضافة، لا الإطلاق، أي لوحظ فيه خصوص الموجودين في المدينة، وخصوصاً من شهد، دون من كان خارج المدينة، ودون من كان بالمدينة ولم يشهد، فتأمل.

كما يحتمل(3) أن المراد ب (الناس) غير المؤمنين أي المنافقون، وهؤلاء هم الذين ارتدوا، ولذا ورد (ارتد الناس) وليس ارتد الشيعة أو المؤمنون، وقد يستأنس لذلك بمثل قوله تعالى: «الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ»(4)،(5).

ص: 207


1- وكخالد بن سعيد الأموي وغيره.
2- سورة الأنفال: 2.
3- أقول: وعلى هذا الاحتمال يكون الاستثناء منقطعاً، فيكون المعنى: ارتد المنافقون إلا ثلاثة من المؤمنين أو أربعة أو خمسة.
4- سورة آل عمران: 173.
5- في بحار الأنوار: ج20 ص43: (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) في المعني بالناس الأول ثلاثة أقوال: أحدها: إنهم الركب الذين دسهم أبو سفيان إلى المسلمين ليجبنوهم عند منصرفهم من أحد لما أرادوا الرجوع إليهم، عن ابن عباس وابن إسحاق وقد مضت قصتهم. والثاني: إنه نعيم بن مسعود الأشجعي، وهو قول أبي جعفر و أبي عبد الله (عليهما السلام). والثالث: إنهم المنافقون عن السدي. (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) المعني به أبو سفيان و أصحابه عند أكثر المفسرين، أي جمعوا جموعا كثيرة لكم، وقيل جمعوا الآلات و الرجال. انتهى.

خطاب العالم ليَعْلَم الآخرون

مسألة: يستحب توجيه الكلام إلى من يعلمه لأجل أن يسمعه الآخرون, كما وجّهت الصديقة الزهراء (عليها السلام) الكلام لأمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام), بقولها: «إعلم»، وإلاّ فعليّ (عليه السلام) كان يعلم. وهذا من فنون البلاغة، وقد ذكروا ذلك في «إياك أعني وأسمعي يا جارة»(1) كما سبق.

ص: 208


1- وقد جاء القرآن الكريم على هذا المعنى أيضاً في جملة من آياته، كما ورد عن طرق الخاصة والعامة، فعن عبد الله بن بكير ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «نزل القرآن بإياك أعني واسمعي يا جارة». وفي رواية أخرى، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «ما عاتب الله عز وجل به على نبيه (صلى الله عليه وآله) - فهو يعني به ما قد مضى في القرآن مثل قوله: «وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا» - عنى بذلك غيره». الكافي: ج2 ص641 باب النوادر من كتاب فضل القرآن ح14. ومن العامة ما قاله السمرقندي في تفسيره: ج2 ص132: (لأن القرآن نزل عليه بمذاهب العرب وهم يخاطبون الرجل بشيء ويريدون به غيره، كما قالوا: إياك أعني واسمعي يا جارية)، والنسفي في تفسيره: ج3 ص330 قال: (هذا خطاب للملائكة وتقريع للكفار وارد على المثل السائر " إياك أعني واسمعي يا جارة" وغيرهم)، إلى غيرها.

وربما كان الخطاب مع من يعلم لأغراض أخر, كالأنس، مثل قول موسى (عليه الصلاة والسلام): «هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى»(1).

وكثير من نصائح الرسول (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام) أو نصائح الأئمة (عليهم السلام) بعضهم لبعض من هذا القبيل.

نور الزهراء

مسألة: يستحب بيان أن نور الصديقة الزهراء (عليها السلام) من ذلك النور القدسي الذي كان يسبّح الله عزّ وجلّ، وأنه من نورهم (عليهم السلام) أي من تلك الأنوار الطاهرة المعصومة.

وقد ذكرنا في بعض المباحث السابقة أن أمثال ما ذكر إذا ارتبط بأصول الدين الواجبة كان من الواجب بيانه.

والمراد بتسبيح النور قد يكون بنفس وجوده، أو بنفس نورانيته، فإنه ينزّه الله تعالى بذلك عن كل نقص، أو بإنارته، أو بصوت لا نسمعه، أو بتأثير يؤثّره(2)، أو بغير ذلك، ولا يخفى ظهور كون ذلك النور حيّاً مدركاً شاعراً،ولعلّه كان نفس روحه (صلوات الله عليه) أو ما اشتقت منه.

وتسبيح هذه الأنوار الطاهرة كان قمة التسبيح لله عز وجل، كأفضل وأقوى وأسمى ما يكون التسبيح ويمكن.

ص: 209


1- سورة طه: 18.
2- أي غير الإنارة.

وإلاّ فكل شيء يسبّح بحسبه، قال سبحانه: «يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ»(1).

فكل ما في الكون وكل ما سواه تعالى، له تسبيح معنوي، بمعنى دلالته على تنزيه الله عن النقص في وجوده وعلمه وقدرته(2) وما أشبه ذلك, كما أن لكل شيء تسبيحاً من جنسه, ولذا قال سبحانه: «وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ»(3)، مع وضوح أن التسبيح التكويني مما يفقهه الإنسان الملتفت، فربما يكون المراد من «لَا تَفْقَهُونَ» نوعاً من تسبيحهم لا نفقهه.

وفي القرآن الحكيم دلالة على وجود علم وفهم حتى للجماد والحيوان، كماقال سبحانه: «قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ»(4).

وقال تعالى: «يَا جِبَالُ أَوِّبِي»(5).

وقال سبحانه: «فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ»(6).

ص: 210


1- سورة الحشر: 24.
2- (تنزيه الله) أي تبعيده عما لا يجوز عليه من النقائص، والنزاهة البعد عن المكروه - كما في مجمع البحرين: ج4 ص299 مادة (نزه).
3- سورة الإسراء: 44.
4- سورة فصّلت: 11.
5- سورة سبأ: 10.
6- سورة النازعات: 14. وقد ورد عن محمد بن عبد الله بن الحسين أنه قال: دخلت مع أبي على أبي عبد الله ( عليه السلام) فجرى بينهما حديث .. فقال له أبي: يقول الله عز وجل: «فإنما هي زجرة واحدة * فإذا هم بالساهرة» أي شيء أراد بهذا؟فقال: «إذا انتقم منهم وماتت الأبدان، بقيت الأرواح ساهرة لا تنام ولا تموت». مختصر البصائر للحلي: ص134- 135 ح42.

وقال تعالى: «مَا لِيَ لَا أَرَى الهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أو لَأَذْبَحَنَّهُ أو لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا للهِ الَّذِي يُخْرِجُ الخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ»(1).

وقوله سبحانه: «قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًامِنْ قَوْلِهَا»(2).

بل قد يفهم من بعضها وجود إرادة - بدرجة ما - للجماد أيضاً، وقد ذكرنا شيئاً من تفصيله في بعض كتبنا المرتبطة بهذه الأمور.

ص: 211


1- سورة النمل: 20- 28.
2- سورة النمل: 18- 19.

علم التاريخ وعلم المستقبل

مسألة: يستحب الحديث بما كان وهو (علم التاريخ)، وما هو كائن وهو (علم المستقبل)، وما لم يكن وهو (علم الاحتمالات والأضداد)، لأهله، وإذا كان فيه الفائدة.

وربما وجب ذلك، كما قد يحرم أو يكره حسب اختلاف الموارد.

وهذا بالنسبة لهم، وأما بالنسبة لنا فعلى قدر ما نعرف، وبذلك يظهر أن مطالعة التاريخ وتدوينه والتفكير في المستقبل ودراسة محتملاته، مطلوب ومرغوب فيه وربما وجب، كما إذا توقف عليه إنقاذ المسلمين من واقعهم المأساوي ونجاتهم من الطغاة والفراعنة(1).

تقديم الأشرف

مسألة: يستحب تقديم الغير إذا كان أشرف منه، بل مطلقاً إذا انطبق عليه عنوان مثل: توقير المؤمن واحترامه، أو عنوان مثل: عنوان الرحمة، كما في:«ارحموا صغاركم»(2).

وقد قال علي (عليه السلام) لرسول الله (صلى الله عليه وآله): «الحديث منك أحسن».

وأحسنيته لأقوائيته، وكلما كان الشيء أقوى في الخير كان أحسن.

ص: 212


1- راجع (الفقه: فلسفة التاريخ)، و(الفقه: المستقبل) للإمام المؤلف (قدس سره).
2- من خطبة رسول الله (صلى الله عليه وآله) في شهر رمضان، انظر (الأمالي، للشيخ الصدوق): ص154 المجلس20 ح4.

ومن ذلك يظهر استحباب مثل: تقديم الغير في شرب الماء على نفسه، وكذا في الخروج من المنزل أو غيره، وغيرها.

الاستماع للرسول

مسألة: يلزم الاستماع إلى حديث الرسول (صلى الله عليه وآله) للأدلة العامة، واستناداً إلى فعل أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث قال (عليه السلام) لرسول الله (صلى الله عليه وآله): «الحديث منك أحسن»، ثم استمع إليه.

ومنه: ما لو كان المتحدث يذكر رواياته (صلوات الله عليه) بل وإذا كان ينقل عنه (صلى الله عليه وآله) بعض الوقائع والأحداث.

عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) قال : «جاء رجل إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله ما العلم؟ قال: الإنصات، قال: ثم مه؟ قال: الاستماع، قال: ثم مه؟ قال: الحفظ، قال: ثم مه؟ قال: العمل به، قال: ثم مه يا رسول الله؟ قال : نشره»(1).

الإخبار الإجمالي

مسألة: يجوز الإخبار الإجمالي عن الشيء،كما قال (صلى الله عليه وآله): «كيت وكيت».

وهذه المفردة يراد بها إجمال عن تفاصيل لا يريد المتكلم التفرّغ لها.

وقد يستحب أو يجب، حسب الموارد، كما لو كان في الإخبار الإجمالي

ص: 213


1- الكافي: ج1 ص48 باب النوادر من كتاب فضل العلم ح4.

اقتصاداً في الوقت، كما هو ظاهر المقام، أو إثارة اهتمام أكثر، بل أو كتم سرّ يفرّ من بيانه بالإجمال أو ما أشبه ذلك.

سؤال العالم

مسألة: يستحب سؤال العالم في الجملة، وقد يكون تقريرياً، كما قال (عليه السلام): «نور فاطمة من نورنا».وقد سبق أن السؤال قد يكون للتعلّم, وقد يكون للتعليم، كما له أقسام أخرى أيضاً.

وكان علي (عليه الصلاة والسلام) يعلم ذلك وإنما سأل لتعليم الغير تعليماً يكون عن لسان الرسول (صلى الله عليه وآله) وإلا فكلام علي (عليه السلام) بنفسه حجة.

سجدة الشكر

مسألة: يستحب سجدة الشكر على النعم، وعلى ما يسمعه الإنسان من فضائل أهل البيت (عليهم السلام) بصورة خاصة.

وفي الروايات استحباب سجدة الشكر لكل نعمة تتجدّد على الإنسان، أو يتذكّرها الإنسان، والفرق هو أن الأول ثبوت، والثاني إثبات.

عن جابر بن يزيد الجعفي، قال: قال أبو جعفر محمد بن الباقر (عليه

السلام): «إن أبي علي بن الحسين (عليه السلام) ما ذكر نعمة الله عليه إلا سجد، ولا قرأ آية من كتاب الله عز وجل وفيها سجود إلاّ سجد، ولا دفع الله تعالى عنه

ص: 214

سوءاً يخشاه أو كيد كايد إلاّ سجد، ولا فرغ من صلاة مفروضة إلاّ سجد، ولا وُفق لإصلاح بين اثنين إلاّ سجد، وكان أثر السجود في جميع مواضع سجوده، فسُمّي السجادلذلك»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان في سفر يسير على ناقة إذ نزل فسجد خمس سجدات، فلما ركب قالوا: يا رسول الله رأيناك صنعت شيئا لم تصنعه؟ فقال (صلى الله عليه وآله): نعم، استقبلني جبريل (عليه السلام) فبشرني ببشارات من الله عز وجل فسجدت لله شكرا، لكل بشرى سجدة»(2).

وعن هشام بن أحمر قال: كنت أسير مع أبي الحسن (عليه السلام) في بعض أطراف المدينة إذ ثنى رجليه عن دابته فخر ساجداً فأطال وأطال، ثم رفع رأسه وركب دابته، فقلت: جعلت فداك، قد أطلت السجود، فقال (عليه السلام): «إني ذكرت نعمة أنعم الله بها عليّ فأحببت أن أشكر ربي»(3).

وعن يونس بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إذا ذكر أحدكم نعمة الله عز وجل فليضع خده على التراب شكراً لله، وإن كان راكباً فلينزل فليضع خده على التراب، وإن لم يكن يقدر علىالنزول للشهرة فليضع خده على قربوسه، فإن لم يقدر فليضع خده على كفه، ثم ليحمد الله على ما أنعم عليه»(4).

ص: 215


1- علل الشرائع: ج1 ص233 ب166 ح1.
2- مكارم الأخلاق: ص265 الفصل8 من الباب9.
3- وسائل الشيعة: ج7 ص19 ب7 من أبواب سجدتي الشكر ح4.
4- الكافي: ج2 ص98 باب الشكر ح25.

مراجعة العظيم

مسألة: يستحب السؤال من العظيم والاستفادة منه والمراجعة إليه في الأمور المهمة، بل في مطلق الأمور، لإطلاق الأدلة، إلا مع التزاحم وما أشبه.

ومن وجوه ذلك: إن ذلك وضعٌ للشيء في موضعه، وأن الرجوع إليه في المهم من الأمور يؤكد محوريته وهو المطلوب، إذ لا بد للناس من محاور فإن لم تكن هي الصحيح - وهم من هم أهل ومحل - كانت هي الباطلة أو الضالة.

الخطاب بالكنية

مسألة: يستحب للزوجة أن تخاطب زوجها بالكنية احتراماً، كما قالت الصديقة فاطمة (عليها السلام): «يا أبا الحسن»، وقد سبق ذلك في الفصل الأول(1) والثاني(2) من هذا الكتاب.

ولعلّ ذلك من باب رجحان احترام مطلق الناس، والخصوصية الآكد في الزوجة وزوجها فإنهما أحق بالاحترام.

ص: 216


1- ما يرتبط بحديث الكساء، في المجلد الأول.
2- ما يرتبط بالخطبة الشريفة.

بيان كيفية الخلق

مسألة: يستحب بيان كيفية خلق الصديقة فاطمة (عليها السلام)، فإن فيها بيان فضائلها (صلوات الله عليها)، وذلك يعتبر نوع عبادةٍ؛ فإن ذكر فضائلهم عبادة، إضافة إلى أن فيه تثبيتاً للإيمان وتقوية للارتباط بالرسول وأهل بيته الأطهار (عليهم الصلاة والسلام).

عن أم المؤمنين أم سلمة (رضوان الله عليها)، أنها قالت: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: «ما اجتمع قوم يذكرون فضل علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلاّ هبطت عليهم ملائكة السماء حتى تحفّ بهم، فإذا تفرقوا عرجت الملائكة إلى السماء، فيقول لهم الملائكة: إنا نشم من رائحتكم ما لا نشمه من الملائكة، فلم نر رائحة أطيب منها، فيقولون: كنا عند قوم يذكرون محمداً وأهل بيته (عليهم السلام)، فعلق علينا من ريحهم فتعطرنا، فيقولون: اهبطوا بنا إليهم، فيقولون: تفرقوا ومضى كل واحد منهم إلى منزله، فيقولون: اهبطوا بنا حتى نتعطر بذلك المكان»(1).وكذلك يستحب بيان كيفية مطلق الخلق, لأنها تدل على عظمة الله عزّ وجلّ، وفي القرآن الحكيم والروايات المتواترة كثير من أمثال هذه الأمور.

قال تعالى: «وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ»(2).

ص: 217


1- الروضة في فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام): ص189 حديث في ذكر فضل علي (عليه السلام).
2- سورة الأنعام: 75.

وقال سبحانه: «الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ»(1).

نور فاطمة (عليها السلام) والجنان

مسألة: يستحب بيان أن نور فاطمة (عليها السلام) ينير ما حولها حتى الجنة.

فإن الجنة أيضاً تحتاج إلى الإضاءة، إذ لولا الضياء يكون الظلام في كل مكان، خصوصاً على القول بأن الظلام عدم والعدم سابق على الوجود، أما إذا قيل بأن الظلمات أيضاً مجعولة ومخلوقة كما لعلّه المستفاد من الآية الكريمة: «وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ»(2).

وكما قال به بعض الحكماء، فلعلّالضياء جعل أشد بحسبه هو، أو مقيساً بالظلام، وإن تساوت الأمور بالنسبة إليه تعالى، كما هو كذلك في المخلوقات الشديدة والضعيفة، قال سبحانه: «أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا»(3)، فإن الجعل لا يختلف بالنسبة إلى الله تعالى فإنه يقول: كن فيكون، والاختلاف إنما هو في (المجعول).

ص: 218


1- سورة آل عمران: 191.
2- سورة الأنعام: 1.
3- سورة الصافات: 11.

نظام الأسباب والمسببات في الجنة

مسألة: يظهر من هذه الرواية والكثير غيرها، أن نظام الأسباب والمسببات جارٍ في الجملة في الجنة، ولو بنحو آخر، فكما أن إضاءة الأرض هو بالشمس، كذلك إضاءة الجنة بنور فاطمة (عليها السلام)، ولعلّ الفرق أن الأرض مادية وجماد، فكانت إضاءتها بأمر مادي لا روح له، وأما (الجنة) فهي كما قال تعالى: «وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ»(1)، فاحتاجت إلى إنارة أعلى وأسمى، أي إلى إنارة مادية معنوية ظاهرية بالجنة، أي إلى نور هو المظهر الأسمى للحياة والحيوان، وهو نور فاطمة (صلوات الله عليها).

النظر بنور الله

مسألة: يستحب بيان أن المؤمن ينظر بنور الله، وقد سبق أنه تارة يكون بأسباب غيبية وأخرى بأسباب ظاهرية، وكلها من الله تعالى.

فإن المؤمن (كيّس فطن) ذكي وعالم، ومن الواضح أن العالم يعرف النتائج من المقدمات، على عكس غيره، قالسبحانه: «وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ»(2).

وقال تعالى: «وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ»(3).

ص: 219


1- سورة العنكبوت: 64.
2- سورة المنافقون: 8.
3- سورة المنافقون: 7.

فإن المنافق والكافر يحصرون علمهم في بعض الماديات، ومن الواضح أن من علمه على هذا فهو مضيّق ولا يتمكن معه أن ينظر إلى الأوسع.

عدة مسائل

مسألة: يستحب أن يشهد الإنسانُ المعصومَ (عليه السلام) ويحضر عنده، كما حضر (عمّار) في هذه الرواية.

كما يستحب أن يحضر مشهد المعصوم (عليه السلام) ومرقده بعد وفاته، وذلك لما في الحضور لديه من البركة واللطف الإلهي والفائدة، وقد يكون نوع نصرة.

مسألة: يستحب الخوض في الكلام مع القادم بعد أن يطمئن به المجلس، ولعلّه يستفاد ذلك من فعله (عليه السلام) وقولها: (فلما اطمأن به المجلس).

ولعلّ من أسبابه أن في ذلك إحرازاً لتركيز السامع أكثر وفهمه واستيعابه لما يقال تماماً، ولما فيه من الاحتراموالتوقير، ولا ينافي ذلك الاستثناء مع جهة راجحة كما في: (فلما بصرت به نادت ..)، إذ قد يكون في ذلك مزيد الإلفات، وعلامة شدة الأهمية التي اقتضت المسارعة وعدم التريّث وشبه ذلك.

مسألة: يستحب فسح المجال للطرف الآخر حتى يتكلم إذا احتمل أنه يريد الكلام، لا أن يستفرد الإنسان بالحديث ويكون متكلماً وحده، حيث قال النبي (صلى الله عليه وآله): «تحدّثني أم أحدّثك».

مسألة: يستحب الخروج بخروج العظيم والدخول بدخوله في الجملة، كما

ص: 220

قال (عمّار): (وخرجت بخروجه)(1).

مسألة: يجوز السماع والاستماع إلى صوت المرأة إذا لم يكن بتلذذ وريبة، وكذلك يجوز الإسماع منها كلما دعت الحاجة لذلك، وأما من دون حاجة وفائدة فمرجوح، ومع التلذذ والريبة فمحرم.

مسألة: (الفراسة)(2) أمر جائز بالمعنىالأعم، وكذلك إظهارها، وقد تجب، وقولها (عليها السلام): «كانت .. ». إما فراسة أو علم غيب.

فائدة:

الوحي على أقسام، منه الإلهام، كما قالت: «أوحى الله تعالى إليه إلهاماً»، وقد ذكرنا أقسامه في بعض المباحث السابقة.

ص: 221


1- وذلك إذا كان الدخول والخروج معه أو بعده نوع تأس واتباع أو نوع توقير واحترام.
2- الفراسة، بالكسر: اسم من التفرس، وهو التوسم، يقال تفرس فيه الشيء، إذا توسمه، وقال ابن القطاع: الفراسة بالعين: إدراك الباطن، وبه فسر الحديث: (اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله). قال ابن الأثير: يقال بمعنيين، أحدهما: ما دل ظاهر الحديث عليه، وهو ما يوقعه الله تعالى في قلوب أوليائه فيعلموا أحوال بعض الناس بنوع من الكرامات وإصابة الظن والحدس، والثاني: نوع يعلم بالدلائل والتجارب والخلق والأخلاق، فتعرف به أحوال الناس، وللناس فيه تآليف قديمة وحديثة. تاج العروس: ج8 ص395.

مدح النفس

مسألة: مدح الإنسان نفسه وذكر فضائله قد يكون مستحباً إذا كان فيه الفائدة، كما لو كان أسوة حسنة، حتى يعلم الناس الحق من الباطل، ويلتفّوا حوله، ولعلّ ذلك من أسباب قولها لعلي (صلوات الله عليهما): «أدن لأحدثك ..».

وقد ورد في القرآن قوله (صلوات الله عليه وآله): «إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا»(1).

وهكذا بالنسبة إلى ما ورد من سائر الأنبياء والأئمة (عليهم الصلاة والسلام) من بيان فضائلهم.

ومن الواضح أن ذلك ليس من باب الفخر والمباهاة والاستعلاء، وإنما من باب بيان الحقائق والمقدمية للهداية، حيث إن الناس يحتاجون إلى فهم تلك الحقائق، لما لها من القيمة في حدّ ذاتها، ولما فيها من الباعثية على الإطاعة والتأسي والعمل والهداية.

ص: 222


1- سورة الأعراف: 158.

فضائل النبي

مسألة: يستحب أو يجب، كلٌّ في مورده: بيان فضائل الرسول (صلى الله عليه وآله)، حيث قالت (سلام الله عليها): «فلما دخل أبي الجنة أوحى الله تعالى إليه إلهاماً..»(1).

فإن دخوله (صلى الله عليه وآله) الجنة قبل قيام القيامة وفي حياته؛ إذ الظاهر أنه كان في المعراج، فضيلة، ووحي الله إليه إلهاماً فضيلة أخرى، واختصاصه بأمر الله أن يقتطف تلك الثمرة فضيلة ثالثة، وإيداع نور فاطمة (عليها السلام) في صلبه فضيلة رابعة، وهكذا.

كما أن من فضائله (صلى الله عليه وآله) التي يستحب بيانها: أنه (سيد الأنبياء).

والمراد بكونه (صلى الله عليه وآله) سيد الأنبياء، أنه أفضلهم جميعاً، كما يلزم الاعتقاد بأنه الأفضل.

وفي روايات متواترة أن الأنبياء (عليهم السلام) كانوا يعترفون بالنبي محمد (صلى الله عليه وآله) وبأنه سيدهم، وكانوا يتوسّلون به إلى الله سبحانه وتعالى في قضاء حوائجهم، كما ورد في قصة آدم، ونوح، وإبراهيم (عليهم السلام)وغيرهم.

عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، «قال: قال آدم (عليه السلام): يا رب بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين، إلا تبت عليّ،

ص: 223


1- بحار الأنوار: ج43 ص8 ب1 ح11.

فأوحى الله إليه: يا آدم، وما علمك بمحمد؟ فقال: حين خلقتني، رفعت رأسي، فرأيت في العرش مكتوباً، محمد رسول الله، علي أمير المؤمنين»(1).

وفي الحديث: «فهبط جبرئيل (عليه السلام) على يعقوب (عليه السلام) فقال: يا يعقوب، ألا أعلمك دعاءً يرد الله عليك به بصرك، ويرد عليك ابنيك؟

قال: بلى.

قال: قل ما قاله أبوك آدم (عليه السلام) فتاب الله عليه، وما قاله نوح (عليه السلام) فاستوت به سفينته على الجودي ونجا من الغرق، وما قاله أبوك إبراهيم خليل الرحمن (عليه السلام) حين ألقي في النار فجعلها الله عليه برداً وسلاماً.

فقال يعقوب (عليه السلام): وما ذاك يا جبرئيل؟

فقال: قل: يا رب، أسألك بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين، أنتأتيني بيوسف وابن يامين جميعاً، وترد علي عيني.

فما استتم يعقوب (عليه السلام) هذا الدعاء حتى جاء البشير، فألقى قميص يوسف (عليه السلام) عليه فارتد بصيراً. فقال لهم: «قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ»(2)»(3).

وعن الإمام العسكري (عليه السلام) أنه قال في قوله تعالى: «وَإِذِ اسْتَسْقَى

ص: 224


1- مستدرك الوسائل: ج5 ص238 ب35 من أبواب الدعاء ح14.
2- سورة يوسف: 96- 98.
3- الأمالي للشيخ الصدوق: ص323 المجلس43 ح7.

مُوسَى لِقَومِهِ»(1)، قال: «واذكروا يا بني إسرائيل، إذ استسقى موسى لقومه، طلب لهم السقي، لما لحقهم العطش في التيه، وضجوا بالبكاء إلى موسى، وقالوا: هلكنا بالعطش، فقال موسى: إلهي بحق محمد سيد الأنبياء، وبحق علي سيد الأوصياء، وبحق فاطمة سيدة النساء، وبحق الحسن سيد الأولياء، وبحق الحسين أفضل الشهداء، وبحق عترتهم وخلفائهم سادة الأزكياء، لما سقيت عبادك هؤلاء.

فأوحى الله تعالى: يا موسى «اضْرِبْ بِعَصَاكَ الحَجَرَ» فضربه بها، «فَانْفَجَرَتْ

مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَكُلُّ أُنَاسٍ»، كل قبيلة من بني أب من أولاد يعقوب، «مَشْرَبَهُمْ»(2)، فلا يزاحم الآخرين في مشربهم»(3).

ص: 225


1- سورة البقرة: 60.
2- سورة البقرة: 60.
3- مستدرك الوسائل: ج5 ص236 ب35 من أبواب الدعاء ح12.

مصحف فاطمة (علیها السلام)

اشارة

روي أن الصديقة فاطمة (عليها السلام) لما توفي أبوها (صلى الله عليه وآله) قالت لأمير المؤمنين (عليه السلام): «إني لأسمع من يحدثني بأشياء ووقائع تكون في ذريتي». قال: «فإذا سمعتيه فأمليه عليّ»، فصارت تمليه وهو يكتبه.

فروي: أنه بقدر القرآن ثلاث مرات ليس فيه شيء من القرآن، فلما كمّله سمّاه مصحف فاطمة (عليها السلام) لأنها كانت محدَّثة تحدثها الملائكة(1).

-------------------------------------------

ليس مصحف فاطمة قرآناً آخر

مسألة: يستحب أو يجب كل في مورده، بيان أن مصحف الصديقة فاطمة (عليها السلام) ليس هو القرآن، ولا هو بديل عنه، كما يتهم البعض الشيعة بذلك ويقولون: إن لهم قرآناً آخر(2)، بل هو كتاب يشتمل على تلك الوقائع والعلوم المستقبلية التي أخبرت الملائكة فاطمة (عليها السلام).ولا يخفى أن دفع (التهمة) عن الدين والمذهب التي توجب وهنه وإعراض الناس عنه من أهم الواجبات(3).

ص: 226


1- المحتضر: ص233 فضائل الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام ح306307.
2- وهذه التهم كمن يقول: إن (البخاري) عند أهل السنة هو (القرآن الكريم) أفهل يقبلون؟
3- قال السيد المصنف (قدس سره) في كتابه (من حياة فاطمة الزهراء عليها السلام): (المصحف الفاطمي) مصحف فاطمة (عليها السلام) كتاب من تأليف الصديقة فاطمة الزهراء (عليها السلام) يتضمن علم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، وهو اليوم عند ولدها الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف). وهذا المصحف ليس القرآن بل هو كتاب كسائر الكتب التي كتبها الأئمة الطاهرون (عليهم السلام).. قال الإمام الصادق (عليه السلام) عن مصحف فاطمة (عليها السلام): «إن فاطمة (عليها السلام) مكثت بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) خمسة وسبعين يوماً، وكان دخلها حزن شديد على أبيها، فكان جبرئيل (عليه السلام) يأتيها فيحسن عزاءها على أبيها، ويطيب نفسها، ويخبرها عن أبيها ومكانه، ويخبرها بما يكون بعدها في ذريتها، وكان علي (عليه السلام) يكتب ذلك، فهذا مصحف فاطمة (عليها السلام) ». وقال الصادق (عليه السلام): «وإن عندنا لمصحف فاطمة (عليها السلام) وما يدريهم ما مصحف فاطمة». وعن حماد عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال في حديث: «تظهر الزنادقة في سنة ثمان وعشرين ومائة، وذلك أني نظرت في مصحف فاطمة (عليها السلام) قال: قلت: وما مصحف فاطمة؟ قال: إن الله تعالى لما قبض نبيه (صلى الله عليه وآله) دخل على فاطمة (عليها السلام) من وفاته من الحزن ما لا يعلمه إلا الله عزّ وجلّ، فأرسل الله إليها ملكاً يسلي غمها ويحدّثها، فشكت ذلك إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: إذا أحسست بذلك وسمعت الصوت قولي لي، فأعلمته بذلك، فجعل أمير المؤمنين (عليه السلام) يكتب كلما سمع حتى أثبت من ذلك مصحفا، ثم قال: أما إنه ليس فيه شيء من الحلال والحرام، ولكن فيه علم ما يكون». وفي حديث عن الصادق (عليه السلام): «مصحف فاطمة (عليها السلام) ما فيه شيء من كتاب الله وإنما هو شيء اُلقي عليها بعد موت أبيها صلى الله عليهما».

إيضاح:

قوله: (ليس فيه شيء من القرآن) لأن القرآن وإن اشتمل على الأسس والكليات والإشارات ونحوها إلاّ أنه بظاهره لا يشتمل على تلك الأحداث، فإن المستفاد من تلك الإشارات بالنسبة إلى الأناس العاديين ليس إلاّ ظواهرها، ولذا

ص: 227

يحتاج إلى تفسير الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) بعد الرسول (صلى الله عليه وآله).

مضافاً إلى كون القرآن معجزة حتى في أسلوبه وفصاحته وبلاغته وهو مشتمل على التحدي حتى بآية واحدة، مما لا يكون غيره كذلك.

وذلك مثل (الحديث القدسي) فإنه من الله تعالى لكن (ليس فيه شيء من القرآن)، وككثير من أحاديث رسول الله(صلى الله عليه وآله) وكغالب نهج البلاغة والصحيفة السجادية.

ويوضح ذلك قولها: (ووقائع تكون في ذريتي) فإن الأحاديث التي تجري على ذريتهم (صلوات الله عليهم) غير مذكورة في ظاهر الكتاب، وهي أحداث كثيرة جداً على امتداد مئات السنين.

ولا يخفى احتمال أن يكون (وقائع..) عطف بيان ل (أشياء)، ويحتمل أن يكون عطفاً للخاص على العام، ويحتمل كونه عطفاً للمباين بإرادة غير الأحداث من (الأشياء)(1).

استحباب الكتابة

مسألة: تستحب الكتابة وضبط المطالب المهمة، وإن أمكن حفظها في الذهن، فإن (ما كتب قرّ وما حفظ فرّ)(2).

إذ الكتابة تبقى بينما المحفوظ حتى إذا بقي في ذهن الحافظ لا ينتقل إلى ذهن سائر الناس غالباً إلاّ بالمذاكرة والإلقاء، وفائدتهما ليست كفائدة الكتابة، حيث

ص: 228


1- كالمسائل العلمية مثلاً.
2- قول مشهور.

إن الكتابة غير محدودة بينما الحفظ والإلقاءمحدودان غالباً.

وقد ورد الأمر بالكتابة في أحاديث عديدة، منها ما روي عنه (صلى الله عليه وآله) أنه قال: «قيدوا العلم بالكتابة»(1).

وعن أبي بصير قال: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) «اكْتُبُوا فَإِنَّكُمْ لا تَحْفَظُونَ إِلا بِالْكِتَابِ»(2).

وعن أبي بصير قال: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) فَقَالَ: دَخَلَ عَلَيَّ أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ فَسَأَلُونِي عَنْ أَحَادِيثَ وَكَتَبُوهَا، فَمَا يَمْنَعُكُمْ مِنَ الْكِتَابِ، أَمَا إِنَّكُمْ لَنْ تَحْفَظُوا حَتَّى تَكْتُبُوا»(3).

وإنما قلنا: (المطالب المهمة) لوضوح أن الجزئيات لا حصر لها ولا عدّ ولا ينفع في الأكثر كتابتها.

ثم إن الظاهر: أن الكتابة على الورق لا موضوعية لها، فيكفي كل ما يكتب فيه، مما كان قديماً أو استحدث جديداً، فالقديم كأوراق البردي(4)،والجديد كمختلف الأجهزة الحديثة(5).

ص: 229


1- السرائر: ج1 ص44.
2- مستدرك الوسائل: ج17 ص285 ب8 ح21359.
3- مستدرك الوسائل: ج7 ص49 - 50 ب1 ح7623.
4- الفافير أو ورق البردي نوع قديم من الورق المصنوع من نبات البردي، وهو نبات طويل من جنس السعد تمتد سيقانه إلى أعلاه، وهي ذات مقطع مثلث الشكل، وأزهاره خيمية الشكل، ويرتفع نبات البردي من خمسة إلى تسعة أمتار، وكان المصريون القدامى يستخدمون هذا الورق لكتابة الهيروغليقية وتسجيل أحداثهم وعلومهم وآدابهم.
5- كالحاسوب والأقراص المدمجة أو غيرها.

استحباب الإملاء

مسألة: هل يستحب (الإملاء) أيضاً؟

الظاهر إنه طريقي.

ولعلّ إملائها عليه (صلوات الله عليهما)، كان لمزيد التوثيق والتأكيد، وإلا فإن من الكافي قطعاً كتابتها (صلوات الله عليها).

ومنه يظهر استحباب الإتقان والتوثيق في مثل تلك الأعمال، وقد سبق تفصيله في بعض الأجزاء السابقة.

كما أن المستظهر من (لمّا توفي) أن سماعها من يحدثها كان بعد وفاته (صلى الله عليه وآله) بلا فصل أو بلا فصل معتد به، وكأنه كان لتعويضها عن فقد أبيها (صلوات الله عليهما).

اسم الكتاب

مسألة: يستحب تسمية الكتاب باسم، فلا يترك بلا عنوان، كما صنع علي (عليه السلام) حيث سمّى الكتاب باسم (مصحف فاطمة).

وهذا ليس خاصاً بالكتاب، فإن من المستحب تسمية الأشياء، كما ورد في روايات عديدة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يسمي كل شيء مرتبط به حتىالعصا والفرس والحمار وغير ذلك(1).

ص: 230


1- روى العلامة المجلسي في بحار الأنوار: ج16 ص97- 98 ب6 ح36، عن خصال الشيخ الصدوق، بسنده عن ابن عباس، قال: قدم يهوديان فسألا أمير المؤمنين (عليه السلام) عن أشياء، وسألا عن وصف النبي (صلى الله عليه وآله)، فقال فيما قال: «كان عمامته السحاب، وسيفه ذو الفقار، وبغلته دلدل، وحماره يعفور، وناقته العضباء، وفرسه لزاز، وقضيبه الممشوق» الخبر. قال العلامة المجلسي توضيحاً: (بيان: قال في النهاية: فيه إنه كان اسم عمامة النبي (صلى الله عليه وآله) السحاب، سميت به تشبيهاً بسحاب المطر، لانسحابه في الهواء. وقال: دلدل في الأرض: ذهب ومرّ، يدلدل ويتدلدل في مشيه: إذا اضطرب، ومنه الحديث: كان اسم بغلته دلدل. وقال: فيه إن اسم حمار النبي (صلى الله عليه وآله) عفير، وهو تصغير تحقير لأعفر، من العفرة وهي الغبرة، ولون التراب، وفي حديث سعد بن عبادة أنه خرج على حماره يعفور ليعوده. قيل: سمي يعفوراً للونه من العفرة، كما قيل في أخضر: يخضور، وقيل: سمي به تشبيهاً في عدوه باليعفور وهو الظبي، وقيل: الخشف. وقال: فيه كان اسم ناقته العضباء، هو علم لها، منقول من قولهم: ناقة عضباء، أي مشقوقة الأذن، ولم تكن مشقوقة الأذن، وقال بعضهم: إنها كانت مشقوقة الأذن، والأول أكثر. وقال الزمخشري: هو منقول من قولهم: ناقة عضباء، وهي القصيرة اليد. وقال: فيه كان لرسول الله (صلى الله عليه وآله) فرس يقال له: اللزاز، سمي به لشدة تلززه واجتماع خلقه، ولزبه الشيء، أي لزق به، كأنه يلزق بالمطلوب لسرعته. وقال الفيروزآبادي: جارية ممشوقة: حسنة القوام، وقضيب ممشوق: طويل دقيق).انتهى. وفي رواية أخرى رواها الحر العاملي في وسائل الشيعة: ج26 ص102- 103 ب4 من أبواب موجبات الإرث ح8، قال الحسن بن علي الوشاء: سألت مولانا أبا الحسن علي بن موسى الرضا (عليه السلام): هل خلف رسول الله (صلى الله عليه وآله) غير فدك شيئاً؟ فقال أبو الحسن (عليه السلام): «إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) خلف حيطاناً بالمدينة صدقه، وخلف ستة أفراس، وثلاث نوق: العضباء والصهباء والديباج، وبغلتين: الشهباء والدلدل، وحماره اليعفور، وشاتين حلوبتين، وأربعين ناقة حلوباً، وسيفه ذا الفقار، ودرعه ذات الفضول، وعمامته السحاب، وحبرتين يمانيتين، وخاتمه الفاضل، وقضيبه الممشوق، ومراتب من ليف، وعباءتين قطوانيتين، ومخاداً من أدم، فصار ذلك إلى فاطمة (عليها السلام) ما خلا درعه وسيفه وعمامته وخاتمه، فإنه جعلها لأمير المؤمنين عليه السلام». وجاء من وصف أمير المؤمنين للنبي (صلى الله عليه وآله) قوله: «سريره أم غيلان مرمل بالشريف، كان له عمامتان إحداهما تدعى السحاب، والأخرى العقاب، وكان سيفه ذا الفقار، ورايته الغراء، وناقته العضباء، وبغلته دلدل، وحماره يعفور، وفرسه مرتجز، وشاته بركة، وقضيبه الممشوق، ولواؤه الحمد.. »الرياض النضرة: ج3 ص163.

ص: 231

وذلك من مصاديق الإتقان، وقد ورد«رحم الله امرءاً عمل عملاً فأتقنه»(1)، وفيه فوائد عديدة أخرى(2).

وقد ذكر جملة من المفسرين في قوله سبحانه: «وَعَلَّمَ

آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا»(3) أنها أسماء جميع المسميات(4)، هذا بالإضافة إلى ماورد في تفسير الآية

ص: 232


1- راجع أمالي الشيخ الصدوق: ص468 المجلس61 ح2، بإسناده عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام)، قال: «أتي رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقيل له: إن سعد بن معاذ قد مات. فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقام أصحابه معه، فأمر بغسل سعد وهو قائم على عضادة الباب، فلما أن حنط وكفن وحمل على سريره، تبعه رسول الله (صلى الله عليه وآله) بلا حذاء ولا رداء، ثم كان يأخذ يمنة السرير مرة ويسرة السرير مرة حتى انتهى به إلى القبر، فنزل رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى لحده وسوى اللبن عليه وجعل يقول: ناولوني حجراً، ناولوني تراباً رطباً، يسد به ما بين اللبن، فلما أن فرغ وحثا التراب عليه وسوى قبره، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إني لأعلم أنه سيبلى ويصل البلى إليه، ولكن الله يحب عبداً إذا عمل عملاً أحكمه.. »الخبر.
2- كالاقتصاد في الوقت؛ فإن عدم التسمية أو جهل الاسم سبب في إضاعة وقت قليل أو كثير في التعريف بالشيء أو البحث عنه.
3- سورة البقرة: 31.
4- ما عرفه البشر وما لم يعرفه. قال الشيخ الطبرسي في تفسير جوامع الجامع: ج1 ص92: (أي أسماء المسميات كلها، فحذف المضاف إليه لكونه معلوماً مدلولاً عليه بذكر الأسماء، لأن الاسم لابد له من مسمى، وعوض منه اللام كقوله: «واشتعل الرأس شيباً»، وليس التقدير: وعلم آدم مسميات الأسماء، فيكون حذفاً للمضاف، لأن التعليم يتعلق بالأسماء لا بالمسميات، لقوله: «أنبئوني بأسماء هؤلاء»، ومعنى تعليمه أسماء المسميات أنه أراه الأجناس التي خلقها، وعلمه أن هذا اسمه فرس وهذا اسمه كذا، وعلمه أحوالها وما يتعلق بها من المنافع الدينية والدنيوية). وقد ورد في تفسير العياشي: ج1 ص32- 33 ح11وح13 ما يلي: عن أبي العباس عن أبي عبد الله (عليه السلام) سألته عن قول الله: «وعلم آدم الأسماء كلها» ماذا علمه؟ قال: «الأرضين والجبال والشعاب والأودية»، ثم نظر إلى بساط تحته فقال: «وهذا البساط مما علمه». وعن داود بن سرحان العطار قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فدعا بالخوان، فتغدينا ثم جاؤوا بالطشت والدست سنانه فقلت: جعلت فداك قوله: «وعلم آدم الأسماء كلها» الطشت والدست سنانه منه؟ فقال: «والفجاج والأودية وأهوى بيده كذا وكذا».

من أن المراد بالأسماء أسامي الرسول (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام)، والظاهر أنه من باب أظهر المصاديق فلا تنافي.

عن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) قال: « «وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْماءَ كُلَّهَا» أسماء أنبياء الله، وأسماء محمد (صلى الله عليه وآله) وعلي وفاطمة والحسن والحسين، والطيبين منآلهما (عليهم السلام) وأسماء خيار شيعتهم وعتاة أعدائهم»(1).

والغالب أنّا لا نحفظ الأسماء حتى بالقدر الموجود بأيدينا، فكيف بغيره، مثلاً: ذكر جماعة من علماء الأحياء أن عدد أصناف الحيوان والأشجار في العالم هو ثلاثون مليوناً، مع وضوح أن هذه الثلاثين مليوناً لا اسم لأكثرها، وما له اسم منها لا يحفظ إلاّ في أمهات الكتب المعنية بها.

وكذلك الحال في أسماء الألوان، وقد ذكر بعض العلماء أن عدد الألوان

ص: 233


1- تفسير الإمام العسكري (عليه السلام): ص217.

في العالم الحاصلة من تركيب بعضها ببعض أربع وعشرون مليون لون، وهكذا بالنسبة إلى المشمومات مثلاً: رائحة الدهن ورائحة العطور على اختلافها، وكذلك كثير من الأشياء التي لها رائحة خاصة لا اسم لها، أو لا نعرف لها اسماً، ويتضح الأمر أكثر لو علمنا أن بعض العلماء قدّر ما يوجد في المعاجم الكبيرة جداً وغيرها مليون كلمة! وكم منّا يحيط بها كلها؟

الوحي وحديث الملائكة

ولا يخفى أن حديث الملائكة معها(عليها السلام)، يختلف عن الوحي إلى الأنبياء (عليهم السلام) بعنوان النبوة، فإن الوحي أيضا على أقسام، فما نحن فيه من قبيل:«وَإِذْ قَالَتِ المَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ»(1)، إلى غير ذلك.

وقد يطلق الوحي على الإلقاء في القلب مثل: «إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى»(2)، ومثل قوله سبحانه: «وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ»(3) وهكذا، فإن الملائكة كانت وتكون تحدّث الأولياء (عليهم السلام) فكيف بمثل الصديقة الطاهرة فاطمة (عليها السلام)، وقد قال سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلَائِكَةُ»(4) إلى غير ذلك مما في الآيات والروايات.

أما الوحي بمعنى ما يوحى إلى الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) بما هم أنبياء، أو

ص: 234


1- سورة آل عمران: 42.
2- سورة طه: 38.
3- سورة النحل: 68.
4- سورة فصلت: 30.

بعنوان النبوة، فإنه مختص بهم (عليهم السلام).

فضائل الصديقة وأنها محدثة

مسألة: يستحب بيان أن الصديقة فاطمة(صلوات الله عليها) كانت مرتبطة بعالم الغيب، وأنها محدَّثة تحدثها الملائكة.

فكما أن الملائكة كانت تحدّث مريم (عليها السلام) كذلك الصديقة فاطمة (عليها السلام).

قال سبحانه: «وَإِذْ قَالَتِ المَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ»(1).

ثم إن بيان فضائلها (عليها السلام) ومنها كونها محدثة، له جانب موضوعي وجانب طريقي.

أما الموضوعي: فإنه بنفسه عبادة، لظهور بعض روايات فضائلهم في ذلك.

وأما الطريقي: فإنه يوجب تعلّق الناس بعالم الغيب وارتباطهم به أكثر، كما يوجب شدة التفاف الناس حولها (عليها السلام) واستفادتهم من كلماتها، واتخاذها أسوة فيما ينفع الدين والدنيا.

ص: 235


1- سورة آل عمران: 42- 43.

عدة مسائل

* مسألة: يستحب كتابة ما يعلم به الإنسان عبر الطرق المعتبرة شرعاً من الأمور المستقبلية، حتى وإن كانت الاستفادة محدودة جداً أو لأفراد قلائل.

* مسألة: يستحب كتابة ما يمليه العظيم، من معصوم (عليه السلام) أو عالم أو خبير أو ما أشبه. وربما يكون منه ما تعارف اليوم من كتابة التقريرات، والكتابة تنفع في تثبيت العلوم في الذهن، وفي الإيحاء للنفس، كما تنفع الآخرين عند نشرها، وقد ورد: «زكاة العلم نشره»(1).

* مسألة: يستحب أن يهتم الزوج بما تقوله زوجته إذا كان في ذلك الفائدة، واستفادة ذلك من الرواية مبني على تعدد المطلوب في مثل استجابته لها (صلوات الله عليهما) واهتمامه بما ذكرته، كما لعله لا يبعد، دون ما لو استفيدت الحيثية التقييدية، وأن مقامها وخصوصياتها (عليها السلام) هي تمام العلة للاهتمام.* مسألة: يستحب أن تستجيب الزوجة لما يطلبه الزوج، ضمن الموازين الشرعية، حيث قال (عليه السلام): فإذا سمعتيه فأمليه عليّ، ففعلت، نعم لا تجب الاستجابة في غير حقيه المعروفين(2).

وأما مثل قوله (عليه السلام): «فأمليه» فهل يدل على الوجوب وأنه مولوي؟ لا يبعد كونه طلباً إرشادياً، مع ملاحظة مقامها وأنها كفوه (عليهما السلام).

ص: 236


1- مستدرك الوسائل: ج7 ص46 ب16 من أبواب ما تجب فيه الزكاة ح6.
2- أي حق الاستفراش وحق الخروج من المنزل.

* مسألة: ينبغي رعاية حق الغير العقلي والشرعي والعرفي وما أشبه، فإن الإمام (صلوات الله عليه) مع أنه هو الذي كتب الكتاب لكن سمّاه باسم مصحف فاطمة (عليها السلام) حيث أخذه منها، وقد ذكرنا في (الفقه) أن الحق عرفي وما عدّ حقاً حرم انتهاكه.

* مسألة: يستحب بيان علة الشيء وحكمته، فإن الإمام (عليه السلام) بين وجه التسمية بقوله: لأنها كانت محدثة.

* مسألة: يستحب بيان بعض تفاصيل الشيء إذا كان في ذكره الفائدة، حيث ذكر الإمام (عليه السلام) شيئاً عن مصحف فاطمة (عليها السلام) وأنه بقدر القرآن ثلاث مرات وأنه ليس فيه شيء منه.* مسألة: يجب كتمان الأسرار عن غير أهلها، ويجب أو يستحب إيداعها عند أهلها؛ ولذا لم تقل (عليها السلام) ذلك لغيره، ولم يشهده (عليه السلام) للكل بل كتمه وأخفاه إلا عند أبنائه المعصومين (عليهم السلام) يتوارثونه.

ص: 237

حين خطبها أمير المؤمنين (علیهما السلام)

اشارة

روي أن الصديقة فاطمة (عليها السلام) قالت: «رضيتُ بالله رباً، وبك يا أبتاه نبياً، وبابن عمي علي بعلاً وولياً»(1).

-------------------------------------------

رضا البنت بالزوج

مسألة: يستحب رضى البنت بالخاطب إذا كان رضياً، وأن لا تتعلل لرد هذا أو ذاك، بما تعارف التعلل به رغم كون الخاطب ممن يُرضى دينه وخلقه.

وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه «إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ»(2)»(3).

وإنما يستفاد الاستحباب لأن قولهم وفعلهم وتقريرهم (عليهم السلام) كلها حجة، وفاطمة الزهراء (عليها الصلاة والسلام) صديقة مصدقة كسائر الصديقين (صلوات الله عليهم أجمعين).

هذا بالإضافة إلى الأدلة العامة التي تدل على استحباب إجابة الداعي، خصوصاً إذا كان الداعي معصوماً، ومثلعلي (عليه الصلاة والسلام)، واستفادة

ص: 238


1- بحار الأنوار: ج43 ص151 ب6 ذيل ح6.
2- سورة الأنفال: 73.
3- الكافي: ج5 ص347 باب آخر منه ح2.

الأعم من الأخص موقوفة على تعدد المطلوب في مثل ذلك كما سبق.

ذكر الله والنبي والآل

مسألة: يستحب التأكيد في المناسبات المختلفة، وفي المناسبات الخاصة والعامة على الانقياد لله تعالى ولرسوله (صلى الله عليه وآله) وللأئمة الطاهرين (عليهم السلام).

فإن قول الصديقة (عليها الصلاة والسلام): «رضيتُ بالله رباً، وبك يا أبتاه نبياً»، يدل على ذلك ولو بدلالة الاقتضاء بالمعنى الأعم، إذ قد يطلق الاقتضاء على ما هو اصطلاح أصولي وهو ما يتوقف صدق الكلام أو صحته عليه، وقد يطلق بالمعنى اللغوي، أي إذا ألقي إلى العرف يفهمه.

وبعبارة أخرى: بتنقيح المناط العرفي يفهم الاستحباب مطلقاً.

ولا يخفى أن التأكيد المذكور مما يشمله عموم الآيات والروايات مثل قوله سبحانه: «اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا»(1).

وقوله تعالى: «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ»(2).إلى غير ذلك.

ص: 239


1- سورة الأحزاب: 41.
2- سورة البقرة: 152.

الاعتقاد والرضا بالتوحيد

مسألة: يجب الاعتقاد والرضا بربوبية الله تعالى، وقد دلت الأدلة العقلية والنقلية على وجوب ذلك.

أما الاعتقاد بالربوبية فلا إشكال فيه، فغير المعتقد ليس بمسلم وإن تلفظ بلفظ الشهادة.

وأما الرضا فمطلوب للانسياق الكوني، على ما تقدمت الإشارة إليه، وفي الأحاديث: «رضي بالله رباً».

والرضا القلبي اختياري باختيارية مقدماته، قال تعالى: «وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آَتَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ»(1).

وقال سبحانه: «رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الخَوَالِفِ»(2).

وقال تعالى: «أَرَضِيتُمْ بِالحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ»(3).

وقال سبحانه: «وَيَرْضَيْنَ بِمَا آَتَيْتَهُنَّ»(4).

فلا يقال: كيف يتعلق الحكم التكليفي (الأعم من اللاقتضائي واللاقتضائي) بغير المقدور.وتفصيل الكلام في علم الكلام.

ص: 240


1- سورة التوبة: 59.
2- سورة التوبة: 87.
3- سورة التوبة: 38.
4- سورة الأحزاب: 51.

الاعتقاد والرضا بالرسالة

مسألة: يجب الاعتقاد والرضا بنبوة الرسول الأعظم محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله)، وقد تقدم وجه وجوب الاعتقاد والرضا.

وفي الأحاديث(1) بعد (رضيت بالله رباً): «وبمحمد نبياً».

ولا يخفى أن للرضا القلبي بنبوته (صلى الله عليه وآله) وكذا إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) وسائر المعتقدات الحقة، تأثيراً تكوينياً على الجسم والنفس والروح والعقل، بل وعلى الطبيعة أيضاً.

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، في قول الله عز وجل: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا»(2) الآية، قال: «إن رهطاً من اليهود أسلموا، منهم : عبد الله بن سلام وأسد وثعلبة وابن يامين وابن صوريا، فأتوا النبي (صلى الله عليه وآله) فقالوا : يا نبي الله ، إن موسى (عليه السلام) أوصى إلى يوشع بن نون، فمن وصيك يا رسول الله، ومن ولينا بعدك؟ فنزلت هذه الآية: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْرَاكِعُونَ»(3)، ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): قوموا. فقاموا فأتوا المسجد، فإذا سائل خارج، فقال: يا سائل، أما أعطاك أحد شيئاً؟ قال: نعم، هذا الخاتم. قال: من أعطاك؟ قال: أعطانيه ذلك الرجل الذي يصلي. قال: على أي حال أعطاك؟

ص: 241


1- أمالي الشيخ الصدوق: ص186 المجلس26 ح4.
2- سورة المائدة: 55.
3- سورة المائدة: 55.

قال: كان راكعاً. فكبر النبي (صلى الله عليه وآله) وكبر أهل المسجد ، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): علي بن أبي طالب وليكم بعدي، قالوا: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، وبعلي بن أبي طالب ولياً. فأنزل الله عز وجل: «وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ»(1)». فروي عن عمر بن الخطاب أنه قال: والله لقد تصدقت بأربعين خاتماً وأنا راكع، لينزل فيّ ما نزل في علي بن أبي طالب (عليه السلام) فما نزل.

الاعتقاد والرضا بالولاية

مسألة: يجب الاعتقاد والرضا بولاية علي أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقد تقدم دليل ذلك فيما سبق، وفي الأحاديث: «وبعلي إماماً».

كما يجب الاعتقاد بولاية سائرالأئمة المعصومين (عليهم الصلاة والسلام).

وقد تقدم في بعض المباحث السابقة وجوب الاعتقاد بعصمة الزهراء (عليها الصلاة والسلام) والرضا بأنها ولي الله وحجة الله، فإن نورهم واحد، ولها الولاية أيضاً، بل هي حجة الله على الحجج.

وقد سبق أن الرضا وإن كان قلبياً إلا أنه اختياري، ولا تنافيه أخبار الطينة؛ لأنها مقتضية، ولا تبلغ حد الإلجاء، بل ربما كانت الطينة لسبق عصيانه أو تباطؤه في عوالم سابقة.

ص: 242


1- سورة المائدة: 56.

التلفظ بالمعتقدات الحقة

مسألة: يستحب التلفظ بهذه الكلمات المباركة مطلقاً، وعند الخطوبة، على ما يستفاد من قول الصديقة فاطمة (عليها السلام) في خطبتها، وفي ذلك الخير والبركة واللطف الإلهي.

ومن ذلك يعرف أن ما تعارف عند الكثير من العوائل المتدينة من قراءة حديث الكساء أو غيره في مجلس العقد أو الزواج في محله، إذ تشمله الإطلاقات.

كما أن كلامها (صلوات الله عليها) ههنا قد يصلح مستنداً لذلك أيضاً، استناداً إلى دلالته عرفاً على عدم الخصوصية ومطلوبية الجامع.

الشهادة الثالثة

مسألة: يستحب أو يلزم أن يقرن الإنسان الشهادتين بالشهادة الثالثة مطلقاً(1)،ومنه في ابتداء الحديث، أو الخبر، أو التدريس أو الخطبة أو ما أشبه.

ص: 243


1- روى القاسم بن معاوية قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: هؤلاء يروون حديثا في معراجهم أنه لما أسري برسول الله رأى على العرش مكتوبا لا إله إلا الله، محمد رسول الله أبو بكر الصديق، فقال: «سبحان الله غيروا كل شيء حتى هذا " قلت: نعم. قال: «إن الله عز وجل لما خلق العرش كتب عليه لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي أمير المؤمنين، ولما خلق الله عز وجل الماء كتب في مجراه: لا إله إلا الله محمد رسول الله، علي أمير المؤمنين، ولما خلق الله عز وجل الكرسي كتب على قوائمه: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي أمير المؤمنين، ولما خلق الله عز وجل اللوح كتب فيه: لا إله إلا الله محمد رسول الله، علي أمير المؤمنين، ولما خلق الله إسرافيل كتب على جبهته: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي أمير المؤمنين ولما خلق الله جبرئيل كتب على جناحيه: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي أمير المؤمنين، ولما خلق الله عز وجل السماوات كتب في أكتافها: لا إله إلا الله محمد رسول الله، علي أمير المؤمنين، ولما خلق الله عز وجل الأرضين كتب في أطباقها: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي أمير المؤمنين، ولما خلق الله عز وجل الجبال كتب في رؤوسها: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي أمير المؤمنين، ولما خلق الله عز وجل الشمس كتب عليها: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي أمير المؤمنين ولما خلق الله عز وجل القمر كتب عليه: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي أمير المؤمنين، وهو السواد الذي ترونه في القمر فإذا قال أحدكم لا إله إلا الله، محمد رسول الله فليقل علي أمير المؤمنين عليه السلام». الاحتجاج: ج1 ص230231.

كما أن منه في الأذان والإقامة، حيث بينا أن الشهادة الثالثة جزء منهما، وتفصيله في (الفقه)، وقد ذكر العديدمن الفقهاء أن الشهادة الثالثة جزء من الأذان(1).

ص: 244


1- مرّت الإشارة إلى هذا البحث سابقاً فراجع.

ليلة العرس ومتاع الجنة

اشارة

في حديث: قالت النساء: من أين لك هذا يا فاطمة؟

فقالت: «من أبي»، فقلن: من أين لأبيك؟

قالت: «من جبرئيل»، فقلن: من أين لجبرئيل؟

قالت: «من الجنة»، الخبر(1).

-------------------------------------------

متاع الزواج

مسألة: يستحب إهداء الأب متاع الزواج لابنته، كما أهدى رسول الله (صلى الله عليه وآله) لابنته الصديقة (عليها السلام) ذلك، على ما يستفاد من هذا

ص: 245


1- وتمام الحديث ما نقله الشيخ الأميني (رحمه الله) في الغدير: ج2 ص319 قال: وفي نزهة المجالس ج2 ص226 عن العقائق: إن فاطمة (عليها السلام) بكت ليلة عرسها، فسألها النبي (صلى الله عليه وآله) عن ذلك، فقالت له: «تعلم أني لا أحب الدنيا ولكن نظرت إلى فقري في هذه الليلة أن يقول لي علي: بأي شيء جئت؟!» فقال النبي (صلى الله عليه وآله): «لك الأمان فإن علياً لم يزل راضياً مرضياً». ثم بعد ذلك تزوجت امرأة من اليهود وكانت كثيرة المال فدعت النساء إلى عرسها، فلبسن أفخر ثيابهن، ثم قلن: نريد أن ننظر إلى بنت محمد وفقرها، فدعونها، فنزل جبريل بحلة من الجنة، فلما لبستها واتزرت وجلست بينهن رفعت الإزار فلمعت الأنوار، فقالت النساء: من أين لك هذا يا فاطمة؟! فقالت: «من أبي». فقلن: من أين لأبيك؟، قالت: «من جبريل». قلن: من أين لجبريل، قالت: «من الجنة». فقلن: نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فمن أسلم زوجها استمرت معه وإلا تزوجت غيره.

الحديث الشريف.

مضافاً إلى الأدلة العامة الدالة على صلة الرحم، وعطف الوالد على أولاده، وما أشبه، بالإضافة إلى روايات الهدية ونحوها، هذا في غير ما عدّ من نفقتها، وإلاّ وجب.

مصدر الأمتعة

مسألة: يجوز السؤال عن مصدر أمتعة الزواج، كما هو متعارف بين بعض الأسر، بل الجواز في مطلق الأمتعة، بل الأعم منها، إلاّ ما خرج بالدليل، كما فيما لو سبّب الإيذاء، فإن إيذاء المؤمن محرم.

والجواز مستفاد من هذا الحديث، لا أكثر من الجواز، نعم قد يستفاد الرجحان من مناسبات الحكم والموضوع، أو من انطباق عنوان راجح كما في المقام، إذا أريد منه إظهار فضلها (عليها السلام) وكرامتها لدى الله تعالى.

نعم قد لا يجوز السؤال، أو يكونمكروهاً، كما قال سبحانه: «لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ»(1).

كما أنه قد يجب السؤال بالنسبة إلى الأحكام الشرعية المبتلى بها أو نحو ذلك، قال سبحانه: «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ»(2).

ص: 246


1- سورة المائدة: 101.
2- سورة النحل: 43.

متاع من الجنة

مسألة: يستحب بيان أن متاعها (سلام الله عليها) ليلة عرسها كان من الجنة.

فإن بيان ذلك يوجب شدة الالتفاف حولها، مما يوجب سعادة الإنسان الملتف ديناً ودنياً وآخرةً.

ولا يخفى أن المراد بمتاعها بعض المتاع، لا كل المتاع، وإلاّ فقد ورد أن النبي (صلى الله عليه وآله) أمر بشراء المتاع لها، فبعض المتاع كان من الجنة، وبعضها قد اشتري(1).

ص: 247


1- قال السيد المؤلف (قدس سره) في كتاب (من حياة فاطمة الزهراء عليها السلام) تحت عنوان (الجهاز البسيط): كان جهاز الصديقة فاطمة (عليها السلام) من ثياب وأثاث بيت وما أشبه، جهازاً بسيطاً عادياً جداً، جُلّ ذلك من الخزف، أما ما تعارف اليوم من ضرورة إعداد جهاز فخم فهو مما سبّب تأخير الزواج وبقاء الشباب والفتيات في العزوبة. قال علي (عليه السلام): ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «قم فبع الدرع، فقمتُ فبعته وأخذت الثمن ودخلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فسكبت الدراهم في حجره، فلم يسألني كم هي ولا أنا أخبرته، ثم قبض قبضة ودعا بلالاً فأعطاه فقال: ابتع لفاطمة (عليها السلام) طيباً، ثم قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) من الدراهم بكلتا يديه فكانت ثلاثة وستين أو ستة وستين، فأعطاها أم أيمن وبعض الأصحاب لابتياع متاع البيت، فكان مما اشتروه قميص بسبعة دراهم، وخمار بأربعة دراهم، وقطيفة سوداء خيبرية، وسرير مزمل بشريط، وفراشين من خيش مصر، حشو أحدهما ليف، وحشو الآخر من جز الغنم، وأربع مرافق من أدم الطائف حشوها إذخر، وستر من صوف، وحصير هجري، ورحى لليد، ومخضب من نحاس، وسقاء من أدم، وقعب للبن، وشن للماء، ومطهرة مزفتة، وجرة خضراء، وكيزان خزف، فلما عرض المتاع على رسول الله (صلى الله عليه وآله) جعل يقلّبه بيده ويقول: بارك الله لأهل البيت». وفي رواية: «أنه لما وضع بين يديه (صلى الله عليه وآله) بكى ثم رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم بارك لقوم جل آنيتهم الخزف».

ولعلّ من أسرار كون متاعها (عليها السلام) من الجنة: تعويضاً عن فقدها أمها خديجة الكبرى (صلوات الله عليها)، وإظهار فضلها ومقامها لدى الله تعالى، للموافق كي يزداد إيماناً، وللمخالف لتكون الحجة عليه أتم، ولتأكيد كون أصل زواجها بعلي (عليهما السلام) بأمر الله تعالى، إضافة إلى ما لمتاع الجنة من الآثار التكوينية الوضعية.

ص: 248

نزول المائدة من السماء

اشارة

وفي الحديث(1): ثم وثبت فاطمة بنت محمد (عليها السلام) حتى دخلت إلى مخدع لها، فصفّت قدميها فصلّت ركعتين، ثم رفعت باطن كفيها إلى السماء وقالت: «إلهي وسيدي، هذا محمد نبيك، وهذا علي ابن عم نبيك، وهذان الحسن والحسين سبطا نبيك، إلهي أنزل علينا مائدة من السماء كما أنزلتها على بني إسرائيل(2)، أكلوا منها وكفروا بها(3)، اللهم أنزلها علينا فإنا بها مؤمنون».

ص: 249


1- وهو حديث طويل نقله العلامة المجلسي في بحاره ج43 ص6974 ب3 ح61، وقريب منه رواه الشيخ فرات الكوفي في تفسيره ص525526 ح676.
2- إشارة إلى قوله تعالى: «إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ * قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ * قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ» سورة المائدة: 112115.
3- جاء في تفسير الإمام العسكري عليه السلام ص565: «قال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله: يا عباد الله ان قوم عيسى لما سألوا عيسى أن ينزل عليهم مائدة من السماء قال الله وتعالى: «اني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فاني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين» فأنزلها عليهم، فمن كفر بعد منهم مسخه الله اما خنزيرا، واما قردا واما دبا وأما هرا، واما على صورة بعض من الطيور والدواب التي في البر والبحر حتى مسخوا على أربعمائة نوع من المسخ».

قال ابن عباس: والله ما استتمت الدعوة فإذا هي بصحفة من ورائها يفور قتارها(1)، وإذا قتارها أزكى من المسك الأذفر(2)،

فاحتضنتها، ثم أتت بها إلى النبي (صلى الله عليه وآله) وعلي والحسن والحسين (عليهم السلام).

فلما أن نظر إليها علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال لها: يا فاطمة، من أين لك هذا؟ ولم يكن عهد عندها شيئاً.

فقال له النبي (صلى الله عليه وآله): كُل يا أبا الحسن ولا تسأل، الحمد لله الذي لم يمتني حتى رزقني ولداً، مثلها مثل مريم بنت عمران، «كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ»(3).

قال: فأكل النبي (صلى الله عليه وآله) وعلي والحسن والحسين (عليهم السلام) ..

-------------------------------------------

الدعاء لطلب الرزق

مسألة: يستحب طلب الرزق من الله عز وجل.

فإن مطلق الطلب من الله سبحانه وتعالى مستحب، وفي الآية الكريمة: «وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ»(4)، وهذا الطلب مطلوب طريقياً كما هو مطلوب موضوعياً.

ص: 250


1- القتار: ريح الشواء. الصحاح للجوهري: ج2 ص785 مادة(قتر).
2- الذفر بالتحريك: كل ريح ذكية من طيب أو نتن، يقال: مسك أذفر بين الذفر. الصحاح للجوهري: ج2 ص663 مادة (ذفر).
3- سورة آل عمران: 37.
4- سورة النساء: 32.

والمراد بالرزق: الأعم مما يؤكل أو يشرب أو يلبس أو الزوجة أو الجاه أو المال أو المنصب أو غير ذلك، فإنها كلها من رزق الله عز وجل على العباد.

ولا فرق في حسن طلب الرزق بين الصغير والكبير، والخطير والحقير في عرف الناس، فقد ورد أن الله تعالى أوصى موسى (عليه السلام) أن يطلب منه جميع حاجاته حتى علف شاته، وملح عجينه(1).

وفي الروايات طلب الحوائج حتى شسع النعل لو انقطع(2).

اتخاذ المخدع

مسألة: يستحب اتخاذ (المخدع)(3) في البيت للزوجين تأسياً بها (صلوات الله عليها)، ولأنه أستر وأقوى في إيجاد الطمأنينية والاستقرار وتوفير الراحة وأدعى للألفة.

ص: 251


1- انظر جامع أحاديث الشيعة: ج15 ص200 ب2 من أبواب الدعاء ح10 عن عدة الداعي: ففي الحديث القدسي: «يا موسى سلني كلما تحتاج إليه حتى علف شاتك وملح عجينك».
2- انظر جامع أحاديث الشيعة: ج15 ص200 ب2 من أبواب الدعاء ح11: وقال النبي (صلى الله عليه وآله): «سلوا الله عز وجل ما بدا لكم من حوائجكم حتى شسع النعل فإنه إن لم ييسره لم يتيسر»، وقال: «ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع».
3- المخدع: بيت صغير داخل بيت كبير (مخدع النوم) قسم أجوف من غرفة يوضع فيه سرير. وفي تاج العروس: ج11 ص87: (والمخدع كمنبر ومحكم: الخزانة،.. والمراد بالخزانة البيت الصغير يكون داخل البيت الكبير.. وأصل المخدع من الإخداع، وهو الإخفاء).

النظام والإتقان

مسألة: يستحب النظام والإتقان في كل شيء، وقد يجب، سواء في الشؤون الدنيوية أم الآخروية.

وهذا ما يستفاد من الكثير من النصوص بالمطابقة أو الالتزام أو بذكرها المصداق، ومنه فعلها (صلوات الله عليها) ههنا حيث (صفّت قدميها) حيث يستفاد منه استحباب ذلك في الصلاة.

ثم الصف أعم من صف الأبدان ومن صف الأرواح أو القلوب أو غيرها، قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ»(1).

بل عالم الملأ الأعلى كذلك، قال تعالى: «وَالصَّافَّاتِ صَفًّا»(2).

وفي تفسير الصافي عن القمي (رحمه الله)(3) قال: الملائكة والأنبياء ومن صف لله وعبده(4).

ص: 252


1- سورة الصف: 4.
2- سورة الصافات: 1.
3- تفسير القمي: ج2 ص218.
4- التفسير الصافي: ج4 ص264.

المسارعة والمبادرة

مسألة: تستحب المسارعة في طلب الحاجة من الله تعالى، كما يستفاد ذلك من فعلها (صلوات الله عليها) إذ (وثبت).

مسألة: تستحب المبادرة إلى توفير مقدمات الضيافة، سواء كانت مقدمات مادية أو غيبية، كما بادرت (عليها السلام) إذ (وثبت).

منزلة أهل البيت

مسألة: يستحب، وقد يجب إظهار منزلة أهل البيت (عليهم السلام) للآخرين، كما أظهرت (عليها السلام) منزلتهم بتوسلها بهم لنجح الطلبة والحاجة، بل كما أظهرت منزلتهم بهذه الكرامة (أي بطلب تعلم أن الله لا يردها فيه فيظهر بذلك فضلها وفضل أبيها وبعلها وبنيها عليهم السلام)، وكما أظهر النبي (صلى الله عليه وآله) فضلهم بقوله: «الحمد لله الذي لم يمتني حتى رزقني ولداً .. ».

فإن إظهار منزلتهم (عليهم الصلاة والسلام) يوجب التفاف الناس حولهم، ومن المعلوم أن التفاف الأمة حول القيادة الصحيحة الإلهية يوجب خير الدنيا والآخرة.وقد ورد في حديث الأركان الخمسة: «ولم يُنادَ بشيء كما نودي بالولاية»(1).

وكل ما نراه من الانحراف في الدنيا أو العذاب الموعود به في الآخرة، فإنما

ص: 253


1- الكافي: ج2 ص18 باب دعائم الإسلام ح1 وح3.

هو بسبب عدم الالتفاف حولهم (عليهم السلام) وعدم الانقياد للولاية الشرعية التي جعلها الله سبحانه وتعالى للمعصومين (صلوات الله عليهم).

قال سبحانه: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ»(1).

وقال تعالى: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ»(2).

محورية الرسول

مسألة: يلزم أن يجعل الرسول (صلى الله عليه وآله) المحور في كل الأمور، في التشريع والدعاء والأخبار وغير ذلك حسب اقتضاء المقام.

ومن ذلك: المحورية في التعبير فيبدأ الكلام به(3)، وإرجاع غيره إليه،كما صنعت (صلوات الله عليها) حيث ابتدأت به (صلى الله عليه وآله) ثم أرجعت غيره إليه: «هذا محمد نبيك، وهذا علي ابن عم نبيك، وهذا الحسن والحسين سبطا نبيك».

ص: 254


1- سورة الأعراف: 96.
2- سورة المائدة: 55.
3- قال القاضي عياض وهو من علماء العامة في كتابه (الشفا بتعريف حقوق المصطفى): ج2 ص68: ومن مواطن الصلاة التي مضى عليها عمل الأمة ولم تنكرها: الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله) في الرسائل وما يكتب بعد البسملة، ولم يكن هذا في الصدر الأول، وأحدث عند ولاية بنى هاشم فمضى به عمل الناس في أقطار الأرض ومنهم من يختم به أيضا الكتب، وقال (صلى الله عليه وآله): «من صلى عليّ في كتاب لم تزل الملائكة تستغفر له ما دام اسمى في ذلك الكتاب» انتهى.

من مستثنيات الغيبة

مسألة: من مستثنيات الغيبة قوم عاقبهم الله تعالى أو كفروا بنعمة من نعمه، فيذكر ذلك للتنبيه والاعتبار، وقد قالت الصديقة (عليها السلام): «أكلوا منها وكفروا بها».

وقد تكرر في القرآن الكريم ذكر أمثال ذلك بالنسبة للأقوام والملل الطاغية أو العاصية المتجبّرة.

الولد والذرية

مسألة: (الولد) وكذا (الذرية) يطلق كل منهما على الابن والبنت، كما قال (صلى الله عليه وآله) هنا: «الحمد لله الذي لم يمتني حتى أرزقني ولداً».

وكما في الآية الشريفة: «وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ»(1).

وعلى هذا فكل حكم شرعي كان موضوعه الولد فإنه شامل لهما معاً، إلا ما خرج بالدليل، كقوله تعالى: «يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ»(2).

ص: 255


1- سورة الأنعام: 84 - 85.
2- سورة النساء: 11.

استفهام العارف

مسألة: يرجح استفهام العارف إذا كان لغرض عقلائي، ومنه التحبيب والتحبب، ومنه إظهار الإجابة للآخرين، إلى غير ذلك.

السؤال من الزوجة

مسألة: ينبغي السؤال من الزوجة عما أتت به إذا لم يعهده الزوج في بيته من قبل، في غير ما كان على الأصول والقواعد، كلما كان في دائرة الإتقان(1)، ويكفي إذا كان في دائرة الوقاية(2).

نعم كان سؤال الإمام (عليه السلام) للتعليم وبيان فضل الصديقة فاطمة (عليها السلام).

ثم إن السؤال من الزوجة هو مقتضىالإتقان في العمل(3)، وهو مقتضى قوّامية الرجل على زوجته، حيث لابد من مدير للأسرة، وحيث اللازم - في غير المعصوم والمعصومة (عليهما السلام) - إلتفاته إلى مداخلها ومخارجها وسائر أفعالها حتى لا تنحرف أو تشط أو تتخبط، كل ذلك في إطار «وَعَاشِرُوهُنَّ بِالمَعْرُوفِ»(4) ، وكلما كان مصداقاً للإتقان أو الوقاية، لا الوسوسة وسوء

ص: 256


1- إشارة إلى قوله (صلى الله عليه وآله): «رحم الله امرءً عمل عملاً فاتقنه».
2- إشارة إلى قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ»سورة التحريم: 6.
3- وفي إدارة العائلة كمؤسسة صغيرة.
4- سورة النساء: 19.

الظن.

وأهل البيت أسوة فيما يرتبط بمسائل الأسرة وإن لم يحتمل في حقهم أدنى خطأ أو زلل لأنهم طاهرون مطهرون معصومون.

وأما قول النبي (صلى الله عليه وآله) فقد يكون لأن علياً (عليه الصلاة والسلام) كان يعلم ذلك، فإنهم (عليهم السلام) يعلمون ما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة(1).وبعبارة أخرى: الظاهر أن قوله (صلى الله عليه وآله): «كل يا أبا الحسن ولا تسأل» من باب النهي الإرشادي التحبيبي، ومثله في العرف غير قليل.

الصلاة قبل الداء

مسألة: يستحب الصلاة ركعتين قبل الدعاء، ويدل عليه مضافاً إلى ما ورد في هذا الحديث، بعض الروايات الأخر المذكورة في باب الدعاء.

عن أبي كهمس، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «دخل رجل المسجد فابتدأ قبل الثناء على الله والصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله)، فقال : النبي (صلى الله عليه وآله): عجل العبد ربه ، ثم دخل آخر فصلى وأثنى على الله عزوجل، وصلى على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فقال رسول الله (صلى الله عليه

ص: 257


1- روى الشيخ الجليل الثقة محمد بن الحسن الصفار وغيره جملة من الأحاديث في هذا الباب، ومن ذلك ما رواه الصفار في بصائره: ج3 ص147- 148 ب6 باب في علم الأئمة بما في السماوات والأرض والجنة والنار وما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة، وفي هذا الباب روى ستة أحاديث، وفي ص149 -150 ب7 باب في الأئمة (عليهم السلام) أنهم أُعطوا علم ما مضى وما بقي إلى يوم القيامة، وفيه أربعة أحاديث فراجع.

وآله): سل تعطه، ثم قال: إن في كتاب علي (عليه السلام): إن الثناء على الله والصلاة على رسوله قبل المسألة، وإن أحدكم ليأتي الرجل يطلب الحاجة فيحب أن يقول له خيراً قبل أن يسأله حاجته»(1).

من آداب الدعاء

مسألة: يستحب رفع باطن الكفين إلى السماء حين الدعاء، وذلك للتأسي بها (صلوات الله عليها) ولغير ذلك.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «إذا فرغ أحدكم من الصلاة ، فليرفع يديه إلى السماء ، ولينصب في الدعاء»، فقال عبد الله بن سبأ: يا أمير المؤمنين، أليس الله في كل مكان؟ قال: «بلى»، قال: فلم يرفع العبد يديه إلى السماء؟ قال: «أما تقرأ: «وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ»(2)، فمن أين يطلب الرزق إلاّ من موضعه؟ وموضع الرزق وما وعد الله عز وجل السماء»(3).

هذا بالإضافة إلى أنه نوع احترام.

ثم إن هذا الاستحباب قد لا يكون مطلقاً في الدعاء، بل أحياناً يستحب تقليب اليدين عند الدعاء، وأحياناً جعل ظهرهما إلى السماء، ولا تزاحم بين المستحبات.

عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال:

ص: 258


1- الكافي: ج2 ص485 - 486 باب الثناء قبل الدعاء ح7.
2- سورة الذاريات: 22.
3- مستدرك الوسائل: ج5 ص184 - 185 ب11 ح1.

«ذكر الرغبة: وأبرز باطن راحتيه إلى السماء.وهكذا الرهبة: وجعل ظهر كفيه إلى السماء.

وهكذا التضرع: وحرك أصابعه يميناً وشمالاً.

وهكذا التبتل:

ويرفع أصابعه مرة ويضعها مرة.

وهكذا الابتهال: ومد يده تلقاء وجهه إلى القبلة، ولا تبتهل حتى تجري الدمعة»(1).

وعن علي بن جعفر ، عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السلام)، قال: «التبتل أن تقلب كفيك في الدعاء إذا دعوت، والابتهال أن تبسطهما وتقدمهما، والرغبة أن تستقل براحتيك السماء وتستقبل بهما وجهك، والرهبة أن تكفئ كفيك فترفعهما إلى الوجه، والتضرع أن تحرك إصبعيك وتشير بهما».

وفي حديث آخر: «إن البصبصة أن ترفع سبابتيك إلى السماء وتحركهما وتدعو»(2).

الشفعاء عند الله

مسألة: يستحب ذكر أسماء أهل البيت (عليهم السلام) قبل الدعاء، وأن يجعلهم شفعاء عند الله تعالى، كما قالت الصديقة (عليها السلام): «هذا محمد.. وهذا علي.. وهذان الحسن والحسين».

ص: 259


1- وسائل الشيعة: ج7 ص49 ب13 من أبواب الدعاء ح4.
2- معاني الأخبار: ص370 باب معنى الرغبة والرهبة والتبتل والابتهال والتضرع والبصبصة في الدعاء ح2.

قال تعالى: «وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ»(1).

والظاهر استحباب ذلك عند أية حاجة حتى إذا طلبت من سائر الناس.

وقد ورد في متواتر الأحاديث(2) استحباب ذكرهم (عليهم الصلاة والسلام) وجعلهم شفعاء، فإن الخيرات تنزل من الله سبحانه وتعالى إلى الإنسان بواسطتهم، كما دل على ذلك العقل والنقل.

قال سبحانه: «وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آَتَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِرَاغِبُونَ»(3).

وكذلك في بعض الآيات الأخر كقوله تعالى: «وَمَا نَقَمُوا إِلاّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ»(4).

ولعل المستفاد من مناط هذه الرواية وغيرها استحباب إلحاق ذكر أسمائهم (عليهم السلام) فيما لو نسي الابتداء بها، بل الإطلاقات تشمله.

روي عن سلمان الفارسي قال : سمعت محمدا (صلى الله عليه وآله) يقول:

ص: 260


1- سورة المائدة: 35.
2- فمن تلك الروايات التي ذكر بعضها الحر العاملي (رحمه الله) في وسائل الشيعة: ج7 ص97 - 103 الباب37 من أبواب الدعاء، حيث روى ثلاثة عشر حديثاً، ثم قال: أقول: والأحاديث في ذلك كثيرة جداً من طريق العامة والخاصة أو في الأدعية المأثورة دلالة على ذلك لأنها مليئة بالتوسل بهم (عليهم السلام). وكذلك روى الميرزا النوري (رحمه الله) في مستدرك الوسائل: ج5 الباب35 من أبواب الدعاء ص228 - 239 خمسة عشر حديثاً.
3- سورة التوبة: 59.
4- سورة التوبة: 74.

«إن الله عز وجل يقول: يا عبادي، أوليس من له إليكم حوائج كبار لا تجودون بها إلا أن يتحمل عليكم بأحب الخلق إليكم تقضونها كرامة لشفيعهم؟ ألا فاعلموا أن أكرم الخلق علي وأفضلهم لدي محمد وأخوه علي ومن بعده الأئمة الذين هم الوسائل إلى الله، فليدعني من همته حاجة يريد نفعها، أو دهمته داهية يريد كشف ضرها بمحمد وآله الطيبين الطاهرين، أقضها له أحسن ما يقضيها من (تستشفعون له) بأعز الخلق إليه»(1).

مثيلات النعم

مسألة: يستحب في الدعاء أن يُذكر نعم الله تعالى، وأنه قد أنعم بمثل ما يدعو به على بعض العباد، كما قالت (عليها السلام): «كما أنزلتها على بني إسرائيل».

فإنه نوع شكر له سبحانه، فإن إنزال النعمة على أمة من الأمم كبني إسرائيل، فضل من الله تعالى على الإنسان بما هو إنسان، وذكر فضل الله سبحانه على الإنسان نوع من شكره عزوجل، بل إن الثناء على المنعم ولو على نعمه التي لم تصل لهذا العبد يعد نوعاً من شكر المنعم وشكر النعمة، والمراد جنسها لا صنفها ههنا(2).

ص: 261


1- وسائل الشيعة: ج7 ص101 ب37 من أبواب الدعاء ح8.
2- المراد بصنفها: النعمة مضافة لهذا العبد.

استجابة الدعوة

مسألة: يستحب بيان فضائل الصديقة (عليها السلام) وأنها كانت مستجابة الدعوة.

وذلك لما تقدم مكرراً من أن بيان فضائلهم (عليهم الصلاة والسلام) يوجب التفاف الناس حولهم أكثر فأكثر مما يفيد الدين والدنيا.

شكر الوالد

مسألة: يستحب للوالد أن يشكر الله تعالى ويحمده على ما أنعم به على أولاده.

وكذلك بالنسبة إلى سائر الأقرباء، كما يفهم ذلك من ملاك هذا الحديث، وهذا الشكر حيث يستدرّ عليهم رحمة الله ونعماً مشابهة أو أخرى، قد يعدّ نوعاً من صلة الرحم.

بل على البشرية كافة أن يشكروا الله على ما أنعم به على البشرية مطلقاً، سابقاً أو مقارناً أو لاحقاً بما ينعم عليهم في المستقبل، على ما ذكرناه من الملاك المتقدم وأنه نوع من الشكر.

ثم بيان أن كون الصديقة فاطمة (عليها السلام) مثل مريم (عليها السلام) يوجب التفاف الإنسان حولها (عليها الصلاة والسلام)كما يلتف حول مريم (عليها السلام) في اتباعها مما يوجب قوة العقيدة والعمل، وذلك ينفع ديناً ودنياً.

ص: 262

الكافور المنزل من السماء

اشارة

روي أن الصديقة فاطمة (عليها السلام) قالت لأسماء: «إن جبرئيل أتى النبي (صلى الله عليه وآله) لما حضرته الوفاة بكافور من الجنة، فقسّمه أثلاثاً: ثلث لنفسه، وثلث لعلي، وثلث لي، وكان أربعين درهماً»(1).

-------------------------------------------

تهيئة الكافور

مسألة: يستحب تهيئة الكافور قبل الموت، وذلك لتغسيل الميت به.

وربما يشمل الحكم السدر، واختصاص الحكم لأجل أن الكافور كان من الجنة محتمل، لكن العرف يرى الأعم.

بل ظاهر جملة من الروايات استحباب تجهيز وإعداد كل الأمور المرتبطة بالموت من الكفن وغيره، فإنه تهيؤ للموت، وهو مستحب.

وفي بعض الروايات أنهم (عليهم الصلاة والسلام) كانوا يوصون بمن يغسّلهم، وفي أين يدفنون، وما إلى ذلك، فالأسوة تقتضي الاستحباب.

ويستفاد من هذا الحديث وجودالكافور أيضاً في الجنة، ويدل - بمساعدة

ص: 263


1- مستدرك الوسائل: ج2 ص210 ب2 من أبواب الكفن ح4.

سائر القرائن والأدلة كقوله تعالى: «وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا»(1) - على أن الجنة مشتملة على كل ما اشتملت عليه الدنيا وزيادة.

وهل أن الكافور الذي أُتي به هو كافور الجنة عيناً وصورةً، أم كافور الجنة الذي ألبس الملبس الدنيوي، إذ الأشياء لها قوالب وملابس، فللإنسان مثلاً ملبس في هذه الدنيا، وملبس أو قالب آخر في القبر، وملبس في المحشر، وملبس في الآخرة في الجنة أو النار، والمراد بالملبس الصورة فقط، ولذا قال سبحانه: «فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ»(2)، وعلم ذلك عندهم (عليهم الصلاة والسلام).

نقل الحديث

مسألة: يستحب نقل هذا الحديث المشتمل على قصة كافور الجنة، كما نقلته (صلوات الله عليها) لأسماء، وفعلها (عليها السلام) حجة على ما سبق.

والحكمة في الاستحباب قد تقدمت.

رواية النساء

مسألة: يستحب للنساء أيضاً نقل الأحاديث، وتفصيله قد مرّ في الفصل الأول.

فإنه لا فرق بين الرجال والنساء في كل الأحكام إلا ما خرج بالدليل، وذلك لاشتراك الأحكام على ما ذكر في الأصول والفقه.

ص: 264


1- سورة البقرة: 25.
2- سورة الانفطار: 42.

التقسيم بالسوية

مسألة: يستحب التقسيم بالسوية في كلما لم يكن العدل على خلافه، وقد ورد في الرواية: «القاسم بالسوية»(1).

توثيق حياة المعصوم

مسألة: يستحب توثيق وتسجيل وكتابة وذكر ونشر كل تفاصيل ما يتعلق بحياة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وآله الطيبين (عليهم السلام) حتى ما قد يتوهم أنه لا فائدة فيه الآن.

فإن ذلك يؤكد محوريتهم (عليهم السلام) في شؤون الدين والدنيا، ويؤكد مرجعيتهم، وفي ذلك صلاح الدنيا والآخرة، بل إن ذكرهم بمختلف مصاديقه (عبادة).

ص: 265


1- المزار، للشيخ محمد بن المشهدي: ص255، مقطع من زيارة أمير المؤمنين (عليه السلام).

عروجها إلى السماء

اشارة

في حديث أن فاطمة (عليها السلام) قالت:

«بينا أنا بين النائمة واليقظى بعد وفاة أبي (صلى الله عليه وآله) بأيام، إذ رأيت كأن أبي قد أشرف عليّ، فلما رأيته لم أملك نفسي أن ناديت: يا أبتاه، انقطع عنّا خبر السماء».

«فبينا أن كذلك إذ أتتني الملائكة صفوفاً، يقدمها ملكان حتى أخذاني فصعدا بي إلى السماء، فرفعت رأسي فإذا أنا بقصور مشيّدة، وبساتين وأنهار تطرد، وقصر بعد قصر، وبستان بعد بستان، وإذا قد اطّلع عليّ من تلك القصور جواري كأنهم اللعب، وهن يتباشرن ويضحكن إلي ويقلن: مرحباً بمن خلقت الجنة وخلقنا من أجل أبيها»(1).

-------------------------------------------

إظهار الشوق إلى العظيم

مسألة: لا ضير في عدم تمالك النفس أمام اللقاء بالعظيم جداً، وذلك بإظهار شدة الشوق إليه بما لا يزعجه.

فإنه من المستحب أن يتمالك الإنسان نفسه ويكون مؤدباً مراعياً لمختلف الموازين، أما أمام العظيم وعند اللقاء به وخاصة بعد فراق طويل، فقد يكون

ص: 266


1- دلائل الإمامة: ص131 ح42.

الاستحباب في إظهار الاشتياق،كما يستفاد ذلك من أخبار أخر أيضاً، وإظهار الاشتياق عرفي فقد يكون بالبكاء أو الاحتضان أو غيرها حسب المناسب للمقام.

وهكذا يكون الأمر بالنسبة إلى الأضرحة الشريفة إذا كان الزائر بعيد العهد بها، فلا يتمالك نفسه من إظهار شدة شوقه إلى سادته وأئمته (عليهم السلام).

و(العظيم) يشمل الأب والأم والمعلّم في الجملة أو مطلقاً، وكل ذلك على درجات.

العروج إلى السماء

مسألة: يستحب بيان أن الصديقة فاطمة (عليها السلام) عرجت إلى السماء، ولا ينبغي الإصغاء لمن يخاف من إظهار الحقائق والجهر بالفضائل، بل قد يكون مصداق: «يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا»(1).

وهل كان عروجها إلى السماء (عليها الصلاة والسلام) كعروج الحجة (عليه السلام) جسماً وروحاً، أو روحاً فقط، احتمالان، وكلاهما ممكن بل واقع، كما عرج بعيسى (عليه الصلاة والسلام) إلى السماء جسماًوروحاً، وكما عرج برسول الله (صلى الله عليه وآله) جسماً وروحاً، وقد ورد في دعاء الندبة: «وعرجت به إلى سمائك»(2)، وأما ما ورد في بعض النسخ «وعرجت بروحه إلى سمائك»(3) فيراد

ص: 267


1- سورة النحل: 83.
2- المزار، للشيخ محمد بن المشهدي: ص573 الدعاء للندبة.
3- قال الميرزا محمد تقي الأصفهاني في كتابه القيم مكيال المكارم: ج2 ص9192: (اعلم أن قوله: وعرجت به إليك موافق للنسخة التي نقلها العالم الرباني الحاج ميرزا حسين النوري (رضي الله عنه) في كتاب تحية الزائر عن كتاب المزار القديم، ومزار الشيخ محمد بن المشهدي (رضي الله عنه) ومصباح الزائر للسيد ابن طاووس (رضي الله عنه) ومأخذ الكل كتاب محمد بن علي بن أبي قرة، لكن قد وقعت في زاد المعاد: وعرجت بروحه إليك، والظاهر أنه تصحيف وقع في المصباح الذي نقل منه المجلسي (رضي الله عنه)، ثم اشتهر وصار سبباً لشبهة بعض القاصرين والمعاندين مع أن المعراج الجسماني من ضروريات المذهب بل الدين، وتواترت به الروايات عن الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) ونطق به القرآن المبين. تنبيه نبيه: قد ألهمت عند تأملي في تلك العبارة أن هذا الدعاء بنفسه يشهد ويدل على أن الأصل الصحيح هو ما نقلناه وذكرناه وأن في عبارة زاد المعاد تصحيفاً، لعله وقع من بعض أهل العناد، وجه الدلالة والاستشهاد أن اقتران كلمة وسخرت له البراق بقوله وعرجت به إليك، يظهر منه بالتأمل التام لأولي الأفهام، صحة ما قلنا لأن عروج الروح لا حاجة به إلى البراق، ولا يخفى ذلك على من سلم قلبه من الشرك والنقاق. وإن قيل: إن المقام مقام تعداد فضائل سيد المرسلين والعطف بالواو لا يقتضي كون العروج إلى السماء بتوسط البراق. قلنا فالعبارة على فرض كونها بروحه لا تدل على نفي المعراج الجسماني لأنه فضيلة لا ينافي ثبوتها ثبوت فضيلة أخرى لسيد الورى. ويمكن أن يقال: بعدم منافاة هذه العبارة لما دل على كون العروج ببدنه الشريف لوجه آخر، وهو أن إطلاق الروح على البدن وارد في لغات العرب والعجم. أما الأول: فكما ورد في الزيارة، وعلى الأرواح التي حلت بفنائك، إذ الظاهر أن أبدان الشهداء حلت بفنائه وسكنت في جواره. وأما الثاني: فكقول أملح الشعراء وأفصحهم العارف السعدي: جانا هزاران آفرين بر جانت از سر تا قدم * صانع خدائي كاين وجود آورد بيرون از عدم).

به الأعم منالجسم، وليس نفياً للجسم، فإن كل واحد من الجسم والروح يطلق إطلاقاً خاصاً على خصوصه، وإطلاقاً عاماً على الأعم منه، ولذا يتعارف الآن عند العرب قولهم: (جاءني بروحه) و(ذهب بروحه) و(تكلم بروحه) ونحو ذلك وهم يقصدون الأعم من الروح والجسد(1).

ص: 268


1- أو يقال: إنه من باب ذكر الحال وإرادة المحل، لأن الروح كما ذكره علماء اللغة وغيرهم هي التي يقوم به الجسد وتكون به الحياة، فمحل الروح هو الجسد، واطلاق الحال وإرادة المحل من الاستعمالات البلاغية الشائعة في كلام الفصحاء، كما أنها وردت في القرآن الكريم وروايات أهل البيت عليهم السلام. فمن الاستعمالات الشائعة: تسمية العذرة باسم الغائط، والسمحاق وهي الشجة التي تصل إلى القشرة الرقيقة فوق عظم الرأس، وفي الزيارات ورد في زيارة أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله: «أشهد أنك جنب الله» فقد قيل: المراد أنه أنت أقرب أفراد الخلق إلى الله تعالى. وجاء في كتاب البرهان للزركشي: ج2 ص282 قوله: (السابع عشر إطلاق اسم الحال على المحل كقوله تعالى: «وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون»، أي في الجنة لأنها محل الرحمة. وقوله: «بل مكر الليل والنهار»، أي في الليل. وقال الحسن في قوله: «إذ يريكهم الله في منامك»، أي في عينك، واستبعده الزمخشري وقدر: يعني في رؤياك. وقوله: «رب اجعل هذا البلد آمنا»، وصف البلد بالأمن، وهو صفة لأهله. ومثله: «وهذا البلد الأمين»، و«إن المتقين في مقام أمين». وقوله: «بلدة طيبة»، وصفها بالطيب وهو صفة لهوائها. وقد اجتمع هذا والذي قبله في قوله تعالى: «يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد»، وذلك لأن أخذ الزينة غير ممكن، لأنها مصدر فيكون المراد محل الزينة، ولا يجب أخذ الزينة للمسجد نفسه، فيكون المراد بالمسجد الصلاة، فأطلق اسم المحل على الحال، وفي الزينة بالعكس).

مسألة: ينبغي التصدّي بالحكمة والموعظة الحسنة لشبهات أولئك الذينيشككون في المعاجز والكرامات، سواء كان تشكيكهم عن علم وعمد، أم عن جهل وضعف إيمان، فإن الناس ليسوا سواء في الإيمان والمعرفة، ولعل قوماً ينكرون مجموعة من المعجزات، وآخرين ينكرون عليهم ذلك وهم مبتلون بمثل ما أنكروه!

عن الإمام محمد بن علي الجواد (عليهما السلام) قال: «من تكفّل بأيتام آل محمد، المنقطعين عن إمامهم، المتحيرين في جهلهم، الأسارى في أيدي شياطينهم

ص: 269

وفي أيدي النواصب من أعدائنا، فاستنقذهم منهم، وأخرجهم من حيرتهم، وقَهَر الشياطين برد وساوسهم، وقهر الناصبين بحجج ربهم ودلائل أئمتهم، ليحفظوا عهد الله على العباد بأفضل الموانع بأكثر من فضل السماء على الأرض والعرش والكرسي والحجب على السماء، وفضلهم على العباد كفضل القمر ليلة البدر على أخفى كوكب في السماء»(1).

وقال علي بن محمد (عليهما السلام): «لولا من يبقى بعد غيبة قائمكم (عليه السلام) من العلماء الداعين إليه والدالين عليه والذابين عن دينه بحجج الله، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباكإبليس ومردته ومن فخاخ النواصب، لما بقي أحد إلا ارتد عن دين الله ، ولكنهم الذين يمسكون أزمة قلوب ضعفاء

الشيعة كما يمسك صاحب السفينة سكانها، أولئك هم الأفضلون عند الله عزوجل»(2).

وعنه (عليه السلام) قال: «يأتي علماء شيعتنا القوامون بضعفاء محبينا وأهل ولايتنا يوم القيامة والأنوار تسطع من تيجانهم، على رأس كل واحد منهم تاج بهاء قد انبثت تلك الأنوار في عرصات القيامة ودورها مسيرة ثلاثمائة ألف سنة، فشعاع تيجانهم ينبث فيها كلها، فلا يبقى هناك يتيم قد كفلوه ومن ظلمة الجهل علموه ومن حيرة التيه أخرجوه إلاّ تعلق بشعبة من أنوارهم، فرفعتهم إلى العلو حتى تحاذي بهم فوق الجنان، ثم ينزلهم على منازلهم المعدة في جوار أستاديهم ومعلميهم وبحضرة أئمتهم الذين كانوا إليهم يدعون، ولا يبقى ناصب من النواصب يصيبه من شعاع تلك التيجان إلاّ عميت عينه وأصمت أذنه وأخرس

ص: 270


1- الاحتجاج: ج1 ص10- 11.
2- الاحتجاج: ج1 ص18.

لسانه وتحول عليه أشد من لهب النيران، فيحملهم حتى يدفعهم إلى الزبانية فيدعونهم إلى سواءالجحيم»(1).

التفريج عن المهموم

مسألة: يستحب التفريج عن المهموم المغموم.

فإن تفريج هَمّ المهموم وكشف غم المغموم من أهم المستحبات، كما دل على ذلك متواتر الروايات، مع قطع النظر عن دلالة العقل والإجماع على ذلك.

عن أبي عبد الله (عليه السلام)، أنه قال : «أيما مؤمن نفّس عن مؤمن كربة، نفس الله عنه سبعين كربة من كرب الدنيا وكرب يوم القيامة، قال: ومن يسّر على مؤمن وهو معسر، يسر الله له حوائج الدنيا والآخرة، ومن ستر على مؤمن عورة، ستر الله عليه سبعين عورة من عوراته التي يخلفها في الدنيا والآخرة، قال: وإن الله لفي عون المؤمن ما كان المؤمن في عون أخيه المؤمن، فانتفعوا بالعظة وارغبوا في الخير»(2).

ص: 271


1- الاحتجاج: ج1 ص18.
2- مستدرك الوسائل: ج12 ص413 ب29 من أبواب فعل المعروف ح1 وقد أورد الميرزا النوري في هذا الباب والذي أسماه باب استحباب تفريج كرب المؤمنين: ص413 - 417 أربعة عشر حديثاً، وهكذا فعل من قبله الحر العاملي في وسائله: ج16 ص370- 374 باب استحباب تفريج كرب المؤمن، وقد أورد أحد عشر حديثاً.

نداء الرسول

مسألة: يستحب نداء الرسول (صلى الله عليه وآله) عند مناجاته ومخاطبته في دعاء أو خطابة أو غيرهما بهذه الكلمات: «يا رسول الله انقطع عنا خبر السماء»، كما نادته الصديقة (عليهما السلام) بها، أو نظيره.

فإن كل ما يُذكّر الناس بمقام الرسول (صلى الله عليه وآله) وأوصيائه وجسيم الخطب الفادح بفقده، حسن ممدوح ومحبوب للمولى ومطلوب(1).والمراد بانقطاع خبر السماء: الأخبار المرتبطة بالتشريع، أي تشريع الرسالة والنبوة كما لا يخفى، وإلاّ فقد كانت الملائكة تنزل على المعصومين (عليهم السلام) وتخبرهم بأخبار السماء والأرض وما كان وما هو كائن وما يكون، كما دلت على ذلك روايات متواترة، ولعلّ نحو النزول كان مختلفاً، والله العالم.

ص: 272


1- روى الدارمي وهو من علماء العامة في سننه: ج1 ص39 - 40، قال: أخبرنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة.. قال: وجعلت أم أيمن تبكي، فقيل لها: يا أم أيمن تبكين على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قالت: إني والله ما أبكي على رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلا أن أكون اعلم أنه قد ذهب إلى ما هو خير له من الدنيا، ولكني أبكي على خبر السماء انقطع، قال حماد: خنقت العبرة أيوب حين بلغ ههنا. وروى ابن أبي شيبة الكوفي في المصنف: ج8 ص567 باب ما جاء في وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) ح7: عن أنس قال: لما قبض النبي (صلى الله عليه وآله) قال أبو بكر لعمر أو عمر لأبي بكر: انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها، فانطلقا إليها، فجعلت تبكي، فقالا لها: يا أم أيمن، إن ما عند الله خير لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقالت: قد علمت أن ما عند الله خير لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولكني أبكي على خبر السماء انقطع عنا، فهيجتهما على البكاء، فجعلا يبكيان معها.

وبعبارة أخرى (انقطع عنّا خبر السماء) أي ما كان يأتي عن طريقك يا رسول الله (صلى الله عليه وآله).

خيرات الآخرة

مسألة: يستحب بيان خيرات الآخرة وأنها بحيث يكون النظر إليها مفرجاً للهموم والغموم.

ولعله هو من أسرار أخذ الملائكة فاطمة (عليها السلام) إلى السماء و... وكذلك لعله هو من أسرار أخذ الملائكة للإمام الحجة (عجل الله فرجه) إلى السماء ثمإرجاعه إلى الأرض(1).

وهل يجوز (الأدب التصويري) أو ما يقرب من لسان الحال؟

ص: 273


1- روضة الواعظين: ص259 مجلس في ذكر ولادة القائم صاحب الزمان (عليه السلام): فصاح بي أبو محمد (عليه السلام)، وقال: «يا عمة تناوليه وهاتيه»، فتناولته وأتيت به نحوه، فلما مثلت بين يدي أبيه وهو على يدي فسلم على أبيه فتناوله الحسن (عليه السلام) منى والطير يرفرف على رأسه ويناوله لسانه فيشرب منه، ثم قال: «امض به إلى أمه لترضعه ورديه إلي» قالت: فناولته أمه فأرضعته ورددته إلى أبي محمد، والطير يرفرف على رأسه، فصاح طير منها فقال له: «أحمله واحفظه ورده إلينا في كل أربعين يوماً»، فتناوله الطير وطار به في جو السماء واتبعه سائر الطيور، فسمعت أبا محمد يقول: «أستودعك الذي أودعته أم موسى»، فبكت نرجس فقال: «اسكتي فإن الرضاع محرم عليه إلاّ من ثديك وسيعاد إليك كما رد موسى إلى أم موسى، وذلك قول الله عز وجل: «فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن» » قالت حكيمة: قلت فما هذا الطير؟ قال: «هذا روح القدس الموكل بالأئمة (عليهم السلام) يوفقهم ويسددهم ويربيهم العلم».

الظاهر نعم حسب ما ذكرناه في الفقه(1).

الترحيب بالضيف

مسألة: يستحب الترحيب بالضيف مطلقاً.

عن مسعدة بن صدقة قال : حدثني جعفر بن محمد ، عن آبائه (عليهم السلام): أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) مر بقبر يحفر، وقد انبهر الذي يحفره فقال له: «لمن تحفر هذا القبر»، فقال: لفلان بن فلان. فقال: «وما للأرض تشدد عليك؟ إن كان ما علمت لسهلا حسن الخلق» . فلانت الأرض عليه حتى كان ليحفرها بكفيه. ثم قال: «لقد كان يحب إقراء الضيف، ولا يقرئ الضيف إلاّ مؤمن تقي»(2).

فإن الترحيب مستحب لكل قادم، ضيفاً كان أو غير ضيف، كمن كان في الصحراء ثم يرى إنساناً مقبلاً عليه وإن لم يكن ضيفاً، وإطلاقات أدلة الترحيب: «وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا»(3)، و(للبادئ سبعون حسنة)(4)، وإطلاق بُشر المؤمن(5)،

ص: 274


1- راجع موسوعة (الفقه): ج3 كتاب الصوم، مبحث الكذب.
2- قرب الإسناد، عن الإمام الصادق (عليه السلام): ص74 - 75 أحاديث متفرقة ح240.
3- سورة النساء: 86.
4- قال الإمام الحسين (عليه السلام): «للسلام سبعون حسنة، تسع وستون للمبتدئ وواحدة للراد». تحف العقول: ص248 في قصارى كلماته (عليه السلام).
5- عن عبد العظيم الحسني، عن محمد بن علي الرضا، عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بطلاقة الوجه وحسن اللقاء، فإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: «إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم». وسائل الشيعة: ج12 ص161 ب107 من أبواب أحكام العشرة ح8.

ونحو ذلك(1) يشمل كل هذه الأصناف.

ولا يخفى أن الترحيب أعم من القول والفعل، فيشمل حتى رفع اليد وما أشبه ذلك من الإشارات، فلا يلزم أن يكون باللفظ، وكذلك يشمل في ما إذا قدم للضيف ونحوه مأكلاً أو مشرباً أو عطراً أو نحو ذلك، نعم ما تعارف الجمع بين عدد من أنواعه لا يكتفى فيه ببعضها.

والترحيب هنا مستفاد من فعل الملائكة، حيث رحبت بالصديقة (عليها السلام) .. وقد نقلته الصديقة (عليها السلام) لنا.

أوصاف الجنة

مسألة: يستحب بيان أوصاف الجنة مطلقاً، ويتأكد الاستحباب في الخطباءوالوعّاظ، بل ينبغي أن لا يتركوا مناسبة إلاّ وأشاروا إلى الجنة، وحرضوا الناس على اكتسابها بالعمل الصالح، والابتعاد عن النار بتجنب سيء الأعمال.

كما ينبغي كتابة القصص والروايات عنها، وتخصيص مواقع بالانترنت لها(2).

ص: 275


1- كإطلاقات استحباب إدخال السرور في قلوب المؤمنين، فعن أبي حمزة الثمالي، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «من سر مؤمناً فقد سرني، ومن سرني فقد سر الله». الكافي: ج2 ص188 باب إدخال السرور على المؤمنين ح1.
2- وأيضاً تأسيس قناة فضائية خاصة بالجنة وبيان اوصافها وقصصها ورواياتها وما يوصل إليها، والنار وأوصافها وقصصها ورواياتها وما يوجبها.

فإن ذكر أوصاف الجنة تشويق للإنسان إلى الإيمان والعمل الصالح حتى ينال الجنة التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر كما في الحديث(1).وقبل ذلك قال تعالى في الآية الكريمة: «فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ»(2). كما أن ذكر أوصاف الجنة، هو نوع تعظيم للخالق سبحانه وتعالى.

أوصاف الحور العين

مسألة: يستحب بيان أوصاف الحور العين(3)، حسب المذكور في الآيات

ص: 276


1- قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام): «يا أبا الحسن إن الله جعل قبرك وقبر ولدك بقاعاً من بقاع الجنة وعرصات من عرصاتها، وإن الله عز وجل جعل قلوب نجباء من خلقه وصفوة من عباده تحن إليكم وتحتمل المذلة والأذى فيكم، فيعمرون قبوركم ويكثرون زيارتها تقرباً منهم إلى الله ومودة منهم لرسوله، أولئك يا علي المخصوصون بشفاعتي والواردون حوضي، وهم زواري وجيراني غداً في الجنة، يا علي من عمر قبوركم وتعاهدها فكأنما أعان سليمان بن داود على بناء بيت المقدس، ومن زار قبوركم عدل ذلك ثواب سبعين حجة بعد حجة الإسلام، وخرج من ذنوبه حتى يرجع من زيارتكم كيوم ولدته أمه، فأبشر يا علي وبشر أولياءك ومحبيك من النعيم بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ولكن حثالة من الناس يعيرون زوار قبوركم بزيارتكم كما تعير الزانية بزناها، أولئك شرار أمتي، لا تنالهم شفاعتي ولا يردون حوضي». تهذيب الأحكام: ج6 ص107 باب من الزيادات ح5.
2- سورة السجدة: 17.
3- قال الشريف المرتضى في رسائله ج4 ص58: (حور: جمع حوراء، من الحور الذي هو شدة بياض العين وشدة سواد سوادها، وقيل: بل هو أن يكون البياض محدقاً بالسواد، وإنما يكون ذلك في البقر والظباء، ويستعار للناس).

والروايات، وحسب اقتضاء المقام.

ووجه الاستحباب ما تقدم في البند السابق، لأن الحور من نعم الآخرة.

ولا يخفى أن الحور من النساء هنّ من نعم الجنة التي ينعم الله تعالى بها على الرجال، أما النساء المؤمنات فماذالهن؟ هل هناك من الولدان المخلدين من يتزوجهن؟

أو لهن حور من الرجال؟

أو لهن أزواجهن المؤمنون في الدنيا؟

أو يتزوجهن رجال من المؤمنين من أهل الجنة وإن لم يكونوا أزواجاً لهنّ في الدنيا، فإن المرأة قد تكون أعلى درجة من زوجها، أو يكون زوجها في النار - والعياذ بالله - فتتزوج في الآخرة برجل مؤمن آخر يكون كفواً لها وحسب رضاها.

احتمالات.

وقد ذكر بعض العلماء، أن (الحور) على قسمين، بتقريب أنه جمع حوراء وأحور(1)، فالحوراء تعطى للرجال، والأحور يعطى للنساء.

ومقتضى عموم نعم الجنة أن يكونللنساء أيضاً كل ما يشتهين ومنه

ص: 277


1- قال الراغب الأصفهاني في مفردات غريب القرآن: ص135 مادة (حور): وقوله تعالى (حور مقصورات في الخيام)، (وحور عين) جمع أحور وحوراء، والحور قيل ظهور قليل من البياض في العين من بين السواد، وأحورت عينه وذلك نهاية الحسن من العين، وقيل حورت الشيء بيضته ودورته. وقال الزبيدي في تاج العروس: ج6 ص313 مادة (حور): والحور جمع أحور وحوراء، يقال: رجل أحور، وامرأة حوراء.

الزوج، أما هل أنهن يشتهين الرجال المؤمنين، أو الولدان المخلدين، أو غير ذلك، فهو غير معلوم لنا، والله العالم.

والحاصل: إن الكبرى التي أشار إليها سبحانه بقوله: «وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ»(1) معلومة، أما الصغرى وهي مصاديق ما يشتهين، فغير معلومة لنا.

استقبال العظيم

مسألة: يستحب التشرّف بمحضر العظيم، كما قالت: (أتتني الملائكة)، حيث تشرفت الملائكة بالحضور بإذن الله تعالى لدى الصديقة فاطمة (عليها السلام)، كما يستحب حسن الاستقبال له.

لأن الاستقبال له والتشرّف بمحضره نوع من الاحترام والتكريم، كما أن المشايعة أيضاً كذلك.

ويدل على كل ذلك - استقبالاً وحضوراً ومشايعةً - متواتر الروايات، بل يستفاد من بعض الروايات استحباب الاستقبال والمشايعة حتى بالنسبة لغير العظيم وحتى لغير المسلم، وقد شيّع أمير المؤمنين علي (عليه الصلاة والسلام)ذلك اليهودي في الطريق، حيث كان الإمام (عليه السلام) يقصد الكوفة وذلك اليهودي يقصد الحيرة، ولما أراد الانفصال في الطريق شيّعه علي (عليه

الصلاة والسلام)(2)، وإن

ص: 278


1- سورة الزخرف: 71.
2- انظر الكافي: ج 2 ص670 بَابُ حُسْنِ الصِّحَابَةِ وَحَقِّ الصَّاحِبِ فِي السَّفَر ح5، وفيه: عَنْ مَسْعَدَةَ بْنِ صَدَقَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام): «أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) صَاحَبَ رَجُلًا ذِمِّيّاً فَقَالَ لَهُ الذِّمِّيُّ: أَيْنَ تُرِيدُ يَا عَبْدَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: أُرِيدُ الْكُوفَةَ، فَلَمَّا عَدَلَ الطَّرِيقُ بِالذِّمِّيِّ عَدَلَ مَعَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)، فَقَالَ لَهُ الذِّمِّيُّ: أَلَسْتَ زَعَمْتَ أَنَّكَ تُرِيدُ الْكُوفَةَ، فَقَالَ لَهُ: بَلَى، فَقَالَ لَهُ الذِّمِّيُّ: فَقَدْ تَرَكْتَ الطَّرِيقَ، فَقَالَ لَهُ: قَدْ عَلِمْتُ، قَالَ: فَلِمَ عَدَلْتَ مَعِي وَقَدْ عَلِمْتَ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): هَذَا مِنْ تَمَامِ حُسْنِ الصُّحْبَةِ أَنْ يُشَيِّعَ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ هُنَيْئَةً إِذَا فَارَقَهُ، وَكَذَلِكَ أَمَرَنَا نَبِيُّنَا (صلى الله عليه وآله)، فَقَالَ لَهُ الذِّمِّيُّ: هَكَذَا، قَالَ: قَالَ: نَعَمْ، قَالَ الذِّمِّيُّ: لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَبِعَهُ مَنْ تَبِعَهُ لِأَفْعَالِهِ الْكَرِيمَةِ، فَأَنَا أُشْهِدُكَ أَنِّي عَلَى دِينِكَ، وَرَجَعَ الذِّمِّيُّ مَعَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) فَلَمَّا عَرَفَهُ أَسْلَمَ».

احتمل أنه لم يكن لرجحان المشايعة في ذاتها، والفعل لا جهة له، بل لما قصده من هدايته بذلك، أو هداية غيره، أو تقريبهم للدين، أو لإيجاد حسن انطباع لهم عن الدين وأئمته، فالأمر تابع للجهات والعناوين الطارئة.ثم إن ما ذكر من استحباب استقبال زائريه، هو أعم مما لو كان عظيماً بالمعنى كالعلم والتقوى، أو كان عظيماً بالمادة كالمال والسياسة، إلى غير ذلك.

النظم في الأمور

مسألة: يستحب النظم في كل شيء(1)، وهو ما يستفاد من مختلف الآيات والروايات، ومن عموم صنع الله تعالى كذلك، ومنه ما ورد في هذا الحديث: (أتتني الملائكة صفوفاً يقدمها ملكان).

قال سبحانه: «مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ»(2).

ص: 279


1- قال أمير المؤمنين (عليه السلام) كما في نهج البلاغة: من وصية له بعدما ضربه ابن ملجم: «أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ونظم أمركم».
2- سورة الحجر: 19.

وفي الآية الكريمة: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا»(1).

وقال عزوجل: «صُنْعَ اللهَ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ»(2).

ومن المعلوم أن النظم في كل شيء أقرب إلى الجمال وهو مستحب، وإلىتحقق الهدف المنشود، وهو بين واجب ومستحب، وإذا كان مباحاً أو مكروهاً أو حراماً تبعته مقدمته(3) في الحكم.

نقل الرواية

مسألة: يستحب نقل هذا الخبر كما نقلته (صلوات الله عليها).

سواء كان نقلاً باللفظ، وما في معناه من الكتابة والإشارة والتمثيل، أو نقلاً بالمعنى، وذلك لعموم ما دل على جواز نقل الحديث بالمعنى، وإن كان النقل باللفظ أحسن، لأنه أشد إتقاناً، وقد أشرنا إلى هذه المسألة في البحوث السابقة.

القيادة السياسية

مسألة: يستحب وقد يجب - كل حسب مورده وغايته - اتخاذ القائد والقادة في مختلف شؤون الحياة، ومنها السياسية.

وتدل على ذلك روايات عديدة، قال (عليه السلام) في نهج البلاغة:

ص: 280


1- سورة الصف: 4.
2- سورة النمل: 88.
3- وهي (النظم) في مفروض السؤال.

«لابُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَمِيرٍ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ يَعْمَلُ فِي إِمْرَتِهِ الْمُؤْمِنُ وَ يَسْتَمْتِعُ فِيهَا الْكَافِرُ وَ يُبَلِّغُ اللَّهُ فِيهَا الْأَجَلَ وَ يُجْمَعُ بِهِالْفَيْ ءُ وَ يُقَاتَلُ بِهِ الْعَدُوُّ وَ تَأْمَنُ بِهِ السُّبُلُ وَ يُؤْخَذُ بِهِ لِلضَّعِيفِ مِنَ الْقَوِيِّ حَتَّى يَسْتَرِيحَ بَرٌّ وَ يُسْتَرَاحَ مِنْ فَاجِر» (1).

كما يستشعر من هذه الرواية ذلك، حيث إن الملائكة جاءت صفوفاً لكن كان يقدمها ملكان، والمستظهر أنهما كانا القائدين وبقية الملائكة الجنود والأعوان.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «الْوِلَايَاتُ مَضَامِيرُ الرِّجَالِ»(2).

وعَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ وَلِيَ شَيْئاً مِنْ أُمُورِ أُمَّتِي فَحَسُنَتْ سَرِيرَتُهُ لَهُمْ، رَزَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْهَيْبَةَ فِي قُلُوبِهِمْ، وَمَنْ بَسَطَ كَفَّهُ لَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ رُزِقَ الْمَحَبَّةَ مِنْهُمْ، وَمَنْ كَفَّ عَنْ أَمْوَالِهِمْ وَفَّرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَالَهُ، وَمَنْ أَخَذَ لِلْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ مُصَاحِباً، وَمَنْ كَثُرَ عَفْوُهُ مُدَّ فِي عُمُرِهِ، وَمَنْ عَمَّ عَدْلُهُ نُصِرَ عَلَى عَدُوِّهِ، وَمَنْ خَرَجَ مِنْ ذُلِّ الْمَعْصِيَةِ إِلَى عِزِّ الطَّاعَةِ آنَسَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِغَيْرِ أَنِيسٍ، وَأَعَانَهُ بِغَيْرِ مَالٍ»(3).

وَعَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام):«أَسَدٌ حَطُومٌ خَيْرٌ مِنْ سُلْطَانٍ ظَلُومٍ، وَسُلْطَانٌ ظَلُومٌ خَيْرٌ مِنْ فِتَنٍ تَدُومُ»(4).

وعَنْ أَحَدِهِمْ (عليهم السلام): أَنَّهُ قَالَ: «الدِّينُ وَالسُّلْطَانُ أَخَوَانِ تَوْأَمَانِ، لَا بُدَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ، وَالدِّينُ أُسٌّ وَالسُّلْطَانُ حَارِسٌ، وَمَا لا أُسَّ لَهُ

ص: 281


1- نهج البلاغة: من كلام له (عليه السلام) في الخوارج يبين أن لا بد للناس من أمير.
2- نهج البلاغة: الكلمات القصار 441.
3- أعلام الدين: ص184.
4- كنز الفوائد: ج1 ص135.

مُنْهَدِمٌ، وَمَا لَا حَارِسَ لَهُ ضَائِعٌ»(1).

وروي أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ (عليه السلام) الْعِرَاقَ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ يَقْطِينٍ: أَمَا تَرَى حَالِي وَمَا أَنَا فِيهِ، فَقَالَ لَهُ: «يَا عَلِيُّ إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى أَوْلِيَاءَ مَعَ أَوْلِيَاءِ الظَّلَمَةِ لِيَدْفَعَ بِهِمْ عَنْ أَوْلِيَائِهِ وَأَنْتَ مِنْهُمْ يَا عَلِيُّ»(2).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أُوحَى إِلَى نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِي مَمْلَكَةِ جَبَّارٍ مِنَ الْجَبَابِرَةِ أَنِ ائْتِ هَذَا الْجَبَّارَ فَقُلْ لَهُ: إِنِّي لَمْ أَسْتَعْمِلْكَ عَلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ وَاتِّخَاذِ الْأَمْوَالِ، وَإِنَّمَا اسْتَعْمَلْتُكَ لِتَكُفَ عَنِّي أَصْوَاتَ الْمَظْلُومِينَ فَإِنِّي لَنْ أَدَعَ ظُلَامَتَهُمْ وَإِنْ كَانُوا كُفَّاراً»(3).

العلة الغائية

مسألة: يستحب بيان أن العلة الغائية من خلق الجنة والملائكة والحور، هي: الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الطاهرون (صلوات الله عليهم أجمعين).

فإن بيان هذه الحقيقة يوجب التفاف الناس حولهم أكثر فأكثر، والالتفاف موجب لسعادة الناس في الدنيا والآخرة.

وقول الحوريات: «من أجل أبيها» يفيد نفس مفاد الحديث القدسي المشهور: «خلقت الأشياء لأجلك»(4)،

ص: 282


1- بحار الأنوار: ج72 ص354 ب81 ح67 عن الاختصاص.
2- رجال الكشي: ص433.
3- الكافي: ج2 ص333 باب الظلم ح14.
4- رسائل الكركي: ج3 ص162 ونصه: (يا إنسان خلقت الأشياء لأجلك وخلقتك لأجلي).

و«لولاك لما خلقت الأفلاك»(1)، ويؤيده كما يعتضد به وبما أشبه ذلك.

وقد ذكرنا في بعض كتبنا وجه ما ورد من: «لولاك لما خلقت الأفلاك، ولولا علي لما خلقتك، ولولا فاطمة لما خلقتكما»(2) حتى أنه لو لم يكن ورد ذلك، لكان العقل يدل عليه.

عدة مسائل

مسألة: يستحب بيان تفاصيل الأحداث والقصص إذا كان مشتملاً على الفائدة ولم يكن هناك محذور، كما قالت الصديقة (عليها السلام): (بينما أنا بين النائمة واليقظانة).

والفائدة في المقام: أن لا يتصور أن ذلك كان مجرد منام ورؤيا، ولعلّ السر في كونها بين الحالتين هو أن تلك الحالة هي أفضل حالة للانتقال إلى عوالم أخرى.

ومن المحذور ما لو كان التطويل ثقيلاً على السامعين، ومنفراً لهم عن استماع الحكم والمواعظ-، فعلى الخطيب والواعظ والمؤلف أن يراعي ذلك.

مسألة: يستحب بيان أخبار الأموات وذكر أحوالهم وما يرتبط بهم، وخاصة إذا كان من المعصومين (عليهم السلام).

مسألة: يستحب للبنت أن تنادي والدها بقولها: يا أبتاه، وكذا يا أبه،

ص: 283


1- مجمع النورين، للمرندي: ص14.
2- مستدرك سفينة البحار: ج3 ص169.

وما شابه، فإنه أقرب للعلقة والصلة، وأوجب للمحبة من خطابه باسمه أو بألقابه.

مسألة: الأصل أن يكون الإنسان مستبشراً ضاحكاً لدى ملاقاته الإخوان.

تنبيه:

هذه الرواية ونظائرها تدل على أن الجنة مخلوقة، وأنها جاهزة لاستقبال المؤمنين والمؤمنات، وهو الظاهر بالنسبة إلى جنة الدنيا وعالم البرزخ، أما جنة ما بعد القيامة فالمستظهر أنها كذلك أيضاً، ويظهر ذلك من روايات أن الجنة خلقت من نور الإمام الحسين.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «ثم فتق نور ولدي الحسين فخلق منه الجنة والحور العين، فنور ولدي الحسين أفضل من الجنة والحور العين»(1).

ص: 284


1- مدينة المعاجز: ج3 ص223 الفصل1 من الباب2.

الحور تشتاق إلى فاطمة (علیها السلام)

اشارة

عن الصديقة فاطمة (عليها السلام) قالت:

«يا سلمان، جفوتني بعد وفاة أبي صلى الله عليه وآله».

قلت: حبيبتي أأجفاكم؟(1).

قالت: «فمه، اجلس واعقل ما أقول لك:

إني كنت جالسة بالأمس في هذا المجلس وباب الدار مغلق وأنا أفكر في انقطاع الوحي عنّا وانصراف الملائكة عن منزلنا، فإذا انفتح الباب من غير أن يفتحه أحد، فدخل عليّ ثلاث جوار لم ير الراؤون بحسنهن، ولا كهيئتهن، ولا نضارة وجوههن، ولا أزكى من ريحهن.

فلما رأيتهن قمت إليهن متنكرة لهن، فقلت: بأبي أنتن من أهل مكة أم من أهل المدينة؟

فقلن: يا بنت محمد، لسنا من أهل مكة، ولا من أهل المدينة، ولا من أهل الأرض جميعاً، غير أننا جوار من الحور العين من دار السلام، أرسلنا رب العزة إليك، يا بنت محمد، إنا إليك مشتاقات(2).

-------------------------------------------

ص: 285


1- هكذا في بحار الأنوار عن كتاب مهج الدعوات، البحار: ج43 ص66 ب3 ح59، وفيه عن نفس الكتاب في ج92 ص37 ب56 ح22: (حبيبتي لم أجفكم).
2- بحار الأنوار: ج43 ص66 ب3 ح59، عن مهج الدعوات. ولكن ورد في كتاب (الثاقب في المناقب) لابن حمزة الطوسي: ص297 - 300 فصل5 من الباب4 ح253 بهذا اللفظ: عن عاصم بن الأحول، عن زر بن حبيش، عن سلمان الفارسي رضي الله عنه، قال: خرجت من منزلي يوماً بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلقيني علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فقال لي: يا سلمان جفوتنا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله؟، فقلت: حبيبي يا أمير المؤمنين، مثلك لا يخفى عليه، غير أن حزني على رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو الذي منعني من زيارتكم. فقال لي: يا سلمان، ائت منزل فاطمة فإنها إليك مشتاقة، وتريد أن تتحفك بتحفة قد أتحفت بها من الجنة. قال سلمان: قلت: يا أمير المؤمنين أتحفت بتحفة من الجنة بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟، قال: نعم يا سلمان. قال: فهرولت هرولة إلى منزل فاطمة (عليها السلام)، وقرعت الباب، فخرجت إلي فضة فأذنت لي، فدخلت وإذا فاطمة جالسة، وعليها عباءة قد اعتجرت بها واستترت، فلما رأتني قالت: يا سلمان، اجلس واعقل واعلم أني كنت جالسة بالأمس مفكرة في وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) والحزن يتردد في صدري، وقد كنت رددت باب حجرتي بيدي، فانفتح من غير أن يفتحه أحد، وإذا أنا بأربع جواري فدخلن علي، لم ير الراؤن بحسنهن ونظارة وجوههن، فلما دخلن قمت إليهن مستنكرة لهن، فقلت: أنتن من أهل المدينة أم من أهل مكة؟ فقلن: لا من أهل المدينة ولا من أهل مكة، ولا من أهل الأرض، نحن من الحور العين، أرسلنا إليك رب العالمين يا ابنة رسول الله لنعزيك بوفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله). قالت فاطمة (عليها السلام): فقلت لإحداهن: ما اسمك؟ قالت: ذرة. قلت: حبيبتي لم سميت ذرة، قالت: سميت ذرة لأبي ذر الغفاري، صاحب أبيك رسول الله (صلى الله عليه وآله). فقلت للأخرى: وأنت ما اسمك؟ قالت: أنا سلمى. فقلت: لم سميت سلمى؟ قالت: لأني لسلمان الفارسي، صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله). وقلت للأخرى: ما اسمك؟ قالت: مقدودة. فقلت: حبيبتي، ولم سميت مقدودة؟ قالت: لأني للمقداد بن الأسود الكندي، صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله). فقلت للأخرى: ما اسمك؟ قالت: عمارة. قلت: ولم سميت عمارة؟ قالت: لأني لعمار بن ياسر، صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله). فأهدين إلي هدية، أخبأت لك منها، ثم أخرجت لي طبقا أبيض، فيه رطب أكبر من الخشكنانج، أبيض من الثلج، وأذكى من المسك، وأعطتني منها عشر رطبات، عجزت عن حملها، فقالت: كلهن عند إفطارك، وعد إلي بعجمهن. قال سلمان: فخرجت من عندها أريد منزلي، فما مررت بأحد ولا بجمع من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلا قالوا: يا سلمان، رائحة المسك الأذفر معك. قال سلمان: كتمت أن معي شيئاً حتى أتيت منزلي، فلما كان وقت الإفطار أفطرت عليهن، فلم أجد لهن عجما، فغدوت إلى فاطمة، وقرعت الباب عليها، فأذنت لي بالدخول، فدخلت وقلت: يا بنت رسول الله، أمرتني أن آتيك بعجمته، وأنا لم أجد لها عجما، فتبسمت، ولم تكن ضحكت عليها السلام. ثم قالت: يا سلمان، هي من نخيل غرسها الله تعالى لي في دار السلام بدعاء علمنيه أبي رسول الله (صلى الله عليه وآله) كنت أقول غدوة وعشية، قلت: علميني الكلام سيدتي. قالت: إن سرك أن تلقى الله تعالى وهو عنك راض غير غضبان، ولا تضرك وسوسة الشيطان ما دمت حيا، فواظب عليه. وفي رواية أخرى: إن سرك أن لا تمسك الحمى ما عشت في دار الدنيا، فواظب عليه، فقال سلمان: فقلت: علميني. قالت عليها السلام: (بسم الله الرحمن الرحيم، بسم الله النور، بسم الله نور النور، بسم الله نور على نور، بسم الله الذي هو مدبر الأمور، بسم الله الذي خلق النور من النور، الحمد الله الذي خلق النور من النور، وأنزل النور على الطور، في كتاب مسطور، في رق منشور، والبيت المعمور والسقف المرفوع والبحر المسجور بقدر مقدور على نبي محبور، الحمد لله الذي هو بالعز مذكور، وبالخير مشهور، وعلى السراء والضراء مشكور). قال سلمان: فتعلمته، وقد لقنت أكثر من ألف نفس من أهل المدينة ومكة ممن بهم علل الحمى، وكلهم برئوا بإذن الله تعالى.

ص: 286

المجاملات الكلامية

مسألة: المجاملات الكلامية المتعارفة جائزة وربما كانت مستحبة، وإن لم تكن له إرادة جدّية واقعاً، كما هو المتعارف بين بعض الناس حيث يقول لأخيه المؤمن: تفضّل عندنا، وإن لم يكن يقصد استضافته في الوقت نفسه، بل هو - في بعض الأعراف - نوع إظهار محبة وتودد لفظي.

ص: 287

وقول الصديقة (عليها السلام): «بأبي أنتن» قد يكون من ذلك، فإنها كلمة تفدية عرفية للمجاملة، وليست بقصدالفداء حقيقة، فإن الكلام قد يستعمل ويراد به المعنى اللغوي، وقد يستعمل ويراد به المعنى العرفي الكنائي، وذلك كما في الكنايات نحو: (كثير الرماد) و(طويل نجاد السيف) و(جبان الكلب) ومثل: (اقطع لسانه) و(اقطع رجله) وما أشبه ذلك مما ذكره البلغاء في كتبهم البلاغية.

ويحتمل أن يكون ما بعد (بأبي) جملة استفهامية استئنافية و(بأبي) قسماً، أي أقسم عليكم بأبي هل أنتن من أهل مكة ..

أقسام الحب

مسألة: الحب قسمان: الحب لله وفي الله وبالله، والحب الشهوي.

والأول راجح وقد يجب، عكس الثاني فإنه مرجوح في الجملة وربما كان حراماً.

وذلك كحب العالم أو المؤمن لله، ولأنه عالم بالله، وبما أوجبه الله، لا حباً شهوياً كما إذا كان ذا جمال فيحبه لجماله.

وقول سلمان: (حبيبتي)(1) على بعضالنسخ، هو من هذا القسم كما هو واضح.

ثم إن حب الأنبياء والأئمة والأولياء (عليهم السلام) للنساء هو من هذا القبيل أيضاً، أي إنه لله وفي الله.

وقد يجوز الحبّان، كحب الزوجة الصالحة.

ص: 288


1- وفي بعض النسخ: هذا القول موجه من سلمان لأمير المؤمنين عليه السلام.

وقد يحرمان، كحب الكافرة أو الفاسقة الجميلة لكفرها ولجمالها.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «ما أحب من دنياكم إلا النساء والطيب»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «مَا أَظُنُّ رَجُلاً يَزْدَادُ فِي هَذَا الْأَمْرِ خَيْراً إِلاّ ازْدَادَ حُبّاً لِلنِّسَاءِ»(2).

وقال أبو عبد الله (عليه السلام): «مِنْ أَخْلاقِ الأَنْبِيَاءِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ) حُبُّ النِّسَاءِ»(3).

إظهار الحب

مسألة: يستحب إظهار الحب والمودة والاشتياق للصديقة فاطمة (عليها السلام)، فإن حبها فرض من الله عز وجل على الجميع، وذلك كما ذكره سلمان (رضوان الله عليه)، وقوله مقرر من قبلها (صلوات اللهعليها) وتقريرها حجة على ما ذكرناه في الأصول.

وقد ذكرنا فيما سبق أن دلالة الاقتضاء العرفية حجة، وإن لم تكن مطابقةً ولا تضمناً ولا التزاماً بالمعنى المنطقي لها، كما أن دليل الاقتضاء بهذا المعنى غير دليل الاقتضاء الأصولي على ما تقدم، أو يقال: (دليل الأسوة) يرشدنا إلى ذلك.

ص: 289


1- الكافي: ج5 ص321 باب حب النساء ح6.
2- الكافي: ج5 ص321 باب حب النساء ح5.
3- الكافي: ج5 ص320 باب حب النساء ح1.

جفاء الأطهار

مسألة: يحرم جفاء أهل البيت (عليهم السلام) وخاصة الصديقة فاطمة (عليها السلام)، وكيف يجوز جفاء من مودتهم أجر الرسالة؟.

قال تعالى: «قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاّ المَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى»(1).

ثم إن الجفاء اللا اختياري قد يعد جفاءً أيضاً، لأن معناه الابتعاد، ولذا قالت (عليها السلام): (جفوتني) مع أن سلماناً كان منشغلاً بامتثال أوامر أمير المؤمنين (عليه السلام) فلم يتمكن من زيارتها (عليها السلام).

ويحتمل أنه (رضوان الله عليه) ارتكب ما يخالف الأولى من مراتب الجفاء، فإن الجفاء محرم ومكروه، وقد يكون منه ما هو ترك الأولى، وذلك بأن كان المتوقع أن يضغط على نفسه أكثر من الحد الطبيعي، وإن كان ربما يشق عليه، فإن تركه خلاف الأولى من مثله بالنسبة لها (صلوات الله عليها).

كما يحتمل أن يكون قولها (عليها السلام): (جفوتني بعد وفاة أبي) استفهاماً لا إخباراً، أي هل جفوتني إذلم تزرني أم ماذا؟ ويقصد بالاستفهام تبرئة ساحته بجوابه، وإدانة غيره وإلزامه.

أو يراد به بيان منزلة سلمان وإظهار شوق المعصوم (عليه السلام) إلى مثله من المؤمنين، فإن سلمان كان رجلاً صالحاً زاهداً شيخاً كبير السن، وفي قمة الصلاح والتقوى، كما ورد بذلك الأخبار، وكان سلمان من خواص رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومن حواري (أهل البيت) منزلةً، حيث قال (صلى الله عليه وآله): «سلمان

ص: 290


1- سورة الشورى: 23.

منا أهل البيت»(1).

جواز العتاب

مسألة: يجوز العتاب إذا كان فيه الفائدة، كما عاتبت (عليها السلام) سلمان.

فإن العتاب نوع إظهارٍ للمحبة، كما أنه يوجب التفاف الأحباء بعضهم حول بعض والتقرب الأكثر، يقول الشاعر:

وعاتبته وفي عتبي صواب *** ويبقى الود ما بقي العتاب

كما أن (العتاب) يعد من طرق التحريض على الاستقامة، أو التحفيز على

ص: 291


1- هذه من الروايات المشهورة بين الخاصة والعامة: فمن مصادر الخاصة ما روي عن الفضل بن عيسى الهاشمي، قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) أنا وأبي عيسى، فقال له: أمن قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) سلمان رجل منا أهل البيت؟ فقال: نعم، فقال: أي من ولد عبد المطلب، فقال: منا أهل البيت، فقال له: أي من ولد أبي طالب، فقال: منا أهل البيت، فقال له: إني لا أعرفه، فقال: فاعرفه يا عيسى فإنه منا أهل البيت، ثم أومى بيده إلى صدره، ثم قال: ليس حيث تذهب، إن الله خلق طينتنا من عليين وخلق طينة شيعتنا من دون ذلك فهم منا، وخلق طينة عدونا من سجين وخلق طينة شيعتهم من دون ذلك وهم منهم، وسلمان خير من لقمان». بصائر الدرجات: ج1 ص37 - 38 ب9 ح13. ومن مصادر العامة: ما رواه الحاكم النيسابوري في المستدرك على الصحيحين: ج3 ص599، عن كثير بن عبد الله المزني، عن أبيه، عن جده، إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) خط الخندق عام حرب الأحزاب حتى بلغ المذاحج، فقطع لكل عشرة أربعين ذراعاً، فاحتج المهاجرون سلمان منا، وقالت الأنصار سلمان منا، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) سلمان منا أهل البيت.

العمل الأكثر والعطاء الأوفر، كما أن في هذا العتاب، بيان مكانة سلمان (رضوان الله عليه).

ويدل أيضاً على عدم جواز جفاء الصديقة (عليها السلام) وغيرها من الأحكام.

حب المعصوم

مسألة: يجب حب المعصومين وودّهم، فإن ذلك فرض من الله تعالى.

قال سبحانه: «قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا المَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى»(1)، أي قربى الرسول (صلى الله عليه وآله) وهم فاطمة وعلي والحسن والحسين (عليهم السلام) والتسعة المعصومون من ذرية الحسين (عليهم السلام) كما ثبت في متواتر الروايات.

والظاهر أن الفرق بين الحب والود: أن القلبي فقط حب، فإذا ظهر يسمى وداً، وقد سبق أن الحب اختياري باختيارية مقدماته في الجملة.

درجات المحبة

مسألة: الظاهر أن الواجب من حبهم (عليهم السلام) هو ما يصدق عليه عرفاً أنه حب أو محبة، أما الدرجات العالية فمستحبة ينبغي أن يسعى الإنسان إليها.

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): «إِنَّ حُبَّنَا أَهْلَ الْبَيْتِ لَيَحُطُّ الذُّنُوبَ عَنِ الْعِبَادِ كَمَا يَحُطُّ الرِّيحُ الشَّدِيدَةُ الْوَرَقَ عَنِ الشَّجَرِ»(2).

ص: 292


1- سورة الشورى: 23.
2- ثواب الأعمال وعقاب الأعمال: ص187.

وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ حُبَّ الْأَئِمَّةِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي فَقَدْ أَصَابَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَلَا يَشُكَّنَّ أَحَدٌ أَنَّهُ فِي الْجَنَّةِ، فَإِنَّ فِي حُبِّ أَهْلِ بَيْتِي عِشْرِينَ] خَصْلَةً، عَشْرٌ مِنْهَا فِي الدُّنْيَا، وَعَشْرٌ مِنْهَا فِي الْآخِرَةِ، أَمَّا الَّتِي فِي الدُّنْيَا: فَالزُّهْدُ، وَالْحِرْصُ عَلَى الْعَمَلِ، وَالْوَرَعُ فِي الدِّينِ، وَالرَّغْبَةُ فِي الْعِبَادَةِ، وَالتَّوْبَةُ قَبْلَ الْمَوْتِ، وَالنَّشَاطُ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ، وَالْيَأْسُ مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ، وَالْحِفْظُ لِأَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالتَّاسِعَةُ بُغْضُ الدُّنْيَا، وَالْعَاشِرَةُ السَّخَاءُ، وَأَمَّا الَّتِي فِي الْآخِرَةِ: فَلَا يُنْشَرُ لَهُ دِيوَانٌ، وَلَا يُنْصَبُ لَهُ مِيزَانٌ، وَيُعْطَى كِتابَهُ بِيَمِينِهِ، وَيُكْتَبُ لَهُ بَرَاءَةٌ مِنَ النَّارِ، وَيَبْيَضُّ وَجْهُهُ، وَيُكْسَى مِنْ حُلَلِ الْجَنَّةِ، وَيَشْفَعُ فِي مِائَةٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَيَنْظُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ بِالرَّحْمَةِ، وَيُتَوَّجُ مِنْ تِيجَانِ الْجَنَّةِ، وَالْعَاشِرَةُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، فَطُوبَى لِمُحِبِّي أَهْلِ بَيْتِي»(1).

وعَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ أَحَبَّنَا أَهْلَ الْبَيْتِ فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ عَلَى أَوَّلِ النِّعَمِ، قِيلَ: وَمَا أَوَّلُ النِّعَمِ، قَالَ (صلى الله عليه وآله): طِيبُ الْوِلَادَةِ، وَلا يُحِبُّنَا إِلاّ مَنْ طَابَتْوِلَادَتُهُ»(2).

وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ (عليه السلام) قَالَ: «مَنْ أَصْبَحَ يَجِدُ بَرْدَ حُبِّنَا عَلَى قَلْبِهِ فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ عَلَى بَادِئِ النِّعَمِ، قِيلَ: وَمَا بَادِئُ النِّعَمِ، قَالَ: طِيبُ الْمَوْلِدِ»(3).

ص: 293


1- الخصال: ج 2 ص515 ابواب العشرين ح1.
2- بشارة المصطفى لشيعة المرتضى: ج 2 ص176.
3- بشارة المصطفى لشيعة المرتضى: ج 2 ص176.

وعن زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليهم السلام)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «يَا عَلِيُّ مَنْ أَحَبَّنِي وَأَحَبَّكَ وَأَحَبَّ الْأَئِمَّةَ مِنْ وُلْدِكَ فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى طِيبِ مَوْلِدِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُحِبُّنَا إِلَّا مَنْ طَابَتْ وِلَادَتُهُ، وَلَا يُبْغِضُنَا إِلَّا مَنْ خَبُثَتْ وِلَادَتُهُ»(1).

خطاب المعصوم

مسألة: يستحب للإنسان أن يخاطب المعصومين (عليه السلام) بالحبيب ونظائره، وقد يستند إلى تقريرها (عليها السلام) كلام سلمان ههنا.

وفي الأحاديث استحباب أن يظهرالإنسان حبه لمن يحبه، ولفظ الحب من أظهر مصاديق ذلك.

ويؤيده ما ورد في قصة جابر الأنصاري حيث زار الإمام الحسين (عليه السلام) يوم الأربعين، فلما رمى بنفسه على القبر الشريف، نادى ثلاثاً: حبيبي حسين(2).

ص: 294


1- بشارة المصطفى لشيعة المرتضى: ج 2 ص177.
2- عن عطية العوفي، قال: خرجت مع جابر بن عبد الله الأنصاري (رحمه الله) زائرين قبر الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) فلما وردنا كربلاء دنا جابر من شاطئ الفرات فاغتسل ثم اتزر بإزار وارتدى بآخر، ثم فتح صرة فيها سعد فنثرها على بدنه، ثم لم يخط خطوة إلاّ ذكر الله تعالى، حتى إذا دنا من القبر قال: ألمسنيه، فألمسته، فخر على القبر مغشياً عليه، فرششت عليه شيئاً من الماء، فلما أفاق قال: يا حسين ثلاثاً، ثم قال: حبيب لا يجيب حبيبه. ثم قال: وأنى لك بالجواب وقد شحطت أوداجك على أثباجك وفرق بين بدنك ورأسك، فأشهد أنك ابن خاتم النبيين وابن سيد المؤمنين وابن حليف التقوى وسليل الهدى وخامس أصحاب الكسا وابن سيد النقباء وابن فاطمة سيدة النساء، ومالك لا تكون هكذا وقد غذتك كف سيد المرسلين وربيت في حجر المتقين ورضعت من ثدي الإيمان وفطمت بالإسلام، فطبت حياً وطبت ميتاً، غير أن قلوب المؤمنين غير طيبة لفراقك، ولا شاكة في الخيرة لك، فعليك سلام الله ورضوانه، وأشهد أنك مضيت على ما مضى عليه أخوك يحيى بن زكريا. بشارة المصطفى: ص125 ح72.

كما قد يستند إلى خطاب الرسول (صلىالله عليه وآله) لفاطمة والحسنين (عليهما السلام) بذلك(1).

ص: 295


1- قال: وجعل الحسين (عليه السلام) يبكي ويتوسل، ويسأل الله عند قبر جده (صلى الله عليه وآله) إلى قرب الفجر، فنعس، فرأى في منامه جده (صلى الله عليه وآله) قد أقبل إليه في كبكبة من الملائكة، وهم عن يمينه وشماله، وضم الحسين (عليه السلام) إلى صدره وقبل ما بين عينه، وقال: يا حبيبي يا حسين كأني أراك عن قريب وأنت مرمل بدمائك، مذبوح من قفاك، مخضب شيبك بدمائك، وأنت وحيد غريب بأرض كربلاء، بين عصابة من أمتي تستغيث فلا تغاث، وأنت مع ذلك عطشان لا تسقى، وظمآن لا تروى، وقد استباحوا حريمك، وذبحوا فطيمك، وهم مع ذلك يرجون شفاعتي، لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة، يا حبيبي يا حسين إن أباك وأمك وأخاك قد قدموا علي وهم إليك مشتاقون، وإن لك في الجنان لدرجة عالية، لن تنالها إلاّ بالشهادة فأسرع إلى درجتك. مدينة المعاجز: ج3 ص483 -484 الفصل42 من الباب ح53، وقريب منه في كتاب الفتوح: ج5 ص19. وعن الصالحي الشامي في سبل الهدى والرشاد: ج10 ص89: وروى ابن عساكر في تاريخه عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (يزيد، لا بارك الله في يزيد الطعان اللعان، أما إنه نعي إلي حبيبي حسين، أتيت بتربته، ورأيت قاتله، أما إنه لا يقتل بين ظهراني قوم فلا ينصرونه إلا عمهم الله بعقاب). وعن عمرو بن شمر، عن جابر بن يزيد الجعفي، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: سأل عمر أمير المؤمنين (عليه السلام) عن المهدي، فقال: يا ابن أبي طالب أخبرني عن المهدي ما اسمه؟ قال: (أما اسمه فلا، إن حبيبي وخليلي عهد إليّ أن لا أحدث باسمه حتى يبعثه الله عز وجل وهو مما استودع الله عز وجل رسوله في علمه). الإمامة والتبصرة: ص117 - 118 باب في النهي عن تسميته (عليه السلام) ح111. وعن جابر: لما قال قدم جعفر بن أبي طالب من الحبشة قبل النبي (صلى الله عليه وآله) بين عينيه وقال: (يا حبيبي أنت أشبه الناس بخلقي وخلقي، وخلقت من الطينة التي خلقت منها). ذخائر العقبى: ص215.

اشتياق الحور إليها

مسألة: يستحب بيان أن الحور تشتاق إلى فاطمة (عليها السلام)، والظاهر أن شوقهن وليد معرفتهم بها (عليها السلام) بإلهام من الله تعالى، وكذلك اشتياقهن إلى سائر المعصومين (صلوات الله عليهم أجمعين)، بل في الروايات اشتياقهن إلى المؤمنين(1)، وإظهار ذلك يوجب التفاف الناس حولهم أكثر فأكثر.كما أن بيان أن الحور تشتاق إلى المؤمن يوجب التفاف الإنسان حول الدين وأهله، عقيدةً وعملاً، ليفوز بتلك المنزلة الرفيعة في الآخرة.

ترابط العالمين

مسألة: ينبغي الحديث عن ترابط عالم الدنيا وعالم الآخرة بأنحاء عديدة، ومنها ما يظهر من هذه الروايات السابقة واللاحقة، ومن مصاديقه اشتياق الحور

ص: 296


1- قال الهيثمي في مجمع الزوائد: ج9 ص344: عن أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: (ثلاثة تشتاق إليهم الحور العين، علي وعمار وسلمان). وعن زيد النرسي في أصله: قال سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يحدث عن أبيه: (إن الجنة والحور لتشتاق إلى من يكسح المسجد، أو يأخذ منه القذى). مستدرك الوسائل: ج3 ص385 ب25 من أبواب أحكام المساجد ح1.

العين للمؤمنين وللأئمة المعصومين ولفاطمة الزهراء (عليهم السلام).

بين الشوق والحب

مسألة: يستحب الاشتياق إلى المعصومين (عليهم السلام) وإظهار الشوق لهم بزيارتهم واللقاء بهم والأخذ من علومهم والكسب من نورهم ...

ومن المعلوم أن الشوق غير الحب، فإن الاشتياق مزيدٌ على أصل الحب، وإن شئت قلت: إن الاشتياق فعلي، بينما الحب انفعالي بالنسبة إلى النفس، أو هو نوع هيجان للمحبة.

الرسول وتعريف نفسه

مسألة: ينبغي لمن أُرسل أن يُعرّف نفسه، وأن يذكر أنه من قبل من أُرسل، وأن يبين من خصوصياته كل ما له دخل في حسن أداء الرسالة، فإنه نوع من الإتقان، كما عرفت الحور نفسها وأنها أرسلت من قبل رب العزة جل جلاله.

هذا كله مع اشتمال الأمر على الفائدة وعدم وجود محذور في البين.

وعلى أيٍ، فمطلوبيته طريقية، تتبع في الوجوب أو الاستحباب وجوب ذيها أو استحبابه.

ص: 297

عدة مسائل

مسألة: لا يجوز جفاء الصديقة الزهراء (عليها السلام) بأي نوع من أنواع الجفاء، مثل عدم الكتابة عنها في الصحف والجرائد والمجلات، وعدم ذكرها بالذكر الكافي في المنابر والمحافل، وعدم تسمية البنات باسمها الطاهر، وعدم إحياء مولدها وأيام شهادتها بالشكل المناسب.

وكأن الزهراء (عليها السلام) أرادت بهذا القول أن تبيّن أو تشير إلى ما جرى عليها من قبل؛ من غصب الخلافة وظلمها.

فإذا كان التعبير عن عدم زيارة سلمان (رضوان الله عليه) لها بالجفاء، فكيف بمن ظلمها وهاجم دارها وضربها بالسوط وكسر ضلعها وأسقط جنينها، وأي ظلم أعظم من ذلك؟

* مسألة: يستحب التأدب في قبال العظيم، وقد قال سلمان: أأجفوكم، ولم يقل: لا.

* مسألة: يستحب الجلوس بمحضر العظيم ومنه العالم والمعصوم (عليه السلام) والاستفادة منه، وقد يستحب الوقوف، كل حسب اقتضاء المقام، تأدباً وتعظيماً، أو تسهيلاً وألفةً.مسألة: يستحب التفكير في رزية انقطاع الوحي، وأنها مصيبة عظيمة، وإن جعل الله تعالى خليفةً وتعويضاً بالأوصياء، فالوصي حي موجود في زماننا، إلاّ أن غيبته عنّا وبتقصير منا وإسراف على أنفسنا وتكالب الأعداء علينا، هي مصيبة أخرى.

ص: 298

مسألة: يلزم الاعتقاد بالغيب ومنه ما يرتبط بالملائكة، حيث قالت (عليها السلام): (فإذا انفتح الباب من غير أن يفتحه أحد، فدخل علي ...).

مسألة: يستحب القيام للقادم، وإن كان أدنى منزلة، كما قامت الصديقة (عليها السلام) للجواري اللاتي دخلن عليها، وإن كان الفعل لا جهة لها، لكنه يدل على الرجحان، للقرينة الخارجية(1).

مسألة: يستحب السؤال عن القادم وأنه من أي بلدة، والتعرف عليه، والظاهر الاستحباب في الجملة وإن كان السائل عارفاً بالجواب فإنه نوع تحبيب وتقريب.

مسألة: يستحب إظهار الاشتياق إلى المعصوم (عليه السلام) على ما أشير إليه سابقاً، كما قالت الحور: (إنا إليكمشتاقات).

ص: 299


1- فإن المعصوم (عليه السلام) لا يفعل غير الواجب والمستحب.

طيب من السماء

اشارة

في حديث عن فاطمة الزهراء (عليها السلام) قالت:

«والله لقد أتاني من السماء طيب مع جوار من الحور العين، وإن فيهن جارية حسناء كأنها القمر ليلة البدر، فقلت: من بعث بهذا الطيب؟ فقالت: دفعه إلي رضوان خازن الجنان، وأمر هؤلاء الجواري أن ينحدرن معي، ومع كل واحدة منهن ثمرة من ثمار الجنان في اليد اليمنى، وفي اليد اليسرى نخبة من رياحين الجنة.

فنظرت (عليها السلام) إلى الجواري وإلى حسنهن، فقلت: لمن أنتن؟

فقلن: نحن لك ولأهل بيتك ولشيعتك من المؤمنين.

فقلت: أفيكن من أزواج ابن عمي أحد؟

قلن: أنت زوجته في الدنيا والآخرة، ونحن خدمك وخدم ذريتك»(1).

-------------------------------------------

زوجات المؤمن في الجنة

مسألة: يستحب بيان أن في الآخرة زوجات للرجال من الحور العين، كما لهم زوجات من الإنس، والظاهر أن لكل من الطائفتين خصوصية ولذة، وإن كان الظاهر أن الزوجات المؤمنات الأنسيات أعلى مرتبة وأشد حظوة.

ص: 300


1- دلائل الإمامة: ص104 خبر الطيب33.

قال الإمام الصادق (عليه السلام): «الخيرات الحسان من نساء أهل الدنيا وهن أجمل من الحور العين» (1).

قُدُرات المؤمن في الجنة

ثم إنه ربما يستفاد من بعض الأحاديث: أن الإنسان يتمكن من إيجاد أمثاله في الآخرة بإذن الله تعالى، حيث تكون روحه ذات قوة هائلة فتوجد أمثال جسمه.عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إن الله تبارك وتعالى أهدى إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) هريسة من هرائس الجنة، غرست في رياض الجنة، وفركها الحور العين، فأكلها رسول الله (صلى الله عليه وآله) فزاد في قوته بضع أربعين رجلاً، وذلك شئ أراد الله عز وجل أن يسر به نبيه محمداً (صلى الله عليه وآله) (2).

ص: 301


1- من لا يحضره الفقيه: ج3 ص469 ح4631. ومما سألت أم المؤمنين أم سلمة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنها قالت: قلت: يا رسول الله أنساء الدنيا أفضل أم الحور العين؟ قال: بل نساء الدنيا أفضل من الحور العين كفضل الظهارة على البطانة، قلت: يا رسول الله وبما ذاك؟ قال: بصلاتهن وصيامهن وعبادتهن الله، ألبس الله وجوههن النور، وأجسادهن الحرير، بيض الألوان، خضر الثياب، صفر الحلي، مجامرهن الدر، وأمشاطهن الذهب يقلن: ألا ونحن الخالدات فلا نموت أبدا * ألا ونحن الناعمات فلا نبؤس أبدا * ألا ونحن المقيمات فلا نظعن أبدا * ألا ونحن الراضيات فلا نسخط أبدا * طوبى لمن كن له وكان لنا * انظر مجمع الزوائد: ج7 ص119.
2- الكافي: ج6 ص320 باب الهريسة ح4.

وهذه في الدنيا فكيف بالدار الآخرة.

وقد ورد شبه ذلك بالنسبة إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) وأنه كان في ليلة واحدة في أربعين مكاناً في وقت واحد(1).

وأن علياً (عليه الصلاة والسلام) شيّع جنازة نفسه(2).

كما ورد في قصة طائر ذي القرنين الذي كبّر نفسه حتى ملأ المكان (3).فلا يقال: إن الإنسان في الآخرة ما ذا يفعل بهذه الكثرة من الجواري،

ص: 302


1- روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه: ج1 ص353، رياض الأبرار في مناقب الأئمة الأطهار (عليهم السلام): ج1 ص26 ب1.
2- بحار الأنوار: ج 42 ص300 ب127.
3- روي في بحار الأنوار: ج57 ص114- 115 في حديث ذي القرنين: (فَنَزَلَ ذُو الْقَرْنَيْنِ بِعَسْكَرِهِ ثُمَّ خَرَجَ وَحْدَهُ حَتَّى دَخَلَ الْقَصْرَ فَإِذَا حَدِيدَةٌ قَدْ وُضِعَتْ طَرَفَاهَا عَلَى جَانِبِ الْقَصْرِ مِنْ هَاهُنَا وَ هَاهُنَا وَ إِذَا بِطَائِرٍ أَسْوَدَ شَبِيهٍ بِالْخُطَّافِ مَزْمُومٍ بِأَنْفِهِ إِلَى الْحَدِيدَةِ مُعَلَّقٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَ الْأَرْضِ، فَلَمَّا سَمِعَ الطَّائِرُ خَشْخَشَةَ ذِي الْقَرْنَيْنِ قَالَ: مَنْ هَذَا، قَالَ: أَنَا ذُو الْقَرْنَيْنِ، فَقَالَ الطَّائِرُ: يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ أَمَا كَفَاكَ مَا وَرَاكَ حَتَّى وَصَلْتَ إِلَيَّ، ثُمَّ قَالَ الطَّائِرُ: يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ حَدِّثْنِي، فَقَالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ: سَلْ، فَقَالَ: هَلْ كَثُرَ بِنَاءُ الْآجُرِّ وَالْجِصِّ فِي الأَرْضِ، قَالَ: نَعَمْ، فَانْتَفَضَ الطَّائِرُ انْتِفَاضَةً ثُمَّ انْتَفَخَ فَبَلَغَ ثُلُثَ الْحَدِيدَةِ، ثُمَّ قَالَ: يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ هَلْ كَثُرَتِ الْمَعَازِفُ، قَالَ: نَعَمْ، فَانْتَفَضَ الطَّيْرُ وَامْتَلَأَ حَتَّى مَلَأَ مِنَ الْحَدِيدَةِ ثُلُثَيْهَا، ثُمَّ قَالَ: هَلْ كَثُرَتْ شَهَادَاتُ الزُّورِ فِي الْأَرْضِ، قَالَ: نَعَمْ، فَانْتَفَضَ الطَّائِرُ انْتِفَاضَةً فَمَلَأَ الْحَدِيدَةَ وَسَدَّ مَا بَيْنَ جِدَارَيِ الْقَصْرِ، فَخَشِيَ وَخَافَ ذُو الْقَرْنَيْنِ وَفَرِقَ فَرَقاً شَدِيداً، فَقَالَ الطَّائِرُ: يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ لَا تَخَفْ حَدِّثْنِي، قَالَ: سَلْ، قَالَ: هَلْ يَتْرُكُ النَّاسُ شَهَادَةَ أَنْ لا إِلَهَ إِلاّ اللَّهُ، قَالَ: لا، قَالَ: فَانْضَمَّ الطَّائِرُ ثُلُثاً، ثُمَّ قَالَ: يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ هَلْ تَرَكَ النَّاسُ الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ بَعْدُ، قَالَ: لَا، قَالَ: فَانْضَمَّ الطَّائِرُ ثُلُثاً، ثُمَّ قَالَ: يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ هَلْ تَرَكَ النَّاسُ غُسْلَ الْجَنَابَةِ بَعْدُ، قَالَ: لَا، قَالَ فَصَارَ الطَّائِرُ كَمَا كَانَ، ثُمَّ قَالَ: اسْلُكْ يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ هَذِهِ الدَّرَجَةَ دَرَجَةً إِلَى أَعْلَى الْقَصْرِ) الحديث.

وهذه الكثرة من المنازل والقصور، ونحو ذلك؟

كما أنه يستفاد من بعض الأخبار: أن الإنسان - الصالح والطالح - يتضاعفحجمه ويكبر في الآخرة كبراً عظيماً يتناسب مع تلك الدار، حتى أنه يكون كل سن من أسنان الكافر في جهنم بقدر جبل(1)، وهكذا بالنسبة إلى طول الحوريات وعرضها مما يستشم منها ذلك(2).

وبالجملة فإنه شاء الله أن يرى المؤمن في الآخرة ما لا عين رأت ولا أذنسمعت ولا خطر على قلب بشر(3)، وهذه تقريبات نحتملها احتمالاً، وإن كان لها بعض الشواهد كما ذكرناها، والله العالم.

ص: 303


1- راجع بحار الأنوار: ج7 ص50 ب3 وفيه: (يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ كَأَمْثَالِ الذَّرِّ، وَأَنَّ ضِرْسَ الْكَافِرِ مِثْلُ أُحُد).
2- في خبر مسائل ابن سلام عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: فصف لي الحور العين، قال: يا بن سلام، الحور العين بيض الوجوه، فحام العيون، بمنزلة جناح النسر، صفاؤهن كصفاء اللؤلؤ الأبيض الذي في الصدف الذي لم تمسه الأيدي. مستدرك سفينة البحار: ج2 ص463. وفي حديث عن أم سلمة قالت: قلت: يا رسول الله أخبرني عن قول الله عز وجل (وحور عين)، قال: حور بيض عين ضخام العيون شفر الحوراء بمنزلة جناح النسور، قلت: يا رسول الله فأخبرني عن قول الله عز وجل: (كأنهن الياقوت والمرجان)، قال: صفاؤهن كصفاء الدر الذي في الأصداف الذي لا تمسه الأيدي، قلت: يا رسول الله فأخبرني عن قول الله: (فيهن خيرات حسان)، قال خيرات الأخلاق حسان الوجوه، قالت: قلت: يا رسول الله فأخبرني عن قوله تعالى: (كأنهن بيض مكنون)، قال: رقتهن كرقة الجلد الذي في داخل البيضة مما يلي القشر.
3- انظر الأمالي، للشيخ الصدوق: ص281 المجلس38 ح1. وفيه: (... فحقيق على الله أن يجمع بينكم وبين نبيكم، فينتهي بهم إلى منازلهم، وفيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر).

التهادي بالطيب

مسألة: يستحب التهادي بالطيب والرياحين(1).

فإن الهدية مطلقاً مستحبة، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حديث مروي عنه: «تهادوا تحابوا»(2).

وهل يستفاد من هذا الحديث خصوصية التهادي بالطيب والرياحين؟ أو أنهما من باب بعض المصاديق؟ احتمالان، وإن كان يمكن التقريب لكل منهما بوجه أو أكثر.

الرائحة الطيبة

مسألة: يستحب أن يتعطر الإنسان، وأن يكون ذا رائحة طيبة، لفضل ذي الرائحة الطيبة على فاقدها، في صورة تساويهمافي سائر الجهات، أو من هذا الحيث.

فإن من المعلوم أن ذا الفضيلة الجسمية والروحية هو أفضل من فاقدها، هذا إضافة إلى أن الرائحة الطيبة توجب هدوء النفس، وتزيل توتر الأعصاب، وتنفع في الصحة، وتزيد في الحافظة، كما أنها توجب تماسك الأفراد وتوادّهم،

ص: 304


1- بل ورد كراهية رد هدية الطيب، فقد روى الشيخ الكليني في الكافي: ج6 ص513 باب كراهية رد الطيب ح4: عن علي (عليه السلام) أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان لا يرد الطيب والحلواء.
2- عن السكوني، عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال: قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ): تهادوا تحابوا، تهادوا فإنها تذهب بالضغائن. الكافي: ج5 ص144 باب الهدية ح14.

وذلك مطلوب شرعاً ومحبوب.

عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «من تطيب أول النهار لم يزل عقله إلى الليل»(1).

وعن علي بن رئاب قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) أنا مع أبي بصير، فسمعت أبا عبد الله (عليه السلام) وهو يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إن الريح الطيبة تشد القلب وتزيد في الجماع»(2).

وقال علي بن إبراهيم: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «صلاة متطيب أفضل من سبعين صلاة بغير طيب»(3).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) ينفق فيالطيب أكثر مما ينفق في الطعام»(4).

نعم الجنة لعباد الله

مسألة: يستحب بيان أن كل ما في الجنة فهو لعباد الله الصالحين، وقد قالت الصديقة (عليها السلام): «لمن أنتن».

ثم إن قولها (عليها الصلاة والسلام): «أفيكن من أزواج ابن عمي أحد؟» ليس على سبيل الغيرة الدنيوية، وإنما كان من قبيل سؤال العارف لبيان حكمة

ص: 305


1- الكافي: ج6 ص510 - 511 ح7.
2- الكافي: ج6 ص510 باب الطيب ح3.
3- الكافي: ج6 ص511 باب الطيب ح7.
4- الكافي: ج6 ص512 باب الطيب ح18.

وفائدة، فهي أعرف وأعلم بما كان وما يكون.

وقولهن: «أنت زوجته في الدنيا والآخرة» قد يظهر منه أنها (عليها الصلاة والسلام) هي زوجته الوحيدة، وربما يراد المفضلة، فهي المفضلة على غيرها على الإطلاق.

وقد سبق أن كل ما في الجنة فهو لعباد الله، لكن لا تنحصر الاستفادة والتلذذ منها في بُعد خاص من أبعاد الإنسان، وإنما الاستفادة أعم من استفادة العين والأذن والذوق والفم والجنس وغيرها من الأبعاد التي لا نعلمها، ولعلها تبلغ الألوف أو الملايين في عالم الآخرة؛ إذ ما أوتينامن العلم إلاّ قليلاً، ولعل منافذ الإنسان للعالم تبلغ ذلك أو أكثر.

وهذا يظهر من مختلف الأخبار والآيات، ومن قرأ كتاب المعاد من (البحار)(1)، وكتاب (اللئالي) للتوسركاني (قدس سره)(2) وما أشبه، لاكتشف شيئاً كثيراً من خصوصيات الجنة وأحوالها.

حكم اليمين

مسألة: يجوز الحلف، والجواز بالمعنى الأعم، كما قالت الصديقة (عليها السلام): «والله...»، وقد سبق تفصيل ذلك في الفصل الأول من هذا الكتاب(3).

فإن الحلف إذا لم يكن حراماً انقسم إلى الأحكام الأربعة من الوجوب والاستحباب والكراهة وربما الإباحة، كما ذكروا مثل ذلك في جملة من الأحكام

ص: 306


1- بحار الأنوار: أبواب المعاد وما يتبعه، ج6 ص 295 إلى نهاية الكتاب، وج7 من البداية.
2- كتاب (لئالي الأخبار والآثار)، للعلامة المحقق الشيخ محمد نبي التوسيركاني (رحمة الله عليه).
3- في شرح حديث الكساء، كما أشير إليه في شرح الخطبة أيضاً.

الأولية التي تصادق الأمور الثانوية.

ولعل قسمها (عليها السلام) لدفع استغراب بعض النفوس الضعيفة لمثل هذه الكرامة.

وذلك من أسباب كثرة القسم في القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: «فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ»(1).

وقوله سبحانه: «ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ»(2).

السؤال عن المُهدي

مسألة: يستحب السؤال عن المُهدي، كما سألت: من بعث بهذا الطيب؟

فإن السؤال عنه نوع احترام له، بل وإن كان المُهدى إليه يعرف المُهدي ولو في الجملة.

ويفهم بالملاك حال مطلق خدمة إنسان لإنسان آخر، حيث إن السؤال عن الذي خدمه واحترمه نوع احترام له.

هذا إضافة إلى أن معرفة المُهدي لازمة عادة لشكره، وشكر المنعم حسن، وهو بين مستحب وواجب.

ص: 307


1- سورة الذاريات: 23.
2- سورة القلم: 1 - 2.

الجنة لشيعتها

مسألة: يستحب بيان أن الجواري، بل مطلق النعم في الجنة مختصة بفاطمة وأبيها وبعلها وبنيها (عليها السلام) وشيعتهم.

والمراد بالشيعة أعم ممن جاء بعدهم (عليهم الصلاة والسلام) وممن كان قبلهم من المؤمنين بالله سبحانه وتعالى مثل أنبيائه ورسله، فإن هذه المجموعة الموالية لله سبحانه وتعالى وأنبيائه وأوصيائه وأوليائه كلهم شيعة لكلهم.

قال سبحانه: «قُولُوا آَمَنَّا باللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ»(1) الآية.

وقال تعالى: «وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ»(2).

وقد دلت الروايات الكثيرة على أن إبراهيم وسائر الأنبياء (عليهم

السلام) كانوا محبين موالين معتقدين وشيعة لأمير المؤمنين والأئمة المعصومين (عليهم السلام)، فلا يتوهم منافاة ذلك لما دل على دخول المؤمنين من سائر الأمم إلى الجنة، أو المسلمين غير الشيعة غير المعاندين، إذ المستظهر جمعاً بين الروايات: أنهم يدخلون الجنة بعدتعريفهم في عالم الآخرة بالمعصومين (عليهم السلام)، ولا يستغرب ذلك بعد أن كانوا (عليهم السلام) هم العلة الغائية لخلق العالم(3).

ص: 308


1- سورة البقرة: 136.
2- سورة الصافات: 83.
3- راجع الجزء الأول من هذا الكتاب حول أن الكون خلق لأجلهم.

زوجته في الدنيا والآخرة

مسألة: يستحب بيان أن الصديقة فاطمة (صلوات الله عليها) هي زوجة أمير المؤمنين علي (عليه الصلاة والسلام) في الدنيا والآخرة.

وهذا تكريم لها وله (صلوات الله عليهما) حيث يدل ذلك على أنه لا يوجد لها كفؤ غيره، ولا له كفؤ غيرها، كما ورد في الحديث: «لولا أن الله خلق أمير المؤمنين لم يكن لفاطمة كفؤ، على ظهر الأرض، آدم فمن دونه»(1).

ولا يتوهم أن هذه قضايا خاصة؛ إذ معرفتها نافعة، فإن فيها تكريساً لمحورية أهل البيت (عليهم السلام) في الحياة، ويظهر ذلك بوضوح عند ملاحظة أن كثيراً من الناس يملؤون فراغ أنفسهم بمعرفة أمثال ذلك عن الناس العاديين، أو عمن يسمونهم بالنجوم ممن لا قيمة لهم في ميزان العقل أو المنطق.

خدمة أهل البيت

مسألة: ينبغي خدمة أهل البيت (عليهمالسلام) وقد تجب.

فإن خدمة كل مؤمن لها فضيلة، وقد تكون واجبة إذا قورنت بما يوجب، فكيف بخدمة أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام).

وفي هذا الحديث تتشرف الملائكة بخدمة الصديقة فاطمة (عليها السلام)، حيث لها: (نحن خدمك وخدم ذريتك).

ولعل المستظهر أن خدمة المؤمن ذات أجر وأثر عظيم في العوالم الأخرى

ص: 309


1- تهذيب الأحكام: ج7 ص470 باب من الزيادات في فقه النكاح ح1882.

أيضاً لا في الدنيا فحسب.

خدمة ذرية فاطمة

مسألة: تستحب خدمة ذرية فاطمة (صلوات الله عليها).

فإن خدمة ذريتها خدمة لها (عليها وعليهم السلام)، وفيه إدخال السرور على قلبها.

قال سبحانه: «أَلحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ»(1)، فإن إلحاق ذرية المرء به فيه سرور له، وأي سرور مع أنهم قد لا يكونون من مقامه ومستواه - في غير المعصوم (عليه السلام) - .

وفي الروايات أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) حث على إكرام ذريته، وقال: «أحبوا أولادي، الصالحون لله، والطالحونلي»(2)، ومن الواضح أن المراد بالطالحين ليس الكفار أو من أشبههم والعياذ بالله، لو فرض أن في الذرية حصل مثل أولئك.

وروي عنه (صلى الله عليه وآله): «المرء يحفظ في ولده»(3).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أنا شافع يوم القيامة لأربعة أصناف ولو جاؤوا بذنوب أهل الدنيا: رجل نصر ذريتي، ورجل بذل ماله لذريتي عند الضيق، ورجل أحب ذريتي باللسان والقلب، ورجل سعى في حوائج ذريتي إذا

ص: 310


1- سورة الطور: 21.
2- مستدرك الوسائل: ج12 ص376 ب17 من أبواب فعل المعروف ح8.
3- كتاب سليم بن قيس: ص390.

طردوا أو شردوا»(1).

وقال الصادق (عليه السلام): «إذا كان يوم القيامة نادى مناد: أيها الخلائق أنصتوا فإن محمداً (صلى الله عليه وآله)يكلمكم ، فتنصت الخلائق، فيقوم النبي (صلى الله عليه وآله) فيقول: يا معشر الخلائق من كانت له عندي يد أو منة أو معروف فليقم حتى أكافئه، فيقولون: بآبائنا وأمهاتنا وأي يد أو أي منة وأي معروف لنا، بل اليد والمنة والمعروف لله ولرسوله على جميع الخلائق، فيقول لهم: بلى من آوى أحداً من أهل بيتي أو برّهم أو كساهم من عرى أو أشبع جائعهم فليقم حتى أكافئه، فيقوم أناس قد فعلوا ذلك، فيأتي النداء من عند الله تعالى: يا محمد يا حبيبي، قد جعلت مكافأتهم إليك، فأسكنهم من الجنة حيث شئت، قال: فيسكنهم في الوسيلة حيث لا يحجبون عن محمد وأهل بيته (عليهم السلام)(2).

ويتضح ذلك أكثر لدى ملاحظة ما أجبنا به في (الفقه: الاقتصاد) عن شبهة أوردها الشيوعيون ضد الإرث، وأنه كيف يحصل المرء على ما لم يبذل جهداً فيه؟

كان من الأجوبة: إن وصول الإرث للأولاد، هو ناتج جهد الأب، فكما لا يصح الاعتراض على المُهدي وأنه كيف يعطي الهدية لمن لم يبذل جهداً، كذلك الإرث.

ص: 311


1- وسائل الشيعة: ج16 ص332 ب17 من أبواب فعل المعروف ح2. وقريب منه في مصادر العامة، انظر كنز العمال: ج15 ص868 ح43456: «أربع أنا لهم شفيع يوم القيامة: المكرم لذريتي، والقاضي لهم حوائجهم، والساعي لهم في أمورهم عندما اضطروا إليه، والمحب لهم بقلبه ولسانه».
2- من لا يحضره الفقيه: ج2 ص65 ح1727.

والحاصل: إن الحق في الأخذ تارة يكون من الاستحقاق، وأخرى يكون من جهة حق المعطي في التصرف في ماله كيف يشاء.

نعم الشرع قد يوسع أو يضيق، لأنه المولى الحقيقي، فليس للمالك أن يورّث لورثته أكثر أو أقل من السهام المقررة لكل منهم مثلاً، وإن جاز في الجملة بعناوين أخرى كالهدية حال الحياة، والوصية بالثلث بعد الممات وما أشبه.

الملائكة خدام الصديقة

مسألة: يستحب بيان أن الجواري والملائكة في خدمة الزهراء (سلام الله عليها) وذريتها.

فإن بيان أمثال هذه الأمور يستلزم تقوية العقيدة، ويوجب التفاف الناس حولهم (عليهم السلام) مما يسعد دنياهم وآخرتهم، فإنه كل ما التف الإنسان حول أولياء الله سبحانه وتعالى تحسنت دنياه وآخرته.

والمستظهر أن خدمتهم لها (صلوات الله عليها) ليس خاصاً بالآخرة، بل في الدنيا أيضاً، كما ظهر من هذا الحديث وغيره.

ص: 312

عدة مسائل

مسألة: يستحب بيان حسن حور الجنة وأنهن كالقمر ليلة البدر، وهذا التشبيه من ضيق التعبير ومحدودية مشاعرنا، وإلاّ فإن حسنهن فوق الوصف.

مسألة: يستحب تقديم الهدايا للعظماء، ومنهم المعصومون (عليهم السلام)، كما أهدى رضوان بأمر الله تعالى الطيب وبعثه للصديقة فاطمة (عليها السلام).

وربما يكون منه ما ينفقه الإنسان باسم الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) ويصرفه في مجالسهم ومراقدهم الطاهرة وحسينياتهم، وكذا ما يرتبط بنشر علومهم، أو يعطيه للأيتام والفقراء باسمهم، كما أن منه إهداء ثواب الصلاة والصوم والحج والزيارة وقراءة القرآن الكريم لهم، خاصة للإمام المهدي المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) وما أشبه.

مسألة: يستحب رعاية الشؤون اللائقة بالطرف في تقديم الهدية إليه، بحيث يتناسب مع شأنه واحترامه ومكانته، كما بعث رضوان الطيب وأمر الجواري أن ينحدرن تشريفاً للصديقة فاطمة (عليها السلام) وفي يد كل واحدة ثمرة وريحان.مسألة: يستحب بيان منزلة شيعة فاطمة (عليها السلام) في الجنان، فإن ذلك يوجب تثبيتهم على الإيمان والولاية والبراءة، كما أنه يرغب الآخرين أيضاً بأن يكونوا من شيعتها (صلوات الله عليها).

ص: 313

أنتِ مني وأنا منكِ

اشارة

عن فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) قالت: «لما نزلت على النبي (عليه السلام): «لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا»(1)، قالت فاطمة (عليها السلام): فتهيّبت النبي (صلى الله عليه وآله) أن أقول له: يا أبة، فجعلت أقول له: يا رسول الله، فأقبل عليّ، فقال لي: يا بنية لَمْ تنزل فيك ولا في أهلك من قبلُ، أنتِ مني وأنا منكِ، وإنما في أهل الجفاء والبذخ والكبر، قولي: يا أبة، فإنه أحب للقلب وأرضى للرب، ثم قبّل النبي (صلى الله عليه وآله) جبهتي، ومسحني بريقه، فما احتجت إلى طيب بعده»(2).

-------------------------------------------

تقبيل البنت

مسألة: يستحب أن يقبل الأب جبين ابنته.

وقبلة الجبين نوع تكريم وإظهار محبة، وهو من باب أحد المصاديق، وإلاّ فالرسول (صلى الله عليه وآله) كان يقبّل حتى يد الزهراء (عليها السلام) كما ورد في

ص: 314


1- سورة النور: 63.
2- شرح إحقاق الحق: ج19 ص94 - 95 قوله (صلى الله عليه وآله): (أنت مني وأنا منك).

الحديث.

عن يونس بن ظبيان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إن لكم لنوراً تعرفون به في الدنيا، حتى أن أحدكم إذا لقى أخاه قبله في موضع النور من جبهته»(1).

وروي عن عائشة أنها قالت: (ما رأيت أحداً كان أشبه كلاماً وحديثاً من فاطمة برسول الله (صلى الله عليه وآله) وكانت إذا دخلت عليه رحب بها وقام إليها فأخذ بيدها فقبلها وأجلسها في مجلسه)(2).

والظاهر أن للصديقة فاطمة (عليها السلام) خصوصية خاصة(3)، فلا يتعدى منهاإلى تقبيل الآباء أيدي بناتهم تنقيحاً للمناط، والعرف يرى اختلاف تقبيل الجبين عن تقبيل اليد، فتأمل.

محبة البنت والعطف عليها

مسألة: يستحب عطف الأب على بناته، وإظهار ذلك بشتى الأنواع المشروعة، ومن ذلك أن يخصص وقتاً لهن باستمرار يستمع فيه إليهن ويتحدث إليهن بما فيه خير الدنيا والآخرة، وذلك من أسباب تماسك الأسر واستقامة

ص: 315


1- وسائل الشيعة: ج12 ص234235 ب134 من أبواب أحكام العشرة ح6.
2- هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، المستدرك على الصحيحين: ج3 ص154، السنن الكبرى: ج7 ص101، وغيرهما.
3- ففاطمة الزهراء (عليها السلام) هي بضعة النبي (صلى الله عليه وآله) وروحه التي بين جنبيه، وسيدة نساء العالمين، وكانت بمثابة الوالدة له (صلى الله عليه وآله) ولذا كان يكنيها بأم أبيها، إلى ما لا يحصى من خصوصيات وفضائل لها (صلوات الله وسلامه عليها).

الأولاد وسعادتهم في مستقبل الأيام.

ثم إن مطلق العطف والحنان وتفقد الأولاد والأرحام شيء ندب إليه الإسلام، وما نحن فيه من أظهر مصاديقه، مضافاً إلى خصوصية الزهراء وفضلها وهي سيدة نساء العالمين (صلوات الله عليها).

نداء الأب بما يحب

مسألة: يستحب أن ينادي الإنسان أباه بالصورة التي يحبه ويكون أحب لقلبه.

فلا يناديه كنداء سائر الناس مِن وصل الألقاب والمقدمات والمؤخراتباسمه، فمثلاً يقول: (يا أبة)، ولا يقول: (حضرة الوجيه، العلامة...)، نعم لو فرض أن ذلك أحب إليه رجح، وكذلك الحال في نداء الأم، بل في نداء مطلق المؤمن القريب إليه جداً.

ريق النبي وعرقه

مسألة: يستحب بيان أن ريق فم النبي (صلى الله عليه وآله) ليس كريق سائر الناس، وكذلك عرقه وغيرها، بل كان رقيقاً لطيفاً معطراً جداً، وبدون أي نوع من الوسخ أبداً، وذلك لآية التطهير وغيرها.

ولذا مسح (صلى الله عليه وآله) به الزهراء (عليها السلام)، وقالت: (فما احتجت إلى طيب بعده)، كما دلت على ذلك الروايات المتعددة.

ثم إنه قد ثبت علمياً أن ماء فم الإنسان معقم ومطهر له من المكروبات الضارة بما جعل الله سبحانه وتعالى له من الخواص، ولكن بشرط السواك ونحو

ص: 316

ذلك حتى لا يكن ملوثاً بما يرد عليه من الطعام وبقاياه وشبهها.

بل قد ذكرنا سابقاً أن دمه (صلى الله عليه وآله) أيضاً طاهر مبارك، وتدل عليه رواية شرب دم حجامته (صلى الله عليه وآله) وغيرها.

امتثال الآيات الشريفة

مسألة: يجب تطبيق الآيات الشريفة والعمل بها، سواء في الحياة الشخصية أم العائلية أم الاجتماعية أم غيرها، ولا يخفى أن ما فعلته (سلام الله عليها) بعد نزول آية «لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ»(1) كان للتعليم وبقصد التفهيم.

والمراد بوجوب التطبيق؛ العمل وفق الآية في الواجبات والمستحبات والمكروهات والمباحات والمحرمات، وسائر الأحكام الوضعية وغيرها.

قال سبحانه: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ»(2).

فلا يتوهم أن المراد وجوب العمل بالمستحبات أيضاً، بل بعض المراد أن لا يأتي بالمستحب مثلاً مدعياً وجوبه، أو مبتدعاً كراهة ما لا دليل على كراهته، وأيضاً أن لا يتعمد إهمال كل المستحبات والإتيان بكل المكروهات، وأيضاً أن لا يمحو ذكرها وأثرها.

ص: 317


1- سورة النور: 63.
2- سورة النساء: 64.

التهيب من العظماء

مسألة: يستحب التهيب من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومن كل عظيم.

فإن التهيب نوع احترام للعظماء الإلهيين، وهو من الأمور الواقعية الممكن تحصيلها بالتلقين وما أشبه، لأن الإنسان يتعود الخير والفضيلة بالإيحاء إلى نفسه، وكلما ازداد الإنسان معرفة بالعظيم ازداد تهيباً منه.

نعم، ينبغي أن لا يحول التهيّب دون أداء المستحب أو الواجب، كالسؤال عما يحتاجه من المسائل، وكإعطاء المشورة في مواطن وجوبها أو استحبابها، في غير المعصوم (عليه السلام).

مسألة: الاحتياط حسن على كل حال(1)، إلا إذا عورض باحتياط آخر، أو استلزم محذوراً كصدق اللعب في العبادة مثلاً، أو كان مقدمة أو سبباً للوسوسة وما أشبه.

وعلى أيٍ، فإن تهيبها (صلوات الله عليها)من أن تقول له: (يا أبه)، لعله كان نوع احتياط.

والأصل في الحكم الشمول لو شك في خروج مصداق عنه.

ثم إن الآية الشريفة: «لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا»(2) منصرفة عنها (عليها السلام) كما صرح الرسول (صلى الله عليه وآله) ب- (لم

ص: 318


1- عن داود ابن القاسم الجعفري، قال: سمعت الرضا علي بن موسى (عليهما السلام) يقول: إن أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) قال لكميل بن زياد فيما قال: يا كميل، أخوك دينك، فاحتط لدينك بما شئت. الأمالي، للشيخ الطوسي: ص110 المجلس4 ح22.
2- سورة النور: 63.

تنزل فيك ولا في أهلك من قبل)، ولا يخفى علمها (عليها السلام) بذلك وأن الحكم لا يشملها، إلا أن احتياطها كان ليصل إلينا وإلى غيرنا علم ذلك بتصريحه (صلوات الله عليه وآله).

حرمة الرسول

مسألة: الواجب رعاية حرمة واحترام الرسول (صلى الله عليه وآله) في حياته وبعد مماته، فلا يصح (دعاؤه) الآن كدعاء بعضنا لبعض، سواء في الكلام أم الكتاب أم التمثيل أم غيرها.

وبذلك يظهر أن مثل قول ذلك الجاهل: (عصاي هذه خير من محمد)(1)

ص: 319


1- نص العبارة كما نقلها السيد الأمين (رحمه الله) في كشف الارتياب: ص127: عن خلاصة الكلام ص230: كان محمد عبد الوهاب يقول عن النبي (صلى الله عليه وآله): إنه طارش، وإن بعض أتباعه كان يقول: عصاي هذه خير من محمد، لأنه ينتفع بها في قتل الحية ونحوها، ومحمد قد مات، ولم يبق فيه نفع، وإنما هو طارش ومضى، وكان يقال ذلك بحضرته أو يبلغه فيرضى. وهكذا نقل ذلك أحمد زيني دحلان ت1304ه- في (الدرر السنية في الرد على الوهابية) ص42: وكان ينتقص النبي (صلى الله عليه وآله) كثيراً بعبارات مختلفة، ويزعم أن قصده المحافظة على التوحيد! فمنها أن يقول: إنه طارش، وهو في لغة أهل المشرق بمعنى الشخص المرسل من قوم إلى آخرين، فمراده أنه (صلى الله عليه وآله) حامل كتب أي غاية أمره إنه كالطارش الذي يرسله الأمير أو غيره في أمر للناس ليبلغهم إياه ثم ينصرف، ومنها أنه كان يقول نظرت في قصة الحديبية فوجدت بها كذا كذا كذبة، إلى غير ذلك مما يشبه هذا حتى أن أتباعه كانوا يفعلون مثل ذلك أيضاً ويقولون مثل قوله، بل أقبح مما يقول ويخبرونه بذلك فيظهر الرضا، وربما أنهم قالوا ذلك بحضرته فيرضى به، حتى أن بعض أتباعه كان يقول: عصاي هذه خير من محمد لأنها ينتفع بها في قتل الحية ونحوها ومحمد قد مات ولم يبق فيه نفع أصلاً وإنما هو طارش وقد مضى، قال بعض من ألف في الرد عليه إن ذلك كفر في المذاهب الأربعة بل هو كفر عند جميع أهل الإسلام.

تعتبر من أعظم المنكرات(1).مسألة: هل ذرية الرسول (صلى الله عليه وآله) على امتداد الزمن داخلون في المستثنى منه، أو في المستثنى(2)، لا يبعد الإلحاق للمناط.ولا يتوهم شمول (أهلك)، لوجود(3) (من قبل)، إلاّ أن يقال: القيد

ص: 320


1- بل ربما يعدّ ذلك نوع ارتداد وكفر، وقد مرت عبارة أحمد دحلان في كتابه السابق، وقال أبو حامد بن مرزوق في كتابه (التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وجهلة الوهابيين) ص106107: فهم منتكهون حرمته (صلى الله عليه وآله) تطبيقاً لما أسسه لهم شيخهم ابن عبد الوهاب في قوله: (محمد (صلى الله تعالى عليه وآله) طارش)، أي أدى الرسالة وذهب، فلا حرمة ولا قيمة له، نعوذ بالله من زلقات اللسان وفساد الجنان، ولذلك كره الصلاة عليه (صلى الله تعالى عليه وآله) وتأذى من سماعها ونهى عنها، وقتل ذلك الصالح المؤذن الضرير لأجلها، وعليه فيذكرونه (صلى الله تعالى عليه وآله) بمجرد اسمه بدون شيء يدل على احترامه حتى يطبقوا على أنفسهم نهيه تعالى الموجه للمنافقين والجفاة الأجلاف: (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً). وقال الشيخ حسن السقاف في (القول العطر في نبوة سيدنا الخضر) هامش ص29: فمن قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) عبارة عن حامل رسالة كساعي بريد أو طارش بلغة قوم فقد ارتد وخرج من الاسلام وتزندق، لأنه استهان واستخف بالرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) قال تعالى: (فالذين آمنوا وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون) الأعراف: 157، ومعنى عزروه: عظموه ووقروه.
2- أي في عموم الآية الشريفة: «لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ»، أم في تخصيصه (صلوات الله عليه وآله) للآية وإخراج فاطمة وأهلها (عليها وعليهم السلام).
3- هذا تعليل ل- (لايتوهم).

إضافي(1) فلا يمنع الإطلاق(2)؛ فالقصد أن الآية لم تنزل لتوبيخ أهلك على ما صنعوا من قبل، فتأمل.

موارد الآيات وشأن نزولها

مسألة: يستحب بيان موارد نزول الآيات وشأنها.

فإن الآيات القرآنية نزلت في مناسبات مختلفة وموارد عديدة، زماناً ومكاناً وجهةً وخصوصيةً ومزيةً، كما دل على ذلك جملة من الروايات، وكما هو الشأن بالنسبة إلى الكلام البليغ، فكيف بكلام الله سبحانه وتعالى الذي هو أبلغ البلغاء.

ثم إن بيان هذا الأمر يوجب الالتفاف حول القرآن أكثر فأكثر، فإنه كلما كان وجه الحكمة أوضح يكون الإنسان أكثر تمسكاً به والتفافاً حوله.

إنهم مني وأنا منهم

مسألة: يستحب بيان أن فاطمة (سلام الله عليها) من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والرسول (صلى الله عليه وآله) منها (عليها السلام)، كما قال (صلى الله عليه وآله): «أنتِ مني وأنا منكِ».

وهكذا قالها لعلي أمير المؤمنين (عليه السلام)(3).

ص: 321


1- أي قيد (من قبل).
2- إطلاق (أهلك) وشموله للآيتين.
3- ورد هذا النص من رسول الله (صلى الله عليه وآله) بشأن أمير المؤمنين (عليه السلام) في روايات عديدة رواها الخاصة والعامة: منهم الصدوق في أماليه: ص57 المجلس2 ح7 بنص: (علي مني وأنا من علي)، وفي ص266 المجلس4 ح8 بنص: (يا علي أنت مني وأنا منك)، وفي ص88 المجلس9 ح10 بنص: (إن علياً مني وأنا من علي)، وفي ص156 المجلس21 ح1 بنص: (ولكن حسبك أن تكون مني وأنا منك)، وفي ص342 المجلس45 ح18 بنص: (لأنك مني وأنا منك)، وفي ص757 المجلس76 ح12 بنص: (علي مني وأنا من علي)، إلى غيرها من المصادر. ومن مصادر العامة أيضاً: مسند أحمد: ج1 ص108، وصحيح البخاري: ج3 ص168 كتاب الصلح، وج4 ص207 باب مناقب المهاجرين وفضلهم، وج5 ص85 باب عمرة القضاء، إلى غيرها من المصادر.

فإن بيان ذلك يوجب الالتفاف حول الصديقة الزهراء (عليها

السلام) اعتقاداً بها وخدمةً لها وإطاعة أكثر فأكثر، هذا بالإضافة إلى أن مثل ذلك معرفة من أسمى المعارف، والبشر جبلوا على حبالعلم والمعرفة، إضافة إلى أن المعرفة كمال في حد ذاتها وتزداد أهميةً وكمالاً بلحاظ المتعلّق.

والمراد بأنها منه وأنه منها (عليهما السلام): أنهما من نور واحد، وأن من أراد إتّباع النبي (صلى الله عليه وآله) لابد أن يكون متّبعاً للصديقة (عليها السلام)، فليس المراد من حيث الجسمية فقط التي هي حاصلة بين كل أب وبنت.

وهكذا في قوله (صلى الله عليه وآله): «حسين مني وأنا من حسين»(1).

وكذلك في قوله (صلى الله عليه وآله): «أنا وعلي من شجرة واحدة وسائر

ص: 322


1- كامل الزيارات: ص116 ب14 ح11 وتتمته: (أحب الله من أحب حسيناً، حسين سبط من الأسباط). ورواه من العامة جماعة منهم: أحمد في مسنده: ج4 ص172، وسنن ابن ماجه: ج1 ص51 ح144، وفي الزوائد إسناده حسن رجاله ثقات، وسنن الترمذي: ج5 ص324 ح3864 وقال: هذا حديث حسن، والمستدرك على الصحيحين: ج3 ص177 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، إلى غيرها من المصادر.

الناس من شجر شتى»(1).وما أشبه، مما يدل على أنه لا يمكن للإنسان أن يكون على نهج رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلاّ إذا كان على نهج أهل بيته الطاهرين (عليهم السلام).

ويحتمل في معنى (أنت مني وأنا منك) ونظائره لحاظ حال الامتداد والاستمرارية، ف- (أنا منك) لأن ذكره (صلوات الله عليه وآله) ودينه وشريعته كانت ستمحى أو تحرف كاملاً لو لم تكن الصديقة الزهراء (عليها السلام) موجودة وذريتها بجهادهم وجهودهم، وهو ما أشار إليه سيد الشهداء (عليه السلام) بقوله، أو بلسان حاله:

إن كان دين محمد لم يستقم *** إلا بقتلي يا سيوف خذوني

وما أشار إليه القائل بقوله: (الإسلام محمدي الوجود، حسينيالبقاء)(2)، ويصح (علوي البقاء) و(فاطمي البقاء) أيضاً.

ص: 323


1- عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «خلق الناس من شجر شتى، وخلقت أنا وابن أبي طالب من شجرة واحدة، أصلي علي وفرعي جعفر». الخصال: ص21 ح72. كما رواه علماء العامة، منهم الحاكم النيسابوري في المستدرك على الصحيحين: ج2 ص241: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول لعلي: يا علي الناس من شجر شتى وأنا وأنت من شجرة واحدة، ثم قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله): (وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد) سورة الرعد: 4. هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وكذا الطبراني في المعجم الأوسط: ج4 ص263، وتفسير القرطبي: ج9 ص283، والدر المنثور: ج4 ص44، وتاريخ مدينة دمشق: ج42 ص64، إلى غيرها من المصادر.
2- نسب قريب من هذه الكلمة إلى العلامة كاشف الغطاء، انظر (الكشكول المبوب): ص44.

الخطاب الأحب للقلب

مسألة: يستحب الخطاب بما يكون أحب للقلب.

فإن التحبيب للناس فضيلة، فكيف بالتحبيب إليهم (عليهم الصلاة والسلام).

إضافة إلى كونه إدخالاً للسرور في قلب المؤمن، وقد أشرنا إلى مثل ذلك في بعض المباحث السابقة.

الخطاب الأرضَى للرب

مسألة: يستحب الخطاب بما يكون أرضى للرب، بل ينبغي رعاية ذلك في كل فعل وقول وحركة وسكون.

ومعنى الأرضى للرب: أن الله سبحانه وتعالى يعطي عليه أفضل الجزاء، إذ الله سبحانه وتعالى لا يرضى كرضى الناس، كما لا يغضب كغضبهم، فإن الرضا والغضب من الحوادث والطوارئ والحالات النفسية، جل جلاله عنها، بل كما ذكروا في علم الكلام: (خذ الغايات واترك المبادي).

ص: 324

سيدة النساء

اشارة

عن الصديقة فاطمة (عليها السلام) قالت: قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أما ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين»(1).

وفي حديث آخر: «سيدة نساء أمتي»(2).

وفي رواية أخرى: «يا فاطمة ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين؟»(3).وفي رواية رابعة: «أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة؟»(4).

ص: 325


1- فضائل سيدة النساء: ص25، وفي مسند أبي داود الطيالسي: ص197 زيادة: (أو سيدة نساء هذه الأمة).
2- عن أبي هريرة قال: أبطأ رسول الله (صلى الله عليه وآله) عنا يوماً صدر النهار، فلما كان العشي قال له قائلنا: يا رسول الله قد شق علينا لم نرك اليوم، قال: (إن ملكاً من السماء لم يكن رآني فاستأذن الله في زيارتي فأخبرني أو بشرني أن فاطمة ابنتي سيدة نساء أمتي، وأن حسناً وحسيناً سيدا شباب أهل الجنة). السنن الكبرى: ج5 ص146 ح8515. وعن أبي هريرة: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (إن ملكاً من السماء لم يكن زارني فاستأذن الله في زيارتي فبشرني أو أخبرني أن فاطمة سيدة نساء أمتي). المعجم الكبير: ج22 ص403، مجمع الزوائد: ج9 ص201.
3- انظر صحيح البخاري: ج7 ص142 كتاب الاستئذان، بزيادة: (أو سيدة نساء هذه الأمة)، وصحيح مسلم: ج7 ص143 وص144، وسنن ابن ماجه: ج1 ص518 ح1621، وفضائل الصحابة للنسائي: ص77، وغيرها من المصادر.
4- صحيح البخاري: ج4 ص183 باب علامات النبوة في الإسلام، وفيه زيادة: (أو نساء المؤمنين فضحكت لذلك).

وفي رواية خامسة: «ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء هذه الأمة؟»(1).

وفي رواية سادسة: إنه (صلى الله عليه وآله) نظر يوماً إلى فاطمة (عليها السلام) فقال لها : «يا فاطمة، إنك سدت نساء أمتي كما سادت مريم ابنة عمران على نساء عالمها»(2).

وفي رواية سابعة: «أنت سيدة نساء أهل الجنة(3)، لا مريم البتول»(4).وفي رواية عائشة: إن النبي (صلى الله عليه وآله) قال، وهو في مرضه الذي توفي فيه: (يا فاطمة ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين، وسيدة نساء هذه الأمة، وسيدة نساء المؤمنين)(5).

-------------------------------------------

ص: 326


1- انظر مسند أحمد: ج6 ص282، وفيه زيادة: (أو نساء المؤمنين، قالت: فضحكت لذلك)، والسنن الكبرى للنسائي: ج5 ص146 ح8516.
2- شرح الأخبار: ج3 ص24 ح959، ومن مصادر العامة: المعجم الكبير ج22 ص417 ونصه: (أما ترضين أن زوجك أول المسلمين إسلاماً، وأعلمهم علماً، فإنك سيدة نساء أمتي كما سادت مريم نساء قومها).
3- بهذا المقطع دون الزيادة، وردت في مصادر الإمامية منها الاحتجاج: ج1 ص414.
4- مصادر هذا الحديث جاء بنص: (إلا مريم البتول). منها: جامع البيان لابن جرير الطبري: ج3 ص359. ويحتمل أن بعض الأعداء صحفوا (لا) وزادوا الإلف، وبعض المحققين ذهب إلى أن المقصود من (إلا) العاطفة لا الاستثنائية، كما في قوله تعالى: (لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم) سورة البقرة: 150، وقوله تعالى: (لا يخاف لدي المرسلون * إلا من ظَلَم ثم بدّل حسناً بعد سوء) سورة النمل: 11.
5- المستدرك على الصحيحين: ج3 ص156 ثم قال: هذا إسناد صحيح ولم يخرجاه هكذا.

أحاديث متعددة

الظاهر أن هذه التعابير المختلفة هي أحاديث متعددة، صدرت منه (صلوات الله عليه وآله) في أوقات مختلفة، وليست نسخاً مختلفة لحديث واحد، فمرة قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لابنته فاطمة (عليها السلام): (سيدة نساء العالمين)، ومرة أخرى قال لها: (سيدة نساء أهل الجنة) وهكذا.

ولعل من الأسباب في ذلك، إضافةً إلى اقتضاء لكل مقام مقالاً وصفةً، أن بعضها عن سيادتها في الجنة، وبعضها عن سيادتها في الدنيا، وهما متغايران كما هو واضح، ثم بعضها عن سيادة المؤمنين وبعضها عن سيادة هذه الأمة والثاني أعم، ولو اقتصر عليه فلربما ادعى شخص الاستثناء أو الانصراف، بل لعل النسبة هي (من وجه) إذ يراد ب- (المؤمنين) الأعم من مؤمني هذه الأمة وب- (الأمة) الأعم من مؤمنيها، فيفترقان في مؤمني الأمم السابقة وفي فساق هذه الأمة.

وأما (العالمين) فهو أعم من عالم المادة وعالم المعنى، ومن عوالم الجن والأنس والملك وغيرها.

مسائل عديدة

مسألة: يستحب بيان أن الصديقة فاطمة (عليها السلام) سيدة نساء العالمين ويلزم الاعتقاد بذلك.

مسألة: يستحب بيان أنها (عليها السلام) سيدة نساء أمة الرسول (صلى الله عليه وآله) ويلزم الاعتقاد بذلك.

ص: 327

مسألة: يستحب بيان أنها (عليها السلام) سيدة نساء المؤمنين ويلزم الاعتقاد بذلك.

مسألة: يستحب بيان أنها سيدة نساء أهل الجنة (عليها السلام) ويلزم الاعتقاد بذلك.

وهذه الألقاب الشريفة: (سيدة نساء العالمين)، و(سيدة نساء الأمة)، و(سيدة نساء المؤمنين)، و(سيدة نساء أهل الجنة)، و(سيدة نساء الأولين والآخرين)(1)، و(سيدة نساء الأكوان)، إلى غير ذلك من الأمور المتصورة فيهاالسيادة هي على القاعدة، وصحيحة كبرى وصغرى، أما الصغرى فلهذه الأحاديث وما يقرب من مضمونها وهي كثيرة، وأما الكبرى فلأن الله سبحانه جعل لكل شيء سيداً، كما جعل في كل شيء وسطاً ومعياراً، وكذلك جعل أيضاً سلّماً للرقيّ.

والمراد بالسيادة: الأفضلية والأشرفية، ولزوم المعرفة والطاعة والتأسي والاقتداء به، نعم في بعض الموارد يراد للقرينة الخارجية القدر الأوسط الأشرف.

ففي الأحاديث: «إن سيد الأيام يوم الجمعة»(2)، وليس المراد بسيادة

ص: 328


1- عن عمرو بن ميمون الأودي، إنه ذكر عنده علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال: إن قوماً ينالون منه، أولئك هم وقود النار، ولقد سمعت عدة من أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله) منهم حذيفة بن اليمان وكعب بن عجرة يقول كل رجل منهم: لقد أعطي علي ما لم يعطه بشر، هو زوج فاطمة سيدة نساء الأولين والآخرين. الأمالي، للشيخ الطوسي: ص558 المجلس20 ح8.
2- المجازات النبوية للشريف الرضي: ص311، وعقّب عليه بقوله: وهذا القول مجاز، والمراد أن ليوم الجمعة شرفا ونباهة يبين بهما من سائر الأيام، فيكون مقدماً لها، وعالياً عليها لما يختص به من صلاة الجماعة التي ينشر ذكرها، ويعظم أجرها، كما يتقدم السيد على من دونه بعلو القدر، ونباهة الذكر.

الجمعة كل تلك الأمور حتى الإطاعة والمعرفة(1)، فتأمل(2)، فالسيادة في كلمورد بحسبه الممكن.

مراتب السيادة

ثم إن السيادة ذات مراتب، فلا يقال: كيف يمكن أن تكون الصديقة (عليها السلام) هي سيدة نساء العالمين، ويكون الرسول (صلى الله عليه وآله) سيداً عليها أيضاً؟

فإن مرتبتها في السيادة بعد مرتبة الرسول (صلى الله عليه وآله)، كما أن مرتبتها في السيادة مساوية لمرتبة علي (عليه الصلاة والسلام) كما يفهم من الأحاديث أنهما متساويان في الفضل.

قال الله عزّ وجلّ في حديث قدسي: «لو لم أخلق علياً (عليه السلام) لما كان لفاطمة ابنتك كفو على وجه الأرض، آدم فمن دونه»(3).

وروي أنه عوتب النبي (صلى الله عليه وآله) في أمر فاطمة (عليها

السلام) فقال:

ص: 329


1- فلا يراد من سيادته أنه يجب على سائر الأيام معرفة يوم الجمعة وإطاعته مثلاً.
2- إشارة إلى إمكان ذلك واقعاً، فإننا لا نعلم حقيقة الزمن وحقيقة الأيام، ولا نعرف أدوار وتكاليف الممكنات، قال تعالى: (وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم) سورة الإسراء: 44، والظاهر أن لكل نوع تسبيحاً معيناً، قال عزوجل: (ائتيا طوعاً أو كرهاً) سورة فصلت: 11، وهكذا.
3- عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج2 ص203 ب21 ح3.

«لو لم يخلق الله علي بن أبيطالب ما كان لفاطمة كفو»(1).

وفي خبر آخر: «لولاك لما كان لها كفو على وجه الأرض»(2).

وروى المفضل عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «لولا أن الله تعالى خلق أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يكن لفاطمة (عليها السلام) كفو على ظهر الأرض، آدم فمن دونه»(3).

فإن السلّم يبتدئ من جانب العلو بالرسول الأعظم (صلى

الله عليه وآله)، ثم أمير المؤمنين علي والصديقة فاطمة (عليهما السلام)، ثم الحسن (عليه السلام)، ثم الحسين (عليه السلام)، ثم الأئمة المعصومين (عليهم الصلاة والسلام)، وفي بعض الأحاديث أن تاسعهم وهو الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف) أفضل ممن سبقه من الإمام السجاد (عليه الصلاة والسلام) ومن بعده(4)، كما لا يخفى على من راجع(معالم الزلفى) للسيد هاشم البحراني (قدس سره) وغيره من الكتب المعنية بشأن أخبار الأصول.

وإنما خلق الله الأشياء مختلفة المراتب، لأنه سبحانه يعطي كل قابل للخلق خلقه، وكل ذي فضل فضله، كما قال سبحانه: «الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ

ص: 330


1- روضة الواعظين: ج1 ص146 باب في ذكر تزويج فاطمة الزهراء (عليها السلام).
2- مناقب آل أبي طالب: ج2 ص29 باب ما تفرد من مناقبه (عليها السلام).
3- تهذيب الأحكام: ج7 ص470 باب من الزيادات في فقه النكاح ح90.
4- قال السيد المرتضى (قدس سره) في رسائله: ج1 ص281: (الأئمة في الفضل سواء بعد مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) أم يتفاضل بعضهم على بعض؟. الجواب: الفضل في الدين لا يقطع عليه إلاّ بالسمع القاطع. وقد روي أن الأئمة (عليهم السلام) مساوون في الفضل. وروي أن كل إمام أفضل ممن يليه سوى القائم (عليه السلام)، فإنه أفضل من المتقدمين عليه، فالأولى التوقف في ذلك، فلا دليل قاطع عليه).

ثُمَّ هَدَى»(1) أي: هداه إلى مصالحه.

وهذا ليس خاصاً بالنبات أو الحيوان أو الإنسان أو الملك أو الجن أو الشيطان، وإنما حتى سائر ذرات الكون أيضاً كذلك، لأن الله تعالى أخذ بناصية الجميع إلى حيث المصلحة حسب مقتضى الحكمة، كما قال سبحانه: «إِلاّ هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا»(2).

وقال تعالى: «ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ»(3).

وقد تقدم في بعض المباحث: أنهيستفاد من القرآن الكريم والروايات الشريفة أن كل شيء له شيء من الإدراك والمعرفة والعلم والحياة والنطق وما أشبه، كل بحسبه، هذا في الدنيا التي كثير من الأشياء في حالة شبه النوم، كما يبدو لنا، بينما في الآخرة: «فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ»(4)، وآنذاك: «تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا»(5) وما أشبه.

وفي آيات متعددة نسبة التسبيح إلى كل شيء، قال تعالى: «سَبَّحَ للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ»(6).

ص: 331


1- سورة طه: 50.
2- سورة هود: 56.
3- سورة فصلت: 11.
4- سورة النازعات: 14.
5- سورة الزلزلة: 4.
6- سورة الحديد: 1.

وقال سبحانه: «يُسَبِّحُ للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ»(1).

وقال عزوجل: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ»(2).

بين الصديقتين

ثم إن التوفيق بين ما ورد من قوله تعالى بالنسبة إلى مريم (عليها

السلام):«وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ»(3)، وبين كون الصديقة فاطمة (عليها السلام) سيدة نساء العالمين، مع لحاظ ما ثبت أن فاطمة (عليها السلام) أفضل منها، يقتضي أن يكون المراد بكون مريم (عليها السلام) سيدة نساء العالمين أي نساء عالمها.

وهذا تعبير شائع فيقال: إن الدولة الفلانية أقوى الدول، ولا يراد به الأقوى المطلق بالنسبة إلى السابق واللاحق، بل يراد بقول مطلق بالنسبة إلى الدول المعاصرة.

عن الحسن بن زياد العطار، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): قول رسول الله (صلى الله عليه وآله): فاطمة سيدة نساء أهل الجنة، أسيدة نساء عالمها، قال: ذاك مريم، وفاطمة سيدة نساء أهل الجنة من الأولين والآخرين.

فقلت: فقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة؟

ص: 332


1- سورة الجمعة: 1.
2- سورة الإسراء: 44.
3- سورة آل عمران: 42.

قال: «هما والله سيدا شباب أهل الجنة من الأولين والآخرين» (1).

لا يقال: فلماذا لم تذكر فاطمة (عليها الصلاة والسلام) في القرآن الحكيمبينما ذكرت مريم؟

لأنه يقال: إن فاطمة (عليها الصلاة والسلام) لم تتهم بمثل اتهام مريم حتى يلزم الدفاع عنها، بينما مريم اتهمت كما ورد في القرآن الحكيم: «وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا»(2).

هذا بالإضافة إلى أنه لم يذكر في القرآن الحكيم بالصراحة الواضحة أسامي من عاصر رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلاّ في نفرين، وهما: زيد، في قوله سبحانه: «فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا»(3)، وأبو لهب في قوله تعالى: «تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ»(4).

إضافة إلى أجوبة عديدة أخرى. وقد ذكر بعض المفسرين تبعاً لبعض الروايات أن علياً (عليه الصلاة والسلام) أيضاً ذكر في القرآن صراحة، في موارد عديدة: منها قوله تعالى: «وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا»(5).

وقوله سبحانه: «وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ»(6).

ص: 333


1- الأمالي، للشيخ الصدوق: ص187 المجلس26 ح7.
2- سورة النساء: 156.
3- سورة الأحزاب: 37.
4- سورة المسد: 1.
5- سورة مريم: 50.
6- سورة الزخرف: 4.

نعم قد ذكر القرآن في عشراتالآيات بل مئاتها مما تدل على فضائل علي (عليه السلام) وأهل البيت (عليهم السلام) وأنهم الأوصياء من بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، كما ورد في شأن فاطمة (عليها الصلاة والسلام) آيات كثيرة(1).

السيادة والمسؤولية

الظاهر أن (السيادة) تستلزم (المسؤولية)، فكلما منح الله شخصاً أو شيئاً مرتبة من السيادة، تحمّل قدراً من المسؤولية.

كما أن (السيادة) نعمة تستوجب الشكر القولي والعملي، ولذلك ورد في الحديث: «عن عمره فيم أفناه وعن شبابه فيم أبلاه»(2).

ولعل المستظهر أنها (صلوات الله عليها)كانت تحمل من المسؤولية بقدر ما كان منحها الله تعالى من السيادة، كما يدل عليه تصديها بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) للدفاع عن الإمامة بما لا نظير له، ولولاها (عليها السلام) لانطمس الدين وانمحى، وما خفي علينا من اضطلاعها بمسؤولياتها أعظم.

ص: 334


1- راجع (فاطمة عليها السلام في القرآن) لآية الله العظمى السيد صادق الشيرازي (دام ظله)، فقد ذكر سماحته فيه أكثر من (260) آية من (68) سورة نزلت في حق الزهراء (عليها السلام) إما بشكل خاص أو عام أي ضمن العترة الطاهرة (صلوات الله عليهم أجمعين).
2- قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إذا كان يوم القيامة لم تزل قدما عبد حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعما اكتسبه من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن حبنا أهل البيت». تحف العقول: ص56 في قصارى كلماته (صلى الله عليه وآله).

بيان أنها السيدة

مسألة: يستحب بيان أن الصديقة فاطمة (عليها السلام) هي سيدة كل النساء على الإطلاق.

ولا يخفى أن ذكر النساء من باب المجانسة، وإلاّ فهي سيدة الرجال أيضاً ما عدا الرسول وعلي (عليهما الصلاة والسلام)، فهي سيدة البشر وسائر المخلوقات إطلاقاً باستثناء هذين المعصومين (عليهما السلام)، وحتى أنها سيدة بالنسبة إلى أولادها المعصومين (عليها السلام)،

قال الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام):

«فأبي شمس وأُمي قمر *** فأنا الكوكب وابن القمرين»(1).

وقال أيضاً: «أُمّي خير مني»(2).

دفع دخل ورفع إشكال

مسألة: يستحب دفع الاحتمال غير الصحيح ودفع الدخل إذا كان فيه الفائدة، سواء في الأمور الدينية أو غيرها، كما قال (صلى الله عليه وآله): «لا مريم البتول».فإن دفع الدخل نوع من إعطاء الكلام حقه، وسد باب الإشكال، وهو من الإتقان.

ص: 335


1- بحار الأنوار: ج45 ص48.
2- عوالم العلوم، الإمام الحسين (عليه السلام): ص246.

نعم ربما يكتفي المتكلم بذكر جانب من الكلام فقط لحكمة، إما لأنه الأكثر أهمية، أو لأنه الأكثر ابتلاءً، أو لغير ذلك، كما في جملة من الآيات والروايات.

مثلاً ورد: (لا يضر الصائم ما صنع إذا اجتنب أربع خصال)(1).

وفي بعض الروايات: (ثلاث خصال)(2).

كما قال سبحانه: «إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ وَالدَّمَ وَل-َحْمَ الْخِنْزِيرِ»(3).

وما أشبه ذلك من الآيات والروايات التي لم تكن بصدد بيان كل الأحكام، أو كل ما يرتبط بالكلام حتى يأتي بالاستثناءات والخصوصيات.

رضا الصديقة

مسألة: يستحب بل يجب، كل في مورده، تحصيل رضا فاطمة (صلوات الله عليها)، وذلك لقوله (صلى الله عليه وآله): «أما ترضين»، «ألا ترضين»؟.

فإذا كان الرضا في مقابل الغضب فهو واجب، أما الرضا في مقابل الحياد فمستحب في بعض موارده، وربما وجب أيضاً.

ومن ذلك بذل المزيد من العناية والرعاية بذريتها (صلوات الله عليها) بالسعي لقضاء حوائجهم ورعايتهم، وتنميتهم وتزكيتهم بالعلم والعمل الصالح، إضافة

ص: 336


1- روى محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «لا يضر الصائم ما صنع إذا اجتنب أربع خصال: الطعام، والشراب، والنساء، والارتماس في الماء». من لا يحضره الفقيه: ج2 ص107 ح1853.
2- تهذيب الأحكام: ج4 ص202 ب54 ح1.
3- سورة النحل: 115.

إلى تكفّل شؤونهم الدنيوية وإكرامهم واحترامهم.

ومن الضروري أن يسعى كل واحد من ذراريها (عليها السلام) ليكون الأفضل أخلاقاً، والأكمل إيماناً، والأشمل علماً، والأكثر عملاً، فإن ذلك من خير ما يرضي أمهم الصديقة الزهراء (صلوات الله عليها) عنهم.

كما أن كل من يساهم في ذلك بتدريس أو تنظيم أو تربية أو تأسيس مؤسسات لهم أو غير ذلك، فإنه يحرز بذلك رضى سيدة النساء (عليها السلام)، و(الله يرضى لرضا فاطمة ويغضب لغضبها)(1).

ص: 337


1- انظر بحار الأنوار: ج30 ص347 ب20.

إنها سيدة النساء لا مريم

اشارة

في رواية عن الصديقة فاطمة (عليها السلام) قالت: أخبرني رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه يموت، فبكيت، ثم حدثني: «أني سيدة نساء أهل الجنة بعد مريم بنت عمران فضحكت»(1).

وفي رواية أخرى قالت (عليها السلام) : «أخبرني (صلى الله عليه وآله) أنه ميت من وجعه هذا، فبكيت، ثم أكببت عليه، فأخبرني أني أسرع أهله لحوقاً به، وأني سيدة نساء أهل الجنة، لا مريم بنت عمران فضحكت».

-------------------------------------------

أقول: المراد بالبعدية في الرواية الأولى، البعدية الزمانية لا البعدية الرتبية، لما تقدم من أنها (عليها السلام) سيدة حتى على مريم (عليها السلام).

تسلية المحزون

مسألة: يستحب تسلية المحزون، وربما كان ذلك ببيان بعض فضائله وميزاته التي منحه الله تعالى، سواء كان إعلاماً أو تذكيراً، كما سلّى النبي (صلى الله عليه وآله) فاطمة (عليها السلام) وقال لها: إنها «سيدة نساء أهل الجنة».ولعله لا فرق في ذلك في الجملة بين المحزون لأمر أخروي والمحزون لأمر دنيوي كمن فقد ماله، مع أن التسلية تختلف باختلاف المقام وسبب الحزن

ص: 338


1- انظر من كتب العامة: السنن الكبرى للنسائي: ج5 ص145 ح8513، والمعجم الكبير: ج22 ص422.

وشخصية الحزين، فقد يسلى فاقد المال بأن يقال له: إنه امتحان لك فإذا نجحت نلت كذا من الدرجات، وقد يسلى بأن الله يدفع بمثل هذا البلاء ما هو أعظم، كما أن التسلية قد تكون بالقول مثل ما سبق، وقد تكون بالفعل بأن يعطيه في المثال السابق بعض المال ليتجر به ويعوّض خسارته مثلاً.

التبسّم

مسألة: يستحب التبسم في وجه الأب، خاصةً في المواطن الصعبة، وخصوصاً إذا كان يرغب بذلك بقول يقوله أو عمل يعمله، ولعله كان من بعض السر في ضحكها وتبسمها (عليها السلام).

واستحباب ما ذكر إما من باب الخصوصية بالنسبة إلى سائر الأرحام، فيكون أفضل من غيره، أو من باب أحد الأفراد، وعلى أي فالرواية دالة على أصل الاستحباب بملاحظة مختلف القرائن، هذا بالإضافة إلى الأدلة العامة التي تدل على استحباب أن يكون: «بِشرالمؤمن في وجهه وحزنه في قلبه»(1).

ثم إن المراد بالضحك في أمثال هذه الموارد بالنسبة إليهم (عليهم الصلاة

ص: 339


1- لهذا الحديث نصان: الأول: (إن بشر المؤمن في وجهه، وقوته في دينه، وحزنه في قلبه). عيون الحكم والمواعظ: ص151. الثاني: (المؤمن بشره في وجهه، وحزنه في قلبه، أوسع شيء صدراً، وأذل شيء نفساً، يكره الرفعة، ويشنو السمعة، طويل غمه، بعيد همه، كثير صمته، مشغول وقته، شكور صبور، مغمور بفكره، ضنين بخلته، سهل الخليقة، لين العريكة، نفسه أصلب من الصلد، وهو أذل من العبد). نهج البلاغة: ج4 من حِكَم أمير المؤمنين (عليه السلام) ومواعظه ح333.

والسلام) التبسّم، لا الضحك الذي يشوبه الصوت العالي، فإن ذلك مكروه شرعاً كما في الروايات.

عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «القهقهة من الشيطان»(1).

ولذا ورد أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يضحك بصوت قط، وإن كان من ألقابه الشريفة كما في البحار (الضحوك)(2)، لأنه كان كثير الضحك التبسمي حتى يبدد خوف الناس أو همومهم.وعن علي (عليه السلام) قال: «كان ضحك النبي (صلى الله عليه وآله) التبسم، فاجتاز ذات يوم بفيئة من الأنصار، وإذا هم يتحدثون ويضحكون ملء أفواههم، فقال: مه يا هؤلاء، من غره منكم أمله وقصر به في الخير عمله فليطلع القبور، وليعتبر بالنشور، واذكروا الموت فإنه هادم اللذات»(3).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «ضحك المؤمن تبسم»(4).

وكذلك كان أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) يضحك كثيراً أي بالتبسم، كما ورد في الشعر المشهور:

هو البكاء في المحراب ليلاً هو الضحاك إذا اشتد الحراب

وقال (عليه السلام) في وصف المتقين: «وإن ضحك لم يعل صوته»(5).

وقد ثبت علمياً أن الضحك ليس مظهراً فقط، بل يسبب تبديد الهموم عن

ص: 340


1- وسائل الشيعة: ج12 ص114 ب81 من أبواب أحكام العشرة ح3.
2- مرّ بيان مصدره فراجع.
3- وسائل الشيعة: ج12 ص119 ب83 من أبواب أحكام العشرة ح13.
4- وسائل الشيعة: ج12 ص115 ب81 من أبواب أحكام العشرة ح3.
5- نهج البلاغة: من خطبة له (عليه السلام) في وصف المتقين.

النفس، كما يبدد هموم الطرف الآخر، ويؤثر على الأعصاب والعضلات، وعلى حسنعمل أجهزة البدن كالقلب والمعدة وغيرها، وقد ذكرنا في مبحث سابق أن كل واحد من الروح والبدن يؤثر أحدهما في الآخر، صحةً وسقماً وحزناً وسروراً، إلى غير ذلك.

البكاء في فقد الأب

مسألة: يستحب البكاء على موت الأب، وعند السماع بخبر موته، ويستظهر من فعلها (صلوات الله عليها) استحباب البكاء حتى قبل موته إذا علم بذلك أو أخبر به.

بل قد ورد استحباب البكاء لموت مطلق المؤمن وإن لم يكن يعرفه، وذلك لأنه من المشاركة الوجدانية والإنسانية التي هي محبوبة لله سبحانه وتعالى ومرضية عند أوليائه الطاهرين (عليهم السلام)، إضافة إلى أنه مظهر من مظاهر الرحمة، ثم إنه انفعال لو كُبت لأضر بالعقل والجسم والأعصاب، كما يدل على ذلك ولو بدلالة الإشارة والاقتضاء جملة من الروايات.

البكاء في فقد العظماء الربانيين

مسألة: يستحب البكاء عند سماع خبر موت العظيم الرباني بطريق أولى،وكذلك في تذكر فقده(1).

ص: 341


1- كما هو الواقع في فقدنا لمولى الورى وغيبته (عجل الله فرجه الشريف وفرجنا بظهوره المبارك) ففي دعاء الندبة: (إلى متى أحار فيك يا مولاي، وإلى متى، وأي خطاب أصف فيك وأي نجوى، عزيز علي أن أجاب دونك وأناغى، عزيز علي أن أبكيك ويخذلك الورى، عزيز علي أن يجري عليك دونهم ما جرى، هل من معين فأطيل معه العويل والبكاء، هل من جزوع فأساعد جزعه إذا خلا، هل قذيت عين فساعدتها عيني على القذى، هل إليك يا بن أحمد سبيل فتلقى، هل يتصل يومنا منك بغده فنحظى). المزار لابن المشهدي: ص581 -582.

فإن العظيم الإلهي أولى من سائر المؤمنين بالبكاء عليه، ويشمله أيضاً قوله (عليه الصلاة والسلام): «يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا»(1)، وما ورد في دعاء الندبة(2) وغيره.وكما يستحب البكاء التلقائي على موت العظماء الالهيين، يستحب البكاء المخطط له، ومنه عقد المجالس وقراءة العزاء وبيان المصائب، والظاهر أن التباكي أيضاً مستحب لمن لا يمكنه البكاء.

قال الإمام الصادق (عليه السلام): «وإن لم يبك فليتباك»(3).

وقال (عليه السلام): «إن لم تكن بك بكاء فتباك»(4).

ص: 342


1- عن الإمام الصادق (عليه السلام) لمسمع، المشهور بكردين البصري، قال: «رحم الله دمعتك، أما أنك من الذين يعدون من أهل الجزع لنا، والذين يفرحون لفرحنا، ويحزنون لحزننا». كامل الزيارات: ص203 - 204 ب32 ح7.
2- حيث ورد: (فعلى الأطائب من أهل بيت محمد وعلي صلى الله عليهما وآلهما، فليبك الباكون، وإياهم فليندب النادبون، ولمثلهم فلتذرف الدموع، وليصرخ الصارخون، ويضج الضاجون، ويعج العاجون، أين الحسن، أين الحسين، أين أبناء الحسين، صالح بعد صالح، وصادق بعد صادق، أين السبيل بعد السبيل، أين الخيرة بعد الخيرة، أين الشموس الطالعة، أين الأقمار المنيرة، أين الأنجم الزاهرة، أين أعلام الدين وقواعد العلم). إقبال الأعمال: ج1 ص508.
3- إرشاد القلوب: ج1 ص93 ب22.
4- الكافي: ج2 ص483 باب البكاء ح8.

وقال (عليه السلام): «إن لم يجئك البكاء فتباك، فإن خرج منك مثل رأس الذباب فبخ بخ»(1).

البكاء في فقد النبي الأعظم

مسألة: يستحب البكاء عند سماع خبر موت الرسول (صلى الله عليه وآله) وعلى موته (صلى الله عليه وآله) بطريق أولى.

فإن فاجعة موت رسول الله (صلى الله عليهوآله) أعظم كل الفجائع، كما يدل عليه العقل والنقل، والبكاء عند سماع خبر موته (صلى الله عليه وآله) وعلى فقده من أفضل القربات، ولا يختص ذلك بزمن دون آخر، بل يستحب ذلك كلما تجدد ذكر موته (صلوات الله عليه وآله) نعم، يتأكد الاستحباب في بعض الأوقات مثل يوم شهادته من كل سنة.

عن أبي عبد الله (عليه السلام): «مَا مِنْ شَيْ ءٍ إلاّ وَلَهُ كَيْلٌ وَوَزْنٌ، إِلاّ الدُّمُوعُ فَإِنَّ الْقَطْرَةَ مِنْهَا تُطْفِئُ بِحَاراً مِنَ النَّارِ، فَإِذَا اغْرَوْرَقَتِ الْعَيْنُ بِمَائِهَا لَمْ يَرْهَقْ وَجْهَهُ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ، فَإِذَا فَاضَتْ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ، وَلَوْ أَنَّ بَاكِياً بَكَى فِي أُمَّةٍ لَرُحِمُوا»(2).

ص: 343


1- الكافي: ج2 ص483 باب البكاء ح11.
2- الكافي: ج2 ص482 باب البكاء ح5.

الإخبار عن المستقبل

مسألة: يستحب الإخبار عن المستقبل للمطلع عليه إما بعلم أو بعلمي وظن معتبر، وذلك مع وجود الفائدة فيه.

وإخبار القائد أو الرئيس أو من أشبه بموته هو من مصاديق ذلك، ولايخفى أن الإخبار عن المستقبل يفيد الاستعداد له والتهيؤ، وفي ذلك أكبر الفوائد.

الإخبار بالموت

مسألة: يستحب للعظيم أن يخبر أنه يموت إذا كان فيه الفائدة، فإن الإخبار موعظة وذكرى وإفادة لأن يتهيأ كل إنسان للموت.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أكثر من مرة: «إِنِّي أَوْشَكَ أَنْ أُدْعَى فَأُجِيبَ، وَإِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ، كِتَابَ اللَّهِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، وَإِنَّ اللَّطِيفَ الْخَبِيرَ أَخْبَرَنِي أَنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ فَانْظُرُوا مَا ذَا تَخْلُفُونِّي فِيهِمَا»(1).

وقال (صلى الله عليه وآله): «إِنِّي امْرُؤٌ مَقْبُوضٌ وَأَوْشَكَ أَنْ أُدْعَى فَأُجِيبَ، وَقَدْ تَرَكْتُفِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَفْضَلُ مِنَ الآخَرِ، كِتَابَ اللَّهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، فَإِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ»(2).

وقال (صلى الله عليه وآله): «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ نَبَّأَنِيَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ أَنَّهُ لَنْ

ص: 344


1- بحار الأنوار: ج23 ص108 ب7 ح12.
2- کمال الدين: ج1 ص335 ب22 ح49.

يُعَمَّرَ مِنْ نَبِيٍّ إِلاّ نِصْفَ عُمُرِ الَّذِي يَلِيهِ مِمَّنْ قَبْلَهُ، وَإِنِّي لَأَظُنُّنِي أَوْشَكَ أَنْ أُدْعَى فَأُجِيبَ، وَإِنِّي مَسْئُولٌ وَإِنَّكُمْ مَسْئُولُونَ، فَهَلْ بَلَّغْتُكُمْ فَمَا ذَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ، قَالُوا: نَشْهَدُ بِأَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَنَصَحْتَ وَجَاهَدْتَ فَجَزَاكَ اللَّهُ عَنَّا خَيْراً، قَالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ أَلَمْ تَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلاّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ وَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ وَأَنَّ الْبَعْثَ حَقٌّ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ مَوْلايَ وَأَنَا أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَلا مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلاهُ، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاهُ وَعَادِ مَنْ عَادَاه»(1).

الخبر المحزن والمفرح

مسألة: ربما يكون من الراجح البكاءللخبر المحزن، وذلك على حسب نوع الخبر وسائر المكتنفات به، كما لو بلغه خبر قتل مسلم أو تعذيب أو نبأ مصيبة حلّت بشخص أو عائلة أو بمقدس من المقدسات كالبقيع الغرقد.

والأمر كذلك في الضحك التبسمي للخبر المفرح، كما لو بلغه نبأ نجاة مؤمن من الأسر أو القتل، أو بلغه نبأ هداية شخص إلى الدين المبين، أو تأسيس مؤسسة دينية نافعة.

وهل يدل هذا الخبر على استحباب ذلك، أو لا دلالة فيه إلاّ على أصل الجواز؟

لا يبعد الأول، وخاصة بمعونة القرائن.

ص: 345


1- تفسير العياشي: ج1 ص4 ح3، وبحار الأنوار: ج23 ص141 ب7 ح92.

وربما يؤيدهما قوله سبحانه: «فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ»(1) في جانب البكاء، وقوله تعالى: «فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ»(2) في جانب الضحك.

سبب الموت

مسألة: يستحب بيان سبب الموت، حيث قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «من وَجَعِهِ»، وقد يجب لوجود جهة تقتضيه،كما إذا كان الموت بسبب أعداء الدين، كما في سم معاوية للمؤمنين بالعسل، وذلك إذا سبّب كشفه ردعاً أو وقايةً(3) أو ما أشبه.

وقوله: (وجعه) يدل على أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان ذا وجع في مرضه الذي توفي فيه، ولا يخفى أن هذا الوجع كان مسبباً عن السم الذي سُقي على يد فلانة وفلانة بأمر الأول والثاني(4)، ولعل في تغيير التعبير من (مرضه) إلى (وجعه) دلالة وإلفاتاً لذلك.

وتفصيل الأمر مذكور في المفصلات كالبحار وغيره.

ص: 346


1- سورة الدخان: 29.
2- سورة التوبة: 82.
3- (الردع) للكافر والظالم عن أن يفعل مثل ذلك، و(الوقاية) للمؤمن حيث إذا عرف طرق القتل سرّاً توقاها.
4- عن عبد الصمد بن بشير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: تدرون مات النبي (صلى الله عليه وآله) أو قتل؟، إن الله يقول: «أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم» (آل عمران: 144)، فسم قبل الموت، إنهما سمتاه، فقلنا: إنهما وأبويهما شر من خلق الله. بحار الأنوار: ج28 ص20 - 21 ب1 من كتاب الفتن والمحن ح28.

الأسرع لحوقاً

مسألة: يستحب بيان أن الصديقة فاطمة (عليها السلام) كانت أسرع أهله (صلى الله عليه وآله) لحوقاً به، وذلك لما ورد عليها من الظلم وكسر الضلع وإسقاط الجنين، وفي ذلك إحقاق الحق وفضح للظلم والظالم وهو نوع ودفاع عن المظلوم.

قابلية الأمة للنعم

مسألة: ينبغي - وجوباً أو استحباباً كل في مورده - توفير القابلية في النفس وفي الناس لتلقي نعم الله تعالى ثم لاستمرارها، كما يحرم أو يكره ما يسبب فقد تلك القابلية.

ومن أعظم النعم وجود المعصوم (عليه السلام) بيننا ظاهراً غير مستتر، فاللازم السعي لتوفير القابلية في النفوس كي يأذن الله تعالى لوليه الأعظم المنتظر (عليه السلام) بالظهور.

التأثر بخبر الموت

مسألة: يستحب أن يتأثر الإنسان عند ما يسمع بأنه سيموت، عكس من لا يهتم ويكون جامد الشعور، فإن التأثر مقدمة إصلاح الحال، ويستحب أن يكبّ على والدهحينئذ مع مراعاة الشؤون اللازمة بحيث لا يضر بصحته ولا يؤذيه.

ص: 347

التاريخ

مسألة: يستحب وقد يجب حفظ تاريخ الأنبياء والأوصياء والأولياء (عليهم السلام)، وكذلك تاريخ الطغاة والعصاة في الجملة، فإن في ذلك الهداية والعبرة وإرشاد الجاهل وردع الظالم وغير ذلك.

ص: 348

الزهد والصدقات

اشارة

في رواية: «إن فاطمة (عليها السلام) نزعت قلادتها، وقرطيها، ومسكتيها، ونزعت الستر فبعثت به إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقالت للرسول (صلى الله عليه وآله): قل له: تقرأ عليك ابنتك السلام وتقول: اجعل هذا في سبيل الله»(1).

-------------------------------------------

ص: 349


1- تمام الحديث هو: عن محمد بن قيس، قال: «كان النبي (صلى الله عليه وآله) إذا قدم من سفر بدأ بفاطمة (عليها السلام) فدخل عليها، فأطال عندها المكث، فخرج مرة في سفر فصنعت فاطمة (عليها السلام) مسكتين من ورق وقلادة وقرطين وستراً لباب البيت لقدوم أبيها وزوجها (عليهما السلام)، فلما قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله) دخل عليها فوقف أصحابه على الباب لا يدرون أيقفون أو ينصرفون لطول مكثه عندها، فخرج عليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد عرف شبه الغضب في وجهه حتى جلس عند المنبر، فظنت فاطمة (عليها السلام) أنه إنما فعل ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما رأى من المسكتين والقلادة والقرطين والستر، فنزعت قلادتها وقرطيها ومسكتيها، ونزعت الستر، فبعثت به إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقالت للرسول: قل له (صلى الله عليه وآله): تقرأ عليك ابنتك السلام وتقول: اجعل هذا في سبيل الله. فلما أتاه وخبره، قال (صلى الله عليه وآله): فعلت فداها أبوها - ثلاث مرات - ليست الدنيا من محمد ولا من آل محمد، ولو كانت الدنيا تعدل عند الله من الخير جناح بعوضة ما أسقى منها كافراً شربة ماء، ثم قام فدخل عليها». الأمالي للشيخ الصدوق: ص305 المجلس41 ح7. وفي إسناد هذا الحديث عدد من محدثي العامة ورواتهم، من هنا يحتمل فيه بعض الزيادة والتغيير.

المسارعة للاستجابة

مسألة: تستحب المبادرة وقد تجب، إلى إرضاء الرسول والأئمة والأولياء (عليهم السلام) بفعل الواجب أو المستحب الذي رغبوا فيه، وهو عنوان زائد على أصل عنوان وجوبه واستحبابه وقربه إلى الله عزوجل.

وذلك لاستحباب قضاء حاجة المؤمن، وهو غير عنوان (الاستجابة) و(الإطاعة) الذي اشتهر أنه إرشادي.

وهذا ما يستفاد من فعل الصديقة (عليها السلام) حيث إنها إذ علمت برغبته (صلوات الله عليه وآله) سارعت إلى نزع قلادتها وقرطيها .. إلى آخره.

استحباب التزين

مسألة: يستحب للمرأة أن تتزين بالقلادة والقرط والمسكة وما أشبه لزوجها، تأسياً بالصديقة الزهراء (عليها السلام) إذ فعلت ذلك.

وأما نزعها وإرسالها كل ذلك للرسول (صلى الله عليه وآله) ليتصدّق به فلعنوان طارئ.

وهل الاستحباب خاص بما إذا كان للزوج، أم يشمل حتى ما لو كانت بمفردها، ربما يحتمل الثاني للإطلاقات، ولمثل: (إن الله عز وجل جميل يحبالجمال)(1)، هذا كله مع حفظ الموازين الشرعية.

ص: 350


1- دعائم الإسلام: ج2 ص155 كتاب اللباس والطيب ح521.

إبلاغ السلام

مسألة: يستحب إبلاغ السلام مطلقاً(1)، على ما يستفاد من جملة من الروايات.

كما أنه يستحب إبلاغ التحية والإكرام ونحوهما من ألفاظ الاحترام.

وهكذا يستحب إرسال الهدايا، فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «تهادوا تحابوا»(2).

وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ وَ لَا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، وَ يَقُولُ: تَهَادَوْا فَإِنَّ الْهَدِيَّةَ تَسُلُّ السَّخَائِمَ وَتُجْلِي ضَغَائِنَ الْعَدَاوَةِ وَالْأَحْقَادِ»(3).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مِنْ تَكْرِمَةِ الرَّجُلِ لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ أَنْ يَقْبَلَ تُحْفَتَهُ وَ يُتْحِفَهُ بِمَا عِنْدَهُ وَ لَا يَتَكَلَّفَ لَهُ شَيْئاً»(4).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قالأمير المؤمنين (عليه السلام): «لَأَنْ أُهْدِيَ لِأَخِي الْمُسْلِمِ هَدِيَّةً تَنْفَعُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِمِثْلِهَا»(5).

ص: 351


1- كما أن إبلاغ السلام نوع من الأمانة ويلزم أداء الأمانة قال تعالى: ان الله يامركم ان تؤدوا الامانات الى اهلها.
2- من لا يحضره الفقيه: ج3 ص299 باب الهدية ح4067.
3- الكافي: ج5 ص 143 باب الهدية ح7.
4- الكافي: ج5 ص 143 باب الهدية ح8.
5- الكافي: ج5 ص 144 باب الهدية ح12.

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «تَهَادَوْا بِالنَّبِقِ تَحْيَا الْمَوَدَّةُ وَ الْمُوَالَاةُ»(1).

وهل يشمل أجر السلام (للمبتدئ سبعون حسنة وللراد حسنة)(2)، إبلاغ السلام من بعيد بواسطة الرسول؟ احتمالان، من الإطلاق، ومن الانصراف.

إنفاق الزائد

مسألة: يستحب الإنفاق وإعطاء الزائد عن المؤونة اللازمة، في سبيل الله.

وهذا الاستحباب يؤكد في وقت الحاجة والضرورة عند الناس، كما كان في زمان رسول الله (صلى الله عليه وآله).

ويدل على المطلوبية - الأعم منالاستحباب والوجوب - آيات الانفاق وآيات الجهاد بالأموال كقوله تعالى: «أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ»(3).

وقوله سبحانه: «وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ الله»(4).

ومن مصاديق ذلك ما اعتاده بعض الناس من جمع التحفيات في منازلهم أو محلاتهم أو غيرها، فإن الأفضل إنفاقها.

ثم لا يخفى أن كثيراً من أعمال المعصومين (عليهم السلام) كان على سبيل

ص: 352


1- الكافي: ج5 ص 144 باب الهدية ح13، والنبق (بفتح النون وكسر الباء وقد يسكن): ثمر السدر، واحدتها نبقة.
2- قال الإمام الحسين (عليه السلام): «للسلام سبعون حسنة، تسع وستون للمبتدئ، وواحدة للراد».تحف العقول: ص248 في قصارى كلماته (عليه السلام).
3- سورة البقرة: 254.
4- سورة التوبة: 41.

التعليم للآخرين، ومن قبيل (إياك أعني واسمعي يا جارة)، ومنه قصة هذه الرواية، حيث علقت (عليها السلام) ستراً في بيتها، وإلاّ فهي أعرف من أن تفعل ما لا يرضاه الرسول (صلى الله عليه وآله)، فكان تعليق الستر ونزعه لتعليم الآخرين.

بعث الصدقات للأئمة والعلماء

مسألة: يستحب بعث الصدقات وغيرها إلى الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) والأئمة المعصومين (عليهم السلام) حتى ينفقوها في مواردها، فهم أعلم من غيرهم بالأصلح من مصارفها.وهكذا الأمر بالنسبة إلى وكلائهم الفقهاء العدول في زمن الغيبة، كي يقسموها بأنفسهم على من يرون، تقوية لشوكة الدين، وللقادة الربانيين، لذا أرسلت الصديقة (عليها السلام) صدقاتها إلى النبي (صلى الله عليه وآله).

وهذا لا ينافي استحباب أن يتصدّق الإنسان مباشرة كما لا يخفى.

والمراد بالصدقات: كلما يدفعه الإنسان في سبيل الخير، سواء كانت صدقة واجبة أو مستحبة أو تبرعاً أو نذراً أو ثلثاً أو ثمار وقف أو نحو ذلك، لوجود الملاك فيها.

كما أن الصدقة تشمل (الأعيان) و(الأموال) و(المنافع)، فمن الصدقة أيضاً تعليم القرآن الكريم و الحديث الشريف، وتدريبه على الصنعة والحرفة وغير ذلك.

ثم إن ملاك ما ذكرناه جار في كل من كان محل احترام الله سبحانه وتعالى

ص: 353

ممن يريد شوكته، أو لأجل أمر آخر كتأليف القلوب ونحو ذلك مما يستفاد من الأدلة العامة.

الإيثار

مسألة: يستحب الإيثار في سبيل الله، كما نزعت الصديقة (عليها السلام) قرطيهاوقلادتها ومسكتيها والستر.

قال سبحانه: «وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ»(1).

ومن الواضح أن الملاك في هذه الأمور جارٍ في غيرها أيضاً، إذ العرف لا يفهم خصوصية فيها بما هي هي.

وإذا كان جماعة في سبيل الإصلاح وتقديم الأمة إلى الأمام يكون الاستحباب بالنسبة إليهم آكد، بل ربما وجب من باب المقدمية.

سلام البنت لأبيها

مسألة: يستحب للبنت أن تبلغ السلام لأبيها وأمها، فإن إبلاغ السلام مستحب مطلقاً، وللأقرباء - الأقرب فالأقرب - أكثر استحباباً، فإنه من مصاديق صلة الرحم والبرّ بالوالدين، والإبلاغ قد يكون برسالة.

ص: 354


1- سورة الحشر: 9.

إبلاغ السلام للمعصوم

مسألة: يستحب إبلاغ السلام إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وكذلك إبلاغ التحية إلى سائر المعصومين (عليهم الصلاة والسلام).

من غير فرق في ذلك بين حال حياتهم وبعد مماتهم، فيستحب أن يحمّل المقيمُ المسافرَ إلى المشاهد المشرفة سلامه للمعصومين ومن يرتبط بهم (عليهم السلام) عندما يتشرف إلى الحرم أو إلى المشهد، وهناك روايات متواترة تدل على تبليغ بعضهم البعض السلام.

وكذلك يستحب إبلاغ السلام إلى من هو في طريق أهل البيت (عليهم السلام) ممن تصدى للصلاح والإصلاح والإرشاد والهداية، ويتأكد في الغرباء منهم وأولئك الذين تصدوا للظلمة فاضطهدوا وحوربوا وحوصروا، فإن إبلاغ السلام ونحوه يشدّ من عزمهم ويثبت أقدامهم.

وفي بعض الأدعية: «فبلّغه منا تحية وسلاماً»(1).

استحباب الصدقة للمرأة

مسألة: يستحب للمرأة إعطاء الصدقات،تأسياً بالصديقة الطاهرة (صلوات الله عليها)، كما يستحب ذلك للرجل.

فإن إعطاء الصدقات لا يختص بالرجال، بل للنساء أيضاً نصيب في هذا الشأن.

ص: 355


1- مقطع من دعاء الافتتاح، انظر (إقبال الأعمال): ج1 ص512.

كما يدل عليه أيضاً عموم أدلة المشاركة في الأحكام بين الرجل والمرأة إلاّ ما خرج، وروايات أخر كإعطاء السيدة خديجة (عليها الصلاة والسلام) وغيرها من النساء الفضليات الصدقات.

الزهد في الدنيا

مسألة: يستحب الزهد في الدنيا، خاصة لمن يكون أسوة لغيره.

وفي دعاء الندبة: «بعد أن شرطت عليهم الزهد في درجات هذه الدنيا الدنية وزخرفها وزبرجها فشرطوا لك ذلك فعلمت منهم الوفاء فقبلتهم وقرّبتهم».

حيث إن الله سبحانه وتعالى قبلهم (عليهم السلام) وقرّبهم لما قبلوا الزهد.

وللزهد مصاديق كثيرة؛ منها الزهد في الشهرة، ومنها الزهد في الرياسة، ومنها الزهد في الأموال والثروات، ومنها الزهد في الملذات الأخرى.

ومن المعلوم أن الزهد عبارة عما ذكره أمير المؤمنين (عليه

الصلاة والسلام)بأن لا يملكه شيء، لا أن لا يملك شيئاً، على تفصيل مذكور في كتب الأخلاق، نعم ينبغي الالتفات إلى أن لا يخدع الإنسان نفسه بأنه ممن لا تملكه أشياؤه وأمواله وهو غارق فيها وفي ملذات الدنيا.

ص: 356

إيثار الصديقة

اشارة

قالت الصديقة فاطمة (عليها السلام) لعلي أمير المؤمنين (عليه السلام): «والذي أكرم أبي (صلى الله عليه وآله) بالنبوة، وأكرمك بالوصية، ما أصبح الغداة عندي شيء، وما كان شيء أطعمناه مذ يومين إلاّ شيء كنت أؤثرك به على نفسي وعلى ابنيّ هذين الحسن والحسين.

فقال علي (عليه السلام): يا فاطمة ألا كنت أعلمتيني فأبغيكم شيئاً.

فقالت: يا أبا الحسن إني لأستحي من إلهي أن أكلف نفسك ما لا تقدر عليه»(1).

-------------------------------------------

أقول: لا يخفى أن أهل البيت (عليهم السلام) لاشتغالهم بالإصلاح، لا يهمهم ما عدا ذلك، وهكذا ينبغي أن يكون من يريد إصلاح الأمة.

الحياء من الله

مسألة: يستحب الحياء من الله تعالى، كما يستحب الحياء من الزوج، بل يستحب الحياء مطلقاً، فإنه من الفضائل.

وقد ورد: (كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أشد حياءً من العذراء في

ص: 357


1- بحار الأنوار: ج43 ص59 ب3 ح51.

خدرها)(1).

وقالت (صلوات الله عليها): «إني لأستحيي من إلهي».

ومن مصاديق الحياء من الله تعالى، الحياء منه عند المعاصي فيتجنبها، ومن الحياء أن لا يترك نصرة دينه، ولا يخذل أولياءه.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «قلة الحياء كفر»(2).

وقيل له (صلى الله عليه وآله): أوصني، قال: «استحي من الله كما تستحي من الرجل الصالح من قومك»(3).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «والحياء سبب إلى كل جميل»(4).

صبر الزوجة

مسألة: يستحب صبر الزوجة على مشاق الحياة الزوجية، وعلى الزوج حتى إن لم يقدر على الإنفاق الواجب، وإن جاز لها أن تطلب الطلاق من حاكم الشرعوبالشروط المقررة، لكنه مرجوح.

والزوجة الصابرة لها أجر عظيم، وقد قال تعالى: «إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ»(5).

ص: 358


1- مستدرك الوسائل: ج8 ص465 ب93 من أبواب أحكام العشرة ح16.
2- مستدرك الوسائل: ج8 ص466 ب93 ح10027.
3- مستدرك الوسائل: ج8 ص466 ب93 ح10027.
4- مستدرك الوسائل: ج8 ص466 ب93 ح10029.
5- سورة الزمر: 10.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «جهاد المرأة أن تصبر على ما ترى من أذى زوجها وغيرته»(1).

ومن أعلى درجات الصبر أن لا تخبر الزوجة أحداً بشظف عيشها (2) ومشاقها، ما دام غير قادر أو غير متيسر له حلّ مشكلتها، وهي (صلوات الله عليها) لم تخبر زوجها بأنه لا طعام لهم حتى الخبز، رغم مضي حوالي اليومين حتى حدث ما أوجب أن تخبره.

تكليف الزوج بما يصعب عليه

مسألة: يكره تكليف الزوج بما لا يقدر أو يصعب عليه.

والمراد بما لا يقدر حسب العرف، لا القدرة الحقيقية، فإنها شرط كل تكليف عقلاً، فالعبارة عرفية تستعمل في أمثال هذه الموارد، ويراد بها تكليفه بمايشق عليه ويوقعه في عسر أو حرج.

استحباب الإيثار

مسألة: يستحب الإيثار مطلقاً، وإيثار الزوجة زوجها على نفسها كالعكس أكثر استحباباً من الغريب. نعم لعلّ الأولى أن يؤثر الأقوى الأضعف على نفسه، إذ (عونك الضعيف من أفضل الصدقة)(3)، وأصل الاستحباب مستفاد من الآية

ص: 359


1- الكافي: ج5 ص9 باب جهاد الرجل والمرأة ح1.
2- شظف العيش: خشونته.
3- جامع أحاديث الشيعة: ج16 ص173 ب94 من أبواب العشرة ح4.

الكريمة: «وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ»(1)، كما يستفاد من متواتر الروايات.

لكن يلزم أن لا يزاحم هذا الإيثار الحق الواجب، فإذا كانت نفقة واجبة على إنسان كنفقة الوالد بالنسبة إلى أولاده، وكالزوج بالنسبة إلى زوجته، لم يستحب للزوج والوالد الإيثار من سهم الولد والزوجة إلاّ برضا منهما، فإنه حق لهما لا يجوز تضييعه، لأن الأدلة الاقتضائية لا تزاحمها الأدلة اللااقتضائية.

واحتمال بعض الفقهاء أن الإيثار خاص بهم (عليهم الصلاة والسلام) أو خاصبزمانهم غير ظاهر الوجه.

وكما يستحب للكبار الإيثار، يستحب للصغار أيضاً أن يؤثروا على أنفسهم تأسياً بالإمامين الهمامين الحسن والحسين (عليهما السلام) في قصة «هَلْ أَتَى».

وأيضا كما يستحب الإيثار بالنسبة إلى المؤمن، يستحب الإيثار بالنسبة إلى الكافر، فإن الأسير في آية «هَلْ أَتَى» لم يكن مسلماً وإلاّ لم يكن أسيراً، وفي الحديث «على كل ذي كبد حرّى أجر»(2).

وفي حديث آخر: «على كل كبد رطبة أجر»(3).

وفي رواية آخرى: «في كل كبد رطبة أجر»(4).

ص: 360


1- سورة الحشر: 9.
2- غوالي اللئالي: ج2 ص260 باب الديون ح15.
3- غوالي اللئالي: ج1 ص95 الفصل6 ح3.
4- بحار الأنوار: ج62 ص65 ب1: وتمام الحديث: (إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله قَالَ: بَيْنَمَا امْرَأَةٌ تَمْشِي بِفَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ إِذَا اشْتَدَّتْ عَلَيْهَا الْعَطَشُ فَنَزَلَتْ بِئْراً فَشَرِبَتْ ثُمَّ صَعِدَتْ فَوَجَدَتْ كَلْباً يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ فَقَالَتْ لَقَدْ بَلَغَ بِهَذَا الْكَلْبِ مِثْلُ الَّذِي بَلَغَ بِي، ثُمَّ نَزَلَتِ الْبِئْرَ فَمَلَأَتْ خُفَّهَا وَأَمْسَكَتْهُ بِفِيهَا ثُمَّ صَعِدَتْ فَسَقَتْهُ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهَا ذَلِكَ وَغَفَرَ لَهَا، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرٌ؟ قَالَ: نَعَمْ فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ).

ثم إن الإيثار درجة أعلى منالمواساة، لأن المواساة تفيد التعادل بمادة الكلمة نظراً للاشتقاق المتوسط (الأوسط؟)(1).

مثلاً: لو كان عنده قرص فأكل نصفه وأعطى نصفه الآخر لإنسان آخر فهذه هي المواساة، وأما الإيثار فهو أن يعطي كل القرص للسائل ابتداءً، كما أن الأمرين غير إنفاق الفضل من المال كما في الأحاديث، إذ قال (عليه الصلاة والسلام): «أنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من لسانه»(2).

ص: 361


1- الاشتقاق الصغير: ما تطابقت مادة الحروف وترتيبها في المشتق والمشتق منه، ك- (نصر) والمشتق منه (ناصر). والاشتقاق الوسط أو الأوسط: ما تطابقت المادة دون الترتيب، كالمقام حيث إن (ساوى) تتطابق مع (واسى) في الحروف دون الترتيب، ومثل (جبذ) من (جذب)، وهذا ما سماه البعض بالكبير . والاشتقاق الكبير أو الأكبر: أن يختلف بعض الحروف، مثل (نعق) من (نهق). قال القزويني (رحمه الله) في تعليقته على معالم الأصول: ج2 ص388: إن المشتق إن وافق المبدأ في الحروف الأصلية وترتيبها فهو الاشتقاق الصغير وقد يسمى بالأصغر، وإلاّ فإن كانت المخالفة في الترتيب فقط فهو الاشتقاق الكبير ك- (جبذ) من (الجذب)، وإن كانت في الحروف الأصلية فقط فهو الاشتقاق الأكبر ك- (نعق) من (النهق).
2- نهج البلاغة: باب المختار من حكم أمير المؤمين (عليه السلام) ح123: وفيه: «طوبى لمن ذل في نفسه، وطاب كسبه، وصلحت سريرته، وحسنت خليقته، وأنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من لسانه، وعزل عن الناس شره، ووسعته السنة، ولم ينسب إلى البدعة».

كنية الزوج

مسألة: يستحب للزوجة أن تخاطب زوجها بالكنية احتراماً، كما قالت الصديقة (عليها السلام): «يا أبا الحسن»، وقد مر تفصيله.

والزوجة من باب المصداق، وإلاّ فالحكم كذلك بالنسبة إلى غيرها، وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يكني أصحابه احتراماً لهم، من غير فرق بين أن يكون المخاطِب بالكسر أرفع أو أخفض أو مساوياً، وإن كان بعض المناط في الفضل مختلفاً حسب المخاطب بالكسر، والمخاطب بالفتح.

ص: 362

تحمل المشاق والأذى

اشارة

في الرواية: جاءت الصديقة فاطمة (عليها السلام) إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) تشكو الخدمة، فقالت: «يا رسول الله، لقد مجلت يدي من الرحى، أطحن مرة وأعجن أخرى».(1).

-------------------------------------------

الشكاية إلى الأب

مسألة: تجوز الشكاية إلى الأب، وقد تحسن وترجح.

بل الشكاية إلى سائر الأقرباء والمؤمنين كذلك، فمن شكى إلى مؤمن فقد شكى إلى الله سبحانه وتعالى كما في بعض الأحاديث.

عن أبي معاوية، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «من شكى إلى مؤمن فقد شكى إلى الله عز وجل، ومن شكى إلىمخالف فقد شكا الله عز وجل»(2).

ص: 363


1- وردت هذه الرواية في مصادر العامة أيضا، وتتمتها كما في كنز العمال: ج15 ص496 ح41967: فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إن يرزقك الله شيئا يأتك وسأدلك على خير من ذلك، إذا أخذت مضجعك فسبحي ثلاثا وثلاثين، وكبري ثلاثا وثلاثين، واحمدي أربعا وثلاثين، فذلك مائة، وهو خير لك من خادم».
2- وسائل الشيعة: ج2 ص412 ب6 من أبواب الاحتضار ح3.

ووجه حسن الشكاية في الجملة: إنها نوع تنفيس، وهو نافع في تخفيف أو رفع الضغط النفسي والتوتر، والذي يؤدي إلى سوء الخلق عادةً، كما أن الشكوى تنفع في بعث الآخرين للتعاون أو الإعانة على حل المشكلة، كما أنه قد تنفع بلحاظ أن الشاكي بشكايته يتطلب النصيحة، وأنه كيف يعمل حتى لو لم يكن بمقدور المشكي إليه حل المعضلة.

عن الحسن بن راشد، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «يا حسن، إذا نزلت بك نازلة فلا تشكها إلى أحد من أهل الخلاف، ولكن اذكرها لبعض إخوانك، فإنك لن تعدم خصلة من خصال أربع: إما كفاية بمال، وإما معونة بجاه، أو دعوة تستجاب، أو مشورة برأي»(1).

نعم كثيراً ما تكون الشكاية مرجوحة إذا تضمنت الجوانب السلبية دون مزاحم مرجّح، وقد تكون محرمة إذا كانت تتضمن إيذاءً أو تهمةً أو غيبةً غير مستثناة أو ما أشبه.ولعلها (عليها الصلاة والسلام) لم تُرد بذلك استخدام خادم، وإنما أرادت بذلك إظهار ما تعانيه من المشكلات البيتية وغيرها حتى تتخذ أسوة لسائر النساء المؤمنات، فإنه كثيراً ما كان الأنبياء والأئمة (عليهم الصلاة والسلام) يظهرون ما يكونون به أسوة عند الناس.

ص: 364


1- وسائل الشيعة: ج2 ص412 ب6 من أبواب الاحتضار ح2.

أنواع الإضرار بالنفس

مسألة: الإضرار بالنفس على أنواع، فبعضه حرام وبعضه جائز.

ومن هذا الحديث يفهم أن الضرر اليسير جائز تحمله، كما يعرف عنه حال الصغرى أيضاً، وأن مجل اليد وخروج الدم منه ضرر جائز، فإن «لا ضرر» لا يشمله، بل المراد به ثلاثة أمور:

الأول: عدم تشريع الضرر من قبل الله سبحانه وتعالى لعباده في الأحكام الموضوعة، إلاّ ما خرج بقانون الأهم والمهم، كالجهاد والخمس والزكاة وما أشبه ذلك، هذا مع قطع النظر عن القول بأن الخمس والزكاة ليست ضرراً حتى بالمنطق الدنيوي، لما فيهما من المنافع للمجتمع وللشخص نفسه على ما فصلناه في الفقه الاقتصاد وغيره.

الثاني: عدم جواز ضرر بعض الناس لبعض حتى ضرر صغير قابل للتحمل، إلاّ إذا رضي الطرف بذلك الضرر الذي يجوز تحمّله شرعاً.

الثالث: عدم جواز الضرر الكثير، سواء بالنسبة إلى غيره أو بالنسبة إلى نفسه، فإنه لا يجوز حتى إذا رضي المتضرر بذلك، سواء كان الضار نفسه أو غيره.أما الأضرار الصغيرة فيجوز للإنسان تحملها، سواء كانت في عبادة أم في معاملة أم غيرهما، كمن يمشي إلى مسجد بعيد أو يمشي للتفريح ويسبب ذلك إضرار الشمس به ضرراً يسيراً، وكذلك بالنسبة إلى المصارعة ونحوها مما يجوز إضرار الغير برضاه أضراراً قليلةً.

ص: 365

أما الأضرار الكثيرة مثل: فقد قوة أو إتلاف عضو أو قتل أو ما أشبه، فلا يجوز حتى إذا رضي الطرف بذلك، كمصارعة من يسبب كسر أنفه أو فقع عينه أو صلم أذنه أو نحو ذلك.

ويمكن إدراجه في الأول بأن يقال: إن الله لم يشرع جواز إضرار بعض الناس لبعض ضرراً كثيراً أو قليلاً إلاّ إذا رضيا في خصوص القليل، كما لم يشرع جواز إضرار الشخص بنفسه ضرراً كبيراً، وذلك كي لا يقال: إن الأول نفي، والثاني والثالث نهي(1)، ولا يمكن استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد فتأمل(2).

والحاصل: إن الله لم يشرع حكماً ضررياً، ومنه جواز إضرار بعض الناسلبعض.

تفصيل الشكاية

مسألة: يجوز تفصيل الشكاية، كما يدل عليه: «لقد مجلت يدي...».

وإنما يستفاد ذكر التفصيل استحباباً أو جوازاً حسب الأدلة العامة المنطبقة على هذه الصغرى من قولها (عليها الصلاة والسلام): «لقد مجلت يدي من الرحى، أطحن مرة وأعجن أخرى»، ومن المعلوم أن الإنسان الذي يدير الرحى يسبب ذلك ضرراً في يده، إذ اللازم أن يطحن طحناً كثيراً في كل يوم، بالإضافة إلى سائر أعماله من الكنس والغسل وما أشبه.

ص: 366


1- أي (لا ضرر) بمعنى نفي الضرر، أي لا ضرر موجود أو ثابت في الإسلام، أو (لا ضرر) بمعنى النهي عنه أي لا تَضُرّ.
2- على ما بينا تفصيل المسألة في (الأصول).

وفي رواية أخرى: قالت فاطمة (عليها السلام): «يا رسول الله لقد مجلت يداي من الرحى»(1)، حيث إن الإنسان إذا عملبيده اليمنى فتعب يعمل بيده اليسرى، وهكذا.

العمل البيتي

مسألة: يستحب أن تعمل المرأة في بيت زوجها ولو أصابها تعب ونصب ومشقة، ولو قصدت بعملها التأسي بفاطمة الزهراء (صلوات الله عليها) كان أجرها مضاعفاً، فإنه عنوان حسن، وهو اعتبار عقلائي آخر.

وعلى هذا فلو فرض القول بأن أوامرالتأسي كأوامر الإطاعة إرشادية

ص: 367


1- رواها أبناء العامة أيضاً: عن علي (عليه السلام): إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما زوجه فاطمة (عليها السلام) بعث معه بخميلة ووسادة من أدم حشوها ليف ورحيين وسقاء وجرتين، فقال علي لفاطمة (عليهما السلام) ذات يوم: والله لقد سنوت حتى لقد اشتكيت صدري، قال: وقد جاء الله أباك بسبي فاذهبي فاستخدميه، فقالت: وأنا والله قد طحنت حتى مجلت يداي، فأتت النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: ما جاء بك أي بنية، قالت: جئت لأسلم عليك واستحيت أن تسأله ورجعت، فقال: ما فعلت؟ قالت: استحييت أن أسأله، فأتيناه جميعاً فقال علي (عليه السلام): يا رسول الله والله لقد سنوت حتى اشتكيت صدري، وقالت فاطمة (عليها السلام): قد طحنت قد طحنت حتى مجلت يداي، وقد جاءك الله بسبي وسعة فاخدمنا، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا أعطيكما وادع أهل الصفة تطوى بطونهم لا أجد ما أنفق عليهم، ولكني أبيعهم وأنفق عليهم أثمانهم، فرجعا فأتاهما النبي (صلى الله عليه وآله) وقد دخلا في قطيفتهما إذا غطت رؤوسهما تكشفت أقدامهما وإذا غطيا أقدامهما تكشفت رؤوسهما فثارا فقال: مكانكما، ثم قال: ألا أخبركما بخير مما سألتماني، قالا: بلى، فقال: كلمات علمنيهن جبريل (عليه السلام)، فقال: تسبحان في دبر كل صلاة عشراً، وتحمدان عشراً، وتكبران عشراً، وإذا أويتما إلى فراشكما فسبحا. مسند أحمد: ج1 ص106 - 107.

لا مولوية، أو بدعوى اللغوية، أو تحصيل الحاصل، أو غير ذلك، مع قطع النظر عن نقاشنا في ذلك، فإنه بهذا الاعتبار يخرج عن تلك المحاذير، فتدبر(1).

واستحباب عمل الزوجة في بيت زوجها مما يستفاد من متعدد الروايات، بل يستحب عمل كل إنسان زوجاً أو زوجةً أو ولداً أو بنتاً أو ما أشبه في البيت المرتبط بهم، فإنه من التعاون على البر، ونوع صلة رحم.

ولا يخفى أن الله سبحانه وتعالى جعل في العمل البدني - بالإضافة إلى التقدم التكويني والوصول إلى الأهداف - الصحة الجسدية، فإن مزاولة الأعمال توجب صحة الجسد كما توجب صحة الروح أيضاً، لأن البدن يؤثر في الروح، وكذلك العكس.

هذا بالإضافة إلى أن العمل البيتي يوجب تقوية الألفة بين الأقرباء، بل وكذلك العمل بين الأصدقاء فيما إذا كانوا في مكان واحد كمتجر أو مؤسسة أو كانوا في سفر أو ما أشبه، فإنالأمر لا يختص بالبيت، كما ذكره علماء النفس وعلماء الاجتماع.

ثم إن بالتعاون على أداء أعمال البيت يستغني غالب الناس عن استخدام خادم أو خادمة، ومن الواضح أن وجود أحدهما في البيت يسبب في غالب الأحيان مشاكل جانبية، وقد يسبب انحرافاً وفساداً، إضافة إلى أنه إثقال لكاهل الأسرة اقتصادياً.

ص: 368


1- إذ يراد ب- (التأسي) عندئذٍ العمل بالمأمور به مع قصد أنه متلون بلون الاقتداء والتأسي وهو عنوان قصدي آخر فليس تحبيذه لغواً أو تحصيلاً للحاصل.

لباس الزاهدين

اشارة

دخلت السيدة فاطمة (عليها السلام) على النبي (صلى الله عليه وآله): وقالت: «يا رسول الله إن سلمان تعجب من لباسي، فوالذي بعثك بالحق مالي ولعلي (عليه السلام) منذ خمس سنين إلا مسك كبش نعلف عليها بالنهار بعيرنا، فإذا كان الليل افترشناه، وإن مرفقتنا لمن أدم حشوها ليف»(1).

-------------------------------------------

بيت النبوة

مسألة: يستحب للإنسان أن يتخذ من بيوت الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) الدليل والمرشد والأسوة والقدوة لكيفية الحياة والمعيشة، وكمية المقتنيات والأثاث وكيفيتها، ونوع الملابس وغير ذلك، على عكس من يتخذ من قصور الفراعنة والأكاسرة الأسوة والمرشد.

والذي يظهر أن تعجّب سلمان من لباسها (صلوات الله عليها) لم يكن فقط لمقارنته بلباس الملوك والأمراء، بل كان بالمقارنة لملابس عامة الناس، ويؤكد ذلك قولها (عليها السلام): (مالي ولعلي..).

ص: 369


1- بحار الأنوار: ج43 ص88 ب4 ح9.

النظر إلى ثوب الأجنبية

مسألة: الثوب ليس من العورة، فيجوز للمرأة أن تنظر إلى ثوب الرجل، وكذا العكس، إذا لم يكن خوف افتتان أو ما أشبه، ولم يكن الثوب ضيقاً بحيث يبرز مفاتن الجسد.

أما مع خوف الافتتان فقد ذكر العلماء الإجماع على عدم الجواز، كما في الجواهر وغيره في مسألة الريبة واللذة، وقد ذكرنا في الكتب الفقهية أن الشارع جعل للخوف في كثير من الموارد الحكم، مثل: خوف الضرر، وفي آيات متعددة إشارة إلى ذلك:

قال سبحانه: «إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ»(1).

وقال تعالى: «فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ»(2).

إلى غير ذلك.

ولا تختص الحرمة مع الخوف بالأجنبيين، بل تشمل المحارم كالأخ والأخت ومن أشبه، لوحدة الملاك.

ثم إنه لا دليل على أن سلمان رأى ملابسها (صلوات الله عليها) وهي مرتدية لها، إذ من المحتمل أنه رأى بعض ملابسها موضوعة أو معلقة في جانب من الغرفةلدى زيارته لأمير المؤمنين (عليه السلام) مثلاً، فأظهر تعجبه عن بساطتها الشديدة، وإن كان لا يبعد الأول.

ص: 370


1- سورة النساء: 101.
2- سورة البقرة: 229.

الاكتفاء بالقدر اللازم

مسألة: يستحب الاكتفاء بالقدر اللازم مما يرتبط بالدنيا من الثياب والأثاث وما أشبه، كما كان كذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) والصديقة فاطمة (عليها السلام)(1).

فإنهما (عليهما الصلاة والسلام) مع قدرتهما كانا يقتنعان بأقل ما يمكن.

هذا بالإضافة إلى روايات استحباب القناعة والزهد وما أشبه.

ثم إنه قد تقدم أنهم (عليهم الصلاة والسلام) كانوا في حالة إصلاح وتغيير، ومن يريد الإصلاح والتغيير لا يتنعم بالملذات، فإن الجهاد والملذات كالضرتين، يقول أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام): «وإياكم والتنعم والتلهّي»(2)، مع أن النعمة مباحة كما قال سبحانه: «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِوَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ»(3)، والتلهي كذلك ليس بمحرم إلاّ بالحرام وبآلات اللهو ونحوه كما ذكر الشيخ المرتضى (قدس سره) في المكاسب، وغيره في غيره.

وقد ورد في السيرة الطاهرة أن علياً (عليه الصلاة والسلام) كان كثيراً ما ينام على تراب الأرض حتى لقبه رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأبي تراب(4).

ص: 371


1- الجدير بالذكر أن الإمام المؤلف (قدس سره) كان في حياته لا يملك إلا (عمامة) واحدة، و(صاية) واحدة، وعباءة واحدة فقط، اقتداءً بجده أمير المؤمنين وجدته سيدة نساء العالمين (صلوات الله عليهما).
2- من لا يحضره الفقيه: ج1 ص516 باب صلاة العيدين ح1482.
3- سورة الأعراف: 32.
4- علل الشرائع: ج 1 ص155 باب 125 العلة التي من أجلها كنى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) أبا تراب ح1. وفي بحار الأنوار: ج 43 ص146 ب 6 ح1. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلی الله عليه وآله) الْفَجْرَ ثُمَّ قَامَ بِوَجْهٍ كَئِيبٍ وَقُمْنَا مَعَهُ حَتَّى صَارَ إِلَى مَنْزِلِ فَاطِمَةَ (صلوات الله عليها) فَأَبْصَرَ عَلِيّاً (عليه السلام) نَائِماً بَيْنَ يَدَيِ الْبَابِ عَلَى الدَّقْعَاءِ، فَجَلَسَ النَّبِيُّ (صلی الله عليه وآله) فَجَعَلَ يَمْسَحُ التُّرَابَ عَنْ ظَهْرِهِ وَيَقُولُ: قُمْ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي يَا أَبَا تُرَابٍ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِهِ وَدَخَلَا مَنْزِلَ فَاطِمَةَ (عليها السلام). وروى الشيخ الصدوق (رحمه الله) في معاني الأخبار: ص120 باب معنى أبي تراب ح1: عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ قَالَ: قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ: لِمَ كَنَّى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) عَلِيّاً (عليه السلام) أَبَا تُرَابٍ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ صَاحِبُ الْأَرْضِ وَحُجَّةُ اللَّهِ عَلَى أَهْلِهَا بَعْدَهُ، وَبِهِ بَقَاؤُهَا وَإِلَيْهِ سُكُونُهَا، وَلَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَرَأَى الْكَافِرُ مَا أَعَدَّ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِشِيعَةِ عَلِيٍّ مِنَ الثَّوَابِ وَالزُّلْفَى وَالْكَرَامَةِ قَالَ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً، أَيْ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مِنْ شِيعَةِ عَلِيٍّ، وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَ: «وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً».

وجاءه إنسان في بيته في الكوفة فلم ير في البيت شيئاً، وإنما شاهد أرضاً غبراء فقط، فقال: يا أمير المؤمنين أين الفُرُش؟ قال (عليه الصلاة والسلام): بعثناها إلى الدار الأخرى، أي الآخرة.

إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في زهد الرسول (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) والصديقة الزهراء (عليها السلام) وأولادهم الأئمة الأطهار (صلوات الله عليهم أجمعين) مما يجب أن يتخذوا أسوة لمن يريد التغيير والإصلاح.

زهد الأسوة

مسألة: يتأكد استحباب الزهد لمن كان أسوة، كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) للعلاء في البصرة، إذ يكون للزهد حينئذٍ جانب طريقي إضافة إلى

ص: 372

موضوعيته.

قال (عليه السلام) في نهج البلاغة: «كيلا يتبيغ بالفقير فقره»(1).

ولا يتوهم أن الزهد ينافي الهيبةوالعظمة والقدرة وما أشبه.

وإنما لا ينافي الزهد الهيبة والقدرة لوضوح أن القدرة المعنوية أكبر حتى في نظر الآخرين من القدرة المادية، والإنسان قوي النفس أكثر هيبةً وعظمةً وقدرةً في الأنظار من الذي ليس كذلك، ولذا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أعظم الناس هيبة على الإطلاق، وكذلك بعده أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام)، وكذلك الأئمة المعصومون (عليهم السلام)، فإن العزة لله سبحانه تعالى يمنحها من يشاء من عباده الصالحين.

قال تعالى: «مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا»(2).

وقال الإمام الحسن (عليه السلام): «إذا أردت عزاً بلا عشيرة، وهيبة بلا سلطان، فاخرج من ذل معصية الله إلى عز طاعة الله عزوجل»(3).

وقال الإمام الصادق (عليه الصلاة والسلام): «من أراد عزاً بلا عشيرة، وغنى بلا مال، وهيبةً بلا سلطان فلينقل من ذلّ معصية الله إلى عز طاعته»(4).

وقال الفرزدق الشاعر:

يُغضِي حَياءً وَيُغْضَى مِنْ مَهابَتِهِ... فلا يُكَلَّمُ إلاّ حِينَ يَبْتَسِمُ

ص: 373


1- نهج البلاغة: الخطبة 209.
2- سورة فاطر: 10.
3- بحار الأنوار: ج44 ص138 ب22.
4- الخصال: ص169 ح222.

الاستفادة الأكثر

مسألة: ربما يرجح الاستفادة من الشيء الواحد في مختلف الحاجات، فإنه من الاقتصاد الوارد فيه عدد من الروايات، قال (عليه السلام): «ما عال من اقتصد»(1).

وأصل الجواز للأدلة العامة قبل هذا الحديث، وأما هذا الحديث فقد قالت (عليها الصلاة والسلام): (إلا مسك كبش نعلف عليها بالنهار بعيرنا، فإذا كان الليل افترشناه، وإن مرفقتنا لمن أدم حشوها ليف).

ومن الواضح أن المرفقة أيضاً توضع تحت الرأس، وكذلك كانوا يضعونها تحت جسمهم في وقت الجلوس، قال علي (عليه الصلاة والسلام): «لو ثنيت لي الوسادة»(2)فكانوا يتكئون عليها وقت الجلوس، إلى غير ذلك.

والظاهر أنه كان زهداً وتعليماً واقتصاداً، إضافة إلى كشفه عن أن علياً (عليه السلام) كان قد خصص كل أوقاته للعمل والجهاد في سبيل الله، وإلاّ فإنه ما كان أيسر عليه من أن يعمل قليلاً في الزراعة أو التجارة أو الصناعة ليحصل على

ص: 374


1- عدة الداعي: ص74 في بيان فضيلة الكسب وآدابه.
2- التوحيد للشيخ الصدوق: ص305 ب43 ح1، وفيه: «أما والله لو ثنيت لي الوسادة فجلست عليها لأفتيت أهل التوراة بتوراتهم حتى تنطق التوراة فتقول: صدق علي ما كذب، لقد أفتاكم بما أنزل الله في، وأفتيت أهل الإنجيل بإنجيلهم حتى ينطق الإنجيل فيقول: صدق علي ما كذب، لقد أفتاكم بما أنزل الله في، وأفتيت أهل القرآن بقرآنهم حتى ينطق القرآن فيقول: صدق علي ما كذب، لقد أفتاكم بما أنزل الله في، وأنتم تتلون القرآن ليلاً ونهاراً فهل فيكم أحد يعلم ما نزل فيه، ولولا آية في كتاب الله لأخبرتكم بما كان وبما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة وهي هذه الآية: «يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب» سورة الرعد: 39».

ما يكفي شؤون المنزل ويفيض، بل إن سهمه من الغنائم كان يعادل الشيء الكثير، ولو ادّخره أو بعضه لنفسه لكان منزله بأوسط الحال أو بأفضل الأحوال.

ومن هنا يستفاد أن العاملين والمؤسسات الدينية عليها بذل كل طاقاتها وجهودها في سبيل نصرة الدين، دون الاهتمام بالملبس والمأكل والمشرب والمركب وغير ذلك.

كما يستفاد أيضاً أن من الضروري على العاملين والمؤسسات أن تستفيد من أجهزتها وممتلكاتها أكبر الاستفادة في سبيل الله، فمثلاً المسجد أو الحسينية أو المكتبة أو الموقوفة يجب ملؤهابالبرامج المنوعة آناء الليل وأطراف النهار بالاستفادة متعددة الجوانب منها، وذلك هو مقتضى التأسي والحكمي، ومدعاة للأجر الأعظم والثواب الأجزل.

زهد المعصومين

مسألة: يستحب بيان زهد العترة الطاهرة (عليهم السلام) وأنه ما كان لها (سلام الله عليها) ولعلي (عليه السلام) منذ كذا سنة إلاّ ما ذكرته (صلوات الله عليها).

فإن ذلك يوجب اتخاذهم أسوة في عدم الإكثار من مباهج الدنيا وزينتها، فإنه عادة من اشتغل في الدنيا زيادةً في جانب، تسبب النقيصة في جانب آخر، وكذا الحال في الدنيا والآخرة حيث إن كل انشغال بالدنيا يوجب نقصاً من حظ الإنسان ونصيبه من الآخرة، وقد قال أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام): «ما رأيت نعمة موفورة إلاّ وإلى جانبها حق مضيّع».

ص: 375

القناعة في أمتعة الزواج

مسألة: يستحب القناعة وعدم التشريفات في الزواج وما يتخذ من المتاع له، بخلاف ما هو المتعارف الآن حيث التعقيد والتجمل وكثرة الأمتعة وما أشبه.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أفضل نساء أمتي أقلهن مهراً»(1).

ولعله قد كُنِّيَ بالمهر عن: كل تشريف يراد بهذا الشأن، وإذا أريد بالمهر الاصطلاح الخاص فيفهم منه الملاك في سائر الشؤون، فإن من أسباب تأخير الزواج أو عدمه هو كثرة النفقات والكماليات التي لا يتمكن منها كثير من الناس.

ص: 376


1- مستدرك الوسائل: ج14 ص216 ب39 من أبواب مقدمات النكاح ح2.

مقاسمة الخدمة مع مولاتها

اشارة

قال سلمان (رضوان الله عليه): كانت فاطمة (عليها السلام) جالسة، قدامها رحى تطحن بها الشعير، وعلى عمود الرحى دم سائل، قد أفضى إلى الحجر فحات مني التفاتة، فإذا أنا بالحسن بن علي في ناحية من الدار يتضور من الجوع، فقلت: جعلني الله فداك يا بنت رسول الله قد دبرت كفاك من طحن الشعير وفضة قائمة. فقالت: نعم يا أبا عبد الله، أوصاني حبيبي رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن تكون الخدمة لها يوم ولي يوم، فكان أمس يوم خدمتها واليوم يوم خدمتي(1).

-------------------------------------------

تقسيم الخدمة

مسألة: يستحب تقسيم خدمة البيت بين السيدة والخادمة، كما قسمت الصديقة (عليها السلام) العمل بينها وبين فضة خادمتها.

وهذا يستفاد من الرواية المذكورة، مضافاً إلى ما روي من عموم أدلة الإنصاف، فقد ورد في أحاديث كثيرة التحريض على الإنصاف، ومن صغرياته ما نحن فيه.

ص: 377


1- دلائل الإمامة: ص140141 أخبار في مناقبها صلوات الله عليها.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «إن أعظم المثوبة مثوبة الإنصاف»(1).

وعن أبي حمزة الثمالي، عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ فِي آخِرِ خُطْبَتِهِ: طُوبَى لِمَنْ طَابَ خُلُقُهُ وَطَهُرَتْ سَجِيَّتُهُ وَ صَلَحَتْ سَرِيرَتُهُ وَ حَسُنَتْ عَلَانِيَتُهُ وَ أَنْفَقَ الْفَضْلَ مِنْ مَالِهِ وَأَمْسَكَ الْفَضْلَ مِنْ قَوْلِهِ وَ أَنْصَفَ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «مَنْ يَضْمَنُ لِي أَرْبَعَةً بِأَرْبَعَةِ أَبْيَاتٍ فِي الْجَنَّةِ، أَنْفِقْ وَلا تَخَفْ فَقْراً، وَأَفْشِ السَّلامَ فِي الْعَالَمِ، وَاتْرُكِ الْمِرَاءَ وَإِنْ كُنْتَ مُحِقّاً، وَأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ»(3).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «سَيِّدُ الأَعْمَالِ ثَلَاثَةٌ، إِنْصَافُ النَّاسِ مِنْ نَفْسِكَ حَتَّى لا تَرْضَى بِشَيْ ءٍ إِلاّ رَضِيتَ لَهُمْ مِثْلَهُ، وَمُوَاسَاتُكَ الأَخَ فِي الْمَالِ، وَذِكْرُ اللَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ»(4).وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلام له: «أَلا إِنَّهُ مَنْ يُنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ لَمْ يَزِدْهُ اللَّهُ إِلاّ عِزّاً»(5).

لا يقال: إن ما ورد في حديث الصديقة (عليها السلام) وصية خاصة لشخص خاص فمن أين التعميم؟

ص: 378


1- جامع أحاديث الشيعة: ج14 ص297 ب70 من أبواب كتاب جهاد النفس.. ح12.
2- الكافي: ج2 ص 144 باب الإنصاف والعدل ح1.
3- الكافي: ج2 ص 144 باب الإنصاف والعدل ح2.
4- الكافي: ج2 ص 144 باب الإنصاف والعدل ح3. والمؤاساة: المشاركة والمساهمة في المعاش والرزق، وأصلها الهمزة قلبت واواً تخفيفاً.
5- الكافي: ج2 ص 144 باب الإنصاف والعدل ح4.

إذ يقال: المستظهر أن الوصية بتقسيمها (صلوات الله عليها) الخدمة، كان من باب المصداق، وانطباق الجامع عليها، وليس من باب الخصوصية، ولأن الأصل في عملهم الأسوة، وكذلك الأصل في وصاياهم.

وكذلك يستحب تقسيم الخدمة بين السيد والعبد، وهكذا السيد والخادم لوحدة الملاك، وكذلك في كل مورد اقتضى الإنصاف ذلك.

وقد ورد في الحديث أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «لا يقولن أحدكم: عبدي وأمَتي، ولكن: فتاي وفتاتي»(1).

وقال (صلى الله عليه وآله) في خطبة له: «الله الله فيما ملكت أيمانكم، أطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون، ولا تكلفوهم ما لا يطيقون، فإنهم لحم ودم وخلق أشكالكم، فمن ظلمهم فأنا خصمهموالله حاكمهم»(2).

وفي حديث آخر أنه: «كسي أبو ذر بردين، فاتزر بأحدهما وارتدى بشملة وكسا غلامه أحدهما، ثم خرج إلى القوم، فقالوا له: يا أبا ذر لو لبستهما جميعاً كان أجمل، قال: أجل ولكني سمعت النبي (صلى الله عليه وآله) يقول: أطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون»(3).

وهكذا كان المسلمون الأوائل وكثير من المسلمين على طول التاريخ الإسلامي، يعملون بوصايا رسول الله (صلى الله عليه وآله) الواجبة والمستحبة، كما كانوا يتركون المحرمات والمكروهات، بل وأحياناً المباحات أيضاً تزهداً وتعففاً..

ص: 379


1- تفسير مجمع البيان: ج5 ص40.
2- مستدرك الوسائل: ج13 ص379 ب16 من أبواب بيع الحيوان ح6.
3- الأمالي، للشيخ الطوسي: ص403 المجلس14 ح50.

وقد نقل أنه رؤي رسول الله (صلى الله عليه وآله) في المنام فقال له الرائي: يا رسول الله لماذا كان السابقون أصحاب كرامات ونحن لسنا بتلك المنزلة؟ فقال (صلى الله عليه وآله): - حسب هذه الرؤيا المنقولة في بعض الكتب -: إن السابقين كانوا يقسمون الأحكام إلى قسمين فيفعلون كلما أمرت به من واجب أو مستحب، ويتركون كل ما نهيت عنه منحرام ومكروه، وأما أنتم فلا تعملون ذلك، بل تجعلون الأحكام خمسة.

وهذا الكلام كناية عن أن الناس غالباً يتركون المستحبات ويفعلون المكروهات، ومن المعلوم أن للمكروهات والمستحبات تأثيرهما في طهارة النفس وسموها، وصلاح الجسد وعافيتها، إلى غيرها من فلسفتهما العقلية والشرعية، وقد ذكرنا جملة من ذلك في كتاب الآداب والسنن.

الأمر المولوي أو الإرشادي

مسألة: هل وصيته (صلوات الله عليه) لها (عليها السلام) بتقسيم الخدمة من باب الإرشاد أو المولوية؟

وعلى الثاني فهل هي من باب الوجوب أو الاستحباب؟

الظاهر أنه لم يكن واجباً، وأما الإرشاد أو الاستحباب فظاهره المولوي، وإن ربما يقال: بأن ظاهر الوصايا الإرشاد، فتأمل.

ص: 380

العمل الدؤوب

مسألة: يستحب الدأب على العمل والمثابرة عليه وعدم الملل منه، وإن كان فيه أذى النفس، كما يدل عليه استمرارها في العمل رغم خروج الدم من يدها الشريفة، إذ قد رأى سلمان (رضوان الله عليه) أن: (وعلى عمود الرحى دم سائل).

فإن الناس الذين تصدوا للإصلاح، وخاصة إصلاح المجتمع الكبير لابد وأن يكونوا على هذه الوتيرة من العمل الدؤوب وقمة التضحية.

كما أنه ورد عن الإمام المهدي (عليه السلام) في الشعائر الحسينية المقدسة: «ولأبكين عليك بدل الدموع دماً»(1)، وهو أيضاً تحريض على البكاء على الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام) وإقامة مآتمه.

وقد ورد أن السيدة زينب (عليها الصلاة والسلام) نطحت جبينها بمقدم المحمل حتى رُؤي الدم على عمود المحمل(2).

إلى غير ذلك، وقد ذكر جملة منهاالأخ السيد حسن (رحمه الله) في كتابه (الشعائر الحسينية)(3).

ص: 381


1- المزار لابن المشهدي: ص501.
2- العوالم، الإمام الحسين (عليه السلام): ص372-374 باب فيما وقع من دخول أهل البيت الكوفة.
3- يقع الكتاب في 160صفحة، ويشتمل على العناوين التالية: (رجحان الشعائر الحسينية، البكاء، التباكي، المأتم، لبس السواد، شق الجيب، اللطم، ضرب السلاسل، التمثيل، التطبير). ألفه في كربلاء المقدسة عام 1384 ه-، طبع عدة مرات في دول مختلفة، كالعراق ولبنان وإيران والكويت وسوريا و...

أكل الشعير

مسألة يستحب أكل خبز الشعير تأسياً بمولانا أمير المؤمنين وفاطمة الزهراء والحسنين (عليهم السلام)، وقد ثبت في العلم الحديث أن للشعير فوائد كثيرة، منها أنه يبني غضاريف البدن ويرممها مما ينتفع به المصابون بأمراض المفاصل والظهر(1) وشبهها.

عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: «فضل خبز الشعير على البر كفضلنا على الناس، وما من نبي إلاّ وقد دعا لآكل الشعير وبارك عليه، وما دخل جوفاً إلا وأخرج كل داء فيه، وهو قوت الأنبياء وطعام الأبرار، أبى الله تعالىوعن أبي عبد الله (عليه السلام): «مَا زَالَ طَعَامُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) الشَّعِيرَ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «لَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِي شَيْ ءٍ شِفَاءً أَكْثَرَ مِنَ الشَّعِيرِ مَا جَعَلَهُ اللَّهُ غِذَاءَ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام»(3).

وعن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يَا ابْنَ مَسْعُودٍ إِنْ شِئْتَ نَبَّأْتُكَ بِأَمْرِ نُوحٍ نَبِيِّ اللَّهِ، إِنَّهُ عَاشَ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاّ خَمْسِينَ عَاماً يَدْعُو إِلَى اللَّهِ، فَكَانَ إِذَا أَصْبَحَ قَالَ: لا أُمْسِي، وَ إِذَا أَمْسَى قَالَ: لا أُصْبِحُ، وَ

ص: 382


1- وخاصة المرض المسمى ب- (الديسك).
2- مستدرك الوسائل: ج16 ص333 ب2 ح20062.
3- مستدرك الوسائل: ج16 ص334 ب2 ح20064.

كَانَ لِبَاسُهُ الشَّعْرَ، وَطَعَامُهُ الشَّعِيرَ، وَ إِنْ شِئْتَ نَبَّأْتُكَ بِأَمْرِ دَاوُدَ (عليه السلام) خَلِيفَةِ اللَّهِ فِي الأَرْضِ، كَانَ لِبَاسُهُ الشَّعْرَ وَطَعَامُهُ الشَّعِيرَ، وَ إِنْ شِئْتَ نَبَّأْتُكَ بِأَمْرِ سُلَيْمَانَ (عليه السلام) مَعَ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الْمُلْكِ، كَانَ يَأْكُلُ الشَّعِيرَ وَيُطْعِمُ النَّاسَ الْحُوَّارَى».

إلى أن قال: «وَإِنْ شِئْتَ نَبَّأْتُكَ بِأَمْرِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ (عليه السلام) كَانَالصادق (عليه السلام) قال: «كَانَ سُلَيْمَانُ (عليه السلام) يُطْعِمُ أَضْيَافَهُ اللَّحْمَ بِالْحُوَّارَى وَيَأْكُلُ هُوَ الشَّعِيرَ غَيْرَ مَنْخُولٍ»(1).

وعن الإمام الباقر (عليه السلام) في خبر: «كَانَ يَعْنِي عَلِيّاً (عليه السلام) لَيُطْعِمَ خُبْزَ الْبُرِّ وَاللَّحْمَ وَيَنْصَرِفُ إِلَى مَنْزِلِهِ وَيَأْكُلُ خُبْزَ الشَّعِيرِ وَالزَّيْتَ وَالْخَلَّ».

وعن أبي عبد الله (عليه السلام): قال: «إِنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) كَانَ قُوتُهُ الشَّعِيرَ مِنْ غَيْرِ أُدْمٍ»(2).

ص: 383


1- مستدرك الوسائل: ج16 ص335 ب2 ح20067، عن الدعوات للراوندي: ص142 ح363.
2- مستدرك الوسائل: ج16 ص335 ب2 ح20068، عن المناقب: ج2 ص99.

حقوق الخدم

مسألة: يستحب بيان حقوق الخادم والخادمة في البيت، وربما وجب.

والنبي (صلى الله عليه وآله) هو صاحب تشريع أكمل الحقوق الإنسانية، وما يسمى اليوم بحقوق الإنسان، فإن الصحيح منها نجده في الإسلام، كما أن أصلها وتطبيقها الكامل عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام).

وهذا التقسيم في عمل البيت بينها (صلوات الله عليها) وبين خادمتها من شواهد ذلك.

ثم إن الحقوق بين واجبة ومستحبة، وهذا الحق المذكور في خدمة البيت من الحقوق المستحبة.

ولا يخفى أن مصداق الحق قد يذكر في الآيات والروايات، وقد يستفاد من العرف، فإذا استفيد الحق من العرف كان العمل عليه كما أستفيد ضمن الأطر الشرعية، لأن الموضوعات مأخوذة من العرف والأحكام من الشرع.

وقوله (عليه الصلاة والسلام): «لا يبطل حق المسلم»(1) أو «لا تبطل حقوق المسلمين»(2)أو «لا يتوى حق امرء مسلم»(3) دليل على ما ذكر، وتفصيل الكلام

ص: 384


1- انظر وسائل الشيعة: ج27 ص339 ب18من أبواب كتاب الشهادات ح3، وفيه: «لا يبطل حق رجل مسلم».
2- انظر وسائل الشيعة: ج20 ص279 ب من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد ح9، وفيه: «ولا تبطل حقوق المسلمين فيما بينهم».
3- انظر مستدرك الوسائل: ج17 ص447 ب46 من أبواب كتاب الشهادات ح5، وفيه: «لئلا يتوى حق امرئ مسلم».

في الفقه.

ثم إن ما ذكر من أن الرسول (صلى الله عليه وآله) هو صاحب تشريع الحقوق الإنسانية الكاملة، وأنه أبو حقوق الإنسان، لأن الأنبياء السابقين (عليهم السلام) أيضاً كانوا آباء الحقوق ومشرِّعيها حسب إلهام الله سبحانه وتعالى ووحيه لهم، بدءًا من آدم (عليه السلام) وانتهاءً بالرسول الخاتم (صلى الله عليه وآله)، وكذلك الأوصياء ومنهم الأئمة الأطهار (عليهم السلام)، وهكذا السيدة الزهراء والسيدة مريم (عليهما الصلاة والسلام)، فإن كلهم من نور الله سبحانه وتعالى، والمعصومون الأربعة عشر (عليهم السلام) كلهم نور واحد كما ورد في الخبر، وكلهم جاؤوا لإسعاد الإنسان في الدنيا والآخرة، وبيان حقوقه وتضمينها.

امتثال أوامر المعصوم

مسألة: يستحب أو يجب - كل في مورده - العمل بوصايا وأوامر رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإن استلزم أذى النفس، فإن أفضل الأعمال أحمزها.

قد ذكرنا في هذا الكتاب الجمع بين قوله تعالى: «يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ»(1)، وبين قوله (صلى الله عليه وآله): «أفضل الأعمال أحمزها»(2)، مما لا يحتاج إلى التكرار.

ولذا فإن من الضروري طباعة وصاياه ووصايا سائر المعصومين (صلوات الله عليهم أجمعين) في كتب مستقلة أو في أوراق متعددة وتوزيعها على الناس أو لصقها

ص: 385


1- سورة البقرة: 185.
2- بحار الأنوار: ج67 ص191.

في الأماكن المخصصة على جدران المساجد والحسينيات والمدارس والشركات والمنازل وغيرها لتكون بمرأى من الناس ومنظر مما يسبب عملهم بها أكثر فأكثر، فإن ذلك كله من الدعوة إلى الإيمان والخير والصلاح، ومن مصاديق الأمر بالمعروف.

وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا إِنِ اسْتَدْلَلْتُمْ بِهِ لَمْ تَهْلِكُوا وَلَمْ تَضِلُّوا، قَالُوا: بَلَى يَابْنُ أَبِي طَالِبٍ فَوَازِرُوهُ وَنَاصِحُوهُ وَصَدِّقُوهُ فَإِنَّ جَبْرَئِيلَ (عليه السلام) أَمَرَنِي بِذَلِك»(1).

تحمل الضرر اليسير

مسألة: يجوز تحمل الضرر اليسير، فإن «لا ضرر» منصرف عنه على ما سبق، كما يظهر من هذه الرواية أن إدماء البدن، لأي غرض صحيح بل مطلقاً ملاكاً لا إشكال فيه.

بالإضافة إلى أن إضرارهم (عليهم الصلاة والسلام) لأنفسهم في العبادة وفي العمل، كما يستفاد من متواتر الروايات يوجب الانصراف المذكور أو التخصيص.

ص: 386


1- بشارة المصطفى لشيعة المرتضى: ج 2 ص177.

تقسيم الأعمال

مسألة: يستحب تقسيم الأعمال بالسوية بين الشركاء وكذا بين السيد والخادم(1).

فإنه نوع من التواضع، ونوع من تنظيم الأعمال، ونوع من إكرام الخادم والترفيه عنه، وقد قالوا: (من أكرم خادمه أمن).

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أطعموهم مما تطعمون وألبسوهم مما تلبسون»(2).

إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة بهذا الشأن.

ثم إن (التقسيم) له أنواع ومصاديق، وما ذكر في وصية الرسول (صلى

الله عليه وآله) هو مصداق منها، بأن يكون لها يوم ولخادمتها يوم آخر، ويمكن التقسيم بأنحاء أخرى كأن يكون لكل منهما يومان مثلاً، أو تكون الخدمةصباحاً على إحداهما وعصراً على الأخرى.

وهذا التقسيم كله من حيث الزمن، كما يمكن التقسيم بنوع الأعمال أو بالتعاون فيها وإن كان التقسيم الزمني ربما أكثر دقة من حيث ضمان المساواة.

ص: 387


1- في هذه المسألة مزيد على السابقة منها، إذ السابقة كانت تقسيم الخدمة، وهذه رعاية المساواة في تقسيمها، فلا يكفي وجود نوع من التقسيم، إضافة إلى أن في هذه المسألة إضافة التقسيم بين الشركاء.
2- مكارم الأخلاق: ص10.

المسكين واليتيم والأسير

اشارة

في حديث عن ابن عباس، حاصله(1) أنه:

ص: 388


1- الحديث متواتر بين الفريقين، وقد ورد بألفاظ مختلفة متقاربة، انظر: مناقب آل أبي طالب: ج3 ص147 - 149 باب إمامة السبطين (عليهما السلام)، وتفسير الثعلبي: ج10 ص99- 102، وغيرها من المصادر. كما أنه قد روى الشيخ الصدوق هذا الحديث بألفاظ متقاربة بإسنادين: الأول: عن ابن عباس، والثاني: عن الإمام الصادق، عن أبيه، الباقر عليهما السلام، انظر (الأمالي): ص329 - 333 المجلس44 ح13 وهذا نصه: حدثنا محمد بن إبراهيم بن إسحاق (رضي الله عنه)، قال: حدثنا أبو أحمد عبد العزيز بن يحيي الجلودي البصري، قال: حدثنا محمد بن زكريا، قال: حدثنا شعيب بن واقد، قال: حدثنا القاسم بن بهرام عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عباس. وحدثنا محمد بن إبراهيم بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد عبد العزيز بن يحيى الجلودي، قال: حدثنا الحسن بن مهران، قال: حدثنا سلمة بن خالد، عن الصادق جعفر بن محمد، عن أبيه (عليهما السلام)، في قوله عز وجل: «يوفون بالنذر»، قال: مرض الحسن والحسين (عليهما السلام) وهما صبيان صغيران، فعادهما رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومعه رجلان، فقال أحدهما: يا أبا الحسن، لو نذرت في ابنيك نذراً إن الله عافاهما. فقال: أصوم ثلاثة أيام شكراً لله عز وجل، وكذلك قالت فاطمة (عليها السلام)، وقال الصبيان: ونحن أيضاً نصوم ثلاثة أيام، وكذلك قالت جاريتهم فضة، فألبسهما الله عافية، فأصبحوا صياماً وليس عندهم طعام. فانطلق علي (عليه السلام) إلى جار له من اليهود يقال له شمعون يعالج الصوف، فقال: هل لك أن تعطيني جزة من صوف تغزلها لك ابنة محمد بثلاثة أصوع من شعير؟ قال: نعم. فأعطاه فجاء بالصوف والشعير، وأخبر فاطمة (عليها السلام) فقبلت وأطاعت، ثم عمدت فغزلت ثلث الصوف، ثم أخذت صاعاً من الشعير، فطحنته وعجنته، وخبزت منه خمسة أقراص، لكل واحد قرص، وصلى علي (عليه السلام) مع النبي (صلى الله عليه وآله) المغرب، ثم أتى منزله، فوضع الخوان وجلسوا خمستهم، فأول لقمة كسرها علي (عليه السلام) إذا مسكين قد وقف بالباب، فقال: السلام عليكم يا أهل بيت محمد، أنا مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني مما تأكلون أطعمكم الله على موائد الجنة، فوضع اللقمة من يده، ثم قال: فاطم ذات المجد واليقين * * يا بنت خير الناس أجمعين أما ترين البائس المسكين * * جاء إلى الباب له حنين يشكو إلى الله ويستكين * * يشكو إلينا جائعا حزين كل امرئ بكسبه رهين * * من يفعل الخير يقف سمين موعده في جنة رحيم * * حرمها الله على الضنين وصاحب البخل يقف حزين * * تهوي به النار إلى سجين شرابه الحميم والغسلين فأقبلت فاطمة (عليها السلام) تقول: أمرك سمع يا بن عم وطاعة * * ما بي من لؤم ولا وضاعة غذيت باللب وبالبراعة * * أرجو إذا أشبعت من مجاعة أن ألحق الأخيار والجماعة * * وأدخل الجنة في شفاعة وعمدت إلى ما كان على الخوان فدفعته إلى المسكين، وباتوا جياعاً، وأصبحوا صياماً لم يذوقوا إلا الماء القراح. ثم عمدت إلى الثلث الثاني من الصوف فغزلته، ثم أخذت صاعاً من الشعير فطحنته وعجنته، وخبزت منه خمسة أقراص، لكل واحد قرص، وصلى علي (عليه السلام) المغرب مع النبي (صلى الله عليه وآله)، ثم أتى منزله، فلما وضع الخوان بين يديه وجلسوا خمستهم، فأول لقمة كسرها علي (عليه السلام) إذا يتيم من يتامى المسلمين، قد وقف بالباب، فقال: السلام عليكم يا أهل بيت محمد، أنا يتيم من يتامى المسلمين أطعموني مما تأكلون أطعمكم الله على موائد الجنة. فوضع علي ( عليه السلام ) اللقمة من يده، ثم قال: فاطم بنت السيد الكريم * * بنت نبي ليس بالزنيم قد جاءنا الله بذا اليتيم * * من يرحم اليوم فهو رحيم موعده في جنة النعيم * * حرمها الله على اللئيم وصاحب البخل يقف ذميم * * تهوي به النار إلى الجحيم شرابها الصديد والحميم فأقبلت فاطمة (عليها السلام) وهي تقول: فسوف أعطيه ولا أبالي * * وأؤثر الله على عيالي أمسوا جياعا وهم أشبالي * * أصغرهما يقتل في القتال بكربلاء يقتل باغتيال * * لقاتليه الويل مع وبال يهوي في النار إلى سفال * * كبوله زادت على الأكبال ثم عمدت فأعطته جميع ما على الخوان، وباتوا جياعاً لم يذوقوا إلاّ الماء القراح، وأصبحوا صياما. وعمدت فاطمة (عليها السلام) فغزلت الثلث الباقي من الصوف، وطحنت الصاع الباقي وعجنته، وخبزت منه خمسة أقراص، لكل واحد قرص، وصلى علي (عليه السلام) المغرب مع النبي (صلى الله عليه وآله)، ثم أتى منزله، فقرب إليه الخوان، وجلسوا خمستهم، فأول لقمة كسرها علي (عليه السلام) إذا أسير من أسراء المشركين قد وقف بالباب، فقال: السلام عليكم يا أهل بيت محمد، تأسروننا وتشدوننا ولا تطعموننا، فوضع علي (عليه السلام) اللقمة من يده، ثم قال: فاطم يا بنت النبي أحمد * * بنت النبي سيد مسود قد جاءك الأسير ليس يهتد * * مكبلا في غله مقيد يشكو إلينا الجوع قد تقدد * * من يطعم اليوم يجده في غد عند العلي الواحد الموحد * * ما يزرع الزارع سوف يحصد فأعطني لا تجعليه ينكد فأقبلت فاطمة (عليها السلام) وهي تقول: لم يبق مما كان غير صاع * * قد دبرت كفي معه الذراع شبلاي والله هما جياع * * يا رب لا تتركهما ضياع أبوهما للخير ذو اصطناع ** عبل الذراعين طويل الباع وما على رأسي من قناع * * إلا عبا نسجتها بصاع وعمدوا إلى ما كان على الخوان فأعطوه، وباتوا جياعاً، وأصبحوا مفطرين وليس عندهم شئ. قال شعيب في حديثه: وأقبل علي بالحسن والحسين (عليهما السلام) نحو رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهما يرتعشان كالفراخ من شدة الجوع، فلما بصر بهم النبي (صلى الله عليه وآله) قال: يا أبا الحسن، شد ما يسوءني ما أرى بكم، انطلق إلى ابنتي فاطمة (عليها السلام). فانطلقوا إليها وهي في محرابها، قد لصق بطنها بظهرها من شدة الجوع وغارت عيناها، فلما رآها رسول الله (صلى الله عليه وآله) ضمها إليه وقال: وا غوثاه بالله، أنتم منذ ثلاث فيما أرى، فهبط جبرئيل (عليه السلام) فقال: يا محمد، خذ ما هيأ الله لك في أهل بيتك. قال: وما آخذ يا جبرئيل؟ قال: «هل أتى على الإنسان حين من الدهر» حتى إذا بلغ «إن هذا كان لكم جزاءً وكان سعيكم مشكوراً». وقال الحسن بن مهران في حديثه: فوثب النبي (صلى الله عليه وآله) حتى دخل منزل فاطمة (عليها السلام) فرأى ما بهم فجمعهم، ثم انكب عليهم يبكي ويقول: أنتم منذ ثلاث فيما أرى، وأنا غافل عنكم، فهبط جبرئيل (عليه السلام) بهذه الآيات: «إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافوراً، عيناً يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيراً»، قال: هي عين في دار النبي (صلى الله عليه وآله) تفجر إلى دور الأنبياء والمؤمنين «يوفون بالنذر» يعني عليا وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) وجاريتهم «ويخافون يوما كان شره مستطيرا»، يقول: عابساً كلوحاً «يطعمون الطعام على حبه» يقول: على شهوتهم للطعام وإيثارهم له «مسكينا» من مساكين المسلمين «ويتيما» من يتامى المسلمين «وأسيراً» من أسارى المشركين،ويقولون إذا أطعموهم: «إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً»، قال: والله ما قالوا هذا لهم، ولكنهم أضمروه في أنفسهم،فأخبر الله بإضمارهم، يقولون: لا نريد منكم جزاءً تكافؤننا به ولا شكوراً تثنون علينا به، ولكنا إنما أطعمناكم لوجه الله وطلب ثوابه. قال الله تعالى ذكره: «فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة» في الوجوه «وسروراً» في القلوب «وجزاهم بما صبروا جنة» يسكنونها «وحريراً» يفترشونه ويلبسونه «متكئين فيها على الأرائك» والأريكة السرير عليه الحجلة «لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا». قال ابن عباس: فبينا أهل الجنة في الجنة إذ رأوا مثل الشمس قد أشرقت لها الجنان، فيقول أهل الجنة: يا رب، إنك قلت في كتابك: «لا يرون فيها شمسا» فيرسل الله جل اسمه إليهم جبرئيل، فيقول: ليس هذه بشمس، ولكن علياً وفاطمة ضحكا فأشرقت الجنان من نور ضحكهما، ونزلت «هل أتى» فيهم إلى قوله تعالى: «وكان سعيكم مشكوراً».

ص: 389

ص: 390

ص: 391

صلى علي (عليه السلام) المغرب مع النبي (صلى الله عليه وآله) ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين أيديهم، فجاء سائل أو مسكين فوقف على الباب وقال:

السلام عليكم يا أهل بيت محمد، مسكين من مساكين المسلمين أطعموني مما تأكلون أطعمكم الله على موائد الجنة.

قالت فاطمة (عليها السلام):

أطعمه و لا أبالي الساعة ** أرجو إذا أشبعت ذا مجاعة

أن ألحق الأخيار والجماعة ** وأدخل الخلد ولي شفاعة

فأعطوه الطعام ومكثوا يومهم وليلتهم لم يذوقوا إلاّ الماء القراح.

ولما كان اليوم الثاني طحنت فاطمة (عليها السلام) من الشعير وصنعت منه خمسة أقراص، وصلى علي (عليه السلام) المغرب وجاء إلى المنزل، فجاء يتيم فوقف على الباب فقال: السلام عليكم يا أهل بيت محمد، يتيم من أيتام المهاجرين استشهد والدي، أطعموني مما رزقكم الله، أطعمكم الله من موائد الجنة؟

فقالت فاطمة (عليها السلام):

إني أطعمه ولا أبالي ** وأوثر الله على عيالي

أمسوا جياعاً وهم أشبالي

ص: 392

فرفعوا الطعام وناولوه إياه، ثم أصبحوا وأمسوا في اليوم الثاني كذلك كما كانوا في الأول.

فلما كان في اليوم الثالث طحنت فاطمة (عليها السلام) باقي الشعير ووضعته، فجاء علي (عليه السلام) بعد المغرب، فجاء أسير فوقف على البابوقال: السلام عليكم يا أهل بيت محمد، أسير محتاج، تأسرونا ولا تطعمونا، أطعمونا من فضل ما رزقكم الله.

فقالت فاطمة (عليها السلام):

لم يبق عندي اليوم غير صاع ** قد مجلت كفي مع الذراع

إبناي والله من الجياع ** أبوهما للخير ذو اصطناع

ثم رفعوا الطعام وأعطوه للأسير.

فلما كان اليوم الرابع دخل علي (عليه السلام) على النبي (صلى الله عليه وآله) يحمل ابنيه كالفرخين، فلما رآهما رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: وأين ابنتي؟

قال: في محرابها.

فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله) فدخل عليها ولقد لصق بطنها بظهرها وغارت عيناها من شدة الجوع، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): واغوثاه بالله، آل محمد يموتون جوعاً.

فهبط جبرئيل وهو يقرأ: «يُوفُونَ بِالنَّذْرِ»(1).

-------------------------------------------

ص: 393


1- سورة الإنسان: 7.

كراهة اتخاذ الحاجب

مسألة: يكره اتخاذ الحاجب الذي يمنع الناس من الوصول إلى القادة أو الرؤساء أو الأكابر، ولذا نجد المسكين واليتيم والأسير يقفون على باب بيت فاطمة الزهراء وعلى أمير المؤمنين (عليهما السلام) ويخاطبونهم ثم يأخذون منهم دون حاجب أو رادع أو مانع أو وسيط، وقد وردت روايات عديدة في كراهة اتخاذ الحاجب.

عن المفضل بن عمر، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «أيما مؤمن كان بينه وبين مؤمن حجاب ضرب الله عز وجل بينه وبين الجنة سبعين ألف سور، ما بين السور إلى السور مسيرة ألف عام»(1).

وعن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال: «المؤمن أخو المؤمن لأبيه وأمه، ملعون ملعون من اتهم أخاه، ملعون ملعون من غش أخاه، ملعون ملعون من لم ينصح أخاه، ملعون ملعون من احتجب عنأخيه، ملعون ملعون من اغتاب أخاه»(2).

وعن محمد بن سنان، قال: كنت عند الرضا (عليه السلام) فقال لي: «يَا مُحَمَّدُ إِنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَرْبَعَةُ نَفَرٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَأَتَى وَاحِدٌ مِنْهُمُ الثَّلَاثَةَ وَهُمْ مُجْتَمِعُونَ فِي مَنْزِلِ أَحَدِهِمْ فِي مُنَاظَرَةٍ بَيْنَهُمْ، فَقَرَعَ الْبَابَ فَخَرَجَ إِلَيْهِ الْغُلَامُ فَقَالَ: أَيْنَ مَوْلَاكَ، فَقَالَ: لَيْسَ هُوَ فِي الْبَيْتِ.

ص: 394


1- الكافي: ج2 ص364 باب من حجب أخاه المؤمن ح1.
2- وسائل الشيعة: ج12 ص231 ب130 من أبواب أحكام العشرة ح5.

فَرَجَعَ الرَّجُلُ وَدَخَلَ الْغُلامُ إِلَى مَوْلاهُ، فَقَالَ لَهُ: مَنْ كَانَ الَّذِي قَرَعَ الْبَابَ، قَالَ: كَانَ فُلانٌ فَقُلْتُ لَهُ لَسْتَ فِي الْمَنْزِلِ، فَسَكَتَ وَلَمْ يَكْتَرِثْ وَلَمْ يَلُمْ غُلَامَهُ وَلا اغْتَمَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ لِرُجُوعِهِ عَنِ الْبَابِ، وَأَقْبَلُوا فِي حَدِيثِهِمْ.

فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ بَكَّرَ إِلَيْهِمُ الرَّجُلُ فَأَصَابَهُمْ وَقَدْ خَرَجُوا يُرِيدُونَ ضَيْعَةً لِبَعْضِهِمْ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ: أَنَا مَعَكُمْ، فَقَالُوا: نَعَمْ، وَلَمْ يَعْتَذِرُوا إِلَيْهِ، وَكَانَ الرَّجُلُ مُحْتَاجاً ضَعِيفَ الْحَالِ. فَلَمَّا كَانُوا فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ إِذَا غَمَامَةٌ قَدْ أَظَلَّتْهُمْ فَظَنُّوا أَنَّهُ مَطَرٌ فَبَادَرُوا، فَلَمَّا اسْتَوَتِ الْغَمَامَةُ عَلَى رُءُوسِهِمْ إِذَا مُنَادٍ يُنَادِي مِنْ جَوْفِ الْغَمَامَةِ أَيَّتُهَا النَّارُ خُذِيهِمْ وَأَنَا جَبْرَئِيلُ رَسُولُ اللَّهِ، فَإِذَا نَارٌ مِنْ جَوْفِالْغَمَامَةِ قَدِ اخْتَطَفَتِ الثَّلَاثَةَ نَفَرٍ،وَبَقِيَ الرَّجُلُ مَرْعُوباً يَعْجَبُ بِمَا نَزَلَ بِالْقَوْمِ، وَلا يَدْرِي مَا السَّبَبُ، فَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلَقِيَ يُوشَعَ بْنَ نُونٍ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ وَمَا رَأَى وَمَا سَمِعَ، فَقَالَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ اللَّهَ سَخِطَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ أَنْ كَانَ عَنْهُمْ رَاضِياً وَذَلِكَ بِفِعْلِهِمْ بِكَ، قَالَ: وَمَا فِعْلُهُمْ بِي، فَحَدَّثَهُ يُوشَعُ، فَقَالَ الرَّجُلُ: فَأَنَا أَجْعَلُهُمْ فِي حِلٍّ وَأَعْفُو عَنْهُمْ، قَالَ:لَوْ كَانَ هَذَا قَبْلُ لَنَفَعَهُمْ وَأَمَّا السَّاعَةَ فَلَا، وَعَسَى أَنْ يَنْفَعَهُمْ مِنْ بَعْدُ»(1).

عدم اتخاذ الحراس

مسألة: الأصل عدم اتخاذ الحراس، فإنهم تكلفة مالية وإثقال أولاً، ثم إنهم يفصلون القائد عن الناس بوجودهم وتصرفاتهم وما يبعثونه في الناس من الخوف والهيبة، إضافة إلى أنهم عادةً يوجبون كِبراً ورفعةً واستعلاءً في النفس، إلى غير ذلك.

ص: 395


1- بحار الأنوار: ج72 ص191 - 192 ب61 ح4.

ولذا لم نجد الرسول والأئمة (عليهم السلام) يتخذون حراساً عادةً، رغم كثرة أعدائهم وإحاطتهم بهم، ونجد في هذه الرواية أن دار علي وفاطمة (عليهما

السلام) كانت بلا حراسة، رغم أنها كانت بنت الرسول (صلى الله عليه وآله) وكان علي(عليه السلام) نائبه ووصيه ويده اليمنى، ورغم كثرة أعدائهما من اليهود والمشركين وغيرهم.

نعم اتخذ معاوية الحرس، وجعلها(1) ملوكية(2).

إيثار السائل ولو كان كافراً

مسألة: يستحب إيثار السائل على النفس حتى إذا كان السائل كافراً، كما يظهر من إيثارهم (الأسير) على أنفسهم، وكانم الأسير كافراً.

وللروايات العامة مثل: (لكل كبد حرّى أجر)(3).

و: (فإنهم - أي الناس - صنفان: إما أخ لك في الدين وإما نظير لك فيالخَلْقِ)(4).

ص: 396


1- أي الخلافة.
2- قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: ج3 ص157: (قال الزبير بن بكار: كان معاوية أول من اتخذ الديوان للختم، وأمر بالنيروز والمهرجان، واتخذ المقاصير في الجامع، وأول من قتل مسلماً صبراً، وأول من قام على رأسه حرس، وأول من قيدت بين يديه النجائب، وأول من اتخذ الخدام الخصيان في الاسلام، وأول من بلغ درجات المنبر خمس عشرة مرقاة، وكان يقول: أنا أول الملوك).
3- المعتبر، للمحقق الحلي: ج2 ص581.
4- نهج البلاغة: ومن عهد له (عليه السلام) إلى الأشتر النخعي عندما ولاه مصر. وفيه: (وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق».

وعن أبي عبد الله (عليه السلام): «أفضل الصدقة إبراد كبد حرى»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «من سقى الماء في موضع يوجد فيه الماء كان كمن أعتق رقبة، ومن سقى الماء في موضع لا يوجد فيه الماء كان من أحيا نفساً، «وَمَنْ أحْياهَا فَكَأنَّما أَحَيَا النّاسَ جَمِيعاً»(2)»(3).

وعن مصادف، قال : كنت مع أبي عبد الله (عليه السلام) بين مكة والمدينة فمررنا على رجل في أصل شجرة وقد ألقى بنفسه، فقال: «مل بنا إلى هذا الرجل فإني أخاف أن يكون قد أصابه عطش»، فملنا فإذا رجل من الفراسين طويل الشعر فسأله: «أعطشان أنت»؟ فقال: نعم. فقال لي: «انزل يا مصادف فاسقه»، فنزلت وسقيته ، ثم ركبت وسرنا، فقلت : هذانصراني فتتصدق على نصراني؟ فقال: «نعم إذا كانوا في مثل هذا الحال»(4).

وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إن الله تبارك وتعالى يحب إبراد الكبد الحري، ومن سقى كبداً حرى من بهيمة أو غيرها أظله الله يوم لا ظل إلاّ ظله»(5).

ثم إن الاستحباب ليس خاصاً بمن سأل، بل يستحب الإيثار للمحتاج وإن لم يكن سائلاً.

ص: 397


1- تهذيب الأحكام: ج4 ص110 ح319.
2- سورة المائدة: 32.
3- مكارم الأخلاق: ص135 الفصل1 من الباب7.
4- خاتمة المستدرك: ج5 ص268.
5- الكافي: ج4 ص58 باب سقي الماء ح6.

عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «لله عز وجل جنة لا يدخلها إلاّ ثلاثة: رجل حكم في نفسه بالحق، ورجل زار أخاه المؤمن في الله، ورجل آثر أخاه المؤمن في الله عز وجل»(1).

وقد ورد في أحوال مولانا أبي الفضل العباس (عليه الصلاة والسلام) أنه «آثر أخاه»(2)، حيث لم يشرب الماء عندماالمشرعة، بل رمى الماء على الماء إيثاراً لأخيه الإمام الحسين (عليه السلام) وأطفاله وأهل بيته على نفسه(3).

وقال:

ص: 398


1- الخصال: ص131 ح136.
2- قال الإمام السجاد (عليه السلام): (رحم الله العباس، فلقد آثر وأبلى، وفدى أخاه بنفسه حتى قطعت يداه، فأبدله الله عز وجل بهما جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنة كما جعل لجعفر بن أبي طالب، وإن للعباس عند الله تبارك وتعالى منزلة يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة). الأمالي، للشيخ الصدوق: ص548 المجلس70 ح10.
3- وقد ورد في المقاتل: إنه (عليه السلام) ركب فرسه وأخذ رمحه والقربة وقصد نحو الفرات، فأحاط به أربعة آلاف ممن كانوا موكلين بالفرات، ورموه بالنبال فكشفهم، وجعل يقول: لا أرهب الموت إذا الموت رقا *** حتى أواري في المصاليت لقى نفسي لنفس المصطفى الطهر وقا *** إني أنا العباس أغدو بالسقا ولا أخاف الشر يوم الملتقى وقتل منهم على ما روي ثمانين رجلاً حتى دخل الماء، فلما أراد أن يشرب غرفةً من الماء ذكر عطش الحسين (عليه السلام) وأهل بيته، وقال: يا نفس من بعد الحسين هوني *** وبعده لا كنت أو تكون هذا حسين وارد المنون *** وتشربين بارد المعين فرمى الماء على الماء ولم يشربه، وملأ القربة وحملها على كتفه الأيمن، وتوجّه نحو الخيام. للتفصيل انظر (من حياة الإمام الحسين عليه السلام) للسيد المؤلف (أعلى الله درجاته).

يا نفس من بعد الحسين هوني *** وبعده لا كنت أو تكوني

هذا حسين وارد المنون *** وتشربين بارد المعين

تالله ما هذا فعال ديني *** ولا فعال صادق اليقين

ومنه(1) يعلم أن الإيثار ليس خاصاً بما إذا كان هناك شيء واحد موجود - تملكاً أو تصرفاً أو شبه ذلك - دار أمره بين الإنسان نفسه وبين غيره، بل يشمل حتى مثل العطش فيما إذا كان الطرف الآخر عطشاناً، وإن كان الماء متوفراً لديه، وربما سمي هذا بالمواساة، كما في مولانا العباس (عليه الصلاة والسلام).

وبعبارة أخرى: الإيثار أعم من الإيجاب والسلب، ومن أن يعطي ما عنده أو أن يمتنع عن الاستفادة منه ليكون كغيره في الحرمان.

ثم إن استحباب الإيثار ولو بالنسبة إلى الكافر، إنما هو في غير المحارب الذي إذا أمددناه سبّب شدة ضراوته وقتاله وحربه وما أشبه، أما إذا لم يسبب الإيثار ذلك، تشمله عمومات الإيثار أيضاً، كما آثر الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام) بالماء أهل الكوفة(2)،وكذلك آثر النبي (صلى الله عليه وآله) أهل مكة حين

ص: 399


1- أي ومن ورود (آثر أخاه).
2- نزل الإمام الحسين (عليه السلام) بذي جشم ونزل في مقابله الحر بين يزيد الرياحي مع جيشه، وكان فيها عين صغير للماء لا يكفي إلاّ لعدد قليل، فجاء جيش الحر وهم عطاشى وأرادوا الماء، فقال لهم الإمام (عليه السلام): «هذه العين صغيرة لا تكفي لهذا الجيش»، ثم سأل (عليه السلام) أخاه العباس (عليه السلام): «كم لنا من الماء»؟ قال: «القرب كلها مليئة». فقال الحسين (عليه السلام): «اسقوا القوم وخيولهم»!. ولولا أن سقاهم الإمام (عليه السلام) لمات جيش الحر من شدة الحر والعطش. فقال الإمام الحسين (عليه السلام) لفتيانه: «اسقوا القوم وارووهم من الماء ورشفوا الخيل ترشيفاً»، ففعلوا. وأقبلوا يملئون القصاع والطساس من الماء ثم يدنونها من الفرس فإذا عبّ فيها ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً عزلت عنه وسقي آخر حتى سقوها عن آخرها. انظر (من حياة الإمام الحسين عليه السلام) للإمام المؤلف (قدس سره).

كفرهم ببعض ما غنمه من خيبر، كما في بعض التواريخ.

ويحتمل جواز إيثار الكافر وربما استحبابه مطلقاً(1)، وذلك لغرض أهم، كرعاية الإنسانية وما أشبه، كما قد يستفاد ذلك من بعض قصص المعصومين (عليهم السلام) حتى في الحروب، كقصة سقي أمير المؤمنين (عليه السلام) أصحاب معاوية، وعدم منعهم من الماء معتقويّهم بالماء كما هو واضح، إلا أن يقال: العمل لا جهة له، ولعله كان لأجل فضح معاوية وإظهار الفرق الكبير بين حسن قيادة أهل البيت (عليهم السلام) وقيادة المنحرفين عن منهجهم من أمثال معاوية، كما لعله كان لهداية الكثير من الناس في ذلك الزمن والأزمنة اللاحقة، حيث إن بمثل هذه الأخلاق دخل الكثير في دين الله ومذهب أهل البيت (عليهم السلام) أفواجاً، فتأمل.

القيام بأعمال البيت

مسألة: يستحب القيام بأعمال البيت(2).

وقد ورد أنه لا يخدم في البيت إلاّ الصديقون، والمراد بالصديق هنا: الذي يُصدق بالله وبأحكامه، فإن من أحكام الله سبحانه وتعالى خدمة البيت على سبيل الاستحباب.

ص: 400


1- راجع موسوعة (الفقه): كتاب الجهاد، وكتاب (السلم والسلام).
2- لما سيأتي من سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) في بيته.

وبذلك يظهر أنه لا يصح التعلل بالأعمال الكثيرة والمسؤوليات الخطيرة للفرار من العمل بالبيت، ومن يا ترى هو أعظم من أمير المؤمنين وفاطمة الزهراء (عليهما السلام) مكانة وموقعاً ومسؤولية، وكذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ومع ذلك نجدهم (صلوات الله عليهم)يعلفون الناضح وغير ذلك(1)، ونجدها (صلوات الله عليها) تطحن الشعير وغير ذلك.

والمراد بالبيت الأعم من بيت الحجر أو المدر أو الفسطاط أو غير ذلك من الأبنية وغيرها، حتى بيوت السُفُن، فهناك من الأسر من يعيش في السفينة دائماً فهي بيتهم، وذلك لوضوح الملاك.

ولا فرق في الاستحباب بين الأب والأم والأولاد والإخوة والأخوات والأجداد والجدات والأعمام والعمات والأخوال والخالات ومن أشبه ممن يسكنون بيتاً واحداً.

عدم سجن الأسير

مسألة: يجوز إطلاق الأسير، بحيث يخرج من السجن ثم يرجع إليه إذا لم يخش منه، أو بأن لا يسجن أصلاً، بل يحكم على الأسير بعدم ذهابه إلى بلد الكفار فقط، فلا يسجن في مكان بل يكون حالهحال سائر المسلمين.

ص: 401


1- قال أبو سعيد الخدري لابن أبي سلمة: (وعالج في بيتك من الخدمة ما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يعالج في بيته: كان يعلف الناضح، ويعقل البعير، ويقم البيت، ويحلب الشاة، ويخصف النعل، ويرقع الثوب، ويأكل مع خادمه، ويطحن عنه إذا أعيى، ويشتري الشيء من السوق ولا يمنعه الحياء أن يعلقه بيده أو يجعله في طرف ثوبه، فينقلب إلى أهله) بحار الأنوار: ج70 ص208 ب130.

فإن هذا الأسير الكافر الذي استجدى منهم كان مطلقاً غير مقيد ولا سجين، كسائر الأسراء الكفار في المدينة المنورة، في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولم يكن من شأن الرسول (صلى الله عليه وآله) أن يقيد الأسراء ويحبسهم، نعم في بعض التواريخ أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يأمر أحياناً بحبس الأسير ليلة واحدة أو ثلاثة أيام في غرفة على باب المسجد كما في قصة ثمامة بن أثال(1).

حيث روي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أرسل قبل نجد سرية، فأسروا واحداً اسمه ثمامة بن أثال الحنفي سيد اليمامة، فأتوا به وشدوه إلى سارية من سواري المسجد، فمر به النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: ما عندك يا ثمامة؟ فقال: خير، إن قتلت قتلت ذا دما، وإن مننت مننت علي شاكر، وإن أردت مالاً قل تعط ما شئت، فتركه ولم يقل شيئاً، فمر به اليوم الثاني فقال مثل ذلك، ثم مر به اليوم الثالث، فقال مثل ذلك ولميقل النبي (صلى الله عليه وآله) شيئاً، قال: أطلقوا ثمامة، فأطلقه، فمر واغتسل وجاء وأسلم، وكتب إلى قومه فجاؤوا مسلمين(2).

وإنما قيدنا الأمر بأنه إذا لم يُخش منه، لوضوح أنه إذا خشي منه لم يجز إطلاقه حتى يفعل ما يشاء من باب (قانون الأهم والمهم). وبذلك يعلم أن الإسلام سبق بأكثر من ألف عام، بعض الدول الغربية التي لا تسجن المجرم، أو من يعد مجرماً عندهم، بل تمنعه من الخروج من البلدة أو ما أشبه ذلك(3).

ص: 402


1- ثمامة بن أثال بن النعمان اليمامي الحنفي أبو أمامة كان سيد أهل اليمامة ثم أسلم، ولما ارتد أهل اليمامة في فتنة مسيلمة الكذاب ثبت على إسلامه، ثم قاتل المرتدين وقتل سنة 12ه-.
2- مستدرك الوسائل: ج2 ص514 ب12 من أبواب الأغسال المسنونة ح4.
3- كأن يضعوا في يده طوقاً يرسل إشارات لاسلكية للجهات المعنية لو تجاوز حدّاً معيناً.

صلاة الجماعة

مسألة: يستحب مؤكداً الالتزام والمواظبة على صلاة الجماعة.

وهذا يستفاد من تكرار ما ورد في هذه الرواية الشريفة من أن علياً (عليه الصلاة والسلام) صلى جماعة مع النبي (صلى الله عليه وآله) مضافاً إلى سائر الروايات المختلفة(1).

فالالتزام والمواظبة على حضور صلاة الجماعة مستحب آخر بالإضافة إلى أصل استحبابها، فهي مستحبة بذاتها، وتستحب أيضاً المواظبة عليها.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «من صلى الخمس في جماعة فظنوا به خيراً»»(2).

وقال (صلى الله عليه وآله): «من صلى الخمس في الجماعة وحافظ على الجمعة فقد اكتال الأجر بالمكيال الأوفى وقال تعالى: «ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى»(3)»(4).وعن زرارة والفضيل، قالا: قلنا له: الصلاة في جماعة فريضة هي؟ فقال (عليه السلام): «الصلوات فريضة، وليس الاجتماع بمفروض في الصلوات كلها، ولكنها سنة، من تركها رغبة عنها وعن جماعة المؤمنين من غير علة

ص: 403


1- انظر وسائل الشيعة: ج8 ص283 أبواب صلاة الجماعة، باب تأكد استحبابها في الفرائض.
2- الكافي: ج3 ص371 باب فضل الصلاة في الجماعة ح3.
3- سورة النجم: 41.
4- مستدرك الوسائل: ج6 ص448 ب1 من أبواب صلاة الجمعة ح19.

لا صلاة له»(1).

فالحضور جماعة في الأوقات الخمس يدل على الثقافة الدينية وطيب نفسي وملكة راسخة تبعث على ذلك، ولذا نشاهد قديماً وحديثاً، أن الذين يحضرون الجماعة ويواظبون عليها غالباً لهم حالة عدالة وعفاف وملكة تقوى وفضيلة، والخارج شاذ.

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «وَمَنْ مَشَى إِلَى مَسْجِدٍ يَطْلُبُ فِيهِ الْجَمَاعَةَ كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ سَبْعُونَ أَلْفَ حَسَنَةٍ، وَيُرْفَعُ لَهُ مِنَ الدَّرَجَاتِ مِثْلُ ذَلِكَ، فَإِنْ مَاتَ وَهُوَ عَلَى ذَلِكَ وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ يَعُودُونَهُ فِي قَبْرِهِ وَيُبَشِّرُونَهُ وَيُؤْنِسُونَهُ فِي وَحْدَتِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لَهُ حَتَّى يُبْعَثَ»(2).الْجَمَاعَةِ أَرْبَعٌ وَعِشْرُونَ رَكْعَةً، كُلُّ رَكْعَةٍ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ عِبَادَةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً»(3).

وقال (عليه السلام): «فَمَا مِنْ مُؤْمِنٍ مَشَى إِلَى الْجَمَاعَةِ إِلاّ خَفَّفَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَهْوَالَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يَأْمُرُ بِهِ إِلَى الْجَنَّةِ»(4).

وقَالَ (عليه السلام): «إِنَّ اللَّهَ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا صَلَّى فِي جَمَاعَةٍ ثُمَّ سَأَلَهُ حَاجَتَهُ أَنْ يَنْصَرِفَ حَتَّى يَقْضِيَهَا»(5).

ص: 404


1- الكافي: ج3 ص372 باب فضل الصلاة في الجماعة ح6.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 4 ص17 باب ذکر جمل من مناهي النبي (صلى الله عليه وآله) ح4968.
3- وسائل الشيعة: ج8 ص288 باب1 ح10684.
4- وسائل الشيعة: ج8 ص288 باب1 ح10684.
5- وسائل الشيعة: ج8 ص289 باب1 ح10689.

وقال الشهيد الثاني (قدس سره) في شرح اللمعة: «الْجَمَاعَةُ مُسْتَحَبَّةٌ فِي الْفَرِيضَةِ، مُتَأَكِّدَةٌ فِي الْيَوْمِيَّةِ، حَتَّى إِنَّ الصَّلَاةَ الْوَاحِدَةَ مِنْهَا تَعْدِلُ خَمْساً أَوْ سَبْعاً وَعِشْرِينَ صَلَاةً مَعَ غَيْرِ الْعَالِمِ، وَمَعَهُ أَلْفاً، وَلَوْ وَقَعَتْ فِي مَسْجِدٍ تَضَاعَفَ بِمَضْرُوبِ عَدَدِهِ فِي عَدَدِهَا، فَفِي الْجَامِعِ مَعَ غَيْرِ الْعَالِمِ أَلْفَانِ وَسَبْعُمِائَةٍ وَمَعَهُ مِائَةُ أَلْفٍ»(1).المأموم، فلو تعدّد تضاعف في كلّ واحد بقدر المجموع في سابقه ثم لا يحصيه إلا الله تعالى(2).

إنشاد الشعر وانشاؤه

مسألة: إنشاد الشعر مستحب في الجملة، وكذلك إنشاء الشعر، وربما كان مكروهاً.

والاستحباب فيما إذا كان دفاعاً عن الحق أو إظهار فضيلة أو ما أشبه، والظاهر أنها (صلوات الله عليها) أنشأت هذه الأشعار إنشاءً، ويستفاد منه استحبابه في مثل هذا الموطن حيث تضمن النصيحة والتوجيه وما أشبه.

وقد روي عن أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) أحاديث في إنشاده أو إنشائه، ومنه ما في (نهج البلاغة):

ص: 405


1- انظر وسائل الشيعة: ج8 ص289 باب1 ح10690، عن (الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية) المحشى للمرحوم الكلانتر: ج 1 ص790 الفصل الحادي عشر في الجماعة.
2- الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية، المحشى للمرحوم الكلانتر: ج 1 ص790 الفصل الحادي عشرفي الجماعة.

«شتان ما يوم على كورها ** ويوم حيّان أخي جابر»(1).وديوانه (عليه السلام) مشهور(2).منها الكفار للخدش في القرآن الحكيم، حيث قال سبحانه: «وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ»(3)، وأحياناً كان النبي (صلى الله عليه وآله) إذا أراد ذكر شعر قلّبه بتقديم وتأخير، كما ورد في التواريخ.

ص: 406


1- نهج البلاغة: الخطبة الشقشقية. قال السيد المرتضى في رسائله: ج2 ص109 - 110: وأما إنشاده (عليه السلام): (شتان ما يومي على كورها * ويوم حيان أخي جابر) فهذا البيت لأعشى قيس من جملة قصيدة، أولها: (علقم ما أنت إلى عامر * الناقض الأوتار والواتر)، فأما حيان أخو جابر، فهو رجل من بني حنيفة، فأراد ما أبعد ما بين يومي على كور المطية أدأب وأنصب في الهواجر والصنابر وبين يومي وادعا قارا منادما لحيان أخي في نعمة وخفض وأمن وخصب. وروي: أن حيان هذا كان شريفاً معظماً عتب على الأعشى، كيف نسبه إلى أخيه وعرفه به؟! واعتذر الأعشى أن القافية ساقته إلى ذلك. والغرض في تمثيله (صلوات الله عليه) بهذا البيت، تباعد ما بينه عليه السلام وبيت القوم، لأنهم قلدوا بآرائهم ورجعوا بطلابهم، وظفروا بما قصدوه واشتملوا على ما اعتمدوه، وهو (عليه السلام) في أثناء ذلك كله مجفو في حقه مكمد من نصيبه، فالبعد كما رآه عنهم، واختلاف شديد، والاستشهاد بالبيت واقع في موقعه ووارد في موضعه.
2- قال المحقق المتتبع الشيخ آغا بزرك الطهراني (قدس سره) في الذريعة: ج9 ق1 ص101- بتصرف: ديوان أمير المؤمنين علي (عليه السلام) لقد عددت الذين قاموا بعمل حول ديوان علي (عليه السلام) في (فهرست كتابخانه ي دانشكَاه تهران): ج2 ص116 - 125، سبعة عشر شخصاً، منهم من جمع الديوان، ومنهم من شرحها، وكان أول من جمع ديوانه أبو أحمد عبد العزيز الجلودي ت332ه- وسماه ب- (شعر علي عليه السلام) كما نقل عنه النجاشي.
3- سورة يس: 69.

وذكر البعض أنه قال النبي (صلى الله عليه وآله):

أنا النبي لا كذب ** أنا ابن عبد المطلب(1)

لكنه لم يقرأه على أسلوب الشعر بل قرأه على أسلوب النثر.

ولعل كراهة الشعر في الجملة لما كان فيه من الأهواء والأباطيل والأكاذيب وما أشبه، قال تعالى: «وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ»(2).

اللحوق بجماعة الخير

مسألة: يستحب السعي للحوق بجماعة الخير والحق والأخيار، وهذا ما يستفادومهما كان الإنسان متقدماً في شؤون الخير والعمل الصالح، فإن المؤمن ينظر إلى الأعلى منه دائماً، ويسعى لكي يكتمل ويتزود من (دار الدنيا) أكثر فأكثر، قال تعالى: «وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ المُنْتَهَى»(3).

ص: 407


1- الإرشاد، للشيخ المفيد: ج1 ص143 ما بان من فضله وشجاعته (عليه السلام) في غزوة حنين.
2- سورة الشعراء: 224 - 226.
3- سورة النجم: 42.

إطعام الفقير

مسألة: يستحب إطعام الفقير والمسكين.

وقد ذكروا الفرق بينهما في الآية الكريمة(1)، وأشرنا إليه في بعض مباحث الكتاب وفي (الفقه: الزكاة).

بل يستحب الإطعام مطلقاً حتى لغير الفقير، وقد ورد: «إن الله يحب إطعام الطعام»(2)، ومضمونه متواتر في الروايات(3).

عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «المنجيات إطعام الطعام، وإفشاء السلام، والصلاة بالليل والناس نيام»(4).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:«أتي رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأسارى، فقدم منهم رجلاً ليضرب عنقه، فقال له: جبرئيل، يا محمد ربك يقرؤك السلام ويقول: إن أسيرك هذا يطعم الطعام ويقري الضيف، ويصبر على النائبة، ويحتمل الحمالات، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله): إن جبرئيل أخبرني عنك عن الله بكذا وكذا وقد أعتقتك، فقال له: وإن ربك ليحب هذا، فقال: نعم، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، والذي بعثك بالحق

ص: 408


1- في قوله تعالى: «إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» سورة التوبة: 60.
2- المحاسن: ج2 ص388 ب1من كتاب المآكل ح7 عن أبي جعفر (عليه السلام).
3- انظر المحاسن: ج2 ص387 - 396 كتاب المآكل باب الإطعام، وفيه ثلاثة وستين حديثاً.
4- المحاسن: ج2 ص387 ب1 من كتاب المآكل ح1.

لا رددت عن مالي أحداً أبداً»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «من أشبع كبداً جائعة وجبت له الجنة»(2).

وباسناده قال: «من أشبع جائعاً أجري له نهر في الجنة»(3).

نعم يجب إطعامه وجوباً كفائياً إذا خيف عليه التلف، هذا بالنسبة لعامة الناس، وأما بيت المال فإن الواجب أن ينفق منه على الفقير والمسكين ونحوهما لأن بيت المال معدّ لمصالحالمسلمين.

صلاحية الشفاعة

مسألة: يستحب السعي لتحصيل صلاحية الشفاعة لشؤون الدنيا والآخرة، في الدنيا والآخرة.

وهذا ما يستفاد من قول الصديقة (عليها السلام): (أرجو .. أن أدخل الخلد والشفاعة).

ولا يخفى أن للشفاعة درجات ومراتب وأنواعاً، وكلما عمل الإنسان من الصالحات أكثر، وأنفق على الفقراء واليتامى والأرامل والمساكين أكثر، رزقه الله تعالى شفاعة جديدة، فلا يقال: كيف تقول (صلوات الله عليها) ذلك وهي التي لا شك في أن لها من مراتب الشفاعة أعلاها، ومن مصاديقها أكثرها وأسناها.

ص: 409


1- المحاسن: ج2 ص388389 ب1 من كتاب المآكل ح14.
2- المحاسن: ج2 ص390 ب1 من كتاب المآكل ح22.
3- المحاسن: ج2 ص390 ب1 من كتاب المآكل ح22.

إطعام اليتيم

مسألة: يستحب إطعام اليتيم.

وإطعام اليتيم الفقير أفضل، كما أن إطعام اليتيم الغني أفضل من إطعام الغني غير اليتيم.

ومثل ما تقدم في البحثين السابقين يأتي الكلام في الأسير ولو كان كافراً، كما يظهر من الآية المباركة، حيث إنه إذا كان مسلماً لم يكن أسيراً، ويفيد هذا الأمر - كما سبق - أن الأسير آنذاك لم يكن مقيداً، ولذا كان مطلقاً يدور على البيوت.

الإنفاق مما تحبون

مسألة: يستحب للإنسان أن يتصدق ويُطعم مما يأكله هو أو يلبسه، لا من الإضافات وما لا يريده.

قال سبحانه: «لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ»(1).

والمراد البر الكثير، وإلاّ فأصل الإنفاق مطلقاً يوجب الثواب والأجر.

الإحصاء والعد

مسألة: يستحب الإحصاء والعدّ لما يمتلكه الإنسان في المنزل وغيره، فإنه من الإتقان، ويحول دون الإسراف، إلى غير ذلك، وقد شاهدنا في الرواية قوله:

ص: 410


1- سورة آل عمران: 92.

(لم يبق عندي اليوم غير صاع) حيث كان مقدار الموجود من الطعام محدداً بالدقة، هذا بالعنوان الأولي.

وقد يجب الإحصاء والعدّ، كما في باب الزكاة والخمس والاستطاعة، فإن الفحص لازم في هذه الأبواب وشبهها حتى على القول بعدم لزومه في الشبهات الموضوعية، مع أننا نقول بوجوبه مطلقاً إلاّ في مثل الطهارة والنجاسة.

كما قد يجب إذا كان مقدمة لمنع التبذير أو الإسراف المحرم.

سؤال الوالد عن أولاده

مسألة: يستحب للوالد أن يسأل عن ابنته وصحتها، وإن انتقلت إلى بيت زوجها أو إلى بلد آخر، وكذلك بالنسبة إلى الأرحام بعضهم عن بعض، خصوصاً إذا كانوا واجبي النفقة، وإذا كانوا من أهل الفضيلة والتقوى.

الصلاة في المحراب

مسألة: يستحب الإكثار من العبادة فيالمحراب صلاةً وتضرعاً لله تعالى، خاصةً عند الصعاب والشدائد.

وأفضلية المحراب لأنه المحل المعتاد فيه للعبادة، وفي الآية الكريمة: «كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا»(1)، وسمي بالمحراب لأنه محل محاربة الشيطان على ما ذكره البعض.

ص: 411


1- سورة آل عمران: 37.

المساواة والعدالة

مسألة: (المساواة) إن لم تكن مخالفة للعدالة أمر مطلوب، وقد تكون واجبة، وقد يستظهر أن الأقراص الخمسة كانت كذلك على الرغم من أن الحسنين (عليهما السلام) كانا صغيرين، فتأمل(1).

تحمل الضرر والجوع

مسألة: يجوز تحمل الضرر والجوع الشديد في سبيل الله، والجواز هنا بالمعنى الأعم، وإن وصل ذلك إلى حد أن يلتصق البطن بالظهر، وأن تغور العينان من شدة الجوع، بل حتى وإن أشرف على الموت، كما قال (صلى الله عليه وآله): «وآل محمد يموتون جوعاً».

والمراد من قوله (صلى الله عليه وآله): «يموتون جوعاً» أنهم يشرفون على الموت(2)، والظاهر أنها عبارة عرفية ومن باب المجاز بالأوْل أو المشارفة.

ولا يخفى أن ذلك خاص بالذين هم أسوة أو في مقام إصلاح شديد أو ماأشبه ذلك، كما يفسره ما ذكره أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) للعلاء وعاصم في البصرة.

في (نهج البلاغة): من كلام له (عليه السلام) بالبصرة وقد دخل على العلاء بن زياد الحارثي وهو من أصحابه، يعوده، فلما رأى سعة داره قال:

ص: 412


1- إذ يحتمل كون الأقراص بأحجام مختلفة.
2- مع الاطمئنان بعدمه وإلاّ كان تعريضاً للنفس للتهلكة.

«مَا كُنْتَ تَصْنَعُ بِسِعَةِ هَذِهِ الدَّارِ فِي الدُّنْيَا، أَمَا وَأَنْتَ إِلَيْهَا فِي الْآخِرَةِ كُنْتَ أَحْوَجَ، وَبَلَى إِنْ شِئْتَ بَلَغْتَ بِهَا الْآخِرَةَ، تَقْرِي فِيهَا الضَّيْفَ، وَتَصِلُ فِيهَا الرَّحِمَ، وَتُطْلِعُ مِنْهَا الْحُقُوقَ مَطَالِعَهَا، فَإِذاً أَنْتَ قَدْ بَلَغْتَ بِهَا الْآخِرَةَ.

فَقَالَ لَهُ الْعَلَاءُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَشْكُو إِلَيْكَ أَخِي عَاصِمَ بْنَ زِيَادٍ.

قَالَ: وَمَا لَهُ؟

قَالَ: لَبِسَ الْعَبَاءَةَ وَتَخَلَّى عَنِ الدُّنْيَا.

قَالَ: عَلَيَّ بِهِ، فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: يَا عُدَيَّ نَفْسِهِ لَقَدِ اسْتَهَامَ بِكَ الْخَبِيثُ، أَمَا رَحِمْتَ أَهْلَكَ وَوَلَدَكَ، أَ تَرَى اللَّهَ أَحَلَّ لَكَ الطَّيِّبَاتِ وَهُوَ يَكْرَهُ أَنْ تَأْخُذَهَا، أَنْتَ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ.

قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَذَا أَنْتَ فِي خُشُونَةِ مَلْبَسِكَ وَجُشُوبَةِ مَأْكَلِكَ.

قَالَ: وَيْحَكَ إِنِّي لَسْتُ كَأَنْتَ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَى أَئِمَّةِ الْحَقِ (الْعَدْلِ خ ل)يَتَبَيَّغَ بِالْفَقِيرِ فَقْرُه»(1).

حرمة صوم الوصال

مسألة: لا يجوز صوم الوصال(2)، ومن الواضح أن صومهم ثلاثة أيام

ص: 413


1- نهج البلاغة: الخطبة 209.
2- قال المحقق النراقي (رحمه الله) في مستند الشيعة: ج10 ص511 - 512: (السادس: صوم الوصال، وهو حرام بلا خلاف، للمستفيضة من الأخبار، كروايتي الزهري والرضوي، ووصية النبي (صلى الله عليه وآله)، وصحيحة منصور. وإنما الخلاف في تفسيره، فعن الشيخين والصدوق والشرائع والنافع والإرشاد والمختلف، بل الأكثر كما صرح به جماعة: أن يؤخر عشاءه إلى سحوره، وتدل على ذلك المعنى صحيحتا الحلبي والبختري: الأولى: (الوصال في الصيام أن يجعل عشاءه سحوره). والثانية: (المواصل يصوم يوماً وليلة، ويفطر السحر). وعن الاقتصاد والسرائر والمعتبر وظاهر نكاح المبسوط: أنه صوم يومين بليلة. وتدل عليه رواية محمد بن سليمان: (وإنما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا وصال في صيام، يعني: لايصوم الرجل يومين متوالين من غير إفطار). وفي المسالك والروضة والحدائق: حصوله بكل منهما، للجمع بين الروايات، وهو حسن. انتهى.

لم يكن منه، لأنهم أفطروا على الماء القراح.

نزول سورة الإنسان

مسألة: يستحب بيان أن سورة الإنسان نزلت في فضل الصديقة فاطمة (عليها السلام) وفضل بعلها وبنيها (صلوات الله عليهم أجمعين)، كما يستحب إحصاء وتعداد وتفصيل الآيات التي نزلت في شأنهم (عليهم السلام) وما أكثرها(1).

فإن بيان هذه الفضائل يوجب التفاف الناس حولهم أكثر فأكثر، مما يوجب لهم خير الدنيا والآخرة، إضافة إلى كون ذكرها في حد ذاته عبادة، كما ألمعنا إليه في جملة من المباحث السابقة.

لون واحد من الطعام

مسألة: هل يستحب الاقتصار على لون واحد من الطعام، كما هو ظاهر اكتفائهم لقرص واحد؟

قد يقال: إن الظاهر أن اكتفاءهم به كان من جهة عدم امتلاكهم غيره،

ص: 414


1- راجع كتاب (أهل البيت في القرآن) و(علي في القرآن) و(فاطمة في القرآن) لآية الله العظمى السيد صادق الشيرازي (دام ظله).

فالمرجع عمومات الزهد، و«قُلْ مَنْ حَرَّمَ»(1)،بعد ملاحظة النسبة بينهما.

التصدق والإيثار بنفقة الطفل

مسألة: يجوز التصدق والإيثار حتى بأكل الطفل ونفقته مع رضايته إذا كان مميزاً لذلك.

هذا إذا لم يكن هناك محذور، وإلا فالاستحباب لا يكون معارِضاً لما هو واجب عليه، كما ذكر في بحث تعارض الاقتضائي واللااقتضائي، فإن الاقتضائيات لا تضع مجالاً للااقتضائيات.

وقد ذكرنا في الفقه بأن المصلحة للطفل أعم من المصلحة المادية، فتعليم الطفل على المعنويات والفضائل والصفات الحسنة من ضمن مسؤوليات الولي.

السكوت أو حسن الإجابة

مسألة: يستحب السكوت أو الإجابة بالحسنى لدى تهجم أحدهم على الإنسان بما ليس هو مسؤولاً عنه.

وهذا ما يستفاد من سكوتهم (عليهم السلام) على تهجّم الأسير عليهم إذ قال: (تأسرونا ولا تطعمونا)، مع أن الأسر كان بسوء فعله، إذ لولا مشاركته في المعركة ضد المسلمين لما أسر.ثم الظاهر أنه لم يكن أسوأ حالاً من بعض من لم يكن أسيراً، لعموم

ص: 415


1- سورة الأعراف: 32.

الفقر في المسلمين آنذاك، وعلى أقل الفروض لم يكن أسوأ حالاً من أهل بيت محمد (صلى الله عليه وآله) إذ آثروه على أنفسهم، فلم يبق لديهم طعام للإفطار أبداً.

الاستغاثة بالله

مسألة: يستحب الغوث بالله تعالى، حيث قال (صلى الله عليه وآله): «واغوثاه بالله»(1).

وفي الأدعية: «يَا اللَّهُ يَا اللَّهُ يَا اللَّهُ، يَا مُجِيبَ دَعْوَةِ الْمُضْطَرِّينَ، يَا كَاشِفَ كُرَبِ الْمَكْرُوبِينَ، يَا غِيَاثَ الْمُسْتَغِيثِينَ، وَيَا صَرِيخَ الْمُسْتَصْرِخِين»(2).

فإن الله سبحانه يجير ويغيث ويتفضل على من يلتجأ إليه بقضاء حوائجه وتسهيل مهماته.

ص: 416


1- روضة الواعظين: ج 1 ص163.
2- بحار الأنوار: ج98 ص296 ب24.

الفهرس

المقدمة 5

كيفية رواية المعصومين عن آبائهم 5

يا أماه لا تحزني. 11

تسلية المحزون. 11

تسلية الكافر 13

التسلية على الباطل. 14

التسلية الفعلية 14

التسلية والأدوات الحديثة 15

التفجع وإظهار الحزن على المعاصي. 16

حرمة تكذيب النبي. 18

الإيمان بخير رسول. 19

التذكير بالله. 20

الاعتماد على الله. 20

يا أماه 21

ناصر النبي 22

ذكر الأسباب.. 22

قومي يا أماه 24

تنبيه الشاك. 24

ص: 417

اعتماد الشاك. 26

تنبيه المشتبه 27

الطفل والأحكام التكليفة 27

العصمة الصغرى. 27

الشهادات الثلاث.. 28

الاعتقاد بالربوبية 28

تلقين الطفل. 29

الاعتقاد بالرسالة 30

الاعتقاد بالولاية 30

العطف في الشهادة 31

من صيغ الشهادة 31

فضائل الوصي. 31

فضائل الأئمة 33

مراتب المعصومين. 35

الشهادة الثالثة 36

الشهادة بأصول الدين. 39

الله هو السلام 40

الثناء على الله توقف.. 40

السلم في الحياة 45

مصدر السلام 46

التأكيد المناسب.. 47

عمر النبي (صلی الله علیه و آله) 48

القول التقريبي. 48

حياة العظماء 49

تواريخ الأولياء 50

ص: 418

الإخبار بما يحزن. 50

النبي عيسى. 51

أخبار الماضين. 51

ابن مريم. 53

لبث الأنبياء في أقوامهم 54

دفاعاً عن أبيها 55

دفعاً لكيد الأعداء 55

فضح المؤامرات.. 56

الاجتماع المحرم 56

تحرير الأماكن المقدسة 57

حفظ المعصوم 58

المسارعة في الانقاذ 59

اغتياب المشرك. 60

حرمة تضييع الحق. 61

سرّ الرسول (صلی الله علیه و آله) 62

حرمة إفشاء السر 62

سرّ النبي (صلی الله علیه و آله) 63

أسرار الجماعة 64

بين السرّ والعلانية 65

قبح إفشاء السر 66

أسرار النبوة 67

بيان السرّ المستحب.. 69

أمانة صاحب السر 70

التحدث عن النفس وفضائلها 71

ص: 419

من مصاديق كشف السر 73

العرف وكشف السر 74

من آداب النوم 75

افتراش الفرش. 76

التعبيرات المجازية 76

التكلم مع المصلي. 77

استحباب السؤال. 78

الأصل الحكم التكليفي. 80

استحباب التبسّم 81

النهي عن الضحك.. 82

من أحكام التبسم 83

من الجمع المستحب.. 84

قراءة سورة الإخلاص.. 84

الصلاة على الأنبياء 88

الاستغفار للمؤمنين. 89

معرفة آداب النوم 90

السؤال للتعليم 91

سؤال العارف.. 92

استحباب البيان ورجحان الإجابة 93

ختم القرآن. 95

القرآن في عهد رسول الله. 96

تحصيلاً للشفاعة 97

إرضاء الناس. 98

تبسّم الأب.. 99

الحج والعمرة 100

ص: 420

الاستغفار للأموات.. 101

من لطف الباري عزوجل. 102

طعام الملائكة 104

مراقد المعصومين. 105

الدعاء المأثور 105

الدعاء في غير زمانه 107

التلطف في السؤال. 108

عالم الغيب.. 109

تخيير السائل. 109

أهمية المعنويات.. 112

ترجيح المعنويات.. 112

بيان المعنويات.. 113

اليمين وأحكامه 114

الحلف بسائر الأسماء والصفات.. 115

بيان طعام الملائكة 116

التهليل والتسبيح. 118

سيرة آل محمد 119

بيان المصادر 120

أول الأولين. 122

آخر الآخرين. 122

ذو القوة المتين. 123

راحم المساكين. 123

أرحم الراحمين. 124

الإنسان القوي. 126

ص: 421

العطف على الآخرين. 127

الرحمة دائماً 128

حسبي الله وكفى. 130

نقل النصوص.. 130

أدعية النوم 131

من أنواع البلاغة 134

أحوال الشياطين. 135

المراد بالشيطان. 137

الحذر من الهوام 138

فوائد الأدعية 139

روايات من بلغ 140

حمد الباري. 142

الله الكافي. 144

تسبيح الباري. 145

هو الأعلى. 146

حسبي الله. 147

ما شاء الله. 147

سميع الدعاء 148

لا ملجأ إلا إليه 149

التوكّل على الله. 150

كل الأمور بيده 151

صراط الله. 152

لا ولد له 154

لا شريك له 156

لا ولي له من الذل. 157

ص: 422

استحباب التكبير. 158

بين المقتضي والعلة التامة 159

يا أعز مذكور 160

أدعية الاستجابة والحفظ. 161

الدعاء للماديات.. 163

حفظ النفس.. 165

يا أبه 166

بين الدعاء والدنيا 167

الأدعية الطويلة 169

الدعاء المشتمل على أسماء الله. 170

الدعاء والآيات القرآنية 172

مسائل عديدة أخرى. 173

فائدة: 173

تسبيح الزهراء (علیها السلام) 182

طلب الحاجة من أهلها 182

التسبيحات وقت النوم 183

تحصيل الخادم 184

بين الدعاء والخادم 185

رضا الطرف.. 187

السؤال من العظيم 188

إرشاد السائل. 189

رضا السائل. 190

رضا فاطمة (علیها السلام) 191

الرضا والشمولية الزمانية 193

ص: 423

المؤسسات والشخصيات الحقوقية 193

بيان أهمية رضاها 194

تأكيد الكلام بأدواته 195

التسبيح باللسان. 195

علم فاطمة (علیها السلام) 197

معنى العلم بما لم يكن. 198

النظر بنور الله. 200

الطعام الطيّب الحلال. 202

الأصل الأسوة 204

الصحابة النجباء 205

خطاب العالم ليَعْلَم الآخرون. 208

نور الزهراء 209

علم التاريخ وعلم المستقبل. 212

تقديم الأشرف.. 212

الاستماع للرسول. 213

الإخبار الإجمالي. 213

سؤال العالم. 214

سجدة الشكر 214

مراجعة العظيم 216

الخطاب بالكنية 216

بيان كيفية الخلق. 217

نور فاطمة (عليها السلام) والجنان. 218

نظام الأسباب والمسببات في الجنة 219

النظر بنور الله. 219

عدة مسائل. 220

ص: 424

فائدة: 221

مدح النفس.. 222

فضائل النبي. 223

مصحف فاطمة (علیها السلام) 226

ليس مصحف فاطمة قرآناً آخر 226

إيضاح: 227

استحباب الكتابة 228

استحباب الإملاء 230

اسم الكتاب.. 230

الوحي وحديث الملائكة 234

فضائل الصديقة وأنها محدثة 235

عدة مسائل. 236

حين خطبها أمير المؤمنين (علیهما السلام) 238

رضا البنت بالزوج. 238

ذكر الله والنبي والآل. 239

الاعتقاد والرضا بالتوحيد 240

الاعتقاد والرضا بالرسالة 241

الاعتقاد والرضا بالولاية 242

التلفظ بالمعتقدات الحقة 243

الشهادة الثالثة 243

ليلة العرس ومتاع الجنة 245

متاع الزواج. 245

مصدر الأمتعة 246

متاع من الجنة 247

ص: 425

نزول المائدة من السماء 249

الدعاء لطلب الرزق. 250

اتخاذ المخدع. 251

النظام والإتقان. 252

المسارعة والمبادرة 253

منزلة أهل البيت.. 253

محورية الرسول. 254

من مستثنيات الغيبة 255

الولد والذرية 255

استفهام العارف.. 256

السؤال من الزوجة 256

الصلاة قبل الداء 257

من آداب الدعاء 258

الشفعاء عند الله. 259

مثيلات النعم 261

استجابة الدعوة 262

شكر الوالد 262

الكافور المنزل من السماء 263

تهيئة الكافور 263

نقل الحديث.. 264

رواية النساء 264

التقسيم بالسوية 265

توثيق حياة المعصوم 265

عروجها إلى السماء 266

إظهار الشوق إلى العظيم 266

ص: 426

العروج إلى السماء 267

التفريج عن المهموم 271

نداء الرسول. 272

خيرات الآخرة 273

الترحيب بالضيف.. 274

أوصاف الجنة 275

أوصاف الحور العين. 276

استقبال العظيم 278

النظم في الأمور 279

نقل الرواية 280

القيادة السياسية 280

العلة الغائية 282

عدة مسائل. 283

الحور تشتاق إلى فاطمة (علیها السلام) 285

المجاملات الكلامية 287

أقسام الحب.. 288

إظهار الحب.. 289

جفاء الأطهار 290

جواز العتاب.. 291

حب المعصوم 292

درجات المحبة 292

خطاب المعصوم 294

اشتياق الحور إليها 296

ترابط العالمين. 296

ص: 427

بين الشوق والحب.. 297

الرسول وتعريف نفسه 297

طيب من السماء 300

زوجات المؤمن في الجنة 300

قُدُرات المؤمن في الجنة 301

التهادي بالطيب.. 304

الرائحة الطيبة 304

نعم الجنة لعباد الله. 305

حكم اليمين. 306

السؤال عن المُهدي. 307

الجنة لشيعتها 308

زوجته في الدنيا والآخرة 309

خدمة أهل البيت.. 309

خدمة ذرية فاطمة 310

الملائكة خدام الصديقة 312

عدة مسائل. 313

أنتِ مني وأنا منكِ.. 314

تقبيل البنت.. 314

محبة البنت والعطف عليها 315

نداء الأب بما يحب.. 316

ريق النبي وعرقه 316

امتثال الآيات الشريفة 317

التهيب من العظماء 318

حرمة الرسول. 319

موارد الآيات وشأن نزولها 321

ص: 428

إنهم مني وأنا منهم 321

الخطاب الأحب للقلب.. 324

الخطاب الأرضَى للرب.. 324

سيدة النساء 325

مراتب السيادة 329

بين الصديقتين. 332

السيادة والمسؤولية 334

بيان أنها السيدة 335

دفع دخل ورفع إشكال. 335

رضا الصديقة 336

إنها سيدة النساء لا مريم. 338

تسلية المحزون. 338

التبسّم 339

البكاء في فقد الأب.. 341

البكاء في فقد العظماء الربانيين. 341

البكاء في فقد النبي الأعظم 343

الإخبار عن المستقبل. 344

الإخبار بالموت.. 344

الخبر المحزن والمفرح. 345

سبب الموت.. 346

الأسرع لحوقاً 347

قابلية الأمة للنعم 347

التأثر بخبر الموت.. 347

التاريخ. 348

ص: 429

الزهد والصدقات.. 349

المسارعة للاستجابة 350

استحباب التزين. 350

إبلاغ السلام 351

إنفاق الزائد 352

بعث الصدقات للأئمة والعلماء 353

الإيثار 354

سلام البنت لأبيها 354

إبلاغ السلام للمعصوم 355

استحباب الصدقة للمرأة 355

الزهد في الدنيا 356

إيثار الصديقة 357

الحياء من الله. 357

صبر الزوجة 358

تكليف الزوج بما يصعب عليه 359

استحباب الإيثار 359

كنية الزوج. 362

تحمل المشاق والأذى. 363

الشكاية إلى الأب.. 363

أنواع الإضرار بالنفس.. 365

تفصيل الشكاية 366

العمل البيتي. 367

لباس الزاهدين. 369

بيت النبوة 369

النظر إلى ثوب الأجنبية 370

ص: 430

الاكتفاء بالقدر اللازم 371

زهد الأسوة 372

الاستفادة الأكثر 374

زهد المعصومين. 375

القناعة في أمتعة الزواج. 376

مقاسمة الخدمة مع مولاتها 377

تقسيم الخدمة 377

الأمر المولوي أو الإرشادي. 380

العمل الدؤوب.. 381

أكل الشعير. 382

حقوق الخدم 384

امتثال أوامر المعصوم 385

تحمل الضرر اليسير. 386

تقسيم الأعمال. 387

المسكين واليتيم والأسير. 388

كراهة اتخاذ الحاجب.. 394

عدم اتخاذ الحراس. 395

إيثار السائل ولو كان كافراً 396

القيام بأعمال البيت.. 400

عدم سجن الأسير. 401

صلاة الجماعة 403

إنشاد الشعر وانشاؤه 405

اللحوق بجماعة الخير. 407

إطعام الفقير. 408

ص: 431

صلاحية الشفاعة 409

إطعام اليتيم 410

الإنفاق مما تحبون. 410

الإحصاء والعد 410

سؤال الوالد عن أولاده 411

الصلاة في المحراب.. 411

المساواة والعدالة 412

تحمل الضرر والجوع. 412

حرمة صوم الوصال. 413

نزول سورة الإنسان. 414

لون واحد من الطعام 414

التصدق والإيثار بنفقة الطفل. 415

السكوت أو حسن الإجابة 415

الاستغاثة بالله. 416

الفهرس. 417

ص: 432

المجلد التاسع : رواياتها (علیها السلام) 2

هوية الكتاب

الفقه

موسوعة استدلالية في الفقه الإسلامي

من فقه الزهراء (علیها السلام)

المجلد التاسع

رواياتها (علیها السلام) - 2

المرجع الديني الراحل

آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي

(أعلى الله درجاته)

ص: 1

اشارة

الطبعة الأولى

1439 ه 2018 م

تهميش وتعليق:

مؤسسة المجتبى للتحقيق والنشر

كربلاء المقدسة

ص: 2

الفقه

من فقه الزهراء (علیها السلام)

المجلد التاسع

رواياتها (علیها السلام)

القسم الثاني

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

ولعنة الله على أعدائهم أجمعين

السَّلامُ عَلَيْكِ أَيَّتُهَا الصِّدِيقَةُ الشَّهِيدَةُ

السَّلامُ عَلَيْكِ أَيَّتُهَا الرَّضِيَةُ المَرْضِيَّةُ

السَّلامُ عَلَيْكِ أَيَّتُهَا الْفَاضِلَةُ الزَّكِيَةُ

السَّلامُ عَلَيْكِ أَيَّتُهَا الحَوْراءُ الإِنْسِيَّةُ

السَّلامُ عَلَيْكِ أَيَّتُهَا التَّقِيَّةُ النَّقِيَّةُ

السَّلامُ عَلَيْكِ أَيَّتُهَا المُحَدَّثَةُ العَلِيمَةُ

السَّلامُ عَلَيْكِ أَيَّتُهَا المَظْلُومَةُ المَغْصُوبَةُ

السَّلامُ عَلَيْكِ أَيَّتُهَا المُضْطَهَدَةُ المَقْهُورَةُ

السَّلامُ عَلَيْكِ يا فاطِمَةُ بِنْتَ رَسُولِ اللهِ

وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ

البلد الأمين ص278. مصباح المتهجد ص711

بحار الأنوار ج97 ص195 ب12 ح5 ط بيروت

ص: 4

إيثار الضيف

اشارة

في حديث قالت الصديقة فاطمة (عليها السلام):

«ما عندنا إلاّ قوت الصبية، لكنا نؤثر ضيفنا»(1).

-------------------------------------------

ص: 5


1- عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فشكا إليه الجوع، فبعث إلى بيوت أزواجه فقلن: ما عندنا إلا الماء، فقال: من لهذا الرجل الليلة ؟ فقال علي بن أبي طالب (عليه السلام): أنا له يا رسول الله وأتى فاطمة فقال لها: ما عندك ؟ فقالت: ما عندنا إلا قوت الصبية، لكنا نؤثر ضيفنا، فقال علي (عليه السلام): نومي الصبية وأطفئي المصباح، فلما أصبح علي (عليه السلام) غدا على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأخبره الخبر، فلم يبرح حتى أنزل الله: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون). وسائل الشيعة: ج9 ص462 ب42 من أبواب الصدقة ح6. أقول: إلا أن علماء العامة - كما هي العادة عند أغلبهم - حاولوا أن ينسبوا هذه الفضيلة لغير أهل البيت، فرووا أن رجلاً من الأنصار بات به ضيف فلم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه فقال لامرأته: نومي الصبية وأطفي السراج وقربي للضيف ما عندك قال فنزلت هذه الاية. انظر (صحيح مسلم): ج6 ص128 باب اكرام الضيف وفضل إيثاره. وقد قيل في تعيينه جماعة والغالب عندهم أنه أبو طلحة زيد بن سهل إلا أن أبا طلحة زيد بن سهل مشهور لا يحسن ان يقال فيه فقام رجل يقال له أبو طلحة والثاني ان سياق القصة يشعر بأنه لم يكن عنده ما يتعشى به هو وأهله حتى احتاج إلى اطفاء المصباح وأبو طلحة زيد بن سهل كان أكثر أنصاري بالمدينة مالا فيبعد ان يكون بتلك الصفة من التقلل. انظر (فتح الباري): ج7 ص91. إلا أن الحسكاني وهو من علماء العامة روى الرواية السابقة عن أهل البيت فراجع شواهد التنزيل: ج2 ص331 ح972، ويؤيد ذلك ما رواه أيضاً في المصدر السابق ص332 ح973 باسناده عن ابن عباس في قول الله: «وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ» قال: نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام).

إكرام الضيف

مسألة: يستحب إيثار الضيف وإكرامه.

وقد تقدم استحباب الإيثار مطلقاً، وإيثار الضيف آكد استحباباً، وإيثارهم (عليهم الصلاة والسلام) قوت صبيتهم، لأن الصبية كانوا وإياهم نوراً واحداً، وكانوا على مراتب الرضا كما لا يخفى، فلا يمكن أن يقاس ذلك بالصبيان الذين لايرضون بأمثال هذا الإيثار.

رضا الطفل المميز

مسألة: يستفاد من الحديث أن الأولاد غير البالغين إذا كانوا راضين بالإيثار جاز ذلك، فإن أولاد علي وفاطمة (عليهم الصلاة والسلام) كانوا في أعلى مراتب المعرفة والفهم، بحيث كانوا راضين بإيثار قُوتِهم.

وكذلك الحال في أولاد سائر الأئمة (عليهم الصلاة والسلام).

وقد يستشهد لجواز الإيثار وحسنه بإعطاء الإمام الحسين (عليه

السلام) الماء للأعداء، بينما إذا كانوا يحتفظونالماء من دون إعطائه للأعداء، كان من الممكن بقاء الماء إلى يوم عاشوراء فلم يكن أطفاله يحرمون منه.

لكن ربما يقال: حين إعطاء الماء للأعداء لم يكونوا قد منعوا الماء، وكان بالإمكان التزود منه بعد منزل، فإن الشريعة لم تمنع من أول يوم.

ص: 6

وعلى أي، فلو فرض حرمان الرضّع لذلك، فان المباشر أقوى من السبب(1)، والإيثار كان لمصلحة قطعية راجحة، وهي إظهار ظلم القوم وعتوّهم وعدوانهم، وفضح زيفهم وانتحالهم للدين.

قال سبحانه: «وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ»(2)، وهو يدل على الإيثار على النفس لا على غيرها، إلاّ إذا كان الغير كبيراً وهو راضٍ بذلك، أو كان الغير صغيراً لكنه كان مميزاً، فكيف إذ كان أفهم من الكبير كصغارهم (عليهم الصلاة والسلام)، كما في قصة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) على ما ذكرناه.

وهل المراد بالصِبية في الرواية: الحسن والحسين (عليهما

الصلاة والسلام) أوحتى زينب وأم كلثوم، ربما يستفاد من سورة «هَلْ أَتَى» بمعونة التفاسير أنه لم يكن في ذلك الوقت لهما (عليهما الصلاة والسلام) غير الحسن والحسين (عليهما السلام) من أولاد.

ولعله المستظهر أيضاً من قولها (عليها السلام): (ابناي والله من الجياع .. أبوهما).

ص: 7


1- المراد بالمباشر السبب القريب وهو منع الأعداء معسكر الإمام من الماء في كربلاء، والمراد بالسبب السبب البعيد وهو إعطاء بعض ما لديهم من الماء قبل أيام.
2- سورة الحشر: 9.

إضافة:

قد يستفاد من هذا الحديث وسابقه أنه كانت تمر بهم (صلوات الله عليهم) أوقات لم يكونوا يملكون فيها قوتاً لأي واحد منهم، وأوقات أخرى لم يكن لهم قوت إلا للصبية فقط، فكان علي وفاطمة (عليهما سلام الله) يحرمان أنفسهما من الطعام، ويخصصانه لقلّته للصبية (صلوات الله عليهم جميعاً).

ثم إن من الواضح أن الحصر في الحديث حقيقي وليس إضافياً.

ص: 8

أبوا هذه الأمة

اشارة

قالت الصديقة فاطمة (عليها السلام): «أبوا هذه الأمة محمد وعلي، يقيمان أودهم(1)، وينقذانهم من العذاب الدائم إن أطاعوهما، ويبيحانهم النعيم الدائم إن وافقوهما»(2).

-------------------------------------------

من مسؤوليات الوالدين

مسألة: يجب أو يستحب - كل في مورده - على الوالدين إقامة أود الأولاد وحفظهم من الأخطار والأضرار، وحفظهم من الانحراف والاعوجاج.

وما يستفاد من هذا الحديث الشريف أن ذلك من صفاتهما (عليهما السلام)، وأنهما مقيمان عليه، بل قد يستفاد من غايات البعثة والوصاية.

كما يستفاد منه رجحان بل وجوب ذلك عليهما (صلوات الله عليهما) نظراً لقرينية مادة (أودهم) و(الإنقاذ) و(العذاب الدائم).

وقد يستفاد من الحديث أن ذلك واجب على من اتصف بعنوان الأبوة، بالإضافةإلى قوله سبحانه: «قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْليكُمْ ناراً»(3)، فإنه وإن كان

ص: 9


1- أودهم: اعوجاجهم.
2- تفسير الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): ص330 ح191.
3- سورة التحريم: 6.

خاصاً بالآخرة حسب الظاهر، إلا أن ملاكه وبعض الروايات الأخر الواردة في حق الأولاد يشمل ما ذكرناه.

والوالدان في كلامنا من باب المثال وأظهر المصاديق، وإلاّ فإنه تلزم هذه الرعاية بالنسبة إلى كل من يدير شؤون الأولاد، ولو كان قيّماً أو وصيّاً أو ما أشبه ذلك.

نعم لا يلزم الحفظ من الأضرار اليسيرة، مثل بعض المشي الموجب للتعب، أو شيء من حرارة الشمس المؤذية، أو ما أشبه ذلك، لعدم الدليل على الوجوب فيها، والسيرة المستمرة تدل على العدم(1).

روايات في مسؤولية الوالدين:

عَنْ أَبِي الْحَسَنِ (عليه السلام) قَالَ: «أَوَّلُ مَا يَبَرُّ الرَّجُلُ وَلَدَهُ أَنْ يُسَمِّيَهُ بِاسْمٍحَسَنٍ« فَلْيُحْسِنْ أَحَدُكُمُ اسْمَ وَلَدِهِ»(2).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ قَبَّلَ وَلَدَهُ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ حَسَنَةً، ومَنْ فَرَّحَهُ فَرَّحَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ومَنْ عَلَّمَهُ الْقُرْآنَ دُعِيَ بِالْأَبَوَيْنِ فَكُسِيَا حُلَّتَيْنِ تُضِي ءُ مِنْ نُورِهِمَا وُجُوهُ أَهْلِ الْجَنَّةِ»(3).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «بَادِرُوا أَحْدَاثَكُمْ بِالْحَدِيثِ قَبْلَ أَنْ

ص: 10


1- هذا إن لم نقل بمزاحمة هذه الأضرار اليسيرة بالأهم، لأن مثل تلك الأضرار موجبة لتقوية البدن وحصانته أمام الأمراض الأخطر.
2- وسائل الشيعة: ج 21 ص389 ب22 ح1.
3- وسائل الشيعة: ج 21 ص475 ب83 ح3.

تَسْبِقَكُمْ إِلَيْهِمُ الْمُرْجِئَةُ»(1).

وعَنْ عَلِيٍّ (عليه السلام) فِي حَدِيثِ الأَرْبَعِمِائَةِ، قَالَ: «عَلِّمُوا صِبْيَانَكُمْ مِنْ عِلْمِنَا مَا يَنْفَعُهُمُ اللَّهُ بِهِ، لَا تَغْلِبُ عَلَيْهِمُ الْمُرْجِئَةُ بِرَأْيِهَا ... ومَنْ تَخَلَّفَ عَنَّا هَلَكَ»(2).

حرمة الإسخاط

مسألة: لا يجوز إسخاط أبوي الدين أو أبوي النسب.

وهل هما (صلوات الله عليهما) والدان عرضاًأو طولاً، بأن يكون علي (عليه الصلاة والسلام) أباً بعد الرسول (صلى الله عليه وآله)؟ احتمالان؛ إذ يحتمل أن يكون المراد بالأبوين: الجد والأب، فرسول الله (صلى الله عليه وآله ) بمنزلة الجد، وعلي (عليه السلام) بمنزلة الأب.

والظاهر أن سائر الأئمة الطاهرين (عليهم الصلاة والسلام) في زمان إمامتهم أيضاً آباءٌ للمسلمين، لأن كلهم نور واحد(3)،

ص: 11


1- وسائل الشيعة: ج 21 ص477 ب84 ح1.
2- وسائل الشيعة: ج 27 ص44 ب6 ح20.
3- قال رسول اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَوْحَى إِلَيَّ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي: يَا مُحَمَّدُ مَنْ خَلَّفْتَ فِي الْأَرْضِ فِي أُمَّتِكَ وَهُو أَعْلَمُ بِذَلِكَ، قلت: يَا رَبِّ أَخِي، قال: يَا مُحَمَّدُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، قلت: نَعَمْ يَا رَبِّ، قال: يَا مُحَمَّدُ إِنِّي اطَّلَعْتُ إلى الْأَرْضِ اطِّلَاعَةً فَاخْتَرْتُكَ مِنْهَا فَلَا أُذْكَرُ حَتَّى تُذْكَرُ مَعِي، فَأَنَا الْمَحْمُودُ وَأَنْتَ مُحَمَّدٌ، ثُمَّ إِنِّي اطَّلَعْتُ إلى الْأَرْضِ اطِّلَاعَةً أُخْرَى فَاخْتَرْتُ مِنْهَا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَجَعَلْتُهُ وَصِيَّكَ، فَأَنْتَ سَيِّدُ الْأَنْبِيَاءِ وَعَلِيٌّ سَيِّدُ الْأَوْصِيَاءِ، ثُمَّ شَقَقْتُ لَهُ اسْماً مِنْ أَسْمَائِي فَأَنَا الْأَعْلَى وَهُو عَلِيٌّ، يَا مُحَمَّدُ إِنِّي خَلَقْتُ عَلِيّاً وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ وَالْأَئِمَّةَ مِنْ نُورٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ عَرَضْتُ وَلَايَتَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَمَنْ قَبِلَهَا كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ، وَمَنْ جَحَدَهَا كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ، يَا مُحَمَّدُ لَو أَنَّ عَبْداً مِنْ عِبَادِي عَبَدَنِي حَتَّى يَنْقَطِع ثُمَّ لَقِيَنِي جَاحِداً لِوَلَايَتِهِمْ أَدْخَلْتُهُ نَارِي، ثُمَّ قال: يَا مُحَمَّدُ أَتُحِبُّ أَنْ تَرَاهُمْ، فَقلت: نَعَمْ، فَقال: تَقَدَّمْ أَمَامَكَ، فَتَقَدَّمْتُ أَمَامِي، فَإِذَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ والْحَسَنُ والْحُسَيْنُ وعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ ومُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ وجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَمُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ وَعَلِيُّ بْنُ مُوسَى وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ وَعَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ والْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْحُجَّةُ الْقَائِمُ كَأَنَّهُ الْكَوْكَبُ الدُّرِّيُّ فِي وَسْطِهِمْ، فَقلت: يَا رَبِّ مَنْ هَؤُلَاءِ، قال: هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ، وَهَذَا الْقَائِمُ، مُحَلِّلٌ حَلَالِي وَمُحَرِّمٌ حَرَامِي، وَيَنْتَقِمُ مِنْ أَعْدَائِي، يَا مُحَمَّدُ أَحْبِبْهُ فَإِنِّي أُحِبُّهُ وَأُحِبُّ مَنْ يُحِبُّهُ». الغيبة للنعماني: ص93 ح24.

وما يثبت لأولهم يثبت لآخرهم(1) إلاّ في بعض الاختصاصات، مثل اختصاصات الرسول (صلى الله عليه وآله) واختصاص فاطمة (عليها الصلاة والسلام) بعدم جواز زواج علي (عليه السلام) بغيرها (عليها السلام) ما دامت في الحياة، كما ورد بذلك الدليل(2)، ولأن نفس المصلحة التي أوجبت جعلهما (صلوات الله عليهما) أبوين للأمة حدوثاً موجبة لاعتبار أبوين بعدهما على مرور الأزمان إبقاءً.

ثم إن الظاهر أنه لا تزاحم بين أبوتهما (عليهما السلام) وأبوة المعصومين اللاحقين (عليهم السلام)، ففي الأزمنة اللاحقة تجتمع هذه الاعتبارات كلها.وبلفظ آخر:

إن الظاهر أن أبوة النبي والوصي (عليهما السلام) للأمة مستمرة حتى بعد وفاتهما الظاهرية، نعم قد تكون بدرجة أخرى أو بنحو آخر، ولذا نجد

ص: 12


1- سيأتي بيان ذلك تحت عنوان (اشتراك الأئمة عليهم السلام) في الفضائل.
2- عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قال: «حَرَّمَ اللَّهُ النِّسَاءَ عَلَى عَلِيٍّ (عليه السلام) مَا دَامَتْ فَاطِمَةُ (عليها السلام) حَيَّةً» تهذيب الأحكام: ج 7 ص475 ب41 ح1908.

إقامتهما (عليهما السلام) لاعوجاج الأمة مستمرة من بعد شهادتهما، كما هو واضح(1).

اشتراك الأئمة في الفضائل

ذكرنا أن الأئمة المعصومين (عليهم السلام) مشتركون في الفضائل وما ثبت لأولهم يثبت لآخرهم(2) إلاّ ما خرج بالدليل.

ورد في الزيارة الجامعة: «أَشْهَدُ أَنَّ هَذَا سَابِقٌ لَكُمْ فِيمَا مَضَى وجَارٍ لَكُمْ فِيمَابَقِي»(3).

وورد أيضاً: «مُؤْمِنٌ بِسِرِّكُمْ وعَلَانِيَتِكُمْ وشَاهِدِكُمْ وغَائِبِكُمْ وأَوَّلِكُمْ وآخِرِكُم»(4).

وفي زيارة أمير المؤمنين (عليه السلام): «آمَنْتُ بِاللَّهِ ومَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وأَتَوَلَّى آخِرَكُمْ بِمَا تَوَلَّيْتُ بِهِ أَوَّلَكُمْ وكَفَرْتُ بِالْجِبْتِ والطَّاغُوتِ واللَّاتِ والْعُزَّى»(5).

وفي الاحتجاج: «فَنَفْسِي مُؤْمِنَةٌ بِاللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وبِرَسُولِهِ وبِأَمِيرِ

ص: 13


1- انظر مجمع البحرين: ج 1 ص15 مادة (أبا): قوله تعالى: «مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ»، جعل إبراهيم (عليه السلام) أبا للأمة كلها، لأن العرب من ولد إسماعيل (عليه السلام) وأكثر العجم من ولد إسحاق (عليه السلام)، ولأنه أبو رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو أب لأمته، فالأمة في حكم أولاده.
2- سيأتي بيان ذلك تحت عنوان (اشتراك الأئمة عليهم السلام) في الفضائل.
3- من لا يحضره الفقيه: ج 2 ص613 زيارة جامعة لجميع الأئمة (عليهم السلام).
4- من لا يحضره الفقيه: ج 2 ص614 زيارة جامعة لجميع الأئمة (عليهم السلام).
5- الكافي: ج 4 ص571 دعاء آخر عند قبر أمير المؤمنين (عليه السلام).

الْمُؤْمِنِينَ وبِأَئِمَّةِ الْمُؤْمِنِينَ وبِكُمْ يَا مَوْلَايَ أَوَّلِكُمْ وآخِرِكُم»(1).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «الَّذِينَ آمَنُوا واتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ قَالَ الَّذِينَ آمَنُوا النَّبِيُّ وأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ والذُّرِّيَّةُ والْأَئِمَّةُ الْأَوْصِيَاءُ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ولَمْ تَنْقُصْ ذُرِّيَّتُهُمْمِنَ الْجِهَةِ

الَّتِي جَاءَ بِهَا مُحَمَّدٌ (صلى الله عليه وآله) فِي عَلِيٍّ وحُجَّتُهُمْ وَاحِدَةٌ وطَاعَتُهُمْ وَاحِدَةٌ»(2).

وعَنِ الْحَرْثِ النَّضْرِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) ونَحْنُ فِي الأَمْرِ والنَّهْيِ والحَلالِ والْحَرَام نَجْرِي مَجْرَى وَاحِدٍ« فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) وعَلِيٌّ فَلَهُمَا فَضْلُهُمَا»(3).

وسَأَلَ الْفَهْفَكِيُّ أَبَا مُحَمَّدٍ (عليه السلام): مَا بَالُ الْمَرْأَةِ الْمِسْكِينَةِ الضَّعِيفَةِ تَأْخُذُ سَهْماً وَاحِداً ويَأْخُذُ الرَّجُلُ سَهْمَيْنِ، فَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ (عليه السلام): «إِنَّ الْمَرْأَةَ لَيْسَ عَلَيْهَا جِهَادٌ ولَا نَفَقَةٌ ولَا عَلَيْهَا مَعْقُلَةٌ، إِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى الرِّجَالِ»، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: قَدْ كَانَ قِيلَ لِي إِنَّ ابْنَ أَبِي الْعَوْجَاءِ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَأَجَابَهُ بِهَذَا الْجَوَابِ، فَأَقْبَلَ أَبُومُحَمَّدٍ (عليه السلام) عَلَيَّ فَقَالَ: نَعَمْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَسْأَلَةُ ابْنِ أَبِي الْعَوْجَاءِ والْجَوَابُ مِنَّا وَاحِدٌ إِذَا كَانَ مَعْنَى الْمَسْأَلَةِ وَاحِداً، جَرَى لآِخِرِنَا مَا جَرَى لِأَوَّلِنَا، وأَوَّلُنَا وآخِرُنَا فِي الْعِلْمِ سَوَاءٌ،ولِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) وأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) فَضْلُهُمَا»(4).

ص: 14


1- الإحتجاج على أهل اللجاج (للطبرسي): ج 2 ص494.
2- بصائر الدرجات في فضائل آل محمد (صلى الله عليهم): ج 1 ص480 8 ب8 ح1.
3- بصائر الدرجات: ج 1 ص480 8 ب8 ح2.
4- الكافي: ج 7 ص85 باب علة كيف صار للذكر سهمان وللأنثى سهم ح2.

وعَنْ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ (عليه السلام) قَالَ: «نَحْنُ فِي الْعِلْمِ والشَّجَاعَةِ سَوَاءٌ، وفِي الْعَطَايَا عَلَى قَدْرِ مَا نُؤْمَرُ»(1).

وعَنْ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْقَصِيرِ، قَالَ: كُنْتُ يَوْماً مِنَ الْأَيَّام عِنْدَ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) فَقَالَ: «يَا عَبْدَ الرَّحِيمِ»، قُلْتُ: لَبَّيْكَ، قَالَ: «قَوْلُ اللَّهِ «إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ ولِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ»(2) إِذْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): أَنَا الْمُنْذِرُ وعَلِيٌّ الْهَادِي، مَنِ الْهَادِي الْيَوْمَ»؟ قَالَ: فَسَكَتُّ طَوِيلًا ثُمَّ رَفَعْتُ رَأْسِي فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ هِيَ فِيكُمْ تَوَارَثُونَهَا رَجُلٌ فَرَجُلٌ حَتَّى انْتَهَتْ إِلَيْكَ فَأَنْتَ جُعِلْتُ فِدَاكَ الْهَادِي، قَالَ: «صَدَقْتَ يَا عَبْدَ الرَّحِيمِ، إِنَّ الْقُرْآنَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، والْآيَةَ حَيَّةٌ لَا تَمُوتُ، فَلَو كَانَتِ الْآيَةُ إِذَا نَزَلَتْ فِي الْأَقْوَام مَاتُوا مَاتَتِ الْآيَةُ لَمَاتَ الْقُرْآن، ولَكِنْ هِيَ جَارِيَةٌ فِي الْبَاقِينَ كَمَا جَرَتْ فِي الْمَاضِينَ»، وقَالَ عَبْدُالرَّحِيمِ: قَالَ أَبُوعَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): «إِنَّ الْقُرْآنَ حَيٌّ لَمْ يَمُتْ وإِنَّهُ يَجْرِي كَمَا يَجْرِي اللَّيْلُ والنَّهَارُ وكَمَا يَجْرِي الشَّمْسُ والْقَمَرُ، ويَجْرِي عَلَى آخِرِنَا كَمَا يَجْرِي عَلَى أَوَّلِنَا»(3).

وعَنْ سَعْدٍ عَنْ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ الْبَغْدَادِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُحَمَّدٍ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ (عليه السلام) يَقُولُ:«كَأَنِّي بِكُمْ وقَدِ اخْتَلَفْتُمْ بَعْدِي فِي الْخَلَفِ مِنِّي، أَمَا إِنَّ الْمُقِرَّ بِالْأَئِمَّةِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ الْمُنْكِرَ لِوَلَدِي كَمَنْ أَقَرَّ بِجَمِيعِ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ ورُسُلِهِ ثُمَّ أَنْكَرَ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) والْمُنْكِرُ لِرَسُولِ اللَّهِ

ص: 15


1- بصائر الدرجات في فضائل آل محمد: ج 1 ص480 8 ب8 ح3.
2- سورة الرعد: 7.
3- بحار الأنوار: ج 35 ص403 باب20 ح21.

(صلى الله عليه وآله) كَمَنْ أَنْكَرَ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ، لِأَنَّ طَاعَةَ آخِرِنَا كَطَاعَةِ أَوَّلِنَا، والْمُنْكِرَ لآِخِرِنَا كَالْمُنْكِرِ لِأَوَّلِنَا، أَمَا إِنَّ لِوَلَدِي غَيْبَةً يَرْتَابُ فِيهَا النَّاسُ إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ»(1).

وعَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «أَنَا سَيِّدُ الْأَوَّلِينَ والْآخِرِينَ، وأَنْتَ يَا عَلِيُّ سَيِّدُ الْخَلَائِق بَعْدِي، وأَوَّلُنَا كَآخِرِنَا وآخِرُنَا كَأَوَّلِنَا»(2).

الأبوان والأكثر

مسألة: حيث إن الاعتبار بيد المعتبر، لذا يمكن أن يكون (الملاحَظ) لدى الاعتبار أمراً واحداً ذا خصوصيات واقعية، ويكون الجعل الاعتباري لأمرين أو أكثر بخصوصيات أخرى.

ومن مصاديق ذلك أنه يصح أن يكون للإنسان أبوان ديناً، ولا يصح إلاّ أب واحد نسباً، كما أن الأم كذلك.

ولذا كانت نساء النبي (صلى الله عليه وآله) أمهات المؤمنين، في عدم جواز الزواج منهن، مع أنه لا يعقل في (المشبه به) إلا أن تكون لكل فرد أم واحدة.

وهل يستفاد من إطلاق كلمة (الأُمهات) لزوم احترامهن، حتى بعد ممات النبي (صلى الله عليه وآله)، كما في الأُم نسباً، الظاهر ذلك في المؤمنات منهن.

أما من خرجن بالدليل، فإن العمومات إذا خصصت خرج المخصّص في

ص: 16


1- بحار الأنوار: ج 51 ص160 باب10 ح6.
2- مائة منقبة من مناقب أمير المؤمنين والأئمة (عليهم السلام): ص18 فأول منقبة.

مورده عن حكم العام، دون الباقي، كما قرر في الأصول.

وعلي أي، فإنه المستفاد من كونهما (عليهما السلام) أبوين للأمة، ثبوت حقوقالأبوين العامة لهما في الحياة وبعد الممات.

بين الطاعة والموافقة

ثم قد يكون الفرق بين الطاعة حيث قالت: (إن أطاعوهما)، وبين الموافقة حيث قالت (عليها السلام) (إن وافقوهما): أن الطاعة في الواجب، والموافقة في الأعم منه، فيشمل المستحب وإن كان مؤكداً.

وربما كانت الطاعة في الأمر المولوي، والموافقة في غيره من إرشاد(1) أو حض أو تشويق.

وربما كانت الطاعة في الأمر، والموافقة في الأعم(2).

ويدل على ذلك اللغة، فإذا قال الإنسان لشخصٍ: أطع زيداً، فإن الإطاعة إنما تجب إذا كان آمراً له، أما الموافقة فإنها تشمل حتى غير الأمر، كما إذا سلك مسلكاً أو عمل عملاً فيوافقه المكلف(3).وعلى هذا فبينهما عموم مطلق، فكلما كانت الطاعة كانت الموافقة، دون العكس.

ص: 17


1- الظاهر أن المراد: الأمر الإرشادي في مقابل الأمر المولوي.
2- أي الأعم مما لو كان أمر أو لم يكن بأن كان عمل فقط.
3- أي من دون أن يكون (أمر) في البين.

أبوا هذه الأمة

مسألة: يستحب بيان أن أبوي هذه الأمة هما: محمد (صلى الله عليه وآله) وعلي (عليه السلام).

ومعنى كونهما أبوين، إضافة للوضع والاعتبار: إن إطاعتهما (عليهما السلام) واجبة على الأمة كإطاعة الأبوين بل أكثر، وتشبيه الأقوى بالأضعف كتنزيله منزلته لا بأس به إذا كان مصححاً، ككون الأضعف هو الآنس بالذهن، أو هو المعلوم لدى الناس ثبوته وتحققه، ومن الواضح أن إطاعة هذين الأبوين (عليهما السلام) أوجب من إطاعة الأبوين النسبيين.

قال رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «أَفْضَلُ وَالِدَيْكُمْ وأَحَقُّهُمَا لِشُكْرِكُمْ مُحَمَّدٌ وَعَلِيٌ»(1).

وَقال عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام): سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ: «أَنَا وَعَلِيٌّ أَبَوَا هَذِهِ الْأُمَّةِ، ولَحَقُّنَا عَلَيْهِمْ أَعْظَمُ مِنْ حَقِّ أَبَوَيْ وِلَادَتِهِمْ، فَإِنَّا نُنْقِذُهُمْإِنْ أَطَاعُونَا مِنَ النَّارِ إلى دَارِ الْقَرَارِ، وَنُلْحِقُهُمْ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ بِخِيَارِ الْأَحْرَارِ»(2).وَقال عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (عليهما السلام): «إِنْ كَانَ الْأَبَوَانِ إِنَّمَا عَظُمَ حَقُّهُمَا عَلَى أَوْلَادهِمَا، لِإِحْسَانِهِمَا إِلَيْهِمْ، فَإِحْسَانُ مُحَمَّدٍ وَعَلِيٍّ (عليهما السلام) إلى هَذِهِ الْأُمَّةِ أَجَلُّ وأَعْظَمُ، فَهُمَا بِأَنْ يَكُونَا أَبَوَيْهِمْ أَحَقُ»(3).

ص: 18


1- تفسير الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): ص330 ح189.
2- تفسير الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): ص330 ح190.
3- تفسير الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): ص330 ح194.

إقامة الأود

مسألة: إقامة الأَوَد وتصحيح المسيرة والحفاظ على الأمة من الانحراف من أهم الواجبات، ولا تكون إلا بتوفير الأسباب وإعداد المقدمات، من تبليغ وهداية وإرشاد، وليس بالقسر والجبر، كما ليس ذلك (تكوينياً) إلا بمقدار إزاحة العلة، كما في قوله تعالى: «وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتي كانَتْ عَلَيْهِمْ»(1).

قال سبحانه: «إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً»(2).

وقال عزوجل: «وَقُلِ الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُر»(3).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ: «وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ»(4)، قَالَ: «حَتَّى يُعَرِّفَهُمْ مَا يُرْضِيهِ ومَا يُسْخِطُهُ، وقَالَ: «فَأَلْهَمَها

فُجُورَها وتَقْوَاها»(5)، قَالَ: بَيَّنَ لَهَا مَا تَأْتِي ومَا تَتْرُكُ،وقَالَ: «إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وإِمَّا كَفُوراً»(6)، قَالَ:

ص: 19


1- سورة الأعراف: 157.
2- سورة الإنسان: 3.
3- سورة الكهف: 29.
4- سورة التوبة: 115.
5- سورة الشمس: 8.
6- سورة الإنسان: 3.

عَرَّفْنَاهُ إِمَّا آخِذٌ وإِمَّا تَارِكٌ، وعَنْ قَوْلِهِ: ­«وأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الهُدَى»(1)، قَالَ: «عَرَّفْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى وهُمْ يَعْرِفُونَ وفِي رِوَايَةٍ بَيَّنَّا لَهُمْ»(2).

وعَنْ حُمْرَانَ بْنِ أَعْيَنَ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: «إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وإِمَّا كَفُوراً»(3) قَالَ: «إِمَّا آخِذٌ فَهُوشَاكِرٌ وإِمَّا تَارِكٌ فَهُوكَافِرٌ»(4).

إنقاذ الأمة

مسألة: يجب إنقاذ الأمة من العذاب الدائم.

وذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورفعه ودفعه، ونفي الضرر الجسيم عن الغير، والدعوة إلى الخير، وإرشاد الجاهل، وتنبيه الغافل،وغيرها من العناوين العامة الاقتضائية، وقد قال المسيح (على نبينا وآله وعليه الصلاة والسلام) ما مضمونه: التارك مداواة الجريح كالجارح له.

وقال سبحانه قبل ذلك: «قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارَاً»(5).

إلى غير ذلك من الأدلة العامة والخاصّة، وأما استفادة ذلك من هذه الرواية

ص: 20


1- سورة فصلت: 17.
2- الكافي: ج 1 ص163 باب الْبَيَانِ وَالتَّعْرِيفِ وَلُزُومِ الْحُجَّة ح3.
3- سورة الإنسان: 3.
4- الكافي: ج 2 ص384 باب الكفر ح4.
5- سورة التحريم: 6.

الشريفة فموقوف على ضميمة دليل التأسي أو تنقيح المناط أو شبه ذلك.

قال تعالى: «وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ ويُقيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ الزَّكاةَ ويُطيعُونَ اللهَ ورَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزيزٌ حَكِيمٌ»(1).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «قِوَام الشَّرِيعَةِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ والنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ وإِقَام الْحُدُودِ»(2).

إباحة النعيم

مسألة: يستحب إباحة النعيم للأمة،وتيسير سبل وصول الناس إليه، وقد يكون واجباً، والحكم يختلف باختلاف مصاديقه.

و(إباحة النعيم) قد تعني: الإذن في التصرف فيه، وقد تعني تسبيب الأسباب للغير حتى يصل إليه، والظاهر أن كلا المعنيين صحيح ومقصود بالنسبة إليهما (صلوات الله عليهما)، إذ تسبيب الأسباب بالدعوة والإرشاد وغيرهما منهما، ثم إن الأذن في دخول الجنة في القيامة منوط بهما أيضاً.

وأما بالنسبة لنا، فإن المعنى الثاني هو الصحيح والمتيسر فقط.

ثم إن ذلك من أهم وظائف الحكام والمسؤولين أيضاً.

ولا يخفى أن ما ذكرناه في هذين البندين من باب دليل الاقتضاء الذي أشرنا

ص: 21


1- سورة التوبة: 71.
2- عيون الحكم والمواعظ: ح6239.

إليه في بعض المباحث السابقة، لا دليل الاقتضاء الذي ذكره الأصوليون.

أبوا كل أُمة

مسألة: قد يستفاد من هذه الرواية أن لكل أُمة أبوين: (النبي ووصيه)، وأن هذه سنة من سنن الله في الأمم، ولهذا عبرت (صلوات الله عليها) ب (أبوا هذه الأُمة).عَنْ سَيِّدِ الْعَابِدِينَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ سَيِّدِ الشُّهَدَاءِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ سَيِّدِ الْوَصِيِّينَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليهم السلام)، عَنْ سَيِّدِ النَّبِيِّينَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ (صلى الله عليه وآله) أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وتَعَالَى فَرَضَ عَلَيْكُمْ طَاعَتِي ونَهَاكُمْ عَنْ مَعْصِيَتِي، وأَوْجَبَ عَلَيْكُمْ اتِّبَاعَ أَمْرِي، وفَرَضَ عَلَيْكُمْ مِنْ طَاعَةِ عَلِيٍّ بَعْدِي مَا فَرَضَهُ مِنْ طَاعَتِي، ونَهَاكُمْ مِنْ مَعْصِيَتِهِ عَمَّا نَهَاكُمْ عَنْهُ مِنْ مَعْصِيَتِي، وجَعَلَهُ أَخِي ووَزِيرِي، وَصِيِّي ووَارِثِي، وهُوَ مِنِّي وأَنَا مِنْهُ، حُبُّهُ إِيمَانٌ وبُغْضُهُ كُفْرٌ، ومُحِبُّهُ مُحِبِّي ومُبْغِضُهُ مُبْغِضِي، وهُوَ مَوْلَى مَنْ أَنَا مَوْلَاهُ، وأَنَا مَوْلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ومُسْلِمَةٍ، وأَنَا وإِيَّاهُ أَبَوَا هَذِهِ الْأُمَّةِ»(1).

وعن عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ فَضَّالٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ (عليه السلام) فَقُلْتُ لَهُ: لِمَ كُنِّيَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) بِأَبِي الْقَاسِمِ، فَقَالَ: لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ ابْنٌ يُقَالُ لَهُ قَاسِمٌ فَكُنِّيَ بِهِ، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ فَهَلْ تَرَانِي أَهْلًا لِلزِّيَادَةِ، فَقَالَ: َنعَمْ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه

ص: 22


1- الأمالي، للصدوق: ص15 المجلس الرابع ح6.

وآله) قَالَ: أَنَا وعَلِيٌّ أَبَوَا هَذِهِ الْأُمَّةِ، قُلْتُ:بَلَى، قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) أَبٌ لِجَمِيعِ أُمَّتِهِ وعَلِيٌّ (عليه السلام) مِنْهُمْ، قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَلِيّاً (عليه السلام) قَاسِمُ الْجَنَّةِ والنَّارِ، قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: فَقِيلَ لَهُ أَبُو الْقَاسِمِ لِأَنَّهُ أَبُو قَسِيمِ الْجَنَّةِ والنَّارِ، فَقُلْتُ لَهُ: ومَا مَعْنَى ذَلِكَ، قَالَ: إِنَّ شَفَقَةَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) عَلَى أُمَّتِهِ شَفَقَةُ الْآبَاءِ عَلَى الْأَوْلَادِ، وأَفْضَلُ أُمَّتِهِ عَلِيٌّ (عليه السلام) ومِنْ بَعْدِهِ شَفَقَةُ عَلِيٍّ (عليه السلام) عَلَيْهِمْ كَشَفَقَتِهِ (صلى الله عليه وآله) لِأَنَّهُ وَصِيُّهُ وخَلِيفَتُهُ والْإِمَامُ بَعْدَهُ، فَلِذَلِكَ قَالَ: أَنَا وعَلِيٌ أَبَوَا هَذِهِ الْأُمَّةِ، وصَعِدَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) الْمِنْبَرَ فَقَالَ: مَنْ تَرَكَ دَيْناً أَوْ ضَيَاعاً فَعَلَيَّ وإِلَيَّ، ومَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ، فَصَارَ بِذَلِكَ أَوْلَى بِهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ وأُمَّهَاتِهِمْ وأَوْلَى بِهِمْ مِنْهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ، وكَذَلِكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) بَعْدَهُ جَرَى ذَلِكَ لَهُ مِثْلُ مَا جَرَى لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) »(1).

لا نجاة إلا بالطاعة

مسألة: لا تكفي طاعة غير النبي والوصي (عليهما السلام) مهما كانت مطابقة للواقعفرضاً، ويجب بيان أن الإنقاذ من العذاب الدائم لا يكون إلاّ بطاعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ووصيه الإمام علي بن أبي طالب (عليه الصلاة والسلام)، وكلام الصديقة (صلوات الله عليها) صريح في ذلك حيث إنها قالت: «وينقذان من العذاب الدائم إن أطاعوهما».

ص: 23


1- عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج 2 ص85 ب32 باب في ذكر ما جاء عن الرضا (عليه السلام) من العلل ح29.

فلذلك من اللازم إرشاد الأمة إلى وجوب طاعتهما، قال سبحانه: «مَنْ يُطِع الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاع اللهَ»(1)، وقال تعالى: «أَطيعُوا اللهَ وأَطيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ»(2).

وقد صرّح الرسول (صلى الله عليه وآله) بأن «طاعة علي (عليه السلام) هي طاعة الله»(3).

وأنه (عليه السلام) «مع الحق والحق معه»(4).

ص: 24


1- سورة النساء: 80.
2- سورة النساء: 59.
3- انظر تاريخ بغداد: ج13 ص186- 187 رقم 7165، مناقب الإمام عليّ عليه السّلام، للخوارزمي: ص105 ح110، تاريخ دمشق: ج42 ص472، فرائد السمطين: ج1 ص178 ح141، البداية والنهاية: ج7 ص244، كنز العمّال: ج11 ص613- 614 ح32972، مناقب آل أبي طالب عليهم السلام: ج 3 ص203، دلائل الصدق لنهج الحق: ج 6 ص228.
4- ورد هذا الحديث بألفاظ مختلفة ومتقاربة والمعنى واحد، في العديد من مصادر الفريقين، انظر: سنن الترمذي: ج5 ص592 ح3714، مسند أبي يعلى: ج2 ص318 ح 78، المستدرك على الصحيحين: ج3 ص134 ح4629، مناقب الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، لابن المغازلي: ص220 ح291، الإنصاف: ص66، فضائل الخلفاء، لأبي نعيم: ص176 ضمن ح229، تاريخ بغداد: ج14 ص321، مناقب الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، للخوارزمي: ص104 ح107، تاريخ دمشق: ج20 ص361 وج42 ص448- 449 ح9022- 9025، جامع الأصول: ج8 ص572 ح 6382، الرياض النضرة: ج1 ص48 ح78، مجمع الزوائد: ج7 ص235، التفسير الكبير: ج1 ص210، مختصر تاريخ دمشق: ج18 ص45 و295، البداية والنهاية: ج7 ص288، جامع المسانيد والسنن: ج19 ص45 و225، جامع الأحاديث الكبير: ج4 ص125 ح10596، فرائد السمطين: ج1 ص177ح139، الصواعق المحرقة: ص64 وص119، كنز العمّال: ج11 ص621 ح33018، درّ السحابة في مناقب القرابة والصحابة: ص238 ح126، ينابيع المودّة: ج1 ص270 ح 3، شرح نهج البلاغة: ج2ص461 وج18 ص245، دلائل الصدق لنهج الحق: ج 1 ص164.

وأنه (عليه السلام) «مع القرآن والقرآن معه»(1).إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة.

عن عَمْرُوبْنُ مَيْمُونٍ قَالَ: إِنِّي لَجَالِسٌ إلى ابْنِ عَبَّاسٍ إِذْ أَتَاهُ تِسْعَةُ رَهْطٍ

ص: 25


1- حديث «علي مع القرآن والقرآن مع علي» حديث متواتر رواه الفريقان، منهم: الهيثمي في مجمعه: ج9 ص134، عن أم سلمة قالت: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه (وآله) وسلّم يقول: «علي مع القرآن والقرآن مع علي لا يفترقان حتى يردا عليّ الحوض». وذكره أيضا ابن حجر في صواعقه: ص74، والشبلنجي في نور الأبصار: ص72، والصواعق المحرقة: ص75 قال: وفي رواية أنه صلّى اللّه عليه (وآله) وسلّم قال في مرض موته: «أيها الناس يوشك أن أقبض قبضاً سريعاً فينطلق بي وقد قدمت إليكم القول معذرة إليكم، ألا إني مخلف فيكم كتاب ربي عزّ وجلّ وعترتي أهل بيتي، ثم أخذ بيد علي (عليه السلام) فرفعها فقال: هذا علي مع القرآن والقرآن مع علي لا يفترقان حتى يردا علي الحوض، فاسألوهما ما خلفت فيهما». مستدرك الصحيحين: ج3 ص124. وروى بسنده عن أبي ثابت مولى أبي ذر قال: كنت مع علي (عليه السلام) يوم الجمل (وساق الحديث إلى أن قال) سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه (وآله) وسلّم يقول: «علي مع القرآن والقرآن مع علي لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض». وذكره أيضا المناوي في فيض القدير: ج4 ص356، والمتقي في كنز العمال: ج6 ص153. وراجع بناء المقالة الفاطمية في نقض الرسالة العثمانية: ص199، والطرائف في معرفة مذاهب الطوائف: ج 1 ص103، وكفاية الطالب: ص253، وتاريخ ابن عساكر: ج2 ص120. وفي إنهم (عليهم السلام) مع القرآن والقرآن، انظر كمال الدين: ص284، وتأويل الآيات: ص662، وتفسير العيّاشيّ: ج1 ص14، 253، والغيبة للنعماني: ص68 و82 و108، والفضائل: ص135.

فَقَالُوا: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ إِمَّا أَنْ تَقُومَمَعَنَا وإِمَّا تَخْلُو بِنَا عَنْ هَؤُلَاءِ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَلْ أَنَا أَقُومُ مَعَكُمْ.

قَالَ: وهُو يَوْمَئِذٍ صَحِيحٌ قَبْلَ أَنْ يَعْمَى، قَالَ: فَابْتَدَؤوا فَتَحَدَّثُوا فَلَا نَدْرِي مَا قَالُوا، قَالَ: فَجَاءَ يَنْفُضُ ثَوْبَهُ فَيَقُولُ: أُفْ وتُفْ، وَقَعُوا فِي رَجُلٍ لَهُ عَشْرُ خِصَالٍ، وَقَعُوا فِي رَجُلٍ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): لَأَبْعَثَنَّ رَجُلًا لَا يُخْزِيهِ اللَّهُ أَبَداً يُحِبُّ اللَّهَ ورَسُولَهُ، قَالَ فَاسْتَشْرَفَ لَهَا مَنِ اسْتَشْرَفَ، فَقَالَ: أَيْنَ عَلِيٌّ، فَقَالُوا: هُو فِي الرَّحَى يَطْحَنُ، قَالَ: ومَا كَانَ أَحَدُكُمْ لَيَطْحَنُ، قَالَ فَجَاءَ وهُو أَرْمَدُ لَا يَكَادُ يُبْصِرُ، قَالَ: فَنَفَثَ فِي عَيْنِهِ ثُمَّ هَزَّ الرَّايَةَ ثَلَاثاً فَأَعْطَاهَا إِيَّاهُ فَجَاءَ بِصَفِيَّةَ بِنْتِ حي.

قَالَ: ثُمَّ بَعَثَ فُلَاناً بِسُورَةِ التَّوْبَةِ فَبَعَثَ عَلِيّاً خَلْفَهُ فَأَخَذَهَا مِنْهُ وقَالَ: لَا يَذْهَبْ بِهَا إِلَّا رَجُلٌ مِنِّي وأَنَا مِنْهُ.

وقَالَ: وقَالَ لِبَنِي عَمِّهِ: أَيُّكُمْ يُوَالِينِي فِي الدُّنْيَا والْآخِرَةِ، قَالَ: وعَلِيٌّ جَالِسٌ مَعَهُمْ، فَأَبَوْا، فَقَالَ عَلِيٌّ (عليه

السلام): أَنَا أُوَالِيكَ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ، قَالَ: أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا والْآخِرَةِ، وكَانَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ النَّاسِ بَعْدَ خَدِيجَةَ، وأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) ثَوْبَهُ فَوَضَعَهُ عَلَى عَلِيٍّ وفَاطِمَةَ والْحَسَنِ والْحُسَيْنِ وقَالَ: «اِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَالْبَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً»(1).

قَالَ: وشَرَى عَلِيٌّ نَفْسَهُ لَبِسَ ثَوْبَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) ثُمَّ نَام مَكَانَهُ، قَالَ: وكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَتَوَهَّمُونَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) ..

ص: 26


1- سورة الأحزاب: 33.

وجَعَلَ عَلِيٌّ يُرْمَى بِالْحِجَارَةِ كَمَا كَانَ يُرْمَى نَبِيُّ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) وهُو يَتَضَوَّرُ قَدْ لَفَّ رَأْسَهُ فِي الثَّوْبِ لَا يُخْرِجُهُ حَتَّى أَصْبَحَ ثُمَّ كَشَفَ عَنْ رَأْسِهِ فَقَالُوا إِنَّكَ لَلَئِيمٌ كَأَنَّ صَاحِبَكَ نُرَامِيهِ فَلَا يَتَضَوَّرُ وأَنْتَ تَتَضَوَّرُ، وقَدِ اسْتَنْكَرْنَا ذَلِكَ.

قَالَ: وخَرَجَ (صلى الله عليه وآله) بِالنَّاسِ فِي غَزَاةِ تَبُوكَ قَالَ: فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ (عليه السلام): أَخْرُجُ مَعَكَ، قَالَ: فَقَالَ لَهُ نَبِيُّ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): لا، فَبَكَى عَلِيٌّ (عليه السلام)، فَقَالَ (صلى الله عليه وآله): أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلاّ أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ، إِنَّهُ لا يَنْبَغِي أَنْ أَذْهَبَ إِلاّ وأَنْتَ خَلِيفَتِي، قَالَ: وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): أَنْتَ وَلِيِّي فِي كُلِّ مُؤْمِنٍ بَعْدِي ومُؤْمِنَةٍ، وقَالَ: سُدُّوا أَبْوَابَ الْمَسْجِدِ غَيْرَ باب عَلِيٍّ (عليه السلام) قَالَ: فَيَدْخُلُ الْمَسْجِدَ جُنُباً وهُو طَرِيقُهُ لَيْسَ لَهُ طَرِيقٌ غَيْرُهُ، قَالَ: وقَالَ: «مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُفَإِنَّ عَلِيّاً مَوْلَاهُ»(1).

الفوز بالنعيم الدائم

مسألة: يلزم بيان أن الفوز بالنعيم الدائم لا يكون إلاّ بموافقتهما (عليهما الصلاة والسلام)، حيث إن الإنقاذ من العذاب الدائم لا يلازم ثبوتاً وفي حد ذاته الفوز بالنعيم الدائم، والتلازم إنما هو للدليل الخارجي، وقد دلت هذه الرواية على كلا الطرفين، وذلك هو المستفاد من الروايات الكثيرة، ويأتي هنا ما ذكرناه في المسألة السابقة.

ثم إن أظهر مصاديق النعيم الدائم نعيم الآخرة، ويمكن أن يراد - إن لم

ص: 27


1- عمدة عيون صحاح الأخبار في مناقب إمام الأبرار: ص86، عن مسند أحمد.

يكن إطلاقاً فملاكاً - ما يشمل نعيم الدنيا، فإن الدوام فيها نسبي، فربما يكون للإنسان عافية مؤقتة وثروة كذلك، وربما تكون عافيته دائمة وثروته كذلك، أي إلى آخر حياته.

فطاعة النبي والوصي (صلى الله عليه وآله) يكون سبباً لسعادة الدنيا والآخرة، ومن هنا ورد قوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْمِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ»(1).

وقوله تعالى: «وَلَوْ أَنّ أَهْلَ الْقُرَىَ آمَنُواْ وَاتّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مّنَ السّمَآءِ وَالأرْضِ»(2).

حرمة مخالفة النبي والوصي

مسألة: يحرم مخالفة النبي (صلى الله عليه وآله) والإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ويجب إطاعتهما (عليهما الصلاة والسلام).

ولا يخفى أن حرمة المخالفة ووجوب الإطاعة وجهان لشيء واحد، لما حقق في (الأصول) من أنه لا يُعقل أن يكون للطرفين حكمان إلا من باب التأكيد، وهو في الحقيقة ليس بحكمين وإنما حكم واحد، فإذا قيل: الخمر حرام، كان معناه العرفي وجوب تركه واجتنابه، لا أنه حكم ثان ببوجوب الترك، كما أنه إذا قيل الصلاة واجبة كان معناه حرمة تركه كذلك.

ص: 28


1- سورة المائدة: 66.
2- سورة الأعراف: 96.

عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ فَضَّالٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَأَلْتُ الرِّضَا (عليه السلام) فَقُلْتُ لَهُ: لِمَ كُنِّيَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) بِأَبِي الْقَاسِمِ، فَقَالَ: لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ ابْنٌ يُقَالُ لَهُ قَاسِمٌ فَكُنِّيَ بِهِ، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ فَهَلْ تَرَانِي أَهْلًا لِلزِّيَادَةِ.فَقَالَ: نَعَمْ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) قَالَ: أَنَا وَعَلِيٌّ أَبَوَا هَذِهِ الْأُمَّةِ، قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: أَ مَا عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) أَبٌ لِجَمِيعِ أُمَّتِهِ وَعَلِيٌّ بِمَنْزِلَتِهِ فِيهِمْ، قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: أَ مَا عَلِمْتَ أَنَّ عَلِيّاً قَاسِمُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: فَقِيلَ لَهُ أَبُو الْقَاسِمِ لِأَنَّهُ أَبُو قَاسِمِ الْجَنَّةِ وَ النَّارِ، فَقُلْتُ لَهُ: وَ مَا مَعْنَى ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّ شَفَقَةَ الرَّسُولِ عَلَى أُمَّتِهِ شَفَقَةُ الْآبَاءِ عَلَى أَلْأَوْلَادِ، وَأَفْضَلُ أُمَّتِهِ عَلِيٌّ (عليه السلام)، وَمِنْ بَعْدِهِ شَفَقَةُ عَلِيٍّ (عليه السلام) عَلَيْهِمْ كَشَفَقَتِهِ لِأَنَّهُ وَصِيُّهُ وَخَلِيفَتُهُ وَالْإِمَامُ بَعْدَهُ، فَلِذَلِكَ قَالَ (صلى الله عليه وآله): أَنَا وَ عَلِيٌّ أَبَوَا هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَصَعِدَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) الْمِنْبَرَ فَقَالَ: مَنْ تَرَكَ دَيْناً أَوْ ضَيَاعاً فَعَلَيَّ وَإِلَيَّ، وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ، فَصَارَ بِذَلِكَ أَوْلَى بِهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ وَصَارَ أَوْلَى بِهِمْ مِنْهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ، وَكَذَلِكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) بَعْدَهُ جَرَى لَهُ مِثْلُ مَا جَرَى لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله)»(1).

الفقهاء آباء أيضاً

مسألة: قد يستفاد من هذا الحديث ملاكاً، أو بلحاظ ما ذكر لها من خصائص ككونهما (عليهما السلام) أبوين، أن الفقيه ومرجع التقليد وعالم المنطقة

ص: 29


1- معاني الأخبار: ص51 باب معاني أسماء النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) ح3.

والمعلم ومن أشبه أيضاً آباء روحيون، بدرجة أو أخرى.

ولعل التفات كلا الطرفين لهذا المعنى يفيد كثيراً من الأمور، ويسهم في التعليم والتزكية أكثر فأكثر.

قال الشهيد (رحمه الله) في منية المريد، في بيان مقام الأستاذ:

هو أعظم من الوالد الجسماني، فيبالغ بعد الأدب في حقه كما تقدم في رعاية حق أبوته ووفاء حق تربيته، وقد سئل الإسكندر: ما بالك توقر معلمك أكثر من والدك، فقال: لأن المعلم سبب لحياتي الباقية ووالدي لحياتي الفانية.

وأيضاً لم يقصد الوالد في الأغلب في مقاربة والدته وجوده ولا كمال وجوده وإنما قصد لذة نفسه فوجد هو وعلى تقدير قصده لذلك فالقصد المقترن بالفعل أولى من القصد الخالي عنه، وأما المعلم فقصد تكميل وجوده وسببه وبذل فيه جهده ولا شرف لأصل الوجود إلاّ بالإضافة إلى العدم فإنه حاصل للديدان والخنافس وإنما الشرف في كماله وسببه المعلم.وقد روي أن السيد الرضي الموسوي (قدس الله روحه) كان عظيم النفس، عالي الهمة، أَبِيَّ الطبع، لا يقبل لأحد منة، وله في ذلك قصص غريبة مع الخليفة العباسي حين أراد صلته بسبب مولود ولد له وغيره، ومنها أن بعض مشايخه قال له يوماً: بلغني أن دارك ضيقة لا تليق بحالك ولي دار واسعة صالحة لك قد وهبتها لك فانتقل إليها، فأبى فأعاد عليه الكلام فقال: يا شيخ أنا لم أقبل بر أبي قط فكيف من غيره، فقال له الشيخ: إن حقي عليك أعظم من حق أبيك لأني أبوك الروحاني وهو أبوك الجسماني، فقال السيد (رحمه الله): قد قبلت الدار، ومن هنا قال بعض الفضلاء:

ص: 30

من علم العلم كان خير أب *** ذاك أبو الروح لا أبو النطف (1)

حقوق الأبوة

مسألة: هل تترتب حقوق خاصة للنبي والوصي (عليهما السلام) على الأمة نظراً لأبوتهما، وهل تترتب حقوق خاصة للأمة عليهما (صلوات الله عليهما) نظراً لذلك؟

لا يبعد وكون (الأبوة) طولية، لكنهاعلى أي تقدير ارتباطية، ويرشد إلى ذلك قوله تعالى: «كُلٌّ آمَنَ باللهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَ إِلَيْكَ الْمَصير»(2).

وقوله سبحانه: «إِنَّ الَّذينَ يَكْفُرُونَ باللهِ وَرُسُلِهِ وَيُريدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُريدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبيلاً»(3).

قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ: «أَنَا وَعَلِيٌّ أَبَوَا هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَ لَحَقُّنَا عَلَيْهِمْ أَعْظَمُ مِنْ حَقِّ أَبَوَيْ وِلَادَتِهِمْ، فَإِنَّنا نُنْقِذُهُمْ إِنْ أَطَاعُونَا مِنَ النَّارِ إِلَى دَارِ الْقَرَارِ وَ نَلْحَقُهُمْ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ بِخِيَارِ الأَحْرَارِ»(4).

ص: 31


1- منية المريد: ص240، فصل في أن يعتقد في شيخه أنه الأب الحقيقي والوالد الروحاني.
2- سورة البقرة: 285.
3- سورة النساء: 150.
4- تفسير الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): ص330 ح190.

دفع وهم:

لا ينبغي أن يتصور أن قولها (صلوات الله عليها): (أبوا هذه الأُمة محمد وعلي) معارض لقوله تعالى: «ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَليم»(1).

إذ الآية الشريفة تنفي الأبوة الجسمية الحقيقية، وأما الرواية فتثبت الأبوة المعنوية الاعتبارية، والأبوة الروحية، ويوضح ذلك شأن نزول الآية(2).

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أحاديث عديدة: «أنا وعلي أبوا هذه الأمة»(3).

ص: 32


1- سورة الأحزاب: 40.
2- ذكر الإمام المؤلف (قدس سره) في شأن نزول الآية في تفسيره (تبيين القرآن): إنه لما تزوج الرسول (صلى الله عليه وآله) بزينب، قال جماعة من الناس: إن محمداً تزوج امرأة ابنه، فجاءت الآية نافية أن يكون الرسول أباً لزيد) تبيين القرآن: ص435.
3- راجع بحار الأنوار: ج36 ص4 باب 26 أن الوالدين رسول الله وأمير المؤمنين (صلوات الله عليهما).

أبوا الدين

اشارة

قالت فاطمة (عليها السلام) لبعض النساء: «أرضي أبوي دينك محمداً وعلياً بسخط أبوي نسبك، ولا ترضي أبوي نسبك بسخط أبوي دينك، فإن أبوي نسبك إن سخطا أرضاهما محمد وعلي (عليهما السلام) بثواب جزء من ألف ألف جزء من ساعة من طاعاتهما، وإن أبوي دينك محمداً وعلياً (عليهما السلام) إن سخطا لم يقدر أبوا نسبك أن يرضياهما، لأن ثواب طاعات أهل الدنيا كلهم لا يفي بسخطهما»(1).

-------------------------------------------

أبوا هذه الأُمة

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إن الله قد فرض عليكم طاعتي ونهاكم عن معصيتي و أوجب عليكم اتباع أمري، وأن تطيعوا علي بن أبي طالب بعدي، فإنه أخي ووزيري، ووارث علمي وهو مني وأنا منه، حبه إيمان وبغضه كفر، ألا فمن كنتُ مولاه فهو مولاه، أنا وعلي أبوا هذه الأمة، فمن عصى أباه فحشر مع ولد نوح، حيث قال له أبوه: «يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ قالَ سَآوِيإِلى جَبَلٍ»(2) الآية، ثم قال النبي (صلى الله عليه وآله): «اللهم

ص: 33


1- تفسير الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): ص334 ح203.
2- سورة هود: 43.

انصر من نصره، واخذل من خذله، و والِ وليه، وعادِ عدوه، ثم بكى النبي (صلى الله عليه وآله) وودعه ثلاث كرات بمشهد جمع من المهاجرين والأنصار كانوا حوله جالسين يبكون»(1).

الوالدان نسباً

الأبوة أمر اعتباري بالمعنى الأعم، والاعتبار بيد المعتبر، فكما اعتبر الله تعالى الوالدين أبوين، له أن يعتبر غيرهما أبوين أو في حكمهما، نعم انعقاد النطفة منهما مُعدَّ أو جزء علة لاعتبار الأبوة.

وكما أن أصل اعتبار الأبوة بيد المعتبر، فكذلك نحو الاعتبار ودرجته، فله أن يعتبر هذا مقدماً على ذاك، كما هو صريح الرواية الآتية أيضاً.

عدة مسائل:

مسألة: يلزم تحصيل رضا الأبوين نسباً، ولا يجوز إسخاطهما بالعنوان الأولي ما دام لم يعارض بإسخاط أبوي الأمة محمد وعلي (عليهما السلام)، فإن لزوم تحصيل رضا الوالدين إنما هو إذا كان في حدود الشريعة المقدسة، أما إذا لم يكن الأمر شرعياً بل كان خلافه فلا يلزم الإرضاء بل لا تجوز حينئذ إطاعتهما، قال سبحانه: «وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً»(2)، والشرك من باب المثال وكونه أبرز المصاديق،

ص: 34


1- مائة منقبة من مناقب أمير المؤمنين والأئمة (عليهم السلام): ص46 المنقبة الثانية والعشرون.
2- سورة لقمان: 15.

لأنه (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) (1) كما ورد في الحديث.

وهذا الحكم إجماعي، ويدل عليه العقل أيضاً، لأن المنعم الحقيقي هو الله سبحانه وتعالى، ثم النبي والوصي، فلا يجوز تقديم المنعم المجازي وهما الأبوان عليه، قال تعالى: «وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ»(2).

وفي أدعية السفرة: (هذا منك ومن محمد).

عَنِ ابْنِ بُكَيْرٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه

السلام) فَأَطْعَمَنَا ثُمَّ رَفَعْنَا أَيْدِيَنَافَقُلْنَا: الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): «اللَّهُمَّ هَذَا مِنْكَ وَمِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِكَ، اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ»(3).

مسألة: هل (الأبوان) يشمل غير الشرعيين أيضاً؟

احتمالان، ولا يبعد الشمول، فإن المستثنى هو الإرث فقط، وإلا فالظاهر أنهما لا فرق فيهما بين الشرعي وغير الشرعي في المحرمية وحرمة النكاح ولزوم النفقة والرضاع وما أشبه ذلك، لأنهما ولّداه حقيقةً، فالأدلة تشملهما، نعم الخارج عدم الإرث، كما أشرنا إلى ذلك في بعض مباحث الفقه.

مسألة: ولد الشبهة، لا إشكال في أنه ولد شرعاً وعقلاً وعرفاً، والفرق بينه وبين الولد الحلال إنما هو في التسمية فقط.

مسألة: قد اختلف الفقهاء في أنه هل تجب طاعة الأبوين مطلقاً، أو في مورد إيذائهما بعدم الطاعة؟

ص: 35


1- من لا يحضره الفقيه: ج 4 ص381 ح5832.
2- سورة الحشر: 7.
3- الكافي: ج6 ص296 ح22.

جمع من الفقهاء قال بوجوب الطاعة في مورد الإيذاء بتركها فقط، وإلا فلا يلزم الإطاعة لهما في كل أمر،كما لو أمرا بالخروج عن الأهل بتطليقها، أو الخروج عن المال أو العمل، أو في سُكنى هذا البلد أو ذاك، أو تزويج هذه البنت أو تلك، وما أشبه ذلك.

رضاهم يقدّم

مسألة: لا ريب في أنه يجب تقديم رضا النبي وآله (صلى الله عليه وعليهم) على رضا غيرهم في الواجبات، أما في المستحبات فهو مستحب، بل مطلق غير الواجب ليشمل المباح أيضاً، وكذلك في الأمر الإرشادي، فتأمل(1).

ولذا سألت بريرة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) هل أمرها بالرجوع إلى زوجها، أم نصحها بذلك وتشفع له.

رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ كَانَ عَبْداً أَسْوَدَ يُقَالُ لَهُ مُغِيثٌ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَطُوفُ خَلْفَهَا يَبْكِي وَ دُمُوعُهُ تَجْرِي عَلَى لِحْيَتِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) لِلْعَبَّاسِ يَا عَبَّاسُ أَ لَا تَعْجَبُ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ وَ مِنْ بُغْضِ بَرِيرَةَ مُغِيثاً، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): لَوْ رَاجَعْتِهِفَإِنَّهُ أَبُو وَلَدِكِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَأْمُرُنِي، قَالَ: لَا، إِنَّمَا أَنَا شَفِيعٌ، فَقَالَتْ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ(2)

فإن أوامر الرسول (صلى الله عليه وآله) وآله الأطهار (عليهم السلام) وأوامر الصديقة الطاهرة (عليها الصلاة والسلام) واجبة التنفيذ في الواجبات، سواء كانت

ص: 36


1- أقول: يمكن توجيه التأمل إلى أن المستحب والمباح قد يتحول بأمر المعصوم إلى واجب، وذلك بالعنوان الثانوي، لإطلاقات لزوم طاعة النبي وأهل بيته (عليهم السلام).
2- مستدرك الوسائل: ج 15 ص32 ب36 ح3 م17449.

واجبة بالعنوان الأولي أم بالعنوان الثانوي، وكذلك في الأوامر المولوية التي أريد امتثالها مع المنع عن النقيض.

أما إذا كان الأمر على سبيل الشفاعة أو الترغيب أو النصيحة أو ما أشبه فلا يجب، وإن كان مستحباً في نفسه وكان له عظيم الثواب.

وكذلك حال المناهي، فهي بين محرمة لا يجوز فعلها، وبين ما يفضل تركها في المكروه، وكذا ما كان في مقام الشفاعة ونحوها، لا النهي المولوي الإلزامي.

قال تعالى: «وما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا»(1).

وقال سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا أَطيعُوا اللهَ وأَطيعُواالرَّسُولَ وأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ»(2).

وعَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) قَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي ولَا أُمَّةَ بَعْدَكُمْ، أَلَا فَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ، وصَلُّوا خَمْسَكُمْ، وصُومُوا شَهْرَكُمْ، وحُجُّوا بَيْتَ رَبِّكُمْ، وأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ، طِيبَةً بِهَا نُفُوسُكُمْ، وأَطِيعُوا وُلَاةَ أَمْرِكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ»(3).

وعن الإمام الرضا (عليه السلام) في حديث طويل: ... كَذَلِكَ فِي الطَّاعَةِ قَالَ: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ»(4)

ص: 37


1- سورة التوبة: 74.
2- سورة النساء: 59.
3- وسائل الشيعة: ج 1 ص23 ب1 باب وجوب العبادات الخمس الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد ح25.
4-

فَبَدَأَ بِنَفْسِهِ ثُمَّ بِرَسُولِهِ ثُمَّ بِأَهْلِ بَيْتِهِ، كَذَلِكَ آيَةُ الْوَلَايَةِ: «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ ورَسُولُهُ والَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ الزَّكاةَ وهُمْ راكِعُونَ»(1) فَجَعَلَ طَاعَتَهُمْ مَعَ طَاعَةِ الرَّسُولِ مَقْرُونَةً بِطَاعَتِهِ، كَذَلِكَ وَلَايَتَهُمْ مَعَ وَلَايَةِ الرَّسُولِ مَقْرُونَةً بِطَاعَتِهِ، كَمَا جَعَلَ سَهْمَهُمْ مَعَ سَهْمِ الرَّسُولِ مَقْرُوناً بِسَهْمِهِ فِي الْغَنِيمَةِ والْفَيْ ء»(2).

رضا وسخط الغير

مسألة: يستحب - وقد يجب - على العلماء والمصلحين والمثقفين أن يربوا الناس على ثقافة أولوية إرضاء النبي وآله (عليهم سلام الله) على إرضاء الحكام أو الرؤساء أو المدراء أو حتى الأمهات والآباء.

وينبغي بيان أن رضا وسخط غير النبي وآله (صلى الله عليه وآله) في مقابل رضاهم وسخطهم ليس بشيءٍ أصلاً.

قال تعالى: «يَحْلِفُونَ باللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ ورَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنين»(3).

وقول الصديقة (عليها الصلاة والسلام): (بثواب جزء من ألف ألف جزء من ساعة من طاعتهما)، الظاهر أنه من باب المثال، لا أن المراد جزء من مليون فقط، إذ قد يستعمل أمثال هذه الألفاظ لإرادة الكثرة، مثل قول العرب (سبعة)

ص: 38


1- سورة المائدة: 55.
2- عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج 1 ص238.
3- سورة التوبة: 62.

في إرادة الكثرة، ومثل قولهم: (سبعين) في إرادتها(1).

قال سبحانه: «إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَاللهُ لَهُم»(2)، مع أنه لو استُغفر لهم أكثر من سبعين لن يغفر الله لهم أيضاً، لأنهم لم يكونوا قابلين للغفران كما بين ذلك في التفاسير.

قال الفيض الكاشاني في تفسيره: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) لا فرق بين الأمرين في عدم الإفادة لهم (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) قيل: السبعون جاء في كلامهم مجرى المثل للتكثير، وروت العامة أنّه (صلى الله عليه وآله) قال: واللَّه لأزيدنّ على السبعين، فنزلت (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَلَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ)، وفي لفظ آخر قال: لو علمت أنّه لو (زدت على السّبعين) مرّة غفر لهم لفعلت(3).

وروى العياشي، عن الرضا (عليه السلام): «أنّ اللَّه قال لمحمد (صلى الله عليه

ص: 39


1- سورة التوبة: 62.
2- قال في المجازات النبوية: ص352: ومِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ (عليه الصلاة والسلام): «مَا يُخْرِجُ رَجُلٌ شَيْئاً مِنَ الصَّدَقَةِ حَتَّى يَفُلَّ عَنْهُ لِحَى سَبْعِينَ شَيْطَاناً». وهذا القول مجاز، والمراد تعظيم الأمر في مجاهدة الإنسان نفسه عند إخراج الصدقة؛ لشدّة تتبّع النفس لها وكثرة الصوارف عنها ووساوس الشيطان بما يقتضي الامتناع منها، فإذا غلب الإنسان بإخراجها نوازع جنانه ونوازغ شيطانه، كان كأنّه قد افتلّها من أيدي الجاذبين، وفلّ عنها لحى الشياطين. وإنّما ذكر (عليه الصلاة والسلام) هذا العدد المخصوص من الشياطين، وهو السبعون، على طريقة للعرب مشهورة في ذكر ذلك إذا أرادت التكثير. وقد ورد التنزيل بسلوك هذا النهج، والوقوف عند هذا القدر، قال سبحانه: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَولا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) وقال تعالى: (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ).
3- تفسير الصافي: ج 2 ص362 سورة التوبة الآية 80.

وآله): (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) فاستغفِر لهم مائة مرّة ليغفر لهم، فأنزل اللَّه (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ) الآية»(1).

وربما كان استغفاره لمن يرجى إيمانه وكان النهي لمن لا يرجى إيمانه.

وربما كان الاستغفار أكثر من سبعين، بياناً لعدم قابليتهم للاستغفار مطلقاً، وتفسيراً للآية.

هذا ويرى البعض أنه (صلى الله عليه وآله) لم يستغفر لكافر أبداً بل كان يدعو لهدايتهم، وأن القضية الشرطية تصح حتى مع امتناع مقدمها، كما في قوله تعالى: «لَو كانَ فيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا»(2)، فلا يقال: كيف قال تعالى: «إن تستغفر لهم..» مع علمه بأن النبي (صلى الله عليه وآله) لا يستغفر لهم.

وفائدة مثل هذه القضية بيان عدم قابليتهم لأن يغفر الله لهم، وأن عدم غفران الله لهم أمر لا يتغير وليس من لوح المحو والإثبات.

وفي التفسير: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا باللهِ ورَسُولِهِ» إشارة إلى أن اليأس من المغفرة وعدم قبول استغفارك ليس لبخل منّا ولا قصور فيك، بل لعدم قابليّتهم بسبب الكفر الصّارف عنها(3).

ص: 40


1- تفسير العياشي: ج2 ص100 سورة البراءة.
2- سورة الأنبياء: 22.
3- تفسير كنز الدقائق: ج 5 ص509 سورة التوبة.

إرضاؤهم واجب

مسألة: يجب إرضاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) بطاعته وطاعة أوصيائه، وكذلك إرضاء الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بطاعته وطاعة أوليائه.

إذ من الواضح أن رضا الله في رضاهما، وسخطه في سخطهما، لأنهما منصوبان من قبله سبحانه، النبي رسولاً وعلي إماماً.

وإرضاؤهم (صلوات الله عليهم) يكون - إضافة إلى إطاعتهم - بترويج شعائرهم، وإحياء آثارهم ومآثرهم، والدفاع عن المظلومين من أتباعهم من العلماء وعامة المؤمنين.

حرمة إسخاطهما

مسألة: يحرم إسخاط الرسول (صلى الله عليه وآله) والإمام أمير المؤمنين (عليه السلام).

ويأتي هنا أيضاً ما ذكرناه سابقاً، من أن الوجوب والحرمة وجهان لشيء واحد، فإذا كانت المصلحة في الفعل كالصلاة قيل إنه واجب، وإذا كانت المفسدة في الفعل كشرب الخمر قيل: إنه حرام، وما يذكر للطرف الآخر من الحكم يكون تأكيداً.

ص: 41

ثواب الطاعة

مسألة: يستحب بيان عظيم ثواب طاعة الرسول (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام)، وتقريب ذلك إلى الأذهان بعبارات متنوعة وألفاظ مختلفة وبتشبيهات شتى.

لأن ذلك يوجب التفاف الناس حول النبي والوصي (عليهما الصلاة والسلام) أكثر فأكثر، ومن الواضح أنه أينما كان التفاف أكثر يكون الإنسان الملتف أقرب إلى الطاعة وأبعد عن المعصية، هذا كله إضافة إلى أن ذلك في حد ذاته فضيلة وعبادة(1).

عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «رَحِمَ اللَّهُ عَبْداً حَبَّبَنَا إلى النَّاسِ ولَمْ يُبَغِّضْنَا إِلَيْهِمْ، أَمَا واللَّهِ لَو يَرْوُونَ مَحَاسِنَ كَلَامِنَا لَكَانُوا بِهِ أَعَزَّ، ومَا اسْتَطَاعَ أَحَدٌ أَنْ يَتَعَلَّقَ عَلَيْهِمْ بِشَيْ ءٍ، ولَكِنْ أَحَدُهُمْ يَسْمَعُ الْكَلِمَةَ فَيَحُطُّ إِلَيْهَا عَشْراً»(2).

معصية إسخاط النبي

مسألة: يستحب (عقد المقارنة) بين طرفي الأمر، ضدين كانا أو نقيضين أو متخالفين، فإنه أقرب للإقناع ولإرشاد الجاهل وتنبيه الغافل.

ومن ذلك استحباب بيان أن ثواب طاعات أهل الدنيا لا يفي بسخط النبي

ص: 42


1- إذ ورد في الحديث مثلاً: (ذكر علي عبادة) ومن مصاديقه ذكر ثواب طاعته، وكذلك بالنسبة إلى سائر المعصومين عليهم السلام.
2- الكافي: ج 8 ص229 حديث يأجوج ومأجوج ح293.

(صلى الله عليه وآله)، وكذلك بالنسبة إلى سخط الإمام أمير المؤمنين (صلى الله عليه وآله). وذلك على ما يستفاد من البند السابق إيجاباً وسلباً.

التعامل على الحق

مسألة: الظاهر جواز المعاملة على إسقاط حقٍ، مقابل مالٍ أو منفعة، كما تجوز المعاملة بإعطاء شيء مقابل أن يرضى المظلوم أو الساخط أو من أشبه؛ فإنها معاملة عقلائية.

كما لا يجوز الإسخاط ظلماً، سواء كان المسخِط قادراً على إرضاء المسخَط بتعويضه بما يرضيه أم لا، والمراد بالمعاملة المعنى الأعم(1).

شمولية الخطاب

مسألة: الخطاب في قولها (صلوات الله عليها): (أرضي) وإن كان موجهاً لبعض النساء، إلا أنه من باب كونها طرف الخطاب لا اختصاص الحكم، فالأمر بالإرضاء عام للرجال والنساء كما هو أوضح من أن يخفى.

وقد سبق اشتراك الأحكام بين الذكر والأنثى ، وبين الأولين والآخرين،

ص: 43


1- ذكر الإمام المؤلف (قدس سره) في موسوعة (الفقه): كتاب الاجتهاد والتقليد ج1 ص29: إن للمعاملات إطلاقات ثلاثة: الأول: إطلاقها في مقابل الإيقاعات، فيراد بها العقود فقط. الثاني: في الأعم من العقود والإيقاعات . الثالث: في مقابل العبادات، فيشمل العقود والإيقاعات والأحكام، فالطهارة والبيع والطلاق والإرث كلها على هذا معاملات.

إلاّ ما خرج بالدليل.

عَنْ زُرَارَةَ، قَالَ قُلْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام): أَخْبِرْنِي عَنْ مَعْرِفَةِ الْإِمَام مِنْكُمْ وَاجِبَةٌ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ؟ فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ بَعَثَ مُحَمَّداً (صلى الله عليه وآله) إلى النَّاسِ أَجْمَعِينَ رَسُولًا وحُجَّةً لِلَّهِ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ فِي أَرْضِهِ، فَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وبِمُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ واتَّبَعَهُ وصَدَّقَهُ فَإِنَّ مَعْرِفَةَ الْإِمَام مِنَّا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ، ومَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وبِرَسُولِهِ ولَمْ يَتَّبِعْهُ ولَمْ يُصَدِّقْهُ ويَعْرِفْ حَقَّهُمَا فَكَيْفَ يَجِبُ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ الْإِمَام وهُوً لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ ورَسُولِهِ ويَعْرِفُ حَقَّهُمَا»، قَالَ: قُلْتُ: فَمَا تَقُولُ فِيمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ ورَسُولِهِ ويُصَدِّقُ رَسُولَهُ فِي جَمِيعِ مَا أَنْزَلَاللَّهُ يَجِبُ عَلَى أُولَئِكَ حَقُّ مَعْرِفَتِكُمْ، قَالَ: «نَعَمْ أَ لَيْسَ هَؤُلَاءِ يَعْرِفُونَ فُلَاناً وفُلَاناً»، قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: «أَتَرَى أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي أَوْقَعَ فِي قُلُوبِهِمْ مَعْرِفَةَ هَؤُلَاءِ، واللَّهِ مَا أَوْقَعَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِهِمْ إلاّ الشَّيْطَانُ، لا واللَّهِ مَا أَلْهَمَ الْمُؤْمِنِينَ حَقَّنَا إِلاّ اللَّهُ عَزَّوجَلَّ»(1).

وما رواه في الوسائل عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «لأنّ حكم الله عزّ وجلّ في الأوّلين والآخرين وفرائضه عليهم سواء، إلّا من علّة أو حادث يكون، والأوّلون والآخرون أيضاً في منع الحوادث شركاء، والفرائض عليهم واحدة، يسأل الآخرون من أداء الفرائض عما يسأل عنه الأوّلون، ويحاسبون عمّا به يحاسبون»(2). قال تعالى: «وما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشيراً ونَذيراً ولكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُون» (3).

ص: 44


1- الكافي: ج 1 ص180 باب معرفة الإمام والرد إليه ح1.
2- وسائل الشيعة: ج11 ص23 أبواب جهاد العدو وما يناسبه، باب9 ح1.
3- سورة سبأ: 28.

منزلة علي وفاطمة

اشارة

في حديث، قالت فاطمة (عليها السلام): وأنا ابنة خديجة الكبرى.

قال علي (عليه السلام): وأنا ابن الصفا.

قالت: أنا ابنة سدرة المنتهى.

قال: وأنا فخر الورى.

قالت: وأنا ابنة من دنى فتدلى وكان من ربه قاب قوسين أو أدنى.

قال: وأنا ولد المحصنات.

قالت: أنا بنت الصالحات والمؤمنات.

قال: خادمي جبرائيل.

قالت: خاطبني في السماء راحيل، وخدمتني الملائكة جيلاً بعد جيل.

قال: وأنا ولدت في المحل البعيد المرتقى.

قالت: وأنا زوّجت في الرفيع الأعلى(1).

-------------------------------------------

ص: 45


1- منقول من كتاب عوالم العلوم والمعارف، مستدرك سيدة النساء إلى الإمام الجواد (عليهما السلام): ج 11قسم1، فاطمة (سلام الله عليها)، باب ملاطفة كلامية بين أمير المؤمنين وفاطمة الزهراء عليهما السلام بمحضر النبي (صلى الله عليه وآله): ص261ح45. والخبر بكامله منقول في الفضائل (لابن شاذان القمي): ص80 خبر مفاخرة علي بن أبي طالب (عليه السلام) وفاطمة الزهراء (عليها السلام) ما هذا نصه: رُوِيَ أَنَّهُ جَاءَ فِي الْخَبَرِ أَنَّ الْإِمَام عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ هُو وَزَوْجَتُهُ فَاطِمَةُ (عليها السلام) يَأْكُلَانِ تَمْراً فِي الصَّحْرَاءِ إِذْ تَدَاعَيَا بَيْنَهُمَا بِالْكَلَام، فَقال عَلِيٌّ (عليه السلام): يَا فَاطِمَةُ إِنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) يُحِبُّنِي أَكْثَرَ مِنْكِ، فَقالتْ: وَا عَجَبَا مِنْكَ يُحِبُّكَ أَكْثَرَ مِنِّي وأَنَا ثَمَرَةُ فُؤَادِهِ وعُضْوٌ مِنْ أَعْضَائِهِ وغُصْنٌ مِنْ أَغْصَانِهِ ولَيْسَ لَهُ وَلَدٌ غَيْرِي، فَقال لَهَا عَلِيٌّ (عليه السلام): يَا فَاطِمَةُ إِنْ لَمْ تُصَدِّقِينِي فَامْضِي بِنَا إلى أَبِيكِ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله)، قال: فَمَضَيْنَا إلى حَضْرَتِهِ (صلى الله عليه وآله) فَتَقَدَّمَتْ وقالتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) أَيُّنَا أَحَبُّ إِلَيْكَ أَنَا أم عَلِيٌّ (عليه السلام)؟ قال النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): أَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ وعَلِيٌّ أَعَزُّ عَلَيَّ مِنْكَ. فَعِنْدَهَا قال سَيِّدُنَا ومَوْلَانَا الْإِمَام عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام): أَ لَمْ أَقُلْ لَكَ أَنَا وَلَدُ فَاطِمَةَ ذَاتِ التُّقَى. قالت فَاطِمَةُ (عليها السلام): وأَنَا ابْنَةُ خَدِيجَةَ الْكُبْرَى. قال عَلِيٌّ (عليه السلام): وأَنَا ابْنُ الصَّفَا، قالت فَاطِمَةُ (عليها السلام): أَنَا ابْنَةُ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، قال عَلِيٌّ (عليه السلام): وأَنَا فَخْرُ الْوَرَى. قالت فَاطِمَةُ (عليها السلام): وأَنَا ابْنَةُ دَنا فَتَدَلَّى وَكَانَ مِنْ رَبِّهِ قابَ قَوْسَيْنِ أَو أَدْنى. قال عَلِيٌّ (عليه السلام): وأَنَا وَلَدُ الْمُحْصَنَاتِ. قالت فَاطِمَةُ (عليها السلام): أَنَا بِنْتُ الصَّالِحَاتِ والْمُؤْمِنَاتِ. قال عَلِيٌّ (عليه السلام): خَادِمِي جَبْرَئِيلُ. قالت فَاطِمَةُ (عليها السلام): وأَنَا خَاطَبَنِي فِي السَّمَاءِ رَاحِيلُ وَخَدَمَتْنِي الْمَلَائِكَةُ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ. قال عَلِيٌّ (عليه السلام): وأَنَا وُلِدْتُ فِي الْمَحَلِّ الْبَعِيدِ الْمُرْتَقَى. قالت فَاطِمَةُ (عليها السلام): وَأَنَا زُوِّجْتُ فِي الرَّفِيع الْأَعْلَى وكَانَ مَلَاكِي فِي السَّمَاءِ. قال عَلِيٌّ (عليه السلام): أَنَا حَامِلُ اللِّوَاءِ. قالت فَاطِمَةُ (عليه السلام): وَأَنَا ابْنَةُ مَنْ عُرِجَ بِهِ إلى السَّمَاءِ. قال عَلِيٌّ (عليه السلام): أَنَا ابْنُ صَالِحِ الْمُؤْمِنِينَ. قالت فَاطِمَةُ (عليها السلام): وأَنَا ابْنَةُ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ. قال عَلِيٌّ (عليه السلام): وأَنَا الضَّارِبُ عَلَى التَّنْزِيلِ. قالت فَاطِمَةُ (عليها السلام): وأَنَا صَاحِبَةُ التَّأْوِيلِ. قال عَلِيٌّ (عليه السلام): وأَنَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سِينِينَ. قالت فَاطِمَةُ (عليها السلام): وأَنَا الشَّجَرَةُ الَّتِي تُخْرِجُ أُكُلَهَا أَعْنِي الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ (عليهما السلام) . قال عَلِيٌّ (عليه السلام): وأَنَا الْمَثَانِي والْقُرْآنُ الْحَكِيمُ. قالت فَاطِمَةُ (عليها السلام): وأَنَا ابْنَةُ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) الْكَرِيمِ. قال عَلِيٌّ (عليه السلام): وأَنَا النَّبَأُ الْعَظِيمُ. قالت فَاطِمَةُ (عليها السلام): وأَنَا ابْنَةُ الصَّادِقِ الْأَمِينِ. قال عَلِيٌّ (عليه السلام): وأَنَا الْحَبْلُ الْمَتِينُ. قالت فَاطِمَةُ (عليها السلام): وأَنَا ابْنَةُ خَيْرِ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ. قال عَلِيٌّ (عليه السلام): أَنَا لَيْثُ الْحُرُوبِ. قالت فَاطِمَة (عليها السلام): أَنَا مَنْ يَغْفِرُ اللَّهُ بِهِ الذُّنُوبَ. قال عَلِيٌّ (عليه السلام): وأَنَا الْمُتَصَدَّقُ بِالْخَاتَمِ. قالت فَاطِمَةُ (عليها السلام): وَأَنَا ابْنَةُ سَيِّدِ الْعَالَمِ. قال عَلِيٌّ (عليه السلام): أَنَا سَيِّدُ بَنِي هَاشِمٍ. قالت (عليها السلام): أَنَا ابْنَةُ مُحَمَّدٍ الْمُصْطَفَى. قال عَلِيٌّ (عليه السلام): أَنَا الْإِمَام الْمُرْتَضَى. قالت فَاطِمَةُ (عليها السلام): أَنَا ابْنَةُ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ. قال عَلِيٌّ (عليه السلام): أَنَا سَيِّدُ الْوَصِيِّينَ. قالت فَاطِمَةُ (عليها السلام): أَنَا ابْنَةُ النَّبِيِّ الْعَرَبِيِّ. قال عَلِيٌّ (عليه السلام): وأَنَا الشُّجَاع الْكَمِيُّ. قالت فَاطِمَةُ (عليها السلام): وأَنَا ابْنَةُ أَحْمَدَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله). قال عَلِيٌّ (عليه السلام): أَنَا الْمُبْطِلُ الْأَرْوَع. قالت فَاطِمَةُ (عليها السلام): أَنَا الشَّفِيع الْمُشَفَّع. قال عَلِيٌّ (عليه السلام): أَنَا قَسِيمُ الْجَنَّةِ والنَّارِ. قالت فَاطِمَةُ (عليها السلام): أَنَا ابْنَةُ مُحَمَّدٍ الْمُخْتَارِ. قال عَلِيٌّ (عليه السلام): أَنَا قَاتِلُ الْجَانِّ. قالت فَاطِمَةُ (عليها السلام): أَنَا ابْنَةُ رَسُولِ الْمَلِكِ الدَّيَّانِ. قال عَلِيٌّ (عليه السلام): أَنَا خِيَرَةِ الرَّحْمَنِ. قالت فَاطِمَةُ (عليها السلام): وأَنَا خِيَرَةُ النِّسْوَانِ. قال عَلِيٌّ (عليه السلام): وأَنَا مُكَلَّمُ أَصْحَابِ الرقيم. قالت فَاطِمَةُ (عليها السلام): وأَنَا ابْنَةُ مَنْ أُرْسِلَ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وبِهِمْ رَءُوفُ رَحِيمُ. قال عَلِيٌّ (عليه السلام): وأَنَا الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ نَفْسِي نَفْسَ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) حَيْثُ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ وأَنْفُسَنا وأَنْفُسَكُمْ. قالت فَاطِمَةُ (عليها السلام): وَأَنَا الَّذِي قال فِي أَبْناءَنا وأَبْناءَكُمْ ونِساءَنا ونِساءَكُمْ. قال عَلِيٌّ (عليه السلام): أَنَا عَلَّمْتُ شِيعَتِي الْقُرْآنَ. قالت فَاطِمَةُ (عليها السلام): وأَنَا يُعْتِقُ اللَّهُ مَنْ أَحَبَّنِي مِنَ النِّيرَانِ. قال علي (عليه السلام): أَنَا شِيعَتِي مِنْ عِلْمِي يَسْطُرُونَ. قالت فَاطِمَةُ (عليها السلام): وَأَنَا مِنْ بَحْرِ عِلْمِي يَغْتَرِفُونَ. قال عَلِيٌّ (عليه السلام): أَنَا الَّذِي اشْتَقَّ اللَّهُ تَعَالَى اسْمِي مِنْ اسْمِهِ فَهُو الْعَالِي وَأَنَا عَلِيٌّ. قالت فَاطِمَةُ (عليها السلام): وأَنَا كَذَلِكَ فَهُو الْفَاطِرُ وأَنَا فَاطِمَةَ. قال عَلِيٌّ (عليه السلام): أَنَا حَيَاةُ الْعَارِفِينَ. قالت فَاطِمَةُ (عليها السلام): أَنَا مَسْلَكِ نَجَاةِ الرَّاغِبِينَ. قال علي (عليه السلام): وأَنَا الْحَوَامِيمُ. قالت فَاطِمَةُ (عليها السلام): وأَنَا ابْنَةُ الطَّوَاسِينِ. قال عَلِيٌّ (عليه السلام): وأَنَا كَنْزُ الْغِنَى. قالت فَاطِمَةُ (عليها السلام): وأَنَا الْكَلِمَةُ الْحُسْنَى. قال عَلِيٌّ (عليه السلام): أَنَا بِي تَابَ اللَّهُ عَلَى آدَمَ فِي خَطِيئَتِهِ. قالت فَاطِمَةُ (عليها السلام): وَأَنَا بِي قَبِلَ اللَّهُ تَوْبَتَهُ. قال عَلِيٌّ (عليه السلام): أَنَا كَسَفِينَةِ نُوحٍ مَنْ رَكِبَهَا نَجَا. قالت فَاطِمَةُ (عليها السلام): وأَنَا أُشَارِكُكَ فِي الدَّعْوَى. قال علي (عليه السلام): أَنَا طُوفَانُهُ. قالت فَاطِمَةُ (عليها السلام): وَأَنَا سَوْرَتُهُ. قال علي (عليه السلام): وأَنَا النَّسِيمُ الْمُرْسَلُ لِحِفْظِهِ. قالت فَاطِمَةُ (عليه السلام): وأَنَا مِنِّي أَنْهَارُ الْمَاءِ وَاللَّبَنِ وَالْخَمْرِ والْعَسَلِ فِي الْجِنَانِ. قال علي (عليه السلام): وأَنَا الطُّورُ. قالت فَاطِمَةُ (عليها السلام): وأَنَا الْكِتَابُ الْمَسْطُورُ. قال علي (عليه السلام): وَأَنَا الرُّقِّ الْمَنْشُورُ. قالت فَاطِمَةُ (عليها السلام): وأَنَا الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ. قال علي (عليه السلام): وأَنَا السَّقْفُ الْمَرْفُوع. قالت فَاطِمَةُ (عليه السلام): وَأَنَا الْبَحْرُ الْمَسْجُورُ. قال علي (عليه السلام): أَنَا عِلْمِي مِنَ النَّبِيِّينَ. قالت فَاطِمَةُ (عليها السلام): وأَنَا ابْنَةُ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ مِنَ الْأَوَّلِينَ والْآخِرِينَ. قال علي (عليه السلام): أَنَا الْبِئْرُ وَالْقَصْرُ الْمَشِيدُ. قالت فَاطِمَةُ (عليها السلام): أَنَا مِنِّي شَبَّرُ وَشَبِيرٌ. قال علي (عليه السلام): وأَنَا بَعْدَ الرَّسُولِ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ. قالت فاطمة (عليه السلام): أَنَا الْبَرَّةُ الزَّكِيَّةُ. فَعِنْدَهَا قال النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): لَا تُكَلِّمِي عَلِيّاً فَإِنَّهُ ذُو الْبُرْهَانِ. قالت فَاطِمَةُ (عليها السلام): أَنَا ابْنَةُ مَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ. قال علي (عليه السلام): أَنَا الْبَطِينُ الْأَصْلَع. قالت فَاطِمَةُ (عليها السلام): أَنَا الْكَوْكَبُ الَّذِي يَلْمَع. قال النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) فَهُو الشَّفَاعَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قالت فَاطِمَةُ (عليها السلام): وَأَنَا خَاتُونُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. فَعِنْدَ ذَلِكَ قالت فَاطِمَةُ (عليها السلام) لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): لا تُحَام لابْنِ عَمِّكَ وَدَعْنِي وإِيَّاهُ. قال علي (صلوات الله عليه): يَا فَاطِمَةُ أَنَا مِنْ مُحَمَّدٍ عَصَبَتُهُ ونُخْبَتُهُ. قالت فَاطِمَةُ (عليها السلام): وَأَنَا لَحْمُهُ وَدَمُهُ. قال علي (عليه السلام): أَنَا الصُّحُفُ. قالت فَاطِمَةُ (عليه السلام): وأَنَا الشَّرَفُ. قال علي (عليه السلام): وأَنَا وَلِيُّ زُلْفَى. قالت فَاطِمَةُ (عليها السلام): وَأَنَا الْخَمْصَاءُ الْحَسْنَاءُ. قال علي (عليه السلام): وَأَنَا نُورُ الْوَرَى. قالت فَاطِمَةُ (عليها السلام): وَأَنَا الزَّهْرَاءُ. فَعِنْدَهَا قال النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) لِفَاطِمَةَ (عليها السلام): يَا فَاطِمَةُ قُومِي وقَبِّلِي رَأْسَ ابْنِ عَمِّكَ، فَهَذَا جَبْرَئِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَإِسْرَافِيلُ وَعَزْرَائِيلُ مَع أَرْبَعَةٍ آلَافِ مِنَ الْمَلَائِكَةُ يُحَامُونَ مَع عَلِيٍّ (عليه السلام) وَهَذَا أَخِي رَاحِيلُ وَدَرْدَائِيلُ مَع أَرْبَعَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَنْظُرُونَ بِأَعْيُنِهِمْ. قال: فَقَامَتْ فَاطِمَةُ الزَّهْرَاءُ (عليها السلام) فَقَبَّلَتْ رَأْسَ الْإِمَام عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) وقالت: يَا أَبَا الْحَسَنِ بِحَقِّ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) مَعْذِرَةً إلى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِلَيْكَ وَإِلَى ابْنِ عَمِّكَ. قال: فَوَهَبَهَا الْإِمَام (عليه السلام) وَقَبَّلَتْ يَدَ أَبِيهَا (عليها السلام).

ص: 46

ص: 47

ص: 48

ص: 49

التنويع في أساليب الهداية

مسألة: ينبغي التنويع في أساليب الهداية والدعوة والتبليغ والإعلام، لتكون بين نثر وشعر ومقالة وحوار وقصة وغير ذلك؛ فإن النفوس مختلفة، بل النفس الواحدة في الحالات المختلفة تميل إلى أنواع متعددة.

وعلى ذلك جرى هذا (الحوار) بين الصديقة الطاهرة وأمير المؤمنين (عليهما صلوات الله وسلامه).

ص: 50

وفي القرآن الكريم التنوع الفريد في أساليب العرض والكلام(1).

التفاخر بالحق

مسألة: يجوز التفاخر بالحق، بل ربما استحب أو وجب على ما سيأتي، وذلك إذا كان فيه فائدة دينية أو دنيوية للناس، كما في كلماتها (عليها السلام) وكلماته (عليه السلام).

ويعتبر ذلك من أساليب الدعوة والإرشاد والهداية والتعريف بأهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله).

وأما قوله سبحانه: «فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْأَوْ أَشَدَّ ذِكْراً»(2)، إنما يراد به التفاخر بالباطل أو بالمكروه(3)، أما التفاخر بالحق فإنه جائز بالمعنى الأعم بما يشمل المستحب والواجب.

قال تعالى: «ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ»(4).

وقال سبحانه: «وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي المُحْسِنين َ»(5).

ص: 51


1- راجع أساليب القرآن فی البيان من المعاني والبيان والبديع والمحكم والمتشابة والتاويل والتنزيل والقصص والإخبار عن الغيب والتأويل والتنزيل والجري والإنطباق وغيرها مما هو كثير.
2- سورة البقرة: 200.
3- حيث كانوا إذا فرغوا من مناسك الحج ينشغلون بالتفاخر بآبائهم.
4- سورة آل عمران: 34.
5- سورة الأنعام: 84.

وقال تعالى: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهيمَ وَجَعَلْنا في ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ»(1).

وقال سبحانه: «وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقيمٍ»(2).

والمقام مقام إظهار الفضل والمكانة عند الله والمنزلة والقرب لديه، بغرض التأثير الإيجابي على نفوس الناس، كي يلتفوا حول من نصبهم الله تعالى أمناء على خلقه.

وبذلك يظهر الجواب عما قد يُقال:إنه ليس على سبيل البرهان في الجملة، بل على سبيل الخطابة في عدد منها، كقولها (عليها الصلاة والسلام): «وأنا زوّجت في الرفيع الأعلى»، فإنه ليس خاصاً بها، لوضوح أن الزواج طرفيني وأن علياً (عليه الصلاة والسلام) أيضاً زُوّج بها في الرفيع الأعلى، نعم قد يُراد أنها (عليها السلام) زوّجت في الرفيع الأعلى دون سائر زوجات علي (عليه الصلاة والسلام)، فيظهر أن الفضل في ذلك لها وحدها، علماً بأن أهداف الكلام تختلف خطابةً أو شعراً أو برهاناً كما حقق في آخر المنطق.

ص: 52


1- سورة الحديد: 26.
2- سورة الأنعام: 87.

إبداء الحق ودور الكلام

مسألة: يجب إظهار الحق الواجب ولو في صورة المفاخرة، فإن إبداء الحق وإظهاره والإعلان عنه واجب في الجملة، سواء أكان في صورة المفاخرة أم الكناية أم التصريح أم دلالة الاقتضاء أم غير ذلك من الإشارة والكتابة ونحوهما.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر»(1).

وفي رواية أخرى سأل الراوي عنه (صلى الله عليه وآله): أي الجهاد أفضل؟ قال: «كلمة حق عند إمام ظالم»(2).

ولا خصوصية للكلام كما هو واضح، فإظهار الحق قد يكون بعمل أو كتابة أو ما أشبه، وقوله (عليه الصلاة والسلام): «إنما يحلل الكلام ويحرم الكلام»(3) إنما يراد به في باب النكاح والطلاق، وإلاّ فالمشهور بين الفقهاء صحة المعاطاةفي كل شيء غير بابهما، للأدلة التي أقامها الشيخ المرتضى (قدس سره) في المكاسب، وغيره في غيره على ذلك، وقد ذكرناه في الفقه مفصلاً.

ص: 53


1- غوالي اللئالي: ج1 ص432 ح131.
2- مجموعة ورام: ج2 ص200.
3- جامع أحاديث الشيعة: ج 23 ص144 ب35 باب أنه يجوز للرجل أن يساوم على ما ليس عنده ويشتريه فيبيعه بربح وغيره نقداً ونسيئة ح32589.

الانتساب

مسألة: لا يبعد إجمالاً القول باستحباب الانتساب إلى الكبار من العلماء والأولياء والصالحين، وكذا طلب الانتساب إلى البقاع المتبركة أو المهمة، وذلك بوسيلة اختيار المكان والنسب بحيث يتزوج من عائلة رفيعة أو يسكن في بلد مقدس وما أشبه، وذلك من باب المقدمية، فإن ذلك من المقدمات المؤدية للتخلق بالأخلاق الفاضلة والتقرب إلى الله تعالى.

بل النسبة في حد ذاتها نوع من الارتفاع أو الانخفاض، وربما تكون هي من أسباب الثواب أو العقاب، دنياً وآخرةً في الجملة، ففي الآخرة (الشفاعة) قال تعالى: «لا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى»(1)، والشفاعة هي نوع انتساب مشروط، نسبي أو غيره، إذ قد يكون ذرياً أو ولاءً أو ما أشبه.

فإن المؤمن المنسوب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) يُشفع له، بينما الكافر والمنافق لا يشفع له، فإن الشفاعة تحتاج إلى المحل القابل أيضاً، وهذا بحث كلامي مفصل نكتفي منه بهذا القدر.وأما في الدنيا ف (الشفاعة) متحققة فيها، بحق أو بباطل.

كما يوجد نوع آخر من الارتفاع والانخفاض الانتسابي، ففي الدنيا قال سبحانه: «وَلْيَخْشَ الَّذينَ لَوتَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَديداً»(2)، فإن ما يصيب الإنسان في الدنيا بسبب أبويه إنما

ص: 54


1- سورة الأنبياء: 28.
2- سورة النساء: 9.

هو من (الانتساب) في كثير من الموارد، لا من نفسه.

نعم في الآخرة: «وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى»(1) حيث هذا القانون يطبق بالكامل، أي لا تحمل حاملة حمل أخرى، أي لا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى.

كما أنه في الدنيا كذلك بالنسبة إلى الحدود الشرعية حيث «وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى»(2).

وأما كون الدية على العاقلة فليس من باب وزر الوازرة، بل من باب التكافل الاجتماعي، كما هو كذلك في الخمس والزكاة وما أشبه، والتكافل الاجتماعي ليس خاصاً بالإسلام، بل كلالأديان والقوانين فيها التكافل الاجتماعي بشكل أو بآخر، ولهذا تأخذ الحكومات الضرائب من الأغنياء لتضعها - لو التزمت بالقوانين - عند الفقراء.

شجرة النسب

مسألة: شجرة النسب أمر محمود ذو منافع، من هنا ينبغي المحافظة على أشجار الأنساب، وقد جرت سيرة المتشرعة على ذلك ولو في الجملة.

ولعل ذلك يستفاد من قولها (صلوات الله عليها): «وأنا ابنة خديجة الكبرى» بلحاظ وحدة المناط في المباشر وغير المباشر، فتأمل.

ص: 55


1- سورة الأنعام:164، سورة الإسراء: 15، سورة فاطر: 18، سورة الزمر: 7.
2- سورة الأنعام:164، سورة الإسراء: 15، سورة فاطر: 18، سورة الزمر: 7.

نسب الصديقة

مسألة: يستحب القيام بكل ما يسبب تأكيد وتثبيت منزلة المعصومين (صلوات الله عليهم أجمعين) كقدوات وأسوات للناس، ومن ذلك استحباب بيان نسب وحسب الصديقة فاطمة (عليها السلام) وأنها ابنة خديجة الكبرى (عليها السلام)، وابنة سدرة المنتهى، وابنة من دنى فتدلى وكان من ربه قاب قوسين أو أدنى، وأنها بنت الصالحات والمؤمنات.

وفائدة بيان ذلك هو ما مرّ كراراً من الالتفاف حولها (عليها الصلاة والسلام) وإطاعتها، والتأسي بها في صالح أعمالها، إضافة إلى كون كل ذلك عبادة توجب الأجر والمثوبة.

ومن الواضح أن الإنسان سرّ أبويه، تسري فيه حالاتهما، إلاّ ما خرج بالدليل.

ومعنى (ابنة سدرة المنتهى) أنها ابنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي وصل إلى سدرة المنتهى، مثل ما ورد في خطبة الإمام السجاد (عليه الصلاة والسلام) أنه ابن زمزم والصفا(1)، وما أشبه ذلك،والنسبة تكفي فيها أدنى مناسبة فكيف إذا كانت مناسبة استثنائية؟

وأما أنها (عليها السلام) (بنت الصالحات المؤمنات) ففيه دلالة على أن الأرحام التي اشتملت عليها وكذلك الأصلاب كانت، كلها مؤمنات إلى حواء وآدم (عليهما الصلاة والسلام) كما نقرأ في زيارة الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام): «لم

ص: 56


1- قال (عليه السلام): (من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي، أيها الناس أنا ابن مكة ومنى، أنا ابن زمزم والصفا) بحار الأنوار: ج45 ص137 ب39.

تنجسك الجاهلية بأنجاسها ولم تلبسك من مدلهمات ثيابها»(1).

وهناك روايات متواترة تدل على ذلك بالنسبة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) وسائر المعصومين (عليهم السلام).

ولعل هذه التأكيدات في قبال ما ذكرته كتب المسيحيين واليهود من أن أنبيائهم كانوا أولاد زنا أو كانوا يزنون ويفعلون الفاحشة - والعياذ بالله - وقد أشرنا إلى بعض ذلك في كتاب (ماذا في كتب النصارى)؟

وكل هذه الأكاذيب كانت لنشر الفساد بين الناس وتبرير فساد الحكام ومن أشبه، وقد دلت الأدلة القطعية على أن تلك الكتب التي ذكرت أمثال هذه الافتراءات إنما هي محرّفة، كماقال سبحانه: «يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ»(2).

من فضائل الوصي

مسألة: يستحب ذكر فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام) بكل أنواعها وأشكالها، ومنها أنه ابن الصفا، وفخر الورى، وولد المحصنات.

ولعل بيان أنه من أولاد المحصنات، تعريض بغيره ممن اغتصبوا الخلافة، كما لا يخفى خبث نسب بعضهم على من ألمّ بالتاريخ(3).

ويحتمل أن يكون المراد من (المحصنات) ليس المحصنات من الزنا فقط كما

ص: 57


1- مصباح المتهجد: ج 2 ص721.
2- سورة النساء:46، سورة المائدة: 13.
3- راجع بحار الأنوار: ج 31 ص98.

هو المشهور، بل الأعلى من ذلك وهو الإحصان من كل رذيلة ونقيصة ومثلبة، ولعل المراد من (التي أحصنت فرجها..) هو المعنى الأعم لا خصوص الإحصان والحفظ من الزنا.

وكذلك ما ورد من (أن فاطمة بنت محمد أحصنت فرجها فحرم الله ذريتها على النار)(1)، فإن الفرج لغة يطلق على(الثغر) و(موضع المخافة)(2)، وكل سيئة ونقيصة وشهوة وقوة هي موضع مخافة، كما أن الفرج: (الفتق والشق)(3)، وهما بين مادي ومعنوي، ومن ذلك (الفَرَج) فإنه يفتح ما استغلقت من الأبواب، ماديةً أو روحية أو نفسية أو غيرها، و(الفَرجَة: الخلوص من شدة)(4)، و(ثوب طويل الفرج) أي واسع الذيل(5).

جبرائيل خادمهم

مسألة: يستحب بيان كل ما بينه الدين من أنواع ومصاديق الارتباط بين عالمي الغيب والشهود، كما يستحب بيان فضائل العترة الطاهرة (عليهم السلام).

ومن مصاديق الأمرين: أن جبرائيل (عليه السلام) هو خادم أمير المؤمنين (عليه السلام).

ص: 58


1- عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج 2 ص63 ب31 باب فيما جاء عن الرضا (عليه السلام) من الأخبار المجموعة ح264.
2- مجمع البحرين: ج 3 ص236 مادة (ثغر).
3- مجمع البحرين: ج 2 ص322 مادة (فرج).
4- مجمع البحرين: ج 2 ص322 مادة (فرج).
5- مجمع البحرين: ج 2 ص322 مادة (فرج).

فإن بيان ذلك يوجب التفات الناس حول الوصي (عليه الصلاة والسلام)، لأنه أفضل من جبرائيل الذي هو أفضل الملائكة، ويدل ذلك على شدة قربه (عليه الصلاةوالسلام) من الله سبحانه وتعالى.

ولا يستغرب؛ فإن الإمام علي (عليه السلام) هو وصي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأفضل الخلائق بعده، وقد قال تعالى: «إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَليفَةً»(1)، وأمر ملائكته بالسجود لآدم (عليه السلام)، وقد ورد في روايات عديدة أن أمره تعالى بالسجود لآدم كان لوجود المعصومين (عليهم السلام) في صلبه.

قال الإمام (عليه السلام): «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ آدَمَ، وسَوَّاهُ، وعَلَّمَهُ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْ ءٍ وَعَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ، جَعَلَ مُحَمَّداً وعَلِيّاً وفَاطِمَةَ والْحَسَنَ والْحُسَيْنَ (عليهم السلام) أَشْبَاحاً خَمْسَةً فِي ظَهْرِ آدَمَ، وكَانَتْ أَنْوَارُهُمْ تُضِي ءُ فِي الْآفَاقِ، مِنَ السَّمَاوَاتِ والْحُجُبِ والْجِنَانِ وَالْكُرْسِيِّ والْعَرْشِ، فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ، تَعْظِيماً لَهُ أَنَّهُ قَدْ فَضَّلَهُ بِأَنْ جَعَلَهُ وعَاءً لِتِلْكَ الْأَشْبَاحِ، الَّتِي قَدْ عَمَّ أَنْوَارُهَا الْآفَاقَ. فَسَجَدُوا لِآدَمَ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَتَوَاضَع لِجَلَالِ عَظَمَةِ اللَّهِ، وأَنْ يَتَوَاضَع لِأَنْوَارِنَا أَهْلَ الْبَيْتِ، وَقَدْ تَوَاضَعَتْ لَهَا الْمَلَائِكَةُ كُلُّهَا واسْتَكْبَرَ، وتَرَفَّع وكانَ بِإبائِهِ ذَلِكَ وتَكَبُّرِهِ مِنَ الْكافِرِينَ»(2).وقال علي بْنُ الْحُسَيْنِ (عليهما السلام): حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) قال: «يَا عِبَادَ اللَّهِ إِنَّ آدَمَ لَمَّا رَأَى النُّورَ سَاطِعاً مِنْ صُلْبِهِ، إِذْ كَانَ اللَّهُ قَدْ نَقَلَ أَشْبَاحَنَا مِنْ ذِرْوَةِ الْعَرْشِ إلى ظَهْرِهِ، رَأَى النُّورَ، وَلَمْ يَتَبَيَّنِ

ص: 59


1- سورة البقرة: 30.
2- راجع التفسير الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): ص219 ح101.

الأَشْبَاحَ، فَقال: يَا رَبِّ مَا هَذِهِ الأنوار، قال: اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنْوَارُ أَشْبَاحٍ،نَقَلْتُهُمْ مِنْ أَشْرَفِ بِقَاع عَرْشِي إلى ظَهْرِكَ، وَلِذَلِكَ أَمَرْتُ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لَكَ، إِذْ كُنْتَ وِعَاءً لِتِلْكَ الأَشْبَاحِ»(1).

خطبة الزواج

مسألة: تستحب الخطبة في الزواج، وقد يستند إلى هذه الرواية أيضاً نظراً لخطبة راحيل الملك للصديقة (عليها السلام) في السماء كما ذكرته.

توزيع المسؤوليات

مسألة: توزيع المسؤوليات وتنوع الأدوار، مما يدل عليه العقل والنقل، وهي سنة الله في خلقه، وذلك مشهود في الملائكة أيضاً.والروايات الدالة على تنوع مسؤوليات ومهام الملائكة كثيرة، ومنها ما ورد عن الصديقة (عليها السلام)، إذ اتضح من كلامها (صلوات الله عليها) أن (راحيل) وقعت عليه مهمة (الخطبة)، وأن ملائكة آخرين وقعت عليهم مسؤولية (الخدمة)، وهكذا.

شجاعة عرض الحقائق

مسألة: تستحب الشجاعة في عرض الحقائق الغيبية وبيانها للناس، وقد تجب، ومن تلك الحقائق أن الملائكة خدمة للصديقة الزهراء (عليها السلام) والعترة

ص: 60


1- راجع التفسير الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): ص219 ح101.

الطاهرة (عليهم السلام) جيلاً بعد جيل.

والمراد ب (جيلاً بعد جيل) إما في زمن حياتها الدنيوية، أو المراد بذلك خدمتهم لها في العوالم السابقة، حيث كانت (عليها السلام) من الأنوار المحدقة بعرش الرحمن(1).

مولد الإمام

مسألة: يستحب بيان أن أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) ولد في المحل البعيد المرتقى، أي الكعبة المشرفة به (عليهالصلاة والسلام).

فإن ولادته (عليه الصلاة والسلام) في الكعبة دليل على عظمته، وإن كانت الكعبة هي التي تشرفت به.

لا يقال: فلماذا لم يولد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو أعظم من علي (عليه الصلاة والسلام) في الكعبة؟

لأنه يقال: ذلك لأن الرسول (صلى الله عليه وآله) لم يكن موضع النزاع بين المسلمين، بخلاف الوصي (عليه الصلاة والسلام)، فكان مولده إرهاصاً لعظمته، كما قالوا مثل ذلك في مريم وفاطمة (عليهما الصلاة والسلام) حيث ورد اسم مريم في القرآن الحكيم دون اسم فاطمة (عليها السلام)، لأن مريم (عليها السلام) اتهمت من قبل اليهود بما هي بعيدة عنها كل البعد, وبالبهتان العظيم كما قال سبحانه: «وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظيماً»(2) بخلاف الصديقة فاطمة (عليها الصلاة

ص: 61


1- ويحتمل أيضاً أنهم خدمة لذريتها جيلاً بعد جيل، لأن (المرء يحفظ في ولده).
2- سورة النساء: 156.

والسلام) حيث كانت مسلّمة النزاهة والطهارة والقدسية عند الجميع، فلم تحتج إلى الذكر، إلى غير ذلك مما ذكر في محله.

ومن هنا يعرف بعض الحكمة في تصديها لغاصبي الخلافة، فإن الأمة كانت بأجمعها معترفة بفضلها ومكانتها،ولذلك تمكنت من سلب الشرعية عن ابن أبي قحافة وابن الخطاب إلى يوم القيامة.

الزواج في الرفيع الأعلى

مسألة: يستحب عند بيان الحقائق مثل: إن الصديقة فاطمة (عليها السلام) زُوّجت في الرفيع الأعلى، التطرّق لحكمة ذلك، وفائدته وثمرته، وذلك لما سبق من أن بيان أمثال هذه الفضائل يوجب الالتفاف الأكثر فالأكثر مما يفيد دين الناس ودنياهم.

مضافاً إلى أنه بيان لشرعيتهم دون من سواهم.

ولا يبعد أن يكون الزواج قد حدث في الرفيع الأعلى بحضور الزوجين النورين النيرين، لا بمجرد إجراء العقد لهما هناك، ولا صرف إرادة المجاز من ذلك؛ فإن حضورهما غير ممتنع ولا ببعيد ولا بمستغرب، بل نظائره مقرِّبة لذلك، كما أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) اُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ثم عُرج به روحاً وجسماً إلى السماء.

ثم الظاهر أن الزواج في الملأ الأعلى ذو آثار تكوينية وضعية لا يعلمها إلا الله والراسخون في العلم، إضافة إلى أنه تشريف ما فوقه تشريف،وكرامة لا تعدلها كرامة.

ص: 62

أقرب الناس لرسول الله

اشارة

عن فاطمة الزهراء (عليها السلام)، عن أم سلمة، قالت: والذي أحلف به إن علياً (عليه السلام) كان أقرب الناس عهداً برسول الله (صلى الله عليه وآله)، عدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم قبض، فجعل (صلى الله عليه وآله) غداة بعد غداة يقول: جاء عليّ؟ مراراً، وأظنه كان بعثه في حاجة، فجاء بعد، فظننا أنه له إليه حاجة، فخرجنا من البيت، فقعدنا بالباب، فأكبّ عليه علي (عليه السلام) فجعل (صلى الله عليه وآله) يساره ويناجيه، ثم قبض من يومه ذلك، فكان أقرب الناس به عهداً.

-------------------------------------------

الحلف بالموصول

مسألة: يجوز الحلف بالموصول وما أشبه، مراداً بها الله سبحانه وتعالى، أو مطلق ما جاز الحلف به، كما قالت أم سلمة، وقررتها الصديقة فاطمة (عليها السلام).

المسارة والمناجاة

مسألة: تجوز المسارة والمناجاة في الجملة، بعنوانها الأولي، وقد تجب من باب المقدمية.

ص: 63

وربما كرهت المناجاة إذا حزن الآخرون، ولم تكن واجبة.

وربما حرمت المناجاة، كالمناجاة بالمعصية، قال سبحانه: «فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ»(1).

وقال سبحانه: «إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً»(2).

وحتى اللحظات الأخيرة

مسألة: يستحب العمل حتى آخر لحظات الحياة، بل قد يجب، كما في مطلق الكفائيات التي لم يقم بها من فيه الكفاية.

ويدل على الرجحان دليل التأسي، كما قد يظهر من قولها (عليها السلام): «وأظنه كان بعثه في حاجة» حيث يدل على تواصل الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) وهو في تلك اللحظات بما يرتبط بتبليغ الدين ونشر المعارف.

بل ويظهر ذلك من (فجعل يسارّه ويناجيه) حيث إن المناجاة في الأمور الخطيرة من أهم الأعمال، ومن البيّن أنه (صلوات الله عليه وآله) كان يودع علياً (عليه السلام) في مناجاته تلك ودائعالنبوة وأسرار الغيب.

ويدل على استحباب العمل الصالح حتى آخر اللحظات من عمر الإنسان، قوله سبحانه: «يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ»(3)

ص: 64


1- سورة المجادلة: 9.
2- سورة المجادلة: 10.
3- سورة الانشقاق: 6.

وملاقاته أي رؤية ثوابه وعقابه.

فما دام الإنسان كادحاً لربه، عليه أن يعمل بالطاعات دوماً وإلى آخر اللحظات، وبمختلف أنواعها، ليكون ثوابه أعظم.

ويدل عليه أيضاً ما يستحب من الذكر والدعاء وقراءة القرآن وما أشبه في السكرات، بالإضافة إلى العمومات والإطلاقات.

وأما قولها (عليها السلام): (أظنه كان بعثه في حاجة)، فقد يقال: إنه كان من الظن المعتبر، فقد ذكرنا في (الأصول) أن الظن العرفي حجة، إلا ما خرج بالدليل.

أما الأدلة التي تنهى عن الظن، كقوله تعالى: «وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ»(1)، فإنما هي في باب أصول الدين وما أشبه، وإلا فقد استعمل الظن في القرآن الحكيم في موارد غير مذمومة، قال سبحانه: «الَّذِينَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ»(2)، فالظن المذموم في القرآن الحكيم إنما هو في مقابل الدليل، وفي أصول الدين، وتفصيله موكول إلى الأصول.

وقد يقال: إن الظن ههنا بمعنى اليقين، إذ قد جاء الظن بمعنى العلم، كقوله تعالى: «وَاَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً»(3).

ص: 65


1- سورة يونس: 36.
2- سورة البقرة: 46.
3- سورة الجن: 12.

وقال سبحانه: «وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً»(1)، كما ذكرنا ذلك في التفسير(2)، وكما ذكره في مجمع البحرين(3) وغيره.

الأقرب المطلق

مسألة: يستحب بيان أن أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) كان أقرب الناس مطلقاً برسول الله (صلى الله عليه وآله).

وذلك يدفع توهم أن أولاد العباس كأولاد علي (عليه السلام)، أو أن العباسكان أقرب إلى النبي (صلى الله عليه وآله) من عليّ (عليه السلام)، كما كان العباسيون يدّعون ذلك.

التكرار المفيد

مسألة: يستحب التكرار إذا كان لأمر مهم أو فيه الفائدة، سواء في الإخبار أو الإنشاء.

وذلك كتكرار السؤال في هذا الحديث، حيث قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) مراراً: «جاء علي»؟، وكما تكرر أنه (عليه السلام): «أقرب الناس به عهداً».

ص: 66


1- سورة الكهف: 53.
2- راجع (تبيين القرآن) في تفسير تلك الآيات.
3- مجمع البحرين: ج 6 ص279 مادة (ظن).

وقد قال القرآن الحكيم مكرراً: «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبان»(1).

وكما قال سبحانه مكرراً: «فَهَلْ مِنْ مُدَّكِر»(2).

نساء النبي المؤمنات

مسألة: يلزم إحياء ذكر المؤمنات من نساء النبي (صلى الله عليه وآله) كالسيدةخديجة الكبرى وأم سلمة، بمناسبات شتى، لما فيه من الموضوعية والطريقية أيضاً، فإن إحياء أمرهن يسحب البساط بنفس القدر عن اللاتي صغت قلوبهن وآذين رسول الله (صلى الله عليه وآله).

ومن الغريب ما نجده من إحياء أولئك القوم ذكر تلك النسوة رغم إيذائهن لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وحرب بعضهن مع وصيه (صلوات الله عليها)، وإهمالهم ذكر أمثال السيدة خديجة وأم سلمة.

ص: 67


1- سورة الرحمن، وقد تكررت هذه الآية 32 مرة.
2- سورة القمر، وقد تكررت هذه الآية ست مرات.

شجار الملائكة واختيارهم حكماً

اشارة

عن عبد الله بن مسعود،قال: أتيت فاطمة (صلوات الله عليها) فقلت لها: أين بعلك؟ فقالت: إن نفراً من الملائكة تشاجروا في شيء فسألوا حكماً من الآدميين. فأوحى الله تعالى إليهم أن تخيّروا، فاختاروا علي بن أبي طالب (عليه السلام).

-------------------------------------------

الملائكة وشبه الاختصام

أقول: لا عجب من اختصام الملائكة أو شبهه بما لا يكون معصية، ففي القرآن الحكيم: «مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالمَلَإِ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ»(1).

حيث اختصم الملائكة في أمر آدم (عليه السلام) وتكلموا مع الله، كما هو مبين في آيات أخرى، والملأ الأعلى أي الملائكة(2).

فإن ظاهر الاختصام هي الخصومة لا المحاورة فقط.

نعم لا شك أنهم لا يختصمون بالباطل، لأنه لا باطل هناك إلاّ نادراً، كما في قصة فطرس أو هاروت وماروت، وأمثال ذلك فإنه كان من باب الاستثناء لأجلتنبيه الملائكة وغيرهم أن عصمتهم من الله سبحانه، وإلاّ فإذا وكلهم إلى

ص: 68


1- سورة ص: 80.
2- انظر تفسير (تبيين القرآن) للإمام الشيرازي (قدس سره) سورة ص.

أنفسهم أخطؤوا الطريق.

وكذلك يفسر ما ورد من عُجب ذلك الملك الذي خلق السماوات بأمر الله سبحانه وتعالى، فسلط الله عليه ناراً ألجأته إلى التوبة.

عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ فَوَّضَ الْأَمْرَ إلى مَلَكٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَخَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وسَبْعَ أَرَضِينَ، فَلَمَّا رَأَى أَنَّ الْأَشْيَاءَ قَدِ انْقَادَتْ لَهُ قَالَ: مَنْ مِثْلِي، فَأَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِ نُوَيْرَةً مِنَ النَّارِ، قُلْتُ: ومَا النُّوَيْرَةُ، قَالَ: نَارٌ مِثْلُ الْأَنْمُلَةِ، فَاسْتَقْبَلَهَا بِجَمِيعِ مَا خَلَقَ فَتَخَبَّلَ لِذَلِكَ حَتَّى وَصَلَتْ إلى نَفْسِهِ لَمَّا أَنْ دَخَلَهُ الْعُجْبُ»(1).

نعم قد يفسر (التخاصم) في الآية الشريفة و(التشاجر) في قولها (صلوات الله عليها) ب (التحاور) و(المحاورة)، وقد يكون المراد من التشاجر: الصوري منه لغرض أهم، كإرادة تعليم الناس وتعريفهم على بعض المجهولات لديهم عن طريق مثل هذا الحوار.

المعصوم أفضل من الملائكة

مسألة: يلزم الاعتقاد بأن المعصوم (عليه السلام) أفضل من الملائكة.

كما دل على ذلك متواتر الروايات والإجماع، أما العقل فلا يستطيع أن يستكشف مباشرة ودون معونة الروايات مثل هذه الحقائق، نعم الكتاب والسنة والإجماع والعقل كلها تدل على قاعدة: تفضيل الله سبحانه وتعالى بعض الأشياء على بعض حتى بالنسبة إلى الرسل، كما قال سبحانه: «تِلْكَ الرُّسُلُ

ص: 69


1- المحاسن: ج1 ص123 ح139.

فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ»(1).

وهكذا في تفضيل بني آدم بعضهم على بعض، لاختلاف القابليات وما أشبه، على ما ذكر في علم الكلام.

وهذا الحديث دال على أفضلية المعصوم (عليه السلام) من الملائكة، لأن الحَكَم يكون عادة أفضل من المتحاكمين(2)، مضافاً إلى ما ورد من فضل بني آدم على الملائكة بشكل عام، ومن فضلهم (عليهم السلام) على سائر الخلقبشكل خاص.

ثم إنه ربما يستفاد من تشاجر نفر من الملائكة ما يلي:

- الملائكة قادرة على إظهار المنويات وما تقصد.

- هناك لغة بالمعنى الأعم للملائكة.

- الملائكة قادرة على فهم الرموز والإشارات والمظهرات والعلامات في حدود لغة أو الأكثر في بعضهم.

- بعض الملائكة قد يرى ما لا يراه البعض الآخر منها.

- بعض الملائكة قد يعلم ما لا يعلمه البعض الآخر منها.

- الملائكة قد تتخالف في أمر.

ص: 70


1- سورة البقرة: 253.
2- أي مطلقاً، أو من حيث كونه حكماً وفي جهة حَكَمِيته على أقل الفروض، نعم هناك استثناءات من هذه القاعدة ربما لاتمام الحجة وما أشبه، فيتحاكم إلى المفضول، كما ورد في احتكام علي والعباس إلى عمر بشأن الإرث، انظر صحيح البخاري: ج4 ص43، وصحيح مسلم: كتاب الجهاد والسير.

- يحق للملائكة التخالف في أمر.

- الملائكة قد تتخذ مواقف.

- للملائكة تأثير في الجملة على عدد من مواقفها.

- قد ينتهي التخالف بينهم إلى التشاجر.

- يحتمل أن المراد من: (التشاجر) هنا هو التشاجر اللفظي لحكمةٍ ما.

- بعض الملائكة قد يخطئ، إذا رفع الله عنه العصمة، فيظن أن الحق معه.

- بعض الملائكة قد يقول غير ما يطابق الواقع، عند ما ترفع العصمةعنه.

- عصمة الملائكة بقول مطلق يمكن أن ترتفع إذا شاء الله ذلك.

- العقل بلا شهوة أيضاً قد يؤدي إلى التنازع.

- قد يكون الإنسان عند الملائكة، كالملائكة عند الإنسان، ولذا سألوا حكماً من الآدميين.

فإن الملائكة وإن كانوا «لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ»(1)، إلا فيما استثني كما تقدم، إلا أن ذلك لا ينافي تشاجرهم، ولا ينفي ما ذكر من البنود المستفادة من هذا الحديث.

أما حقيقة الملائكة وخصوصياتهم النفسية والجسمية(2) والعقلية والعاطفية وما أشبه فهي مخفية عنا، كيف ونحن لا نعرف حتى أنفسنا في خصوصياتها، وإنما نعرف شيئاً بسيطاً جداً عن أنفسنا، مع أنا نعاشر أنفسنا ستين سنة أو سبعين أو

ص: 71


1- سورة التحريم: 6.
2- إذ إن لهم أجساماً لطيفة.

مائة أو أكثر أو أقل، وذلك على الرغم من هذا التطور العلمي، وتلك الوسائل الحديثة الدقيقة.

ولذا كتب أحد علماء الغرب كتاباًاسمه: (الإنسان ذلك المجهول)(1)، بل نحن لا نعرف حتى أمثال النملة من صنوف الحيوان رغم ضئالة حجمها وكثرة مشاهدتنا لها، وكذلك سائر مخلوقات الله سبحانه وتعالى من الجماد والنبات والسيّال والجامد وغيرها، نعم ما يعرفه البشر هو شيء بسيط جداً من بعض هذا الأمور، فتكون نسبة علمنا إلى جهلنا بالحقائق كقطرة في بحر لجيّ بل أقل.

وقصة النبي موسى (عليه الصلاة والسلام) مع ذلك الطير الذي أخذ قطرات من ماء بحر ورمى بها نحو اليمين والشمال والخلف والأمام، تؤيد هذه الحقيقة حتى بالنسبة إلى بعض الأنبياء (عليهم السلام)، إلا من استثني منهم كرسول الإسلام محمد (صلى الله عليه وآله) والأئمة الطاهرين (عليهم السلام) والصديقة الزهراء (عليها الصلاة والسلام) فإنهم أعلم الخلق، والله عزوجل منحهم العلم اللدني بما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة.

روي أنه لَمَّا وَقَعَتِ الْمُشَاجَرَةُ بَيْنَ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ والْخَضِرِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْكَهْفِ فِي قِصَّةِ السَّفِينَةِ والْغُلام والْجِدَارِ. ورَجَعَ إلى قَوْمِهِ فَسَأَلَهُ أَخُوهُ هَارُونُ عَمَّا اسْتَعْلَمَهُ عَنِ الْخَضِرِ عَلَيْهِالسَّلامُ.

فَقَالَ: عِلْمٌ لَا يَضُرُّ حَمْلُهُ، ولَكِنْ كَانَ مَا هُوأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ.

قَالَ: ومَا هُوأَعْجَبُ؟

قَالَ: فَبَيْنَمَا نَحْنُ عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ وُقُوفٌ وإِذَا قَدْ أَقْبَلَ طَائِرٌ عَلَى هَيْئَةِ

ص: 72


1- للكاتب الفرنسي الكسي كاريل.

الْخُطَّافِ، فَنَزَلَ عَلَى الْبَحْرِ، وأَخَذَ بِمِنْقَارِهِ فَرَمَى بِهِ إلى الشَّرْقِ ثُمَّ أَخَذَ ثَانِيَةً فَرَمَى بِهَا إلى الْغَرْبِ، ثُمَّ أَخَذَ ثَالِثَةً فَرَمَى بِهَا إلى الشَّمَالِ ثُمَّ أَخَذَ رَابِعَةً فَرَمَى بِهَا إلى الْجَنُوبِ ثُمَّ أَخَذَ خَامِسَةً فَرَمَى بِهَا إلى السَّمَاءِ ثُمَّ أَخَذَ سَادِسَةً ورَمَى بِهَا إلى الْأَرْضِ، ثُمَّ أَخَذَ مَرَّةً أُخْرَى فَرَمَى بِهَا إلى الْبَحْرِ.

وجَعَلَ يُرَفْرِفُ وطَارَ، فَبَقِينَا (مَبْهُوتِينَ) لَا نَعْلَمُ مَا أَرَادَ الطَّائِرُ بِفِعْلِهِ فَبَيْنَمَا نَحْنُ كَذَلِكَ، إِذْ بَعَثَ اللَّهُ مَلَكاً فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ، فَقَالَ: مَا لِي أَرَاكُمْ مَبْهُوتِينَ.

قُلْنَا: فِيمَا أَرَادَ الطَّائِرُ بِفِعْلِهِ، قَالَ: مَا تَعْلَمَانِ مَا أَرَادَ؟ قُلْنَا: اللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ: إِنَّهُ يَقُولُ: وحَقِ مَنْ شَرَّقَ الْمَشْرِقَ، وغَرَّبَ الْمَغْرِبَ، ورَفَعَ السَّمَاءَ، ودَحَى الْأَرْضَ.

لَيَبْعَثَنَّ اللَّهُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ نَبِيّاً اسْمُهُ مُحَمَّدٌ (صلى الله عليه وآله).

ولَهُ وَصِيٌّ اسْمُهُ عَلِيٌّ (عليه السلام)وعِلْمُكُمَا جَمِيعاً فِي عِلْمِهِ، مِثْلُ هَذِهِ الْقَطْرَةِ فِي هَذَا الْبَحْرِ(1).

وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ: «لَمَّا لَقِيَ مُوسَى الْعَالِمَ كَلَّمَهُ وسَاءَلَهُ نَظَرَ إلى خُطَّافٍ يَصْفِرُ ويَرْتَفِعُ فِي السَّمَاءِ ويَتَسَفَّلُ فِي الْبَحْرِ، فَقَالَ الْعَالِمُ لِمُوسَى: أَتَدْرِي مَا يَقُولُ هَذَا الْخُطَّافُ؟ قَالَ: ومَا يَقُولُ؟ قَالَ: يَقُولُ: ورَبِّ السَّمَاءِ ورَبِّ الْأَرْضِ مَا عِلْمُكُمَا فِي عِلْمِ رَبِّكُمَا إِلَّا مِثْلَ مَا أَخَذْتُ بِمِنْقَارِي مِنْ هَذَا الْبَحْرِ قَالَ: فَقَالَ أَبُوجَعْفَرٍ عليه السلام: أَمَا لَوكُنْتُ عِنْدَهُمَا لَسَأَلْتُهُمَا عَنْ مَسْأَلَةٍ لَا يَكُونُ عِنْدَهُمَا فِيهَا عِلْمٌ»(2).

ص: 73


1- الروضة في فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليهما السلام)، لابن شاذان القمي: ص153.
2- بصائر الدرجات: ج 1 ص30 ح2.

وورد أنه: أقبل طائر «روي» انّه الجندب وأنّه أصغر من العصفور وأنّه الخطاف، حتى وقع بالبحر فأخذ بمنقاره من ماء البحر فقال العالم لموسى (عليه السلام): هل رأيت الطائر وما صنع؟

قال: نعم.

قال له: ما علمي وعلمك في علم محمّد وآل محمّد (عليهم السلام) إلّا بمقدار ما أخذه هذا الطائر بمنقاره من البحر فهل تراه نقص من ماء البحر بما أخذهبمنقاره (1).

وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (صلوات الله عليه) قَالَ: لَمَّا لَقِيَ مُوسَى الْعَالِمَ (عليه السلام) وكَلَّمَهُ وسَأَلَهُ نَظَرَ إلى خُطَّافٍ يَصْفِرُ ويَرْتَفِعُ فِي الْمَاءِ ويَسْفُلُ فِي الْبَحْرِ، فَقَالَ الْعَالِمُ لِمُوسَى: أَتَدْرِي مَا تَقُولُ هَذِهِ الْخُطَّافَةُ؟ قَالَ: ومَا تَقُولُ؟ قَالَ: تَقُولُ: ورَبَّ السَّمَاوَاتِ والْأَرْضِ ورَبَّ الْبَحْرِ مَا عِلْمُكُمَا مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا قَدْرُ مَا أَخَذْتُ بِمِنْقَارِي مِنْ هَذَا الْبَحْرِ وأَكْثَرُ، ولَمَّا فَارَقَهُ مُوسَى قَالَ لَهُ مُوسَى: أَوْصِنِي، فَقَالَ الْخَضِرُ: الْزَمْ مَا لا يَضُرُّكَ مَعَهُ شَيْ ءٌ كَمَا لا يَنْفَعُكَ مِنْ غَيْرِهِ شَيْ ءٌ وإِيَّاكَ واللَّجَاجَةَ والْمَشْيَ إلى غَيْرِ حَاجَةٍ والضَّحِكَ فِي غَيْرِ تَعَجُّبٍ يَا ابْنَ عِمْرَانَ لا تُعَيِّرَنَّ أَحَداً بِخَطِيئَةٍ وابْكِ عَلَى خَطِيئَتِك»(2).

ثم إننا لا نعرف أيضاً قدر علمهم (عليهم السلام) وخصوصياته، إنما الموجود لدينا هو إشارات إلى سعة علمهم، وقد قال علي (عليه الصلاة والسلام): «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) عَلَّمَنِي أَلْفَ بَابٍ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَمِمَّا كَانَ وَمَا هُوَ

ص: 74


1- إثبات الوصية: ص62.
2- قصص الأنبياء عليهم السلام (للراوندي): ص157.

كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، كُلُّ بَابٍ مِنْهَا يَفْتَحُ أَلْفَ أَلْفِ بَابٍ حَتَّى عَلِمْتُ عِلْمَالْمَنَايَا وَالْبَلَايَا وَفَصْلَ الْخِطَابِ»(1)، كما في حديث رواه المجلسي (رضوان الله عليه)، يعني: ألف مليون باب من العلم، ومن المعلوم أن الباب معناه ما يشمل جزئيات كثيرة، وربما يكون المراد به علماً معيناً، كعلم الطب وعلم الفلك وعلم الهندسة، فإن كلها أبواب من العلم.

حل المشاجرات

مسألة: ينبغي حل المشاجرات والنزاعات بمختلف أنواعها وفي مختلف العوالم، ولذا نلاخظ أن الصديقة الزهراء (عليها السلام) تصرّح بأن الملائكة طلبت حَكَماً، فإن تشاجُر الملائكة أيضاً يحتاج إلى حل.

لأن الحق لا يعدو إما هذا الجانب أو ذلك الجانب، فيما إذا كان هناك تضايف أو تضاد أو تناقض أو عدم وملكة أو ما أشبه ذلك، من غير فرق بين أن يكن التشاجر على أصل من الأصول أو فرع من الفروع أو بعض شؤون الأصول أو بعض شؤون الفروع أو ما أشبه.

مرجعية الكفاءات

مسألة: ينبغي الرجوع لأهل الخبرة والكفاءة فيما يحتاج إلى خبرة وكفاءة، بل ينبغي تخيّر الأفضل والأكفأ كما صنعت الملائكة.

عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) فِي كِتَابِهِ إِلَى مَالِكٍ الْأَشْتَرِ: «اخْتَرْ لِلْحُكْمِ

ص: 75


1- بحار الأنوار: ج22 ص461 ب1 ح10.

بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ، مِمَّنْ لَا تَضِيقُ بِهِ الْأُمُورُ» إلى أن قال: «أَوْقَفَهُمْ فِي الشُّبُهَاتِ، وَآخَذَهُمْ بِالْحُجَجِ، وَأَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً بِمُرَاجَعَةِ الْخَصْمِ، وَأَصْبَرَهُمْ عَلَى تَكَشُّفِ الْأُمُورِ، وَأَصْرَمَهُمْ عِنْدَ اتِّضَاحِ الْحُكْم»(1).

عالم الملائكة

وربما يستفاد من هذا الحديث أيضاً، أو مع ضميمة غيره إليه أمور منها(2):

- معرفة الملائكة أن التشاجر بينها يحتاج إلى حَكَمٍ وحلّ وفصل وبتّ.

- متعلق التشاجر له عرض عريض، بلقد يُفرض مختلف الأشياء مما يتعلق بالعقل النظري أو العقل العملي.

- الملائكة أيضاً قد لا يقتنع بعضها بحُجج البعض الآخر، وذلك لاختلاف القابليات وتفاوت المستويات وغير ذلك.

- يحق للملائكة أن تختار حَكَماً من غير صنفها، كما يحق لنا ذلك لو أمكن، لو تراضى الطرفان بذلك مع سائر الشرائط.

- قد يقف بعض الملائكة عن العمل بسبب التشاجر(3)، فتأمل(4).

ص: 76


1- نهج البلاغة: ص434 كتاب53 كتاب له (عليه السلام) كتبه للأشتر النخعي (رحمه الله) لما ولاه على مصر.
2- علماً بأن بعض ما سيذكر على سبيل الاحتمال فقط وبعضه قد يتأمل فيه، كما سيأتي في المتن فلاحظ. س مرتضى.
3- بضميمة قوله تعالى: (يسبحون الليل والنهار لا يفترون) إلى هذه الرواية.
4- إذ لعله لا مانعة جمع بين الأمرين فيهم.

- من الممكن أن يكون الحَكَم من الملائكة كإمكان أن يكون منّا.

- الملائكة تفهم لغة الإنسان وتدرك حكمه في الجملة.

- نفوذ حكم الإنسان في الملائكة إذا رضيت به حَكَماً أو مطلقاً إذا كان الحَكَم مثل أمير المؤمنين (صلوات الله عليه).

- الملائكة أيضاً قد ينكشف لأنفسها خطأها إذا أمكن الخطأ في حقهم على ما تقدم.

- ينبغي للمرء أن يعيد النظر فيمعلوماته وقناعاته بين فترى وأخرى، لو لم يزاحم بالأهم في المهم منها على الأقل، إذ قد ينكشف بطلان مجموعة منها.

- يندم بعض الملائكة على ما قاله أو فعله عندما يتبين له خطؤه، وهذا الندم مما يحبّذ إليه فإنه نوع عقوبة كما أنه يحفز على التكامل.

- تستغفر الملائكة أيضاً، ولاستغفارها وتوبتها درجات.

- قد تفرح الملائكة فيما إذا حكم لها.

- قد تعظم الملائكة المحكوم عليها، الملائكة المحكوم لها، فيما بعد.

- بعض الملائكة قد يطَّلع إلى الأرض، فيعرف الأعلم الأعدل.

- الفحص عن الأعلم الأعدل راجح وقد يكون واجب.

- الملائكة لها إرادة، وحرية، واختيار(1)، وليست كالجمادات أو كالآلة كما قد يتصور البعض.

- قد تستحي الملائكة من بعض أفعالها، كالتشاجر مثلاً، أو من بعض

ص: 77


1- وذلك في بعضها مسلّم وفي بعضها في الجملة.

أقوالها كقولها: «وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَليفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فيها مَنْ يُفْسِدُ فيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ وَ نَحْنُنُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ»(1).

- يوجد في الملائكة من هو أقل حلماً ومن هو أكثر حلماً.

- بعض الملائكة أعقل من بعض.

- بعض الملائكة أعلم من بعض.

- بعض الملائكة أقوى حجة من بعض، وكل ذلك ونظائره من جمال الخليقة، فإن الجمال في التنوع، ولاقتضاء الماهيات بلسان حالها خلقها.

- للملائكة أيضاً طلب ورجاء، وإلا لما طلبوا من علي (عليه السلام) ليحكم بينهم فيفصل النزاع، وقد يجاب طلبهم كما ذكرته الصديقة (عليها السلام) في الرواية، وقد لا يجاب، وقد تتأخر الإجابة كما في قضية فطرس.

- حوار الملائكة وتشاجر الملائكة قد يطول وقد يقصر.

- قد تعلم الملائكة أن تشاجرها سينتهي بالآخرة بواسطة الحكم أو غيره، وهي راغبة في ذلك طالبة له.

- الملائكة تفكر أيضاً ولو في الجملة.

- الملائكة متعاونة ومرتبطة بعضها مع بعض إجمالاً.- قد تتردد الملائكة في شيء أو أشياء، نظراً لعدم وضوح الرؤية لديهم، كما في قضية النبي آدم (عليه السلام) وكما في هذه القضية في هذه الرواية.

ص: 78


1- سورة البقرة: 30.

- ربما يكون للملائكة شك وظن ووهم أيضاً، ويكون لهذين(1) فيها مراتب.

- لعل العلم في الملائكة أيضاً ينقسم إلى ضروري ونظري.

- يمكن أن يتنازل بعض الملائكة عن مطلبه قبل التحاكم.

- قد لا يفهم بعض الملائكة كلام أو برهان بعضها الآخر.

- قد لا يتقن بعض الملائكة إقامة حجته أمام البعض الآخر.

- الملائكة لها قدرة التميز بين الخير والشر، وبين الحسن والقبيح، وبين الحسن والأحسن، والكامل والأكمل، وبين القبيح والأقبح.

- الملائكة قد تُعلِّم بعضها بعضاً، فترة طويلة أو في قضية منفردة.

- الملائكة قد تخبر بعضها بعضاً بأمر أو أمور عن عوالمهم أو عن العوالم الأخرى.

- الملائكة قد يكتم بعضها عن بعضما تعلمه لحكمةٍ ما، أو لكونها مأمورة بالكتمان.

- الملائكة قد تغضب بعضها على بعض، فتأمل.

- قد يكون بين الملائكة حوار أحياناً، بل ويحتمل كون ذلك حالة عامة، في بعضهم على الأقل وقد وصلت إلينا نُتف فقط.

- بعض الملائكة قد يستشكل على بعض، والحق قد يكون مع المستشكِل، وقد يكون مع المستشكل عليه.

ص: 79


1- أي الظن والوهم.

- قد تسأل الملائكة بعضها من بعض.

- قد يساعد بعض الملائكة بعضاً على بعض آخر، حسب اختلاف قناعاتهم، لكن الظاهر أن ذلك وما أشبهه مما سبق وسيأتي كله في درجة أعلى وأسمى من منازعات البشر(1).

- قد يكون في الملائكة من يراعي ما ينبغي، أكثر من مراعاة الآخر.

- قد تتفاوت درجات إخلاص الملائكة.

- قد تطلع الملائكة الأخرى على وجود تحاور بين بعضها والبعض الآخر، وقد لا تطّلع كلاً أو بعضاً.

- قد تستحي بعض الملائكة من وقوعتشاجر بين فريق آخر من الملائكة.

- قد يكون التحاور بين أعداد كبيرة من الملائكة.

- الملائكة تطلب الحق وتكره الباطل.

- قد يتوسط بعض الملائكة في سبيل حل التشاجر.

- قد يستمع بعض الملائكة إلى ما يدور بين المتحاورين منها.

- تختلف الملائكة من حيث كثرة الحوار أو التشاجر وقلته أو عدمه ومن حيث قسوته وخفته.

- يمكن أن تسبّح الملائكة في حين التشاجر.

- قد يكون التشاجر سبباً لتنمية الملائكة، وقد يكون تنقيصاً لها، أو بالاختلاف.

وكل ذلك وما سبقه إذا كان بإذن الله تعالى، كما أن بعض ما سبق إنما هو

ص: 80


1- أي أن تشاجرهم وتحاورهم أكثر (حضارية) مما يقوم به البشر.

على سبيل الاحتمال، وقد يتأمل في بعضها، فتأمل جيداً.

كما أن هناك أدلة أخر تؤيد بعض هذه الأمور، مثل سؤال الملائكة عن الله في قصة آدم (عليه السلام):

«وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَليفَةً قالُوا أَ تَجْعَلُ فيها مَنْ يُفْسِدُ فيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُون* وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُوني بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقينَ * قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَناإِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَليمُ الحَكيمُ * قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ»(1).

وقوله سبحانه: «إِذْ يَخْتَصِمُونَ»(2).

وآيات أخر مربوطة بالملائكة، وقصة ليلة المبيت حيث اختار كلا الملكين العمر الأطول لنفسه، وقصة فطرس، وقصة دردائيل، إلى غيرها مما يرتبط بالملائكة.

وقد جمع السبزواري في (ملائكته) جملة من الأمور، كما كتب بعض العلماء كتباً حول الملائكة، وذكروا فيها ما يستفاد من الآيات والروايات حولها(3).

ص: 81


1- سورة البقرة: 30-33.
2- سورة ص: 69.
3- للتفصيل انظر: كتاب الوافي: ج 26 ص504 باب الملائكة وصنوفها، وبحار الأنوار: ج 56 ص144 باب23 حقيقة الملائكة وصفاتهم وشئونهم وأطوارهم.

وقد أشرنا إلى أنه ربما كان التشاجر بين الملائكة صورياً لأجل بيان فضل أمير المؤمنين (عليه السلام) للبشر ولسكان تلك العوالم، حيث كان التشاجر مقدمة لطلبهم الحَكَم من الله تعالى ثم إعطاء الله تعالى لهم صلاحية الانتخاب ثم انتخابهم علياً (عليه سلام الله).

الحكم العدل

مسألة: ينبغي انتخاب حَكمٍ عالمٍ عادل، كما اختارت الملائكة علياً (عليه السلام).

ثم إنه كلما كانت درجة العدالة والعلم أعلى كان الملاك أقوى، وكان طلبه أفضل.

المعروف بعدله عند الملائكة

مسألة: يستحب بيان أن أمير المؤمنين (عليه السلام) معروف بعدله في القضاء حتى بين الملائكة وغيرهم.

ثم إنه ينبغي أن لا يستحيي الإنسان من قول الحق، ومن ذكر فضائل أهل البيت (عليهم السلام) وإن أثار استغراب بعض الناس.

قبول الحكمية

مسألة: يستحب قبول الحكومة بين المتشاجرين إذا طلبا من الإنسان أن يحكم بينهما، كما تقبَّل ذلك عليّ أمير المؤمنين (عليه السلام).

ص: 82

هذا إذا وجد الشخص من نفسه الكفاءة لذلك، والقدرة على الحكم بالحق، وفقاً للشروط الشرعية المقررة في باب القضاء، أو الحكم بالإصلاحكذلك.

ومن الواجب الكفائي أن يُعدّ جمع أنفسهم لحل مثل هذه الشجارات والنزاعات.

من حق المتشاجرين

مسألة: يستحب تخيير المتشاجرين في تعيين الحَكَم كما خير الله الملائكة.

والمستفاد منه ومن غيره حق الإنسان في الرجوع إلى أي قاض شرعي في منازعاته، فإن ذلك أقرب إلى الكرامة الإنسانية، حيث إن إعطاء الاختيار بيد الشخص تكريم له، وكذلك الحال في مثل صلاة الجماعة ومرجع التقليد وما أشبه ذلك، بعد فرض كون أولئك كلهم متساوين في أصل الحجية وجواز الرجوع إليهم.

هذا فيما لو اتفق المدعي والمدعى عليه على القاضي، وأما لو اختلفا بأن أراد المدعي الرجوع إلى قاض، وأراد المدعى عليه الرجوع إلى آخر، فتفصيله في باب القضاء.

استحباب اختيار الأفضل

مسألة: يستحب اختيار الأفضل في كل شيء من المتزاحمات المعنوية وشبهها، وخاصة بالنسبة للحَكَم في الخصومةوالتشاجر.

ص: 83

وفي القرآن الحكيم ورد مكرراً مثل قوله تعالى: «وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصيلاً لِكُلِّ شَيْ ءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها»(1).

وقال سبحانه: «الَّذينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذينَ هَداهُمُ اللهُ وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ»(2).

وقال تعالى: «أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ»(3).

وقال سبحانه: «وَ هُوَ الَّذي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ في سِتَّةِ أَيَّامٍ وَ كانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً»(4).

وقال تعالى: «ادْعُ إِلى سَبيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ المَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ»(5).

وقال سبحانه: «وَ قُلْ لِعِبادي يَقُولُوا الَّتي هِيَ أَحْسَنُ»(6).

وقال تعالى: «إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ

ص: 84


1- سورة الأعراف: 145.
2- سورة الزمر: 18.
3- سورة المائدة: 50.
4- سورة هود: 7.
5- سورة النحل: 125.
6- سورة الإسراء: 53.

عَمَلاً»(1).وقال سبحانه: «ادْفَعْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ»(2).

وقال تعالى: «وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ»(3).

وقال سبحانه: «وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ»(4).

وقال تعالى: «ادْفَعْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ»(5).

وقال سبحانه: «الَّذي خَلَقَ المَوْتَ وَ الحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزيزُ الْغَفُورُ»(6).

أما المتزاحمات المادية ففيها تفصيل مذكور في محله.

الحَكَم في التشاجر

مسألة: يستحب طلب الحَكَم عند التشاجر لإنهاء النزاع، كما سألت الملائكة ذلك من الله تعالى.

فإن في استمرار النزاع أضراراً كثيرة دنيوية، وعواقب وخيمة أخروية، وفي كثير من الأحيان يفتح باب الغيبة والتهمة والتدابر وغيرها من المعاصيوالمساوئ.

ص: 85


1- سورة الكهف: 7.
2- سورة المؤمنون: 96.
3- سورة العنكبوت: 46.
4- سورة الزمر: 55.
5- سورة المؤمنون: 96.
6- سورة الملك: 2.

ولا فرق في ذلك بين أنواع المتشاجرين، فكما يستحب للشخصين المتنازعين طلب الحَكَم، كذلك يستحب للجهتين المتنازعتين، كشركتين أو هيئتين أو حزبين أو دولتين أو غيرها.

ولو لم يكن التشاجر على شيء ماديّ، بل كان معنوياً لا يمكن تقسيمه بينهما، كالمرأة المتشاجر فيها لا يمكن أن تكون لزوجين، فلا مجال ههنا لقاعدة العدل والإنصاف، بل لابد من الحكم والفصل والبت في الأمر.

التحاور

مسألة: التحاور لمعرفة الحق أو لإظهاره مرغوب إليه ومطلوب، أما التنازع والتشاجر فمرغوب عنه ومبغوض.

وكل منهما(1) ينقسم إلى الأحكام الخمسة(2)، ويختلف باختلاف المناشئ(3).

التشاجر الصوري

مسألة: ليس التشاجر الصوري لإظهار حقأو تبليغ دعوة، من الخدعة والتدليس، فالظاهر أنه خارج خروجاً موضوعياً عنهما، وعلى فرض الدخول فلا ريب أنه مستثنى من حكمهما.

ص: 86


1- أي التحاور والتنازع.
2- الواجب والحرام والمستحب والمكروه والمباح.
3- أي مناشئ النزاع والشجار.

من فضائل أمير المؤمنين

اشارة

عن فاطمة الزهراء (عليها السلام) قالت: قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أما ترضين أن زوّجتك خير أمتي، أقدمهم سلماً، وأكثرهم علماً، وأعظمهم حلماً».

-------------------------------------------

خير الأُمة

مسألة: يجب الاعتقاد بأن علياً (عليه السلام) خير الأُمة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ويستحب وقد يجب بيان ذلك للناس.

لا يقال: الاعتقاد ليس باختياري.

لأنه يقال: بل هو اختياري باختيارية مقدماته.

روى العلامة المجلسي (رحمه الله) في البحار عن سلمان الفارسي أنه قال:

«لَمَّا أَنْ مَرِضَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) الْمَرْضَةَ الَّتِي قَبَضَهُ اللَّهُ فِيهَا دَخَلْتُ فَجَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَدَخَلَتْ عَلَيْهِ فَاطِمَةُ الزَّهْرَاءُ (عليها السلام) فَلَمَّا رَأَتْ مَا بِهِ خَنَقَتْهَا الْعَبْرَةُ حَتَّى فَاضَتْ دُمُوعُهَا عَلَى خَدَّيْهَا.

فَلَمَّا أَنْ رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) قَالَ: مَا يُبْكِيكِ يَا بُنَيَّةُ؟

قَالَتْ: وَكَيْفَ لا أَبْكِي وَأَنَا أَرَى مَا بِكَمِنَ الضَّعْفِ فَمَنْ لَنَا بَعْدَكَ يَا

ص: 87

رَسُولَ اللَّهِ.

قَالَ لَهَا: لَكُمُ اللَّهُ فَتَوَكَّلِي عَلَيْهِ وَاصْبِرِي كَمَا صَبَرَ آبَاؤُكِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَأُمَّهَاتُكِ مِنْ أَزْوَاجِهِمْ، يَا فَاطِمَةُ أَوَ مَا عَلِمْتِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اخْتَارَ أَبَاكِ فَجَعَلَهُ نَبِيّاً وَبَعَثَهُ رَسُولًا، ثُمَّ عَلِيّاً فَزَوَّجْتُكِ إِيَّاهُ وَجَعَلَهُ وَصِيّاً، فَهُوَ أَعْظَمُ النَّاسِ حَقّاً عَلَى الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ أَبِيكِ، وَأَقْدَمُهُمْ سِلْماً، وَأَعَزُّهُمْ خَطَراً، وَأَجْمَلُهُمْ خُلُقاً، وَأَشَدُّهُمْ فِي اللَّهِ وَفِيَّ غَضَباً، وَأَشْجَعُهُمْ قَلْباً، وَأَثْبَتُهُمْ وَأَرْبَطُهُمْ جَأْشاً، وَأَسْخَاهُمْ كَفّا،.

فَفَرِحَتْ بِذَلِكَ الزَّهْرَاءُ (عليها السلام) فَرَحاً شَدِيداً.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): هَلْ سُرِرْتِ يَا بُنَيَّةُ؟

قَالَتْ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ سَرَرْتَنِي وَأَحْزَنْتَنِي.

قَالَ: كَذَلِكِ أُمُورُ الدُّنْيَا يَشُوبُ سُرُورُهَا بِحُزْنِهَا.

قَالَ: أَفَلا أَزِيدُكِ فِي زَوْجِكِ مِنْ مَزِيدِ الْخَيْرِ كُلِّهِ؟ قَالَتْ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: إِنَّ عَلِيّاً أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَهُوَ ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ وَأَخُ الرَّسُولِ وَوَصِيُّ رَسُولِ اللَّهِ وَزَوْجُ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ، وَابْنَاهُ سِبْطَا رَسُولِ اللَّهِ، وَعَمُّهُ سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ، وَأَخُوهُ جَعْفَرٌ الطَّيَّارُ فِي الْجَنَّةِ ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ، وَالْمَهْدِيُّ الَّذِي يُصَلِّي عِيسَى خَلْفَهُمِنْكِ وَمِنْهُ، فَهَذِهِ يَا بُنَيَّةُ خِصَالٌ لَمْ يُعْطَهَا أَحَدٌ قَبْلَهُ وَلَا أَحَدٌ بَعْدَهُ، يَا بِنْتِي هَلْ سَرَرْتُكِ؟

قَالَتْ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ.

قَالَ: أَوَ لا أَزِيدُكِ مَزِيدَ الْخَيْرِ كُلِّهِ؟

قَالَتْ: بَلَى.

ص: 88

قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ قِسْمَيْنِ فَجَعَلَنِي وَزَوْجَكِ فِي أَخْيَرِهِما قِسْماً، وَذَلِكِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ «فَأَصْحابُ المَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ المَيْمَنَةِ»(1)، ثُمَّ جَعَلَ الِاثْنَيْنِ ثَلَاثاً، فَجَعَلَنِي وَزَوْجَكِ فِي أَخْيَرِهَا ثُلُثاً، وَذَلِكِ قَوْلُهُ: «وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ المُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ»(2)»(3).

مما يوجب التفاضل

مسألة: ما يوجب التفاضل عند الله عزوجل: الأقدمية سلماً، والأكثرية علماً، والأعظمية حلماً، كما أنه يوجب التفاضل في إمام الجماعة ومرجع التقليد والحاكم في الجملة، بعد فرض جامعية الأطراف للشرائط.

والظاهر أن هذه الثلاثة من باب المثال لا الحصر، ولعل الوجه فيانتخاب هذه الثلاثة هو أن الحلم مرتبط بالنفس، والعلم بالعقل، والإسلام بالروح والجسد، وإن كان كل يرتبط بوجه ما بكلها.

اختيار الزوج

مسألة: يستحب للأب اختيار الزوج الأفضل لابنته، كما فعل رسول الله (صلى الله عليه وآله).

فإنه عقلي قبل أن يكون شرعياً، وقد قال سبحانه وتعالى: «يَأْخُذُوا

ص: 89


1- سورة الواقعة: 8.
2- سورة الواقعة: 10-12.
3- بحار الأنوار: ج 22 ص496 ب1 ح43 عن تفسير فرات الكوفي: 464.

بِأَحْسَنِهَا»(1)، فإن العاقل هو الذي يرجّح الفاضل على المفضول في كل شؤونه، لا في شأن الزوج والزوجة فقط، بل حتى في الشؤون الصغيرة.

نعم ينبغي أن لا يكون ذلك ذريعةً إلى (عضل) البنات(2).

قال الله تعالى: «فلا تَعْضُلوهُنَّ أَن يَنْكِحْنأَزواجهن»(3).

لا يقال: ينافي ذلك قوله (صلى الله عليه وآله): «إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه، إن لا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير»(4).

لأنه يقال: لا تنافي، إذ يمكن أن يفرض انتخاب الأفضل من بين مجموعة طلبوا يد الفتاة، هذا بالإضافة إلى أن إمكان كون الاستحباب في المبادرة للبحث عن الأفضل، أما الحديث فهو فيما لو جاء من يُرتضى دينه وخلقه.

الأعلم بعد النبي

مسألة: يلزم الاعتقاد بأن علياً (عليه السلام) هو الأعلم بعد النبي (صلى الله عليه وآله) على الإطلاق، ويستحب وقد يجب بيان ذلك للناس.

فهو (عليه السلام) أعلم المسلمين إلى يوم القيامة، لصدق الأمة على جميعهم

ص: 90


1- سورة الأعراف: 145.
2- عَضَلَ المرأَةَ عن الزوج: حَبَسها. وعَضَلَ الرَّجُلُ أَيِّمَه يَعْضُلها ويَعْضِلُها عَضْلًا وعضَّلها: مَنَعها الزَّوْج ظُلْماً؛ قال الله تعالى: «فلا تَعْضُلوهُنَّ أَن يَنْكِحْن أَزواجهن»؛ نزلت في مَعْقِل بن يَسارٍ المُزَني وكان زَوَّج أُخْتَه رَجُلًا فطَلَّقها، فلما انقضت عِدَّتُها خَطَبها، فآلى أَن لا يُزَوِّجه إِياها، ورَغِبتْ فيه أُخته فنزلت الآية. انظر لسان العرب مادة (عضل).
3- سورة البقرة: 32.
4- بحار الأنوار: ج 88 ص264 ب7 ح18.

من المعاصرين له (عليه السلام) ومن يأتي بعده إلى يوم يبعثون، بل هو (عليه السلام) بل أعلم الناس.

فلا يقال بانصراف هذا الحديث إلى المعاصرين في زمانه (عليه

الصلاة والسلام)،وذلك للإطلاقات والعمومات، مضافاً إلى الأدلة المتواترة الدالة على كونه (عليه السلام) أعلم وأفضل من جميع الأمة إلى يوم القيامة من غير إشكال.

كما أن الظاهر أن المراد من (الأعلم) الأعلم في كل شيء، لا في علوم الحديث والتفسير والكلام والفقه وشبهها، بل الأعلم أيضاً في الطب والفلك والكيمياء والسياسية والاقتصاد وغيرها. ولا مجال لتوهم الانصراف بعد الأدلة الكثيرة الدالة على الأعلمية في كل شيء.

عن المفضل بن عمر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سَأَلْتُهُ عَنْ عِلْمِ الْإِمَامِ بِمَا فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ وَ هُوَ فِي بَيْتِهِ مُرْخًى عَلَيْهِ سِتْرُهُ، فَقَالَ: يَا مُفَضَّلُ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى جَعَلَ فِي النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) خَمْسَةَ أَرْوَاحٍ، رُوحَ الْحَيَاةِ فَبِهِ دَبَّ وَ دَرَجَ، وَ رُوحَ الْقُوَّةِ فَبِهِ نَهَضَ وَ جَاهَدَ، وَ رُوحَ الشَّهْوَةِ فَبِهِ أَكَلَ وَ شَرِبَ وَ أَتَى النِّسَاءَ مِنَ الْحَلَالِ، وَ رُوحَ الْإِيمَانِ فَبِهِ آمَنَ وَ عَدَلَ، وَرُوحَ الْقُدُسِ فَبِهِ حَمَلَ النُّبُوَّةَ، فَإِذَا قُبِضَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) انْتَقَلَ رُوحُ الْقُدُسِ فَصَارَ إِلَى الْإِمَامِ»(1).وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إِنَّ لِلَّهِ لَعِلْماً لا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ، وَعِلْماً يَعْلَمُهُ مَلَائِكَتُهُ الْمُقَرَّبُونَ وَأَنْبِيَاؤُهُ الْمُرْسَلُونَ وَنَحْنُ نَعْلَمُهُ»(2).

ص: 91


1- الكافي: ج 1 ص272 باب فيه ذكر الأرواح التي في الأئمة (عليهم السلام) ح3.
2- التوحيد: ص138 ب10 باب العلم ح15.

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ هُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)، وَسُئِلَ عَنِ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَعْلَمُ أَمِ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ، فَقَالَ: مَا كَانَ عِلْمُ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ عِنْدَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ إِلَّا بِقَدْرِ مَا تَأْخُذُ الْبَعُوضَةُ بِجَنَاحِهَا مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ، وَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (صلوات الله عليه): أَلَا إِنَّ الْعِلْمَ الَّذِي هَبَطَ بِهِ آدَمُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ وَ جَمِيعَ مَا فُضِّلَتْ بِهِ النَّبِيُّونَ إِلَى خَاتَمِ النَّبِيِّينَ فِي عِتْرَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ صلوات الله عليهم »(1).

وورد في تفسير قوله تعالى: «وَرَحْمَتي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْء» أي علم الإمام (عليه السلام) وسع كل شيء(2).

استحباب التعلّم

مسألة: يستحب التعلّم مطلقاً، فإن العلم فضيلة، وكلما نال الإنسان منه كان أفضل، قال سبحانه وتعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله): «وَقُلْ رَبِّ زِدْني عِلْماً»(3).

نعم يستثنى من التعلم ما كان حراماً كالسحر في الجملة، وما كان مرجوحاً كعلم الأنساب فيما لا نفع فيه.

ثم إن هذا الاستحباب طريقي وليس نفسياً، فتأمل.

ص: 92


1- تفسير القمي:ج 1 ص367 تحت سورة الرعد: الآيات 41 إلى 43.
2- راجع الكافي: ج 1 ص429 باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية ح83.
3- سورة طه:114.

ويستفاد استحباب التعلم من اعتباره (صلى الله عليه وآله) خير أمته الأعلم، مما يدل عرفاً على أن مقدمته أو مقدمة أية درجة من درجاته مطلوبة.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «أَيُّهَا النَّاسُ اعْلَمُوا أَنَّ كَمَالَ الدِّينِ طَلَبُ الْعِلْمِ وَالْعَمَلُ بِهِ، أَلا وَإِنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ أَوْجَبُ عَلَيْكُمْ مِنْ طَلَبِ الْمَالِ، إِنَّ الْمَالَ مَقْسُومٌ مَضْمُونٌ لَكُمْ قَدْ قَسَمَهُ عَادِلٌ بَيْنَكُمْ وَضَمِنَهُ، وَسَيَفِي لَكُمْ، وَالْعِلْمُ مَخْزُونٌ عِنْدَ أَهْلِهِ وَقَدْ أُمِرْتُمْ بِطَلَبِهِ مِنْ أَهْلِهِ فَاطْلُبُوهُ»(1).

وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال:«عَالِمٌ يُنْتَفَعُ بِعِلْمِهِ أَفْضَلُ مِنْ سَبْعِينَ أَلْفَ عَابِدٍ»(2).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَلَا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ بُغَاةَ الْعِلْمِ»(3).

وعن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) الْمَسْجِدَ فَإِذَا جَمَاعَةٌ قَدْ أَطَافُوا بِرَجُلٍ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقِيلَ: عَلَّامَةٌ، فَقَالَ: وَمَا الْعَلَّامَةُ، فَقَالُوا لَهُ: أَعْلَمُ النَّاسِ بِأَنْسَابِ الْعَرَبِ وَوَقَائِعِهَا وَأَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ وَالأشْعَارِ الْعَرَبِيَّةِ، قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): ذَاكَ عِلْمٌ لا يَضُرُّ مَنْ جَهِلَهُ، وَلا يَنْفَعُ مَنْ عَلِمَهُ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): إِنَّمَا الْعِلْمُ ثَلاثَةٌ، آيَةٌ مُحْكَمَةٌ أَوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ أَوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ، وَمَا خَلاهُنَّ فَهُوَ فَضْلٌ»(4).

ص: 93


1- الكافي: ج 1 ص30 باب فرض العلم ووجوب طلبه والحث عليه ح4.
2- الكافي: ج 1 ص33 باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء ح8.
3- الكافي: ج1 ص30 باب فرض العلم ووجوب طلبه والحث عليه ح1.
4- الكافي: ج 1 ص32 باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء ح1.

استحباب الحلم

مسألة: يستحب الحلم والتحلم مطلقاً، وذلك يظهر من قوله (صلى الله عليه وآله) «خير أمتي» مطلوبية الحلم لذاته، أما القول بغيرية التحلم فللقرينة الخارجية، فلا يصار في الحلم إلى الغيرية بعد فقدها فيه فتأمل، نعم ذلك لا يدل إلا على الاستحباب.

ويأتي في التحلم ما ذكرناه في البند السابق، فكلما استوعب الإنسان أكثر منه كان أفضل.

عن عنوان البصري، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال: قلت: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَوْصِنِي، قَالَ: أُوصِيكَ بِتِسْعَةِ أَشْيَاءَ فَإِنَّهَا وَصِيَّتِي لِمُرِيدِي الطَّرِيقِ إِلَى اللَّهِ، وَاللَّهَ أَسْأَلُ أَنْ يُوفِّقَكَ لِاسْتِعْمَالِهِ، ثَلَاثَةٌ مِنْهَا فِي رِيَاضَةِ النَّفْسِ، وَثَلَاثَةٌ مِنْهَا فِي الْحِلْمِ، وَثَلَاثَةٌ مِنْهَا فِي الْعِلْمِ، فَاحْفَظْهَا وَإِيَّاكَ وَالتَّهَاوُنَ بِهَا، قَالَ عُنْوَانُ: فَفَرَّغْتُ قَلْبِي لَهُ، إلى أن قال: قال (عليه

السلام): «وَأَمَّا اللَّوَاتِي فِي الْحِلْمِ فَمَنْ قَالَ لَكَ إِنْ قُلْتَ وَاحِدَةً سَمِعْتَ عَشْراً، فَقُلْ لَهُ إِنْ قُلْتَ عَشْراً لَمْ تَسْمَعْ وَاحِدَةً، وَمَنْ شَتَمَكَ فَقُلْ إِنْ كُنْتَ صَادِقاً فِيمَا تَقُولُ فَأَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَغْفِرَ لِي، وَإِنْ كُنْتَ كَاذِباً فِيمَا تَقُولُ فَاللَّهَ أَسْأَلُ أَنْ يَغْفِرَ لَكَ، وَمَنْوَعَدَكَ بِالْخَنَا فَعِدْهُ بِالنَّصِيحَةِ وَالرِّعَاءِ» الخبر(1).

وعن موسى بن جعفر (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) فِي أَسْئِلَةِ الشَّيْخِ الشَّامِيِّ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) قال: فَأَيُّ الْخَلْقِ أَقْوَى، قَالَ: الْحَلِيمُ»(2).

ص: 94


1- مستدرك الوسائل: ج 11 ص290 ب26 باب استحباب الحلم ح13054.
2- من لا يحضره الفقيه:ج 4 ص383 ح5833.

وعن الغلابي، قال: سَأَلْتُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ (عليه السلام) عَنِ الْحِلْمِ، فَقَالَ: هُوَ أَنْ تَمْلِكَ نَفْسَكَ وَتَكْظِمَ غَيْظَكَ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا مَعَ الْقُدْرَةِ»(1).

وعن جابر، قال: سَمِعَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) رَجُلًا يَشْتِمُ قَنْبَراً، وَقَدْ رَامَ قَنْبَرُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ، فَنَادَاهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) مَهْلًا يَا قَنْبَرُ دَعْ شَاتِمَكَ مُهَاناً تُرْضِ الرَّحْمَنَ وَتُسْخِطُ الشَّيْطَانَ وَتُعَاقِبْ عَدُوَّكَ، فَوَ الَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ مَا أَرْضَى الْمُؤْمِنُ رَبَّهُ بِمِثْلِ الْحِلْمِ، وَلَا أَسْخَطَ الشَّيْطَانَ بِمِثْلِ الصَّمْتِ، وَلَا عُوقِبَ الْأَحْمَقُ بِمِثْلِ السُّكُوتِ عَنْهُ»(2).وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «احْتَمِلْ مِمَّنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْكَ، وَمِمَّنْ هُوَ أَصْغَرُ مِنْكَ، وَمِمَّنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ، وَمِمَّنْ هُوَ شَرٌّ منك، وَمِمَّنْ هُوَ فَوْقَكَ، وَمِمَّنْ هُوَ دُونَكَ، فَإِنْ كُنْتَ كَذَلِكَ بَاهَى اللَّهُ بِكَ الْمَلَائِكَةَ»(3).

في زواج البنت

مسألة: يستحب للأب أن يزوّج ابنته خير الناس الممكن، كما يستحب أن يختار لأبنائه خير الزوجات.

فإن الممكن إذا كان بين فاضل وأفضل، فالأفضل في الاختيار أفضل عقلاً وشرعاً، قال سبحانه: «وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا»(4).

ص: 95


1- مستدرك الوسائل: ج 11 ص291 ب26 باب استحباب الحلم ح13056.
2- مستدرك الوسائل: ج 11 ص291 ب26 باب استحباب الحلم ح13057.
3- مستدرك الوسائل: ج 11 ص292 ب26 باب استحباب الحلم ح13060.
4- سورة الأعراف: 145.

ولا يتوهم من ذلك بقاء غير الأفضل من الشباب والفتيات دون زوج أو زوجة، وذلك لوضوح تعدد المطلوب في المستحبات، مضافاً إلى أن الأكثر لا يأخذ بالأفضل، إضافة إلى الاختلاف في تعيين الأفضل ومصداقه، فكل يراه شخصاً، ثم المتفقون ليس كلهم قادراً على الأخذ بما رآه الأفضل، ثم بعد ذلك كله الفعلية بيد الطرف الآخر أيضاً.عن أمير المؤمنين (عليه السلام) فِي وَصِيَّتِهِ لِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ: «اضْمُمْ آرَاءَ الرِّجَالِ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ ثُمَّ اخْتَرْ أَقْرَبَهَا مِنَ الصَّوَابِ وَأَبْعَدَهَا مِنَ الِارْتِيَابِ»(1).

بيان فضائل الزوج

مسألة: يستحب للزوجة بيان فضائل زوجها، ومدحه، وخاصة فيما إذا كان في ذلك فائدة للآخرين، وذلك سواء في داخل الأسرة أم خارجها، فإن في ذلك ترويجاً لمكارم الأخلاق وتشجيعاً عليها، كما أنه يوجب تماسك الأسرة أكثر فأكثر.

وأما بالنسبة إلى أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) فإنه يوجب التفات الناس حوله أكثر فأكثر فيوصلهم إلى الدرجات الرفيعة والسعادة الدنيوية والأخروية.

ص: 96


1- من لا يحضره الفقيه: ج 4 ص385 ح5834.

فضائل أمير المؤمنين

مسألة: يستحب وربما وجب بيان فضائل الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) مطلقاً، أي من كل أحد ولكل أحد، وشتى الفضائل، فإنه من أفضل العبادات كما ورد في الحديث الشريف.

قال أَبُوجَعْفَرٍ (عليه السلام): «وإِنَّ الرَّوْحَ والرَّاحَةَ والْفَلْجَ والْعَوْنَ والنَّجَاحَ والْبَرَكَةَ والْكَرَامَةَ والْمَغْفِرَةَ والْمُعَافَاةَ والْيُسْرَ والْبُشْرَى والرِّضْوَانَ والْقُرْبَ والنَّصْرَ والتَّمَكُّنَ والرَّجَاءَ والْمَحَبَّةَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ لِمَنْ تَوَلَّى عَلِيّاً وائْتَمَّ بِهِ وبَرِئَ مِنْ عَدُوِّهِ وسَلَّمَ لِفَضْلِهِ ولِلْأَوْصِيَاءِ مِنْ بَعْدِهِ، حَقّاً عَلَيَّ أَنْ أُدْخِلَهُمْ فِي شَفَاعَتِي وحَقٌّ عَلَى رَبِّي تَبَارَكَ وتَعَالَى أَنْ يَسْتَجِيبَ لِي فِيهِمْ فَإِنَّهُمْ أَتْبَاعِي ومَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي»(1).

ولا يخفى أن بيان الفضائل في حد ذاته نوع تلقين للنفس يوجب أقربية تحليها بها.

الأكثر حلماً

مسألة: يستحب بيان أن علياً (عليه السلام) أعظم الناس حلماً، مما يدل على أنه (عليه السلام) أكمل الناس أخلاقاً بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله).

وذكر فضائله (عليه الصلاة والسلام) بالإضافة إلى المثوبة له، يوجب حيث

ص: 97


1- الكافي: ج 1 ص210 باب ما فرض الله عز وجل ورسوله صلی الله عليه وآله من الكون مع الأئمة (عليهم السلام) ح7.

الإقتداء به، ترفيعاً للإنسان في دنياه وآخرته، وحلاً لمشاكله.

ومن الواضح أن (الأعظم حلماً) أولى بالاقتداء من غيره، إما أولوية وجوبية، أو أولوية استحبابية ، ثم إن الأولوية التعليمية أيضا على درجات.

البنت واختيار الزوج

مسألة: يستحب للفتاة الرضا بما اختاره الأب لها من الأزواج إذا كان كفواً، فإن المماطلة وإعمال بعض الآراء الشخصية والأذواق والسلائق الخاصة، يوجب تأخير سن الزواج، وقد يسبب العنوسة الدائمة كما هو المشاهد كثيراً.

عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «لا تُنْكَحُ ذَوَاتُ الآبَاءِ مِنَ الْأَبْكَارِ إِلاّ بِإِذْنِ آبَائِهِنَّ»(1).

ص: 98


1- من لا يحضره الفقيه: ج 3 ص395 باب الولي والشهود والخطبة والصداق ح4390.

أبوك وزوجك

اشارة

في الحديث المروي عن الصديقة فاطمة (عليها السلام):

... قال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يا فاطمة إن الله تبارك وتعالى اطّلع اطلاعة فاختار منها رجلين: أحدهما أبوك، والآخر زوجك»(1).

-------------------------------------------

الأفضل في المهام الرسالية

مسألة: يستحب اختيار الأفضل، لتحمّل عبء الرسالات المهمة.

فإن انتخاب الله سبحانه أفضل الناس للنبوة وكذلك أفضلهم للإمامة ببرهان الحكمة وغيره يدل على استحباب اختيار الإنسان الأفضل والأكفأ في كل المسؤوليات، وخاصة الدينية منها.

قال عزوجل: «وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها»(2).

وقال تعالى: «الَّذينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْباب»(3).

ص: 99


1- انظر اليقين باختصاص مولانا علي (عليه السلام) بإمرة المؤمنين: ص424 ب158.
2- سورة الأعراف: 145.
3- سورة الزمر: 18.

الزوج الفاضل

مسألة: يستحب اختيار الزوج الفاضل.

فإنه إذا ثبت استحباب اختيار الأفضل على الفاضل، فإذا كان الأمر دائراً بين الفاضل والمفضول فلا شك في استحباب اختيار الفاضل حينئذ، بدليل العقل والنقل، نعم قد يكون اختيار المفضول محرماً إذا كان فيه تضييع حقها(1)، أو إيقاع لها في المحرم، أو موجب لمفسدة أخرى.

قال أبو عبد الله (عليه السلام): «من زوج كريمته من شارب الخمر فقد قطع رحمها»(2).

وقال (عليه السلام): «فإن من زوج ابنته شارب الخمر فكأنما قادها إلى الزنا، ومن زوج ابنته مخالفاً له على دينه فقد قطع رحمها»(3).وقال (عليه السلام): «فَإِنَّ مَنْ زَوَّجَ ابْنَتَهُ شَارِبَ خَمْرٍ فَكَأَنَّمَا قَادَهَا إِلَى النَّارِ»(4).

وعَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ زَوَّجَ كَرِيمَتَهُ بِفَاسِقٍ نَزَلَ عَلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ أَلْفُ لَعْنَةٍ وَلا يَصْعَدُ لَهُ عَمَلٌ إِلَى السَّمَاءِ وَلا يُسْتَجَابُ لَهُ دُعَاؤُهُ

ص: 100


1- ويتصور ذلك في المولى عليها من صغيرة وسفيهة، بل حتى في الكبيرة الرشيدة كما فيمن لا تستطيع ذاتاً أو عرفاً رفض ما عينه الأب.
2- الكافي: ج 5 ص347 باب كراهية أن ينكح شارب الخمر ح1.
3- من لا يحضره الفقيه: ج 4 ص58 باب حد شرب الخمر وما جاء في الغناء والملاهي ح5091.
4- وسائل الشيعة: ج 25 ص312 ب11 باب كراهة تزويج شارب الخمر وقبول شفاعته وتصديق حديثه وائتمانه على أمانة وعيادته وحضور جنازته ومجالسته ح31986.

وَلايُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلا عَدْلٌ»(1).

من اختارهم الله

مسألة: يستحب بيان أن الله قد اختار من بين الخلق محمداً (صلى الله عليه وآله) وعلياً (عليه السلام)، للأدلة الكثيرة المتواترة ، وهذه الرواية منها، إذ لم تخصص (اطلع اطلاعة) بعلى البشر أو على الأرض، بل هي عامة، فإن حذف المتعلق يفيد العموم.

عَنِ الرِّضَا، عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «أَنْتَيَا عَلِيُّ ووُلْدُكَ خِيَرَةُ اللَّهِ مِنْ خَلْقِهِ»(2).

وقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «وَلَايَتُنَا وَلَايَةُ اللَّهِ الَّتِي لَمْ يَبْعَثْ نَبِيّاً قَطُّ إِلَّا بِهَا»(3).

وعَنْ كُلَيْبِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الصَّيْدَاوِيِّ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): «إِيَّاكُمْ والنَّاسَ، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ إِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ خَيْراً نَكَتَ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةً فَتَرَكَهُ وهُوَ يَجُولُ لِذَلِكَ ويَطْلُبُهُ، ثُمَّ قَالَ: لَوْ أَنَّكُمْ إِذَا كَلَّمْتُمُ النَّاسَ قُلْتُمْ ذَهَبْنَا حَيْثُ ذَهَبَ اللَّهُ واخْتَرْنَا مَنِ اخْتَارَ اللَّه،ُ واخْتَارَ اللَّهُ مُحَمَّداً واخْتَرْنَا آلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وعَلَيْهِمْ»(4).

ص: 101


1- مستدرك الوسائل: ج 5 ص279 ب62 باب نوادر ما يتعلق باب واب الدعاء ح5852.
2- بحار الأنوار: ج 26 ص269 ب6ح4.
3- بحار الأنوار: ج 26 ص281 ب6 ح30.
4- الكافي: ج 2 ص212 باب في ترك دعاء الناس ح1.

حكمة الباري تعالى

مسألة: يجب الاعتقاد بأن الله تعالى عادل وحكيم، يضع الأشياء مواضعها، ومن مصاديق ذلك ما يظهر من هذه الرواية وسائر الأدلة القطعية من أن النبي والوصي (عليهما السلام) كانا في واقع الأمر(1) الأفضل من سائر الخلق، لذا انتخبهما الله واختارهما على من سواهما، لا العكس، ولذا قال المحقق الطوسي في (التجريد):

(وبعض الأفعال مستندة إلينا والمغلوبية غير لازمة والعلم تابع) (2)، بمعنى إصابة موازنه في التطابق، وبذلك تنتفي شبهة الجبر، وشبهة التفضيل عبثاً.

الإضافة التشريفية

مسألة: الإضافة التشريفية، قد تكون مستحبة وقد تكون واجبة وقد تكون مباحة، ومن ذلك نسبة الشخص إلى عظماءعائلته، ونسبة السادة إلى جدهم رسول الله (صلى الله عليه وآله)(3)، ومنه ما قاله (صلى الله عليه وآله): «أحدهما أبوك والآخر زوجك».

ومن أمثلة الإضافة التشريفية:

* (روح الله) في قوله تعالى: «وَالَّتي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فيها مِنْ

ص: 102


1- ولسبق نجاحهما في امتحانات العوالم السابقة كما تفيد الروايات، (منه قدس سره الشريف).
2- كشف المراد في شرح تجريد الإعتقاد: ص307 ما نصه
3- كقولك للسيد: يا ابن رسول الله، أو التعبير عنه ب (السيد فلان...).

رُوحِنا وجَعَلْناها وابْنَها آيَةً لِلْعالَمين»(1).

وقوله سبحانه: «وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فيهِ مِنْ رُوحِنا وصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وكُتُبِهِ وكانَتْ مِنَ الْقانِتين»(2).

* (أرض الله) في قوله تعالى: «إِنَّ الَّذينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وساءَتْ مَصِيراً»(3).

وقوله سبحانه: «قُلْ يا عِبادِ الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذينَ أَحْسَنُوا في هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ»(4).

* (ناقة الله) في قوله تعالى: «فَقالَ

لَهُمْرَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللَّهِ وسُقْياها»(5).

وفي قوله سبحانه: «وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ في أَرْضِ اللهِ ولا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَليمٌ»(6).

ص: 103


1- سورة الأنبياء: 91.
2- سورة التحريم: 12.
3- سورة النساء: 97.
4- سورة الزمر: 10.
5- سورة الشمس: 13.
6- سورة الأعراف: 73.

وفي قوله تعالى: «وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ في أَرْضِ اللهِ ولا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَريبٌ»(1).

و(بيت الله) و(شهر الله) و(كلام الله) و(كتاب الله) و(علي (عليه السلام) ولي الله) و(هُوَ عَيْنُ اللَّهِ النَّاظِرَةُ وأُذُنُهُ السَّامِعَةُ ولِسَانُهُ النَّاطِقُ فِي خَلْقِهِ ويَدُهُ الْمَبْسُوطَةُ عَلَى عِبَادِهِ بِالرَّحْمَةِ ووَجْهُهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وجَنْبُهُ الظَّاهِرُ الْيَمِينُ وحَبْلُهُ الْقَوِيُّ الْمَتِينُ وعُرْوَتُهُ الْوُثْقَى الَّتِي لا انْفِصامَ لَها وبَابُهُ الَّذِي يُؤْتَى مِنْهُ وبَيْتُهُ الَّذِي مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وعَلَمُهُ عَلَى الصِّرَاطِ فِي بَعْثِهِ مَنْ عَرَفَهُ نَجَا إِلَى الْجَنَّةِ ومَنْ أَنْكَرَهُ هَوَى إِلَى النَّار) (2).

ص: 104


1- سورة هود: 64.
2- راجع كتاب سليم بن قيس الهلالي: ج 2 ص860 الحديث السادس والأربعون.

زدني يا أبتاه

في حديث مروي عن ابن عباس، يرفعه(1) إلى سلمان الفارسي (رضوان الله عليه)، أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال للصديقة فاطمة (عليها السلام): يا فاطمة ألا أزيدك في علي (عليه السلام) رغبة؟

قالت: زدني يا أبتاه.

قال النبي (صلى الله عليه وآله): إن علياً أكرم على الله من هارون، لأن هارون أغضب موسى، وعلي لم يغضبني قط، والذي بعث أباك بالحق نبياً ما غضبت عليه يوماً قط، وما نظرت في وجه علي إلاّ ذهب الغضب عني، يا فاطمة ألا أزيدك في علي رغبة؟

قالت: زدني يا نبي الله.

قال: هبط عليّ جبرئيل وقال:

يا محمد أقرء علياً من السلام السلام.

فقامت فاطمة (صلى الله عليه وآله) وقالت: «رضيتُ بالله رباً، وبك يا أبتاه نبياً،وبابن عمي بعلاً وولياً»(2).

ص: 105


1- (يرفعه) في علم الرجال يراد به أحياناً ما يقابل الإسناد، فمرفوع يعني مرسل من الطرف الأعلى، وتارة يراد به الرفع المعنوي، ولعل الأظهر إرادة هذا الثاني هنا.
2- عوالم العلوم (مستدرك سيدة النساء إلى الإمام الجواد عليهما السلام): ج 11 قسم2 فاطمة (سلام الله عليها) ب32 حديثها (عليها السلام) في فضل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ح55. والحديث بطوله في كتاب الروضة في فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهما السلام (لابن شاذان القمي): ص71 وهو هكذا: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- يَرْفَعُهُ- إلى سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قال: كُنْتُ وَاقِفاً بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسَلَّمَ أَسْكُبُ الْمَاءَ عَلَى يَدَيْهِ، إِذْ دَخَلَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلَام وهِيَ تَبْكِي فَوَضَع النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسَلَّمَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهَا، وقال: مَا يُبْكِيكِ؟ لَا أَبْكَى اللَّهُ عَيْنَكِ يَا حُورِيَّةُ. قالت: مَرَرْتُ عَلَى مَلَإٍ مِنْ نِسَاءِ قُرَيْشٍ وهُنَّ مُخَضَّبَاتٌ، فَلَمَّا نَظَرْنَ إِلَيَّ وَقَعْنَ فِيَّ، وفِي ابْنِ عَمِّي. قال: فَمَا سَمِعْتِ مِنْهُمْ؟ قالت: قُلْنَ: عَزَّ عَلَى مُحَمَّدٍ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَتَهُ بِرَجُلٍ، إِلَّا فَقِيرَ قُرَيْشٍ، وأَقَلَّهُمْ مَالًا فَقال: لَهَا: يَا بُنَيَّةِ، مَا زَوَّجْتُكِ بَلْ زَوَّجَكِ، اللَّهُ تَعَالَى، فَكَانَ بَدْوَهُ، وذَلِكِ أَنْ خَطَبَكِ فُلَانٌ وفُلَانٌ، وجَعَلْتُ أَمْرَكِ إلى اللَّهِ تَعَالَى، وأَمْسَكْتُ عَنِ النَّاسِ، وقَدْ صَلَّيْتُ صَلَاةَ الْفَجْرِ، إِذْ سَمِعْتُ حَفِيفَ الْمَلَائِكَةِ مِنْ لَوْنٍ مِنْ بَيَاضِ الدُّنْيَا، إِذَا بِحَبِيبِي جَبْرَئِيلَ عليه السلام ومَعَهُ سَبْعُونَ صَفّاً مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُتَوَّجِينَ (مُقَرَّطِينَ) مُدَمْلِجِينَ فَقلت: لِمَنْ هَذِهِ الْقَعْقَعَةُ مِنَ السَّمَاءِ يَا أَخِي جَبْرَئِيلُ؟ فَقال: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى اطَّلَع إلى الْأَرْضِ اطِّلَاعَةً، فَاخْتَارَ مِنْهَا مِنَ الرِّجَالِ عَلِيّاً عليه السلام، ومِنَ النِّسَاءِ فَاطِمَةَ (عَلَيْهَا السَّلَامُ)، فَزَوَّجَ فَاطِمَةَ مِنْ عَلِيٍّ (عليه السلام)، فَرَفَعَتْ رَأْسَهَا، تَبَسَّمَتْ بَعْدَ بُكَائِهَا، فَقالت: رَضِيتُ بِاللَّهِ وبِرَسُولِهِ. فَقال (صلى الله عليه وآله): أَ لَا أَزِيدُكِ يَا فَاطِمَةُ، فِي عَلِيٍّ عليه السلام رَغْبَةً؟ قالت: بَلَى. قال: لَا يَرِدُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى رَكْبٌ أَكْرَمُ مِنَّا أَرْبَعَةٌ: أَخِي صَالِحٌ عَلَى نَاقَتِهِ، وعَمِّي حَمْزَةُ عَلَى نَاقَتِهِ الْعَضْبَاءِ، وأَنَا عَلَى الْبُرَاقِ، وبَعْلُكِ عَلَى نَاقَةٍ مِنْ نُوقِ الْجَنَّةِ. فَقالت: صِفْ لَنَا النَّاقَةَ مِنْ أَيِّ شَيْ ءٍ خُلِقَتْ؟ قال: خُلِقَتْ مِنْ نُورِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ مُدَبَّجَةُ الْجَبِينِ صَفْرَاءُ حَمْرَاءُ الرَّأْسِ، سَوْدَاءُ الْحَدَقِ، وقَوَائِمُهَا مِنَ الذَّهَبِ، وخِطَامُهَا مِنَ اللُّؤْلُؤِ الرَّطْبِ وعَيْنَاهَا مِنَ الْيَاقُوتِ، وبَطْنُهَا مِنَ الزُّمُرُّدِ، عَلَيْهَا قُبَّةٌ مِنْ لُؤْلُؤَةٍ بَيْضَاءَ، يُرَى بَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا ظَاهِرُهَا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وبَاطِنُهَا مِنْ عَفْواللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، تِلْكَ النَّاقَةُ مِنْ نُوقِ اللَّهِ، تَمْضِي كَمَا يَمْضِي الرَّاكِبُ الْمُحِثُّ ثَلَاثَةَ أَيَّام لَهَا سَبْعُونَ رُكْناً، بَيْنَ الرُّكْنِ والرُّكْنِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، يُسَبِّحُونَ اللَّهَ تَعَالَى بِأَلْوَانِ التَّسْبِيحِ، خُطْوَةُ النَّاقَةِ فَرْسَخٌ، تَلْحَقُ ولَا تُلْحَقُ، لَا تَمُرُّ عَلَى مَلَإٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا قالوا: مَنْ هَذَا الْعَبْدُ؟ مَا أَكْرَمَهُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، أَ تَرَاهُ نَبِيّا مُرْسَلًا؟ أم مَلَكاً مُقَرَّباً؟ أَوحَامِلَ عَرْشٍ أَوحَامِلَ كُرْسِيٍّ. فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنْ بَاطِنِ الْعَرْشِ: أَيُّهَا النَّاسُ: لَيْسَ هَذَا حَامِلَ عَرْشٍ، ولَا كُرْسِيٍّ، ولَا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، ولَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، هَذَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. فَيَبْتَدِرُونَ رِجَالٌ، فَيَقُولُونَ: إِنَّا لِلَّهِ وإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، حَدَّثُونَا فَلَمْ نُصَدِّقْ، ونَصَحُونَا فَلَمْ نَقْبَلْ. والَّذِينَ يُحِبُّونَهُ تَعَلَّقُوا بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى فِي الدُّنْيَا، كَذَلِكَ يَنْجُونَ فِي الْآخِرَةِ. يَا فَاطِمَةُ، أَلَا أَزِيدُكِ فِي عَلِيٍّ رَغْبَةً؟ قالت: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ. قال: علي أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَارُونَ، لِأَنَّ هَارُونَ أَغْضَبَ مُوسَى، وعَلِيٌّ لَمْ يُغْضِبْنِي قَطُّ. والَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ نَبِيّاً مَا غِظْتُ يَوْماً قَطُّ فَنَظَرْتُ فِي وَجْهِ عَلِيٍّ إِلَّا ذَهَبَ الْغَيْظُ عَنِّي. يَا فَاطِمَةُ، أَ لَا أَزِيدُكِ فِي عَلِيٍّ رَغْبَةً؟ قالت: زِدْنِي يَا نَبِيَّ اللَّهِ، قال: هَبَطَ عَلَيَّ جَبْرَئِيلُ عليه السلام وقال: يَا مُحَمَّدُ، الْعَلِيُّ يَقُولُ لَكَ أَقْرِئْ عَلِيّاً مِنِّي السَّلَامَ. قال: فَقَامَتْ فَاطِمَةُ (عَلَيْهَا السَّلام) وهِيَ تَقُولُ: رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبّاً، وبِكَ يَا أَبَتَاهْ نَبِيّاً، وبِابْنِ عَمِّي عَلِيٍّ بَعْلاً، ووَلِيّاً.

ص: 106

الغضب الصوري

أقول: قوله (صلى الله عليه وآله): «لأن هارون أغضب موسى» إشارة إلى ما ورد في القرآن الحكيم(1)، والمراد به الغضب الظاهري لا الواقعي، أي إنه كان

ص: 107


1- قال تعالى: «قال يَا بْنَ أم لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتي وَلا بِرَأْسي إِنِّي خَشيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَني إِسْرائيلَ ولَمْ تَرْقُبْ قَوْلي» سورة طه: 94.

صورة الغضب على هارون، أما الغضب الحقيقي فكان على الذين اتخذوا العجل، فإن موسى (عليه الصلاة والسلام) كان نبياً معصوماً، والغضب في غير موقعه لا ينبغي لمؤمن أو عادل فكيف بمثل موسى (عليه السلام) النبي المعصوم؟

فكان الغضب في الواقع على متخذي العجل لكنه أظهره بهذه الصورة، وكذلكفي إلقائه (عليه السلام) الألواح وفي أخذه برأس أخيه ولحيته، على ما ورد في الذكر الكريم(1).

أما في العلاقة بين الرسول والوصي (عليهما السلام) فلا يوجد حتى أقل من هذا المقدار من الغضب الظاهري، ولعل من حكمته أنه لا يتخذه الأعداء حجة ويتبعهم الجهلاء.

علي مني وأنا من علي

عن عمران بن حصين: إن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) قال: «علي مني وأنا منه، وهو ولي كل مؤمن من بعدي»(2).

وعن ابن عباس، قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «علي مني وأنا منه، وهو ولي كل مؤمن بعدي»(3).

وقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) لعلي بن أبي طالب (عليه السلام): «أنت مني وأنا منك»(4).

ص: 108


1- سورة طه: 94.
2- بحار الأنوار: ج38 ص269 ب67 ضمن الرقم 2.
3- المناقب، لابن شهر آشوب: ج3 ص51.
4- عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج2 ص59 ب31.

وعبد اللّه بن بريدة، عن أبيهبريدة، في حديث عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) قال: «يا بريدة، لا تقع في علي، فإنما علي مني وأنا منه، وهو وليكم بعدي»(1).

وروى المحدثون أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما ارتث(2) يوم أُحُد قال الناس: قُتل محمد، رأته كتيبة من المشركين وهو صريع بين القتلى إلا أنه حي فصمدت له، فقال (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام): اكفني هذه، فحمل عليها وقتل رئيسها، ثم صمدت له كتيبة أخرى فقال (صلى الله عليه وآله): يا علي اكفني هذه، فحمل عليها فهزمها وقتل رئيسها، ثم صمدت له كتيبة ثالثة فكذلك، فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد ذلك يقول: قال لي جبريل: يا محمد إن هذه للمواساة، فقلت: وما يمنعه وهو مني وأنا منه، فقال جبريل: أنا منكما (3).

وعن سعد بن مالك، قال: بعث رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) أبا بكر ببراءة إلى أهل مكة، ثم أتبعه علياً (عليه السلام)، فأخذها منه. فقال: أبوبكر: يا رسول اللّه، أ أنزل فيّ شي ء. قال: «لا، إلا إنه لايؤدي عني غيري أو رجل مني، فعلي مني وأنا منه»(4).

ص: 109


1- بحار الأنوار: ج37 ص220 ب52.
2- أي جُرح وبه رمق.
3- شرح نهج البلاغة: ج10 ص182 ب190.
4- شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار (عليهم السلام): ج 1 ص93 قول رسول الله (صلى الله عليه وآله): «علي مني وأنا من علي».

زيادة رغبة الزوجة في زوجها

مسألة: يستحب ذكر فضائل الزوج ومناقبه ومزاياه للزوجة لزيادة رغبتها فيه، فإن من المستحب تقوية دعائم الأسرة وزيادة التآلف بين الزوجين والتوادد بينهما.

والاستحباب لا يختص بذكر فضائل الرجل لامرأته، بل العكس كذلك أيضاً، فيستحب ذكر فضائل ومزايا وامتيازات الزوجة لزوجها.

وكذلك ذكر فضائل كل طرف للآخر في مختلف الأمور الاجتماعية المتقومة بالطرفين أو أكثر، من المعاملات ونحوها، فإن ذلك يوجب تأليف القلوب واقتراب بعضهم من بعض وتيسير الطلبات وقضاء الحاجات، وهو محبوب شرعاً وعقلاً.

حرمة إغضاب النبي

مسألة: يحرم إغضاب النبي (صلى الله عليه وآله)، وقد عُدّ في هذا الحديث عدم إغضاب عليٍّ (عليه السلام) للرسول (صلى الله عليه وآله) مزيَّة وفضيلة، وربما يكون تعريضاً بمن أغضب النبي (صلى الله عليه وآله) من الصحابة.

لا يقال: إن عدم إغضاب النبي (صلى اللهعليه وآله) هو شأن كل مؤمن صالح، فليس مزية خاصة بعلي (صلوات الله عليه).

لأنه يقال:

أولاً: إن عدم إغضاب البعداء عن بعضهم البعض، أو من يلتقون أحياناً

ص: 110

قد لا يكون صعباً، أما عدم إغضاب من يلتقي به باليوم مراراً عديدة بعضهم للبعض الآخر قد يكون من الصعب، ومن هنا يعلم أهمية عدم الإغضاب بقول مطلق لمن عاشوا طيلة حياتهما منذ الطفولة حتى الممات واشتركا في الحياة الشخصية والعائلية والسياسية والاجتماعية وفي ألف شيء وشي، فإن الظاهر أنه لا يمكن عادة لغير المعصوم (عليه السلام).

والإمام علي (سلام الله عليه) كان منذ فترة رضاعه وطوال طفولته ثم شبابه حتى لحظة شهادة رسول الله (صلى الله عليه وآله) مع الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، في السراء والضراء والشدة والرخاء والجهر والإسرار، وفي الحضر والأسفار، وفي كل حادثة وموقع، ومع ذلك يقول الرسول (صلى الله عليه وآله) : (لم يغضبني قط)، مع لحاظ أن الغضب قد يكون لترك الأولى، لا لفعل الحرام أو فعل المكروه، بل قد يكون حتى للقصور أحياناً وليس للتقصير، وإن كان القاصر معذوراً.ثانياً: إن المقارنة هي بالقياس إلى موسى وهارون (عليهما السلام) في تلك القضية، وهذا يدل على شدة القرب بين النبي والوصي (عليهما السلام).

وثالثاً: إن ذلك تعريض بمن أغضب رسول الله (صلى الله عليه وآله) من الصحابة، وخاصة البعض المعروفين منهم من أصحاب العقبة وما أشبه.

رابعاً: إن المقام مقام زيادة رغبتها في بعلها، وأنه لم يغضب أباها قط، فلا يغضب زوجته الصديقة قط، ولازم ذلك الرد على من وضعوا حديث إغضابه لها (صلوات الله عليهم أجمعين).

وخامساً: وهذا تعريض و ردّ على ما اختلقه المختلقون من المنافقين من

ص: 111

حصول الغضب أحياناً بين النبي (صلى الله عليه وآله) وعلي (عليه السلام) وذلك للحط من كرامته، ولتبرير مواقف أعداء أهل البيت (عليهم السلام) في إغضاب النبي (صلى الله عليه وآله)، ولبيان أنه (عليه السلام) وغيره ممن غصبوا الخلافة حيث غضب النبي (صلى الله عليه وآله) على الغاصبين غير مرة، متساويان.

حسن الخلق

مسألة: يستحب أن يكون الإنسان متحلياً بمكارم الأخلاق، حسن الخلق، هشّاً بشاًمبتسماً، بحيث إذا رآه غضبان سكن غضبه، أو حزين ذهب حزنه.

فإن هذا الاستحباب يفهم من متواتر الروايات مضافاً إلى هذه الرواية، وقبل ذلك يدل عليه العقل.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «إِنَّ بُشْرَ الْمُؤْمِنِ فِي وَجْهِهِ، وقُوَّتَهُ فِي دِينِهِ، وحُزْنَهُ فِي قَلْبِهِ»(1).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) في صفات المؤمن: «مَأْمُولٌ لِكُلِّ شِدَّةٍ هَشَّاشٌ بَشَّاش»(2).

وقال معاوية لقيس بن سعد: (رحم الله أبا حسن فلقد كان هشاً بشاً ذا فكاهة) قال قيس: (نعم كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يمزح ويبتسم إلى أصحابه، وأراك تسر حسواٌ في ارتغاء وتعيبه بذلك، أما والله لقد كان مع تلك الفكاهة والطلاقة أهيب من ذي لبدتين قد مسه الطوى، تلك هيبة التقوى وليس

ص: 112


1- عيون الحكم والمواعظ (لليثي): ص150 ح3300.
2- الكافي: ج 2 ص229 باب المؤمن وعلاماته وصفاته ح1.

كما يهابك طغام أهل الشام»(1).

سلام من السلام

مسألة: يستحب بيان أن الله تبارك وتعالى قد أبلغ السلام إلى علي أمير المؤمنين (عليه السلام) ، فإن إبلاغ السلام من الله مرتبة عالية جداً.

ولا يخفى أن السلام الخاص من الله تعالى على قسمين:

1: ما يخص عباده المصطفين، قال سبحانه: «وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذينَ اصْطَفَى»(2)، وهو مرتبة عالية جداً.

2: ما هو أخص منه، بحيث يخص شخصاً معيناً فقط، كما

في سلام الله على أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) في هذه الرواية، وهو مرتبة أعلى من سابقتها.

ومن أسماء الله (السلام)، وسمي به لأنه يريد السلام لجميع خلقه، وفي الآية الكريمة: «هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ المَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ»(3).

وقيل: إن وجه التسمية هو أن الله تعالى سليم من كل نقص وفقر وحاجة، فإن العرب تضع المصادر في بعض استعمالاتهم موقع اسم الفاعل.

وفي ليلة القدر: «سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِالْفَجْرِ»(4)، لأن الله عزوجل ينزل السلام لكل الناس حسب قابلياتهم وحسب مقتضى الحكمة، سلامة من

ص: 113


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 1 ص25.
2- سورة النمل: 59.
3- سورالحشر: 23.
4- سورة القدر: 5.

الفقر، وسلامة من المرض، وسلامة من الجهل، وسلامة من الفوضى، وسلامة من المحاربة، وغير ذلك من أنواع السلام، وإنما الناس بسوء أفعالهم يميلون إلى ما يضاد السلام، كما ذكرنا ذلك في تفسير هذه الآية في بعض كتبنا.

قال تعالى: «مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ»(1).

وقد ذكر بعض أهل الذكر أن كثرة تكرار اسم من أسماء الله سبحانه وتعالى يوجب إفاضة معنى ذلك الاسم على ذلك الشخص الذي يكرره، مثلاً: إذا أكثر فقير من كلمة: (يا غني)، أو أكثر ضعيف من كلمة: (يا قوي) سبب ذلك غنى الأول وقوة الثاني، وهذا أمر مجرب ولا بُعد فيه، وقد جربناه نحن في الجملة.

فإذا كان الإنسان مبتلى بمشكلة أفقدته السلام والسلامة، فكرر اسم الله سبحانه وتعالى الذي هو (السلام)، أضفى الله سبحانه عليه السلامة فيما أراده، سلامة من فقر أو مرض أو جهل أو عدو أوخوف أو ما أشبه، فإن السلامة بالمعنى الأعم تشمل كل ذلك.

ولعل من أسباب ذكر السلام في أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته كذكر (الرحمن) و(الرحيم): أن اليهود كانوا يعتقدون أن الله إله غضب وإله انتقام وإله حرق وقتل وما أشبه ذلك، كما لا يخفى على من راجع كتب اليهود.

ومن جهة أخرى نجد أن بعض الأديان تزعم أن الله حيادي بالنسبة إلى السلام وما يقابله.

ص: 114


1- سورة النساء: 79.

أما الإسلام فقد أكد على (الرحمن) و(الرحيم) و(السلام) و(الرؤوف) وما أشبه ذلك.

وهذا لا ينافي كونه تعالى عزيزاً لا يعجزه الانتقام، وكونه قاصم الجبارين، لأن ذلك استثناء وخاص بمورده، وإنما الأصل السلم والرأفة والرحمة.

وقد ورد حديث عن الإمام الرضا (عليه الصلاة والسلام): الإكثار من قول «يا رؤوف يا رحيم» لكشف الهموم وقضاء الحوائج.

عَنِ الرِّضَا (عليه السلام) قَالَ: خَرَجَ بِجَارِيَةٍ لَنَا خَنَازِيرُ فِي عُنُقِهَا(1) فَأَتَانِي آتٍ فَقَالَ: يَا عَلِيُّ قُلْ لَهَا فَلْتَقُلْ: يَا رَءُوفُ يَا رَحِيمُ يَا رَبِّ يَا سَيِّدِي، تُكَرِّرُهُ،قَالَ: فَقَالَتْهُ فَأَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ عَنْهَا، قَالَ وَ قَالَ هَذَا الدُّعَاءُ الَّذِي دَعَا بِهِ جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ»(2).

وعَنْ عَلِيِّ بْنِ الرَّيَّانِ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: شَكَوْتُ إِلَيْهِ عِلَّةَ أُمِّ وَلَدٍ لِي أَخَذْتُهَا، فَقَالَ: قُلْ لَهَا تَقُولُ فِي السُّجُودِ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ: يَا رَبِّي يَا سَيِّدِي صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وَعَافِنِي مِنْ كَذَا وَكَذَا، فَبِهَا نَجَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ مِنَ النَّارِ، قَالَ: فَعَرَضْتُ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى بَعْضِ أَصْحَابِنَا فَقَالَ: أَعْرِفُ فِيهِ يَا رَؤوفُ يَا رَحِيمُ يَا رَبِّي يَا سَيِّدِي افْعَلْ بِي كَذَا وَ كَذَا»(3).

ولعل ما روته الصديقة الزهراء (عليها السلام) من قول الله عزوجل: «يا محمد

ص: 115


1- هي قروح تحدث في الرقبة وتهلك غالبا. شرح الكافي للمازندراني: ج 10 ص354.
2- الكافي: ج 2 ص561 باب الدعاء للكرب والهم والحزن والخوف ح18.
3- الكافي: ج 3 ص328 باب السجود والتسبيح والدعاء فيه في الفرائض والنوافل وما يقال بين السجدتين ح24.

اقرأ علياً من السلام السلام» يفيد معنى أوسع من إبلاغ السلام اللفظي، إذ يحتمل أنه يدل على إيصال أنواع من السلامة والسلام من الله العلي القدير إلى أمير المؤمنين (صلوات الله عليه).

الأكرم من هارون

مسألة: يستحب بيان أن أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) أكرم على الله من هارون النبي (عليه السلام).

فإذا كان هارون (عليه السلام) واجب الإتباع يكون علي (عليه الصلاة والسلام) أوجب بالاتباع منه، فإن قوله (عليه الصلاة والسلام): «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» يراد به أصل المنزلة والخلافة ولزوم الاتباع، وإلا فعلي (عليه السلام) أفضل من موسى وهارون (عليهما السلام)، كما دل على ذلك متواتر الأدلة.

وهكذا الأئمة المعصومون (عليهم السلام) هم أفضل من جميع الأنبياء باستثناء النبي محمد (صلى الله عليه وآله).

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ أُولِي الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وفَضَّلَهُمْ بِالْعِلْمِ وأَوْرَثَنَا عِلْمَهُمْ وفَضَّلَنَا عَلَيْهِمْ فِي عِلْمِهِمْ، وعَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) مَا لَمْ يَعْلَمُوا وعَلَّمَنَا عِلْمَ الرَّسُولِ وعِلْمَهُمْ»(1).

وعَنْ سَدِيرٍ قَالَ: سَمِعْتُ حُمْرَانَ بْنَ أَعْيَنَ يَسْأَلُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) عَنْ قَوْلِ اللَّهِتَبَارَكَ وتَعَالَى: «بَدِيعُ السَّماوَاتِ وَالْأَرْضِ»(2)، قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه

ص: 116


1- بحار الأنوار: ج 26 ص194 ب15 أنهم أعلم من الأنبياء (عليهم السلام) ح1.
2- سورة البقرة: 117، سورة الأنعام: 101.

السلام): إِنَّ اللَّهَ ابْتَدَعَ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ كَانَ وابْتَدَعَ السَّمَاوَاتُ والْأَرْضُ ولَمْ يَكُنْ قَبْلَهُنَّ سَمَاوَاتٌ ولَا أَرَضُونَ، أَمَا تَسْمَعُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: «وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ»(1) فَقَالَ لَهُ حُمْرَانُ بْنُ أَعْيَنَ: أَرَأَيْتَ قَوْلَهُ «عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً»(2)، فَقَالَ لَهُ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام) : «إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ومِنْ خَلْفِهِ رَصَداً»(3)، وكَانَ واللَّهِ مُحَمَّدٌ (صلى الله عليه وآله) مِمَّنِ ارْتَضَاهُ وأَمَّا قَوْلُهُ: «عَالِمُ الْغَيْبِ»(4) فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وتَعَالَى عَالِمٌ بِمَا غَابَ عَنْ خَلْقِهِ بِمَا يُقَدِّرُ مِنْ شَيْ ءٍ ويَقْضِيهِ فِي عِلْمِهِ، فَذَلِكَ يَا حُمْرَانُ عِلْمٌ مَوْقُوفٌ عِنْدَهُ إِلَيْهِ فِيهِ الْمَشِيَّةُ فَيَقْضِيهِ إِذَا أَرَادَ، ويَبْدُو لَهُ فِيهِ فَلا يُمْضِيهِ، فَأَمَّا الْعِلْمُ الَّذِي يُقَدِّرُهُ اللَّهُ ويَقْضِيهِ ويُمْضِيهِ فَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي انْتَهَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) ثُمَّ إِلَيْنَا»(5)).

ص: 117


1- سورة هود: 7.
2- سورة الجن: 26.
3- سورة الجن: 27.
4- سورة الجن: 26.
5- بحار الأنوار: ج 26 ص165 ب12 أن عندهم جميع علوم الملائكة والأنبياء وأنهم أعطوا ما أعطاه الله الأنبياء (عليهم السلام) وأن كل إمام يعلم جميع علم الإمام الذي قبله ولا يبقى الأرض بغير عالم ح20.

بيان الأسباب

مسألة: يستحب بيان حِكَم وأسباب التكوين أو التشريع، وكذلك الترجيح(1) وما أشبه في الجملة، كما قال (صلى الله عليه وآله): «لأن هارون...».

فإن بيان الأسباب يوجب اعتقاد الناس بالمسبب أكثر فأكثر، وقد أكثر القرآن الحكيم والسنة الشريفة من ذكر علل الأحكام والقضايا وحِكَمِها، كما أشرنا إليه في بعض مباحث هذا الكتاب، مثلاً قال سبحانه: «أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْري»(2)، وقال تعالى في الصوم: «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون»(3)، إلى غير ذلك من وجوه الحكمة في وجوب الواجبات وحرمة المحرمات، وبيان القصص التي مرت، أو الأمور التي تأتي مثل: نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار: «مَا سَلَكَكُمْ في سَقَر * قالوا لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلِّين»(4).

التعليل وبيان الحِكَم

مسألة: يصح التعليل بإحدى الحِكم أو العلل المتشاركة، أو التي هي على سبيل البدل(5)، لما فيه من الفائدة، ولأن المقام قد لا يقتضي الاستيفاء، والمقام

ص: 118


1- كما في الرواية الشريفة حيث ذكر الرسول (صلى الله عليه وآله) أن علياً (عليه السلام) أكرم على الله من هارون (عليه السلام).
2- سورة طه: 14.
3- سورة البقرة: 183.
4- سورة المدثر: 42-43.
5- لعل المراد بالعلل المتشاركة: جزء العلة، والعلل على سبيل البدل: ما كان علة تامة لو انفرد، ويحتمل أن يراد بالمتشاركة: المؤثر كلٌ منها في جهة من جهات المعلول، والعلل على سبيل البدل: أجزاء العلة، أو العلل الطولية المتعاقبة، فدقق.

من هذا القبيل، فإن تعليله (صلى الله عليه وآله) ب «لأن هارون ... وعلي ...» تعليل بإحدى وجوه أكرمية علي (عليه السلام) على هارون، وإلا فإن علل تفضيله عديدة بل كثيرة (1).

حقانية النبوة

مسألة: يستحب التأكيد على حقانية نبوة الرسول (صلى الله عليه وآله)، كما قال(عليه السلام): «والذي بعث أباك بالحق نبياً».

النظر في وجه علي

مسألة: يستحب النظر في وجه علي (عليه السلام) فإنه عبادة.

ولا تبعد دعوى الملاك في النظر إلى صورته - لو كانت - بل وإلى اسمه الشريف، وإلى قبته المطهرة وضريحه المبارك أيضاً.

علماً بأن للنظر إلى الشيء الحسن من الكعبة، أو وجه علي (عليه السلام)- أو عالم دين، أو الوالدين أو ما أشبه، الأثر التكويني والوضعي مما يوجب تمايل النفس إليه، وقد ورد في عكس ذلك تقبيح النظر وذمه إلى الشطرنج والأجنبية وعدد من المحرمات والمكروهات.

ص: 119


1- راجع الأنوار النعمانية: ج1 ص28، ما رواه عن صعصعة بن صوحان في أفضلية أمير المؤمنين عليه السلام علی الأنبياء.

عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «مَنْ نَظَرَ إِلَى الْكَعْبَةِ لَمْ يَزَلْ تُكْتَبُ لَهُ حَسَنَةٌ وَتُمْحَى عَنْهُ سَيِّئَةٌ حَتَّى يَنْصَرِفَ بِبَصَرِهِ عَنْهَا»(1).

وقال (عليه السلام): «النَّظَرُ إِلَى الْكَعْبَةِ عِبَادَةٌ، وَالنَّظَرُ إِلَى الْوَالِدَيْنِعِبَادَةٌ، وَالنَّظَرُ إِلَى الإِمَامِ عِبَادَةٌ»(2).

وقال (عليه السلام): «مَنْ نَظَرَ إِلَى الْكَعْبَةِ كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ وَ مُحِيَتْ عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ»(3).

وقال (عليه السلام): «وَمَنْ نَظَرَ إِلَى الْكَعْبَةِ عَارِفاً بِحَقِّهَا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ ذُنُوبَهُ وَكَفَى مَا أَهَمَّهُ»(4).

وقال (عليه السلام): «مَنْ نَظَرَ إِلَى الْكَعْبَةِ عَارِفاً فَعَرَفَ مِنْ حَقِّنَا وَ حُرْمَتِنَا مِثْلَ الَّذِي عَرَفَ مِنْ حَقِّهَا وَحُرْمَتِهَا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ ذُنُوبَهُ كُلَّهَا وَ كَفَاهُ هَمَّ الدُّنْيَا وَ الْآخِرَةِ»(5).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَنْ نَظَرَ إِلَى عَوْرَةِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ أَوْ عَوْرَةِ غَيْرِ أَهْلِهِ مُتَعَمِّداً أَدْخَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَعَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَبْحَثُونَ عَنْ عَوْرَاتِ النَّاسِ وَ لَمْ يَخْرُجْ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّىيَفْضَحَهُ اللَّهُ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ»(6).

ص: 120


1- الكافي: ج 4 ص240 باب فضل النظر إلى الكعبة ح4.
2- الكافي: ج 4 ص240 باب فضل النظر إلى الكعبة ح5.
3- الكافي: ج 4 ص240 باب فضل النظر إلى الكعبة ح5.
4- من لا يحضره الفقيه: ج 2 ص204 باب فضائل الحج ح2141.
5- الكافي: ج 4 ص240 باب فضل النظر إلى الكعبة ح6.
6- من لا يحضره الفقيه: ج 4 ص13 باب ذكر جمل من مناهي النبي (صلى الله عليه وآله) ح4968.

وقال أبو جعفر (عليه السلام): «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) مَنْ نَظَرَ إِلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ لا تَحِلُّ لَهُ، وَرَجُلاً خَانَ أَخَاهُ فِي امْرَأَتِهِ، وَرَجُلاً احْتَاجَ النَّاسُ إِلَيْهِ لِفِقْهِهِ فَسَأَلَهُمُ الرِّشْوَةَ»(1).

وعن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «وَمَنْ نَظَرَ إِلَى الْبَيْتِ إِيمَاناً وَاحْتِسَاباً نَظْرَةً وَاحِدَةً غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ، وَمَنْ نَظَرَ إِلَى الْبَيْتِ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ عِبَادَةِ سَنَةٍ، وَ رُوِيَ أَنَّ اللَّهَ يُنْزِلُ كُلَّ يَوْمٍ عَلَى مَكَّةَ مِائَةً وَعِشْرِينَ رَحْمَةً سِتُّونَ مِنْهَا لِلطَّائِفِينَ، وَأَرْبَعُونَ لِلْعَاكِفِينَ، وَعِشْرُونَ لِلنَّاظِرِينَ»(2).

من بركات النظر

مسألة: يستحب بيان أن النظر في وجه علي (عليه السلام) يذهب الغضب، وأن رسول الله (صلى

الله عليه وآله) كان إذا نظر في وجه علي (عليه السلام) ذهب عنه الغضب.

فإن النظر إلى الشيء يوحي إلى النفس بمعاني الخير في الأمور الخيرة، ومعاني الشر في الأمور الشريرة، وحيث كان علي (عليه الصلاة والسلام) في أعلى درجات المحبوبية عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان نظره في وجهه يذهب غضبه.

وكذلك النظر إلى منقبة من مناقبه أو رواية من رواياته أو أثر من آثاره المباركة (عليه السلام).

ص: 121


1- تهذيب الأحكام: ج 6 ص224 ب87 باب من إليه الحكم وأقسام القضاة والمفتين ح534.
2- مستدرك الوسائل: ج 9 ص357 ب20 باب استحباب إكثار النظر إلى الكعبة ح11067.

وكما النظر كذلك الاستماع، كالاستماع إلى كرامة من كراماته أو حكمة من حكمه أو فضيلة من فضائله بل وحتى اسمه الشريف (عليه الصلاة والسلام).

عن الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لأَخِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) فَضَائِلَ لا تُحْصَى كَثْرَةً، فَمَنْ قَرَأَ فَضِيلَةً مِنْ فَضَائِلِهِ مُقِرّاً بِهَا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وَمَنْ كَتَبَ فَضِيلَةً مِنْ فَضَائِلِهِ لَمْ تَزَلِ الْمَلَائِكَةُ يَسْتَغْفِرُونَ لَهُ مَا بَقِيَ لِتِلْكَ الْكِتَابَةِ رَسْمٌ، وَمَنِ اسْتَمَعَ إِلَى فَضِيلَةٍ مِنْ فَضَائِلِهِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ الذُّنُوبَ الَّتِي اكْتَسَبَهَا بِالسَّمْعِ، وَمَنْ نَظَرَ إِلَى كِتَابَةٍ مِنْ فَضَائِلِهِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ الذُّنُوبَ الَّتِي اكْتَسَبَهَا بِالنَّظَرِ، ثم قال: النَّظَرُ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه

السلام) عِبَادَةٌ، وَ لا يَقْبَلُاللَّهُ إِيمَانَ عَبْدٍ إِلاّ بِوَلايَتِهِ وَ الْبَرَاءَةِ مِنْ أَعْدَائِهِ»(1).

السلام على الوصي

مسألة: يستحب السلام على الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) فإن الله كان يبلغه السلام، وفي الحديث: «تخلقوا بأخلاق الله تعالى»(2).

والظاهر أنه لا فرق في ذلك بين حياته (عليه السلام) وبعد استشهاده، كما أن الظاهر أنه (صلوات الله عليه) يرد السلام في الصورتين، وفي سلامه أو رده السلام من البركات ما لا يخفى على البصير.

هذا بالإضافة إلى إطلاقات أدلة السلام، وأدلة تعظيم علي أمير المؤمنين

ص: 122


1- بحار الأنوار: ج 26 ص229 ب1 ذكر ثواب فضائلهم وصلتهم وإدخال السرور عليهم والنظر إليهم ح10.
2- بحار الأنوار: ج 58 ص129.

(عليه الصلاة والسلام).

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «يَا أَبَتِ مَا جَزَاءُ مَنْ زَارَكَ؟ قَالَ: بُنَيَّ مَنْ زَارَنِي حَيّاً أَومَيِّتاً أَوزَارَ أَبَاكَ، كَانَ حَقّاً عَلَى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ أَنْ أَزُورَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِفَأُخَلِّصَهُ مِنْ ذُنُوبِهِ»(1).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: قَالَ الْحُسَيْنُ (صلوات الله عليه) لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): مَا جَزَاءُ مَنْ زَارَكَ؟ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ مَنْ زَارَنِي حَيّاً أَومَيِّتاً أَو زَارَ أَبَاكَ أَو زَارَ أَخَاكَ أَو زَارَكَ كَانَ حَقّاً عَلَيَّ أَنْ أَزُورَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى أُخَلِّصَهُ مِنْ ذُنُوبِهِ»(2).

وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ رَفَعَهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «يَا عَلِيُّ مَنْ زَارَنِي فِي حَيَاتِي أَو بَعْدَ مَوْتِي أَو زَارَكَ فِي حَيَاتِكَ أَو بَعْدَ مَوْتِكَ أَو زَارَ ابْنَيْكَ فِي حَيَاتِهِمَا أَو بَعْدَ مَوْتِهِمَا ضَمِنْتُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ أُخَلِّصَهُ مِنْ أَهْوَالِهَا وشَدَائِدِهَا حَتَّى أُصَيِّرَهُ مَعِي فِي دَرَجَتِي»(3).

الرضا بالربوبية والنبوة والإمامة

مسألة: يستحب بيان وإظهار الرضا بربوبية الرب ونبوة الرسول (صلى الله عليه وآله) وولاية علي (عليه السلام).

وهذا نوع شكر للنعمة، كما أن فيه جلباً للمنفعة بل المنافع، وفيه أيضاً

ص: 123


1- كامل الزيارات: ص39 ب10 ح3.
2- كامل الزيارات: ص11 ب1 ح2.
3- كامل الزيارات: ص11 ب1 ح3.

دفع للمضرة بل المضار، وقد سبق تفصيله.

ومن المعلوم أن الرضا بهذه الأمور وأمثالها يوجب رضا الله تعالى أولاً، كما يوجب اطمئنان النفس وسكون الخاطر ثانياً مما ينفع دين الإنسان ودنياه، قال سبحانه: «رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ورَضُوا عَنْهُ»(1).

إجابة الطلب

مسألة: يستحب إجابة الطلب، وإن تكرر وتنوع، خاصة إذا كان من العظيم، فكيف إذا كان من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وكون الصديقة (عليها السلام) أسوة وقدوة يرشدنا إلى ذلك، إذ قالت في كلتا المرتين: «زدني يا أبتاه»، وقد سبق نظيره.

التنوع في الخطاب

مسألة: يستحب التنوع في خطاب الأب، تارة بما يشير إلى أبوته، وأخرى بما يشير إلى مناقبه وفضائله، وقد خاطبت الصديقة الطاهرة (عليها السلام) أباها الرسول (صلى الله عليه وآله) تارة ب «يا أبتاه» - وأخرى ب «يا نبي الله».

ص: 124


1- سورة المجادلة: 22.

النظم والترتيب

مسألة: يستحب النظم والترتيب في مختلف الأمور، ومن ذلك التسلسل المنطقي في الكلام، ومن مصاديقه الابتداء من الأعلى فالأعلى فالأعلى، وهذا ما صنعته الصديقة (عليها السلام) إذا قالت: «رضيت بالله رباً، وبك يا أبتاه نبياً، وبابن عمي بعلاً وولياً».

ولعل الوجه في تقديمها (بعلاً) على (ولياً) تناسب المقام، إضافة إلى كونه (عليه السلام) ولياً عاماً وليس خاصاً بها، أما كونه بعلاً فهو خاص بها.

ص: 125

الأرض تحدّث علياً

اشارة

عن أسماء بنت عميس قالت:

سمعت سيدتي فاطمة (عليها السلام) تقول: «ليلة دخل بي علي بن أبي طالب (عليه السلام) أفزعني في فراشي»، فقلت: أفزعتِ يا سيدة النساء؟ قالت: «سمعت الأرض تحدّثه ويحدّثها، فأصبحت وأنا فزعة، فأخبرت والدي (صلى الله عليه وآله) فسجد سجدة طويلة ثم رفع رأسه وقال: يا فاطمة أبشري بطيب النسل، فإن الله فضّل بعلك على سائر خلقه، وأمر الأرض أن تحدثه بأخبارها وما يجري على وجهها من شرق الأرض إلى غربها».

-------------------------------------------

الأرض تكلمهم

مسألة: يستحب بيان أن الأرض تكلم المعصومين (عليهم السلام).

فإن كل ذرات الكون شاعرة وناطقة كما تقدمت الإشارة إليه(1)، والأنبياء والأئمة (عليهم السلام) سفراء الله سبحانه وتعالى في الأرض وحججه على جميعالخلق، ولذا كل شيء يكلمهم، وهم يتكلمون معه، من الأرض والحيوان

ص: 126


1- قال تعالى: «وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم» سورة الإسراء: 44. وقال عزوجل: «يؤمئذ تحدث الأرض أخبارها» سورة الزلزلة: 4. وقال سبحانه: «أتينا طائعين» سورة فصلت: 11.

والنبات والأبنية وغيرها.

قال تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبي مَعَهُ وَ الطَّيْرَ وَ أَلَنَّا لَهُ الحَديد»(1).

وقال سبحانه: «وَ تَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبين... فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَ جِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقين»(2) الآيات.

ولا شك أن علياً (عليه الصلاة والسلام) كالرسول (صلى الله عليه وآله) بل هو نفس الرسول (صلى الله عليه وآله)، وكان أفضل من داود (عليه السلام) حيث قال سبحانه: «يا جِبالُ أَوِّبي مَعَهُ وَ الطَّيْرَ»(3)، وقال تعالى: «وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَ مِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّه»(4)، كما أنهم (عليهم الصلاة والسلام) أفضل من الملائكة، والملائكة مطاعة في الكون بإذن الله سبحانه وتعالى.

نعم قد يتصرف المعصوم (عليه السلام) حسب القدرة الإعجازية لإثبات النبوة أو الإمامة، وكذلك في علمه بالغيب، وقد يكون مأموراً بالصبر وشبهه.عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَلَّمَتِ الشَّمْسُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) سَبْعَ مَرَّاتٍ، فَأَوَّلَ مَرَّةٍ قَالَتْ لَهُ: يَا إِمَامَ الْمُسْلِمِينَ اشْفَعْ لِي إِلَى رَبِّي أَنْ لَا يُعَذِّبَنِي، والثَّانِيَةُ قَالَتْ لَهُ: مُرْنِي أَحْرِقْ مُبْغِضِيكَ فَإِنِّي أَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ، والثَّالِثَةُ بِبَابِلَ وقَدْ فَاتَتْهُ الْعَصْرُ فَكَلَّمَهَا وقَالَ لَهَا: ارْجِعِي إِلَى

ص: 127


1- سورة سبأ: 10.
2- سورة النمل: 20 - 22.
3- سورة سبأ: 10.
4- سورة سبأ: 12.

مَوْضِعِكَ، فَأَجَابَتْهُ بِالتَّلْبِيَةِ، والرَّابِعَةُ قَالَ: يَا أَيَّتُهَا الشَّمْسُ هَلْ تَعْرِفِينَ لِي خَطِيئَةً، قَالَتْ: وعِزَّةِ رَبِّي لَو خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ مِثْلَكَ لَمْ يَخْلُقِ النَّارَ، والْخَامِسَةُ فَإِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي الصَّلَاةِ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ فَخَالَفُوا عَلِيّاً فَتَكَلَّمَتِ الشَّمْسُ ظَاهِرَةً فَقَالَتْ الْحَقُّ لَهُ وبِيَدِهِ ومَعَهُ، سَمِعَتْهُ قُرَيْشٌ ومَنْ حَضَرَهُ، والسَّادِسَةُ حِينَ دَعَاهَا فَأَتَتْهُ بِسَطْلٍ مِنْ مَاءِ الْحَيَاةِ فَتَوَضَّأَ لِلصَّلَاةِ فَقَالَ لَهَا: مَنْ أَنْتِ، فَقَالَتْ أَنَا الشَّمْسُ الْمُضِيئَةُ، والسَّابِعَةُ عِنْدَ وَفَاتِهِ حِينَ جَاءَتْ وسَلَّمَتْ عَلَيْهِ وعَهِدَ إِلَيْهَا وعَهِدَتْ إِلَيْه»(1).

وعَنْ سَلْمَانَ وأَبِي ذَرٍّ وابْنِ عَبَّاسٍ وعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) أَنَّهُ لَمَّا فَتَحَ مَكَّةَ وانْتَهَيَا إِلَى هَوَازِنَ، قَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): قُمْ يَا عَلِيُّ وانْظُرْ كَرَامَتَكَ عَلَى اللَّهِ كَلِّمِ الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ،فَقَامَ عَلِيٌّ (عليه السلام) فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكِ أَيَّتُهَا الْعَبْدُ الدَّائِبُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ رَبِّهِ، فَأَجَابَتْهُ الشَّمْسُ وهِيَ تَقُولُ: وعَلَيْكَ السَّلَامُ يَا أَخَا رَسُولِ اللَّهِ ووَصِيَّهُ وحُجَّةَ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ، فَانْكَبَّ عَلِيٌّ سَاجِداً شُكْراً لِلَّهِ تَعَالَى، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) يُقِيمُهُ ويَمْسَحُ وَجْهَهُ وقَالَ: قُمْ يَا حَبِيبِي فَقَدْ أَبْكَيْتَ أَهْلَ السَّمَاءِ مِنْ بُكَائِكَ وبَاهَى اللَّهُ بِكَ حَمَلَةَ عَرْشِهِ، ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنِي عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وأَيَّدَنِي بِوَصِيِّي سَيِّدِ الْأَوْصِيَاءِ ثُمَّ قَرَأَ «ولَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ والْأَرْضِ طَوْعاً وكَرْهاً»(2) الْآيَة(3).

وفِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وعَبَايَةَ بْنِ رِبْعِيٍ: أَنَّ عَلِيّاً (عليه السلام) ضَرَبَ

ص: 128


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) لابن شهرآشوب: ج 2 ص322.
2- سورة آل عمران: 83.
3- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) لابن شهرآشوب: ج 2 ص323.

الْأَرْضَ بِرِجْلِهِ فَتَحَرَّكَتْ فَقَالَ: اسْكُنِي فَلَمْ يَأْنِ لِكَيْ، ثُمَّ قَرَأَ: «يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها»،(1).

وعَنْ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ سَلْمَانَ، قَالَ: كُنَّا جُلُوساً عِنْدَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) إِذْ أَقْبَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَنَاوَلَهُ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) حَصَاةً، فَلَمَّا اسْتَقَرَّتِ الْحَصَاةُ فِي كَفِّهِ نَطَقَتْ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبّاً وبِمُحَمَّدٍ نَبِيّاًوبِعَلِيٍّ وَلِيّاً، فَقَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ رَاضِياً بِوَلَايَةِ عَلِيٍّ فَقَدْ أَمِنَ خَوْفَ اللَّهِ وعِقَابَه»(2).

وعن مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ آبَائِهِ، عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليهم السلام) قَالُوا: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) فِي طُرُقَاتِ الْمَدِينَةِ إِذْ جَعَلَ خَمْسَهُ فِي خَمْسِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَواللَّهِ مَا رَأَيْنَا خَمْسَيْنِ أَحْسَنَ مِنْهُمَا إِذْ مَرَرْنَا عَلَى نَخْلِ الْمَدِينَةِ فَصَاحَتْ نَخْلَةٌ أُخْتَهَا هَذَا مُحَمَّدٌ الْمُصْطَفَى وهَذَا عَلِيٌّ الْمُرْتَضَى فَاجْتَزْنَاهُمَا، فَصَاحَتْ ثَانِيَةٌ بِثَالِثَةٍ هَذَا نُوحٌ النَّبِيُّ وهَذَا إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ فَاجْتَزْنَاهُمَا، فَصَاحَتْ ثَالِثَةٌ بِرَابِعَةٍ هَذَا مُوسَى وأَخُوهُ هَارُونُ فَاجْتَزْنَاهُمَا فَصَاحَتْ رَابِعَةٌ بِخَامِسَةٍ هَذَا مُحَمَّدٌ سَيِّدُ النَّبِيِّينَ وهَذَا عَلِيٌّ سَيِّدُ الْوَصِيِّينَ، فَتَبَسَّمَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) ثُمَّ قَالَ: يَا عَلِيُّ سَمِّ نَخْلَ الْمَدِينَةِ صَيْحَانِيّاً فَقَدْ صَاحَتْ بِفَضْلِي وفَضْلِكَ»(3).

ص: 129


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) لابن شهرآشوب: ج 2 ص324.
2- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) لابن شهرآشوب: ج 2 ص326.
3- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) لابن شهرآشوب: ج 2 ص327.

سجدة الشكر

مسألة: يستحب أن يركع الإنسان خضوعاً لله، أو أن يسجد سجدة الشكر على الخبر المُسرّ، وعلى كل نعمة تتجدد له أو لغيره من المؤمنين، وعلى كل نعمة يتذكرها.

فإن شكر الله تعالى بين واجب ومستحب على ما سبق، والشكر يكون على حدوث النعمة، وكذل على دفع البلية والنقمة.

هذا بالإضافة إلى إطلاقات أدلة السجدة، وأدلة الركوع للباري تبارك وتعالى، وقد ذكرنا في الفقه استحباب الركوع مستقلاً ولو كان خارج الصلاة وبدون الذكر، وكذلك السجدة ولو خارجها وبدونه.

والظاهر أن وجه شكر الرسول (صلى الله عليه وآله) مع أن النعمة كانت لعلي (عليه السلام) لا له (صلى الله عليه وآله) مباشرة، أمور:

منها: كونها نعمة له (صلى الله عليه وآله) أيضاً، لأن المنعم عليه هو صهره، وقد قال (صلى الله عليه وآله): «فإن الله فضل بعلك...» مما يشير إلى أن نعمة الصهر الصالح فكيف بالأصلح نعمة على الإنسان نفسه وهو من أكبر النعم.ومنها: كونها نعمة له (صلى الله عليه وآله) من جهة أن ذلك سبب لطيب نسلهما (عليهما السلام)، ونسلهما نسله (صلى الله عليه وآله) إلى يوم القيامة، ولذا قال (صلى الله عليه وآله) : «أبشري بطيب النسل».

ومنها: كون المنعم عليه هو وصيه وخليفته، إضافة إلى كونه ابن عمه.

ومنها: كون هذه النعمة على وصيه دليلاً آخر على حقانيته.

ص: 130

ومنها: كونها دليلاً جديداً على لطف الله به وحبّ له (صلى الله عليه وآله).

ومنها: كونها نعمة له (صلى الله عليه وآله) أيضاً، من جهة أن علياً (عليه السلام) هو نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما في آية المباهلة(1).

إلى غير ذلك.

عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ: اشْكُرْ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْكَ، وَأَنْعِمْ عَلَى مَنْ شَكَرَكَ، فَإِنَّهُ لا زَوَالَ لِلنَّعْمَاءِ إِذَا شُكِرَتْ، وَلا بَقَاءَ لَهَا إِذَا كُفِرَتْ، الشُّكْرُ زِيَادَةٌ فِي النِّعَمِ، وَأَمَانٌ مِنَ الْغِيَرِ»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ مِنْ نِعْمَةٍ فَعَرَفَهَا بِقَلْبِهِوَحَمِدَ اللَّهَ ظَاهِراً بِلِسَانِهِ فَتَمَّ كَلامُهُ حَتَّى يُؤْمَرَ لَهُ بِالْمَزِيدِ»(3).

وعن صفوان الجمال، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال لي: «مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ بِنِعْمَةٍ صَغُرَتْ أَوْ كَبُرَتْ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ إِلاّ أَدَّى شُكْرَهَا»(4).

بشارة المؤمن

مسألة: يستحب تبشير المؤمن، وكلما ازدادت درجته وازداد إيمانه زاد الأجر بتبشيره، ولذا قال الرسول (صلى الله عليه وآله): «يا فاطمة أبشري...».

فإنه نوع من إدخال السرور في قلبه وهو مستحب، كما أن كشف همه

ص: 131


1- سورة آل عمران: 61.
2- الكافي: ج 2 ص94 باب الشكر ح3.
3- الكافي: ج 2 ص95 باب الشكر ح9.
4- الكافي: ج 2 ص96 باب الشكر ح14.

كذلك، بل الأمر بالنسبة إلى غير المؤمن أيضاً كذلك(1) وإن اختلف في درجات الثواب.

قال علي (عليه الصلاة والسلام): «الناس صنفان، إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق»(2).وقال (صلى الله عليه وآله): « لِكُلِ كَبِدٍ حَرَّى أَجْر»(3).

وما أشبه ذلك مما يدل على أن الإنسان بما هو إنسان له كرامة عند الله عزوجل.

وقال أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): «قال اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: الْخَلْقُ عِيَالِي فَأَحَبُّهُمْ إِلَيَّ أَلْطَفُهُمْ بِهِمْ وأَسْعَاهُمْ فِي حَوَائِجِهِمْ»(4).

كما يمكن فهم ما نحن فيه من هذه النصوص ولو بالملاك.

النسل الطيب

مسألة: ينبغي السعي في سبيل أن يكون النسل نسلاً طيباً.

ورجحانه مما لا شك فيه، كما أن هذا الخبر يدل عليه، فإن قوله (صلى الله عليه وآله): «أبشري بطيب النسل» مبني على مقدمة مطوية عُدت مسلّمة، وهي:

ص: 132


1- نعم يستثنى من ذلك الناصبي وشبهه.
2- نهج البلاغة: 427 الكتاب53، ومن كتاب له (عليه السلام) كتبه للأشتر النخعي (رحمه الله) لما ولاه على مصر وأعمالها حين اضطرب أمر أميرها محمد بن أبي بكر، وهو أطول عهد كتبه وأجمعه للمحاسن.
3- جامع الأخبار: ص139 الفصل التاسع والتسعون في كسب الحلال.
4- الكافي:ج 2 ص199 باب السعي في حاجة المؤمن ح10.

إن طيب النسل نعمة يستحق عليها الشكر.

والمراد بالنسل الطيب ما لا خبثفيه(1)، ولا ينتهي أمره إلى الفساد كالسرقة والظلم والقتل وما أشبه ذلك من المحرمات، وإذا كان الأمر كذلك فاللازم السعي في سبيله، وفي القرآن الحكيم: «فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً»(2).

بل قد ورد استحباب أكل بعض الأشياء لجمال الولد والطيب في الخَلق، فكيف بالطيب في الخُلق، قال الأعشم في شعر له:

وفي السفرجل الحديث قد ورد ** تأكله الحبلى فيحسن الولد

وفي الحديث: «إن الله جميل ويحب الجمال»(3).

ومن المعلوم أن الجمال يشمل جمال النفس وجمال الروح وجمال الخَلق وجمال الخُلق، وغيرها.

العلم ركن في القيادة

مسألة: العلم من أهم أركان قيادة الأمة، فمن كان يريد الإدارة والإرشاد لابد أن يكون مطلعاً على أخبار العالَم من شرقها وغربها، فإن استقامة الإدارة متوقفة عليه.

ص: 133


1- خبث المولد يشمل: الولادة عن حرام كالزنا، والولادة عن طعام حرام، كما لو أكل المحرم فصارت نطفة، وإن كانت الولادة عن نكاح شرعي لا سفاح.
2- كجمال العقل، وجمال المحضر، وجمال الذرية الصالحة.
3- الكافي: ج 6 ص438 باب التجمل وإظهار النعمة ح1.

قال أبو عبد الله (عليه الصلاة والسلام): «العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس»(1).

ومن هنا ولغيره أيضاً، كانت إحاطة رسول الله والأئمة الأطهار (صلوات الله عليه وعليهم أجمعين) والإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف) بأخبار الكون كله.قال تعالى: «تَنَزَّلُ (2) الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ»(3).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أنا مدينة العلم وعلي بابها»(4).

وقال سبحانه: «وعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها»(5).

ص: 134


1- الكافي: ج 1 ص27 كتاب العقل والجهل ح29. واللّوابس جمع اللّابس على غير قياس، كالفوارس جمع فارس، من اللّبس بالضمّ مصدر لبست الثوب ألبسه أو بالفتح مصدر لبست عليه الأمر ألبسه أي خلطته، ومنه قوله تعالى: «ولَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ» سورة الأنعام: 9، والتبس عليه الأمر أى اختلط واشتبه، أو جمع لبسة، يقال: في الأمر لبسة بالضمّ أي شبهة ليس بواضح، والمقصود أنّ العالم بأحوال أبناء زمانه وعاداتهم الفاسدة ورسومهم الكاسدة من إنكار الحقوق واتّباع أهواء النفوس وترويج الشرور وإعلان قول الزّور لا تهجم عليه اللّوابس، أي الّذين يلبسون الحقّ بالباطل والنور بالظلمة والأمر الواضح بالشبهة. شرح الكافي، للمازندراني: ج 1 ص421.
2- فإن (تنزل) فعل مضارع وهو يدل على الاستمرار، فدلت الآية على استمرار تنزل الملائكة في ليلة القدر كل عام منذ زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحتى آخر أعوام الدنيا، وما ذلك إلا على قلب أوصياء رسول الله المعصومين (صلى الله عليه وعليهم أجمعين).
3- سورة القدر: 4.
4- راجع المستدرك للحاكم النيسابوري: ج3 ص126 باب أنا مدينة العلم وعليّ بابها؛ مجمع الزوائد: ج9 ص114، باب في علمه (عليه السلام)، المعجم الكبير: ج11 ص55، كنزالعمّال: ج13 ص148، فضائل علي عليه السلام: ح36463، سنن الترمذي: ج5 ص63.
5- سورة البقرة: 31.

وقال تعالى: «يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وأُوتينا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ»(1).

والحاصل: إن مقتضى حكمة الله تعالى تعليمهم (عليهم السلام) تلك العلوم كلها، فإنهم (صلوات الله عليهم) وسائط فيضه.

وقد ورد: «بيمنه رزق الورى،وبوجوده ثبتت الأرض والسماء»(2).

كما ورد: «إرادة الرب في مقادير أموره تهبط إليكم، وتصدر عن بيوتكم»(3).

ضبط النفس

مسألة: من اللازم السيطرة والتسلط على النفس في مختلف الأحوال وخاصة لدى الطوارئ وفي الاضطرابات المادية والروحية وفي الظروف الصعبة.

وفي الأحاديث: «وقور عند الهزاهز»(4).

وأما فزع الصديقة فاطمة (عليها الصلاة والسلام) فليس من عدم السيطرة على النفس كما هو واضح، بل هو رد فعل طبيعي لما رأته من شيء غير معتاد، مضافاً إلى كونه تبييناً لفضائل أمير المؤمنين (عليه السلام).

وقد ورد في حق الأنبياء (عليهم السلام) مثل هذه الاستجابات الطبيعية

ص: 135


1- سورة النمل: 16.
2- زاد المعاد: ص423، دعاء العديلة الكبير.
3- الكافي: ج 4 ص577 باب زيارة قبر أبي عبد الله الحسين بن علي (عليهما السلام) ح2.
4- الكافي: ج 2 ص47 باب خصال المؤمن ح1.

للحوادث، قال تعالى: «فَأَوْجَسَ في نَفْسِهِ خيفَةًمُوسَى»(1).

وقال سبحانه: «فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَ بَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَليمٍ»(2).

وقال تعالى: «فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ»(3).

وقال سبحانه: «فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ»(4).

فالإنسان قد يفزع من شيء لكنه يسيطر على نفسه، فيتصرف ويتعامل معه وفق الحكمة والرضا الرباني، وقد يفزغ ويفقد أعصابه وسيطرته على نفسه فيتصرف بما لا يليق أو بخلاف المرضاة الإلهية.

لا يقال: كيف الفزع والصديقة (عليها السلام) تعلم بما كان وبما يكون وبما هو كائن؟

لأنه يقال: قد ذكرنا في بعض المباحث السابقة في هذا الكتاب وغيره أن العلم والقدرة من المعصومين (عليهم أفضل الصلاة والسلام) لا تؤثر عادة في أعمالهم الطبيعية العادية - إلا بإذن الله -، وذلك ليكونوا أسوة للجميع، ولهذا كانوا يبكون عند موت أحدهم مع أنهميعلمون بأنه انتقل إلى مكان أحسن، كما بكى رسول الله (صلى الله عليه وآله) على ولده إبراهيم (عليه السلام)، وكذلك ما ومن أشبه، مع أنه يعلم بدخوله جنة عدن لا تقاس بالدنيا، وهل يبكي أحد إذا رأى

ص: 136


1- سورة طه: 67.
2- سورة الذاريات: 28.
3- سورة القصص: 21.
4- سورة الشعراء: 21.

ولده انتقل من مكان سيء إلى مكان حسن؟

وهكذا بالنسبة إلى القدرة، حيث كانوا لا يتصرفون عادة حسب ما لديهم من القدرات الخارقة - إلا بإذن الله -، وإلاّ لم يتخذوا أسوة، قال سبحانه: «وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُون»(1).

ويحتمل أن يكون فزع الصديقة الزهراء (عليها السلام) لا من أصل سماعها الأرض تحدث علياً (عليه السلام) ويحدثها، بل من مضامين ما نقلته الأرض لعلي (صلوات الله عليه) من الأخبار(2).

وربما الفزع كان من عظمة الله عزوجل وآثاره في خلقه.

وربما كان الفزع من خوف الله تعالى، حيث تذكرت يوم القيامة وأن الأرضتحدّث، كما قال عزوجل: «يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها»(3).

السجدة الطويلة

مسألة: يستحب تطويل السجدة وإن لم ينشغل فيها بذكر، نعم الذكر أفضل كما لا يخفى، والأدلة على استحباب ذلك متواتر الروايات قولاً وفعلاً، فقد كانوا (عليهم الصلاة والسلام) أصحاب السجدة الطويلة ذاكرين الله عزوجل.

وفي الأحاديث أن حالة السجدة هي أقرب الحالات إلى الله سبحانه، إلى

ص: 137


1- سورة الأنعام: 9.
2- ولنفرض مثلا نقل الأرض للإمام (عليه السلام) أخباراً عن تعذيب الكفار، أو ما يجري عليها من الظلم على المؤمنين، أو عن بلايا أخرى تنزل بأهل الأرض.
3- سورة الزلزلة: 4.

غير ذلك مما ذكر في باب السجود من الفقه(1) وكُتب الحديث(2)، وفي هذه الرواية: «فسجد سجدة طويلة».

عَنِ الْوَشَّاءِ، قَالَ: سَمِعْتُ الرِّضَا (عليهالسلام) يَقُولُ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ وهُو سَاجِدٌ» (3) الحديث.

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هِلَالٍ قَالَ: شَكَوْتُ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) تَفَرُّقَ أَمْوَالِنَا ومَا دَخَلَ عَلَيْنَا، فَقَالَ: عَلَيْكَ بِالدُّعَاءِ وأَنْتَ سَاجِدٌ، فَإِنَّ أَقْرَبَ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ إِلَى اللَّهِ وهُوَ سَاجِدٌ.

قَالَ: قُلْتُ: فَأَدْعُو فِي الْفَرِيضَةِ وأُسَمِّي حَاجَتِي، فَقَالَ: نَعَمْ قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) فَدَعَا عَلَى قَوْمٍ بِأَسْمَائِهِمْ وأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ وفَعَلَهُ عَلِيٌّ (عليه السلام) بَعْدَهُ»(4).

وعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) وهُوَ يَقُولُ: إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَطَالَ السُّجُودَ حَيْثُ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ قَالَ الشَّيْطَانُ: وَا وَيْلَاهْ أَطَاعُوا وعَصَيْتُ، وسَجَدُوا وأَبَيْتُ. وقَالَ أَبُوعَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ

ص: 138


1- راجع موسوعة (الفقه): كتاب الصلاة.
2- راجع الكافي: باب السجود والتسبيح والدعاء فيه في الفرائض والنوافل وما يقال بين السجدتين. ووسائل الشيعة: ب11 باب استحباب السجود على الخمرة واتخاذها وجواز السجود على الخمرة المعمولة من سعف النخل ونحوها لا بسيور. ومستدرك الوسائل ومستنبط المسائل: ب6 باب استحباب السجود للشكر وإطالته وإلصاق الخدين بالأرض عند حصول النعم ودفع النقم وعند تذكر نعمة الله ولوبالإيماء مع الانحناء عند خوف الشهرة.
3- الكافي: ج 3 ص265 باب فضل الصلاة ح3.
4- الكافي: ج 3 ص324 باب السجود والتسبيح والدعاء فيه في الفرائض والنوافل وما يقال بين السجدتين ح11.

إِلَى اللَّهِ وهُوَ سَاجِدٌ»(1).

ولا يخفى أن قولها (عليها السلام): «سجدة طويلة» بلحاظ أن الطول والقصرأمران نسبيان، يختلف باختلاف حالات الفرد والآخرين، وقياس بعضها إلى بعض قد تدل على فترة طويلة جداً من السجود، لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان أهل العبادة، وكذلك كانت الزهراء (عليها السلام) حيث كانت تقوم الليل على قدميها للعبادة حتى تورمتا(2)، فسجداتهم العادية هي طويلة فكيف بسجدتهم الطويلة، فقولها (عليها السلام) «سجد (صلى الله عليه وآله) سجدة طويلة» له الدلالة البالغة.

ص: 139


1- ثواب الأعمال وعقاب الأعمال: ص34 ثواب من أطال السجود.
2- مناقب آل أبي طالب عليهم السلام (لابن شهرآشوب): ج 3 ص341 فصل في سيرتها.

سجود المعصومين

سجود النبي

عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) عِنْدَ عَائِشَةَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَقَامَ يَتَنَفَّلُ، فَاسْتَيْقَظَتْ عَائِشَةُ فَضَرَبَتْ بِيَدِهَا فَلَمْ تَجِدْهُ فَظَنَّتْ أَنَّهُ قَدْ قَامَ إِلَى جَارِيَتِهَا، فَقَامَتْ تَطُوفُ عَلَيْهِ فَوَطِئَتْ عُنُقَهُ (صلى الله عليه وآله) وهُو سَاجِدٌ بَاكٍ يَقُولُ: سَجَدَ لَكَ سَوَادِي وخَيَالِي وآمَنَ بِكَ فُؤَادِي، أَبُوءُ إِلَيْكَ بِالنِّعَمِ وأَعْتَرِفُ لَكَ بِالذَّنْبِ الْعَظِيمِ، عَمِلْتُ سُوءاً وظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذَّنْبَ الْعَظِيمَ إِلَّا أَنْتَ، أَعُوذُ بِعَفْوِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وأَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وأَعُوذُ بِرَحْمَتِكَ مِنْ نَقِمَتِكَ وأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لَا أَبْلُغُ مَدْحَكَ والثَّنَاءَ عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ، أَسْتَغْفِرُكَ وأَتُوبُ إِلَيْكَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: يَا عَائِشَةُ لَقَدْ أَوْجَعْتِ عُنُقِي أَيَّ شَيْ ءٍ خَشِيتِ؟ أَنْ أَقُومَ إِلَى جَارِيَتِكِ؟»(1).

سجود أمير المؤمنين

إن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان إذا سجد سجدة الشكر غُشي عليه من خشيةالله تعالى (2).

ص: 140


1- الكافي: ج 3 ص324 ح12.
2- إرشاد القلوب إلى الصواب (للديلمي): ج 1 ص105.

سجود الإمام زين العابدين

عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاقِرِ (عليهما السلام) قَالَ: «كَانَ لِأَبِي (عليه السلام) فِي مَوْضِعِ سُجُودِهِ آثَارٌ نَأْتِيهِ، وكَانَ يَقْطَعُهَا فِي السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ، فِي كُلِّ مَرَّةٍ خَمْسَ ثَفِنَاتٍ، فَسُمِّيَ ذَا الثَّفِنَاتِ لِذَلِك»(1).

وقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْبَاقِرُ (عليهما السلام): إِنَّ أَبِي عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ (عليهما السلام) مَا ذَكَرَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِلَّا سَجَدَ، ولَا قَرَأَ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ فِيهَا سُجُودٌ إِلَّا سَجَدَ، ولَا دَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ سُوءً يَخْشَاهُ أَوْ كَيْدَ كَائِدٍ إِلَّا سَجَدَ، ولَا فَرَغَ مِنْ صَلَاةٍ مَفْرُوضَةٍ إِلَّا سَجَدَ، ولَا وُفِّقَ لِإِصْلَاحٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ إِلاّ سَجَدَ، وكَانَ أَثَرُ السُّجُودِ فِي جَمِيعِ مَوَاضِعِ سُجُودِهِ فَسُمِّيَ السَّجَّادَ لِذَلِك»(2).

سجود الإمام الصادق

رُوِيَ عَنْ مَنْصُورٍ الصَّيْقَلِ قَالَ: حَجَجْتُ فَمَرَرْتُ بِالْمَدِينَةِ فَأَتَيْتُ قَبْرَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ثُمَّ الْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) سَاجِداً،فَجَلَسْتُ حَتَّى مَلِلْتُ، ثُمَ قُلْتُ: لَأُسَبِّحَنَّ مَا دَامَ سَاجِداً، فَقُلْت: سُبْحَانَ رَبِّي وبِحَمْدِهِ، أَسْتَغْفِرُ رَبِّي وأَتُوبُ إِلَيْهِ، ثَلَاثَمِائَةِ مَرَّةٍ ونَيِّفاً وسِتِّينَ مَرَّةً، فَرَفَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ نَهَضَ فَاتَّبَعْتُهُ وأَنَا أَقُولُ فِي نَفْسِي: إِنْ أُذِنَ لِي فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ

ص: 141


1- علل الشرائع: ج 1 ص233 ح1.
2- علل الشرائع: ج 1 ص232-233 ح1.

قُلْتُ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ أَنْتُمْ تَصْنَعُونَ هَكَذَا فَكَيْفَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَصْنَعَ، فَلَمَّا وَقَفْتُ عَلَى الْبَابِ خَرَجَ إِلَيَّ مُصَادِفٌ فَقَالَ لِيَ: ادْخُلْ يَا مَنْصُورُ، فَدَخَلْتُ فَقَالَ لِي مُبْتَدِئاً: يَا مَنْصُورُ إِنَّكُمْ إِنْ أَكْثَرْتُمْ أَو أَقْلَلْتُمْ فَواللَّهِ لَا يُقْبَلُ إِلَّا مِنْكُم»(1).

سجود الإمام الكاظم

قَالَ الثَّوْبَانِيُّ: كَانَتْ لِأَبِي الْحَسَنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ (عليهما السلام) بِضْعَ عَشْرَةَ سَنَةً كُلَّ يَوْمٍ سَجْدَةٌ بَعْدَ انْقِضَاضِ الشَّمْسِ إِلَى وَقْتِ الزَّوَالِ، فَكَانَ هَارُونُ رُبَّمَا صَعِدَ سَطْحاً يُشْرِفُ مِنْهُ عَلَى الْحَبْسِ الَّذِي حُبِسَ فِيهِ أَبُو الْحَسَنِ (عليه السلام) فَكَانَ يَرَى أَبَا الْحَسَنِ (عليه السلام) سَاجِداً فَقَالَ لَلرَّبِيعِ: يَا رَبِيعُ مَا ذَاكَ الثَّوْبُ الَّذِي أَرَاهُ كُلَّ يَوْمٍ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ مَا ذَاكَ بِثَوْبٍ وإِنَّمَا هُوَ مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ (عليهما السلام) لَهُ كُلَّ يَوْمٍ سَجْدَةٌ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى وَقْتِ الزَّوَالِ، قَالَالرَّبِيعُ: فَقَالَ لِي هَارُونُ: أَمَا إِنَّ هَذَا مِنْ رُهْبَانِ بَنِي هَاشِمٍ، قُلْتُ: فَمَا لَكَ قَدْ ضَيَّقْتَ عَلَيْهِ فِي الْحَبْسِ، قَالَ: هَيْهَاتَ لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ(2).

وفي كتاب الإرشاد: وكَانَ أَبُوالْحَسَنِ مُوسَى (عليه السلام) أَعْبَدَ أَهْلِ زَمَانِهِ وأَفْقَهَهُمْ وأَسْخَاهُمْ كَفّاً وأَكْرَمَهُمْ نَفْساً، ورُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي نَوَافِلَ اللَّيْلِ ويَصِلُهَا بِصَلَاةِ الصُّبْحِ ثُمَّ يُعَقِّبُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ويَخِرُّ لِلَّهِ سَاجِداً فَلَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنَ الدُّعَاءِ والتَّمْجِيدِ حَتَّى يَقْرُبَ زَوَالُ الشَّمْسِ، وكَانَ يَدْعُو كَثِيراً فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الرَّاحَةَ عِنْدَ الْمَوْتِ، والْعَفْوَ عِنْدَ الْحِسَابِ، ويُكَرِّرُ ذَلِكَ، وكَانَ مِنْ دُعَائِهِ: عَظُمَ الذَّنْبُ مِنْ عَبْدِكَ فَلْيَحْسُنِ الْعَفْومِنْ عِنْدِكَ، وكَانَ يَبْكِي

ص: 142


1- الخرائج والجرائح: ج 2 ص762.
2- عيون أخبار الرضا عليه السلام: ج 1 ص95 ب7 ح14.

مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ حَتَّى تَخْضَلَّ لِحْيَتُهُ بِالدُّمُوع (1).

أفضل الخلق

مسألة: يستحب بيان أن الله قد فضّل علياً (عليه السلام) على سائر خلقه ما عدا الرسول (صلى

الله عليه وآله)، حيث إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو أفضل الخلق على الإطلاق، ثم من بعده علي (عليه الصلاةوالسلام)، كما أشرنا إلى ذلك في بعض مواضع هذا الكتاب وغيره.

وبيان مثل ذلك يوجب التفاف الناس حول المعصومين (عليهم السلام) أكثر فأكثر، لما ينفع دينهم ودنياهم كما تكرر الإلماع إلى ذلك.

سعة علم المعصوم

مسألة: يستحب بيان أن المعصوم (عليه السلام) يعلم أخبار الأرض وما يجري عليها من شرقها إلى غربها وغير ذلك بإذن الله تعالى.

وقد أشير إليه في القرآن الحكيم بقوله تعالى: «عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلىَ غَيْبِهِ أَحَدا إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ»(2)، فمن الواضح أن الرسول (صلى الله عليه وآله) من باب المثال الأجلى، وإلاّ فكل من أراد الله عزوجل له علم الغيب فإنه يعلمه بإذنه الله سبحانه

ص: 143


1- الإرشاد: ج2 ص231.
2- سورة الجن: 26-27.

.

هذا إضافة إلى احتمال إرادة (الرسول) بالمعنى الأعم(1).

التوجه إلى المعصوم

مسألة: يستحب التوجه إلى الرسول (صلى الله عليه وآله) وإلى أهل بيته (عليهم السلام) عند الفزع، لأنهم (عليهم السلام) واسطة الفيض، وهم قادرون على حل المشاكل بإذن الله سبحانه، فهُم في المعنويات مثل ما يراجع المريض الطبيب في الماديات، بل أقوى وأعلا درجة.

ولذا نجد الصديقة فاطمة (عليها السلام) ذهبت إلى أبيها (صلى الله عليه وآله) إذ فزعت وأخبرته بالسبب، نعم قد يقال بأن فزعها (عليها السلام)كان صورياً لإرادة التعليم وإظهار الحقائق وبيان فضل أمير المؤمنين (عليه السلام) على لسان رسول الله (صلى الله عليه وآله).

تحمل المسؤولية

مسألة: يجب على المؤمن تحمل المسؤولية الشرعية، في مختلف الظروف والحالات، فإنه لا وقت ولا حد للمسؤولية، فإن الإنسان المؤمن مسؤول، كما قال (صلى الله عليه وآله): «كلكم راعوكلكم مسؤول عن رعيته»(2).

ص: 144


1- قال الإمام المؤلف (قدس سره): (وعلم الأئمة (عليهم السلام) بواسطة الرسول (صلى الله عليه وآله)، والمراد بالغيب الخاص بالله، أما ما جعل الله له طرقاً ولو بواسطة تصفية النفس كما نرى في بعض الزهاد ومن إليهم فليس من الغيب الخاص بالله)، انظر تبيين القرآن: ص590، سورة الجن: 27.
2- غوالي اللئالي: ج 1 ص364 ح51.

سواء كان رجل دين أم لا، كالكاسب والطالب والزارع والموظف وغير ذلك، وسواء كان في محل عمله أم في منزله، وسواء كان في عطلة أم نزهة أم لا.

فإن المسؤولية في بعض مصاديقها واجب عيني، وفي بعضها كفائي ولكنه لم يقم بها من فيه الكفاية في زماننا، بل في غالب الأزمنة، وربما يقال لم يوجد زمان قام بالمسؤولية - من هداية العباد وإرشادهم، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك - من فيه الكفاية.

وفي هذا الحديث تشير الصديقة الزهراء (عليها السلام) إلى أن أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) استمر في حديثه مع الأرض واستمرت الأرض في نقل الأخبار له حتى في ليلة الزفاف.

ص: 145

الزلزلة

اشارة

عن فاطمة (عليها السلام) قالت:

«أصاب الناس زلزلة على عهد أبي بكر، ففزع الناس إلى أبي بكر وعمر، فوجدوهما قد خرجا فزعين إلى علي (عليه السلام)، فتبعهما الناس إلى أن أنتهوا إلى باب علي (عليه السلام)، فخرج إليهم علي (عليه السلام) غير مكترث لما هم فيه، فمضى واتّبعه الناس حتى انتهى إلى تلعة، فقعد عليها وقعدوا حوله وهم ينظرون إلى حيطان المدينة ترتجّ جائية وذاهبة».

-------------------------------------------

- أقول: ولعل الزلزلة كانت مكررة، كما قد يتفق حيث تستقر الأرض ثم تتزلزل مرة أخرى، لأنها طالت تلك المدة - .

فقال لهم علي (عليه السلام): كأنكم قد هالكم ما ترون؟

قالوا: وكيف لا يهولنا ولم نر مثلها قط. قالت: فحرك شفيته، ثم ضرب الأرض بيده، ثم قال: ما لك، اسكني، فسكنت. فعجبوا من ذلك أكثر من تعجبهم أولاً حيث خرجوا إليه. قال لهم: فإنكم قد عجبتم من صنعتي؟ قالوا: نعم. قال: «أنا الرجل الذي قال الله: «إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالها * وقال الْإِنْسانُ ما لَها»(1)، فأنا الإنسان الذي يقول لها ما لك، «يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَهَا»(2) تحدث».

-------------------------------------------

ص: 146


1- سورة الزلزلة:1 - 3.
2- سورة الزلزلة: 4.

أقول: يحتمل أنه يكون كلامه (عليه السلام) تأويلاً للآية المباركة، إذ الآيةوردت في شأن زلزلة القيامة، والظاهر أنه لا حاجة للقول بالتأويل، إذ الإمام (عليه السلام) فسر (الإنسان) في الآية الشريفة بأنه هو المقصود، فتكون (أل) فيه للعهد، ولم يفسر تلك الزلزلة ويطبق عليها الآية الكريمة ليقال إنه تأويل.

وربما يقال المراد بالإنسان في الآية الأعم، وأل للجنس أو الاستغراق، وعلى هذا فإن تفسيرها به (صلوات الله عليه) تفسير بأظهر المصاديق.

وكم من آية أو سورة نزلت فيهم (عليهم السلام).

كما قال (عليه السلام) في كثير من الآيات: «نزلت فينا»(1).

وقال (عليه السلام): «نزلت فينا خاصة»(2).وقال (عليه السلام): «نزلت فينا أهل البيت»(3).

ص: 147


1- انظر تأويل الآيات الظاهرة: ص 353، سورة المؤمنون وما فيها من الآيات، قال: حدثنا أبو الحسن علي بن موسى بن جعفر، عن أبيه، عن أبيه جعفر (عليهم السلام)، قال: سألته عن قول الله عز و جل: «فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» قال: «نزلت فينا».
2- انظر الكافي: ج8 ص93 وفيه: عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ الْخَالِقِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) يَقُولُ لِأَبِي جَعْفَرٍ الْأَحْوَلِ وَأَنَا أَسْمَعُ: أَتَيْتَ الْبَصْرَةَ، فَقَالَ: نَعَمْ، قَالَ: كَيْفَ رَأَيْتَ مُسَارَعَةَ النَّاسِ إِلَى هَذَا الْأَمْرِ وَدُخُولَهُمْ فِيهِ، قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّهُمْ لَقَلِيلٌ، وَلَقَدْ فَعَلُوا وَإِنَّ ذَلِكَ لَقَلِيلٌ، فَقَالَ: عَلَيْكَ بِالْأَحْدَاثِ فَإِنَّهُمْ أَسْرَعُ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ، ثُمَّ قَالَ: مَا يَقُولُ أَهْلُ الْبَصْرَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى»، قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ إِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّهَا لِأَقَارِبِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله)، فَقَالَ: «كَذَبُوا إِنَّمَا نَزَلَتْ فِينَا خَاصَّةً فِي أَهْلِ الْبَيْتِ فِي عَلِيٍّ وَ فَاطِمَةَ وَ الْحَسَنِ وَ الْحُسَيْنِ أَصْحَابِ الْكِسَاءِ عليهم السلام».
3- انظر البرهان في تفسير القرآن: ج 4 ص330 روي عن أبي جعفر محمد بن علي (عليهم السلام)، في قوله: «والَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وإِنَّ اللَّهَ لَمَعليه السلام الْمُحْسِنِينَ»، قال: نزلت فينا أهل البيت.

وقال (عليه السلام): «نزلت فينا وفي شيعتنا»(1).

وقال (عليه السلام): «سورة الرحمن نزلت فينا، من أولها إلى آخرها»(2).وقال موسى بن جعفر (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام) في قول الله عزوجل: «الَّذينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍ»(3)، قال: «نزلت فينا خاصة في أمير المؤمنين وذريته وما ارتكب من أمر فاطمة عليها السلام»(4).

الولاية التكوينية

مسألة: يستحب بيان أن ما في الكون كله مطيع للمعصومين (عليهم السلام) بإذن الله تعالى، ويلزم الاعتقاد بذلك، فإنه مقتضى حكمة الله تعالى، إذ جعل وسائط الفيض ووسائط التدبير وغيرهما، قال تعالى: «فَالمُدَبِّراتِ أَمْراً»(5).

وقال سبحانه: «تَنَزَّلُ

المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ»(6).

ص: 148


1- انظر تفسير فرات الكوفي: ص667، وفيه عن الصادقين عليهم السلام: «فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ ولا صَدِيقٍ حَمِيمٍ»: نزلت فينا وفي شيعتنا وذلك أن اللّه يفضلنا ويفضل شيعتنا حتّى أنّا لنشفع ويشفعون فإذا رأى ذلك من ليس منهم قالوا: «فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ ...».
2- تأويل الآيات الظاهرة في فضائل العترة الطاهرة: ص611.
3- سورة الحج: 40.
4- تأويل الآيات الظاهرة في فضائل العترة الطاهرة: ص335.
5- سورة النازعات: 5.
6- سورة القدر: 4.

وقال تعالى: «وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ»(1).إلى غير ذلك مما ذكر في علم الكلام والعقائد.

وقد ورد في الزيارة: (وأَشْهَدُ أَنَّكُمُ الْأَئِمَّةُ الرَّاشِدُونَ الْمَهْدِيُّونَ، وأَنَ طَاعَتَكُمْ عَلَيْنَا وعَلَى كُلِّ الْخَلْقِ مَفْرُوضَةٌ، وأَنَّ قَوْلَكُمُ الصِّدْقُ، وأَنَّكُمْ دَعَوْتُمْ فَلَمْ تُجَابُوا، وأَمَرْتُمْ فَلَمْ تُطَاعُوا، وأَنَّكُمْ دَعَائِمُ الدِّينِ وأَرْكَانُ الْأَرْض)(2).

وفي الرواية: (ولَقَدْ كَانَتْ (صلوات الله عليها) طَاعَتُهَا مَفْرُوضَةً عَلَى جَمِيعِ مَنْ خَلَقَ اللَّهُ مِنَ الْجِنِّ، والإِنْسِ، والطَّيْرِ، والْبَهَائِمِ، والأَنْبِيَاءِ، والمَلائِكَةِ) (3).

خوف الناس واضطرابهم

مسألة: يستحب السعي في رفع الخوف والقلق والاضطراب عن الناس، وقد يكون واجباً، سواء بواسطة الأمور الغيبية كالدعاء والصدقة عنهم، أم بالأمور المادية والأسباب الطبيعية.

فإن تفريج الكرب عن الإنسان مستحب،وقد يكون واجباً فيما كما إذا كان من مصاديق دفع الضرر الكثير، وقد قال عيسى (عليه الصلاة والسلام) ما مضمونه: التارك مداواة الجريح كالجارح له.

وعن أبي عبد الله (عليه السلام): أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) قال: «مَنْ أَصْبَحَ

ص: 149


1- سورة التوبة: 74.
2- كتاب المزار، مناسك المزار (للمفيد): ص187، 13زيارة أخرى لهم مختصرة.
3- دلائل الإمامة: ص106 خبر مصحفها صلوات الله عليها. وراجع أيضاً: بحار الأنوار: ج23 ص283 باب17 وجوب طاعتهم وأنها المعنى بالملك العظيم وأنهم أولو الأمر وأنهم الناس المحسودون.

لَا يَهْتَمُّ بِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ مِنْهُمْ، ومَنْ سَمِع رَجُلًا يُنَادِي يَا لَلْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يُجِبْهُ فَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ»(1).

على تفصيل ذكرناه في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من (الفقه)(2).

وفي تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) قال:

«مَا مِنْ رَجُلٍ رَأَى مَلْهُوفاً فِي طَرِيقٍ بِمَرْكُوبٍ لَهُ قَدْ سَقَطَ وَهُوَ يَسْتَغِيثُ فَلَا يُغَاثُ، فَأَغَاثَهُ وَحَمَلَهُ عَلَى مَرْكُوبِهِ وَسَوَّى لَهُ إِلَّا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ: كَدَدْتَ نَفْسَكَ وَبَذَلْتَ جُهْدَكَ فِي إِغَاثَةِ أَخِيكَ هَذَا الْمُؤْمِنِ، لَأَكُدَّنَّ مَلَائِكَةً هُمْ أَكْثَرُ عَدَداً مِنْ خَلَائِقِ الإِنْسِ كُلِّهِمْ مِنْ أَوَّلِ الدَّهْرِ إِلَى آخِرِهِ، وَأَعْظَمُ قُوَّةً كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِمَّنْ يَسْهُلُ عَلَيْهِ حَمْلُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ،لِيَبْنُوا لَكَ الْقُصُورَ وَالْمَسَاكِينَ وَيَرْفَعُوا لَكَ الدَّرَجَاتِ، فَإِذَا أَنْتَ فِي جِنَانِي كَأَحَدِ مُلُوكِهَا الْفَاضِلِينَ.

وَمَنْ دَفَعَ عَنْ مَظْلُومٍ قُصِدَ بِظُلْمٍ ضَرَراً فِي مَالِهِ أَوْ بَدَنِهِ، خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ حُرُوفِ أَقْوَالِهِ وَحَرَكَاتِ أَفْعَالِهِ وَسُكُونِهَا أَمْلَاكاً بِعَدَدِ كُلِّ حَرْفٍ مِنْهَا مِائَةَ أَلْفِ مَلَكٍ، كُلُّ مَلَكٍ مِنْهُمْ يَقْصِدُونَ الشَّيَاطِينَ الَّذِينَ يَأْتُونَ لِإِغْوَائِهِ فَيُثْخِنُونَهُمْ ضَرْباً بِالْأَحْجَارِ الدَّافِعَةِ، وَأَوْجَبَ اللَّهُ بِكُلِّ ذَرَّةِ ضَرَرٍ دَفَعَ عَنْهُ وَبِأَقَلِّ قَلِيلِ جُزْءِ أَلَمِ الضَّرَرِ الَّذِي كَفَّ عَنْهُ، مِائَةَ أَلْفٍ مِنْ خُدَّامِ الْجِنَانِ وَمِثْلَهُمْ مِنَ الْحُورِ الْحِسَانِ، يَدُلُّونَهُ هُنَاكَ وَيُشَرِّفُونَهُ وَيَقُولُونَ: هَذَا بِدَفْعِكَ عَنْ فُلَانٍ ضَرَراً فِي مَالِهِ أَوْ بَدَنِهِ»(3).

ص: 150


1- الكافي: ج 2 ص164 باب الاهتمام بأمور المسلمين والنصيحة لهم ونفعهم ح5.
2- الفقه: ج48 كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
3- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري (عليه السلام): ص81 ثواب نصر الضعفاء والمظلومين ح43.

رد الإساءة بالإحسان

مسألة: يستحب للإنسان أن يرد الإساءة بالإحسان، والتعامل السيء بالتعامل الإنساني، فإنها من أعظم السجايا الخلقية، كما تعامل علي (عليه السلام) مع الناس الذين ظلموه ولم يدافعوا عنه، فدَفَع البلاء عنهم.

قال تعالى: «ادْفَع بِالَّتي هِيَ أَحْسَن»(1).

وقَالَ أمير المؤمنين (عليه السلام): «عَاتِبْ أَخَاكَ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، وارْدُدْ شَرَّهُ بِالْإِنْعَامِ عَلَيْهِ» (2).

وقَالَ أمير المؤمنين (عليه السلام): «ضادّوا الاساءة بالاحسان» (3).

وجَنَى لَهُ (إي للإمام الحسين عليه السلام) غُلَامٌ جِنَايَةً تُوجِبُ الْعِقَابَ عَلَيْهِ، فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُضْرَبَ، فَقَالَ: يَا مَوْلَايَ والْكاظِمِينَ الْغَيْظَ، قَالَ: أَخْلُوا عَنْهُ، فَقَالَ: يَا مَوْلَايَ والْعافِينَ عَنِ النَّاسِ، قَالَ: قَدْ عَفَوْتُ عَنْكَ، قَالَ: يَا مَوْلايَ واللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِولَكَ ضِعْفُ مَا كُنْتُ أُعْطِيكَ(4).

ص: 151


1- سورة فصلت: 34.
2- نهج البلاغة: الكلمات القصار 158.
3- عيون الحكم والمواعظ، لليثي: ص310.
4- كشف الغمة في معرفة الأئمة (عليهم السلام): ج 2 ص31.

الإنسان وقدره

مسألة: يلزم على الإنسان أن يعرف قدره وحدوده ومقامه فلا يتعداها، ولا يغصب مكانة لا تليق به.

فمن ليس أهلاً للخلافة أو القيادة أو المرجعية، لا يجوز له التصدي لها، ومن لا يتمكن من حل مشاكل الناس المادية منها والمعنوية، لا ينبغي أن يتصدى لقيادتهم، ففي الحديث عن أمير المؤمنين: «رحم الله امرءاً عرف قدره ولم يتعد طوره»(1).

أما إذا لم يعرف الإنسان قدر نفسه ولم يلتزم بحدوده، فإنه يكون أسوأ من البهيمة، قال سبحانه: «إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبيلاً»(2).

وفي الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَنْ أَمَّ قَوْماً وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ أَوْ أَفْقَهُ، لَمْ يَزَلْ أَمْرُهُمْ إِلَى سَفَالٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»(3).

قال الله عزوجل: «أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَأَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ»(4).

وعن أبي ذر (رحمه الله) قال: «إن إمامك شفيعك إلى الله تعالى، فلا تجعل شفيعك إلى الله سفيها ولا فاسقاً»(5).

ص: 152


1- غرر الحكم: ص233 عرفان القدر ح4666.
2- سورة الفرقان: 44
3- بحار الأنوار: ج 85 ص88 ح51.
4- سورة يونس: 35.
5- علل الشرائع: ج 2 ص326 ب20 باب العلة التي من أجلها لا يصلى خلف السفيه والفاسق ح1.

رواية الحديث

مسألة: يستحب رواية هذا الحديث وهذه الكرامة لأمير المؤمنين (عليه السلام) كما نقلتها الصديقة الطاهرة (عليها السلام).

فإن ذكر فضائل علي (عليه الصلاة والسلام) يوجب:

أولاً: التفاف الناس حوله مما ينفع دينهم ودنياهم، كما سبق.

وثانياً: بيان نفس الأمر واقعه الذي خلق الله سبحانه الكون عليه.

وثالثاً: يبين حق أمير المؤمنين (عليه السلام) في الخلافة، وزيف من غصبها.

الفزع إلى المعصوم

مسألة: يستحب أو يجب الفزع إلى علي (عليه السلام) وإلى سائر المعصومين (عليهم السلام)، فإنهم السبيل إلى الله عزوجل والوسيلة إليه، ولا فرق في الفزع حال حياتهم أم بعد استشهادهم، وسواء حال حضورهم أم في غيبتهم، وذلك عند مختلف المحن والمشاكل، فإن الرجوع إلى غيرهم (عليهم السلام) لا يفيد، وربما لا يجوز.

وكان من أكبر الأخطاء رجوع البعض لابن أبي قحافة وابن الخطاب في هذهالنازلة أو غيرها من النوازل.

ولا فرق في الفزع إلى المعصومين (عليهم السلام) بين الفزع إلى أشخاصهم أو إلى قبورهم ومشاهدهم، أو إلى ما يتعلق بهم وينتسب إليهم، كذراريهم وأوليائهم وعلمائهم الصالحين.

ص: 153

وإنما قلنا بالاستحباب أو الوجوب، لأنه إذا كان رفع ضرر كبير وجب، وإذا لم يكن كذلك كان مستحباً.

وأما أن الرجوع إلى غيرهم لا ينفع، فلأن الله تعالى جعل المعصومين (عليهم السلام) الواسطة دون غيرهم، كما قال سبحانه: «وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسيلَةَ»(1).

لا يقال: ربما نجد غيرهم نافعاً في رفع الفزع أو أسبابه؟

لأنه يقال: الفزع إلى غيرهم وإن نفع أحياناً، إلا أن ضرره المقارن أو المستقبلي أكبر وأكثر، قال تعالى: «وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْري فَإِنَّ لَهُ مَعيشَةً ضَنْكاً ونَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى»(2)، وإن كان المعرض بحسب الظاهر له معيشة واسعة، ولكن الواقع أن من أعرض عن ذكر الله وعن المعصومين (عليهم السلام) في ضنك وشقاء من العيش، وذلك كما يلجأ الفاسق إلى الربا مثلاً، فإنه وإن ربح ظاهراً، إلا أنه يخسر دينهورضا الله أولاً.

ويخسر حب الناس ويستجلب عداوتهم وبغضهم ثانياً.

وكثيراً ما يخسر أولاده وأهله بتحولهم إلى مجرمين أو سراق أو قتلة أو ضُلال أو ما أشبه ثالثاً.

كما أن الله يمحق البركة من ماله، قال عزوجل: «يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا ويُرْبِي الصَّدَقاتِ»(3)، فيتضرر حتى في دنياه واقتصاده رابعاً.

مضافاً إلى أن الربا من أهم عوامل اضطراب المجتمع وثورته ضد الأغنياء

ص: 154


1- سورة المائدة: 35
2- سورة طه: 124
3- سورة البقرة: 276

والحكومات، مما يسبب مصادرة أموالهم كلها أو قتلهم أو ما أشبه، كما يشاهد ذلك كثيراً في الثورات الكبرى خامساً.

وفي المقابل الإيمان والالتزام بطاعة الباري عزوجل موجب للبركة والسعادة، قال تعالى: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ»(1).

وفي الروايات: إن الأمر لو كان أعطي لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) لكان الناس في نعمة ونعيم.

وفي كتاب سليم بن قيس، في حديث أن أمير المؤمنين (عليه

السلام) قال: «يَاطَلْحَةُ إِنَّ كُلَّ آيَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) عِنْدِي بِإِمْلَاءِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) وَخَطِّي بِيَدِي، وَتَأْوِيلَ كُلِّ آيَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) وَكُلَّ حَلَالٍ وَحَرَامٍ أَوْ حَدٍّ أَوْ حُكْمٍ تَحْتَاجُ إِلَيْهِ الأُمَّةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ عِنْدِي مَكْتُوبٌ بِإِمْلاءِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) وَخَطِّي بِيَدِي حَتَّى أَرْشَ الْخَدْشِ». قال طلحة: كُلُّ شَيْ ءٍ مِنْ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ أَوْ خَاصٍّ أَوْ عَامٍ أَوْ كَانَ أَوْ يَكُونُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَهُوَ مَكْتُوبٌ عِنْدَكَ؟

قال (عليه السلام): نَعَمْ وَ سِوَى ذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) أَسَرَّ إِلَيَّ فِي مَرَضِهِ مِفْتَاحَ أَلْفِ بَابٍ فِي الْعِلْمِ يَفْتَحُ كُلُّ بَابٍ أَلْفَ بَابٍ، وَلَوْ أَنَّ الْأُمَّةَ بَعْدَ قَبْضِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) اتَّبَعُونِي وَأَطَاعُونِي لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ»(2).

ص: 155


1- سورة الأعراف: 96.
2- بحار الأنوار: ج29 ص65 ب1 ح147 عن كتاب سليم بن قيس.

ملجأ الصحابة والأمة

مسألة: يستحب بيان أن الصحابة كانوا يفزعون إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) عند المشاكل، وحتى أمثال ابن أبي قحافة(1)، وابن الخطاب.

وقال الثاني: (لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن)(2).

ص: 156


1- راجع نهج الحق وكشف الصدق: ص264 الإمامة والسياسة: ج1 ص14، وكنز العمال كتاب الخلافة: ج3 ص132 و135 و141، وشرح النهج لابن أبي الحديد: ج1 ص58 وج4 ص166 و169.
2- لقد قال ابن الخطاب: مثل هذا مراراً وفي مواقف كثيرة وبألفاظ شتّى: (اللّهمّ إنّي أعوذ بك من عضيهة ليس لها عليّ عندي حاضرا)، (اللّهمّ لا تبقني لمعضلة ليس لها ابن أبي طالب)، (عجزت النساء أن تلد مثل عليّ بن أبي طالب)، (كلّ الناس أفقه منك يا عمر)، (لا أبقاني اللّه لمعضلة ليس لها عليّ)، (لا عشت في آمّة لست فيها يا أبا حسن)، (لا عشت لمعضلة لا يكون لها أبوحسن)، (لولا عليّ لهلك عمر)، و... انظر طبقات ابن سعد: ج2 ص339. فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل: ج2 ص647 ح1100. أنساب الأشراف: ج2 ص100 ح 29 و30 المستدرك على الصحيحين: ج1 ص457. الاستيعاب: ج3 ص39 المقنع في الإمامة للسدّ ابادي: ص79 المناقب للخوارزمي: ص81 ح65. ترجمة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام من تاريخ مدينة دمشق: ج3 ص50- 53 ح1079 - 1082. الفائق للزمخشري: ج2 ص445 المناقب لابن شهر آشوب: ج2 ص31 صفة الصفوة لابن الجوزي: ص314 اسد الغابة: ج4 ص22- 23 مطالب السؤول: ص82 تذكرة الخواصّ: ص144 كفاية الطالب: ص217 بناء المقالة الفاطمية: ص194 و202 كشف الغمّة: ج1 ص118 ذخائر العقبى: ص82. الرياض النضرة: ج3 ص166 لسان العرب: ج11 ص453 نهج الحقّ وكشف الصدق: ص240 و277 و278 و350 كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: ص377 المستجاد: ص125 فرائد السمطين: ج1 ص351 تهذيب التهذيب: ج7 ص337 الإصابة: ج2 ص509 الفصول المهمّة: ص35 جواهر المطالب: ج1 ص195 و200 الصواعق المحرقة: ص127 فيض القدير: ج4 ص357. بحار الأنوار: ج30 ص678 و679 و690 و40 148 و149 مناقب أهل البيت عليهم السّلام للشرواني: ص193 نور الأبصار للشبلنجي: ص88 ينابيع المودّة: ج1 ص227 وج2 ص172 الغدير: ج6 ص327 و328 إحقاق الحقّ: ج8 ص25.

وقال: (لولا علي لهلك عمر) (1).

فإن ذكر ذلك يوجب أن يفزع الإنسان إلى ولي الله وحجته، علي بن أبي طالب (عليه الصلاة والسلام) في مشاكله، فإنه لا فرق بين حياة المعصومين (عليهم السلام) وموتهم، وقد قال سبحانه: «وَلاَ تَحْسَبَنّ الّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ»(2).

استحباب الطمأنينة

مسألة: يستحب الطمأنينة وثبات النفس حتى عند المصائب.

فإن الطمأنينة والثبات النفسي عند المصائب، وكذلك في الأفراح الكبيرة من أفضل ما يلقّنه الإنسان نفسه ويعمل به، فإن الثبات النفسي مبعث كل خير، بخلاف الاضطراب والشك، فإن كلاً منهما يوجب إفراطاً أو تفريطاً في الحياة.

ص: 157


1- المناقب للخوارزمي: ص80 ح 65، كفاية الطالب: ص227 ح3 ذخائر العقبى: ص80 و81.
2- سورة آل عمران: 169.

قال تعالى: «أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ»(1).

وقد خرج الإمام (عليه السلام) غير مكترث لما همّ فيه، بل إنه بقي داخل داره فترة الزلزلة ولم يخرج حتى جاءه الناس، نعم لعل بقاءه حكم خاص به لعلمه أن لا يصيبه مكروه، وإلا فاللازم دفع مثل هذا الضرر المحتمل والخروج عند الزلزال إلى مكان آمن مع الإمكان.

رفع التعجب

مسألة: ينبغي رفع تعجب الناس من غرائب التشريع والتكوين وبيان ما يمكن أن يفهموه في وجه الأمر.

فإن التعجب وما يتبعه قد يكونخروجاً عن منهج الحياة، فإن للحياة نظاماً وقواعد ومنهجاً قرره الله سبحانه، فإذا تعجب الإنسان كشف ذلك عادة عن عدم اطلاعه على النظام والمنهج.

أما قوله سبحانه: «بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ»(2)، فالمراد التعجب الظاهري، أو التعجب حسب ظواهر الأمور لا حسب علمه الواقعي، أو أن المطلب من شأنه التعجب، يعني أنه من غير المألوف لعامة الناس لا له بالخصوص، إذ التعجب يكون لأمر غير مألوف على ما ذكره علماء الأخلاق وعلماء النفس.

ص: 158


1- سورة الرعد: 28.
2- سورة الصافات: 12.

سورة الزلزلة

مسألة: يستحب بيان أن سورة الزلزلة نزلت في شأن أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، وكذلك سائر السور والآيات التي نزلت في حقهم (عليهم السلام).

فإنه إذا علم الإنسان تلك الفضائل ازداد تعلقاً بأهل البيت (عليهم السلام) مما ينفع الدنيا والآخرة.

وشأن النزول هو من لطائف حكم الله تعالى، حيث جمع القرآن الكريم بذلك بين الثابت والمتغير، فإن الآية من جهة عامة تجري كما يجري الشمس والقمر كما في الروايات، ومن جهة أخرى هي خاصة بأرز المصاديق ومن نزلت في شأنهم، فتفيد التاريخ والمستقبل، وتفيد الأصول والفروع، وتفيد الكلي والمصداق، وتفيد الحكم والعلل، وغيرها من الفوائد.

قال أبو عبد الله (عليه السلام): «إِنَّ الْقُرْآنَ حَيٌّ لَمْ يَمُتْ وَإِنَّهُ يَجْرِي كَمَا يَجْرِي اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَكَمَا يَجْرِي الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَيَجْرِي عَلَى آخِرِنَا كَمَا يَجْرِي عَلَى أَوَّلِنَا»(1).وعن فضيل بن يسار، قال: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) عَنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ: مَا مِنَ الْقُرْآنِ آيَةٌ إِلَّا وَ لَهَا ظَهْرٌ وَبَطْنٌ، فَقَالَ: «ظَهْرُهُ تَنْزِيلُهُ، وَبَطْنُهُ تَأْوِيلُهُ، مِنْهُ مَا قَدْ مَضَى وَمِنْهُ مَا لَمْ يَكُنْ، يَجْرِي كَمَا يَجْرِي الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، كُلَّمَا جَاءَ تَأْوِيلُ شَيْ ءٍ مِنْهُ يَكُونُ عَلَى الأَمْوَاتِ كَمَا يَكُونُ عَلَى الأَحْيَاءِ، قَالَ اللَّهُ: «وَما

ص: 159


1- بحار الأنوار: ج 35 ص404 باب20 أنه نزل فيه (صلوات الله عليه) الذكر والنور والهدى والتقى في القرآن ح21.

يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ»(1) نَحْنُ نَعْلَمُهُ»(2).

إجابة الناس وقضاء حوائجهم

مسألة: يستحب إجابة الناس وقضاء حوائجهم مطلقاً، سواء كانوا مؤمنين أم لا، مسلمين أم كفاراً، عدولاً أم فسقة، بل حتى المنافقين، هذا فيما إذا لم تكن تلك الحوائج غير مشروعة.

فإن قضاء حوائج الناس ولو كانوا كفرةً أو فسقةً أو منافقين مما درّبنا عليه الأئمة (عليهم الصلاة والسلام) والرسول (صلى الله عليه وآله) والصديقة الزهراء (عليها السلام).

وقد قضى رسول الله (صلى الله عليه وآله)حاجة عبد الله بن أُبيّ(3).

وكذلك فعل علي (عليه السلام) بالنسبة إلى من خرج عليه في صفين فسقاهم الماء(4).

وفعله الحسين (عليه الصلاة والسلام) في فاجعة كربلاء(5).

وكذلك الأئمة الطاهرون (عليهم السلام) حيث كانوا يزورون مختلف الناس حتى المبغضين وغير الموالين ويقضون حوائجهم، فإن ذلك من التخلّق بأخلاق

ص: 160


1- سورة آل عمران: 7.
2- البرهان في تفسير القرآن: ج 1 ص44.
3- تاريخ المدينة: ج1 ص370، وراجع كتاب مقتطفات من تاريخ المدينة المنورة: ص40.
4- بحار الأنوار: ج 41 ص146 ب107 ح45، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 1 ص24.
5- تاريخ الطبري: ج4 ص296.

الله سبحانه حيث أنعم على جميع البشر من مؤمن أو غيره، وقد ورد في الحديث: «تخلّقوا بأخلاق الله»(1).

رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ مَنْ غَزَا مَعَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) فِي صِفِّينَ وقَدْ أَخَذَ أَبُو أَيُّوبَ الأَعْوَرُ السُّلَمِيُّ الْمَاءَ وحَرَزَهُ عَنِ النَّاسِ فَشَكَا الْمُسْلِمُونَ الْعَطَشَ، فَأَرْسَلَ فَوَارِسَ عَلَى كَشْفِهِ فَانْحَرَفُوا خَائِبِينَ فَضَاقَ صَدْرُهُ، فَقَالَ لَهُ وَلَدُهُ الْحُسَيْنُ (عليه السلام): أَمْضِيإِلَيْهِ يَا أَبَتَاهْ، فَقَالَ: امْضِ يَا وَلَدِي، فَمَضَى مَعَ فَوَارِسَ فَهَزَمَ أَبَا أَيُّوبَ عَنِ الْمَاءِ وبَنَى خَيْمَتَهُ وحَطَّ فَوَارِسَهُ وأَتَى إِلَى أَبِيهِ وأَخْبَرَهُ، فَبَكَى عَلِيٌّ (عليه السلام)، فَقِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وهَذَا أَوَّلُ فَتْحٍ بِبَرَكَةِ الْحُسَيْنِ (عليه السلام)، فَقَالَ: ذَكَرْتُ أَنَّهُ سَيُقْتَلُ عَطْشَاناً بِطَفِّ كَرْبَلاءَ حَتَّى يَنْفِرَ فَرَسُهُ ويُحَمْحِمَ ويَقُولَ الظَّلِيمَةَ الظَّلِيمَةَ لِأُمَّةٍ قَتَلَتِ ابْنَ بِنْتِ نَبِيِّهَا(2).

المكان والتوجيه الأفضل

مسألة: ينبغي للمربي والموجه والخطيب والقائد ومن أشبه حين التوجيه والخطاب أن يجلس أو يقف على موضع مرتفع إذا توقف التوجيه الأفضل على

ص: 161


1- بحار الأنوار: ج 58 ص129.
2- بحار الأنوار: ج 44 ص266 باب31 ما أخبر به الرسول وأمير المؤمنين والحسين (صلوات الله عليهم) بشهادته (صلوات الله عليه) ح23، مدينة معاجز الأئمة الإثني عشر: ج 3 ص139 الثامن عشر وخمسمائة إخباره (عليه السلام) بأن الحسين (عليه السلام) يقتل عطشانا ح798، عوالم العلوم، مستدرك سيدة النساء إلى الإمام الجواد (عليهما السلام): ج 17 الحسين (عليه السلام) ص150 ح10.

ذلك، وقد خرج الإمام علي (عليه السلام) حتى انتهى إلى قلعة فقعد عليها .

كما أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيغدير خم صنع مرتفعاً من الحُدُوج(1)، ومن الكور(2)، وارتقى عليه ورفع علياً (عليه السلام) وعينه خليفة وإماماً من بعده.

التقرير

مسألة: ينبغي الاستفادة من التقرير في الاستدلال(3)، فإنه قد يكون أقوى في الحجة وأتم في الإقناع، وأردع للخصم والمعاند، كما صنع علي (عليه السلام) إذ قال لهم: «كأنكم قد هالكم ما ترون».

ص: 162


1- الحدوج والأحداج والحدائج: جمع حِدج وحداجة، حمل البعير، أو مطلق الحمل، والحداجة: ما تركب فيه النساء على البعير كالهودج. وحَدَجَ البعيرَ والنَّاقَةَ يَحْدِجُهما حَدْجاً وحِداجاً، وأَحْدَجَهما: شَدَّ عليهما الحِدْجَ و الأَداةَ و وَسَّقَهُ... وسمي الهودج المشدود فوق القتب حتى يشد على البعير شدّاً واحداً بجميع أَداته: حِدْجاً، وجمعه حُدُوجٌ. ويقال: احْدِجْ بعيرك أَي شُدَّ عليه قتبه بأَداته. انظر لسان العرب مادة (حدج).
2- الكُورُ، بالضم: الرحل، وقيل: الرحل بأَداته، والجمع أَكْوار وأَكْوُر. لسان العرب: مادة (كور).
3- أي سؤال الخصم ليقر بالمطلب فيلزمه به، أو ما يوجب إقراره بالمطلب.

فضل حب الأمير

اشارة

عن فاطمة بنت محمد (عليها السلام) قالت: «خرج علينا رسول الله (صلى الله عليه وآله) عشية عرفة فقال: إن الله باهى بكم وغفر لكم عامة ولعلي (عليه السلام) خاصة، وإني رسول الله (صلى الله عليه وآله) إليكم غير محاب لقرابتي، هذا جبرئيل يخبرني: أن السعيد كل السعيد حق السعيد من أحب علياً (عليه السلام) في حياته وبعد وفاته».

-------------------------------------------

معنى الغفران في حق المعصوم

مسألة: المعصوم (عليه السلام) لا يصدر منه الذنب والخطأ إطلاقاً، ومعنى الغفران بالنسبة إليه هو ستر ما يستلزمه الإمكان من لوازم غير اختيارية وإن لم تكن معصية ولا مكروهاً ولا ترك أولى، فإن الممكن لا يمكنه أداء حق الله تعالى كما هو أهله وإن شكر بما يمكنه وبذل أقصى وسعه وطاقته وجهده، كما أشرنا إلى ذلك في بعض المباحث.

والستر بشكل مطلق، قد يكون عن فعل أو عيب إرادي عمدي، وهذا جار في غير المعصوم (عليه السلام)، وقد يكون عن شيء هو لازم أو ملازم كونه إمكانياً، فإن الإمكان يسبب المحدودية وأن لا يكونالإنسان كالواجب تعالى في

ص: 163

الكمالات(1)، كما أن الممكن مهما بلغ من الكمال لا يمكنه أن يحيط بالله تعالى علماً وخبراً وأداءً لشكره وما أشبه، من هنا ورد أنه «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) يَتُوبُ إلى اللَّهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً مِنْ غَيْرِ ذَنْبٍ»(2).

وفي هذا الحديث الشريف تصريح بالغفران لعلي أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام)، وحيث إنه معصوم لا تصدر منه خطيئة ولا مكروه ولا ترك أولى، فالمراد بالغفران عن لوازم الإمكان، لا الغفران لفعل أو عيب عمدي إرادي وما أشبه، كما هو واضح.

ولتقريب المعنى نذكر المثال التالي:

فمَن لم يتمكن من إنقاذ غريقين، وأنقذ أحدهما وغرق الآخر بسبب محدوديته الإمكانية لا بتقصير منه، فإنه مع ذلك يطلب العفو عن القصور والعجز اللا إرادي، وطلب العفو من مثله عبارة عن إظهار حالته الإمكانية، وكذلك لو فرضنا أن إنساناً كان عاجزاًعن نصرة مولاه فإنه يطلب منه الغفران لا لأنه مذنب، وإنما أراد تكميل هذا الجانب الناقص منه بسبب طلب العفو والغفران.

نعم يحتمل في طلب المعصومين (عليهم السلام) المغفرة من الله تعالى، وفي غفرانه لهم، أن يراد به الغفران عما يراه المجتمع نقصاً أو معصيةً، لا عن النقص الواقعي، إذ لا نقص واقعي لهم، كما لا معصية ولا مكروه ولا ترك أولى واقعي منهم، نظير ما ذكر في قوله تعالى: «إنّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحَاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا

ص: 164


1- فإن كمالات الله ذاتية، وكمالات غيره عرضية مستمدة منه تعالى.
2- الكافي: ج 2 ص449.

تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ»(1).

حب المعصوم سعادة

مسألة: يلزم الاعتقاد بأن السعادة في حب المعصومين (عليهم السلام) أحياءًوأمواتاً، أي في حياتهم ومماتهم، ويستحب بيان ذلك.

وإنما كان ذلك سعادة لأن الله أمر به، ومن أطاع الله سبحانه وتعالى سعد في الدنيا والآخرة.

كما أن من الواضح أن حبهم (عليهم السلام) يسوق إلى العمل بنهجهم والتأسي بهم، ولا ريب أن نهجهم هو النهج السليم والمنقذ الوحيد للناس.

وفي الزيارة: (سَعِدَ مَنْ وَالاكُمْ، وهَلَكَ مَنْ عَادَاكُمْ، وخَابَ مَنْ جَحَدَكُمْ، وضَلَّ مَنْ فَارَقَكُمْ، وفَازَ مَنْ تَمَسَّكَ بِكُمْ، وأَمِنَ مَنْ لَجَأَ إِلَيْكُمْ، وسَلِمَ مَنْ صَدَّقَكُمْ، وهُدِيَ مَنِ اعْتَصَمَ بِكُمْ، مَنِ اتَّبَعَكُمْ فَالْجَنَّةُ مَأْوَاهُ، ومَنْ خَالَفَكُمْ فَالنَّارُ مَثْوَاهُ)(2).

وفي الزيارة أيضاً: (السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا سُفُنَ النَّجَاة) (3).

ص: 165


1- سورة الفتح:1 - 2. فإن بعض الناس حيث يرون مثلا ما لعلي (عليه السلام) من الكرامات يغالون فيه بالتأليه، مما يعده أناس آخرون نقصا له، والمثال الأوضح: إن عليا (صلوات الله عليه) حيث أخذ الناس بمر الحق وساوى في العطاء وقتل أبطال الكفار وناوش ذؤبانهم عده كثير من أولئك المنافقين أو ضعاف الإيمان نقصاً له، ولذا قال بعض قتلة الإمام الحسين (عليه السلام): نقتلك بغضا منا لأبيك.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 2 ص613 زيارة جامعة لجميع الأئمة (عليهم السلام).
3- المزار (للشهيد الاول): ص162 زيارة الغفيلة في النصف من رجب.

وقوله (صلى الله عليه وآله): «مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق»(1).

تخصيص العظيم

مسألة: يستحب تخصيص العظيم بالذكر والثناء والعطاء والامتيازات المناسبة له التي تقتضيها الحكمة، وإن شمله العام بشموله للجميع، كما قال (صلى الله عليه وآله): «ولعلي خاصة».

والاستحباب لأنه نوع تعظيم ورعاية وأداء لحق المعظَّم بالفتح، ومن المعلوم أن أداء الحق بين واجب ومستحب، فإن كان مانعاً من النقيض كان واجباً، وإن لم يكن مانعاً منه كان مستحباً.

من بركات الإمام

مسألة: يستحب بيان أن من بركات الإمام أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) أن حبّه يوجب السعادة، كما أن حب الأنبياء والمرسلين وسائر الأئمة المعصومين (عليهم السلام) والصديقة الزهراء (عليها السلام) وكذلك خديجة ومريم البتول ومن أشبههن (صلوات

الله عليهم أجمعين) كذلك، وذلك لأن الحب عمل قلبي، وكما أن العمل الجوارحي يوجب السعادة فكذلك العملالجوانحي.

ص: 166


1- المستدرك على الصحيحين: ج3 ص150، حلية الأولياء: ج4 ص306، نظم درر السمطين: ص235، مقتل الإمام الحسين (عليه السّلام) للخوارزمي: ج1 ص104، المناقب لابن المغازلي: ص132 ح173 و176، ذخائر العقبى: ص20، مجمع الزوائد: ج9 ص168، التعجب من أغلاط العامة في مسألة الإمامة: ص151.

والظاهر أن حبهم (عليهم السلام) من الأمور الارتباطية، فلو أحب أحدهم وأبغض الآخر لم يقبل منه، قال تعالى: «لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ»(1).

نعم كما أنهم (صلوات الله عليهم) على درجات، فإن حبهم قد يكون على درجات، وربما كان حب بعضهم كحب الخمسة الطيبة والتسعة من ذراريهم (عليهم السلام) بدرجاته أسرع في إحراز رضا الله وأقوى في تحصيل السعادة، وأدعى للدخول إلى الجنة والفوز بدرجاتها العاليات، وأحرى بلطف الله وأكمل في الميزان. ولولا حبهم (صلوات الله عليهم) لما قبل الله الأعمال.

روى سلام بن سعيد المخزومي عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قلت: لا يصعد عملهم إلى اللّه ولا يقبل منهم عملا، فقال: «لا، من مات وفي قلبه بغض لنا أهل البيت ومن تولى عدونا لم يقبل اللّه له عملا»(2).

وعن على بن الحسين (عليهما السلام) قال: قام رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال: ما بال اقوامإذا ذكر عندهم آل إبراهيم وآل عمران فرحوا واستبشروا، وإذا ذكر عندهم آل محمد اشمأزت قلوبهم، والذي نفس محمد بيده لو أن عبداً جاء يوم القيامة بعمل سبعين نبياً ما قبل اللّه ذلك منه حتى يلقى اللّه بولايتي وولاية أهل بيتي»(3).

وعن أبي حمزة قال: كنت مع أبي جعفر (عليه السلام) فقلت: جعلت فداك يا بن رسول اللّه قد يصوم الرجل النهار ويقوم الليل ويتصدق ولا يعرف منه إلا

ص: 167


1- سورة البقرة: 285.
2- مستدرك الوسائل: ج1 ص149 ب27 ح227.
3- مستدرك الوسائل: ج1 ص150 ب27 ح228.

خيراً إلاّ أنه لا يعرف الولاية، قال: فتبسم أبو جعفر (عليه السلام) وقال: «يا ثابت إنا في أفضل بقعة على ظهر الأرض لو أن عبداً لم يزل ساجداً بين الركن والمقام حتى يفارق الدنيا لم يعرف ولايتنا لم ينفعه ذلك شيئاً»(1).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ الْعَبْدُ إِذَا وَقَفَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ عَنِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ، وعَنِ الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، وعَنِ الصِّيَامِ الْمَفْرُوضِ، وعَنِ الْحَجِّ الْمَفْرُوضِ، وعَنْ وَلَايَتِنَا أَهْلَ الْبَيْتِ، فَإِنْ أَقَرَّ بِوَلَايَتِنَا ثُمَّ مَاتَ عَلَيْهَا قُبِلَتْ مِنْهُ صَلَاتُهُ وصَوْمُهُ وزَكَاتُهُ وحَجُّهُ، وإِنْ لَمْ يُقِرَّ بِوَلَايَتِنَا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ مِنْهُ شَيْئاً مِنْ أَعْمَالِهِ»(2).

وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام) قَالَ: «نَزَلَ جَبْرَئِيلُ عَلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، السَّلَامُ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ ويَقُولُ: خَلَقْتُ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ ومَا فِيهِنَّ والْأَرَضِينَ السَّبْعَ ومَنْ عَلَيْهِنَّ ومَا خَلَقْتُ مَوْضِعاً أَعْظَمَ مِنَ الرُّكْنِ والْمَقَامِ، ولَو أَنَّ عَبْداً دَعَانِي هُنَاكَ مُنْذُ خَلَقْتُ السَّمَاوَاتِ والْأَرَضِينَ ثُمَّ لَقِيَنِي جَاحِداً لِوَلَايَةِ عَلِيٍّ لَأَكْبَبْتُهُ فِي سَقَرَ»(3).

ص: 168


1- الأصول الستة عشر: ص117.
2- بحار الأنوار: ج 27 ص167 باب7 أنه لا تقبل الأعمال إلا بالولاية ح2.
3- بحار الأنوار: ج 27 ص167 باب7 أنه لا تقبل الأعمال إلا بالولاية ح3.

تحصيل السعادة

مسألة: تحصيل السعادة واجب في الجملة، فإن السعادة على درجات، كما أنها تتنوع إلى أنواع.

والسعادة الواجبة هي فيما إذا كانت مانعة من النقيض، أما إذا لم تكن مانعة منه كالسعادة الكمالية فمن المستحب تحصيلها، كما أن العكس كذلك، فعدم التحصيل بين حرام ومكروه حسب تقسيم الأحكام إلى الخمسة مما ذكر تفصيله في الأصول.

كما أن الشقاء على عكس السعادة، بين حرام ومكروه.

قال تعالى: «يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأرْضُ إلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ إلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ»(1).

ويمكن الاستناد في وجوب تحصيل السعادة وحرمة تحصيل الشقاء إلى هذه الآيات الكريمة، إذ السعادة هي مقدمة موصلة للجنة، والشقاء مقدمة موصلة إلى النار، ومقدمة الواجب واجبة عقلاًسواء قلنا بوجوبها الشرعي أم لا، كما أن مقدمة الحرام حرام كذلك.

ص: 169


1- سورة هود: 105 _ 108.

وفي الحديث عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام): «الْحَقُّ مَا دَعَا إِلَيْهِ، وَالصَّوَابُ وَالْحِكْمَةُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ، وَالسَّعِيدُ مَنْ وَصَلَ حَبْلَهُ بِحَبْلِهِ، وَالشَّقِيُّ الْهَالِكُ مَنْ خَرَجَ عَنْ جِهَةِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَ الْمُطِيعِينَ لَه».

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يَا عَلِيُّ أَنْتَ هَادِي أُمَّتِي، أَلَا إِنَّ السَّعِيدَ كُلَّ السَّعِيدِ مَنْ أَحَبَّكَ وَأَخَذَ بِطَرِيقَتِكَ، أَلَا إِنَّ الشَّقِيَّ كُلَّ الشَّقِيِّ مَنْ خَالَفَكَ وَ رَغِبَ عَنْ طَرِيقِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»(1).

وقال (صلى الله عليه وآله): «هَذَا جَبْرَئِيلُ يُخْبِرُنِي أَنَّ السَّعِيدَ كُلَّ السَّعِيدِ حَقَّ السَّعِيدِ مَنْ أَحَبَّ عَلِيّاً فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ، وَأَنَّ الشَّقِيَّ كُلَّ الشَّقِيِّ حَقَّ الشَّقِيِّ مَنْ أَبْغَضَ عَلِيّاً فِي حَيَاتِهِ وَ بَعْدَ وَفَاتِهِ»(2).

التوقيت

مسألة: يستحب بيان زمان وقوع الخبر، فيما لم تكن هناك جهة راجحة تقتضي الكتمان، كما قالت (عليها السلام): «عشية عرفة». فإن معرفة أن الله تعالى

يباهي بالمؤمن الملائكة عشية عرفة، وأنه تعالى يغفر للمؤمنين عشيتها، يكون باعثاً للناس للذهاب إلى الحج ومحرضاً لهم للاهتمام بعرفة أكثر فأكثر.

فإن معرفة الزمان والمكان كثيراً ما لها مدخلية في وضوح القصة، مثلاً قال الإمام الصادق (عليه الصلاة والسلام): «الكر ألف ومائتا رطل»، فإذا عرفنا أن المكان الذي قاله الإمام (عليه الصلاة والسلام) هو بغداد أو الكوفة، عرفنا أن المراد الرطل

ص: 170


1- الأمالي، للطوسي: ص498 المجلس السابع عشر ح62.
2- الأمالي، للصدوق: ص182 المجلس الرابع والثلاثون ح8.

العراقي، بينما إذا قال هذا الكلام في المدينة المنورة عرفنا أن المراد بالرطل المدني، أو إذا قاله في مكة كان المراد المكي(1)، وكذلك في الزمان، فإذا قال الإمام (عليه الصلاة والسلام): «يكره أكل الجبن وحده» وكان زمان صدور الكلام وقت الإفطار نهاراً، عرفنا أن الكراهة فيالنهار لا في الليل، وإذا قال ذلك في الليل عرفنا أن الكراهة في الليل لا في النهار، إلاّ إذا فهم العرف عدم الخصوصية الزمانية أو المكانية، كما لا يخفى على من له تتبع في الروايات.

عَنْ سُلَيْمِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) قَالَ: كُنْتُ إِذَا سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) أَجَابَنِي، وإِنْ فَنِيَتْ مَسَائِلِي ابْتَدَأَنِي، فَمَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ آيَةٌ فِي لَيْلٍ ولَا نَهَارٍ ولَا سَمَاءٍ ولَا أَرْضٍ ولَا دُنْيَا ولَا آخِرَةٍ ولَا جَنَّةٍ ولَا نَارٍ ولَا سَهْلٍ ولَا جَبَلٍ ولَا ضِيَاءٍ ولَا ظُلْمَةٍ إِلَّا أَقْرَأَنِيهَا وأَمْلَاهَا عَلَيَّ وكَتَبْتُهَا بِيَدِي، وعَلَّمَنِي تَأْوِيلَهَا وتَفْسِيرَهَا ومُحْكَمَهَا ومُتَشَابِهَهَا وخَاصَّهَا وعَامَّهَا، وكَيْفَ نَزَلَتْ وأَيْنَ نَزَلَتْ، وفِيمَنْ أُنْزِلَتْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، دَعَا اللَّهَ لِي أَنْ يُعْطِيَنِي فَهْماً وحِفْظاً فَمَا نَسِيتُ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ولَا عَلَى مَنْ أُنْزِلَتْ إِلَّا أَمْلَاهُ عَلَيَّ»(2).

وعن يَعْقُوبُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ أَبِي الْحَسَنِ (عليه السلام) بِمَكَّةَ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: إِنَّكَ لَتُفَسِّرُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَا لَمْ تَسْمَعْبِهِ، فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ (عليه

ص: 171


1- الرطل العراقي هو نصف الرطل المكي وأما الرطل المدني فهو ثلاثة أرباع الرطل المكي، راجع موسوعة الفقه ج2 ص275 كتاب الطهارة، وراجع ص278 فصاعدا حول عرف المتكلم، وهو الإمام عليه السلام، وعرف السامع إذا اختلفا كما في الرطل مثلا.
2- بصائر الدرجات في فضائل آل محمد صلى الله عليهم: ج 1 ص198 ب8 باب في أن عليا علم كلما أنزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) في ليل أو نهار أو حضر أو سفر والأئمة من بعده ح3.

السلام): «عَلَيْنَا نَزَلَ قَبْلَ النَّاسِ، ولَنَا فُسِّرَ قَبْلَ أَنْ يُفَسَّرَ فِي النَّاسِ، فَنَحْنُ نَعْرِفُ حَلَالَهُ وحَرَامَهُ، ونَاسِخَهُ ومَنْسُوخَهُ، وسَفَرِيَّهُ وحَضَرِيَّهُ، وفِي أَيِّ لَيْلَةٍ نَزَلَتْ كَمْ مِنْ آيَةٍ، وفِيمَنْ نَزَلَتْ، وفِيمَا نَزَلَتْ، فَنَحْنُ حُكَمَاءُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ، وشُهَدَاؤُهُ عَلَى خَلْقِهِ، وهُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى: «سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ ويُسْئَلُونَ»(1)، فَالشَّهَادَةُ لَنَا والْمَسْأَلَةُ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، فَهَذَا عِلْمُ مَا قَدْ أَنْهَيْتُهُ إِلَيْكَ وأَدَّيْتُهُ إِلَيْكَ مَا لَزِمَنِي فَإِنْ قَبِلْتَ فَاشْكُرْ، وإِنْ تَرَكَتْ ف «إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ»(2)»(3).

تأكيد المهم وخاصة الولاية

مسألة: يستحب التأكيد في الأمور المهمة، وخاصة ما يرتبط بولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)، حيث قال (عليه السلام): «إن السعيد كل السعيد حق السعيد..».فإن الأمور المهمة إذا أكّدت عرف الناس لزوم الاهتمام بها ورسخت في الأذهان والنفوس، وكانت أقوى في الحجة على المخالف، قال سبحانه مكرراً: «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبان»(4)،

ص: 172


1- سورة الزخرف: 19.
2- سورة الحج: 17.
3- بصائر الدرجات في فضائل آل محمد (صلى الله عليهم): ج 1 ص198 ب8 باب في أن عليا علم كلما أنزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) في ليل أو نهار أو حضر أو سفر والأئمة من بعده ح4.
4- سورة الرحمن، وقد تكرر 32 مرة.

وقال تعالى : «فَهَلْ مِنْ مُدَّكِر»(1)، إلى غير ذلك.

حب الوصي

مسألة: حب علي (عليه السلام) وأهل البيت (عليهم السلام) واجب على كل مسلم ومسلمة، في حياتهم ومماتهم (صلوات الله عليهم).

وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يا علي لا يحبك إلاّ مؤمن، ولا يبغضك إلاّ منافق»(2).

وعن جابر أن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) كانوا يعرفون طيب مولدأبنائهم من خبثه بإيقافهم على طريق الإمام علي (عليه السلام) وإراءتهم له وسؤالهم هل يحبون هذا الرجل، فإن قال الطفل: إنه يحبه، عرفوا طيب مولده، وإن قال: لا، عرفوا خبث ولادته(3).

وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: كُنَّا بِمِنًى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) إِذْ بَصُرْنَا بِرَجُلٍ سَاجِدٍ وَرَاكِعٍ وَمُتَضَرِّعٍ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَحْسَنَ صَلَاتَهُ، فَقَالَ (صلى الله عليه وآله): هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ أَبَاكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ، فَمَضَى إِلَيْهِ

ص: 173


1- سورة القمر، وقد تكرر 6 مرات.
2- الأمالي، للطوسي: ص206 المجلس الثامن ح3، بشارة المصطفى لشيعة المرتضى: ج 2 ص274، بحار الأنوار: ج 39 ص87 باب87 حبه وبغضه (صلوات الله عليه) وأن حبه إيمان وبغضه كفر ونفاق وأن ولايته ولاية الله ورسوله وأن عداوته عداوة الله ورسوله وأن ولايته (عليه السلام) حصن من عذاب الجبار وأنه لواجتمع الناس على حبه ما خلق الله النار ح81.
3- انظر علل الشرائع: ج 1 ص141 ب120 باب في أن علة محبة أهل البيت (عليهم السلام) طيب الولادة وأن علة بغضهم خبث الولادة ح7.

عَلِيٌّ (عليه السلام) غَيْرَ مُكْتَرِثٍ فَهَزَّهُ هَزَّةً أَدْخَلَ أَضْلَاعَهُ الْيُمْنَى فِي الْيُسْرَى وَالْيُسْرَى فِي الْيُمْنَى، ثُمَّ قَالَ: لَأَقْتُلَنَّكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَقَالَ: لَنْ تَقْدِرَ عَلَى ذَلِكَ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ مِنْ عِنْدِ رَبِّي، مَا لَكَ تُرِيدُ قَتْلِي، فَوَ اللَّهِ مَا أَبْغَضَكَ أَحَدٌ إِلَّا سَبَقَتْ نُطْفَتِي إِلَى رَحِمِ أُمِّهِ قَبْلَ نُطْفَةِ أَبِيهِ، وَلَقَدْ شَارَكْتُ مُبْغِضِيكَ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ: «وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ»(1)، قَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): صَدَقَ يَا عَلِيُّ لَا يُبْغِضُكَ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَّا سِفَاحِيٌّ، وَلَا مِنَ الْأَنْصَارِ إِلَّا يَهُودِيٌّ، وَلَا مِنَ الْعَرَبِ إِلَّادَعِيٌّ، وَلَا مِنْ سَائِرِ النَّاسِ إِلَّا شَقِيٌّ، وَلَا مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا سَلَقْلَقِيَّةٌ، وَهِيَ الَّتِي تَحِيضُ مِنْ دُبُرِهَا، ثُمَّ أَطْرَقَ مَلِيّاً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: مَعَاشِرَ الْأَنْصَارِ اعْرِضُوا أَوْلَادَكُمْ عَلَى مَحَبَّةِ عَلِيٍّ، قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: فَكُنَّا نَعْرِضُ حُبَّ عَلِيٍّ (عليه السلام) عَلَى أَوْلَادِنَا، فَمَنْ أَحَبَّ عَلِيّاً عَلِمْنَا أَنَّهُ مِنْ أَوْلَادِنَا، وَمَنْ أَبْغَضَ عَلِيّاً انْتَفَيْنَا مِنْهُ»(2).

وفي الرواية، قال جبرئيل (عليه السلام) لرسول الله (صلى الله عليه وآله): «يُحْشَرُ النَّاسُ كُلُّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً إِلَّا شِيعَةَ عَلِيٍّ وَ يُدْعَى النَّاسُ بِأَسْمَاءِ أُمَّهَاتِهِمْ مَا خَلَا شِيعَةَ عَلِيٍّ (عليه السلام) فَإِنَّهُمْ يُدْعَوْنَ بِأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ، فَقُلْتُ: حَبِيبِي جَبْرَئِيلُ وَكَيْفَ ذَاكَ، قَالَ: لِأَنَّهُمْ أَحِبُّوا عَلِيّاً فَطَابَ مَوْلِدُهُمْ»(3).

فإن حبهم (عليهم السلام) مع قطع النظر عن أمر الله سبحانه وتعالى به، وأمره واجب الإطاعة، يوجب التفاف الناس حولهم والأخذ منهم مما ينفع دين

ص: 174


1- سورة الإسراء: 64.
2- بحار الأنوار: ج 27 ص151 باب5 أن حبهم (عليهم السلام) علامة طيب الولادة وبغضهم علامة خبث الولادة ح20 وهزه حركه.
3- بحار الأنوار: ج 65 ص77 باب15 فضائل الشيعة ح135.

الإنسان ودنياه منفعة لا يجوز تركها.

المحاباة بالباطل

مسألة: المحاباة بالباطل محرمة، فإنها عنوان آخر للباطل نفسه، وبغيره مكروهة أو مباحة، أما المحاباة بالحق فبين واجبة ومستحبة.

وقوله (صلى الله عليه وآله): «غير محاب لقرابتي» أي ليس محاباة بالباطل، بل قد يقال بالخروج الموضوعي للمحاباة بالحق عن صدق (المحاباة) عرفاً عليه.

المباهاة بالحق

مسألة: المباهاة بالحق وبالمحق مستحب وقد تكون واجبة، فإن بها إعزاز الحق وتكريم المحق، وتحريضاً على العمل بالحق، وقد تكرر في الروايات مباهاة الله تعالى ببعض عباده الصالحين وأوليائه المكرمين، وهذه الرواية منها.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وتَعَالَى لَيُبَاهِي مَلَائِكَتَهُ بِالْعَبْدِ يَقْضِي صَلَاةَ اللَّيْلِ بِالنَّهَارِ فَيَقُولُ: يَا مَلَائِكَتِي انْظُرُوا إلى عَبْدِي يَقْضِي مَا لَمْ أَفْتَرِضْهُ عَلَيْهِ أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُ»(1).وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «وَاللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُبَاهِي بِزَائِرِ الْحُسَيْنِ وَ الْوَافِدِ إِلَيْهِ الْمَلَائِكَةَ الْمُقَرَّبِينَ وَ حَمَلَةَ عَرْشِهِ فَيَقُولُ لَهُمْ أَ مَا تَرَوْنَ زُوَّارَ قَبْرِ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) أَتَوْهُ شَوْقاً إِلَيْهِ وَ إِلَى فَاطِمَةَ وَ عِزَّتِي وَ جَلَالِي وَ عَظَمَتِي

ص: 175


1- من لا يحضره الفقيه: ج 1 ص498 باب قضاء صلاة الليل ح1428.

لَأُوجِبَنَّ لَهُمْ كَرَامَتِي (وَلأُحِبَّنَّهُمْ لِمَحَبَّتِي) الْحَدِيثَ وَ فِيهِ ثَوَابٌ جَزِيلٌ»(1).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ اللَّهَ يُبَاهِي بِالطَّائِفِينَ»(2).

وقال (صلى الله عليه وآله): «أوحى الله إلى جبرئيل وميكائيل: إني آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر صاحبه فأيكما يؤثر أخاه، فكلاهما كرها الموت، فأوحى الله إليهما: ألا كنتما مثل وليي علي بن أبي طالب، آخيت بينه و بين محمد نبيي فآثره بالحياة على نفسه، ثم ظل أو رقد على فراشه يقيه بمهجته، اهبطا إلى الأرض جميعاًفاحفظاه من عدوه، فهبط جبرئيل فجلس عند رأسه و ميكائيل عند رجليه وجعل جبرئيل يقول: بخ بخ من مثلك يا ابن أبي طالب والله يباهي به الملائكة، فأنزل الله «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ»(3)»(4).

ص: 176


1- وسائل الشيعة: ج 14 ص497 ب64 باب استحباب زيارة الحسين (عليه السلام) حباً لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين وفاطمة (عليهما السلام) ورحمة له وتشوقا إليه واحتسابا ولوجه الله والدار الآخرة ح19681.
2- مستدرك الوسائل: ج 9 ص376 ب4 باب استحباب التطوع بالطواف وتكراره واختياره على العتق المندوب ح11115.
3- سورة البقرة: 207.
4- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام)، لابن شهرآشوب: ج 2 ص65 فصل في المسابقة إلى الهجرة.

زيادة حب الوصي

مسألة: يستحب طلب الزيادة في حب أمير المؤمنين (عليه السلام) وسائر المعصومين (عليهم السلام) إذ كلما ازداد الإنسان حباً له (عليه السلام) ازداد رتبةً وقرباً وثواباً.

والظاهر أن قوله (صلى الله عليه وآله): «إن السعيد كل السعيد حق السعيد من أحب علياً في حياته وبعد وفاته»، المراد به هو الحب الكامل الذي يستجلب الأعمال الصالحة والطاعات ويجنبه المعاصي والسيئات.

وأما غيره من المحبين محبة غير كاملة، فهو سعيد بنفس مقدار حبه.

ويحتمل إرادة أصل الدخول في الجنة والنجاة من النار، وأنها بحبه (عليه السلام)، وقد اعتبرت حق السعادة أو كل السعادة لأهميتها وكونها الأساس، فتأمل.

وقد جاء في معاني الأخبار، باب معنى قول أمير المؤمنين (عليه

السلام) للذي قال له: إني أحبك، أعد للفقر جلباباً، عن أحمد بن المبارك، قال: قال رجل لأبي عبد الله (عليه السلام): حديث يروى أن رجلا قال لأمير المؤمنين (عليه السلام): إني أحبك، فقال له: أعد للفقرجلباباً، فقال: ليس هكذا قال، إنما قال له: أعددت لفاقتك جلباباً يعني يوم القيامة»(1).

ص: 177


1- معاني الأخبار: ص182 باب معنى قول أمير المؤمنين (عليه السلام) للذي قال: له إني أحبك أعد للفقر جلبابا ح1.

علي وشيعته في الجنة

اشارة

عن فاطمة (عليها السلام) بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام): «أما إنك يا علي وشيعتك في الجنة».

-------------------------------------------

الجنة وأهلها

مسألة: يجب الاعتقاد بأن المعصومين (عليهم السلام) وشيعتهم في الجنة، ويستحب بيان ذلك، وإذا توقفت الهداية عليه وجب البيان.

ثم إن الشيعي له درجات، ومن شروطه أن يكون مطيعاً لله تعالى غير عاص له، فإن الله سبحانه خلق الجنة لمن أطاعه ولو كان عبداً حبشياً، وخلق النار لمن عصاه ولو كان سيداً قرشياً، كما ورد بذلك الأحاديث(1)، ودل عليه

ص: 178


1- طَاوُسٌ الْفَقِيهُ قال: رَأَيْتُ الإمام زين العابدين (عليه السلام) يَطُوفُ مِنَ الْعِشَاءِ إِلَى سَحَرٍ وَيَتَعَبَّدُ، فَلَمَّا لَمْ يَرَ أَحَداً رَمَقَ السَّمَاءَ بِطَرْفِهِ وَقَالَ: إِلَهِي غَارَتْ نُجُومُ سَمَاوَاتِكَ، وَهَجَعَتْ عُيُونُ أَنَامِكَ، وَأَبْوَابُكَ مُفَتَّحَاتٌ لِلسَّائِلِينَ، جِئْتُكَ لِتَغْفِرَ لِي وَتَرْحَمَنِي وَتُرِيَنِي وَجْهَ جَدِّي مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ بَكَى وَقَالَ: وَعِزَّتِكَ وَجَلَالِكَ مَا أَرَدْتُ بِمَعْصِيَتِي مُخَالَفَتَكَ، وَمَا عَصَيْتُكَ إِذْ عَصَيْتُكَ وَأَنَا بِكَ شَاكٌّ، وَلَا بِنَكَالِكَ جَاهِلٌ، وَلَا لِعُقُوبَتِكَ مُتَعَرِّضٌ، وَلَكِنْ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي، وَأَعَانَنِي عَلَى ذَلِكَ سَتْرُكَ الْمُرْخَى بِهِ عَلَيَّ، فَالْآنَ مِنْ عَذَابِكَ مَنْ يَسْتَنْقِذُنِي، وَبِحَبْلِ مِنَ أَعْتَصِمُ إِنْ قَطَعْتَ حَبْلَكَ عَنِّي، فَوَا سَوْأَتَاهْ غَداً مِنَ الْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْكَ، إِذَا قِيلَ لِلْمُخِفِّينَ جُوزُوا، وَلِلْمُثْقِلِينَ حُطُّوا، أَمَعَ الْمُخِفِّينَ أَجُوزُ، أَمْ مَعَ الْمُثْقِلِينَ أَحُطُّ، وَيْلِي كُلَّمَا طَالَ عُمُرِي كَثُرَتْ خَطَايَايَ وَ لَمْ أَتُبْ، أَمَا آنَ لِي أَنْ أَسْتَحِيَ مِنْ رَبِّي، ثُمَّ بَكَى وَأَنْشَأَ يَقُولُ: أَتُحْرِقُنِي بِالنَّارِ يَا غَايَةَ الْمُنَى *** فَأَيْنَ رَجَائِي ثُمَّ أَيْنَ مَحَبَّتِي أَتَيْتُ بِأَعْمَالٍ قِبَاحٍ زَرِيّ-َةٍ *** وَ مَا فِي الْوَرَى خَلْقٌ جَنَى كَجِنَايَتِي ثُمَّ بَكَى وَقَالَ: سُبْحَانَكَ تُعْصَى كَأَنَّكَ لَا تَرَى، وَ تَحْلُمُ كَأَنَّكَ لَمْ تُعْصَ، تَتَوَدَّدُ إِلَى خَلْقِكَ بِحُسْنِ الصَّنِيعِ كَأَنَّ بِكَ الْحَاجَةَ إِلَيْهِمْ، وَأَنْتَ يَا سَيِّدِي الْغَنِيُّ عَنْهُمْ، ثُمَّ خَرَّ إِلَى الْأَرْضِ سَاجِداً. قَالَ: فَدَنَوْتُ مِنْهُ وَشُلْتُ بِرَأْسِهِ وَوَضَعْتُهُ عَلَى رُكْبَتِي وَبَكَيْتُ حَتَّى جَرَتْ دُمُوعِي عَلَى خَدِّهِ، فَاسْتَوَى جَالِساً وَقَالَ: مَنِ الَّذِي أَشْغَلَنِي عَنِ ذِكْرِ رَبِّي، فَقُلْتُ: أَنَا طَاوُسٌ يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ، مَا هَذَا الْجَزَعُ وَالْفَزَعُ وَنَحْنُ يَلْزَمُنَا أَنْ نَفْعَلَ مِثْلَ هَذَا وَنَحْنُ عَاصُونَ جَانُونَ، أَبُوكَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، وَأُمُّكَ فَاطِمَةُ الزَّهْرَاءُ، وَجَدُّكَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله). قَالَ: فَالْتَفَتَ إِلَيَّ وَقَالَ: «هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ يَا طَاوُسُ، دَعْ عَنِّي حَدِيثَ أَبِي وَأُمِّي وَجَدِّي، خَلَقَ اللَّهُ الْجَنَّةَ لِمَنْ أَطَاعَهُ وَأَحْسَنَ وَلَوْ كَانَ عَبْداً حَبَشِيّاً، وَخَلَقَ النَّارَ لِمَنْ عَصَاهُ وَلَوْ كَانَ وَلَداً قُرَشِيّاً، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَهُ تَعَالَى: «فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ» وَاللَّهِ لَا يَنْفَعُكَ غَداً إِلَّا تَقْدِمَةٌ تُقَدِّمُهَا مِنْ عَمَلٍ صَالِح» بحار الأنوار: ج46 ص81 - 82.

العقلوالإجماع، وقبلهما القرآن الحكيم.

ومن المعلوم أن شيعة المعصومين (صلوات الله عليهم أجمعين) هم الذين يوافقونهم عقيدةً وعملاً ويطيعون الله تعالى، ولذا يكون محلّهم الجنة، نعم الظاهر أن سيد الطاعات هو إطاعة الله تعالى في أمر الإمامة والولاية، ولذا قال عزوجل: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً»(1).

عن خيثمة قال: قال لي أبو جعفر (عليه السلام): «أَبْلِغْ شِيعَتَنَا أَنَّهُ لَنْ يُنَالَ مَا

ص: 179


1- سورة المائدة: 3.

عِنْدَ اللَّهِ إِلَّا بِعَمَلٍ، وَأَبْلِغْ شِيعَتَنَا أَنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ حَسْرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ وَصَفَ عَدْلًا ثُمَّ يُخَالِفُهُ إِلَى غَيْرِهِ»(1).

نعم إن حب علي (صلوات الله عليه) والاعتقاد بولايته ينقذ الإنسان من النار كما في متواتر الروايات.

قال أبو جعفر (عليه السلام) قال: رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «أتاني جبرئيل فقال: إن اللّه يأمرك أن تحب علياً وأن تأمر بحبه وولايته فإني معط أحباء علي الجنة خلداً بحبهم إياه، ومدخل أعدائهوالتاركين ولايته النار جزاءً بعداوتهم إياه وتركهم ولايته»(2).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيُحِبُّكُمْ ومَا يَعْرِفُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ فَيُدْخِلُهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِحُبِّكُمْ وإِنَّ الرَّجُلَ لَيُبْغِضُكُمْ ومَا يَعْرِفُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ فَيُدْخِلُهُ اللَّهُ بِبُغْضِكُمُ النَّارَ»(3).

وقال الصادق (عليه السلام): «وَنِعْمَةُ اللَّهِ مُحَمَّدٌ وأَهْلُ بَيْتِهِ، حُبُّهُمْ إِيمَانٌ يُدْخِلُ الْجَنَّةَ، وبُغْضُهُمْ كُفْرٌ ونِفَاقٌ يُدْخِلُ النَّارَ»(4).

التشيع واجب

مسألة: التشيّع واجب كما أن الإسلام واجب، وكما أن الكفار مكلفون بالفروع وبالإسلام، كذلك المخالفون مكلفون بالأحكام وبالتشيع، وكما أن

ص: 180


1- الكافي: ج 2 ص300 باب من وصف عدلا وعمل بغيره ح5.
2- الأصول الستة عشر: ص62.
3- الكافي: ج 2 ص126 باب الحب في الله والبغض في الله ح10.
4- بحار الأنوار: ج24 ص60 ب29 ح38.

دفع الضرر العظيم بالإسلام واجب، كذا دفع الضرر العظيم بالتشيع واجب، وذلك لأن الشيعة هم الفرقة الناجية كما قاله رسول الله (صلى الله عليه وآله)(1)، ومن الواضحوجوب دفع الضرر العظيم.

وأي ضرر أعظم من الضرر الأخروي باستيجاب عقاب الله وعذابه بعدم قبول الولاية والإمامة التي لولاها لما ارتضى الله لنا الإسلام ديناً، كما هو صريح الآية الكريمة «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ» الآية(2).

بل نقول إن الضرر العظيم الدنيوي كالأخروي لا يُدفع إلا باتباع علي وأولاده المعصومين (صلوات الله عليهم أجمعين)، ولذا ورد في الروايات وجوب التشيّع واتباع علي (عليه سلام الله).

هذا كله من جهة دفع الضرر المحتمل، وأما جلب المنفعة العظيمة فكذلك، فإن جلب المنفعة العظيمة الأخروية بل والدنيوية أيضا لا يمكن إلا بالتشيع.

ثم إن المشهور بين أرباب الكلام أن دفع الضرر واجب، لكنهم اختلفوا في وجوب جلب المنفعة، والظاهر أن المعيار في الأمرين واحد، فكما يجب دفع الضرر يجب جلب النفع أيضاً فيما إذا كان الضرر عظيماً والنفع عظيماً، فتأمل، نعم لا يجب جلب النفع غير العظيم كما لا يجب دفع الضرر غير العظيم، وقد ذكرنا في بعض المباحثالسابقة في هذا الكتاب أقسام الضرر وأن بعضها محرم وبعضها غير محرم.

عن أبي ذر، عن النبي (صلّى اللّه عليه وآله) قال: «مثل أهل بيتي مثل سفينة

ص: 181


1- إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات: ج 3 ص191 الفصل الثالث والستون ح879.
2- سورة المائدة: 3.

نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق»، قال: وهذا بيان الفرقة الناجية(1).

وعن النبي (صلّى اللّه عليه وآله) قال: «ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلاّ واحدة، وهي التي تتبع وصيّي عليّاً»(2).

وعن النبي (صلّى اللّه عليه وآله) أنه قال في حديث: «ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، فرقة منها ناجية والباقي في النار، فقال علي (عليه السلام): يا رسول اللّه ومن الفرقة الناجية؟ فقال (صلّى اللّه عليه وآله): ما أنت عليه وأصحابك»(3).

إعلام العالِم

مسألة: إعلام العالم قد يكون مستحباً، وقد يكون واجباً وذلك متى ما توقفت عليه فوائد عظيمة أخرى، والمقام من هذا القبيل، فإن علياً (عليه السلام) كان عالماً بأنه وشيعته في الجنة قطعاً، ومع ذلك خاطبه الرسول (صلى الله عليه وآله) بقوله: (أما أنك يا علي وشيعتك في الجنة).

ومن فوائده إتمام الحجة على من لا يقبل إلاّ كلام الرسول (صلى الله عليه وآله).

ص: 182


1- إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات: ج 2 ص232 الفصل السادس والخمسون ح804.
2- إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات: ج 3 ص191 الفصل الثالث والستون ح879.
3- إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات: ج 3 ص279 الفصل الثلاثون ح347.

أبشر يا علي

اشارة

عن فاطمة الزهراء (عليها السلام) عن أم سلمة قالت: كانت ليلتي من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو عندي، فجاءت فاطمة (عليها السلام) وتبعها علي (عليه السلام)، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يا علي أبشر أنت وأصحابك في الجنة، أبشر يا علي أنت وشيعتك في الجنة».

-------------------------------------------

قول أبشر

مسألة: يستحب قول «أبشر» ونحوه قبل ذكر الخبر المسر.

فهو من إدخال السرور في قلب المؤمن المستحب، الذي دلت عليه الروايات الكثيرة، وفي القرآن الحكيم في وصف النبي (صلى الله عليه وآله): «بَشِيراً وَنَذِيراً»(1)، بالإضافة إلى دلالة العقل على ذلك.

عن أبي سعيد الخدري قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى

الله عليه وآله) يَقُولُ لِعَلِيٍّ: «يَا عَلِيُّ أَبْشِرْ وَبَشِّرْ، فَلَيْسَ عَلَى شِيعَتِكَ حَسْرَةٌ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَلَا وَحْشَةٌ فِي الْقُبُورِ، وَلَا حُزْنٌ يَوْمَ النُّشُورِ، وَلَكَأَنِّي بِهِمْ يَخْرُجُونَ مِنْ جَدَثِ الْقُبُورِ يَنْفُضُونَ التُّرَابَ عَنْرُءُوسِهِمْ وَلِحَاهُمْ، يَقُولُونَ: «الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا

ص: 183


1- سورة البقرة: 119، سورة سبأ: 28، سورة فاطر: 24.

الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنا دارَ المُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ»(1)»(2).

الرواية والطرق المختلفة

مسألة: يستحب نقل الرواية عن طرق مختلفة، كما نقلت الصديقة فاطمة (سلام الله عليها) هذا الخبر عن طرق مختلفة، ففي الخبر السابق نقلته مباشرة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وفي هذا الخبر بواسطة أم سلمة، وفي الخبر الآتي أيضاً عن الرسول (صلى الله عليه وآله). وربما كانت روايات مختلفة.

فإن نقل الرواية الواحدة من طرق مختلفة يوجب تأكيدها، والتأكيد موجب لعمق معرفة الإنسان، وشدة اطمئنانه، فإن المعرفة كسائر الصفات النفسية والعقلية قابلة للتأكيد والشدة والقوة، مثل الشجاعة والجبن والكرم والبخل وما أشبه، فلا يقال: إن العلم والمعرفة إما موجود وإما غير موجود فلا معنى للتأكيد فيه، وقد ذكر العلماء مراتبللعلم: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين (3).

ص: 184


1- سورة فاطر: 34 - 35.
2- بحار الأنوار: ج 7 ص198 باب 8 أحوال المتقين والمجرمين في القيامة ح74.
3- قال البعض في الفرق بين هذه المراتب: (علم اليقين) العلم بالشيء عبر تواتر الخبر به ونقل الكثيرين له بحيث لا يتطرق إليه شك حتى إذا طرحت الشبهات. و(عين اليقين) مشاهدة الشيء الذي علم به ورؤيته بالعيان بحيث لا يتطرق إليه شك. و(حقّ اليقين) الإحساس بالشيء عبر المماسة أو ما أشبه بعد العلم به ورؤيته بالعيان.

حق القسم

مسألة: حق القسم للزوجة لا يتنافى مع ممارسة الزوج مختلف أعماله الطبيعية في تلك الليلة، فإن حق القسم حسب المشهور هو المبيت عند الزوجة الدائمة ليلة من كل أربع ليال، وإن كان لا يبعد عدم وجوب ذلك خصوصاً لمن له زوجة واحدة فقط، وعلى أي فإن المبيت عرفي، ولذا نجد أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في ليلة مبيته عند أم سلمة استقبل ابنته فاطمة والإمام علياً (عليهما السلام) وحادثهما.

ص: 185

هذا وشيعته

اشارة

عن فاطمة الزهراء (عليها السلام) قالت:

إن أبي (صلى الله عليه وآله) نظر إلى علي (عليه السلام) وقال: «هذا وشيعته في الجنة».

-------------------------------------------

فضائل الوصي

مسألة: يستحب أو يجب كل في مورده وفي مناسبة إثر أخرى، إعلام الآخرين بفضائل مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) ومنزلته عند الله تعالى ومكانته في الآخرة.

فإن النبي (صلى الله عليه وآله) من شأنه الهداية وبيان سُبُل السعادة في الدنيا والآخرة، ولا تكون السعادة إلا بولاية علي (صلوات الله عليه) فالهداية قد تكون واجبة وقد تكون مستحبة، فالواجبة - فيما كانت مانعة من النقيض، والمستحبة فيما لم تكن، وما نحن فيه من الواجب، وتكراره مستحب، وحيث إن النبي (صلى الله عليه وآله) أسوة، فاللازم الإقتداء به لزوماً واجباً أو مستحباً حسب ما ذكر من التقسيم. قال سبحانه:«لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ»(1).

ص: 186


1- سورة الأحزاب: 21.

وقال تعالى:«واتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ»(1).

بيان الفضائل

مسألة: يستحب إعلام الآخرين بفضيلة ذي الفضل، ولو بغير صورة الخطاب إليه.

فإنه لا فرق فيه بين كونه بصورة الخطاب أو بغيرها، باللفظ أو بالإشارة أو بالكتابة، وذلك للأدلة العامة الشاملة لجميعها.

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِأَخِي عَلِيٍّ فَضَائِلَ لَا تُحْصَى كَثْرَةً، فَمَنْ ذَكَرَ فَضِيلَةً مِنْ فَضَائِلِهِ مُقِرّاً بِهَا غَفَرَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ومَا تَأَخَّرَ، ومَنْ كَتَبَ فَضِيلَةً مِنْ فَضَائِلِهِ لَمْ تَزَلِ الْمَلَائِكَةُ تَسْتَغْفِرُ لَهُ مَا بَقِيَ لِتِلْكَ الْكِتَابَةِ رَسْمٌ، ومَنِ اسْتَمَعَ إِلَى فَضِيلَةٍ مِنْ فَضَائِلِهِ غَفَرَ اللَّهُ الذُّنُوبَ الَّتِي اكْتَسَبَهَا بِالاسْتِمَاعِ، ومَنْ نَظَرَ إِلَى كِتَابٍ مِنْ فَضَائِلِهِ غَفَرَ اللَّهُ الذُّنُوبَ الَّتِي اكْتَسَبَهَا بِالنَّظَرِ» ثُمَّ قَالَ: «النَّظَرُ إِلَى عَلِيٍّ عِبَادَةٌ، وذِكْرُهُ عِبَادَةٌ، ولَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِيمَانَ عَبْدٍ إِلَّا بِوَلَايَتِهِ والْبَرَاءَةِ مِنْأَعْدَائِه»(2).

ص: 187


1- سورة الأعراف: 158.
2- رواه الخوارزمي في المناقب، كما في ينابيع المودة: ص121، وكفاية الطالب: ص251، وقال: رواه الحافظ الهمداني في مناقبه، والحمويني في فرائد السمطين، ونهج الحق وكشف الصدق: ص232. هكذا راجع: الأمالي للصدوق: 138 المجلس الثامن والعشرون ح9، بحار الأنوار: ج 26 ص229 ب1 ذكر ثواب فضائلهم وصلتهم وإدخال السرور عليهم والنظر إليهم ح10.

النظر إلى علي

مسألة: يستحب النظر إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام) كما نظر رسول الله (صلى الله عليه وآله) إليه حسب نص هذه الرواية.

ولا يخفى أن النظر إليه أعم من النظر إلى وجهه المبارك فيشمل شخصه الكريم، وما ورد من: «النظر في وجه علي (عليه الصلاة والسلام) عبادة»(1)، لا ينفي الأعم، فإن إثبات الشيء لا ينفي ما عداه، إلا أن يقال النظر إليه (عليه السلام) منصرف إلى النظر إلى وجهه الشريف، فتأمل.

ووجه كونه عبادة أنه يذكر الإنسان بالله سبحانه وبأوليائه المقربين، وفيه فائدة التقوي على الالتزام بأوامر الله والتقرب إليه.

ومن هنا أيضا ورد: «النظر إلى الكعبة عبادة»(2).

و: «النظر إلى الوالدين عبادة»(3).و: «النظر إلى المصحف عبادة»(4).

وما أشبه(5).

ص: 188


1- بناء المقالة الفاطميّة: ص370، مناقب الخوارزميّ: ج2 ص32 - 33، غرر الأخبار: ص37.
2- الكافي: ج 4 ص240 باب فضل النظر إلى الكعبة ح5.
3- الكافي: ج 4 ص240 باب فضل النظر إلى الكعبة ح5.
4- وسائل الشيعة: ج 6 ص205 ب19 ح6.
5- انظر وسائل الشيعة: ج 12 ص312 ب166 ح1 وفيه: (رُوِيَ أَنَّ النَّظَرَ إلى الْكَعْبَةِ عِبَادَةٌ والنَّظَرَ إلى الْوَالِدَيْنِ عِبَادَةٌ والنَّظَرَ إلى الْمُصْحَفِ مِنْ غَيْرِ قِرَاءَةٍ عِبَادَةٌ والنَّظَرَ إلى وَجْهِ الْعَالِمِ عِبَادَةٌ والنَّظَرَ إلى آلِ مُحَمَّدٍ عليهم السلام عِبَادَةٌ).

ومن الواضح أن العبادة درجات ومراتب، فلا يتساوى النظر إلى الكعبة أو إلى الوالدين مع النظر إلى وجه علي (عليه سلام الله)، لأن المؤمن أشرف عند الله من الكعبة، فكيف بسيد الأوصياء ووارث علم الأنبياء وأفضل الخلائق بعد رسول الله (صلى الله عليهما وآلهما الطاهرين).

الصراحة في الحق

مسألة: تجب الصراحة في إبلاغ رسالة الله، ويجب الجهر بالحق إن توقفت الهداية على ذلك، وتحرم المجاملات العرفية على حساب الحق إذا كانت مفوتة ومضيعة للحقوق الواجبة.

قال تعالى: «الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إلاَّ اللهَ وَكَفَى باللهِ حَسِيباً»(1).وقال عزوجل: «وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ»(2).

ص: 189


1- سورة الأحزاب: 39.
2- سورة المائدة: 54.

ليلة المعراج والولاية

اشارة

عن فاطمة (عليها السلام) بنت محمد (صلى الله عليه وآله) قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لما عرج بي إلى السماء سرت إلى سدرة المنتهى فكان قاب قوسين أو أدنى، فأبصرته بقلبي ولم أره بعيني، فسمعت أذاناً مثنى مثنى، وإقامة وتراً وتراً، فسمعت منادياً ينادي: يا ملائكتي وسكان سماواتي وأرضى وحملة عرشي، اشهدوا أني لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي، قالوا: شهدنا وأقررنا.

قال: اشهدوا يا ملائكتي وسكان سماواتي وأرضي وحملة عرشي، بأن محمداً عبدي ورسولي، قالوا: شهدنا وأقررنا.

قال: اشهدوا يا ملائكتي وسكان سماواتي وأرضي وحملة عرشي، بأن علياً وليي وولي رسولي وولي المؤمنين بعد رسولي، قالوا: شهدنا وأقررنا».

-------------------------------------------

أقول: كون الإقامة في أول التشريع وتراً وتراً لا ينافي التغيير من بعده.

القرب المعنوي

قوله: «فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى»(1) كناية عن مقام القرب المعنوي من باب تشبيه المعقول بالمحسوس، والترديد هنا من أساليب البلاغة، وقد قال تعالى حكاية عن نبيه (صلى الله عليه وآله): «وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىًأَوْ في ضَلالٍ

ص: 190


1- سورة النجم: 9.

مُبينٍ»(1)، فإن مثل هذا الترديد أقرب إلى الإنصاف وعدم الإنكار، وإن كان القائل يعلم أنه على أية كيفية منهما.

الأذان والإقامة

مسألة: إن الأذان كان مثنى مثنى، والإقامة وتراً وتراً، وفي الروايات كيفيات مختلفة للأذان والإقامة(2) وقد صار الفقهاء فيها إلى الكيفية المتعارفة المذكورة في الرسائل العملية والكتب الاستدلالية، وإن احتملنا أن كلها جائز، فهي من باب التخيير لا التعيين(3)، هذا إضافة إلىأنه لا تلازم بين كون الإقامة هناك وتراً، وبين تشريعها لنا كما هو المتعارف.

ص: 191


1- سورة سبأ: 24.
2- راجع وسائل الشيعة: ج5 ص413 الباب19باب كيفية الأذان والإقامة وعدد فصولهما وجملة من أحكامهما. ومستدرك الوسائل: ج4 ص40 ب18.
3- قال الإمام المؤلف (رحمه الله) في موسوعة (الفقه): ج19 كتاب الصلاة ص325 فصاعداً: (مقتضى القاعدة جواز كل هذه الصور) وقد أشار (قدس سره) إلى صور ستة (لورود الروايات بكلها، وهي وإن كانت ضعيفة بالنسبة إلى بعض هذه الأقوال إلا أن التسامح متمم لضعفها...) ج19 ص325. وقال: (وكيف كان فالأحسن اتباع المشهور لدى الشيعة من تسعة وثلاثين) أي في الأذان والإقامة معاً (بإضافة الشهادة بالولاية مرتين في كل من الأذان والإقامة ... فإن ذلك مقتضى الجمع بين الأدلة، بضميمة الأخذ «بما اشتهر بين أصحاب» إن قلنا بأن المناط الشهرة ولو لم تكن روائية، وإلاّ فالأمر مخير بين القولين الأولين) أي 34 فصلاً أو 35 كما هو المشهور (مع إضافة الشهادة). موسوعة (الفقه): ج19 ص330.

الشهادة بالولاية في الأذان

مسألة: قد سبق أن الأقوى كون الشهادة بولاية علي (عليه السلام) جزءاً من الأذان والإقامة، ويؤيده هذا الحديث، وتفصيل الأدلة في (الفقه).

وهو وفق القاعدة، فإن الشهادة بالنبوة والرسالة لا تتم إلاّ بالشهادة بالولاية، كما دل على ذلك الأدلة العامة والخاصة، ومنها قوله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دينَكُمْ...» (1)، من هنا ذكر جمع من الفقهاء(2) أن الشهادة بالولاية لعلي(عليه الصلاة والسلام) جزء من الأذان والإقامة، نعم ذكر جماعة آخرون أنه أمر

ص: 192


1- سورة المائدة: 3.
2- ومنهم: العلامة المجلسي الأول (رحمه الله) فقد قال في تعليقته وشرحه على كلام الصدوق: (والظاهر أن الأخبار بزيادة هذه الكلمات أيضاً كانت من الأصول وكانت صحيحة أيضاً كما يظهر من المحقق والعلامة والشهيد ...) روضة المتقين: ج2 ص245. وقال العلامة المجلسي الثاني (رحمه الله): (لا يبعد كون الشهادة بالولاية من الأجزاء المستحبة للأذان، لشهادة الشيخ والعلامة والشهيد وغيرهم بورود الأخبار بها) بحار الأنوار: ج84 ص111. وقال الشيخ الحر العاملي (رحمه الله) في الهداية: (إن المجلسي ذهب إلى كون الشهادة بالولاية فيهما من الأجزاء المستحبة)، وقال (إن ما ذكره شيخنا في البحار قوي). وقال السيد الحكيم (رحمه الله) في المستمسك: (ومن ذلك يظهر وجه ما في البحار من أنه لا يبعد كون الشهادة بالولاية من الأجزاء المستحبة للأذان، لشهادة الشيخ والعلامة والشهيد وغيرهم بورود الأخبار بها، وأيد ذلك بخبر القاسم بن معاوية المروي عن احتجاج الطبرسي عن الصادق عليه السلام) مستمسك العروة: ج5 ص545. إلى غير ذلك، وقد فصل المحقق المتتبع الشيخ محمد السند في كتاب (الشهادة الثالثة) الحديث عن الآيات والروايات العامة والخاصة وأقوال العلماء والسيرة وغيرها في الشهادة بالولاية.

خارج عنهما لكنه ينبغي ذكره في الأذان للأدلة العامة وربما لزم.

بيان حديث المعراج

مسألة: يستحب بيان حديث المعراج وتفاصيله بالمقدار المذكور في الروايات الشريفة، فإن معرفة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) عُرج به إلى السماء وما جرى له وما سمعه أو قاله أو شاهده، إضافة إلى كونه كمالاً في حد ذاته، يوجب مزيد الاعتقاد بنبوته (صلى الله عليه وآله) وبالجنة والنار وغيرها من الحقائق مما هو مرتبط بباب العقائد، كما هو مؤثر في باب الأعمال والأقوال، فإن الإيمان قول باللسان واعتقادبالجنان وعمل بالأركان، كما في الروايات الشريفة.

عَنْ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْقَصِيرِ قَالَ: كَتَبْتُ مَع عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَعْيَنَ إلى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام أَسْأَلُهُ عَنِ الْإِيمَانِ مَا هُو، فَكَتَبَ إِلَيَّ مَع عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَعْيَنَ: «سَأَلْتَ رَحِمَكَ اللَّهُ عَنِ الْإِيمَانِ، والْإِيمَانُ هُو الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ وعَقْدٌ فِي الْقَلْبِ وعَمَلٌ بِالْأَرْكَانِ، والْإِيمَانُ بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ، وهُو دَارٌ وكَذَلِكَ الْإِسْلَام دَارٌ والْكُفْرُ دَارٌ، فَقَدْ يَكُونُ الْعَبْدُ مُسْلِماً قَبْلَ أَنْ يَكُونَ مُؤْمِناً، ولَا يَكُونُ مُؤْمِناً حَتَّى يَكُونَ مُسْلِماً، فَالْإِسْلَام قَبْلَ الْإِيمَانِ، وهُويُشَارِكُ الْإِيمَانَ، فَإِذَا أَتَى الْعَبْدُ كَبِيرَةً مِنْ كَبَائِرِ الْمَعَاصِي أَو صَغِيرَةً مِنْ صَغَائِرِ الْمَعَاصِي الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ عَنْهَا كَانَ خَارِجاً مِنَ الْإِيمَانِ، سَاقِطاً عَنْهُ اسْمُ الْإِيمَانِ، وثَابِتاً عَلَيْهِ اسْمُ الْإِسْلَام، فَإِنْ تَابَ واسْتَغْفَرَ عَادَ إلى دَارِ الْإِيمَانِ، ولَا يُخْرِجُهُ إلى الْكُفْرِ إِلَّا الْجُحُودُ والِاسْتِحْلَالُ، أَنْ يَقُولَ لِلْحَلَالِ هَذَا حَرَام ولِلْحَرَام هَذَا حَلَالٌ، ودَانَ بِذَلِكَ فَعِنْدَهَا يَكُونُ خَارِجاً مِنَ الْإِسْلَام والْإِيمَانِ دَاخِلًا فِي الْكُفْرِ، وكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ دَخَلَ الْحَرَمَ ثُمَّ دَخَلَ

ص: 193

الْكَعْبَةَ وأَحْدَثَ فِي الْكَعْبَةِ حَدَثاً فَأُخْرِجَ عَنِ الْكَعْبَةِ وعَنِ الْحَرَمِ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ وصَارَإلى النَّارِ»(1).

أهمية الولاية

مسألة: يستحب بيان أهمية ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) وقد يجب ذلك، فإن الله تعالى استشهد الملائكة بها، كما استشهد سكان السماوات والأرض حملة العرش أيضاً.

ويدل ذلك على أهمية الشهادة بالتوحيد والنبوة أيضاً، وهذا يكشف أن ولايته (عليه السلام) مطروحة على مستوى الكون كله، بل ولايته ظاهرة كونية مؤثرة على الكون كله كما أشرنا إليه سابقاً(2).

ثم إن ولايته (عليه الصلاة والسلام) توجب السعادة في الدنيا والفوز في الآخرة، ومثل هذا يستحب بيان أهميته وقد يجب.

نفي الرؤية

مسألة: يجب الاعتقاد بأن الله تبارك وتعالى لا يُرى، لاستلزام رؤيته كونَهجسماً ومحدوداً وفي حيز وغير ذلك من اللوازم الفاسدة، ويستحب بيان ذلك، ومن الأدلة على ما ذكر:

أن أشرف الخلق (صلى الله عليه وآله) وفي أقرب منزلة منه لم يره، ولذا قال

ص: 194


1- الكافي: ج 2 ص27 باب آخر منه وفيه أن الإسلام قبل الإيمان ح1.
2- راجع من فقه الزهراء (عليها السلام): الجزء الأول، المقدمة.

(صلى الله عليه وآله): «فأبصرته بقلبي ولم أره بعيني».

وهذا من الأدلة اللفظية، وهناك أدلة عقلية ذكرها العلامة الحلي (قدس سره) في شرح التجريد، كما ذكرت في سائر الكتب الكلامية والحكمية.

وقول بعض العامة بالرؤية بالعين لبعض الظواهر اللفظية المحمولة على المجاز، غير صحيح كما لا يخفى، فإن الظواهر اللفظية لو خالفت الأحكام العقلية القطعية، تحمل على المجاز، أي يكون الحكم القطعي العقلي قرينة على إرادة المجاز من تلك الظواهر، كما في قوله تعالى: «وَمَنْ كانَ في هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبيلاً»(1).

استحباب التأكيد

مسألة: يستحب التأكيد في الموارد المهمة لئلا يلتبس الأمر، كما أكد (عليه السلام) الرؤية القلبية دون البصريةبقوله: «ولم أره بعيني».

بل قد ورد أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ربما كان يعطي الجواب مرة ومرة ومرة حتى يتضح للسائل، إلى غير ذلك.

وأما (المتشابهات) فلها فلسفة أخرى كما بيناه في محله(2).

ص: 195


1- سورة الإسراء: 72.
2- ومما ذكره الإمام المؤلف (رحمه الله) فلسفة الامتحان والاختبار.

طاعة الوصي ومحاربة أعدائه

مسألة: تجب طاعة أمير المؤمنين (عليه السلام) كما تجب طاعة الله عزوجل وطاعة رسوله (صلى الله عليه وآله)، ووجوب محاربة أعدائه (عليه السلام) كذلك.

فإن علياً (عليه الصلاة والسلام) خيرة الله في خلقه بعد الرسول (صلى الله عليه وآله)، فحبه حب الله، وبغضه بغض الله، وسلمه سلم الله، وحربه حرب الله، كما أن الأمر كذلك بالنسبة إلى النبي (صلى الله عليه وآله) وبالنسبة إلى سائر الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام)، وكذلك الصديقة فاطمة (عليها السلام).

ولا مجال لاستغراب ذلك أو استبعاده، فإنه إذا كانت الملائكة هكذا فالأنبياء والأئمة والصديقة فاطمة (عليهم السلام) هم كذلك بطريق أولى، لأنهم أفضل من الملائكة، قال سبحانه: «قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْريلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَ هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُؤْمِنين»(1) إلى قوله تعالى: «مَنْ كانَ عَدُوًّا للهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْريلَ وَ ميكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرينَ»(2)، حيث ذكر الله سبحانه الرسول (صلى الله عليه وآله) وجبريل وميكال والملائكة في عداد نفسهالمقدسة في حرمة المعاداة.

ص: 196


1- سورة البقرة: 97.
2- سورة البقرة: 98.

الإقرار بالشهادة

مسألة: يستحب تأكيد الشهادة بالحق باتباعها بالإقرار وما أشبه، كما صنعت الملائكة وسكان السماوات والأرض وحملة العرش حيث قالوا: «شهدنا وأقررنا».

ولعل الفرق أن الشهادة بالجوارح والإقرار بالجوانح، فالشهادة باللسان مثلاً والإقرار بالجنان.

عن الفتح، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: سَأَلْتُهُ عَنْ أَدْنَى الْمَعْرِفَةِ، فَقَالَ: الْإِقْرَارُ بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ ولَا شِبْهَ لَهُ ولَا نَظِيرَ، وأَنَّهُ قَدِيمٌ مُثْبَتٌ مَوْجُودٌ غَيْرُ فَقِيدٍ، وأَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ»(1).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيّاً حَتَّى يَأْخُذَ عَلَيْهِ ثَلَاثَ خِصَالٍ، الْإِقْرَارَ لَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ، وخَلْع الْأَنْدَادِ، وأَنَّ اللَّهَ يُقَدِّمُ مَا يَشَاءُ ويُؤَخِّرُ مَا يَشَاءُ»(2).

الشهادة بالولاية

مسألة: تستحب الشهادة للإمام علي (عليه السلام) بالولاية، وقد تجب، مع تنويع المضاف إليه بأن يشهد بأنه ولي الله، ثميشهد بأنه ولي رسوله (صلى الله عليه وآله)، ثم يشهد بأنه ولي المؤمنين بعد الرسول (صلى الله عليه وآله).

ص: 197


1- الكافي: ج 1 ص86 باب أدنى المعرفة ح1.
2- الكافي: ج 1 ص147 باب البداء ح3.

عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ: كُنَّا عِنْدَهُ وعِنْدَهُ حُمْرَانُ إِذْ دَخَلَ عَلَيْهِ مَوْلًى لَهُ فَقَالَ: جُعِلْتُ فِدَاكَ هَذَا عِكْرِمَةُ فِي الْمَوْتِ وكَانَ يَرَى رَأْيَ الْخَوَارِجِ وكَانَ مُنْقَطِعاً إلى أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام)، فَقَالَ لَنَا أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): أَنْظِرُونِي حَتَّى أَرْجِع إِلَيْكُمْ، فَقُلْنَا: نَعَمْ، فَمَا لَبِثَ أَنْ رَجَع فَقَالَ: أَمَا إِنِّي لَو أَدْرَكْتُ عِكْرِمَةَ قَبْلَ أَنْ تَقَع النَّفْسُ مَوْقِعَهَا لَعَلَّمْتُهُ كَلِمَاتٍ يَنْتَفِع بِهَا، ولَكِنِّي أَدْرَكْتُهُ وقَدْ وَقَعَتِ النَّفْسُ مَوْقِعَهَا، قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ ومَا ذَاكَ الْكَلَام، قَالَ: هُو واللَّهِ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، فَلَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ والْوَلَايَةَ»(1).

تكرار الشهادة

مسألة: يستحب تكرار الشهادة بوحدانية الله ونبوة محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإمامة علي (عليه السلام)، فإنها في حد ذاتها عبادة، ولمكان التلقين والإيحاء ولغير ذلك.

وفي دُعَاءُ عَلِيٍّ (عليه السلام) لِأَهْلِالْقُبُورِ:

«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، مِنْ أَهْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، يَا أَهْلَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، بِحَقِّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَيْفَ وَجَدْتُمْ قَوْلَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، مِنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، يَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، بِحَقِّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، اغْفِرْ لِمَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، واحْشُرْنَا فِي زُمْرَةِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، عَلِيٌ وَلِيُ اللَّهِ»، فَقَالَ عَلِيٌّ عليه السلام: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ:

ص: 198


1- الكافي:ج 3 ص123 باب تلقين الميت ح6.

«مَنْ قَرَأَ هَذَا الدُّعَاءَ أَعْطَاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى ثَوَابَ خَمْسِينَ سَنَةً، وكَفَّرَ عَنْهُ سَيِّئَاتِ خَمْسِينَ سَنَةً ولِأَبَوَيْهِ أَيْضاً»(1).

ورَوَى الْقَاسِمُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): هَؤُلاءِ يَرْوُونَ حَدِيثاً فِي مِعْرَاجِهِمْ أَنَّهُ لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) رَأَى عَلَى الْعَرْشِ مَكْتُوباً: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ!!.

فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ غَيَّرُوا كُلَّ شَيْ ءٍ حَتَّى هَذَا؟ قُلْتُ: نَعَمْ.

قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ لَمَّا خَلَقَ الْعَرْشَ كَتَبَ عَلَيْهِ لا إِلَهَ إِلاّ اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ عَلِيٌّأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، ولَمَّا خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ الْمَاءَ كَتَبَ فِي مَجْرَاهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ عَلِيٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، ولَمَّا خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ الْكُرْسِيَّ كَتَبَ عَلَى قَوَائِمِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ عَلِيٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، ولَمَّا خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ اللَّوْحَ كَتَبَ فِيهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ عَلِيٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، ولَمَّا خَلَقَ اللَّهُ إِسْرَافِيلَ كَتَبَ عَلَى جَبْهَتِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ عَلِيٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، ولَمَّا خَلَقَ اللَّهُ جَبْرَئِيلَ كَتَبَ عَلَى جَنَاحَيْهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ عَلِيٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، ولَمَّا خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ السَّمَاوَاتِ كَتَبَ فِي أَكْنَافِهَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ عَلِيٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، ولَمَّا خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ الْأَرَضِينَ كَتَبَ فِي أَطْبَاقِهَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ عَلِيٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، ولَمَّا خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ الْجِبَالَ كَتَبَ فِي رُءُوسِهَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ عَلِيٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، ولَمَّا خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ الشَّمْسَ كَتَبَ عَلَيْهَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ عَلِيٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، ولَمَّا خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ الْقَمَرَ

ص: 199


1- بحار الأنوار: ج 99 ص301 باب6 زيارة المؤمنين وآدابها ح31.

كَتَبَ عَلَيْهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ عَلِيٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وهُوَ السَّوَادُ الَّذِي تَرَوْنَهُ فِي الْقَمَرِ، فَإِذَا قَالَ أَحَدُكُمْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَلْيَقُلْ: عَلِيٌ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليهالسلام)»(1).

وعن الإمام الباقر (عليه السلام): خرج رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) ذات يوم راكباً وخرج علي (عليه السلام) ماشياً، فقال: يا أبا الحسن إمّا أن تركب وإمّا أن تنصرف، فإنّ اللّه أمرني أن تركب إذا ركبت، وتمشي إذا مشيت، وتجلس إذا جلست، إلّا أن يكون حداً من حدود اللّه لا بدّ لك من القيام والقعود لي فيه، ما أكرمني اللّه بكرامة إلاّ أكرمك مثلها»(2).

ص: 200


1- الاحتجاج على أهل اللجاج، للطبرسي: ج 1 ص158.
2- تفسير فرات الكوفي: ص636 ح233.

أبواب الجنة وما كتب عليها

اشارة

عن فاطمة (عليها السلام) بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) قالت: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: «لما أسري بي إلى السماء دخلت الجنة فإذا أنا بقصر من درة بيضاء مجوّفة، وعليها باب مكلل بالدر والياقوت، وعلى الباب ستر فرفعت رأسي، فإذا مكتوب على الباب: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي ولي القوم، وإذا مكتوب على الستر: بخ بخ مَن مثلُ شيعة علي.

فدخلته فإذا أنا بقصرٍ من عقيق أحمر مجوف، وعليه باب من فضة مكلل بالزبرجد الأخضر، وإذا على الباب ستر، فرفعت رأسي، فإذا مكتوب على الباب: محمد رسول الله، علي وصي المصطفى، وإذا على الستر مكتوب: بشّر شيعة علي بطيب المولد.

فدخلته فإذا أنا بقصر من زمرد أخضر مجوف لم أر أحسن منه، وعليه باب من ياقوتة حمراء مكللة باللؤلؤ وعلى الباب ستر، فرفعت رأسي فإذا مكتوب على الستر: شيعة علي هم الفائزون.

فقلت: حبيبي جبرئيل لمن هذا؟

فقال: يا محمد لابن عمك ووصيك علي بن أبي طالب (عليه السلام)، يحشر الناس كلهم يوم القيامة حفاة عراة إلاّ شيعة علي (عليه السلام) ، ويدعى الناس بأسماء أمهاتهم ما خلا شيعة علي (عليه السلام) فإنهم يدعون بأسماء آبائهم.

ص: 201

فقلت: حبيبي جبرئيل وكيف ذاك؟

قال: لأنهم أحبوا علياً (عليه السلام) فطاب مولدهم.

-------------------------------------------

علامة طيب المولد

مسألة: يستحب بيان أن حب علي (عليه السلام) علامة طيب المولد، وأن من يحب علياً (عليه السلام) طاب مولده.

ثم إن طيب المولد قد يكون في قبال ولد الزنا، وقد يكون في قبال ولد الشبهة، وقد يكون في قبال ولد الحيض، وقد يكون في قبال انعقاد النطفة من لقمة حرام أو شبهة، وقد يكون بمعنى إشراك الشيطان نفسه حين انعقاد النطفة، وقد يكون في قبال عدم كمال الطيب، ولا منافاة بين كونه ولداً حلالاً أي ليس بابن زنا حسب الموازين الشرعية، ومع ذلك لا طيب مولد له، بالمعنى الأخير أو بعض ما سبقه.

قال تعالى: «وَ اسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ وَ شارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ وَ عِدْهُمْ وَ ما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً»(1).

وعن أبي بصير، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «يَا أَبَا مُحَمَّدٍ أَيَّ شَيْ ءٍ يَقُولُالرَّجُلُ مِنْكُمْ إِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ، قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ أَيَسْتَطِيعُ الرَّجُلُ أَنْ يَقُولَ شَيْئاً، فَقَالَ: أَلَا أُعَلِّمُكَ مَا تَقُولُ، قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: تَقُولُ: "بِكَلِمَاتِ

ص: 202


1- سورة الإسراء: 64.

اللَّهِ اسْتَحْلَلْتُ فَرْجَهَا، وَفِي أَمَانَةِ اللَّهِ أَخَذْتُهَا، اللَّهُمَّ إِنْ قَضَيْتَ لِي فِي رَحِمِهَا شَيْئاً فَاجْعَلْهُ بَارّاً تَقِيّاً، وَاجْعَلْهُ مُسْلِماً سَوِيّاً، وَلَا تَجْعَلْ فِيهِ شِرْكاً لِلشَّيْطَانِ" قُلْتُ: وَبِأَيِّ شَيْ ءٍ يُعْرَفُ ذَلِكَ، قَالَ: أَمَا تَقْرَأُ كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ ابْتَدَأَ هُوَ: «وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ»(1).

ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَيَجِي ءُ حَتَّى يَقْعُدَ مِنَ الْمَرْأَةِ كَمَا يَقْعُدُ الرَّجُلُ مِنْهَا، وَيُحْدِثُ كَمَا يُحْدِثُ، وَيَنْكِحُ كَمَا يَنْكِحُ، قُلْتُ: بِأَيِّ شَيْ ءٍ يُعْرَفُ ذَلِكَ، قَالَ: بِحُبِّنَا وَبُغْضِنَا، فَمَنْ أَحَبَّنَا كَانَ نُطْفَةَ الْعَبْدِ، وَمَنْ أَبْغَضَنَا كَانَ نُطْفَةَ الشَّيْطَانِ»(2).

وعن سليم بن قيس، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْجَنَّةَ عَلَى كُلِّ فَحَّاشٍ بَذِي ءٍ، قَلِيلِ الْحَيَاءِ لَا يُبَالِي مَا قَالَ وَلَا مَا قِيلَ لَهُ، فَإِنَّكَ إِنْ فَتَّشْتَهُ لَمْ تَجِدْهُ إِلَّا لِغَيَّةٍ أَوْ شِرْكِ شَيْطَانٍ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَفِي النَّاسِ شِرْكُ شَيْطَانٍ.فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): أَمَا تَقْرَأُ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ: «وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ»(3)، الحديث(4).

وعن عبد الله بن عباس، قال: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) جَالِسٌ إِذَا نَظَرَ إِلَى حَيَّةٍ كَأَنَّهَا بَعِيرٌ، فَهَمَّ عَلِيٌّ أَنْ يَضْرِبَهَا بِالْعَصَا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): إِنَّهُ إِبْلِيسُ وَإِنِّي قَدْ أَخَذْتُ عَلَيْهِ شُرُوطاً مَا يُبْغِضُكَ مُبْغِضٌ إِلَّا شَارَكَ فِي

ص: 203


1- سورة الإسراء: 64.
2- الكافي:ج 5 ص502 باب القول عند الباه وما يعصم من مشاركة الشيطان ح2.
3- سورة الإسراء: 64.
4- الكافي: ج 2 ص323 باب البذاء ح3.

رَحِمِ أُمِّهِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: «وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ»(1)»(2).

وقال ابن عباس: كُنْتُ أَنَا وَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ إِذْ أَقْبَلَ شَخْصٌ عَظِيمٌ مِمَّا يَلِي الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ كَفِيلٍ، فَتَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) وَقَالَ: لُعِنْتَ، فَقَالَ عَلِيٌّ (عليه السلام): مَا هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: أَوَ مَا تَعْرِفُهُ، ذَاكَ إِبْلِيسُ اللَّعِينُ، فَوَثَبَ عَلِيٌّ (عليه السلام) وَأَخَذَ بِنَاصِيَتِهِ وَخُرْطُومِهِ وَجَذَبَهُ فَأَزَالَهُ عَنْ مَوْضِعِهِ وَقَالَ: لَأَقْتُلَنَّهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): أَمَا عَلِمْتَ يَاعَلِيُّ أَنَّهُ قَدْ أُجِّلَ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ، فَتَرَكَهُ، فَوَقَفَ إِبْلِيسُ وَقَالَ: يَا عَلِيُّ دَعْنِي أُبَشِّرْكَ، فَمَا لِي عَلَيْكَ وَلَا عَلَى شِيعَتِكَ سُلْطَانٌ، وَاللَّهِ مَا يُبْغِضُكَ أَحَدٌ إِلَّا شَارَكْتُ أَبَاهُ فِيهِ كَمَا هُوَ فِي الْقُرْآنِ: «وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ»(3)، فَقَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): دَعْهُ يَا عَلِيُّ فَتَرَكَهُ»(4).

وعن ابن عباس في قوله: «وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ»(5)، أَنَّهُ جَلَسَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ وَيَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ يَأْكُلَانِ الرُّطَبَ، فَقَالَ يَزِيدُ: يَا حَسَنُ إِنِّي مُذْ كُنْتُ أُبْغِضُكَ، قَالَ الْحَسَنُ: اعْلَمْ يَا يَزِيدُ أَنَّ إِبْلِيسَ شَارَكَ أَبَاكَ فِي جِمَاعِهِ فَاخْتَلَطَ الْمَاءَانِ فَأَوْرَثَكَ ذَلِكَ عَدَاوَتِي، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: «وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ»، وَشَارَكَ الشَّيْطَانُ حَرْباً عِنْدَ جِمَاعِه

ص: 204


1- سورة الإسراء: 64.
2- تفسير فرات الكوفي: ص242.
3- سورة الإسراء: 64.
4- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام)، لابن شهرآشوب: ج 2 ص249.
5- سورة الإسراء: 64.

فَوُلِدَ لَهُ صَخْرٌ، فَلِذَلِكَ كَانَ يُبْغِضُ جَدِّي رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله)» (1).

وعن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: سَأَلْتُهُ عَنْ شِرْكِالشَّيْطَانِ قَوْلِهِ: «وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ»، قال: «مَا كَانَ مِنْ مَالٍ حَرَامٍ فَهُوَ شِرْكُ الشَّيْطَانِ، قَالَ: وَيَكُونُ مَعَ الرَّجُلِ حَتَّى يُجَامِعُ فَيَكُونُ مِنْ نُطْفَتِهِ وَنُطْفَةِ الرَّجُلِ إِذَا كَانَ حَرَاماً»(2).

هداية من لا يحب الأمير

مسألة: يجب السعي في سبيل هداية من لا يحب علياً (عليه السلام) حتى يحبه، ولزوم السعي هنا شرعي وعقلي، أما شرعاً فلما دل على وجوب حب علي (عليه الصلاة والسلام)، والأمر به من أهم مصاديق الأمر بالمعروف الواجب، والسعي إليه من السعي نحو الواجب المطلق.

وأما عقلاً فلأن العقل يلزم الإنسان بلزوم دفع الضرر الكثير بل حتى المحتمل منه، وفي عدم حبه (صلوات الله عليه) أكبر الضرر الأخروي والدنيوي كما لا يخفى.

رواية الحديث

مسألة: يستحب رواية هذا الحديث كما روته الصديقة فاطمة (عليها السلام). فإنهم (عليه

الصلاة والسلام) أسوة في كل ما قالوا وعملوا واعتقدوا إذا عرفنا

ص: 205


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام)، لابن شهرآشوب: ج 4 ص22.
2- بحار الأنوار: ج 57 ص342 ب41 ح25.

اعتقاداتهم القلبية، كما دلت على ذلك جملة من الآيات والروايات.

قال تعالى: «فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الله»(1).

فإذا عرفنا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) علم واعتقد بوحدانية الله تعالى، وبأن الله ليس بجسم، وأنه يثيب المحسن ويعاقب المسيء، لا كما قالته الأشاعرة، وأنه خالق العالم من عدم، لا كما قاله بعض الفلاسفة من قدم العالم، وجب علينا أيضاً اتباعه في كل ذلك، وإذا كان هذا العلم متوقفاً على مقدمات وجب تحصيل تلك المقدمات للوصول إلى النتيجة.

ومن الواضح أن البرهان العقلي دل على كل ذلك، ولو فرض أن شخصاً لم تتم عنده البراهين العقلية، وجب عليه الإيمان بما يعتقده النبي (صلى الله عليه وآله) ويقوله، بمقتضى البراهين النقلية بعد إيمانه بأن الرسول (صلى الله عليه وآله) حق مرسل من قبل الله، فحتى إن لم يطمئن إلى المعاد الجسماني والعروج الجسماني أو ما أشبه لزم أن يعتقد بها إذا ثبت أنه (صلى الله عليه وآله) كان معتقداً بها.

أوصاف الجنة

مسألة: يستحب بيان أوصاف الجنة ولطائف ما فيها وغرائبها، فإن بيانها يوجب شوق الإنسان إليها فيطيع الله تعالى ويصلح دنياه وآخرته، وكذلك بيان أوصاف النار بما يوجب تنفر الإنسان عنها، فلا يعصي الله كي لا يعذب بها، وقد أكثر القرآن الحكيم من ذكر الجنة والنار وأوصافهما، وكذلك الروايات الشريفة(2).

ص: 206


1- سورة محمد: 19.
2- انظر بحار الأنوار: ج8 الباب23 الجنة ونعيمها، والباب24 النار.

قال (عليه السلام) فِي وَصْفِ النَّارِ: «غَمْرٌ قَرَارُهَا، مُظْلِمَةٌ أَقْطَارُهَا، حَامِيَةٌ قُدُورُهَا، فَظِيعَةٌ أُمُورُهَا»(1).

وقال (عليه السلام) فِي وَصْفِ النَّارِ: «نَارٌ شَدِيدٌ كَلَبُهَا، عَالٍ لَجَبُهَا، سَاطِع لَهَبُهَا، مُتَأَجِّجٌ سَعِيرُهَا، مُتَغَيِّظٌ زَفِيرُهَا، بَعِيدٌ خُمُودُهَا، ذَاكٍ وَقُودُهَا، مُتَخَوِّفٌ وَعِيدُهَا»(2).

وفِي كِتَابِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) إلى أَهْلِ مِصْرَ فِي وَصْفِ النَّارِ: «قَعْرُهَا بَعِيدٌ، وحَرُّهَا شَدِيدٌ، وشَرَابُهَا صَدِيدٌ، وعَذَابُهَا جَدِيدٌ، ومَقَامِعُهَا حَدِيدٌ، لَا يَفْتُرُعَذَابُهَا، ولَا يَمُوتُ سَاكِنُهَا، دَارٌ لَيْسَ فِيهَا رَحْمَةٌ، ولَا تَسْمَع لِأَهْلِهَا دَعْوَةٌ»(3) الْخَبَرَ.

فضائل الشيعة

مسألة: يستحب بيان فضائل الشيعة ومناقبهم ومنزلتهم عند الله تعالى وعند رسوله (صلى الله عليه وآله) وأوليائه، فإن ذكر فضائلهم يوجب تشيع الناس وهدايتهم إلى مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، مما يوجب لهم خير الدنيا والآخرة.

قال أبو جعفر (عليه السلام): «شيعتنا أولو الألباب»(4).

ص: 207


1- عيون الحكم والمواعظ (لليثي): ص349.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: ص169 في النار ودركاتها ح3332.
3- بحار الأنوار: ج 8 ص286 باب24 ح16.
4- الكافي: ج 1 ص212 ح1.

وقال الإمام الرضا (عليه السلام): «إنه ليس أحد من شيعتنا يبتلى ببلية أو يشتكي فيصبر على ذلك إلا كتب الله له أجر ألف شهيد»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَنَا مِنْ عِلِّيِّينَ، وَخَلَقَ أَرْوَاحَنَا مِنْ فَوْقِ ذَلِكَ، وَخَلَقَ أَرْوَاحَ شِيعَتِنَا مِنْ عِلِّيِّينَ، وَخَلَقَ أَجْسَادَهُمْ مِنْ دُونِ ذَلِكَ، فَمِنْأَجْلِ ذَلِكَ الْقَرَابَةُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ تَحِنُّ إِلَيْنَا»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «شِيعَتُنَا أَهْلُ الْهُدَى وَأَهْلُ التُّقَى وَأَهْلُ الْخَيْرِ وَأَهْلُ الْإِيمَانِ وَأَهْلُ الْفَتْحِ وَالظَّفَرِ»(3).

التأكيد على الرسالة

مسألتان: يلزم التأكيد على رسالة النبي (صلى الله عليه وآله) وعلى إمامة الوصي علي أمير المؤمنين (عليه السلام)، وذلك بكثرة التكرار وغيره، فإن التأكيد على الأمور المهمة مؤثر جداً.

ومن الواضح أن ولاية علي (عليه الصلاة والسلام) ممتدة إلى ولاية سائر المعصومين من بعده (صلوات الله عليهم أجمعين)، ولذا قال العلماء في قوله سبحانه: «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ ورَسُولُهُ والَّذينَ آمَنُوا الَّذينَ يُقيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ الزَّكاةَ وهُمْ راكِعُون»(4)، إن الحصر غير مناف لولاية أولاده المعصومين (عليهم الصلاة

ص: 208


1- الكافي: ج 1 ص354 ح10.
2- الكافي: ج 1 ص389 ح1.
3- الكافي: ج 2 233 باب المؤمن وعلاماته وصفاته ح8.
4- سورة المائدة: 55

والسلام)، لأن ولاية سائر الأئمة (عليهم السلام)امتداد لولايته (عليه السلام).

ويمكن أن يقال: بأن «وَالَّذينَ آمَنُوا الَّذينَ يُقيمُونَ الصَّلاةَ...» شامل لسائر الأئمة المعصومين (عليهم السلام) بالعموم، لا بصرف كونهم امتداداً، وذلك لأن الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) كلهم أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وهم راكعون، كما وردت بذلك الروايات، فالآية من جهة خاصة لأنها ليست لغيرهم(1)، ومن جهة عامة لأنها تشمل سائر الأئمة المعصومين (عليهم السلام).

عن المفضل، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله: «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ ورَسُولُهُ والَّذِينَ آمَنُوا» قال: «هم الأئمة عليهم السلام»(2).

وعن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَ: «وما ظَلَمُونا ولكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ»(3)، قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْظَمُ وأَعَزُّ وأَجَلُّ وأَمْنَع مِنْ أَنْ يُظْلَمَ ولَكِنَّهُ خَلَطَنَا بِنَفْسِهِ فَجَعَلَ ظُلْمَنَا ظُلْمَهُ ووَلَايَتَنَا وَلَايَتَهُ حَيْثُ يَقُولُ«إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ ورَسُولُهُ والَّذِينَ آمَنُوا»(4) يَعْنِي الْأَئِمَّةَ مِنَّا، ثُمَّ قَالَ فِي مَوْضِع آخَرَ: «وما ظَلَمُونا ولكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ»، ثُمَّ ذَكَرَ مِثْلَهُ(5).

ص: 209


1- والأدلة على ذلك مذكورة في علم الكلام، ومنها الروايات المتكاثرة ب (الأئمة من بعدي إثنا عشر كلهم من قريش).
2- تفسير العياشي: ج1 ص329 ح142.
3- سورة البقرة: 57، سورة الأعراف: 160.
4- سورة المائدة: 55.
5- الكافي: ج1 ص146 باب النوادر ح11.

من هم الفائزون؟

مسألة: يجب الاعتقاد بأن شيعة علي (عليه السلام) هم الفائزون فحسب، ويستحب بيان ذلك وبيان أنه مكتوب في الجنة.

فإن هذا الاعتقاد يوجب أن لا ينحرف الإنسان عن اتباع علي (عليه الصلاة والسلام) إلى سائر الطرق والمذاهب.

لا يقال: فما بال أقوام الأنبياء السابقين؟

إذ يقال:

أولاً: الحصر إضافي بالقياس إلى أُمة رسول الله (صلى الله عليه وآله).

وثانياً: ذهب بعض العلماء إلى أن ذلك عام لكل الأمم، وأنهم تُعرض عليهم في الآخرة ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) فمن أنكرها منهم لم يدخل الجنة، كما دلت على ذلك الروايات.

ثم إن الكتابة في الجنة تدل على أنه لا يدخل الجنان إلاّ من اعتقد بهذه المعتقدات وتحلى بهذه الصفات، دون من أنكرها، فهو من قبيل الشعار الدال على مؤداه.

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أُوقَفُ أَنَا وعَلِيٌ عَلَى الصِّرَاطِ، فَمَا يَمُرُّ بِنَا أَحَدٌ إِلَّا سَأَلْنَاهُ عَنْ وَلَايَةِ عَلِيٍّ، فَمَنْ كَانَتْ مَعَهُ وإِلَّاأَلْقَيْنَاهُ فِي النَّارِ، وذَلِكَ قَوْلُهُ: «وقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُون»(1)»(2).

ص: 210


1- سورة الصافات: 24.
2- شواهد التنزيل: ج 2 ص162 في سورة الصافات: 24.

وعَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) قَالَ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ونُصِبَ الصِّرَاطُ عَلَى جَهَنَّمَ لَمْ يَجُزْ عَلَيْهِ إِلَّا مَنْ مَعَهُ جَوَازٌ فِيهِ وَلَايَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: «وقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ»(1) يَعْنِي عَنْ وَلَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام)»(2).

التزيين بالأسماء الطاهرة

مسألة: يستحب تزيين الحياة وما فيها من الشوارع والحدائق وسائر المرافق العامة وغيرها بلافتات وملصقات وجداريات فيها أسماء أهل البيت (عليهم السلام) مع حفظ الموازين والشؤون التي تناسب هذه الأسماء الطاهرة، وكذلك كتابة أسمائهم وصفاتهم وكلماتهم ومواعظهم على جدران المكتبات والمدارس والمعامل والشركات والوزارات والمنازل والدوائر وغيرها،وكذا على ما يناسب من الملابس والأردية والأغطية، كما زين الله الجنة بأساميهم المباركة.

وقد وردت في روايات متواترة استحباب التسمية بأسمائهم (عليهم الصلاة والسلام)، ذكرنا جملة منها في كتاب «الفقه النكاح» في أحكام الأولاد.

وكذلك تستحب تسمية الجامعات والمدارس والمؤسسات والمساجد والحسينيات والمكتبات والشوارع المناسبة بأسمائهم الطيبة الطاهرة، وكم لذلك من أثر وضعي، وكم له من ثواب أخروي.

ص: 211


1- سورة الصافات: 24.
2- الأمالي، للطوسي: ص290 المجلس الحادي عشر ح564.

النداء بكلمة: حبيبي

مسألة: يستحب في الجملة نداء المؤمن بكلمة (حبيبي) كما قال (صلى الله عليه وآله): «حبيبي جبرائيل».

فإن لفظ (الحبيب) وما أشبه يوجب تقارب القلوب أكثر فأكثر، ومن الواضح أن تقارب القلوب في المؤمنين يوجب التعاون وقوة السير في طريق الله سبحانه مما يوجب خير الدنيا وسعادة الآخرة.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «إِذَا أَحْبَبْتَ رَجُلًا فَأَخْبِرْهُ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ أَثْبَتُ لِلْمَوَدَّةِ بَيْنَكُمَا»(1).

وعَنْ نَصْرِ بْنِ قَابُوسَ قَالَ: قَالَ لِي أَبُوعَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): «إِذَا أَحْبَبْتَ أَحَداً مِنْ إِخْوَانِكَ فَأَعْلِمْهُ ذَلِكَ، فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ (عليه السلام) قَالَ: «رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيي الْمَوْتى قالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى ولكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي»(2)»(3).

وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «إِذَا أَحَبَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُعْلِمْهُ فَإِنَّهُ أَصْلَحُلِذَاتِ الْبَيْن»(4).

ص: 212


1- الكافي: ج 2 ص644 باب إخبار الرجل أخاه بحبه ح2.
2- سورة البقرة: 260.
3- الكافي: ج 2 ص644 باب إخبار الرجل أخاه بحبه ح1.
4- النوادر، للراوندي: ص12.

بيان الحشر والنشر

مسألة: يستحب بيان كيفية حشر الناس وأنهم عراة حفاة، إلا شيعة علي (عليه السلام).

ولعل وجه أن الناس يحشرون حفاة عراة هو أن يكون الإنسان مجرداً عن كل العلائق والخصوصيات والمزايا وما إليه يستند وما به يتميز، فيحاسب بلا استناد إلى جهة أو شيء يتقوى به بزعمه.

قال تعالى: «وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ»(1).

فعلى الإنسان أن يفكر دائماً في يوم المحكمة الكبرى، وأنه سيوقف ويسأل ويحاسب حساباً عسيراً أو يسيراً على حسب نوع أعماله واعتقاداته، فيراقب جوارحه وجوانحه كي لا ينحرف يميناً أو شمالاً فيهلك.

أما أن شيعة علي (عليه الصلاة والسلام) ليسوا حفاة، فلأنهم عملوا في الدنيا أعمالاً صالحةً، واعتقدوا اعتقادات صحيحة مما وقاهم عن حشرهم حفاة عراة.وهناك أعمال صالحة توجب الأمان في يوم القيامة.

قال (عليه السلام): «المؤمن في ظل صدقته يوم القيامة»(2).

ص: 213


1- سورة الأنعام: 94.
2- مستدرك الوسائل: ج 7 ص160 ب1 ح25.

وعن الصادق (عليه السلام) قال: «بَيْنَمَا مُوسَى (عليه السلام) يُنَاجِي رَبَّهُ إِذْ رَأَى رَجُلًا تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِ اللَّهِ، فَقَالَ: يَا رَبِّ مَنْ هَذَا الَّذِي قَدْ أَظَلَّهُ عَرْشُكَ، قَالَ: هَذَا كَانَ بَارّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَمْشِ بِالنَّمِيمَةِ»(1).

وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَوْمٌ تَحْتَ ظِلِّ الْعَرْشِ وُجُوهُهُمْ مِنْ نُورٍ وَرِيَاشُهُمْ مِنْ نُورٍ، جُلُوسٌ عَلَى كَرَاسِيَّ مِنْ نُورٍ، إلى أن قال: «فَيُنَادِي مُنَادٍ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ كَانُوا يُيَسِّرُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَيُنْظِرُونَ الْمُعْسِرَ حَتَّى يُيَسَّرَ»(2).

وعن علي (عليه السلام) إنه قال: «تَحْتَ ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ رَجُلٌ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ فَأَسْبَغَ الطُّهْرَ ثُمَّ مَشَى إِلَى بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ لِيَقْضِيَ فَرِيضَةً مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ فَهَلَكَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَرَجُلٌ قَامَ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ بَعْدَ مَا هَدَأَتِ الْعُيُونُ فَأَسْبَغَ الطُّهْرَ ثُمَّ قَامَ إِلَى بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ فَهَلَكَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ»(3).

وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: «تَحْتَ ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ رَجُلٌ خَرَجَ ضَارِباً فِي الْأَرْضِ يَطْلُبُ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ يَكُفُّ بِهِ نَفْسَهُ وَيَعُودُ عَلَى عِيَالِهِ»(4).

ص: 214


1- وسائل الشيعة: ج 12 ص310 ب164 باب تحريم النميمة والمحاكاة ح12.
2- وسائل الشيعة: ج 18 ص367 ب25 باب وجوب إنظار المعسر وعدم جواز معاسرته ح3.
3- مستدرك الوسائل: ج 3 ص365 ب4 باب استحباب المشي إلى المساجد ح3.
4- مستدرك الوسائل: ج 13 ص13 ب3 باب استحباب طلب الرزق ووجوبه مع الضرورة ح6.

كيف يدعى الناس يوم القيامة

مسألة: يستحب بيان أنه يدعى الناس يوم القيامة بأسماء أمهاتهم إلا شيعة علي (عليه السلام) فإنهم يدعون بأسماء آبائهم، وذلك لطيب مولدهم بحبهم علياً (عليه السلام).

وهذا لا ينافي «لكل قوم نكاح»(1)، مما يقتضي طيب ولادتهم أي عدم كونهم ولد زنا، إما لأنه حكم ظاهري، أو لأن أمثال هذا الحديث في صدد بيان المبغضين في قبال المحبين، لا الذين هم بمعزل عن الحب والبغض مما يعبر عنهم بالمستضعفين، أو لتحقق أقسام من خبث المولد، فتأمل.

بشارة الشيعة

مسألة: يستحب بشارة شيعة علي (عليه السلام) كما بشرهم جبرئيل: «وبشر شيعة علي...».

فإن البشارة توجب عادة بقاء الإنسان على دينه ومعتقده، وقوة قلبه ورسوخ قدمه، وسروره وفرحه، كما أن الإنذار يوجب العكس، وقد ورد في صفةرسول الله (صلى الله عليه وآله) كونه بشيراً ونذيراً، وقد أكثر القرآن الحكيم من البشارة والإنذار.

قال تعالى: «إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالحَقِّ بَشيراً وَنَذيراً»(2).

ص: 215


1- تهذيب الأحكام: ج 7 ص472 ب41 باب من الزيادات في فقه النكاح ح99.
2- سورة البقرة: 119، سورة فاطر: 24.

وقال سبحانه: «وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشيراً وَنَذيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ»(1).

ستر الباب

مسألة: يستحب أن يكون على الباب ستر، كما ورد في هذا الحديث، فإن ذلك وإن كان في الجنة إلا أن الكلي يستفاد من القرائن وسائر الأدلة.

هذا إذا لم يكن هنالك مزاحم أهم، كما روي عن الصديقة الطاهرة (عليها السلام) حيث قلعت الستر وأرسلته إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله).

والحكمة في الاستحباب أنه يوجب الستر عما لا ينبغي رؤيته أو لما يجب ستره، كما هو واضح.

متى خلقت الجنة والنار

مسألة: دلت الروايات الكثيرة، ومنها هذه الرواية على أن الجنة وكذا النارمخلوقة منذ زمن طويل، لا أنها ستخلق فيما بعد.

ومنها ما دل على خلق الجنة من نور الإمام السحن والحسين (عليهما السلام).

ومنها روايات المعراج.

ومنها هذه الرواية، حيث قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) إنه دخل الجنة ورأى كذا وكذا.

كما يمكن الاستناد في ذلك إلى أمثال قوله تعالى: «وَإنَّ جَهَنَّمَ لَمحِيطَةٌ

ص: 216


1- سورة سبأ: 28.

بِالْكَافِرِينَ»(1)

كتابات مستحبة

مسألة: الظاهر استحباب كتابة الشهادة بالتوحيد وبالنبوة والإمامة على الأبواب، للإطلاقات، بل ولدلالة مثل هذه الرواية على الرجحان الذاتي لذلك، أو بإلغاء الخصوصية.

الكتابة على الستر

مسألة: الظاهر استحباب الكتابة على الستر بما يذكر بالآخرة، أو بالرسول وأوصيائه (عليه

وعليهم السلام) أو بمكارمالأخلاق، أو بالنُذُر، أو بالبشائر، أو بأحداث التاريخ مما فيه عبرة أو ما أشبه.

وفي هذه الرواية: (وإذا مكتوب على الستر: بخ بخ من مثل شيعة علي).

وقد يستظهر أن مثل هذه الكلمات المكتوبة تفيد توثيق الارتباط بأمير المؤمنين (عليه السلام) وزيادة حبه وكثرة تذكره حتى في الجنة، فإن الظاهر أن فيها أيضاً الأسباب والمسببات، وإن كانت من نوع أعلى وأسمى بما لا تقاس به الدنيا.

ص: 217


1- وقد ذهب البعض إلى التفصيل بين جنة الدنيا (كجنة آدم) وجنة الآخرة (كجنة الخلد).

ذكر الاسم في الشهادة

مسألة: الظاهر أرجحية ذكر اسم الرسول والوصي (عليهما السلام) لدى الشهادة بالنبوة والإمامة، على ذكر الكنية دفعاً للتوهم، وقد يجب، كما في الأذكار المقررة في الفرائض المكتوبة(1)، أو حتى المستحبة إذا قصد الورود كما في الأذان.

ذكر التفاصيل

مسألة: ينبغي ذكر مختلف جوانب الحادثة أو القضية ومختلف فوائد الشيء، خاصة إذا كان ذكر بعضها لا يغني عن ذكر بعض.

وفي مختلف الروايات ما يدل على أن الإمام علياً (عليه السلام): (ولي القوم) وهو (وصي المصطفى)، وهما أمران يتبع أحدهما الآخر(2) حسب الأدلة، وإن أمكن الانفكاك بالنظر لذاتهما، ومن هنا جاء التصريح بهما معاً في حقه (عليه السلام).

و(بخ بخ من مثل شيعة علي) و(بشّرشيعة علي بطيب المولد) و(شيعة علي هم الفائزون) ولعل هذه الثلاثة(3) متسلسلة فإن طيب المولد يتبعه كونهم الفائزين فيتبع ذلك المباهاة بهم.

ص: 218


1- كالتشهد إذ تقول: (أشهد أن محمدا عبده ورسوله)
2- فإن من كان وصي المصطفى (صلى الله عليه وآله) لا محالة يكون ولي القوم، وعكسه أيضاً صادق، للنص في أمر الإمامة.
3- بحار الأنوار: ج65 ص76 - 77 ب15 فضائل الشيعة ح136.

الفحص والتنقيب

مسألة: ينبغي - مع حفظ الموازين الشرعية - الفحص والتطلع والتنقيب عن المجهول وما لا يعلمه الإنسان، فإن في كشف ذلك عادة العبرة، وما يدل على عظمة الخالق وما يفيد معرفةً وعلماً نافعاً.

وفي هذه الرواية: (فرفعت رأسي ...) ثلاث مرات.

قال تعالى: «قُلْ سيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدير»(1).

وقال سبحانه: «قُلْ سيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكين»(2).

وقال عزوجل: «قُلْ سيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمين»(3).

النسب والحسب

مسألة: ربما يستحب وربما يجب قرن ذكر النسب بذكر الحسب، وذكر الصفة المكتسبة بالصفة اللازمة، وفي هذه الرواية يقول جبرئيل (عليه السلام): «لابنعمك ووصيك علي بن أبي طالب».

ص: 219


1- سورة العنكبوت: 20.
2- سورة الروم: 42.
3- سورة النمل: 69.

الولاية يوم الغدير

اشارة

قال الراوي لفاطمة (عليها السلام): يا سيدتي إني سائلك عن مسألة تتلجلج في صدري؟

قالت: سل.

قلت: هل نص رسول الله (صلى الله عليه وآله) قبل وفاته على علي (عليه السلام) بالإمامة؟

قالت: واعجباه أنسيتم يوم غدير خم؟!

قلت: قد كان ذلك، ولكن أخبريني بما أسر إليك؟

قالت: أُشهد الله تعالى لقد سمعته (صلى الله عليه وآله) يقول: «علي خير من أخلفه فيكم، وهو الإمام والخليفة بعدي، وسبطاي وتسعة من صلب الحسين أئمة أبرار، لئن اتبعتموهم وجدتموهم هادين مهديين، ولئن خالفتموهم ليكون الاختلاف فيكم إلى يوم القيامة».

قلت: يا سيدتي فما باله قعد عن حقه؟

قالت: لقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مثل الإمام مثل الكعبة إذ تُؤتَى ولا تأتي» أو قالت: «مثل علي».

ثم قالت: «أما والله لو تركوا الحق على أهله واتبعوا عترة نبيه لما اختلف في الله اثنان، ولورثها سلف عن سلف، وخلف بعد خلف حتى يقوم قائمنا التاسع من ولد الحسين، ولكن قدموا من أخره الله، وأخروا من قدمه الله، حتى إذا ألحدوا

ص: 220

المبعوث، وأودعوه الجدث المجدوث، واختاروا بشهوتهم،وعملوا بآرائهم، تباً لهم، أو لم يسمعوا الله يقول: «وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ»(1)، بل سمعوا ولكنهم كما قال الله سبحانه: «فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ»(2)، هيهات بسطوا في الدنيا آمالهم ونسوا آجالهم، «فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ»(3)، أعوذ بك يا رب من الحور بعد الكور.

-------------------------------------------

الاعتقاد بالائمة الاثني عشر

مسألة: يجب الاعتقاد بالأئمة الاثني عشر (عليهم السلام)، وذلك لمتواتر النصوص، وهذا الوجوب وجوب عيني وليس كفائياً، تعييني وليس تخييرياً، كما أنه نفسي وليس غيرياً، فإن التعلم في الشؤون الاعتقادية واجب نفسي، وكذا الاعتقاد بها، فإنه في حد ذاته مطلوب وليست مطلوبيته مترشحة من غيره، وهو العمل المترتب على الاعتقاد مثلاً.

وقد ذكرنا في بعض الكتب أن هناك خصوصية للاثني عشر ليست في العدد الأكثر أو الأقل، وقد قال سبحانه: «وَبَعَثْنامِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقيباً»(4)، وقال تعالى: «إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً في كِتابِ اللهِ»(5)، وما أشبه،

ص: 221


1- سورة القصص: 68.
2- سورة الحج: 46.
3- سورة محمد: 8.
4- سورة المائدة: 12.
5- سورة التوبة: 36.

تطبيقاً للتكوين مع التشريع، وكذلك العكس.

العظيم يُزار

مسألة: يجب الذهاب إلى الإمام والخليفة والأعلم والمرجع والمعلم ومن أشبه ذلك، دون انتظار المجيء منه.

فإن الأفضل يُزار ولا يزور، والمصداق الأظهر لذلك هو ما ذكر بالنسبة إلى علي (صلوات الله عليه) فإنه يجب على الناس أن يأتوه ويتعلموا من علمه ويطيعوه.

نعم هذا بيان وظيفة الناس وواجبهم، وأما الطرف الآخر فإن واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع توفر الشروط لا يسقط بخذلان الناس وتقاعسهم، نعم لو دعى فلم يُجَب ويئس من الاستجابة سقط التكليف، وكذا في موارد التقية وما أشبه.

وكذلك فعل أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث دعى الناس مراراً فخذلوه، حتى لم يجد احتمال التأثير في نهيه عن منكر غصبهم للخلافة، ومع ذلك لميترك التنبيه على ذلك والتذكير مرة إثر أخرى.

والظاهر أن كلام الصديقة (عليها السلام) كان لبيان جانب وظيفة الناس، أو كان جواباً على قدر قابلية القابل، أو أنه جواب إسكاتي، فتدبر.

ص: 222

لو حكم الأئمة

مسألة: يستحب بيان قدرة الأئمة (عليهم السلام) من حيث الفكر والعمل والإدارة والمنهج والأخلاق والورع والزهد والعدل والحكمة، بحيث لو كانوا يحكمون لما كان يختلف في الله اثنان.

والمراد من (في الله) الأعم من حكم الله ومن معرفة الله وغير ذلك.

وأما أنهم لماذا لم يحكموا بأجمعهم، فلأن الله سبحانه خلق الدنيا دار امتحان، ومن المعلوم أن في دار الامتحان المجال مفتوح للحق والباطل، كما قال سبحانه: «كُلاً نُمِدُّ هَؤلاءِ وَهَؤلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ»(1)، وهكذا كان حال أنبياء الله ورسله (عليهم السلام) حيث لم يحكموا إلاّ قليلاً أو نادراً(2).وقوله (صلى الله عليه وآله): «إلى يوم القيامة»، إما يراد به القيامة الحقيقية، حيث إن بعد ظهور الإمام المهدي (عليه السلام) أيضاً تبقى الدنيا دار امتحان ولو بنسبة، حيث بعض الاختلاف كما يظهر من الأحاديث الشريفة، أو أن المراد إلى يوم القيامة مجازاً ومبالغةً، أي يراد به الامتداد الطويل، لأن الإمام المهدي (عجل

ص: 223


1- سورة الإسراء: 20.
2- واحتمل البعض أن الأئمة الطاهرين والأنبياء والمرسلين (عليهم السلام) إلا النادر منهم، لم يسعوا للوصول حتما إلى الحكم، وإلا لأمكنهم ذلك بما لديهم من قدرات، والشاهد أن بعض أحفادهم أو محبيهم أقاموا دولا في أفريقيا، فكيف لا يستطيعون هم؟ ولعل السبب أن الله أراد للدنيا أن تكون دار امتحان وأن يبقى نوع توازن اختياري للبشر بين الإيمان والضلال، ولو حكموا لما بقي من الكفر والفسق والظلم عن ولا أثر، فلما وجد مجال كاف للامتحان «لِيَمِيزَ اللهُ الخَبِيثَ مِنَ الطّيِّبِ» سورة الأنفال: 37، ولذا قيدته وصية أخيه، فتأمل.

الله فرجه) إذا ظهر «يَكُون الدّينُ كُلُّهُ للهِ»(1)، وكذلك في رجعة المعصومين (عليهم السلام) بعده.

ولا يخفى أن لحُسن الحكومة التأثير البالغ في تقليل الاختلافات في الله تعالى، فإن حسن الإدارة يوجب ائتلاف الناس وقلة الاختلاف بينهم، وإن كان الإنسان خلق من حيث طبيعته مختلفاً مما يوجب الاختلاف في الجملة.

ثم إن الاختلافات في الله سبحانه، مسبَّبة غالباً عن أمرين: عدم الوعي، وفساد الحكومات وإفسادها، فإن الحكومة إذا كانت فاسدةً سببت قلة الوعي بل وسببت الفرقة والاختلاف والتنازع حتى بين العلماء والواعين،بما تبذله لبعضهم من السلطة والمال والجاه فتغريه على الصالحين منهم، بينما أن الحكومة إذا كانت صالحة سبّبت الوعي وجمع الكلمة وتحكيم المنطق فيكون الاختلاف قليلاً.

يا سيدتي

مسألة: يستحب خطاب الصديقة فاطمة (عليها السلام) بكلمة (سيدتي)، وذلك لتقريرها (عليها السلام) ما ذكره الراوي، فإن التقرير حجة.

والظاهر أنه لا فرق بين كلمة (سيدتي) و(سيدتنا) و(يا سيدتي) وما أشبه ذلك وفي كل اللغات.

والظاهر أيضا استحباب خطابها (عليها السلام) بأية كلمة أخرى أفادت هذا المعنى أو ما يقرب منه، مثل (يا مولاتي) مما كان صواباً ومناسباً.

ص: 224


1- سورة الأنفال: 39.

الاسئذان للسؤال

مسألة: يستحب الاستئذان للسؤال، كما استأذن الراوي من الصديقة فاطمة (عليها السلام) وأقرته على ذلك.

والاستئذان قد يكون خاصاً لكل سؤال سؤال، وقد يكون عاماً باستئذان واحد لجملة أسئلة، كما في التلميذ والطالب في الجملة.

والقول بالاستحباب لأنه أدب ونوع احترام وتوقير للمؤمن أو العالم، فيشمله أدلة الآداب والاحترام المطلقة، بالإضافة إلى ما دل على عموم الاستئذان في الآيات المباركة والروايات الشريفة، ولو بالملاك في بعضها، إلى غيرهما.

الإذن لمن استأذن

مسألة: يستحب إعطاء الإذن في السؤال ونظائره(1) لمن يستأذن، فيما إذا لم يكن محذور، كما أذنت الصديقة (عليها السلام) لهذا السائل بالسؤال بقولها: «سل».وإنما نقول بالاستحباب لا الإباحة، لأنه قضاء حاجة المؤمن وتلبية طلبه ونحوهما، وذلك من المستحبات.

ص: 225


1- كالحديث والخطابة.

استحباب الاستفهام

مسألة: يستحب السؤال والاستفهام عما يتلجلج في الصدر، فإنه نوع تعلم، ورفع للشك والحيرة والوسوسة الشيطانية.

قال سبحانه: «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُون»(1).

ولما دل على استحباب السؤال عن كل شيء التزاماً أو تضمناً أو مطابقةً إلاّ ما خرج بالدليل، ولذا قالوا: اسأل عن كل شيء حتى يقال لك: مجنون.

إظهار العجب

مسألة: ينبغي إظهار العجب والاستغراب عن نسيان أمر عظيم كقضية الغدير، فإنه نوع إنكار للمنكَر، إذ نسيان مثل الغدير من أكبر المنكرات إذا كان لإهمال وشبهه، وإلاّ فمثل هذه القضية الكبرى الاستثنائية كيف تنسى، نعم قد يكون هناك التناسي.

ثم إن بيان التعجب في مثله يوجب تأكيد ذلك الأمر، والتأكيد في الأمور المهمة الشرعية مطلوب للشارع، ومنهنا نرى في القرآن الحكيم والسنة المطهرة التأكيد المكرر على الولاية والصلاة وسائر الفروض.

ولعل ذلك من أسباب إظهار الصديقة (صلوات الله عليها) العجب والاستغراب من نسيان الراوي حادثة الغدير، أو من تعامله معها تعامل الناسي، على أن إظهارها التعجب قد يكون تقريعاً للآخرين لا للسائل نفسه، إذ يحتمل

ص: 226


1- سورة النحل: 43، سورة الأنبياء: 7.

أن يكون ذاكراً غير ناس لكنه أراد بالسؤال أن يسمع غيره ممن تجاهل الغدير جوابها (عليها السلام) لتكون حجة جديدة عليهم.

بيان قصة الغدير

مسألة: يستحب بل يجب بيان قصة الغدير.

كل في مورده، فإذا كانت القضية معروفة كان من المستحب بيانها تكراراً وتأكيداً، وإذا لم تكن معروفة للبعض وجب بيانها، لأن ذلك يرجع إلى أصول الدين وشؤون الإمامة.

قال تعالى: «فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّر»(1) .

وفي آداب يوم الغدير: «وإِذَا تَلَاقَيْتُمْ فَتَصَافَحُوا بِالتَّسْلِيمِ وتَهَانَوُاالنِّعْمَةَ فِي هَذَا الْيَوْمِ، ولْيُبَلِّغِ الْحَاضِرُ الْغَائِبَ والشَّاهِدُ الْبَائِن»(2).

ورُوِيَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) أَنَّهُ خَطَبَ ذَاتَ يَوْمٍ وقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ! أَنْصِتُوا لِمَا أَقُولُ رَحِمَكُمُ اللَّهُ، أَيُّهَا النَّاسُ! بَايَعْتُمْ أَبَا بَكْرٍ وعُمَرَ وأَنَا واللَّهِ أَوْلَى مِنْهُمَا وأَحَقُّ مِنْهُمَا بِوَصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) فَأَمْسَكْتُ، وأَنْتُمُ الْيَوْمَ تُرِيدُونَ تُبَايِعُونَ عُثْمَانَ، فَإِنْ فَعَلْتُمْ وسَكَتُّ، واللَّهِ مَا تَجْهَلُونَ فَضْلِي ولَا جَهِلَهُ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، ولَوْلا ذَلِكَ قُلْتُ مَا لَا تُطِيقُونَ دَفْعَهُ.

فَقَالَ الزُّبَيْرُ: تَكَلَّمْ يَا أَبَا الْحَسَنِ!

ص: 227


1- سورة الغاشية: 21.
2- وسائل الشيعة: ج 10 ص445 ب14 باب استحباب صوم يوم الغدير وهو الثامن عشر ذي الحجة واتخاذه عيداً وكثرة العبادة فيه وخصوصا الإطعام والصدقة والصلة ولبس الجديد ح11.

إلى أن قال (عليه السلام): أَمْ هَلْ فِيكُمْ أَحَدٌ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) بِيَدِهِ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ وقَالَ: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاهُ وعَادِ مَنْ عَادَاهُ، ولْيُبَلِّغِ الْحَاضِرُ الْغَائِبَ، فَهَلْ كَانَ فِي أَحَدٍ غَيْرِي؟(1).

وفي خصوص الولاية

مسألة: يستحب التأكيد والحلف والاستشهاد بالله تعالى في أمر ولاية علي (عليه السلام)، وكذا في كل أمر مهم، كما قالت الصديقة الطاهرة (عليها السلام): (أشهد الله تعالى لقد سمعته)، وهي تعني: أجعل الله شاهداً وشهيداً علي.

ثم إن شهادة الله قد تكون عملية لا لفظية، فإن الكذب في الاستشهاد يوجب نقمة الله سبحانه وتعالى، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إياكم واليمين الفاجرة فإنها تدع الديار من أهلها بلاقع»(2).

وهكذا بالنسبة إلى قوله تعالى: «وَيَقُولُ الَّذينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى باللهِ شَهيداً بَيْني وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ»(3)، ولا يمكن للنبي والرسول (عليه الصلاة والسلام) أن يكذب - والعياذ بالله - على الله في رسالته، فإنه تعالى ينتقم عاجلاً، كما قرر في علم الكلام، وفي الآية الشريفة: «وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ * لاَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ

ص: 228


1- بحار الأنوار: ج 31 ص361.
2- الكافي: ج7 ص435 - 436 ح3.
3- سورة الرعد: 43.

مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ»(1).

خير من أخلف

مسألة: يجب الاعتقاد بأن أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) هو خير من خلّفه الرسول (صلى الله عليه وآله) في الناس، ويستحب بيان ذلك، فإن ما يرتبط بشؤون الإمامة مستحب في مقام الاستحباب وواجب في مقام الوجوب.

والذين خلّفهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) هم الأئمة الطاهرون (عليهم الصلاة والسلام) ومن بعدهم العلماء الراشدون، قال (صلى الله عليه وآله): «اللهم ارحم خلفائي»، قيل: يا رسول الله ومن خلفائك؟ قال: «الذين يأتون من بعدي ويروون حديثي وسنتي»(2).

والمراد بقوله (صلى الله عليه وآله): (أخلفه فيكم) الفعلية، أي إن علياً (عليه السلام) الذي خلفته فيكم فعلاً، هو خيركم.

ويحتمل إرادة الإخبار المستقبلي والشأنية، فعلي (عليه السلام) خير من يخلف أو يمكن أن يخلفه رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أمته، ومثل هذه الجملة تدل على فعلية الاستخلاف أيضاً، لأن ما كان خيراً فقد فعله الرسول (صلى

الله عليهوآله) دون شك، والوجه الأول أظهر، كما لا يخفى.

ص: 229


1- سورة الحاقة: 44 - 47.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 4 ص420 ومن ألفاظ رسول الله (صلى الله عليه وآله) الموجزة التي لم يسبق إليها ح5919.

الإمام والخليفة

مسألة: الاعتقاد بالأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) واجب ارتباطي، فيجب الاعتقاد بأن علياً (عليه السلام) هو الإمام والخليفة من بعد الرسول (صلى الله عليه وآله) مباشرة، ثم السبطين الحسن والحسين (عليهما السلام) ثم التسعة المعصومين من صلب الحسين (عليهم السلام)، ولا يكفي الاعتقاد ببعضهم دون بعض، ويستحب بيان ذلك وقد يجب، والوجوب والاستحباب كل في مورده كما ذكرناه في المباحث الآنفة.

وقد تواترت الروايات بالنص عليهم.

عن فَاطِمَةَ (عليها السلام) بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَقُولُ لِعَلِيٍّ عليه السلام: يَا عَلِيُّ أَنْتَ الْإِمَامُ والْخَلِيفَةُ بَعْدِي وأَنْتَ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا مَضَيْتَ فَابْنُكَ الْحَسَنُ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا مَضَى الْحَسَنُ فَابْنُكَ الْحُسَيْنُ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا مَضَى الْحُسَيْنُ فَابْنُكَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا مَضَى عَلِيٌّ فَابْنُهُ مُحَمَّدٌ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا مَضَى مُحَمَّدٌ فَابْنُهُ جَعْفَرٌ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا مَضَى جَعْفَرٌ فَابْنُهُ مُوسَى أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا مَضَى مُوسَى فَابْنُهُ عَلِيٌ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا مَضَى عَلِيٌّ فَابْنُهُ مُحَمَّدٌ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا مَضَى مُحَمَّدٌ فَابْنُهُ عَلِيٌ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا مَضَى عَلِيٌّ فَابْنُهُ الْحَسَنُ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا مَضَى الْحَسَنُ فَالْقَائِمُ الْمَهْدِيُ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، يَفْتَحُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مَشَارِقَ الْأَرْضِ ومَغَارِبَهَا، فَهُمْ أَئِمَّةُ الْحَقِّ، وأَلْسِنَةُ الصِّدْقِ، مَنْصُورٌ مَنْ

ص: 230

نَصَرَهُمْ، مَخْذُولٌ مَنْ خَذَلَهُمْ»(1).

وعَنْ جَابِرِ بْنِ يَزِيدَ الْجُعْفِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيَّ يَقُولُ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ (صلى الله عليه وآله): «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ»(2)، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَرَفْنَا اللَّهَ ورَسُولَهُ، فَمَنْ أُولُو الْأَمْرِ مِنْكُمْ الَّذِينَ قَرَنَ اللَّهُ طَاعَتَهُمْ بِطَاعَتِكَ.

فَقَالَ (عليه السلام): «خُلَفَائِي وأَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ بَعْدِي، أَوَّلُهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، ثُمَّ الْحَسَنُ، ثُمَّ الْحُسَيْنُ، ثُمَّ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، ثُمَّ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْمَعْرُوفُ فِي التَّوْرَاةِ بِالْبَاقِرِ، وسَتُدْرِكُهُ يَا جَابِرُفَإِذَا لَقِيتَهُ فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ، ثُمَّ الصَّادِقُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ، ثُمَّ عَلِيُّ بْنُ مُوسَى، ثُمَّ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، ثُمَّ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، ثُمَّ سَمِيِّي وكَنِيِّي حَجَّةُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ وبَقِيَّتُهُ فِي عِبَادِهِ، ابْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، ذَلِكَ الَّذِي يَفْتَحُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَلَى يَدِهِ مَشَارِقَ الْأَرْضِ ومَغَارِبَهَا، ذَلِكَ الَّذِي يَغِيبُ عَنْ شِيعَتِهِ وأَوْلِيَائِهِ غَيْبَةً لَا يَثْبُتُ فِيهَا عَلَى الْقَوْلِ بِإِمَامَتِهِ إِلَّا مَنِ امْتَحَنَ اللَّهُ قَلْبَهُ لِلْإِيمَانِ».

قَالَ جَابِرٌ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَهَلْ لِشِيعَتِهِ الِانْتِفَاعُ بِهِ.

فَقَالَ (عليه السلام): «والَّذِي بَعَثَنِي بِالنُّبُوَّةِ إِنَّهُمْ لَيَسْتَضِيئُونَ بِنُورِهِ ويَنْتَفِعُونَ بِوَلَايَتِهِ فِي غَيْبَتِهِ كَانْتِفَاعِ النَّاسِ بِالشَّمْسِ إِنْ سَتَرَهَا سَحَابٌ، يَا جَابِرُ هَذَا مِنْ مَكْنُونِ سِرِّ اللَّهِ ومَخْزُونِ عِلْمِ اللَّهِ فَاكْتُمْهُ إِلَّا عَنْ أَهْلِهِ».

قَالَ جَابِرُ بْنُ يَزِيدَ: فَدَخَلَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (عليه

ص: 231


1- كفاية الأثر في النص على الأئمة الإثني عشر: ص195.
2- سورة النساء: 59.

السلام) فَبَيْنَا يُحَدِّثُهُ إِذْ خَرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْبَاقِرُ (عليه السلام) مِنْ عِنْدِ نِسَائِهِ وعَلَى رَأْسِهِ ذُؤَابَةٌ وهُوَ غُلَامٌ، فَلَمَّا بَصُرَ بِهِ جَابِرٌ ارْتَعَدَتْ فَرَائِصُهُ وقَامَتْ كُلُّ شَعْرَةٍ عَلَى جَسَدِهِ ونَظَرَ إِلَيْهِ مَلِيّاً، ثُمَّ قَالَ لَهُ: يَا غُلامُ أَقْبِلْ، فَأَقْبَلَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَدْبِرْ، فَأَدْبَرَ، فَقَالَ جَابِرٌ: شَمَائِلُ رَسُولِاللَّهِ (صلى الله عليه وآله) ورَبِّ الْكَعْبَةِ، ثُمَّ قَامَ فَدَنَا مِنْهُ ثُمَّ قَالَ لَهُ: مَا اسْمُكَ يَا غُلامُ، قَالَ: مُحَمَّدٌ، قَالَ: ابْنُ مَنْ، قَالَ: ابْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ فِدَاكَ نَفْسِي فَأَنْتَ إِذًا الْبَاقِرُ، قَالَ: نَعَمْ فَأَبْلِغْنِي مَا حَمَّلَكَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله).

قَالَ جَابِرٌ: يَا مَوْلَايَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) بَشَّرَنِي بِالْبَقَاءِ إِلَى أَنْ أَلْقَاكَ وقَالَ لِي: إِذَا لَقِيتَهُ فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ، فَرَسُولُ اللَّهِ يَا مَوْلايَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ.

فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): يَا جَابِرُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ السَّلامُ مَا قَامَتِ السَّمَاوَاتُ والأَرْضُ وعَلَيْكَ يَا جَابِرُ بِمَا بَلَغَّتَ السَّلامَ.

فَكَانَ جَابِرٌ بَعْدَ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ إِلَيْهِ ويَتَعَلَّمُ مِنْهُ، فَسَأَلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ (عليه السلام) عَنْ شَيْ ءٍ فَقَالَ جَابِرٌ: واللَّهِ لا دَخَلْتُ فِي نَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) لَقَدْ أَخْبَرَنِي أَنَّكُمُ الْأَئِمَّةُ الْهُدَاةُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ بَعْدَهُ وأَحْكَمُ النَّاسِ صِغَاراً وأَعْلَمُ النَّاسِ كِبَاراً، فَقَالَ: لا تُعَلِّمُوهُمْ فَإِنَّهُمْ أَعْلَمُ مِنْكُمْ.

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): صَدَقَ جَدِّي (صلى

الله عليه وآله) إِنِّي أَعْلَمُ بِمَا سَأَلْتُكَ عَنْهُ واللَّهِ أُوتِيتُ الْحُكْمَ وذَلِكَ بِفَضْلِ اللَّهِعَلَيْنَا ورَحْمَتِهِ لَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ»(1).

ص: 232


1- كفاية الأثر في النص على الأئمة الإثني عشر: ص53.

اتباع أهل البيت

مسألة: يجب اتباع أهل البيت (عليهم السلام) في القضايا الدينية، كما يجب اتباعهم في القضايا السياسية والاقتصادية وغيرها، فإنهم (صلوات الله عليهم) هادون مهديون وهم حجج الله تعالى في جميع الأمور.

ولا فرق في ذلك بين الشبهات الحكمية والموضوعية.

أما الفقيه فرأيه حجة في الحكمية دون الموضوعية البحتة، نعم يحتج برأيه من باب كونه أهل خبرة في الموضوعات لو كان كذلك، لا من باب الفقاهة والمرجعية.

ومعنى الاتباع: أن يأتمر الإنسان بأوامرهم (عليهم السلام) وينتهي عن نواهيهم في كل شيء، ويعتقد بولايتهم وإمامتهم (عليهم السلام) وأنهم حجج الله تعالى.

حرمة مخالفتهم

مسألة: يحرم مخالفة أهل البيت (عليهم السلام).

فإن وجوب الاتباع يستلزم حرمة المخالفة، كما أن حرمة اتباعالمخالفين يوجب وجوب مخالفتهم، وهناك أدلة على الجانبين وجوباً وحرمةً.

وقد ذكروا في الأصول أن هناك حكماً واحداً إيجابياً أو سلبياً يلزمه الطرف الآخر، فما يذكر في الطرف الآخر فهو إرشاد إلى الأول، وقد ألمعنا إلى ذلك في بعض مباحث الكتاب.

ص: 233

نعم ربما يقال بوجود الملاك في الجانبين، فتأمل.

لو أطاع الناس أئمتهم

مسألة: يستحب بيان أنه لو تركوا الحق على أهله واتبعوا عترة نبيه (صلى الله عليه وآله) وامتثلوا أمر الله في علي (عليه السلام) لما اختلف في الله تعالى اثنان، ولورثها من عينه الله تعالى سلفاً عن سلف... إلخ.

وربما وجب ذلك، وكل من الاستحباب والوجوب في مورده، فإذا توقف الاعتقاد عليه وجب لأنه من شؤون الإمامة.

ومن الواضح أن الناس إن اتبعوا الحق كانت لهم الحسنى في الدنيا والآخرة، كما قال سبحانه: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ»(1).

القائم من آل محمد

مسألة: يستحب ذكر القائم من آل محمد (عليهم السلام) والحديث عنه ووصفه بأنه التاسع من ذرية الإمام الحسين (عليه السلام) كما صنعت الصديقة الطاهرة (صلوات الله عليها).

وقد يجب على ما ذكرناه في المباحث الآنفة.

عن الورد بن الكميت، عن أبيه، عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث أنه أنشده أبياتاً إلى أن قال: فلما بلغت إلى قولي: «متى يقوم الحق فيكم متى» «يقوم

ص: 234


1- سورة الأعراف: 96.

مهديكم الثاني» فقال: «سريعاً إن شاء اللّه»، ثم قال: «إن قائمنا هو التاسع من ولد الحسين، لأن الأئمة بعد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) اثنا عشر؛ الثاني عشر هو القائم» قلت: يا سيدي فمن هؤلاء الاثنا عشر؟ فقال: «أولهم علي بن أبي طالب وبعده الحسن وبعده الحسين، وبعد الحسين علي بن الحسين، وأنا، ثم بعدي هذا، ووضع يده على كتف جعفر»، قلت: فمن بعد هذا؟ قال: «ابنه موسى، وبعد موسى ابنه علي، وبعد علي ابنه محمد، وبعد محمد ابنه علي، وبعد علي ابنه الحسن، وهو أبو القائم الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراًوظلماً»(1).

وعَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، قَالَ: قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): فَذَكَرَ الْمَهْدِيَّ الْقَائِمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، واللَّهِ لَيَغِيبَنَّ حَتَّى يَقُولَ الْجُهَّالُ: مَا بَقِيَ لِلَّهِ فِي آلِ مُحَمَّدٍ مِنْ حَاجَةٍ، ثُمَّ يَطْلُعُ طُلُوعَ الْبَدْرِ فِي وَقْتِ تَمَامِهِ والشَّمْسِ فِي وَقْتِ إِشْرَاقِهَا فَتَقَرُّ عُيُونٌ وتَعْمَى عُيُونٌ»(2).

وعَنِ الْمُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) وقَدْ ذَكَرَ الْقَائِمَ (عليه السلام) فَقُلْتُ: إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ أَمْرُهُ فِي سُهُولَةٍ، فَقَالَ: لَا يَكُونُ ذَلِكَ حَتَّى تَمْسَحُوا الْعَلَقَ والْعَرَقَ»(3).

ص: 235


1- إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات: ج 2 ص181 الفصل السابع والعشرون ح582.
2- الهداية الكبرى: ص361.
3- الغيبة، للنعماني: ص284 باب15 ما جاء في الشدة التي تكون قبل ظهور صاحب الحق (عليه السلام) ح3.

تأخير المتقدم

مسألة: يحرم تأخير من قدمه الله تعالى.

والمراد بالتأخير: إما جعله في المرتبة المتأخرة، كما جعل أبناء العامة علياً (عليه السلام) رابع الخلفاء، وإما إلغاء دوره في التصدي.

وكذلك لا يجوز تقديم الإمام اللاحق على الإمام السابق في الإمامة، كما لا يجوز تقديم غير الأئمة على الأئمة (عليهم السلام)، كتقديم زيد بن علي (عليه السلام) على الإمام الباقر (عليه السلام)، وتقديم إسماعيل (عليه السلام) على الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام).

وكذلك بالنسبة إلى الواقفة حيث لم يعترفوا بإمامة الإمام الرضا (عليه السلام)، فكل إنكار لمن عينه الله تعالى فهو حرام.

والمرتبة تشمل المنصب والموقع والأدوار والاعتبار وما أشبه.

تقديم المتأخر

مسألة: يحرم تقديم من أخّره الله تعالى.

وهنا يأتي أيضاً ما ذكر في المباحث السابقة من أنه هل هذان حكمان في طرفين، أو حكم واحد وتأكيد، فإذا لميمكن جعل الحكمين لابد من أن ينظر إلى لسان الدليل حتى يعرف هل هو حكم إيجابي واجب أو حكم سلبي محرم، وفي كلا الحالين يلزمه الطرف الآخر لا أنه حكم مستقل، وإلاّ لزمه إنشاءان وثوابان وعقابان وما أشبه مما الدليل على خلافه.

ص: 236

نعم في مثل المقام من المحتمل وجود حكمين لأهمية الطرفين سلباً وإيجاباً، فتأمل.

لا لتقديم الشهوات

مسألة: يكره أو يحرم اختيار الشهوات واتباعها، فإن الشهوات المباحة والمكروهة مكروه فعلها أو مباح، والشهوات المحرمة محرم ارتكابها.

وتقديم الشهوات حتى المباح منها في أمر الإمامة وما أشبه من أكبر المحرمات كما لا يخفى.

نعم هناك شهوات أمر بها الإسلام من طرقها المشروعة، كالزواج فهو مستحب.

وفي غرر الحكم عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال:

«رَأْسُ التَّقْوَى تَرْكُ الشَّهْوَةِ».

و: «رَدُّ الشَّهْوَةِ أَقْضَى لَهَا وقَضَاؤُهَا أَشَدُّ لَهَا».و: «طَاعَةُ الشَّهْوَةِ تُفْسِدُ الدِّينَ».

و: «طَاعَةُ الشَّهْوَةِ هُلْكٌ ومَعْصِيَتُهَا مُلْكٌ».

و: «ظَفِرَ الهَوَى بِمَنِ انْقَادَ لِشَهْوَتِهِ».

و: «لَيْسَ فِي الْمَعَاصِي أَشَدُّ مِنِ اتِّبَاعِ الشَّهْوَةِ فَلَا تُطِيعُوهَا فَيَشْغَلَكُمْ».

و: «مِنْ مُطَاوِعَةِ الشَّهْوَةِ تُضَاعَفُ الْآثَامُ»(1).

ص: 237


1- غرر الحكم ودرر الكلم: ص304 ح6955 - 6961 اتباع الشهوات.

وعَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ، وأَقْبَلَ عَلَى أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فَقَالَ: «يَا أُسَامَةُ عَلَيْكَ بِطَرِيقِ الْحَقِّ وإِيَّاكَ أَنْ تَخْتَلِجَ دُونَهُ بِزَهْرَةِ رَغَبَاتِ الدُّنْيَا وغَضَارَةِ نَعِيمِهَا وبَائِدِ سُرُورِهَا وزَائِلِ عَيْشِهَا»، فَقَالَ أُسَامَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَيْسَرُ مَا يَنْقَطِعُ بِهِ ذَلِكَ الطَّرِيقُ، قَالَ: «السَّهَرُ الدَّائِمُ والظَّمَأُ فِي الْهَوَاجِرِ، وكَفُّ النَّفْسِ عَنِ الشَّهَوَاتِ وتَرْكُ اتِّبَاعِ الْهَوَى واجْتِنَابُ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا» الْخَبَر(1).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ فِيمَا وَعَظَ اللَّهُ بِهِ عِيسَى (عليه السلام) أَنْ قَالَ لَهُ: وافْطِمْ نَفْسَكَ عَنِ الشَّهَوَاتِالْمُوبِقَاتِ، وكُلَّ شَهْوَةٍ تُبَاعِدُكَ مِنِّي فَاهْجُرْهَا»(2).

الاجتهاد في قبال النص

مسألة: يحرم الاجتهاد في مقابل النص، كما قالت الصديقة فاطمة (عليها السلام): (عملوا بآرائهم).

فإن العمل بالرأي في مقابل النص محرم، سواء كان العمل عن اجتهاد وتبرير وتعليل، أو عن غير اجتهاد كتقليد وهوى، قال سبحانه: «فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْليماً»(3).

ص: 238


1- مستدرك الوسائل: ج 11 ص342 ب42 باب وجوب اجتناب الشهوات واللذات المحرمة ح7.
2- مستدرك الوسائل: ج 11 ص340 ب42 باب وجوب اجتناب الشهوات واللذات المحرمة ح2.
3- سورة النساء: 65.

إلى غير ذلك مما دل على الحرمة كتاباً وسنةً وإجماعاً وعقلاً.

قال تعالى: «وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ ويَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وتَعالى عَمَّا يُشْرِكُون»(1).

وقال سبحانه: «وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ ولا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ ورَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ومَنْ يَعْصِ اللهَورَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبيناً»(2).

وقال أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ أَدَّبَ نَبِيَّهُ عَلَى مَحَبَّتِهِ فَقَالَ: «وإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ»(3) ثُمَّ فَوَّضَ إِلَيْهِ فَقَالَ عَزَّ وجَلَّ: «وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا»(4) وقَالَ عَزَّ وجَلَّ: «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ»(5) قَالَ: ثُمَّ قَالَ: «وإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ فَوَّضَ إِلَى عَلِيٍّ وائْتَمَنَهُ، فَسَلَّمْتُمْ وجَحَدَ النَّاسُ، فَوَ اللَّهِ لَنُحِبُّكُمْ أَنْ تَقُولُوا إِذَا قُلْنَا، وأَنْ تَصْمُتُوا إِذَا صَمَتْنَا، ونَحْنُ فِيمَا بَيْنَكُمْ وبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، مَا جَعَلَ اللَّهُ لِأَحَدٍ خَيْراً فِي خِلَافِ أَمْرِنَا»(6).

وقال أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): «لا واللَّهِ مَا فَوَّضَ اللَّهُ إِلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ

ص: 239


1- سورة القصص: 68.
2- سورة الأحزاب : 36.
3- سورة القلم: 4.
4- سورة الحشر: 7.
5- سورة النساء: 80.
6- الكافي: ج 1 ص265 باب التفويض إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإلى الأئمة (عليهم السلام) في أمر الدين ح1.

إِلَّا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) وإِلَى الْأَئِمَّةِ، قَالَ عَزَّ وجَلَّ: «إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ»(1) وهِيَ جَارِيَةٌ فِي الْأَوْصِيَاءِ (عليهمالسلام)» (2).

ولا فرق في حرمة الاجتهاد في مقابل النص بين كونه عن استحسان أو قياس أو غيرهما، كما نجد أن الكثيرين يطرحون النص لمجرد استغراب أو استبعاد أو استيحاش من الناس أو شبه ذلك.

كما لا فرق في حرمته بين تعارضه مع النص بالمباينة أو العموم من وجه أو العموم المطلق، فإن الاجتهاد بهذا المعنى لا يخصص عمومات الكتاب والسنة كما هو واضح.

تباً لهم

مسألة: يستحب الذم والتقريع والدعاء على من خذل الحق وخالف الرب بالخسران والهلاك والنقصان، وقد يجب، كما قالت الصديقة (عليها السلام): (تباً لهم).

وهو تقريع ودعاء عليهم بنقص أرزاقهم وآجالهم، بل بخسران كل ما يملكوه بالهلاك في العاجل قبل الآجل، فإن (التب) ورد بكل تلك المعاني.

ص: 240


1- سورة النساء: 105.
2- الكافي: ج 1 ص268 باب التفويض إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإلى الأئمة (عليهم السلام) في أمر الدين ح8.

قال تعالى: «تَبَّتْ يَدا أَبي لَهَبٍ وَتَبَّ»(1)، أيخسرت يداه وخسر هو.

وقال سبحانه: «وَمَا زادُهُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ»(2)، أي غير نقصان وخسران.

وقال عزوجل: «وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ في تَباب»(3).

و(تباً لك) منصوب بإضمار فعل واجب حذفه، ومعناه: ألزمك الله خسراناً وهلاكاً.

فإن ذلك كله قد يكون من صغريات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيكون واجباً، وربما كان مستحباً، كل في مورده، على ما ذكر تفصيله في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

الاستشهاد بالآيات

مسألة: يستحب الاستشهاد بالآيات الشريفة، فإن فيه اتباع القرآن الحكيم والأخذ به، وذلك بين واجب ومستحب، على ما قرر في (الفقه) ودل عليه النص والفتوى.

كما يستحب (الاقتباس) من الآيات الكريمة، وقد استشهدت (صلوات الله

ص: 241


1- سورة المسد: 1.
2- سورة هود: 101.
3- سورة غافر: 37.

عليها) بآيتين ثم اقتبست آية(1).

بسط الآمال الدنيوية

مسألة: بسط الآمال في الدنيا مرجوح، وهو بين مكروه وحرام، وهذا ما يستفاد من متواتر الآيات والروايات، وقد قال النبي عيسى (على نبينا وآله وعليه وعلى آله الصلاة والسلام): «إنما الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها»(2)، إلى غير ذلك.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ صَلَاحَ أَوَّلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالزُّهْدِ وَالْيَقِينِ، وَهَلَاكَ آخِرِهَا بِالشُّحِّ وَالْأَمَلِ»(3).

وقال (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِيَ الْهَوَى وَطُولُ الْأَمَلِ، أَمَّا الْهَوَى فَإِنَّهُ يَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ وَ أَمَّا طُولُ الْأَمَلِ فَيُنْسِي الْآخِرَةَ»(4).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام):«مَا أَطَالَ عَبْدٌ الْأَمَلَ إِلَّا أَسَاءَ الْعَمَلَ»(5).

وقال (عليه السلام) في نهج البلاغة: «مَنْ جَرَى فِي عِنَانِ أَمَلِهِ عَثَرَ بِأَجَلِهِ»(6).

ص: 242


1- وهي آية «فَتَعْساً لَهُمْ وَأضَلَّ أعْمَالَهُمْ» سورة محمد: 8.
2- الخصال:ج 1 ص65 الدنيا والآخرة ككفتي الميزان ح95.
3- وسائل الشيعة: ج 2 ص438 ب24 باب كراهة طول الأمل وعد غد من الأجل ح3.
4- الخصال: ج 1 ص51 أخوف ما يخاف على الناس خصلتان ح62.
5- الكافي: ج 3 ص259 باب النوادر ح30.
6- نهج البلاغة: الحكمة 19.

نسيان الأجل

مسألة: يكره أو يحرم نسيان الأجل، أي تناسيه، أو فعل ما يوجب النسيان، فإن أكثر معاصي الإنسان أو وهنه عن العبادة وعن العمل الصالح يرجع إلى عدم التفكير بالأجل، وعدم استحضار الموت أمام العين طول الوقت.

والحرمة فيما إذا كان نسيان يوجب خوض المحرمات، وإلاّ كان مكروهاً، فتأمل.

وفي نهج البلاغة: فيمَا كتب أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (صلوات الله عليه) إلى مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ:

«عِبَادَ اللَّهِ، إِنَّ الْمَوْتَ لَيْسَ مِنْهُ فَوْتٌ، فَاحْذَرُوهُ قَبْلَ وُقُوعِهِ، وأَعِدُّوا لَهُ عُدَّتَهُ، فَإِنَّكُمْ طَرْدُ الْمَوْتِ، إِنْ أَقَمْتُمْ لَهُ أَخَذَكُمْ، وإِنْ فَرَرْتُمْ مِنْهُ أَدْرَكَكُمْ، وهُوَ أَلْزَمُ لَكُمْ مِنْ ظِلِّكُمْ، الْمَوْتُ مَعْقُودٌ بِنَوَاصِيكُمْ، والدُّنْيَا تُطْوَى خَلْفَكُمْ، فَأَكْثِرُوا ذِكْرَ الْمَوْتِ عِنْدَ مَا تُنَازِعُكُمْ إِلَيْهِ أَنْفُسُكُمْ مِنَ الشَّهَوَاتِ، وكَفَى بِالْمَوْتِ وَاعِظاً، وكَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) كَثِيراً مَا يُوصِي أَصْحَابَهُ بِذِكْرِ الْمَوْتِ، فَيَقُولُ: أَكْثِرُوا ذِكْرَ الْمَوْتِ، فَإِنَّهُ هَادِمُ اللَّذَّاتِ، حَائِلٌ بَيْنَكُمْ وبَيْنَ الشَّهَوَاتِ.

يَا عِبَادَ اللَّهِ، مَا بَعْدَ الْمَوْتِ لِمَنْ لَمْيُغْفَرْ لَهُ أَشَدُّ مِنَ الْمَوْتِ: الْقَبْرَ، فَاحْذَرُوا ضِيقَهُ وضَنْكَهُ وظُلْمَتَهُ وغُرْبَتَهُ، إِنَّ الْقَبْرَ يَقُولُ كُلَّ يَوْمٍ: أَنَا بَيْتُ الْغُرْبَةِ، أَنَا بَيْتُ التُّرَابِ، أَنَا بَيْتُ الْوَحْشَةِ، أَنَا بَيْتُ الدُّودِ والْهَوَامِّ، والْقَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النِّيرَانِ، إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا دُفِنَ قَالَتْ لَهُ الْأَرْضُ: مَرْحَباً وأَهْلًا، لَقَدْ كُنْتَ مِمَّنْ أُحِبُّ أَنْ يَمْشِيَ عَلَى ظَهْرِي، فَإِذَا وُلِّيتُكَ

ص: 243

فَسَتَعْلَمُ كَيْفَ صُنْعِي بِكَ، فَتَتَّسِعُ لَهُ مَدَّ الْبَصَرِ. وإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا دُفِنَ قَالَتْ لَهُ الْأَرْضُ: لَا مَرْحَباً ولَا أَهْلًا، لَقَدْ كُنْتَ مِنْ أَبْغَضِ مَنْ يَمْشِي عَلَى ظَهْرِي، فَإِذَا وُلِّيتُكَ فَسَتَعْلَمُ كَيْفَ صُنْعِي بِكَ، فَتَضُمُّهُ حَتَّى تَلْتَقِيَ أَضْلَاعُهُ»(1).

وقال أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «اذْكُرُوا هَادِمَ اللَّذَّاتِ ومُنَغِّصَ الشَّهَوَاتِ ودَاعِيَ الشَّتَاتِ»(2).

وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى

الله عليه وآله): أَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ هَادِمِ اللَّذَّاتِ، فَإِنَّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فِي ضِيقٍ وَسَّعَهُ عَلَيْكُمْ فَرَضِيتُمْ بِهِ فَأُجِرْتُمْ، وإِنْ كُنْتُمْ فِي غِنًى بَغَّضَهُ إِلَيْكُمْ فَجُدْتُمْ بِهِ فَأُثِبْتُمْ، إِنَّ الْمَنَايَا قَاطِعَاتُ الْآمَالِ، واللَّيَالِي مُدْنِيَاتُ الْآجَالِ... إِنَّ الْعَبْدَ عِنْدَ خُرُوجِنَفْسِهِ وحُلُولِ رَمْسِهِ يَرَى جَزَاءَ مَا قَدَّمَ، وقِلَّةَ غَنَاءِ مَا خَلَّفَ، ولَعَلَّهُ مِنْ حَقٍّ مَنَعَهُ ومِنْ بَاطِلٍ جَمَعَهُ»(3).

وَكَانَ مِنْ دُعَاء الإمام زين العابدين (عليه السلام) إِذَا نُعِيَ إِلَيْهِ مَيِّتٌ، أَوْ ذَكَرَ الْمَوْتَ:

«اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِهِ، واكْفِنَا طُولَ الْأَمَلِ، وقَصِّرْهُ عَنَّا بِصِدْقِ الْعَمَلِ، حَتَّى لَا نُؤَمِّلَ اسْتِتْمَامَ سَاعَةٍ بَعْدَ سَاعَةٍ، ولَا اسْتِيفَاءَ يَوْمٍ بَعْدَ يَوْمٍ، ولَا اتِّصَالَ نَفَسٍ بِنَفَسٍ، ولا لُحُوقَ قَدَمٍ بِقَدَمٍ، وسَلِّمْنَا مِنْ غُرُورِهِ، وآمِنَّا مِنْ شُرُورِهِ، وانْصِبِ الْمَوْتَ بَيْنَ أَيْدِينَا نَصْباً، ولَا تَجْعَلْ ذِكْرَنَا لَهُ غِبّاً، واجْعَلْ لَنَا مِنْ صَالِحِ الْأَعْمَالِ عَمَلًا نَسْتَبْطِئُ مَعَهُ الْمَصِيرَ إِلَيْكَ، ونَحْرِصُ لَهُ عَلَى وَشْكِ اللَّحَاقِ بِكَ، حَتَّى يَكُونَ الْمَوْتُ مَأْنَسَنَا الَّذِي نَأْنَسُ بِهِ، ومَأْلَفَنَا الَّذِي نَشْتَاقُ

ص: 244


1- الأمالي، للطوسي: ص28 المجلس الأول.
2- عيون الحكم والمواعظ، لليثي: ص88 ح2094.
3- أعلام الدين: ص335 الحديث الحادي عشر.

إِلَيْهِ، وحَامَّتَنَا الَّتِي نُحِبُّ الدُّنُوَّ مِنْهَا، فَإِذَا أَوْرَدْتَهُ عَلَيْنَا وأَنْزَلْتَهُ بِنَا فَأَسْعِدْنَا بِهِ زَائِراً، وآنِسْنَا بِهِ قَادِماً، ولَا تُشْقِنَا بِضِيَافَتِهِ، ولَا تُخْزِنَا بِزِيَارَتِهِ، واجْعَلْهُ بَاباً مِنْ أَبْوَابِ مَغْفِرَتِكَ، ومِفْتَاحاً مِنْ مَفَاتِيحِ رَحْمَتِكَ، أَمِتْنَا مُهْتَدِينَ غَيْرَ ضَالِّينَ، طَائِعِينَ غَيْرَ مُسْتَكْرِهِينَ، تَائِبِينَ غَيْرَ عَاصِينَ ولَا مُصِرِّينَ، يَا ضَامِنَ جَزَاءِالْمُحْسِنِينَ، ومُسْتَصْلِحَ عَمَلِ الْمُفْسِدِينَ»(1).

وعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام): حَدِّثْنِي مَا أَنْتَفِعُ بِهِ، فَقَالَ: «يَا أَبَا عُبَيْدَةَ أَكْثِرْ ذِكْرَ الْمَوْتِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُكْثِرْ ذِكْرَهُ إِنْسَانٌ إِلَّا زَهِدَ فِي الدُّنْيَا»(2).

التعوذ بالله تعالى

مسألة: يستحب أن يتعوذ الإنسان بالله تعالى كما قالت الصديقة (عليها السلام): (أعوذ بك).

فإنه التجاء إليه سبحانه في أن يكفيه المكروه من أمور الدين والدنيا، وقد أمر الله تعالى بذلك، قال تعالى: «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ»(3).

وقال عزوجل: «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النّاسِ»(4).

وقال سبحانه: «وَقُلْ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ»(5).

ص: 245


1- الصحيفة السجادية: الدعاء 40.
2- الكافي: ج 3 ص255 ح18.
3- سورة الفلق: 1.
4- سورة الناس: 1.
5- سورة المؤمنون: 97.

إلى غير ذلك.أما قول الصديقة (عليها السلام) : (أعوذ بك يا رب من الحِوَر بعد الكِوَر) فيعني من فساد الأمور الدينية أو الدنيوية بعد صلاحها، أو من الرجوع إلى النقصان بعد الزيادة والتمام، وأصله من حور العمامة أي نقضها، وكورها هو دور العمامة، فإن كل دور هو كَور، تقول: حار عمامته إذا نقضها.

ثم إن التعوذ بالله من أهم الأسباب الغيبية للحفظ عن الحرام، لكن توجد أسباب ظاهرية أيضاً على الإنسان رعايتها كي يُصان، ومنها: الابتعاد عن مظان المعاصي، فإن (من حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه)(1).

قال تعالى: «فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ باللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجيمِ» (2).

وقال سبحانه: «فَاسْتَعِذْ باللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّميعُ الْبَصيرُ» (3).

وقال عزوجل: «وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ باللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّميعُ الْعَليم» (4).

وَكَانَ مِنْ دُعَاء الإمام زين العابدين(عليه السلام) فِي الِاسْتِعَاذَةِ مِنَ الْمَكَارِهِ وسَيِّئِ الْأَخْلَاقِ ومَذَامِّ الْأَفْعَالِ:

«اللَّهُمَّ إِنيِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَيَجَانِ الْحِرْصِ، وسَوْرَةِ الْغَضَبِ، وغَلَبَةِ

ص: 246


1- مجمع البحرين: ج 6 ص53 مادة (حوم).
2- سورة النحل: 98.
3- سورة غافر: 56.
4- سورة فصلت: 36.

الْحَسَدِ، وضَعْفِ الصَّبْرِ، وقِلَّةِ الْقَنَاعَةِ، وشَكَاسَةِ الْخُلُقِ، وإِلْحَاحِ الشَّهْوَةِ، ومَلَكَةِ الْحَمِيَّةِ، ومُتَابَعَةِ الْهَوَى، ومُخَالَفَةِ الْهُدَى، وسِنَةِ الْغَفْلَةِ، وتَعَاطِي الْكُلْفَةِ، وإِيثَارِ الْبَاطِلِ عَلَى الْحَقِّ، والْإِصْرَارِ عَلَى الْمَأْثَمِ، واسْتِصْغَارِ الْمَعْصِيَةِ، واسْتِكْبَارِ الطَّاعَةِ، ومُبَاهَاةِ الْمُكْثِرِينَ، والْإِزْرَاءِ بِالْمُقِلِّينَ، وسُوءِ الْوِلَايَةِ لِمَنْ تَحْتَ أَيْدِينَا، وتَرْكِ الشُّكْرِ لِمَنِ اصْطَنَعَ الْعَارِفَةَ عِنْدَنَا، أَوْ أَنْ نَعْضُدَ ظَالِماً، أَوْ نَخْذُلَ مَلْهُوفاً، أَوْ نَرُومَ مَا لَيْسَ لَنَا بِحَقٍّ، أَوْ نَقُولَ فِي الْعِلْمِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، ونَعُوذُ بِكَ أَنْ نَنْطَوِيَ عَلَى غِشِّ أَحَدٍ، وأَنْ نُعْجِبَ بِأَعْمَالِنَا، ونَمُدَّ فِي آمَالِنَا، ونَعُوذُ بِكَ مِنْ سُوءِ السَّرِيرَةِ، واحْتِقَارِ الصَّغِيرَةِ، وأَنْ يَسْتَحْوِذَ عَلَيْنَا الشَّيْطَانُ، أَوْ يَنْكُبَنَا الزَّمَانُ، أَوْ يَتَهَضَّمَنَا السُّلْطَانُ، ونَعُوذُ بِكَ مِنْ تَنَاوُلِ الْإِسرَافِ، ومِنْ فِقْدَانِ الْكَفَافِ، ونَعُوذُ بِكَ مِنْ شَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ، ومِنَ الْفَقْرِ إِلَى الْأَكْفَاءِ، ومِنْ مَعِيشَةٍ فِي شِدَّةٍ، ومِيتَةٍ عَلَى غَيْرِ عُدَّةٍ، ونَعُوذُ بِكَ مِنَ الْحَسْرَةِ الْعُظْمَى، والْمُصِيبَةِ الْكُبْرَى، وأَشْقَى الشَّقَاءِ، وسُوءِ الْمَآبِ، وحِرْمَانِ الثَّوَابِ، وحُلُولِ الْعِقَابِ، اللَّهُمَّصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِهِ، وأَعِذْنِي مِنْ كُلِّ ذَلِكَ بِرَحْمَتِكَ وجَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ والْمُؤْمِنَاتِ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ»(1).

وعن مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) إِذَا أَرَادَ دُخُولَ الْمُتَوَضَّإِ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الرِّجْسِ النِّجْسِ الْخَبِيثِ الْمُخْبِثِ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، اللَّهُمَّ أَمِطْ عَنِّي الْأَذَى وأَعِذْنِي مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم»(2).

ص: 247


1- الصحيفة السجادية: الدعاء 8.
2- وسائل الشيعة: ج 1 ص307 ب5 باب استحباب التسمية والاستعاذة والدعاء بالمأثور عند دخول المخرج والخروج منه والفراغ والنظر إلى الماء والوضوء ح5.

وسُئِلَ الصَّادِقُ (عليه السلام): عَنِ التَّعَوُّذِ مِنَ الشَّيْطَانِ عِنْدَ كُلِّ سُورَةٍ يَفْتَحُهَا، قَالَ: نَعَمْ، فَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ»(1).

وَقَالَ الإمام الْعَسْكَرِيُّ (عليه السلام): «أَمَّا قَوْلُهُ الَّذِي نَدَبَكَ اللَّهُ إِلَيْهِ وأَمَرَكَ بِهِ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ: أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، والِاسْتِعَاذَةُ هِيَ مَا قَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ عِنْدَ قِرَاءَتِهِمُ الْقُرْآنَ بِقَوْلِهِ: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَفَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ، ومَنْ تَأَدَّبَ بِأَدَبِ اللَّهِ، أَدَّاهُ إِلَى الْفَلَاحِ الدَّائِمِ»(2).

وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «أَغْلِقُوا أَبْوَابَ الْمَعْصِيَةِ بِالاسْتِعَاذَةِ، وافْتَحُوا أَبْوَابَ الطَّاعَةِ بِالتَّسْمِيَة»(3).

الجور حرام

مسألة: يحرم الجور بمختلف أنواعه وأشكاله، وتشتد الحرمة والعقوبة حسب متعلقه والمضاف إليه وغير ذلك، وأما (المقام) (4) فإن الجور فيه يعتبر من أشد أنواع الجور حرمةً وعقوبةً وقبحاً.

وقد دلت الأدلة الأربعة على حرمة الجور مطلقاً، كثيراً أم قليلاً.

كما يحرم الجور حتى على الحيوان كما ذكرناه في بعض كتبنا، بل وحتى الزرع في الجملة، والتفصيل في الفقه(5).

ص: 248


1- هداية الأمة إلى أحكام الأئمة (عليه السلام): ج3 ص71 تستحب الاستعاذة عند التلاوة ح2.
2- هداية الأمة إلى أحكام الأئمة (عليه السلام): ج3 ص71 تستحب الاستعاذة عند التلاوة ح1.
3- الدعوات (للراوندي): ص52 ح130، وللتفصيل راجع كتاب سفينة البحار مادة (عوذ).
4- وهو مقام غصب الخلافة.
5- انظر كتاب (الفقه: الزرع والزراعة) للإمام المؤلف (قدس سره).

قال أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) كما في نهج البلاغة:

«وَاللَّهِ لأَنْ أَبِيتَ عَلَى حَسَكِ السَّعْدَانِ مُسَهَّداً، أَوْ أُجَرَّ فِي الْأَغْلَالِ مُصَفَّداً، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَرَسُولَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ظَالِماً لِبَعْضِ الْعِبَادِ وَغَاصِباً لِشَيْ ءٍ مِنَ الْحُطَامِ»(1).

وقال (عليه السلام) أيضاً: «وَاللَّهِ لَوْ أُعْطِيتُ الْأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلَاكِهَا عَلَى أَنْ أَعْصِيَ اللَّهَ فِي نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جِلْبَ شَعِيرَةٍ مَا فَعَلْتُهُ»(2).

نعم في مثل (جُلب الشعيرة) فالمراد بعصيان الله سبحانه مخالفته في الأمر المكروه، فإنه ليس ذلك من المحرم في شيء.

العقائد الحقة

مسألة: كما يحرم الخلاف في العقيدة الحقة، ويجب القبول بالعقائد الصحيحة المتعلقة بأصول الدين، يجب رفع الاختلاف منها.فإن العقائد الحقة لا تكون إلاّ عقيدة واحدة إذ لا يعقل حقية النقيضين أو الضدين أو السلب والإيجاب، كما حقق في المنطق، أما المادية الديالكتيكية التي يعبر عنها بالمادية الجدلية فقد ثبت عدم صحتها كما ذكرناه في بعض كتبنا(3).

ص: 249


1- نهج البلاغة: الخطبة 224 كلام له (عليه السلام) يتبرأ من الظلم.
2- نهج البلاغة: الخطبة 224 كلام له (عليه السلام) يتبرأ من الظلم.
3- انظر كتاب (ماركس ينهزم) و(نقد النظرية الديالكتيكية) للمؤلف (قدس سره).

التشكيك في العقائد

مسألة: يحرم التشكيك في العقائد الحقة، وعلى من يفعل ذلك إثم من يضل ويزل وينحرف، والملاحظ أن منهج الأنبياء (عليهم السلام) والصالحين هو تثبيت الناس على العقائد الصحيحة، بل هو من أمر الله تعالى: «يُثَبِّتُ اللهُ الَّذينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ وَ يُضِلُّ اللهُ الظَّالِمينَ وَ يَفْعَلُ اللهُ ما يَشاء»(1)، وأما منهج المنحرفين والأبالسة والشياطين ومن شاكلهم فهو الوسوسة والتشكيك وإلقاء الشبهات.

قال سبحانه: «وَإِنَّ الشَّياطينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُون»(2).

وقَالَتْ زَيْنَبُ (عليها السلام): «فَلَمَّا ضَرَبَ ابْنُ مُلْجَمٍ (لَعَنَهُ اللَّهُ) أَبِي (عليه السلام) ورَأَيْتُ عَلَيْهِ أَثَرَ الْمَوْتِ مِنْهُ، قُلْتُ لَهُ: يَا أَبَتِ حَدَّثَتْنِي أُمُّ أَيْمَنَ بِكَذَا وكَذَا، وقَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْكَ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّةِ الْحَدِيثُ كَمَا حَدَّثَتْكِ أُمُّ أَيْمَنَ، وكَأَنِّي بِكِ وبِنِسَاءِ أَهْلِكِ سَبَايَا بِهَذَا الْبَلَدِ أَذِلَّاءَ خَاشِعِينَ، تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ، فَصَبْراً صَبْراً، فَوَ الَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وبَرَأَ النَّسَمَةَ، مَا لِلَّهِ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ وَلِيٌّغَيْرُكُمْ وغَيْرُ مُحِبِّيكُمْ وشِيعَتِكُمْ، ولَقَدْ قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) حِينَ أَخْبَرَنَا بِهَذَا الْخَبَرِ: إِنَّ إِبْلِيسَ (لَعَنَهُ اللَّهُ) فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَطِيرُ فَرَحاً فَيَجُولُ الْأَرْضَ كُلَّهَا بِشَيَاطِينِهِ وعَفَارِيتِهِ فَيَقُولُ: يَا مَعَاشِرَ الشَّيَاطِينِ قَدْ أَدْرَكْنَا مِنْ ذُرِّيَّةِ

ص: 250


1- سورة إبراهيم: 27.
2- سورة الأنعام: 121.

آدَمَ الطَّلِبَةَ، وبَلَغْنَا فِي هَلَاكِهِمْ الْغَايَةَ، وأَوْرَثْنَاهُمُ النَّارَ إِلاّ مَنِ اعْتَصَمَ بِهَذِهِ الْعِصَابَةِ، فَاجْعَلُوا شُغُلَكُمْ بِتَشْكِيكِ النَّاسِ فِيهِمْ، وحَمْلِهِمْ عَلَى عَدَاوَتِهِمْ وإِغْرَائِهِم بِهِمْ وأَوْلِيَائِهِمْ، حَتَّى تَسْتَحْكِمُوا ضَلَالَةَ الْخَلْقِ وكُفْرَهُمْ، ولا يَنْجُو مِنْهُمْ نَاجٍ. ولَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ وهُوَ كَذُوبٌ أَنَّهُ لا يَنْفَعُ مَعَ عَدَاوَتِكُمْ عَمَلٌ صَالِحٌ ولا يَضُرُّ مَعَ مَحَبَّتِكُمْ ومُوَالاتِكُمْ ذَنْبٌ غَيْرُ الْكَبَائِرِ»، قَالَ زَائِدَةُ: ثُمَّ قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) بَعْدَ أَنْ حَدَّثَنِي بِهَذَا الْحَدِيثِ: «خُذْهُ إِلَيْكَ مَا لَوْ ضَرَبْتَ فِي طَلَبِهِ آبَاطَ الْإِبِلِ حَوْلًا لَكَانَ قَلِيلًا»(1).

وعَنْ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمَرَاغِيِّ قَالَ: وَرَدَ تَوْقِيعٌ عَلَى الْقَاسِمِ بْنِ الْعَلَاءِ، وذَكَرَ تَوْقِيعاً شَرِيفاً يَقُولُ فِيهِ: «فَإِنَّهُ لا عُذْرَ لأَحَدٍ مِنْ مَوَالِينَا فِي التَّشْكِيكِ فِيمَا يُؤَدِّيهِ عَنَّا ثِقَاتُنَا، قَدْ عَرَفُوا بِأَنَّانُفَاوِضُهُمْ سِرَّنَا ونُحَمِّلُهُمْ إِيَّاه اليهم»(2).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): اتَّخَذُوا الشَّيْطَانَ لِأَمْرِهِمْ مِلَاكاً، واتَّخَذَهُمْ لَهُ أَشْرَاكاً، فَبَاضَ وفَرَّخَ فِي صُدُورِهِمْ، ودَبَّ ودَرَجَ فِي حُجُورِهِمْ، فَنَظَرَ بِأَعْيُنِهِمْ ونَطَقَ بِأَلْسِنَتِهِمْ، فَرَكِبَ بِهِمُ الزَّلَلَ، وزَيَّنَ لَهُمُ الْخَطَلَ، فِعْلَ مَنْ قَدْ شَرِكَهُ الشَّيْطَانُ فِي سُلْطَانِهِ، ونَطَقَ بِالْبَاطِلِ عَلَى لِسَانِه»(3).

ص: 251


1- كامل الزيارات: ص265 ب 88 فضل كربلاء وزيارة الحسين (عليه السلام) ح1.
2- وسائل الشيعة: ج 1 ص38 ب2 باب ثبوت الكفر والارتداد بجحود بعض الضروريات وغيرها مما تقوم الحجة فيه بنقل الثقات ح22.
3- نهج البلاغة: الخطبة 7 ومن خطبة له (عليه السلام) يذم فيها أتباع الشيطان.

من كنت مولاه فعلي مولاه

اشارة

عن فاطمة (عليها السلام) بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) قالت: «أنسيتم قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم غدير خم: من كنت مولاه فعلي مولاه؟! وقوله (صلى الله عليه وآله): أنت مني بمنزلة هارون من موسى»؟!.

-------------------------------------------

وجوب الولاية

مسألة: يجب موالاة علي (عليه السلام) والاعتقاد بإمامته بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأنه كان منه بمنزلة هارون من موسى (عليهم السلام) إلاّ أنه لا نبي بعده، فمن كان يؤمن بموسى ولا يؤمن بهارون لم يكن إيمانه كاملاً بل ليس بإيمان صحيح، وكذلك من آمن بالرسول (صلى الله عليه وآله) ولم يؤمن بعلي (عليه الصلاة والسلام).

وكما أن موالاة الرسول (صلى الله عليه وآله) واجبة، كذلك تجب موالاة علي (عليه السلام)، وقد قال (صلى الله عليه وآله): «من كنت مولاه فعلي مولاه»(1).

ص: 252


1- الكافي: ج1 ص295، والخبر متواتر روي في مسانيد الخاصّة والعامّة، ومن أراد التفصيل فليراجع المجلّد الأوّل من موسوعة (الغدير)، وكتاب بناء المقالة الفاطمية في نقض الرسالة العثمانية: ص294 حديث غدير خم، والطرائف في معرفة مذاهب الطوائف: ج 1 ص139 حديث الغدير، ونفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار: ج6 ص9.

وقد سبق أن الإيمان بالرسول وبوصيه (عليهما السلام) معاً من الحقائق الارتباطية، فكما لا تصح الصلاة بركوع دون سجود أو العكس، كذلك لا يقبل ولا يصح إيمان بولاية الرسول (صلى الله عليه وآله) دون ولاية وصيه (عليه السلام).

عَنْ أَبِي شِبْلٍ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) ابْتِدَاءً مِنْهُ:

«أَحْبَبْتُمُونَا وأَبْغَضَنَا النَّاسُ، وصَدَّقْتُمُونَا وكَذَّبَنَا النَّاسُ، ووَصَلْتُمُونَا وجَفَانَا النَّاسُ، فَجَعَلَ اللَّهُ مَحْيَاكُمْ مَحْيَانَا ومَمَاتَكُمْ مَمَاتَنَا، أَمَا واللَّهِ مَا بَيْنَ الرَّجُلِ وبَيْنَ أَنْ يُقِرَّ اللَّهُ عَيْنَهُ إِلَّا أَنْ تَبْلُغَ نَفْسُهُ هَذَا الْمَكَانَ».

وأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى حَلْقِهِ فَمَدَّ الْجِلْدَةَ ثُمَّ أَعَادَ ذَلِكَ، فَوَ اللَّهِ مَا رَضِيَ حَتَّى حَلَفَ لِي فَقَالَ:

واللَّهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ لَحَدَّثَنِي أَبِي مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ (عليه السلام) بِذَلِكَ يَا أَبَا شِبْلٍ، أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ تُصَلُّوا ويُصَلُّوا فَيُقْبَلَ مِنْكُمْ ولَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ، أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ تُزَكُّوا ويُزَكُّوا فَيُقْبَلَ مِنْكُمْ ولَا يُقْبَلَمِنْهُمْ، أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ تَحُجُّوا ويَحُجُّوا فَيَقْبَلَ اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ مِنْكُمْ ولَا يَقْبَلَ مِنْهُمْ، واللَّهِ مَا تُقْبَلُ الصَّلَاةُ إِلَّا مِنْكُمْ ولَا الزَّكَاةُ إِلَّا مِنْكُمْ ولَا الْحَجُّ إِلَّا مِنْكُمْ، فَاتَّقُوا اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ فَإِنَّكُمْ فِي هُدْنَةٍ وأَدُّوا الْأَمَانَةَ، فَإِذَا تَمَيَّزَ النَّاسُ فَعِنْدَ ذَلِكَ ذَهَبَ كُلُّ قَوْمٍ بِهَوَاهُمْ وذَهَبْتُمْ بِالْحَقِّ مَا أَطَعْتُمُونَا، أَلَيْسَ الْقُضَاةُ والْأُمَرَاءُ وأَصْحَابُ الْمَسَائِلِ مِنْهُمْ».

قُلْتُ: بَلَى، قَالَ (عليه السلام): «فَاتَّقُوا اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ فَإِنَّكُمْ لَا تُطِيقُونَ النَّاسَ كُلَّهُمْ، إِنَّ النَّاسَ أَخَذُوا هَاهُنَا وهَاهُنَا وإِنَّكُمْ أَخَذْتُمْ حَيْثُ أَخَذَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ اخْتَارَ مِنْ عِبَادِهِ مُحَمَّداً (صلى الله عليه وآله) فَاخْتَرْتُمْ خِيَرَةَ

ص: 253

اللَّهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وأَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى الْأَسْوَدِ والْأَبْيَضِ وإِنْ كَانَ حَرُورِيّاً وإِنْ كَانَ شَامِيّاً»(1).

وعَنْ مُعَاذِ بْنِ كَثِيرٍ قَالَ: نَظَرْتُ إِلَى الْمَوْقِفِ والنَّاسُ فِيهِ كَثِيرٌ، فَدَنَوْتُ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ أَهْلَ الْمَوْقِفِ لَكَثِيرٌ، قَالَ: فَصَرَفَ بِبَصَرِهِ فَأَدَارَهُ فِيهِمْ ثُمَّ قَالَ: «ادْنُ مِنِّي يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ غُثَاءٌ يَأْتِي بِهِ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، لَا واللَّهِ مَا الْحَجُّ إِلَّا لَكُمْ، لَا واللَّهِ مَايَتَقَبَّلُ اللَّهُ إِلَّا مِنْكُمْ»(2).

تذكير الناس

مسألة: يجب تذكير الناس بما نسوه أو تناسوه من أصول الدين وفروعه.

فإن قول الصديقة فاطمة (عليها الصلاة والسلام): «أنسيتم قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) ...» خير دليل على ذلك، هذا بالإضافة إلى الأدلة العقلية والشرعية الأخر التي تدل على لزوم تذكير الناس بما نسوه كما يلزم تعليمهم ما جهلوه.

ولا يخفى أن (التذكير) لا ينحصر بالكلام، بل يعم الكتابة والإشارة والنُصُب والرسم وغيرها، كما أن التذكير يعم من كان بالمباشرة وما كان بواسطة أو وسائط، والواسطة أعم من كونها عاقلة أو غير عاقلة كالآلة(3).

ص: 254


1- الكافي: ج 8 ص236 حديث القباب ح316، و(إن كان حرورياً) أي من خوارج العراق (وإن كان شامياً) أي من نواصب الشام.
2- الكافي: ج 8 ص237 حديث القباب ح318، والغثاء، بالضم والمد: ما يجيى ء فوق السيل ممّا يحتمله من الزبد والوسخ وغيره.
3- وذلك كالتذكير بالأجهزة الحديثة من إذاعة وحاسوب وانترنيت وما أشبه.

قال تعالى: «فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى»(1).

وقال (صلى الله عليه وآله): «مَا تَصَدَّقَالنَّاسُ بِصَدَقَةٍ مِثْلَ عِلْمٍ يُنْشَرُ»(2).

وقال (صلى الله عليه وآله): «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ أَنْ يَعْلَمَ الْمَرْءُ عِلْماً ثُمَّ يُعَلِّمُهُ أَخَاهُ»(3).

وقال (صلى الله عليه وآله): «مَا أَهْدَى الْمَرْءُ الْمُسْلِمُ إِلَى أَخِيهِ هَدِيَّةً أَفْضَلَ مِنْ كَلِمَةِ حِكْمَةٍ يَزِيدُهُ اللَّهُ بِهَا هُدًى ويَرُدُّهُ عَنْ رَدًى»(4).

وقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الجواد (عليه السلام): «إِنَّ مَنْ تَكَفَّلَ بِأَيْتَامِ آلِ مُحَمَّدٍ الْمُنْقَطِعِينَ عَنْ إِمَامِهِمْ، الْمُتَحَيِّرِينَ فِي جَهْلِهِمْ، الْأُسَرَاءِ فِي أَيْدِي شَيَاطِينِهِمْ، وفِي أَيْدِي النَّوَاصِبِ مِنْ أَعْدَائِنَا، فَاسْتَنْقَذَهُمْ مِنْهُمْ، وأَخْرَجَهُمْ مِنْ حَيْرَتِهِمْ، وقَهَرَ الشَّيَاطِينَ بِرَدِّ وَسَاوِسِهِمْ، وقَهَرَ النَّاصِبِينَ بِحُجَجِ رَبِّهِمْ، ودَلِيلِ أَئِمَّتِهِمْ، لَيُفَضَّلُونَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعَابِدِ بِأَفْضَلِ الْمَوَاقِعِ بِأَكْثَرَ مِنْ فَضْلِ السَّمَاءِ عَلَى الْأَرْضِ، والْعَرْشِ والْكُرْسِيِّ والْحُجُبِ عَلَى السَّمَاءِ، وفَضْلُهُمْ عَلَى هَذَا الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى أَخْفَى كَوْكَبٍ فِي السَّمَاءِ»(5).وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ مُوسَى الرِّضَا (عليه السلام): يُقَالُ لِلْعَابِدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: نِعْمَ الرَّجُلُ كُنْتَ هِمَّتُكَ ذَاتُ نَفْسِكَ، وكَفَيْتَ النَّاسَ مَئُونَتَكَ، فَادْخُلِ الْجَنَّةَ. ألا إنَّ

ص: 255


1- سورة الأعلى: 9.
2- بحار الأنوار: ج2 ص25 ب8 ح87.
3- منية المريد: ص105 ف2.
4- بحار الأنوار: ج2 ص25 ب8 ح88.
5- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): ص344 ح224.

الْفَقِيهَ مَنْ أَفَاضَ عَلَى النَّاسِ خَيْرَهُ، وأَنْقَذَهُمْ مِنْ أَعْدَائِهِمْ، ووَفَّرَ عَلَيْهِمْ نِعَمَ جِنَانِ اللَّهِ، وحَصَلَ لَهُمْ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى. وَيُقَالُ لِلْفَقِيهِ: يَا أَيُّهَا الْكَافِلُ لِأَيْتَامِ آلِ مُحَمَّدِ، الْهَادِي لِضُعَفَاءِ مُحِبِّيهِ ومَوَالِيهِ قِفْ حَتَّى تَشْفَعَ لِكُلِّ مَنْ أَخَذَ عَنْكَ أَوْ تَعَلَّمَ مِنْكَ. فَيَقِفُ، فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ ومَعَهُ فِئَاماً وفِئَاماً حَتَّى قَالَ عَشْراً، وهُمُ الَّذِينَ أَخَذُوا عَنْهُ عُلُومَهُ، وأَخَذُوا عَمَّنْ أَخَذَ عَنْهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَانْظُرُوا كَمْ فَرْقٌ مَا بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ»(1).

حديث المنزلة

مسألة: يستحب بيان أن علياً (عليه السلام) من الرسول (صلى الله عليه وآله) بمنزلة هارون من موسى (عليهما السلام) فهو (عليه السلام) الوصي من بعده (صلى الله عليه وآله).

فإن ذكر فضائل علي (عليه الصلاة والسلام) مطلقاً من المستحب، وربما يكون واجباً إذا كان مقدمةً لتصحيح العقيدة، وحديثالمنزلة حديث متواتر رواه العامة والخاصة(2).

ص: 256


1- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): ص344 ح223.
2- انظر صحيح مسلم: ج4 ص108 بطريقين، وصحيح البخاري: ج5 ص3 و24 كتاب الفضائل، ومسند أحمد: ج1 ص170 و173 و175 و185، ومسند أبي داود: ج1 ص29، وصحيح الترمذي: ج2 ص30، وأسد الغابة: ج4 ص26 وج5 ص8، وخصائص النسائي: ص15 و16، وكنز العمال: ج6 ص402، وذخائر العقبى: ص120، ومجمع الزوائد: ج9 ص109 و110 و111، ونهج الحق وكشف الصدق: ص216، ودلائل الصدق لنهج الحق: ج 6 ص80 حديث المنزلة.

الولاية على جميع المخلوقات

مسألة: الظاهر من عموم الموصول في قوله (صلى الله عليه وآله): «من كنت مولاه ...» شمول ولايته (صلى الله عليه وآله) وولاية علي (عليه السلام) لجميع المخلوقات من الإنس والجن والملائكة وغيرهم ممن هو مكلف، ولو ادعي الانصراف للبشر فهو بدوي كما لا يخفى على من لاحظ الأدلة المصرحة بالتعميم، وعدم ذكر (ما) أي الولاية على ما لا يعقل، لكون الغرض الأهم من الكلام هو (الولاية على من يعقل) وإلا فولايتهم (عليهم السلام) عامة لمن ولما.

الوضع والتكليف

مسألة: الظاهر أن قوله (صلى الله عليه وآله) : «بمنزلة هارون...» أعم من الوضع والتكليف، فالوضع كالقرب والمنصب والخلافة وما أشبه، والتكليف كلزوم الاتباع وغيره.

عَنْ أَبِي هَارُونَ الْعَبْدِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيَّ عَنْ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ (صلى

الله عليه وآله) لِعَلِيٍّ (عليه السلام): «أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي»، قَالَ: (اسْتَخْلَفَهُ بِذَلِكَواللَّهِ عَلَى أُمَّتِهِ فِي حَيَاتِهِ وبَعْدَ وَفَاتِهِ، وفَرَضَ عَلَيْهِمْ طَاعَتَهُ، فَمَنْ لَمْ يَشْهَدْ لَهُ بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ بِالْخِلَافَةِ فَهُوَ مِنَ الظَّالِمِينَ)(1).

ص: 257


1- معاني الأخبار: ص74 باب معنى قول النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام) أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ح1.

قال الصدوق (قدس الله روحه): (أجمعنا وخصومنا على نقل قول النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام): «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبي بعدي». فهذا القول يدل على أن منزلة علي منه (عليهما السلام) في جميع أحواله بمنزلة هارون من موسى (عليهما السلام) في جميع أحواله إلا ما خصه به الاستثناء الذي في نفس الخبر، فمن منازل هارون من موسى أنه كان أخاه ولادةً والعقل يخص هذه ويمنع أن يكون النبي (صلى

الله عليه وآله) عناها بقوله، لأن علياً لم يكن أخاً له ولادة، ومن منازل هارون من موسى أنه كان نبياً معه، واستثناء النبي يمنع من أن يكون علي (عليه

السلام) نبياً، ومن منازل هارون من موسى بعد ذلك أشياء ظاهرة وأشياء باطنة، فمن الظاهرة أنه كان أفضل أهل زمانه وأحبهم إليه وأخصهم به وأوثقهم في نفسه، وأنه كان يخلفه على قومه إذاغاب موسى (عليه السلام) عنهم، وأنه كان بابه في العلم، وأنه لو مات موسى وهارون حي كان هو خليفته بعد وفاته، والخبر يوجب أن هذه الخصال كلها لعلي (عليه السلام) من النبي (صلى الله عليه وآله)، وما كان من منازل هارون من موسى باطناً وجب أن الذي لم يخصه العقل منها كما خص أخوة الولادة فهو لعلي (عليه السلام) من النبي (صلى

الله عليه وآله) وإن لم نحط به علماً لأن الخبر يوجب ذلك، وليس لقائل أن يقول: إن يكن النبي (صلى الله عليه وآله) عنى بعض هذه المنازل دون بعض فيلزمه أن يقال عنى البعض الآخر دون ما ذكرته فيبطل جميعاً حينئذ أن يكون عنى معنى بتة ويكون الكلام هذراً والنبي لا يهذر في قوله، لأنه إنما كلمنا ليفهمنا ويعلمنا (عليه السلام) فلو جاز أن يكون عنى بعض منازل هارون من موسى دون بعض ولم يكن في الخبر تخصيص ذلك لم يكن أفهمنا بقوله قليلا ولا كثيراً، ولما لم يكن ذلك وجب أنه قد عنى كل منزلة كانت لهارون من موسى مما لم يخصه العقل ولا الاستثناء في

ص: 258

نفس الخبر، وإذا وجب ذلك فقد ثبتت الدلالة على أن علياً عليه السلام أفضل أصحاب رسول الله وأعلمهم وأحبهم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأوثقهم في نفسه، وأنه يجب له أن يخلفه على قومهإذا غاب عنهم غيبة سفر أو غيبة موت، لأن ذلك كله كان في شرط هارون ومنزلته من موسى)(1).

الأحاديث والتنويع

مسألة: يستحب التنويع في ذكر الأحاديث الدالة على المطلب الحق، وليس الاقتصار على حديث واحد وإن كان في حد ذاته كافياً لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

قال تعالى: «وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْعِظَةً وتَفْصيلاً لِكُلِّ شَيْ ءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُريكُمْ دارَ الْفاسِقينَ»(2)

ص: 259


1- معاني الأخبار: ص75.
2- سورة الأعراف: 145.

من كنت وليه وإمامه

اشارة

عن فاطمة (عليها السلام) بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) قالت: إن النبي (عليه الصلاة والسلام) قال: «من كنت وليه فعلي وليه، ومن كنت إمامه فعلي إمامه».

-------------------------------------------

مقام علي

مسألة: يستحب بيان مقام علي (عليه السلام) وأنه كالنبي (صلى الله عليه وآله) في كونه إماماً وولياً، فهو الإمام على كل من كان (صلى الله عليه وآله) إمامه ووليه، والأدلة دلت على أنه يساويه مطلقاً إلاّ فيما خرج، وذلك لظهور الكلام في تساويهما (صلوات الله عليهما) إلا فيما استثني كالنبوة، ومنه يستفاد أن علياً (عليه السلام) هو الولي والإمام من بعده (صلى الله عليه وآله) لمن كان النبي (صلى الله عليه وآله) وليه وإمامه.

بالإضافة إلى ما دل على أنهم (صلوات الله عليهم) نور واحد، فالولاية والإمامة ووجوب الطاعة وحرمة المخالفة وما أشبه، كلها مشتركة بينهما (صلوات الله عليهما)، كما أنها كذلك بالنسبة إلى سائر المعصومين الأربعة عشر (عليهم السلام) مع حفظ مراتبهم في الفضل.وقد أشرنا فيما سبق إلى أن الرسول (صلى الله عليه وآله) أفضل الخلق، ومن

ص: 260

بعده علي (عليه السلام) وفاطمة (عليها السلام) سواء، ومن بعدهما الحسن (عليه السلام) ثم الحسين (عليه السلام) ثم القائم (عليه الصلاة والسلام) فإنه أفضل من الأئمة الثمانية قبله، ثم الأئمة من الإمام زين العابدين (عليه السلام) إلى الإمام العسكري (عليه السلام) في مرتبة الفضل سواء، كما يستفاد ذلك من بعض النصوص.

مراتب من الولاية

مسألة: الظاهر أن مراتبَ من الولاية هي لعلي (عليه السلام) في زمان رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهي في طول ولايته، وأما الولاية العظمى فله (عليه السلام) بعد رحيله (صلى الله عليه وآله)، وكذا الحال في كل إمام يلي إماماً (صلوات الله عليهم أجمعين).

عَنِ الرِّضَا (عليه السلام): «فَإِنْ قَالَ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَرْضِ إِمَامَانِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، قِيلَ: لِعِلَلٍ، مِنْهَا أَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَخْتَلِفُ فِعْلُهُ وتَدْبِيرُهُ، والِاثْنَيْنِ لَا يَتَّفِقُ فِعْلُهُمَا وتَدْبِيرُهُمَا، وذَلِكَ أَنَّا لَمْ نَجِدِ اثْنَيْنِ إِلَّا مُخْتَلِفَيِ الْهِمَمِ والْإِرَادَةِ فَإِذَا كَانَا اثْنَيْنِ ثُمَّ اخْتَلَفَ هَمُّهُمَا وإِرَادَتُهُمَا وتَدْبِيرُهُمَا وكَانَا كِلَاهُمَا مُفْتَرَضَيِ الطَّاعَةِلَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا أَوْلَى بِالطَّاعَةِ مِنْ صَاحِبِهِ، فَكَانَ يَكُونُ اخْتِلَافُ الْخَلْقِ والتَّشَاجُرُ والْفَسَادُ، ثُمَّ لَا يَكُونُ أَحَدٌ مُطِيعاً لِأَحَدِهِمَا إِلَّا وهُوَ عَاصٍ لِلْآخَرِ فَتَعُمُّ الْمَعْصِيَةُ أَهْلَ الْأَرْضِ، ثُمَّ لَا يَكُونُ لَهُمْ مَعَ ذَلِكَ السَّبِيلُ إِلَى الطَّاعَةِ والْإِيمَانِ ويَكُونُونَ إِنَّمَا أُتُوْا فِي ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ الصَّانِعِ الَّذِي وَضَعَ لَهُمْ بَابَ الِاخْتِلَافِ والتَّشَاجُرِ إِذْ أَمَرَهُمْ بِاتِّبَاعِ الْمُخْتَلِفَيْنِ.

ومِنْهَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ إِمَامَانِ لَكَانَ لِكُلٍّ مِنَ الْخَصْمَيْنِ أَنْ يَدْعُوَ إِلَى غَيْرِ مَا

ص: 261

يَدْعُو إِلَيْهِ صَاحِبُهُ فِي الْحُكُومَةِ ثُمَّ لايَكُونُ أَحَدُهُمَا أَوْلَى بِأَنْ يُتَّبَعَ مِنْ صَاحِبِهِ فَتَبْطُلُ الْحُقُوقُ والْأَحْكَامُ والْحُدُودُ.

ومِنْهَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ وَاحِدٌ مِنَ الْحُجَّتَيْنِ أَوْلَى بِالنُّطْقِ والْحُكْمِ والْأَمْرِ والنَّهْيِ مِنَ الْآخَرِ فَإِذَا كَانَ هَذَا كَذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَبْتَدِئَا بِالْكَلَامِ ولَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَسْبِقَ صَاحِبَهُ بِشَيْ ءٍ إِذَا كَانَا فِي الْإِمَامَةِ شَرَعاً وَاحِداً، فَإِنْ جَازَ لِأَحَدِهِمَا السُّكُوتُ جَازَ السُّكُوتُ لِلْآخَرِ مِثْلَ ذَلِكَ، وإِذَا جَازَ لَهُمَا السُّكُوتُ بَطَلَتِ الْحُقُوقُ والْأَحْكَامُ وعُطِّلَتِ الْحُدُودُ وصَارَ النَّاسُ كَأَنَّهُمْ لَا إِمَامَ لَهُمْ»(1).

وعَنِ ابْنِ أَبِي يَعْفُورٍ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَاعَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) هَلْ يُتْرَكُ الْأَرْضُ بِغَيْرِ إِمَامٍ، قَالَ: «لا»، قُلْتُ: فَيَكُونُ إِمَامَانِ، قَالَ: «لَا إِلَّا وأَحَدُهُمَا صَامِتٌ»(2).

وعَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ قَالَ: قُلْتُ لِلصَّادِقِ (عليه السلام): هَلْ يَكُونُ إِمَامَانِ فِي وَقْتٍ؟

قَالَ: «لَا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا صَامِتاً مَأْمُوماً لِصَاحِبِهِ، والْآخَرُ نَاطِقاً إِمَاماً لِصَاحِبِهِ، وأَمَّا أَنْ يكونا إِمَامَيْنِ نَاطِقَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَلَا»(3).

وعَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَ:

ص: 262


1- بحار الأنوار: ج 25 ص105 باب2 أنه لا يكون إمامان في زمان واحد إلا وأحدهما صامت ح1.
2- بحار الأنوار: ج 25 ص106 باب2 أنه لا يكون إمامان في زمان واحد إلا وأحدهما صامت ح2.
3- بحار الأنوار: ج 25 ص106 باب2 أنه لا يكون إمامان في زمان واحد إلا وأحدهما صامت ح3.

«وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وقَصْرٍ مَشِيدٍ»(1)، فَقَالَ: «الْبِئْرُ الْمُعَطَّلَةُ الْإِمَامُ الصَّامِتُ، والْقَصْرُ الْمَشِيدُ الْإِمَامُ النَّاطِقُ»(2).

وعَنِ ابْنِ أَبِي يَعْفُورٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه

السلام) قَالَ: «لَا يَكُونُ إِمَامَانِ إِلَّا وأَحَدُهُمَا صَامِتٌ لَا يَتَكَلَّمُ حَتَّى يَمْضِيَالْأَوَّلُ»(3).

ص: 263


1- سورة الحج: 45.
2- بحار الأنوار: ج 25 ص107 باب2 أنه لا يكون إمامان في زمان واحد إلا وأحدهما صامت ح4.
3- بحار الأنوار: ج 25 ص107 باب2 أنه لا يكون إمامان في زمان واحد إلا وأحدهما صامت ح5.

عقد الولاء يوم الغدير

اشارة

قالت الصديقة فاطمة (عليها السلام): «كأنكم لم تعلموا ما قال (صلى الله عليه وآله) يوم غدير خم، والله لقد عقد له يومئذ الولاء، ليقطع منكم منها الرجاء، ولكنكم قطعتم الأسباب بينكم وبين نبيكم، والله حسيب بيننا وبينكم في الدنيا والآخرة».

-------------------------------------------

الدفاع عن الولاية

مسألة: يجب الدفاع عن ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) وإمامته، وربما كان باللسان أو بالموقف أو ما أشبه.

فإن الدفاع عن الحق واجب في نفسه عقلاً وشرعاً، ودفاع الصديقة (عليها الصلاة والسلام) مصداق من أهم مصاديق هذا الكلي، بل هو أهمها على الإطلاق ولا يدانيه إلاّ الدفاع عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ونبوته.

وكذلك الحكم في الدفاع عن سائر المعصومين (عليهم السلام)، وهي (صلوات الله عليها) أسوة فاللازم الاقتداء بها في الدفاع عن الولاية.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «إِنِّي شَافِعٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِأَرْبَعَةِ أَصْنَافٍ ولَوْ جَاءُوا بِذُنُوبِأَهْلِ الدُّنْيَا، رَجُلٌ نَصَرَ ذُرِّيَّتِي، ورَجُلٌ بَذَلَ مَالَهُ لِذُرِّيَّتِي عِنْدَ الْمَضِيقِ، ورَجُلٌ أَحَبَّ ذُرِّيَّتِي بِاللِّسَانِ

ص: 264

وبِالْقَلْبِ، ورَجُلٌ يَسْعَى فِي حَوَائِجِ ذُرِّيَّتِي إِذَا طُرِدُوا أَوْ شُرِّدُوا»(1).

ومن أهم مصاديق نصرة الذرية نصرتهم (عليهم السلام) في ولايتهم.

وقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «مَنْ تَمَسَّكَ بِنَا لَحِقَ، ومَنْ سَلَكَ غَيْرَ طَرِيقِنَا غَرِقَ، لِمُحِبِّينَا أَفْوَاجٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، ولِمُبْغِضِينَا أَفْوَاجٌ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ»، وقَالَ عليه السلام: «مَنْ أَحَبَّنَا بِقَلْبِهِ وأَعَانَنَا بِلِسَانِهِ وقَاتَلَ مَعَنَا أَعْدَاءَنَا بِيَدِهِ فَهُمْ مَعَنَا فِي دَرَجَتِنَا، ومَنْ أَحَبَّنَا بِقَلْبِهِ وأَعَانَنَا بِلِسَانِهِ ولَمْ يُقَاتِلْ مَعَنَا أَعْدَاءَنَا فَهُوَ أَسْفَلُ مِنْ ذَلِكَ بِدَرَجَةٍ، ومَنْ أَحَبَّنَا بِقَلْبِهِ ولَمْ يُعِنَّا بِلِسَانِهِ ولَا بِيَدِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، ومَنْ أَبْغَضَنَا بِقَلْبِهِ وأَعَانَ عَلَيْنَا بِلِسَانِهِ ويَدِهِ فَهُوَ مَعَ عَدُوِّنَا فِي النَّارِ، ومَنْ أَبْغَضَنَا بِقَلْبِهِ ولَمْ يُعِنْ عَلَيْنَا بِلِسَانِهِ ولَا بِيَدِهِ فَهُوَ فِي النَّارِ»(2).

وفي الحديث: دَخَلَ عَلَى أَمِيرِالْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) رَجُلَانِ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَوَطِئَ أَحَدُهُمَا عَلَى حَيَّةٍ فَلَدَغَتْهُ، ووَقَعَ عَلَى الْآخَرِ فِي طَرِيقِهِ مِنْ حَائِطٍ عَقْرَبٌ فَلَسَعَتْهُ وسَقَطَا جَمِيعاً، فَكَأَنَّهُمَا لِمَا بِهِمَا يَتَضَرَّعَانِ ويَبْكِيَانِ، فَقِيلَ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام). فَقَالَ: «دَعُوهُمَا فَإِنَّهُ لَمْ يَحِنْ حِينُهُمَا، ولَمْ تَتِمَّ مِحْنَتُهُمَا»، فَحُمِلَا إِلَى مَنْزِلَيْهِمَا، فَبَقِيَا عَلِيلَيْنِ الِيمَيْنِ فِي عَذَابٍ شَدِيدٍ شَهْرَيْنِ.

ثُمَّ إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) بَعَثَ إِلَيْهِمَا فَحُمِلَا إِلَيْهِ، والنَّاسُ يَقُولُونَ: سَيَمُوتَانِ عَلَى أَيْدِي الْحَامِلِينَ لَهُمَا. فَقَالَ لَهُمَا: «كَيْفَ حَالُكُمَا»، قَالا: نَحْنُ بِأَلَمٍ عَظِيمٍ، وفِي عَذَابٍ شَدِيدٍ.

قَالَ لَهُمَا: «اسْتَغْفِرَا اللَّهَ مِنْ كُلِ ذَنْبٍ أَدَّاكُمَا إِلَى هَذَا، وتَعَوَّذَا بِاللَّهِ مِمَّا

ص: 265


1- الكافي:ج 4 ص60 باب الصدقة لبني هاشم ومواليهم وصلتهم ح9.
2- بحار الأنوار: ج 27 ص88 باب 4 ثواب حبهم ونصرهم وولايتهم وأنها أمان من النار ح39.

يُحْبِطُ أَجْرَكُمَا، ويُعْظِمُ وِزْرَكُمَا». قَالا: وكَيْفَ ذَلِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ عَلِيٌ (عليه

السلام): «مَا أُصِيبَ وَاحِدٌ مِنْكُمَا إِلَّا بِذَنْبِهِ: أَمَّا أَنْتَ يَا فُلَانُ - وأَقْبَلَ عَلَى أَحَدِهِمَا - فَتَذْكُرُ يَوْمَ غَمَزَ عَلَى سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ (رَحِمَهُ

اللَّهُ) فُلَانٌ، وطَعَنَ عَلَيْهِ لِمُوَالاتِهِ لَنَا، فَلَمْ يَمْنَعْكَ مِنَ الرَّدِّ والِاسْتِخْفَافِ بِهِ، خَوْفٌ عَلَى نَفْسِكَ ولَا عَلَى أَهْلِكَ ولَا عَلَى وُلْدِكَ ومَالِكَ، أَكْثَرَ مِنْ أَنَّكَ اسْتَحْيَيْتَهُ، فَلِذَلِكَ أَصَابَكَ، فَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ يُزِيلَ اللَّهُ مَا بِكَ، فَاعْتَقِدْ أَنْ لا تَرَى مُزْرِئاً عَلَى وَلِيٍّ لَنَا تَقْدِرُ عَلَى نُصْرَتِهِ بِظَهْرِالْغَيْبِ إِلَّا نَصَرْتَهُ، إِلَّا أَنْ تَخَافَ عَلَى نَفْسِكَ أَوْ أَهْلِكَ أَوْ وُلْدِكَ أَوْ مَالِكَ».

وَقَالَ لِلآخَرِ: «فَأَنْتَ، أَفَتَدْرِي لِمَا أَصَابَكَ مَا أَصَابَكَ».

قَالَ: لا.

قَالَ: «أَمَا تَذْكُرُ حَيْثُ أَقْبَلَ قَنْبَرٌ خَادِمِي، وأَنْتَ بِحَضْرَةِ فُلَانٍ الْعَاتِي، فَقُمْتَ إِجْلَالًا لَهُ لِإِجْلَالِكَ لِي، فَقَالَ لَكَ: وتَقُومُ لِهَذَا بِحَضْرَتِي! فَقُلْتَ لَهُ: ومَا بَالِي لَا أَقُومُ ومَلَائِكَةُ اللَّهِ تَضَعُ لَهُ أَجْنِحَتَهَا فِي طَرِيقِهِ، فَعَلَيْهَا يَمْشِي، فَلَمَّا قُلْتَ هَذَا لَهُ، قَامَ إِلَى قَنْبَرٍ وضَرَبَهُ وشَتَمَهُ، وآذَاهُ، وتَهَدَّدَهُ وتَهَدَّدَنِي، وأَلْزَمَنِي الْإِغْضَاءَ عَلَى قَذًى، فَلِهَذَا سَقَطَتْ عَلَيْكَ هَذِهِ الْحَيَّةُ. فَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ يُعَافِيَكَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ هَذَا، فَاعْتَقِدْ أَنْ لَا تَفْعَلَ بِنَا، ولَا بِأَحَدٍ مِنْ مَوَالِينَا بِحَضْرَةِ أَعْدَائِنَا مَا يُخَافُ عَلَيْنَا وعَلَيْهِمْ مِنْهُ.

أَمَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) كَانَ مَعَ تَفْضِيلِهِ لِي، لَمْ يَكُنْ يَقُومُ لِي عَنْ مَجْلِسِهِ إِذَا حَضَرْتُهُ، كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ بِبَعْضِ مَنْ لَا يُعَشِّرُ مِعْشَارَ جُزْءٍ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ جُزْءٍ مِنْ إِيجَابِهِ لِي، لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ يَحْمِلُ بَعْضَ أَعْدَاءِ اللَّهِ عَلَى مَا يَغُمُّهُ ويَغُمُّنِي ويَغُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، وقَدْ كَانَ يَقُومُ لِقَوْمٍ لَا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ ولا عَلَيْهِمْ

ص: 266

، مِثْلَ مَا خَافَ عَلَيَّلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ بِي»(1).

حرمة قطع الأسباب

مسألة: يحرم قطع الأسباب بين الأمة وبين النبي (صلى الله عليه وآله)، وهو كناية عن عدم اتباعه فكيف بمخالفته، وكيف بالجهر بعصيانه، ثم كيف بتأليب الناس ضده؟.

فإن كل ذلك من أشد الحرمات، ويدخل في قائمة الإضلال والبدع وتخريب عقائد الناس، ومنه ما يدخل في قائمة الإفساد في الأرض ومحاربة الله ورسوله، قال تعالى: «إِنَّما جَزاءُ الَّذينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْديهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظيم»(2).

ولقد قطعوا الأسباب بينهم وبين النبي (صلى الله عليه وآله) بقولهم: (إنه ليهجر) و(غلبه الوجع) وما أشبه، ثم بانقلابهم على الأعقاب، وتنحيتهم من نصبه الله إماماً وخليفة، وغصبهم حقه، وضربهم بضعته الزهراء (عليها السلام) وكسر ضلعها وإسقاط جنيها المحسن (عليهالسلام) ومصادرة فدك، إلى غيرها من أنواع الظلم وقطع الأسباب بينهم وبين رسول الله (صلى الله عليه وآله).

قَالَ عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: «وَقُلِ الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ»(3) الآيَةَ

ص: 267


1- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): ص587.
2- سورة المائدة: 33.
3- سورة الكهف: 29.

، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ هَكَذَا: «وقُلِ الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ» يَعْنِي وَلايَةَ عَلِيٍّ «فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ ومَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ» آلَ مُحَمَّدٍ «نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا» »(1).

قوله (نزلت هكذا) أي هكذا في تفسيرها ومعناها، لا نزول ألفاظها، كما يدل عليه قوله (عليه السلام) (يعني).

وعن أَبي الْحَسَنِ الْمَاضِي (عليه السلام) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: «وَما ظَلَمُونا ولكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ»(2): «إِنَّ اللَّهَ أَعَزُّ وأَمْنَعُ مِنْ أَنْ يُظْلَمَ وأَنْ يَنْسُبَ نَفْسَهُ إِلَى ظُلْمٍ ولَكِنَّ اللَّهَ خَلَطَنَا بِنَفْسِهِ فَجَعَلَ ظُلْمَنَا ظُلْمَهُ ووَلَايَتَنَا وَلَايَتَهُ»(3).وقد تواتر من أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ما يدل على ظلاماته:

«اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَعْدِيكَ عَلَى قُرَيْشٍ وَ مَنْ أَعَانَهُمْ فَإِنَّهُمْ قَطَعُوا رَحِمِي، وَ صَغَّرُوا عَظِيمَ مَنْزِلَتِيَ، وَ أَجْمَعُوا عَلَى مُنَازَعَتِي أَمْراً هُوَ لِي، ثُمَّ قَالُوا أَلَا إِنَّ فِي الْحَقِّ أَنْ نَأْخُذَهُ وَ فِي الْحَقِّ أَنْ تَتْرُكَه»(4).

وقال (عليه السلام): «مَا زِلْتُ مَظْلُوماً مُنْذُ قَبَضَ اللَّهُ نَبِيَّهُ (صلى الله عليه وآله) إِلَى يَوْمِ النَّاسِ هَذَا»(5).

وقال (عليه السلام): «اللهم اخْزِ قريشاً فإنها منعتني حقي وغصبتني

ص: 268


1- بحار الأنوار: ج 24 ص222 باب 58 أنهم عليهم السلام المظلومون وما نزل في ظلمهم ح7.
2- سورة البقرة: 57.
3- بحار الأنوار: ج 24 ص222 باب 58 أنهم عليهم السلام المظلومون وما نزل في ظلمهم ح4.
4- بحار الأنوار: ج29 ص605.
5- بحار الأنوار: ج28 ص372.

أمري»(1).

وقال (عليه السلام): «فجزى قريشاً عني الجوازي، فإنهم ظلموني حقي واغتصبوني سلطان ابن أمي»(2).

وقال (عليه السلام): «أَمَا وَ اللَّهِ لَقَدْ تَقَمَّصَهَا فُلَانٌ وَ إِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَى»(3).

وقال (عليه السلام): «أَرَى تُراثِينَهْباً»(4).

وقال (عليه السلام): «أصغيا بإنائنا، وحملا الناس على رقابنا»(5).

وقال (عليه السلام): «إِنَّ لَنَا حَقّاً إِنْ نُعْطَهُ نَأْخُذْهُ، وَإِنْ نُمْنَعْهُ نَرْكَبْ أَعْجَازَ الْإِبِلِ وَإِنْ طَالَ السُّرَى»(6).

وقال (عليه السلام): «إِنِّي كُنْتُ لَمْ أَزَلْ مَظْلُوماً مُسْتَأْثِراً عَلَى حَقِّ»(7).

وقال (عليه السلام): «مَا زِلْتُ مُسْتَأْثَراً عَلَيَّ مَدْفُوعاً عَمَّا أَسْتَحِقُّهُ وَأَسْتَوْجِبُه»(8).

وقال (عليه السلام): «لقد ظلمت عدد الحجر والمدر»(9).

ص: 269


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج9 ص306.
2- شرح نهج البلاغة: ج9 ص306.
3- نهج البلاغة: الخطبة 3.
4- نهج البلاغة: الخطبة 3.
5- شرح نهج البلاغة: ج9 ص307.
6- بحار الأنوار: ج31 ص404.
7- بحار الأنوار: ج29 ص417 ب13.
8- بحار الأنوار: ج29 ص629.
9- شرح نهج البلاغة: ج10 ص286.

وعَنْ مُسَيَّبِ بْنِ نَجَبَةَ، قَالَ: بَيْنَمَا عَلِيٌّ (عليه السلام) يَخْطُبُ وأَعْرَابِيٌّ يَقُولُ: وَا مَظْلِمَتَاهْ، فَقَالَ عَلِيٌّ (عليه السلام): «ادْنُ فَدَنَا» فَقَالَ: لَقَدْ ظُلِمْتُ عَدَدَ الْمَدَرِ والْوَبَرِ»(1).وَفِي حَدِيثِ عُبَادَةَ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ يَتَخَطَّى فَنَادَى: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَظْلُومٌ، قَالَ عَلِيٌّ (عليه السلام) وَيْحَكَ وأَنَا مَظْلُومٌ ظُلِمْتُ عَدَدَ الْمَدَرِ والْوَبَرِ»(2).

وعَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي مُسْلِمٍ قَالَ: كُنَّا جُلُوساً عِنْدَ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ، قَالَ حَدَّثَنِي وَالِدِي: أَنَّ عَلِيّاً (عليه السلام) لَمْ يَقُمْ مَرَّةً عَلَى الْمِنْبَرِ إِلاّ قَالَ فِي آخِرِ كَلامِهِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ: مَا زِلْتُ مَظْلُوماً مُنْذُ قَبَضَ اللَّهُ نَبِيَّهُ (صلى الله عليه وآله)»(3).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله)أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَأْتُونِي غَداً بِالدُّنْيَا تَزِفُّونَهَا زَفّاً ويَأْتِي أَهْلُ بَيْتِي شُعْثاً غُبْراً مَقْهُورِينَ مَظْلُومِينَ تَسِيلُ دِمَاؤُهُم»(4).

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ:كُنَّا جُلُوساً عِنْدَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ أَقْبَلَ فِتْيَةٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) اغْرَوْرَقَتْ عَيْنَاهُ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لا نَزَالُ نَرَى فِي وَجْهِكَ شَيْئاًنَكْرَهُهُ؟ قَالَ: «إِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ اخْتَارَ اللَّهُ لَنَا الآخِرَةَ عَلَى الدُّنْيَا، وإِنَّ أَهْلَ بَيْتِي

ص: 270


1- بحار الأنوار: ج28 ص373.
2- بحار الأنوار: ج28 ص373.
3- بحار الأنوار: ج 28 ص373.
4- بحار الأنوار: ج 22 ص486 باب1 وصيته (صلى الله عليه وآله) عند قرب وفاته وفيه تجهيز جيش أسامة وبعض النوادر ح31.

سَيَلْقَوْنَ بَعْدِي بَلَاءً وتَطْرِيداً وتَشْرِيداً»(1).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِلَى اللَّهِ أَشْكُو الْمُنْكِرِينَ لِفَضْلِهِمْ، والْمُسْتَنْقِصِينَ لِحُرْمَتِهِمْ بَعْدِي، وكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا ونَاصِراً لِعِتْرَتِي وأَئِمَّةِ أُمَّتِي ومُنْتَقِماً مِنَ الْجَاحِدِينَ لِحَقِّهِمْ، وسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُون»(2).

وعن عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): قَالَ لِي جَبْرَئِيلُ: «يَا مُحَمَّدُ إِنَّ أَخَاكَ مُضْطَهَدٌ بَعْدَكَ مَغْلُوبٌ عَلَى أُمَّتِكَ مَتْعُوبٌ مِنْ أَعْدَائِك»(3).

التوكل على الله

مسألة: يستحب التوكل على الله تعالى، لأن الأمور كلها بيده عزوجل، وهو المعاقب والمثيبب والرقيب والحسيب.

ومعنى التوكل: أن يعتقد الإنسان بقلبه ويبني على أن يكل أمره إلى الله، ومورد التوكل عليه سبحانه فيما ليس بيد الإنسان من الأسباب، بل حتى فيما بيده من الإسباب، إذ عليه مع توفيرها أن يتوكل أيضاً، لأنها أسباب ظاهرية لا

ص: 271


1- راجع سنن ابن ماجة: ج2 ص1366 ح4082، مستدرك الحاكم: ج4 ص464، البيان في أخبار صاحب الزّمان: ص491، كشف الغمّة: ج2 ص472 و478، الحاوي للفتاوي: ج2 ص60، حلية الأبرار: ج2 ص704، غاية المرام: ص700 ح98، دلائل الإمامة: ص442 معرفة وجوب القائم (عليه السلام) وأنه لا بد أن يكون ح18.
2- بحار الأنوار: ج 36 ص254 باب41 نصوص الرسول (صلى الله عليه وآله) عليهم (عليهم السلام) ح70.
3- كامل الزيارات: ص263 الباب الثامن والثمانون فضل كربلاء وزيارة الحسين (عليه السلام) ح1.

غير، فإن الله عزوجل قسّم أمور الكون إلى قسمين: قسم للإنسان التصرف فيه، وقسم ليس للإنسان أن يتصرف فيه:

فما كان للإنسان التصرف فيه، يعمله بنفسه بما منحه الله من القدرة والاختيار، غير ناس أن ذلك حدوثاً وبقاءً وتوفيقاً وإقداراً بيد الله تعالى، وإنما قدرة العبد وتصرفاته في طول قدرة الله وبإذنه.

وما لم يكن له تصرّف فيه يكله إلى الله سبحانه وتعالى.

قال سبحانه: «وَما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمَى»(1).

وقال سبحانه: «أَأَنْتُم تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُالزّارِعُونَ»(2).

وقد ذكرنا فيما تقدم أن الرسول (صلى الله عليه وآله) جمع الأمرين في كلمة جميلة هي فصل الخطاب، حيث قال لمن ترك بعيره دون أن يعقله: «اعقل وتوكل»(3).

لا عذر لأحد بعد يوم الغدير

مسألة: يلزم بيان أن الرسول (صلى الله عليه وآله) لم يترك في يوم الغدير عذراً لأحد، بالنسبة إلى ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)، ولا يُقبل عذر أحد في ذلك بعد قصة الغدير والعلم به.

فإن الأحكام الإلهية لا يقبل فيها العذر في غير القاصر، أما القاصر فإنه

ص: 272


1- سورة الأنفال: 17.
2- سورة الواقعة: 64.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 11 ص201.

ليس بمكلف عقلاً ولا شرعاً، أما قول جماعة من الأصوليين بأنه مكلف غير منجز عليه(1) فقد ناقشه البعض بعدم تمامية الكلام، إذ لا فائدة في التكليف والحال هذه، فتأمل.عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) لِعَلِيٍّ (عليه السلام): «مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَهَذَا عَلِيٌّ مَوْلاهُ» قَامَ النُّعْمَانُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْفِهْرِيُّ فَقَالَ: هَذَا شَيْ ءٌ قُلْتَهُ مِنْ عِنْدِكَ أَوْ شَيْ ءٌ أَمَرَكَ بِهِ رَبُّكَ.

قَالَ: «لا، بَلْ أَمَرَنِي بِهِ رَبِّي».

فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ، فَمَا بَلَغَ رَحْلَهُ حَتَّى جَاءَهُ حَجَرٌ فَأَدْمَاهُ فَخَرَّ مَيِّتاً، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: «سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ»(2)،(3).

ورَوَى أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدٌ الْكَرَاجُكِيُّ فِي كِتَابِهِ كَنْزِ الْفَوَائِدِ حَدِيثاً مُسْنَداً يَرْفَعُهُ إِلَى سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) فِي مَسْجِدِهِ إِذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَسَأَلَهُ عَنْ مَسَائِلَ فِي الْحَجِّ وغَيْرِهِ، فَلَمَّا أَجَابَهُ قَالَ لَه: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ حَجِيجَ قَوْمِي مِمَّنْ شَهِدَ ذَلِكَ مَعَكَ أَخْبَرَنَا أَنَّكَ قُمْتَ بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) بَعْدَ قُفُولِكَ مِنَ الْحَجِّ ووَقَفْتَهُ بِالشَّجَرَاتِ مِنْ خُمٍّ فَافْتَرَضْتَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طَاعَتَهُ ومَحَبَّتَهُ وأَوْجَبْتَ عَلَيْهِمْ جَمِيعاً وَلَايَتَهُ وقَدْ أَكْثَرُوا عَلَيْنَا مِنْ

ص: 273


1- أي إن مراتب التكليف الثلاثة الأولى وهي الاقتضاء والإنشاء والفعلية محققة فيه، لا المرتبة الرابعة وهي التنجز.
2- سورة المعارج: 1.
3- بحار الأنوار: ج 37 ص136.

ذَلِكَ، فَبَيِّنْ لَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَذَلِكَ فَرِيضَةٌ عَلَيْنَا مِنَ الْأَرْضِ لِمَا أَدْنَتْهُ الرَّحِمُ والصِّهْرُ مِنْكَ، أَمْ مِنَ اللَّهِافْتَرَضَهُ عَلَيْنَا وأَوْجَبَهُ مِنَ السَّمَاءِ، فَقَالَ النَّبِيُّ (صلى

الله عليه وآله): بَلِ اللَّهُ افْتَرَضَهُ وأَوْجَبَهُ مِنَ السَّمَاءِ وافْتَرَضَ وَلَايَتَهُ عَلَى أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وأَهْلِ الْأَرْضِ جَمِيعاً، يَا أَعْرَابِيُّ إِنَّ جَبْرَئِيلَ (عليه السلام) هَبَطَ عَلَيَّ يَوْمَ الْأَحْزَابِ وقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ ويَقُولُ لَكَ: إِنِّي قَدِ افْتَرَضْتُ حُبَّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ومَوَدَّتَهُ عَلَى أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وأَهْلِ الْأَرْضِ فَلَمْ أَعْذَرْ فِي مَحَبَّتِهِ أَحَداً فَمُرْ أُمَّتَكَ بِحُبِّهِ، فَمَنْ أَحَبَّهُ فَبِحُبِّي وحُبِّكَ أُحِبُّهُ، ومَنْ أَبْغَضَهُ فَبِبُغْضِي وبُغْضِكَ أُبْغِضُهُ، أَمَا إِنَّهُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى كِتَاباً ولَا خَلَقَ خَلْقاً إِلَّا وجَعَلَ لَهُ سَيِّداً، فَالْقُرْآنُ سَيِّدُ الْكُتُبِ الْمُنْزَلَةِ، وشَهْرُ رَمَضَانَ سَيِّدُ الشُّهُورِ، ولَيْلَةُ الْقَدْرِ سَيِّدَةُ اللَّيَالِي، والْفِرْدَوْسُ سَيِّدُ الْجِنَانِ، وبَيْتُ اللَّهِ الْحَرَامِ سَيِّدُ الْبِقَاعِ، وجَبْرَئِيلُ عليه السّلام سَيِّدُ الْمَلَائِكَةِ، وأَنَا سَيِّدُ الْأَنْبِيَاءِ، وعَلِيٌّ سَيِّدُ الْأَوْصِيَاءِ، والْحَسَنُ والْحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، ولِكُلِّ امْرِئٍ مِنْ عَمَلِهِ سَيِّدٌ، وحُبِّي وحُبُّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ سَيِّدُ الْأَعْمَالِ ومَا تَقَرَّبَ بِهِ الْمُتَقَرِّبُونَ مِنْ طَاعَةِ رَبِّهِمْ، يَا أَعْرَابِيُّ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نُصِبَ لِإِبْرَاهِيمَ (عليه السلام) مِنْبَرٌ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ، ونُصِبَ لِي مِنْبَرٌ عَنْ شِمَالِ الْعَرْشِ، ثُمَّ يُدْعَى بِكُرْسِيٍّ عَالٍ يَزْهَرُ نُوراً فَيُنْصَبُ بَيْنَ الْمِنْبَرَيْنِ، فَيَكُونُ إِبْرَاهِيمُ عَلَى مِنْبَرِهِ، وأَنَا عَلَى مِنْبَرِي، ويَكُونُ أَخِيعَلِيٌّ عَلَى ذَلِكَ الْكُرْسِيِّ، فَمَا رَأَيْتُ أَحْسَنَ مِنْهُ حَبِيباً بَيْنَ خَلِيلَيْنِ، يَا أَعْرَابِيُّ مَا هَبَطَ عَلَيَّ جَبْرَئِيلُ (عليه السلام) إِلَّا وسَأَلَنِي عَنْ عَلِيٍّ، ولَا عُرِجَ إِلَّا وقَالَ: اقْرَأْ عَلَى عَلِيٍّ مِنِّي السَّلَامَ»(1).

ص: 274


1- بحار الأنوار: ج 40 ص54 باب91 جوامع مناقبه صلوات الله عليه وفيه كثير من النصوص ح89.

وفي رواية قال علي (عليه السلام): «يَا هَؤُلَاءِ أَ كُنْتُ أَدَعُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) مُسَجًّى لا أُوَارِيهِ وأَخْرُجُ أُنَازِعُ فِي سُلْطَانِهِ، واللَّهِ مَا خِفْتُ أَحَداً يَسْمُو لَهُ ويُنَازِعُنَا أَهْلَ الْبَيْتِ فِيهِ ويَسْتَحِلُّ مَا اسْتَحْلَلْتُمُوهُ، ولَا عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) تَرَكَ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ لِأَحَدٍ حُجَّةً ولَا لِقَائِلٍ مَقَالًا، فَأَنْشُدُ اللَّهَ رَجُلًا سَمِعَ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ يَقُولُ: مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَهَذَا عَلِيٌّ مَوْلَاهُ، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاهُ وعَادِ مَنْ عَادَاهُ، وانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ واخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ، أَنْ يَشْهَدَ بِمَا سَمِع»(1).

العدول إلى الحق

مسألة: يجب العدول إلى الحق فوراً، لوكان قد توهّم العذر ثم علم، لأن «الْحَقّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَع»(2).

ولو فرض أن هناك عذراً أو توهمه فإنه يرتفع بالفحص والسؤال والتدبر، فلا يبقى مجال للعذر.

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): «لَيْسَ مِنْ بَاطِلٍ يَقُومُ بِإِزَاءِ حَقٍّ إلاّ غَلَبَ الْحَقُّ الْبَاطِلَ، وذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ: «بلْ نَقْذِفُ بِالحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ»(3)»(4).

ص: 275


1- بحار الأنوار: ج 28 ص186 باب4 شرح انعقاد السقيفة وكيفية السقيفة.
2- صنيف غرر الحكم ودرر الكلم: ح959.
3- سورة الأنبياء: 18.
4- المحاسن: ص226 ب14 باب حقيقة الحق ح 152.

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «عَوْدُكَ إِلَى الْحَقِّ خَيْرٌ مِنْ تَمَادِيكَ فِي الْبَاطِل»(1).

وقال (عليه السلام): «لِيَكُنْ مَرْجِعُكَ إِلَى الْحَقِّ، فَمَنْ فَارَقَ الْحَقَّ هَلَك»(2).

الضالون والمفسدون

مسألة: يجب قطع الطريق على الضالين والمفسدين بما أمكن من السبلالمشروعة، كما صنع رسول الله (صلى الله عليه وآله) في قضية غدير خم، حيث إنه رغم تصريحه بولاية علي (عليه السلام) وخلافته له في الكثير الكثير من المواطن، مع ذلك أتم الحجة يوم الغدير بأبلغ بيان وأقوى حجة وبأكثر الطرق تأثيراً، كما هو بين لمن لاحظ خصوصيات (الغدير)، كل ذلك ليقطع منهم الرجاء، إلا أنهم حادوا الله ورسوله وشاقوه وأبوا إلا التآمر والانقلاب على الأعقاب، كما صنع قوم عيسى (عليه السلام) معه حيث أرادوا قتله، وكما صنع قوم موسى (عليه السلام) حيث عبدوا العجل، «وَسَيَعْلَمُ الَّذينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ»(3).

وهناك مسائل أخرى مستفادة من هذا الحديث الشريف ذكرنا بعضها سابقاً فلا نعيدها، كوجوب التأكيد على قصة الغدير وما أشبه.

ص: 276


1- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: ح947.
2- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: ح953.
3- سورة الشعراء: 227.

في وداع النبي

اشارة

قالت فاطمة (عليها السلام): يا رسول الله قد قطعت قلبي وأحرقت كبدي لبكائك يا سيد النبيين من الأولين والآخرين، ويا أمين ربه ورسوله ويا حبيبه ونبيه، من لولدي بعدك ولذلّ أهل بيتك بعدك، من لعلي أخيك وناصر الدين، من لوحي الله؟ ثم بكت وأكبت على وجهه (صلى الله عليه وآله) فقبلته.

-------------------------------------------

قبلة البنت لأبيها

مسألة: يستحب قبلة البنت لأبيها.

فإن القبلة من علامات الحب، وإظهاره في الحلال منه مستحسن عقلاً وشرعاً، إلاّ فيما ردع الشارع عنه.

وهذه المسألة لا تخص البنت وإنما ذكرناها في هذه المسألة باعتبار المورد، فيسري ذلك إلى كل الأرحام المحارم، ومن الواضح اشتراط ذلك بالشروط الشرعية من عدم الريبة وما أشبه.

وهكذا الأمر بالنسبة إلى العلماء والعظماء بالعظمة الدينية، وكان الناس يقبّلون يد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقيل إنهم كانوا يقبّلون رجله (صلى الله عليه وآله) أيضاً.

ص: 277

ومنه يعرف استحباب تقبيل العتبة المباركة في المشاهد المشرّفة مع قطع النظر عن ورود بعض ما يدل على ذلك بالخصوص.

روي أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) كان إذا قدم من سفر قبّل ابنته فاطمة (عليها السلام)(1).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «إِنَّ لَكُمْ لَنُوراً تُعْرَفُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا لَقِيَ أَخَاهُ قَبَّلَهُ فِي مَوْضِعِ النُّورِ مِنْ جَبْهَتِهِ»(2).

وعَنِ السَّكُونِيِّ قَالَ: نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) إِلَى رَجُلٍ لَهُ ابْنَانِ فَقَبَّلَ أَحَدَهُمَا وتَرَكَ الْآخَرَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): «فَهَلَّا وَاسَيْتَ بَيْنَهُمَا»(3).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) فَقَالَ: مَا قَبَّلْتُ صَبِيّاً لِي قَطُّ، فَلَمَّا وَلَّى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): هَذَا رَجُلٌ عِنْدِي أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ»(4).وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ قَبَّلَ وُلْدَهُ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ حَسَنَةً»(5).

وقَالَ (عليه السلام): «أَكْثِرُوا مِنْ قُبْلَةِ أَوْلَادِكُمْ فَإِنَّ لَكُمْ بِكُلِّ قُبْلَةٍ دَرَجَةً فِي

ص: 278


1- عوالم العلوم، مستدرك سيدة النساء إلى الإمام الجواد (عليهما السلام): ج 11 قسم1 فاطمة (سلام الله عليها) ص177.
2- الكافي: ج 2 ص186 بَابُ التَّقْبِيلِ ح1.
3- وسائل الشيعة: ج 21 ص487 ب91 ح3.
4- وسائل الشيعة: ج 21 ص484 ب89 بَابُ اسْتِحْبَابِ تَقْبِيلِ الْإِنْسَانِ وُلْدَهُ عَلَى وَجْهِ الرَّحْمَةِ ح1.
5- وسائل الشيعة: ج 21 ص485 ب89 بَابُ اسْتِحْبَابِ تَقْبِيلِ الْإِنْسَانِ وُلْدَهُ عَلَى وَجْهِ الرَّحْمَةِ ح2

الْجَنَّةِ مَسِيرَةَ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ»(1).

وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) يُقَبِّلُ الْحَسَنَ والْحُسَيْنَ (عليهما السلام)، فَقَالَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ: إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ أَحَداً مِنْهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ لا يَرْحَمْ لا يُرْحَمْ»(2).

وفي المزار في زيارة أمير المؤمنين (صلوات الله عليه): «ثُمَّ قَبِّلِ الْعَتَبَةَ وقَدِّمْ رِجْلَكَ الْيُمْنَى قَبْلَ الْيُسْرَى وادْخُل...»(3).

مواساة الباكي

مسألة: يستحب أن يقول الإنسان ما يظهرمواساته لمن يبكي، كأن يقول له: «قد قطعت قلبي وأحرقت كبدي لبكائك» إذا كان بالفعل كذلك، وإلا فيقول ما هو مواساة وليس بكذب.

وإنما يستحب مثل ذلك لأن المواساة مستحبة مطلقاً، ومن مصاديقه ما ذكرناه.

ومعنى (قطعت قلبي وأحرقت كبدي) الكناية، من قبيل (كثير الرماد) و(طويل النجاد)، وهو من تشبيه المعنويات بالماديات مثل: (أثلجت صدري) و(بردت فؤادي)، إلى غير ذلك.

ص: 279


1- وسائل الشيعة: ج 21 ص485 ب89 بَابُ اسْتِحْبَابِ تَقْبِيلِ الْإِنْسَانِ وُلْدَهُ عَلَى وَجْهِ الرَّحْمَةِ ح3
2- وسائل الشيعة: ج 21 ص485 ب89 بَابُ اسْتِحْبَابِ تَقْبِيلِ الْإِنْسَانِ وُلْدَهُ عَلَى وَجْهِ الرَّحْمَةِ ح4.
3- المزار، للشهيد الأول: ص38 الفصل الثالث

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ عَزَّى مُصَاباً كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ أَجْرِ الْمُصَابِ شَيْئاً»(1).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ عَزَّى حَزِيناً كُسِيَ فِي الْمَوْقِفِ حُلَّةً يُحَبَّرُ بِهَا»(2).

وقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «مَنْ عَزَّى الثَّكْلَى أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّ عَرْشِهِيَوْمَ لا ظِلَّ إلاّ ظِلُّهُ»(3).

وعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ (عليه السلام)، عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «التَّعْزِيَةُ تُورِثُ الْجَنَّةَ»(4).

وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «الْأَعْمَالُ ثَلاثٌ إِنْصَافُ النَّاسِ مِنْ نَفْسِكَ، ومُوَاسَاةُ الأَخِ فِي اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، وذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى كُلِّ حَالٍ»(5).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «أَصْدَقُ الْإِخْوَانِ مَوَدَّةً أَفْضَلُهُمْ لِإِخْوَانِهِ فِي السَّرَّاءِ وفِي الضَّرَّاءِ مُوَاسَاةً»(6).

ص: 280


1- الكافي: ج 3 ص205 باب ثواب من عزى حزينا ح2.
2- الكافي: ج 3 ص205 باب ثواب من عزى حزينا ح1.
3- الكافي: ج 3 ص227 بَابُ ثَوَابِ التَّعْزِيَة ح3.
4- ثواب الأعمال وعقاب الأعمال: ص198.
5- الجعفريات (الأشعثيات): ص215 باب ذكر النبي (صلى الله عليه وآله) في الدعاء.
6- عيون الحكم والمواعظ، لليثي: ص122 ح2784.

سيد الأنبياء

مسألة: يستحب بيان أن الرسول (صلى الله عليه وآله) سيد النبيين من الأولين والآخرين (عليهم السلام) وأنه أمين ربه ورسوله وحبيبه ونبيه(1)، كما يجب الاعتقاد بذلك.

وربما وجب البيان أيضاً إذا كان من الشؤون الاعتقادية الواجبة، كما ذكرناه سابقاً، والاستحباب في غير مورد الوجوب، فإنه من عمومات بيان فضائلهم (عليهم الصلاة والسلام) وهو من أفضل القربات.

ولا يخفى أن تلك الصفات التي ذكرتها الصديقة (عليها السلام) للنبي (صلى الله عليه وآله) بينها العموم من وجه، إلاّ أنها اجتمعت في النبي (صلى الله عليه وآله) بالضرورة.

فضائل الأب

مسألة: يستحب للبنت بيان فضائل أبيها، وذلك فيما إذا كان للأب فضائل، وكذلك بالنسبة إلى غير البنت وغيرالأب من الأرحام، فإن الملاك في الجميع واحد، وذلك لأنها نوع احترام وتوقير، ونوع شكر للنعمة في الجملة، وربما كان نوعاً من صلة الرحم، وللتأسي بالصديقة الطاهرة (عليها السلام) في كل مدح للأب بالحق وبما هو أهله.

ص: 281


1- فإن الرسول في معناه اللغوي أي من يُرسل، فإنه قد يكون حبيباً، وقد لا يكون، وكذا الأمين قد يكون رسول المرء وقد لا يكون، وهكذا.

من لولدك بعدك

مسألة: يستحب للوالدين أن يكونا في ذكر أولادهما من بعدهما، أو من بعد من يلوذون به، كما قالت الصديقة (عليها السلام): «من لولدك بعدك»، فإنه نوع صلة رحم، ومن الواضح أن صلة الرحم بين واجب ومستحب، والاستحباب إنما يكون فيما إذا لم يكن مانعاً من النقيض.

نعم الظاهر من قول الصديقة (صلوات الله عليها): (من لولدي بعدك) أنه نوع تفجع وتوجع وإظهار ظلامة وليس استفهاماً حقيقياً.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «صِلُوا أَرْحَامَكُمْ ولَوْ بِالتَّسْلِيمِ، يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى: «وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ والْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً»(1)،(2)».

الظلامة بعد النبي

مسألة: يستحب بيان مظلومية أهل البيت (عليهم السلام) بعد الرسول (صلى الله عليه وآله)ومظلومية علي (عليه السلام) بالخصوص، كما قالت الصديقة فاطمة (عليها السلام): «ولذل أهل بيتك بعدك، من لعلي أخيك».

فإن بيان مظلوميتهم (عليهم الصلاة والسلام) نوع إحقاق حق لهم، ونوع إبطال باطل لأعدائهم، كما أنه يوجب التفاف الناس حولهم، وتحريك المشاعر

ص: 282


1- الكافي: ج 2 ص155 باب صلة الرحم ح22.
2- سورة النساء: 1.

والعواطف إلى جانبهم، مما ينفع دين الإنسان ودنياه، مضافاً إلى أنه يوجب ابتعاد الناس عن أعدائهم أعداء الله تعالى.

ومن هنا ورد في الروايات التأكيد على ذلك، قال (عليه السلام): «وَارْحَمْ تِلْكَ الْقُلُوبَ الَّتِي جَزِعَتْ وَاحْتَرَقَتْ لَنَا، وَارْحَمِ الصَّرْخَةَ الَّتِي كَانَتْ لَنَا»(1).

وعَنْ عِيسَى بْنِ أَبِي مَنْصُورٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «نَفَسُ الْمَهْمُومِ لَنَا الْمُغْتَمِّ لِظُلْمِنَا تَسْبِيحٌ، وهَمُّهُ لِأَمْرِنَا عِبَادَةٌ»(2).

وقال الصادق (عليه الصلاة والسلام): «يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا»(3).ثم إنه قد سبق في الكتاب: أن المراد من (الذل) في مثل هذا الموضع هو الذل الظاهري لا الذل الواقعي، أي الذل عند الناس وبنظرهم، أو مظاهر الذل ونتائجه لا واقعه، إذ الذل الواقعي يتضمن معنى الحقارة والضعة النفسية وما شابهها، وحاشاهم (عليهم السلام) من مثل ذلك.

قال تعالى: «وللهِ الْعِزَّةُ ولِرَسُولِهِ ولِلْمُؤْمِنين»(4).

ومنه يفهم ما كان يتعرض له أنبياء الله والأولياء والمؤمنون من قبل الأعداء كثيراً، حيث إنهم سجنوا وعذبوا وهجّروا وطردوا وأهينوا وقتلوا، فإنها لا تنافي عزتهم التي منحها الله عزوجل.

ص: 283


1- الكافي: ج4 ص582 باب فضل زيارة أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) ح11.
2- الكافي: ج 2 ص226 باب الكتمان ح16.
3- وسائل الشيعة: ج 14 ص508 ب66 باب استحباب البكاء لقتل الحسين وما أصاب أهل البيت (عليهم السلام) وخصوصا يوم عاشوراء واتخاذه يوم مصيبة وتحريم التبرك به ح17.
4- سورة المنافقون: 8.

قال الإمام الحسين (عليه السلام): «مَوْتٌ فِي عِزٍّ خَيْرٌ مِنْ حَيَاةٍ فِي ذُلٍّ»(1).

وَأَنْشَأَ (عليه السلام) يَوْمَ قُتِلَ:

الْمَوْتُ خَيْرٌ مِنْ رُكُوبِ الْعَارِ *** وَ الْعَارُ أَوْلَى مِنْ دُخُولِ النَّارِ

وَ اللَّهِ مَا هَذَا وهَذَا جَارِي(2)

ناصر الدين وأخ الرسول

مسألة: يستحب بيان أن أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) أخ لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وناصر للدين.

هذا فيما إذا لم يكن من شؤون الأصول الواجبة بالوجوب المطلق، فتجب مقدمة لها، وقد ذكرنا وجه الاستحباب في غير صورة الوجوب فيما سبق.

قَالَ سُلَيْمٌ: فَكَانَ فِيمَا نَاشَدَهُمُ الْحُسَيْنُ (عليه السلام) وذَكَّرَهُمْ أَنْ قَالَ: «أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبِ كَانَ أَخَا رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) حِينَ آخَى بَيْنَ أَصْحَابِهِ فَآخَى بَيْنَهُ وبَيْنَ نَفْسِهِ وقَالَ: أَنْتَ أَخِي وأَنَا أَخُوكَ فِي الدُّنْيَا والْآخِرَةِ» قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ ...

قَالَ: «أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) نَصَبَهُ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍ فَنَادَى لَهُ بِالْوَلَايَةِ وقَالَ: لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ» قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ.

قَالَ: «أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى

الله عليه وآله) قَالَ لَهُ فِي

ص: 284


1- المناقب، لابن شهر آشوب: ج4 ص18.
2- بحار الأنوار: ج 44 ص192 باب26 مكارم أخلاقه وجمل أحواله وتاريخه وأحوال أصحابه صلوات الله عليه.

غَزْوَةِ تَبُوكَ: أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى وأَنْتَ وَلِيُّ كُلِّ مُؤْمِنٍ بَعْدِي» قَالُوا: اللَّهُمَّنَعَمْ.

قَالَ: «أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) حِينَ دَعَا النَّصَارَى مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ إِلَى الْمُبَاهَلَةِ لَمْ يَأْتِ إلاّ بِهِ وبِصَاحِبَتِهِ وابْنَيْهِ» قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ.

قَالَ: «أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ أَ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ دَفَعَ إِلَيْهِ اللِّوَاءَ يَوْمَ خَيْبَرَ ثُمَّ قَالَ: لَأَدْفَعُهُ إِلَى رَجُلٍ يُحِبُّهُ اللَّهُ ورَسُولُهُ ويُحِبُّ اللَّهَ ورَسُولَهُ كَرَّارٌ غَيْرُ فَرَّارٍ يَفْتَحُهَا اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ».

قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ.

قَالَ: «أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) بَعَثَهُ بِبَرَاءَةَ وقَالَ: لا يُبَلِّغْ عَنِّي إلاّ أَنَا أَوْ رَجُلٌ مِنِّي»، قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ.

قَالَ: «أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) لَمْ تَنْزِلْ بِهِ شِدَّةٌ قَطُّ إلاّ قَدَّمَهُ لَهَا ثِقَةً بِهِ وأَنَّهُ لَمْ يَدْعُهُ بِاسْمِهِ قَطُّ إلاّ أَنْ يَقُولَ: يَا أَخِي وادْعُوا لِي أَخِي»، قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ ...

قَالَ: «أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) قَالَ فِي آخِرِ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا: أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي تَرَكْتُ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ كِتَابَ اللَّهِ وأَهْلَ بَيْتِي فَتَمَسَّكُوا بِهِمَا لَنْ تَضِلُّوا»، قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ»(1) الحديث.

ص: 285


1- كتاب سليم بن قيس الهلالي: ج 2 ص790 الحديث السادس والعشرون.

استحباب البكاء

مسألة: يستحب البكاء على المصيبة.

وذلك للأدلة النقلية المتضافرة، وقد ورد في الأحاديث استحباب البكاء على مصيبة كل مؤمن فكيف بما ورد عليهم (عليهم الصلاة والسلام) من المصاب، ولسيرة المتشرعة بل وسيرة العقلاء، ولأنه نوع مواساة ومشاركة وجدانية وهي راجحة عقلاً.

ومن الواضح أن البكاء شيء، وعدم الرضا بما قدره الله شيء آخر.

قَالَ الصَّادِقُ (عليه السلام): لَمَّا مَاتَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) قَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): «حَزِنَّا عَلَيْكَ يَا إِبْرَاهِيمُ وإِنَّا لَصَابِرُونَ، يَحْزَنُ الْقَلْبُ وتَدْمَعُ الْعَيْنُ ولا نَقُولُ مَا يُسْخِطُ الرَّبَّ»(1).

هذا مع قطع النظر عما في البكاء من تخفيف الضغط على القلب، والتنفيس عن الأعصاب، وعما في الدموع من المنافع.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْيَرْزُقَهُ ابْنَةً تَبْكِيهِ بَعْدَ مَوْتِهِ»(2)..

وفي البحار عن مُسَكِّنُ الْفُؤَادِ: «لَمَّا أُصِيبَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) أَتَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) أَسْمَاءَ فَقَالَ لَهَا: أَخْرِجِي لِي وُلْدَ جَعْفَرٍ،

ص: 286


1- من لا يحضره الفقيه: ج 1 ص177 باب التعزية والجزع عند المصيبة وزيارة القبور والنوح والمأتم ح526.
2- تهذيب الأحكام: ج 1 ص465 ب23 باب تلقين المحتضرين ح169.

فَأُخْرِجُوا إِلَيْهِ، فَضَمَّهُمْ إِلَيْهِ وشَمَّهُمْ ودَمَعَتْ عَيْنَاهُ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُصِيبَ جَعْفَرٌ، فَقَالَ (صلى الله عليه وآله): نَعَمْ أُصِيبَ الْيَوْمَ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ: أَحْفَظُ حِينَ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) عَلَى أُمِّي فَنَعَى لَهَا أَبِي ونَظَرْتُ إِلَيْهِ وهُوَ يَمْسَحُ عَلَى رَأْسِي ورَأْسِ أَخِي وعَيْنَاهُ تُهْرِقَانِ الدُّمُوعَ حَتَّى تَقْطُرُ لِحْيَتَهُ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّ جَعْفَراً قَدْ قَدِمَ إِلَى أَحْسَنِ الثَّوَابِ فَاخْلُفْهُ فِي ذُرِّيَّتِهِ بِأَحْسَنِ مَا خَلَفْتَ أَحَداً مِنْ عِبَادِكَ فِي ذُرِّيَّتِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَسْمَاءُ إلاّ أُبَشِّرُكِ، قَالَتْ: بَلَى بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ جَعَلَ لِجَعْفَرٍ جَنَاحَيْنِ يَطِيرُ بِهِمَا فِي الْجَنَّةِ»(1).

وَلَمَّا انْصَرَفَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) مِنْ أُحُدٍ رَاجِعاً إِلَى الْمَدِينَةِ لَقِيَتْهُ خَمِيسَةُ بِنْتُ جَحْشٍ فَنَعَى لَهَا النَّاسُ أَخَاهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ، فَاسْتَرْجَعَتْ واسْتَغْفَرَتْ لَهُ،ثُمَّ نَعَى لَهَا خَالَهَا فَاسْتَغْفَرَتْ لَهُ، ثُمَّ نَعَى لَهَا زَوْجَهَا مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ فَصَاحَتْ ووَلْوَلَتْ.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): إِنَّ زَوْجَ الْمَرْأَةِ مِنْهَا لَبِمَكَانٍ لِمَا رَأَى صَبْرَهَا عَلَى أَخِيهَا وخَالِهَا وصِيَاحَهَا عَلَى زَوْجِهَا.

ثُمَّ مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) عَلَى دُورٍ مِنْ دُورِ الْأَنْصَارِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ فَسَمِعَ الْبُكَاءَ والنَّوَائِحَ عَلَى قَتْلَاهُمْ فَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ وبَكَى ثُمَّ قَالَ: لَكِنَّ حَمْزَةَ لا بَوَاكِيَ لَهُ، فَلَمَّا رَجَعَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ إِلَى دُورِ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ أَمَرَا نِسَاءَهُمْ أَنْ يَذْهَبْنَ فَيَبْكِينَ عَلَى عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ، فَلَمَّا سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) بُكَاءَهُنَّ عَلَى حَمْزَةَ خَرَجَ إِلَيْهِنَّ وهُنَّ عَلَى بَابِ مَسْجِدِهِ

ص: 287


1- بحار الأنوار: ج 79 ص92 ب16 التعزية والمأتم وآدابهما وأحكامها ح44.

يَبْكِينَ، فَقَالَ لَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): ارْجِعْنَ يَرْحَمُكُنَّ اللَّهُ فَقَدْ وَاسَيْتُنَّ بِأَنْفُسِكُنَّ»(1).

استحباب الرثاء

مسألة: يستحب رثاء المؤمن، وخاصة رثاء أهل البيت (صلوات الله عليهم أجمعين)، كما قالت الصديقة (عليها السلام): «من لولدك، من لعلي (عليه السلام) ثم بكت».وذلك للروايات الكثيرة، ولأن الرثاء نوع إثارة للعواطف مما توجب التفاف الناس حولهم (عليهم الصلاة والسلام)، كما فيه بيان للمظلومية وفضح الظلمة، بل هو نوع نهي عن المنكر دفعاً ورفعاً.

البكاء لبكاء الإمام

مسألة: يستحب البكاء لبكاء النبي (صلى الله عليه وآله) والإمام (عليه السلام) وكذا لبكاء مرجع التقليد، وكذا الأم والأب والمعلم ومن أشبه، كما بكت الصديقة (عليها السلام) لبكاء أبيها (صلى الله عليه وآله)، وذلك نوع مواساة.

وقولها (عليها السلام): «ولذل أهل بيتك بعدك» أي من يرفع الذل إذا ذلوا بعدك، فالنبي (صلى الله عليه وآله) كان يرفع ذلك في حياته إذا قام الأعداء بذل أهل بيته وإيذائهم، لكنه إذا قُبض لم يكن أحد قادراً حسب الموازين الظاهرية على رفع مثل هذا الظلم الكبير.

وأما الإمام علي (عليه السلام) فقد كان مأموراً بالصبر، إذ (قيدته وصية من

ص: 288


1- بحار الأنوار: ج 79 ص92 ب16 التعزية والمأتم وآدابهما وأحكامها ح44.

أخيه)(1)، كما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) مأموراً بالصبر في مكة المكرمةقبل الهجرة.

عَنْ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ: قَالَ لِي أَبِي (عليه السلام): قَالَ عَلِيٌّ (عليه السلام): «لَمَّا قَرَأْتُ صَحِيفَةَ وَصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) فَإِذَا فِيهَا: يَا عَلِيُّ غَسِّلْنِي ولا يُغَسِّلْنِي غَيْرُكَ، قَالَ: فَقُلْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي أَنَا أَقْوَى عَلَى غُسْلِكَ وَحْدِي، قَالَ: بِذَا أَمَرَنِي جَبْرَئِيلُ وبِذَلِكَ أَمَرَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: فَإِنْ لَمْ أَقْوَ عَلَى غُسْلِكَ وَحْدِي فَأَسْتَعِينُ بِغَيْرِي يَكُونُ مَعِي، فَقَالَ جَبْرَئِيلُ: يَا مُحَمَّدُ قُلْ لِعَلِيٍّ (عليه السلام) إِنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُغَسِّلَ ابْنَ عَمِّكَ فَإِنَّ هَذَا السُّنَّةُ لا يُغَسِّلُ الْأَنْبِيَاءَ غَيْرُ الْأَوْصِيَاءِ، وإِنَّمَا يُغَسِّلُ كُلَّ نَبِيٍّ وَصِيُّهُ مِنْ بَعْدِهِ وهِيَ مِنْ حُجَجِ اللَّهِ لِمُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) عَلَى أُمَّتِهِ فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ قَطِيعَةِ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ، واعْلَمْ يَا عَلِيُّ إِنَّ لَكَ عَلَى غُسْلِي أَعْوَاناً نِعْمَ الْأَعْوَانُ والْإِخْوَانُ، قَالَ عَلِيٌّ (عليه السلام) فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هُمْ بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي، فَقَالَ: جَبْرَئِيلُ ومِيكَائِيلُ وإِسْرَافِيلُ ومَلَكُ الْمَوْتِ وإِسْمَاعِيلُ صَاحِبُ السَّمَاءِ الدُّنْيَا أَعْوَانٌ لَكَ، قَالَ عَلِيٌّ (عليه السلام): فَخَرَرْتُ لِلَّهِ سَاجِداً وقُلْتُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ لِي إِخْوَاناً وأَعْوَاناً هُمْ أُمَنَاءُ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى

الله عليه وآله): أَمْسِكْ هَذِهِ الصَّحِيفَةَ الَّتِي كَتَبَهَا الْقَوْمُ وشَرَطُوافِيهَا الشُّرُوطَ عَلَى قَطِيعَتِكَ وذَهَابِ حَقِّكَ ومَا قَدْ أَزْمَعُوا عَلَيْهِ مِنَ الظُّلْمِ تَكُونُ عِنْدَكَ لِتُوَافِيَنِي بِهَا غَداً وتُحَاجَّهُمْ بِهَا...» (2).

ص: 289


1- وتمام الشعر هكذا: قيدته وصية أخيه *** رب حلم يقيد الضرغاما
2- بحار الأنوار: ج 22 ص546 ب2 وفاته وغسله والصلاة عليه ودفنه (صلى الله عليه وآله) ح64.

الانكباب على المحتضر

مسألة: الانكباب على المحتضر، لأمر عقلائي كمناجاته أو تقبيله، لا إشكال فيه، ويستفاد ذلك من فعلها (صلوات الله عليها)، نعم لو أدى ذلك إلى إيذائه لم يجز إلاّ مع رضاه.

الانكباب على قبور المعصومين

مسألة: الانكباب على قبور المعصومين (عليهم السلام) وأضرحتهم لتقبيلها أو التبرك بها، لا إشكال فيه، بل هو راجح مثاب عليه، فإنه نوع تعظيم لأهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو أيضاً تعظيم لشعائر الله.

إعادة كتابة التاريخ

مسألة: يلزم على جمع من أهل التحقيق إعادة كتابة التاريخ مستندين إلى الروايات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام)، فإن المتتبع في الروايات الكلامية والفقهية والتفسيرية والتاريخية، ومنها كلمات الصديقة الزهراء (عليها السلام) سيكشف في ثناياها الكثير جداً مما يلقي الضوء على أنه كيف سارت الأمور، ولم سارت كما سارت، وما الذي أنتج كذا وكذا، وغير ذلكمما يرتبط بفلسفة التاريخ(1).

ص: 290


1- مثل: متى، وأين، ومَن؟

أبكي لفراقك

اشارة

لما حضرت رسول الله (صلى الله عليه وآله) الوفاة بكى ... فسمعت ذلك فاطمة (عليها السلام) فبكت، فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لا تبكين يا بنية»، فقالت: «لست أبكي لما يصنع بي من بعدك، ولكن أبكي لفراقك»(1).

-------------------------------------------

البكاء لموت الأب

مسألة: يستحب البكاء لموت الأب، بل دلت بعض الأحاديث على استحباب البكاء لموت أي مؤمن، فكيف لو اجتمع فيهعنوانان(2) أو أكثر، والدلالة على بعضها بالمطابقة وبعضها بالالتزام.

ص: 291


1- الأمالي، للطوسي: ص189، المجلس7 ح18، وفيه: (عن أبان بن تغلب، عن عكرمة، عن عبد الله بن العباس، قال: لما حضرت رسول الله (صلى الله عليه و آله) الوفاة بكى حتى بلت دموعه لحيته، فقيل له: يا رسول الله، ما يبكيك؟ فقال: أبكي لذريتي، وما تصنع بهم شرار أمتي من بعدي، كأني بفاطمة ابنتي وقد ظُلمت بعدي وهي تنادي يا أبتاه، يا أبتاه، فلا يعينها أحد من أمتي. فسمعت ذلك فاطمة (عليها السلام) فبكت، فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا تبكين يا بنية. فقالت: لست أبكي لما يصنع بي من بعدك، ولكن أبكي لفراقك، يا رسول الله، فقال لها: أبشري يا بنت محمد بسرعة اللحاق بي، فإنك أول من يلحق بي من أهل بيتي).
2- عنوان المؤمن وعنوان الأب مثلا، أو عنوان المؤمن وعنوان الفقيه مثلا.

ولا فرق في أصل الاستحباب بين أن يكون البكاء للموت قبل الموت، أو بعد الموت.

قَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): «يَا رَبِّ أَيُّ عِبَادِكَ أَحَبُّ إِلَيْكَ، قَالَ: الَّذِي يَبْكِي لِفَقْدِ الصَّالِحِينَ كَمَا يَبْكِي الصَّبِيُّ عَلَى فَقْدِ أَبَوَيْه»(1).

ورُوِيَ: «أَنَّهُ إِذَا مَاتَ الْمُؤْمِنُ نَادَتْ بِقَاعَ الْأَرْضِ بَعْضُهَا بَعْضاً: مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ الْمُؤْمِنُ، فَبَكَتْ عَلَيْهِ السَّمَاءُ والْأَرْضُ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُمَا: ومَا يُبْكِيكُمَا عَلَى عَبْدِي وهُو أَعْلَمُ، فَيَقُولَانِ: يَا رَبِّ لَمْ يَمْشِ فِي نَاحِيَةِ مِنْهَا إلاّ وهُو يَذْكُرُكَ»(2).

وعَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: مَاتَتِ ابْنَةٌ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) فَنَاحَ عَلَيْهَا سَنَةً، ثُمَّ مَاتَ لَهُ وَلَدٌ آخَرُ فَنَاحَ عَلَيْهِ سَنَةً، ثُمَّ مَاتَ إِسْمَاعِيلُ فَجَزِعَ عَلَيْهِ جَزَعاً شَدِيداً فَقَطَعَ النَّوْحَ، قَالَ: فَقِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): أَيُنَاحُ فِي دَارِكَ، فَقَالَ:«إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) قَالَ لَمَّا مَاتَ حَمْزَةُ: لَكِنَّ حَمْزَةَ لا بَوَاكِيَ لَهُ»(3).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ (عليه السلام) سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يَرْزُقَهُ ابْنَةً تَبْكِيهِ بَعْدَ مَوْتِهِ»(4).

ص: 292


1- الدعوات، للراوندي: ص241 ح675، مستدرك الوسائل: ج2 ص469 ب75 ضمن ح2487.
2- الدعوات، للراوندي: ص241 576.
3- وسائل الشيعة: ج 3 ص241 ب70 باب جواز النوح والبكاء على الميت والقول الحسن عند ذلك والدعاء ح2.
4- وسائل الشيعة: ج 3 ص242 ب70 باب جواز النوح والبكاء على الميت والقول الحسن عند ذلك والدعاء ح3.

ورُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) بَكَى عَلَى أَوْلادِهِ وجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ»(1).

وعن أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «الْبَكَّاءُونَ خَمْسَةٌ، آدَمُ ويَعْقُوبُ ويُوسُفُ وفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ وعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عليهم السلام»(2).

لا تبك

مسألة: يستحب أن يقول الإنسان للباكي:«لا تبك» تسلية له وليس زجراً ونهياً بالمعنى الحقيقي.

فإن التسلية مطلقاً مستحبة، وما نحن فيه من مصاديقها، من غير فرق بين أن يكون قبل الموت أو بعد الموت، وهذا لا ينافي استحباب البكاء، فالنهي للتسلية، ومن هنا روي عن الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام) خطاباً لابنته سكينة (عليها السلام):

«لا تحرقي قلبي بدمعك حسرة ما دام مني الروح في جثماني»(3).

فإن قوله (عليه السلام) ليس ذماً للبكاء كما يزعمه البعض، بل كان من التسلية ومن إظهار التعاطف المستحبين.

وإلا فالبكاء على الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام) قبل استشهاده وبعده

ص: 293


1- هداية الأمة إلى أحكام الأئمة (عليهم السلام): ج1 ص332 ب7 يجوز البكاء على الميت وعلى المصائب ح4.
2- الخصال: ج 1 ص272 ح15.
3- المناقب: ج4 ص109.

من أفضل العبادات وأقرب القربات، ووقد بكاه الأنبياء والمرسلون (عليهم السلام) قبل مولده الشريف، وكذلك بكاه رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حياته، وبكاه أمير المؤمنين والصديقة فاطمة (عليهما السلام) والإمام الحسن (عليه السلام) في حياته (صلوات الله عليه وعليهم)، فكيف بالبكاء بعد مقتله الشريف، وقد روي عنه (عليه السلام):

« فإذا قتلت فأنت أولى بالذي *** تأتينه يا خيرة النسوان»(1).

ثم إن البكاء على الإمام الحسين (عليه السلام) إقامة للشعائر وإحياء لذكره وذكراه ونهضته، وفضح ليزيد وأتباعه من الطغاة على مر التاريخ.

وقال بعض بأن البكاء قبل موته (عليه الصلاة والسلام) يوم المعركة كان موجباً لشماتة الأعداء، فلذا نهى الإمام (عليه الصلاة والسلام) عنه وأجاز بعده، ولكن الأصح أن النهي لم يكن إلاّ تسليةً وعطفاً كما ذكرناه.

البكاء مواساة

مسألة: البكاء لبكاء الغير مواساةً مستحب.

والظاهر أن قول الصديقة (عليها السلام) : «لست أبكي لما يصنع بي من بعدك»، لا يراد به النفي المطلق، بل نفي كون خصوص هذا البكاء هكذا، ويحتمل أنه ليس نفياً حتى لهذا المورد إلاّ على نحو المصبيّة، إذ قد يكون المصبّ أمراً ويكون إلى جواره تابع، أوقد يكون الداعي أمراً والداعي على الداعي أمر

ص: 294


1- فإن سماع الخبر مرة بعد أخرى يوجب قوة الصبر على تحمله عند حدوثه لأنس النفس به وإن أوجب ألما آخر.

آخر.

وبعبارة عرفية المعنى: ليس السبب الأصلي لبكائي الآن هو ما يصنع بي من بعدك، فلا ينفي كونه سبباً تابعاً لاحقاً، فتأمل.

عن أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) في حديث: «ولَكِنَّا نَأْمُرُكُمْ بِالْوَرَعِ الْوَرَعِ الْوَرَعِ، والْمُوَاسَاةِ الْمُوَاسَاةِ الْمُوَاسَاةِ لِإِخْوَانِكُمْ»(1).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): «الْمُوَاسَاةُ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ»(2).

وروي: «...فَلَمَّا رَأَتْ فاطمة (عليها السلام) رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) انْكَبَّتْ عَلَيْهِ وبَكَتْ وبَكَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) لِبُكَائِهَا وضَمَّهَا إِلَيْه»(3).

ورُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نُصِبَ لِفَاطِمَةَ (عليها السلام) قُبَّةٌ مِنْ نُورٍ ويُقْبِلُالْحُسَيْنُ (عليه السلام) ورَأْسُهُ فِي يَدِهِ، فَإِذَا رَأَتْهُ شَهَقَتْ شَهْقَةً، فَلا يَبْقَى فِي الْمَوْقِفِ مَلَكٌ ولا نَبِيٌّ إلاّ بَكَى لِبُكَائِهَا»(4).

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِ وَاحِدٍ قَالُوا: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) مَعَ أُمِّهِ آمِنَةَ بِنْتِ وَهْبٍ فَلَمَّا بَلَغَ سِتَّ سِنِينَ خَرَجَتْ بِهِ إِلَى أَخْوَالِهِ بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ بِالْمَدِينَةِ تَزُورُهُمْ بِهِ وَ مَعَهُ أُمُّ أَيْمَنَ تَحْضُنُهُ وَهُمْ عَلَى بَعِيرَيْنِ، فَنَزَلَتْ بِهِ فِي دَارِ النَّابِغَةِ فَأَقَامَتْ بِهِ عِنْدَهُمْ شَهْراً، وَ كَانَ قَوْمٌ مِنَ الْيَهُودِ يَخْتَلِفُونَ وَيَنْظُرُونَ، قَالَتْ أُمُّ أَيْمَنَ فَسَمِعْتُ أَحَدَهُمْ يَقُولُ هُوَ نَبِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَ هَذِهِ دَارُ

ص: 295


1- المحاسن: ج 1 ص158 ب26 باب خصائص المؤمن ح15.
2- عيون الحكم والمواعظ، لليثي: ص47 ح1196.
3- كفاية الأثر في النص على الأئمة الاثني عشر: ص36 باب ما جاء عن أبي ذر الغفاري (رحمة الله عليه) في النصوص على الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام).
4- مثير الأحزان: ص81.

هِجْرَتِهِ، ثُمَّ رَجَعَتْ بِهِ أُمُّهُ إِلَى مَكَّةَ، فَلَمَّا كَانُوا بِالْأَبْوَاءِ تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ آمِنَةُ فَقَبَرَهَا هُنَاكَ، فَرَجَعَتْ بِهِ أُمُّ أَيْمَنَ إِلَى مَكَّةَ، ثُمَّ لَمَّا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ بِالْأَبْوَاءِ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لِي فِي زِيَارَةِ قَبْرِ أُمِّي فَأَتَاهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) فَأَصْلَحَهُ وَبَكَى عِنْدَهُ وَبَكَى الْمُسْلِمُونَ لِبُكَاءِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) فَقِيلَ لَهُ فَقَالَ: «أَدْرَكَتْنِي رَحْمَةُ رَحْمَتِهَا فَبَكَيْتُ»(1).

العلم بما يحدث

مسألة: يستحب بيان أن الصديقة فاطمة (صلوات الله عليها) كانت تعلم بما يجري عليها من الظلم والجور من قبل القوم.

فإن أهل البيت المعصومين (عليهم السلام) يعلمون بما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة، كما وردت بذلك الروايات المستفيضة، وفي خصوص فاطمة (عليها الصلاة والسلام) روايات تدل على ذلك، مضافاً إلى العمومات والإطلاقات الشاملة لها (عليها السلام).

كما أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أخبرها بما يجري عليها في تلك اللحظات الأخيرة.

والإخبار بعد العلم، وكذا الإخبار بعد الإخبار تترتب عليه فوائد عديدة، منها صحة التعبير والإسناد، ومنها صحة الإخبار بتعدد السند، أو تعدد الوقت أو المكان أو خصوصيات النسبة أو ما أشبه.

عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، قَالَ: قُلْنَا يَوْماً:

ص: 296


1- بحار الأنوار: ج15 ص162 ب1 ح93.

يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنِ الْخَلِيفَةُ بَعْدَكَ حَتَّى نَعْلَمَهُ؟ قَالَ لِي: «يَا سَلْمَانُ أَدْخِلْ عَلَيَّ أَبَا ذَرٍّ والْمِقْدَادَ وأَبَا أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيَّ» وأُمُّ سَلَمَةَ زَوْجَةُ النَّبِيِّ مِنْ وَرَاءِ الْبَابِ، ثُمَّ قَالَ لَنَا: «اشْهَدُوا وافْهَمُوا عَنِّي إِنَّ عَلِيَّبْنَ أَبِي طَالِبٍ وَصِيِّي ووَارِثِي وقَاضِي دَيْنِي وعِدَاتِي، وهُو الْفَارُوقُ بَيْنَ الْحَقِّ والْبَاطِلِ، وهُو يَعْسُوبُ الْمُسْلِمِينَ وإِمَامُ الْمُتَّقِينَ وقَائِدُ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِينَ والْحَامِلُ غَداً لِوَاءَ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وهُو ووَلَدَاهُ مِنْ بَعْدِهِ، ثُمَّ مِنْ وُلْدِ الْحُسَيْنِ ابْنِي أَئِمَّةٌ تِسْعَةٌ هُدَاةٌ مَهْدِيُّونَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَشْكُو إِلَى اللَّهِ جُحُودَ أُمَّتِي لِأَخِي وتَظَاهُرَهُمْ عَلَيْهِ وظُلْمَهُمْ لَهُ وأَخْذَهُمْ حَقَّهُ».

قَالَ: فَقُلْنَا لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ويَكُونُ ذَلِكَ؟

قَالَ: «نَعَمْ، يُقْتَلُ مَظْلُوماً مِنْ بَعْدِ أَنْ يُمْلَأَ غَيْظاً ويُوجَدُ عِنْدَ ذَلِكَ صَابِراً».

قَالَ: فَلَمَّا سَمِعَتْ ذَلِكَ فَاطِمَةُ (عليها السلام) أَقْبَلَتْ حَتَّى دَخَلَتْ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ وهِيَ بَاكِيَةٌ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «مَا يُبْكِيكِ يَا بُنَيَّةِ»؟

قَالَتْ: «سَمِعْتُكَ تَقُولُ فِي ابْنِ عَمِّي ووُلْدِي مَا تَقُولُ».

قَالَ: «وأَنْتِ تُظْلَمِينَ وعَنْ حَقِّكِ تُدْفَعِينَ، وأَنْتِ أَوَّلُ أَهْلِ بَيْتِي لُحُوقاً بِي بَعْدَ أَرْبَعِينَ، يَا فَاطِمَةُ أَنَا سِلْمٌ لِمَنْ سَالَمَكِ، وحَرْبٌ لِمَنْ حَارَبَكِ، أَسْتَوْدِعُكِ اللَّهَ وجَبْرَئِيلَ وصَالِحَ الْمُؤْمِنِينَ».

قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ صَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ؟قَالَ: «عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ»(1).

ص: 297


1- بحار الأنوار: ج 36 ص264 باب41 نصوص الرسول (صلى الله عليه وآله) عليهم (عليهم السلام) ح85.

البكاء على الغير

مسألة: ربما يقال بأنه ينبغي عدم بكاء الإنسان على ما يجري على نفسه من المحن والمصائب والمشاكل، إلاّ في مورد يكون البكاء أهم(1)، فإن الصبر هو المستحب وإن كان البكاء لا ينافيه، كما مر، وقد قالت (عليها السلام): «لست أبكي لما يصنع بي من بعدك».

فإن النفوس الكبيرة لا تهتم بما يجري عليها، بل هي راضية بقضاء الله وقدره، وهي مهتمة بالأمر الأهم وتعمل بالواجب الشرعي.

ثم إن حكم عدم البكاء حينئذ، هل هو مستحب أو مباح، فذلك مما يفهم من المقارنات وسائر الأدلة.

وأما بكاء الصديقة (عليها السلام) بعد شهادته (صلى الله عليه وآله) فكان فضحاً للغاصبين والظالمين، إضافة إلى كونه بكاءً على فقد رسول الله (صلى الله عليه وآله) بل قتله.

البكاء لفراق النبي

مسألة: يستحب البكاء لفراق رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فإنه من صغريات قوله (عليه الصلاة والسلام): «يحزنون لحزننا»(2) وما أشبه، بالإضافة إلى

ص: 298


1- ومن الأهم ما لو كان البكاء تنفيساً عن الشخص، وكان مما يخفف الضغط على قلبه وأعصابه، ويدفع عنه خطر الجلطة في القلب أو المخ مثلاً.
2- قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام: «إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وتَعَالَى اطَّلَعَ إِلَى الْأَرْضِ فَاخْتَارَنَا واخْتَارَ لَنَا شِيعَةً يَنْصُرُونَنَا، ويَفْرَحُونَ لِفَرَحِنَا، ويَحْزَنُونَ لِحُزْنِنَا، ويَبْذُلُونَ أَمْوَالَهُمْ وأَنْفُسَهُمْ فِينَا، أُولَئِكَ مِنَّا وإِلَيْنَا». بحار الأنوار: ج 44 ص287 ب34 ثواب البكاء على مصيبته ومصائب سائر الأئمة (عليهم السلام) وفيه أدب المأتم يوم عاشوراء ح26، عن الخصال: ج 2 ص635 علم أمير المؤمنين (عليه السلام) أصحابه في مجلس واحد أربعمائة باب مما يصلح للمسلم في دينه ودنياه، غرر الحكم ودرر الكلم: ص817، جامع الأخبار(للشعيري): ص179 الفصل الحادي والأربعون والمائة في النوادر.

الأسوة وغيرها من العناوين المتعددة.

ولا فرق بين البكاء عليه (صلى الله عليه وآله) زمن حياته أو بعد شهادته.

رَوَى الشَّيْخُ زَيْنُ الدِّينِ فِي مُسَكِّنِ الْفُؤَادِ: «أَنَّ فَاطِمَةَ (عليها السلام) نَاحَتْ عَلَى أَبِيهَا وأَنَّهُ أَمَرَ بِالنَّوْحِ عَلَى حَمْزَةَ»(1).

وعَنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ هِلَالٍ قَالَ: قُلْتُلِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): إِنِّي لا أَكَادُ أَلْقَاكَ إلاّ فِي السِّنِينَ فَأَوْصِنِي بِشَيْ ءٍ آخُذُ بِهِ قَال: «... وَإِذَا أُصِبْتَ بِمُصِيبَةٍ فَاذْكُرْ مُصَابَكَ بِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) فَإِنَّ الْخَلْقَ لَمْ يُصَابُوا بِمِثْلِهِ (صلى الله عليه وآله) قَطُّ»(2).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «مَنْ أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ فَلْيَذْكُرْ مُصَابَهُ بِالنَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) فَإِنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ»(3).

ص: 299


1- وسائل الشيعة: ج 3 ص242 ب70 باب جواز النوح والبكاء على الميت والقول الحسن عند ذلك والدعاء ح4.
2- الكافي: ج 8 ص168 حديث الناس يوم القيامة ح189.
3- الكافي: ج 3 ص220 باب التعزي ح1.

فضل البكاء

مسألة: البكاء في الجملة فضيلة، ويدل عليه بكاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما في هذه الرواية وغيرها.

إن قيل: إنه علامة ضعف.

قلنا: البكاء قد يكون لرقة وعاطفة محمودة، وقد يكون من خشية الله تعالى، فليست علامة ضعف مطلقاً، ثم إنه لو كان علامة ضعف كالبكاء من هول الموت وخوف المطلع فإنه لا دليل على كونه مرجوحاً، لأن ضعف الإنسان حق، وتوهم عكسه كبر وتكبر وغرور، نعم ربما يكون البكاء أمام العدو لا لوجه صحيح، مرجوحاً إذا عدّ علامة ضعف وسبب شماتة، وربما كان البكاء أمام العدو سبباً لهدايتهم وبياناً للمظلومية وما أشبه فيكون راجحاً أيضاً.

ظرف المبكي عليه

مسألة: لا فرق في استحباب البكاء في صوره المستحبة، بين كونه على أمر ماض أو حاضر أو مستقبل، كما لا فرق بين كونه على أمر محتمل أو مظنون أو مقطوع، وكذلك الحال في صورة مرجوحيته.وهناك روايات تبين فضائل الدمعة وتشجع عليها

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «مَا مِنْ شَيْ ءٍ إلاّ ولَهُ كَيْلٌ ووَزْنٌ إلاّ الدُّمُوعُ، فَإِنَّ الْقَطْرَةَ تُطْفِئُ بِحَاراً مِنْ نَارٍ، فَإِذَا اغْرَوْرَقَتِ الْعَيْنُ بِمَائِهَا لَمْ يَرْهَقْ وَجْهاً قَتَرٌ ولا ذِلَّةٌ، فَإِذَا فَاضَتْ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ، ولَوْ أَنَّ بَاكِياً بَكَى فِي أُمَّةٍ

ص: 300

لَرُحِمُوا»(1).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ:

«مَا مِنْ عَيْنٍ إلاّ وهِيَ بَاكِيَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلاّ عَيْناً بَكَتْ مِنْ خَوْفِ اللَّهِ، ومَا اغْرَوْرَقَتْ عَيْنٌ بِمَائِهَا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ إلاّ حَرَّمَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ سَائِرَ جَسَدِهِ عَلَى النَّارِ، ولا فَاضَتْ عَلَى خَدِّهِ فَرَهِقَ ذَلِكَ الْوَجْهَ قَتَرٌ ولا ذِلَّةٌ، ومَا مِنْ شَيْ ءٍ إلاّ ولَهُ كَيْلٌ ووَزْنٌ إلاّ الدَّمْعَةُ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ يُطْفِئُ بِالْيَسِيرِ مِنْهَا الْبِحَارَ مِنَ النَّارِ، فَلَوْ أَنَّ عَبْداً بَكَى فِي أُمَّةٍ لَرَحِمَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ تِلْكَ الْأُمَّةَ بِبُكَاءِ ذَلِكَ الْعَبْدِ»(2).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «كُلُّ عَيْنٍ بَاكِيَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلاّ ثَلَاثَة، عَيْنٌ غُضَّتْ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ، وعَيْنٌ سَهِرَتْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وعَيْنٌ بَكَتْ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ مِنْ خَشْيَةِاللَّهِ»(3).

وعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام): «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) رَخَّصَ فِي الْبُكَاءِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ وقَالَ: النَّفْسُ مُصَابَةٌ، والْعَيْنُ دَامِعَةٌ، والْعَهْدُ قَرِيبٌ، وقُولُوا مَا أَرْضَى اللَّهَ ولا تَقُولُوا الْهُجْر»(4).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «شَكَا رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) قَسَاوَةَ الْقَلْبِ، فَقَالَ لَهُ: «عَلَيْكَ بِالْعَدَسِ، فَإِنَّهُ يُرِقُّ الْقَلْبَ ويُسْرِعُ الدَّمْعَةَ وقَدْ

ص: 301


1- الكافي: ج 2 ص481 باب البكاء ح1.
2- الكافي: ج 2 ص482 باب البكاء ح2.
3- الكافي: ج 2 ص482 باب البكاء ح4.
4- مستدرك الوسائل: ج 2 ص384 ب58 باب جواز النوح والبكاء على الميت والقول الحسن عند ذلك والدعاء ح1.

بَارَكَ عَلَيْهِ سَبْعُونَ نَبِيّاً»(1).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيٍّ (عليهم السلام) قَالَ: «أَكْلُ الْعَدَسِ يُرِقُّ الْقَلْبَ ويُسْرِعُ الدَّمْعَةَ»(2).

ص: 302


1- المحاسن: ج 2 ص504 ح637.
2- المحاسن: ج 2 ص504 ح638.

رثاء النبي وتأبينه

اشارة

روي: أن فاطمة (عليها السلام) بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) بكت رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقالت:

«يا أبتاه مِن ربّه ما أدناه ..

يا أبتاه إلى جبرئيل أنعاه ..

يا أبتاه جنة الفردوس مأواه».

وفي رواية: «كَانَتْ فَاطِمَةُ (عليها السلام) تَقُولُ لَمَّا ثَقُلَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): «يَا أَبَتَاهْ جَبْرَئِيلُ إِلَيْنَا يَنْعَاهُ، يَا أَبَتَاهْ مِن رَبِّهِ مَا أَدْنَاهُ، يَا أَبَتَاهْ جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاهُ، يَا أَبَتَاهْ أَجَابَ رَبّاً دَعَاهُ»(1).

-------------------------------------------

جواز الرثاء

مسألة: يجوز الرثاء(2) على الميت، والمراد به الأعم من البكاء عليه والنوح له ومدحه وما أشبه.

ويشترط في جوازه أن يكون صدقاً، أو لسان حال يقتضيه الحال على ما

ص: 303


1- بحار الأنوار: ج22 ص522 ب2 ضمن ح29.
2- الرثاء: الترحم والرفق على الميت، وأيضاً: البكاء عليه مع تعديد محاسنه بالشعر أو غيره، ومنه أن يندب الميت بقول: وا فلاناه، أو ما أشبه.

ذكره الفقهاء، أما لسان حال لا يقتضيه الحال ولم يكن صدقاً فلا يجوز.

ومن لسان الحال الجائز بل المستحب ما روي عن أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) في فراق الصديقة فاطمة (عليها الصلاة والسلام) حيث قال عن لسان حالها:

قال الحبيب فكيف لي بجوابكم *** وأنا رهين جنادل وترابِ

أكل التراب محاسني فنسيتكم *** وحجبت عن أهلي وعن أترابي

فعليكم مني السلام تقطعت *** عني وعنكم خلة الأحباب(1).

ومن الواضح أن (الأمثال تضرب ولا تقاس) فلا يراد بها الخصوصيات بل الجامع، وقد لا يراد بها الحقيقة بل المجاز، فلا يتوهم الإشكال بقوله: (أكل التراب محاسني) مع القطع بكونهم (عليهم السلام) محفوظين مطلقاً.

عليّ يرثي النبي

عن عبد الله بن العباس قال: لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى

الله عليه وآله) تَوَلَّى غُسْلَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) والْعَبَّاسُ مَعَهُ والْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ، فَلَمَّا فَرَغَ عَلِيٌّ (عليه السلام) مِنْ غُسْلِهِ كَشَفَ الإِزَارَعَنْ وَجْهِهِ ثُمَّ قَالَ: «بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي طِبْتَ حَيّاً وطِبْتَ مَيِّتاً، انْقَطَعَ بِمَوْتِكَ مَا لَمْ يَنْقَطِعْ بِمَوْتِ أَحَدٍ مِمَّنْ سِوَاكَ مِنَ النُّبُوَّةِ والإِنْبَاءِ، خَصَّصْتَ حَتَّى صِرْتَ مُسَلِّياً عَمَّنْ سِوَاكَ، وعَمَّمْتَ حَتَّى صَارَ النَّاسُ فِيكَ سَوَاءً، ولَوْلا أَنَّكَ أَمَرْتَ بِالصَّبْرِ ونَهَيْتَ عَنِ الْجَزَعِ لَأَنْفَدْنَا عَلَيْكَ مَاءَ الشُّئُونِ، ولَكِنْ مَا لا يُرْفَعُ كَمَدٌ وغُصَصٌ مُحَالِفَانِ وهُمَا دَاءُ الْأَجَلِ وقَلَّا لَك،َ بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي اذْكُرْنَا عِنْدَ رَبِّكَ واجْعَلْنَا مِنْ هَمِّكَ، ثُمَّ

ص: 304


1- بحار الأنوار: ج43 ص217 ب7 ضمن ح48.

أَكَبَّ عَلَيْهِ فَقَبَّلَ وَجْهَهُ ومَدَّ الإِزَارَ عَلَيْه»(1).

وقال (عليه السلام) فِي الْمَرْثِيَةِ عِنْدَ زِيَارَتِهِ (صلى الله عليه وآله):

مَا غَاضَ دَمْعِي عِنْدَ نَائِبَةٍ *** إلاّ جَعَلْتُكَ لِلْبُكَاءِ سَبَباً

وَإِذَا ذَكَرْتُكَ سَامَحَتْكَ بِهِ *** مِنِّي الْجُفُونُ فَغَاضَ وانْسَكَبَا

إِنِّي أُجِلُّ ثَرَى حَلَلْتَ بِهِ *** عَنْ أَنْ أَرَى لِسِوَاهُ مُكْتَئِبا(2)

الحسين يرثي أخاه الحسن

روي أنه لما وضع الحسن (عليه السلام) في قبره أنشأ سيّدنا ومولانا أبو عبد اللّه الحسين (عليه السلام):

أَأَدْهُنُ رَأْسِي أَمْ تَطِيبُ مَجَالِسِي *** وَ رَأْسُكَ مَعْفُورٌ وَ أَنْتَ سَلِيبٌ

أَوْ أَسْتَمْتِعُ الدُّنْيَا لِشَيْ ءٍ أُحِبُّهُ *** إِلَى كُلِّ مَا أَدْنَا إِلَيْكَ حَبِيبٌ

فَلَا زِلْتُ أَبْكِي مَا تَغَنَّتْ حَمَامَةٌ *** عَلَيْكَ وَ مَا هَبَّتْ صَباً وَ جَنُوبٌ

وَمَا هَمَلَتْ عَيْنِي مِنَ الدَّمْعِ قَطْرَةً *** وَ مَا اخْضَرَّ فِي دَوْحِ الْحِجَازِ قَضِيبٌ

بُكَائِي طَوِيلٌ وَ الدُّمُوعُ غَزِيرَةٌ *** وَ أَنْتَ بَعِيدٌ وَ الْمَزَارُ قَرِيبٌ

غَرِيبٌ وَ أَطْرَافُ الْبُيُوتِ تَحُوطُهُ *** إلاّ كُلُّ مَنْ تَحْتَ التُّرَابِ غَرِيبٌ

وَلا يَفْرَحُ الْبَاقِي خِلَافَ الَّذِي مَضَى *** وَ كُلُّ فَتًى لِلْمَوْتِ فِيهِ نَصِيبٌ

ص: 305


1- الأمالي (للمفيد): ص102 المجلس الثاني عشر.
2- بحار الأنوار: ج 22 ص547 ب2 وفاته وغسله والصلاة عليه ودفنه (صلّى اللّه عليه وآله) ح66.

فَلَيْسَ حَرِيبٌ مَنْ أُصِيبَ بِمَالِهِ *** وَ لَكِنَّ مَنْ وَارَى أَخَاهُ حَرِيبٌ

نَسِيبُكَ مَنْ أَمْسَى يُنَاجِيكَ طَيْفُهُ *** وَ لَيْسَ لِمَنْ تَحْتَ التُّرَابِ نَسِيبٌ (1)

الرثاء المعنوي

مسألة: يستحب كون الرثاء بمن وبما يرتبط بالله سبحانه، فإن الرثاء قسمان، رثاء مادي ورثاء معنوي.

ويدل عليه العقل بالمعنى الأعم، مضافاً إلى الملاك في مثل رثائها (عليها الصلاة والسلام) وما أشبه.

وفي حديث: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يحن لحنين صفيّة حيث كانت تحن على أخيها حمزة سيد الشهداء (عليهالسلام) ويأن لأنينها.

روي أن صفية لما جاءت حالت الأنصار بينها وبين رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: «دعوها» فجلست عنده فجعلت إذا بكت يبكي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإذا نشجت (2) ينشج رسول الله (صلى الله عليه وآله) وجعلت فاطمة (عليها السلام) تبكي، فلما بكت بكى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم قال: لن أصاب بمثل حمزة أبداً، ثم قال (صلى الله عليه وآله) لصفية وفاطمة: أبشرا أتاني جبرائيل (عليه السلام) فأخبرني أن حمزة مكتوب في أهل السماوات السبع حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله»(3).

ص: 306


1- تسلية المجالس وزينة المجالس (مقتل الحسين عليه السلام): ج 2 ص65.
2- النَّشْجُ: الصوت مع توجع وبكاء. مجمع البحرين: ج 2 ص332 مادة (نشج).
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 15 ص17 القول في مقتل حمزة بن عبد المطلب.

مقام الرسول

مسألة: يستحب بيان أن الرسول (صلى الله عليه وآله) ما أدناه من ربه، وأن جبرئيل الأمين (عليه السلام) قد نعاه، وأن جنة الفردوس مأواه.

فهذه مصاديق جلية تدل على عظمته (صلى الله عليه وآله) الموجبة لالتفاف الناس حوله، مما يفيد دينهم ودنياهم كما سبق، فإنه كلما كان الإنسان ملتفاً حول الرسول وآله (صلوات الله عليه وعليهم أجمعين)، يكون أسعد في الحياتين.

رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَ (صلى الله عليه وآله) إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ نُودِيَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ لَتَمْشِي فِي مَكَانٍ مَا مَشَى عَلَيْهِ بَشَرٌ، فَكَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ: «آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ»(1) فَقَالَ: نَعَمْ يَا رَبِ «والمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بالله»(2)، فَقَالَ اللَّهُ: «لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً»(3) الآيَةَ، فَقَالَ: «رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا»(4) السُّورَةَ، فَقَالَ: قَدْ فَعَلْتُ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ خَلَّفْتَ لِأُمَّتِكَ مِنْ بَعْدِكَ، فَقَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ إِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِيطَالِبٍ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، ويُقَالُ أَعْطَاهُ اللَّهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ أَرْبَعَةً، رَفَعَ عَنْهَا عِلْمَ الْخَلْقِ فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ، والْمُنَاجَاةَ فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ، والسِّدْرَةَ إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ، وإِمَامَةَ عَلِيٍّ (عليه السلام)، وقَالُوا: الْمِعْرَاجُ خَمْسَةُ أَحْرُفٍ فَالْمِيمُ مَقَامُ الرَّسُولِ عِنْدَ الْمَلِكِ الْأَعْلَى، والْعَيْنُ عِزُّهُ عِنْدَ شَاهِدِ كُلِّ نَجْوَى،

ص: 307


1- سورة البقرة: 285.
2- سورة البقرة: 285.
3- سورة البقرة: 286.
4- سورة البقرة: 286.

والرَّاءُ رَفْعَتُهُ عِنْدَ خَالِقِ الْوَرَى، والأَلِفُ انْبِسَاطُهُ مَعَ عَالَمِ السِّرِّ وأَخْفَى، والْجِيمُ جَاهُهُ فِي مَلَكُوتِ الْعُلَى»(1).

ومن خطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام) وفيها يصف اللّه تعالى ثم يبين فضل الرسول الكريم وأهل بيته (عليه وعليهم السلام):

«... حَتَّى أَفْضَتْ كَرَامَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى إِلَى مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) فَأَخْرَجَهُ مِنْ أَفْضَلِ الْمَعَادِنِ مَنْبِتاً، وأَعَزِّ الْأَرُومَاتِ مَغْرِساً، مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي صَدَعَ مِنْهَا أَنْبِيَاءَهُ، وانْتَجَبَ مِنْهَا أُمَنَاءَهُ، عِتْرَتُهُ خَيْرُ الْعِتَرِ، وأُسْرَتُهُ خَيْرُ الْأُسَرِ، وشَجَرَتُهُ خَيْرُ الشَّجَرِ، نَبَتَتْ فِي حَرَمٍ، وبَسَقَتْ فِي كَرَمٍ، لَهَا فُرُوعٌ طِوَالٌ، وثَمَرٌ لا يُنَالُ، فَهُوَ إِمَامُ مَنِ اتَّقَى، وبَصِيرَةُ مَنِ اهْتَدَى، سِرَاجٌ لَمَعَ ضَوْؤُهُ، وشِهَابٌ سَطَعَنُورُهُ، وزَنْدٌ بَرَقَ لَمْعُهُ، سِيرَتُهُ الْقَصْدُ، وسُنَّتُهُ الرُّشْدُ، وكَلَامُهُ الْفَصْلُ، وحُكْمُهُ الْعَدْلُ، أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، وهَفْوَةٍ عَنِ الْعَمَلِ، وغَبَاوَةٍ مِنَ الْأُمَم»(2).

وعَنِ الرِّضَا، عَنْ آبَائِهِ، عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليهم

السلام) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «مَا خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ خَلْقاً أَفْضَلَ مِنِّي ولا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنِّي»، قَالَ عَلِيٌّ (عليه السلام): «فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَنْتَ أَفْضَلُ أَوْ جَبْرَئِيلُ»، فَقَالَ (عليه السلام): «يَا عَلِيُّ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وتَعَالَى فَضَّلَ أَنْبِيَاءَهُ الْمُرْسَلِينَ عَلَى مَلَائِكَتِهِ الْمُقَرَّبِينَ، وفَضَّلَنِي عَلَى جَمِيعِ النَّبِيِّينَ والْمُرْسَلِينَ، والْفَضْلُ بَعْدِي لَكَ يَا عَلِيُّ ولِلْأَئِمَّةِ مِنْ بَعْدِكَ، وإِنَّ الْمَلائِكَةَ لَخُدَّامُنَا وخُدَّامُ مُحِبِّينَا، يَا عَلِيُ «الَّذِينَ

ص: 308


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) لابن شهرآشوب: ج 1 ص179 فصل في معراجه (عليه السلام).
2- نهج البلاغة: الخطبة 94.

يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ ومَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ... ويَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا»(1) بِوَلَايَتِنَا، يَا عَلِيُّ لَوْ لا نَحْنُ مَا خَلَقَ آدَمَ ولا حَوَّاءَ ولا الْجَنَّةَ ولا النَّارَ ولا السَّمَاءَ ولا الْأَرْضَ، فَكَيْفَ لا نَكُونُ أَفْضَلَ مِنَ الْمَلائِكَةِ، وقَدْ سَبَقْنَاهُمْ إِلَى مَعْرِفَةِ رَبِّنَا وتَسْبِيحِهِ وتَهْلِيلِهِ وتَقْدِيسِهِ، لِأَنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ خَلَقَ أَرْوَاحَنَا فَأَنْطَقَنَا بِتَوْحِيدِهِ وتَحْمِيدِهِ، ثُمَّ خَلَقَ الْمَلَائِكَةَفَلَمَّا شَاهَدُوا أَرْوَاحَنَا نُوراً وَاحِداً اسْتَعْظَمُوا أَمْرَنَا، فَسَبَّحْنَا لِتَعْلَمَ الْمَلَائِكَةُ أَنَّا خَلْقٌ مَخْلُوقُونَ، وأَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ صِفَاتِنَا، فَسَبَّحَتِ الْمَلَائِكَةُ بِتَسْبِيحِنَا، ونَزَّهَتْهُ عَنْ صِفَاتِنَا، فَلَمَّا شَاهَدُوا عِظَمَ شَأْنِنَا هَلَّلْنَا، لِتَعْلَمَ الْمَلَائِكَةُ أَنْ لا إِلَهَ إلاّ اللَّهُ، وأَنَّا عَبِيدٌ ولَسْنَا بِآلِهَةٍ يَجِبُ أَنْ نُعْبَدَ مَعَهُ أَوْ دُونَهُ، فَقَالُوا: لا إِلَهَ إلاّ اللَّهُ، فَلَمَّا شَاهَدُوا كِبَرَ مَحَلِّنَا كَبَّرْنَا، لِتَعْلَمَ الْمَلَائِكَةُ أَنَّ اللَّهَ أَكْبَرُ مِنْ أَنْ يُنَالَ عِظَمَ الْمَحَلِ إلاّ بِهِ، فَلَمَّا شَاهَدُوا مَا جَعَلَهُ لَنَا مِنَ الْعِزِّ والْقُوَّةِ قُلْنَا: لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلاّ بِاللَّهِ، لِتَعْلَمَ الْمَلَائِكَةُ أَنْ لا حَوْلَ لَنَا ولا قُوَّةَ إلاّ بِاللَّهِ، فَلَمَّا شَاهَدُوا مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْنَا وأَوْجَبَهُ لَنَا مِنْ فَرْضِ الطَّاعَةِ قُلْنَا: الْحَمْدُ لِلَّهِ، لِتَعْلَمَ الْمَلَائِكَةُ مَا يَحِقُّ لِلَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَلَيْنَا مِنَ الْحَمْدِ عَلَى نِعَمِهِ، فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَبِنَا اهْتَدَوْا إِلَى مَعْرِفَةِ تَوْحِيدِ اللَّهِ وتَسْبِيحِهِ وتَهْلِيلِهِ وتَحْمِيدِهِ وتَمْجِيدِهِ.

ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وتَعَالَى خَلَقَ آدَمَ فَأَوْدَعَنَا صُلْبَهُ، وأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لَهُ تَعْظِيماً لَنَا وإِكْرَاماً، وكَانَ سُجُودُهُمْ لِلَّهِ عَزَّ وجَلَّ عُبُودِيَّةً ولآِدَمَ إِكْرَاماً وطَاعَةً لِكَوْنِنَا فِي صُلْبِهِ، فَكَيْفَ لا نَكُونُ أَفْضَلَ مِنَ الْمَلائِكَةِ وقَدْ سَجَدُوا لآِدَمَ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ، وإِنَّهُ لَمَّا عُرِجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ أَذَّنَجَبْرَئِيلُ مَثْنَى مَثْنَى وأَقَامَ مَثْنَى مَثْنَى

ص: 309


1- سورة غافر: 7.

ثُمَّ قَالَ لِي: تَقَدَّمْ يَا مُحَمَّدُ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا جَبْرَئِيلُ أَتَقَدَّمُ عَلَيْكَ، فَقَالَ: نَعَمْ لِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وتَعَالَى فَضَّلَ أَنْبِيَاءَهُ عَلَى مَلَائِكَتِهِ أَجْمَعِينَ، وفَضَّلَكَ خَاصَّةً، فَتَقَدَّمْتُ فَصَلَّيْتُ بِهِمْ ولا فَخْرَ.

فَلَمَّا انْتَهَيْتُ إِلَى حُجُبِ النُّورِ قَالَ لِي جَبْرَئِيلُ: تَقَدَّمْ يَا مُحَمَّدُ وتَخَلَّفَ عَنِّي، فَقُلْتُ: يَا جَبْرَئِيلُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ تُفَارِقُنِي، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَ انْتِهَاءَ حَدِّيَ الَّذِي وَضَعَنِي اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ فِيهِ إِلَى هَذَا الْمَكَانِ، فَإِنْ تَجَاوَزْتُهُ احْتَرَقَتْ أَجْنِحَتِي بِتَعَدِّي حُدُودِ رَبِّي جَلَّ جَلَالُهُ، فَزُخَّ بِي فِي النُّورِ زَخَّةً حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى حَيْثُ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ عُلُوِّ مُلْكِهِ، فَنُودِيتُ: يَا مُحَمَّدُ، فَقُلْتُ: لَبَّيْكَ رَبِّي وسَعْدَيْكَ تَبَارَكْتَ وتَعَالَيْتَ، فَنُودِيتُ: يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ عَبْدِي وأَنَا رَبُّكَ فَإِيَّايَ فَاعْبُدْ وعَلَيَّ فَتَوَكَّلْ، فَإِنَّكَ نُورِي فِي عِبَادِي ورَسُولِي إِلَى خَلْقِي وحُجَّتِي فِي بَرِيَّتِي، لَكَ ولِمَنِ اتَّبَعَكَ خَلَقْتُ جَنَّتِي، ولِمَنْ خَالَفَكَ خَلَقْتُ نَارِي، ولِأَوْصِيَائِكَ أَوْجَبْتُ كَرَامَتِي، ولِشِيعَتِهِمْ أَوْجَبْتُ ثَوَابِي.

فَقُلْتُ: يَا رَبِّ ومَنْ أَوْصِيَائِي، فَنُودِيتُ: يَا مُحَمَّدُ أَوْصِيَاؤُكَ الْمَكْتُوبُونَ عَلَى سَاقِ عَرْشِي، فَنَظَرْتُ وأَنَا بَيْنَ يَدَيْ رَبِّي جَلَّ جَلَالُهُ إِلَى سَاقِ الْعَرْشِ، فَرَأَيْتُ اثْنَيْ عَشَرَ نُوراً فِي كُلِّ نُورٍ سَطْرٌ أَخْضَرُ عَلَيْهِ اسْمُوَصِيٍّ مِنْ أَوْصِيَائِي، أَوَّلُهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وآخِرُهُمْ مَهْدِيُّ أُمَّتِي، فَقُلْتُ: يَا رَبِّ هَؤُلَاءِ أَوْصِيَائِي مِنْ بَعْدِي، فَنُودِيتُ: يَا مُحَمَّدُ هَؤُلَاءِ أَوْلِيَائِي وأَوْصِيَائِي وأَصْفِيَائِي وحُجَجِي بَعْدَكَ عَلَى بَرِيَّتِي وهُمْ أَوْصِيَاؤُكَ وخُلَفَاؤُكَ وخَيْرُ خَلْقِي بَعْدَكَ، وعِزَّتِي وجَلَالِي لأُظْهِرَنَّ بِهِمْ دِينِي، ولأُعْلِيَنَّ بِهِمْ كَلِمَتِي، ولأُطَهِّرَنَّ الْأَرْضَ بِآخِرِهِمْ مِنْ أَعْدَائِي، ولَأُمَكِّنَنَّهُ مَشَارِقَ الْأَرْضِ ومَغَارِبَهَا، ولَأُسَخِّرَنَّ لَهُ الرِّيَاحَ، ولأُذَلِّلَنَّ لَهُ السَّحَابَ الصِّعَابَ، ولَأُرَقِّيَنَّهُ فِي الأَسْبَابِ، ولَأَنْصُرَنَّهُ بِجُنْدِي، ولأُمِدَّنَّهُ

ص: 310

بِمَلَائِكَتِي، حَتَّى تَعْلُوَ دَعْوَتِي وتَجْمَعَ الْخَلْقُ عَلَى تَوْحِيدِي، ثُمَّ لَأُدِيمَنَّ مُلْكَهُ، ولَأُدَاوِلَنَّ الْأَيَّامَ بَيْنَ أَوْلِيَائِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»(1).

نعي المؤمن

مسألة: يستحب نعي المؤمن للناس، وعدم إهماله وتركه غريباً منسي الذكر، ويتأكد الاستحباب كلما كان المؤمن أعظم منزلة، فكيف إذا كان المعصوم عليه السلام.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) جَاءَهُمْجَبْرَئِيلُ (عليه السلام) والنَّبِيُّ مُسَجًّى وفِي الْبَيْتِ عَلِيٌّ وفَاطِمَةُ والْحَسَنُ والْحُسَيْنُ (عليهم السلام) فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ بَيْتِ الرَّحْمَةِ، كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ، وإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ، فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ، ومَا الْحَياةُ الدُّنْيا إلاّ مَتاعُ الْغُرُورِ، إِنَّ فِي اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ عَزَاءً مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ، وخَلَفاً مِنْ كُلِّ هَالِكٍ، ودَرَكاً لِمَا فَاتَ، فَبِاللَّهِ فَثِقُوا، وإِيَّاهُ فَارْجُوا، فَإِنَّ الْمُصَابَ مَنْ حُرِمَ الثَّوَابَ، هَذَا آخِرُ وَطْئِي مِنَ الدُّنْيَا، قَالُوا: فَسَمِعْنَا الصَّوْتَ ولَمْ نَرَ الشَّخْصَ»(2).

ص: 311


1- بحار الأنوار: ج 26 ص335 ب8 فضل النبي وأهل بيته (صلوات الله عليهم) على الملائكة وشهادتهم بولايتهم ح1.
2- الكافي: ج 3 ص221 باب التعزي ح5.

النعي للملائكة

مسألة: يستحب نعي المؤمن للملائكة، وكذا لمن في هو عالم الغيب في الجملة، تأسياً بالصديقة (صلوات الله عليها) إذ نعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى جبرئيل، والملاك في سائر الملائكة موجود، وفي غيره (صلوات الله عليه) أيضاً، وإن كان الاختلاف في الدرجات والمنازل بما لا يقاس.

هذا حسب بعض النسخ.

وفي بعضها: (يا أبتاه جبرئيل إلينا ينعاه)(1).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «نَعَى جَبْرَئِيلُ (عليه السلام) الْحُسَيْنَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ الْحُسَيْنُ (عليه السلام) وجَبْرَئِيلُ عِنْدَهُ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا تَقْتُلُهُ أُمَّتُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): أَرِنِي مِنَ التُّرْبَةِ الَّتِي يُسْفَكُ فِيهَا دَمُهُ، فَتَنَاوَلَ جَبْرَئِيلُ (عليه السلام) قَبْضَةً مِنْ تِلْكَ التُّرْبَةِ فَإِذَا هِيَ تُرْبَةٌ حَمْرَاءُ»(2).

الإخبار عن الغيب

مسألة: يجوز الإخبار عن الغيب في الجملة فيما يقطع به، كما أخبرت الصديقة (صلوات الله عليها) ب (جنة الفردوس مأواه).

كما يجوز الإخبار عنه في المظنون منه بالظن المعتبر كذلك، وعلى هذا يجوز

ص: 312


1- بحار الأنوار: ج22 ص522 ب2 ضمن الرقم 29.
2- كامل الزيارت: ص60 الباب 17 قول جبرئيل لرسول الله (صلى الله عليه وآله): إن الحسين تقتله أمتك من بعدك وأراه التربة التي يقتل عليها ح2.

الإخبار عن دخول هذا المؤمن الميت الجنة، ودخول هذا الكافر النار، ما دام قد ثبت إيمانه ووفاته على الإيمان، أو كفره ووفاته على الكفر.

وقولها (عليها السلام): (ما أدناه) يحتمل إرادة القرب من الله تعالى، لما له من المنزلة الرفيعة عنده، ويحتمل إرادة الدنو من الموت والرحيل، فإن الموت من وجه يقرب الإنسان إلى لقاء ربه(1).

وفي نهج البلاغة: «مَا كَذَبْتُ ولا كُذِبْتُ، ولا ضَلَلْتُ ولا ضُلَّ بِي»(2).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام): «إِنَّ اللَّهَ (جَلَّ ذِكْرُهُ) أَنْزَلَ عَلَى نَبِيِّهِ كِتَاباً بَيَّنَ فِيهِ مَا كَانَ ومَا يَكُونُ إِلَى يَوْمِالْقِيَامَةِ، فِي قَوْلِهِ: «وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ وهُدىً ورَحْمَةً وبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ»(3)، وَفِي قَوْلِهِ: «كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ»(4)، وَفِي قَوْلِهِ: «ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ»(5)، وَفِي قَوْلِهِ: «وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ والْأَرْضِ إلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ»(6)، وَأَوْحَى اللَّهُ (تَعَالَى) إِلَى نَبِيِّهِ (عليه السلام) أَنْ لا يُبْقِيَ فِي غَيْبِهِ وسِرِّهِ ومَكْنُونِ عِلْمِهِ شَيْئاً إلاّ يُنَاجِي بِهِ عَلِيّا»(7).

وقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «لَوْ كَانَ لأَلْسِنَتِكُمْ أَوْكِيَةٌ لَحَدَّثْتُ كُلَّ امْرِئٍ

ص: 313


1- أي لقاء نعيمه تعالى في المؤمن، ولقاء عذابه في الكافر.
2- نهج البلاغة: قصار الحكم: 185.
3- سورة النحل: 89.
4- سورة يس: 12.
5- سورة الأنعام: 38.
6- سورة النمل: 75.
7- دلائل الإمامة: ص236.

بِمَا لَهُ وعَلَيْهِ»(1).

وعَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): مَنْ لَنَا أَنْ يُحَدِّثَنَا كَمَا كَانَ عَلِيٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) يُحَدِّثُ أَصْحَابَهُ بِأَيَّامِهِمْ وتِلْكَ الْمُعْضِلاتِ، فَقَالَ: «أَمَا إِنَّ فِيكُمْ مِثْلَهُ أُولَئِكَ كَانَ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ أَوْكِيَةٌ»(2).

كيف طابت أنفسكم؟

قالت الصديقة فاطمة (عليها السلام) لأمير المؤمنين علي (صلى الله عليه وآله): «فكيف طابت أنفسكم أن تحثوا التراب على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أما كان في صدوركم لرسول الله (صلى الله عليه وآله) الرحمة؟ أما كان معلم الخير؟.

قال (عليه السلام): بلى يا فاطمة، ولكن أمر الله الذي لا مرد له.

فجعلت (عليها السلام) تبكي وتندب وتقول: يا أبتاه الآن انقطع جبريل (عليه السلام)، وكان جبريل يأتينا بالوحي من السماء»(3).

ص: 314


1- الكافي: ج 1 ص264 باب أن الأئمة (عليهم السلام) لو ستر عليهم لأخبروا كل امرئ بما له وعليه ح1
2- بصائر الدرجات في فضائل آل محمد (صلى الله عليهم): ج 1 ص261 ب17 باب في قول الأئمة (عليهم السلام) لشيعتهم لو كان على أفواههم أوكية وكتموا على أنفسهم لأخبروهم بجميع ما يصيبهم من المنايا والبلايا وغيره ح3.
3- عوالم العلوم، مستدرك سيدة النساء إلى الإمام الجواد (عليهما السلام): ج 11، قسم2 فاطمة (سلام الله عليها) ص810 ب4 باب تأبينها (صلوات الله عليها) لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وقولها: يا أبتاه ح6. عن مجمع الزوائد: ج9 ص31.

إثارة الحزن

مسألة: يجوز إثارة الحزن وتهييجه وتجديده بذكر مصائب الفقيد مرة تلو الأخرى، فيما كان الفقيد مستحقاً لذلك.

ويتأكد الاستحباب وربما وجب ذلك في الجملة، في مصاب النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل البيت (عليهم السلام)، وقد ورد عنهم (عليهم الصلاة والسلام): «يحزنون لحزننا ويفرحون لفرحنا».

قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وتَعَالَى اطَّلَعَ إِلَى الْأَرْضِ فَاخْتَارَنَا، واخْتَارَ لَنَا شِيعَةً يَنْصُرُونَنَا، ويَفْرَحُونَ لِفَرَحِنَا، ويَحْزَنُونَ لِحُزْنِنَا، ويَبْذُلُونَ أَمْوَالَهُمْ وأَنْفُسَهُمْ فِينَا، أُولَئِكَ مِنَّا وإِلَيْنَا»(1).

بالإضافة إلى أنه نوع مواساة وهي مستحبة شرعاً وعقلاً.

ولعل قول الصديقة (عليها السلام): (أما كان في صدوركم لرسول الله (صلى الله عليه وآله) الرحمة) تعريض بأولئك الذين آذوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حياته وظلموه وأهل بيته حتى جرعوه الغصص وسقوه السم.روي أنه أَشْرَفَ مَوْلًى لِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (عليهما السلام) وهُوَ فِي سَقِيفَةٍ لَهُ سَاجِدٌ يَبْكِي، فَقَالَ لَهُ: يَا مَوْلَايَ يَا عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ أَمَا آنَ لِحُزْنِكَ أَنْ يَنْقَضِيَ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيْهِ وقَالَ: «وَيْلَكَ» أَوْ «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، واللَّهِ لَقَدْ شَكَا يَعْقُوبُ إِلَى رَبِّهِ فِي أَقَلَّ مِمَّا رَأَيْتَ حَتَّى قَالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ، إَنَّهُ فَقَدَ ابْناً وَاحِداً وأَنَا رَأَيْتُ

ص: 315


1- بحار الأنوار: ج 44 ص287 ب34 ح26، عن الخصال: ج 2 ص635 علم أمير المؤمنين (عليه السلام) أصحابه في مجلس واحد أربعمائة باب مما يصلح للمسلم في دينه ودنياه.

أَبِي وجَمَاعَةَ أَهْلِ بَيْتِي يُذْبَحُونَ حَوْلِي»، قَالَ: وكَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (عليهما السلام) يَمِيلُ إِلَى وُلْدِ عَقِيلٍ، فَقِيلَ لَهُ: مَا بَالُكَ تَمِيلُ إِلَى بَنِي عَمِّكَ هَؤُلَاءِ دُونَ آلِ جَعْفَرٍ، فَقَالَ: «إِنِّي أَذْكُرُ يَوْمَهُمْ مَعَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ (عليهما السلام) فَأَرِقُّ لَهُمْ»(1).

وروي أنه (عليه السلام) لَقَدْ بَكَى عَلَى أَبِيهِ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) عِشْرِينَ سَنَةً، ومَا وُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ طَعَامٌ إلاّ بَكَى، حَتَّى قَالَ لَهُ مَوْلًى لَهُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ أَمَا آنَ لِحُزْنِكَ أَنْ يَنْقَضِيَ فَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ إِنَّ يَعْقُوبَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ لَهُ اثْنَا عَشَرَ ابْناً فَغَيَّبَ اللَّهُ عَنْهُ وَاحِداً مِنْهُمْ فَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنْ كَثْرَةِ بُكَائِهِ عَلَيْهِ وشَابَ رَأْسُهُ مِنَ الْحُزْنِ واحْدَوْدَبَ ظَهْرُهُ مِنَ الْغَمِّ وكَانَ ابْنُهُ حَيّاً فِي الدُّنْيَا وأَنَانَظَرْتُ إِلَى أَبِي وأَخِي وعَمِّي وسَبْعَةَ عَشَرَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي مَقْتُولِينَ حَوْلِي فَكَيْفَ يَنْقَضِي حُزْنِي»(2).

تنفيذ أمر الله

مسألة: يجب تنفيذ أمر الله سبحانه، وهذا الوجوب ليس أمراً وراء وجوب امتثال كل واجب واجب، كما سبق، وإلا لزم استحقاق عقابين بالمخالفة وما أشبه.

والوجوب في الأوامر الواجبة، أما المستحبة فالتنفيذ مستحب، كما أن

ص: 316


1- كامل الزيارات: ص107 الباب 35 بكاء علي بن الحسين على الحسين بن علي (عليهم السلام) ح2.
2- بحار الأنوار: ج 46 ص63 ب5 مكارم أخلاقه وعلمه وإقرار المخالف والمؤالف بفضله وحسن خلقه وخلقه وصوته وعبادته (صلوات الله وسلامه عليه) ح19.

نواهي الله سبحانه وتعالى يجب الانتهاء عنها بالنسبة إلى المحرمات، ويكره إتيانها في النواهي المكروهة.

قال تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا أَطيعُوا اللهَ وأَطيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ في شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ والرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ باللهِ والْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وأَحْسَنُ تَأْويلاً»(1).

الإنسان الرحيم

مسألة: يستحب أن يكون الإنسان رحيماً.

واستحبابه لاختيارية مقدماته عادة،فلا يتوهم عدم الإمكان، ولو سلم فالاستحباب حكم المقدمات، فيأتي الإنسان بمقدمات الرحمة حتى تزرع في صدره، والصفات النفسية إن لم تكن بيد الإنسان كانت مقدماته بيده.

وهكذا في غيرها من الأفعال، فالزراعة يأتي بها الإنسان والإنتاج يكون من الله سبحانه، قال تعالى: «ءأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ»(2)، والزراعات النفسية والمعنوية كالزراعات الخارجية المادية.

مضافاً إلى إمكان إرادة مظاهر الرحمة، وحينئذ يكون المستحب الإتيان بمصاديق الرحمة ومظاهرها.

عَنْ شُعَيْبٍ الْعَقَرْقُوفِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) يَقُولُ

ص: 317


1- سورة النساء: 59.
2- سورة الواقعة: 64.

لِأَصْحَابِهِ: «اتَّقُوا اللَّهَ وكُونُوا إِخْوَةً بَرَرَةً مُتَحَابِّينَ فِي اللَّهِ، مُتَوَاصِلِينَ مُتَرَاحِمِينَ، تَزَاوَرُوا وتَلاقَوْا وتَذَاكَرُوا أَمْرَنَا وأَحْيُوهُ»(1).

وعَنْ عَلِيٍّ (عليه السلام) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ رَحِيمٌ يُحِبُ كُلَّ رَحِيمٍ»(2).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ:«تَوَاصَلُوا وتَبَارُّوا وتَرَاحَمُوا، وكُونُوا إِخْوَةً أَبْرَاراً كَمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ»(3).

وعن أَمِيرَ الْمُؤْمِنِين (عليه السلام) في حديث إنه قال: «يَا نَوْفُ، ارْحَمْ تُرْحَم»(4).

معلم الخير

مسألة: يستحب أن يكون الإنسان معلم الخير.

ولا فرق بين الناس في ذلك مهما كانت وظائفهم وأعمالهم ومواقعهم، فكل إنسان يمكن أن يكون بقدره معلم خير.

هذا في الخير المستحب، أما في الواجب منه فيجب أن يكون الإنسان معلماً للخير الواجب.

ثم إن تعليم الخير قد يكون بالقول، وقد يكون بالفعل، وقد يكون بالتقرير، وقد كان (قولهم وفعلهم وتقريرهم (عليهم السلام) حجة).

ص: 318


1- وسائل الشيعة: ج 12 ص215 ب124 باب استحباب التراحم والتعاطف والتزاور والألفة ح1.
2- وسائل الشيعة: ج 12 ص216 ب124 باب استحباب التراحم والتعاطف والتزاور والألفة ح6.
3- وسائل الشيعة: ج 12 ص216 ب124 باب استحباب التراحم والتعاطف والتزاور والألفة ح3.
4- الأمالي، للصدوق: ص209 المجلس السابع والثلاثون ح9.

كما أن الخير أعم من الخير الدنيوي والأخروي، والمادي والمعنوي، فإن معلم الطب أو الهندسة معلم للخير.

والظاهر أنه لا حقيقة شرعية للخير، نعم قد يقال بالانصراف لشؤون الآخرة،لكنه بدوي، ويؤيده أن الرسول (صلى الله عليه وآله) كان معلم كلا القسمين من الخير.

كما أن الخير أعم من شؤون أصول الدين وفروعه، وكذلك الآداب والأخلاق والحكم والمواعظ وغيرها.

قال تعالى: «وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ولِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُون»(1).

وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «أَلا أُخْبِرُكُمْ بِأَجْوَدِ الأَجْوَادٍ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: أَجْوَدُ الْأَجْوَادِ اللَّهُ، وأَنَا أَجْوَدُ بَنِي آدَمَ، وأَجْوَدُهُمْ بَعْدِي رَجُلٌ عَلِمَ بَعْدِي عِلْماً فَنَشَرَهُ ويُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أُمَّةً وَاحِدَةً، ورَجُلٌ جَادَ بِنَفْسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى قُتِلَ»(2).

وَعَنْهُ (عليه السلام) قَالَ: «مَنْ عَلَّمَ عِلْماً فَلَهُ أَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة»(3).

وَقَالَ (عليه السلام): «مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ يَلْتَمِسُ بَاباً مِنَ الْعِلْمِ لِيَنْتَفِعَ بِهِ ويُعَلِّمَهُ غَيْرَهُ، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ عِبَادَةَ أَلْفِ سَنَةٍ صِيَامَهَا وقِيَامَهَا،وحَفَّتْهُ

ص: 319


1- سورة التوبة: 122.
2- إرشاد القلوب: ج 1 ص14 الباب الأول في ثواب الموعظة والنصيحة بها.
3- إرشاد القلوب: ج 1 ص14 الباب الأول في ثواب الموعظة والنصيحة بها.

الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا، وصَلَّى عَلَيْهِ طُيُورُ السَّمَاءِ وَحِيتَانُ الْبَحْرِ ودَوَابُّ الْبَرِّ، وأَنْزَلَهُ اللَّهُ مَنْزِلَةَ سَبْعِينَ صِدِّيقاً، وكَانَ خَيْراً لَهُ أَنْ لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا كُلُّهَا لَهُ فَجَعَلَهَا فِي الْآخِرَة»(1).

وَقَالَ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ تَعَلَّمَ بَاباً مِنَ الْعِلْمِ لِيُعَلِّمَهُ النَّاسَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ أَعْطَاهُ اللَّهُ أَجْرَ سَبْعِينَ نَبِيّا»(2).

وعَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «مَنْ عَلَّمَ خَيْراً فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهِ».

قُلْتُ: فَإِنْ عَلَّمَهُ غَيْرَهُ يَجْرِي ذَلِكَ لَهُ، قَالَ: «إِنْ عَلَّمَهُ النَّاسَ كُلَّهُمْ جَرَى لَهُ»، قُلْتُ: فَإِنْ مَاتَ، قَالَ: «وإِنْ مَاتَ»(3).

وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ مُعَلِّمَ الْخَيْرِ يَسْتَغْفِرُ لَهُ دَوَابُّ الأَرْضِ، وحِيتَانُ الْبَحْرِ، وكُلُّ ذِي رُوحٍ فِي الْهَوَاءِ، وجَمِيعُ أَهْلِ السَّمَاءِ والأَرْضِ، وإِنَّ الْعَالِمَ والْمُتَعَلِّمَ فِي الأَجْرِ سَوَاءٌ، يَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِكَفَرَسَيْ رِهَانٍ يَزْدَحِمَانِ»(4).

ص: 320


1- غوالي اللئالي: ج 4 ص75 ح59.
2- روضة الواعظين: ج 1 ص12 باب الكلام في ماهية العلوم وفضلها.
3- بصائر الدرجات في فضائل آل محمد (صلى الله عليهم): ج 1 ص5 ب2 باب ثواب العالم والمتعلم ح11.
4- بصائر الدرجات في فضائل آل محمد (صلى الله عليهم): ج 1 ص3 ب2 باب ثواب العالم والمتعلم ح1، وكفرسي رهان يتسابق عليهما يزحم كل منهما صاحبه أي يجي ء بجنبه ويضيق عليه. بحار الأنوار: ج 2 ص17 ب8 ثواب الهداية والتعليم وفضلهما وفضل العلماء وذم إضلال الناس ذيل ح40.

وقَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): «مَا أَهْدَى الْمُسْلِمُ لِأَخِيهِ هَدِيَّةً أَفْضَلَ مِنْ كَلِمَةِ حِكْمَةٍ تَزِيدُهُ هُدًى أَوْ تَرُدُّهُ عَنْ رَدًى»(1).

وَقَالَ (صلى الله عليه وآله): «نِعْمَ الْعَطِيَّةُ ونِعْمَ الْهَدِيَّةُ الْمَوْعِظَةُ»(2).

وفي الرواية: وَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مُوسَى (عليه السلام): «تَعَلَّمِ الْخَيْرَ وعَلِّمْهُ مَنْ لا يَعْلَمُهُ، فَإِنِّي مُنَوِّرٌ لِمُعَلِّمِي الْخَيْرِ ومُتَعَلِّمِيهِ قُبُورَهُمْ حَتَّى لا يَسْتَوْحِشُوا بِمَكَانِهِم»(3).

من صفات الرسول

مسألة: يستحب بيان أن الرسول (صلى الله عليه وآله) كان معلم الخير.

قال تعالى: «لَقَدْ مَنّ اللهُ عَلَى المُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَوَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مّبِينٍ»(4).

فإن بيان أنه (صلى الله عليه وآله) معلّم الخير يوجب اغتراف الناس من ذلك المعين الصافي الذي ينفع الدين والدنيا.

قال تعالى: «هُوَ الَّذي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ ويُزَكِّيهِمْ ويُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ والْحِكْمَةَ وإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفي ضَلالٍ

ص: 321


1- إرشاد القلوب: ج 1 ص13 الباب الأول في ثواب الموعظة والنصيحة بها.
2- إرشاد القلوب: ج 1 ص13 الباب الأول في ثواب الموعظة والنصيحة بها.
3- إرشاد القلوب: ج 1 ص13 الباب الأول في ثواب الموعظة والنصيحة بها.
4- سورة آل عمران: 164.

مُبينٍ»(1).

وقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «كَانَ الرَّسُولُ إِلَيْكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ بِلِسَانِكُمْ وكُنْتُمْ أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ تَعْرِفُونَ وَجْهَهُ وشُعَبَهُ وعِمَارَتَهُ، فَعَلَّمَكُمُ الْكِتَابَ والْحِكْمَةَ والْفَرَائِضَ والسُّنَّةَ وأَمَرَكُمْ بِصِلَةِ أَرْحَامِكُمْ وحَقْنِ دِمَائِكُمْ وصَلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، و«أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها»(2)، وأَنْ تُوفُوا بِالْعَهْدِ، «وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها»(3)، وأَمَرَكُمْ أَنْ تَعَاطَفُوا وتَبَارُّوا وتَبَاذَلُوا وتَرَاحَمُوا، ونَهَاكُمْ عَنِ التَّنَاهُبِ والتَّظَالُمِ والتَّحَاسُدِ والتَّقَاذُفِ والتَّبَاغِي، وعَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وبَخْسِ الْمِكْيَالِ ونَقْصِ الْمِيزَانِ، تَقَدَّمَ إِلَيْكُمْفِيمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ إلاّ تَزْنُوا ولا تَرْبُوا ولا تَأْكُلُوا أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً، و«أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها»(4)، «ولا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ»(5)، «ولا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُ المُعْتَدِينَ»(6)، وكُلُّ خَيْرٍ يُدْنِي إِلَى الْجَنَّةِ ويُبَاعِدُ مِنَ النَّارِ أَمَرَكُمْ بِهِ وكُلُّ شَرٍّ يُبَاعِدُ مِنَ الْجَنَّةِ ويُدْنِي مِنَ النَّارِ نَهَاكُمْ عَنْه»(7).

ص: 322


1- سورة الجمعة: 2.
2- سورة النساء: 58.
3- سورة النحل: 91.
4- سورة النساء: 58.
5- سورة الأعراف: 74.
6- سورة البقرة: 190.
7- الغارات: ج 1 ص201 رسالة أمير المؤمنين علي (عليه السلام) إلى أصحابه بعد مقتل محمد بن أبي بكر.

البكاء والندبة

مسألة: يستحب البكاء والندبة على مصاب الرسول (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام).

وقد ذكرنا أن من فوائد ذلك التفاف الناس حولهم أكثر فأكثر، فإنه سبب لمعرفة الناس بهم والأخذ من علومهم (صلوات الله عليهم أجمعين)، هذا مضافاً إلى أن مثل البكاء والندبة يوجب رقة النفس في قبال القسوة، ورقة النفس من أفضل الصفات النفسية.

وقد يجب البكاء والندبة وجوباً كفائياً لكونه من شعائر الله وحفظها واجب، كما يجب إذا توقف إحقاق الحق أو إبطال الباطل عليه ولو بالوجوب المقدمي العقلي، أو باعتبار كونه أحد مصاديق إحياء ذكرهم (صلوات الله عليهم أجمعين) وحفظه عن الاندراس، فوجوبه تخييري على هذا، فتأمل.

قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) عِنْدَ دَفْنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله):

«إِنَّ الصَّبْرَ لَجَمِيلٌ إلاّ عَنْكَ، وإِنَّ الْجَزَعَ لَقَبِيحٌ إلاّ عَلَيْكَ، وإِنَّ الْمُصَابَ بِي عَلَيْكَ لَجَلِيلٌ، وإِنَّهُ قَبْلَكَ وبَعْدَكَ لَجَلَلٌ»(1).

التوجع على فقدان النعمة

مسألة: يجوز التفجع والتوجع وإظهار الحزن من غير كفران، على فقدان النعم الكبيرة، سواء كان فقدها لأمر اختياري أم لا.

ص: 323


1- عيون الحكم والمواعظ: ص150 ح3301.

وذلك استناداً إلى ما صنعت الصديقة الكبرى (صلوات الله عليها) حيث قالت: (يا أبتاه .. الآن انقطع جبرئيل) إلى غيره.

وعن أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «الْبَكَّاءُونَ خَمْسَةٌ، آدَمُ ويَعْقُوبُ ويُوسُفُ وفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ وعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (عليهم السلام).

فَأَمَّا آدَمُ فَبَكَى عَلَى الْجَنَّةِ حَتَّى صَارَ فِي خَدَّيْهِ أَمْثَالُ الْأَوْدِيَةِ.

وأَمَّا يَعْقُوبُ فَبَكَى عَلَى يُوسُفَ حَتَّى ذَهَبَ بَصَرُهُ، وحَتَّى قِيلَ لَهُ: تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ.

وأَمَّا يُوسُفُ فَبَكَى عَلَى يَعْقُوبَ حَتَّى تَأَذَّى بِهِ أَهْلُ السِّجْنِ فَقَالُوا لَهُ: إِمَّا أَنْ تَبْكِيَ اللَّيْلَ وتَسْكُتَ بِالنَّهَارِ وإِمَّا أَنْ تَبْكِيَ النَّهَارَ وتَسْكُتَ بِاللَّيْلِ، فَصَالَحَهُمْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا.

أَمَّا فَاطِمَةُ فَبَكَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) حَتَّى تَأَذَّى بِهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ فَقَالُوا لَهَا: قَدْ آذَيْتِنَا بِكَثْرَةِ بُكَائِكِ،فَكَانَتْ تَخْرُجُ إِلَى الْمَقَابِرِ مَقَابِرِ الشُّهَدَاءِ فَتَبْكِي حَتَّى تَقْضِيَ حَاجَتَهَا ثُمَّ تَنْصَرِفُ.

وأَمَّا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ فَبَكَى عَلَى الْحُسَيْنِ (عليهما السلام) عِشْرِينَ سَنَةً أَوْ أَرْبَعِينَ سَنَةً، مَا وُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ طَعَامٌ إلاّ بَكَى، حَتَّى قَالَ لَهُ مَوْلًى لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ، قالَ: إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ، إِنِّي مَا أَذْكُرُ مَصْرَعَ بَنِي فَاطِمَةَ إلاّ خَنَقَتْنِي لِذَلِكَ عَبْرَةٌ»(1).

ص: 324


1- الخصال: ج 1 ص272 البكاءون خمسة ح15.

الإخبار عن النعمة

مسألة: يستحب الإخبار عن النعمة في الجملة، فإنه نوع شكر لها، وقد قالت (صلوات الله عليها): «وكان جبرئيل (عليه السلام) يأتينا بالوحي من السماء».

شؤون عَقَدية

مسألة: يستحب وقد يجب الإخبار عن بعض شؤون العقائد، وإن كان موجباً لإنكار بعض الناس أو سخريتهم، إذ لا يوجد حق يظهره المؤمن إلاّ كانوا به يستهزؤون.

قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «لا تُمْسِكْ عَنْ إِظْهَارِ الْحَقِ إِذَا وَجَدْتَ لَهُ أَهْلًا»(1).

فإذا وجد الأهل لابد من إظهار الحق وإن استهزأ به آخرون.

ومما يستند إليه في ذلك قول الصديقة (صلوات الله عليها) في هذه الرواية: (وكان جبرئيل يأتينا بالوحي من السماء).

فإن الرسول (صلى الله عليه وآله) كان يرى جبرئيل (عليه

السلام) ويسمع صوته، وعلي وفاطمة (عليهما السلام) كانا يسمعان صوتهكما في الروايات، وهل كان ذلك دائماً أو في بعض أنواع الوحي، الله العالم.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «إِنَّمَا سُمِّيَتْ فَاطِمَةُ مُحَدَّثَةً، لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ كَانَتْ تَهْبِطُ مِنَ السَّمَاءِ فَتُنَادِيهَا كَمَا تُنَادِي مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ، فَتَقُولُ: يَا

ص: 325


1- عيون الحكم والمواعظ، لليثي: 518 ح9399.

فَاطِمَةُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ، يَا فَاطِمَةُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ، فَتُحَدِّثُهُمْ وَيُحَدِّثُونَهَا، فَقَالَتْ لَهُمْ ذَاتَ لَيْلَةٍ: أَلَيْسَتِ الْمُفَضَّلَةُ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ، فَقَالُوا: إِنَّ مَرْيَمَ كَانَتْ سَيِّدَةَ نِسَاءِ عَالَمِهَا وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ جَعَلَكِ سَيِّدَةَ نِسَاءِ عَالَمِكِ وَعَالَمِهَا وَسَيِّدَةَ نِسَاءِ الْأَوَّلِينَ وَ الْآخِرِينَ»(1).

وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ: «لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) بَاتَ آلُ مُحَمَّدٍ (عليهم السلام) بِأَطْوَلِ لَيْلَةٍ حَتَّى ظَنُّوا أَنْ لا سَمَاءَ تُظِلُّهُمْ ولا أَرْضَ تُقِلُّهُمْ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) وَتَرَ الْأَقْرَبِينَ وَالْأَبْعَدِينَ فِي اللَّهِ، فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ أَتَاهُمْ آتٍ لا يَرَوْنَهُ وَيَسْمَعُونَ كَلَامَهُ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، إِنَّ فِي اللَّهِ عَزَاءً مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍوَنَجَاةً مِنْ كُلِّ هَلَكَةٍ وَدَرَكاً لِمَا فَاتَ «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ المَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الحَياةُ الدُّنْيا إلاّ مَتاعُ الْغُرُورِ»(2) إِنَّ اللَّهَ اخْتَارَكُمْ وَفَضَّلَكُمْ وَطَهَّرَكُمْ وَجَعَلَكُمْ أَهْلَ بَيْتِ نَبِيِّهِ وَاسْتَوْدَعَكُمْ عِلْمَهُ وَأَوْرَثَكُمْ كِتَابَهُ وَجَعَلَكُمْ تَابُوتَ عِلْمِهِ وَعَصَا عِزِّهِ وَضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ نُورِهِ وَعَصَمَكُمْ مِنَ الزَّلَلِ وَآمَنَكُمْ مِنَ الْفِتَنِ فَتَعَزَّوْا بِعَزَاءِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَنْزِعْ مِنْكُمْ رَحْمَتَهُ وَلَنْ يُزِيلَ عَنْكُمْ نِعْمَتَهُ، فَأَنْتُمْ أَهْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الَّذِينَ بِهِمْ تَمَّتِ النِّعْمَةُ وَاجْتَمَعَتِ الْفُرْقَةُ وَائْتَلَفَتِ الْكَلِمَةُ، وَأَنْتُمْ أَوْلِيَاؤُهُ فَمَنْ تَوَلَّاكُمْ فَازَ، وَمَنْ ظَلَمَ حَقَّكُمْ زَهَقَ

ص: 326


1- بحار الأنوار: ج 14 ص206 ب16 قصص مريم و ولادتها و بعض أحوالها (صلوات الله عليها) وأحوال أبيها عمران ح23، وج 43 ص78 ب3 مناقبها وفضائلها وبعض أحوالها ومعجزاتها (صلوات الله عليها) ح65.
2- سورة آل عمران: 185.

، مَوَدَّتُكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاجِبَةٌ فِي كِتَابِهِ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ اللَّهُ عَلَى نَصْرِكُمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ، فَاصْبِرُوا لِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ فَإِنَّهَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ، قَدْ قَبِلَكُمُ اللَّهُ مِنْ نَبِيِّهِ وَدِيعَةً وَاسْتَوْدَعَكُمْ أَوْلِيَاءَهُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْأَرْضِ، فَمَنْ أَدَّى أَمَانَتَهُ آتَاهُ اللَّهُ صِدْقَهُ، فَأَنْتُمُ الْأَمَانَةُ الْمُسْتَوْدَعَةُ، وَلَكُمُ الْمَوَدَّةُ الْوَاجِبَةُ وَالطَّاعَةُ الْمَفْرُوضَةُ، وَقَدْ قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) وَقَدْ أَكْمَلَ لَكُمُ الدِّينَ، وَبَيَّنَ لَكُمْ سَبِيلَ الْمَخْرَجِ، فَلَمْ يَتْرُكْ لِجَاهِلٍ حُجَّةً، فَمَنْ جَهِلَ أَوْ تَجَاهَلَ أَوْ أَنْكَرَ أَوْ نَسِيَ أَوْ تَنَاسَى فَعَلَى اللَّهِ حِسَابُهُ وَاللَّهُ مِنْوَرَاءِ حَوَائِجِكُمْ وَأَسْتَوْدِعُكُمُ اللَّهَ وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ. فَسَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام): مِمَّنْ أَتَاهُمُ التَّعْزِيَةُ، فَقَالَ: مِنَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى»(1).

ص: 327


1- الكافي: ج 1 ص445 باب مولد النبي (صلى الله عليه وآله) و وفاته ح19.

في مصاب الرسول

اشارة

قالت الصديقة فاطمة (عليها السلام): «يا أنس أطابت أنفسكم أن دفنتم رسول الله (صلى الله عليه وآله) في التراب ورجعتم».

-------------------------------------------

الرثاء وحكمه

مسألة: يجوز الرثاء بما يوجب تسلّي النفس.

ولا يخفى أن الرثاء(1) إنشاء، ولا يأتي في الإنشاء الصدق والكذب، إلاّ إذا جُعل الإنشاء طريقاً إلى الإخبار، كما إذا قال الفقير: (أعطني شيئاً) والمخاطب يعلم بأنه غني، فيقول إنه يكذب، فإن تكذيبه ليس راجعاً إلى إنشائه بطلبه، وإنما راجع إلى المقصود بالإنشاء من الإخبار بأنه فقير.

أو إذا قال: ادخل الدار، والمأمور أو السامع يعلم أن القائل لا يريد دخوله، فيقول: إنه يكذب، ومراده أن الإرادة المنكشفة بالأمر ليست على حقيقتها وجديتها فهي لا تطابق واقعه، وهكذا.

ولذا يلزم في لسان الحال أن يطابقلسانُ حاله حالَه، أي مقامه وشأنه وحالته، والمراد به ما يقتضيه المقام، فإذا قال لصاحب المنبر والمحراب بعد فوته: من للمنبر والمحراب كان من الرثاء الصحيح، أما إذا قال لفاسق لا يرتقي المنبر ولا

ص: 328


1- بالقول (وا أبتاه) أو (وا مظلوماه) أو شبه ذلك.

يصلي في المحراب: من للمنبر والمحراب؟ كان رثاءً غير صحيح، لأنه لا يقتضيه الحال، فهو كاذب لما يتضمنه أو يستلزمه هذا الإنشاء من الإخبار.

ومن الرثاء الصادق المستحب، رثاء الأولياء:

قال أمير المؤمنين (عليه السلام) فِي رثاء أَبِيهِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام):

أَبَا طَالِبٍ عِصْمَةَ الْمُسْتَجِيرِ *** وَ غَيْثَ المُحُولِ ونُورَ الظُّلَمِ

لَقَدْ هَدَّ فَقْدُكَ أَهْلَ الْحِفَاظِ *** فَصَلَّى عَلَيْكَ وَلِيُّ النِّعَمِ

وَلَقَّاكَ رَبُّكَ رِضْوَانَهُ *** فَقَدْ كُنْتَ لِلْمُصْطَفَى خَيْرَ عَمّ (1)

* وروي أَنَّ فَاطِمَةَ لَمَّا مَاتَتْ أَنْشَأَ عَلِيٌّ (عليهما السلام):

نَفْسِي عَلَى زَفَرَاتِهَا مَحْبُوسَةٌ *** يَا لَيْتَهَا خَرَجَتْ مَعَ الزَّفَرَاتِ

لا خَيْرَ بَعْدَك فِي الْحَيَاةِ وإِنَّمَا *** أَبْكِي مَخَافَةَ أَنْ تَطُولَ حَيَاتِي»(2)

* ولمّا دفن (صلى الله عليه وآله) قالت فاطمة ابنته (عليها السلام):

اغبرّ آفاق السماء وكوّرت *** شمس النهار وأظلم العصران

فالأرض من بعد النبيّ كئيبة *** أسفا عليه كثيرة الرجفان

فليبكه شرق البلاد وغربها *** و لتبكه مضر وكلّ يمان

وليبكه الطود المعظم جوّه *** و البيت ذو الأستار والأركان

ص: 329


1- إيمان أبي طالب (عليه السلام): ص122.
2- بحار الأنوار: ج 43 ص213 ب7 ما وقع عليها من الظلم وبكائها وحزنها وشكايتها في مرضها إلى شهادتها وغسلها ودفنها وبيان العلة في إخفاء دفنها (صلوات الله عليها ولعنة الله على من ظلمها).

يا خاتم الرسل المبارك ضوءه *** صلّى عليك منزّل القرآن»(1)

حرمة طيب النفس بفقد المعصوم

مسألة: يحرم أن تطيب نفس الإنسان بفقد المعصوم (عليه السلام) ودفنه، بمعنى: الفرح بموته واستشهاده، وكذلك بفقد العالم الصالح وموت المؤمن.

أما إذا كان طيب النفس بمعنى الرضا بقضاء الله وقدره وبأمره التشريعي والتكويني، فيرضى بما قد أداه من تكليفه الشرعي الذي أمره الله سبحانه به كدفن الميت مثلاً، فإن ذلك من لوازم الإيمان.

روي إنّ ابن زياد جلس في القصر للناس، وأذن إذناً عامّاً، وجي ء برأسالحسين (عليه السلام) فوضع بين يديه، وادخل نساء الحسين (عليه السلام) وصبيانه إليه، فجلست زينب بنت عليّ (عليهما السلام) متنكّرة، فسأل عنها، فقيل: هذه زينب بنت عليّ. فأقبل عليها فقال: الحمد للّه الذي فضحكم وأكذب احدوثتكم!.

فقالت: إنّما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو غيرنا.

فقال ابن زياد (لعنه اللّه): كيف رأيت صنع اللّه بأخيك وأهل بيتك؟

فَقَالَتْ: «مَا رَأَيْتُ إلاّ جَمِيلًا، هَؤُلَاءِ قَوْمٌ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْقَتْلَ فَبَرَزُوا إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وسَيَجْمَعُ اللَّهُ بَيْنَكَ وبَيْنَهُمْ فَتُحَاجُّ وتُخَاصَمُ فَانْظُرْ لِمَنِ الْفَلْجُ

ص: 330


1- عوالم العلوم، مستدرك سيدة النساء إلى الإمام الجواد (عليهما السلام): ج 11 قسم2، فاطمة (سلام الله عليها) ص806.

يَوْمَئِذٍ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا ابْنَ مَرْجَانَة»(1).

من آداب الدفن

مسألة: يستحب البقاء عند قبر الميت شيئاً بعد دفنه، وعدم الذهاب بسرعة، فإن في البقاء نوع مواساة لذوي الميت، بل للميت نفسه، وفيه عبرةواعتبار، وهو نوع وفاء أيضاً، ولعل قول الصديقة (صلوات الله عليها): (أطابت أنفسكم... ورجعتم) إشارة إلى ذلك.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «يَنْبَغِي أَنْ يَتَخَلَّفَ عِنْدَ قَبْرِ الْمَيِّتِ أَوْلَى النَّاسِ بِهِ بَعْدَ انْصِرَافِ النَّاسِ عَنْهُ، ويَقْبِضَ عَلَى التُّرَابِ بِكَفَّيْهِ ويُلَقِّنَهُ بِرَفِيعِ صَوْتِهِ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ كُفِيَ الْمَيِّتُ الْمَسْأَلَةَ فِي قَبْرِهِ»(2).

من نظم الصديقة

عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: جاءت فاطمة (عليها السلام) إلى سارية(3) في المسجد وهي تقول وتخاطب النبي (صلى الله عليه وآله):

ص: 331


1- بحار الأنوار: ج 45 ص116 ب39 الوقائع المتأخرة عن قتله (صلوات الله عليه) إلى رجوع أهل البيت (عليهم السلام) إلى المدينة وما ظهر من إعجازه (صلوات الله عليه) في تلك الأحوال، عوالم العلوم، مستدرك سيدة النساء إلى الإمام الجواد (عليهما السلام): ج 17 الحسين (عليه السلام) ص383.
2- وسائل الشيعة: ج 3 ص202 ب35 باب استحباب تلقين الولي الميت الشهادتين والإقرار بالأئمة (عليهم السلام) بأسمائهم بعد انصراف الناس ح3.
3- السارية: الأسطوانة.

قَدْ كَانَ بَعْدَكَ أَنْبَاءٌ وهَنْبَثَةٌ(1) *** لَوْ كُنْتَ شَاهِدَهَا لَمْ يَكْثُرِ الْخَطْبُ

إِنَّا فَقَدْنَاكَ فَقْدَ الْأَرْضِ وَابِلَهَا *** وَاخْتَلَّ قَوْمُكَ فَاشْهَدْهُمْ ولا تَغِب (2)

ظلامات العترة

مسألة: يجب إحياء ظلامات أهل البيت (عليهم السلام) وبيانها، ولا يجوز تركها تندرس أو تنسى، ومنه ما قاله الإمام الصادق (عليه السلام): (جاءت فاطمة إلى ...).

ويشمله أيضاً قوله (عليه السلام): «أحيوا أمرنا»(3)، الظاهر في الوجوب.

وفي الآية الشريفة: «يُجاهِدُونَ في سَبيلِ اللهِ ولا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِم»(4).

والوجوب كفائي، وإذا لم يقم به من فيه الكفاية وجب على الجميع.

عن أَبُي عُبَيْدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ (عليهما السلام) يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ وأَنَا حَاضِرٌ: «اتَّقُوا اللَّهَ، وكُونُوا إِخْوَةً بَرَرَةً مُتَحَابِّينَ فِي اللَّهِ، مُتَوَاصِلِينَ مُتَرَاحِمِينَ، تَزَاوَرُوا وتَلَاقَوْا وتَذَاكَرُوا وأَحْيُوا أَمْرَنَا»(5).

وَقَالَ الإمام الباقر (عليه السلام): «أَحْيُوا أَمْرَنَا، رَحِمَ اللَّهُ مَنْ أَحْيَا أَمْرَنَا»(6).

ص: 332


1- الهنبثة: واحدة الهنابث، وهي الأمور الشدائد المختلفة المختلطة، كما في (مجمع البحرين).
2- الكافي: ج 8 ص376 خطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام) ح564.
3- راجع وسائل الشيعة: ج 12 ص20 ب10 باب استحباب اجتماع الإخوان ومحادثتهم ح1.
4- سورة المائدة: 54.
5- الأمالي، للطوسي: ص60 المجلس الثاني ح56.
6- هداية الأمة إلى أحكام الأئمة (عليهم السلام): ج5 ص137ح860.

محاسبة الأمة

مسألة: ينبغي القيام بمحاسبة الأُمة وبتقييم حركتها بين فترة وأخرى، بقصد تصحيح مسيرتها، وقد يجب ذلك، ووجوبه كفائي على الجميع، ويتأكد في قادة الأُمة وسادتها، وقد قامت السيدة الصديقة (عليها السلام) بذلك في هذه الرواية والروايات اللاحقة.

عَنِ الصَّادِقِينَ (عليهم السلام) أَنَّهُمْ قَالُوا: «إِذَا ظَهَرَتِ الْبِدَعُ فَعَلَى الْعَالِمِ أَنْ يُظْهِرَ عِلْمَهُ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ سُلِبَ نُورَ الْإِيمَانِ»(1).

وقَالَ أميرالمؤمنين (عليه السلام): «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ لِي عَلَيْكُمْ حَقّاً، ولَكُمْ عَلَيَّ حَقٌّ، فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَيَّ فَالنَّصِيحَةُ لَكُمْ، وتَوْفِيرُ فَيْئِكُمْ عَلَيْكُمْ، وتَعْلِيمُكُمْ كَيْلَا تَجْهَلُوا، وتَأْدِيبُكُمْ كَيْمَا تَعْلَمُوا، وأَمَّا حَقِّي عَلَيْكُمْ فَالْوَفَاءُ بِالْبَيْعَةِ، والنَّصِيحَةُ فِي الْمَشْهَدِ والْمَغِيبِ، والإِجَابَةُ حِينَ أَدْعُوكُمْ، والطَّاعَةُ حِينَ آمُرُكُم»(2).

من مستثنيات الغيبة

مسألة: ليس النقد البناء ولا التظلم والجهر بمثالب الطغاة من الغيبة المحرمة في شيء، سواء كان النقد لشخص أو جماعة أو أمة، كما سبق ذلك في أجزاء الكتاب.

ص: 333


1- وسائل الشيعة: ج 16 ص271 ب40 باب وجوب إظهار العلم عند ظهور البدع وتحريم كتمه إلا لتقية وخوف وتحريم الابتداع ح9.
2- نهج البلاغة: الخطبة 35.

وقد قالت الصديقة (صلوات الله عليها): (قد كان بعد أنباء وهنبثة) و(واختل قومك...)، فإن في ذلك إبطالاً للباطل، ونهياً عن المنكر، ورفعاً له، وربما كان دفعاً أيضاً.

عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ (عليهما السلام) قَالَ: «ثَلَاثَةٌ لَيْسَ لَهُمْ حُرْمَةٌ، صَاحِبُ هَوًى مُبْتَدِعٌ، والْإِمَامُ الْجَائِرُ، والْفَاسِقُ الْمُعْلِنُ بِالْفِسْقِ»(1).

وعَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (عليهما السلام) قَالَ: «إِذَا جَاهَرَ الْفَاسِقُ بِفِسْقِهِ فَلَا حُرْمَةَ لَهُ ولا غِيبَةَ»(2).

التحسر والتألم

مسألة: يجوز التحسر والتألم على الأمر وإن علم أنه مما لا بد منه، بل التحسر على مثل فقد النبي (صلى الله عليه وآله)مستحب.

لا يقال: يلزم الرضا بالقضاء والقدر.

لأنه يقال: التألم والبكاء ونظائرهما من قضاء الله أيضاً، ولذا قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في وفاة ابنه إبراهيم (عليه السلام): «يحزن القلب وتدمع العين ولا نقول ما لا يرضي الرب»(3)، كما قال أمير المؤمنين (عليهالسلام): «من قضاء

ص: 334


1- وسائل الشيعة: ج 12 ص289 ب154 باب المواضع التي تجوز فيها الغيبة ح5.
2- وسائل الشيعة: ج 12 ص289 ب154 باب المواضع التي تجوز فيها الغيبة ح4.
3- بحار الأنوار: ج 74 ص140 ب7 ما جمع من مفردات كلمات الرسول (صلى الله عليه وآله) وجوامع كلمه ح23. وفي تحف العقول: ص37، قَالَ (صلى الله عليه وآله) لِابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ وهُوَ يَجُودُ بِنَفْسِهِ: «لَوْلا أَنَّ الْمَاضِيَ فَرَطُ الْبَاقِي وأَنَّ الْآخِرَ لَاحِقٌ بِالْأَوَّلِ لَحَزِنَّا عَلَيْكَ يَا إِبْرَاهِيمُ، ثُمَّ دَمَعَتْ عَيْنُهُ وقَالَ: تَدْمَعُ الْعَيْنُ ويَحْزَنُ الْقَلْبُ ولَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى الرَّبُّ وإِنَّا بِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ». وفي الكافي: ج 3 ص262 ح45، قَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): «تَدْمَعُ الْعَيْنُ، ويَحْزَنُ الْقَلْبُ، ولَانَقُولُ مَا يُسْخِطُ الرَّبَّ، وإِنَّا بِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُون». وفي من لا يحضره الفقيه: ج 1 ص177 باب التعزية والجزع عند المصيبة وزيارة القبور والنوح والمأتم ح526، قَالَ الصَّادِقُ (عليه السلام): «لَمَّا مَاتَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) قَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): حَزِنَّا عَلَيْكَ يَا إِبْرَاهِيمُ وإِنَّا لَصَابِرُونَ يَحْزَنُ الْقَلْبُ وتَدْمَعُ الْعَيْنُ ولَا نَقُولُ مَا يُسْخِطُ الرَّبَّ». وروي عن البخاري في صحيحه: ج1 ص226 باب قول النبيّ: إنا بك محزونون من أبواب الجنائز، عن أنس قال: دخلنا عليه (صلى الله عليه وآله) وإبراهيم ابنه يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول اللّه تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول اللّه؟ فقال: «يا ابن عوف إنها رحمة، ثمّ أتبعها بأخرى فقال: إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضى ربّنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون».

الله إلى قدره»(1).

عَنِ النَّائِبِ بْنِ بُرَيْدٍ: أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) لَمَّا مَاتَ ابْنُهُ الطَّاهِرُ ذَرَفَتْ عَيْنَاهُ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَكَيْتَ، فَقَالَ (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ الْعَيْنَ تَذْرِفُ، وإِنَّ الدَّمْعَ يَغْلِبُ، وإِنَّ الْقَلْبَ يَحْزَنُ، ولا نَعْصِي اللَّهَ عَزَّ وجَل»(2).

وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ الصَّيْقَلِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: شَكَوْتُ إِلَى أَبِي عَبْدِ

ص: 335


1- رُوِيَ أَنَّ عَلِيّاً (عليه السلام) مَرَّ يَوْماً عَلَى تَحْتِ حَائِطٍ مَائِلٍ فَأَسْرَعَ فِي الْمَشْيِ، فَقِيلَ لَهُ: أَتَفِرُّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ (عليه السلام): «نَعَمْ أَفِرُّ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِه». غوالي اللئالي: ج 4 ص111 ح169، وراجع بحار الأنوار: ج 56 ص3 ب14 الأيام والساعات والليل والنهار.
2- مسكن الفؤاد: ص104.

اللَّهِ (عليه السلام) وَجْداً وَجَدْتُهُ عَلَى ابْنٍ لِي هَلَكَ حَتَّى خِفْتُ عَلَى عَقْلِي، فَقَالَ: «إِذَا أَصَابَكَ مِنْ هَذَا شَيْ ءٌ فَأَفِضْ مِنْ دُمُوعِكَ فَإِنَّهُ يَسْكُنُ عَنْكَ»(1).

وقَالَ الإمام الصادق (عليه السلام): «مَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ وَجْدٍ بِمُصِيبَةٍ، فَلْيُفِضْ مِنْ دُمُوعِهِ فَإِنَّهُ يَسْكُنُ عَنْهُ»(2).

إخبار الميت وخطاب الغائب

مسألتان: يجوز خطاب الميت والتكلم معه وإخباره بما جرى بعده من الأنباء والقضايا وإن لم تكن راجعة إلى نفس الراثي.

كما يجوز خطاب الغائب كذلك، وليس ذلك لغواً ولا عبثاً، لأن الميت يسمع في الجملة، ومثل النبي (صلى الله عليه وآله) يسمع مطلقاً، أما من لا يسمع فالفائدة إسماع الأحياء بهذه الطريقة.

عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): نَزُورُ الْمَوْتَى، فَقَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: فَيَسْمَعُونَ بِنَا إِذَا أَتَيْنَاهُمْ، قَالَ: إِي واللَّهِ إِنَّهُمْ لَيَعْلَمُونَ بِكُمْ ويَفْرَحُونَ بِكُمْ ويَسْتَأْنِسُونَ إِلَيْكُمْ، قَالَ: قُلْتُ: فَأَيَّ شَيْ ءٍ نَقُولُ إِذَا أَتَيْنَاهُمْ، قَالَ: «قُلِ اللَّهُمَّ جَافِ الْأَرْضَ عَنْ جُنُوبِهِمْ، وصَاعِدْ إِلَيْكَ أَرْوَاحَهُمْ، ولَقِّهِمْ مِنْكَ رِضْوَاناً، وأَسْكِنْ إِلَيْهِمْ مِنْ رَحْمَتِكَ مَا تَصِلُ بِهِ وَحْدَتَهُمْ، وتُؤْنِسُ بِهِ وَحْشَتَهُمْ، إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ».

ص: 336


1- وسائل الشيعة: ج 3 ص280 ب87 باب جواز البكاء على الميت والمصيبة واستحبابه عند زيادة الحزن ح2.
2- وسائل الشيعة: ج 3 ص281 ب87 باب جواز البكاء على الميت والمصيبة واستحبابه عند زيادة الحزن ح5.

وَمِنْ كِتَابِ مَدِينَةِ الْعِلْمِ لِأَبِي جَعْفَرِ بْنِ بَابَوَيْهِ أَيْضاً، بِإِسْنَادِهِ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيَى، مِنْ جُمْلَةِ حَدِيثٍ قَال:َ قُلْتُ يَعْنِي لِأَبِي الْحَسَنِ (عليه السلام): هَلْ يَسْمَعُ الْمَيِّتُ تَسْلِيمَ مَنْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ، قَالَ: نَعَمْ يَسْمَعُأُولَئِكَ وهُمْ كُفَّارٌ ولا يَسْمَعُ الْمُؤْمِنُونَ».

وقال ابن طاووس: وقوله (عليه السلام) يسمع أولئك وهم كفار، لعله أراد الكفار الذين خَاطَبَهُمُ النَّبِيُّ (عليه السلام) لَمَّا قَتَلَهُمْ بِبَدْرٍ ورَمَوْهُمْ فِي الْقَلِيبِ، فَإِنَّهُ (عليه السلام) قَالَ لَهُمْ: «قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقّاً» ثُمَّ قَالَ (عليه السلام): «إِنَّهُمْ لَيَسْمَعُونَ كَمَا تَسْمَعُون»(1).

وروي فيما وقع بعد واقعة الجمل: ..ثُمَّ مَشَى (أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلامُ) قَلِيلًا فَمَرَّ بِكَعْبِ بْنِ سُورٍ فَقَالَ: هَذَا الَّذِي خَرَجَ عَلَيْنَا فِي عُنُقِهِ الْمُصْحَفُ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَاصِرُ أُمِّهِ، يَدْعُو النَّاسَ إِلَى مَا فِيهِ وهُوَ لا يَعْلَمُ مَا فِيهِ، ثُمَّ اسْتَفْتَحَ فَ- «خابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ»(2)، أَمَا إِنَّهُ دَعَا اللَّهَ أَنْ يَقْتُلَنِي فَقَتَلَهُ اللَّهُ، أَجْلِسُوا كَعْبَ بْنَ سُورٍ، فَأُجْلِسَ، فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): يَا كَعْبُ لَقَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقّاً فَهَلْ وَجَدْتَ مَا وَعَدَكَ رَبُّكَ حَقّاً.

ثُمَّ قَالَ: أَضْجِعُوا كَعْباً، ومَرَّ عَلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ فَقَالَ: هَذَا النَّاكِثُ بَيْعَتِي والْمُنْشِئُ الْفِتْنَةَ فِي الْأُمَّةِ والْمُجْلِبُ عَلَيَّ والدَّاعِي إِلَى قَتْلِي وقَتْلِ عِتْرَتِي.أَجْلِسُوا طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَأُجْلِسَ، فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ: «يَا طَلْحَةُ قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقّاً فَهَلْ وَجَدْتَ مَا وَعَدَكَ رَبُّكَ حَقّاً» ثُمَّ قَالَ:

ص: 337


1- فلاح السائل: ص86.
2- سورة إبراهيم: 15.

أَضْجِعُوا طَلْحَةَ، وسَارَ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ مَنْ كَانَ مَعَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَتُكَلِّمُ كَعْباً وطَلْحَةَ بَعْدَ قَتْلِهِمَا، فَقَالَ: «أَمَ واللَّهِ لَقَدْ سَمِعَا كَلَامِي كَمَا سَمِعَ أَهْلُ الْقَلِيبِ كَلَامَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) يَوْمَ بَدْرٍ»(1).

ما جرى بعد النبي

مسألة: يستحب بيان أن بعد الرسول (صلى الله عليه وآله) كان أنباء وهنبثة.

وقد يجب ذلك إذا كان سبباً لوضوح الحق واتباعه، والنفرة عن الظالمين والطغاة والغاصبين للخلافة، والالتفاف حول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وذويه (صلوات الله عليهم أجمعين).

قال تعالى: «لا يُحِبُّ اللهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إلاّ مَنْ ظُلِمَ وكانَ اللهُ سَميعاً عَليماً»(2).

المكان والزمان المناسبان

مسألة: يلزم انتخاب المكان والزمان الأكثر تأثيراً والأوصل للناس، للدفاع عن المظلوم وإدانة الظلام.

والظاهر أن الصديقة (صلوات الله عليها) لذلك جاءت إلى سارية المسجد

ص: 338


1- بحار الأنوار: ج 32 ص209 ب3 باب ورود البصرة ووقعة الجمل وما وقع فيها من الاحتجاج ح163، عن الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد: ج 1 ص256 كلامه (عليه السلام) عند تطوافه على القتلى.
2- سورة النساء: 148.

وخاطبت النبي (صلى الله عليه وآله) عندها، ولعل مجيئها للسارية لكي تستر بها قدر المستطاع مع إتمام الحجة بوجودها بشخصها، فقد جمعت بين الأمرين والحقين بذلك.

كما يحتمل أن يكون مجيؤها (عليها السلام) لسارية المسجد لكي تتكأ عليها حين كلامها، وإتماماً للحجة، بعد أن أنهكها التعب والمرض لما أصابها من كسر الضلع وإسقاط الجنين المحسن (عليه سلام الله، وعلى ظالميها لعائن الله والملائكة والناس أجمعين).

قال أميرالمؤمنين (عليه السلام): «كُنْ لِلْمَظْلُومِ عَوْناً ولِلظَّالِمِ خَصْماً»(1).

الإجمال والتفصيل

مسألة: يجوز الإجمال في بيان المظالم وإدانة الظالم، كما يجوز التفصيل، كلحسب موقعه، وقد قالت (صلوات الله عليها): (قد كان بعدك أنباء وهنبثة) أي أمر شديد مختلط.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «اضمنوا لي ستّ خصال أضمن لكم الجنّة، لا تظالموا عند قسمة مواريثكم، وأنصفوا النّاس من أنفسكم، ولا تجبنوا عند قتال عدوّكم، ولا تغلوا غنائمكم، وامنعوا ظالمكم من مظلومكم»(2).

وقَالَ أميرالمؤمنين (عليه السلام): «والَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وبَرَأَ النَّسَمَةَ لَوْ لا حُضُورُ الْحَاضِرِ وقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ، ومَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ إلاّ

ص: 339


1- عيون الحكم والمواعظ، لليثي: ص393 ح6660.
2- نهج الفصاحة: ص217 ح322.

يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ ولا سَغَبِ مَظْلُومٍ، لَأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا، ولَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا، ولَأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْز»(1).

المحاسبة والرقابة

مسألة: ينبغي محاسبة الأُمة كما ينبغي الرقابة عليها في الجملة، وذلك كي لا تزيغ عن الطريق القويم والصراط المستقيم، ضمن الأطر الشرعية، بما لا يكون تجسساً على الناس ولا تضييقاًلحرياتهم المشروعة وما أشبه.

قَالَ أمير المؤمنين (عليه السلام): «زِنُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُوزَنُوا، وحَاسِبُوهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تُحَاسَبُوا»(2).

وعن أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «مَا أَقَرَّ قَوْمٌ بِالْمُنْكَرِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ لا يُغَيِّرُونَهُ إلاّ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْ عِنْدِهِ»(3).

تقييم الأُمة

مسألة: ينبغي القيام بتقييم حركات الأُمة بين فترة وأخرى بقصد تصحيح مسيرتها، وقد يجب ذلك، وهو واجب كفائي على الجميع، ويتأكد في قادة الأمة وسادتها.

عَنِ الْحَارِثِ بْنِ الْمُغِيرَةِ« قَالَ: لَقِيَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) فِي طَرِيقِ

ص: 340


1- نهج البلاغة: الخطبة 3.
2- نهج البلاغة: الخطبة90.
3- وسائل الشيعة: ج 16 ص137 ب4 باب وجوب إنكار العامة على الخاصة وتغيير المنكر إذا عملوا به ح3.

الْمَدِينَةِ فَقَالَ: «مَنْ ذَا، أَحَارِثٌ» قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: «أَمَا لأَحْمِلَنَّ ذُنُوبَ سُفَهَائِكُمْ عَلَى عُلَمَائِكُمْ» ثُمَّ مَضَى فَأَتَيْتُهُ فَاسْتَأْذَنْتُ عَلَيْهِ فَدَخَلْتُ فَقُلْتُ: لَقِيتَنِي فَقُلْتَ لَأَحْمِلَنَّ ذُنُوبَ سُفَهَائِكُمْ عَلَى عُلَمَائِكُمْ، فَدَخَلَنِي مِنْ ذَلِكَ أَمْرٌ عَظِيمٌ، فَقَالَ: «نَعَمْ مَا يَمْنَعُكُمْ إِذَا بَلَغَكُمْ عَنِ الرَّجُلِ مِنْكُمْ مَا تَكْرَهُونَ ومَا يَدْخُلُ عَلَيْنَا بِهِ الْأَذَى أَنْ تَأْتُوهُ فَتُؤَنِّبُوهُ وتُعَذِّلُوهُ وتَقُولُوا لَهُ قَوْلًا بَلِيغاً» فَقُلْتُ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ إِذاً لا يُطِيعُونَّا ولا يَقْبَلُونَ مِنَّا، فَقَالَ: «اهْجُرُوهُمْ واجْتَنِبُوا مَجَالِسَهُمْ»(1).

وقَالَ الصَّادِقُ (عليه السلام) لِقَوْمٍ مِنْ أَصْحَابِهِ: «إِنَّهُ قَدْ حَقَّ لِي أَنْ آخُذَ الْبَرِي ءَ مِنْكُمْ بِالسَّقِيمِ، وكَيْفَ لا يَحِقُّ لِي ذَلِكَ وأَنْتُمْ يَبْلُغُكُمْ عَنِ الرَّجُلِ مِنْكُمُ الْقَبِيحُ فَلَا تُنْكِرُونَ عَلَيْهِ ولا تَهْجُرُونَهُ ولا تُؤْذُونَهُ حَتَّى يَتْرُكَ»(2).

أهل البيت وعالم الغيب

مسألة: يجب التأكيد على ارتباط أهل البيت (عليهم السلام) بعالم الغيب، بل على الارتباط الخاص الوثيق بينهما، وعلى خصوص ارتباط الصديقة (صلوات الله عليها) بأنحاء عديدة بعالم الغيب، ومنه قولها (عليها السلام): (وكان جبرئيل روح القدس زائرنا)، فإن ظاهر قولها (كان ... زائرنا) هو الديمومة والاستمراروالتكرار، وإلاّ لاكتفت بالفعل الماضي وقالت: (وزارنا جبرئيل).

سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنِ الْجَفْرِ، فَقَالَ: «هُوَ جِلْدُ

ص: 341


1- الكافي: ج 8 ص162 حديث الناس يوم القيامة ح169.
2- وسائل الشيعة: ج 16 ص145 ب7 باب وجوب هجر فاعل المنكر والتوصل إلى إزالته بكل وجه ممكن ح4.

ثَوْرٍ مَمْلُوٍّ عِلْماً»، فَقَالَ لَهُ: مَا الْجَامِعَةُ، فَقَالَ: «تِلْكَ صَحِيفَةٌ طُولُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فِي عَرْضِ الْأَدِيمِ مِثْلُ فَخِذِ الْفَالِجِ فِيهَا كُلَّمَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَيْهِ ولَيْسَ مِنْ قَضِيَّةٍ إلاّ وفِيهَا أَرْشُ الْخَدْشِ»، قَالَ لَهُ: فَمُصْحَفُ فَاطِمَةَ، فَسَكَتَ طَوِيلًا ثُمَّ قَالَ: «إِنَّكُمْ لَتَبْحَثُونَ عَمَّا تُرِيدُونَ وعَمَّا لا تُرِيدُونَ، إِنَّ فَاطِمَةَ مَكَثَتْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) خَمْسَةً وسَبْعِينَ يَوْماً وقَدْ كَانَ دَخَلَهَا حُزْنٌ شَدِيدٌ عَلَى أَبِيهَا وكَانَ جَبْرَئِيلُ يَأْتِيهَا فَيُحْسِنُ عَزَاهَا عَلَى أَبِيهَا ويُطَيِّبُ نَفْسَهَا ويُخْبِرُهَا عَنْ أَبِيهَا ومَكَانِهِ ويُخْبِرُهَا بِمَا يَكُونُ بَعْدَهَا فِي ذُرِّيَّتِهَا، وكَانَ عَلِيٌّ يَكْتُبُ ذَلِكَ فَهَذَا مُصْحَفُ فَاطِمَةَ»(1).

وعَنْ حَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «تَظْهَرُ الزَّنَادِقَةُ فِي سَنَةِ ثَمَانِيَةَ وعِشْرِينَ ومِائَةٍ، وذَلِكَ لِأَنِّي نَظَرْتُ فِي مُصْحَفِ فَاطِمَةَ قَالَ: فَقُلْتُ ومَا مُصْحَفُ فَاطِمَةَ (عليها السلام) فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وتَعَالَى لَمَّا قَبَضَ نَبِيَّهُ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) دَخَلَ عَلَى فَاطِمَةَ(عليها السلام) مِنْ وَفَاتِهِ مِنَ الْحُزْنِ مَا لا يَعْلَمُهُ إلاّ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا مَلَكاً يُسَلِّي عَنْهَا غَمَّهَا ويُحَدِّثُهَا فَشَكَتْ ذَلِكَ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) فَقَالَ لَهَا: إِذَا أَحْسَسْتِ بِذَلِكَ فَسَمِعْتِ الصَّوْتَ فَقُولِي لِي، فَأَعْلَمْتُهُ، فَجَعَلَ يَكْتُبُ كُلَّمَا سَمِعَ حَتَّى أَثْبَتَ مِنْ ذَلِكَ مُصْحَفاً»، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: «أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مِنْ الْحَلَالِ والْحَرَامِ ولَكِنْ فِيهِ عِلْمُ مَا يَكُونُ»(2).

وعَنْ مُعَتِّبٍ قَالَ: تَوَجَّهْتُ مَعَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) إِلَى ضَيْعَةٍ لَهُ يُقَالُ لَهَا طَيْبَةُ، فَدَخَلَهَا فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَصَلَّيْتُ مَعَهُ، فَقَالَ: يَا مُعَتِّبُ إِنِّي صَلَّيْتُ إِلَى

ص: 342


1- بصائر الدرجات في فضائل آل محمد (صلى الله عليهم): ج 1 ص153 ح6.
2- بصائر الدرجات في فضائل آل محمد (صلى الله عليهم): ج 1 ص157 ح18.

ضَيْعَةٍ لَهُ مَعَ أَبِي الْفَجْرَ ذَاتَ يَوْمٍ فَجَلَسَ أَبِي يُسَبِّحُ اللَّهَ، فَبَيْنَا هُوَ يُسَبِّحُ إِذْ أَقْبَلَ شَيْخٌ طَوِيلٌ جَمِيلٌ أَبْيَضُ الرَّأْسِ واللِّحْيَةِ فَسَلَّمَ عَلَى أَبِي وشَابٌّ مُقْبِلٌ فِي أَثَرِهِ فَجَاءَ إِلَى الشَّيْخِ فَسَلَّمَ عَلَى أَبِي وأَخَذَ بِيَدِ الشَّيْخِ وقَالَ: قُمْ فَإِنَّكَ لَمْ تُؤْمَرْ بِهَذَا، فَلَمَّا ذَهَبَا مِنْ عِنْدِ أَبِي قُلْتُ: يَا أَبَتِ مَنْ هَذَا الشَّيْخُ وهَذَا الشَّابُّ، فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ هَذَا واللَّهِ مَلَكُ الْمَوْتِ وهَذَا جَبْرَئِيلُ»(1).

نزول الكتب

مسألة: يجب الإيمان بنزول الكتب من الله تعالى على رسوله محمد (صلى الله عليه وآله)، والمراد بالكتب إما القرآن الكريم فإنه وإن كان كتاباً واحداً باعتبار ما بين الدفتين إلاّ أنه كُتب عديدة بلحاظ آخر.

أو المراد القرآن وغيره مما نزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) مما يسمى بالحديث القدسي(2) وغيره.

وربما أريد به كتب التشريع والتكوين.

ولو أريد به المعنى الأخص لشمل قول الصديقة (عليها السلام): (كتب) غيرها أيضاً(3).

قال تعالى: «وَالَّذينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وبِالْآخِرَةِ

ص: 343


1- بصائر الدرجات في فضائل آل محمد صلى الله عليهم: ج 1 ص234 ح3.
2- الحديث القدسي بالمعنى الأعم قد يشمل ما كان بالإلهام أو النكت في القلب أو التقريع في الأسماع أو سماع الصوت دون الرؤية، أو بواسطة الملك ما لم يكن قرآناً.
3- كمصحف فاطمة (عليها السلام).

هُمْ يُوقِنُون»(1).

وقال سبحانه: «وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وما يَكْفُرُ بِها إلاّ الْفاسِقُون»(2).

وقال تعالى: «قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وما أُنْزِلَ إِلَيْنا وما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهيمَ وإِسْماعيلَ وإِسْحاقَ ويَعْقُوبَ والْأَسْباطِ وما أُوتِيَ مُوسى وعيسى وما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ ونَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون»(3).

وقال سبحانه: «آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ والْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ باللهِ ومَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ لانُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وقالُوا سَمِعْنا وأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وإِلَيْكَ المَصير»(4).

وقال تعالى: «وَهَذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ واتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون»(5).

وقال الإمام العسكري (عليه السلام): «ثُمَّ وَصَفَ بَعْدَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ فَقَالَ: «وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ»(6) يَا مُحَمَّدُ «وما أُنْزِلَ مِنْ

ص: 344


1- سورة البقرة: 4.
2- سورة البقرة: 99.
3- سورة البقرة: 136.
4- سورة البقرة: 285.
5- سورة الأنعام: 155.
6- سورة البقرة: 4.

قَبْلِكَ» عَلَى الأَنْبِيَاءِ الْمَاضِينَ، كَالتَّوْرَاةِ والْإِنْجِيلِ والزَّبُورِ، وصُحُفِ إِبْرَاهِيمَ، وسَائِرِ كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُنَزَّلَةِ عَلَى أَنْبِيَائِهِ، بِأَنَّهَا حَقٌّ وصِدْقٌ مِنْ عِنْدِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الْعَزِيزِ، الصَّادِقِ، الْحَكِيمِ»(1).

الحق واختلاف الناس

مسألة: يجب الجهر بالحق وفضح الظالم،وإن سبب ذلك الاختلاف بين الناس، ولا يصغى إلى ما يقال من أن الوحدة مقدمة على قول الحق.

قال الله تعالى: «كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرينَ ومُنْذِرينَ وأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فيمَا اخْتَلَفُوا فيهِ ومَا اخْتَلَفَ فيهِ إلاّ الَّذينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فيهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِهِ واللهُ يَهْدي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقيم»(2).

ولذلك جهر الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) بالحق، وفضحوا الظلمة، مع أن ذلك سبّب انشقاق الأمة والاختلاف الشديد في الناس.

قالت الصديقة (عليها السلام): (واختل يومك) في الحديث السابق، وقالت في هذا الحديث: (رزئنا بما لم يرزء ذو شجن).

ص: 345


1- تفسير الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): ص88 ح45.
2- سورة البقرة: 213.

التجرد عن الماضي

مسألة: يجرد الفعل الماضي عن معنى المضي إذا نسب إلى ما لا يتعقل فيه ذلك، وهو الله تعالى.

وكذلك إذا نسب إلى ما يعلم عدم المضي فيه.

وعليه يحمل قول الصديقة (عليها السلام): (وكنت بدراً ونوراً يستضاء به)، مع العلم أنه (صلوات الله عليه) كان ولا يزال وسيبقى نوراً يستضاء به، نعم قد يحمل هذا الإخبار على مرتبة خاصة من الإنارة أو على نوع معين منها.

وقد ورد في الزيارة: «كُنْتَ نُوراً فِي الْأَصْلَابِ الشَّامِخَةِ، ونُوراً فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ، ونُوراً فِي الْهَوَاءِ، ونُوراً فِي السَّمَاوَاتِ الْعُلَى، كُنْتَ فِيهَا نُوراً سَاطِعاً لا يُطْفَأُ»(1).

وعَنِ الْمُفَضَّلِ أَنَّهُ سَأَلَ الصَّادِقَ (عليه السلام): مَا كُنْتُمْ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ والْأَرَضِينَ؟ قَالَ: «كُنَّا أَنْوَاراً حَوْلَ الْعَرْشِ نُسَبِّحُ اللَّهَ ونُقَدِّسُهُ حَتَّى خَلَقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمَلَائِكَةَ»(2) الخبر.

ص: 346


1- كامل الزيارات: 230.
2- بحار الأنوار: ج 54 ص170 ح113.

ليتنا متنا قبلك

اشارة

في المناقب لابن شهر آشوب: أنشدت الزهراء (عليها السلام) بعد وفاة أبيها (صلى الله عليه وآله):

وَقَدْ رُزِئْنَا بِهِ مَحْضاً خَلِيقَتَهُ *** صَافِي الضَّرَائِبِ وَالأَعْرَاقِ وَالنَّسَبِ (1)

وَ كُنْتَ بَدْراً وَ نُوراً يُسْتَضَاءُ بِهِ *** عَلَيْكَ تَنْزِلُ مِنْ ذِي الْعِزَّةِ الْكُتُبُ

وَكَانَ جَبْرَئِيلُ رُوحُ الْقُدُسِ زَائِرَنَا *** فَغَابَ عَنَّا وَ كُلُّ الْخَيْرِ مُحْتَجِبٌ

فَلَيْتَ قَبْلَكَ كَانَ الْمَوْتُ صَادَفَنَا *** لَمَّا مَضَيْتَ وَ حَالَتْ دُونَكَ الْحُجُبُ

إِنَّا رُزِئْنَا بِمَا لَمْ يُرْزَ ذُو شَجَنٍ *** مِنَ الْبَرِيَّةِ لا عُجْمٍ وَ لا عُرْبٍ

ضَاقَتْ عَلَيَّ بِلَادٌ بَعْدَ مَا رَحُبَتْ *** وَ سِيمَ سِبْطَاكَ خَسْفاً فِيهِ لِي نَصَبٌ

فَأَنْتَ وَ اللَّهِ خَيْرُ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ *** وَأَصْدَقُ النَّاسِ حَيْثُ الصِّدْقُ وَ الْكَذِبُ

فَسَوْفَ نَبْكِيكَ مَا عِشْنَا وَ مَا بَقِيَتْ *** مِنَّا الْعُيُونُ بِتِهْمَالٍ لَهَا سَكْب (2)

ص: 347


1- قال العلامة المجلسي (رحمه الله) في بحار الأنوار: (شخص محض الخليقة: لا يشوبها كدر وسوء. والضريبة: الطبيعة والسجية. والأعراق: جمع عرق بالكسر وهو الأصل في كل شيء. والشجن: الهم والحزن) بحار الأنوار: ج43 ص196.
2- المناقب: ج3 ص361.

تعابير العرف

مسألة: يجوز التعبير بما جرى العرف على التعبير به في الجملة، وإن كان في ظاهره غير مطابق للواقع، فالمراد يكون مجازاً.

ومنه قول الصديقة (صلوات الله عليها): (وحالت دونك الحجب) مع علمنا بأنه (صلى الله عليه وآله) لا تحول دونه الحجب.

أو يقال: إن المراد من (حالت) أي ظاهراً.

وكذلك قولها (عليها السلام): (وكل الخير محتجب)، المنزل منزلة المبالغة الجائزة بل الراجحة شرعاً أحياناً.

التألم في المصاب

مسألة: التألم لمصاب العظيم وإن لم يكن معصوماً فكيف به (عليه السلام) مطلوب وراجح، أما الجزع فيختلف باختلاف الموارد وهو مطلوب في المعصومين (عليهم السلام).

وقول الصديقة (عليها السلام): (إنا رزئنا) تألم وإخبار، بل وإدانة للظالم أيضاً، وليس جزعاً مرجوحاً كما هو واضح.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) فِي حَدِيثٍقَالَ: «كُلُ الْجَزَعِ والْبُكَاءِ مَكْرُوهٌ سِوَى الْجَزَعِ والْبُكَاءِ عَلَى الْحُسَيْنِ عَلَيْهِ السَّلَامُ»(1).

ص: 348


1- وسائل الشيعة:ج 3 ص282 ب87 باب جواز البكاء على الميت والمصيبة واستحبابه عند زيادة الحزن ح9.

وَقَالَ أمير المؤمنين (عليه السلام): لَمَّا بَلَغَهُ قَتْلُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ: «إِنَّ حُزْنَنَا عَلَيْهِ عَلَى قَدْرِ سُرُورِهِمْ بِه»(1).

الضيق النفسي والجسمي

مسألة: الضيق نفسي وجسمي، وكما يحرم التضييق على شخص بحبسه مثلاً، أو منعه من السفر، كذلك يحرم التضييق النفسي عليه، كأن يهدده بما يجعله في ضيق.

وأما التضييق على المعصوم (عليه السلام) ومنه ما فعله القوم من ظلمها، كما قالت: (ضاقت علي بلاد بعد ما رحبت) فهو من أشد المحرمات الموجبة لدخول النار.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «فاطمة بعضة مني، من آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله»(2).وقال أبو ذر (رحمة الله عليه): دَخَلَتْ فاطمة (عليها

السلام) عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) فَلَمَّا رَأَتْ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) انْكَبَّتْ عَلَيْهِ وبَكَتْ، وبَكَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) لِبُكَائِهَا وضَمَّهَا إِلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «يَا فَاطِمَةُ لا تَبْكِيِنَّ فِدَاكِ أَبُوكِ، فَأَنْتِ أَوَّلُ مَنْ تَلْحَقِينَ بِي مَظْلُومَةً مَغْصُوبَةً، وسَوْفَ يَظْهَرُ بَعْدِي حَسِيكَةُ النِّفَاقِ وسَمَلَ جِلْبَابُ الدِّينِ وأَنْتِ أَوَّلُ مَنْ يَرِدُ عَلَيَّ الْحَوْضَ قَالَتْ: يَا أَبَهْ أَيْنَ أَلْقَاكَ، قَالَ: تَلْقَيْنِي عِنْدَ الْحَوْضِ وأَنَا أَسْقِي شِيعَتَكِ ومُحِبِّيكِ

ص: 349


1- نهج البلاغة: الحكمة 326.
2- عيون المعجزات: ص58.

وأَطْرُدُ أَعْدَاءَكِ ومُبْغِضِيكِ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ أَلْقَكَ عِنْدَ الْحَوْضِ، قَالَ: تَلْقَيْنِي عِنْدَ الْمِيزَانِ، قَالَتْ: يَا أَبَهْ وإِنْ لَمْ أَلْقَكَ عِنْدَ الْمِيزَانِ، قَالَ: تَلْقَيْنِي عِنْدَ الصِّرَاطِ وأَنَا أَقُولُ: سَلِّمْ سَلِّمْ شِيعَةَ عَلِيٍّ»، قَالَ أَبُو ذَرٍّ: فَسَكَنَ قَلْبُهَا ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) فَقَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّهَا بَضْعَةٌ مِنِّي فَمَنْ آذَاهَا فَقَدْ آذَانِي، إلاّ إِنَّهَا سَيِّدَةُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ وبَعْلَهَا سَيِّدُ الْوَصِيِّينَ وابْنَيْهَا الْحَسَنَ والْحُسَيْنَ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وإِنَّهُمْ إِمَامَانِ إِنْ قَامَا أَوْ قَعَدَا، وأَبُوهُمَا خَيْرٌ مِنْهُمَا، وسَوْفَ يَخْرُجُ مِنْ صُلْبِ الْحُسَيْنِ تِسْعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ مَعْصُومُونَ قَوَّامُونَ بِالْقِسْطِ ومِنَّا مَهْدِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ» قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَكَمِ الْأَئِمَّةُ بَعْدَكَ، قَالَ: عَدَدَ نُقَبَاءِ بَنِيإِسْرَائِيلَ»(1).

قال الكراجكي في كتابه(2): ومن العجب: اعترافهم بأنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) قال: «إنّ اللّه يغضب لغضب فاطمة، ويرضى لرضاها»(3).

وقال: «فاطمة بضعة منّي يؤلمني ما يؤلمها»(4).

وقال: «من آذى فاطمة فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى اللّه»(5).

ص: 350


1- كفاية الأثر في النص على الأئمة الإثني عشر: ص37 باب ما جاء عن أبي ذر الغفاري رحمة الله عليه في النصوص على الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام).
2- التعجب من أغلاط العامة في مسألة الإمامة: ص134 الفصل السادس عشر في ذكر فدك.
3- المعجم الكبير: ج1 ص66 ح182، المستدرك على الصحيحين: ج3 ص154، ميزان الاعتدال: ج2 ص492 ح4560، مجمع الزوائد: ج9 ص203، كنز العمّال: ج13 ص674 ح37725.
4- المستدرك على الصحيحين: ج3 ص158، السنن الكبرى: ج10 ص201-202، كنز العمّال: ج12 ص107-112، إتحاف السادة المتّقين: ج6 ص244.
5- علل الشرائع: ص186، المحتضر: ص133، بحار الأنوار: ج43 ص80 و204.

ثمّ إنّهم يعلمون ويتّفقون أنّ ابن أبي قحافة أغضبها وآلمها وآذاها، فلا يقولون: هو هذا إنّه ظلمها، ويدّعون أنّها طلبت باطلا، فكيف يصحّ هذا؟ ومتى يتخلّص ابن أبي قحافة من أن يكون ظالماً وقد أغضب من يغضب لغضبه اللّه، وآلم هو بضعةً لرسول اللّه، ويتألّم لألمها،وآذى من في أذيّته أذيّة اللّه ورسوله، وقد قال اللّه تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ ورَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا والْآخِرَةِ وأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً»(1)، وهل هذا إلاّ مباهتة في تصويب الظالم، وتهوّر في ارتكاب المظالم، ومن العجب قول بعضهم أيضا: إنّ ابن أبي قحافة كان يعلم صدق الطاهرة فاطمة (عليها صلوات اللّه) فيما طلبته من نحلته من أبيها، لكنّه لم يكن يرى أن يحكم بعلمه، فاحتاج في إمضاء الحكم لها إلى بيّنة تشهد بها.

الظلم الساري

مسألة: تشتد الحرمة والعقوبة بظلم يتعدى عن المظلوم إلى غيره، وإن كان غير مباشر.

ومنه ما أشارت إليه الصديقة الطاهرة (عليها السلام): (وسيم سبطاك خسفا فيه لي نصب).

ومن ذلك يظهر أن عقوبة الظالم في الآخرة تشتد، بسجنه الأب مثلاً ظلماً، لما ينال أبناء وزوجة ذلك المظلوم من الأذى والنصب والعناء والتعب.

ص: 351


1- سورة الأحزاب: 57.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام):«الجور تبعات»(1).

وقال(عليه السلام): «الظُّلْمُ تَبِعَاتٌ مُوبِقَاتٌ»(2).

وقال (عليه السلام): «مَنْ ظَلَمَ يَتِيماً عَقَّ أَوْلادَهُ»(3).

وقال (عليه السلام): «ظُلْمُ الْيَتَامَى وِالأَيَامَى يُنْزِلُ النِّقَمَ ويَسْلُبُ النِّعَمَ»(4).

مدح الميت

مسألة: يستحب مدح الميت بما فيه من الصفات الحسنة، ولا ينبغي وربما لا يجوز ذكره بالصفات السيئة، إلاّ إذا كان لجهة أهم، فإنه من القدح في الميت، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «اذكروا موتاكم بالخير»(5).

ولا فرق في ذلك - مستثنى ومستثنى منه - بين الميت الواحد أو المتعدد، وبين شخص مات أو قوم قضوا نحبهم.قَالَ عَلِيٌّ (عليه السلام): «اذْكُرُوا مَحَاسِنَ مَوْتَاكُمْ»(6).

وَفِي خَبَرٍ آخَرَ: «لا تَقُولُوا فِي مَوْتَاكُمْ إلاّ خَيْراً»(7).

ص: 352


1- غرر الحكم ودرر الكلم: ص25 ح255.
2- عيون الحكم والمواعظ: ص41 ح927.
3- عيون الحكم والمواعظ: ص429 ح7298.
4- عيون الحكم والمواعظ: ص324 ح5606.
5- الصوارم المهرقة في نقد الصواعق المحرقة: ص49.
6- بحار الأنوار: ج 72 ص239 ب66 الغيبة. وفي غوالي اللئالي: ج 1 ص439 ح157و158 عن رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله).
7- بحار الأنوار: ج 72 ص239 ب66 الغيبة.

وَقَالَ (صلى الله عليه وآله): «اذْكُرُوا مَحَاسِنَ أَمْوَاتِكُمْ وكُفُّوا عَنْ مَسَاوِيهِم»(1).

وهكذا وردت الشهادة للمؤمن الميت بالخير في الصلاة عليه والدعاء له.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «تُكَبِّرُ ثُمَّ تَشَهَّدُ ثُمَّ تَقُولُ: إِنَّا لِلَّهِ وإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ... الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، رَبِّ الْمَوْتِ والْحَيَاةِ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وأَهْلِ بَيْتِهِ، جَزَى اللَّهُ عَنَّا مُحَمَّداً خَيْرَ الْجَزَاءِ بِمَا صَنَعَ بِأُمَّتِهِ وبِمَا بَلَّغَ مِنْ رِسَالاتِ رَبِّهِ، ثُمَّ تَقُولُ: اللَّهُمَّ عَبْدُكَ ابْنُ عَبْدِكَ ابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتُهُ بِيَدِكَ خَلَا مِنَ الدُّنْيَا واحْتَاجَ إِلَى رَحْمَتِكَ وأَنْتَ غَنِيٌّ عَنْ عَذَابِهِ، اللَّهُمَّ إِنَّا لا نَعْلَمُ مِنْهُ إلاّ خَيْراً وأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ، اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ مُحْسِناً فَزِدْ فِي إِحْسَانِهِ وتَقَبَّلْ مِنْهُ، وإِنْ كَانَ مُسِيئاً فَاغْفِرْ لَهُ ذَنْبَهُ وارْحَمْهُ وتَجَاوَزْ عَنْهُ بِرَحْمَتِكَ، اللَّهُمَّ أَلْحِقْهُ بِنَبِيِّكَ وثَبِّتْهُ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وفِي الآخِرَةِ، اللَّهُمَّ اسْلُكْ بِنَا وبِهِ سَبِيلَ الْهُدَى واهْدِنَا وإِيَّاهُ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، اللَّهُمَّ عَفْوَكَ عَفْوَكَ»(2).

وعَنْ سَمَاعَةَ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) مَا أَقُولُ إِذَا أَدْخَلْتُ الْمَيِّتَ مِنَّا قَبْرَهُ، قَالَ: قُلِ: «اللَّهُمَّ هَذَا عَبْدُكَ فُلَانٌ وابْنُ عَبْدِكَ، قَدْ نَزَلَ بِكَ وأَنْتَ خَيْرُ مَنْزُولٍ بِهِ، وقَدِ احْتَاجَ إِلَى رَحْمَتِكَ، اللَّهُمَّ ولا نَعْلَمُ مِنْهُ إلاّ خَيْراً وأَنْتَ أَعْلَمُ بِسَرِيرَتِهِ، ونَحْنُ الشُّهَدَاءُ بِعَلَانِيَتِهِ، اللَّهُمَّ فَجَافِ الْأَرْضَ عَنْ جَنْبَيْهِ، ولَقِّنْهُ حُجَّتَهُ، واجْعَلْ هَذَا الْيَوْمَ خَيْرَ يَوْمٍ أَتَى عَلَيْهِ، واجْعَلْ هَذَا الْقَبْرَ خَيْرَ بَيْتٍ نَزَلَ فِيهِ، وصَيِّرْهُ إِلَى خَيْرٍ مِمَّا كَانَ فِيهِ، ووَسِّعْ لَهُ فِي مَدْخَلِهِ، وآنِسْ وَحْشَتَهُ

ص: 353


1- غوالي اللئالي: ج 1 ص159 ح142.
2- الكافي: ج 3 ص184 باب الصلاة على المؤمن والتكبير والدعاء ح4.

، واغْفِرْ ذَنْبَهُ، ولا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ، ولا تُضِلَّنَا بَعْدَهُ»(1).

أحكام القسم

مسألة: القسم بالله تعالى مرجوح في حد ذاته، إلاّ أنه قد يكون راجحاً، بل ربما وجب إذا توقف إحقاق الحق عليه.

وقد تكرر القسم في القرآن الكريموفي الأحاديث الشريفة لذلك وغيره، وقد سبق البحث عن ذلك في مطاوي الكتاب.

قال تعالى: «وَالصَّافَّاتِ صَفًّاً * فَالزَّاجِراتِ زَجْراً * فَالتَّالِياتِ ذِكْراً»(2).

وقال سبحانه: «وَالْكِتابِ المُبينِ»(3).

وقال تعالى: «وَالذَّارِياتِ ذَرْواً * فَالْحامِلاتِ وِقْراً * فَالْجارِياتِ يُسْراً * فَالمُقَسِّماتِ أَمْراً»(4).

وقال عزوجل: «لعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُون»(5).

وكَتَبَ رَجُلٌ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) يَحْكِي لَهُ شَيْئاً، فَكَتَبَ (عليه السلام) إِلَيْهِ: «واللَّهِ مَا كَانَ ذَلِكَ، وإِنِّي لأَكْرَهُ أَنْ أَقُولَ واللَّهِ عَلَى حَالٍ مِنَ الأَحْوَالِ

ص: 354


1- الكافي: ج 3 ص196 باب سل الميت وما يقال عند دخول القبر ح8.
2- سورة الصافات: 1 - 3.
3- سورة الزخرف: 2، سورة الدخان: 2.
4- سورة الذاريات: 1 - 4.
5- سورة الحجر: 72.

ولَكِنَّهُ غَمَّنِي أَنْ يُقَالَ مَا لَمْ يَكُنْ»(1).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «اجْتَمَعَ الْحَوَارِيُّونَ إِلَى عِيسَى (عليه السلام) فَقَالُوا: يَا مُعَلِّمَ الْخَيْرِ أَرْشِدْنَا، فَقَالَ: إِنَّ مُوسَى نَبِيَّ اللَّهِ أَمَرَكُمْ أَنْ لا تَحْلِفُوا بِاللَّهِ كَاذِبِينَ، وأَنَا آمُرُكُمْ أَنْ لا تَحْلِفُوا بِاللَّهِ كَاذِبِينَ ولا صَادِقِينَ»(2).

استحباب البكاء

مسألة: البكاء على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وآله الأطهار (عليهم السلام) مستحب على امتداد العمر، ولا يتوقف عند حد، فإن شؤون العاطفة كشؤون العقل، تتوقف عليها استقامة حياة الإنسان وسلامتها، بل يتوقف عليها معاً تطور الحياة وازدهارها.

وقد ورد استحباب أن يتذكر المصاب مصيبة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فإنها أعظم المصائب.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «مَنْ أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ فَلْيَذْكُرْ مُصَابَهُ بِالنَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) فَإِنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ»(3).

وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ: «إِنْ أُصِبْتَ بِمُصِيبَةٍ فِي نَفْسِكَ أَوْ فِي مَالِكَ أَوْ فِي وُلْدِكَ فَاذْكُرْ مُصَابَكَ بِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) فَإِنَّ الْخَلائِقَ لَمْ

ص: 355


1- وسائل الشيعة: ج 23 ص197 ب1 باب كراهة اليمين الصادقة وعدم تحريمها ح1.
2- وسائل الشيعة: ج 23 ص197 ب1 باب كراهة اليمين الصادقة وعدم تحريمها ح2.
3- الكافي: ج 3 ص220 باب التعزي ح1.

يُصَابُوا بِمِثْلِهِ قَطُّ»(1).

وقَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): «يَا عَلِيُّ مَنْ أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ فَلْيَذْكُرْ مُصِيبَتَهُ بِيفَإِنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ»(2).

وقد أَنْشَأَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام):

الْمَوْتُ لاوَالِداً يُبْقِي ولا وَلَداً *** هَذَا السَّبِيلُ إِلَى أَنْ لا تَرَى أَحَداً

هَذَا النَّبِيُّ ولَمْ يَخْلُدْ لِأُمَّتِهِ *** لَوْ خَلَّدَ اللَّهُ خَلْقاً قَبْلَهُ خَلَدَا

لِلْمَوْتِ فِينَا سِهَامٌ غَيْرُ خَاطِئَةٍ *** مَنْ فَاتَهُ الْيَوْمَ سَهْمٌ لَمْ يَفُتْهُ غَدا (3)

وقالت الصديقة الزهراء (عليها السلام):

إِذَا مَاتَ يَوْماً مَيِّتٌ قَلَّ ذِكْرُهُ *** وَ ذِكْرُ أَبِي مُذْ مَاتَ واللَّهِ أَزْيَدُ

تَذَكَّرْتُ لَمَّا فَرَّقَ الْمَوْتُ بَيْنَنَا *** فَعَزَّيْتُ نَفْسِي بِالنَّبِيِّ مُحَمَّدٍ

فَقُلْتُ لَهَا إِنَّ الْمَمَاتَ سَبِيلُنَا *** وَمَنْ لَمْ يَمُتْ فِي يَوْمِهِ مَاتَ فِي غَد(4)

خصوصيات البكاء

مسألة: كما يستحب أصل البكاء على مصائب أهل البيت (عليهم السلام) يستحب أيضاً بعض خصوصياته، ككونه (بِتَهْمالٍ لَهَا سَكْبٌ) كما إشارت إليه الصديقة الطاهرة (عليها السلام) ههنا.

ص: 356


1- الكافي: ج 3 ص220 باب التعزي ح2.
2- قرب الإسناد: ص94ح19، مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) لابن شهرآشوب: ج 1 ص238 فصل في وفاته (عليه السلام).
3- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) لابن شهرآشوب: ج 1 ص238 فصل في وفاته (عليه السلام).
4- بحار الأنوار: ج 22 ص523 ب2 وفاته وغسله والصلاة عليه ودفنه (صلى الله عليه وآله).

وككونه بصوت عال، كما ورد فيالرواية المعتبرة: «وَارْحَمْ تِلْكَ الصَّرْخَةَ الَّتِي كَانَتْ لَنَا»(1).

وفي دعاء الندبة: «ويضج الضاجون، ويعج العاجون، أين الحسن أين الحسين، أين أبناء الحسين، صالح بعد صالح ...» (2).

تنزيه الرسول

مسألة: يحرم نسبة النقص والسوء ومطلق ما يشين خَلقاً أو خُلقاً إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فإنه (صلى الله عليه وآله) كان (محضاً خليقته) كما ذكرت الصديقة (عليها السلام).

ومما يفيده أيضاً قوله تعالى: «إِنَّما يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهيراً»(3).

وبذلك يظهر حرمة ما نسبته العامة إلى الرسول (صلى الله عليه وآله) من جهله بأوضح ما كان يعرفه حتى الزرّاع في المدينة حيث أضرّهم بمشورته، كما فيبعض مصادرهم وصحاحهم(4).

ص: 357


1- كامل الزيارات: ص117 الباب الأربعون دعاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلي وفاطمة والأئمة لزوار الحسين (عليهم السلام) ح2.
2- المزار الكبير، لابن المشهدي: ص578 الدعاء للندبة، الإقبال: ج 1 ص508 فصل18 فيما نذكره من صفة صلاة العيد.
3- سورة الأحزاب: 33.
4- عن أنس: (أن النبيّ (صلى الله عليه وآله) مرّ بقوم يلقحون النخل؛ فقال: لو لم يفعلوا لصلح، قال: فخرج شيصا (وهو اليسر الردى ء) فمر بهم فقال: ما لنخلكم؟ قالوا: قلت كذا وكذا! قال: أنتم أعلم بأمر دنياكم). صحيح مسلم: ج7 ص95، وقريب منه في مسند أحمد: ج3 ص152 ج6 ص123، وسنن ابن ماجة: ج2 ص525 ح2471. وَمِنْ مُسْنَدِ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فِي الْحَدِيثِ الثَّالِثِ مِنْ إِفْرَادِ مُسْلِمٍ قَالَ: (مَرَرْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) بِقَوْمٍ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ فَقَالَ: مَا يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ، فَقَالُوا: يُلَقِّحُونَهُ يَجْعَلُونَ الذَّكَرَ فِي الْأُنْثَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): مَا أَظُنُّ يُغْنِي ذَلِكَ شَيْئاً، قَالَ فَأُخْبِرُوا بِذَلِكَ فَتَرَكُوهُ، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) فَقَالَ: إِنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ فَلْيَصْنَعُوهُ فَإِنِّي إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنّاً فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ، وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنِ اللَّهِ شَيْئاً فَخُذُوا بِهِ، فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَ جَل). الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف: ج 2 ص372 في جملة من اعتقادات الأربعة المذاهب في الأنبياء و خاصة نبينا عن صحيح مسلم.

أو روايتهم بوله في قارعة الطريق قائماً(1)، أو إرادته الانتحار(2)،أو غير

ص: 358


1- انظر كتاب البخاري: ج1 ص63 باب البول قائما، وفتح الباري للعسقلاني: ج1 ص261، 262 و263، وشرح الكرماني ج11 ص40، وصحيح مسلم: ج1 ص157، وابن أبي شيبة في المصنّف: ج14 ص234. ومما يدل على بطلان ما رووه، بعض رواياتهم الأخرى: قال الحاكم في المستدرك: ج1 ص185 أخبرنا أبو العبّاس محمّد بن أحمد المحبوبي، حدّثنا سعيد بن مسعود، حدّثنا عبيد اللّه بن موسى، أنبأنا إسرائيل، عن المقدام بن شريح عن أبيه، قال: سمعتُ عَائِشَةَ تُقْسِمُ بِاللَّهِ مَا رَأَى أَحَدٌ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) يَبُولُ قَائِماً مُنْذُ. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشّيخين ولم يخرجاه، والّذي عندي أنّهما لمّا إتّفقا على حديث منصور، عن أبي وائل، عن حذيفة، (أنّ رسول اللّه أتى سباطة قوم فبال قائماً)، وجدا حديث المقدام، عن أبيه، عن عائشة معارضاً له فتركاه واللّه أعلم. حدّثنا أبو بكر بن إسحاق الفقيه، أنبأنا عبد اللّه بن أحمد بن حنبل، حدّثني محمّد بن مهدي، حدّثنا عبد الرزّاق، عن ابن جريح، عن عبد الكريم بن أبي المخارق، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر رضى اللّه عنه قال: رآني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، وأنا أبول قائماً، فَقَالَ: يَا عُمَرُ لَا تَبُلْ قَائِماً، قَالَ: فَمَا بُلْتُ قَائِماً بَعْدُ. وذكر أبو يعلى في المسند: ج8 ص223 عن عائشة نحوه.
2- روی البخاري: (فتر الوحي فترة حتّى حزن النبيّ (صلى الله عليه وآله) في ما بلغنا، حزنا غدا منه مرارا كي يتردّى من رؤوس شواهق الجبال، فكلّما أوفى بذروة جبل لكي يلقي منه نفسه!، تبدّى له جبرئيل فقال: يا محمّد! إنّك رسول اللّه حقّا؛ فيسكن لذلك جأشه، و تقرّ نفسه. فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدّى له جبرئيل فقال له مثل ذلك). صحيح البخاري: ج9 ص54 ح1. دلائل الصدق: ج 4 ص138. قال المرحوم المظفر: (إنّه كيف يريد النبيّ (صلى الله عليه وآله) إلقاء نفسه من شواهق الجبال وهو فعل من لا عقل له، وقد حرّمه الشرع كتابا و سنّة، حتّى روى أحمد، عن أبي هريرة، عن النبيّ (صلى الله عليه وآله)، أنّه قال: من تردّى من جبل فقتل نفسه فهو يردى في نار جهنّم خالدا مخلّدا فيها. مسند أحمد: ج2 ص254، 435، 478، 488. فيا حسرة لسيّد النبيّين (صلى الله عليه وآله) ويا أسفا على شأنه من شانئيه، مرّة ينسبونه إلى الهجر في القول، ومرّة إلى الهجر في العمل، لعمر اللّه لقد فضحنا هؤلاء المتّسمون بالمسلمين عند الملل الخارجة). دلائل الصدق: ج 4 ص141.

ذلك(1)، مما تجرح نسبته إلى سيد خلائق الله قلبَ كل مؤمن.

فإن نسبة ذلك إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) من أقبح القبائح وأشد المحرمات وأعظم الآثام.

التأسي واختيار العرق

مسألتان: يستحب التأسي برسول الله (صلى الله عليه وآله) مهما أمكن، في أحسن السجية، كما يستحب التخير للأولادباختيار العرق الأصلح.

قال تعالى: «لَقَدْ كانَ لَكُمْ في رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثيراً»(2).

ص: 359


1- راجع كتاب (السبعة من السلف) للسيد الفيروزآبادي.
2- سورة الأحزاب: 21.

وقال أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «طُوبَى لِمَنْ عَمِلَ بِالدَّيْنِ واقْتَفَى أَثَرَ النَّبِيِّينَ»(1).

وقال (عليه السلام): «مَا أَعْظَمَ فَوْزَ مَنِ اقْتَفَى أَثَرَ النَّبِيِّين»(2)

وقال (عليه السلام): «أَحَبُّ الْعِبَادِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَأَسِّي بِنَبِيِّهِ (صلى الله عليه وآله) والْمُقْتَصُّ أَثَرَه»(3).

وقال (عليه السلام): «اقْتَدُوا بِهُدَى نَبِيِّكُمْ فَإِنَّهُ أَصْدَقُ الْهُدَى واسْتَنُّوا بِسُنَّتِهِ فَإِنَّهَا أَهْدَى السُّنَنِ»(4).

ص: 360


1- عيون الحكم والمواعظ، لليثي: ص315 ح5510
2- عيون الحكم والمواعظ، لليثي: ص481 ح8874.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: ص196 ح229.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: ص155 ح68.

صبت علي مصائب

اشارة

وقالت الصديقة فاطمة (عليه السلام) في رثاء أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله):

قُلْ لِلْمُغَيَّبِ تَحْتَ أَطْبَاقِ الثَّرَى *** إِنْ كُنْتَ تَسْمَعُ صَرْخَتِي ونِدَائِيَا

صُبَّتْ عَلَيَّ مَصَائِبُ لَوْ أَنَّهَا *** صُبَّتْ عَلَى الْأَيَّامِ صِرْنَ لَيَالِيَا

قَدْ كُنْتُ ذَاتَ حِمًى بِظِلِّ مُحَمَّدٍ *** لا أَخْشَ مِنْ ضَيْمٍ وكَانَ حِمًا لِيَا

فَالْيَوْمَ أَخْشَعُ لِلذَّلِيلِ وأَتَّقِي *** ضَيْمِي وأَدْفَعُ ظَالِمِي بِرِدَائِيَا

فَإِذَا بَكَتْ قُمْرِيَّةٌ فِي لَيْلِهَا *** شَجْناً عَلَى غُصْنٍ بَكَيْتُ صَبَاحِيَا

فَلأَجْعَلَنَّ الْحُزْنَ بَعْدَكَ مُؤْنِسِي *** وَ لأَجْعَلَنَّ الدَّمْعَ فِيكَ وِشَاحِيَا

مَا ذَا عَلَى مَنْ شَمَّ تُرْبَةَ أَحْمَدٍ *** أَنْ لايَشَمَّ مَدَى الزَّمَانِ غَوَالِيَا(1)

خطاب المجهول

مسألة: يصح خطاب المجهول، كما يصح خطاب المعلوم.

ويصح أيضاً أن يجرد الخطاب منهما فلا يكون خطاباً لشخص بل رمزاً(2)،

ص: 361


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) لابن شهرآشوب: ج 1 ص242 فصل في وفاته (صلى الله عليه وآله).
2- فهو طريق لإيصال المقصود، لا أنه يقصد به خطاب شخص معلوم أو مجهول.

ولعل منه قولها (عليها السلام): «قل للمغيب...» إلاّ أن الأول أظهر.

تشبيه المعقول بالمحسوس

مسألة: يجوز تشبيه المعقول بالمحسوس في الجملة وإن تضمن المبالغة، بل ربما كان من مصاديق المستحب أو الواجب بالمعنى الأعم، فيما كان مقدمة لإبطال الباطل وإحقاق الحق الواجب، فتأمل.

وقد ذكرنا في في الإيصال:

(وما اشتهر في ألسنة بعضهم، من أن المعصوم لا يبالغ، يراد به المبالغة التى ليست من طريقة البلغاء، وإلا فهي من محسنات الكلام. نعم المبالغة التي هي خارجة عن أسلوب البلغاء، لا مجال له في كلام المعصوم. كما أن المجاز الّذي ليس من طريقتهم، لا مجال له في كلامهم (عليهم السلام)، فإن كلاً من المجاز والمبالغة - وهو فرع من المجاز - إذا لم يرد بهما معناهما البلاغي، بل أريد بهما المعنى الحقيقي كان كذبا، والعادل لا يكذب، فكيف بالمعصوم عليه السلام)(1).

والظاهر أن قول الصديقة (صلوات الله عليها): (صبت .. لو أنها ...) ليس فيهمن المبالغة شيء، فإنه إذا لوحظت فداحة الجريمة بذاتها ومقارناتها ولوازمها، ولوحظت عظمة الصديقة الطاهرة (عليها السلام) لعرفنا أن هذا الكلام لا مبالغة فيه بوجه أبداً.

وهكذا كانت المصائب التي ترد على الأنبياء والأولياء (عليهم السلام).

ص: 362


1- إيصال الطالب إلى المكاسب: ج2 ص200.

الروايات وتشبيه المعقول بالمحسوس

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر»(1).

وقال الصادق (عليه السلام): «العالم إذا لم يعمل بعلمه زلّت موعظته عن القلوب كما يزلّ المطر عن الصفا»(2).

وقال (عليه السلام): «إنّ اللّه سبّق بين المؤمنين كما يسبّق بين الخيل يوم الرّهان ثمّ فضّلهم على درجاتهم في السبق إليه»(3).

وقال (عليه السلام): «الصبر رأس الإيمان»(4).

إلى غيرها من الروايات، وكذلك الآيات.

مقارنة الفضائل

مسألة: تجوز بالمعنى الأعم المقارنة بين فضائل الأنبياء والأولياء (عليهم السلام) كما تجوز المقارنة بين ماجرى عليهم من المصائب، وذلك لإبراز أفضلية بعضهم على بعض بما فضله الله، ولذا قالت (صلوات الله عليها): (إنا رزئنا ..).

ص: 363


1- الكافي: ج 1 ص34 باب ثواب العالم والمتعلم ح1.
2- الكافي: ج 1 ص44 باب استعمال العلم ح3.
3- الكافي: ج 2 ص40 باب السبق إلى الإيمان ح1.
4- الكافي: ج 2 ص87 باب الصبر ح1.

إن الشرطية

فائدة:

(إن) الشرطية قد تستخدم للدلالة على التحقق أو على معنى المطلوبية سواء مع تجريدها عن معنى الشرط أم لا.

فمن الأول: قولها (صلوات الله عليها) ههنا: (إن كنت تسمع صرختي وندائيا) فإنه لا شك في سماعه (صلى الله عليه وآله) لها (عليها السلام) بل وشهوده على الخلائق.

ومن الثاني:

(إذا شئت النجاة فزر حسيناً لكي تلقى الإله قرير عين).

وقول الإمام الحسن (عليه السلام): «وإِذَا أَرَدْتَ عِزّاً بِلا عَشِيرَةٍ وهَيْبَةً بِلَا سُلْطَانٍ فَاخْرُجْ مِنْ ذُلِّ مَعْصِيَةِ اللَّهِ إِلَى عِزِّ طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ»(1).

ولعل منه قوله تعالى: «إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُوني»(2)، فتأمل.

ص: 364


1- مستدرك الوسائل: ج 11 ص258 ب18 باب وجوب طاعة الله ح7.
2- سورة آل عمران: 31.

الصدق

مسألة: الصدق مستحب وقد يكون واجباً كما مر سابقاً.

ثم إن الصدق على درجات ومراتب كيفاً، كما أنه قد يكون أوسع دائرةً أو أضيق كماً.

وبذلك يظهر بعض معنى قول الصديقة (صلوات الله عليها): «وأصدق الناس حيث الصدق والكذب»، ولعل المراد من الصدق ههنا معنى أوسع وأعمق من المطابقة للواقع أو للاعتبار.

الظلم والآثمين فيه

مسألة: يأثم كل من كان المباشر للظلم والمعين عليه بواسطة أو بوسائط وإن كانت بعيدة، والمصائب التي صبت على الصديقة (صلوات الله عليها) يشترك في إثمها المخططون والمنفذون، وحتى من شارك بتكثير السواد، بل ومن رضي بذلك وإن جاء بعده بأجيال.

ومنه يعلم أن من شارك في (السقيفة) بأي نحو كان ولو من بعيد أو بسكوت أو بالرضا فإنه يتحمل وزر المصائب التي وردت على الصديقة الطاهرة (عليها السلام) ولو بنسبة.فإن اللاحقين إذا رضوا بظلم السابقين شاركوهم في الآثام، كما دلت على ذلك الروايات.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «الْعَامِلُ بِالظُّلْمِ والْمُعِينُ لَهُ والرَّاضِي بِهِ

ص: 365

شُرَكَاءُ ثَلاثَتُهُمْ»(1).

وعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (عليه السلام)، عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ أَيْنَ أَعْوَانُ الظَّلَمَةِ ومَنْ لَاقَ لَهُمْ دَوَاةً أَوْ رَبَطَ كِيساً أَوْ مَدَّ لَهُمْ مَدَّةَ قَلَمٍ فَاحْشُرُوهُمْ مَعَهُمْ»(2).

وعن سماعة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول في قول الله: «قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ»(3) وقد علم أن هؤلاء لم يقتلوا، ولكن فقد كان هواؤهم مع الذين قتلوا، فسماهم الله قاتلين، لمتابعة هوائهم ورضاهم لذلك الفعل»(4).

وقال أبو عبد الله (عليه السلام): «لعن الله القدرية، لعن الله الحرورية، لعن اللهالمرجئة، لعن الله المرجئة»، قلت له: جعلت فداك كيف لعنت هؤلاء مرة، ولعنت هؤلاء مرتين، فقال: «إن هؤلاء زعموا أن الذين قتلونا مؤمنين، فثيابهم ملطخة بدمائنا إلى يوم القيامة، أما تسمع لقول الله: «الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا إلاّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ» إلى قوله «صادِقِينَ»(5) قال: فكان بين الذين خوطبوا بهذا القول، وبين القاتلين خمسمائة عام، فسماهم الله قاتلين برضاهم بما صنع

ص: 366


1- الكافي: ج 2 ص333 باب الظلم ح16.
2- وسائل الشيعة: ج 17 ص181 ب42 باب تحريم معونة الظالمين ولو بمدة قلم وطلب ما في أيديهم من الظلم ح11.
3- سورة آل عمران: 183.
4- تفسير العياشي: ج 1 ص208 سورة آل عمران ح162.
5- سورة آل عمران: 183.

أولئك»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «لما نزلت هذه الآية: «قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ»(2) وقد علم أن قالوا: والله ما قتلنا ولا شهدنا، قال: وإنما قيل لهم ابرءوا من قتلتهم فأبوا»(3).

وعن محمد بن الأرقط، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال لي: «تنزل الكوفة»، قلت: نعم، قال: «فترون قتلة الحسين عَلَيْهِ السَّلَامُ بين أظهركم»، قال: قلتجعلت فداك ما رأيت منهم أحداً، قال: «فإذاً أنت لا ترى القاتل إلاّ من قتل أو من ولي القتل، أ لم تسمع إلى قول الله: «قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ»(4) فأي رسول قبل الذي كان محمد (صلى الله عليه وآله) بين أظهرهم، ولم يكن بينه وبين عيسى (عليه السلام) رسول، إنما رضوا قتل أولئك فسموا قاتلين»(5).

ص: 367


1- تفسير العياشي: ج 1 ص208 سورة آل عمران ح163.
2- سورة آل عمران: 183.
3- تفسير العياشي: ج 1 ص209 سورة آل عمران ح164.
4- سورة آل عمران: 183.
5- تفسير العياشي: ج 1 ص209 سورة آل عمران ح165.

حمى الصديقة

مسألة: يستحب التأسي برسول الله (صلى الله عليه وآله) في كونه حمى للصديقة الطاهرة (عليها السلام) فيما يمكننا القيام به الآن.

قال تعالى: «لَقَدْ كانَ لَكُمْ في رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثيراً»(1).

وعَنْ عِيسَى الضَّرِيرِ، عَنِ الْكَاظِمِ (عليه السلام) قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي: فَمَا كَانَ بَعْدَ خُرُوجِ الْمَلَائِكَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) قَالَ: فَقَالَ: ثُمَّ دَعَا عَلِيّاً وفَاطِمَةَ والْحَسَنَ والْحُسَيْنَ (عليهم السلام) وقَالَ لِمَنْ فِي بَيْتِهِ: اخْرُجُوا عَنِّي، وقَالَ لِأُمِّ سَلَمَةَ: كُونِي عَلَى الْبَابِ فَلَا يَقْرَبْهُ أَحَدٌ، فَفَلَعَتْ.

ثُمَّ قَالَ: يَا عَلِيُّ ادْنُ مِنِّي فَدَنَا مِنْهُ فَأَخَذَ بِيَدِ فَاطِمَةَ فَوَضَعَهَا عَلَى صَدْرِهِ طَوِيلًا وأَخَذَ بِيَدِ عَلِيٍّ بِيَدِهِ الْأُخْرَى فَلَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) الْكَلَامَ غَلَبَتْهُ عَبْرَتُهُ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْكَلَامِ، فَبَكَتْ فَاطِمَةُ بُكَاءً شَدِيداً وعَلِيٌّ والْحَسَنُ والْحُسَيْنُ (عليهم السلام) لِبُكَاءِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله).

فَقَالَتْ فَاطِمَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ قَطَعْتَ قَلْبِي وأَحْرَقْتَ كَبِدِي لِبُكَائِكَ يَا سَيِّدَالنَّبِيِّينَ مِنَ الأَوَّلِينَ والآخِرِينَ ويَا أَمِينَ رَبِّهِ ورَسُولَهُ، ويَا حَبِيبَهُ ونَبِيَّهُ مَنْ لِوُلْدِي بَعْدَكَ، ولِذُلٍّ يَنْزِلُ بِي بَعْدَكَ، مَنْ لِعَلِيٍّ أَخِيكَ ونَاصِرِ الدِّينِ مَنْ لِوَحْيِ اللَّهِ وأَمْرِهِ، ثُمَّ بَكَتْ وأَكَبَّتْ عَلَى وَجْهِهِ فَقَبَّلَتْهُ وأَكَبَّ عَلَيْهِ عَلِيٌّ والْحَسَنُ والْحُسَيْنُ (صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ) فَرَفَعَ رَأْسَهُ (صلى الله عليه وآله) إِلَيْهِمْ ويَدُهَا فِي يَدِهِ

ص: 368


1- سورة الأحزاب: 21.

فَوَضَعَهَا فِي يَدِ عَلِيٍّ، وقَالَ لَهُ: يَا أَبَا الْحَسَنِ هَذِهِ وَدِيعَةُ اللَّهِ ووَدِيعَةُ رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ عِنْدَكَ فَاحْفَظِ اللَّهَ واحْفَظْنِي فِيهَا وإِنَّكَ لِفَاعِلُهُ، يَا عَلِيُّ هَذِهِ واللَّهِ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنَ الْأَوَّلِينَ والْآخِرِينَ هَذِهِ واللَّهِ مَرْيَمُ الْكُبْرَى أَمَا واللَّهِ مَا بَلَغَتْ نَفْسِي هَذَا الْمَوْضِعَ حَتَّى سَأَلْتُ اللَّهَ لَهَا ولَكُمْ فَأَعْطَانِي مَا سَأَلْتُهُ، يَا عَلِيُ انْفُذْ لِمَا أَمَرَتْكَ بِهِ فَاطِمَةُ فَقَدْ أَمَرْتُهَا بِأَشْيَاءَ أَمَرَ بِهَا جَبْرَئِيلُ (عليه السلام)، واعْلَمْ يَا عَلِيُّ أَنِّي رَاضٍ عَمَّنْ رَضِيَتْ عَنْهُ ابْنَتِي فَاطِمَةُ، وكَذَلِكَ رَبِّي ومَلَائِكَتُهُ، يَا عَلِيُّ وَيْلٌ لِمَنْ ظَلَمَهَا ووَيْلٌ لِمَنِ ابْتَزَّهَا حَقَّهَا ووَيْلٌ لِمَنْ هَتَكَ حُرْمَتَهَا ووَيْلٌ لِمَنْ أَحْرَقَ بَابَهَا ووَيْلٌ لِمَنْ آذَى خَلِيلَهَا ووَيْلٌ لِمَنْ شَاقَّهَا وبَارَزَهَا، اللَّهُمَّ إِنِّي مِنْهُمْ بَرِي ءٌ وهُمْ مِنِّي بُرَآءُ.

ثُمَّ سَمَّاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) وضَمَّ فَاطِمَةَ إِلَيْهِ وعَلِيّاً والْحَسَنَ والْحُسَيْنَ (عليهم السلام) وقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي لَهُمْ ولِمَنْ شَايَعَهُمْ سِلْمٌ، وزَعِيمٌ بِأَنَّهُمْ يَدْخُلُونَالْجَنَّةَ، وعَدُوٌّ وحَرْبٌ لِمَنْ عَادَاهُمْ وظَلَمَهُمْ وتَقَدَّمَهُمْ أَوْ تَأَخَّرَ عَنْهُمْ وعَنْ شِيعَتِهِمْ، زَعِيمٌ بِأَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ النَّارَ ثُمَّ واللَّهِ يَا فَاطِمَةُ لا أَرْضَى حَتَّى تَرْضَى ثُمَّ لا واللَّهِ لا أَرْضَى حَتَّى تَرْضَى ثُمَّ لا واللَّهِ لا أَرْضَى حَتَّى تَرْضَى»(1).

ص: 369


1- بحار الأنوار: ج 22 ص485 ب1 وصيته (صلى الله عليه وآله) عند قرب وفاته وفيه تجهيز جيش أسامة وبعض النوادر ح31.

حرمة هتك الطاهرين

مسألة: يحرم هتك حريم الصديقة الطاهرة (عليها السلام) وسائر أهل البيت (عليهم السلام) في حياتهم وبعد مماتهم.

ومن أظهر مصاديق الهتك: هدم قبورهم ومشاهدهم المشرفة، كما أن من مصاديقه هتك زوارهم وإيذاءهم ومنعهم من زيارتهم أو التبرك بأضرحتهم المنورة (عليهم السلام).

حرمة أخذ التأشيرة والرسوم من الزوار

ومن المحرم على الحكومات أن تمنع الزوار بحجة لزوم أخذ التأشيرة وما أشبه، كما أنه من الحرام أخذ الضرائب والرسومات من الزوار(1)، بل يجب على الحكومات أن تسهل الزيارة بتوفير الخدمات اللازمة اللائقة بالزوار، كماأنه يجب على الحكومات أن تستضيف الزوار الفقراء من سائر أنحاء العالم وتدفع لهم كامل النفقة من الزاد والراحلة والسكن وما أشبه.

ص: 370


1- ومع الأسف نرى اليوم في العراق وفي مطار النجف الأشرف يأخذون من الزوار غير العراقيين مضافاً إلى التأشيرة التي قد دفعها الزائر من قبل، مبلغ عشرة دولارات كرسم وضرائب الدخول، وهذا من المحرم شرعاً، ومن أفعال بني العباس الظلمة حيث كانوا يأخذون الضرائب على زيارة الإمام الحسين (عليه السلام). والمفروض أن تقدم الحكومة الخدمات للزائرين الكرام وتوفر لهم الماء والأكل والسيارات المجانية التي تقلهم إلى المشاهد المشرفة. ولكن الزائر يواجه في المطار الاستغلال من حيث أسعار المياه والأكل والتكاسي والخدمات وما أشبه. وهذا كله يعتبر إهانة للأئمة الطاهرين (عليهم السلام) حيث استغلال زائريهم، وإلى الله المشتكى (الناشر).

فإن احترام الزائر وإكرامه احترام للمزور (عليه السلام) وهو من أهم الواجبات، وهتكه من أشد المحرمات.

روايات في حرمة العترة

عن الشيخ عيسى، عَنْ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ (عليهما السلام) قَالَ: «لَمَّا حَضَرَتْ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) الْوَفَاةُ دَعَا الأَنْصَارَ وقَالَ:

«... مَعَاشِرَ الْأَنْصَارِ إلاّ فَاسْمَعُوا ومَنْ حَضَرَ، إلاّ إِنَّ فَاطِمَةَ بَابُهَا بَابِي وبَيْتُهَا بَيْتِي، فَمَنْ هَتَكَهُ فَقَدْ هَتَكَ حِجَابَ اللَّهِ» قَالَ عِيسَى: فَبَكَى أَبُو الْحَسَنِ (عليه السلام) طَوِيلاً وقَطَعَ بَقِيَّةَ كَلَامِهِ وَقَالَ: «هُتِكَ واللَّهِ حِجَابُ اللَّهِ، هُتِكَ واللَّهِ حِجَابُ اللَّهِ، هُتِكَ واللَّهِ حِجَابُ اللَّهِ، يَا أُمَّهْ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهَا»(1).

وصف الأعداء

مسألة: يجوز وقد يجب وصف أعداء أهل البيت بما هم أهله، كقول الصديقة(عليها السلام): (لذليل).

فإن من غصب الخلافة كانوا كما وصفهتم الزهراء (عليها السلام) أذلاء عند الله والملائكة وصالح المؤمنين وفي أنفسهم أيضاً، على العكس من المؤمنين إذ قال فيهم ربهم تعالى: «وَللهِ الْعِزَّةُ ولِرَسُولِهِ ولِلْمُؤْمِنين»(2).

ص: 371


1- بحار الأنوار: ج 22 ص476 ب1 وصيته (صلى الله عليه وآله) عند قرب وفاته وفيه تجهيز جيش أسامة وبعض النوادر ح27.
2- سورة المنافقون: 8.

شم تربة المعصوم

مسألة: يستحب شم تربة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) وتربة سائر المعصومين (عليهم السلام)، لدلالة عدد من الروايات عليه ولو تضمناً أو التزاماً أو ما أشبه، كدلالة الإيماء والإشارة والاقتضاء، ومنه المقام(1).

شم تربة الرسول

رُوِيَ أَنَّهَا (عليها السلام) أَخَذَتْ قَبْضَةً مِنْ تُرَابِ قَبْرِهِ (صلى الله عليه وآله) فَوَضَعَتْهَا عَلَى عَيْنَيْهَا وأَنْشَدَتْ تَقُولُ:

مَا ذَا عَلَى مَنْ شَمَ تُرْبَةَ أَحْمَدَ *** أَنْ لا يَشَمَّ مَدَى الزَّمَانِ غَوَالِيَا

صُبَّتْ عَلَيَّ مَصَائِبُ لَوْ أَنَّهَا *** صُبَّتْ عَلَى الْأَيَّامِ صِرْنَ لَيَالِيَا(2)

شم تربة أمير المؤمنين:

عَنْ صَفْوَانَ الْجَمَّالِ أَنَّهُ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ الصَّادِقِ (عليه السلام) مِنَ الْمَدِينَةِ أُرِيدُ الْكُوفَةَ فَلَمَّا جُزْنَا بِالْحِيرَةِ قَالَ: يَا صَفْوَانُ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ، قَالَ: تُخْرِجُ الْمَطَايَا إِلَى الْقَائِمِ جِدَّالطَّرِيقَ إِلَى الْغَرِيِّ، قَالَ صَفْوَانُ: فَلَمَّا صِرْنَا إِلَى قَائِمِ الْغَرِيِّ أَخْرَجَ رِشَاءً مَعَهُ دَقِيقاً قَدْ عُمِلَ مِنَ الْكِنْبَارِ ثُمَّ أَبْعَدَ مِنَ الْقَائِمِ مَغْرِباً خُطًى كَثِيرَةً ثُمَّ مَدَّ ذَلِكَ الرِّشَاءَ حَتَّى إِذَا انْتَهَى إِلَى آخِرِهِ وَقَفَ، ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِهِ إِلَى الْأَرْضِ فَأَخْرَجَ مِنْهَا كَفّاً مِنْ تُرَابٍ فَشَمَّهُ مَلِيّاً ثُمَّ أَقْبَلَ يَمْشِي حَتَّى وَقَفَ عَلَى مَوْضِعِ الْقَبْرِ الْآنَ ثُمَّ ضَرَبَ

ص: 372


1- فإن (ما ذا على من شم ..) يستفاد منه عرفاً رجحانه ومطلوبيته، وربما مثل (أحيوا أمرنا) يشمل شم التربة والزيارة، إلى غير ذلك.
2- مسكن الفؤاد: ص112.

بِيَدِهِ الْمُبَارَكَةِ إِلَى التُّرْبَةِ فَقَبَضَ مِنْهَا قَبْضَةً ثُمَّ شَمَّهَا ثُمَّ شَهَقَ شَهْقَةً حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ فَارَقَ الدُّنْيَا، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: هَاهُنَا واللَّهِ مَشْهَدُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)(1).

شم تربة سيد الشهداء

عَنْ هَرْثَمَةَ بْنِ سُلَيْمٍ قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) غَزْوَةَ صِفِّينَ فَلَمَّا نَزَلْنَا بِكَرْبَلَاءَ صَلَّى بِنَا صَلَاةً، فَلَمَّا سَلَّمَ رَفَعَ إِلَيْهِ مِنْ تُرْبَتِهَا فَشَمَّهَا ثُمَّ قَالَ: «وَاهاً لَكِ أَيَّتُهَا التُّرْبَةُ، لَيُحْشَرَنَّ مِنْكِ قَوْمٌ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسابٍ»(2).وعَنْ أَبِي بَكَّارٍ قَالَ: أَخَذْتُ مِنَ التُّرْبَةِ الَّتِي عِنْدَ رَأْسِ قَبْرِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ (عليهما السلام) فَإِنَّهَا طِينَةٌ حَمْرَاءُ فَدَخَلْتُ عَلَى الرِّضَا (عليه السلام) فَعَرَضْتُهَا عَلَيْهِ فَأَخَذَهَا فِي كَفِّهِ ثُمَّ شَمَّهَا ثُمَّ بَكَى حَتَّى جَرَتْ دُمُوعُهُ ثُمَّ قَالَ: «هَذِهِ تُرْبَةُ جَدِّي»(3).

وفي رواية: ثمّ أخذ النبيّ (صلى الله عليه وآله) تلك القبضة الّتي جاء بها الملك

ص: 373


1- بحار الأنوار: ج 97 ص235 ب2 موضع قبره (صلوات الله عليه) وموضع رأس الحسين (صلوات الله وسلامه) عليه ومن دفن عنده من الأنبياء (عليهم السلام) ح1.
2- وقعة صفين: ص140، الأمالي، للصدوق: ص136 المجلس الثامن والعشرون ح6، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 3 ص170.
3- كامل الزيارات: ص283 الباب 93 من أين يؤخذ طين قبر الحسين (عليه السلام) وكيف يؤخذ ح11.

فشمّها وهو يبكي ويقول في بكائه: «اللّهمّ لا تبارك في قاتل الحسين ولدي، وأصله نار جهنّم».

ثمّ دفع القبضة إلى أمّ سلمة وأخبرها بمقتل الحسين (عليه السلام) على شاطئ الفرات وقال: «يا أمّ سلمة، خذي هذه التربة إليك فإنّها إذا تغيّرت وتحوّلت دما عبيطاً فعند ذلك يقتل ولدي الحسين»(1).

ما يجري على الأحياء

مسألة: يجوز وقد يرجح إخبار الميت(2)بما يجري على الأحياء من بعده من المشاكل والأحزان والهموم والآلام.

عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام) قَالَ: «دَخَلَ عَلِيٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) مَقْبَرَةً ومَعَهُ أَصْحَابُهُ فَنَادَى: يَا أَهْلَ التُّرْبَةِ، ويَا أَهْلَ الْغُرْبَةِ، ويَا أَهْلَ الْخُمُودِ، ويَا أَهْلَ الْهُمُودِ، أَمَّا أَخْبَارُ مَا عِنْدَنَا فَأَمَّا أَمْوَالُكُمْ قَدْ قُسِمَتْ، ونِسَاؤُكُمْ قَدْ نُكِحَتْ، ودُورُكُمْ قَدْ سُكِنَتْ، فَمَا خَبَرُ مَا عِنْدَكُمْ.

ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَصْحَابِهِ وقَالَ: أَمَا واللَّهِ لَوْ يُؤَذَنُ لَهُمْ فِي الْكَلَامِ لَقَالُوا لَمْ يُتَزَوَّدْ مِثْلَ التَّقْوَى زَادٌ خَيْرُ الزَّادِ التَّقْوَى»(3).

وعَنْ أَبِي الْحَسَنِ (عليه السلام)، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: الْمُؤْمِنُ يَعْلَمُ بِمَنْ يَزُورُ قَبْرَهُ، قَالَ: «نَعَمْ ولا يَزَالُ مُسْتَأْنِساً بِهِ مَا زَالَ عِنْدَهُ، فَإِذَا قَامَ وانْصَرَفَ مِنْ قَبْرِهِ

ص: 374


1- تسلية المجالس وزينة المجالس: ج 2 ص112 إخبار النبي (صلى الله عليه وآله) باستشهاد الحسين (عليه السلام).
2- من إضافة المصدر إلى المفعول كما لا يخفى، أي أن يخبروا الميت.
3- كامل الزيارات: ص320 الباب الخامس والمائة ح7.

دَخَلَهُ مِنِ انْصِرَافِهِ عَنْ قَبْرِهِ وَحْشَةٌ»(1).

مصاب الزهراء

مسألة: يستحب بيان أن المصائب التي صُبت على الزهراء (عليها السلام) كانت بحيث لو صُبت على الأيام صرن لياليا،بل من الواجب بيان مظلوميتها (صلوات الله عليها) في الجملة.

وهذا من تشبيه المعقول بالمحسوس كما سبقت نظائره، وكما أن المحسوسات على أقدار مختلفة كذلك المعقولات، قال سبحانه: «أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا»(2)، فإن الأقدار المادية تختلف وكذلك المعنوية، ولذا يقال: فلان بحر لا ينزف وبئر لا تفرغ وشمس مضيئة وقمر منير، وما أشبه ذلك.

روي أنه دَخَلَتْ أُمُّ سَلَمَةَ عَلَى فَاطِمَةَ (عليها السلام) فَقَالَتْ لَهَا: كَيْفَ أَصْبَحْتِ عَنْ لَيْلَتِكِ يَا بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ، قَالَتْ: أَصْبَحْتُ بَيْنَ كَمَدٍ وكَرَبٍ، فُقِدَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) وظُلِمَ الْوَصِيُّ وهُتِكَ واللَّهِ حُجُبُهُ، أَصْبَحَتْ إِمَامَتُهُ مُقْتَصَّةً عَلَى غَيْرِ مَا شَرَعَ اللَّهُ فِي التَّنْزِيلِ، وسَنَّهَا النَّبِيُّ فِي التَّأْوِيلِ، ولَكِنَّهَا أَحْقَادٌ بَدْرِيَّةٌ وتِرَاتٌ أُحُدِيَّةٌ كَانَتْ عَلَيْهَا قُلُوبُ النِّفَاقِ مُكْتَمِنَة»(3).

ص: 375


1- كامل الزيارات: ص321 الباب الخامس والمائة ح8.
2- سورة الرعد: 17.
3- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام): ج 2 ص205 فصل في ظلامة أهل البيت (عليهم السلام)، وعنه بحار الأنوار: ج 43 ص157 ب7 ح5.

تداعي المعاني

مسألة: تداعي المعاني الاختياري جائز، وقد يرجح برجحان ما يقصد له، ولعله منه قول الصديقة (عليها السلام): (فإذا بكت... بكيت صياحيا).

عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَارَةَ الْكُوفِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ (عليهما السلام) يَقُولُ: «مَنْ دَمَعَتْ عَيْنُهُ فِينَا دَمْعَةً لِدَمٍ سُفِكَ لَنَا، أَوْ حَقٍّ لَنَا نُقِصْنَاهُ، أَوْ عِرْضٍ انْتُهِكَ لَنَا، أَوْ لِأَحَدٍ مِنْ شِيعَتِنَا، بَوَّأَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا فِي الْجَنَّةِ حُقُباً»(1).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «يَا فُضَيْلُ فَرَحِمَ اللَّهُ مَنْ أَحْيَا أَمْرَنَا، يَا فُضَيْلُ مَنْ ذَكَرَنَا أَوْ ذُكِرْنَا عِنْدَهُ فَخَرَجَ مِنْ عَيْنِهِ مِثْلُ جَنَاحِ الذُّبَابِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ ذُنُوبَهُ ولَوْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ زَبَدِ الْبَحْرِ»(2).

الوفاء بالوعد

مسألة: الوفاء بالوعد راجح، وقد يلزم، وربما وجب، ومنه قول الصديقة(عليها السلام): (فأجعلن الحزن بعدك..).

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَفِ إِذَا وَعَدَ»(3).

ص: 376


1- بحار الأنوار: ج 44 ص279 ب34 ثواب البكاء على مصيبته ومصائب سائر الأئمة (عليهم السلام) وفيه أدب المأتم يوم عاشوراء ح7.
2- بحار الأنوار: ج 44 ص282 ب34 ثواب البكاء على مصيبته ومصائب سائر الأئمة (عليهم السلام) وفيه أدب المأتم يوم عاشوراء ح15.
3- الكافي: ج 2 ص364 باب خلف الوعد ح2.

وقَالَ الإمام الرضا (عليه السلام): «إِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ نَرَى وَعْدَنَا عَلَيْنَا دَيْناً كَمَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله»(1).

وقال أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «من تمام المروّة إنجاز الوعد»(2).

وقال (عليه السلام): «إِنْجَازُ الْوَعْدِ مِنْ دَلائِلِ الْمَجْدِ»(3).

الحزن لحزنهم

مسألة: الأصل في المؤمن أن يحزن لحزن العترة الطاهرة (صلوات الله عليهم) ويفرح لفرحهم، لكن هل يستحب جعل الحزن مؤنساً للمرء أبد دهره، تأسياً بالصديقة (صلوات الله عليها).

الظاهر أن الأمر تابع لصدق العنوانالثانوي وعدمه.

قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وتَعَالَى اطَّلَعَ إِلَى الْأَرْضِ فَاخْتَارَنَا، واخْتَارَ لَنَا شِيعَةً يَنْصُرُونَنَا، ويَفْرَحُونَ لِفَرَحِنَا ويَحْزَنُونَ لِحُزْنِنَا، ويَبْذُلُونَ أَمْوَالَهُمْ وأَنْفُسَهُمْ فِينَا أُولَئِكَ مِنَّا وإِلَيْنَا»(4).

وعَنْ عِيسَى بْنِ أَبِي مَنْصُورٍ، قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «نَفَسُ الْمَهْمُومِ لَنَا الْمُغْتَمِّ لِظُلْمِنَا تَسْبِيحٌ، وهَمُّهُ لِأَمْرِنَا عِبَادَةٌ، وكِتْمَانُهُ لِسِرِّنَا

ص: 377


1- تحف العقول: ص446، وعنه بحار الأنوار: ج 75 ص339 ب26 مواعظ الرضا (عليه السلام) ضمن ح1.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: ص823 ح214.
3- عيون الحكم والمواعظ: ص67 ح1701.
4- بحار الأنوار: ج 44 ص287 ب34 ثواب البكاء على مصيبته ومصائب سائر الأئمة (عليهم السلام) وفيه أدب المأتم يوم عاشوراء ح26.

جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»(1).

وقَالَ الرِّضَا (عليه السلام): «مَنْ تَذَكَّرَ مُصَابَنَا وبَكَى لِمَا ارْتُكِبَ مِنَّا كَانَ مَعَنَا فِي دَرَجَتِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ومَنْ ذُكِّرَ بِمُصَابِنَا فَبَكَى وأَبْكَى لَمْ تَبْكِ عَيْنُهُ يَوْمَ تَبْكِي الْعُيُونُ، ومَنْ جَلَسَ مَجْلِساً يُحْيَا فِيهِ أَمْرُنَا لَمْ يَمُتْ قَلْبُهُ يَوْمَ تَمُوتُ الْقُلُوبُ»(2).

استعمال المجاز

مسألة: المجاز بالمشارفة والمجاز بالأوْل كلاهما صحيح وجائز، وقد يرجح لاعتبارات خارجية، ومنه قول الصديقة (صلوات الله عليها): (إذا مات يوماً ميت)، فإن المراد من الميت من يوشك على الموت أو من يوول أمره إليه.

ومن أمثلة المجاز بالمشارفة: قول النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبُه»(3).

وقوله (صلى الله عليه وآله): «إِذَا مَاتَ الْمَيِّتُ أَوَّلَ النَّهَارِ فَلَا يَقِيلُ إلاّ فِي قَبْرِهِ»(4).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام): «إِذَا مَاتَ الْمَيِّتُ بَعَثَ اللَّهُ مَلَكاً إِلَى أَوْجَعِ أَهْلِهِ فَمَسَحَ عَلَى قَلْبِهِ فَأَنْسَاهُ لَوْعَةَ الْحُزْنِ وَ لَوْلا ذَلِكَ لَمْ تُعْمَرِ الدُّنْيَا»(5).

ص: 378


1- الكافي: ج 2 ص226 باب الكتمان ح16.
2- بحار الأنوار: ج 44 ص278 ب34 ثواب البكاء على مصيبته ومصائب سائر الأئمة (عليهم السلام) وفيه أدب المأتم يوم عاشوراء ح1.
3- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) لابن شهرآشوب: ج 2 ص117 فصل في المسابقة بالهيبة والهمة.
4- الكافي: ج3 ص138 باب تعجيل الدفن ح2.
5- الكافي: ج3 ص228 باب في السلوة ح3.

وقَالَ الصَّادِقُ (عليه السلام): «إِذَا مَاتَ الْمَيِّتُ حَلَّ مَا لَهُ وَ مَا عَلَيْهِ»(1).

الحصر الإضافي

مسألة: الحصر الإضافي جائز وليس من أقسام الكذب، بل هو الصدق بعينه ما دام إضافياً، وما أكثره في الروايات وفي لسان العرب وغيرهم، ولعل منه المقام لو فرض أن ذكر شخص ما - كالإمام الحسين (عليه السلام) - هو أكثر من سائر المعصومين (عليه وعليهم السلام)، فتأمل.

زيادة ذكر الرسول

مسألة: يستحب السعي لزيادة ذكر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقد يجب.

وربما يكون منه تسمية الأولاد بأسمائه (صلى الله عليه وآله).

عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الدِّهْقَانِ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا (عليه السلام) فَقَالَ لِي: «مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: «وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى»(2) فَقُلْتُ: كُلَّمَا ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ قَامَ فَصَلَّى، فَقَالَ لِي: لَقَدْ كَلَّفَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذَا شَطَطاً، فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ وَكَيْفَ هُوَ، فَقَالَ: كُلَّمَا ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ صَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ»(3).وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى اللَّه عليه وآله): «مَنْ وُلِدَ لَهُ ثَلَاثُ بَنِينَ، وَلَمْ يُسَمِّ

ص: 379


1- من لا يحضره الفقيه: ج3 ص189 باب الدين والقرض ح3710.
2- سورة الأعلى:15 .
3- وسائل الشيعة: ج 7 ص201 ب41 باب استحباب الصلاة على محمد و آله كلما ذكر الله ح1.

أَحَدَهُمْ مُحَمَّداً، فَقَدْ جَفَانِي»(1).

وعَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ وُلِدَ لَهُ أَرْبَعَةُ أَوْلَادٍ وَلَمْ يُسَمِّ أَحَدَهُمْ بِاسْمِي فَقَدْ جَفَانِي»(2).

اتقاء الظلم ودفع الظالم

مسألة: يجب اتقاء الظلم ودفع الظالم بما أمكن من المشروع، ولذا قالت الصديقة (صلوات الله عليها): (وادفع ظالمي بردائيا).

في وصية لأمير المؤمنين (عليه السلام): اللَّهَ اللَّهَ فِي ذُرِّيَّةِ نَبِيِّكُمْ فَلَا يُظْلَمُنَّ بِحَضْرَتِكُمْ وبَيْنَ ظَهْرَانَيْكُمْ وأَنْتُمْ تَقْدِرُونَ عَلَى الدَّفْعِ عَنْهُم»(3).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) عن رسول الله (صلى

الله عليه وآله): «ومَا مِنْ رَجُلٍ رَأَى مَلْهُوفاً فِي طَرِيقٍ بِمَرْكُوبٍ لَهُ قَدْ سَقَطَ، وهُوَ يَسْتَغِيثُ ولا يُغَاثُ فَأَغَاثَهُ وحَمَلَهُ عَلَى مَرْكُوبِهِ، وسَوَّى لَهُ، إلاّ قَالَ اللَّهُعَزَّ وجَلَّ:

كَدَدْتَ نَفْسَكَ، وبَذَلْتَ جُهْدَكَ فِي إِغَاثَةِ أَخِيكَ هَذَا الْمُؤْمِنِ، لَأَكُدَّنَّ مَلَائِكَةً هُمْ أَكْثَرُ عَدَداً مِنْ خَلَائِقِ الْإِنْسِ كُلِّهِمْ، مِنْ أَوَّلِ الدَّهْرِ إِلَى آخِرِهِ، وأَعْظَمُ قُوَّةً كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، مِمَّنْ يَسْهُلُ عَلَيْهِ حَمْلُ السَّمَاوَاتِ والْأَرَضِينَ، لِيَبْنُوا لَكَ الْقُصُورَ والْمَسَاكِنَ ولِيَرْفَعُوا لَكَ الدَّرَجَاتِ، فَإِذَا أَنْتَ فِي جَنَّاتِي كَأَحَدِ مُلُوكِهَا الْفَاضِلِينَ.

ص: 380


1- الأمالي، للطوسي: ص682 ح6.
2- عدة الداعي: ص87، وعنه بحار الأنوار: ج 101 ص131 ب5 الأسماء و الكنى ح24.
3- الكافي: ج 7 ص52 باب صدقات النبي (صلى الله عليه وآله) وفاطمة والأئمة (عليهم السلام) ووصاياهم ح7.

وَمَنْ دَفَعَ عَنْ مَظْلُومٍ قُصِدَ بِظُلْمٍ ضَرَراً فِي مَالِهِ أَوْ بَدَنِهِ، خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ مِنْ حُرُوفِ أَقْوَالِهِ، وحَرَكَاتِ أَفْعَالِهِ، وسُكُونِهَا، أَمْلَاكاً بِعَدَدِ كُلِّ حَرْفٍ مِنْهَا مِائَةَ أَلْفِ مَلَكٍ، كُلُّ مَلَكٍ مِنْهُمْ يَقْصِدُونَ الشَّيَاطِينَ الَّذِينَ يَأْتُونَ لِإِغْوَائِهِ، فَيَشُجُّونَهُمْ ضَرْباً بِالْأَحْجَارِ الدَّامِغَةِ، وأَوْجَبَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ بِكُلِّ ذَرَّةِ ضَرَرٍ دَفَعَ عَنْهُ، وبِأَقَلَّ قَلِيلِ جُزْءِ أَلَمِ الضَّرَرِ الَّذِي كَفَّ عَنْهُ، مِائَةَ أَلْفٍ مِنْ خُدَّامِ الْجِنَانِ، ومِثْلَهُمْ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ الْحِسَانِ، يُدَلِّلُونَهُ هُنَاكَ ويُشَرِّفُونَهُ ويَقُولُونَ: هَذَا بِدَفْعِكَ عَنْ فُلَانٍ ضَرَراً فِي مَالِهِ أَوْ بَدَنِهِ»(1).

دفعاً للظلم الأكثر

مسألة: يجب على القادر على دفع الظلمعنه، عدم دفعه إذا كان لدفعه ظلم أكثر وفساد أعظم، فلو علم المظلوم أنه لو هرب من السجن مثلاً فإنهم سيقتلون أهله ويهتكون عرضه لم يجز.

وهذا من مصاديق قانون الأهم والمهم.

ولذلك سكت أمير المؤمنين (عليه السلام) عن إرجاع حقه بأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن ربه، ولذا قالت الصديقة (عليها السلام): (فاليوم أخشع للذليل) واكتفاؤها بدفع ظالمها بردائها كناية.

هذا إضافة إلى أنهم (عليهم السلام) لم يكونوا مكلفين باستخدام قدرتهم الغيبية، كما أن الأنبياء (عليهم السلام) كانوا كذلك، وإلاّ لقضوا على الجبارة والطغاة بلحظة، وهذا ليس من شأن دنيا الامتحان.

ص: 381


1- تفسير الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): ص81 ح43.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام) فِي خُطْبَةِ الشِّقْشِقِيَّةِ: «وَاللَّهِ لَقَدْ تَقَمَّصَهَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ، وَإِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَا، يَنْحَدِرُ مِنْهُ السَّيْلُ، ولا يَرْقَى إِلَيْهِ الطَّيْرُ، فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْباً، وَطَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً، وَطَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ، أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَةٍ عَمْيَاءَ، فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَيْكَ أَحْجَى، فَصَبَرْتُ وَفِي الْعَيْنِ قَذًى،وَفِي الْحَلْقِ شَجاً أَرَى تُرَاثِي نَهْباً»(1).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «مَنِ اشْتَغَلَ بِغَيْرِ الْمُهِمِّ قَدْ ضَيَّعَ الأَهَمَ»(2).

ص: 382


1- تقريب المعارف: ص240.
2- عيون الحكم و المواعظ : ص460 ح8352.

إن الممات سبيلنا

اشارة

وقالت فاطمة الزهراء (عليها السلام):

إِذَا مَاتَ يَوْماً مَيِّتٌ قَلَ ذِكْرُهُ *** وَ ذِكْرُ أَبِي مُذْ مَاتَ واللَّهِ أَزْيَدُ

تَذَكَّرْتُ لَمَّا فَرَّقَ الْمَوْتُ بَيْنَنَا *** فَعَزَّيْتُ نَفْسِي بِالنَّبِيِّ مُحَمَّدٍ

فَقُلْتُ لَهَا إِنَّ الْمَمَاتَ سَبِيلُنَا *** وَمَنْ لَمْ يَمُتْ فِي يَوْمِهِ مَاتَ فِي غَدٍ (1)

تعزية الإنسان نفسه

مسألة: يستحب تعزية المرء نفسه بالمعصومين (عليهم السلام) وبما جرى عليهم من المصاب.

فإذا سجن المظلوم فليعز نفسه بالإمام الكاظم (عليه السلام)، وأن سجن الإمام كان أشد بل في قمة الشدة خاصة إذا لوحظت عظمة مقامه وصبره رغم قدرته على الإعجاز.

وإذا صادر الظالم حق شخص عزى نفسه بمصيبة الزهراء (عليها السلام) بمصادرة فدك وغيرها.

وإذا ضُرب شخص عزى نفسه بضرب الصديقة فاطمة (عليها السلام) حتى صار في عضدها كمثل الدملج، وحتى أسقطت جنينها المحسن (عليه السلام).

ص: 383


1- بحار الأنوار: ج 22 ص523 ب2 وفاته وغسله والصلاة عليه ودفنه (صلى الله عليه وآله).

وإذا فقد إنسان عزيزاً عزى نفسه بمصاب الصديقة (عليها السلام) حيث فقدت أباها رسول الله (صلى الله عليه وآله).

عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) أَنَّهُ قَالَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ: «أَيُّهَا النَّاسُ أَيُّمَا عَبْدٍ مِنْ أُمَّتِي أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ مِنْ بَعْدِي فَلْيَتَعَزَّ بِمُصِيبَتِهِ بِي عَنِ الْمُصِيبَةِ الَّتِي تُصِيبُهُ بِغَيْرِي، فَإِنَّ أَحَداً مِنْ أُمَّتِي لَنْ يُصَابَ بِمُصِيبَةٍ بَعْدِي أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ مُصِيبَتِي»(1).

الرثاء والقسم

مسألة: يجوز القسم في الرثاء، كما يجوز في المدح، بل هو جائز في كل ما أشبه ذلك من الدعاء والضراعة والمناجاة ونحوها، بل في الخطب والمحاججات الهامة.

مثل قول أمير المؤمنين (عليه السلام): «وَاللَّهِ لَقَدْ تَقَمَّصَهَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ»(2).

وكما في الرجز لأبي الفضل العباس (عليه السلام):

والله إن قطعتم يميني *** إني أحامي أبدا عن ديني

وعن إمام صادق اليقين *** نجل النبي الطاهر الأمين (3)

ص: 384


1- بحار الأنوار: ج 79 ص143 ب18 فضل التعزي والصبر عند المصائب والمكاره.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 1 ص151.
3- بحار الأنوار: ج 45 ص40 ب37 سائر ما جرى عليه بعد بيعة الناس ليزيد بن معاوية إلى شهادته صلوات الله عليه.

التذكير بالموت

مسألة: يستحب تذكير النفس بالموت وأنه سيبل كل حي.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَنْ أَكْثَرَ ذِكْرَ الْمَوْتِ أَحَبَّهُ اللَّهُ»(1).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): «مَنْ أَكْثَرَ ذِكْرَ الْمَوْتِ أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي جَنَّتِهِ»(2).

وفِي كِتَابِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ وأَهْلِ مِصْرَ قَالَ: «وأَكْثِرُوا ذِكْرَ الْمَوْتِ عِنْدَ مَا تُنَازِعُكُمْ إِلَيْهِ أَنْفُسُكُمْ مِنَ الشَّهَوَاتِ، وكَفَى بِالْمَوْتِ وَاعِظاً، وكَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) كَثِيراً مَا يُوصِي أَصْحَابَهُ بِذِكْرِ الْمَوْتِ، فَيَقُولُ: أَكْثِرُوا ذِكْرَ الْمَوْتِ فَإِنَّهُ هَادِمُ اللَّذَّاتِ حَائِلٌ بَيْنَكُمْ وبَيْنَ الشَّهَوَاتِ»(3).وعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ الْحَذَّاءِ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام): حَدِّثْنِي بِمَا أَنْتَفِعُ بِهِ، فَقَالَ: «يَا أَبَا عُبَيْدَةَ أَكْثِرْ ذِكْرَ الْمَوْتِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُكْثِرْ إِنْسَانٌ ذِكْرَ الْمَوْتِ إلاّ زَهِدَ فِي الدُّنْيَا»(4).

ص: 385


1- وسائل الشيعة: ج 25 ص274 ب29 باب استحباب التواضع لله بترك الأشربة اللذيذة ح1.
2- وسائل الشيعة: ج 15 ص277 ب31 باب استحباب التواضع في المأكل والمشرب ونحوهما ح2.
3- وسائل الشيعة: ج 2 ص437 ب23 باب استحباب كثرة ذكر الموت وما بعده والاستعداد لذلك ح9.
4- وسائل الشيعة: ج 2 ص434 ب23 باب استحباب كثرة ذكر الموت وما بعده والاستعداد لذلك ح1.

الزيادة يوماً بعد يوم

مسألة: يستحب بيان أن ذكر الرسول (صلى الله عليه وآله) يزداد يوماً بعد يوم.

فإن من طبيعة البشر أن لا يقدّر العظيم في حياته، بل يتم بعض التقدير بعد مماته، كما نشاهد ذلك في العلماء الذين هم بين الناس حيث لا يُقدرون بما يستحقونه، ولكن لما ماتوا قدّروا أكثر.

وهكذا كان الأمر بالنسبة إلى المعصومين (صلوات الله عليهم أجمعين).

ويكون قولها (عليها السلام) أيضاً إخباراً عن المستقبل حيث انتشار الدين الإسلامي.

نعم هناك بعض الأحكام قد تختلف في حياتهم وبعد مماتهم، فمثلاً جواز أنيكون في بيت النبي (صلى الله عليه وآله) والإمام (عليه السلام) موضع للتخلي، بينما لا يجوز ذلك بالنسبة إلى مراقدهم الشريفة كالمساجد، إلى غير ذلك.

وقاعدة (حرمته ميتاً كحرمته حياً) المروية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)(1) تفيد التساوي كأصل عام، وإن كانت هناك استثناءات، فقطع رأس الحي يوجب الدية كاملة بينما قطع رأس الميت يوجب عشر الدية، إلى غير ذلك، فالقاعدة العامة التساوي إلاّ ما خرج زيادة أو نقيصة.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) فِي رَجُلٍ قَطَعَ رَأْسَ الْمَيِّتِ، قَالَ: «عَلَيْهِ

ص: 386


1- قال النبي (صلى الله عليه وآله): «إن الله حرم من المؤمن ميتاً ما حرمه منه حياً» غوالي اللئالي: ج3 ص653 ح127.

الدِّيَةُ لِأَنَّ حُرْمَتَهُ مَيِّتاً كَحُرْمَتِهِ وهُوَ حَيٌّ»(1).

تعزية الآخرين

مسألة: يستحب تعزية الآخرين، ومنه تذكيرهم بالموت وأن من لم يمت اليوم يموت غداً.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) عَنْ آبَائِهِ (عليهم

السلام) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليهوآله): «مَنْ عَزَّى حَزِيناً كُسِيَ فِي الْمَوْقِفِ حُلَّةً يُحَبَّرُ بِهَا»(2).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): مَنْ عَزَّى مُصَاباً كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ أَجْرِ الْمُصَابِ شَيْئاً»(3).

وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ: «كَانَ فِيمَا نَاجَى بِهِ مُوسَى (عليه السلام) رَبَّهُ قَالَ: يَا رَبِّ مَا لِمَنْ عَزَّى الثَّكْلَى، قَالَ: أُظِلُّهُ فِي ظِلِّي يَوْمَ لا ظِلَ إلاّ ظِلِّي»(4).

ص: 387


1- من لا يحضره الفقيه: ج 4 ص157 باب ما يجب على من قطع رأس ميت ح5357، وسائل الشيعة: ج 29 ص327 ب24 باب دية قطع رأس الميت ونحوه ح6.
2- الكافي: ج 3 ص205 باب ثواب من عزى حزينا ح1.
3- الكافي: ج 3 ص205 باب ثواب من عزى حزينا ح2.
4- الكافي: ج 3 ص226 باب ثواب التعزية ح1.

أظلم العصران

اشارة

قالت فاطمة الزهراء (عليها السلام):

اغبرّ آفاق السماء وكوّرت *** شمس النهار وأظلم العصران

فالأرض من بعد النبيّ كئيبة *** أسفاً عليه كثيرة الرجفان

فليبكه شرق البلادذوغربها *** ولتبكه مضر وكلّ يمان

وليبكه الطود المعظم جوّه *** ذو الأستار والأركان

يا خاتم الرسل المبارك ضوءه *** صلّى عليك منزّل القرآن (1)

استعمال المجازات

مسألة: يجوز المجاز بتشبيه المعقول بالمحسوس، أو تشبيه المحسوس بالمعقول، وكذا سائر أقسام المجازات المقبولة، فإنه في مورده المناسب ليس من الكذب، أما في غير مورده فهو كذب، كما إذا قال للبخيل: أنه بحر، وللجبان أنه أسد، وما أشبه، إلا إذا كان من باب حمل النقيض على النقيض، أو الضد على الضد.

ومن المجاز في الروايات:

ص: 388


1- إحقاق الحق: ج10 ص434.

قوله (عليه السلام): «إِنَّ لِكُلِّ شَيْ ءٍ قُفْلًاوَ قُفْلُ الإِيمَانِ الرِّفْقُ»(1).

وقوله (عليه السلام): «الغضب يفسد الإيمان كما يفسد الخل العسل»(2).

قوله (عليه السلام): «سواد الليل يمحوه النهار وكذلك السيئة يمحوها الحسنة»(3).

ولا يخفى أنه يمكن إبقاء ما ذكرته الصديقة (عليها السلام) في هذا الشعر على ظاهره بإرادة معاني هذه الجمل الحقيقية، بأن تكون آفاق السماء قد اغبرت حقيقة، وتكورت شمس النهار، وأظلم العصران واقعا، ولا مجاز، إذ أي بعد في ذلك، بل له نظائر، غاية الأمر أن يحمل على رؤيتهم (صلوات الله عليهم) ما لا نراه.

مسائل أخرى

وهناك مسائل عديدة يمكن استنباطها من هذه الأبيات، وقد أشير إلى بعضها في ما سبق من هذا الكتاب، مثل: استحباب البكاء على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسائر المعصومين (عليهم السلام)، واستحباب الأمر بالبكاء عليهم،واستحباب الرثاء عليهم، واستحباب الصلاة عليهم، وما أشبه.

ص: 389


1- الكافي: ج 2 ص118 باب الرفق ح1.
2- الكافي: ج 2 ص302 باب الغضب ح1.
3- الكافي: ج 8 ص49 حديث موسى (عليه السلام) ضمن ح8.

يبكي عليك الناظر

اشارة

وقالت الصديقة فاطمة (عليها السلام):

كنت السواد لمقلتي *** يبكي عليك الناظر

من شاء بعدك فليمت *** فعليك كنت أحاذر(1)

ونسبت هذه الأبيات لأمير المؤمنين (عليه السلام) أيضاً يوم مات رسول الله (صلى الله عليه وآله)(2).

حكم المبالغة

مسألة: يجوز المبالغة المعقولة في الرثاء، فإنه خرج من الكذب أمور، منها التورية والمبالغة والإغراق(3).

ص: 390


1- تسلية المجالس وزينة المجالس: ج 1 ص244 أمير المؤمنين عليه السلام يرثي النبي (صلى الله عليه وآله). وفي مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) لابن شهرآشوب: ج 1 ص242 فصل في وفاته (صلى الله عليه وآله): (تبكي) بدل (يبكي).
2- وفي شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 19 ص197: ومن الشعر المنسوب إلى علي (عليه السلام) ويقال إنه قاله يوم مات رسول الله (صلى الله عليه وآله): كنت السواد لناظري *** فبكى عليك الناظر من شاء بعدك فليمت *** فعليك كنت أحاذر
3- للتفصيل راجع موسوعة (الفقه) كتاب المكاسب المحرمة: ج2 ص33.

والإغراق غاية المبالغة فيحدودها المقبولة عند العقلاء.

فقد يكون للتقليل وربما كان بعكسه للتكثير، كقول الشاعر:

ثلاثة تشفق الدنيا لبهجتها *** شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر

فإن تشبيه أبي إسحاق بالشمس والقمر من الإغراق، ومع ذلك فإن مثله مقبول عند العقلاء.

ومن الواضح أن قولها (عليها السلام): «من شاء بعدك فليمت»، ليس طلباً لموت الآخرين، بل هو بيان لعظمة المصيبة بفقد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، كأن الحياة لا قيمة لها بعده.

حب المعصومين

مسألة: ينبغي أن يكون المعصومون (عليهم السلام) بالنسبة للإنسان الأحب إليه والأعز عليه، حتى كأنهم السواد لمقلته، كما قالت الصديقة (صلوات الله عليها).

عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) قَالَ: «لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَ إِلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ، ويَكُونَ عِتْرَتِي أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ عِتْرَتِهِ، ويَكُونَ أَهْلِي أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ، ويَكُونَذَاتِي أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ ذَاتِهِ»(1).

وقال (صلى الله عليه وآله): «لا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَ إِلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ

ص: 391


1- بحار الأنوار: ج 27 ص112 ب4 ثواب حبهم ونصرهم وولايتهم وأنها أمان من النار ح85.

وأَهْلِهِ ومَالِهِ ووُلْدِه»(1).

وعن أَبَي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قال: «لَا يُمَحِّضُ رَجُلٌ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ أَحَبَ إِلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ وأَبِيهِ وأُمِّهِ ووُلْدِهِ وأَهْلِهِ ومَالِهِ ومِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ»(2).

تحمل المصاب

مسألة: ينبغي تربية النفس لتهون عليها كافة مصائبها بالقياس إلى المصاب برسول الله وأهل بيته الأطهار (عليه وعليهم السلام).

ومن هنا يعلم أن إظهار الحزن والعزاء عليهم (صلوات الله عليهم) ينبغي أن يكون أكثر مما يفعله المرء بفقدان أي عزيز عليه.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) فِي حَدِيثٍقَالَ: «وإِذَا أُصِبْتَ بِمُصِيبَةٍ فَاذْكُرْ مُصَابَكَ بِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) فَإِنَّ الْخَلْقَ لَمْ يُصَابُوا بِمِثْلِهِ قَطُّ»(3).

ص: 392


1- نهج الحق وكشف الصدق: ص308 دعا النبي (صلى الله عليه وآله) على معاوية عن صحيح مسلم: ج1 ص31، والبخاري في كتاب الإيمان، باب حلاوة الإيمان.
2- بحار الأنوار: ج 67 ص25 ب43 ح25.
3- وسائل الشيعة: ج 3 ص267 ب79 باب استحباب تذكر المصاب مصيبة النبي (صلى الله عليه وآله) واستصغار مصيبة نفسه بالنسبة إليها ح1.

حفظ المعصوم

مسألة: يجب الحذر على المعصوم (عليه السلام) وحفظه في كل الجهات، في نفسه وأهله وماله وحقه ومطلق ما يتعلق به.

ولا فرق في ذلك بين حال حياته (عليه السلام) وبعد مماته فيما يمكن حفظه فيه.

ولعله من وجوه قوله (عليه السلام): «فاطمة أم أبيها»(1)، هو كونها (عليها السلام) كانت كما قالت: (فعليك كنت أحاذر)، إذ كانت الصديقة (صلوات الله عليها) تحاذر على أبيها حذر الأم على ابنها، وقد وردت روايات عديدة تدل على ذلك، ومنها مسارعتها لإفشال مخطط المشركين لقتل رسول الله (صلى الله عليه وآله).

وكما في ليلة المبيت: حيث روى تَفْسِيرِ الثَّعْلَبِيِّ فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ»(2)، وبِالْإِسْنَادِ الْمُقَدَّمِ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) لَمَّا أَرَادَ الْهِجْرَةَ خَلَّفَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) بِمَكَّةَ لِقَضَاءِ دُيُونِهِ وبِرَدِّ الْوَدَائِعِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُ وأَمَرَهُ لَيْلَةَخَرَجَ إِلَى الْغَارِ وقَدْ أَحَاطَ الْمُشْرِكُونَ بِالدَّارِ أَنْ يَنَامَ عَلَى فِرَاشِهِ (صلى الله عليه وآله) فَقَالَ لَهُ: يَا عَلِيُّ اتَّشِحْ بِبُرْدِيَ الْحَضْرَمِيِّ الْأَخْضَرِ، ثُمَّ نَمْ عَلَى فِرَاشِي فَإِنَّهُ لَا يَخْلُصُ إِلَيْكَ مِنْهُمْ مَكْرُوهٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ.

فَفَعَلَ ذَلِكَ (عليه السلام) فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ إِلَى جَبْرَئِيلَ ومِيكَائِيلَ عليهما

ص: 393


1- عن جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ (عليهما السلام): «أَنَّ فَاطِمَةَ (عليها السلام) كَانَتْ تُكَنَّى أُمَ أَبِيهَا». بحار الأنوار: ج 43 ص19 ب2 أسمائها وبعض فضائلها (عليها السلام) ح19.
2- سورة البقرة: 207.

السلام: أَنِّي قَدْ آخَيْتُ بَيْنَكُمَا وجَعَلْتُ عُمُرَ أَحَدِكُمَا أَطْوَلَ مِنَ الْآخَرِ فَأَيُّكُمَا يُؤْثِرُ صَاحِبَهُ بِالْحَيَاةِ فَاخْتَارَ كِلَاهُمَا الْحَيَاةَ.

فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ إِلَيْهِمَا: أَلا كُنْتُمَا مِثْلَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ آخَيْتُ بَيْنَهُ وبَيْنَ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) فَنَامَ عَلَى فِرَاشِهِ يَفْدِيهِ بِنَفْسِهِ ويُؤْثِرُهُ بِالْحَيَاةِ، اهْبِطَا إِلَى الأَرْضِ فَاحْفَظَاهُ مِنْ عَدُوِّهِ.

فَنَزَلا فَكَانَ جَبْرَئِيلُ (عليه السلام) عِنْدَ رَأْسِهِ ومِيكَائِيلُ (عليه السلام) عِنْدَ رِجْلَيْهِ، فَقَالَ جَبْرَئِيلُ (عليه السلام): بَخْ بَخْ مَنْ مِثْلُكَ يَا ابْنَ أَبِي طَالِبٍ يُبَاهِي اللَّهُ بِكَ الْمَلَائِكَةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ (صلى الله عليه وآله) وهُوَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْمَدِينَةِ فِي شَأْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام): «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ»(1) الآيَةَ(2).

وكما ورد ذلك في يوم عاشوراءبالنسبة الإمام زين العابدين (عليه السلام):

حيث روي أنه التفت الحسين (عليه السلام) عن يمينه فلم ير أحداً من الرجال، والتفت عن يساره فلم ير أحداً، فخرج علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) وكان مريضاً لا يقدر أن يقل سيفه وأم كلثوم تنادي خلفه يا: بني ارجع، فقال: «يَا عَمَّتَاهْ ذَرِينِي أُقَاتِلْ بَيْنَ يَدَيِ ابْنِ رَسُولِ اللَّهِ» فَقَالَ الْحُسَيْنُ (عليه السلام): «يَا أُمَّ كُلْثُومٍ خُذِيهِ لِئَلَّا تَبْقَى الْأَرْضُ خَالِيَةً مِنْ نَسْلِ آلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله»(3).

ص: 394


1- سورة البقرة: 207.
2- عمدة عيون صحاح الأخبار في مناقب إمام الأبرار: ص239.
3- بحار الأنوار: ج45 ص46 بقية الباب 37.

جد الرحيل

اشارة

وقالت فاطمة الزهراء (عليها السلام):

أنعَتْ نفسَك الدنيا إلينا وأسرعت *** ونادت ألا جدّ الرحيل وودّعت(1)

لسان حال الدنيا

مسألة: يجوز التكلم بلسان الدنيا ونحوها حسب الضوابط المذكورة في باب لسان الحال.

وهل من ذلك ما ورد من تكلم القبر وما أشبه، احتمالان.

والظاهر أنها حقيقة، فإن كل شيء يسبح بحمد ربه، وكل شيء يتكلم وإن كنا لا نسمع ذلك.

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ الْقَبْرَ يَقُولُ لِلْمَيِّتِ إِذَا وُضِعَ فِيهِ: وَيْحَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مَا غَرَّكَ بِي، أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَا بَيْتُ الْوَحْدَةِ وبَيْتُ الدُّودِ وبَيْتُ الْآكِلَةِ مَا كَانَ غَرَّكَ بِي، إِذْ كُنْتَ فَوْقِي فَدَّاداً، والْفَدَّادُ الَّذِي يُقَدِّمُ رِجْلاً ويُؤَخِّرُ

ص: 395


1- عوالم العلوم، مستدرك سيدة النساء إلى الإمام الجواد (عليهما السلام): ج 11 قسم2، فاطمة (سلام الله عليها) ص805.

أُخْرَى»(1)

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «إِنَّ لِلْقَبْرِ كَلَاماً فِي كُلِّ يَوْمٍ يَقُولُ: أَنَا بَيْتُ الْغُرْبَةِ، أَنَا بَيْتُ الْوَحْشَةِ، أَنَا بَيْتُ الدُّودِ، أَنَا الْقَبْرُ، أَنَا رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ»(2).

قال تعالى: «تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبيحَهُمْ إِنَّهُ كانَحَليماً غَفُوراً»(3).

يقول الشاعر:

أرى دنياي تؤذن بانطلاق *** مشمرة على قدم وساق

فلا الدنيا بباقية لحي *** ولا حي عن الدنيا بباق

وعن جعفر بن محمد، عن أبيه (عليهما السلام) قال: «نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن أن توسم البهائم في وجوهها، وأن يضرب وجوهها فإنها تسبح بحمد ربها»(4).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «ما من طير يصاد في بر ولا بحر، ولا شي ء يصاد من الوحش، إلا بتضييعه التسبيح»(5).

ص: 396


1- الدعوات، للراوندي: ص258ح734.
2- الكافي: ج 3 ص242 باب ما ينطق به موضع القبر ح2.
3- سورة الإسراء: 44.
4- تفسير العياشي: ج 2 ص294 ح82.
5- تفسير العياشي: ج 2 ص294 ح83.
استعد لآخرتك

مسألة: يجب الحذر من مضي العمر دون التجهز للآخرة بالعمل الصالح، والحذر من فوات الفرصة دون اغتنامها كما ينبغي، فإن الدنيا قد (نادت: ألا جدّ الرحيل وودعت).

وعلي أي، فإنه لا بُعد في نعي الدنيا بعض الأنفس للناس، كما لا بعد في ندائها الحقيقي ب (ألا جد الرحيل) والروايات المشابهة لهذه الأبيات عديدة.

عن رسول الله (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) قال: «إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى مَلَكاً يَنْزِلُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ فَيُنَادِي: يَا أَبْنَاءَ الْعِشْرِينَ جِدُّوا واجْتَهِدُوا، ويَا أَبْنَاءَ الثَّلَاثِينَ لا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا، ويَا أَبْنَاءَ الْأَرْبَعِينَ مَا ذَا أَعْدَدْتُمْ لِلِقَاءِ رَبِّكُمْ، ويَا أَبْنَاءَ الْخَمْسِينَ أَتَاكُمُ النَّذِيرُ، ويَا أَبْنَاءَ السِّتِّينَ زَرْعٌ آنَ حَصَادُهُ، ويَا أَبْنَاءَ السَّبْعِينَ نُودِيَ لَكُمْ فَأَجِيبُوا، ويَا أَبْنَاءَ الثَّمَانِينَ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ وأَنْتُمْ غَافِلُونَ، ثُمَّ يَقُولُ: لَوْلا عِبَادٌ رُكَّعٌ، ورِجَالٌ خُشَّعٌ، وصِبْيَانٌ رُضَّعٌ، وأَنْعَامٌ رُتَّعٌ، لَصُبَّ عَلَيْكُمُ الْعَذَابُ صَبّاً»(1).وقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «أَلا فَاعْمَلُوا والْأَلْسُنُ مُطْلَقَةٌ، والأَبْدَانُ صَحِيحَةٌ، والأَعْضَاءُ لَدْنَةٌ، والْمُنْقَلَبُ فَسِيحٌ، والْمَجَالُ عَرِيضٌ، قَبْلَ إِرْهَاقِ الْفَوْتِ، وحُلُولِ الْمَوْتِ، فَحَقِّقُوا عَلَيْكُمْ حُلُولَهُ وانْتَظِرُوا تَعْجِيلَ قُدُومِهِ»(2).

ص: 397


1- مستدرك الوسائل: ج 12 ص157 ب96 باب وجوب التحفظ عند زيادة العمر خصوصا أبناء الأربعين فصاعداً ح5.
2- عيون الحكم والمواعظ: ص109 ح2396.

وقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «الْفُرْصَةُ سَرِيعَةُ الْفَوْتِ بَطِيئَةُ الْعَوْدِ»(1).

أبيات الموعظة

مسألة: ينبغي أن يكرر الإنسان بينه وبين نفسه ما فيه الموعظة، كقراءة هذا البيت المروي عن الصديقة (صلوات الله عليها)، لما فيه من الموعظة وتهذيب النفس وللتأسي بها (عليها السلام).

عن جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ (عليهما السلام): «مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَاعِظٌ مِنْ قَلْبِهِ، وزَاجِرٌ مِنْ نَفْسِهِ، ولَمْ يَكُنْ لَهُ قَرِينٌ مُرْشِدٌ، اسْتَمْكَنَ عَدُوُّهُ مِنْ عُنُقِهِ»(2).

وعَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ، قَالَ: كَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ زَيْنُ الْعَابِدِينَ (عليهماالسلام) يَقُولُ: «ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لا تَزَالُ بِخَيْرٍ مَا كَانَ لَكَ وَاعِظٌ مِنْ نَفْسِكَ، ومَا كَانَتِ الْمُحَاسَبَةُ لَهَا مِنْ هَمِّكَ، ومَا كَانَ الْخَوْفُ لَكَ شِعَاراً، والْحُزْنُ لَكَ دِثَاراً، إِنَّكَ مَيِّتٌ ومَبْعُوثٌ ومَوْقُوفٌ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ فَأَعِدَّ جَوَاباً»(3).

ص: 398


1- عيون الحكم والمواعظ: ص21 ح118.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 4 ص402 ح5866.
3- الأمالي، للمفيد: ص110 المجلس الثاني عشر ح10.

الفهرس

إيثار الضيف.. 5

إكرام الضيف.. 6

رضا الطفل المميز 6

إضافة 8

أبوا هذه الأمة 9

من مسؤوليات الوالدين. 9

روايات في مسؤولية الوالدين: 10

حرمة الإسخاط. 11

اشتراك الأئمة في الفضائل. 13

الأبوان والأكثر 16

بين الطاعة والموافقة 17

أبوا هذه الأمة 18

إقامة الأود 19

إنقاذ الأمة 20

إباحة النعيم. 21

أبوا كل أُمة 22

لا نجاة إلا بالطاعة 23

الفوز بالنعيم الدائم. 27

حرمة مخالفة النبي والوصي. 28

ص: 399

الفقهاء آباء أيضاً 29

حقوق الأبوة 31

دفع وهم: 32

أبوا الدين. 33

أبوا هذه الأُمة 33

الوالدان نسباً 34

عدة مسائل: 34

رضاهم يقدّم 36

رضا وسخط الغير. 38

إرضاؤهم واجب.. 41

حرمة إسخاطهما 41

ثواب الطاعة 42

معصية إسخاط النبي. 42

التعامل على الحق. 43

شمولية الخطاب.. 43

منزلة علي وفاطمة 45

التنويع في أساليب الهداية 50

التفاخر بالحق. 51

إبداء الحق ودور الكلام 53

الانتساب.. 54

شجرة النسب.. 55

نسب الصديقة 56

من فضائل الوصي. 57

ص: 400

جبرائيل خادمهم. 58

خطبة الزواج. 60

توزيع المسؤوليات.. 60

شجاعة عرض الحقائق. 60

مولد الإمام 61

الزواج في الرفيع الأعلى. 62

أقرب الناس لرسول الله. 63

الحلف بالموصول. 63

المسارة والمناجاة 63

وحتى اللحظات الأخيرة 64

الأقرب المطلق. 66

التكرار المفيد. 66

نساء النبي المؤمنات.. 67

شجار الملائكة واختيارهم حكماً 68

الملائكة وشبه الاختصام 68

المعصوم أفضل من الملائكة 69

حل المشاجرات.. 75

مرجعية الكفاءات.. 75

عالم الملائكة 76

الحكم العدل. 82

المعروف بعدله عند الملائكة 82

قبول الحكمية 82

من حق المتشاجرين. 83

ص: 401

استحباب اختيار الأفضل. 83

الحَكَم في التشاجر 85

التحاور 86

التشاجر الصوري. 86

من فضائل أمير المؤمنين. 87

خير الأُمة 87

مما يوجب التفاضل. 89

اختيار الزوج. 89

الأعلم بعد النبي. 90

استحباب التعلّم. 92

استحباب الحلم. 94

في زواج البنت.. 95

بيان فضائل الزوج. 96

فضائل أمير المؤمنين. 97

الأكثر حلماً 97

البنت واختيار الزوج. 98

أبوك وزوجك.. 99

الأفضل في المهام الرسالية 99

الزوج الفاضل. 100

من اختارهم الله. 101

حكمة الباري تعالى. 102

الإضافة التشريفية 102

زدني يا أبتاه 105

ص: 402

الغضب الصوري. 107

علي مني وأنا من علي. 108

زيادة رغبة الزوجة في زوجها 110

حرمة إغضاب النبي. 110

حسن الخلق. 112

سلام من السلام 113

الأكرم من هارون. 116

بيان الأسباب.. 118

التعليل وبيان الحِكَم. 118

حقانية النبوة 119

النظر في وجه علي. 119

من بركات النظر 121

السلام على الوصي. 122

الرضا بالربوبية والنبوة والإمامة 123

إجابة الطلب.. 124

التنوع في الخطاب.. 124

النظم والترتيب.. 125

الأرض تحدّث علياً 126

الأرض تكلمهم. 126

سجدة الشكر 130

بشارة المؤمن. 131

النسل الطيب.. 132

العلم ركن في القيادة 133

ص: 403

ضبط النفس.. 135

السجدة الطويلة 137

سجود المعصومين. 140

سجود النبي. 140

سجود أمير المؤمنين. 140

سجود الإمام زين العابدين. 141

سجود الإمام الصادق. 141

سجود الإمام الكاظم. 142

أفضل الخلق. 143

سعة علم المعصوم 143

التوجه إلى المعصوم 144

تحمل المسؤولية 144

الزلزلة 146

الولاية التكوينية 148

خوف الناس واضطرابهم. 149

رد الإساءة بالإحسان. 151

الإنسان وقدره 152

رواية الحديث.. 153

الفزع إلى المعصوم 153

ملجأ الصحابة والأمة 156

استحباب الطمأنينة 157

رفع التعجب.. 158

سورة الزلزلة 159

ص: 404

إجابة الناس وقضاء حوائجهم. 160

المكان والتوجيه الأفضل. 161

التقرير 162

فضل حب الأمير. 163

معنى الغفران في حق المعصوم 163

حب المعصوم سعادة 165

تخصيص العظيم. 166

من بركات الإمام 166

تحصيل السعادة 169

التوقيت.. 170

تأكيد المهم وخاصة الولاية 172

حب الوصي. 173

المحاباة بالباطل. 175

المباهاة بالحق. 175

زيادة حب الوصي. 177

علي وشيعته في الجنة 178

الجنة وأهلها 178

التشيع واجب.. 180

إعلام العالِم. 182

أبشر يا علي. 183

قول أبشر 183

الرواية والطرق المختلفة 184

حق القسم. 185

ص: 405

هذا وشيعته 186

فضائل الوصي. 186

بيان الفضائل. 187

النظر إلى علي. 188

الصراحة في الحق. 189

ليلة المعراج والولاية 190

القرب المعنوي. 190

الأذان والإقامة 191

الشهادة بالولاية في الأذان. 192

بيان حديث المعراج. 193

أهمية الولاية 194

نفي الرؤية 194

استحباب التأكيد. 195

طاعة الوصي ومحاربة أعدائه 196

الإقرار بالشهادة 197

الشهادة بالولاية 197

تكرار الشهادة 198

أبواب الجنة وما كتب عليها 201

علامة طيب المولد. 202

هداية من لا يحب الأمير. 205

رواية الحديث.. 205

أوصاف الجنة 206

فضائل الشيعة 207

ص: 406

التأكيد على الرسالة 208

من هم الفائزون؟ 210

التزيين بالأسماء الطاهرة 211

النداء بكلمة: حبيبي. 212

بيان الحشر والنشر 213

كيف يدعى الناس يوم القيامة 215

بشارة الشيعة 215

ستر الباب.. 216

متى خلقت الجنة والنار 216

كتابات مستحبة 217

الكتابة على الستر. 217

ذكر الاسم في الشهادة 218

ذكر التفاصيل. 218

الفحص والتنقيب.. 219

النسب والحسب.. 219

الولاية يوم الغدير 220

الاعتقاد بالائمة الاثني عشر 221

العظيم يُزار 222

لو حكم الأئمة 223

يا سيدتي. 224

الاسئذان للسؤال. 225

الإذن لمن استأذن. 225

استحباب الاستفهام 226

ص: 407

إظهار العجب.. 226

بيان قصة الغدير 227

وفي خصوص الولاية 228

خير من أخلف.. 229

الإمام والخليفة 230

اتباع أهل البيت.. 233

حرمة مخالفتهم. 233

لو أطاع الناس أئمتهم. 234

القائم من آل محمد. 234

تأخير المتقدم 236

تقديم المتأخر 236

لا لتقديم الشهوات.. 237

الاجتهاد في قبال النص.. 238

تباً لهم. 240

الاستشهاد بالآيات.. 241

بسط الآمال الدنيوية 242

نسيان الأجل. 243

التعوذ بالله تعالى. 245

الجور حرام 248

العقائد الحقة 249

التشكيك في العقائد. 250

من كنت مولاه فعلي مولاه 252

وجوب الولاية 252

ص: 408

تذكير الناس. 254

حديث المنزلة 256

الولاية على جميع المخلوقات.. 257

الوضع والتكليف.. 257

الأحاديث والتنويع. 259

من كنت وليه وإمامه 260

مقام علي. 260

مراتب من الولاية 261

عقد الولاء يوم الغدير 264

الدفاع عن الولاية 264

حرمة قطع الأسباب.. 267

التوكل على الله. 271

لا عذر لأحد بعد يوم الغدير 272

العدول إلى الحق. 275

الضالون والمفسدون. 276

في وداع النبي. 277

قبلة البنت لأبيها 277

مواساة الباكي. 279

سيد الأنبياء 281

فضائل الأب.. 281

من لولدك بعدك. 282

الظلامة بعد النبي. 282

ناصر الدين وأخ الرسول. 284

ص: 409

استحباب البكاء 286

استحباب الرثاء 288

البكاء لبكاء الإمام 288

الانكباب على المحتضر 290

الانكباب على قبور المعصومين. 290

إعادة كتابة التاريخ. 290

أبكي لفراقك.. 291

البكاء لموت الأب.. 291

لا تبك.. 293

البكاء مواساة 294

العلم بما يحدث.. 296

البكاء على الغير. 298

البكاء لفراق النبي. 298

فضل البكاء 300

ظرف المبكي عليه 300

رثاء النبي وتأبينه 303

جواز الرثاء 303

عليّ يرثي النبي. 304

الحسين يرثي أخاه الحسن. 305

الرثاء المعنوي. 306

مقام الرسول. 307

نعي المؤمن. 311

النعي للملائكة 312

ص: 410

الإخبار عن الغيب.. 312

كيف طابت أنفسكم؟ 314

إثارة الحزن. 315

تنفيذ أمر الله. 316

الإنسان الرحيم. 317

معلم الخير. 318

من صفات الرسول. 321

البكاء والندبة 323

التوجع على فقدان النعمة 323

الإخبار عن النعمة 325

شؤون عَقَدية 325

في مصاب الرسول. 328

الرثاء وحكمه 328

حرمة طيب النفس بفقد المعصوم 330

من آداب الدفن. 331

من نظم الصديقة 331

ظلامات العترة 332

محاسبة الأمة 333

من مستثنيات الغيبة 333

التحسر والتألم. 334

إخبار الميت وخطاب الغائب.. 336

ما جرى بعد النبي. 338

المكان والزمان المناسبان. 338

ص: 411

الإجمال والتفصيل. 339

المحاسبة والرقابة 340

تقييم الأُمة 340

أهل البيت وعالم الغيب.. 341

نزول الكتب.. 343

الحق واختلاف الناس. 345

التجرد عن الماضي. 346

ليتنا متنا قبلك.. 347

تعابير العرف.. 348

التألم في المصاب.. 348

الضيق النفسي والجسمي. 349

الظلم الساري. 351

مدح الميت.. 352

أحكام القسم. 354

استحباب البكاء 355

خصوصيات البكاء 356

تنزيه الرسول. 357

التأسي واختيار العرق. 359

صبت علي مصائب.. 361

خطاب المجهول. 361

تشبيه المعقول بالمحسوس. 362

الروايات وتشبيه المعقول بالمحسوس. 363

مقارنة الفضائل. 363

ص: 412

إن الشرطية 364

الصدق. 365

الظلم والآثمين فيه 365

حمى الصديقة 368

حرمة هتك الطاهرين. 370

حرمة أخذ التأشيرة والرسوم من الزوار 370

روايات في حرمة العترة 371

وصف الأعداء 371

شم تربة المعصوم 372

شم تربة الرسول. 372

شم تربة أمير المؤمنين. 372

شم تربة سيد الشهداء 373

ما يجري على الأحياء 374

مصاب الزهراء 375

تداعي المعاني. 376

الوفاء بالوعد. 376

الحزن لحزنهم. 377

استعمال المجاز 378

الحصر الإضافي. 379

زيادة ذكر الرسول. 379

اتقاء الظلم ودفع الظالم. 380

دفعاً للظلم الأكثر 381

إن الممات سبيلنا 383

ص: 413

تعزية الإنسان نفسه 383

الرثاء والقسم. 384

التذكير بالموت.. 385

الزيادة يوماً بعد يوم 386

تعزية الآخرين. 387

أظلم العصران. 388

استعمال المجازات.. 388

مسائل أخرى. 389

يبكي عليك الناظر 390

حكم المبالغة 390

حب المعصومين. 391

تحمل المصاب.. 392

حفظ المعصوم 393

جد الرحيل. 395

لسان حال الدنيا 395

استعد لآخرتك.. 397

أبيات الموعظة 398

الفهرس. 399

ص: 414

المجلد العاشر : رواياتها (علیها السلام) 3

هوية الكتاب

الفقه

موسوعة استدلالية في الفقه الإسلامي

من فقه الزهراء (علیها السلام)

المجلد العاشر

رواياتها (علیها السلام) -3

المرجع الديني الراحل

آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (أعلى الله درجاته)

ص: 1

اشارة

الطبعة الأولى 1439 ه - 2018م

تهميش وتعليق:

مؤسسة المجتبى للتحقيق والنشر

كربلاء المقدسة

ص: 2

الفقه

من فقه الزهراء (علیها السلام)

المجلد العاشر

رواياتها (علیها السلام)

القسم الثالث

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

ولعنة الله على أعدائهم أجمعين

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الصِّدِيقَةُ الشَّهِيدَةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الرَّضِيَةُ المَرْضِيَّةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الفَاضِلةُ الزَّكِيَةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الحَوْراءُ الإِنْسِيَّةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا التَّقِيَّةُ النَّقِيَّةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا المُحَدَّثَةُ العَليمَةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا المَظْلومَةُ المَغْصُوبَةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا المُضْطَهَدَةُ المَقْهُورَةُ

السَّلامُ عَليْكِ يا فاطِمَةُ بِنْتَ رَسُولِ اللهِ

وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ

البلد الأمين ص278. مصباح المتهجد ص711

بحار الأنوار ج97 ص195 ب12 ح5 ط بيروت

ص: 4

مات خير فوارسي

اشارة

وقالت الصديقة فاطمة (عليها السلام):

قَدْ كُنْتَ لي جَبَلاً أَلوذُ بِظِلهِ *** فَاليَوْمَ تُسْلمُنِي لأَجْرَدِ(1) ضَاحِي

قَدْ كُنْتَ جَارَ حَمِيَّتِى مَا عِشْتَ لي *** وَ اليَوْمَ بَعْدَكَ مَنْ يُرِيشُ(2) جَنَاحِي

وَأَغُضُّ مِنْ طَرْفِي وأَعْلمُ أَنَّهُ *** قَدْ مَاتَ خَيْرُ فَوَارِسِي وسِلاحِي

حَضَرَتْ مَنِيَّتُهُ فَأَسْلمَنِي العَزَا *** وَ تَمَكَّنَتْ رَيْبَ المَنُونِ جَوَاحِي (3)

نَشَرَ الغُرَابُ عَليَّ رِيشَ جَنَاحِهِ *** فَظَللتُ بَيْنَ سُيُوفِهِ ورِمَاحِ

إِنِّي لأَعْجَبُ مَنْ يَرُوحُ ويَغْتَدِي *** وَ المَوْتُ بَيْنَ بُكُورِهِ ورَوَاحِ

فَاليَوْمَ أَخْضَعُ للذَّليل وأَتَّقِي *** ذُلي وأَدْفَعُ ظَالمِي بِالرَّاحِ

وَإِذَا بَكَتْ قُمْرِيَّةٌ شَجْناً بِهَا *** ليْلا عَلى غُصْنٍ بَكَيْتُ صَبَاحِي

فَاللهُ صَبَّرَنِي عَلى مَا حَل بِي *** مَاتَ النَّبِيُّ قَدِ انْطَفَى مِصْبَاحِي (4)

ص: 5


1- الأجرد: ما لا نبت فيه، وصخرة جرداء أي ملساء. (الضاحي): البارز للشمس، فلعل المراد تسلمني لصحراء قاحلة لا نبت فيها بارزة للشمس تحرقها بحرارتها.
2- راش السهم: ألصق به الريش. لسان العرب مادة (ريش).
3- الجائحة: الداهية الشديدة والبلية العظيمة، وجاح القوم: استئصلهم وأهلكهم.
4- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) لابن شهرآشوب: ج 1 ص242 فصل في وفاته (صلى الله عليه وآله).

من مصاديق المجاز

مسألة: يجوز إسناد الفعل مجازاً إلى غير ما هو له في الجملة، إذا كانمصحح للتجوز وكانت القرينة، ومنه قول الصديقة (عليها السلام) ههنا: (فاليوم تسلمني لأجرد ضاحي).

ظاهر التشاؤم

مسألة: قد يرجح التعبير بما يعبر به عادة المتشائم إذا كان المتكلم في مقام بيان عظم المصاب وجسامة الخطب على الدين وأهله، وأما حقيقة التشاؤم فإنه لا يتصور فيهم (صلوات الله عليهم)، لعصمتهم ولعلمهم بما جرى وسيجري عليهم.

عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ عُبَيْدٍ، قَال: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عِيسَى أَخِي، قَال: سَأَلتُ الرِّضَا (عليه السلام) عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَمَا يَقُول النَّاسُ فِيهِ، فَقَال: «عَنْ صَوْمِ ابْنِ مَرْجَانَةَ (لعَنَهُ اللهُ) تَسْأَلنِي ذَلكَ يَوْمٌ مَا صَامَهُ إلاّ الأَدْعِيَاءُ مِنْ آل زِيَادٍ بِقَتْل الحُسَيْنِ (صلوات الله عليه) وَهُوَ يَوْمٌ تَشَاءَمَ بِهِ آل مُحَمَّدٍ وَيَتَشَاءَمُ بِهِ أَهْل الإِسْلامِ، وَاليَوْمُ المُتَشَائِمُ بِهِ الإِسْلامُ وَأَهْلهُ لا يُصَامُ وَلا يُتَبَرَّكُ بِهِ، وَيَوْمُ الإِثْنَيْنِ يَوْمٌ نَحْسٌ قَبَضَ اللهُ فِيهِ نَبِيَّهُ (صلى الله عليه وآله) وَمَا أُصِيبَ آل مُحَمَّدٍ (عليهم السلام) إلاّ فِي يَوْمِ الإِثْنَيْنِ، فَتَشَاءَمْنَا بِهِ وَتَبَرَّكَ بِهِ أَعْدَاؤُنَا، وَيَوْمُ عَاشُورَاءَ قُتِل الحُسَيْنُ (عليه السلام) وَتَبَرَّكَ بِهِ ابْنُ مَرْجَانَةَوَتَشَاءَمَ بِهِ آل مُحَمَّدٍ (عليهم السلام) فَمَنْ صَامَهُمَا وَتَبَرَّكَ بِهِمَا لقِيَ اللهَ عَزَّ وَ جَل مَمْسُوحَ القَلبِ، وَكَانَ مَحْشَرُهُ مَعَ الذِينَ سَنُّوا

ص: 6

صَوْمَهُمَا وَتَبَرَّكُوا بِهِمَا»(1).

وقَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «العَيْنُ حَقٌّ، والرُّقَى حَقٌّ، والسِّحْرُ حَقٌّ، والفَأْل حَقٌّ، والطِّيَرَةُ ليْسَتْ بِحَقٍّ، والعَدْوَى ليْسَتْ بِحَقٍّ، والطِّيبُ نُشْرَةٌ، والعَسَل نُشْرَةٌ، والرُّكُوبُ نُشْرَةٌ، والنَّظَرُ إِلى الخُضْرَةِ نُشْرَة»(2).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (صلوات الله عليه) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي تِسْعَةٌ، الخَطَأُ والنِّسْيَانُ ومَا أُكْرِهُوا عَليْهِ ومَا لا يَعْلمُونَ ومَا لا يُطِيقُونَ ومَا اضْطُرُّوا إِليْهِ والحَسَدُ والطِّيَرَةُ والتَّفَكُّرُ فِي الوَسْوَسَةِ فِي الخَلقِ مَا لمْ يَنْطِقْ بِشَفَةٍ»(3).

التشبيه بالجبل ونحوه

مسألة: يجوز تشبيه العظيم بالجبل ونحوه، كما يجوز تشبيه الكريم بالبحر وبالمطر، وتشبيه الجميل بالشمسوالقمر وما أشبه، لكن يلزم أن يكون التشبيه في إطاره المقبول بحيث لا تمجّه الأسماع، ولا تلفظه العقول، ولا يكون له جهة غير مشروعة.

وفي اللغة: رجل مَجْبُول: عظيم، على التشبيه بالجَبَل (4).

وفلان لجَّةٌ واسِعةٌ، على التشبيه بالبحر في سَعته(5).

ص: 7


1- تهذيب الأحكام: ج4 ص301 ب67 ح17.
2- نهج البلاغة: حِكَم أمير المؤمنين (عليه السلام) الرقم 400.
3- الخصال: ج 2 ص417 ح9.
4- لسان العرب: ج 11 ص98 مادة (جبل).
5- لسان العرب: ج 2 ص354 مادة (لجج).

في رواية: قَال جَابِرٌ: فَقُلتُ: يَا رَسُول اللهِ فَهَل يَقَعُ لشِيعَتِهِ الانْتِفَاعُ بِهِ فِي غَيْبَتِهِ، فَقَال (صلى الله عليه وآله): «إِي والذِي بَعَثَنِي بِالنُّبُوَّةِ إِنَّهُمْ يَسْتَضِيئُونَ بِنُورِهِ ويَنْتَفِعُونَ بِوَلايَتِهِ فِي غَيْبَتِهِ كَانْتِفَاعِ النَّاسِ بِالشَّمْسِ وإِنْ تَجَللهَا سَحَاب» الخبر (1).

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالكٍ، قَال: صَلى رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) صَلاةَ الفَجْرِ فَلمَّا انْفَتَل مِنْ صَلاتِهِ أَقْبَل عَليْنَا بِوَجْهِهِ الكَرِيمِ عَلى اللهِ عَزَّ وجَل، ثُمَّ قَال: «مَعَاشِرَ النَّاسِ مَنِ افْتَقَدَ الشَّمْسَ فَليَسْتَمْسِكْ بِالقَمَرِ، ومَنِ افْتَقَدَ القَمَرَ فَليَسْتَمْسِكْ بِالزُّهَرَةِ، فَمَنِافْتَقَدَ الزُّهَرَةَ فَليَسْتَمْسِكْ بِالفَرْقَدَيْنِ»، ثُمَّ قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «أَنَا الشَّمْسُ، وعَليٌّ القَمَرُ، وفَاطِمَةُ الزُّهَرَةُ، والحَسَنُ والحُسَيْنُ الفَرْقَدَانِ، وكِتَابُ اللهِ لا يَفْتَرِقَانِ حَتَّى يَرِدَا عَليَّ الحَوْضَ»(2).

والد البتول

مسألة: يستحب بيان موقع الرسول (صلى الله عليه وآله) بالنسبة إلى الزهراء (عليه السلام) حيث كان (صلى الله عليه وآله) جبلاً تلوذ بظله ابنته الصديقة (عليها السلام) وكان جار حميتها.

عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الأَنْصَارِيِّ قَال: كَانَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) فِي الشِّكَايَةِ التِي قُبِضَ فِيهَا فَإِذَا فَاطِمَةُ (عليها السلام) عِنْدَ رَأْسِهِ، قَال: فَبَكَتْ حَتَّى ارْتَفَعَ صَوْتُهَا فَرَفَعَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) طَرْفَهُ إِليْهَا فَقَال: حَبِيبَتِي فَاطِمَةُ مَا الذِي يُبْكِيكِ؟

ص: 8


1- كمال الدين وتمام النعمة: ج 1 ص253 ب23 باب نص الله تبارك وتعالى على القائم (عليه السلام) وأنه الثاني عشر من الأئمة (عليهم السلام) ح3.
2- معاني الأخبار: ص114 باب معنى الشمس والقمر والزهرة والفرقدين ح1.

قَالتْ: أَخْشَى الضَّيْعَةَ مِنْ بَعْدِكَ يَا رَسُول اللهِ.

قَال: يَا حَبِيبَتِي لا تَبْكِيِنَّ فَنَحْنُ أَهْل بَيْتٍ أَعْطَانَا اللهُ سَبْعَ خِصَال لمْ يُعْطِهَا قَبْلنَا ولا يُعْطِهَا أَحَداً بَعْدَنَا، لنَا خَاتَمُالنَّبِيِّينَ وأَحَبُّ الخَلقِ إِلى اللهِ عَزَّ وجَل وهُوَ أَنَا أَبُوكِ، ووَصِيِّي خَيْرُ الأَوْصِيَاءِ وأَحَبُّهُمْ إِلى اللهِ عَزَّ وجَل وهُوَ بَعْلكِ، وشَهِيدُنَا خَيْرُ الشُّهَدَاءِ وأَحَبُّهُمْ إِلى اللهِ وهُوَ عَمُّكِ، ومِنَّا مَنْ لهُ جَنَاحَانِ فِي الجَنَّةِ يَطِيرُ بِهِمَا مَعَ المَلائِكَةِ وهُوَ ابْنُ عَمِّكِ، ومِنَّا سِبْطَا هَذِهِ الأُمَّةِ وهُمَا ابْنَاكِ الحَسَنُ والحُسَيْنُ، وسَوْفَ يُخْرِجُ اللهُ مِنْ صُلبِ الحُسَيْنِ تِسْعَةً مِنَ الأَئِمَّةِ أُمَنَاءَ مَعْصُومِينَ، ومِنَّا مَهْدِيُّ هَذِهِ الأُمَّةِ إِذَا صَارَتِ الدُّنْيَا هَرْجاً ومَرْجاً وتَظَاهَرَتِ الفِتَنُ وتَقَطَّعَتِ السُّبُل وأَغَارَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ فَلا كَبِيرٌ يَرْحَمُ صَغِيراً ولا صَغِيرٌ يُوَقِّرُ كَبِيراً فَيَبْعَثُ اللهُ عَزَّ وجَل عِنْدَ ذَلكِ مَهْدِيَّنَا التَّاسِعَ مِنْ صُلبِ الحُسَيْنِ (عليه السلام) يَفْتَحُ حُصُونَ الضَّلالةِ وقُلوباً غُفْلا، يَقُومُ بِالدِّرَّةِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ كَمَا قُمْتُ بِهِ فِي أَوَّل الزَّمَانِ، ويَمْلأُ الأَرْضَ عَدْلا كَمَا مُلئَتْ جَوْراً، يَا فَاطِمَةُ لا تَحْزَنِي ولا تَبْكِي، فَإِنَّ اللهَ أَرْحَمُ بِكِ وأَرْأَفُ عَليْكِ مِنِّي، وذَلكِ لمَكَانِكِ مِنِّي ومَوْضِعِكِ فِي قَلبِي، وزَوَّجَكِ اللهُ زَوْجاً هُوَ أَشْرَفُ أَهْل بَيْتِكِ حَسَباً، وأَكْرَمُهُمْ نَسَباً، وأَرْحَمُهُمْ بِالرَّعِيَّةِ، وأَعْدَلهُمْ بِالسَّوِيَّةِ، وأَنْصَرُهُمْ بِالقَضِيَّةِ، وقَدْ سَأَلتُ رَبِّي عَزَّ وجَل أَنْ تَكُونِي أَوَّل مَنْ يَلحَقُنِي مِنْ أَهْل بَيْتِي إلاّ إِنَّكِ بَضْعَةٌ مِنِّي مَنْ آذَاكِ فَقَدْ آذَانِي».

قَال جَابِرٌ: فَلمَّا قُبِضَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) فَاعْتَلتْ فَاطِمَةُ (عليها السلام) دَخَلإِليْهَا رَجُلانِ مِنَ الصَّحَابَةِ فَقَالا لهَا: كَيْفَ أَصْبَحْتِ يَا بِنْتَ رَسُول اللهِ.

قَالتْ: اصْدُقَانِي هَل سَمِعْتُمَا مِنْ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُول:

ص: 9

فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي فَمَنْ آذَاهَا فَقَدْ آذَانِي، قَالا: نَعَمْ قَدْ سَمِعْنَا ذَلكِ مِنْهُ، فَرَفَعَتْ يَدَيْهَا إِلى السَّمَاءِ وقَالتْ: «اللهُمَّ إِنِّي أُشْهِدُكَ أَنَّهُمَا قَدْ آذَيَانِي وغَصَبَا حَقِّي»، ثُمَّ أَعْرَضَتْ عَنْهُمَا فَلمْ تُكَلمْهُمَا بَعْدَ ذَلكَ وعَاشَتْ بَعْدَ أَبِيهَا خَمْسَةً وتِسْعِينَ يَوْماً حَتَّى أَلحَقَهَا اللهُ بِهِ»(1).

إطلاقات الموت

مسألة: للموت اطلاقان، ويجوز استعماله في مورده:

1: إطلاق أعم من القتل، وعلى هذا جرى قول الصديقة (عليها السلام): (مات النبي).

2: إطلاق يقابل القتل، وعليه جرى قوله تعالى: «أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِل»(2)، وقولهسبحانه: «وَلئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلتُمْ لإِلى اللهِ تُحْشَرُونَ»(3).

من أنواع الإسناد

مسألة: ربما يصح إسناد غير الاختياري إلى من لم يصدر منه ما يؤدي إليه اختياراً، ومنه ما لو وقع أمر كالموت على شخص، وكان أثره التكويني أمر آخر، وعلى ذلك قول الصديقة (عليها السلام): (فأسلمني العزاء).

ص: 10


1- كفاية الأثر في النص على الأئمة الإثني عشر: ص63 باب ما جاء عن جابر بن عبد الله الأنصاري عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في النصوص على الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام).
2- سورة آل عمران: 144.
3- سورة عمران: 158.

اللوذ بالمعصوم

مسألة: يستحب أن يلوذ الإنسان بالمعصوم (عليه السلام) في حال حياته وبعد وفاته، سواء لحاجاته الدنيوية أو الأخروية.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «لمَّا نَزَلتْ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) لا تُكَلفُ إلاّ نَفْسَكَ، قَال: «كَانَ أَشْجَعُ النَّاسِ مَنْ لاذَ بِرَسُول اللهِ عَليْهِ وَ آلهِ السَّلامُ»(1).

وقَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «نَحْنُ نَقُول بِظَهْرِ الكُوفَةِ قَبْرٌ لا يَلوذُ بِهِ ذُو عَاهَةٍ إلاّ شَفَاهُ اللهُ عَزَّ وجَل، يَعْنِي قَبْرَ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَليِّ بْنِ أَبِي طَالبٍ عليه السلام»(2).

جبرئيل يلوذ برسول الله

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «كَانَ بَيْنَا رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) جَالساً وَعِنْدَهُ جَبْرَئِيل (عليه السلام) إِذْ حَانَتْ مِنْ جَبْرَئِيل نَظْرَةٌ قِبَل السَّمَاءِ فَانْتُقِعَ لوْنُهُ حَتَّى صَارَ كَأَنَّهُ كُرْكُمٌ، ثُمَّ لاذَ بِرَسُول اللهِ(صلى الله عليه وآله) فَنَظَرَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) إِلى حَيْثُ جَبْرَئِيل فَإِذَا شَيْ ءٌ قَدْ مَلأَ بَيْنَ الخَافِقَيْنِ مُقْبِلا حَتَّى كَانَ كَقَابٍ مِنَ الأَرْضِ، ثُمَّ قَال: يَا مُحَمَّدُ إِنِّي رَسُول اللهِ إِليْكَ أُخَيِّرُكَ أَنْ تَكُونَ مَلكاً رَسُولا أَحَبُّ إِليْكَ أَوْ أَنْ تَكُونَ عَبْداً رَسُولا؟

ص: 11


1- بحار الأنوار: ج16 ص340 ب11 ح31 عن تفسير العياشي.
2- كتاب المزار: ص224 ب29 باب النوادر ح6.

فَالتَفَتَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) إِلى جَبْرَئِيل وَ قَدْ رَجَعَ إِليْهِ لوْنُهُ، فَقَال جَبْرَئِيل: بَل كُنْ عَبْداً رَسُولا، فَقَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): بَل أَكُونُ عَبْداً رَسُولا، فَرَفَعَ المَلكُ رِجْلهُ اليُمْنَى فَوَضَعَهَا فِي كَبِدِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ رَفَعَ الأُخْرَى فَوَضَعَهَا فِي الثَّانِيَةِ، ثُمَّ رَفَعَ اليُمْنَى فَوَضَعَهَا فِي الثَّالثَةِ، ثُمَّ هَكَذَا حَتَّى انْتَهَى إِلى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، بَعْدَ كُل سَمَاءٍ خُطْوَةٌ، وَكُلمَا ارْتَفَعَ صَغُرَ حَتَّى صَارَ آخِرَ ذَلكَ مِثْل الصِّرِّ، فَالتَفَتَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) إِلى جَبْرَئِيل (عليه السلام) فَقَال: قَدْ رَأَيْتُكَ ذَعِراً وَمَا رَأَيْتُ شَيْئاً كَانَ أَذْعَرَ لي مِنْ تَغَيُّرِ لوْنِكَ؟

فَقَال: يَا نَبِيَّ اللهِ لا تَلمْنِي أَ تَدْرِي مَنْ هَذَا؟

قَال: لا. قَال: هَذَا إِسْرَافِيل حَاجِبُ الرَّبِّ، وَ لمْ يَنْزِل مِنْ مَكَانِهِ مُنْذُ خَلقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَ الأَرْضَ، وَ لمَّا رَأَيْتُهُ مُنْحَطّاً ظَنَنْتُ أَنَّهُ جَاءَ بِقِيَامِ السَّاعَةِ، فَكَانَ الذِي رَأَيْتَ مِنْ تَغَيُّرِ لوْنِي لذَلكَ، فَلمَّا رَأَيْتُ مَا اصْطَفَاكَ اللهُ بِهِ رَجَعَ إِليَّ لوْنِيوَنَفْسِي، أَمَا رَأَيْتَهُ كُلمَا ارْتَفَعَ صَغُرَ إِنَّهُ ليْسَ شَيْ ءٌ يَدْنُو مِنَ الرَّبِّ إلاّ صَغُرَ لعَظَمَتِهِ، إِنَّ هَذَا حَاجِبُ الرَّبِّ وَ أَقْرَبُ خَلقِ اللهِ مِنْهُ، وَ اللوْحُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، فَإِذَا تَكَلمَ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَ تَعَالى بِالوَحْيِ ضَرَبَ اللوْحُ جَبِينَهُ فَنَظَرَ فِيهِ، ثُمَّ أَلقَاهُ إِليْنَا، فَنَسْعَى بِهِ فِي السَّمَاوَاتِ وَ الأَرْضِ، إِنَّهُ لأَدْنَى خَلقِ الرَّحْمَنِ مِنْهُ، وَ بَيْنِي وَ بَيْنَهُ تِسْعُونَ حِجَاباً مِنْ نُورٍ تُقْطَعُ دُونَهَا الأَبْصَارُ مَا لا يُعَدُّ وَلا يُوصَفُ، وَإِنِّي لأَقْرَبُ الخَلقِ مِنْهُ، وَبَيْنِي وَبَيْنَهُ مَسِيرَةُ أَلفِ عَامٍ»(1).

ص: 12


1- بحار الأنوار: ج56 ص250 ب24 ح8 عن تفسير القمي.

غض الطرف

مسألة: غض الطرف عن الأذى الذي لا مفر منه ولا محيص عنه، مرغوب إليه ومطلوب، تأسياً بالصديقة (صلوات الله عليها) إذ قالت: (وأغض طرفي ...).

رُوِيَ أَنَّ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) قَال: «لا يَكْمُل المُؤْمِنُ إِيمَانُهُ حَتَّى يَحْتَوِيَ عَلى مِائَةٍ وَثَلاثِ خِصَال، فِعْل وَعَمَل وَنِيَّةٍ وَظَاهِرٍ وَبَاطِنٍ، فَقَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «يَا رَسُول اللهِ مَا يَكُونُ المِائَةُ وَثَلاثُ خِصَال» فَقَال: يَا عَليُّ مِنْ صِفَاتِ المُؤْمِنِ ... غَضَّ الطَّرْفِ، سَخِيَّ الكَفِّ»(1).

وفي غرر الحكم:

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «ثلاث فيهن المروءة: غض الطرف، وغض الصوت، ومشي القصد»(2).

وقال (عليه السلام): «رأس الورع غض الطرف»(3).

وقال (عليه السلام): «غض الطرف خير منكثير النظر»(4).

وقال (عليه السلام): «غض الطرف من المروءة»(5).

وقال (عليه السلام): «غض الطرف من كمال الظرف»(6).

ص: 13


1- مستدرك الوسائل: ج11 ص180 ب4 ح12868.
2- غرر الحكم: ص258 علائم المروءة وآثارها ح5506.
3- غرر الحكم: ص259 غض الطرف ح5538.
4- غرر الحكم: ص260 غض الطرف ح5539.
5- غرر الحكم: ص260 غض الطرف ح5540.
6- غرر الحكم: ص260 غض الطرف ح5541.

وقال (عليه السلام): «غض الطرف من أفضل الورع»(1).

وقال (عليه السلام): «من المروءة غض الطرف و مشي القصد»(2).

وقال (عليه السلام): «نعم الورع غض الطرف»(3).

وقال (عليه السلام): «لا مروة كغض الطرف»(4).

وقال (عليه السلام): «من غض طرفه أراح قلبه»(5).وهذه الروايات تشمل غض الطرف بالمعنى الأخص والأعم فتشمل ما نحن فيه أيضاً.

إظهار التعجب

مسألة: يستحب إظهار التعجب من الغافل عن الموت مع أن (الموت بين بكوره ورواح) كما صرحت الصديقة (صلوات الله عليها) بعجبها من ذلك.

وفي الشعر:

وا عجبا لامرئ ضحوك *** مستيقن أنّه يموت

وقَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «إذا صعدت روح المؤمن إلى السّماء تعجّبت الملائكة وقالت: وا عجبا له كيف نجى من دار فسد فيها خيارنا»(6).

ص: 14


1- غرر الحكم: ص260 غض الطرف ح5542.
2- غرر الحكم: ص260 غض الطرف ح5545.
3- غرر الحكم: ص260 غض الطرف ح5546.
4- غرر الحكم: ص260 غض الطرف ح5547.
5- غرر الحكم: ص260 غض الطرف ح5555.
6- غرر الحكم : ص143 في ذم الدنيا ح2555.

الإنشاء بصيغة الإخبار

مسألة: الدعاء إنشاء، ويصح الإنشاء بصيغة الإخبار، كما في قول الصديقة (صلوات الله عليها): «فالله صبرني على ما حل بي...».

ولعل من وجوهه إفادة قطعيةاستجابة الدعاء، إذ ذكره بصيغة الماضي الدال على الوقوع والتحقق.

كقوله (عليه السلام): «أصْبَحْنا وأصْبَحَتِ الأشياءُ كُلها بِجُملتِها لكَ»(1).

وكقول النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله): «يَا سَلمَانُ إِذَا أَصْبَحْتَ فَقُل: اللهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لا شَرِيكَ لكَ أَصْبَحْنَا وَأَصْبَحَ المُلكُ للهِ، قُلهَا ثَلاثاً، وَإِذَا أَمْسَيْتَ فَقُل مِثْل ذَلكَ، فَإِنَّهُنَّ يُكَفِّرْنَ مَا بَيْنَهُنَّ مِنْ خَطِيئَةٍ»(2).

(مثل ذلك) أي: أمسينا وأمسى الملك لله.

وهذا الكلام إنشاء في صورة الخبر، كقولك: بعت واشتريت، لأنّ المقصود به الإقرار لله سبحانه بالمملوكية والتضرّع إليه تعالى، لا الإخبار عن ذلك، فهو لا يحتمل التصديق والتكذيب(3).

ص: 15


1- الصحيفة السجادية: الدعاء رقم 6 وكان من دعائه عليه السلام عند الصباح والمساء.
2- إحقاق الحق: ج10 ص483.
3- رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين: ج 2 ص213.

البكاء وإضرار النفس

اشارة

وقالت فاطمة الزهراء (عليها السلام):

أمسى بخدّي للدموع رسوم *** أسفا عليك وفي الفؤاد كلوم

و الصبر يحسن في المواطن كلها *** إلا عليك فإنّه معدوم

لا عتب في حزني عليك لو *** أنّه كان البكاء لمقلتي يدوم (1)

جواز المبالغة

مسألة: تجوز المبالغة بأقسامها الأربعة، بتشبيه المعنويات بالماديات، أو الماديات بالمعنويات، أو المعنويات بالمعنويات، أو الماديات بالماديات، فيما إذا كان التشبيه عقلائياً مقبولاً لديهم.

فإنه كثيراً ما تستخدم مثل رسوم الدموع وكلوم الفؤاد على نحو المجاز والتشبيه، نعم في المقام ربما كان ذلك على نحو الحقيقة(2).

ص: 16


1- رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين: ج 2 ص213.
2- إذ لا يبعد حدوث رسوم وخطوط في وجهها المبارك من كثرة بكائها (عليها السلام) على أبيها وبعلها وبنيها (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين).

روايات في تشبيه المعنويات بالماديات:

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «علي في السماء السابعة كالشمس بالنهار في الأرض، وفي السماء الدنيا كالقمر بالليل في الأرض»(1).

وروي أنه قَامَ الأَعْوَرُ الشَّنِّيُّ إِلى عَليٍّ (عليه السلام) فَقَال: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ إِنَّا لا نَقُول لكَ كَمَا قَال أَصْحَابُ أَهْل الشَّامِ لمُعَاوِيَةَ، وَلكِنَّا نَقُول: زَادَ اللهُ فِي هُدَاكَ وَسُرُورِكَ، نَظَرْتَ بِنُورِ اللهِ فَقَدَّمْتَ رِجَالا وَأَخَّرْتَ رِجَالا فَعَليْكَ أَنْ تَقُول وَعَليْنَا أَنْ نَفْعَل، أَنْتَ الإِمَامُ فَإِنْ هَلكْتَ فَهَذَانِ مِنْ بَعْدِكَ يَعْنِي حَسَناً وَحُسَيْناً، وَقَدْ قُلتُ شَيْئاً فَاسْمَعْهُ، قَال: هَاتِ فَقَال:

أَبَا حَسَنٍ أَنْتَ شَمْسُ النَّهَارِ *** وَ هَذَانِ فِي الحَادِثَاتِ القَمَرْ

وَ أَنْتَ وَ هَذَانِ حَتَّى المَمَاتِ *** بِمَنْزِلةِ السَّمْعِ بَعْدَ البَصَرْ

وَ أَنْتُمْ أُنَاسٌ لكُمْ سُورَةٌ *** يُقَصِّرُ عَنْهَا أَكُفُّ البَشَرْ

يُخَبِّرُنَا النَّاسُ عَنْ فَضْلكُمْ *** وَ فَضْلكُمُ اليَوْمَ فَوْقَ الخَبَرْ

عَقَدْتَ لقَوْمٍ ذَوِي نَجْدَةٍ *** مِنْ أَهْل الحَيَاءِ وَ أَهْل الخَطَرْ

عَقَدْتَ لقَوْمٍ ذَوِي نَجْدَةٍ *** مِنْ أَهْل الحَيَاءِ وَ أَهْل الخَطَرْ

مَسَامِيحَ بِالمَوْتِ عِنْدَ اللقَاءِ *** مِنَّا وَ إِخْوَانِنَا مِنْ مُضَرْ

وَ مِنْ حَيِّ ذِي يَمَنٍ جِلةٍ *** يُقِيمُونَ فِي الحَادِثَاتِ الصَّعَرِ

فَكُل يَسُرُّكَ فِي قَوْمِهِ *** وَ مَنْ قَال: لا فَبِفِيهِ الحَجَرْ

ص: 17


1- كتاب سليم بن قيس الهلالي: ج 2 ص959 الحديث الثاني و التسعون.

وَ نَحْنُ الفَوَارِسُ يَوْمَ الزُّبَيْرِ *** وَ طَلحَةَ إِذْ قِيل أَوْدَى غُدَرْ

ضَرَبْنَاهُمُ قَبْل نِصْفِ النَّهَارِ*** إِلى الليْل حَتَّى قَضَيْنَا الوَطَرْ

وَ لمْ يَأْخُذِ الضَّرْبُ إلاّ الرُّءُوسَ *** وَ لمْ يَأْخُذِ الطَّعْنُ إلاّ الثُّغَرْ

فَنَحْنُ أُولئِكَ فِي أَمْسِنَا *** وَ نَحْنُ كَذَلكَ فِيمَا غَبَرْ

فَلمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ بِهِ طِرْقٌ أَوْ لهُ مَيْسَرَةٌ إلاّ أَهْدَى للشَّنِّيِّ أَوْ أَتْحَفَهُ(1).

حزن القلب

مسألة: ينبغي تطابق الظاهر والباطن في العزاء على مصاب أهل البيت (عليهمالسلام)، فإن الأولى أن يبكي المؤمن عليهم وأن تجري دموعه على خده، إضافة إلى حرقة قلبه وشدة كمده وكلم فؤاده، كما قالت الصديقة (صلوات الله عليها):

(أمسى بخدي للدموع رسوم *** أسفاً عليك وفي الفؤاد كلوم)

وعلى هذا لا يكفي أن يحزن القلب وحده ولا تدمع العين وحدها، وإن كانت له مرتبة من الفضل والثواب.

كما ربما لا يكفي التظاهر بالحزن دون حرقة القلب، وإن كان التباكي على سيد الشهداء (عليه السلام) ذا أجر وفضيلة كما في الروايات.

وقد ذهب بعض الفقهاء إلى أن شعائر سيد الشهداء (عليه السلام) وإن كانت

ص: 18


1- وقعة صفين: 425.

رياءً فهي مقبولة ويثاب عليها الإنسان، كأن يبكي رياءً أو يلطم كذلك، نعم الإخلاص أعظم مرتبةً وأكثر ثواباً.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «ومَنْ أَنْشَدَ فِي الحُسَيْنِ (عليه السلام) شِعْراً فَتَبَاكَى فَلهُ الجَنَّةُ»(1).

ورُوِيَ عَنْ آل الرَّسُول (عليهم السلام) أَنَّهُمْ قَالوا: «مَنْ بَكَى وأَبْكَى فِينَا مِائَةً فَلهُ الجَنَّةُ، ومَنْ بَكَى وأَبْكَى خَمْسِينَ فَلهُ الجَنَّةُ، ومَنْ بَكَى وأَبْكَى ثَلاثِينَ فَلهُالجَنَّةُ، ومَنْ بَكَى وأَبْكَى عِشْرِينَ فَلهُ الجَنَّةُ، ومَنْ بَكَى وأَبْكَى عَشَرَةً فَلهُ الجَنَّةُ، ومَنْ بَكَى وأَبْكَى وَاحِداً فَلهُ الجَنَّةُ، ومَنْ تَبَاكَى فَلهُ الجَنَّةُ»(2).

كثرة البكاء ورسم الخد

مسألة: يجوز البكاء على المعصوم (عليه السلام) حتى يصير في الخد رسوم، بل وأكثر من ذلك، كما ورد عن الإمام الحجة (عجل الله فرجه) في زيارة الناحية المقدسة: «ولأبكين عليك بدل الدموع دماً»(3).

وذلك لأن الإضرار القليل بالنفس غير محرم، بل وحتى الإضرار الكثير فيما إذا كانت أهمية في البين، فيكون حينئذ من قاعدة الأهم والمهم.

وقد ذكر بعض الفقهاء أن سفر الحج لو كان مشتملاً على خطر ولو مثل

ص: 19


1- كامل الزيارات: ص105 الباب الثالث والثلاثون ح2.
2- بحار الأنوار: ج 44 ص288 ب34 ح27.
3- المزار الكبير، لابن المشهدي: ص501 ب9 زيارة أخرى في يوم عاشوراء لأبي عبد الله الحسين ابن علي (صلوات الله عليه)، وبحار الأنوار: ج 98 ص238 ب18 ح37.

خطر البحر واحتمال الغرق فيه، فإنه محرم وإن كان حجة الإسلام، أما زيارة الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام) حتى في موضعالخطر فهي أمر جائز بل مستحب، وربما يكون ذلك من قاعدة الأهم والمهم.

ولعله لخصوصية في زيارته (عليه السلام) تفرد بها، كما كانت خصوصية في تربته (عليه السلام) حيث جاز أكلها، ولا مانعة جمع بين الوجهين، وهم (صلوات الله عليهم) قد بينوا الأهم.

وفي الحديث عن السفر إلى زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) في البحر، وأنه من المحتمل أن تكفأ السفينة، فأخبر الإمام (عليه الصلاة والسلام) بأنها تكفؤ في الجنة.

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ النَّجَّارِ، قَال: قَال لي أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «تَزُورُونَ الحُسَيْنَ (عليه السلام) وتَرْكَبُونَ السُّفُنَ»، فَقُلتُ: نَعَمْ، قَال: «أَمَا عَلمْتَ أَنَّهَا إِذَا انْكَفَتْ بِكُمْ نُودِيتُمْ إلاّ طِبْتُمْ وطَابَتْ لكُمُ الجَنَّةُ»(1).

ومن المعروف والمشتهر أن الذين كانوا يزورون الإمام الحسين (عليه

السلام) في أيام المتوكل، كانت تقطع أيديهم، ومع ذلك لم ينقل عن الأئمة (عليهم الصلاة والسلام) النهي عن السفر لزيارة أبي عبدالله (عليه السلام)، بل كانوا يشجعون على الزيارة رغم المخاطر.

وفي الروايات التصريح باستحباب الزيارة حتى مع خوف الهلاك:

عَنْ زُرَارَةَ قَال: قُلتُ لأَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام): مَا تَقُول فِيمَنْ زَارَ أَبَاكَ عَلى

ص: 20


1- كامل الزيارات: 135 الباب التاسع والأربعون ثواب من زار الحسين (عليه السلام) راكباً أو ماشياً ومناجاة الله لزائره ح10.

خَوْفٍ، قَال: «يُؤْمِنُهُ اللهُ يَوْمَ الفَزَعِ الأَكْبَرِ وتَلقَّاهُ المَلائِكَةُ بِالبِشَارَةِ ويُقَال لهُ: لا تَخَفْ ولا تَحْزَنْ هَذَا يَوْمُكَ الذِي فِيهِ فَوْزُكَ»(1).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: قُلتُ لهُ: «إِنِّي أَنْزِل الأَرَّجَانَ وقَلبِي يُنَازِعُنِي إِلى قَبْرِ أَبِيكَ، فَإِذَا خَرَجْتُ فَقَلبِي وَجِل مُشْفِقٌ حَتَّى أَرْجِعَ خَوْفاً مِنَ السُّلطَانِ والسُّعَاةِ وأَصْحَابِ المَسَالحِ، فَقَال: «يَا ابْنَ بُكَيْرٍ أَمَا تُحِبُّ أَنْ يَرَاكَ اللهُ فِينَا خَائِفاً، أَمَا تَعْلمُ أَنَّهُ مَنْ خَافَ لخَوْفِنَا أَظَلهُ اللهُ فِي ظِل عَرْشِهِ وكَانَ مُحَدِّثُهُ الحُسَيْنَ (عليه السلام) تَحْتَ العَرْشِ وآمَنَهُ اللهُ مِنْ أَفْزَاعِ يَوْمِ القِيَامَةِ، يَفْزَعُ النَّاسُ ولا يَفْزَعُ، فَإِنْ فَزِعَ وَقَّرَتْهُ المَلائِكَةُ وسَكَّنَتْ قَلبَهُ بِالبِشَارَةِ»(2).وعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: قَال: «يَا مُعَاوِيَةُ لا تَدَعْ زِيَارَةَ قَبْرِ الحُسَيْنِ (عليه السلام) لخَوْفٍ، فَإِنَّ مَنْ تَرَكَهُ رَأَى مِنَ الحَسْرَةِ مَا يَتَمَنَّى أَنَّ قَبْرَهُ كَانَ عِنْدَهُ، أَمَا تُحِبُّ أَنْ يَرَى اللهُ شَخْصَكَ وسَوَادَكَ فِيمَنْ يَدْعُو لهُ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) وعَليٌّ وفَاطِمَةُ والأَئِمَّةُ (عليهم السلام)، أَمَا تُحِبُّ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَنْقَلبُ بِالمَغْفِرَةِ لمَا مَضَى ويُغْفَرُ لهُ ذُنُوبُ سَبْعِينَ سَنَةً، أَمَا تُحِبُّ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَخْرُجُ مِنَ الدُّنْيَا وليْسَ عَليْهِ ذَنْبٌ يُتْبَعُ بِهِ، أَمَا تُحِبُّ أَنْ تَكُونَ غَداً مِمَّنْ يُصَافِحُهُ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وآله»(3).

وعَنْ يُونُسَ بْنِ ظَبْيَانَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، قَال: قُلتُ لهُ: جُعِلتُ فِدَاكَ زِيَارَةُ قَبْرِ الحُسَيْنِ (عليه السلام) فِي حَال التَّقِيَّةِ، قَال: «إِذَا أَتَيْتَ الفُرَاتَ فَاغْتَسِل ثُمَّ البَسْ أَثْوَابَكَ الطَّاهِرَةَ ثُمَّ تَمُرُّ بِإِزَاءِ القَبْرِ وقُل: صَلى اللهُ

ص: 21


1- كامل الزيارات: ص125 الباب الخامس والأربعون ح2.
2- كامل الزيارات: ص125 الباب الخامس والأربعون ح2.
3- كامل الزيارات: ص126 الباب الخامس والأربعون ح3.

عَليْكَ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، صَلى اللهُ عَليْكَ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ فَقَدْ تَمَّتْ زِيَارَتُكَ»(1).

وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلمٍ فِي حَدِيثٍ طَوِيل، قَال: قَال لي أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَليٍّ(عليهما السلام): «هَل تَأْتِي قَبْرَ الحُسَيْنِ (عليه السلام) قُلتُ: نَعَمْ عَلى خَوْفٍ ووَجَل، فَقَال: مَا كَانَ مِنْ هَذَا أَشَدَّ فَالثَّوَابُ فِيهِ عَلى قَدْرِ الخَوْفِ، ومَنْ خَافَ فِي إِتْيَانِهِ آمَنَ اللهُ رَوْعَتَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لرَبِّ العالمِينَ، وانْصَرَفَ بِالمَغْفِرَةِ، وسَلمَتْ عَليْهِ المَلائِكَةُ، وزَارَهُ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) ودَعَا لهُ وانْقَلبَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وفَضْل لمْ يَمْسَسْهُ سُوءٌ واتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ»(2) الحديث.

عدة مسائل

مسألة: الصبر حسن في المصائب بشكل عام.

مسألة: عدم الصبر بمعنى البكاء والجزع هو المستحب في مصاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومصاب المعصومين (عليهم السلام).

مسألة: لا ينبغي العتب في الحزن على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكذلك على فقد المعصومين (صلوات الله عليهم أجمعين).

والروايات فيها كثيرة، قد أشير إلى بعضها فيما سبق.

ص: 22


1- كامل الزيارات: ص126 الباب الخامس والأربعون ح4.
2- كامل الزيارات: ص126 الباب الخامس والأربعون ح5.

إذا اشتد شوقي

اشارة

وقالت فاطمة الزهراء (عليها السلام):

إِذَا اشْتَدَّ شَوْقِي زُرْتُ قَبْرَكَ بَاكِياً *** أَنُوحُ وَ أَشْكُو لا أَرَاكَ مُجَاوِبِي

فَيَا سَاكِنَ الصَّحْرَاءِ عَلمْتَنِي البُكَا *** وَذِكْرُكَ أَنْسَانِي جَمِيعَ المَصَائِبِ

فَإِنْ كُنْتَ عَنِّي فِي التُّرَابِ مُغَيّباً *** فَمَا كُنْتَ عَنْ قَلبِ الحَزِينِ بِغَائِب (1)

زيارة القبور

مسألة: زيارة القبور مستحبة، فإنها بالإضافة إلى الإطلاقات والعمومات الدالة، تدل عليها جملة من الروايات المذكورة في بابها.

قَال أَبُو ذَر (رضوان الله عليه): قَال لي رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «يَا أَبَا ذَرٍّ أُوصِيكَ فَاحْفَظْ لعَل اللهَ يَنْفَعُكَ بِهِ، جَاوِرِ القُبُورَ تَذَكَّرْ بِهَا الآخِرَةَ، وزُرْهَا أَحْيَاناً بِالنَّهَارِ، ولا تَزُرْهَا بِالليْل»(2).وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) أَنَّهُ قَال: «مِنْ حَقِّ المُؤْمِنِ عَلى المُؤْمِنِ المَوَدَّةُ

ص: 23


1- بحار الأنوار: ج 22 ص547 ب2 وفاته وغسله والصلاة عليه ودفنه (صَلى اللهُ عَليْهِ وآلهِ) ح67.
2- مستدرك الوسائل: ج 2 ص363 ب45 باب استحباب زيارة القبور وطلب الحوائج عند قبر الأبوين ح4.

لهُ فِي صَدْرِهِ» إِلى أَنْ قَال: «وإِذَا مَاتَ فَالزِّيَارَةُ لهُ إِلى قَبْرِه»(1).

وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلمٍ قَال: قُلتُ لأَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): المَوْتَى نَزُورُهُمْ، قَال: «نَعَمْ»، قُلتُ: فَيَعْلمُونَ بِنَا إِذَا أَتَيْنَاهُمْ، فَقَال: «إِي وَاللهِ إِنَّهُمْ ليَعْلمُونَ بِكُمْ وَ يَفْرَحُونَ بِكُمْ وَ يَسْتَأْنِسُونَ إِليْكُمْ»(2).

وقَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «زُورُوا مَوْتَاكُمْ فَإِنَّهُمْ يَفْرَحُونَ بِزِيَارَتِكُمْ، وَليَطْلبْ أَحَدُكُمْ حَاجَتَهُ عِنْدَ قَبْرِ أَبِيهِ وَعِنْدَ قَبْرِ أُمِّهِ بِمَا يَدْعُو لهُمَا»(3).

وعَنْ صَفْوَانَ الجَمَّال قَال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه

السلام) يَقُول: «كَانَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَخْرُجُ فِي مَلإٍ مِنَ النَّاسِ مِنْ أَصْحَابِهِ كُل عَشِيَّةِ خَمِيسٍ إِلى بَقِيعِ المَدَنِيِّينَ فَيَقُول: السَّلامُ عَليْكُمْ يَا أَهْلالدِّيَارِ ثَلاثاً رَحِمَكُمُ اللهُ ثَلاثاً»(4) الحديث.

زيارة قبور المعصومين

مسألة: يستحب زيارة قبر النبي (صلى الله عليه وآله) وقبر المعصومين (عليه السلام) مطلقاً.

وفي ذلك الروايات المتواترة، كما لا يخفى على من راجع كتب المزارات وكتب الحج، المفصلة الاستدلالية وغيرها، بل وحتى الموجزة مثل مناسك الحج

ص: 24


1- مستدرك الوسائل: ج 2 ص363 ب45 باب استحباب زيارة القبور وطلب الحوائج عند قبر الأبوين ح5.
2- وسائل الشيعة: ج3 ص222 ب54 ح3463.
3- وسائل الشيعة: ج3 ص223 ب54 ح3466.
4- وسائل الشيعة: ج3 ص224 ب55 ح3469.

وما أشبه.

عَنْ زَيْدٍ الشَّحَّامِ، قَال: قُلتُ لأَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): مَا لمَنْ زَارَ قَبْرَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) قَال: «كَمَنْ زَارَ اللهَ فِي عَرْشِهِ»(1).

أي: في شدة تقربه إلى رحمة الله عزوجل.

وعَنِ الحَسَنِ بْنِ عَليٍّ الوَشَّاءِ، قَال: سَمِعْتُ الرِّضَا (عليه

السلام) يَقُول: «إِنَّ لكُل إِمَامٍ عَهْداً فِي عُنُقِ أَوْليَائِهِ وشِيعَتِهِ، وإِنَّ مِنْ تَمَامِ الوَفَاءِ بِالعَهْدِ وحُسْنِ الأَدَاءِ زِيَارَةَ قُبُورِهِمْ، فَمَنْ زَارَهُمْ رَغْبَةًفِي زِيَارَتِهِمْ وتَصْدِيقاً بِمَا رَغِبُوا فِيهِ كَانَ أَئِمَّتُهُمْ شُفَعَاءَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ»(2).

ورُوِيَ عَنِ الصَّادِقِ (عليه السلام) أَنَّهُ قَال: «مَنْ زَارَنَا بَعْدَ مَمَاتِنَا فَكَأَنَّمَا زَارَنَا فِي حَيَاتِنَا، ومَنْ جَاهَدَ عَدُوَّنَا فَكَأَنَّمَا جَاهَدَ مَعَنَا، ومَنْ تَوَلى مُحِبَّنَا فَقَدْ أَحَبَّنَا، ومَنْ سَرَّ مُؤْمِناً فَقَدْ سَرَّنَا، ومَنْ أَعَانَ فَقِيرَنَا كَانَ مُكَافَاتُهُ عَلى جَدِّي رَسُول اللهِ صلى الله عليه وآله»(3).

وَقَال (عليه السلام): «مَنْ زَارَ إِمَاماً مُفْتَرَضَ الطَّاعَةِ بَعْدَ وَفَاتِهِ وصَلى عِنْدَهُ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ كَتَبَ اللهُ لهُ حِجَّةً مَبْرُورَةً وعُمْرَةً»(4).

ص: 25


1- كامل الزيارات: ص15 الباب الثاني ثواب زيارة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ح20.
2- الكافي: ج 4 ص567 ح2.
3- المقنعة: ص485 ب37 ح1.
4- وسائل الشيعة: ج14 ص332 ب2 ح19334.

الشوق وزيارة القبور

مسألة: يستحب عند اشتداد الشوق للمعصومين (عليهم السلام) وكذا العلماء وسائر الأموات من المؤمنين، زيارة قبورهم ومشاهدهم.

ويدل عليه قول الصديقة (عليها السلام) هنا: (إذا اشتد شوقي...)، إضافة إلى الروايات الدالة بالفحوى أو الالتزام أو ما أشبه.

عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: «لوْ يَعْلمُ النَّاسُ مَا فِي زِيَارَةِ الحُسَيْنِ (عليه السلام) مِنَ الفَضْل لمَاتُوا شَوْقاً وتَقَطَّعَتْ أَنْفُسُهُمْ عَليْهِ حَسَرَاتٍ»، قُلتُ: ومَا فِيهِ؟ قَال: «مَنْ زَارَهُ شَوْقاً إِليْهِ كَتَبَ اللهُ لهُ أَلفَ حَجَّةٍ مُتَقَبَّلةٍ، وأَلفَ عُمْرَةٍ مَبْرُورَةٍ، وأَجْرَ أَلفِ شَهِيدٍ مِنْ شُهَدَاءِ بَدْرٍ، وأَجْرَ أَلفِ صَائِمٍ، وثَوَابَ أَلفِ صَدَقَةٍ مَقْبُولةٍ، وثَوَابَ أَلفِ نَسَمَةٍ أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللهِ، ولمْ يَزَل مَحْفُوظاً» الحَدِيثَ وفِيهِ ثَوَابٌ جَزِيل وفِي آخِرِهِ: «أَنَّهُ يُنَادِي مُنَادٍ هَؤُلاءِ زُوَّارُ الحُسَيْنِ شَوْقاً إِليْهِ»(1).

وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلمٍ، قَال: قُلتُ لأَبِيعَبْدِ اللهِ (عليه السلام): مَا لمَنْ أَتَى قَبْرَ الحُسَيْنِ (عليه السلام)، قَال: «مَنْ أَتَاهُ شَوْقاً إِليْهِ كَانَ مِنْ عِبَادِ اللهِ المُكْرَمِينَ، وكَانَ تَحْتَ لوَاءِ الحُسَيْنِ بْنِ عَليٍّ حَتَّى يُدْخِلهُمَا اللهُ الجَنَّةَ»(2).

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام): «أَنَّ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ مَسْكَنُهُ الجَنَّةَ ومَأْوَاهُ الجَنَّةَ فَلا يَدَعْ زِيَارَةَ المَظْلومِ» قُلتُ: مَنْ هُوَ، قَال: «الحُسَيْنُ بْنُ عَليٍّ صَاحِبُ كَرْبَلاءَ، مَنْ أَتَاهُ شَوْقاً إِليْهِ وحُبّاً لرَسُول اللهِ وحُبّاً لأَمِيرِ المُؤْمِنِينَ

ص: 26


1- وسائل الشيعة: ج 14 ص453 ب45 باب استحباب اختيار زيارة الحسين (عليه السلام) على الحج والعمرة المندوبين ح18.
2- كامل الزيارات: ص143 الباب السادس والخمسون ح4.

وحُبّاً لفَاطِمَةَ (صَلوَاتُ اللهِ عَليْهِ وآلهِ وعَليْهِمْ أَجْمَعِينَ) أَقْعَدَهُ اللهُ عَلى مَوَائِدِ الجَنَّةِ يَأْكُل مَعَهُمْ والنَّاسُ فِي الحِسَابِ»(1).

الشوق الأكثر

مسألة: يستحب التسبيب لزيادة الشوق لأهل البيت (عليهم السلام) بمختلف الطرق، كقراءة الكتب الخاصة بفضائلهم، والتدبر في الروايات التي تتحدث عن مقاماتهم، والاستفادة من علومهم، وإقامة شعائرهم، والخدمة في مجالسهم،وكثرة زيارة مشاهدهم، وبيان فضائل التشرف بحضرتهم وما أشبه.

قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتَعَالى جَعَل لأَخِي عَليِ بْنِ أَبِي طَالبٍ فَضَائِل لا يُحْصِي عَدَدَهَا غَيْرُهُ، فَمَنْ ذَكَرَ فَضِيلةً مِنْ فَضَائِلهِ مُقِرّاً بِهَا غَفَرَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ومَا تَأَخَّرَ، ولوْ وَافَى القِيَامَةَ بِذُنُوبِ الثَّقَليْنِ، ومَنْ كَتَبَ فَضِيلةً مِنْ فَضَائِل عَليٍّ لمْ تَزَل المَلائِكَةُ تَسْتَغْفِرُ لهُ مَا بَقِيَ لتِلكَ الكِتَابَةِ رَسْمٌ أَوْ أَثَرٌ، ومَنِ اسْتَمَعَ إِلى فَضِيلةٍ مِنْ فَضَائِلهِ غَفَرَ اللهُ لهُ الذُّنُوبَ التِي اكْتَسَبَهَا بِالاسْتِمَاعِ، ومَنْ نَظَرَ إِلى كِتَابَةِ فَضَائِلهِ غَفَرَ اللهُ لهُ الذُّنُوبَ التِي اكْتَسَبَهَا بِالنَّظَرِ»، ثُمَّ قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «النَّظَرُ إِلى عَليِّ بْنِ أَبِي طَالبٍ عِبَادَةٌ، وذِكْرُهُ عِبَادَةٌ، ولا يُقْبَل إِيمَانُ عَبْدٍ إلاّ بِوَلايَتِهِ والبَرَاءَةِ مِنْ أَعْدَائِه»(2).

وعَنْ حَنَانِ بْنِ سَدِيرٍ، قَال: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) فَدَخَل عَليْهِ رَجُل فَسَلمَ عَليْهِ وجَلسَ، فَقَال أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «مِنْ أَيِّ البُلدَانِ أَنْتَ» ،

ص: 27


1- كامل الزيارات: ص142 الباب السادس والخمسون ح2.
2- روضة الواعظين وبصيرة المتعظين: ج 1 ص114.

فَقَال لهُ الرَّجُل: أَنَا رَجُل مِنْ أَهْل الكُوفَةِ، وأَنَا مُحِبٌّ لكَ مُوَال، فَقَال لهُ أَبُو جَعْفَرٍ(عليه السلام): «أَفَتَزُورُ قَبْرَ الحُسَيْنِ (عليه السلام) فِي كُل جُمُعَةٍ»، قَال: لا، قَال: «فَفِي كُل شَهْرٍ»، قَال: لا، قَال: «فَفِي كُل سَنَةٍ»، قَال: لا، فَقَال لهُ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «إِنَّكَ لمَحْرُومٌ مِنَ الخَيْرِ»(1).

من موارد البكاء

مسألة: يستحب البكاء عند زيارة قبر المعصوم (عليه السلام) والنوح عليه.

والاستحباب مستفاد من العمومات، بل مما ورد من فعلهم (عليهم الصلاة والسلام) المقترن بالقرائن.

فالعمومات كقوله (عليه السلام): «يحزنون لحزننا»(2).وكقوله (عليه السلام): «مَنْ ذُكِرْنَا عِنْدَهُ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ حَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ عَلى النَّارِ»(3).

وكقوله (عليه السلام): «نَفَسُ المَهْمُومِ لنَا المُغْتَمِّ لظُلمِنَا تَسْبِيحٌ، وهَمُّهُ لأَمْرِنَا

ص: 28


1- كامل الزيارات: ص292 الباب السابع والتسعون ح5.
2- بحار الأنوار: ج 44 ص287 ب34 ثواب البكاء على مصيبته ومصائب سائر الأئمة (عليهم السلام) وفيه أدب المأتم يوم عاشوراء ح26، عن الخصال: ج 2 ص635 علم أمير المؤمنين (عليه السلام) أصحابه في مجلس واحد أربعمائة باب مما يصلح للمسلم في دينه ودنياه، وغرر الحكم ودرر الكلم: ص817، وجامع الأخبارللشعيري: ص179 الفصل الحادي والأربعون والمائة في النوادر. والحديث هكذا: (قَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عليه السلام: إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتَعَالى اطَّلعَ إِلى الأَرْضِ فَاخْتَارَنَا واخْتَارَ لنَا شِيعَةً يَنْصُرُونَنَا، ويَفْرَحُونَ لفَرَحِنَا ويَحْزَنُونَ لحُزْنِنَا، ويَبْذُلونَ أَمْوَالهُمْ وأَنْفُسَهُمْ فِينَا، أُولئِكَ مِنَّا وإِليْنَا).
3- كامل الزيارات: ص104 الباب الثاني والثلاثون ح10.

عِبَادَةٌ، وكِتْمَانُهُ لسِرِّنَا جِهَادٌ فِي سَبِيل اللهِ»(1).

مضافاً إلى كون ما ذكر يوجب رقة القلب وزيادة الالتفاف حولهم (عليهم السلام).

وذلك أعم من كون البكاء عليهم لعظيم ما جرى لهم من المصائب أو لفقدهم، أو كونه لما حدث لأتباعهم وشيعتهم، أو لسائر ما ألمّ بهم من شؤون الدين، بل والدنيا أيضاً في الجملة.

روي أنه قَال جَابِرٌ: يَا ابْنَ رَسُول اللهِ مَا حَقُّ المُؤْمِنِ عَلى أَخِيهِ، قَال علي بن الحسين (عليه السلام): «يَفْرَحُ بِفَرَحِهِ، ويَحْزَنُ لحُزْنِهِ، ويَتَفَقَّدُ أُمُورَهُ كُلهَا فَيُصْلحُهَا، ولا يَغْتَنِمُ بِشَيْ ءٍ مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا إلاّ وَاسَاهُ بِهِ حَتَّى يَكُونَا فِيالخَيْرِ والشَّرِّ قِرَاناً وَاحِداً»(2).

وقال الإمام الباقر (عليه السلام): «سِتُّ خِصَال مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ عَزَّ وجَل وعَنْ يَمِينِ اللهِ» فَقِيل لهُ: مَا هُنَّ، فَقَال: «يُحِبُّ المَرْءُ لأَخِيهِ المُسْلمِ مَا يُحِبُّ لأَعَزِّ أَهْلهِ، ويَكْرَهُ لهُ مَا يَكْرَهُ لأَعَزِّ أَهْلهِ، ويُنَاصِحُهُ بِالوَلايَةِ، ويَفْرَحُ لفَرَحِهِ، ويَحْزَنُ لحُزْنِهِ، فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ مَا يُفَرِّجُ عَنْهُ وإِلا دَعَا له»(3).

ص: 29


1- الكافي: ج 2 ص226 باب الكتمان ح16.
2- الهداية الكبرى: ص231.
3- أعلام الدين: ص440.

الشكاية إلى المعصوم

مسألة: يستحب الشكاية إلى المعصوم (عليه السلام).

فإن المعصومين (عليهم السلام) أحياء عند ربهم يرزقون، كما ورد بذلك النص ودل عليه العقل، فالشكاية عندهم أمواتاً كالشكاية عندهم أحياءً، وقد ورد في الحديث أن الشكاية إلى المؤمن شكاية إلى الله سبحانه.

عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ قَال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُول: «مَنْ شَكَا إِلى مُؤْمِنٍ فَقَدْ شَكَا إِلى اللهِ عَزَّ وجَل، ومَنْ شَكَا إِلى مُخَالفٍ فَقَدْ شَكَا اللهَ عَزَّ وجَل»(1).

هذا مضافاً إلى أن «إِرَادَةُ الرَّبِّ فِي مَقَادِيرِ أُمُورِهِ تَهْبِطُ إِليْكُمْ وتَصْدُرُ مِنْ بُيُوتِكُم»(2) كما ورد في الزيارة الجامعة.

إضافة إلى أن ذلك مما يوجب توثيق ارتباط الناس بالعترة الطاهرة (عليهم السلام) وهو مطلوب.

إنشاد وإنشاء الشعر

مسألة: يستحب إنشاد وإنشاء الشعر في مدح أهل البيت (عليهم السلام) ورثائهم، وقد دل عليه متواتر الروايات خاصة في مصاب سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام).

ص: 30


1- وسائل الشيعة: ج 2 ص412 ب6 باب جواز الشكوى إلى المؤمن دون غيره ح3.
2- الكافي: ج 4 ص577 باب زيارة قبر أبي عبد الله الحسين بن علي (عليهما السلام) ح2.

والخصوصية لأنه لا يوم كيوم الحسين (عليه السلام)(1)، والإمام الحسين (عليه السلام) مصباح هدى وسفينة نجاة(2)، وهو طريق نور على طول الخط يبدد الظلام، وهو خط حق مقابل خط الظلمة الطغاة، ومن هنا نرى أن من يوم قتله إلى يومنا هذا تحاربه الجبابرة والطغاة والمستبدون في مختلف شعائره ومواكبه وما أشبه.

عَنْ أَبِي عُمَارَةَ المُنْشِدِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: قَال لي: «يَا بَا عُمَارَةَ أَنْشِدْنِي فِي الحُسَيْنِ عليه السلام» قَال: فَأَنْشَدْتُهُ فَبَكَى، ثُمَّ أَنْشَدْتُهُ فَبَكَى، ثُمَّ أَنْشَدْتُهُ فَبَكَى، قَال: فَوَ اللهِ مَا زِلتُ أُنْشِدُهُ ويَبْكِي حَتَّى سَمِعْتُ البُكَاءَ مِنَالدَّارِ.

فَقَال لي: «يَا أَبَا عُمَارَةَ مَنْ أَنْشَدَ فِي الحُسَيْنِ (عليه السلام) شِعْراً فَأَبْكَى خَمْسِينَ فَلهُ الجَنَّةُ، ومَنْ أَنْشَدَ فِي الحُسَيْنِ (عليه السلام) شِعْراً فَأَبْكَى أَرْبَعِينَ فَلهُ الجَنَّةُ، ومَنْ أَنْشَدَ فِي الحُسَيْنِ (عليه السلام) شِعْراً فَأَبْكَى ثَلاثِينَ فَلهُ الجَنَّةُ، ومَنْ أَنْشَدَ فِي الحُسَيْنِ (عليه السلام) شِعْراً فَأَبْكَى عِشْرِينَ فَلهُ الجَنَّةُ، ومَنْ أَنْشَدَ فِي الحُسَيْنِ (عليه السلام) شِعْراً فَأَبْكَى عَشَرَةً فَلهُ الجَنَّةُ، ومَنْ أَنْشَدَ فِي الحُسَيْنِ (عليه السلام) شِعْراً فَأَبْكَى وَاحِداً فَلهُ الجَنَّةُ، ومَنْ أَنْشَدَ فِي الحُسَيْنِ (عليه السلام) شِعْراً فَبَكَى فَلهُ الجَنَّةُ، ومَنْ أَنْشَدَ فِي الحُسَيْنِ (عليه السلام) شِعْراً فَتَبَاكَى فَلهُ الجَنَّةُ»(3).

وقَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «مَنْ قَال فِينَا بَيْتَ شِعْرٍ بَنَى اللهُ تَعَالى لهُ بَيْتاً

ص: 31


1- الأمالي للصدوق: ص116 المجلس الرابع والعشرون ح3.
2- عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج 1 ص60 ب6 باب النصوص على الرضا (عليه السلام) بالإمامة في جملة الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) ح29.
3- كامل الزيارات: ص105 الباب الثالث والثلاثون ح2.

فِي الجَنَّةِ»(1).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «وليَجْتَهِدَنَ أَئِمَّةُ الكُفْرِ وأَشْيَاعُ الضَّلالةِ فِي مَحْوِهِ وتَطْمِيسِهِ فَلا يَزْدَادُ أَثَرُهُ إلاّظُهُوراً وأَمْرُهُ إلاّ عُلوّاً»(2).

استمرار النياحة

مسألة: يستحب الاستمرار في النياحة والشكوى عند مشاهد المعصومين (عليهم السلام).

عن أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «وَارْحَمْ تِلكَ الأَعْيُنَ التِي جَرَتْ دُمُوعُهَا رَحْمَةً لنَا، وَارْحَمْ تِلكَ القُلوبَ التِي جَزِعَتْ وَاحْتَرَقَتْ لنَا، وَارْحَمِ الصَّرْخَةَ التِي كَانَتْ لنَا»(3).

وفي الزيارة الناحية المقدسة: «فَلأَنْدُبَنَّكَ صَبَاحاً وَمَسَاءً، وَلأَبْكِيَنَ عَليْكَ بَدَل الدُّمُوعِ دَماً، حَسْرَةً عَليْكَ، وَتَأَسُّفاً عَلى مَا دَهَاكَ وَتَلهُّفاً، حَتَّى أَمُوتَ بِلوْعَةِ المُصَابِ وَغُصَّةِ الاكْتِيَابِ»(4).

وينبغي أن لا ييأس الإنسان أبداً فإن الأدعية كلها تستجاب بشكل أو

ص: 32


1- وسائل الشيعة: ج 14 ص597 ب105 باب استحباب مدح الأئمة (عليهم السلام) بالشعر ورثائهم به وإنشائه فيهم ولو في شهر رمضان ويوم الجمعة وفي الليل ح1.
2- كامل الزيارات: ص262 الباب الثامن والثمانون فضل كربلاء وزيارة الحسين (عليه السلام) ح1.
3- الكافي: ج 4 ص582 باب فضل زيارة أبي عبد الله الحسين عَليْهِ السَّلامُ ح11.
4- المزار الكبير، لابن المشهدي: ص501 زيارة أخرى في يوم عاشوراء لأبي عبد الله الحسين بن علي (صلوات الله عليه).

آخر،وقد قالوا: (من لج ولج)(1)، و(من أكثر طرق الباب يوشك أن يسمع الجواب).

ويقول الشاعر:

لا تقولن مضت أيامه *** إن من جد على الدرب وصل

وقَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «مَنْ طَلبَ شَيْئاً نَالهُ أَوْ بَعْضَهُ»(2).

إضافة إلى فوائد وآثار ذلك المختلفة، وإن لم تقض بحسب الظاهر هذه الحاجة بخصوصها.

ص: 33


1- عيون الحكم والمواعظ: ص456 ح8248. وفيه: عن أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «مَنِ اسْتَدَامَ قَرْعَ البَابِ ولجَ وَلجَ».
2- عيون الحكم والمواعظ: ص456 ح8246.

الدفاع عن الولاية

اشارة

قالت فاطمة الزهراء (عليها السلام):

«وَمَا نَقَمُوا مِنْ أَبِي حَسَنٍ، نَقَمُوا واللهِ مِنْهُ نَكِيرَ سَيْفِهِ وشِدَّةَ وَطْأَتِهِ ونَكَال وَقْعَتِهِ، وتَنَمُّرَهُ فِي ذَاتِ اللهِ عَزَّ وجَل، واللهِ لوْ تَكَافُّوا عَنْ زِمَامٍ نَبَذَهُ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) لاعْتَلقَهُ ولسَارَ بِهِمْ سَيْراً سُجُحاً، لا يَكْلمُ خِشَاشُهُ ولا يُتَعْتَعُ رَاكِبُهُ ولأَوْرَدَهُمْ مَنْهَلا نَمِيراً فَضْفَاضاً، تَطْفَحُ ضِفَّتَاهُ ولأَصْدَرَهُمْ بِطَاناً، قَدْ تَخَيَّرَ لهُمُ الرَّيَّ غَيْرَ مُتَحَل مِنْهُ بِطَائِل إلاّ بِغَمْرِ المَاءِ ورَدْعِهِ سَوْرَةَ السَّاغِبِ ولفُتِحَتْ عَليْهِمْ بَرَكَاتُ السَّمَاءِ والأَرْضِ، وسَيَأْخُذُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ»(1).

----------------------

الدفاع عن الحق

مسألة: يجب الدفاع عن الحق، وعن أئمة الدين (عليهم السلام)، وذكر مآثرهم ومناقبهم وأعمالهم وإنجازاتهم.

والوجوب فيما إذا كان الحق مما يجب إظهاره كالولاية وفروع الدين الواجبة، وإلاّ كان فضيلة واستحباباً.

نعم الحكم مشروط بعدم وجود محذور أهم كما في موارد التقية، اللهم إلاّ

ص: 34


1- معاني الأخبار: ص355.

لو كان أصل الدين في خطر، أو كانت حياة المعصوم (عليه السلام) في خطر، أوبلغت التقية الدماء، وما أشبه ذلك فلا تقية حينئذ.

عَنْ يُوسُفَ بْنِ عِمْرَانَ المِيثَمِيِّ قَال: سَمِعْتُ مِيثَمَ النَّهْرَوَانِيِّ يَقُول: دَعَانِي أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَليُّ بْنُ أَبِي طَالبٍ (عليه السلام) وقَال: «كَيْفَ أَنْتَ يَا مِيثَمُ، إِذَا دَعَاكَ دَعِيُّ بَنِي أُمَيَّةَ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ زِيَادٍ، إِلى البَرَاءَةِ مِنِّي، فَقُلتُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ أَنَا واللهِ لا أَبْرَأُ مِنْكَ، قَال: إِذاً واللهِ يَقْتُلكَ ويَصْلبُكَ، قُلتُ: أَصْبِرُ فَذَاكَ فِي اللهِ قَليل، فَقَال: يَا مِيثَمُ إِذاً تَكُونُ مَعِي فِي دَرَجَتِي»(1).

إنذار الظالم

مسألة: يجب في الجملة إنذار الظالم بأن الله سوف يعاقبه، أما إذا كان مورداً للتقية ونحوها فلا يجب وربما لا يجوز حسب الموازين المذكورة في الكتب الفقهية.

ثم لا يخفى أن عمل الإنسان مثله مثل النبات سواء كان خيراً أو شراً، ومن النبات ما ينتج بعد ثلاثة أشهر كما في القثاء والباذنجان وما أشبه، ومن النبات ما لا ينتج إلاّ بعد عدة سنوات كالتفاح والرمان وما أشبه، ونحن عادةلا نعلم بالعلاقات والأسباب الغيبية إلاّ فيما ذكرته الآيات والروايات أو أرشدت إليه الفطرة، وإن كان ربما يعلم الإنسان ببعض العلاقات المادية حسب ما يراه في الخارج ويجربه، ومن هنا نرى أن الظالم قد يعجّل له العذاب، ونرى أنه قد يؤجل، لكن عقابه قطعي عاجلاً كان أم آجلاً، كما أن الثواب للمحسن قطعي

ص: 35


1- وسائل الشيعة: ج 16 ص227 ب29 ح7.

عاجلاً أم آجلاً.

قال تعالى: «ثُمَّ قيلَ لِلَّذِينَ ظَلمُوا ذُوقُوا عَذابَ الخُلدِ هَل تُجْزَوْنَ إلاّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ»(1).

وقال سبحانه: «وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَل الظَّالمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ ليَوْمٍ تَشْخَصُ فيهِ الأَبْصَار»(2).

وقال تعالى: «وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتيهِمُ العَذابُ فَيَقُول الذينَ ظَلمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَل قَريبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ ونَتَّبِعِ الرُّسُل أَولمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْل ما لكُمْ مِنْ زَوال»(3).

وقال سبحانه: «وَمِنْ قَبْلهِ كِتابُ مُوسى إِماماً ورَحْمَةً وهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لساناً عَرَبِيًّا ليُنْذِرَ الذينَ ظَلمُوا وبُشْرى للمُحْسِنين»(4).

أسباب النقمة

مسألة: يستحب وقد يجب بيان أسباب نقمة المشركين والكفار وأعداء الدين بشكل عام، من علماء الدين وأئمتهم، ومن الدين وتعاليمه وقوانينه، كما ذكرت الصديقة (صلوات الله عليها) الوجه في نقمة أولئك القوم من أمير المؤمنين

ص: 36


1- سورة يونس: 52.
2- سورة إبراهيم: 42.
3- سورة إبراهيم: 44.
4- سورة الأحقاف: 12.

(عليه الصلاة والسلام).

عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (صلوات الله عليهما) أَنَّهُ قَال: «لمَّا احْتُضِرَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) غُشِيَ عَليْهِ، فَبَكَتْ فَاطِمَةُ (صلوات الله عليها) فَأَفَاقَ وهِيَ تَقُول: مَنْ لنَا بَعْدَكَ يَا رَسُول اللهِ، فَقَال: أَنْتُمُ المُسْتَضْعَفُونَ بَعْدِي واللهِ»(1).

لو قدموا علياً

مسألة: يستحب بيان أن الناس لو قدّموا علياً (عليه السلام) لفتحت عليهم بركات السماء والأرض، وغير ذلك من النعم التي ذكرتها الصديقة فاطمة (صلوات الله عليها).

وذلك لوضوح أن طاعة علي (عليه السلام) هو طاعة لله سبحانه ، وطاعة الله تعالى يوجب خير الدنيا والآخرة.

وينبغي ذكر الأدلة المتنوعة والبراهين المختلفة على ذلك، ولمختلفالمستويات بما يكون جديراً بإقناع مختلف الطبقات من الأساتذة والطلاب والحضريين والقرويين والعلماء والأميين وغيرهم.

ومعنى تقديمهم علياً (عليه الصلاة والسلام) وضعه موضعه الذي وضعه الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) فيه، من الإمامة والخلافة والوصاية والولاية التامة العامة وإطاعة أوامره واجتناب نواهيه.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يَا عَمَّارُ إِنَّ عَليّاً لا يَرُدُّكَ عَنْ هُدًى،

ص: 37


1- دعائم الإسلام: ج 1 ص225.

وَلا يَرُدُّكَ إِلى رَدًى، يَا عَمَّارُ طَاعَةُ عَليٍ طَاعَتِي، وَطَاعَتِي طَاعَةُ الله»(1).

سيأخذهم الله

مسألة: يستحب بيان أن الله سيأخذهم بما فعلوا في تقديم غير علي (عليه السلام) وظلمهم علياً وفاطمة (عليهما السلام).

وقد ذكرنا أن ذكر وبيان هذه الأمور لو أوجب تقوية العقيدة أو إيجادها كان واجباً، وإلاّ كان مستحباً(2).قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «حُرِّمَتِ الجَنَّةُ عَلى مَنْ ظَلمَ أَهْل بَيْتِي، وعَلى مَنْ قَاتَلهُمْ، وعَلى المُعِينِ عَليْهِمْ، وعَلى مَنْ سَبَّهُمْ، أُولئِكَ لا خَلاقَ لهُمْ فِي الآخِرَةِ، ولا يُكَلمُهُمُ اللهُ، ولا يَنْظُرُ إِليْهِمْ يَوْمَ القِيامَةِ، ولا يُزَكِّيهِمْ ولهُمْ عَذابٌ أَليم»(3).

ص: 38


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) لابن شهرآشوب: ج 3 ص203 فصل في طاعته وعصيانه (عليه السلام).
2- حيث قد سبق من المؤلف (قدس سره) تفصيل شرح هذه الفقرة من خطبتها (عليها السلام) في البيت، فإنه قد أوجز الشرح والتعليق هنا.
3- عيون أخبار الرضا عليه السلام: ج 2 ص34 ب31 ح65.

ما الذي يبكيك؟

اشارة

روي أن عائشة بنت طلحة دخلت على فاطمة (عليها السلام) فرأتها باكية، فقالت لها: بأبي أنت وأمي ما الذي يبكيك؟ فقالت (عليها السلام) لها: «أسائلتي عن هنّة حلق بها الطائر، وحفي بها السائر، ورفعت إلى السماء أثراً، ورزئت في الأرض خبراً. إن قحيف تيم وأحيول عدي جاريا أبا الحسن في السباق حتى إذا تفرّيا بالخناق، أسرّا له الشنآن وطوياه الإعلان، فلما خبا نور الدين وقُبض النبي الأمين (صلى الله عليه وآله) نطقا بفورهما، ونفثا بسورهما، وأدلاّ بفدك، فيا لها كم من ملك ملك، إنها عطية الرب الأعلى للنجي الأوفى، ولقد نحلنيها للصبية السواغب من نجله ونسلي، وإنها لبعلم الله وشهادة أمينه، فإن انتزعا مني البلغة، ومنعاني اللمظة فأحتسبتها يوم الحشر زلفة، وليجدنها آكلوها ساعرة حميم في لظى جحيم»(1).

---------------------

قال العلامة المجلسي (رحمه الله) في البحار(2):

توضيح: (عن هنة) أي شي ء يسيرقليل، أو قصّة منكرة قبيحة(3).

ص: 39


1- بحار الأنوار: ج 29 ص182 ب11 باب نزول الآيات في أمر فدك وقصصه وجوامع الاحتجاج فيه وفيه قصة خالد وعزمه على قتل أمير المؤمنين (عليه السلام) ح38.
2- بحار الأنوار: ج 29 ص183 ب11 ح38 (توضيح).
3- وهذا الثاني هو الأظهر في المقام، لعظم المصيبة، ولمناسبته للسياق.

(حلق بها الطائر): تحليق الطّائر ارتفاعه في الهواء، أي انتشر خبرها، إذ كان الغالب في تلك الأزمنة إرسال الأخبار مع الطيور.

(وحفي بها السائر): أي أسرع السائر في إيصال هذا الخبر حتى حفي وسقط خفّه ونعله، أو رقّ رجله أو رجل دابته، يقال حفي كعلم إذا مشى بلا خفّ ولا نعل، أو رقّت قدمه أو حافره، أو هو من الحفاوة وهي المبالغة في السّؤال(1).

وفي بعض النسخ: (وخفي بها الساتر).. أي لم يبق ساتر لها ولم يقدر الساترون على إخفائها.

(ورفعت إلى السماء أثراً): أي ظهرت آثاره في السماء عاجلاً وآجلاً من منع الخيرات وتقدير شدائد العقوبات لمن ارتكبها.

(ورزئت في الأرض خبراً): يقال رزأه كجعله وعمله أصاب منه شيئاً، ورزأه رزءاً أو مرزأة أصاب منه خبراً، والشيء نقصه، والرزيئة المصيبة، فيمكن أن يقرأ على بناء المعلوم.. أي أحدثت منجهة خبرها في الأرض مصائب، أو المجهول بالإسناد المجازي، والأول أنسب معنى، والثاني لفظاً، ويمكن أن يكون بتقديم المعجمة على المهملة، يقال زري عليه زرياً عابه وعاتبه فلا يكون مهموزاً.

وفي بعض النسخ: (ربت) بالراء المهملة والباء الموحّدة، أي نمت وكثرت.

وفي بعضها: (رنّت) من الرنين.

وفي نسخة قديمة: و(رويت) من الرواية.

ص: 40


1- والأول أظهر بل والأنسب باعتراضها بقولها (عليها السلام): (أسائلين..)

(إنّ قحيف تيم): لعلها (صلوات الله عليها) أطلقت عليه قحيفاً، لأنّ أباه أبو قحافة، والقحف بالكسر العظم فوق الدماغ، والقحف بالفتح قطع القحف أو كسره، والقاحف المطر يجي ء فجأة فيقتحف كل شي ء.. أي يذهب به، وسيل قحاف كغراب جزاف.

(والأحيول) تصغير الأحول، فإنه لو لم يكن أحول ظاهراً كان أحول باطناً لشركه، بل أعمى، ويقال أيضا ما أحوله.. أي ما أحيله.

(جاريا أبا الحسن (عليه السلام) في السباق): يقال جاراه أي جرى معه، والسّباق المسابقة، أي كانا يريدان أن يسبقاه في المكارم والفضائل في حياة النبيّ (صلى الله عليه و آله).

(حتى إذا تفريا بالخناق أسرّا لهالشنآن): يقال تفرّى أي انشقّ، والخناق ككتاب الحبل يخنق به، وكغراب داء يمتنع معه نفوذ النّفس إلى الرّية والقلب. وفي بعض النسخ بالحاء المهملة وهو بالكسر جمع الحنق بالتّحريك وهو الغيظ أو شدّته.

و(الشّنآن): العداوة، أي لما انشقا بما خنقهما من ظهور مناقبه وفضائله وعجزهما عن أن يدانياه في شي ء منها، أو من شدة غيظه أكمنا له العداوة في قلبهما منتهضين للفرصة.

وفي بعض النسخ: (تعريا) بالعين والراء المهملتين، فلعل المعنى بقيا مسبوقين في العراء وهو الفضاء والصحراء متلبسين بالخناق والغيظ.

وفي بعض النسخ: (ثغرا) أي توقرا وثقلا.

وفي بعضها: (تغرغرا) من الغرغرة وهي تردّد الرّوح في الحلق، ويقال

ص: 41

يتغرغر صوته في حلقه أي يتردّد، وهو مناسب للخناق.

وفي بعضها: (تقرّرا) أي ثبتا ولم يمكنهما الحركة.

وفي بعضها: (تعزّبا) بالمهملة ثم المعجمة، أي بعدا ولم يمكنهما الوصول إليه، وكان يحتمل تقديم المعجمة أيضا، والمعنى قريب من الأول.وفي بعضها: (تقربا) بالقاف والباء الموحدة ويمكن توجيهه بوجه، وكان يحتمل النون، وهو أوجه فالخناق بالخاء المكسورة أي اشتركا فيما يوجب عجزهما كأنهما اقترنا بحبل واحد في عنقهما.

وفي بعضها: (تفردا) بالفاء والراء المهملة والدال وهو أيضا لا يخلو من مناسبة.

(وطوياه الإعلان): أي أضمرا أن يعلنا له العداوة عند الفرصة، وفي الكلام حذف وإيصال.. أي طويا أو عنه، يقال طوى الحديث أي كتمه، ويقال خبت النار أي سكنت وطفئت.

(نطقا بفورهما): أي تكلما فوراً، أي بسبب فورانهما.

وفي بعض النسخ: (نطفا) بالفاء أي صبّا ما في صدورهما فوراً، أو بسبب غليان حقدهما وفوران حسدهما، ويحتمل أن تكون الباء زائدة، يقال نطف الماء أي صبّه، وفلاناً قذفه بفجور، أو لطّخه بعيب. وفي الحديث: رأيت سقفا تنطف سمناً وعسلاً، أي تقطر، وفي قصة المسيح (عليه السلام) ينطف رأسه ماء، وفار القدر فوراً وفوراناً: غلا وجاش.

(وأتوا من فورهم): أي من وجههم، أو قبل أن يسكنوا.

(ونفثا بسورهما): نفثه كضرب رمىبه، والنفث النفخ والبزق. وسورة

ص: 42

الشي ء حدّته وشدّته، ومن السّلطان سطوته واعتداؤه، وسار الشراب في رأسه سوراً دار وارتفع، والرجل إليك وثب وثار.

(وأدلا بفدك): قال الجوهري الدّل الغنج والشكل.. وفلان يدّل على أقرانه في الحرب كالبازي يدل على صيده، وهو يدل بفلان أي يثق به، والحاصل أنهما أخذا فدك بالجرأة من غير خوف.

وفي بعض النسخ: (وا ذلا بفدك) بالذال المعجمة على الندبة، ولعله تصحيف(1).

(فيا لها كم من ملك ملك): من قبيل (يا للماء) للتعجب، أي يا قوم تعجبوا لفدك. وقولها كم من ملك بيان لوجه التعجب.

وفي بعض النسخ: (فيا لها لمن ملك تيك).

وفي بعضها: (فيا لها لمزة لك تيك) واللمزة بضم اللام وفتح الميم العيّاب. و(تيك) اسم إشارة، والظاهر أن الجميعتصحيف(2).

(والنجيّ): هو المناجي المخاطب للإنسان، أي لمن خصّه الله بنجواه وسرّه، وكان أوفى الخلق بعهده وأمره.

(والصبية) بالكسر: جمع الصبي.

(والسّغب): الجوع.

ص: 43


1- ويحتمل أنهما (أولا بفدك) أي على المسلمين، فكأنهما اعتبرا غصب فدك منة منهما على المسلمين، ويحتمل أن يكون من أولى كقوله تعالى: «وتدلوا بها إلى الحكام» (سورة البقرة: 88) وبمعناه، لكن تثنيته (أوليا).
2- و(من مُلك مُلك) أي من ملك للغير تملكه آخرون، أي ملك لنا تملكوه جوراً وغصباً.

و(النجل): الولد.

و(البلغة) بالضم: ما يتبلغ به من العيش.

و(اللماظة) بالضم: ما يبقى في الفم من الطّعام. وقال الشّاعر في وصف الدّنيا: لماظة أيّام كأحلام نائم.

ويقال: ما ذقت لماظا بالفتح أي شيئاً، واللمظة بالضم كالنكتة من البياض، واللماظة هنا أنسب.

و(الزّلفة) بالضم: كالزّلفى القرب والمنزلة.. أي أعلم أنها سبب لقربي يوم الحشر، أو أصبر عليها ليكون سبباً لقربي.

قال في النهاية: وفيه من صام إيماناً واحتساباً.. أي طلباً لوجه الله وثوابه، والاحتساب من الحسب كالاعتداد من العدّ، وإنّما قيل لمن ينوي بعمله وجه الله احتسبه، لأنّ له حينئذ أن يعتدّ عمله، فجعل في حال مباشرة الفعل كأنّهمعتدّ به.. والاحتساب في الأعمال الصالحات، وعند المكروهات هو البدار إلى طلب الأجر وتحصيله بالتسليم والصبر، أو باستعمال أنواع البرّ و القيام بها على الوجه المرسوم فيها طلباً للثواب المرجوّ منها..، ومنه الحديث «من مات له ولد فاحتسبه..» أي احتسب الأجر بصبره على مصيبته.

و(سعر النار).. كمنع أوقدها.

و(الحميم) الماء الحارّ.

و(اللظى) كفتى: النار أو لهبها، و لظى معرفة جهنّم، أو طبقة منها، أعاذنا الله تعالى منها ومن طبقاتها ودركاتها. انتهى(1).

ص: 44


1- بحار الأنوار: ج29 ص183 - 189 ب11 (توضيح).

التظلم

مسألة: ينبغي التظلم، حتى عند من ليس بمقدوره أن يدفع الظلم عن المظلوم، إذا كان لغاية عقلائية كإيصال الظلامة بهذا الطريق للآخرين، وكالتنفيس عن الكرب، وكمنع الظالم من أن يظلم الآخرين لما يرى من ردود الأفعال والردع الاجتماعي.

وقد يجب فيما إذا توقف واجب عليه.

ومن المعلوم أن إظهار ظلم الظالم ليس من الاغتياب والإيذاء المحرم، فقد قال سبحانه: «لا يُحِبُّ اللهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْل إلاّ مَنْ ظُلم»(1)، على تفصيل ذكره الشيخ (رحمه الله) في كتاب المكاسب، وغيره في غيره، في باب الغيبة.

الإخبار بظلم الظالم

مسألة: يستحب إخبار الناس بظلم الظالم بل قد يجب، وإن لم يكن مصداق التظلم، نعم ربما لا يجوز إذا ترتب عليه ضرر لا يجوز تحمله.

لا يقال: إن فاطمة (عليها الصلاة والسلام) كيف تقول: «انتزعا مني البلغة»، معوضوح أن أهل البيت (عليهم السلام) ما كانوا من أهل الدنيا ولا يرغبون في حطامها؟

والجواب: إن البلغة لا يراد بها بلغة أكلهم وشربهم، بل لعل المراد بلغتهم

ص: 45


1- سورة النساء: 148.

في إنفاق ذلك في سبيل الله كما هي عادتهم، خاصة وأنهم (عليهم السلام) كانوا ملاذ القاصي والداني من ذوي الحاجة لما عرف عنهم من الجود والكرم، ولأنهم أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأيضاً وبلغتهم في إحقاق الحق وإبطال الباطل.

مضافاً إلى أنه قد يذكر الإنسان ما لا احتياج له به، إلماعاً إلى الظلم الواقع عليه، وليتخذه الناس أسوة في التظلم والشكاية واستعادة الحقوق المسلوبة.

بالإضافة إلى احتمال أن يكون المراد من (الصبية السواغب من نجله ونسلي) الأعم من النسل المباشر وهما الحسنان (عليهما السلام) بل سائر أبنائهم إلى يوم القيامة.

كثرة بكاء الصديقة

مسألة: يستحب بيان كثرة بكاء الصديقة فاطمة (صلوات الله عليها) حيث ورد: (فرأتها باكية).فإن بيان ذلك يوجب فهم الناس عمق المصاب، كما أنه يحول دون اندراس تلك الوقائع والمصائب، وذلك يهدي إلى شدة الالتفاف حول العترة الطاهرة (عليهم السلام) وكثرة أتباعهم والابتعاد عن ظالميهم.

كتمان البكاء

مسألة: ليس من جملة الفضائل كتمان البكاء فيما كان المقام يقتضيه، ومنه ما ورد في هذه الرواية من أن عائشة بنت طلحة دخلت على الصديقة الزهراء

ص: 46

(عليها السلام) فرأتها باكية.

وعلى هذا فإن البكاء والجهر به على فقد المعصومين (عليهم السلام) وظلامتهم حسن.

وكذلك البكاء وإظهاره على العلماء وما جرى عليهم، وإظهار البكاء على مظلومية أتباع أهل البيت (عليهم السلام).

عَنْ أَبِي بَصِيرٍ قَال: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه

السلام) أُحَدِّثُهُ فَدَخَل عَليْهِ ابْنُهُ، فَقَال لهُ: مَرْحَباً وضَمَّهُ وقَبَّلهُ وقَال: «حَقَّرَ اللهُ مَنْ حَقَّرَكُمْ، وانْتَقَمَ مِمَّنْ وَتَرَكُمْ، وخَذَل اللهُ مَنْ خَذَلكُمْ، ولعَنَ اللهُ مَنْ قَتَلكُمْ، وكَانَ اللهُ لكُمْ وَليّاً وحَافِظاً ونَاصِراً، فَقَدْ طَال بُكَاءُ النِّسَاءِ وبُكَاءُ الأَنْبِيَاءِوالصِّدِّيقِينَ والشُّهَدَاءِ ومَلائِكَةِ السَّمَاءِ»، ثُمَّ بَكَى وقَال:

«يَا أَبَا بَصِيرٍ، إِذَا نَظَرْتُ إِلى وُلدِ الحُسَيْنِ أَتَانِي مَا لا أَمْلكُهُ بِمَا أَتَى إِلى أَبِيهِمْ وإِليْهِمْ، يَا أَبَا بَصِيرٍ إِنَّ فَاطِمَةَ (عليها السلام) لتَبْكِيهِ وتَشْهَقُ فَتَزْفِرُ جَهَنَّمُ زَفْرَةً لوْلا أَنَّ الخَزَنَةَ يَسْمَعُونَ بُكَاءَهَا وقَدِ اسْتَعَدُّوا لذَلكَ مَخَافَةَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا عُنُقٌ أَوْ يَشْرُدَ دُخَانُهَا فَيُحْرِقَ أَهْل الأَرْضِ فَيَحْفَظُونَهَا مَا دَامَتْ بَاكِيَةً، ويَزْجُرُونَهَا ويُوثِقُونَ مِنْ أَبْوَابِهَا مَخَافَةً عَلى أَهْل الأَرْضِ، فَلا تَسْكُنُ حَتَّى يَسْكُنَ صَوْتُ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءَ، وإِنَّ البِحَارَ تَكَادُ أَنْ تَنْفَتِقَ فَيَدْخُل بَعْضُهَا عَلى بَعْضٍ، ومَا مِنْهَا قَطْرَةٌ إلاّ بِهَا مَلكٌ مُوَكَّل، فَإِذَا سَمِعَ المَلكُ صَوْتَهَا أَطْفَأَ نَارَهَا بِأَجْنِحَتِهِ وحَبَسَ بَعْضَهَا عَلى بَعْضٍ مَخَافَةً عَلى الدُّنْيَا ومَا فِيهَا ومَنْ عَلى الأَرْضِ، فَلا تَزَال المَلائِكَةُ مُشْفِقِينَ يَبْكُونَهُ لبُكَائِهَا ويَدْعُونَ اللهَ ويَتَضَرَّعُونَ إِليْهِ، ويَتَضَرَّعُ أَهْل العَرْشِ ومَنْ حَوْلهُ، وتَرْتَفِعُ أَصْوَاتٌ مِنَ المَلائِكَةِ بِالتَّقْدِيسِ للهِ مَخَافَةً عَلى أَهْل الأَرْضِ، ولوْ أَنَّ صَوْتاً مِنْ

ص: 47

أَصْوَاتِهِمْ يَصِل إِلى الأَرْضِ لصَعِقَ أَهْل الأَرْضِ وتَقَطَّعَتِ الجِبَال وزُلزِلتِ الأَرْضُ بِأَهْلهَا».

قُلتُ: جُعِلتُ فِدَاكَ إِنَّ هَذَا الأَمْرَ عَظِيمٌ.

قَال: «غَيْرُهُ أَعْظَمُ مِنْهُ مَا لمْ تَسْمَعْهُ»،ثُمَّ قَال لي: «يَا أَبَا بَصِيرٍ، أَمَا تُحِبُّ أَنْ تَكُونَ فِيمَنْ يُسْعِدُ فَاطِمَةَ (عليها السلام)، فَبَكَيْتُ حِينَ قَالهَا، فَمَا قَدَرْتُ عَلى المَنْطِقِ ومَا قَدَرَ عَلى كَلامِي مِنَ البُكَاءِ، ثُمَّ قَامَ إِلى المُصَلى يَدْعُو، فَخَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهِ عَلى تِلكَ الحَال، فَمَا انْتَفَعْتُ بِطَعَامٍ ومَا جَاءَنِي النَّوْمُ وأَصْبَحْتُ صَائِماً وَجِلا حَتَّى أَتَيْتُهُ، فَلمَّا رَأَيْتُهُ قَدْ سَكَنَ سَكَنْتُ وحَمِدْتُ اللهَ حَيْثُ لمْ تَنْزِل بِي عُقُوبَةٌ»(1).

وروي أنه قَال النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): «يَا رَبِّ أَيُّ عِبَادِكَ أَحَبُّ إِليْكَ»، قَال: «الذِي يَبْكِي لفَقْدِ الصَّالحِينَ كَمَا يَبْكِي الصَّبِيُّ عَلى فَقْدِ أَبَوَيْه»(2).

بأبي أنت وأمي

مسألة: يستحب خطاب المعصوم (عليه السلام) بكلمة: (بأبي أنت وأمي).

وذلك لأن المعصوم (عليه السلام) أفضل، وحقه أكثر من أب الإنسان وأمه.وما ورد أحياناً من قولهم (عليهم الصلاة والسلام) هذا اللفظ لغير المعصومين

ص: 48


1- كامل الزيارات: ص82 الباب السادس والعشرون ح7.
2- الدعوات، للراوندي: ص241 ح676، بحار الأنوار: ج 79 ص172 ب20.

الأربعة عشر، كما قال الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام) لأخيه العباس (عليه السلام): «بأبي أنت» فذلك كلمة عطف ولطف(1) وهو دليل على علو مقام أبي الفضل (عليه السلام)، لأن المعصوم لا يفدى به غير المعصوم.

من كلام لأَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) قاله وهو يلي غسل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتجهيزه:

«بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي يَا رَسُول اللهِ، لقَدِ انْقَطَعَ بِمَوْتِكَ مَا لمْ يَنْقَطِعْ بِمَوْتِ غَيْرِكَ مِنَ النُّبُوَّةِ والإِنْبَاءِ وأَخْبَارِ السَّمَاءِ، خَصَّصْتَ حَتَّى صِرْتَ مُسَلياً عَمَّنْ سِوَاكَ، وعَمَّمْتَ حَتَّى صَارَ النَّاسُ فِيكَ سَوَاءً، ولوْ لا أَنَّكَ أَمَرْتَ بِالصَّبْرِ ونَهَيْتَ عَنِ الجَزَعِ لأَنْفَدْنَا عَليْكَ مَاءَ الشُّئُونِ، ولكَانَ الدَّاءُ مُمَاطِلا والكَمَدُ مُحَالفاً وقَلا لكَ، ولكِنَّهُ مَا لا يُمْلكُ رَدُّهُ ولا يُسْتَطَاعُ دَفْعُهُ، بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي اذْكُرْنَا عِنْدَ رَبِّكَ واجْعَلنَا مِنْ بَالك»(2).

وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: «لمَّاصَعِدَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) الغَارَ طَلبَهُ عَليُّ بْنُ أَبِي طَالبٍ (عليه السلام) وخَشِيَ أَنْ يَغْتَالهُ المُشْرِكُونَ، وكَانَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) عَلى حِرَا وعَليٌّ (عليه السلام) عَلى ثَبِيرٍ، فَبَصُرَ بِهِ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) فَقَال: مَا لكَ يَا عَليُّ، قَال: بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي خَشِيتُ أَنْ يَغْتَالكَ المُشْرِكُونَ فَطَلبْتُكَ، فَقَال النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): نَاوِلنِي يَدَكَ يَا عَليُّ، فَرَجَفَ الجَبَل حَتَّى خَطَا بِرِجْلهِ إِلى الجَبَل الآخَرِ ثُمَّ رَجَعَ الجَبَل إِلى قَرَارِهِ»(3).

ص: 49


1- أي إنه لا يراد به معناه الحقيقي بل المراد المعنى الكنائي.
2- نهج البلاغة: الخطبة 235.
3- بصائر الدرجات في فضائل آل محمد (صلى الله عليهم): ج 1 ص407 ب13 ح9.

وفي زيارة عاشوراء: «يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي لقَدْ عَظُمَ مُصَابِي بِكَ، فَأَسْأَل اللهَ الذِي أَكْرَمَ مَقَامَكَ أَنْ يُكْرِمَنِي بِكَ ويَرْزُقَنِي طَلبَ ثَارِكَ مَعَ إِمَامٍ مَنْصُورٍ مِنْ آل مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) اللهُمَّ اجْعَلنِي وَجِيهاً عِنْدَكَ بِالحُسَيْنِ فِي الدُّنْيَا والآخِرَة»(1).

وفي زيارة الإمام الرضا (عليه السلام): «وَارْحَمْ تَقَلبِي عَلى قَبْرِ ابْنِ أَخِي نَبِيِّكَ ورَسُولكَ (صلى الله عليه وآله) بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي أَتَيْتُكَ زَائِراً وَافِداً عَائِذاً مِمَّا جَنَيْتُ بِهِعَلى نَفْسِي واحْتَطَبْتُ عَلى ظَهْرِي فَكُنْ لي شَفِيعاً إِلى رَبِّكَ يَوْمَ فَقْرِي وفَاقَتِي»(2).

السؤال عن تألم المعصوم

مسألة: يستحب السؤال عن سبب تألم المعصوم (عليه السلام) وانزعاجه أو استيائه، وعن سبب بكائه.

وذلك لأن فعل المعصوم (عليه السلام) حجة يقتدى به، فالسؤال هادٍ إلى العمل الموجب للقرب من الله سبحانه.

والأمر كذلك في الجملة في شأن أتقياء العلماء ومن يقتدى بهم، بل حتى مطلق المؤمن إذا انطبق عليه عنوان من العناوين الراجحة.

قَال عُقْبَةُ بْنُ سِمْعَانَ: سِرْنَا مَعَهُ - أي مع سيد الشهداء عليه السلام - سَاعَةً فَخَفَقَ وهُوَ عَلى ظَهْرِ فَرَسِهِ خَفْقَةً ثُمَّ انْتَبَهَ وهُوَ يَقُول: إِنَّا للهِ وإِنَّا إِليْهِ راجِعُونَ

ص: 50


1- كامل الزيارات: ص177 الباب الحادي والسبعون ثواب من زار الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء ح8.
2- كامل الزيارات: ص312 الباب الثاني والمائة زيارة قبر أبي الحسن الرضا (عليه السلام) ح2.

والحَمْدُ للهِ رَبِّ العالمِينَ، فَفَعَل ذَلكَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثاً، فَأَقْبَل إِليْهِ ابْنُهُ عَليُّ بْنُ الحُسَيْنِ (عليهما السلام) عَلى فَرَسٍ فَقَال: مِمَّ حَمِدْتَ اللهَ واسْتَرْجَعْتَ.

فَقَال: يَا بُنَيَّ إِنِّي خَفَقْتُ خَفْقَةً فَعَنَّ لي فَارِسٌ عَلى فَرَسٍ وهُوَ يَقُول: القَوْمُيَسِيرُونَ والمَنَايَا تَصِيرُ إِليْهِمْ، فَعَلمْتُ أَنَّهَا أَنْفُسُنَا نُعِيَتْ إِليْنَا.

فَقَال لهُ: يَا أَبَتِ لا أَرَاكَ اللهُ سُوءاً أَ لسْنَا عَلى الحَقِ، قَال: بَلى والذِي إِليْهِ مَرْجِعُ العِبَادِ.

قَال: فَإِنَّنَا إِذاً لا نُبَالي أَنْ نَمُوتَ مُحِقِّينَ.

فَقَال لهُ الحُسَيْنُ (عليه السلام): جَزَاكَ اللهُ مِنْ وَلدٍ خَيْرَ مَا جَزَى وَلداً عَنْ وَالدِهِ (1).

وَ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَ غَيْرِ وَاحِدٍ قَالوا: كَانَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) مَعَ أُمِّهِ آمِنَةَ بِنْتِ وَهْبٍ، فَلمَّا بَلغَ سِتَّ سِنِينَ خَرَجَتْ بِهِ إِلى أَخْوَالهِ بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ بِالمَدِينَةِ تَزُورُهُمْ بِهِ وَ مَعَهُ أُمُّ أَيْمَنَ تَحْضُنُهُ وَهُمْ عَلَى بَعِيرَيْنِ فَنَزَلتْ بِهِ فِي دَارِ النَّابِغَةِ فَأَقَامَتْ بِهِ عِنْدَهُمْ شَهْراً، وَ كَانَ قَوْمٌ مِنَ اليَهُودِ يَخْتَلفُونَ وَ يَنْظُرُونَ، قَالتْ أُمُّ أَيْمَنَ: فَسَمِعْتُ أَحَدَهُمْ يَقُول هُوَ نَبِيُّ هَذِهِ الأُمَّةِ وَ هَذِهِ دَارُ هِجْرَتِهِ، ثُمَّ رَجَعَتْ بِهِ أُمُّهُ إِلى مَكَّةَ، فَلمَّا كَانُوا بِالأَبْوَاءِ تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ آمِنَةُ فَقَبَرَهَا هُنَاكَ، فَرَجَعَتْ بِهِ أُمُّ أَيْمَنَ إِلى مَكَّةَ، ثُمَّ لمَّا مَرَّ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) فِي عُمْرَةِ الحُدَيْبِيَةِ بِالأَبْوَاءِ قَال: إِنَّ اللهَ قَدْ أَذِنَ لي فِي زِيَارَةِ قَبْرِ أُمِّي فَأَتَاهُ رَسُول اللهِ (صلى

الله عليه وآله) فَأَصْلحَهُ وَبَكَى عِنْدَهُ وَبَكَىالمُسْلمُونَ لبُكَاءِ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله)، فَقِيل لهُ، فَقَال: أَدْرَكَتْنِي رَحْمَةُ رَحْمَتِهَا فَبَكَيْتُ.

ص: 51


1- الإرشاد: ج 2 ص82.

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «لما قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله) مكة(1) قال: انتهى إلى قبر قد درس، قال: فجلس إليه ودمعت عيناه، قال: فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): ما يبكيك يا رسول الله، قال: فقال: لما قدمت مكة استاذنت ربي في زيارة قبر أم محمد، قال: قال: فأذن لي فى زيارتها وأذن لها في كلامي، قال: فشكت إلي، قال: فأدركني من ذاك ما يدرك الولد، فسألت ربي أن يشفعني فيها»(2).

لماذا بكت الصديقة

مسألة: يستحب بيان سبب بكاء الصديقة فاطمة (عليها السلام) في هذا المورد وسائر الموارد.

فإن معرفة السبب هنا، وهو غصب فدك وغصب الخلافة وما جرى عليها من الظلم، يوجب تجنب الناس عن الظلمة وعن الغاصبين، كما يوجب تجنبهم عن الظلموالغصب وما أشبه، مضافاً إلى ما يوجب من الالتفاف حول العترة الطاهرة (عليهم السلام) أكثر فأكثر، فالملاك آتٍ في بيان السبب.

رُوِيَ أَنَّهُ لمَّا أَخْبَرَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) ابْنَتَهُ فَاطِمَةَ بِقَتْل وَلدِهَا الحُسَيْنِ ومَا يَجْرِي عَليْهِ مِنَ المِحَنِ، بَكَتْ فَاطِمَةُ بُكَاءً شَدِيداً وقَالتْ: يَا أَبَهْ مَتَى يَكُونُ ذَلكَ؟

قَال: فِي زَمَانٍ خَال مِنِّي ومِنْكِ ومِنْ عَليٍّ، فَاشْتَدَّ بُكَاؤُهَا وقَالتْ: يَا أَبَهْ

ص: 52


1- أي في طريقه إلى مكة.
2- الأصول الستة عشر: ص159.

فَمَنْ يَبْكِي عَليْهِ ومَنْ يَلتَزِمُ بِإِقَامَةِ العَزَاءِ لهُ؟

فَقَال النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): يَا فَاطِمَةُ إِنَّ نِسَاءَ أُمَّتِي يَبْكُونَ عَلى نِسَاءِ أَهْل بَيْتِي، ورِجَالهُمْ يَبْكُونَ عَلى رِجَال أَهْل بَيْتِي، ويُجَدِّدُونَ العَزَاءَ جِيلا بَعْدَ جِيل فِي كُل سَنَةٍ، فَإِذَا كَانَ القِيَامَةُ تَشْفَعِينَ أَنْتِ للنِّسَاءِ، وأَنَا أَشْفَعُ للرِّجَال، وكُل مَنْ بَكَى مِنْهُمْ عَلى مُصَابِ الحُسَيْنِ أَخَذْنَا بِيَدِهِ وأَدْخَلنَاهُ الجَنَّةَ، يَا فَاطِمَةُ كُل عَيْنٍ بَاكِيَةٌ يَوْمَ القِيَامَةِ إلاّ عَيْنٌ بَكَتْ عَلى مُصَابِ الحُسَيْنِ، فَإِنَّهَا ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ بِنَعِيمِ الجَنَّةِ»(1).

قصة فدك

مسألة: يستحب بيان قضية فدك وأنها كانت عطية الرب للصديقة فاطمة (عليها السلام) ونحلة لذريتها (عليهم السلام).

فإن بيان ذلك نوع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإعطاء المحق حقه.

قَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «مَنْ تَرَكَ إِنْكَارَ المُنْكَرِ بِقَلبِهِ ويَدِهِ ولسَانِهِ فَهُوَ مَيِّتٌ بَيْنَ الأَحْيَاء»(2).

وفي (نهج البلاغة) في كتاب أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى عثمان بن حنيف: «بَلى كَانَتْ فِي أَيْدِينَا فَدَكٌ، مِنْ كُل مَا أَظَلتْهُ السَّمَاءُ، فَشَحَّتْ عَليْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ

ص: 53


1- بحار الأنوار: ج 44 ص292 ب34 ثواب البكاء على مصيبته ومصائب سائر الأئمة (عليهم السلام) وفيه أدب المأتم يوم عاشوراء ح37.
2- تهذيب الأحكام: ج 6 ص181 ب80 باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ح23.

وسَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ آخَرِينَ، ونِعْمَ الحَكَمُ اللهُ»(1).

عقاب غصب فدك

مسألة: يستحب بيان أن من غصب فدك وأكلها ليجدنها ساعرة حميم في لظى جحيم.

وقولها (صلوات الله عليها) دليل على أنغاصبي فدك والخلافة من أهل النار.

ثم إن (يجدنها ساعرة) ظاهره أن ما غصبوه سيكون بنفسه ساغرة حميم، كما قال تعالى: «يَوْمَ يُحْمَى عَليْها في نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وجُنُوبُهُمْ وظُهُورُهُمْ»(2).

وقوله سبحانه: «إِنَّ الذينَ يَأْكُلونَ أَمْوَالَ اليَتامَى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلونَ في بُطُونِهِمْ ناراً»(3).

فإن كثيراً من وقود جهنم هي الأشياء التي أخذت بالظلم في الدنيا، وقد بيّنا وجه ذلك في كتاب (الآداب والسنن)(4) بمناسبة.

ص: 54


1- نهج البلاغة: الرسالة 45.
2- سورة التوبة: 35.
3- سورة النساء: 10.
4- موسوعة الفقه كتاب الآداب والسنن.

إسرار البغض والشنآن

مسألة: إسرار البغض والشنآن للمعصوم (عليه السلام) محرم، بل إنه النصب، والمبغض ناصبي، وقد أشارت الصديقة الطاهرة (عليها السلام) لذلك ب (أسر له الشنآن).

وفي يوم عاشوراء لمّا احتجّ الإمام الحسين (عليه السلام) في الطفّ على شذاذ الأحزاب ونبذة الكتاب بما احتج إلى أن أنهى كلامه لهم بقوله: فبم تستحلون دمي؟ أجابوه بقولهم: بغضاً لأبيك (1).

وفي الرواية: دَخَلتْ أُمُّ سَلمَةَ عَلى فَاطِمَةَ (عليها

السلام) فَقَالتْ لهَا: كَيْفَ أَصْبَحْتِ عَنْ ليْلتِكِ يَا بِنْتَ رَسُول اللهِ؟! قَالتْ: أَصْبَحْتُ بَيْنَ كَمَدٍ وكَرَبٍ، فُقِدَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) وظُلمَ الوَصِيُّ وهُتِكَ واللهِ حُجُبُهُ، أَصْبَحَتْ إِمَامَتُهُ مُقْتَصَّةً عَلى غَيْرِ مَا شَرَعَ اللهُ فِي التَّنْزِيل، وسَنَّهَا النَّبِيُّ فِي التَّأْوِيل، ولكِنَّهَا أَحْقَادٌ بَدْرِيَّةٌ وتِرَاتٌ أُحُدِيَّةٌ كَانَتْ عَليْهَا قُلوبُ النِّفَاقِ مُكْتَمِنَةً لإِمْكَانِ الوُشَاةِ، فَلمَّا اسْتُهْدِفَ الأَمْرُ أَرْسَلتْ عَليْنَا شَآبِيبَ الآثَارِ مِنْ مَخِيلةِ الشِّقَاقِ، فَيَقْطَعُ وَتَرَ الإِيمَانِ مِنْ قِسِيِّصُدُورِهَا، وليْسَ عَلى مَا وَعَدَ اللهُ مِنْ حِفْظِ الرِّسَالةِ وكَفَالةِ المُؤْمِنِينَ، أَحْرَزُوا عَائِدَتَهُمْ غُرُورَ الدُّنْيَا بَعْدَ انْتِصَارٍ مِمَّنْ فَتَكَ بِآبَائِهِمْ فِي مَوَاطِنِ الكُرُوبِ ومَنَازِل الشَّهَادَات (2).

وفي رواية: قَال سُليْمٌ: وَحَدَّثَنِي عَليُّ بْنُ أَبِي طَالبٍ (عليه السلام) قَال:

ص: 55


1- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى): ج 18 ص185.
2- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام): ج 2 ص205.

كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) فِي بَعْضِ طُرُقِ المَدِينَةِ فَأَتَيْنَا عَلى حَدِيقَةٍ فَقُلتُ: يَا رَسُول اللهِ مَا أَحْسَنَهَا مِنْ حَدِيقَةٍ، قَال: مَا أَحْسَنَهَا ولكَ فِي الجَنَّةِ أَحْسَنُ مِنْهَا، ثُمَّ أَتَيْنَا عَلى حَدِيقَةٍ أُخْرَى فَقُلتُ: يَا رَسُول اللهِ مَا أَحْسَنَهَا مِنْ حَدِيقَةٍ، قَال: مَا أَحْسَنَهَا ولكَ فِي الجَنَّةِ أَحْسَنُ مِنْهَا، حَتَّى أَتَيْنَا عَلى سَبْعِ حَدَائِقَ أَقُول: يَا رَسُول اللهِ مَا أَحْسَنَهَا ويَقُول: لكَ فِي الجَنَّةِ أَحْسَنُ مِنْهَا، فَلمَّا خَلا لهُ الطَّرِيقُ اعْتَنَقَنِي ثُمَّ أَجْهَشَ بَاكِياً وقَال: بِأَبِي الوَحِيدُ الشَّهِيدُ، فَقُلتُ: يَا رَسُول اللهِ مَا يُبْكِيكَ، فَقَال: ضَغَائِنُ فِي صُدُورِ أَقْوَامٍ لا يُبْدُونَهَا لكَ إلاّ مِنْ بَعْدِي، أَحْقَادُ بَدْرٍ وتِرَاتُ أُحُدٍ، قُلتُ: فِي سَلامَةٍ مِنْ دَيْنِي، قَال: فِي سَلامَةٍ مِنْ دِينِكَ فَأَبْشِرْ يَا عَليُّ، فَإِنَّ حَيَاتَكَ ومَوْتَكَ مَعِي، وأَنْتَ أَخِي وأَنْتَ وَصِيِّي وأَنْتَ صَفِيِّي ووَزِيرِي ووَارِثِي والمُؤَدِّي عَنِّي، وأَنْتَ تَقْضِي دَيْنِي وتُنْجِزُ عِدَاتِي عَنِّي،وأَنْتَ تُبْرِئُ ذِمَّتِي وتُؤَدِّي أَمَانَتِي، وتُقَاتِل عَلى سُنَّتِي النَّاكِثِينَ مِنْ أُمَّتِي والقَاسِطِينَ والمَارِقِينَ، وأَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، ولكَ بِهَارُونَ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ إِذِ اسْتَضْعَفَهُ قَوْمُهُ وكَادُوا يَقْتُلونَهُ، فَاصْبِرْ لظُلمِ قُرَيْشٍ إِيَّاكَ وتَظَاهُرِهِمْ عَليْكَ، فَإِنَّكَ بِمَنْزِلةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى ومَنْ تَبِعَهُ، وهُمْ بِمَنْزِلةِ العِجْل ومَنْ تَبِعَهُ، وإِنَّ مُوسَى أَمَرَ هَارُونَ حِينَ اسْتَخْلفَهُ عَليْهِمْ إِنْ ضَلوا فَوَجَدَ أَعْوَاناً أَنْ يُجَاهِدَهُمْ بِهِمْ وإِنْ لمْ يَجِدْ أَعْوَاناً أَنْ يَكُفَّ يَدَهُ ويَحْقِنَ دَمَهُ ولا يُفَرِّقَ بَيْنَهُمْ، يَا عَليُّ مَا بَعَثَ اللهُ رَسُولا إلاّ وأَسْلمَ مَعَهُ قَوْمٌ طَوْعاً وقَوْمٌ آخَرُونَ كَرْهاً فَسَلطَ اللهُ الذِينَ أَسْلمُوا كَرْهاً عَلى الذِينَ أَسْلمُوا طَوْعاً فَقَتَلوهُمْ ليَكُونَ أَعْظَمَ لأُجُورِهِمْ، يَا عَليُّ وإِنَّهُ مَا اخْتَلفَتْ أُمَّةٌ بَعْدَ نَبِيِّهَا إلاّ ظَهَرَ أَهْل بَاطِلهَا عَلى أَهْل حَقِّهَا وإِنَّ اللهَ قَضَى الفُرْقَةَ والاخْتِلافَ عَلى هَذِهِ الأُمَّةِ ولوْ شَاءَ لجَمَعَهُمْ عَلى الهُدى حَتَّى لا يَخْتَلفَ اثْنَانِ مِنْ خَلقِهِ ولا يُتَنَازَعَ فِي شَيْ ءٍ مِنْ أَمْرِهِ ولا يَجْحَدَ المَفْضُول ذَا الفَضْل فَضْلهُ، ولوْ

ص: 56

شَاءَ عَجَّل النَّقِمَةَ فَكَانَ مِنْهُ التَّغْيِيرُ حَتَّى يُكَذَّبَ الظَّالمُ ويُعْلمَ الحَقُّ أَيْنَ مَصِيرُهُ، ولكِنْ جَعَل الدُّنْيَا دَارَ الأَعْمَال وجَعَل الآخِرَةَ دَارَ القَرَارِ، ليَجْزِيَ الذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلوا ويَجْزِيَ الذِينَ أَحْسَنُوا بِالحُسْنَى، فَقُلتُ: الحَمْدُ للهِ شُكْراً عَلى نَعْمَائِهِ وصَبْراً عَلىبَلائِهِ وتَسْليماً ورِضًى بِقَضَائِه (1).

نية الظلم

مسألة: تبيت النية لإعلان ظلم المعصوم (عليه السلام) محرم آخر، ، ولعله ما أشارت إليه الصديقة (عليها السلام) بقولها: (وطوياه الإعلان)، بل لعله يشمله قوله تعالى: «إِنَّ الّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشيعَ الفاحِشَةُ»(2).

عَنْ أَبِي حَمْزَةَ قَال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُول: «إِذَا قَال الرَّجُل لأَخِيهِ المُؤْمِنِ: أُفٍّ، خَرَجَ مِنْ وَلايَتِهِ، وإِذَا قَال: أَنْتَ عَدُوِّي كَفَرَ أَحَدُهُمَا، ولا يَقْبَل اللهُ مِنْ مُؤْمِنٍ عَمَلا وهُوَ مُضْمِرٌ عَلى أَخِيهِ المُؤْمِنِ سُوءاً»(3).

وعَنْ عَبْدِ العَظِيمِ، عَنْ أَبِي الحَسَنِ الرِّضَا (عليه

السلام) قَال: «يَا عَبْدَ العَظِيمِ أَبْلغْ عَنِّي أَوْليَائِيَ السَّلامَ وقُل لهُمْ: لا يَجْعَلوا للشَّيْطَانِ عَلى أَنْفُسِهِمْ سَبِيلا، ومُرْهُمْ بِالصِّدْقِ فِي الحَدِيثِ» إِلى أَنْ قَال: «وعَرِّفْهُمْ أَنَّ اللهَ قَدْ غَفَرَ لمُحْسِنِهِمْ وتَجَاوَزَعَنْ مُسِيئِهِمْ، إلاّ مَنْ أَشْرَكَ بِهِ وآذَى وَليّاً مِنْ أَوْليَائِي أَوْ أَضْمَرَ لهُ سُوءاً، فَإِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ لهُ حَتَّى يَرْجِعَ عَنْهُ، وإِلا نَزَعَ رُوحَ الإِيمَانِ عَنْ قَلبِهِ وخَرَجَ عَنْ

ص: 57


1- كتاب سليم بن قيس الهلالي: ج 2 ص569 الحديث الثاني.
2- سورة النور: 19.
3- الكافي: ج 2 ص361 باب السباب ح8.

وَلايَتِي، ولمْ يَكُنْ لهُ نَصِيبٌ فِي وَلايَتِنَا، وأَعُوذُ بِاللهِ مِنْ ذَلك»(1).

الإعراب عن قصد الظلم

مسألة: الإعراب عما في الضمير من إرادة ظلم المعصوم (عليه السلام) وغصب حقه وإظهاره بأي نوع كان من أنواع الإظهار محرم ثالث، وذلك ما أشارت إليه الصديقة (عليه السلام) بقولها: (نطقا بفورهما ونفثا بسورهما).

وقد صرحت الروايات بما ورد على العترة من الظلم الكثير:

روي أنه دَخَلتْ أُمُّ سَلمَةَ عَلى فَاطِمَةَ (عليها السلام) فَقَالتْ لهَا: كَيْفَ أَصْبَحْتِ عَنْ ليْلتِكِ يَا بِنْتَ رَسُول اللهِ؟ قَالتْ: أَصْبَحْتُ بَيْنَ كَمَدٍ وَ كَرَبٍ، فُقِدَ النَّبِيُّ (صَلى اللهُ عَليْهِ وَ آلهِ) وَظُلمَ الوَصِيُّ، وَهُتِكَ وَاللهِ حُجُبُهُ، أَصْبَحَتْ إِمَامَتُهُ مُقْتَصَّةً عَلى غَيْرِ مَا شَرَعَ اللهُ فِي التَّنْزِيل، وَسَنَّهَا النَّبِيُّ فِي التَّأْوِيل، وَلكِنَّهَا أَحْقَادٌ بَدْرِيَّةٌ، وَتِرَاتٌ أُحُدِيَّةٌ،كَانَتْ عَليْهَا قُلوبُ النِّفَاقِ مُكْتَمِنَة»(2).

وفي دعاء الندبة: «وَأَوْدَعَ قُلوبَهُمْ أَحْقَاداً بَدْرِيَّةً وَخَيْبَرِيَّةً وَحُنَيْنِيَّةً وَغَيْرَهُنَّ، فَأَضَبَّتْ عَلى عَدَاوَتِهِ، وَأَكَبَّتْ عَلى مُنَابَذَتِه»(3) الدعاء.

ص: 58


1- مستدرك الوسائل: ج 9 ص140 باب تحريم الطعن على المؤمن وإضمار السوء له ح4.
2- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام)، لابن شهرآشوب: ج 2 ص205 فصل في ظلامة أهل البيت (عليهم السلام).
3- المزار الكبير، لابن المشهدي: ص577 الدعاء للندبة.

التصريح باسم الظالم

مسألة: ربما وجب التصريح باسم الظالم أو ما يجري مجراه في الجملة، كما لو توقف الردع عليه، أو توقف إحقاق الحق أو تعريف الناس بالحق عليه، ونرى الصديقة (صلوات الله عليها) تلقب الظالم بما هو كالصريح: (قحيف تيم وأحيول عدي).

نعم للتقية أحكامها كما هو المذكور في الفقه.

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَال: ذُكِرَتِ الخِلافَةُ عِنْدَ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَليِّ بْنِ أَبِي طَالبٍ (عليه السلام) فَقَال: «واللهِ لقَدْ تَقَمَّصَهَا أَخُو تَيْمٍ وإِنَّهُ ليَعْلمُ أَنَّ مَحَلي مِنْهَا مَحَل القُطْبِ مِنَ الرَّحَى، يَنْحَدِرُ عَنْهُ السَّيْل ولا يَرْتَقِي إِليْهِ الطَّيْرُ، فَسَدَلتُ دُونَهَا ثَوْباً، وطَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً، وطَفِقْتُ أَرْتَئِيُ مَا بَيْنَ أَنْ أَصُول بِيَدٍ جَذَّاءَ أَوْ أَصْبِرَ عَلى طَخْيَةٍ عَمْيَاءَ يَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ ويَهْرَمُ فِيهَا الكَبِيرُ، ويَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلقَى اللهَ رَبَّهُ، فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلى هَاتَا أَحْجَى، فَصَبَرْتُ وفِي العَيْنِ قَذًى وفِي الحَلقِ شَجًا، أَرَى تُرَاثِي نَهْباً، حَتَّى إِذَا مَضَى الأَوَّل لسَبِيلهِ عَقَدَهَا لأَخِي عَدِيٍّ بَعْدَهُ، فَيَا عَجَباً بَيْنَا هُوَ يَسْتَقِيلهَا فِي حَيَاتِهِ إِذْ عَقَدَهَا لآخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَصَيَّرَهَا واللهِ فِي حَوْزَةٍ خَشْنَاءَ يَخْشُنُ مَسُّهَا ويَغْلظُ كَلمُهَا،ويَكْثُرُ العِثَارُ والاعْتِذَارُ مِنْهَا، فَصَاحِبُهَا كَرَاكِبِ الصَّعْبَةِ إِنْ عَنَّفَ بِهَا حَرَن،َ وإِنْ سَلسَ بِهَا غَسَقَ، فَمُنِيَ النَّاسُ بِتَلوُّنٍ واعْتِرَاضٍ وبَلوًى مَعَ هَنٍ وهُنَيٍّ، فَصَبَرْتُ عَلى طُول المُدَّةِ وشِدَّةِ المِحْنَةِ حَتَّى إِذَا مَضَى لسَبِيلهِ جَعَلهَا فِي جَمَاعَةٍ زَعَمَ أَنِّي مِنْهُمْ، فَيَا للهِ لهُمْ وللشُّورَى، مَتَى اعْتَرَضَ الرَّيْبُ فِيَّ مَعَ الأَوَّل مِنْهُمْ حَتَّى صِرْتُ أُقْرَنُ بِهَذِهِ النَّظَائِرِ، فَمَال

ص: 59

رَجُل بِضَبْعِهِ وأَصْغَى آخَرُ لصِهْرِهِ وقَامَ ثَالثُ القَوْمِ نَافِجاً حِضْنَيْهِ بَيْنَ نَثِيلهِ ومُعْتَلفِهِ، وقَامَ مَعَهُ بَنُو أُمَيَّةَ يَهْضِمُونَ مَال اللهِ هَضْمَ الإِبِل نَبْتَةَ الرَّبِيعِ حَتَّى أَجْهَزَ عَليْهِ عَمَلهُ(1)، الخطبة.

وقد ورد لعنه على لسان أمير المؤمنين (عليه السلام) وقوله بعد ذلك: «فَلوْلاهُ مَا زَنَى إلاّ شَقِيٌّ أَوْ شَقِيَّة»(2).

ص: 60


1- معاني الأخبار: ص361 باب معاني خطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام) ح1.
2- بحار الأنوار: ج 53 ص31 ب28 ما يكون عند ظهوره (عليه السلام) برواية المفضل بن عمر.

خلوا عن ابن عمي

اشارة

روي أنه لما استخرج القوم أمير المؤمنين (عليه السلام) خرجت فاطمة (عليها السلام) حتى انتهت إلى القبر فقالت:

«خلوا عن ابن عمي، فو الله الذي بعث محمداً بالحق، لئن لم تخلوا عنه لأنشرن شعري، ولأضعن قميص رسول الله (صلى الله عليه وآله) على رأسي، ولأصرخن إلى الله تعالى، فما ناقة صالح بأكرم على الله من ولديّ»(1).

---------------------

نشر الشعر عند الدعاء

مسألة: يستحب نشر المرأة شعرها عند الدعاء مع حفظ الموازين الشرعية، فإن قولها (صلوات الله عليها) لأنشرن شعري دليل على جوازه عند الدعاء، أما كونه مستحباً فيستفاد من جهة المقدمية أو ما أشبه.

ثم إن نشر الشعر بمعنى فتحه بحيث لا يكون ضفيرة، ومن الواضح أنه مع الأمن من الناظر الأجنبي، ولعل السبب فيه أنه نوع تذلل إلى الله سبحانه، ومن المعلوم أنه كلما كان الإنسان أكثرخضوعاً له تعالى كان أقرب إليه، وكلما قرب الإنسان إليه كان أقرب إلى استجابة دعائه.

ص: 61


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام)، لابن شهرآشوب: ج 3 ص339، بحار الأنوار: ج 43 ص47 ب3 مناقبها وفضائلها وبعض أحوالها ومعجزاتها (صلوات الله عليها).

عَنْ أَبَانٍ عَنْ أَبِي هَاشِمٍ قَال: لمَّا أُخْرِجَ بِعَليٍّ (عليه السلام) خَرَجَتْ فَاطِمَةُ (عليها السلام) وَاضِعَةً قَمِيصَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) عَلى رَأْسِهَا آخِذَةً بِيَدَيِ ابْنَيْهَا فَقَالتْ: مَا لي ومَا لكَ يَا أَبَا بَكْرٍ تُرِيدُ أَنْ تُؤْتِمَ ابْنَيَّ وتُرْمِلنِي مِنْ زَوْجِي، واللهِ لوْ لا أَنْ تَكُونَ سَيِّئَةٌ لنَشَرْتُ شَعْرِي ولصَرَخْتُ إِلى رَبِّي، فَقَال رَجُل مِنَ القَوْمِ: مَا تُرِيدُ إِلى هَذَا، ثُمَّ أَخَذَتْ بِيَدِهِ فَانْطَلقَتْ بِهِ(1).

وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: «واللهِ لوْ نَشَرَتْ شَعْرَهَا مَاتُوا طُرّاً»(2).

من آداب الدعاء

مسألة: يستحب عند الدعاء أن يضع الإنسان على رأسه شيئاً محترماً عند الله عزوجل.

فإنه نوع احترام من الإنسان لما يحترمه الله سبحانه، ويكون أقرب إلى الإجابة، ومنه وضع القرآن على الرأس حال الدعاء في ليالي القدر وغيرها.هذا بالإضافة إلى أن جعل القرآن على الرأس يؤكد على كون الإنسان خاضعاً لأحكام القرآن الكريم، وكذا فيما هو بحكمه، وكلما أظهر الإنسان الخضوع والإطاعة لله سبحانه ولأحكامه كان أقرب إلى الإجابة وأدعى للترحم عليه.

عن مَوْلانَا الصَّادِقِ (صلوات الله عليه) قَال: «خُذِ المُصْحَفَ فَدَعْهُ عَلى رَأْسِكَ وقُل: اللهُمَّ بِحَقِّ هَذَا القُرْآنِ وبِحَقِّ مَنْ أَرْسَلتَهُ بِهِ وبِحَقِّ كُل مُؤْمِنٍ مَدَحْتَهُ فِيهِ

ص: 62


1- الكافي: ج 8 ص238 حديث القباب ح320.
2- الكافي: ج 8 ص238 حديث القباب ح321.

وبِحَقِّكَ عَليْهِمْ، فَلا أَحَدَ أَعْرَفُ بِحَقِّكَ مِنْكَ، بِكَ يَا اللهُ عَشْرَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ تَقُول بِمُحَمَّدٍ عَشْرَ مَرَّاتٍ، بِعَليٍّ عَشْرَ مَرَّاتٍ، بِفَاطِمَةَ عَشْرَ مَرَّاتٍ، بِالحَسَنِ عَشْرَ مَرَّاتٍ، بِالحُسَيْنِ عَشْرَ مَرَّاتٍ، بِعَليِّ بْنِ الحُسَيْنِ عَشْرَ مَرَّاتٍ، بِمُحَمَّدِ بْنِ عَليٍّ عَشْرَ مَرَّاتٍ، بِجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَشْرَ مَرَّاتٍ، بِمُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ عَشْرَ مَرَّاتٍ، بِعَليِّ بْنِ مُوسَى عَشْرَ مَرَّاتٍ، بِمُحَمَّدِ بْنِ عَليٍّ عَشْرَ مَرَّاتٍ، بِعَليِّ بْنِ مُحَمَّدٍ عَشْرَ مَرَّاتٍ، بِالحَسَنِ بْنِ عَليٍّ عَشْرَ مَرَّاتٍ، بِالحُجَّةِ عَشْرَ مَرَّاتٍ، وتَسْأَل حَاجَتَك (1).

وعَنْ مَوْلانَا مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ (صلوات الله عليه): «خُذِ المُصْحَفَ فِي يَدِكَ وارْفَعْهُ فَوْقَ رَأْسِكَ وقُل اللهُمَّ بِحَقِّ مَنْ أَرْسَلتَهُ إِلى خَلقِكَ وبِكُل آيَةٍ هِيَ فِيهِ وبِحَقِّ كُل مُؤْمِنٍمَدَحْتَهُ فِيهِ وبِحَقِّهِ عَليْكَ ولا أَحَدَ أَعْرَفُ بِحَقِّهِ مِنْكَ يَا سَيِّدِي يَا سَيِّدِي يَا سَيِّدِي يَا اللهُ يَا اللهُ يَا اللهُ عَشْرَ مَرَّاتٍ، وبِحَقِّ مُحَمَّدٍ عَشْرَ مَرَّاتٍ، وبِحَقِّ كُل إِمَامٍ وتَعُدُّهُمْ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلى إِمَامِ زَمَانِكَ عَشْرَ مَرَّاتٍ، فَإِنَّكَ لا تَقُومُ مِنْ مَوْضِعِكَ حَتَّى يُقْضَى لكَ حَاجَتُكَ وتَيَسَّرَ لكَ أَمْرُك»(2).

وجَاءَ رَجُل إِلى سَيِّدِنَا الصَّادِقِ (عليه السلام)، فَقَال لهُ: يَا سَيِّدِي، أَشْكُو إِليْكَ دَيْناً رَكِبَنِي وسُلطَاناً غَشَمَنِي، وأُرِيدُ أَنْ تُعَلمَنِي دُعَاءً أَغْتَنِمُ بِهِ غَنِيمَةً أَقْضِي بِهَا دَيْنِي وأُكفَى بِهَا ظُلمَ سُلطَانِي. فَقَال: «إِذَا جَنَّكَ الليْل، فَصَل رَكْعَتَيْنِ، اقْرَأْ فِي الأُولى مِنْهُمَا الحَمْدَ وآيَةَ الكُرْسِيِّ، وفِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ الحَمْدَ وآخِرَ الحَشْرِ (لوْ أَنْزَلنا هذَا القُرْآنَ عَلى جَبَل) إِلى خَاتِمَةِ السُّورَةِ، ثُمَّ خُذِ المُصْحَفَ فَدَعْهُ عَلى

ص: 63


1- إقبال الأعمال: ج 1 ص187.
2- إقبال الأعمال: ج 1 ص187.

رَأْسِكَ وقُل: بِهَذَا القُرْآنِ وبِحَقِّ مَنْ أَرْسَلتَهُ بِهِ، وبِحَقِّ كُل مُؤْمِنٍ مَدَحْتَهُ فِيهِ، وبِحَقِّكَ عَليْهِمْ، فَلا أَحَدَ أَعْرَفُ بِحَقِّكَ مِنْكَ، بِكَ يَا اللهُ عَشْرَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ تَقُول: يَا مُحَمَّدُ عَشْرَ مَرَّاتٍ، يَا عَليُّ عَشْرَ مَرَّاتٍ، يَا فَاطِمَةُ عَشْرَ مَرَّاتٍ، يَا حَسَنُ عَشْرَ مَرَّاتٍ، يَا حُسَيْنُ عَشْرَ مَرَّاتٍ، يَا عَليَّ بْنَ الحُسَيْنِ عَشْرَ مَرَّاتٍ، يَا مُحَمَّدَ بْنَ عَليٍّ عَشْرَ مَرَّاتٍ، يَاجَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَشْرَ مَرَّاتٍ، يَا مُوسَى بْنَ جَعْفَرٍ عَشْرَ مَرَّاتٍ، يَا عَليَّ بْنَ مُوسَى عَشْرَ مَرَّاتٍ، يَا مُحَمَّدَ بْنَ عَليٍّ عَشْرَ مَرَّاتٍ، يَا عَليَّ بْنَ مُحَمَّدٍ عَشْرَ مَرَّاتٍ، يَا حَسَنَ بْنَ عَليٍّ عَشْرَ مَرَّاتٍ، يَا حُجَّةُ عَشْرَ مَرَّاتٍ. ثُمَّ تَسْأَل اللهَ تَعَالى حَاجَتَكَ». قَال: فَمَضَى الرَّجُل وعَادَ إِليْهِ بَعْدَ مُدَّةٍ، قَدْ قَضَى دَيْنَهُ، وصَلحَ لهُ سُلطَانُهُ، وعَظُمَ يَسَارُهُ(1).

الدفاع عن المظلوم

مسألة: يجب الدفاع عن المظلوم وتنويع الأساليب في ذلك.

فإن الصديقة الطاهرة (عليها الصلاة والسلام) دافعت عن أول مظلوم وهو الإمام علي (عليه الصلاة والسلام) بأنواع الدفاع، كما هو مبين في مواضع من هذا الكتاب، ومنه ما سيأتي في الحديث اللاحق، ومنه ما تدل عليه هذه الرواية من تهديدها القوم بالدعاء عليهم وخروجها إلى القبر الشريف، مما شكل ضغطاً اجتماعياً هائلاً على الغاصبين، ومما أخافهم ومن معهم لما رأوا من بوادر استجابة الدعاء، كارتفاع الحيطان.

ص: 64


1- الأمالي، للطوسي: ص292 المجلس الحادي عشر ح14، وسائل الشيعة:ج 8 ص125 ب24 باب استحباب الصلاة لدفع شر السلطان ح1.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، وَعَنْ سَلمَانَ الفَارِسِيِ: «أَنَّهُ لمَّا اسْتَخْرَجَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) مِنْ مَنْزِلهِ، خَرَجَتْ فَاطِمَةُ (عليها السلام) حَتَّى انْتَهَتْ إِلى القَبْرِ فَقَالتْ: خَلوا عَنِ ابْنِ عَمِّي فَوَ الذِي بَعَثَ مُحَمَّداً بِالحَقِّ لئِنْ لمْ تُخَلوا لأَنْشُرَنَّ شَعْرِي ولأَضَعَنَ قَمِيصَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) عَلى رَأْسِي ولأَصْرُخَنَّ إِلى اللهِ تَعَالى، فَمَا نَاقَةُ صَالحٍ بِأَكْرَمَ عَلى اللهِ مِنْ وَلدَيَّ، قَال سَلمَانُ: فَرَأَيْتُ واللهِ أَسَاسَ حِيطَانِ المَسْجِدِ تَقَلعَتْ مِنْ أَسْفَلهَا حَتَّى لوْ أَرَادَ رَجُل أَنْ يَنْفُذَ مِنْ تَحْتِهَا نَفَذَ، فَدَنَوْتُ مِنْهَا وقُلتُ: يَا سَيِّدَتِي ومَوْلاتِي إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتَعَالى بَعَثَ أَبَاكِ رَحْمَةً فَلا تَكُونِي نَقِمَةً، فَرَجَعَتِ الحِيطَانُ حَتَّى سَطَعَتِ الغَبَرَةُ مِنْ أَسْفَلهَا فَدَخَلتْ فِي خَيَاشِيمِنَا»(1).

وقول الصديقة (عليها السلام): «فما ناقة صالح بأكرم على الله من ولديّ» يراد به كما أن الله سبحانه استجاب دعاء صالح لما عقروا الناقة فإنه سيستجيب دعائي حين أدعوه تعالى.

أو كما أن الله عزوجل استجاب دعاءالنبي صالح (عليه السلام) في حق الناقة، يستجيب دعائي في حق أولادي.

ولعل الأظهر أنه كما انتقم الله تعالى لناقة صالح بدعائه (عليه السلام) لما عقروها وظلموها، كذلك سينتقم الله سبحانه لأبنيّ هذين لما ظلموهما بإخراج أبيهما قسراً وعدواناً، وقصدهم قتله (صلوات الله عليه)، لولا تهديد الصديقة (عليها السلام) بالدعاء عليهم، حتى ورد: أن جدران المسجد ارتفعت عن الأرض كادت

ص: 65


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام): ج 3 ص340، بحار الأنوار: ج 43 ص47 ب3 مناقبها وفضائلها وبعض أحوالها ومعجزاتها (صلوات الله عليها).

تقلب عليهم أو تخسف الأرض بهم، لولا أن أرسل الإمام علي (عليه السلام) سلمان إليها (صلوات الله عليها) يدعوها للصبر.

فإن ذلك القدر من التهديد ولما رأوه من آثار البدء بدعائها (عليها السلام) كان كافياً لارتداعهم.

وحاصل قولها (عليها السلام): كما انتقم الله لناقة صالح (عليه السلام) سينتقم لولديّ منكم، إذ ليست أكرم على الله تعالى منهما.

الصراخ إلى الله

مسألة: يستحب الصراخ إلى الله سبحانه وتعالى في الجملة.

ومن المعلوم أن الصراخ أقرب إلى الإجابة، لأنه يدل على الاستغاثة فلاينافي ذلك قوله سبحانه: «ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وخُفْيَةً»(1)، وقوله تعالى: «وَاذْكُرْ رَبَّكَ في نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وخيفَةً ودُونَ الجَهْرِ مِنَ القَوْل»(2)، فإن الآية في الأحوال العادية، وإثبات الشيء لا ينفي ما عداه، وإلا ففي بعض الأحوال يستحب الصراخ.

كما ورد عنهم (عليهم السلام) بالنسبة إلى الشعائر الحسينية: «وَارْحَمْ تِلكَ الصَّرْخَةَ التِي كَانَتْ لنَا»(3).

وقد ورد في باب الحج أن جبرئيل أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالعج

ص: 66


1- سورة الأعراف: 55.
2- سورة الأعراف: 205.
3- كامل الزيارات: ص117 الباب الأربعون ح2.

والثج، ثم فسّر العج بالصراخ عند قولهم: «لبيك»، والثج بإراقة الدماء في منى، وقد روي أنهم بحّت أصواتهم.

ففي الحديث: «إِنَّ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) لمَّا أَحْرَمَ أَتَاهُ جَبْرَئِيل (عليه السلام) فَقَال لهُ: مُرْ أَصْحَابَكَ بِالعَجِّ وَ الثَّجِّ، وَالعَجُّ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلبِيَةِ، وَالثَّجُّ نَحْرُ البُدْنِ، وَقَال: قَال جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: مَا بَلغْنَا الرَّوْحَاءَ حَتَّى بَحَّتْ أَصْوَاتُنَا(1).

وقال الإمام الصادق (عليه السلام): قَالأَبِي (عليه السلام): قَال: عَليٌّ (عليه السلام): سَمِعْتُ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَخْطُبُ بِالنَّاسِ يَوْمَ الأَضْحَى وهُوَ يَقُول: «أَيُّهَا النَّاسُ هَذَا يَوْمُ الثَّجِّ والعَجِ، الثَّجُ تُهَرِيقُونَ فِيهِ الدِّمَاءَ، فَمَنْ صَدَقَتْ نِيَّتُهُ كَانَ أَوَّل قَطْرَةٍ كَفَّارَةً لكُل ذَنْبٍ، وإِنَّ العَجَّ الدُّعَاءُ فِيهِ، فَعِجُّوا إِلى اللهِ تَعَالى، فَوَ الذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) بِيَدِهِ لا يَنْصَرِفُ مِنْ هَذَا المَوْقِفِ أَحَدٌ إلاّ مَغْفُوراً لهُ، إلاّ صَاحِبُ كَبِيرَةٍ مِنَ الكَبَائِرِ، مُصِرٌّ عَليْهَا، لا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِالإِقْلاعِ عَنْهَا»(2).

وفي مجمع البحرين: «أَفْضَل الأَعْمَال إِلى اللهِ تَعَالى العَجُّ والثَّجُ»، فالعج رفع الصوت في التلبية، والثَّجُ إسالة الدماء من الذبح والنحر في الأضاحي(3).

وكذلك كان أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) بعد مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) يصرخون حتى بحت الأصوات.

ص: 67


1- الكافي: ج4 ص336 باب التلبية ح5.
2- النوادر، للراوندي: ص42.
3- مجمع البحرين: ج 2 ص283 مادة (ثج).

قال الشاعر:

أصواتها بحّت فهن نوائح *** يندبن قتلاهن بالإيماء(1).

وفي دعاء الندبة: «فَلْيَصْرَخالصّارِخُون، وَيَضَجّ الضّاجُونَ، وَيَعِجَّ العاجُّونَ»(2) الدعاء.

حرمة الإكراه والإجبار

مسألتان: إكراه الغير وإجباره محرم في الشريعة، وتدل عليه الأدلة العقلية والنقلية. وما قام به القوم من استخراج أمير المؤمنين (عليه السلام) للبيعة كرهاً، فإنه من أكبر المحرمات وأشدها.

فإن التصرف في إنسان بغير رضاه من إجلاس أو إخراج أو إدخال أو ما أشبه كله حرام، فالناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم، وأما بالنسبة إلى الوصي (عليه الصلاة والسلام) فالحرام آكد من جهات متعددة.

قال تعالى: «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ»(3).

وقَال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ النَّاسَ مُسَلطُونَ عَلى أَمْوَالهِمْ»(4).

وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) فِي حَدِيثٍ قَال: سَأَلهُ رَجُل مِنْ أَهْل النِّيل عَنْ أَرْضٍاشْتَرَاهَا بِفَمِ النِّيل، وأَهْل الأَرْضِ يَقُولونَ هِيَ أَرْضُهُمْ وأَهْل الأُسْتَانِ

ص: 68


1- راجع ديوان صالح الكواز: ص18.
2- المزار الكبير، لابن المشهدي: ص578 الدعاء للندبة.
3- سورة البقرة: 256.
4- بحار الأنوار: ج 2 ص272 ب33 ما يمكن أن يستنبط من الآيات والأخبار من متفرقات مسائل أصول الفقه ح7.

يَقُولونَ هِيَ مِنْ أَرْضِنَا، فَقَال: «لا تَشْتَرِهَا إلاّ بِرِضَا أَهْلهَا»(1).

النساء والنهي عن المنكر

مسألة: يجب على النساء النهي عن المنكر، كما يجب على الرجال، ويجب عليهن الدفاع عن المظلوم كما يجب على الرجال، كل ذلك مع حفظ الموازين الشرعية.

وذلك للإطلاقات والعمومات، ويدل عليه أيضاً فعل الصديقة (صلوات الله عليها) حيث (خرجت فاطمة (عليها السلام) حتى انتهت إلى القبر) فإن فعلها كقولها وتقريرها حجة، والفعل بما هو هو وإن كان لا جهة له إلاّ أنه بالقرائن المقامية ربما يدل على الوجوب، ومنه المقام.

قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «إِذَا ظَهَرَتِ البِدَعُ فِي أُمَّتِي فَليُظْهِرِ العَالمُعِلمَهُ فَمَنْ لمْ يَفْعَل فَعَليْهِ لعْنَةُ اللهِ»(2).

وقَال (صلى الله عليه وآله): «إِذَا رَأَيْتُمْ أَهْل الرَّيْبِ والبِدَعِ مِنْ بَعْدِي فَأَظْهِرُوا البَرَاءَةَ مِنْهُمْ، وأَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ والقَوْل فِيهِمْ والوَقِيعَةَ وبَاهِتُوهُمْ كَيْلا يَطْمَعُوا فِي الفَسَادِ فِي الإِسْلامِ ويَحْذَرَهُمُ النَّاسُ ولا يَتَعَلمُوا مِنْ بِدَعِهِمْ، يَكْتُبِ اللهُ لكُمْ بِذَلكَ الحَسَنَاتِ ويَرْفَعْ لكُمْ بِهِ الدَّرَجَاتِ فِي الآخِرَةِ»(3).

ص: 69


1- وسائل الشيعة: ج 17 ص334 ب1 باب اشتراط كون المبيع مملوكا أو مأذونا في بيعه وعدم جواز بيع ما لا يملكه وعدم وجوب أداء الثمن وحكم بيع الخمر والخنزير ح3.
2- الكافي: ج 1 ص54 باب البدع والرأي والمقاييس ح2.
3- الكافي: ج 2 ص375 باب مجالسة أهل المعاصي ح4.

إني ابنة نبيكم

اشارة

روي أن علياً (عليه السلام) حمل فاطمة (عليها السلام) على أتان(1)، عليه كساء له خمل(2)، فدار بها أربعين صباحاً في بيوت المهاجرين والأنصار، والحسن والحسين (عليهما السلام) معها وهي تقول: «يا معشر المهاجرين والأنصار، انصروا الله فإني ابنة نبيكم، وقد بايعتم رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم بايعتموه أن تمنعوه وذريته مما تمنعون منه أنفسكم وذراريكم ففوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ببيعتكم». قال: فما أعانها أحد ولا أجابها ولا نصرها(3).

-------------------------

الظلم وتذكير الناس

مسألة: اللازم تذكير الناس بظلم الظالم للصد عنه، أو بظلمهم، ولو مع احتمال الارتداع.فإن التذكير بالظلم والاستنصار على الظلم راجح، وهو بين مستحب

ص: 70


1- الأتان: الحمارة، وجمعها: أُتُن، وأُتْن، وأَتُن.
2- الخمل: ما هو كالزغب على وجه الكساء، أو الطنفسة أو نحوها، وهو من أصل النسيج.
3- الاختصاص: ص184 حديث فدك، بحار الأنوار: ج 29 ص191 ب11 باب نزول الآيات في أمر فدك وقصصه وجوامع الاحتجاج فيه وفيه قصة خالد وعزمه على قتل أمير المؤمنين (عليه السلام) ح39.

وواجب، خصوصاً إذا كان الظلم فادحاً والمظلوم هو حجة من الله على الخلق جميعاً.

فمن الواجب على الإنسان أن لا يظلم أحداً، وأن لا يقبل الظلم من أحد، قال تعالى: «لا تَظْلمُونَ ولا تُظْلمُونَ»(1).

وفي دعاء الإمام السجاد (عليه الصلاة والسلام): «اللهُمَّ فَكَمَا كَرَّهْتَ إِليَّ أَنْ أُظْلمَ فَقِنِي مِنْ أَنْ أَظْلم»(2)، كما في الصحيفة السجادية.

وعَنْ هَارُونَ بْنِ خَارِجَةَ قَال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُول فِي آخِرِ كَلامِهِ حِينَ أَفَاضَ: «اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَظْلمَ أَوْ أُظْلمَ أَوْ أَقْطَعَ رَحِماً أَوْ أُوذِيَ جَاراً»(3).

وعن أَبي جَعْفَرٍ (عليه السلام) في أدعية السُّوقِ: «وأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ أَظْلمَ أَوْ أُظْلمَ وأَعُوذُ بِكَ مِنْ صَفْقَةٍ خَاسِرَةٍ ويَمِينٍكَاذِبَةٍ»(4).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: إِذَا دَخَلتَ سُوقَكَ فَقُل: «اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلكَ مِنْ خَيْرِهَا وخَيْرِ أَهْلهَا وأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وشَرِّ أَهْلهَا اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ أَظْلمَ أَوْ أُظْلمَ أَوْ أَبْغِيَ أَوْ يُبْغَى عَليَّ أَوْ أَعْتَدِيَ أَوْ يُعْتَدَى عَليَّ»(5) الدعاء.

ص: 71


1- سورة البقرة: 279.
2- الصحيفة السجادية: الدعاء 14 من دعائه (عليه السلام) إذا اعتدي عليه أو رأى من الظالمين ما لا يحب.
3- الكافي: ج 4 ص467 باب الإفاضة من عرفات ح3.
4- الكافي: ج 5 ص155 باب من ذكر الله تعالى في السوق ح1.
5- الكافي: ج 5 ص156 باب من ذكر الله تعالى في السوق ح2.

وفي الدعاء: «اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلكَ عِيشَةً هَنِيئَةً، ومِيتَةً سَوِيَّةً، ومَرَدّاً غَيْرَ مُخْزٍ ولا فَاضِحٍ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَذِل أَوْ أَضِل أَوْ أَظْلمَ أَوْ أُظْلمَ أَوْ أَجْهَل أَوْ يُجْهَل عَليَّ، يَا ذَا العَرْشِ العَظِيمِ والمَنِّ القَدِيمِ تَبَارَكْتَ وتَعَاليْتَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ»(1).

فضح الظالم وغيبته

مسألة: يجوز بالمعنى الأعم فضح الظالم، ومن مصاديقه غيبته، شخصاً كان أو جماعة.

فإن الصديقة الزهراء (عليها الصلاةوالسلام) كانت إذا ذهبت إلى بيوت المهاجرين والأنصار ذكّرتهم بالظلم التي وقع عليها، وذلك فضح للظالم وغيبة له، وقد ذكر الفقهاء استثناء ذلك من حرمة الغيبة.

والجواز هنا بالمعنى الأعم فإنه قد يجب، والآية الكريمة: «لا يُحِبُّ اللهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْل إلاّ مَنْ ظُلِمَ»(2) تجوّز الجهر به، سواء أمام الظالم أو في غيبته.

وفي آية أخرى: «وَلمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلمِهِ فَأُولئِكَ ما عَليْهِمْ مِنْ سَبيل * إِنَّمَا السَّبيل عَلى الذينَ يَظْلمُونَ النَّاسَ ويَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ»(3)

وفي تفسير علي بن إبراهيم: وقوله: «لا يُحِبُّ اللهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْل

ص: 72


1- الدروع الواقية: ص144 اليوم الثالث والعشرون.
2- سورة النساء: 148.
3- سورة الشورى: 41 - 42.

إلاّ مَنْ ظُلِمَ»(1) أي: لا يحب أن يجهر الرجل بالظلم والسوء ويظلم، إلاّ من ظلم فقد أطلق له أن يعارضه بالظلم (2).

وقال الشيخ الأعظم (قدس سره): (ويؤيد الحكم فيه إنّ في منع المظلوم من هذا الذي هو نوع من التّشفى حرجاً عظيماً، ولأنّ في تشريع الجواز مظنّة ردع للظّالم وهى مصلحة خالية عن مفسدة فيثبتالجواز، لأنّ الأحكام تابعة للمصالح)(3).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مطل الواجد يحل عرضه وعقوبته»(4).

المبادرة إلى النهي عن المنكر

مسألة: تجب المبادرة إلى النهي عن المنكر، فإن الأمر وإن لم يدل على الفور بذاته إلاّ أنه في مثل أدلة النهي عن المنكر ظاهر في الفور، لمبغوضية المنكر من أول آناء وقوعه، والعلم بإرادة الشارع عدم تحققه أصلاً، وذلك هو الظاهر من فعل الصديقة (صلوات الله عليها) حسب هذه الرواية، فإنه (لما استخرج القوم أمير المؤمنين (عليه السلام) خرجت) وهو ظاهر في الفورية العرفية، بل وربما الدقية أيضاً.

ص: 73


1- سورة النساء: 148.
2- تفسير القمي: ج 1 ص157.
3- كتاب المكاسب: ج 1 ص348 الثاني: تظلم المظلوم وإظهار ما فعل به الظالم وإن كان متستراً به.
4- بحار الأنوار: ج 72 ص231 ب66 الغيبة.

رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) أَنَّهُ قَال: «لا تَزَال أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا أَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ ونَهَوْا عَنِ المُنْكَرِ وتَعَاوَنُوا عَلى البِرِّ والتَّقْوَى، فَإِذَا لمْ يَفْعَلوا ذَلكَ نُزِعَتْ مِنْهُمُ البَرَكَاتُ وسُلطَ بَعْضُهُمْعَلى بَعْضٍ ولمْ يَكُنْ لهُمْ نَاصِرٌ فِي الأَرْضِ ولا فِي السَّمَاءِ»(1).

وقد روي: «لا يَحِل لعَيْنٍ مُؤْمِنَةٍ تَرَى اللهَ يُعْصَى فَتَطْرِفَ حَتَّى تُغَيِّرَهُ»(2).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «كَانَ رَجُل شَيْخٌ نَاسِكٌ يَعْبُدُ اللهَ فِي بَنِي إِسْرَائِيل، فَبَيْنَا هُوَ يُصَلي وهُوَ فِي عِبَادَتِهِ إِذْ بَصُرَ بِغُلامَيْنِ صَبِيَّيْنِ قَدْ أَخَذَا دِيكاً وهُمَا يَنْتِفَانِ رِيشَهُ فَأَقْبَل عَلى مَا هُوَ فِيهِ مِنَ العِبَادَةِ ولمْ يَنْهَهُمَا عَنْ ذَلكَ، فَأَوْحَى اللهُ إِلى الأَرْضِ: أَنْ سِيخِي بِعَبْدِي، فَسَاخَتْ بِهِ الأَرْضُ فَهُوَ يَهْوِي فِي الدُّرْدُورِ أَبَدَ الآبِدِينَ ودَهْرَ الدَّاهِرِين»(3).

الفرائض والمشاهد المشرفة

مسألة: يمكن الاستفادة من المشاهد المشرفة للمعصومين (عليهم السلام) وذريتهم والصالحين من العلماء للتأكيد على الفرائض وأدائها بما يناسب تلك المقامات الطاهرة، ومنها النهي عن المنكر والتصدي للظالمينوفضحهم، كما صنعت الصديقة (صلوات الله عليها) حيث خرجت حتى انتهت إلى القبر الشريف.

ص: 74


1- وسائل الشيعة: ج 16 ص123 ب1ح18.
2- الأمالي، للطوسي: ص55 المجلس الثاني ح45.
3- مستدرك الوسائل: ج 12 ص180 ب1 باب وجوبهما وتحريم تركهما ح10.

هذا كله مع حفظ ما يناسب تلك المشاهد من الكرامة والتعظيم، ومع رعاية حق الزوار في الزيارة والدعاء.

نعم لا ينبغي الاستفادة الشخصية للأحزاب والفئات والجهات وما أشبه ممن تريد مصالحها لا مصالح الأمة.

عَنِ الصَّادِقِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ (عليهم

السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) لعَليٍّ (عليه السلام): «يَا أَبَا الحَسَنِ، إِنَّ اللهَ جَعَل قَبْرَكَ وقَبْرَ وُلدِكَ بِقَاعاً مِنْ بِقَاعِ الجَنَّةِ، وعَرَصَاتٍ مِنْ عَرَصَاتِهَا، وإِنَّ اللهَ عَزَّ وجَل جَعَل قُلوبَ نُجَبَاءَ مِنْ خَلقِهِ وصَفْوَةٍ مِنْ عِبَادِهِ تَحِنُّ إِليْكُمْ، وتَحْتَمِل المَذَلةَ والأَذَى فِيكُمْ، فَيَعْمُرُونَ قُبُورَكُمْ ويُكْثِرُونَ زِيَارَتَهَا تَقَرُّباً مِنْهُمْ إِلى اللهِ، ومَوَدَّةً مِنْهُمْ لرَسُولهِ، أُولئِكَ يَا عَليُّ المَخْصُوصُونَ بِشَفَاعَتِي، والوَارِدُونَ حَوْضِي، وهُمْ زُوَّارِي وجِيرَانِي غَداً فِي الجَنَّةِ، يَا عَليُّ مَنْ عَمَرَ قُبُورَكُمْ وتَعَاهَدَهَا فَكَأَنَّمَا أَعَانَ سُليْمَانَ بْنَ دَاوُدَ عَلى بِنَاءِ بَيْتِ المَقْدِسِ، ومَنْ زَارَ قُبُورَكُمْ عَدْل ذَلكَ ثَوَابُ سَبْعِينَ حَجَّةً بَعْدَ حَجَّةِ الإِسْلامِ، وخَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ حَتَّى يَرْجِعَ مِنْ زِيَارَتِكُمْ كَيَوْمَ وَلدَتْهُ أُمُّهُ، فَأَبْشِرْ يَا عَليُّ وبَشِّرْ أَوْليَاءَكَ ومُحِبِّيكَ مِنَ النَّعِيمِ بِمَا لا عَيْنٌ رَأَتْ ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ ولاخَطَرَ عَلى قَلبِ بَشَرٍ، ولكِنَّ حُثَالةً مِنَ النَّاسِ يُعَيِّرُونَ زُوَّارَ قُبُورِكُمْ بِزِيَارَتِكُمْ كَمَا تُعَيَّرُ الزَّانِيَةُ بِزِنَاهَا، أُولئِكَ شِرَارُ أُمَّتِي لا تَنَالهُمْ شَفَاعَتِي ولا يَرِدُونَ حَوْضِي»(1).

ص: 75


1- تهذيب الأحكام: ج 6 ص107 ح5.

مراكز توجه الناس

مسألة: ينبغي الخروج إلى مراكز توجه الناس، عند إرادة التصدي للحكام الظلمة، مع ملاحظة الشروط الشرعية المذكورة في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيره.

قَال أبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام) لأبان بن تغلب: «اجْلسْ فِي مَسْجِدِ المَدِينَةِ وَأَفْتِ النَّاسَ، فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ يُرَى فِي شِيعَتِي مِثْلك»(1).

الاستنصار للحق

مسألة: يجب الاستنصار للحق، وقد يكون مستحباً، كل في مورده، وقد استنصرت الصديقة (عليها الصلاة والسلام) لأمير المؤمنين (عليه السلام) في أمر الخلافة، وهو واجب، كما استنصرت لنفسها كذلك.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حديث: «ومَنْ أَعَانَ ظَالماً ليُبْطِل حَقّاً لمُسْلمٍ فَقَدْ بَرِئَ مِنْ ذِمَّةِ الإِسْلامِ وذِمَّةِ اللهِوذِمَّةِ رَسُولهِ، ومَنْ دَعَا لظَالمٍ بِالبَقَاءِ فَقَدْ أَحَبَّ أَنْ يُعْصَى اللهُ، ومَنْ ظُلمَ بِحَضْرَتِهِ مُؤْمِنٌ أَوِ اغْتِيبَ وكَانَ قَادِراً عَلى نَصْرِهِ ولمْ يَنْصُرْهُ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ومِنْ رَسُولهِ، ومَنْ نَصَرَهُ فَقَدِ اسْتَوْجَبَ الجَنَّةَ مِنَ اللهِ تَعَالى، وإِنَّ اللهَ تَعَالى أَوْحَى إِلى دَاوُدَ (عليه السلام): قُل لفُلانٍ الجَبَّارِ إِنِّي لمْ أَبْعَثْكَ لتَجْمَعَ الدُّنْيَا عَلى الدُّنْيَا، ولكِنْ لتَرُدَّ عَنِّي دَعْوَةَ المَظْلومِ وتَنْصُرَهُ،

ص: 76


1- مستدرك الوسائل: ج 17 ص315 ب11 باب وجوب الرجوع في القضاء و الفتوى إلى رواة الحديث من الشيعة فيما رووه عن الأئمة (عليهم السلام) من أحكام الشريعة لا فيما يقولونه برأيهم ح14، عن رجال النجاشي: ص10 أبان بن تغلب بن رباح.

فَإِنِّي آليْتُ عَلى نَفْسِي أَنْ أَنْصُرَهُ وأَنْتَصِرَ لهُ مِمَّنْ ظُلمَ بِحَضْرَتِهِ ولمْ يَنْصُرْه (1).

وقَال (صلى الله عليه وآله): «مَنْ أُذِل عِنْدَهُ مُؤْمِنٌ ولمْ يَنْصُرْهُ وهُوَ قَادِرٌ عَلى نَصْرِهِ، أَذَلهُ اللهُ عَلى رُءُوسِ الخَلائِقِ يَوْمَ القِيَامَة»(2).

المرأة واستنصارها

مسألة: يجوز الاستنصار بالمرأة، وطلب النصرة منها، إذا لم يترتب عليه محذور أهم، وربما وجب كما إذا توقف إحقاق الحق عليه، مع حفظ الموازين الشرعية.

كما نصرت الصديقة الصغرى زينبالكبرى (عليها السلام) أخاها الحسين في نهضته ضد الظلم والطغيان، وكان من نصرتها خطبتها في الكوفة(3)، وخطبتها في الشام(4).

نصرة العترة

مسألة: تجب نصرة أهل البيت (عليهم السلام) وإجابتهم وإعانتهم.

وقول الصديقة (عليها الصلاة والسلام) وطلبها وفاء القوم دليل عليه، وهذا الوفاء واجب كما لا يخفى، خصوصاً في مثل المقام حيث إن الظلم خطير كبير،

ص: 77


1- إرشاد القلوب: ج 1 ص76.
2- أعلام الدين: ص354.
3- الأمالي، للطوسي: ص91 المجلس الثالث ح51.
4- الاحتجاج: ج 2 ص308.

وحيث إن المظلوم هو أعظم خلائق الله وهو المعصوم (عليه السلام)، وحيث المطالب للنصرة هي الصديقة الكبرى (عليه السلام) الذي قال فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إنّ الله يغضب لغضب فاطمة، ويرضى لرضاها»(1).

والإجابة: قبولهم الإتيان معها لأخذحقها (عليها السلام) وحق علي (عليه الصلاة والسلام).

والإعانة: المشاركة في ذلك.

والنصرة: استرجاع الحق، فهي أمور ثلاثة، وفي نهاية الحديث: «فما أعانها أحد ولا أجابها ولا نصرها».

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله):

«إِنِّي شَافِعٌ يَوْمَ القِيَامَةِ لأَرْبَعَةِ أَصْنَافٍ ولوْ جَاءُوا بِذُنُوبِ أَهْل الدُّنْيَا،

رَجُل نَصَرَ ذُرِّيَّتِي، ورَجُل بَذَل مَالهُ لذُرِّيَّتِي عِنْدَ المَضِيقِ، ورَجُل أَحَبَّ ذُرِّيَّتِي بِاللسَانِ وبِالقَلبِ، ورَجُل يَسْعَى فِي حَوَائِجِ ذُرِّيَّتِي إِذَا طُرِدُوا أَوْ شُرِّدُوا»(2).

وقَال أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «رَحِمَ اللهُ رَجُلا رَأَى حَقّاً فَأَعَانَ عَليْهِ، ورَأَى جَوْراً فَرَدَّهُ، وكَانَ عَوْناً بِالحَقِّ عَلى صَاحِبِهِ»(3).

وقَال (عليه السلام) فِي وَصِيَّتِهِ للحَسَنَيْنِ (عليهما السلام) عِنْدَ وَفَاتِهِ: «وقُولا

ص: 78


1- التعجب من أغلاط العامة: ص134، المعجم الكبير: ج1 ص66 ح182، المستدرك على الصحيحين: ج3 ص154، ميزان الاعتدال: ج2 ص492 ح4560، مجمع الزوائد: ج9 ص203، كنز العمّال: ج13 ص674 ح37725.
2- الكافي:ج 4 ص60 باب الصدقة لبني هاشم ومواليهم وصلتهم ح9.
3- عيون الحكم والمواعظ: ص261 ح4769.

بِالحَقِّ واعْمَلا للأَجْرِ، وكُونَا للظَّالمِ خَصْماً وللمَظْلومِ عَوْناً»(1).

خذلان العترة

مسألة: يحرم خذلان أهل البيت (عليهم السلام) وعدم نصرتهم.

والفرق بين الخذلان وعدم النصرة هو أن عدم النصرة حيادي، بينما الخذلان عمل سلبي، وكلاهما حرام، وإذا أطلقا كان أحدهما في قبال الآخر، أما إذا أطلق أحدهما فيراد به الآخر أيضاً، من قبيل: الفقير والمسكين، إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا.

قال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) فِي عَليٍّ (عليه السلام): «اللهُمَّ وَال مَنْ وَالاهُ، وعَادِ مَنْ عَادَاهُ، وانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ، واخْذُل مَنْ خَذَلهُ»(2).

ص: 79


1- بحار الأنوار: ج 97 ص90 ب1 وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفضلهما ح75.
2- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): ص562 ح331، عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج 2 ص47 ب31 ح183، الإرشاد: ج 1 ص176، شواهد التنزيل: ج 1 ص201 ح211، بشارة المصطفى لشيعة المرتضى: ج 2 ص129، دلائل الصدق لنهج الحق: ج 4 ص314، تفسير الحبري: ص262 ح24 وص285- 287 ح41، تفسير الثعلبي: ج4 ص92، أسباب النزول للواحدي: ص112، تاريخ دمشق: ج42 ص237، تفسير الفخر الرازي: ج12 ص53، مطالب السؤول: ص79، فرائد السمطين: ج 1 ص158 ح120، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ المالكي: ص42، الدرّ المنثور: ج3 ص117، ينابيع المودّة: ج1 ص359.

التكرار

مسألة: يستحب التكرار وقد يجب في الجملة، وذلك لاحتمال التأثير، ومع عدمه فلإتمام الحجة، فلا يكتفى بالمرة الواحدة إلاّ في موارد رجحانها، وفي هذه الرواية قام الإمام ومعه الصديقة الزهراء والسبطان (عليهم السلام) بطلب النصرة (أربعين) يوماً.

فإن التكرار يوجب قوة الدعوة، وحث الطرف، وكثيراً ما يسبب التحقق والإنجاز.

قَال أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «بِتَكْرَارِ الفِكْرِ يَتَحَاتُّ الشَّكُّ»(1).

وَكَانَ النبي (صلى الله عليه وآله) يَقُول فِي مَرَضِهِ: «نَفِّذُوا جَيْشَ أُسَامَةَ» ويُكَرِّرُ ذَلك (2).

وعَنِ الصَّادِقِ (عليه السلام): «أَنَّ زَيْنَ العَابِدِينَ (عليه السلام) بَكَى عَلى أَبِيهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، صَائِماً نَهَارَهُ، قَائِماً ليْلهُ، فَإِذَا حَضَرَ الإِفْطَارُ جَاءَ غُلامُهُ بِطَعَامِهِ وشَرَابِهِ فَيَضَعُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَيَقُول: كُل يَا مَوْلايَ، فَيَقُول: قُتِل ابْنُ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) جَائِعاً، قُتِل ابْنُ رَسُول اللهِ عَطْشَاناً، فَلا يَزَال يُكَرِّرُ ذَلكَ ويَبْكِي حَتَّىيُبَل طَعَامُهُ بِدُمُوعِهِ ويُمْزَجَ شَرَابُهُ بِدُمُوعِهِ، فَلمْ يَزَل كَذَلكَ حَتَّى لحِقَ بِاللهِ عَزَّ وجَل»(3).

ص: 80


1- عيون الحكم والمواعظ: ص188 ح3866.
2- إعلام الورى: ص133.
3- وسائل الشيعة: ج 3 ص282 ب87 باب جواز البكاء على الميت والمصيبة واستحبابه عند زيادة الحزن ح10.

وكان الإمام الكاظم (عليه السلام) يدعو كثيراً فيقول: «اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلكَ الرَّاحَةَ عِنْدَ المَوْتِ، والعَفْوَ عِنْدَ الحِسَابِ» ويكرّر ذلك (1).

الأربعون يوما

مسألة: قد يقال باستحباب أو وجوب التكرار في الاستنصار وشبهه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أربعين يوماً، إذا جمدنا على ظاهر ما صنعه أمير المؤمنين (عليه السلام) واستظهرنا الخصوصية في الأربعين(2).ويحتمل كونه من باب المصداق، لوفاء أربعين صباحاً بالمقصود، ووصولهم إلى كل من كان ينبغي أن يستنصر وإتمامهم للحجة في مثل ذلك الزمان.

نصرة الله

مسألة: يستحب بيان أن نصرة أهل البيت (عليهم السلام) نصرة الله تعالى، فإن الله سبحانه أمر بنصرتهم، ومن الواضح أن نصرتهم نصرة لمن أمر بها، ونصرة الله نصرة دينه وشريعته، قال سبحانه: «يا أَيُّهَا الذينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا

ص: 81


1- الإرشاد: ج 2 ص231، وسائل الشيعة: ج 7 ص10 ب2 باب استحباب إطالة سجدة الشكر وإكثار السجود ح9.
2- كما قد يستشم ذلك من مختلف النظائر وبعض الأدلة، قال تعالى: «وَبَلغَ أَرْبَعينَ سَنَةً» سورة الأحقاف: 15، وقال سبحانه: «فَتَمَّ ميقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعينَ ليْلةً» سورة الأعراف: 142، وكذا نصاب الغنم الأول أربعون، وشهادة أربعين مؤمناً للمؤمن المتوفى.. وهكذا.

اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَ يُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ»(1).

وعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُول: «عَليُّ بْنُ أَبِي طَالبٍ قَائِدُ البَرَرَةِ، وقَاتِل الفَجَرَةِ، مَنْصُورٌ مَنْ نَصَرَهُ، مَخْذُول مَنْ خَذَلهُ، الشَّاكُّ فِي عَليٍّ هُوَ الشَّاكُّ فِي الإِسْلامِ، وخَيْرُ مَنْ أُخَلفُ بَعْدِي، وخَيْرُ أَصْحَابِي عَليٌّ، لحْمُهُ لحْمِي، ودَمُهُ دَمِي، وأَبُو سِبْطَيَّ، ومِنْ صُلبِ الحُسَيْنِ تَخْرُجُ الأَئِمَّةُ التِّسْعَةُ، ومِنْهُمْ مَهْدِيُّ هَذِهِ الأُمَّةِ»(2).وعَنْ سَهْل بْنِ سَعْدٍ الأَنْصَارِيِّ، قَال: سَأَلتُ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) عَنِ الأَئِمَّةِ، فَقَالتْ: «كَانَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُول لعَليٍّ (عليه السلام): يَا عَليُّ أَنْتَ الإِمَامُ والخَليفَةُ بَعْدِي، وأَنْتَ أَوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا مَضَيْتَ فَابْنُكَ الحَسَنُ أَوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا مَضَى الحَسَنُ فَابْنُكَ الحُسَيْنُ أَوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا مَضَى الحُسَيْنُ فَابْنُكَ عَليُّ بْنُ الحُسَيْنِ أَوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا مَضَى عَليٌّ فَابْنُهُ مُحَمَّدٌ أَوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا مَضَى مُحَمَّدٌ فَابْنُهُ جَعْفَرٌ أَوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا مَضَى جَعْفَرٌ فَابْنُهُ مُوسَى أَوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا مَضَى مُوسَى فَابْنُهُ عَليٌ أَوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا مَضَى عَليٌّ فَابْنُهُ مُحَمَّدٌ أَوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا مَضَى مُحَمَّدٌ فَابْنُهُ عَليٌ أَوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا مَضَى عَليٌّ فَابْنُهُ الحَسَنُ أَوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا مَضَى الحَسَنُ فَالقَائِمُ المَهْدِيُ أَوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، يَفْتَحُ اللهُ تَعَالى بِهِ مَشَارِقَ الأَرْضِ ومَغَارِبَهَا، فَهُمْ أَئِمَّةُ الحَقِّ،

ص: 82


1- سورة محمد: 7.
2- كفاية الأثر في النص على الأئمة الإثني عشر: ص97.

وأَلسِنَةُ الصِّدْقِ، مَنْصُورٌ مَنْ نَصَرَهُمْ، مَخْذُول مَنْخَذَلهُم»(1).

نقض البيعة

مسألة: يحرم نقض البيعة الحقة.

فإن البيعة الصحيحة الشرعية يجب البقاء عليها والوفاء بها، فنقضها لا يجوز، على ما ذكرناه سابقاً في الحكمين في طرفي قضية واحدة، وقد دل على الحرمة روايات متعددة.

ولا يخفى أن حرمة نقض البيعة أمر آخر زائد على حرمة عدم الطاعة لمن نصبه الله ولياً وإماماً وخليفةً وقائداً، لبداهة حرمة عصيانه وإن لم تكن بيعة، أما البيعة فعقد موجب لمزيد التأكيد، لجريان عادتهم على الالتزام بها واعتبارها ملزمة، وقد أمضاها الشارع، فهي إلزام على إلزام، وهي كالقسم والحلف على أن يطيع ولي أمره وإمامه المعصوم، فلو خالف فقد عصى من جهتين.

قَال الرِّضَا (عليه السلام): «لا يَعْدَمُ المَرْءُ دَائِرَةَ السَّوْءِ مَعَ نَكْثِ الصَّفْقَةِ»(2).وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): أَنَّ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) قَال: «إِنَّ فِي النَّارِ لمَدِينَةً يُقَال لهَا الحَصِينَةُ، أَفَلا تَسْأَلونِّي مَا فِيهَا؟ فَقِيل لهُ: ومَا فِيهَا يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، قَال: فِيهَا أَيْدِي النَّاكِثِينَ»(3).

ص: 83


1- كفاية الأثر في النص على الأئمة الإثني عشر: ص95.
2- بحار الأنوار: ج 64 ص186 ب10 لزوم البيعة وكيفيتها وذم نكثها ح4.
3- بحار الأنوار: ج 64 ص186 ب10 لزوم البيعة وكيفيتها وذم نكثها ح6.

وعَنْ عَليٍّ (عليه السلام) قَال: «ثَلاثٌ مُوبِقَاتٌ، نَكْثُ البَيْعَةِ، وتَرْكُ السُّنَّةِ، وفِرَاقُ الجَمَاعَة»(1).

التذكير بالبيعة

مسألة: يستحب تذكير الناس ببيعتهم إذا نقضوها.

فإنه نوع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بالإضافة إلى أنه من شؤون أصول الدين، على ما ألمعنا إليه في بعض البنود السابقة.

وفي قضية الشوری قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «نَشَدْتُكُمْ بِاللهِ، هَل فِيكُمْ أَحَدٌ نَصَبَهُ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ بِأَمْرِ اللهِ تَعَالى، فَقَال: مَنْكُنْتُ مَوْلاهُ فَعَليٌّ مَوْلاهُ، اللهُمَّ وَال مَنْ وَالاهُ وعَادِ مَنْ عَادَاهُ، غَيْرِي»؟ قَالوا: لا(2).

عن الحكم عن أبي سليمان المؤذن: أن علياً (عليه السلام) نشد الناس من سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: «من كنت مولاه فعلي مولاه»، فشهد له قوم وأمسك زيد بن أرقم، فلم يشهد وكان يعلمها، فدعا علي (عليه السلام) عليه بذهاب البصر، فعمي، فكان يحدث الناس بالحديث بعد ما كف بصره(3).

ص: 84


1- مستدرك الوسائل: ج 11 ص369 ب49 باب جملة مما ينبغي تركه من الخصال المحرمة والمكروهة ح4.
2- الإحتجاج: ج 1 ص136.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 4 ص74.

لا زالت الظلامة

مسألة: حيث إن مظلومية أمير المؤمنين وفاطمة الزهراء (عليهما السلام) لا تزال قائمة بصورها العديدة، فإن واجب النصرة على الجميع لا زال قائماً.

وفي المناقب: وَقَدْ رَوَى الكَافَّةُ عَنْهُ أي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله: «اللهُمَّ إِنِّي أَسْتَعْدِيكَ عَلى قُرَيْشٍ فَإِنَّهُمْ ظَلمُونِي فِي الحَجَرِ والمَدَرِ»(1).

وفي حديث قَال عَليٌ (عليه السلام): «مَا زِلتُ مَظْلوماً مُنْذُ قَبَضَ اللهُ نَبِيَّهُ (صلى الله عليه وآله) إِلى يَوْمِ الناسِ هَذَا»(2).

وَرَوَى إِبْرَاهِيمُ بِإِسْنَادِهِ عَنِ المُسَيَّبِ بْنِ نَجِيَّةَ، قَال: بَيْنَمَا عَليٌّ (عليه السلام) يَخْطُبُ وأَعْرَابِيٌّ يَقُول: وَا مَظْلمَتَاهْ، فَقَال (عليه السلام): «ادْنُ»، فَدَنَا، فَقَال (عليه السلام): «لقَدْ ظُلمْتُ عَدَدَ المَدَرِ والمَطَرِ والوَبَرِ، وفِي رِوَايَةِ كَثِيرِ بْنِ اليَمَانِ: وَمَا لا يُحْصَى»(3).وروى أَبُو نُعَيْمٍ الفَضْل بْنُ دُكَيْنٍ بِإِسْنَادِهِ عَنْ حُرَيْثٍ قَال: إِنَّ عَليّاً (عليه السلام) لمْ يَقُمْ مَرَّةً عَلى المِنْبَرِ إلاّ قَال فِي آخِرِ كَلامِهِ قَبْل أَنْ يَنْزِل: «مَا زِلتُ مَظْلوماً مُنْذُ قَبَضَ اللهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وآله»(4).

وقال ابن أبي الحديد في شرح النهج:

ص: 85


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام)، لابن شهرآشوب: ج 2 ص115.
2- بحار الأنوار: ج28 ص372 تتميم.
3- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام)، لابن شهرآشوب: ج 2 ص115.
4- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام)، لابن شهرآشوب: ج 2 ص115.

واعلم أنّه قد تواترت الأخبار عنه (عليه السلام) بنحو من هذا القول، نحو قوله (عليه السلام): «ما زلت مظلوما منذ قبض الله رسوله (صلى الله عليه وآله) حتّى يوم الناس هذا».

وقوله (عليه السلام): «اللهمّ اجز قريشاً فانّها منعتني حقّي وغصبتني أمري».

وقوله (عليه السلام): «فجزت قريشا عنّي الجوازي، فإنّهم ظلموني حقّي واغتصبوني سلطان ابن أمّي».

وقوله (عليه السلام) وقد سمع صارخاً ينادي أنا مظلوم، فقال (عليه السلام): «هلم فلنصرخ معا فإنّي ما زلت مظلوماً».

وقوله (عليه السلام): «وإنّه ليعلم أنّ محلي منها محل القطب من الرّحى».وقوله (عليه السلام): «أرى تراثي نهباً».

وقوله (عليه السلام): «أصفيا بإنائنا وحملا الناس على رقابنا».

وقوله (عليه السلام): «إنّ لنا حقّاً إن نعطه نأخذه، وإن نمنعه نركب أعجاز الإبل وإن طال السرى».

وقوله (عليه السلام): ما زلت مستأثراً عليّ مدفوعاً عمّا أستحقّه وأستوجبه»(1).

ص: 86


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 9 ص306 و307.

مدى المظلومية

مسألة: يستحب بيان مدى مظلومية الصديقة فاطمة (عليها السلام) بحيث ما أعانها أحد من القوم ولا أجابها ولا نصرها.

فإن بيان ذلك فضح للظلمة، ويوجب التفاف الناس حول الصديقة (عليها السلام) أكثر فأكثر مما ينفع دين الناس ودنياهم، هذا بالإضافة إلى أن الله سبحانه قال: «قُل لا أَسْأَلكُمْ عَليْهِ أَجْرًا إلاّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى»(1)، وبيان مظلوميتها هو نوع من إظهار المودة(2)

عَنْ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَال: سَأَلتُ عَليَّ بْنَ الحُسَيْنِ بْنِ عَليٍّ (عليهما السلام) عَنْ هَذِهِ الآيَةِ: «قُل لا أَسْئَلكُمْ عَليْهِ أَجْراً إلاّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى»(3)، قَال: «هِيَ قَرَابَتُنَا أَهْل البَيْتِ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلى اللهُ عَليْهِ وآلهِ»(4).وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) فِي قَوْلهِ تَعَالى: «قُل لا أَسْئَلكُمْ عَليْهِ أَجْراً إلاّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى»(5)، قَال: «هُمُ الأَئِمَّةُ عليهم السَّلام»(6).

ص: 87


1- سورة الشورى: 23.
2- قال في تفسير الصافي: (إلا المودة في القربى) أن تودوا قرابتي وعترتي وتحفظوني فيهم، كذا في المجمع عن السجاد والباقر والصادق (عليهم السلام). انظر تفسير الصافي: ج 4 ص372، ومجمع البيان: ج9 ص43.
3- سورة الشورى: 23.
4- تفسير فرات الكوفي: ص391 ح523.
5- سورة الشورى: 23.
6- الكافي: ج 1 ص413 باب فيه نكت و نتف من التنزيل في الولاية ح7.

وعَنِ الحُسَيْنِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ (عليه السلام)، قَال: «خَطَبَ الحَسَنُ بْنُ عَليِّ بْنِ أَبِي طَالبٍ (عليهم السلام) حِينَ قُتِل عَليٌّ (عليه السلام) ثُمَّ قَال: وَإِنَّا مِنْ أَهْل بَيْتٍ افْتَرَضَ اللهُ مَوَدَّتَهُمْ عَلى كُل مُسْلمٍ حَيْثُ يَقُول:«لا أَسْئَلكُمْ عَليْهِ أَجْراً إلاّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لهُ فِيها حُسْناً»(1) فَاقْتِرَافُ الحَسَنَةِ مَوَدَّتَنَا أَهْل البَيْتِ»(2).

نصرة الناصر

مسألة: يجب إعانة وإجابة ونصرة من ينصر أهل البيت (عليهم السلام).

فإن نصر الناصر نصر للمنصور، والأمر يشمل التسبيب أيضاً، كما أن ملاكه موجود في كل زمان ومكان.قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في قصة غدير خم: «انصر من نصره، واخذل من خذله»(3).

وورد في مناشدة أمير المؤمنين (عليه السلام) طلحة بن عبيد الله: ثم إن امير المؤمنين (عليه السلام) استدعى طلحة بن عبيد الله، فقال له: إنما دعوتك يا أبا عبد الله لأذكرك ما قاله رسول الله (صلى الله عليه وآله) أما سمعته يقول: «اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله»؟ وأنت أول من

ص: 88


1- سورة الشورى: 23.
2- مسائل علي بن جعفر ومستدركاتها: ص328 الإمامة و فضل الأئمة (عَليْهِم السَّلام) ح817.
3- مسند أحمد: ج1 ص192 ح967، مناقب الخوارزمي: ص80، بناء المقالة الفاطمية في نقض الرسالة العثمانية: ص77.

بايعني، ثم نكثت بيعتك لي، وقد قال الله تعالى: «فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ»(1)، فقال: استغفر الله، وكان أمر الله قدراً مقدوراً(2).

لا يقال: كيف استجابة دعاء النبي (صلى الله عليه وآله) في ناصره وخاذله، ونحن نرى أن كثيراً من شيعة علي (عليه الصلاة والسلام) لم يُنصروا في كثير من المواقع، ولم يخُذل كثير من أعدائه وخاذليه؟

لأنه يقال:

أولاً: النصرة والخذلان بالمعنىالوافي لهما يكون في الآخرة، فالآخرة هي محط النظر الأول، قال تعالى: «وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى»(3)، وقال سبحانه: «إِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لهِيَ الحَيَوانُ لوْ كانُوا يَعْلمُون»(4)، والدنيا تكون في مرتبة ثانية من حيث النصرة والخذلان.

وثانياً: النصرة العظمى تكون في الدنيا في زمن الرجعة قال تعالى: «الحَقِّ ليُظْهِرَهُ عَلى الدِّينِ كُلّهِ»(5).

وثالثاً: إن من الواضح أنهم (عليه الصلاة والسلام) وناصريهم نُصروا، وخاذليهم خُذلوا طول التاريخ، فالنصرة لعلي (عليه السلام) وآل علي (عليهم السلام) مشاهد في الكتب والمنابر والمآذن وغير ذلك، كما نرى أن خاذليهم خُذلوا على

ص: 89


1- سورة الفتح: 10.
2- وقعة الجمل: ص138، مروج الذهب: ج2 ص374.
3- سورة الأعلى: 17.
4- سورة العنكبوت: 64.
5- سورة التوبة : 33، سورة الفتح: 28. سورة الصف: 9.

المنابر والمآذن والكتب وغيرها، فهو من قبيل قوله سبحانه: «إِنَّا لنَنْصُرُ رُسُلنا والذينَ آمَنُوا فِي الحَياةِ الدُّنْيا»(1)، وكم من مصائب دفعها الله تعالى عن شيعة علي (عليه السلام) ببركة دعاء رسول الله (صلى الله عليه وآله).

ورابعاً: من مصاديق نصرة الناصرين تثبيتهم على الحق، وهل من نصرة أعظممن ذلك؟

التضحية للأهداف المقدسة

مسألة: تجب التضحية للأهداف المقدسة، وأهمها مسألة الإمامة.

والتضحية أنواع، منها التضحية بماء الوجه لأجل نصرة المظلوم، وذلك مما قامت به الصديقة (صلوات الله عليها)، إذ لا يخفى على الفطن اللبيب أنها من أصعب الأمور على ذوي المكانة والمنزلة، فكيف بالعظماء، أن يخرجوا إلى بيوت الناس فيدورون عليها بيتاً بيتاً ويستنصرونهم وهم يعلمون، وبحسب الظاهر يظنون أو يحتملون، أنهم سيجبهون بالرد والرفض.

عن أبي جعفر محمد بن علي (عليهما السلام): «إن علياً حمل فاطمة (عليها السلام) على حمار، وسار بها ليلاً الى بيوت الأنصار، يسألهم النصرة، وتسألهم فاطمة الانتصار له، فكانوا يقولون: يا بنت رسول الله، قد مضت بيعتنا لهذا الرجل، لو كان ابن عمك سبق إلينا أبا بكر ما عدلنا به، فقال عليّ: أكنت أترك رسول الله ميتاً في بيته لا أجهزه، وأخرج إلى الناس أنازعهم في سلطانه. وقالت فاطمة: ما صنع أبو حسن إلاّ ما كان ينبغي له، وصنعوا هم ما الله حسبهم

ص: 90


1- سورة غافر: 51.

عليه»(1).

وفي الرواية: «فَلمَّا كَانَ الليْل حَمَل عَليٌّ (عليه السلام) فَاطِمَةَ (عليها السلام) عَلى حِمَارٍ وأَخَذَ بِيَدَيِ ابْنَيْهِ الحَسَنِ والحُسَيْنِ (عليهما السلام) فَلمْ يَدَعْ أَحَداً مِنْ أَصْحَابِ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) إلاّ أَتَاهُ فِي مَنْزِلهِ، فَنَاشَدَهُمُ اللهَ حَقَّهُ ودَعَاهُمْ إِلى نُصْرَتِهِ، فَمَا اسْتَجَابَ مِنْهُمْ رَجُل غَيْرُنَا الأَرْبَعَةِ، فَإِنَّا حَلقْنَا رُءُوسَنَا وبَذَلنَا لهُ نُصْرَتَنَا، وكَانَ الزُّبَيْرُ أَشَدَّنَا بَصِيرَةً فِي نُصْرَتِهِ، فَلمَّا رَأَى عَليٌّ (عليه السلام) خِذْلانَ النَّاسِ إِيَّاهُ وتَرْكَهُمْ نُصْرَتَهُ واجْتِمَاعَ كَلمَتِهِمْ مَعَ أَبِي بَكْرٍ وطَاعَتَهُمْ لهُ وتَعْظِيمَهُمْ إِيَّاهُ لزِمَ بَيْتَه»(2).

وَرُوِيَ أَنَّ الزهراء (عليها السلام) تُكُفِّنَتْ مِنْ بَعْدِ غُسْلهَا وحَنُوطِهَا وطَهَارَتِهَا لا دَنَسَ فِيهَا، وأَنَّهَا لمْ يَكُنْ يَحْضُرُهَا إلاّ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ والحَسَنُ والحُسَيْنُ وزَيْنَبُ وأُمُّ كُلثُومٍ وفِضَّةُ جَارِيَتُهَا وأَسْمَاءُ ابْنَةُ عُمَيْسٍ، وأَنَّ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) جَهَّزَهَا ومَعَهُ الحَسَنُ والحُسَيْنُ (عليهماالسلام) فِي الليْل وصَلوْا عَليْهَا، وأَنَّهَا وَصَّتْ وقَالتْ: لا يُصَلي عَليَّ أُمَّةٌ نَقَضَتْ عَهْدَ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام)، ولمْ يُعْلمْ بِهَا أَحَداً، ولا حَضَرَ وَفَاتَهَا أَحَدٌ، ولا صَلى عَليْهَا مِنْ سَائِرِ النَّاسِ غَيْرُهُمْ، لأَنَّهَا وَصَّتْ (عليها

السلام) وقَالتْ: لا يُصَلي عَليَّ أُمَّةٌ نَقَضَتْ عَهْدَ اللهِ وعَهْدَ أَبِي رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) وأَمِيرِ المُؤْمِنِينَ بَعْلي وظَلمُونِي وأَخَذُوا وِرَاثَتِي وحَرَقُوا صَحِيفَتِيَ التِي كَتَبَهَا أَبِي بِمِلكِ فَدَكَ والعَوَالي وكَذَّبُوا شُهُودِي وهُمْ واللهِ جِبْرِيل

ص: 91


1- السقيفة وفدك: ص61، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 6 ص13، بحار الأنوار: ج 28 ص352.
2- كتاب سليم بن قيس الهلالي: ج 2 ص584 الحديث الرابع، بحار الأنوار: ج 28 ص268 ح45.

ومِيكَائِيل وأَمِيرُ المُؤْمِنِينَ وأُمُّ أَيْمَنَ، وطُفْتُ عَليْهِمْ فِي بُيُوتِهِمْ وأَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليهم

السلام) وعَليْهِ يَحْمِلنِي ومَعِيَ الحَسَنُ والحُسَيْنُ ليْلا ونَهَاراً إِلى مَنَازِلهِمْ، يُذَكِّرُهُمْ بِاللهِ ورَسُولهِ لئَلا يَظْلمُونَا ويُعْطُونَا حَقَّنَا الذِي جَعَلهُ اللهُ لنَا، فَيُجِيبُونَ ليْلا ويَقْعُدُونَ عَنْ نُصْرَتِنَا نَهَاراً، ثُمَّ يُنْفِذُونَ إِلى دَارِنَا قُنْفُذاً ومَعَهُ خَالدُ بْنُ الوَليدِ ليُخْرِجَا ابْنَ عَمِّي إِلى سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ لبَيْعَتِهِمُ الخَاسِرَةِ، ولا يَخْرُجُ إِليْهِمْ مُتَشَاغِلا بِوَصَاةِ رَسُول اللهِ (صلى

الله عليه وآله) وأَزْوَاجِهِ وتَأْليفِ القُرْآنِ وقَضَاءِ ثَمَانِينَ أَلفَ دِرْهَمٍ وَصَّاهُ بِقَضَائِهَا عَنْهُ عِدَاتٍ ودَيْناً، فَجَمَعُوا الحَطَبَ بِبَابِنَا وأَتَوْا بِالنَّارِ ليُحْرِقُوا البَيْتَ، فَأَخَذْتُ بِعِضَادَتَيِ البَابِ وقُلتُ: نَاشَدْتُكُمُ اللهَ وبِأَبِي رَسُول اللهِ (عليه

السلام) أَنْ تَكُفُّوا عَنَّا وتَنْصَرِفُوا، فَأَخَذَ عُمَرُ السَّوْطَ مِنْ قُنْفُذٍ مَوْلى أَبِيبَكْرٍ، فَضَرَبَ بِهِ عَضُدِي، فَالتَوَى السَّوْطُ عَلى يَدِي حَتَّى صَارَ كَالدُّمْلجِ، ورَكَل البَابَ بِرِجْلهِ فَرَدَّهُ عَليَّ وأَنَا حَامِل فَسَقَطْتُ لوَجْهِي والنَّارُ تَسَعَّرُ، وصَفَقَ وَجْهِي بِيَدِهِ حَتَّى انْتَثَرَ قُرْطِي مِنْ أُذُنِي، وجَاءَنِي المَخَاضُ فَأَسْقَطْتُ مُحَسِناً قَتِيلا بِغَيْرِ جُرْمٍ، فَهَذِهِ أُمَّةٌ تُصَلي عَليَّ، وقَدْ تَبَرَّأَ اللهُ ورَسُولهُ مِنْهَا وتَبَرَّأْتُ مِنْهَا»(1).

ص: 92


1- الهداية الكبرى: ص178.

توبيخ من حضر بيعة السقيفة

اشارة

روي أنه لما بايع الناس أبا بكر، خرجت فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله) فوقفت على بابها، وقالت: «ما رأيت كاليوم قط، حضروا أسوأ محضر، وتركوا نبيهم (صلى الله عليه وآله) جنازة بين أظهرنا، واستبدوا بالأمر دوننا»(1).

----------------------

فداحة الخطب

مسألة: يستحب إيضاح ما قالته الصديقة فاطمة (عليها السلام) من فداحة الخطب وهو المصاب، وأنها ما رأت مثل ذلك اليوم قط، فإن أشد الأيام على الزهراء (عليها السلام) كان يوم غصب الخلافة من علي (عليه السلام) وما قارنه من أحداث ومصائب، وهو أسوأ الأيام حيث انحرف الأمر عن محله، وتحولت القيادة من قيادة الأنبياء والأوصياء إلى قيادة المنافقين والأدعياء، وفرح الشيطان بإغواء الناس وسن الانحراف، ومن المعلوم أن التأسيس للانحراف وسنّه قد يكون أسوأ وأخطر من الاستمرار فيه، لأنه العلة والسبب، وإن كان كلاهما انحرافاً.وفي الأحاديث أن وزر كل معاصي الخلق على مرور الأزمان في عنقهما،

ص: 93


1- بحار الأنوار: ج 28 ص232 ب4 شرح انعقاد السقيفة وكيفية السقيفة ح18.

إذ «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة»(1).

وعليه جرى قول الشاعر:

مولايَ ما سَنَّ الضَلال سِوى الأُلى *** هَجُوا على الطُّهرِ البتولةِ دارَها

مَنوا البتول عن النياحةِ إذ غَدَتْ *** تَبي أباهَا ليلها ونهارَها

قالوا لها قَري فَقد آذيتِنا *** أنّى وقد سَلبَ المُصابُ قرارَها

قَطوا أراكتَها ومِن أَبنائِها *** قطعتْ أُميُّ يمينَها ويسارَها

جَموا على بيتِ النّبيّ مُحمدٍ *** حَطاً و أوقَدتْ الضغائنُ نارَها

رَضّو سليلةَ أحمدٍ بالبابِ *** حتى أنبتُوا في صدرِها مسمارَها

عَصروا ابنةَ الهادي الأمينِ وأسقَطوا *** منها الجنينَ وأخرجُوا كرّارَها

قادُوهُ والزهراءُ تَعوا خلفَهم *** عَبى فليتَك تَنظُرُ استعبارَها

والعبدُ سَودَ متنَها فاستنصرتْ *** أسفاً فليتَكَ تَسعُ استنصارَها(2)

عَنْ دَاوُدَ بْنِ النُّعْمَانِ قَال: دَخَل الكُمَيْتُ فَأَنْشَدَهُ... إلى أن قال:قَال الكُمَيْتُ: يَا سَيِّدِي أَسْأَلكَ عَنْ مَسْأَلةٍ، وكَانَ مُتَّكِئاً فَاسْتَوَى جَالساً وكَسَرَ فِي صَدْرِهِ وِسَادَةً ثُمَّ قَال: سَل، فَقَال: أَسْأَلكَ عَنِ الرَّجُليْنِ، فَقَال: «يَا كُمَيْتَ بْنَ زَيْدٍ مَا أُهَرِيقَ فِي الإِسْلامِ مِحْجَمَةٌ مِنْ دَمٍ، ولا اكْتُسِبَ مَال مِنْ غَيْرِ حِلهِ، ولا نُكِحَ فَرْجٌ حَرَامٌ إلاّ وذَلكَ فِي أَعْنَاقِهِمَا إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ، حَتَّى يَقُومَ

ص: 94


1- هداية الأمة إلى أحكام الأئمة (عليهم السلام): ج5 ص579 ب12 يستحب إقامة السنن الحسنة وإجراء عوائد الخير ح50.
2- عيون الرثاء في فاطمة الزهراء عليها السلام: ص291.

قَائِمُنَا ونَحْنُ مَعَاشِرَ بَنِي هَاشِمٍ نَأْمُرُ كِبَارَنَا وصِغَارَنَا بِسَبِّهِمَا والبَرَاءَةِ مِنْهُمَا»(1).

وقَال الصَّادِقِ (عليه السلام): «وَاللهِ مَا أُهْرِيقَتْ مِحْجَمَةٌ مِنْ دَمٍ ولا قُرِعَ عَصًا بِعَصًا، ولا غُصِبَ فَرْجُ حَرَامٍ، ولا أُخِذَ مَال مِنْ غَيْرِ حِلهِ، إلاّ ووِزْرُ ذَلكَ فِي أَعْنَاقِهِمَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِ العَامِلينَ بِشَيْ ءٍ»(2).

وقال الصادق (عليه السلام): «فلانة كَبِيرٌ جُرْمُهَا، عَظِيمٌ إِثْمُهَا، مَا أُهْرِقَتْ مِحْجَمَةٌ مِنْ دَمٍ إلاّ وإِثْمُ ذَلكَ فِي عُنُقِهَا وعُنُقِ صَاحِبَيْهِا، ولقَدْ عَهِدَ إِليْهِ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) وقَال: لا بُدَّ مِنْ أَنْ تُقَاتِل النَّاكِثِينَ وهُمْ أَهْل البَصْرَةِ، والقَاسِطِينَ وهُمْ أَهْل الشَّامِ، والمَارِقِينَ وهُمْ أَهْل النَّهْرَوَانِ، فَقَاتَلهُمْ عَليٌّ عَليْهِالسَّلامُ جَمِيعاً.

قَال القَوْمُ: إِنْ كَانَ هَذَا قَالهُ النَّبِيُّ فَقَدْ دَخَل القَوْمُ جَمِيعاً فِي أَمْرٍ عَظِيمٍ.

قَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): إِنَّكُمْ سَتُنْكِرُونَ.

قَالوا: إِنَّكَ جِئْتَنَا بِأَمْرٍ عَظِيمٍ لا نَحْتَمِلهُ.

قَال: ومَا طَوَيْتُ عَنْكُمْ أَكْثَرَ، أَمَّا إِنَّكُمْ سَتَرْجِعُونَ إِلى أَصْحَابِكُمْ وتُخْبِرُونَهُمْ بِمَا أَخْبَرْتُكُمْ، فَتَكْفُرُونَ أَعْظَمَ مِنْ كُفْرِهِمْ»(3).

ص: 95


1- بحار الأنوار: ج 47 ص323 ب10 مداحيه (صلوات الله عليه) ح17.
2- تفسير القمي: ج 1 ص383.
3- دلائل الإمامة: ص261.

التقية ومواردها

مسألة: يجب أن يقتصر في التقية على مواردها وحدودها، فلو كانت التقية في ذكر الاسم لا الكنية اختص حكمها بالاسم، ولزمت التكنية فيما كان من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنه المقام حيث أشير إلى ابن أبي قحافة بالرمز عنه بفلان، ويحتمل أن تكون التقية من الرواة اللاحقين، كما يحتمل أن تكون من الراوي الأول، كما يحتمل أن تكون من المستنسخين ومن أشبه.

وقد ذكر بعض العلماء أن إخراج علي (عليه السلام) من الدار وضرب فاطمة الزهراء (عليها الصلاة والسلام) حدث ورسول الله (صلى الله عليه وآله) بعدُ لم يقبر، أي كان ذلك في الأيام الثلاثة التي كان المسلمون يأتون فيها إلى جنازة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويصلون عليها.

لا يقال: كيف يمكن ذلك؟

لأنه يقال: كان للبيوت التي بناها الرسول (صلى الله عليه وآله) حول مسجده بابان: باب إلى الشارع وباب إلى المسجد، وبيت الزهراء (عليها السلام) لم يغلق بابه الذي إلى المسجد وبقي له بابان، بينما سائر البيوت أغلقت أبوابها التي كانت شارعة إلى المسجدفي حديث سد الأبواب، فكان الناس يأتون من المسجد إلى جثمان رسول الله (صلى الله عليه وآله) الطاهر الذي كان في غرفة تلي المسجد يصلون عليه، بينما هم جاؤوا من الباب الذي كان من الشارع إلى البيت وأخرجوا علياً (عليه السلام) وهجموا على الزهراء (عليها السلام) ويؤيد ذلك قول الصديقة (عليها الصلاة والسلام): «والرسول لما يُقبر».

ص: 96

ويؤيده أيضاً الخبر الآتي حيث قالت (عليها الصلاة والسلام): «تركتم رسول الله (صلى الله عليه وآله) جنازة بين أيدينا» الخبر(1).

ولما ذكرناه من وجود بابين أحدهما إلى المسجد، لما كانت الصديقة (عليها السلام) تبكي كان يسمع صوت بكائها من في المسجد، ومن الطبيعي أن تبكي معها النساء والحسن والحسين (عليهما السلام) وزينب وأم كلثوم (عليهما السلام) ومن أشبه مما كان يحدث ضجة، ولذا قالوا لعلي (عليه الصلاة والسلام): إما أن تبكي ليلاً أو نهاراً، وكانت (عليها السلام) تخرج من المدينة إلى أحد حيث قبر حمزة (عليه السلام) أو تخرج إلى البقيع حيث بيت الأحزان وتبكي هناك.قَالتْ فضة: ثُمَّ رَجَعَتْ فاطمة (عليها السلام) إِلى مَنْزِلهَا وأَخَذَتْ بِالبُكَاءِ والعَوِيل ليْلهَا ونَهَارَهَا وهِيَ لا تَرْقَأُ دَمْعَتُهَا ولا تَهْدَأُ زَفْرَتُهَا، واجْتَمَعَ شُيُوخُ أَهْل المَدِينَةِ وأَقْبَلوا إِلى أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) فَقَالوا لهُ: يَا أَبَا الحَسَنِ إِنَّ فَاطِمَةَ (عليها السلام) تَبْكِي الليْل والنَّهَارَ فَلا أَحَدٌ مِنَّا يَتَهَنَّأُ بِالنَّوْمِ فِي الليْل عَلى فُرُشِنَا ولا بِالنَّهَارِ لنَا قَرَارٌ عَلى أَشْغَالنَا وطَلبِ مَعَايِشِنَا، وإِنَّا نُخْبِرُكَ أَنْ تَسْأَلهَا إِمَّا أَنْ تَبْكِيَ ليْلا أَوْ نَهَاراً ... فَأَقْبَل أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) حَتَّى دَخَل عَلى فَاطِمَةَ (عليها السلام) وهِيَ لا تُفِيقُ مِنَ البُكَاءِ ولا يَنْفَعُ فِيهَا العَزَاءُ، فَلمَّا رَأَتْهُ سَكَنَتْ هُنَيْئَةً لهُ، فَقَال لهَا: يَا بِنْتَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) إِنَّ شُيُوخَ المَدِينَةِ يَسْأَلونِّي أَنْ أَسْأَلكِ إِمَّا أَنْ تَبْكِينَ أَبَاكِ ليْلا وإِمَّا نَهَاراً، فَقَالتْ: يَا أَبَا الحَسَنِ مَا أَقَل مَكْثِي بَيْنَهُمْ ومَا أَقْرَبَ مَغِيبِي مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، فَوَ اللهِ لا أَسْكُتُ ليْلا ولا نَهَاراً أَوْ أَلحَقَ بِأَبِي

ص: 97


1- ويحتمل كون الهجوم كان في بعض الفواصل بين صلاة وصلاة، ويحتمل أن يكون الهجوم عدة مرات قبل الدفن وبعده.

رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله)، فَقَال لهَا عَليٌّ (عليه السلام): افْعَلي يَا بِنْتَ رَسُول اللهِ مَا بَدَا لكِ.

ثُمَّ إِنَّهُ بَنَى لهَا بَيْتاً فِي البَقِيعِ نَازِحاً عَنِ المَدِينَةِ يُسَمَّى بَيْتَ الأَحْزَانِ، وكَانَتْ إِذَا أَصْبَحَتْ قَدَّمَتِ الحَسَنَ والحُسَيْنَ(عليهما السلام) أَمَامَهَا وخَرَجَتْ إِلى البَقِيعِ بَاكِيَةً فَلا تَزَال بَيْنَ القُبُورِ بَاكِيَةً، فَإِذَا جَاءَ الليْل أَقْبَل أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) إِليْهَا وسَاقَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِلى مَنْزِلهَا ولمْ تَزَل عَلى ذَلكَ(1).

وقال الشاعر:

الواثِبنَ لظُلمِ آل مُحَمَدٍ *** وَمُحمَدٌ مُلىً بِل تَكْفنِ

و القائِلنَ لفاطِمٍ آذَيْتن *** في طول نَوٍ دائِم و حَننِ

و القاطِعين أراكَة كَيلا تُقيل *** بِظل أَوراقٍ لها وغُصونِ

وَ مُجَمِعي حَطَبٍ عَلى البَيتِ الذي *** لمْ يَجتَمِعْ لولاهُ شَمل الدينِ

و الداخِلنَ عَلى البَتلةِ بيتها *** و المُسْقطينَ لها أعَز جَننِ

و القائِدين إمامهُمْ بِنجادِهِ *** و الطُهُ تدعو خَلهمْ بِرينِ

خَلوا ابنَ عَمي أَو لأكشفَ للدُعا *** رَأسي وأشكو للإلهِ شُجوني

ماكانَ ناقةُ صالحٍ و فَصيلها *** بالفضل عِنْدَ الله إلاّ دوني

وَ رَنَتْ إلى القَبرِ الشريفِ بِمُقْلةٍ *** عَبير وقَلبٍ مُكمَدٍ مَحونِ

نادتْ و أظفارُ المُصبِ بٍقَلبِها *** أبتاهُ عزَ على العداة مُعني

أبتاهً هذا السامريُّ و عِجلهُ *** تُبعَا ومال الناسُ عن هارونِ

ص: 98


1- بحار الأنوار: ج 43 ص177 ب7 ح15.

أيَّ الرزايا أتَق بِتجَلدٍ *** هو في النوائبِ مذ حييتُ قريني

فقدي أبي أم غصبَ بَعي حَقَهُ *** أم كسرَ ضِلعِيْ أم سقوطَ جنيني

أم أخذهم إِرثي وَ فاضل نِحلتي *** أم جَههمْ حَقي وقدْ عَرفوني

قهروا يتيميك الحُسينَ و صنوَهُ *** و سألتُه حَق وقدْ نَهوني(1)

الخروج لفضح الظالم

مسألة: يلزم الخروج لفضح الظالم، بالشرائط المذكورة في الفقه.

والخروج من باب أحد المصاديق، فإن فضح الظالم ورد الظلامة واجب، سواء كان بالخروج أم بالاعتكاف في المسجد، أم البقاء في المنزل احتجاجاً واعتراضاً، أم بالاعتصام بأنواعه، وسواء كان بالقول أم بالكتابة أم بغير ذلك.

روي أنه كَتَبَ سيد الشهداء (عليه السلام) هَذِهِ الوَصِيَّةَ لأَخِيهِ مُحَمَّدٍ:

«بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، هَذَا مَا أَوْصَى بِهِ الحُسَيْنُ بْنُ عَليِّ بْنِ أَبِي طَالبٍ إِلى أَخِيهِ مُحَمَّدٍ المَعْرُوفِ بِابْنِ الحَنَفِيَّةِ، أَنَّ الحُسَيْنَ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إلاّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لهُ، وأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورَسُولهُ، جَاءَ بِالحَقِّ مِنْ عِنْدِ الحَقِّ، وأَنَّ الجَنَّةَ والنَّارَ حَقٌ، وأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها، وأَنَّاللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي القُبُورِ، وأَنِّي لمْ أَخْرُجْ أَشِراً ولا بَطِراً، ولا مُفْسِداً ولا ظَالماً، وإِنَّمَا خَرَجْتُ لطَلبِ الإِصْلاحِ فِي أُمَّةِ جَدِّي (صلى الله عليه وآله) أُرِيدُ أَنْ آمُرَ بِالمَعْرُوفِ وأَنْهَى عَنِ المُنْكَرِ، وأَسِيرَ بِسِيرَةِ جَدِّي وأَبِي عَليِّ بْنِ أَبِي طَالبٍ (عليه السلام) فَمَنْ قَبِلنِي بِقَبُول الحَقِّ

ص: 99


1- للشاعر العالم الأديب الشيخ صالح الكواز (رحمه الله) ولد سنة 1233ه وتوفي في شوال عام 1290 ه وعمره 57 سنة ودفن في النجف الأشرف

فَاللهُ أَوْلى بِالحَقِّ، ومَنْ رَدَّ عَليَّ هَذَا أَصْبِرُ حَتَّى يَقْضِيَ اللهُ بَيْنِي وبَيْنَ القَوْمِ بِالحَقِ وهُوَ خَيْرُ الحاكِمِينَ، وهَذِهِ وَصِيَّتِي يَا أَخِي إِليْكَ، وما تَوْفِيقِي إلاّ بِاللهِ، عَليْهِ تَوَكَّلتُ وإِليْهِ أُنِيبُ»، قَال ثُمَّ طَوَى الحُسَيْنُ (عليه السلام) الكِتَابَ وخَتَمَهُ بِخَاتَمِهِ ودَفَعَهُ إِلى أَخِيهِ مُحَمَّدٍ ثُمَّ وَدَّعَهُ وخَرَجَ فِي جَوْفِ الليْل(1).

المرأة والدفاع عن الحق

مسألة: يجوز للمرأة أيضاً أن تخرج للدفاع عن الحق وفضح الباطل، كما سبقت الإشارة إليه في الخطبة الشريفة(2)، مراعية الموازين الشرعية.

إذ لا فرق بين الرجل والمرأة في هذا التكليف، فإن كليهما مأمورانبالواجبات وترك المحرمات والدفاع عن الحق وفضح الظالم وما أشبه، وإنما الفرق بين الرجل والمرأة في أمور خاصة(3) مذكورة في أبوابها المرتبطة بها.

وهل يشترط في خروجها للنهي عن المنكر إذن زوجها، ربما تختلف المصاديق، فإذا علم من الشرع أهمية شيء قدم الأهم، نعم يقتصر فيه على ما يتحقق به الغرض، فلو تحقق بالخروج إلى باب دارها فقط اقتصر عليه.

وفي وصية لأمير المؤمنين (عليه السلام): «اللهَ اللهَ فِي ذُرِّيَّةِ نَبِيِّكُمْ، فَلا يُظْلمُنَّ بِحَضْرَتِكُمْ وبَيْنَ ظَهْرَانَيْكُمْ وأَنْتُمْ تَقْدِرُونَ عَلى الدَّفْعِ عَنْهُم»(4).

ص: 100


1- بحار الأنوار: ج 61 ص258 ب10.
2- انظر شرح خطبة الصديقة (عليها السلام) في المسجد، المجلد الثاني إلى الخامس من هذا الكتاب.
3- كالتحجب وبعض شروط الصلاة وكمية الإرث لبعضهن وشبه ذلك.
4- الكافي: ج 7 ص52 باب صدقات النبي (صلى الله عليه وآله) وفاطمة والأئمة (عليهم السلام) ووصاياهم ح7.

التآمر لغصب الحق

مسألة: يحرم التآمر لغصب الحق من أهله، سواء أكان وراء الأبواب المغلقة، أم غيرها.

ولا فرق في حرمته كونه بين شخصين أو جهتين أو دولتين، ولا بين كونه لهدم حق أو تشييد باطل، ولا بين كونه لمصادرة حق شخص أو جماعة أو أمة، نعم درجات الحرمة تختلف شدةً وضعفاً.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «يَجِي ءُ كُل غَادِرٍ يَوْمَ القِيَامَةِ بِإِمَامٍ مَائِل شِدْقُهُ حَتَّى يَدْخُل النَّارَ، ويَجِي ءُ كُل نَاكِثٍ بَيْعَةَ إِمَامٍ أَجْذَمَ حَتَّى يَدْخُل النَّارَ»(1).

وعن الأَصْبَغُ قَال: صَليْنَا مَعَ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) الغَدَاةَ فَإِذَا رَجُل عَليْهِ ثِيَابُ السَّفَرِ قَدْ أَقْبَل، فَقَال (عليه السلام): «مِنْ أَيْنَ»، قَال: مِنَ الشَّامِ، قَال: «مَا أَقْدَمَكَ»، قَال: لي حَاجَةٌ، قَال: «أَخْبِرْنِي وإِلا أَخْبَرْتُكَ بِقَضِيَّتِكَ»، قَال: أَخْبِرْنِي بِهَا يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ.

قَال: «نَادَى مُعَاوِيَةُ يَوْمَ كَذَا وكَذَا مِنْ شَهْرِ كَذَا وكَذَا مِنْ سَنَةِ كَذَا وكَذَا مَنْ يَقْتُل عَليّاً فَلهُ عَشَرَةُ آلافِ دِينَارٍ فَوَثَبَ فُلانٌ وقَال: أَنَا، قَال: أَنْتَ، فَلمَّا انْصَرَفَ إِلى مَنْزِلهِ نَدِمَ وقَال: أَسِيرُ إِلى ابْنِ عَمِّ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) وأَبِي وَلدَيْهِ فَأَقْتُلهُ، ثُمَّ نَادَى مُنَادِيهِ اليَوْمَ الثَّانِيَ: مَنْ يَقْتُل عَليّاً فَلهُ عِشْرُونَ أَلفَ دِينَارٍ، فَوَثَبَ آخَرُ فَقَال: أَنَا، فَقَال: أَنْتَ، ثُمَّ إِنَّهُ نَدِمَ واسْتَقَال مُعَاوِيَةَ فَأَقَالهُ ،

ص: 101


1- الكافي: ج 2 ص337 باب المكر والغدر والخديعة ح2.

ثُمَّ نَادَى مُنَادِيهِ اليَوْمَ الثَّالثَ: مَنْ يَقْتُل عَليّاً فَلهُ ثَلاثُونَ أَلفَ دِينَارٍ، فَوَثَبْتَ أَنْتَ وأَنْتَ رَجُل مِنْ حِمْيَرٍ، قَال: صَدَقْتَ، قَال: فَمَا رَأْيُكَ تَمْضِي إِلى مَا أُمِرْتَ بِهِ أَوْ مَا ذَا، قَال: لا، ولكِنْ أَنْصَرِفُ، قَال: يَا قَنْبَرُ أَصْلحْ لهُ رَاحِلتَهُ وهَيِّئْ لهُ زَادَهُ وأَعْطِهِ نَفَقَتَهُ»(1).

المحضر الأسوأ

مسألة: يستحب بيان أن القوم بحضورهم لمبايعة ابن أبي قحافة قد حضروا أسوأ محضر.

وإنما كان كذلك لأنه انقلاب على الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) وعلى تعاليم السماء وعلى الدين وعلى أمرالإمامة والخلافة، فهو تحريف لعامة الحق عن مجاريه، ومن الواضح أن هناك فرقاً كبيراً بين التحريف في القيادة، وبين تحريف حكم من الأحكام الفرعية.

قال تعالى: «أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِل انْقَلبْتُمْ عَلَى أَعْقابِكُمْ»(2).

وعن حَنَان عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: «كَانَ النَّاسُ أَهْل رِدَّةٍ بَعْدَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) إِلا ثَلاثَةً»، فَقُلتُ: ومَنِ الثَّلاثَةُ، فَقَال: «المِقْدَادُ بْنُ الأَسْوَدِ، وأَبُو ذَرٍّ الغِفَارِيُّ، وسَلمَانُ الفَارِسِيُّ (رَحْمَةُ اللهِ وبَرَكَاتُهُ عَليْهِمْ) ثُمَّ عَرَفَ أُنَاسٌ بَعْدَ يَسِيرٍ، وقَال: هَؤُلاءِ الذِينَ دَارَتْ عَليْهِمُ الرَّحَى وأَبَوْا أَنْ يُبَايِعُوا حَتَّى

ص: 102


1- بحار الأنوار: ج 41 ص306 ب114 معجزات كلامه من إخباره بالغائبات وعلمه باللغات وبلاغته وفصاحته (صلوات الله عليه)، مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) لابن شهرآشوب: ج 2 ص261 فصل في إخباره بالغيب.
2- سورة آل عمران: 144.

جَاءُوا بِأَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) مُكْرَهاً فَبَايَعَ، وذَلكَ قَوْل اللهِ تَعَالى: «وَما مُحَمَّدٌ إلاّ رَسُول قَدْ خَلتْ مِنْ قَبْلهِ الرُّسُل أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِل انْقَلبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ ومَنْ يَنْقَلبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ»(1) »(2).

ترك جنازة النبي

مسألة: يحرم ترك النبي (صلى الله عليه وآله)جنازةً والاشتغال بما اشتغلوا به.

فإن تركه (صلى الله عليه وآله) كذلك خلاف احترامه اللائق به، وقد أمر الله سبحانه باحترام رسوله (صلى الله عليه وآله) حياً وميتاً، قال تعالى: «إِنَّا أَرْسَلناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذيراً * لتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَ رَسُولهِ وَ تُعَزِّرُوهُ وَ تُوَقِّرُوهُ وَ تُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصيلاً»(3).

بل ورد في المؤمن العادي أن حرمته ميتاً كحرمته حياً، فكيف برسول الله (صلى الله عليه وآله).

قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «حُرْمَةُ المُسْلمِ مَيِّتاً كَحُرْمَتِهِ حَيّاً سَوِيّاً»(4).

وقَال الإمام الكاظم (عليه السلام): «كَانَ أَبِي يَقُول: إِنَّ حُرْمَةَ بَدَنِ المُؤْمِنِ مَيِّتاً كَحُرْمَتِهِ حَيّا»(5).

ص: 103


1- سورة آل عمران: 144.
2- الكافي: ج 8 ص246 حديث القباب ح341.
3- سورة الفتح: 8-9.
4- تهذيب الأحكام: ج 1 ص419 ب21 باب المياه وأحكامها ح43.
5- تهذيب الأحكام: ج 1 ص445 ب23 باب تلقين المحتضرين ح85.

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: قُلتُ لهُ: رَجُل قَطَعَ رَأْسَ مَيِّتٍ، قَال: «حُرْمَةُ المَيِّتِ كَحُرْمَةِ الحَيِّ»(1).وعن الإمام الجواد (عليه السلام) في رواية عن أبيه الرضا (عليه السلام) قال: «فَإِنَّ حُرْمَةَ المَيِّتَةِ كَحُرْمَةِ الحَيَّة»(2).

ثم إن ترك الجنازة من أظهر مصاديق هتك حرمة النبي (صلوات الله عليه)، وذلك من أسوأ ما تعير به الأمم، هذا إضافة إلى أن تركه كذلك كان بغرض الانقلاب عليه وعلى الخلافة الشرعية.

والظاهر أن كون ذلك (أسوأ محضر) عام شامل لمختلف الجهات والأبعاد، إذ كان تأسيساً للضلال سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وفكرياً وغير ذلك.

هذا والروايات كثيرة في لزوم احترام النبي (صلى الله عليه وآله) حتى عند ذكر اسمه المبارك، فكيف بحضوره وجنازته:

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَنَسِيَ أَنْ يُصَليَ عَليَّ خَطَّأَ اللهُ بِهِ طَرِيقَ الجَنَّةِ»(3).

وَقَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلمْ يُصَل عَليَّ دَخَل النَّارَفَأَبْعَدَهُ اللهُ»(4).

ص: 104


1- وسائل الشيعة: ج 29 ص328 ب25 باب تحريم الجناية على الميت المؤمن بقطع رأسه أو غيره ح2.
2- وسائل الشيعة: ج 28 ص280 ب19 باب حد النباش ح6.
3- الكافي: ج 2 ص495 باب الصلاة على النبي محمد و أهل بيته (عليهم السلام) ح20.
4- وسائل الشيعة: ج6 ص408 ب10 ضمن ح8299.

الاستبداد بالأمر

مسألة: يحرم الاستبداد بالأمر بقول مطلق، ويشتد في الاستبداد به مقابل العترة الطاهرة (عليهم السلام) وفيما يرتبط بخلافة رسول الله (صلى الله عليه وآله).

فإن الاستبداد أصل المفاسد، وقد قال علي (عليه الصلاة والسلام): «من استبدّ برأيه هلك»(1).

وذكرنا في بعض المباحث المرتبطة بالاستبداد أن (هلك) مقدمة للإهلاك أيضاً، فإن النتيجة من سنخ المقدمة، و المسبَّب من جنس السبب(2).

قَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «مَنِ اسْتَبَدَّ بِرَأْيِهِ زَل»(3).

وقَال (عليه السلام): «من استبدّ برأيه فقد خاطر وغرّر»(4).

وقَال (عليه السلام): «حَقٌّ عَلى العَاقِلأَنْ يَسْتَدِيمَ الاسْتِرْشَادَ ويَتْرُكَ الاسْتِبْدَادَ»(5).

وقَال (عليه السلام): «الاستبداد برأيك يزلك ويهوّرك فى المهاوي»(6).

ص: 105


1- نهج البلاغة، الحكمة: 161.
2- يراجع (الفقه السياسة) و(الشورى في الإسلام) و(الحريات الإسلامية) و(ممارسة التغيير لانقاذ المسلمين) و(طريق النجاة) للإمام المؤلف (قدس سره الشريف).
3- عيون الحكم والمواعظ: ص429 ح7303.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: ص666 ح1524.
5- عيون الحكم والمواعظ: ص233 ح4460.
6- غرر الحكم ودرر الكلم : ص81 ح1547.

من أعظم الكبائر

مسألة: غصب الخلافة من الكبائر، بل هو من أعظمها، فإن غصب الخلافة تحريف للقيادة الشرعية عن مجاريها، وذلك من أشد المحرمات، بل إن غصب إبرة وأقل من إبرة محرم فكيف بمثل الخلافة.

عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) فِي قَوْل اللهِ عَزَّ وجَل: «ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إلاّ هُوَ رابِعُهُمْ ولا خَمْسَةٍ إلاّ هُوَ سادِسُهُمْ ولا أَدْنى مِنْ ذلكَ ولا أَكْثَرَ إلاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلوا يَوْمَ القِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُل شَيْ ءٍ عَليمٌ»(1)، قَال: «نَزَلتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي فُلانٍ وفُلانٍ وأَبِي عُبَيْدَةَ الجَرَّاحِ وعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وسَالمٍ مَوْلى أَبِي حُذَيْفَةَ والمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، حَيْثُ كَتَبُوا الكِتَابَ بَيْنَهُمْ وتَعَاهَدُوا وتَوَافَقُوا لئِنْ مَضَى مُحَمَّدٌ لا تَكُونُ الخِلافَةُ فِي بَنِي هَاشِمٍ ولا النُّبُوَّةُ أَبَداً، فَأَنْزَل اللهُ عَزَّ وجَل فِيهِمْ هَذِهِ الآيَةَ».

قَال: قُلتُ: قَوْلهُ عَزَّ وجَل: «أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ * أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ ونَجْواهُمْ بَلَى ورُسُلنا لدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ»(2). قَال: وهَاتَانِ الآيَتَانِ نَزَلتَا فِيهِمْ ذَلكَ اليَوْمَ».قَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «لعَلّكَ تَرَى أَنَّهُ كَانَ يَوْمٌ يُشْبِهُ يَوْمَ كَتْبِ الكِتَابِ إلاّ يَوْمَ قَتْل الحُسَيْنِ (عَليْهِ السَّلامُ)، وهَكَذَا كَانَ فِي سَابِقِ عِلمِ اللهِ عَزَّ وجَل الذِي أَعْلمَهُ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) أَنْ إِذَا كُتِبَ الكِتَابُ قُتِل الحُسَيْنُ وخَرَجَ

ص: 106


1- سورة المجادلة: 7.
2- سورة الزخرف: 79 - 80.

المُلكُ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ فَقَدْ كَانَ ذَلكَ كُلهُ».

قُلتُ: «وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلوا فَأَصْلحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلى الأُخْرى فَقاتِلوا التِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلحُوا بَيْنَهُما بِالعَدْل»(1).

قَال: «الفِئَتَانِ إِنَّمَا جَاءَ تَأْوِيل هَذِهِ الآيَةِ يَوْمَ البَصْرَةِ وهُمْ أَهْل هَذِهِ الآيَةِ، وهُمُ الذِينَ بَغَوْا عَلى أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه

السلام) فَكَانَ الوَاجِبَ عَليْهِ قِتَالهُمْ وقَتْلهُمْ حَتَّى يَفِيئُوا إِلى أَمْرِ اللهِ، ولوْ لمْ يَفِيئُوا لكَانَ الوَاجِبَ عَليْهِ فِيمَا أَنْزَل اللهُ أَنْ لا يَرْفَعَ السَّيْفَ عَنْهُمْ حَتَّى يَفِيئُوا ويَرْجِعُوا عَنْ رَأْيِهِمْ، لأَنَّهُمْ بَايَعُوا طَائِعِينَ غَيْرَ كَارِهِينَ وهِيَ الفِئَةُ البَاغِيَةُ كَمَا قَال اللهُ تَعَالى، فَكَانَ الوَاجِبَ عَلى أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه

السلام) أَنْ يَعْدِل فِيهِمْ حَيْثُ كَانَ ظَفِرَ بِهِمْ كَمَا عَدَل رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) فِي أَهْل مَكَّةَ إِنَّمَا مَنَّ عَليْهِمْ وعَفَا وكَذَلكَ صَنَعَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) بِأَهْل البَصْرَةِ حَيْثُ ظَفِرَ بِهِمْ مِثْل مَا صَنَعَ النَّبِيُّ (صلى

الله عليه وآله) بِأَهْلمَكَّةَ حَذْوَ النَّعْل بِالنَّعْل».

قَال: قُلتُ: قَوْلهُ عَزَّ وجل: «وَالمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى»(2)، قَال: «هُمْ أَهْل البَصْرَةِ هِي المُؤْتَفِكَةُ»، قُلتُ: «وَالمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلهُمْ بِالبَيِّناتِ»(3).

قَال: «أُولئِكَ قَوْمُ لوطٍ ائْتَفَكَتْ عَليْهِمُ انْقَلبَتْ عَليْهِمْ»(4).

ص: 107


1- سورة الحجرات: 9.
2- سورة النجم: 53.
3- سورة التوبة: 70.
4- الكافي: ج 8 ص179 خطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام) ح202.

لم تستأمرونا

اشارة

في الرواية: وإذا فاطمة (عليها السلام) واقفة على بابها، وقد خلت دارها من أحد من القوم وهي تقول: «لا عهد لي بقوم أسوأ محضراً منكم، تركتم رسول الله (صلى الله عليه وآله) جنازة بين أيدينا وقطعتم أمركم بينكم، لم تستأمرونا وصنعتم بنا ما صنعتم، ولم تروا لنا حقاً»(1).

----------------------

جحود الحق

مسألة: يحرم جحود الحق.

فإن الزهراء (صلوات الله عليها) كانت تعيّر القوم بجحودهم الحق: (ولم تردوا لنا حقاً)، وفعلهم تلك الأفاعيل: (وصنعتم بنا ما صنعتم)، فيدل كلامها (عليها السلام) على حرمة كلا الأمرين.

بل يحرم مجرد عدم رؤية حق لهم، لا الإنكار والجحود فقط، كما لعله ظاهر (ولم تروا لنا حقاً)، فإن عدم رؤية حق لشخص أو جمع أعم من إنكاره، فإن الإنكار نفي، وعدم الرؤية، سكوت أو جهل أو حياء، فتأمل.

ويحتمل في (ولم تروا لنا حقاً) أن المراد: عملتم عمل من لا يرى لنا حقاً،

ص: 108


1- الأمالي، للمفيد: ص50 المجلس السادس ح9، وعنه بحار الأنوار: ج 28 ص232 ب4 شرح انعقاد السقيفة وكيفية السقيفة ح17.

فتجاهلتمونا، وعملتم ما عملتم، وذلك لوضوح أنهم كانوا يعلمون بحقهم (صلوات الله عليهم).

عن أبي عبد الله (عليه السلام): «... فَعَدُوُّهُمْ هُمُ الحَرَامُ المُحَرَّمُ، وأَوْليَاؤُهُمْ الدَّاخِلونَ فِي أَمْرِهِمْ إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ فِيهِمُ الفَوَاحِشُ ما ظَهَرَ مِنْها وما بَطَنَ، والخَمْرُ والمَيْسِرُ والرِّبَا والدَّمُ ولحْمُ الخِنْزِيرِ، فَهُمُ الحَرَامُ المُحَرَّمُ، وأَصْل كُل حَرَامٍ، وهُمُ الشَّرُّ وأَصْل كُل شَرٍّ، ومِنْهُمْ فُرُوعُ الشَّرِّ كُلهِ، ومِنْ ذَلكَ الفُرُوعُ الحَرَامُ واسْتِحْلالهُمْ إِيَّاهَا، ومِنْ فُرُوعِهِمْ تَكْذِيبُ الأَنْبِيَاءِ وجُحُودُالأَوْصِيَاء»(1).

وعَنِ الحُسَيْنِ بْنِ نُعَيْمٍ الصَّحَّافِ قَال: سَأَلتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) عَنْ قَوْلهِ: «فَمِنْكُمْ كافِرٌ ومِنْكُمْ مُؤْمِنٌ»(2)، فَقَال: «عَرَفَ اللهُ عَزَّ وجَل إِيمَانَهُمْ بِمُوَالاتِنَا، وكُفْرَهُمْ بِهَا، يَوْمَ أَخَذَ عَليْهِمُ المِيثَاقَ وهُمْ ذَرٌّ فِي صُلبِ آدَمَ».

وسَأَلتُهُ عَنْ قَوْلهِ عَزَّ وجَل: «أَطِيعُوا اللهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَليْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولنَا البَلاغُ المُبِينُ»(3)، فَقَال: «أَمَا واللهِ مَا هَلكَ مَنْ كَانَ قَبْلكُمْ ومَا هَلكَ مَنْ هَلكَ حَتَّى يَقُومَ قَائِمُنَا (عليه السلام) إلاّ فِي تَرْكِ وَلايَتِنَا وجُحُودِ حَقِّنَا، ومَا خَرَجَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى أَلزَمَ رِقَابَ هَذِهِ الأُمَّةِ حَقَّنَا «وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ»(4)،(5).

ص: 109


1- بصائر الدرجات: ج 1 ص528 ب21 ح1.
2- سورة التغابن: 2.
3- سورة التغابن: 12.
4- سورة البقرة: 213.
5- الكافي: ج 1 ص426 باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية ح74.

وقَال الصَّادِقُ (عليه السلام): «يَا أَبَانُ كَيْفَ يُنْكِرُ النَّاسُ قَوْل أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) لمَّا قَال: لوْ شِئْتُ لرَفَعْتُ رِجْلي هَذِهِ فَضَرَبْتُ بِهَا صَدْرَ ابْنِأَبِي سُفْيَانَ بِالشَّامِ فَنَكَسْتُهُ عَنْ سَرِيرِهِ، ولا يُنْكِرُونَ تَنَاوُل آصَفَ وَصِيِّ سُليْمَانَ عَرْشَ بِلقِيسَ وإِتْيَانَهُ سُليْمَانَ بِهِ قَبْل أَنْ يَرْتَدُّ إِليْهِ طَرْفُهُ، أَ ليْسَ نَبِيُّنَا (صلى الله عليه وآله) أَفْضَل الأَنْبِيَاءِ ووَصِيُّهُ (عليه السلام) أَفْضَل الأَوْصِيَاءِ، أَفَلا جَعَلوهُ كَوَصِيِّ سُليْمَانَ، حَكَمَ اللهُ بَيْنَنَا وبَيْنَ مَنْ جَحَدَ حَقَّنَا وأَنْكَرَ فَضْلنَا»(1).

وعن سَلمَانَ الفَارِسِيِّ (رضوان الله عليه) قَال: قَال لي أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «يَا سَلمَانُ الوَيْل كُل الوَيْل لمَنْ لا يَعْرِفُ لنَا حَقَّ مَعْرِفَتِنَا وأَنْكَرَ فَضْلنَا»(2).

من أكبر المحرمات

مسألة: من أكبر المحرمات ما صنعه القوم في حق العترة الطاهرة (عليهم السلام) بدءاً من غصب الخلافة إلى إيذاء الصديقة فاطمة (عليها السلام) وضربها حتى صار في عضدها كمثل الدملج، وكسر ضلعها وإسقاط جنينها.

فإن كل ذلك محرم حتى بالنسبة إلى الإنسان العادي فكيف بمثلها (عليها أفضل الصلاة والسلام). قال تعالى: «إِنَّ الذينَ يُؤْذُونَ اللهَ ورَسُولَهُ لعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ وأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهيناً»(3).

ص: 110


1- الاختصاص: ص213 صحيفة الزهراء (عليها السلام) وأخبار أخرى في فضلهم.
2- تأويل الآيات الظاهرة: ص244.
3- سورة الأحزاب: 57.

وفي تفسير القمي حول هذه الآية، قال:

نزلت فيمن غصب أمير المؤمنين عَليْهِ السَّلامُ حقه، وأخذ حق فاطمة عَليْها السَّلامُ وآذاها، وَقَدْ قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ آذَاهَا فِي حَيَاتِي، كَمَنْ آذَاهَا بَعْدَ مَوْتِي، ومَنْ آذَاهَا بَعْدَ مَوْتِي كَمَنْ آذَاهَا فِي حَيَاتِي، ومَنْ آذَاهَا فَقَدْ آذَانِي ومَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللهَ» وهو قول الله: «إِنَّ الذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ ورَسُولَهُ» الآية. وقوله: «وَالذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ» يعني علياً وفاطمة «بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلوا بُهْتاناً وإِثْماً مُبِيناً» وهي جارية في الناس كلهم(1).

الخلفاء حقاً

مسألة: يحرم الاعتقاد بأنه ليس لأهل البيت (عليهم السلام) حق في أمر الخلافة.

وهذا مما يرتبط بشؤون أصول الدين، فهناك عمل محرم وهناك اعتقاد محرم، وعدم الاعتقاد بشؤون أصول الدين محرم، أما عدم الاعتقاد ببعض ما يتعلقبالعمل فربما لا يكون واجباً، والأمر يختلف باختلاف موارده وأدلته(2).

قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «الأَئِمَّةُ بَعْدِي اثْنَا عَشَرَ، أَوَّلهُمْ عَليُّ بْنُ أَبِي طَالبٍ، وَآخِرُهُمُ القَائِمُ، هُمْ خُلفَائِي وَأَوْصِيَائِي وَأَوْليَائِي وَحُجَجُ اللهِ عَلى

ص: 111


1- تفسير القمي: ج 2 ص196.
2- من وجوب أو حرمة نفسية أو غيرية، فقد لا يحرم عدم الاعتقاد بالغيري لو عمل به ولم يرجع ذلك إلى إنكار أحد الأصول اللازمة، والنفسي يختلف أيضاً باختلاف ما يستظهر من أدلته.

أُمَّتِي بَعْدِي، المُقِرُّ بِهِمْ مُؤْمِنٌ، وَالمُنْكِرُ لهُمْ كَافِرٌ»(1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يكتب بهذه الخطبة إلى أكابر أصحابه وفيها كلام رسول الله صلى الله عليه وآله» وذكر الخطبة إلى أن قال: «من الولي يا رسول الله؟ قال: وليكم في هذا الزمان أنا، ومن بعدي وصيي، ومن بعد وصيي لكل زمان حجج الله»، ثم ذكر كلاماً طويلاً في الأوصياء من آدم إلى أن قال: «فلم يزل الأنبياء و الأوصياء يتوارثون ذلكحتى انتهى الأمر إليّ، وأنا أدفع ذلك إلى علي وصيي، وهو مني بمنزلة هارون من موسى، وإن علياً يورث ولده حيهم عن ميتهم، فمن سره أن يدخل جنة ربه فليتول علياً والأوصياء من بعده، وليسلم لفضلهم، فإنهم الهداة بعدي، أعطاهم الله فهمي وعلمي، فهم عترتي من لحمي ودمي، أشكو إلى الله عدوهم والمنكر لهم فضلهم، القاطع عنهم صلتي، فمثل أهل بيتي في هذه الأمة كمثل سفينة نوح، من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك، ومثل باب حطة في بني إسرائيل من دخله غفر له» الحديث، وفي آخره ذكر المهدي (عليه السلام) (2).

أسوأ الناس

مسألة: يستحب بيان أن القوم الذين غصبوا الخلافة والذين رضوا بالغصب هم أسوأ الناس، حيث قالت الصديقة فاطمة (عليها السلام):

ص: 112


1- كفاية الأثر في النص على الأئمة الإثني عشر: ص146 باب ما روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (صلوات الله عليه) عن النبي (صلى الله عليه وآله) في النصوص على الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام).
2- إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات: ج 2 ص224 الفصل التاسع و الأربعون.

«...أسوأ...».

فإن مخالفة الرسول (صلى الله عليه وآله) وخاصة في أمر مهم كالخلافة التي أدى غصبها ولا يزال يؤدي باستمرار إلى مشاكل ومصاعب ومصائب جمة لا تعد ولاتحصى، وقد تركت المسلمين يكتوون بنارها إلى اليوم، هو أسوأ عمل قام به شخص على مر التاريخ.

فليس في كلامها (عليها السلام) أدنى مبالغة، بالإضافة إلى أنه لو ترك الأمر إلى صاحبه لأدخل كل الناس في الإسلام، ووفر لهم الرفاه والازدهار وسعادة الدارين.

قال سبحانه: «وَلوْ أَنَّ أَهْل القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لفَتَحْنا عَليْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ والأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ»(1).

فعلى أولئك القوم يقع وزر وإثم كل كفر وفسق وفجور.

عَنْ حَنَانِ بْنِ سَدِيرٍ، عَنْ أَبِيهِ قَال: سَأَلتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) عَنْهُمَا، فَقَال: «يَا أَبَا الفَضْل مَا تَسْأَلنِي عَنْهُمَا فَوَ اللهِ مَا مَاتَ مِنَّا مَيِّتٌ قَطُّ إلاّ سَاخِطاً عَليْهِمَا، ومَا مِنَّا اليَوْمَ إلاّ سَاخِطاً عَليْهِمَا، يُوصِي بِذَلكَ الكَبِيرُ مِنَّا الصَّغِيرَ، إِنَّهُمَا ظَلمَانَا حَقَّنَا، ومَنَعَانَا فَيْئَنَا، وكَانَا أَوَّل مَنْ رَكِبَ أَعْنَاقَنَا، وبَثَقَا عَليْنَا بَثْقاً فِي الإِسْلامِ لا يُسْكَرُ أَبَداً حَتَّى يَقُومَ قَائِمُنَا أَوْ يَتَكَلمَ مُتَكَلمُنَا».

ثُمَّ قَال: «أَمَا واللهِ لوْ قَدْ قَامَ قَائِمُنَا أَوْ تَكَلمَ مُتَكَلمُنَا لأَبْدَى مِنْ أُمُورِهِمَا مَاكَانَ يُكْتَمُ، ولكَتَمَ مِنْ أُمُورِهِمَا مَا كَانَ يُظْهَرُ، واللهِ مَا أُسِّسَتْ مِنْ بَليَّةٍ ولا قَضِيَّةٍ تَجْرِي عَليْنَا أَهْل البَيْتِ إلاّ هُمَا أَسَّسَا أَوَّلهَا فَعَليْهِمَا لعْنَةُ اللهِ والمَلائِكَةِ والنَّاسِ

ص: 113


1- سورة الأعراف: 96.

أَجْمَعِينَ»(1).

استئمار أهل البيت

مسألة: استئمار أهل البيت (عليهم السلام) واجب في ما ألم بالأمة من الشؤون، وكذا الشؤون العامة بل مطلقاً.

وقول الصديقة (عليها السلام): (لم تستأمرونا)، لوم وتقريع للقوم بتركهم ما وجب عليهم ككبرى كلية من الاستئمار بقول مطلق.

قال الشاعر:

ولو قلدوا الموصى إليه أمورها *** لزُمَّت بمأمون على العثرات

وفي خطبتها الشريفة (عليها الصلاة والسلام) ما يدل على ذلك أيضاً.

ص: 114


1- الكافي: ج 8 ص245 حديث القباب ح340.

نزول العذاب

اشارة

روي: إن فاطمة (عليها السلام) لما أن كان من أمرهم ما كان، قالت: «أما والله فلولا أني أكره أن يصيب البلاء من لا ذنب له، لعلمت أني سأقسم على الله، ثم أجده سريع الإجابة»(1).

------------------------

قانون الأهم والمهم

مسألة: يجب تقديم الأهم على المهم فيما دار الأمر بين واجبين متزاحمين أو محرمين متزاحمين في الجملة، فإنه أمر عقلي وشرعي.

وقد قال سبحانه: «وَلوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لجَعَلنا لمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَ مَعارِجَ عَليْها يَظْهَرُونَ»(2).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيمارووا عنه: «يا عائشة لو لا أن قومك حديثو عهد بشرك، لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض وجعلت لها بابين،

ص: 115


1- راجع الكافي: ج 1 ص460 باب مولد الزهراء فاطمة (عليها السلام) ح5، وفيه: عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ وأَبِي عَبْدِ اللهِ (عليهما السلام) قَالا: «إِنَّ فَاطِمَةَ (عليها السلام) لمَّا أَنْ كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا كَانَ أَخَذَتْ بِتَلابِيبِ عُمَرَ فَجَذَبَتْهُ إِليْهَا ثُمَّ قَالتْ: أَمَا واللهِ يَا ابْنَ الخَطَّابِ لوْلا أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ يُصِيبَ البَلاءُ مَنْ لا ذَنْبَ لهُ لعَلمْتَ أَنِّي سَأُقْسِمُ عَلى اللهِ ثُمَ أَجِدُهُ سَرِيعَ الإِجَابَةِ».
2- سورة الزخرف: 33.

باباً شرقياً وباباً غربياً، وزدت فيها ستة أذرع من الحجر، فإن قريشاً اقتصرتها حيث بنت الكعبة»(1).

والعقل دال على القاعدة المذكورة أيضاً، فإنه إذا دار الأمر بين أن يُقتل إنسان أو تقطع يده، قدّم قطع يده على قتله.

وذلك سواء كان الأهم والمهم من جنس واحد كما مثلناه، أو من جنسين، كما إذا دار الأمر بين الزنا بامرأة أو قطع إصبعها مثلاً، وهكذا في الأموال والأعراض والدماء، لكن اللازم ملاحظة أمرين:

الأول: كون الموضوع من الأهم والمهم.

والثاني: كون الأهم بحيث يمنع من النقيض، وإلاّ فإذا كان الأهم على نحو الترجيح لا على نحو المنع من النقيض فإنه يحكم بالتخيير، إلاّ أن تقديم الأهم يكون عندئذ أفضل.

والصديقة فاطمة (عليها الصلاة والسلام) وازنت - حسب هذه الرواية - بين الدعاء والقسم بما يوجب نزول البلاء،وبين عدم إصابة البلاء من لا ذنب له.

لا يقال: كيف يمكن أن يصيب البلاء من لا ذنب له؟

لأنه يقال: كما قال سبحانه: «وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصيبَنَّ الذينَ ظَلمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً»(2)، فإن من قوانين الكون أن البلاء إذا نزل يعمّ الجميع إلاّ أن يكون هنالك إعجاز، وليس من سنة الله سبحانه وتعالى الإعجاز في كل الأمور، بل إنه يجريها بأسبابها الطبيعية إلاّ ما خرج بالدليل.

ص: 116


1- العمدة: ص317.
2- سورة الأنفال: 25.

والظاهر أن البلاء كان سيحيق بمن كانوا في تلك الفترة وبالأجيال القادمة، لأنهم كانوا من نسلهم، فلو أهلكوا لهلك خلق كثير ممن يتشهد الشهادتين ويوالي أولياء الله ويعادي أعداء الله في امتداد الأزمان، ولذا قالت: «لولا أني أكره أن يصيب البلاء من لا ذنب له».

الدعاء والبلاء

مسألة: يكره الدعاء فيما لو كان يصيب البلاء من لا ذنب له.

فإن إصابة البلاء من لا ذنب له قد يكون من الأهم والمهم المانع من النقيض، وقد لا يكون، فهو جائزبالمعنى الأعم(1).

رُوِيَ عَنِ الصَّادِقِ (عليه السلام) أَنَّهُ قَال: «لمَّا اسْتُخْرِجَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) مِنْ مَنْزِلهِ خَرَجَتْ فَاطِمَةُ (صلوات الله عليها) خَلفَهُ، فَمَا بَقِيَتِ امْرَأَةٌ هَاشِمِيَّةٌ إلاّ خَرَجَتْ مَعَهَا حَتَّى انْتَهَتْ قَرِيباً مِنَ القَبْرِ، فَقَالتْ لهُمْ: خَلوا عَنِ ابْنِ عَمِّي، فَوَ الذِي بَعَثَ مُحَمَّداً أَبِي (صلى الله عليه وآله) بِالحَقِّ إِنْ لمْ تُخَلوا عَنْهُ لأَنْشُرَنَّ شَعْرِي ولأَضَعَنَّ قَمِيصَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) عَلى رَأْسِي ولأَصْرُخَنَّ إِلى اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالى، فَمَا صَالحٌ بِأَكْرَمَ عَلى اللهِ مِنْ أَبِي، ولا النَّاقَةُ بِأَكْرَمَ مِنِّي، ولا الفَصِيل بِأَكْرَمَ عَلى اللهِ مِنْ وُلدِي، قَال سَلمَانُ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ): كُنْتُ قَرِيباً مِنْهَا فَرَأَيْتُ واللهِ أَسَاسَ حِيطَانِ مَسْجِدِ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) تَقَلعَتْ مِنْ أَسْفَلهَا حَتَّى لوْ أَرَادَ رَجُل أَنْ يَنْفُذَ مِنْ تَحْتِهَا لنَفَذَ، فَدَنَوْتُ مِنْهَا فَقُلتُ: يَا سَيِّدَتِي ومَوْلاتِي إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتَعَالى بَعَثَ أَبَاكِ رَحْمَةً فَلا تَكُونِي نَقِمَةً، فَرَجَعَتْ ورَجَعَتِ الحِيطَانُ حَتَّى

ص: 117


1- الجائز بالمعنى الأعم يشمل الواجب والمستحب والمباح والمكروه.

سَطَعَتِ الغَبَرَةُ مِنْ أَسْفَلهَا فَدَخَلتْ فِي خَيَاشِيمِنَا»(1).

القسم في الأدعية المهمة

مسألة: يستحب القسم على الله تبارك وتعالى في الأدعية المهمة.

فإن القسم من القسمة، كأن الأمر يقسم بين هذا وذاك، ويتحمل كل منهما نصف الأمر، والقسم على الله سبحانه نوع من الطلب المؤكد منه ليقضي الحاجة، فكأنه يطلب منه أن يكون إلى جواره في القضية بعد أن كان منفرداً بإرادة حلها، أو أنه يقسم الأمر بين الماضي حيث كان مبتلى بالأمر وكان بعهدته، والمستقبل حيث يطلب من الله تعالى أن يكون هو المتكفل بالحل، فتأمل.

وقد ذكرنا في الأدب أن المادة الواحدة لها معنى واحد وإن اختلفت في الصيغ المختلفة، وما ذكره جملة من الأدباء من المعاني المتعددة للفظ الواحد إذا فتشنا عنها نجدها ترجع إلى معنى عام واحد هو الكلي الذي له مصاديقه المختلفة، والقسم والقسمة وما أشبه كلها باعتبار كونها مادة واحدة تكون بمعنى واحد، وتختلف مصاديقها كاختلاف أفراد الكلي.

وقد ذكرنا استحباب القسم في الأدعية المهمة، لأنه لولا الأهمية لكان الأفضل ترك القسم على الله سبحانه لاحترام الاسم الشريف، قال سبحانه: «وَلا تَجْعَلوا اللهَعُرْضَةً لأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وتَتَّقُوا وتُصْلحُوا بَيْنَ النَّاسِ»(2)، على أحد التفسيرين.

ص: 118


1- الاحتجاج: ج 1 ص86.
2- سورة البقرة: 224.

الظالم وذكر اسمه

مسألة: لا يجب التصريح باسم الظالم إذا لم يكن موضع حاجة وضرورة، ولذا نجد الصديقة (عليها السلام) صرحت في بعض الموارد دون بعض، إذ لكل فائدة، وقد جمعت (صلوات الله عليها) بين الأمرين، بالتنويع في كلماتها.

وهذا أسلوب القرآن الكريم حيث صرح أحياناً بأسماء أعداء الله كفرعون وقابيل وهامان، ولم يصرح أحياناً.

وفي رواية: بعد ما سمعت بضعة المصطفى (عليها السلام) أصواتهم، وهي تبكي حزينة كئيبة، نادت بأعلى صوتها: «يا أبت يا رسول الله: ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة»(1).

مقام الصديقة

مسألة: يستحب بيان مقام فاطمة الزهراء (عليها السلام) عند الله سبحانه، بحيث لو أقسمت على الله تعالى تجده سريع الإجابة.

ويدل على قولها هذا ما دل علىأنها سيدة نساء أهل الجنة(2)، ويدل عليه

ص: 119


1- راجع: الإمامة والسياسة: ج1 ص13، وأعلام النساء: ج3 ص6 و21، بحار الأنوار: ج 28 ص356.
2- انظر كتاب سليم بن قيس الهلالي: ج 2 ص565 الحديث الأول، كفاية الأثر: ص124، كامل الزيارات: ص310 الباب الثاني والمائة ح2، الأمالي للصدوق: ص125 المجلس السادس والعشرون ح7، الاختصاص: ص183، الأمالي للمفيد: ص23 المجلس الثالث ح4، الأمالي للطوسي: ص85 المجلس الثالث ح36، روضة الواعظين: ج 1 ص149 مجلس في ذكر مناقب فاطمة (عليها السلام)، إعلام الورى: ص159، بشارة المصطفى: ج 2 ص277، مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) لابن شهرآشوب: ج 3 ص323 فصل في تفضيلها على النساء، الاحتجاج: ج 1 ص278، الفضائل لابن شاذان القمي: ص135، طرف من الأنباء والمناقب: ص381، الطرائف: ج 1 ص262 ح364، وغيرها.

أيضاً قوله (صلى الله عليه وآله): «إن الله يرضى لرضى فاطمة ويغضب لغضبها»(1)، فإنها (عليها السلام) لو غضبت بما دعاها للدعاء عليهم لاستجاب الله لها دون ريب، كما قال عزوجل: «فَلمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعين»(2).

والنصيب قسم بكسر القاف، فأما اليمين فالقسم، قال أهل اللغة: أصلذلك من القسامة وهي الأيمان تقسم على أولياء المقتول إذا ادعوا دم مقتولهم على ناس اتهموهم به(3).

ص: 120


1- راجع الاحتجاج: ج 2 ص354، إرشاد القلوب: ج 2 ص232، بحار الأنوار: ج 43 ص21 ب3 مناقبها وفضائلها وبعض أحوالها ومعجزاتها (صلوات الله عليها) ح8.
2- سورة الزخرف: 55.
3- معجم مقاييس اللغة: ج 5 ص86 مادة (قسم).

طلب الميراث

اشارة

روي أن فاطمة (صلوات الله عليها) انطلقت إلى أبي بكر فطلبت ميراثها من نبي الله (صلى الله عليه وآله) فقال: إن نبي الله لا يورث!. فقالت: «قال الله: «يُوصيكُمُ اللهُ في أَوْلادِكُمْ للذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ»(1)»(2).

المطالبة بالحق

مسألة: المطالبة بالحق على قسمين، واجب ومستحب، على حسب أنواع الحق، وذلك مما يستفاد من الأدلة الخارجية.

مثلاً: إذا كان في ذمة إنسان لإنسان آخر دينار واحد، لم يجب على صاحبالحق طلبه، أما إذا كانت زوجته مختطفة فالواجب عليه طلبها، لأن ترك المختطف وهتك عرضه حرام شرعاً، بخلاف المثال الأول فإن ترك الدينار حتى عند الناهب ليس من المحرم.

ص: 121


1- سورة النساء: 11.
2- تفسير العياشي: ج 1 ص225 ح49، وسائل الشيعة: ج 26 ص97 ب2 باب أنه إذا اجتمع الأولاد ذكورا وإناثا فللذكر مثل حظ الأنثيين وكذا الإخوة والأجداد والأعمام وأولادهم عدا ما استثني ح8، بحار الأنوار: ج 29 ص119 ب11باب نزول الآيات في أمر فدك وقصصه وجوامع الاحتجاج فيه وفيه قصة خالد وعزمه على قتل أمير المؤمنين عليه السلام ح12.

والظاهر أن مطالبة الصديقة (عليها السلام) ميراثها من ابن أبي قحافة كان واجباً، لكون ذلك من أهم أسباب فضح الغاصبين والظالمين، ومن أهم أدلة ظلمهم وغصبهم لحقها وحق الوصي (عليهما السلام)، ومن أهم طرق الدفاع عن أمير المؤمنين (عليه السلام).

قَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «طَلبُ التَّعَاوُنِ عَلى إِقَامَةِ الحَقِّ دِيَانَةٌ وأَمَانَةٌ»(1).

وعن البَاقِرُ (عليه السلام) فِي خَبَرٍ: «أَنَّهُ رَجَعَ عَليٌّ (عليه السلام) إِلى دَارِهِ فِي وَقْتِ القَيْظِ، فَإِذَا امْرَأَةٌ قَائِمَةٌ تَقُول: إِنَّ زَوْجِي ظَلمَنِي وأَخَافَنِي وتَعَدَّى عَليَّ وحَلفَ ليَضْرِبَنِي، فَقَال (عليه السلام): يَا أَمَةَ اللهِ اصْبِرِي حَتَّى يَبْرُدَ النَّهَارُ ثُمَّ أَذْهَبُ مَعَكِ إِنْ شَاءَ اللهُ، فَقَالتْ: يَشْتَدُّ غَضَبُهُ وحَرْدُهُ عَليَّ، فَطَأْطَأَ رَأْسَهُ ثُمَّ رَفَعَهُ وهُوَ يَقُول: لا واللهِ أَوْ يُؤْخَذَ للمَظْلومِ حَقُّهُ غَيْرَ مُتَعْتِعٍ، أَيْنَ مَنْزِلكِ، فَمَضَى إِلى بَابِهِ فَقَال: السَّلامُ عَليْكُمْ، فَخَرَجَ شَابٌّ، فَقَالعَليٌّ: يَا عَبْدَ اللهِ اتَّقِ اللهَ فَإِنَّكَ قَدْ أَخَفْتَهَا وأَخْرَجْتَهَا، فَقَال الفَتَى: ومَا أَنْتَ وذَاكَ، واللهِ لأُحْرِقَنَّهَا لكَلامِكَ، فَقَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): آمُرُكَ بِالمَعْرُوفِ وأَنْهَاكَ عَنِ المُنْكَرِ تَسْتَقْبِلنِي بِالمُنْكَرِ وتُنْكِرُ المَعْرُوفَ، قَال: فَأَقْبَل النَّاسُ مِنَ الطُّرُقِ ويَقُولونَ: سَلامٌ عَليْكُمْ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، فَسَقَطَ الرَّجُل فِي يَدَيْهِ فَقَال: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ أَقِلنِي عَثْرَتِي فَوَ اللهِ لأَكُونَنَّ لهَا أَرْضاً تَطَؤُنِي، فَأَغْمَدَ عَليٌّ (عليه السلام) سَيْفَهُ وقَال: يَا أَمَةَ اللهِ ادْخُلي مَنْزِلكِ ولا تُلجِئِي زَوْجَكِ إِلى مِثْل هَذَا وشِبْهِه»(2).

ص: 122


1- عيون الحكم والمواعظ: ص319 ح5563.
2- مناقب آل أبي طالب عليهم السلام (لابن شهرآشوب): ج 2 ص106.

الاستدلال والاستشهاد بالكتاب العزيز

مسألة: يستحب الاستدلال والاستشهاد بآيات القرآن الكريم، وإذا توقف إحقاق الحق عليه وجب، كما صنعت الصديقة (صلوات الله عليها)، وفي ذلك ترويج للقرآن الكريم وإحقاق للحق، وملاكه أيضاً يأتي في الأحاديث المروية عن المعصومين (عليهم الصلاة والسلام)، وهكذا بالنسبة إلى الثابت من أقوال الملائكة، وكذلك أقواله سبحانه وتعالى في الأحاديث القدسية، وكذا أقوال سائر الأنبياء والأولياء (عليهم السلام) وحتى العلماء في الجملة، فالملاك في الجميع واحد وإن اختلفت مراتب الاستحباب أو الوجوب.

ثم إن استشهاد الزهراء (عليها الصلاة والسلام) بالآيات بعمومها وإطلاقها، ولا دليل على تخصيصها أو تقييدها، أما ما ذكره ابن أبي قحافة فلا شك أنه مجعول، لأدلة كثيرة ذكرها الكلاميون والفقهاء في الكتب المفصلة(1).

ص: 123


1- ومنها: إنه انقطع عند استدلال الصديقة الزهراء (عليها السلام) بالآية الشريفة، ولو كانت الرواية ثابتة لاستدل بها على تخصيص الكتاب، ومنها: أنه كيف يعقل أن لا يبلغ الرسول (صلى الله عليه وآله) هذه الرواية لمن هو محل ابتلائها أولاً وبالذات - وهم ورثته، ويطلع عليها من ليست محل لابتلائه، ومع قطع النظر عن قبح ذلك ذاتاً فإنه يوجب الاختلاف والشقاق، وما كان أسهل أن يبلغ النبي (صلى الله عليه وآله) الورثة بذلك خاصة وهم سيدة نساء أهل الجنة. ومنها: أن هذه الرواية تصادم نص القرآن الكريم مثل «وَوَرِثَ سُلَيْمانُ دَاوُدَ» كما استشهدت به الصديقة الطاهرة (عليها السلام).

التفريق بين المسلمين

مسألة: تحرم التفرقة بين المسلمين في الأحكام والحقوق، بما لم ينزل الله به سلطاناً، ولذا قالت الصديقة (صلوات الله عليها): «وتحكما فينا خاصة بما لم تحكما في سائر المسلمين».

تكذيب الكتاب

مسألة: يحرم تكذيب كتاب الله تعالى، سواء بالتصريح أو التلميح، بالمطابقة أو الالتزام(1)، وسواء في العموم أو الخصوص، أو الكلي أو الجزئي.

ومنه تكذيب الأول والثاني لعموم آية الإرث بجعل حديث على خلافها، فإنه تكذيب بالحق الظاهر ويوجب العقاب في الآخرة.

وهناك في التاريخ الكثير مما يدل على جهل القوم بالآيات ومخالفتهم لها:

فلما قرأ: «وَفاكِهَةً وأَبًّا»(2) قال: ما الأب؟ثم قال: إن هذا لهو التكلف وما عليك يا ابن الخطاب إلاّ تدري ما الأب(3).

وقد أحرقوا الفجاءة المازني وهو يقول: أنا مسلم(4)، وقطعوا يسار

ص: 124


1- ومنه قول البعض بأن القرآن نزل لزمان خاص ومكان خاص! على خلاف ضرورة الإسلام، أو أن جوهره وروحه من الله أما قالبه وتعبيراته فمن الرسول! أو نظائر ذلك مما وفد إليهم من الغرب أو الشرق.
2- سورة عبس: 31.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 12 ص33.
4- راجع الطبريّ في تاريخه: ج3 ص264، وأحمد بن أعثم الكوفيّ في الفتوح: ج1 ص16، وغيرهما. وقد ذكر القصّة مفصّلا في المتن عن كامل ابن الأثير، وتعرّض لها العلامة الأميني في غديره: ج7 ص156 - 157 و170 - 171 عن عدّة مصادر، فراجع.

السارق وهو خلاف الشرع(1)، ولم يعرفوا ميراث الجدة، فَقَال: لجَدَّةٍ سَأَلتْهُ عَنْ إِرْثِهَا؟ لا أَجِدُ لكِ شَيْئاً فِي كِتَابِ اللهِ وسُنَّةِ نَبِيِّهِ (صلى الله عليه وآله)، فَأَخْبَرَهُ المُغِيرَةُ ومُحَمَّدُ بْنُ مَسْلمَةَ أَنَّ الرَّسُول (صلى الله عليه وآله) أَعْطَاهَا السُّدُسَ، وقَال: أَطْعِمُوا الجَدَّاتِ السُّدُسَ (2).ولم يعرفوا ميراث العمّة والخالة(3)، إلى غيرها مما هو كثير.

ص: 125


1- روى الأميني في الغدير: ج7 ص129 عن جمع بعدّة طرق، منها ما أورده البيهقيّ في سننه: ج8 ص273 - 274، من جهل الخليفة في قطع السارق، إذ روى أنّ رجلا سرق على عهد أبي بكر مقطوعة يده ورجله، فأراد أبو بكر أن يقطع رجله ويدع يده يستطيب بها ويتطهّر بها وينتفع بها .. وانظر أيضاً في الصراط المستقيم: ج2 ص305.
2- انظر التّرمذيّ: ج4 ص420 كتاب الفرائض ب10 ح2100 - 2101، وسنن الدّارميّ: ج2 ص359، وسنن أبي داود:ج 2 ص17، وسنن ابن ماجة: ج3 ص163، ومسند أحمد: ج4 ص224، وسنن البيهقيّ: ج6 ص234، وموطّأ مالك: ج1 ص335، وبداية المجتهد: ج2 ص344، ومصابيح السّنّة: ج2 ص22، وغيرها من المصادر. وقد ذكرها الخاصّة أيضاً، انظر: الغدير: ج7 ص104 - 105، والصّراط المستقيم: ج2 ص296، والسّبعة من السّلف: ص90، والشّافي: ج4 ص193، وتلخيصه: ج4 ص25. وقد قضى في الجدّ سبعين قضيّة، كما صرّح بذلك ابن أبي الحديد في شرحه على النّهج: ج3 ص165، وج4 ص262 (أربعة مجلدات ط مصر)، وروى مائة قضيّة كل منها ينقض الآخر، كما أخرجه البيهقيّ في سننه الكبرى: ج6 ص245 عن عبيدة، ومثله عن المتّقي الهنديّ في كنز العمّال: ج6 ص15 كتاب الفرائض، وفي المبسوط للسرخسي: ج29 ص180: والصّحيح أنّ مذهب عمر لم يستقرّ على شي ء في الجدّ. وهو القائل - كما ذكره ابن أبي الحديد في شرحه:ج1 ص61، وغيره - : من أراد أن يقتحم جراثيم جهنّم فليقل في الجدّ برأيه.
3- راجع الغدير: ج7 ص171.

المطالبة بالميراث

مسألة: يجوز للمرأة أن تطلب بإرثها، والجواز هنا بالمعنى الأعم كما سبق في شرح الخطبة الشريفة.

والإرث من باب المصداق، وكذلك المرأة، وإلا فالحكم شامل للمرأة والرجل، للإرث وغير الإرث.

ومن الواضح أن فدك لم تكن إرثاً بالمعنى الفقهي الأخص لأنها كانت نحلة، وإنما أريد بالإرث المعنى الأعم، أي ما وصل من الرسول (صلى الله عليه وآله) إليها (عليها السلام)، مثل قوله تعالى: «وَأَوْرَثْنَا القَوْمَ الذينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الأَرْضِ ومَغارِبَهَا»(1) وما أشبه ذلك من إطلاق الإرث على غير المعنى الفقهي الخاص بكتاب الإرث.

وهناك احتمال آخر في الباب(2).والاستدلال بآيات الإرث ذكرناه في الفصل الثاني من هذا الكتاب(3).

ص: 126


1- سورة الأعراف: 137.
2- لعل المراد به: أن احتجاجها (عليها السلام) بالإرث، كان من باب التنزل، إذ لا سبيل لهم لإنكار الإرث لأنه الأصل، إلاّ بجعل حديث وافتراء على الدين، أما النحلة فربما يقولون بأنها خلاف الأصل وهي بحاجة إلى دليل، وعلى الرغم من وجود الأدلة الكثيرة والبينة، بل قول سيدة نساء أهل الجنة (عليها السلام) بنفسه كاف لو كانوا يعقلون أو يؤمنون، إلاّ أن إثبات ما هو طبق الأصل أسهل من إثبات ما هو خلافه، مضافاً إلى أن (اليد) دليل الملك دون شك وريب.
3- أي في شرح الخطبة.

غصب الخلافة كفر

مسألة: يستحب بيان أن ما فعله القوم من غصب حق الصديقة فاطمة (عليها السلام) كان كفراً بالله تعالى، وتكذيباً لكتابه عزوجل.

وهل المراد بالكفر هنا الكفر العملي، فالكفر قد يطلق على الاعتقادي وقد يطلق على العملي.

قال سبحانه: «لئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزيدَنَّكُمْ ولئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابي لشَديد»(1).

وقال تعالى: «وَللهِ عَلى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِليْهِ سَبيلاً ومَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العالمين»(2).

وإطلاق الكفر على العملي في الروايات كثير، نعم إذا كان اعتقادهم على خلاف الحق فالكفر بالمعنى الاعتقادي أيضاً.

الكفر العملي:

قال تعالى: «يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا ويُرْبِي الصَّدَقاتِ واللهُ لا يُحِبُّ كُل كَفَّارٍ أَثيم»(3).وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «سِبَابُ

ص: 127


1- سورة إبراهيم: 7.
2- سورة آل عمران: 97.
3- سورة البقرة: 276.

المُؤْمِنِ فُسُوقٌ، وقِتَالهُ كُفْرٌ، وأَكْل لحْمِهِ مَعْصِيَةٌ، وحُرْمَةُ مَالهِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ»(1).

وعَنْ أَبِي حَمْزَةَ قَال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُول: «إِذَا قَال الرَّجُل لأَخِيهِ المُؤْمِنِ أُفٍ، خَرَجَ مِنْ وَلايَتِهِ، وإِذَا قَال أَنْتَ عَدُوِّي، كَفَرَ أَحَدُهُمَا، ولا يَقْبَل اللهُ مِنْ مُؤْمِنٍ عَمَلا وهُوَ مُضْمِرٌ عَلى أَخِيهِ المُؤْمِنِ سُوءاً»(2).

الكفر الاعتقادي

قال تعالى: «إِنَّ الذينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ ويَقْتُلونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ ويَقْتُلونَ الذينَ يَأْمُرُونَ بِالقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَليم»(3).

وقال سبحانه: «إِنَّ الذينَ كَفَرُوا وماتُوا وهُمْ كُفَّارٌ فَلنْ يُقْبَل مِنْ أَحَدِهِمْ مِل ءُ الأَرْضِ ذَهَباً ولوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهمْ عَذابٌ أَليمٌ وما لهُمْ مِنْ ناصِرين»(4).

حرمة الكفر

مسألة: يحرم الكفر بالله تعالى، فإنهمن أشد المحرمات، قال عزوجل: «إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذلكَ لمَنْ يَشاءُ»(5).

ص: 128


1- الكافي: ج 2 ص359 باب السباب ح2.
2- الكافي: ج 2 ص361 باب السباب ح8.
3- سورة آل عمران: 21.
4- سورة آل عمران: 91.
5- سورة النساء: 48 و116.

لا يقال: إن الله سبحانه ليس بمحتاج، فأي ضرر يترتب عليه في الكفر به.

لأنه يقال: لا شك في أنه غني مطلق، إلاّ أن الكافر الذي تمت عليه الحجة غير لائق لأن يحشر مع الذين أحقوا الحق وأبطلوا الباطل، فنفسيته نفسية نارية، ولذلك فإنه سيدخلها، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في بعض الكتب المرتبطة بأصول الدين(1).

ص: 129


1- ومن الوجوه: إن الجزاء هو العمل نفسه لا نتيجته فلا يعقل إلاّ أن يكون هو هو.

احتجاج على الغاصبين

اشارة

وفي حديث غصب فدك، قالت فاطمة (عليها السلام) حين أرادا انتزاعها وهي في يدها:

«أليست في يدي وفيها وكيلي، وقد أكلت غلتها ورسول الله (صلى الله عليه وآله) حي»، قالا: بلى، قالت: «فلم تسألاني في البينة على ما في يدي»، قالا: لأنها فيء المسلمين، فإن قامت بينة وإلاّ لم نمضها، قالت لهما - والناس حولهما يسمعون -: «أفتريدان أن تردا ما صنع رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتحكما فينا خاصة بما لم تحكما في سائر المسلمين، أيها الناس اسمعوا ما ركباها».

قالت: «أرأيتما إن ادّعيت ما في أيدي المسلمين من أموالهم تسألونني البينة أم تسألونهم»، قالا: لا، بل نسألك.

قالت: «فإن ادّعى جميع المسلمين ما في يدي تسألونهم البينة أم تسألونني».

فغضب عمر وقال: إن هذا فيء للمسلمين وأرضهم، وهي في يدي فاطمة تأكل غلتها، فإن أقمت بينة على ما ادّعت أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهبها لها من بين المسلمين وهي فيئهم وحقهم نظرنا في ذلك.

فقالت: «حسبي، أنشدكم بالله أيها الناس، أما سمعتم رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: إن ابنتي سيدة نساء أهل الجنة».

ص: 130

قالوا: اللهم نعم، قد سمعناه من رسول الله (صلى الله عليه وآله).

قالت: «أفسيدة نساء أهل الجنة تدّعي الباطل وتأخذ ما ليس لها»(1).

------------------------------

طلب الحق

مسألة: يستحب طلب الحق بالاستشهاد بحديث رسول الله (صلى الله عليه وآله).

ومن الواضح أن استدلال الصديقة (عليها السلام) بكونها سيدة النساء قوي جداً، فإنه يمتنع عقلاً أن يجعل الله امرأة سيدة نساء الجنة كافة باستثناء مثل الرسول وعلي (صلوات الله عليهما) ثم تدّعي الباطل أو تحاول غصب حق لكافة المسلمين كما ادعياه!، هذا مع قطع النظر عن آية التطهير وغيرها من الأدلة التي قامت على عصمتها (عليها السلام).

وقَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «ثَلاثٌ لا يُسْتَحْيَى مِنْهُنَّ: خِدْمَةُ الرَّجُل ضَيْفَهُ، وقِيَامُهُ عَنْ مَجْلسِهِ لأَبِيهِ ومُعَلمِهِ، وطَلبُ الحَقِ، وإِنْ قَل»(2).

ص: 131


1- كتاب سليم بن قيس الهلالي: ج 2 ص677 الحديث الرابع عشر، بحار الأنوار: ج 30 ض305 ح152.
2- عيون الحكم والمواعظ: ص212 ح4230.

قول ذي اليد

مسألة: قول ذي اليد حجة، ويلزم الأخذ به.

وهذه قاعدة فقهية دل عليها العقل والنقل والعرف، وادعي عليها الاتفاق والاجماع بل والضرورة أيضاً، فمن يدعي خلافها يحتاج إلى البينة وما أشبه، ولا فرق في ذلك بين اليد على الشيء اليسير أو الخطير، بل لا حاجة لقول ذي اليد، إذ تكفي يده حجة إلاّ بقيام دليل أقوى.

عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه

السلام) قَال: قَال لهُ رَجُل: أَرَأَيْتَ إِذَا رَأَيْتُ شَيْئاً فِي يَدَيْ رَجُل أَيَجُوزُ لي أَنْ أَشْهَدَ أَنَّهُ لهُ، قَال: «نَعَمْ»، قَال الرَّجُل: أَشْهَدُ أَنَّهُ فِي يَدِهِ ولا أَشْهَدُ أَنَّهُ لهُ فَلعَلهُ لغَيْرِهِ، فَقَال لهُ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «أَفَيَحِل الشِّرَاءُ مِنْهُ»، قَال: نَعَمْ، فَقَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «فَلعَلهُ لغَيْرِهِ فَمِنْ أَيْنَ جَازَ لكَ أَنْ تَشْتَرِيَهُ ويَصِيرَ مِلكاً لكَ ثُمَّ تَقُول بَعْدَ المِلكِ هُوَ لي وتَحْلفَ عَليْهِ، ولا يَجُوزُ أَنْ تَنْسُبَهُ إِلى مَنْ صَارَ مِلكُهُ مِنْ قِبَلهِ إِليْكَ»، ثُمَّ قَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «لوْ لمْ يَجُزْ هَذَا لمْ يَقُمْ للمُسْلمِينَسُوقٌ»(1).

قال النراقي (رحمه الله): (ولا شكّ في صدق الكون في اليد عرفاً فيما كان تحت اختياره ويتصرّف فيه تصرفات ملكية، كالبيع والإجارة والإعارة ونحوها. وكذا فيما يستعمله وينتفع به ويتصرّف فيه بالإفساد والإصلاح، كالركوب والحمل في الدابة، والعمارة والتخريب في الدار، والغرس والزرع في الأرض، وهكذا. ومن وجوه الاستعمال: وضع متاعه أو جنس آخر بل مطلق ماله فيه،

ص: 132


1- الكافي: ج 7 ص387 ح1.

للصدق العرفي. وهل تصدق اليد على شي ء بكونه في مكانه المختص به، ملكاً أو استئجاراً أو عارية، كغلة في بيته، أو دابّة في مذوده، أو متاع في دكّته؟ الظاهر: نعم، للصدق العرفي)(1).

إقامة الدليل بعد الدليل

مسألة: يستحب وقد يجب، إقامة الدليل بعد الدليل على كون المحق محقاً، كما صنعت الصديقة (صلوات الله عليها). وهذا غير المطالبة به كما لا يخفى.

وربما يكون من التأكيد الذي مربحثه في مطاوي الكتاب.

نقض قانون اليد

مسألة: إلجاء ذي اليد إلى إقامة الدليل على ملكيته لما يده عليه محرم، فإنه نقض لحكم الله، واطّراح للأمارة الشرعية، فنفس مطالبتها (صلوات الله عليها) بالدليل محرم، حتى مع قطع النظر عما استلزمه من إيذائها وظلمها (عليها السلام).

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «مَنِ اسْتَوْلى عَلى شَيْ ءٍ مِنْهُ فَهُوَ لهُ»(2).

ص: 133


1- عوائد الأيام في بيان قواعد الأحكام: ص739 - 740.
2- وسائل الشيعة: ج 26 ص216 ب8 باب حكم اختلاف الزوجين أو ورثتهما في متاع البيت ح3.

فدك في يد الصديقة

مسألة: يستحب بيان أن فدك كانت في يد الصديقة فاطمة (عليها السلام) وفيها وكيلها وقد أكلت غلتها ورسول الله (صلى الله عليه وآله) حي.

فإن بيان مثل ذلك يوجب نصرتها (عليها السلام) وبيان بطلان حجة وموقف خصومها، فهو من نصرتهم (عليهم الصلاة والسلام)، بالإضافة إلى أنه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن شؤون الولاية، ومما يوجب الهداية، إلى غيرها.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «مَا قُدِّسَتْ أُمَّةٌ لمْ يُؤْخَذْ لضَعِيفِهَا مِنْ قَوِيِّهَا بِحَقِّهِ غَيْرَ مُتَعْتَعٍ»(1).

تقرير المعصوم

مسألة: تقرير المعصوم (عليه السلام) حجة، ومن أدلة الصديقة (عليها السلام) استنادها إلى تقرير النبي (صلى الله عليه وآله) إذ قالت: (وقد أكلت غلتها ورسول الله (صلى الله عليه وآله) حي).

ومن الواجب في الجملة أن يتصدىجمع لجمع اعترافات الخصوم بالحق في الأصول والفروع، سواء كان اعترافهم بالمطابقة أو التضمن أو الالتزام، أو حتى بمثل دلالة الاقتضاء، كما فيما يلزم من الجمع بين كلامين لهم.. وهكذا، فإن في ذلك نصرة للحق.

ص: 134


1- الكافي: ج 5 ص56 باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكرح2.

قالوا: المقصود من تقرير المعصوم (عليه السلام) أن يفعل شخص بمشهد المعصوم وحضوره فعلا، فيسكت المعصوم عنه مع توجّهه إليه ... فإنّ سكوت المعصوم عن ردع الفاعل أو عن بيان شي ءٍ حول الموضوع لتصحيحه يسمّى تقريراً للفعل، أو إقراراً عليه، أو إمضاءً له(1).

الاستدلال غير المباشر

مسألة: الاستدلال قد يكون مباشراً، وقد يكون غير مباشر(2)، والواجب منه ماتوقف عليه إحقاق الحق، وقد يُلزم الخصم بما يلتزم به من دون علمه بأنه يستلزم كذا وكذا.

ومنه المقام حيث ألزمتهم الصديقة الطاهرة (عليها السلام) بلازم ما اعترفوا به من سماعهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: «إن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة»(3).

ص: 135


1- أصول الفقه، للمظفر : ج3 ص61.
2- لعل المراد به: أن احتجاجها (عليها السلام) بالإرث كان من باب التنزل، إذ لا سبيل لهم لإنكار الإرث لأنه الأصل، إلاّ بجعل حديث، أما النحلة فربما يقولون بأنها خلاف الأصل وهي بحاجة إلى دليل، وعلى الرغم من وجود الأدلة الكثيرة والبينة، بل قول سيدة نساء أهل الجنة بنفسه كاف لو كانوا يعقلون أو يؤمنون، إلاّ أن إثبات ما هو طبق الأصل أسهل من إثبات ما هو خلافه، مضافا إلى أن (اليد) دليل الملك دون شك وريب.
3- بحار الأنوار: ج21 ص279 ب32.

حرمة الكذب ودرجاتها

مسألة: الكذب حرام، وتشتد حرمته إذا صدر من ذي موقع خطير بحق أو بباطل، كما تشتد الحرمة إذا كان لغمط حق الأولياء، فكيف بالأوصياء وأبناء الأنبياء (عليهم السلام).

كما تشتد إذا كان الكذب في حقٍ عظيمٍ مثل الحق الذي نحله رسول الله بضعته الزهراء (عليهما السلام).

ومن أظهر مصاديق الكذب الذي جمع كل تلك الخصال الموجبة لاشتداد الحرمة، قول الأول والثاني: لأنها - أي فدك - فيء المسلمين.

الخصم يعترف

مسألة: يستحب بيان أن خصمها (عليها السلام) قد اعترف بأن فدك كانت في يدها ومع ذلك غصب ما نحله رسول الله (صلى الله عليه وآله).

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «لمَّا قُبِضَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) وجَلسَ أَبُو بَكْرٍ مَجْلسَهُ، بَعَثَ إِلى وَكِيل فَاطِمَةَ (صلوات الله عليها) فَأَخْرَجَهُ مِنْ فَدَكَ»(1) الحديث.

ص: 136


1- الاختصاص: ص183 حديث فدك.

رد صنع الرسول

مسألة: يحرم رد ما صنعه الرسول (صلى الله عليه وآله) ومخالفته، سواء في ذلك ما صنعه باعتبار مقام رسالته أم باعتبار مقام حكومته أم باعتبار مقام مالكيته الشخصية، أو غيرها.

فإن ما جاء به رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقام به واجب الاتباع في الصور المذكورة.

قال تعالى: «وَما آتاكُمُ الرَّسُول فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَ اتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَديدُ العِقابِ»(1).

وقال سبحانه: «أَطيعُوا اللهَ وَ أَطيعُوا الرَّسُول»(2).

وقال تعالى: «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ»(3).

وعَنْ أَبِي الرَّبِيعِ الشَّامِيِّ قَال: سَأَلتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) عَنْ قَوْل اللهِ عَزَّ وَ جَل: «يا

أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَ للرَّسُول إِذا دَعاكُمْ لما يُحْيِيكُمْ»(4). قَال: «نَزَلتْ فِي وَلايَةِ عَليٍّ عليهالسلام»(5).

ص: 137


1- سورة الحشر: 7.
2- سورة النساء : 59، سورة المائدة: 92، سورة النور: 54، سورة محمد: 33، سورة التغابن: 12.
3- سورة النساء: 80.
4- سورة الأنفال: 24.
5- الكافي: ج 8 ص248 ح349.

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم قريظة: «يا معشر قريش، احفظوا وصيتي، إن علياً إمامكم بعدي، بذلك أنبأني جبرئيل (عليه السلام) عن ربي عز ذكره. إلاّ إنكم إن لم تؤتوه أموركم اختلفتم، وتولى عليكم أشراركم. إلاّ إن أهل بيتي هم الوارثون لي، والقائمون من أمتي. اللهم من أطاعهم فثبته، ومن نصرهم فانصره، ومن خالف أمري وأقام إماماً لم أقمه وترك إماماً أقمته ونصبته فأحرمه جنتك، والعنه على لسان أنبيائك»(1).

سيدة نساء الجنة

مسألة: يستحب بيان أن الصديقة فاطمة (عليها السلام) سيدة نساء الجنة(2)، وأنالقوم اعترفوا بذلك وشهدوا به.

فهي (عليها السلام) مضافاً إلى كونها سيدة نساء أهل الدنيا وسيدة نساء العالمين(3)، هي سيدة أهل الآخرة أيضاً.

ص: 138


1- رجال البرقي: ص63 أبو أيوب الأنصاري.
2- راجع الأمالي للمفيد: ص22، 116، بشارة المصطفى (صلى الله عليه وآله): ص113، الأمالي للصدوق: ص125، الخصال: ص553، 559، 572، عيون الأخبار: ص267، كمال الدين: ص262، الإرشاد: ج1 ص36، 352، الاختصاص: ص183، المناقب لابن شهرآشوب: ج2 ص341، ج2 ص322، 394، كشف الغمّة: ج1 ص34، 255، 284، 495، ج2 ص10، الخرائج: ص209، روضة الواعظين: ص148، الاحتجاج: ص278، إرشاد القلوب: ص259، 428، إعلام الورى: ص159، البخاري: ج4 ص219.
3- علل الشرائع: ص156، شرح نهج البلاغة: ج14 ص191، ج 15 ص278، الخرائج: ص909، تفسير الإمام العسكريّ (عليه السلام): ص432، الأمالي للصدوق: ص25، 26، 57، 112، 178، 192، 467، 473، 486، معاني الأخبار: ص58، 107، 124، 306، 369، كمال الدين: ص256، 260، 305، الإرشاد: ج1 ص5، 354، ج2 ص5، الاختصاص: ص14، 90، 37، الفصول المختارة: ص168، شرح نهج البلاغة: ج1 ص30، ج9 ص174، 193، 325، ج10 ص265، ج13 ص108، ج14 ص23، 191، ج15 ص278، 279، ج16 ص17، 20، 181، المناقب: ج1 ص218، ج2 ص169، 181، 342، ج3 ص28، 323، 360، 362، كشف الغمّة: ج1 ص80، 348، 360، 366، 440، 444، 452، ج2 ص120، الإقبال: ص60، 295، 332، 335، تأويل الآيات: ص600، تفسير العياشي: ج1 ص174، روضة الواعظين: ص100، 102، 124، 149، 254، 255. الاحتجاج: ص134، 214، إرشاد القلوب: ص221، 231، 295، 315، 323، إعلام الورى: ص150، 151، 154، 158، 203، كنز الفوائد: ج2 ص12، بشارة المصطفى (صلى الله عليه وآله): ص16، 23، 34، دلائل الإمامة: ص10، 47، 54.

وبيان أن القوم شهدوا بذلك تقويةلجانبها (عليها السلام) ومزيد إتمام الحجة عليهم، فإن (الفضل ما شهدت به الأعداء).

التأكيد على السماع

مسألة: يستحب وقد يجب التأكيد على السامع بالسماع كي لا يدعي الغفلة بعده، ولغير ذلك، وقد قالت الصديقة (صلوات الله عليها): «أيها الناس اسمعوا ما ركباها».

قال تعالى: «وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ المُنادِ مِنْ مَكانٍ قَريب»(1).

وقال عزوجل: «وَإِذا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لهُ وَأَنْصِتُوا لعَلكُمْ

ص: 139


1- سورة ق: 41.

تُرْحَمُونَ»(1).

وقال سبحانه: «يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَل فَاسْتَمِعُوا لهُ»(2).

الغضب بالباطل

مسألة: يحرم الغضب بالباطل ومنه المقام حيث غضب ابن الخطاب.وفي الدعاء: «اللهُمَّ إِنيِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَيَجَانِ الحِرْصِ، وسَوْرَةِ الغَضَب»(3).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: سَمِعْتُ أَبِي (عليه السلام) يَقُول: «أَتَى رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) رَجُل بَدَوِيٌّ فَقَال: إِنِّي أَسْكُنُ البَادِيَةَ فَعَلمْنِي جَوَامِعَ الكَلامِ، فَقَال: آمُرُكَ أَنْ لا تَغْضَبَ، فَأَعَادَ عَليْهِ الأَعْرَابِيُّ المَسْأَلةَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، حَتَّى رَجَعَ الرَّجُل إِلى نَفْسِهِ فَقَال: لا أَسْأَل عَنْ شَيْ ءٍ بَعْدَ هَذَا مَا أَمَرَنِي رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) إلاّ بِالخَيْرِ، قَال: وكَانَ أَبِي يَقُول: أَيُّ شَيْ ءٍ أَشَدُّ مِنَ الغَضَبِ إِنَّ الرَّجُل ليَغْضَبُ فَيَقْتُل النَّفْسَ التِي حَرَّمَ اللهُ ويَقْذِفُ المُحْصَنَةَ»(4).

وقَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «الغَضَبُ مِفْتَاحُ كُل شَرٍّ»(5).

وروِي عَنِ العَالمِ (عليه السلام) أَنَّ رَجُلا سَأَلهُ فَقَال: يَا ابْنَ رَسُول اللهِ (صلى

ص: 140


1- سورة الأعراف: 204.
2- سورة الحج: 73.
3- الصحيفة السجادية: الدعاء رقم 8 وكان من دعائه (عليه السلام) في الاستعاذة من المكاره وسيئ الأخلاق ومذام الأفعال.
4- الكافي: ج 2 ص303 باب الغضب ح4.
5- الكافي: ج 2 ص303 باب الغضب ح3.

الله عليه وآله) عَلمْنِي مَا يَجْمَعُ لي خَيْرَ الدُّنْيَا والآخِرَةِ ولا تُطَوِّل عَليَّ، فَقَال: «لا تَغْضَبْ»(1).

التشكيك في فعل النبي

مسألة: يحرم التشكيك فيما صنعه رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو التوقف أو الاجتهاد في مقابل النص، وهما ما اجترحه الثاني ههنا، حيث قال: (فإن أقمت بينة على ما ادعت أن رسول الله وهبها .. نظرنا في ذلك) (2).

ص: 141


1- الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا (عليه السلام): ص390.
2- للتفصيل انظر كتاب (النص والجتهاد) للمرحوم السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي.

أتراك محرقاً بابي

اشارة

قالت فاطمة (عليها السلام): «يا بن الخطاب أتراك محرقاً عليّ بابي»؟ قال: نعم، وذلك أقوى فيما جاء به أبوك(1).

-----------------------

إلفات الظالم

مسألة: يستحب وقد يجب إلفات الظالم إلى ظلمه وجريمته وإن كان عالماً به، كما قالت الصديقة فاطمة (عليها السلام) للثاني: «أتراك...».

والإلفات إنما يكون لإتمام الحجة عليه وعلى الساكتين عنه أو الراضين بفعله، ولتثبيت الظلامة في صفحات التاريخ، كما في المقام، وأما في غيره فقد يكون أيضاً من جهة احتمال الانقلاع والارتداع، فقد يقدم شخص على فعل حرام أو ترك واجب فإذا نبه انقلع عن الحرام أو فَعَل الواجب، وإن كان هو بنفسه ملتفتاً، فإن للكلام تأثيراً ليس في السكوت كثيراً ما.

قال سبحانه: [وَإِذْ قَالتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلعَلهُمْيَتَّقُونَ](2).

ص: 142


1- بحار الأنوار: ج 28 ص389.
2- سورة الأعراف: 164.

ثم إن المعذرة إلى الله تعالى هي فائدة أخرى في تذكير من يعلم، فهذه فوائد خمس لتذكير الملتفت(1) لا على نحو الحصر، بل فوائده أكثر(2).

وفيما نحن فيه كانت الصديقة (عليها السلام) تعلم بأن ظالمها لا يرتدع، فإنهم أسلموا طمعاً لا طوعاً(3)، فكيفيتخلون عن مطامعهم، وهم يرون الأمور لهم

ص: 143


1- وهي: ألف: إتمام الحجة عليه. ب: إتمام الحجة على الآخرين. ج: تثبيت الظلامة في التاريخ. د: الانقلاع والارتداع. ه: المعذرة إلى الله تعالى.
2- كتشجيع الآخرين على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن السلوك العملي أكبر مربٍ، وكالتلقين فإن من ينهى الظالم يقوم بإيحاء نفسي لنفسه كي لا يظلم.
3- فإنهم علموا من بعض الكهنة وعلماء اليهود ومن أشبه، أنه سيظهر دين الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وسيملك العباد والبلاد، فأسلموا كي ينالوا من الدنيا بإسلامهم الظاهري ما لم يصلوا إليه بكفرهم. قال عليه السلام: «...بَل أَسْلمَا طَمَعاً وذَلكَ بِأَنَّهُمَا كَانَا يُجَالسَانِ اليَهُودَ ويَسْتَخْبِرَانِهِمْ عَمَّا كَانُوا يَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ وفِي سَائِرِ الكُتُبِ المُتَقَدِّمَةِ النَّاطِقَةِ بِالمَلاحِمِ مِنْ حَال إِلى حَال مِنْ قِصَّةِ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) ومِنْ عَوَاقِبِ أَمْرِهِ فَكَانَتِ اليَهُودُ تَذْكُرُ أَنَّ مُحَمَّداً يُسَلطُ عَلى العَرَبِ كَمَا كَانَ بُخْتَ نَصَّرُ سُلطَ عَلى بَنِي إِسْرَائِيل ولا بُدَّ لهُ مِنَ الظَّفَرِ بِالعَرَبِ كَمَا ظَفِرَ بُخْتَ نَصَّرُ بِبَنِي إِسْرَائِيل غَيْرَ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِي دَعْوَاهُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، فَأَتَيَا مُحَمَّداً فَسَاعَدَاهُ عَلى شَهَادَةِ أَنْ لا إِلهَ إلاّ اللهُ وبَايَعَاهُ طَمَعاً فِي أَنْ يَنَال كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ جِهَتِهِ وَلايَةَ بَلدٍ إِذَا اسْتَقَامَتْ أُمُورُهُ واسْتَتَبَّتْ أَحْوَالهُ فَلمَّا أَيِسَا مِنْ ذَلكَ تَلثَّمَا وصَعِدَا العَقَبَةَ مَعَ عِدَّةٍ مِنْ أَمْثَالهِمَا مِنَ المُنَافِقِينَ عَلى أَنْ يَقْتُلوهُ فَدَفَعَ اللهُ تَعَالى كَيْدَهُمْ ورَدَّهُمْ (بِغَيْظِهِمْ لمْ يَنالوا خَيْراً) كَمَا أَتَى طَلحَةُ والزُّبَيْرُ عَليّاً (عليه السلام) فَبَايَعَاهُ وطَمَعَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَنَال مِنْ جِهَتِهِ وَلايَةَ بَلدٍ فَلمَّا أَيِسَا نَكَثَا بَيْعَتَهُ وخَرَجَا عَليْهِ فَصَرَعَ اللهُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَصْرَعَ أَشْبَاهِهِمَا مِنَ النَّاكِثِين...». كمال الدين وتمام النعمة: ج 2 ص463 ب43 باب ذكر من شاهد القائم عليه السلام ورآه وكلمه ح21، دلائل الإمامة: ص516 معرفة من شاهده في حياة أبيه (عليه وعلى آبائه الصلاة والسلام)، حلية الأبرار في أحوال محمد وآله الأطهار (عليهم السلام): ج 6 ص222 الباب الخامس عشر في علمه عليه السلام، مدينة معاجز: ج 8 ص60 الخامس عشر: خبر أحمد بن إسحاق الوكيل وسعد بن عبد الله القمي وهو خبر مشهور، بحار الأنوار: ج 31 ص623 ومما ورد فيهما أو فيهم ح111، بحار الأنوار: ج 52 ص86 ب19 خبر سعد بن عبد الله ورؤيته للقائم ومسائله عنه عليه السلام ح1، رياض الأبرار في مناقب الأئمة الأطهار: ج 3 ص114 الفصل الرابع في معجزاته وفي أحوال سفرائه وتكذيب غيرهم وفيمن رآه.

مستوسقة، والدنيا بزخرفها وزبرجها عليهم مقبلة، فكان نهيها (عليها السلام) عن المنكر لأجل سائر الفوائد المذكورة.

حرق الباب

مسألة: يستحب بيان أن خصم الصديقة (عليها السلام) أحرق بابها، وقد يجب.

فإن ذلك نوع بيان للمظلومية الموجب للالتفاف حول العترة (عليهم السلام) أكثر فأكثر، والمسبب للابتعاد عن أولئك الطغاة أكثر فأكثر، وكلاهما يوجب خير الدنيا والآخرة على ما ذكرنا مثله في البنود السابقة.

فضح الظالم

مسألة: يجوز وقد يجب، ذكر اسم أو لقب أو كنية الظالم كي يعرفه الناس، فينفصلوا من حوله، وقد سبق مثله.

ص: 144

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَال: ذُكِرَتِ الخِلافَةُ عِنْدَ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَليِّ بْنِ أَبِي طَالبٍ (عليه السلام) فَقَال: «أَمَا واللهِ لقَدْ تَقَمَّصَهَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ أَخُو تَيْمٍ، وإِنَّهُ ليَعْلمُ أَنَّ مَحَلي مِنْهَا مَحَل القُطْبِ مِنَ الرَّحَى يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْل ولا يَرْقَى إِليَّ الطَّيْرُ، فَسَدَلتُ دُونَهَا ثَوْباً وطَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً وطَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُول بِيَدٍ جَذَّاء...» (1).

وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سُليْمَانَ قَال: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) يَقُول: كَانَ عَليٌّ(عليه السلام) يَقُول: «لوْلا مَا سَبَقَنِي بِهِ بَنِي الخَطَّابِ مَا زَنَى إلاّ شَقِيٌ»(2).

استدراج الخصم ليعترف

مسألة: يجوز وقد يجب استدراج الخصم او استنطاقه ليقر بجريمته بلسانه، فإنه أقطع لعذر الجاهلين والمشككين وأقوى في الحجة، ولذلك ولغيره قالت الصديقة الطاهرة (عليها السلام): «يا ابن الخطاب أتراك محرقاً علي بابي».

وقَالتْ (عليها السلام): «نَشَدْتُكُمَا بِاللهِ هَل سَمِعْتُمَا رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُول: فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي فَمَنْ آذَاهَا فَقَدْ آذَانِي؟ قَالا: نَعَمْ، فَرَفَعَتْ يَدَهَا إِلى السَّمَاءِ فَقَالتْ: اللهُمَّ إِنَّهُمَا قَدْ آذَيَانِي فَأَنَا أَشْكُوهُمَا إِليْكَ وإِلى رَسُولكَ لا واللهِ لا أَرْضَى عَنْكُمَا أَبَداً حَتَّى أَلقَى أَبِي رَسُول اللهِ وأُخْبِرَهُ بِمَا صَنَعْتُمَا فَيَكُونَ هُوَ الحَاكِمَ فِيكُمَا، قَال: فَعِنْدَ ذَلكَ دَعَا أَبُو بَكْرٍ بِالوَيْل والثُّبُورِ وجَزِعَ جَزَعاً

ص: 145


1- علل الشرائع: ج 1 ص150 ب122 باب العلة التي من أجلها ترك أمير المؤمنين (عليه السلام) مجاهدة أهل الخلاف ح12.
2- الكافي: ج 5 ص448 أبواب المتعة ح2.

شَدِيداً»(1).

وعَنْ يُونُسَ بْنِ يَعْقُوبَ قَال: كَانَ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِمِنْهُمْ حُمْرَانُ بْنُ أَعْيَنَ ومُحَمَّدُ بْنُ النُّعْمَانِ وهِشَامُ بْنُ سَالمٍ والطَّيَّارُ وجَمَاعَةٌ فِيهِمْ هِشَامُ بْنُ الحَكَمِ وهُوَ شَابٌّ، فَقَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «يَا هِشَامُ إلاّ تُخْبِرُنِي كَيْفَ صَنَعْتَ بِعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ وكَيْفَ سَأَلتَهُ»، فَقَال هِشَامٌ: يَا ابْنَ رَسُول اللهِ إِنِّي أُجِلكَ وأَسْتَحْيِيكَ ولا يَعْمَل لسَانِي بَيْنَ يَدَيْكَ، فَقَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْ ءٍ فَافْعَلوا»، قَال هِشَامٌ: بَلغَنِي مَا كَانَ فِيهِ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ وجُلوسُهُ فِي مَسْجِدِ البَصْرَةِ فَعَظُمَ ذَلكَ عَليَّ فَخَرَجْتُ إِليْهِ ودَخَلتُ البَصْرَةَ يَوْمَ الجُمُعَةِ، فَأَتَيْتُ مَسْجِدَ البَصْرَةِ فَإِذَا أَنَا بِحَلقَةٍ كَبِيرَةٍ فِيهَا عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، وعَليْهِ شَمْلةٌ سَوْدَاءُ مُتَّزِراً بِهَا مِنْ صُوفٍ وشَمْلةٌ مُرْتَدِياً بِهَا والنَّاسُ يَسْأَلونَهُ، فَاسْتَفْرَجْتُ النَّاسَ فَأَفْرَجُوا لي، ثُمَّ قَعَدْتُ فِي آخِرِ القَوْمِ عَلى رُكْبَتَيَّ ثُمَّ قُلتُ: أَيُّهَا العَالمُ إِنِّي رَجُل غَرِيبٌ تَأْذَنُ لي فِي مَسْأَلةٍ؟

فَقَال لي: نَعَمْ، فَقُلتُ لهُ: أَلكَ عَيْنٌ، فَقَال: يَا بُنَيَّ أَيُّ شَيْ ءٍ هَذَا مِنَ السُّؤَال وشَيْ ءٌ تَرَاهُ كَيْفَ تَسْأَل عَنْهُ، فَقُلتُ: هَكَذَا مَسْأَلتِي، فَقَال: يَا بُنَيَّ سَل وإِنْ كَانَتْ مَسْأَلتُكَ حَمْقَاءَ، قُلتُ: أَجِبْنِي فِيهَا، قَال لي: سَل، قُلتُ: أَ لكَ عَيْنٌ، قَال: نَعَمْ، قُلتُ: فَمَا تَصْنَعُ بِهَا، قَال: أَرَى بِهَا الأَلوَانَ والأَشْخَاصَ، قُلتُ: فَلكَ أَنْفٌ، قَال:نَعَمْ، قُلتُ: فَمَا تَصْنَعُ بِهِ، قَال: أَشَمُّ بِهِ الرَّائِحَةَ، قُلتُ: أَ لكَ فَمٌ، قَال: نَعَمْ، قُلتُ: فَمَا تَصْنَعُ بِهِ، قَال: أَذُوقُ بِهِ الطَّعْمَ، قُلتُ: فَلكَ أُذُنٌ، قَال: نَعَمْ، قُلتُ: فَمَا تَصْنَعُ بِهَا، قَال: أَسْمَعُ بِهَا الصَّوْتَ، قُلتُ

ص: 146


1- كتاب سليم بن قيس الهلالي: ج 2 ص869 الحديث الثامن والأربعون.

: أَلكَ قَلبٌ، قَال: نَعَمْ، قُلتُ: فَمَا تَصْنَعُ بِهِ، قَال: أُمَيِّزُ بِهِ كُل مَا وَرَدَ عَلى هَذِهِ الجَوَارِحِ والحَوَاسِّ، قُلتُ: أَوليْسَ فِي هَذِهِ الجَوَارِحِ غِنًى عَنِ القَلبِ، فَقَال: لا، قُلتُ: وكَيْفَ ذَلكَ وهِيَ صَحِيحَةٌ سَليمَةٌ، قَال: يَا بُنَيَّ إِنَّ الجَوَارِحَ إِذَا شَكَّتْ فِي شَيْ ءٍ شَمَّتْهُ أَوْ رَأَتْهُ أَوْ ذَاقَتْهُ أَوْ سَمِعَتْهُ رَدَّتْهُ إِلى القَلبِ فَيَسْتَيْقِنُ اليَقِينَ ويُبْطِل الشَّكَّ.

قَال: هِشَامٌ: فَقُلتُ لهُ: فَإِنَّمَا أَقَامَ اللهُ القَلبَ لشَكِّ الجَوَارِحِ، قَال: نَعَمْ، قُلتُ: لابُدَّ مِنَ القَلبِ وإِلا لمْ تَسْتَيْقِنِ الجَوَارِحُ، قَال: نَعَمْ، فَقُلتُ لهُ: يَا أَبَا مَرْوَانَ فَاللهُ تَبَارَكَ وتَعَالى لمْ يَتْرُكْ جَوَارِحَكَ حَتَّى جَعَل لهَا إِمَاماً يُصَحِّحُ لهَا الصَّحِيحَ ويَتَيَقَّنُ بِهِ مَا شُكَّ فِيهِ، ويَتْرُكُ هَذَا الخَلقَ كُلهُمْ فِي حَيْرَتِهِمْ وشَكِّهِمْ واخْتِلافِهِمْ لا يُقِيمُ لهُمْ إِمَاماً يَرُدُّونَ إِليْهِ شَكَّهُمْ وحَيْرَتَهُمْ، ويُقِيمُ لكَ إِمَاماً لجَوَارِحِكَ تَرُدُّ إِليْهِ حَيْرَتَكَ وشَكَّكَ؟

قَال: فَسَكَتَ ولمْ يَقُل لي شَيْئاً، ثُمَّ التَفَتَ إِليَّ فَقَال لي: أَنْتَ هِشَامُ بْنُ الحَكَمِ؟ فَقُلتُ: لا، قَال: أَمِنْ جُلسَائِهِ قُلتُ: لا، قَال: فَمِنْ أَيْنَ أَنْتَ، قَال: قُلتُ: مِنْ أَهْل الكُوفَةِ، قَال: فَأَنْتَ إِذاً هُوَ، ثُمَّ ضَمَّنِي إِليْهِ وأَقْعَدَنِي فِي مَجْلسِهِ وزَال عَنْ مَجْلسِهِ ومَا نَطَقَ حَتَّى قُمْتُ.

قَال: فَضَحِكَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) وقَال: «يَا هِشَامُ مَنْ عَلمَكَ هَذَا»، قُلتُ: شَيْ ءٌ أَخَذْتُهُ مِنْكَ وأَلفْتُهُ، فَقَال: «هَذَا واللهِ مَكْتُوبٌ فِي صُحُفِ إِبْراهِيمَ ومُوسى»(1).

ص: 147


1- الكافي: ج 1 ص170 باب الإضطرار إلى الحجة ح3.

كفر واضح

مسألة: يحرم النفاق، وهو إبطان الكفر وإظهار الإسلام، فلو صرح بالكفر أحياناً كان كبيرة أخرى، وقول الثاني: (وذلك أقوى فيما جاء به أبوك) كفر واضح.

إنكارة الضروري

مسألة: إنكار الضروري موجب للكفر، ومن الضروريات إنكار رسالة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فكلام الثاني هذا دليل على كفره، نعم لم يرتب الرسول (صلى الله عليه وآله) بعض آثار الكفر على المنافقين ربما من باب التزاحم.

ثم إن الرسالة من أمهات الضروريات كالتوحيد والمعاد، وليس كبعض الضروريات التي اختلف في كونها موجبة للكفر بما هي أو بلحاظ عودها إلى إنكار أحد أصول الدين(1).عَنْ أَبِي الصَّبَّاحِ الكِنَانِيِّ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: قِيل لأَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) مَنْ شَهِدَ أَنْ لا إِلهَ إلاّ اللهُ وأَنَّ مُحَمَّداً رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) كَانَ مُؤْمِناً، قَال: فَأَيْنَ فَرَائِضُ اللهِ، إِلى أَنْ قَال: ثُمَّ قَال: «فَمَا بَال مَنْ

ص: 148


1- للتفصيل انظر موسوعة (الفقه) كتاب الطهارة، مسألة الكافر. وأيضاً ما في المستمسك: ج 1 ص378 وهذا لفظه: (بلا خلاف ظاهر فيه في الجملة، بل ظاهر جماعة من الأعيان كونه من المسلمات، وظاهر مفتاح الكرامة حكاية الإجماع عليه في كثير من كتب القدماء والمتأخرين، بل عن التحرير: «الكافر كل من جحد ما يعلمه من الدين ضرورة، سواء كانوا حربيين أو أهل كتاب أو مرتدين وكذا النواصب والغلاة والخوارج»).

جَحَدَ الفَرَائِضَ كَانَ كَافِراً»(1).

وقال (عليه السلام): «وَلا يُخْرِجُهُ إِلى الكُفْرِ إلاّ الجُحُودُ والاسْتِحْلال أَنْ يَقُول للحَلال هَذَا حَرَامٌ وللحَرَامِ هَذَا حَلال»(2).

إحراق الباب من أكبر الكبائر

مسألة: إحراق باب الصديقة الطاهرة (عليها السلام) كان من أكبر الكبائر، وكان مجمع جرائم ومعاصي عديدة:

منها: إرعاب أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وعليهم)، وهذه بدورها تنحل إلى معاصي عديدة بعدد من أرعبوا من العترة الطاهرة (عليهم السلام) ومن يلوذ بهم.ومنها: التصرف في ملك الغير بأسوأ أنحاء التصرف دون رضاه.

ومنها: إنه مصداق: «الذينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولهُ»(3).

ومنها: إنه مصداق: «وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَساداً وَاللهُ لا يُحِبُّ المُفْسِدينَ»(4).

ومنها: مقدمية ذلك لأكبر جرم ارتكب، وهو غصب الخلافة وإقصاء

ص: 149


1- وسائل الشيعة: ج 1 ص34 ب2 باب ثبوت الكفر والارتداد بجحود بعض الضروريات وغيرها مما تقوم الحجة فيه بنقل الثقات ح13.
2- وسائل الشيعة: ج 28 ص355 ب10 باب جملة مما يثبت به الكفر والارتداد ح50.
3- سورة المائدة: 33.
4- سورة المائدة: 64.

الوصي الشرعي والانقلاب على رسول الله (صلى الله عليه وآله).

ومنها: هتك حرمة الرسول (صلى الله عليه وآله) في ابنته الصديقة فاطمة (عليها السلام).

ومنها: هتك حرمة أمير المؤمنين (عليه السلام) وإيذائه وإيذاء الصديقة الطاهرة (عليها السلام).

إلى غير ذلك.

ص: 150

من آذاها

اشارة

روي أن فاطمة (عليها السلام) قالت للأول والثاني: «أنشدكما بالله، أتذكران أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) استخرجكما في جوف الليل بشيء كان حدث من أمر عليّ (عليه السلام)»؟

فقالا: اللهم نعم.

فقالت: «أنشدكما بالله، هل سمعتما النبي (صلى الله عليه وآله) يقول: فاطمة بضعة مني وأنا منها، من آذاها في حياتي كان كمن آذاها بعد موتي»؟

قالا: اللهم نعم.

فقالت: «الحمد لله». ثم قالت: «اللهم إني أشهدك فاشهدوا يا من حضرني، أنهما قد آذياني في حياتي وعند موتي، والله لا أكلمكما من رأسي كلمة حتى ألقى ربي فأشكوكما إليه بما صنعتما بي وارتكبتما مني»(1).

--------------------------

ص: 151


1- عوالم العلوم: ج 11 قسم2، فاطمة (سلام الله عليها) ص887 ب51 احتجاجها (عليها السلام) على من آذاها ح101. وأيضا نقله علل الشرائع: ج 1 ص187 ب149 باب العلة التي من أجلها دفنت فاطمة (عليها السلام) بالليل ولم تدفن بالنهار ح2، وبحار الأنوار: ج 43 ص203 ب7 ما وقع عليها من الظلم وبكائها وحزنها وشكايتها في مرضها إلى شهادتها وغسلها ودفنها وبيان العلة في إخفاء دفنها (صلوات الله عليها ولعنة الله على من ظلمها) ح31، مع بعض الاختلاف.

الحمد على إقرار الخصم

مسألة: يستحب حمد الله تعالى على إقرار الخصم.

فإن الحمد مستحب على كل نعمة، وعلى كل دفع لمكروه، والإقرار من الخصم هو من النعم للمقر له، وفي الروايات أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يقول عند كل نعمة: ­«الحمد لله على هذه النعمة»، وعند كل ما يكرهه: «الحمد لله على كل حال» أو «الحمد لله على هذه الحال».

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: كَانَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) إِذَا وَرَدَ عَليْهِ أَمْرٌ يَسُرُّهُ قَال: «الحَمْدُ للهِ عَلى هَذِهِ النِّعْمَةِ، وإِذَا وَرَدَ عَليْهِ أَمْرٌ يَغْتَمُّ بِهِ قَال: الحَمْدُ للهِ عَلى كُل حَال»(1).

وعَنِ الرِّضَا، عَنْ آبَائِهِ، عَنْ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليهم السلام) قَال: «كَانَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): إِذَا أَتَاهُ أَمْرٌ يَسُرُّهُ قَال: الحَمْدُ للهِ الذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالحَاتُ، وإِذَا أَتَاهُ أَمْرٌ يَكْرَهُهُ قَال: الحَمْدُ للهِ عَلى كُل حَال»(2).

وعنه (عليه السلام): «كَانَ رَسُول اللهِ (صلىالله عليه وآله) إِذَا أَتَاهُ مَا يُحِبُّ قَال: الحَمْدُ للهِ المُحْسِنِ المُجْمِل، وإِذَا أَتَاهُ مَا يَكْرَهُهُ قَال: الحَمْدُ للهِ عَلى كُل حَال والحَمْدُ للهِ عَلى هَذِهِ الحَال»(3).

ولا يخفى أن الشكر في مقام الحمد أيضاً كذلك، لاشتراكهما في تعظيم

ص: 152


1- الكافي: ج 2 ص97 باب الشكر ح19.
2- مستدرك الوسائل: ج 5 ص307 ب20 باب استحباب كثرة حمد الله عند تظاهر النعم ح1.
3- مستدرك الوسائل: ج 5 ص311 ب20 باب استحباب كثرة حمد الله عند تظاهر النعم ح13.

المعبود وتمجيده، نعم قد يقال (الشكر) في النعم لا في المصائب، وقد قال تعالى: «لئِنْ شَكَرْتُمْ لاَزِيدَنَّكُمْ»(1).

وقد ذكر الأدباء الفرق بين الحمد والمدح والشكر في كتب البلاغة ونحوها، قال بعضهم:

(الحمد) في اللغة: الثناء على عمل أو صفة طيبة مكتسبة عن اختيار، أي حينما يؤدي شخص عملاً طيباً عن وعي، أو يكتسب عن اختيار صفة تؤهله لأعمال الخير فإننا نحمده ونثني عليه.

و(المدح) هو الثناء بشكل عام، سواء كان لأمر اختياري أو غير اختياري، كمدحنا جوهرة ثمينة جميلة. ومفهوم المدح عام، بينما مفهوم الحمد خاص.

أما مفهوم (الشكر) فأخص منالاثنين، ويقتصر على ما نبديه تجاه نعمة تغدق علينا من منعم عن اختيار.

وفي مجمع البيان: (الحمد والمدح والشكر متقاربة المعنى، والفرق بين الحمد والشكر: إن الحمد نقيض الذم، كما أن المدح نقيض الهجاء. والشكر نقيض الكفران. والحمد قد يكون من غير نعمة، والشكر يختص بالنعمة، إلاّ أن الحمد يوضع موضع الشكر، ويقال: الحمد لله شكراً، فينصب شكراً على المصدر، ولو لم يكن الحمد في معنى الشكر لما نصبه، فإذا كان الحمد يقع موقع الشكر، فالشكر هو الاعتراف بالنعمة مع ضرب من التعظيم، ويكون بالقلب وهو الأصل، ويكون أيضاً باللسان، وإنما يجب باللسان لنفي تهمة الجحود والكفران.

ص: 153


1- سورة إبراهيم: 7.

وأما المدح فهو القول المنبئ عن عظم حال الممدوح مع القصد إليه)(1).

عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) قَال: «أَوَّل مَنْ يُدْعَى إِلى الجَنَّةِ الحَمَّادُونَ، الذِينَ يَحْمَدُونَ اللهَ فِي السَّرَّاءِ والضَّرَّاء»(2).

وعَنِ المُفَضَّل قَال: قُلتُ لأَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): جُعِلتُ فِدَاكَ عَلمْنِي دُعَاءًجَامِعاً، فَقَال ليَ: «احْمَدِ اللهَ، فَإِنَّهُ لا يَبْقَى أَحَدٌ يُصَلي إلاّ دَعَا لكَ يَقُول: سَمِعَ اللهُ لمَنْ حَمِدَهُ»(3).

وعن مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ قَال: قُلتُ لأَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): أَيُّ الأَعْمَال أَحَبُّ إِلى اللهِ عَزَّ وجَل؟ فَقَال: «أَنْ تَحْمَدَهُ»(4).

ثقافة الحمد

مسألة: ينبغي تثقيف الناس على ثقافة الحمد والارتباط بالله تعالى في كل حال، كما ينبغي أن يذكر الإنسان نفسه بأن وراء كل مصيبة أو نازلة حكمة وتعويض إلهي تستدعي حمد الله تعالى، فكم من مصيبة كانت سبباً لزيادة الدرجات، أو حط السيئات في غير المعصوم (عليه السلام)، وقد تكون لابتلاء الإنسان وامتحانه كما قد تكون لابتلاء الآخرين به، قال سبحانه: «وَجَعَلنَا بَعْضَكُمْ لبَعْضٍ فِتْنَةً»(5).

ص: 154


1- تفسير مجمع البيان: ج1 ص55.
2- مستدرك الوسائل: ج 5 ص312 ب20 باب استحباب كثرة حمد الله عند تظاهر النعم ح17.
3- الكافي: ج 2 ص503 باب التحميد والتمجيد ح1.
4- الكافي: ج 2 ص503 باب التحميد والتمجيد ح2.
5- سورة الفرقان: 20.

توثيق الأحداث

مسألة: ينبغي توثيق الأحداث التاريخية، خاصة ما يتعلق بالظلامات، وما يرتبط بتفاصيل الأحداث والحوارات التي جرت بين جانبي الإسلام والكفر، أو الإيمان والنفاق، وقد يجب ذلك، وقد قالت الصديقة (صلوات الله عليها): «استخرجكما في جوف الليل...».

قَال الرِّضَا (عليه السلام): «مَنْ تَذَكَّرَ مُصَابَنَا وبَكَى لمَا ارْتُكِبَ مِنَّا كَانَ مَعَنَا فِي دَرَجَتِنَا يَوْمَ القِيَامَةِ، ومَنْ ذُكِّرَ بِمُصَابِنَا فَبَكَى وأَبْكَى لمْ تَبْكِ عَيْنُهُ يَوْمَ تَبْكِي العُيُونُ، ومَنْ جَلسَ مَجْلساً يُحْيَا فِيهِ أَمْرُنَا لمْ يَمُتْ قَلبُهُ يَوْمَ تَمُوتُ القُلوب»(1).

مسائل عديدة

مسألة: يستحب تذكير الخصم بما سمع أو رأى من الحق، ولا يختص الاستحباب بصورة التأثر والتأثير، لما سبق من الغايات الأخرى.

مسألة: يستحب التأكيد في بيان الحق،وللتأكيد أنواع كثيرة، منها ما قالت الصديقة (عليها السلام): «أنشدكما بالله».

مسألة: يستحب أو يجب بيان النوعية الخاصة والاستثنائية لعلاقة رسول الله (صلى الله عليه وآله) بابنته الطاهرة، وأن الصديقة فاطمة (عليها السلام) بضعة من الرسول (صلى الله عليه وآله) وأنه منها، ومن آذاها فقد آذاه... إلى آخره.

ص: 155


1- الأمالي، للصدوق: ص73 المجلس السابع عشر ح4.

وذلك لأن دوام الرسالة كان ببضعته الطاهرة (عليها السلام) بجهات عديدة:

منها: أن الأئمة (عليهم السلام) من ذريتها (صلوات الله عليها).

ومنها: أنها بدفاعها الذي لا نظير له في التاريخ عن رسالة رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمام المنقلبين على الأعقاب، حفظت الدين من أن يمحى أو يطمس بالكلية، وإنما قلنا لا نظير له، إذ لا يوجد في التاريخ كله من دافع بمستوى دفاعها (عليها السلام) عن الرسالة والخلافة، نظريا وعمليا، وعلى مستوى (الكلمة) ومستوى (الموقف) وأيضاً على مستوى (الكيفية) و(الكمية)، وفي بعد (التضحية) أيضاً كذلك، وهذا البحث يحتاج إلى مجلد مخصص له كي يؤدى بعض حقه.

ومنها: غير ذلك مما يظهرللمتأمل(1).

ص: 156


1- كتب سماحة السيد مرتضى الشيرازي (دام ظله) في مراجعته وتحقيقه لمتن الكتاب ما يلي: هذه المقاطع من تحقيق هذا الكتاب المبارك للإمام الشيرازي (قدس سره) وبعض ما بعدها وما قبلها، كتبت بحمد الله ليلة الجمعة ليلة 19 صفر 1433ه في طريقنا مشياً إلى كربلاء المقدسة في إحدى الخيم.

إيذاء الصديقة

مسألة: يحرم حرمة شديدة إيذاء فاطمة (عليها السلام) في حياة الرسول (صلى الله عليه وآله) وبعد موته وشهادته.

ولا فرق في الإيذاء بين كونه بالمباشرة أو بالواسطة، فلو آذى من يؤذيها إيذاؤه كان من شدائد المحرمات، كما لا فرق في حرمة إيذائها (عليها السلام) بين كونه في حياتها أو بعد رحيلها شهيدة مظلومة.

قَال النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ فَاطِمَةَ شِجْنَةٌ مِنِّي يُؤْذِينِي مَا آذَاهَا ويَسُرُّنِي مَا يَسُرُّهَا»(1).

وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) أَنَّهُ قَال: «إِنَّ فَاطِمَةَ شِجْنَةٌ مِنِّي، يُؤْذِينِي مَا آذَاهَا، ويَسُرُّنِي مَا يَسُرُّهَا، وإِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتَعَالى ليَغْضَبُ لغَضَبِ فَاطِمَةَ ويَرْضَى لرِضَاهَا»(2).

وقَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «إِنَّمَا فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي يُؤْذِينِي مَنْ آذَاهَا»(3).

ص: 157


1- معاني الأخبار: ص303 باب معنى الشجنة ح1.
2- معاني الأخبار: ص303 باب معنى الشجنة ح2.
3- عمدة عيون صحاح الأخبار في مناقب إمام الأبرار: ص384 فصل في مناقب سيدة النساء فاطمة الزهراء عليها السلام.ح785، عن صحيح مسلم الجزء السابع باب فضائل فاطمة عليها السلام ص141.

تكرار التبري في المجالس

مسألة: يستحب أو يجب بيان وتكرار أن ابن أبي قحافة وابن الخطاب قد آذيا فاطمة (عليها السلام) في حياتها وعند موتها واستشهادها.

وذلك غير خاص بالبيان لمن لا يعرف، بل يشمل أيضاً البيان والتكرار لمن يعرف، فلا يتوهم عدم الحاجة إليه في مجالس الشيعة، فإن التكرار يتضمن التأكيد، كما يوجب الاندفاع الأكثر، كما ينفع في الرسوخ الأعمق، إلى غير ذلك .

من هنا وجب التكرار في ما يجب، كقوله تعالى: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعين»(1) في الصلوات، بل ربما العديد من الشيعة لا يعرف كثيراً من هذه الحقائق رغم كثرة التكرار فكيف لو لم تتكرر.

عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «تَجْلسُونَ وَتُحَدِّثُونَ» قُلتُ: نَعَمْ، قَال: تِلكَ المَجَالسُ أُحِبُّهَا، فَأَحْيُوا أَمْرَنَا، رَحِمَ اللهُ مَنْ أَحْيَا أَمْرَنَا، يَا فُضَيْل مَنْ ذَكَرَنَا أَوْ ذُكِرْنَا عِنْدَهُ فَخَرَجَ عَنْ عَيْنَيْهِ مِثْل جَنَاحِ الذُّبَابِ غَفَرَ اللهُ لهُ ذُنُوبَهُ وَلوْ كَانَتْ أَكْثَرَمِنْ زَبَدِ البَحْرِ»(2).

وخروج الدمعة عادة تكون عند ذكر مصابهم وما جرى عليهم.

وعن ميسّر، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قال لي: أَتَخْلونَ وَتُحَدِّثُونَ وَتَقُولونَ مَا شِئْتُمْ، فَقُلتُ: إِي وَاللهِ، فَقَال: أَمَا وَاللهِ لوَدِدْتُ أَنِّي مَعَكُمْ فِي

ص: 158


1- سورة الفاتحة: 5.
2- وسائل الشيعة: ج 12 ص20 ب10 باب استحباب اجتماع الإخوان ومحادثتهم ح1.

بَعْضِ تِلكَ المَوَاطِنِ»(1) الحديث.

والحديث في الخلوة عادة حديث لا يقال في غير الخلوة.

الإعلان عن غضبها

مسألة: يستحب أو يجب بيان أن الصديقة فاطمة (عليها السلام) غضبت على ابن أبي قحافة وابن الخطاب، فلم تكلمهما كلمة، وبما أن غضبها غضب الرسول (صلى الله عليه وآله) وغضب الرسول (صلى الله عليه وآله) غضب الله، وهو من أشد المحرمات وموجب للنار.

قال تعالى: «وَمَنْ يَحْلل عَليْهِ غَضَبي فَقَدْ هَوَى»(2).وقال سبحانه: «قُل هَل أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لعَنَهُ اللهُ وغَضِبَ عَليْه...»(3).

وقال تعالى: «يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا إِذَا لقِيتُمُ الذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلاَ تُوَلوهُمُ الأدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلاّ مُتَحَرِّفاً لقِتَال أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ»(4).

وقال سبحانه: «أَلمْ يَعْلمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللهَ وَرَسُولهُ فَأَنَّ لهُ نَارَ جَهَنَّمَ

ص: 159


1- وسائل الشيعة: ج 12 ص21 ب10 باب استحباب اجتماع الإخوان ومحادثتهم ح2.
2- سورة طه: 81.
3- سورة المائدة: 6.
4- سورة الأنفال: 15 - 16.

خَالداً فِيهَا ذَلكَ الخِزْيُ العَظِيمُ»(1).

وقال تعالى: «إِنَّ الذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولهُ لعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لهُمْ عَذَاباً مُهِيناً»(2).

وعن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله: «إِنَّ الذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ ورَسُولهُ لعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ وأَعَدَّ لهُمْ عَذاباً مُهِيناً»(3) قال: «نزلت فيمن غصب أمير المؤمنين (عليه السلام) حقه، وأخذ حق فاطمة (عليها السلام) وآذاها»(4).

وقَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ آذَاهَا فِي حَيَاتِي كَمَنْ آذَاهَا بَعْدَ مَوْتِي، ومَنْ آذَاهَا بَعْدَ مَوْتِي كَمَنْ آذَاهَا فِي حَيَاتِي، ومَنْ آذَاهَا فَقَدْ آذَانِي ومَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللهَ، وقوله: «والذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ» يعني علياً وفاطمة.(5)

وفي المناقب عن تَفْسِيرِ الضَّحَّاكِ ومُقَاتِل قَال ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلهِ تَعَالى: «إِنَّ الذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ ورَسُولهُ» وذَلكَ حِينَ قَال المُنَافِقُونَ: إِنَّ مُحَمَّداً مَا يُرِيدُ مِنَّا إلاّ أَنْ نَعْبُدَ أَهْل بَيْتِ رَسُول اللهِ بِأَلسِنَتِهِمْ فَقَال: «لعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ بِالنَّارِ وأَعَدَّ لهُمْ عَذاباً مُهِيناً» فِي جَهَنَّمَ(6).

ص: 160


1- سورة التوبة: 63.
2- سورة الأحزاب: 57.
3- سورة الأحزاب: 57.
4- تفسير القمي: ج 2 ص196.
5- تفسير القمي: ج 2 ص196.
6- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) لابن شهرآشوب: ج 3 ص210.

الشكاية لله من كل ظالم

مسألة: يستحب الشكاية إلى الله تعالى من ظلم الظالم في الحياة الدنيا، فإنه نوع إظهار للعبودية لله سبحانه، ونوع توثيق الصلة به جل اسمه، وموجب للقرب إليه تعالى. وقد يستفاد ذلك من فسح المجال لذلك في الآخرة، فتأمل.

قال تعالى: «قال إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وحُزْني إِلى اللهِ وأَعْلمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلمُونَ»(1).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «بَكَى عَليُّ بْنُ الحُسَيْنِ عَلى أَبِيهِ حُسَيْنِ بْنِ عَليٍّ (صلوات الله عليهم) عِشْرِينَ سَنَةً أَوْ أَرْبَعِينَ سَنَةً، ومَا وُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ طَعَامٌ إلاّ بَكَى عَلى الحُسَيْنِ، حَتَّى قَال لهُ مَوْلى لهُ: جُعِلتُ فِدَاكَ يَا ابْنَ رَسُول اللهِ إِنِّي أَخَافُ عَليْكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الهَالكِينَ، قَال: إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وحُزْنِي إِلى اللهِ وأَعْلمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلمُونَ، إِنِّي لمْ أَذْكُرْ مَصْرَعَ بَنِي فَاطِمَةَ إلاّ خَنَقَتْنِي العَبْرَةُ لذَلكَ»(2).

وفي الصحيفة السجادية: «اللهُمَّ لا أَشْكُو إِلى أَحَدٍ سِوَاكَ، ولا أَسْتَعِينُ بِحَاكِمٍ غَيْرِكَ، حَاشَاكَ، فَصَل عَلى مُحَمَّدٍ وآلهِ، وصِلدُعَائِي بِالإِجَابَةِ، واقْرِنْ شِكَايَتِي بِالتَّغْيِيرِ»(3).

ص: 161


1- سورة يوسف: 86.
2- كامل الزيارات: ص107 الباب الخامس والثلاثون بكاء علي بن الحسين على الحسين بن علي (عليهما السلام) ح1.
3- الصحيفة السجادية، من دعائه عليه السلام إذا اعتدي عليه أو رأى من الظالمين ما لا يحب.

الحرمة درجات

مسألة: ما صنعاه بالصديقة (عليها السلام) وارتكباها بمختلف أنواعه كان من أشد المحرمات، فإن للحرمة درجات، فغصب الخلافة أسوأ من غصب فدك، وكسر ضلعها ولطم وجهها مما لا يدانيه ظلم ظالم.

وفي كتاب سليم: (وَحَالتْ بَيْنَهُمْ وبَيْنَهُ فَاطِمَةُ (عليها السلام) عِنْدَ بَابِ البَيْتِ فَضَرَبَهَا قُنْفُذٌ المَلعُونُ بِالسَّوْطِ فَمَاتَتْ حِينَ مَاتَتْ وإِنَّ فِي عَضُدِهَا كَمِثْل الدُّمْلجِ مِنْ ضَرْبَتِهِ (لعَنَهُ اللهُ) ولعَنَ مَنْ بَعَث)(1).

وقال سليم: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لابنته فاطمة (عليها السلام): «إنك أول من يلحقني من أهل بيتي، وأنت سيدة نساء أهل الجنة وسترين بعدي ظلماً وغيظاً حتى تُضربي ويُكسر ضلع من أضلاعك، لعن الله قاتلك، ولعن الله الآمر والراضي والمعين والمظاهر عليك وظالم بعلك وابنيك»(2).

وقال سليم أيضاً: (فلقيتُ علياً (صلوات الله عليه) فسألته عما صنع ابن الخطاب، فقال: هل تدري لم كف عن قنفذ ولم يغرمه شيئاً؟ قلت: لا، قال: لأنه هوالذى ضرب فاطمة بالسوط حين جاءت لتحول بيني وبينهم فماتت (صلوات الله عليها) وإن أثر السوط لفي عضدها مثل الدملج»(3).

وفي حديث آخر: «فنظر علي عليه السلام إلى من حوله، ثمّ اغرورقت عيناه بالدموع ثمّ قال: شكر له ضربها فاطمة (عليها السلام) بالسوط فماتت وفي

ص: 162


1- كتاب سليم بن قيس الهلالي: ج 2 ص586 ح4.
2- كتاب سليم بن قيس الهلالي: ج2 ص907.
3- كتاب سليم بن قيس الهلالي: ج2 ص673 - 675.

عضدها أثره كأنه الدملج».

وقال أيضاً: «... ثمّ عاد ابن الخطاب بالنار فأضرمها في الباب فأحرق الباب، ثمّ دفعه ابن الخطاب فاستقبلته فاطمة (عليها السلام) وصاحت: يا أبتاه يا رسول الله، فرفع السيف وهو في غمده فوجأ به جنبها فصرخت فرفع السوط فضرب به ذراعها فصاحت يا أبتاه ...»(1).

وقال أيضاً: «... وقد كان قنفذ ... ضرب فاطمة (عليها السلام) بالسوط حين حالت بينه وبين زوجها، وأرسل إليه ابن الخطاب: إن حالت بينك وبينه فاطمة فاضربها، فألجأها قنفذ إلى عضادة بيتها ودفعها فكسر ضلعا منجنبها، فألقت جنينا من بطنها، فلم تزل صاحبة فراش حتى ماتت (عليها السلام) من ذلك شهيدة»(2).

ص: 163


1- كتاب سليم بن قيس الهلالي: ج2 ص763 - 865.
2- كتاب سليم بن قيس الهلالي: ج2 ص584 - 588.

وقال الخصيبي في حديث عن فاطمة الزهراء (عليها السلام): «فجمعوا الحطب ببابنا وأتوا بالنار ليحرقوا البيت، فأخذت بعضادتي الباب وقلت: ناشدتكم الله وبأبي رسول الله أن تكفوا عنا وتنصرفوا، فأخذ ابن الخطاب السوط من قنفذ مولى ابن أبي قحافة فضرب به عضدي فالتوى السوط على يدي حتى صار كالدملج، وركل الباب برجله فرده علي وأنا حامل فسقطت لوجهي والنار تسعر، وصفق وجهي بيده حتى انتثر قرطي من أذني، وجاءني المخاض فأسقطت محسناً قتيلاً بغير جرم ...»(1).

والخصيبي عن الإمام الصادق (عليه السلام): «... وإشعال النار على باب أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين لإحراقهم بها، وضرب يد الصديقة الكبرى فاطمة بالسوط ورفس بطنها وإسقاطها محسناً ...»(2).وأيضا عنه (عليه السلام): «... فقال لها ابن الخطاب: دعي عنك يا فاطمة حمقات النساء، فلم يكن الله ليجمع لكم النبوة والخلافة، وأخذت النار في خشب الباب وإدخال قنفذ يده .. يروم فتح الباب، وضرب عمر لها بالسوط على عضدها حتى صار كالدملج الأسود، وركل الباب برجله حتى أصاب بطنها وهي حاملة بالمحسن لستة أشهر وإسقاطها إياه، وهجوم ابن الخطاب وقنفذ وخالد بن الوليد وصفقة خدها حتى بدا قرطاها تحت خمارها وهى تجهر بالبكاء وتقول: وا أبتاه، وا رسول الله، ابنتك فاطمة تُكذَّب وتُضرب ويُقتل جنين في بطنها ... وصاح أمير المؤمنين (عليه السلام) بفضة: يا فضة مولاتك فأقبلي منها ما تقبله النساء فقد جاءها المخاض من الرفسة ورد الباب، فأسقطت محسناً ....

إلى أن قال: فبكى الصادق (عليه السلام) حتى اخضلت لحيته بالدموع ثمّ قال: «لا قرت عين لا تبكي عند هذا الذكر»(3).

وقال الشيخ الطوسي (رحمه الله): «ومما أنكر عليه ضربهم لفاطمة وقد روي أنهم ضربوها بالسياط، والمشهور الذى لا خلاف فيه بين الشيعة أن ابن الخطاب ضرببطنها حتى أسقطت فسمي السقط محسناً، والرواية بذلك مشهورة عندهم»(4).

ص: 164


1- الهداية الكبرى: ص178 - 179.
2- الهداية الكبرى: ص401 - 408.
3- الهداية الكبرى: ص401 - 408.
4- تلخيص الشافى: ج3 ص156.

مقاطعة الظالم

مسألتان: مقاطعة الظالم وكذلك العاصي قد تكون واجبة، وذلك إذا كانت المقاطعة أردع له، أو أبلغ في كشف حقيقة الظالم للناس بما يتطلب ذلك أو ما أشبه.

وفي شرح النهج: قال: فهجرته (ابنَ أبي قحافة) فاطمةُ فلم تكلمه حتى ماتت (1).

وقالوا: إنّ أحد علماء العامة أراد اللقاء بالعلامة الحلي (قدس سره) ليبحث معه في أمر الإمامة، فأوفد العلامة ولده فخر المحققين لاستقباله خارج البلدة، وبينما هما في الطريق التفت فخر المحققين وسأل ذلك العالم: هل حديث: «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية» صحيح عندكم؟ فقال: نعم، قال فخر المحققين: فهل كان لفاطمة بعد وفاة أبيها (عليها السلام) إمام أو لا؟

فحار العالم ماذا يجيب، فإن قال: لا، فهل يعقل أن تكون الزهراء قد ماتت - والعياذ بالله - ميتة جاهلية، وهي التي يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها؟! وإن قال: نعم، فمن كان إمام زمانها؟ لا شكأنه لم يكن ابن أبي قحافة لأنها كانت مقاطعة له واجدة عليه رافضة لحكمه مُدينة له، وما رضيت حتى أن يشترك في تشييعها، وإن قال إن إمامها كان علي بن أبي طالب، فقد فحم، وهكذا حار العالم وعاد من حيث أتى دون أن يلتقي بالعلامة الحلي (قدس سره).

ص: 165


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 16 ص218.

رضا فاطمة

اشارة

قالت فاطمة (عليها السلام) للأول والثاني: «أرأيتكما إن حدثتكما حديثاً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) تعرفانه وتفعلان به؟ قالا: نعم.

فقالت: نشدتكما الله ألم تسمعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول:

«رضى فاطمة من رضاي، وسخط فاطمة من سخطي، فمن أحب فاطمة ابنتي فقد أحبني، ومن أرضى فاطمة فقد أرضاني، ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني»؟

قالا: نعم سمعناه من رسول الله (صلى الله عليه وآله).

قالت: «فإني أشهد الله وملائكته أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني، ولئن لقيت النبي (صلى الله عليه وآله) لأشكونكما إليه»(1).

--------------------------

ضروري المذهب

مسألة: الظاهر أن كون رضا فاطمة (عليها السلام) من رضى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسخطها من سخطه(2) هي من ضروريات المذهب.

ص: 166


1- عوالم العلوم: ج 11، قسم2 فاطمة (سلام الله عليها) ص578 ح27، وص888 ح102.
2- إشارة إلى الحديث الذي رواه الفريقان، انظر المعجم الكبير: ج1 ص66 ح182، المستدرك على الصحيحين: ج3 ص154، ميزان الاعتدال:ج2 ص492 ح4560، مجمع الزوائد: ج9 ص203، كنز العمّال: ج13 ص674 ح37725.

عَنْ سَلمَانَ الفَارِسِيِّ قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «يَا سَلمَانُ مَنْ أَحَبَّ فَاطِمَةَ ابْنَتِي فَهُوَ فِي الجَنَّةِ مَعِي، ومَنْ أَبْغَضَهَا فَهُوَ فِي النَّارِ، يَا سَلمَانُ حُبُّ فَاطِمَةَ يَنْفَعُ فِي مِائَةِ مَوْطِنٍ أَيْسَرُ تِلكَ المَوَاطِنِ المَوْتُ والقَبْرُ والمِيزَانُ والمَحْشَرُ والصِّرَاطُ والمُحَاسَبَةُ، فَمَنْ رَضِيَتْ عَنْهُ ابْنَتِي فَاطِمَةُ رَضِيتُ عَنْهُ، ومَنْ رَضِيتُ عَنْهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، ومَنْ غَضِبَتْ عَليْهِ فَاطِمَةُ غَضِبْتُ عَليْهِ، ومَنْ غَضِبْتُ عَليْهِ غَضِبَ اللهُ عَليْهِ، يَا سَلمَانُ وَيْل لمَنْ يَظْلمُهَا ويَظْلمُ ذُرِّيَّتَهَا وشِيعَتَهَا»(1).

حب فاطمة كحب الرسول

مسألة: يجب حب الصديقة فاطمة (عليها الصلاة والسلام) كما يجب حب الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، وهو من مصاديق الحب في الله ولله وبالله، ولهذا الحب درجات، والأكمل حباً هو الأكمل إيماناً.

العمل بقول الرسول

مسألة: يجب العمل والأخذ بما قاله الرسول (صلى الله عليه وآله)، من غير فرق بين قوله في الشؤون العامة أو الشؤون الخاصة، كما لا فرق بين الأمور العبادية الأخروية والأمور الدنيوية، وهل الأمر كذلك في الأوامر غير المولوية أي الإرشادية، التفصيل مذكور في محله.

ثم إن قوله (صلى الله عليه وآله) أعم مما كان إنشاءً أو إخباراً أريد به الإنشاء،

ص: 167


1- بحار الأنوار: ج 27 ص116 ب4 ثواب حبهم ونصرهم وولايتهم وأنها أمان من النار ح94، مائة منقبة: ص127 المنقبة الحادية والستون.

أو إخباراً استلزم اعتباراً وحكماً أو كان ملزومه الحكم.

قال تعالى: «وَما آتاكُمُ الرَّسُول فَخُذُوهُ وما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا واتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَديدُ العِقاب»(1).

وعَنْ زُرَارَةَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ وأَبِي عَبْدِ اللهِ (عليهما السلام) قَال: سَمِعْتُهُ يَقُول: «إِنَّ اللهَفَوَّضَ إِلى نَبِيِّهِ أَمْرَ خَلقِهِ ليَنْظُرَ كَيْفَ طَاعَتُهُمْ، ثُمَّ تَلا هَذِهِ الآيَةَ: «وَما آتاكُمُ الرَّسُول فَخُذُوهُ وما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا»(2)،(3).

إقرار الخصم

مسألة: يستحب طلب إقرار الخصم بالحق، وينبغي التفنن فيه بما يستدرجه للإقرار، كما صنعت الصديقة (عليها السلام).

والاستحباب في مورده فيما إذا لم يكن الرجحان مانعاً من النقيض، وإلاّ وجب على ما سبق مثله في بعض المباحث الآنفة.

قال تعالى: «قُل فَللهِ الحُجَّةُ البالغَةُ فَلوْ شاءَ لهَداكُمْ أَجْمَعين»(4).

وفي خطب عاشوراء أنه «وَثَبَ الحُسَيْنُ (عليه السلام) مُتَوَكِّئاً عَلى سَيْفِهِ فَنَادَى بِأَعْلى صَوْتِهِ فَقَال: أَنْشُدُكُمُ اللهَ هَل تَعْرِفُونِّي؟! قَالوا: نَعَمْ أَنْتَ ابْنُ رَسُول اللهِ وسِبْطُهُ!

ص: 168


1- سورة الحشر: 7.
2- سورة الحشر: 7.
3- بصائر الدرجات: ج 1 ص380 ح10.
4- سورة الأنعام: 149.

قَال: أَنْشُدُكُمُ اللهَ هَل تَعْلمُونَ أَنَّ جَدِّي رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله)؟! قَالوا: اللهُمَّ نَعَمْ!قَال: أَنْشُدُكُمُ اللهَ هَل تَعْلمُونَ أَنَّ أُمِّي فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ؟! قَالوا: اللهُمَّ نَعَمْ!

قَال: أَنْشُدُكُمُ اللهَ هَل تَعْلمُونَ أَنَّ أَبِي عَليُّ بْنُ أَبِي طَالبٍ؟! قَالوا: اللهُمَّ نَعَمْ!

قَال: أَنْشُدُكُمُ اللهَ هَل تَعْلمُونَ أَنَّ جَدَّتِي خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلدٍ أَوَّل نِسَاءِ هَذِهِ الأُمَّةِ إِسْلاماً؟! قَالوا: اللهُمَّ نَعَمْ!

قَال: أَنْشُدُكُمُ اللهَ هَل تَعْلمُونَ أَنَّ سَيِّدَ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةَ عَمُّ أَبِي؟! قَالوا: اللهُمَّ نَعَمْ!

قَال فَأَنْشُدُكُمُ اللهَ هَل تَعْلمُونَ أَنَّ جَعْفَرَ الطَّيَّارِ فِي الجَنَّةِ عَمِّي؟! قَالوا: اللهُمَّ نَعَمْ!

قَال: فَأَنْشُدُكُمُ اللهَ هَل تَعْلمُونَ أَنَّ هَذَا سَيْفُ رَسُول اللهِ وأَنَا مُتَقَلدُهُ؟! قَالوا: اللهُمَّ نَعَمْ!

قَال: فَأَنْشُدُكُمُ اللهَ هَل تَعْلمُونَ أَنَّ هَذِهِ عِمَامَةُ رَسُول اللهِ أَنَا لابِسُهَا؟! قَالوا: اللهُمَّ نَعَمْ!

قَال: فَأَنْشُدُكُمُ اللهَ هَل تَعْلمُونَ أَنَّ عَليّاً كَانَ أَوَّلهُمْ إِسْلاماً وأَعْلمَهُمْ عِلماً وأَعْظَمَهُمْ حِلماً وأَنَّهُ وَليُّ كُل مُؤْمِنٍ ومُؤْمِنَةٍ؟! قَالوا: اللهُمَّ نَعَمْ!

قَال: فَبِمَ تَسْتَحِلونَ دَمِي وأَبِي الذَّائِدُ عَنِ الحَوْضِ غَداً يَذُودُ عَنْهُ رِجَالا كَمَا يُذَادُ البَعِيرُ الصَّادِرُ عَنِ المَاءِ ولوَاءُ الحَمْدِ فِي يَدِ جَدِّي يَوْمَ القِيَامَةِ؟!

ص: 169

قَالوا: قَدْ عَلمْنَا ذَلكَ كُلهُ ونَحْنُ غَيْرُ تَارِكِيكَ حَتَّى تَذُوقَ المَوْتَ عَطَشاً!(1).

وكما في خطبة أمير المؤمنين (عليه السلام) في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) في خلافة عثمان(2).

تحصيل رضاها

مسألة: يجب تحصيل رضى فاطمة (عليها السلام)، فإن في رضاها رضى النبي (صلى الله عليه وآله) ورضا الله عزوجل.

والظاهر أن الوجوب فيما لو طلبت ما يرضيها، أو أحرز كون الرضا على حد المنع من النقيض، أو ما أشبه مما فيه ملاك الوجوب.

والاستحباب في سائر درجات الرضا.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يا فاطمة، إن الله عز وجل يغضب لغضبك، ويرضى لرضاك»(3).وفي الرواية: «رِضَى اللهِ رِضَانَا أَهْل البَيْت»(4).

ص: 170


1- الأمالي، للصدوق: ص158 المجلس الثلاثون ح1.
2- كمال الدين: ج 1 ص276 ب24 باب ما روي عن النبي (عليها السلام) في النص على القائم (عليه السلام) وأنه الثاني عشر من الأئمة (عليهم السلام).
3- مستدرك الصحيحين: ج3 ص153، كنز العمال:ج 7 ص111، ذخائر العقبى: ص39، كفاية الطالب: ص364.
4- بحار الأنوار: ج 44 ص367 ب37 ما جرى عليه بعد بيعة الناس ليزيد بن معاوية إلى شهادته صلوات الله عليه ولعنة الله على ظالميه وقاتليه والراضين بقتله والمؤازرين عليه.

حرمة إسخاطها

مسألة: يحرم إسخاط الصديقة (عليها السلام) بأي وجه كان، سواء كان مباشرةً أو تسبيباً، في قضية صغيرة أم كبيرة، في نفسها أو ذريتها أو ما يرتبط بها، في حياتها أو بعد استشهادها (صلوات الله عليها).

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَنْ آذَاهَا فَقَدْ آذَانِي، ومَنْ غَاظَهَا فَقَدْ غَاظَنِي، ومَنْ سَرَّهَا فَقَدْ سَرَّنِي»(1).

وقَال (صلى الله عليه وآله): «يَا فَاطِمَةُ إِنَّ اللهَ يَرْضَى لرِضَاكِ ويَغْضَبُ لغَضَبِك»(2).

رضا الله بعد رضاها أم قبله؟

ولا يخفى أنه يستفاد من قوله (صلى الله عليه وآله): «إن الله يرضى لرضى فاطمة، ويسخط لسخطها»، أن رضا الله من هذا الحيث بعد رضى فاطمة (عليها السلام) وأن سخطه سبحانه بعد سخطها كذلك، وذلك غاية التكريم واللطف منه عزوجلبالصديقة الطاهرة (صلوات الله عليها).

وذلك لأن رضاها وسخطها يكون حسب موازين السماء، لا للقوة الغضبية والأهواء وما أشبه كما هو واضح.

ص: 171


1- من لا يحضره الفقيه: ج 4 ص125 باب المسلم يقتل الذمي أو العبد أو المدبر أو المكاتب أو يقتلون المسلم ح5258.
2- غوالي اللئالي: ج 4 ص93 الجملة الثانية في الأحاديث المتعلقة بالعلم وأهله وحامليه ح132.

وهذا دليل على عصمة الصديقة (عليها السلام) التامة، ومحوريتها وجلالة شأنها، كما أنه دليل على علمها الكامل بوجوه المصالح والمفاسد مما يعبر عنه بملاكات الأحكام، وكذلك بتزاحم تلك الملاكات في كل أمر ونهي، وإلاّ فكيف يكون رضا الله تعالى بعد رضاها على إطلاقه.

وهناك تعبير آخر في المقابل، حيث قال الإمام الحسين (صلوات الله عليه) في خطبته لما عزم على الخروج إلى العراق: «رضى الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه، ويوفينا أجور الصابرين»(1)، أي: إذا رضي الله بشيء رضينا به.

والأمران منبعثان من مبعث واحد وإن كانا في صورتين: صورة تقديم رضى الله، وصورة تقديم رضى المعصوم (عليه الصلاة والسلام)، وقد أشرنا إلى هذا البحث في بعض كتبنا.

قال النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله): «يَافَاطِمَةُ إِنَّ اللهَ ليَغْضَبُ لغَضَبِكِ ويَرْضَى لرِضَاك»(2).

ص: 172


1- كشف الغمة: ج 2 ص29.
2- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) لابن شهرآشوب: ج 3 ص325 فصل في منزلتها عند الله تعالى.

كيف أصبحت؟

اشارة

قالت أم سلمة للصديقة فاطمة (عليها السلام): كيف أصبحت عن ليلتك يا بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟

قالت: «أصبحت بين كمد وكرب، فقد النبي (صلى الله عليه وآله) وظلم الوصي (عليه السلام)، هتك والله حجابه، من أصبحت إمامته مقبضة(1)

على غير ما شرع الله في التنزيل، وسنها النبي (صلى الله عليه وآله) في التأويل، ولكنها أحقاد بدرية، وترات أحدية، كانت عليها قلوب النفاق مكتمنة لإمكان الوشاة، فلما استهدف الأمر أرسلت علينا شآبيب الآثار من مخيلة الشقاق، فيقطع وتر الإيمان من قسيّ صدورها، ولبئس - على ما وعد الله من حفظ الرسالة وكفالة المؤمنين - أحرزوا عائدتهم غرور الدنيا بعد استنصار ممن فتك بآبائهم في مواطن الكرب ومنازل الشهادات»(2).

--------------------

ص: 173


1- وفي نسخة المناقب: متقصة.
2- بحار الأنوار: ج 43 ص156 ب7 ما وقع عليها من الظلم وبكائها وحزنها وشكايتها في مرضها إلى شهادتها وغسلها ودفنها وبيان العلة في إخفاء دفنها (صلوات الله عليها ولعنة الله على من ظلمها) ح5، عن مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) لابن شهرآشوب: ج 2 ص205 فصل في ظلامة أهل البيت (عليهم السلام).

بواعث ظلم الطغاة

مسألة: يستحب وقد يجب بيان بواعث الظلمة والطغاة والعصاة على ظلمهم.

قال تعالى: «أَوَلمْ يَسيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الذينَ كانُوا مِنْ قَبْلهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وآثاراً فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وما كانَ لهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ»(1).

وقال سبحانه: «وَ يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُول يا ليْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُول سَبيلاً * يا وَيْلتَى ليْتَني لمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَليلاً * لقَدْ أَضَلني عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَني وَ كانَ الشَّيْطانُ للإِنْسانِ خَذُولاً»(2).

وقال (عليه السلام): «عَجِبْتُ لمَنْ يَظْلمُ نَفْسَهُ كَيْفَ يُنْصِفُ غَيْرَهُ»(3).

وعَنْ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) أَنَّهُ قَال: «للظَّالمِ مِنَ الرِّجَال ثَلاثُ عَلامَاتٍ، يَظْلمُ مَنْ فَوْقَهُ بِالمَعْصِيَةِ، وَمَنْ دُونَهُ بِالغَلبَةِ، وَيُظَاهِرُ القَوْمَ

الظَّلمَةَ»(4).

ص: 174


1- سورة غافر: 21.
2- سورة الفرقان: 27 - 29.
3- عيون الحكم والمواعظ: ص330 ح5652.
4- نهج البلاغة: قصار الحكم الرقم 536.

معنى وفروق الكرب والكمد

الكرب: تكاثف الغم مع ضيق الصدر، ولهذا يقال لليوم الحار: يوم كرب، أي كرب من فيه.

والكمد: الحزن المكتوم، ومعناه حزن دائم غير مفارق(1).

والمستفاد من الكلمتين كلا جانبي الكمي والكيفي، وتدل الكلمتان على أن ما أصابها (صلوات الله عليها) بفقد النبي (صلى الله عليه وآله) وظلم الوصي (عليه السلام) من الحزن كان:

1: دائماً غير مفارق(2).

2: متكاثفاً متراكماً، إذ لم تكن مصيبة واحدة بل مصائب عديدة، ولا ظلماً واحداً بل أنواع ظلم.

3: مكتوماً لا مجال لبثه، والحزن المكتوم أشد إيلاماً للنفس، وأذىً للجسم، وتأثيراً على الأعصاب، ولا يخفىكتمانها (صلوات الله عليها) أكثر آلامها وأحزانها عن الناس، بل حتى عن المقربين إليها.

4: موجباً لضيق الصدر، فإن الحزن إذا اشتد أثر على الجسد وأورث ضيق الصدر وصعوبة التنفس وشبه ذلك.

وقد بينت الصديقة الزهراء (عليها الصلاة والسلام) أن الأمر - من غصب الخلافة

ص: 175


1- الفروق اللغوية: باب الفرق بين الحزن والكرب.
2- بل لو أنها (عليها الصلاة والسلام) عاشت أبد الدهر لما فارقها الحزن، وكيف يفارقها الحزن على (ظلم الوصي) أو (فقد النبي) ولم يكن موتا بل قتلا واستشهادا بمؤامرة من القوم، وجدير بشيعتها أن يكونوا كذلك في كرب وكمد على فقد النبي وظلم الوصي (عليهما السلام) أبد الدهر.

إلى غصب فدك وغيرها - لم يكن عن منطق وعقيدة، وإنما كان عن أطماع وأحقاد، (ولكنها أحقاد بدرية وتراث أُحُدية)، حيث إن أمير المؤمنين (عليه السلام) قتل أشياخهم ببدر وأُحُد دفاعاً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحفاظاً على الدين، وكم من فرق بين من يعمل عملاً عن اعتقاد ومنطق وإن كان خاطئاً قصوراً، وبين من يعمل عملاً عن الحقد والهوى.

بيان أنواع الظلامات

مسألة: يستحب وقد يجب بيان مختلف أنواع وشتى مصاديق مظلومية الصديقة فاطمة (عليها السلام) ووجوه كونها (صلوات الله عليها) أصبحت بين كمد وكرب.

عن أبي ذر (رحمه الله) عن النبي (صلى

الله عليه وآله) في حديث أنه قال لفاطمة (عليها السلام): «أنتِ أول من يلحقنيمظلومة مغصوبة، وسوف تظهر بعدي حسيكة النفاق، ويسمل جلباب الدين»(1).

وعَنْ عَليِّ بْنِ أَبِي طَالبٍ (عليه السلام) قَال: «بَيْنَا أَنَا وفَاطِمَةُ والحَسَنُ والحُسَيْنُ عِنْدَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) إِذِ التَفَتَ إِليْنَا فَبَكَى، فَقُلتُ: مَا يُبْكِيكَ يَا رَسُول اللهِ؟ فَقَال: أَبْكِي مِمَّا يُصْنَعُ بِكُمْ بَعْدِي، فَقُلتُ: ومَا ذَاكَ يَا رَسُول اللهِ، قَال: أَبْكِي مِنْ ضَرْبَتِكَ عَلى القَرْنِ، ولطْمِ فَاطِمَةَ خَدَّهَا، وطَعْنَةِ الحَسَنِ فِي الفَخِذِ، والسَّمِّ الذِي يُسْقَى وقَتْل الحُسَيْنِ، قَال: فَبَكَى أَهْل البَيْتِ جَمِيعاً، فَقُلتُ: يَا رَسُول اللهِ مَا خَلقَنَا رَبُّنَا إلاّ للبَلاءِ، قَال: أَبْشِرْ يَا عَليُّ فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وجَل

ص: 176


1- إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات: ج 1 ص343 الفصل الثالث والعشرون ح287.

قَدْ عَهِدَ إِليَّ أَنَّهُ لا يُحِبُّكَ إلاّ مُؤْمِنٌ ولا يُبْغِضُكَ إلاّ مُنَافِقٌ»(1).

ظلم الوصي من أكبر الكبائر

مسألة: يحرم الظلم مطلقاً، وظلم الوصي (عليه السلام) فهو من أكبر الكبائر، بل لا كبيرة أعظم من ظلم الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) بعد الشرك بالله تعالى، على حسب درجات وأنواع ذلك الظلم.عَنْ أُمِّ سَلمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) قَالتْ: قَدْ سَمِعْتُ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُول لعَليِّ بْنِ أَبِي طَالبٍ (عليه السلام): «أَنْتَ أَخِي وحَبِيبِي، مَنْ آذَاكَ فَقَدْ آذَانِي»(2).

وقال النبي (صلى الله عليه وآله): «يا عَليُّ أَنْتَ مِنِّي وأَنَا مِنْكَ، سِيطَ لحْمُكَ بِلحْمِي، ودَمُكَ بِدَمِي، وأَنْتَ السَّبَبُ فِيمَا بَيْنَ اللهِ وبَيْنَ خَلقِهِ بَعْدِي، فَمَنْ جَحَدَ وَلايَتَكَ قَطَعَ السَّبَبَ الذِي فِيمَا بَيْنَهُ وبَيْنَ اللهِ وكَانَ مَاضِياً فِي الدَّرَكَاتِ، يَا عَليُ مَا عُرِفَ اللهُ إلاّ بِي ثُمَّ بِكَ، مَنْ جَحَدَ وَلايَتَكَ جَحَدَ اللهَ رُبُوبِيَّتَهُ، يَا عَليُّ أَنْتَ عَلمُ اللهِ بَعْدِي الأَكْبَرُ فِي الأَرْضِ، وأَنْتَ الرُّكْنُ الأَكْبَرُ فِي القِيَامَةِ، فَمَنِ اسْتَظَل بِفَيْئِكَ كَانَ فَائِزاً، لأَنَّ حِسَابَ الخَلائِقِ إِليْكَ ومَآبَهُمْ إِليْكَ، والمِيزَانَ مِيزَانُكَ، والصِّرَاطَ صِرَاطُكَ، والمَوْقِفَ مَوْقِفُكَ، والحِسَابَ حِسَابُكَ، فَمَنْ رَكَنَ إِليْكَ نَجَا، ومَنْ خَالفَكَ هَوَى وهَلك»(3).

وعن ابن الخطاب قَال: كُنْتُ أَجْفُو عَليّاً، فَلقِيَنِي رَسُول اللهِ (صلى الله عليه

ص: 177


1- الأمالي، للصدوق: ص134 المجلس الثامن والعشرون ح2.
2- شواهد التنزيل: ج 2 ص150 ح778.
3- كتاب سليم بن قيس الهلالي: ج 2 ص856 الحديث الرابع والأربعون.

وآله) فَقَال: «إِنَّكَ آذَيْتَنِي يَا عُمَرُ»، فَقُلتُ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنْ أَذَى رَسُولهِ، قَال: «إِنَّكَ قَدْآذَيْتَ عَليّاً ومَنْ آذَى عَليّاً فَقَدْ آذَانِي»(1).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «من حسد عليّاً فقد حسدني، ومن حسدني فقد كفر»(2).

حجاب الوصي

مسألة: يحرم هتك حجاب الوصي (عليه السلام)، والحجاب أعم من الحجاب المادي والاعتباري، وهو عبارة عما يحتجب به المرء من دار أو ماء وجه أو حسن سمعة أو ما أشبه.

كما أن (الهتك) أعم مما كان باليد أو باللسان أو غيرهما، وما كان في محفل خاص أو مجمع عام، بل حتى ما كان في صورة عدم وجود الغير، كما أنه أعم مما كان بالمباشرة أو بالتسبيب والتخطيط والتآمر وشبه ذلك.

وفي حديث أخذ العهد وبحضور جبرائيل، قال النبي (صلى الله عليه وآله): «يَا عَليُّ تَفِي بِمَا فِيهَا مِنْ مُوَالاةِ مَنْ وَالى اللهَ ورَسُولهُ والبَرَاءَةِ والعَدَاوَةِ لمَنْعَادَى اللهَ ورَسُولهُ والبَرَاءَةِ مِنْهُمْ عَلى الصَّبْرِ مِنْكَ وعَلى كَظْمِ الغَيْظِ وعَلى ذَهَابِ حَقِّي وغَصْبِ خُمُسِكَ وانْتِهَاكِ حُرْمَتِكَ، فَقَال: نَعَمْ يَا رَسُول اللهِ، فَقَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): والذِي فَلقَ الحَبَّةَ وبَرَأَ النَّسَمَةَ لقَدْ سَمِعْتُ جَبْرَئِيل (عليه السلام) يَقُول للنَّبِيِّ: يَا مُحَمَّدُ عَرِّفْهُ أَنَّهُ يُنْتَهَكُ الحُرْمَةُ وهِيَ حُرْمَةُ اللهِ وحُرْمَةُ رَسُول اللهِ (صلى الله

ص: 178


1- بحار الأنوار: ج 39 ص331 ب90 ما بيّن من مناقب نفسه القدسية.
2- رواه الهندي في كنز العمّال: ج11 ص626 ح33050: من طريق الحافظ ابن مردويه، عن أنس.

عليه وآله) وعَلى أَنْ تُخْضَبَ لحْيَتُهُ مِنْ رَأْسِهِ بِدَمٍ عَبِيط»(1).

وفي حديث قال (صلى الله عليه وآله): «اللهَ اللهَ فِي أَهْل بَيْتِي، مَصَابِيحِ الظُّلمِ، ومَعَادِنِ العِلمِ، ويَنَابِيعِ الحِكَمِ، ومُسْتَقَرِّ المَلائِكَةِ، مِنْهُمْ وَصِيِّي وأَمِينِي ووَارِثِي، وهُوَ مِنِّي بِمَنْزِلةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، إلاّ هَل بَلغْتُ مَعَاشِرَ الأَنْصَارِ، إلاّ فَاسْمَعُوا ومَنْ حَضَرَ، إلاّ إِنَّ فَاطِمَةَ بَابُهَا بَابِي وبَيْتُهَا بَيْتِي، فَمَنْ هَتَكَهُ فَقَدْ هَتَكَ حِجَابَ اللهِ»، قَال عِيسَى: فَبَكَى أَبُو الحَسَنِ (عليه السلام) طَوِيلا وقَطَعَ بَقِيَّةَ كَلامِهِ وقَال: «هُتِكَ واللهِ حِجَابُ اللهِ، هُتِكَ واللهِ حِجَابُ اللهِ، هُتِكَ واللهِ حِجَابُ اللهِ، يَا أُمَّهْ صَلوَاتُ اللهِ عَليْهَا»(2).

ما شرع في التنزيل

مسألة: يجب الأخذ بما شرعه الله سبحانه في التنزيل، ولا يجوز التعلل بالأعذار الواهية لترك قوانين الله وأحكامه المشرعة في الذكر الحكيم، مثل عذر تغير الشرائط والزمان والمكان وما أشبه، كعذر سخرية الغرب أو الشرق أو غيرها.

عَنْ زُرَارَةَ، قَال: سَأَلتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) عَنِ الحَلال والحَرَامِ، فَقَال: «حَلال مُحَمَّدٍ حَلال أَبَداً إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ، وحَرَامُهُ حَرَامٌ أَبَداً إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ، لا يَكُونُ غَيْرُهُ ولا يَجِي ءُ غَيْرُهُ» وقَال: قَال عَليٌّ (عليه السلام): «مَا أَحَدٌ

ص: 179


1- الكافي: ج 1 ص282 باب أن الأئمة عليه السلام لم يفعلوا شيئا ولا يفعلون إلاّ بعهد من الله عز وجل وأمر منه لا يتجاوزونه ح4.
2- بحار الأنوار: ج 22 ص477 ب1 وصيته صلى الله عليه وآله عند قرب وفاته وفيه تجهيز جيش أسامة وبعض النوادر ح27.

ابْتَدَعَ بِدْعَةً إلاّ تَرَكَ بِهَا سُنَّةً»(1).

وعَنْ حَمَّادٍ، قَال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُول: «مَا خَلقَ اللهُ حَلالا ولا حَرَاماً إلاّ ولهُ حَدٌّ كَحَدِّ الدُّورِ، وإِنَّ حَلال مُحَمَّدٍ حَلال إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ وحَرَامَهُ حَرَامٌ إِلى يَوْمِ القِيَامَة»(2).

وعَنْ سَمَاعَةَ بْنِ مِهْرَانَ، قَال: قُلتُ لأَبِيعَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَوْل اللهِ عَزَّ وجَل: «فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولوا العَزْمِ مِنَ الرُّسُل»(3)، فَقَال: «نُوحٌ وإِبْرَاهِيمُ ومُوسَى وعِيسَى ومُحَمَّدٌ (صلى الله عليه وآله)، قُلتُ: كَيْفَ صَارُوا أُولي العَزْمِ، قَال: لأَنَّ نُوحاً بُعِثَ بِكِتَابٍ وشَرِيعَةٍ، وكُل مَنْ جَاءَ بَعْدَ نُوحٍ أَخَذَ بِكِتَابِ نُوحٍ وشَرِيعَتِهِ ومِنْهَاجِهِ حَتَّى جَاءَ إِبْرَاهِيمُ (عليه السلام) بِالصُّحُفِ وبِعَزِيمَةِ تَرْكِ كِتَابِ نُوحٍ لا كُفْراً بِهِ، فَكُل نَبِيٍّ جَاءَ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ (عليه السلام) أَخَذَ بِشَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ ومِنْهَاجِهِ وبِالصُّحُفِ حَتَّى جَاءَ مُوسَى بِالتَّوْرَاةِ وشَرِيعَتِهِ ومِنْهَاجِهِ وبِعَزِيمَةِ تَرْكِ الصُّحُفِ، وكُل نَبِيٍّ جَاءَ بَعْدَ مُوسَى (عليه السلام) أَخَذَ بِالتَّوْرَاةِ وشَرِيعَتِهِ ومِنْهَاجِهِ حَتَّى جَاءَ المَسِيحُ (عليه السلام) بِالإِنْجِيل وبِعَزِيمَةِ تَرْكِ شَرِيعَةِ مُوسَى ومِنْهَاجِهِ، فَكُل نَبِيٍّ جَاءَ بَعْدَ المَسِيحِ أَخَذَ بِشَرِيعَتِهِ ومِنْهَاجِهِ حَتَّى جَاءَ مُحَمَّدٌ (صلى الله عليه وآله) فَجَاءَ بِالقُرْآنِ وبِشَرِيعَتِهِ ومِنْهَاجِهِ، فَحَلالهُ حَلال إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ، وحَرَامُهُ حَرَامٌ إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ، فَهَؤُلاءِ أُولوا العَزْمِ مِنَ الرُّسُل (عليهم السلام)»(4).

ص: 180


1- الكافي: ج 1 ص58 باب البدع والرأي والمقاييس ح19.
2- بصائر الدرجات في فضائل آل محمد (صلى الله عليهم): ج 1 ص148 ب13 باب آخر فيه أمر الكتب ح7.
3- سورة الأحقاف: 35.
4- الكافي: ج 2 ص17 باب الشرائع ح2.

ما سنّه النبي في التأويل

مسألة: يجب الأخذ بما سنّه النبي (صلى الله عليه وآله) في التأويل ولو بنحو الكلي، ويحرم الأخذ بما لم يتصف بأي منهما(1) ولو بنحو الكلي.

قال تعالى: «وَما آتاكُمُ الرَّسُول فَخُذُوهُ وما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا واتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَديدُ العِقاب»(2).

حرمة الحقد

مسألة: يحرم الحقد في الجملة، أما الحقد على أهل البيت (عليهم السلام) فهو من أشد المحرمات.

والحقد من الصفات النفسية الاختيارية لا أقل باختيارية مقدماتها كما فصلناه فيما سبق، ولو فرض خروجه عن الاختيار ولو في مرتبة فإن الواجب عليه ترتيب آثار ضده عليه ليكون كفارة لما خرج عن اختياره وستراً وغفراناً.

قال تعالى: «وَالذينَ جاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لنا ولإِخْوانِنَا الذينَ سَبَقُونا بِالإيمانِ ولا تَجْعَل في قُلوبِنا غِلاًّ للذينَآمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحيم»(3).

ص: 181


1- أي ما لم يشرع في التنزيل ولا سن في التأويل، لأن حلال محمد (صلى الله عليه وآله) حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة.
2- سورة الحشر: 7.
3- سورة الحشر: 10.

وقال أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «الحِقْدُ مِنْ طَبَائِعِ الأَشْرَارِ»(1).

وقال أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «احْتَرِسُوا مِنْ سَوْرَةِ الجَهْل والحِقْدِ والغَضَبِ والحَسَدِ وأَعِدُّوا لكُل شَيْ ءٍ مِنْ ذَلكَ عُدَّةً تُجَاهِدُونَهُ بِهَا مِنَ الفِكْرِ فِي العَاقِبَةِ ومَنْعِ الرَّذِيلةِ وطَلبِ الفَضِيلةِ وصَلاحِ الآخِرَةِ ولزُومِ الحِلمِ»(2).

الحقد الباطل

مسألة: الحقد بالباطل رذيلة مؤكدة، كالحقد على مؤمن لأنه فعل الواجب أو ترك الحرام، كمن يحقد مؤمناً لأمره بالمعروف أو نهيه عن المنكر، أو لأنه صلى أو صام أو حج واعتمر أو جاهد في سبيل الله، أو لأنه لم يتعاون معه على الظلم، أو لم يعنه على منكر أراد فعله.

وكلام الصديقة الطاهرة (عليها السلام) صريح في أن حقد القوم على أمير المؤمنين (عليه السلام) كان حقداً بالباطل، بل كان حقداً بأسوأ أنواعالباطل، فقد حقدوا عليه لأنه جاهد بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقتل صناديد المشركين وأبطالهم دفاعاً عن الدين وحفظاً لسيد المرسلين.

عن أمير المؤمنين (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «ضَغَائِنُ فِي صُدُورِ أَقْوَامٍ لا يُبْدُونَهَا لكَ إلاّ مِنْ بَعْدِي، أَحْقَادُ بَدْرٍ وتِرَاتُ أُحُدٍ، قُلتُ: فِي سَلامَةٍ مِنْ دَيْنِي، قَال: فِي سَلامَةٍ مِنْ دِينِكَ، فَأَبْشِرْ يَا عَليُّ فَإِنَّ حَيَاتَكَ ومَوْتَكَ مَعِي، وأَنْتَ أَخِي وأَنْتَ وَصِيِّي وأَنْتَ صَفِيِّي ووَزِيرِي ووَارِثِي والمُؤَدِّي عَنِّي، وأَنْتَ تَقْضِي دَيْنِي وتُنْجِزُ عِدَاتِي عَنِّي، وأَنْتَ تُبْرِئُ ذِمَّتِي وتُؤَدِّي أَمَانَتِي،

ص: 182


1- عيون الحكم والمواعظ: ص66 ح1686.
2- عيون الحكم والمواعظ: ص88 ح2097.

وتُقَاتِل عَلى سُنَّتِي النَّاكِثِينَ مِنْ أُمَّتِي والقَاسِطِينَ والمَارِقِينَ وأَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى»(1).

وروي أنّه: لما دخل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) في مرضه الذي مات فيه، بكى، فقال عليّ: «يا رسول الله، ما الذي أبكاك؟ فقال: ضغائن من قوم في صدورهم، وأحقاد من قريش لا يبدونها لك إلاّ بعد موتي حين أولي»(2).ومن رِسَالةُ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «لعَمْرُ أَبِي لنْ تُحِبُّوا أَنْ تَكُونَ فِينَا الخِلافَةُ والنُّبُوَّةُ وأَنْتُمْ تَذْكُرُونَ أَحْقَادَ بَدْرٍ وثَارَاتِ أُحُدٍ»(3).

حرمة النفاق

مسألة: يحرم النفاق، وهو إبطان الكفر وإظهار الإيمان، ولا فرق في النفاق بين أنواع متعلقه، كالكفر بالله أو بوحدانيته أو بالرسول أو بالوصي أو بالمعاد، نعم لذلك(4) إطلاقان ومرتبتان، كما مر سابقاً.

قال تعالى: «وَعَدَ اللهُ المُنافِقينَ والمُنافِقاتِ والكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالدينَ فيها هِيَ حَسْبُهُمْ ولعَنَهُمُ اللهُ ولهُمْ عَذابٌ مُقيم»(5).

ص: 183


1- كتاب سليم بن قيس الهلالي: ج 2 ص569 الحديث الثاني.
2- غرر الأخبار: ص63 الفصل الرابع فيما تفرد به أمير المؤمنين (عليه السلام) من المناقب.
3- بحار الأنوار: ج 29 ص142 ب 11 باب نزول الآيات في أمر فدك وقصصه وجوامع الاحتجاج فيه وفيه قصة خالد وعزمه على قتل أمير المؤمنين (عليه السلام) ح30، عن الإحتجاج: ج 1 ص95 رسالة لأمير المؤمنين (عليه السلام) إلى أبي بكر لما بلغه عنه كلام بعد منع الزهراء (عليها السلام) فدك.
4- اي الكفر ويتبعه النفاق.
5- سورة التوبة: 68.

وقال سبحانه: «إِنَّ المُنافِقينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَل مِنَ النَّارِ ولنْ تَجِدَ لهُمْ نَصيرا»(1).

وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الفُضَيْل، قَال: كَتَبْتُإِلى أَبِي الحَسَنِ (عليه السلام) أَسْأَلهُ عَنْ مَسْأَلةٍ فَكَتَبَ إِليَّ: «إِنَّ المُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وهُوَ خادِعُهُمْ وإِذا قامُوا إِلى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ ولا يَذْكُرُونَ اللهَ إلاّ قَليلا * مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلكَ لا إِلى هؤُلاءِ ولا إِلى هؤُلاءِ ومَنْ يُضْلل اللهُ فَلنْ تَجِدَ لهُ سَبِيلا»(2)، ليْسُوا مِنَ الكَافِرِينَ وليْسُوا مِنَ المُؤْمِنِينَ وليْسُوا مِنَ المُسْلمِينَ يُظْهِرُونَ الإِيمَانَ ويَصِيرُونَ إِلى الكُفْرِ والتَّكْذِيبِ لعَنَهُمُ اللهُ»(3).

وقال أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «شَرُّ الأَخْلاقِ الكَذِبُ والنِّفَاقُ»(4).

قطع وتر الإيمان

مسألة: يحرم قطع وتر الإيمان.

قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «فَاطِمَةُ قَلبِي، وابْنَاهَا ثَمَرَةُ فُؤَادِي، وبَعْلهَا نُورُ بَصَرِي، والأَئِمَّةُ مِنْ وُلدِهَا أُمَنَائِي وحَبْلهَا المَمْدُودُ، فَمَنِ اعْتَصَمَ بِهِمْ نَجَا ومَنْ تَخَلفَ عَنْهُمْ هَوَى»(5).

ص: 184


1- سورة النساء: 145.
2- سورة النساء: 141- 142.
3- الكافي: ج 2 ص395 ح2.
4- عيون الحكم والمواعظ: ص293 ح5214
5- الفضائل، لابن شاذان القمي: ص146 وفي ذكر اللوح المحفوظ الذي نزل به جبرئيل على النبي صلى الله عليه وآله ما ينفع للمستبصرين ح14.

وقَال النبي (صلى الله عليه وآله): «أَيُّهَاالنَّاسُ إِنَّ اللهَ مَوْلايَ وأَنَا مَوْلى المُؤْمِنِينَ وأَوْلى بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، إلاّ مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَعَليٌّ مَوْلاهُ، اللهُمَّ وَال مَنْ وَالاهُ، وعَادِ مَنْ عَادَاهُ، وانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ، واخْذُل مَنْ خَذَله»(1).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «عُرِجَ بِالنَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) إِلى السَّمَاءِ مِائَةً وعِشْرِينَ مَرَّةً، مَا مِنْ مَرَّةٍ إلاّ وقَدْ أَوْصَى اللهُ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) بِوَلايَةِ عَليٍّ والأَئِمَّةِ مِنْ بَعْدِهِ أَكْثَرَ مِمَّا أَوْصَاهُ بِالفَرَائِضِ»(2).

تنبيه

الإمامة منصب إلهي، يستحيل اغتصابه، كالرسالة، وما يمكن غصبه هو السلطة الظاهرية، وهذا هو المراد في قول الصديقة (صلوات الله عليها): «من أصبحت إمامته مغتصبة».

عَنِ الرِّضَا (عليه السلام): «الإِمَامُ زِمَامُ الدِّينِ، ونِظَامُ أُمُورِ المُسْلمِينَ، وعِزُّ المُؤْمِنِينَ، وبَوَارُ الكَافِرِينَ، أُسُّ الإِسْلامِ، وصَلاحُ الدُّنْيَا، والنَّجْمُ الهَادِي، والسِّرَاجُ الزَّاهِرُ، المَاءُ العَذْبُ عَلى الظَّمَاءِ، والنُّورُ الدَّال عَلى الهُدَى، والمُنْجِي مِنَالرَّدَى، والسَّحَابُ المَاطِرُ، والغَيْثُ الهَاطِل، والشَّمْسُ الظَّليلةُ، والأَرْضُ البَسِيطَةُ، والعَيْنُ الغَزِيرَةُ، والأَمِينُ الرَّفِيقُ، والوَالدُ الشَّفِيقُ، والأَخُ الشَّقِيقُ، والأُمُّ البَرَّةُ بِالوَلدِ الصَّغِيرِ، وأَمِينُ اللهِ فِي خَلقِهِ، وحُجَّتُهُ عَلى عِبَادِهِ، وخَليفَتُهُ فِي بِلادِهِ، الدَّاعِي إِلى اللهِ، والذَّابُّ عَنْ حُرَمِ الله»(3).

ص: 185


1- كتاب سليم بن قيس الهلالي: ج 2 ص758 ح25.
2- بصائر الدرجات في فضائل آل محمد (صلى الله عليهم): ج 1 ص79 النوادر من الأبواب في الولاية ح10.
3- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام)، لابن شهرآشوب: ج 1 ص246 باب الإمامة.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) فِي خُطْبَةٍ لهُ يَذْكُرُ فِيهَا حَال الأَئِمَّةِ (عليهم السلام) وصِفَاتِهِمْ: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وجَل أَوْضَحَ بِأَئِمَّةِ الهُدَى مِنْ أَهْل بَيْتِ نَبِيِّنَا عَنْ دِينِهِ، وأَبْلجَ بِهِمْ عَنْ سَبِيل مِنْهَاجِهِ، وفَتَحَ بِهِمْ عَنْ بَاطِنِ يَنَابِيعِ عِلمِهِ، فَمَنْ عَرَفَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) وَاجِبَ حَقِّ إِمَامِهِ وَجَدَ طَعْمَ حَلاوَةِ إِيمَانِهِ، وعَلمَ فَضْل طُلاوَةِ إِسْلامِهِ (1)، لأَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتَعَالى نَصَبَ الإِمَامَ عَلماً لخَلقِهِ، وجَعَلهُ حُجَّةً عَلى أَهْل مَوَادِّهِ وعَالمِهِ، وأَلبَسَهُ اللهُ تَاجَ الوَقَارِ، وغَشَّاهُ مِنْ نُورِ الجَبَّارِ، يُمَدُّ بِسَبَبٍ إِلى السَّمَاءِ، لا يَنْقَطِعُ عَنْهُ مَوَادُّهُ، ولا يُنَال مَا عِنْدَ اللهِ إلاّ بِجِهَةِ أَسْبَابِهِ، ولا يَقْبَل اللهُ أَعْمَال العِبَادِ إلاّ بِمَعْرِفَتِهِ، فَهُوَ عَالمٌ بِمَا يَرِدُ عَليْهِ مِنْ مُلتَبِسَاتِ الدُّجَى، ومُعَمَّيَاتِالسُّنَنِ، ومُشَبِّهَاتِ الفِتَنِ، فَلمْ يَزَل اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالى يَخْتَارُهُمْ لخَلقِهِ مِنْ وُلدِ الحُسَيْنِ (عليه السلام) مِنْ عَقِبِ كُل إِمَامٍ يَصْطَفِيهِمْ لذَلكَ ويَجْتَبِيهِمْ، ويَرْضَى بِهِمْ لخَلقِهِ ويَرْتَضِيهِمْ، كُلمَا مَضَى مِنْهُمْ إِمَامٌ نَصَبَ لخَلقِهِ مِنْ عَقِبِهِ إِمَاماً، عَلماً بَيِّناً، وهَادِياً نَيِّراً، وإِمَاماً قَيِّماً، وحُجَّةً عَالماً، أَئِمَّةً مِنَ اللهِ «يَهْدُونَ بِالحَقِّ وبِهِ يَعْدِلونَ»(2) حُجَجُ اللهِ ودُعَاتُهُ ورُعَاتُهُ عَلى خَلقِهِ، يَدِينُ بِهَدْيِهِمُ العِبَادُ، وتَسْتَهِل بِنُورِهِمُ البِلادُ، ويَنْمُو بِبَرَكَتِهِمُ التِّلادُ، جَعَلهُمُ اللهُ حَيَاةً للأَنَامِ، ومَصَابِيحَ للظَّلامِ، ومَفَاتِيحَ للكَلامِ، ودَعَائِمَ للإِسْلامِ، جَرَتْ بِذَلكَ فِيهِمْ مَقَادِيرُ اللهِ عَلى مَحْتُومِهَا، فَالإِمَامُ هُوَ المُنْتَجَبُ المُرْتَضَى، وَالهَادِي المُنْتَجَى، وَالقَائِمُ المُرْتَجَى، اصْطَفَاهُ اللهُ بِذَلكَ، واصْطَنَعَهُ عَلى عَيْنِهِ فِي الذَّرِّ حِينَ ذَرَأَهُ، وفِي البَرِيَّةِ حِينَ بَرَأَهُ، ظِلاً قَبْل خَلقِ نَسَمَةٍ عَنْ يَمِينِ عَرْشِهِ، مَحْبُوّاً بِالحِكْمَةِ فِي عِلمِ الغَيْبِ عِنْدَهُ، اخْتَارَهُ بِعِلمِهِ، وانْتَجَبَهُ لطُهْرِهِ، بَقِيَّةً مِنْ آدَمَ (عليه السلام)،

ص: 186


1- الطلاوة الحسن والبهجة والقبول.
2- سورة الأعراف: 159 و181.

وخِيَرَةً مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ، ومُصْطَفًى مِنْ آل إِبْرَاهِيمَ، وسُلالةً مِنْ إِسْمَاعِيل، وصَفْوَةً مِنْ عِتْرَةِ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله)، لمْ يَزَل مَرْعِيّاً بِعَيْنِ اللهِ، يَحْفَظُهُ ويَكْلؤُهُ بِسِتْرِهِ، مَطْرُوداً عَنْهُ حَبَائِل إِبْليسَوجُنُودِهِ، مَدْفُوعاً عَنْهُ وُقُوبُ الغَوَاسِقِ(1)، ونُفُوثُ كُل فَاسِقٍ، مَصْرُوفاً عَنْهُ قَوَارِفُ السُّوءِ، مُبْرَأً مِنَ العَاهَاتِ، مَحْجُوباً عَنِ الآفَاتِ، مَعْصُوماً مِنَ الزَّلاتِ، مَصُوناً عَنِ الفَوَاحِشِ كُلهَا، مَعْرُوفاً بِالحِلمِ والبِرِّ فِي يَفَاعِهِ، مَنْسُوباً إِلى العَفَافِ والعِلمِ والفَضْل عِنْدَ انْتِهَائِهِ، مُسْنَداً إِليْهِ أَمْرُ وَالدِهِ، صَامِتاً عَنِ المَنْطِقِ فِي حَيَاتِهِ، فَإِذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ وَالدِهِ إِلى أَنِ انْتَهَتْ بِهِ مَقَادِيرُ اللهِ إِلى مَشِيئَتِهِ، وجَاءَتِ الإِرَادَةُ مِنَ اللهِ فِيهِ إِلى مَحَبَّتِهِ، وبَلغَ مُنْتَهَى مُدَّةِ وَالدِهِ (عليه السلام) فَمَضَى وصَارَ أَمْرُ اللهِ إِليْهِ مِنْ بَعْدِهِ، وقَلدَهُ دِينَهُ، وجَعَلهُ الحُجَّةَ عَلى عِبَادِهِ، وقَيِّمَهُ فِي بِلادِهِ، وأَيَّدَهُ بِرُوحِهِ، وآتَاهُ عِلمَهُ، وأَنْبَأَهُ فَصْل بَيَانِهِ، واسْتَوْدَعَهُ سِرَّهُ، وانْتَدَبَهُ لعَظِيمِ أَمْرِهِ، وأَنْبَأَهُ فَضْل بَيَانِ عِلمِهِ، ونَصَبَهُ عَلماً لخَلقِهِ، وجَعَلهُ حُجَّةً عَلى أَهْل عَالمِهِ، وضِيَاءً لأَهْل دِينِهِ، والقَيِّمَ عَلى عِبَادِهِ، رَضِيَ اللهُ بِهِ إِمَاماً لهُمُ، اسْتَوْدَعَهُ سِرَّهُ، واسْتَحْفَظَهُ عِلمَهُ، واسْتَخْبَأَهُ حِكْمَتَهُ، واسْتَرْعَاهُ لدِينِهِ، وانْتَدَبَهُ لعَظِيمِ أَمْرِهِ، وأَحْيَا بِهِ مَنَاهِجَ سَبِيلهِ وفَرَائِضَهُ وحُدُودَهُ، فَقَامَ بِالعَدْل عِنْدَ تَحَيُّرِ أَهْل الجَهْل، وتَحْيِيرِ أَهْلالجَدَل بِالنُّورِ السَّاطِعِ، والشِّفَاءِ النَّافِعِ، بِالحَقِّ الأَبْلجِ، والبَيَانِ اللائِحِ، مِنْ كُل مَخْرَجٍ عَلى طَرِيقِ المَنْهَجِ، الذِي مَضَى عَليْهِ الصَّادِقُونَ مِنْ آبَائِهِ (عليهم السلام) فَليْسَ يَجْهَل حَقَّ هَذَا العَالمِ إلاّ شَقِيٌّ، ولا يَجْحَدُهُ إلاّ غَوِيٌّ، ولا يَصُدُّ عَنْهُ إلاّ جَرِيٌّ عَلى اللهِ جَل وعَلا»(2).

ص: 187


1- الوقوب: دخول الظلام، والغاسق: الليل المظلم، والنفوث كالنفخ والقرفة: التهمة.
2- الكافي: ج 1 ص203 باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته ح2.

رفض اعتذار القوم

اشارة

روي أنه جاء إلى الصديقة فاطمة (عليها السلام) قوم من المهاجرين والأنصار معتذرين وقالوا: يا سيدة النساء، لو كان أبو الحسن (عليه السلام) ذكر لنا هذا الأمر قبل أن يبرم العهد، ويحكم العقد لما عدلنا عنه إلى غيره، فقالت (عليها السلام): «إليكم عني، فلا عذر بعد تعذيركم ولا أمر بعد تقصيركم»(1).

-------------------------

طرد أهل العناد

مسألة: يجوز - بالمعنى الأعم - أمر أهل الغدر والعناد بالابتعاد وطردهم، وإن أظهروا الندامة بعد أن لم يرتبوا عليها أثرها، فإن الاعتذار باللسان فقط دون مطاوعة الجوارح ودون إصلاح ما أفسدوه أشبه بالاستهزاء أو الخداع.

وقول الصديقة (عليها السلام): (إليكم عني) قد يكون حقيقياً، أي طلب البعد الجسمي ومغادرة المكان، وقد يكون كنائياً عن رفض عذرهم بقول مطلق، وإدانة عملهم بما لا يقبل الغفران بمجرد الحضور والاعتذار باللسان.

ثم المراد بالجواز في المقام الأعممن الواجب والمستحب والجائز، إذ كل من المعنيين الحقيقي والمجازي قد يكون واجباً وقد يكون مستحباً وقد يكون جائزاً،

ص: 188


1- الإحتجاج: ج 1 ص109 احتجاج فاطمة الزهراء (عليها السلام) على القوم لما منعوها فدك وقولها لهم عند الوفاة بالإمامة.

كما أنه قد يكون الأمر مكروهاً فيما يكره الإبعاد الجسمي أو المجازي، كما في مؤمن لا يستحق ذلك بما لا يعد هتكاً وإهانة محرمة، وقد يحرم كبعض مسائل باب النكاح(1).

قال الإمام الحَسَنُ (عليه السلام) لأبي موسى الأشعري: «اعْتَزِل عَمَلنَا لا أُمَّ لكَ صَاغِراً وتَنَحَ عَنْ مِنْبَرِنَا»(2).

وقَال النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) لسارق الأكفان: «تَنَحَ عَنِّي يَا فَاسِقُ إِنِّي أَخَافَ أَنْ أَحْتَرِقَ بِنَارِكَ فَمَا أَقْرَبَكَ مِنَ النَّارِ ثُمَّ لمْ يَزَل صلى الله عليه وآله يَقُول ويُشِيرُ إِليْهِ حَتَّى أَمْعَنَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْه»(3).

وعن ابن عباس قال: لما أخرج أبوذر إلى الربذة أمر عثمان فنودي في الناس إلاّ يكلم أحد أباذر ولا يشيعه!، وأمر مروان بن الحكم أن يخرج به، فخرج به،وتحاماه الناس إلاّ علي بن أبي طالب (عليه السلام) وعقيلاً أخاه وحسناً وحسيناً (عليهما السلام) وعماراً فإنهم خرجوا معه يشيّعونه، فجعل الحسن (عليه السلام) يكلم أباذر، فقال له مروان: إيهاً يا حسن إلاّ تعلم أن الأمير قد نهى عن كلام هذا الرجل، فإن كنت لا تعلم فاعلم ذلك، فحمل عليّ (عليه السلام) على مروان فضرب بالسوط بين أذني راحلته وقال: «تنح لحاك الله إلى النار»(4).

ص: 189


1- كإبعاد المرأة زوجها عنها بما تعد ناشزة، وكهجر الرجل زوجته دون نشوز منها بما يؤذيها.
2- الجمل والنصرة لسيد العترة في حرب البصرة: ص252 إرسال الأشتر إلى الكوفة.
3- الأمالي، للصدوق: ص44 المجلس الحادي عشر ح3.
4- السقيفة وفدك: ص76.

إنهم ليسوا بمعذورين

مسألة: يجب تنبيه الأمة على عدم معذورية هؤلاء وأمثالهم ممن يحتجون بمختلف الأعذار لتبرأة ساحتهم من جناياتهم ومعاصيهم ومداهنتهم للظالمين، وما أكثرهم في كل مكان وزمان، كما نبّهت الصديقة (عليها السلام) بقولها: «إليكم عني...».

وذلك ليظهر الحق ويبطل الباطل، وإذا كان الرجحان فقط بحيث لم يمنع عن نقيضه كان مستحباً.

ثم إن كلامها (عليها الصلاة والسلام) نوع من إبطال الباطل وإحقاق الحق والنهي عن المنكر، لأن ما فعلوه كان من أشد المنكرات.

ولا يخفى أن كلامهم كان مجرد عذر غير مقبول، لأنهم كانوا قد علموا بأن علياً (صلوات الله عليه) هو الخليفة الشرعي لرسول الله (صلى الله عليه وآله) في قصة الغدير وغيرها كما يدل عليه متواتر الروايات، ولهذا صح عتابهم بقولها (عليها السلام): «فلا عذر بعد تعذيركم، ولا أمر بعد تقصيركم»، والحاصل إنهم كانوا مقصرين غير قاصرين.

قال تعالى: «فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الذينَ ظَلمُوا مَعْذِرَتُهُمْ ولاهُمْ يُسْتَعْتَبُون»(1). وقال سبحانه: «يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالمينَ مَعْذِرَتُهُمْ ولهُمُ اللعْنَةُ ولهُمْ سُوءُ الدَّار»(2).

ص: 190


1- سورة الروم: 57.
2- سورة غافر: 52.

وعن ابن عبّاس وكعب الأحبار في حديث قال: قال عبد الله بن عمر: ولمّا دنت وفاة أبي كان يغمى عليه تارة ويفيق أخرى، فلمّا أفاق قال: يا بنيّ أدركني بعليّ بن أبي طالب قبل الموت، فقلت: وما تصنع بعليّ بن أبي طالب، وقد جعلتها شورى، وأشركت عنده غيره؟

قال: يا بنيّ، سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: إنّ في النار تابوتاً يحشر فيه اثنا عشر رجلاً من أصحابي، ثمّ التفت إلى أبي بكر، وقال: احذر أن تكون أوّلهم، ثمّ التفت إلى معاذ بن جبل وقال: إيّاك يا معاذ أن تكون الثاني، ثمّ التفت إليّ ثمّ قال: يا عمر إيّاك أن تكون الثالث، وقد أغمي عليه فأفاق.

ثمّ قال: عليّ بابني، ورأيت التابوت وليس فيه إلاّ أبو بكر ومعاذ بن جبل وأنا الثالث لا أشكّ فيه.

قال عبد الله: فمضيت إلى عليّ بن أبي طالب وقلت: يا ابن عمّ رسول الله إنّ أبي يدعوك لأمر قد أحزنه، فقام عليّ (عليهالسلام) معه، فلمّا دخل عليه قال له:

يا ابن عمّ رسول الله إلاّ تعفو عنّي وتحللني عنك، وعن زوجتك فاطمة، واسلم إليك الخلافة؟ فقال له علي: نعم غير أنّك تجمع المهاجرين والأنصار، وأعط الحقّ الذي خرجت عليه من ملكه، وما كان بينك وبين صاحبك من معاهدتنا، وأقرّ لنا بحقّنا، وأعفو عنك، وأحللك، وأضمن لك عن ابنة عمّي فاطمة.

قال عبد الله: فلمّا سمع ذلك أبي حوّل وجهه إلى الحائط، وقال: النار يا أمير المؤمنين ولا العار، فقام علي (صلوات الله عليه) وخرج من عنده، فقال له ابنه:

ص: 191

لقد أنصفك الرجل يا أبت، فقال له: يا بنيّ إنّه أراد أن ينشر أبا بكر من قبره، ويضرم له ولأبيك النار، وتصبح قريش موالين لعلي بن أبي طالب، والله لا كان ذلك أبداً.

قال: ثمّ إنّ عليّاً قال لعبد الله بن عمر: ناشدتك بالله يا عبد الله بن عمر ما قال لك حين خرجت من عنده؟ قال: أما إذا ناشدتني الله وما قال لي بعدك فإنّه قال: إنّ أصلع قريش يحملهم على المحجّة البيضاء، وأقامهم على كتاب ربّهم وسنّة نبيّهم.

قال: يا ابن عمر فما قلت له عند ذلك؟

قال: قلت له: فما يمنعك أنتستخلفه؟

قال: وما ردّ عليك؟

قال: ردّ عليّ، اكتمه.

قال عليّ (عليه السلام): فإنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أخبرني به في حياته، ثمّ أخبرني في ليلة وفاته، فأنشدتك الله يا ابن عمر إن أنا أخبرتك به لتصدّقني.

قال: إذا سألت، قال: إنّه قال لك حين قلت له: فما يمنعك أن تستخلفه؟

قال: يمنعني الصحيفة التي كتبناها بيننا والعهد في الكعبة، فسكت ابن عمر، فقال له عليّ: سألتك بحقّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما سكتّ عنّي.

قال أبي، سليم: رأيت ابن عمر في ذلك المحل قد خنقته العبرة، ودمعت عيناه، ثمّ إنّ عمر تأوّه ساعة ومات آخر ليلة التاسع من شهر ربيع الأوّل سنة ثلاث وعشرين من الهجرة، وقيل لأربع بقين من ذي الحجّة من السنة المذكورة

ص: 192

والأوّل أصحّ، وله يومئذ ثلاث وسبعون سنة(1).

التقصير المحرم

مسألة: يحرم التقصير عن نصرة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في حياته وبعد استشهاده، وتقصير القوم عن نصرته كان من أشد الكبائر.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَعَاشِرَ النَّاسِ فَاتَّقُوا اللهَ وتَابِعُوا عَليّاً أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ والحَسَنَ والحُسَيْنَ والأَئِمَّةَ، كَلمَةً بَاقِيَةً، يُهْلكُ اللهُ مَنْ غَدَرَ، ويَرْحَمُ مَنْ وَفَى، «فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ ومَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَليْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً»(2)»(3).

وعَنْ عَليِّ بْنِ مُوسَى الرِّضَا، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِدِينِي، ويَرْكَبَ سَفِينَةَ النَّجَاةِ بَعْدِي، فَليَقْتَدِ بِعَليِّ بْنِ أَبِي طَالبٍ، وليُعَادِ عَدُوَّهُ، وليُوَال وَليَّهُ، فَإِنَّهُ وَصِيِّي وخَليفَتِي عَلى أُمَّتِي فِي حَيَاتِي وبَعْدَ وَفَاتِي، وهُوَ إِمَامُ كُل مُسْلمٍ وأَمِيرُ كُل مُؤْمِنٍ بَعْدِي، قَوْلهُ قَوْلي، وأَمْرُهُ أَمْرِي، ونَهْيُهُ نَهْيِي، وتَابِعُهُ تَابِعِي، ونَاصِرُهُ نَاصِرِي، وخَاذِلهُ خَاذِلي».

ص: 193


1- مدينة معاجز الأئمة الإثني عشر: ج 2 ص95 التسعون ومائتان علمه (عليه السلام) بما قاله أبو بكر وعمر ومعاذ بن جبل وأبو عبيدة بن الجراح وسالم مولى حذيفة عند موتهم، وما في ذلك من المعجزات ح420.
2- سورة الفتح: 10.
3- روضة الواعظين: ج 1 ص99 مجلس في ذكر الإمامة وإمامة علي ابن أبي طالب وأولاده (صلوات الله عليهم أجمعين).

ثُمَّ قَال (عليه السلام): «مَنْ فَارَقَ عَليّاًبَعْدِي لمْ يَرَنِي ولمْ أَرَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، ومَنْ خَالفَ عَليّاً حَرَّمَ اللهُ عَليْهِ الجَنَّةَ، وجَعَل مَأْوَاهُ النَّارَ وبِئْسَ المَصِيرُ، ومَنْ خَذَل عَليّاً خَذَلهُ اللهُ يَوْمَ يُعْرَضُ عَليْهِ، ومَنْ نَصَرَ عَليّاً نَصَرَهُ اللهُ يَوْمَ يَلقَاهُ ولقَّنَهُ حُجَّتَهُ عِنْدَ المُسَاءَلةِ». ثُمَّ قَال (عليه السلام): «الحَسَنُ والحُسَيْنُ إِمَامَا أُمَّتِي بَعْدَ أَبِيهِمَا، وسَيِّدَا شَبَابِ أَهْل الجَنَّةِ، وأُمُّهُمَا سَيِّدَةُ نِسَاءِ العَالمِينَ، وأَبُوهُمَا سَيِّدُ الوَصِيِّينَ، ومِنْ وُلدِ الحُسَيْنِ تِسْعَةُ أَئِمَّةٍ، تَاسِعُهُمُ القَائِمُ مِنْ وُلدِي، طَاعَتُهُمْ طَاعَتِي، ومَعْصِيَتُهُمْ مَعْصِيَتِي، إِلى اللهِ أَشْكُو المُنْكِرِينَ لفَضْلهِمْ، والمُضِيعِينَ لحُرْمَتِهِمْ بَعْدِي، وكَفى بِاللهِ وَليًّا ونَاصِراً لعِتْرَتِي وأَئِمَّةِ أُمَّتِي، ومُنْتَقِماً مِنَ الجَاحِدِينَ لحَقِّهِمْ، «وَسَيَعْلمُ الذِينَ ظَلمُوا أَيَّ مُنْقَلبٍ يَنْقَلبُون»(1)»(2).

العهد مع الظالم باطل

مسألة: إبرام العهد مع الظالم الغاصب وإحكام العقد معه لغو لا شرعية له ولا اعتبار ولا قيمة ولا آثار، فإن عهد الله قبل عهدهم، والقسم عليه باطل لاغ،وخلفه واجب ولا كفارة عليه.

فاعتذار القوم بقولهم: (لو كان أبو الحسن (عليه السلام) ذكر لنا هذا الأمر من قبل أن يبرم العهد ويحكم العقد لما عدلنا عنه إلى غيره) احتجاج بما لا حجية له ولا شرعية فيه، ويدل عليه صريح قولها (صلوات الله عليها) : ولا أمر بعد تقصيركم.

ص: 194


1- سورة الشعراء: 227.
2- كمال الدين وتمام النعمة: ج 1 ص260 ب24 باب ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) في النص على القائم (عليه السلام) وأنه الثاني عشر من الأئمة (عليهم السلام) ح6.

أبشروا آل محمد

اشارة

روي أن فاطمة (عليها السلام) أتت أبا بكر فقالت: لقد علمت الذي ظلمتنا عنه أهل البيت من الصدقات، وما أفاء الله علينا من الغنائم في القرآن من سهم ذوي القربى، ثم قرأت عليه قوله تعالى: [وَاعْلمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَللرَّسُول وَلذِي القُرْبَى](1)، قالت (عليها السلام): سمعته (صلى الله عليه وآله) يقول لما أنزلت هذه الآية: «أبشروا آل محمد فقد جاءكم الغنى»(2).

---------------------

البشارة بإقبال الغنى

مسألة: يستحب البشارة بإقبال الغنى، كما يستحب التسبيب لغنى الناس، فإن الغنى لمن هو أهله ولا يطغى بسببه من أهم البشارات.

وفي الحديث: «نِعْمَ العَوْنُ عَلى تَقْوَىاللهِ الغِنَى»(3)، فإن الإنسان بالغنى

ص: 195


1- سورة الأنفال: 41.
2- عوالم العلوم: ج 11 قسم2 فاطمة سلام الله عليها ص886 ب49 احتجاجها (عليها السلام) على من غصبها حقها في فدك ح98، وراجع السقيفة وفدك: ص114 القسم الثاني: فدك، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 16 ص230 الفصل الأول فيما ورد من الأخبار والسير المنقولة من أفواه أهل الحديث وكتبهم لا من كتب الشيعة ورجالهم.
3- الكافي: ج 5 ص71 باب الاستعانة بالدنيا على الآخرة ح1.

والثروة والمال يمكنه أن يساعد الفقراء والمرضى والمساكين ويزوج العزاب والعازبات ويبني المؤسسات الخيرية كالمدارس والمساجد والحسينيات والمستوصفات والمستشفيات والمعاهد العلمية وما أشبه ذلك، ولذا سمّى الله سبحانه المال بالخير، قال تعالى: «إِنْ تَرَكَ خَيْراً الوَصِيَّةُ للوالدَيْنِ والأَقْرَبين»(1) الآية.

والحاصل: إن الغنى لآل محمد (عليهم السلام) طريقي، وهو للآخرة قبل أن يكون للدنيا، على أن ما يكون للدنيا في الجملة مما حبذ إليه الله تعالى إن كان من حل وأنفق في محله، قال جل اسمه: «قُل مَنْ حَرَّمَ زينَةَ اللهِ التي أَخْرَجَ لعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُل هِيَ للذينَ آمَنُوا فِي الحَياةِ الدُّنْيا خالصَةً يَوْمَ القِيامَةِ كَذلكَ نُفَصِّل الآياتِ لقَوْمٍ يَعْلمُونَ»(2).

تبشير المؤمنين

مسألة: يستحب تبشير الإنسان إذا جاءه ما يسبب حسن حاله.فإن التبشير عبارة عن إدخال السرور في قلب المبشَّر بالفتح، ومن الواضح أن إدخال السرور في قلب المؤمن من أكبر المستحبات.

ويندرج في ذلك نشر الأخبار المبشرة للمؤمنين، بواسطة الجرائد والمجلات والإذاعة والتلفاز.

ومنه أيضاً نقل الأخبار المبشرة في داخل العوائل والمنظمات وغيرها، كنقل

ص: 196


1- سورة البقرة: 180.
2- سورة الأعراف: 32.

خبر نجاح أحدهم في تأسيس مؤسسة ما، أو في الامتحان، أو في تأسيس شركة، أو في إصلاح ذات البين، أو البشارة بشفاء مريض أو هداية ضال أو ما أشبه، فإن ذلك مضافاً إلى إدخاله السرور في قلوب المؤمنين، يسبب تماسكهم أكثر فأكثر، كما يسبب التشجيع على عمل الخير.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «مَنْ فَرَّحَ مُسْلماً خَلقَ اللهُ مِنْ ذَلكَ الفَرَحِ صُورَةً حَسَنَةً تَقِيهِ آفَاتِ الدُّنْيَا وأَهْوَال الآخِرَةِ، تَكُونُ مَعَهُ فِي الكَفَنِ والحَشْرِ والنَّشْرِ حَتَّى تُوقِفَهُ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ، فَيَقُول لهُ: مَنْ أَنْتَ فَوَ اللهِ لوْ أَعْطَيْتُكَ الدُّنْيَا لمَا كَانَتْ عِوَضاً لمَا قُمْتَ لي بِهِ، فَيَقُول: أَنَا الفَرَحُ الذِي أَدْخَلتَهُ عَلى أَخِيكَ فِي دَارِ الدُّنْيَا»(1).وعَنِ ابْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام قَال: «مَنْ أَدْخَل السُّرُورَ عَلى مُؤْمِنٍ فَقَدْ أَدْخَلهُ عَلى رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) ومَنْ أَدْخَلهُ عَلى رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) فَقَدْ وَصَل ذَلكَ إِلى اللهِ، وكَذَلكَ مَنْ أَدْخَل عَليْهِ كَرْباً»(2).

وعَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَاليِّ قَال: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) يَقُول: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ سَرَّ مُؤْمِناً فَقَدْ سَرَّنِي، ومَنْ سَرَّنِي فَقَدْ سَرَّ اللهَ»(3).

وعَنْ عَليِّ بْنِ الحُسَيْنِ (صلوات الله عليه) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَال إِلى اللهِ عَزَّ وجَل إِدْخَال السُّرُورِ عَلى المُؤْمِنِينَ»(4).

ص: 197


1- مصادقة الإخوان: ص64 باب ثواب من فرح أخاه ح1.
2- الكافي: ج 2 ص192 باب إدخال السرور على المؤمنين ح14.
3- الكافي: ج 2 ص188 باب إدخال السرور على المؤمنين ح1.
4- الكافي: ج 2 ص189 باب إدخال السرور على المؤمنين ح4.

وعَنْ مُفَضَّل بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «لا يَرَى أَحَدُكُمْ إِذَا أَدْخَل عَلى مُؤْمِنٍ سُرُوراً أَنَّهُ عَليْهِ أَدْخَلهُ فَقَطْ، بَل واللهِ عَليْنَا، بَل واللهِ عَلى رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله)»(1).

لا لإشاعة الفاحشة

مسألة: من ذلك يظهر أن ما جرى عليه ديدن الغرب، وتبعه الشرق من شدة الترويج في وسائل الإعلام للأخبار المحزنة والتركيز عليها بشكل كبير جداً، كحريق هنا، وقتل هناك، وسرقة أو غصب أو اغتصاب أو احتيال أو غرق أو ضياع أو ما أشبه، مما لا يصح، فإن كثيراً من ذلك مصداق لإشاعة الفاحشة، ويعد - عن قصد أو لا قصد - طريقاً لترويجها وإزالة قبحها من الأذهان، لتكون عادية لدى الناس.

بل إنها تجرؤ الكثيرين، خاصة بعض الشباب عليها.

إضافة إلى ما تسببه من مرض الكآبة في الذين يمطرون بمئات من هذه الأخبار طوال السنة، دون طائل.

نعم لا بد من ذكر بعض ما يرتبط بالبشرية من الجرائم والمصائب بالقدر الذي يحفزهم على التعاون، أو يذكرهم بالآخرة، أو يوضح لهم الأسباب والنتائج، ويحذرهم من الشرور والآثام، وما يكون مصداقاً لقوله (عليه السلام): «العالم بزمانه لا تهجم عليهاللوابس»(2).

ولهذا البحث تفصيل في علم الاجتماع وعلم الأخلاق.

ص: 198


1- الكافي: ج 2 ص189 باب إدخال السرور على المؤمنين ح6.
2- الكافي: ج 1 ص26 كتاب العقل والجهل ح29.

عن مَسْعَدَةُ بْنُ زِيَادٍ، قَال: سَمِعْتُ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ (عليهما السلام) وقَدْ سُئِل عَنْ قَوْلهِ تَعَالى: «فَللهِ الحُجَّةُ البالغَةُ»(1)، فَقَال: إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ قَال اللهُ تَعَالى للعَبْدِ: أَ كُنْتَ عَالماً، فَإِنْ قَال نَعَمْ قَال لهُ أَفَلا عَمِلتَ بِمَا عَلمْتَ، وإِنْ قَال كُنْتُ جَاهِلا قَال لهُ: أَ فَلا تَعَلمْتَ، فَيَخْصِمُهُ، فَتِلكَ الحُجَّةُ البَالغَةُ للهِ عَزَّ وجَل عَلى خَلقِه»(2).

وقال (صلى الله عليه وآله) في وصيته لأبي ذر: «عَلى العَاقِل أَنْ يَكُونَ بَصِيراً بِزَمَانِه»(3).

وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلانَ قَال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُول: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وجَل عَيَّرَ أَقْوَاماً بِالإِذَاعَةِ فِي قَوْلهِ عَزَّ وَجَل «وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ» فَإِيَّاكُمْ والإِذَاعَةَ»(4).وقَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ أَذَاعَ فَاحِشَةً كَانَ كَمُبْتَدِئِهَا، ومَنْ عَيَّرَ مُؤْمِناً بِشَيْ ءٍ لا يَمُوتُ حَتَّى يَرْكَبَهُ»(5).

ص: 199


1- سورة الأنعام: 149.
2- الأمالي، للمفيد: ص292 المجلس الخامس والثلاثون ح1.
3- الخصال: ج 2 ص525 الخصال التي سأل عنها أبو ذر (رحمه الله) رسول الله (صلى الله عليه وآله) ح13.
4- الكافي: ج 2 ص369 باب الإذاعة ح1.
5- ثواب الأعمال وعقاب الأعمال: ص247.

وجوب الخمس

مسألة: يجب إعطاء الخمس لصريح قوله تعالى: «فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وللرَّسُول ولذِي القُرْبى...»(1)، كما أن انتشار الفقر في كثير من السادة(2) نتيجة منع الخمس.

فإذا كان الناس ملتزمين بدفع الحقوق الشرعية من الأخماس والزكوات والكفارات والنذورات وما أشبه لم يبق محتاج كما وردت بذلك النصوص المستفيضة، وعلى ما يظهر من كتابي الخمس والزكاة، وقد ذكرنا بعض تفصيل ذلك في كتاب (الفقه: الاقتصاد)(3).

ولا يخفى أنه إنما يُعطى الخمس للسيد إذا لم يكن غنياً فعلاً ولا قوّةً(4)، ولم يكن في دفع الخمس له إعانة على الإثم(5)، وتفصيله في بابه.

ص: 200


1- سورة الأنفال: 41.
2- ولا يخفى أن عدد السادة من بني الزهراء (عليها السلام) في العالم يبلغ الآن عشرات الملايين، وقيل إن عددهم يبلغ ما يقارب مائة مليون.
3- موسوعة الفقه: ج107 - 108 كتاب الاقتصاد.
4- الغني بالقوة هو من يملك قوت سنته عبر راتب له أو عمل تدريجي يحصل به مؤونته وإن لم يكن عنده الآن مؤنة سنته نقداً.
5- قال في العروة: (يقوى عدم الجواز إذا كان في الدفع إعانة على الإثم، ولا سيما إذا كان في المنع الردع عنه) ووافقه المحشون. انظر العروة، كتاب الخمس فصل2 في قسمة الخمس. وقال الإمام المؤلف (قدس سره) في الحاشية: (إعطاء الخمس لابن السبيل العاصي بسفره مشكل، فلا يترك الاحتياط، خصوصاً إذا كان الإعطاء مصداقاً للإعانة على الإثم أو التعاون عليه). وقال أيضاً: (الأحوط عدم إعطاء المتجاهر - أي بالمعصية - خصوصاً بالمعاصي الشديدة).

وهكذا في الزكاة حيث اشترط الفقهاء أن لا يصرفها في الحرام وأن يصرف على الموالين.

عَنِ الصَّادِقِ (عليه السلام) قَال: «مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللهَ يُجْبِرُ عِبَادَهُ عَلى المَعَاصِي أَوْ يُكَلفُهُمْ مَا لا يُطِيقُونَ فَلا تُعْطُوهُ مِنَ الزَّكَاةِ شَيْئاً»(1).

وعَنْ بِشْرِ بْنِ بَشَّارٍ، قَال: قُلتُ للرَّجُل يَعْنِي أَبَا الحَسَنِ (عليه السلام): «مَا حَدُّ المُؤْمِنِ الذِي يُعْطَى الزَّكَاةَ، قَال: يُعْطَى المُؤْمِنُ ثَلاثَةَ آلافٍ، ثُمَّ قَال: أَوْ عَشَرَةَ آلافٍ، ويُعْطَى الفَاجِرُ بِقَدَرٍ، لأَنَّ المُؤْمِنَ يُنْفِقُهَا فِي طَاعَةِ اللهِ والفَاجِرَ فِي مَعْصِيَةِاللهِ»(2).

ص: 201


1- وسائل الشيعة: ج 9 ص228 ب7 باب عدم جواز دفع الزكاة إلى المخالف في الاعتقاد الحق من الأصول كالمجسمة والمجبرة والواقفية والنواصب ونحوهم ح1.
2- وسائل الشيعة: ج 9 ص249 ب17 باب عدم جواز دفع الزكاة إلى شارب الخمر وعدم اشتراط العدالة في مستحق الزكاة ح2.

فضيلة أسماء وأم أيمن

اشارة

في حديث قالت فاطمة (عليها السلام): «ألم تسمعا من أبي رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: أسماء بنت عميس وأم أيمن من أهل الجنة». فقالا: بلى(1).

----------------------

تزكية الشاهد العادل

مسألة: يجب في مورده تزكية الشاهد العادل، رجلاً كان أم امرأة، فيما يصح شهادتها فيه، كما صنعت الصديقة (صلوات الله عيلها).

هذا وفي الروايات من كان ظاهره العدالة تقبل شهادته، فكيف بمن وثقته الزهراء (عليها السلام) وهي المعصومة الصديقة.

عَنْ عَلقَمَةَ قَال: قَال الصَّادِقُ (عليه السلام) وَقَدْ قُلتُ لهُ: يَا ابْنَ رَسُول اللهِ أَخْبِرْنِي عَمَّنْ تُقْبَل شَهَادَتُهُ وَمَنْ لا تُقْبَل، فَقَال: «يَا عَلقَمَةُ كُل مَنْ كَانَ عَلى فِطْرَةِ الإِسْلامِ جَازَتْ شَهَادَتُهُ» قَال: فَقُلتُ لهُ: تُقْبَل شَهَادَةُ مُقْتَرِفٍ بِالذُّنُوبِ، فَقَال: «يَا عَلقَمَةُ لوْ لمْ تُقْبَل شَهَادَةُ المُقْتَرِفِينَللذُّنُوبِ لمَا قُبِلتْ إلاّ شَهَادَةُ الأَنْبِيَاءِ والأَوْصِيَاءِ (عليهم السلام) لأَنَّهُمُ المَعْصُومُونَ دُونَ سَائِرِ الخَلقِ، فَمَنْ لمْ تَرَهُ بِعَيْنِكَ يَرْتَكِبُ ذَنْباً أَوْ لمْ يَشْهَدْ عَليْهِ بِذَلكَ شَاهِدَانِ فَهُوَ مِنْ أَهْل العَدَالةِ والسَّتْرِ وشَهَادَتُهُ

ص: 202


1- الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف: ج 1 ص249 فيما جرى على فاطمة (عليها السلام) من الأذى والظلم ومنعها من فدك.

مَقْبُولةٌ وإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ مُذْنِباً، ومَنِ اغْتَابَهُ بِمَا فِيهِ فَهُوَ خَارِجٌ مِنْ وَلايَةِ اللهِ دَاخِل فِي وَلايَةِ الشَّيْطَانِ»(1).

وعَنْهُمْ (عليهم السلام): «أَنَّهُ لا بَأْسَ بِشَهَادَةِ المَمْلوكِ إِذَا كَانَ عَدْلاً»(2).

وعَنِ الرِّضَا، عَنْ آبَائِهِ، عَنْ عَليٍّ (عليهم السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ عَامَل النَّاسَ فَلمْ يَظْلمْهُمْ، وحَدَّثَهُمْ فَلمْ يَكْذِبْهُمْ، ووَعَدَهُمْ فَلمْ يُخْلفْهُمْ، فَهُوَ مِمَّنْ كَمَلتْ مُرُوءَتُهُ، وظَهَرَتْ عَدَالتُهُ، ووَجَبَتْ أُخُوَّتُهُ، وحَرُمَتْ غِيبَتُهُ»(3).

منزلة المرأة في الإسلام

مسألة: يستحب بيان اهتمام الإسلام بمقام المرأة، فإن لذلك الموضوعية، كما له الطريقية أيضاً لإبطال دعاويالمغرضين والجاهلين وأعداء الدين، كما يجب أن لا يزاد على ما ذكره الإسلام، ولا ينقص منه خوفاً من إعلام الشرق والغرب، قال تعالى: «تَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ»(4).

الإشارة بأصحاب الفضل

مسألة: يستحب بيان فضائل أصحاب الفضل من المؤمنين والمؤمنات، كما بينت الصديقة (عليها السلام) كون أسماء وأم أيمن (رضوان الله عليهما) من أهل الجنة.

ص: 203


1- وسائل الشيعة: ج 27 ص395 ب41 باب ما يعتبر في الشاهد من العدالة ح13.
2- وسائل الشيعة: ج 27 ص395 ب41 باب ما يعتبر في الشاهد من العدالة ح4.
3- وسائل الشيعة: ج 27 ص396 ب41 باب ما يعتبر في الشاهد من العدالة ح15.
4- سورة الأحزاب: 37.

فإن ذكر أصحاب الفضل يسبب جعلهم أسوة، والتفاف الناس حولهم، وقبول شهادتهم وما إلى ذلك، كما أنه يشجعهم على العمل الصالح والتمسك بالفضلية أكثر، كما أن ذكر نقائص أهل النقص يوجب عكس كل ذلك.

وفي القرآن الحكيم ورد القسمان من تفضيل المفضَّلين وتنقيص المبطلين، كذكر الأنبياء (عليهم السلام) بالفضيلة وذكر الفراعنة بالرذيلة.

ص: 204

أول الأهل لحوقاً

اشارة

قالت الصديقة فاطمة (عليها السلام): «أخبرني رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه ميت، فبكيت، ثم أخبرني (صلى الله عليه وآله) أني أول أهله لحوقاً به فضحكتُ»(1).

--------------------------

إظهار الحزن عند مقتضيه

مسألة: يستحب إظهار الحزن إذا سمع الإنسان شيئاً محزناً، فكيف إذا كان أمراً عظيماً كوفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله).

فإن ذلك من مظاهر الإنسانية، وقد قال الصادق (عليه السلام): «المُؤْمِنُونَ فِي تَبَارِّهِمْ وتَرَاحُمِهِمْ وتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَل الجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى تَدَاعَى لهُ سَائِرُهُ بِالسَّهَرِ والحُمَّى»(2)، وهذا إنشاء في صورة الإخبار وهو من أساليب البلاغة(3).وأما بالنسبة إليهم (صلوات الله عليهم) فتدل عليه أدلة خاصة، مثل: «إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتَعَالى اطَّلعَ إِلى الأَرْضِ فَاخْتَارَنَا واخْتَارَ لنَا شِيعَةً يَنْصُرُونَنَا، ويَفْرَحُونَ

ص: 205


1- عوالم العلوم: ج 11، قسم2، فاطمة (سلام الله عليها) ص890 ب56 حديثها (عليها السلام) في إخبار النبي (صلى الله عليه وآله) بأنها أول أهله لحوقاً به ح108.
2- المؤمن: ص39 ب3 ح92، مستدرك الوسائل: ج 12 ص424 ب32 باب استحباب البر بالمؤمن والتعاون على البر ح10.
3- ويحتمل كونه إخباراً عن إنشاء في مرتبة سابقة أو لاحقة.

لفَرَحِنَا ويَحْزَنُونَ لحُزْنِنَا، ويَبْذُلونَ أَمْوَالهُمْ وأَنْفُسَهُمْ فِينَا، أُولئِكَ مِنَّا وإِليْنَا»(1).

وعَنْ عِيسَى بْنِ أَبِي مَنْصُورٍ، قَال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُول: «نَفَسُ المَهْمُومِ لنَا المُغْتَمِّ لظُلمِنَا تَسْبِيحٌ، وهَمُّهُ لأَمْرِنَا عِبَادَةٌ، وكِتْمَانُهُ لسِرِّنَا جِهَادٌ فِي سَبِيل اللهِ»(2).

وعَنْ مِسْمَعِ بْنِ عَبْدِ المَلكِ كِرْدِينٍ البَصْرِيِّ، قَال: قَال لي أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) في حديث: «إِنَ المُوجَعَ لنَا قَلبُهُ ليَفْرَحُ يَوْمَ يَرَانَا عِنْدَ مَوْتِهِ فَرْحَةً لا تَزَال تِلكَ الفَرْحَةُ فِي قَلبِهِ حَتَّى يَرِدَ عَليْنَا الحَوْضَ، وإِنَّ الكَوْثَرَ ليَفْرَحُ بِمُحِبِّنَا إِذَا وَرَدَ عَليْهِ حَتَّى إِنَّهُ ليُذِيقُهُ مِنْ ضُرُوبِ الطَّعَامِ مَا لا يَشْتَهِي أَنْ يَصْدُرَ عَنْهُ، يَا مِسْمَعُ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ شَرْبَةً لمْ يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَداً، ولمْ يَسْتَقِ بَعْدَهَاأَبَداً، وهُوَ فِي بَرْدِ الكَافُورِ ورِيحِ المِسْكِ وطَعْمِ الزَّنْجَبِيل أَحْلى مِنَ العَسَل وأَليَنَ مِنَ الزُّبْدِ وأَصْفَى مِنَ الدَّمْعِ وأَذْكَى مِنَ العَنْبَرِ، يَخْرُجُ مِنْ تَسْنِيمٍ ويَمُرُّ بِأَنْهَارِ الجِنَانِ يَجْرِي عَلى رَضْرَاضِ الدُّرِّ واليَاقُوتِ، فِيهِ مِنَ القِدْحَانِ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ، يُوجَدُ رِيحُهُ مِنْ مَسِيرَةِ أَلفِ عَامٍ، قِدْحَانُهُ مِنَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ وأَلوَانِ الجَوْهَرِ، يَفُوحُ فِي وَجْهِ الشَّارِبِ مِنْهُ كُل فَائِحَةٍ حَتَّى يَقُول الشَّارِبُ مِنْهُ، يَا ليْتَنِي تُرِكْتُ هَاهُنَا لا أَبْغِي بِهَذَا بَدَلاٌ ولا عَنْهُ تَحْوِيلاٌ»(3).

ص: 206


1- الخصال: ج 2 ص635 علم أمير المؤمنين (عليه السلام) أصحابه في مجلس واحد أربعمائة باب مما يصلح للمسلم في دينه ودنياه ح10.
2- الكافي: ج 2 ص226 باب الكتمان ح16.
3- كامل الزيارات: ص102 الباب الثاني والثلاثون ثواب من بكى على الحسين بن علي (عليهما السلام) ح6.

إظهار السرور لدى توفر علله

مسألة: يستحب إظهار السرور في محضر العظيم إذا سمع منه ما يفيد ارتباطه به أو لحوقه به في شأن من الشؤون الدنيا أو الآخرة.

وهذا كالسابق دليلاً ومدلولاً.

ثم المراد بالضحك هنا التبسم لا الضحك بصوت، لأن الضحك بصوت خلاف شأن الأنبياء والمعصومين (عليهم السلام) وفي الحديث: «بل كان ضحكه (عليه السلام) التبسّم»(1).

ولعل قوله سبحانه وتعالى: «ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ»(2) أيضاً من هذا القبيل، وإن كانت شؤون الآخرة لا تقاس بشؤون الدنيا.

أما قوله تعالى: «فَليَضْحَكُوا

قَليلاً وليَبْكُوا كَثيراًجَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُون»(3)، فإنه تهديد لهم، أي للمنافقين وهم المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فيلزم عليهم أن لا يسروا ولا يبتسموا فإن عذاب

ص: 207


1- وسائل الشيعة: ج 12 ص209 ب122 باب وجوب أداء حق المؤمن وجملة من حقوقه الواجبة والمندوبة ح14، عن عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج 2 ص184 ب44 باب في ذكر أخلاق الرضا (عليه السلام) الكريمة ووصف عبادته ح7. وذكر في أخلاق النبي (صلى الله عليه وآله): جُل ضِحْكِهِ التَّبَسُّم، عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج 1 ص317 ب29 ما جاء عن الرضا (عليه السلام) في صفة النبي (صلى الله عليه وآله) ح1.
2- سورة عبس: 39.
3- سورة التوبة: 82.

جهنم لهم بالمرصاد، «قُل نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا»(1)، والحاصل: ليضحكوا في الدنيا قليلاً وليبكوا في الآخرة طويلاً.

قال تعالى: «فَاليَوْمَ الذينَ آمَنُوا مِنَ الكُفَّارِ يَضْحَكُون»(2).

وعَنْ أَبِي الحَسَنِ الأَوَّل (عليه السلام) قَال: «كَانَ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا (عليهما السلام) يَبْكِي ولا يَضْحَكُ، وكَانَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ (عليهما السلام) يَضْحَكُ ويَبْكِي، وكَانَ الذِي يَصْنَعُ عِيسَى (عليه السلام) أَفْضَل مِنَ الذِي كَانَ يَصْنَعُ يَحْيَى (عليه السلام)»(3).

وجوه الحكمة في ضحكها

ثم إن ضحك الصديقة (صلوات الله عليها) عند ما أخبرها أبوها رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأنها أول أهل بيته لحوقاً به، قد يكون لبعض أو جميع الوجوه التالية أو غيرها:1: لأصل الالتحاق بشخصه الكريم (صلوات الله عليه)، فإنه مطلوب بذاته ومحبوب بنفسه، إذ أي شيء أفضل وأكمل وأجمل من أن يكون الإنسان مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الدنيا والآخرة.

2: لتضمنه تبشيرها بأعلى المراتب في دار الآخرة، حيث لحوقها به (صلى الله عليه وآله)، إذ الظاهر من اللحوق أنه في درجته ومنزلته، لا مجرد الجنة والنعيم المقيم.

ص: 208


1- سورة التوبة: 81.
2- سورة المطففين: 34.
3- الكافي: ج 2 ص665 باب الدعابة والضحك ح20.

3: لكشفه عن انتهاء أمد امتحانها في هذه الدار الدنيا، ونجاحها بأبلغ نجاح وأكمله وأتمه وأعلاه وأسماه وأجمله وأكمله, والذي يدل عليه تقدير الله تعالى لها (صلوات الله عليها) بأن تلتحق برسول الله (صلى الله عليه وآله) في أعلى درجات جنان الخلد.

4: لتضمنه التحاق أهل بيته وهم أمير المؤمنين علي (عليه السلام) والحسن والحسين (عليهما السلام) به (صلى الله عليه وآله) في أعلى مراتب الجنان أيضاً، فإنهم أهل بيته بالمعنى الأخص وبالدرجة الأولى، قال تعالى: «إِنَّما يُريدُ اللهُ ليُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْل البَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهيراً»(1).

5: ولعله لأن لحوقها به من غير طول مكث يستلزم عدم توارد مصائب أخرىعليها، فإن البقاء مع مجموعة من الأعداء يزيد الإنسان كرباً على كرب، وحزناً على حزن، فتأمل.

6: ويحتمل أن يكون لما عرفته (عليها السلام) مما فرح أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) بسرعة التحاقها به، فإن الميت يسر بالتحاق أهله به، كما أن سروره قد يكون لسرعة انتهاء مصائبها (عليها السلام) بسرعة اللحاق به.

رُوِيَ أَنَّهُ دَخَل النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) يَوْماً إِلى فَاطِمَةَ (عليها السلام) فَهَيَّأَتْ لهُ طَعَاماً مِنْ تَمْرٍ وقُرْصٍ وسَمْنٍ، فَاجْتَمَعُوا عَلى الأَكْل هُوَ وعَليٌّ وفَاطِمَةُ والحَسَنُ والحُسَيْنُ (عليهم السلام) فَلمَّا أَكَلوا سَجَدَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) وأَطَال سُجُودَهُ ثُمَّ بَكَى ثُمَّ ضَحِكَ ثُمَّ جَلسَ، وكَانَ أَجْرَأَهُمْ فِي الكَلامِ عَليٌّ (عليه السلام) فَقَال: يَا رَسُول اللهِ رَأَيْنَا مِنْكَ اليَوْمَ مَا لمْ نَرَهُ قَبْل ذَلكَ، فَقَال (صلى الله عليه وآله):

ص: 209


1- سورة الأحزاب: 33.

إِنِّي لمَّا أَكَلتُ مَعَكُمْ فَرِحْتُ وسُرِرْتُ بِسَلامَتِكُمْ واجْتِمَاعِكُمْ فَسَجَدْتُ للهِ تَعَالى شُكْراً، فَهَبَطَ جَبْرَئِيل (عليه

السلام) يَقُول: سَجَدْتَ شُكْراً لفَرَحِكَ بِأَهْلكَ، فَقُلتُ: نَعَمْ، فَقَال: إلاّ أُخْبِرُكَ بِمَا يَجْرِي عَليْهِمْ بَعْدَكَ، فَقُلتُ: بَلى يَا أَخِي يَا جَبْرَئِيل، فَقَال: أَمَّا ابْنَتُكَ فَهِيَ أَوَّل أَهْلكَ لحَاقاً بِكَ بَعْدَ أَنْ تُظْلمَ ويُؤْخَذَ حَقُّهَا وتُمْنَعَ إِرْثَهَا ويُظْلمَ بَعْلهَا ويُكْسَرَ ضِلعُهَا، وأَمَّا ابْنُ عَمِّكَ فَيُظْلمُ ويُمْنَعُ حَقَّهُويُقْتَل، وأَمَّا الحَسَنُ فَإِنَّهُ يُظْلمُ ويُمْنَعُ حَقَّهُ ويُقْتَل بِالسَّمِّ، وأَمَّا الحُسَيْنُ فَإِنَّهُ يُظْلمُ ويُمْنَعُ حَقَّهُ وتُقْتَل عِتْرَتُهُ وتَطَئُوهُ الخُيُول ويُنْهَبُ رَحْلهُ وتُسْبَى نِسَاؤُهُ وذَرَارِيُّهُ ويُدْفَنُ مُرَمَّلا بِدَمِهِ ويَدْفِنُهُ الغُرَبَاءُ، فَبَكَيْتُ وقُلتُ: وهَل يَزُورُهُ أَحَدٌ، قَال: يَزُورُهُ الغُرَبَاءُ، قُلتُ: فَمَا لمَنْ زَارَهُ مِنَ الثَّوَابِ، قَال: يُكْتَبُ لهُ ثَوَابُ أَلفِ حَجَّةٍ وأَلفِ عُمْرَةٍ كُلهَا مَعَكَ، فَضَحِكَ(1).

ص: 210


1- بحار الأنوار: ج 98 ص44 ب5 أن زيارته (عليه الصلاة والسلام) تعدل الحج والعمرة والجهاد والإعتاق ح84.

الأول لحوقاً

اشارة

قالت الصديقة فاطمة (عليها السلام): أخبرني رسول الله (صلى الله عليه وآله) أني أول أهله لحوقاً به(1).

-----------------------------

الإخبار عن المستقبل

مسألة: يجوز الإخبار عن المستقبل إذا قُطع به ولو عن طريق الغيب، كما يجوز الإخبار الظني أو الاحتمالي بعنوان أنه محتمل ومظنون، ولا يعتبر ذلك من (الكهانة) فإن الكهانة هي تعاطي الخبر عن الكائنات في مستقبل الأيام بما يأتيه به الجن أو الشيطان.

ولا يخفى أن المراد ب (أهله) من كان يعيش آنذاك في الدنيا، وإلاّ فمحسن (عليه السلام) السقط قد استشهد قبل أمه فاطمة (عليها السلام) على أثر هجوم القوم على دارها (عليها السلام) وضربها وعصرها بين الحائط والباب.

قال تعالى: «عالمُ الغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً * إلاّمَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُول فَإِنَّهُ يَسْلكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ومِنْ خَلفِهِ رَصَداً»(2).

ص: 211


1- عوالم العلوم: ج 11 قسم2، فاطمة (سلام الله عليها): ص890 ب56 حديثها (عليها السلام) في إخبار النبي (صلى الله عليه وآله) بأنها أول أهله لحوقاً به ح109.
2- سورة الجن: 26-27.

وقَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «مَا كَذَبْتُ ولا كُذِبْتُ ولا ضَللتُ ولا ضُل بِي»(1).

هل يفعل المعصوم المكروه؟

المراد بالجواز في المسألة الإخبار عن الغيب الأعم من الأحكام الثلاثة، لأنه قد يجب الإخبار، وقد يستحب، وقد يباح، ويضاف إلى ذلك الكراهة أحياناً في غيرهم (عليهم الصلاة والسلام)، لأنهم (صلوات الله عليهم) لا يفعلون حتى المكروه.

ولذا قال الفقهاء إنه إذا رأينا أنهم (عليهم السلام) فعلوا ما ظاهره الكراهة فإنه ليس بمكروه، لأن المكروه إنما يكون بعلة وملاك، لتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلقات، وهم (عليهم السلام) يعرفون الملاكات الواقعية ومكان العلة وعدمها، فما فعلوه ليس بمكروه في حقهم ولو بطرو عنوان حاكم أهم(2).بل ذكرنا في بعض كتبنا العقائدية والأصولية أنهم (عليهم الصلاة والسلام) لا يصدر منهم حتى ترك الأولى، فهم (صلوات الله عليهم) معصومون من الذنب والمكروه وترك الأولى، ومن الخطأ والسهو والنسيان وما أشبه.

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُول: «أَنَا وعَليٌّ والحَسَنُ والحُسَيْنُ وتِسْعَةٌ مِنْ وُلدِ الحُسَيْنِ مُطَهَّرُونَ مَعْصُومُونَ»(3).

ص: 212


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 18 ص368 الخطبة152 في الإخبار عن الغيب صادقاً.
2- راجع موسوعة (الفقه) كتاب البيع: ج5 ص247 في تنزيه الرسول (صلى الله عليه وآله) والأئمه (عليهم السلام)، و(من فقه الزهراء عليها السلام): ج1 المقدمة، وص187- 191 وص249 - 253، والفقه العقائد: ص27 .
3- كفاية الأثر: ص19 باب ما جاء عن عبد الله بن العباس عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في النصوص على الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام).

وعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُول: «أَنَا سَيِّدُ الأَنْبِيَاءِ، وعَليٌّ سَيِّدُ الأَوْصِيَاءِ، وسِبْطَايَ خَيْرُ الأَسْبَاطِ، ومِنَّا الأَئِمَّةُ المَعْصُومُونَ مِنْ صُلبِ الحُسَيْنِ (عليه السلام) ومِنَّا مَهْدِيُّ هَذِهِ الأُمَّةِ، فَقَامَ إِليْهِ أَعْرَابِيٌّ فَقَال: يَا رَسُول اللهِ كَمِ الأَئِمَّةُ بَعْدَكَ، قَال: عَدَدَ الأَسْبَاطِ وحَوَارِيِّ عِيسَى ونُقَبَاءِ بَنِي إِسْرَائِيل»(1).وعن عَليُّ بْنُ مُوسَى الرِّضَا، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام)، عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) أَنَّهُ قَال: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلى القَضِيبِ الأَحْمَرِ الذِي غَرَسَهُ اللهُ بِيَدِهِ ويَكُونَ مُتَمَسِّكاً بِهِ، فَليَتَوَل عَليّاً والأَئِمَّةَ مِنْ وُلدِهِ، فَإِنَّهُمْ خِيَرَةُ اللهِ عَزَّ وجَل وصَفْوَتُهُ، وهُمُ المَعْصُومُونَ مِنْ كُل ذَنْبٍ وخَطِيئَةٍ»(2).

ص: 213


1- كفاية الأثر: ص113 باب ما جاء عن أبي أيوب الأنصاري خالد بن زيد عن النبي (صلى الله عليه وآله) في النصوص على الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام).
2- الأمالي، للصدوق: ص583 المجلس الخامس والثمانون ح26.

لا تبكي

اشارة

وفي رواية أخرى:

قالت فاطمة (عليها السلام): قال لي أبي رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لا تبكي، فإنك أول أهلي لاحق بي»(1).

--------------------------

تسلية الباكي

مسألة: يستحب تسلية الباكي بما يفرحه.

فإن تسلية المصاب بمصيبة والباكي لأجل مصيبته من المستحبات شرعاً، كما يدل على ذلك ما ورد في الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَنْ عَزَّى مُصَاباً فَلهُ مِثْل أَجْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ أَجْرِ المُصَابِ شَيْئاً»(2).

وقال (صلى الله عليه وآله): «مَنْ عَزَّى ثَكْلى كُسِيَ بُرْداً فِي الجَنَّةِ»(3).وقال (صلى الله عليه وآله): «مَنْ عَزَّى حَزِيناً كُسِيَ فِي المَوْقِفِ حُلةً يُحَبَّرُ بِهَا»(4).

إضافة إلى عمومات استحباب إدخال السرور في قلب المؤمن.

ص: 214


1- عوالم العلوم: ج 11 قسم2 فاطمة (سلام الله عليها) ص890 ب56 حديثها (عليها السلام) في إخبار النبي (صلى الله عليه وآله) بأنها أول أهله لحوقاً به ح110.
2- الكافي: ج3 ص205 باب ثواب من عزى حزيناً ح2.
3- مستدرك الوسائل: ج2 ص349 ب40 ح2163.
4- الكافي: ج3 ص205 باب ثواب من عزى حزيناً ح1.

والنهي في (لا تبكي) إرشادي، رأفة بها (عليها السلام) ورحمة، والتعليل خير شاهد ودليل.

(لا تبكي) نهي أو حنان

ولا يخفى أن قوله (صلى الله عليه وآله) «لا تبكي» لا يدل على مرجوحية البكاء، بل هو عطف وحنان، ومثله ما ورد عن الإمام الحسين (عليه السلام) على ما سبق حيث قال لابنته: لا تبكي، أو قال لأخته العقيلة زينب الكبرى (صلوات الله عليها) ذلك.

وهذا متعارف عند ما يرى الإنسان أحد أقربائه أو أصدقائه يبكي، فإنه يقول له: لا تبك، تعطفاً عليه ورحمةً به، لا أن بكاءه مرجوح كما هو واضح، بل إن عدم البكاء قد يكون مرجوحاً.

ثم إنه هل كانت القضية واحدة، والروايات وكيفية بيانها مختلفة، فلا تعدد لحادثة بكائها (عليها السلام) ولا تعدد لقوله (صلى الله عليه وآله): لا تبكي، خاصة مع قوة أن ضحكها (عليها السلام) بعدإخباره بلحوقها به، كان لمرة واحدة، أم لا، فالتعدد محتمل بل له وجه، لاستمرار مرضه (صلى الله عليه وآله) عدة أيام، ومن الطبيعي أن يتكرر بكاء ذوي المريض بين فترة وأخرى كلما اشتد بالمريض المرض أو شاهدوه يتألم مرة إثر أخرى، هذا إذا كان المريض عادياً فكيف إذا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله).

الشوق للآخرة

مسألة: يستحب بيان أن الصديقة فاطمة (عليها السلام) وكذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) وسائر المعصومين (عليهم السلام) مشتاقون لدار الآخرة، وأن الدنيا

ص: 215

لاتهمهم إلاّ لأداء مسؤولياتهم الشرعية وهداية الناس.

ومن هنا فرحت الصديقة (عليها السلام) لما أخبرها رسول الله (صلى الله عليه وآله) بقرب رحيلها إلى دار الجنان.

قَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «وَاللهِ لابْنُ أَبِي طَالبٍ آنَسُ بِالمَوْتِ مِنَ الطِّفْل بِثَدْيِ أُمِّه»(1).

وقَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «إِنَّ أَكْرَمَ المَوْتِ القَتْل، والذِي نَفْسُ ابْنِ أَبِي طَالبٍ بِيَدِهِ لأَلفُ ضَرْبَةٍ بِالسَّيْفِ أَهْوَنُ عَليَّ مِنْ مِيتَةٍ عَلى الفِرَاشِ فِي غَيْرِ طَاعَةِالله»(2).

وقَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «شَوِّقُوا أَنْفُسَكُمْ إِلى نَعِيمِ الجَنَّةِ تُحِبُّوا المَوْتَ وتَمْقُتُوا الحَيَاةَ»(3).

وقَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «فِي المَوْتِ رَاحَةُ السُّعَدَاءِ»(4).

وقَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «لا مُرِيحَ كَالمَوْتِ»(5).

وقال سيد الشهداء (عليه السلام): «وَإِنِّي لا أَرَى المَوْتَ إلاّ سَعَادَة»(6).

ص: 216


1- نهج البلاغة، الخطبة: 5 خلقه وعلمه.
2- نهج البلاغة، الخطبة: 123 من كلام له (عليه السلام) قاله لأصحابه في ساحة الحرب بصفين.
3- عيون الحكم والمواعظ: ص297 ح5304.
4- عيون الحكم والمواعظ: ص354 ح6011.
5- عيون الحكم والمواعظ: ص532 ح9695.
6- بحار الأنوار: ج 44 ص192 ب26 مكارم أخلاقه وجمل أحواله وتاريخه وأحوال أصحابه (صلوات الله عليه).

رفيق الجنة

اشارة

عن فاطمة (عليها السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أنت أول أهلي لحوقاً بي، وأنت رفيقي في الجنة»(1).

------------------------

التمهيد لمرافقة الصالحين في الجنة

مسألة: يستحب استحباباً مؤكداً أن يعمل الإنسان ما يوجب مرافقته لعباد الله الصالحين في الجنان، بل أن يكون من أئمة المتقين وقادتهم.

وهذا يستفاد من مختلف الآيات والروايات، قال الله تعالى: «وَالذينَ يَقُولونَ رَبَّنا هَبْ لنا مِنْ أَزْواجِنا وذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ واجْعَلنا للمُتَّقينَ إِماماً»(2).

وقال سبحانه: «وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَ الرَّسُول فَأُولئِكَ مَعَ الذينَ أَنْعَمَ اللهُ عَليْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقينَ وَالشُّهَداءِ وَ الصَّالحينَوَحَسُنَ أُولئِكَ رَفيقاً»(3).

وقال علي (عليه الصلاة والسلام): «المرء يطير بهمته كما يطير الطائر

ص: 217


1- عوالم العلوم: ج 11 قسم2 فاطمة (سلام الله عليها): ص890 ب56 حديثها (عليها السلام) في إخبار النبي (صلى الله عليه وآله) بأنها أول أهله لحوقاً به ح111.
2- سورة الفرقان: 74.
3- سورة النساء: 69.

بجناحيه»(1).

وفي الأدعية: «اللهُمَّ ارْزُقْنَا مَنَازِل الشُّهَدَاءِ وَعَيْشَ السُّعَدَاءِ وَمُرَافَقَةَ الأَنْبِيَاءِ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ»(2).

وأيضاً: «اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلكَ ثَوَابَ الشَّاكِرِينَ وَ مَنْزِلةَ المُقَرَّبِينَ وَ مُرَافَقَةَ النَّبِيِّينَ»(3).

وأيضاً: «اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلكَ إِيمَاناً لا يَرْتَدُّ وَ نَعِيماً لا يَنْفَدُ وَ مُرَافَقَةَ نَبِيِّكَ صَلوَاتُكَ عَليْهِ وَ آلهِ فِي أَعْلى جَنَّةِالخُلدِ»(4).

جلب المنفعة الكبيرة لازم

بل ربما يمكن أن يقال: إنه مع الإمكان قد يلزمه العقل به، لأنه كما يوجب العقل دفع الضرر الكثير، كذلك يوجب جلب النفع الكثير خاصة إذا كان بأبسط العمل وأقل الجهد، بالقياس إلى عظيم الأجر وجزيل الثواب، إلاّ ترى أنه لو دار أمر الإنسان بين أن يكون في (الأعراف) أو في (الجنة)، أوجب عليه العقل أن يعمل عملاً يدخل الجنة، وإن كان (الأعراف) أيضاً مكاناً حسناً.

نعم المشهور بين الفقهاء أنهم لا يقولون بوجوب جلب المنفعة، وإن قالوا

ص: 218


1- انظر عيون الحكم والمواعظ: ص68 ح1728: وفیه: «المَرْءُ بِهِمَّتِهِ لا بِزِينَتِه»، وفي غرر الحكم: ص125 ح2191: «المَرْءُ بِهِمَّتِهِ لا بِقُنْيَتِه». وفي مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام): ج 1 ص177 فصل في معراجه (عليه السلام) وعنه بحار الأنوار: ج 18 ص380 ب3 إثبات المعراج ومعناه وكيفيته وصفته وما جرى فيه ووصف البراق ح86: «المَرْءُ يَطِيرُ بِهِمَّتِه».
2- الكافي: ج 2 ص575 باب الدعاء عند قراءة القرآن ح1.
3- الكافي: ج 2 ص593 باب دعوات موجزات لجميع الحوائج للدنيا والآخرة ح33.
4- تهذيب الأحكام: ج 3 ص75 ب5 باب الدعاء بين الركعات ح5.

بوجوب دفع المفسدة في الجملة، لكن الوجوب الذي أشرنا إليه عقلي لا يستتبع استحقاق العقاب بتركه، والوجوب الذي نفوه، القدر المتيقن منه هو الوجوب الشرعي الذي يستتبع استحقاق العقاب بالترك، فتأمل.

قال تعالى: «وَابْتَغِ فيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ ولا تَنْسَ نَصيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِليْكَ ولا تَبْغِ الفَسادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُفْسِدين»(1).

الصديقة رفيق الرسول

مسألة: يستحب بيان أن الصديقة (صلوات الله عليها) رفيق رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الجنان.

ورفيق فعيل بمعنى مرافق، وأقوى منه دلالة، إذ المرافق قد لا يكون رفيقاً، فحيثما كان (صلى الله عليه وآله) من الجنة كانت (عليها السلام) مرافقة له، وهكذا علي والحسنان (عليهم السلام).

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يا علي، تركتك لنفسي أنت أخي ووصيي، وأنت معي في الجنة في قصر مع فاطمة زوجتك في الدنيا والآخرة ابنتي، ومع الحسن والحسين ابنيّ وابنيكما»(2).

وقال (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام): «أَنْتَ أَوَّل مَنْ تَنْشَقُّ الأَرْضُ عَنْهُ وأَنْتَ مَعِي، وقَال لهُ: أَنَا عِنْدَ الحَوْضِ وأَنْتَ مَعِي، وقَال لهُ: أَنَا أَوَّل مَنْ يَدْخُل

ص: 219


1- سورة القصص : 77.
2- شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار (عليهم السلام): ج 2 ص477 ح838.

الجَنَّةَ وأَنْتَ مَعِي، تَدْخُلهَا والحَسَنُ والحُسَيْنُ وفَاطِمَة»(1).وفي رواية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال لعلي (عليه السلام): «أنت معي في قصري في الجنة مع ابنتي فاطمة، وأنت أخي ورفيقي» ثم تلا رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلينَ»(2)،(3).

ص: 220


1- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج 1 ص398 فصل في ذكر مناقب شتى وأحاديث متفرقة أوردها الرواة والمحدثون وأخبار وآثار دالة على ما نحن بصدده من ذكر فضله.
2- سورة الحجر: 47.
3- انظر البرهان في تفسير القرآن: ج 3 ص374، فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل: ج2ص638 ح1085، فرائد السمطين: ج1 ص115ح80 وج1 ص121ح 83، ترجمة الإمام عليّ بن أبي طالب من تاريخ ابن عساكر: ج 1 ص123ح138.

نعم الخلف

اشارة

عن الصديقة فاطمة (عليها السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إنك أول أهل بيتي لحوقاً بي، ونعم الخلف أنا لك»(1).

--------------------------

نعم الخلف والأسوة

مسألة: يستحب أن يعمل الإنسان ما يوجب أن يكون نعم الخلف.

والنسبة بين مفهوم (نعم الخلف) ومفهوم (القدوة الأسوة) هو العموم من وجه، إذ قد يكون نعم الخلف ولا يكون أسوة أو قدوة، وقد يكون قدوة من غير أن يكون نعم الخلف، فتأمل.

وعلي أي، فإن كلاً من (القدوة والأسوة) و(الكون نعم الخلف) مما يوجب جلب النفع المعنوي له، قال (صلى الله عليه وآله): «مَنِ اسْتَنَّ خَيْراً فَاسْتُنَّ بِهِ فَلهُ أَجْرُهُ وَ مِثْل أُجُورِ مَنِ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِمُنْتَقَصٍ مِنْ أُجُورِهِمْ»(2).

وفي مقابل ذلك (السيئة) حيث قال (صلى الله عليه وآله): «وَمَنِ اسْتَنَّ شَرّاً

ص: 221


1- عوالم العلوم: ج 11 قسم2 فاطمة (سلام الله عليها): ص890 ب56 حديثها (عليها السلام) في إخبار النبي (صلى الله عليه وآله) بأنها أول أهله لحوقاً به ح112.
2- مستدرك الوسائل: ج 12 ص231 ب15 باب استحباب إقامة السنن الحسنة وإجراء عادات الخير والأمر بها وتعليمها وتحريم إجراء عادات الشر ح14، عن مجمع البيان: ج5 ص449.

فَاسْتُنَّ بِهِ فَعَليْهِ وِزْرُهُ وَمِثْل أَوْزَارِ مَنِ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ مُنْتَقَصٍ مِنْ أَوْزَارِهِ»(1).

ولعل قوله (صلى الله عليه وآله): (نِعْمَ) يشير إلى أنه (صلى الله عليه وآله) في عالم الآخرة مأذون له بإيصال مطلق وجوه النفع إليها (صلوات الله عليها)، أما في عالم الدنيا فحيث إنه عالم ابتلاء وامتحان، فإنه لم يؤذن لأمير المؤمنين (عليه السلام) بذلك من حيث الكم والكيف، إذ كان (عليه السلام) مأموراً بالصبر، فتأمل(2).

قَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام):«فَصَبَرْتُ وفِي العَيْنِ قَذًى وفِي الحَلقِ شَجًا، أَرَى تُرَاثِي نَهْبا»(3).

وقَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «اللهُمَّ إِنِّي أَسْتَعْدِيكَ عَلى قُرَيْشٍ ومَنْ أَعَانَهُمْ، فَإِنَّهُمْ قَدْ قَطَعُوا رَحِمِي، وأَكْفَئُوا إِنَائِي، وأَجْمَعُوا عَلى مُنَازَعَتِي حَقّاً كُنْتُ أَوْلى بِهِ مِنْ غَيْرِي، وقَالوا إلاّ إِنَّ فِي الحَقِّ أَنْ تَأْخُذَهُ وفِي الحَقِّ أَنْ تُمْنَعَهُ فَاصْبِرْ مَغْمُوماً أَوْ مُتْ مُتَأَسِّفاً، فَنَظَرْتُ فَإِذَا ليْسَ لي رَافِدٌ ولا ذَابٌّ ولا مُسَاعِدٌ إلاّ أَهْل بَيْتِي، فَضَنَنْتُ بِهِمْ عَنِ المَنِيَّةِ، فَأَغْضَيْتُ عَلى القَذَى، وجَرِعْتُ رِيقِي عَلى الشَّجَا، وصَبَرْتُ مِنْ كَظْمِ الغَيْظِ عَلى أَمَرَّ مِنَ العَلقَمِ، وآلمَ للقَلبِ مِنْ وَخْزِ الشِّفَار»(4).

ص: 222


1- مستدرك الوسائل: ج 12 ص232 ب15 باب استحباب إقامة السنن الحسنة وإجراء عادات الخير والأمر بها وتعليمها وتحريم إجراء عادات الشر ح14، عن مجمع البيان: ج5 ص449.
2- ربما إشارة إلى أن (نعم الخلف) لا يتضمن إلاّ البعد الإيجابي وإثبات الشيء لا ينفي ما عداه.
3- معاني الأخبار: ص361 باب معاني خطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام) ح1.
4- نهج البلاغة، الخطبة: 217 من كلام له (عليه السلام) في التظلم والتشكي من قريش.

الأعظم رزية

اشارة

عن فاطمة (عليها السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إن جبرئيل كان يعارضني القرآن كل سنة مرة، وإنه عارضني بالقرآن العام مرتين، ولا أراني إلاّ حضر أجلي، وإنكِ أول أهل بيتي لحاقاً بي، فاتقي الله واصبري، فإنه نعم السلف أنا لك، يا بنية إنه ليس من نساء المسلمين امرأة أعظم رزية منك، فلا تكوني من أدنى امرأة صبراً، إنك أول أهل بيتي لحوقاً بي»(1).

------------------------

الأمر بالتقوى وبالصبر

مسألة: يستحب الأمر بالتقوى وبالصبر.

والاستحباب فيما كانا من المستحب، وإلا فقد يجب الأمر بهما من باب الأمر بالمعروف الواجب، وحيث إن الزهراء (عليها الصلاة والسلام) كانت دون شك في أعلى درجات الصبر والتقوى، حملنا الأمر على الاستحباب، قال سبحانه: «وَتَواصَوْا بِالحَقِّ وتَواصَوْا بِالصَّبْر»(2).

أو يقال إن أمره إياها بالتقوى والصبر نظير أمر الله تعالى لنبيه (صلى اللهعليه

ص: 223


1- عوالم العلوم: ج 11 قسم2 فاطمة (سلام الله عليها) ص890 ب56 حديثها (عليها السلام) في إخبار النبي (صلى الله عليه وآله) بأنها أول أهله لحوقاً به ح113.
2- سورة العصر: 3.

وآله) بالصبر والتقوى، قال عزوجل: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ الله»(1).

وقال سبحانه: «فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولوا العَزْمِ مِنَ الرُّسُل»(2).

ولعل من وجوهه أن للتقوى والصبر عرضاً عريضاً، ودرجات لا تتوقف عند حد، والأمر بهما علة معدة للارتقاء أعلى فأعلى فأعلى، أو لعل ذلك كله من باب التعليم للغير، كما قالوا: (إياك أعني واسمعي يا جارة)، أو من باب الأسوة والتأسي.

قال سبحانه: «يا أَيُّهَا الذينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وصابِرُوا ورابِطُوا واتَّقُوا اللهَ لعَلكُمْ تُفْلحُون»(3).

وقال تعالى: «وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى واتَّقُونِ يا أُولي الأَلباب»(4).

وقال تعالى: «وَأَطيعُوا اللهَ وَرَسُولهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلوا وَتَذْهَبَ ريحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرين»(5).

عَنْ أَبِي حَمْزَةَ قَال: قَال أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «لمَّا حَضَرَتْ أَبِي عَليَّ بْنَ الحُسَيْنِ (عليهما السلام) الوَفَاةُ ضَمَّنِي إِلى صَدْرِهِ وقَال: يَا بُنَيَّ أُوصِيكَ بِمَا أَوْصَانِي بِهِ أَبِي حِينَ حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ وبِمَا ذَكَرَ أَنَّ أَبَاهُ أَوْصَاهُ بِهِ يَا بُنَيَّ اصْبِرْ عَلى الحَقِ وإِنْ

ص: 224


1- سورة الأحزاب: 1.
2- سورة الأحقاف: 35.
3- سورة آل عمران: 200.
4- سورة البقرة: 197.
5- سورة الأنفال: 46.

كَانَ مُرّاً»(1).

وقَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «إِذَا ابْتُليتَ فَاصْبِرْ»(2).

وقَال (عليه السلام): «التَّقْوَى رَأْسُ الحَسَنَاتِ»(3).

وقَال (عليه السلام): «الجَئُوا إِلى التَّقْوَى فَإِنَّهَا جُنَّةٌ مَنِيعَةٌ، مَنْ لجَأَ إِليْهَا حَصَّنَتْهُ، ومَنِ اعْتَصَمَ بِهَا عَصَمَتْهُ»(4).

إخبارات الكتاب والسنة

مسألة: يستحب بيان ونقل إخبارات القرآن وإخبارات الرسول (صلى الله عليه وآله)، سواء منها ما تعلق بأحوال الدنيا والأمم والرسل وغيرها، أم ما كان عن المستقبل وما يرتبط بالآخرة، ومن إخباراته (صلى الله عليه وآله) ما نقلته عنه الصديقة الزهراء (عليها السلام) ههنا من أن جبرئيل (عليه السلام) كان يعارضه بالقرآن كل سنة مرة ثم عارضه آخر سنةمن حياته مرتين.

ولعل من أسباب معارضته كل سنة مرة، أنه كان يأتيه كل مرة مع تنزيله وتأويله، وفيه المستجد، أما السنة الأخيرة فلكونها السابقة على التحول العظيم بانقطاعه الظاهري عن الدنيا، وكثرة المستجدات الكبرى، فلزم معارضته مرتين بتنزيله وتأويله مما يستجد، والله العالم.

ص: 225


1- الكافي: ج 2 ص91 باب الصبر ح13.
2- عيون الحكم والمواعظ: ص133 ح3006 .
3- عيون الحكم والمواعظ: ص20 ح94.
4- عيون الحكم والمواعظ: ص88 ح2103.

إخبار الأسرة بقرب الرحيل

مسألة: يستحب للقائد أو من أشبهه كرب الأسرة، إذا علم بقرب أجله أن يخبر بذلك، كي يستعد الأتباع والأهل لرحيله، بما يحفظهم من الأعداء ويصونهم من الضياع، وبما يوجب استعدادهم النفسي لوفاته، أو لما أشبه ذلك من وجوه المنافع والفوائد.

روى القمي في تفسيره:

«فَلمَّا كَانَ آخِرُ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنْزَل: اللهُ «إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْحُ»، فَقَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): نُعِيَتْ إِليَّ نَفْسِي، ثُمَّ نَادَى: الصَّلاةَ جَامِعَةً فِي مَسْجِدِ الخَيْفِ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ فَحَمِدَ اللهَ وأَثْنَى عَليْهِ»(1)، الحديث.

وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَال: قَال لي رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) لمَّا رَجَعَ مِنْ حِجَّةِ الوَدَاعِ: يَا ابْنَ مَسْعُودٍ قَدْ قَرُبَ الأَجَل ونُعِيَتْ إِليَّ نَفْسِي فَمَنْ لذَلكَ بَعْدِي فَأَقْبَلتُ أَعُدُّ عَليْهِ رَجُلا رَجُلا، فَبَكَى رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) ثُمَّ قَال: ثَكِلتْكَ الثَّوَاكِل فَأَيْنَ أَنْتَ عَنْ عَليِّ بْنِ أَبِي طَالبٍ، لمَ لا تُقَدِّمُهُ عَلى الخَلقِأَجْمَعِين»(2).

وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَال: لمَّا نَزَلتْ هَذِهِ السُّورَةُ دَعَا رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) فَاطِمَةَ (عليها السلام) فَقَال: إِنَّهُ قَدْ نُعِيَتْ إِليَّ نَفْسِي، فَبَكَتْ، فَقَال: لا تَبْكِينَ

ص: 226


1- تفسير القمي: ج 1 ص173.
2- تفسير القمي: ج 1 ص175.

فَإِنَّكِ أَوَّل أَهْلي لحُوقاً بِي، فَضَحِكَت»(1).

وقَال عُقْبَةُ بْنُ سِمْعَانَ: فَسِرْنَا مَعَ الحسين (عليه السلام) سَاعَةً فَخَفَقَ وهُوَ عَلى ظَهْرِ فَرَسِهِ خَفْقَةً ثُمَّ انْتَبَهَ وهُوَ يَقُول: «إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِليْهِ راجِعُونَ وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العالمِينَ» فَفَعَل ذَلكَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثاً، فَأَقْبَل إِليْهِ ابْنُهُ عَليُّ بْنُ الحُسَيْنِ، فَقَال: مِمَّ حَمِدْتَ اللهَ واسْتَرْجَعْتَ، قَال: «يَا بُنَيَّ إِنِّي خَفَقْتُ خَفْقَةً فَعَنَّ لي فَارِسٌ عَلى فَرَسٍ وهُوَ يَقُول: القَوْمُ يَسِيرُونَ والمَنَايَا تَسِيرُ إِليْهِمْ، فَعَلمْتُ أَنَّهَا أَنْفُسُنَا نُعِيَتْ إِليْنَا»، فَقَال لهُ: يَا أَبَتِ لا أَرَاكَ اللهُ سُوءاً أَلسْنَا عَلى الحَقِ، قَال: «بَلى واللهِ الذِي مَرْجِعُ العِبَادِ إِليْهِ»، فَقَال: فَإِنَّنَا إِذاً مَا نُبَالي أَنْ نَمُوتَ مُحِقِّينَ، فَقَال لهُ الحُسَيْنُ (عليه السلام): «جَزَاكَ اللهُ مِنْ وَلد»(2).

مسألتان

مسألة: يستحب أن يخاطب الأب ابنته بقوله: يا بنية، تأسياً برسول الله (صلى الله عليه وآله).

مسألة: يستحب التكرار والتأكيد فيما يقتضيهما، كما قال (صلى الله عليه وآله) إنك أول أهل بيتي لحاقاً بي، ثم كرره مؤكداً بالجملة نفسها في آخر الكلام.

وقد أشير إليهما فيما سبق.

ص: 227


1- تفسير فرات الكوفي: ص614 ح771.
2- بحار الأنوار: ج 44 ص379 ب37 ما جرى عليه بعد بيعة الناس ليزيد بن معاوية إلى شهادته (صلوات الله عليه) ولعنة الله على ظالميه وقاتليه والراضين بقتله والمؤازرين عليه.

الوصية العهدية والتمليكية

مسألة: يستحب الوصية مطلقاً، والمراد الأعم من الوصية العهدية والوصية التمليكية، وقد تجب(1).

عن أبي الصباح الكناني، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: سَأَلتُهُ عَنِ الوَصِيَّةِ، فَقَال: «هِيَ حَقٌّ عَلى كُل مُسْلمٍ»(2).

قَال أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «الوَصِيَّةُ حَقٌّ وَقَدْ أَوْصَى رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) فَيَنْبَغِي للمُسْلمِ أَنْ يُوصِيَ»(3).

الإخبار برزايا المستقبل

مسألة: يستحب الإخبار بما يحدث من الرزايا، سواء ما يحدث للأفراد أم العوائل أم الجماعات أم الدولة أمالأمة، وسواء كان ما سيحدث مما يتعلق بالأنفس أو الأموال أو الأعراض أو غيرها، إذا كان في الإخبار الفائدة، ولم يزاحم بأمر أهم، ومنه إخبار العظيم والقائد ورب الأسرة بتلك الأمور.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يَأْتِي عَلى النَّاسِ زَمَانٌ لا يُبَالي الرَّجُل مَا تَلفَ مِنْ دِينِهِ إِذَا سَلمَتْ لهُ دُنْيَاهُ»(4).

ص: 228


1- كما في الوصية العهدية إذا خاف ضياع الصغار القاصرين بدونها، أو فوت صلواته دون من يقضيها لولا الوصية، يقول الإمام المؤلف (قدس سره) في رسالته العملية: (لكن إذا كانوا هم أو حقهم يضيع لعدم وجود قيم، وجب تعيين قيم أمين عليهم) المسائل الإسلامية: المسألة رقم 3172.
2- الكافي: ج 7 ص3 باب الوصية وما أمر بها ح4.
3- الكافي: ج 7 ص3 باب الوصية وما أمر بها ح5.
4- تحف العقول: ص52.

وقَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَليُّ بْنُ أَبِي طَالبٍ (عليه السلام): «يَأْتِي عَلى النَّاسِ زَمَانٌ يَرْتَفِعُ فِيهِ الفَاحِشَةُ، ولتُصَنَّعُ وتُنْهَتَكُ فِيهِ المَحَارِمُ، ويُعْلنُ فِيهِ الزِّنَا، ويُسْتَحَل فِيهِ أَمْوَال اليَتَامَى، ويُؤْكَل فِيهِ الرِّبَا، ويُطَفَّفُ فِي المَكَايِيل والمَوَازِينِ، ويُسْتَحَل الخَمْرُ بِالنَّبِيذِ، والرِّشْوَةُ بِالهَدِيَّةِ، والخِيَانَةُ بِالأَمَانَةِ، ويَشْتَبِهُ الرِّجَال بِالنِّسَاءِ، والنِّسَاءُ بِالرِّجَال، ويُسْتَخَفُّ بِحُدُودِ الصَّلاةِ، ويُحَجُّ فِيهِ لغَيْرِ اللهِ، فَإِذَا كَانَ ذَلكَ الزَّمَانُ انْتَفَخَتِ الأَهِلةُ تَارَةً حَتَّى يُرَى الهِلال ليْلتَيْنِ، وخَفِيَتْ تَارَةً حَتَّى يُفْطَرَ شَهْرُ رَمَضَانَ فِي أَوَّلهِ ويُصَامَ للعِيدِ فِي آخِرِهِ، فَالحَذَرَ الحَذَرَ حِينَئِذٍ مِنْ أَخْذِ اللهِ عَلى غَفْلةٍ، فَإِنَّ مِنْ وَرَاءِ ذَلكَ مَوْتٌ ذَرِيعٌ يَخْتَطِفُ النَّاسَ اخْتِطَافاً، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلليُصْبِحُ سَالماً ويُمْسِي دَفِيناً، ويُمْسِي حَيّاً ويُصْبِحُ مَيِّتاً، فَإِذَا كَانَ ذَلكَ الزَّمَانُ وَجَبَ التَّقَدُّمُ فِي الوَصِيَّةِ قَبْل نُزُول البَليَّةِ، ووَجَبَ تَقْدِيمُ الصَّلاةِ فِي أَوَّل وَقْتِهَا خَشْيَةَ فَوْتِهَا فِي آخِرِ وَقْتِهَا، فَمَنْ بَلغَ مِنْكُمْ ذَلكَ الزَّمَانَ فَلا يَبِيتَنَّ ليْلةً إلاّ عَلى طُهْرٍ، وإِنْ قَدَرَ أَنْ لا يَكُونَ فِي جَمِيعِ أَحْوَالهِ إلاّ طَاهِراً فَليَفْعَل، فَإِنَّهُ عَلى وَجَل لا يَدْرِي مَتَى يَأْتِيهِ رَسُول اللهِ لقَبْضِ رُوحِهِ، وقَدْ حَذَّرْتُكُمْ وعَرَّفْتُكُمْ إِنْ عَرَفْتُمْ ووَعَظْتُكُمْ إِنِ اتَّعَظْتُمْ، فَاتَّقُوا اللهَ فِي سَرَائِرِكُمْ وعَلانِيَتِكُمْ، «وَلا تَمُوتُنَّ إلاّ وأَنْتُمْ مُسْلمُونَ»(1)، «وَمَنْ يَبْتَغ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلنْ يُقْبَل مِنْهُ وهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخاسِرِينَ»(2)»(3).

ص: 229


1- سورة آل عمران: 102.
2- سورة آل عمران: 85.
3- فضائل الأشهر الثلاثة: ص91 كتاب فضائل شهر رمضان ح70.

أعظم المصائب

مسألة: يستحب تجديد إحياء ذكرى ما جرى من المصائب على الصديقة الزهراء (عليها السلام) وبيان أن مصائبها (صلوات الله عليها) التي جرت بعد رحيل رسول الله (صلى الله عليه وآله) هي أعظم المصائب التي جرت أو تجري على النساء، كما قال (صلى الله عليه وآله) بأنها أعظم النساء رزية، خاصة مع لحاظ ما منحها الله سبحانه من مقامات عالية لا يضاهيها مقام، مضافاً إلى كونها (عليها السلام) قد خلقت من طينة رفيعة جداً، ومن ثمار الجنة(1) ومع ذلك قد صبرت على أعظم الرزايا.

ومن المعلوم أن الإيذاء بالنسبة إلى الرفيع مقامه يكون آلم وأشد وأكبر وأدهى وأمر وأعظم من نفس الأذى لو وجه إلى الشخص العادي فكيف بمتسافل الدرجات، ومثل ذلك مثل الشعرة التي تنبت في العين فإنها أشد وأصعب من النابتة في غيرها، بل قد لا تكون للأخيرة شدة أو صعوبة.

وفي حديث قال الصادق (عليه السلام): «ولا كيوم محنتنا بكربلاء، وإن كان يومالسقيفة وإحراق النار على باب أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين وزينب وأمّ كلثوم (عليهم السلام) وفضّة؛ وقتل محسن بالرفسة، أعظم وأدهى وأمرّ، لأنّه أصل يوم العذاب»(2).

وَقَالتِ الزَّهْرَاءُ (عليها السلام):

ص: 230


1- فلقد خلق بدنها (عليها السلام) من الطينة الرفيعة جداً وخلقت نفسها من ثمار الجنة.
2- عوالم العلوم: ج 11 ق2 ص567 ح18.

قُل للمُغَيَّبِ تَحْتَ أَطْبَاقِ الثَّرَى *** إِنْ كُنْتَ تَسْمَعُ صَرْخَتِي ونِدَائِيَا

صُبَّتْ عَليَ مَصَائِبُ لوْ أَنَّهَا **** صُبَّتْ عَلى الأَيَّامِ صِرْنَ ليَاليَا(1)

وعَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) فِي قَوْل اللهِ عَزَّ وجَل: «ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إلاّ هُوَ رابِعُهُمْ ولا خَمْسَةٍ إلاّ هُوَ سادِسُهُمْ ولا أَدْنى مِنْ ذلكَ ولا أَكْثَرَ إلاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلوا يَوْمَ القِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُل شَيْ ءٍ عَليمٌ»(2)، قَال: نَزَلتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي فُلانٍ وفُلانٍ وأَبِي عُبَيْدَةَ الجَرَّاحِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وسَالمٍ مَوْلى أَبِي حُذَيْفَةَ والمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ حَيْثُ كَتَبُوا الكِتَابَبَيْنَهُمْ وتَعَاهَدُوا وتَوَافَقُوا لئِنْ مَضَى مُحَمَّدٌ لا تَكُونُ الخِلافَةُ فِي بَنِي هَاشِمٍ ولا النُّبُوَّةُ أَبَداً فَأَنْزَل اللهُ عَزَّ وجَل فِيهِمْ هَذِهِ الآيَة.

قَال: قُلتُ: قَوْلهُ عَزَّ وجَل «أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ * أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ ونَجْواهُمْ بَلى ورُسُلنا لدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ»(3).

قَال: وهَاتَانِ الآيَتَانِ نَزَلتَا فِيهِمْ ذَلكَ اليَوْمَ، قَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): لعَلكَ تَرَى أَنَّهُ كَانَ يَوْمٌ يُشْبِهُ يَوْمَ كَتْبِ الكِتَابِ إلاّ يَوْمَ قَتْل الحُسَيْنِ (عليه السلام) وهَكَذَا كَانَ فِي سَابِقِ عِلمِ اللهِ عَزَّ وجَل الذِي أَعْلمَهُ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله)

ص: 231


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام)، لابن شهر آشوب: ج 1 ص242.
2- سورة المجادلة: 7.
3- سورة الزخرف: 79 – 80.

أَنْ إِذَا كُتِبَ الكِتَابُ قُتِل الحُسَيْنُ وخَرَجَ المُلكُ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ فَقَدْ كَانَ ذَلكَ كُله (1).

التناسب بين المصيبة والصبر والمقام

ثم إنه لا يخفى أن الله تعالى جعل التناسب بين علو المقام من جهة، وبين فداحة المصائب وجميل الصبر من جهة أخرى، ويصح أن يستدل من بعضها على البعض الآخر في الجملة، وفي الحديث:«أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأوصياء ثم الأمثل فالأمثل»(2).

وفي رواية: عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: إِنَّ فِي كِتَابِ عَليٍّ (عليه السلام): «أَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ بَلاءً النَّبِيُّونَ ثُمَّ الوَصِيُّونَ ثُمَّ الأَمْثَل فَالأَمْثَل»(3).

من هنا يدل أيضاً على علو مقامها وأنه لا يضاهيها من نساء المسلمين أحد، قوله (صلى الله عليه وآله): (إنه ليس من نساء المسلمين امرأة أعظم رزية منك).

وربما يقال إن مراده (صلى الله عليه وآله) من (نساء المسلمين) ما يشمل مثل مريم وآسية لكونهما مسلمين أيضاً، فإن القرآن الكريم أطلق الإسلام على من أسلم وجهه لله مطلقاً، وسمى الأنبياء السابقون بالمسلمين.

قال سبحانه: «ما كانَ إِبْراهيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنيفاً مُسْلماً

ص: 232


1- الكافي: ج 8 ص180 خطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام) ح202.
2- الأمالي، للطوسي: ص466 المجلس السادس عشر ح37.
3- الكافي: ج 2 ص259 باب شدة ابتلاء المؤمن ح29.

وَما كانَ مِنَ المُشْرِكينَ»(1).

وفي قصة نوح (عليه السلام): «وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَمِنَ المُسْلمينَ»(2).

وقال تعالى: «وَمَنْ أَحْسَنُ ديناً مِمَّنْ أَسْلمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلةَ إِبْراهيمَ حَنيفاً»(3). وقال سبحانه: «بَلى مَنْ أَسْلمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَ لا خَوْفٌ عَليْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ»(4).

وقال تعالى: «رَبَّنا وَاجْعَلنا مُسْلمَيْنِ لكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلمَةً لكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَ تُبْ عَليْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحيمُ»(5).

وقال سبحانه: «وَوَصَّى بِها إِبْراهيمُ بَنيهِ وَ يَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلمُونَ»(6).

وأما إذا أريد المعنى المصطلح للإسلام فوجهه (المورد) لا الحصر، فلا مفهوم له، كما في قوله تعالى: «وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتي في حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتي دَخَلتُمْ بِهِنَّ»(7).

بل إن اللقب مطلقاً لا مفهوم له إلاّ بمعونة القرائن.

ص: 233


1- سورة آل عمران: 67.
2- سورة يونس: 72، وسورة النمل: 91.
3- سورة النساء: 125.
4- سورة البقرة: 112.
5- سورة البقرة: 128.
6- سورة البقرة: 132.
7- سورة النساء: 23.

اصبر يا علي

اشارة

عن فاطمة (عليها السلام) قالت: «يا أبا الحسن، إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) عهد إليّ وحدّثني: إني أول أهله لحوقاً به، ولابد مما لابد منه، فاصبر لأمر الله تعالى وارض بقضائه»(1).

-----------------------

إخبار العالم وفوائده

مسألة: إخبار العالم بالأمر قد يكون راجحاً، ولا لغوية فيه، رغم علمه به، وذلك لوجوه شتى:

منها: التأكيد.

ومنها: إعلام الغير.

ومنها: طلب التقرير(2).

ومنها: إرادة التفريع(3).

وفي الروايات والآيات نماذج عديدة.

ص: 234


1- عوالم العلوم: ج 11 قسم2 فاطمة (سلام الله عليها) ص890 ب56 حديثها (عليها السلام) في إخبار النبي (صلى الله عليه وآله) بأنها أول أهله لحوقاً به ح114.
2- أي تقرير السامع العالم للخبر الملقى إليه، ليطمئن المخبر أو لغير ذلك.
3- أي تفريع بعض اللوازم أو المطالب أو الطلبات عليه.

ثقل المصيبة

مسألة: يستحب بيان مدى ثقل مصيبة فراق الصديقة فاطمة (عليها السلام) وفداحة ما جرى عليها من ظلم القوم إياها، على أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، إلى درجة استدعت منها أن توصيه به: «اصبر لأمر الله وارض بقضائه».

فإن الصبر على تلك الداهية العظمى والرزية الكبرى، من ضرب ابنة الرسول (صلى الله عليه وآله) وعصرها بين الحائط والباب وقتل محسنها (عليه السلام) مع قدرة الإمام على دحرهم، فإنه الذي قلع باب خيبر، وهو القائل: «لو تظاهرت العرب على قتالي ما وليت عنها»(1)، هذا الصبر مما يحتاج إلى عزيمة أقوى مما يطيقه بشر، لو لا أنه (صلوات الله عليه) كان الوتر في صفاته والفرد في عظمته، كرسول الله (صلى الله عليه وآله)، بل هو نفسه قال عزوجل: «وَأَنْفُسَنا َأَنفُسَكُمْ»(2).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام):

فِرَاقُكِ أَعْظَمُ الأَشْيَاءِ عِنْدِي *** وَفَقْدُكِ فَاطِمُ أَدْهَى الثُّكُول

سَأَبْكِي حَسْرَةً وأَنُوحُ شَجْواً *** عَلى خَل مَضَى أَسْنَى سَبِيل

أَلا يَا عَيْنُ جُودِي وأَسْعِدِينِي *** فَحُزْنِي دَائِمٌ أَبْكِي خَليلي (3)

ص: 235


1- نهج البلاغة، الرسائل: 45، ومن كتاب له (عليه السلام) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري وكان عامله على البصرة وقد بلغه أنه دعي إلى وليمة قوم من أهلها، فمضى إليها: (وَاللهِ لوْ تَظَاهَرَتِ العَرَبُ عَلى قِتَالي لمَا وَليْتُ عَنْهَا).
2- سورة آل عمران: 61.
3- بحار الأنوار: ج 43 ص179 ب7 ما وقع عليها من الظلم وبكائها وحزنها وشكايتها في مرضها إلى شهادتها وغسلها ودفنها وبيان العلة في إخفاء دفنها صلوات الله عليها ولعنة الله على من ظلمها.

وقال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «فَصَبَرْتُ وفِي العَيْنِ قَذًى وفِي الحَلقِ شَجًا أَرَى تُرَاثِي نَهْباً»(1).

وروى العامة عن جابر: إِنَّ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) رَأَى عَلى فَاطِمَةَ كِسَاءً مِنْ أَوْبَارِ الإِبِل وهِيَ تَطْحَنُ فَبَكَى وقَال: يَا فَاطِمَةُ اصْبِرِي عَلى مَرَارَةِ الدُّنْيَا لنَعِيمِ الآخِرَةِ غَداً. ونَزَلتْ «وَلسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى»(2)»(3).

معنى القضاء والقدر

مسألة: يستحب الأمر بالرضا بقضاء الله تعالى.

ولعل قولها (عليها السلام): «فاصبر لأمر الله وارض بقضائه» من تتمة كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله) إليها، خاصة بقرينة قولها: (عهد إليّ)، إذ ما سبقه(4) كان من حديثه لها، فعهده إليها إيصاؤها (عليها السلام) بأن توصيه (عليه السلام) بالصبر والرضا.

ثم إن القضاء بمعنى الحكم، والقدر بمعنى التقدير، فالمهندس يهندس البناء ويقدره بالكمية والكيفية الخاصة فيكون تقديراً، وحيث إن الله سبحانه خلق كل شيء من الخلق بتقدير، كما قال تعالى: «إِنَّا كُل شَيْ ءٍ خَلقْناهُ بِقَدَرٍ»(5)، لذلك

ص: 236


1- علل الشرائع: ج 1 ص151 ب122 باب العلة التي من أجلها ترك أمير المؤمنين (عليه السلام) مجاهدة أهل الخلاف ح12.
2- سورة الضحى: 5.
3- جمع الجوامع، للسيوطي: ج2 ص331 مسند جابر.
4- أي (إني أول أهله لحوقاً به، ولابد مما لا بد منه).
5- سورة القمر: 42.

يقال: في كل شيء القدر، أما القضاء فهو الحكم، كما أن المهندس بعد التقدير يأمر العمال بالبناء على ما قرره وهندسه وقدره، وهذا المثال للتقريب.

القدر نوعان

ثم إن التقدير قد يكون تقديراً خاصاً لا يتمكن الإنسان من تجاوزه،كتقديره خلق الذكر ذكراً والأنثى أنثى، وخلق الإنسان محتاجاً إلى الحيّز وما أشبه، وقد يكون التقدير فضفاضاً يتمكن الإنسان معه من البدائل(1).

والقضاء في كلا الأمرين حسب ما قدّر، فالقضاء في التقدير الضيق مضيق، وفي التقدير الواسع موسّع، وفي بعض الروايات تقديم القضاء على القدر، وفي بعضها العكس، وربما يستظهر أن التقدير مقدم على القضاء، وقد ذكرنا تفصيل البحث في بعض الكتب الكلامية(2).

ص: 237


1- كالقوة والضعف والذكاء والبلادة والصحة والمرض، في بعض درجاتها، حيث إنه بمقدور الإنسان بواسطة حسن اختياره لأنواع المأكول، وبواسطة الرياضة والتمارين وغيرها، تغييرها في الجملة، وإن شئت قلت: التقدير قد يكون مرناً وقد يكون جامداً.
2- لعل مقصود الإمام المؤلف (قدس سره) في وجه الجمع: أن التقدير العام الإجمالي مقدم على القضاء، ثم إن التقدير التفصيلي هو المؤخر عنه، ولتقريب الذهن: قد تخطبر ببال المهندس إجمالاً صورة قصر أو كوخ فيقضي بذلك ويأمر به، ثم يحدد بالتفصيل مفاصله ومرافقه ومعالمه. هذا وقد ذكر المؤلف (رحمه الله) في (الوصائل إلى الرسائل): ج 1 ص194: أقول: في غالب الروايات تقديم القدر على القضاء، نعم في بعض الروايات تقديم القضاء على القدر. والقدر: عبارة عن تقدير الأشياء. والقضاء: عبارة عن إيجادها في التكوينيات، قال سبحانه: (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ ...) وللامر بها في التشريعيات، قال سبحانه: (وَقَضى رَبُّكَ إلاّ تَعْبُدُوا إلاّ إِيَّاهُ وَبِالوالدَيْنِ إِحْساناً) ولعل الأصل في (قضى): الإجراء، فبناء البيت: إجراء، والأمر بكذا: إجراء، بل وحتى الإعلام بشي ء في المستقبل: إجراء، قال سبحانه: (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيل فِي الكِتابِ لتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ ....) والمثال السهل للقدر والقضاء في الأمور العادية هو: أنه إذا قدّر المالك حدود الدار، التي يريد بناءها وسائر خصوصياتها، من الغرف وغيرها، يسمّى (تقديراً) ثم إذا أمر ببنائها، أو شرع المهندس في بنائها، سمّي كل واحد من الأمرين (قضاءً). والله سبحانه (قدّر الكون) ثم (أوجده في الخارج)، هذا في الأمور التكوينية. و(قدّر خصوصيات الصلاة والصوم والحج وغيرها) ثم أمر بها، وهذا في الأمور التشريعية. ثم إنه إنّما نهى عن الخوض في مسائل القضاء والقدر، لأن الخائض إذا لم يكن من العلماء العارفين، أمكن أن ينتهي الأمر به إلى الجبر، أو التجسم له سبحانه، أو انه ظالم والعياذ بالله، إلى غير ذلك. وراجع أيضاً للمؤلف: (القول السديد فى شرح التجريد): ص301 (مسألة) في القضاء والقدر، و(من فقه الزهراء عليها السلام): ج 2 ص212 التقدير الإلهى الحتمي، و(الفقه.. العقائد): ص237 نسبة الأفعال إلى القضاء والقدر.

التسليم لما لابد منه

مسألة: يلزم التسليم لأمر الله التشريعي والتكويني، ومنه ما لابد منه.

و(لابد) في عبارة الصديقة (صلوات الله عليها) بمعنى لزوم التسليم(1)، أو هو تأكيد(2).

ص: 238


1- أي حيث إنه لا مناص ولا مفر مما هو حتمي فلابد من التسليم له والتأقلم معه.
2- أي كأنه عبارة أخرى عن قولك: ما هو حتمي فهو حتمي ولا يحتمل تخلفه، ويتفرع عليه كذلك لزوم التسليم.

والفرق بين أن يسلم الإنسان أو لا يسلم فيما لابد منه ولا مفر منه: أنه إذا سلم وكان راضياً نفساً فإنه يقع الأمر عليه وقوعاً خفيفاً، وله أجر كبير لرضاه، بخلاف أن لا يكون كذلك، كما إذا جزع وفعل ما لا يناسب المسلمين لإرادة المولى عزوجل والراضين بقضائه.

قال (عليه السلام): «فَمَنْ غَلبَ جَزَعُهُ عَلى صَبْرِهِ، حَبِطَ أَجْرُهُ، ونَعُوذُ بِاللهِ مِنْ ذَلكَ»(1).

وعَنْ زُرَارَةَ، عَنِ الصَّادِقِ (عليه السلام)قَال: «مَنْ ضَرَبَ يَدَهُ عَلى فَخِذِهِ عِنْدَ مُصِيبَةٍ حَبِطَ أَجْرُهُ»(2).

وعَنْ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) أَنَّهُ قَال: «الصَّبْرُ عَلى قَدْرِ المُصِيبَةِ، ومَنْ ضَرَبَ يَدَهُ عَلى فَخِذِهِ عِنْدَ مُصِيبَتِهِ حَبِطَ أَجْرُهُ»(3).

الرضا سر السعادة

مسألة: إذا عمل الناس بهذه الوصية: (الرضا والتسليم لما لا بد منه) كانوا سعداء، بل وأسعدوا من حولهم.

فمثلاً المريض الذي لا علاج له، والمعوق وناقص الخلقة، واليتيم، والفقير الذي فشل كلما حاول في النهوض، والطريد أو المنفي أو السجين ظلماً، إذا لم يقدر أي منهم وذووهم أن يغيروا ما بهم، فإنهم جميعاً ومن شابههم إذا

ص: 239


1- تحف العقول: ص456.
2- وسائل الشيعة: ج 3 ص270 ب81 باب تأكد كراهة ضرب المصاب يده على فخذه ح1.
3- وسائل الشيعة: ج 3 ص271 ب81 باب تأكد كراهة ضرب المصاب يده على فخذه ح4.

صبروا على البلاء ورضوا بالقضاء وسلموا لما لا بد منه، من غير تقصير في تسبيب الأسباب للخلاص والعلاج والتغيير، لأحرزوا رضا الله تعالى، وقمعوا الشيطان الذي يستغل مثل تلكالمصائب ليجر الناس للكفر أو اليأس من روح الله، وكانوا أهدأ بالاً، وأربط جأشاً، وأقوى نفساً، وأفضل أعصاباً، وأحب لذويهم، وهانت عليهم المصيبة، ولعل الله بذلك يخفف عنهم، ويرفع عنهم البلاء أو درجات منه، وإلا عوضهم في الآخرة بلا حساب، كما قال عزوجل: «إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ»(1).

وقَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ فَقَدْ رُزِقَ خَيْرَ الدُّنْيَا والآخِرَةِ: الرِّضَا بِالقَضَاءِ، والصَّبْرُ عَلى البَلاءِ، والشُّكْرُ عَلى الرَّخَاءِ»(2).

وقَال (عليه السلام): «الرِّضَا ثَمَرَةُ اليَقِينِ»(3).

وقَال (عليه السلام): «الدِّينُ شَجَرَةٌ أَصْلهَا التَّسْليمُ والرِّضَا»(4).

وقَال (عليه السلام): «الرِّضَا بِقَضَاءِ اللهِ يُهَوِّنُ عَظِيمَ الرَّزَايَا»(5).

الصبر والرضا

مسألة: يستحب الأمر بالصبر، إضافة إلى الأمر بالرضا، وخاصة في المصائب الكبيرة، وقولها لعلي (عليهما السلام) دليل على أن المصيبة بلغت الغاية في

ص: 240


1- سورة الزمر: 10.
2- عيون الحكم والمواعظ: ص212 ح4223.
3- عيون الحكم والمواعظ: ص19 ح87.
4- عيون الحكم والمواعظ: ص46 ح1164.
5- عيون الحكم والمواعظ: ص49 ح1239.

الفداحة، كما لا يخفى.

ثم إن مرحلة الرضا أعظم من مرحلة الصبر، فإذ رضي الإنسان بقضاء الله سبحانه كان أجره أعظم، أما إذا صبر بدون الرضا القلبي فإنه أقل أجراً بالنسبة إلى الراضي في الآخرة، بالإضافة إلى أنه قد تفوته منافع عديدة في الدنيا، فالرضا يوجب اطمئنان النفس وسكينة الروح وهدوء البال، وكل ذلك مما يؤثر في صحة الإنسان وسلامته، وتقدم الإلماع إلى أن كل واحد من الروح والبدن يؤثر أحدهما في الآخر في كثير من الموارد، كما أنهما يؤثران في العقل وكماله ويتأثران به.

قَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «حَقُّ اللهِ عَليْكُمْ فِي اليُسْرِ البِرُّ والشُّكْرُ، وفِي العُسْرِ الرِّضَا والصَّبْرُ»(1).

وقَال (عليه السلام): «مَنْ أَحْسَنَ رِضَاهُ بِالقَضَاءِ حَسُنَ صَبْرُهُ عَلى البَلاءِ»(2).ورُوِيَ عَنْ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) سَأَل رَبَّهُ سُبْحَانَهُ ليْلةَ المِعْرَاجِ فَقَال: يَا رَبِّ أَيُّ الأَعْمَال أَفْضَل، فَقَال اللهُ تَعَالى: ليْسَ شَيْ ءٌ أَفْضَل عِنْدِي مِنَ التَّوَكُّل عَليَّ والرِّضَا بِمَا قَسَمْت»(3).

ص: 241


1- عيون الحكم والمواعظ: ص232 ح4438.
2- عيون الحكم والمواعظ: ص436 ح7544.
3- إرشاد القلوب: ج 1 ص199.

الشدة تصيب ولدي

اشارة

قالت فاطمة (عليها السلام): «أخبرني النبي (صلى الله عليه وآله) أنه مقبوض فبكيت، ثم أخبرني أن بنيّ سيصيبهم بعدي شدة فبكيت، ثم أخبرني أني أول أهله لحوقاً به فضحكت»(1).

------------------------

البكاء مستحب وواجب

مسألة: يجوز البكاء للخبر المحزن، والجواز هنا بالمعنى الأعم فيشمل الاستحباب والوجوب، كل في مورده.

وبكاؤها (صلوات الله عليها) دليل على جواز البكاء على النبي (صلى الله عليه وآله) بل على رجحانه، وبكاؤها ثانياً يدل على جواز البكاء على الشدائد التي أصابت أهل البيت (عليهم السلام)، ويدل أيضاً على جواز البكاء على المصاب المتوقع المستقبلي.

كما أن تقرير النبي (صلى الله عليه وآله) لبكائها (عليها السلام) يدل على ذلك كله.

ثم إنه لا منافاة بين ما ذكر في هذا الخبر، وبين ما ذكر في الأخبارالأخر،

ص: 242


1- عوالم العلوم: ج 11 قسم2 فاطمة (سلام الله عليها) ص890 ب56 حديثها (عليها السلام) في إخبار النبي (صلى الله عليه وآله) بأنها أول أهله لحوقاً به ح115.

لأن النبي (صلى الله عليه وآله) أخبر بالأمرين أي: بما يلاقيها (عليها الصلاة والسلام) من الشدة، وبما يلاقي أبناءها أيضاً، وأن من الحكمة أن ينقل الناقل في كل مرة بعض الحديث مما يناسب المقام.

ثم إن البكاء حالة ممدوحة، فإنه دليل الكمال، كما أنه سبيل الكمال، ومنه البكاء من خوف الله تعالى.

والبكاء غير الجزع، فلا يكون مكروهاً لذلك، بل حتى وإن كان بعض البكاء جزعاً فإنه مطلوب في مصاب العترة الطاهرة (صلوات الله عليهم) بل هو من أفضل المستحبات، كما تقدم الإلماع إلى ذلك.

قال تعالى: «أُولئِكَ الذينَ أَنْعَمَ اللهُ عَليْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ ومِمَّنْ حَمَلنا مَعَ نُوحٍ ومِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهيمَ وإِسْرائيل ومِمَّنْ هَدَيْنا واجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَليْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وبُكِيًّا»(1).

وعَنْ عَليِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، قَال: قَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) لأَبِي بَصِيرٍ: «إِنْ خِفْتَ أَمْراً يَكُونُ أَوْ حَاجَةً تُرِيدُهَا فَابْدَأْ بِاللهِ ومَجِّدْهُ وأَثْنِ عَليْهِ كَمَا هُوَ أَهْلهُ، وصَل عَلى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) وسَل حَاجَتَكَ وتَبَاكَ ولوْ مِثْل رَأْسِ الذُّبَابِ، إِنَّ أَبِي (عليه السلام) كَانَ يَقُول إِنَّ أَقْرَبَ مَا يَكُونُ العَبْدُ مِنَ الرَّبِّ عَزَّ وجَل وهُوَ سَاجِدٌبَاكٍ»(2).

وقَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «أَوْحَى اللهُ إِلى مُوسَى (عليه السلام) أَنَّ عِبَادِي لمْ يَتَقَرَّبُوا إِليَّ بِشَيْ ءٍ أَحَبَّ إِليَّ مِنْ ثَلاثِ خِصَال، الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، والوَرَعِ عَنِ

ص: 243


1- سورة مريم: 58.
2- الكافي: ج 2 ص483 باب البكاء ح10.

المَعَاصِي، والبُكَاءِ مِنْ خَشْيَتِي، فَقَال مُوسَى: يَا رَبِّ فَمَا لمَنْ صَنَعَ ذَلكَ، قَال اللهُ تَعَالى: أَمَّا الزَّاهِدُونَ فِي الدُّنْيَا فَأُحَكِّمُهُمْ فِي الجَنَّةِ، وأَمَّا المُتَوَرِّعُونَ عَنِ المَعَاصِي فَمَا أُحَاسِبُهُمْ، وأَمَّا البَاكُونَ مِنْ خَشْيَتِي فَفِي الرَّفِيقِ الأَعْلى»(1).

وَقَال (عليه السلام): «مَنْ خَرَجَ مِنْ عَيْنَيْهِ مِثْل الذُّبَابِ مِنَ الدَّمْعِ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ آمَنَهُ اللهُ بِهِ يَوْمَ الفَزَعِ الأَكْبَرِ»(2).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «مَنْ ذُكِرْنَا عِنْدَهُ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ حَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ عَلى النَّارِ»(3).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «مَنْ ذُكِرْنَا عِنْدَهُ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ ولوْ مِثْل جَنَاحِ الذُّبَابِ غَفَرَ اللهُ ذُنُوبَهُ ولوْ كَانَتْ مِثْل زَبَدِ البَحْرِ»(4).

الضحك بين جائز ومحرم

مسألة: يجوز الضحك للخبر المفرح.

فإن الضحك مطلقاً جائز إذا لم يؤد إلى محرم، كالتشجيع على المعصية أو الازدراء بالأنبياء والأوصياء (عليهم السلام)، أو إهانة المؤمن وهتكه وما أشبه.

وربما استحب الضحك أو التبسم للخبر المفرح، كما فيما كان مصداقاً

ص: 244


1- الزهد: ص77 ب13 باب البكاء من خشية الله ح207.
2- بحار الأنوار: ج 90 ص336 ب19 فضل البكاء وذم جمود العين ح30.
3- كامل الزيارات: ص104 الباب الثاني والثلاثون ثواب من بكى على الحسين بن علي (عليه السلام) ح10.
4- المحاسن: ج 1 ص63 ب86 ثواب من دمعت عينه في آل محمد ح110.

لقوله (عليها السلام) «يفرحون لفرحنا»(1).

ولا يخفى أن كل ما صدر منهم (عليهمالسلام) فإنه يحمل على أفضل وجه، فقد ذكرنا في بعض المباحث أن المعصوم (عليه السلام) وخاصة النبي وآله الطاهرين (صلوات الله عليه وعليهم أجمعين) لا يصدر منه حتى ترك الأولى، فكل ما يأتي به هو الصواب بل أفضل وجوهه، التزاماً بمثل قوله تعالى: «وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها»(2)، وهو مقتضى الإمامة بقول مطلق، قال تعالى: «إِنِّي جاعِلكَ للنَّاسِ إِماماً»(3)، وقال سبحانه: «وَاجْعَلنا للمُتَّقينَ إِماماً»(4)، وكون المرء إماماً في كل الجهات أنه أولى وأفضل من غيره في كلها، ومنه كونه إماماً في اتخاذ الأحسن مطلقاً.

ثم الظاهر من قولها (عليها السلام) فضحكت هو التبسم، كما سبق.

الذرية الطاهرة وما ورد عليها

مسألة: يستحب بيان ما ورد على ذرية رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعترته الطاهرة (عليهم السلام) من الشدة بعد الرسول (صلى الله عليه وآله)، تأسياً به (صلى الله

ص: 245


1- قَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتَعَالى اطَّلعَ إِلى الأَرْضِ فَاخْتَارَنَا واخْتَارَ لنَا شِيعَةً يَنْصُرُونَنَا، ويَفْرَحُونَ لفَرَحِنَا، ويَحْزَنُونَ لحُزْنِنَا، ويَبْذُلونَ أَمْوَالهُمْ وأَنْفُسَهُمْ فِينَا، أُولئِكَ مِنَّا وإِليْنَا». بحار الأنوار: ج 44 ص287 ب34 ثواب البكاء على مصيبته ومصائب سائر الأئمة عليهم السلام وفيه أدب المأتم يوم عاشوراء ح26، عن الخصال: ج 2 ص635.
2- سورة الأعراف: 145.
3- سورة البقرة: 124.
4- سورة الفرقان: 74.

عليه وآله) في بيانه ذلك، وقد سبق.

عَنِ الأَزْدِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)قَال: قَال لفُضَيْل: تَجْلسُونَ وَ تُحَدِّثُونَ، قَال: نَعَمْ جُعِلتُ فِدَاكَ، قَال: «إِنَّ تِلكَ المَجَالسَ أُحِبُّهَا فَأَحْيُوا أَمْرَنَا، يَا فُضَيْل فَرَحِمَ اللهُ مَنْ أَحْيَا أَمْرَنَا، يَا فُضَيْل مَنْ ذَكَرَنَا أَوْ ذُكِرْنَا عِنْدَهُ فَخَرَجَ مِنْ عَيْنِهِ مِثْل جَنَاحِ الذُّبَابِ غَفَرَ اللهُ لهُ ذُنُوبَهُ وَلوْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ زَبَدِ البَحْرِ»(1).

ص: 246


1- ثواب الأعمال وعقاب الأعمال: ص187 ثواب من ذكر عنده أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) فخرج من عينه دمعة ح2.

شكايتها في منامها

اشارة

روي أنه رأت فاطمة (عليها السلام) في منامها النبي (صلى الله عليه وآله)، قالت: فشكوت إليه ما نالنا من بعده، قالت: فقال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لكم الآخرة التي أعدت للمتقين، وإنك قادمة علي عن قريب»(1).

------------------------

الشكاية إلى الرسول

مسألة: يستحب الشكاية إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حياته وبعد وفاته، فإنه حي عند ربه مرزوق، يرى ويسمع، ويغيث الملهوف، ويقضي الحوائج بإذن الله تعالى، كما تستحب الشكاية إلى الله عزوجل.

قَال (عليه السلام): «مَنْ شَكَى إِلى مُؤْمِنٍ فَقَدْ شَكَى إِلى اللهِ، ومَنْ شَكَى إِلى مُخَالفٍ فَقَدْ شَكَى اللهَ»(2).

وفي حديث عليّ (عليه السلام): «أشكوإلى الله عجري وبجري»(3).

ص: 247


1- عوالم العلوم: ج 11 قسم2 فاطمة (سلام الله عليها) ص890 ب56 حديثها (عليها السلام) في إخبار النبي (صلى الله عليه وآله) بأنها أول أهله لحوقاً به ح116.
2- هداية الأمة إلى أحكام الأئمة (عليهم السلام): ج1 ص221 ب6 تجوز الشكوى إلى المؤمن دون غيره.
3- بحار الأنوار: ج 34 ص416 ب36 باب آخر نادر في ذكر ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) من الأشعار.

وعنه (عليه السلام) قال: «وَاللهِ فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِليْنَا يَا مُفَضَّل مَعَاشِرَ الأَئِمَّةِ ونَحْنُ بَيْنَ يَدَيْ جَدِّنَا رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) نَشْكُوا إِليْهِ مَا نَزَل بِنَا مِنَ الأُمَّةِ بَعْدَهُ، ومَا نَالنَا مِنَ التَّكْذِيبِ والرَّدِّ عَليْنَا وسَبِّنَا ولعْنِنَا وتَخْوِيفِنَا بِالقَتْل، وقَصْدِ طَوَاغِيتِهِمُ الوُلاةِ لأُمُورِهِمْ إِيَّانَا مِنْ دُونِ الأُمَّةِ، وتَرْحِيلنَا عَنْ حَرَمِهِ إِلى دِيَارِ مُلكِهِمْ، وقَتْلهِمْ إِيَّانَا بِالحَبْسِ وبِالسَّمِّ وبِالكَيْدِ العَظِيمِ، فَيَبْكِي رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) ويَقُول: يَا بُنَيَّ مَا نَزَل بِكُمْ إلاّ مَا نَزَل بِجَدِّكُمْ قَبْلكُمْ، ولوْ عَلمَتْ طَوَاغِيتُهُمْ ووُلاتُهُمْ أَنَّ الحَقَّ والهُدَى والإِيمَانَ والوَصِيَّةَ والإِمَامَةَ فِي غَيْرِكُمْ لطَلبُوهُ.

ثُمَّ تَبْتَدِئُ فَاطِمَةُ (عليها السلام) بِشَكْوَى مَا نَالهَا مِنْ أَبِي بَكْرٍ وعُمَرَ، مِنْ أَخْذِ فَدَكَ مِنْهَا ومَشْيِهَا إِليْهِمْ فِي مَجْمَعِ الأَنْصَارِ والمُهَاجِرِينَ وخِطَابِهَا إِلى أَبِي بَكْرٍ فِي أَمْرِ فَدَكَ، ومَا رَدَّ عَليْهَا مِنْ قَوْلهِ: إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لا وَارِثَ لهُمْ، واحْتِجَاجِهَا عَليْهِ بِقَوْل اللهِ عَزَّ وجَل بِقِصَّةِ زَكَرِيَّا ويَحْيَى: «فَهَبْ لي مِنْ لدُنْكَ وَليًّا * يَرِثُنِي ويَرِثُ مِنْآل يَعْقُوبَ واجْعَلهُ رَبِّ رَضِيًّا»(1) وقَوْلهِ بِقِصَّةِ دَاوُدَ وسُليْمَانَ: «ووَرِثَ سُليْمانُ داوُدَ»(2)، وقَوْل عُمَرَ لهَا: هَاتِي صَحِيفَتَكِ التِي ذَكَرْتِ أَنَّ أَبَاكِ كَتَبَهَا لكِ عَلى فَدَكَ وإِخْرَاجِهَا الصَّحِيفَةَ وأَخْذِ عُمَرَ إِيَّاهَا مِنْهَا ونَشْرِهِ لهَا عَلى رُؤُوسِ الأَشْهَادِ مِنْ قُرَيْشٍ والمُهَاجِرِينَ والأَنْصَارِ وسَائِرِ العَرَبِ وتَفْلهِ فِيهَا وعَرْكِهِ لهَا وتَمْزِيقِهِ إِيَّاهَا، وبُكَاءِهَا ورُجُوعِهَا إِلى قَبْرِ أَبِيهَا (صلى الله عليه وآله) بَاكِيَةً تَمْشِي عَلى رَمْضَاءَ وقَدْ أَقْلقَتْهَا واسْتِغَاثَتِهَا بِأَبِيهَا»(3).

ص: 248


1- سورة مريم: 5 - 6.
2- سورة النمل: 16.
3- الهداية الكبری: ص405.

سر تعدد شكواها

الظاهر أن سر تعدد شكوى الصديقة (عليها السلام) وتكرر بثها آلامها، هو فضح الظالمين، وتسجيل الظلامات للأجيال القادمة، والحيلولة دون محاولات القوم لطمس الحقائق، بل تغيير الوقائع، وقد ذكرنا في بعض كتبنا أن الله تعالى جعل معادن ومخازن ومنابع لكل شيء في الماديات والمعنويات، ففي الماديات هنالك معدن للذهب، ومنجم للألماس وشبه ذلك، كما أن البحار هي مخازن للمياه والأسماك وهكذا، وكذلك المعنويات، فهنالك مخازن للعلم كما قال تعالى: «بَل هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ في صُدُورِ الذينَ أُوتُوا العِلمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إلاّ الظَّالمُون»(1)، وهناك مخازن ومعادن ومظاهر للأخلاق والورع والفضيلة والصبر والرضا بالقضاء(2)، وهكذا.

وقد جعل الله تعالى سيدة نساء العالمين فاطمة (عليها السلام) مظهراً لا نظير له، لرفض الظلم ومقارعة الظالم، وذلك بواسطة سلاحي الكلمة والعاطفة، فسلاح الكلمة تجلى في خطبتها في المسجد وغيرها، وسلاح العاطفة تجلى في شكاواها لرسول الله (صلى الله عليه وآله)وبكائها، حال حياته وبعد استشهاده.

وبذلك يظهر أن تكرار شكاواها من القوم في كل محفل ومجلس، خاص أو عام، في اليقظة والمنام، كان على أبلغ وجوه الحكمة.

ص: 249


1- سورة العنكبوت: 49.
2- وهم الأنبياء والمرسلون والأئمة المعصومون (عليهم السلام).

شكواها حجة على القوم

مسألة: يستحب بيان أن الصديقة (عليها السلام) شكت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما نالها من بعده، فإن شكواها حجة على القوم، وفيها إبطال الباطل وإحقاق الحق، وبيانه أيضاً نوع انتصار للمظلوم، ونوع تبكيت للظالم(1).

خاصة إذا قورنت بما ورد في حقها عن رسول الله (صلى الله عليه وآله):

فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) أَنَّهُ قَال: «إِنَّ فَاطِمَةَ شِجْنَةٌ مِنِّي، يُؤْذِينِي مَا آذَاهَا، ويَسُرُّنِي مَا يَسُرُّهَا، وإِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتَعَالى ليَغْضَبُ لغَضَبِ فَاطِمَةَ، ويَرْضَى لرِضَاهَا»(2).

سادة المتقين

مسألة: يستحب بيان أن الآخرة التي أعدت للمتقين هي لأهل البيت (عليهم السلام)، فإنهم سادة المتقين وقادتهم وأئمتهم.

عن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) قال: سمعت رسول الله (صلى اللهعليه وآله) يقول: «أنا سيد النبيين، وعلي سيد الوصيين، والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، والأئمة بعدهما سادة المتقين، ولينا ولي الله وعدونا عدو الله، وطاعتنا طاعة الله، ومعصيتنا معصية الله»(3).

ص: 250


1- التبكيت لغة: التقريع والتعنيف.
2- معاني الأخبار: ص303 باب معنى الشجنة ح2.
3- إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات: ج 2 ص106 الفصل الثامن ح302.

وفي الزيارة: «السَّلامُ عَليْكُمْ أَئِمَّةَ المُؤْمِنِينَ، وسَادَةَ المُتَّقِينَ، وكُبَرَاءَ الصِّدِّيقِينَ، وأُمَرَاءَ الصَّالحِينَ، وقَادَةَ المُحْسِنِينَ، وأَعْلامَ المُهْتَدِينَ، وأَنْوَارَ العَارِفِينَ، ووَرَثَةَ الأَنْبِيَاءِ، وصَفْوَةَ الأَوْصِيَاءِ، وشُمُوسَ الأَتْقِيَاءِ، وبُدُورَ الخُلفَاءِ، وعِبَادَ الرَّحْمَنِ، وشُرَكَاءَ القُرْآنِ، ومَنْهَجَ الإِيمَانِ، ومَعَادِنَ الحَقَائِقِ، وشُفَعَاءَ الخَلائِقِ، ورَحْمَةُ اللهِ وبَرَكَاتُهُ»(1).

حجية منامات المعصومين

مسألة: ما يراه المعصوم (عليه السلام) في المنام حجة شرعاً.

فإنهم (عليهم الصلاة والسلام) لا يرون الباطل في المنام، ولا يتمثل لهمالشيطان في منامهم، أما ما ورد من أن فاطمة (عليها السلام) رأت في المنام أنهم أكلوا شاةً فماتوا، وأن جبرئيل (عليها السلام) قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله): يا محمد هذا شيطان يقال له الدهار، وهو الذي أرى فاطمة هذه الرؤيا ويؤذي المؤمنين يا يغتمون به)(2)، فإن صح السند، ولم يُطرح لمعارضته بالأقوى، فلعله

ص: 251


1- المزار الكبير: ص293 زيارة جامعة لسائر الأئمة صلوات الله عليهم.
2- هذا نص الحديث على ما رواه العلامة المجلسي (رحمه الله) في البحار: عن تفسير القمي في الآية الشريفة: «إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ ليَحْزُنَ الذِينَ آمَنُوا وَليْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إلاّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلى اللهِ فَليَتَوَكَّل المُؤْمِنُونَ»، قال: فإنه حدثني أبي، عن محمد بن أبي عمير، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان سبب نزول هذه الآية أن فاطمة (عليها السلام) رأت في منامها أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) همّ أن يخرج هو وفاطمة وعلي والحسن والحسين (عليهم السلام) من المدينة، فخرجوا حتى جاوزوا من حيطان المدينة، فتعرض لهم طريقان فأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذات اليمين حتى انتهى بهم إلى موضع فيه نخل وماء فاشترى رسول الله (صلى الله عليه وآله) شاة كبراء وهي التي في إحدى أذنيها نقط بيض فأمر بذبحها فلما أكلوا ماتوا في مكانهم، فانتبهت فاطمة باكية ذعرة(1) فلم تخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بذلك(2) ، فلما أصبحت جاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) بحمار فأركب عليه فاطمة (عليها السلام) وأمر أن يخرج أمير المؤمنين والحسن والحسين (عليهم السلام) من المدينة كما رأت فاطمة في نومها، فلما خرجوا من حيطان المدينة عرض له طريقان، فأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذات اليمين كما رأت فاطمة، حتى انتهوا إلى موضع فيه نخل وماء، فاشترى رسول الله (صلى الله عليه وآله) شاة كما رأت فاطمة (عليها السلام) فأمر بذبحها فذبحت وشويت، فلما أرادوا أكلها قامت فاطمة وتنحت ناحية منهم تبكي(3) مخافة أن يموتوا (4) ، فطلبها رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى وقع عليها وهي تبكي، فقال: ما شأنك يا بنية، قالت: يا رسول الله إني رأيت البارحة كذا وكذا في نومي، وقد فعلت أنت كما رأيته فتنحيت عنكم فلا أراكم تموتون(5) ، فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله) فصلى ركعتين ثم ناجى ربه، فنزل عليه جبرئيل فقال: يا محمد هذا شيطان يقال له الدهار وهو الذي أرى فاطمة هذه الرؤيا، ويؤذي المؤمنين في نومهم ما يغتمون به(6) ، فأمر جبرئيل فجاء به إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال له: أنت أريت فاطمة هذه الرؤيا؟ فقال: نعم يا محمد، فبزق عليه ثلاث بزقات فشجه في ثلاث مواضع(7) ، ثم قال جبرئيل لمحمد: قل يا محمد إذا رأيت في منامك شيئاً تكرهه أو رأى أحد من المؤمنين فليقل: "أعوذ بما عاذت به ملائكة الله المقربون وأنبياؤه المرسلون وعباده الصالحون من شر ما رأيت ومن رؤياي" ويقرأ الحمد والمعوذتين و(قل هو الله) ويتفل عن يساره ثلاث تفلات، فإنه لا يضره ما رأى، وأنزل الله على رسوله: «إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ» الآية. وفي تفسير العياشي: عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: رأت فاطمة (عليها السلام) في النوم كأن الحسن والحسين (عليها السلام) ذبحا أو قتلا، فأحزنها ذلك، فأخبرت به رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يا رؤيا، فتمثلت بين يديه، قال: أنت أريت فاطمة هذا البلاء، قالت: لا، فقال: يا أضغاث أنت أريت فاطمة هذا البلاء، قالت: نعم يا رسول الله، قال: فما أردت بذلك، قالت: أردت أن أحزنها، فقال لفاطمة: اسمعي ليس هذا بشي ء(8). 1) ذُعِرَ الرجل فهو مَذْعُور مُنْذَعِر، أي: أخيف. والذُّعْر: الفزع، وهو الاسم. كتاب العين: ج 2 ص96 مادة (ذعر). 2) ولعله كي لا تحزنه. 3) لعلها لم ترد التحذير الصريح خشية كونه مخالفاً للتأدب مع رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وكان في البكاء ما يكفي للتحذير. 4) لأن أعمالهم (عليهم السلام) مبنية على الظواهر، وقد كلفوا بأن لا يعملوا - إلاّ فيما استثني - بعلمهم الغيبي، وعلى ذلك جرى بكاؤهم وضحكهم وأكل ما فيه السم وما أشبه. 5) أي إن تنحيها عنهم هو السبب ظاهراً في عدم أكلهم وعدم موتهم. 6) وذلك هو من مقتضيات عالم الابتلاء والامتحان. 7) فإن ذلك عالم من سنخ آخر، والمؤثرات والمتأثرات به من نوع آخر، ويقربه للذهن تأثير أنواع الأشعة ومنها الليزر وغير ذلك. 8) لعل تصويره ذبحهما أو قتلهما بأنه يحدث عاجلاً وهو الذي ليس بشيء.

ص: 252

كان لأجل التنبيه على شيء أهم(1)، وهو أن لا يحزن الإنسان بما يراهفي المنام إذا كان مرعباً أو مخيفا أو سيئاً، فإن كثيراً من الناس يتأذى بالمنام السيء كثيراً ويتطير بالشر، فالقصة كانت من باب التعليم(2)، كما ذكرنا مثل ذلك في قصة الإمامين الحسنين (عليهما الصلاة والسلام) حيث توضئا لتعليم الشيخ، بل ذكرنا في (التفسير) احتمال أن تكون قصة موسى والخضر (عليهما السلام) أيضاً من باب التعليم لا من باب الجد، على تفصيل ذكرناه هناك.

عَنِ الوَشَّاءِ، عَنْ أَبِي الحَسَنِ الرِّضَا (عليه السلام) قَال: «رَأَيْتُ أَبِي (عليه

ص: 253


1- أو يراد أنهم لا يرون الباطل في المنام إلاّ وهم عالمون ببطلانه، أو أن ذلك (لا يرون الباطل في منامهم) كان بعد هذه الواقعة عقوبة للشياطين، كما أن بولادة النبي (صلى الله عليه وآله) ملئت السماء حرساً شديداً وشهباً، أو أن ذلك هو الأصل، وهذا كان استثناء لحكمة أهم، أو غير ذلك، كما يحتمل أن الرؤيا كانت من عالم المحو والإثبات، لا من اللوح المحفوظ، فكانت في مرحلتها تلك حقاً، وكان المؤذي تعمد إراءتها ذلك. وأما عدم تمثل الشيطان فإنه لم يتمثل لها (عليها السلام) بل أراها الرؤيا الباطلة، فتأمل.
2- ومن أفضل أنواع التعليم هو التمثيل.

السلام) فِي المَنَامِ فَقَال: يَا بُنَيَّ إِذَا كُنْتَ فِي شِدَّةٍ فَأَكْثِرْ أَنْ تَقُول: يَا رَءُوفُ يَا رَحِيمُ، والذِي تَرَاهُ فِي المَنَامِ كَمَا تَرَاهُ فِي اليَقَظَة»(1).وقال إِسْحَاقُ عَنِ الأَقْرَعِ: كَتَبْتُ إِلى أَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام) أَسْأَلهُ عَنِ الإِمَامِ هَل يَحْتَلمُ، وقُلتُ فِي نَفْسِي: بَعْدَ مَا فَصَل الكِتَابُ الاحْتِلامُ شَيْطَنَةٌ وقَدْ أَعَاذَ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالى أَوْليَاءَهُ مِنْ ذَلكَ، فَوَرَدَ الجَوَابُ: «حَال الأَئِمَّةِ فِي المَنَامِ حَالهُمْ فِي اليَقَظَةِ، لا يُغَيِّرُ النَّوْمُ مِنْهُمْ شَيْئاً، وقَدْ أَعَاذَ اللهُ أَوْليَاءَهُ مِنْ لمَّةِ الشَّيْطَانِ كَمَا حَدَّثَتْكَ نَفْسُكَ»(2).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «طَلبَ أَبُو ذَرٍّ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله)، فَقِيل لهُ: إِنَّهُ فِي حَائِطِ كَذَا وكَذَا، فَمَضَى يَطْلبُهُ فَدَخَل إِلى الحَائِطِ والنَّبِيُّ نَائِمٌ، فَأَخَذَ عَسِيباً يَابِساً وكَسَرَهُ ليَسْتَبْرِئَ بِهِ نَوْمَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) قَال: فَفَتَحَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) عَيْنَهُ وقَال: أَتَخْدَعُنِي عَنْ نَفْسِي يَا أَبَا ذَرٍّ، أَ مَا عَلمْتَ أَنِّي أَرَاكُمْ فِي مَنَامِي كَمَا أَرَاكُمْ فِي يَقَظَتِي»(3).

وعَنْ زُرَارَةَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: «الأَنْبِيَاءُ عَلى خَمْسَةِ أَنْوَاعٍ، مِنْهُمْ مَنْ يَسْمَعُ الصَّوْتَ مِثْل صَوْتِ السِّلسِلةِ فَيَعْلمُ مَا عُنِيَ بِهِ، ومِنْهُمْ مَنْ يُنَبَّأُ فِي مَنَامِهِ مِثْليُوسُفَ وإِبْرَاهِيمَ، ومِنْهُمْ مَنْ يُعَايِنُ، ومِنْهُمْ مَنْ يُنْكَتُ فِي قَلبِهِ، ويُوقَرُ فِي أُذُنِهِ»(4).

ص: 254


1- مهج الدعوات ومنهج العبادات: ص333 ومن كتاب تعبير الرؤيا لمحمد بن يعقوب الكليني.
2- الكافي: ج 1 ص509 باب مولد أبي محمد الحسن بن علي (عليه السلام) ح12.
3- بصائر الدرجات في فضائل آل محمد (صلى الله عليهم): ج 1 ص421 ب1 باب في صفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) فيما أعطوا من البصر وخصوا به من دون الناس ما يرون من الأعمال في النوم واليقظة ح9.
4- بصائر الدرجات في فضائل آل محمد (صلى الله عليهم): ج 1 ص369 ب1 باب في الفرق بين الأنبياء والرسل والأئمة (عليهم السلام) ومعرفتهم وصفتهم وأمر الحديث ح6.

هل تضمن الوصية؟

روي أنه لما حضرت الصديقة فاطمة (عليها السلام) الوفاة دعت علياً (صلوات الله عليه)، فقالت: إما تضمن وإلاّ أوصيت إلى ابن الزبير، فقال علي (عليه السلام): أنا أضمن وصيتك يا بنت محمد، قالت: سألتك بحق رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا أنا مت إلاّ يشهداني ولا يصليا علي، قال: فلكِ ذلك(1).

-------------------------

الوصية بعدم حضور الجنازة

مسألة: يحق للمعصوم (عليه السلام) أن يوصي بأن لا يحضر جنازته من لا يرغب بحضوره، كالمنافقين، ويجب تنفيذ ذلك.

أما غير المعصوم حتى العلماء العدول، فليس ذلك من حقوقهم، ولا يلزم تنفيذ مثل هذه الوصية، فإذا وصى شخص بأن لا يحضر فلان جنازته ولا يشارك فيتشييعه، فإنه ليس مما يجب العمل به ورعايته، بل الناس أحرار في حضورهم

ص: 255


1- بحار الأنوار: ج 29 ص192 ب11 باب نزول الآيات في أمر فدك وقصصه وجوامع الاحتجاج فيه وفيه قصة خالد وعزمه على قتل أمير المؤمنين عليه السلام ح39. انظر الواقعة في حلية الأولياء: ج2 ص43، المستدرك للحاكم: ج3 ص163، أسد الغابة: ج5 ص254، الاستيعاب: ج2 ص751، المقتل للخوارزميّ: ج1 ص83، إرشاد السّاريّ للقسطلاني: ج6 ص362، الإصابة: ج4 ص378 و380، تاريخ الخميس: ج1 ص313 وغيرها.

الجنازة وعدم الحضور، لإطلاق (الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم).

فإذا قال شخص غير المعصوم: إني لا أرضى أن يحضر ابن عمي أو أحد أقربائي أو فلان جنازتي، لا يجب على ذلك الشخص الالتزام بمثل هذه الوصية، وكذلك لو قال إمام الجماعة: إني لا أرضى أن يحضر صلاة جماعتي فلان، أو قال مرجع التقليد: إني لا أرضى أن يقلدني فلان، أو ما أشبه ذلك، فإن هذه الأوامر والوصايا لا يلزم تنفيذها، إذ لا ولاية له على غيره.

نعم إذا وصى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أو الصديقة الزهراء (عليها السلام) أو سائر المعصومين (عليهم الصلاة والسلام) بهذه الوصايا فالواجب تنفيذها، إذ ليس الأمر فيهم كالأمر في غيرهم، فإن لهم (صلوات الله عليهم) الولاية المطلقة دون غيرهم، ويدل عليه قوله تعالى: «أَطيعُوا اللهَ وأَطيعُوا الرَّسُول وأُولي الأَمْرِ ِمِنْكُم»(1)، فإن لزوم طاعتهم عام شامل في كل شيء كإطاعة الله تعالى، وقد ذكرنا تفصيله في بحث البيع في باب الولاية.ثم إن تكليف الوصي يختلف عن تكليف غيره، فإذا أوصى إنسان عادي بمثل ذلك وقبل الوصي وأمكنه أن يفعل ما يوجب التنفيذ بأن يذهب بالجنازة في طريق لا يعلم به ذلك الشخص الموصى بعدم حضوره، وجب عليه ذلك(2)، فإنه ليس تصرفاً في حق إنسانٍ آخر حتى ينافي: (الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم)، بل هو مقتضى (الناس مسلطون) فإنه تنفيذ للوصية بلا ضغط على حرية الآخرين المشروعة في حدودها الإسلامية، وقد ورد التأكيد على تنفيذ

ص: 256


1- سورة النساء: 59.
2- ما لم يكن ضررياً أو حرجياً.

الوصية.

عَنْ عَليِّ بْنِ مَهْزِيَارَ قَال: كَتَبَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام) إِلى جَعْفَرٍ ومُوسَى: وفِيمَا أَمَرْتُكُمَا مِنَ الإِشْهَادِ بِكَذَا وكَذَا نَجَاةٌ لكُمَا فِي آخِرَتِكُمَا وإِنْفَاذٌ لمَا أَوْصَى بِهِ أَبَوَاكُمَا وبِرٌّ مِنْكُمَا لهُمَا، واحْذَرَا أَنْ لا تَكُونَا بَدَّلتُمَا وَصِيَّتَهُمَا ولا غَيَّرْتُمَاهَا عَنْ حَالهَا لأَنَّهُمَا قَدْ خَرَجَا مِنْ ذَلكَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا وصَارَ ذَلكَ فِي رِقَابِكُمَا وقَدْ قَال اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالى فِي كِتَابِهِ فِي الوَصِيَّةِ: «فَمَنْ بَدَّلهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلى الذِينَ يُبَدِّلونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَليمٌ»(1)»(2).وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلمٍ قَال: سَأَلتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) عَنِ الرَّجُل أَوْصَى بِمَالهِ فِي سَبِيل اللهِ، قَال: أَعْطِهِ لمَنْ أَوْصَى لهُ بِهِ وإِنْ كَانَ يَهُودِيّاً أَوْ نَصْرَانِيّاً، إِنَّ اللهَ عَزَّ وجَل يَقُول: «فَمَنْ بَدَّلهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلى الذِينَ يُبَدِّلونَهُ»(3)»(4).

العقود الاجتماعية مستثناة

مسألة: هذا كله في غير العقود الاجتماعية، أما فيها فاللازم العلم بمقتضى العقد، فلو أسس مجموعة من الناس نقابة أو حزباً أو جمعية ووضعوا شروطاً

ص: 257


1- سورة البقرة: 181.
2- الكافي: ج 7 ص14 باب إنفاذ الوصية على جهتها ح3.
3- سورة البقرة: 181.
4- وسائل الشيعة: ج 19 ص337 ب32 باب وجوب إنفاذ الوصية الشرعية على وجهها وعدم جواز تبديلها ح1.

للانتساب إليها، في قبال الحقوق، فإنه لا يصح أن يدخل شخص نفسه في ذلك التجمع بدون الالتزام بتلك الشروط وبدون رضاهم(1)، وليس هذا من (الوصية) فهو كالاستثناء المنفصل.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «المؤمنون عند شروطهم»(2).وقال (صلى الله عليه وآله) : «المسلمون عند شروطهم»(3).

العمل بالوصية رغم المصاعب

مسألة: ينبغي تحمل المشاكل في طريق الحق، وتحمل المصائب في سبيل الله، كما تحمل أمير المؤمنين (عليه السلام) تبعات تطبيق تلك الوصية الشريفة.

حيث كان العمل بتلك الوصية، يشكل تحدياً كبيراً للسلطات الجائرة، إذ كان يعني سلب شرعيتهم وفضحهم، وإثبات أن السيدة الزهراء (عليها السلام) ماتت ساخطة عليهم، وأنها لم ترض عنهم حتى آخر حياتها بعد أن سخطت عليهم، كما كانوا يحاولون البرهنة على ذلك.

والحاصل أن العمل بتلك الوصية كان يسبب أكبر المحاذير والمخاطر لأمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه)، كما حصلت تلك المحاذير حيث أجج ذلك عداء الشيخين لأمير المؤمنين (عليه السلام)، ويدل عليه ما فعله النفران صبيحة دفنها إذ فعلوا ما فعلوا.

ص: 258


1- كما هو المتداول عند بعض الأعراف.
2- تهذيب الأحكام: ج 7 ص371 ب31 باب المهور والأجور وما ينعقد من النكاح من ذلك وما لا ينعقد ح66.
3- الكافي: ج 5 ص169 باب الشرط والخيار في البيع ح1.

وعلى كل مؤمن خصوصاً إذا كانإنساناً رفيعاً، أن يتأسى به (صلوات الله عليه) وأن يتحمل مشاكل مقاطعة الظالمين ومقارعتهم وفضحهم، فإنه (صلى الله عليه وآله) قال: «حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات»(1).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «المَكَارِمُ بِالمَكَارِهِ»(2).

وقال (عليه السلام): «بِالمَكَارِهِ تُنَال الجَنَّةُ»(3).

وصية الزوجة للزوج

مسألة: يستحب للزوجة أن توصي إلى زوجها، تأسياً بالصديقة (صلوات الله عليها)، هذا في الوصية العهدية، وكذا في الوصية التمليكية للإطلاقات، ولأنه مما يوجب توثيق صلتها به وقربها لديه وزيادة المحبة بينهما وهو محبوب مطلوب شرعاً، كما يستفاد من الروايات الشريفة ذلك.

وقد ذكرنا في الفقه(4) أن الفرقبينهما(5) مجرد اصطلاح.

كما يجوز العكس بأن يوصي الرجل إلى امرأة.

عَنْ عَليِّ بْنِ يَقْطِينٍ قَال: سَأَلتُ أَبَا الحَسَنِ (عليه السلام) عَنْ رَجُل أَوْصَى إِلى امْرَأَةٍ فَأَشْرَكَ فِي الوَصِيَّةِ مَعَهَا صَبِيّاً، فَقَال: «يَجُوزُ ذَلكَ وتُمْضِي المَرْأَةُ الوَصِيَّةَ ولا يُنْتَظَرُ بُلوغُ الصَّبِيِّ، فَإِذَا بَلغَ الصَّبِيُّ فَليْسَ لهُ أَنْ لا يَرْضَى إلاّ مَا كَانَ مِنْ

ص: 259


1- بحار الأنوار: ج 67 ص78 ب46 ترك الشهوات والأهواء ح12.
2- عيون الحكم والمواعظ: ص36 ح750.
3- عيون الحكم والمواعظ: ص187 ح3822.
4- الفقه: ج61 ص8 كتاب الوصية.
5- أي بين الوصية العهدية والتمليكية.

تَبْدِيل أَوْ تَغْيِيرٍ فَإِنَّ لهُ أَنْ يَرُدَّهُ إِلى مَا أَوْصَى بِهِ المَيِّتُ»(1).

أَمَّا مَا رَوَاهُ السَّكُونِيُّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام) قَال: قَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «المَرْأَةُ لا يُوصَى إِليْهَا، لأَنَّ اللهَ تَعَالى يَقُول «وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالكُمُ»(2)»(3).

فَالوَجْهُ فِي هَذَا الخَبَرِ أَحَدُ شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ نَحْمِلهُ عَلى ضَرْبٍ مِنَ الكَرَاهِيَةِ دُونَ الحَظْرِ، والثَّانِي أَنْ نَحْمِلهُ عَلى التَّقِيَّةِ لأَنَّهُ مَذْهَبُ كَثِيرٍ مِنَ العَامَّةِوإِنَّمَا قُلنَا ذَلكَ لإِجْمَاعِ عُلمَاءِ الطَّائِفَةِ عَلى الفَتْوَى بِمَا تَضَمَّنَهُ الخَبَرُ الأَوَّل(4).

الضمان على العمل بالوصية

مسألة: يستحب وقد يجب أخذ الضمان في الوصايا المهمة، من باب التأسي بالصديقة (صلوات الله وسلامه عليها) وبجهة المقدمية.

ولا يخفى أن الصديقة فاطمة (عليها السلام) كانت تعلم بأن علياً (عليه السلام) يعمل بكامل وصيتها وبأفضل ما يمكن، وأنه لا يكون أحد مثل علي (عليه السلام) في تطبيق الوصية، ولكنها أرادت أن تبين للتاريخ أهمية وصيتها، وأن موقفها من الشيخين نهائي لا رجعة فيه.

هذا إضافة إلى أن أخذ الضمان منه (عليه السلام) لعله كان لأجل حفظه (صلوات الله عليه)، فإنه يكون معذوراً عند القوم، نظراً لعمله أيضاً بوصيتها

ص: 260


1- الكافي: ج 7 ص46 باب من أوصى إلى مدرك وأشرك معه الصغير ح1.
2- سورة النساء: 5.
3- من لا يحضره الفقيه: ج4 ص226 باب كراهية الوصية إلى المرأة ح5533.
4- الاستبصار: ج 4 ص140 ب87 باب أنه يجوز أن يوصى إلى امرأة ح2.

وأخذها الضمان منه، فلا يتلقى كموقف عنيف من شخصه العظيم.

وبذلك كان الجمع بين الحقين والواجبين، ضرورة مقاطعة الشيخين وفضحهما، وضرورة حفظ الإمام من أن يتعرض بسوء قدر المستطاع.

الملاك في الشروط هو حال التعاقد

مسألة: يجوز أو يجب أو يحرم، التعامل والتعاقد مع المكلفين على حسب وضعهم الحالي، من عقل وإسلام وإيمان وعدالة، أو أضدادها، فإن حال التعاقد والتعامل وحال العمل هو المدار، لا ما بعدهما، وإن علم انسلاخه بعدها عما يشترط في صحة العقد أو العمل، أو علم اتصافه بعدها بأضدادها.

ومن ذلك يظهر أن جعلها (صلوات الله عليها) خيار الوصية لابن الزبير، قسيماً للوصية له (صلوات الله عليه) كان على مقتضى القاعدة، لكونه آنذاك مؤمناً مجاهداً، بل إن الأمر في التكوين أيضاً كذلك، ويدل عليه قوله سبحانه: «وَاتْل عَليْهِمْ نَبَأَ الذي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الغاوينَ»(1)، ومن ذلك يظهر حال الشهادة ومرجعية التقليد وغيرها.

ص: 261


1- سورة الأعراف: 175.

عدم التضييق على الوصي

مسألة: ينبغي عدم التضييق على الوصي قدر المستطاع ولو بتخييره، كما صنعت الصديقة (صلوات الله عليها)، حيث خيرته (عليه السلام) بين أن يضمن الوصية أو أن توصي غيره.

وفي الروايات أن الوصية بالثلث كثير.

عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: «كَانَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (صلوات الله عليه) يَقُول: لأَنْ أُوصِيَ بِخُمُسِ مَالي أَحَبُّ إِليَّ مِنْ أَنْ أُوصِيَ بِالرُّبُعِ، وَلأَنْ أُوصِيَ بِالرُّبُعِ أَحَبُّ إِليَّ مِنْ أَنْ أُوصِيَ بِالثُّلثِ، وَمَنْ أَوْصَى بِالثُّلثِ فَلمْ يَتَّرِكْ فَقَدْ بَالغَ، قَال: وَقَضَى أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) فِي رَجُل تُوُفِّيَ وَأَوْصَى بِمَالهِ كُلهِ أَوْ أَكْثَرِهِ، فَقَال: إِنَّ الوَصِيَّةَ تُرَدُّ إِلى المَعْرُوفِ غَيْرِ المُنْكَرِ، فَمَنْ ظَلمَ نَفْسَهُ وَأَتَى فِي وَصِيَّتِهِ المُنْكَرَ وَالحَيْفَ فَإِنَّهَا تُرَدُّ إِلى المَعْرُوفِ وَيُتْرَكُ لأَهْل المِيرَاثِ مِيرَاثُهُمْ، وَقَال: مَنْ أَوْصَى بِثُلثِ مَالهِ فَلمْ يَتَّرِكْ وَقَدْ بَلغَ المَدَى، ثُمَّ قَال لأَنْ أُوصِيَ بِخُمُسِ مَالي أَحَبُّ إِليَّ مِنْ أَنْ أُوصِيَ بِالرُّبُعِ»(1).

قبول الوصية

مسألة: يستحب قبول الوصية والوعد بالعمل بها، حتى إن كان فيها المشقة والعناء في الجملة، فإنه قضاء حاجة مؤمن، وإدخال السرور على قلبه، إضافة للأدلة الخاصة.

ص: 262


1- الكافي: ج7 ص11 باب ما للإنسان أن يوصي به بعد موته وما يستحب له من ذلك ح4.

عَنْ عَليِّ بْنِ الرَّيَّانِ قَال: كَتَبْتُ إِلى أَبِي الحَسَنِ (عليه السلام): رَجُل دَعَاهُ وَالدُهُ إِلى قَبُول وَصِيَّتِهِ هَل لهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ قَبُول وَصِيَّةِ وَالدِهِ، فَوَقَّعَ (عليه السلام): «ليْسَ لهُ أَنْ يَمْتَنِعَ»(1).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) فِي الرَّجُل يُوصِي إِلى الرَّجُل بِوَصِيَّةٍ فَيَكْرَهُ أَنْ يَقْبَلهَا، فَقَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «لا يَخْذُلهُ عَلى هَذِهِ الحَال»(2).

لا يُقر الظالم على ظلمه

مسألة: يجب أن لا يقر الظالم على ظلمه، ويلزم أن يفضح، خاصة إذا كان ظلمه مرتبطاً بمسألة الولاية، فإن الصديقة فاطمة (عليها السلام) بموقفهاوبوصيتها المؤكدة أرادت أن تفرز الحق من الباطل إلى يوم القيامة، وتفضح الطغاة وغاصبي الخلافة.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم»(3).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «اعْتَبِرُوا أَيُّهَا النَّاسُ بِمَا وَعَظَ اللهُ بِهِ أَوْليَاءَهُ مِنْ سُوءِ ثَنَائِهِ عَلى الأَحْبَارِ، إِذْ يَقُول: «لوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ والأَحْبارُ عَنْ قَوْلهِمُ الإِثْمَ»(4)، وقَال: «لعِنَ الذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيل» إِلى قَوْلهِ:

ص: 263


1- الكافي: ج7 ص7 باب الرجل يوصي إلى آخر ولا يقبل وصيته ح6.
2- الكافي: ج7 ص6 باب الرجل يوصي إلى آخر ولا يقبل وصيته ح5.
3- نهج البلاغة، الخطبة: 3 مبايعة علي (عليه السلام).
4- سورة المائدة: 63.

«لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلونَ»(1)، وإِنَّمَا عَابَ اللهُ ذَلكَ عَليْهِمْ لأَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ مِنَ الظَّلمَةِ الذِينَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمُ المُنْكَرَ والفَسَادَ فَلا يَنْهَوْنَهُمْ عَنْ ذَلك»(2).

وقال (عليه السلام): «العُلمَاءُ فِي أَنْفُسِهِمْ خَانَةٌ إِنْ كَتَمُوا النَّصِيحَةَ، إِنْ رَأَوْا تَائِهاً ضَالا لا يَهْدُونَهُ، أَوْ مَيِّتاً لا يُحْيُونَهُ، فَبِئْسَ مَا يَصْنَعُونَ، لأَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتَعَالى أَخَذَ عَليْهِمُ المِيثَاقَ فِي الكِتَابِأَنْ يَأْمُرُوا بِالمَعْرُوفِ وبِمَا أُمِرُوا بِهِ، وأَنْ يَنْهَوْا عَمَّا نُهُوا عَنْهُ وأَنْ يَتَعَاوَنُوا عَلى البِرِّ والتَّقْوى، ولا يَتَعَاوَنُوا عَلى الإِثْمِ والعُدْوان»(3).

السؤال بحق الرسول

مسألة: يستحب للإنسان إذا أراد أن يسأل شيئاً من أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يسأله بحق رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فإنه أقرب للإجابة، ويشمل ذلك الحاجات التي تطلبها الناس الآن منه (صلوات الله عليه) فإنهم أحياء عند ربهم يرزقون.

وهل المراد حق رسول الله (صلى الله عليه وآله) على أمير المؤمنين (عليه السلام)، أو حقه عليها (عليهما السلام)، أو حقه على الأمة، أو حقه على الخلق كلهم، الظاهر الأول، لمناسبة الحكم والموضوع(4).

ص: 264


1- سورة المائدة: 78 - 79.
2- بحار الأنوار: ج 97 ص79 ب1 وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفضلهما ح37.
3- الكافي: ج 8 ص54 رسالة أبي جعفر (عليه السلام) إلى سعد الخير ح16.
4- إذ مقتضى حقه عليه تنفيذه وصية ابنته ومن كانت روحه التي بين جنبيه.

هل ذكرت الصديقة الأسماء؟

مسألة: يستحب بيان أن الصديقة فاطمة (عليها السلام) كانت غاضبة عليهما، ولم ترض عنهما أبداً، وقد يجب ذلك، كما فيما إذا توقفت الهداية عليه، مراعياً في ذلك موازين التقية.

ثم إن قولها (عليها السلام): (ألا يشهداني ولا يصليا علي) يحتمل فيه أن يكون تقية من الرواة أو أحدهم أو الكاتب والمستنسخ، إذ يستبعد تقيتها (صلوات الله عليها) من ذكر اسمهما، لأنها جاهرت ببغضهما وكراهتهما حتى في وجههما، فكيف بذكرهما في وصيتها، نعم يحتمل أن لا تكون ذكرت الأسماء كراهة التلفظ باسم الأعداء، والله العالم.

مقارعة الظلمة حتى آخر نفس

مسألة: يلزم على من يقارع الظلمة أن يصمد حتى آخر أنفاسه، بل وأن يحافظ على جهاده وثمرات جهاده حتى بعد وفاته، بالتخطيط والوصية والكتابة وغير ذلك، كما صنعت الصديقة الطاهرة (عليها

السلام)، فلا يتوهم أن بالموت ينتهي تكليف مقارعة الظالم، فإنه وإن صح أنه لا تكليف بعد الموت إلاّ أنه لا ينفي وجوب ما يمتد تأثيره لما بعدالموت في حال(1) الحياة.

كما أن في ذلك عبرة للمجاهدين، فإن كثيراً منهم يستسلمون في أواخر أعمارهم ويتراجعون عن النهي عن المنكر أو عن مقارعة الظالم، إما لتعب أو

ص: 265


1- هذا متعلق ب (وجوب).

نصب، أو إغراء أو حتى شبهة، فإن أعوان الظلمة ووعاظ السلاطين جرى ديدنهم على محاولة خداع المجاهدين، إما بإلقاء شبهة حول جهادهم، كإقناعهم بلغويته وعدم فائدته، أو حتى محاولة تبرأة السلطان وأعوانه من الظلم وأنهم معذورون، أو بعنوان الأهم والمهم، أو غير ذلك.

كما جرى دأب أعوان الظلمة على تهديد المجاهدين أو استمالتهم بالمال أو المنصب أو الشهرة أو بعض المنافع الأخرى، ولذا فإن من الضروري جداً تنبيه المجاهدين والناهين عن المنكر بما فعلته الصديقة الطاهرة (عليها السلام) من الجهاد والصمود رغم كل المصائب والمصاعب حتى استشهدت في سبيل الله.

قال (عليه السلام): «وكُونَا للظَّالمِ خَصْماً، وللمَظْلومِ عَوْناً»(1).

ص: 266


1- بحار الأنوار: ج 42 ص256 ب127 كيفية شهادته (عليه السلام) ووصيته وغسله والصلاة عليه ودفنه ح58.

ما عهدتني كاذبة

اشارة

في حديث مرض الصديقة فاطمة (عليها السلام) أنها قالت:

«يا بن عم ما عهدتني كاذبة ولا خائنة ولا خالفتك منذ عاشرتني...».

ثم قالت: «جزاك الله عني خير الجزاء يا بن عم، أوصيك أولاً أن تتزوج بعدي أمامة، فإنها تكون لولدي مثلي، فإن الرجال لابد لهم من النساء...».

ثم قالت: «أوصيك يا بن عم، أن تتخذ لي نعشاً فقد رأيت الملائكة صوروا صورته».

فقال لها: «صفيه إليّ»، فوصفته، فاتخذه لها، فأول نعش عمل في وجه الأرض ذلك، وما رأى أحد قبله ولا عمل أحد.

ثم قالت: «أوصيك أن لا يشهد أحد جنازتي من هؤلاء الذين ظلموني، وأخذوا حقي، فإنهم أعدائي وأعداء رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولا تترك أن يصلي عليّ أحد منهم، ولا من أتباعهم، وادفني في الليل، إذا هدأت العيون، ونامت الأبصار»(1).

------------------------

ص: 267


1- عوالم العلوم: ج 11 قسم2 فاطمة (سلام الله عليها) ص1066 ح13، روضة الواعظين: ج 1 ص151 مجلس في ذكر وفاة فاطمة (عليها السلام)، بحار الأنوار: ج 43 ص191 ب7 ما وقع عليها من الظلم وبكائها وحزنها وشكايتها في مرضها إلى شهادتها وغسلها ودفنها وبيان العلة في إخفاء دفنها (صلوات الله عليها ولعنة الله على من ظلمها) ح20.

الوصية بالزواج بعد وفاة أحد الزوجين

مسألة: يجوز وصية الزوجة الزوج بالتزويج بعدها بامرأة خاصة.

والجواز هنا بالمعنى الأعم على ما عرفت، ووصيتها (عليها السلام) تدل على الرجحان، ومنه يعرف جواز الوصية على عكسه(1) بالعدم، بأن لا يتزوج من فلانة مثلاً.

وكذا بالنسبة إلى الزوج، فيوصي زوجته أن تتزوج بعده بفلان، أو لا تتزوج بفلان.

والوصية بالتزويج راجحة نظراً لاستحباب الزواج في حد ذاته، واستحباب السعي في ذلك، والوصية بالمستحب راجح، خاصة في بعض المجتمعات التي لها تقاليد على خلاف الزواج، حيث تضغط المرأة على نفسها، أو تضغط أسرتها أو أسرة زوجها أو عشيرتها عليها كي لا تتزوج بعد وفاة زوجها أبداً، أو إلاّ بعد مضي فترة طويلة كسنة أو أكثر، فإن كل ذلك مرجوح، ولو سبب لها أو لأولادها الضر والإيذاء فحرام على مرتكبه.والظاهر أنه إذا قبل أحدهما وصية الآخر ولم يُبلغه الرد وجب التنفيذ ولزمته الوصية، لبعض الروايات، وكذا لو رد بعد الوفاة فإنه لا أثر لرده وعليه العمل(2)، لإطلاقات الوصية.

ص: 268


1- أي عكس التزويج.
2- قال في المسالك: (إن بطلان الوصية مشروط بأن يبلغ الموصي الرد، فلو لم يبلغه لزمت، كما لو رد بعد الوفاة، وظاهرهم الاتفاق على هذا الحكم) قال الإمام المؤلف (رحمه الله) في (الفقه): (أقول: ويدل على عدم قبول الرد إذا لم يبلغ الموصي الرد بعض الروايات، نعم الظاهر أن ذاك في غير الماليات وغير العسر والضرر...) الفقه: ج61 كتاب الوصية ص417.

وعلى أي، فإن للموصى إليه رد الوصية وإن كان قد قبلها ما دام الموصي حياً، بشرط أن يبلغه الرد، كما ذكرناه في كتاب الوصية(1).

الوصية باتخاذ النعش أو العماري

مسألة: تجوز الوصية باتخاذ النعش أو التابوت أو العماري أو ما أشبه، تأسياً بالصديقة (صلوات الله عليها) في مورده، وملاكاً في غيره، ولأن كل ذلك داخل في عموم الوصايا الجائزة بالمعنى الأعم على ما تقدم.ووجه الاستحباب أن فيه صوناً للمؤمن وإكراماً له وتعظيماً وستراً.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «للهِ عَزَّ وجَل فِي بِلادِهِ خَمْسُ حُرَمٍ، حُرْمَةُ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله)، وحُرْمَةُ آل رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله)، وحُرْمَةُ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وجَل، وحُرْمَةُ كَعْبَةِ اللهِ، وحُرْمَةُ المُؤْمِنِ»(2).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «حرمة المؤمن ميتاً كحرمته حياً سوياً»(3).

وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ أَكْرَمَ مُؤْمِناً فَإِنَّمَا يُكْرِمُ اللهَ عَزَّ وجَل»(4).

ص: 269


1- الفقه: ج61 كتاب الوصية ص416.
2- الكافي: ج 8 ص107 حديث أبي بصير مع المرأة ح82.
3- الوافي: ج 6 ص62.
4- المؤمن: ص54 ب5 باب ثواب قضاء حاجة المؤمن وتنفيس كربه وإدخال الرفق عليه ح138.

جواز الوصية بالدفن ليلاً

مسألة: تجوز الوصية بالدفن ليلاً، وأما أصل الجواز لشمولها عمومات الوصية.

كما يجوز الوصية بالدفن نهاراً ، أو صباحاً ، أو مساءً، أو ظهراً، أو بعد أيام إذا لم يوجب ذلك إهانة للميت المحترم بتعفن الجسد مثلاً، وإلا فليس للإنسان الحق في أن يوصي بالتأخير حتى يتعفن جسده، فإنه من الهتك والإذلال، وفي الحديث: عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتَعَالى فَوَّضَ إِلى المُؤْمِنِ كُل شَيْ ءٍ إلاّ إِذْلال نَفْسِهِ»(1).

وأما ما تعارف في هذه الأزمنة من وضع الجسد في الثلاجة المخصصة للأموات، تمهيداً لنقله إلى العتبات العاليات، أو لغير ذلك من الأغراض العقلائية، فهو جائز بالمعنى الأعم، مراعياً عدم الهتك لطول مدة وغيره، فتأمل، وقد أجاز بعض الفقهاء ذلك حتى مع طول المدة وما أشبه.

مخالفة الزوجة لزوجها

مسألة: مخالفة الزوجة زوجها حرام فيالأمور الواجبة عليها، وقد حصرها الفقهاء في أمرين: الاستفراش، والخروج بدون إجازته، لكنا ذكرنا في (الفقه) أن المتيقن من حرمة المخالفة في الأمر الثاني هو فيما إذا لم يكن الزوج مانعاً عن صلة رحمها وما أشبه، فاللازم صدق المعاشرة بالمعروف.

ص: 270


1- الكافي: ج 5 ص63 باب كراهة التعرض لما لا يطيق ح3.

وذكرنا هناك أن ما روي من أن امرأة سافر زوجها، فأمرها رسول الله (صلى

الله عليه وآله) أن لا تخرج من بيتها، فمرض أبوها إلى أن مات، فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا تخرجي من البيت(1)،فإن ذلك من قبيل ما لا نعرف وجهه، إذ لعله كان حكماً لعنوان ثانوي(2)، لمصلحة مزاحمة أهم، وربما كان المقصود بيان أهمية طاعة الزوج وما أشبه، لا عدم جواز الخروج كحكم عام أولي لمثل هذه الأمور.

أما الاستفراش فواجب عليها إطاعته مطلقاً إلاّ ما خالف الشرع أو لزم منه الضرر المرفوع بلا ضرر وما أشبه.

عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلمٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: «جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) فَقَالتْ: يَا رَسُول اللهِ مَا حَقُّ الزَّوْجِ عَلى المَرْأَةِ؟ فَقَال لهَا: أَنْ تُطِيعَهُ ولا تَعْصِيَهُ، ولا تَصَدَّقَ مِنْ بَيْتِهِ إلاّ بِإِذْنِهِ، ولا تَصُومَ تَطَوُّعاً إلاّ بِإِذْنِهِ

ص: 271


1- وهذه نص الرواية: عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «إِنَّ رَجُلا مِنَ الأَنْصَارِ عَلى عَهْدِ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) خَرَجَ فِي بَعْضِ حَوَائِجِهِ، فَعَهِدَ إِلى امْرَأَتِهِ عَهْداً إلاّ تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِهَا حَتَّى يَقْدَمَ، قَال: وإِنَّ أَبَاهَا مَرِضَ فَبَعَثَتِ المَرْأَةُ إِلى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) فَقَالتْ: إِنَّ زَوْجِي خَرَجَ وعَهِدَ إِليَّ أَنْ لا أَخْرُجَ مِنْ بَيْتِي حَتَّى يَقْدَمَ وإِنَّ أَبِي قَدْ مَرِضَ فَتَأْمُرُنِي أَنْ أَعُودَهُ؟ فَقَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): لا، اجْلسِي فِي بَيْتِكِ وأَطِيعِي زَوْجَكِ. قَال: فَثَقُل فَأَرْسَلتْ إِليْهِ ثَانِياً بِذَلكَ فَقَالتْ: فَتَأْمُرُنِي أَنْ أَعُودَهُ؟ فَقَال: اجْلسِي فِي بَيْتِكِ وأَطِيعِي زَوْجَكِ. قَال: فَمَاتَ أَبُوهَا فَبَعَثَتْ إِليْهِ: إِنَّ أَبِي قَدْ مَاتَ فَتَأْمُرُنِي أَنْ أُصَليَ عَليْهِ؟ فَقَال: لا، اجْلسِي فِي بَيْتِكِ وأَطِيعِي زَوْجَكِ. قَال: فَدُفِنَ الرَّجُل، فَبَعَثَ إِليْهَا رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): أَنَّ اللهَ قَدْ غَفَرَ لكِ ولأَبِيكِ بِطَاعَتِكِ لزَوْجِكِ». الكافي: ج 5 ص513 باب ما يجب من طاعة الزوج على المرأة ح1.
2- ولعله كان حكماً ولائياً، فتأمل.

، ولا تَمْنَعَهُ نَفْسَهَا وإِنْ كَانَتْ عَلى ظَهْرِ قَتَبٍ، ولا تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِهَا إلاّ بِإِذْنِهِ، وإِنْ خَرَجَتْ مِنْ بَيْتِهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ لعَنَتْهَا مَلائِكَةُ السَّمَاءِ ومَلائِكَةُ الأَرْضِ ومَلائِكَةُ الغَضَبِ ومَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ حَتَّى تَرْجِعَ إِلى بَيْتِهَا. فَقَالتْ: يَا رَسُول اللهِ مَنْ أَعْظَمُ النَّاسِ حَقّاً عَلى الرَّجُل؟ قَال: وَالدُهُ. فَقَالتْ: يَا رَسُول اللهِ مَنْ أَعْظَمُ النَّاسِ حَقّاً عَلى المَرْأَةِ؟ قَال: زَوْجُهَا. الحديث(1).وقَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «أَيُّمَا امْرَأَةٍ بَاتَتْ وزَوْجُهَا عَليْهَا سَاخِطٌ فِي حَقٍّ، لمْ تُقْبَل مِنْهَا صَلاةٌ حَتَّى يَرْضَى عَنْهَا، وأَيُّمَا امْرَأَةٍ تَطَيَّبَتْ لغَيْرِ زَوْجِهَا لمْ تُقْبَل مِنْهَا صَلاةٌ حَتَّى تَغْتَسِل مِنْ طِيبِهَا كَغُسْلهَا مِنْ جَنَابَتِهَا»(2).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «ثَلاثَةٌ لا يُرْفَعُ لهُمْ عَمَل، عَبْدٌ آبِقٌ، وامْرَأَةٌ زَوْجُهَا عَليْهَا سَاخِطٌ، والمُسْبِل إِزَارَهُ خُيَلاءَ»(3).

خيانة الزوجة

مسألة: خيانة الزوجة زوجها حرام، سواء في نفسها أو في ماله ومنزله وبستانه أو سائر أماناته وشؤونه، كما في ائتمانه إياها على أولاده، وكائتمانه إياها على أسراره.

وكذلك العكس، فلا يجوز للزوج خيانة زوجته بما يخالف الشرع، فالخيانة محرمة مطلقاً، لإطلاق أدلة حرمتها.

ص: 272


1- الكافي: ج 5 ص507 باب حق الزوج على المرأة ح1.
2- الكافي: ج 5 ص507 باب حق الزوج على المرأة ح2.
3- الكافي: ج 5 ص507 باب حق الزوج على المرأة ح3.

قال تعالى: «يا أَيُّهَا الذينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُول وَ تَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَ أَنْتُمْ تَعْلمُون»(1).

قال (عليه السلام): «رَأْسُ النِّفَاقِ الخِيَانَةُ»(2).

وقال (عليه السلام): رَأْسُ الكُفْرِ الخِيَانَةُ»(3).

قال (عليه السلام): «إِيَّاكَ والخِيَانَةَ فَإِنَّهَا شَرُّ مَعْصِيَةٍ، وإِنَّ الخَائِنَ لمُعَذَّبٌ بِالنَّارِ عَلى خِيَانَتِهِ»(4).

نعم خيانة الزوجة زوجها أشد حرمة، خاصة في الخيانة الزوجية بالمعنى المعهود.

قال (صلى الله عليه وآله): «وَأَمَّا العَنْكَبُوتُ فَمُسِخَتْ لأَنَّهَا كَانَتْ خَائِنَةً للبَعْل وكَانَتْ تُمَكِّنُ فَرْجَهَا سِوَاهُ»(5).

وقال (صلى الله عليه وآله): «وَأَمَّا العَنْكَبُوتُ فَكَانَتِ امْرَأَةً تَخُونُ زَوْجَهَا»(6).

ص: 273


1- سورة الأنفال: 27.
2- عيون الحكم والمواعظ: ص264 ح4806.
3- عيون الحكم والمواعظ: ص263 ح4792.
4- عيون الحكم والمواعظ: ص96 ح2219.
5- الاختصاص: ص137 المسوخ وسبب مسخها.
6- الخصال: ج 2 ص494 المسوخ ثلاثة عشر صنفا ح2.

الكذب على الزوج

مسألة: الكذب على الزوج حرام، بل مطلقاً.

وربما يكون الوجه في تأكيد الصديقة الزهراء (صلوات الله عليها) في وصيتها هذه الأمور: (ما عهدتني كاذبة ولا خائنة، ولا خالفتك منذ عاشرتني) هو أن تُتخذ أسوة للنساء في ذلك.

لوضوح أن كثيراً من الزوجات يخالفن الزوج، وبعض الزوجات يخُنّ الزوج، وكثيراً من الزوجات يكذبن على الزوج وما أشبه، وإلا فالموصية والوصي (صلوات الله عليهما) أبر وأتقى من كل ذلك.

ونظيره وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) للحسنين (عليهما السلام) بقوله: «أُوصِيكُمَا بِتَقْوَى اللهِ وأَلا تَبْغِيَا الدُّنْيَا وإِنْ بَغَتْكُمَا ولا تَأْسَفَا عَلى شَيْ ءٍ مِنْهَا زُوِيَ عَنْكُمَا وقُولا بِالحَقِّ واعْمَلا للأَجْرِ وكُونَا للظَّالمِ خَصْماً وللمَظْلومِ عَوْناً أُوصِيكُمَا وجَمِيعَ وَلدِي وأَهْلي ومَنْ بَلغَهُ كِتَابِي بِتَقْوَى اللهِ ونَظْمِ أَمْرِكُمْ وصَلاحِ ذَاتِ بَيْنِكُمْ فَإِنِّي سَمِعْتُ جَدَّكُمَا صلى الله عليه وآله يَقُول صَلاحُ ذَاتِ البَيْنِ أَفْضَل مِنْ عَامَّةِ الصَّلاةِ والصِّيَام»(1).

ص: 274


1- نهج البلاغة، الرسائل: 47 ومن وصية له (عليه السلام) للحسن والحسين (عليهما السلام) لما ضربه ابن ملجم (لعنه الله).

أنواع الخيانة

مسألة: الخيانة المحرمة أعم من خيانة البصر بالنظر، أو خيانة السمع أو اللمس أو سائر الجوارح، ومن معاني الخيانة: المالية وغيرها.

وأيضاً هي أعم من خيانة الشخص والأسرة والجماعة والحزب والعشيرة والأمة والدولة، فكل ما هو خيانة شرعاً فهو حرام.

أما الخيانة العرفية فبحسب مواردها.

وهذه نماذج من الخيانة بالمعنى الأعم:

عن أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) قَال: «إِنَّ اللهَ يُعَذِّبُ السِّتَّةَ بِالسِّتَّةِ، العَرَبَ بِالعَصَبِيَّةِ، والدَّهَاقِينَ بِالكِبْرِ، والأُمَرَاءَ بِالجَوْرِ، والفُقَهَاءَ بِالحَسَدِ، والتُّجَّارَ بِالخِيَانَةِ، وأَهْل الرَّسَاتِيقِ بِالجَهْل»(1).

وفي الرواية: «يَا دَاوُدُ نُحْ عَلى خَطِيئَتِكَ كَالمَرْأَةِ الثَّكْلى عَلى وَلدِهَا، لوْ رَأَيْتَ الذِينَ يَأْكُلونَ النَّاسَ بِأَلسِنَتِهِمْ وقَدْ بَسَطْتُهَا بَسْطَ الأَدِيمِ وضَرَبْتُ نَوَاحِيَ أَلسِنَتِهِم بِمَقَامِعَ مِنْ نَارٍ ثُمَّ سَلطْتُ عَليْهِمْ مُوَبِّخاً لهُمْ يَقُول: يَا أَهْل النَّارِ هَذَافُلانٌ السَّليطُ فَاعْرِفُوهُ كَمْ رَكْعَةٍ طَوِيلةٍ فِيهَا بُكَاءٌ بِخَشْيَةٍ قَدْ صَلاهَا صَاحِبُهَا لا تُسَاوِي عِنْدِي فَتِيلا حَيْثُ نَظَرْتُ فِي قَلبِهِ فَوَجَدْتُهُ إِنْ سَلمَ مِنَ الصَّلاةِ وبَرَزَتْ لهُ امْرَأَةٌ وعَرَضَتْ عَليْهِ نَفْسَهَا أَجَابَهَا وإِنْ عَامَلهُ مُؤْمِنٌ خَانَهُ»(2).

وعَنْ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: «لعَنَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه

ص: 275


1- وسائل الشيعة: ج 15 ص372 ب57 باب تحريم التعصب على غير الحق ح6.
2- عدة الداعي: ص38.

وآله) رَجُلا يَنْظُرُ إِلى فَرْجِ امْرَأَةٍ لا تَحِل لهُ، ورَجُلا خَانَ أَخَاهُ فِي امْرَأَتِهِ، ورَجُلا يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلى نَفْعِهِ فَسَأَلهُمُ الرِّشْوَةَ»(1).

وقال (صلى الله عليه وآله): «مَنْ خَانَ جَارَهُ شِبْراً مِنَ الأَرْضِ جَعَلهُ اللهُ طَوْقاً فِي عُنُقِهِ مِنْ تُخُومِ الأَرْضِ السَّابِعَةِ حَتَّى يَلقَى اللهَ يَوْمَ القِيَامَةِ مُطَوَّقاً إلاّ أَنْ يَتُوبَ ويَرْجِع»(2).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «مَنِ اسْتَهَانَ بِالأَمَانَةِ ورَتَعَ فِي الخِيَانَةِ ولمْ يُنَزِّهْ نَفْسَهُ ودِينَهُ عَنْهَا فَقَدْ أَحَل بِنَفْسِهِ الخِزْيَ فِي الدُّنْيَا وهُوَ فِي الآخِرَةِ أَذَل وأَخْزَى، وإِنَّ أَعْظَمَ الخِيَانَةِ خِيَانَةُ الأُمَّةِ، وأَفْظَعَ الغِشِّ غِشُّ الأَئِمَّةِ والسَّلامُ»(3).

مخالفة الزوج

مسألة: قد يستفاد من قول الصديقة (عليها السلام): (ولا خالفتك منذ عاشرتني) مبغضوية مخالفة الزوج مطلقاً، فهو أعم من البالغ حد الحرمة وعدمه، وسواء أكان في الأمور الشخصية أم في الحياة العائلية أم غيرها، وذلك كله في ما كان مرجوحاً كما لا يخفى.

ويتضح وجه التعميم مع أن له (عليه الصلاة والسلام) خصوصية بالبداهة، وكان كلامها (صلوات الله عليها) بنحو القضية الخارجية، من ضم الروايات التي تتكلم عما هو مطلوب ومحبوب شرعاً من كون الزوجة عليه.

ص: 276


1- الكافي: ج 5 ص559 باب نوادر ح14.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 4 ص12 باب ذكر جمل من مناهي النبي (صلى الله عليه وآله) ح4968.
3- بحار الأنوار: ج 93 ص92 ب9 أدب المصدق ح90.

الدعاء للزوج وللآخرين

مسألة: يستحب الدعاء للزوج، كما قالت الصديقة (عليها السلام): (جزاك الله عني خير الجزاء يا بن عم).

وهذا إخبار أريد به الإنشاء وهو الدعاء، ومن وجوه الحكمة في ذكر الإنشاء بقالب الإخبار، هو اعتبار المدعو به محقق الوقوع، فإن كان المخبر المنشئ مثلها (صلوات الله عليها) دل على حتمية وقوع المدعو به، وإن كان من عامة الناس دل على آكدية الطلب وشدة الرجاء.

بل الدعاء لمطلق المؤمن مستحب، وفي الحديث:

«أَنَّ اللهَ قَال لمُوسَى (عليه السلام): ادْعُنِي عَلى لسَانٍ لمْ تَعْصِنِي بِهِ، فَقَال: يَا رَبِّ أَنَّى لي بِذَلكَ، قَال: ادْعُنِي عَلى لسَانِ غَيْرِكَ»(1).

ثم إن الملائكة تقول لمن يدعو لغيره: لك مثل ذلك، أو مثلاه، أو أكثروفي بعض الروايات مائة ألف.

والظاهر أن المضاعفة لا تختص فيما لو دعا لواحد، بل لو دعا لاثنين أو عشرة أو ألف أو كل المؤمنين كان له ضعف ذلك(2).

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام)، عَنْ رَسُول اللهِ (صلى

ص: 277


1- وسائل الشيعة: ج 7 ص109 ب41 باب استحباب الدعاء للمؤمن بظهر الغيب والتماس الدعاء منه ح12، عن عدة الداعي: ص183، وراجع بحار الأنوار: ج 90 ص360 ب22 من يستجاب دعاؤه ومن لا يستجاب ح23.
2- أي ضعف المجموع.

الله عليه وآله) أَنَّهُ قَال: «مَنْ دَعَا لمُؤْمِنٍ بِظَهْرِ الغَيْبِ قَال المَلكُ: ولكَ مِثْل ذَلكَ»(1).

وقَال أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «أَسْرَعُ الدُّعَاءِ نُجْحاً للإِجَابَةِ دُعَاءُ الأَخِ لأَخِيهِ بِظَهْرِ الغَيْبِ، يَبْدَأُ بِالدُّعَاءِ لأَخِيهِ، فَيَقُول لهُ مَلكٌ مُوَكَّل بِهِ: آمِينَ ولكَ مِثْلاهُ»(2).

ورُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) أَنَّهُ قَال: «مَنْ دَعَا لأَخِيهِ بِظَهْرِ الغَيْبِ نَادَاهُمَلكٌ مِنَ السَّمَاءِ: ولكَ مِثْلاهُ»(3).

وعن عَلي عَنْ أَبِيهِ، قَال: رَأَيْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ جُنْدَبٍ فِي المَوْقِفِ فَلمْ أَرَ مَوْقِفاً كَانَ أَحْسَنَ مِنْ مَوْقِفِهِ، مَا زَال مَادّاً يَدَيْهِ إِلى السَّمَاءِ ودُمُوعُهُ تَسِيل عَلى خَدَّيْهِ حَتَّى تَبْلغَ الأَرْضَ، فَلمَّا صَدَرَ النَّاسُ قُلتُ لهُ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ مَا رَأَيْتُ مَوْقِفاً قَطُّ أَحْسَنَ مِنْ مَوْقِفِكَ، قَال: واللهِ مَا دَعَوْتُ إلاّ لإِخْوَانِي وذَلكَ أَنَّ أَبَا الحَسَنِ مُوسَى (عليه السلام) أَخْبَرَنِي أَنَّ مَنْ دَعَا لأَخِيهِ بِظَهْرِ الغَيْبِ نُودِيَ مِنَ العَرْشِ: ولكَ مِائَةُ أَلفِ ضِعْفٍ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَدَعَ مِائَةَ أَلفٍ مَضْمُونَةً لوَاحِدَةٍ لا أَدْرِي تُسْتَجَابُ أَمْ لا»(4).

ص: 278


1- وسائل الشيعة: ج 7 ص109 ب41 باب استحباب الدعاء للمؤمن بظهر الغيب والتماس الدعاء منه ح10.
2- وسائل الشيعة: ج 7 ص107 ب41 باب استحباب الدعاء للمؤمن بظهر الغيب والتماس الدعاء منه ح3.
3- وسائل الشيعة: ج 7 ص107 ب41 باب استحباب الدعاء للمؤمن بظهر الغيب والتماس الدعاء منه ح5.
4- الكافي: ج 2 ص508 باب الدعاء للإخوان بظهر الغيب ح6.

وقَال (عليه السلام): «إِذَا دَعَا الرَّجُل لأَخِيهِ بِظَهْرِ الغَيْبِ نُودِيَ مِنَ العَرْشِ: ولكَ مِائَةُ أَلفِ ضِعْفِ مِثْلهِ، وإِذَا دَعَا لنَفْسِهِ كَانَتْ لهُ وَاحِدَةٌ، فَمِائَةُ أَلفٍ مَضْمُونَةٌ خَيْرٌ مِنْ وَاحِدَةٍ لا يُدْرَى يُسْتَجَابُ لهُ أَمْ لا»(1).

كما أن الزهراء (عليها الصلاة والسلام) بنفسها كانت تدعو طول الليل للآخرين،ولما سألها ولدها الإمام الحسن (عليه السلام) عن السبب؟ قالت: «الجار ثم الدار»(2).

ولا يخفى أن ذلك إضافة إلى كونه من أسباب جلب رضا الله سبحانه وتعالى، فإنه أيضاً يوجب تماسك المجتمع وتكاتف الناس وتضامنهم، فإن من يدعو للمؤمنين بظهر الغيب أكثر استعداداً فكرياً ونفسياً لمد يد العون إليهم، وكف الأذى عنهم، كما أنه أبعد عن اغتيابهم والسعي فيهم، والوقيعة بينهم، وظلمهم والتعدي عليهم، كما أنه أقرب لغفران ذنبهم والحلم عن شططهم والعفو عن خطئهم.

ص: 279


1- من لا يحضره الفقيه: ج 2 ص212 باب فضائل الحج ح2185.
2- عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَليِّ بْنِ الحُسَيْنِ، عَنْ فَاطِمَةَ الصُّغْرَى، عَنِ الحُسَيْنِ بْنِ عَليٍّ، عَنْ أَخِيهِ الحَسَنِ (عليهم السلام) قَال: رَأَيْتُ أُمِّي فَاطِمَةَ (عليها السلام) قَامَتْ فِي مِحْرَابِهَا ليْلةَ جُمُعَتِهَا، فَلمْ تَزَل رَاكِعَةً سَاجِدَةً حَتَّى اتَّضَحَ عَمُودُ الصُّبْحِ، وسَمِعْتُهَا تَدْعُو للمُؤْمِنِينَ والمُؤْمِنَاتِ وتُسَمِّيهِمْ، وتُكْثِرُ الدُّعَاءَ لهُمْ ولا تَدْعُو لنَفْسِهَا بِشَيْ ءٍ، فَقُلتُ لهَا: يَا أُمَّاهْ لمَ لا تَدْعُوِنَّ لنَفْسِكِ كَمَا تَدْعُوِنَّ لغَيْرِكِ، فَقَالتْ: يَا بُنَيَّ الجَارَ ثُمَ الدَّارَ. وسائل الشيعة: ج 7 ص113 ب42 باب استحباب اختيار الإنسان الدعاء للمؤمن على الدعاء لنفسه ح7، عن علل الشرائع: ج 1 ص181 ب145 باب العلة التي من أجلها كانت فاطمة (عليها السلام) تدعو لغيرها ولا تدعو لنفسها ح1.

جري المعصومين على الظاهر

ثم لا يخفى أنه لا منافاة بين تصوير الملائكة للنعش لها كما في هذه الرواية، وبين تصوير أسماء النعش لها كما في بعض الروايات، فإنه في كثير من الأحيان مع علم المعصومين (عليهم الصلاة والسلام) بالشيء من الغيب، كانوا يريدون إظهار الأمر حسب الموازين العرفية.

وبذلك يفسر أيضاً سؤال الرسول (صلى الله عليه وآله) وسائر الأئمة (عليهم السلام) من الناس كثيراً من الأمور.

وأيضاً منه:

ما رُوِيَ عَنْهُ (صلى الله عليه وآله) أَنَّهُ قَال: «إِنَّ القُرْآنَ نَزَل جَمِيعُهُ عَلى مَعْنَى إِيَّاكِ أَعْنِي واسْمَعِي يَا جَارَة»(1).

وعن بُكَيْرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «نَزَل القُرْآنُ بِإِيَّاكِ أَعْنِي واسْمَعِي يَا جَارَةُ»(2).وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «مَعْنَاهُ مَا عَاتَبَ اللهُ عَزَّ وجَل بِهِ عَلى نَبِيِّهِ (صلى الله عليه وآله) فَهُوَ يَعْنِي بِهِ مَا قَدْ مَضَى فِي القُرْآنِ، مِثْل قَوْلهِ: «وَلوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِليْهِمْ شَيْئاً قَليلا»(3) عَنَى بِذَلكَ

ص: 280


1- غوالي اللئالي: ج4 ص15 الجملة الثانية في الأحاديث المتعلقة بالعلم وأهله وحامليه ح179.
2- الكافي: ج 2 ص631 باب النوادر ح14.
3- سورة الإسراء: 74.

غَيْرَه»(1).

العلم من غير الطرق الطبيعية

مسألة: هل يجوز لمن علم من الناس أمراً من غير طرقه الطبيعية أن يرتب عليه الأثر، أو يحرم، أو عليه أن يعمل حسب مقتضى الظواهر الطبيعية؟

للمسألة صور وتفصيل:

منها: أنه لو قطع مما لا حجية له(2) أنه لو سار في هذا الطريق قتل، وكانت الظواهر وإخبار أهل الخبرة الثقات بل العدول، تدل على أن الطريق آمن، فحيث إن للقطع على المشهور حجيته الذاتية، وجب عليه الاحتراز، فلا يشبه تكليف عامة الناس تكليف المعصومين (عليهم السلام) فيما علموا به من عالم الغيب.

بل لو ظن ظناً شخصياً بالخطر الدنيوي الكبير بخلاف الحجج المؤمّنةظاهراً، فعليه الاحتياط، فتأمل.

ومنها: عكس ذلك.

ومنها: ما لو قطع القاضي من دون شهود أو إقرار وما أشبه، بأن زيداً سرق، فهل له أن يجري عليه حكم السرقة.

المسألة تبتني على جواز قضاء القاضي بعلمه وعدمه، وقد فصلناها في كتاب القضاء من (الفقه)، ويجري البحث في كلتا صورتي علمه بالواقع عن طرق

ص: 281


1- الكافي: ج 2 ص631 باب النوادر ح14.
2- كالرؤى والأحلام حيث لا حجية فيها.

طبيعي كما لو شاهده يسرق، أو غير طبيعي كما لو قطع من الرمل والاسطرلاب أو من الأحلام، فتأمل(1).

الاهتمام بالأولاد

مسألة: يستحب الاهتمام بالأولاد والوصية بهم، فإنهم ودائع بيد الإنسان، قال تعالى: «قُوا أَنْفُسَكُمْ وأَهْليكُمْ ناراً»(2).

والظاهر أن الأمر بالوقاية لا يختص بما يسببها حال الحياة، بل كل ما يبعث على الوقاية وإن كان ظرفه بعد الممات، فإنه واجب فعله أو قوله حال الحياة، لإطلاق «قوا» وغيره، فتأمل.

عَنْ عَبْدِ الأَعْلى مَوْلى آل سَامٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «لمَّا نَزَلتْ هَذِهِ الآيَةُ «يا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وأَهْليكُمْ ناراً» جَلسَ رَجُل مِنَ المُسْلمِينَ يَبْكِي، وقَال: أَنَا عَجَزْتُ عَنْ نَفْسِي كُلفْتُ أَهْلي، فَقَال رَسُول اللهِ

ص: 282


1- قال الإمام المؤلف (قدس سره) في الوصائل إلى الرسائل: ج 1 ص44 المقصد الاول في القطع: (المجتهد القاطع من سبب خاص، هو المأذون في الرجوع اليه، لا مطلق المجتهد فإنه (لا) يجوز الرجوع إلى من علم الحكم (من مثل الرمل والجفر)، وسمي رملاً لأن أول اكتشاف للمجهول بطرق الرمل كان بالتخطيط في رمال الأرض، كما أنه سمي جفراً لأن الجفر عبارة عن جلد السخل وكان أول كتابة هذا العلم في جلده، وكلاهما اتخذا طريقاً لكشف المجهولات، ومثلهما في زماننا: الكمبيوتر والانترنيت. (فإن القطع الحاصل من هذه) الأسباب غير المتعارفة (وإن وجب على القاطع) المجتهد (الأخذ به في عمل نفسه) لما تقدم من أن القطع حجة عقلية من أي سبب، ولأيّ أحد حصل (إلا أنه لا يجوز للغير تقليده في ذلك) المقطوع به، المكتشف بهذه الأسباب، وإن كان المجتهد جامعاً لشرائط الفتوى).
2- سورة التحريم: 6.

(صلى الله عليه وآله): حَسْبُكَ أَنْ تَأْمُرَهُمْ بِمَا تَأْمُرُ بِهِ نَفْسَكَ، وتَنْهَاهُمْ عَمَّا تَنْهَى عَنْهُ نَفْسَكَ»(1).

وعَنْ أَبِي بَصِيرٍ فِي قَوْل اللهِ عَزَّ وجَل: «قُوا أَنْفُسَكُمْ وأَهْليكُمْ ناراً» قُلتُ: كَيْفَ أَقِيهِمْ، قَال: تَأْمُرُهُمْ بِمَا أَمَرَ اللهُ وتَنْهَاهُمْ عَمَّا نَهَاهُمُ اللهُ، فَإِنْ أَطَاعُوكَ كُنْتَ قَدْ وَقَيْتَهُمْ، وإِنْعَصَوْكَ كُنْتَ قَدْ قَضَيْتَ مَا عَليْكَ»(2).

وعَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) فِي قَوْل اللهِ عَزَّ وجَل: «قُوا أَنْفُسَكُمْ وأَهْليكُمْ ناراً» كَيْفَ نَقِي أَهْلنَا، قَال: «تَأْمُرُونَهُمْ وتَنْهَوْنَهُمْ»(3).

وَسُئِل الصَّادِقُ (عليه السلام) عَنْ قَوْل اللهِ عَزَّ وجَل: «قُوا أَنْفُسَكُمْ وأَهْليكُمْ ناراً»: كَيْفَ نَقِيهِنَّ، قَال: تَأْمُرُونَهُنَّ وتَنْهَوْنَهُنَّ قِيل لهُ: إِنَّا نَأْمُرُهُنَّ ونَنْهَاهُنَّ فَلا يَقْبَلنَ، قَال: «إِذَا أَمَرْتُمُوهُنَّ ونَهَيْتُمُوهُنَّ فَقَدْ قَضَيْتُمْ مَا عَليْكُمْ»(4).

ص: 283


1- الكافي: ج 5 ص62 ح1.
2- الكافي: ج 5 ص62 ح2.
3- الكافي: ج 5 ص62 ح3.
4- من لا يحضره الفقيه: ج 3 ص442 باب حق المرأة على الزوج ح4533.

مسائل عديدة

اشارة

مسألة: يستحب لمن تتوفى زوجته أن يتزوج، فإن الرجال لابد لهم من النساء، وهكذا العكس كما سبق، أما ما جرت عليه بعض الأعراف من التأخير سنة أو أقل أو أكثر فلا وجه له.

مسألة: يستحب اتخاذ النعش للميت، ويستحب أن يوصى بذلك، تأسياً بها (صلوات الله عليها)، ولأنه من الإتقان والستر وما أشبه.

مسألة: يستحب بيان ما أوصته الصديقة فاطمة (عليها السلام) لعلي (صلوات الله عليه)، كما يستحب بيان كافة وصايا المعصومين (عليهم السلام) لأهاليهم أو أصحابهم أو حتى أعدائهم، ومن الحري أن تجمع هذه الوصايا في كتب، وأن تكتب حولها البحوث والمقالات والموسوعات.

مسألة: يجب الاعتقاد بأن من ظلمها (عليها السلام) هم أعداء رسول الله (صلى الله عليه وآله) بل أعداء الله تعالى، ويستحب بيان ذلك.

هذا لمن التفت لذلك(1)، أما غيرهفهل عليه تحصيل العلم به مطلقاً(2)، أو فيما كان طريقاً(3)، لا ريب في وجوب الثاني، أما ما عداه فيعود إلى مبحث نفسية الوجوب في مثل ذلك.

ص: 284


1- أي التفت إلى أن من ظلمها هم أعداء رسول الله وأعداء الله، فيجب عليه أن يعتقد بذلك.
2- فلو احتمل أن القوم ظلموها أو علم أنهم ظلموها صغرى، لكن احتمل أن من ظلمها فهو عدو لله ولرسوله كبرى، فهل يجب عليه تحصيل العلم بذلك.
3- أي في خصوص ما كان مقدمة للهداية والخروج من الضلالة، بنحو المقدمة الموصلة.

مسألة: يحرم إتباع الظالم وأتْباعِه، قال تعالى: «يُريدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلى الطَّاغُوتِ وقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ»(1)، وقال عزوجل: «فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقين»(2).

والفرق بين اتّباع الظالم واتّباع أتباعه، وإن كان الثاني يعود بالمآل إلى الأول، المباشرة وغيرها، والعرفية وعدمها، إذ قد يفرق بعدم صدق عنوان أعوان الظلمة على اتّباع الأتباع في غير جهة تابعيتهم للظالم.

روايات في الباب

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: قَالأَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «تَزَوَّجُوا فَإِنَّ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) قَال: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَّبِعَ سُنَّتِي فَإِنَّ مِنْ سُنَّتِيَ التَّزْوِيجَ»(3).

وعن سليمان بن خالد، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: سَأَلتُهُ عَنْ أَوَّل مَنْ جُعِل لهُ النَّعْشُ، قَال: «فَاطِمَةُ عليها السلام بِنْتُ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وآله»(4).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «أَوَّل نَعْشٍ أُحْدِثَ فِي الإِسْلامِ نَعْشُ

ص: 285


1- سورة النساء: 60.
2- سورة الزخرف: 54.
3- الكافي: ج 5 ص329 باب كراهة العزبة ح5.
4- وسائل الشيعة: ج 3 ص219 ب52 باب استحباب اتخاذ النعش لحمل الميت ويتأكد في المرأة ح1.

فَاطِمَةَ (عليه السلام) إِنَّهَا اشْتَكَتْ شَكَاتَهَا التِي قُبِضَتْ فِيهَا وقَالتْ لأَسْمَاءَ: إِنِّي نَحَلتُ فَذَهَبَ لحْمِي إلاّ تَجْعَلينَ لي شَيْئاً يَسْتُرُنِي، فَقَالتِ الأَسْمَاءُ: إِنِّي إِذْ كُنْتُ بِأَرْضِ الحَبَشَةِ رَأَيْتُهُمْ يَصْنَعُونَ شَيْئاً أَفَلا أَصْنَعُ لكِ فَإِنْ أَعْجَبَكِ صَنَعْتُ لكِ، قَالتْ: نَعَمْ، فَدَعَتْ بِسَرِيرٍ فَأَكَبَّتْهُ لوَجْهِهِ ثُمَّ دَعَتْ بِجَرَائِدَ فَشَدَّدَتْهُ عَلى قَوَائِمِهِ ثُمَّ جَللتْهُ ثَوْباً، فَقَالتْ: هَكَذَا رَأَيْتُهُمْ يَصْنَعُونَ، فَقَالتِ: اصْنَعِي لي مِثْلهُ اسْتُرِينِي سَتَرَكِ اللهُ مِنَ النَّارِ»(1).وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَال: مَرِضَتْ فَاطِمَةُ (عليها السلام) مَرَضاً شَدِيداً فَقَالتْ لأَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ: إلاّ تَرَيْنَ إِلى مَا بَلغْتُ فَلا تَحْمِلينِي عَلى سَرِيرٍ ظَاهِرٍ، فَقَالتْ: لا لعَمْرِي ولكِنْ أَصْنَعُ نَعْشاً كَمَا رَأَيْتُ يُصْنَعُ بِالحَبَشَةِ، قَالتْ: فَأَرِينِيهِ، فَأَرْسَلتْ إِلى جَرَائِدَ رَطْبَةٍ فَقُطِّعَتْ مِنَ الأَسْوَاقِ ثُمَّ جَعَلتْ عَلى السَّرِيرِ نَعْشاً، وهُوَ أَوَّل مَا كَانَ النَّعْشُ، فَتَبَسَّمَتْ ومَا رَأَيْتُهَا مُتَبَسِّمَةً إلاّ يَوْمَئِذٍ ثُمَّ حَمَلنَاهَا فَدَفَنَّاهَا ليْلا(2).

وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ أَنَّ فَاطِمَةَ (عليها السلام) قَالتْ لهَا: إِنِّي قَدِ اسْتَقْبَحْتُ مَا يُصْنَعُ بِالنِّسَاءِ، إِنَّهُ يُطْرَحُ عَلى المَرْأَةِ الثَّوْبُ فَيَصِفُهَا لمَنْ رَأَى، فَقُلتُ: يَا بِنْتَ رَسُول اللهِ أَنَا أَصْنَعُ لكِ شَيْئاً رَأَيْتُهُ بِأَرْضِ الحَبَشَةِ، قَالتْ: فَدَعَوْتُ بِجَرِيدَةٍ رَطْبَةٍ فَحَبَسْتُهَا ثُمَّ طَرَحْتُ عَليْهَا ثَوْباً، فَقَالتْ فَاطِمَةُ: مَا أَحْسَنَ هَذَا وأَجْمَلهُ، لا تُعْرَفُ بِهِ المَرْأَةُ مِنَ الرَّجُل، فَإِذَا مِتُّ فَاغْسِلينِي أَنْتِ، إِلى أَنْ قَال: فَلمَّا مَاتَتْ (عليها السلام) غَسَّلهَا عَليٌّ وأَسْمَاءُ(3).

ص: 286


1- وسائل الشيعة: ج 3 ص220 ب52 باب استحباب اتخاذ النعش لحمل الميت ويتأكد في المرأة ح2.
2- وسائل الشيعة: ج 3 ص220 ب52 باب استحباب اتخاذ النعش لحمل الميت ويتأكد في المرأة ح5.
3- وسائل الشيعة: ج 3 ص221 ب52 باب استحباب اتخاذ النعش لحمل الميت ويتأكد في المرأة ح6. وراجع مستدرك الوسائل: ج 2 ص358 ب43 باب استحباب اتخاذ النعش لحمل الميت ويتأكد في المرأة.

وفي وصية فاطمة (عليها السلام): (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، هَذَا مَا أَوْصَتْ بِهِ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) أَوْصَتْ وهِيَ تَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إلاّ اللهُ وأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورَسُولهُ، وأَنَّ الجَنَّةَ حَقٌّ والنَّارَ حَقٌ (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي القُبُورِ)، يَا عَليُّ أَنَا فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ زَوَّجَنِيَ اللهُ مِنْكَ لأَكُونَ لكَ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ، أَنْتَ أَوْلى بِي مِنْ غَيْرِي، حَنِّطْنِي وغَسِّلنِي وكَفِّنِّي بِالليْل، وصَل عَليَّ وادْفِنِّي بِالليْل، ولا تُعْلمْ أَحَداً، وأَسْتَوْدِعُكَ اللهَ وأَقْرَأُ عَلى وُلدِيَ السَّلامَ إِلى يَوْمِ القِيَامَة»(1).

وفي زيارة الجامعة: «وَمَنْ خَالفَكُمْ فَالنَّارُ مَثْوَاهُ، ومَنْ جَحَدَكُمْ كَافِرٌ، ومَنْ حَارَبَكُمْ مُشْرِكٌ، ومَنْ رَدَّ عَليْكُمْ فِي أَسْفَل دَرْكٍ مِنَ الجَحِيمِ، أَشْهَدُ أَنَّ هَذَا سَابِقٌ لكُمْ فِيمَا مَضَى، وجَارٍ لكُمْ فِيمَا بَقِي»(2).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) فِي قَوْل اللهِعَزَّ وجَل: «وَلا تَرْكَنُوا إِلى الذِينَ ظَلمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ»(3) قَال: «هُوَ الرَّجُل يَأْتِي السُّلطَانَ فَيُحِبُّ بَقَاءَهُ إِلى أَنْ يُدْخِل يَدَهُ إِلى كِيسِهِ فَيُعْطِيَهُ»(4).

ص: 287


1- بحار الأنوار: ج 43 ص214 ب7 ما وقع عليها من الظلم وبكائها وحزنها وشكايتها في مرضها إلى شهادتها وغسلها ودفنها وبيان العلة في إخفاء دفنها صلوات الله عليها ولعنة الله على من ظلمها.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 2 ص613 زيارة جامعة لجميع الأئمة (عليهم السلام).
3- سورة هود: 113.
4- الكافي: ج 5 ص109 باب عمل السلطان وجوائزهم ح12.

يا بن العم

اشارة

لما نعي إلى فاطمة (عليها السلام) نفسها، أرسلت إلى أم أيمن، وكانت أوثق نسائها عندها وفي نفسها، فقالت لها: يا أم أيمن إن نفسي نُعيت إلي فادعي لي علياً (عليه السلام)، فدعته لها، فلما دخل عليها قالت له: يا ابن العم، أريد أن أوصيك بأشياء فاحفظها علي. فقال لها: قولي ما أحببت.

قالت له: تزوج أمامة تكون لولدي مربية من بعدي مثلي، واعمل نعشاً رأيت الملائكة قد صوّرته لي.

فَقَال لهَا عَليٌّ: أَرِينِي كَيْفَ صُورَتُهُ، فَأَرَتْهُ ذَلكَ كَمَا وُصِفَ لهَا، وكَمَا أُمِرَتْ بِهِ، ثُمَّ قَالتْ: فَإِذَا أَنَا قَضَيْتُ نَحْبِي فَأَخْرِجْنِي مِنْ سَاعَتِكَ أَيَّ سَاعَةٍ كَانَتْ مِنْ ليْل أَوْ نَهَارٍ، ولا يَحْضُرَنَّ مِنْ أَعْدَاءِ اللهِ وأَعْدَاءِ رَسُولهِ للصَّلاةِ عَليَّ أَحَد. قال علي (عليه السلام): أفعل(1).

--------------------

انتخاب الثقاة لمهمام الأمور

مسألة: يجب انتخاب الثقاة من الناس للتصدي لمهام الأمور التي تتوقف على الوثاقة مما يعد غيره تفريطاً بحق واجب، أو تسبيباً لأمر محرم، بل ينبغي انتخاب الأوثق من الناس فالأوثق، قال تعالى: «إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيُّ

ص: 288


1- علل الشرائع: ج 1 ص188 ب149 باب العلة التي من أجلها دفنت فاطمة (عليها السلام) بالليل ولم تدفن بالنهار ح2.

الأَمين»(1).

وقال سيد الشهداء (عليه السلام) لما بعث مسلم بن عقيل إلى أهل الكوفة: «وقد بعثت إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل وأمرته أن يكتب إليّ بحالكم وأمركم ورأيكم»(2).

وقال أبو الحسن الهادي (عليه السلام): «العَمْرِيُّ ثِقَتِي، فَمَا أَدَّى إِليْكَ عَنِّي فَعَنِّي يُؤَدِّي، ومَا قَال لكَ عَنِّي فَعَنِّي يَقُول، فَاسْمَعْ لهُ وأَطِعْ فَإِنَّهُ الثِّقَةُ المَأْمُون»(3).

وقال أبو محمد العسكري (عليه السلام): «العَمْرِيُّ وابْنُهُ ثِقَتَانِ، فَمَا أَدَّيَا إِليْكَ عَنِّي فَعَنِّي يُؤَدِّيَانِ، ومَا قَالا لكَ فَعَنِّي يَقُولانِ، فَاسْمَعْ لهُمَا وأَطِعْهُمَا فَإِنَّهُمَاالثِّقَتَانِ المَأْمُونَان»(4).

توثيق الثقاة

مسألة: ينبغي توثيق الثقاة لمن تمس حاجته إليه، ومنه ما قام به علماء الرجال في كتبهم.

والملاحظ في الحاجة ليس حاجة من يحيط بالإنسان فقط، بل حاجة مطلق القريب والبعيد، والحاضر والغائب، كما أن المدار فيها ليس على حاجة

ص: 289


1- سورة القصص: 26.
2- وقعة الطف: ص96.
3- الكافي: ج 1 ص330 باب في تسمية من رآه (عليه السلام) ح1.
4- الكافي: ج 1 ص330 باب في تسمية من رآه (عليه السلام) ح1.

المعاصرين، بل يشمل حاجة الأجيال الآتية.

كما هو ديدن القدماء والمتأخرين من علمائنا، من الكشي والنجاشي والطوسي والبرقي والصدوق والعلامة وابن داوود وغيرهم.

رضاها رضا الله

مسألة: من الأدلة(1) على أن رضا الصديقة (عليها السلام) رضا الله سبحانه، وأنه يرضى لرضاها ويغضب لغضبها(2)، قول أميرالمؤمنين (صلوات الله عليه) في هذا الحديث: «قولي ما أحببت»، فإن قوله ذلك وهو باب مدينة علم رسول الله (صلى الله عليه وآله)(3) وهو المعصوم فكراً وقولاً وعملاً، يشهد بذلك.

ص: 290


1- كما أنه يتقوى به أيضاً ويعضده.
2- قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إنّ الله يغضب لغضب فاطمة، ويرضى لرضاها». راجع من كتب العامة: المعجم الكبير: ج1 ص66 ح182، المستدرك على الصحيحين: ج3 ص154، ميزان الاعتدال: ج2 ص492 ح4560، مجمع الزوائد: ج9ص203، كنز العمّال: ج13 ص674 ح37725.
3- قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أَنَا مَدِينَةُ العِلمِ وعَليٌ بَابُهَا». عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج 2 ص66 ب31 باب فيما جاء عن الرضا (عليه السلام) من الأخبار المجموعة ح298. ومن ذلك قوله (صلى الله عليه وآله): «أَنَا مَدِينَةُ العِلمِ، وعَليٌ بَابُهَا، ولنْ تُدْخَل المَدِينَةُ إلاّ مِنْ بَابِهَا». المجازات النبوية: ص199، مائة منقبة: ص41، التوحيد: ص307، الخصال: ص574، بشارة المصطفى: ص24، تفسير القمي: ج1 ص68، تفسير نور الثقلين: ج1 ص178 ح624، المستدرك على الصحيحين: ج3 ص127، مجمع الزوائد: ج9 ص114، وفيهما: (فمن أراد العلم فليأت الباب)، كنز العمال: ج13 ص148، وفيه: (فمن أراد المدينة)، كشف الخفاء: ج1 ص235.

الإيصاء بالأولاد

مسألة: يستحب للزوجة أن توصي زوجها برعاية أولادها بعدها واتخاذ زوجة تربيهم كأمهم، ويتأكد الاستحباب إذا شاهدت علائم الموت.

فإنه قد توصي الزوجة زوجها بالتزويج على سبيل الإطلاق والكلية، وقد توصي بالتزويج من امرأة خاصة، كما أنها قد توصي بالتزويج من إحدى المرأتين أو إحدى النساء المعهودات، فإن كل ذلك جائز، وربما استحب إذا كانت هناك جهة راجحة مرجحة، للإطلاقات، وتأسياً بها (صلوات الله عليها)، حيث ورد:

«فَبَقِيَتْ فَاطِمَةُ (عليها السلام) بَعْدَ وَفَاةِ أَبِيهَا رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) أَرْبَعِينَ ليْلةً، فَلمَّا اشْتَدَّ بِهَا الأَمْرُ دَعَتْ عَليّاً (عليه السلام) وقَالتْ: يَا ابْنَ عَمِّ مَا أَرَانِي إلاّ لمَا بِي وأَنَا أُوصِيكَ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِنْتَ أُخْتِي زَيْنَبَ تَكُونُ لوُلدِي مِثْلي»(1).

قال تعالى: «كُتِبَ عَليْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الوَصِيَّةُ للوالدَيْنِ والأَقْرَبينَ بِالمَعْرُوفِ حَقًّا عَلى المُتَّقين»(2).

وعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ (عليهماالسلام) قَال: «مَنْ لمْ يُوصِ عِنْدَ مَوْتِهِ لذَوِي قَرَابَتِهِ فَقَدْ خَتَمَ عَمَلهُ بِمَعْصِيَة»(3).

ص: 291


1- كتاب سليم بن قيس الهلالي: ج 2 ص870.
2- سورة البقرة: 180.
3- من لا يحضره الفقيه: ج 4 ص182 باب ما جاء فيمن لم يوص عند موته لذي قرابته ممن لا يرث بشي ء من ماله قل أو كثر ح5415.

حسن الانتخاب

مسألة: ينبغي حسن الانتخاب، بل انتخاب الأحسن فالأحسن، في كافة الشؤون، خاصة المهمة منها، كالعناية بالأولاد وتربيتهن، ولعله يظهر من كلام الصديقة (صلوات الله عليها) أن من أهم غايات الزواج حسن تربية الأولاد، فمن تحلت بهذه الصفة فهي الأجدر بأن تنتخب كزوجة.

قال تعالى: «وأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُريكُمْ دارَ الفاسِقين»(1).

وقال سبحانه: «فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها»(2).

التعرف الطريقي

مسألة: حيث يتوقف حسن انتخاب الزوجة ومن أشبه ممن ينتخب لشأن من الشؤون، على التعرف على أحوال الناس، ربما يكون التعرف على أحوالهم وشؤونهم بمقدار طريقيته مستحباً أو واجباً، على حسب ذي المقدمة، وذلك ما لم يشتمل على محرم أو محذور.

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُسْكَانَ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ قَال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُول:«إِنَّمَا المَرْأَةُ قِلادَةٌ، فَانْظُرْ إِلى مَا تَقَلدُهُ»، قَال: وَسَمِعْتُهُ يَقُول: «ليْسَ للمَرْأَةِ خَطَرٌ لا لصَالحَتِهِنَّ ولا لطَالحَتِهِنَّ، أَمَّا صَالحَتُهُنَّ فَليْسَ خَطَرُهَا الذَّهَبَ والفِضَّةَ بَل هِيَ خَيْرٌ مِنَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ، وأَمَّا طَالحَتُهُنَّ فَليْسَ التُّرَابُ

ص: 292


1- سورة الأعراف: 145.
2- سورة النساء: 86.

خَطَرَهَا بَل التُّرَابُ خَيْرٌ مِنْهَا»(1).

وقَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «أَنْكِحُوا الأَكْفَاءَ وانْكِحُوا فِيهِمْ واخْتَارُوا لنُطَفِكُمْ»(2).

حمل الميت في النعش

مسألة: تستحب الوصية بحمل الميت في النعش، خاصة إذا كان من النساء، لأنه أستر وأقرب للعفة والاحتشام.

فإنّ حمل الميت يجوز بدون اتخاذ نعش، كالحمل على خشبة أو في فراش أو ما أشبه ، والاستحباب يكون آكد فيما إذا كانت هناك جهة مرجحة، حيث إن الزهراء (عليها

الصلاة والسلام) أرادت أن لا يرى الرجال حتى حجم جسدها، بل حتى شبح حجم جسدها(3)، تلك الرجال القلائل الذين كانوا يحضرون نعشها في وسطالليل، وفي ذلك عبرة لنساء المؤمنين، بأن يسترن حتى الحجم عن أنظار الرجال الأجانب بالعباءة الفضاضة وما أشبه، بل الأكثر من ذلك قدر المستطاع(4).

ولعل احتمال رؤيتهم لحجم الجسد أو شبحه كان بسبب ضوء القمر

ص: 293


1- الكافي: ج 5 ص332 باب اختيار الزوجة ح1.
2- الكافي: ج 5 ص332 باب اختيار الزوجة ح3.
3- فإنه في ظلام الليل لا يرى إلاّ شبح الشيء.
4- إذ الوصية التمليكية وكذا العهدية بمثل القيمومة وبكل ما يترتب عليه أثر مالي، موقوفة على شهادة عادلين، أو رجل وامرأتين، أو أربعة نساء، ونظائر ذلك، أما العهدية بغير أمثال القيمومة وبغير الماليات فلا تشمله الأدلة.

الضعيف أو القوي(1) أو أنوار النجوم أو أنوار بعض المصابيح من بعض البيوت.

استحباب الوصية

مسألة: يستحب لمن علم بموته أن يرسل إلى بعض أقربائه أو أحبائه ليوصيه بوصاياه، بل ربما يستحب أن يرسل إليهم ليحضروا عنده ليتزودوا منه ويتزود منهم.

قال (عليه السلام): «مَنْ ماتَ بِغَيرْ وَصِيَّةٍماتَ مِيتَةً جاهِليَّةً»(2).

وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلمٍ قَال: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) يَقُول: «لمَّا حَضَرَ الحَسَنَ بْنَ عَليٍّ (عليهما السلام) الوَفَاةُ قَال للحُسَيْنِ (عليه السلام): يَا أَخِي إِنِّي أُوصِيكَ بِوَصِيَّةٍ فَاحْفَظْهَا، إِذَا أَنَا مِتُّ فَهَيِّئْنِي ثُمَّ وَجِّهْنِي إِلى رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) لأُحْدِثَ بِهِ عَهْداً ثُمَّ اصْرِفْنِي إِلى أُمِّي (عليها السلام) ثُمَّ رُدَّنِي فَادْفِنِّي بِالبَقِيعِ واعْلمْ أَنَّهُ سَيُصِيبُنِي مِنْ عَائِشَةَ مَا يَعْلمُ اللهُ والنَّاسُ صَنِيعُهَا وعَدَاوَتُهَا للهِ ولرَسُولهِ وعَدَاوَتُهَا لنَا أَهْل البَيْت»(3).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «لمَّا حَضَرَتْ أَبِي (عليه السلام) الوَفَاةُ قَال: يَا جَعْفَرُ أُوصِيكَ بِأَصْحَابِي خَيْراً، قُلتُ: جُعِلتُ فِدَاكَ واللهِ لأَدَعَنَّهُمْ

ص: 294


1- وذلك للاختلاف في يوم شهادتها هل هو الثالث من جمادى الأولى، أو الثالث عشر من جمادى الثانية، أو غير ذلك.
2- المقنعة: ص666 ب1 باب الوصية ووجوبها، وعنه وسائل الشيعة: ج 19 ص259 ب1 باب وجوب الوصية على من عليه حق أو له واستحبابها لغيره ح8.
3- الكافي: ج 1 ص300 باب الإشارة والنص على الحسين بن علي (عليه السلام) ح1.

والرَّجُل مِنْهُمْ يَكُونُ فِي المِصْرِ فَلا يَسْأَل أَحَداً»(1).

وقَال أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «لمَّاحَضَرَتْ أَبِي عَليَّ بْنَ الحُسَيْنِ (عليه السلام) الوَفَاةُ ضَمَّنِي إِلى صَدْرِهِ وقَال: يَا بُنَيَّ أُوصِيكَ بِمَا أَوْصَانِي بِهِ أَبِي حِينَ حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ، وبِمَا ذَكَرَ أَنَّ أَبَاهُ أَوْصَاهُ بِهِ: يَا بُنَيَّ اصْبِرْ عَلى الحَقِّ وإِنْ كَانَ مُرّاً»(2).

الصديقة ورؤية الملائكة

مسألة: دلت الأدلة العديدة على أن فاطمة الزهراء (عليها السلام) كانت ترى الملائكة وتسمعهم، ومنها هذه الرواية (واعمل نعشاً رأيت الملائكة قد صورته لي).

ولا يناقش بأن ذلك من مختصات الأنبياء (عليهم السلام)؟

إذ يقال: إن نزول الوحي النبوي بواسطة الملك ورؤيته لذلك هو من مختصاتهم، ولا دليل على عدم غيره لغيره.

ص: 295


1- الكافي: ج 1 ص306 باب الإشارة والنص على أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق (صلوات الله عليهما) ح2.
2- الكافي: ج 2 ص91 باب الصبر ح13.

من أدوار الملائكة

مسألة: الظاهر من مختلف الروايات بل ومن بعض الآيات، ومن هذه الرواية، أن الملائكة تقوم - في الجملة - بدور المرشد والموجه للناس بالإلهام وشبهه.

فإن ما يخطر ببال الإنسان من التفكر الحسن وما أشبه، قد يكون من إلهامهم، كما أن ما يدور في ذهنه من الوساوس قد يكون من تسويلات إبليس وشياطينه.

وفي رواية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «إِنَّ ابْنَتِي فَاطِمَةَ مَلأَ اللهُ قَلبَهَا وجَوَارِحَهَا إِيمَاناً إِلى مُشَاشِهَا، فَتَفَرَّغَتْ لطَاعَةِ اللهِ (عَزَّ وجَل) فَبَعَثَ اللهُ مَلكاً اسْمُهُ (رَوْفَائِيل) وفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: (رَحْمَةٌ)، فَأَدَارَ لهَا الرَّحَى، فَكَفَاهَا اللهُ (عَزَّ وجَل) مَئُونَةَ الدُّنْيَا مَعَ مَئُونَةِ الآخِرَةِ»(1).

وفي رواية قال (صلى الله عليه وآله): «يَا أَبَا ذَرٍّ لا تَعْجَبْ فَإِنَّ للهِ مَلائِكَةً سَيَّاحِينَ فِي الأَرْضِ مُوَكَّلونَ بِمَعُونَةِ آل مُحَمَّدٍ»(2).

وَرُوِيَ أَنَّ فاطمة (عليها السلام) رُبَّمَا اشْتَغَلتْ بِصَلاتِهَا وعِبَادَتِهَا فَرُبَّمَا بَكَىوَلدُهَا فَرُؤِيَ المَهْدُ يَتَحَرَّكُ وكَانَ مَلكٌ يُحَرِّكُه (3).

ص: 296


1- دلائل الإمامة: ص139 أخبار في مناقبها(صلوات الله عليها) ح47.
2- بحار الأنوار: ج43 ص45 ب3 باب مناقبها وفضائلها.. ضمن الرقم 44.
3- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) لابن شهرآشوب: ج 3 ص337 فصل في معجزاتها (عليها السلام).

وعَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال سَمِعْتُهُ يَقُول: «كَانَ عَليٌّ (عليه السلام) واللهِ مُحَدَّثاً قَال: قُلتُ لهُ: اشْرَحْ لي ذَلكَ أَصْلحَكَ اللهُ قَال: يَبْعَثُ اللهُ مَلكاً يَنْقُرُ فِي أُذُنِهِ كَيْتَ وكَيْتَ وكَيْتَ»(1).

وقَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدٍ خَيْراً بَعَثَ اللهُ إِليْهِ مَلكاً مِنْ خُزَّانِ الجَنَّةِ فَيَمْسَحُ صَدْرَهُ فَتَسْخَى نَفْسُهُ بِالزَّكَاةِ»(2).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وجَل وَكَّل مَلكاً بِالبِنَاءِ يَقُول لمَنْ رَفَعَ سَقْفاً فَوْقَ ثَمَانِيَةِ أَذْرُعٍ أَيْنَ تُرِيدُ يَا فَاسِقُ»(3).

ص: 297


1- بصائر الدرجات: ج 1 ص323 ب6 باب في أن المحدّث كيف صفته وكيف يصنع به وكيف يحدث الأئمة ح8.
2- الجعفريات: ص53 كتاب الزكاة.
3- الكافي: ج 6 ص529 باب تشييد البناء ح1.

مع أسماء بنت عميس

اشارة

عن أسماء بنت عميس، قالت: أوصتني فاطمة (عليها السلام) أن لا يغسّلها إذا ماتت إلاّ أنا وعلي، فغسّلتها أنا وعلي (عليه السلام)(1).

----------------------

تغسيل المعصوم

مسألة: المعصوم والمعصومة لا يغسلها إلاّ المعصوم، وذلك من مقاماتهم (صلوات الله عليهم) وقد يكون من الأدلة على العصمة أو الإمامة، كما في قضية تنحية الإمام المهدي (عجل الله فرجه) عمه عن الصلاة على أبيه العسكري (عليه السلام)(2).

ص: 298


1- كشف الغمة: ج 1 ص500 ذكر وفاتها وما قبل ذلك من ذكر مرضها ووصيتها (صلوات الله عليها)، بحار الأنوار: ج 43 ص185 ب7 ما وقع عليها من الظلم وبكائها وحزنها وشكايتها في مرضها إلى شهادتها وغسلها ودفنها وبيان العلة في إخفاء دفنها (صلوات الله عليها ولعنة الله على من ظلمها) ح18.
2- راجع كمال الدين: ج 2 ص475، الثاقب في المناقب: ص607، الخرائج والجرائح: ج3 ص1101 ح23 بحار الأنوار: ج50 ص332 ح4. وفيه: (حَدَّثَ أَبُو الأَدْيَانِ قَال: كُنْتُ أَخْدُمُ الحَسَنَ بْنَ عَليِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَليِّ بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَليِّ بْنِ الحُسَيْنِ بْنِ عَليِّ بْنِ أَبِي طَالبٍ عليه السلام وأَحْمِل كُتُبَهُ إِلى الأَمْصَارِ، فَدَخَلتُ عَليْهِ فِي عِلتِهِ التِي تُوُفِّيَ فِيهَا (صلى الله عليه وآله) فَكَتَبَ مَعِي كُتُباً وقَال: امْضِ بِهَا إِلى المَدَائِنِ فَإِنَّكَ سَتَغِيبُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْماً وتَدْخُل إِلى سُرَّ مَنْ رَأَى يَوْمَ الخَامِسَ عَشَرَ وتَسْمَعُ الوَاعِيَةَ فِي دَارِي وتَجِدُنِي عَلى المُغْتَسَل، قَال أَبُو الأَدْيَانِ فَقُلتُ: يَا سَيِّدِي فَإِذَا كَانَ ذَلكَ فَمَنْ، قَال: مَنْ طَالبَكَ بِجَوَابَاتِ كُتُبِي فَهُوَ القَائِمُ مِنْ بَعْدِي، فَقُلتُ: زِدْنِي، فَقَال: مَنْ يُصَلي عَليَّ فَهُوَ القَائِمُ بَعْدِي، فَقُلتُ: زِدْنِي، فَقَال: مَنْ أَخْبَرَ بِمَا فِي الهِمْيَانِ فَهُوَ القَائِمُ بَعْدِي، ثُمَّ مَنَعَتْنِي هَيْبَتُهُ أَنْ أَسْأَلهُ عَمَّا فِي الهِمْيَانِ، وخَرَجْتُ بِالكُتُبِ إِلى المَدَائِنِ وأَخَذْتُ جَوَابَاتِهَا ودَخَلتُ سُرَّ مَنْ رَأَى يَوْمَ الخَامِسَ عَشَرَ كَمَا ذَكَرَ لي (عليه السلام) فَإِذَا أَنَا بِالوَاعِيَةِ فِي دَارِهِ وإِذَا بِهِ عَلى المُغْتَسَل وإِذَا أَنَا بِجَعْفَرِ بْنِ عَليٍّ أَخِيهِ بِبَابِ الدَّارِ والشِّيعَةُ مِنْ حَوْلهِ يُعَزُّونَهُ ويُهَنُّونَهُ، فَقُلتُ فِي نَفْسِي: إِنْ يَكُنْ هَذَا الإِمَامُ فَقَدْ بَطَلتِ الإِمَامَةُ، فَتَقَدَّمْتُ فَعَزَّيْتُ وهَنَّيْتُ فَلمْ يَسْأَلنِي عَنْ شَيْ ءٍ، ثُمَّ خَرَجَ عَقِيدٌ فَقَال: يَا سَيِّدِي قَدْ كُفِّنَ أَخُوكَ فَقُمْ وصَل عَليْهِ، فَدَخَل جَعْفَرُ بْنُ عَليٍّ والشِّيعَةُ مِنْ حَوْلهِ يَقْدُمُهُمُ السَّمَّانُ والحَسَنُ بْنُ عَليٍّ قَتِيل المُعْتَصِمِ المَعْرُوفُ بِسَلمَةَ، فَلمَّا صِرْنَا فِي الدَّارِ إِذَا نَحْنُ بِالحَسَنِ بْنِ عَليٍّ (صلوات الله عليه) عَلى نَعْشِهِ مُكَفَّناً، فَتَقَدَّمَ جَعْفَرُ بْنُ عَليٍّ ليُصَليَ عَلى أَخِيهِ، فَلمَّا هَمَّ بِالتَّكْبِيرِ خَرَجَ صَبِيٌّ بِوَجْهِهِ سُمْرَةٌ بِشَعْرِهِ قَطَطٌ بِأَسْنَانِهِ تَفْليجٌ، فَجَبَذَ بِرِدَاءِ جَعْفَرِ بْنِ عَليٍّ وقَال: تَأَخَّرْ يَا عَمِّ فَأَنَا أَحَقُّ بِالصَّلاةِ عَلى أَبِي، فَتَأَخَّرَ جَعْفَرٌ، وقَدِ ارْبَدَّ وَجْهُهُ واصْفَرَّ، فَتَقَدَّمَ الصَّبِيُّ وصَلى عَليْهِ، ودُفِنَ إِلى جَانِبِ قَبْرِ أَبِيهِ (عليه السلام) ثُمَّ قَال: يَا بَصْرِيُّ هَاتِ جَوَابَاتِ الكُتُبِ التِي مَعَكَ، فَدَفَعْتُهَا إِليْهِ، فَقُلتُ فِي نَفْسِي: هَذِهِ بَيِّنَتَانِ، بَقِيَ الهِمْيَانُ ثُمَّ خَرَجْتُ إِلى جَعْفَرِ بْنِ عَليٍّ وهُوَ يَزْفِرُ، فَقَال لهُ حَاجِزٌ الوَشَّاءُ: يَا سَيِّدِي مَنِ الصَّبِيُّ لنُقِيمَ الحُجَّةَ عَليْهِ، فَقَال: واللهِ مَا رَأَيْتُهُ قَطُّ ولا أَعْرِفُهُ، فَنَحْنُ جُلوسٌ إِذْ قَدِمَ نَفَرٌ مِنْ قُمَّ فَسَأَلوا عَنِ الحَسَنِ بْنِ عَليٍّ (عليه السلام) فَعَرَفُوا مَوْتَهُ فَقَالوا: فَمَنْ نُعَزِّي، فَأَشَارَ النَّاسُ إِلى جَعْفَرِ بْنِ عَليٍّ، فَسَلمُوا عَليْهِ وعَزَّوْهُ وهَنَّوْهُ وقَالوا: إِنَّ مَعَنَا كُتُباً ومَالا فَتَقُول مِمَّنِ الكُتُبُ وكَمِ المَال، فَقَامَ يَنْفُضُ أَثْوَابَهُ ويَقُول: تُرِيدُونَ مِنَّا أَنْ نَعْلمَ الغَيْبَ، قَال: فَخَرَجَ الخَادِمُ فَقَال: مَعَكُمْ كُتُبُ فُلانٍ وفُلانٍ وفُلانٍ وهِمْيَانٌ فِيهِ أَلفُ دِينَارٍ وعَشَرَةُ دَنَانِيرَ مِنْهَا مَطْليَّةٌ، فَدَفَعُوا إِليْهِ الكُتُبَ والمَال وقَالوا: الذِي وَجَّهَ بِكَ لأَخْذِ ذَلكَ هُوَ الإِمَامُ، فَدَخَل جَعْفَرُ بْنُ عَليٍّ عَلى المُعْتَمِدِ وكَشَفَ لهُ ذَلكَ، فَوَجَّهَ المُعْتَمِدُ بِخَدَمِهِ فَقَبَضُوا عَلى صَقِيل الجَارِيَةِ فَطَالبُوهَا بِالصَّبِيِّ فَأَنْكَرَتْهُ، وادَّعَتْ حَبْلا بِهَا لتُغَطِّيَ حَال الصَّبِيِّ، فَسُلمَتْ إِلى ابْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ القَاضِي، وبَغَتَهُمْ مَوْتُ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَاقَانَ فَجْأَةً وخُرُوجُ صَاحِبِ الزِّنْجِ بِالبَصْرَةِ، فَشُغِلوا بِذَلكَ عَنِ الجَارِيَةِ، فَخَرَجَتْ عَنْ أَيْدِيهِمْ والحَمْدُ للهِ رَبِّ العالمِينَ).

ص: 299

فالمراد في هذه الرواية أن أسماء (رضوان الله عليها) كانت تصب الماء أو تحضر لوازم التغسيل والتكفين أو تقوم ببعض المقدمات وما أشبه.

ولعل وصيتها (عليها السلام) بأن لا يغسلها إلاّ هي وعلي (عليه الصلاة والسلام) حتى تبعد بعض النساء غير المرغوبات عن احتمال الاشتراك في الغسل، وذلك نوع من إظهار غضبها (عليها السلام) عليهن، وأما من خرج فقد خرج بالدليل.إضافة إلى أن مثل هذه الوصية منعت أولئك القوم وتلك النسوة من الاستناد إلى مشاركتهن في التغسيل أو التشييع لنفي وجود فاصل بينها وبينهن، ونفي غضبها عليهن وعلى رجالهن.

عَنِ المُفَضَّل، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: قُلتُ لأَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «مَنْ غَسَل فَاطِمَةَ، قَال: ذَاكَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ، وكَأَنِّي اسْتَعْظَمْتُ ذَلكَ مِنْ قَوْلهِ فَقَال: كَأَنَّكَ ضِقْتَ بِمَا أَخْبَرْتُكَ بِهِ، قَال: فَقُلتُ: قَدْ كَانَ ذَاكَ جُعِلتُ فِدَاكَ، قَال: فَقَال: لا تَضِيقَنَّ فَإِنَّهَا صِدِّيقَةٌ ولمْ يَكُنْ يَغْسِلهَا إلاّ صِدِّيقٌ، أَمَا عَلمْتَ أَنَّ مَرْيَمَ لمْ يَغْسِلهَا إلاّ عِيسَى»(1).

وعَنْ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ الحَلال أَوْ غَيْرِهِ، عَنِ الرِّضَا (عليه

السلام) قَال: قُلتُ لهُ: إِنَّهُمْ يُحَاجُّونَّا يَقُولونَ: إِنَّ الإِمَامَ لا يُغَسِّلهُ إلاّ الإِمَامُ، قَال: فَقَال: «مَا يُدْرِيهِمْ مَنْ غَسَّلهُ، فَمَا قُلتَ لهُمْ»، قَال: فَقُلتُ: جُعِلتُ فِدَاكَ قُلتُ لهُمْ: إِنْ قَال مَوْلايَ إِنَّهُ غَسَّلهُ تَحْتَ عَرْشِ رَبِّي فَقَدْ صَدَقَ، وإِنْ قَال غَسَّلهُ فِي تُخُومِ الأَرْضِ فَقَدْ صَدَقَ، قَال: «لا هَكَذَا»، قَال: فَقُلتُ فَمَا أَقُول لهُمْ، قَال: «قُل

ص: 300


1- الكافي: ج 1 ص459 باب مولد الزهراء فاطمة (عليها السلام) ح4.

لهُمْ: إِنِّي غَسَّلتُهُ»،فَقُلتُ أَقُول لهُمْ: إِنَّكَ غَسَّلتَهُ، فَقَال: «نَعَمْ»(1).

وعن أَبي مَعْمَرٍ قَال: سَأَلتُ الرِّضَا (عليه السلام) عَنِ الإِمَامِ يُغَسِّلهُ الإِمَامُ، قَال: «سُنَّةُ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ عليه السلام»(2).

الاستعانة في الغسل

مسألة: يجوز أن يُعيّن الإنسان معاوناً للغاسل، كما تجوز الوصية بأكثر من مُعين واحد.

تفاصيل التجهيز

مسألة: ينبغي أن يهتم الإنسان بتفاصيل تجهيزه مما فيه جهة رجحان، مثل أنه بما ذا يكفن، وأين يدفن، إلى غير ذلك، كما اهتمت الصديقة (صلوات الله عليها) بتفاصيل ما بعد استشهادها في وصيتها.

حجية خبر المرأة

مسألة: المرأة إذا كانت ثقة فإن إخبارها حجة كالرجل الثقة، ولا فرق في ذلك بين نقل الرواية وغير ذلك إلاّ فيما خرج بالدليل.

وقد أخبرت أسماء (رضوان الله عليها) عن إيصاء الزهراء (عليها السلام) لها بتلك

ص: 301


1- الكافي: ج 1 ص384 باب أن الإمام لا يغسله إلاّ إمام من الأئمة (عليهم السلام) ح1.
2- الكافي: ج 1 ص385 باب أن الإمام لا يغسله إلاّ إمام من الأئمة (عليهم السلام) ح2.

الوصية، فإنها ليست تمليكية ولا عهدية بمثل القيمومة(1)، خاصة وأن إخبارها مما يوجب العلم.

أما أحكام شهادة المرأة فمذكورة في بابها تفصيلاً.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي العُذْرَةِ وكُل عَيْبٍ لا يَرَاهُ الرِّجَال»(2).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «أَنَّهُ سُئِل هَل تُقْبَل شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي النِّكَاحِ فَقَال: تَجُوزُ إِذَا كَانَ مَعَهُنَّ رَجُل وكَانَ عَليٌّ (عليه السلام) يَقُول: لا أُجِيزُهَا فِي الطَّلاقِ قُلتُ: تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَالرَّجُل فِي الدَّيْنِ قَال: نَعَمْ وسَأَلتُهُ عَنْ شَهَادَةِ القَابِلةِ فِي الوِلادَةِ قَال: تَجُوزُ شَهَادَةُ الوَاحِدَةِ وقَال: تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الدَّيْنِ وفِي المَنْفُوسِ والعُذْرَةِ وحَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَهُ يُحَدِّثُ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) أَجَازَ شَهَادَةَ النِّسَاءِ فِي الدَّيْنِ مَعَ يَمِينِ الطَّالبِ يَحْلفُ بِاللهِ إِنَّ حَقَّهُ لحَقٌّ»(3).

ص: 302


1- كان تخرج لحوائجها في وقت لا يراها فيه الرجال، فإن العباءة وإن سترت إلاّ أنها تشكف عن الحجم العام في الجملة، وليس بحرام ذلك إلاّ أن الأقرب للحشمة والعفاف أن لا يعرف الأجانب أنها طويلة أو قصيرة، بدينة أو نحيفة أو شبه ذلك.
2- الكافي: ج 7 ص391 باب ما يجوز من شهادة النساء وما لا يجوز ح7.
3- الكافي: ج 7 ص390 باب ما يجوز من شهادة النساء وما لا يجوز ح2.

وصية فاطمة (علیها السلام)

اشارة

عن الحسن بن علي (عليه السلام) قال:

«هذه وصية(1) فاطمة بنت محمد (صلى

الله عليه وآله) أوصت بحوائطها السبع(2): العواف والدلال والبرقة والمثيب والحسنى والصافية وما لأم إبراهيم، إلى علي بن أبي طالب (عليه

السلام)، فإن مضى عليّ فإلى الحسن بن علي (عليه السلام) وإلى أخيه الحسين (صلوات الله عليه)، وإلى الأكبر فالأكبر من ولد رسولالله (صلى الله عليه وآله)، ثم إني أوصيك في نفسي وهي أحب الأنفس إليّ(3)

بعد رسول الله (صلى

ص: 303


1- سيأتي من الإمام المؤلف (رحمه الله) لاحقاً إلى احتمال كون الوصية هذه تمليكية أو عهدية بالتولية.
2- الحوائط السبع كانت ل (مخيريق) وهو من أحبار اليهود، ثم أسلم وحسن إسلامه واستشهد مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) في معركة أحد، وكان قد أوصى بحوائطه السبع حين خرج المعركة وقال: إن أصبت فأموالي لرسول الله (صلى الله عليه وآله) يضعها حيث شاء، ثم وهبها رسول الله (صلى الله عليه وآله) لفاطمة الزهراء (عليها السلام).
3- لعل الصحيح هو (إليك)، ويحتمل أن يكون (وهي أحب الأنفس إليّ بعد رسول الله صلى الله عليه وآله) من كلام علي (عليه السلام)، فكأنه بين قوسين من وصيتها، وأما لو كانت النسخة كما هي ههنا فالمراد إما الحصر الإضافي اي لا بالإضافة إلى علي عليه السلام)، كما يحتمل أنه من باب أنهما من نور واحد فحيث كانت نفسها أحب إليها بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان علي (عليه السلام) أيضا أحب إليها بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) فإنهما نور واحد، كما يحتمل أن يكون المراد بعد الرسول وبعد علي (عليهما السلام) لأن علياً هو نفس الرسول (صلى الله عليه وآله) بشهادة (وأنفسنا وأنفسكم) فقولها (وهي أحب الأنفس إلي بعد رسول الله) لو قصدت نفسها لدل على حبها لعلي أكثر من حبها لنفسها لأن علياً (عليه السلام) هو نفس الرسول (صلى الله عليه وآله).

الله عليه وآله)، إذا متُّ فغسّلني بيدك، وحنّطني وكفّني وادفني ليلاً، ولا يشهدني فلان وفلان ولا زيادة عندك في وصيتي إليك، واستودعتك الله تعالى حتى ألقاك، جمع الله بيني وبينك في داره، وقرب جواره»، وكتب ذلك علي (عليه السلام) بيده(1).

---------------------

الوصية بالمال

مسألة: يستحب الوصية بالمال، سواء أكان من المنقول أم من غير المنقول،كثيراً كان أم قليلاً.

وفي القرآن الحكيم: «إِنْ تَرَكَ خَيْراً الوَصِيَّةُ»(2)، وقد فسّر (الخير) في الروايات والتفاسير بالمال(3)، ولا شك أن المال خير من قبل الله تعالى إن لم يصرف في الحرام، كما قال تعالى: «أَلمْ تَرَ إِلى الذينَ بَدَّلوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً»(4) فكيف لو صرف في المصارف التي عينها الله سبحانه على سبيل الوجوب أو على

ص: 304


1- عوالم العلوم: ج 11 قسم2 فاطمة (سلام الله عليها) ص1060 ح2.
2- سورة البقرة: 180.
3- عَنْ عَمَّارِ بْنِ مَرْوَانَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: سَأَلتُهُ عَنْ قَوْل اللهِ: «إِنْ تَرَكَ خَيْراً الوَصِيَّةُ» قَال: «حَقٌ جَعَلهُ اللهُ فِي أَمْوَال النَّاسِ لصَاحِبِ هَذَا الأَمْرِ، قَال: قُلتُ: لذَلكَ حَدٌّ مَحْدُودٌ، قَال: نَعَمْ، قُلتُ: كَمْ، قَال: أَدْنَاهُ السُّدُسُ وأَكْثَرُهُ الثُّلث». مستدرك الوسائل: ج 14 ص143 ب69 باب نوادر ما يتعلق بأبواب كتاب الوصايا ح8، وتفسير العياشي: ج 1 ص76 ح163، وتفسير الصافي: ج 1 ص217، والبرهان في تفسير القرآن: ج 1 ص380، وبحار الأنوار: ج 100 ص199 ب1 فضل الوصية وآدابها وقبول الوصية ولزومها ح30.
4- سورة إبراهيم: 28.

سبيل الاستحباب(1).

عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ وأَبِي عَبْدِ اللهِ (عليهما السلام) أَنَّهُمَا قَالا: «الخَيْرُ هَاهُنَا المَال،قَال اللهُ عَزَّ وجَل: «إِنْ تَرَكَ خَيْراً الوَصِيَّةُ للوالدَيْنِ والأَقْرَبِينَ بِالمَعْرُوفِ»(2) يَعْنِي مَالا فَإِذَا كَانَ مِمَّنْ يَسْتَطِيعُ الكَسْبَ والتَّصَرُّفَ فَهُوَ مِمَّنْ فِيهِ خَيْرٌ(3).

وعَنْ عَمَّارِ بْنِ مُوسَى أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُول: «صَاحِبُ المَال أَحَقُّ بِمَالهِ مَا دَامَ فِيهِ شَيْ ءٌ مِنَ الرُّوحِ يَضَعُهُ حَيْثُ شَاءَ»(4).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «المَيِّتُ أَوْلى بِمَالهِ مَا دَامَ فِيهِ الرُّوحُ»(5).

وعَنْهُ (عليه السلام) قَال: «الإِنْسَانُ أَحَقُّ بِمَالهِ مَا دَامَ الرُّوحُ فِي بَدَنِهِ»(6).

التسمية مع التعدد

مسألة: ينبغي في الوصية تسمية الممتلكات إذا تعددت، بل مطلقاً، بمايميزها عن بعضها أو عن ممتلكات الغير، كأن يسمي دكاكينه أو دوره أو بساتينه أو غيرها، استناداً إلى إقرارها (صلوات الله عليها) تلك التسميات أو تسميتها لها.

ص: 305


1- بل المال في حد ذاته خير من قبل الله تعالى، فإنه كأية نعمة أخرى، كالسمع والبصر والعقل وماء الوجه.
2- سورة البقرة: 180.
3- دعائم الإسلام: ج 2 ص310 ح1169.
4- الكافي: ج 7 ص7 باب أن صاحب المال أحق بماله ما دام حياً ح1.
5- الكافي: ج 7 ص7 باب أن صاحب المال أحق بماله ما دام حياً ح3.
6- الكافي: ج 7 ص8 باب أن صاحب المال أحق بماله ما دام حياً ح9.

عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «مَنْ لمْ يُحْسِنْ عِنْدَ المَوْتِ وَصِيَّتَهُ كَانَ نَقْصاً فِي مُرُوءَتِهِ وعَقْلهِ»(1).

الكتابة والإملاء

مسألة: تجوز كتابة الوصية بيد الشخص، كما يجوز إملاؤها على من يوثق به ليكتبها، كما أملت الصديقة على علي (عليهما السلام)، ولعل إملاءها عليه لعدم قدرتها على الكتابة لما أصابها من القوم من جرح وضرب وشدة مرضها، أو للتأكيد على أن علياً (عليه السلام) هو الأولى بشؤونها كلها.

والكتابة أعم من الكتابة بالقلم أو بالحك والنحت أو بالأجهزة(2)، وهل يشمل التسجيل الصوتي أو التصويري، الظاهر أن الملاك واحد، لو كانتبإتقان الكتابة(3).

وفي العروة: (الأقوى في تحقّق الوصيّة كفاية كل ما دل عليها من الألفاظ، ولا يعتبر فيه لفظ خاصّ، بل يكفي كل فعل دال عليها حتّى الإشارة والكتابة)(4).

عَنْ حَنَانِ بْنِ سَدِيرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: «دَخَلتُ عَلى مُحَمَّدِ بْنِ عَليٍّ ابْنِ الحَنَفِيَّةِ وقَدِ اعْتُقِل لسَانُهُ فَأَمَرْتُهُ بِالوَصِيَّةِ فَلمْ يُجِبْ، قَال: فَأَمَرْتُ بِطَشْتٍ فَجُعِل فِيهِ الرَّمْل فَوُضِعَ، فَقُلتُ لهُ: خُطَّ بِيَدِكَ فَخَطَّ وَصِيَّتَهُ

ص: 306


1- من لا يحضره الفقيه: ج 4 ص183 باب ما جاء فيمن لم يحسن وصيته عند الموت ح5416.
2- كالآلة الطابعة والحاسوب.
3- أي كانت بنفس درجة الإتقان المتحقق في الكتابة.
4- العروة الوثقى: ج 2 ص883 فصل في معنى الوصية وأحكامها وشرائطها المسألة: 9.

بِيَدِهِ فِي الرَّمْل ونَسَخْتُ أَنَا فِي صَحِيفَةٍ»(1).

وعَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ الهَمَذَانِيِّ، قَال: كَتَبْتُ إِلى أَبِي الحَسَنِ (عليه السلام) رَجُل كَتَبَ كِتَاباً بِخَطِّهِ ولمْ يَقُل لوَرَثَتِهِ هَذِهِ وَصِيَّتِي ولمْ يَقُل إِنِّي قَدْ أَوْصَيْتُ إلاّ أَنَّهُ كَتَبَ كِتَاباً فِيهِ مَا أَرَادَ أَنْ يُوصِيَ بِهِ هَل يَجِبُ عَلى وَرَثَتِهِ القِيَامُ بِمَا فِي الكِتَابِ بِخَطِّهِ ولمْ يَأْمُرْهُمْ بِذَلكَ، فَكَتَبَ (عليه السلام): «إِنْ كَانَ لهُ وُلدٌ يُنْفِذُونَ كُلشَيْ ءٍ يَجِدُونَهُ فِي كِتَابِ أَبِيهِمْ فِي وَجْهِ البِرِّ وغَيْرِه»(2).

فرع

الظاهر أن الفضولية أيضاً تأتي في الوصية كما ذكرناه في الفقه(3)، بأن يكتب شخص وصية لآخر فضولة، ثم إذا أجازها الثاني جازت، فإن الفضولية تدخل في كل شيء إلاّ ما خرج بالدليل(4)، على ما ذكرناه في مبحثه في (الفقه).

تعين خلفاء الوصية

مسألة: يستحب تعيين خليفةٍ للوصي، وخليفةٍ لخليفته، وهكذا، سواء أكان التعيين بالاسم أم بعنوان مشير بما يمنع اللبس، ك (الأكبر) و (الأصغر) وما أشبه.

ص: 307


1- وسائل الشيعة: ج 19 ص372 ب48 باب جواز الوصية بالكتابة مع تعذر النطق ح1.
2- وسائل الشيعة:ج 19 ص372 ب48 باب جواز الوصية بالكتابة مع تعذر النطق ح2.
3- والمقصود ما كان عقداً منها لا إيقاعاً، إذ الإيقاع لا تجري فيه الفضولية، فتأمل.
4- فإنه اعتبار عقلائي لم يردع عنه الشارع.

وذلك فيما اقتضى بما لا يكون عبثاً، سواء في العقارات أم غيرها.

ويتأكد الاستحباب فيما يكون عرضةللتلف أو الغصب أو التضييع ما لم يبلغ حد الحرمة، وإلا وجب التعيين.

ومن الجائز تعيين الوصي فقط بالقيد السابق.

ثم إنه إذا لم يعين وصياً(1) أو مات الوصي أو عجز أو ما أشبه، فالأمر راجع إلى الحاكم الشرعي على تفصيل مذكور في (الفقه).

كما أنه يجوز التشريك في الوصية، أو التوحيد فيها، في كل الطبقات أو بعضها دون بعض، فإن كل ذلك مشمول لملاك قوله (صلى الله عليه وآله): «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها»(2).

ولو شرّك فمات أحدهم انحصر الأوصياء في الباقين، إلاّ أن يفعل أو يقول ما يفيد غير ذلك فإنه من حقه.

عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: «قَضَى أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) فِي رَجُل أَوْصَى لآِخَرَ والمُوصَى لهُ غَائِبٌ فَتُوُفِّيَ الذِي أُوصِيَ لهُ قَبْل المُوصِي، قَال: الوَصِيَّةُ لوَارِثِ الذِي أُوْصِيَ لهُ، قَال: ومَنْ أَوْصَى لأَحَدٍشَاهِداً كَانَ أَوْ غَائِباً فَتُوُفِّيَ المُوصَى لهُ قَبْل المُوصِي فَالوَصِيَّةُ لوَارِثِ الذِي أُوصِيَ لهُ إلاّ أَنْ يَرْجِعَ فِي وَصِيَّتِهِ قَبْل مَوْتِهِ»(3).

ص: 308


1- في الوقف العام أو الخاص وفي مثل رعاية أبنائه الصغار.
2- الكافي: ج 7 ص37 باب ما يجوز من الوقف والصدقة والنحل والهبة والسكنى والعمرى والرقبى وما لا يجوز من ذلك على الولد وغيره ح34.
3- الكافي: ج 7 ص13 باب من أوصى بوصية فمات الموصى له قبل الموصي أو مات قبل أن يقبضها ح1.

وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ السَّابَاطِيِّ، قَال: سَأَلتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) عَنْ رَجُل أَوْصَى إِليَّ وأَمَرَنِي أَنْ أُعْطِيَ عَمّاً لهُ فِي كُل سَنَةٍ شَيْئاً فَمَاتَ العَمُّ، فَكَتَبَ (عليه السلام): أَعْطِهِ وَرَثَتَهُ»(1).

كتابة الوصية

مسألة: تستحب كتابة الوصية، وهذا غير استحباب أصل الوصية، فإن الكتابة أكثر إتقاناً، وإن كانت الوصية الشفهية أيضاً نافذة، وقد قال (صلى الله عليه وآله): «رحم الله امرءاً عمل عملاً فأتقنه»(2)، فكل ما كان مصداقاً للإتقانكان مستحباً، كما في الإشهاد، أو الإثبات عند القاضي، أو ما أشبه.

وقد ورد في أصلها: عَنْ أَبِي الصَّبَّاحِ الكِنَانِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، قَال: سَأَلتُهُ عَنِ الوَصِيَّةِ، فَقَال: «هِيَ حَقٌّ عَلى كُل مُسْلمٍ»(3).

وقَال أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «الوَصِيَّةُ حَقٌّ وقَدْ أَوْصَى رَسُول اللهِ (صلى الله

ص: 309


1- الكافي: ج 7 ص13 باب من أوصى بوصية فمات الموصى له قبل الموصي أو مات قبل أن يقبضها ح2
2- راجع الكافي: ج 3 ص263 باب النوادر ح45، وفيه: (إِذَا عَمِل أَحَدُكُمْ عَمَلا فَليُتْقِن) وعنه وسائل الشيعة: ج 3 ص229 ب60 باب استحباب إتقان بناء القبر وغيره من الأعمال وأن يشرج اللبن ويسوى الخلل ح1. وفي رواية: (وَلكِنَّ اللهَ يُحِبُّ عَبْداً إِذَا عَمِل عَمَلا أَحْكَمَهُ) وسائل الشيعة: ج 3 ص230 ب60 باب استحباب إتقان بناء القبر وغيره من الأعمال وأن يشرج اللبن ويسوى الخلل ح2، عن علل الشرائع: ص309 ب262 ح4، وأمالي الصدوق: ص385 ح2 باختلاف في الألفاظ.
3- الكافي: ج 7 ص3 باب الوصية وما أمر بها ح4.

عليه وآله) فَيَنْبَغِي للمُسْلمِ أَنْ يُوصِيَ»(1).

المحبة في الخطاب

مسألة: يستحب للزوجة أن تخاطب زوجها بما يدل على محبتها له، كما قالت الصديقة (عليها السلام) لعلي (عليه السلام): «أحب الأنفس».

نعم ينبغي أن لا تتجاوز الزوجة الصدق في قولها إلاّ في حدود المبالغة الجائزة بل والإغراق.كما ينبغي لكل من الزوج والزوجة أن يسعى لتوفير الفضائل في نفسه بما يجعله الأحب لشريكه.

رُوِيَ: «أَنَّ قَوْل الرَّجُل للمَرْأَةِ: إِنِّي أُحِبُّكِ، لا يَذْهَبُ مِنْ قَلبِهَا أَبَداً»(2).

وقَال الصادق (عليه السلام): «إِذَا أَحَبَّ أَحَدُكُمْ صَاحِبَهُ أَوْ أَخَاهُ

فَليُعْلمْهُ»(3).

وقَال الصَّادِقُ (عليه السلام): «إِذَا أَحْبَبْتَ أَحَداً مِنْ إِخْوَانِكَ فَأَعْلمْهُ ذَلكَ»(4).

ص: 310


1- الكافي: ج 7 ص3 باب الوصية وما أمر بها ح5.
2- هداية الأمة إلى أحكام الأئمة (عليهم السلام): ج5 ص144 ح919.
3- هداية الأمة إلى أحكام الأئمة (عليهم السلام): ج5 ص144 ح917.
4- هداية الأمة إلى أحكام الأئمة (عليهم السلام): ج5 ص144 ح918.

المؤمن والمحبة

مسألة: ينبغي أن يحب الإنسان المؤمنُ اللهَ تعالى، فالرسول (صلى الله عليه وآله)، فالمعصومين (عليهم السلام)، أكثر من حبه للمال والجمال وزينة الحياة الدنيا.

قالت الصديقة (صلوات الله عليها): «أوصيك في نفسي وهي أحب الأنفس إليك بعد رسول الله صلى الله عليه وآله»(1).

وقال تعالى: «وَالذينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ»(2).

وفي الحديث: «وهل الدين إلاّ الحب»(3).

وقال عليه السلام: «حُبُ عَليٍ حَسَنَةٌ لا تُضِرُّ مَعَهَا سَيِّئَةٌ، وبُغْضُ عَليٍّ سَيِّئَةٌ لا تَنْفَعُ مَعَهَا حَسَنَة»(4).بل لعل المستفاد من «المرء مع من أحب»(5)، كون ذلك على حسب

ص: 311


1- بحار الأنوار: ج 100 ص186 ب1 الوقف وفضله وأحكامه ح14.
2- سورة البقرة: 165.
3- الكافي: ج 8 ص80 وصية النبي (صلى الله عليه وآله) لأمير المؤمنين (عليه السلام) ح35، وسائل الشيعة: ج 16 ص171 ب15 باب وجوب الحب في الله والبغض في الله والإعطاء في الله والمنع في الله ح17.
4- غوالي اللئالي: ج 4 ص86 الجملة الثانية في الأحاديث المتعلقة بالعلم وأهله وحامليه ح103، ينابيع المودة: ص300، في المودة السادسة، ، وفي المناقب للخوارزمي: ص35، الفصل السادس في محبة الرسول إيّاه وتحريضه على محبته وموالاته.
5- الكافي: ج 2 ص127 باب الحب في الله والبغض في الله ح11 وفيه: عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: «إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْلمَ أَنَّ فِيكَ خَيْراً فَانْظُرْ إِلى قَلبِكَ، فَإِنْ كَانَ يُحِبُّ أَهْل طَاعَةِ اللهِ ويُبْغِضُ أَهْل مَعْصِيَتِهِ فَفِيكَ خَيْرٌ واللهُ يُحِبُّكَ، وإِنْ كَانَ يُبْغِضُ أَهْل طَاعَةِ اللهِ ويُحِبُّ أَهْل مَعْصِيَتِهِ فَليْسَ فِيكَ خَيْرٌ واللهُ يُبْغِضُكَ، والمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَ». وأيضا ورد: عن أبي عبد الله (عليه السلام): «إِنَّ الرَّجُل ليُحِبُّ وَليَّ اللهِ ومَا يَعْلمُ مَا يَقُول فَيُدْخِلهُ اللهُ الجَنَّةَ، وإِنَّ الرَّجُل يُبْغِضُ وَليَّ اللهِ ومَا يَدْرِي مَا يَقُول فَيَمُوتُ فَيَدْخُل النَّارَ». وسائل الشيعة: ج 16 ص184 ب18 باب وجوب حب المطيع وبغض العاصي وتحريم العكس ح3. وعَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ الثَّقَفِيِ قَال: سَمِعْتُ الرِّضَا (عليه السلام) يَقُول: «مَنْ أَحَبَّ عَاصِياً فَهُوَ عَاصٍ، ومَنْ أَحَبَّ مُطِيعاً فَهُوَ مُطِيعٌ، ومَنْ أَعَانَ ظَالماً فَهُوَ ظَالمٌ، وَمَنْ خَذَل ظَالماً فَهُوَ عَادِل، إِنَّهُ ليْسَ بَيْنَ اللهِ وبَيْنَ أَحَدٍ قَرَابَةٌ، ولا تُنَال وَلايَةُ اللهِ إلاّ بِالطَّاعَةِ» الحديث. وسائل الشيعة: ج 16 ص185 ب18 باب وجوب حب المطيع وبغض العاصي وتحريم العكس ح6.

الدرجات أيضاً.

الموت وتوديع الأحبة

مسألة: يستحب لمن أشرف على الموت أن يودّع أقرباءه وأن يقول لهم: «أستودعكم الله»، بقصد التأسي بالصديقة (صلوات الله عليها) وسائر المعصومين (عليهمالسلام).

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «حَفِظَكُمُ اللهُ مِنْ أَهْل بَيْتٍ وحَفِظَ فِيكُمْ نَبِيَّكُمْ، أَسْتَوْدِعُكُمُ اللهَ وأَقْرَأُ عَليْكُمُ السَّلامَ»(1).

الاستوداع عند الله

مسألة: يستحب أن يستودع المحتضر أهله عند الله، أي أن يجعلهم وديعة عند الباري تعالى، كما صنعت الصديقة (صلوات الله عليها) إذ قالت: «أستودعتك الله تعالى حتى ألقاك»، فإن الله لا تضيع لديه الودائع.

ص: 312


1- كتاب سليم بن قيس الهلالي: ج 2 ص927 الحديث التاسع والستون.

و(استودع) باب استفعال يفيد طلب أن يكون هذا وديعة عند الطرف الآخر، فهو دعاء، والظاهر أنه إنشاء وليس إخباراً.

كما أن أصل الاستوداع عند الله مستحب وإن لم يكن حين الموت، وفي الرواية: «أَخَذَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) بِيَدِ عَليٍّ فَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ بِأَصَابِعِهِ، فَحَمَل النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) الحَسَنَ وحَمَل الحُسَيْنَ عَليٌّ وحَمَلتْ فَاطِمَةُ أُمَّ كُلثُومٍ وأَدْخَلهُمُ النَّبِيُّ بَيْتَهُمْ ووَضَعَ عَليْهِمْ قَطِيفَةً واسْتَوْدَعَهُمُ اللهَثُمَّ خَرَجَ وصَلى بَقِيَّةَ الليْل...»(1).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام)، قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «مَا اسْتَخْلفَ رَجُل عَلى أَهْلهِ خَليفَةً أَفْضَل مِنْ رَكْعَتَيْنِ يَرْكَعُهُمَا إِذَا أَرَادَ الخُرُوجَ إِلى سَفَرِهِ ويَقُول: اللهُمَّ إِنِّي أَسْتَوْدِعُكَ نَفْسِي وأَهْلي ومَالي وذُرِّيَّتِي ودُنْيَايَ وآخِرَتِي وخَاتِمَةَ عَمَلي، إلاّ أَعْطَاهُ اللهُ مَا سَأَل»(2).

وفي الحديث: فَسَمِعْتُ أَبَا مُحَمَّدٍ (عليه السلام) يَقُول: «أَسْتَوْدِعُكَ الذِي أَوْدَعَتْهُ أُمُّ مُوسَى، فَبَكَتْ نَرْجِس عليها السلام»(3).

ختم الوصية

مسألة: يستحب ختم الوصية بما يفيد انتهاءها ويرفع احتمال وجود غيرها، دفعاً للخطأ والوهم وانتحال المنتحلين ودعاويهم، وقد صنعت الصديقة

ص: 313


1- علل الشرائع: ج 1 ص186 ب149 باب العلة التي من أجلها دفنت فاطمة (عليها السلام) بالليل ولم تدفن بالنهار ح2.
2- تهذيب الأحكام: ج 5 ص49 ب5 باب العمل والقول عند الخروج ح15.
3- روضة الواعظين: ج 2 ص259 مجلس في ذكر ولادة القائم صاحب الزمان (عليه السلام).

(صلوات الله عليها) ذلك في وصيتها هذه، إذ قالت:«ولا زيادة عندك في وصيتي إليك».

التقية ومواردها

مسألة: تجوز التقية - وقد تجب - من المتكلم ومن الراوي ومن الكاتب والناسخ ومن أشبه، فإذا كان الإمام (عليه السلام) في حال التقية جازت له، وإذا كان الراوي في حال التقية أو الكاتب جاز له أن ينقل من الكلام بعضه.

ولعل قولها (عليها السلام): (ولا يشهدني فلان وفلان) من تقية الرواة أو الكتّاب أو النسّاخ، إذ لا وجه للتقية في وصيتها لعلي (عليهما السلام)، خاصة وأنها كانت مجاهرة بالبراءة منهم.

ولعل ما ورد في (نهج البلاغة) من: «أما والله لقد تَقَمَّصها ابن أبي قحافة»(1)،في بعض النسخ من تقية الرواة أو الكتبة.

ص: 314


1- علل الشرائع: ج 1 ص150 ب122 باب العلة التي من أجلها ترك أمير المؤمنين (عليه السلام) مجاهدة أهل الخلاف ح12، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد: ج 1 ص287 الخطبة الشقشقية، الجمل: ص126و171، تقريب المعارف: ص240و329، الأمالي (للطوسي): ص372 المجلس الثالث عشر ح54، مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) لابن شهرآشوب: ج 2 ص204 فصل في ظلامة أهل البيت عليهم السلام، الاحتجاج: ج 1 ص191، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 17 ص152، طرف من الأنباء والمناقب: ص419، الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف: ج 2 ص420، بحار الأنوار: ج 29 ص505 ب15 باب شكاية أمير المؤمنين صلوات الله عليه عمن تقدمه ح3.

الدعاء وقت الموت

مسألة: يستحب الدعاء في آخر لحظات الحياة لنفسه ولغيره، تأسياً بالصديقة (صلوات الله عليها) حيث قالت (عليها السلام): «جمع الله بيني وبينك في داره وقرب جواره»، وللإطلاقات أيضاً.

وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: «إِنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُول اللهِ (عليها السلام) مَكَثَتْ بَعْدَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) سِتِّينَ يَوْماً ثُمَّ مَرِضَتْ فَاشْتَدَّتْ عَليْهَا فَكَانَ مِنْ دُعَائِهَا فِي شَكْوَاهَا: "يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ فَأَغِثْنِي، اللهُمَّ زَحْزِحْنِي عَنِ النَّارِ وأَدْخِلنِي الجَنَّةَ وأَلحِقْنِي بِأَبِي مُحَمَّدٍ" فَكَانَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) يَقُول: يُعَافِيكِ اللهُ ويُبْقِيكِ، فَتَقُول: يَا أَبَا الحَسَنِ مَا أَسْرَعَ اللحَاقَ بِاللهِ، وأَوْصَتْ بِصَدَقَتِهَا ومَتَاعِ البَيْتِ وأَوْصَتْهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَامَةَ بِنْتَ أَبِي العَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ، قَال: ودَفْنِهَا ليْلاً»(1).

وعَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، قَال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ (عليه السلام) يَقُول: «إِنَّ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) حَضَرَ شَابّاً عِنْدَ وَفَاتِهِ فَقَال لهُ: قُل لا إِلهَ إلاّ اللهُ،قَال: فَاعْتُقِل لسَانُهُ مِرَاراً، فَقَال: لامْرَأَةٍ عِنْدَ رَأْسِهِ هَل لهَذَا أُمٌّ، قَالتْ: نَعَمْ أَنَا أُمُّهُ، قَال: أَفَسَاخِطَةٌ أَنْتِ عَليْهِ قَالتْ: نَعَمْ مَا كَلمْتُهُ مُنْذُ سِتِّ حِجَجٍ، قَال لهَا: ارْضَيْ عَنْهُ، قَالتْ: رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَا رَسُول اللهِ بِرِضَاكَ عَنْهُ، فَقَال لهُ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): قُل لا إِلهَ إلاّ اللهُ، فَقَالهَا، فَقَال لهُ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): مَا تَرَى، قَال: أَرَى رَجُلا أَسْوَدَ الوَجْهِ قَبِيحَ المَنْظَرِ وَسِخَ الثِّيَابِ

ص: 315


1- بحار الأنوار: ج 78 ص233 ب5 آداب الاحتضار وأحكامه ح 8.

نَتِنَ الرِّيحِ قَدْ وَليَنِي السَّاعَةَ وأَخَذَ بِكَظَمِي، فَقَال لهُ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): قُل: "يَا مَنْ يَقْبَل اليَسِيرَ ويَعْفُو عَنِ الكَثِيرِ اقْبَل مِنِّي اليَسِيرَ واعْفُ عَنِّي الكَثِيرَ إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ"، فَقَالهَا الشَّابُّ، فَقَال لهُ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): انْظُرْ مَا ذَا تَرَى، قَال: أَرَى رَجُلا أَبْيَضَ اللوْنِ حَسَنَ الوَجْهِ طَيِّبَ الرِّيحِ حَسَنَ الثِّيَابِ قَدْ وَليَنِي وأَرَى الأَسْوَدَ قَدْ تَوَلى عَنِّي، فَقَال لهُ: أَعِدْ، فَأَعَادَ، فَقَال لهُ: مَا تَرَى، قَال: لسْتُ أَرَى الأَسْوَدَ وأَرَى الأَبْيَضَ قَدْ وَليَنِي، ثُمَّ طَفَا عَلى تِلكَ الحَال»(1).

وعن الرِّضَا (عليه السلام): «إِذَا حَضَرَتِ المَيِّتَ الوَفَاةُ فَلقِّنْهُ شَهَادَةَ أَنْ لا إِلهَإلاّ اللهُ وأَنَّ مُحَمَّداً رَسُول اللهِ والإِقْرَارَ بِالوَلايَةِ لأَمِيرِ المُؤْمِنِينَ والأَئِمَّةِ (عليهم السلام) وَاحِداً وَاحِداً، ويُسْتَحَبُّ أَنْ يُلقَّنَ كَلمَاتِ الفَرَجِ، وهُوَ: "لا إِلهَ إلاّ اللهُ الحَليمُ الكَرِيمُ، لا إِلهَ إلاّ اللهُ العَليُّ العَظِيمُ، سُبْحَانَ اللهِ رَبِّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ، ورَبَّ الأَرَضِينَ السَّبْعِ، ومَا فِيهِنَّ ومَا بَيْنَهُنَّ، ورَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ، وسَلامٌ عَلى المُرْسَلينَ، والحَمْدُ للهِ رَبِّ العالمِينَ"»(2).

التأسي في بيان الوصية

مسألة: يستحب بيان وصية فاطمة (عليها السلام) كما ذكرها الإمام الحسن (عليه السلام)، ومما في وصيتها أن فلاناً وفلاناً أي ابن أبي قحافة وابن الخطاب في قمة أعدائها الذين آذوها، فلم ترض عنهما أبداً، كما منعتهما من الحضور في

ص: 316


1- الأمالي، للمفيد: ص287 المجلس الرابع والثلاثون ح6.
2- بحار الأنوار: ج 78 ص233 ب5 آداب الاحتضار وأحكامه ح9.

جنازتها.

بين اللا اقتضائي والاقتضائي

مسألة: اللا اقتضائي لا يزاحم الاقتضائي، وهي قاعدة مسلمة، وعلى هذا فلا يمكن التمسك باستحباب عمل للقيامبه إذا عارضه الاقتضائي، كنهي من له الحق في النهي.

وفي المقام فإن منعها (صلوات الله عليها) أن يشهد ابن أبي قحافة وابن الخطاب ومن أشبههما جنازتها، يفيد التحريم، من غير أن يعارضه استحباب حضور جنازة الميت في حد ذاته.

التعيين في الوصية

مسألة: ينبغي في الوصية التعيين بما يرفع اللبس والاشتباه، كتعيين الشخص الموصي وأنه فلان، والموصى إليه والموصى به(1)، والزمان والمكان إن اعتبرهما الموصي بنحو ما، وكذا سائر الشرائط بحيث لا يبقى إبهام.

نعم قد يوصي بشيء كلي يجعل مصداقه بيد الوصي، وهذا لا بأس به، كالوصية بالتصدق على فقير مطلق، أو تزويج شاب كذلك، وهكذا.

وقد يكفي لرفع اللبس ذكر اسم الشخص واسم أبيه، كما صنعت (صلوات الله عليها) إذا قالت: «هذه وصية فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله)».

ص: 317


1- سيأتي إفراد عدد من هذه العناوين في مسائل لاحقة.

الحوائط السبعة

اشارة

قال أبو جعفر (عليه السلام): ألا أقرؤك وصية فاطمة (عليها السلام)؟

قال: قلت: بلى، فأخرج حقاً أو سفطاً(1)، فأخرج منه كتاباً فقرأ:

بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصت به فاطمة بنت محمد رسول الله (عليها السلام)، أوصت بحوائطها السبعة: العواف، والدلال، والبرقة، والمثيب، والحسنى، والصافية وما لأم إبراهيم، إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فإن مضى عليّ فإلى الحسن، فإن مضى الحسن فإلى الحسين، فإن مضى الحسين فإلى الأكبر من ولدي، شهد الله على ذلك(2)، والمقداد بن الأسود، والزبير بن العوام، وكتب علي بن أبي طالب (عليه السلام) (3).

---------------------

قراءة وصية المعصوم

مسألة: يستحب قراءة وصية المعصوم(عليه السلام) ووصية كل عظيم إذ فيه الفائدة، كما قد يستحب استعلام الطرف الآخر عن رغبته في قراءة الوصية

ص: 318


1- السَفَط: وعاء الطيب ونحوه، ولعل الحق والسفط نوعان من أنواع أوعية الطيب.
2- الظاهر أن (شهد الله) إخبار عن شهادته تعالى، إذ لا يعزب عن علمه شيء، ويحتمل كونه استشهاداً له، على بُعد، وأما (شهد المقداد...) فيحتمل فيه كل من الإنشاء والإخبار.
3- الكافي: ج 7 ص48 باب صدقات النبي (صلى الله عليه وآله) وفاطمة والأئمة (عليهم السلام) ووصاياهم ح5.

عليه، ولعل ما صنعه الإمام الباقر (عليه السلام) من سؤاله: (ألا أقرؤك وصية فاطمة عليها السلام) كان لجلب انتباه الطرف الآخر إليه أكثر واهتمامه بشكل أكبر.

ولا يخفى أن الغرض من قراءة الوصية قد يتحقق بتلاوتها على المذعن بها، كما في هذه الرواية، وقد يتحقق بتلاوتها على المخالف المنكر، إتماماً للحجة أو لغيره.

التصريح بالموصى به والموصى له

مسألة: ينبغي التصريح في الوصية بذكر الموصى به بحيث لا يلتبس الأمر، فإن الصديقة (عليها السلام) لم تكتف بذكر الحوائط السبع إجمالاً بل ذكرتها تفصيلاً.

مسألة: ينبغي في الوصية ذكر الموصى له بنحو لا يوقع في اللبس كي لا يكون مثاراً للنزاع، سواء كانت بذكر اسم يمنع منه، أو بذكر صفة أو شبه ذلك، ولذا أوصت (صلوات الله عليها) بتعيين علي ثم الحسن ثم الحسين (عليهم السلام) ثم الأكبر من ولدها، و(الأكبر) مما يدفع اللبسكما هو واضح.

حفظ الوصية

مسألة: يجب حفظ الوصية بما يحفظها عن التلف ويصونها عن الضياع، ومنه حفظها في حق أو سفط، نعم ذلك لا موضوعية له، بل له الطريقية، فلو ضمن العمل بالوصية من دون حفظ ورقها، لم يجب حفظه من هذه

ص: 319

الجهة(1).

عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يا علي أوصيك في نفسك بخصال فاحفظها، ثم قال: اللهم أعنه، ثم ذكر الوصية»(2).

وقال الراوي: دَخَلتُ عَلى جَعْفَرٍ، ومُوسَى وَلدُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وهُوَ يُوصِيهِ بِهَذِهِ الوَصِيَّةِ، فَكَانَ مِمَّا حَفِظْتُ مِنْهُ أَنَّ قَال: «يَا بُنَيَّ احْفَظْ وَصِيَّتِي واحْفَظْ مَقَالتِي»(3).

الإشهاد على الوصية

مسألة: يستحب الإشهاد على الوصية،بنفر أو نفرين كما في هذا الحديث، حيث إن المقداد والزبير كانا شاهدين، ومن المعلوم أن الزبير كانت حالته حسنة حتى نشأ ابنه عبد الله فحرّفه عن الطريق، فلا يقال: كيف وصّت الزهراء (عليها الصلاة والسلام) بشهادة الزبير مع أنه من المنحرفين.

ولا يخفى أن الإشهاد قد يكون واجباً، كما لو أدى عدم الإشهاد على الوصية بالقيمومة مثلاً إلى ضياع الصغار حيث لم يكون للقيم شهود، مما يستلزم إنكار قيمومته من أهله أو قبيلته وضياع الصغار بالمآل.

وكلمة (شهد الله) في أمثال هذه المواضع من باب الإتقان، وإلا فلا تحتاج شهادة الله إلى الذكر، إذ هي تحصيل حاصل، فهي مثل قوله سبحانه: «شَهِدَ

ص: 320


1- نعم قد يجب حفظها من جهة أخرى، ككونها أمانة وملكاً ذا مالية للغير.
2- إثبات الهداة: ج 3 ص26 الفصل الأول ح96.
3- كشف الغمة: ج 2 ص157 وأما مناقبه وصفاته.

اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إلاّ هُوَ والمَلائِكَةُ وأُولوا العِلمِ قائِماً بِالقِسْطِ»(1)، فإن نفس وجود الله شهادة على وجوده سبحانه(2)، وعلى صفاته الجمالية والجلالية، وقد ورد في دعاء الصباح: «يا من دل على ذاته بذاته، وتنزه عن مجانسةمخلوقاته»(3).

كما أن وجود الملائكة شهادة على وجود الله سبحانه وقدرته وحكمته وعظمته، وكذلك أهل العلم يشهدون بوجودهم، وأيضاً بشهادتهم اللفظية.

ويحتمل أن يكون الله تعالى أيضاً قد شهد هناك باللفظ، أي بخلق الكلام والصوت، ونحوه من سائر المبرزات، وكذلك الملائكة يحتمل أن يكونوا شهدوا باللفظ ونحوه.

ص: 321


1- سورة آل عمران: 18.
2- كما أن نفس وجود النور شهادة عليه من غير حاجة إلى نور آخر، عكس غيره إذ يحتاج إلى النور لرؤيته مثلاً.
3- بحار الأنوار: ج 84 ص339 ب13 نافلة الفجر وكيفيتها وتعقيبها والضجعة بعدها ح19، وج 91 ص243 ب40 أحراز مولانا أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) وبعض أدعيته وعوذاته ومن جملتها دعاء الصباح والمساء له (عليه السلام) وما يناسب ذلك المعنى وفي مطاويها بعض أدعية النبي (صلى الله عليه وآله) أيضاً ح11.

الحنان على الأولاد

اشارة

عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إن فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله).. أوصت بصدقتها ومتاع البيت، وأوصته (عليه السلام) أن يتزوج أمامة بنت أبي العاص، وقالت: بنت أختي وتحنّ على ولدي»(1).

---------------------------

مسائل في زواج الرجل بعد موت زوجته

مسألة: يستحب تزوّج الرجل بعد موت زوجته.

ودلالة هذا الحديث نظراً لفهم عدم الخصوصية، وإحرازاً للملاك، بالإضافة إلى الأدلة العامة، فإن العزوبة مكروهة مطلقاً(2)، سواء لم يتزوج بعد،أم تزوج وحصل الفراق بموت الزوجة أو طلاقها أو فسخ العقد أو ما أشبه(3)، وسواء للرجل أو للمرأة في الجملة.

ص: 322


1- بحار الأنوار: ج 43 ص217 ب7 ما وقع عليها من الظلم وبكائها وحزنها وشكايتها في مرضها إلى شهادتها وغسلها ودفنها وبيان العلة في إخفاء دفنها صلوات الله عليها ولعنة الله على من ظلمها ح49. وفيه (تحنن) بدل (تحن).
2- وأما «حصوراً» فهو استثناء خاص بمورده، هذا بناء على إرادة عدم إتيانه النساء، أما لو أريد به من يحصر نفسه عن الشهوات، أو عن الأباطيل، فلا، اي لا يكون حتى هذا استثناءً.
3- كما لو انقطع الزوج عن زوجته لسفر أو غيره، فإنه يستحب له التزوج بما يحصنه ويحفظه عن الحرام.

مسألة: يستحب تزوّج الرجل بعد موت زوجته بمن تحنّ على أولادها، سواء أكانوا منهما أم كانوا منه فقط، بل حتى لو كانوا منها فقط.

والظاهر أنه لا خصوصية للأقرباء بل المطلوب التي تحن، وربما يكون ذلك من تعدد المطلوب، نعم إذا دار الأمر بين من تحن وبين القريبة كانت من تحن أولى، وإن كان القريب بالنظر الآخر من حيث القرابة مع الأولاد أقرب، فالأمر دائر بين الأهم والمهم.

ثم إن أمامة مضافاً إلى حنانها كانت قريبة من علي (عليه

الصلاة والسلام) على رأي(1)، والأقرباء أولى، حيث قالسبحانه: «وَأُولوا الأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ في كِتابِ الله»(2).

وما عند بعض الناس من كراهة تزوج الأقرباء لأنه يوجب المشاكل وعلى الأقل في الأولاد، غير ظاهر الوجه، فقد تزوج علي (عليه الصلاة والسلام) بفاطمة (عليها السلام) ، وكذلك الإمام الباقر (عليه الصلاة والسلام)، وهكذا نرى على طول التاريخ الإسلامي أن ابن العم وبنت العم يتزوجان وكانت الحياة أسعد من حياة الناس هذا اليوم، وكذلك كان الزواج منتشراً كثيراً بين سائر الأقرباء، وفي الحديث

ص: 323


1- فإنها أمامة بنت أبي العاص، وأمها زينب بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، كما في مجالس المفيد على ما رواه عنه بحار الأنوار، لكن هذا على أحد الرأيين في بنات رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما لا يخفى، وإليه أشار المصنف بقوله (على رأي) إذ الرأي الآخر أن غير فاطمة (صلوات الله عليها) كن بنات بالتبني لرسول الله (صلى الله عليه وآله).
2- سورة الأنفال: 75، سورة الأحزاب: 6.

:

أَنَّ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) نَظَرَ إِلى وَلدَيْ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ الحَسَنِ والحُسَيْنِ (صلوات الله عليهم) وبَنَاتِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالبٍ (صلوات الله عليه) فَقَال: «بَنُونَا لبَنَاتِنَا وبَنَاتُنَا لبَنِينَا»(1).والظاهر إمكان التمسك بقوله (صلى الله عليه وآله) لتعميم الترغيب في مثل ذلك من زواج الأقارب وإن كان من المحتمل وجود خصوصية في بنونهم وبناتهم (عليهم السلام).

أما المشاكل التي نراها هذا اليوم والتي كثرت في زواج الأقرباء، فهي مشاكل الحضارة الحديثة التي دخلت عالمنا، لكثرة المعاصي ومخالفة الموازين والسنن الكونية والإعراض عن أوامر الشارع الوجوبية والندبية، بل والإرشادية أيضاً.

وهذه المشاكل الحادثة ليست خاصة بالزواج بل هي عامة لكل شؤون الحياة، ولذا كثرت الأمراض وشاع القلق وجاع كثير من الناس وافتقروا، وما أشبه ذلك من المشاكل التي ذكرناها في بعض مؤلفاتنا(2).

ص: 324


1- الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا (عليه السلام): ص355، مستدرك الوسائل: ج 14 ص187 ب23 باب أنه يجوز للرجل الشريف الجليل القدر أن يتزوج امرأة دونه حسباً ونسباً وشرفاً حتى الأُمة بل يستحب ذلك ح3. وفي رواية: نَظَرَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) إِلى أَوْلادِ عَليٍّ وجَعْفَرٍ (عليه السلام) فَقَال: «بَنَاتُنَا لبَنِينَا وبَنُونَا لبَنَاتِنَا». من لا يحضره الفقيه: ج 3 ص393 باب الأكفاء ح 4384، وسائل الشيعة: ج 20 ص74 ب27 باب أنه يجوز للرجل الشريف الجليل القدر أن يتزوج امرأة دونه حسبا ونسبا وشرفا حتى الأمة بل يستحب ذلك ح7.
2- انظر كتاب الأزمات وحلولها، للإمام الشيرازي (قدس سره).

الوصية بمتاع البيت

مسألة: يستحب الوصية بجميع ما يملكه الإنسان حتى متاع البيت، نعم نفوذها في غير الثلث موقوف على إجازة الورثة، هذا فيما أوصى به لما بعد الموت، كما هو المعهود من الوصية.

أما الوصية بالبذل حال حياته(1) فإنها بعد تنفيذها تكون كالبذل والبهة المحققة فهي نافذة بشروطها.

وأما رجحانها على تركها لكي تبقى إرثاً، فمنوط بملاحظة التزاحم والأهم والمهم.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) فِي الرَّجُل يُعْطِي الشَّيْ ءَ مِنْ مَالهِ فِي مَرَضِهِ، قَال: «إِنْ أَبَانَ بِهِ فَهُوَ جَائِزٌ وإِنْ أَوْصَى بِهِ فَهُوَ مِنَ الثُّلثِ»(2).وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «للرَّجُل عِنْدَ مَوْتِهِ ثُلثُ مَالهِ، وإِنْ لمْ يُوصِ فَليْسَ عَلى الوَرَثَةِ إِمْضَاؤُهُ»(3).

ص: 325


1- قال الإمام المؤلف (قدس سره) في (الفقه): ج61 كتاب الوصية ص7: (وكل من العهد في حال الحياة وبعد الممات يقال له وصية، مثل قوله عليه السلام: (أوصيكم عباد الله)، نعم الكتب الفقهية تستعمل الوصية بمعنى الوصية بعد الموت، وهذا اصطلاح خاص لعله سبب كونها حقيقة فقهية).
2- وسائل الشيعة: ج 19 ص273 ب10 باب جواز الوصية بثلث المال للرجل والمرأة بل استحبابها وعدم جواز الوصية بما زاد عن الثلث في غير الواجب المالي ح4.
3- وسائل الشيعة: ج 19 ص273 ب10 باب جواز الوصية بثلث المال للرجل والمرأة بل استحبابها وعدم جواز الوصية بما زاد عن الثلث في غير الواجب المالي ح7.

من وصاياها

اشارة

رُوِيَ أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) أَخْرَجَ سَفَطاً أَوْ حُقّاً(1) وأَخْرَجَ مِنْهُ كِتَاباً فَقَرَأَهُ وفِيهِ وَصِيَّةُ فَاطِمَةَ (عليها السلام): بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هَذَا مَا أَوْصَتْ بِهِ فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) أَوْصَتْ بِحَوَائِطِهَا السَّبْعَةِ إِلى عَليِّ بْنِ أَبِي طَالبٍ فَإِنْ مَضَى فَإِلى الحَسَنِ فَإِنْ مَضَى فَإِلى الحُسَيْنِ فَإِنْ مَضَى فَإِلى الأَكَابِرِ مِنْ وُلدِي شَهِدَ المِقْدَادُ بْنُ الأَسْوَدِ والزُّبَيْرُ بْنُ العَوَّامِ وكَتَبَ عَليُّ بْنُ أَبِي طَالبٍ(2).

-------------------------

حفظ الكتب الهامة

مسألة: يستحب حفظ الكتب المهمة فيما يحفظها عن التلف أو العبث بها أو ضياعها، كما فعل الإمام الباقر (عليه السلام) حيث حفظ الكتاب المتضمن

ص: 326


1- لعل الوجه في وضعه (عليه السلام) الوصية في حق أو سفط، وهما قارورة الطيب غالبا، حفظها من أيدي الحكومة الجائرة، إذ لم يكن الإمام مأموناً من هجومهم على داره، كما حدث مراراً للعديد من الأئمة (عليهم السلام) ومصادرة ما فيه من الكتب والأوراق أو إتلافها، كما لعله كان لأجل المزيد من التكريم والاحترام، بوضع الكتاب في قارورة الطيب ليكون معطراً، ولعله كان من الجلد ونحوه مما كان معهوداً ذلك الزمان.
2- بحار الأنوار: ج 43 ص185 ب7 ما وقع عليها من الظلم وبكائها وحزنها وشكايتها في مرضها إلى شهادتها وغسلها ودفنها وبيان العلة في إخفاء دفنها صلوات الله عليها ولعنة الله على من ظلمها ح18.

لوصية فاطمة الزهراء (عليها السلام) في سفط أو حق.

وهكذا ينبغي حفظ كل أثر عن كل عظيم، بل حفظ آثار المؤمنين إن كانت فيها الفائدة لهم أو لغيرهم.

عَنِ المُفَضَّل بْنِ عُمَرَ قَال: قَال لي أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «اكْتُبْ وبُثَ عِلمَكَ فِي إِخْوَانِكَ، فَإِنْ مِتَّ فَأَوْرِثْ كُتُبَكَ بَنِيكَ، فَإِنَّهُ يَأْتِي عَلى النَّاسِ زَمَانُ هَرْجٍ لا يَأْنَسُونَ فِيهِ إلاّ بِكُتُبِهِمْ»(1).

وقَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «احْتَفِظُوا بِكُتُبِكُمْ فَإِنَّكُمْ سَوْفَ تَحْتَاجُونَ إِليْهَا»(2).

وقَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «المُؤْمِنُ إِذَا مَاتَ وتَرَكَ وَرَقَةً وَاحِدَةً عَليْهَا عِلمٌ تَكُونُ تِلكَ الوَرَقَةُ يَوْمَ القِيَامَةِ سِتْراً فِيمَا بَيْنَهُ وبَيْنَ النَّارِ، وأَعْطَاهُ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالى بِكُل حَرْفٍ مَكْتُوبٍعَليْهَا مَدِينَةً أَوْسَعَ مِنَ الدُّنْيَا سَبْعَ مَرَّاتٍ، ومَا مِنْ مُؤْمِنٍ يَقْعُدُ سَاعَةً عِنْدَ العَالمِ إلاّ نَادَاهُ رَبُّهُ عَزَّ وجَل: جَلسْتَ إِلى حَبِيبِي وعِزَّتِي وجَلالي لأَسْكَنْتُكَ الجَنَّةَ مَعَهُ ولا أُبَالي»(3).

القراءة المباشرة

مسألة: ينبغي قراءة الوصية ونظائرها من الأمور المهمة من الكتاب مباشرة، وإن كان القارئ لها حافظاً لها، فإن الإمام الباقر (عليه السلام) كان دون

ص: 327


1- الكافي: ج 1 ص52 باب رواية الكتب والحديث وفضل الكتابة والتمسك بالكتب ح11.
2- الكافي: ج 1 ص52 باب رواية الكتب والحديث وفضل الكتابة والتمسك بالكتب ح10.
3- الأمالي، للصدوق: ص37 المجلس العاشر ح3.

شك حافظاً للوصية، لكنه قرأها من الكتاب نفسه، ولعل السامع كان ضعيف الإيمان، أو لعل خلافاً حدث فأنكر بعض الوصية أو بعض حدودها، أو لعل القصد كان إثبات الأمر لمن سيأتي، أو لغير ذلك.

الوصية للزوج

مسألة: يستحب الوصية بجملة من الأموال للزوج الصالح، وكذلك لو كان يوجب ذلك صلاحه، وهل كانت هذه بعنوان الوصية أو بعنوان الوقف، احتمالان.

ثم إنها إذا كانت وصية فالأكثر منالثلث مشروط برضا سائر الورثة(1)، وهل الصديقة (عليها الصلاة والسلام) كانت تملك ما يكون هذا من ثلثها، أو كان ذلك برضا سائر الورثة، لا شك في رضاهم (عليهم السلام) ، وربما يقال يقال: إنها (عليها السلام) حيث كانت تملك فدك والعوالي وإن كانتا قد غصبتا من قبل القوم، فالحوائط السبعة كانت بقدر الثلث أو أقل منها، أو ما أشبه.

وربما كان الأمر تصرفاً ولائياً، فإنها (صلوات الله عليها) حجة الله على الحجج (عليهم السلام)، وفي الحديث عن الإمام العسكري (عليه السلام): «نحن حجج الله على خلقه وجدتنا فاطمة (عليها السلام) حجة الله علينا»(2). وأمرها نافذ عليهم،

ص: 328


1- أما الوقف الآن - إذ لا يصح التعليق في الوقف - فنافذ في الكل، اللهم إلاّ لو كان في مرض الموت على رأي بعض.
2- عوالم العلوم، مستدرك سيدة النساء إلى الإمام الجواد: ج 11 قسم2 فاطمة (سلام الله عليها) ص1030 باب أن الأئمة (عليهم السلام) من ولد فاطمة (عليها السلام)، عن أطيب البيان: ج13 ص225.

كنفوذ أمر الرسول (صلى الله عليه وآله) قال تعالى: «النَّبِيُ أَوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ»(1).

عَنْ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ رَوْحٍ القَصِيرِ، عَنْأَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) فِي قَوْل اللهِ عَزَّ وجَل: «النَّبِيُ أَوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وأُولوا الأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ»(2) فِيمَنْ نَزَلتْ، فَقَال: نَزَلتْ فِي الإِمْرَةِ، إِنَّ هَذِهِ الآيَةَ جَرَتْ فِي وُلدِ الحُسَيْنِ (عليهم السلام) مِنْ بَعْدِهِ فَنَحْنُ أَوْلى بِالأَمْرِ وبِرَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) مِنَ المُؤْمِنِينَ والمُهَاجِرِينَ والأَنْصَارِ، قُلتُ: فَوُلدُ جَعْفَرٍ لهُمْ فِيهَا نَصِيبٌ، قَال: لا، قُلتُ: فَلوُلدِ العَبَّاسِ فِيهَا نَصِيبٌ، فَقَال: لا، فَعَدَدْتُ عَليْهِ بُطُونَ بَنِي عَبْدِ المُطَّلبِ كُل ذَلكَ يَقُول: لا، قَال: ونَسِيتُ وُلدَ الحَسَنِ (عليه السلام) فَدَخَلتُ بَعْدَ ذَلكَ عَليْهِ فَقُلتُ لهُ: هَل لوُلدِ الحَسَنِ (عليه السلام) فِيهَا نَصِيبٌ، فَقَال: لا واللهِ، يَا عَبْدَ الرَّحِيمِ مَا لمُحَمَّدِيٍّ فِيهَا نَصِيبٌ غَيْرَنَا»(3).

وعَنْ سُليْمِ بْنِ قَيْسٍ قَال: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ جَعْفَرٍ الطَّيَّارِ يَقُول: (كُنَّا عِنْدَ مُعَاوِيَةَ أَنَا والحَسَنُ والحُسَيْنُ وعَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ وعُمَرُ ابْنُ أُمِّ سَلمَةَ وأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، فَجَرَى بَيْنِي وبَيْنَ مُعَاوِيَةَ كَلامٌ، فَقُلتُ لمُعَاوِيَةَ: سَمِعْتُ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُول: «أَنَا أَوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ أَخِي عَليُّ بْنُ أَبِي طَالبٍ أَوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا اسْتُشْهِدَ عَليٌّ فَالحَسَنُ بْنُ عَليٍ أَوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ

ص: 329


1- سورة الأحزاب: 6.
2- سورة الأحزاب: 6.
3- الكافي: ج 1 ص288 ح2.

أَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ ابْنِيَ الحُسَيْنُ مِنْ بَعْدِهِ أَوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا اسْتُشْهِدَ فَابْنُهُ عَليُّ بْنُ الحُسَيْنِ أَوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وسَتُدْرِكُهُ يَا عَليُّ، ثُمَّ ابْنُهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَليٍ أَوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وسَتُدْرِكُهُ يَا حُسَيْنُ، ثُمَّ يُكَمِّلهُ اثْنَيْ عَشَرَ إِمَاماً تِسْعَةً مِنْ وُلدِ الحُسَيْنِ، قَال عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ: واسْتَشْهَدْتُ الحَسَنَ والحُسَيْنَ وعَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ وعُمَرَ ابْنَ أُمِّ سَلمَةَ وأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ فَشَهِدُوا لي عِنْدَ مُعَاوِيَةَ، قَال سُليْمٌ: وقَدْ سَمِعْتُ ذَلكَ مِنْ سَلمَانَ وأَبِي ذَرٍّ والمِقْدَادِ، وذَكَرُوا أَنَّهُمْ سَمِعُوا ذَلكَ مِنْ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وآله) (1).

الوصية إلى الأكابر

مسألة: يستحب الوصية إلى الأكابر من الولد على حسب مقتضى الحكمة، وقد تقتضي الوصيةَ لمن يليهم، تأسياً بها (صلوات الله عليها)، ولأن فيه تكريماً لهم، كما أنه من أسباب تماسك الأسرة عادة.

النقل بالمضمون

مسألة: يجوز النقل بالمضمون، ما دام غير مخل بالمعنى، وعلى ذلك عمل العديد من الرواة، وبذلك ظهر وجه من وجوه اختلاف الروايات.

وعلى ذلك فإن الظاهر أن الاختلاف في بعض كلمات الروايات السابقة(2)

ص: 330


1- الكافي: ج 1 ص529 ح4.
2- إذ جاء في الرواية عن الإمام الحسن (عليه السلام) : (هذه وصية فاطمة بنت محمد ...) وجاء في الرواية عن الإمام الباقر (عليه السلام): (هذا ما أوصت به فاطمة بنت رسول الله).

ناشئ من الرواة أنفسهم، إذ كانوا يعتمدون على الحافظة غالباً.

كما يحتمل أن تكون الصديقة الطاهرة (عليها السلام) أوصت مراراً عديدة، وكتبها علي (عليه السلام) أكثر من مرة، توثيقاً للأمر كي لا ينكره منكر، ولعل وصيتها كانت تارة بدون شهود، ثم طلبت من أمير المؤمنين (عليه السلام) كتابتها مرة أخرى بحضور الشهود، والله العالم.

ص: 331

الوصية للنساء

اشارة

في الرواية: إن فاطمة (عليها السلام) أوصت لأزواج النبي (صلى الله عليه وآله) لكل واحدة منهن باثنتي عشرة أوقية(1)، ولنساء بني هاشم مثل ذلك، وأوصت لأمامة بن أبي العاص بشيء(2).

----------------------------

الوصية للأقرباء والأنسباء

مسألة: يستحب الوصية للأقرباء والأنسباء.

وقد دل عليه الكتاب والسنة والإجماع والعقل، قال سبحانه: «إِنْ تَرَكَ خَيْراً الوَصِيَّةُ للوالدَيْنِ والأَقْرَبينَ»(3)، وهذه الرواية أيضاً من تلك الأدلة الدالة على استحباب مثل هذه الوصية.كما أنها تدل استحباب الوصية بالنسبة إلى الأنسباء، لأنها أوصت لأزواج النبي (صلوات الله عليه وآله) أيضاً، وهن أنسباء فاطمة (عليها الصلاة والسلام)، وحيث

ص: 332


1- الأوقية بضم الهمزة وتشديد الدال: أربعون درهماً، وقيل إنها نقلت بعدها في متعارف الناس وعند الأطباء إلى عشرة دراهم وخمسة أسباع الدرهم.
2- دلائل الإمامة: ص130 وصية فاطمة (صلوات الله عليها)، بحار الأنوار: ج 43 ص218 ب7 ما وقع عليها من الظلم وبكائها وحزنها وشكايتها في مرضها إلى شهادتها وغسلها ودفنها وبيان العلة في إخفاء دفنها (صلوات الله عليها ولعنة الله على من ظلمها) ح50.
3- سورة البقرة: 180.

الملاك يعرف منه استحباب الوصية لمطلق الأنسباء فلا خصوصية لأزواج الأب.

هذا بالإضافة إلى استحباب مطلق الإحسان، قال سبحانه: «إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالعَدْل وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى»(1).

وقد ذكرنا في بعض الكتب الفقهية أن الإحسان منه واجب ومنه مستحب، وهذه الآية تصلح دليلاً لذلك، إذ كان (الاحسان) فيها متعلقاً لمادة الأمر.

وقال سبحانه: «إِنَّ اللهَ مَعَ الذينَ اتَّقَوْا والذينَ هُمْ مُحْسِنُون»(2)، وإن أمكن حملها على درجات الفضل والندب، فلا يلزم نفي أصل المعية بانتفاء الإحسان، لكن قرينية (الذين اتقوا) قد تكون وافية بالمراد، فتأمل.

إلى غيرها من الآيات والروايات.

وظاهر الإطلاق في (أوصت لأزواجالنبي) شمول الوصية بإعطاء اثني عشر أوقية لأمثال عائشة وحفصة أيضا، ولعل وجهه المزيد من إتمام الحجة عليهن بالإحسان إليهن مالياً لكي لا يكون حرمانهن ذريعة لهن لعدائهن مع الصديقة الزهراء (عليها السلام).

ص: 333


1- سورة النحل: 90.
2- سورة النحل: 128.

الوصية لنساء الأقارب

مسألة: تستحب الوصية للنساء من الأقارب ومن أشبه، كما أوصت الصديقة (عليها السلام) لهن، وهل الاستحباب خاص للمرأة أن توصي للنساء أم تشمل الرجل أيضاً، لا يبعد الأعم.

أما ما ورد من النهي عن ذلك فمحمول على غير الرشيدة أو ما أشبه، أو يراد أن تكون هي الوصي(1).

الوصية المتساوية والمتفاضلة

مسألة: تستحب الوصية بنحو المساواة بين المتساويين من جهة أو من جهات، إلاّ إذا كانت جهة مرجحة خارجية، كما تستحب المفاضلة بين المتفاضلين على حسب فضلهم، إلاّ إذا كانت جهة مزاحمة أقوى تقتضي المساواة، كما لو كان ذلك يوجب الفتنة أو الحسد أو شبه ذلك.

ولعل لذلك أوصت الصديقة (عليها السلام) بالمساواة بين أزواج النبي (صلى الله عليه وآله) رغم تفاضلهن، وبمساواتهن مع نساء بني هاشم رغم اختلافهن، والحاصل لزوم مراعاة الحكمة في الوصية، فقد تقتضي المساواة وقدتقتضي المفاضلة.

قال تعالى: «وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثيراً»(2)، فهذا الدليل

ص: 334


1- انظر من لا يحضره الفقيه: ج 4 ص226 باب كراهية الوصية إلى المرأة ح5533.
2- سورة البقرة: 269.

حاكم على ما ربما يستفاد من مثل: (الناس سواء كأسنان المشط)(1)، و«فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لكَ فِي الدِّينِ وإِمَّا نَظِيرٌ لكَ فِي الخَلق»(2)، لو فرض أن له دلالة التزامية باستحباب المساواة حتى في مثل الوصية.كما أنه حاكم على مثل ما يفيد إيتاء كل ذي فضل فضله، نعم ذلك في غير ما نص عليه الشارع كالإرث، فإنه لا يجوز تقسيمه إلاّ كما حدده الشارع.

عَنْ شُعَيْبِ بْنِ يَعْقُوبَ قَال: سَأَلتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) عَنِ الرَّجُل يَمُوتُ مَا لهُ مِنْ مَالهِ، فَقَال: «لهُ ثُلثُ مَالهِ، وللمَرْأَةِ أَيْضاً»(3).

ص: 335


1- تحف العقول: ص368، كما ورد قوله: (النَّاسُ كَأَسْنَانِ المُشْطِ سَوَاءٌ) من لا يحضره الفقيه: ج 4 ص379 ومن ألفاظ رسول الله (صلى الله عليه وآله) الموجزة التي لم يسبق إليها ح5798، وقوله: (النَّاسُ كُلهُمْ سَوَاءٌ كَأَسْنَانِ المُشْط) نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: ص39.
2- نهج البلاغة: الرسائل 53، تحف العقول: ص127 عهده (عليه السلام) إلى الأشتر حين ولاه مصر وأعمالها، بحار الأنوار: ج 33 ص600 ب30 باب الفتن الحادثة بمصر وشهادة محمد بن أبي بكر ومالك الأشتر (رضي الله عنهما) وبعض فضائلهما وأحوالهما وعهود أمير المؤمنين (عليه السلام) إليها ح742، وج 74 ص241 ب10 عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى الأشتر (رحمه الله) حين ولاه مصر ح1، مستدرك الوسائل: ج 13 ص161 ب42 باب ما ينبغي للوالي العمل به في نفسه ومع أصحابه ومع رعيته، جامع أحاديث الشيعة: ج 22 ص640 ب41 باب ما ينبغى للوالي العمل به في نفسه ومع أصحابه ومع رعيته ح16.
3- الكافي: ج 7 ص11 باب ما للإنسان أن يوصي به بعد موته وما يستحب له من ذلك ح3.

الوصية للمعصوم

مسألة: يستحب الوصية بشيء للمعصوم (عليه السلام) كما أوصت الصديقة (عليها السلام) لعلي (صلوات الله عليه)، ولا يختص ذلك بحال حياة المعصوم بل يستحب أن يوصي لمشهده الشريف، وما يتعلق به كالمساجد أو الحسينيات أو المكتبات التي باسمه المبارك، أو شبه ذلك، فيصرف فيها وفيما يرتبط به من شؤونه (عليه السلام)، ومنها هداية الناس إلى معرفته ومعرفة حقوقه ونشر علومه عن طريق طباعة الكتب وتكثير الأشرطة وغيرها.

كما تستحب أصل الوصية لنفسه ولأقربائه ولمطلق الخير.

قال تعالى: «كُتِبَ عَليْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الوَصِيَّةُ للوالدَيْنِ والأَقْرَبينَ بِالمَعْرُوفِ حَقًّا عَلى المُتَّقين»(1).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال:

«كَانَ البَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ الأَنْصَارِيُ بِالمَدِينَةِ، وكَانَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) بِمَكَّةَ، وإِنَّهُ حَضَرَهُ المَوْتُ وكَانَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) بِمَكَّةَ وأَصْحَابُهُ والمُسْلمُونَ يُصَلونَ إِلى بَيْتِ المَقْدِسِ، وأَوْصَى البَرَاءُ إِذَا دُفِنَ أَنْ يُجْعَل وَجْهُهُإِلى تِلقَاءِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) إِلى القِبْلةِ، وأَوْصَى بِثُلثِ مَالهِ، فَجَرَتْ بِهِ السُّنَّةُ»(2).

وعَنِ السَّكُونِيِّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ (عليهما السلام) قَال: «مَنْ

ص: 336


1- سورة البقرة: 180.
2- الكافي: ج 7 ص10 باب ما للإنسان أن يوصي به بعد موته وما يستحب له من ذلك ح1.

لمْ يُوصِ عِنْدَ مَوْتِهِ لذَوِي قَرَابَتِهِ فَقَدْ خَتَمَ عَمَلهُ بِمَعْصِيَةٍ»(1).

وعَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ بَعْضِ الأَئِمَّةِ (عليهم السلام) قَال: «إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتَعَالى يَقُول: ابْنَ آدَمَ تَطَوَّلتُ عَليْكَ بِثَلاثٍ، سَتَرْتُ عَليْكَ مَا لوْ يَعْلمُ بِهِ أَهْلكَ مَا وَارَوْكَ، وأَوْسَعْتُ عَليْكَ فَاسْتَقْرَضْتُ مِنْكَ فَلمْ تُقَدِّمْ خَيْراً، وجَعَلتُ لكَ نَظِرَةً عِنْدَ مَوْتِكَ فِي ثُلثِكَ فَلمْ تُقَدِّمْ خَيْراً»(2).

ص: 337


1- من لا يحضره الفقيه: ج 4 ص182 باب ما جاء فيمن لم يوص عند موته لذي قرابته ممن لا يرث بشي ء من ماله قل أو كثر ح5415.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 4 ص181 باب حجة الله عز وجل على تارك الوصية ح5410.

قراءة الوصية

عن أبي بصير، قال أبو عبد الله (عليه السلام) : إلاّ أقرؤك وصية فاطمة (عليها السلام)؟ قلت: بلى. قال: فأخرج إليّ صحيفة: «هذا ما عهدت فاطمة بنت محمد (عليها السلام) في أموالها إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فإن مات فإلى الحسن (عليه السلام)، فإن مات فإلى الحسين (عليه السلام)، فإن مات فإلى الأكبر من ولدي دون ولدك: الدلال، والعواف، والمبيت، والبرقة، والحسنى، والصافية، وما لأم إبراهيم». شهد الله عزوجل على ذلك والمقداد بن الأسود والزبير بن العوام(1).

-------------------------------

إقراء الوصية

مسألة: يستحب إقراء الناس وصية عظماء الدين.

فإن مثل هذا الإقراء يوجب معرفة الناس بالأحكام الشرعية التي دلت عليها الوصية، سواء بالدلالة المطابقية أو التضمنية أو الالتزاميةأو غيرها(2)، كما أنه يوجب تعرف الناس على الأسلوب في الوصية لتتخذ أسوة.

قول الصديقة (عليها الصلاة والسلام): «شهد الله عزوجل» فيه محتملات

ص: 338


1- بحار الأنوار: ج 43 ص235 ب10 أوقافها وصدقاتها (صلوات الله عليها) ح30، عن الكافي: ج 7 ص49 باب صدقات النبي (صلى الله عليه وآله) وفاطمة والأئمة (عليهم السلام) ووصاياهم ح6.
2- كدلالة الاقتضاء، مثل (شهد) أي بعدم تكذيبه وعدم ردعه خارجاً.

ومعان:

المعنى الأول: إنه تعالى شهيد بعلمه وقيموميته وإحاطته على ذلك، فإنه سبحانه شهيد على كل شيء سواء أشهده الإنسان أو لم يشهده، لكنه بقوله يكون آكد إثباتاً(1)، وإن كان في عالم الثبوت مما لا يختلف.

المعنى الثاني: بمعنى جعلته سبحانه شهيداً على ذلك.

فالمعنى الأول إخبار وهذا المعنى إنشاء، وليس تحصيلاً للحاصل إذ إنه اعتبار يوجد بإنشائه.

المعنى الثالث: الشهادة التكوينية، كما في مثل قوله سبحانه: «وَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً»(2)، فإنه استدلال على صدق الرسول (صلى الله عليه وآله) بعدم ردع الله تعالى، إذ لو لم يكن صادقاً - والعياذ بالله - لكان على الله ردعه أوفضحه، فعدم الردع والفضح دليل على تصديقه له، فهو شهادته له، فكيف بما إذا أيده بمختلف المعاجز، ومنها القرآن الحكيم النازل تحدياً للبشر بأنه لا يمكن أن يأتي بمثله بكامله، بل ولا بعشر سور من سوره، بل ولا بسورة واحدة، ولا بحديث مثله.

لكن المعنى الثالث مستبعد في المقام.

ثم إن السبب في تحديد الصديقة (عليها السلام) (الأكبر من ولدي دون ولدك) هو أن ولدها - وهم أولاده أيضاً كما هو واضح - هم الذين فيهم الأئمة (عليهم السلام) دون أولاده (عليه السلام) من غيرها.

ص: 339


1- اي إنه مثل سائر الإخبارات عن الحقائق الخارجية، كما تقول عن الناظر إلى فعل ما إنه شاهد على ذلك أو إنه من الشهود عليه.
2- سورة النساء: 79 و166، سورة الفتح: 28.

قولي ما أحببت

قالت الصديقة فاطمة (عليها السلام): يا ابن العم أريد أن أوصيك بأشياء فاحفظها علي.

فقال لها: قولي ما أحببت.قالت له: تزوّج فلانة، تكون مربية لولدي من بعدي مثلي، واعمل نعشاً رأيت الملائكة قد صورته لي...

قال علي (عليه السلام): أفعل(1).

-----------------------------

حفظ الوصية

مسألة: يجب حفظ الوصية، خاصة وصية المعصوم (عليه السلام)، والمراد من (احفظ علي) إما حفظها مقدمة للعمل بها، أو هو كناية عن العمل نفسه أي فاعمل بها.

ص: 340


1- انظر علل الشرائع: ج 1 ص188 ب149 باب العلة التي من أجلها دفنت فاطمة عليها السلام بالليل ولم تدفن بالنهار ح2.

ما يقال للمحتضر

مسألة: يستحب أن يقال للمحتضر أن يوصي بما أحب، كما قال علي (عليه السلام) للصديقة (عليها السلام): «قولي ما أحببت».

فإنه نوع من الإكرام للمؤمن ونوع من الإحسان وكلاهما مستحب، إضافة إلى التأسي بهم (صلوات الله عليهم).

التلفظ بالوصية

مسألة: ينبغي تلفظ الإنسان بوصاياه.

ولا يخفى أن كلاً من التلفظ والإشارة والكتابة داخل في جامع استحباب الوصية، وإن كان للتلفظ مزية وللإشارة مزية وللكتابة مزية، كل في مورده.

فمزية التلفظ أنه إقرار فهو داخل في (إقرار العقلاء على أنفسهم) فتأمل(1)، وأنه يسمعه ويفهمه من يعرف القراءة ومن لا يعرف، وأن احتمال نفي نسبته لقائله في المباشر، أقل عكسالكتابة.

ومزية الإشارة أنها عمل جوارحي، والعمل الجوارحي ربما يكون أدل، فقد يقول الإنسان شيئاً ربما يحتمل المجاز، وقد يعمل شيئاً لا يحتمل المجاز

ص: 341


1- لعل وجهه أن الوصية تتضمن أو تستلزم الإقرار، فإن مسلك الإمام المصنف (قدس سره) أن الإقرار ليس من العقود والإيقاعات وليس بإنشاء، انظر (الفقه): ج73 ص253. أما الوصية فيرى المصنف (رحمه الله) أن بعضها عقود وبعضها إيقاعات وبعضها وعود وبعضها استدعاء، راجع (الفقه): الوصية ج61 ص8.

كالإشارة باليد أو بالرأس بأن يأتي أو لا يأتي.

ومزية الكتابة أنها تبقى، وفي الحديث: «قيّدوا العلم بالكتابة»(1).

وفي حديث آخر: «قَيِّدُوا العِلمَ بِالكِتَابِ»(2).

ورُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) أَنَّهُ قَال: «قَيِّدُوا العِلمَ، قِيل: ومَا تَقْيِيدُهُ، قَال: كِتَابَتُه»(3).

كما أنها لا تحتمل عادة التغيير بالقياس إلى اللفظ المحتمل فيه ذلك أكثر، لخطأ الحافظة في بعض الأحيان.

ولعل الكتابة هنا أرجح من اللفظ، واللفظ أرجح من الإشارة، نعم تجب أحياناً الكتابة إذا توقف عليها إثبات الحقوق، كما ذكرناه في الفقه بابالوصية(4).

وأما قولها (عليها السلام): (تكون مربية لولدي من بعدي مثلي)، فإنه يراد بكونها مثلها إما المجاز بإرادة أقرب المعاني الممكنة للحقيقة، إذ لا يعقل أن يكون غيرها مثلها (صلوات الله عليها) في التربية، أو الحقيقة بإرادة المعنى الظاهري المادي الملموس من التربية، لا المعنوي الروحي العلمي وشبه ذلك.

ص: 342


1- أعلام الدين: ص82، بحار الأنوار: ج 58 ص124.
2- تحف العقول: ص36.
3- منية المريد: ص267.
4- راجع موسوعة (الفقه): ج61 كتاب الوصية.

الأصلح في تربية الأبناء

مسألة: ينبغي انتخاب الأصلح والأفضل لتربية الأبناء عند الزواج بامرأة أخرى بعد وفاة الأولى أو طلاقها أو شبه ذلك(1).

كما ورد انتخاب الأصلح في أصل الزواج واختيار المرضعة.

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُسْكَانَ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ قَال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُول: «إِنَّمَا المَرْأَةُ قِلادَةٌ فَانْظُرْ إِلى مَا تَقَلدُهُ، قَال: وَسَمِعْتُهُ يَقُول: «ليْسَ للمَرْأَةِ خَطَرٌ لا لصَالحَتِهِنَّ ولا لطَالحَتِهِنَّ، أَمَّا صَالحَتُهُنَّ فَليْسَ خَطَرُهَا الذَّهَبَ والفِضَّةَ، بَل هِيَ خَيْرٌ مِنَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ، وأَمَّا طَالحَتُهُنَّ فَليْسَ التُّرَابُ خَطَرَهَا بَل التُّرَابُ خَيْرٌ مِنْهَا»(2).

وقَامَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) خَطِيباً فَقَال: «أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وخَضْرَاءَ الدِّمَنِ».

قِيل: يَا رَسُول اللهِ ومَا خَضْرَاءُ الدِّمَنِ، قَال: «المَرْأَةُ الحَسْنَاءُ فِي مَنْبِتِ السَّوْءِ»(3).وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «لا تَسْتَرْضِعُوا الحَمْقَاءَ فَإِنَّ اللبَنَ يُعْدِي، وإِنَّ الغُلامَ يَنْزِعُ إِلى اللبَنِ يَعْنِي إِلى الظِّئْرِ فِي الرُّعُونَةِ والحُمْقِ»(4).

ص: 343


1- كغيبتها مدة طويلة لتهجير أو سجن أو شبه ذلك.
2- الكافي: ج 5 ص332 باب اختيار الزوجة ح1.
3- الكافي: ج 5 ص332 باب اختيار الزوجة ح4.
4- الكافي: ج 6 ص43 باب من يكره لبنه ومن لا يكره ح8.

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «كَانَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (صلوات الله عليه) يَقُول: لا تَسْتَرْضِعُوا الحَمْقَاءَ فَإِنَّ اللبَنَ يَغْلبُ الطِّبَاعَ، وَقَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): لا تَسْتَرْضِعُوا الحَمْقَاءَ فَإِنَّ الوَلدَ يَشِبُّ عَليْهِ»(1).

رؤية الملائكة

مسألة: الظاهر أن الصديقة (عليها السلام) وسائر المعصومين (عليهم السلام) يرون الملائكة، ولكنهم لا يوحى إليهم بالوحي النبوي كما هو واضح، وأما تكلمهم مع الملائكة وتكلمها معهم فهو ممكن وواقع، وليس هو بالوحي المصطلح أي ما يوحى للنبي بما هو نبي.

وفي روايات كثيرة أن الملائكة تختلف عليهم (صلوات الله عليهم):قَال عَليُّ بْنُ الحُسَيْنِ (عليه السلام): «ما يَنْقِمُ النَّاسُ مِنَّا فَنَحْنُ واللهِ شَجَرَةُ النُّبُوَّةِ وبَيْتُ الرَّحْمَةِ ومَعْدِنُ العِلمِ ومُخْتَلفُ المَلائِكَةِ»(2).

وعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ (عليهما السلام) قَال: قَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «إِنَّا أَهْل البَيْتِ شَجَرَةُ النُّبُوَّةِ ومَوْضِعُ الرِّسَالةِ ومُخْتَلفُ المَلائِكَةِ وبَيْتُ الرَّحْمَةِ ومَعْدِنُ العِلمِ»(3).

وعَنْ خَيْثَمَةَ قَال: قَال لي أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «يَا خَيْثَمَةُ نَحْنُ شَجَرَةُ

ص: 344


1- الكافي: ج 6 ص43 باب من يكره لبنه ومن لا يكره ح9.
2- الكافي: ج 1 ص221 باب أن الأئمة عليهم السلام معدن العلم وشجرة النبوة ومختلف الملائكة ح1.
3- الكافي: ج 1 ص221 باب أن الأئمة عليهم السلام معدن العلم وشجرة النبوة ومختلف الملائكة ح2.

النُّبُوَّةِ وبَيْتُ الرَّحْمَةِ ومَفَاتِيحُ الحِكْمَةِ ومَعْدِنُ العِلمِ ومَوْضِعُ الرِّسَالةِ ومُخْتَلفُ المَلائِكَةِ ومَوْضِعُ سِرِّ اللهِ، ونَحْنُ وَدِيعَةُ اللهِ فِي عِبَادِهِ، ونَحْنُ حَرَمُ اللهِ الأَكْبَرُ، ونَحْنُ ذِمَّةُ اللهِ، ونَحْنُ عَهْدُ اللهِ، فَمَنْ وَفَى بِعَهْدِنَا فَقَدْ وَفَى بِعَهْدِ اللهِ، ومَنْ خَفَرَهَا فَقَدْ خَفَرَ ذِمَّةَ اللهِ وعَهْدَهُ»(1).وفي زيارة الجامعة: «السَّلامُ عَليْكُمْ يَا أَهْل بَيْتِ النُّبُوَّةِ ومَوْضِعَ الرِّسَالةِ ومُخْتَلفَ المَلائِكَةِ ومَهْبِطَ الوَحْيِ ومَعْدِنَ الرَّحْمَةِ وخُزَّانَ العِلمِ ومُنْتَهَى الحِلمِ وأُصُول الكَرَم»(2).

ص: 345


1- الكافي: ج 1 ص221 باب أن الأئمة (عليهم السلام) معدن العلم وشجرة النبوة ومختلف الملائكة ح3.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 2 ص610 زيارة جامعة لجميع الأئمة (عليهم السلام).

الدفن ليلاً

روي أن فاطمة (صلى الله عليه وآله) أوصت: أن تدفن ليلاً.

-------------------------

مسألة: يستحب أو يجب الوصية بالدفن ليلاً إذا كان الدفن في النهار مقدمة لمحذور من المحرمات أو المكروهات، أو كان في الدفن ليلاً مصلحة ملزمة أو راجحة.

والمحذور قد يكون العدو أو الحيوان أو ما أشبه.

والمصلحة قد تكون فضح الظالم وإظهار البراءة منه كما صنعت الصديقة (صلوات الله عليها).

وفي العكس أيضاً كذلك، كما إذا كان في دفن الليل محذور فإنه يستحب أو يجب الدفن نهاراً، وكذلك بالنسبة إلى ساعات الليل والنهار على حسب القواعد العامة.

وإلا فالأفضل التعجيل بتجهيز الميت على ما ذكر في أحكامه.

قَال ابْنُ طَلحَةَ: فَلمَّا مَاتَ علي (عليه السلام) غَسَّلهُ الحَسَنُ والحُسَيْنُ، ومُحَمَّدٌ يَصُبُّ المَاءَ، ثُمَّ كُفِّنَ وحُنِّطَ وحُمِل ودُفِنَ فِي جَوْفِ الليْل بِالغَرِي (1).

ص: 346


1- كشف الغمة: ج 1 ص437 في ذكر قتله ومدة خلافته وذكر عدد أولاده صلوات الله عليه.

وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «يَا مَعْشَرَ النَّاسِ لا أَلقَيَنَ رَجُلا مَاتَ لهُ مَيِّتٌ ليْلا فَانْتَظَرَ بِهِ الصُّبْحَ، ولا رَجُلا مَاتَ لهُ مَيِّتٌ نَهَاراً فَانْتَظَرَ بِهِ الليْل، لا تَنْتَظِرُوا بِمَوْتَاكُمْ طُلوعَ الشَّمْسِ ولا غُرُوبَهَا، عَجِّلوا بِهِمْ إِلى مَضَاجِعِهِمْ يَرْحَمُكُمُ اللهُ، قَال النَّاسُ: وأَنْتَ يَا رَسُول اللهِ يَرْحَمُكَ اللهُ»(1).

ص: 347


1- وسائل الشيعة: ج 2 ص472 ب47 باب استحباب تعجيل تجهيز الميت ودفنه ليلا مات أو نهارا مع عدم اشتباه الموت ح1. وراجع الكافي: ج 3 ص137 باب تعجيل الدفن ح1، تهذيب الأحكام: ج 1 ص427 ب23 باب تلقين المحتضرين ح4، من لا يحضره الفقيه: ج 1 ص140 باب غسل الميت ح386.

السرير الطاهر

اشارة

روي أنه: أوصت فاطمة (عليها السلام) أن تحمل على سرير طاهر.

----------------------------

سرير الميت

مسألة: يستحب الوصية بالحمل على سرير طاهر.

مسألة: لا تشترط الطهارة في السرير الذي يحمل عليه الميت وإن كانت مستحبة، نعم لا تجوز النجاسة المسرية إلى كفن الميت أو جسده.

ثم إنه هل الطهارة تشمل المعنى الأعم أي المعنوية أيضاً، بأن لا يكون السرير وشبهه مغصوباً، أو تختص بالطهارة الظاهرية بأن لا يكون نجساً، الإطلاق يقتضي الأعم، وإن كان الانصراف يقتضي الأخص(1).

كما أن الطهارة الظاهرية تشمل الطهارة عن القذارة وإن لم تكن نجسة، وعن النجاسة كما لا يخفى.

قال تعالى: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابينَ وَيُحِبُّالمُتَطَهِّرين»(2).

ص: 348


1- ويحتمل أن يكون إطلاقه على غير الأخص مجازاً، نظراً لأن إطلاق الطاهر على الطاهر من الغصب بعلاقة مصححة، وفيه: إن الطاهر للجامع، والقرينة معينة.
2- سورة البقرة: 222

دعاء عند الوفاة

اشارة

قالت أسماء: فرأيتها - أي الصديقة فاطمة (عليها السلام) - رافعةً يديها إلى السماء وهي تقول: «اللهم إني أسألك بمحمد المصطفى وشوقه إليّ، وببعلي علي المرتضى وحزنه عليّ، وبالحسن المجتبى وبكائه عليّ، وبالحسين الشهيد وكآبته عليّ، وببناتي الفاطميات وتحسّرهن عليّ، أن ترحم وتغفر للعصاة من أمة محمد وتدخلهم الجنة، إنك أكرم المسؤولين وأرحم الراحمين»(1).

----------------------------

الدعاء بالخمسة الطيبة

مسألة: يستحب الدعاء بالخمسة الطيبة (عليهم السلام)، كما سألت الصديقة (عليها السلام) الباري عزوجل بهم في دعائها.

وقد أمر الله أنبياءه (عليهم السلام) في الأمم السابقة بالتوسل بهم (صلوات الله عليهم) كما دلت على ذلك متواتر الروايات، بل هذا موجود في روايات العامة أيضاً.

عَنِ الصَّادِقِ (عليه السلام) فِي حَدِيثٍ قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله):

ص: 349


1- عوالم العلوم: ج 11 قسم2 فاطمة (سلام الله عليها) ص891 ب58 كلامها ودعاؤها (عليها السلام) عند وفاتها ح120.

«إِنَّهُيُكْرَهُ للعَبْدِ أَنْ يُزَكِّيَ نَفْسَهُ ولكِنِّي أَقُول: إِنَّ آدَمَ (عليه السلام) لمَّا أَصَابَ الخَطِيئَةَ كَانَتْ تَوْبَتُهُ أَنْ قَال: اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلكَ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ وآل مُحَمَّدٍ لمَّا غَفَرْتَ لي، فَغَفَرَهَا لهُ.

وإِنَّ نُوحاً (عليه السلام) لمَّا رَكِبَ السَّفِينَةَ وخَافَ الغَرَقَ قَال: اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلكَ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ وآل مُحَمَّدٍ لمَّا أَنْجَيْتَنِي مِنَ الغَرَقِ، فَأَنْجَاهُ اللهُ مِنْهُ.

وإِنَّ إِبْرَاهِيمَ (عليه السلام) لمَّا أُلقِيَ فِي النَّارِ قَال: اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلكَ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ وآل مُحَمَّدٍ لمَّا أَنْجَيْتَنِي مِنْهَا، فَجَعَلهَا اللهُ عَليْهِ بَرْداً وسَلاماً.

وإِنَّ مُوسَى (عليه السلام) لمَّا أَلقَى عَصَاهُ وأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً قَال: اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلكَ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ وآل مُحَمَّدٍ لمَّا آمَنْتَنِي، فَقَال لهُ اللهُ عَزَّ وجَل: لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلى»(1).

وعَنْ دَاوُدَ الرَّقِّيِّ قَال: إِنِّي كُنْتُ أَسْمَعُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) أَكْثَرُ مَا يُلحُّ بِهِ فِي الدُّعَاءِ عَلى اللهِ بِحَقِ الخَمْسَةِ، يَعْنِي رَسُول اللهِ وأَمِيرَ المُؤْمِنِينَ وفَاطِمَةَ والحَسَنَ والحُسَيْنَ عليهم السلام»(2).وعَنِ المُفَضَّل بْنِ عُمَرَ، عَنِ الصَّادِقِ (عليه السلام) فِي قَوْلهِ تَعَالى «وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلماتٍ»(3)، قَال: «هِيَ الكَلمَاتُ التِي تَلقَّاهَا آدَمُ مِنْ رَبِّهِ فَتَابَ عَليْهِ، وهُوَ أَنَّهُ قَال: يَا رَبِّ أَسْأَلكَ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ وعَليٍّ وفَاطِمَةَ والحَسَنِ والحُسَيْنِ

ص: 350


1- وسائل الشيعة: ج 7 ص100 ب37 باب استحباب التوسل في الدعاء بمحمد وآل محمد (عليهم السلام) ح6.
2- وسائل الشيعة: ج 7 ص97 ب37 باب استحباب التوسل في الدعاء بمحمد وآل محمد (عليهم السلام) ح1.
3- سورة البقرة: 124.

إلاّ تُبْتَ عَليَّ فَتَابَ عَليْهِ»(1) الحديث.

وعَنْ أَبَانِ بْنِ تَغْلبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي حَدِيثِ قِصَّةِ يُوسُفَ يَقُول فِي آخِرِهِ: «هَبَطَ جَبْرَئِيل عَلى يَعْقُوبَ فَقَال: إلاّ أُعَلمُكَ دُعَاءً يَرُدُّ اللهُ بِهِ بَصَرَكَ ويَرُدُّ عَليْكَ ابْنَيْكَ، قَال: بَلى، قَال: فَقُل: مَا قَالهُ أَبُوكَ آدَمُ فَتَابَ اللهُ عَليْهِ، ومَا قَالهُ نُوحٌ فَاسْتَوَتْ سَفِينَتُهُ عَلى الجُودِيِّ ونَجَا مِنَ الغَرَقِ، ومَا قَالهُ أَبُوكَ إِبْرَاهِيمُ خَليل الرَّحْمَنِ حِينَ أُلقِيَ فِي النَّارِ فَجَعَلهَا اللهُ عَليْهِ بَرْداً وسَلاماً، قَال يَعْقُوبُ: وَمَا ذَلكَ يَا جَبْرَئِيل.

فَقَال: قُل: اللهُمَ إِنِّي أَسْأَلكَ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ وعَليٍّ وفَاطِمَةَ والحَسَنِ والحُسَيْنِ (عليهم السلام) أَنْ تَأْتِيَنِي بِيُوسُفَ وبِنْيَامِينَ جَمِيعاً وتَرُدَّ عَليَّ عَيْنِي، فَقَالهُ فَمَااسْتَتَمَّ يَعْقُوبُ هَذَا الدُّعَاءَ حَتَّى جَاءَ البَشِيرُ فَأَلقَى قَمِيصَ يُوسُفَ عَليْهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً»(2).

لوحات سليمانية

ونقل أنه وجد أخيراً في الحرب العالمية الأولى سنة 1916م، عندما كان بعض الجنود البريطانيين يحفرون ملاجئ لهم في الحرب في قرية (أونتره) التي تبعد بضعة كيلو مترات عن مدينة القدس أنهم عثروا على لوح فضية مرصعة حواشيها بالمجوهرات الثمينة قد رسمت في وسطها حروف مذهبة، فأخذ الجنود تلك اللوح

ص: 351


1- وسائل الشيعة: ج 7 ص99 ب37 باب استحباب التوسل في الدعاء بمحمد وآل محمد (عليهم السلام) ح4.
2- وسائل الشيعة: ج 7 ص97 ب37 باب استحباب التوسل في الدعاء بمحمد وآل محمد (عليهم السلام) ح7.

إلى قائدهم(1) وكلما حاول هذا القائد فهم تلك الخطوط لم يتمكن، لكنه أدرك أن اللوحة كتبت بلغة قديمة جداً، ثم تناقلت هذه اللوحة أيد كثيرة إلى أن وصلت إلى يد القائد الجيش(2) وبعد جمع عدة من العلماء في اللغات القديمة من بريطانيا وأمريكا وفرنسا وألمانيا وجملة من الدول الأوروبيةكشفوا(3) أن هذه لوحة كتب في زمان سليمان (عليه الصلاة والسلام) وهو كلامه، ففي اللوح كتب هذا الكلام:

«يا أحمد أغثني، يا علي أعني، يا بتول اطفي عليّ(4)، يا حسن أكرمني(5)، يا حسين سرني(6)، هذا سليمان يستغيث الآن بهذه العظماء الخمسة، وعليٌّ هو قدرة الله»(7).

وقد سببت هذه اللوحة إسلام جماعة من الغربيين(8).

ص: 352


1- وهو مَجَري واسمه (اين كرنول).
2- وهو كلادستون.
3- وقد تمت الترجمة في 3 / 1 / 1920.
4- أو برعايتك.
5- أو بكرمك.
6- أو أحسن.
7- وكان من المقرر وضع هذه اللوحة في المتحف الملكي البريطاني إلاّ أن الأسقف الأعظم (لورد ريشوب) أصر على اخفائه ووضعه في أمانة السر للكنيسة البريطانية وقال ما ملخصه: ( إذا صارت هذه اللوحة أمام أنظار الناس فسوف يتضعضع أساس المسيحية وسوف يشيع المسيحيون بأنفسهم جنازة المسيحية ويدفنونها في مقبرة النسيان). وللمزيد من التفاصيل عن هذه القضية يراجع الصفحة 249 من كتاب Wahder fulstories of islam ومجلة كرانيكل - لندن 30 ديسمبر 1926 م.
8- ومنهم (تامس) و(وليام).

لوحات سفينة نوح

ونقل أيضاً في قصة مشابهة في شهر حزيران من عام 1951م كانت من مجموعة من خبراء المناجم الروس تبحث عن منجم فاشتغلوا بحفر الأرض، وعند ذلك عثروا على بعض الألواح الخشبية القديمة التي نخرتها الأرض وأثرت أثرها فيها، وبعدما حفروا أكثر وجدوا قطعاً كثيرة تحت الأرض قد أصبحت خاوية بسبب مرور الزمن عليها، ومن العلامات الموجودة عليها أدركوا بأنها لابد أن تتكون من الخشب غير العادي وتشتمل على بعض الرموز، ولذا أخذوا ينبشون الأرض بدقة كاملة فرأوا قطعاً من الخشب البالي وأشياء أخرى ثم رأوا خشبة مستطيلة الشكل قد حيّرتهم جميعاً لأنها كانت صحيحة سالمة لم تؤثر الأرض فيها بخلاف سائر الخشب.

ثم إن الدولة الروسية لما علمت بهذا الحادث شكلت(1) لجنة بالتحقيق حول هذه الخشبة، وقد شكلت اللجنة بعضوية جملة من خبراء الآثار وأساتذة اللغات القديمة وبالنتيجة وبعد ثمانية أشهر من التحقيق انكشفت لدى اللجنة أسرار هذه الخشبة، وتبين لها أن هذه الخشبة هي قطعة من سفينة نوح (عليه السلام) قدكتب عليها بعض الكلمات باللغة السامانية، للاستنجاد والتيمن، وكان الرسم بشكل كف اليد، وكان قد علقها على صدر السفينة، وكان المكتوب عليها بترجمتنا العربية له:

«يا رب يا معيني، بلطفك ورحمتك وبالذوات المقدسة محمد، إيليا،

ص: 353


1- شكلت اللجنة في 27 شباط 1953م.

شبّر، شبير، وفاطمة (عليهم السلام) خذ بيدي، هذه الذوات الخمسة المقدسة هي أعظم من كل أحد، ويجب احترامها، وخُلق كل العالم لأجلها، إلهي بواسطة أسمائهم أسعفني، إنك قادر على أن تهدي الناس إلى الصراط المستقيم»(1).

ثم لا يخفى استدلالنا على عظمة الخمسة الطيبة وسائر المعصومين (عليهم السلام) ومكانتهم هو بالعقل والمعجزات والقرآن والنقل المتواتر، الصيحح سنداً، والصريح دلالةً، وبالبراهين العلمية، وأما ما نقلناه فيصلح دليلاً أو مؤيداً حتى للمشكك، فإنه لا مجال لاستبعاد ذلك بل إن وجود اللوحين هو على القاعدة(2).

ص: 354


1- المصدر: مجلة weekly mimmor ديسمبر 1953 م. ومجلة taoalle h306 نوفمبر، موسكو.
2- فإن الناس يستغيث بعضهم ببعض، كما يستنجدون بالشرطة وقوات الدرك وغيرها، وكما تستنجد المراكب في البحار والطائرات في الأجواء وغيرها بقوات خفر السواحل وغيرها وعبر الإشارات اللاسلكية أو الرسائل الصوتية أو المكتوبة أو إرسال سفير ومندوب أو غير ذلك، مع عدم علمهم بوصول رسالة الاستنجاد أو علمهم بالوصول أو شكهم في قدرة المستنجد بهم على فعل شيء. وإذا كان ذلك حال الناس يفعلونه بفطرتهم واضطرار عقولهم، فلماذا لا يستنجد الأنبياء (علهيم السلام) وهم سادة العقلاء بإله الأرضين والسماوات، ولما ذا لا يستشفعون بأحب الخلق إليه تعالى، قال عزوجل: «وَ لوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَ اسْتَغْفَرَ لهُمُ الرَّسُول لوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحيم» سورة النساء: 64.

التوسل بالفاطميات

مسألة: يستحب التوسل والدعاء بالنساء الفاطميات، كالسيدة الجليلة زينب الكبرى (صلوات الله عليها).

ومنه يعلم استحباب التوسل بالسيدة الجليلة أم البنين (عليها السلام)، والسيدة الجليلة فاطمة بنت أسد (عليها السلام) وأمهات المعصومين (صلوات الله عليهم)، ومن أشبه من الصالحات المنتسبات إلى أهل البيت (عليهم السلام).

وذلك لعدم القول بالفصل، بل لإلغاء الخصوصية في أصل القضية وإن كانت ذات مدخلية في درجاتها، وسائر الأدلة بإطلاقها شاملة للمقام، مثل قوله تعالى: «وَابْتَغُوا إِليْهِ الوَسيلة»(1).

كما قالت الصديقة (عليها الصلاة والسلام): «وببناتي الفاطميات».

ثم إن إتيانها بصيغة الجمع (ببناتي) فيه احتمالان:

الأول: المراد هو الجمع المنطقي والعرفي حيث يصدق على الاثنين، فيراد بها زينب وأم كلثوم (عليهما السلام). وإطلاق الجمع على الاثنين كثير، كما لا يخفى على من له إلمام باللغةالعربية، بل وحتى سائر اللغات.

الاحتمال الثاني: ما ذكره بعض المؤرخين من أن الصديقة فاطمة (عليها الصلاة والسلام) ولدت لعلي (عليه الصلاة والسلام) ثلاث بنات: زينب وأم كلثوم وبنت ثالثة، فالجمع لغوي أيضاً، لا منطقي عرفي فقط.

ص: 355


1- سورة المائدة: 35.

ولا يبعد شمول الملاك في ما ذكر من التوسل بهن (عليهن السلام) لسائر المقربين إلى الله سبحانه من العلماء والزهاد والعباد ومن أشبه.

السبط وكثرة البكاء على الأُم

مسألة: يستحب بيان أن الإمام الحسن (عليه السلام) كان كثير البكاء على أُمه فاطمة (عليها السلام)، وكان الإمام الحسين (عليه السلام) كثير الكآبة عليها (صلوات الله وسلامه عليها).

وهذا يدل على شدة ارتباطهما بأُمهما فاطمة (عليها السلام) ورقة قلبهما.

ويستحب التأسي بهما في ذلك أيضاً.

والكآبة هي الغم والانكسار من الحزن، وتتجلى بعض التجلي على ملامح الوجه وغيره، من دون بكاء أو مع قلته، وأما البكاء فهو المظهر الأظهر للحزن، ولعل الكآبة أخص مطلقاً منالحزن(1).

وهكذا كان سائر المعصومين (عليهم السلام).

البكاء على الميت

مسألة: يستحب كثرة الكآبة والبكاء لميت يستحق ذلك كالأُم الصالحة، فيكف إذا كانت من العارفات الكاملات، إلاّ إذا زوحم ذلك بالأهم.

هذا مضافاً إلى فوائد البكاء الكثيرة.

عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ الصَّيْقَل، عَنْ أَبِيهِ، قَال: شَكَوْتُ إِلى أَبِي عَبْدِ اللهِ

ص: 356


1- فإن الكآبة هي الغم والانكسار من الحزن.

(عليه السلام) وَجْداً وَجَدْتُهُ عَلى ابْنٍ لي هَلكَ حَتَّى خِفْتُ عَلى عَقْلي، فَقَال: «إِذَا أَصَابَكَ مِنْ هَذَا شَيْ ءٌ فَأَفِضْ مِنْ دُمُوعِكَ فَإِنَّهُ يَسْكُنُ عَنْكَ»(1).

وقَال (عليه السلام): «مَنْ خَافَ عَلى نَفْسِهِ مِنْ وَجْدٍ بِمُصِيبَةٍ فَليُفِضْ مِنْ دُمُوعِهِ فَإِنَّهُ يَسْكُنُ عَنْهُ»(2).

ذكر الوصف

مسألة: يستحب ذكر الوصف فيما يقتضيه، وقد ذكرت الصديقة (صلوات الله عليها) في كل واحد من الأسماء اللقب وإحدى خصوصياته المناسبة للمقام. وهكذا نجد في القرآن الكريم وسائر الروايات.

قال تعالى: «الذينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُول النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ والإِنْجيل يَأْمُرُهُمْ بِالمَعْرُوفِ ويَنْهاهُمْ عَنِ المُنْكَرِ ويُحِل لهُمُ الطَّيِّباتِ ويُحَرِّمُ عَليْهِمُ الخَبائِثَ ويَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والأَغْلال التي كانَتْ عَليْهِمْ فَالذينَ آمَنُوا بِهِ وعَزَّرُوهُ ونَصَرُوهُ واتَّبَعُوا النُّورَ الذي أُنْزِل مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ المُفْلحُون»(3).

وعَنْ بُرَيْدَةَ، قَال: أَمَرَنَا النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) أَنْ نُسَلمَ عَلى عَليٍ (عليه السلام) بِإِمْرَةِ المُؤْمِنِينَ(4).

ص: 357


1- الكافي: ج 3 ص250 باب النوادر ح3..
2- من لا يحضره الفقيه: ج 1 ص187 باب النوادر ح568.
3- سورة الأعراف: 157.
4- الأمالي، للطوسي: ص331 المجلس الثاني عشر ح1.

وعن أَبِي ذَرٍّ قَال: أَمَرَنَا رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) أَنْ نُسَلمَ عَلى عَليٍ (عليه السلام)، وقَال: سَلمُوا عَلى أَخِي، وخَليفَتِي، ووَارِثِي فِي قَوْمِي، ووَليِّ كُل مُؤْمِنٍ ومُؤْمِنَةٍ مِنْ بَعْدِي سَلمُوا عَليْهِ بِإِمْرَةِ المُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهُ وَليُّ كُل مَنْ سَكَنَ الأَرْضَ إِلى يَوْمِ العَرْضِ، ولوْ قَدَّمْتُمُوهُ لأَخْرَجَتْ لكُمُ الأَرْضُ بَرَكَاتِهَا فَإِنَّهُ أَكْرَمُ كُل مَنْ عَليْهَا مِنْ كُل أَهْلهَا، قَال أَبُو ذَرٍّ:فَرَأَيْتُ عُمَرَ قَدْ تَغَيَّرَ لوْنُهُ وقَال: أَحَقٌّ مِنَ اللهِ؟ قَال: نَعَمْ، أَمَرَنِي بِهِ رَبِّي، ثُمَّ تَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ، وقَال: أَحَقٌّ مِنَ اللهِ؟ قَال: نَعَمْ، أَمَرَنِي بِهِ رَبِّي، وذَلكَ حَقٌّ مِنَ اللهِ أَمَرْتُكُمْ بِهِ، فَقَامَ وسَلمَ عَليْهِ بِإِمْرَةِ المُؤْمِنِينَ، ثُمَّ أَقْبَل عَلى أَصْحَابِهِمَا وقَالوا مَا قَالاه(1).

الدعاء لعامة الناس

مسألة: يستحب الدعاء لعموم الناس، ويتأكد في حالات الشدة والحزن، للأدلة الخاصة، ولأقربية استجابة الدعاء حينئذ حيث انكسار القلب، وفي الحديث القدسي: «أنا عند المنكسرة قلوبهم»(2)، ولما يستفاد من الروايات أن المريض والمبتلى قد يكون أقرب إلى رحمة الله تعالى.

كما يشمله أيضاً عموم استحباب الدعاء، قال سبحانه: «وَقال رَبُّكُم ادْعُوني أَسْتَجِبْلكُمْ»(3).

ص: 358


1- الروضة في فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليهما السلام): ص122.
2- راجع منية المريد: ص123، وفي حديث سُئِل رسول الله (صلى الله عليه وآله) أَيْنَ اللهُ، فَقَال: «عِنْدَ المُنْكَسِرَةِ قُلوبُهُم». الدعوات للراوندي: ص120 ح282. بحار الأنوار: ج 70 ص157 ب125 الغفلة واللهو وكثرة الفرح والإتراف بالنعم ح3.
3- سورة غافر: 60.

وقال تعالى: «قُل ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لوْ لا دُعاؤُكُم»(1).

وفي الحديث: «الدعاء سلاح المؤمن»(2).

وقال عليه السلام: «الدعاء مخ العبادة»(3).

إلى غير ذلك مما رواه العلامة المجلسي (رحمه الله) في كتاب الدعاء من البحار، وألمعنا إلى جملة منها في بعض كتبنا.

شهادة الحسين والتأكيد عليها

مسألة: يستحب التأكيد على شهادة الإمام الحسين (عليه السلام) ومظلوميته، كما قالت (عليها السلام): «وبالحسين الشهيد».

وهكذا كان التأكيد من قبل سائر المعصومين (عليهم السلام):روي أن الإمام الحسن (عليه السلام) قال للإمام الحسين (عليه السلام): «إِنَّ الذِي يُؤْتَى إِليَّ سَمٌّ يُدَسُّ إِليَّ فَأُقْتَل بِهِ، ولكِنْ لا يَوْمَ كَيَوْمِكَ يَا أَبَا عَبْدِ الله»(4).

وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَال: لمَّا اشْتَدَّ بِرَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) مَرَضُهُ الذِي مَاتَ فِيهِ ضَمَّ الحُسَيْنَ (عليه السلام) إِلى صَدْرِهِ يَسِيل مِنْ عَرَقِهِ عَليْهِ وهُوَ يَجُودُ بِنَفْسِهِ ويَقُول: مَا لي وليَزِيدَ، لا بَارَكَ اللهُ فِيهِ، اللهُمَّ العَنْ يَزِيدَ، ثُمَّ غُشِيَ عَليْهِ

ص: 359


1- سورة الفرقان: 77.
2- الكافي: ج 2 ص468 باب أن الدعاء سلاح المؤمن ح1.
3- وسائل الشيعة: ج 7 ص27 ب2 باب استحباب الإكثار من الدعاء ح9 و14.
4- الأمالي، للصدوق: ص116 المجلس الرابع والعشرون ح3.

طَوِيلا وأَفَاقَ وجَعَل يُقَبِّل الحُسَيْنَ (عليه السلام) وعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ ويَقُول: أَمَا إِنَّ لي ولقَاتِلكَ مُقَاماً بَيْنَ يَدَيِ اللهِ عَزَّ وجَل»(1).

كثرة البكاء على المعصوم

مسألة: يستحب كثرة البكاء والكآبة والتحسر على فقد المعصوم (عليه السلام)، وخاصة الصديقة فاطمة (عليها السلام)كما كانوا (عليهم السلام) كذلك في فقدها (عليهم السلام).

ولا يتوهم أن ذلك خاص بسنة دونأخرى أو مكان دون آخر، نعم في المناسبات يتأكد الاستحباب، فإن كل ذلك مشمول لأدلة المواساة وأدلة البكاء والحزن، مثل:

«وارحم تلك الأعين التي جرت دموعها رحمةً لنا»(2).

و: «تلك الصرخة التي كانت لنا»(3).

و: «يحزنون لحزننا»(4).

ص: 360


1- بحار الأنوار: ج 44 ص266 ب31 ما أخبر به الرسول وأمير المؤمنين والحسين (صلوات الله عليهم) بشهادته (صلوات الله عليه) ح24.
2- الكافي: ج 4 ص582 باب فضل زيارة أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) ح11.
3- كامل الزيارات: ص117 الباب الأربعون ح2.
4- بحار الأنوار: ج 44 ص287 ب34 ثواب البكاء على مصيبته ومصائب سائر الأئمة (عليهم السلام) وفيه أدب المأتم يوم عاشوراء ح26، عن الخصال: ج 2 ص635 علم أمير المؤمنين (عليه السلام) أصحابه في مجلس واحد أربعمائة باب مما يصلح للمسلم في دينه ودنياه، غرر الحكم ودرر الكلم: ص817، جامع الأخبار، للشعيري: ص179 الفصل الحادي والأربعون والمائة في النوادر.

و: «وارحم تلك القلوب التي جزعت واحترقت لنا»(1).

البكاء على فقد الأُم

مسألة: يستحب كثرة البكاء والكآبةوالتحسر على فقد الأُم.

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَال: أَقْبَل عَليُّ بْنُ أَبِي طَالبٍ (عليه السلام) ذَاتَ يَوْمٍ إِلى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) بَاكِياً وهُوَ يَقُول: «إِنَّا للهِ وإِنَّا إِليْهِ راجِعُونَ»، فَقَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «مَهْ يَا عَليُّ»، فَقَال عَليٌّ (عليه السلام): «يَا رَسُول اللهِ مَاتَتْ أُمِّي فَاطِمَةُ بِنْتُ أَسَدٍ» قَال: فَبَكَى النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) ثُمَّ قَال: «رَحِمَ اللهُ أُمَّكَ يَا عَليُّ، أَمَا إِنَّهَا إِنْ كَانَتْ لكَ أُمّاً فَقَدْ كَانَتْ لي أُمّاً»(2) الحديث.

استحباب الشفاعة

مسألة: تستحب الشفاعة للمذنبين، وقد سبق الكلام عن ذلك في بعض أجزاء الكتاب.

مسألة: يستحب الدعاء للشفاعة وشمولها للمذنبين.

ثم إن المراد من (تغفر للعصاة من أمة محمد صلى الله عليه وآله) هو من له قابلية أن تشمله المغفرة، ومن له صلاحية أن يشفع له، إذ من الواضح خروج أقوام من ذلك كالناصبي ومنكر الولاية عن عناد وإصرار، أما القاصر منهمفيعاد امتحانه يوم القيامة.

ص: 361


1- الكافي: ج 4 ص582 باب فضل زيارة أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) ح11.
2- الأمالي، للصدوق: ص314 المجلس الحادي والخمسون ح14.

والحاصل: إن (العصاة) هنا منصرف إلى من ارتضى الله الشفاعة له، لا مطلقاً.

قال تعالى: «لا يَشْفَعُونَ إلاّ لمَنِ ارْتَضى»(1).

وفي الرواية: «لا تنال شفاعتنا مستخفاً بصلاته»(2).

ص: 362


1- سورة الأنبياء: 28.
2- الوافي: ج 20 ص637 ح14، وأيضاً بألفاظ أخرى مثل: (إِنَّ شَفَاعَتَنَا لا تَنَال مُسْتَخِفّاً بِصَلاتِه) فلاح السائل: ص127، و(إِنَّ شَفَاعَتَنَا لا تَنَال مُسْتَخِفّاً بِالصَّلاةِ) من لا يحضره الفقيه: ج 1 ص206 باب فرض الصلاة ح218، و(إِنَّ شَفَاعَتَنَا لنْ تَنَال مُسْتَخِفّاً بِالصَّلاة) مستدرك الوسائل: ج 3 ص25 ب6 باب تحريم الاستخفاف بالصلاة والتهاون بها ح2.

من أدعية الصديقة

اشارة

كان من دعاء الصديقة فاطمة (عليها السلام) في شكواها(1):

«يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ فَأَغِثْنِي، اللهُمَّ زَحْزِحْنِي عَنِ النَّارِ، وَأَدْخِلنِي الجَنَّةَ، وَأَلحِقْنِي بِأَبِي مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله)». فكان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول لها: «يعافيك الله ويبقيك». فتقول: «يا أبا الحسن ما أسرع اللحاق بالله»(2).

----------------------------

طلب الجنة

مسألة: يستحب طلب الجنة، والزحزحة عن النار.

لا يقال: إن الصديقة (عليها السلام) كانت تعرف أنها تدخل الجنة وتزحزح عن النار، فما فائدة الدعاء بذلك؟

لأنه يقال: هذا من الضراعة إلى اللهوالتواضع والعبودية له عزوجل(3)،

ص: 363


1- أي في مرضها الذي أصابها جراء ظلم القوم لها.
2- بحار الأنوار: ج 43 ب217 ب7 ما وقع عليها من الظلم وبكائها وحزنها وشكايتها في مرضها إلى شهادتها وغسلها ودفنها وبيان العلة في إخفاء دفنها (صلوات الله عليها ولعنة الله على من ظلمها) ح49.
3- ونظيره من وجه آخر تكرار الرسول (صلى الله عليه وآله) في الصلاة: «اهدنا الصراط المستقيم»، وقد ذكر المصنف (رحمه الله) لذلك وجوها أخرى في مظانها.

وهو مطلوب جداً، كما تدل على ذلك الآيات والروايات، إضافة إلى أنه يوجب مزيد نعيم الجنة ورفع الدرجات، وقد دعا إبراهيم (عليه السلام) بمثل ذلك إذ قال: «وَاجْعَلني مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعيم»(1).

ثم إن ذلك يوجب مزيداً من الزلفى إلى الله سبحانه، كما ذكروا في الصلوات على محمد وآله (عليهم السلام)، وقد مثل له بعض العلماء للتقريب بأنه تكون لرسول الله (صلى الله عليه وآله) مثلاً حديقة كبيرة تحتوي على مليار ورد، مع ذلك تخلق بكل صلاة عليه وردة جديدة، وكذلك إذا كانت هناك ألف مليون شمعة فكل واحدة من الصلوات توجب شمعة جديدة، وهكذا بالنسبة إلى سائر نعيم الجنة، لأن نعم الله تعالى لا تُحصى ولا آخر لها، قال عزوجل: «وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها»(2).

الاستغاثة بأسماء الله

مسألة: يستحب الاستغاثة بالله تعالى بأسمائه، كما قالت الصديقة (عليها السلام): «يا حي يا قيوم».

ومناسبة الاستغاثة بهذين الاسمين أن الحي القائم على كل شيء قيامَ خلق وتصرف تدبير حدوثاً وبقاءً هو الذي يمكنه الإغاثة وهو الذي ينبغي أن يستغاث به.

قال تعالى: «وَللهِ الأَسْماءُ الحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وذَرُوا الذينَ يُلحِدُونَ في

ص: 364


1- سورة الشعراء: 85.
2- سورة النحل: 18، سورة إبراهيم: 34.

أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلون»(1).

وعَنِ الرِّضَا، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ آبَائِهِ، عَنْ عَليٍّ (عليهم السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «للهِ عَزَّ وجَل تِسْعَةٌ وتِسْعُونَ اسْماً مَنْ دَعَا اللهَ بِهَا اسْتُجِيبَ لهُ، ومَنْ أَحْصَاهَا دَخَل الجَنَّةَ، وقَال اللهُ عَزَّ وجَل: (وَللهِ الأَسْماءُ الحُسْنى فَادْعُوهُ بِها)»(2).

وَقَال الرِّضَا (عليه السلام): «إِذَا نَزَلتْ بِكُمْ شَدِيدَةٌ فَاسْتَعِينُوا بِنَا عَلى اللهِ عَزَّ وجَل، وهُوَ قَوْلهُ (وَللهِ الأَسْماءُ الحُسْنى فَادْعُوهُ بِها)»(3).

من الدعاء المستحب

مسألة: يستحب الدعاء بالالتحاق بالرسول (صلى الله عليه وآله) وأهل البيت (عليهم السلام) في الجنان، كما طلبت الصديقة (عليها السلام) أن يلحقها الله تعالى بأبيها محمد (صلى الله عليه وآله).

ومن فوائد الدعاء أن يوفقه الله للعمل بما يوجب له الالتحاق بركبهم في الجنة، كما أن من فوائده تفضله تعالى عليه بذلك حسب مشيئته.

وفي الأدعية: «اللهُمَّ واحْشُرْنَا مَعَ الأَئِمَّةِ الهُدَاةِ مِنْ آل رَسُولكَ نُؤْمِنُ بِسِرِّهِمْ وعَلانِيَتِهِمْ وشَاهِدِهِمْ وغَائِبِهِم»(4).

ص: 365


1- سورة الأعراف: 180.
2- وسائل الشيعة: ج 7 ص140 ب63 ح1.
3- الاختصاص: ص252.
4- كتاب المزار، للمفيد: ص95 ب47 باب الصلاة يوم الغدير ودعائه.

وكذلك: «وَاحْشُرْنَا مَعَ أَئِمَّتِنَا فَإِنَّا بِهِمْ مُؤْمِنُونَ مُوقِنُونَ ولهُمْ مُسَلمُونَ آمَنَّا بِسِرِّهِمْ وعَلانِيَتِهِمْ وشَاهِدِهِمْ وغَائِبِهِمْ وحَيِّهِمْ ومَيِّتِهِمْ»(1).

وورد: «اللهُمَّ اجْعَل مَحْيَايَ مَحْيَاهُمْ ومَمَاتِي مَمَاتَهُمْ واجْعَلنِي مَعَهُمْ فِي المَوَاطِنِ كُلهَا ولا تُفَرِّقْ بَيْنِي وبَيْنَهُمْ إِنَّكَ عَلى كُل شَيْ ءٍ قَدِير»(2).وكذلك: «اللهُمَّ أَحْيِنِي حَيَاةَ مُحَمَّدٍ وذُرِّيَّتِهِ وأَمِتْنِي مَمَاتَهُمْ وتَوَفَّنِي عَلى مِلتِهِمْ واحْشُرْنِي فِي زُمْرَتِهِمْ ولا تُفَرِّقْ بَيْنِي وبَيْنَهُمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ أَبَداً فِي الدُّنْيَا والآخِرَة»(3).

وعَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَاليِّ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ سَرَّ أَنْ يَحْيَا حَيَاتِي ويَمُوتَ مَمَاتِي، ويَدْخُل جَنَّةَ رَبِّي جَنَّةَ عَدْنٍ مَنْزِلي، قَضِيبٌ مِنْ قُضْبَانِهَا غَرَسَهَا اللهُ رَبِّي بِيَدِهِ، فَليَتَوَل عَليّاً والأَئِمَّةَ مِنْ بَعْدِهِ، فَإِنَّهُمْ أَئِمَّةُ الهُدَى، أَعْطَاهُمُ اللهُ فَهْماً وعِلماً، فَهُمْ عِتْرَتِي مِنْ لحْمِي ودَمِي، إِلى اللهِ أَشْكُو مَنْ عَادَاهُمْ مِنْ أُمَّتِي، واللهِ ليَقْتُلنَّ ابْنِي لا أَنَالهُمُ اللهُ شَفَاعَتِي»(4).

ص: 366


1- إقبال الأعمال: ج 1 ص473 فصل فيما نذكره من عمل العيد الغدير السعيد مما رويناه بصحيح الأسانيد.
2- الكافي: ج 2 ص544 باب الدعاء قبل الصلاة ح1.
3- مصباح المتهجد: ج 2 ص780 شرح زيارة أبي عبد الله (عليه السلام) في يوم عاشوراء من قرب أو بعد.
4- بصائر الدرجات: ج 1 ص49 ب22 باب في الأئمة (عليهم السلام) وما قال فيهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأن الله أعطاهم فهمي وعلمي ح4.

الدعاء بالعافية

مسألة: يستحب أن يدعو الإنسان للمريض بالعافية والبقاء حتى إذا علم بقرب وفاته(1).

فالعافية لحاجة الإنسان إليها في كل لحظة لحظة من حياته وبعد وفاته إلى الأبد، وفي الدعاء: «وَارْزُقْنِي العَافِيَةَ ودَوَامَ العَافِيَةِ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِين»(2).

والبقاء لإمكان أن يستجيب الله دعاءه، فربما كان الأجل في لوح المحو والإثبات، لا لوح أم الكتاب، وقد قال سبحانه: «يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ ويُثْبِتُ وعِنْدَهُ أُمُّ الكِتاب»(3).

ثم إن الدعاء مطلوب حتى مع العلم بعدم استجابته بخصوصه، وذلك لأنه تعالى يعوض عما لم يستجب له بعطاء آخر أعظم مما فات إما في الدنيا أو في الآخرة، كما دلت عليه الروايات، إضافة إلى أن الدعاء في حد ذاته مقرب إلى الله، ونوع تحبب وتضرع له، وهومطلوب لنفسه(4).

وتفصيل البحث في علم الكلام أردنا الإشارة فقط.

ص: 367


1- بأمارات قطعية، أو بإخبار من يوجب قوله القطع.
2- تهذيب الأحكام: ج 3 ص95 الدعاء في الزيادة تمام المائة ركعة ح29.
3- سورة الرعد: 39.
4- وقد جعل الله تعالى الحاجات دافعاً لعبيده كي يدعوه فيتقربوا إليه، ويكون ربحهم بالقرب إليه أعظم من ربحهم بقضاء حاجاتهم لو كانوا يعلمون.

وقد ورد: «وَارْزُقْنِي العَافِيَةَ إِلى مُنْتَهَى أَجَلي»(1).

وورد: «وَارْزُقْنِي العَافِيَةَ والسَّلامَةَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِين»(2).

وَقِيل للنَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله): «إِنْ أَنَا أَدْرَكْتُ ليْلةَ القَدْرِ فَمَا أَسْأَل رَبِّي، قَال (صلى الله عليه وآله): العَافِيَة»(3).

ص: 368


1- من لا يحضره الفقيه: ج 1 ص490 باب دعاء قنوت الوتر ح1409.
2- إقبال الأعمال: ج 1 ص488 فصل فيما نذكره من عمل العيد الغدير السعيد.
3- مستدرك الوسائل: ج 7 ص458 ب22 باب استحباب الجد والاجتهاد في العبادة وأنواع الخير في ليلة القدر وفي العشر الأواخر ح12.

يا أماه إني مقبوضة

اشارة

عن أم سلمة في حديث، قالت لها فاطمة (عليها السلام): «يا أماه إني مقبوضة الآن، فلا يكشفني أحد ولا يغسّلني أحد»(1).

----------------------------

أقول: أي لا يغسلها أحد غير علي (عليه السلام).

أمهات المؤمنين

مسألة: يستحب خطاب نساء النبي (صلى الله عليه وآله) الصالحات بالأُم، كما يجوز خطاب المرأة الكبيرة بالأُم احتراماً لها، وإن لم تكن أُماً حقيقية.

وأما قوله تعالى: «وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ»(2)، فالمراد منه أنها أُم من جهة حرمة الزواج منها، وإلا فليست أُماً حقيقية، ولذا لا يجوز النظر لها من دون حجاب، كما لا يرث منها المسلمون ولا ترثهم بادعاء أنها أُم لهم، كما لا يجوز الأكل من بيوتهن بدون إذنهنلعامة المسلمين(3).

ص: 369


1- عوالم العلوم: ج 11 قسم2 فاطمة (سلام الله عليها) ص892 ب59 حديث إخبارها (عليها السلام) بقبض روحها الطاهرة ح122.
2- سورة الأحزاب: 6.
3- إشارة إلى قوله تعالى: «أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم» سورة النور: 61.

قال تعالى: «وَإِذَا سَأَلتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلكُمْ أَطْهَرُ لقُلوبِكُمْ وَقُلوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُول اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلكُمْ كَانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمًا»(1).

ورُوِيَ: أَنَّ النَّاسَ اجْتَمَعُوا إِلى أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) يَوْمَ البَصْرَةِ فَقَالوا: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ اقْسِمْ بَيْنَنَا غَنَائِمَهُمْ قَال: أَيُّكُمْ يَأْخُذُ أُمَ المُؤْمِنِينَ فِي سَهْمِه (2).

كما أن شرف (أمهات المؤمنين) ما دامت في طاعة الله(3)، كما ورد في الحديث الشريف(4).وقد ورد في حوار أنه قَال مُعَاوِيَةُ: يَا شَيْخُ الحَقُّ مَعَ عَليٍّ أَمْ مَعَ عَائِشَةَ؟ قَال الشَّيْخُ: بَل مَعَ عَليٍّ. قَال مُعَاوِيَةُ: يَا شَيْخُ أَ لمْ يَقُل اللهُ: «وَأَزْواجُهُ

ص: 370


1- سورة الأحزاب: 53.
2- علل الشرائع: ج 1 ص154 ب123 باب العلة التي من أجلها قاتل أمير المؤمنين عليه السلام أهل البصرة وترك أموالهم ح2.
3- قال ابن قتيبة في عيون الأخبار ج1 ص202: «دخلت أمّ أفعى العبدية على عائشة، فقالت: يا أمّ المؤمنين! ما تقولين في امرأة قتلت ابنا لها صغيراً؟ قالت: وجبت لها النار! قالت: فما تقولين في امرأة قتلت من أولادها الأكابر عشرين ألفا؟! [أي عدد من قتلوا في وقعة الجمل] قالت: خذوا بيد عدوّة الله».
4- ورد هذا المضمون في الإكمال عن القائم (عليه السلام) وفي غيره أيضاً: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (يَا أَبَا الحَسَنِ إِنَّ هَذَا الشَّرَفَ بَاقٍ لهُنَّ مَا دُمْنَ للهِ عَلى الطَّاعَةِ، فَأَيَّتُهُنَّ عَصَتِ اللهَ بَعْدِي بِالخُرُوجِ عَليْكَ فَأَطْلقْ لهَا فِي الأَزْوَاجِ وَأَسْقِطْهَا مِنْ شَرَفِ أُمُومَةِ المُؤْمِنِينَ). كمال الدين: ج2 ص459 ب43 ح21. ودلائل الإمامة: ص276، ومنتخب الأنوار: ص149، وبحار الأنوار: ج38 ص88 ب60 ح10 والبحار: ج52 ص83 ب19 خبر سعد بن عبد الله ورؤيته ح1.

أُمَّهاتُهُمْ»(1) وقَال النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) هِيَ أُمُّ المُؤْمِنِينَ؟

قَال الشَّيْخُ: أَ لمْ يَقُل اللهُ تَعَالى «يا نِساءَ النَّبِيِ» إِلى قَوْلهِ: «وقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ولا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهِليَّةِ الأُولى»(2) وقَال النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): «أَنْتَ يَا عَليُّ خَليفَتِي عَلى نِسَائِي وأَهْلي وطَلاقُهُنَّ بِيَدِكَ» أَفَتَرَاهَا خَالفَتْ اللهَ تَعَالى فِي ذَلكَ عَاصِيَةً اللهَ ورَسُولهُ خَارِجَةً مِنْ بَيْتِهَا وهِيَ فِي ذَلكَ سَفَكَتْ دِمَاءَ المُسْلمِينَ وأَذْهَبَتْ أَمْوَالهُمْ، فَلعْنَةُ اللهِ عَلى القَوْمِ الظَّالمِينَ...)(3).

كراهة الكشف

مسألة: يكره الكشف عن المرأة الميتة، إذا لم يكن في الكشف مصلحة، والكراهة للمَحرَم أو النساء، أما الأجنبي فلا يجوز.

ثم إن العقل يدل على ما ذكر مضافاً إلى الشرع، لأن الإنسان العادي إذا مات خصوصاً المرأة تتغير معالمها كثيراً.

وهناك احتمالات في سبب وصيتها (عليها السلام) بعدم الكشف عنها.

منها: إنه لعلها أرادت بذلك أن تبين الحكم الكلي مما يسمى بضرب القانون العام، وإلاّ فإنها (عليها الصلاة والسلام) لم تتغير معالمها بالموت لعصمتها وطهارتها، وأنهم (عليهم السلام) في حال حياتهم كحال مماتهم، وفي حال مماتهم كحال حياتهم، قال تعالى: «إِنَّما يُريدُ اللهُ ليُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْل البَيْتِ

ص: 371


1- سورة الأحزاب: 6.
2- سورة الأحزاب: 32 - 33.
3- الفضائل، لابن شاذان القمي: ص79 خبر الشيخ معاذ بن جبل مع معاوية بن أبي سفيان.

ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهيرا»(1).

ومثله تغسيل النبي (صلى الله عليه وآله) وهو طاهر مطهر حياً وميتاً، وقد سُئل علي (عليه الصلاة والسلام) بعد ذلك، فقال (عليه السلام): «جرت به السنة».

عَنِ الحُسَيْنِ بْنِ عُبَيْدٍ قَال: كَتَبْتُ إِلى الصَّادِقِ (عليه

السلام): هَل اغْتَسَل أَمِيرُالمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) حِينَ غَسَّل رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) عِنْدَ مَوْتِهِ، فَقَال: كَانَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) طَاهِراً مُطَهَّراً، ولكِنْ فَعَل أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَليُّ بْنُ أَبِي طَالبٍ (عليه السلام) ذَلكَ وجَرَتْ بِهِ السُّنَّةُ(2).

ومعنى جريان السنة ضرب القانون، حيث إن القانون إذا ضرب يجب أن يشمل الجميع، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في كتاب الفقه القانون.

نعم إذا كان في الكشف مصلحة من المصالح لوحظ الأهم والمهم من الأمرين.

ومن الاحتمالات: إنها (عليها السلام) أوصت أن لا يكشفها أحد، كي لا تأتي ابنتها زينب وأولادها الآخرين فيكشفوا عنها قبل حضور أمير المؤمنين (عليه السلام) مما يشكل صدمة نفسية كبيرة لهم حيث المفاجأة بموتها(3).

ومن الاحتمالات: إنه ربما كان السبب هو رعاية لزوجها وبنيها عن رؤية ما كان على جسدها ووجهها من آثار الضرب والمسمار وكسر الضلع والدملج، فإنالقوم (لعنهم الله) ضربوها بقصد القتل، وذلك عندما رأوا منها الدفاع الشديد

ص: 372


1- سورة الأحزاب: 33.
2- تهذيب الأحكام: ج 1 ص469 ب23 باب تلقين المحتضرين ح186.
3- إما بتوهم أنها مريضة فيفاجأون عندئذ بموتها، أو مع العلم بموتها فيتألمون لذلك.

عن بعلها أمير المؤمنين (صلوات الله عليها) فخافوا على كرسيهم وخلافتهم التي اغتصبوها، فخططوا للقضاء عليها وقتلها. فأمر ابن أبي قحافة بالهجوم على دارها وحرقها وقتل من فيها، وقام ابن الخطاب بالهجوم والإحراق والضرب وإسقاط الجنين.

وذلك كله مضافاً إلى الهجوم عليها بعد ما خرجت وهي تحمل صك فدك حيث اعترضها ابن الخطاب في الطريق بأمر ابن أبي قحافة وأخذ منها الصك ومزقه ثم ضربها أشد الضرب على وجهها وجسدها حتى وقعت على الأرض مغشياً عليها.

والظاهر أنهم هجموا على الزهراء (صلوات الله عليها) أكثر من هجمة، وضربها أكثر من شخص، كان على رأسهم ابن الخطاب وكان أكثرهم وأشدهم ضرباً لها (صلوات الله عليها)، حتى تيقنوا بأنها ستموت من علتها، فلا يبقى من يدافع عن حق علي (صلوات الله عليه) في الخلافة، إضافة إلى شفائهم أحقادهم من رسول الله (صلى الله عليه وآله).

وفي الاحتجاج:

قَال: فَذَهَبَ إِليْهِمْ عُمَرُ فِي جَمَاعَةٍ مِمَّنْ بَايَعَ، فِيهِمْ أُسَيْدُ بْنُ حُصَيْنٍ وسَلمَةُ بْنُسَلامَةَ فَأَلفَوْهُمْ مُجْتَمِعِينَ فَقَالوا لهُمْ: بَايِعُوا أَبَا بَكْرٍ فَقَدْ بَايَعَهُ النَّاسُ، فَوَثَبَ الزُّبَيْرُ إِلى سَيْفِهِ، فَقَال عُمَرُ: عَليْكُمْ بِالكَلبِ العَقُورِ فَاكْفُونَا شَرَّهُ، فَبَادَرَ سَلمَةُ بْنُ سَلامَةَ فَانْتَزَعَ السَّيْفَ مِنْ يَدِهِ، فَأَخَذَهُ عُمَرُ فَضَرَبَ بِهِ الأَرْضَ فَكَسَرَهُ، وأَحْدَقُوا بِمَنْ كَانَ هُنَاكَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ ومَضَوْا بِجَمَاعَتِهِمْ إِلى أَبِي بَكْرٍ، فَلمَّا حَضَرُوا قَالوا: بَايِعُوا أَبَا بَكْرٍ فَقَدْ بَايَعَهُ النَّاسُ، وايْمُ اللهِ لئِنْ أَبَيْتُمْ ذَلكَ

ص: 373

لنُحَاكِمَنَّكُمْ بِالسَّيْفِ(1).

وفيه أيضاً: عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَال: ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ احْتَزَمَ بِإِزَارِهِ وجَعَل يَطُوفُ بِالمَدِينَةِ ويُنَادِي: إلاّ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ قَدْ بُويِعَ لهُ فَهَلمُّوا إِلى البَيْعَةِ، فَيَنْثَال النَّاسُ يُبَايِعُونَ، فَعَرَفَ أَنَّ جَمَاعَةً فِي بُيُوتٍ مُسْتَتِرُونَ فَكَانَ يَقْصِدُهُمْ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ ويَكْبِسُهُمْ ويُحْضِرُهُمُ المَسْجِدَ فَيُبَايِعُونَ، حَتَّى إِذَا مَضَتْ أَيَّامٌ أَقْبَل فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ إِلى مَنْزِل عَليٍّ (عليه

السلام) فَطَالبَهُ بِالخُرُوجِ فَأَبَى، فَدَعَا عُمَرُ بِحَطَبٍ ونَارٍ وقَال: والذِي نَفْسُ عُمَرَ بِيَدِهِ ليَخْرُجَنَّ أَوْ لأُحْرِقَنَّهُ عَلى مَا فِيهِ، فَقِيل لهُ: إِنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُول اللهِ ووُلدَ رَسُول اللهِ وآثَارَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) فِيهِ وأَنْكَرَ النَّاسُ ذَلكَ مِنْ قَوْلهِ، فَلمَّا عَرَفَإِنْكَارَهُمْ قَال: مَا بَالكُمْ أَ تَرَوْنِي فَعَلتُ ذَلكَ؟ إِنَّمَا أَرَدْتُ التَّهْوِيل، فَرَاسَلهُمْ عَليٌّ (عليه السلام) أَنْ ليْسَ إِلى خُرُوجِي حِيلةٌ لأَنِّي فِي جَمْعِ كِتَابِ اللهِ الذِي قَدْ نَبَذْتُمُوهُ وأَلهَتْكُمُ الدُّنْيَا عَنْهُ وقَدْ حَلفْتُ أَنْ لا أَخْرُجَ مِنْ بَيْتِي ولا أَدَعَ رِدَائِي عَلى عَاتِقِي حَتَّى أَجْمَعَ القُرْآنَ، قَال: وخَرَجَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) إِليْهِمْ فَوَقَفَتْ خَلفَ البَابِ ثُمَّ قَالتْ: «لا عَهْدَ لي بِقَوْمٍ أَسْوَأَ مَحْضَراً مِنْكُمْ، تَرَكْتُمْ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) جَنَازَةً بَيْنَ أَيْدِينَا وقَطَعْتُمْ أَمْرَكُمْ فِيمَا بَيْنَكُمْ ولمْ تُؤَمِّرُونَا ولمْ تَرَوْا لنَا حَقّاً كَأَنَّكُمْ لمْ تَعْلمُوا مَا قَال يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ، واللهِ لقَدْ عَقَدَ لهُ يَوْمَئِذٍ الوَلاءَ ليَقْطَعَ مِنْكُمْ بِذَلكَ مِنْهَا الرَّجَاءَ ولكِنَّكُمْ قَطَعْتُمُ الأَسْبَابَ بَيْنَكُمْ وبَيْنَ نَبِيِّكُمْ واللهُ حَسِيبٌ بَيْنَنَا وبَيْنَكُمْ فِي الدُّنْيَا والآخِرَة»(2).

وهناك هجمة أخرى أحرقوا فيها الدار، قال في الاحتجاج: فَغَضِبَ عُمَرُ

ص: 374


1- الاحتجاج، للطبرسي: ج 1 ص73.
2- الاحتجاج: ج 1 ص80.

وقَال: مَا لنَا وللنِّسَاءِ ثُمَّ أَمَرَ أُنَاساً حَوْلهُ فَحَمَلوا حَطَباً وحَمَل مَعَهُمْ فَجَعَلوهُ حَوْل مَنْزِلهِ وفِيهِ عَليٌّ وفَاطِمَةُ وابْنَاهُمَا (عليهم

السلام) ثُمَّ نَادَى عُمَرُ حَتَّى أَسْمَعَ عَليّاً (عليه السلام): واللهِ لتَخْرُجَنَّ ولتُبَايِعَنَّ خَليفَةَ رَسُول اللهِ أَوْ لأُضْرِمَنَّ عَليْكَ بَيْتَكَنَاراً، ثُمَّ رَجَعَ فَقَعَدَ إِلى أَبِي بَكْرٍ وهُوَ يَخَافُ أَنْ يَخْرُجَ عَليٌّ بِسَيْفِهِ لمَا قَدْ عَرَفَ مِنْ بَأْسِهِ وشِدَّتِهِ ثُمَّ قَال لقُنْفُذٍ: إِنْ خَرَجَ وإِلا فَاقْتَحِمْ عَليْهِ، فَإِنِ امْتَنَعَ فَأَضْرِمْ عَليْهِمْ بَيْتَهُمْ نَاراً.

فَانْطَلقَ قُنْفُذٌ فَاقْتَحَمَ هُوَ وأَصْحَابُهُ بِغَيْرِ إِذْنٍ وبَادَرَ عَليٌّ إِلى سَيْفِهِ ليَأْخُذَهُ فَسَبَقُوهُ إِليْهِ فَتَنَاوَل بَعْضَ سُيُوفِهِمْ فَكَثُرُوا عَليْهِ فَضَبَطُوهُ وأَلقَوْا فِي عُنُقِهِ حَبْلا أَسْوَدَ وحَالتْ فَاطِمَةُ (عليها السلام) بَيْنَ زَوْجِهَا وبَيْنَهُمْ عِنْدَ بَابِ البَيْتِ فَضَرَبَهَا قُنْفُذٌ بِالسَّوْطِ عَلى عَضُدِهَا فَبَقِيَ أَثَرُهُ فِي عَضُدِهَا مِنْ ذَلكَ مِثْل الدُّمْلوجِ مِنْ ضَرْبِ قُنْفُذٍ إِيَّاهَا، فَأَرْسَل أَبُو بَكْرٍ إِلى قُنْفُذٍ اضْرِبْهَا فَأَلجَأَهَا إِلى عِضَادَةِ بَيْتِهَا فَدَفَعَهَا فَكَسَرَ ضِلعاً مِنْ جَنْبِهَا وأَلقَتْ جَنِيناً مِنْ بَطْنِهَا فَلمْ تَزَل صَاحِبَةَ فِرَاشٍ حَتَّى مَاتَتْ مِنْ ذَلكَ شَهِيدَةً (صلوات الله عليها)(1).

وفي البحار قال العلامة المجلسي (رحمه الله): وَجَدْتُ أَيْضاً فِي كِتَابِ سُليْمِ بْنُ قَيْسٍ، بِرِوَايَةِ ابْنِ أَبِي عَيَّاشٍ عَنْهُ، قَال: كُنْتُ عِنْدَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ فِي بَيْتِهِ وَمَعَنَا جَمَاعَةٌ مِنْ شِيعَةِ عَليٍّ (عليه السلام) فَحَدَّثَنَا فَكَانَ فِيمَا حَدَّثَنَا أَنْ قَال:

يَا إِخْوَتِي تُوُفِّيَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليهوآله) يَوْمَ تُوُفِّيَ فَلمْ يُوضَعْ فِي حُفْرَتِهِ حَتَّى نَكَثَ النَّاسُ وَارْتَدُّوا وَأَجْمَعُوا عَلى الخِلافِ، وَاشْتَغَل عَليُّ بْنُ أَبِي طَالبٍ (عليه السلام) بِرَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) حَتَّى فَرَغَ مِنْ غُسْلهِ وَتَكْفِينِهِ وَتَحْنِيطِهِ

ص: 375


1- الاحتجاج: ج 1 ص83.

وَوَضَعَهُ فِي حُفْرَتِهِ، ثُمَّ أَقْبَل عَلى تَأْليفِ القُرْآنِ وَشَغَل عَنْهُمْ بِوَصِيَّةِ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) وَ لمْ يَكُنْ هِمَّتُهُ المُلكَ لمَا كَانَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) أَخْبَرَهُ عَنِ القَوْمِ، فَافْتَتَنَ النَّاسُ بِالذِي افْتَتَنُوا بِهِ مِنَ الرَّجُليْنِ، فَلمْ يَبْقَ إلاّ عَليٌّ (عليه السلام) وَبَنُو هَاشِمٍ وَأَبُو ذَرٍّ وَالمِقْدَادُ وَسَلمَانُ فِي أُنَاسٍ مَعَهُمْ يَسِيرٍ، فَقَال عُمَرُ لأَبِي بَكْرٍ: يَا هَذَا إِنَّ النَّاسَ أَجْمَعِينَ قَدْ بَايَعُوكَ مَا خَلا هَذَا الرَّجُل وَأَهْل بَيْتِهِ وَهَؤُلاءِ النَّفَرَ فَابْعَثْ إِليْهِ، فَبَعَثَ إِليْهِ ابْنُ عَمٍّ لعُمَرَ يُقَال لهُ: قُنْفُذٌ، فَقَال لهُ: يَا قُنْفُذُ انْطَلقْ إِلى عَليٍّ فَقُل لهُ: أَجِبْ خَليفَةَ رَسُول اللهُ.

فَانْطَلقَ فَأَبْلغَهُ، فَقَال عَليٌّ (عليه السلام): مَا أَسْرَعَ مَا كَذَبْتُمْ عَلى رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) وَارْتَدَدْتُمْ، وَاللهِ مَا اسْتَخْلفَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) غَيْرِي، فَارْجِعْ يَا قُنْفُذُ فَإِنَّمَا أَنْتَ رَسُول فَقُل لهُ: قَال لكَ عَليٌّ (عليه السلام) وَاللهِ مَا اسْتَخْلفَكَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) وَإِنَّكَ لتَعْلمُ مَنْ خَليفَةُ رَسُول اللهِ، فَأَقْبَل قُنْفُذٌ إِلى أَبِي بَكْرٍ فَبَلغَهُ الرِّسَالةَ.فَقَال أَبُو بَكْرٍ: صَدَقَ عَليٌّ، مَا اسْتَخْلفَنِي رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله).

فَغَضِبَ عُمَرُ وَوَثَبَ وَقَامَ، فَقَال أَبُو بَكْرٍ: اجْلسْ، ثُمَّ قَال لقُنْفُذٍ: اذْهَبْ إِليْهِ فَقُل لهُ: أَجِبْ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ أَبَا بَكْرٍ، فَأَقْبَل قُنْفُذٌ حَتَّى دَخَل عَلى عَليٍّ (عليه السلام) فَأَبْلغَهُ الرِّسَالةَ، فَقَال (عليه السلام): كَذَبَ وَاللهِ انْطَلقْ إِليْهِ فَقُل لهُ: لقَدْ تَسَمَّيْتَ بِاسْمٍ ليْسَ لكَ، فَقَدْ عَلمْتَ أَنَّ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ غَيْرُكَ.

فَرَجَعَ قُنْفُذٌ فَأَخْبَرَهُمَا، فَوَثَبَ عُمَرُ غَضْبَانَ فَقَال: وَاللهِ إِنِّي لعَارِفٌ بِسَخْفِهِ وَضَعْفِ رَأْيِهِ، وَإِنَّهُ لا يَسْتَقِيمُ لنَا أَمْرٌ حَتَّى نَقْتُلهُ، فَخَلنِي آتِيكَ بِرَأْسِهِ.

فَقَال أَبُو بَكْرٍ: اجْلسْ، فَأَبَى فَأَقْسَمَ عَليْهِ فَجَلسَ، ثُمَّ قَال: يَا قُنْفُذُ انْطَلقْ

ص: 376

فَقُل لهُ أَجِبْ أَبَا بَكْرٍ.

فَأَقْبَل قُنْفُذٌ فَقَال: يَا عَليُّ أَجِبْ أَبَا بَكْرٍ، فَقَال عَليٌّ (عليه السلام): إِنِّي لفِي شُغُل عَنْهُ وَمَا كُنْتُ بِالذِي أَتْرُكُ وَصِيَّةَ خَليلي وَأَخِي، وَانْطَلقْ إِلى أَبِي بَكْرٍ وَمَا اجْتَمَعْتُمْ عَليْهِ مِنَ الجَوْرِ.

فَانْطَلقَ قُنْفُذٌ فَأَخْبَرَ أَبَا بَكْرٍ، فَوَثَبَ عُمَرُ غَضْبَانَ فَنَادَى خَالدَ بْنَ الوَليدِ وَقُنْفُذاً فَأَمَرَهُمَا أَنْ يَحْمِلا حَطَباً وَنَاراً، ثُمَّ أَقْبَل حَتَّى انْتَهَى إِلى بَابِ عَليٍّ (عليه السلام)، وَفَاطِمَةُ (عليها السلام) قَاعِدَةٌ خَلفَالبَابِ قَدْ عَصَبَتْ رَأْسَهَا وَنَحَل جِسْمُهَا فِي وَفَاةِ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله)، فَأَقْبَل عُمَرُ حَتَّى ضَرَبَ البَابَ ثُمَّ نَادَى: يَا ابْنَ أَبِي طَالبٍ افْتَحِ البَابَ، فَقَالتْ فَاطِمَةُ (عليها السلام): يَا عُمَرُ مَا لنَا وَلكَ لا تَدَعُنَا وَمَا نَحْنُ فِيهِ.

قَال: افْتَحِي البَابَ وَإِلا أَحْرَقْنَا عَليْكُمْ، فَقَالتْ: يَا عُمَرُ أَمَا تَتَّقِي اللهَ عَزَّ وَجَل، تَدْخُل عَلى بَيْتِي وَ تَهْجُمُ عَلى دَارِي، فَأَبَى أَنْ يَنْصَرِفَ، ثُمَّ عَادَ عُمَرُ بِالنَّارِ فَأَضْرَمَهَا فِي البَابِ فَأَحْرَقَ البَابَ، ثُمَّ دَفَعَهُ عُمَرُ فَاسْتَقْبَلتْهُ فَاطِمَةُ (عليها

السلام) وَصَاحَتْ يَا أَبَتَاهْ يَا رَسُول اللهِ، فَرَفَعَ السَّيْفَ وَهُوَ فِي غِمْدِهِ فَوَجَأَ بِهِ جَنْبَهَا فَصَرَخَتْ، فَرَفَعَ السَّوْطَ فَضَرَبَ بِهِ ذِرَاعَهَا فَصَاحَتْ يَا أَبَتَاهْ، فَوَثَبَ عَليُّ بْنُ أَبِي طَالبٍ (عليه

السلام) فَأَخَذَ بَتَلابِيبِ عُمَرَ ثُمَّ هَزَّهُ فَصَرَعَهُ وَوَجَأَ أَنْفَهُ وَرَقَبَتَهُ وَهَمَّ بِقَتْلهِ، فَذُكِّرَ قَوْل رَسُول اللهِ (عليه السلام) وَمَا أَوْصَى بِهِ مِنَ الصَّبْرِ وَالطَّاعَةِ، فَقَال: وَالذِي كَرَّمَ مُحَمَّداً (صلى

الله عليه وآله) بِالنُّبُوَّةِ يَا ابْنَ صَهَّاكَ لوْ لا كِتَابٌ مِنَ اللهُ سَبَقَ لعَلمْتَ أَنَّكَ لا تَدْخُل بَيْتِي، فَأَرْسَل عُمَرُ يَسْتَغِيثُ فَأَقْبَل النَّاسُ حَتَّى دَخَلوا الدَّارَ وَسَل خَالدُ بْنُ الوَليدِ السَّيْفَ ليَضْرِبَ بِهِ عَليّاً (عليه السلام) فَحَمَل عَليٌّ (عليه السلام)

ص: 377

عَليْهِ بِسَيْفِهِ فَأَقْسَمَ عَلى عَليٍّ فَكَفَّ، وَأَقْبَل المِقْدَادُ وَسَلمَانُ وَأَبُوذَرٍّ وَعَمَّارٌ وَبُرَيْدَةُ الأَسْلمِيُّ حَتَّى دَخَلوا الدَّارَ أَعْوَاناً لعَليٍّ (عليه السلام) حَتَّى كَادَتْ تَقَعُ فِتْنَةٌ، فَأُخْرِجَ عَليٌّ (عليه السلام) وَتَبِعَهُ النَّاسُ وَاتَّبَعَهُ سَلمَانُ وَأَبُو ذَرٍّ وَالمِقْدَادُ وَعَمَّارٌ وَبُرَيْدَةُ وَهُمْ يَقُولونَ: مَا أَسْرَعَ مَا خُنْتُمْ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) وَأَخْرَجْتُمُ الضَّغَائِنَ التِي فِي صُدُورِكُم (1)، الحديث.

ص: 378


1- بحار الأنوار: ج28 ص297، كتاب سليم بن قيس: ص862 ح48.

هاتي طيبي

اشارة

قالت فاطمة (عليها السلام) لأسماء بنت عميس حين توضأت وضوءها للصلاة: «هاتي طيبي الذي أتطيب به، وهاتي ثيابي التي أصلي فيها، فتوضأت ثم وضعت رأسها، فقالت لها: اجلسي عند رأسي فإذا جاء وقت الصلاة فأقيميني، فإن قمت وإلاّ فأرسلي إلى علي عليه السلام»(1).

----------------------------

من آداب المحتضر

مسألة: يستحب الجلوس عند رأس المحتضر.

ولعل وجه الجلوس عند الرأس أن يكون أقرب إلى المحتضر والمحتضر أقرب إليه، فلعل للمحتضر حاجة أو وصية، ولعل صوته لا يصل إليه إذا كان بعيداً أو أنه يجهده ذلك، وكذا الجالس فربما يريد أن يسأله عن شيء أو يوصيه بإبلاغ السلام إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو سائر الأئمة الأطهار (عليهم السلام) حيثإنه قادم عليهم.

ص: 379


1- بحار الأنوار: ج 43 ص185 ب7 ما وقع عليها من الظلم وبكائها وحزنها وشكايتها في مرضها إلى شهادتها وغسلها ودفنها وبيان العلة في إخفاء دفنها (صلوات الله عليها ولعنة الله على من ظلمها) ح18، عن كشف الغمة: ج 1 ص500 ذكر وفاتها وما قبل ذلك من ذكر مرضها ووصيتها (صلوات الله عليها).

هذا إضافة إلى أن الجلوس عند الرأس يوجب الأنس الأكثر بما لا يحصل مثله في الجلوس إلى أحد الجنبين أو الرجلين.

والمراد بالجلوس عند الرأس: أطراف الرأس، لا خصوص القمة، كما هو الظاهر.

ويستفاد من هذا الحديث أيضاً أنه يستحب للمحتضر أن يطلب ذلك، بأن يجلس أحد عند رأسه، فإن القضية وإن كانت شخصية إلاّ أنه قد يفهم منها الملاك والجامع عرفاً، فتأمل.

كما تستحب قراءة بعض الأدعية والسور عند رأسه.

عَنْ سُليْمَانَ الجَعْفَرِيِّ قَال: رَأَيْتُ أَبَا الحَسَنِ يَقُول لابْنِهِ القَاسِمِ: قُمْ يَا بُنَيَّ فَاقْرَأْ عِنْدَ رَأْسِ أَخِيكَ «والصَّافَّاتِ صَفًّا»(1) حَتَّى تَسْتَتِمَّهَا، فَقَرَأَ فَلمَّا بَلغَ «أَهُمْ

أَشَدُّ خَلقاً أَمْ مَنْ خَلقْنا»(2) قَضَى الفَتَى، فَلمَّا سُجِّيَ وخَرَجُوا أَقْبَل عَليْهِ يَعْقُوبُ بْنُ جَعْفَرٍ فَقَال لهُ: كُنَّا نَعْهَدُ المَيِّتَ إِذَا نُزِل بِهِ يُقْرَأُ عِنْدَهُ «يس والقُرْآنِ الحَكِيمِ»(3) وصِرْتَ تَأْمُرُنَا بِالصَّافَّاتِ، فَقَال: «يَا بُنَيَّ لمْ يُقْرَأْ عِندَ مَكْرُوبٍ مِنْمَوْتٍ قَطُّ إلاّ عَجَّل اللهُ رَاحَتَهُ»(4).

ص: 380


1- سورة الصافات: 1.
2- سورة الصافات: 11.
3- سورة يس: 1- 2.
4- الكافي: ج 3 ص126 باب إذا عسر على الميت الموت واشتد عليه النزع ح5.

الوضوء عند الموت

مسألة: يستحب الوضوء استعداداً للموت.

ومنه يعلم استحباب الغسل لمن كان جنباً أو ما أشبه، وكذلك استحباب التيمم بدل الوضوء إذا لم يتمكن من الوضوء أو من الغسل.

وذلك كله مشمول للإطلاقات أيضاً، قال تعالى: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرين»(1)، فبإطلاقه شامل للطهارة من الخبث والحدث والذنوب بالتوبة.

وربما يقال باستحباب أن يغسله أهله إذا لم يتمكن هو من ذلك.

عَنْ ذَرِيحٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، قَال: ذُكِرَ أَبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ، فَقَال: «كَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) وكَانَ مُسْتَقِيماً، قَال: «فَنَزَعَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ فَغَسَّلهُ أَهْلهُ ثُمَّ حَمَلوهُ إِلى مُصَلاهُ فَمَاتَ فِيهِ»(2) الحديث.

الطيب عند الموت

مسألة: يستحب التطيب عند الموت.

والاستحباب يفهم بالإضافة إلى مثل هذا الحديث، عن مثل ما ورد من أن الملائكة تستقبل روح الميت وأن العطر تكريماً لهم، هذا بالإضافة إلى إطلاقات

ص: 381


1- سورة البقرة: 222.
2- وسائل الشيعة: ج 2 ص464 ب40 باب استحباب نقل من اشتد عليه النزع إلى مصلاه الذي كان يصلي فيه أو عليه ح5.

التطيب الشامل لكل حال حتى حالة الاحتضار، إلاّ ما لم يكن مشروعاً.

رُوِيَ إِطْلاقُ المِسْكِ فَوْقَ الكَفَنِ وَعَلى الجِنَازَةِ، لأَنَّ فِي ذَلكَ تَكْرِمَةَ المَلائِكَةِ، فَمَا مِنْ مُؤْمِنٍ يُقْبَضُ رُوحُهُ إلاّ تَحْضُرُ عِنْدَهُ المَلائِكَة(1).

وعن مَوْلى لجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (عليه السلام) قَال: «مَرِضَ بَعْضُ مَوَاليهِ فَخَرَجْنَا إِليْهِ نَعُودُهُ ونَحْنُ عِدَّةٌ مِنْ مَوَالي جَعْفَرٍ، فَاسْتَقْبَلنَا جَعْفَرٌ (عليه السلام) فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ فَقَال لنَا: أَيْنَ تُرِيدُونَ، فَقُلنَا: نُرِيدُ فُلاناً نَعُودُهُ. فَقَال لنَا: «قِفُوا»، فَوَقَفْنَا، فَقَال: «مَعَ أَحَدِكُمْ تُفَّاحَةٌ أَوْ سَفَرْجَلةٌ أَوْ أُتْرُجَّةٌ أَوْ لعْقَةٌ مِنْ طِيبٍ أَوْ قِطْعَةٌ مِنْ عُودِ بَخُورٍ»، فَقُلنَا: مَا مَعَنَا شَيْ ءٌ مِنْ هَذَا، فَقَال: «أَمَا تَعْلمُونَ أَنَ المَرِيضَ يَسْتَرِيحُ إِلى كُل مَا أُدْخِل بِهِ عَليْهِ»(2).وعَنْ أَبِي الحَسَنِ الرِّضَا (عليه السلام) قَال: «الطِّيبُ مِنْ أَخْلاقِ الأَنْبِيَاءِ»(3).

وعَنِ العَبَّاسِ بْنِ مُوسَى قَال: سَمِعْتُ أَبِي (عليه السلام) يَقُول: «العِطْرُ مِنْ سُنَنِ المُرْسَلينَ»(4).

ص: 382


1- بحار الأنوار: ج78 ص316 ب9 باب التكفين وآدابه وأحكامه.
2- الكافي: ج 3 ص118 باب في كم يعاد المريض وقدر ما يجلس عنده وتمام العيادة ح3.
3- وسائل الشيعة: ج 2 ص142 ب89 باب استحباب التطيب ح3.
4- وسائل الشيعة: ج 2 ص142 ب89 باب استحباب التطيب ح4.

ملابس الصلاة

مسألة: يستحب للمحتضر أن يلبس ملابسه للصلاة، فإنه مضافاً إلى كونه تأسياً بالصديقة (صلوات الله عليها) فإن لبس تلك الثياب يوجب التخفيف ونزول الرحمة، كما يدل على ذلك أيضاً نقل المحتضر الذي يشتد به النزع إلى مصلاه.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «إِذَا عَسُرَ عَلى المَيِّتِ مَوْتُهُ ونَزْعُهُ قُرِّبَ إِلى مُصَلاهُ الذِي كَانَ يُصَلي فِيهِ»(1).

وعَنْ زُرَارَةَ قَال: «إِذَا اشْتَدَّتْ عَليْهِ النَّزْعُ فَضَعْهُ فِي مُصَلاهُ الذِي كَانَ يُصَلي فِيهِ أَوْ عَليْهِ»(2).

وعَنْ ليْثٍ المُرَادِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: قَال: «إِنَّ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ قَدْ رَزَقَهُ اللهُ هَذَا الرَّأْيَ، وإِنَّهُ قَدِ اشْتَدَّ نَزْعُهُ، فَقَال: احْمِلونِي إِلى مُصَلايَ، فَحَمَلوهُ فَلمْ يَلبَثْ أَنْ هَلكَ»(3).ومن الحكم المذكور قد يستفاد بالملاك وضع القرآن والأدعية وما أشبه إلى جانب المحتضر، كما تدل عليه أدلة أخرى بإطلاقها أو بدلالتها الالتزامية عرفاً، قال تعالى: «وَنُنَزِّل مِنَ القُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ ورَحْمَةٌ للمُؤْمِنينَ»(4).

ص: 383


1- الكافي: ج 3 ص125 باب إذا عسر على الميت الموت واشتد عليه النزع ح2.
2- الكافي: ج 3 ص126 باب إذا عسر على الميت الموت واشتد عليه النزع ح3.
3- الكافي: ج 3 ص126 باب إذا عسر على الميت الموت واشتد عليه النزع ح4.
4- سورة الإسراء: 82.

كما يفهم ذلك مما دل على استحباب بعض هذه الأمور بالنسبة إلى الميت، حتى قال السيد بحر العلوم (قدس سره):

وسن أن يكتب بالأكفان *** شهادة الإسلام والإيمان

وهكذا كتابة القرآن *** والجوشن المنعوت بالأمان

وفي الفقه الرضوي: «فَإِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ فَاحْضُرُوا عِنْدَهُ بِالقُرْآنِ وذِكْرِ اللهِ والصَّلاةِ عَلى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وآله»(1).

المرأة وثياب الصلاة

مسألة: يستحب أن تكون للمرأة التي تربي أولاداً صغاراً ثياب خاصة لصلاتها، بل إن الاستحباب أعم، فينبغي لكل إنسان أن يتخذ ثياباً نظيفة طاهرة خاصة لصلاته، فإن ملابس الإنسان العادية تتعرض عادة للقذارات المادية والمعنوية في كثير من الأحيان، والإنسان إذا وقف أمام الله سبحانه استحب له حتى التزين والتنظيف، قال سبحانه: «خُذُوا زينَتَكُمْ عِنْدَ كُل مَسْجِد»(2)، ومنه أيضاً استحباب لبس الزينة للمرأة إذا أرادت الصلاة، فإن الله تعالى وإن كان غنياً عن كل ذلك وعن جميع العالمين، لكنه نوع أدب ترجع فائدته للإنسان نفسه، إذ يؤكد ذلك في نفسه أنه يذهب إلى العظيم ويقف بين يدي من يخضع له كل عظيم، فيزداد خضوعاً وخشوعاً والتفاتاً واهتماماً.

ص: 384


1- الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا (عليه السلام): ص181 ب24 باب آخر في غسل الميت والصلاة عليه، وعنه بحار الأنوار: ج 78 ص234 ب5 آداب الاحتضار وأحكامه.
2- سورة الأعراف: 31.

والمؤيد للإطلاق أن الصديقة الزهراء (عليها الصلاة والسلام) وأولادها (عليهم السلام) مشمولون لآية التطهير، فليسوا كسائر الأطفال، ومن المعلوم أن السيدة زينب وأم كلثوم (عليهما الصلاة والسلام) كانا في غاية الطهارة والنزاهة.

المرأة والطيب

مسألة: يستحب أن يكون للمرأة طيب تستخدمه فيما يرضي الرب عزوجل، لا بحيث يشمه الأجانب.

قَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «أَيُّمَا امْرَأَةٍ بَاتَتْ وزَوْجُهَا عَليْهَا سَاخِطٌ فِي حَقٍّ لمْ تُقْبَل مِنْهَا صَلاةٌ حَتَّى يَرْضَى عَنْهَا، وأَيُّمَا امْرَأَةٍ تَطَيَّبَتْ لغَيْرِ زَوْجِهَا لمْ تُقْبَل مِنْهَا صَلاةٌ حَتَّى تَغْتَسِل مِنْ طِيبِهَا كَغُسْلهَا مِنْ جَنَابَتِهَا»(1).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «أَيُّ امْرَأَةٍ تَطَيَّبَتْ ثُمَ خَرَجَتْ مِنْ بَيْتِهَا فَهِيَ تُلعَنُ حَتَّى تَرْجِع»(2).

وعَنِ السَّكُونِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «طِيبُ النِّسَاءِ مَا ظَهَرَ لوْنُهُ وخَفِيَ رِيحُهُ، وطِيبُ الرِّجَال مَا ظَهَرَ رِيحُهُ وخَفِيَ لوْنُهُ»(3).

ص: 385


1- الكافي: ج 5 ص507 باب حق الزوج على المرأة ح2.
2- الكافي: ج 5 ص518 باب التستر ح2.
3- الكافي: ج 6 ص512 باب الطيب ح17.

التنبيه للصلاة

مسألة: يستحب تنبيه الآخرين عند أول وقت الصلاة وإيقاظ النائم منهم وإلفات الغافل وتعليم الجاهل ونصح المتساهل، فإن للصلاة في أول الوقت أجراً عظيماً، والدال على الخير كفاعله.

ويدل عليه أمر الصديقة (صلوات الله عليها) أسماء أن تقيمها إذا جاء وقت الصلاة، وكذلك ما فعله أمير المؤمنين (عليه السلام) في صفين(1)، وما فعله الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء عند وقت الصلاة(2)، وقوله (عليه

السلام) لمن ذكر

ص: 386


1- وسائل الشيعة: ج 4 ص246 ب41 باب استحباب الاهتمام بمعرفة الأوقات وكثرة ملاحظة أوقات الفضيلة ح2، عن إرشاد القلوب: ج 2 ص217 فصل في عبادته وزهده. وفيه: (كَانَ عَليٌّ (عليه السلام) يَوْماً فِي حَرْبِ صِفِّينَ مُشْتَغِلا بِالحَرْبِ والقِتَال وهُوَ مَعَ ذَلكَ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ يُرَاقِبُ الشَّمْسَ، فَقَال لهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ مَا هَذَا الفِعْل، قَال: أَنْظُرُ إِلى الزَّوَال حَتَّى نُصَليَ، فَقَال لهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: وهَل هَذَا وَقْتُ صَلاةٍ إِنَّ عِنْدَنَا لشُغُلا بِالقِتَال عَنِ الصَّلاةِ، فَقَال (عليه السلام): عَلى مَا نُقَاتِلهُمْ إِنَّمَا نُقَاتِلهُمْ عَلى الصَّلاةِ، قَال: ولمْ يَتْرُكْ صَلاةَ الليْل قَطُّ حَتَّى ليْلةَ الهَرِيرِ).
2- ورد أنه لما رأى ذلك أبو ثمامة الصيداوي قال للحسين عليه السلام: يا أبا عبد الله نفسي لنفسك الفداء هؤلاء اقتربوا منك ولا والله لا تقتل حتى أقتل دونك وأحب أن ألقى الله ربي وقد صليت هذه الصلاة فرفع الحسين رأسه إلى السماء وقال: ذكرتَ الصلاة جعلك الله من المصلين نعم هذا أول وقتها، ثم قال: سلوهم أن يكفوا عنا حتى نصلي فقال الحصين بن نمير: إنها لا تقبل! فقال حبيب بن مظاهر: لا تقبل الصلاة زعمت من ابن رسول الله وتقبل منك يا ختار فحمل عليه حصين بن نمير وحمل عليه حبيب فضرب وجه فرسه بالسيف فشب به الفرس ووقع عنه الحصين فاحتوشته أصحابه فاستنقذوه فقال الحسين عليه السلام لزهير بن القين وسعيد بن عبد الله: تقدما أمامي حتى أصلي الظهر فتقدما أمامه في نحو من نصف أصحابه حتى صلى بهم صلاة الخوف. وروي أن سعيد بن عبد الله الحنفي تقدم أمام الحسين فاستهدف لهم يرمونه بالنبل كلما أخذ الحسين (عليه السلام) يمينا وشمالا قام بين يديه فما زال يرمى به حتى سقط إلى الأرض وهو يقول: اللهم العنهم لعن عاد وثمود اللهم أبلغ نبيك السلام عني وأبلغه ما لقيت من ألم الجراح فإني أردت بذلك نصرة ذرية نبيك ثم مات (رضوان الله عليه) فوجد به ثلاثة عشر سهما سوى ما به من ضرب السيوف وطعن الرماح. بحار الأنوار: ج 45 ص21 بقية الباب 37 سائر ما جرى عليه بعد بيعة الناس ليزيد بن معاوية إلى شهادته (صلوات الله عليه).

الصلاة: (ذكرتَ الصلاة جعلك الله من المصلين)(1).قال تعالى: «وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلهُ بِالصَّلاةِ والزَّكاةِ وكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا»(2).

وقال سبحانه: «وَأْمُرْ أَهْلكَ بِالصَّلاةِ واصْطَبِرْ عَليْها لا نَسْئَلكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ والعاقِبَةُ للتَّقْوى»(3).

وفي رواية تسليم الوتر: «تُوقِظُ الرَّاقِدَ وَتَأْمُرُ بِالصَّلاةِ»(4).

وعَنْ يَعْقُوبَ بْنِ سَالمٍ أَنَّهُ سَأَل أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) عَنِ الرَّجُل يَقُومُ مِنْ آخِرِ الليْل فَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالقُرْآنِ، فَقَال: «يَنْبَغِي للرَّجُل إِذَا صَلى فِي الليْل أَنْ يُسْمِعَ أَهْلهُ لكَيْ يَقُومَ القَائِمُ ويَتَحَرَّكَ المُتَحَرِّكُ»(5).

ص: 387


1- وقعة الطف: ص22، بحار الأنوار: ج 45 ص21 بقية ب37 سائر ما جرى عليه بعد بيعة الناس ليزيد بن معاوية إلى شهادته (صلوات الله عليه).
2- سورة مريم: 55.
3- سورة طه: 132.
4- تهذيب الأحكام: ج2 ص128 ب8 ح 256.
5- تهذيب الأحكام: ج 2 ص124 ب8 باب كيفية الصلاة وصفتها وشرح الإحدى وخمسين ركعة وترتيبها والقراءة فيها والتسبيح في ركوعها وسجودها والقنوت فيها والمفروض من ذلك والمسنون ح240.

وعَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) قَال: «رَحِمَ اللهُ عَبْداً قَامَ مِنَ الليْل فَصَلى وأَيْقَظَ أَهْلهُ فَصَلوْا»(1).وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) قَال: «إِذَا أَيْقَظَ الرَّجُل أَهْلهُ مِنَ الليْل وتَوَضَّئَا وصَليَا كُتِبَا مِنَ الذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً والذَّاكِرَاتِ»(2).

وفي أخلاق أمير المؤمنين (عليه السلام): أَنَّهُ يَتَفَقَّدُ النَّائِمِينَ فِي المَسْجِدِ ويَقُول للنَّائِمِ: الصَّلاةَ يَرْحَمُكَ اللهُ الصَّلاةَ المَكْتُوبَةَ عَليْكَ، ثُمَّ يَتْلو (عليه السلام): «إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الفَحْشاءِ والمُنْكَرِ»(3)، فَفَعَل ذَلكَ كَمَا كَانَ يَفْعَلهُ عَلى جَارِي عَادَاتِهِ مَعَ النَّائِمِينَ فِي المَسْجِد(4).

ص: 388


1- مستدرك الوسائل: ج 6 ص440 ب11 باب استحباب الإيقاظ للصلاة وحكم من تركها مستحلا أو غير مستحل ح3.
2- وسائل الشيعة: ج 7 ص257 ب9 باب جواز إيماء المصلي وتنحنحه وإشارته ورفع صوته بالتسبيح لتنبيه الغافل وصفقه بيده للحاجة وضرب الحائط لإيقاظ النائم وحكم التلبية ح10.
3- سورة العنكبوت: 45.
4- مستدرك الوسائل: ج 5 ص115 ص34 باب كيفية النوم وجملة من أحكامه ح3.

الصلاة أول الوقت

مسألة: يستحب استحباباً مؤكداً الصلاة في أول وقتها، واشتهر: «الصلاة في أول الوقت جزور وفي آخر الوقت عصفور».

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ الصَّادِقِ (عليه السلام) قَال: «مَنْ صَلى الصَّلوَاتِ المَفْرُوضَاتِ فِي أَوَّل وَقْتِهَا فَأَقَامَ حُدُودَهَا رَفَعَهَا المَلكُ إِلى السَّمَاءِ بَيْضَاءَ نَقِيَّةً وهِيَ تَهْتِفُ بِهِ: حَفِظَكَ اللهُ كَمَا حَفِظْتَنِي واسْتَوْدَعَكَ اللهُ كَمَا اسْتَوْدَعْتَنِي مَلكاً كَرِيماً، ومَنْ صَلاهَا بَعْدَ وَقْتِهَا مِنْ غَيْرِ عِلةٍ فَلمْ يُقِمْ حُدُودَهَا رَفَعَهَا المَلكُ سَوْدَاءَ

مُظْلمَةً وهِيَ تَهْتِفُ بِهِ: ضَيَّعْتَنِي ضَيَّعَكَ اللهُ كَمَا ضَيَّعْتَنِي ولا رَعَاكَ اللهُ كَمَا لمْ تَرْعَنِي»(1).

وعَنْ سَعْدِ بْنِ سَعْدٍ قَال: قَال الرِّضَا (عليه السلام): «يَا فُلانُ إِذَا دَخَل الوَقْتُ عَليْكَ فَصَلهِمَا فَإِنَّكَ لا تَدْرِي مَا يَكُونُ»(2).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «إِنَ فَضْل الوَقْتِ الأَوَّل عَلى الآخِرِ كَفَضْل الآخِرَةِ عَلى الدُّنْيَا»(3).وقَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «لفَضْل الوَقْتِ الأَوَّل عَلى الأَخِيرِ خَيْرٌ للرَّجُل مِنْ وَلدِهِ ومَالهِ»(4).

ص: 389


1- الأمالي، للصدوق: ص256 المجلس الرابع والأربعون ح10.
2- تهذيب الأحكام: ج 2 ص272 ب13 باب المواقيت ح119.
3- الكافي: ج 3 ص274 باب المواقيت أولها وآخرها وأفضلها ح6.
4- الكافي: ج 3 ص274 باب المواقيت أولها وآخرها وأفضلها ح7.

الفهرس

مات خير فوارسي. 5

من مصاديق المجاز 6

ظاهر التشاؤم 6

التشبيه بالجبل ونحوه 7

والد البتول. 8

إطلاقات الموت.. 10

من أنواع الإسناد 10

اللوذ بالمعصوم 11

جبرئيل يلوذ برسول الله. 11

غض الطرف.. 13

إظهار التعجب.. 14

الإنشاء بصيغة الإخبار 15

البكاء وإضرار النفس.. 16

جواز المبالغة 16

روايات في تشبيه المعنويات بالماديات.. 17

حزن القلب.. 18

كثرة البكاء ورسم الخد 19

إذا اشتد شوقي. 23

زيارة القبور 23

ص: 390

زيارة قبور المعصومين. 24

الشوق وزيارة القبور 26

الشوق الأكثر 27

من موارد البكاء 28

الشكاية إلى المعصوم \ إنشاد وإنشاء الشعر 30

استمرار النياحة 32

الدفاع عن الولاية \ الدفاع عن الحق. 34

إنذار الظالم. 35

أسباب النقمة 36

لو قدموا علياً 37

سيأخذهم الله. 38

ما الذي يبكيك؟ 39

التظلم \ الإخبار بظلم الظالم. 45

كثرة بكاء الصديقة \ كتمان البكاء 46

السؤال عن تألم المعصوم 50

لماذا بكت الصديقة 52

قصة فدك. 53

عقاب غصب فدك. 54

نية الظلم 57

الإعراب عن قصد الظلم 58

التصريح باسم الظالم. 59

خلوا عن ابن عمي. 61

نشر الشعر عند الدعاء 61

الدفاع عن المظلوم 64

ص: 391

الصراخ إلى الله. 66

حرمة الإكراه والإجبار 68

النساء والنهي عن المنكر 69

إني ابنة نبيكم 70

الظلم وتذكير الناس. 70

فضح الظالم وغيبته 72

المبادرة إلى النهي عن المنكر 73

الفرائض والمشاهد المشرفة 74

مراكز توجه الناس \ الاستنصار للحق. 76

المرأة واستنصارها \ نصرة العترة 77

خذلان العترة 79

التكرار 80

الأربعون يوما \ نصرة الله. 81

نقض البيعة 83

التذكير بالبيعة 84

مدى المظلومية 87

نصرة الناصر 88

التضحية للأهداف المقدسة 90

توبيخ من حضر بيعة السقيفة \ فداحة الخطب.. 93

التقية ومواردها 96

الخروج لفضح الظالم. 99

المرأة والدفاع عن الحق. 100

التآمر لغصب الحق. 101

المحضر الأسوأ 102

ترك جنازة النبي. 103

ص: 392

الاستبداد بالأمر 105

من أعظم الكبائر 106

لم تستأمرونا \ جحود الحق. 108

من أكبر المحرمات.. 110

الخلفاء حقاً 111

أسوأ الناس. 112

نزول العذاب \ قانون الأهم والمهم 115

الدعاء والبلاء 117

القسم في الأدعية المهمة 118

الظالم وذكر اسمه \ مقام الصديقة 119

طلب الميراث \ المطالبة بالحق. 121

الاستدلال والاستشهاد بالكتاب العزيز 123

التفريق بين المسلمين. 124

تكذيب الكتاب.. 124

المطالبة بالميراث.. 126

غصب الخلافة كفر \ الكفر العملي. 127

الكفر الاعتقادي \ حرمة الكفر 128

احتجاج على الغاصبين. 130

طلب الحق. 131

قول ذي اليد 132

إقامة الدليل بعد الدليل \ نقض قانون اليد 133

فدك في يد الصديقة \ تقرير المعصوم 134

الاستدلال غير المباشر 135

حرمة الكذب ودرجاتها \ الخصم يعترف.. 136

ص: 393

رد صنع الرسول. 137

سيدة نساء الجنة 138

التأكيد على السماع. 139

الغضب بالباطل. 140

التشكيك في فعل النبي. 141

أتراك محرقاً بابي. 142

حرق الباب \ فضح الظالم. 144

استدراج الخصم ليعترف.. 145

كفر واضح. 148

إنكارة الضروري \ إحراق الباب من أكبر الكبائر 149

من آذاها 151

ثقافة الحمد 154

توثيق الأحداث \ مسائل عديدة 155

إيذاء الصديقة 157

تكرار التبري في المجالس.. 158

الإعلان عن غضبها 159

الشكاية لله من كل ظالم. 161

مقاطعة الظالم. 165

رضا فاطمة \ ضروري المذهب.. 166

حب فاطمة كحب الرسول \ العمل بقول الرسول. 167

إقرار الخصم 168

حرمة إسخاطها \ رضا الله بعد رضاها أم قبله؟ 171

كيف أصبحت؟ 173

بواعث ظلم الطغاة 174

معنى وفروق الكرب والكمد 175

ص: 394

بيان أنواع الظلامات.. 176

ظلم الوصي من أكبر الكبائر 177

ما سنّه النبي في التأويل \ حرمة الحقد 181

الحقد الباطل. 182

حرمة النفاق. 183

قطع وتر الإيمان. 184

رفض اعتذار القوم \ طرد أهل العناد 188

إنهم ليسوا بمعذورين. 190

التقصير المحرم 193

العهد مع الظالم باطل. 194

أبشروا آل محمد 195

تبشير المؤمنين. 196

لا لإشاعة الفاحشة 198

وجوب الخمس.. 200

فضيلة أسماء وأم أيمن \ تزكية الشاهد العادل. 202

منزلة المرأة في الإسلام 203

أول الأهل لحوقاً 205

إظهار الحزن عند مقتضيه 205

إظهار السرور لدى توفر علله 207

وجوه الحكمة في ضحكها 208

الأول لحوقاً \ الإخبار عن المستقبل. 211

هل يفعل المعصوم المكروه؟ 212

لا تبكي \ تسلية الباكي. 214

(لا تبكي) نهي أو حنان. 215

ص: 395

الشوق للآخرة 215

رفيق الجنة \ التمهيد لمرافقة الصالحين في الجنة 217

جلب المنفعة الكبيرة لازم 218

الصديقة رفيق الرسول. 219

نعم الخلف.. 221

الأعظم رزية 223

الأمر بالتقوى وبالصبر. 223

إخبارات الكتاب والسنة 225

إخبار الأسرة بقرب الرحيل. 226

مسألتان. 227

الوصية العهدية والتمليكية \ الإخبار برزايا المستقبل. 228

أعظم المصائب.. 230

التناسب بين المصيبة والصبر والمقام 232

اصبر يا علي \ إخبار العالم وفوائده 234

ثقل المصيبة 235

معنى القضاء والقدر 236

القدر نوعان. 237

التسليم لما لابد منه 238

الرضا سر السعادة 239

الصبر والرضا 240

الشدة تصيب ولدي \ البكاء مستحب وواجب.. 242

الضحك بين جائز ومحرم 244

الذرية الطاهرة وما ورد عليها 245

شكايتها في منامها \ الشكاية إلى الرسول. 247

سر تعدد شكواها 249

ص: 396

شكواها حجة على القوم \ سادة المتقين. 250

حجية منامات المعصومين. 251

هل تضمن الوصية \ الوصية بعدم حضور الجنازة 255

العقود الاجتماعية مستثناة 257

العمل بالوصية رغم المصاعب.. 258

وصية الزوجة للزوج. 259

الضمان على العمل بالوصية 260

الملاك في الشروط هو حال التعاقد 261

عدم التضييق على الوصي \ قبول الوصية 262

لا يُقر الظالم على ظلمه 263

السؤال بحق الرسول. 264

هل ذكرت الصديقة الأسماء \ مقارعة الظلمة حتى آخر نفس.. 265

ما عهدتني كاذبة 267

الوصية بالزواج بعد وفاة أحد الزوجين. 268

الوصية باتخاذ النعش أو العماري. 269

جواز الوصية بالدفن ليلاً \ مخالفة الزوجة لزوجها 270

خيانة الزوجة 272

الكذب على الزوج. 274

مخالفة الزوج. 276

الدعاء للزوج وللآخرين. 277

جري المعصومين على الظاهر 280

العلم من غير الطرق الطبيعية 281

الاهتمام بالأولاد 282

يا بن العم \ انتخاب الثقاة لمهمام الأمور 288

ص: 397

توثيق الثقاة 289

رضاها رضا الله. 290

الإيصاء بالأولاد 291

حسن الانتخاب \ التعرف الطريقي. 292

حمل الميت في النعش.. 293

استحباب الوصية 294

الصديقة ورؤية الملائكة 295

من أدوار الملائكة 296

مع أسماء بنت عميس \ تغسيل المعصوم 298

الاستعانة في الغسل \ تفاصيل التجهيز \ حجية خبر المرأة 301

وصية فاطمة (علیها السلام) 303

الوصية بالمال. 304

التسمية مع التعدد 305

الكتابة والإملاء 306

فرع \ تعين خلفاء الوصية 307

كتابة الوصية 309

المحبة في الخطاب.. 310

المؤمن والمحبة 311

الموت وتوديع الأحبة \ الاستوداع عند الله. 312

ختم الوصية 313

التقية ومواردها 314

الدعاء وقت الموت.. 315

بين اللا اقتضائي والاقتضائي \ التعيين في الوصية 317

الحوائط السبعة \ قراءة وصية المعصوم 318

التصريح بالموصى به والموصى له \ حفظ الوصية 319

ص: 398

الإشهاد على الوصية 320

الحنان على الأولاد \ مسائل في زواج الرجل بعد موت زوجته 322

الوصية بمتاع البيت.. 325

من وصاياها \ حفظ الكتب الهامة 326

القراءة المباشرة 327

الوصية للزوج. 328

الوصية إلى الأكابر \ النقل بالمضمون. 330

الوصية للنساء \ الوصية للأقرباء والأنسباء 332

الوصية لنساء الأقارب \ الوصية المتساوية والمتفاضلة 334

الوصية للمعصوم 336

قراءة الوصية \ إقراء الوصية 338

قولي ما أحببت \ حفظ الوصية 340

ما يقال للمحتضر \ التلفظ بالوصية 341

الأصلح في تربية الأبناء 343

رؤية الملائكة 344

الدفن ليلاً. 346

السرير الطاهر \ سرير الميت.. 348

دعاء عند الوفاة 349

الدعاء بالخمسة الطيبة 349

لوحات سليمانية 351

لوحات سفينة نوح. 353

التوسل بالفاطميات.. 355

السبط وكثرة البكاء على الأُم \ البكاء على الميت.. 356

الدعاء لعامة الناس. 358

ص: 399

شهادة الحسين والتأكيد عليها 359

كثرة البكاء على المعصوم 360

البكاء على فقد الأُم \ استحباب الشفاعة 361

من أدعية الصديقة \ طلب الجنة 363

الاستغاثة بأسماء الله. 364

الدعاء بالعافية 367

يا أماه إني مقبوضة \ أمهات المؤمنين. 369

كراهة الكشف.. 371

هاتي طيبي. 379

من آداب المحتضر 379

الوضوء عند الموت \ الطيب عند الموت.. 381

ملابس الصلاة 383

المرأة وثياب الصلاة 384

المرأة والطيب.. 385

التنبيه للصلاة 386

الصلاة أول الوقت.. 389

الفهرس. 390

ص: 400

المجلد الحادي عشر : رواياتها (علیها السلام) 4

هوية الكتاب

الفقه

موسوعة استدلالية في الفقه الإسلامي

من فقه الزهراء (علیها السلام)

المجلد الحادي عشر

رواياتها (علیها السلام) - 4

المرجع الديني الراحلآية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (أعلى الله درجاته)

ص: 1

اشارة

الطبعة الأولى

1439 ه 2018م

تهميش وتعليق:

مؤسسة المجتبى للتحقيق والنشر

كربلاء المقدسة

ص: 2

الفقه

من فقه الزهراء (علیها السلام)

المجلد الحادي عشر

رواياتها (علیها السلام)

القسم الرابع

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

ولعنة الله على أعدائهم أجمعين

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الصِّدِيقَةُ الشَّهِيدَةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الرَّضِيَةُ المَرْضِيَّةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الفَاضِلةُ الزَّكِيَةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الحَوْراءُ الإِنْسِيَّةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا التَّقِيَّةُ النَّقِيَّةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا المُحَدَّثَةُ العَليمَةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا المَظْلومَةُ المَغْصُوبَةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا المُضْطَهَدَةُ المَقْهُورَةُ

السَّلامُ عَليْكِ يا فاطِمَةُ بِنْتَ رَسُول اللهِ

وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ

البلد الأمين ص278. مصباح المتهجد ص711

بحار الأنوار ج97 ص195 ب12 ح5 ط بيروت

ص: 4

عند ساعات الاحتضار

اشارة

روي أن فاطمة (عليها السلام) بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما احتضرت نظرت نظراً حاداً(1)

ثم قالت: «السلام على جبرئيل، السلام على رسول الله، اللهم مع رسولك، اللهم في رضوانك وجوارك ودارك دار السلام».

ثم قالت (عليها السلام): «أترون ما أرى»؟

فقيل لها: ما ترين؟

قالت (عليها السلام): «هذه مواكب أهل السماوات، وهذا جبرئيل، وهذا رسول الله، ويقول: يا بنية، أقدمي، فما أمامك خير لك»(2).

------------------------

طلب دار السلام

مسألة: يستحب طلب رضوان الله وجواره ودار السلام، وخاصة عند الاحتضار.

ص: 5


1- لعل وجه نظرها (عليها السلام) حاداً أن ذلك هو مقتضى تحول البصر من الإبصار المادي إلى الإبصار البرزخي.
2- عوالم العلوم: ج 11 قسم1 فاطمة (سلام الله عليها) ص238 معجزتها (عليها السلام) حين احتضارها ح2.

والمراد بجوار الرب: جوار رحمته، و(دار السلام) هي الجنة، كما قال سبحانه: «لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ»(1).

والمراد ب (عنده) القرب المعنوي لا المادي كما هو واضح، لأن الله سبحانه لا مكان له ولا زمان ولا جهة، وإنما هوفوق كل زمان ومكان، وكيف يحيط به ما هو مخلوق له، ولو أحاط به لكان محدوداً وكان مفتقراً محتاجاً فلم يكن إلهاً، فكل زمان ومكان بالنسبة إليه على حد سواء كما ثبت ذلك في علم الكلام، عقلاً ونقلاً.

وفي الصحيفة السجادية: «وَاجْعَلنَا مَعَهُمْ فِي دَارِ السَّلامِ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِين»(2).

وفي الدعاء: «آمِنَّا العِقَابَ واطْمَئِنَّ بِنَا دَارَكَ دَارَ السَّلام»(3).

وفي التلبية المستحبة: «لَبَّيْكَ دَاعِياً إِلى دَارِ السَّلامِ لَبَّيْك»(4).

السلام على الملائكة

مسألة: يستحب السلام على الملائكة وعلى المعصومين (عليهم السلام) إذا حضروا عند المحتضر ورآهم.

بل من المحتمل استحباب السلام عليهم حتى إذا لم يرهم، لأنهم يحضرون

ص: 6


1- سورة الأنعام: 127.
2- الصحيفة السجادية، وكان من دعائه (عليه السلام) في يوم عرفة.
3- الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا (عليه السلام): ص406 ب116 باب الدعاء في الوتر وما يقال فيه.
4- الكافي: ج 4 ص335 باب التلبية ح3.

كما ورد في أحاديث متواترة، وقد قال علي (عليه الصلاة والسلام) في الشعر المنسوب إليه:

قَوْل عَليٍّ لحَارِثٍ عَجَبٌ *** كَمْ ثَمَّ أُعْجُوبَةً لهُ حَمَلا

يَا حَارِ هَمْدَانَ مَنْ يَمُتْ يَرَنِي *** مِنْ مُؤْمِنٍ أَوْ مُنَافِقٍ قُبُلا

يَعْرِفُنِي طَرْفُهُ وَ أَعْرِفُهُ *** بِنَعْتِهِ وَ اسْمِهِ وَ مَا عَمِلا

وَ أَنْتَ عِنْدَ الصِّرَاطِ تَعْرِفُنِي *** فَلا تَخَفْ عَثْرَةً وَ لا زَللا

أَسْقِيكَ مِنْ بَارِدٍ عَلى ظَمَإٍ *** تَخَالهُ فِي الحَلاوَةِ العَسَلا

أَقُول للنَّارِ حِينَ تُوقَفُ للعَرْضِ *** دَعِيهِ لا تَقْتُلي الرَّجُلا

دَعِيهِ لا تَقْرَبِيهِ إِنَّ لهُ *** حَبْلا بِحَبْل الوَصِيِّ مُتَّصِلا(1)

وقد ذكرنا في بعض الكتب الكلامية، كيفية حضورهم الحقيقي (صلوات الله عليهم) في أماكن عديدة وفي وقت واحد، فهو ربما يكون كحضور ملك الموت عند أموات كثيرين في وقت واحد في بلاد شتى.

ثم إنه لعل وجه سلام الصديقة (عليها السلام) على جبرئيل أولاً ثم على رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو حضور جبرائيل أولاً فسلمت عليه ثم حضر رسول الله (صلى الله عليه وآله) فسلمت عليه.وقولها (عليها السلام): «أترون ما أرى» يحتمل كونه استفهاماً إعلامياً أو تقريرياً، كما يحتمل أن الحاضرين قد رأوا ما رأت، فالحاضرون الحسنان (عليهما

ص: 7


1- بحار الأنوار: ج 6 ص180 ب7 ما يعاين المؤمن والكافر عند الموت وحضور الأئمة (عليهم السلام) عند ذلك وعند الدفن وعرض الأعمال عليهم (صلوات الله عليهم) ح7.

السلام) ومن أشبه، ولذا لم ينفوا الرؤية بل قالوا لها: ما ترين؟.

قَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «إِذَا حِيل بَيْنَهُ وبَيْنَ الكَلامِ أَتَاهُ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) ومَنْ شَاءَ اللهُ، فَجَلسَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) عَنْ يَمِينِهِ والآخَرُ عَنْ يَسَارِهِ، فَيَقُول لهُ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): أَمَّا مَا كُنْتَ تَرْجُو فَهُوَ ذَا أَمَامَكَ، وأَمَّا مَا كُنْتَ تَخَافُ مِنْهُ فَقَدْ أَمِنْتَ مِنْهُ، ثُمَّ يُفْتَحُ لهُ بَابٌ إِلى الجَنَّةِ فَيَقُول: هَذَا مَنْزِلكَ مِنَ الجَنَّةِ فَإِنْ شِئْتَ رَدَدْنَاكَ إِلى الدُّنْيَا...»(1).

وعَنْ عَليِّ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَال: قَال لي أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «يَا عُقْبَةُ لا يَقْبَل اللهُ مِنَ العِبَادِ يَوْمَ القِيَامَةِ إِلا هَذَا الأَمْرَ الذِي أَنْتُمْ عَليْهِ، ومَا بَيْنَ أَحَدِكُمْ وبَيْنَ أَنْ يَرَى مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُهُ إِلا أَنْ تَبْلغَ نَفْسُهُ إِلى هَذِهِ»، ثُمَّ أَهْوَى بِيَدِهِ إِلى الوَرِيدِ ثُمَّ اتَّكَأَ وكَانَ مَعِيَ المُعَلى فَغَمَزَنِي أَنْ أَسْأَلهُ، فَقُلتُ: يَا ابْنَ رَسُولاللهِ فَإِذَا بَلغَتْ نَفْسُهُ هَذِهِ أَيَّ شَيْ ءٍ يَرَى، فَقُلتُ لهُ: بِضْعَ عَشْرَةَ مَرَّةً أَيَّ شَيْ ءٍ، فَقَال فِي كُلهَا: «يَرَى»، ولا يَزِيدُ عَليْهَا.

ثُمَّ جَلسَ فِي آخِرِهَا فَقَال: «يَا عُقْبَةُ»، فَقُلتُ: لبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ، فَقَال: «أَبَيْتَ إِلا أَنْ تَعْلمَ»، فَقُلتُ: نَعَمْ يَا ابْنَ رَسُول اللهِ إِنَّمَا دِينِي مَعَ دِينِكَ، فَإِذَا ذَهَبَ دِينِي كَانَ ذَلكَ كَيْفَ لي بِكَ يَا ابْنَ رَسُول اللهِ كُل سَاعَةٍ، وبَكَيْتُ فَرَقَّ لي فَقَال: «يَرَاهُمَا واللهِ»، فَقُلتُ: بِأَبِي وأُمِّي مَنْ هُمَا، قَال: «ذَلكَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) وَعَليٌّ (عليه السلام)، يَا عُقْبَةُ لنْ تَمُوتَ نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ أَبَداً حَتَّى تَرَاهُمَا»(2).

وعَنْ يَحْيَى بْنِ سَابُورَ قَال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُول فِي المَيِّتِ

ص: 8


1- الكافي: ج 3 ص129 باب ما يعاين المؤمن والكافر ح2.
2- الكافي: ج 3 ص128 باب ما يعاين المؤمن والكافر ح1.

تَدْمَعُ عَيْنُهُ عِنْدَ المَوْتِ، فَقَال: «ذَلكَ عِنْدَ مُعَايَنَةِ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) فَيَرَى مَا يَسُرُّهُ»، ثُمَّ قَال: «أَمَا تَرَى الرَّجُل يَرَى مَا يَسُرُّهُ ومَا يُحِبُّ فَتَدْمَعُ عَيْنُهُ لذَلكَ ويَضْحَكُ»(1).

وعَنْ عُقْبَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُول: «إِنَّ الرَّجُل إِذَا وَقَعَتْ نَفْسُهُفِي صَدْرِهِ يَرَى، قُلتُ: جُعِلتُ فِدَاكَ ومَا يَرَى، قَال: يَرَى رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) فَيَقُول لهُ رَسُول اللهِ: أَنَا رَسُول اللهِ أَبْشِرْ، ثُمَ يَرَى عَليَّ بْنَ أَبِي طَالبٍ (عليه السلام) فَيَقُول: أَنَا عَليُّ بْنُ أَبِي طَالبٍ الذِي كُنْتَ تُحِبُّهُ تُحِبُّ أَنْ أَنْفَعَكَ اليَوْمَ»، قَال: قُلتُ لهُ: أَيَكُونُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ يَرَى هَذَا ثُمَّ يَرْجِعُ إِلى الدُّنْيَا، قَال: قَال: «لا، إِذَا رَأَى هَذَا أَبَداً مَاتَ وأَعْظَمَ ذَلكَ»، قَال: «وذَلكَ فِي القُرْآنِ قَوْل اللهِ عَزَّ وجَل: «الذِينَ آمَنُوا وكانُوا يَتَّقُونَ * لَهمُ البُشْرى فِي الحَياةِ الدُّنْيا وفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيل لكَلماتِ اللهِ»(2)»(3).

نظم الملائكة

مسألة: يظهر من الروايات المختلفة ومنها هذه الرواية أن الملائكة لهم برامج منظمة، ونظم وترتيب وقادة وأدوار محددة بدقة من ناحية الكم والكيف والزمان والخصوصيات الأخرى، وقد قالت الصديقة: «هذه مواكب أهل السماوات».

ص: 9


1- الكافي: ج 3 ص133 باب ما يعاين المؤمن والكافر ح6.
2- سورة يونس: 63 - 64.
3- الكافي: ج 3 ص133 باب ما يعاين المؤمن والكافر ح8.

والأمر على القاعدة، فإن تشكيلات الكون كلها على نظام دقيق، بعضهاظاهر جلي وبعضها مستور خفي(1).

التحريض على الآخرة

مسألة: يستحب تحريض المحتضر على نعيم الآخرة.

وقوله (صلى الله عليه وآله): «أقدمي» يحتمل فيه الإرشادية، ويؤيده التعليل بقوله: «فما أمامك خير لك».

ولعله تحريض لها (عليها السلام) على الرضا التام بالموت، فإن الانقلاع عن بعلها والحسنين وزينب وسائر أولادها (عليهم السلام) صعب، ومن الواضح أنها (عليها السلام) كسائر المعصومين (عليهم السلام) راضية تمام الرضا بقضاء الله، إلاّ أن مثل ذلك جار مجرى الظواهر التي كان ينبغي السير عليها، وربما كان للدلالة على ما جرى عليها.

عن جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَارَةَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: قُلتُ لهُ: أَخْبِرْنِي عَنْ أَصْحَابِ الحُسَيْنِ(عليهم السلام) وإِقْدَامِهِمْ عَلى المَوْتِ، فَقَال: «إِنَّهُمْ كُشِفَ لهُمُ الغِطَاءُ حَتَّى رَأَوْا مَنَازِلهُمْ مِنَ الجَنَّةِ، فَكَانَ الرَّجُل مِنْهُمْ يُقْدِمُ عَلى القَتْل ليُبَادِرَ إِلى حَوْرَاءَ يُعَانِقُهَا وإِلى مَكَانِهِ مِنَ الجَنَّة»(2).

ص: 10


1- لاحظ أسراب الطيور وحياة النمل مثلاً، وقد لاحظ العلماء أنه حتى حركة أمواج البحر وتموجاته فإنها بنظم خاص، وكذا حركة السحب وتشكيلاتها، وكذلك توزيع أوراق الأشجار عليها، بل حتى حركة أوراقها عند ما تسقط فإنها بهندسة خاصة منسقة فسبحانه سبحانه.
2- علل الشرائع: ج 1 ص229 ب163 باب علة إقدام أصحاب الحسين (عليهم السلام) على القتل ح1.

وعَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) قَال: «مَنْ أَحَبَّ لقَاءَ اللهِ أَحَبَّ اللهُ لقَاءَهُ، ومَنْ كَرِهَ لقَاءَ اللهِ كَرِهَ اللهُ لقَاءَهُ، فَقِيل لهُ (صلى الله عليه وآله): إِنَّا لنَكْرَهُ المَوْتَ، فَقَال: «ليْسَ ذَلكَ، ولكِنَّ المُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ المَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللهِ وكَرَامَتِهِ، فَليْسَ شَيْ ءٌ أَحَبَّ إِليْهِ مِمَّا أَمَامَهُ، فَأَحَبَّ لقَاءَ اللهِ وأَحَبَّ اللهُ لقَاءَهُ، وإِنَّ الكَافِرَ إِذَا حَضَرَهُ المَوْتُ بُشِّرَ بِعَذَابِ اللهِ، فَليْسَ شَيْ ءٌ أَكْرَهُ إِليْهِ مِمَّا أَمَامَهُ، كَرِهَ لقَاءَ اللهِ فَكَرِهَ اللهُ لقَاءَهُ»(1).

وقال الراوي: سَأَلتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) عَنِ المُؤْمِنِ أَ يُسْتَكْرَهُ عَلى قَبْضِ رُوحِهِ.

قَال: «لا واللهِ».

قُلتُ: وكَيْفَ ذَاكَ.

قَال: «لأَنَّهُ إِذَا حَضَرَهُ مَلكُ المَوْتِ (عليهالسلام) جَزِعَ، فَيَقُول لهُ مَلكُ المَوْتِ: لا تَجْزَعْ فَوَ اللهِ لأَنَا أَبَرُّ بِكَ وأَشْفَقُ عَليْكَ مِنْ وَالدٍ رَحِيمٍ لوْ حَضَرَكَ، افْتَحْ عَيْنَيْكَ فَانْظُرْ.

قَال: ويَتَهَلل لهُ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) وأَمِيرُ المُؤْمِنِينَ والحَسَنُ والحُسَيْنُ والأَئِمَّةُ مِنْ بَعْدِهِمْ وفَاطِمَةُ (عَليْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ والتَّحِيَّةُ والإِكْرَامُ) قَال: فَيَنْظُرُ إِليْهِمْ فَيَسْتَبْشِرُ بِهِمْ، فَمَا رَأَيْتَ شَخْصَتَهُ تِلكَ».

قُلتُ: بَلى.

قَال: «فَإِنَّمَا يَنْظُرُ إِليْهِمْ».

قَال: قُلتُ: جُعِلتُ فِدَاكَ قَدْ يَشْخَصُ المُؤْمِنُ والكَافِرُ.

ص: 11


1- بحار الأنوار: ج 78 ص267 ب7 تشييع الجنازة وسننه وآدابه ح26.

قَال: «وَيْحَكَ إِنَّ الكَافِرَ يَشْخَصُ مُنْقَلباً إِلى خَلفِهِ، لأَنَّ مَلكَ المَوْتِ إِنَّمَا يَأْتِيهِ ليَحْمِلهُ مِنْ خَلفِهِ، والمُؤْمِنُ يَنْظُرُ أَمَامَهُ وَيُنَادِي رُوحَهُ مُنَادٍ مِنْ قِبَل رَبِّ العِزَّةِ مِنْ بُطْنَانِ العَرْشِ فَوْقَ الأُفُقِ الأَعْلى ويَقُول: «يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ» إِلى مُحَمَّدٍ وآلهِ «ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلي فِي عِبادِي وادْخُلي جَنَّتِي»(1)، فَيَقُول مَلكُ المَوْتِ: إِنِّي قَدْ أَمَرْتُ أَنْ أُخَيِّرَكَ الرُّجُوعَ إِلى الدُّنْيَا والمُضِيَّ، قال: فَليْسَ شَيْ ءٌ أَحَبَّ إِليْهِ مِنْ إِسْلالرُوحِه»(2).

ص: 12


1- سورة الفجر: 27 - 30.
2- تفسير فرات الكوفي: ص554 ح709.

السلام على ملك الموت

اشارة

روي: «إن فاطمة (عليها السلام) لما احتضرت سلمت على جبرئيل (عليه السلام)، وعلى النبي (صلى الله عليه وآله) وسلمت على ملك الموت (عليه السلام)، وسمعوا حس الملائكة، ووجدوا رائحة طيبة كأطيب ما يكون من الطيب»(1).

------------------------

عدة مسائل

مسألة: يستحب السلام على ملك الموت، وخاصة عند الاحتضار.

مسألة: يستحب السلام على جبرائيل، وخاصة عند الاحتضار.

مسألة: يستحب السلام على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وخاصة عند الاحتضار.

والوجه في ذلك كله أن قولنا (السلام عليكم) مضافاً إلى كونه تحية، هو نوع دعاء للمسلم عليه، فإنه طلبالسلامة له من الله، فتشلمه الإطلاقات، إذ

ص: 13


1- بحار الأنوار: ج 43 ص200 ب7 ما وقع عليها من الظلم وبكائها وحزنها وشكايتها في مرضها إلى شهادتها وغسلها ودفنها وبيان العلة في إخفاء دفنها (صلوات الله عليها ولعنة الله على من ظلمها) ح30.

طلب السلامة والدعاء بقول مطلق راجح سواء لملك الموت أم غيره.

حضور الملائكة عندها

مسألة: يستحب بيان أن جبرائيل (عليه السلام) ورسول الله (صلى الله عليه وآله) والملائكة (عليهم السلام) كانوا حضوراً عند احتضار الصديقة الزهراء (صلوات الله عليها).

ثم إن المستفاد من الروايات أن الملائكة مخلوقة من النور، وأنها تتمكن من تبديل ملابسها، أي أبدانها، فقد تكون بصورة إنسان وقد تكون بصورة الملك، فتختلف صورها.

وقد ورد أن الرسول (صلى الله عليه وآله) أحياناً كان يتكلم مع شخص جميل كان يظهر في شكل دحية الكلبي وكان يقول إنه جبرئيل (عليه الصلاة والسلام) (1).

كما رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله) جبرئيل (عليه

السلام) على صورته الواقعية مرتين(2)، أما في سائر المرات فكانجبرائيل (عليه السلام) يتمثل بصور أخرى، قال سبحانه: «وَلوْ جَعَلناهُ مَلكاً لجَعَلناهُ رَجُلاً وللبَسْنا عَليْهِمْ ما يَلبِسُونَ»(3).

إلى غير ذلك من المباحث المفصلة المذكورة حول الملائكة وأحوالها على ما

ص: 14


1- انظر الكافي: ج 2 ص587 باب دعوات موجزات لجميع الحوائج للدنيا والآخرة ح25، تفسير العياشي: ج 2 ص70 ح82، الأمالي للطوسي: ص41 المجلس الثاني ح14.
2- كما قال تعالى: «وَلقَدْ رَآهُ نَزْلةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهَى * عِنَدَها جَنَّةُ المَأوَى». سورة النجم: 13- 15.
3- سورة الأنعام: 9.

هو مذكور في الكتب المعنية بذلك، وما ورد في البحار(1) وغيره(2).

ولا يخفى أن سماع من كان حول الصديقة الطاهرة (عليها السلام) لصوت الملائكة واستشمامهم الرائحة الطيبة هو نوع تشريف لها، وربما كان الذين سمعوا ووجدوا، بعض النساء المؤمنات، والحسن (عليه السلام) والحسين (عليه السلام)، وزينب وأم كلثوم (عليهما السلام) ومن أشبه.

ولعل ذلك لم يكن في ساعة الموت بل كان قبله أو بعده، فلا ينافيه ما ورد من أنه لم يكن عندها ساعته إلاّ أسماء، وربما كان لذلك تغيير وجه الكلام حيث ورد: «لما احتضرت وسلمت»، ثم تغير اللفظ: «وسمعوا ووجدوا»، وتغيير اللفظغالباً يدل على تغيير المعنى ولو في بعض خصوصياته.

ص: 15


1- راجع بحار الأنوار: ج 56 ص144 باب23 حقيقة الملائكة وصفاتهم وشئونهم وأطوارهم.
2- انظر الوافي: ج 26 ص504 باب الملائكة وصنوفها.

السلام على المعصوم

اشارة

روي عن فاطمة (عليها السلام) أنها قالت: قال أبي (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ مَنْ سَلمَ عَليَّ وعَليْكِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ فَلهُ الجَنَّةُ»، قال الراوي: قلت لها: هذا في حياته وحياتك أو بعد موته وموتك؟ قالت: «فِي حَيَاتِنَا وبَعْدَ مَوْتِنَا»(1).

-----------------------

تحية المعصوم

مسألة: يستحب السلام على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلى فاطمة (عليهما السلام) في حياتهما وبعد وفاتهما.

ثم إن هذا السلام لا وقت خاص له، فيصح في أي وقت كان، وفي أية ساعة من ساعات الليل أو النهار، كما يصح في أي مكان كان فيه، ويدل على ذلك الإطلاق في الرواية، نعم يتأكد الاستحباب في بعض الأزمنة والأمكنة الخاصة.

ويستفاد من الملاك استحباب السلام على سائر المعصومين (عليهم

الصلاة والسلام)، فإنهم جميعاً نور واحد، فأولهم كآخرهم، وآخرهم كأولهم، نعم يمكن أن يكون هناك تفاوت في الفضل حسبالمراتب، فقد تقدم أن رسول الله

ص: 16


1- كشف اليقين: ص354 المبحث العشرون في زوجته (عليهما السلام).

(صلى الله عليه وآله) هو الأفضل على الإطلاق، ثم علي (عليه السلام) وفاطمة (عليها السلام) في رتبة واحدة، وبعدهما الحسن (عليه السلام)، ثم الحسين (عليه السلام)، ثم المهدي (عليه السلام)، ثم الأئمة الثمانية (عليهم السلام) قبل الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف) في درجة واحدة.

روي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: «من زارنا بعد مماتنا فكأنما زارنا في حياتنا، ومن جاهد عدونا فكأنما جاهد معنا، ومن تولى محبنا فقد أحبنا، ومن سر مؤمناً فقد سرنا، ومن أعان فقيرنا كان مكافاته على جدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله)»(1).

السلام ثلاثة أيام

مسألة: يستحب السلام على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلى الصديقة فاطمة (عليها السلام) ثلاثة أيام متواليات.

والظاهر أن الثلاثة من باب المصداق الأفضل، وأن فيها مزيد مزية كهذه المزية المذكورة في الرواية، وإلا فالاثنان أيضاً له فضل، كما أن الزائدمن الثلاثة كذلك.

وقد ورد في السلام عليها: (السَّلامُ عَليْكِ يَا مُمْتَحَنَةُ، امْتَحَنَكِ الذِي خَلقَكِ قَبْل أَنْ يَخْلقَكِ، وكُنْتِ لمَا امْتَحَنَكِ بِهِ صَابِرَةً، ونَحْنُ لكِ أَوْليَاءُ مُصَدِّقُونَ ولكُل مَا أَتَى بِهِ أَبُوكِ (صَلى اللهُ عَليْهِ وآلهِ وسَلَّمَ) وأَتَى بِهِ وَصِيُّهُ (عليه السلام) مُسَلمُونَ،

ص: 17


1- المقنعة: ص485 ب37 باب فضل زيارة أبي الحسن وأبي محمد علي بن محمد والحسن بن علي (عليهما السلام).

ونَحْنُ نَسْأَلكَ اللهُمَّ إِذْ كُنَّا مُصَدِّقِينَ لهُمْ أَنْ تُلحِقَنَا بِتَصْدِيقِنَا بِالدَّرَجَةِ العَاليَةِ لنُبَشِّرَ أَنْفُسَنَا بِأَنَّا قَدْ طَهُرْنَا بِوَلايَتِهِمْ (عليهم السلام)(1).

وفي الإقبال: (السَّلامُ عَليْكِ يا سَيِّدَةَ نِساءِ العالمِينَ، السَّلامُ عَليْكِ يا وَالدَةَ الحُجَجِ عَلى النّاسِ أَجْمَعِينَ، السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا المَظْلومَةُ المَمْنُوعَة حَقُّهَا)، ثم قل: (اللهُمَّ صَل عَلى أَمَتِكَ وَابْنَةِ نَبِيِّكَ وَزَوْجَةِ وَصِيِّ نَبِيِّكَ صّلاةً تَزْلفُها فَوْقَ زُلفَى عِبادِكَ المُكَرَّمِينَ مِنْ أَهْل السَّماوَاتِ وَأَهْل الأَرَضِينَ)، فقد روي: أن من زارها بهذه الزيارة واستغفر الله غفر الله له وأدخله الجنة(2).

والظاهر أن المراد ب (من سلم ...فله الجنة) فيما لو كان السلام من المحل القابل للجنة، لا مثل ما لو سلم الكافر أو الناصبي الذي نصب العداء لأحد الأئمة (عليهم السلام) أو لشيعتهم.

كما أن الظاهر أنه كنظائره، يراد به الاقتضاء لا العلية التامة، فمثلاً يشترط أن لا يحبط عمله هذا ببعض الكبائر الموجبة للحبط(3).

قال تعالى: «ومَنْ يَكْفُرْ بِالإيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلهُ وهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخاسِرينَ»(4).

وقال سبحانه: «أُولئِكَ الذينَ ليْسَ لهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وحَبِطَ ما

ص: 18


1- جمال الأسبوع: ص32 زيارة الزهراء (عليها السلام).
2- إقبال الأعمال: ج 2 ص623 فصل فيما نذكره من وقت انتقال أُمنا المعظمة فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتجديد السلام عليها.
3- ومن موارد الحبط الارتداد، ومنها الشرك، ومنها: رفع الصوت فوق صوت النبي (صلى الله عليه وآله) فكيف بإيذائه فيه وفي ذريته.
4- سورة المائدة: 5.

صَنَعُوا فيها وباطِل ما كانُوا يَعْمَلونَ»(1).

وقال عزوجل: «يا أَيُّهَا الذينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ولا تَجْهَرُوا لهُ بِالقَوْل كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالكُمْ وأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ»(2).

ص: 19


1- سورة هود:16.
2- سورة الحجرات: 2.

الصلاة عليها وغفران الذنوب

اشارة

عن فاطمة (عليها السلام) قالت: قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يَا فَاطِمَةُ مَنْ صَلى عَليْكِ غَفَرَ اللهُ لهُ وأَلحَقَهُ بِي حَيْثُ كُنْتَ مِنَ الجَنَّة»(1).

----------------------------

معنى اللحوق

مسألة: اللحوق ليس بمعنى تساوي الدرجات، فالمراد من اللحوق به (صلى الله عليه وآله) كونه في زمرته وجماعته (صلى الله عليه وآله) وليس المراد تساوي الدرجات كما هو واضح.

ويتضح ذلك بملاحظة أن المجتمعين في مكان واحد كالمسجد أو الوزارة أو المعسكر لهم درجات مختلفة ومراتب من العلم والتقوى أو الجاه والمنصب أو القوة والشهرة أو غير ذلك، ومع ذلك فإن نفس الكون في مكان واحد مع كبير الفقهاء أو ذوي المكانة والمنصب يعد امتيازاً وشرفاً، إضافة إلى ما يناله ببركة الجوار، فكيف بجوار رسول الله (صلىالله عليه وآله).

كما أن أمثال هذه الروايات تدل على الاقتضاء لا العلية التامة على ما

ص: 20


1- كشف الغمة: ج 1 ص472 منزلتها عند النبي (صلى الله عليه وآله)، بحار الأنوار: ج 43 ص55 ب3 مناقبها وفضائلها وبعض أحوالها ومعجزاتها (صلوات الله عليها) ح48.

تقدم الإلماع إلى مثله، نعم من استجمع سائر الشروط فإن الصلاة عليها (عليها السلام) تكفي لإلحاق المصلي عليها برسول الله (صلى الله عليه وآله) في الجنة.

الصلاة على الصديقة

مسألة: تستحب الصلاة على الصديقة فاطمة (عليها السلام) بشكل خاص، لهذه الرواية ولسائر الروايات، ولما ورد في خصوصياتها وفضائلها ومنزلتها عند الله تعالى، فإنها (عليها السلام) الصديقة الكبرى وعلى معرفتها دارت القرون الأولى.

والظاهر عدم خصوصية لفظ الصلاة بالعربية، فما كان بمعناها كان كذلك أيضاً، فإن التوقيفية هي المحتاج إلى دليل(1).

والصلاة بمعنى: العطف، وهو يشمل مثل: (صلى الله على فاطمة) ومثل: (أصلي على فاطمة) وما أشبه للإطلاق، والجامع أن يقصد الدعاء والسلام عليها.

فضل الصلاة

مسألة: يستحب بيان فضل الصلاة على الصديقة الزهراء (عليها السلام) وأنه يغفر الله لمن يصلي عليها، ويلحقه بالنبي (صلى الله عليه وآله) في الجنة.

وقد ورد في زيارتها والصلاة عليها:

(صَلى اللهُ عَليْكِ وعَلى رُوحِكِ وبَدَنِكِ، أَشْهَدُ أَنَّكِ مَضَيْتِ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ

ص: 21


1- كما في الحمد والسورة في الصلاة وبعض الأذكار فيها، ومثل التلبية في الحج.

رَبِّكِ، وأَنَّ مَنْ سَرَّكِ فَقَدْ سَرَّ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله)، ومَنْ جَفَاكِ فَقَدْ جَفَا رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله)، ومَنْ آذَاكِ فَقَدْ آذَى رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله)، ومَنْ وَصَلكِ فَقَدْ وَصَل رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله)، ومَنْ قَطَعَكِ فَقَدْ قَطَعَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وآله)(1).

ص: 22


1- من لا يحضره الفقيه: ج 2 ص573 زيارة فاطمة بنت النبي صلوات الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها.

النبي وليهم

اشارة

عن فاطمة الكبرى (صلى الله عليه وآله) قالت: قال النبي (صلى الله عليه وآله): «لكل نبي عصبة ينتمون إليه، وإن فاطمة عصبتي، إليّ تنتمي»(1).

--------------------

البنت من العصبة

مسألة: البنت من العصبة ويقتضي أن يكون أقرباؤها أقرباء الشخص(2)، لا كما قال الشاعر:

بنونا بنو أبنائنا وبناتنا *** بنوهن أبناء الرجال الأباعد

فالعصبة من العصب، كأن بعضهم من بعض، كما أن العصب بعضه من بعض، منهنا نجد أن بنات البنت هن محارم للرجل.

والعصبة لغة: الجماعة التي تلتف حوله.

ص: 23


1- دلائل الإمامة: ص76 ح16.
2- وذلك لأن العصبة هم بنوا الرجل ذكوراً وإناثاً، وقرابته لأبيه، لأنهم عصبوا به أي أحاطوا فالأب والابن طرفان والأخ والعم طرفان، والظاهر أن العصبة قيلت في مقابل أقرباء الزوجة كأخوتها وأبيها وأبنائها من زوج آخر لو كان فإنهم ليسوا عصبة الرجل، فعصبه الرجل هم أقرباؤه لا أقرباء زوجته، وقد ذكروا الذكور كالأب والأخ من باب المثال الأبرز لا الحصر.

ولا يخفى أنه لا منافاة بين هذا وبين الحكم بعدم أخذ الخمس لغير السادة من جهة الأب وأخذهم الزكاة مع كونهم من الأبناء، فهو حكم شرعي خاصل لدليل خاص، أما كونه ابناً فهو كذلك لغةً وشرعاً وعقلاً، إذ الولد مكون من ماء الرجل والمرأة معاً.

أولادها أولاد النبي

مسألة: يستحب بيان أن أولاد فاطمة (عليها السلام) هم أولاد النبي (صلى الله عليه وآله) وعصبته، ولذا لا يجوز للنبي (صلى الله عليه وآله) التزويج من أولادها، كما استدل بذلك الإمام موسى بن جعفر (عليه الصلاة والسلام) على هارون عند ما خاطب جده قائلاً: «السلام عليك يا أبتاه يا رسول الله».

عن مُحَمَّدُ بْنُ مَحْمُودٍ، بِإِسْنَادِهِ رَفَعَهُ إِلى مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ (عليه السلام) أَنَّهُ قَال: «لمَّا دَخَلتُ عَلى الرَّشِيدِ سَلمْتُ عَليْهِ فَرَدَّ عَليَّ السَّلامَ ثُمَّ قَال: يَا مُوسَى بْنَ جَعْفَرٍ خَليفَتَيْنِ يُجْبَى إِليْهِمَا الخَرَاجُ!.فَقُلتُ: يَا أَمِيرَ أُعِيذُكَ بِاللهِ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وإِثْمِكَ، وتَقْبَل البَاطِل مِنْ أَعْدَائِنَا عَليْنَا، فَقَدْ عَلمْتَ أَنَّهُ قَدْ كُذِبَ عَليْنَا مُنْذُ قُبِضَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) بِمَا عِلمُ ذَلكَ عِنْدَكَ، فَإِنْ رَأَيْتَ بِقَرَابَتِكَ مِنْ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) أَنْ تَأْذَنَ لي أُحَدِّثُكَ بِحَدِيثٍ أَخْبَرَنِي بِهِ أَبِي عَنْ آبَائِهِ عَنْ جَدِّهِ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله).

فَقَال: قَدْ أَذِنْتُ لكَ.

فَقُلتُ: أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ آبَائِهِ عَنْ جَدِّهِ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) أَنَّهُ

ص: 24

قَال: إِنَّ الرَّحِمَ إِذَا مَسَّتِ الرَّحِمَ تَحَرَّكَتْ واضْطَرَبَتْ، فَنَاوِلنِي يَدَكَ جَعَلنِيَ اللهُ فِدَاكَ.

فَقَال: ادْنُ، فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَأَخَذَ بِيَدِي ثُمَّ جَذَبَنِي إِلى نَفْسِهِ وعَانَقَنِي طَوِيلا ثُمَّ تَرَكَنِي، وقَال:

اجْلسْ يَا مُوسَى فَليْسَ عَليْكَ بَأْسٌ، فَنَظَرْتُ إِليْهِ فَإِذَا إِنَّهُ قَدْ دَمَعَتْ عَيْنَاهُ فَرَجَعْتُ إِلى نَفْسِي، فَقَال: صَدَقْتَ وصَدَقَ جَدُّكَ (صلى الله عليه وآله) لقَدْ تَحَرَّكَ دَمِي واضْطَرَبَتْ عُرُوقِي حَتَّى غَلبَتْ عَليَّ الرِّقَّةُ وفَاضَتْ عَيْنَايَ، وأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلكَ عَنْ أَشْيَاءَ تَتَلجْلجُ فِي صَدْرِي مُنْذُ حِينٍ لمْ أَسْأَل عَنْهَا أَحَداً، فَإِنْ أَنْتَ أَجَبْتَنِي عَنْهَا خَليْتُ عَنْكَ ولمْ أَقْبَل قَوْل أَحَدٍ فِيكَ، وقَدْ بَلغَنِي أَنَّكَ لمْ تَكْذِبْ قَطُّ، فَاصْدُقْنِي عَمَّا أَسْأَلكَ مِمَّا فِي قَلبِي.

فَقُلتُ: مَا كَانَ عِلمُهُ عِنْدِي فَإِنِّي مُخْبِرُكَ إِنْ أَنْتَ أَمَّنْتَنِي.

فَقَال: لكَ الأَمَانُ إِنْ صَدَقْتَنِي وتَرَكْتَ التَّقِيَّةَ التِي تُعْرَفُونَ بِهَا مَعْشَرَ بَنِي فَاطِمَةَ.

فَقُلتُ: اسْأَل يَا أَمِيرَ عَمَّا شِئْتَ.

قَال: أَخْبِرْنِي لمَ فُضِّلتُمْ عَليْنَا ونَحْنُ فِي شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ وبَنُو عَبْدِ المُطَّلبِ ونَحْنُ وأَنْتُمْ وَاحِدٌ، إِنَّا بَنُو العَبَّاسِ وأَنْتُمْ وُلدُ أَبِي طَالبٍ وهُمَا عَمَّا رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) وقَرَابَتُهُمَا مِنْهُ سَوَاءٌ؟

فَقُلتُ: نَحْنُ أَقْرَبُ. قَال: وكَيْفَ ذَلكَ؟!

قُلتُ: لأَنَّ عَبْدَ اللهِ وأَبَا طَالبٍ لأَبٍ وأُمٍّ، وأَبُوكُمُ العَبَّاسُ ليْسَ هُوَ مِنْ أُمِّ عَبْدِ اللهِ ولا مِنْ أُمِّ أَبِي طَالبٍ».

ص: 25

إلى أن قال: «ثُمَّ قَال: لمَ جَوَّزْتُمْ للعَامَّةِ والخَاصَّةِ أَنْ يَنْسُبُوكُمْ إِلى رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) ويَقُولونَ لكُمْ: يَا بَنِي رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله)، وأَنْتُمْ بَنُو عَليٍّ، وإِنَّمَا يُنْسَبُ المَرْءُ إِلى أَبِيهِ، وفَاطِمَةُ إِنَّمَا هِيَ وِعَاءٌ، والنَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) جَدُّكُمْ مِنْ قِبَل أُمِّكُمْ؟

فَقُلتُ: يَا أَمِيرَ لوْ أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) نُشِرَ فَخَطَبَ إِليْكَ كَرِيمَتَكَ هَل كُنْتَ تُجِيبُهُ.

فَقَال: سُبْحَانَ اللهِ ولمَ لا أُجِيبُهُ، بَل أَفْتَخِرُ عَلى العَرَبِ والعَجَمِ وقُرَيْشٍ بِذَلكَ.

فَقُلتُ لهُ: لكِنَّهُ (صلى الله عليه وآله) لايَخْطُبُ إِليَّ ولا أُزَوِّجُهُ.

فَقَال: ولمَ.

فَقُلتُ: لأَنَّهُ (صلى الله عليه وآله) وَلدَنِي ولمْ يَلدْكَ.

فَقَال: أَحْسَنْتَ يَا مُوسَى، ثُمَّ قَال: كَيْفَ قُلتُمْ إِنَّا ذُرِّيَّةُ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله)، والنَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) لمْ يُعْقِبْ وإِنَّمَا العَقِبُ للذَّكَرِ لا للأُنْثَى وأَنْتُمْ وُلدُ البِنْتِ ولا يَكُونُ لهَا عَقِبٌ.

فَقُلتُ: أَسْأَلكَ يَا أَمِيرُ بِحَقِّ القَرَابَةِ والقَبْرِ ومَنْ فِيهِ إِلا مَا أَعْفَيْتَنِي عَنْ هَذِهِ المَسْأَلةِ.

فَقَال: لا أَوْ تُخْبِرَنِي بِحُجَّتِكُمْ فِيهِ يَا وُلدَ عَليٍّ، وأَنْتَ يَا مُوسَى يَعْسُوبُهُمْ وإِمَامُ زَمَانِهِمْ، كَذَا أُنْهِيَ إِليَّ ولسْتُ أُعْفِيكَ فِي كُل مَا أَسْأَلكَ عَنْهُ حَتَّى تَأْتِيَنِي فِيهِ بِحُجَّةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ تَعَالى وأَنْتُمْ تَدَّعُونَ مَعْشَرَ وُلدِ عَليٍّ أَنَّهُ لا يَسْقُطُ عَنْكُمْ مِنْهُ بِشَيْ ءٍ أَلفٍ ولا وَاوٍ إِلاّ وتَأْوِيلهُ عِنْدَكُمْ، واحْتَجَجْتُمْ بِقَوْلهِ عَزَّ وجَل «مَا

ص: 26

فَرَّطْنا فِي الكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ»(1)، وقَدِ اسْتَغْنَيْتُمْ عَنْ رَأْيِ العُلمَاءِ وقِيَاسِهِمْ.

فَقُلتُ: تَأْذَنُ لي فِي الجَوَابِ. قَال: هَاتِ.

قُلتُ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ،بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ... «ومِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وسُليْمانَ وأَيُّوبَ ويُوسُفَ ومُوسى وهارُونَ وكَذلكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ * وزَكَرِيَّا ويَحْيى وعِيسى وإِلياسَ»(2) مَنْ أَبُو عِيسَى يَا أَمِير؟

فَقَال: ليْسَ لعِيسَى أَبٌ.

فَقُلتُ: إِنَّمَا أَلحَقْنَاهُ بِذَرَارِيِ الأَنْبِيَاءِ (عليهم السلام) مِنْ طَرِيقِ مَرْيَمَ (عليها السلام) وكَذَلكَ أُلحِقْنَا بِذَرَارِيِّ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) مِنْ قِبَل أُمِّنَا فَاطِمَةَ (عليها السلام)، أَزِيدُكَ يَا أَمِير؟

قَال: هَاتِ.

قُلتُ: قَوْل اللهِ عَزَّ وجَل «فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ العِلمِ فَقُل تَعالوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وأَبْناءَكُمْ ونِساءَنا ونِساءَكُمْ وأَنْفُسَنا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِل فَنَجْعَل لعْنَتَ اللهِ عَلى الكاذِبِينَ»(3) وَلمْ يَدَّعِ أَحَدٌ أَنَّهُ أَدْخَل النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) تَحْتَ الكِسَاءِ عِنْدَ المُبَاهَلةِ للنَّصَارَى إِلا عَليَّ بْنَ أَبِي طَالبٍ وفَاطِمَةَ والحَسَنَ والحُسَيْنَ، فَكَانَ تَأْوِيل قَوْلهِ تَعَالى «أَبْناءَنا» الحَسَنَ والحُسَيْنَ، و«نِساءَنا» فَاطِمَةَ، «وَأَنْفُسَنا» عَليَّ بْنَ أَبِي طَالبٍ (عليهم السلام) الحديث(4).

ص: 27


1- سورة الأنعام: 38.
2- سورة الأنعام: 84 - 85.
3- سورة آل عمران: 61.
4- عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج 1 ص81 ب7 باب جمل من أخبار موسى بن جعفر (عليه السلام) مع هارون الرشيد ومع موسى بن المهدي ح9.

وعَنْ أَبِي الجَارُودِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: قَال لي أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): يَا أَبَا الجَارُودِ مَا يَقُولونَ لكُمْ فِي الحَسَنِ والحُسَيْنِ (عليهما السلام)؟

قُلتُ: يُنْكِرُونَ عَليْنَا أَنَّهُمَا ابْنَا رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله).

قَال: فَأَيَّ شَيْ ءٍ احْتَجَجْتُمْ عَليْهِمْ؟

قُلتُ: احْتَجَجْنَا عَليْهِمْ بِقَوْل اللهِ عَزَّ وجَل فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ (عليه السلام) «وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وسُليْمانَ وأَيُّوبَ ويُوسُفَ ومُوسى وهارُونَ وكَذلكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ * وزَكَرِيَّا ويَحْيى وعِيسَى»(1) فَجَعَل عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ (عليه السلام).

قَال: فَأَيَّ شَيْ ءٍ قَالوا لكُمْ؟

قُلتُ: قَالوا: قَدْ يَكُونُ وَلدُ الابْنَةِ مِنَ الوَلدِ ولا يَكُونُ مِنَ الصُّلبِ.

قَال: فَأَيَّ شَيْ ءٍ احْتَجَجْتُمْ عَليْهِمْ؟

قُلتُ: احْتَجَجْنَا عَليْهِمْ بِقَوْل اللهِ تَعَالى لرَسُولهِ (صلى الله عليه وآله): «فَقُل تَعالوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وأَبْناءَكُمْ ونِساءَنا ونِساءَكُمْ وأَنْفُسَنا وأَنْفُسَكُمْ»(2).

قَال: فَأَيَّ شَيْ ءٍ قَالوا؟

قُلتُ: قَالوا: قَدْ يَكُونُ فِي كَلامِ العَرَبِ أَبْنَاءُ رَجُل وآخَرُ يَقُول أَبْنَاؤُنَا!

قَال: فَقَال أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): يَا أَبَا الجَارُودِ لأُعْطِيَنَّكَهَا مِنْ كِتَابِ اللهِ جَلوتَعَالى أَنَّهُمَا مِنْ صُلبِ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) لا يَرُدُّهَا إِلا الكَافِرُ.

ص: 28


1- سورة الأنعام: 84 - 85.
2- سورة آل عمران: 61.

قُلتُ: وأَيْنَ ذَلكَ جُعِلتُ فِدَاكَ؟!

قَال: مِنْ حَيْثُ قَال اللهُ تَعَالى «حُرِّمَتْ عَليْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وبَناتُكُمْ وأَخَواتُكُمْ»(1) الآيَةَ، إِلى أَنِ انْتَهَى إِلى قَوْلهِ تَبَارَكَ وتَعَالى «وَحَلائِل أَبْنائِكُمُ الذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ»(2) فَسَلهُمْ يَا أَبَا الجَارُودِ هَل كَانَ يَحِل لرَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) نِكَاحُ حَليلتَيْهِمَا، فَإِنْ قَالوا نَعَمْ كَذَبُوا وفَجَرُوا، وإِنْ قَالوا لا فَهُمَا ابْنَاهُ لصُلبِهِ»(3).

ص: 29


1- سورة النساء: 23.
2- سورة النساء: 23.
3- الكافي: ج 8 ص317 حديث الفقهاء والعلماء ح501.

أنا عَصَبتهم

اشارة

عن فاطمة الزهراء (عليها السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «لكل بني أنثى عَصَبَة ينتمون إليه(1)

إلا ولد فاطمة (عليها السلام) فأنا وليهم وأنا عَصَبَتُهُم»(2).

وفي بعض النصوص: «كل بني أم ينتمون إلى عَصَبَة، إلا ولد فاطمة (عليها السلام) فأنا وليهم وأنا عَصَبَتُهُم»(3).

-----------------------

أقول: لعل المراد جريان الأحكام الشرعية للعَصَبَة(4)، أو المراد أنهم (عليهم

ص: 30


1- أي كل بني أنثى لهم عصبة من طرف أبيهم، لا أمهم، ينتمون إلى تلك العصبة، عكس فاطمة (عليها السلام) فإن أبناءها تكون عصبتهم من طرف أمهم، فإن عصبتهم هو رسول الله (صلى الله عليه وآله) بنفسه.
2- وذلك لأن المفروض في بني فاطمة (عليها السلام) أن تكون عصبتهم من قبل أبيهم، أي من قبل الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فعصبة الحسنين (عليهما السلام) هم: أخوة أبيهم وأخوتهم وأبناؤهم، لكن هذا الحكم استثني في النبي (صلى الله عليه وآله) وأولاد فاطمة (عليها السلام)، فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) عصبة للحسنين (عليهما السلام) مع أنه من طرف الأم، إذ هو جدهم الأمي، نعم الرسول (صلى الله عليه وآله) عصبة للحسنين (عليهما السلام) من وجه آخر لكونه (صلى الله عليه وآله) ابن عم أبيهم.
3- انظر عوالم العلوم: ج 11 قسم2 فاطمة (سلام الله عليها) ص893 ب62 حديثها (عليها السلام) بأن النبي (صلى الله عليه وآله) ولي ولدها وعصبتهم ح129، وعوالم العلوم: ج 11 ص893 ب62 حديثها (عليها السلام) بأن النبي (صلى الله عليه وآله) ولي ولدها وعصبتهم ح131.
4- مثل كونها (العاقلة).

السلام) ورثة علم الرسول (صلى الله عليه وآله) وخلافته.

ولاء أولاد الصديقة

مسألة: ولاء أولاد فاطمة (عليها السلام) للنبي (صلى الله عليه وآله) فهو وليهم.

ولم أر من الفقهاء ذكراً حول أنه لو كان بعض أولاد الحسن أو أولاد الحسين (عليهما الصلاة والسلام) قتل قتل خطأٍ فرضاً، فهل النبي (صلى الله عليه وآله) يكون من عاقلته، استثناءً من الأحكام الأولية؟

كما لم أر ممن ذكروا اختصاصات النبي (صلى الله عليه وآله) ذكرهم لمثل هذا الاختصاص، لأنه لو كان كذلك كان تخصيصاً للأحكام الأولية بالنقل، فيكون من اختصاصاته (صلى الله عليه وآله)، ولا يبعد أن يستفاد ذلك من مثل هذه الرواية على تقدير حجيتها.

ثم إن هذا الحديث ذكر في طرق العامة بوجوه عديدة، منها:(لكل بني أنثى عَصَبَة ينتمون إليه إلاّ ولد فاطمة فأنا وليهم وعَصَبَتهم)(1).

و: (كل بني أُم ينتمون إلى عَصَبَة إلا ولد فاطمة فأنا وليهم وأنا عَصَبَتهم)(2).

و: (كل بني أنثى فإن عَصَبَتهم لأبيهم ما خلا ولد فاطمة فإني أنا عَصَبَتهم

ص: 31


1- أخرجه الطبراني عن فاطمة الزهراء (عليها السلام).
2- انظر إحقاق الحقّ: ج9 ص649 عن مجمع الزوائد.

وأنا أبوهم)(1).

و: (كل بني آدم فإن عَصَبَتهم لأبيهم ما خلا ولد فاطمة فإني أنا أبوهم وعَصَبَتهم)(2).

وذكره الخاصة هكذا، كما عن العلامة المجلسي (رحمه الله) في البحار:

عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَال قَال رَسُول اللهِ (صلى

الله عليه وآله): إِنَّ لكُل نَبِيٍّ عَصَبَةً يَنْتَمُونَ إِليْهَا إِلا وُلدَ فَاطِمَةَ، فَأَنَا وَليُّهُمْ وَأَنَا عَصَبَتُهُمْ، وَهُمْ عِتْرَتِي خُلقُوا مِنْ طِينَتِي، وَوَيْل للمُكَذِّبِينَ بِفَضْلهِمْ، مَنْأَحَبَّهُمْ أَحَبَّهُ اللهُ وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ أَبْغَضَهُ اللهُ»(3).

وعَنْ سَيِّدَةِ النِّسَاءِ فَاطِمَةَ (عليها السلام) قَالتْ: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): كُل بَنِي أَبٍ يَنْتَمُونَ إِلى عَصَبَةِ أَبِيهِمْ إِلا وُلدَ فَاطِمَةَ، فَإِنِّي أَنَا أَبُوهُمْ وَأَنَا عَصَبَتُهُمْ»(4).

ص: 32


1- ينابيع المودة: ص309.
2- نيل الأوطار، للشوكاني: ج6 ص139 عن ابن الخطاب.
3- انظر بشارة المصطفى: ج 2 ص40.
4- بحار الأنوار: ج 37 ص70 ب50 مناقب أصحاب الكساء وفضلهم (صلوات الله عليهم).

أهل البيت هم الوسيلة

اشارة

في حديث عن فاطمة (عليها السلام) أنها قالت: «احمدوا الله الذي لعظمته ونوره يبتغي من في السماوات والأرض إليه الوسيلة، ونحن وسيلته في خلقه، ونحن خاصته ومحل قدسه، ونحن حجته في غيبه، ونحن ورثة أنبيائه»(1).

----------------------

حمد الله والأمر بحمده

مسألة: يستحب الحمد والأمر بالحمد، كما قالت الصديقة (عليها السلام): «احمدوا»، وقد يجب.

وليس حمدنا لله سبحانه لحاجته إلى الحمد، إذ إنه تعالى عن الحاجة إلى المخلوقين، بل تعالى عن الحاجة إلى شيء مطلقاً، بل حمدنا له لحاجتنا إليه، إذ بحمده جل اسمه نتكامل ونسمو ونتطهر من الأدران، وبحمده نستوجب جميل الإحسان.

عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ قَال: قُلتُ لأَبِيعَبْدِ اللهِ (عليه السلام): أَيُّ الأَعْمَال

ص: 33


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 16 ص211 الفصل الأول فيما ورد من الأخبار والسير المنقولة من أفواه أهل الحديث وكتبهم لا من كتب الشيعة ورجالهم.

أَحَبُّ إِلى اللهِ عَزَّ وجَل؟ فَقَال: «أَنْ تَحْمَدَهُ»(1).

وعَنِ المُفَضَّل قَال: قُلتُ لأَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): جُعِلتُ فِدَاكَ عَلمْنِي دُعَاءً جَامِعاً، فَقَال ليَ: «احْمَدِ اللهَ، فَإِنَّهُ لا يَبْقَى أَحَدٌ يُصَلي إِلا دَعَا لكَ، يَقُول: سَمِعَ اللهُ لمَنْ حَمِدَهُ»(2).

الوسيلة إلى الله

مسألة: يستحب وقد يجب بيان أن أهل البيت (عليهم السلام) ومنهم الصديقة فاطمة (عليها السلام) هم وسيلة الله في خلقه.

والمراد ب (خلقه) جميع ما في عالم الإمكان مما خلقه الله أو سيخلقه من الأولين والآخرين، والظاهر أنه عام لعالم الجماد والنبات كعمومه لعالم الإنس والجن والملائكة، فإن الكل خلق الله والكل يتطلب بشعوره أو بلسان حاله لطف الله، وقد أوضحنا في موضع آخر كون الجماد شاعراً.قال تعالى: «قَالتَا أَتَيْنا طائِعِين»(3)، بل من الآية يظهر أن لهما درجة من التكليف.

وقال سبحانه: «وَإِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبيحَهُمْ»(4).

ص: 34


1- الكافي: ج 2 ص503 باب التحميد والتمجيد ح2.
2- الكافي: ج 2 ص503 باب التحميد والتمجيد ح1.
3- سورة فصلت: 11.
4- سورة الإسراء: 44.

كما أن كلام الصديقة (عليها السلام) يفسر قوله تعالى: «وَابْتَغُوا إِليْهِ الوَسِيلَةَ»(1)، نعم كلامها (عليها السلام) هنا خاص بذوي العقول بلحاظ (من) ولعل تخصيصهم بالذكر لأنهم أجلى المصاديق أو بلحاظ نوع المخاطب.

قولها (عليها السلام): (لعظمته ونوره)، فإن الإنسان بطبيعته يبتغي النور، كما أنه بفطرته يبتغي العظيم للتوسل إليه في حل مشاكله، ولعل الوجه في ذكرهما (لعظمته ونوره) أنهما جهتان تقتضيان تطلب الوسيلة والواسطة:

الأولى: (عظمته) جل اسمه، فإنها بما لا يعقل لمخلوق تصورها مهما بلغت قدراته، و(الحقير) لا بد أن يلتمس للوصول إلى رضا (العظيم) الوسائط المقربة منه.

الثانية: (نوره) فإنه تعالىالظاهر بنفسه المظهر لغيره، فحيث كان هو المبدأ وإليه المنتهى، وكل شيء مفتقر إليه، فإنه (نور السماوات والأرض) كان لابد من التوسل إليه بالوسائط المقربة منه.

ولعل (عظمته) إشارة إلى اقتضاء ذاته بما هو عظيم، وأما (نوره) فإشارة إلى اقتضاء الحاجة إليه بما هو مفيض وفياض.

ص: 35


1- سورة المائدة: 35.

هم الوسيلة

وفي الزيارات: «وَمَنِ اعْتَصَمَ بِكُمْ فَقَدِ اعْتَصَمَ بِاللهِ أَنْتُمُ السَّبِيل الأَعْظَمُ والصِّرَاطُ الأَقْوَم»(1).

و: «أَنْتُمْ يَا سَادَاتِي السَّبِيل الأَعْظَمُ، والصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ»(2).

وقالت (عليها السلام): (فَاحْمَدُوا اللهَ الذِي بِعَظَمَتِهِ ونُورِهِ ابْتَغَى مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ ومَنْ فِي الأَرْضِ إِليْهِ الوَسِيلةَ، فَنَحْنُ وَسِيلتُهُ فِي خَلقِهِ، ونَحْنُ آل رَسُولهِ، ونَحْنُ حُجَّةُ غَيْبِهِ، ووَرَثَةُ أَنْبِيَائِهِ»(3).

وَقَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «وابْتَغُوا إِليْهِ الوَسِيلةَ أَنَا وَسِيلتُهُ»(4).

وقَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «الأَئِمَّةُ مِنْ وُلدِ الحُسَيْنِ (عليهم السلام) مَنْ أَطَاعَهُمْ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ، ومَنْ عَصَاهُمْ فَقَدْ عَصَى اللهَ عَزَّ وجَل، هُمُ العُرْوَةُ الوُثْقَى، وهُمُ الوَسِيلةُ إِلى اللهِ عَزَّ وجَل»(5).

ص: 36


1- عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج 2 ص274 زيارة أخرى جامعة للرضا علي بن موسى (عليه السلام) ولجميع الأئمة (عليهم السلام) ح1.
2- المزار الكبير: ص249 ب8 زيارة أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (صلوات الله عليه).
3- دلائل الإمامة: ص113 حديث فدك.
4- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام): ج 3 ص75 فصل في أنه السبيل والصراط المستقيم والوسيلة.
5- عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج 2 ص58 ب31 باب فيما جاء عن الرضا (عليه السلام) من الأخبار المجموعة ح217.

خاصة الله ومحل قدسه

مسألة: يستحب بيان أن أهل البيت (عليهم السلام) ومنهم فاطمة (عليها السلام) هم خاصة الله ومحل قدسه.

و(خاصة الله) هم من خصهم الباري تعالى بلطفه، ومن خصهم باطلاعهم على غيبه، ومن خصهم بالدرجات العليا من محل كرامته، ومن خصهم بالمراتب العليا من الشفاعة، ومن خصهم بما خصهم مما لا يمكن أن يحيط به بشر أو ملك ولا غيرهما، وقد قال جبرئيل (عليه السلام): (لو دنوت أنملة لاحترقت)(1).

والخلاصة: إنهم (عليهم السلام) خاصة الله بقول مطلق.

وخاصة الرجل هم أقرباؤه، وهذا من تشبيه المعقول بالمحسوس.

وهم (صلوات الله عليهم) محل قدسه، أي المحل الذي قدّسه الله وطهره تطهيراً، إذ القدس هو الطهر، والقدس اسم مصدر، فيفيد النتيجة، فيكون كلامها (عليها السلام) هذا مطابقاً لقوله تعالى: «إِنَّما يُريدُاللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهيراً»(2).

ويحتمل في (محل قدسه) أن يراد: المحل الذي به يقدس وينزه، فإن من رام

ص: 37


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام)، لابن شهرآشوب: ج 1 ص179 فصل في معراجه (عليه السلام)، بحار الأنوار: ج 18 ص382 ب3 إثبات المعراج ومعناه وكيفيته وصفته وما جرى فيه ووصف البراق.
2- سورة الأحزاب: 33.

تقديس الله تعالى من طريق غيرهم (عليهم السلام) أخطأ، فوقع في التشبيه أو التجسيم أو التحديد أو التقييد أو الحلول أو وحدة الوجود أو الموجود أو ما أشبه، نظير الفلاسفة والعرفاء الذي قالوا بذلك.

وكذلك سائر ما يخالف العقل والنقل كبسيط الحقيقة كل الأشياء، والواحد لا يصدر منه إلاّ الواحد، والعقول العشرة، والرشح، وما أشبه.

حجج الله

مسألة: يجب وجوباً كفائياً بيان أن أهل البيت (عليهم السلام) ومنهم الصديقة فاطمة (عليها السلام) هم حجج الله، وهذا الحديث أيضاً يدل على كونها (صلوات الله عليها) حجة الله.

كما تصدق ههنا الحجة بمعناها اللغوي، وهو (ما يحتج به المولى على عبيده)، فإنهم (عليهم السلام) لا غير حجج الله على الخلائق، ومن عداهم لا يحتج به، إلا لو استند إليهم كالفقهاء، إذقالوا: «من كان من الفقهاء»(1)، وقالوا: «فإني قد جعلته عليكم حاكماً»(2).

كما يحتمل أن يراد بالحجة ما ذكره بعض الأصوليين من لزوم الاتباع،

ص: 38


1- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): ص300 ح313، وسائل الشيعة: ج 27 ص131 ب10 باب عدم جواز تقليد غير المعصوم (عليه السلام) فيما يقول برأيه وفيما لا يعمل فيه بنص عنهم (عليه السلام) ح20.
2- الكافي: ج 1 ص67 باب اختلاف الحديث ح10، الكافي: ج 7 ص412 باب كراهية الارتفاع إلى قضاة الجور ح5،1وسائل الشيعة: ج 27 ص300 ب31 باب أن إقامة الحدود إلى من إليه الحكم والحد الذي يجري فيه الأحكام على الصبيان والبنات ح2.

ولا مانعة جمع.

أما إرادة الحجة بمعنى الكاشف فبعيدة.

وأما إرادتها(1) بمعنى (الأوسط في القياس) فلا وجه له ههنا.

كما أن قول الصديقة (عليها السلام): «حجته في غيبته» يدل على كونهم (عليهم السلام) أولياء الخلق أيضاً، للتلازم العرفي في مثله، بل لدليل الحكمة، إذ كيف لا يكون الحجة من الله على الخلق بقول مطلق هو الولي عليهم، وكيف يكونغيره ولياً، أو كيف يتركوا بلا ولي؟

ثم الظاهر إطلاق (نحن حجته) أزمانياً وأحوالياً وأفرادياً، وبلحاظ المتعلق أيضاً.

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي يَعْفُورٍ، قَال: قَال لي أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «يَا ابْنَ أَبِي يَعْفُورٍ إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتَعَالى وَاحِدٌ، مُتَوَحِّدٌ بِالوَحْدَانِيَّةِ، مُتَفَرِّدٌ بِأَمْرِهِ، فَخَلقَ خَلقاً فَفَرَّدَهُمْ لذَلكَ الأَمْرِ، فَنَحْنُ هُمْ يَا ابْنَ أَبِي يَعْفُورٍ، فَنَحْنُ حُجَجُ اللهِ فِي عِبَادِهِ، وشُهَدَاؤُهُ فِي خَلقِهِ، وأُمَنَاؤُهُ، وخُزَّانُهُ عَلى عِلمِهِ، والدَّاعُونَ إِلى سَبِيلهِ، والقَائِمُونَ بِذَلكَ، فَمَنْ أَطَاعَنَا فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ»(2).

وقال الإمام الباقر (عليه السلام) لجابر بن يزيد الجعفي: «نَحْنُ جَنْبُ اللهِ، ونَحْنُ صَفْوَةُ اللهِ، ونَحْنُ خِيَرَةُ اللهِ، ونَحْنُ مُسْتَوْدَعُونَ مَوَارِيثَ الأَنْبِيَاءِ، ونَحْنُ

ص: 39


1- أي الحجة.
2- بصائر الدرجات في فضائل آل محمد (صلى الله عليهم): ج 1 ص61 ب3 باب في الأئمة أنهم حجة الله وباب الله وولاة أمر الله ووجه الله الذي يؤتى منه وجنب الله وعين الله وخزنة علمه جل جلاله وعم نواله ح4.

آمَنَّا بِاللهِ، ونَحْنُ حُجَجُ اللهِ، ونَحْنُ حَبْل اللهِ، ونَحْنُ رَحْمَةُ اللهِ إِلى خَلقِهِ، وبِنَا يَخْتِمُ اللهُ، مَنْ تَمَسَّكَ بِنَا نَجَا ولحِقَ، ومَنْ تَخَلفَ عَنَّا غَرِقَ، ونَحْنُ القَادَةُ الغُرِّ المُحَجَّلينَ»، ثُمَّقَال بَعْدَ كَلامٍ طَوِيل: «يَا قَوْمِ مَنْ عَرَفَنَا وعَرَفَ حَقَّنَا وأَخَذَ بِأَمْرِنَا فَهُوَ مِنَّا وإِليْنَا»(1).

ورثة الأنبياء

مسألة: يستحب وقد يجب بيان أن أهل البيت (عليهم السلام) ومنهم الصديقة فاطمة (عليها السلام) ورثة أنبياء الله تعالى.

أما كونهم ورثة الأنبياء: فواضح، لأنهم ورثوا العلم والحلم والحكمة والفصاحة والبلاغة وما أشبه مما هو من صفات الأنبياء (عليهم السلام).

كما أنهم (عليهم السلام) ورثوا جملة من آثار الأنبياء (عليهم السلام)، على ما ورد بالنسبة إلى الإمام المهدي (عليه السلام)، وكذلك بعض الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) بأن عندهم مواريث الأنبياء (عليهم السلام) كعصى موسى (عليه السلام) وخاتم سليمان (عليه السلام) وغير ذلك.

كما أن وراثة الأنبياء (عليهم السلام) لا تنحصر في وراثة أمثال ذلك، بل تشمل وراثة أدوارهم ومسؤولياتهم، أي وراثتهم في خلافة الله في الأرض، بل فيالعوالم كلها.

قال (عليه السلام): «نحن ورثة الأنبياء»(2).

ص: 40


1- الهداية الكبرى: ص239 الباب السابع باب الإمام محمد الباقر(عليه السلام).
2- الأصول الستة عشر: ص87.

وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ جُنْدَبٍ أَنَّهُ كَتَبَ إِليْهِ أَبُو الحَسَنِ الرِّضَا (عليه السلام): «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ مُحَمَّداً (صلى الله عليه وآله) كَانَ أَمِينَ اللهِ فِي أَرْضِهِ، فَلمَّا قُبِضَ كُنَّا أَهْل البَيْتِ وَرَثَتَهُ، فَنَحْنُ أُمَنَاءُ اللهِ فِي أَرْضِهِ، عِنْدَنَا عِلمُ المَنَايَا والبَلايَا وأَنْسَابُ العَرَبِ ومَوْلدُ الإِسْلامِ ... نَحْنُ النُّجَبَاءُ، ونَحْنُ أَفْرَاطُ الأَنْبِيَاءِ، ونَحْنُ أَبْنَاءُ الأَوْصِيَاءِ، ونَحْنُ المَخْصُوصُونَ فِي كِتَابِ اللهِ، ونَحْنُ أَوْلى النَّاسِ بِرَسُول اللهِ (صلى

الله عليه وآله)، ونَحْنُ الذِينَ شَرَعَ لنَا دِينَهُ وقَال فِي كِتَابِهِ: «شَرَعَ لكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً والذِي أَوْحَيْنا إِليْكَ» يَا مُحَمَّدُ «وما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ ومُوسَى وعِيسَى»(1)، فَقَدْ عَلمَنَا وبَلغَنَا مَا عَلمْنَا واسْتَوْدَعَنَا عِلمَهُمْ ونَحْنُ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ ونَحْنُ وَرَثَةُ أُولي العَزْمِ مِنَ الرُّسُل»(2)الحديث.

عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ وَهْبٍ قَال: اسْتَأْذَنْتُ عَلى أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) فَأَذِنَ لي، فَسَمِعْتُهُ يَقُول فِي كَلامٍ لهُ: يَا مَنْ خَصَّنَا بِالوَصِيَّةِ وأَعْطَانَا عِلمَ مَا مَضَى وعِلمَ مَا بَقِيَ وجَعَل أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِليْنَا وجَعَلنَا وَرَثَةَ الأَنْبِيَاءِ(3).

ص: 41


1- سورة الشورى: 13.
2- بصائر الدرجات في فضائل آل محمد (صلى الله عليهم): ج 1 ص119 ب3 باب في الأئمة أنهم ورثوا علم أولي العزم من الرسل وجميع الأنبياء وأنهم (صلوات الله عليهم) أمناء الله في أرضه وعندهم علم البلايا والمنايا وأنساب العرب ح3.
3- بصائر الدرجات في فضائل آل محمد (صلى الله عليهم): ج 1 ص129 ب7 باب في الأئمة (عليهم السلام) أنهم أعطوا علم ما مضى وما بقي إلى يوم القيامة ح2.

إني راض عنهم

اشارة

عن فاطمة (عليها السلام) بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنها دخلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فبسط ثوباً(1) وقال لها: «اجلسي عليه». ثم دخل الحسن (عليه السلام)، فقال (صلى الله عليه وآله) له: «اجلس معها». ثم دخل الحسين (عليه السلام)، فقال (صلى الله عليه وآله) له: اجلس معهما. ثم دخل علي (عليه السلام) فقال له: اجلس معهم(2). ثم أخذ بمجاميع الثوب فضمه علينا ثم قال: «اللهم هم مني وأنا منهم، اللهم ارض عنهم كما أني عنهم راضٍ»(3).

-------------------------

ص: 42


1- الثوب ما يلبسه الناس من القطن والكتان والصوف والخز وغيرها، ويشمل ما هو واسع عريض يمكن أن يجلس عليه عدة أشخاص، كالعباءة وما أشبه، ومنه ما يلبس فوق الثياب كالجلباب والملاحف، قال تعالى: «أن يضعن ثيابهن» وفسر بالجلباب، انظر وسائل الشيعة: ج20 ص203 ب110 ح26432. و(الجلباب) في اللغة: (ثوب أَوسَعُ من الخِمار دون الرِّداءِ، تُغَطِّي به المرأَةُ رأْسَها وصَدْرَها؛ وقيل: هو ثوب واسِع دون المِلحَفةِ تَلبَسه المرأَةُ؛ وقيل: هو المِلحفةُ) لسان العرب مادة جلب.
2- يحتمل في وجه دخولهم (صلوات الله عليهم) بهذا الترتيب: فاطمة الزهراء (عليها السلام) أولاً، ثم الإمام الحسن (عليه السلام) ثم الإمام الحسين (عليه السلام)، أن الأولى في دخول الدار تقديم المرأة أولاً فإنه أستر لها ممن يمر في الطريق، ثم الولد الأكبر إكراماً له، ثم الأصغر، ثم رب الأسرة، وتأخيره (صلى الله عليه وآله) عن الكل لأنه الحافظ لهم المحامي عنهم، كما أن الترتيب في حديث الكساء كان مطابقاً للحكمة أيضاً، فالنبي (صلى الله عليه وآله) أولاً لوجود الضعف في بدنه، والزهراء (عليها السلام) أخيراً حيث كانت في الدار، والله العالم.
3- عوالم العلوم: ج 11قسم2 فاطمة (سلام الله عليها) ص894 ب64 إخبارها (عليها السلام) عن رضى النبي (صلى الله عليه وآله) عن أهل بيته (عليهم السلام) ح133، عن دلائل الإمامة: ص68 ح5.

تعدد واقعة الكساء

الظاهر أن هذه الحادثة هي غير حادثة الكساء الشهيرة، فإنه (صلى الله عليه وآله) في حديث الكساء طلب من فاطمة (عليها السلام) أن تغطيه به، فغطته فاطمة (عليها السلام) ثم جاء الإمام الحسن (عليه السلام) فاستأذن في الدخول معه .. إلى آخر الحديث، أما في هذه المرة بسط الرسول (صلى الله عليه وآله) لفاطمة (عليها السلام) ثوباً وأمرها بالجلوس عليه.

والظاهر أن أمثال هاتين القضيتين تكررت بألوان شتى وأنواع متعددة.

وأما السبب في التعدد فمن وجوه، مضافاً إلى المحبوبية ذاتاً، منها تكرر الدعاء منه (صلوات الله عليه) لهم (عليهم السلام) وتوفير أسباب التواتر الإجمالي في أقل فروضه، وإتمام الحجة، وغير ذلك.

معنى أنا منهم

مسألة: يستحب بيان أن أهل البيت من رسول الله (صلى الله عليه وآله) والرسول منهم (عليهم السلام)، ولعل التعبير ب (هم مني وأنا منهم) يكنى به عن اتحاد أنوارهم، فإنهم نور واحد.

ويحتمل أن يراد (هم مني) أي (أصلاً)، لأنه (صلى الله عليه وآله) الأصللهذه الشجرة المباركة، «كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلها ثابِتٌ وفَرْعُها فِي

ص: 43

السَّماء»(1).

وكونه (صلى الله عليه وآله) منهم أي (امتداداً)، إذ لولاهم - فاطمة والحسنين وعلي (عليهم السلام) - لأفنى الأعداء دين الله، ومحوا ذكر رسول الله (صلى الله عليه وآله) وآثاره، فهم منه في العلة المحدثة حقيقة كفاطمة والحسنين (عليهم السلام)، أو اعتباراً كعلي (عليه السلام)، وهو (صلى الله عليه وآله) منهم في العلة المبقية.

قال (صلى الله عليه وآله): «مَعَاشِرَ النَّاسِ القُرْآنُ فِيكُمْ وعَليٌّ والأَئِمَّةُ مِنْ بَعْدِهِ، فَقَدْ عَرَّفْتُكُمْ أَنَّهُمْ مِنِّي وأَنَا مِنْهُمْ، فَلنْ تَضِلوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِ»(2).

وقَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «حُسَيْنٌ مِنِّي وأَنَا مِنْ حُسَيْنٍ أَحَبَّ اللهُ مَنْ أَحَبَّ حُسَيْناً»(3).وعَنْ يَعْلى بْنِ مُرَّةَ قَال: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) وقَدْ دُعِينَا إِلى طَعَامٍ فَإِذَا الحَسَنُ يَلعَبُ فِي الطَّرِيقِ، فَأَسْرَعَ النَّبِيُّ أَمَامَ القَوْمِ ثُمَّ بَسَطَ يَدَهُ فَجَعَل يَمُرُّ مَرَّةً هَاهُنَا ومَرَّةً هَاهُنَا، يُضَاحِكُهُ حَتَّى أَخَذَهُ فَجَعَل إِحْدَى يَدَيْهِ فِي ذَقَنِهِ والأُخْرَى بَيْنَ رَأْسِهِ ثُمَّ اعْتَنَقَهُ فَقَبَّلهُ ثُمَّ قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «حَسَنٌ مِنِّي وأَنَا مِنْهُ، أَحَبَّ اللهُ مَنْ أَحَبَّهُ»(4).

وعَنْ أَبِي الحَسَنِ عَليِّ بْنِ مُوسَى الرِّضَا، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام)

ص: 44


1- سورة إبراهيم: 24.
2- العدد القوية: ص180 خطبة النبي (صلى الله عليه وآله) يوم غدير خم، إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات: ج 2 ص186 الفصل الثامن والعشرون ح593.
3- كامل الزيارات: ص52 الباب الرابع عشر حب رسول الله (صلى الله عليه وآله) الحسن والحسين (عليهما السلام) والأمر بحبهما وثواب حبهما ح11.
4- بشارة المصطفى: ج 2 ص156.

قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «عَليٌ مِنِّي وأَنَا مِنْ عَليٍّ، قَاتَل اللهُ مَنْ قَاتَل عَليّاً، لعَنَ اللهُ مَنْ خَالفَ عَليّاً، عَليٌّ إِمَامُ الخَليقَةِ بَعْدِي، مَنْ تَقَدَّمَ عَلى عَليٍّ فَقَدْ تَقَدَّمَ عَليَّ، ومَنْ فَارَقَهُ فَقَدْ فَارَقَنِي، ومَنْ آثَرَ عَليْهِ فَقَدْ آثَرَ عَليَّ، أَنَا سِلمٌ لمَنْ سَالمَهُ، وحَرْبٌ لمَنْ حَارَبَهُ، ووَليٌّ لمَنْ وَالاهُ، وعَدُوٌّ لمَنْ عَادَاهُ»(1).

الدعاء للأهل والأقرباء

مسألة: يستحب الدعاء للأهل والأقرباء.وذلك مما تنطبق عليه عناوين راجحة شتى، فمنها أنه دعاء وهو مستحب في حد ذاته، ومنها أنه صلة رحم، ومنها أنه من أسباب تماسك الأسرة وتوادهم وتراحمهم، ومنها أنه نوع تربية لهم فإنه تربية بالدعاء وهو قد يكون أقوى من التربية بالتلقين والإيحاء فحسب وإن كان الكل مطلوباً.

ثم إن دعاء النبي (صلى الله عليه وآله) بالإضافة إلى أنه مستجاب، هو تعليم وتكليف للأمة بوجوب احترام هؤلاء العظام (عليهم السلام)، وأن احترامهم احترام النبي (صلى الله عليه وآله)، فإنهم منه وهو منهم (صلوات الله عليهم أجمعين).

وفي الدعاء: «اللهُمَّ اغْفِرْ لنَا ولآبَائِنَا ولأُمَّهَاتِنَا كَمَا رَبَّوْنَا صِغَاراً، وأَدَّبُونَا كِبَاراً، اللهُمَّ أَعْطِنَا وإِيَّاهُمْ مِنْ رَحْمَتِكَ أَسْنَاهَا وأَوْسَعَهَا، ومِنْ جِنَانِكَ أَعْلاهَا وأَرْفَعَهَا، وأَوْجِبْ لنَا مِنْ رِضَاكَ عَنَّا مَا تُقِرُّ بِهِ عُيُونَنَا، وتُذْهِبُ لنَا حُزْنَنَا، وأَذْهِبْ عَنَّا هُمُومَنَا وغُمُومَنَا فِي أَمْرِ دِينِنَا ودُنْيَانَا، وقَنِّعْنَا فِيهَا بِتَيْسِيرِ رِزْقِكَ عِنْدَنَا، واعْفُ عَنَّا وعَافِنَا أَبَداً مَا أَبْقَيْتَنَا، وآتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً

ص: 45


1- الأمالي، للصدوق: ص659 المجلس الرابع والتسعون ح12.

وقِنا عَذابَ النَّارِ»(1).

إنه راض عنهم

مسألة: يستحب بيان أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان راضياً عن أهل بيته (عليهم السلام).

قال عُبَيْدُ بْنُ طُفَيْل: سَمِعْتُ رِبْعِيَّ بْنَ حِرَاشٍ قَال: بَلغَنِي أَنَّ عَليّاً (عليه السلام) دَخَل عَلى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) فَأَخَذَ النَّبِيُّ شَمْلةً لهُ فَبَسَطَهَا، فَقَعَدَ عَليْهِ عَليٌّ وفَاطِمَةُ وحَسَنٌ وحُسَيْنٌ فَأَخَذَ بِمَجَامِيعِهَا، فَعَقَدَ فَقَال: اللهُمَّ هَؤُلاءِ مِنِّي وأَنَا مِنْهُمْ، فَارْضَ عَنْهُمْ كَمَا أَنَا عَنْهُمْ رَاضٍ»(2).

العصمة المطلقة

مسألة: يستفاد من قوله (صلى الله عليه وآله): «اللهم ارض عنهم فإني عنهم راض» عصمتهم بقول مطلق، نظراً للإطلاق في «فإني عنهم راض»، إذ لا يصح لمن يرضى الرسول (صلى الله عليه وآله) عنه بقول مطلق في كل الحالات أن يكون قد صدر منه في بعضها حتى المكروه، بل حتى ترك الأولى، فكيف بالمحرم.

ويوضحه ملاحظة قوله (عليه السلام): «حسنات الأبرار سيئاتالمقربين»(3).

ص: 46


1- الدروع الواقية: ص101 اليوم الثامن.
2- شواهد التنزيل: ج 2 ص84 ح705.
3- كشف الغمة: ج 2 ص254 عدد أولاده وطرف من أخبارهم، بحار الأنوار: ج 25 ص205 ب6 عصمتهم ولزوم عصمة الإمام (عليه السلام).

كما أن دعاءه لهم ب (اللهم ارض عنهم) دليل آخر على عصمتهم، إذ دعاؤه (صلى الله عليه وآله) مستجاب قطعاً.

لا يقال: لا شك في رضا الله عنهم، فكيف يدعو الرسول (صلى الله عليه وآله) ب (اللهم ارض عنهم) وهل هو إلا طلب الحاصل؟

إذ يقال: إنه كقوله (صلى الله عليه وآله) وقول سائر المعصومين (عليهم السلام): «اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيم»(1)، مع أنهم على الصراط المستقيم قطعاً وهم المهديون له جزماً، بل هم الصراط المستقيم، فالمراد إدامة الرضا عنهم واستمراره كإدامة الهداية للصراط المستقيم، فإن كل ممكن فإنه حدوثاً وبقاءً بأمر الله ولطفه وتوفيقه.

عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «اهْدِنَا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ» «يعني أمير المؤمنين صلوات الله عليه»(2).

ثم إن (اللهم ارض عنهم) قد يراد به الدرجات الأعلى فالأعلى من الرضا،فهو كقوله: «وَقُل رَبِّ زِدْني عِلماً»(3).

ويحتمل كون (اللهم ارض عنهم) في مقام إعلام الغير ولبيان فضلهم (عليهم السلام) عند الله وعنده.

قال الإمام العسكري (عليه السلام) في قوله تعالى: «اهْدِنَا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ» «أَيْ: أَدِمِ لنَا تَوْفِيقَكَ الذِي بِهِ أَطَعْنَاكَ فِي مَاضِي أَيَّامِنَا، حَتَّى نُطِيعَكَ

ص: 47


1- سورة الفاتحة: 6.
2- تفسير العياشي: ج 1 ص24 ح25.
3- سورة طه: 114.

كَذَلكَ فِي مُسْتَقْبَل أَعْمَارِنَا»(1).

وعن حُسَيْن الأَشْقَر قَال: قُلتُ لهِشَامِ بْنِ الحَكَمِ: مَا مَعْنَى قَوْلكُمْ إِنَّ الإِمَامَ لا يَكُونُ إِلا مَعْصُوماً، فَقَال: سَأَلتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) عَنْ ذَلكَ فَقَال: «المَعْصُومُ هُوَ المُمْتَنِعُ بِاللهِ مِنْ جَمِيعِ مَحَارِمِ اللهِ، وقَال اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالى «وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ»(2)»(3).

وقال (عليه السلام) في قوله تعالى: «أَطِيعُوا اللهَ وأَطِيعُوا الرَّسُول وأُولي الأَمْرِ مِنْكُمْ»(4): «لأَنَّ اللهَ إِنَّمَا أَمَرَ بِطَاعَةِ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله)لأَنَّهُ مَعْصُومٌ مُطَهَّرٌ لا يَأْمُرُ بِمَعْصِيَةِ اللهِ، وإِنَّمَا أَمَرَ بِطَاعَةِ أُولي الأَمْرِ لأَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ مُطَهَّرُونَ لا يَأْمُرُونَ بِمَعْصِيَةِ اللهِ»(5).

وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَال سَمِعْتُ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُول: «أَنَا وعَليٌّ والحَسَنُ والحُسَيْنُ وتِسْعَةٌ مِنْ وُلدِ الحُسَيْنِ مُطَهَّرُونَ مَعْصُومُونَ»(6).

إكرام الأهل

مسألة: يستحب إكرام البنت والصهر والأحفاد، ومن الإكرام جعل ثوب لجلوسهم عليه والدعاء لهم. بل قد يستظهر بأدلة الأسوة استحباب القيام بهذا

ص: 48


1- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): ص44 ح20.
2- سورة آل عمران: 101.
3- معاني الأخبار: ص132 باب معنى عصمة الإمام ح2.
4- سورة النساء: 59.
5- كتاب سليم بن قيس الهلالي: ج 2 ص884 الحديث الرابع والخمسون.
6- كفاية الأثر : ص19.

الفعل مع الأولاد والأصهار.

وَقَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلهِ وأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلي»(1).

وقال (صلى الله عليه وآله): «أَحْسَنُ النَّاسِ إِيمَاناً أَحْسَنُهُمْ خُلقاً وأَلطَفُهُمْ بِأَهْلهِ وأَنَا أَلطَفُكُمْ بِأَهْلي»(2).

تقبل الإكرام

مسألة: يستحب تقبل الإكرام وعدم رده، وعدم التمنع عنه بحجة أنه - أي التمنع - نوع إجلال للعظيم، وقد تقبلت الصديقة (صلوات الله عليها) إكرام أبيها (صلى الله عليه وآله) إذ بسط لها ثوباً.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «دَخَل رَجُلانِ عَلى أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) فَأَلقَى لكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا وِسَادَةً، فَقَعَدَ عَليْهَا أَحَدُهُمَا وأَبَى الآخَرُ، فَقَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): اقْعُدْ عَليْهَا فَإِنَّهُ لا يَأْبَى الكَرَامَةَ إِلا حِمَارٌ.

ثُمَّ قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): إِذَا أَتَاكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ فَأَكْرِمُوهُ»(3).

وعَنْ سَمَاعَةَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: سَأَلتُهُ عَنِ

ص: 49


1- من لا يحضره الفقيه: ج 3 ص555 باب النوادر ح4908
2- عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج 2 ص38 ب31 باب فيما جاء عن الرضا (عليه السلام) من الأخبار المجموعة ح109.
3- الكافي: ج 2 ص659 باب إكرام الكريم ح1.

الرَّجُل يَرُدُّ الطِّيبَ، قَال: «لا يَنْبَغِي لهُ أَنْ يَرُدَّ الكَرَامَةَ»(1).

وقَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «إِذَا عُرِضَ عَلى أَحَدِكُمُ الكَرَامَةُ فَلا يَرُدَّهَا،فَإِنَّمَا يَرُدُّ الكَرَامَةَ الحِمَارُ»(2).

وعَنْ عَليٍّ (عليه السلام): «أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) كَانَ لا يَرُدُّ الطِّيبَ والحَلوَاءَ»(3).

ص: 50


1- الكافي: ج 6 ص512 باب كراهية رد الطيب ح1.
2- قرب الإسناد: ص92 احاديث متفرقة ح307.
3- الكافي: ج 6 ص513 باب كراهية رد الطيب ح4.

ما أسرعتم في الخيانة

اشارة

في حديث عن الصديقة فاطمة (عليها السلام) قالت: «ويلكم ما أسرع ما خنتم الله ورسوله فينا أهل البيت، وقد أوصاكم رسول الله (صلى الله عليه وآله) باتباعنا ومودتنا والتمسك بنا، فقال الله: «قُل لا أَسْأَلكُمْ عَليْهِ أَجْرًا إِلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى»(1)»(2).

-------------------

إعلام الناس بوصية الرسول

مسألة: يجب وجوباً كفائياً بيان أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد وصى بأهل بيته (عليهم السلام) واتباعهم والتمسك بهم، كي لا يبقى مجال لإنكار الخصم وصيته بهم (صلوات الله عليهم)، بل قد يجب كفائياً أيضاً بيان آحاد مصاديق وصيته بهم، فإن ذكر الكلي قد لا يكفي لهداية الآخرين وإقناعهم، فلا بد من ذكر الجزئي بخصوصياته لو توقفت الهداية عليه.قال (صلى الله عليه وآله): «مَعَاشِرَ النَّاسِ إِنِّي أَدَعُهَا إِمَامَةً ووِرَاثَةً، وقَدْ بَلغْتُ

ص: 51


1- سورة الشورى: 23.
2- عوالم العلوم: ج 11 قسم2 فاطمة (سلام الله عليها) ص894 ب64 إخبارها (عليها السلام) عن رضى النبي (صلى الله عليه وآله) عن أهل بيته (عليهم السلام) ح134.

مَا بَلغْتُ حُجَّةً عَلى كُل حَاضِرٍ وغَائِبٍ، وعَلى كُل أَحَدٍ مِمَّنْ وُلدَ وشَهِدَ ولمْ يُولدْ ولمْ يَشْهَدْ، يُبَلغُ الحَاضِرُ الغَائِبَ، والوَالدُ الوَلدَ إِلى يَوْمِ القِيَامَة»(1).

وقال علي (عليه السلام) في احتجاجه على القوم: «أَمْ هَل فِيكُمْ أَحَدٌ أَخَذَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) بِيَدِهِ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ وقَال: مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَعَليٌّ مَوْلاهُ، اللهُمَّ وَال مَنْ وَالاهُ وعَادِ مَنْ عَادَاهُ، وليُبَلغِ الحَاضِرُ الغَائِبَ؟! فَهَل كَانَ فِي أَحَدٍ، غَيْرِي»(2).

شأن النزول

مسألة: يجب كفائياً بيان أن هذه الآية نزلت في شأن أهل البيت (عليهم السلام)، ويجب كذلك ذكر الأدلة والبراهين على ذلك بما يقطع عذر المعتذرين وتتضح الحجة على الجاهلين.

في الكافي عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام)فِي قَوْلهِ تَعَالى: «قُل لا أَسْئَلكُمْ عَليْهِ أَجْراً إِلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبى»(3)، قَال: «هُمُ الأَئِمَّةُ عليهم السلام»(4).

عن ابن عباس، قال : لمَّا نَزَلتْ هَذِهِ الآيَةُ: «قُل لا أَسْئَلكُمْ عَليْهِ أَجْراً إِلاّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبى» قُلتُ: يَا رَسُول اللهِ مَنْ قَرَابَتُكَ الذِينَ افْتَرَضَ اللهُ عَليْنَا

ص: 52


1- التحصين: ص586 ب29 الباب فيما نذكره من خطبة يوم الغدير وفيها من رجال المخالفين بتسمية النبي (صلى الله عليه وآله) علياً (عليه السلام).
2- بحار الأنوار: ج 31 ص361 ح17.
3- سورة الشورى: 23.
4- الكافي: ج 1 ص413 باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية ح7.

مَوَدَّتَهُمْ، قَال: «عَليٌّ وفَاطِمَةُ ووُلدُهُمَا» ثَلاثَ مَرَّاتٍ يَقُولهَا(1).

وعَنْ إِسْمَاعِيل بْنِ عَبْدِ الخَالقِ قَال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُول لأَبِي جَعْفَرٍ الأَحْوَل وأَنَا أَسْمَعُ: أَتَيْتَ البَصْرَةَ، فَقَال: نَعَمْ، قَال: كَيْفَ رَأَيْتَ مُسَارَعَةَ النَّاسِ إِلى هَذَا الأَمْرِ ودُخُولهُمْ فِيهِ، قَال: واللهِ إِنَّهُمْ لقَليل ولقَدْ فَعَلوا وإِنَّ ذَلكَ لقَليل، فَقَال: عَليْكَ بِالأَحْدَاثِ فَإِنَّهُمْ أَسْرَعُ إِلى كُل خَيْرٍ، ثُمَّ قَال: مَا يَقُول أَهْل البَصْرَةِ فِي هَذِهِ الآيَةِ: «قُل لا أَسْئَلكُمْ عَليْهِ أَجْراً إِلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبى»(2)، قُلتُ :جُعِلتُ فِدَاكَ إِنَّهُمْ يَقُولونَ إِنَّهَا لأَقَارِبِ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله)، فَقَال: «كَذَبُوا إِنَّمَا نَزَلتْ فِينَا خَاصَّةً، فِي أَهْل البَيْتِ فِي عَليٍّ وفَاطِمَةَ والحَسَنِ والحُسَيْنِ أَصْحَابِ الكِسَاءِعليهم السلام»(3).

حرمة الخيانة

مسألة: تحرم الخيانة خصوصاً بالنسبة إلى أهل بيت رسول الله (عليهم السلام)، والأسرع خيانة أكثر عقوبة وأشد، فهذه الخيانة من أكبر الكبائر.

ومن الواضح أن الخيانة العامة محرمة فكيف بخيانة الرسول (صلى الله عليه وآله) في أهل بيته (عليهم السلام).

قال تعالى: «ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً للذينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَ امْرَأَتَ لوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقيل

ص: 53


1- تفسير فرات الكوفي: ص389 ح516.
2- سورة الشورى: 23.
3- الكافي: ج 8 ص93 ح66.

ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخِلينَ»(1).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «إِيَّاكَ والخِيَانَةَ فَإِنَّهَا شَرُّ مَعْصِيَةٍ، وإِنَّ الخَائِنَ لمُعَذَّبٌ بِالنَّارِ عَلى خِيَانَتِهِ»(2).

ونَهَى رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) عَنِ الخِيَانَةِ وقَال: «مَنْ خَانَ أَمَانَةً فِي الدُّنْيَا ولمْ يَرُدَّهَا إِلى أَهْلهَا ثُمَّ أَدْرَكَهُ المَوْتُ مَاتَ عَلى غَيْرِ مِلتِي ويَلقَى اللهَ وهُوَ عَليْهِ غَضْبَان»(3).

تاريخ العترة

مسألة: يجب كفائياً حفظ تاريخ أهل البيت (عليهم السلام) وموقف الناس تجاههم من محسن وظالم لنفسه، بتفاصيل ذلك.

روي أنه قال (صلى الله عليه وآله): «من ورّخ مؤمناً فقد أحياه»(4).

والأَزْدِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «تَجْلسُونَ وتَتَحَدَّثُونَ»، قَال: قُلتُ: جُعِلتُ فِدَاكَ نَعَمْ، قَال: «إِنَّ تِلكَ المَجَالسَ أُحِبُّهَا فَأَحِبُّوا

أَمْرَنَا»(5).

ص: 54


1- سورة التحريم: 10.
2- عيون الحكم والمواعظ: ص96 ح2219.
3- من لا يحضره الفقيه: ج 4 ص15 باب ذكر جمل من مناهي النبي (صلى الله عليه وآله) ح4968.
4- سفينة البحار: مادة (ورخ).
5- ثواب الأعمال: ص187.

الاتباع والمودة والتمسك

مسألة: يجب اتباع أهل البيت (عليهم السلام) ومودتهم والتمسك بهم.

ثم إن الصديقة (صلوات الله عليها) أشارت بقولها: «باتباعنا ومودتنا والتمسك بنا» إلى أمور ثلاثة، لكل منها دلالاتها:

1: أما المودة فواضحة، إذ هي مرتبطة بالقلب بما يظهر على الجوارح.

2 و3: وأما الاتباع والتمسك فربما يكون الفرق بينهما: أن الاتباع هو سير الإنسان وفق سير المتبَع بالفتح، والتمسك هو الالتفاف حول المتبَع، هذا إذا ذكر كل واحد منهما في قبال الآخر، وأما إذا ذكر أحدهما دونه فهو يشمله، حالهما حال الفقير والمسكين كما ذكروا: إذا افترقا اجتمعا، وإذا اجتمعا افترقا.

قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «يَا بَنِي عَبْدِ المُطَّلبِ، أَطِيعُوا عَليّاً واتَّبِعُوهُ، وتَوَلوْهُ ولا تُخَالفُوهُ، وابْرَءُوا مِنْ عَدُوِّهِ، وآزِرُوهُ وانْصُرُوهُ واقْتَدُوا بِهِ، تُرْشَدُوا وتَهْتَدُوا وتُسْعَدُوا»(1).

ص: 55


1- كتاب سليم بن قيس الهلالي: ج 2 ص907 الحديث الحادي والستون.

الكتاب والعترة

اشارة

عن فاطمة الزهراء (عليها السلام) قالت: سمعت أبي رسول الله (صلى الله عليه وآله) في مرضه الذي قبض فيه يقول، وقد امتلأت الحجرة من أصحابه: «أيها الناس يوشك أن أُقبض قبضاً يسيراً، وقد قدّمت إليكم القول معذرة إليكم، ألا إني مخلف فيكم كتاب ربي عزوجل وعترتي أهل بيتي».

ثم أخذ بيد علي (عليه السلام) فقال: «هذا علي مع القرآن، والقرآن مع علي، لا يفترقان حتى يردا عليّ الحوض، فأسألكم ما تخلفوني فيهما»(1).

-----------------------

القبض اليسير

يحتمل في قوله (صلى الله عليه وآله): (يسيراً) الكيف، أي قبضاً سهلاً يسيراً لا صعوبة فيه ولا مشقة، كما يحتمل فيه الكمّ، أي الزماني أي قبضاً سريعاً عن قريب.

ويرجح الأول إضافة إلى ظهور اليسير في السهل مقابل الشديد، أنه إخبار إعجازي حيث كان مرضه (صلوات الله عليه وآله) خطيراً جراء السم، وهو يوجب صعوبة النزع عادة، فإخباره عن سهولة النزع مؤكد آخر على صحة كلامه

ص: 56


1- عوالم العلوم: ج 11 قسم2 ص895 ح135.

ولزوماتباعه في وصيته.

ويرجح الثاني قوله: (وقد قدمت)، وقرينة الحال، كما أن من معاني اليسير القليل.

ثم إن (أقبض) هنا(1) يراد به القبض قتلاً بالسم، فهو مطابق لقوله تعالى: «وَلا تَحْسَبَنَّ الذينَ قُتِلوا في سَبيل اللهِ أَمْواتاً بَل أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون»(2)، كما أن الآية وكلمة (أقبض) تحدد الشق من قوله سبحانه: «وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُول قَدْ خَلتْ مِنْ قَبْلهِ الرُّسُل أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِل انْقَلبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرينَ»(3)، وأنه (صلى الله عليه وآله) قُتل ولم يمت بالموت الطبيعي، فإن قبض الشيء ظاهر في صرف التحول من مكان إلى مكان آخر، أو حالة إلى حالة، لا الموت بالمعنى المعهود.

(ومعذرة إليكم) أي كي يكون لي العذر لو أخلفتم فاستحققتم العقاب والعذاب، وفي عدم شفاعتي لكم، إذ قد قدمت إليكم بالوعيد وحذرتكم كراراً وتكراراً.

عن عبد الصمد بن بشير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «تدرون مات النبي(صلى الله عليه وآله) أو قُتل، إن الله يقول: «أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِل انْقَلبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ»(4)، فسمّ قبل الموت، إنهما سقتاه قبل الموت» فقلنا: إنهما وأبوهما

ص: 57


1- وبمعونة القرائن وسائر الأدلة.
2- سورة آل عمران: 169.
3- سورة آل عمران: 144.
4- سورة آل عمران: 144.

شر من خلق الله(1).

وجوب نقل حديث الثقلين

وجوب نقل حديث الثقلين(2)

مسألة: يجب وجوباً كفائياً نقل حديث الثقلين والتنبيه على شدة اهتمام رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالحديث، وأنهأخذ يذكّر الناس به في أكثر من موقف وموطن، حتى أنه (صلى الله عليه وآله) في أواخر حياته الشريفة كان يوصي به في كل يوم.

ولنقل حديث الثقلين كسائر الأحاديث طرق عديدة، منها: إدراجه في المناهج الدراسية في المدارس الابتدائية والمتوسطة والثانوية(3) والجامعية، وإدراجه في المناهج الدراسية الحوزوية أيضاً، كمنهج درسي في فقه الحديث، لا كمرجع للمطالعة فقط.

ص: 58


1- تفسير العياشي: ج 1 ص200 ح152.
2- من مصادر حديث الثقلين: (إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي) صحيح مسلم: ج5 ص22، ج4 ص1873، مسند أحمد: ج5 ص492، ج3 ص17، ج5 ص181، سنن الترمذي: ج5 ص622، ص662، المعجم الكبير للطبراني: ج5 ص170، أسد الغابة: ج2 ص13، ج2 ص12، الدّر المنثور: ج7 ص349، كنز العمّال: ج1 ص878، سنن النسائي: ج5 ص130، سنن ابن ماجة: ج1 ص43، مستدرك الحاكم: ج3 ص118، ج3 ص109، الاستيعاب: ج2 ص473، تهذيب التهذيب: ج7 ص337، السيرة الحلبية: ج3 ص336، مجمع الزوائد: ج9 ص163، الصواعق المحرقة: ص230، الشافي: ج3 ص120، أمالي المفيد: ص134، تحف العقول: ص34، الإرشاد للمفيد: ج1 ص165، الاستغاثة: ج1 ص144 وغيرها من المصادر.
3- أي الإعدادية.

ومنها: بثه ونشره وتفسيره والتأكيد عليه في مختلف وسائل الإعلام.

وجوب بيان حديث المعية

مسألة: يجب كفائياً بيان حديث المعية.

والمعية الحقيقية طرفينية، بل لو كانت المعية من جهة دون أخرى فلا معية حقيقة، بل هي مجاز لا غير، لتقوم المعية بالطرفين، والحاصل أن المعية كالموازرة والمساواة والأخوة لا تكون إلاّ بالطرفين، فتأمل.

ولا يخفى أن المعية على ثلاثة أقسام: معية زمانية، ومعية مكانية، ومعية معنوية، والمراد بالمعية فيالمقام: المعية المعنوية(1) والزمانية أيضاً، وربما المكانية بالمعنى الأعم، إذ لا تخلو الأرض من حجة إلى يوم القيامة، فالقرآن معهم (عليهم السلام) وهم مع القرآن دائماً وأبداً.

وفي الزيارة: «وَالحَقُّ مَعَكُمْ، وفِيكُمْ، ومِنْكُمْ، وإِليْكُمْ، وأَنْتُمْ أَهْلهُ مَعْدِنُهُ»(2).

وقال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «عَليٌ مَعَ القُرْآنِ والقُرْآنُ مَعَ عَليٍّ، لنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَليَّ الحَوْضَ»(3).

ص: 59


1- المراد بالمعية المعنوية: ما يشمل المعية العلمية والثقافية والفكرية والروحية والأخلاقية ونظائرها، فإن علوم القرآن لديهم (عليهم السلام) وأن كان ما يفكرون به ويثقفون الناس عليه فإنه قرآني، كما أن المراد: إن القرآن يدعو إليهم وهم يدعون إلى القرآن، وأنهم الوجود المتجسد للقرآن، فالقرآن صامت وهم القرآن الناطق.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 2 ص612 زيارة جامعة لجميع الأئمة (عليهم السلام).
3- تفسير الحبري: ص153 - 154، المستدرك على الصحيحين: ج3 ص124، أمالي الطوسي: ج2 ص120، مناقب الخوارزمي: ص176- 177، كشف الغمّة: ج1 ص148، مجمع الزوائد: ج9 ص134، فرائد السمطين: ج1 ص177، تاريخ الخلفاء: ص173، الصواعق المحرقة: ص124، كنز العمّال: ج11 ص603، بحار الأنوار ج32 ص206.

وعن النبيّ (صلى الله عليه وآله) قال:«عليّ مع الحقّ، والحقّ مع عليّ، اللهمّ أدر الحقّ معه حيثما دار»(1).

الانفصال عن القرآن

مسألة: يجب كفائياً بيان أن كل من انفصل عن القرآن انفصل عن علي (عليه السلام)، وكل من انفصل عن علي (عليه السلام) فقد انفصل عن القرآن.

ويتفرع على هذا وجوب دراسة سيرة الإمام علي (عليه السلام) ومواقفه وأفعاله وتقريره، لأنها مرآة القرآن وكاشفة عنه، كما يتفرع عليه وجوب دراسة كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) وخطبه ومواعظه، ومنها كل ما ورد في نهج البلاغة ومستدركاته، وما تضمه تحف العقول وغيره، ثم السعي لتطبيقها، فإنها مع القرآن، وهي كاشفة عنه، ولازمه له.

والحاصل أن قوله (صلى الله عليه وآله): «هذا علي مع القرآن والقرآن مع علي»(2)، يفيد أن الذين يتبعون علياً (عليه السلام) ولا يتبعون القرآن ليسوا مع علي (عليهالسلام)، كما أن الذين يتبعون القرآن وليسوا مع علي (عليه السلام) لا يتبعون القرآن أيضاً، فأحكام القرآن هي أحكام علي (عليه السلام)، وعلي (عليه السلام) من

ص: 60


1- تاريخ بغداد: ج14 ص321، شرح نهج البلاغة: ج2 ص461، وج18 ص245، التعجب من أغلاط العامة في مسألة الإمامة: ص129.
2- عوالم العلوم: ج 11 قسم2 ص895 ح135.

أحكام القرآن.

قال تعالى: «يا أَيُّهَا الذينَ آمَنُوا أَطيعُوا اللهَ وَأَطيعُوا الرَّسُول وَأُولي الأَمْرِ مِنْكُمْ»(1).

وقوله سبحانه: «يا أَيُّهَا الرَّسُول بَلغْ ما أُنْزِل إِليْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لمْ تَفْعَل فَما بَلغْتَ رِسالتَهُ وَ اللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الكافِرينَ»(2).

فالمعية في هذا الحديث الشريف: «علي مع القرآن والقرآن مع علي» تفيد الثبوت والإثبات معاً.

وقد قال علي (عليه السلام): «أنا القرآن الناطق»(3).

السؤال عن الولاية

مسألة: يستحب بيان أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في يوم القيامة سيسأل الأُمّة عن ولاية علي (صلوات الله عليه).والظاهر أنه سؤال احتجاج وقطع عذر للبعض، وأنه سؤال امتحان واختبار لآخرين حيث يرتهن به الفوز والفلاح والنجاح، أو الخسران والفشل والهلاك، وأنه مقدمة للحكم عليه إما إلى جنة وإما إلى النار.

ص: 61


1- سورة النساء: 59.
2- سورة المائدة: 67.
3- ينابيع المودة: ج1 ص214، لما أراد أهل الشام أن يجعلوا القرآن حكماً بصفين قاله (عليه السلام).

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «إِنَّ أَوَّل مَا يُسْأَل عَنْهُ العَبْدُ إِذَا وَقَفَ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ جَل جَلالهُ عَنِ الصَّلوَاتِ المَفْرُوضَاتِ، وعَنِ الزَّكَاةِ المَفْرُوضَةِ، وعَنِ الصِّيَامِ المَفْرُوضِ، وعَنِ الحَجِّ المَفْرُوضِ، وعَنْ وَلايَتِنَا أَهْل البَيْتِ، فَإِنْ أَقَرَّ بِوَلايَتِنَا ثُمَّ مَاتَ عَليْهَا قُبِلتْ مِنْهُ صَلاتُهُ وصَوْمُهُ وزَكَاتُهُ وحَجُّهُ، وإِنْ لمْ يُقِرَّ بِوَلايَتِنَا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ جَل جَلالهُ لمْ يَقْبَل اللهُ عَزَّ وجَل مِنْهُ شَيْئاً مِنْ أَعْمَالهِ»(1).

وروي: «لمَا ذَا يُوقَفُونَ يَا رَبَّنَا، فَإِذَا النِّدَاءُ مِنْ قِبَل اللهِ تَعَالى: «قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلونَ»(2) عَنْ وَلايَةِ عَليِ بْنِ أَبِي طَالبٍ وآل مُحَمَّد»(3).

وعن ابن عباس في قوله تعالى:«وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلونَ»(4)، قَال: عَنْ وَلايَةِ عَليِ بْنِ أَبِي طَالب (5).

وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ نَجِيحٍ اليَمَانِيِّ، قَال قُلتُ لأَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): مَا مَعْنَى قَوْلهِ تَعَالى: «ثُمَّ لتُسْئَلنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ»(6)، قَال: «النَّعِيمُ الذِي أَنْعَمَ اللهُ بِهِ عَليْكُمْ مِنْ وَلايَتِنَا وَحُبِّ مُحَمَّدٍ وَآل مُحَمَّدٍ (عليهم السلام)»(7).

ص: 62


1- بحار الأنوار: ج 27 ص167 ب7 أنه لا تقبل الأعمال إلا بالولاية ح2.
2- سورة الصافات: 24
3- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): ص405.
4- سورة الصافات: 24.
5- تفسير فرات الكوفي: ص355 ح482.
6- سورة التكاثر: 8.
7- بحار الأنوار: ج24 ص56 ب29 ح27.

سؤال الأجر عام إلى يوم القيامة

مسألة: الظاهر أن الضمير في (أسألكم) عام لكل الأجيال إلى يوم القيامة، بقرينة قوله (صلى الله عليه وآله): «لا يفترقان حتى يردا عليّ الحوض»، وبدليل عموم الشريعة، وأن الأصل في الخطابات القضايا الحقيقية لا الخارجية، إضافة إلى مطابقة العموم لسائر الأدلة، بل لا يحتمل خصوص السؤال بالنسبة لذلك الجيل للناظر في مختلف الأدلة، مضافاً إلى عموم أدلة الاشتراك في التكاليف وغيرها.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «حُكْمِي عَلى الوَاحِدِ حُكْمِي عَلى الجَمَاعَة»(1).

المسؤول عنه

مسألة: المسؤول عنه هو مطلق ما يصدق عليه عنوان (تخلفوني فيهما)، فيشمل احترام الكتاب والعترة، والالتزام بطاعة أوامرهما، وترك نواهيهما، والذود عنهما، ونصرتهما باللسانوالبنان وسائر الجوارح، وما إلى ذلك.

عن الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى: «ذلكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالهُمْ»(2) قَال: «كَرِهُوا عَليّاً (عليه السلام) وكَانَ أَمَرَ اللهُ

ص: 63


1- غوالي اللئالي: ج 1 ص456 ح197، بحار الأنوار: ج 2 ص272 ب33 ما يمكن أن يستنبط من الآيات والأخبار من متفرقات مسائل أصول الفقه ح4.
2- سورة محمد: 28.

بِوَلايَتِهِ يَوْمَ بَدْرٍ وحُنَيْنٍ ويَوْمَ بَطْنِ نَخْلةٍ ويَوْمَ التَّرْوِيَةِ ويَوْمَ عَرَفَةَ نَزَلتْ فِيهِ خَمْسَ عَشْرَةَ آيَةً فِي الحُجَّةِ التِي صُدَّ فِيهَا رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ بِالجُحْفَةِ وخُمٍّ وعَنَى بِقَوْلهِ تَعَالى: «وَالذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ورَضُوا عَنْهُ»(1) عَليّاً (عليه السلام)(2).

ص: 64


1- سورة التوبة: 100.
2- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام): ج 3 ص100 فصل في أنه الرضوان والإحسان والجنة والفطرة ودابة الأرض والقبلة والبقية والساعة واليسر والمقدم.

من مات على حب آل محمد

اشارة

عن فاطمة (عليها السلام) بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «ألا من مات على حب آل محمد مات شهيداً»(1).

------------------------

حب محمد وآله واجب

مسألة: حب آل محمد (عليهم السلام) واجب، كما أن حب رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحب الله تعالى واجب، والوجوب بالنسبة إلى أدنى درجات الحب، أما الإكثار فمستحب، بل من أعظم المستحبات.

عن الإمام الحسين (عليه السلام) إنه قال: «من أحبنا أهل البيت لله نفعه حبنا، وإن كان أسيراً بالديلم، ومن أحبنا للدنيا فإن الله يفعل ما يشاء، والله إن حبنا أهل البيت لتساقط الذنوب كما تساقط الريح الورق اليابس عن الشجر»(2).وقَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «أَحِبُّوا اللهَ لمَا يَغْذُوكُمْ بِهِ مِنْ نِعَمِهِ،

ص: 65


1- كشف الغمة: ج 1 ص107 في محبة الرسول (صلى الله عليه وآله) إياه وتحريضه على محبته وموالاته ونهيه عن بغضه.
2- شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار (عليهم السلام): ج 1 ص163 ح116.

وأَحِبُّونِي لحُبِّ اللهِ عَزَّ وجَل، وأَحِبُّوا أَهْل بَيْتِي لحُبِّي»(1).

وعَنِ الحُسَيْنِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ أَحَبَّنَا أَهْل البَيْتِ فَليَحْمَدِ اللهَ عَلى أَوَّل النِّعَمِ». قِيل: ومَا أَوَّل النِّعَمِ، قَال: «طِيبُ الوِلادَةِ، ولا يُحِبُّنَا إِلا مَنْ طَابَتْ وِلادَتُهُ»(2).

استحباب بيان فضل المحبين

مسألة: يستحب بيان مقام وفضل من يحب آل محمد (صلى الله عليه وآله) ومنه: أن مات منهم مات شهيداً.

عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله): أَنَّهُ قَال: «مَنْ مَاتَ عَلى حُبِّ آل مُحَمَّدٍ مَاتَ شَهِيداً، أَلا وَمَنْ مَاتَ عَلى حُبِّ آل مُحَمَّدٍ مَاتَ مَغْفُوراً لهُ، أَلا وَمَنْ مَاتَ عَلى حُبِّ آل مُحَمَّدٍ مَاتَ تَائِباً، أَلا وَمَنْ مَاتَ عَلى حُبِّآل مُحَمَّدٍ مَاتَ مُؤْمِناً مُسْتَكْمِل الإِيمَانِ، أَلا وَمَنْ مَاتَ عَلى حُبِّ آل مُحَمَّدٍ بَشَّرَهُ مَلكُ المَوْتِ بِالجَنَّةِ، ثُمَّ مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ، أَلا وَمَنْ مَاتَ عَلى حُبِّ آل مُحَمَّدٍ يُزَفُّ إِلى الجَنَّةِ كَمَا تُزَفُّ العَرُوسُ إِلى بَيْتِ زَوْجِهَا، أَلا وَمَنْ مَاتَ عَلى حُبِّ آل مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) فُتِحَ لهُ فِي قَبْرِهِ بَابَانِ إِلى الجَنَّةِ، أَلا وَمَنْ مَاتَ عَلى حُبِّ آل مُحَمَّدٍ جَعَل اللهُ قَبْرَهُ مَزَارَ مَلائِكَةِ الرَّحْمَةِ، أَلا وَمَنْ مَاتَ عَلى حُبِّ آل مُحَمَّدٍ مَاتَ عَلى السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ، أَلا وَمَنْ مَاتَ عَلى بُغْضِ آل مُحَمَّدٍ جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيِسٌ مِنْ

ص: 66


1- الأمالي، للصدوق: ص364 المجلس الثامن والخمسون ح6.
2- الأمالي، للصدوق: ص475 المجلس الثاني والسبعون ح12.

رَحْمَةِ اللهِ، أَلا وَمَنْ مَاتَ عَلى بُغْضِ آل مُحَمَّدٍ مَاتَ كَافِراً، أَلا وَمَنْ مَاتَ عَلى بُغْضِ آل مُحَمَّدٍ لمْ يَشَمَّ رَائِحَةَ الجَنَّةِ»(1).

معاني الشهيد

وقوله (صلى الله عليه وآله): «شهيداً» يحتمل فيه عدة معان:

1: كونه في درجة الشهداء بمعنى المشهودين، وهم الذين تشهد لهم الملائكة إكراماً وتقديراً واحتراماً، أو تشهد بأنهم من أهل الجنة، ف (شهيد) أي مشهود أو مشهود له، إذ قد تأتيفعيل بمعنى المفعول، كقتيل.

2: كونه في درجة الشهداء المقتولين في سبيل الله.

3: كونه شاهداً، فالمراد من (شهيد) معنى الفاعل، فإن الشهيد شاهد يوم القيامة على أمته أو على بعضهم.

4: كونه حاضراً، من (شهيد) بمعنى الشاهد الحاضر، أو كالحاضر لأنه لم يمت.

5: كونه شاهداً حيث قام بشهادة الحق وقبوله حتى مات.

6: كونه شاهداً لأنه يشهد عظيم ما أعدّ الله له من المثوبة في الآخرة على حب محمد وآل محمد.

أما احتمال كون المعنى أن حكمهم حكم الشهيد الشرعي في ميدان الحرب من عدم التغسيل ودفنه بثيابه وما أشبه، فهو غير وارد هنا.

ثم إن شهادة الملائكة احتراماً غير حضورهم من باب الوظيفة، فإن هذا

ص: 67


1- بحار الأنوار: ج 27 ص111 ب4 ثواب حبهم ونصرهم وولايتهم وأنها أمان من النار ح84.

أعم منه ومن ضده، كما أن شهادتهم بأنه من أهل الجنة غير الشهادة بمعنى الحضور احتراماً وشبهه.

الحب والعمل

ثم إنه قد يقال ليس المراد الحب المجرد عن العمل، كما إذا كان فاسقاً فاجراً لكنه يحبهم (عليهم السلام) لإمكانالانفكاك الخارجي، بل المراد الحب المقترن بالعمل.

ومثله يقال فيما ورد من قوله (عليه السلام): «وهل الدين إلا الحب»(1)، وقول الله سبحانه وتعالى: «يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ»(2).

ولكن قد يقال: إن الحب المجرد أيضاً نافع في الجملة، كما يظهر ذلك من جملة من الأحاديث.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يَا سَلمَانُ مَنْ أَحَبَّ فَاطِمَةَ ابْنَتِي فَهُوَ فِي الجَنَّةِ مَعِي، ومَنْ أَبْغَضَهَا فَهُوَ فِي النَّارِ، يَا سَلمَانُ حُبُ فَاطِمَةَ (عليها السلام) يَنْفَعُ فِي مِائَةٍ مِنَ المَوَاطِنِ، أَيْسَرُهَا المَوْتُ والقَبْرُ وَالمِيزَانُ والمَحْشَرُ والصِّرَاطُ وَالعَرْضُ والحِسَابُ، فَمَنْ رَضِيَت ابْنَتِي عَنْهُ رَضِيتُ عَنْهُ، ومَنْ رَضِيتُ عَنْهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، ومَنْ غَضِبَتْ عَليْهِ فَاطِمَةُ (عليها السلام) غَضِبْتُ عَليْهِ، ومَنْ غَضِبْتُ عَليْهِ غَضِبَ اللهُ عَليْهِ، يَا سَلمَانُ وَيْل لمَنْ يَظْلمُهَا ويَظْلمُ بَعْلهَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ عَليّاً (عليه السلام)، ووَيْل لمَنْ يَظْلمُ شِيعَتَهَا وذُرِّيَّتَهَا»(3).

ص: 68


1- الكافي: ج 8 ص80 وصية النبي (صلى الله عليه وآله) لأمير المؤمنين (عليه السلام) ح35.
2- سورة المائدة: 54.
3- مائة منقبة: ص127 المنقبة الحادية والستون.

وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَال: جَاءَ رَجُل إِلى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) فَقَال: هَل يَنْفَعُنِي حُبُ عَليٍ (عليه السلام)، فَقَال: «وَيْحَكَ، مَنْ أَحَبَّهُ أَحَبَّنِي، ومَنْ أَحَبَّنِي أَحَبَّ اللهَ، ومَنْ أَحَبَّ اللهَ لمْ يُعَذِّبْهُ»(1).

ثم إن (الشهيد) لو أريد به الشاهد فلا مانع من إرادة حتى المحب فقط دون عمل، إذ إنه سيكون شاهداً على الغير، بل حتى لو أريد به المشهود ومن تحضره الملائكة فإن لنوع شهودهم واحترامهم درجات، فمن أحب وعمل كان له قصب السبق والحظ الأوفر من احترام الملائكة، وترحمهم عليه، ومن أحب ولم يعمل كان من حيث حبه للرسول وأهل بيته (عليه وعليهم السلام) مشمولاً لبعض درجات رحمتهم ودعائهم، ومن ذلك يعلم حال بعض المعاني الآخر السابقة فتدبر وتأمل.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «مَنْ أَحَبَّنَا أَهْل البَيْتِ وحَقَّقَ حُبَّنَا فِي قَلبِهِ جَرَى يَنَابِيعُ الحِكْمَةِ عَلى لسَانِهِ، وجُدِّدَ الإِيمَانُ فِي قَلبِهِ، وجُدِّدَ لهُ عَمَل سَبْعِينَ نَبِيّاً وسَبْعِينَ صِدِّيقاً وسَبْعِينَ شَهِيداً وعَمَل سَبْعِينَ عَابِداً عَبَدَ اللهَ سَبْعِينَ سَنَةً»(2).وعَنْ بِشْرِ بْنِ غَالبٍ الأَسَدِيِّ، قَال حَدَّثَنِي الحُسَيْنُ بْنُ عَليٍّ (عليه السلام) قَال: قَال لي: «يَا بِشْرَ بْنَ غَالبٍ، مَنْ أَحَبَّنَا لا يُحِبُّنَا إِلا للهِ جِئْنَا نَحْنُ وهُوَ كَهَاتَيْنِ، وقَدَّرَ بَيْنَ سَبَّابَتَيْهِ، ومَنْ أَحَبَّنَا لا يُحِبُّنَا إِلا للدُّنْيَا فَإِنَّهُ إِذَا قَامَ قَائِمُ العَدْل وَسَّعَ عَدْلهُ البَرَّ والفَاجِرَ»(3).

ص: 69


1- كتاب سليم بن قيس الهلالي: ج 2 ص935 الحديث الثالث والسبعون.
2- المحاسن: ج 1 ص61 ب80 ثواب من أحب آل محمد (صلى الله عليه وآله) ح103.
3- المحاسن: ج 1 ص61 ب80 ثواب من أحب آل محمد (صلى الله عليه وآله) ح104.

أسماء الأئمة الاثني عشر

اشارة

قال أبو جعفر الإمام الباقر (عليه السلام) : «يا جابر، أخبرني عن اللوح الذي رأيته في يدي أمي فاطمة (عليها السلام) بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وما أخبرتك به أمي أن في ذلك اللوح مكتوباً».

قال جابر: أشهد بالله، أني دخلت على أمك فاطمة (عليها السلام) في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله) أهنئها بولادة الحسين (عليه السلام)، فرأيت في يدها لوحاً أخضر، ظننت أنه زمرد، ورأيت فيه كتاباً أبيض شبيه بنور الشمس، فقلت لها: بأبي أنت وأمي، يا بنت رسول الله ما هذا اللوح؟

فقالت: هذا اللوح أهداه الله عزوجل إلى رسوله (صلى الله عليه وآله) فيه اسم أبي، واسم بعلي، واسم ابنيّ، وأسماء الأوصياء من ولدي، فأعطانيه أبي ليسرني بذلك.

قال جابر: فأعطتنيه أمك فاطمة (عليها السلام) فقرأته وانتسخته، فقال أبي (عليه السلام): فهل لك يا جابر أن تعرضه علي؟

قال: نعم، فمشى معه أبي (عليه السلام)، حتى انتهى إلى منزل جابر، فأخرج إلى أبي صحيفة من رق، قال: يا جابر، انظر أنت في كتابك، لأقرأه أنا عليك.

فنظر جابر في نسخته فقرأه عليه أبي (عليه السلام)، فوالله ما خالف حرف حرفاً.

ص: 70

قال جابر: فإني أشهد بالله أني هكذا رأيته في اللوح مكتوباً.«بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، هذا كتاب من الله العزيز العليم لمحمد نوره وسفيره وحجابه ودليله، نزل به الروح الأمين من عند رب العالمين، عظّم يا محمد أسمائي واشكر نعمائي ولا تجحد آلائي، إني أنا الله لا إله إلا أنا، قاصم الجبارين ومذل الظالمين وديان الدين، إني أنا الله لا إله إلا أنا فمن رجا غير فضلي أو خاف غير عدلي عذبته عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين ، فإياي فاعبد وعليّ فتوكل.

إني لم أبعث نبياً فأكملت أيامه وانقضت مدته إلاّ جعلت له وصياً، وإني فضلتك على الأنبياء، وفضلت وصيك على الأوصياء، وأكرمتك بشبليك بعده وبسبطيك الحسن والحسين، وجعلت حسناً معدن علمي بعد انقضاء مدة أبيه، وجعلت حسيناً خازن وحيي وأكرمته بالشهادة وختمت له بالسعادة، فهو أفضل من استشهد وأرفع الشهداء درجة، جعلت كلمتي التامة معه، والحجة البالغة عنده، بعترته أثيب وأعاقب.

أولهم: علي سيد العابدين، وزين أولياء الماضين.

وابنه شبيه جده المحمود.

يهلك المرتابون في جعفر، الراد عليه كالراد علي، حق القول مني لأكرمن مثوى جعفر، ولأسرنه في أشياعه وأنصاره وأوليائه.

وانتجبت بعده موسى، فتنة عمياء حندس، لأن خيط فرضي لا ينقطع، وحجتي لا تخفى، وأن أوليائي لا يشقون أبداً، ألا ومن جحد واحداً منهم فقد جحد نعمتي، ومن غير آية من كتابي فقد افترى علي.

وويل للمفترين الجاحدين عند انقضاء مدة عبدي موسى وحبيبي وخيرتي.

ص: 71

إن المكذب بالثامن مكذب بكل أوليائي، وعليّ وليي وناصري، ومن أضع عليه أعباء النبوة، وأمنحه بالاضطلاع بها يقتله عفريت مستكبر، يدفن بالمدينة التي بناها العبد الصالح ذو القرنين، إلى جنب شر خلقي.

حق القول مني لأقرن عينه بمحمد ابنه وخليفته من بعده فهو وارث علمي، ومعدن حكمي، وموضع سري، وحجتي على خلقي، جعلت الجنة مثواه، وشفعته في سبعين ألفاً، كلهم قد استوجبوا النار.

وأختم بالسعادة لابنه علي وليي وناصري، والشاهد في خلقي وأميني على وحيي.

أخرج منه الداعي إلى سبيلي، والخازن لعلمي الحسن.

ثم أكمل ذلك بابنه، رحمة للعالمين، عليه كمال موسى، وبهاء عيسى، وصبر أيوب.

سيذل أوليائي في زمانه، ويتهادون رؤوسهم كما تتهادى رؤوس الترك والديلم، فيقتلون ويحرقون، ويكونون خائفين مرعوبين وجلين، تصبغ الأرض من دمائهم، ويفشو الويل والرنين في نسائهم، أولئك أوليائي حقاً، بهم أدفع كل فتنة عمياء حندس، وبهم أكشف الزلازل، وأرفع الآصار والأغلال «أُولئِكَ عَليْهِمْ صَلواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ ورَحْمَةٌ وأُولئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ»(1).

قال عبد الرحمن بن سالم: قال أبو بصير: لو لم تسمع في دهرك إلاّ هذا الحديث لكفاك، فصنه إلاّ عن أهله(2).

ص: 72


1- سورة البقرة : 157.
2- راجع الإمامة والتبصرة: ص104 باب في ذكر حديث اللوح، وأن الإمام الثاني عشر هو الحجة ابن الحسن العسكري. عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج 1 ص42 ب6 باب النصوص على الرضا (عليه السلام) بالإمامة في جملة الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) ح2، كمال الدين: ج 1 ص309 ب28 باب ذكر النص على القائم (عليه السلام) في اللوح الذي أهداه الله عز وجل إلى رسوله (صلى الله عليه وآله) ودفعه إلى فاطمة (عليها السلام) ح1، مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) لابن شهرآشوب: ج 1 ص297. بحار الأنوار: ج 36 ص195 ب40 نصوص الله عليهم من خبر اللوح والخواتيم وما نص به عليهم في الكتب السالفة وغيرها ح3.

توضيحات:

* قوله: «عذبته...» لأنه من أكبر الكبائر، فإنه عصيان في أصول الدين، كعدله تعالى، أو ما يرتبط بها كفضله عزوجل(1).

وهكذا يكون وجه نزول العذاب على من أكل من المائدة النازلة من السماء على عيسى بن مريم (عليهما الصلاة والسلام) ثم أنكر وكفر، لأنه كان إنكاراً بعد الرؤية، والإنكار راجع إلى أمر يتعلق بأصول الدين، وقد ورد في القرآن الحكيم مثل هذه العبارة، قال تعالى: «قال اللهُ إِنِّي مُنَزِّلها عَليْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لاأُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ العالمينَ»(2).

ثم إن العذاب - أصلاً ونوعاً - لمنكر أصول الدين وجهه هو ما ذكروه في علم الكلام من اختيارية الاعتقاد(3)، ومن أنه يناسب شأن المنكِر وحاله

ص: 73


1- وهو من الضروريات، وقد يعود لعدله.
2- سورة المائدة : 115.
3- فإنه اختياري باختيارية مقدماته وتحصيل العلم به، وباختيارية الأجواء التي يضع الإنسان نفسه فيها، بل وحتى باختيارية نوع الناس الذين يستمع إليهم ونوع الكتب التي يقرؤها، ومن ذلك كان الحكم بحرمة حفظ كتب الضلال وقرائتها وتدارسها إلا للقادر على الرد عليها لردها.

وشاكلته، كما أن الثواب يناسب المعتقد، وقد فصلوا ذلك في أخبار الطينة على ما ذكره السيد الشبّر (قدس سره) في كتابه (مصابيح الأنوار في حل مشكلات الأخبار)(1) بما لا يوجب الجبر، فإن الطينة وما أشبه على نحو المقتضي لا العلة التامة، ولا تكون بحيث تسلب الاختيار عن المكلف، بل العاصي بسوء اختياره يرتكب الحرام، والمطيع بحسن اختياره يمتثل مولاه.

* قوله: «معدن علمي» لعل الفرق بين (معدن علمي) وبين (خازن وحيي)(2)، لايرتبط بكمية معلوماتهما وكيفيتها(3)، بل يرتبط بالدور المناط بكل منهما، وظهوره بالمظهر اللائق به والمناسب له، ولعل (المعدن) أبعد عن الاستنباط منه(4)، و(الخازن) أقرب، كما هو المشاهد خارجاً، وكذلك الأمر فيهما، فإن الإمام الحسين (عليه السلام) يكون سبب نجاة الناس وهدايتهم بشهادته، فهو خازن وحي الله في إحياء دينه.

ويمكن أن يكون الوجه غير ذلك، فإن المعنويات والارتباطات بينها أسباب ومسببات، وعلمها عند الله سبحانه، نعم ربما نعرف في بعض الماديات شيئاً من الأسباب والمسببات فيها، مثل: أن العشب والورد الفلاني يناسب المرض

ص: 74


1- مصابيح الأنوار: ج1 ص27 ح1.
2- والخزانة: ما يخزن فيها الأرزاق أو الأوراق أو غيرها.
3- لظهور جملة من الأدلة في أنهم (عليهم السلام) نور واحد وأن آخرهم كأولهم، وأولهم كآخرهم، عَنْ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَليِّ بْنِ أَبِي طَالبٍ (عليه السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «أَنَا سَيِّدُ الأَوَّلينَ والآخِرِينَ وأَنْتَ يَا عَليُّ سَيِّدُ الخَلائِق بَعْدِي، وأَوَّلنَا كَآخِرِنَا وآخِرُنَا كَأَوَّلنَا». مائة منقبة: ص18 فأول منقبة.
4- المعدن: مستقر الجوهر. وجنات عدن: جنات إقامة، وعدن بالمكان: إذا أقام به.

الفلاني زيادةً أو نقيصةً، إيجاداً أو إزالةً، وهكذا نعرف أن النار محرقةوالثلج مبرد إلى غير ذلك من بعض الماديات وهي قليلة جداً، فإن جهل البشر أكثر من علمه بكثير، أما المعنويات فلا نعرف منها إلاّ قطرة من بحار.

والسبب في ذلك واضح، فإن الإيمان بالمعصومين من الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) حقيقة ارتباطية، فلا ينفعه لو آمن بكل الأنبياء إلا واحداً، أو بكل الأوصياء إلا واحداً.

قال تعالى: «قُولوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِل إِليْنا وَما أُنْزِل إِلى إِبْراهيمَ وَ إِسْماعيل وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَ نَحْنُ لهُ مُسْلمُونَ»(1).

وقال سبحانه: «آمَنَ الرَّسُول بِما أُنْزِل إِليْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ المُؤْمِنُونَ كُل آمَنَ بِاللهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلهِ وَ قالوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَ إِليْكَ المَصيرُ»(2).

وقال عزوجل: «قُل آمَنَّا بِاللهِ وَ ما أُنْزِل عَليْنا وَ ما أُنْزِل عَلى إِبْراهيمَ وَ إِسْماعيل وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الأَسْباطِ وَ ما أُوتِيَ مُوسى وَ عيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَ نَحْنُ لهُ مُسْلمُونَ»(3).

وقال تعالى: «إِنَّ الذينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلهِ وَ يُريدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ

ص: 75


1- سورة البقرة: 136.
2- سورة البقرة: 285.
3- سورة آل عمران: 84.

وَ رُسُلهِ وَ يَقُولونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍوَيُريدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلكَ سَبيلاً * أُولئِكَ هُمُ الكافِرُونَ حَقًّا وَ أَعْتَدْنا للكافِرينَ عَذاباً مُهيناً»(1).

* قوله: «إن المكذب...» لعله إشارة إلى الواقفية، فإنهم وقفوا على الإمام موسى بن جعفر (عليهما الصلاة والسلام)، وكان السبب في ابتداعهم الوقف أنهم طمعوا في المال والجارية وما أشبه فغرتهم الدنيا، كما ذكر في أحوالهم، ثم خدعوا الآخرين وامتدت الواقفية مدة.

ولا يخفى أن مثل هذا العذاب إنما يكون لمن فعل ذلك عالماً عامداً، أما القاصر ومن له شبهة عقائدية عن قصور فإنه يمتحن يوم القيامة، كما ورد بذلك النص ودل عليه العقل.

* قوله: «سبعين ألفاً» المراد به الكثرة لا الحصر، لدلالة قرائن المقام عليه(2)، بعد تعارف كثرة استعمال سبعينفي الكثرة لا الحد الخاص، ويحتمل إرادة العدد الخاص نظراً لقيد (من أهل بيته) في بعض النسخ، لمحدودية عدد من

ص: 76


1- سورة النساء: 150 - 151.
2- لوضوح أن شأنه (صلوات الله عليه) أعلى من ذلك، كيف ومن هو دونه يشفع في مثل ربيعة ومضر، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «مَنْ مَاتَ يَوْمَ الخَمِيسِ بَعْدَ زَوَال الشَّمْسِ إِلى يَوْمِ الجُمُعَةِ وَقْتَ الزَّوَال وَكَانَ مُؤْمِناً أَعَاذَهُ اللهُ عَزَّ وَجَل مِنْ ضَغْطَةِ القَبْرِ وَقَبِل شَفَاعَتَهُ فِي مِثْل رَبِيعَةَ وَمُضَرَ» من لا يحضره الفقيه: ج4 ص411 ح5896. وعَنْ أَبِي الحَسَنِ عَليِّ بْنِ مُوسَى الرِّضَا (عليه السلام) قَال: «مَنْ صَامَ أَوَّل يَوْمٍ مِنْ رَجَبٍ رَغْبَةً فِي ثَوَابِ اللهِ عَزَّ وَجَل وَجَبَتْ لهُ الجَنَّةُ وَمَنْ صَامَ يَوْماً فِي وَسَطِهِ شُفِّعَ فِي مِثْل رَبِيعَةَ وَمُضَرَ» وسائل الشيعة: ج10 ص474 ب26 ح13885. وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «يَا فَضْل لا تَزْهَدُوا فِي فُقَرَاءِ شِيعَتِنَا فَإِنَّ الفَقِيرَ ليُشَفَّعُ يَوْمَ القِيَامَةِ فِي مِثْل رَبِيعَةَ وَمُضَرَ»، وسائل الشيعة: ج12 ص233 ب132 ح16170. إلى غيرها من الروايات.

يستحق النار منهم ممن تناله شفاعته (صلوات الله عليه).

* قوله: «سري» يحتمل إرادة السر بالمعنى الخاص، وهو الذي لم يُطلع الله تعالى عليه أحداً من خلقه غيره (عليه السلام) حتى الملك المقرب، ويحتمل إرادة الأعم منه ومن الأسرار الأخرى التي أودعت عند بعض الملائكة أيضاً، فإن كونه (عليه السلام) موضع سره لا ينفي كون البعض أيضاً كذلك، والفارق في السر الخاص.

* قوله: «شر خلقي» يحتمل إرادة كونه شر الخلق في زمانه، فهو محمول على الحقيقة، ويحتمل إرادة شر الخلق دون تقييد بزمانه فيكون المراد من الشر النسبي منه.

* قوله: «والشاهد في خلقي» الشاهد مأخوذ من الشهود، فهذا الحديثونظائره نص في أن الإمام حاضر وناظر وأنه يرى ويسمع ويشهد كل أحد، بل كل مخلوقات الله تعالى، وفي زيارة الجامعة: (وشهداء دار الفناء وشفعاء دار البقاء)(1)، وفي الآية الكريمة: «إِنَّا أَرْسَلناكَ شاهِداً»(2)، وقال عزوجل: «وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الكِتابُ وَجي ءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالحَقِّ وَ هُمْ لا يُظْلمُونَ»(3).

وقال علي بن إبراهيم في تفسيره(4)، في قوله تعالى: «وَوُضِعَ الكِتابُ

ص: 77


1- من لا يحضره الفقيه: ج2 ص613 ح3213 زيارة جامعة لجميع الأئمة (عليهم السلام).
2- سورة الأحزاب: 45، سورة الفتح: 8.
3- سورة الزمر: 69.
4- تفسير القمي: ج2 ص253.

وَجِي ءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ»(1) قال: الشهداء الأئمة (عليهم السلام) والدليل على ذلك قوله في سورة الحج: «ليَكُونَ الرَّسُول شَهِيداً عَليْكُمْ وَتَكُونُوا» أنتم يا معشر الأئمة «شُهَداءَ عَلى النَّاسِ»(2).

* قوله: «وأرفع الآصار والأغلال»، الظاهر أنه لولا هؤلاء الأولياء (عليهم السلام) لكانت الأغلال والآصار على جميع البشر - لا على خصوص المسلمين أوالشيعة فقط - أكثر بما لا نظير له، فبسبب جهادهم وجهودهم وبسبب تدبيرهم وتخطيطهم وتضحياتهم خفت وتخف قبضة الحكومات الجائرة على الناس، مما لولاهم لكان ظلمهم وطغيانهم وعدوانهم وهتكمهم للحرمات ووضعهم الآصار والأغلال أكثر وأكثر.

* قوله: «الداعي»، من الواضح أن دعوة الأئمة (عليهم السلام) إلى سبيل الله لا تختص بدعوتهم للبشر ولا بدعوتهم في تلك الأزمنة، بل تشمل:

1: دعوتهم لسائر المخلوقات، وتشهد لأصل المطلب سورة الجن.

2: ودعوتهم في زمانهم.

3: ودعوتهم بعد الرجعة، فإن الروايات المعتبرة دلت على رجعة الأئمة (عليهم السلام) وحكومتهم واحداً بعد الآخر، مضافاً إلى سائر الأدلة من الكتاب والإجماع وضرورة المذهب.

* قوله: «فتنة عمياء» الفتنة لها معان، منها: الارتداد، والمعاصي،

ص: 78


1- سورة الزمر: 69.
2- سورة البقرة: 143، سورة الحج: 78.

والبلية والمصيبة، والقتل والعذاب، والبلاء والمحنة(1).ويحتمل في المراد من (كل فتنة عمياء حندس) التي يدفعها الله تعالى بسبب هؤلاء الأولياء المظلومين (عليهم السلام)، المعاصي والذنوب، أو الشرك والارتداد، أو البلايا والمحن.

فإنه لولاهم (عليهم السلام) لعصى أو ارتد الكثير من المؤمنين، فبهم (عليهم السلام) حفظ إيمانهم.

وبناءً على المعنى الثالث فالمراد إن الله يلطف بالمؤمنين ببركتهم (عليهم السلام) فيدفع عنهم الكثير من البلايا التي كان مقدراً ابتلاؤهم بها لولاهم.

* قوله: «سيذل أوليائي في زمانه»، المقصود هو زمان ما قبل الظهور المبارك.

* قوله: «يتهادون رؤوسهم»، لا يبعد حدوث ذلك في زمن الغيبة الكبرى مكرراً، وأنه ليس المراد حصوله مرة واحدة فقط، ولقد حدث ذلك في زمان العباسيين(2) وفي فترة صلاح الدين(3)والعثمانيين(4)، وفي العصر الحديث أيضاً في بلاد عديدة كالعراق وأفغانستان وروسيا ومصر وغيرها.

ص: 79


1- ففي قوله تعالى: «واتقوا فتنة» قيل بلية، وقيل ذنباً، وقيل عذاباً، وفي قوله عزوجل «لقد ابتغوا الفتنة» فسرت باسم يقع على كل شر وفساد، وفي قوله سبحانه: «ذوقوا فتنتكم» فسرت بالشرك، وكذا قوله تعالى: «حتى لا تكون فتنة».
2- هلك آخر الحكام العباسيين وهو المستعصم بالله سنة 656 ه 1258م.
3- هلك صلاح الدين الأيوبي عام 589 ه 1193م.
4- آخر الحكام العثمانيين هو عبد الحميد الثاني عزل عام 1909م وألغيت الخلافة 1922.

مجاورة الشرير

مسألة: لا تضر مجاورة الشرير للمؤمن الشريف قسراً، ولا تنفع الشرير.

وقد كتبوا على الروضة الرضوية المباركة:

قبران في طوس خير الناس كلهم *** و قبر شرهم هذا من العبر

ما ينفع الرجس من قبر الزكي *** على الزكي بقرب الرجس من ضرر

هيهات كل امرئ رهن بما كسبت *** به يداه فخذ ما شئت أو فذر(1)

مجانبة الشرير

مسألة: ينبغي للمؤمن أن يتجنب مجاورة أو مصاحبة الشرير إذا إحتمل اضراره به ديناً أو دنياً، وقد يجب، نعم لو احتمل هدايته كان مطلوباً لو لم يزاحم بالأهم.

قال تعالى: «وَإِذا رَأَيْتَ الذينَ يَخُوضُونَ في آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا في حَديثٍ غَيْرِهِ وإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ القَوْمِ الظَّالمين»(2).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) أَنَّهُ قَال: «لا تَصْحَبُوا أَهْل البِدَعِ ولا تُجَالسُوهُمْفَتَصِيرُوا عِنْدَ النَّاسِ كَوَاحِدٍ مِنْهُمْ، قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله)

ص: 80


1- بحار الأنوار: ج 48 ص324 خاتمة شريفة في فضيلة بقعة الرضا (صلوات الله عليه).
2- سورة الأنعام: 68.

: «المَرْءُ عَلى دِينِ خَليلهِ وقَرِينِهِ»(1).

وقَال الصَّادِقُ (عليه السلام): «واحْذَرْ مُجَالسَةَ أَهْل البِدَعِ فَإِنَّهَا تُنْبِتُ فِي القَلبِ كُفْراً وضَلالا مُبِيناً»(2).

وقَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «المَرْءُ عَلى دِينِ مَنْ يُخَالل، فَليَتَّقِ اللهَ المَرْءُ وليَنْظُرْ مَنْ يُخَالل»(3).

وعَنِ العَالمِ (عليه السلام) أَنَّهُ قَال: «لا تُجَالسُوا المَفْتُونِينَ فَيَنْزِل عَليْهِمُ العَذَابُ فَيُصِيبُكُمْ مَعَهُم»(4).

الخوف من غير عدل الله

مسألة: الخوف من غير عدل الله تعالى إذاكان بمعنى الخوف من ظلمه والعياذ بالله فهو حرام، إذ غير العدل يعني الظلم، وخوفه منه يعني احتماله أو ظنه بأنه ظالم، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

ثم إن الخوف اختياري باختيارية مقدماته، ومنها تحصيل العلم بأنه تعالى عادل لا يظلم أحداً.

ص: 81


1- الكافي: ج 2 ص375 باب مجالسة أهل المعاصي ح3.
2- مستدرك الوسائل: ج 12 ص315 ب36 باب تحريم مجالسة أهل المعاصي وأهل البدع ح19، عن مصباح الشريعة: 68 الباب التاسع والعشرون في معرفة الصحابة.
3- مستدرك الوسائل: ج8 ص326- 327 ب10 ح9567.
4- مستدرك الوسائل: ج 12 ص312 ب36 باب تحريم مجالسة أهل المعاصي وأهل البدع ح5، عن اثبات الوصية: ص63.

وفي الرواية: نَظَرَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَليٌ (عليه السلام) إِلى رَجُل فَرَأَى أَثَرَ الخَوْفِ عَليْهِ، فَقَال: «مَا بَالكَ»، قَال: إِنِّي أَخَافُ اللهَ. قَال: «يَا عَبْدَ اللهِ خَفْ ذُنُوبَكَ، وخَفْ عَدْل اللهِ عَليْكَ فِي مَظَالمِ عِبَادِهِ، وأَطِعْهُ فِيمَا كَلفَكَ، ولا تَعْصِهِ فِيمَا يُصْلحُكَ، ثُمَّ لا تَخَفِ اللهَ بَعْدَ ذَلكَ، فَإِنَّهُ لا يَظْلمُ أَحَداً ولا يُعَذِّبُهُ فَوْقَ اسْتِحْقَاقِهِ أَبَداً، إِلا أَنْ تَخَافَ سُوءَ العَاقِبَةِ بِأَنْ تَغَيَّرَ أَوْ تَبَدَّل. فَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ يُؤْمِنَكَ اللهُ سُوءَ العَاقِبَةِ، فَاعْلمْ أَنَّ مَا تَأْتِيهِ مِنْ خَيْرٍ فَبِفَضْل اللهِ وتَوْفِيقِهِ ومَا تَأْتِيهِ مِنْ شَرٍّ فَبِإِمْهَال اللهِ، وإِنْظَارِهِ إِيَّاكَ، وحِلمِهِ عَنْكَ»(1).

وعن عَليُّ بْنُ مُوسَى الرِّضَا، عَنْ أَبِيهِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام) قَال: قَال عَليٌّ (عليه السلام): «خَمْسٌ لوْ رَحَلتُمْ فِيهِنَّ مَاقَدَرْتُمْ عَلى مِثْلهِنَّ، لا يَخَافُ عَبْدٌ إِلا ذَنْبَه،ُ ولا يَرْجُوَ إِلا رَبَّهُ عَزَّ وجَل، ولا يَسْتَحْيِي الجَاهِل إِذَا سُئِل عَمَّا لا يَعْلمُ أَنْ يَتَعَلمَ، ولا يَسْتَحْيِي أَحَدُكُمْ إِذَا سُئِل عَمَّا لا يَعْلمُ أَنْ يَقُول لا أَعْلمُ، والصَّبْرُ مِنَ الإِيمَانِ بِمَنْزِلةِ الرَّأْسِ مِنَ الجَسَدِ ولا إِيمَانَ لمَنْ لا صَبْرَ لهُ»(2).

الخوف من عدل الله

مسألة: يحسن الخوف من عدل الله تعالى وقد يجب.

وهذا لا ينافي رجاء فضله عزوجل، فالمؤمن بين الخوف والرجاء كما في الروايات(3).

ص: 82


1- تفسير الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): ص265 ح135.
2- الخصال: ج 1 ص315 ح95.
3- راجع الكافي: ج2 ص67 باب الخوف والرجاء.

وفي دعاء الإمام الحسين (عليه السلام) يوم عرفة: «وعدلك مهلكي، ومن كل عدلك مهربي»(1).

وقال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «يَنْبَغِي لمَنْ عَرَفَ اللهَ سُبْحَانَهُ أَنْ لا يَخْلوَ قَلبُهُ مِنْ خَوْفِهِ ورَجَائِهِ»(2).وفي الدعاء: «الحَمْدُ للهِ الذِي لا يُرْجَى إِلا فَضْلهُ، ولا يُخَافُ إِلا عَدله... الحَمْدُ للهِ الذِي مَنْ رَحِمَهُ مِنْ عِبَادِهِ كَانَ ذَلكَ مِنْهُ تَفَضُّلا، ومَنْ عَذَّبَهُ مِنْهُمْ كَانَ ذَلكَ مِنْهُ عَدْلا»(3).

الشهادة بالله

مسألة: الشهادة بالله واتخاذه جل اسمه شهيداً على النفس أو الغير واجبة إذا توقفت معرفة الحق الواجب عليها، وإلا فمستحبة.

قال تعالى: «وَكَفى بِاللهِ شَهيداً»(4).

وقال عزوجل: «وَيَقُول الذينَ كَفَرُوا لسْتَ مُرْسَلاً قُل كَفى بِاللهِ شَهيداً بَيْني وبَيْنَكُمْ ومَنْ عِنْدَهُ عِلمُ الكِتابِ»(5).

وقال سبحانه: «قُل كَفى بِاللهِ شَهيداً بَيْني وبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبيراً

ص: 83


1- إقبال الأعمال: ج 1 ص345 فصل فيما نذكره من أدعية يوم عرفة.
2- عيون الحكم والمواعظ: ص551 ح10167.
3- بحار الأنوار: ج94 ص145 اليوم السابع.
4- سورة النساء: 79، سورة الفتح: 28، سورة النساء: 166.
5- سورة الرعد: 43.

بَصيراً»(1).

التفصيل في سرد التاريخ

مسألة: ينبغي شفع ذكر القضاياالتاريخية الهامة ببعض مقارناتها من زمان حدوثها ومكانه وما أشبه، لأنه يوجب المزيد من الاطمينان بالصدور، نظراً لإحاطة الراوي بالمكتنفات مما يكشف عن ضابطيته ودقته وأمانته.

ومنه يعلم الوجه في ذكر بعض الرواة زمن أو مكان أو كيفية تلقيه للرواية.

قال (صلى الله عليه وآله): «...اللهَ يُحِبُّ عَبْداً إِذَا عَمِل عَمَلا أَحْكَمَهُ»(2).

وقال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «مَنْ أَتْقَنَ أَحْسَنَ»(3).

التهنئة بمولد المعصومين

مسألة: الظاهر استحباب تهنئة الصديقة الطاهرة (عليها السلام) بولادة الإمامين الحسن والحسين (عليهما السلام) أيام مولدهما كل عام، على كر الدهور والأعوام، للإطلاقات ولانطباق عنوان الشعيرة.

قال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وتَعَالى اطَّلعَ إِلى الأَرْضِ فَاخْتَارَنَا واخْتَارَ لنَا شِيعَةً يَنْصُرُونَنَا،ويَفْرَحُونَ لفَرَحِنَا، ويَحْزَنُونَ لحُزْنِنَا،

ص: 84


1- سورة الإسراء: 96.
2- الأمالي، للصدوق: ص385 المجلس الحادي والستون ح2.
3- عيون الحكم والمواعظ: ص428 ح7268.

ويَبْذُلونَ أَنْفُسَهُمْ وأَمْوَالهُمْ فِينَا، فَأُولئِكَ مِنَّا وإِليْنَا وهُمْ مَعَنَا فِي الجِنَانِ»(1).

وقد روي: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وجَل هَنَّأَ نَبِيَّهُ بِحَمْل الحُسَيْنِ ووِلادَتِه»(2).

استحباب السؤال إلا ما استثني

مسألة: السؤال عن كل علم مستحب، غير ما استثني كالسحر المحرم، أو كالعلم الذي لا ينفع من علمه ولا يضر من جهله.

وقد ورد في هذه الرواية الشريفة: «ما هذا اللوح».

وأما السؤال عما يتعلق بأصول العقيدة فواجب عيني، وكذا عن فروع الدين وما يبتلى به من المسائل، والسؤال عن العلوم التي تتوقف عليه الحياة كالطب والهندسة وشبههما واجب كفائي.

قال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «إِذَا سَأَلتَ فَاسْأَل تَفَقُّهاً ولا تَسْأَل تَعَنُّتاً، فَإِنَّ الجَاهِل المُتَعَلمَ شَبِيهٌ بِالعَالمِ، وإِنَّ العَالمَ المُتَعَسِّفَ شَبِيهٌبِالجَاهِل»(3).

الهدية في الله وفي الخلق

مسألة: الهدية تتوقف على ملك المهدي، وعدم ملك المهدى له للشيء في زمن الهدية، ثم إخراج المهدي للهدية من ملكه وإدخالها في ملك المهدى له، فهذه مقومات أربعة.

ص: 85


1- عيون الحكم والمواعظ: ص152 ح3340.
2- دلائل الإمامة: ص179.
3- عيون الحكم والمواعظ: ص132 ح2980.

وأما استخدامها في الله تعالى، فيراد بها ما عدا الأمر الثالث، إذ لا تخرج الهدية من ملكه تعالى، كما لا يخرج المبيع والثمن من ملكه عزوجل، فنحن نملك اعتباراً بالبيع وهو المالك الحقيقي، قال تعالى: «إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ المُؤْمِنينَ أَنْفُسَهُمْ وأَمْوالهُمْ بِأَنَّ لهُمُ الجَنَّةَ»(1).

والوجه واضح بملاحظة طولية الملك، فإن ملك الله باق ويضاف له ملك اعتباري اعتبره جل اسمه، فتترتب عليه الآثار القانونية المقررة للشيء.

ثم إن إهداء اللوح منه تعالى له لغايات قد يكون منها: التثبيت والتأكيد.

ومنها: إظهار اللطف والمحبة.

ومنها: البشارة وإدخال السرور فيقلب الحبيب المصطفى (صلى الله عليه وآله) وقلب ابنته الصديقة الزهراء (عليها السلام) كما صرحت بذلك، وفي قلب الأئمة من ذريتها (عليهم السلام) ثم في قلوب شيعتهم الأبرار، فإنا قد سررنا ولله الحمد بهذا الخبر أبلغ السرور، وكذلك كل محب وشيعي.

ومنها: الإنذار، كما يظهر من مطاوي هذا الحديث.

ومنها: إيصال العقائد الحقة للناس بهذه الطريقة أيضاً.

ص: 86


1- سورة التوبة: 111.

هدايا مادية ومعنوية

عن قَنْبَر مَوْلى عَليِّ بْنِ أَبِي طَالبٍ (صلوات الله عليه) قَال: كُنْتُ مَعَ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (صلوات الله عليه) عَلى شَاطِئِ الفُرَاتِ، فَنَزَعَ قَمِيصَهُ ودَخَل المَاءَ، فَجَاءَتْ مَوْجَةٌ فَأَخَذَتِ القَمِيصَ، فَخَرَجَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (صلوات الله عليه) فَلمْ يَجِدْ القَمِيصَ فَاغْتَمَّ لذَلكَ، فَإِذَا بِهَاتِفٍ يَهْتِفُ: يَا أَبَا الحَسَنِ انْظُرْ عَنْ يَمِينِكَ وخُذْ مَا تَرَى، فَإِذَا إِزَارٌ عَنْ يَمِينِهِ وفِيهِ قَمِيصٌ مَطْوِيٌّ، فَأَخَذَهُ ليَلبَسَهُ فَسَقَطَتْ مِنْ جَيْبِهِ رُقْعَةٌ فِيهَا مَكْتُوبٌ: «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هَدِيَّةٌ مِنَ اللهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ إِلى عَليِّ بْنِ أَبِي طَالبٍ، هَذَا قَمِيصُ هَارُونَ بْنِ عِمْرَانَ (عليه السلام) كَذلكَ وأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِين»(1).

وَقَال (عليه السلام): «المَعْرُوفُ كَاسْمِهِ، وليْسَ شَيْ ءٌ أَفْضَل مِنَ المَعْرُوفِ إِلا ثَوَابُهُ، والمَعْرُوفُ هَدِيَّةٌ مِنَ اللهِ إِلى عَبْدِهِ، وليْسَ كُل مَنْ يُحِبُّ أَنْ يَصْنَعَ المَعْرُوفَ إِلى النَّاسِ يَصْنَعُهُ، ولا كُل مَنْ رَغِبَ فِيهِ يَقْدِرُ عَليْهِ، ولا كُل مَنْ يَقْدِرُ عَليْهِ يُؤْذَنُ لهُ فِيهِ، فَإِذَا مَنَّ اللهُ عَلى العَبْدِ جَمَعَ لهُ الرَّغْبَةَ فِي المَعْرُوفِ والقُدْرَةَ والإِذْنَ فَهُنَاكَ تَمَّتِ السَّعَادَةُ والكَرَامَةُ للطَّالبِ والمَطْلوبِإِليْهِ»(2).

وفي رواية عنه (صلى الله عليه وآله) قال: «فَقُلتُ: يَا أَخِي جَبْرَئِيل هَذَا الدُّعَاءُ لي خَاصَّةً أَوْ لي ولأُمَّتِي؟ قَال: يَا رَسُول اللهِ هَذَا هَدِيَّةٌ مِنَ اللهِ تَعَالى إِليْكَ وإِلى أُمَّتِك»(3).

ص: 87


1- مائة منقبة: ص70 المنقبة الأربعون.
2- تحف العقول: ص363.
3- مهج الدعوات: ص228 خبر دعاء الجوشن وفضله وما لقارئه ولحامله من الثواب.

وقَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ اللهَ تَعَالى أَهْدَى إِليَّ وإِلى أُمَّتِي هَدِيَّةً لمْ يُهْدِهَا إِلى أَحَدٍ مِنَ الأُمَمِ تَكْرِمَةً مِنَ اللهِ تَعَالى»، فَقَالوا: يَا رَسُول اللهِ ومَا ذَلكَ، قَال: «الإِفْطَارُ فِي السَّفَرِ والقَصْرُ فِي الصَّلاةِ، فَمَنْ لمْ يَفْعَل ذَلكَ فَقَدْ رَدَّ عَلى اللهِ تَعَالى هَدِيَّتَه»(1).

وعَنْ أَبِي جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: «الفَقِيرُ هَدِيَّةُ اللهِ إِلى الغَنِيِّ، فَإِنْ قَضَى حَاجَتَهُ فَقَدْ قَبِل هَدِيَّةَ اللهِ، وإِنْ لمْ يَقْضِ حَاجَتَهُ فَقَدْ رَدَّ هَدِيَّةَ اللهِ جَل وعَزَّ عَليْهِ»(2).

النظر إلى ما تحمله المرأة

مسألة: رؤية الصحابي جابر للوح في يدي الصديقة (صلوات الله عليها) يدل على جواز أن يرى الإنسان ما تحمله المرأة بيدها بعد أن كانت يدها مستورة.

كَتَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ الصَّفَّارُ إِلى أَبِي مُحَمَّدٍ الحَسَنِ بْنِ عَليٍّ (عليه السلام): فِي رَجُل أَرَادَ أَنْ يَشْهَدَ عَلى امْرَأَةٍ ليْسَ لهَا بِمَحْرَمٍ، هَل يَجُوزُ لهُ أَنْ يَشْهَدَ عَليْهَا مِنْ وَرَاءِ السِّتْرِ ويَسْمَعَ كَلامَهَا إِذَا شَهِدَ عَدْلانِ أَنَّهَا فُلانَةُ بِنْتُ فُلانٍ التِي تُشْهِدُكَ وهَذَا كَلامُهَا، أَوْ لا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَليْهَا حَتَّى تَبْرُزَ وتُثْبِتَهَا بِعَيْنِهَا، فَوَقَّعَ (عليه السلام): «تَتَنَقَّبُ وتَظْهَرُ للشُّهُودِ إِنْ شَاءَ الله»(3).

ص: 88


1- النوادر، للراوندي: ص48.
2- التمحيص: ص47 ب5 باب التمحيص بذهاب المال ومدح الفقر وأن الله اختار الآخرة للمؤمنين ح70.
3- من لا يحضره الفقيه: ج 3 ص67 باب الشهادة على المرأة ح3347.

صحة خبر جابر

مسألة: ما ورد من إخبار الإمام الباقر (عليه السلام) بأن جابر (رضوان الله عليه) رأى اللوح أقوى دليل على صحة نقله اللاحق، ومنه يستفاد أن مثل خبر الثقة وإن كان حجة، إلا أن تأكيده بحجة أقوى قد يكون من الراجح بالمعنى الأعم، وربما كان مستحباً أو واجباً.

روايات في مدح جابر

عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلمٍ، قَال: قَال لي أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «إِنَ لأَبِي مَنَاقِبَ مَا هُنَ لآبَائِي، إِنَّ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) قَال لجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الأَنْصَارِيِّ: إِنَّكَ تُدْرِكُ مُحَمَّدَ بْنَ عَليٍّ فَاقْرَأْهُ مِنِّي السَّلامَ، قَال: فَأَتَى جَابِرٌ مَنْزِل عَليِّ بْنِ الحُسَيْنِ (عليه السلام) فَطَلبَ مُحَمَّدَ بْنَ عَليٍّ، فَقَال لهُ عَليٌّ (عليه السلام): هُوَ فِي الكُتَّابِ أُرْسِل لكَ إِليْهِ، قَال: لا ولكِنِّي أَذْهَبُ إِليْهِ، فَذَهَبَ فِي طَلبِهِ، فَقَال للمُعَلمِ: أَيْنَ مُحَمَّدُ بْنُ عَليٍّ، قَال: هُوَ فِي تِلكَ الرِّفْقَةِ أُرْسِل لكَ إِليْهِ، قَال: لا ولكِنِّي أَذْهَبُ إِليْهِ، قَال: فَجَاءَهُ فَالتَزَمَهُ وقَبَّل رَأْسَهُ، وقَال: إِنَّ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) أَرْسَلنِي إِليْكَ بِرِسَالةٍ أَنْ أُقْرِئَكَ السَّلامَ، قَال: عَليْهِ وعَليْكَ السَّلامُ، ثُمَّ قَال لهُ جَابِرٌ: بِأَبِيأَنْتَ وأُمِّي اضْمَنْ لي أَنْتَ الشَّفَاعَةَ يَوْمَ القِيَامَةِ، قَال: فَقَدْ فَعَلتُ ذَلكَ يَا جَابِرُ»(1).

وعَنْ زُرَارَةَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: «جَابِرٌ يَعْلمُ، وأَثْنَى عَليْهِ

ص: 89


1- رجال الكشي (اختيار معرفة الرجال): ص42 جابر بن عبد الله الأنصاري ح89.

خَيْراً»، قَال، فَقُلتُ لهُ: وكَانَ مِنْ أَصْحَابِ عَليٍّ (عليه السلام) قَال: «كَانَ جَابِرٌ يَعْلمُ قَوْل اللهِ عَزَّ وجَل: «إِنَّ الذِي فَرَضَ عَليْكَ القُرْآنَ لرادُّكَ إِلى مَعادٍ»(1)،(2)».

أي يعلم تأويله(3).

بيان النسب

مسألة: يستحب بيان النسب بما يقطع الوهم في سلسلة أسناد الروايات، وقد صرح الإمام (عليه السلام) بأن فاطمة (عليها السلام) بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، كي لايتوهم فاطمة غيرها، مثل فاطمة أم الإمام الباقر (عليهم السلام)(4).

محضر المرأة

مسألة: يجوز في الجملة أن يدخل الرجل المؤتمن على امرأة مؤتمنة مع عدم صدق الخلوة ومع حفظ الموازين الشرعية بكاملها.

ص: 90


1- سورة القصص: 85.
2- رجال الكشي (اختيار معرفة الرجال): ص43 جابر بن عبد الله الأنصاري ح90.
3- انظر رجال الكشي (اختيار معرفة الرجال): ص43 جابر بن عبد الله الأنصاري ح92. وفيه: عَنْ زُرَارَةَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قَال قُلتُ: مَا لنَا ولجَابِرٍ تَرْوِي عَنْهُ فَقَال: يَا زُرَارَةُ إِنَّ جَابِراً قَدْ كَانَ يَعْلمُ تَأْوِيل هَذِهِ الآيَةِ (إِنَّ الذِي فَرَضَ عَليْكَ القُرْآنَ لرادُّكَ إِلى مَعادٍ).
4- والدة الإمام الباقر (عليه السلام) هي فاطمة بنت الإمام الحسن (عليه السلام) كنيتها أم عبد الله، وهي التي قال عنها الإمام الصادق (عليه السلام): «كانت صديقة، لم تدرك في آل الحسن امرأة مثلها» الكافي: ج1 ص469.

وربما كان ذلك لغرض شرعي عقلائي كتعلم المسائل الشرعية وقضاء الحوائج، لكن قد لا يستفاد من هذا الحديث أكثر من الجواز بالمعنى الأعم بالنسبة إلى من كان من شأنه أن يدخل على مثلها في تهنئة أو تعزية أو نظائرها.

والظاهر أن رؤية جابر للوح في يدها (عليها السلام) كان بإذن منها، بل بتدبيرها (صلوات الله عليها)، وحيث إنها أسوة رجح ما اشترك معه في الجامع.

ما يسر أهل البيت

مسألة: فعل ما يسر واحداً من أهل البيت (عليهم السلام) بين مستحب وواجب، ثم إن سرورها (عليها السلام) كان لما خصها الله وبعلها وأولادها (عليهم السلام) به من الكرامة لديه والزلفى عنده.

وفي الرواية قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): قُلتُ: يَا جَبْرَئِيل ولمَ سُمِّيَتْ فِي السَّمَاءِ مَنْصُورَةً وفِي الأَرْضِ فَاطِمَةَ، قَال: سُمِّيَتْ فَاطِمَةَ فِي الأَرْضِ لأَنَّهُ فَطَمَتْ شِيعَتَهَا مِنَ النَّارِ وفُطِمَتْ أَعْدَاؤُهَا عَنْ حُبِّهَا، وذَلكَ قَوْل اللهِ فِي كِتَابِهِ «وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ»(1) بِنَصْرِ فَاطِمَةَ (عليها السلام)(2).

ص: 91


1- سورة الروم: 4 - 5.
2- تفسير فرات الكوفي: ص322 ح435.

كتاب من الله

مسألة: الكتاب بمعنى المكتوب، وكتابته تعالى هي بالقدرة الربانية الآمرية، «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُول لهُ كُنْ فَيَكُونُ»(1)، أو بواسطة ملك، أو شبه ذلك، فكتابته كتكلمه تعالى، «وَكَلّمَ اللهُ مُوسى تَكْليماً»(2) ليس بالجوارح، بل بخلق الكلام وبخلق الخط وما أشبه.

قال تعالى: «تِلكَ الرُّسُل فَضَّلنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلمَ الله»(3).

وقال سبحانه: «وَمَا كانَ لبَشَرٍ أَنْ يُكَلمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجاب»(4).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): «مُتَكَلمٌ لا بِرَوِيَّة»(5).

طلب الحجة على أصول الدين

مسألة: طلب الدليل والحجة على أصول الدين واجب في الجملة، وقد قال (عليه السلام): «أخبرني»، ولا يكفي مجرد اتباعالآباء والأجداد في ذلك.

ص: 92


1- سورة يس: 82.
2- سورة النساء: 164.
3- سورة البقرة: 253.
4- سورة الشورى: 51.
5- نهج البلاغة، الخطبة: 179.

قال تعالى: «وَإِذا قيل لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَل اللهُ قالوا بَل نَتَّبِعُ ما أَلفَيْنا عَليْهِ آباءَنا أَ ولوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلونَ شَيْئاً ولا يَهْتَدُون»(1).

وقال سبحانه: «وَإِذا قيل لَهُمْ تَعالوْا إِلى ما أَنْزَل اللهُ وإِلى الرَّسُول قالوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَليْهِ آباءَنا أَ ولوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلمُونَ شَيْئاً ولا يَهْتَدُون»(2).

وقال عزوجل: «وَإِذا قيل لَهمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَل اللهُ قالوا بَل نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَليْهِ آباءَنا أَ ولوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعير»(3).

النسخ الخطية

مسألة: البحث عن النسخ الخطية وغيرها لكتب الروايات وشببها مما يتوقف عليه معرفة الأحكام، أو الاطمئنان بعدم معارض له، أو تمامية الاحتجاج على الغير، أو التوثيق والتأكيد، بين واجب ومستحب، كل في مورده.

كما سبق أن استعلام العالم بالأمر من غيره، لإتمام الحجة أو نظائره مما تتوقف عليه الهداية والإرشاد راجحبالمعنى الأعم.

ص: 93


1- سورة البقرة: 170.
2- سورة المائدة: 104.
3- سورة لقمان: 21.

إطلاق الأُم على الجدة

مسألة: إطلاق الأُم على الجدة من طرف الأُم أو الأب صحيح، لوحدة كثير من أحكامهما، فإن الأُم بالمعنى الأعم الشامل للجدة، فهي محرم ويجوز النظر إليها ويحرم نكاحها.

وفي الدعاء: «اللهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وآلهِ، واجْعَل آبَاءَنَا وأُمَّهَاتِنَا وأَوْلادَنَا وأَهَاليَنَا وذَوِي أَرْحَامِنَا وقَرَابَاتِنَا وجِيرَانَنَا مِنَ المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِنَاتِ مِنْهُ فِي حِرْزٍ حَارِزٍ، وحِصْنٍ حَافِظٍ، وكَهْفٍ مَانِعٍ، وأَلبِسْهُمْ مِنْهُ جُنَناً وَاقِيَةً، وأَعْطِهِمْ عَليْهِ أَسْلحَةً مَاضِيَةً»(1).

وأيضاً: «اللهُمَّ تَجَاوَزْ عَنْ آبَائِنَا وأُمَّهَاتِنَا وأَهْل دِينِنَا جَمِيعاً مَنْ سَلفَ مِنْهُمْ ومَنْ غَبَرَ إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ»(2).

احترام المسؤول عنه

مسألة: يستفاد من هذا الحديث الشريف بلحاظ دليل الأسوة ومناسبات الحكموالموضوع، استحباب احترام المسؤول عنه، وإن كان أدنى رتبة، إذ الظاهر أن الإمام (عليه السلام) عدل عن استخدام صيغة الأمر: (أعرضه علي) إلى قوله: (هل لك أن تعرضه علي).

وهذه من حقوق التعليم والتعلم.

ص: 94


1- الصحيفة السجادية، من دعائه (عليه السلام) إذا ذكر الشيطان فاستعاذ منه ومن عداوته وكيده.
2- الصحيفة السجادية، من دعائه (عليه السلام) في وداع شهر رمضان.

قال (عليه السلام): «وَأَمَّا حَقُ رَعِيَّتِكَ بِالعِلمِ فَأَنْ تَعْلمَ أَنَّ اللهَ عَزَّ وجَل إِنَّمَا جَعَلكَ قَيِّماً لهُمْ فِيمَا آتَاكَ مِنَ العِلمِ وفَتَحَ لكَ مِنْ خَزَائِنِهِ، فَإِنْ أَحْسَنْتَ فِي تَعْليمِ النَّاسِ ولمْ تَخْرَقْ بِهِمْ ولمْ تَضْجَرْ عَليْهِمْ زَادَكَ اللهُ مِنْ فَضْلهِ، وإِنْ أَنْتَ مَنَعْتَ النَّاسَ عِلمَكَ أَوْ خَرِقْتَ بِهِمْ عِنْدَ طَلبِهِمُ العِلمَ مِنْكَ كَانَ حَقّاً عَلى اللهِ عَزَّ وجَل أَنْ يَسْلبَكَ العِلمَ وبَهَاءَهُ ويُسْقِطَ مِنَ القُلوبِ مَحَلك»(1).

الاتقان في العمل

مسألة: يستفاد من قوله (عليه السلام): (أن تعرضه علي) استحباب الإتقان في العمل، فإن اللوح كان لدى الإمام (عليه السلام) موجوداً، إلا أنه طلب النسخة الأخرى وطابقها مع ما لديه كي لا يبقىلذي عذر عذر ولمنكر حجة، وذلك من غاية الإتقان في طرق الاحتجاج العقلائية.

قال (عليه السلام): «إِذَا عَمِل أَحَدُكُمْ عَمَلا فَليُتْقِن»(2).

وفي رواية: «وَلكِنَّ اللهَ يُحِبُّ عَبْداً إِذَا عَمِل عَمَلا أَحْكَمَهُ»(3).

ص: 95


1- من لا يحضره الفقيه: ج 2 ص621 باب الحقوق ح3214.
2- الكافي: ج 3 ص263 باب النوادر ح45، وعنه وسائل الشيعة: ج 3 ص229 ب60 باب استحباب إتقان بناء القبر وغيره من الأعمال وأن يشرج اللبن ويسوى الخلل ح1.
3- وسائل الشيعة: ج 3 ص230 ب60 باب استحباب إتقان بناء القبر وغيره من الأعمال وأن يشرج اللبن ويسوى الخلل ح2، عن علل الشرائع: ص309 ب262 ح4، وفي أمالي الصدوق: ص385 ح2 باختلاف في الألفاظ.

مشي العبادة

مسألة: المشي للوصول إلى ما يثبت به الحق عبادة، ومنه يعلم أن مشي المبلغين والخطباء والمدرسين والمحققين في علوم أهل البيت (عليهم السلام) ومطلق سيرهم نحو الوصول إلى مجلس الدرس أو المدرسة أو المعهد أو المنبر يعد عبادة.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ سَلكَ طَرِيقاً يَطْلبُ فِيهِ عِلماً سَلكَ اللهُ بِهِ طَرِيقاً إِلى الجَنَّةِ، وإِنَّ المَلائِكَةَ لتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لطَالبِ العِلمِ رِضًا بِهِ، وإِنَّهُ يَسْتَغْفِرُ لطَالبِ العِلمِ مَنْ فِي السَّمَاءِ ومَنْ فِي الأَرْضِ حَتَّى الحُوتِ فِي البَحْرِ، وفَضْل العَالمِ عَلى العَابِدِ كَفَضْل القَمَرِ عَلى سَائِرِ النُّجُومِ ليْلةَ البَدْرِ، وإِنَّ العُلمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لمْ يُوَرِّثُوا دِينَاراً ولا دِرْهَماً ولكِنْ وَرَّثُوا العِلمَ فَمَنْ أَخَذَ مِنْهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ»(1).

قراءة الكتب الدينية

مسألة: قراءة كتب العقائد الحقة، بل ومطلق الكتب الدينية من تفسير وحديث وفقه وأخلاق وآداب وما أشبه عبادة.

في الكافي الشريف، عَنِ المُفَضَّل بْنِ عُمَرَ قَال: قَال لي أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «اكْتُبْ وَبُثَّ عِلمَكَ فِي إِخْوَانِكَ، فَإِنْ مِتَّ فَأَوْرِثْ كُتُبَكَ بَنِيكَ، فَإِنَّهُ

ص: 96


1- الكافي: ج 1 ص34 باب ثواب العالم والمتعلم ح1.

يَأْتِي عَلى النَّاسِ زَمَانُ هَرْجٍ لا يَأْنَسُونَ فِيهِ إِلا بِكُتُبِهِمْ»(1).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «القَلبُ يَتَّكِل عَلى الكِتَابَةِ»(2).

وعَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَال: دَخَلتُ عَلى أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) فَقَال: «مَا يَمْنَعُكُمْ مِنَ الكِتَابَةِ إِنَّكُمْ لنْ تَحْفَظُوا حَتَّى تَكْتُبُوا، إِنَّهُ خَرَجَ مِنْ عِنْدِي رَهْطٌ مِنْ أَهْل البَصْرَةِ سَأَلونِي عَنْ أَشْيَاءَ فَكَتَبُوهَا»(3).

رجاء فضل غير الله

مسألة: يحرم رجاء غير فضل الله تعالى على نحو الاستقلال أو التشريك العرضي(4) بأن لم ينته إلى رجاء الله سبحانه، فإنه نوع شرك، قال تعالى: «إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ»(5).

أما رجاء فضل أحد كالوالدين والمولى والرئيس والصديق، فكيف بالأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) بعنوان الطولية وأنهم وسائط رحمة الله، وبلحاظ أن ما لهم من القدرة فمن الله تعالى وبإذنه وإرادته، فإنه توحيد له جل اسمه، بل هو إذعان بقدرة الله حيث أقدر أولياءه على ذلك.

ص: 97


1- الكافي: ج 1 ص52 باب رواية الكتب والحديث وفضل الكتابة والتمسك بالكتب ح11.
2- الكافي: ج 1 ص52 باب رواية الكتب والحديث وفضل الكتابة والتمسك بالكتب ح8.
3- مشكاة الأنوار: ص142 الفصل التاسع في الحث على الكتابة والتكاتب وما يليق به.
4- الاستقلال بأن يرى غير الله تعالى هو المؤثر الوحيد ذاتا، و(التشريك) بأن يرى لله شريكا للتأثير في عرضه، سواء بالتساوي أو بالاختلاف.
5- سورة النساء: 48، 116.

فرجاء الغير إذا كان بأمره تعالى وباعتباره طريقاً إليه سبحانه وبإذنه، وكان شفيعاً إليه عزوجل ووسيلة تمتد قوتها وطاقتها منه تعالى، فهو ليس بمحرم بل يكون مما أمر الله به(1)، كرجاء شفاء الطبيب لناالذي هو سبب لإذن الله عزوجل بالشفاء، لأن الله سبحانه جعل الدنيا دار أسباب ومسببات وأمر بالتماس الأسباب إلى مسبباتها.

وفي الحديث: «أَبَى اللهُ أَنْ يُجْرِيَ الأَشْيَاءَ إِلا عَلى الأَسْبَاب»(2).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) أَنَّهُ قَال: «أَبَى اللهُ أَنْ يُجْرِيَ الأَشْيَاءَ إِلا بِأَسْبَابٍ، فَجَعَل لكُل شَيْ ءٍ سَبَباً، وجَعَل لكُل سَبَبٍ شَرْحاً، وجَعَل لكُل شَرْحٍ عِلماً، وجَعَل لكُل عِلمٍ بَاباً نَاطِقاً، عَرَفَهُ مَنْ عَرَفَهُ وجَهِلهُ مَنْ جَهِلهُ، ذَاكَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) ونَحْنُ»(3).

وفي القرآن الحكيم ورد مرتين: «ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً»(4)، وورد مرة: «فَأَتْبَعَ سَبَباً»(5)، مما فيه الدلالة إلى لزوم اتباع الأسباب توصلاً إلى المسببات، وحتى في الشفاعة فإن الأمر كذلك.

قال سبحانه: «وَابْتَغُوا إِليْهِ الوَسيلةَ»(6).

ص: 98


1- بل في ذلك تأكيد قدرته ومشيئته تعالى، إذ منح القدرة على بعض الأفعال لبعض عباده، كما منح عزرائيل قدرة قبض الأرواح وما أشبه.
2- غوالي اللئالي: ج 3 ص286 باب النكاح ح27.
3- الكافي: ج 1 ص183 باب معرفة الإمام والرد إليه ح7.
4- سورة الكهف: 89، و92.
5- سورة الكهف: 85.
6- سورة المائدة: 35.

وفي آية آخرى: «أُولئِكَ الذينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الوَسيلة»(1).

وفي شواهد التنزيل عن عكرمة في قوله: «أُولئِكَ الذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الوَسِيلةَ» قال: (هم النبي وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام) (2).

وما ذكرناه هنا من التوحيد الأفعالي، قال تعالى: «وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ»(3).

وقال سبحانه: «وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَليماً حَكيماً»(4).

وقال عزوجل: «وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ التَقَى الجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَليَعْلمَ المُؤْمِنينَ»(5).

الخوف من عدل الله

مسألة: الخوف من عدل الله حسن راجح، أما الخوف من أن يحيف الله عليه ويجور فحرام، واختياريته باختياريةمقدماته، كما سبق نظيره.

ص: 99


1- سورة الإسراء: 57.
2- شواهد التنزيل: ج 1 ص446.
3- سورة النحل: 53.
4- سورة الإنسان: 30.
5- سورة آل عمران: 166.

وقد ورد: «يا من لا يُخشى إلاّ عدله، ولا يُرجى إلاّ فضله»(1)، فإن الله سبحانه خلق الإنسان بفضله ثم أعطاه النعم بجوده، فلا مجال إلاّ رجاء فضله، ثم إن الخوف حيث كان منشؤه الجهل أو غلبة القوة المتوهمة أو ضعف الأعصاب، أمكن رفع الأول بالعلم، والثاني بالعلم والإيحاء الذاتي، والثالث بهما وبالعلاج الطبيعي وما أشبه، فكان بذلك اختيارياً قابلاً للنهي أو الأمر.

نصب الوصي سنة إلهية

مسألة: جعل الوصي ونصبه سنة إلهية، وهي بين واجب ومستحب.

عن الحَسَنِ بْنِ رَاشِدٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: قُلتُ: جُعِلتُ فِدَاكَ للمُسْلمِينَ عِيدٌ غَيْرَ العِيدَيْنِ، قَال: «نَعَمْ يَا حَسَنُ أَعْظَمُهُمَا وأَشْرَفُهُمَا»، قُلتُ: وأَيُّ يَوْمٍ هُوَ؟ قَال: «هُوَ يَوْمٌ نُصِبَ أَمِيرُالمُؤْمِنِينَ (صَلوَاتُ اللهِ وسَلامُهُ عَليْهِ) فِيهِ عَلماً للنَّاسِ، قُلتُ: جُعِلتُ فِدَاكَ ومَا يَنْبَغِي لنَا أَنْ نَصْنَعَ فِيهِ، قَال: «تَصُومُهُ يَا حَسَنُ وتُكْثِرُ الصَّلاةَ عَلى مُحَمَّدٍ وآلهِ وتَبَرَّأُ إِلى اللهِ مِمَّنْ ظَلمَهُمْ، فَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ صَلوَاتُ اللهِ عَليْهِمْ كَانَتْ تَأْمُرُ الأَوْصِيَاءَ بِاليَوْمِ الذِي كَانَ يُقَامُ فِيهِ الوَصِيُّ أَنْ يُتَّخَذَ عِيداً»، قَال: قُلتُ: فَمَا لمَنْ صَامَهُ، قَال: صِيَامُ سِتِّينَ شَهْراً»(2) الحديث.

ص: 100


1- إقبال الأعمال: ج 1 ص247 وفيه: (فَيَا مَنْ لا يُرْجَى إِلا فَضْلهُ ولا يُخْشَى إِلا عَدْله)، وفي البلد الأمين: ص404 دعاء الجوشن الكبير، هكذا: (يَا مَنْ لا يُرْجَى إِلا فَضْلهُ يَا مَنْ لا يُسْأَل إِلا عَفْوُهُ يَا مَنْ لا يُنْظَرُ إِلا بِرُّهُ يَا مَنْ لا يُخَافُ إِلا عَدْله).
2- الكافي: ج 4 ص148 باب صيام الترغيب ح1.

وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَالمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَال: سَأَلتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): هَل للمُسْلمِينَ عِيدٌ غَيْرَ يَوْمِ الجُمُعَةِ والأَضْحَى والفِطْرِ، قَال: «نَعَمْ أَعْظَمُهَا حُرْمَةً»، قُلتُ: وأَيُّ عِيدٍ هُوَ جُعِلتُ فِدَاكَ، قَال: «اليَوْمُ الذِي نَصَبَ فِيهِ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) وقَال: مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَعَليٌّ مَوْلاهُ»، قُلتُ: وأَيُّ يَوْمٍ هُوَ، قَال: «ومَا تَصْنَعُ بِاليَوْمِ إِنَّ السَّنَةَ تَدُورُ ولكِنَّهُ يَوْمُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِنْ ذِي الحِجَّةِ»، فَقُلتُ: ومَا يَنْبَغِي لنَا أَنْ نَفْعَل فِي ذَلكَ اليَوْمِ، قَال: «تَذْكُرُونَ اللهَ عَزَّ ذِكْرُهُ فِيهِ بِالصِّيَامِ والعِبَادَةِ والذِّكْرِ لمُحَمَّدٍ وآل مُحَمَّدٍ، فَإِنَّ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) أَوْصَى أَمِيرَالمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) أَنْ يَتَّخِذَ ذَلكَ اليَوْمَ عِيداً، وكَذَلكَ كَانَتِ الأَنْبِيَاءُ (عليهم السلام) تَفْعَل كَانُوا يُوصُونَ أَوْصِيَاءَهُمْ بِذَلكَ فَيَتَّخِذُونَهُ عِيداً»(1).

* قوله: (كلمتي التامة) فإن عيسى المسيح (عليه السلام) كان كلمة الله، كما قال عزوجل: «إِذْ قالتِ المَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ المَسيحُ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجيهاً فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ وَمِنَ المُقَرَّبين»(2).

وقال سبحانه: «يا أَهْل الكِتابِ لا تَغْلوا في دينِكُمْ وَلا تَقُولوا عَلى اللهِ إِلاَّ الحَقَّ إِنَّمَا المَسيحُ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُول اللهِ وَكَلمَتُهُ أَلقاها إِلى مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْه»(3).

لكن زاد عليه سيد الشهداء (عليه السلام) أن كلمة الله التامة معه، وهي فوق

ص: 101


1- الكافي: ج 4 ص149 باب صيام الترغيب ح3.
2- سورة آل عمران: 45.
3- سورة النساء: 171.

كلمة الله وفوق كلمة الله الحسنى أيضاً.

ويحتمل أن تكون (الكلمة التامة) إشارة إلى القدرة التكوينية، و(الحجة البالغة) إشارة إلى الأدلة في العقيدة والشريعة.

قوله: (بعترته أثيبت وأعاقب)، فإنهم الحجج والأدلة إلى الله من بعده إلى يوم القيامة.قوله: (فقد جحد نعمتي) يحتمل كون المراد جحد النعم كلها، ويحتمل إرادة جحد نعمة الولاية والخلافة.

قوله: (شبيه جده)، يحتمل إرادة الشبه في الخلق بدعوى الانصراف ولعله الأظهر، ويحتمل العموم لما يشمل خَلقاً وخُلقاً وعلماً ومنطقاً.

الارتياب فيهم والرد عليهم

مسائل:

* الأولى: الارتياب في الإمام الصادق (عليه السلام) وسائر الأئمة المعصومين (عليهم السلام) محرم، والريبة لها معنيان، وكلاهما محرم:

1: الشك.

2: الظن والتهمة.

* الثانية: الرد عليه (عليه السلام) من أشد المحرمات، فإنه رد على الله تعالى، والرد يشمل الشؤون الدينية، وشؤون الدنيا أيضاً، كما يشمل القولي والعملي أيضاً.

الثالثة: إكرام مثوى الإمام (عليه السلام) لازم.

ص: 102

الرابعة: إدخال السرور في قلب الإمام (عليه السلام) من أعظم القربات إلى الله تعالى، ثم إدخال السرور في قلوب أشياعه وأنصاره وأتباعه.وإكرامه تعالى الإمام (عليه السلام) وشيعته يشمل الدنيا والآخرة، أما الآخرة فظاهر، وأما الدنيا فإن من المشهور أن كل المذاهب، بل كافة الأمم ممن اطلعوا على بعض أحوال الإمام الصادق (عليه السلام) وسيرته وعلمه، ينظرون إليه بإكبار وإجلال وإعظام، في علمه وحكمته وورعه وتقواه(1).

ص: 103


1- نشير إلى بعض ما قالوا في حقه (عليه السلام): قال صلاح الدين الصفدي (ت : 764 ه) في كتابه (الوافي بالوفيات): (جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم . هو المعروف بالصادق ، الإمام العَلم المدني ...) الوافي بالوفيات: ج11 ص126 - 128. وقال الحافظ شهاب الدين أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت : 852 ه) في (تقريب التهذيب): (جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي ، أبو عبد الله، المعروف بالصادق ، صدوق فقيه إمام) تقريب التهذيب: ج1 ص91. وقال ابن الصبّاغ المالكي (ت : 855 ه) في كتابه (الفصول المهمّة): (كان جعفر الصادق (عليه السلام) من بين أخوته خليفة أبيه ووصيّه ، والقائم من بعده ، برز على جماعة بالفضل ، وكان أنبههم ذكراً وأجلهم قدراً ، نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان ، وانتشر صيته وذكره في سائر البلدان، ولم ينقل العلماء عن أحد من أهل بيته ما نقل عنه من الحديث، وروى عنه جماعة من أعيان الأمّة ، مثل: يحيى بن سعيد ، وابن جريج ، ومالك بن أنس، والثوري ، وأبو عيينة ، وأبو حنيفة ، وشعبة ، وأبو أيّوب السجستاني وغيرهم ، وصّى إليه أبو جعفر (عليه السلام) بالإمامة وغيرها وصيّة ظاهرة ، ونصّ عليه نصّاً جلياً) إلى أن قال: (وأمّا مناقبه فتكاد تفوت من عدّ الحاسب ، ويحير في أنواعها فهم اليقظ الكاتب، وقد نقل بعض أهل العلم أنّ كتاب الجفر الذي بالمغرب، الذي يتوارثه بنو عبد المؤمن بن علي هو من كلامه، وله فيه المنقبة السنيّة والدرجة التي هي في مقام الفضل عَليَّة). وقال في آخر الفصل: (مناقب أبي جعفر الصادق (عليه السلام) فاضلة، وصفاته في الشرف كاملة، وشرفه على جهات الأيّام سائلة، وأندية المجد والعزّ بمفاخره ومآثره آهِلة). الفصول المهمّة في معرفة أحوال الأئمّة عليهم السلام: ص211 - 219. وقال أحمد بن حجر الهيتمي (ت : 974 ه) في (الصواعق المحرقة) في آخر كلامه عن الإمام الباقر (عليه السلام) : (وخلف ستّة أولاد ، أفضلهم وأكملهم جعفر الصادق، ومن ثمّ كان خليفته ووصيّه، ونقل عنه الناس من العلوم ما سارت به الركبان، وانتشر صيتُه في جميع البلدان) الصواعق المحرقة: ص305. وقال الشيخ عبد الله بن محمّد بن عامر الشبراوي الشافعي (ت : 1171ه) في كتابه (الإتحاف بحبّ الأشراف) : (السادس من الأئمّة جعفر الصادق، ذو المناقب الكثيرة والفضائل الشهيرة، روى عنه الحديث أئمّة كثيرون مثل: مالك بن أنس، وأبي حنيفة، ويحيى بن سعيد، وابن جريج، والثوري، وابن عيينة، وشعبة، وغيرهم، وُلد بالمدينة المنوّرة سنة ثمانين من الهجرة، وغررُ فضائله وشرفه على جبهات الأيّام كاملة، وأندية المجد والعز بمفاخره ومآثره آهلة). الإتحاف بحبّ الأشراف: ص146 - 147.

حرمة الافتراء والجحد

مسألة: يحرم كل من الافتراء والجحد، وليس المحرم اجتماعهما فقط.

والجحد نقيض الإقرار، ويحرم فيما يلزم الإقرار به كالعقائد الحقة.

عَنِ الحُسَيْنِ بْنِ أَبِي العَلاءِ قَال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُول: «لوْ جَحَدَ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) جَمِيعُ مَنْ فِي الأَرْضِ لعَذَّبَهُمُ اللهُ جَمِيعاً وأَدْخَلهُمُ النَّارَ»(1).

وعَنِ ابْنِ أَبِي يَعْفُورٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: سَمِعْتُهُ، يَقُول:

ص: 104


1- المحاسن: ج 1 ص89 ب15 عقاب من شك في أمير المؤمنين عليه السلام ح36.

«ثَلاثَةٌ لا يُكَلمُهُمُ اللهُ يَوْمَ القِيامَةِ ولا يُزَكِّيهِمْ ولهُمْ عَذابٌ أَليمٌ، مَنِ ادَّعَى إِمَامَةً مِنَ اللهِ ليْسَتْ لهُ، ومَنْ جَحَدَ إِمَاماً مِنَ اللهِ، ومَنْ زَعَمَ أَنَّ لهُمَا فِي الإِسْلامِ نَصِيباً»(1).

وعَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليهالسلام) قَال: «مِنَّا الإِمَامُ المَفْرُوضُ طَاعَتُهُ، مَنْ جَحَدَهُ مَاتَ يَهُودِيّاً أَوْ نَصْرَانِيّاً، واللهِ مَا تَرَكَ اللهُ الأَرْضَ مُنْذُ قَبَضَ اللهُ آدَمَ إِلا وفِيهَا إِمَامٌ يُهْتَدَى بِهِ إِلى اللهِ حُجَّةً عَلى العِبَادِ، مَنْ تَرَكَهُ هَلكَ، ومَنْ لزِمَهُ نَجَا حَقّاً عَلى اللهِ»(2).

التفضيل المطلق

مسألة: الظاهر أن تفضيل رسول الله (صلى الله عليه وآله) على الأنبياء (عليهم السلام)، وتفضيل أمير المؤمنين (عليه السلام) على الأوصياء بل على الأنبياء غير الخاتم (صلوات الله عليهم أجمعين) تفضيل بقول مطلق، أي كونهما (صلوات الله عليهما) أفضل منهم في العلم والعمل والورع والأخلاق ومطلق ما يقرب إلى الله تعالى.

قوله: (أفضل من استشهد) الظاهر أن الأفضلية من حيث الشهادة، لا من حيث الذات، أما لو أريد من حيث الذات فالأفضلية نسبية إذ لا شك في أفضلية جده وأبيه وأمه وأخيه الحسن منه (صلوات الله عليهم أجمعين).

ص: 105


1- الكافي: ج 1 ص373 باب من ادعى الإمامة وليس لها بأهل ومن جحد الأئمة أو بعضهم ومن أثبت الإمامة لمن ليس لها بأهل ح4.
2- المحاسن: ج 1 ص92 ب17 عقاب من لم يعرف إمامه ح45.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): فِي قَوْل اللهِعَزَّ وجَل: «قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وبَيْنَكُمْ ومَنْ عِنْدَهُ عِلمُ الكِتابِ»(1) قَال: «إِيَّانَا عَنَى، وعَليٌّ (عليه السلام) أَوَّلنَا وأَفْضَلنَا وخَيْرُنَا»(2).

عَنْ عَبْدِ السَّلامِ بْنِ صَالحٍ الهَرَوِيِّ، قَال: قُلتُ للرِّضَا (عليه السلام): يَا ابْنَ رَسُول اللهِ أَخْبِرْنِي عَنِ الشَّجَرَةِ التِي أَكَل مِنْهَا آدَمُ وحَوَّاءُ مَا كَانَتْ، فَقَدِ اخْتَلفَ النَّاسُ فِيهَا، فَمِنْهُمْ مَنْ يَرْوِي أَنَّهَا الحِنْطَةُ، ومِنْهُمْ مَنْ يَرْوِي أَنَّهَا العِنَبُ، ومِنْهُمْ مَنْ يَرْوِي أَنَّهَا شَجَرَةُ الحَسَدِ.

فَقَال: «كُل ذَلكَ حَقٌّ»، قُلتُ: فَمَا مَعْنَى هَذِهِ الوُجُوهِ عَلى اخْتِلافِهَا.

فَقَال: «يَا أَبَا الصَّلتِ إِنَّ شَجَرَةَ الجَنَّةِ تَحْمِل أَنْوَاعاً، فَكَانَتْ شَجَرَةَ الحِنْطَةِ وفِيهَا عِنَبٌ وليْسَتْ كَشَجَرَةِ الدُّنْيَا، وإِنَّ آدَمَ (عليه السلام) لمَّا أَكْرَمَهُ اللهُ تَعَالى ذِكْرُهُ بِإِسْجَادِ مَلائِكَتِهِ لهُ وبِإِدْخَالهِ الجَنَّةَ قَال فِي نَفْسِهِ: هَل خَلقَ اللهُ بَشَراً أَفْضَل مِنِّي، فَعَلمَ اللهُ عَزَّ وجَل مَا وَقَعَ فِي نَفْسِهِ، فَنَادَاهُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ يَا آدَمُ فَانْظُرْ إِلى سَاقِ عَرْشِي، فَرَفَعَ آدَمُ رَأْسَهُ فَنَظَرَ إِلى سَاقِ العَرْشِ، فَوَجَدَ عَليْهِمَكْتُوباً: لا إِلهَ إِلا اللهُ، مُحَمَّدٌ رَسُول اللهِ، عَليُّ بْنُ أَبِي طَالبٍ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ، وزَوْجَتُهُ فَاطِمَةُ سَيِّدَةُ نِسَاءِ العَالمِينَ، والحَسَنُ والحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْل الجَنَّةِ، فَقَال آدَمُ: يَا رَبِّ مَنْ هَؤُلاءِ، فَقَال عَزَّ وجَل: يَا آدَمُ هَؤُلاءِ ذُرِّيَّتُكَ وهُمْ خَيْرٌ مِنْكَ ومِنْ جَمِيعِ خَلقِي، ولوْلاهُمْ مَا خَلقْتُكَ، ولا خَلقْتُ الجَنَّةَ والنَّارَ، ولا السَّمَاءَ والأَرْضَ، فَإِيَّاكَ أَنْ تَنْظُرَ إِليْهِمْ بِعَيْنِ الحَسَدِ فَأُخْرِجَكَ عَنْ جِوَارِي، فَنَظَرَ إِليْهِمْ بِعَيْنِ الحَسَدِ وتَمَنَّى

ص: 106


1- سورة الرعد: 43.
2- بصائر الدرجات في فضائل آل محمد (صلى الله عليهم): ج1 ص214 ب1 باب مما عند الأئمة (عليهم الصلاة والسلام) من اسم الله الأعظم وعلم الكتاب ح7.

مَنْزِلتَهُمْ، فَتَسَلطَ عَليْهِ الشَّيْطَانُ حَتَّى أَكَل مِنَ الشَّجَرَةِ التِي نُهِيَ عَنْهَا، وتَسَلطَ عَلى حَوَّاءَ لنَظَرِهَا إِلى فَاطِمَةَ بِعَيْنِ الحَسَدِ حَتَّى أَكَلتْ مِنَ الشَّجَرَةِ كَمَا أَكَل آدَمُ فَأَخْرَجَهُمَا اللهُ عَنْ جَنَّتِهِ وأَهْبَطَهُمَا عَنْ جِوَارِهِ إِلى الأَرْضِ»(1).

حرمة تغيير آيات الله

مسألة: يحرم تغيير آيات أو آية من كتاب الله، والتغيير إما بالزيادة أو النقيصة، أو تغيير الترتيب بالتقديم والتأخير، كما قد يكون التغيير بتغيير التفسير وتحريفه أو تغيير التأويل، كما قد يكون بتغيير تطبيقه والعمل به.ومقتضى قوله تعالى: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لهُ لحافِظُونَ»(2) هو حفظ القرآن الكريم عن التحريف في الثلاثة الأول، لا الثلاثة الأخيرة.

قال سبحانه: «أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لكُمْ وقَدْ كانَ فَريقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلوهُ وهُمْ يَعْلمُونَ»(3).

الإيمان بالأوصياء

مسألة: الإيمان بالأوصياء (عليهم السلام) واجب، وتكفي المعرفة الإجمالية، نعم من المستحب معرفة تفصيل أخبارهم وأسماء أمهاتهم وكناهم وأعمارهم وما أشبه، وربما كان بعض ذلك واجباً.

ص: 107


1- معاني الأخبار: ص124 باب معنى الشجرة التي أكل منها آدم وحواء ح1.
2- سورة الحجر: 9.
3- سورة البقرة: 75.

وفي الدعاء: «اللهُمَّ عَرِّفْنِي نَفْسَكَ فَإِنَّكَ إِنْ لمْ تُعَرِّفْنِي نَفْسَكَ لمْ أَعْرِفْ نَبِيَّكَ، اللهُمَّ عَرِّفْنِي رَسُولكَ فَإِنَّكَ إِنْ لمْ تُعَرِّفْنِي رَسُولكَ لمْ أَعْرِفْ حُجَّتَكَ، اللهُمَّ عَرِّفْنِي حُجَّتَكَ فَإِنَّكَ إِنْ لمْ تُعَرِّفْنِي حُجَّتَكَ ضَللتُ عَنْ دِينِي»(1).

عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَال: سَأَلتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه

السلام) عَنْ قَوْل اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالى «وَمَنْيُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً»(2) فَقَال: «هِيَ طَاعَةُ اللهِ ومَعْرِفَةُ الإِمَامِ»(3).

وعَنْ أَبِي حَمْزَةَ، قَال: قَال لي أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «إِنَّمَا يَعْبُدُ اللهَ مَنْ يَعْرِفُ اللهَ، فَأَمَّا مَنْ لا يَعْرِفُ اللهَ فَإِنَّمَا يَعْبُدُهُ هَكَذَا ضَلالا»، قُلتُ: جُعِلتُ فِدَاكَ فَمَا مَعْرِفَةُ اللهِ، قَال: «تَصْدِيقُ اللهِ عَزَّ وجَل وتَصْدِيقُ رَسُولهِ (صلى الله عليه وآله) ومُوَالاةُ عَليٍّ (عليه السلام) والائْتِمَامُ بِهِ وبِأَئِمَّةِ الهُدَى (عليهم السلام) والبَرَاءَةُ إِلى اللهِ عَزَّ وجَل مِنْ عَدُوِّهِمْ، هَكَذَا يُعْرَفُ اللهُ عَزَّ وجَل»(4).

وعَنِ ابْنِ أُذَيْنَةَ قَال: حَدَّثَنَا غَيْرُ وَاحِدٍ، عَنْ أَحَدِهِمَا (عليهما السلام) أَنَّهُ قَال: «لا يَكُونُ العَبْدُ مُؤْمِناً حَتَّى يَعْرِفَ اللهَ ورَسُولهُ والأَئِمَّةَ كُلهُمْ وإِمَامَ زَمَانِهِ ويَرُدَّ إِليْهِ ويُسَلمَ لهُ» ثُمَّ قَال: «كَيْفَ يَعْرِفُ الآخِرَ وهُوَ يَجْهَل الأَوَّل»(5).

وعَنْ زُرَارَةَ قَال: قُلتُ لأَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام): أَخْبِرْنِي عَنْ مَعْرِفَةِ الإِمَامِ مِنْكُمْ وَاجِبَةٌ عَلى جَمِيعِ الخَلقِ، فَقَال: «إِنَّ اللهَعَزَّ وجَل بَعَثَ مُحَمَّداً (صلى الله

ص: 108


1- الكافي: ج 1 ص337 باب في الغيبة ح5.
2- سورة البقرة: 269.
3- المحاسن: ج 1 ص148 ب19 باب المعرفة ح60.
4- الكافي: ج 1 ص180 باب معرفة الإمام والرد إليه ح1.
5- الكافي: ج 1 ص180 باب معرفة الإمام والرد إليه ح2.

عليه وآله) إِلى النَّاسِ أَجْمَعِينَ رَسُولا وحُجَّةً للهِ عَلى جَمِيعِ خَلقِهِ فِي أَرْضِهِ، فَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وبِمُحَمَّدٍ رَسُول اللهِ واتَّبَعَهُ وصَدَّقَهُ فَإِنَّ مَعْرِفَةَ الإِمَامِ مِنَّا وَاجِبَةٌ عَليْهِ، ومَنْ لمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وبِرَسُولهِ ولمْ يَتَّبِعْهُ ولمْ يُصَدِّقْهُ ويَعْرِفْ حَقَّهُمَا فَكَيْفَ يَجِبُ عَليْهِ مَعْرِفَةُ الإِمَامِ وهُوَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ ورَسُولهِ ويَعْرِفُ حَقَّهُمَا». قَال: قُلتُ: فَمَا تَقُول فِيمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ ورَسُولهِ ويُصَدِّقُ رَسُولهُ فِي جَمِيعِ مَا أَنْزَل اللهُ يَجِبُ عَلى أُولئِكَ حَقُّ مَعْرِفَتِكُمْ؟ قَال: «نَعَمْ أَليْسَ هَؤُلاءِ يَعْرِفُونَ فُلاناً وفُلاناً»، قُلتُ: بَلى، قَال: «أَتَرَى أَنَّ اللهَ هُوَ الذِي أَوْقَعَ فِي قُلوبِهِمْ مَعْرِفَةَ هَؤُلاءِ، واللهِ مَا أَوْقَعَ ذَلكَ فِي قُلوبِهِمْ إِلا الشَّيْطَانُ، لا واللهِ مَا أَلهَمَ المُؤْمِنِينَ حَقَّنَا إِلا اللهُ عَزَّوجَل»(1).

محادثة النساء

مسألة: يجوز تكلم الرجال مع النساء مع حفظ الموازين الشرعية، ولذا تكلم جابر وغيره مع الصديقة (صلوات الله عليها) وكلمتهم.

واستثني من الجواز ما كان من كلامهن بدلال وخضوع في القول، قالسبحانه: «فَلا تَخْضَعْنَ بِالقَوْل فَيَطْمَعَ الذي في قَلبِهِ مَرَضٌ»(2)، نعم قد ورد أن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يترك السلام على الشابة لئلا يسمع صوتها(3).

ص: 109


1- الكافي: ج 1 ص180 باب معرفة الإمام والرد إليه ح3.
2- سورة الأحزاب: 32.
3- وجاء في الكافي بطريقين عن الصادقين (عليهما السلام) أنهما قالا: (ما من أحد إلا يصيب حظا من الزنا، فزنا العين النظر...).

وهل العكس أيضاً محرم، لا يبعد ذلك لأنه من الريبة وما أشبه مما نقل الجواهر(1) وغيره الإجماع على حرمتها.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «كَانَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) يُسَلمُ عَلى النِّسَاءِ ويَرْدُدْنَ عَليْهِ، وكَانَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) يُسَلمُ عَلى النِّسَاءِ وكَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُسَلمَ عَلى الشَّابَّةِ مِنْهُنَّ ويَقُول: أَتَخَوَّفُ أَنْ يُعْجِبَنِي صَوْتُهَا فَيَدْخُلعَليَّ أَكْثَرُ مِمَّا طَلبْتُ مِنَ الأَجْرِ»(2).

وعن أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: قَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «لا تَبْدَءُوا النِّسَاءَ بِالسَّلامِ، ولا تَدْعُوهُنَ إِلى الطَّعَامِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) قَال: النِّسَاءُ عَيٌّ وعَوْرَةٌ فَاسْتُرُوا عِيَّهُنَّ بِالسُّكُوتِ واسْتُرُوا عَوْرَاتِهِنَّ بِالبُيُوتِ»(3).

وعَنْ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) قَال: «ومَنْ صَافَحَ امْرَأَةً حَرَاماً جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ مَغْلولا ثُمَّ يُؤْمَرُ بِهِ إِلى النَّارِ، ومَنْ فَاكَهَ امْرَأَةً لا يَمْلكُهَا حَبَسَهُ اللهُ بِكُل كَلمَةٍ كَلمَهَا فِي الدُّنْيَا أَلفَ عَامٍ»(4).

ص: 110


1- قال في جواهر الكلام: ج29 ص97: (الأعمى فضلاً عن المبصر لا يجوز له سماع صوت المرأة الأجنبية مع التلذذ أو الريبة وخوف الفتنة قطعاً، أما مع عدم ذلك فقد يظهر من المتن والقواعد والتحرير والإرشاد والتلخيص الحرمة أيضاً، لأنه عورة فيحرم سماعه حينئذ، ويجب عليها ستره على كل حال، بل قيل: إنه المشهور وإنه مقتضى المستفيض من محكي الإجماع...).
2- الكافي: ج 5 ص535 باب التسليم على النساء ح3.
3- وسائل الشيعة: ج 20 ص198 ص106 باب حكم سماع صوت الأجنبية وكراهة محادثة النساء لغير حاجة وتحريم مفاكهة الأجانب وممازحتهن ح4.
4- وسائل الشيعة: ج 20 ص198 ص106 باب حكم سماع صوت الأجنبية وكراهة محادثة النساء لغير حاجة وتحريم مفاكهة الأجانب وممازحتهن ح5.

وعَنْ أَبِي بَصِيرٍ قَال: كُنْتُ أُقْرِئُ امْرَأَةً كُنْتُ أُعَلمُهَا القُرْآنَ فَمَازَحْتُهَا بِشَيْ ءٍ، فَقَدِمْتُ عَلى أَبِي جَعْفَرٍ (عليه

السلام) فَقَال لي: «أَيَّ شَيْ ءٍ قُلتَ للمَرْأَةِ»، فَغَطَّيْتُوَجْهِي، فَقَال: «لا تَعُودَنَّ إِليْهَا»(1).

الرواية عن النساء

مسألة: يجوز رواية الحديث عن النساء وإن توقف على الاستماع منهن، بالشرط السابق.

فإن رواية الحديث عنهن بواسطة أو بغير واسطة، بلفظ أو كتابة أو إشارة، كلها داخلة في العمومات المجوّزة.

عَنْ أَبِي بَصِيرٍ قَال: كُنْتُ جَالساً عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) إِذْ دَخَلتْ عَليْنَا أُمُّ خَالدٍ التِي كَانَ قَطَّعَهَا يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ تَسْتَأْذِنُ عَليْهِ، فَقَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): أَيَسُرُّكَ أَنْ تَسْمَعَ كَلامَهَا.

قَال: فَقُلتُ: نَعَمْ. قَال: فَأَذِنَ لهَا، قَال: وأَجْلسَنِي مَعَهُ عَلى الطِّنْفِسَةِ، قَال: ثُمَّ دَخَلتْ فَتَكَلمَتْ، فَإِذَا هِيَ امْرَأَةٌ بَليغَةٌ فَسَأَلتْهُ عَنْهُمَا»(2) الحديث، وكان الجواب من التقية.

ص: 111


1- الكافي: ج 5 ص535 باب التسليم على النساء ح1.
2- وسائل الشيعة: ج 20 ص197 ص106 باب حكم سماع صوت الأجنبية وكراهة محادثة النساء لغير حاجة وتحريم مفاكهة الأجانب وممازحتهن ح1.

معنى الرسول نور الله

مسألة: قيل: النور هو الظاهر بنفسه المظهر لغيره، ورسول الله (صلى الله عليه وآله) هو المصداق الأظهر لذلك من بين الممكنات، خاصة بناءً على كونه وعترته الطاهرة (عليه وعليهم السلام) العلة الغائية للخلقة، كما هو كذلك.

فإن كونه (صلى الله عليه وآله) نوراً ظاهر حيث الهداية وما أشبه، فكيف إذا علم بأن الكون منه، ككون الرزق من ميكائيل، والموت من عزرائيل، وقد أشرنا إلى ذلك فيما سبق من هذا الكتاب(1)، فإنهم (صلوات الله عليهم) وسائط الفيض الإلهي، وبذلك يكون قوله تعالى في هذا الحديث (نوره) إشارة أيضاً إلى كونه (صلى الله عليه وآله) النور التكويني الذي به ظهرت الأشياء إلى الوجود.

وفي الزيارة الجامعة: «خَلقَكُمُ اللهُ أَنْوَاراً فَجَعَلكُمْ بِعَرْشِهِ مُحْدِقِين... بِكُمْ فَتَحَ اللهُ وبِكُمْ يَخْتِم... وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِكُم»(2).وعَنْ أَبِي خَالدٍ الكَابُليِّ قَال: سَأَلتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) عَنْ قَوْل اللهِ عَزَّ وجَل: «فَآمِنُوا بِاللهِ ورَسُولهِ والنُّورِ الذِي أَنْزَلنا»(3)، فَقَال: يَا أَبَا خَالدٍ النُّورُ واللهِ الأَئِمَّةُ مِنْ آل مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ، وهُمْ واللهِ نُورُ اللهِ الذِي أَنْزَل، وهُمْ واللهِ نُورُ اللهِ فِي السَّمَاوَاتِ وفِي الأَرْضِ، واللهِ يَا أَبَا خَالدٍ لنُورُ الإِمَامِ فِي قُلوبِ المُؤْمِنِينَ أَنْوَرُ مِنَ الشَّمْسِ المُضِيئَةِ بِالنَّهَارِ، وهُمْ واللهِ يُنَوِّرُونَ

ص: 112


1- راجع من فقه الزهراء (عليها السلام): ج1 ص204.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 2 ص611 زيارة جامعة لجميع الأئمة (عليهم السلام).
3- سورة التغابن: 8.

قُلوبَ المُؤْمِنِينَ، ويَحْجُبُ اللهُ عَزَّ وجَل نُورَهُمْ عَمَّنْ يَشَاءُ فَتُظْلمُ قُلوبُهُمْ، واللهِ يَا أَبَا خَالدٍ لا يُحِبُّنَا عَبْدٌ ويَتَوَلانَا حَتَّى يُطَهِّرَ اللهُ قَلبَهُ، ولا يُطَهِّرُ اللهُ قَلبَ عَبْدٍ حَتَّى يُسَلمَ لنَا ويَكُونَ سِلماً لنَا، فَإِذَا كَانَ سِلماً لنَا سَلمَهُ اللهُ مِنْ شَدِيدِ الحِسَابِ، وآمَنَهُ مِنْ فَزَعِ يَوْمِ القِيَامَةِ الأَكْبَرِ»(1).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) فِي قَوْل اللهِ تَعَالى: «الذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُول النَّبِيَّ الأُمِّيَ الذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ والإِنْجِيل يَأْمُرُهُمْ بِالمَعْرُوفِ ويَنْهاهُمْ عَنِ المُنْكَرِ ويُحِل لهُمُ الطَّيِّباتِ ويُحَرِّمُ عَليْهِمُ الخَبائِثَ» إِلى قَوْلهِ: «وَاتَّبَعُوا النُّورَ الذِي أُنْزِل مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ المُفْلحُونَ»(2) قَال: «النُّورُ فِي هَذَا المَوْضِعِ عَليٌّ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَوالأَئِمَّةُ (عليهم السلام)»(3).

وعَنْ أَبِي خَالدٍ الكَابُليِّ قَال: سَأَلتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) عَنْ قَوْل اللهِ تَعَالى: «فَآمِنُوا بِاللهِ ورَسُولهِ والنُّورِ الذِي أَنْزَلنا»(4)، فَقَال: «يَا أَبَا خَالدٍ النُّورُ واللهِ الأَئِمَّةُ (عليهم السلام) يَا أَبَا خَالدٍ لنُورُ الإِمَامِ فِي قُلوبِ المُؤْمِنِينَ أَنْوَرُ مِنَ الشَّمْسِ المُضِيئَةِ بِالنَّهَارِ، وهُمُ الذِينَ يُنَوِّرُونَ قُلوبَ المُؤْمِنِينَ، ويَحْجُبُ اللهُ نُورَهُمْ عَمَّنْ يَشَاءُ فَتُظْلمُ قُلوبُهُمْ ويَغْشَاهُمْ بِهَا»(5).

وعَنْ صَالحِ بْنِ سَهْل الهَمْدَانِيِّ قَال: قَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) فِي قَوْل

ص: 113


1- الكافي: ج 1 ص194 باب أن الأئمة (عليهم السلام) نور الله عز وجل ح1.
2- سورة الأعراف: 57.
3- الكافي: ج 1 ص194 باب أن الأئمة (عليهم السلام) نور الله عز وجل ح2.
4- سورة التغابن: 8.
5- الكافي: ج 1 ص195 باب أن الأئمة (عليهم السلام) نور الله عز وجل ح4.

اللهِ تَعَالى: «اللهُ نُورُ السَّماواتِ والأَرْضِ مَثَل نُورِهِ كَمِشْكاةٍ»(1) فَاطِمَةُ (عليها السلام) «فِيها مِصْباحٌ» الحَسَنُ (عليه السلام) «المِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ» الحُسَيْنُ (عليه السلام) «الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ» فَاطِمَةُ كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ بَيْنَ نِسَاءِ أَهْل الدُّنْيَا «يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ» إِبْرَاهِيمُ (عليه السلام) «زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ ولا غَرْبِيَّةٍ» لا يَهُودِيَّةٍ ولا نَصْرَانِيَّةٍ «يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ» يَكَادُالعِلمُ يَنْفَجِرُ بِهَا «وَلوْ لمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ» إِمَامٌ مِنْهَا بَعْدَ إِمَامٍ «يَهْدِي اللهُ لنُورِهِ مَنْ يَشاءُ» يَهْدِي اللهُ للأَئِمَّةِ مَنْ يَشَاءُ «وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثال للنَّاسِ».

قُلتُ: «أَوْ كَظُلماتٍ»(2)، قَال: الأَوَّل وصَاحِبُهُ «يَغْشاهُ مَوْجٌ» الثَّالثُ «مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ» ظُلمَاتٌ الثَّانِي «بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ» مُعَاوِيَةُ وفِتَنُ بَنِي أُمَيَّةَ «إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ» المُؤْمِنُ فِي ظُلمَةِ فِتْنَتِهِمْ «لَمْ يَكَدْ يَراها ومَنْ لمْ يَجْعَل اللهُ لهُ نُوراً» إِمَاماً مِنْ وُلدِ فَاطِمَةَ (عليها السلام) «فَما لهُ مِنْ نُورٍ» إِمَامٍ يَوْمَ القِيَامَةِ، وقَال فِي قَوْلهِ: «يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبِأَيْمانِهِمْ»: «أَئِمَّةُ المُؤْمِنِينَ يَوْمَ القِيَامَةِ تَسْعَى بَيْنَ يَدَيِ المُؤْمِنِينَ وبِأَيْمَانِهِمْ حَتَّى يُنْزِلوهُمْ مَنَازِل أَهْل الجَنَّةِ»(3).

وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الفُضَيْل عَنْ أَبِي الحَسَنِ (عليه السلام) قَال: سَأَلتُهُ عَنْ قَوْل اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالى: «يُرِيدُونَ ليُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ»(4) قَال: «يُرِيدُونَ

ص: 114


1- سورة النور: 35.
2- سورة النور: 40.
3- الكافي: ج 1 ص195 باب أن الأئمة (عليهم السلام) نور الله عز وجل ح5.
4- سورة الصف: 8.

ليُطْفِئُوا وَلايَةَ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) بِأَفْوَاهِهِمْ»، قُلتُ: قَوْلهُ تَعَالى: «وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ» قَال: «يَقُولواللهُ مُتِمُّ الإِمَامَةِ، والإِمَامَةُ هِيَ النُّورُ، وذَلكَ قَوْلهُ عَزَّوجَل: «فَآمِنُوا بِاللهِ ورَسُولهِ والنُّورِ الذِي أَنْزَلنا»(1) قَال: «النُّورُ هُوَ الإِمَامُ»(2).

معنى سفير الله

مسألة: دلت الأدلة على أن سفارة رسول الله (صلى الله عليه وآله) لرب العالمين ليست مختصة بأهل الأرض، ولا بأهل هذا العالم، بل هي عامة شاملة للخلائق كلهم في الأزمان كلها.

قال تعالى: «وَما أَرْسَلناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالمين»(3).

وقال سبحانه: «تَبارَكَ الذي نَزَّل الفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ ليَكُونَ لِلْعالمينَ نَذيراً»(4).

ص: 115


1- سورة التغابن: 8.
2- الكافي: ج 1 ص195 باب أن الأئمة (عليهم السلام) نور الله عز وجل ح6.
3- سورة الأنبياء: 107.
4- سورة الفرقان: 1.

معنى حجاب الله

مسألة: الرسول (صلى الله عليه وآله) حسب هذه الرواية حجاب الله، والحجاب هو السور والحاجز، والحاجب هو المانع، ويحتمل فيه المعاني التالية، وأكثرها لا مانعة جمع بينها:

منها: إن هداية الخلق لا تتم إلا به وبأهل بيته (صلوات الله عليهم أجمعين) فقد حجب الخلق عن معرفة الباري ومعرفة كيفية شكره وطاعته جل وعلا، إلا بواسطته (صلى الله عليه وآله)، كما ورد: (بنا عرف الله)(1).

ومنها: إنه تعالى احتجب عن خلقه بنور نبيه، ولولا ذلك الحجاب لاحترق كل مخلوق وفنى واضمحل، لقوته وشدته بما لا يطيقه مخلوق، واعتبر ذلك بنور الشمس فإن النظر إليها مباشرة يعمي البصر إلا من وراء ساتر وحجاب، كالنظارات الداكنة والسحاب.

ومنها: إنه (صلى الله عليه وآله) ترجمان الله.

ومنها: إنه (صلى الله عليه وآله) يحجب الخلق عن شدة غضب الله تعالى إذ أذنبوا وعصوا، وذلك بشفاعته، فهو (صلى الله عليهوآله) الرحمة المهداة(2)، قال تعالى: «وَما أَرْسَلناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمين»(3).

ص: 116


1- الكافي: ج 1 ص145 باب النوادر ح10.
2- قال (صلى الله عليه وآله): «إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاة». مجمع البيان: ج 7 - 8 ص67، كشف الغمة: ج 1 ص8، بحار الأنوار: ج 16 ص115 ب6.
3- سورة الأنبياء: 107.

وفي الأدعية: «يا مَنْ سَبَقَتْ رَحمتُهُ غَضَبَه»(1).

و: «سُبْحَانَ الذِي سَبَقَتْ رَحْمَتُهُ غَضَبَه»(2).

وفي الزيارات: «وَشُفَعاء دارِ البَقَاء»(3).

هل للظلمة عزة

لا يقال: إنا نرى الظالمين أعزة، بيدهم المال والجاه والسطوة والسلطان، فكيف ورد في هذه الرواية: (مذل الظالمين)؟

لأنه يقال: الدنيا بالنسبة إلىالآخرة أقل من الهباء(4) في البحر المحيط، وستظهر ذلة الكافرين والظالمين في عالم البرزخ ولعله أكثر من ملايين السنين، ثم ذلهم في القيامة «في يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسينَ أَلفَ سَنَة»(5)، ثم في جهنم حيث الخلود الأبدي للكفار، قال تعالى: «خَالدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العَذابُ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ»(6).

هذا بالإضافة إلى أن الظلمة أذلة حتى في الدنيا، إذ أعظم الذل هو الذل عند خالق الكون كله، ثم هم

ص: 117


1- كتاب المزار (مناسك المزار) للمفيد: ص161 ب67 باب دعاء يوم عرفة، البلد الأمين: ص404 دعاء الجوشن الكبير.
2- البلد الأمين: ص104 دعاء ليلة الأحد.
3- من لا يحضره الفقيه: ج 2 ص613 زيارة جامعة لجميع الأئمة (عليهم السلام).
4- الهباء: التراب الذي تطيره الريح.
5- سورة المعارج: 4.
6- سورة البقرة: 162، سورة آل عمران : 88.

أذلة عند الملائكة الكرام الكاتبين وغيرهم، ثم هم أذلة عند صاحب الزمان وخليفة الرحمان (عليه السلام)، ثم هم أذلة عند الأولياء والصالحين، ثم هم أذلة لدى ضمائرهم ووجدانهم، ثم هم أذلة عبر التاريخ.

وبذلك يظهر الجواب عن إشكال مشابه، حيث يقول تعالى: «يَقُولونَ لئِنْ رَجَعْنا إِلى المَدينَةِ ليُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَل وَ للهِ العِزَّةُ وَ لرَسُولهِ وَ للمُؤْمِنينَ وَ لكِنَّ المُنافِقينَ لا يَعْلمُونَ»(1).

وقال سبحانه: «الذينَ يَتَّخِذُونَ الكافِرينَ أَوْلياءَ مِنْدُونِ المُؤْمِنينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ العِزَّةَ، فَإِنَّ العِزَّةَ للهِ جَميعاً»(2).

وقال عزوجل: «مَنْ كانَ يُريدُ العِزَّةَ فَللهِ العِزَّةُ جَميعاً إِليْهِ يَصْعَدُ الكَلمُ الطَّيِّبُ وَالعَمَل الصَّالحُ يَرْفَعُهُ وَالذينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لهُمْ عَذابٌ شَديدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ»(3).

طلب الإخبار حتى من العالم

مسألة: يستحب حتى من العالم وقد يجب، طلب الإخبار بما يفيد من أمر الدين والدنيا، كما قال الإمام أبو جعفر (عليه السلام) لجابر (رضوان الله عليه): «أخبرني».

وهم (عليهم الصلاة والسلام) وإن كانوا أعرف وأخبر، لكن ضعف قابلية بعض

ص: 118


1- سورة المنافقون: 8.
2- سورة النساء: 139.
3- سورة فاطر: 10.

الناس وتشكيك المشككين وإدغال المبطلين كانت تقتضي ذلك، حتى لا يقول المعاندون والمشككون والجاهلون: إنه كيف يخبر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو لم يره ولم يدركه؟

مضافاً إلى الفوائد الأخرى في سؤال العالم على ما ذكره علماء البلاغة(1).

عَنْ أَبَانِ بْنِ تَغْلبَ قَال: قَال أَبُو عَبْدِاللهِ (عليه السلام): «إِنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ كَانَ آخِرَ مَنْ بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) وكَانَ مُنْقَطِعاً إِليْنَا أَهْل البَيْتِ، وكَانَ يَقْعُدُ فِي مَسْجِدِ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) وهُوَ مُعْتَمٌّ بِعِمَامَةٍ سَوْدَاءَ وكَانَ يُنَادِي: يَا بَاقِرُ يَا بَاقِرُ، فَكَانَ أَهْل المَدِينَةِ يَقُولونَ: جَابِرٌ يَهْجُرُ، فَكَانَ يَقُول: لا واللهِ مَا أَهْجُرُ ولكِنِّي سَمِعْتُ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُول: إِنَّكَ سَتُدْرِكُ رَجُلا اسْمُهُ اسْمِي وشَمَائِلهُ شَمَائِلي يَبْقُرُ العِلمَ بَقْراً، فَذَلكَ الذِي دَعَانِي إِلى مَا أَقُول.

قَال فَبَيْنَا جَابِرٌ يَتَرَدَّدُ ذَاتَ يَوْمٍ فِي بَعْضِ طُرُقِ المَدِينَةِ إِذْ مَرَّ بِكُتَّابٍ فِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَليِّ بْنِ الحُسَيْنِ (عليهم السلام) فَلمَّا نَظَرَ إِليْهِ قَال: يا غُلامُ أَقْبِل، فَأَقْبَل، ثُمَّ قَال: لهُ أَدْبِرْ، فَأَدْبَرَ، فَقَال: شَمَائِل رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) والذِي نَفْسُ جَابِرٍ بِيَدِهِ يَا غُلامُ مَا اسْمُكَ، قَال: اسْمِي مُحَمَّدُ بْنُ عَليِّ بْنِ الحُسَيْنِ بْنِ عَليِّ بْنِ أَبِي طَالبٍ.

فَأَقْبَل عَليْهِ يُقَبِّل رَأْسَهُ فَقَال: بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي أَبُوكَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) يُقْرِئُكَ السَّلامَ ويَقُول لكَ.

قَال: فَرَجَعَ مُحَمَّدُ بْنُ عَليٍّ إِلى أَبِيهِ عَليِّ بْنِ الحُسَيْنِ (علهيما السلام) وهُوَ

ص: 119


1- كما في قوله تعالى: «وَما تِلكَ بِيَمينِكَ يا مُوسَى»، سورة طه: 17.

ذَعِرٌ، فَأَخْبَرَهُ الخَبَرَ، فَقَال: يَا بُنَيَّ الزَمْ بَيْتَكَ، وكَانَ جَابِرٌ يَأْتِيهِ طَرَفَيِ النَّهَارِ وكَانَ أَهْل المَدِينَةِ يَقُولونَ: وَا عَجَبَاهْلجَابِرٍ يَأْتِي هَذَا الغُلامَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وهُوَ آخِرُ مَا بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) فَلمْ يَلبَثْ أَنْ مَضَى عَليُّ بْنُ الحُسَيْنِ (عليهما السلام) وكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ عَليٍّ (عليهما السلام) يَأْتِيهِ عَلى وَجْهِ الكَرَامَةِ لصُحْبَتِهِ بِرَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله)، قَال: فَجَلسَ مُحَمَّدُ بْنُ عَليٍّ (عليهما السلام) يُحَدِّثُهُمْ عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالى، فَكَانَ أَهْل المَدِينَةِ يَقُولونَ: مَا رَأَيْنَا أَحَداً قَطُّ أَجْرَأَ مِنْ ذَا، قَال: فَلمَّا رَأَى مَا يَقُولونَ حَدَّثَهُمْ عَنْ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله)، فَقَال أَهْل المَدِينَةِ: ومَا رَأَيْنَا أَحَداً قَطُّ أَكْذَبَ مِنْ هَذَا يُحَدِّثُ عَمَّنْ لمْ يَرَهُ، فَلمَّا رَأَى مَا يَقُولونَ حَدَّثَهُمْ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ عَنْ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) فَصَدَّقُوهُ، وكَانَ واللهِ جَابِرٌ يَأْتِيهِ ويَتَعَلمُ مِنْهُ»(1).

تقديم الهدايا للصديقة

مسألة: يستحب أن يهدي الإنسان للصديقة فاطمة (عليها السلام) ما يسرها، تأسياً بما فعله رسول الله (صلى الله عليه وآله) ههنا من إهدائه اللوح لها (عليها السلام)،وذلك بين فترة وأخرى ، وكلما تقاربت الفترات كان أولى، فإن الهدايا تصل إليها دون شك، وكيف وهي تصل للمؤمن العادي فكيف بها.

ومن الهدايا: قراءة القرآن وإهداء ثوابها لها (صلوات الله عليها).

ومنها: إهداء ثواب الصلاة والصوم والحج المستحب وسائر العبادات

ص: 120


1- الاختصاص: 62 حديث جابر بن عبد الله الأنصاري مع الإمام الباقر (عليه السلام)، الخرائج والجرائح: ج 1 ص279 الباب السادس في معجزات الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام)، رجال الكشي (اختيار معرفة الرجال): ص41 جابر بن عبد الله الأنصاري ح88.

المندوبة إليها، أو النيابة عنها.

ومنها: التصدق على الفقراء والمساكين والأرامل والأيتام وإهداء الثواب لها.

ومنها: هداية الناس وإرشادهم وإهداء الثواب لها.

ومنها: الدرس والتدريس والتأليف والخطابة وإهداء ثوابها لها.

ومنها: تأسيس المساجد والحسينيات والمدارس والمكتبات ودور الأيتام وصناديق الإقراض الخيري وإهداء الثواب لها.

ومنها: تربية العلماء الزمنيين الأتقياء ممن ينهضون بدنيا الناس، كالأطباء والمهندسين والمحامين بالحق والصحفيين وخبراء الاقتصاد والزراعة والصناعة وغيرها وإهداء الثواب لها.

كما أن من ذلك إهداء ثواب كل ما سبق ذكره لشيعتها وذريتها، أو لأحدهمبعنوان أنه من شيعتها أو ذريتها، فإن ذلك يسرها ويفرحها (صلوات الله عليها).

وكم لذلك من الفوائد الدنيوية والأخروية.

روي عَنِ الصَّادِقِ (عليه السلام) قَال: قَال جَابِرٌ لأَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام): جُعِلتُ فِدَاكَ يَا ابْنَ رَسُول اللهِ حَدِّثْنِي بِحَدِيثٍ فِي فَضْل جَدَّتِكَ فَاطِمَةَ، إِذَا أَنَا حَدَّثْتُ بِهِ الشِّيعَةَ فَرِحُوا بِذَلكَ.

قَال أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، عَنْ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) قَال: إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ نُصِبَ للأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُل مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ، فَيَكُونُ مِنْبَرِي أَعْلى مَنَابِرِهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ، ثُمَّ يَقُول اللهُ: يَا مُحَمَّدُ اخْطُبْ، فَأَخْطُبُ

ص: 121

بِخُطْبَةٍ لمْ يَسْمَعْ أَحَدٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُل بِمِثْلهَا، ثُمَّ يُنْصَبُ للأَوْصِيَاءِ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ، وَيُنْصَبُ لوَصِيِّي عَليِّ بْنِ أَبِي طَالبٍ فِي أَوْسَاطِهِمْ مِنْبَرٌ مِنْ نُورٍ، فَيَكُونُ مِنْبَرُهُ أَعْلى مَنَابِرِهِمْ، ثُمَّ يَقُول اللهُ: يَا عَليُّ اخْطُبْ فَيَخْطُبُ بِخُطْبَةٍ لمْ يَسْمَعْ أَحَدٌ مِنَ الأَوْصِيَاءِ بِمِثْلهَا، ثُمَّ يُنْصَبُ لأَوْلادِ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلينَ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ، فَيَكُونُ لابْنَيَّ وَسِبْطَيَّ وَرَيْحَانَتَيَّ أَيَّامَ حَيَاتِي مِنْبَرٌ مِنْ نُورٍ ثُمَّ يُقَال لهُمَا: اخْطُبَا، فَيَخْطُبَانِ بِخُطْبَتَيْنِ لمْ يَسْمَعْ أَحَدٌ مِنْ أَوْلادِ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلينَ بِمِثْلهَا.

ثُمَّ يُنَادِي المُنَادِي وَهُوَ جَبْرَئِيل (عليهالسلام): أَيْنَ فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، أَيْنَ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلدٍ، أَيْنَ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، أَيْنَ آسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ، أَيْنَ أُمُّ كُلثُومٍ أُمُّ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا، فَيَقُمْنَ، فَيَقُول اللهُ تَبَارَكَ وَ تَعَالى: يَا أَهْل الجَمْعِ لمَنِ الكَرَمُ اليَوْمَ، فَيَقُول مُحَمَّدٌ وَعَليٌّ وَالحَسَنُ وَالحُسَيْنُ: للهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ، فَيَقُول اللهُ تَعَالى: يَا أَهْل الجَمْعِ إِنِّي قَدْ جَعَلتُ الكَرَمَ لمُحَمَّدٍ وَعَليٍّ وَالحَسَنِ وَالحُسَيْنِ وَفَاطِمَةَ، يَا أَهْل الجَمْعِ طَأْطِئُوا الرُّءُوسَ وَغُضُّوا الأَبْصَارَ فَإِنَّ هَذِهِ فَاطِمَةُ تَسِيرُ إِلى الجَنَّةِ.

فَيَأْتِيهَا جَبْرَئِيل بِنَاقَةٍ مِنْ نُوقِ الجَنَّةِ مُدَبَّحَةَ الجَنْبَيْنِ خِطَامُهَا مِنَ اللؤْلؤِ الرَّطْبِ، عَليْهَا رَحْل مِنَ المَرْجَانِ، فَتُنَاخُ بَيْنَ يَدَيْهَا، فَتَرْكَبُهَا فَيَبْعَثُ اللهُ مِائَةَ أَلفِ مَلكٍ ليَسِيرُوا عَنْ يَمِينِهَا، وَيَبْعَثُ إِليْهَا مِائَةَ أَلفِ مَلكٍ عَنْ يَسَارِهَا، وَيَبْعَثُ إِليْهَا مِائَةَ أَلفِ مَلكٍ يَحْمِلونَهَا عَلى أَجْنِحَتِهِمْ حَتَّى يُصَيِّرُوهَا عَلى بَابِ الجَنَّةِ، فَإِذَا صَارَتْ عِنْدَ بَابِ الجَنَّةِ تَلتَفِتُ، فَيَقُول اللهُ: يَا بِنْتَ حَبِيبِي مَا التِفَاتُكِ وَقَدْ أَمَرْتُ بِكِ إِلى جَنَّتِي؟

فَتَقُول: يَا رَبِّ أَحْبَبْتُ أَنْ يُعْرَفَ قَدْرِي فِي مِثْل هَذَا اليَوْمِ.

فَيَقُول اللهُ: يَا بِنْتَ حَبِيبِي ارْجِعِي فَانْظُرِي مَنْ كَانَ فِي قَلبِهِ حُبٌّ لكِ أَوْ

ص: 122

لأَحَدٍ مِنْ ذُرِّيَّتِكِ خُذِي بِيَدِهِ فَأَدْخِليهِالجَنَّةَ.

قَال أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): وَاللهِ يَا جَابِرُ إِنَّهَا ذَلكَ اليَوْمَ لتَلتَقِطُ شِيعَتَهَا وَمُحِبِّيهَا كَمَا يَلتَقِطُ الطَّيْرُ الحَبَّ الجَيِّدَ مِنَ الحَبِّ الرَّدِيءِ، فَإِذَا صَارَ شِيعَتُهَا مَعَهَا عِنْدَ بَابِ الجَنَّةِ يُلقِي اللهُ فِي قُلوبِهِمْ أَنْ يَلتَفِتُوا، فَإِذَا التَفَتُوا يَقُول اللهُ: يَا أَحِبَّائِي مَا التِفَاتُكُمْ وَقَدْ شَفَّعْتُ فِيكُمْ فَاطِمَةَ بِنْتَ حَبِيبِي؟

فَيَقُولونَ: يَا رَبِّ أَحْبَبْنَا أَنْ يُعْرَفَ قَدْرُنَا فِي مِثْل هَذَا اليَوْمِ.

فَيَقُول اللهُ: يَا أَحِبَّائِي ارْجِعُوا وَانْظُرُوا مَنْ أَحَبَّكُمْ لحُبِّ فَاطِمَةَ، انْظُرُوا مَنْ أَطْعَمَكُمُ لحُبِّ فَاطِمَةَ، انْظُرُوا مَنْ كَسَاكُمْ لحُبِّ فَاطِمَةَ، انْظُرُوا مَنْ سَقَاكُمْ شَرْبَةً فِي حُبِّ فَاطِمَةَ، انْظُرُوا مَنْ رَدَّ عَنْكُمْ غَيْبَةً فِي حُبِّ فَاطِمَةَ، فَخُذُوا بِيَدِهِ وَأَدْخِلوهُ الجَنَّةَ.

قَال أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): وَاللهِ لا يَبْقَى فِي النَّاسِ إِلا شَاكٌّ أَوْ كَافِرٌ أَوْ مُنَافِقٌ، فَإِذَا صَارُوا بَيْنَ الطَّبَقَاتِ نَادُوا كَمَا قَال اللهُ تَعَالى: «فَما لنا مِنْ شافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ»(1) فَيَقُولونَ: «فَلوْ أَنَّ لنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ»(2)، قَال أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ، مُنِعُوا مَا طَلبُوا «وَلوْ رُدُّوالعادُوا لما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لكاذِبُونَ»(3)،(4).

ص: 123


1- سورة الشعراء: 100 - 101.
2- سورة الشعراء: 102.
3- سورة الأنعام: 28.
4- بحار الأنوار: ج 43 ص65 ب3 مناقبها وفضائلها وبعض أحوالها ومعجزاتها صلوات الله عليها ح57، عن تفسير فرات الكوفي: ص299ح403.

سرور البنت

مسألة: يستحب أن يعطي الأب لابنته ما يسرها.

وهذا من باب المصداق بل من أظهر المصاديق، وإلاّ فإدخال السرور في قلب مطلق المؤمن مستحب فكيف بالأقرباء والأرحام الأقرب فالأقرب، قال سبحانه: «وَأُولوا الأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ في كِتابِ الله»(1).

بل ذكرنا في بعض المباحث أن إدخال السرور حتى في قلب الكافر(2) مستحب، لقوله (عليه الصلاة والسلام) في مطلق الناس: «فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لكَ فِي الدِّينِ وإِمَّا نَظِيرٌ لكَ فِي الخَلق»(3)، ولقوله (عليهالسلام): «عَلى كُل كَبِدٍ حَرَّى أَجْر»(4)، ولما ورد من إحسان الأئمة (عليهم السلام) للكفار والمخالفين، فإنه يدل

ص: 124


1- سورة الأنفال: 75، سورة الأحزاب: 6.
2- أي بما هو إنسان، لا بما هو كافر أي لكفره.
3- تحف العقول: ص127 عهده (عليه السلام) إلى الأشتر حين ولاه مصر وأعمالها، نهج البلاغة، الرسائل: 53، بحار الأنوار: ج 33 ص600 ب30 باب الفتن الحادثة بمصر وشهادة محمد بن أبي بكر ومالك الأشتر (رضي الله عنهما) وبعض فضائلهما وأحوالهما وعهود أمير المؤمنين (عليه السلام) إليها ح742، وج 74 ص241 ب10 عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى الأشتر (رحمه الله) حين ولاه مصر ح1، مستدرك الوسائل: ج 13 ص161 ب42 باب ما ينبغي للوالي العمل به في نفسه ومع أصحابه ومع رعيته، جامع أحاديث الشيعة: ج 22 ص640 ب41 باب ما ينبغي للوالي العمل به في نفسه ومع أصحابه ومع رعيته ح16.
4- غوالي اللئالي: ج 1 ص95 ح3. وفي الغوالي: ج1 ص95 ح2: (عَلى كُل كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ). وفي الكافي: ج 4 ص57 باب سقي الماء ح2: (عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام قَال: أَفْضَل الصَّدَقَةِ إِبْرَادُ كَبِدٍ حَرَّى). و(الحرى): فعلى من الحر، وهي تأنيث حران، وهما للمبالغة، يريد أنها لشدة حرها قد عطشت ويبست من العطش. والمعنى أن في سقي كل ذي كبد حرى أجراً. وقيل:أراد بالكبد الحرى: حياة صاحبها، لأنه إنما تكون كبده حرى إذا كان فيه حياة يعني في سقي كل ذي روح من الحيوان أجر. راجع مرآة العقول: ج 16 ص188 الحديث 2.

على الرجحان، ولقوله تعالى: «وَما أَرْسَلناكَ إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين»(1).وفي الرواية: «خير الناس من نفع الناس»(2).

و: «خير الناس أنفعهم للناس»(3),

و: «الخَلقُ عِيَالي فَأَحَبُّهُمْ إِليَّ أَلطَفُهُمْ بِهِمْ وأَسْعَاهُمْ فِي حَوَائِجِهِمْ»(4).

والانصراف إلى المؤمن أو المسلم بدوي، نعم بالنسبة إلى المؤمن أعظم أجراً وأشد استحباباً.

بين الرسول والعقل

مسألة: يستحب بيان أن النبي (صلى الله عليه وآله) هو الدليل إلى الله تعالى، ولذا يلزم التماس الدلالة إليه سبحانه عن طريق النبي (صلى الله عليه وآله) وآله الطاهرين (عليهم السلام)(5)، كما قالتعالى في هذا الحديث القدسي: «ودليله»(6).

ص: 125


1- سورة الأنبياء: 107.
2- عيون الحكم والمواعظ: ص239 ح4567.
3- مستدرك الوسائل: ج 12 ص391 ب22 باب استحباب نفع المؤمنين ح14.
4- الكافي: ج 2 ص199 باب السعي في حاجة المؤمن ح10.
5- إذ قال تعالى: «وأنفسنا وأنفسكم» فالإمام علي (عليه السلام) هو نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وإذ قال (صلى الله عليه وآله): «أنا مدينة العلم وعلي بابها»، وقال (صلى الله عليه وآله): «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي».
6- الإمامة والتبصرة: ص104 باب في ذكر حديث اللوح، وأن الإمام الثاني عشر هو الحجة ابن الحسن العسكري، عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج 1 ص42 ب6 باب النصوص على الرضا (عليه السلام) بالإمامة في جملة الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) ح2، كمال الدين: ج 1 ص309 ب28 باب ذكر النص على القائم (عليه السلام) في اللوح الذي أهداه الله عز وجل إلى رسوله (صلى الله عليه وآله) ودفعه إلى فاطمة (عليها السلام) ح1، مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) لابن شهرآشوب: ج 1 ص297، بحار الأنوار: ج 36 ص195 ب40 نصوص الله عليهم من خبر اللوح والخواتيم وما نص به عليهم في الكتب السالفة وغيرها ح3.

ولاشك أن العقل أيضاً يدل على جملة من الأصول، كما ذكره علماء الكلام في مختلف أبواب أصول الدين، إلا أن الدليل الكامل العام الشامل في الأصول وما يلحقها وفي الفروع والأحكام والأخلاق والآداب وغيرها، هو النبي وآله (صلوات الله عليهم أجمعين) ومن قبلهم الأنبياء والمرسلون والأوصياء المهديون (عليهم السلام).

ثم دلالته (صلى الله عليه وآله) على الله تعالى على أنواع وأقسام، فإنه دليل بذاته على الله تعالى، كما هو دليل بصفاته، وهو دليل بأفعاله أيضاً، كما هو دليل بأقواله، ولكل منها مباحث لايسعها المجال.

عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «نحن الأدلاء على الله»(1).

وفي الزيارة: «السَّلامُ عَلى الأَدِلاءِ عَلى الله»(2).

و: «السَّلامُ عَلى الدُّعَاةِ إِلى اللهِ والأَدِلاءِ عَلى مَرْضَاةِ الله»(3).

ص: 126


1- تفسير العياشي: ج 2 ص233 ح39.
2- الكافي: ج 4 ص579 باب القول عند قبر أبي الحسن موسى (عليه السلام) وأبي جعفر الثاني وما يجزئ من القول عند كلهم (عليهم السلام) ح2.
3- من لا يحضره الفقيه: ج 2 ص610.

وعَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَال: بَيْنَا أَنَا عِنْدَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) إِذْ قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ الشِّيعَةَ الخَاصَّةَ الخَالصَةَ مِنَّا أَهْل البَيْتِ»، فَقَال عُمَرُ: يَا رَسُول اللهِ عَرِّفْنَاهُمْ حَتَّى نَعْرِفَهُمْ، فَقَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «مَا قُلتُ لكُمْ إِلا وأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُخْبِرَكُمْ»، ثُمَّ قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «أَنَا الدَّليل عَلى اللهِ عَزَّ وجَل، وعَليٌّ (عليه السلام) نَصْرُ الدِّينِ، ومَنَارُهُ أَهْل البَيْتِ، وهُمُ المَصَابِيحُ الذِينَ يُسْتَضَاءُ بِهِمْ». فَقَال عُمَرُ: يَا رَسُول اللهِ فَمَنْ لمْ يَكُنْ قَلبُهُ مُوَافِقاً لهَذَا، فَقَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليهوآله): «مَا وُضِعَ القَلبُ فِي ذَلكَ المَوْضِعِ إِلا ليُوَافِقَ أَوْ ليُخَالفَ، فَمَنْ كَانَ قَلبُهُ مُوَافِقاً لنَا أَهْل البَيْتِ كَانَ نَاجِياً، ومَنْ كَانَ قَلبُهُ مُخَالفاً لنَا أَهْل البَيْتِ كَانَ هَالكاً»(1).

استثنائية مقتل الحسين (علیه السلام)

مسألة: يستحب بيان أن شهادة أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) لها مكانة خاصة استثنائية عند الله تعالى، وأنها تختلف في حيثياتها وجهاتها عن شهادة سائر المعصومين (عليهم السلام) الذين قُتلوا بالسيف أو بالسم، ولذا خصه الله سبحانه في هذا الحديث بالقول: «وختمت ... درجة».

كما أن من الواضح أن شهادة الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام) بتلك الصورة المفجعة المذكورة في المقاتل والتي يعرفها المؤمنون، - وإن كان واقع ما جرى أعظم وأدهى وأمر، إذ لم يصل إلينا كل ما جرى - وتضحيته في سبيل الله من أهم أسباب إقامة الدين وقمع الظالمين، بل لولاه (عليه السلام) لما قامللدين

ص: 127


1- الكافي: ج 8 ص333 حديث الفقهاء والعلماء ح518.

عمود، ولما اخضر للدين عود، فالإسلام حسيني البقاء دون ريب.

ومن ذلك يعلم موقع وأهمية وضرورة إقامة الشعائر الحسينية بمختلف أشكالها من تشييد الحسينيات والتكايا، إلى إقامة المجالس والبكاء والتباكي واللطم والضرب بالسلاسل(1) والتطبير، وإلى المشي لزيارته وإطعام الطعام باسمه وإحياء ذكره ونهضته باللسان والبنان، بالكتب والمقالات والجرائد والمجلات وما أشبه.

عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) فِي حَدِيثٍ قَال: «كُل الجَزَعِ والبُكَاءِ مَكْرُوهٌ سِوَى الجَزَعِ والبُكَاءِ عَلى الحُسَيْنِ (عليه السلام)»(2).

الواقفية

مسألة: يحرم الاعتقاد بالوقف أو الواقفية، فإن لهم الويل من الله سبحانه، كما قال تعالى في هذا الحديث(3):

«وَوَيْل...»، فإنهم بتكذيبهمللإمام الرضا (عليه السلام) مكذبون في الواقع بكل الأئمة (عليهم السلام) بدليل قوله: «بكل أوليائي».

فمن أنكر واحداً منهم (عليهم السلام) فقد أنكرهم جميعاً، لأنهم نور واحد، ومجموعة مترابطة متكاملة عند الله سبحانه، ومثاله في المعنويات الصلاة، فإنه لو أتى بها بكل أجزائها وشرائطها إلاّ الركوع مثلاً بطلت، سواء كان عالماً أم

ص: 128


1- المعروف ب (الزنجيل).
2- وسائل الشيعة: ج 3 ص282 ب87 باب جواز البكاء على الميت والمصيبة واستحبابه عند زيادة الحزن ح9.
3- حديث اللوح.

جاهلاً، معانداً أم غافلاً، وأما مثاله في الماديات لتقريب الذهن الماء الذي يتركب من غازين(1) فإنه بانتفاء أحدهما ينتفي الماء وخواصه، وكذلك المعجون أو بعض الأدوية الطبية المركبة من عدة أجزاء أساسية المفيدة لبعض الأعراض والأمراض، فإذا افتقدت بعض الأجزاء لم تكن مفيدة، بل ربما كان وجودها كعدمها، بل قد تكون ضارة بالمريض، وكما أن من يؤمن بالنبي موسى (عليه السلام) ولا يؤمن بالنبي عيسى (عليه السلام)، أو يؤمن بالنبي عيسى (عليه السلام) ولا يؤمن برسول الإسلام (صلى الله عليه وآله) يكون منكراً للرسالة، كذلك المقام بالنسبة إلى الإمامة.

وكما يحرم الاعتقاد بالوقف علىالإمام الكاظم (عليه السلام) يحرم الاعتقاد بالوقف على أي إمام من الأئمة (عليهم السلام) وإنكار اللاحقين من الأئمة المعصومين (صلوات الله عليهم أجمعين).

عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلمٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: قُلتُ لهُ: أَرَأَيْتَ مَنْ جَحَدَ إِمَاماً مِنْكُمْ مَا حَالهُ، فَقَال: «مَنْ جَحَدَ إِمَاماً مِنَ اللهِ وبَرِئَ مِنْهُ ومِنْ دِينِهِ فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ عَنِ الإِسْلامِ»(2) الحديث.

وعَنْ حُمْرَانَ بْنِ أَعْيَنَ، قَال: سَأَلتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) عَنِ الأَئِمَّةِ، فَقَال: «مَنْ أَنْكَرَ وَاحِداً مِنَ الأَحْيَاءِ فَقَدْ أَنْكَرَ الأَمْوَاتَ»(3).

ص: 129


1- الأوكسيجين والهيدروجين.
2- الغيبة، للنعماني: ص129 ب7 ما روي فيمن شك في واحد من الأئمة أو بات ليلة لا يعرف فيها إمامه أو دان الله عز وجل بغير إمام منه ح3.
3- الغيبة، للنعماني: ص129 ب7 ما روي فيمن شك في واحد من الأئمة أو بات ليلة لا يعرف فيها إمامه أو دان الله عز وجل بغير إمام منه ح4.

وعَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: سَأَلتُهُ عَنْ قَوْل اللهِ: «وَعَلى الأَعْرافِ رِجال يَعْرِفُونَ كُلا بِسِيماهُمْ»(1)، قَال: «نَحْنُ أَصْحَابُ الأَعْرَافِ، فَمَنْ عَرَفَنَا كَانَ مِنَّا، ومَنْ كَانَ مِنَّا كَانَ فِي الجَنَّةِ، ومَنْ أَنْكَرَنَا كَانَ فِي النَّارِ»(2).

وعَنْ أَبِي سَلمَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: سَمِعْتُهُ يَقُول: نَحْنُ الذِينَ فَرَضَ اللهُ طَاعَتَنَا، لا يَسَعُ النَّاسَ إِلا مَعْرِفَتُنَا، ولا يُعْذَرُ النَّاسُ بِجَهَالتِنَا، مَنْ عَرَفَنَا كَانَ مُؤْمِناً، ومَنْ أَنْكَرَنَا كَانَ كَافِراً، ومَنْ لمْ يَعْرِفْنَا ولمْ يُنْكِرْنَا كَانَ ضَالا حَتَّى يَرْجِعَ إِلى الهُدَى الذِي افْتَرَضَ اللهُ عَليْهِ مِنْ طَاعَتِنَا الوَاجِبَةِ، فَإِنْ يَمُتْ عَلى ضَلالتِهِ يَفْعَل اللهُ بِهِ مَا يَشَاءُ»(3).

ذكر مطاعن قتلة أهل البيت

مسألة: يستحب وقد يجب بيان مطاعن من قتل أهل البيت (عليهم السلام) من أصحاب السقيفة والأمويين والعباسيين ومن شاكلهم.

وقد امتلأت الآيات الكريمة والروايات الشريفة بلعنهم وذكر مطاعنهم، تارة إجمالاً وأخرى تفصيلاً، وتارة بالتلميح وأخرى بالتصريح، وقد أشار هذا الحديث القدسي إلى المأمونالعباسي ووصفه بأنه (مستكبر)، وهذه صفته عند الله تعالى، كما وصف هارون بأنه (شر الخلق) فمن الواجب البراءة منهما.

ص: 130


1- سورة الأعراف: 46.
2- بصائر الدرجات في فضائل آل محمد (صلى الله عليهم): ج 1 ص500 ب16 باب في الأئمة أنهم الذين ذكرهم الله يعرفون أهل الجنة والنار ح15.
3- الكافي: ج 1 ص187 باب فرض طاعة الأئمة (عليهم السلام) ح11.

ومن ذلك وغيره يظهر أن أعداءهم (عليهم الصلاة والسلام) عند الله هم شرار الخلق.

عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: «عَشَرَةٌ مَنْ لقِيَ اللهَ بِهِنَّ دَخَل الجَنَّةَ، شَهَادَةُ أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ، وأَنَّ مُحَمَّداً رَسُول اللهِ، والإِقْرَارُ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وإِقَامَةُ الصَّلاةِ، وإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وصَوْمُ رَمَضَانَ، وحِجُّ البَيْتِ، والوَلايَةُ لأَوْليَاءِ اللهِ، والبَرَاءَةُ مِنْ أَعْدَاءِ اللهِ، واجْتِنَابُ كُل مُسْكِرٍ»(1).

وَرُوِيَ عَنِ الرِّضَا (عليه السلام) أَنَّهُ قَال: «كَمَال الدِّينِ وَلايَتُنَا والبَرَاءَةُ مِنْ عَدُوِّنَا ... واعْلمْ أَنَّهُ لا يَتِمُّ الوَلايَةُ ولا تَخْلصُ المَحَبَّةُ ولا تَثْبُتُ المَوَدَّةُ لآِل مُحَمَّدٍ إِلا بِالبَرَاءَةِ مِنْ عَدُوِّهِمْ قَرِيباً كَانَ أَوْ بَعِيداً، فَلا تَأْخُذْكَ بِهِ رَأْفَةٌ، فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وجَل يَقُول: «لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ واليَوْمِ الآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ ورَسُولهُ ولوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ»(2) الآيَةَ»(3).وعن أبي حمزة الثمالي قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): «يا با حمزة إنما يعبد الله من عرف الله، فأما من لا يعرف الله كأنما يعبد غيره هكذا ضالاً، قلت: أصلحك الله وما معرفة الله، قال: يصدق الله ويصدق محمداً رسول الله (صلى الله عليه وآله) في موالاة علي والايتمام به، وبأئمة الهدى من بعده، والبراءة إلى الله من عدوهم، وكذلك عرفان الله»، قال: قلت: أصلحك الله أي شي ء إذا عملته أنا استكملت حقيقة الإيمان، قال: توالي أولياء الله، وتعادي أعداء الله، وتكون مع

ص: 131


1- المحاسن: ج 1 ص13 ب8 باب العشرة ح38.
2- سورة المجادلة: 22.
3- بحار الأنوار: ج 27 ص58 ب1 وجوب موالاة أوليائهم ومعاداة أعدائهم ح19.

الصادقين كما أمرك الله، قال: قلت: ومن أولياء الله ومن أعداء الله، فقال: أولياء الله محمد رسول الله وعلي والحسن والحسين وعلي بن الحسين، ثم انتهي الأمر إلينا ثم ابني جعفر، وأومأ إلى جعفر وهو جالس، فمن والى هؤلاء فقد والى الله وكان مع الصادقين كما أمره الله، قلت: ومن أعداء الله أصلحك الله، قال: الأوثان الأربعة، قال: قلت من هم، قال: أبو الفصيل ورمع ونعثل ومعاوية ومن دان بدينهم، فمن عادى هؤلاء فقد عادى أعداء الله»(1).

وقال الصدوق (رحمه الله): (واعتقادنا في البراءة أنّها واجبة من الأوثان الأربعة ومن الأنداد الأربعة، ومن جميعأشياعهم وأتباعهم، وأنّهم شرّ خلق الله، ولا يتم الإقرار بالله وبرسوله وبالأئمّة إلا بالبراءة من أعدائهم، واعتقادنا في قتلة الأنبياء وقتلة الأئمّة أنّهم كفّار مشركون مخلدون في أسفل درك من النّار، ومن اعتقد فيهم غير ما ذكرناه فليس عندنا من دين الله في شيء»(2).

هل يوجد قاصر

مسألة: قد يستفاد من قوله: «وحجتي لا تخفى» أنه لا يوجد قاصر أبداً، لكن الظاهر وجوده بالوجدان، فالمراد ب (لا تخفى) على عامة الناس وخاصتهم مما لا ينافيه استثناء البعض، أو يقال: (لا تخفى) اقتضاءً، أو (لا تخفى) اختفاءً كلياً تاماً، ولعله الأظهر بقرينة (لأن خيط فرضي لا ينقطع)، وحينئذ لا ينافي وجود القاصرين وإن كثروا.

ص: 132


1- تفسير العياشي: ج 2 ص116 ح155.
2- اعتقادات الإمامية، للصدوق: ص105 باب الاعتقاد في الظالمين.

ولعل الفتنة زمان الإمام الكاظم (عليه السلام) كانت أشد من الفتن في زمن سائر الأئمة (عليهم السلام)، إذ لم يسبق ولم يلحق أن يسجن الإمام (عليه السلام) لسنين طويلة ويطارد شيعته بتلك الشدة وفي المدة الطويلة، ويحتمل كونهابلحاظ زمن الإمامين السابقين عليه.

و(الحندس) شدة الظلمة.

لا تخلو الأرض من الحجة

مسألة: ينبغي الاعتقاد بأن الأرض لا تخلو من حجة، وأن خيط فرض الله لا ينقطع، ثم إن في (خيط الفرض) دلالات:

منها: الامتداد والاستمرار.

ومنها: ارتباط الخلق بالخالق بواسطة خيط فرضه، وهو الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام).

وقوله: «لأن خيط» تعليل لقوله: «انتجبت بعده موسى».

سيد العابدين

وجه تسمية الإمام السجاد (عليه السلام) ب (سيد العابدين) هو قمة عبوديته، فإنه في جهة الكم لا نظير له، لكثرة عباداته، وكذا في جهة الكيف، في خلوص النية وشدة الانقطاع إلى الله، وقوة الارتباط به تعالى، وتمحض عبادته في التقرب إلى الباري عزوجل.

وقيل: كَانَ سَبَبَ لقَبِهِ بِزَيْنِ العَابِدِينَ أَنَّهُ كَانَ ليْلةً فِي مِحْرَابِهِ قَائِماً فِي

ص: 133

تَهَجُّدِهِ فَتَمَثَّل لهُ الشَّيْطَانُ فِي صُورَةِ ثُعْبَانٍ ليَشْغَلهُ عَنْ عِبَادَتِهِ، فَلمْ يَلتَفِتْ إِليْهِ، فَجَاءَ إِلى إِبْهَامِ رِجْلهِ فَالتَقَمَهَافَلمْ يَلتَفِتْ إِليْهِ، فَآلمَهُ فَلمْ يَقْطَعْ صَلاتَهُ، فَلمَّا فَرَغَ مِنْهَا وَقَدْ كَشَفَ اللهُ لهُ فَعَلمَ أَنَّهُ شَيْطَانٌ فَسَبَّهُ وَلطَمَهُ وَقَال: اخْسَأْ يَا مَلعُونُ، فَذَهَبَ وَقَامَ إِلى إِتْمَامِ وِرْدِهِ، فَسَمِعَ صَوْتاً وَلا يَرَى قَائِلهُ وَهُوَ يَقُول: أَنْتَ زَيْنُ العَابِدِينَ، ثَلاثاً فَظَهَرَتْ هَذِهِ الكَلمَةُ وَاشْتَهَرَتْ لقَباً لهُ (عليه السلام)(1).

الحجة رحمة للعالمين

مسألة: يستحب بيان أن مولانا صاحب الزمان (عليه الصلاة والسلام وعجل الله فرجه) كالنبي (صلى الله عليه وآله) في أنه «رَحْمَةً للعالمِينَ»(2) وهذا من أعلى المناصب الإلهية والأوصاف الربانية.

ولا يخفى أنهم (عليهم الصلاة والسلام) كلهم رحمة للعالمين، لأنهم السبب في إفاضة الله سبحانه إلى الخلق، بالإضافة إلى أنهم سبب وصول أحكام الله تعالى إلى البشر،فهم الواسطة بين الله عزوجل وبين البشر - بل الخلق - تكويناً وتشريعاً.

وهذا مما قام عليه الدليل، فإن اللهتعالى يفيض إلى الخلق بالوسائط، مثل: جبرائيل الذي هو سبب نزول الوحي، وميكائيل الذي هو سبب نزول الرزق، وعزرائيل الذي هو سبب نزول الموت، إلى غير ذلك، وقد قال سبحانه: «فَالمُدَبِّراتِ أَمْراً»(3)، وهذا مما لا يخفى على من له إلمام بالآيات والروايات،

ص: 134


1- كشف الغمة: ج 2 ص74، بحار الأنوار: ج 46 ص5 ب1 أسمائه وعللها ونقش خاتمه وتاريخ ولادته وأحوال أمه وبعض مناقبه وجمل أحواله (عليه السلام) ح6.
2- سورة الأنبياء: 107.
3- سورة النازعات: 5.

فإن بهم (عليهم السلام) رزق الورى، وثبتت الأرض والسماء(1).

أما وجه تخصيص بعضهم (صلوات الله عليهم) بهذا الوصف: (رحمة للعالمين) فلظهور هذا الوصف فيه للخلق بنحو أقوى مما ظهر من سائرهم (عليهم السلام)، فالأمر عائد إلى مقام الإثبات، ويمكن عوده لمقام الثبوت أيضاً للزيادة الكمية أفراداً وأزماناً.

وفي الزيارة الجامعة: «وَبِكُمْ يَخْتِمُ وبِكُمْ يُنَزِّل الغَيْثَ وبِكُمْ يُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلى الأَرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ وبِكُمْ يُنَفِّسُ الهَمَّ ويَكْشِفُ الضُّرَّ»(2).

وقال أبو ذر (رحمه الله): سَمِعْتُ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُول: «والذِي بَعَثَنِيبِالحَقِّ نَبِيّاً لا يَنْفَعُ أَحَدَكُمُ الثَّلاثَةُ حَتَّى يَأْتِيَ بِالرَّابِعَةِ، فَمَنْ شَاءَ حَقَّقَهَا ومَنْ شَاءَ كَفَرَ بِهَا، فَإِنَّا مَنَازِل الهُدَى وأَئِمَّةُ التُّقَى، وبِنَا يُسْتَجَابُ الدُّعَاءُ ويُدْفَعُ البَلاءُ، وبِنَا يَنْزِل الغَيْثُ مِنَ السَّمَاءِ، ودُونَ عِلمِنَا تَكِل أَلسُنُ العُلمَاءِ، ونَحْنُ بَابُ حِطَّةٍ وسَفِينَةُ نُوحٍ، ونَحْنُ جَنْبُ اللهِ الذِي يُنَادِي مَنْ فَرَّطَ فِينَا يَوْمَ القِيَامَةِ بِالحَسْرَةِ والنَّدَامَةِ، ونَحْنُ حَبْل اللهِ المَتِينُ الذِي مَنِ اعْتَصَمَ بِهِ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، ولا يَزَال مُحِبُّنَا مَنْفِيّاً مُودِياً مُنْفَرِداً مَضْرُوباً مَطْرُوداً مَكْذُوباً مَحْزُوناً بَاكِيَ العَيْنِ حَزِينَ القَلبِ حَتَّى يَمُوتَ، وذَلكَ فِي اللهِ قَليل فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْساً»(3).

ص: 135


1- الدعاء والزيارة: ص236.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 2 ص615 زيارة جامعة لجميع الأئمة (عليهم السلام).
3- تفسير فرات الكوفي: ص258 ح354.

عموم رحمة الإمام

مسألة: يستفاد من هذا الحديث الشريف عموم رحمة الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) للعوالم كلها، من الإنس والجن والملك والحيوان وسائر مخلوقات الله، فلا تقتصر الرحمة في ظهوره المبارك فقط.

عَنْ سُليْمَانَ بْنِ مِهْرَانَ الأَعْمَشِ، عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَليٍّ، عَنْ أَبِيهِ عَليِّ بْنِ الحُسَيْنِ (عليهم السلام) قَال: «نَحْنُ أَئِمَّةُ المُسْلمِينَ، وحُجَجُ اللهِ عَلى العَالمِينَ، وسَادَةُ المُؤْمِنِينَ، وقَادَةُ الغُرِّ المُحَجَّلينَ، ومَوَالي المُؤْمِنِينَ، ونَحْنُ أَمَانُ أَهْل الأَرْضِ كَمَا أَنَّ النُّجُومَ أَمَانٌ لأَهْل السَّمَاءِ، ونَحْنُ الذِينَ بِنَا يُمْسِكُ اللهُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلى الأَرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ، وبِنَا يُمْسِكُ الأَرْضَ أَنْ تَمِيدَ بِأَهْلهَا، وبِنَا يُنَزِّل الغَيْثَ، وبِنَا يَنْشُرُ الرَّحْمَةَ ويُخْرِجُ بَرَكَاتِ الأَرْضِ، ولوْ لا مَا فِي الأَرْضِ مِنَّا لسَاخَتْ بِأَهْلهَا»، قَال عليه السلام: «ولمْ تَخْل الأَرْضُ مُنْذُ خَلقَ اللهُ آدَمَ مِنْ حُجَّةِ اللهِ فِيهَا، ظَاهِرٌ مَشْهُورٌ أَوْ غَائِبٌ مَسْتُورٌ، ولا تَخْلو إِلى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ مِنْ حُجَّةٍ للهِ فِيهَا، ولوْ لا ذَلكَ لمْ يُعْبَدِ اللهُ»، قَال سُليْمَانُ: فَقُلتُ للصَّادِقِ (عليه السلام): فَكَيْفَ يَنْتَفِعُ النَّاسُ بِالحُجَّةِالغَائِبِ المَسْتُورِ، قَال: «كَمَا يَنْتَفِعُونَ بِالشَّمْسِ إِذَا سَتَرَهَا السَّحَابُ»(1).

وقال (عليه السلام): وَنَحْنُ بَابُ الغَوْثِ إِذَا اتَّقَوْا وضَاقَتْ عَليْهِمُ المَذَاهِبُ، ونَحْنُ بَابُ حِطَّةٍ وهُوَ بَابُ السَّلامِ مَنْ دَخَلهُ نَجَا ومَنْ تَخَلفَ عَنْهُ هَوَى، بِنَا يَفْتَحُ اللهُ وبِنَا يَخْتِمُ اللهُ، وبِنَا يَمْحُو مَا يَشَاءُ وبِنَا يُثْبِتُ، وبِنَا يَدْفَعُ اللهُ الزَّمَانَ الكَلبَ،

ص: 136


1- الأمالي، للصدوق: ص186 المجلس الرابع والثلاثون ح15.

وبِنَا يُنَزِّل الغَيْثَ، فَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الغَرُورُ، مَا أَنْزَلتِ السَّمَاءُ مِنْ قَطْرَةٍ مِنْ مَاءٍ مُنْذُ حَبَسَهُ اللهُ عَزَّ وجَل، ولوْ قَدْ قَامَ قَائِمُنَا لأَنْزَلتِ السَّمَاءُ قَطْرَهَا، ولأَخْرَجَتِ الأَرْضُ نَبَاتَهَا، ولذَهَبَتِ الشَّحْنَاءُ مِنْ قُلوبِ العِبَاد»(1).

وعَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي مَحْمُودٍ، قَال: قَال الرِّضَا (عليه السلام): «نَحْنُ حُجَجُ اللهِ فِي خَلقِهِ، وخُلفَاؤُهُ فِي عِبَادِهِ، وأُمَنَاؤُهُ عَلى سِرِّهِ، ونَحْنُ كَلمَةُ التَّقْوَى والعُرْوَةُ الوُثْقَى، ونَحْنُ شُهَدَاءُ اللهِ وأَعْلامُهُ فِي بَرِيَّتِهِ، بِنَا يُمْسِكُ اللهُ السَّماواتِ والأَرْضَ أَنْ تَزُولا، وبِنَا يُنَزِّل الغَيْثَ ويَنْشُرُ الرَّحْمَةَ، ولا تَخْلو الأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ مِنَّا، ظَاهِرٍ أَوْخَافٍ، ولوْ خَلتْ يَوْماً بِغَيْرِ حُجَّةٍ لمَاجَتْ بِأَهْلهَا كَمَا يَمُوجُ البَحْرُ بِأَهْلهِ»(2).

الرحمة على الأعداء أيضاً

مسألة: يستفاد من هذا الحديث الشريف أن الإمام المهدي (عجل الله فرجه) رحمة حتى على أعدائه وأعداء الدين، فإن أكثرهم يهتدون ببركته للدين المبين، إذ يهتدي به المسيحيون وغيرهم حيث يرون اقتداء عيسى (عليه السلام) به، على ما هو مفصل في كتب الأخبار، وهكذا بالنسبة إلى سائر الأمم، فلا يبقى إلا المعاند.

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلهِ عَزَّ وجَل: «ليُظْهِرَهُ عَلى الدِّينِ كُلهِ ولوْ كَرِهَ

ص: 137


1- الخصال: ج 2 ص626 علم أمير المؤمنين (عليه السلام) أصحابه في مجلس واحد أربعمائة باب مما يصلح للمسلم في دينه ودنياه.
2- كمال الدين وتمام النعمة: ج 1 ص202 ب21 باب العلة التي من أجلها يحتاج إلى الإمام (عليه السلام) ح6.

المُشْرِكُونَ»(1)، قَال: لا يَكُونُ ذَلكَ حَتَّى لا يَبْقَى يَهُودِيٌّ ولا نَصْرَانِيٌّ ولا صَاحِبُ مِلةِ إِلا الإِسْلامَ، حَتَّى تَأْمَنَ الشَّاةُ والذِّئْبُ والبَقَرَةُ والأَسَدُ والإِنْسَانُ والحَيَّةُ، وحَتَّى لا تَقْرِضَ فَأْرَةٌ جِرَاباً، وحَتَّى تُوضَعَ الجِزْيَةُ، ويُكْسَرَ الصَّليبُ، ويُقْتَل الخِنْزِيرُ، وهُوَ قَوْلهُ تَعَالى: «ليُظْهِرَهُ عَلى الدِّينِ كُلهِ ولوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ»، وذَلكَ يَكُونُعِنْدَ قِيَامِ القَائِمِ (عليه السلام) (2).

وعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «خَرَجَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) ذَاتَ يَوْمٍ وهُوَ مُسْتَبْشِرٌ يَضْحَكُ سُرُوراً، فَقَال لهُ النَّاسُ: أَضْحَكَ اللهُ سِنَّكَ يَا رَسُول اللهِ وزَادَكَ سُرُوراً، فَقَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): إِنَّهُ ليْسَ مِنْ يَوْمٍ ولا ليْلةٍ إِلا وليَ فِيهِمَا تُحْفَةٌ مِنَ اللهِ، أَلا وإِنَّ رَبِّي أَتْحَفَنِي فِي يَوْمِي هَذَا بِتُحْفَةٍ لمْ يُتْحِفْنِي بِمِثْلهَا فِيمَا مَضَى، إِنَّ جَبْرَئِيل أَتَانِي فَأَقْرَأَنِي مِنْ رَبِّيَ السَّلامَ وقَال: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللهَ عَزَّ وجَل اخْتَارَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ سَبْعَةً لمْ يَخْلقْ مِثْلهُمْ فِيمَنْ مَضَى ولا يَخْلقُ مِثْلهُمْ فِيمَنْ بَقِيَ، أَنْتَ يَا رَسُول اللهِ سَيِّدُ النَّبِيِّينَ، وعَليُّ بْنُ أَبِي طَالبٍ وَصِيُّكَ سَيِّدُ الوَصِيِّينَ، والحَسَنُ والحُسَيْنُ سِبْطَاكَ سَيِّدَا الأَسْبَاطِ، وحَمْزَةُ عَمُّكَ سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ، وجَعْفَرٌ ابْنُ عَمِّكَ الطَّيَّارُ فِي الجَنَّةِ يَطِيرُ مَعَ المَلائِكَةِ حَيْثُ يَشَاءُ، ومِنْكُمُ القَائِمُ، يُصَلي عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ خَلفَهُ إِذَا أَهْبَطَهُ اللهُ إِلى الأَرْضِ، مِنْ ذُرِّيَّةِ عَليٍّ وفَاطِمَةَ مِنْ وُلدِ الحُسَيْنِ عليهم السلام»(3).

وعن زيد بن ثابت، عن النبي (صلى اللهعليه وآله) في حديث قال: «وإنه

ص: 138


1- سورة التوبة: 33، سورة الصف: 9.
2- تأويل الآيات الظاهرة: ص663.
3- الكافي: ج 8 ص49 حديث موسى (عليه السلام) ح10.

ليخرج من صلب الحسين أئمة أبرار، أمناء معصومون قوامون بالقسط، ومنا مهدي هذه الأمة الذي يصلي عيسى بن مريم خلفه، قلنا: من هو يا رسول الله، قال: هو التاسع من صلب الحسين أئمة أبرار، والتاسع مهديهم يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت جوراً وظلماً»(1).

قلة قتلى الإمام

مسألة: قد يستفاد من هذا الحديث القدسي قلة من يقتله الإمام المنتظر (عجل الله فرجه الشريف) على عكس المشهور من كثرة من يقتلهم.

ويؤكد ذلك ما ورد من أنه (عليه السلام) يسير بسيرة جده رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وسيرته كانت التجنب من سفك الدماء إلى أبعد الحدود، حتى أنه بلغ مجموع القتلى من الطرفين المسلمين والكفار في مجموع أكثر من ثمانين معركة وغزوة حوالي 1400 قتيل حسب إحصاء بعض المؤرخين، وكان ذلك بتدبيره (صلى الله عليه وآله).

قال الإمام الصادق (عليه السلام) في وصف صاحب هذا الأمر (عليه السلام): «وأماسنته من محمد (صلى الله عليه وآله) فيهتدي بهداه ويسير بسيرته»(2).

نعم تعارضها بعض الروايات الأخرى لكنها لا تقاومها، وقد فصلناه في بعض كتبنا(3).

ص: 139


1- إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات: ج 2 ص162 الفصل السابع والعشرون ح515.
2- إكمال الدين: ج2 ص350، عنه بحار الأنوار: ج51 ص224.
3- راجع كتاب (الإمام المهدي عليه السلام) للإمام المؤلف (قدس سره)، وكتاب (عبير الرحمة) للمرجع الكبير آية الله العظمى السيد صادق الشيرازي (دام ظله).

التهنئة بولادة المولود

مسألة: يستحب التهنئة بولادة المولود، وكلما ازداد المولود مكانة وعظمة ومنزلة، ككونه ولد عالم أو ولي أو كونه ممن يرجى علو شأنه، ازداد الثواب واشتدت درجة الاستحباب.

وللتهنئة آداب مذكورة في محلها.

قَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «إِذَا هَنَّأْتُمُ الرَّجُل عَنْ مَوْلودٍ ذَكَرٍ فَقُولوا: بَارَكَ اللهُ لكَ فِي هِبَتِهِ وبَلغَهُ أَشُدَّهُ ورَزَقَكَ بِرَّه»(1).

وعَنْ مُرَازِمٍ عَنْ أَخِيهِ، قَال: قَال رَجُل لأَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): وُلدَ لي غُلامٌ، فَقَال: «رَزَقَكَ اللهُ شُكْرَ الوَاهِبِ، وبَارَكَ لكَ فِي المَوْهُوبِ، وبَلغَ أَشُدَّهُ ورَزَقَكَ اللهُ بِرَّهُ»(2).

خطاب المعصوم

مسألة: يستحب خطاب المعصوم (عليه السلام)بكلمة (بأبي أنت وأمي).

ولا فرق في ذلك بين حال حياته وحال استشهاده، إذ هم (عليهم السلام) أحياء عند ربهم يرزقون، كما لا فرق بين خطابه إياهم بذلك عن بعد أو عن قرب، كما ورد: (أشهد أنك تسمع كلامي وترى مقامي وترد سلامي).

ص: 140


1- الخصال: ج 2 ص635 علم أمير المؤمنين (عليه السلام) أصحابه في مجلس واحد أربعمائة باب مما يصلح للمسلم في دينه ودنياه ح10، عيون الحكم والمواعظ: ص139 ح3143.
2- الكافي: ج 6 ص17 باب التهنئة بالولد ح1.

وهكذا كان يخاطب المعصوم بعضهم بعضاً:

وفي الرواية: فَقَامَ إِليْهِ عَليُّ بْنُ أَبِي طَالبٍ (صلوات الله عليه) وهُوَ (صلى الله عليه وآله) يَبْكِي فَقَال: «بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي يَا نَبِيَّ اللهِ أَ تُقْتَل، قَال: نَعَمْ أَهْلكُ شَهِيداً بِالسَّمِّ وتُقْتَل أَنْتَ بِالسَّيْفِ وتُخْضَبُ لحْيَتُكَ مِنْ دَمِ رَأْسِكَ، ويُقْتَل ابْنِيَ الحَسَنُ بِالسَّمِّ، ويُقْتَل ابْنِيَ الحُسَيْنُ بِالسَّيْفِ، يَقْتُلهُ طَاغِي بْنُ طَاغي، دَعِيُّ بْنُ دَعِيٍّ، مُنَافِقُ بْنُ مُنَافِقٍ»(1).

وعَنْ أَبِي الجَارُودِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: «لمَّا صَعِدَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) الغَارَ طَلبَهُ عَليُّ بْنُ أَبِي طَالبٍ (عليه السلام) وخَشِيَ أَنْ يَغْتَالهُ المُشْرِكُونَ، وكَانَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) عَلى حِرَا وعَليٌّ عَلى ثَبِيرٍ، فَبَصُرَ بِهِ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) فَقَال: مَا لكَ يَا عَليُّ، قَال:بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي خَشِيتُ أَنْ يَغْتَالكَ المُشْرِكُونَ فَطَلبْتُكَ، فَقَال النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): نَاوِلنِي يَدَكَ يَا عَليُّ، فَرَجَفَ الجَبَل حَتَّى خَطَا بِرِجْلهِ إِلى الجَبَل الآخَرِ ثُمَّ رَجَعَ الجَبَل إِلى قَرَارِهِ»(2).

وفي الزيارة: «بِأَبِي أَنْتُمْ وأُمِّي وأَهْلي ومَالي وأُسْرَتِي، أُشْهِدُ اللهَ وأُشْهِدُكُمْ أَنِّي مُؤْمِنٌ بِكُمْ وبِمَا آمَنْتُمْ بِهِ، كَافِرٌ بِعَدُوِّكُمْ وبِمَا كَفَرْتُمْ بِهِ، مُسْتَبْصِرٌ بِشَأْنِكُمْ وبِضَلالةِ مَنْ خَالفَكُمْ، مُوَال لكُمْ ولأَوْليَائِكُمْ، مُبْغِضٌ لأَعْدَائِكُمْ ومُعَادٍ

لهُمْ، سِلمٌ لمَنْ سَالمَكُمْ، وحَرْبٌ لمَنْ حَارَبَكُمْ، مُحَقِّقٌ لمَا حَقَّقْتُمْ، مُبْطِل لمَا أَبْطَلتُم»(3).

ص: 141


1- كتاب سليم بن قيس الهلالي: ج 2 ص838 الحديث الثاني والأربعون.
2- بصائر الدرجات في فضائل آل محمد (صلى الله عليهم): ج 1 ص407 ب13 باب في الأئمة أنهم يسيرون في الأرض من شاءوا من أصحابهم بالقدرة التي أعطاهم الله ح9.
3- من لا يحضره الفقيه: ج 2 ص614 زيارة جامعة لجميع الأئمة (عليهم السلام).

الاستنساخ وتصوير الوثائق

مسألة: ينبغي الاستنساخ والكتابة عن الوثائق والأشياء المهمة، ومن مصاديقه التصوير في زماننا هذا، بل لا يبعد رجحان الاستنساخ في حد ذاته وإن كانت النُسَخ متوفرة، بل لعل الإطلاقات تشمله، وذلك لما في كتابة القرآن والأحاديث والمسائل الشرعية من الفوائد المتعددة.

منها: إن الكتابة تعين على الحفظ والتذكر.

ومنها: إنها إيحاء وتلقين، وللتلقين أكبر الأثر في تهذيب النفوس وتثبيت العقائد.

قال تعالى: «يا أَيُّهَا الذينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَل مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وليَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالعَدْل ولا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلمَهُ اللهُ فَليَكْتُبْ وليُمْلل الذي عَليْهِ الحَقُّ وليَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ ولا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً»(1).

وقَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «احْتَفِظُوا بِكُتُبِكُمْ فَإِنَّكُمْ سَوْفَ تَحْتَاجُونَ إِليْهَا»(2).

وفي الحديث: «إِنَّ التَّلقِينَ حَيَاةُ القَلبِ البَصِيرِ كَمَا يَمْشِي المُسْتَنِيرُ فِيالظُّلمَاتِ بِالنُّورِ»(3).

ص: 142


1- سورة البقرة: 282.
2- الكافي: ج 1 ص52 باب رواية الكتب والحديث وفضل الكتابة والتمسك بالكتب ح10.
3- بحار الأنوار: ج 75 ص112 ب19 مواعظ الحسن بن علي (عليهما السلام) ح8.

الحلف

مسألة: يجوز الحلف على الأشياء المهمة، والجواز هنا بالمعنى الأعم كما سبقت الإشارة إليه.

وفي الأمور المهمة ربما يكون مستحباً، فعن يونس بن يعقوب قال: كان أبو عبدالله (عليه السلام) كثيراً ما يقول: (والله)(1).

تعظيم أسماء الله

مسألة: يجب تعظيم أسماء الله تعالى كما أمر بذلك الباري عزوجل، حيث قال في هذا الحديث: (عظّم أسمائي).

ثم إن في المراد من أسمائه تعالى بحوثاً مطولة، وأقوالاً متعددة:

منها: ما هو الظاهر عرفاً من أسمائه سبحانه ك (الهادي المضل) و(الخالق الرازق) و(الجبار المنتقم)، فإن تعظيمها يقتضي اعطاءها ما تستحق بالقدر الممكن من الاهتمام والشكروالحذر والالتفات والعمل على حسب ما تقتضيه، فحيث إنه الهادي وجب التضرع إليه للهداية والاعتصام بحبله وبمن أمر بالتمسك بهم، وهكذا.

ومنها: إن المراد بأسمائه تعالى: المعصومون (عليهم السلام) كما وردت بذلك روايات عديدة.

ص: 143


1- جامع أحاديث الشيعة: ج 24 ص708 ب1 باب كراهة اليمين الصادقة وحرمة اليمين الكاذبة إلا للتقية كدفع الظالم عن نفسه أو ماله أو نفس مؤمن أو ماله وحرمة نكثها ح12.

عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عزوجل: «وَللهِ الأَسْماءُ الحُسْنى فَادْعُوهُ بِها»(1) قال: «نَحْنُ وَاللهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى التِي لا يَقْبَل اللهُ مِنَ العِبَادِ عَمَلا إِلا بِمَعْرِفَتِنَا»(2).

وعن الرضا (عليه السلام) أنه قال: «إِذَا نَزَلتْ بِكُمْ شَدِيدَةٌ فَاسْتَعِينُوا بِنَا عَلى اللهِ عَزَّ وَجَل، وَهُوَ قَوْلهُ عَزَّ وَجَل: «وَللهِ الأَسْماءُ الحُسْنى فَادْعُوهُ بِها»(3)»(4).

ولا يستغرب ذلك إذا يراد بالاسم هو ما أنبأ عن المسمى(5)، فإن الرسول (صلى اللهعليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) هم أفضل وأكمل من أنبأ وأخبر وبشر وأنذر وحذر عن الله تعالى.

ص: 144


1- سورة الأعراف: 180.
2- الكافي: ج1 ص143- 144 باب النوادر ح4.
3- سورة الأعراف: 180.
4- مستدرك الوسائل: ج5 ص228 ب35 باب استحباب التوسل في الدعاء بمحمد وآل محمد (عليهم السلام) ح5758.
5- كما جاء في تعريف الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) لأبي أسود الدؤلي عند ما علمه علم النحو: ففي الفصول المختارة: ص91: إن أبا الأسود الدؤلي دخل على أمير المؤمنين (عليه السلام) فرمى إليه رقعة فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، الكلام ثلاثة أشياء: اسم وفعل وحرف جاء لمعنى، فالاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى، والحرف ما أوجد معنى في غيره، فقال أبو الأسود: يا أمير المؤمنين هذا كلام حسن فما تأمرني أن أصنع به فإنني لا أدري ما أردت بإيقافي عليه، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): إني سمعت في بلدكم هذا لحناً كثيراً فاحشاً فأحببت أن أرسم كتاباً من نظر إليه ميز بين كلام العرب وكلام هؤلاء فابن على ذلك، فقال أبو الأسود: وفقنا الله بك يا أمير المؤمنين للصواب.

وقد ذهب البعض إلى أن الاسم مشتق من الوسم بمعنى العلامة، وعليه: كونهم (عليهم السلام) أسماء الله يعني أنهم علامات دالة على عظمة الله وصفات جلاله وجماله.

وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد

ومنه يعرف أنهم (عليهم السلام) أعظم آيات الله وأسمائه والعلامات الدالة عليه.

شكر النعمة

مسألة: يجب شكر النعمة، كما قالتعالى: «وَلقَدْ آتَيْنا لقْمانَ الحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ للهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَميد»(1).

ولا يخفى أن شكر النعمة يزداد وجوبه تأكداً بازدياد النعمة كماً وكيفاً، وحيث إنه (صلوات الله عليه) منحه الله تعالى أعظم النعم وأسناها وأجلها وأعلاها، كان الشكر عليه ألزم وأوجب، وهكذا الأمثل فالأمثل.

قال تعالى: «فَكُلوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً واشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ»(2).

وعَنِ الرِّضَا (عليه السلام) عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «اعْتَرِفُوا بِنِعَمِ اللهِ رَبِّكُمْ وتُوبُوا إِلى اللهِ مِنْ جَمِيعِ ذُنُوبِكُمْ، فَإِنَّ اللهَ

ص: 145


1- سورة لقمان: 12.
2- سورة النحل: 114.

يُحِبُّ الشَّاكِرِينَ مِنْ عِبَادِهِ»(1).

وقَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «الإِيمَانُ نِصْفَانِ نِصْفٌ صَبْرٌ ونِصْفٌ شُكْر»(2).

جحد الآلاء

مسألة: يحرم جحد آلاء الله تعالى.

وحيث إن من البديهي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يجحد آيات الله، إذ لا شك في عصمته، كان محمل ذلك أمور:

منها: إن النهي للتعليم.

ومنها: إن النهي صوري لحكمة أخرى.

ومنها: إنه حقيقي، إذ لا منافاة بين النهي التشريعي والعصمة غير السالبة للقدرة والاختيار، وقد ذكرنا في الأصول ما ينفع المقام(3).

ومنها: إن مصبه الدرجات الخفية جداً من جحد الآلاء التي لا تنافي العصمة، فتكون من ترك الأولى على رأي من يرى صدوره من المعصوم، إذ بمثل هذا النهي انتهى وتكامل، ولكننا ذكرنا في أكثر من موضع أن المعصوم (عليه السلام) لا يصدر منه حتى المكروه وترك الأولى، فراجع.

ص: 146


1- وسائل الشيعة: ج 16 ص76 ب86 باب وجوب التوبة من جميع الذنوب والعزم على ترك العود أبداً ح16.
2- جامع الأخبار: ص35 الفصل الثامن عشر في الإيمان.
3- راجع الأصول، مبحث أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه.

وحدانية الباري

مسألة: يجب الاعتقاد بوحدانية الله تعالى وصفاته، كما قال: «إني أنا الله لا إله إلا أنا قاصم الجبارين...»(1).

وقد فصلنا في بعض كتبنا وجه وجوب الاعتقاد بأصول الدين، ومنها ما له جهة الموضوعية وما له جهة الطريقية، ومنها الاستحقاق الذاتي، ومنها الشكر، ومنها التكامل، ومنها سعادة الدارين، إلى غيرها.

عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: سَمِعْتُهُ يَقُول: «مَا مِنْ شَيْ ءٍ أَعْظَمَ ثَوَاباً مِنْ شَهَادَةِ أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ، لأَنَّ اللهَ عَزَّ وجَل لا يَعْدِلهُ شَيْ ءٌ ولا يَشْرَكُهُ فِي الأَمْرِ أَحَدٌ»(2).وعَنْ عَليٍّ (عليه السلام) قَال: «مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلمٍ يَقُول لا إِلهَ إِلا اللهُ، إِلا صَعِدَتْ تَخْرِقُ كُل سَقْفٍ، لا تَمُرُّ بِشَيْ ءٍ مِنْ سَيِّئَاتِهِ إِلا طَلسَتْهَا حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلى مِثْلهَا مِنَ الحَسَنَاتِ فَتَقِفَ»(3).

ص: 147


1- الإمامة والتبصرة: ص104 باب في ذكر حديث اللوح، وأن الإمام الثاني عشر هو الحجة ابن الحسن العسكري. عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج 1 ص42 ب6 باب النصوص على الرضا (عليه السلام) بالإمامة في جملة الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) ح2. كمال الدين: ج 1 ص309 ب28 باب ذكر النص على القائم (عليه السلام) في اللوح الذي أهداه الله عز وجل إلى رسوله (صلى الله عليه وآله) ودفعه إلى فاطمة (عليها السلام) ح1. مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) لابن شهرآشوب: ج 1 ص297. بحار الأنوار: ج 36 ص195 ب40 نصوص الله عليهم من خبر اللوح والخواتيم وما نص به عليهم في الكتب السالفة وغيرها ح3.
2- التوحيد: ص19 ب1 باب ثواب الموحدين والعارفين ح3.
3- التوحيد: ص21 ب1 باب ثواب الموحدين والعارفين ح12.

العبادة توقيفية

مسألة: يجب عبادة الله تعالى كما قال عزوجل: «فإياي فاعبد»(1).

ثم إن عبادته تعالى واجبة عقلاً، وأما كيفيتها فشرعية توقيفية، فلا تجوز إلا بالنحو الذي حدده الشارع، أو أجازه بإجازة كلية، فلا تجوز الصلاة أو الصوم إلا بالنحو الخاص، وأما الدعاء فقد أجاز الشارع أن يدعو العبد ربه بأي لسان ووقت وكيفية وبما شاء.

ومنه يظهر عدم صحة ابتداع عبادة أو كيفية جديدة لها، كما يفعل بعض الصوفية فإنه تشريع محرم.

وفي الحديث: عَنِ الإِمَامِ الحَسَنِ العَسْكَرِيِّ (عليه السلام) أَنَّهُ قَال لأَبِي هَاشِمٍ الجَعْفَرِيِّ: «يَا أَبَا هَاشِمٍ سَيَأْتِي زَمَانٌ عَلى النَّاسِ وُجُوهُهُمْ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَقُلوبُهُمْ مُظْلمَةٌ مُتَكَدِّرَةٌ، ... عُلمَاؤُهُمْ شِرَارُ خَلقِ اللهِ عَلى وَجْهِ الأَرْضِ لأَنَّهُمْ يَمِيلونَ إِلى الفَلسَفَةِ وَ التَّصَوُّفِ»(2).

حسن التوكل

مسألة: يستحب التوكل على الله، كما قالسبحانه في هذا الحديث: «وعليّ فتوكل»(3)، وقد سبق في ثنايا الكتاب البحث عن ذلك.

ص: 148


1- حديث اللوح.
2- مستدرك الوسائل: ج11 ص380 ب49 ح13308.
3- حديث اللوح.

قال تعالى: «وَما لنا أَلاَّ نَتَوَكَّل عَلى اللهِ وقَدْ هَدانا سُبُلنا ولنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وعَلى اللهِ فَليَتَوَكَّل المُتَوَكِّلون»(1).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ الصَّادِقِ (عليه السلام)، عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ أَكْرَمَ النَّاسِ فَليَتَّقِ اللهَ، ومَنْ أَحَبَ أَنْ يَكُونَ أَتْقَى النَّاسِ فَليَتَوَكَّل عَلى اللهِ تَعَالى»(2).

وعَنْ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام)، عَنْ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) فِي خَبَرِ المِعْرَاجِ أَنَّهُ قَال: «يَا رَبِّ أَيُّ الأَعْمَال أَفْضَل، فَقَال اللهُ عَزَّ وجَل: يَا أَحْمَدُ، ليْسَ شَيْ ءٌ أَفْضَل عِنْدِي مِنَ التَّوَكُّل عَليَّ، والرِّضَا بِمَا قَسَمْت»(3).

مسائل في الاعتقاد بالمعصومين

مسألة: يجب الاعتقاد بالأئمة الاثنى عشر (عليهم السلام) وأنهم خلفاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) دون من غصب الخلافة، فإن الاعقاد بهم من أعظم الواجبات، بل هو أعظمها بعد الاعتقاد بالله تعالى وبرسوله (صلى الله عليه وآله)، وترك الاعتقاد بهم من أكبر الكبائر.

ص: 149


1- سورة إبراهيم: 12.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 4 ص400 ومن ألفاظ رسول الله (صلى الله عليه وآله) الموجزة التي لم يسبق إليها ح5858.
3- مستدرك الوسائل: ج 11 ص220 ب11 باب وجوب التوكل على الله والتفويض إليه ح18، عن إرشاد القلوب: ج 1 ص199 الباب الرابع والخمسون فيما سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله) ربه ليلة المعراج.

مسألة: يستحب بيان أن الله تعالى قد فضل محمداً (صلى الله عليه وآله) على سائر الأنبياء (عليهم السلام)، فإن بيان ذلك نوع شكر للنعمة فإنه (الرحمة للعالمين)، كما أنه موجب للالتفاف حوله (صلى الله عليه وآله) أكثر فأكثر.

مسألة: يستحب بيان أن الله سبحانه قد فضل علياً (عليه السلام) على سائر الأوصياء، كما ينبغي كتابة الكتب في ذلك، والإجابة على شبهات المعاندين والجاهلين.

مسألة: يستحب وقد يجب بيان أحوال الأئمة (عليهم السلام) وأوصافهم وتاريخهم، ومنه بيان مثالب قاتليهم وظالميهم، كما يستحب اللعن عليهم مراعياً موازين التقية في مواردها، ويستحب وقد يجب التحريض على مطالعة الكتب التي تتضمن روايات البراءة وبحوثاً عنها، ومنهامطاعن البحار للعلامة المجلسي (رضوان الله تعالى عليه).

مسألة: يجب الاعتقاد بأن الله تعالى قد عيّن الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) ونص عليهم تارة بالحديث القدسي، وأخرى على لسان رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأوصيائه، ويجب الاعتقاد بأن الإمامة هي بتنصيب من الله كالنبوة.

مسألة: يحرم جحد الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) وتكذيب أحدهم، وكما يحرم جحد إمامتهم يحرم جحد صفاتهم وعصمتهم وفضائلهم ومنازلهم ومعاجزهم ومراتبهم التي رتبهم الله فيها.

مسألة: يحرم الافتراء على الله تعالى، والافتراء أعم من القول والحركة والإشارة، كما أنه أعم من نفي ما ثبت أنه منه تكويناً أو تشريعاً، أو إثبات ما لم يكن منه كذلك، ومن الافتراء عليه دعوى بعض العرفاء صدور الخلق منه بنحو

ص: 150

الفيض والرشح، ودعوى سنخيته مع مخلوقاته، ودعوى عدم قدرته إلاّ على خلق الواحد وما أشبه.

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ اللهَ تَعَالى فَضَّلنِي بِالنُّبُوَّةِ، وفَضَّل عَليّاً بِالإِمَامَةِ، وأَمَرَنِي أَنْ أُزَوِّجَهُ ابْنَتِي، فَهُوَ أَبُ وُلدِي، وغَاسِلجُثَّتِي، وقَاضِي دَيْنِي، ووَليُّهُ وَليِّي، وعَدُوُّهُ عَدُوِّي»(1).

وقال (صلى الله عليه وآله): «يَا عَليُّ مَا عُرِفَ اللهُ إِلا بِي ثُمَّ بِكَ، مَنْ جَحَدَ وَلايَتَكَ جَحَدَ اللهَ رُبُوبِيَّتَه»(2).

وقَال (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ مَنْ جَحَدَ وَلايَةَ عَليٍّ لا يَرَى الجَنَّةَ بِعَيْنِهِ أَبَداً، إِلا مَا يَرَاهُ بِمَا يَعْرِفُ بِهِ أَنَّهُ لوْ كَانَ يُوَاليهِ لكَانَ ذَلكَ مَحَلهُ ومَأْوَاهُ وَمَنْزِلهُ، فَيَزْدَادُ حَسَرَاتٍ ونَدَامَاتٍ»(3).

ص: 151


1- بحار الأنوار: ج 38 ص140 ب61 جوامع الأخبار الدالة على إمامته من طرق الخاصة والعامة ح102.
2- كتاب سليم بن قيس الهلالي: ج 2 ص855 الحديث الرابع والأربعون.
3- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): ص305 ح148.

الصحيفة البيضاء

اشارة

في حديث احتضار الإمام الباقر (عليه السلام) ورد أنه (عليه السلام): دعا بجابر بن عبد الله، فقال له: يا جابر حدثنا بما عاينت من الصحيفة؟

فقال له جابر: نعم يا أبا جعفر، دخلت على مولاتي فاطمة (عليها السلام) لأهنئها بمولود الحسن (عليه السلام)(1)، فإذا بصحيفة بيدها من درة بيضاء، فقلت: يا سيدة النسوان ما هذه الصحيفة التي أراها معك؟

قالت: «فيها أسماء الأئمة من ولدي».

قلت لها: ناوليني لأنظر فيها.

قالت: يا جابر لولا النهي لكنت أفعل، لكنه نهي أن يمسها إلاّ نبي أو وصي نبي، أو أهل بيت نبي، ولكنه مأذون لك أن تنظر إلى باطنها من ظاهرها.

قال جابر: فقرأت فإذا فيها:

«أبو القاسم محمد بن عبد الله المصطفى، أمه آمنة بنت وهب.

أبو الحسن علي بن أبي طالب المرتضى، أمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف.

أبو محمد الحسن بن علي البر.

أبو عبد الله الحسين بن علي التقي، أمهما فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله).

ص: 152


1- أي بولادة الحسن (عليه السلام).

أبو محمد علي بن الحسين العدل، أمه شهربانويه بنت يزدجرد ابن شاهنشاه.

أبو جعفر محمد بن علي الباقر، أمه أم عبد الله بنت الحسن بن علي بن أبي طالب.

أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق، أمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر(1).

أبو إبراهيم موسى بن جعفر الثقة، أمه جارية اسمها حميدة.

أبو الحسن علي بن موسى الرضا، أمه جارية اسمها نجمة.

أبو جعفر محمد بن علي الزكي، أمه جارية اسمها خيزران.

أبو الحسن علي بن محمد الأمين، أمه جارية اسمها سوسن.

أبو محمد الحسن بن علي الرقيق، أمه جارية اسمها سمانة وتكنى أم الحسن.

أبو القاسم محمد بن الحسن، هو حجة الله تعالى على خلقه القائم، أمه جارية اسمها نرجس (صلوات الله عليهم أجمعين)(2).

----------------

أقول: ربما كان أكثر من لوح ذكرت فيه هذه الأسماء الطاهرة (صلوات الله

ص: 153


1- وقال قوم بأن أم فروة هي بنت القاسم بن محمد بن أبي سمرة، ومنهم مثلا كتاب (أخبار الدول وآثار الأول) لأحمد بن سنان المدمشقي القرماني، وقد طبع على هامش كتاب (الكامل في التاريخ) المطبوع عام 1213 ج1 ص234، فقد حدث تصحيف في الرواية، فيه (بنت القاسم بن محمد بن أبي سمرة) لا (بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر).
2- كمال الدين: ج 1 ص305 ب27 باب ما روي عن سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) من حديث الصحيفة وما فيها من أسماء الأئمة وأسماء أمهاتهم وأن الثاني عشر منهم القائم (صلوات الله عليه) ح1.

عليهم أجمعين) وقد بينا ذلك في موضع آخر.

دعوة الإمام وإجابتها

مسألة: إجابة دعوة الإمام (عليه السلام) في طلبه المجيء أو غيره واجبة، إلا لو كانت قرينة على الإرشاد أو الاستحباب.

مسألة: ولاية المعصومين (عليهم السلام) لا تنقطع بموتهم، فإن كانت أوامرهم تعم بعد موتهم وجب الامتثال.

قال تعالى: «يا أَيُّهَا الذينَ آمَنُوا اسْتَجيبُوا للهِ وللرَّسُول إِذا دَعاكُمْ لما يُحْييكُمْ واعْلمُوا أَنَّ اللهَ يَحُول بَيْنَ المَرْءِ وقَلبِهِ وأَنَّهُ إِليْهِ تُحْشَرُون»(1).

الأمر المولوي والإرشادي

مسألة: الظاهر أن الأمر في «حدثنا» في هذا الحديث مولوي للوجوب.

مسألة: يمكن الاكتفاء بالأمر بالإرشادي إذا علم عمل المرشد بالمؤدى وإن كانواجباً، فلا يلزم الأمر المولوي الإيجابي حينئذ، كما يكتفى بالترجي وغيره حينئذ، إذ الغرض من الأمر هو الانبعاث وهو حاصل.

نعم مع اشتراط نية الوجه لابد من ذلك ولكن المشهور على عدم اشتراطه(2).

ص: 154


1- سورة الأنفال: 24.
2- نيّة الوجه: أي نيّة وجه العبادة من استحباب أو وجوب، راجع في عدم اعتبار نية الوجه مبحث النية في مختلف الكتب الفقهية، منها: (مستمسك العروة الوثقى): ج2 ص308.

الاستعداد للاحتضار

مسألة: ينبغي الإعداد والاستعداد للاحتضار، فإنه آخر مرحلة من مراحل الدنيا، وأول مرحلة من مراحل الانتقال للآخرة.

ومن الاستعداد التثبت من العقائد الحقة، بقراءة دعاء العديلة وغيره، ومنه الوصية بالمعنى الأعم بالعقائد الحقة وتذكير الناس بها، كما صنع الإمام الباقر (عليه السلام) في هذا الخبر.

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سِنَانٍ قَال: قَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «سَتُصِيبُكُمْ شُبْهَةٌ فَتَبْقَوْنَ بِلا عَلمٍ يُرَى ولا إِمَامٍ هُدًى، لا يَنْجُ مِنْهَا إِلا مَنْ دَعَا بِدُعَاءِ الغَرِيقِ» قُلتُ: كَيْفَ دُعَاءُ الغَرِيقِ، قَال: «تَقُول: "يَا اللهُ يَا رَحْمَانُ يَا رَحِيمُ، يَا مُقَلبَ القُلوبِ، ثَبِّتْ قَلبِي عَلى دِينِكَ"»(1).

وعَنْ زُرَارَةَ، قَال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُول: «إِنَّ للغُلامِ غَيْبَةً قَبْل أَنْ يَقُومَ»، قَال: قُلتُ: ولمَ، قَال: «يَخَافُ» وأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلى بَطْنِهِ ثُمَّ قَال: «يَا زُرَارَةُ وهُوَ المُنْتَظَرُ، وهُوَ الذِي يُشَكُّ فِيوِلادَتِهِ، مِنْهُمْ مَنْ يَقُول مَاتَ أَبُوهُ بِلا خَلفٍ، ومِنْهُمْ مَنْ يَقُول حَمْل، ومِنْهُمْ مَنْ يَقُول إِنَّهُ وُلدَ قَبْل مَوْتِ أَبِيهِ بِسَنَتَيْنِ، وهُوَ المُنْتَظَرُ غَيْرَ أَنَّ اللهَ عَزَّ وجَل يُحِبُّ أَنْ يَمْتَحِنَ الشِّيعَةَ فَعِنْدَ ذَلكَ يَرْتَابُ المُبْطِلونَ يَا زُرَارَةُ» قَال: قُلتُ: جُعِلتُ فِدَاكَ إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلكَ الزَّمَانَ أَيَّ شَيْ ءٍ أَعْمَل، قَال: «يَا زُرَارَةُ إِذَا أَدْرَكْتَ هَذَا الزَّمَانَ فَادْعُ بِهَذَا الدُّعَاءِ: "اللهُمَّ عَرِّفْنِي نَفْسَكَ فَإِنَّكَ إِنْ لمْ تُعَرِّفْنِي نَفْسَكَ لمْ أَعْرِفْ نَبِيَّكَ، اللهُمَّ عَرِّفْنِي رَسُولكَ فَإِنَّكَ

ص: 155


1- إعلام الورى: ص432 الفصل الثاني في ذكر الأخبار الواردة عن آبائه في ذلك.

إِنْ لمْ تُعَرِّفْنِي رَسُولكَ لمْ أَعْرِفْ حُجَّتَكَ، اللهُمَّ عَرِّفْنِي حُجَّتَكَ فَإِنَّكَ إِنْ لمْ تُعَرِّفْنِي حُجَّتَكَ ضَللتُ عَنْ دِينِي"»(1).

وقال (عليه السلام): «أَيُّهَا الخَلائِقُ اسْتَعِدُّوا للحِسَاب»(2).

وقال (صلى الله عليه وآله): «ثُمَّ اذْكُرُوا وُقُوفَكُمْ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ جَل جَلالهُ، فَإِنَّهُ الحَكَمُ العَدْل، واسْتَعِدُّوا لجَوَابِهِ إِذَا سَأَلكُمْ، فَإِنَّهُ لا بُدَّ سَائِلكُمْ عَمَّا عَمِلتُمْ بِالثَّقَليْنِ مِنْ بَعْدِي كِتَابِ اللهِ وعِتْرَتِي»(3).وقال (عليه السلام): «وَاسْتَعِدُّوا للمَوْتِ فَقَدْ أَظَلكُمْ»(4).

التكرار

مسألة: تكرار الحديث عن الحق وطلبه مكرراً مستحب وربما كان واجباً، وقد سبق نظيره.

قَال أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «بِتَكْرَارِ الفِكْرِ يَتَحَاتُّ الشَّكُّ»(5).

وَكَانَ النبي (صلى الله عليه وآله) يَقُول فِي مَرَضِهِ: «نَفِّذُوا جَيْشَ أُسَامَةَ» ويُكَرِّرُ ذَلك (6).

ص: 156


1- الكافي: ج 1 ص337 باب في الغيبة ح5.
2- الكافي: ج 8 ص106 حديث أبي بصير مع المرأة ح79.
3- الأمالي، للصدوق: ص280 المجلس السابع والأربعون.
4- نهج البلاغة، الخطبة: 64 في المبادرة إلى صالح الأعمال، عيون الحكم والمواعظ: ص87 ح2085.
5- عيون الحكم والمواعظ: ص188 ح3866.
6- إعلام الورى: ص133.

معنى المولى

مسألة: المولى ظاهر في معناه العرفي المتبادر، وهو من له الولاية بنحو ما، واستعماله في الصديق والنصير وغيرهما مجاز بعلاقة مصححة، فلا تصح دعوى الاشتراك اللفظي.

ثم إن (المولى) بالمعنى العرفي المتبادر ذو درجات ومراتب، حقيقية واعتبارية، فالله تعالى مولى بالمعنى الحقيقي، وإليه تعود مولوية كل مولى، أما مولوية السيد لعبده فهي اعتبارية.

وأما كونهم (عليهم السلام) ومنهم الصديقة الزهراء (عليها السلام) موالي للبشر بل للخلق كله، فهو في أعلى درجات المولوية والسيادة الممكنة لمخلوق بإذن الله تعالى.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في علي (عليه السلام): «فَاعْلمُوا مَعَاشِرَ النَّاسِ أَنَّ اللهَ قَدْ نَصَبَهُ لكُمْ وَليّاً وإِمَاماً، مُفْتَرَضاً طَاعَتُهُ عَلى المُهَاجِرِينَ والأَنْصَارِ وعَلى التَّابِعِينَ لهُمْ بِإِحْسَانٍ، وعَلى البَادِي والحَاضِرِ، وعَلى الأَعْجَمِيِّ والعَرَبِيِّ، والحُرِّ والمَمْلوكِ، والصَّغِيرِ والكَبِيرِ، وعَلى الأَبْيَضِ والأَسْوَدِ، وعَلى كُل مُوَحِّدٍ، مَاضٍ حُكْمُهُ، جَائِزٍ قَوْلهُ، نَافِذٍ أَمْرُهُ، مَلعُونٌ مَنْ خَالفَهُ، مَرْحُومٌ مَنْ تَبِعَهُ، مُؤْمِنٌ مَنْصَدَّقَهُ، فَقَدْ غَفَرَ اللهُ لهُ ولمَنْ سَمِعَ مِنْهُ وأَطَاعَ له»(1).

ص: 157


1- الاحتجاج: ج 1 ص59.

المولوية التكوينية

مسألة: مولوية المعصومين (عليهم السلام) اعتبارية وتكوينية، بمعنى كونهم (صلوات الله عليهم) وسائط الفيض الإلهي، حيث ورد في الزيارة الجامعة: «وبكم يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، وبكم ينفّس الهم ويكشف الضر»(1).

وقال الإمام الباقر (عليه السلام): «لوْ بَقِيَتِ الأَرْضُ يَوْماً وَاحِداً بِلا إِمَامٍ مِنَّا لسَاخَتِ الأَرْضُ بِأَهْلهَا»(2).

حرمة إنكار المقامات

مسألة: لا يجوز إنكار أن الصديقة (عليها السلام) سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين.

قوله: «بيدها» يحتمل أنها (صلوات الله عليها) كانت تمسك بالصحيفة وتنظر إليها لساعات طويلة، بل لأيام وأسابيع، لكثرة ما فيها من العلوم والأخبار، والبركات والآثار، ولا مجال للعجب كيفوهي صحيفة سماوية بإعجاز إلهي، وما فعله البشر في هذا العصر من جمع معلومات كثيرة في أجهزة صغيرة أول دليل على الإمكان، وبه يدفع الاستغراب - وإن كنا لسنا بحاجة له - للإيمان بالإعجاز الغيبي، كما في بساط سليمان (عليه السلام) وطي الأرض وغيرهما.

ص: 158


1- من لا يحضره الفقيه: ج 2 ص615 زيارة جامعة لجميع الأئمة (عليهم السلام).
2- دلائل الإمامة: ص436 معرفة أن الله لا يخلي الأرض من حجة ح11.

قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) لعَليٍّ (عليه السلام): «يَا عَليُّ ثَلاثٌ أُقْسِمُ أَنَّهُنَّ حَقٌّ، إِنَّكَ والأَوْصِيَاءُ عُرَفَاءُ لا يُعْرَفُ اللهُ إِلا بِسَبِيل مَعْرِفَتِكُمْ، وعُرَفَاءُ لا يَدْخُل الجَنَّةَ إِلا مَنْ عَرَفَكُمْ وعَرَفْتُمُوهُ، وعُرَفَاءُ لا يَدْخُل النَّارَ إِلا مَنْ أَنْكَرَكُمْ وأَنْكَرْتُمُوهُ»(1).

تثبيت العقيدة

مسألة: طلب ما تثبت به العقيدة أو ما يوجب تثبيت عقيدة الآخرين راجح بالمعنى الأعم، وفي هذا الحديث قال: (ناوليني لأنظر فيها).

عَنْ عَبْدِ السَّلامِ بْنِ صَالحٍ الهَرَوِيِّ قَال: سَمِعْتُ أَبَا الحَسَنِ عَليَّ بْنَ مُوسَى الرِّضَا (عليه السلام) يَقُول: «رَحِمَ اللهُ عَبْداً أَحْيَا أَمْرَنَا»، فَقُلتُ لهُ: وكَيْفَ يُحْيِي أَمْرَكُمْ؟قَال: «يَتَعَلمُ عُلومَنَا ويُعَلمُهَا النَّاسَ، فَإِنَّ النَّاسَ لوْ عَلمُوا مَحَاسِنَ كَلامِنَا لاتَّبَعُونَا»، قَال: قُلتُ: يَا ابْنَ رَسُول اللهِ فَقَدْ رُوِيَ لنَا عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) أَنَّهُ قَال: «مَنْ تَعَلمَ عِلماً ليُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ أَوْ يُبَاهِيَ بِهِ العُلمَاءَ أَوْ ليُقْبِل بِوُجُوهِ النَّاسِ إِليْهِ فَهُوَ فِي النَّارِ»، فَقَال (عليه السلام): «صَدَقَ جَدِّي (عليه السلام)، أَفَتَدْرِي مَنِ السُّفَهَاءُ»، فَقُلتُ: لا يَا ابْنَ رَسُول اللهِ، قَال (عليه السلام): «هُمْ قُصَّاصُ مُخَالفِينَا، أَوَتَدْرِي مَنِ العُلمَاءُ»، فَقُلتُ: لا يَا ابْنَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله)، فَقَال: «هُمْ عُلمَاءُ آل مُحَمَّدٍ (عليهم السلام) الذِينَ فَرَضَ اللهُ طَاعَتَهُمْ وأَوْجَبَ مَوَدَّتَهُمْ»، ثُمَّ قَال: «أَوتَدْرِي مَا مَعْنَى قَوْلهِ أَوْ ليُقْبِل بِوُجُوهِ النَّاسِ

ص: 159


1- بصائر الدرجات: ج 1 ص499 ب16 باب في الأئمة أنهم الذين ذكرهم الله يعرفون أهل الجنة والنار ح12.

إِليْهِ»، فَقُلتُ: لا، فَقَال (عليه السلام): «يَعْنِي واللهِ بِذَلكَ ادِّعَاءَ الإِمَامَةِ بِغَيْرِ حَقِّهَا ومَنْ فَعَل ذَلكَ فَهُوَ فِي النَّارِ»(1).

الوقوف عند حدود الله

مسألة: يجب الوقوف عند ما حدّه الله تعالى، ولعل النهي عن مس الصحيفة،كان لأجل أن تلك الدرة البيضاء كانت من الجنة، وكان اللمس والنظر مما يخصهم (عليهم السلام)، فلم تجز له إلا النظر من ظاهرها، أي من خلف الغلاف أو ظهر الصحيفة إلى باطنها، وذلك أمر ممكن في الجسم الشفاف كالزجاج ونحوه.

قال تعالى: «والحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وبَشِّرِ المُؤْمِنين»(2).

وقال سبحانه: «تِلكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها ومَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالمُون»(3).

وقال عزوجل: «وَتِلكَ حُدُودُ اللهِ ومَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلمَ نَفْسَهُ لا تَدْري لعَل اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلكَ أَمْراً»(4).

ص: 160


1- عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج 1 ص307 ب28 باب فيما جاء عن الإمام علي بن موسى (عليه السلام) من الأخبار المتفرقة ح69.
2- سورة التوبة: 112.
3- سورة البقرة: 229.
4- سورة الطلاق: 1.

عدة مسائل

مسألة: قد يستفاد من قوله: «أبو القاسم محمد» أن الأولى تقديم الكنية على الإسم.

مسألة: قد يستفاد من هذا الحديث رجحان تقديم الكنية والاسم على اللقب.

مسألة: من الراجح معرفة أسماء أمهات المعصومين (عليهم السلام).

مسألة: من الراجح معرفة الفوارق بين ألقاب المعصومين (عليهم السلام)، حيث قال: (الحسين بن علي التقي).

مسألة: من الراجح معرفة سلسلة نسب أمهات وآباء المعصومين (عليهم السلام).

مسألة: يحسين التعرف على مكارم أخلاق أمهات المعصومين (عليهم السلام) وفضائلهن.

مسألة: يستحب وربما وجب معرفة الجواب عن بعض الشبهات التي قد تثار حول أجداد بعض أمهات المعصومين (عليهم السلام).

مسألة: من الراجح التعرف على وجه اختصاص كل معصوم (عليه السلام) بلقب.مسألة: من الراجح التعرف على وجه كون أمهات بعض المعصومين (عليهم السلام) جواري.

ص: 161

مسألة: من الراجح التعرف على بلاد أمهات المعصومين (عليهم السلام) وكيفية نشأتهن فيها وطهرهن وعفافهن.

مسألة: من الراجح معرفة الوجه في تعدد أسماء أمهات المعصومين (عليهم السلام).

مسألة: يحسن التعرف على تعامل المعصومين (عليهم السلام) مع زوجاتهم وأمهات أولادهم.

مسألة: من الراجح معرفة حياة أمهات المعصومين بعد زواجهن من المعصوم (عليه السلام).

مسألة: يجوز استناداً إلى هذا الحديث تهنئة الرجال النساء بمولودهن، وكذلك العكس، بشرط رعاية الموازين الشرعية، مثل أن لا يكون بخضوع في القول، ولا تلذذ ولا ريبة، هذا مضافاً إلى عمومات التهنئة والتحية ونحوهما.

مسألة: يستحب ذكر نسب الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) حتى اسم الأمهات، وذلك لعدم الالتباس.

ص: 162

أنت الإمام والخليفة بعدي

اشارة

عن سهل بن سعد الأنصاري، قال: سألت فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن الأئمة (عليهم السلام)؟ فقالت: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول لعلي (عليه السلام):

يا علي أنت الإمام والخليفة بعدي، وأنت أولى بالمؤمنين من أنفسهم.

فإذا مضيت فابنك الحسن أولى بالمؤمنين من أنفسهم.

فإذا مضى الحسن فالحسين أولى بالمؤمنين من أنفسهم.

فإذا مضى الحسين فابنه علي بن الحسين أولى بالمؤمنين من أنفسهم.

فإذا مضى علي فابنه محمد أولى بالمؤمنين من أنفسهم.

فإذا مضى محمد فابنه جعفر أولى بالمؤمنين من أنفسهم.

فإذا مضى جعفر فابنه موسى أولى بالمؤمنين من أنفسهم.

فإذا مضى موسى فابنه علي أولى بالمؤمنين من أنفسهم.

فإذا مضى علي فابنه محمد أولى بالمؤمنين من أنفسهم.

فإذا مضى محمد فابنه علي أولى بالمؤمنين من أنفسهم.

فإذا مضى علي فابنه الحسن أولى بالمؤمنين من أنفسهم.

فإذا مضى الحسن فالقائم المهدي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، يفتح اللهتعالى به مشارق الأرض ومغاربها، فهم أئمة الحق وألسنة الصدق، منصور من

ص: 163

نصرهم، مخذول من خذلهم(1).

------------------------

الإبلاغ المكرر

مسألة: الظاهر من قول الصديقة (عليها السلام): (كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول) تكرر صدور هذا القول من النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)، وإلا لقالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهو بدليل التأسي يدل على استحباب بيان ذلك مكرراً.

والفرق بين الإمام والخليفة قد يكون بلحاظ مادتي الكلمتين، فالإمام لوحظ باعتبار قيادة الأمة، والخليفة منسوباً لمن استخلفه أولاً، أي لمنشيء الاستخلاف، ثم للمستخلف عليهم، أي الناس ثانياً، وهناك فوارق أخرى بحسب المصطلح مذكورة في مظانها.

قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «والذِي بَعَثَنِي بِالنُّبُوَّةِ وجَعَلنِي خَيْرَ البَرِيَّةِ إِنَّ وَصِيِّي لأَفْضَل الأَوْصِيَاءِ، وإِنَّهُ لحُجَّةُ اللهِ عَلى عِبَادِهِ وخَليفَتُهُ عَلى خَلقِهِ، ومِنْ وُلدِهِالأَئِمَّةُ الهُدَاةُ بَعْدِي بِهِمْ يَحْبِسُ اللهُ العَذَابَ عَنْ أَهْل الأَرْضِ، وبِهِمْ يمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلى الأَرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ، وبِهِمْ يُمْسِكُ الجِبَال أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ، وبِهِمْ يَسْقِي خَلقَهُ الغَيْثَ وبِهِمْ يُخْرِجُ النَّبَاتَ، أُولئِكَ أَوْليَاءُ اللهِ حَقّاً وخُلفَائِي صِدْقاً، عِدَّتُهُمْ عِدَّةُ الشُّهُورِ وهِيَ اثْنا عَشَرَ شَهْراً، وعِدَّتُهُمْ عِدَّةُ نُقَبَاءِ مُوسَى بْنِ

ص: 164


1- كفاية الأثر: ص196 باب ما جاء عن فاطمة (صلوات الله عليها) عن النبي (صلى الله عليه وآله) في النصوص على الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام).

عِمْرَانَ، ثُمَّ تَلا (عليه السلام) هَذِهِ الآيَةَ: «وَالسَّماءِ ذاتِ البُرُوجِ»(1)، ثُمَّ قَال: أَتَقْدِرُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ إِنَّ اللهَ يُقْسِمُ بِالسَّمَاءِ ذَاتِ البُرُوجِ ويَعْنِي بِهِ السَّمَاءَ وبُرُوجَهَا، قُلتُ: يَا رَسُول اللهِ فَمَا ذَاكَ، قَال: «أَمَّا السَّمَاءُ فَأَنَا، وأَمَّا البُرُوجُ فَالأَئِمَّةُ بَعْدِي، أَوَّلهُمْ عَليٌّ وآخِرُهُمْ المَهْدِيُّ صَلوَاتُ اللهِ عَليْهِمْ أَجْمَعِين»(2).

مسائل في أولوية الإمام

مسألة: أولوية الإمام (عليه السلام) بالمؤمنين من أنفسهم عامة لكل الأفراد دون استثناء.

مسألة: أولوية الإمام (عليه السلام) لا تخص الأفراد بما هم أفراد، بل تعمالجماعات بما هي جماعات كالعشائر والمنظمات والدول أيضاً.

مسألة: أولوية الإمام (عليه السلام) عامة لكل الأزمان.

مسألة: أولوية الإمام (عليه السلام) عامة لكل الحالات.

مسألة: أولوية الإمام (عليه السلام) عامة لكل الظروف الاجتماعية ولمختلف التقلبات.

مسألة: الظاهر أن وزان ودرجة أولوية الإمام (عليه السلام) بالمؤمنين هي نفس وزان ودرجة أولوية الرسول (صلى الله عليه وآله) بهم من حيث الآثار القانونية والشرعية.

ص: 165


1- سورة البروج: 1.
2- الاختصاص: ص224 حديث في الأئمة (عليهم السلام).

مسألة: الظاهر من فاء التفريع أن الأولوية طولية وليست عرضية.

مسألة: أولوية الرسول والأئمة (عليه وعليهم السلام) بالمؤمنين هي بالجعل الإلهي، ومستندة إلى المصالح الواقعية، فإنهم أفضل وأكمل وأعقل وأحسن من يمكن أن تجعل له المولوية والأولوية.

مسألة: أولوية الإمام (عليه السلام) شاملة للكفار أيضاً، وذكر المؤمنين إنما هولكونهم الأقرب للاستجابة وللإطاعة، لا الحصر.

مسألة: الأولوية كأساس وقاعدة وحق، لا تستلزم إعمالها من الإمام (عليه السلام) فربما ترك إعمالها لمانع.

مسألة: الأولوية غير خاصة بدار الدنيا، بل هي شاملة لعالم الآخرة أيضاً، فإنهم سادات الدنيا والآخرة،

مسألة: ولاية المعصوم (عليه السلام) في زمن الغيبة كولايته في زمن الحضور.

قال الشيخ الصدوق (رحمه الله): إن معنى قول النبي (صلى الله عليه وآله): «ألست أولى بكم من أنفسكم» أنه يملك طاعتهم، ولزم أن قوله (فمن كنت مولاه) إنما أراد به فمن كنت أملك طاعته فعلي (عليه السلام) يملك طاعته بقوله: فعلي مولاه) (1).

عن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَال: أَرَادَ رَسُول اللهِ (صلى

الله عليه وآله) أَنْ يُبَلغَ بِوَلايَةِ عَليٍّ (عليه السلام) فَأَنْزَل اللهُ تَعَالى: «يا أَيُّهَا الرَّسُول بَلغْ ما أُنْزِل

ص: 166


1- معاني الأخبار: ص73 باب معنى قول النبي (صلى الله عليه وآله) من كنت مولاه فعلي مولاه.

إِليْكَ»(1) الآيَةَ، فَلمَّا كَانَ يَوْمُ غَدِيرِ خُمٍّ فَحَمِدَ اللهَ وأَثْنَى عَليْهِ وقَال: «أَلسْتُ أَنِّي أَوْلى بِكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ»، قَالوا: بَلى يَا رَسُول اللهِ، قَال: «فَمَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَعَليٌّ مَوْلاهُ، اللهُمَّ وَال مَنْ وَالاهُ وعَادِ مَنْ عَادَاه»(2).

الاعتقاد بكل الأئمة

مسألة: يجب الاعتقاد بالأئمة الاثني عشر كما عينهم الباري عزوجل ونص عليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وذكرتهم الصديقة فاطمة (عليها السلام)، ويحرم القيام بما يسبب زعزعة هذا الاعتقاد الحق وزواله، كاستماع من لا حصانة له ولا معرفة إلى شبهات المشككين أو قراءته كتبهم المضلة.

قال النبيّ (صلى الله عليه وآله): «الأئمّة من بعدي اثنا عشر، أوّلهم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وآخرهم القائم، طاعتهم طاعتي، ومعصيتهم معصيتي، من أنكر واحداً منهم فقد أنكرني»(3).

وعن الإمام العَسْكَرِيَّ (عليه السلام):«كَأَنِّي بِكُمْ وقَدِ اخْتَلفْتُمْ بَعْدِي فِي الخَلفِ مِنِّي، أَلا إِنَّ المُقِرَّ بِالأَئِمَّةِ بَعْدَ رَسُول اللهِ المُنْكِرَ لوَلدِي كَمَنْ أَقَرَّ بِجَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ ورُسُلهِ ثُمَّ أَنْكَرَ نُبُوَّةَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) لأَنَّ طَاعَةَ آخِرِنَا كَطَاعَةِ أَوَّلنَا، والمُنْكِرَ لآخِرِنَا كَالمُنْكِرِ لأَوَّلنَا»(4).

ص: 167


1- سورة المائدة: 67.
2- الطرائف: ج 1 ص121 حديث الثقلين ح185.
3- بحار الأنوار: ج 29 ص31.
4- كفاية الأثر: ص296 باب ما جاء عن أبي محمد الحسن بن علي (عليه السلام) ما يوافق هذه الأخبار ونصه على ابنه الحجة (عليه السلام).

ولاية الإمام

مسألة: يجب الاعتقاد بأن الإمام (عليه السلام) هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم، كما يجب إعلام الآخرين بهذه الحقيقة أو تذكيرهم بها، وقد ذكرنا بعض ما يرتبط بولاية المعصوم (عليه السلام) في كتاب البيع.

عَنْ سُليْمِ بْنِ قَيْسٍ الهِلاليِّ، عَنْ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) قَال: قُلتُ لهُ: مَا أَدْنَى مَا يَكُونُ بِهِ الرَّجُل ضَالاً.

قَال: «أَنْ لا يَعْرِفَ مَنْ أَمَرَ اللهُ بِطَاعَتِهِ وفَرَضَ وَلايَتَهُ وجَعَلهُ حُجَّتَهُ فِي أَرْضِهِ وشَاهِدَهُ عَلى خَلقِهِ»، قُلتُ: فَمَنْ هُمْ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، فَقَال: «الذِينَ قَرَنَهُمُ اللهُ بِنَفْسِهِ ونَبِيِّهِ فَقَال: «يا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وأَطِيعُواالرَّسُول وأُولي الأَمْرِ مِنْكُمْ»(1) قَال: فَقَبَّلتُ رَأْسَهُ وقُلتُ: أَوْضَحْتَ لي وفَرَّجْتَ عَنِّي وأَذْهَبْتَ كُل شَكٍّ كَانَ فِي قَلبِي(2).

وعَنِ الحُسَيْنِ بْنِ أَبِي العَلاءِ قَال: ذَكَرْتُ لأَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَوْلنَا فِي الأَوْصِيَاءِ إِنَّ طَاعَتَهُمْ مُفْتَرَضَةٌ، قَال: فَقَال: نَعَمْ هُمُ الذِينَ قَال اللهُ تَعَالى: «أَطِيعُوا اللهَ وأَطِيعُوا الرَّسُول وأُولي الأَمْرِ مِنْكُمْ»(3)، وهُمُ الذِينَ قَال اللهُ عَزَّوجَل: «إِنَّما وَليُّكُمُ اللهُ ورَسُولهُ والذِينَ آمَنُوا»(4)»(5).

ص: 168


1- سورة النساء: 59.
2- معاني الأخبار: ص394 باب نوادر المعاني ح45.
3- سورة النساء: 59.
4- سورة المائدة: 55.
5- الكافي: ج1 ص187 ح7.

النصرة والخذلان

مسألة: من الواجب نصرة الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) ومن الحرام خذلانهم، بالقول والعمل، وبالمال وماء الوجه وغير ذلك، فإن المنصور من نصرهم والمخذول من خذلهم.

لا يقال: إنا نرى كثيرين نصروهم وخُذلوا، أو خَذلوهم ولم يخُذلوا.

فإنه يقال: بينّا في موضع آخر أن الدنيا لا تنفك عن الآخرة، فهما كالشيء الواحد، فلا يكون المعيار في خذلانهم هذه الحياة الدنيا فقط، كما ذكرناه في كتاب (الآداب والسنن)، بل نسبة الدنيا إلى الآخرة نسبة ضئيلة جداً كقطرة في بحر لجي، أو حبة رمل واحدة في صحراء وسيعة، فالمنصور والمخذول يكون بلحاظ الجميع لا الدنيا فحسب، كما أن (العلم نور) بالنسبة إلى الجميع لا الدنيا فقط، فلا يقال كيف لا نجد تطبيقاً لأمثال ما في هذا الحديث في الدنيا، في موارد عديدة.

بالإضافة إلى أن هذه المذكورات وغيرها من المقتضيات لا العلل التامة، كغالب القوانين الطبية ونحوها، وعدم التخلف إنما يكون في العلل التامة، إلا في الإعجاز كعدم إحراق نار نمرود، وعدم قطع سكين إبراهيم (عليه الصلاةوالسلام)، إلى غيرها من المعاجز التي قد تكون خرقاً لقوانين الطبيعة(1).

ص: 169


1- إضافة إلى أن (النصرة) قد يراد بها المعنى المادي، وقد يراد النصرة المعنوية، ومن أهمها التثبيت على الإيمان، وحفظ الأولاد والأهل من الانحراف، والنصرة في الغلبة بالحجة وشبه ذلك.

حياة المعصوم

مسألة: يستحب السؤال عن تفاصيل حياة المعصومين (عليهم السلام) وكناهم وألقابهم وأحوالهم، كما تستحب الكتابة عن كل ذلك، وتكون منه صناعة الأفلام الوثائقية ونظائرها التي تتطرق لذلك كله.

قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «ذِكْرُ اللهِ عَزَّ وجَل عِبَادَةٌ، وذِكْرِي عِبَادَةٌ، وذِكْرُ عَليٍّ عِبَادَةٌ، وذِكْرُ الأَئِمَّةِ مِنْ وُلدِهِ عِبَادَةٌ»(1).

التصريح بأسماء الأئمة

مسألة: يستحب بيان أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد صرح بأسماء الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) واحداً بعد واحد، وقد يجب بيان ذلك إذا توفقت معرفة الحق عليه، والروايات في هذا الباب كثيرة.

عن الحَسَنِ بْنِ عَليٍّ (عليه السلام) قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُول لعَليٍّ (عليه السلام):

«أَنْتَ وَارِثُ عِلمِي ومَعْدِنُ حُكْمِي والإِمَامُ بَعْدِي، فَإِذَا اسْتُشْهِدْتَ فَابْنُكَ الحَسَنُ، فَإِذَا اسْتُشْهِدَ الحَسَنُ فَابْنُكَ الحُسَيْنُ،فَإِذَا اسْتُشْهِدَ الحُسَيْنُ فَعَليٌّ ابْنُهُ، يَتْلوهُ تِسْعَةٌ مِنْ صُلبِ الحُسَيْنِ أَئِمَّةٌ أَطْهَارٌ، فَقُلتُ: يَا رَسُول اللهِ فَمَا أَسَامِيهِمْ، قَال: عَليٌّ ومُحَمَّدٌ وجَعْفَرٌ ومُوسَى وعَليٌّ ومُحَمَّدٌ وعَليٌّ والحَسَنُ والمَهْدِيُّ، مِنْ صُلبِ الحُسَيْنِ يَمْلأُ اللهُ تَعَالى بِهِ الأَرْضَ قِسْطاً وعَدْلا كَمَا مُلئَتْ جَوْراً

ص: 170


1- الاختصاص: ص224 حديث في الأئمة (عليهم السلام).

وظُلماً»(1).

وعَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَاليِّ قَال: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) يَقُول: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «قَال اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالى: اسْتِكْمَال حُجَّتِي عَلى الأَشْقِيَاءِ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ تَرَكَ وَلايَةَ عَليٍّ والأَوْصِيَاءِ مِنْ بَعْدِكَ، فَإِنَّ فِيهِمْ سُنَّتَكَ وسُنَّةَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلكَ، وهُمْ خُزَّانُ عِلمِي مِنْ بَعْدِكَ، ثُمَّ قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «لقَدْ أَنْبَأَنِي جَبْرَئِيل بِأَسْمَائِهِمْ وأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ»(2).

وعَنِ ابْنِ مُثَنًّى عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَال: سَأَلتُهَا كَمْ خَليفَةً يَكُونُ لرَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) فَقَالتْ: أَخْبَرَنِي رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) أَنَّهُ يَكُونُ بَعْدَهُ اثْنَاعَشَرَ خَليفَةً، فَقُلتُ: لهَا مَنْ هُمْ؟ فَقَالتْ: أَسْمَاؤُهُمْ عِنْدِي مَكْتُوبَةٌ بِإِمْلاءِ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله)، فَقُلتُ لهَا: فَاعْرِضِيهِ، فَأَبَت(3).

ملامح الحكومة المهدوية

مسألة: يستحب ذكر أحوال الإمام القائم (عليه السلام) وأنه يفتح الله تعالى به مشارق الأرض ومغاربها بدون استثناء، ويملؤها قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلما وجوراً.

كما أن في حكومته لا حدود مصطنعة جغرافية بل ستسقط هذه الحدود

ص: 171


1- كفاية الأثر: ص167 باب ما روي عن الحسن بن علي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في النصوص على الأئمة الاثني عشر (صلوات الله عليهم).
2- بصائر الدرجات: ج 1 ص105 ب19 باب في الأئمة أنهم خزان الله في السماء والأرض على علمه ح12.
3- إعلام الورى: ص385.

المزيفة بين الدول كافة، كما تسقط الجوازات والجنسيات والهويات والبطاقات ونظائرها من بدع الغرب والشرق، فيسافر الإنسان بكامل حريته من مختلف بقاع الأرض إلى مكة والمدينة وإلى كربلاء والنجف وغيرها بدون أي حد أو قيد، ولا تأشيرة ولا ضريبة ولا رسوم ولا كمارك، فإن الضرائب المبتدعة سترفع كلها، وكذلك كافة الآصار والأغلال التي وضعتها الحكومات أو الأعراف الجاهلية على أعناق الناس.قال تعالى: «وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا»(1).

اللهم أرنا الطلعة الرشيدة والغرة الحميدة واكحل نواظرنا بنظرة منا إليه.

الحكومة العالمية

مسألة: ينبغي التعرف على ملامح ومعالم حكومة الإمام المنتظر (عليه السلام) العالمية على الدنيا كلها، في اقتصاده وسياسته وأمنه ورفائه وعدله وإحسانه وشبه ذلك.

عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُول: «إِنَّ ذَا القَرْنَيْنِ كَانَ عَبْداً صَالحاً جَعَلهُ اللهُ حُجَّةً عَلى عِبَادِهِ، فَدَعَا قَوْمَهُ إِلى اللهِ عَزَّ وَجَل وَأَمَرَهُمْ بِتَقْوَاهُ، فَضَرَبُوهُ عَلى قَرْنِهِ، فَغَابَ عَنْهُمْ زَمَاناً حَتَّى قِيل مَاتَ أَوْ هَلكَ بِأَيِّ وَادٍ سَلكَ، ثُمَّ ظَهَرَ وَرَجَعَ إِلى قَوْمِهِ فَضَرَبُوهُ عَلى قَرْنِهِ الآخَرِ، أَلا

ص: 172


1- سورةالزمر: 69. إضافة إلى أن (النصرة) قد يراد بها المعنى المادي، وقد يراد النصرة المعنوية، ومن أهمها التثبيت على الإيمان، وحفظ الأولاد والأهل من الانحراف، والنصرة في الغلبة بالحجة وشبه ذلك.

وَفِيكُمْ مَنْ هُوَ عَلى سُنَّتِهِ وَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَل مَكَّنَ لهُ فِي الأَرْضِ وَآتَاهُ مِنْ كُل شَيْ ءٍ سَبَباً وَبَلغَ المَشْرِقَ وَالمَغْرِبَ، وَإِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَ تَعَالىسَيُجْرِي سُنَّتَهُ فِي القَائِمِ مِنْ وُلدِي، وَيُبَلغُهُ شَرْقَ الأَرْضِ وَغَرْبَهَا حَتَّى لا يَبْقَى سَهْل وَلا مَوْضِعٌ مِنْ سَهْل وَلا جَبَل وَطِئَهُ ذُو القَرْنَيْنِ إِلا وَطِئَهُ، وَيُظْهِرُ اللهُ لهُ كُنُوزَ الأَرْضِ وَمَعَادِنَهَا وَيَنْصُرُهُ بِالرُّعْبِ، يَمْلأُ الأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلا كَمَا مُلئَتْ جَوْراً وَ ظُلماً»(1).

وقال (عليه السلام): «وَهُوَ الثَّانِي عَشَرَ مِنَّا، يُسَهِّل اللهُ تَعَالى لهُ كُل عُسْرٍ، وَيُذَلل لهُ كُل صَعْبٍ، وَيُظْهِرُ لهُ كُنُوزَ الأَرْضِ، وَيُقَرِّبُ عَليْهِ كُل بَعِيدٍ، وَيُبِيرُ بِهِ كُل جَبَّارٍ عَنِيدٍ، وَيُهْلكُ عَلى يَدِهِ كُل شَيْطَانٍ مَرِيدٍ، ذَلكَ ابْنُ سَيِّدَةِ الإِمَاءِ الذِي تَخْفَى عَلى النَّاسِ وِلادَتُهُ وَلا يَحِل لهُمْ تَسْمِيَتُهُ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللهُ فَيَمْلأَ بِهِ الأَرْضَ قِسْطاً وَ عَدْلا كَمَا مُلئَتْ جَوْراً وَ ظُلماً»(2).

أئمة الحق

مسألة: يجب الاعتقاد بأنهم (عليهم السلام) أئمة الحق وألسنة الصدق، والفرق بين الحق والصدق هو أن الحق بلحاظ الواقع والعين والثبوت والمطابَقية، والصدق بلحاظ الإثبات والمطابِقية.مسألة: يجب الاعتقاد بأنهم (عليهم السلام) أئمة الحق بقول مطلق، وألسنة الصدق كذلك بلا استثناء، فهم أئمة الحق في العقيدة والشريعة والسياسة والاقتصاد والاجتماع والفكر والثقافة والأخلاق والآداب وما يرتبط بالدنيا

ص: 173


1- بحار الأنوار: ج12 ص194 - 195 ب8 ح19.
2- مستدرك الوسائل: ج12 ص282 ب31 ح14098.

والآخرة.

قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «سَتَكُونُ مِنْ بَعْدِي فِتْنَةٌ، فَإِذَا كَانَ كَذَلكَ فَالزَمُوا عَليَّ بْنَ أَبِي طَالبٍ فَإِنَّهُ الفَارُوقُ بَيْنَ الحَقِ والبَاطِل»(1).

عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) يَقُول لعَليٍّ (عليه السلام): «أَنْتَ أَوَّل مَنْ آمَنَ بِي وصَدَّقَنِي، وأَنْتَ أَوَّل مَنْ يُصَافِحُنِي يَوْمَ القِيَامَةِ، وأَنْتَ الصِّدِّيقُ الأَكْبَرُ، وأَنْتَ الفَارُوقُ بَيْنَ الحَقِ والبَاطِل، وأَنْتَ يَعْسُوبُ المُؤْمِنِينَ، والمَال يَعْسُوبُ الظَّلمَة»(2).

وعَنْ هِشَامٍ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُول، وسَأَلهُ سَلمَانُ عَنِ الأَئِمَّةِ (عليهم السلام)، قَال: «الأَئِمَّةُ بَعْدِي عَدَدَ نُقَبَاءِ بَنِي إِسْرَائِيل، تِسْعَةٌ مِنْ صُلبِ الحُسَيْنِ، ومِنَّا مَهْدِيُّ هَذِهِ الأُمَّةِ، أَلا إِنَّهُمْ مَعَ الحَقِ والحَقُّ مَعَهُمْ، فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلفُونِّي فِيهِمْ»(3).

ص: 174


1- المناقب: ج 3 ص91 فصل في أنه الصديق والفاروق والصدق والصادق والمعنى بقوله سيجعل لهم الرحمن وُداً.
2- اليقين: ص506 ص209.
3- كفاية الأثر: ص130.

رجال الأعراف

اشارة

عن أبي ذر (رضوان الله عليه)، قال سمعت فاطمة (عليها السلام) تقول: سألت أبي (صلى الله عليه وآله) عن قول الله تبارك وتعالى: «وَعَلى الأَعْرَافِ رِجَال يَعْرِفُونَ كُلا بِسِيمَاهُمْ»(1)، قال (صلى الله عليه وآله): «هم الأئمة بعدي: علي وسبطاي وتسعة من صلب الحسين (عليهم السلام)، هم رجال الأعراف، لا يدخل الجنة إلاّ من يعرفهم ويعرفونه، ولا يدخل النار إلاّ من أنكرهم وينكرونه، لا يعرف الله تعالى إلاّ بسبيل معرفتهم»(2).

--------------------------

مطالب عن الأعراف

هنا مطالب عديدة عن الأعراف:

* المطلب الأول: إن الأعراف هي مواضع مرتفعة كالتلال بين الجنة والنار، قال الإمام الصادق (عليه السلام): «الأَعْرَافُ كُثْبَانٌ بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَالرِّجَال الأَئِمَّةُ (صَلوَاتُ اللهِ عَليْهِمْ) يَقِفُونَ عَلى الأَعْرَافِ مَعَ شِيعَتِهِمْ، وَقَدْ سَبَقَ

ص: 175


1- سورة الأعراف: 46.
2- كفاية الأثر: ص195 باب ما جاء عن فاطمة (صلوات الله عليها) عن النبي (صلى الله عليه وآله) في النصوص على الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام).

المُؤْمِنُونَ إِلى الجَنَّةِ بِلا حِسَابٍ، فَيَقُولالأَئِمَّةُ لشِيعَتِهِمْ مِنْ أَصْحَابِ الذُّنُوبِ: انْظُرُوا إِلى إِخْوَانِكُمْ فِي الجَنَّةِ قَدْ سَبَقُوا إِليْهَا بِلا حِسَابٍ، وَهُوَ قَوْل اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالى: «سَلامٌ عَليْكُمْ لمْ يَدْخُلوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ»(1)، ثُمَّ يُقَال لهُمْ: انْظُرُوا إِلى أَعْدَائِكُمْ فِي النَّارِ، وَهُوَ قَوْلهُ: «وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالوا رَبَّنا لا تَجْعَلنا مَعَ القَوْمِ الظَّالمِينَ * وَنادى أَصْحابُ الأَعْرافِ رِجالا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ» في النار «قالوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ» في الدنيا «وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ»(2)، ثُمَّ يَقُول لمَنْ فِي النَّارِ مِنْ أَعْدَائِهِمْ هَؤُلاءِ شِيعَتِي وَإِخْوَانِيَ الذِينَ كُنْتُمْ أَنْتُمْ تَحْلفُونَ فِي الدُّنْيَا أَنْ «لا يَنالهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ»(3)، ثُمَّ يَقُول الأَئِمَّةُ (عليهم السلام) لشِيعَتِهِمْ: «ادْخُلوا الجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَليْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ»(4)، ثُمَّ «نادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَليْنا مِنَ الماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ»(5)»(6).

* المطلب الثاني: إن اشتقاق الأعراف إما من المعرفة، أو من العَرفبمعنى المكان العالي المرتفع.

فالأول: لأن الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) هم أكمل العارفين، وهم

ص: 176


1- سورة الأعراف: 46.
2- سورة الأعراف: 47 - 48.
3- سورة الأعراف: 49.
4- سورة الأعراف: 49.
5- سورة الأعراف: 50.
6- بحار الأنوار: ج 8 ص335 ب25 الأعراف وأهلها وما يجري بين أهل الجنة وأهل النار ح2.

المعرّفون إلى الله والأدلاء عليه في العوالم السابقة وفي هذا العالم، وفي العوالم اللاحقة أيضاً.

فسميت الأعراف بالأعراف لأنها تحملهم (عليهم السلام) لفترة من الزمن، أو لأنها المحل الذي يقفون فيه ليتعرفوا على أصحاب اليمين وأصحاب الشمال ويعرفونهم، فالعلاقة المصححة للتجوز هي علاقة الحال والمحل.

والثاني: لارتفاع منزلتهم ومقامهم (عليهم السلام)، فكالسابق من حيث العلاقة المصححة.

هذا وجه، والوجه الآخر أنها سميت الأعراف لارتفاعها حساً في صحراء المحشر فلا تجوّز.

* المطلب الثالث: إن رجال الأعراف هم الأئمة المعصومون (عليهم السلام) كما دلت عليه هذه الرواية عن الصديقة (صلوات الله عليها)، وروايات أخرى عديدة:

عَنْ سَلمَانَ، قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُول لعَليٍّ (عليه السلام) أَكْثَرَ مِنْ عَشْرِ مَرَّاتٍ: «يَا عَليُّ إِنَّكَ وَالأَوْصِيَاءُ مِنْ بَعْدِكَ أَعْرَافٌ بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، لا يَدْخُل الجَنَّةَ إِلا مَنْ عَرَفَكُمْ وَعَرَفْتُمُوهُ، وَلا يَدْخُلالنَّارَ إِلا مَنْ أَنْكَرَكُمْ وَأَنْكَرْتُمُوهُ»(1).

وفي بصائر الدرجات: عَنْ بُرَيْدٍ العِجْليِّ قَال: سَأَلتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) عَنْ قَوْل اللهِ: «وَعَلى الأَعْرافِ رِجال يَعْرِفُونَ كُلا بِسِيماهُمْ»(2)، قَال: أُنْزِلتْ

ص: 177


1- بحار الأنوار: ج 8 ص337 ب25 الأعراف وأهلها وما يجري بين أهل الجنة وأهل النار ح9.
2- سورة الأعراف: 46.

فِي هَذِهِ الأُمَّةِ، وَالرِّجَال هُمُ الأَئِمَّةُ مِنْ آل مُحَمَّدٍ، قُلتُ: فَمَا الأَعْرَافُ، قَال: صِرَاطٌ بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَمَنْ شُفِّعَ لهُ الأَئِمَّةُ مِنَّا مِنَ المُؤْمِنِينَ المُذْنِبِينَ نَجَا، وَمَنْ لمْ يُشَفَّعُوا لهُ هَوَى»(1).

وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) فِي قَوْل اللهِ عَزَّ وَجَل: «وَعَلى الأَعْرافِ رِجال يَعْرِفُونَ كُلا بِسِيماهُمْ»(2)، قَال: «نَحْنُ أُولئِكَ الرِّجَال، الأَئِمَّةُ مِنَّا يَعْرِفُونَ مَنْ يَدْخُل النَّارَ وَمَنْ يَدْخُل الجَنَّةَ، كَمَا تَعْرِفُونَ فِي قَبَائِلكُمْ الرَّجُل مِنْكُمْ يَعْرِفُ مَنْ فِيهَا مِنْ صَالحٍ أَوْ طَالحٍ»(3).وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) وَإِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) فِي قَوْل اللهِ عَزَّ وَجَل: «وَعَلى الأَعْرافِ رِجال يَعْرِفُونَ كُلا بِسِيماهُمْ»، قَال: «هُمُ الأَئِمَّةُ»(4).

المطلب الرابع: أن أصحاب الأعراف هم غير رجال الأعراف، ففي تفسير القمي وبصائر الدرجات عن الباقر ع أنه سئل عن أصحاب الأعراف فقال إنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فقصرت بهم الأعمال ....

وفي الكافي: ....

وفي العياشي ....

انقل عن الصافي ج2 ص 18 الطبعة التي في 3 مجلدات.

وفي البصائر، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) فِي قَوْل اللهِ عَزَّ وَجَل: «وَعَلى الأَعْرافِ رِجال يَعْرِفُونَ كُلا بِسِيماهُمْ»(5)، قَال: «الأَئِمَّةُ مِنَّا أَهْل البَيْتِ فِي بَابٍ مِنْ يَاقُوتٍ أَحْمَرَ عَلى سُورِ الجَنَّةِ يَعْرِفُ كُل إِمَامٍ مِنَّا مَا

ص: 178


1- بصائر الدرجات: ج 1 ص496 ب16 باب في الأئمة أنهم الذين ذكرهم الله يعرفون أهل الجنة والنار ح5.
2- سورة الأعراف: 46.
3- بصائر الدرجات: ج 1 ص495 ب16 باب في الأئمة أنهم الذين ذكرهم الله يعرفون أهل الجنة والنار ح1.
4- بصائر الدرجات: ج 1 ص496 ب16 باب في الأئمة أنهم الذين ذكرهم الله يعرفون أهل الجنة والنار ح2.
5- سورة الأعراف: 46.

يَليهِ»(1).

وعَنْ سَعْدٍ الإِسْكَافِ قَال: قُلتُ لأَبِي جَعْفَرٍ (عليه

السلام) قَوْلهُ عَزَّ وَ جَل: «وَعَلى الأَعْرافِ رِجال يَعْرِفُونَ كُلا بِسِيماهُمْ»(2)، فَقَال: يَا سَعْدُ إِنَّهَا أَعْرَافٌ لا يَدْخُل الجَنَّةَ إِلا مَنْ عَرَفَهُمْ وَعَرَفُوهُ، وَأَعْرَافٌ لا يَدْخُل النَّارَ إِلا مَنْ أَنْكَرَهُمْ وَأَنْكَرُوهُ، وَأَعْرَافٌ لا يُعْرَفُ اللهُ إِلا بِسَبِيل مَعْرِفَتِهِمْ، فَلا سَوَاءَ مَا اعْتَصَمَتْ بِهِ المُعْتَصِمَةُ وَمَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ النَّاسِ، ذَهَبَالنَّاسُ إِلى عَيْنٍ كَدِرَةٍ يَفْرَغُ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ، وَمَنْ أَتَى آل مُحَمَّدٍ أَتَى عَيْناً صَافِيَةً تَجْرِي بِعِلمِ اللهِ ليْسَ لهَا نَفَادٌ وَلا انْقِطَاعٌ، ذَلكَ بِأَنَّ اللهَ لوْ شَاءَ لأَرَاهُمْ شَخْصَهُ حَتَّى يَأْتُوهُ مِنْ بَابِهِ، لكِنْ جَعَل اللهُ مُحَمَّداً وَآل مُحَمَّدٍ الأَبْوَابَ التِي يُؤْتَى مِنْهَا، وَذَلكَ قَوْلهُ: «وَليْسَ البِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ البِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا البُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها»(3) »(4).

ص: 179


1- بصائر الدرجات: ج 1 ص500 ب16 باب في الأئمة أنهم الذين ذكرهم الله يعرفون أهل الجنة والنار ح19.
2- سورة الأعراف: 46.
3- سورة البقرة: 189.
4- بصائر الدرجات: ج 1 ص499 ب16 باب في الأئمة أنهم الذين ذكرهم الله يعرفون أهل الجنة والنار ح11.

على الأعراف ومن في الأعراف

مسألة: يستحب بيان أن على الأعراف الأئمة المعصومين (عليهم السلام) لأجل فرز المؤمنين من غيرهم، وغير ذلك مما سبق.

وهناك من في الأعراف أي سكنتها، فقيل: إنهم صلحاء الجن، وقيل: إنهم أقوام يكونون في الدرجة السافلة من أهل الثواب، وقيل: إنهم أقوام تساوت حسناتهم وسيئاتهم، وقيل: إنهم قوم خرجوا إلى الغزو بغير إذن إمامهم، وقيل: إنهم مساكين أهل الجنة، وقيل: إنهم الفساق من أهل الصلاة.

أما فسدة الجن فيدخلون النار كما يدخلها فسدة الإنس، ولعل مراتب الجن والإنس في النار أيضاً مختلفة بحسب اختلاف طبائعهم كاختلاف مراتب الصلحاء منهما جنةً وأعرافاً.

والظاهر أنه لا مانعة جمع بين الروايات، فإن الأعراف هو المكان الذي يقف عليه الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) مؤقتاً إلى أن يفروزا أهل الجنة والنار فيعطوا كتب أوليائهم بيمينهم وكتب أعدائهم بشمالهم، كما في الرواية، حيث يخاطب الأئمة (عليهم السلام)شيعتهم من أصحاب الذنوب، كما أنه المكان الذي يستقر فيه من تساوت حسناته وسيئاته إن لم تنله الشفاعة، كما أنه مكان صلحاء الجن وهكذا.

قال الصادق (عليه السلام): «كُل أُمَّةٍ يُحَاسِبَهَا إِمَامُ زَمَانِهَا، ويَعْرِفُ الأَئِمَّةُ أَوْليَاءَهُمْ وأَعْدَاءَهُمْ بِسِيمَاهُمْ، وهُوَ قَوْلهُ تَعَالى: «وَ عَلى الأَعْرافِ

ص: 180

رِجال»(1) وهُمُ الأَئِمَّةُ «يَعْرِفُونَ كُلاٌ بِسِيماهُمْ» فَيُعْطُونَ أَوْليَاءَهُمْ كِتَابَهُمْ بِيَمِينِهِمْ، فَيَمُرُّونَ إِلى الجَنَّةِ بِلا حِسَابٍ، ويُعْطُونَ أَعْدَاءَهُمْ كِتَابَهُمْ بِشِمَالهِمْ فَيَمُرُّونَ إِلى النَّارِ بِلا حِسَاب، ٍفَإِذَا نَظَرَ أَوْليَاؤُهُمْ فِي كِتَابِهِمْ يَقُولونَ لإِخْوَانِهِمْ «هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَة»(2)»(3).

ثم إنه لا يخفى أن سكنة الأعراف ممن تساوت حسناته وسئاته ومن صلحاء الجن، وإن أحسوا بكونهم أنزل من أهل الجنة ابتداءً، لكن لعل هذا الحس لا يستمر حتى يوجب تنغّص عيشهم، كما أن الأمر كذلك بالنسبة إلى درجات أهل الجنة، فإن هناك من هو أعلى مرتبة من الآخرين، لكن لا يحس الآخرون عنداستقرارهم بنقص وكآبة وبُئس فإنها دار السلام بكل معنى الكلمة، قال تعالى: «لهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِ»(4).

ولا محذور في إحساس أهل النار باختلاف المراتب، لأنها دار هوان، والإحساس المذكر لا ينافي الهوان المبتلى به أهل النار، كما هو واضح.

قال تعالى: «وَإِنَّ جَهَنَّمَ لمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعين * لها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لكُل بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُوم»(5).

ص: 181


1- سورة الأعراف: 46.
2- سورة الحاقة: 19- 21.
3- تفسير القمي: ج2 ص384 ب69 سورة الحاقة.
4- سورة الأنعام: 127.
5- سورة الحجر: 43-44.

وعَنْ عَليِّ بْنِ الحُسَيْنِ (عليه السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «فِي الجَنَّةِ ثَلاثُ دَرَجَاتٍ، وَفِي النَّارِ ثَلاثُ دَرَكَاتٍ، فَأَعْلى دَرَجَاتِ الجَنَّةِ لمَنْ أَحَبَّنَا بِقَلبِهِ وَنَصَرَنَا بِلسَانِهِ وَيَدِهِ، وَفِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ مَنْ أَحَبَّنَا بِقَلبِهِ وَنَصَرَنَا بِلسَانِهِ، وَفِي الدَّرَجَةِ الثَّالثَةِ مَنْ أَحَبَّنَا بِقَلبِهِ، وَفِي أَسْفَل دَرْكٍ مِنَ النَّارِ مَنْ أَبْغَضَنَا بِقَلبِهِ، وَأَعَانَ عَليْنَا بِلسَانِهِ وَيَدِهِ، وَفِي الدَّرْكِ الثَّانِيَةِ مِنَ النَّارِ مَنْ أَبْغَضَنَا بِقَلبِهِ وَأَعَانَ عَليْنَا بِلسَانِهِ، وَفِي الدَّرْكِ الثَّالثَةِ مِنَ النَّارِ مَنْ أَبْغَضَنَا بِقَلبِهِ»(1).

تفسير الآيات

مسألة: يستحب السؤال عن تفسير الآيات الشريفة، كما يستحب السؤال عن تأويلها، كما سألت الصديقة (عليها السلام) عنها، ويجب ذلك وجوباً كفائياً إذا خيف اندثارها، كما يجب وجوباً عينياً لمن ابتلي بحكم تكليفي منها.

قال تعالى: «فَسْئَلوا أَهْل الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلمُون * بِالبَيِّناتِ والزُّبُرِ وأَنْزَلنا إِليْكَ الذِّكْرَ لتُبَيِّنَ للنَّاسِ ما نُزِّل إِليْهِمْ ولعَلهُمْ يَتَفَكَّرُون»(2).

وعَنْ سَلمَةَ بْنِ مُحْرِزٍ قَال: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) يَقُول: «إِنَّ مِنْ عِلمِ مَا أُوتِينَا: تَفْسِيرَ القُرْآنِ وأَحْكَامَهُ وعِلمَ تَغْيِيرِ الزَّمَانِ وحَدَثَانِهِ»(3).

وعن جابر قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن شي ء في تفسير القرآن

ص: 182


1- المحاسن: ج 1 ص153 ب21 باب من أحبنا بقلبه ح76.
2- سورة النحل: 43 - 44.
3- الكافي: ج 1 ص229 باب أنه لم يجمع القرآن كله إلاّ الأئمة (عليهم السلام) وأنهم يعلمون علمه كله ح3.

فأجابني، ثم سألته ثانية فأجابني بجواب آخر، فقلت: جعلت فداك كنت أجبت في هذه المسألة بجواب غير هذا قبل اليوم، فقال (عليه

السلام) لي: يا جابر إن للقرآن بطناً، وللبطن ظهراً، يا جابر وليس شي ء أبعد من عقول الرجالمن تفسير القرآن، إن الآية لتكون أولها في شي ء وآخرها في شي ء وهو كلام متصل يتصرف على وجوه»(1).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «أَنَا واللهِ أَعْلمُ بِالتَّوْرَاةِ مِنْ أَهْل التَّوْرَاةِ، وأَعْلمُ بِالإِنْجِيل مِنْ أَهْل الإِنْجِيل، وأَعْلمُ بِالقُرْآنِ مِنْ أَهْل القُرْآن»(2).

التخصص في التفسير

مسألة: يجب وجوباً كفائياً أن يتخصص من به الكفاية والكفاءة بتفسير القرآن الكريم تفسيراً يفي بمتطلبات كل عصر ومصر.

قال تعالى: «وَنَزَّلنا عَليْكَ الكِتابَ تِبْياناً لكُل شَيْ ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً وَ بُشْرى للمُسْلمين»(3).

وعَنِ الزُّهْرِيِّ قَال: سَمِعْتُ عَليَّ بْنَ الحُسَيْنِ (عليه

السلام) يَقُول: «آيَاتُ القُرْآنِ خَزَائِنُ فَكُلمَا فَتَحْتَ خِزَانَةً يَنْبَغِي لكَ أَنْتَنْظُرَ مَا فِيهَا»(4).

ص: 183


1- تفسير العياشي: ج 1 ص12 تفسير الناسخ والمنسوخ والظاهر والباطن والمحكم والمتشابه ح8.
2- كتاب سليم بن قيس الهلالي: ج 2 ص913 الحديث الخامس والستون.
3- سورة النحل: 89.
4- الكافي: ج 2 ص609 باب في قراءته ح2.

تفسير المعصوم

مسألة: لا يجوز تفسير القرآن بالرأي، بل يجب أن يرجع الإنسان في تفسير القرآن إلى المعصوم (عليه السلام) كما سألت الصديقة (عليها السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله)، وكان ذلك منها تعليماً وإتماماً للحجة على الناس كي يتأسوا بها.

قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ فَسَّرَ القُرْآنَ بِرَأْيِهِ فَقَدِ افْتَرَى عَلى اللهِ الكَذِب»(1).

وَعَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «مَنْ فَسَّرَ القُرْآنَ بِرَأْيِهِ إِنْ أَصَابَ لمْ يُؤْجَرْ وإِنْ أَخْطَأَ خَرَّ أَبْعَدَ مِنَ السَّمَاءِ»(2).

وعَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) قَال: «مَنْ فَسَّرَ القُرْآنَ بِرَأْيِهِ فَأَصَابَ الحَقَّ فَقَدْ أَخْطَأَ»(3).وقَال أمير المؤمنين (عليه السلام): «سَلونِي عَنِ القُرْآنِ، فَإِنَّ فِي القُرْآنِ بَيَانَ كُل شَيْ ءٍ وفِيهِ عِلمُ الأَوَّلينَ والآخِرِينَ، وإِنَّ القُرْآنَ لمْ يَدَعْ لقَائِل مَقَالا، «وَما يَعْلمُ تَأْوِيلهُ إِلا اللهُ والرَّاسِخُونَ فِي العِلمِ»(4)، ليْسُوا بِوَاحِدٍ، رَسُول اللهِ مِنْهُمْ،

ص: 184


1- وسائل الشيعة: ج 27 ص190 ب13 باب عدم جواز استنباط الأحكام النظرية من ظواهر القرآن إلا بعد معرفة تفسيرها من الأئمة (عليهم السلام) ح37.
2- وسائل الشيعة: ج 27 ص202 ب13 باب عدم جواز استنباط الأحكام النظرية من ظواهر القرآن إلا بعد معرفة تفسيرها من الأئمة (عليهم السلام) ح66.
3- وسائل الشيعة: ج 27 ص205 ب13 باب عدم جواز استنباط الأحكام النظرية من ظواهر القرآن إلا بعد معرفة تفسيرها من الأئمة (عليهم السلام) ح79.
4- سورة آل عمران: 7.

أَعْلمَهُ اللهُ إِيَّاهُ فَعَلمَنِيهِ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله)، ثُمَّ لا يَزَال فِي عَقِبِنَا إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ»(1).

شأن النزول

مسألة: يستحب بيان أن هذه الآية التي وردت في الحديث الشريف، نزلت في شأن أهل البيت (عليهم السلام) وبيان فضلهم، إضافة إلى شمولها للأنبياء (عليهم السلام)، ويجب ذلك إن توقف إحقاق الحق عليه.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «إِنَّ الرَّجُل ليَتَكَلمُ بِالكَلمَةِ فَيَكْتُبُ اللهُ بِهَا إِيمَاناً فِي قَلبِ آخَرَ فَيَغْفِرُ لهُمَاجَمِيعاً»(2).

وقَال أمير المؤمنين (عليه السلام): «لا تُمْسِكْ عَنْ إِظْهَارِ الحَقِ إِذَا وَجَدْتَ لهُ أَهْلا»(3).

معرفة المعصوم

مسألة: يجب على الإنسان أن يعرف أهل البيت (عليهم السلام)، الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) وفاطمة (عليها السلام) والأئمة المعصومين (عليهم السلام) واحداً واحداً وبأسمائهم، وقد سبق أن أهل البيت يشمل رب البيت أيضاً.

ثم إن للمعرفة درجات، فينبغي أن يزداد الإنسان معرفة بهم (عليهم السلام)

ص: 185


1- كتاب سليم بن قيس الهلالي: ج 2 ص942 الحديث الثامن والسبعون.
2- المحاسن: ج 1 ص231 ب17 باب إظهار الحق ح178.
3- عيون الحكم والمواعظ: ص518 ح9399.

يوماً بعد يوم، أكثر فأكثر، فإنه كلما ازداد معرفةً بهم ازداد حباً لهم وازداد قرباً منهم وازداد عملاً بأقوالهم واتباعاً لتعاليمهم.

ومن طرق زيادة المعرفة بهم قراءة أقوالهم وأحاديثهم والتدبر فيها، وملاحظة أحوالهم والتأمل فيها، والتضرع إلى الله تعالى ليزيدنا بهم معرفة ولهم اتباعاً.عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «لا يَسَعُ النَّاسَ حَتَّى يَسْأَلوا ويَتَفَقَّهُوا ويَعْرِفُوا إِمَامَهُمْ، ويَسَعُهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا بِمَا يَقُول وإِنْ كَانَ تَقِيَّةً»(1).

وعَنْ جَابِرٍ قَال: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) يَقُول: «إِنَّمَا يَعْرِفُ اللهَ عَزَّ وجَل ويَعْبُدُهُ مَنْ عَرَفَ اللهَ وعَرَفَ إِمَامَهُ مِنَّا أَهْل البَيْتِ، ومَنْ لا يَعْرِفِ اللهَ عَزَّ وجَل ولا يَعْرِفِ الإِمَامَ مِنَّا أَهْل البَيْتِ فَإِنَّمَا يَعْرِفُ ويَعْبُدُ غَيْرَ اللهِ هَكَذَا واللهِ ضَلالا»(2).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «خَرَجَ الحُسَيْنُ بْنُ عَليٍّ (عليه السلام) عَلى أَصْحَابِهِ فَقَال: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللهَ جَل ذِكْرُهُ مَا خَلقَ العِبَادَ إِلا ليَعْرِفُوهُ، فَإِذَا عَرَفُوهُ عَبَدُوهُ، فَإِذَا عَبَدُوهُ اسْتَغْنَوْا بِعِبَادَتِهِ عَنْ عِبَادَةِ مَنْ سِوَاهُ، فَقَال لهُ رَجُل: يَا ابْنَ رَسُول اللهِ بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي فَمَا مَعْرِفَةُ اللهِ؟ قَال: مَعْرِفَةُ أَهْل كُل زَمَانٍ إِمَامَهُمُ الذِي يَجِبُ عَليْهِمْ طَاعَتُه»(3).

ص: 186


1- الكافي: ج 1 ص40 باب سؤال العالم وتذاكره ح4.
2- الكافي: ج 1 ص181 باب معرفة الإمام والرد إليه ح4.
3- علل الشرائع: ج 1 ص9 ب9 باب علة خلق الخلق واختلاف أحوالهم ح1.

من هم أهل الجنة

مسألة: يستحب بيان أنه لا يدخل الجنة إلاّ من يعرفهم ويعرفونه (صلوات الله عليهم)، وقد يجب ذلك، والمراد بمن يعرفونه أي يعرفونه بالإيمان والتشيع، فمن لم يعرفوه بذلك دل على أنه ليس كذلك، لمطابقة قطعهم للواقع دون شك.

عَنِ المُفَضَّل بْنِ عُمَرَ قَال: سَأَلتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) عَنِ الصِّرَاطِ، فَقَال: هُوَ الطَّرِيقُ إِلى مَعْرِفَةِ اللهِ عَزَّ وجَل، وهُمَا صِرَاطَانِ صِرَاطٌ فِي الدُّنْيَا وصِرَاطٌ فِي الآخِرَةِ، وأَمَّا الصِّرَاطُ الذِي فِي الدُّنْيَا فَهُوَ الإِمَامُ المُفْتَرَضُ الطَّاعَةِ، مَنْ عَرَفَهُ فِي الدُّنْيَا واقْتَدَى بِهُدَاهُ مَرَّ عَلى الصِّرَاطِ الذِي هُوَ جِسْرُ جَهَنَّمَ فِي الآخِرَةِ، ومَنْ لمْ يَعْرِفْهُ فِي الدُّنْيَا زَلتْ قَدَمُهُ عَنِ الصِّرَاطِ فِي الآخِرَةِ فَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ»(1).

حرمة إنكارهم

مسألة: يحرم إنكار أي واحد من أهل البيت (عليهم السلام) وقد سبق.

وفي الحديث: «لا يَدْخُل النَّارَ إِلا مَنْأَنْكَرَكُمْ وأَنْكَرْتُمُوهُ»(2).

وقال (عليه السلام) في حديث: «لأَنَّ طَاعَةَ آخِرِنَا كَطَاعَةِ أَوَّلنَا، والمُنْكِرَ

ص: 187


1- معاني الأخبار: ص32 باب معنى الصراط ح1.
2- بصائر الدرجات: ج 1 ض499 ب16 باب في الأئمة أنهم الذين ذكرهم الله يعرفون أهل الجنة والنار ح12.

لآِخِرِنَا كَالمُنْكِرِ لأَوَّلنَا»(1).

وعَنْ أَبِي سَلمَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، قَال: سَمِعْتُهُ يَقُول: «نَحْنُ الذِينَ فَرَضَ اللهُ طَاعَتَنَا، لا يَسَعُ النَّاسَ إِلا مَعْرِفَتُنَا، ولا يُعْذَرُ النَّاسُ بِجَهَالتِنَا، مَنْ عَرَفَنَا كَانَ مُؤْمِناً، ومَنْ أَنْكَرَنَا كَانَ كَافِراً، ومَنْ لمْ يَعْرِفْنَا ولمْ يُنْكِرْنَا كَانَ ضَالا حَتَّى يَرْجِعَ إِلى الهُدَى الذِي افْتَرَضَ اللهُ عَليْهِ مِنْ طَاعَتِنَا الوَاجِبَةِ، فَإِنْ يَمُتْ عَلى ضَلالتِهِ يَفْعَل اللهُ بِهِ مَا يَشَاءُ»(2).

صراط الله واحد ولا نسبية في الحق

مسألة: يستحب بيان أنه لا يدخل النار إلاّ من أنكرهم وينكرونه (عليهم السلام)،ويلزم الاعتقاد بذلك.

وهذه الرواية دليل على أن السبيل إلى الله واحدة، وأن الصراط المستقيم واحد، وأن ما عداه باطل وضلال، وأن القول بالصراطات المستقيمة المتعددة وأن كلها تؤدي إلى الله حتى الأهواء وما أشبه فهو باطل وضلال، بل هو خلاف نص القرآن الكريم، حيث قال تعالى: «اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الذِينَ أَنْعَمْتَ عَليْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَليْهِمْ وَلاَ الضَّالينَ»(3).

كما أنه من الأدلة على ذلك روايات أن فرقة واحدة هي الناجية والباقي في

ص: 188


1- بحار الأنوار: ج 51 ص160 باب10 نص العسكريين (صلوات الله عليهما) على القائم (عليه السلام) ح6.
2- الكافي: ج 1 ص187 باب فرض طاعة الأئمة (عليهم السلام) ح11.
3- سورة الفاتحة: 6-7.

النار.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام): «يَا أَبَا الحَسَنِ إِنَّ أُمَّةَ مُوسَى (عليه السلام) افْتَرَقَتْ إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، فِرْقَةٌ نَاجِيَةٌ وَالبَاقُونَ فِي النَّارِ، وَإِنَّ أُمَّةَ عِيسَى (عليه السلام) افْتَرَقَتِ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، فِرْقَةٌ نَاجِيَةٌ وَالبَاقُونَ فِي النَّارِ، وَإِنَّ أُمَّتِي سَتَفْتَرِقُ عَلى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، فِرْقَةٌ نَاجِيَةٌ وَالبَاقُونَ فِي النَّارِ. فَقُلتُ: يَا رَسُول اللهِ وَمَا النَّاجِيَةُ، فَقَال: المُتَمَسِّكُ بِمَا أَنْتَ عَليْهِ وَأَصْحَابُك»(1).وعَنْ عَليٍّ (عليه السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً مِنْهَا فِرْقَةٌ نَاجِيَةٌ وَالبَاقُونَ هَالكُونَ، فَالنَّاجُونَ الذِينَ يَتَمَسَّكُونَ بِوَلايَتِكُمْ وَيَقْتَبِسُونَ مِنْ عِلمِكُمْ وَلا يَعْمَلونَ بِرَأْيِهِمْ، فَأُولئِكَ مَا عَليْهِمْ مِنْ سَبِيل، فَسَأَلتُ عَنِ الأَئِمَّةِ، فَقَال: عَدَدَ نُقَبَاءِ بَنِي إِسْرَائِيل»(2).

العرفان الحقيقي

مسألة: يستحب بيان أنه لا يُعرف الله إلاّ عن طريق معرفتهم (عليهم السلام)، وهذا هو العرفان الحقيقي، وقد وردت بذلك روايات عديدة بل كثيرة.

قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) لعَليٍّ (عليه السلام): «يَا عَليُّ، ثَلاثٌ أُقْسِمُ أَنَّهُنَّ حَقٌّ، إِنَّكَ والأَوْصِيَاءُ عُرَفَاءُ لا يُعْرَفُ اللهُ إِلا بِسَبِيل مَعْرِفَتِكُمْ، وعُرَفَاءُ لا يَدْخُل الجَنَّةَ إِلا مَنْ عَرَفَكُمْ وعَرَفْتُمُوهُ، وعُرَفَاءُ لا

ص: 189


1- بحار الأنوار: ج 30 ص337 ب20 ح158.
2- بحار الأنوار: ج 36 ص336 ب 41 نصوص الرسول (صلى الله عليه وآله) عليهم (عليهم السلام) ح198.

يَدْخُل النَّارَ إِلا مَنْ أَنْكَرَكُمْ وأَنْكَرْتُمُوهُ»(1).وقال الصادق (عليه السلام): «يَا يُونُسُ إِنْ أَرَدْتَ العِلمَ الصَّحِيحَ فَعِنْدَنَا أَهْل البَيْتِ، فَإِنَّا وَرِثْنَا وَأُوتِينَا شَرْعَ الحِكْمَةِ وَفَصْل الخِطَابِ»، فَقُلتُ: يَا ابْنَ رَسُول اللهِ كُل مَنْ كَانَ مِنْ أَهْل البَيْتِ وَرِثَ مَا وَرِثْتَ مَنْ كَانَ مِنْ وُلدِ عَليٍّ وَفَاطِمَةَ (عليهما السلام)، فَقَال: «مَا وَرِثَهُ إِلا الأَئِمَّةُ الاثْنَا عَشَرَ»(2).

وقَال أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام) لسَلمَةَ بْنِ كُهَيْل وَالحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ: «شَرِّقَا وَغَرِّبَا فَلا تَجِدَانِ عِلماً صَحِيحاً إِلا شَيْئاً خَرَجَ مِنْ عِنْدِنَا أَهْل البَيْتِ»(3).

وعَنْ أَبِي الحَسَنِ (عليه السلام) فِي قَوْل اللهِ عَزَّ وَجَل: «وَمَنْ أَضَل مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ»(4)، قَال: «يَعْنِي مَنِ اتَّخَذَ دِينَهُ رَأْيَهُ بِغَيْرِ إِمَامٍ مِنْ أَئِمَّةِ الهُدَى»(5)

وقَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) فِيحَدِيثٍ: «أَمَا إِنَّهُ شَرٌّ عَليْكُمْ أَنْ تَقُولوا بِشَيْ ءٍ مَا لمْ تَسْمَعُوهُ مِنَّا»(6).

ص: 190


1- بصائر الدرجات: ج 1 ض499 ب16 باب في الأئمة أنهم الذين ذكرهم الله يعرفون أهل الجنة والنار ح12.
2- وسائل الشيعة: ج 27 ص72 ب7 باب وجوب الرجوع في جميع الأحكام إلى المعصومين (عليهم السلام) ح29.
3- الكافي: ج 1 ص399 باب أنه ليس شي ء من الحق في يد الناس إلا ما خرج من عند الأئمة (عليهم السلام) وأن كل شي ء لم يخرج من عندهم فهو باطل ح3.
4- سورة القصص: 50.
5- الكافي: ج 1 ص374 باب فيمن دان الله عز وجل بغير إمام من الله جل جلاله ح1.
6- الكافي: ج 2 ص402 باب الضلال ح1.

وفي نهج البلاغة: «فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ وَأَنَّى تُؤْفَكُونَ، وَالأَعْلامُ قَائِمَةٌ وَالآيَاتُ وَاضِحَةٌ وَالمَنَارُ مَنْصُوبَةٌ، فَأَيْنَ يُتَاهُ بِكُمْ وَكَيْفَ تَعْمَهُونَ وَبَيْنَكُمْ عِتْرَةُ نَبِيِّكُمْ وَهُمْ أَزِمَّةُ الحَقِّ وَأَعْلامُ الدِّينِ وَأَلسِنَةُ الصِّدْقِ، فَأَنْزِلوهُمْ بِأَحْسَنِ مَنَازِل القُرْآنِ وَرِدُوهُمْ وُرُودَ الهِيمِ العِطَاش»(1).

وفي الزيارة الجامعة: «أَنْتُمُ الصِّرَاطُ الأَقْوَمُ ... مَنْ أَتَاكُمْ نَجَا وَمَنْ لمْ يَأْتِكُمْ هَلكَ، إِلى اللهِ تَدْعُونَ وَعَليْهِ تَدُلونَ ... وَإِلى سَبِيلهِ تُرْشِدُونَ، وَبِقَوْلهِ تَحْكُمُونَ، سَعِدَ مَنْ وَالاكُمْ، وَهَلكَ مَنْ عَادَاكُمْ، وَخَابَ مَنْ جَحَدَكُمْ، وَضَل مَنْ فَارَقَكُمْ، وَفَازَ مَنْ تَمَسَّكَ بِكُمْ، وَأَمِنَ مَنْ لجَأَ إِليْكُمْ، وَسَلمَ مَنْ صَدَّقَكُمْ، وَهُدِيَ مَنِ اعْتَصَمَ بِكُمْ»(2).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «وَنَحْنُ الأَعْرَافُ الذِي لا يُعْرَفُ اللهُ عَزَّ وَ جَل إِلا بِسَبِيل مَعْرِفَتِنَا، وَنَحْنُ الأَعْرَافُ يُعَرِّفُنَا اللهُ عَزَّ وَ جَل يَوْمَ القِيَامَةِ عَلىالصِّرَاطِ فَلا يَدْخُل الجَنَّةَ إِلا مَنْ عَرَفَنَا وَعَرَفْنَاهُ، وَلا يَدْخُل النَّارَ إِلا مَنْ أَنْكَرَنَا وَأَنْكَرْنَاهُ، إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالى لوْ شَاءَ لعَرَّفَ العِبَادَ نَفْسَهُ، وَلكِنْ جَعَلنَا أَبْوَابَهُ وَصِرَاطَهُ وَسَبِيلهُ وَالوَجْهَ الذِي يُؤْتَى مِنْهُ، فَمَنْ عَدَل عَنْ وَلايَتِنَا أَوْ فَضَّل عَليْنَا غَيْرَنَا فَإِنَّهُمْ عَنِ الصِّرَاطِ لنَاكِبُونَ، فَلا سَوَاءٌ مَنِ اعْتَصَمَ النَّاسُ بِهِ وَلا سَوَاءٌ حَيْثُ ذَهَبَ النَّاسُ إِلى عُيُونٍ كَدِرَةٍ يَفْرَغُ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ، وَذَهَبَ مَنْ ذَهَبَ إِليْنَا إِلى عُيُونٍ صَافِيَةٍ تَجْرِي بِأَمْرِ رَبِّهَا لا نَفَادَ لهَا وَلا انْقِطَاعَ»(3).

وغيرها كثير.

ص: 191


1- نهج البلاغة، الخطبة: 87.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 2 ص613 زيارة جامعة لجميع الأئمة (عليهم السلام).
3- الكافي: ج1 ص184 باب معرفة الإمام والرد عليه ح9.

أما ما يدعيه أو يزعمه البعض ممن يسمي نفسه بالعارف، أو يسمونه به، فهو لا يسلك بالإنسان إلاّ إلى ما لا يرضي الله عزوجل، والتفصيل في المفصلات(1).

عَنِ الوَشَّاءِ قَال: سَأَلتُ الرِّضَا (عليه السلام) عَنْ قَوْل اللهِ تَعَالى: «وَعَلاماتٍ وبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ»(2) قَال: «نَحْنُ العَلامَاتُ، والنَّجْمُرَسُول اللهِ صلى الله عليه وآله»(3).

ص: 192


1- حول العرفان والفلسفة يمكن مراجعة كتاب (بحوث هامة في المناهج التوحيدية) و(تاريخ الفلسفة والتصوف) وغيرهما.
2- سورة النحل:16.
3- الكافي: ج 1 ص207 باب أن الأئمة (عليهم السلام) هم العلامات التي ذكرها الله عز وجل في كتابه ح3.

الأوصياء من ولدي

اشارة

عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: دخلت على فاطمة (عليها السلام) بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذات يوم، وبين يديها لوح يكاد يغشي ضوؤه الأبصار، فيه ثلاثة أسماء في ظاهره، وثلاثة أسماء في باطنه، وثلاثة أسماء في أحد طرفيه، وثلاثة أسماء في الطرف الآخر، يرى من ظاهره ما في باطنه، ويرى من باطنه ما في ظاهره، فعددت الأسماء فإذا هي اثنا عشر، فقلت: من هؤلاء؟

فقالت (عليها السلام): «هذه أسماء الأوصياء من ولدي، آخرهم القائم».

قال جابر: فرأيت فيها محمداً في ثلاثة مواضع(1)،

وعلياً وعلياً وعلياً وعلياً في أربعة مواضع(2)،(3).

----------------------------

ص: 193


1- وهم محمد الباقر ومحمد الجواد ومحمد المهدي المنتظر (عجل الله فرجه وعليهم السلام).
2- وهم علي المرتضى وعلي السجاد وعلي الرضا وعلي الهادي (صلوات الله عليهم أجمعين).
3- وسائل الشيعة: ج 16 ص245 ب33 باب تحريم تسمية المهدي (عليه السلام) وسائر الأئمة (عليهم السلام) وذكرهم وقت التقية وجواز ذلك مع عدم الخوف ح21. وانظر اثبات الوصية: ص268 قيام صاحب الزمان وهو الخلف الزكي بقية الله في أرضه وحجته على خلقه المنتظر لفرج أوليائه من عباده عليه السلام ورحمته وتحياته.

لوح الأسماء المباركة

مسألة: يستحب النظر إلى اللوح الذي يشتمل على الأسماء المباركة للأئمة الاثني عشر (عليهم السلام)، وكذا الكتاب المشتمل على أحوالهم وسيرتهم (صلوات الله عليهم).

كما يستحب تزيين مطلق الكتب والألواح بتلك الأسماء الطاهرة بما يقتضيه المقام.

كما يستحب النظر إليهم (صلوات الله عليهم).

عَنْ أَبِي الحَسَنِ الرِّضَا (عليه السلام) قَال: «النَّظَرُ إِلى ذُرِّيَّتِنَا عِبَادَةٌ»، قُلتُ: النَّظَرُ إِلى الأَئِمَّةِ مِنْكُمْ أَوِ النَّظَرُ إِلى ذُرِّيَّةِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله)، فَقَال: «بَل النَّظَرُ إِلى جَمِيعِ ذُرِّيَّةِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) عِبَادَةٌ مَا لمْ يُفَارِقُوا مِنْهَاجَهُ ولمْ يَتَلوَّثُوا بِالمَعَاصِي»(1).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال:«النَّظَرُ إِلى آل مُحَمَّدٍ عِبَادَةٌ»(2).

تسمية الأولاد

مسألة: يستحب تسمية الأولاد باسم محمد وعلي وسائر أسماء أهل البيت (عليهم السلام)، وقد مر ذلك في بعض الأجزاء السابقة.

ص: 194


1- وسائل الشيعة: ج 12 ص311 ب165 باب استحباب النظر إلى جميع صلحاء ذرية النبي (صلى الله عليه وآله) ح1.
2- المحاسن: ج 1 ص62 ب84 ثواب النظر إلى آل محمد ح108.

تعدد الألواح

سبق احتمال أن تكون القضايا متعددة وأن جابر دخل على الصديقة الزهراء (عليها السلام) مراراً عديدة، وشاهد في كل مرة لوحاً يختلف عن نظائره في الخصوصيات ويشترك في الجامع.

ويمكن أن يكون اللوح واحداً، إلاّ أنه كانت له قابلية التلون والتشكل بألوان شتى، وكان يتضمن عبارات وجملاً متنوعة مختلفة، وذلك كألواح الإعلانات الكهربائية التي تختلف من لحظة إلى لحظة، وربما كان التغير حتى في جوهره وواقعه(1)، والعلم عند الله سبحانه.

وليس ذلك بالمستغرب من الإعجاز الإلهي، فإن البشر أمكنهم صنع أجهزة تتلون بضغطة زر أو تتشكل بأشكال بنوع بسيط من التصرف، كما وتتغير كتابتها بإشارة أو حركة أو إدخال رمز(2).

ويحتمل أن يكون لوحاً واحداً له وجهان أو عدة وجوه، وجه كذا، ووجه كما ذكر، وهكذا.

ص: 195


1- والمثال المقرب للذهن: الطين الاصطناعي وشبهه من المواد السهلة التشكل.
2- كما في أجهزة الحاسوب وبرامجها المختلفة.

معرفة فلسفة الظواهر الغيبية والمادية

مسألة: ينبغي البحث في الروايات وغيرها عن فلسفة ووجه الظواهر الغيبية والمادية، ومنها ما في هذه الرواية من وجه التربيع وتصنيف الأسماء إلى أربعة مجموعات (ثلاثة أسماء ظاهرة ...) فإن ظهر الوجه فبها ونعمت، وإن احتمل وجه وجيه فيذكر كاحتمال، وإلا فيرد علمه إلى أهله (عليهم السلام).

قَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) فِيمَا أَوْصَى بِهِ الحَسَنَ (عليه السلام): «لا عِبَادَةَ كَالتَّفَكُّرِ فِي صَنْعَةِ اللهِ عَزَّ وجَل»(1).

وعَنْ مُعَمَّرِ بْنِ خَلادٍ قَال: سَمِعْتُ أَبَا الحَسَنِ الرِّضَا (عليه السلام) يَقُول: «ليْسَ العِبَادَةُ كَثْرَةَ الصَّلاةِ والصَّوْمِ، إِنَّمَا العِبَادَةُ التَّفَكُّرُ فِي أَمْرِ اللهِ عَزَّ وجَل»(2).

ص: 196


1- بحار الأنوار: ج 68 ص324 ب80 التفكر والاعتبار والاتعاظ بالعبر ح11.
2- الكافي: ج 2 55 باب التفكر ح4.

آخرهم القائم

اشارة

عن جابر بن عبد الله، قال: (دخلت على فاطمة (عليها السلام) وبين يديها لوح فيه أسماء الأوصياء من ولدها، فعددت اثني عشر، آخرهم القائم (عليهم السلام)، ثلاثة منهم محمد، وثلاثة منهم علي)(1).

------------------------

أقول: ومن المعلوم أن علياً من أولادها ثلاثة، إذ قيد في هذه الرواية ب (من ولدها)، أما الرواية السابقة فقد أطلق، فأولادها ممن سموا بعلي مضافاً إلى علي أمير المؤمنين (عليه السلام) أربعة، فلا تضارب بين الروايتين.

من أحكام النساء

مسألة: يجوز الحضور والدخول على النساء حسب الموازين الشرعية، ومنها عدم الخلوة بالأجنبية، وعدم التكلم بغنج ودلال وخضوع في القول وعدم الريبة والافتتان.

ولعل في البيت كان بعض الأولاد أوالنساء(2)، وربما كان الباب مفتوحاً

ص: 197


1- الكافي: ج 1 ص532 باب ما جاء في الاثني عشر و النص عليهم (عليهم السلام) ح9.
2- إذ كان من أولادها الحسن (عليه السلام) ومن النساء يحتمل وجود بعض زوجات النبي (صلى الله عليه وآله) أو بعض النساء الزائرات إذ كانت الأيام أيام الولادة، أو أمثال فضة ممن كن يخدمنها.

إلى المسجد حيث إن باب بيت فاطمة (عليها الصلاة والسلام) كان يشرع إلى المسجد أيضاً، أو كان الباب مفتوحاً إلى الشارع، إذ كان لبيتها بابان باب إلى المسجد وآخر إلى الشارع، أو ما أشبه ذلك مما لا ينافي الأدلة العامة.

ويحتمل أنها (صلوات الله عليها) كان لها مجلس عام في أوقات محددة، أو كان لها مجلس يأذن فيه بالدخول عليها في مناسبات معينة، ولعل الأظهر أن ذلك كان لأيام منذ ولادة الإمام الحسين (عليه السلام)، إذ أذن للناس أو لمجموعة منهم إذناً عاماً بزيارتها للتهنئة في ساعات محددة كل يوم، ولعل جابر دخل عليها مراراً في أيام أو في يوم، والله العالم بحقائق الأمور.

فائدة

قد يسأل عن السبب في تحديد عدد الأئمة (عليهم السلام) بالاثني عشر؟

والجواب: الفائدة والسبب يكمن فيالمعدود أولاً، وأما العدد فهو منتزع منه، ولذا كان أوصياء الأنبياء اثني عشر، وكانت البروج اثنى عشر، وبذلك يظهر أن الخصوصية ذاتية في كل واحد منهم (صلوات الله عليهم)، إضافة إلى أن كلاً منهم كان له دور متميز متفرد به، وأنهم بمجموع تلك الأدوار وفّروا للعالمين الأسوة التامة والشاملة والكاملة لمختلف الظروف على سبيل البدل، مما لم تكن معه حاجة للأكثر بل كان لغواً.

هذا إضافة إلى ما ذكرناه في بعض كتبنا من خواص العدد نفسه.

قَال أَبُو عَبْدِ اللهِ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ (عليه السلام): «الليْل اثْنَتَا عَشْرَةَ سَاعَةً، والنَّهَارُ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَاعَةً، والشُّهُورُ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً، والأَئِمَّةُ اثْنَا عَشَرَ إِمَاماً،

ص: 198

والنُّقَبَاءُ اثْنَا عَشَرَ نَقِيباً، وإِنَّ عَليّاً سَاعَةٌ مِنَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَاعَةً، وهُوَ قَوْل اللهِ عَزَّ وجَل: «بَل كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وأَعْتَدْنا لمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً»(1)»(2).

وعَنِ المُفَضَّل بْنِ عُمَرَ قَال: قُلتُ لأَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه

السلام): مَا مَعْنَى قَوْل اللهِ عَزَّوجَل: «بَل كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وأَعْتَدْنا لمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً»(3)، قَال لي: «إِنَّ اللهَ خَلقَ السَّنَةَ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْراً، وجَعَل الليْل اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَاعَةً، وجَعَل النَّهَارَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَاعَةً، ومِنَّا اثْنَيْ عَشَرَ مُحَدَّثاً، وكَانَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) مِنْ تِلكَ السَّاعَاتِ»(4).

ص: 199


1- سورة الفرقان: 11.
2- الغيبة، للنعماني: ص85 ب4 ما روي في أن الأئمة اثنا عشر إماما وأنهم من الله وباختياره ح15.
3- سورة الفرقان: 11.
4- الغيبة، للنعماني: ص84 ب4 ما روي في أن الأئمة اثنا عشر إماما وأنهم من الله وباختياره ح13.

إنه أبو الأئمة

اشارة

روي عن الإمام الحسين (عليه السلام) قال: قالت لي أُمي فاطمة (عليها السلام):

لما ولدتك دخل إليّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) فناولتك إياه في خرقة صفراء، فرمى بها، وأخذ خرقة بيضاء لفّك فيها، وأذّن في أذنك الأيمن، وأقام في أذنك الأيسر، ثم قال: «يا فاطمة خذيه فإنه أبو الأئمة، تسعة من ولده أئمة أبرار والتاسع مهديهم»(1).

تاريخ الأسرة

مسألة: ينبغي نقل كل ما فيه الفائدة من تاريخ الأولاد والأسرة للأبناء وسائر أفراد العائلة، وذلك لأنه نوع تربية وطريق إرشاد، كما أنه يوجب تماسك الأسرة وتحاببهم وتوادهم أكثر فأكثر.

كما نقلت الصديقة الطاهرة (عليها السلام) في هذه الرواية لابنها الحسين(عليه السلام) بعض تاريخه حين ولادته.

ص: 200


1- كفاية الأثر: ص197 باب ما جاء عن فاطمة (صلوات الله عليها) عن النبي (صلى الله عليه وآله) في النصوص على الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام).

قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «وأَمَّا نَفَثَاتُهُ: فَأَنْ يَرَى أَحَدُكُمْ أَنَّ شَيْئاً بَعْدَ القُرْآنِ أَشْفَى لهُ مِنْ ذِكْرِنَا أَهْل البَيْتِ ومِنَ الصَّلاةِ عَليْنَا، فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وجَل جَعَل ذِكْرَنَا أَهْل البَيْتِ شِفَاءً للصُّدُورِ، وجَعَل الصَّلوَاتِ عَليْنَا مَاحِيَةً للأَوْزَارِ والذُّنُوبِ، ومُطَهِّرَةً مِنَ العُيُوبِ ومُضَاعِفَةً للحَسَنَاتِ»(1).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «تَجْلسُونَ وتُحَدِّثُونَ» قَال: قُلتُ: نَعَمْ جُعِلتُ فِدَاكَ، قَال: قَال: «تِلكَ المَجَالسُ أُحِبُّهَا فَأَحْيُوا أَمْرَنَا، يَا فُضَيْل فَرَحِمَ اللهُ مَنْ أَحْيَا أَمْرَنَا، يَا فُضَيْل مَنْ ذَكَرَنَا أَوْ ذُكِرْنَا عِنْدَهُ فَخَرَجَ مِنْ عَيْنِهِ مِثْل جَنَاحِ الذُّبَابِ غَفَرَ اللهُ ذُنُوبَهُ ولوْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ زَبَدِ البَحْرِ»(2).

الأذان والإقامة في أذن الطفل

مسألة: يستحب الأذان في أذن المولود اليمنى.

وقد ثبت علمياً أن ذهن المولود كالشريط، فكل شيء يلقى فيه يأخذهويعمل به في المستقبل تلقائياً لأنه يدخل في لا وعيه، كل ذلك على نحو المقتضي وليس العلة التامة.

مسألة: يستحب الإقامة في أذن المولود اليسرى.

وذلك تأسيا بالنبي (صلوات الله عليه وعلى آله) كما نقلته الصديقة الزهراء (عليها السلام) في هذه الرواية وفي غيرها أيضاً.

أما تخصيص الأذان باليمنى والإقامة باليسرى، فقد يكون لأن الأذان مقدّم

ص: 201


1- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): ص585 ح348.
2- مصادقة الإخوان: ص32 باب اجتماع الإخوان في محادثتهم ح1.

على الإقامة، والأيمن مقدّم على الأيسر، كما ورد في الحديث أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يبدأ بالميامن في كل شيء(1).

الطفل والتربية الدينية

مسألة: من الراجح أن يقرأ القرآن الكريم والأدعية الشرعية بالمقدارالمناسب في أذن المولود، ومنه تشغيل جهاز المسجلة في أوقات مختلفة مع مراعاة مختلف الموازين، كي ينطبع ذلك في ذهن الصبي، إضافة إلى ما في تلاوة القرآن الكريم أو بثه في البيت من البركات.

وهذا كله من التربية الدينية والتي يلزم أن تكون مستمرة بالحكمة والموعظة الحسنة.

عَنِ ابْنِ القَدَّاحِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «كَانَ أَبِي (عليه السلام) كَثِيرَ الذِّكْرِ، لقَدْ كُنْتُ أَمْشِي مَعَهُ وإِنَّهُ ليَذْكُرُ اللهَ، وآكُل مَعَهُ الطَّعَامَ وإِنَّهُ ليَذْكُرُ اللهَ، ولقَدْ كَانَ يُحَدِّثُ القَوْمَ ومَا يَشْغَلهُ ذَلكَ عَنْ ذِكْرِ اللهِ، وكُنْتُ أَرَى لسَانَهُ لازِقاً بِحَنَكِهِ يَقُول: لا إِلهَ إِلا اللهُ، وَكَانَ يَجْمَعُنَا فَيَأْمُرُنَا بِالذِّكْرِ حَتَّى تَطْلعَ الشَّمْسُ، ويَأْمُرُ بِالقِرَاءَةِ مَنْ كَانَ يَقْرَأُ مِنَّا، ومَنْ كَانَ لا يَقْرَأُ مِنَّا أَمَرَهُ بِالذِّكْرِ»(2).

ص: 202


1- انظر مكارم الأخلاق: ص23 في جمل من أحواله وأخلاقه (صلى الله عليه وآله). وفيه: عَنْ عَليٍّ (عليه السلام) في وصف رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «كَانَ يَمِينُهُ لطَعَامِهِ وشَرَابِهِ وأَخْذِهِ وإِعْطَائِهِ فَكَانَ لا يَأْخُذُ إِلا بِيَمِينِهِ ولا يُعْطِي إِلا بِيَمِينِهِ وكَانَ شِمَالهُ لمَا سِوَى ذَلكَ مِنْ بَدَنِهِ وكَانَ يُحِبُّ التَّيَمُّنَ فِي كُل أُمُورِهِ فِي لبْسِهِ وتَنَعُّلهِ وتَرَجُّله».
2- بحار الأنوار: ج 46 ص298 ب6 مكارم أخلاقه وسيره وسننه وعلمه وفضله وإقرار المخالف والمؤالف بجلالته (صلوات الله عليه) ح29.

من آداب المولود

مسألة: يستحب أن يعطى المولود إلى العظيم، أو كبير القوم كالجد مثلاً، ليؤذّن ويقيم في أذنيه، تأسياً بالصديقة (صلوات الله عليها) إذا ناولت الحسين (عليه السلام) أباها (صلى الله عليه وآله).

إضافة إلى ما في ذلك من توقير الكبير وتعظيمه في الله وهو مطلوب شرعاً، وما فيه من تكريم الصغير وهو مطلوب كذلك أيضاً.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ وُلدَ لهُ مَوْلودٌ فَليُؤَذِّنْ فِي أُذُنِهِ اليُمْنَى بِأَذَانِ الصَّلاةِ، وَليُقِمْ فِي اليُسْرَى، فَإِنَّهَا عِصْمَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ»(1).

وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سِنَانٍ قَال: قَال لي أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «إِنَّ مِنْ إِجْلال اللهِ عَزَّ وجَل إِجْلال الشَّيْخِ الكَبِيرِ»(2).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ عَرَفَ فَضْلكَبِيرٍ لسِنِّهِ فَوَقَّرَهُ آمَنَهُ اللهُ مِنْ فَزَعِ يَوْمِ القِيَامَةِ»(3).

وقَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ وَقَّرَ ذَا شَيْبَةٍ فِي الإِسْلامِ آمَنَهُ اللهُ عَزَّ وجَل مِنْ فَزَعِ يَوْمِ القِيَامَةِ»(4).

ص: 203


1- الكافي: ج6 ص24 باب ما يفعل بالمولود من التحنيك وغيره إذا وُلد ح6.
2- الكافي: ج 2 ص658 باب وجوب إجلال ذي الشيبة المسلم ح1.
3- الكافي: ج 2 ص658 باب وجوب إجلال ذي الشيبة المسلم ح2.
4- الكافي: ج 2 ص658 باب وجوب إجلال ذي الشيبة المسلم ح3.

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالكٍ قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «يَا أَنَسُ أَكْثِرْ مِنَ الطَّهُورِ يَزِدِ اللهُ فِي عُمُرِكَ، وإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ بِالليْل والنَّهَارِ عَلى طَهَارَةٍ فَافْعَل، فَإِنَّكَ تَكُونُ إِذَا مِتَّ عَلى الطَّهَارَةِ شَهِيداً، وصَل صَلاةَ الزَّوَال فَإِنَّهَا صَلاةُ الأَوَّابِينَ، وأَكْثِرْ مِنَ التَّطَوُّعِ تُحِبَّكَ الحَفَظَةُ، وسَلمْ عَلى مَنْ لقِيتَ يَزِدِ اللهُ فِي حَسَنَاتِكَ، وسَلمْ فِي بَيْتِكَ يَزِدِ اللهُ فِي بَرَكَتِكَ، ووَقِّرْ كَبِيرَ المُسْلمِينَ وارْحَمْ صَغِيرَهُمْ أَجِئْ أَنَا وأَنْتَ يَوْمَ القِيَامَةِ كَهَاتَيْنِ، وجَمَعَ بَيْنَ الوُسْطَى والمُسَبِّحَة(1).

وعَنِ الحَسَنِ بْنِ عَليٍّ (عليه السلام) أَنَّهُ قَال: قَال لهُ أَبُوهُ عِنْدَ وَفَاتِهِ: «وارْحَمْ مِنْ أَهْلكَ الصَّغِيرَ، ووَقِّرِ مِنْهُمُ الكَبِير»(2).

الرسول وسبطه

مسألة: يستحب بيان أن الرسول (صلى الله عليه وآله) هو الذي قد أذّن وأقام في أُذُن الحسين (عليه السلام).

عَنْ جَابِرٍ قَال: «لمَّا حَمَلتْ فَاطِمَةُ بِالحَسَنِ (عليهما السلام) فَوَلدَتْ وقَدْ كَانَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) أَمَرَهُمْ أَنْ يَلفُّوهُ فِي خِرْقَةٍ بَيْضَاءَ فَلفُّوهُ فِي صَفْرَاءَ، وقَالتْ فَاطِمَةُ (عليها السلام): يَا عَليُّ سَمِّهِ، فَقَال: مَا كُنْتُ لأَسْبِقَ بِاسْمِهِ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله)، فَجَاءَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) فَأَخَذَهُ وقَبَّلهُ وأَدْخَل لسَانَهُ فِي فِيهِ، فَجَعَل الحَسَنُ (عليه السلام) يَمَصُّهُ، ثُمَّ قَال لهُمْ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): أَلمْ

ص: 204


1- الأمالي، للمفيد: ص60 المجلس السابع ح5.
2- مستدرك الوسائل: ج 8 ص394 ب56 باب استحباب إجلال ذي الشيبة المؤمن وتوقيره وإكرامه ح13.

أَتَقَدَّمْ إِليْكُمْ أَلا تَلفُّوهُ فِي خِرْقَةٍ صَفْرَاءَ فَدَعَا بِخِرْقَةٍ بَيْضَاءَ فَلفَّهُ فِيهَا ورَمَى الصَّفْرَاءَ، وأَذَّنَ فِي أُذُنِهِ اليُمْنَى، وأَقَامَ فِي اليُسْرَى... فَلمَّا وُلدَ الحُسَيْنُ (عليه السلام) جَاءَ إِليْهِمُ النَّبِيُّ فَفَعَل بِهِ كَمَا فَعَل بِالحَسَنِ عليه السلام»(1).

الأئمة الأبرار

مسألة: يستحب بيان أن الإمام الحسين (عليه السلام) أبو الأئمة، والتسعة من ولده هم أئمة أبرار، والتاسع مهديهم (صلوات الله عليهم أجمعين).

عَنْ سُليْمِ بْنِ قَيْسٍ الهِلاليِّ، عَنْ سَلمَانَ الفَارِسِيِّ (رَحِمَهُ اللهُ) قَال: دَخَلتُ عَلى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) وإِذَا الحُسَيْنُ عَلى فَخِذَيْهِ وهُوَ يُقَبِّل عَيْنَيْهِ ويَلثِمُ فَاهُ وهُوَ يَقُول: «أَنْتَ سَيِّدٌ ابْنُ سَيِّدٍ، أَنْتَ إِمَامٌ ابْنُ إِمَامٍ، أَبُو الأَئِمَّةِ، أَنْتَ حُجَّةٌ ابْنُ حُجَّةٍ، أَبُو حُجَجٍ تِسْعَةٍ مِنْ صُلبِكَ، تَاسِعُهُمْ قَائِمُهُمْ»(2).

وعَنْ أَبِي الحَسَنِ عَليِّ بْنِ مُوسَى الرِّضَا، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «أَنَا سَيِّدُ مَنْ خَلقَ اللهُ عَزَّ وجَل، وأَنَا خَيْرٌ مِنْ جَبْرَئِيل ومِيكَائِيل وإِسْرَافِيل وحَمَلةِ العَرْشِ وجَمِيعِ مَلائِكَةِ اللهِ المُقَرَّبِينَ وأَنْبِيَاءِ اللهِ المُرْسَلينَ، وأَنَا صَاحِبُ الشَّفَاعَةِ والحَوْضِالشَّرِيفِ، وأَنَا وعَليٌّ أَبَوَا هَذِهِ الأُمَّةِ، مَنْ عَرَفَنَا فَقَدْ عَرَفَ اللهَ عَزَّ وجَل، ومَنْ أَنْكَرَنَا فَقَدْ أَنْكَرَ اللهَ عَزَّ وجَل،

ص: 205


1- علل الشرائع: ج 1 ص138 ب116 باب العلة التي من أجلها سمي الأكرمون على الله تعالى محمداً وعلياً وفاطمة والحسن والحسين (صلوات الله عليهم) ح7.
2- الخصال: ج 2 ص475 الخلفاء والأئمة بعد النبي (صلى الله عليه وآله) اثنا عشر (عليهم السلام) ح38.

ومِنْ عَليٍّ سِبْطَا أُمَّتِي وسَيِّدَا شَبَابِ أَهْل الجَنَّةِ الحَسَنُ والحُسَيْنُ، ومِنْ وُلدِ الحُسَيْنِ تِسْعَةُ أَئِمَّةٍ طَاعَتُهُمْ طَاعَتِي ومَعْصِيَتُهُمْ مَعْصِيَتِي، تَاسِعُهُمْ قَائِمُهُمْ ومَهْدِيُّهُمْ»(1).

أوصاف الأئمة

مسألة: يستحب وقد يجب وصف الأئمة (صلوات الله عليهم) بما وصفهم به الله تعالى في القرآن الكريم والأحاديث القدسية، وبما وصفهم به الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، وبما وصفوا به أنفسهم، أو وصف بعضهم بعضاً (صلوات الله عليهم أجمعين).

ومن صفاتهم (عليهم السلام) أنهم أبرار.

والأبرار والبررة جمع بَرّ بالفتح، والبر والبار هو فاعل البِر بالكسر، أي الخير، وأولياء الله المطيعون له، قال تعالى: «إِنَّ الأَبْرارَ لفي نَعيمٍ»(2)، والكرامالبررة: أي المطيعون لله المطهرون من الذنوب والآثام، كما أن البَر هو الذي من عادته الإحسان.

قال (صلى الله عليه وآله): «أَفْضَل الأَتْقِيَاءِ عَليٍّ سَيِّدِ الأَبْرَارِ»(3).

وقال (صلى الله عليه وآله): «أَهْل بَيْتِي مِنْ وُلدِ عَليٍّ وفَاطِمَةَ (عليهما السلام)

ص: 206


1- كمال الدين: ج 1 ص261 ب24 باب ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) في النص على القائم (عليه السلام) وأنه الثاني عشر من الأئمة (عليهم السلام) ح7.
2- سورة الانفطار: 13، سورة المطففين: 22.
3- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): ص593 ح353.

وتِسْعَةٌ مِنْ صُلبِ الحُسَيْنِ أَئِمَّةُ الأَبْرَارِ، هُمْ عِتْرَتِي مِنْ لحْمِي ودَمِي»(1).

المولود والخرقة الصفراء

مسألة: يكره لف المولود في خرقة صفراء.

ولعل وجه الكراهة أن اللون الأصفر ينشط عمل الدماغ ويبقيه في حالة يقظة تامة، كما يقوله بعض العلماء(2)، مع أنالرضيع يحتاج إلى استرخاء وراحة وهدوء بعد عملية الانتقال الصعب من الرحم إلى دار الدنيا، فإنها قد تكون من أعظم مراحل تحولات حياة كل إنسان.

ويحتمل أن يكون وجه الكراهة أن اللون الأصفر كان شعار الحرب، حيث كان الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) يلبس قباءً أصفر في الحروب(3).

كما يحتمل أن يكون وجه الكراهة هو أن الصفرة توجب الكآبة، كما يشاهد ذلك في أيام الخريف عند البعض حيث اصفرار الأوراق.

ولعل الصفرة للمولود توجب منقصةً له أو شدة أو غير ذلك مما ذكره

ص: 207


1- كفاية الأثر: ص92 باب ما جاء عن عمر بن الخطاب عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في النصوص على الأئمة الاثني عشر (صلوات الله عليهم).
2- وذلك بسبب طول الموجة اللونية للون الأصفر، ولذا ينصح العلماء بالإكثار من اللون الأصفر في غرف الدراسة، كما ينصحون بالإقلال منه في غرفة النوم، إذا كانت الأسرة تعاني من المشاكل العائلية لأنه لا يمنح الأمان والاستقرار، كما قالوا.
3- الهداية الكبرى: ص180 الباب الثالث باب سيدة النساء (عليها السلام)، بحار الأنوار: ج 43 ص171 ب7 ما وقع عليها من الظلم وبكائها وحزنها وشكايتها في مرضها إلى شهادتها وغسلها ودفنها وبيان العلة في إخفاء دفنها صلوات الله عليها ولعنة الله على من ظلمها.

علماء الألوان في مباحث مفصلة فإن كل لون يوجب شيئاً ويبعث على شيء على نحو المقتضي.

أما أنه لم لفّت الصديقة فاطمة (عليها الصلاة والسلام) الخرقة الصفراء على الحسين (عليه السلام)، فلعله للتعليم حتىيأتي رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويقوم بما قام به ويتعلم الناس، فإن أعمالهم (عليهم السلام) حجة لتعليم الآخرين، كما أن أقوالهم وتقريراتهم كذلك، وقد قرر بأن كل فعل وقول وتقرير منهم (صلوات الله علهيم) حجة(1).

المولود والخرقة البيضاء

مسألة: يستحب لف المولود بالخرقة البيضاء.

والبياض يوجب الفرح في النفس، فقد ثبت علمياً أنه أكثر الألوان راحة للنفس، وأنه يخفف التوتر والقلق، ولذا نشاهد أنه حينما ينزل الثلج من السماء تفرح النفوس المنقبضة.

وهكذا قالوا في النظر إلى الملابس البيضاء وكل شيء أبيض، ومن هنا أخذاعتماده كلون أساس في ملابس الأطباء وفي المستشفيات، كما أنه ينقي الجسم من السموم، ويقوي جهازه المناعة في الإنسان، وهو كما يقولون: يفرق نور

ص: 208


1- ويحتمل على ما ذكره الإمام المؤلف (قدس سره) من أن اللون الأصفر كان شعار الحرب، أن الزهراء (عليها السلام) لفته في خرفة صفراء إعلاناً منها بأن ولدها في ركاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) محارباً ومجاهداً ومضحياً، ولفه الرسول (صلى الله عليه وآله) باللون الأبيض إيذاناً بأن الأصل الأولي في الرسالة هو السلم والسلام، وأن الحرب اضطرار واستثناء، فكان عملها وعمله (عليهما السلام) بياناً لوجهي الأمر وكلتا حالتي الأصل والاستثناء.

البصر، وليس كالأسود يجمع النور والحزن.

كما يستحب للإنسان أن يلبس البياض فإنه خير الألوان للأحياء والأموات.

عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ (عليهما السلام): «أَنَّ عَليّاً (عليه السلام) كَانَ لا يَلبَسُ إِلا البَيَاضَ أَكْثَرَ مَا يَلبَسُ ويَقُول: فِيهِ تَكْفِينُ المَوْتَى»(1).

وعَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله): «خَيْرُ ثِيَابِكُمُ البَيَاضُ، فَليَلبَسْهُ أَحْيَاؤُكُمْ، وكَفِّنُوا فِيهِ مَوْتَاكُمْ»(2).

وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «ليْسَ مِنْ لبَاسِكُمْ شَيْ ءٌ أَحْسَنَ مِنَ البَيَاضِ فَأَلبِسُوهُمَوْتَاكُمْ»(3).

تَفْسِيرُ عَليِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، «يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُل مَسْجِدٍ»(4) قَال: «فِي العِيدَيْنِ والجُمُعَةِ يَغْتَسِل ويَلبَسُ ثِيَاباً بِيضاً»(5).

ص: 209


1- وسائل الشيعة: ج 5 ص27 ب14 باب استحباب لبس البياض وكراهة ملابس العجم وأطعمتهم والسواد إلا ما استثني وعدم جواز لبس ملابس أعداء الله وسلوك مسالكهم ح6.
2- وسائل الشيعة: ج 5 ص27 ب14 باب استحباب لبس البياض وكراهة ملابس العجم وأطعمتهم والسواد إلا ما استثني وعدم جواز لبس ملابس أعداء الله وسلوك مسالكهم ح5.
3- الكافي: ج 3 ص148 باب ما يستحب من الثياب للكفن وما يكره ح2.
4- سورة الأعراف: 31.
5- بحار الأنوار: ج 86 ص189 ح27.

عدد نقباء بني إسرائيل

اشارة

روى الساعدي، عن أبيه، قال: سألت فاطمة (صلوات الله عليها) عن الأئمة (عليهم السلام) فقالت: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: «الأئمة بعدي عدد نقباء بني إسرائيل»(1).

---------------------

عدد الأئمة

مسألة: يجب بيان عدد الأئمة (عليهم السلام) وأنهم اثني عشر.

وذلك لوجوب معرفتهم (عليهم الصلاة والسلام)، نعم قال الفقهاء: تكفي المعرفة الإجمالية.

كما يلزم بيان أسمائهم، وذكر أحوالهم، على نحو الوجوب عيناً أو كفايةً، كل في مورده.

وقد سبقت الإشارة إلى خصوصية الاثني عشر كعدد الشهور ونحوها.

و(النقيب) هو الرئيس الذي يتقدم قومه، وفي الحديث: أما النبي كان قد جعل ليلة العقبة كل واحد من الجماعةالذين بايعوه نقيباً على قومه وجماعته

ص: 210


1- كفاية الأثر: ص197 باب ما جاء عن فاطمة (صلوات الله عليها) عن النبي (صلى الله عليه وآله) في النصوص على الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام).

ليأخذوا (عليهم الإسلام) ويعرفوهم شرائطه، وكانوا اثني عشر نقيا كلهم من الأنصار(1).

والنقيب الذي ينقب عن مكنون الضمائر، ويسمى نقيباً لأنه يعرف دخيلة أمر القوم وطريق إصلاحهم ومعرفة شأنهم.

قال تعالى: «وَلقَدْ أَخَذَ اللهُ ميثاقَ بَني إِسْرائيل وَ بَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقيباً»(2).

وعَنِ الحُسَيْنِ بْنِ عَليٍّ (عليه السلام) قَال: «سُئِل أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) عَنْ مَعْنَى قَوْل رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «إِنِّي مُخَلفٌ فِيكُمُ الثَّقَليْنِ كِتَابَ اللهِ وعِتْرَتِي» مَنِ العِتْرَةُ؟

فَقَال: أَنَا والحَسَنُ والحُسَيْنُ والأَئِمَّةُ التِّسْعَةُ مِنْ وُلدِ الحُسَيْنِ تَاسِعُهُمْ مَهْدِيُّهُمْ وقَائِمُهُمْ، لا يُفَارِقُونَ كِتَابَ اللهِ ولا يُفَارِقُهُمْ حَتَّى يَرِدُوا عَلى رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) حَوْضَهُ»(3).وعَنْ أُمِّ سَلمَةَ قَالتْ: سَأَلتُ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) عَنْ قَوْل اللهِ سُبْحَانَهُ: «فَأُولئِكَ مَعَ الذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَليْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقِينَ والشُّهَداءِ والصَّالحِينَ وحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً»(4).

ص: 211


1- مجمع البحرين: مادة (نقب).
2- سورة المائدة: 12.
3- عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج 1 ص57 ب6 باب النصوص على الرضا (عليه السلام) بالإمامة في جملة الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) ح25.
4- سورة النساء:69.

قَال: «الذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَليْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ أَنَا، والصِّدِّيقِينَ عَليُّ بْنُ أَبِي طَالبٍ، والشُّهَداءِ الحَسَنُ والحُسَيْنُ وحَمْزَةُ، وحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً الأَئِمَّةُ الاثْنَا عَشَرَ بَعْدِي»(1).

وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الثَّانِي عَنْ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليهما السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) لأَصْحَابِهِ: «آمِنُوا بِليْلةِ القَدْرِ، إِنَّهَا تَكُونُ لعَليِّ بْنِ أَبِي طَالبٍ ووُلدِهِ الأَحَدَ عَشَرَ بَعْدِي»(2).

ص: 212


1- كفاية الأثر: ص183 باب ما جاء عن أم سلمة عن النبي (صلى الله عليه وآله) في النصوص على الأئمة الاثني عشر (صلوات الله عليهم).
2- بحار الأنوار: ج 36 ص243 ب41 نصوص الرسول (صلى الله عليه وآله) عليهم (عليهم السلام) ح49.

تاسع الأئمة

اشارة

عن فاطمة (عليها السلام) قالت: كان دخل إليّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) عند ولادتي الحسين (عليه السلام)، فناولته إياه في خرقة صفراء، فرمى بها وأخذ خرقة بيضاء ولفه فيها، ثم قال (صلى الله عليه وآله): «خذيه يا فاطمة، فإنه إمام ابن إمام، أبو الأئمة التسعة، من صلبه أئمة أبرار والتاسع قائمهم»(1).

--------------------------

لف الطفل في قماش

مسألة: يستحب لف الطفل في خرقة أو قماش وعدم تركه عارياً.

والخرقة هي القطعة من الثوب(2)، والجمع خِرَق، مثل سدرة وسدر.

فإن أصل اللف في الخرقة والثوب وما أشبه عقلائي قبل أن يكون شرعياً، ومن الواضح أن الأمر الجاري عند الناس إذا قرره الشارع وأمضاه(3) يكون

ص: 213


1- كفاية الأثر: ص194 باب ما جاء عن فاطمة (صلوات الله عليها) عن النبي (صلى الله عليه وآله) في النصوص على الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام).
2- والظاهر أنها غير مخيطة.
3- ارتأى البعض أن سيرة العقلاء تحتاج إلى إمضاء من الشارع، وإلى دليل على إمضائه، عكس سيرة المتشرعة فإنها لا تحتاج إلى إمضائه لكشفها عن الصدور منه فلا حاجة للإمضاء.

شرعياً أيضاً، وله ثواب الواجب أو المستحب كل في مورده.

وهكذا أمر المكروه والحزازة، كما أن المباح الشرعي كذلك لو كان مباحاً عقلياً، والإباحة الشرعية أيضاً لها موازينها، وقد ورد في الحديث: «إن الله يحب أن يأخذ برخصه كما يحب أن يأخذ بعزائمه»(1).

المكروه من ثياب المولود

مسألة: بعد ثبوت كراهة الخرقة الصفراء للطفل حديث الولادة، هل يدور الأمر بحسب هذا الدليل بين الصفراء والبيضاء كراهةً واستحباباً، أو أن كل لون مشبع مكروه ولو كان خرقة سوداء أو حمراء أو ما أشبه، وفي المقابل يستحب كل لون بهيج ولو كان أخضر أو أشبه، احتمالان، والظاهر الرجوع إلى الأدلة العامة في الألوان، ولا مناط منقح في المقام.

قال تعالى: «أُولئِكَ لهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْري مِنْ تَحْتِهِمُالأَنْهارُ يُحَلوْنَ فيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ ويَلبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئينَ فيها عَلى الأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً»(2).

وقال عزوجل: «عاليَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وإِسْتَبْرَقٌ وحُلوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً»(3).

ص: 214


1- وسائل الشيعة: ج 1 ص108 ب25 باب جواز التقية في العبادات ووجوبها عند خوف الضرر ح1.
2- سورة الكهف: 31.
3- سورة الإنسان: 21.

زيارة والدة الطفل

مسألة: يستحب أن تزار الوالدة التي أولدت طفلاً، كما هو المتعارف حيث تزار من قبل القريبات ومن أشبه.

ويتأكد الاستحباب في مثل الأب والجد، وقد زار رسول الله (صلى الله عليه وآله) الصديقة (عليها السلام) عندما ولدت الحسين (عليه السلام). وهو (صلى الله عليه وآله) أسوة وقدوة.

قال تعالى: «لقَدْ كانَ لكُمْ في رَسُول اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَ اليَوْمَ الآخِرَ وَ ذَكَرَ اللهَ كَثيراً»(1).

وقال: «أُولئِكَ الذينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ»(2).

وفي خطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام) رواها الكافي:

«وَأَئِمَّةٌ يُقْتَدَى بِهِمْ، وَهُمْ عَيْشُ العِلمِ وَمَوْتُ الجَهْل، هُمُ الذِينَ يُخْبِرُكُمْ حُكْمُهُمْ عَنْ عِلمِهِمْ، وَصَمْتُهُمْ عَنْ مَنْطِقِهِمْ، وَظَاهِرُهُمْ عَنْ بَاطِنِهِمْ، لا يُخَالفُونَ الدِّينَ وَلا يَخْتَلفُونَ فِيهِ، فَهُوَ بَيْنَهُمْ شَاهِدٌ صَادِقٌ وَصَامِتٌ نَاطِقٌ، فَهُمْ مِنْ شَأْنِهِمْ شُهَدَاءُ بِالحَقِّ وَمُخْبِرٌ صَادِقٌ، لا يُخَالفُونَ الحَقَّ وَلا يَخْتَلفُونَ فِيهِ، قَدْ خَلتْ لهُمْ مِنَ اللهِ السَّابِقَةُ، وَمَضَى فِيهِمْ مِنَ اللهِ عَزَّ وَ جَل حُكْمٌصَادِقٌ، وَفِي ذَلكَ ذِكْرَى للذَّاكِرِينَ، فَاعْقِلوا الحَقَّ إِذَا سَمِعْتُمُوهُ عَقْل رِعَايَةٍ، وَلا تَعْقِلوهُ عَقْل

ص: 215


1- سورة الأحزاب: 21.
2- سورة الأنعام: 90.

رِوَايَةٍ، فَإِنَّ رُوَاةَ الكِتَابِ كَثِيرٌ وَرُعَاتَهُ قَليل، وَاللهُ المُسْتَعَان»(1).

للقائم إطلاقان

(القائم) بقول مطلق هو الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف)، فإذا أطلق انصرف إليه، وإن كان كلهم (صلوات الله عليهم) قائماً، فإنهم (القوام في البرية بالقسط)(2) كما في الرواية، وجاء في كلام الإمام الصادق (عليه السلام) في وصف الإمام: «فَالإِمَامُ هُوَ المُنْتَجَبُ المُرْتَضَى وَ الهَادِي المُنْتَجَى وَ القَائِمُ المُرْتَجَى اصْطَفَاهُ اللهُ بِذَلك»(3).

وعَنْ جَابِرِ بْنِ يَزِيدَ الجُعْفِيِّ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام)، قَال: سُئِل عَنِ القَائِمِ (عليه السلام)، فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلى أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، فَقَال: هَذَا وَاللهِ قَائِمُ آلمُحَمَّدٍ، قَال عَنْبَسَةُ: فَلمَّا قُبِضَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام) دَخَلتُ عَلى أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلكَ، فَقَال: صَدَقَ جَابِرٌ، ثُمَّ قَال: لعَلكُمْ تَرَوْنَ أَنْ ليْسَ كُل إِمَامٍ هُوَ القَائِمَ بَعْدَ الإِمَامِ الذِي كَانَ قَبْلهُ»(4).

ص: 216


1- الكافي: ج 8 ص391 ح586.
2- الكافي: ج 4 ص559 باب زيارة من بالبقيع ح1.
3- الكافي: ج 1 ص204 باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته ح2.
4- الكافي: ج 1 ص307 باب الإشارة والنص على أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق (صلوات الله عليهما) ح7.

الشفقة على السبطين

اشارة

روي أن فاطمة (عليها السلام) قالت للحسن والحسين (عليهما السلام) بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله):

«أين أبوكما الذي كان أشد الناس شفقةً عليكما»(1).

-------------------------

الشفة على الأحفاد

مسألة: يستحب شفقة الجد على أحفاده.

والشفقة: نوع حب مع حذر على المحبوب، والحب المؤدي إلى الخوف على المحبوب، أو المصحوب به أو العناية المختلطة بالخوف(2)، فمن أشفق على قريب أو صديق أو من أشبه وحذر عليه من أن يقع في مشكلة فهو شفيق(3).قال سبحانه: «وَالذينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها»(4).

ص: 217


1- بحار الأنوار: ج 43 ص181 ب7 ما وقع عليها من الظلم وبكائها وحزنها وشكايتها في مرضها إلى شهادتها وغسلها ودفنها وبيان العلة في إخفاء دفنها (صلوات الله عليها ولعنة الله على من ظلمها).
2- الشفقة: العطف والحنو والخوف والحذر، تقول أشفقت على الصغير وأشفقت مما كان مني.
3- قالوا: إن المشفق يحب المشفق عليه ويخاف ما قد يلحقه.
4- سورة الشورى: 18.

وهذا الكلام من الصديقة (عليها الصلاة والسلام) نوع ندبة وعزاء كما هو واضح.

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَال: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) وعَلى فَخِذِهِ الأَيْسَرِ ابْنُهُ إِبْرَاهِيمُ وعَلى فَخِذِهِ الأَيْمَنِ الحُسَيْنُ بْنُ عَليٍّ، وهُوَ تَارَةً يُقَبِّل هَذَا وتَارَةً يُقَبِّل هَذَا، إِذْ هَبَطَ جَبْرَئِيل بِوَحْيٍ مِنْ رَبِّ العَالمِينَ، فَلمَّا سَرَى عَنْهُ قَال: أَتَانِي جَبْرَئِيل مِنْ رَبِّي فَقَال: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْرَأُ عَليْكَ السَّلامَ ويَقُول: لسْتُ أَجْمَعُهُمَا فَافْدِ أَحَدَهُمَا بِصَاحِبِهِ، فَنَظَرَ النَّبِيُّ إِلى إِبْرَاهِيمَ فَبَكَى، ونَظَرَ إِلى الحُسَيْنِ فَبَكَى، إِنَّ إِبْرَاهِيمَ أُمُّهُ أَمَةٌ ومَتَى مَاتَ لمْ يَحْزَنْ عَليْهِ غَيْرِي، وأُمُّ الحُسَيْنِ فَاطِمَةُ وأَبُوهُ عَليٌّ ابْنُ عَمِّي لحْمِي ودَمِي ومَتَى مَاتَ حَزِنَتْ ابْنَتِي وحَزِنَ ابْنُ عَمِّي وحَزِنْتُ أَنَا عَليْهِ وأَنَا أُؤْثِرُ حُزْنِي عَلى حُزْنِهِمَا، يَا جَبْرَئِيل يُقْبَضُ إِبْرَاهِيمَ فَدَيْتُهُ بِالحُسَيْنِ، قَال: فَقُبِضَ بَعْدَ ثَلاثَ، فَكَانَ النَّبِيِّ إِذَا رَأَى الحُسَيْنَ مُقْبِلا قَبَّلهُ وضَمَّهُ إِلى صَدْرِهِ ورَشَّفَ ثَنَايَاهُ وقَال: فَدَيْتُ مَنْ فَدَيْتُهُ بِابْنِي إِبْرَاهِيم»(1).

وعَنْ أُمِّ سَلمَةَ قَالتْ: بَيْنَمَا رَسُول اللهِ(صلى الله عليه وآله) فِي بَيْتِي يَوْماً إِذْ قَال الخَادِمُ: إِنَّ عَليّاً وفَاطِمَةَ فِي السُّدَّةِ، قَالتْ: فَقَال لي: قُومِي فَتَنَحَّيْ لي عَنْ أَهْل بَيْتِي، قَالتْ: فَقُمْتُ فَتَنَحَّيْتُ فِي البَيْتِ قَرِيباً، فَدَخَل عَليٌّ وفَاطِمَةُ، والحَسَنُ والحُسَيْنُ وهُمَا صَبِيَّانِ صَغِيرَانِ، قَالتْ: فَأَخَذَ الصَّبِيَّيْنِ فَوَضَعَهُمَا فِي حَجْرِهِ فَقَبَّلهُمَا، واعْتَنَقَ عَليّاً بِإِحْدَى يَدَيْهِ وفَاطِمَةَ بِاليَدِ الأُخْرَى وقَبَّل فَاطِمَةَ وأَغْدَفَ عَليْهِمْ خَمِيصَةً سَوْدَاءَ ثُمَّ قَال: اللهُمَّ إِليْكَ لا إِلى النَّارِ أَنَا وأَهْل بَيْتِي، قَالتْ: قُلتُ: وأَنَا يَا رَسُول اللهِ، قَال أَنْتِ عَلى خَيْرٍ»(2).

ص: 218


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام): ج 4 ص81.
2- بحار الأنوار: ج 35 ص219 ب5 آية التطهير ح26.

الشفة على العترة الطاهرة

مسألة: تستحب الشفقة على أهل البيت (عليهم السلام) وقد تجب، كما تستحب وربما وجبت الشفقة على ذراريهم من السادة والعلويات، والشفقة عليهم تشمل الشفقة لشؤون الآخرة والدنيا.

أما الشفقة في شؤون الآخرة: فبالتحوط عليهم من كل ما يهدد دينهم وورعهم وخلوص نواياهم أو مكارم أخلاقهم وحميد صفاتهم من حسن خلق وسعة صدر وتواضع وشببها، أو عقائدهم وثقافتهم وأفكارهم وما أشبه.

وأما الشفقة عليهم في شؤون الدنيا: فرعايتهم والاهتمام بهم وقضاء حوائجهم، وتوفير السكن المناسب لهم، وهكذا الملبس والمطعم والمشرب والمركب وما أشبه ذلك مما تقوم به حياتهم ويناسب شأنهم.

والروايات التي تحث على إكرام ذراري رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأبنائه والسادة بقول مطلق وتوقيرهم وقضاء حوائجهم عديدة.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) أَنَّهُ قَال: قَال جَدُّنَا مُحَمَّدٌ (صلى الله عليه وآله): «إِنِّي سَأَشْفَعُ فِي يَوْمِ القِيَامَةِ لأَرْبَعِ طَوَائِفَ ولوْ كَانَ لهُمْ مِثْل ذُنُوبِ أَهْل الدُّنْيَا، الأَوَّل مَنْ سَل سَيْفَهُ لذُرِّيَّتِي ونَصَرَهُمْ، الثَّانِيَةُمَنْ أَعَانَهُمْ فِي حَال فَقْرِهِمْ وفَاقَتِهِمْ بِمَا يَقْدِرُ عَليْهِ مِنَ المَال، الثَّالثَةُ مَنْ أَحَبَّهُمْ بِقَلبِهِ ولسَانِهِ، والرَّابِعَةُ مَنْ قَضَى حَوَائِجَهُمْ إِذَا اضْطُرُّوا إِليْهَا وسَعَى فِيهَا»(1).

ص: 219


1- مستدرك الوسائل: ج 12 ص375 ب17 باب تأكد استحباب اصطناع المعروف إلى العلويين والسادات ح5.

وعَنْ عَليِّ بْنِ مُوسَى الرِّضَا، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «أَرْبَعَةٌ أَنَا لهُمْ شَفِيعٌ يَوْمَ القِيَامَةِ، المُكْرِمُ لذُرِّيَّتِي مِنْ بَعْدِي، والقَاضِي لهُمْ حَوَائِجَهُمْ، والسَّاعِي لهُمْ فِي أُمُورِهِمْ عِنْدَ مَا اضْطُرُّوا إِليْهِ، والمُحِبُّ لهُمْ بِقَلبِهِ ولسَانِهِ»(1).

نعم، لا يخفى أن بعض الروايات الواردة في ذرية الرسول (صلى الله عليه وآله) خاصة بالأئمة المعصومين (عليهم السلام) والصديقة الطاهرة فاطمة (عليها السلام)، وبعضها يشمل من تلاهم، لكن بعضها عام وهم (عليهم السلام) أظهر مصاديقه.

وغير خفي أن إكرام كل مؤمن أو شيعي أو محب، لإيمانه وحبه وتشيعه حسنمثاب عليه، إلا أن إكرام السادة وقضاء حوائجهم له أجر أكبر وثواب أعظم، نظراً لقربهم وانتسابهم إلى رسول الله وعلي وفاطمة (عليهم أفضل الصلاة والسلام).

وحاصل الأمر: إن المؤمن الموالي يوجد فيه عنوان مرجح لإكرامه وقضاء حوائجه، والسيد منهم فيه عنوانان مرجحان.

رثاء الأب

مسألة: يستحب للبنت أن ترثي أباها، كما مر في ما سبق من الروايات، والرثاء أنواع وأقسام، فكلما صدق عليه عرفاً أنه رثاء عليهم فهو مستحب، بشرط أن لا يشتمل على ما يخالف الشرع صورة كالغناء، أو مادة كقول باطل.

ص: 220


1- وسائل الشيعة: ج 16 ص334 ب17 باب تأكد استحباب اصطناع المعروف إلى العلويين والسادات ح6.

وقد أنشدت الصديقة الزهراء (عليها السلام) بعد وفاة أبيها:

و قد رزينا به محضا خليقته *** صافي الضرائب والأعراق والنسب

و كنت بدراً ونورا يستضاء به *** عليك تنزل من ذي العزة الكتب

و كان جبريل روح القدس زائرنا *** فغاب عنا وكل الخير محتجب

فليت قبلك كان الموت صادفنا *** لما مضيت وحالت دونك الحجب

فليت قبلك كان الموت صادفنا *** لما مضيت وحالت دونك الحجب

إنا رزينا بما لم يرز ذو شجن *** من البرية لا عجم ولاعرب

ضاقت علي بلاد بعد ما رحبت *** وسيم سبطاك خسفا فيه لي نصب

فأنت والله خير الخلق كلهم *** وأصدق الناس حيث الصدق والكذب

فسوف نبكيك ما عشنا وما بقيت *** منا العيون بتهمال لها سكب (1)

الأشد شفقة

مسألة: يستحب بيان أن الرسول (صلى الله عليه وآله) كان أشد الناس شفقةً على الحسن والحسين (عليهما السلام)، وينبغي شفع ذلك بالأدلة والشواهد.

عَنْ أَبِي ذَرٍّ الغِفَارِيِّ قَال: رَأَيْتُ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) يُقَبِّل الحَسَنَ والحُسَيْنَ (عليهما السلام) وهُوَ يَقُول:«مَنْ أَحَبَ الحَسَنَ والحُسَيْنَ (عليهما السلام) وذُرِّيَّتَهُمَا مُخْلصاً لمْ تَلفَحِ النَّارُ وَجْهَهُ ولوْ كَانَتْ ذُنُوبُهُ بِعَدَدِ رَمْل عَالجٍ إِلا أَنْ يَكُونَ ذَنْبُهُ ذَنْباً يُخْرِجُهُ مِنَ

ص: 221


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام): ج 3 ص361 فصل في حليتها وتواريخها (عليها السلام).

الإِيمَانِ»(1).

وعن أبي ذر (رضوان الله عليه) أنه قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوماً يصلي بالناس، وأقبل الحسن والحسين (عليهما السلام) وهما غلامان يثبان على ظهره إذا سجد، وأقبل الناس ينحونهما عنه، فلما انصرف قال: «دعوهما بأبي وأمي هما، من أحبني فليحبب هذين»(2).

وقَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «اللهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا وأَحْبِبْ مَنْ أَحَبَّهُمَا»(3).

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُول: «مَنْ أَحَبَ الحَسَنَ والحُسَيْنَ فَقَدْ أَحَبَّنِي، ومَنْ أَبْغَضَهُمَا فَقَدْ أَبْغَضَنِي»(4).وَقَال (صلى الله عليه وآله): مَنْ أَحَبَ الحَسَنَ والحُسَيْنَ أَحْبَبْتُهُ، ومَنْ أَحْبَبْتُهُ أَحَبَّهُ اللهُ، ومَنْ أَحَبَّهُ اللهُ أَدْخَلهُ الجَنَّةَ، ومَنْ أَبْغَضَهُمَا أَبْغَضْتُهُ، ومَنْ أَبْغَضْتُهُ أَبْغَضَهُ اللهُ، ومَنْ أَبْغَضَهُ اللهُ خَلدَهُ النَّار»(5).

ص: 222


1- كامل الزيارات: ص51 الباب الرابع عشر حب رسول الله (صلى الله عليه وآله) الحسن والحسين (عليهما السلام) والأمر بحبهما وثواب حبهما ح4.
2- شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار (عليهم السلام): ج 3 ص76.
3- روضة الواعظين: ج 1 ص166.
4- الأمالي، للطوسي: ص251 المجلس التاسع ح38.
5- روضة الواعظين: ج 1 ص166 مجلس في ذكر إمامة السبطين ومناقبهما.

مطلق الشفقة

مسألة: يستحب الشفقة مطلقاً، فإنها من مصاديق الرحمة وأنواعها، بل وردت بعض الروايات في الشفقة بعنوانها، منها: «يَا كُمَيْل حُسْنُ خُلقِ المُؤْمِنِ مِنَ التَّوَاضُعِ، وَجَمَالهُ التَّعَفُّفُ، وَشَرَفُهُ الشَّفَقَةُ، وَعِزُّهُ تَرْكُ القَال وَالقِيل»(1).

وقال أمير المؤمنين لولده الحسن (عليهما السلام): «يَا بُنَيَّ إِذَا نَزَل بِكَ كَلبُ الزَّمَانِ وَقَحْطُ الدَّهْرِ، فَعَليْكَ بِذَوِي الأُصُول الثَّابِتَةِ، وَالفُرُوعِ النَّابِتَةِ، مِنْ أَهْل الرَّحْمَةِ وَالإِيْثَارِ وَالشَّفَقَةِ، فَإِنَّهُمْ أَقْضَى للحَاجَاتِ، وَأَمْضَى لدَفْعِ المُلمَّاتِ»(2).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «إِنَ المُؤْمِنِينَ مُشْفِقُونَ»(3).

وقال (صلى الله عليه وآله): «يَا عَليُّ أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ بَنَى اللهُ تَعَالى لهُ بَيْتاً فِي الجَنَّةِ، مَنْ آوَى اليَتِيمَ ورَحِمَ الضَّعِيفَوأَشْفَقَ عَلى وَالدَيْهِ ورَفَقَ بِمَمْلوكِه»(4).

ص: 223


1- بحار الأنوار: ج 74 ص268 ب11 وصيته (عليه السلام) لكميل بن زياد النخعي ح1.
2- بحار الأنوار: ج 93 ص160 ب16 ذم السؤال خصوصا بالكف ومن المخالفين وما يجوز فيه السؤال ح13.
3- عيون الحكم والمواعظ: ص142 ح3185.
4- من لا يحضره الفقيه: ج 4 ص358 باب النوادر وهو آخر أبواب الكتاب ح5762.

تعويذة السبطين

اشارة

عن فاطمة الكبرى (عليها السلام) بنت محمد (صلى الله عليه وآله):

إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يعوّذ الحسن والحسين (عليهما السلام) ويعلمهما هؤلاء الكلمات، كما يعلمها السورة من القرآن، يقول: «أعوذ بكلمات الله التامة من شر كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة»(1).

-------------------------------

تعويذ الأولاد

مسألة: يستحب تعويذ الأولاد بالأدعية والآيات القرآنية.

والاستدلال بهذه الرواية أيضاً على استحباب هذا التعويذ ونظائره مطلقاً لكل أحد بمعونة إلغاء الخصوصية، وإحراز الملاك ودليل الأسوة وما أشبه.

وقولك: (أنا عائذ بالله ومتعوذ بالله من النار) أي مستجير بالله، و(هو عياذي) أي ملجئي، و(عذت به) أي لجأت إليه واعتصمت به، و(هذا مقام العائذ بك) أي المستعصم بك الملتجئ إليكالمستجير بك، و(عاذ يعوذ عوذاً وعياذاً ومعاذاً): لجأ يلجأ ملجأً.

ص: 224


1- ذكره الدولابي (المتوفى310) في كتابه (الذرية الطاهرة النبوية ): ص149 ح191، عن فاطمة الزهراء (عليها السلام).

والظاهر أن التعويذ مطلقاً مستحب، وهذه التعويذات المذكورة في الروايات من باب تعدد المطلوب والاستحباب في الاستحباب، كما قالوا في باب المستحبات والمكروهات بشكل عام.

و(الهامة) يراد بها: الدابة التي تهمّ بالإنسان لأذيته، ولذا جيء بها مؤنثاً.

و(اللامة) يراد بها: العيون الحاسدة وما أشبه، كأنها تلم بالإنسان وتحتوشه وتجمع فتنةً وفساداً وشراً.

تجنب العين

مسألة: ينبغي أن يتجنب الإنسان ما يوجب أن يصاب بالعين، ومن ذلك تجنب التفاخر والتظاهر وإظهار الغنى أو سائر النعم إذا كان الآخر لا يتحمل، فيصيبه بعين حاسد.

ومن مصاديق ذلك أن يتجنب ويجنّب أهله وأولاده ما لا يتحمله الناس من الملابس الفاخرة أو الدور المزينة أو المركب الخلاب، خشية أن يصاب بعين أو يبتلى بحاسد أو حاقد.

والأولى أن ينفق هذا المال في بناء مسجد أو تشييد حسينية أو مدرسة أومشفى أو صندوق إقراض خيري أو ما أشبه، فإن ذلك أبقى وأزكى وأولى وأنمى، وقد أنفق رسول الله (صلى الله عليه وآله) شاة على الفقراء، فقالت إحدى زوجاته: لم يبق إلاّ الرقبة، فقال (صلى الله عليه وآله): لم يفن إلا الرقبة.

عَنْ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): أَنَّهُ ذَبَحَ شَاةً فِي حُجْرَةِ عَائِشَةَ فَاطَّلعَ عَليْهَا فُقَرَاءُ المَدِينَةِ فَجَاءُوا وسَأَلوا رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) وكَانَ يُعْطِيهِمْ فَلمَّا

ص: 225

دَخَل الليْل لمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلا رَقَبَتُهَا، فَسَأَل عَنْ عَائِشَةَ: مَا بَقِيَ مِنْهَا، فَقَالتْ: لمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلا رَقَبَتُهَا، فَقَال (صلى الله عليه وآله): «قُولي بَقِيَ كُلهَا إِلا رَقَبَتَهَا»(1).

وفي كتبهم: عن عائشة: أنهم ذبحوا شاة، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): ما بقي منها؟ قالت: ما بقي منها إلاّ كتفها. قال (صلى الله عليه وآله): بقي كلها غير كتفها(2).

قال تعالى: «قُل إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَهُوَ يُخْلفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقينَ»(3).

وقال سبحانه: «وَقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلمُواأَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ المُؤْمِنينَ»(4).

وقال عزوجل: «ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وما عِنْدَ اللهِ باقٍ ولنَجْزِيَنَّ الذينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلونَ»(5).

ص: 226


1- مستدرك الوسائل: ج 7 ص266 ب49 باب نوادر ما يتعلق بأبواب الصدقة ح14.
2- سنن الترمذي: ج4 ص58 ح2587، كنزل العمال: ج6 ص381 ح16150.
3- سورة سبأ: 39.
4- سورة البقرة: 223.
5- سورة النحل: 96.

تعليم العوذات

مسألة: يستحب تعليم الأولاد العوذات، فإن تعليمها مطلقاً مستحب، والمأثور خص بالاستحباب.

والسر في التعويذ أن مفاتيح الكون كلها بيد الله تعالى، ولا يضر أحد أحداً وشيء شيئاً إلاّ بإذن الله سبحانه.

قال الله عزوجل: «وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله»(1).

وقال تعالى: «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلق»(2).

وقال سبحانه: «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس»(3).

وقال تعالى: «قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً»(4).

وقال سبحانه: «وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطين * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُون»(5).

ص: 227


1- سورة البقرة: 102.
2- سورة الفلق: 1.
3- سورة الناس: 1.
4- سورة مريم: 18.
5- سورة المؤمنون: 97 - 98.

تعليم الأولاد سور القرآن

مسألة: يستحب تعليم الأولاد سور القرآن الكريم، وفيه روايات عديدة، وللمعلم والمتعلم والباعث على التعليم أجر، كما في قصة الإمام الحسين (عليه السلام) حيث وضع ولداً له عند المعلم في المدينة يسمى بعبد الرحمن السلمي

في المناقب: أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ السُّلمِيَّ عَلمَ وَلدَ الحُسَيْنِ (عليه السلام) الحَمْدَ، فَلمَّا قَرَأَهَا عَلى أَبِيهِ أَعْطَاهُ أَلفَ دِينَارٍ وَأَلفَ حُلةٍ وَحَشَا فَاهُ دُرّاً، فَقِيل لهُ فِي ذَلكَ، فَقَال (عليه السلام): «وَأَيْنَ يَقَعُ هَذَا مِنْ عَطَائِهِ يَعْنِي تَعْليمَهُ»(1).

ومن الواضح أن الأئمة (عليهم السلام) لم يكونوا بحاجة إلى التعلم من سائر الناس، وكذلك الحال في رسول الله (صلى الله عليه وآله) والأنبياء (عليهم السلام)، وما ورد في ذلك فهو من باب التأسي ولتعليم الآخرين.

وكذلك حال ما ورد من تعلم عيسى (عليه الصلاة والسلام) عند معلم(2)، مع

ص: 228


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام): ج 4 ص66 فصل في مكارم أخلاقه (عليه السلام).
2- انظر الأمالي، للصدوق: ص316 المجلس الثاني والخمسون ح1. عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَليٍّ البَاقِرِ (عليه السلام) قَال: لمَّا وُلدَ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ كَانَ ابْنَ يَوْمٍ كَأَنَّهُ ابْنُ شَهْرَيْنِ فَلمَّا كَانَ ابْنَ سَبْعَةِ أَشْهُرٍ أَخَذَتْ وَالدَتُهُ بِيَدِهِ وجَاءَتْ بِهِ الكُتَّابَ وأَقْعَدَتْهُ بَيْنَ يَدَيِ المُؤَدِّبِ، فَقَال لهُ المُؤَدِّبُ: قُل بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. فَقَال عِيسَى (عليه السلام): بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. فَقَال لهُ المُؤَدِّبُ: قُل أَبْجَدْ. فَرَفَعَ عِيسَى (عليه السلام) رَأْسَهُ فَقَال: وهَل تَدْرِي مَا أَبْجَدْ، فَعَلاهُ بِالدِّرَّةِ ليَضْرِبَهُ فَقَال: يَا مُؤَدِّبُ لا تَضْرِبْنِي إِنْ كُنْتَ تَدْرِي وإِلا فَاسْأَلنِي حَتَّى أُفَسِّرَ لكَ. فَقَال: فَسِّرْ لي. فَقَال عِيسَى (عليه السلام): الأَلفُ آلاءُ اللهِ، والبَاءُ بَهْجَةُ اللهِ، والجِيمُ جَمَال اللهِ، والدَّال دِينُ اللهِ، هَوَّزْ الهَاءُ هِيَ هَوْل جَهَنَّمَ، والوَاوُ وَيْل لأَهْل النَّارِ، والزَّاءُ زَفِيرُ جَهَنَّمَ، حُطِّي حُطَّتِ الخَطَايَا عَنِ المُسْتَغْفِرِينَ، كَلمَنْ كَلامُ اللهِ لا مُبَدِّل لكَلماتِهِ، سَعْفَصْ صَاعٌ بِصَاعٍ والجَزَاءُ بِالجَزَاءِ، قَرَشَتْ قَرَشَهُمْ فَحَشَرَهُمْ. فَقَال المُؤَدِّبُ: أَيَّتُهَا المَرْأَةُ خُذِي بِيَدِ ابْنِكِ فَقَدْ عُلمَ ولا حَاجَةَ لهُ فِي المُؤَدِّبِ».

أنمريم الصديقة (عليها الصلاة والسلام) كانت عارفة بأنه نبي مرتبط بعالم الغيب، غني عن تعليم الناس، كيف لا وقد شهدته يكلم الناس في المهد: «قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الكِتابَ وَ جَعَلني نَبِيّاً * وَجَعَلني مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصاني بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيّاً»(1)، ولم يقل سيؤتيني الكتاب وسيجعلني نبياً، إلى آخره، كما يشهد له أيضاً كون السيدة مريم (عليها

السلام) سيدة نساء زمانها، فالوضع عند المعلم كان ليتخذ أسوة في وضع الأطفال عند الصالحين لكي يتعلموا.عَنْ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: «سَارِعُوا فِي طَلبِ العِلمِ، فَوَ الذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لحَدِيثٌ وَاحِدٌ فِي حَلال وحَرَامٍ تَأْخُذُهُ عَنْ صَادِقٍ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا ومَا حَمَلتْ مِنْ ذَهَبٍ وفِضَّةٍ»(2).

وقَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «إِنَّ اللهَ ليَهُمُّ بِعَذَابِ أَهْل الأَرْضِ جَمِيعاً حَتَّى لا يُحَاشِيَ مِنْهُمْ أَحَداً إِذَا عَمِلوا بِالمَعَاصِي واجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ، فَإِذَا نَظَرَ إِلى الشِّيبِ نَاقِلي أَقْدَامِهِمْ إِلى الصَّلوَاتِ، والوِلدَانِ يَتَعَلمُونَ القُرْآنَ، رَحِمَهُمْ فَأَخَّرَ ذَلكَ عَنْهُمْ»(3).

ص: 229


1- سورة مريم: 30 - 31.
2- بحار الأنوار: ج 2 ص146 ب19 فضل كتابة الحديث وروايته ح14.
3- وسائل الشيعة: ج 6 ص180 ب7 باب استحباب تعليم الأولاد القرآن ح2.

التعوذ بالله

مسألة: يستحب التعوذ بالله تعالى مطلقاً من كل شر وسوء وبلاء وفتنة، ومن كل عدو إنسي أو جني، ظاهر أو خفي، كما يستحب التعوذ في كل الأزمان وفي كل الحالات والظروف.

مسألة: يستحب قراءة هذا الدعاء للتعوذ: «أعوذ بكلمات الله...»، وكذلك الأدعية المأثور في التعوذ.

قال تعالى: «وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَميعٌ عَليمٌ»(1).

وقال سبحانه: «فَإِذا قَرَأْتَ القُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجيمِ»(2).

وقال عزوجل: «إِنَّ الذينَ يُجادِلونَ في آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلطانٍ أَتاهُمْ إِنْ في صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالغيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّميعُ البَصيرُ»(3).

وفي الحديث: «أَمَرَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) مُنَادِياً فَنَادَى بِالصَّلاةَ جَامِعَةً، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ وخَرَجَ حَتَّى رَقِيَ المِنْبَرَ، وكَانَ أَوَّل مَا تَكَلمَ بِهِ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ»(4).

ص: 230


1- سورة الأعراف: 200.
2- سورة النحل: 98.
3- سورة غافر: 56.
4- الأمالي، للطوسي: ص118 المجلس الرابع ح39.

وورد: أنه «كَانَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) إِذَا دَخَل المَسْجِدَ يَضَعُ رِجْلهُ اليُمْنَى ويَقُول: بِسْمِ اللهِ وعَلى اللهِ تَوَكَّلتُ ولا حَوْل ولا قُوَّةَ إِلا بِاللهِ، وإِذَا خَرَجَ يَضَعُ رِجْلهُ اليُسْرَى ويَقُول: بِسْمِ اللهِ أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم»(1).

وَقَال (صلى الله عليه وآله): «إِذَا دَخَل العَبْدُ المَسْجِدَ وقَال أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، قَال الشَّيْطَانُ:كُسِرَ ظَهْرِي»(2).

وروي «أَنَّ عَليّاً (عليه السلام) سُئِل عَنِ التَّعْوِيذِ يُعَلقُ عَلى الصِّبْيَانِ، فَقَال: عَلقُوا مَا شِئْتُمْ إِذَا كَانَ فِيهِ ذِكْرُ اللهِ»(3).

وقال النَّبِيُّ صَلى اللهُ عَليْهِ وآلهِ: إِنْأَرَدْتَ أَنْ لا يُصِيبَكَ شَرُّهُمْ ولا يَنَالكَ مَكْرُهُمْ فَقُل إِذَا أَصْبَحْتَ: «أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ» فَإِنَّ اللهَ يُعِيذُكَ مِنْ شَرِّهِمْ، فَإِنَّهُمْ شَيَاطِينُ «يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْل غُرُوراً»(4)» (5).

ص: 231


1- جامع الأخبار: ص68 الفصل الثاني والثلاثون في فضائل المساجد.
2- جامع الأخبار: ص68 الفصل الثاني والثلاثون في فضائل المساجد.
3- وسائل الشيعة: ج 6 ص239 ب41 باب جواز العوذة والرقية والنشرة إذا كانت من القرآن أو الذكر أو مروية عنهم (عليهم السلام) دون غيرها من الأشياء المجهولة وجواز تعليق التعويذ من القرآن والذكر والدعاء ح11.
4- سورة الأنعام: 112.
5- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): ص19 ح4.

التعوذ بغير الله

مسألة: لا ينبغي أن يتعوذ الإنسان بغير الله تعالى ومن أذن بالاستعاذة به، وإلا ازداد شقاءً على شقاء، قال تعالى: «وَأَنَّهُ كانَ رِجال مِنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجال مِنَ الجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً»(1).

قال أبو جعفر (عليه السلام): «كان الرجل ينطلق إلى الكاهن الذي يوحي إليه الشيطان فيقول: قل لشيطانك: فلان قد عاذ بك»(2).

أنواع التعوذ

مسألة: التعوذ بالله قولي وقلبي وعملي، والقولي ما سبق من الدعاء ونظائره، والقلبي أن لا يعقد قلبه إلا على الله تعالى ومن ندب جل اسمه إلى الالتجاء إليه، إذ قال عزوجل: «وَابْتَغُوا إِليْهِ الوَسيلةَ»(3)، والعملي أن يكون سلوكه سلوك المستغني عن غير الله تعالى، فلا يجترح المعاصي ولا يرتكب الآثام رغبة في شيء من حطام الدنيا وزخرفها أو في الرئاسة والشهرة ونظاهرها.عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلمٍ، عَنْ أَحَدِهِمَا (عليهما السلام) قَال: «لا يَدَعِ الرَّجُل أَنْ يَقُول عِنْدَ مَنَامِهِ: "أُعِيذُ نَفْسِي وذُرِّيَّتِي وأَهْل بَيْتِي ومَالي بِكَلمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ، مِنْ كُل شَيْطَانٍ وهَامَّةٍ، ومِنْ كُل عَيْنٍ لامَّةٍ"، فَذَلكَ الذِي عَوَّذَ بِهِ جَبْرَئِيل (عليه

ص: 232


1- سورة الجن: 6.
2- البرهان في تفسير القرآن: ج 5 ص507 ح1.
3- سورة المائدة: 35.

السلام) الحَسَنَ والحُسَيْنَ (عليهما السلام)»(1).

وَكَانَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) يُعَوِّذُ الحَسَنَ والحُسَيْنَ (عليهما السلام) ويَقُول: «أُعِيذُكُمَا بِكَلمَاتِ اللهِ التَّامَّةِ مِنْ كُل شَيْطَانٍ وهَامَّةٍ ومِنْ كُل عَيْنٍ لامَّة»(2).

وعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (عليه السلام) قَال: «تَعَوَّذُ بَعْدَ التَّوَجُّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ تَقُول أَعُوذُ بِاللهِ السَّمِيعِ العَليمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم»(3).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: قَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «رَقَى النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) حَسَناً وحُسَيْناً (عليهما السلام) فَقَال: "أُعِيذُكُمَا بِكَلمَاتِ اللهِالتَّامَّاتِ وأَسْمَائِهِ الحُسْنَى كُلهَا عَامَّةً مِنْ شَرِّ السَّامَّةِ والهَامَّةِ ومِنْ شَرِّ كُل عَيْنٍ لامَّةٍ ومِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ"، ثُمَّ التَفَتَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) إِليْنَا فَقَال: هَكَذَا كَانَ يُعَوِّذُ إِبْرَاهِيمُ إِسْمَاعِيل وَإِسْحَاقَ (عليهم السلام)»(4).

ص: 233


1- من لا يحضره الفقيه: ج 1 ص470 باب ما يقول الرجل إذا أوى إلى فراشه ح1352.
2- الدعوات، للراوندي: ص85 فصل في صحة البدن والعافية بالصلاة والدعاء والذكر لله سبحانه في السفر والحضر ح217.
3- مستدرك الوسائل: ج 4 ص213 ب43 باب استحباب الاستعاذة في أول الصلاة قبل القراءة وكيفيتها ح3.
4- الكافي: ج 2 ص569 باب الحرز والعوذة ح3.

ليس في بيتنا شيء

اشارة

عن فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أتاها يوماً فقال: يا ابناي؟ يعني حسناً وحسيناً (عليهما السلام).

قالت (عليها السلام): قلت: أصبحنا وليس في بيتنا شيء يذوقه ذائق.

فقال(1) علي (عليه السلام): أذهب بهما فإني أتخوف أن يبكيا عليك وليس عندك شيء، فذهب بهما إلى فلان اليهودي(2)، فوجّه إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) فوجدهما يلعبان في مشربة، بين أيديهما فضل من تمر، فقال: يا علي ألا تقلب(3) ابني قبل أن يشتد الحر عليهما؟

قال: فقال علي (عليه السلام): أصبحنا وليس في بيتنا شيء، فلو جلست يا رسول الله حتى أجمع لفاطمة (عليها السلام) تمرات، فجلس رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو ينزع لليهودي كل دلو بتمرة، حتى اجتمع له شيء من تمر فجعله في حجزته(4)، ثم أقبل فحمل رسول الله (صلى الله عليه وآله) أحدهما(5) وحمل عليّ (عليه السلام) الآخر حتى أقلبهما»(6).

-------------------------

ص: 234


1- هذا من تتمة كلام الصديقة (عليها السلام) وهي تخبر أباها عن الحسنين (عليهم السلام).
2- أي إنه (عليه السلام) ذهب إلى فلان لينزح له البئر ويأخذ كأجرة على عمله بعض التمر ويعطيه للحسنين (عليهما السلام).
3- أي ألا ترجع بهما إلى الدار قبل أن يشتد الحر فتقلب أي ترجع كما في قوله تعالى: (إليه تقلبون) أي ترجعون وتردون.
4- يراد بالحجزة الإزار، فإن الحجزة هي معقد الإزار ثم قيل للإزار نفسه حجزة بعلاقة المجاورة.
5- أي حمل رسول الله (صلى الله عليه وآله) الحسن أو الحسين (عليهما السلام) وحمل الإمام علي (عليه السلام) الآخر.
6- كشف الغمة: ج 2 ص60 الثاني عشر في مصرعه ومقتله (عليه السلام)، عوالم العلوم: ج 11 قسم2 ص897 ح104.

بعض مسائل العلاقة مع الكفار

مسألة: يجوز العمل للكافر، لأن أصل العمل جائز، واحتمال أنه سبيل من الكافر على المؤمن المنهي عنه بقوله سبحانه: «وَلنْ يَجْعَل اللهُ للكافِرينَ عَلى المُؤْمِنينَ سَبيلاً»(1) منفي، لوضوح أنه ليس من السبيل عرفاً وشرعاً(2)، مضافاً إلى احتمال أن يراد بالسبيل (الحجة) على ما قالوا، أو غير ذلك(3).

ولذا كان المتعارف في بلاد الإسلام العمل في متاجر الكفار، كما شاهدناه في العراق من غير نكير من الفقهاء، وكذلك في لبنان حيث يعملون للمسيحيين، أو في الهند يعملون للسيك وما أشبه، والعمدة في الدليل هو الإطلاقات وبعض أمثال هذه الروايات.

نعم إذا كانت هناك أضرار علىالمسلمين فتلاحظ العناوين الثانوية.

قال تعالى: «لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الذينَ لمْ يُقاتِلوكُمْ فِي الدِّينِ ولمْ يُخْرِجُوكُمْ

ص: 235


1- سورة النساء: 141.
2- لعل وجهه أن (السبيل) منصرف عنه، وأن المراد به مثل بيع العبد المسلم للكافر، إذ استدل بهذه الآية الأصحاب على عدم جواز بيعه له، أو مثل كون الكافر وصياً على المسلم أو حتى له، أو مثل حق الشفعة للكافر على المسلم أو مثل قود المسلم بالذمي.
3- وقيل المراد في الآخرة، أي لا سبيل له عليهم في الآخرة.

مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وتُقْسِطُوا إِليْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطين»(1).

وقَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «فَإِنَّهُمْ» أي الناس «صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لكَ فِي الدِّينِ وإِمَّا نَظِيرٌ لكَ فِي الخَلق»(2).

الجمع بين الأعمال

مسألة: ينبغي للمؤمن أن يتعلم الجمع بين عدة أعمال في وقت واحد، كي يكون وقته ذا فائدة أكبر، وهذا ما صنعه أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث أخذ الحسنين من أمهما (عليهم السلام) فكان عوناً لها بذلك، ثم تركهما يلعبان في المزرعة وهذا أمر، وقام بنزح الدلاء وإعطاهما بعض التمر ليشبع به جوعتهما وهذا أمر آخر.

زيارة البنت

مسألة: يستحب أن يأتي الأب لزيارة ابنته مطلقاً، كما أتاها رسول الله (صلىالله عليه وآله)، بمعونة فهم تعدد المطلوب(3).

وهو من إكرام البنت المستحب شرعاً.

عَنِ الجَارُودِ بْنِ المُنْذِرِ قَال: قَال لي أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «بَلغَنِي أَنَّهُ

ص: 236


1- سورة الممتحنة: 8.
2- نهج البلاغة: الرسائل 53.
3- أي زيارته (صلى الله عليه وآله) للصديقة (عليها السلام) بعد ولادتها كان من باب المطلوب في المطلوب.

وُلدَ لكَ ابْنَةٌ فَتُسْخِطُهَا، ومَا عَليْكَ مِنْهَا، رَيْحَانَةٌ تَشَمُّهَا، وقَدْ كُفِيتَ رِزْقَهَا، وقَدْ كَانَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) أَبَا بَنَاتٍ»(1).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليها السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «نِعْمَ الوَلدُ البَنَاتُ، مُلطِفَاتٌ مُجَهِّزَاتٌ مُونِسَاتٌ مُبَارَكَاتٌ مُفَليَاتٌ»(2).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «البَنَاتُ حَسَنَاتٌ، والبَنُونَ نِعْمَةٌ، فَإِنَّمَا يُثَابُ عَلى الحَسَنَاتِ ويُسْأَل عَنِ النِّعْمَةِ»(3).

صلة الرحم

مسألة: يستحب صلة الرحم مطلقاً،بمعونة إلغاء الخصوصية(4).

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «إِنَ صِلةَ الرَّحِمِ تُزَكِّي الأَعْمَال، وتُنْمِي الأَمْوَال، وتُيَسِّرُ الحِسَابَ، وتَدْفَعُ البَلوَى، وتَزِيدُ فِي الرِّزْقِ»(5).

وعَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ، قَال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُول: «إِنَّ صِلةَ الرَّحِمِ والبِرَّ ليُهَوِّنَانِ الحِسَابَ، ويَعْصِمَانِ مِنَ الذُّنُوب،ِ فَصِلوا أَرْحَامَكُمْ وبَرُّوا بِإِخْوَانِكُمْ، ولوْ بِحُسْنِ السَّلامِ ورَدِّ الجَوَابِ»(6).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ

ص: 237


1- الكافي: ج 6 ص6 باب فضل البنات ح9.
2- الكافي ج 6 ص5 باب فضل البنات ح5.
3- الكافي: ج 6 ص6 باب فضل البنات ح8.
4- أي إلغاء خصوصية الزيارة، فالجامع وهو صلة الرحم هو المطلوب.
5- الكافي: ج 2 ص157 باب صلة الرحم ح33.
6- الكافي: ج 2 ص157 باب صلة الرحم ح31.

القَوْمَ ليَكُونُونَ فَجَرَةً ولا يَكُونُونَ بَرَرَةً فَيَصِلونَ أَرْحَامَهُمْ فَتَنْمِي أَمْوَالهُمْ وتَطُول أَعْمَارُهُمْ، فَكَيْفَ إِذَا كَانُوا أَبْرَاراً بَرَرَةً»(1).

وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ أَعْجَل الخَيْرِثَوَاباً صِلةُ الرَّحِمِ»(2).

عَنْ أَبِي الحَسَنِ الرِّضَا (عليه السلام) قَال: قَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «صِل رَحِمَكَ ولوْ بِشَرْبَةٍ مِنْ مَاءٍ، وأَفْضَل مَا تُوصَل بِهِ الرَّحِمُ كَفُّ الأَذَى عَنْهَا، وصِلةُ الرَّحِمِ مَنْسَأَةٌ فِي الأَجَل مَحْبَبَةٌ فِي الأَهْل»(3).

خطاب الجد لأحفاده

مسألة: يستحب للجد أن يخاطب أولاد ابنته بأبنائه، كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (ابنيّ)، ولو قصد الإنسان من ذلك التأسي برسول الله (صلى الله عليه وآله) كان له إلى جوار ثواب صلة الرحم، أجر التأسي وإحياء السنة.

قال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «أَحَبُّ العِبَادِ إِلى اللهِ تَعَالى المُتَأَسِّي بِنَبِيِّهِ (صلى الله عليه وآله) والمُقْتَصُّ أَثَرَه»(4).

وقال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «اقْتَدُوا بِهُدَى نَبِيِّكُمْ، فَإِنَّهُ أَصْدَقُ الهُدَى، واسْتَنُّوا بِسُنَّتِهِ فَإِنَّهَا أَهْدَىالسُّنَنِ»(5).

ص: 238


1- الكافي: ج 2 ص155 باب صلة الرحم ح21.
2- الكافي: ج 2 ص152 باب صلة الرحم ح15.
3- الكافي: ج 2 ص151 باب صلة الرحم ح9.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: ص196 ح229.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: ص155 ح68.

ثم إن قوله (صلى الله عليه وآله): (ابني) مما صرح به القرآن الكريم إذ قال تعالى: «فَقُل تَعالوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وأَبْناءَكُمْ»(1) الآية. حيث دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) الحسنين (عليهما السلام).

زهد العترة

مسألة: يستحب بيان زهد أهل البيت (عليهم السلام) وإنفاقهم ما عندهم في سبيل الله حتى أنه كثيراً ما لم يبق في بيتهم شيء يذوقه ذائق، وذلك رغم كثرة ما كان يحصل عليه الإمام علي (عليه السلام) من الأموال، فما أكثر سهمه من الغنائم وغيرها، لكنه كان ينفقهها كلها في سبيل الله عزوجل.

عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مِهْرَانَ الجَمَّال، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: قَال لي: «يَا صَفْوَانُ هَل تَدْرِي كَمْ بَعَثَ اللهُ مِنْ نَبِيٍّ»، قَال: قُلتُ: مَا أَدْرِي، قَال: «بَعَثَ اللهُ مِائَةَ أَلفِ نَبِيٍّ وأَرْبَعَةً وأَرْبَعِينَ أَلفَ نَبِيٍّ، ومِثْلهُمْ أَوْصِيَاءَ، بِصِدْقِ الحَدِيثِ وأَدَاءِ الأَمَانَةِ والزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، ومَا بَعَثَ اللهُنَبِيّاً خَيْراً مِنْ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) ولا وَصِيّاً خَيْراً مِنْ وَصِيِّه»(2).

وعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ قَال: قِيل للزُّهْرِيِّ: مَنْ أَزْهَدُ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا، قَال: «عَليُّ بْنُ الحُسَيْنِ عليه السلام»(3).

ص: 239


1- سورة آل عمران: 61.
2- الاختصاص: ص263 في بيان جملة من الحكم والمواعظ والوصايا عنهم عليهم السلام.
3- علل الشرائع: ج 1 ص230 ب165 باب العلة التي من أجلها سمي علي بن الحسين زين العابدين ح3.

وعَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَعْيَنَ، قَال: سُمِعَ سَائِل فِي جَوْفِ الليْل وَهُوَ يَقُول: أَيْنَ الزَّاهِدُونَ فِي الدُّنْيَا، الرَّاغِبُونَ فِي الآخِرَةِ، فَهَتَفَ بِهِ هَاتِفٌ مِنْ نَاحِيَةِ البَقِيعِ يُسْمَعُ صَوْتُهُ ولا يُرَى شَخْصُهُ: ذَاكَ عَليُّ بْنُ الحُسَيْنِ عليه السلام»(1).

وعَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي المِقْدَامِ قَال: رَأَيْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) وهُوَ يَشْرَبُ فِي قَدَحٍ مِنْ خَزَفٍ (2).

وعَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الحَمِيدِ، قَال: دَخَلتُ عَلى أَبِي الحَسَنِ الأَوَّل (عليه السلام) فِي بَيْتِهِ الذِي كَانَ يُصَلي فِيهِ، فَإِذَا ليْسَ فِي البَيْتِ شَيْ ءٌ إِلا خَصَفَةٌ وسَيْفٌ مُعَلقٌومُصْحَفٌ (3).

وعَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) أَنَّهُ قَال: «مَا تَسْتَعْجِلونَ بِخُرُوجِ القَائِمِ، فَوَ اللهِ مَا لبَاسُهُ إِلا الغَليظُ، ولا طَعَامُهُ إِلا الجَشِبُ»(4).

وعَنْ عَليِّ بْنِ الثُّمَاليِّ، عَنْ بَعْضِ مَنْ حَدَّثَهُ، عَنْ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) أَنَّهُ كَانَ مَعَ أَصْحَابِهِ فِي مَسْجِدِ الكُوفَةِ، فَقَال لهُ رَجُل: بِأَبِي وأُمِّي إِنِّي لأَتَعَجَّبُ مِنْ هَذِهِ الدُّنْيَا التِي فِي أَيْدِي هَؤُلاءِ القَوْمِ وليْسَتْ عِنْدَكُمْ، فَقَال: «يَا فُلانُ أَتَرَى أَنَّا نُرِيدُ الدُّنْيَا فَلا نُعْطَاهَا»، ثُمَّ قَبَضَ قَبْضَةً مِنَ الحَصَى فَإِذَا هِيَ جَوَاهِرُ، فَقَال: «مَا هَذَا»، فَقُلتُ: هَذَا مِنْ أَجْوَدِ الجَوَاهِرِ، فَقَال: «لوْ أَرَدْنَاهُ لكَانَ ولكِنْ لا نُرِيدُهُ» ثُمَّ رَمَى بِالحَصَى فَعَادَتْ كَمَا كَانَتْ (5).

ص: 240


1- الإرشاد: ج 2 ص144 فصل في فضائل الإمام السجاد (عليه السلام).
2- الكافي: ج 6 ص385 باب الأواني ح2.
3- قرب الإسناد: ص310 ح1208.
4- الغيبة، للنعماني: ص233 سيرته عليه السلام ح20.
5- بصائر الدرجات: ج 1 ص375 ب2 باب في الأئمة عليهم السلام أنهم أعطوا خزائن الأرض ح3.

وعَنْ عَائِشَةَ، قَالتْ: مَا شَبِعَ آل مُحَمَّدٍ (عليهم السلام) ثَلاثَةَ أَيَّامٍ تِبَاعَا حَتَّى لحِقَ بِاللهِ عَزَّ وجَل (1).

مساعدة الزوجة

مسألة: يستحب مساعدة الزوجة في إدارة الأطفال ورعايتهم، كما صنع الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد أن قال: «إني أتخوف أن يبكيا عليك و...».

والأجر على مساعدتها في شؤون المنزل عظيم، وقد ورد في الرواية أن له بكل شعرة على بدنه ثواب عبادة سنة، ففي جامع الأخبار عن علي (عليه السلام) قال:

«دَخَل عَليْنَا رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) وَفَاطِمَةُ (عليها السلام) جَالسَةٌ عِنْدَ القِدْرِ وَأَنَا أُنَقِّي العَدَسَ، قَال: يَا أَبَا الحَسَنِ، قُلتُ: لبَّيْكَ يَا رَسُول اللهِ، قَال: اسْمَعْ، وَمَا أَقُول إِلا مَا أَمَرَ رَبِّي، مَا مِنْ رَجُل يُعِينُ امْرَأَتَهُ فِي بَيْتِهَا إِلا كَانَ لهُ بِكُل شَعْرَةٍ عَلى بَدَنِهِ عِبَادَةُ سَنَةٍ، صِيَامُ نَهَارِهَا وَقِيَامُ ليْلهَا، وَأَعْطَاهُ اللهُ مِنَ الثَّوَابِ مَا أَعْطَاهُ اللهُ الصَّابِرِينَ، وَدَاوُدَ النَّبِيَّ وَيَعْقُوبَ وَعِيسَى (عليهم السلام).

يَا عَليُّ مَنْ كَانَ فِي خِدْمَةِ العِيَال فِي البَيْتِ وَلمْ يَأْنَفْ كَتَبَ اللهُ اسْمَهُ فِي دِيوَانِ الشُّهَدَاءِ، وَكَتَبَ اللهُ لهُ بِكُل يَوْمٍ وَليْلةٍ ثَوَابَ أَلفِ شَهِيدٍ، وَكَتَبَ لهُ بِكُل قَدَمٍ ثَوَابَ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ، وَأَعْطَاهُ اللهُ تَعَالى بِكُل عِرْقٍ فِي جَسَدِهِ مَدِينَةً فِي الجَنَّةِ.يَا عَليُّ سَاعَةٌ فِي خِدْمَةِ العِيال خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ أَلفِ سَنَةٍ، وَأَلفِ حَجٍّ وَأَلفِ عُمْرَةٍ، وَخَيْرٌ مِنْ عِتْقِ أَلفِ رَقَبَةٍ، وَأَلفِ غَزْوَةٍ وَأَلفِ عِيادَةِ مَرِيضٍ، وَأَلفِ جُمُعَةٍ

ص: 241


1- الأمالي، للطوسي: ص311 المجلس الحادي عشر ح76.

وَأَلفِ جَنَازَةٍ، وَأَلفِ جَائِعٍ يُشْبِعُهُمْ، وَأَلفِ عَارٍ يَكْسُوهُمْ، وَأَلفِ فَرَسٍ يُوَجِّهُها فِي سَبِيل اللهِ، وَخَيْرٌ لهُ مِنْ أَلفِ دِينَارٍ يَتَصَدَّقُ عَلى المَسَاكِينِ، وَخَيْرٌ لهُ مِنْ أَنْ يَقْرَأَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيل وَالزَّبُورَ وَالفُرْقَانَ، وَمِنْ أَلفِ أَسِيرٍ أُسِّرَ فَأَعْتَقَهَا، وَخَيْرٌ لهُ مِنْ أَلفِ بَدَنَةٍ يُعْطِي للمَسَاكِينِ، وَلا يَخْرُجُ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى يَرَى مَكَانَهُ مِنَ الجَنَّةِ.

يَا عَليُّ مَنْ لمْ يَأْنَفْ مِنْ خِدْمَةِ العِيَال دَخَل الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ.

يَا عَليُّ خِدْمَةُ العِيَال كَفَّارَةٌ للكَبَائِرِ، وَيُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، وَمُهُورُ حُورِ العِينِ، وَيَزِيدُ فِي الحَسَنَاتِ وَالدَّرَجَاتِ.

يَا عَليُّ لا يَخْدُمُ العِيَال إِلا صَدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ، أَوْ رَجُل يُرِيدُ اللهُ بِهِ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ»(1).

الأطفال واللعب

مسألة: يستحب السماح للأطفال باللعبوعدم منعهم عنه، كما ورد في هذا الحديث «فوجدهما يلعبان»، بل هو ظاهر في إذن الإمام لهما (عليهم السلام) باللعب من قبل، إن لم يكن قد حبذ إليهما ذلك.

ويدل على حسن اللعب للأطفال بعض الآيات والروايات، منها:

قوله تعالى حكاية: «أَرْسِلهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَ يَلعَبْ وَإِنَّا لهُ لحافِظُون»(2)، وتقرير النبي يعقوب (عليه السلام) لذلك.

ص: 242


1- جامع الأخبار: ص102 الفصل التاسع والخمسون في خدمة العيال.
2- سورة يوسف: 12.

وقال الصادق (عليه السلام): «دَعِ ابْنَكَ يَلعَبُ سَبْعَ سِنِينَ، وَأَلزِمْهُ نَفْسَكَ سَبْعاً، فَإِنْ أَفْلحَ وَإِلا فَإِنَّهُ مِمَّنْ لا خَيْرَ فِيهِ»(1).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «الغُلامُ يَلعَبُ سَبْعَ سِنِينَ، وَيَتَعَلمُ الكِتَابَ سَبْعَ سِنِينَ، وَيَتَعَلمُ الحَلال وَالحَرَامَ سَبْعَ سِنِينَ»(2).

وقَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «عَلمُوا أَوْلادَكُمُ السِّبَاحَةَ وَالرِّمَايَةَ»(3).

الكد على العيال

مسألة: يستحب الكد على العيال، وفيه روايات كثيرة، قال الإمام الصادق (عليه السلام): «الكاد على عياله كالمجاهد في سبيل الله»(4)، إلى غيره مما يجده الطالب في الوسائل والمستدرك والبحار وغيرها.

ولعل السبب في أن ن أن الكاد كالمجاهد، أن المجاهد يحفظ الثغور الخارجية والكاد على عياله يحفظ الثغور الداخلية، فإن الأهل والأولاد يحفظون بالإنفاق عليهم من الفقر والمرض والفساد والجريمة وشبهها.

عَنْ أَبِي الحَسَنِ الرِّضَا (عليه السلام) قَال: «الذِي يَطْلبُ مِنْ فَضْل اللهِ عَزَّ وَجَل مَا يَكُفُّ بِهِ عِيَالهُ أَعْظَمُ أَجْراً مِنَ المُجَاهِدِ فِي سَبِيل اللهِ عَزَّ وَجَل»(5).

ص: 243


1- الكافي: ج 6 ص46 باب تأديب الولد ح1.
2- الكافي: ج 6 ص47 باب تأديب الولد ح3.
3- الكافي: ج 6 ص47 باب تأديب الولد ح4.
4- الكافي: ج 5 ص88 باب من كد على عياله ح1.
5- الكافي: ج 5 ص88 باب من كد على عياله ح2.

وعَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَاليِّ، عَنْ عَليِّ بْنِ الحُسَيْنِ (عليه السلام) قَال: «أَرْضَاكُمْ عِنْدَ اللهِ أَسْبَغُكُمْ عَلى عِيَالهِ»(1).

وعَنِ الرَّبِيعِ بْنِ يَزِيدَ قَال: سَمِعْتُ أَبَاعَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُول: «اليَدُ العُليَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلى وابْدَأْ بِمَنْ تَعُول»(2).

وعَنِ الرِّضَا (عليه السلام) قَال: «صَاحِبُ النِّعْمَةِ يَجِبُ عَليْهِ التَّوْسِعَةُ عَنْ عِيَالهِ»(3).

وقَال عَليُّ بْنُ الحُسَيْنِ (عليه السلام): «لأَنْ أَدْخُل السُّوقَ ومَعِي دَرَاهِمُ أَبْتَاعُ بِهِ لعِيَالي لحْماً وقَدْ قَرِمُوا أَحَبُّ إِليَّ مِنْ أَنْ أُعْتِقَ نَسَمَةً»(4).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «كَانَ عَليُّ بْنُ الحُسَيْنِ (عليه السلام) إِذَا أَصْبَحَ خَرَجَ غَادِياً فِي طَلبِ الرِّزْقِ، فَقِيل لهُ: يَا ابْنَ رَسُول اللهِ أَيْنَ تَذْهَبُ، فَقَال: أَتَصَدَّقُ لعِيَالي، قِيل لهُ: أَتَتَصَدَّقُ، قَال: مَنْ طَلبَ الحَلال فَهُوَ مِنَ اللهِ عَزَّوجَل صَدَقَةٌ عَليْهِ»(5).

حفظ الأولاد

مسألة: يستحب وقد يجب حفظ الأولاد من الحر والبر، خاصة ما كان يضر بحالهما، هذا بالإضافة إلى الأدلة العامة الدالة على توقيتهم من كل

ص: 244


1- الكافي: ج 4 ص11 باب كفاية العيال والتوسع عليهم ح1.
2- الكافي: ج 4 ص11 باب كفاية العيال والتوسع عليهم ح4.
3- الكافي: ج 4 ص11 باب كفاية العيال والتوسع عليهم ح5.
4- الكافي: ج 4 ب12 باب كفاية العيال والتوسع عليهم ح10.
5- الكافي: ج 4 ب12 باب كفاية العيال والتوسع عليهم ح11.

مكروه.

قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «كُلكُمْ رَاعٍ وكُلكُمْ مَسْئُول عَنْ رَعِيَّتِه»(1).

وقَال (صلى الله عليه وآله): «كُلكُمْ رَاعٍ وكُلكُمْ مَسْئُول عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالإِمَامُ رَاعٍ وهُوَ المَسْئُول عَنْ رَعِيَّتِهِ، والرَّجُل فِي أَهْلهِ رَاعٍ وهُوَ مَسْئُول عَنْ رَعِيَّتِهِ، والمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وهِيَ مَسْئُولةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، والخَادِمُ فِي مَال سَيِّدِهِ رَاعٍ وهُوَ مَسْئُول عَنْ رَعِيَّتِهِ، والرَّجُل فِي مَال أَبِيهِ رَاعٍ وهُوَ مَسْئُول عَنْ رَعِيَّتِهِ، وكُلكُمْ رَاعٍ وكُلكُمْ مَسْئُول عَنْ رَعِيَّتِه»(2).

حمل الأطفال

مسألة: يستحب للوالد والجد حمل الأطفال، كما يستحب ذلك لسائر الأقرباء، بل لسائر الناس، لأنه نوع من الإحسان والتحنن وهو مستحب بالإطلاقات،وقبلها بالدليل العقلي(3).

كما أنه مما يورث الصحة النفسية للحامل والمحمول، والطمأنينة والسكون والاستقرار، ويسبب القوة الجسمية، كما أنه من أسباب تماسك الأسرة(4).

ص: 245


1- جامع الأخبار: ص119 الفصل الخامس والسبعون في العدل.
2- غوالي اللئالي: ج 1 ص129 ح3.
3- لعله إشارة إلى أنه من مصاديق المستقلات العقلية كالإحسان، كما أنه من الأمور الوجدانية.
4- كما أنه يزرع في نفس الطفل روح الخدمة والتعاون والتواد والتحابب.

ورثهما

اشارة

عن فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنها أتت رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالحسن والحسين (عليهما السلام) في مرضه الذي توفي فيه، فقالت: «يا رسول الله إن هذين لم تورثهما شيئاً»، فقال: «أما الحسن فله هيبتي وسؤددي، وأما الحسين فله جرأتي وجودي»(1).

-------------------------

توريث الصفات إعجازاً أو بالأسباب

مسألة: توريث الصفات الحسنة مستحب.

ومن المحتمل أن يكون المراد في هذا الحديث التوريث الإعجازي بالولاية التكوينية، ويحتمل أن يكون كناية عن وجود تلك الصفات فيهما (عليهما السلام) فهو بيان لصفاتهما.

ثم إن الأنفس الكبيرة تتمكن من التصرف في الكون بمجرد النية والقصد أو بواسطة اللفظ أو ما أشبه(2)، ومعنى الحديث على جمع الاحتمالين:

إن النبي (صلى الله عليه وآله) أعطاهما(عليهما السلام) فوق ما كان لديهما ذاتاً

ص: 246


1- دلائل الإمامة: ص69.
2- كالإشارة.

من الهيبة والسؤدد، ومن الجرأة والجود، فإنهم (عليهم السلام) يزدادون فضلاً وحسناً وإيماناً وعلماً وعملاً.

ويؤيد ذلك الحديث المشهور: «عبدي أطعني تكن مثلي أو مَثلي أقول للشيء كن فيكون وتقول للشيء كن فيكون»(1).

فمعنى قول فاطمة (عليها السلام) للرسول (صلى الله عليه وآله): «إن هذين لم تورثهما شيئاً»، على هذا عدم التوريث من هذا القبيل، وإلا فالتوريث التكويني الطبيعي موجود قطعاً، فإن الولد على سر أبيه(2).

هذا بالإضافة إلى أنهما (عليهما السلام) لما كانا في بيت رسول الله (صلى اللهعليه وآله) فقد تعلما منه الشيء الكثير(3)، بالإضافة إلى ما كانا يعلمانه غيباً وبالعلم اللدني وما أشبه، حيث إن الأئمة (عليهم السلام) أئمةٌ وآدم (عليه السلام) بين الماء والطين(4)، فعلمهم كعلم رسول الله (صلى الله عليه وآله) منذ أن خلقهم الله أنواراً

ص: 247


1- وَرَدَ فِي الحَدِيثِ القُدْسِيِ: «يَا ابْنَ آدَمَ أَنَا غَنِيٌّ لا أَفْتَقِرُ، أَطِعْنِي فِيمَا أَمَرْتُكَ أَجْعَلكَ غَنِيّاً لا تَفْتَقِرُ، يَا ابْنَ آدَمَ أَنَا حَيٌّ لا أَمُوتُ، أَطِعْنِي فِيمَا أَمَرْتُكَ أَجْعَلكَ حَيّاً لا تَمُوتُ، يَا ابْنَ آدَمَ أَنَا أَقُول للشَّيْ ءِ كُنْ فَيَكُونُ، أَطِعْنِي فِيمَا أَمَرْتُكَ أَجْعَلكَ تَقُول لشَيْ ءٍ كُنْ فَيَكُونُ». عدة الداعي: ص310، الجواهر السنية: ص361. وقد جاء عن النبي (صلى الله عليه وآله): «إن لله عباداً أطاعوا الله فأطاعهم يقولون للشي ء بأمره كُنْ فَيَكُون» الصراط المستقيم: ج 1 ص169.
2- وقد ثبت أن الجينات الوراثية تنقل كثيراً من الصفات الظاهرة والباطنة، وبل وبعض المعلومات أحياناً.
3- وهذه الكثرة لا يعلم أبعادها ومَدَياتها .
4- راجع مناقب آل أبي طالب عليهم السلام: ج 1 ص214، وفيه: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): كُنْتُ نَبِيّاً وآدَمُ بَيْنَ المَاءِ والطِّين). والاختصاص: ص91 حديث موسى المبرقع، وفيه: (وعَنْهُمْ عليهم السلام: إِنَّ اللهَ خَلقَنَا قَبْل الخَلقِ بِأَلفَيْ أَلفِ عَامٍ فَسَبَّحْنَا فَسَبَّحَتِ المَلائِكَةُ لتَسْبِيحِنَا). وبحار الأنوار: ج 15 ص23 ب1ح39 وفيه: (عَنْ أَبِي حَمْزَةَ قَال: سَمِعْتُ عَليَّ بْنَ الحُسَيْنِ عليه السلام يَقُول: إِنَّ اللهَ عَزَّ وجَل خَلقَ مُحَمَّداً وعَليّاً والأَئِمَّةَ الأَحَدَ عَشَرَ مِنْ نُورِ عَظَمَتِهِ أَرْوَاحاً فِي ضِيَاءِ نُورِهِ يَعْبُدُونَهُ قَبْل خَلقِ الخَلقِ يُسَبِّحُونَ اللهَ عَزَّ وجَل ويُقَدِّسُونَهُ وهُمُ الأَئِمَّةُ الهَادِيَةُ مِنْ آل مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله أجمعين).

فكانوا بعرشه محدقين.

ويدل على ذلك أحاديث متواترة، لأنهم أول خلق الله قبل خلق آدم بآلاف السنين(1).عَنْ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) أَنَّهُ قَال: «إِنَ اللهَ خَلقَ نُورَ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) قَبْل المَخْلوقَاتِ بِأَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلفَ سَنَةٍ وخَلقَ مَعَهُ اثْنَيْ عَشَرَ حِجَاباً والمُرَادُ بِالحُجُبِ الأَئِمَّةُ (عليهم السلام)»(2).

وأما احتمال أن قولها (عليها السلام) : (لم تورثهما شيئاً) ظاهره، من عدم توريثهما مالاً، فقد يستبعد، إذ لا يرث الأحفاد والأسباط مع وجود الطبقة الأولى، إلاّ أن يوجه بأن القصد منه أن يجيب بما أجاب ليعرف مقامهما أكثر فأكثر.

ص: 248


1- والروايات متعددة في عددها، وفي بعضها: (كنا أشباح نور حول العرش نسبح الله قبل أن يخلق آدم بخمسة عشر ألف عام) بحار الأنوار: ج7 ص203. وفي بعضها: (قبل أن يخلق آدم بألفي عام) بحار الأنوار: ج22 ص149، وهناك وجوه عديدة للجمع بينها تطلب من مظانها.
2- بحار الأنوار: ج 25 ص21 ب1 بدو أرواحهم وأنوارهم وطينتهم (عليهم السلام) وأنهم من نور واحد ح36.

علم الإمام اللاحق

مسألة: الظاهر أنهم (عليهم السلام) في العلم سواء، وفي الفضل درجات.

فلا إشكال ثبوتاً وفي عالم الإمكان، بل وإثباتاً ووقوعاً في أن يكون لكل منهم (عليهم الصلاة والسلام) فضل على الآخر بخصوصية يمتاز بها، فإن فضل الله وكرمه لا ينتهي إلى حد، وفي الأحاديث: إنهم (عليهم السلام) يزدادون علماً كل جمعة، وورد بالنسبة إلى الآخرة إنهم يزدادون نعيماً باستمرار(1).

قال (عليه السلام): «وَأَوَّلُنَا وَآخِرُنَا فِي الْعِلْمِ سَوَاءٌ، وَلِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه و آله) وَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) فَضْلُهُمَا»(2).

عَنِ المُفَضَّل قَال: قَال لي أَبُو عَبْدِ اللهِ(عليه السلام) ذَاتَ يَوْمٍ وكَانَ لا يُكَنِّينِي قَبْل ذَلكَ: «يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ»، فَقُلتُ: لبَّيْكَ جُعِلتُ فِدَاكَ، قَال: «إِنَّ لنَا فِي كُل ليْلةِ جُمُعَةٍ سُرُوراً»، قُلتُ: زَادَكَ اللهُ ومَا ذَاكَ، قَال: «إِنَّهُ إِذَا كَانَ ليْلةُ الجُمُعَةِ وَافَى رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) العَرْشَ ووَافَى الأَئِمَّةُ مَعَهُ ووَافَيْنَا مَعَهُمْ فَلا تُرَدُّ أَرْوَاحُنَا إِلى أَبْدَانِنَا إِلا بِعِلمٍ مُسْتَفَادٍ، ولوْ لا ذَلكَ لنَفِدَ مَا عِنْدَنَا»(3).

ص: 249


1- انظر الزهد: ص102 ص19 باب أحاديث الجنة والنار ح278، وفيه: عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «إِنَّ اللهَ خَلقَ بِيَدِهِ جَنَّةً لمْ يَرَهَا عَيْنٌ، وَلمْ يَطَّلعْ عَليْهَا مَخْلوقٌ، يَفْتَحُهَا الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالى كُل صَبَاحٍ فَيَقُول: ازْدَادِي طِيباً ازْدَادِي رِيحاً فَتَقُول: (قَدْ أَفْلحَ المُؤْمِنُونَ) - سورة المؤمنون:1 - ، وَهُوَ قَوْل اللهِ تَعَالى: (فَلا تَعْلمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلونَ) سورة السجدة: 17.
2- الكافي: ج7 ص85 باب علة كيف صار للذكر سهمان وللأنثى سهم.
3- بصائر الدرجات: ج 1 ص130 ب8 باب ما يزاد الأئمة في ليلة الجمعة من العلم المستفاد ح1.

وعن أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «إِنَّ لنَا فِي كُل ليْلةِ الجُمُعَةِ وَفْدَةً إِلى رَبَّنَا فَلا نَنْزِل إِلا بِعِلمٍ مُسْتَطْرَفٍ»(1).

وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ أَرْوَاحَنَا وأَرْوَاحَ النَّبِيِّينَ تُوَافِي العَرْشَ كُل ليْلةِ جُمُعَةٍ فَتُصْبِحُ الأَوْصِيَاءُ وقَدْ زِيدَ فِي عِلمِهِمْ مِثْل جَمِّ الغَفِيرِ مِنَ العِلمِ»(2).

وفي بعض الروايات أن كل ما يعلمهالإمام اللاحق مما يزيده الله به ويمنحه أيام إمامته، يعطى أولاً لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم للإمام من بعده (عليه السلام) وهكذا، إلى أن يصل للإمام الحي، ومن الروايات ما جاء في الكافي:

عَنْ زُرَارَةَ، قَال سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) يَقُول: «لوْ لا أَنَّا نَزْدَادُ لأَنْفَدْنَا، قَال: قُلتُ: تَزْدَادُونَ شَيْئاً لا يَعْلمُهُ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله)، قَال: أَمَا إِنَّهُ إِذَا كَانَ ذَلكَ عُرِضَ عَلى رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) ثُمَّ عَلى الأَئِمَّةِ (عليهم السلام) ثُمَّ انْتَهَى الأَمْرُ إِليْنَا»(3).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «ليْسَ يَخْرُجُ شَيْ ءٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ عَزَّ وَجَل حَتَّى يَبْدَأَ بِرَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) ثُمَّ بِأَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) ثُمَّ بِوَاحِدٍ بَعْدَ وَاحِدٍ لكَيْلا يَكُونَ آخِرُنَا أَعْلمَ مِنْ أَوَّلنَا»(4).

ص: 250


1- بصائر الدرجات: ج 1 ص131 ب8 باب ما يزاد الأئمة في ليلة الجمعة من العلم المستفاد ح3.
2- بصائر الدرجات: ج 1 ص132 ب8 باب ما يزاد الأئمة في ليلة الجمعة من العلم المستفاد ح7.
3- الكافي: ج 1 ص255 باب لو لا أن الأئمة (عليهم السلام) يزدادون لنفد ما عندهم ح3.
4- الكافي: ج 1 ص255 باب لو لا أن الأئمة (عليهم السلام) يزدادون لنفد ما عندهم ح4.

التأسي بالمعصوم في صفاته

مسألة: يستحب الإقتداء برسول الله (صلى الله عليه وآله) في الاتصاف بهذه الصفات: الهيبة والسؤدد والجرأة والجود ونحوها، بالاكتساب والإيحاء وغير ذلك، إضافة إلى ما فيها من العزة التي ينبغي أن يتميز بها المؤمن، قال تعالى: «وَللهِ العِزَّةُ وَلرَسُولهِ وَللمُؤْمِنينَ»(1).

فإن اكتساب مطلق الصفات الحسنة والإقتداء بالرسول (صلى الله عليه وآله) في مختلف الأمور من أهم المستحبات، وقد يجب ذلك، قال سبحانه: «لقَدْ كانَ لكُمْ في رَسُول اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَ اليَوْمَ الآخِرَ وَ ذَكَرَ اللهَ كَثيراً»(2).

وقال عزوجل: «أُولئِكَ الذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ»(3).

وعَنِ الرِّضَا (عليه السلام) فِي حَدِيثٍ: أَنَّ الصَّادِقَ (عليه السلام) قَال: «أَنَا مِنَ الذِينَ قَال اللهُ أُولئِكَ الذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ فَسَل عَمَّا شِئْتَ»(4).

ص: 251


1- سورة المنافقون: 8.
2- سورة الأحزاب: 21.
3- سورة الأنعام: 90.
4- وسائل الشيعة: ج27 ص75 - 76 ب7 ح33240.

طلب الحاجات من المعصوم

مسألة: يستحب أن يطلب الإنسان من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) والأولياء حاجاته، وأن يوسطهم لدى الله تعالى، وكان طلب الصديقة (عليها السلام) من الرسول (صلى الله عليه وآله) واقعياً وتعليمياً.

قال سبحانه: «يا أَيُّهَا الذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِليْهِ الوَسيلةَ»(1).

وفي الروايات: «تقربوا إليه بالإمام»(2).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «وَابْتَغُوا إِليْهِ الوَسِيلةَ»: «أنا وسيلته، وأنا وولدي ذريته»(3).

من مصاديق تربية الأولاد

مسألة: يستحب نقل الإنسان صفاته المجيدة وكمالاته المعنوية إلى أولاده، بل وإلى غيرهم، فالحسن عام لكل ناقلومنقول إليه، والطرق إلى ذلك متنوعة متعددة، وقد ذكر الكثير منها في الروايات، ومنها الأدعية ومنها الأغذية، ومنها الإيحاء.

عَنْ أَبِي الحَسَنِ مُوسَى (عليه السلام) قَال: «جَاءَ رَجُل إِلى النَّبِيِّ (صلى الله عليه

ص: 252


1- سورة المائدة: 35.
2- تفسير القمي: ج 1 ص168.
3- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام): ج 3 ص75 فصل في أنه السبيل والصراط المستقيم والوسيلة.

وآله) فَقَال: يَا رَسُول اللهِ مَا حَقُّ ابْنِي هَذَا، قَال: تُحْسِنُ اسْمَهُ وأَدَبَهُ وضَعْهُ مَوْضِعاً حَسَناً»(1).

وَعَنْهُ (صلى الله عليه وآله) قَال: «أَكْرِمُوا أَوْلادَكُمْ، وأَحْسِنُوا أَدَبَهُمْ، يُغْفَرْ لكُم»(2).

وعَنْهُ (عليه السلام) قَال: «لأَنْ يُؤَدِّبَ أَحَدُكُمْ وُلدَهُ خَيْرٌ لهُ مِنْ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِنِصْفِ صَاعٍ كُل يَوْمٍ»(3).

وقَال النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): «فَرِّقُوا بَيْنَ أَوْلادِكُمْ فِي المَضَاجِعِ إِذَا بَلغُوا سَبْعَ سِنِين»(4).

وقَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «مُرُوا صِبْيَانَكُمْ بِالصَّلاةِ إِذَا كَانُوا أَبْنَاءَ عَشْرِسِنِينَ»(5).

وعَنْ عَليٍّ (عليه السلام) أَنَّهُ قَال: «يُؤْمَرُ الصَّبِيُّ بِالصَّلاةِ إِذَا عَقَل، وبِالصَّوْمِ إِذَا أَطَاق»(6).

ص: 253


1- الكافي: ج 6 ص48 باب حق الأولاد ح1.
2- مكارم الأخلاق: ص222 في فضل الأولاد.
3- وسائل الشيعة: ج 21 ص476 ب83 باب استحباب تعليم الصبي الكتابة والقرآن سبع سنين والحلال والحرام سبع سنين وتعليمه السباحة والرماية ح8.
4- مكارم الأخلاق: ص223 في فضل الأولاد.
5- الجعفريات (الأشعثيات): ص51 باب صلاة الصبيان.
6- مستدرك الوسائل: ج 7 ص393 ب19 باب عدم وجوب الصوم على الطفل والمجنون واستحباب تمرين الولد على الصوم لسبع أو تسع بقدر ما يطيق ولو بعض النهار أو إذا أطاق أو راهق ووجوبه على الذكر لخمس عشرة وعلى الأنثى لتسع إلا أن يبلغ بالاحتلام أو الإنبات قبل ذلك فيجب إلزامهما ح2.

الهيبة والسؤدد

مسألة: يستحب أن يكون الإنسان ذا هيبة وسؤدد، وأن لا يكون مبتذلاً في مزاحه وحديثه وأخذه وعطائه، من غير أن ينافي ذلك التواضع، فالجمع بين المهابة والتواضع هو المطلوب، وهو أشبه في بادئ النظر بالجمع بين الأضداد، لكن الهيبة تنشأ من قوة النفس ورجاحة العقل وموفور العلم ورزانة الحلم، أما التواضع فينشأ من أن لا يرى لنفسه امتيازاً على الآخرين وإن كان متميزاً فإنه بفضل الله تعالى وكرمه، ومظهره السلوك والممارسة وكيفية التعامل مع الآخرين.

عَنْ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) أَنَّهُ قَال: «كَثْرَةُ المِزَاحِ تُسْقِطُ الهَيْبَةَ»(1).

وعَنْه (عليه السلام) أَنَّهُ قَال: «آفَةُ الهَيْبَةِ المِزَاحُ»(2).

وعَنْه (عليه السلام) أَنَّهُ قَال: «بِالوَقَارِ يَكْثُرُ الهَيْبَةُ»(3).

وعَنْه (عليه السلام) أَنَّهُ قَال: «وَمَنْ عُرِفَ بِالحِكْمَةِ لحَظَتْهُ العُيُونُ بِالوَقَارِوَالهَيْبَة»(4).

الجرأة والشجاعة

مسألة: تستحب الجرأة في مواردها، وهي لا تختص بميادين القتال بل هي مطلوبة في كل خير، فإن تأسيس المؤسسات مثلاً يحتاج إلى جرأة، حيث لا مال

ص: 254


1- عيون الحكم والمواعظ: ص389 ح6569.
2- عيون الحكم والمواعظ: ص182 ح3732.
3- عيون الحكم والمواعظ: ص187 ح3814.
4- الكافي: ج 8 ص23 خطبة لأمير المؤمنين عليه السلام وهي خطبة الوسيلة ح4.

ولا تجربة ولا أعوان، ولكن قال تعالى: «وَالذينَ جاهَدُوا فينا لنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلنا وَإِنَّ اللهَ لمَعَ المُحْسِنينَ»(1).

ومن المشهور: (منك الحركة ومن الله البركة).

فإن الإنسان إذا امتلك الجرأة للإقدام والعمل، فخطط واستشار، وطالع وفكّر، وجدّ وثابر، لاكتسب النجاح وحصل على الخبرة والمال والأعوان وما يستلزمه الأمر، وإن كان بنوع من المشقة فإنها تزيده أجراً.

عَنْ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) أَنَّهُ قَال: «إِذَا هِبْتَ أَمْراً فَقَعْ فِيهِ فَإِنَّ شِدَّةَ تَوَقِّيهِ أَشَدُّ مِنَ الوُقُوعِ فِيهِ»(2).

وعَنْه (عليه السلام) أَنَّهُ قَال:«الشَّجَاعَةُ عِزٌّ ظَاهِرٌ»(3).

وعَنْه (عليه السلام) أَنَّهُ قَال: «الشَّجَاعَةُ نُصْرَةٌ حَاضِرَةٌ وفَضِيلةٌ ظَاهِرَةٌ»(4).

وعَنْ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) أَنَّهُ قَال: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ البَصَرَ النَّافِذَ عِنْدَ مَجِي ءِ الشَّهَوَاتِ، والعَقْل الكَامِل عِنْدَ نُزُول الشُّبُهَاتِ، ويُحِبُّ السَّمَاحَةَ ولوْ عَلى تَمَرَاتٍ، ويُحِبُّ الشَّجَاعَةَ ولوْ عَلى قَتْل حَيَّة»(5).

ص: 255


1- سورة العنكبوت: 69.
2- عيون الحكم والمواعظ: ص132 ح2965.
3- عيون الحكم والمواعظ: ص25 ح265.
4- عيون الحكم والمواعظ: ص50 ح1271.
5- مستدرك الوسائل: ج 8 ص297 ب39 باب جواز قتل الحيات والنمل والذر وسائر المؤذيات وكراهة قتل حيات البيوت مع عدم الخوف ح2.

الجود والكرم

مسألة: يستحب الجود والكرم، ولا يختص الجود ببذل المال، بل يشمل الجود بالوقت في قضاء حاجة المؤمن وشبه ذلك، وببذل ماء الوجه، لإصلاح ذات البين وشبه ذلك، وغيرها.

قال تعالى: «فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ واسْمَعُوا وأَطيعُوا وأَنْفِقُوا خَيْراً لأَنْفُسِكُمْ ومَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ المُفْلحُون»(1).

وقال علي بن الحسين (عليه السلام): إنَّ أَكْرَمَ النَّاسِ عَلى النَّاسِ مَنْ كَانَ خَيْرُهُ عَليْهِمْ فَائِضاً، وكَانَ عَنْهُمْ مُسْتَغْنِياً مُتَعَفِّفاً، وأَكْرَمُ النَّاسِ بَعْدَهُ عَليْهِمْ مَنْ كَانَ عَنْهُمْ مُتَعَفِّفاً، وإِنْ كَانَ إِليْهِمْ مُحْتَاجاً، فَإِنَّمَا أَهْل الدُّنْيَا يَعْشَقُونَ الأَمْوَال، فَمَنْ لمْ يُزَاحِمْهُمْ فِيمَا يَعْشَقُونَهُ كَرُمَ عَليْهِمْ، ومَنْ لمْ يُزَاحِمْهُمْ فِيهَا ومَكَّنَهُمْ مِنْهَا أَوْ مِنْ بَعْضِهَا، كَانَ أَعَزَّ عَليْهِمْ وأَكْرَمَ»(2).

وعَنْ عَليٍّ (عليه السلام) قَال: «سَادَةُ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا الأَسْخِيَاءُ وفِي الآخِرَةِالأَتْقِيَاءُ»(3).

وعَنْ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) أَنَّهُ قَال: «ابْذُل مَعْرُوفَكَ للنَّاسِ كَافَّةً، فَإِنَّ فَضِيلةَ المَعْرُوفِ لا يَعْدِلهَا عِنْدَ اللهِ سُبْحَانَهُ شَيْ ءٌ»(4).

ص: 256


1- سورة التغابن: 16.
2- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): ص27 ح8.
3- الأمالي، للصدوق: ص32 المجلس التاسع ح1.
4- عيون الحكم والمواعظ: ص80 ح1949.

نحلة الأبناء

اشارة

عن فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) قالت: قلت: يا رسول الله، أنحل ابني الحسن والحسين (عليهما السلام)، فقال: أنحل الحسن المهابة والحلم، وأنحل الحسين السماحة والرحمة.

وفي رواية: «نحلت هذا الكبير المهابة والحلم، ونحلت الصغير المحبة والرضا»(1).

----------------------

تعدد القضايا

مسألة: الظاهر في مثل هذه الأحاديث واختلاف المقولات والخصوصيات وما أشبه، أن القضية كانت متعددة كما في غيرها من الموارد، فمرة قال (صلى الله عليه وآله): الهيبة والسؤدد والجرأة والجود، وأخرى قال: المهابة والحلم والسماحة والرحمة.

ويدل على التعدد أن الصديقة (صلوات الله عليها) تارة طلبت توريثهما، وأخرىطلبت أن ينحلهما، والنحلة هي العطية والهبة من طيب نفس بلا توقع

ص: 257


1- عوالم العلوم: ج 11 قسم2 فاطمة (سلام الله عليها) ص897 كلامها (عليها السلام) في شفقة النبي (صلى الله عليه وآله) على الحسنين (عليهما السلام) وفضلهما ح143.

عوض.

كما يدل على التعدد أيضاً تعدد المعطَى، إذ أورث الحسين (عليه السلام) الجرأة والجود، كما في الرواية السابقة، ونحله السماحة والرحمة، وأما الحسن (عليه السلام) فقد أورثه الهيبة والسؤدد كما في الحديث السابق، ونحله المهابة والحلم، فالمتكرر فقط هو (المهابة والهيبة) والظاهر أن المراد بها في كل مرة نوعاً منها أو درجة منها، كما يحتمل أن تكون هذه القضية طلباً ابتدائياً لا في خصوص مرض موته (صلى الله عليه وآله) عكس تلك.

النحلة المعنوية

مسألة: يستحب طلب النحلة المعنوية للأولاد، فإن طلب الفضيلة مادياً كان أو معنوياً حسن، كما أن عطاءه حسن آخر.

وفي دعاء الإمام زين العابدين (عليه السلام) في الصحيفة:

«اللهُمَّ ومُنَّ عَليَّ بِبَقَاءِ وُلدِي وبِإِصْلاحِهِمْ لي وبِإِمْتَاعِي بِهِمْ. إِلهِي امْدُدْ لي فِي أَعْمَارِهِمْ، وزِدْ لي فِي آجَالهِمْ، ورَبِّ لي صَغِيرَهُمْ، وقَوِّ لي ضَعِيفَهُمْ، وأَصِحَّ لي أَبْدَانَهُمْ وأَدْيَانَهُمْ وأَخْلاقَهُمْ، وعَافِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وفِي جَوَارِحِهِمْ وفِي كُل مَاعُنِيتُ بِهِ مِنْ أَمْرِهِمْ، وأَدْرِرْ لي وعَلى يَدِي أَرْزَاقَهُمْ. وَاجْعَلهُمْ أَبْرَاراً أَتْقِيَاءَ بُصَرَاءَ سَامِعِينَ مُطِيعِينَ لكَ، ولأَوْليَائِكَ مُحِبِّينَ مُنَاصِحِينَ، ولجَمِيعِ أَعْدَائِكَ مُعَانِدِينَ ومُبْغِضِينَ، آمِينَ» الدعاء(1).

ص: 258


1- الصحيفة السجادية: الدعاء 25 مِنْ دُعَائِهِ (عليه السلام) لوُلدِهِ (عليهم السلام).

استحباب الحلم

مسألة: يستحب الحلم، فإنه جماع المكارم، وفي الرواية: «كاد الحليم أن يكون نبياً»(1).

ثم إن من طرق الحلم هو التحلم، وقد ورد «إن لم تكن حليماً فتحلم»(2)، فإن التطبع يودي إلى تحوله طبعاً شيئاً فشيئاً.

عَنْ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وجَل يُحِبُ الحَيِيَ الحَليمَ»(3).

وعَنْ عَليِّ بْنِ الحُسَيْنِ (عليه السلام) قَال: «المُؤْمِنُ خَلطَ عِلمَهُ بِالحِلمِ» إلى أن قال: «ولا يَفْعَل شَيْئاً مِنَ الحَقِّ رِيَاءً ولا يَتْرُكُهُ حَيَاءً»(4).

وقَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتَعَالى زَيَّنَ شِيعَتَنَا بِالحِلمِ،وغَشَّاهُمْ بِالعِلمِ، لعِلمِهِ بِهِمْ قَبْل أَنْ يَخْلقَ آدَمَ عليه السلام»(5).

ص: 259


1- بحار الأنوار: ج 43 ص70 ب3 مناقبها وفضائلها وبعض أحوالها ومعجزاتها (صلوات الله عليها) ح61.
2- عيون الحكم والمواعظ: ص162 ح3464.
3- الكافي: ج 2 ص112 باب الحلم ح4.
4- مستدرك الوسائل: ج 1 ص109 ب11 باب تحريم قصد الرياء والسمعة في العبادة ح16.
5- الكافي: ج 8 ص315 حديث الفقهاء والعلماء ح494.

استحباب الرحمة

مسألة: تستحب الرحمة، وفي الحديث «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَن»(1).

وقال (عليه السلام): «ارْحَمْ تُرْحَمْ»(2).

وقال تعالى: «فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهم»(3).

بل إن الله خلقنا ليرحمنا، «وَلا يَزالونَ مُخْتَلفين * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ولذلكَ خَلقَهُمْ»(4).

عَنْ عَليٍّ (عليه السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ اللهَ عَزَّ وجَل رَحِيمٌ يُحِبُ كُل رَحِيمٍ»(5).

وعَنْ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ يَوْمَ القِيَامَةِ، ارْحَمْ مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكَ مَنْفِي السَّمَاءِ»(6).

ص: 260


1- مستدرك الوسائل: ج 9 ص55 ب107 باب استحباب التراحم والتعاطف والتزاور والألفة ح8.
2- مستدرك الوسائل: ج 9 ص55 ب107 باب استحباب التراحم والتعاطف والتزاور والألفة ح6.
3- سورة آل عمران: 159.
4- سورة هود: 118-119.
5- وسائل الشيعة: ج 12 ص216 ب124 باب استحباب التراحم والتعاطف والتزاور والألفة ح6.
6- بحار الأنوار ج 74 ص167 ب7 ما جمع من مفردات كلمات الرسول (صلى الله عليه وآله) وجوامع كلمه ح4.

استحباب المحبة

مسألة: تستحب المحبة، والمراد من المحبة إما المحبة في قلوب المؤمنين، فيكون على اسم المفعول، أي أن يكون محبوباً، وإما أن يكون محباً للآخرين، فالمحبة لله وللمؤمنين ولسائر الخلق، فيكون على اسم الفاعل أي كونه محباً لهم.

عَنْ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) فِي حَدِيثِ المِعْرَاجِ، عَنْ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) قَال: «قَال اللهُ تَبَارَكَ وَ تَعَالى: يَا أَحْمَدُ إِنَّ المَحَبَّةَ للهِ هِيَ المَحَبَّةُ للفُقَرَاءِ وَالتَّقَرُّبُ إِليْهِمْ، قَال: يَا رَبِّ وَمَنِ الفُقَرَاءُ؟ قَال: الذِينَ رَضُوا بِالقَليل، وَصَبَرُوا عَلى الجُوعِ، وَشَكَرُوا عَلى الرَّخَاءِ، وَلمْ يَشْكُوا جُوعَهُمْ وَلا ظَمَأَهُمْ، وَلمْ يَكْذِبُوا بِأَلسِنَتِهِمْ، وَلمْ يَغْضَبُوا عَلى رَبِّهِمْ، وَلمْ يَغْتَمُّوا عَلى مَا فَاتَهُمْ،

وَلمْ يَفْرَحُوا بِمَا آتَاهُمْ، يَا أَحْمَدُ مَحَبَّتِي مَحَبَّةُ الفُقَرَاءِ، فَأَدْنِ الفُقَرَاءَ وَقَرِّبْ مَجْلسَهُمْ مِنْكَ، وَبَعِّدِ الأَغْنِيَاءَ وَبَعِّدْ مَجْلسَهُمْ فَإِنَّ الفُقَرَاءَ أَحِبَّائِي»(1).

أقول: أي الأغنياء الذين يبعدون الإنسان عن الله تعالى ويوقعونه فيالمعصية.

وعَنْ شُعَيْبٍ العَقَرْقُوفِيِّ قَال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُول لأَصْحَابِهِ: «اتَّقُوا اللهَ وكُونُوا إِخْوَةً بَرَرَةً، مُتَحَابِّينَ فِي اللهِ، مُتَوَاصِلينَ مُتَرَاحِمِينَ، تَزَاوَرُوا وتَلاقَوْا وتَذَاكَرُوا أَمْرَنَا وأَحْيُوهُ»(2).

ص: 261


1- مستدرك الوسائل: ج 12 ص237 ب17 باب وجوب حب المطيع وبغض العاصي وتحريم العكس ح2.
2- الكافي: ج 2 ص175 باب التراحم والتعاطف ح1.

وعَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) قَال: «قَال اللهُ تَعَالى: وَجَبَتْ مَحَبَّتِي للمُتَحَابِّينَ فِيَ والمُتَجَالسِينَ فِيَّ والمُتَبَاذِلينَ فِي»(1).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «إِنَّ للهِ عَمُوداً مِنْ زَبَرْجَدٍ أَعْلاهُ مَعْقُودٌ بِالعَرْشِ، وأَسْفَلهُ فِي تُخُومِ الأَرَضِينَ السَّابِعَةِ، عَليْهِ سَبْعُونَ أَلفَ قَصْرٍ، فِي كُل قَصْرٍ سَبْعُونَ أَلفَ مَقْصُورَةٍ، فِي كُل مَقْصُورَةٍ سَبْعُونَ أَلفَ حَوْرَاءَ، قَدْ أَعَدَّ اللهُ ذَلكَ للمُتَحَابِّينَ فِي اللهِ، والمُتَبَاغِضِينَ فِي اللهِ»(2).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «إِنَّ المُسْلمَيْنِ يَلتَقِيَانِ فَأَفْضَلهُمَا أَشَدُّهُمَاحُبّاً لصَاحِبِهِ»(3).

استحباب الرضا

مسألة: يستحب الرضا، والمراد منه الرضا بقضاء الله تعالى وقدره.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «رَأْسُ طَاعَةِ اللهِ الصَّبْرُ وَالرِّضَا عَنِ اللهِ فِيمَا أَحَبَّ العَبْدُ أَوْ كَرِهَ، وَلا يَرْضَى عَبْدٌ عَنِ اللهِ فِيمَا أَحَبَّ أَوْ كَرِهَ إِلا كَانَ خَيْراً لهُ فِيمَا أَحَبَّ أَوْ كَرِهَ»(4).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «إِنَّ أَعْلمَ النَّاسِ بِاللهِ أَرْضَاهُمْ بِقَضَاءِ

ص: 262


1- مشكاة الأنوار: ص208 الفصل الثامن في التزاور والهجرة.
2- وسائل الشيعة: ج 16 ص169 ب15 باب وجوب الحب في الله والبغض في الله والإعطاء في الله والمنع في الله ح11.
3- الكافي: ج 2 ص127 باب الحب في الله والبغض في الله ج14.
4- الكافي: ج 2 ص60 باب الرضا بالقضاء ح1.

اللهِ عَزَّ وَ جَل»(1).

وقَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «قَال اللهُ عَزَّ وَ جَل: عَبْدِيَ المُؤْمِنَ لا أَصْرِفُهُ فِي شَيْ ءٍ إِلا جَعَلتُهُ خَيْراً لهُ، فَليَرْضَ بِقَضَائِي، وَليَصْبِرْ عَلى بَلائِي، وَليَشْكُرْ نَعْمَائِي، أَكْتُبْهُ يَا مُحَمَّدُ مِنَ الصِّدِّيقِينَ عِنْدِي»(2).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال:«عَجِبْتُ للمَرْءِ المُسْلمِ لا يَقْضِي اللهُ عَزَّ وَجَل لهُ قَضَاءً إِلا كَانَ خَيْراً لهُ، وَإِنْ قُرِّضَ بِالمَقَارِيضِ كَانَ خَيْراً لهُ، وَإِنْ مَلكَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا كَانَ خَيْراً لهُ»(3).

وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: «أَحَقُّ خَلقِ اللهِ أَنْ يُسَلمَ لمَا قَضَى اللهُ عَزَّ وَجَل مَنْ عَرَفَ اللهَ عَزَّ وَجَل، وَمَنْ رَضِيَ بِالقَضَاءِ أَتَى عَليْهِ القَضَاءُ وَعَظَّمَ اللهُ أَجْرَهُ، وَمَنْ سَخِطَ القَضَاءَ مَضَى عَليْهِ القَضَاءُ وَأَحْبَطَ اللهُ أَجْرَه»(4).

ص: 263


1- الكافي: ج 2 ص60 باب الرضا بالقضاء ح2.
2- الكافي: ج 2 ص61 باب الرضا بالقضاء ح6.
3- الكافي: ج 2 ص62 باب الرضا بالقضاء ح8.
4- الكافي: ج 2 ص62 باب الرضا بالقضاء ح9.

أشعار للطفل

اشارة

حكي عن الصديقة الزهراء (عليها السلام) أنها كانت تحرّك الحسن (عليه السلام) وتقول:

أشبه أباك يا حسن *** وأخلع عن الحق الرسن

واعبد إلهاً ذا منن *** ولا توالي ذا الأحن

وقالت للحسين (عليه السلام):

أنت شبيه بأبي *** لست شبيهاً بعلي(1).

------------------------------

أقول: أي الشبه التام، فإن الشبه مختلف بالاعتبار.

تشبيه الأولاد بالأجداد

مسألة: يجوز أن يقول الإنسان لابنه: أنت شبيه بفلان من أجداده أو أقربائه، إذا لم يكن فيه محذور، كما يجوز أن يقول: لا بفلان، إذا لم يكن فيه محذور آخر.

ومراد الصديقة (عليها الصلاة والسلام) فينفي الشبه وإثباته الشباهة التامة، أو

ص: 264


1- راجع عوالم العلوم: ج 11 قسم2 ص898 ب69 كلامها (عليها السلام) في شفقة النبي (صلى الله عليه وآله) على الحسنين (عليهما السلام) وفضلهما ح145.

الشبه الأكثر، أو بلحاظ بعض الجهات كالشكل الظاهري، فإن الشبه مختلف بالاعتبار واللحاظ والنسبة، وإلاّ فلا شك أنهما (عليهما السلام) كانا شبيهين بالرسول وبعلي (عليهما الصلاة والسلام).

ويحتمل في قولها: (أشبه أباك يا حسن)، وقولها للحسين (عليه السلام): (أنت شبيه بالنبي، لست شبيهاً بعلي)، أن يكون إشارة إلى بعض أدوار حياتهما المستقبلية إخباراً، بل وإنشاءً، فلعل (أشبه أباك يا حسن) إشارة إلى مشابهة أبيه علي (عليه السلام) في موقفه العام من الغاصبين للخلافة، فكما كان له من الموقف تجاه ابن أبي قحافة وابن الخطاب وعثمان، كان للحسن (عليه السلام) الموقف تجاه معاوية طوال عشر سنين، وكما ابتدأ الإمام علي (عليه السلام) بالسعي لاسترداد حقه وطلب الأنصار للنهوض في مقابل الانقلاب على رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد شهادته، كذلك فعل الإمام الحسن (عليه السلام) إذ جيش الجيش ثم صالح، أو كما فعل أمير المؤمنين (عليه السلام) في صفين فعل الحسن (عليه السلام) في بداية خلافته، والله العالم.

وهكذا في قولها (عليها السلام) للحسين (عليه السلام): (أنت شبيه بالنبي لست شبيهاً بعلي)، فلعله لعكس الجملةالسابقة، إذ كانت وظيفة الحسين (عليه

السلام) النهوض والقيام والثورة العسكرية في مقابل أولئك القوم، كما كانت وظيفة الرسول (صلى الله عليه وآله) النهوض والجهاد في قبال المشركين، والله العالم.

ص: 265

روايات في بيان الشبه

في المقاتل: «وَبَرَزَ مِنْ بَعْدِهِ عَليُّ بْنُ الحُسَيْنِ (عليه السلام) فَلمَّا بَرَزَ عَليْهِمْ دَمَعَتْ عَيْنُ الحُسَيْنِ (عليه السلام) فَقَال: اللهُمَّ كُنْتَ أَنْتَ الشَّهِيدَ عَليْهِمْ فَقَدْ بَرَزَ ابْنُ رَسُولكَ وأَشْبَهُ النَّاسِ وَجْهاً وسَمْتاً بِه»(1).

ورفع الحسين (عليه السلام) سبابته نحو السماء وقال: «اللهُمَّ اشْهَدْ عَلى هَؤُلاءِ القَوْمِ فَقَدْ بَرَزَ إِليْهِمْ غُلامٌ أَشْبَهُ النَّاسِ خَلقاً وخُلقاً ومَنْطِقاً بِرَسُولكَ»(2).

وعَنْ أَبِي الحَسَنِ الأَوَّل (عليه السلام) قَال: «كَانَ الحَسَنُ (عليه السلام) أَشْبَهَ النَّاسِ بِمُوسَى بْنِ عِمْرَانَ مَا بَيْنَ رَأْسِهِ إِلى سُرَّتِهِ، وإِنَّ الحُسَيْنَ (عليه السلام) أَشْبَهُ النَّاسِ بِمُوسَى بْنِ عِمْرَانَ مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ إِلى قَدَمِهِ»(3).

وعَنْ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ سَعْدٍ قَال:سَمِعْتُ أَبَا مُحَمَّدٍ الحَسَنَ بْنَ عَليٍّ العَسْكَرِيَّ (عليه السلام) يَقُول: «الحَمْدُ للهِ الذِي لمْ يُخْرِجْنِي مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى أَرَانِيَ الخَلفَ مِنْ بَعْدِي ما أَشْبَهَ النَّاسِ بِرَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) خَلقاً وخُلقاً، يَحْفَظُهُ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالى فِي غَيْبَتِهِ، ويُظْهِرُهُ فَيَمْلأُ الأَرْضَ قِسْطاً وعَدْلا كَمَا مُلئَتْ جَوْراً وظُلماً»(4).

ص: 266


1- روضة الواعظين: ج 1 ص188 مجلس في ذكر مقتل الحسين (عليه السلام).
2- بحار الأنوار: ج 45 ص42 ب37 سائر ما جرى عليه بعد بيعة الناس ليزيد بن معاوية إلى شهادته (صلوات الله عليه).
3- الكافي: ج 8 ص233 حديث القباب ح307.
4- كفاية الأثر: ص295 باب ما جاء عن أبي محمد الحسن بن علي (عليه السلام) ما يوافق هذه الأخبار ونصه على ابنه الحجة (عليه السلام).

وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الأَنْصَارِيِّ قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «المَهْدِيُّ مِنْ وُلدِي اسْمُهُ اسْمِي، وكُنْيَتُهُ كُنْيَتِي، أَشْبَهُ النَّاسِ بِي خَلقاً وخُلقاً، تَكُونُ بِهِ غَيْبَةٌ وحَيْرَةٌ تَضِل فِيهَا الأُمَمُ، ثُمَّ يُقْبِل كَالشِّهَابِ الثَّاقِبِ يَمْلؤُهَا عَدْلا وقِسْطاً كَمَا مُلئَتْ جَوْراً وظُلماً»(1).

خطاب الطفل

مسألة: يجوز أن يخاطب الطفل عطوفةً بقوله (بأبي)، كما في هذا الحديث.

مضافاً إلى الروايات الكثيرة فيالعطف على الأولاد وحسن التعامل معهم.

عَنْ أَبِي الحَسَنِ مُوسَى (عليه السلام) قال: «إِذَا وَعَدْتُمُ الصِّغَارَ فَأَوْفُوا لهُمْ، فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّكُمْ أَنْتُمُ الذِينَ تَرْزُقُونَهُمْ، وإِنَّ اللهَ عَزَّ وجَل ليْسَ يَغْضَبُ لشَيْ ءٍ كَغَضَبِهِ للنِّسَاءِ والصِّبْيَانِ، وبِإِدْخَال الفَاكِهَةِ عَليْهِمْ خُصُوصاً فِي الجُمَعِ»(2).

الطفل وعبادة الله

مسألة: يستحب تربية الطفل على عبادة الله، وبيان أن الله تعالى ذو منن عليه، وذلك بشرحها له وتعدادها بلغة مبسطة في شتى المناسبات، وهذه من

ص: 267


1- كمال الدين: ج 1 ص286 ب25 باب ما أخبر به النبي (صلى الله عليه وآله) من وقوع الغيبة بالقائم (عليه السلام) ح1.
2- عدة الداعي: ص84.

ضمن مجموعة برامج لتربية الأطفال أكد عليها الإسلام.

قَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «عَلمُوا أَوْلادَكُمْ (يَس) فَإِنَّهَا رَيْحَانَةُ القُرْآنِ»(1).

وعَنْ عَليٍّ (عليه السلام) قَال: «عَلمُوا أَوْلادَكُمُ الصَّلاةَ لسَبْعٍ، وخُذُوهُمْ بِهَا إِذَابَلغُوا الحُلمَ»(2).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ (عليه السلام) أَنَّهُ قَال: «كَانَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) يُعْجِبُهُ أَنْ يُرْوَى شِعْرُ أَبِي طَالبٍ وأَنْ يُدَوَّنَ، وقَال: تَعَلمُوهُ وعَلمُوا أَوْلادَكُمْ فَإِنَّهُ كَانَ عَلى دِينِ اللهِ وفِيهِ عِلمٌ كَثِير»(3).

وعَنْ أَبِي هَارُونَ المَكْفُوفِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «يَا أَبَا هَارُونَ إِنَّا نَأْمُرُ صِبْيَانَنَا بِتَسْبِيحِ فَاطِمَةَ (عليها السلام) كَمَا نَأْمُرُهُمْ بِالصَّلاةِ، فَالزَمْهُ فَإِنَّهُ لمْ يَلزَمْهُ عَبْدٌ فَشَقِيَ»(4).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِيهِ (عليهما السلام) قَال: «إِنَّا نَأْمُرُ صِبْيَانَنَا بِالصَّلاةِ إِذَا كَانُوا بَنِي خَمْسِ سِنِينَ، فَمُرُوا صِبْيَانَكُمْ بِالصَّلاةِ إِذَا كَانُوا بَنِي سَبْعِ سِنِينَ، ونَحْنُ نَأْمُرُ صِبْيَانَنَا بِالصَّوْمِ إِذَا كَانُوا بَنِي سَبْعِ سِنِينَ بِمَا أَطَاقُوا مِنْصِيَامِ اليَوْمِ إِنْ كَانَ إِلى نِصْفِ النَّهَارِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلكَ أَوْ أَقَل، فَإِذَا غَلبَهُمُ العَطَشُ والغَرَثُ

ص: 268


1- الأمالي، للطوسي: ص677 المجلس 37 مجلس يوم الجمعة السابع من شعبان سنة سبع وخمسين وأربعمائة ح13.
2- عيون الحكم والمواعظ: ص341 ح5831.
3- مستدرك الوسائل: ج 6 ص101 ب43 باب كراهة إنشاد الشعر يوم الجمعة ولو بيتا وإن كان شعر حق وبقية المواضع التي يكره فيها إنشاد الشعر وعدم تحريم إنشاده وروايته ح6.
4- الكافي: ج 3 ص343 باب التعقيب بعد الصلاة والدعاء ح13.

أَفْطَرُوا حَتَّى يَتَعَوَّدُوا الصَّوْمَ ويُطِيقُوهُ، فَمُرُوا صِبْيَانَكُمْ إِذَا كَانُوا بَنِي تِسْعِ سِنِينَ بِالصَّوْمِ مَا اسْتَطَاعُوا مِنْ صِيَامِ اليَوْمِ فَإِذَا غَلبَهُمُ العَطَشُ أَفْطَرُوا»(1).

لا توال ذا الإحن

مسألة: يستحب تربية الطفل على أن لا يوالي ذا الأحن.

والإحن جمع إحنة، وهي الحقد والضغينة والشحناء.

عَنْ عَليٍّ (عليه السلام) قَال: «مَنْ زَرَعَ الإِحَنَ حَصَدَ المِحَنَ»(2).

وعنه (عليه السلام) قَال: «سِلاحُ الشَّرِّ الحِقْدُ»(3).

وعنه (عليه السلام) قَال: «دَعِ الحَسَدَ والكَذِبَ والحِقْدَ، فَإِنَّهُنَّ ثَلاثَةٌ تَشِينُ الدِّينَ وتُهْلكُ الرَّجُل»(4).

تحريك الصبي

مسألة: يجوز الأخذ بالصبي وتحريكه مما يوجب أنسه وسروره وفرحه وانشراحه، مع رعاية الموازين الشرعية، بما لا يكون رقصاً، وما ورد في بعض النصوص من ترقيصه يراد به تحريكه كما ذكر.

هذا إذا لم يسبب تأذي الصبي، وإلا فلا يجوز، فإن إيذاء الناس قريباً كان

ص: 269


1- الكافي: ج 3 ص409 باب صلاة الصبيان ومتى يؤخذون بها ح1.
2- عيون الحكم والمواعظ: ص429 ح7305.
3- عيون الحكم والمواعظ: ص284 ح5121.
4- عيون الحكم والمواعظ: ص250 ح4680.

أو غير قريب حرام، قال تعالى: «وَالذينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنينَ وَالمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلوا بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبيناً»(1)، نعم يخرج من ذلك ما علم من السيرة أو الأدلة الأخرى خروجه(2).

ثم إن الرقص إذا كان مشتملاً على محرم فلا يجوز، كرقص الرجال للنساء، والنساء للرجال، أما مجرد الرقص بلا اشتماله على حرام فقد قال بعض الفقهاء بأنه مكروه، وإن أشكل فيهآخرون.

وقد ذكرنا في (الفقه: المحرمات) ما ينفع المقام(3).

قراءة الشعر للطفل

مسألة: يجوز إنشاء الأشعار للطفل وكذلك الإنشاد له، وهكذا بالنسبة إلى النثر الموجب لتفريحه وأنسه، وفي الحديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «من كان له ولد صبا»(4).

هذا إذا أريد به الإنشاء لا الأخبار، والإنشاء غير بعيد، لأن كلامهم (عليهم السلام) يحمل على الحكم ما وجد إليه سبيلاً، قال سبحانه: وَما أَرْسَلنا مِنْ

ص: 270


1- سورة الأحزاب: 58.
2- ذكر الإمام المؤلف (رحمه الله) في (الفقه): ج93 كتاب المحرمات ص18 - 19 بعض مستثنيات حرمة الإيذاء، ومنها ثقب أذن الأطفال وختانهم، للروايات الخاصة، ومنها ما جرت عليه السيرة (كأن يدخل الإنسان في المكان المزدحم، أو يفتح دكاناً في قبال دكانه لأجل معيشته وإن تأذى بذلك أو نحو هذه الأمور فليس من المحرم بلا إشكال).
3- انظر موسوعة (الفقه): ج93 كتاب المحرمات ص162.
4- الكافي: ج 6 ص50 باب بر الأولاد ح4.

رَسُول إِلاَّ ليُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ (1)، وملاكه موجود في سائر المعصومين (عليهم السلام)، بل يدل عليه قوله تعالى: «أَطيعُوا اللهَ وَأَطيعُوا الرَّسُول وَأُولي الأَمْرِ مِنْكُمْ»(2).

وقد ورد في الرواية كما عن الصدوق، قال النبي (صلى الله عليه وآله): «منكان عنده صبي فليتصاب له»(3).

ص: 271


1- سورة النساء: 64.
2- سورة النساء: 59.
3- من لا يحضره الفقيه: ج 3 ص484 باب فضل الأولاد ح4707.

أنا بتسكيته أرفق

اشارة

عن سلمان قال: كانت فاطمة (عليها السلام) جالسة قدامها رحى تطحن بها الشعير.. قال سلمان: إني مولى عتاقة(1)

إما أطحن الشعير، أو أسكت لك الحسين (عليه السلام)، فقالت: «أنا بتسكيته أرفق»(2).

------------------------------

استحباب العمل

مسألة: العمل في الإسلام بشكل مطلق بين مستحب وواجب، إلا ما استثني، وفي روايات المعصومين (عليهم السلام) الحث الكبير والفضل الكثير للعمل، وقد أمر القرآن الكريم به.

قال تعالى: «وَقُل اعْمَلوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلكُمْ وَرَسُولهُ وَالمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالمِ الغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلونَ»(3).

وقال سبحانه: «قُل يا قَوْمِ اعْمَلوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّيعامِل»(4).

ص: 272


1- مولى عتاقة: أي عتيق ومعتق، فهو كان عبداً قد أعتق، ولعله يشير إلى تعوده على العمل.
2- الخرائج والجرائح: ج 2 ص531 فصل في ذكر أعلام فاطمة البتول (عليها السلام) ح6.
3- سورة التوبة: 105.
4- سورة الأنعام: 135، سورة الزمر: 39.

وقال عزوجل: «اعْمَلوا آل داوُدَ شُكْراً»(1).

نعم ليس الأمر بالعمل مستقلاً عن الأمر بأنواعه ومصاديقه، كالصلاة والجهاد، فلا يتعدد العقاب أو الثواب بترك نوع أو فعله.

العمل اليدوي

مسألة: العمل اليدوي، ومنه طحن الشعير لمن لا يجد وسيلة أفضل، مستحب، وهو مضافاً إلى استحبابه يمنح الإنسان الصحة الجسمية والنفسية ويزيده قوة، كما أن العمل يمنع سرعة الشيخوخة، كما يحول دون الكثير من المفاسد والأمراض والأعراض، فإنه تفريغ للطاقة البدنية بشكل إيجابي، قال الشاعر:

إن الشباب والفراغ والجدة *** مفسدة للمرء أي مفسدة

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «كَانَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (صَلوَاتُ اللهِ عَليْهِ) يَحْتَطِبُ ويَسْتَقِي ويَكْنُسُ، وكَانَتْ فَاطِمَةُ (سَلامُ اللهِ عَليْهَا) تَطْحَنُ وتَعْجِنُ وتَخْبِزُ»(2).وعَنْ إِسْمَاعِيل بْنِ جَابِرٍ قَال: أَتَيْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) وإِذَا هُوَ فِي حَائِطٍ لهُ بِيَدِهِ مِسْحَاةٌ وهُوَ يَفْتَحُ بِهَا المَاءَ وعَليْهِ قَمِيصٌ شِبْهَ الكَرَابِيسِ كَأَنَّهُ مَخِيطٌ عَليْهِ مِنْ ضِيقِهِ(3).

ص: 273


1- سورة سبأ: 13.
2- الكافي: ج 5 ص86 باب عمل الرجل في بيته 1.
3- الكافي: ج 5 ص76 باب ما يجب من الاقتداء بالأئمة (عليهم السلام) في التعرض للرزق ح11.

ورُوِيَ عَنِ الفَضْل بْنِ أَبِي قُرَّةَ قَال: دَخَلنَا عَلى أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) وهُوَ يَعْمَل فِي حَائِطٍ لهُ فَقُلنَا: جَعَلنَا اللهُ فِدَاكَ دَعْنَا نَعْمَل لكَ أَوْ تَعْمَلهُ الغِلمَانُ، قَال: «لا، دَعُونِي فَإِنِّي أَشْتَهِي أَنْ يَرَانِيَ اللهُ عَزَّوجَل أَعْمَل بِيَدِي وأَطْلبُ الحَلال فِي أَذَى نَفْسِي»(1).

وقَال الصادق (عليه السلام): «المِغْزَل فِي يَدِ المَرْأَةِ الصَّالحَةِ كَالرُّمْحِ فِي يَدِ الغَازِي المُرِيدِ وَجْهَ الله»(2).

وَقَال (عليه السلام): «مُرُوا نِسَاءَكُمْ بِالغَزْل فَإِنَّهُ خَيْرٌ لهُنَّ وأَزْيَن»(3).

وقال (صلى الله عليه وآله): «نِعْمَ اللهْوُالمِغْزَل للمَرْأَةِ الصَّالحَةِ»(4).

وعَنْ أُمِّ الحَسَنِ النَّخَعِيَّةِ قَالتْ: مَرَّ بِي أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَليُّ بْنُ أَبِي طَالبٍ (عليه السلام) فَقَال: «أَيَّ شَيْ ءٍ تَصْنَعِينَ يَا أُمَّ الحَسَنِ»، قُلتُ: أَغْزِل، قَالتْ: فَقَال: «أَمَا إِنَّهُ أَحَل الكَسْبِ»(5).

ومَرَّ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ عَلى امْرَأَةٍ وهِيَ جَالسَةٌ عَلى بَابِ دَارِهَا بُكْرَةً وكَانَ يُقَال لهَا أُمُّ بَكْرٍ وفِي يَدِهَا مِغْزَل تَغْزِل بِهِ فَقَال لهَا: يَا أُمَّ بَكْرٍ أَمَا كَبِرْتِ، أَمَا آنَ لكِ أَنْ تَضَعِي هَذَا المِغْزَل، فَقَالتْ: وكَيْفَ أَضَعُهُ وقَدْ سَمِعْتُ عَليَّ بْنَ أَبِي طَالبٍ (عليه السلام) يَقُول: «هُوَ مِنْ طَيِّبَاتِ الكَسْبِ»(6).

ص: 274


1- من لا يحضره الفقيه: ج 3 ص163 باب المعايش والمكاسب والفوائد والصناعات ح3595.
2- مكارم الأخلاق: ص238 الفصل العاشر في نوادر النكاح.
3- مكارم الأخلاق: ص238 الفصل العاشر في نوادر النكاح.
4- وسائل الشيعة: ج 17 ص237 ب64 باب استحباب الغزل للمرأة ح2.
5- وسائل الشيعة: ج 17 ص237 ب64 باب استحباب الغزل للمرأة ح3.
6- وسائل الشيعة: ج 17 ص236 ب64 باب استحباب الغزل للمرأة ح1.

الأُم وتربية الطفل

مسألة: يستحب تربية الأُم للطفل وإدارة شؤونه مباشرة، وتفويض عمل البيت إلى الغير لو تعارضا، لا العكس.

فإن تربية الأُم المؤمنة لولدها تربية حسنة من أفضل الأعمال، اقتداءً بالصديقة الزهراء (عليها السلام)، أما إذا لم تكن الأُم مرباة هي بنفسها، وكان الغير مربياً صالحاً فالأفضل التفويض، وذلك للأدلة العامة.

وفي الدعاء: (اللهُمَّ اغْفِرْ لنَا ولآبَائِنَا ولأُمَّهَاتِنَا كَمَا رَبَّوْنَا صِغَاراً، وأَدَّبُونَا كِبَاراً، اللهُمَّ أَعْطِنَا وإِيَّاهُمْ مِنْ رَحْمَتِكَ أَسْنَاهَا وأَوْسَعَهَا، ومِنْ جِنَانِكَ أَعْلاهَا وأَرْفَعَهَا، وأَوْجِبْ لنَا مِنْ رِضَاكَ عَنَّا مَا تُقِرُّ بِهِ عُيُونَنَا، وتُذْهِبُ لنَا حُزْنَنَا، وأَذْهِبْ عَنَّا هُمُومَنَا وغُمُومَنَا فِي أَمْرِ دِينِنَا ودُنْيَانَا، وقَنِّعْنَا فِيهَا بِتَيْسِيرِ رِزْقِكَ عِنْدَنَا، واعْفُ عَنَّا وعَافِنَا أَبَداً مَا أَبْقَيْتَنَا، وآتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وقِنا عَذابَ النَّارِ)(1).

وفي تَفْسِيرُ العَسْكَرِيِّ (عليه السلام): فِي قَوْلهِ تَعَالى: «وَبُشْرى للمُؤْمِنِينَ»(2): «وَذَلكَ أَنَّالقُرْآنَ يَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ بِالرَّجُل الشَّابِ يَقُول لرَبِّهِ عَزَّ وجَل: يَا رَبِّ هَذَا أَظْمَأْتُ نَهَارَهُ وأَسْهَرْتُ ليْلهُ وقَوَّيْتُ فِي رَحْمَتِكَ طَمَعَهُ وفَسَحْتُ فِي رَحْمَتِكَ أَمَلهُ فَكُنْ عِنْدَ ظَنِّي فِيكَ وظَنِّهِ، يَقُول اللهُ تَعَالى: أَعْطُوهُ المُلكَ بِيَمِينِهِ والخُلدَ بِشِمَالهِ واقْرِنُوهُ بِأَزْوَاجِهِ مِنَ الحُورِ العِينِ واكْسُوا وَالدَيْهِ حُلةً

ص: 275


1- الدروع الواقية: ص101 اليوم الثامن.
2- سورة البقرة: 97.

لا تَقُومُ لهَا الدُّنْيَا بِمَا فِيهَا فَيَنْظُرُ إِليْهِمَا الخَلائِقُ، فَيُعَظِّمُونَهُمَا ويَنْظُرَانِ إِلى أَنْفُسِهِمَا فَيَعْجَبَانِ مِنْهُمَا فَيَقُولانِ: يَا رَبَّنَا أَنَّى لنَا هَذِهِ ولمْ تَبْلغْهَا أَعْمَالنَا، فَيَقُول اللهُ عَزَّ وجَل: ومَعَ هَذَا تَاجُ الكَرَامَةِ لمْ يَرَ مِثْلهُ الرَّاءُونَ ولمْ يَسْمَعْ بِمِثْلهِ السَّامِعُونَ ولا يَتَفَكَّرُ فِي مِثْلهِ المُتَفَكِّرُونَ، فَيُقَال: هَذَا بِتَعْليمِكُمَا وَلدَكُمَا القُرْآنَ، وبِتَبْصِيرِكُمَا إِيَّاهُ بِدِينِ الإِسْلامِ، وبِرِيَاضَتِكُمَا إِيَّاهُ عَلى حُبِّ مُحَمَّدٍ رَسُول اللهِ وعَليٍّ وَليِّ اللهِ (صلوات الله عليهما) وتَفَقُّهِكُمَا إِيَّاهُ بِفِقْهِهِمَا، لأَنَّهُمَا اللذَانِ لا يَقْبَل اللهُ لأَحَدٍ عَمَلا إِلا بِوَلايَتِهِمَا ومُعَادَاةِ أَعْدَائِهِمَا وإِنْ كَانَ مَا بَيْنَ الثَّرَى إِلى العَرْشِ ذَهَباً يَتَصَدَّقُ بِهِ فِي سَبِيل اللهِ» الخَبَر(1).

خدمة الآخرين

مسألة: يستحب أن يعرض الإنسان على الغير خدمته بوجه ما، كما صنع سلمان (رضوان الله عليه)، كما أن الأفضل أن يترك للغير اختيار نوع العمل ، إلاّ لو كان هو أخبر بالصلاح والإصلاح.

عَنْ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) قَال: «خِدْمَةُ المُؤْمِنِ لأَخِيهِ المُؤْمِنِ دَرَجَةٌ لا يُدْرَكُ فَضْلهَا إِلا بِمِثْلهَا»(2).

وعَنْ جَمِيل، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: سَمِعْتُهُ يَقُول: «المُؤْمِنُونَ خَدَمٌ بَعْضُهُمْ لبَعْضٍ» قُلتُ: وَكَيْفَ يَكُونُونَ خَدَماً بَعْضُهُمْ لبَعْضٍ، قَال: «يُفِيدُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً»(3).

ص: 276


1- مستدرك الوسائل: ج 4 ص247 ب6 باب استحباب تعليم الأولاد القرآن ح1.
2- مستدرك الوسائل: ج 12 ص428 ب34 باب استحباب خدمة المسلمين ومعونتهم بالجاه ح8.
3- الكافي: ج 2 ص167 باب أخوة المؤمنين بعضهم لبعض ح9.

وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قَال: «خَصْلتَانِ وليْسَ فَوْقَهُمَا خَيْرٌ مِنْهُمَا، الإِيمَانُ بِاللهِ والنَّفْعُ لعِبَادِ اللهِ»، قَال: «وخَصْلتَانِ ليْسَ فَوْقَهُمَا شَرٌّ، الشِّرْكُ بِاللهِ والإِضْرَارُ لعِبَادِ الله»(1).

وعَنْه (صلى الله عليه وآله) أَنَّهُ قَال: «إِنَّ أَحَبَّ عِبَادِ اللهِ إِلى اللهِ تَعَالى أَنْفَعُهُمْ لعِبَادِهِ وأَوْفَاهُمْ بِعَهْدِهِ»(2).

وَقَال (صلى الله عليه وآله): «أَحَبُ النَّاسِ إِلى اللهِ أَنْفَعُ النَّاسِ للنَّاس»(3).

تفويض عمل البيت

مسألة: يجوز تفويض عمل البيت إلى الغير، والجواز هنا بالمعنى الأعم(4)، سواء عمل الغير مجاناً أو بأجرة، وسواء طلب هو العمل أم لم يطلب، وذلك للأدلة العامة، بالإضافة إلى هذا الحديث في الجملة.

والحاصل: أنه يجوز كل من التفويض والتوكيل والإذن والإجارة والمصالحة وشبه ذلك على أعمال البيت، وإن كان الأفضل قيام الإنسان بنفسه بما يناسبه ويتمكن منه ولا يزاحمه الأهم.

عَنْ عَليٍّ (عليه السلام) قَال: «دَخَل عَليْنَا رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) وفَاطِمَةُ (عليها السلام) جَالسَةٌ عِنْدَ القِدْرِ وأَنَا أُنَقِّيالعَدَسَ، قَال: يَا أَبَا الحَسَنِ، قُلتُ:

ص: 277


1- مستدرك الوسائل: ج 12 ص391 ب22 باب استحباب نفع المؤمنين ح10.
2- مستدرك الوسائل: ج 12 ص390 ب22 باب استحباب نفع المؤمنين ح9.
3- مستدرك الوسائل: ج 12 ص390 ب22 باب استحباب نفع المؤمنين ذيل ح9.
4- فقد يستحب وقد يجب وقد يكون مباحاً، وربما كان مكروهاً.

لبَّيْكَ يَا رَسُول اللهِ، قَال: اسْمَعْ ومَا أَقُول إِلا مَا أَمَرَ رَبِّي، مَا مِنْ رَجُل يُعِينُ امْرَأَتَهُ فِي بَيْتِهَا إِلا كَانَ لهُ بِكُل شَعْرَةٍ عَلى بَدَنِهِ عِبَادَةُ سَنَةٍ، صِيَامُ نَهَارِهَا وقِيَامُ ليْلهَا، وأَعْطَاهُ اللهُ مِنَ الثَّوَابِ مَا أَعْطَاهُ اللهُ الصَّابِرِينَ ودَاوُدَ النَّبِيَّ ويَعْقُوبَ وعِيسَى (عليهم السلام)، يَا عَليُّ مَنْ كَانَ فِي خِدْمَةِ عِيَالهِ فِي البَيْتِ ولمْ يَأْنَفْ كَتَبَ اللهُ اسْمَهُ فِي دِيوَانِ الشُّهَدَاءِ، وكَتَبَ اللهُ لهُ بِكُل يَوْمٍ وليْلةٍ ثَوَابَ أَلفِ شَهِيدٍ، وكَتَبَ لهُ بِكُل قَدَمٍ ثَوَابَ حَجَّةٍ وعُمْرَةٍ، وأَعْطَاهُ اللهُ تَعَالى بِكُل عِرْقٍ فِي جَسَدِهِ مَدِينَةً فِي الجَنَّة، يَا عَليُ سَاعَةٌ فِي خِدْمَةِ البَيْتِ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ أَلفِ سَنَةٍ، وأَلفِ حَجٍّ وأَلفِ عُمْرَةٍ، وخَيْرٌ مِنْ عِتْقِ أَلفِ رَقَبَةٍ وأَلفِ غَزْوَةٍ، وأَلفِ مَرِيضٍ عَادَهُ، وأَلفِ جُمُعَةٍ وأَلفِ جَنَازَةٍ، وأَلفِ جَائِعٍ يُشْبِعُهُمْ، وأَلفِ عَارٍ يَكْسُوهُمْ، وأَلفِ فَرَسٍ يُوَجِّهُهُ فِي سَبِيل اللهِ، وخَيْرٌ لهُ مِنْ أَلفِ دِينَارٍ يَتَصَدَّقُ عَلى المَسَاكِينِ، وخَيْرٌ لهُ مِنْ أَنْ يَقْرَأَ التَّوْرَاةَ والإِنْجِيل والزَّبُورَ والفُرْقَانَ، ومِنْ أَلفِ أَسِيرٍ اشْتَرَاهَا فَأَعْتَقَهَا، وخَيْرٌ لهُ مِنْ أَلفِ بَدَنَةٍ يُعْطِي للمَسَاكِينِ، ولا يَخْرُجُ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى يَرَى مَكَانَهُ مِنَ الجَنَّةِ، يَا عَليُّ مَنْ لمْ يَأْنَفْ مِنْ خِدْمَةِ العِيَال دَخَل الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، يَا عَليُّ خِدْمَةُ العِيَال كَفَّارَةٌ للكَبَائِرِ، ويُطْفِئُغَضَبَ الرَّبِّ، ومُهُورُ حُورِ العِينِ، ويَزِيدُ فِي الحَسَنَاتِ والدَّرَجَاتِ، يَا عَليُّ لا يَخْدُمُ العِيَال إِلا صَدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ أَوْ رَجُل يُرِيدُ اللهُ بِهِ خَيْرَ الدُّنْيَا والآخِرَة»(1).

وروي أن أمير المؤمنين (عليه السلام) اشْتَرَى تَمْراً بِالكُوفَةِ فَحَمَلهُ فِي طَرَفِ رِدَائِهِ، فَتَبَادَرَ النَّاسُ إِلى حَمْلهِ وقَالوا: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ نَحْنُ نَحْمِلهُ، فَقَال (عليه السلام): «رَبُ العِيَال أَحَقُّ بِحَمْلهِ»(2).

ص: 278


1- مستدرك الوسائل: ج 13 ص48 ب17 باب استحباب العمل في البيت للرجل والمرأة ح2.
2- المناقب: ج 2 ص104 في المسابقة بالتواضع.

وروي أنه كَانَ عَليٌّ (عليه السلام) يَحْمِل التَّمْرَ والمِلحَ بِيَدِهِ ويَقُول:

لا يَنْقُصُ الكَامِل مِنْ كَمَالهِ *** مَا جَرَّ مِنْ نَفْع إِلى عِيَاله (1)

الرفق المطلق

مسألة: يستحب الرفق مطلقاً، وقد وردت بذلك روايات كثيرة. منها قول الإمام الكاظم (عليه

السلام) لهشام بن الحكم:«يا هشام عليك بالرفق فإن الرفق يمن، والخرق شؤم، إن الرفق والبر وحسن الخلق يعمر الديار ويزيد في الرزق»(2).

عَنْ أَحَدِهِمَا (عليهما السلام) قَال: «إِنَ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُ الرِّفْقَ»(3).

وعَنْ عَليٍّ (عليه السلام) قَال: «الرِّفْقُ يُؤَدِّي إِلى السِّلمِ»(4).

وقال (عليه السلام): «الرِّفْقُ مِفْتَاحُ الصَّوَابِ»(5).

وقال (عليه السلام): «أَفْضَل النَّاسِ أَعْمَلهُمْ بِالرِّفْقِ، وأَكْيَسُهُمْ أَصْبَرُهُمْ عَلى الحَقِّ»(6).

وقال (عليه السلام): «بِالرِّفْقِ تَهُونُ الصِّعَابُ(7).

ص: 279


1- المناقب: ج 2 ص104 في المسابقة بالتواضع.
2- بحار الأنوار: ج 1 ص151 ب4 علامات العقل وجنوده ح29.
3- الكافي: ج 2 ص120 باب الرفق ح14.
4- عيون الحكم والمواعظ: ص31 ح524.
5- عيون الحكم والمواعظ: ص39 ح855.
6- عيون الحكم والمواعظ: ص125 ح2848.
7- عيون الحكم والمواعظ: ص189 ح3910.

وقال (عليه السلام): «رَأْسُ السِّيَاسَةِ اسْتِعْمَال الرِّفْقِ»(1).

الرفق مع الطفل

مسألة: يستحب الرفق في تسكيت الطفل، ويكره الخرق، وقد يحرم، سواء بقول أو فعل.

ومن الرفق نصح الأطفال إذا أثاروا الضوضاء والضجيج والصخب، أو آذوا، بهدوء وحكمة، لا مواجهتهم بالصراخ والتهديد والعقوبات، أو التعامل معهم بأعصاب متوترة متشنجة.

عَبْدِ اللهِ بْنِ شَيْبَةَ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ دُعِيَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) إِلى صَلاةٍ والحَسَنُ (عليه السلام) مُتَعَلقٌ بِهِ، فَوَضَعَهُ النَّبِيُّ مُقَابِل جَنْبِهِ وصَلى، فَلمَّا سَجَدَ أَطَال السُّجُودَ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي مِنْ بَيْنِ القَوْمِ فَإِذَا الحَسَنُ عَلى كَتِفِ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله)، فَلمَّا سَلمَ قَال لهُ القَوْمُ: يَا رَسُول اللهِ لقَدْ سَجَدْتَ فِي صَلاتِكَ هَذِهِ سَجْدَةً مَا كُنْتَ تَسْجُدُهَا كَأَنَّمَا يُوحَى إِليْكَ، فَقَال: «لمْ يُوحَ إِليَّ ولكِنَّ ابْنِي كَانَ عَلى كَتِفِي فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلهُ حَتَّى نَزَل».

وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَدَّادٍ أَنَّهُ (صلى الله عليه وآله) قَال: «إِنَّ ابْنِي هَذَا ارْتَحَلنِي فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَه»(2).

وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَال: كَانَ النَّبِيُّ (صلىالله عليه وآله) يُصَلي فَجَاءَهُ الحَسَنُ والحُسَيْنُ (عليهما السلام) فَارْتَدَفَاهُ، فَلمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ أَخَذَهُمَا أَخْذاً رَفِيقاً، فَلمَّا عَادَ

ص: 280


1- عيون الحكم والمواعظ: ص263 ح4781.
2- المناقب: ج 4 ص24 فصل في محبة النبي إياه.

عَادَا، فَلمَّا انْصَرَفَ أَجْلسَ هَذَا عَلى فَخِذِهِ وهَذَا عَلى فَخِذِهِ وقَال: «مَنْ أَحَبَّنِي فَليُحِبَّ هَذَيْنِ»(1).

الطلب الحكيم

مسألة: ينبغي طلب الحاجة من الغير بالأسلوب الأكثر حكمة، والأكثر احتراماً للآخر، ومنه أن يكون الطلب غير مباشر، اقتداءً بالصديقة (صلوات الله عليها)، إذ قالت: «أنا بتسكيته أرفق»، ولم تطلب منه طحن الشعير مباشرة، وهذا من الأدب الديني.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «إِنَّ رَجُلا أَتَى النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) فَقَال لهُ: يَا رَسُول اللهِ أَوْصِنِي، فَقَال لهُ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): فَهَل أَنْتَ مُسْتَوْصٍ إِنْ أَنَا أَوْصَيْتُكَ، حَتَّى قَال لهُ ذَلكَ ثَلاثاً، وفِي كُلهَا يَقُول لهُ الرَّجُل: نَعَمْ يَا رَسُول اللهِ. فَقَال لهُ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): فَإِنِّي أُوصِيكَ إِذَا أَنْتَ هَمَمْتَ بِأَمْرٍ فَتَدَبَّرْ عَاقِبَتَهُ، فَإِنْ يَكُ رُشْداً فَامْضِهِ وإِنْ يَكُغَيّاً فَانْتَهِ عَنْهُ»(2).

ص: 281


1- الإرشاد: ج 2 ص28 فصل في ولادة الإمام الحسين (عليه السلام) وشهادته وما يخصه من الفضائل.
2- الكافي: ج 8 ص149 ح130.

انتخاب الأرفق

مسألة: يستحب انتخاب الأرفق فيما يرتبط بالأطفال، إذا دار الأمر بين ما هو رفق وما أرفق منه، ومن هو كذلك.

عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «ارْفُقْ تُوَفَّقْ»(1).

وقال (عليه السلام): «عَليْكَ بِالرِّفْقِ، فَمَنْ رَفَقَ فِي أَفْعَالهِ تَمَّ أَمْرُهُ»(2).

وقال (عليه السلام): «مَنِ اسْتَعْمَل الرِّفْقَ اسْتَدَرَّ الرِّزْقَ»(3).

ص: 282


1- عيون الحكم والمواعظ: ص78 ح1889.
2- عيون الحكم والمواعظ: ص333 ح5681.
3- عيون الحكم والمواعظ: ص440 ح7651.

شاطئ الفرات

اشارة

عن فاطمة الكبرى (عليها السلام) بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) قالت: قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يُدْفَنُ مِنْ وُلدِي سَبْعَةٌ بِشَطِّ الفُرَاتِ لمْ يَسْبِقْهُمُ الأَوَّلونَ ولمْ يُدْرِكْهُمُ الآخِرُون»(1).

--------------------------

رواية الحديث

مسألة: تجب الرواية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وجوباً كفائياً فيما يرتبط بشؤون العقيدة أو الشريعة، من إنشاء أو إخبار، وأما غيرهما كالأمور الطبية والاقتصادية والأخلاقية، أو إخباراته المستقبلية فهي أمر مستحب إلاّ إذا توقف عليه واجب آخر، كما لو صار من شعائر الله، وخاصة ما يرتبط بذريته الطاهرة (عليهم السلام) كما حدّثت الصديقة (عليها السلام) بذلك.

وأما وجه تحديده (صلى الله عليه وآله) بالسبعة مع أن القتلى من آل البيتأكثر، فإنه:

ص: 283


1- بحار الأنوار: ج 47 ص302 ب9 أحوال أقربائه وعشائره وما جرى بينه وبينهم وما وقع عليهم من الجور والظلم وأحوال من خرج في زمانه (عليه السلام) من بني الحسن (عليه السلام) وأولاد زيد وغيرهم.

من المحتمل أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أراد بالسبعة مع الوصف المذكور الإمام الحسين (عليه السلام) وبعض أهل بيته، فإنهم وإن كانوا أكثر لكن الذين لم يسبقهم الأولون ولم يدركهم الآخرون هم سبعة منهم، هذا بالإضافة إلى أنه لا مفهوم للعدد.

وإذا فرض أن الرسول (صلى الله عليه وآله) أراد بما ورد في الحديث غير الحسين (عليه السلام)، فالظاهر أن المراد بقوله: «لم يسبقهم الأولون ولم يدركهم الآخرون» أي ممن على شاكلتهم لا على نحو الإطلاق، لأن المتعارف في أمثال هذه الكلمات النسبية لا الإطلاق.

أو المراد: لم يسبقهم الأولون إلى مثل تلك الفضائل التي اختصوا بها، من الشهادة بين يدي الإمام الحسين (عليه السلام) مثلاً بخصوصياته وخصوصياتها.

الإخبار بمقتل الذرية الطاهرة

مسألة: يستحب الإخبار بمقتل ولد فاطمة (عليها السلام) على شاطئ الفرات، والإخبار على أنواع:

فقد يكون بكتابة التاريخ، وقد يكون بسردها بالشعر، وقد يكون بواسطة المنبر والمحاضرات، وقد يكون برسماللوحات والرسوم المعبرة، وقد يكون بصناعة الأفلام الوثائقية والتاريخية، وقد يكون بالتمثيل، وقد يكون بتدريسها وتحليلها واستقاء العبر منها، وقد يكون بغير ذلك، ويمكن تغيير آلياته بتطور العلم والصنعة وما أشبه.

ص: 284

فضل شهداء الفرات

مسألة: يستحب بيان فضل من قُتِل من ولد الصديقة (عليها السلام) على شاطئ الفرات، بحيث لم يسبقهم الأولون، ولم يدركهم الآخرون، وبيان الوجه في ذلك بحيث يدفع الشبهات ويزيد في الاطمئنان والاعتقاد.

قال الحسين (عليه السلام): «فَإِنِّي لا أَعْلمُ أَصْحَاباً أَوْفَى ولا خَيْراً مِنْ أَصْحَابِي، ولا أَهْل بَيْتٍ أَبَرَّ ولا أَوْصَل مِنْ أَهْل بَيْتِي، فَجَزَاكُمُ اللهُ عَنِّي خَيْراً، أَلا وإِنِّي لأَظُنُّ أَنَّهُ آخِرُ يَوْمٍ لنَا مِنْ هَؤُلاءِ، أَلا وإِنِّي قَدْ أَذِنْتُ لكُمْ»(1).

وعن جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: قُلتُ لهُ: أَخْبِرْنِي عَنْ أَصْحَابِ الحُسَيْنِ (عليه السلام) وإِقْدَامِهِمْ عَلى المَوْتِ، فَقَال: «إِنَّهُمْ كُشِفَ لهُمُ الغِطَاءُ حَتَّى رَأَوْا مَنَازِلهُمْ مِنَ الجَنَّةِ، فَكَانَ الرَّجُل مِنْهُمْ يُقْدِمُ عَلى القَتْل ليُبَادِرَ إِلى حَوْرَاءَ يُعَانِقُهَا وإِلى مَكَانِهِ مِنَ الجَنَّة»(2).

فائدة:

لعل الوجه في قوله (صلى الله عليه وآله): (يدفن) ولم يقل (يقتل)، هو أن (يدفن) يفيد فائدة جديدة إضافة إلى (يقتل) التي وردت بها روايات كثيرة، والفائدة هي دفع احتمال أنهم نقلوا إلى موضع آخر ودفنوا فيه، كما نقلت

ص: 285


1- الإرشاد: ج 2 ص91 خطبة الإمام الحسين (عليه السلام) بأصحابه في كربلاء قبل عاشوراء.
2- علل الشرائع: ج 1 ص229 ب163 باب علة إقدام أصحاب الحسين (عليه السلام) على القتل ح1.

رؤوسهم الطاهرة إلى الشام، نعم أعيد رأس الإمام الحسين (عليه السلام) أعاده الإمام زين العابدين (صلوات الله عليه) ودفنه مع الجسد الطاهر بكربلاء، ومن المحتمل إعادة بعض الرؤوس الشريفة أيضاً.

وفي ذلك أيضاً تأكيد محورية أرض كربلاء المقدسة وبقاع دفنهم خاصة.

عَنِ الصَّادِقِ (عليه السلام) قَال: «إِنَّ بِقَاعَ الأَرْضِ تَفَاخَرَتْ فَفَخَرَتِ الكَعْبَةُ عَلى البُقْعَةِ بِكَرْبَلاءَ، فَأَوْحَى اللهُ إِليْهَا: اسْكُتِي ولا تَفْخَرِي عَليْهَا، فَإِنَّهَا البُقْعَةُ المُبَارَكَةُ التِي نُودِيَ مُوسَى مِنْهَا مِنَ الشَّجَرَةِ»(1).

وقَال أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «الغَاضِرِيَّةُ هِيَ البُقْعَةُ التِي كَلمَ اللهُ فِيهَا مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ، ونَاجَى نُوحاً فِيهَا، وهِيَأَكْرَمُ أَرْضِ اللهِ عَليْهِ، ولوْلا ذَلكَ مَا اسْتَوْدَعَ اللهُ فِيهَا أَوْليَاءَهُ وأَنْبِيَاءَهُ، فَزُورُوا قُبُورَنَا بِالغَاضِرِيَّةِ»(2).

ص: 286


1- بحار الأنوار: ج 13 ص25 ب2 أحوال موسى (عليه السلام) من حين ولادته إلى نبوته ح1.
2- مستدرك الوسائل: ج 10 ص324 ب51 باب استحباب التبرك بكربلاء ح5.

من صفات الشيعة

اشارة

قال الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): قال رجل لامرأته:

اذهبي إلى فاطمة (عليها السلام) بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) فسليها عني: أنا من شيعتكم، أو لست من شيعتكم؟ فسألتها.

فقالت (عليها السلام): قولي له: «إن كنت تعمل بما أمرناك، وتنتهي عما زجرناك عنه، فأنت من شيعتنا، وإلا فلا».

فرجعت، فأخبرته، فقال: يا ويلي ومن ينفك من الذنوب والخطايا، فأنا إذن خالد في النار، فإن من ليس من شيعتهم فهو خالد في النار.

فرجعت المرأة فقالت لفاطمة (عليها السلام) ما قال لها زوجها.

فقالت فاطمة (عليها السلام): قولي له: «ليس هكذا، فإن شيعتنا من خيار أهل الجنة، وكل محبينا وموالي أوليائنا، ومعادي أعدائنا، والمسلم بقلبه ولسانه لنا، ليسوا من شيعتنا إذا خالفوا أوامرنا ونواهينا في سائر الموبقات، وهم مع ذلك في الجنة، ولكن بعد ما يطهّرون من ذنوبهم بالبلايا والرزايا، وفي عرصات القيامة بأنواع شدائدها، أو في الطبق الأعلى من جهنم بعذابها، إلى أن نستنقذهم بحبنا(1) منها، وننقلهم إلى حضرتنا(2)»(3).

------------------------------

ص: 287


1- الباء في (بحبنا) سببية.
2- وحضرتهم هي الجنة أو هي مرتبة أعلى من مراتب الجنة.
3- عوالم العلوم: ج 11 قسم2 ص906 ب74 كلامها (عليها السلام) في صفات الشيعة ح160، عن التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): ص308 ح152.

الخوف من الله

مسألة: مما يلزم على المؤمن الخوف من الله تعالى ومن عذاب النار، وحيث إن الإنسان ربما يغفل عن ذلك فلابد أن يذكر نفسه بالنار وعذابها دائماً، وذلك بحفظ وتلاوة آيات العذاب والنار، والروايات الشريفة في ذلك، وتتبع القصص المرتبطة، والاعتبار من كل ما يذكر بعذاب النار من مرض أو سجن أو حر أو عطش أو أذى.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «رَأْسُ الحِكْمَةِ مَخَافَةُ اللهِ عَزَّ وجَل»(1).

نعم الخوف من الله هو أعلى درجة من الخوف من النار، مع لزوم الخوف من النار أيضاً.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) قَال: «إِنَّ اللهَ يُعَاتِبُ عَبْداً يَوْمَ القِيَامَةِ ويَقُول: عَبْدِي خِفْتَ مِنَ النَّارِ ومَا خِفْتَ مِنِّي، أَمَا تَسْتَحْيِي، فَيُطْرِقُ العَبْدُ رَأْسَهُ حَيَاءً مِنَ الله»(2).فالعتاب هنا لخوفه من النار فقط.

ص: 288


1- من لا يحضره الفقيه: ج 4 ص376 ومن ألفاظ رسول الله (صلى الله عليه وآله) الموجزة التي لم يسبق إليهاح5766.
2- مستدرك الوسائل: ج 11 ص231 ب14 باب وجوب الخوف من الله ح14.

موالاة أولياء الأئمة

مسألة: يلزم على الإنسان أن يوالي أيضاً أولياء الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) وشيعتهم، مضافاً إلى موالاتهم (صلوات الله عليهم)، فإن موالاتهم هي موالاة لهم، وهي من شعبها وفروعها.

ثم إن موالاة الأولياء مما يدل عليها العقل والنقل أيضاً، ومنه هذه الرواية إذ صرحت الصديقة (صلوات الله عليها) بذلك، وأما كونها عقلية فللارتباطية بينهما والتلازم.

عَنِ ابْنِ أَبِي نَجْرَانَ قَال: سَمِعْتُ أَبَا الحَسَنِ (عليه السلام) يَقُول: «مَنْ عَادَى شِيعَتَنَا فَقَدْ عَادَانَا، ومَنْ وَالاهُمْ فَقَدْ وَالانَا، لأَنَّهُمْ مِنَّا خُلقُوا مِنْ طِينَتِنَا، مَنْ أَحَبَّهُمْ فَهُوَ مِنَّا، ومَنْ أَبْغَضَهُمْ فَليْسَ مِنَّا».

إِلى أَنْ قَال: «مَنْ رَدَّ عَليْهِمْ فَقَدْ رَدَّ عَلى اللهِ، ومَنْ طَعَنَ عَليْهِمْ فَقَدْ طَعَنَ عَلى اللهِ، لأَنَّهُمْ عِبَادُ اللهِ حَقّاً وأَوْليَاؤُهُ صِدْقاً، واللهِ وإِنَّ أَحَدَهُمْ ليَشْفَعُ فِي مِثْل رَبِيعَةَ ومُضَرَ فَيُشَفِّعُهُ اللهُ فِيهِمْ لكَرَامَتِهِ عَلى اللهِ عَزَّ وجَل»(1).وقَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «مَعَاشِرَ النَّاسِ أَحِبُّوا مَوَاليَنَا مَعَ حُبِّكُمْ لآلنَا، هَذَا زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ وابْنُهُ أُسَامَةُ مِنْ خَوَاصِّ مَوَالينَا فَأَحِبُّوهُمَا، فَوَ الذِي بَعَثَ مُحَمَّداً بِالحَقِّ نَبِيّاً ليَنْفَعُكُمْ حُبُّهُمَا». قَالوا: وكَيْفَ يَنْفَعُنَا حُبُّهُمَا، قَال: إِنَّهُمَا يَأْتِيَانِ يَوْمَ القِيَامَةِ عَليّاً (عليه السلام) بِخَلقٍ عَظِيمٍ مِنْ مُحِبِّيهِمَا أَكْثَرَ مِنْ رَبِيعَةَ

ص: 289


1- وسائل الشيعة: ج 16 ص179 ب17 باب وجوب حب المؤمن وبغض الكافر وتحريم العكس ح10.

ومُضَرَ بِعَدَدِ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَيَقُولانِ: يَا أَخَا رَسُول اللهِ هَؤُلاءِ أَحَبُّونَا بِحُبِّ مُحَمَّدٍ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) وبِحُبِّكَ. فَيَكْتُبُ لهُمْ عَليٌّ (عليه السلام) جَوَازاً عَلى الصِّرَاطِ، فَيَعْبُرُونَ عَليْهِ ويَرِدُونَ الجَنَّةَ سَالمِينَ. وَذَلكَ أَنَّ أَحَداً لا يَدْخُل الجَنَّةَ مِنْ سَائِرِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) إِلا بِجَوَازٍ مِنْ عَليٍّ (عليه السلام) فَإِنْ أَرَدْتُمُ الجَوَازَ عَلى الصِّرَاطِ سَالمِينَ، ودُخُول الجِنَانِ غَانِمِينَ، فَأَحِبُّوا بَعْدَ حُبِّ مُحَمَّدٍ وآلهِ مَوَاليَهُ، ثُمَّ إِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ يُعَظِّمَ مُحَمَّدٌ وَعَليٌ عِنْدَ اللهِ تَعَالى مَنَازِلكُمْ فَأَحِبُّوا شِيعَةَ مُحَمَّدٍ وعَليٍّ، وجِدُّوا فِي قَضَاءِ حَوَائِجِ إِخْوَانِكُمُ المُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالى إِذَا أَدْخَلكُمُ الجَنَّةَ مَعَاشِرَ شِيعَتِنَا ومُحِبِّينَا نَادَى مُنَادِيهِ فِي تِلكَ الجِنَانِ:

قَدْ دَخَلتُمْ يَا عِبَادِيَ الجَنَّةَ بِرَحْمَتِي، فَتَقَاسَمُوهَا عَلى قَدْرِ حُبِّكُمْ لشِيعَةِ مُحَمَّدٍ وعَليٍّ (عليهما السلام)، وقَضَائِكُمْ لحُقُوقِ إِخْوَانِكُمُ المُؤْمِنِينَ.فَأَيُّهُمْ كَانَ للشِّيعَةِ أَشَدَّ حُبّاً، ولحُقُوقِ إِخْوَانِهِ المُؤْمِنِينَ أَحْسَنَ قَضَاءً كَانَتْ دَرَجَاتُهُ فِي الجِنَانِ أَعْلى، حَتَّى إِنَّ فِيهِمْ مَنْ يَكُونُ أَرْفَعَ مِنَ الآخَرِ بِمَسِيرَةِ مِائَةِ أَلفِ سَنَةٍ تَرَابِيعَ قُصُورٍ وجِنَانٍ (1).

طاعة العترة في الأمر والنهي

مسألة: ينبغي بل يلزم على الشيعي أن يكون مطيعاً لأوامر آل البيت (عليهم السلام) ومنتهياً عن نواهيهم.

قال تعالى: «أَطيعُوا اللهَ وَأَطيعُوا الرَّسُول وَأُولي الأَمْرِ مِنْكُمْ»(2).

ص: 290


1- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): ص441 ح293.
2- سورة النساء: 59.

وفي ذلك روايات كثيرة، وحيث إن إطاعة أوامرهم والانتهاء عن نواهيهم تتوقف على معرفتها كان الواجب مقدمياً - على المشهور - التعرف على أوامرهم ونواهيهم بالسؤال والاسترشاد أو المطالعة والاجتهاد، نعم ذهب بعض كالمقدس الأردبيلي (رحمه الله) إلى وجوب التعلم نفسياً.

ثم إن المراد ب (ينبغي) أعم من الواجب والمستحب، فإن الإطاعة فيالواجب واجبة، وفي المستحبات مستحبة، وكلمة (ينبغي) تدل على الرجحان وتستعمل في الواجب والمستحب إذا وردت في الإيجاب، وإذا وردت في السلب أفادت المرجوحية وربما الحرمة أو الكراهة حسب مناسبات الحكم والموضوع وغيرها، وفي القرآن الحكيم: «وَما يَنْبَغي للرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلداً»(1) أي لا يجوز ولا يمكن.

قَال الإِمَامُ العسكري (عليه السلام): قَال رَجُل لرَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): يَا رَسُول اللهِ فُلانٌ يَنْظُرُ إِلى حَرَمِ جَارِهِ فَإِنْ أَمْكَنَهُ مُوَاقَعَةُ حَرَامٍ لمْ يَرْعَ عَنْهُ، فَغَضِبَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) وَقَال: ائْتُونِي بِهِ، فَقَال رَجُل آخَرُ: يَا رَسُول اللهِ إِنَّهُ مِنْ شِيعَتِكُمْ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ مُوَالاتَكَ وَمُوَالاةَ عَليٍّ (عليه السلام) وَيَبْرَأُ مِنْ أَعْدَائِكُمَا.

فَقَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «لا تَقُل إِنَّهُ مِنْ شِيعَتِنَا فَإِنَّهُ كَذِبٌ، إِنَّ شِيعَتَنَا مَنْ شَيَّعَنَا وَتَبِعَنَا فِي أَعْمَالنَا وَليْسَ هَذَا الذِي ذَكَرْتَهُ فِي هَذَا الرَّجُل مِنْ أَعْمَالنَا».

وَقِيل لأَمِيرِ المُؤْمِنِينَ وَإِمَامِ المُتَّقِينَ وَيَعْسُوبِ الدِّينِ وَقَائِدِ الغُرِّ المُحَجَّلينَ

ص: 291


1- سورة مريم: 92.

وَوَصِيِّ رَسُول رَبِّ العَالمِينَ (عليه السلام): إِنَّ فُلاناً سَرَفَ عَلى نَفْسِهِ بِالذُّنُوبِ المُوبِقَاتِ وَهُوَ مَعَ ذَلكَ مِنْ شِيعَتِكُمْ.فَقَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «قَدْ كُتِبَتْ عَليْكَ كَذِبَةٌ أَوْ كَذِبَتَانِ، إِنْ كَانَ مُسْرِفاً بِالذُّنُوبِ عَلى نَفْسِهِ يُحِبُّنَا وَيُبْغِضُ أَعْدَاءَنَا فَهُوَ كَذِبَةٌ وَاحِدَةٌ، لأَنَّهُ مِنْ مُحِبِّينَا لا مِنْ شِيعَتِنَا، وَإِنْ كَانَ يُوَالي أَوْليَاءَنَا وَيُعَادِي أَعْدَاءَنَا وَليْسَ بِمُسْرِفٍ عَلى نَفْسِهِ كَمَا ذَكَرْتَ فَهُوَ مِنْكَ كَذِبَةٌ، لأَنَّهُ لا يُسْرِفُ فِي الذُّنُوبِ وَإِنْ كَانَ يُسْرِفُ فِي الذُّنُوبِ وَلا يُوَالينَا وَلا يُعَادِي أَعْدَاءَنَا فَهُوَ مِنْكَ كَذِبَتَانِ»(1).

الشيعي حقاً

مسألة: الشيعي حقاً هو الذي يعمل بأوامر المعصومين (عليهم السلام) وينتهي عما زجروا عنه، ويستحب بيان ذلك، فإن ظاهر قول الصديقة (عليها السلام): «إن كنت تعمل بما أمرناك» هو الاستغراق، وإلاّ كان عاملاً ببعض ما أمروه.

وفي الوسائل: قَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «ليْسَ مِنْ شِيعَتِنَا مَنْ قَال بِلسَانِهِ وَخَالفَنَا فِي أَعْمَالنَا وَآثَارِنَا، وَلكِنْشِيعَتُنَا مَنْ وَافَقَنَا بِلسَانِهِ وَقَلبِهِ، وَاتَّبَعَ آثَارَنَا وَ عَمِل بِأَعْمَالنَا، أُولئِكَ شِيعَتُنَا»(2).

والمراد بأوامر أهل البيت (عليهم السلام) ما يشمل أوامر الله تعالى وأوامر نبيه

ص: 292


1- بحار الأنوار: ج 65 ص155 ب19 صفات الشيعة وأصنافهم وذم الاغترار والحث على العمل والتقوى ح11، عن التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): ص307 ح150و151.
2- وسائل الشيعة: ج 15 ص247 ب21 باب وجوب الورع ح19.

(صلى الله عليه وآله)، فهم (عليهم السلام) طريق إليها، وأوامر الله الأصل في وجوب الطاعة.

وَقَال رَجُل للحَسَنِ بْنِ عَليٍّ (عليه السلام): إِنِّي مِنْ شِيعَتِكُمْ، فَقَال الحَسَنُ بْنُ عَليٍّ (عليه السلام): «يَا عَبْدَ اللهِ إِنْ كُنْتَ لنَا فِي أَوَامِرِنَا وَزَوَاجِرِنَا مُطِيعاً فَقَدْ صَدَقْتَ، وَإِنْ كُنْتَ بِخِلافِ ذَلكَ فَلا تَزِدْ فِي ذُنُوبِكَ بِدَعْوَاكَ مَرْتَبَةً شَرِيفَةً لسْتَ مِنْ أَهْلهَا، لا تَقُل لنَا أَنَا مِنْ شِيعَتِكُمْ وَلكِنْ قُل أَنَا مِنْ مُوَاليكُمْ وَمُحِبِّيكُمْ وَمُعَادِي أَعْدَائِكُمْ وَأَنْتَ فِي خَيْرٍ وَإِلى خَيْرٍ»(1).

وَقَال رَجُل للحُسَيْنِ بْنِ عَليٍّ (عليه السلام): يَا ابْنَ رَسُول اللهِ أَنَا مِنْ شِيعَتِكُمْ، قَال: «اتَّقِ اللهَ وَلا تَدَّعِيَنَّ شَيْئاً يَقُول اللهُ لكَ كَذَبْتَ وَفَجَرْتَ فِي دَعْوَاكَ، إِنَّ شِيعَتَنَا مَنْ سَلمَتْ قُلوبُهُمْ مِنْ كُل غِشٍّ وَغِل وَدَغَل، وَلكِنْقُل أَنَا مِنْ مُوَاليكُمْ وَمُحِبِّيكُمْ»(2).

وَقَال رَجُل لعَليِّ بْنِ الحُسَيْنِ (عليه السلام): يَا ابْنَ رَسُول اللهِ أَنَا مِنْ شِيعَتِكُمُ الخُلصِ، فَقَال لهُ: «يَا عَبْدَ اللهِ فَإِذاً أَنْتَ كَإِبْرَاهِيمَ الخَليل (عليه السلام)! الذِي قَال اللهُ: «وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإِبْراهِيمَ إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلبٍ سَليمٍ»(3) فَإِنْ كَانَ قَلبُكَ كَقَلبِهِ فَأَنْتَ مِنْ شِيعَتِنَا، وَإِنْ لمْ يَكُنْ قَلبُكَ كَقَلبِهِ وَهُوَ طَاهِرٌ مِنَ الغِشِّ وَالغِل فَأَنْتَ مِنْ مُحِبِّينَا، وَإِلا فَإِنَّكَ إِنْ عَرَفْتَ أَنَّكَ بِقَوْلكَ كَاذِبٌ فِيهِ إِنَّكَ لمُبْتَلى بِفَالجٍ لا يُفَارِقُكَ إِلى المَوْتِ أَوْ جُذَامٍ ليَكُونَ كَفَّارَةً لكَذِبِكَ هَذَا»(4).

ص: 293


1- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): ص308 ح153.
2- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): ص309 ح154.
3- سورة الصافات: 83 - 84.
4- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): ص309 ح155.

وَقَال البَاقِرُ (عليه السلام) لرَجُل فَخَرَ عَلى آخَرَ وَقَال: أَتُفَاخِرُنِي وَأَنَا مِنْ شِيعَةِ آل مُحَمَّدٍ الطَّيِّبِينَ، فَقَال البَاقِرُ (عليه السلام): «مَا فَخَرْتَ عَليْهِ وَ رَبِّ الكَعْبَةِ وَغُبِنَ مِنْكَ عَلى الكَذِبِ، يَا عَبْدَ اللهِ أَمَالكَ مَعَكَ تُنْفِقُهُ عَلى نَفْسِكَ أَحَبُّ إِليْكَ أَمْ تُنْفِقُهُ عَلى إِخْوَانِكَ المُؤْمِنِينَ، قَال: بَل أُنْفِقُهُ عَلى نَفْسِي، قَال: فَلسْتَ مِنْ شِيعَتِنَا، فَإِنَّنَا نَحْنُ مَا نُنْفِقُ عَلىالمُنْتَحِلينَ مِنْ إِخْوَانِنَا أَحَبُّ إِليْنَا، وَلكِنْ قُل أَنَا مِنْ مُحِبِّيكُمْ وَمِنَ الرَّاجِينَ النَّجَاةَ بِمَحَبَّتِكُمْ»(1).

وَقِيل للصَّادِقِ (عليه السلام): إِنَّ عَمَّاراً الدُّهْنِيَّ شَهِدَ اليَوْمَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي ليْلى قَاضِيَ الكُوفَةِ بِشَهَادَةٍ، فَقَال لهُ القَاضِي: قُمْ يَا عَمَّارُ فَقَدْ عَرَفْنَاكَ لا تُقْبَل شَهَادَتُكَ لأَنَّكَ رَافِضِيٌّ، فَقَامَ عَمَّارٌ وَقَدِ ارْتَعَدَتْ فَرَائِصُهُ وَاسْتَفْرَغَهُ البُكَاءُ، فَقَال لهُ ابْنُ أَبِي ليْلى: أَنْتَ رَجُل مِنْ أَهْل العِلمِ وَالحَدِيثِ إِنْ كَانَ يَسُوؤُكَ أَنْ يُقَال لكَ رَافِضِيٌّ فَتَبَرَّأْ مِنَ الرَّفْضِ فَأَنْتَ مِنْ إِخْوَانِنَا، فَقَال لهُ عَمَّارٌ: يَا هَذَا مَا ذَهَبْتَ وَاللهِ حَيْثُ ذَهَبْتَ وَ لكِنْ بَكَيْتُ عَليْكَ وَعَليَّ، أَمَّا بُكَائِي عَلى نَفْسِي فَإِنَّكَ نَسَبْتَنِي إِلى رُتْبَةٍ شَرِيفَةٍ لسْتُ مِنْ أَهْلهَا، زَعَمْتَ أَنِّي رَافِضِيٌّ، وَيْحَكَ لقَدْ حَدَّثَنِي الصَّادِقُ (عليه السلام): أَنَّ أَوَّل مَنْ سُمِّيَ الرَّفَضَةَ السَّحَرَةُ الذِينَ لمَّا شَاهَدُوا آيَةَ مُوسَى فِي عَصَاهُ آمَنُوا بِهِ وَاتَّبَعُوهُ وَرَفَضُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَاسْتَسْلمُوا لكُل مَا نَزَل بِهِمْ فَسَمَّاهُمْ فِرْعَوْنُ الرَّافِضَةَ لمَا رَفَضُوا دِينَهُ، فَالرَّافِضِيُّ كُل مَنْ رَفَضَ جَمِيعَ مَا كَرِهَ اللهُ، وَفَعَل كُل مَا أَمَرَهُ اللهُ، فَأَيْنَ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِثْل هَذِهِ، وَإِنَّمَا بَكَيْتُعَلى نَفْسِي خَشْيَةَ أَنْ يَطَّلعَ اللهُ عَزَّ وَجَل عَلى قَلبِي وَقَدْ تَلقَّبْتُ هَذَا الاسْمَ الشَّرِيفَ عَلى نَفْسِي فَيُعَاتِبَنِي رَبِّي عَزَّ وَجَل وَيَقُول يَا عَمَّارُ أَ كُنْتَ رَافِضاً للأَبَاطِيل عَامِلا

ص: 294


1- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): ص309 ح156.

بِالطَّاعَاتِ كَمَا قَال لكَ فَيَكُونَ ذَلكَ بِي مُقَصِّراً فِي الدَّرَجَاتِ إِنْ سَامَحَنِي، وَمُوجِباً لشَدِيدِ العِقَابِ عَليَّ إِنْ نَاقَشَنِي إِلا أَنْ يَتَدَارَكَنِي مَوَاليَّ بِشَفَاعَتِهِمْ، وَأَمَّا بُكَائِي عَليْكَ فَلعِظَمِ كَذِبِكَ فِي تَسْمِيَتِي بِغَيْرِ اسْمِي وَشَفَقَتِي الشَّدِيدَةِ عَليْكَ مِنْ عَذَابِ اللهِ تعالى إِنْ صَرَفْتَ أَشْرَفَ الأَسْمَاءِ إِليَّ، وَإِنْ جَعَلتَهُ مِنْ أَرْذَلهَا كَيْفَ يَصْبِرُ بَدَنُكَ عَلى عَذَابِ كَلمَتِكَ هَذِهِ.

فَقَال الصَّادِقُ (عليه السلام): لوْ أَنَّ عَلى عَمَّارٍ مِنَ الذُّنُوبِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرَضِينَ لمُحِيَتْ عَنْهُ بِهَذِهِ الكَلمَاتِ، وَإِنَّهَا لتَزِيدُ فِي حَسَنَاتِهِ عِنْدَ رَبِّهِ عَزَّ وَ جَل حَتَّى يُجْعَل كُل خَرْدَلةٍ مِنْهَا أَعْظَمَ مِنَ الدُّنْيَا أَلفَ مَرَّةٍ.

وَقِيل لمُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ (عليه السلام): مَرَرْنَا بِرَجُل فِي السُّوقِ وَهُوَ يُنَادِي أَنَا مِنْ شِيعَةِ مُحَمَّدٍ وَ آل مُحَمَّدٍ الخُلصِ، وَهُوَ يُنَادِي عَلى ثِيَابٍ يَبِيعُهَا مَنْ يَزِيدُ، فَقَال مُوسَى (عليه

السلام): مَا جَهِل وَ لا ضَاعَ امْرُؤٌ عَرَفَ قَدْرَ نَفْسِهِ، أَتَدْرُونَ مَا مَثَل هَذَا، هَذَا شَخْصٌ قَال أَنَا مِثْل سَلمَانَ وَأَبِي ذَرٍّ وَالمِقْدَادِ وَعَمَّارٍ وَهُوَ مَعَ ذَلكَ يُبَاخِسُ فِيبَيْعِهِ وَيُدَلسُ عُيُوبَ المَبِيعِ عَلى مُشْتَرِيهِ، وَيَشْتَرِي الشَّيْ ءَ بِثَمَنٍ فَيُزَايِدُ الغَرِيبَ يَطْلبُهُ فَيُوجِبُ لهُ ثُمَّ إِذَا غَابَ المُشْتَرِي قَال لا أُرِيدُهُ إِلا بِكَذَا بِدُونِ مَا كَانَ طَلبَهُ مِنْهُ، أَيَكُونُ هَذَا كَسَلمَانَ وَأَبِي ذَرٍّ وَالمِقْدَادِ وَعَمَّارٍ، حَاشَ للهِ أَنْ يَكُونَ هَذَا كَهُمْ، وَلكِنْ مَا يَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يَقُول إِنِّي مِنْ مُحِبِّي مُحَمَّدٍ وَآل مُحَمَّدٍ وَمَنْ يُوَالي أَوْليَاءَهُمْ وَيُعَادِي أَعْدَاءَهُمْ»(1).

وروى الإمام العسكري (عليه السلام): لمَّا جَعَل المَأْمُونُ إِلى عَليِّ بْنِ مُوسَى

ص: 295


1- بحار الأنوار: ج 65 ص156 ب19 صفات الشيعة وأصنافهم وذم الاغترار والحث على العمل والتقوى ح11، عن التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): ص312 ح158.

الرِّضَا (عليه السلام) وِلايَةَ العَهْدِ دَخَل عَليْهِ آذِنُهُ وَقَال: إِنَّ قَوْماً بِالبَابِ يَسْتَأْذِنُونَ عَليْكَ يَقُولونَ نَحْنُ شِيعَةُ عَليٍّ، فَقَال (عليه السلام): «أَنَا مَشْغُول فَاصْرِفْهُمْ، فَصَرَفَهُمْ فَلمَّا كَانَ مِنَ اليَوْمِ الثَّانِي جَاءُوا وَقَالوا كَذَلكَ مِثْلهَا، فَصَرَفَهُمْ إِلى أَنْ جَاءُوا هَكَذَا يَقُولونَ وَيَصْرِفُهُمْ شَهْرَيْنِ، ثُمَّ أَيِسُوا مِنَ الوُصُول وَقَالوا للحَاجِبِ: قُل لمَوْلانَا: إِنَّا شِيعَةُ أَبِيكَ عَليِّ بْنِ أَبِي طَالبٍ (عليه السلام) وَقَدْ شَمِتَ بِنَا أَعْدَاؤُنَا فِي حِجَابِكَ لنَا وَنَحْنُ نَنْصَرِفُ هَذِهِ الكَرَّةَ وَنَهْرَبُ مِنْ بَلدِنَا خَجِلا وَأَنَفَةً مِمَّا لحِقَنَا، وَعَجْزاً عَنِ احْتِمَال مَضَضِ مَا يَلحَقُنَابِشَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ.

فَقَال عَليُّ بْنُ مُوسَى الرِّضَا (عليه السلام): ائْذَنْ لهُمْ ليَدْخُلوا، فَدَخَلوا عَليْهِ فَسَلمُوا عَليْهِ فَلمْ يَرُدَّ عَليْهِمْ وَلمْ يَأْذَنْ لهُمْ بِالجُلوسِ، فَبَقُوا قِيَاماً فَقَالوا: يَا ابْنَ رَسُول اللهِ مَا هَذَا الجَفَاءُ العَظِيمُ وَالاسْتِخْفَافُ بَعْدَ هَذَا الحِجَابِ الصَّعْبِ، أَيُّ بَاقِيَةٍ تَبْقَى مِنَّا بَعْدَ هَذَا.

فَقَال الرِّضَا (عليه السلام): اقْرَءُوا «وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ»(1) مَا اقْتَدَيْتُ إِلا بِرَبِّي عَزَّ وَجَل فِيكُمْ، وَبِرَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) وَبِأَمِيرِ المُؤْمِنِينَ وَمَنْ بَعْدَهُ مِنْ آبَائِيَ الطَّاهِرِينَ (عليهم السلام) عَتَبُوا عَليْكُمْ فَاقْتَدَيْتُ بِهِمْ.

قَالوا: لمَا ذَا يَا ابْنَ رَسُول اللهِ؟

قَال: لدَعْوَاكُمْ أَنَّكُمْ شِيعَةُ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَليِّ بْنِ أَبِي طَالبٍ (عليه السلام) وَيْحَكُمْ إِنَّمَا شِيعَتُهُ الحَسَنُ وَالحُسَيْنُ وَأَبُو ذَرٍّ وَسَلمَانُ وَالمِقْدَادُ وَعَمَّارٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الذِينَ لمْ يُخَالفُوا شَيْئاً مِنْ أَوَامِرِهِ، وَلمْ يَرْكَبُوا شَيْئاً مِنْ فُنُونِ زَوَاجِرِهِ،

ص: 296


1- سورة الشورى: 30.

فَأَمَّا أَنْتُمْ إِذَا قُلتُمْ إِنَّكُمْ شِيعَتُهُ وَأَنْتُمْ فِي أَكْثَرِ أَعْمَالكُمْ لهُ مُخَالفُونَ، مُقَصِّرُونَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الفَرَائِضِ، مُتَهَاوِنُونَ بِعَظِيمِ حُقُوقِ إِخْوَانِكُمْ فِي اللهِ،وَتَتَّقُونَ حَيْثُ لا يَجِبُ التَّقِيَّةُ، وَتَتْرُكُونَ التَّقِيَّةَ حَيْثُ لا بُدَّ مِنَ التَّقِيَّةِ، فَلوْ قُلتُمْ إِنَّكُمْ مُوَالوهُ وَمُحِبُّوهُ وَالمُوَالونَ لأَوْليَائِهِ وَالمُعَادُونَ لأَعْدَائِهِ لمْ أُنْكِرْهُ مِنْ قَوْلكُمْ، وَلكِنْ هَذِهِ مَرْتَبَةٌ شَرِيفَةٌ ادَّعَيْتُمُوهَا، إِنْ لمْ تُصَدِّقُوا قَوْلكُمْ بِفِعْلكُمْ هَلكْتُمْ، إِلا أَنْ تَتَدَارَكَكُمْ رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ».

قَالوا: يَا ابْنَ رَسُول اللهِ فَإِنَّا نَسْتَغْفِرُ اللهَ وَنَتُوبُ إِليْهِ مِنْ قَوْلنَا بَل نَقُول كَمَا عَلمَنَا مَوْلانَا: نَحْنُ مُحِبُّوكُمْ وَمُحِبُّو أَوْليَائِكُمْ وَمُعَادُو أَعْدَائِكُمْ.

قَال الرِّضَا (عليه السلام): «فَمَرْحَباً بِكُمْ يَا إِخْوَانِي وَأَهْل وُدِّي، ارْتَفِعُوا ارْتَفِعُوا ارْتَفِعُوا»، فَمَا زَال يَرْفَعُهُمْ حَتَّى أَلصَقَهُمْ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ قَال لحَاجِبِهِ: «كَمْ مَرَّةً حَجَبْتَهُمْ»، قَال: سِتِّينَ مَرَّةً، فَقَال لحَاجِبِهِ: «فَاخْتَلفْ إِليْهِمْ سِتِّينَ مَرَّةً مُتَوَاليَةً فَسَلمْ عَليْهِمْ وَأَقْرِئْهُمْ سَلامِي، فَقَدْ مَحَوْا مَا كَانَ مِنْ ذُنُوبِهِمْ بِاسْتِغْفَارِهِمْ وَتَوْبَتِهِمْ وَاسْتَحَقُّوا الكَرَامَةَ لمَحَبَّتِهِمْ لنَا وَمُوَالاتِهِمْ وَتَفَقَّدْ أُمُورَهُمْ وَأُمُورَ عِيَالاتِهِمْ، فَأَوْسِعْهُمْ بِنَفَقَاتٍ وَمَبَرَّاتٍ وَصِلاتٍ وَرَفْعِ مُعَرَّاتٍ».

وَدَخَل رَجُل عَلى مُحَمَّدِ بْنِ عَليٍّ الرِّضَا (عليه السلام) وَ هُوَ مَسْرُورٌ، فَقَال: «مَا لي أَرَاكَ مَسْرُوراً».قَال: يَا ابْنَ رَسُول اللهِ سَمِعْتُ أَبَاكَ يَقُول: أَحَقُّ يَوْمٍ بِأَنْ يُسَرَّ العَبْدُ فِيهِ يَوْمٌ يَرْزُقُهُ اللهُ صَدَقَاتٍ وَمَبَرَّاتٍ وَمَدْخَلاتٍ مِنْ إِخْوَانٍ لهُ مُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهُ قَصَدَنِيَ اليَوْمَ عَشَرَةٌ مِنْ إِخْوَانِيَ الفُقَرَاءِ لهُمْ عِيَالاتٌ فَقَصَدُونِي مِنْ بَلدِ كَذَا وَكَذَا فَأَعْطَيْتُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَلهَذَا سُرُورِي.

ص: 297

فَقَال مُحَمَّدُ بْنُ عَليٍّ (عليه السلام): «لعَمْرِي إِنَّكَ حَقِيقٌ بِأَنْ تُسَرَّ إِنْ لمْ تَكُنْ أَحْبَطْتَهُ أَوْ لمْ تُحْبِطْهُ فِيمَا بَعْدُ».

فَقَال الرَّجُل فَكَيْفَ أَحْبَطْتُهُ وَأَنَا مِنْ شِيعَتِكُمُ الخُلصِ.

قَال: «هَاهْ قَدْ أَبْطَلتَ بِرَّكَ بِإِخْوَانِكَ وَصَدَقَاتِكَ».

قَال: وَكَيْفَ ذَاكَ يَا ابْنَ رَسُول اللهِ.

قَال لهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَليٍّ (عليه السلام): اقْرَأْ قَوْل اللهِ عَزَّ وَجَل: «يا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلوا صَدَقاتِكُمْ بِالمَنِّ وَالأَذى»(1).

قَال: يَا ابْنَ رَسُول اللهِ مَا مَنَنْتُ عَلى القَوْمِ الذِينَ تَصَدَّقْتُ عَليْهِمْ وَلا آذَيْتُهُمْ.

قَال لهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَليٍّ (عليه السلام): إِنَّ اللهَ عَزَّ وَ جَل إِنَّمَا قَال «لا تُبْطِلوا صَدَقاتِكُمْ بِالمَنِّ وَالأَذى» وَ لمْ يَقُل بِالمَنِّ عَلى مَنْ تَتَصَدَّقُونَ عَليْهِ وَبِالأَذَى لمَنْ تَتَصَدَّقُونَ عَليْهِ، وَهُوَ كُل أَذًى، أَفَتَرَى أَذَاكَ القَوْمَ الذِينَتَصَدَّقْتَ عَليْهِمْ أَعْظَمُ أَمْ أَذَاكَ لحَفَظَتِكَ وَمَلائِكَةِ اللهِ المُقَرَّبِينَ حَوَاليْكَ، أَمْ أَذَاكَ لنَا.

فَقَال الرَّجُل: بَل هَذَا يَا ابْنَ رَسُول اللهِ.

فَقَال: لقَدْ آذَيْتَنِي وَآذَيْتَهُمْ وَأَبْطَلتَ صَدَقَتَكَ.

قَال: لمَا ذَا.

قَال: لقَوْلكَ: وَكَيْفَ أَحْبَطْتُهُ وَ أَنَا مِنْ شِيعَتِكُمُ الخُلصِ، ثُمَّ قَال: وَيْحَكَ أَ تَدْرِي مَنْ شِيعَتُنَا الخُلصُ.

ص: 298


1- سورة البقرة: 264.

قَال: لا.

قَال: فَإِنَّ شِيعَتَنَا الخُلصَ حِزْبِيل المُؤْمِنُ مُؤْمِنُ آل فِرْعَوْنَ، وَصَاحِبُ يس الذِي قَال اللهُ تَعَالى: «وَجاءَ مِنْ أَقْصَا المَدِينَةِ رَجُل يَسْعَى»(1)، وَسَلمَانُ وَأَبُو ذَرٍّ وَالمِقْدَادُ وَعَمَّارٌ، سَوَّيْتَ نَفْسَكَ بِهَؤُلاءِ، أَمَا آذَيْتَ بِهَذَا المَلائِكَةَ وَآذَيْتَنَا.

فَقَال الرَّجُل: أَسْتَغْفِرُ اللهَ وَأَتُوبُ إِليْهِ، فَكَيْفَ أَقُول؟

قَال: قُل: أَنَا مِنْ مُوَاليكَ وَمُحِبِّيكَ وَمُعَادِي أَعْدَائِكَ وَمُوَالي أَوْليَائِكَ.

قَال: فَكَذَلكَ أَقُول، وَكَذَلكَ أَنَا يَا ابْنَ رَسُول اللهِ وَقَدْ تُبْتُ مِنَ القَوْل الذِيأَنْكَرْتَهُ وَأَنْكَرَتْهُ المَلائِكَةُ، فَمَا أَنْكَرْتُمْ ذَلكَ إِلا لإِنْكَارِ اللهِ عَزَّ وَ جَل.

فَقَال مُحَمَّدُ بْنُ عَليٍّ (عليه السلام): «الآنَ قَدْ عَادَتْ إِليْكَ مَثُوبَاتُ صَدَقَاتِكَ وَزَال عَنْهَا الإِحْبَاط»(2).

السؤال مفتاح المعرفة

مسألة: ينبغي سؤال العالم عما يهم من أمور الدين والدنيا، فإن السؤال مفتاح المعرفة، والحياء في السؤال مفتاح الحرمان.

قال الإمام الصادق (عليه السلام): «العِلمُ خَزَائِنُ وَالمَفَاتِيحُ السُّؤَال، فَاسْأَلوا يَرْحَمُكُمُ اللهُ، فَإِنَّهُ يُؤْجَرُ فِي العِلمِ أَرْبَعَةٌ: السَّائِل وَالمُتَكَلمُ وَالمُسْتَمِعُ وَالمُحِبُّ

ص: 299


1- سورة يس: 20.
2- بحار الأنوار: ج 65 ص158 ب19 صفات الشيعة وأصنافهم وذم الاغترار والحث على العمل والتقوى ح11.

لهُمْ»(1).

السؤال عن نفسه

مسألة: يستحب للإنسان أن يسأل المعصوم (عليه السلام) هل هو من شيعتهم أم لا، ولافرق في السؤال مباشرة أو بالواسطة.

والمقصود بالواسطة من يصل إلى المعصوم (عليه السلام) بوسائط حساً كما في زمن الحضور، أو الغيبة الصغرى، أو حدساً كمن يعرف الضوابط على حسب رواياتهم كالمحدثين والفقهاء(2).

خيار أهل الجنة

مسألة: يستحب بيان أن الشيعة من خيار أهل الجنة.

وذلك بوجهين، فقد ذكرت الصديقة (صلوات الله عليها): (فإن شيعتنا من خيار أهل الجنة)، ولعل السبب في ذلك أن للشيعة إطلاقين:

الأول: ما يراد به شيعتهم المتأخرين زمناً عنهم(3).

الثاني: ما يشمل الأمم السابقة ممن يتشيعون لأهل البيت ويوالونهم (عليهم

السلام)(4)، كما دلت عليه بعض الآيات والروايات، قال تعالى: «وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ

ص: 300


1- الخصال: ج 1 ص245 يؤجر في العلم أربعة ح101.
2- ففي مثل هذا الزمن يمكن السؤال من العلماء عن مقاييس وأسباب الدخول في الجنة ليطبقها على نفسه.
3- وعليه يقال: الشيعة من خيار أهل الجنة.
4- وعليه يقال: الشيعة خيار أهل الجنة.

لإِبْراهِيمَ»(1).

أو من يتشيعون بعد الموت من الأمم السابقة، إذ يعلمهم الله منزلة أهل البيت (عليهم السلام) حينذاك ويختبرون بالولاية.

عَنْ أَبِي بَصِيرٍ قَال: سَأَل جَابِرٌ الجُعْفِيُّ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) عَنْ تَفْسِيرِ قَوْلهِ تَعَالى: «وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإِبْراهِيمَ»(2)، فَقَال (عليه السلام): «إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ لمَّا خَلقَ إِبْرَاهِيمَ كَشَفَ لهُ عَنْ بَصَرِهِ فَنَظَرَ فَرَأَى نُوراً إِلى جَنْبِ العَرْشِ، فَقَال: إِلهِي مَا هَذَا النُّورُ، فَقِيل لهُ: هَذَا نُورُ عَليِّ بْنِ أَبِي طَالبٍ (عليه السلام) نَاصِرِ دِينِي، وَرَأَى إِلى جَنْبِهِ ثَلاثَةَ أَنْوَارٍ، فَقَال: إِلهِي وَمَا هَذِهِ الأَنْوَارُ، فَقِيل لهُ: هَذَا نُورُ فَاطِمَةَ (عليها السلام) فَطَمَتْ مُحِبَّهَا مِنَ النَّارِ، وَنُورُ وَلدَيْهَا الحَسَنِ وَالحُسَيْنِ (عليهما السلام)، فَقَال: إِلهِي وَأَرَى تِسْعَةَ أَنْوَارٍ قَدْ حَفُّوا بِهِمْ، قِيل: يَا إِبْرَاهِيمُ هَؤُلاءِ الأَئِمَّةُ مِنْ وُلدِ عَليٍّ وَفَاطِمَةَ (عليهم السلام)، فَقَال: إِلهِي وَسَيِّدِي أَرَى أَنْوَاراً قَدْ أَحْدَقُوا بِهِمْ لا يُحْصِي عَدَدَهُمْ إِلا أَنْتَ، قِيل: يَا إِبْرَاهِيمُ هَؤُلاءِ شِيعَتُهُمْ شِيعَةُ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَليِّ بْنِ أَبِي طَالبٍ (عليهالسلام)، فَقَال إِبْرَاهِيمُ (عليه السلام): وَبِمَا يُعْرَفُ شِيعَتُهُ، قَال: بِصَلاةِ الإِحْدَى وَخَمْسِينَ، وَالجَهْرِ بِبِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، وَالقُنُوتِ قَبْل الرُّكُوعِ، وَالتَّخَتُّمِ بِاليَمِينِ»(3).

ص: 301


1- سورة الصافات: 83.
2- سورة الصافات: 83.
3- مستدرك الوسائل: ج 4 ص187 ب17 باب استحباب الجهر بالبسملة في محل الإخفات وتأكده للإمام ح11.

حب العترة

مسألة: حب أهل البيت (عليهم السلام) واجب، وقد سبق أنه اختياري باختيارية مقدماته.

عَنْ مُعَتِّبٍ مَوْلى أَبِي عَبْدِ اللهِ، عَنْهُ عَنْ أَبِيهِ (عليهما السلام) قَال: «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) فَقَال: يَا رَسُول اللهِ هَل للجَنَّةِ مِنْ ثَمَنٍ، قَال: نَعَمْ، قَال: مَا ثَمَنُهَا، قَال: لا إِلهَ إِلا اللهُ يَقُولهَا العَبْدُ مُخْلصاً بِهَا، قَال: ومَا إِخْلاصُهَا، قَال: العَمَل بِمَا بُعِثْتُ بِهِ فِي حَقِّهِ وحُبُ أَهْل بَيْتِي، قَال: فَدَاكَ أَبِي وأُمِّي وإِنَّ حُبَّ أَهْل البَيْتِ لمِنْ حَقِّهَا، قَال: «إِنَّ حُبَّهُمْ لأَعْظَمُ حَقِّهَا»(1).

وجوب الموالاة

مسألة: يجب موالاة أولياء أهل البيت (عليهم السلام).

عَنْ أَبِي حَمْزَةَ قَال: قَال لنَا عَليُّ بْنُ الحُسَيْنِ (عليه السلام): أَيُّ البِقَاعِ أَفْضَل، قُلتُ: اللهُ ورَسُولهُ وابْنُ رَسُولهِ أَعْلمُ، قَال:إِنَّ أَفْضَل البِقَاعِ مَا بَيْنَ الرُّكْنِ والمَقَامِ، ولوْ أَنَّ رَجُلا عُمِّرَ مَا عُمِّرَ نُوحٌ (عليه السلام) فِي قَوْمِهِ أَلفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عاماً، يَصُومُ نَهَاراً ويَقُومُ ليْلا فِي ذَلكَ المَقَامِ، ثُمَّ لقِيَ اللهَ عَزَّ وجَل بِغَيْرِ وَلايَتِنَا لمْ يَنْتَفِعْ بِذَلكَ شَيْئاً»(2).

ص: 302


1- مستدرك الوسائل: ج 5 ص359 ب36 باب استحباب التهليل واختياره على أنواع الأذكار والعبادات المندوبة ح7.
2- ثواب الأعمال: ص204 عقاب من جهل حق أهل البيت (عليه السلام).

وقال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «يُسْأَل المَيِّتُ فِي قَبْرِهِ عَنْ خَمْسٍ، عَنْ صَلاتِهِ وزَكَاتِهِ وحَجِّهِ وصِيَامِهِ ووَلايَتِهِ إِيَّانَا أَهْل البَيْتِ، فَتَقُول الوَلايَةُ مِنْ جَانِبِ القَبْرِ للأَرْبَعِ: مَا دَخَل فِيكُنَّ مِنْ نَقْصٍ فَعَليَّ تَمَامُهُ»(1).

وجوب المعاداة

مسألة: يجب معاداة أعداء أهل البيت (عليهم السلام)، وأعداؤهم يعم إبليس والشياطين والظلمة والمجرمين والمخالفين الجاحدين والمنافقين والكافرين ومن أشبه.

قال تعالى: «وَإِذْ قُلنا للمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْليسَ كانَ مِنَ الجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلياءَ مِنْ دُوني وَهُمْ لكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ للظَّالمينَ بَدَلاً»(2).وقال سبحانه: «وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَ إِنْ يَقُولوا تَسْمَعْ لقَوْلهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُل صَيْحَةٍ عَليْهِمْ هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُون»(3).

وقال تعالى: «مَنْ كانَ عَدُوًّا للهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ رُسُلهِ وَ جِبْريل وَ ميكال فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ للكافِرينَ»(4).

ص: 303


1- الكافي: ج 3 ص241 باب المسألة في القبر ومن يسأل ومن لا يسأل ح15.
2- سورة الكهف: 50.
3- سورة المنافقون: 4.
4- سورة البقرة: 98.

وقال سبحانه: «وَكَذلكَ جَعَلنا لكُل نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ المُجْرِمينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصيراً»(1).

وقال تعالى: «وَكَذلكَ جَعَلنا لكُل نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطينَ الإِنْسِ وَ الجِنِّ يُوحي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْل غُرُوراً وَ لوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ»(2).

وقال سبحانه: «يا أَيُّهَا الذينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلياءَ تُلقُونَ إِليْهِمْ بِالمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُول وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً في سَبيلي وَابْتِغاءَ مَرْضاتي تُسِرُّونَ إِليْهِمْ بِالمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَل سَواءَ السَّبيل»(3).

التسليم المطلق

مسألة: يجب التسليم لأهل البيت (عليهم السلام) بالقلب واللسان، قال تعالى: «فَلاوَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلمُوا تَسْليماً»(4).

ص: 304


1- سورة الفرقان: 31.
2- سورة الأنعام: 112.
3- سورة الممتحنة: 1.
4- سورة النساء: 65.

ويكون التسليم باللسان بالتصريح بذلك، وعدم إثارة الشبهات في أذهان الناس حول أقوالهم وأفعالهم وأحكامهم (صلوات الله عليهم).

قَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (صَلوَاتُ اللهِ عَليْهِ): «الإِيمَانُ لهُ أَرْكَانٌ أَرْبَعَةٌ، التَّوَكُّل عَلى اللهِ، وتَفْوِيضُ الأَمْرِ إِلى اللهِ، والرِّضَا بِقَضَاءِ اللهِ،والتَّسْليمُ لأَمْرِ اللهِ عَزَّوجَل»(1).

وعَنِ المُفَضَّل بْنِ عَمْرٍو قَال: ... قُلتُ لأَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): بِأَيِّ شَيْ ءٍ عُلمَ المُؤْمِنُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ، قَال: «بِالتَّسْليمِ للهِ فِي كُل مَا وَرَدَ عَليْهِ»(2).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «لمْ يَنْزِل مِنَ السَّمَاءِ شَيْ ءٌ أَقَل ولا أَعَزُّ مِنْ ثَلاثَةِ أَشْيَاءَ، التَّسْليمِ والبِرِّ واليَقِين»(3).

إنقاذ المحبين

مسألة: يستحب بيان أن أهل البيت (عليهم السلام) ينقذون محبيهم من النار.

وينبغي دفع الشبهات عن ذلك ونظائره بالبراهين العقلية والنقلية، مما فصل في مبحث الشفاعة ومبحث التبديل(4) ومبحث الحبط(5).

ص: 305


1- الكافي: ج 2 ص47 باب خصال المؤمن ح2.
2- بصائر الدرجات: ج 1 ص522 ب20 باب في التسليم لآل محمد (صلى الله عليه وآله) فيما جاء عندهم (صلوات الله عليهم) ح15.
3- مشكاة الأنوار: ص27 الفصل السادس في الشكر.
4- إشارة إلى المباحث التي تتعلق بقوله تعالى: «إِلاَّ مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِل عَمَلاً صالحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّل اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَ كانَ اللهُ غَفُوراً رَحيماً» سورة الفرقان: 70.
5- إشارة إلى قوله تعالى: «أُولئِكَ الذينَ حَبِطَتْ أَعْمالهُمْ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ وَما لهُمْ مِنْ ناصِرينَ» سورة آل عمران: 22، في مقابل التبديل.

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى

الله عليه وآله): «مَنْ رَزَقَهُ اللهُ حُبَّ الأَئِمَّةِ مِنْ أَهْل بَيْتِي فَقَدْ أَصَابَ خَيْرَ الدُّنْيَا والآخِرَةِ، فَلا يَشُكَّنَّ أَحَدٌ أَنَّهُ فِي الجَنَّةِ، فَإِنَّ فِي حُبِ أَهْل بَيْتِي عِشْرِينَ خَصْلةً، عَشْرٌ مِنْهَا فِي الدُّنْيَا، وعَشْرٌ مِنْهَا فِي الآخِرَةِ، أَمَّا التِي فِي الدُّنْيَا: فَالزُّهْدُ والحِرْصُ عَلى العَمَل والوَرَعُ فِي الدِّينِ والرَّغْبَةُ فِي العِبَادَةِ والتَّوْبَةُ قَبْل المَوْتِ والنَّشَاطُ فِي قِيَامِ الليْل واليَأْسُ مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ والحِفْظُ لأَمْرِ اللهِ ونَهْيِهِ عَزَّ وجَل والتَّاسِعَةُ بُغْضُ الدُّنْيَا والعَاشِرَةُالسَّخَاءُ، وأَمَّا التِي فِي الآخِرَةِ: فَلا يُنْشَرُ لهُ دِيوَانٌ ولا يُنْصَبُ لهُ مِيزَانٌ ويُعْطَى كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ويُكْتَبُ لهُ بَرَاءَةٌ مِنَ النَّارِ ويَبْيَضُّ وَجْهُهُ ويُكْسَى مِنْ حُلل الجَنَّةِ ويَشْفَعُ فِي مِائَةٍ مِنْ أَهْل بَيْتِهِ ويَنْظُرُ اللهُ عَزَّ وجَل إِليْهِ بِالرَّحْمَةِ ويُتَوَّجُ مِنْ تِيجَانِ الجَنَّةِ والعَاشِرَةُ يَدْخُل الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، فَطُوبَى لمُحِبِّي أَهْل بَيْتِي»(1).

من فلسفة البلايا

مسألة: يستحب إلفات الناس إلى أنه قد تكون البلايا والرزايا لتطهير الإنسان من المعاصي والذنوب، كما أنه قد تكون لترفيع الدرجات، فإن الأنبياء والأئمة (عليهم الصلاة والسلام) كانت البلايا بالنسبة إليهم لترفيع الدرجات، لوضوح أنهم معصومون عن الحرام والمكروه، ومسلمية أن بعضهم كالرسول (صلى الله عليه وآله) وفاطمة الزهراء (عليها السلام) والأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) كانوا معصومين حتى عن ترك الأولى(2).

ص: 306


1- الخصال: ج 2 ص515 في حب أهل البيت (عليهم السلام) عشرون خصلة ح1.
2- لعله إشارة إلى ما يراه البعض من أن بعض الأنبياء كآدم (عليه السلام) كانوا معصومين عن الحرام والمكروه دون ترك الأولى، وأن «وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى» سورة طه: 121، يراد به أنه عصى بترك الأولى، فكان هبوطه للأرض تطهيراً له، فتأمل.

وربما كانت اختباراً للإنسان أو غيره، وفتنة كذلك.

وربما كانت البلايا والرزايا مما توجب ترفيع الدرجات من دون أن تكون تطهيراً، ولا من قبيل بلايا الأنبياء والأئمة (عليهم السلام)(1)، كما إذا أصيب الإنسان ببلية أو رزية لا يستحقها وإنما كانت تلك بضرب القانون الكوني العام، كما قال سبحانه: «وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصيبَنَّ الذينَ ظَلمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَ اعْلمُوا أَنَّ اللهَ شَديدُ العِقابِ»(2).

وقد أشرنا إلى ذلك فيما سبق، فإن الله عزوجل جعل النعيم والمصائب في الدنيا حسب القانون العام، لا أن من يصيبه شيء أو يحصل على شيء يكون بالضرورة أهلاً لذلك في نفسه لولا القانون العام، نعم من أصابه شيء بضرب القانون العام فإنه سيزيده درجة إن لم يكن مذنباً، وسيوجب الحط من ذنوبه إن كان، فيوجب ذلك عدم إصابته ببلية خاصة بنفس النسبة.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «إِنَّفِي كِتَابِ عَليٍّ (عليه السلام): أَنَ أَشَدَّ النَّاسِ بَلاءً النَّبِيُّونَ ثُمَّ الوَصِيُّونَ ثُمَّ الأَمْثَل فَالأَمْثَل، وإِنَّمَا يُبْتَلى المُؤْمِنُ عَلى قَدْرِ أَعْمَالهِ الحَسَنَةِ، فَمَنْ صَحَّ دِينُهُ وحَسُنَ عَمَلهُ اشْتَدَّ بَلاؤُهُ، وذَلكَ أَنَّ اللهَ عَزَّ وجَل لمْ يَجْعَل الدُّنْيَا ثَوَاباً لمُؤْمِنٍ ولا عُقُوبَةً لكَافِرٍ، ومَنْ سَخُفَ دِينُهُ وضَعُفَ عَمَلهُ قَل بَلاؤُهُ، وأَنَّ البَلاءَ أَسْرَعُ إِلى المُؤْمِنِ التَّقِيِّ مِنَ المَطَرِ إِلى قَرَارِ الأَرْضِ»(3).

ص: 307


1- أي التي اقتضت العناية الإلهية توجهها لهم (عليهم السلام) بالذات لا لضرب القانون.
2- سورة الأنفال: 25.
3- الكافي: ج 2 ص259 باب شدة ابتلاء المؤمن ح29.

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «إِنَ عَظِيمَ الأَجْرِ لمَعَ عَظِيمِ البَلاءِ، ومَا أَحَبَّ اللهُ قَوْماً إِلا ابْتَلاهُمْ»(1).

وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: «إِنَ اللهَ تَبَارَكَ وتَعَالى إِذَا أَحَبَ عَبْداً غَتَّهُ بِالبَلاءِ غَتّاً، وثَجَّهُ بِالبَلاءِ ثَجّاً، فَإِذَا دَعَاهُ قَال: لبَّيْكَ عَبْدِي، لئِنْ عَجَّلتُ لكَ مَا سَأَلتَ إِنِّي عَلى ذَلكَ لقَادِرٌ، ولئِنِ ادَّخَرْتُ لكَ فَمَا ادَّخَرْتُ لكَ فَهُوَ خَيْرٌ لكَ»(2).

الحمد على البلايا

مسألة: يستحب حمد الله تعالى على البلية والرزية، كما يستحب شكره على آثارها الإيجابية.

عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) قَال: «أَوَّل مَنْ يُدْعَى إِلى الجَنَّةِ الحَمَّادُونَ، الذِينَ يَحْمَدُونَ اللهَ فِي السَّرَّاءِ والضَّرَّاء»(3).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ أَوْ أَبِي الحَسَنِ (عليهما السلام) قَال: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وجَل ليَعْجَبُ مِنَ الرَّجُل يَمُوتُ وَلدُهُ وهُوَ يَحْمَدُ اللهَ فَيَقُول: يَا مَلائِكَتِي عَبْدِي أَخَذْتُ نَفْسَهُ وهُوَ يَحْمَدُنِي»(4).

وعَنْ عَليِّ بْنِ أَسْبَاطٍ رَفَعَهُ قَال: كَانَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُول عِنْدَ المُصِيبَةِ: «الحَمْدُ للهِ الذِي لمْ يَجْعَل مُصِيبَتِي فِي دِينِي، والحَمْدُ للهِ الذِي لوْ شَاءَ

ص: 308


1- الكافي: ج 2 ص252 باب شدة ابتلاء المؤمن ح3.
2- الكافي: ج 2 ص253 باب شدة ابتلاء المؤمن ح7.
3- مستدرك الوسائل: ج 5 ص312 ب20 باب استحباب كثرة حمد الله عند تظاهر النعم ح17.
4- الكافي: ج 3 ص220 باب المصيبة بالولد ح9.

أَنْ يَجْعَل مُصِيبَتِي أَعْظَمَ مِمَّا كَانَتْ، والحَمْدُ للهِ عَلى الأَمْرِ الذِي شَاءَ أَنْ يَكُونَ فَكَانَ»(1).

وعَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: «تَقُول ثَلاثَ مَرَّاتٍ إِذَا نَظَرْتَ إِلى المُبْتَلى مِنْ غَيْرِ أَنْ تُسْمِعَهُ: الحَمْدُ للهِ الذِي عَافَانِي مِمَّا ابْتَلاكَ بِهِ ولوْ شَاءَفَعَل، قَال: مَنْ قَال ذَلكَ لمْ يُصِبْهُ ذَلكَ البَلاءُ أَبَداً»(2).

تطهير المذنبين

مسألة: يستحب بيان أن المذنب من شيعتهم (عليهم السلام) سيخضع لعملية التطهير، إما في الدنيا أو في الآخرة أو في عرصات القيامة أو في الطابق الأعلى من جهنم فإنها أهون طبقاتها.

وقد ورد في تفسير الإمام الحسن العسكري (عليه السلام):

قَال (عليه السلام): قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «اتَّقُوا اللهَ مَعَاشِرَ الشِّيعَةِ، فَإِنَّ الجَنَّةَ لنْ تَفُوتَكُمْ وَإِنْ أَبْطَأَتْ بِهَا عَنْكُمْ قَبَائِحُ أَعْمَالكُمْ، فَتَنَافَسُوا فِي دَرَجَاتِهَا، قِيل: فَهَل يَدْخُل جَهَنَّمَ أَحَدٌ مِنْ مُحِبِّيكَ وَمُحِبِّي عَليٍّ (عليه السلام)، قَال: مَنْ قَذِرَ نَفْسُهُ بِمُخَالفَةِ مُحَمَّدٍ وَعَليٍّ وَوَاقَعَ المُحَرَّمَاتِ وَظَلمَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ وَخَالفَ مَا رُسِمَ لهُ مِنَ الشَّرِيعَاتِ جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ قَذِراً طَفِساً يَقُول مُحَمَّدٌ وَعَليٌّ (عليهما السلام): يَا فُلانُ أَنْتَ قَذِرٌ طَفِسٌ لا تَصْلحُ لمُرَافَقَةِ مَوَاليكَ الأَخْيَارِ وَلا لمُعَانَقَةِ الحُورِ الحِسَانِ وَلا المَلائِكَةِ المُقَرَّبِينَ، لا تَصِل إِلى مَا هُنَاكَ إِلا

ص: 309


1- الكافي: ج 3 ص262 باب النوادر ح42.
2- الكافي: ج 2 ص97 باب الشكر ح20.

بِأَنْ تَطْهُرَ عَنْكَ مَا هَاهُنَا، يَعْنِي مَا عَليْكَ مِنَ الذُّنُوبِ، فَيَدْخُل إِلى الطَّبَقِ الأَعْلى مِنْ جَهَنَّمَ فَيُعَذَّبُ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُصِيبُهُ الشَّدَائِدُ فِي المَحْشَرِ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِ ثُمَّ يَلقُطُهُ مِنْ هُنَا وَمِنْ هُنَا مَنْ يَبْعَثُهُمْ إِليْهِ مَوَاليهِ مِنْ خِيَارِ شِيعَتِهِمْ كَمَا يَلقُطُ الطَّيْرُ الحَبَّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ ذُنُوبُهُ أَقَل وَأَخَفَّ فَيُطَهَّرُ مِنْهَا بِالشَّدَائِدِ وَالنَّوَائِبِ مِنَ السَّلاطِينِ وَغَيْرِهِمْ، وَمِنَ الآفَاتِ فِي الأَبْدَانِ فِي الدُّنْيَا ليُدْلى فِي قَبْرِهِ وَهُوَ طَاهِرٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْرُبُ مَوْتُهُ وَقَدْ بَقِيَتْ عَليْهِ سَيِّئَةٌ فَيُشْتَدُّ نَزْعُهُ وَيُكَفَّرُ بِهِ عَنْهُ، فَإِنْ بَقِيَ شَيْ ءٌ وَقَوِيَتْ عَليْهِ يَكُونُ لهُ بَطَرٌ وَاضْطِرَابٌ فِي يَوْمِ مَوْتِهِ فَيَقِل مَنْ بِحَضْرَتِهِ فَيَلحَقُهُ بِهِ الذُّل فَيُكَفَّرُ عَنْهُ، فَإِنْ بَقِيَ شَيْ ءٌ أُتِيَ بِهِ وَلمَّا يُلحَدْ فَيُوضَعُ فَيَتَفَرَّقُونَ عَنْهُ فَيُطَهَّرُ، فَإِنْ كَانَ ذُنُوبُهُ أَعْظَمَ وَأَكْثَرَ طَهُرَ مِنْهَا بِشَدَائِدِ عَرَصَاتِ يَوْمِ القِيَامَةِ، فَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ وَأَعْظَمَ طَهُرَ مِنْهَا فِي الطَّبَقِ الأَعْلى مِنْ جَهَنَّمَ، وَهَؤُلاءِ أَشَدُّ مُحِبِّينَا عَذَاباً وَأَعْظَمُهُمْ ذُنُوباً، ليْسَ هَؤُلاءِ يُسَمَّوْنَ بِشِيعَتِنَا وَلكِنَّهُمْ يُسَمَّوْنَ بِمُحِبِّينَا وَالمُوَالينَ لأَوْليَائِنَا وَالمُعَادِينَ لأَعْدَائِنَا، إِنَّ شِيعَتَنَا مَنْ شَيَّعَنَا وَاتَّبَعَ آثَارَنَا وَاقْتَدَى بِأَعْمَالنَا»(1).

الجنة أخيراً

مسألة: يستحب بيان أن الشيعي سيدخل الجنة في نهاية المطاف ولو بعد التمحيص، ولكن لا يخفى أن ذلك مشروط بأن يبقى شيعياً حتى الموت، ولا ينقلب عن موالاته في أيام حياته أو في لحظات الاحتضار، وقد ورد في الرواية: إن الحسنات آخذ بعضها بعنق بعض حتى تدخل العبد الجنة، وإن السيئات

ص: 310


1- بحار الأنوار: ج 65 ص154 ب19 صفات الشيعة وأصنافهم وذم الاغترار والحث على العمل والتقوى ح11.

بعضها آخذ بعنق بعض حتى تدخل العبد النار.

وذلك يعني أن السيئة الواحدة قد تجر إلى سيئة ثانية فثالثة فرابعة وهكذا إلى أن تسبب له أن تزل قدمه في امتحان المال أو الشهرة أو الرياسة أو غيرها فيسلب إيمانه وولاؤه، فينضوي تحت لواء الكفار أو المخالفين، ويمكن أن يسلب إيمانه عند احتضاره، فقد ورد في أحاديث عديدة أن بعض الناس يسلب إيمانهم وقت الاحتضار.

عن أبي الحسن الأول (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله: «فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ»(1)، قال: «المستقر الإيمان الثابت، والمستودع المعار»(2).وعن سعيد بن أبي الأصبغ، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) وهو يسأل عن مستقر ومستودع، قال: «مستقر في الرحم، ومستودع في الصلب، وقد يكون مستودع الإيمان ثم ينزع منه، ولقد مشى الزبير في ضوء الإيمان ونوره حين قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى مشى بالسيف وهو يقول: لا نبايع إلا علياً»(3).

وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُليْمَانَ الدَّيْلمِيِّ قَال: سَأَلتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) فَقُلتُ لهُ: جُعِلتُ فِدَاكَ إِنَّ شِيعَتَكَ تَقُول: إِنَّ الإِيمَانَ مُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ، فَعَلمْنِي شَيْئاً إِذَا قُلتُهُ اسْتَكْمَلتُ الإِيمَانَ، قَال: قُل فِي دُبُرِ كُل صَلاةٍ فَرِيضَةٍ: "رَضِيتُ بِاللهِ رَبّاً وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيّاً وَبِالإِسْلامِ دِيناً وَبِالقُرْآنِ كِتَاباً وَبِالكَعْبَةِ قِبْلةً وَبِعَليٍّ وَليّاً وَإِمَاماً

ص: 311


1- سورة الأنعام: 98.
2- تفسير العياشي: ج 1 ص372 ح74.
3- تفسير العياشي: ج 1 ص371 ح71.

، وَبِالحَسَنِ وَ الحُسَيْنِ وَالأَئِمَّةِ (صلوات الله عليهم) اللهُمَّ إِنِّي رَضِيتُ بِهِمْ أَئِمَّةً فَارْضَنِي لهُمْ إِنَّكَ عَلى كُل شَيْ ءٍ قَدِيرٌ»(1).

الشفاعة لكل شيعي

مسألة: يستحب بيان أن الشفاعة تنالكل شيعي ومحب لأهل البيت (عليهم السلام).

ولا يخفى ما لذلك من الأثر التربوي عكس ما يتوهمه بعض الناس، فإن الشفاعة باب أمل فتحه الله لعبيده، ومتى عرف العبد أن باب التوبة والمغفرة مفتوح بالشفاعة أو الاستغفار أو العمل الصالح شجعه ذلك على إصلاح نفسه، إذ اليأس من التوبة والمغفرة يوجب التمادي الأكثر في الذنوب حيث يرى الباب مغلقاً مهما فعل.

ولعل هذا من وجوه قوله تعالى: «إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ القَوْمُ الكافِرُونَ»(2).

هذا إضافة إلى أن وجود الشفاعة ومعرفة الناس بها من أكبر أسباب ارتباط الإنسان بالرسل وأوصيائهم (عليهم السلام)، وهو مما له أكبر الأثر في شد الناس إلى الدين وتمسكهم به، وعدم اتخاذ أئمة الضلال الداعين إلى النار أسوة وقدوة.

عَنْ حَرْبِ بْنِ شُرَيْحٍ البَصْرِيِّ قَال: قُلتُ لمُحَمَّدِ بْنِ عَليٍّ (عليهما السلام): أَيُّ

ص: 312


1- وسائل الشيعة: ج 6 ص463 ب20 باب استحباب الشهادتين والإقرار بالأئمة (عليهم السلام) بعد كل صلاة ح1.
2- سورة يوسف: 87.

آيَةٍ فِي كِتَابِ اللهِ أَرْجَى، قَال: «مَا يَقُول فِيهَا قَوْمُكَ»، قَال: قُلتُ: يَقُولونَ: «يا عِبادِيَ الذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ»(1).قَال: «لكِنَّا أَهْل البَيْتِ لا نَقُول ذَلكَ، قَال: قُلتُ: فَأَيَّ شَيْءٍ تَقُولونَ فِيهَا؟

قَال: نَقُول: «وَلسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى»(2)، الشَّفَاعَةَ واللهِ الشَّفَاعَةَ واللهِ الشَّفَاعَة»(3).

فائدة

المستفاد من الروايات بالإضافة إلى الدليل العقلي أن لجهنم نوعين من العذاب:

النوع الأول: من حيث الدركات.

والنوع الثاني: من حيث الكيفيات.

كما أن للجنة كذلك نوعين من المثوبات والدرجات:

الأول: نوع الدرجات والارتفاعات المادية الكمية.

الثاني: نوع الدرجات والارتفاعات المعنوية الكيفية.

فربما يجتمع نفران في مكان واحد في النار لكن يكون أحدهما أكثر عذاباً، أو يجتمعان في الجنة لكن أحدهما يكون أكثر تنعماً، كما نشاهد من جمع صحيح

ص: 313


1- سورة الزمر: 53.
2- سورة الضحى: 5.
3- تفسير فرات الكوفي: ص571 ح734.

المزاج والمريض في مكان واحد مع اختلافهما في التنعم والتأذي، وكذلك جمع المريضين أوالصحيحين على اختلاف درجاتهما.

توضيح ذلك: أن قسماً كبيراً من النعيم والعذاب يكون بواسطة المنافذ وما يحس به، فمن فقد منفذاً فقد فقد طريقاً من طرق النعيم أو وسيلة من وسائل العذاب، فمن فقد حاسة السمع مثلاً فإنه لا يلتذ بصوت القرآن أو صوت حفيف الأشجار وخرير المياه أو صوت المحبوب، كما أنه لا يوحشه الأصوات الموحشة ولا تزعجه إذ أنه لا يسمعها.

وبذلك يتبين وجه من وجوه اختلاف تنعم وعذاب شخصين في مكان واحد من الجنة أو النار، فإن المنافذ هي أكثر من خمسة، بل لعلها لا تحصى كثرة، فكلما أراد الله بعبد من عبادة نعمة أكبر فتح له نافذة أخرى، وكذا لو أراد الله بعبد من عبيده المزيد من العذاب.

هذا كله في المنافذ المادية، وكذلك الأمر في المنافذ المعنوية الباطنة، كما أنه كذلك بالنسبة إلى القوى العقلية والإدراكات وما أشبه.

قَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «إِذَا أَرَادَ اللهُ عَزَّ وجَل بِعَبْدٍ خَيْراً فَأَذْنَبَ ذَنْباً تَبِعَهُ بِنَقِمَةٍ ويُذَكِّرُهُ الاسْتِغْفَارَ، وإِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدٍ شَرّاً فَأَذْنَبَ ذَنْباً تَبِعَهُ بِنِعْمَةٍ ليُنْسِيَهُ الاسْتِغْفَارَ ويَتَمَادَى بِهِ،وهُوَ قَوْل اللهِ عَزَّوجَل: «سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلمُونَ»(1) بِالنِّعَمِ عِنْدَ المَعَاصِي»(2).

ص: 314


1- سورة الأعراف: 182، سورة القلم: 44.
2- بحار الأنوار: ج 70 ص387 ب141 وقت ما يغلظ على العبد في المعاصي واستدراج الله تعالى ح1.

وقَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدٍ خَيْراً نَكَتَ فِي قَلبِهِ نُكْتَةً بَيْضَاءَ، فَجَال القَلبُ يَطْلبُ الحَقَّ، ثُمَّ هُوَ إِلى أَمْرِكُمْ أَسْرَعُ مِنَ الطَّيْرِ إِلى وَكْرِهِ»(1).

وقال (صلى الله عليه وآله): «يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتَعَالى إِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ خَيْراً جَعَل الذُّنُوبَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ مُمَثَّلةً، والإِثْمَ عَليْهِ ثَقِيلا وَبِيلا، وإِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدٍ شَرّاً أَنْسَاهُ ذُنُوبَه»(2).

ص: 315


1- المحاسن: ج 1 ص201 ب3 باب الهداية من الله عز وجل ح37.
2- مجموعة ورام: ج 2 ص53.

في صفات المؤمنين

اشارة

جاء رجل إلى فاطمة (عليها السلام) فقال: يا ابنة رسول الله هل ترك رسول الله (صلى الله عليه وآله) عندك شيئاً تطرفينيه(1)، فقالت: «يا جارية هات تلك الحريرة»(2)، فطلبتها فلم تجدها، فقالت: «ويحك اطلبيها»، فطلبتها فإذا هي قد قممتها في قمامتها(3) فإذا فيها:

قال محمد النبي (صلى الله عليه وآله): «ليس من المؤمنين من لم يأمن جاره بوائقه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو يسكت، إن الله يحب الخيّر الحليم المتعفف، ويبغض الفاحش الضنين السئال الملحف، إن الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، وإن الفحش من البذاء، والبذاء في النار»(4).

---------------------------

معنى العبارة

أقول في بعض النسخ: «اطلبيها فإنها تعدل عندي حسناً وحسيناً» والظاهر

ص: 316


1- أي تتحفيني به.
2- وفي نسخة: الجريدة.
3- القمامة هي الكناسة، وقمّ البيت اي كنسه.
4- دلائل الإمامة: ص65 ح1.

عدم صحتها(1)، ولو فرض صدورالرواية هكذا وكونها كما نقل، فله وجوه:

الأول: إن كلام الرسول (صلى الله عليه وآله) تفسير للقرآن وهو عدل للعترة الطاهرة (عليهم السلام).

الثاني: إنه يمكن أن يكون مجازاً، حيث أرادت بيان أهمية تلك الحريرةوما كتب عليها، فلا يراد التعديل الحقيقي.

الثالث: إن ذلك قد يكون بلحاظ الكلي الشامل لهما، إذ المعادلات قد تكون حقيقية، وقد تكون بلحاظٍ واعتبارٍ كالجامع، فالحريرة وما كتب عليها مهم لها كما في أصل الأهمية بهما (عليهما السلام) دون الخصوصيات.

ص: 317


1- وسند الحديث كما في مستدرك الوسائل: ج12 ص80: أبو جعفر محمد بن جرير الطبري الآملي في كتاب الدلائل، عن القاضي أبي بكر محمد بن عمر الجعابي، قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن العباس بن محمد بن أبي محمد يحيى بن المبارك اليزيدي، قال: حدثنا الخليل بن أسد أبو الأسود النوشجاني، قال: حدثنا رويم بن يزيد المنقري، قال: حدثنا سوار بن معصب الهمداني، عن عمرو بن قيس، عن سلمة بن كهيل، عن شقيق بن سلمة، عن ابن مسعود: جاء رجل إلى فاطمة عليها السلام ... إلى، وهذا الحديث ضعيف، فإن فيه مجاهيل، وفيه المذمومون، فمن المجاهيل: محمد بن العباس بن محمد بن أبي محمد، إذ لم يذكروه، ومن المجاهيل: الخليل بن أسد، ومن المجاهيل: رويم بن يزيد، ولعل منهم: سوار بن مصعب، كما أن سلمة بن كهيل مذموم من علماء العامة البترية، وأما شقيق بن سلمة وهو أبو وداك فلم يوثق، بل عن ابن أبي الحديد عن شيخه أبي جعفر الإسكافي وكتاب الغارات: إنه كان عثمانياً يقع في علي (عليه السلام). ويحتمل كون (فإنها تعدل عندي حسنا وحسينا) من زيادة سلمة أو شقيق، وعلى فرض الصحة فقد ذكر الإمام المؤلف قدس سره) وجوهاً ومحامل في المعنى.

الاهتمام بالأحكام

مسألة: يلزم الاهتمام بالأحكام القرآنية والمستفادة من الروايات الشريفة، فإن القرآن وأحكامه تعادل العترة (عليهم السلام)، وهما وصية رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتراثه في الأُمة.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي»(1).

والأحكام القرآنية لا تعني الصلاة والصوم والحج والخمس والزكاة ونظائرها فحسب، بل تشمل مثل: الاستشارة والأخوة والحريات والعدل والإحسان وما أشبه.

عَنْ أَبِي بَصِيرٍ قَال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُول: «المُؤْمِنُ أَخُو المُؤْمِنِ، كَالجَسَدِ الوَاحِدِ إِنِ اشْتَكَى شَيْئاً مِنْهُ وَجَدَ أَلمَ ذَلكَ فِي سَائِرِ جَسَدِهِ، وأَرْوَاحُهُمَا مِنْ رُوحٍ وَاحِدَةٍ، وإِنَّ رُوحَ المُؤْمِنِ لأَشَدُّ اتِّصَالا بِرُوحِ اللهِ مِنِ اتِّصَال شُعَاعِ الشَّمْسِ بِهَا»(2).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «فِيمَا أَوْصَى بِهِ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله)عَليّاً (عليه السلام) أَنْ قَال: لا مُظَاهَرَةَ أَوْثَقُ مِنَ المُشَاوَرَةِ، ولا عَقْل كَالتَّدْبِيرِ»(3).

وقَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (صَلوَاتُ اللهِ عَليْهِ): «أَفْضَل النَّاسِ رَأْياً مَنْ لمْ يَسْتَغْنِ عَنْ

ص: 318


1- حديث متواتر رواه الفريقان بطرق مختلفة.
2- الكافي: ج 2 ص166 باب أخوة المؤمنين بعضهم لبعض ح4.
3- المحاسن: ج 2 ص601 ب3 باب الاستشارة ح15.

مُشِيرٍ»(1).

الرجوع إلى المعصوم

مسألة: يجب الرجوع إلى المعصوم (عليه السلام) أو من ينتهي قوله إلى قوله (عليه السلام)، كالمرأة الصالحة الرواية لأخبارهم (صلوات الله عليهم).

ومن هنا جاء ذلك الرجل إلى الصديقة فاطمة (عليها السلام) فإنها بضعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) و«إن الله يرضى لرضاها»(2)، فاللازم الرجوع إلى أحاديثها أو من يحملها من الرجال الصالحين والنساء الصالحات.

عَنْ عَليِّ بْنِ سُوَيْدٍ السَّائِيِّ قَال: كَتَبَ إِليَّ أَبُو الحَسَنِ (عليه السلام) وهُوَ فِي السِّجْنِ: «وأَمَّا مَا ذَكَرْتَ يَا عَليُّ مِمَّنْ تَأْخُذُ مَعَالمَ دِينِكَ، لا تَأْخُذَنَ مَعَالمَ دِينِكَ عَنْ غَيْرِ شِيعَتِنَا، فَإِنَّكَ إِنْ تَعَدَّيْتَهُمْ أَخَذْتَ دِينَكَ عَنِ الخَائِنِينَ الذِينَ خَانُوا اللهَ ورَسُولهُ وخَانُوا أَمَانَاتِهِمْ، إِنَّهُمُ اؤْتُمِنُوا عَلى كِتَابِ اللهِ فَحَرَّفُوهُ وبَدَّلوهُ، فَعَليْهِمْ لعْنَةُ اللهِ ولعْنَةُ رَسُولهِ ولعْنَةُ مَلائِكَتِهِ ولعْنَةُ آبَائِيَ الكِرَامِ البَرَرَةِ ولعْنَتِي ولعْنَةُ شِيعَتِي إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ»(3).

وعَنْ إِسْحَاقَ بْنِ يَعْقُوبَ قَال: سَأَلتُ مُحَمَّدَ بْنَ عُثْمَانَ العَمْرِيَّ أَنْ يُوصِل لي كِتَاباً قَدْ سَأَلتُ فِيهِ عَنْ مَسَائِل أَشْكَلتْ عَليَّ، فَوَرَدَ التَّوْقِيعُ بِخَطِّ مَوْلانَا

ص: 319


1- عيون الحكم والمواعظ: ص111 ح2420.
2- الأمالي، للصدوق: ص384 المجلس الحادي والستون.
3- وسائل الشيعة: ج 27 ص150 ب11 باب وجوب الرجوع في القضاء والفتوى إلى رواة الحديث من الشيعة فيما رووه عن الأئمة (عليهم السلام) من أحكام الشريعة لا فيما يقولونه برأيهم ح42.

صَاحِبِ الزَّمَانِ (عليه السلام): «أَمَّا مَا سَأَلتَ عَنْهُ أَرْشَدَكَ اللهُ وثَبَّتَكَ» إلى أن قال: «وأَمَّا الحَوَادِثُ الوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إِلى رُوَاةِ حَدِيثِنَا، فَإِنَّهُمْ حُجَّتِي عَليْكُمْ وأَنَا حُجَّةُ اللهِ، وأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ العَمْرِيُّ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وعَنْ أَبِيهِ مِنْ قَبْل)، فَإِنَّهُ ثِقَتِي وكِتَابُهُ كِتَابِي»(1).وعَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَاتِمِ بْنِ مَاهَوَيْهِ قَال: كَتَبْتُ إِليْهِ، يَعْنِي أَبَا الحَسَنِ الثَّالثَ (عليه السلام) أَسْأَلهُ عَمَّنْ آخُذُ مَعَالمَ دِينِي، وكَتَبَ أَخُوهُ أَيْضاً بِذَلكَ، فَكَتَبَ إِليْهِمَا: «فَهِمْتُ مَا ذَكَرْتُمَا فَاصْمِدَا فِي دِينِكُمَا عَلى كُل مُسِنٍّ فِي حُبِّنَا، وكُل كَثِيرِ القَدَمِ فِي أَمْرِنَا، فَإِنَّهُمَا كَافُوكُمَا إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالى»(2).

كراهة الإهمال وحرمته

مسألة: الإهمال إن أدى إلى تضييع الحقوق والواجبات فحرام، وإلا فهو رذيلة أخلاقية، ومن المحرم إهمال الأمانات حتى تضيع، أو التصرف في ملك الغير بدون رعاية الاحتياط اللازم، كما صنعت الجارية إذ قممت الحريرة في المقامة دون فحص واحتياط، ولذا عاتبتها الصديقة (عليها السلام) كما هو الظاهر من كلمة (ويحك)، فإنه الأصل فيها رغم تعدد الأقوال.

ص: 320


1- وسائل الشيعة: ج 27 ص140 ب11 باب وجوب الرجوع في القضاء والفتوى إلى رواة الحديث من الشيعة فيما رووه عن الأئمة (عليهم السلام) من أحكام الشريعة لا فيما يقولونه برأيهم ح9.
2- وسائل الشيعة: ج 27 ص151 ب11 باب وجوب الرجوع في القضاء والفتوى إلى رواة الحديث من الشيعة فيما رووه عن الأئمة (عليهم السلام) من أحكام الشريعة لا فيما يقولونه برأيهم ح45.

قَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (صَلوَاتُ اللهِ عَليْهِ):«مَنْ أَهْمَل نَفْسَهُ أَهْلكَهَا»(1).

وقال (عليه السلام): «مَنْ أَهْمَل نَفْسَهُ فِي لذَّاتِهَا شَقِيَ وبَعُدَ»(2).

وقال (عليه السلام): «مَنْ أَهْمَل نَفْسَهُ أَضَاعَ أَمْرَهُ»(3).

وقال (عليه السلام): «مِنَ الخُرْقِ المُعَاجَلةُ قَبْل الإِمْكَانِ، والأَنَاةُ بَعْدَ الفُرْصَةِ»(4).

الجار وحقوقه

مسألة: يحرم إيذاء أحد وظلمه وإيصال الشر إليه، خصوصاً الجار.

و(بوائقه) تعني غوائله وشروره(5)، وفي الحديث: (قلت: وما بوائقه، قال:ظُلمُهُ وغَشْمُهُ)(6). والظاهر أنه تفسير بالمصداق.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «ليس يدخل الجنة من يؤذي جاره ومن لم يأمن جاره بوائقه»(7).

ص: 321


1- عيون الحكم والمواعظ: ص429 ح7327.
2- عيون الحكم والمواعظ: ص445 ح7822.
3- عيون الحكم والمواعظ: ص451 ح8023.
4- وسائل الشيعة: ج 16 ص84 ب91 باب استحباب انتهاز فرص الخير والمبادرة به عند الإمكان ح5.
5- راجع مجمع البحرين: ج 5 ص142 مادة (بوق). وفيه أيضاً: (البوائق جمع بائقة وهي الداهية)
6- الكافي: ج 2 ص668 باب حق الجوار ح12. وفيه: (وورد عَنْ أَبِي حَمْزَةَ قَال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُول: المُؤْمِنُ مَنْ آمَنَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ، قُلتُ: وَمَا بَوَائِقُهُ؟ قَال: ظُلمُهُ وغَشْمُهُ).
7- مستدرك الوسائل: ج 8 ص421 ب72 باب وجوب كف الأذى عن الجار ح2.

ثم إن للجار حقين: حق الإسلام، وحق الجوار، كما أنه إذا كان كافراً كان له حق الجار، والبعيد المؤمن له حق الإيمان وإن لم يكن له حق الجار.

وقال (صلى الله عليه وآله) كما في روضة الواعظين: «الجِيرَانُ ثَلاثَةٌ، فَمِنْهُمْ مَنْ لهُ ثَلاثَةُ حُقُوقٍ، حَقُّ الإِسْلامِ وَحَقُّ الجِوَارِ وَحَقُّ القَرَابَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لهُ حَقَّانِ حَقُّ الإِسْلامِ وَحَقُّ الجِوَارِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لهُ حَقٌّ وَاحِدٌ الكَافِرُ لهُ حَقُّ الجِوَارِ»(1).

ومعنى: «ليس من المؤمنين...» و«يؤمن بالله واليوم الآخر»(2)، أنه إذا آذى جارهلم يكن كامل الإيمان عملاً، فإن أركان الإيمان ثلاثة: القلب واللسان والجوارح كما حقق في محله ودلت عليه الروايات، عن الإمام الرضا (عليه السلام) في تفسير الإيمان: «هو معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان»(3).

ومثل هذا الوجه كما يقال في الواجبات فإنه يقال في المستحبات أيضاً، كما ورد «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكتحل»(4)، فإن المراد كمال الإيمان، إذ الإيمان له درجات: الكمال والوسط والأصل وهو أدنى الدرجات وأولها، فقد يطلق الإيمان في مقابل من لا إيمان له إطلاقاً، أو في مقابل من له إيمان ولكنه يعمل المحرمات، أو في مقابل من له إيمان ولا يعمل المحرمات ولكنه يترك المستحبات أو يأتي بالمكروهات وما أشبه.

ص: 322


1- روضة الواعظين: ج 2 ص389 مجلس في ذكر حقوق الإخوان والأقرباء والجار.
2- دلائل الإمامة: ص65 ح1.
3- وسائل الشيعة: ج15 ص329 ب46 ح20660.
4- ثواب الأعمال: ص22 ثواب المكتحل، وعنه بحار الأنوار: ج 73 ص94 ب7 الاكتحال وآدابه ح4، ووسائل الشيعة: ج 2 ص99 ب54 باب استحباب الكحل للرجل والمرأة ح5.

القول الخير أو السكوت

مسألة: ينبغي أن لا يتكلم الإنسان بشرٍّ، بل يقول خيراً أو يسكت.

والمتكلم بالشر ليس ممن يؤمن بالله واليوم الآخر إيماناً كاملاً على ما عرفت.

وفي الحديث: «وهل يكب الناس في النار إلا حصائد ألسنتهم»(1).

وقال الإمام الحسن (عليه السلام) جواباً على أسئلة أمير المؤمنين (صلوات الله عليه): «ونعم العون الصمت في مواطن كثيرة وإن كنت فصيحا»(2).

وقال الإمام الكاظم (عليه السلام): «يا هشام قلة المنطق حكم عظيم، فعليكم بالصمت، فإنه دعة حسنة وقلة وزر وخفة من الذنوب»(3).

ثم إن من الشر الذي ينبغي أن يتجنبه الإنسان ولا يتكلم به: الغيبةوالتهمة والنميمة، وسب المؤمنين وإهانتهم وجرحهم، واستعمال الكلمة القبيحة، والنكات غير اللائقة، والقصص المشينة بالأخلاق، وكذا التشجيع على الإثم والعدوان والتثبيط عن العمل الصالح أو عن الإيمان والاعتقاد وشبه ذلك.

قال تعالى: «وَقُل لعِبادي يَقُولوا التي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ

ص: 323


1- بحار الأنوار: ج 68 ص290 ب78 السكوت والكلام وموقعهما وفضل الصمت وترك ما لا يعني من الكلام ح57.
2- معاني الأخبار: ص401 باب نوادر المعاني ح62.
3- مستدرك الوسائل: ج 9 ص18 ب100 باب استحباب الصمت والسكوت إلا عن خير ح11.

إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ للإِنْسانِ عَدُوًّا مُبينا»(1).

الإنسان الخيّر

مسألة: يستحب أن يكون الإنسان خيّراً، ورجل خيّر أي ذو خير.

ولعله أعم من الخير الذاتي والمتعدي(2).

وحيث إن الصديقة (صلوات الله عليها) قالت: «إن الله يحب الخير» فعلى الإنسان إذا أراد أن يحبه الله أكثر فأكثر أن يزداد خيراً وخيّرية، ومن المشاهد في المجتمع أن بعض الناس يوصف بأنه خيّر، فليكن كل منا منهم، بل من خيار خيّريهم.

الإنسان الحليم

مسألة: يستحب أن يكون الإنسان حليماً، والحلم إضافةً إلى كونه زينةً ووقاراً، مما يوجب هدوء النفس وسكونها، وراحة البال وطمأنينتها، ويبعد عن الإنسان التوتر والقلق، ويجنب الإنسان الكثير من المعاصي القولية والعملية.

ثم إنه أيضاً من أهم أسس تماسك المجتمع، ومما يمهد للتعاون على البر والتقوى، لأنه يوجب تقارب النفوس وتواددها.

ولذلك كله ولنظائره قالت الصديقة (عليها السلام): «إن الله يحب الخيّر الحليم ...».

ص: 324


1- سورة الإسراء: 53.
2- الخير الذاتي كالصلاح، والخير المتعدي كالإحسان.

وقَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (صَلوَاتُ اللهِ عَليْهِ): «الحِلمُ حِجَابٌ مِنَ الآفَاتِ»(1).

وقال (عليه السلام): «السِّلمُ ثَمَرَةُ الحِلمِ»(2).

وقال (عليه السلام): «الأَوَّل مِنْ عِوَضِ الحَليمِ عَنْ حِلمِهِ أَنَّ النَّاسَ كُلهُمْ أَنْصَارُهُ عَلى خَصْمِهِ»(3).

وقال (عليه السلام): «إِنَّ أَفْضَل أَخْلاقِالرِّجَال الحِلمُ»(4).

وقال (عليه السلام): «إِنْ كَانَ فِي الغَضَبِ الانْتِصَارُ فَفِي الحِلمِ حُسْنُ العَافِيَةِ»(5).

وقال (عليه السلام): «مَنْ حَلمَ لمْ يُفَرِّطْ فِي الأُمُورِ وعَاشَ حَمِيداً فِي النَّاسِ»(6).

وقال (عليه السلام): «لا شَرَفَ أَعْلى مِنَ الحِلمِ»(7).

ص: 325


1- عيون الحكم والمواعظ: ص24 ح228.
2- عيون الحكم والمواعظ: ص31 ح523.
3- عيون الحكم والمواعظ: ص55 ح1430.
4- عيون الحكم والمواعظ: ص149 ح3265.
5- عيون الحكم والمواعظ: ص162 ح3460.
6- عيون الحكم والمواعظ: ص434 ح7497.
7- عيون الحكم والمواعظ: ص535 ح9795.

الإنسان العفيف

مسألة: يستحب أن يكون الإنسان عفيفاً متعففاً، والمتعفف هو المتحرز عن الحرام، وعما فيه شبهة وعن سؤال الناس(1).

ثم إن الخيّر وإن كان يشمل الحليم والمتعفف إلا أن تخصيص ذكرهما من باب أهميتهما، كذكر الخاص بعد العام، كما أنه قد يعكس فيذكر الخاص أولاً والعام ثانياً، فقد يقول القائل: ذهبت إلى العراق وذهبت إلى النجف الأشرف، وقد يقول: تجولت في أرجاء النجف الأشرف وتجولت في أنحاء العراق، وهذا من أبواب البلاغة، كما ذكره البلغاء في مواردها.

قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الحَيِيَّ الحَليمَ العَفِيفَ المُتَعَفِّفَ»(2).

وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: «مَا عُبِدَ اللهُ بِشَيْ ءٍ أَفْضَل مِنْ عِفَّةِ بَطْنٍ وَ فَرْجٍ»(3).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «كَانَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) يَقُول:أَفْضَل العِبَادَةِ العَفَافُ»(4).

ص: 326


1- وفي اللغة: عفّ عن الشيء يعفّ عِفةً بالكسر وعَفافاً بالفتح: امتنع عنه فهو عفيف. مجمع البحرين: مادة (عفف).
2- الكافي: ج2 ص112 باب الحلم ح8.
3- الكافي: ج2 ص70 باب العفة ح1.
4- الكافي: ج2 ص79 باب العفة ح3.

حرمة الفحش

مسألة: يحرم أن يكون الإنسان فاحشاً، بمعنى المرتكب للفاحشة، والفاحشة هي كلما يشتد قبحه من الذنوب والمعاصي.

قال تعالى: «وَاللاَّتي يَأْتينَ الفاحِشَة»(1).

وقال عزوجل: «الذينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الإِثْمِ والفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ»(2).

وقال سبحانه: «إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وما بَطَنَ»(3).

عَنْ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله)قَال: «إِيَّاكُمْ والفُحْشَ، فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الفَاحِشَ المُتَفَحِّشَ»(4).

وَقَال جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ: كُنْتُ جَالساً عِنْدَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) وأَبِي أَمَامِي، فَقَال (صلى الله عليه وآله): الفُحْشُ والتَّفَحُّشُ ليْسَا مِنَ الإِسْلامِ فِي شَيْءٍ، وإِنَّ أَحْسَنَ النَّاسِ إِسْلاماً أَحْسَنُهُمْ أَخْلاقاً»(5).

وقَال (صلى الله عليه وآله): «مَنْ عَرَضَتْ لهُ فَاحِشَةٌ أَوْ شَهْوَةٌ فَاجْتَنَبَهَا مِنْ مَخَافَةِ اللهِ عَزَّ وجَل، حَرَّمَ اللهُ عَليْهِ النَّارَ، وآمَنَهُ مِنَ الفَزَعِ الأَكْبَرِ، وأَنْجَزَ لهُ مَا

ص: 327


1- سورة النساء: 15.
2- سورة النجم: 32.
3- سورة الأعراف: 33.
4- وسائل الشيعة: ج 9 ص42 ب5 باب تحريم البخل والشح بالزكاة ونحوها ح21.
5- مجموعة ورام: ج 1 ص110 باب ما جاء في المراء والمزاح والسخرية.

وَعَدَهُ فِي كِتَابِهِ فِي قَوْلهِ تَبَارَكَ وتَعَالى: «وَلمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتان»(1)»(2).

كراهة الضنين

مسألة: يكره أن يكون الإنسان ضنيناً.

والضنين - بالضاد أخت الصاد - معناه: البخيل، ومنه قوله سبحانه: «وَما هُوَ عَلى الغَيْبِ بِضَنين»(3)، أي: لا يبخل بالغيب، فإذا كان من المناسب بيانه للناس قاله لهم.

وإذا أراد العبد أن يحبه الله تعالى فعليه أن لا يكون ضنيناً بخيلاً، بل يكون جواداً كريماً.

ثم إن الضنين على أنواع: فقد يكون ضنيناً بخيلاً ببذل العلم، وقد يكون بخيلاً ببذل المال، وقد يكون بخيلاً ببذل ماء الوجه في وساطة خير كإصلاح ذات البين، أو التوسط لمساعدة يتيم أو فقير أو سجين أو أسير، وقد يكون بخيلاًضنيناً ببذل المال ... إلى غير ذلك.

قال تعالى: «وَلا يَحْسَبَنَّ الذينَ يَبْخَلونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلهِ هُوَ خَيْراً لهُمْ بَل هُوَ شَرٌّ لهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلوا بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ وللهِ ميراثُ السَّماواتِ والأَرْضِ واللهُ بِما تَعْمَلونَ خَبير»(4).

ص: 328


1- سورة الرحمن: 46.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 4 ص14 باب ذكر جمل من مناهي النبي (صلى الله عليه وآله).
3- سورة التكوير: 24.
4- سورة آل عمران: 180.

وقال سبحانه: «الذينَ يَبْخَلونَ ويَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالبُخْل ويَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلهِ وأَعْتَدْنا للكافِرينَ عَذاباً مُهيناً»(1).

قوَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (صَلوَاتُ اللهِ عَليْهِ): «لا خَيْرَ فِي صَدِيقٍ ضَنِينٍ»(2).

وقَال (صَلوَاتُ اللهِ عَليْهِ):

كُل امْرِئٍ بِكَسْبِهِ رَهِينٌ *** وَفَاعِل الخَيْرَاتِ يَسْتَبِينُ

مَوْعِدُهُ جَنَّةُ عِليِّينَ *** حَرَّمَهَا اللهُ عَلى الضَّنِينِ

وَللبَخِيل مَوْقِفٌ مُهِينٌ *** تَهْوِي بِهِ النَّارُ إِلى سِجِّينٍ

شَرَابُهُ الحَمِيمُ والغِسْلين (3)

كراهة الإلحاح

مسألة: يكره أن يكون الإنسان سائلاً ملحاً على غير الله تعالى.

فإن الإلحاح في السؤال من الناسمكروه، وفي القرآن الحكيم: «لا يَسْئَلونَ النَّاسَ إِلحافاً»(4). إي إلحاحاً.

وفي الحديث: «إن الله يبغض الفاحش البذيء، والسائل الملحف»(5).

وعن الإمام العسكري (عليه السلام): «وَاعْلمْ أَنَّ الإِلحَاحَ فِي المَطَالبِ يَسْلبُ

ص: 329


1- سورة النساء: 37.
2- عيون الحكم والمواعظ: ص538 ح9922.
3- كشف الغمة: ج 1 ص303 في بيان ما نزل من القرآن في شأنه (عليه السلام).
4- سورة البقرة: 273.
5- الكافي: ج 2 ص325 باب البذاء ح11.

البَهَاءَ وَيُورِثُ التَّعَبَ وَالعَنَاءَ، فَاصْبِرْ حَتَّى يَفْتَحَ اللهُ لكَ بَاباً يَسْهُل الدُّخُول فِيهِ، فَمَا أَقْرَبَ الصُّنْعَ إِلى المَلهُوفِ، وَالأَمْنَ مِنَ الهَارِبِ المَخُوفِ»(1).

نعم يستثنى من ذلك الإلحاح في السؤال والتوسط لعمل الخير، وفي الحديث: «الشفاعة زكاة الجاه»(2)، كما أنه يندرج في باب التزاحم وتقديم الأهم.

هذا كله بالنسبة إلى الإلحاح فيالسؤال من الناس، أما الإلحاح على الله سبحانه فهو مستحب، وقد جاء في دعاء يوم الأربعاء للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): «الحَمْدُ للهِ الذِي مَرْضَاتُهُ فِي الطَّلبِ إِليْهِ، وَالتِمَاسِ مَا لدَيْهِ، وَسَخَطُهُ فِي تَرْكِ الإِلحَاحِ فِي المَسْأَلةِ عَليْه»(3).

استحباب الحياء

مسألة: يستحب أن يكون الإنسان حيياً، إذ «الحياء من الإيمان والإيمان في الجنة»(4)، كما في الحديث الشريف.

والحياء من أرفع الصفات الحميدة في الإنسان، في غير ما استثني، فإنه في

ص: 330


1- بحار الأنوار: ج 90 ص372 ب24 علة الإبطاء في الإجابة والنهي عن الفتور في الدعاء والأمر بالتثبت والإلحاح فيه ح16، عن عدة الداعي: ص136.
2- عن الإمام الصادق (عليه السلام): «المَعْرُوفُ زَكَاةُ النِّعَمِ، وَالشَّفَاعَةُ زَكَاةُ الجَاهِ، وَالعِلل زَكَاةُ الأَبْدَانِ، وَالعَفْوُ زَكَاةُ الظَّفَرِ، وَمَا أَدَّيْتَ زَكَاتَهُ فَهُوَ مَأْمُونُ السَّلبِ» بحار الأنوار: ج75 ص268 ب23.
3- البلد الأمين: ص127 دعاء يوم الأربعاء لعلي (عليه السلام).
4- الكافي: ج 2 ص106 باب الحياء ح1.

المستثنى ليس بمستحب، بل ربما يكره أو يحرم ذلك، مثل حياء الزوجين أحدهما عن الآخر في القضايا الجنسية فإنه بين مكروه وحرام، وكذلك الحياء من السؤال عن الأمور الدينية والمسائل الشرعية ونحوها، ولذا قالوا: «لا حياء في العلم»، كما «لا حياء في الدين»، و«لا حياء في الحق».

وكذلك أيضاً الحياء عن المطالبةبالحقوق الشرعية التي اغتصبها الحاكم الجائر، أو أي ظالم آخر، سواء كانت حقوق الناس عامة أو حقوق جماعة خاصة، كالعشيرة أو النقابة أو الهيئة أو الشركة، أو حقوق عائلة من العوائل، نعم ما كان من الأمور الشخصية فربما العفو فيه أفضل إن لم يترتب عليه محذور آخر.

ولعل ذلك كله من صغريات قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) المروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) قال: «الحياء على وجهين، فمنه الضعف، ومنه قوة وإسلام وإيمان»(1).

عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَاليِّ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: قَال عَليُّ بْنُ الحُسَيْنِ (عليه السلام): «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَ فِيهِ كَمَل إِيمَانُهُ ومُحِّصَتْ عَنْهُ ذُنُوبُهُ ولقِيَ رَبَّهُ وهُوَ عَنْهُ رَاضٍ، مَنْ وَفَى للهِ بِمَا يَجْعَل عَلى نَفْسِهِ للنَّاسِ، وصَدَقَ لسَانُهُ مَعَ النَّاسِ، واسْتَحْيَا مِنْ كُل قَبِيحٍ عِنْدَ اللهِ وعِنْدَ النَّاسِ، ويَحْسُنُ خُلقُهُ مَعَ أَهْلهِ»(2).

ص: 331


1- قرب الإسناد: ص46 ح150.
2- المحاسن: ج 1 ص8 ب2باب الأربعة ح21.

حفظ الآثار المعنوية

مسألة: يجب حفظ الآثار المعنوية كالكتاب النافع، والاهتمام بها، ويظهر ذلك من عتابها الشديد أو غضبها (عليها السلام) إذ قالت: «ويحك اطلبيها»، ومعلوم أن مثل هذا التعبير يتضمن بيان أهمية ذلك الأمر.

وحفظ كل شيء بحسبه، ويختلف باختلاف الظروف والأزمان والأماكن وباختلاف نوع الأثر، ومنه الحفظ في الصدور، ومنه حفظ الكتب الخطية باستنساخها وجعلها في مكتبات متعددة في بلاد مختلفة، ومنه السعي لطباعتها، ومنه حفظها بشرحها ودفع الشبهات عنها.

والحاصل: إنه لا فرق في الحفظ بين كونه بالكتابة، أو في الصدر، أو بالأشرطة ونحوها من الأمور الحديثة، ويشمل الجميع قوله (عليه الصلاة والسلام): «احتفظوا بكتبكم فإنكم سوف تحتاجون إليها»(1).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «من أدى إلى أمتي حديثاً يقام به سنة أويثلم به بدعة فله الجنة»(2).

ص: 332


1- الكافي: ج 1 ص52 باب رواية الكتب والحديث وفضل الكتابة والتمسك بالكتب ح10.
2- بحار الأنوار: ج 2 ص152 ب19 فضل كتابة الحديث وروايته ح43.

قول الخير

مسألة: يستحب قول الخير.

ولعل المراد بالقول في قوله (صلى الله عليه وآله): «فليقل خيراً أو يسكت» ولو بالملاك الأعم من العمل، لأن القول قد يطلق على العمل كما يطلق على اللفظ، يقال: قال فلان بيده كذا، بل يشمل الكتابة أيضاً، فيقال: قال المحقق في كتابه، بينما كتب.

والخير إذا كان مستحباً كان قوله مستحباً، وإن كان واجباً كان قوله واجباً في الجملة.

ثم إن من قول الخير الثناء الصادق والتشجيع على العمل الصالح، ومنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنه إرشاد الجاهل وتنبيه الغافل، ومنه نصح المستشير، ومنه الدفاع القولي والكتبي عن المظلوم، ومنه إصلاح ذات البين.

عَنِ الفُضَيْل بْنِ يُونُسَ الكَاتِبِ قَال: قَال لي أَبُو الحَسَنِ مُوسَى بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (عليه السلام): «أَبْلغْ خَيْراً وقُل خَيْراً ولا تَكُونَنَّ إِمَّعَةً». قُلتُ: ومَا الإِمَّعَةُ، قَال: «تَقُول أَنَا مَعَ النَّاسِ وأَنَا كَوَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ، إِنَّ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) قَال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُمَا نَجْدَانِ، نَجْدُ خَيْرٍ ونَجْدُ شَرٍّ، فَمَا بَال نَجْدِ الشَّرِّ أَحَبُّإِليْكُمْ مِنْ نَجْدِ الخَيْر»(1).

وقَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (صَلوَاتُ اللهِ عَليْهِ): «أَلا وقُولوا خَيْراً تُعْرَفُوا بِهِ، واعْمَلوا بِهِ

ص: 333


1- الاختصاص: ص343 خطبة النبي (صلى الله عليه وآله) بثنية الوداع وما قاله في حق علي (عليه السلام).

تَكُونُوا مِنْ أَهْله»(1).

ةعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (صَلوَاتُ اللهِ عَليْهِ) قَال: «يَا سُفْيَانُ أَمَرَنِي وَالدِي (عليه السلام) بِثَلاثٍ، ونَهَانِي عَنْ ثَلاثٍ، فَكَانَ فِيمَا قَال لي: يَا بُنَيَّ مَنْ يَصْحَبْ صَاحِبَ السَّوْءِ لا يَسْلمْ، ومَنْ يَدْخُل مَدَاخِل السَّوْءِ يُتَّهَمْ، ومَنْ لا يَمْلكْ لسَانَهُ يَنْدَمْ، ثُمَّ أَنْشَدَنِي:

عَوِّدْ لسَانَكَ قَوْل الخَيْرِ تَحْظَ بِهِ *** إِنَّ اللسَانَ لمَا عَوَّدْتَ مُعْتَادٌ

مُوَكَّل بِتَقَاضِي مَا سَنَنْتَ لهُ *** فِي الخَيْرِ والشَّرِّ فَانْظُرْ كَيْفَ تَعْتَادُ(2)

الإيمان ودرجاته العالية

مسألة: يجب الإيمان وتستحب الدرجات العالية منه، والإيمان بما أمر الله بهجوانحاً وجوارحاً هو ما يسعد الإنسان في الدنيا والآخرة.

فعلى الإنسان أن يتعرف على الإيمان وعلاماته ودرجاته كما هي مذكورة في الآيات والروايات، وأن يسعى لكي يكون في أعلى الدرجات منه.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: قَال أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «يَا بُنَيَّ اعْرِفْ مَنَازِل الشِّيعَةِ عَلى قَدْرِ رِوَايَتِهِمْ ومَعْرِفَتِهِمْ، فَإِنَّ المَعْرِفَةَ هِيَ الدِّرَايَةُ للرِّوَايَةِ، وبِالدِّرَايَاتِ للرِّوَايَاتِ يَعْلو المُؤْمِنُ إِلى أَقْصَى دَرَجَاتِ الإِيمَانِ، إِنِّي نَظَرْتُ فِي كِتَابٍ لعَليٍّ (عليه السلام) فَوَجَدْتُ فِي الكِتَابِ أَنَّ قِيمَةَ كُل امْرِئٍ وقَدْرَهُ

ص: 334


1- من لا يحضره الفقيه: ج 1 ص205 باب فرض الصلاة ح613.
2- بحار الأنوار: ج 68 ص278 ب78 السكوت والكلام وموقعهما وفضل الصمت وترك ما لا يعني من الكلام ح17.

مَعْرِفَتُهُ، إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتَعَالى يُحَاسِبُ النَّاسَ عَلى قَدْرِ مَا آتَاهُمْ مِنَ العُقُول فِي دَارِ الدُّنْيَا»(1).

وعَنْ عَبْدِ العَزِيزِ القَرَاطِيسِيِّ، قَال: قَال لي أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «يَا عَبْدَ العَزِيزِ إِنَّ الإِيمَانَ عَشْرُ دَرَجَاتٍ بِمَنْزِلةِ السُّلمِ، يُصْعَدُ مِنْهُ مِرْقَاةً بَعْدَ مِرْقَاةٍ، فَلا يَقُولنَّ صَاحِبُ الاثْنَيْنِ لصَاحِبِ الوَاحِدِ لسْتَ عَلى شَيْءٍ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلى العَاشِرِ، فَلا تُسْقِطْ مَنْ هُوَ دُونَكَ فَيُسْقِطَكَ مَنْ هُوَ فَوْقَكَ، وإِذَا رَأَيْتَ مَنْ هُوَ أَسْفَل مِنْكَ بِدَرَجَةٍفَارْفَعْهُ إِليْكَ بِرِفْقٍ، ولا تَحْمِلنَّ عَليْهِ مَا لا يُطِيقُ فَتَكْسِرَهُ، فَإِنَّ مَنْ كَسَرَ مُؤْمِناً فَعَليْهِ جَبْرُهُ»(2).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وجَل وَضَعَ الإِيمَانَ عَلى سَبْعَةِ أَسْهُمٍ، عَلى البِرِّ والصِّدْقِ واليَقِينِ والرِّضَا والوَفَاءِ والعِلمِ والحِلمِ، ثُمَّ قَسَمَ ذَلكَ بَيْنَ النَّاسِ، فَمَنْ جَعَل فِيهِ هَذِهِ السَّبْعَةَ الأَسْهُمِ فَهُوَ كَامِل مُحْتَمِل، وقَسَمَ لبَعْضِ النَّاسِ السَّهْمَ، ولبَعْضٍ السَّهْمَيْنِ، ولبَعْضٍ الثَّلاثَةَ حَتَّى انْتَهَوْا إِلى السَّبْعَةِ، ثُمَّ قَال: لا تَحْمِلوا عَلى صَاحِبِ السَّهْمِ سَهْمَيْنِ، ولا عَلى صَاحِبِ السَّهْمَيْنِ ثَلاثَةً فَتَبْهَضُوهُمْ، ثُمَّ قَال: كَذَلكَ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلى السَّبْعَةِ»(3).

ص: 335


1- معاني الأخبار: ص1 الباب الذي من أجله سمينا هذا الكتاب كتاب معاني الأخبار ح2.
2- الكافي: ج 2 ص45 ح2.
3- الكافي: ج 2 ص42 باب درجات الإيمان ح1.

حرمة البذاء

مسألة: يحرم الفحش والبذاء فإنه في النار، والبذاء هو الفحش وكل كلام قبيح(1).

والمحتملات في مثل كونه في النار هي:

1: إن البذاء معصية تجر إلى النار، فالمجاز بالأوْل.

2: إن البذاء رذيلة، والرذائل في النار حقيقة، فإنه لازم صاحبه، ولم تمحه حسناته أو الشفاعة فدخل النار، وبهذا يفسر (حرم الجنة على كل فحاش بذيء) فإنها حرام عليه إلى أن يطهر منه، ويوضحه ما سلف من تطهير العصاة في عرصات المحشر أو طبقات النار أو غيرها.

3: واحتمل البعض أن المراد بالجنة، الجنة الخاصة المعدة لغير الفحاشين، فالألف واللام للعهد.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إن الله حرَّم الجنة على كل فحاش بذيء»(2).وقَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «إِنَّ الفُحْشَ والبَذَاءَ والسَّلاطَةَ مِنَ النِّفَاقِ»(3).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «أَلا

ص: 336


1- وفي مجمع البحرين: بذا على القوم يبذو بذواً: سفه عليهم وأفحش في منطقه.
2- تحف العقول: ص44 وروي عنه (صلى الله عليه وآله) في قصار هذه المعاني.
3- الكافي: ج 2 ص325 باب البذاء ح10.

أُخْبِرُكُمْ بِأَبْعَدِكُمْ مِنِّي شَبَهاً، قَالوا: بَلى يَا رَسُول اللهِ، قَال: الفَاحِشُ المُتَفَحِّشُ البَذِي ءُ، البَخِيل المُخْتَال، الحَقُودُ الحَسُودُ، القَاسِي القَلبِ، البَعِيدُ مِنْ كُل خَيْرٍ يُرْجَى، غَيْرُ المَأْمُونِ مِنْ كُل شَرٍّ يُتَّقَى»(1).

آثار العظيم

مسألة: يستحب السؤال عن آثار العظيم من ذريته، كما سأل الراوي عما تركه رسول الله (صلى الله عليه وآله) من ابنته وبضعته الزهراء (صلى الله عليه وآله).

والعلماء السادة الآن هم ذرية رسول الله (صلى الله عليه وآله) فينبغي السؤال منهم، كما ينبغي عليهم التعرف على آثار أجدادهم أكثر فأكثر، لما له من الموضوعية والطريقية.

عَنِ الحَلبِيِّ قَال: قَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «هَل أَتَيْتُمْ مَسْجِدَ قُبَاءَ أَوْ مَسْجِدَ الفَضِيخِ أَوْ مَشْرَبَةَ أُمِّ إِبْرَاهِيمَ»،قُلتُ: نَعَمْ. قَال: «أَمَا إِنَّهُ لمْ يَبْقَ مِنْ آثَارِ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) شَيْ ءٌ إِلا وقَدْ غُيِّرَ غَيْرَ هَذَا»(2).

ص: 337


1- الكافي: ج 2 ص291 باب في أصول الكفر وأركانه ح9.
2- الكافي: ج 4 ص561 باب إتيان المشاهد وقبور الشهداء ح5.

خيار الناس

اشارة

عن الإمام الحسن (عليه السلام) عن أمه فاطمة (عليها السلام) ابنة رسول الله (صلى الله عليه وآله): «خياركم ألينكم مناكبه، وأكرمهم لنسائهم»(1).

-----------------------

اللين المطلق

مسألة: ينبغي(2) أن يكون الإنسان ليناً، وأن تكون أطرافه لينة(3)، فلا ينظر شزراً، ولا ينطق بجارح القول، ولا يضرب بيده زوجته وأولاده ومن أشبه، ولا يهين حتى بحركاته أو بالإشارة أحداً، وهكذا.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إن المؤمن ليدرك بالحلم واللين درجة العابد المتهجد»(4).

بل قال (صلى الله عليه وآله): «وعادئم الإيمان اللين والعدل، وتحقيق الإيمانإكرام ذي الفقه»(5).

ص: 338


1- دلائل الإمامة: ص76 وفيه: خِيَارُكُمْ أَليَنُكُمْ مَنَاكِبَ، وَ أَكْرَمُهُمْ لنِسَائِهِمْ.
2- وهو أعم من الواجب والمستحب كما سبق أن ذكره الإمام المؤلف (قدس سره).
3- إذ المناكب بمعنى الأطراف، قال تعالى: (فامشوا في مناكبها).
4- مستدرك الوسائل: ج11 ص288 ب26 ح13047.
5- مستدرك الوسائل: ج12 ص419 ب31 ح14491.

فإن الليّن يرضخ في نفسه للحق أولاً، ويتعامل مع الناس بشكل أفضل ثانياً، وهذا يوجب حفظ إيمانه بعدم ظلمه للغير أو حتى لنفسه، كما يوجب سعادته في الدنيا والآخرة.

قال تعالى: «فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لنْتَ لهُمْ وَ لوْ كُنْتَ فَظًّا غَليظَ القَلبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لهُمْ وَ شاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّل عَلى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلينَ»(1).

ومن مصاديق اللين ما ورد في صفات المؤمن من الهش والبش(2).

ومن الواضح أن المراد اللين أمام الله وأمام عباد الله وأمام العلم وطلبه وأمام العمل ومشاقه، لا اللين في المعاصي والتساهل في ارتكابها، كما هو المشاهد في بعض الناس.

قال تعالى: «مُحَمَّدٌ رَسُول اللهِ وَالذينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلى الكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سيماهُمْ في وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ»(3).

ويظهر من ذلك أنه كلما كانت أطرافالإنسان في جوانحه وجوارجه ألين كان هو الأفضل والأخير(4).

وقال (عليه السلام): «إِنَّ أَهْل الجَنَّةِ كُل مُؤْمِنٍ هَيِّنٍ ليِّنٍ»(5).

ص: 339


1- سورة آل عمران: 159.
2- الكافي: ج 2 ص229 باب المؤمن وعلاماته وصفاته ح1. وفيه: (هَشَّاشٌ بَشَّاشٌ).
3- سورة الفتح: 29.
4- الأخير والأشر لغة بني عامر.
5- عيون الحكم والمواعظ: ص149 ح3273.

وقال (عليه السلام): «بِلينِ الجَانِبِ تَأْنَسُ النُّفُوسُ»(1).

إكرام النساء

مسألة: يستحب أن يكون الإنسان مكرماً لنسائه(2).

فإن إكرام المرأة من علامات خيار خلق الله، فالمرأة مخلوقة لله سبحانه كالرجل، وقد قال سبحانه: «وَلَهنَّ مِثْل الذي عَليْهِنَّ بِالمَعْرُوفِ»(3).

لكن قسماً من الناس يتخذ ضعف المرأة سبباً للاعتداء عليها بمختلف أنحاء الاعتداءات، وظلمها وسحق حقها، وقد أكدت الشريعة على إكرامها وحرمةالاعتداء عليها.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي»(4).

وقال تعالى: «والمُؤْمِنُونَ والمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلياءُ بَعْض»(5).

مضافاً إلى العمومات والإطلاقات الشاملة للذكر والأنثى، قال سبحانه: «وَلقَدْ كَرَّمْنا بَني آدَم»(6).

ص: 340


1- عيون الحكم والمواعظ: ص188 ح3847.
2- والظاهر أن المراد من نسائه الأعم من الزوجة والأخت والبنت وغيرها.
3- سورة البقرة: 228.
4- من لا يحضره الفقيه: ج 3 ص555 باب النوادر ح4908.
5- سورة التوبة: 71.
6- سورة الإسراء: 70.

خير الناس

مسألة: يستحب بيان أن خير الناس ألينهم مناكب وأكرمهم لنسائه، فإن بيان ذلك يسبب سوقهم إلى الخير والسعادة في الدارين، وفي ذلك الأجر العظيم والثواب الجزيل.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): أَوْصَانِي جَبْرَئِيل (عليه السلام) بِالمَرْأَةِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ لا يَنْبَغِي طَلاقُهَا إِلا مِنْ فَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ(1).

وقال (عليه السلام): «عِيَال الرَّجُل أُسَرَاؤُهُ وَأَحَبُّ العِبَادِ إِلى اللهِ عَزَّ وَجَل أَحْسَنُهُمْ صُنْعاً إِلى أُسَرَائِه»(2).

وقَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «كَانَتْ لأَبِي (عليه السلام) امْرَأَةٌ وكَانَتْ تُؤْذِيهِ فَكَانَ يَغْفِرُ لهَا»(3).

وقال الصادق (عليه السلام): «رَحِمَ اللهُ عَبْداً أَحْسَنَ فِيمَا بَيْنَهُ وبَيْنَ زَوْجَتِهِ، فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وجَل قَدْ مَلكَهُ نَاصِيَتَهَا وجَعَلهُالقَيِّمَ عَليْهَا»(4).

ص: 341


1- الكافي: ج 5 ص512 باب حق المرأة على الزوج ح6.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 3 ص555 باب النوادر ح4909.
3- من لا يحضره الفقيه: ج 3 ص441 باب حق المرأة على الزوج ح4528.
4- من لا يحضره الفقيه: ج 3 ص443 باب حق المرأة على الزوج ح4537.

اهتمام الإسلام بالمرأة

مسألة: يستحب بيان مدى اهتمام الإسلام بالمرأة، بحيث إن الرسول (صلى الله عليه وآله) كما روته الصديقة الطاهرة (عليها السلام) اعتبر أن خيار المسلمين هم أكرمهم لنسائهم، كما قال: «عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) قَال: «حُبِّبَ إِليَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ النِّسَاءُ والطِّيبُ وجُعِل قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاةِ»(1).

ثم إن الإنسان لو كان لين المناكب، مكرماً لنسائه(2) كان ذلك سبباً في تجنيبه معاصي كثيرة، فإن كثيراً من المعاصي تنشأ من عنف أطراف الإنسان أو من عدم إكرامه لنسائه، ولعل ذلك من وجوه قوله (صلى الله عليه وآله): «خياركم ألينكم...».

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «اتَّقُوا اللهَ فِي الضَّعِيفَيْنِ يَعْنِي بِذَلكَ اليَتِيمَ والنِّسَاءَ»(3).وقال الإمام الباقر (عليه السلام): «مَنِ اتَّخَذَ امْرَأَةً فَليُكْرِمْهَا»(4).

ص: 342


1- وسائل الشيعة: ج 2 ص144 ب89 باب استحباب التطيب ح12.
2- فكيف لو كان الألين مناكب والأكرم لنسائه.
3- الكافي: ج 5 ص511 باب حق المرأة على الزوج ح3.
4- وسائل الشيعة: ج 5 ص61 ب32 باب استحباب اتخاذ النعلين واستجادتهما ح4.

شرار الأمة

اشارة

عن فاطمة (عليها السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله): «شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم، الذي يأكلون ألوان الطعام، ويلبسون ألوان الثياب، ويتشدقون في الكلام»(1).

----------------------

أقول: المراد بهم المترفون الذين لا يبالون بالشرع، من حكام وسياسيين وتجار وغيرهم، أي الذين يتنعمون بنعم الله تعالى ثم لا يطيعونه ولا يشكرون نعمه ويعصونه بلسانهم وكلامهم.

من مسؤوليات العظيم

مسألة: يستحب للعظيم ولمن يُتخذ أسوة بيان خيار الناس وشرارهم، بمعنى توضيح المقاييس لهم والضوابط والعلامات والأدلة، وذلك بنحو القضية الحقيقية، وأما بنحو القضية الخارجية بتحديد المصاديق فإنه يختلف باختلاف الحالات والظروف واللوازم المترتبة والأهم والمهم، فقد يجب وقد يحرم.قَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (صَلوَاتُ اللهِ عَليْهِ): «ليْسَ عَلى الإِمَامِ إِلا مَا حُمِّل مِنْ أَمْرِ

ص: 343


1- عوالم العلوم: ج 11 قسم2 ص910 ب78 كلامها (عليها السلام) في شرار الأُمة ح166.

رَبِّهِ، الإِبْلاغُ فِي المَوْعِظَةِ، والاجْتِهَادُ فِي النَّصِيحَةِ، والإِحْيَاءُ للسُّنَّةِ، وإِقَامَةُ الحُدُودِ عَلى مُسْتَحِقِّيهَا، وإِصْدَارُ السُّهْمَانِ عَلى أَهْلهَا»(1).

صفات الأشرار

مسألة: يكره الاتصاف بصفات الشرار من رذائل الأخلاق غير المحرمة، أما المحرمة منها فلا يجوز الاتصاف بها(2).

والمستفاد عرفاً من هذه الأوصاف لشرار الأمة كراهتها، كما أنه قد يستفاد من ذكر الملزوم حكم اللازم أو العكس، وكما قد يستفاد من ذكر الخاص العموم لفهم الملاك، كما أن العموم قد يستفاد منه الخصوص.

ولا يخفى أن كون هذه صفات الشرار، إما بمعنى أنهم غالباً كذلك، أو أنه بنحو المقتضي.

كما أن من الواضح أن التغذية بالنعيم وأكل ألوان الطعام ولبس ألوان الثياب والتكلم بكلام الحق فيمالم يكن محرماً أو مكروهاً في أحد الأمور المذكورة، ليس في حد ذاته من صفات الأشرار، قال تعالى: «قُل مَنْ حَرَّمَ زينَةَ اللهِ التي أَخْرَجَ لعِبادِهِ والطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ»(3).

نعم الإيثار مستحب وفضيلة وأية فضيلة، وكذا المواساة، وكذلك التخلي عن تلك الملاذ إذا اقتضاه الجهاد أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو اقتضاه

ص: 344


1- نهج البلاغة، الخطبة: 105.
2- مثل الاتصاف بصفة سوء الظن بالله ورسله، واليأس من روح الله تعالى.
3- سورة الأعراف: 32.

كونه أسوة وقدوة، أو كي يكون تأثيره في الناس أكثر لجلبهم إلى طريق الخير والصلاح، فإن الناس من طبعهم الالتفاف حول الزهاد المعرضين عن الدين، وقد بينا ذلك في بعض كتبنا.

قَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (صَلوَاتُ اللهِ عَليْهِ): «تَخَلقُوا بِالفَضْل والكَفِّ عَنِ البَغْيِ، والعَمَل بِالحَقِّ، والإِنْصَافِ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، واجْتِنَابِ الفَسَادِ، وإِصْلاحِ المَعَادِ»(1).

التشدق في الكلام

مسألة: التشدق في الكلام حرام، والمراد به الكذب والنميمة والبهتان والطعن واللعن والهمز والغمز واللمزوالوعود الكاذبة والكلمات التحذيرية عن اتباع الحق وما أشبه ذلك، لا مجرد التكلم وإن كان بلغو الكلام، نعم ليس لغو الكلام من صفات المتقين.

كَانَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (صلوات الله عليه) يَقُول: «إِيَّاكُمْ والكَذِبَ، فَإِنَ كُل رَاجٍ طَالبٌ، وكُل خَائِفٍ هَارِبٌ»(2).

وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: «مُحَرَّمَةٌ الجَنَّةُ عَلى القَتَّاتِينَ المَشَّاءِينَ بِالنَّمِيمَةِ»(3).

وقَال أَبُو الحَسَنِ (صلوات الله عليه): «مَنْ ذَكَرَ رَجُلا مِنْ خَلفِهِ بِمَا هُوَ فِيهِ مِمَّا

ص: 345


1- عيون الحكم والمواعظ: ص202 ح4097.
2- الكافي: ج 2 ص343 باب الكذب ح21.
3- الكافي: ج 2 ص369 باب النميمة ح2.

عَرَفَهُ النَّاسُ لمْ يَغْتَبْهُ، ومَنْ ذَكَرَهُ مِنْ خَلفِهِ بِمَا هُوَ فِيهِ مِمَّا لا يَعْرِفُهُ النَّاسُ اغْتَابَهُ، ومَنْ ذَكَرَهُ بِمَا ليْسَ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَهُ»(1).

من مكروهات الأكل

مسألة: يكره أكل ألوان الطعام بحيث يكون همّ الإنسان ذلك.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «أَأَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَال هَذَا أَمِيرُالمُؤْمِنِينَ وَلا أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِهِ الدَّهْرِ، أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لهُمْ فِي جُشُوبَةِ العَيْشِ، فَمَا خُلقْتُ ليَشْغَلنِي أَكْل الطَّيِّبَاتِ كَالبَهِيمَةِ المَرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلفُهَا، أَوِ المُرْسَلةِ شُغُلهَا تَقَمُّمُهَا، تَكْتَرِشُ مِنْ أَعْلافِهَا وَتَلهُو عَمَّا يُرَادُ بِهَا»(2).

من مكروهات الثياب

مسألة: يكره لبس ألوان الثياب بحيث يكون همّ الإنسان ذلك، فإن شأن الإنسان وقيمته فوق هذه الأمور، قال تعالى: «وَما خَلقْتُ الجِنَّ والإِنْسَ إِلاَّ ليَعْبُدُونَ»(3).

وبشكل عام: الإنسان إذا صار شريراً بسبب صفات فتلك الصفات مكروهة، كما أنه إذا صار خيراً بسبب صفات فإن تلك الصفات بما هي مطلوبة،

ص: 346


1- الكافي: ج 2 ص358 باب الغيبة والبهت ح6.
2- نهج البلاغة، الكتاب: 45 من كتاب له (عليه السلام) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري وكان عامله على البصرة وقد بلغه أنه دعي إلى وليمة قوم من أهلها، فمضى إليها.
3- سورة الذاريات: 56.

فتأمل.

عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنْ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) فِي وَصِيَّتِهِ لهُ: «يَا أَبَا ذَرٍّ، مَنْ رَقَعَ ذَيْلهُ وخَصَفَ نَعْلهُ وعَفَّرَ وَجْهَهُ فَقَدْ بَرِئَ مِنَ الكِبْرِ، يَا أَبَا ذَرٍّ مَنْ كَانَ لهُ قَمِيصَانِ فَليَلبَسْ أَحَدَهُمَا ويُلبِسُ الآخَرَ أَخَاهُ، يَاأَبَا ذَرٍّ مَنْ تَرَكَ الجَمَال وهُوَ يَقْدِرُ عَليْهِ تَوَاضُعاً للهِ كَسَاهُ اللهُ حُلةَ الكَرَامَةِ، يَا أَبَا ذَرٍّ البَسِ الخَشِنَ مِنَ اللبَاسِ والصَّفِيقَ مِنَ الثِّيَابِ لئَلا يَجِدَ الفَخْرُ فِيكَ مَسْلكَهُ»(1).

وعَنْ عَليٍّ (عليه السلام) فِي حَدِيثِ الأَرْبَعِمِائَةِ، قَال: «عَليْكُمْ بِالصَّفِيقِ مِنَ الثِّيَابِ، فَإِنَّ مَنْ رَقَ ثَوْبُهُ رَقَّ دِينُهُ، لا يَقُومَنَّ أَحَدُكُمْ بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ جَل جَلالهُ وعَليْهِ ثَوْبٌ يَشِفُّ»(2).

ص: 347


1- وسائل الشيعة: ج 5 ص54 ب29 باب استحباب لبس الثوب الغليظ والخلق في البيت لا بين الناس ورقع الثوب وخصف النعل ح5.
2- وسائل الشيعة: ج 5 ص29 ب16 باب استحباب لبس الكتان والصفيق من الثياب وكراهة لبس ثوب يشف ح2.

فضل علماء الشيعة

اشارة

حضرت امرأة عند الصديقة فاطمة الزهراء (عليها السلام) فقالت: إن لي والدة ضعيفة، وقد لبس عليها في أمر صلاتها شيء، وقد بعثتني إليك أسألك، فأجابتها فاطمة (عليها السلام) عن ذلك، ثم ثنت فأجابت، ثم ثلثت إلى أن عشرت فأجابت، ثم خجلت من الكثرة، فقالت: لا أشق عليك يا بنت رسول الله.

قالت فاطمة (عليها السلام): هاتي وسلي عما بدا لك، أرأيت من اكترى يوماً يصعد إلى سطح بحمل ثقيل، وكراه مائة ألف دينار، أيثقل عليه؟

فقالت: لا.

فقالت: اكتريت أنا لكل مسألة بأكثر من مل ء ما بين الثرى إلى العرش لؤلؤاً، فأحرى أن لا يثقل علي، سمعت أبي (صلى الله عليه وآله) يقول:

«إن علماء شيعتنا يحشرون فيخلع(1)

عليهم من خلع الكرامات على قدر كثرة علومهم، وجدّهم في إرشاد عباد الله، حتى يخلع على الواحد منهم ألف ألف حلة من نور، ثم ينادي منادي ربنا عزوجل:

أيها الكافلون لأيتام آل محمد، الناعشون لهم عند انقطاعهم عن آبائهم الذين هم أئمتهم، هؤلاء تلامذتكم والأيتام الذين كفلتموهم ونعشتموهم،

ص: 348


1- الظاهر أن ذلك في ساحة المحشر، حيث الناس بأشد الحاجة إلى نسائم الرحمة والكرامات، لا في الجنة.

فاخلعوا عليهم خلع العلوم في الدنيا.

فيخلعون على كل واحد من أولئك الأيتام على قدر ما أخذوا عنهم من العلوم حتى إن فيهم - يعني في الأيتام - لمن يخلع عليه مائة ألف خلعة، وكذلك يخلع هؤلاء الأيتام على من تعلم منهم.

ثم إن الله تعالى يقول: أعيدوا على هؤلاء العلماء الكافلين للأيتام حتى تتموا لهم خلعهم وتضعفوها، فيتم لهم ما كان لهم قبل أن يخلعوا عليهم، ويضاعف لهم، وكذلك من بمرتبتهم ممن يخلع على من يليهم».

وقالت فاطمة (عليها السلام): «يا أمة الله إن سلكاً من تلك الخلع لأفضل مما طلعت عليه الشمس ألف ألف مرة، وما فضل فإنه مشوب بالتنغيص والكدر»(1).

--------------------------

توضيح الحديث

أقول: المراد ب (ثنّت ثم ثلثت) أي سألت مسألة ثانية وثالثة وهكذا في نفس المجلس، ويحتمل أنها جاءت مرة ثم أخرى وهكذا، واحتمل البعض أنها سألت وكررت السؤال عدة مرات.

قوله: ألف ألف حلة، الظاهر أنه لا تزاحم في الآخرة بين العطايا، عكس الدنيا، وذلك من خصوصيات الآخرة، فإنهذه المليون حلية من نور مثلاً ستكون كلها مفيدة نافعة له بالفعل، ويكون لبسها جميعاً مما يوصل له فائدتها

ص: 349


1- بحار الأنوار: ج 2 ص3 ب8 ثواب الهداية والتعليم وفضلهما وفضل العلماء وذم إضلال الناس ح3.

أجمع من غير حدوث تضايق أو تزاحم.

فائدة:

الظاهر أن الله تعالى جعل بعض أمور الآخرة كالدنيا في الجملة من حيث حفظ المراتب ومراعاة التسلسل في الرتب: الأولى فالأولى والأمثل فالأمثل، ولذلك خلع العلماء على من تعلم منهم، ثم خلع هؤلاء التلاميذ على تلامذتهم أي تلامذة التلاميذ، وهكذا، وتفصيل البحث في مظانه.

المرأة وأحكام النساء

مسألة: الظاهر أن الأفضل رجوع المرأة إلى المرأة في مسائلها ومختلف شؤونها، فإنه أقرب للتقوى وأستر لها، وأحفظ على الحياء والحشمة، إلا لو تعذر ذلك أو تعسر، ولعل لذلك حضرت تلك المرأة عند الصديقة الطاهرة (عليها السلام).

وقد مر في حديث أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) سأل أي شيء خير للمرأة، فقالت (صلوات الله عليها): «أن لا ترى رجلاً،ولا يراها رجل»، فضمها إليه وقال: «ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ»(1)»(2).

وعَنْ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «أَنَّهُ نَهَى النِّسَاءَ أَنْ يَنْظُرْنَ إِلى الرِّجَال، وَأَنْ يَخْرُجْنَ مِنْ بُيُوتِهِنَّ إِلا بِإِذْنِ أَزْوَاجِهِنَّ، وَنَهَى أَنْ يَدْخُلنَ الحَمَّامَاتِ إِلا مِنْ

ص: 350


1- سورة آل عمران: 34.
2- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام): ج 3 ص341 فصل في سيرتها.

عُذْرٍ، وَقَال: أَيُّمَا امْرَأَةٍ وَضَعَتْ خِمَارَهَا فِي غَيْرِ بَيْتِ زَوْجِهَا فَقَدْ هَتَكَتْ حِجَابَهَا»(1).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يَا حَوْلاءُ لا يَحِل لامْرَأَةٍ أَنْ تُدْخِل بَيْتَهَا مَنْ قَدْ بَلغَ الحُلمَ، ولا تَمْلأَ عَيْنَهَا مِنْهُ، ولا عَيْنَهُ مِنْهَا، ولا تَأْكُل مَعَهُ ولا تَشْرَبَ إِلا أَنْ يَكُونَ مَحْرَماً عَليْهَا، وذَلكَ بِحَضْرَةِ زَوْجِهَا» الخَبَر(2).

السؤال عما فيه اللبس

مسألة: يجب السؤال عما يحتمل حصولاللبس به من المسائل المحتاج إليها.

عَنْ جَابِرٍ الجُعْفِيِّ قَال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُول: «إِنَّ عَليّاً (عليه السلام) كَانَ يَقُول: اقْتَرِبُوا اقْتَرِبُوا وَاسْأَلوا، فَإِنَّ العِلمَ يُقْبَضُ قَبْضاً، وَيَضْرِبُ بِيَدِهِ عَلى بَطْنِهِ وَيَقُول: أَمَا وَاللهِ مَا هُوَ مَمْلوٌّ شَحْماً وَلكِنَّهُ مَمْلوٌّ عِلماً، وَاللهِ مَا مِنْ آيَةٍ نَزَلتْ فِي رَجُل مِنْ قُرَيْشٍ وَلا فِي الأَرْضِ فِي بَرٍّ وَلا بَحْرٍ وَلا سَهْل وَلا جَبَل إِلا أَنَا أَعْلمُ فِيمَنْ نَزَلتْ وَفِي أَيِّ يَوْمٍ وَفِي أَيِّ سَاعَةٍ نَزَلتْ»(3).

ص: 351


1- مستدرك الوسائل: ج 14 ص280 ب90 باب جملة مما يحرم على النساء و ما يكره لهن و ما يسقط عنهن ح3.
2- مستدرك الوسائل: ج 14 ص290 ب100 باب تحريم رؤية المرأة الرجل الأجنبي وإن كان أعمى ح4.
3- بحار الأنوار: ج1 ص186 ب1 ح112.

الجهل التقصيري

مسألة: إذا لم يسأل المكلف تقصيراً فارتكب الحرام أو ترك الواجب وهو لا يعلم حينها أثم، فإن الجهل عن تقصير غير مرفوع.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «الجهل يفسد المعاد»(1).

فائدة:

يظهر من قول الصديقة (صلوات الله عليها) هذا وبعض نظائره أنها (عليها السلام) كانت قد تركت وقتاً مفتوحاً للإجابة على أسئلة السائلين، وعلينا التأسي في ذلك قدر المستطاع.

وهذا من مصاديق قضاء حوائج المؤمنين أيضاً وهو مستحب مؤكد.

عَنْ رَجُل مِنْ حُلوَانَ قَال: كُنْتُ أَطُوفُ بِالبَيْتِ فَأَتَانِي رَجُل مِنْ أَصْحَابِنَا فَسَأَلنِي قَرْضَ دِينَارَيْنِ وَ كُنْتُ قَدْ طُفْتُ خَمْسَةَ أَشْوَاطٍ، فَقُلتُ لهُ: أُتِمُّ أُسْبُوعِي ثُمَّ أَخْرُجُ، فَلمَّا دَخَلتُ فِي السَّادِسِ اعْتَمَدَ عَليَّ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه

السلام) وَوَضَعَ يَدَهُ عَلى مَنْكِبِي، قَال: فَأَتْمَمْتُ سَبْعِي وَدَخَلتُ فِي الآخَرِ لاعْتِمَادِ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) عَليَّ فَكُنْتُكُلمَا جِئْتُ إِلى الرُّكْنِ أَوْمَأَ إِليَّ الرَّجُل، فَقَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «مَنْ كَانَ هَذَا يُومِئُ إِليْكَ»، قُلتُ: جُعِلتُ فِدَاكَ هَذَا رَجُل مِنْ مَوَاليكَ سَأَلنِي قَرْضَ دِينَارَيْنِ قُلتُ أُتِمُّ أُسْبُوعِي وَأَخْرُجُ إِليْكَ، قَال: فَدَفَعَنِي أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) وَقَال: «اذْهَبْ فَأَعْطِهِمَا إِيَّاهُ»، قَال: فَظَنَنْتُ أَنَّهُ قَال فَأَعْطِهِمَا

ص: 352


1- غرر الحكم ودرر الكلم: ص77 ح1187.

إِيَّاهُ لقَوْلي قَدْ أَنْعَمْتُ لهُ، فَلمَّا كَانَ مِنَ الغَدِ دَخَلتُ عَليْهِ وَعِنْدَهُ عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا يُحَدِّثُهُمْ، فَلمَّا رَآنِي قَطَعَ الحَدِيثَ وَقَال: «لأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخٍ لي فِي حَاجَةٍ حَتَّى أَقْضِيَ لهُ أَحَبُّ إِليَّ مِنْ أَنْ أُعْتِقَ أَلفَ نَسَمَةٍ وَأَحْمِل عَلى أَلفِ فَرَسٍ فِي سَبِيل اللهِ مُسْرَجَةٍ مُلجَمَةٍ»(1).

إنعاش الأيتام

مسألة: يستحب لمن تكفل الأيتام أن ينعشهم، فإن إنعاشهم من أعلى مراتب الكفالة، وإنعاش الضعيف هو تقويته وأن تقيمه وتنهضه من عثرته وكبوته كاملاً.

عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ قَال: جَاءَ إِلى أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) عَسَلوتِينٌ مِنْ هَمْدَانَ وحُلوَانَ، فَأَمَرَ العُرَفَاءَ أَنْ يَأْتُوا بِاليَتَامَى، فَأَمْكَنَهُمْ مِنْ رُءُوسِ الأَزْقَاقِ يَلعَقُونَهَا وهُوَ يَقْسِمُهَا للنَّاسِ قَدَحاً قَدَحاً، فَقِيل لهُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ مَا لهُمْ يَلعَقُونَهَا، فَقَال: «إِنَّ الإِمَامَ أَبُو اليَتَامَى وإِنَّمَا أَلعَقْتُهُمْ هَذَا بِرِعَايَةِ الآبَاءِ»(2).

وقَال (صلى الله عليه وآله): «يَا عَليُّ أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ بَنَى اللهُ لهُ بَيْتاً فِي الجَنَّةِ، مَنْ آوَى اليَتِيمَ ورَحِمَ الضَّعِيفَ وأَشْفَقَ عَلى وَالدَيْهِ ورَفَقَ بِمَمْلوكِه»(3).

ص: 353


1- مستدرك الوسائل: ج 9 ص402 ب29 باب جواز قطع الطواف المندوب مطلقا والواجب بعد تجاوز النصف لحاجة واستحباب القطع لقضاء حاجة المؤمن ونحوها ح3.
2- الكافي: ج 1 ص406 باب ما يجب من حق الإمام على الرعية وحق الرعية على الإمام ح5.
3- وسائل الشيعة: ج 16 ص338 ب19 باب استحباب رحمة الضعيف وإصلاح الطريق وإيواء اليتيم والرفق بالمملوك ح1.

وَقَال الإِمَامُ (عليه السلام): «وَأَمَّا قَوْلهُ عَزَّ وجَل: «وَاليَتَامَى»(1) فَإِنَّ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) قَال: حَثَّ اللهُ عَزَّ وجَل عَلى بِرِّ اليَتَامَى لانْقِطَاعِهِمْ عَنْ آبَائِهِمْ، فَمَنْ صَانَهُمْ صَانَهُ اللهُ، ومَنْ أَكْرَمَهُمْ أَكْرَمَهُ اللهُ، ومَنْ مَسَحَ يَدَهُ بِرَأْسِ يَتِيمٍ رِفْقاً بِهِ جَعَل اللهُ لهُ فِي الجَنَّةِ بِكُل شَعْرَةٍ مَرَّتْ تَحْتَ يَدِهِ قَصْراً، أَوْسَعَ مِنَ الدُّنْيَا بِمَا فِيهَا،وفِيهَا مَا تَشْتَهِي الأَنْفُسُ وتَلذُّ الأَعْيُنُ، وهُمْ فِيهَا خَالدُونَ»(2).

الأساتذة وطلب الأسئلة

مسألة: يستحب للمعلمين والأساتذة طلب مزيد الأسئلة من المتعلمين، وذلك تأسياً بالصديقة (صلوات الله عليها)، على عكس ما يظهره بعض المعلمين أو من أشبه من التضجر لكثرة الأسئلة.

قال الإمام زين العابدين (عليه السلام): «وأَمَّا حَقُّ رَعِيَّتِكَ بِالعِلمِ، فَأَنْ تَعْلمَ أَنَّ اللهَ عَزَّ وجَل إِنَّمَا جَعَلكَ قَيِّماً عَليْهِمْ فِيمَا آتَاكَ مِنَ العِلمِ وفَتَحَ لكَ مِنْ خِزَانَتِهِ، فَإِنْ أَحْسَنْتَ فِي تَعْليمِ النَّاسِ ولمْ تَخْرَقْ بِهِمْ ولمْ تَضْجَرْ عَليْهِمْ زَادَكَ اللهُ مِنْ فَضْلهِ، وإِنْ أَنْتَ مَنَعْتَ النَّاسَ عِلمَكَ أَوْ خَرِقْتَ بِهِمْ عِنْدَ طَلبِهِمُ العِلمَ مِنْكَ، كَانَ حَقّاً عَلى اللهِ عَزَّ وجَل أَنْ يَسْلبَكَ العِلمَ وبَهَاءَهُ ويُسْقِطَ مِنَ القُلوبِ مَحَلك»(3).

ص: 354


1- سورة البقرة: 83.
2- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): ص338 ح213.
3- وسائل الشيعة: ج 15 ص174 ب3 باب جملة مما ينبغي القيام به من الحقوق الواجبة والمندوبة ح1.

تعليل الأحكام

مسألة: يستحب تعليل الأحكام والمواقف والأوامر والنواهي ببيان وجهها في الجملة بما يقنع السائل أو السامع أو المنقول إليه وإن لم يتطلب السائل ذلك، كما صنعت الصديقة (صلوات الله عليها) إذ عللت إذنها بل طلبها لأن تسأل تلك المرأة منها بقولها: «أرأيت ...».

ومنه ما ورد بيان حِكَم الأحكام أو عللها، كما في مثل (علل الشرائع) للشيخ الصدوق (رضوان الله عليه).

عَنِ الحُسَيْنِ بْنِ خَالدٍ الصَّيْرَفِيِّ قَال: سَأَلتُ أَبَا الحَسَنِ الأَوَّل (عليه السلام) كَيْفَ صَارَ غُسْل الجُمُعَةِ وَاجِباً، فَقَال: «إِنَّ اللهَ تَعَالى أَتَمَّ صَلاةَ الفَرِيضَةِ بِصَلاةِ النَّافِلةِ، وأَتَمَّ صِيَامَ الفَرِيضَةِ بِصِيَامِ النَّافِلةِ، وأَتَمَّ وُضُوءَ الفَرِيضَةِ بِغُسْل الجُمُعَةِ، مَا كَانَ فِي ذَلكَ مِنْ سَهْوٍ أَوْ تَقْصِيرٍ أَوْ نِسْيَانٍ»(1).

وعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ آبَائِهِ (عليهم

السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «المَاءُ الذِي تُسْخِنُهُ الشَّمْسُ لا تَتَوَضَّئُوا بِهِ ولا تَغْتَسِلوا ولاتَعْجِنُوا بِهِ، فَإِنَّهُ يُورِثُ البَرَص»(2).

ص: 355


1- تهذيب الأحكام: ج 1 ص366 ب17 باب الأغسال وكيفية الغسل من الجنابة ح4.
2- مستدرك الوسائل: ج 1 ص212 ب4 باب كراهة الطهارة بماء أسخن بالشمس في الآنية وأن يعجن به ح1.

إجابة السائل

مسألة: يستحب إجابة السائل على مسائله وإن سأل عشر مرات عن المسألة نفسها أو غيرها بدون استثقال وتبرم، فإن الجواب من الخير، وزيادة الخير مزيد خير.

وهذا عام يشمل المسائل الشرعية، وإجابة الشبهات الفكرية والعقائدية، وبيان المسائل الأخلاقية، بل وحتى ما يحتاجه المؤمن لشؤون دنياه، كالجواب على أسئلته الطبية وغيرها، لكن هذا الأخير بالملاك، فإن ظاهر الحديث ما يتعلق بشؤون الدين، نعم ربما يقال مورد الحديث ذلك والمورد لا يخصص الوارد، فتأمل.

وهذا يكون في الجواب المستحب، وربما كان الجواب بل الابتداء بالتعليم واجباً، قال تعالى: «فَسْأَلوا أَهْل الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلمُونَ»(1).

وقال سبحانه: «ليَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ ليُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِليْهِمْ لعَلهُمْ يَحْذَرُونَ»(2).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «وَمَا أَخَذَ اللهُ عَلى العُلمَاءِ أَلا يُقَارُّواعَلى كِظَّةِ ظَالمٍ وَلا سَغَبِ مَظْلوم»(3).

فإن العالم ملزم بأمرين: بيان المسائل أصولاً وفروعاً، ودفع الظلم عن

ص: 356


1- سورة النحل: 43، سورة الأنبياء: 7.
2- سورة التوبة: 122.
3- نهج البلاغة، الخطبة: 3.

المظلومين قولاً وعملاً، كما في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام).

قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «سَائِلوا العُلمَاءَ وخَالطُوا الحُكَمَاءَ وجَالسُوا الفُقَرَاء»(1).

وقَال مُحَمَّدُ بْنُ عَليٍّ (عليهما السلام): «إِنَ مَنْ تَكَفَّل بِأَيْتَامِ آل مُحَمَّدٍ المُنْقَطِعِينَ عَنْ إِمَامِهِمْ، المُتَحَيِّرِينَ فِي جَهْلهِمْ، الأُسَرَاءِ فِي أَيْدِي شَيَاطِينِهِمْ، وفِي أَيْدِي النَّوَاصِبِ مِنْ أَعْدَائِنَا، فَاسْتَنْقَذَهُمْ مِنْهُمْ، وأَخْرَجَهُمْ مِنْ حَيْرَتِهِمْ، وقَهَرَ الشَّيَاطِينَ بِرَدِّ وَسَاوِسِهِمْ، وقَهَرَ النَّاصِبِينَ بِحُجَجِ رَبِّهِمْ ودَليل أَئِمَّتِهِمْ، ليُفَضَّلونَ عِنْدَ اللهِ تَعَالى عَلى العَابِدِ بِأَفْضَل المَوَاقِعِ بِأَكْثَرَ مِنْ فَضْل السَّمَاءِ عَلى الأَرْضِ، والعَرْشِ والكُرْسِيِّ والحُجُبِ عَلى السَّمَاءِ، وفَضْلهُمْ عَلى هَذَا العَابِدِ كَفَضْل القَمَرِ ليْلةَ البَدْرِ عَلى أَخْفَى كَوْكَبٍ فِي السَّمَاءِ»(2).

ثواب إجابة السؤال

مسألة: يستحب بيان أن لمجيب المسائل ثواباً جزيلاً، ويستحب ذكر أنواع المثوبات ليكون أقوى في تشيجع الناس على جواب الإسئلة والشبهات.

عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: «مَنْ عَلمَ بَابَ هُدًى فَلهُ مِثْل أَجْرِ مَنْ عَمِل بِهِ، ولا يُنْقَصُ أُولئِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئاً، ومَنْ عَلمَ بَابَ ضَلال كَانَ عَليْهِ مِثْل أَوْزَارِ مَنْ عَمِل بِهِ، ولا يُنْقَصُ أُولئِكَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئاً»(3).

ص: 357


1- النوادر، للراوندي: ص26 في العلم والحكمة والعلماء.
2- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): ص344 ح224.
3- الكافي: ج 1 ص35 باب ثواب العالم والمتعلم ح4.

وعَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ قَال: قَال لي أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «مَنْ تَعَلمَ العِلمَ وعَمِل بِهِ وعَلمَ للهِ دُعِيَ فِي مَلكُوتِ السَّمَاوَاتِ عَظِيماً، فَقِيل: تَعَلمَ للهِ وعَمِل للهِ وعَلمَ للهِ»(1).

وقَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (صَلوَاتُ اللهِ عَليْهِ): تَعَلمْ عِلمَ مَنْ يَعْلمُ، وعَلمْ عِلمَكَ مَنْ يَجْهَل، فَإِذَا فَعَلتَ ذَلكَ عَلمَكَ مَا جَهِلتَ، وانْتَفَعْتَ بِمَا عَلمْت»(2).

الإكثار في طلب العلم

مسألة: يستحب الإكثار من طلب العلم، فإن العلم نور، وقد فضل الله العالم على العابد بدرجات كثيرة وكبيرة كماً وكيفاً.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَنْ تَعَلمَ حَدِيثَيْنِ اثْنَيْنِ يَنْفَعُ بِهِمَا نَفْسَهُ أَوْ يُعَلمُهُمَا غَيْرَهُ فَيَنْتَفِعُ بِهِمَا كَانَ خَيْراً مِنْ عِبَادَةِ سِتِّينَ سَنَة»(3).

وقال (صلى الله عليه وآله): «تَذَاكَرُوا وَتَلاقَوْا وَتَحَدَّثُوا، فَإِنَّ الحَدِيثَ جِلاءُ القُلوبِ، إِنَّ القُلوبَ لتَرِينُ كَمَا يَرِينُ السَّيْفُ، وَجِلاؤُهُ الحَدِيثُ»(4).

وعَنْ مَنْصُورٍ الصَّيْقَل قَال: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) يَقُول: «تَذَاكُرُ العِلمِ دِرَاسَةٌ، والدِّرَاسَةُ صَلاةٌ حَسَنَةٌ»(5).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «إِنَّ هَذَا العِلمَ عَليْهِ قُفْل، ومِفْتَاحُهُ

ص: 358


1- الكافي: ج 1 ص35 باب ثواب العالم والمتعلم ح6.
2- تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: ص44 ح128.
3- بحار الأنوار: ج 2 ص152 ب19 فضل كتابة الحديث وروايته ح44.
4- بحار الأنوار: ج 2 ص152 ب19 فضل كتابة الحديث وروايته ح45.
5- الكافي: ج 1 ص41 باب سؤال العالم وتذاكره ح9.

المَسْأَلةُ»(1).

الإرشاد إلى التكاليف

مسألة: يستحب إرشاد عباد الله إلى تكاليفهم، وقد يجب.

وفي الحديث: «إذا ظهرت البدع في أمتي فليظهر العالم علمه فمن لم يفعل فعليه لعنة الله»(2).

قَال عَليُّ بْنُ الحُسَيْنِ (عليه السلام): «أَوْحَى اللهُ تَعَالى إِلى مُوسَى (عليه السلام): حَبِّبْنِي إِلى خَلقِي وحَبِّبْ خَلقِي إِليَّ. قَال: يَا رَبِّ كَيْفَ أَفْعَل، قَال: ذَكِّرْهُمْ آلائِي ونَعْمَائِي ليُحِبُّونِي، فَلأَنْ تَرُدَّ آبِقاً عَنْ بَابِي أَوْ ضَالا عَنْ فِنَائِي أَفْضَل لكَ مِنْ عِبَادَةِ مِائَةِ سَنَةٍ بِصِيَامِ نَهَارِهَا وقِيَامِ ليْلهَا.

قَال مُوسَى (عليه السلام): ومَنْ هَذَا العَبْدُ الآبِقُ مِنْكَ، قَال: العَاصِي المُتَمَرِّدُ، قَال: فَمَنِ الضَّال عَنْ فِنَائِكَ، قَال: الجَاهِل بِإِمَامِ زَمَانِهِ تُعَرِّفُهُ، والغَائِبُ عَنْهُ بَعْدَ مَا عَرَفَهُ، الجَاهِل بِشَرِيعَةِ دِينِهِ تُعَرِّفُهُ شَرِيعَتَهُ ومَا يَعْبُدُبِهِ رَبَّهُ ويَتَوَصَّل بِهِ إِلى مَرْضَاتِه»(3).

وفي حَدِيثِ الأَرْبَعِمِائَةِ قَال (عليه السلام): «عَلمُوا صِبْيَانَكُمُ الصَّلاةَ وخُذُوهُمْ بِهَا إِذَا بَلغُوا ثَمَانِيَ سِنِينَ»(4).

ص: 359


1- الكافي: ج 1 ص40 باب سؤال العالم وتذاكره ح3.
2- الكافي: ج 1 ص54 باب البدع والرأي والمقاييس ح2.
3- مستدرك الوسائل: ج 12 ص240 ب18 باب استحباب الدعاء إلى الإيمان والإسلام مع رجاء القبول وعدم الخوف ح6.
4- وسائل الشيعة: ج 4 ص21 ب3 باب استحباب أمر الصبيان بالصلاة لست سنين أو سبع ووجوب إلزامهم بها عند البلوغ ح8.

تعليم الجاهل وتكفله

مسألة: يستحب تكفل العالم تعليم الجاهل، وقد روت الصديقة (صلوات الله عليها) عن منادي الله عزوجل أنه ينادي: «أيها الكافلون لأيتام آل محمد...».

ومن المعلوم أن التكفل فوق التعليم، فإن الإنسان قد يعلم جاهلاً مسألة، وقد يتكفل بيان الأحكام له، والكافل لليتيم هو القائم بأمره المربي له، والكافل هو الذي يكفل إنساناً ويعوله، والكفيل هو الضمين، تقول: تكفل برزقه آي ضمنه.

وعلى أي، فالكافلون لأيتام آل محمد يعني المتكفلون بهدايتهم وتعليمهم وصونهم عن الانحراف العقائدي والفكري دفعاً ورفعاً، حدوثاً وبقاءً.

ويأتي هنا ما ذكر من الاستحباب والوجوب.

ثم إن غير العالم ضعيف كاليتيم، فإن الضعف قد يكون مادياً كضعف اليتيم، وقد يكون معنوياً كضعف الجاهل، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «عَوْنُكَ الضَّعِيفَ مِنْ أَفْضَل الصَّدَقَةِ»(1)، كما عبر منادي ربنا عن غير العالم بالأيتام، ووصف علماء الشيعة بأيهاالكافلون لأيتام آل محمد، الناعشون لهم عند انقطاعهم عن آبائهم الذين هم أئمتهم، هؤلاء تلامذتكم والأيتام الذين كفلتموهم ونعشتموهم.

قَال الحَسَينُ بْنُ عَليٍّ (عليهما السلام): «مَنْ كَفَل لنَا يَتِيماً قَطَعَتْهُ عَنَّا مِحْنَتُنَا بِاسْتِتَارِنَا، فَوَاسَاهُ مِنْ عُلومِنَا التِي سَقَطَتْ إِليْهِ حَتَّى أَرْشَدَهُ وهَدَاهُ، قَال اللهُ

ص: 360


1- الكافي: ج 5 ص55 ح2.

عَزَّوجَل لهُ: يَا أَيُّهَا العَبْدُ الكَرِيمُ المُوَاسِي، أَنَا أَوْلى بِالكَرَمِ مِنْكَ»(1).

وقَال عَليُّ بْنُ أَبِي طَالبٍ (عليه السلام): «مَنْ كَانَ مِنْ شِيعَتِنَا عَالماً بِشَرِيعَتِنَا، وأَخْرَجَ ضُعَفَاءَ شِيعَتِنَا مِنْ ظُلمَةِ جَهْلهِمْ إِلى نُورِ العِلمِ الذِي حَبَوْنَاهُ بِهِ، جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ وعَلى رَأْسِهِ تَاجٌ مِنْ نُورٍ، يُضِي ءُ لأَهْل جَمِيعِ تِلكَ العَرَصَاتِ، وعَليْهِ حُلةٌ لا يَقُومُ لأَقَل سِلكٍ مِنْهَا الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا»(2).

الدنيا والتنغيص

مسألة: يستحب الاعتقاد بأن الدنيا ولو ضربت في الآلاف وأعطيت للإنسان، فإنها مشوبة بالتنغيص والكدر، وأن الآخرة هي التي لا نقص فيها ولا يوجد ما يكدر نعيمها، مضافاً إلى كونها باقية حتى الدرجات الضعيفة منها، والدنيا فانية حتى في أقوى مراتب قوتها، قالت الصديقة (عليها السلام): «وما فضل فإنه مشوب بالتنغيص والكدر».

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «مَا أَصِفُ دَاراً أَوَّلهَا عَنَاءٌ وَآخِرُهَا فَنَاءٌ، فِي حَلالهَا حِسَابٌ وَفِي حَرَامِهَا عِقَابٌ، مَنِ اسْتَغْنَى فِيهَا فُتِنَ، وَمَنِ افْتَقَرَ فِيهَا حَزِنَ، وَمَنْ سَاعَاهَا فَاتَتْهُ، وَمَنْ قَعَدَ عَنْهَا آتَتْهُ، وَمَنْ أَبْصَرَ بِهَا بَصَّرَتْهُ، وَمَنْ أَبْصَرَ إِليْهَا أَعْمَتْهُ»(3).

ص: 361


1- مستدرك الوسائل: ج 17 ص319 ب11 باب وجوب الرجوع في القضاء والفتوى إلى رواة الحديث من الشيعة فيما رووه عن الأئمة (عليهم السلام) من أحكام الشريعة لا فيما يقولونه برأيهم ح24.
2- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): ص339 ح215.
3- بحار الأنوار: ج 70 ص120 ب122 حب الدنيا وذمها وبيان فنائها وغدرها بأهلها وختل الدنيا بالدين ح111.

وفي الحديث: «أَوَ لا حُرٌّ يَدَعُ هَذِهِ اللمَاظَةَ لأَهْلهَا، يَعْنِي الدُّنْيَا، فَليْسَ لأَنْفُسِكُمْ ثَمَنٌ إِلا الجَنَّةُ فَلا تَبِيعُوهَا بِغَيْرِهَا، فَإِنَّهُ مَنْ رَضِيَ مِنَ اللهِ بِالدُّنْيَا فَقَدْ رَضِيَ بِالخَسِيسِ»(1).وقال (عليه السلام): «يَا هِشَامُ مَثَل الدُّنْيَا مَثَل مَاءِ البَحْرِ كُلمَا شَرِبَ مِنْهُ العَطْشَانُ ازْدَادَ عَطَشاً حَتَّى يَقْتُلهُ»(2).

وقال (عليه السلام): «يَا هِشَامُ تَمَثَّلتِ الدُّنْيَا للمَسِيحِ (عليه السلام) فِي صُورَةِ امْرَأَةٍ زَرْقَاءَ، فَقَال لهَا: كَمْ تَزَوَّجْتِ، فَقَالتْ: كَثِيراً، قَال: فَكُل طَلقَكِ، قَالتْ: لا بَل كُلا قَتَلتُ، قَال المَسِيحُ (عليه السلام): «فَوَيْحُ أَزْوَاجِكِ البَاقِينَ كَيْفَ لا يَعْتَبِرُونَ بِالمَاضِينَ»(3).

سؤال الجاهل

مسألة: يستحب للجاهل مطلقاً أن يسأل العالم عما لا يعلم، خاصة في الأحكام الشرعية وقد يجب، ثم السؤال إن اقتضى تجشم العناء بسفر أو بذل مال أو غير ذلك كان أجر السائل أعظم، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ يَطْلبُ عِلماً شَيَّعَهُ سَبْعُونَ أَلفَ مَلكٍ يَسْتَغْفِرُونَ لهُ»(4).عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «لسْتُ أُحِبُ أَنْ أَرَى الشَّابَ مِنْكُمْ إِلا

ص: 362


1- بحار الأنوار: ج 1 ص144 ب4 علامات العقل وجنوده ح29.
2- بحار الأنوار: ج 1 ص152 ب4 علامات العقل وجنوده ح29.
3- بحار الأنوار: ج 1 ص152 ب4 علامات العقل وجنوده ح29.
4- الأمالي، للطوسي: ص182 المجلس السابع ح8.

غَادِياً فِي حَاليْنِ: إِمَّا عَالماً أَوْ مُتَعَلماً، فَإِنْ لمْ يَفْعَل فَرَّطَ، فَإِنْ فَرَّطَ ضَيَّعَ، وإِنْ ضَيَّعَ أَثِمَ، وإِنْ أَثِمَ سَكَنَ النَّارَ، والذِي بَعَثَ مُحَمَّداً (صلى الله عليه وآله) بِالحَقِّ»(1).

وعَنْ عَليٍّ (عليه السلام) قَال: «العِلمُ ضَالةُ المُؤْمِنِ»(2).

إرسال من يسأل

مسألة: يستحب لمن لا يتمكن من السؤال مباشرةً أن يبعث من يسأل ما يجهله، وقد يجب ذلك، وإذا توقف ذلك على أجرة استحبت أو وجبت.

عَنْ عَليِّ بْنِ أَبِي طَالبٍ (عليه السلام): «خَمْسَةٌ لوْ رَحَّلتُمْ فِيهِنَّ المَطَايَا لمْ تَقْدِرُوا عَلى مِثْلهِنَّ، لا يَخَافُ عَبْدٌ إِلا ذَنْبَهُ، ولا يَرْجُو إِلا رَبَّهُ، ولا يَسْتَحْيِي الجَاهِل إِذَا سُئِل عَمَّا لا يَعْلمُ أَنْ يَقُول لا أَعْلمُ، ولا يَسْتَحْيِي أَحَدُكُمْ إِذَا لمْ يَعْلمْ أَنْ يَتَعَلمَ، والصَّبْرُ مِنَ الإِيمَانِ بِمَنْزِلةِالرَّأْسِ مِنَ الجَسَدِ، ولا إِيمَانَ لمَنْ لا صَبْرَ لهُ»(3).

ص: 363


1- الأمالي، للطوسي: ص303 المجلس الحادي عشر ح51.
2- عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج 2 ص66 ب31 باب فيما جاء عن الرضا (عليه السلام) من الأخبار المجموعة ح295.
3- عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج 2 ص44 ب31 باب فيما جاء عن الرضا (عليه السلام) من الأخبار المجموعة ح155.

قبول التوسط

مسألة: يستحب للشخص أن يستجيب لمن يطلب منه أن يتوسط له في السؤال عن حكم إنشائي أو مطلب إخباري.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «مَنْ سَعَى فِي حَاجَةِ أَخِيهِ المُسْلمِ طَلبَ وَجْهِ اللهِ، كَتَبَ اللهُ عَزَّ وجَل لهُ أَلفَ أَلفِ حَسَنَةٍ يَغْفِرُ فِيهَا لأَقَارِبِهِ وجِيرَانِهِ وإِخْوَانِه»(1).

فضل العلم والعالم

مسألة: يستحب بيان فضل العلم والعالم على العابد أولاً، ثم على سائر الناس ثانياً.

ولا يخفى أن المراد بالعلم ما يرتبط بالعقيدة والشريعة ومكارم الأخلاق، أما سائر العلوم التي يحتاجها الناس لشؤون دنياهم فلها فضل ولكنه دون فضل العلوم الدينية.

كما لا يخفى أن فضل العلم على العبادة وعلى العمل، لا ينفي لزوم أن يكون العالم عاملاً أيضاً، فقد ورد في الحديث: «العلم يهتف بالعمل، فإنأجابه وإلا ارتحل»(2).

كما أن على العالم الإكثار من العبادة حتى في المستحبات، وخاصة بالقدر

ص: 364


1- الكافي: ج 2 ص197 باب السعي في حاجة المؤمن ح6.
2- عيون الحكم والمواعظ: ص58 ح1484.

الذي يحفظ له تقواه وملكة العدالة فيه، نعم لو دار الأمر بين العلم والعبادة الزائدة على ذلك فالعلم أولى دون شك، بل بما لا نسبة بينهما في الفرض المذكور، وقد وردت بذلك روايات.

وعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ وَهْبٍ قَال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُول: «اطْلبُوا العِلمَ وتَزَيَّنُوا مَعَهُ بِالحِلمِ والوَقَارِ، وتَوَاضَعُوا لمَنْ تُعَلمُونَهُ العِلمَ وتَوَاضَعُوا لمَنْ طَلبْتُمْ مِنْهُ العِلمَ، ولا تَكُونُوا عُلمَاءَ جَبَّارِينَ فَيَذْهَبَ بَاطِلكُمْ بِحَقِّكُمْ»(1).

وعَنْ عَليِّ بْنِ الحُسَيْنِ (عليه السلام) قَال: «لوْ يَعْلمُ النَّاسُ مَا فِي طَلبِ العِلمِ لطَلبُوهُ ولوْ بِسَفْكِ المُهَجِ وخَوْضِ اللجَجِ، إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتَعَالى أَوْحَى إِلى دَانِيَال أَنَّ أَمْقَتَ عَبِيدِي إِليَّ: الجَاهِل المُسْتَخِفُّ بِحَقِّ أَهْل العِلمِ، التَّارِكُ للاقْتِدَاءِ بِهِمْ، وأَنَّ أَحَبَّ عَبِيدِي إِليَّ: التَّقِيُّ، الطَّالبُ للثَّوَابِ الجَزِيل، اللازِمُ للعُلمَاءِ، التَّابِعُ للحُلمَاءِ، القَابِل عَنِالحُكَمَاءِ»(2).

وعَنْ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) أَنَّهُ قَال: «مَنْ تَعَلمَ العِلمَ فِي شَبَابِهِ كَانَ بِمَنْزِلةِ النَّقْشِ فِي الحِجْرِ، ومَنْ تَعَلمَهُ وهُوَ كَبِيرٌ كَانَ بِمَنْزِلةِ الكِتَابِ عَلى وَجْهِ المَاءِ»(3).

وقال (صلى الله عليه وآله): «طَالبُ العِلمِ مَحْفُوفٌ بِعِنَايَةِ الله»(4).

وعَنْ عَليٍّ (عليه السلام) قَال: «تَعَلمِ العِلمَ، فَإِنْ كُنْتَ غَنِيّاً زَانَكَ، وإِنْ كُنْتُ

ص: 365


1- الكافي: ج 1 ص36 باب صفة العلماء ح1.
2- الكافي: ج 1 ص35 باب ثواب العالم والمتعلم ح5.
3- دعائم الإسلام: ج 1 ص82 ذكر الرغائب في العلم والحض عليه وفضائل طالبيه.
4- غوالي اللئالي: ج 1 ص292 الفصل العاشر في أحاديث تتضمن شيئاً من الآداب الدينية ح167.

فَقِيراً مَانَكَ»(1).

فضل التعليم

مسألة: يستحب بيان فضل تعليم الجاهل وإرشاد الغافل.

عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه

السلام) يَقُول: «مَنْ عَلمَ خَيْراً فَلهُ مِثْل أَجْرِ مَنْ عَمِل بِهِ»، قُلتُ: فَإِنْ عَلمَهُغَيْرَهُ يَجْرِي ذَلكَ لهُ، قَال: «إِنْ عَلمَهُ النَّاسَ كُلهُمْ جَرَى لهُ»، قُلتُ: فَإِنْ مَاتَ، قَال: «وإِنْ مَاتَ»(2).

وقَال النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ ليَلتَمِسَ بَاباً مِنَ العِلمِ ليَنْتَفِعَ بِهِ ويُعَلمَهُ غَيْرَهُ كَتَبَ اللهُ لهُ بِكُل خُطْوَةٍ عِبَادَةَ أَلفِ سَنَةٍ صِيَامَهَا وقِيَامَهَا، وحَفَّتْهُ المَلائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا، وصَلى عَليْهِ طُيُورُ السَّمَاءِ وحِيتَانُ البَحْرِ ودَوَابُّ البَرِّ، وأَنْزَلهُ اللهُ مَنْزِلةَ سَبْعِينَ صِدِّيقاً، وكَانَ خَيْراً لهُ مِنْ أَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا كُلهَا لهُ فَجَعَلهَا فِي الآخِرَةِ»(3).

فضل علماء الشيعة

مسألة: يستحب تعريف الناس بفضل علماء الشيعة ومقامهم، وذلك بواسطة الكتب والمجلات، والخطب والمحاضرات، والأفلام وما أشبه، وفي المدارس والجامعات وغيرها.

ص: 366


1- عيون الحكم والمواعظ: ص203 ح4124.
2- الكافي: ج 1 ص35 باب ثواب العالم والمتعلم ح3.
3- بصائر الدرجات: ج 1 ص5 ب2 باب ثواب العالم والمتعلم ح10.

قَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «المُؤْمِنُ العَالمُ أَعْظَمُ أَجْراً مِنَ الصَّائِمِالقَائِمِ الغَازِي فِي سَبِيل اللهِ، وإِذَا مَاتَ ثُلمَ فِي الإِسْلامِ ثُلمَةٌ لا يَسُدُّهَا شَيْ ءٌ إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ»(1).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ سَلكَ طَرِيقاً يَطْلبُ فِيهِ عِلماً، سَلكَ اللهُ بِهِ طَرِيقاً إِلى الجَنَّةِ، وإِنَّ المَلائِكَةَ لتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لطَالبِ العِلمِ رِضًا بِهِ، وإِنَّهُ يَسْتَغْفِرُ لطَالبِ العِلمِ مَنْ فِي السَّمَاءِ ومَنْ فِي الأَرْضِ حَتَّى الحُوتِ فِي البَحْرِ، وفَضْل العَالمِ عَلى العَابِدِ كَفَضْل القَمَرِ عَلى سَائِرِ النُّجُومِ ليْلةَ البَدْرِ، وإِنَّ العُلمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لمْ يُوَرِّثُوا دِينَاراً ولا دِرْهَماً، ولكِنْ وَرَّثُوا العِلمَ فَمَنْ أَخَذَ مِنْهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ»(2).

استحباب الجد

مسألة: يستحب الجِدّ، خاصة في إرشاد عباد الله تعالى، بل قد يكون الجد واجباً، قال سبحانه: «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلقْناكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِليْنا لا تُرْجَعُونَ»(3).

وورد في دعاء كميل: «وَهَبْ ليَ الجدَّفِي خَشْيَتِكَ»(4).

وفي أدعية الجمعة ونوافلها: «وَهَبْ ليَ الجِدَّ فِي طاعَتِكَ»(5).

ص: 367


1- بحار الأنوار: ج 1 ص177 ب1 فرض العلم ووجوب طلبه والحث عليه وثواب العالم والمتعلم ح57.
2- الكافي: ج 1 ص34 باب ثواب العالم والمتعلم ح1.
3- سورة المؤمنون: 115.
4- مصباح المتهجد: ج 2 ص849.
5- مصباح المتهجد: ج 1 ص353 صلاة أخرى للحاجة يوم الجمعة.

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَنْ كَتَمَ عِلماً نَافِعاً أَلجَمَهُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ بِلجَامٍ مِنْ نَار»(1).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «من كتم علما فكأنه جاهل»(2).

أيتام آل محمد

مسألة: يجب تكفل أيتام آل محمد (عليهم السلام).

ومن مصاديقه: بناء المدارس الدينية ومساكن الطلبة ووقفها عليهم أو تمليكها لهم، كي لا يكونوا في ضغط يمنعهم عن التفرغ للعلم والتزود منه، كما أن من ألوان التكفل بناء المكتبات وتوفير الكتب والأجهزة التي يحتاجونها.

تكفل اليتيم

مسألة: يستحب تكفل اليتيم مطلقاً، والروايات في ذلك كثيرة، منها:

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَنْ كَفَل يَتِيماً بَيْنَ المُسْلمِينَ فَأَدْخَلهُ إِلى طَعَامِهِ وشَرَابِهِ أَدْخَلهُ اللهُ الجَنَّةَ البَتَّةَ، إِلا أَنْ يَعْمَل ذَنْباً لا يُغْفَر»(3).

وقَال (صلى الله عليه وآله): «أَنَا وكَافِل اليَتِيمِ كَهَاتَيْنِ، فِي الجَنَّةِ وأَشَارَ بِإِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ والوُسْطَى»(4).

ص: 368


1- غوالي اللئالي: ج4 ص71 ح40.
2- عيون الحكم والمواعظ: ص446 ح7844.
3- مستدرك الوسائل: ج 2 ص473 ب78 باب استحباب مسح رأس اليتيم ترحماً له وملاطفته وإسكاته إذا بكى ح5.
4- مستدرك الوسائل: ج 2 ص474 ب78 باب استحباب مسح رأس اليتيم ... ح7.

وعَنْ عَليٍّ (عليه السلام) في وصيته: «اللهَ اللهَ فِي الأَيْتَامِ فَلا تُغِبُّوا أَفْوَاهَهُمْ ولا يَضِيعُوا بِحَضْرَتِكُم»(1).

وَقَال (صلى الله عليه وآله): «كُنْ لليَتِيمِ كَالأَبِ الرَّحِيمِ، واعْلمْ أَنَّكَ تَزْرَعُ كَذَلكَ تَحْصُدُ»(2).

المعصومون آباء الأمة

مسألة: يستحب بيان أن الأئمة المعصومين (عليهم السلام) هم آباء الأمة، وقد ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أنا وعلي أبوا هذه الأمة»(3).

وحيث إن الأبوة هذه اعتبارية أمكن تعدد الآباء عرضاً وطولاً، وقد ورد في آية: «وَبِالوالدَيْنِ إِحْساناً»(4) أن المراد بهما: محمد وعلي (عليهما السلام) والأئمة من بعدهما (عليهم السلام).

في تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) في قول الله عزوجل: «وَبِالوالدَيْنِ إِحْساناً»(5)، قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «أَفْضَل وَالدَيْكُمْ وَأَحَقُّهُمَا

ص: 369


1- الكافي: ج 7 ص51 باب صدقات النبي (صلى الله عليه وآله) وفاطمة والأئمة (عليهم السلام) ووصاياهم ح7.
2- بحار الأنوار: ج 74 ص171 ب7 ما جمع من مفردات كلمات الرسول (صلى الله عليه وآله) وجوامع كلمه ح7.
3- عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج 2 ص85 ب32 باب في ذكر ما جاء عن الرضا (عليه السلام) من العلل ح29.
4- سورة البقرة: 83، سورة النساء: 36، سورة الأنعام: 151، سورة الإسراء: 23.
5- سورة البقرة: 83، سورة النساء: 36، سورة الأنعام: 151، سورة الإسراء: 23.

لشُكْرِكُمْ مُحَمَّدٌ وَعَليٌّ»(1).

وفي تفسير الفرات: عَنِ الصَّادِقِ (عليه السلام) فِي قَوْلهِ تَعَالى: «وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِشَيْئاً وَبِالوالدَيْنِ إِحْساناً»(2)، قَال: «إِنَّ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) وَعَليَّ بْنَ أَبِي طَالبٍ (عليه السلام) هُمَا الوَالدَانِ»(3).

وعن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إِنَّ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) أَحَدُ الوَالدَيْنِ وَعَليٌّ (عليه السلام) الآخَرُ، فَقُلتُ: أَيْنَ مَوْضِعُ ذَلكَ فِي كِتَابِ اللهِ، قَال: قَرَأَ: «اعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالوالدَيْنِ إِحْساناً»(4)»(5).

وَقَال عَليُّ بْنُ أَبِي طَالبٍ (عليه السلام): سَمِعْتُ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُول: «أَنَا وَعَليُّ بْنُ أَبِي طَالبٍ أَبَوَا هَذِهِ الأُمَّةِ، وَلحَقُّنَا عَليْهِمْ أَعْظَمُ مِنْ حَقِّ وَالدَيْهِمْ، فَإِنَّا نُنْقِذُهُمْ إِنْ أَطَاعُونَا مِنَ النَّارِ إِلى دَارِ القَرَارِ وَنُلحِقُهُمْ مِنَ العُبُودِيَّةِ بِخِيَارِ الأَحْرَارِ»(6).

وَقَالتْ فَاطِمَةُ (عليها السلام): «أَبَوَا هَذِهِ الأُمَّةِ مُحَمَّدٌ وَعَليٌّ، يُقِيمَانِ أَوَدَهُمْ، وَيُنْقِذَانِهِمْ مِنَ العَذَابِ الدَّائِمِ إِنْ أَطَاعُوهُمَا، وَيُبِيحَانِهِمُ النَّعِيمَ الدَّائِمَإِنْ

ص: 370


1- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): ص330 ح189.
2- سورة النساء: 36.
3- تفسير فرات الكوفي: ص104 ح94.
4- سورة النساء: 36.
5- تفسير العياشي: ج 1 ص241 ح128.
6- بحار الأنوار: ج 36 ص9 ب26 أن الوالدين رسول الله وأمير المؤمنين (صلوات الله عليهما) ح11.

وَافَقُوهُمَا»(1).

وَقَال الحَسَنُ بْنُ عَليٍّ (عليه السلام): «مُحَمَّدٌ وَعَليٌّ أَبَوَا هَذِهِ الأُمَّةِ، فَطُوبَى لمَنْ كَانَ بِحَقِّهِمَا عَارِفاً، وَلهُمَا فِي كُل أَحْوَالهِ مُطِيعاً، يَجْعَلهُ اللهُ مِنْ أَفْضَل سُكَّانِ جِنَانِهِ وَيُسْعِدُهُ بِكَرَامَاتِهِ وَ رِضْوَانِهِ»(2).

وَقَال الحُسَيْنُ بْنُ عَليٍّ (عليه السلام): «مَنْ عَرَفَ حَقَّ أَبَوَيْهِ الأَفْضَليْنِ

مُحَمَّدٍ وَعَليٍّ (عليهما السلام) وَأَطَاعَهُمَا حَقَّ الطَّاعَةِ قِيل لهُ تَبَحْبَحْ فِي أَيِّ الجِنَانِ شِئْتَ.

وَقَال عَليُّ بْنُ الحُسَيْنِ (عليه السلام): «إِنْ كَانَ الأَبَوَانِ إِنَّمَا عَظُمَ حَقُّهُمَا عَلى أَوْلادِهِمَا لإِحْسَانِهِمَا إِليْهِمْ فَإِحْسَانُ مُحَمَّدٍ وَ عَليٍّ (عليهما السلام) إِلى هَذِهِ الأُمَّةِ أَجَل وَأَعْظَمُ، فَهُمَا بِأَنْ يَكُونَا أَبَوَيْهِمْ أَحَقُّ»(3).

وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ عَليٍّ (عليه السلام): «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْلمَ كَيْفَ قَدْرُهُ عِنْدَ اللهِ فَليَنْظُرْ كَيْفَ قَدْرُ أَبَوَيْهِ الأَفْضَليْنِ عِنْدَهُ مُحَمَّدٍ وَعَليٍّ (عليهما السلام)».وَقَال جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ (عليه السلام): «مَنْ رَعَى حَقَّ أَبَوَيْهِ الأَفْضَليْنِ مُحَمَّدٍ وَعَليٍّ (عليهما السلام) لمْ يَضُرَّهُ مَا ضَاعَ مِنْ حَقِّ أَبَوَيْ نَفْسِهِ وَسَائِرِ عِبَادِ اللهِ، فَإِنَّهُمَا يُرْضِيَانِهِمَا بِسَعْيِهِمَا»(4).

وَقَال مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ (عليه السلام): «يُعَظَّمُ ثَوَابُ الصَّلاةِ عَلى قَدْرِ تَعْظِيمِ

ص: 371


1- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): ص330 ح191.
2- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): ص330 ح192.
3- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): ص330 ح193 و194.
4- بحار الأنوار: ج 23 ص260 ب15 تأويل الوالدين والولد والأرحام وذوي القربى بهم (عليهم السلام) ح8.

المُصَلي عَلى أَبَوَيْهِ الأَفْضَليْنِ مُحَمَّدٍ وَ عَليٍّ (عليهما السلام) »(1).

وَقَال عَليُّ بْنُ مُوسَى الرِّضَا (عليه السلام): «أَمَا يَكْرَهُ أَحَدُكُمْ أَنْ يُنْفَى عَنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ اللذَيْنِ وَلدَاهُ، قَالوا: بَلى وَاللهِ، قَال: فَليَجْتَهِدْ أَنْ لا يُنْفَى عَنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ اللذَيْنِ هُمَا أَبَوَاهُ أَفْضَل مِنْ أَبَوَيْ نَفْسِهِ»(2).

وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ عَليٍّ (عليه السلام) إِذْ قَال رَجُل بِحَضْرَتِهِ: إِنِّي لأُحِبُّ مُحَمَّداً وَعَليّاً (عليهما السلام) حَتَّى لوْ قُطِّعْتُ إِرْباً إِرْباً أَوْ قُرِضْتُ لمْ أَزَل عَنْهُ، قَال مُحَمَّدُ بْنُ عَليٍّ (عليه السلام): «لا جَرَمَ أَنَّ مُحَمَّداً وَعَليّاً(عليهما السلام) يُعْطِيَانِكَ مِنْ أَنْفُسِهِمَا مَا تُعْطِيهِمَا أَنْتَ مِنْ نَفْسِكَ، إِنَّهُمَا ليَسْتَدْعِيَانِ لكَ فِي يَوْمِ فَصْل القَضَاءِ مَا لا يَفِي مَا بَذَلتَهُ لهُمَا بِجُزْءٍ مِنْ مِائَةِ أَلفِ أَلفِ جُزْءٍ مِنْ ذَلكَ»(3).

وَقَال الحَسَنُ بْنُ عَليٍّ (عليه السلام): «مَنْ آثَرَ طَاعَةَ أَبَوَيْ دِينِهِ مُحَمَّدٍ وَعَليٍّ (عليهما السلام) عَلى طَاعَةِ أَبَوَيْ نَسَبِهِ، قَال اللهُ عَزَّ وَ جَل: لأُوثِرَنَّكَ كَمَا آثَرْتَنِي، وَلأُشَرِّفَنَّكَ بِحَضْرَةِ أَبَوَيْ دِينِكَ كَمَا شَرَّفْتَ نَفْسَكَ بِإِيثَارِ حُبِّهِمَا عَلى حُبِّ أَبَوَيْ نَفْسِكَ، وَأَمَّا قَوْلهُ عَزَّ وَ جَل: «وَذِي القُرْبى»(4) فَهُمْ مِنْ قَرَابَاتِكَ مِنْ أَبِيكَ وَأُمِّكَ، قِيل لكَ اعْرِفْ حَقَّهُمْ كَمَا أَخَذَ بِهِ العَهْدَ عَلى بَنِي إِسْرَائِيل وَأَخَذَ عَليْكُمْ مَعَاشِرَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ بِمَعْرِفَةِ حَقِّ قَرَابَاتِ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) الذِينَ هُمُ الأَئِمَّةُ بَعْدَهُ وَمَنْ يَليهِمْ بَعْدُ مِنْ خِيَارِ أَهْل دِينِهِمْ»(5).

ص: 372


1- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): ص331 ح197.
2- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): ص331 ح198.
3- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): ص332 ح199.
4- سورة البقرة: 83.
5- بحار الأنوار: ج 23 ص261 ب15 تأويل الوالدين والولد ... بهم (عليهم السلام) ح8.

وَقَال عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ (عليه السلام): «مَنْ لمْ يَكُنْ وَالدَا دِينِهِ مُحَمَّدٌ وَ عَليٌّ (عليهما السلام) أَكْرَمَ عَليْهِ مِنْ وَالدَيْ نَسَبِهِ فَليْسَمِنَ اللهِ فِي حِل وَ لا حَرَامٍ، وَلا قَليل وَلا كَثِيرٍ»(1).

استحباب البذل

مسألة: يستحب للإنسان أن يبذل للآخرين مما أعطاه الله، وفي الحديث: «زكاة العلم نشره»(2)، وفي رواية: «زَكَاةُ العِلمِ أَنْ تُعَلمَهُ عِبَادَ اللهِ»(3).

والأدلة على حسن البذل والعطاء والصدقة والهدية ووجوب بعضها في دار الدنيا كثيرة، وتدل هذه الرواية على أن الحال في المحشر كذلك، حيث قالت الصديقة (عليها السلام): «فاخلعوا عليهم خلع العلوم في الدنيا»، و«كذلك يخلع هؤلاء الأيتام على من تعلم منهم».

ثم إن البذل على مراتب فبذل المال مقدم على بذل العرض، وبذل الدنيا مقدم على بذل الدين.

قَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (صَلوَاتُ اللهِ عَليْهِ) فِي بَعْضِ خُطَبِهِ: «إِنَّ أَفْضَل الفِعَال صِيَانَةُالعِرْضِ بِالمَال»(4).

ص: 373


1- بحار الأنوار: ج 23 ص261 ب15 تأويل الوالدين والولد والأرحام وذوي القربى بهم (عليهم السلام) ح8.
2- عيون الحكم والمواعظ: ص276 ح5011.
3- الكافي: ج 1 ص41 باب بذل العلم ح3.
4- الكافي: ج 4 ص49 باب النوادر ح14.

وعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ، قَال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُول: «كَانَ فِي وَصِيَّةِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) لعَليٍّ (عليه السلام) أَنْ قَال:

«يَا عَليُّ أُوصِيكَ فِي نَفْسِكَ بِخِصَال فَاحْفَظْهَا عَنِّي... والخَامِسَةُ بَذْلكَ مَالكَ ودَمَكَ دُونَ دِينِك»(1).

وقَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): كَانَ فِي وَصِيَّةِ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) لأَصْحَابِهِ: «اعْلمُوا أَنَّ القُرْآنَ هُدَى الليْل والنَّهَارِ، ونُورُ الليْل المُظْلمِ عَلى مَا كَانَ مِنْ جَهْدٍ وفَاقَةٍ، فَإِذَا حَضَرَتْ بَليَّةٌ فَاجْعَلوا أَمْوَالكُمْ دُونَ أَنْفُسِكُمْ، وإِذَا نَزَلتْ نَازِلةٌ فَاجْعَلوا أَنْفُسَكُمْ دُونَ دِينِكُمْ، واعْلمُوا أَنَّ الهَالكَ مَنْ هَلكَ دِينُهُ، والحَرِيبَ مَنْ حُرِبَ دِينُهُ، أَلا وإِنَّهُ لا فَقْرَ بَعْدَ الجَنَّةِ، أَلا وإِنَّهُ لا غِنَى بَعْدَ النَّارِ، لا يُفَكُّ أَسِيرُهَا ولا يَبْرَأُ ضَرِيرُهَا»(2).

الإعادة والتكرار في البذل

مسألة: يستحب الإعادة والتكرار فيما يبذله الإنسان من الخير، من علم أعطاه، أو دعاء دعاه، أو صلة أو هدية، أو ثناء حسن أو إكرام واحترام، ومضاعفة ذلك، وقد قالت الصديقة الطاهرة (عليها السلام): (هاتي وسلي عما بدا لك).

وفي هذه الرواية ما يشجع على ذلك كثيراً، فإن الله تعالى يضاعف للباذل فوق ما كان يستحقه من الثواب، حيث نقلت الصديقة (عليها السلام) قوله

ص: 374


1- الكافي: ج 8 ص79 وصية النبي (صلى الله عليه وآله) لأمير المؤمنين (عليه السلام) ح33.
2- الكافي: ج 2 ص216 باب سلامة الدين ح2.

عزوجل: (ويضاعف لهم، وكذلك من بمرتبتهم ممن يخلع عليه على من يليهم).

عَنْ عَليِّ بْنِ جُذْعَانٍ قَال: خَرَجَ الحَسَنُ بْنُ عَليٍّ (عليه السلام) مِنْ مَالهِ مَرَّتَيْنِ، وقَاسَمَ اللهَ مَالهُ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، حَتَّى إِنْ كَانَ ليُعْطِي نَعْلا ويُمْسِكُ نَعْلا، ويُعْطِي خُفّاً ويُمْسِكُ خُفّاً(1).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «وكَانَ عَليُّ بْنُ الحُسَيْنِ (عليه السلام) يَخْرُجُ فِي الليْلةِ الظَّلمَاءِ فَيَحْمِل الجِرَابَ فِيهِ الصُّرَرُ مِنَ الدَّنَانِيرِ والدَّرَاهِمِ حَتَّى يَأْتِيَ بَاباً بَاباً فَيَقْرَعُهُ ثُمَّ يُنِيل مَنْ يَخْرُجُ إِليْهِ، فَلمَّا مَاتَ عَليُّ بْنُ الحُسَيْنِ (عليهالسلام) فَقَدُوا ذَاكَ فَعَلمُوا أَنَّ عَليّاً (عليه السلام) كَانَ يَفْعَلهُ»(2).

فضل نعم الآخرة

مسألة: يستحب بيان أن نِعم الآخرة تكون أفضل مما طلعت عليه الشمس ألف ألف مرة، وأن هذا العدد للتكثير لا للتحديد، إذ لا نسبة بين العالمين والنعيمين ولا قياس.

قال تعالى: «وَللآخِرَةُ خَيْرٌ لكَ مِنَ الأُولى»(3).

وقال سبحانه: «وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وأَبْقَى»(4).

ص: 375


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام): ج 4 ص14 فصل في مكارم أخلاقه (عليه السلام).
2- الكافي: ج 1 ص468 باب مولد علي بن الحسين (عليه السلام) ح4.
3- سورة الضحى: 4.
4- سورة الأعلى : 17.

وعَنْ جَابِرٍ، قَال: دَخَل رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) عَلى فَاطِمَةَ (عليها السلام) وعَليْهَا كِسَاءٌ مِنْ جِلدِ الإِبِل، فَلمَّا رَآهَا بَكَى وقَال:

«يَا فَاطِمَةُ تَعَجَّلي مَرَارَةَ الدُّنْيَا بِنَعِيمِ الآخِرَةِ غَداً».

فَأَنْزَل اللهُ تَعَالى: «وَلسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى»(1)،(2).

ص: 376


1- سورة الضحى: 5.
2- شواهد التنزيل: ج 2 ص445 ح1109.

فضل الوالدة

اشارة

عن فاطمة (عليها السلام) قالت في بيان مقام الوالدة: «الزم رجلها فإن الجنة تحت أقدامها»(1).

-----------------------------

مقام الوالدة

مسألة: يستحب بيان مقام الوالدة، وأن الجنة تحت أقدامها.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «تحت أقدام الأمهات روضة من رياض الجنة»(2).

وإذا لاحظنا هذه الرواية وما شابهها، كقوله (صلى الله عليه وآله): «الجنة تحت ظلال السيوف»(3)، علمنا جلالة منزلةالأم.

وفي هذه الكلمة الشريفة احتمالات:

ص: 377


1- عوالم العلوم: ج 11 قسم2 فاطمة (سلام الله عليها) ص910 كلامها (عليها السلام) في فضل الوالدة ح167.
2- مستدرك الوسائل: ج 15 ص181 ب70 باب استحباب الزيادة في بر الأم على بر الأب ح4.
3- مستدرك الوسائل: ج 11 ص11 ب1 باب وجوبه على الكفاية مع القدرة عليه أو الاحتياج إليه وسقوطه عن الأعمى والأعرج والفقير ح15.

الأول: إن الإنسان يجب أن يكون بمنزلة الأرض التي تضع الأم قدمها عليها، فيكون متواضعاً لها غاية التواضع، فمن أراد الجنة عليه أن يتواضع لأُمه.

الثاني: إن الجنة بمنزلة الملك للأمهات، فمن رضيت عنه الأم دخل الجنة، ومن لم ترض عنه لم يدخل الجنة.

الثالث: أن يراد المعنى الحقيقي، فإن الدنيا والآخرة مقترنان، وإن غاب ذلك عن حواسنا، قال تعالى: «وَإِنَّ جَهَنَّمَ لمُحيطَةٌ بِالكافِرينَ»(1)، وقد ذكرنا في بعض كتبنا احتمال أن النار هي الآن محيطة بكفار الدنيا إلاّ أن منافذهم نحوها مغلقة.

عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مِهْزَمٍ قَال: خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) ليْلةً مُمْسِياً، فَأَتَيْتُ مَنْزِلي بِالمَدِينَةِ وكَانَتْ أُمِّي مَعِي، فَوَقَعَ بَيْنِي وبَيْنَهَا كَلامٌ، فَأَغْلظْتُ لهَا، فَلمَّا أَنْ كَانَ مِنَ الغَدِ صَليْتُ الغَدَاةَ وأَتَيْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، فَلمَّا دَخَلتُ عَليْهِ فَقَال لي مُبْتَدِئاً: «يَا أَبَا مِهْزَمٍ مَا لكَ وللوَالدَةِ، أَغْلظْتَ فِي كَلامِهَاالبَارِحَةَ، أَمَا عَلمْتَ أَنَّ بَطْنَهَا مَنْزِل قَدْ سَكَنْتَهُ، وأَنَّ حِجْرَهَا مَهْدٌ قَدْ غَمَزْتَهُ، وثَدْيَهَا وِعَاءٌ قَدْ شَرِبْتَهُ»، قَال: قُلتُ: بَلى، قَال: «فَلا تُغْلظْ لهَا»(2).

وعن الرِّضَا (عليه السلام): وَاعْلمْ أَنَّ حَقَّ الأُمِ أَلزَمُ الحُقُوقِ وأَوْجَبُ لأَنَّهَا

ص: 378


1- سورة التوبة: 9، سورة العنكبوت: 54.
2- بصائر الدرجات: ج 1 ص243 ب11 باب في الأئمة أنهم يخبرون شيعتهم بأفعالهم وسرهم وأفعال غيبهم وهم غيب عنهم ح3، وعنه مستدرك الوسائل: ج 15 ص191 ب75 باب تحريم العقوق وحد ذلك ح11.

حَمَلتْ حَيْثُ لا يَحْمِل أَحَدٌ أَحَداً ووَقَتْ بِالسَّمْعِ والبَصَرِ وجَمِيعِ الجَوَارِحِ مَسْرُورَةً مُسْتَبْشِرَةً بِذَلكَ فَحَمَلتْهُ بِمَا فِيهِ مِنَ المَكْرُوهِ الذِي لا يَصْبِرُ عَليْهِ أَحَدٌ ورَضِيَتْ بِأَنْ تَجُوعَ ويَشْبَعَ وتَظْمَأَ ويَرْوَى وتَعْرَى ويَكْتَسِيَ وتُظِلهُ وتَضْحَى فَليَكُنِ الشُّكْرُ لهَا والبِرُّ والرِّفْقُ بِهَا عَلى قَدْرِ ذَلكَ وإِنْ كُنْتُمْ لا تُطِيقُونَ بِأَدْنَى حَقِّهَا إِلا بِعَوْنِ الله (1).

بر الأم

مسألة: يجب بر الأم ويحرم عقوقها، قالتعالى: «وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً»(2).

وقال سبحانه: «وَبِالوالدَيْنِ إِحْساناً»(3).

وقال تعالى: «وَبَرًّا بِوالدَتي»(4).

وقال سبحانه: «وَبَرًّا بِوالدَيْهِ»(5).

وفي فقه الرضا (عليه السلام): «وَاعْلمْ أَنَّ حَقَّ الأُمِّ أَلزَمُ الحُقُوقِ وَأَوْجَبُ، لأَنَّهَا حَمَلتْ حَيْثُ لا يَحْمِل أَحَدٌ أَحَداً، وَوَقَتْ بِالسَّمْعِ وَالبَصَرِ وَجَمِيعِ الجَوَارِحِ مَسْرُورَةً مُسْتَبْشِرَةً بِذَلكَ، فَحَمَلتْهُ بِمَا فِيهِ مِنَ المَكْرُوهِ الذِي لا يَصْبِرُ عَليْهِ أَحَدٌ،

ص: 379


1- مستدرك الوسائل: ج 15 ص180 ب70 باب استحباب الزيادة في بر الأم على بر الأب ح2.
2- سورة لقمان: 15.
3- سورة البقرة: 83، سورة النساء: 36، سورة الأنعام: 151، سورة الإسراء: 23.
4- سورة مريم: 32.
5- سورة مريم: 14.

وَرَضِيَتْ بِأَنْ تَجُوعَ وَيَشْبَعَ، وَتَظْمَأَ وَيَرْوَى، وَتَعْرَى وَيَكْتَسِيَ، وَتُظِلهُ وَتَضْحَى، فَليَكُنِ الشُّكْرُ لهَا وَالبِرُّ وَالرِّفْقُ بِهَا عَلى قَدْرِ ذَلكَ، وَإِنْ كُنْتُمْ لا تُطِيقُونَ بِأَدْنَى حَقِّهَا إِلا بِعَوْنِ اللهِ»(1).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِذَا كُنْتَ فِي صَلاةِ التَّطَوُّعِ فَإِنْ دَعَاكَ وَالدُكَ فَلا تَقْطَعْهَا، وَإِنْ دَعَتْكَ وَالدَتُكَفَاقْطَعْهَا»(2).

ص: 380


1- مستدرك الوسائل: ج 15 ص180 ب70 باب استحباب الزيادة في بر الأم على بر الأب ح2.
2- مستدرك الوسائل: ج 15 ص181 ب70 باب استحباب الزيادة في بر الأم على بر الأب ح4.

حفظ الأولاد

اشارة

عن فاطمة الزهراء (عليها السلام) في حديث قالت: «كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: المرء يحفظ في ولده»(1).

---------------------------

الإخبار والإنشاء

مسألة: يمكن أن يكون «المرء يحفظ ..» إخباراً أريد به الإنشاء، فهو كقوله (عليه السلام): «يعيد صلاته»(2).

فمفاده الدعوة إلى حفظ المرء في ولده، وطلب لذلك لكن بقالب الإخبار، ولعل الأظهر أنه إخبار عن أمر مستقبلي وإن كان العرف يفهم منه حسن الحفظ ورجحانه.

وفي المقاتل: أنه جاء الحسين (عليه السلام) حتّى وقف على ولده علي الأكبر (عليه السلام) فقال: «قتل الله قوماً قتلوك يا بنيّ، ما أجرأهم على الله وعلى انتهاك حرمة الرسول صلى الله عليه وآله» وانهملت عيناه بالدّموع، ثم قال: على الدنيا

ص: 381


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 16 ص212 الفصل الأول فيما ورد من الأخبار و السير المنقولة من أفواه أهل الحديث و كتبهم لا من كتب الشيعة و رجالهم.
2- الكافي: ج 3 ص347 باب السهو في افتتاح الصلاة ح2.

بعدك العفاء»(1).

بين المرء وولده

مسألة: حفظ المرء يكون بحفظ ولده أيضاً, وهو بين واجب ومستحب، فإن الأولاد امتداد الآباء، فحفظهم حفظ لهم أيضاً، وإذا لم يحفظوا كان معناه عدم حفظ آبائهم أيضاً.

والحاصل: إن هذه قضية اعتبارية كما هي حقيقية في جانب منها.

وفي الزيارات والمقاتل: ما يدل على أن القوم لم يحفظوا حرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولا حرمة الإسلام بقتل الإمام الحسين (صلوات الله عليه).

تقرأ: «السَّلامُ عَلى مَنْ نُكِثَتْ ذِمَّتُهُ وذِمَّةُ حَرَمِهِ، السَّلامُ عَلى مَنِ انْتُهِكَتْ حُرْمَةُ الإِسْلامِ فِي إِرَاقَةِ دَمِه»(2).

وفي تفسير الإمام العسكري (عليهالسلام)، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال في حديث: «أَوَ تَدْرِي مَا هَذِهِ الرَّحِمُ التِي مَنْ وَصَلهَا وَصَلهُ الرَّحْمَنُ، وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعَهُ، فَقِيل يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ: حَثَّ بِهَذَا كُل قَوْمٍ عَلى أَنْ يُكْرِمُوا أَقْرِبَاءَهُمْ وَيَصِلوا أَرْحَامَهُمْ، فَقَال لهُمْ: أَيَحُثُّهُمْ عَلى أَنْ يَصِلوا أَرْحَامَهُمْ الكَافِرِينَ، قَالوا: لا وَلكِنَّهُ حَثَّهُمْ عَلى صِلةِ أَرْحَامِهِمُ المُؤْمِنِينَ، قَال: فَقَال: أَوْجَبَ حُقُوقَ أَرْحَامِهِمْ لاتِّصَالهِمْ بِآبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، قُلتُ: بَلى يَا أَخَا رَسُول اللهِ، قَال: فَهُمْ

ص: 382


1- إعلام الورى: ج 1 ص464 يوم العاشر من المحرم.
2- بحار الأنوار: ج 98 ص235 ب18 زياراته (صلوات الله عليه) المطلقة وهي عدة زيارات منها مسندة ومنها مأخوذة من كتب الأصحاب بغير إسناد.

إِذاً إِنَّمَا يَقْضُونَ فِيهِمْ حُقُوقَ الآبَاءِ وَالأُمَّهَاتِ، قُلتُ: بَلى يَا أَخَا رَسُول اللهِ، قَال: فَآبَاؤُهُمْ وَأُمَّهَاتُهُمْ إِنَّمَا غَذَّوْهُمْ مِنَ الدُّنْيَا وَوَقَوْهُمْ مَكَارِهَهَا وَهِيَ نِعْمَةٌ زَائِلةٌ وَمَكْرُوهٌ يَنْقَضِي، وَرَسُول رَبِّهِمْ سَاقَهُمْ إِلى نِعْمَةٍ دَائِمَةٍ وَوَقَاهُمْ مَكْرُوهاً مُؤَبَّداً لا يَبِيدُ، فَأَيُّ النِّعْمَتَيْنِ أَعْظَمُ؟

قُلتُ: نِعْمَةُ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) أَعْظَمُ وَأَجَل وَأَكْبَرُ.

قَال: فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَحُثَّ عَلى قَضَاءِ حَقِّ مَنْ صَغُرَ حَقُّهُ وَلا يَحُثَّ عَلى قَضَاءِ حَقِ مَنْ كَبُرَ حَقُّهُ.

قُلتُ: لا يَجُوزُ ذَلكَ.

قَال: فَإِذاً حَقُّ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) أَعْظَمُ مِنْ حَقِّ الوَالدَيْنِ، وَحَقُّ رَحِمِهِ أَيْضاً أَعْظَمُ مِنْ حَقِّ رَحِمِهِمَا، فَرَحِمُ رَسُول اللهِ(صلى الله عليه وآله) أَوْلى بِالصِّلةِ وَأَعْظَمُ فِي القَطِيعَةِ، فَالوَيْل كُل الوَيْل لمَنْ قَطَعَهَا، وَالوَيْل كُل الوَيْل لمَنْ لمْ يُعَظِّمْ حُرْمَتَهَا، أَوَ مَا عَلمْتَ أَنَّ حُرْمَةَ رَحِمِ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) حُرْمَةُ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) وَأَنَّ حُرْمَةَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) حُرْمَةُ اللهِ تَعَالى، وَأَنَّ اللهَ تَعَالى أَعْظَمُ حَقّاً مِنْ كُل مُنْعِمٍ سِوَاهُ، وَأَنَّ كُل مُنْعِمٍ سِوَاهُ إِنَّمَا أَنْعَمَ حَيْثُ قَيَّضَهُ لذَلكَ رَبُّهُ وَوَفَّقَهُ لهُ»(1).

ص: 383


1- مستدرك الوسائل: ج 12 ص377 ب17 باب تأكد استحباب اصطناع المعروف إلى العلويين والسادات ح9.

حرمة الميت بحرمة ولده

مسألة: يحترم الإنسان الميت باحترامه ولده أيضاً(1)، فاحترام الأولاد لأجلهم مستحب، وذلك لإطلاق قوله (صلى الله عليه وآله)، حيث يشمل الأموات والأحياء.

الأولاد والأحفاد

مسألة: الولد يشمل البنين والبنات، والأحفاد وأحفاد الأحفاد، وهكذا.

فإن الوَلد(2) فَعَل بمعنى المفعول، ويطلق على الذكر والأنثى، والمثنى والمجموع كما قاله اللغويون(3).

المراد بالحفظ

مسألة: حفظ الأولاد أعم من حفظ إيمانهم وأخلاقياتهم، ومن إكرامهم وقضاء حوائجهم، ومن إدارة شؤونهم بقول مطلق.

ولعل في قوله (صلى الله عليه وآله): «يحفظ المرء في ولده» إشارة إلى أنه حيث

ص: 384


1- حيث كانت المسألة السابقة حفظ الآباء في حال حياتهم بحفظ أولادهم.
2- الوَلد بفتحتين، والوُلد بضمة ففتحة: كلاهما يطلق على الواحد والجمع والذكر والأنثى، وقد يخص الأول بالمفرد والثاني بالجمع مثل أَسَد وأُسْد.
3- مجمع البحرين: ج 3 ص165 مادة (ولد) وفيه: (والوَلدُ: كُل مَا وَلدَهُ شي ءٌ، يطلق على الذكر والأنثى، والمثنى والمجموع، فعل بمعنى مفعول، وجمعه أَوْلاد).

كان كذلك كان على المرء أن يهتم بحسن تربية ولده، فهو يحفظ بهم وفيهم، فلو أضاعهم فقد أضاع نفسه.

قال تعالى: «يا أَيُّهَا الذينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وأَهْليكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ والحِجارَةُ عَليْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ ويَفْعَلونَ ما يُؤْمَرُون»(1).

عَنْ فَضَالةَ بْنِ أَيُّوبَ عَنِ السَّكُونِيِّ، قَال: دَخَلتُ عَلى أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) وأَنَا مَغْمُومٌ مَكْرُوبٌ، فَقَال لي: «يَا سَكُونِيُّ مِمَّا غَمُّكَ»، قُلتُ: وُلدَتْ لي ابْنَةٌ، فَقَال: «يَا سَكُونِيُّ عَلى الأَرْضِ ثِقْلهَا وعَلى اللهِ رِزْقُهَا، تَعِيشُ فِي غَيْرِ أَجَلكَ وتَأْكُل مِنْ غَيْرِ رِزْقِكَ»، فَسَرَّى واللهِ عَنِّي، فَقَال لي: «مَا سَمَّيْتَهَا»، قُلتُ: فَاطِمَةَ، قَال: «آهِ آهِ»، ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلى جَبْهَتِهِ فَقَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): حَقُّ الوَلدِ عَلى وَالدِهِ إِذَا كَانَ ذَكَراً أَنْ يَسْتَفْرِهَ أُمَّهُ، وَيَسْتَحْسِنَ اسْمَهُ، ويُعَلمَهُ كِتَابَ اللهِ، ويُطَهِّرَهُ، ويُعَلمَهُ السِّبَاحَةَ، وإِذَا كَانَتْ أُنْثَى أَنْ يَسْتَفْرِهَأُمَّهَا، ويَسْتَحْسِنَ اسْمَهَا، ويُعَلمَهَا سُورَةَ النُّورِ، ولا يُعَلمَهَا سُورَةَ يُوسُفَ، ولا يُنْزِلهَا الغُرَفَ، ويُعَجِّل سَرَاحَهَا إِلى بَيْتِ زَوْجِهَا، أَمَّا إِذَا سَمَّيْتَهَا فَاطِمَةَ فَلا تَسُبَّهَا ولا تَلعَنْهَا ولا تَضْرِبْهَا»(2).

ص: 385


1- سورة التحريم: 6.
2- الكافي: ج 6 ص48 باب حق الأولاد ح6.

التقوى

اشارة

قالت فاطمة (عليها السلام) في بيان علل الأحكام:

«والصلاة تنزيهاً من الكبر...

ثم قالت: «فاتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ»(1) فيما أمركم به ، و انتهوا عما نهاكم عنه»(2).

-------------------------

حرمة التكبر

مسألة: التكبر حرام(3)، ومن علل تشريعالصلاة القضاء عليه أو تحديده،

ص: 386


1- سورة آل عمران: 102.
2- بحار الأنوار: ج 6 ص107 الفصل الثالث في نوادر العلل و متفرقاتها ح1.
3- قال الإمام المؤلف (رحمه الله) في (الفقه: الواجبات والمحرمات): يحرم الكبر مطلقا، سواء على الله وآياته أو على رسله أو على الأئمة الطاهرين أو على العلماء الراشدين الذين هم أمناؤهم أو على المؤمن، قال تعالى: «وَمَنْ أَظْلمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلى اللهِ كَذِباً أَوْ قال أُوحِيَ إِليَّ وَلمْ يُوحَ إِليْهِ شَيْ ءٌ وَمَنْ قال سَأُنْزِل مِثْل ما أَنْزَل اللهُ وَلوْ تَرى إِذِ الظَّالمُونَ في غَمَراتِ المَوْتِ وَالمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْديهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ اليَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولونَ عَلى اللهِ غَيْرَ الحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ»، وفي موثقة العلاء عن الصادق (عليه السلام) قال: قال أبو جعفر: «العِزُّ رِدَاءُ اللهِ، وَالكِبْرُ إِزَارُهُ، فَمَنْ تَنَاوَل شَيْئاً مِنْهُ أَكَبَّهُ اللهُ فِي جَهَنَّمَ» إلى غيرها من الروايات المتواترة في هذا الباب، بل حرمة التكبر من البديهيات. انتهى.

فإن الإنسان عادة معرّض للتكبر بمختلف معانيه ومراتبه، فإذا صلى في اليوم خمساً وشعر بعظمة الخالق وتواضع أمامه تعلم التواضع وعدم التكبر على مخلوقاته أيضاً.

قال سبحانه: «وَاسْتَعينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ»(1)، فإن الصلاة توجب التواضع، والتواضع مفتاح حل المشاكل، بالإضافة إلى أنه اتصال بالله تعالى الذي بيده كل شيء.

لا يقال: كيف ونرى بعض المصلين متكبرين.

لأنه يقال:

أولاً: ذلك بنحو المقتضي، لا العلة التامة.

ثانياً: إن الصلاة مؤثرة ولو في تقليل التكبر وتحديده، فلو كان هذا المتكبر غير مصل كان تكبره أشد وأكثر وأعمق.

ثالثاً: قد يخصص ذلك بالصلاة المقبولة، فتأمل.

قال تعالى: «فَادْخُلوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالدينَ فيها فَلبِئْسَمَثْوَى المُتَكَبِّرين»(2).

وقَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «أَكْثَرُ أَهْل جَهَنَّمَ المُتَكَبِّرُونَ»(3).

ص: 387


1- سورة البقرة: 45.
2- سورة النحل: 29.
3- وسائل الشيعة: ج 15 ص378 ب58 باب تحريم التكبر ح16.

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «إِنَّ فِي جَهَنَّمَ لوَادِياً للمُتَكَبِّرِينَ يُقَال لهُ سَقَرُ، شَكَا إِلى اللهِ عَزَّ وجَل شِدَّةَ حَرِّهِ، وسَأَلهُ أَنْ يَأْذَنَ لهُ أَنْ يَتَنَفَّسَ، فَتَنَفَّسَ فَأَحْرَقَ جَهَنَّمَ»(1).

التقوى ومراتبها

مسألة: يجب تحصيل التقوى في مرتبة، ويستحب في مراتبها العالية، كما يلزم أن تقوى الله حق تقاته، دون التقوى السطحية أو البدائية المؤقتة.

أما السطحية التي لا تصل إلى العمق فليست بتقوى، وإنما سراب التقوى، قال تعالى: «وَ الذينَ كَفَرُوا أَعْمالهُمْ كَسَرابٍ بِقيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَ وَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَ اللهُ سَريعُ الحِسابِ»(2).

وفي الرواية: «الولايات مضاميرالرجال»(3).

وفي الحديث: «عِنْدَ الامْتِحَانِ يُكْرَمُ الرَّجُل أَوْ يُهَانُ»(4).

وجاء في معاني الأخبار وتفسير العياشي: سئل الصادق (عليه السلام) عن هذه الآية(5) قال: «يُطَاعُ فَلا يُعْصَى، ويُذْكَرُ فَلا يُنْسَى، ويُشْكَرُ فَلا يُكْفَر»(6).

ص: 388


1- الكافي: ج 2 ص310 باب الكبر ح10.
2- سورة النور: 39.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: ص58 ح1131.
4- عيون الحكم والمواعظ: ص337 ح5752.
5- سورة آل عمران: 102.
6- تفسير العياشي:ج 1 ص194 ح120، معاني الأخبار: ص240 باب معنى اتقاء الله حق تقاته ح1.

ثم إن التقوى المستمرة والثابتة هي التي تنفع الإنسان في دينه ودنياه، وعلى الإنسان أن يدعو ويسعى ليكون كذلك لتحسن عاقبته.

أما التقوى المؤقتة فمثلها مثل (الإيمان المستعار المستودع)، وفي الروايات أن الإيمان مستقر ومستودع، فكأنه وديعة سرعان ما تؤخذ وتسترجع.

قال (عليه السلام): «إِنَّ اللهَ خَلقَ النَّبِيِّينَ عَلى النُّبُوَّةِ فَلا يَكُونُونَ إِلا أَنْبِيَاءَ، وَخَلقَ المُؤْمِنِينَ عَلى الإِيمَانِ فَلا يَكُونُونَ إِلا مُؤْمِنِينَ، وَأَعَارَ قَوْماً إِيمَاناً فَإِنْ شَاءَ تَمَّمَهُ لهُمْ وَإِنْ شَاءَ سَلبَهُمْ إِيَّاهُ،قَال وَفِيهِمْ جَرَتْ: «فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ»(1)، وقَال لي: «إِنَّ فُلاناً كَانَ مُسْتَوْدَعاً إِيمَانُهُ فَلمَّا كَذَبَ عَليْنَا سُلبَ إِيمَانُهُ ذَلكَ»(2).

ص: 389


1- سورة الأنعام: 98.
2- الكافي: ج 2 ص418 باب المعارين ح4.

الإخلاص في العبادة

اشارة

قالت فاطمة (صلوات الله عليها): «من أصعد إلى الله خالص عبادته، أهبط الله إليه أفضل مصلحته»(1).

--------------------------

الأخلاص في المعرفة

مسألة: يجب الإخلاص في المعرفة، كما يجب الإخلاص في العبادة(2)، بل مطلقاً(3) في الجملة.

والإخلاص في المعرفة هو أن تكون خالصة عما لا يناسب ذاته المقدسة، من الجسمية والعرضية والصفات الزائدة والعوارض والحلول ووحدة الوجود والموجود وما أشبه، فإنه لا يتحقق الإخلاص مع تشبيه الله تعالى بخلقه في الذات أو الصفات.

قال تعالى: «وَادْعُوهُ مُخْلصينَ لهُ الدِّينَ»(4)،وفسر الدين بالطاعة،

ص: 390


1- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): ص327 ح177.
2- مما يعبر عنه بقصد القربة.
3- أي حتى في المعاملات والعاديات، كما سيوضحه الإمام المؤلف (قدس سره) في المتن.
4- سورة الأعراف: 29.

والإخلاص من الشرك والرياء والسمعة.

وقال عزوجل: «فَادْعُوا اللهَ مُخْلصينَ لهُ الدِّين»(1).

وقال سبحانه: «وَما أُمِرُوا إِلاَّ ليَعْبُدُوا اللهَ مُخْلصينَ لهُ الدِّين»(2).

وتحصيل (أفضل المصلحة) من أهم ما يلزم مراعاته، وحيث إن خالص العبادة سبب لذلك كان الإخلاص كذلك.

ثم إن الإخلاص واجب في الواجبات كما هو واضح، وينبغي التحلي به في المندوبات وبدونه لا ثواب ولا أجر، بل حتى في العاديات والمباحات، فمن يبني بناءً أو يشتري شيئاً إذا كان مخلصاً لله سبحانه في ذلك(3) كان له أجر وفضيلة، وقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتَعَالى يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ كَمَا يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِعَزَائِمِه»(4)،على ما ذكرنا تفصيله في بعض مباحث الفقه.

ومعنى الإخلاص: الخلوص والتمحض بكونه لله تعالى، بأن لا يكون

ص: 391


1- سورة غافر: 14.
2- سورة البينة: 5.
3- بأن قصد بهذا العمل المباح أن يحفظ عن الحرام أو أن يعينه على الطاعة، أو لأن الله أحب أن يأخذ برخصه، كما سيشير إليها الإمام المؤلف (قدس سره).
4- تفسير القمي: ج 1 ص16. كما ورد الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، انظر وسائل الشيعة: ج 1 ص108 ب25 باب جواز التقية في العبادات ووجوبها عند خوف الضرر ح1، والوسائل: ج 16 ص232 ب29 باب جواز التقية في إظهار كلمة الكفر كسب الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) والبراءة منهم وعدم وجوب التقية في ذلك وإن تيقن القتل ح20، ومستدرك الوسائل: ج 1 ص144 ب23 باب جواز التقية في العبادات ووجوبها عند خوف الضرر ح1.

رياءً ولا سمعةً، سواء في العبادة أو في سائر الأعمال، فيكون كل أخذ وعطاء وفعل وترك لأجل أمره سبحانه.

قَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (صَلوَاتُ اللهِ عَليْهِ): «زِينَةُ القُلوبِ إِخْلاصُ الإِيمَانِ»(1).

وعنه (عليه السلام): «أعلى الأعمال إخلاص الإيمان وصدق الورع والإيقان»(2).

وقال (عليه السلام): «طوبى لمن أخلص لله عمله وعلمه وحبّه وبغضه وأخذه وتركه وكلامه وصمته»(3).

فائدة الإخلاص

مسألة: يستحب بيان فائدة الإخلاص من القرب إلى الله تعالى، وحبه لعبده، ومن قبول أعماله، وأنه سبحانه سيهبط إليه أفضل مصلحته.

والظاهر أن (أفضل مصلحته) شامل للأخروية والدنيوية منها، كما أنه شامل لمصلحته في نفسه وفي أسرته وفي ذريته وفي عمله وفي درسه وفي غيرها.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

«لا تَجْلسُوا عِنْدَ كُل دَاعٍ مُدَّعٍ يَدْعُوكُمْ مِنَ اليَقِينِ إِلى الشَّكِّ، وَمِنَ الإِخْلاصِ إِلى الرِّيَاءِ، وَمِنَ التَّوَاضُعِ إِلى الكِبْرِ، وَمِنَ النَّصِيحَةِ إِلى العَدَاوَةِ، وَمِنَ

ص: 392


1- عيون الحكم والمواعظ: ص276 ح5007.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: ص218 ح547.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: ص431 ح28.

الزُّهْدِ إِلى الرَّغْبَةِ، وَتَقَرَّبُوا إِلى عَالمٍ يَدْعُوكُمْ مِنَ الكِبْرِ إِلى التَّوَاضُعِ، وَمِنَ الرِّيَاءِ إِلى الإِخْلاصِ، وَمِنَ الشَّكِّ إِلى اليَقِينِ، وَمِنَ الرَّغْبَةِ إِلى الزُّهْدِ، وَمِنَ العَدَاوَةِ إِلى النَّصِيحَةِ، وَلا يَصْلحُ لمَوْعِظَةِ الخَلقِ إِلا مَنْ خَافَ هَذِهِ الآفَاتِ بِصِدْقِهِ، وَأَشْرَفَ عَلى عُيُوبِ الكَلامِ، وَعَرَفَ الصَّحِيحَ مِنَ السَّقِيمِ، وَعِلل الخَوَاطِرِ وَفِتَنَ النَّفْسِ وَالهَوَى»(1).

ص: 393


1- بحار الأنوار: ج 2 ص52 ب11 صفات العلماء وأصنافهم ح20.

ص: 394

الفهرس

عند ساعات الاحتضار 5

طلب دار السلام 5

السلام على الملائكة 6

نظم الملائكة 9

التحريض على الآخرة 10

السلام على ملك الموت.. 13

حضور الملائكة عندها 14

السلام على المعصوم 16

السلام ثلاثة أيام 17

الصلاة عليها وغفران الذنوب.. 20

الصلاة على الصديقة 21

فضل الصلاة 21

النبي وليهم \ البنت من العصبة 23

أولادها أولاد النبي. 24

أنا عَصَبتهم. 30

ص: 395

ولاء أولاد الصديقة 31

أهل البيت هم الوسيلة 33

الوسيلة إلى الله. 34

هم الوسيلة 36

خاصة الله ومحل قدسه 37

حجج الله. 38

ورثة الأنبياء 40

إني راض عنهم. 42

تعدد واقعة الكساء \ معنى أنا منهم. 43

الدعاء للأهل والأقرباء 45

العصمة المطلقة 46

إكرام الأهل. 48

تقبل الإكرام 49

ما أسرعتم في الخيانة \ إعلام الناس بوصية الرسول. 51

شأن النزول. 52

حرمة الخيانة 53

تاريخ العترة 54

الاتباع والمودة والتمسك.. 55

الكتاب والعترة \ القبض اليسير. 56

وجوب نقل حديث الثقلين. 58

وجوب بيان حديث المعية 59

الانفصال عن القرآن. 60

السؤال عن الولاية 61

ص: 396

سؤال الأجر عام إلى يوم القيامة 63

من مات على حب آل محمد \ حب محمد وآله واجب.. 65

استحباب بيان فضل المحبين. 66

معاني الشهيد. 67

الحب والعمل. 68

أسماء الأئمة الاثني عشر 70

توضيحات: 73

مجاورة الشرير 80

مجانبة الشرير 80

الخوف من غير عدل الله. 81

الخوف من عدل الله. 82

الشهادة بالله. 83

التفصيل في سرد التاريخ \ التهنئة بمولد المعصومين. 84

استحباب السؤال إلا ما استثني \ الهدية في الله وفي الخلق. 85

هدايا مادية ومعنوية 87

النظر إلى ما تحمله المرأة 88

صحة خبر جابر \ روايات في مدح جابر 89

بيان النسب.. 90

محضر المرأة 90

ما يسر أهل البيت.. 91

كتاب من الله \ طلب الحجة على أصول الدين. 92

النسخ الخطية 93

إطلاق الأُم على الجدة \ احترام المسؤول عنه 94

ص: 397

الاتقان في العمل. 95

مشي العبادة \ قراءة الكتب الدينية 96

رجاء فضل غير الله. 97

الخوف من عدل الله. 99

نصب الوصي سنة إلهية 100

الارتياب فيهم والرد عليهم. 102

حرمة الافتراء والجحد. 104

التفضيل المطلق. 105

حرمة تغيير آيات الله \ الإيمان بالأوصياء 107

محادثة النساء 109

الرواية عن النساء 111

معنى الرسول نور الله. 112

معنى سفير الله. 115

معنى حجاب الله. 116

هل للظلمة عزة 117

طلب الإخبار حتى من العالم. 118

تقديم الهدايا للصديقة 120

سرور البنت.. 124

بين الرسول والعقل. 125

استثنائية مقتل الحسين (علیه السلام) 127

الواقفية 128

ذكر مطاعن قتلة أهل البيت.. 130

هل يوجد قاصر 132

ص: 398

لا تخلو الأرض من الحجة \ سيد العابدين. 133

الحجة رحمة للعالمين. 134

عموم رحمة الإمام 136

الرحمة على الأعداء أيضاً 137

قلة قتلى الإمام 139

التهنئة بولادة المولود 140

خطاب المعصوم 140

الاستنساخ وتصوير الوثائق. 142

الحلف.. 143

تعظيم أسماء الله. 143

شكر النعمة 145

جحد الآلاء 146

وحدانية الباري. 147

العبادة توقيفية \ حسن التوكل. 148

مسائل في الاعتقاد بالمعصومين. 149

الصحيفة البيضاء 152

دعوة الإمام وإجابتها \ الأمر المولوي والإرشادي. 154

الاستعداد للاحتضار 155

التكرار 156

معنى المولى. 157

المولوية التكوينية \ حرمة إنكار المقامات.. 158

تثبيت العقيدة 159

الوقوف عند حدود الله. 160

ص: 399

عدة مسائل. 161

أنت الإمام والخليفة بعدي. 163

الإبلاغ المكرر 164

مسائل في أولوية الإمام 165

الاعتقاد بكل الأئمة 167

ولاية الإمام 168

النصرة والخذلان. 169

حياة المعصوم \ التصريح بأسماء الأئمة 170

ملامح الحكومة المهدوية 171

الحكومة العالمية 172

أئمة الحق. 173

رجال الأعراف \ مطالب عن الأعراف.. 175

على الأعراف ومن في الأعراف.. 180

تفسير الآيات.. 182

التخصص في التفسير. 183

تفسير المعصوم 184

شأن النزول \ معرفة المعصوم 185

من هم أهل الجنة \ حرمة إنكارهم. 187

صراط الله واحد ولا نسبية في الحق. 188

العرفان الحقيقي. 189

الأوصياء من ولدي. 193

لوح الأسماء المباركة \ تسمية الأولاد 194

تعدد الألواح. 195

ص: 400

معرفة فلسفة الظواهر الغيبية والمادية 196

آخرهم القائم. 197

من أحكام النساء 197

فائدة 198

إنه أبو الأئمة \ تاريخ الأسرة 200

الأذان والإقامة في أذن الطفل. 201

الطفل والتربية الدينية 202

من آداب المولود 203

الرسول وسبطه 204

الأئمة الأبرار 205

أوصاف الأئمة 206

المولود والخرقة الصفراء 207

المولود والخرقة البيضاء 208

عدد نقباء بني إسرائيل \ عدد الأئمة 210

تاسع الأئمة 213

لف الطفل في قماش \ المكروه من ثياب المولود 214

زيارة والدة الطفل. 215

للقائم إطلاقان. 216

الشفقة على السبطين \ الشفة على الأحفاد 217

الشفة على العترة الطاهرة 219

رثاء الأب.. 220

الأشد شفقة 221

مطلق الشفقة 223

ص: 401

تعويذة السبطين \ تعويذ الأولاد 224

تجنب العين. 225

تعليم العوذات.. 227

تعليم الأولاد سور القرآن. 228

التعوذ بالله. 230

التعوذ بغير الله \ أنواع التعوذ 232

ليس في بيتنا شيء 234

بعض مسائل العلاقة مع الكفار 235

الجمع بين الأعمال \ زيارة البنت.. 236

صلة الرحم. 237

خطاب الجد لأحفاده 238

زهد العترة 239

مساعدة الزوجة 241

الأطفال واللعب.. 242

الكد على العيال. 243

حفظ الأولاد 244

حمل الأطفال. 245

توريث الصفات إعجازاً أو بالأسباب.. 246

علم الإمام اللاحق. 249

التأسي بالمعصوم في صفاته 251

طلب الحاجات من المعصوم \ من مصاديق تربية الأولاد 252

الهيبة والسؤدد 254

الجرأة والشجاعة 254

ص: 402

الجود والكرم 256

نحلة الأبناء \ تعدد القضايا 257

النحلة المعنوية 258

استحباب الحلم. 259

استحباب الرحمة 260

استحباب المحبة 261

استحباب الرضا 262

أشعار للطفل. 264

تشبيه الأولاد بالأجداد 264

روايات في بيان الشبه 266

خطاب الطفل \ الطفل وعبادة الله. 267

لا توال ذا الإحن \ تحريك الصبي. 269

قراءة الشعر للطفل. 270

أنا بتسكيته أرفق \ استحباب العمل. 272

العمل اليدوي. 273

الأُم وتربية الطفل. 275

خدمة الآخرين. 276

تفويض عمل البيت.. 277

الرفق المطلق. 279

الرفق مع الطفل. 280

الطلب الحكيم. 281

انتخاب الأرفق. 282

شاطئ الفرات.. 283

ص: 403

رواية الحديث.. 283

الإخبار بمقتل الذرية الطاهرة 284

فضل شهداء الفرات .. 285

من صفات الشيعة 287

الخوف من الله. 288

موالاة أولياء الأئمة 289

طاعة العترة في الأمر والنهي. 290

الشيعي حقاً 292

السؤال مفتاح المعرفة 299

السؤال عن نفسه \ خيار أهل الجنة 300

حب العترة \ وجوب الموالاة 302

وجوب المعاداة 303

التسليم المطلق. 304

إنقاذ المحبين. 305

من فلسفة البلايا 306

الحمد على البلايا 308

تطهير المذنبين. 309

الجنة أخيراً 310

الشفاعة لكل شيعي. 312

في صفات المؤمنين. 316

الاهتمام بالأحكام 318

الرجوع إلى المعصوم 319

كراهة الإهمال وحرمته 320

ص: 404

الجار وحقوقه 321

القول الخير أو السكوت.. 323

الإنسان الخيّر \ الإنسان الحليم. 324

الإنسان العفيف.. 326

حرمة الفحش.. 327

كراهة الضنين. 328

كراهة الإلحاح. 329

استحباب الحياء 330

حفظ الآثار المعنوية 332

قول الخير. 333

الإيمان ودرجاته العالية 334

حرمة البذاء 336

آثار العظيم. 337

خيار الناس \ اللين المطلق. 338

إكرام النساء 340

خير الناس. 341

اهتمام الإسلام بالمرأة 342

شرار الأمة \ من مسؤوليات العظيم. 343

صفات الأشرار 344

التشدق في الكلام 345

من مكروهات الأكل. 346

من مكروهات الثياب.. 346

فضل علماء الشيعة 348

ص: 405

توضيح الحديث.. 349

المرأة وأحكام النساء 350

السؤال عما فيه اللبس.. 351

الجهل التقصيري. 352

إنعاش الأيتام 353

الأساتذة وطلب الأسئلة 354

تعليل الأحكام 355

إجابة السائل. 356

ثواب إجابة السؤال. 357

الإكثار في طلب العلم. 358

الإرشاد إلى التكاليف.. 359

تعليم الجاهل وتكفله 360

الدنيا والتنغيص.. 361

سؤال الجاهل. 362

إرسال من يسأل. 363

قبول التوسط \ فضل العلم والعالم. 364

فضل التعليم \ فضل علماء الشيعة 366

استحباب الجد. 367

أيتام آل محمد \ تكفل اليتيم. 368

المعصومون آباء الأمة 369

استحباب البذل. 373

الإعادة والتكرار في البذل. 374

فضل نعم الآخرة 375

ص: 406

فضل الوالدة \ مقام الوالدة 377

بر الأم 379

حفظ الأولاد 381

الإخبار والإنشاء \ بين المرء وولده 382

حرمة الميت بحرمة ولده \ الأولاد والأحفاد 384

التقوى \ حرمة التكبر. 386

التقوى ومراتبها 388

الإخلاص في العبادة \ الأخلاص في المعرفة 390

فائدة الإخلاص.. 392

الفهرس. 395

ص: 407

المجلد الثاني عشر : رواياتها (علیها السلام) 5

هوية الكتاب

الفقه

موسوعة استدلالية في الفقه الإسلامي

من فقه الزهراء (علیها السلام)

المجلد الثاني عشر

رواياتها (علیها السلام) - 5

المرجع الديني الراحل

آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (أعلى الله درجاته)

ص: 1

اشارة

الطبعة الأولى للناشر

1439 ه 2018م

تهميش وتعليق:

مؤسسة المجتبى للتحقيق والنشر

كربلاء المقدسة

ص: 2

الفقه

من فقه الزهراء (علیها السلام)

المجلد الثاني عشر

رواياتها (علیها السلام)

القسم الخامس

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

ولعنة الله على أعدائهم أجمعين

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الصِّدِيقَةُ الشَّهِيدَةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الرَّضِيَةُ المَرْضِيَّةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الفَاضِلةُ الزَّكِيَةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا الحَوْراءُ الإِنْسِيَّةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا التَّقِيَّةُ النَّقِيَّةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا المُحَدَّثَةُ العَليمَةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا المَظْلومَةُ المَغْصُوبَةُ

السَّلامُ عَليْكِ أَيَّتُهَا المُضْطَهَدَةُ المَقْهُورَةُ

السَّلامُ عَليْكِ يا فاطِمَةُ بِنْتَ رَسُول اللهِ

وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ

البلد الأمين ص278. مصباح المتهجد ص711

بحار الأنوار ج97 ص195 ب12 ح5 ط بيروت

ص: 4

عقاب التهاون بالصلاة

اشارة

عن سيدة النساء فاطمة ابنة سيد الأنبياء (عليها السلام) أنها سألت أباها محمداً (صلى الله عليه وآله) فقالت:

«يا أبتاه ما لمن تهاون بصلاته من الرجال والنساء؟قال: يا فاطمة من تهاون بصلاته من الرجال والنساء ابتلاه الله بخمس عشرة خصلة: ست منها في دار الدنيا، وثلاث عند موته، وثلاث في قبره، وثلاث في القيامة إذا خرج من قبره.

وأما اللواتي تصيبه في دار الدنيا: فالأولى يرفع الله البركة من عمره، ويرفع الله البركة من رزقه، ويمحو الله عز وجل سيماء الصالحين من وجهه، وكل عمل يعمله لا يؤجر عليه، ولا يرتفع دعاؤه إلى السماء، والسادسة ليس له حظ في دعاء الصالحين.

وأما اللواتي تصيبه عند موته: فأولهن أنه يموت ذليلاً، والثانية يموت جائعاً، والثالثة يموت عطشاناً، فلو سقي من أنهار الدنيا لم يرو عطشه.

وأما اللواتي تصيبه في قبره: فأولهن يوكل الله به

ص: 5

ملكاً يزعجه في قبره، والثانية يضيق عليه قبره، والثالثة تكون الظلمة في قبره.

وأما اللواتي تصيبه يوم القيامة إذا خرج من قبره: فأولهن أن يوكل الله به ملكاً يسحبه على وجهه والخلائق ينظرون إليه، والثانية يحاسب حساباً شديداً، والثالثة لا ينظر الله إليه(1) ولا يزكيه وله عذاب أليم»(2).

-------------------

شرح الحديث

أقول: الزكاة بمعنى الطهارة وبمعنى النمو، فلا يزكيه أي لا يطهرهعما يلزمه من الذنوب والقبائح ولا ينمي عمله.

قولها (عليها السلام): (والخلائق ينظرون) لعل المراد من الخلائق الأعم من البشر، فيشمل الملائكة والجان وغيرهم.

ولا يخفى أن سحبه على وجهه مؤلم أشد الإيلام، وهو إلى ذلك يتضمن إهانته أشد الإهانة خاصة وأن الخلائق ينظرون.

ثم إن ذلك لعله في موطن من مواطن القيامة، إذ للقيامة مواطن في كل موطن هم في حال، فلا يقال كيف ينظر الخلائق إليه والحال أنه «يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَل كُل مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَ تَضَعُ كُل ذاتِ حَمْل حَمْلها وَ تَرَى النَّاسَ سُكارى وَ ما هُمْ بِسُكارى وَ لكِنَّ عَذابَ اللهِ شَديدٌ»(3).

وقد فصل الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بيان مواطن القيامة في جواب ذلك المتوهم وجود التناقض في القرآن الكريم، كما في الرواية الطويلة التي ينقلها

ص: 6


1- أي لا ينظر الله إليه نظر رحمة.
2- مستدرك الوسائل: ج 3 ص23 ب6 باب تحريم الاستخفاف بالصلاة و التهاون بها ح1.
3- سورة الحج: 2.

الاحتجاج(1).

قوله: (يحاسب حساباً شديداً)، فإنالله سبحانه تارة يحاسب عبيده بعدله، وأخرى بفضله وإحسانه، فإن حاسبهم بعدله كان الحساب شديداً، وكانت المداقة حتى في الكلمة واللحظة والفكرة وغيرها، وإن حاسبهم بفضله فإنه واسع كريم.

جزاء التهاون

يحتمل أن يكون ابتلاء الله تعالى للمتهاون بصلاته بهذه الخصال، جزاءً على عمله ابتداءً، ويحتمل أن يكون كالثمرة للبذرة، بأن يكون الله قد جعل تكويناً هذا التأثير لذاك التهاون، كما في الحرارة لتبخير الماء، أو السقي والبذر لنمو الشجرة، لا أنه جزاء كجزائنا.

عقاب التهاون بالصلاة

مسألة: يستحب وقد يجب بيان عقاب التهاون بالصلاة، وأنه يوجب الشقاء والتأخر والانحطاط في الدنيا والآخرة، مادياً ومعنوياً.

فالصلاة هي مظهر ارتباط العبد بربه، وهي الوسيلة التي شرعها الله تعالى ليرفعه إليه، إذ «الصلاة معراجالمؤمن»، و«الصلاة قربان كل تقي»(2)، فلو

ص: 7


1- الاحتجاج: ج 1 ص240 احتجاجه (عليه السلام) على زنديق جاء مستدلاً عليه بآي من القرآن متشابهة تحتاج إلى التأويل على أنها تقتضي التناقض والاختلاف فيه وعلى أمثاله في أشياء أخرى.
2- الكافي: ج 3 ص265 باب فضل الصلاة ح6.

أعرض عنها العبد وتهاون بها استحق إعراض الله وفقد ألطافه ورحمته، فكانت تلك العقوبات، إضافة إلى «إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الفَحْشاءِ وَالمُنْكَرِ»(1)، فالمتهاون بها يرتطم في الفحشاء والمنكر طبيعياً، كما هو المشاهد خارجاً، فيترتب عليه ما ذكر من العقوبات.

والظاهر أن المراد بالتهاون المحرم منه، لا بمعنى التأخير الجائز مثلاً، كعدم الصلاة في أول الوقت، أو الصلاة في غير المسجد، أو في غير الجماعة، أو ما أشبه، فالتهاون الجائز منصرف عنه بقرينة مناسبة الحكم والموضوع.

والآثار والنتائج المذكورة في هذه الرواية هي من باب الغيبيات في الجملة، والخارجيات أيضاً، فإن كثيراً من الأحكام الشرعية يوجب السعادة في الدنيا والآخرة، وتركها الشقاء فيهما بنحو الأثر الوضعي والتأثير التكويني الخارجي، لا بمجرد القضاء الغيبي والأثر الماورائي، كما ذكرنا بعض أمثال هذه المباحث في كتاب الآدابوالسنن.

عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «مَا بَيْنَ المُسْلمِ وبَيْنَ أَنْ يَكْفُرَ إِلا تَرْكُ الصَّلاةِ الفَرِيضَةِ مُتَعَمِّداً أَوْ يَتَهَاوَنَ بِهَا فَلا يُصَليَهَا»(2).

وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: «لا تَتَهَاوَنْ بِصَلاتِكَ فَإِنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) قَال عِنْدَ مَوْتِهِ: ليْسَ مِنِّي مَنِ اسْتَخَفَ بِصَلاتِهِ ليْسَ مِنِّي مَنْ شَرِبَ

ص: 8


1- سورة العنكبوت: 45.
2- وسائل الشيعة: ج 4 ص43 ب 11 باب ثبوت الكفر والارتداد بترك الصلاة الواجبة جحودا لها أو استخفافا بها ح6.

مُسْكِراً لا يَرِدُ عَليَّ الحَوْضَ لا واللهِ»(1).

بركة العمر

مسألة: ينبغي أن لا يفعل الإنسان ما يسبب رفع بركة عمره، والمراد ب (ينبغي أن لا يفعل) ههنا وفي المسائل اللاحقة الأعم من الحرمة والكراهة، ومن التنزيه والإرشادية، ومنه التهاون في الصلاة.

قال تعالى: «وَلوْ أَنَّ أَهْل القُرى آمَنُوا واتَّقَوْا لفَتَحْنا عَليْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ والأَرْضِ ولكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوايَكْسِبُون»(2).

وفي المقابل ينبغي فعل ما يوجب البركة.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام) عَنْ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) قَال: «يَا عَليُّ، إِنَّ الوُضُوءَ قَبْل الطَّعَامِ وبَعْدَهُ شِفَاءٌ فِي الجَسَدِ ويُمْنٌ فِي الرِّزْقِ»(3).

وعن الصادق (عليه السلام) قَال: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وجَل يُحِبُّ الإِطْعَامَ فِي اللهِ، ويُحِبُّ الذِي يُطْعِمُ الطَّعَامَ فِي اللهِ، والبَرَكَةُ فِي بَيْتِهِ أَسْرَعُ مِنَ الشَّفْرَةِ فِي سَنَامِ البَعِير»(4).

ص: 9


1- الكافي: ج 3 ص269 باب من حافظ على صلاته أو ضيعها ح7.
2- سورة الأعراف: 96.
3- وسائل الشيعة: ج 24 ص337 ب49 باب استحباب غسل اليدين قبل الطعام وبعده ح8.
4- مكارم الأخلاق: ص135 الفصل الأول في فضل إطعام الطعام واصطناع المعروف وصوم التطوع.

بركة الرزق

مسألة: يكره أن يفعل الإنسان ما يرفع بركة رزقه، والرزق منصرف إلى المال ونظائره، لكن ربما يقال إنه انصراف بدوي، فيشمل الرزق المعنوي أيضاً، كالعلم والإيمان والجاه.

ثم إن ذلك ونظائره غير خاص بالأشخاص، بل يشمل الجهات الاعتبارية أيضاً، كالشركات والمنظمات والعشائر والأحزاب، فإن رزق الجهات الاعتبارية قد يكون مع البركة وقد لا يكون، وذلك يتبع متى اهتمام تلك الجهات بشكل عام بالصلاة وسائر أوامر الله تعالى أو إهماله لها، قال تعالى: «الذينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنْكَرِ وَللهِ عاقِبَةُ الأُمُورِ»(1).

سيماء الصالحين

مسألة: يكره أن يفعل الإنسان ما يمحو سيماء الصالحين من وجهه، فإن لسيماء الصالحين الموضوعية لما له من القيمة في حد نفسه، والطريقية لأنه يذكر الناس بالله بصالح ملامحه وسيمائه، وبحسن أن يكون المرء صالحاً.قَال الصادق (عليه السلام): «مَنْ رَعَى قَلبَهُ عَنِ الغَفْلةِ، ونَفْسَهُ عَنِ الشَّهْوَةِ، وعَقْلهُ عَنِ الجَهْل، فَقَدْ دَخَل فِي دِيوَانِ المُتَنَبِّهِينَ، ثُمَّ مَنْ رَعَى عِلمَهُ عَنِ الهَوَى،

ص: 10


1- سورة الحج: 41.

ودِينَهُ عَنِ البِدْعَةِ، ومَالهُ عَنِ الحَرَامِ، فَهُوَ مِنْ جُمْلةِ الصَّالحِين»(1).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: قَال: «عَليْكُمْ بِصَلاةِ الليْل فَإِنَّهَا سُنَّةُ نَبِيِّكُمْ ودَأْبُ الصَّالحِينَ قَبْلكُمْ ومَطْرَدَةُ الدَّاءِ عَنْ أَجْسَادِكُمْ»(2).

الأجر وعدمه

مسألة: يكره أن يفعل الإنسان ما يسبب أن لا يؤجر على أعماله.

والكراهة قد تكون إرشادية وقد تكون مولوية.

قال تعالى: «يا أَيُّهَا الذينَ آمَنُوا لا تُبْطِلوا صَدَقاتِكُمْ بِالمَنِّ والأَذى كَالذي يُنْفِقُ مالهُ رِئاءَ النَّاسِ ولا يُؤْمِنُ بِاللهِ واليَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلهُ كَمَثَل صَفْوانٍ عَليْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِل فَتَرَكَهُ صَلداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْ ءٍ مِمَّا كَسَبُوا واللهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الكافِرين»(3).

وقَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (صَلوَاتُ اللهِ عَليْهِ): «مَنْ مَنَّ بِمَعْرُوفِهِ فَقَدْ كَدَّرَ مَا صَنَعَهُ»(4).

وفِي حَدِيثِ المَنَاهِي قَال (صلى الله عليه وآله): «ومَنِ اصْطَنَعَ إِلى أَخِيهِ مَعْرُوفاً

ص: 11


1- مستدرك الوسائل: ج 12 ص170 ب101 باب نوادر ما يتعلق بأبواب جهاد النفس وما يناسبه ح9.
2- وسائل الشيعة: ج 8 ص149 ب39 باب تأكد استحباب المواظبة على صلاة الليل ح10.
3- سورة البقرة: 264.
4- عيون الحكم والمواعظ: ص425 ح7186.

فَامْتَنَّ بِهِ أَحْبَطَ اللهُ عَمَلهُ وثَبَّتَ وِزْرَهُ ولمْ يَشْكُرْ لهُ سَعْيَهُ».

ثُمَّ قَال (عليه السلام): «يَقُول اللهُ عَزَّ وجَل: حَرَّمْتُ الجَنَّةَ عَلى المَنَّانِ والبَخِيل والقَتَّاتِ وهُوَ النَّمَّامُ، أَلا ومَنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَلهُ بِوَزْنِ كُل دِرْهَمٍ مِثْل جَبَل أُحُدٍ مِنْ نَعِيمِ الجَنَّةِ، ومَنْ مَشَى بِصَدَقَةٍ إِلى مُحْتَاجٍ كَانَ لهُ كَأَجْرِ صَاحِبِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِهِ شَيْ ءٌ»(1).

استجابة الدعاء

مسألة: يكره أن يفعل الإنسان ما يوجب عدم رفع دعائه إلى السماء، ومن الواضح أن الدعاء إذا لم يرفع إلى السماء فإنه لا يستجاب.

عَنْ سُليْمَانَ بْنِ عَمْرٍو قَال: سَمِعْتُ أَبَاعَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُول: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وجَل لا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً بِظَهْرِ قَلبٍ سَاهٍ، فَإِذَا دَعَوْتَ فَأَقْبِل بِقَلبِكَ، ثُمَّ اسْتَيْقِنْ بِالإِجَابَةِ»(2).

وقَال النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): «ادْعُوا اللهَ وأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ واعْلمُوا أَنَّ اللهَ لا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلبٍ لاه»(3).

ص: 12


1- وسائل الشيعة: ج 9 ص453 ب37 باب عدم جواز المن بعد الصدقة والصنيعة ح5.
2- الكافي: ج 2 ص473 باب الإقبال على الدعاء ح1.
3- مستدرك الوسائل: ج 5 ص191 ب15 باب استحباب الإقبال بالقلب حالة الدعاء ح2.

دعاء الصالحين

مسألة: يكره أن يفعل الإنسان ما يوجب أن لا يكون له حظ في دعاء الصالحين، سواء بنحو الكلي أو الجزئي، أما الجزئي بأن يفعل ما يسبب عدم ذكرهم له بخصوصه في أدعيتهم، وأما الكلي بأن يفعل ما يخرج بسببه خروجاً موضوعياً من أدعية الصالحين الكلية لجميع المؤمنين والمؤمنات.

قال الإمام السجاد (عليه السلام) في الصحيفة: «اللهُمَّ صَل عَلى مُحَمَّدٍ وآلهِ، وحَلنِي بِحِليَةِ الصَّالحِين»(1).

وقال (عليه السلام): «اللهُمَّ واجْعَلنَا فِي سَائِرِ الشُّهُورِ والأَيَّامِ كَذَلكَ مَا عَمَّرْتَنَا، واجْعَلنَا مِنْ عِبَادِكَ الصَّالحِين»(2).

موت الذل

مسألة: يكره أن يفعل الإنسان ما يسبب موته ذليلاً، وقد يحرم ذلك.والمراد بالموت ذليلاً على سبيل البدل أو الاجتماع، عند نفسه وعند أهله وعند الناس وعند الملائكة وعند الله تعالى، وذلك لأن العزة منحة إلهية فمن أعرض عن أوامره تعالى وتهاون بصلاته أذله الله، «فَإِنَّ العِزَّةَ للهِ جَميعاً»(3)،

ص: 13


1- الصحيفة السجادية، وكان من دعائه (عليه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.
2- الصحيفة السجادية، وكان من دعائه (عليه السلام) إذا دخل شهر رمضان.
3- سورة النساء: 139.

«وَللهِ العِزَّةُ وَلرَسُولهِ وَللمُؤْمِنينَ»(1).

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «اعْلمُوا أَنَّ اللهَ تَعَالى يُبْغِضُ مِنْ خَلقِهِ المُتَلوِّنَ، فَلا تَزُولوا عَنِ الحَقِّ وأَهْلهِ، فَإِنَّ مَنِ اسْتَبَدَّ بِالبَاطِل وأَهْلهِ هَلكَ، وفَاتَتْهُ الدُّنْيَا وخَرَجَ مِنْهَا صَاغِراً»(2).

الموت جوعاً

مسألة: يكره أن يفعل الإنسان ما يوجب موته جائعاً.

وكما على المرء أن يعتبر بهذا الحديث، عليه أن ينصح الآخرين أيضاً، فإذا جاع أحدهم وكان متهاوناً بصلاته ذكره بأن يتعظ ولا يتهاون بها، وليتذكر بجوعه الآن جوعه بل شدة جوعهفي لحظات الاحتضار.

نعم قد يرجح الموت جائعاً كما في الحديث التالي:

عَنْ مِهْزَمٍ الأَسَدِيِّ، قَال: قَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «يَا مِهْزَمُ، شِيعَتُنَا مَنْ لا يَعْدُو صَوْتُهُ سَمْعَهُ، ولا شَحْنَاؤُهُ يَدَيْهِ، ولا يَمْتَدِحُ بِنَا مُعْلناً، ولا يُجَالسُ لنَا عَائِباً، ولا يُخَاصِمُ لنَا قَالياً، وإِنْ لقِيَ مُؤْمِناً أَكْرَمَهُ، وإِنْ لقِيَ جَاهِلا هَجَرَهُ» إلى أن قال: «شِيعَتُنَا مَنْ لا يَهِرُّ هَرِيرَ الكَلبِ، ولا يَطْمَعُ طَمَعَ الغُرَابِ، ولا يَسْأَل عَدُوَّنَا وإِنْ مَاتَ جُوعاً»(3) الحديث.

ص: 14


1- سورة المنافقون: 8.
2- الأمالي، للمفيد: ص137 المجلس السادس عشر ح6.
3- وسائل الشيعة: ج 15 ص192 ب4 باب استحباب ملازمة الصفات الحميدة واستعمالها وذكر نبذة منها ح27.

الموت عطشاً

مسألة: يكره أن يفعل الإنسان ما يوجب موته عطشاً، ولكي لا ينسى المرء كلمات الرسول (صلى الله عليه وآله) هذه التي نقلتها الصديقة (عليها السلام)، فعليه كلما عطش أن يتذكر الحديث وأنه لو تهاون بصلاته ابتلي بالعطش لدى موته، إضافة إلى تذكره عطش الإمام الحسين (عليه السلام) ولعن قاتليه وظالميه، وبذلك يتكامل الإنسان أكثر فأكثر.قَال النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): «كُل أَحَدٍ يَمُوتُ عَطْشَانَ إِلا ذَاكِرَ الله»(1).

وعَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) قَال: «يَا عَليُّ، اقْرَأْ يس فَإِنَّ فِي قِرَاءَةِ يس عَشْرَ بَرَكَاتٍ، مَا قَرَأَهَا جَائِعٌ إِلا أُشْبِعَ، ولا ظَامِئٌ إِلا رَوِيَ، ولا عَارٍ إِلا كُسِيَ، ولا عَزَبٌ إِلا تَزَوَّجَ، ولا خَائِفٌ إِلا أَمِنَ، ولا مَرِيضٌ إِلا بَرَأَ، ولا مَحْبُوسٌ إِلا أُخْرِجَ، ولا مُسَافِرٌ إِلا أُعِينَ عَلى سَفَرِهِ، ولا قَرَأَهَا رَجُل ضَلتْ لهُ ضَالةٌ إِلا رَدَّهَا اللهُ عَليْهِ، ولا مَسْجُونٌ إِلا أُخْرِجَ، ولا مَدِينٌ إِلا أُدِّيَ دَيْنُهُ، ولا قُرِئَتْ عِنْدَ مَيِّتٍ إِلا خَفَّفَ اللهُ عَنْهُ تِلكَ السَّاعَة»(2).

ص: 15


1- مستدرك الوسائل: ج 2 ص156 ب39 باب نوادر ما يتعلق بأبواب الاحتضار ح35.
2- مستدرك الوسائل: ج 2 ص136 ب31 باب استحباب قراءة الصافات ويس عند المحتضر ح1.

عذاب القبر

مسألة: يكره وريما يحرم أن يفعل الإنسان ما يسبب أن يوكل الله به ملكاً يزعجه في قبره.

وإزعاج الملك له في قبره قد يكون بتأنيبه دوماً وتقريعه وتذكيره بسيئات عمله، وقد يكون بتخويفه من أنواع عذابه في المحشر أو النار، وقد يكون بغير ذلك من أمور نفسية وحتى مادية.

مُحَمَّدُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَال: حَدَّثَنِي عَليُّ بْنُ الحَسَنِ، قَال: عَليُّ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ كَذَّابٌ مُتَّهَمٌ، قَال رَوَى أَصْحَابُنَا أَنَّ الرِّضَا (عليه السلام) قَال بَعْدَ مَوْتِهِ: «أُقْعِدَ عَليُّ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ فِي قَبْرِهِ، فَسُئِل عَنِ الأَئِمَّةِ، فَأَخْبَرَ بِأَسْمَائِهِمْ حَتَّى انْتَهَى إِليَّ فَسُئِل فَوَقَفَ، فَضُرِبَ عَلى رَأْسِهِ ضَرْبَةً امْتَلأَ قَبْرُهُ نَاراً»(1).

ورُوِيَ أَنَّ رَجُلا مِنَ الأَحْبَارِ أُقْعِدَ فِي قَبْرِهِ فَقِيل لهُ: إِنَّا جَالدُوكَ مِائَةَ جَلدَةٍ مِنْ عَذَابِ اللهِ عَزَّ وجَل. قَال: لا أُطِيقُهَا.

فَلمْ يَزَالوا بِهِ حَتَّى رَدُّوهُ إِلى وَاحِدَةٍ، فَقَال: لا أُطِيقُهَا، فَقَالوا: لا بُدَّ مِنْهَا، قَال: فَبِمَا تَجْلدُونِيهَا، قَالوا: نَجْلدُكَ بِأَنَّكَ صَليْتَ يَوْماً بِغَيْرِ وُضُوءٍومَرَرْتَ عَلى ضَعِيفٍ فَلمْ تَنْصُرْهُ، فَجَلدُوهُ جَلدَةً مِن عَذَابِ اللهِ تَعَالى فَامْتَلأَ قَبْرُهُ نَاراً»(2).

وعَنْ عَليِّ بْنِ أَبِي طَالبٍ (عليه السلام) قَال: «عَذَابُ القَبْرِ يَكُونُ مِنَ النَّمِيمَةِ

ص: 16


1- رجال الكشي: ص444 ح834.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 1 ص58 باب فيمن ترك الوضوء أو بعضه أو شك فيه ح130.

والبَوْل وعَزَبِ الرَّجُل عَنْ أَهْلهِ»(1).

وقَال الصَّادِقُ (عليه السلام): «إِنَّ العَبْدَ إِذَا كَثُرَتْ ذُنُوبُهُ ولمْ يَجِدْ مَا يُكَفِّرُهَا بِهِ ابْتَلاهُ اللهُ عَزَّ وجَل بِالحُزْنِ فِي الدُّنْيَا ليُكَفِّرَهَا بِهِ، فَإِنْ فَعَل ذَلكَ بِهِ وإِلاّ فَعَذَّبَهُ فِي قَبْرِهِ ليَلقَاهُ اللهُ عَزَّ وجَل يَوْمَ يَلقَاهُ وليْسَ شَيْ ءٌ يَشْهَدُ عَليْهِ بِشَيْ ءٍ مِنْ ذُنُوبِهِ»(2).

ضيق القبر

مسألة: ينبغي أن يتجنب الإنسان ما يسبب أن يضيق عليه قبره.

وضيق القبر يحتوش البدن المثاليللميت، ويحتوش روحه أيضاً(3).

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «كَانَ أَبِي (عليه السلام) يَقُول إِذَا أَصْبَحَ: "... نَسْأَلكَ العَفْوَ والعَافِيَةَ مِنْ كُل سُوءٍ وشَرٍّ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ، اللهُمَ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، ومِنْ ضَغْطَةِ القَبْرِ، ومِنْ ضِيقِ القَبْرِ، وأَعُوذُ بِكَ مِنْ سَطَوَاتِ الليْل والنَّهَار»(4).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «اللهُمَّ بَارِكْ لي فِي المَوْتِ، اللهُمَّ أَعِنِّي عَلى المَوْتِ، اللهُمَّ أَعِنِّي عَلى سَكَرَاتِ المَوْتِ، اللهُمَّ أَعِنِّي عَلى غَمِّ القَبْرِ، اللهُمَّ أَعِنِّي عَلى ضِيقِ القَبْرِ، اللهُمَّ أَعِنِّي عَلى ظُلمَةِ القَبْرِ، اللهُمَّ أَعِنِّي عَلى وَحْشَةِ

ص: 17


1- وسائل الشيعة: ج 1 ص340 ب23 باب وجوب التوقي من البول ح3.
2- بحار الأنوار: ج 64 ص235 ب12 شدة ابتلاء المؤمن وعلته وفضل البلاء ح53.
3- يقال احتوشوه من كل جانب: اي أحاطوا به.
4- الكافي: ج 2 ص525 باب القول عند الإصباح والإمساء ح13.

القَبْر»(1).

ظلمة القبر

مسألة: يكره أن يفعل الإنسان ما يوجب الظلمة في قبره، وظلمة القبر عذاب موحش، فإن الإنسان يخاف الظلام، لأنه لايدري ما يفعل به، ولا من أين يتوجه إليه الخطر ليتقيه، إضافة إلى ما يوجبه الظلام من انقباض النفس.

في مجموعة ورام: (ليْسَ مِنْ مَيِّتٍ يَمُوتُ إِلا نَادَتْهُ حُفْرَتُهُ التِي تُدْفَنُ فِيهَا: أَنَا بَيْتُ الظُّلمَةِ والوَحْدَةِ والانْفِرَادِ، فَإِنْ كُنْتَ فِي حَيَاتِكَ للهِ مُطِيعاً كُنْتُ عَليْكَ اليَوْمَ رَحْمَةً، وإِنْ كُنْتَ للهِ عَاصِياً فَأَنَا اليَوْمَ عَليْكَ نَقِمَةٌ، أَنَا الذِي مَنْ دَخَلنِي مُطِيعاً خَرَجَ مَسْرُوراً، ومَنْ دَخَلنِي عَاصِياً خَرَجَ مَثْبُوراً)(2).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «إِنَّ للقَبْرِ كَلاماً فِي كُل يَوْمٍ، يَقُول: أَنَا بَيْتُ الغُرْبَةِ، أَنَا بَيْتُ الوَحْشَةِ، أَنَا بَيْتُ الدُّودِ، أَنَا القَبْرُ، أَنَا رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ»(3).

وقَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «إِذَا حُمِل عَدُوُّ اللهِ إِلى قَبْرِهِ نَادَى حَمَلتَهُ: أَلا تَسْمَعُونَ يَا إِخْوَتَاهْ، أَنِّي أَشْكُو إِليْكُمْ مَا وَقَعَ فِيهِ أَخُوكُمُ الشَّقِيُّ، أَنَّ عَدُوَّ اللهِ خَدَعَنِي فَأَوْرَدَنِي ثُمَّ لمْ يُصْدِرْنِي وأَقْسَمَ لي أَنَّهُ نَاصِحٌ لي فَغَشَّنِي، وأَشْكُو إِليْكُمْ دُنْيَا غَرَّتْنِي حَتَّى إِذَا اطْمَأْنَنْتُ إِليْهَا صَرَعَتْنِي،وأَشْكُو إِليْكُمْ أَخِلاءَ

ص: 18


1- تهذيب الأحكام: ج 3 ص93 الدعاء في الزيادة تمام المائة ركعة ح25.
2- مجموعة ورام: ج 1 ص289 بيان كلام القبر للميت وكلام الموتى.
3- الكافي: ج 3 ص242 باب ما ينطق به موضع القبر ح2.

الهَوَى مَنَّوْنِي ثُمَّ تَبَرَّءُوا مِنِّي وخَذَلونِي، وأَشْكُو إِليْكُمْ أَوْلاداً حَمَيْتُ عَنْهُمْ وآثَرْتُهُمْ عَلى نَفْسِي فَأَكَلوا مَالي وأَسْلمُونِي، وأَشْكُو إِليْكُمْ مَالا مَنَعْتُ مِنْهُ حَقَّ اللهِ فَكَانَ وَبَالهُ عَليَّ وكَانَ نَفْعُهُ لغَيْرِي، وأَشْكُو إِليْكُمْ دَاراً أَنْفَقْتُ عَليْهَا حَرِيبَتِي وصَارَ سَاكِنُهَا غَيْرِي، وأَشْكُو إِليْكُمْ طُول الثَّوَاءِ فِي قَبْرِي يُنَادِي أَنَا بَيْتُ الدُّودِ، أَنَا بَيْتُ الظُّلمَةِ والوَحْشَةِ والضَّيْقِ، يَا إِخْوَتَاهْ فَاحْبِسُونِي مَا اسْتَطَعْتُمْ، واحْذَرُوا مِثْل مَا لقِيتُ، فَإِنِّي قَدْ بُشِّرْتُ بِالنَّارِ وبِالذُّل والصَّغَارِ وغَضَبِ العَزِيزِ الجَبَّارِ، وَا حَسْرَتَاهْ عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ، ويَا طُول عَوْلتَاهْ، فَمَا لي مِنْ شَفِيعٍ يُطاعُ، ولا صَدِيقٍ يَرْحَمُنِي، فَلوْ أَنَّ لي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ»(1).

سحب المجرم

مسألة: يحرم أن يفعل الإنسان ما يوجب أن يسحبه يوم القيامة ملك على وجهه أمام الخلائق، ومن الواضح أن السحب على الوجه أكثر إيحاشاً، وأشد إهانةً وأكبر إيلاماً من السحب على الظهر.قال تعالى: «إِذِ الأَغْلال في أَعْناقِهِمْ والسَّلاسِل يُسْحَبُونَ»(2).

وقال سبحانه: «يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَر»(3).

ص: 19


1- الكافي: ج 3 ص233 باب أن الميت يمثل له ماله وولده وعمله قبل موته ح2.
2- سورة غافر: 71.
3- سورة القمر: 48.

شدة الحساب

مسألة: يحرم أن يفعل الإنسان ما يوجب أن يحاسب حساباً شديداً يوجب العقاب، وقد يكره إذا كان يوجب العتاب دون العقاب.

وقد سبق أن الحساب الشديد هو مقتضى عدل الله، ولا يرفعه إلاّ فضله، وفضله لا ينال المتهاون في صلاته.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «ثَلاثَةٌ «لا يُكَلمُهُمُ اللهُ يَوْمَ القِيامَةِ ولا يُزَكِّيهِمْ ولهُمْ عَذابٌ أَليمٌ»(1)، مَنِ ادَّعَى إِمَامَةً مِنَ اللهِ ليْسَتْ لهُ، ومَنْ جَحَدَ إِمَاماً مِنَ اللهِ، ومَنْ زَعَمَ أَنَّ لهُمَا فِي الإِسْلامِ نَصِيباً»(2).

وعَنْ عَليِّ بْنِ جَعْفَرٍ قَال: سَمِعْتُ أَبَا الحَسَنِ (عليه

السلام) يَقُول: «مَنْ أَتَاهُ أَخُوهُ المُؤْمِنُ فِي حَاجَةٍ فَإِنَّمَا هِيَ رَحْمَةٌ مِنَ اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالى سَاقَهَا إِليْهِ، فَإِنْ قَبِل ذَلكَ فَقَدْ وَصَلهُ بِوَلايَتِنَا وهُوَ مَوْصُول بِوَلايَةِ اللهِ، وإِنْ رَدَّهُ عَنْ حَاجَتِهِ وهُوَ يَقْدِرُ عَلى قَضَائِهَا سَلطَ اللهُ عَليْهِ شُجَاعاً مِنْ نَارٍ يَنْهَشُهُ فِي قَبْرِهِ إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ، مَغْفُوراً لهُ أَوْ مُعَذَّباً، فَإِنْ عَذَرَهُ الطَّالبُكَانَ أَسْوَأَ حَالا»(3).

ص: 20


1- سورة البقرة: 174.
2- الكافي: ج 1 ص373 باب من ادعى الإمامة وليس لها بأهل ومن جحد الأئمة أو بعضهم ومن أثبت الإمامة لمن ليس لها بأهل ح4.
3- الكافي: ج 2 ص196 باب قضاء حاجة المؤمن ح13.

عدم النظرة الإلهية

مسألة: يحرم ما يوجب أن لا ينظر الله إليه ولا يزكيه، ويعذبه عذاباً أليماً.

ثم إن الحرمة في هذا وبعض ما سبقه إرشادية لا مولوية، فلا تترتب عقوبتان على ذلك الحرام المستوجب لهذه المحاذير.

قال تعالى: «إِنَّ الذينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَليلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهمْ فِي الآخِرَةِ ولا يُكَلمُهُمُ اللهُ ولا يَنْظُرُ إِليْهِمْ يَوْمَ القِيامَةِ ولا يُزَكِّيهِمْ وَلَهمْ عَذابٌ أَليم»(1).

قال العياشي: قال علي بن أبي طالب (عليه السلام) في قوله: «وَلا يَنْظُرُ إِليْهِمْ يَوْمَ القِيامَةِ» يعني: «لا ينظر إليهم بخير، أي لا يرحمهم، وقد يقول العرب للرجل السيد وللملك: لا تنظر إلينا، يعني أنك لا تصيبنا بخير، وذلك النظر من الله إلى خلقه(2).

وعَنِ المُفَضَّل بْنِ عُمَرَ، قَال: قَال لي أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتَعَالى تَوَحَّدَ بِمُلكِهِ فَعَرَّفَ عِبَادَهُ نَفْسَهُ ثُمَّ فَوَّضَ إِليْهِمْ أَمْرَهُ وأَبَاحَ لهُمْ جَنَّتَهُ، فَمَنْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قَلبَهُ مِنَ الجِنِّ والإِنْسِ عَرَّفَهُ وَلايَتَنَا، ومَنْ أَرَادَ أَنْ يَطْمِسَعَلى قَلبِهِ أَمْسَكَ عَنْهُ مَعْرِفَتَنَا، ثُمَّ قَال: يَا مُفَضَّل واللهِ مَا اسْتَوْجَبَ آدَمُ أَنْ يَخْلقَهُ اللهُ بِيَدِهِ ويَنْفُخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ إِلا بِوَلايَةِ عَليٍّ (عليه السلام)، ومَا كَلمَ اللهُ

ص: 21


1- سورة آل عمران: 77.
2- تفسير العياشي: ج 1 ص180 ح72.

مُوسى تَكْليماً إِلا بِوَلايَةِ عَليٍّ (عليه السلام)، ولا أَقَامَ اللهُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ آيَةً للعَالمِينَ إِلا بِالخُضُوعِ لعَليٍّ (عليه السلام)، ثُمَّ قَال: أَجْمَل الأَمْرِ مَا اسْتَأْهَل خَلقٌ مِنَ اللهِ النَّظَرَ إِليْهِ إِلا بِالعُبُودِيَّةِ لنَا»(1).

الترك والتهاون

مسألة: ترك الصلاة من أشد المحرمات، وقد دلت عليه الآيات الشريفة والروايات الكثيرة، وإذا كان التهاون حراماً وبهذه المنزلة فإن تركها يكون بطريق أولى أشد حرمة وعقوبة، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لا تضيعوا صلاتكم فإن من ضيع صلاته حشر مع قارون وهامان، وكان حقاً على الله أن يدخله النار مع المنافقين»(2).

كما ورد عنه (صلى الله عليه وآله): «إِذَاكَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ يُدْعَى بِالعَبْدِ فَأَوَّل شَيْ ءٍ يُسْأَل عَنْهُ الصَّلاةُ فَإِذَا جَاءَ بِهَا تَامَّةً وَ إِلا زُجَّ فِي النَّار»(3).

والمراد بالصلاة هنا الفرائض لا النوافل، نعم لا شك في أن الصلوات المستحبة لها فوائدها الدنيوية والأخروية، كما ورد في جملة من رواياتها(4)، وقد

ص: 22


1- الاختصاص: ص250 في بيان جملة من الحكم والمواعظ والوصايا عنهم (عليهم السلام).
2- وسائل الشيعة: ج 4 ص30 ب7 باب تحريم إضاعة الصلاة ووجوب المحافظة عليها ح7.
3- وسائل الشيعة: ج 4 ص29 ب7 باب تحريم إضاعة الصلاة ووجوب المحافظة عليها ح6.
4- فقد ورد في صلاة الليل مثلاً: «عَليْكُمْ بِصَلاةِ الليْل فَإِنَّهَا سُنَّةُ نَبِيِّكُمْ، وأَدَبُ الصَّالحِينَ قَبْلكُمْ، ومَطْرَدَةُ الدَّاءِ عَنْ أَجْسَادِكُمْ». عن الصادق (عليه السلام)، من لا يحضره الفقيه: ج 1 ص472 باب ثواب صلاة الليل ح1363. وورد في الصلاة عند الإمام الحسين (عليه السلام): (عن أَبُي عَبْدِ اللهِ الحَرَّانِيُّ قَال: قُلتُ لأَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): مَا لمَنْ زَارَ قَبْرَ الحُسَيْنِ عليه السلام، قَال: مَنْ أَتَاهُ وزَارَهُ وصَلى عِنْدَهُ رَكْعَتَيْنِ كُتِبَ لهُ حَجَّةٌ مَبْرُورَةٌ، فَإِنْ صَلى عِنْدَهُ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ كُتِبَتْ لهُ حَجَّةٌ وعُمْرَةٌ، قُلتُ: جُعِلتُ فِدَاكَ وكَذَلكَ لكُل مَنْ زَارَ إِمَاماً مُفْتَرَضَةً طَاعَتُهُ، قَال: وكَذَلكَ كُل مَنْ زَارَ إِمَاماً مُفْتَرَضَةً طَاعَتُهُ». تهذيب الأحكام: ج 6 ص79 ب26 باب فضل زيارة علي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد (عليهم السلام) ح4. وورد في فضل النوافل اليومية وغيرها من الصلوات المستحبة: (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ قَال: سَأَلتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) عَنْ أَفْضَل مَا جَرَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِنَ الصَّلاةِ، فَقَال: تَمَامُ الخَمْسِينَ)، الكافي: ج 3 ص443 باب صلاة النوافل ح4. و(عَنِ الحَسَنِ بْنِ صَالحٍ قَال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُول: مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الوُضُوءَ وصَلى رَكْعَتَيْنِ فَأَتَمَّ رُكُوعَهُمَا وسُجُودَهُمَا ثُمَّ جَلسَ فَأَثْنَى عَلى اللهِ عَزَّ وجَل وصَلى عَلى رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) ثُمَّ سَأَل اللهَ حَاجَتَهُ فَقَدْ طَلبَ الخَيْرَ فِي مَظَانِّهِ ومَنْ طَلبَ الخَيْرَ فِي مَظَانِّهِ لمْ يَخِبْ). الكافي: ج 3 ص478 باب صلاة الحوائج ح5.

قال رسول الله (صلى اللهعليه وآله): «الصلاة خير موضوع فمن شاء استقل ومن شاء استكثر»(1).

ويحتمل في (خير موضوع) الإضافة، كما يحتمل كون (موضوع) صفة.

ثم إنه يراد بها في هذه الرواية أيضاً المستحبة، لأن الواجبة لا يجوز التقليل منها ولا الاستكثار فيها، وإن كان ربما يقال بجواز الاستكثار بالإتيان بالفريضة مكرراً، كما قد يفهم ذلك من قوله (عليه الصلاة والسلام): «يختار الله أحبهما إليه».

فعَنْ أَبِي بَصِيرٍ قَال: قُلتُ لأَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): أُصَلي ثُمَّ أَدْخُل

ص: 23


1- مستدرك الوسائل: ج 3 ص43 ب10 باب استحباب اختيار الصلاة على غيرها من العبادات المندوبة ح9.

المَسْجِدَ فَتُقَامُ الصَّلاةُ وَقَدْ صَليْتُ، فَقَال: «صَل مَعَهُمْ يَخْتَارُ اللهُ أَحَبَّهُمَاإِليْهِ»(1).

وما ورد من أن أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) كرر الصلاة على جنازة واحدة، وما أشبه ذلك مما ذكر في الفقه، فتأمل(2).

عَنْ ذَرِيحٍ المُحَارِبِيِّ قَال: ذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) سَهْل بْنَ حُنَيْفٍ فَقَال: كَانَ مِنَ النُّقَبَاءِ، فَقُلتُ: مِنْ نُقَبَاءِ نَبِيِّ اللهِ الاثْنَيْ عَشَرَ؟

فَقَال: نَعَمْ، ثُمَّ قَال: مَا سَبَقَهُ أَحَدٌ مِنْ قُرَيْشٍ ولا مِنَ النَّاسِ بِمَنْقَبَةٍ وأَثْنَى عَليْهِ، وقَال: لمَّا مَاتَ جَزِعَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) عَليْهِ جَزَعاً شَدِيداً وصَلى عَليْهِ خَمْسَ صَلوَات (3).

أهمية الصلاة

مسألة: يستحب بيان أهمية الصلاة عند الله تعالى إلى درجة كون المتهاون بها على تلك الشدة من العذاب، دون غيرها من الواجبات.

ص: 24


1- الكافي: ج 3 ص379 باب الرجل يصلي وحده ثم يعيد في الجماعة أو يصلي بقوم وقد كان صلى قبل ذلك ح2.
2- لعل وجهه ما ذكره الجواهر: ج13 ص261 (بل ربما يستفاد من ذلك ومن قوله (عليه السلام) في صحيح زرارة السابق: «فان له صلاة أخرى» وقوله (عليه السلام): «يختار الله أحبهما اليه» و«اجعلها تسبيحاً» وغيرها استحباب الإعادة مطلقاً فرادى وجماعة مكرراً لها ما شاء إن لم ينعقد إجماع على خلافه). ولم يكن من الوسوسة.
3- مستدرك الوسائل: ج 2 ص261 ب6 باب جواز الزيادة في صلاة الجنازة وجواز إعادة الصلاة على الميت وتكرارها على كراهية واستحباب ذلك في الصلاة على أهل الصلاح والفضل ح4.

ويؤيده(1) قوله (عليه الصلاة والسلام): « أَوَّل مَا يُحَاسَبُ العَبْدُ عَليْهِ الصَّلاةُ فَإِنْ صَحَّتْ لهُ الصَّلاةُ صَحَّ لهُ مَا سِوَاهَا وإِنْ رُدَّتْ رُدَّ مَا سِوَاهَا»(2).

وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «الصَّلاةُ عَمُودُ الدِّينِ، مَثَلهَا كَمَثَل عَمُودِ الفُسْطَاطِ، إِذَا ثَبَتَ العَمُودُ ثَبَتَ الأَوْتَادُ وَالأَطْنَابُ، وَإِذَا مَال العَمُودُ وَانْكَسَرَ لمْ يَثْبُتْ وَتِدٌ وَلا طُنُبٌ»(3).ولذا كان حتى المتهاون بها على تلك العذابات.

نعم لو كان الإنسان متهاوناً بها مدة من الزمان ثم تاب إلى الله تعالى وقضى ما عليه، قبلت توبته، فإن «التائب من الذنب كمن لا ذنب له»(4).

ص: 25


1- لعل وجه قوله المؤلف (قدس سره): (ويؤيده) هو أن عمود الدين وردت وصفاً للدعاء أيضاً، إذ ورد (الدعاء سلاح المؤمن وعمود الدين ونور السماوات والأرضين) - الكافي: ج2 ص468 - فتأمل.
2- مستدرك الوسائل: ج 3 ص25 ب6 باب تحريم الاستخفاف بالصلاة والتهاون بها ح4.
3- وسائل الشيعة: ج 4 ص27 ب6 باب تحريم الاستخفاف بالصلاة والتهاون بها ح12.
4- الكافي: ج 2 ص435 باب التوبة ح10.

تحريم الخمر

اشارة

عن فاطمة (عليها السلام) قالت: «قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا حبيبة أبيها كل مسكر حرام، وكل مسكر خمر»(1).

--------------------------

حرمة الخمر والمسكر

مسألة: توجد ههنا قاعدتان:

الأولى: حرمة كل خمر.

والثانية: حرمة كل مسكر.

وقد دلت على كليهما الروايات الكثيرة، كما في الوسائل والمستدرك(2).

ومنه يظهر أن القطرة من الخمر محرمة وإن لم تكن مسكرة، إذ الملاك ليس الإسكار وحده، بل أحد العنوانين(3)، وكذا لو لم يسكر الشخص بالخمر

ص: 26


1- دلائل الإمامة: ص69 ح8.
2- كما دلت بعض الآيات على حرمة الخمر: «إنما الخمر والميسر...» سورة المائدة: 90، وقد يستدل ببعضها على حرمة المسكر، مثل قوله تعالى: «لا تقربوا الصلاة وأنتم سُكارَى» سورة النساء: 43، بعد إلغاء الخصوصية.
3- أي الإسكار والخمرية.

لاعتياده والعياذ بالله، أو لمرض أولغير ذلك، فإنها حرام لأنها خمر، كما أن الأمر في عكسه كذلك، فلو كان مسكراً فهو حرام وإن لم يصدق عليه أنه خمر.

عَنِ الرَّيَّانِ بْنِ الصَّلتِ قَال: سَمِعْتُ الرِّضَا (عليه السلام) يَقُول: «مَا بَعَثَ اللهُ نَبِيّاً قَطُّ إِلا بِتَحْرِيمِ الخَمْرِ وأَنْ يُقِرَّ للهِ بِالبَدَاءِ»(1).

وعَنْ أَبِي الحَسَنِ الرِّضَا (عليه السلام) قَال: «حَرَّمَ اللهُ الخَمْرَ لمَا فِيهَا مِنَ الفَسَادِ، ومِنْ تَغْيِيرِ عُقُول شَارِبِيهَا، وحَمْلهَا إِيَّاهُمْ عَلى إِنْكَارِ اللهِ عَزَّ وجَل والفِرْيَةِ عَليْهِ وعَلى رُسُلهِ، وسَائِرِ مَا يَكُونُ مِنْهُمْ مِنَ الفَسَادِ والقَتْل والقَذْفِ والزِّنَا، وقِلةِ الاحْتِجَازِ مِنْ شَيْ ءٍ مِنَ المَحَارِمِ، فَبِذَلكَ قَضَيْنَا عَلى كُل مُسْكِرٍ مِنَ الأَشْرِبَةِ أَنَّهُ حَرَامٌ مُحَرَّمٌ، لأَنَّهُ يَأْتِي مِنْ عَاقِبَتِهَا مَا يَأْتِي مِنْ عَاقِبَةِ الخَمْرِ، فَليَجْتَنِبْ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ واليَوْمِ الآخِرِ ويَتَوَلانَا ويَنْتَحِل مَوَدَّتَنَا كُل شَرَابٍ مُسْكِرٍ، فَإِنَّهُ لا عِصْمَةَ بَيْنَنَا وبَيْنَ شَارِبِيهَا»(2).

حرمة مطلق المسكر

مسألة: يحرم كل مسكر، كما دل عليه هذا الحديث، سواء كان بالشرب أو بالحقنة أو بغير ذلك، والانصراف إلى الشرب انصراف بدويّ.

عَنْ كُليْبٍ الصَّيْدَاوِيِّ قَال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُول: «خَطَبَ

ص: 27


1- الكافي: ج 1 ص148 باب البداء ح15.
2- وسائل الشيعة: ج 25 ص329 ب15 باب تحريم كل مسكر قليلا كان أو كثيرا ح16.

رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) فَقَال فِي خُطْبَتِهِ: كُل مُسْكِرٍ حَرَامٌ»(1).

وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «كُل مُسْكِرٍ حَرَامٌ وكُل مُسْكِرٍ خَمْرٌ»(2).

وعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ وَهْبٍ، قَال: قُلتُ لأَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «إِنَّ رَجُلا مِنْ بَنِي عَمِّي وهُوَ رَجُل مِنْ صُلحَاءِ مَوَاليكَ أَمَرَنِي أَنْ أَسْأَلكَ عَنِ النَّبِيذِ فَأَصِفَهُ لكَ، فَقَال (عليه السلام) لهُ: أَنَا أَصِفُهُ لكَ، قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «كُل مُسْكِرٍ حَرَامٌ، فَمَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَليلهُ حَرَامٌ» قَال: قُلتُ: فَقَليل الحَرَامِ يُحِلهُ كَثِيرُ المَاءِ، فَرَدَّعَليْهِ بِكَفِّهِ مَرَّتَيْنِ: «لا لا»(3).

المسكر خمر حكماً

مسألة: كل مسكر خمر، أي يكون في حكمه، فهو يخمر العقل، وأحكام الخمر تترتب عليه، مثل سقوط العدالة وما أشبه، أما الجلد فمذكور في باب الحدود في الفقه.

ويحتمل في (كل مسكر خمر) إرادة المعنى الحقيقي، إذ لا حقيقة شرعية للخمر، وإنما سمي خمراً لأنه يخمر العقل ويغطيه، وعليه فإن قوله (صلى الله عليه وآله): «كل مسكر حرام»(4) إشارة إلى حكمه التكليفي، و(كل مسكر خمر) إشارة إلى التشخيص الموضوعي.

ص: 28


1- الكافي: ج 6 ص407 باب أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) حرم كل مسكر قليله وكثيره ح1.
2- الكافي: ج 6 ص408 باب أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) حرم كل مسكر قليله وكثيره ح3.
3- الكافي: ج 6 ص408 باب أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) حرم كل مسكر قليله وكثيره ح4.
4- الكافي: ج 6 ص407 باب أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) حرم كل مسكر قليله وكثيره ح1.

عَنْ عَليِّ بْنِ الحُسَيْنِ (صلوات الله عليه) أَنَّهُ قَال: «الخَمْرُ مِنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: مِنَ التَّمْرِ والزَّبِيبِ والحِنْطَةِ والشَّعِيرِ والعَسَل، يَعْنِي بَعْدَ العِنَبِ، وكُل مُسْكِرٍ خَمْرٌ»(1).قَال (صلى الله عليه وآله): «كُل مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وكُل مُسْكِرٍ خَمْرٌ، ومَنْ شَرِبَ الخَمْرَ فِي الدُّنْيَا فَمَاتَ وهُوَ يُدْمِنُهَا حُرِمَهَا فِي الآخِرَة»(2).

حرمة حتى القطرة

مسألة: المسكر محرم حتى القطرة منه، وإن لم يسم خمر، لإطلاق قوله (عليه السلام): «ما أسكر كثيره فقليله حرام»(3).

نعم بضميمة رواية: «كل مسكر خمر»(4) إلى آية «إِنَّمَا الخَمْرُ والمَيْسِرُ...»(5)، يتم دليل آخر على حرمة مطلق المسكر، فالرواية تنقح صغرى الآية.

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) في النبيذ: «ما يبل الميل ينجس حباً من

ص: 29


1- دعائم الإسلام: ج 2 ص133 ف3 فصل ذكر ما يحرم شربه ح469.
2- غوالي اللئالي: ج 1 ص137 الفصل الثامن في ذكر أحاديث تشتمل على كثير من الآداب ومعالم الدين روايتها تنتهي إلى النبي (صلى الله عليه وآله) بطريق واحد من طرقي المذكورة آنفا ح39.
3- الكافي: ج 6 ص408 باب أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) حرم كل مسكر قليله وكثيره ح6.
4- الكافي: ج 6 ص408 باب أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) حرم كل مسكر قليله وكثيره ح3.
5- سورة المائدة: 90.

ماء»(1)، قالها (عليه السلام) ثلاثاً(2).

وقد ذكرنا في (الفقه) أن أدلة النجاسة منصرفة عن الكثير كثرة بالغة جداً، كآبار النفط الكبيرة، وهكذا مطلق المضاف الكثير جداً، نعم الكثرات المتعارفة كالحب الوارد في هذه الرواية، تتنجس بملاقاة ولو قليل من النجاسة.

إلى غير ذلك من الروايات الواردة في الخمر وفي كل مسكر.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «كل مسكر حرام»(3).

عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ آدَمَ قَال: سَأَلتُ أَبَا الحَسَنِ عليه السلام عَنْ قَطْرَةِ خَمْرٍ أَوْ نَبِيذٍ مُسْكِرٍ قَطَرَتْ فِي قِدْرٍ فِيهَا لحْمٌ كَثِيرٌ ومَرَقٌ كَثِيرٌ، فَقَال عليه السلام: يُهَرَاقُ المَرَقُ أَوْ يُطْعِمُهُ لأَهْل الذِّمَّةِ أَوِ الكِلابِ واللحْمَ فَاغْسِلهُ وكُلهُ، قُلتُ: فَإِنْ قَطَرَ فِيهَا الدَّمُ؟ فَقَال: الدَّمُ تَأْكُلهُ النَّارُ إِنْ شَاءَ اللهُ، قُلتُ: فَخَمْرٌ أَوْ نَبِيذٌ قَطَرَ فِيعَجِينٍ أَوْ دَمٌ؟ قَال: فَقَال: فَسَدَ، قُلتُ: أَبِيعُهُ مِنَ اليَهُودِ والنَّصَارَى وأُبَيِّنُ لهُمْ فَإِنَّهُمْ يَسْتَحِلونَ شُرْبَهُ؟ قَال: نَعَمْ، قُلتُ: والفُقَّاعُ هُوَ بِتِلكَ المَنْزِلةِ إِذَا قَطَرَ فِي شَيْ ءٍ مِنْ ذَلكَ، قَال: أَكْرَهُ أَنْ آكُلهُ إِذَا قَطَرَ فِي شَيْ ءٍ مِنْ طَعَامِي(4).

ص: 30


1- الكافي: ج 6 ص413 باب من اضطر إلى الخمر للدواء أو للعطش أو للتقية ح1.
2- الكافي: ج 6 ص413 باب من اضطر إلى الخمر للدواء أو للعطش أو للتقية ح1.
3- الكافي: ج 6 ص407 باب أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) حرم كل مسكر قليله وكثيره ح1.
4- الكافي: ج 6 ص422 باب المسكر يقطر منه في الطعام ح1.

قاعدة الإلزام لا تشمل الخمر

مسألة: مما يختص بالخمر أنها لا يأتي فيها قاعدة الإلزام فيما تأتي في غيرها، للنصوص الخاصة الدالة على أنه لا يجوز سقيها حتى للكافر، بل والصغير، وقيل: الدابة(1) على ما ذكر تفصيله في (الفقه).

عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) فِي حَدِيثٍ قَال: «ومَنْ شَرِبَ الخَمْرَ سَقَاهُ اللهُ مِنْ سَمِّ الأَسَاوِدِ، ومِنْ سَمِّ العَقَارِبِ» إلى أن قال: «ومَنْ سَقَاهَا يَهُودِيّاً أَوْ نَصْرَانِيّاً أَوْ صَابِئاً أَوْ مَنْ كَانَ مِنَ النَّاسِ فَعَليْهِ كَوِزْرِ مَنْ شَرِبَهَا»(2).وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: «مَا بَعَثَ اللهُ نَبِيّاً قَطُّ إِلا وفِي عِلمِ اللهِ أَنَّهُ إِذَا أَكْمَل دِينَهُ كَانَ فِيهِ تَحْرِيمُ الخَمْرِ، ولمْ يَزَل الخَمْرُ حَرَاماً إِنَّمَا الدِّينُ أَنْ يُحَوَّل مِنْ خَصْلةٍ إِلى أُخْرَى، ولوْ كَانَ ذَلكَ جُمْلةً قُطِعَ بِهِمْ دُونَ الدِّينِ»(3).

ص: 31


1- عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «أَنَّ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) كَرِهَ أَنْ تُسْقَى الدَّوَابُّ الخَمْرَ». وسائل الشيعة: ج 25 ص308 ب10 باب أنه لا يجوز سقي الخمر صبيا ولا مملوكا ولا كافرا وكذا كل محرم وكراهة سقي الدواب الخمر وكل محرم وإطعامها إياه ح4. عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: سَأَلتُهُ عَنِ البَهِيمَةِ البَقَرَةِ وغَيْرِهَا تُسْقَى أَوْ تُطْعَمُ مَا لا يَحِل للمُسْلمِ أَكْلهُ أَوْ شُرْبُهُ أَ يُكْرَهُ ذَلكَ، قَال: «نَعَمْ يُكْرَهُ ذَلكَ». وسائل الشيعة: ج 25 ص309 ب10 باب أنه لا يجوز سقي الخمر صبيا ولا مملوكا ولا كافرا وكذا كل محرم وكراهة سقي الدواب الخمر وكل محرم وإطعامها إياه ح5.
2- وسائل الشيعة: ج 25 ص309 ب10 باب أنه لا يجوز سقي الخمر صبيا ولا مملوكا ولا كافرا وكذا كل محرم وكراهة سقي الدواب الخمر وكل محرم وإطعامها إياه ح7.
3- تهذيب الأحكام: ج 9 ص102 ب2 باب الذبائح والأطعمة وما يحل من ذلك وما يحرم منه ح179.

وعَنْ عَجْلانَ أَبِي صَالحٍ قَال: قُلتُ لأَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): المَوْلودُ يُولدُ فَنَسْقِيهِ الخَمْرَ، فَقَال: «لا، مَنْ سَقَى مَوْلوداً مُسْكِراً سَقَاهُ اللهُ مِنَ الحَمِيمِ وإِنْ غُفِرَ لهُ»(1).

وعَنْ عَجْلانَ أَبِي صَالحٍ قَال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُول: «يَقُول اللهُ عَزَّ وجَل: مَنْ شَرِبَ مُسْكِراً أَوْ سَقَاهُ صَبِيّاً لا يَعْقِل سَقَيْتُهُ مِنْ مَاءِ الحَمِيمِ، مَغْفُوراً لهُ أَوْ مُعَذَّباً، ومَنْ تَرَكَ المُسْكِرَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي أَدْخَلتُهُ الجَنَّةَ وسَقَيْتُهُ مِنَ الرَّحِيقِ المَخْتُومِ وفَعَلتُ بِهِ مِنَ الكَرَامَةِمَا فَعَلتُ بِأَوْليَائِي»(2).

وعَنْ عَليٍّ (عليه السلام) فِي حَدِيثِ الأَرْبَعِمِائَةِ قَال: «مَنْ سَقَى صَبِيّاً مُسْكِراً وهُوَ لا يَعْقِل حَبَسَهُ اللهُ عَزَّ وجَل فِي طِينَةِ خَبَال حَتَّى يَأْتِيَ مِمَّا صَنَعَ بِمَخْرَجٍ»(3).

التعليم والإنذار

مسألة: يجوز أن يكون التعليم والإنذار عاماً، فيخاطب الناس أو المؤمنين بأجمعهم، ويجوز أن يكون خاصاً، فيكون الخطاب لطرف معين بقصد إيصاله للغير، وإن كان الطرف لا يحتمل في حقه فعل المنذر به كما في هذه الرواية.

ص: 32


1- وسائل الشيعة: ج 25 ص307 ب10 باب أنه لا يجوز سقي الخمر صبيا ولا مملوكا ولا كافرا وكذا كل محرم وكراهة سقي الدواب الخمر وكل محرم وإطعامها إياه ح2.
2- وسائل الشيعة: ج 25 ص308 ب10 باب أنه لا يجوز سقي الخمر صبيا ولا مملوكا ولا كافرا وكذا كل محرم وكراهة سقي الدواب الخمر وكل محرم وإطعامها إياه ح3.
3- وسائل الشيعة: ج 25 ص309 ب10 باب أنه لا يجوز سقي الخمر صبيا ولا مملوكا ولا كافرا وكذا كل محرم وكراهة سقي الدواب الخمر وكل محرم وإطعامها إياه ح6.

وفي القرآن الكريم كلا النوعين، أما العام فواضح، وأما الخاص فكقوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الكافِرينَ وَالمُنافِقينَ، إِنَّاللهَ كانَ عَليماً حَكيماً»(1)، مع أنه لا يحتمل في حقه (صلى الله عليه وآله) أن لا يتقي الله أو يطيع الكافرين والمنافقين كما هو بديهي.

قال سبحانه: «يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الذي خَلقَكُمْ والذينَ مِنْ قَبْلكُمْ لعَلكُمْ تَتَّقُون»(2).

قال تعالى: «يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً ولا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لكُمْ عَدُوٌّ مُبين»(3).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «نزل القرآن ب (إياك أعني واسمعي يا جارة)» (4).

ص: 33


1- سورة الأحزاب: 1.
2- سورة البقرة: 21.
3- البرهان في تفسير القرآن: ج 1 ص50 ح169.
4- سورة البقرة: 168.

الخمر وعدم قبول الصلاة

اشارة

عن فاطمة (عليها السلام) عن أبيها (صلى الله عليه وآله): «من شرب شربة فلذ منها لم تقبل له صلاة أربعين يوماً وليلة»(1).

------------------------

حرمة الخمر مطلقا

مسألة: يحرم شرب حتى شربة واحدة من الخمر، بل حتى القطرة الواحدة والأقل منها، سواء أسكره أم لا ، وسواء أكان خمر العنب أم التمر أم الشعير أم غيرها.

وفي الكافي بسند صحيح، عن أبي الحسن (عليه السلام): «إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالى لمْ يُحَرِّمِ الخَمْرَ لاسْمِهَا، وَلكِنْ حَرَّمَهَا لعَاقِبَتِهَا، فَمَا فَعَل فِعْل الخَمْرِ فَهُوَ خَمْرٌ»(2).

وروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «الخَمْرُ مِنْخَمْسَةٍ العَصِيرُ مِنَ الكَرْمِ وَ النَّقِيعُ مِنَ الزَّبِيبِ وَ البِتْعُ مِنَ العَسَل وَ المِزْرُ

ص: 34


1- عوالم العلوم: ج 11 قسم2 ص912 ب84 حديثها عليها السلام في تحريم الخمر ح173.
2- الكافي: ج 6 ص412 باب أن الخمر إنما حرمت لفعلها فما فعل فعل الخمر فهو خمر ح1.

مِنَ الشَّعِيرِ وَ النَّبِيذُ مِنَ التَّمْرِ»(1).

وعن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: «الخَمْرُ مِنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ، مِنَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَالحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالعَسَل»(2).

التلذذ بالخمر

مسألة: يحرم التلذذ بالخمر وبكل حرام، وهل حرمة التلذذ أمر آخر غير حرمة أصل شربها، الظاهر لا، إلاّ لو انطبق عليه عنوان آخر(3).

قال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): الفِتَنُ ثَلاثَةٌ حُبُّ النِّسَاءِ وهُوَ سَيْفُ الشَّيْطَانِ، وشُرْبُ الخَمْرِ وهُوَ فَخُّ الشَّيْطَانِ، وحُبُّ الدِّينَارِ والدِّرْهَمِ وهُوَ سَهْمُ الشَّيْطَانِ، فَمَنْ أَحَبَّ النِّسَاءَ لمْ يَنْتَفِعْ بِعَيْشِهِ ومَنْ أَحَبَ الأَشْرِبَةَ حَرُمَتْ عَليْهِ الجَنَّةُ ومَنْ أَحَبَّ الدِّينَارَ والدِّرْهَمَ فَهُوَعَبْدُ الدُّنْيَا(4).

صلاة شارب الخمر

مسألة: يستحب بيان أنه لا تقبل صلاة من شرب شربة من الخمر أربعين يوماً وليلةً.

ص: 35


1- الكافي: ج 6 ص392 باب ما يتخذ منه الخمر ح1.
2- الكافي: ج 6 ص392 باب ما يتخذ منه الخمر ح2.
3- كإشاعة الفاحشة، أو هتك حرمة الشرع، أو الاستخفاف بالشريعة.
4- وسائل الشيعة: ج 20 ص25 ب4 باب كراهة الإفراط في حب النساء وتحريم حب النساء المحرمات ح5.

ولا يخفى أن القبول غير الصحة، وأن عدم القبول لا ينافي سقوط التكليف بامتثال الأمر.

وقوله (صلى الله عليه وآله): «فلذ» في قبال الشرب اضطراراً مثلاً، لا أن مع عدم اللذة لا بأس به كما هو واضح، وربما كان بياناً للحالة الغالبة لا الحصر، فهو نظير (في حجوركم) في قوله تعالى: «وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتي في حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتي دَخَلتُمْ بِهِنَّ»(1).

والظاهر أن عدم القبول عام للصلوات الواجبة والمستحبة، فلو صلى شارب الخمر صلاة الليل مثلاً لم تقبل منه أيضاً، نعم ليست باطلة.

ثم إن عدم القبول إنما هو فيما إذا لم يتب إلى الله سبحانه، لا ما إذا تاب توبة نصوحاً، إذ «التائب من الذنبكمن لا ذنب له»(2)، وقال تعالى: «إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِل عَمَلاً صالحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّل اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحيماً»(3).

كما أنه إذا كان كافراً وشرب الخمر، أو كان يعتقد بجواز شرب بعض الخمر كما عند العامة بالنسبة إلى الفقاع، ثم أسلم أو استبصر، لم يكن له هذا الحكم بعدم القبول حتى بعد إسلامه إلى أربعين يوماً.

كما أنه اذا كان مؤمناً(4) ولم يكن يعرف حرمة الخمر ثم شربها، لم يكن

ص: 36


1- سورة النساء: 23.
2- الكافي: ج 2 ص435 باب التوبة ح10.
3- سورة الفرقان: 70.
4- اي إمامياً معتقداً بأهل البيت (عليهم السلام).

كذلك إذا كان عن قصور(1).

وربما يدل عليه حديث الشارب الذي أمر الإمام (عليه السلام) بأن يُدار على المهاجرين والأنصار في زمن الثاني.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «شَرِبَ رَجُل الخَمْرَ عَلى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ، فَرُفِعَ إِلى أَبِي بَكْرٍ فَقَال لهُ: أَشَرِبْتَ خَمْراً، قَال: نَعَمْ، قَال: وَلمَ وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ، قَال: فَقَال لهُ الرَّجُل: إِنِّي أَسْلمْتُ وَحَسُنَ إِسْلامِيوَمَنْزِلي بَيْنَ ظَهْرَانَيْ قَوْمٍ يَشْرَبُونَ الخَمْرَ وَيَسْتَحِلونَهَا، وَلوْ عَلمْتُ أَنَّهَا حَرَامٌ اجْتَنَبْتُهَا.

فَالتَفَتَ أَبُو بَكْرٍ إِلى عُمَرَ فَقَال: مَا تَقُول فِي أَمْرِ هَذَا الرَّجُل؟

فَقَال عُمَرُ: مُعْضِلةٌ وَليْسَ لهَا إِلا أَبُو الحَسَنِ.

قَال: فَقَال أَبُو بَكْرٍ: ادْعُ لنَا عَليّاً (عليه السلام).

فَقَال عُمَرُ: يُؤْتَى الحَكَمُ فِي بَيْتِهِ، فَقَامَا وَالرَّجُل مَعَهُمَا وَمَنْ حَضَرَهُمَا مِنَ النَّاسِ حَتَّى أَتَوْا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) فَأَخْبَرَاهُ بِقِصَّةِ الرَّجُل، وَقَصَّ الرَّجُل قِصَّتَهُ.

قَال: فَقَال: ابْعَثُوا مَعَهُ مَنْ يَدُورُ بِهِ عَلى مَجَالسِ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ مَنْ كَانَ تَلا عَليْهِ آيَةَ التَّحْرِيمِ فَليَشْهَدْ عَليْهِ، فَفَعَلوا ذَلكَ بِهِ فَلمْ يَشْهَدْ عَليْهِ أَحَدٌ بِأَنَّهُ قَرَأَ عَليْهِ آيَةَ التَّحْرِيمِ، فَخَلى عَنْهُ وَقَال لهُ: إِنْ شَرِبْتَ بَعْدَهَا أَقَمْنَا عَليْكَ الحَدَّ»(2).

ص: 37


1- أما إذا كان عن تقصير فإن حكمه حكم العامد.
2- الكافي: ج 7 ص216 باب ما يجب فيه الحد في الشراب ح16.

الأضحية

اشارة

قدم الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) من سفر فأتته فاطمة

(عليها السلام) بلحم من ضحاياها، فقال: أو لم ينه عنها رسول الله (صلى الله عليه وآله)(1).

فقالت: إنه قد رخّص فيها.

قالت: فدخل علي (عليه السلام) على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فسأله عن ذلك، فقال له: كلها من ذي الحجة إلى ذي الحجة»(2).

------------------------------

إطراف المسافر

مسألة: ينبغي إطراف المسافر(3) بشيء من طعام أو غيره، فإنه نوع إدخال السرور في قلب المؤمن، ومما يوجب تماسك الأسرة كما فعلت الصديقة (صلوات الله عليها).

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «مَنْ أَدْخَل السُّرُورَ عَلى مُؤْمِنٍ فَقَدْ

ص: 38


1- أي عن أن يأكل أهلها فوق ثلاث، بأن يمسكوها أكثر من ثلاثة أيام.
2- لعل الوجه أنهم كانوا يجففون اللحم ويسمى القديد، فكان يبقى فترة طويلة صالحاً للأكل.
3- أطرف الرجل: أعطاه ما لم يعطه أحداً قبله.

أَدْخَلهُ عَلى رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله)، ومَنْ أَدْخَلهُ عَلى رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) فَقَدْ وَصَل ذَلكَ إِلى اللهِ، وكَذَلكَ مَنْ أَدْخَل عَليْهِ كَرْباً»(1).

وعَنْ مُعَمَّرِ بْنِ خَلادٍ قَال: سَمِعْتُ أَبَا الحَسَنِ (عليه السلام) يَقُول: «إِنَّ للهِ عِبَاداً فِي الأَرْضِ يَسْعَوْنَ فِي حَوَائِجِ النَّاسِ هُمُ الآمِنُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، ومَنْ أَدْخَل عَلى مُؤْمِنٍ سُرُوراً فَرَّحَ اللهُ قَلبَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ»(2).

استحباب الأضحية

مسألة: تستحب الأضحية على كل مسلم ومسلمة، صغير أو كبير، في ذي الحجة، استحباباً مؤكداً إجماعاً، بل مشروعيتها من الضروريات، وأخبار الوجوب محمولة على الثبوت وتأكد الاستحباب.

أما الحاج المتمتع فيجب عليه الهدي ويجزيه عن الأضحية، ففي الصحيح عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال:«يُجْزِئُهُ فِي الأُضْحِيَّةِ هَدْيُهُ»(3).

وفي نسخة: «يُجْزِئُكَ مِنَ الأُضْحِيَّةِ هَدْيُكَ»(4).

ص: 39


1- الكافي: ج 2 ص192 باب إدخال السرور على المؤمنين ح14.
2- الكافي: ج 2 ص197 باب السعي في حاجة المؤمن ح2.
3- وسائل الشيعة: ج 14 ص205 ب60 باب تأكد استحباب الأضحية وإجزاء الهدي عنها وسقوطها عن الجنين ومن لا يجد واستحباب الدعاء عندها بالمأثور والتضحية عن العيال وجملة من أحكامها ح2.
4- وسائل الشيعة: ج 14 ص205 ب60 باب تأكد استحباب الأضحية وإجزاء الهدي عنها وسقوطها عن الجنين ومن لا يجد واستحباب الدعاء عندها بالمأثور والتضحية عن العيال وجملة من أحكامها ح2.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: سُئِل عَنِ الأَضْحَى أَوَاجِبٌ هُوَ عَلى مَنْ وَجَدَ لنَفْسِهِ وَعِيَالهِ، فَقَال: «أَمَّا لنَفْسِهِ فَلا يَدَعُهُ، وَأَمَّا لعِيَالهِ إِنْ شَاءَ تَرَكَهُ»(1).

وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: «الأُضْحِيَّةُ وَاجِبَةٌ عَلى مَنْ وَجَدَ مِنْ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ وَ هِيَ سُنَّةٌ»(2).وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «أَنَّ رَجُلا سَأَلهُ عَنِ الأَضْحَى فَقَال: هُوَ وَاجِبٌ عَلى كُل مُسْلمٍ إِلا مَنْ لمْ يَجِدْ، فَقَال لهُ السَّائِل: فَمَا تَرَى فِي العِيَال، فَقَال: إِنْ شِئْتَ فَعَلتَ وَإِنْ شِئْتَ لمْ تَفْعَل، فَأَمَّا أَنْتَ فَلا تَدَعْهُ»(3).

وقت الأضحية

الأضحية تكون في العاشر من ذي الحجة، وثلاثة أيام بعده إذا كان في منى، أما في غيرها من الأمصار فيومان بعده.

عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ وَأَبِي عَبْدِ اللهِ (عليهما السلام) أَنَّهُمَا قَالا: «الأُضْحِيَّةُ يَوْمَ النَّحْرِ

ص: 40


1- وسائل الشيعة: ج 14 ص204 ب60 باب تأكد استحباب الأضحية وإجزاء الهدي عنها وسقوطها عن الجنين ومن لا يجد واستحباب الدعاء عندها بالمأثور والتضحية عن العيال وجملة من أحكامها ح1.
2- وسائل الشيعة: ج 14 ص205 ب60 باب تأكد استحباب الأضحية وإجزاء الهدي عنها وسقوطها عن الجنين ومن لا يجد واستحباب الدعاء عندها بالمأثور والتضحية عن العيال وجملة من أحكامها ح3.
3- وسائل الشيعة: ج 14 ص205 ب60 باب تأكد استحباب الأضحية وإجزاء الهدي عنها وسقوطها عن الجنين ومن لا يجد واستحباب الدعاء عندها بالمأثور والتضحية عن العيال وجملة من أحكامها ح5.

وَيَوْمَيْنِ بَعْدَهُ فِي الأَمْصَارِ، وَفِي مِنًى إِلى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ»(1).نعم ذبح الشاة للإطعام وما أشبه مستحب طول السنة، إلا أنه في ذي الحجة آكد، وفي الحديث: «إِنَّ اللهَ يُحِبُ إِطْعَامَ الطَّعَامِ وهِرَاقَةَ الدِّمَاءِ»(2)، لكن أخبار الأضحية خاصة بذي الحجة في أيامها المعلومة.

روايات في الأضحية

روي أنه: «ضَحَّى رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) بِكَبْشَيْنِ ذَبَحَ وَاحِداً بِيَدِهِ وَقَال: اللهُمَّ هَذَا عَنِّي وَعَمَّنْ لمْ يُضَحِّ مِنْ أَهْل بَيْتِي، وَذَبَحَ الآخَرَ وَقَال: اللهُمَّ هَذَا عَنِّي وَعَمَّنْ لمْ يُضَحِّ مِنْ أُمَّتِي»(3).

وروي أنه: كَانَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) يُضَحِّي عَنْ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) كُل سَنَةٍ بِكَبْشٍ يَذْبَحُهُ وَيَقُول: بِسْمِ اللهِ وَجَّهْتُ وَجْهِيَ للذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً مُسْلماً وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ، إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالمِينَ، اللهُمَّ مِنْكَ وَلكَ، وَيَقُول: اللهُمَّ هَذَا عَنْ نَبِيِّكَ، ثُمَّ يَذْبَحُهُ وَيَذْبَحُ كَبْشاً آخَرَ عَنْ نَفْسِهِ»(4).

ص: 41


1- مستدرك الوسائل: ج 10 ص84 ب5 باب إجزاء الذبح بمنى يوم النحر وثلاثة أيام بعده وبغير منى يوم النحر ويومين بعده واستحباب اختيار يوم النحر وتحريم الصوم أيام التشريق لمن كان بمنى خاصة ح1.
2- المحاسن: ج 2 ص387 ب1 باب الإطعام ح6.
3- من لا يحضره الفقيه: ج 2 ص489 باب الأضاحي ح3046.
4- وسائل الشيعة: ج 14 ص206 ص60 باب تأكد استحباب الأضحية وإجزاء الهدي عنها وسقوطها عن الجنين ومن لا يجد واستحباب الدعاء عندها بالمأثور والتضحية عن العيال وجملة من أحكامها ح7.

وقَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «إِنَّمَا جُعِل هَذَا الأَضْحَى لتَشْبَعَ مَسَاكِينُكُمْ مِنَ اللحْمِ فَأَطْعِمُوهُمْ»(1).

وعن مُحَمَّد بْن عَليِّ بْنِ الحُسَيْنِ قَال: جَاءَتْ أُمُّ سَلمَةَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهَا) إِلى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) فَقَالتْ: يَا رَسُول اللهِ يَحْضُرُ الأَضْحَى وَليْسَ عِنْدِي ثَمَنُ الأُضْحِيَّةِ فَأَسْتَقْرِضُ وَأُضَحِّي، قَال: اسْتَقْرِضِي فَإِنَّهُ دَيْنٌ مَقْضِيٌّ»(2).

وعَنْ عَليٍّ (عليه السلام) أَنَّهُ قَال: «لوْ عَلمَ النَّاسُ مَا فِي الأُضْحِيَّةِ لاسْتَدَانُوا وَضَحَّوْا، إِنَّهُ ليُغْفَرُ لصَاحِبِ الأُضْحِيَّةِ عِنْدَ أَوَّل قَطْرَةٍ تَقْطُرُ مِنْ دَمِهَا»(3).

السؤال للتعليم

مسألة: يستحب سؤال العالم(4) بغرض تعليم الآخرين، حيث أراد علي (عليه السلام) بسؤاله من النبي (صلى الله عليه وآله) تعليم الآخرين، لا التأكد من قول فاطمة (عليها السلام)، بل ليتضح للناس أن ما تقوله الصديقة (عليها السلام) عين كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فإنه (عليه السلام) كان يعلم بعصمة فاطمة (عليها السلام) وكان موقناً بصحة قولها، مائة في مائة.

ولعله أراد أن يسمع من رسول الله (صلى الله عليه وآله) مباشرة، وذلك للنقل المباشر إتماماً للحجة على من لا يعرف قدر الصديقة (عليها السلام)، وإلاّ فمن

ص: 42


1- من لا يحضره الفقيه: ج 2 ص200 باب علل الحج ح2137.
2- وسائل الشيعة: ج 14 ص210 ب64 باب استحباب القرض للأضحية لمن لم يجد ح1.
3- علل الشرائع: ج 2 ص440 ب183 باب العلة التي من أجلها يجب على من لا يجد ثمن الأضحية أن يستقرض ح2.
4- من إضافة المصدر إلى الفاعل.

يعرف قدرها ومنزلتها فإنه لا يشك في أن نقله عنها كنقله عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الحجية.

وقوله (صلى الله عليه وآله): «كلها من ذي الحجة إلى ذي الحجة» ظاهر في إفادة الإباحة طول السنة.

وفي بعض الروايات: إن علياً (عليه الصلاة والسلام) كان لا يأكل اللحم إلاّ مرة في السنة، لاطمئنانه بقدرة جميع المسلمين حتى الفقراء منهم على أكل اللحم في ذلك اليوم(1).وقد نقل العلامة المجلسي (رحمه الله) عن الخرائج: أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «وَاعْلمْ أَنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ، يَسُدُّ فَوْرَةَ جُوعِهِ بِقُرْصَيْهِ، لا يَطْعَمُ الفِلذَةَ(2) فِي حَوْلهِ إِلا فِي سَنَةِ أُضْحِيَّةٍ، وَلنْ تَقْدِرُوا عَلى ذَلكَ فَأَعِينُونِي بِوَرَعٍ وَ اجْتِهَادٍ»(3).

وعلى ذلك فلعل قوله (صلى الله عليه وآله) إشارة إلى أن الأكل يكون في هذا العام كالعام الآخر وهكذا، مثل قولنا: صل صلاة العيد من الفطر إلى الأضحى، أو ما أشبه.

ولكن الأظهر ما سبق من ظهوره في إفادة الإباحة طول السنة.

أما روايات النهي عن إمساك الأضحية بعد ثلاثة أيام إن صحت، فهي

ص: 43


1- أي عيد الأضحى المبارك.
2- الفلذة: القطعة من الكبد واللحم.
3- بحار الأنوار: ج 40 ص318 ب98 زهده وتقواه وورعه (عليه السلام) ح2، عن الخرائج والجرائح: ج 2 ص542 فصل في أعلام أمير المؤمنين (عليه السلام) ح2.

منسوخة، كما أن هذه الرواية عن الصديقة (عليها السلام) تضمنت كلاً من الناسخ والمنسوخ، ولعل المنسوخ كان بنحو القضية الخارجية(1).عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: «إِنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) نَهَى أَنْ تُحْبَسَ لحُومُ الأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ»(2).

وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الأَنْصَارِيِّ، قَال: «أَمَرَنَا رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) أَنْ لا نَأْكُل لحُومَ الأَضَاحِيِّ بَعْدَ ثَلاثٍ، ثُمَّ أَذِنَ لنَا أَنْ نَأْكُل وَنُقَدِّدَ وَنُهْدِيَ إِلى أَهَالينَا»(3).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «نَهَى رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) عَنْ لحُومِ الأَضَاحِيِّ بَعْدَ ثَلاثٍ ثُمَّ أَذِنَ فِيهَا، قَال: كُلوا مِنْ لحُومِ الأَضَاحِيِّ بَعْدَ ثَلاثٍ وَادَّخِرُوا»(4).

ص: 44


1- لا القضية الحقيقية.
2- تهذيب الأحكام: ج 5 ص226 ب16 باب الذبح ح103.
3- الاستبصار: ج 2 ص274 ب188 باب جواز أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاثة أيام ح1.
4- الاستبصار: ج 2 ص274 ب188 باب جواز أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاثة أيام ح2.

أدب الصائم

اشارة

عن فاطمة (عليها السلام) بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنها قالت: «ما يصنع الصائم بصيامه إذا لم يصن لسانه وسمعه وبصره وجوارحه»(1).

----------------------------

صوم الجوارح

مسألة: يجب على الصائم صيانة اللسان والسمع والبصر وسائر الجوارح عن ارتكاب الحرام، كما قالت (صلوات الله عليها) : «وجوارحه».

فإن سائر الجوارح أيضاً قد تنطلق وقد تقف وتصان عن الحركة نحو الحرام، مثل البطش باليد، والرفس بالرجل، والمقاربة بالعورة، والملامسة بسائر الجسد، وما أشبه.

وفي بعض الروايات: «صوم الشعر»(2)،والمراد أن لا يزين شعره، كما

ص: 45


1- مستدرك الوسائل: ج 7 ص366 ب10 باب استحباب إمساك سمع الصائم و بصره و شعره و بشره و جميع أعضائه عما لا ينبغي من المكروهات و وجوب تركه للمحرمات ح2.
2- عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلمٍ قَال: قَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «إِذَا صُمْتَ فَليَصُمْ سَمْعُكَ وبَصَرُكَ وشَعْرُكَ وجِلدُكَ وعَدَّدَ أَشْيَاءَ غَيْرَ هَذَا، وقَال: لا يَكُونُ يَوْمُ صَوْمِكَ كَيَوْمِ فِطْرِكَ». الكافي: ج 4 ص87 باب أدب الصائم ح1.

ورد بالنسبة إلى زيارة الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام) وأن الملائكة تزوره شعثاً غبراً(1)، وأنه يستحب للزائر أن يكون كذلك(2).وكما ورد بالنسبة إلى سفرة الحج، حيث المستحب أن يكون شعثاً غبراً(3)،

ص: 46


1- عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ قَال: قُلتُ لأَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): جُعِلتُ فِدَاكَ يَا ابْنَ رَسُول اللهِ كُنْتُ فِي الحِيرَةِ ليْلةَ عَرَفَةَ، فَرَأَيْتُ نَحْواً مِنْ ثَلاثَةِ أَلفٍ أَوْ أَرْبَعَةِ أَلفِ رَجُل جَمِيلةٍ وُجُوهُهُمْ طَيِّبَةٍ رِيحُهُمْ شَدِيدَةٍ بَيَاضُ ثِيَابِهِمْ يُصَلونَ الليْل أَجْمَعَ، فَلقَدْ كُنْتُ أُرِيدُ أَنْ آتِيَ قَبْرَ الحُسَيْنِ (عليه السلام) وأُقَبِّلهُ وأَدْعُوَ بِدَعَوَاتِي فَمَا كُنْتُ أَصِل إِليْهِ مِنْ كَثْرَةِ الخَلقِ فَلمَّا طَلعَ الفَجْرُ سَجَدْتُ سَجْدَةً فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَلمْ أَرَ مِنْهُمْ أَحَداً، فَقَال لي أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): أَتَدْرِي مَنْ هَؤُلاءِ؟ قُلتُ: لا جُعِلتُ فِدَاكَ، فَقَال: أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ قَال: مَرَّ بِالحُسَيْنِ عليه السلام أَرْبَعَةُ آلافِ مَلكٍ وهُوَ يُقْتَل فَعَرَجُوا إِلى السَّمَاءِ فَأَوْحَى اللهُ إِليْهِمْ: يَا مَعْشَرَ المَلائِكَةِ مَرَرْتُمْ بِابْنِ حَبِيبِي وصَفِيِّي مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) وهُوَ يُقْتَل ويُضْطَهَدُ مَظْلوماً فَلمْ تَنْصُرُوهُ فَانْزِلوا إِلى الأَرْضِ إِلى قَبْرِهِ فَابْكُوهُ شُعْثاً غُبْراً إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ فَهُمْ عِنْدَهُ إِلى أَنْ تَقُومَ القِيَامَةُ». كامل الزيارات: ص115 الباب التاسع والثلاثون زيارة الملائكة الحسين بن علي (عليه السلام) ح5.
2- عَنِ المُفَضَّل بْنِ عُمَرَ قَال: قَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «تَزُورُونَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ لا تَزُورُوا، ولا تَزُورُونَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَزُورُوا، قَال: قُلتُ: قَطَعْتَ ظَهْرِي، قَال: تَاللهِ إِنَّ أَحَدَكُمْ ليَذْهَبُ إِلى قَبْرِ أَبِيهِ كَئِيباً حَزِيناً وتَأْتُونَهُ أَنْتُمْ بِالسُّفَرِ كَلا حَتَّى تَأْتُوهُ شُعْثاً غُبْراً». كامل الزيارات: ص130 الباب السابع والأربعون ما يكره اتخاذه لزيارة الحسين بن علي (عليه السلام) ح4.
3- عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: قَال عَليُّ بْنُ الحُسَيْنِ (عليه السلام): «أَمَا عَلمْتَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ عَشِيَّةُ عَرَفَةَ بَرَزَ اللهُ فِي مَلائِكَتِهِ إِلى سَمَاءِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَقُول: انْظُرُوا إِلى عِبَادِي أَتَوْنِي شُعْثاً غُبْراً أَرْسَلتُ إِليْهِمْ رَسُولا مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ فَسَأَلونِي ودَعَوْنِي أُشْهِدُكُمْ أَنَّهُ حَقٌّ عَليَّ أَنْ أُجِيبَهُمُ اليَوْمَ قَدْ شَفَعْتُ مُحْسِنَهُمْ فِي مُسِيئِهِمْ وقَدْ تَقَبَّلتُ مِنْ مُحْسِنِهِمْ فَأَفِيضُوا مَغْفُوراً لكُمْ، ثُمَّ يَأْمُرُ مَلكَيْنِ فَيَقُومَانِ بِالمَأْزِمَيْنِ هَذَا مِنْ هَذَا الجَانِبِ وهَذَا مِنْ هَذَا الجَانِبِ فَيَقُولانِ: اللهُمَّ سَلمْ سَلمْ فَمَا يَكَادُ يُرَى مِنْ صَرِيعٍ ولا كَسِيرٍ». وسائل الشيعة: ج 13 ص551 ب19 باب وجوب الوقوف بعرفات وأن من تركه عمدا بطل حجه وحكم من نسيه أو لم يدركه ح12.

بل بعض مراتب الزينة محرمة على المحرم(1)، فكذلك ورد في الصوم في الجملة، فينبغي أن يكون الإنسان حال العبادة كالجندي الحاضر في خدمة القائد، بحال التهيؤ والاستعداد،بكافة جوارحه وجوانحه.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «وُكِّل بِالحُسَيْنِ (عليه السلام) سَبْعُونَ أَلفَ مَلكٍ يُصَلونَ عَليْهِ شُعْثاً غُبْراً مُنْذُ يَوْمَ قُتِل إِلى مَا شَاءَ اللهُ، يَعْنِي بِذَلكَ قِيَامَ القَائِمِ، وَيَدْعُونَ لمَنْ زَارَهُ وَيَقُولونَ: يَا رَبِّ هَؤُلاءِ زُوَّارُ الحُسَيْنِ (عليه السلام) افْعَل بِهِمْ وَافْعَل بِهِم»(2)

وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام): إنَّ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) قَال: «أَمَا وَاللهِ لقَدْ عَهِدْتُ أَقْوَاماً عَلى عَهْدِ خَليلي رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) وَإِنَّهُمْ ليُصْبِحُونَ وَيُمْسُونَ شُعْثاً غُبْراً خُمُصاً بَيْنَ أَعْيُنِهِمْ كَرُكَبِ المِعْزَى، يَبِيتُونَ لرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً، يُرَاوِحُونَ بَيْنَ أَقْدَامِهِمْ وَجِبَاهِهِمْ، يُنَاجُونَ رَبَّهُمْ وَيَسْأَلونَهُ فَكَاكَ رِقَابِهِمْ مِنَ النَّارِ، وَاللهِ لقَدْ رَأَيْتُهُمْ مَعَ هَذَا وَهُمْ خَائِفُونَ مُشْفِقُونَ»(3).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: قَال عَليُّ بْنُ الحُسَيْنِ (عليه السلام): «أَمَا عَلمْتَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ عَشِيَّةُ عَرَفَةَ بَرَزَ اللهُ فِي مَلائِكَتِهِ إِلى سَمَاءِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَقُول: انْظُرُوا إِلى عِبَادِي أَتَوْنِي شُعْثاً غُبْراً،أَرْسَلتُ إِليْهِمْ رَسُولا مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ فَسَأَلونِي وَدَعَوْنِي، أُشْهِدُكُمْ أَنَّهُ حَقٌّ عَليَّ أَنْ أُجِيبَهُمُ اليَوْمَ، قَدْ شَفَعْتُ مُحْسِنَهُمْ فِي مُسِيئِهِمْ، وَقَدْ تَقَبَّلتُ مِنْ مُحْسِنِهِمْ فَأَفِيضُوا مَغْفُوراً لكُمْ، ثُمَّ يَأْمُرُ مَلكَيْنِ

ص: 47


1- كالتدهين والتطييب والنظر في المرآة ولبس المخيط والخف والجورب والتزين بالحناء وشبهها ولبس الخاتم للزينة ولبس الحلي للنساء على ما ورد في المناسك.
2- تهذيب الأحكام: ج 6 ص47 ب16 باب فضل زيارته (عليه السلام) ح19.
3- الكافي: ج 2 ص236 باب المؤمن وعلاماته وصفاته ح21.

فَيَقُومَانِ بِالمَأْزِمَيْنِ هَذَا مِنْ هَذَا الجَانِبِ وَهَذَا مِنْ هَذَا الجَانِبِ فَيَقُولانِ: اللهُمَّ سَلمْ سَلمْ، فَمَا يَكَادُ يُرَى مِنْ صَرِيعٍ وَ لا كَسِيرٍ»(1).

مصب الكلام

مسألة: ينبغي للمتفقه في الأحاديث الشريفة أن يلاحظ مصب الكلام ومحل النفي والإثبات لكي يفهم المقصود من الرواية.

وفي هذه الرواية (ما يصنع) ومصب الكلام الإثبات لا النفي، فليس المقصود نفي الصحة عن المجتنب للمفطرات العشرة إذا ارتكب إحدى هذه الأمور، بل المقصود الحث على صون اللسان والسمع والبصر وسائر الجوارح، فإنه من باب تعدد المطلوب.

وبذلك يتضح الأمر في الآية الشريفة:«أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالبِرِّ وتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ»(2)، إذ توهم بعض الناس أن المراد منها أن من لا يعمل بالبر يسقط عنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وليس له أن يأمر غيره به، ولكنه في غير محله. فالفقه يفيد أن العمل بالبر والأمر به مطلوبان للمولى، لا يسقط أحدهما بترك الآخر، بل المقصود التقريع على ترك هذا، أي العمل بالبر، لا الدعوة إلى ترك ذاك، أي الأمر بالبر.

وربما يكون المراد بصوم الشعر غير ذلك، بأن يراد به الصوم عن الحرام

ص: 48


1- وسائل الشيعة: ج 13 ص552 ب19 باب وجوب الوقوف بعرفات وأن من تركه عمدا بطل حجه وحكم من نسيه أو لم يدركه ح12.
2- سورة البقرة: 44.

فلا يزين شعره مثلاً كي يغوي به ويوقع غيره في الحرام.

صيانة اللسان

مسألة: يجب صيانة اللسان مطلقاً عن الحرام، وفي الصوم خاصة، كما ينبغي(1) صونه عن القبيح من القول وإن لم يكن محرماً، وعن اللغو في الكلام وإن لم يكن حراماً.

قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «أَمْسِكْلسَانَكَ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ تَصَدَّقُ بِهَا عَلى نَفْسِكَ ثُمَّ قَال: ولا يَعْرِفُ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الإِيمَانِ حَتَّى يَخْزُنَ مِنْ لسَانِهِ»(2).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «لا يَزَال العَبْدُ المُؤْمِنُ يُكْتَبُ مُحْسِناً مَا دَامَ سَاكِتاً فَإِذَا تَكَلمَ كُتِبَ مُحْسِناً أَوْ مُسِيئاً»(3).

صيانة السمع

مسألة: يجب صيانة السمع مطلقاً، وفي الصوم خاصة عن المحرمات، وينبغي صيانته عن الشبهات، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «حَلال بَيِّنٌ، وَحَرَامٌ بَيِّنٌ، وَشُبُهَاتٌ بَيْنَ ذَلكَ، فَمَنْ تَرَكَ الشُّبُهَاتِ نَجَا مِنَ المُحَرَّمَاتِ، وَمَنْ أَخَذَ بِالشُّبُهَاتِ ارْتَكَبَ المُحَرَّمَاتِ وَهَلكَ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلم»(4).

ص: 49


1- التشبيه في أصل الرجحان لا في الوجوب، ولذا عبر الإمام المؤلف (قدس سره) ههنا ب (ينبغي).
2- الكافي: ج 2 ص114 باب الصمت وحفظ اللسان ح7.
3- الكافي: ج 2 ص116 باب الصمت وحفظ اللسان ح21.
4- الكافي: ج 1 ص68 باب اختلاف الحديث ح10.

وفِي الخَبَرَ: «إِنَّ اللهَ يَقُول يَوْمَ القِيَامَةِ: مَلائِكَتِي مَنْ حَفِظَ سَمْعَهُ ولسَانَهُ عَنِ الغِنَاءِ فَأَسْمِعُوهُ حَمْدِي والثَّنَاءَعَلي»(1).

صيانة البصر

مسألة: يجب صيانة البصر مطلقاً عن الحرام، وفي الصوم خاصة.

قال تعالى: «قُلْ لِلمُؤْمِنينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ ويَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلكَ أَزْكى لهُمْ إِنَّ اللهَ خَبيرٌ بِما يَصْنَعُون»(2).

وقال سبحانه: «وَقُلْ لِلمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِن»(3).

وقَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «وغَض البَصَرِ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ النَّظَرِ»(4).

وقَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «خَفْضُ الصَّوْتِ وغَضُ البَصَرِ ومَشْيُ القَصْدِ مِنْ أَمَارَةِ الإِيمَانِ وحُسْنِ الدِّينِ»(5).

ص: 50


1- مستدرك الوسائل: ج 13 ص214 ب78 باب تحريم الغناء حتى في القرآن وتعليمه وأجرته والغيبة والنميمة ح11.
2- سورة النور: 30.
3- سورة النور: 31.
4- الكافي: ج 8 ص21 خطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام) وهي خطبة الوسيلة ح4.
5- عيون الحكم والمواعظ: ص242 ح4607.

صيانة الجوارح

مسألة: يجب صيانة الجوارح مطلقاً عن الحرام، وفي الصوم خاصة.

كما أن الأمر كذلك في المساجد والمشاهد المشرفة كافة، إذ يتأكد فيها تجنب المحرمات الصادرة عن الجوارح كالغيبة والتهمة والنميمة والنظر لما لا يحل والإيذاء والسرقة والغصب وغيرها.

وفي رسالة الحقوق: قال (عليه السلام): «وَأَمَّا حَقُّ نَفْسِكَ عَليْكَ فَأَنْ تَسْتَوْفِيَهَا فِي طَاعَةِ اللهِ، فَتُؤَدِّيَ إِلى لسَانِكَ حَقَّهُ، وإِلى سَمْعِكَ حَقَّهُ، وإِلى بَصَرِكَ حَقَّهُ، وإِلى يَدِكَ حَقَّهَا، وإِلى رِجْلكَ حَقَّهَا، وإِلى بَطْنِكَ حَقَّهُ، وإِلى فَرْجِكَ حَقَّهُ، وتَسْتَعِينُ بِاللهِ عَلى ذَلكَ.

وَأَمَّا حَقُّ اللسَانِ: فَإِكْرَامُهُ عَنِ الخَنَا، وتَعْوِيدُهُ عَلى الخَيْرِ، وحَمْلهُ عَلى الأَدَبِ، وإِجْمَامُهُ إِلا لمَوْضِعِ الحَاجَةِ والمَنْفَعَةِ للدِّينِ والدُّنْيَا، وإِعْفَاؤُهُ مِنَ الفُضُول الشَّنِعَةِ القَليلةِ الفَائِدَةِ التِي لا يُؤْمَنُ ضَرَرُهَا مَعَ قِلةِ عَائِدَتِهَا وبُعْدِ شَاهِدِ العَقْل والدَّليل عَليْهِ، وتَزَيُّنُ العَاقِل بِعَقْلهِ حُسْنُ سِيرَتِهِ فِي لسَانِهِ، ولا قُوَّةَ إِلا بِاللهِ العَليِّ العَظِيمِ.

وَأَمَّا حَقُّ السَّمْعِ: فَتَنْزِيهُهُ عَنْ أَنْ تَجْعَلهُ طَرِيقاً إِلى قَلبِكَ إِلا لفَوْهَةٍ كَرِيمَةٍتُحْدِثُ فِي قَلبِكَ خَيْراً أَوْ تُكْسِبُ خُلقاً كَرِيماً، فَإِنَّهُ بَابُ الكَلامِ إِلى القَلبِ يُؤَدَّى بِهِ ضُرُوبُ المَعَانِي عَلى مَا فِيهَا مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، ولا قُوَّةَ إِلا بِاللهِ.

وَأَمَّا حَقُّ بَصَرِكَ: فَغَضُّهُ عَمَّا لا يَحِل لكَ، وتَرْكُ ابْتِذَالهِ، إِلا لمَوْضِعِ عِبْرَةٍ تَسْتَقْبِل بِهَا بَصَراً، أَوْ تَعْتَقِدُ بِهَا عِلماً، فَإِنَّ البَصَرَ بَابُ الاعْتِبَارِ.

ص: 51

وَأَمَّا حَقُّ رِجْلكَ: فَأَنْ لا تَمْشِيَ بِهَا إِلى مَا لا يَحِل لكَ، ولا تَجْعَلهَا مَطِيَّتَكَ فِي الطَّرِيقِ المُسْتَحَقَّةِ بِأَهْلهَا فِيهَا، فَإِنَّهَا حَامِلتُكَ وسَالكَةٌ بِكَ مَسْلكَ الدِّينِ والسَّبَقِ لكَ، ولا قُوَّةَ إِلا بِاللهِ.

وَأَمَّا حَقُّ يَدِكَ: فَأَنْ لا تَبْسُطَهَا إِلى مَا لا يَحِل لكَ، فَتَنَال بِمَا تَبْسُطُهَا إِليْهِ مِنْ يَدِ العُقُوبَةِ فِي الآجِل، ومِنَ النَّاسِ بِلسَانِ اللائِمَةِ فِي العَاجِل، ولا تَقْبِضَهَا مِمَّا افْتَرَضَ اللهُ عَليْهَا، ولكِنْ تُوَقِّرَهَا بِقَبْضِهَا عَنْ كَثِيرٍ مِمَّا لا يَحِل لهَا، وتَبْسُطَهَا إِلى كَثِيرٍ مِمَّا ليْسَ عَليْهَا، فَإِذَا هِيَ قَدْ عُقِلتْ وشُرِفَتْ فِي العَاجِل وَجَبَ لهَا حُسْنُ الثَّوَابِ مِنَ اللهِ فِي الآجِل.

وَأَمَّا حَقُّ بَطْنِكَ: فَأَنْ لا تَجْعَلهُ وِعَاءً لقَليل مِنَ الحَرَامِ ولا لكَثِيرٍ، وأَنْ تَقْتَصِرَ لهُ فِي الحَلال، ولا تُخْرِجَهُ مِنْ حَدِّ التَّقْوِيَةِ إِلى حَدِّ التَّهْوِينِ وذَهَابِ المُرُوَّةِ، وضَبْطُهُ إِذَا هَمَّ بِالجُوعِ والظَّمَإِ، فَإِنَّ الشِّبَعَ المُنْتَهِيَ بِصَاحِبِهِ إِلى التَّخَمِ مَكْسَلةٌومَثْبَطَةٌ ومَقْطَعَةٌ عَنْ كُل بِرٍّ وكَرَمٍ، وأَنَّ الرِّيَّ المُنْتَهِيَ بِصَاحِبِهِ إِلى السُّكْرِ مَسْخَفَةٌ ومَجْهَلةٌ ومَذْهَبَةٌ للمُرُوَّةِ.

وَأَمَّا حَقُّ فَرْجِكَ: فَحِفْظُهُ مِمَّا لا يَحِل لكَ، والاسْتِعَانَةُ عَليْهِ بِغَضِّ البَصَرِ، فَإِنَّهُ مِنْ أَعْوَنِ الأَعْوَانِ، وكَثْرَةِ ذِكْرِ المَوْتِ والتَّهَدُّدِ لنَفْسِكَ بِاللهِ والتَّخْوِيفِ لهَا بِهِ، وبِاللهِ العِصْمَةُ والتَّأْيِيدُ، ولا حَوْل ولا قُوَّةَ إِلا بِهِ ثُمَّ حُقُوقُ الأَفْعَال»(1).

ص: 52


1- مستدرك الوسائل: ج 11 ص155 ب3 باب جملة مما ينبغي القيام به من الحقوق الواجبة والمندوبة ح1.

صوم بلا فائدة

مسألة: يستحب بيان أن الصوم من دون الصيانة المذكورة لا فائدة فيه، وإن لم يجب عليه القضاء، والمراد بعدم الفائدة من حيث الثواب والقرب إلى الله عزوجل، أو درجات منهما، فإن أريد بقولها (عليها السلام): «وما يصنع» نفي أصلهما كان على الحقيقة، وإلا كان مجازاً لإفادة الأهمية.

قَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «إِذَا صُمْتَ فَليَصُمْ سَمْعُكَ وبَصَرُكَ مِنَ الحَرَامِ وَالقَبِيحِ، ودَعِ المِرَاءَ وأَذَى الخَادِمِ، وليَكُنْ عَليْكَ وَقَارُ الصِّيَامِ، ولا تَجْعَل يَوْمَ صَوْمِكَ كَيَوْمِ فِطْرِكَ»(1).

ص: 53


1- الكافي: ج 4 ص87 باب أدب الصائم ح3.

وجوب الخمس

اشارة

في شواهد التنزيل: عن فاطمة (عليها السلام) قالت: لما اجتمع علي والعباس وفاطمة وأسامة بن زيد(1)،

عند النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: سلوني.

فقال العباس: أسألك كذا وكذا من المال. قال (صلى الله عليه وآله): هو لك.

إلى أن قالت (عليها السلام): فقال (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام):

سل.

فقال: أسألك الخمس، فقال: هو لك، فأنزل الله تعالى: «وَاعْلمُوا أَنَّماغَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ»(2) الآية، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): قد نزلت

ص: 54


1- هو أسامة بن زيد بن ثابت بن شراحيل الكلبي، مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأمه أم أيمن واسمها بركة، من أصحاب رسول الله وأمير المؤمنين (صلوات الله عليهما وآلهما). وذكر البخاري في صحيحه: (إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعث بعثاً وأمّر عليه أسامة بن زيد، فطعن الناس في إمارته، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل، وأيم الله إنه كان لخليقاً للإمارة). وعن الشهرستاني في (الملل والنحل) أنه (صلى الله عليه وآله) قال: (جهزوا جيش أسامة لعن الله من تخلف عنه) كما أنه من رجال الصحاح الستة.
2- سورة الأنفال: 41.

فيّ الخمس كذا وكذا.

فقال علي (عليه السلام): فذاك أوجب لحقي، فأخرج الرمح الصحيح والرمح المكسر، والبيضة الصحيحة والبيضة المكسورة فأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أربعة أخماس وترك في يده خمساً(1).

--------------------------

من حكمة الخمس

لم يكن سؤال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) للخمس للانتفاع الشخصي والاستئثار بالأموال، كيف وهو الذي كان ينفق كل ما عنده مما غنمه أو زرعه أو غيرهما في قصص مشهورة، بل إن إدارة العباد والبلاد والهداية والإرشاد بحاجة إلى الأموال الكثيرة، فالخمس ملك الإمام (عليه السلام) وهو يصرفه على ما أمر الله بصرفه فيه.

هذا كله من الناحية الظاهرية، وإلا فإن كل ما في الكون ملك للرسول (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الطاهرين (عليهم السلام)، وقد خلق الكون لأجلهم كما دلت عليه الروايات الشريفة.

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَال: لمَّا خَلقَ اللهُ تَعَالىآدَمَ ونَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ عَطَسَ، فَأَلهَمَهُ اللهُ: الحَمْدُ للهِ رَبِّ العالمِينَ، فَقَال لهُ رَبُّهُ: يَرْحَمُكَ رَبُّكَ، فَلمَّا أَسْجَدَ لهُ المَلائِكَةَ تَدَاخَلهُ العُجْبُ فَقَال: يَا رَبِّ خَلقْتَ خَلقاً أَحَبَّ إِليْكَ مِنِّي، فَلمْ يُجِبْ، ثُمَّ قَال الثَّانِيَةَ فَلمْ يُجِبْ، ثُمَّ قَال الثَّالثَةَ فَلمْ يُجِبْ، ثُمَّ قَال اللهُ عَزَّ وجَل لهُ: نَعَمْ

ص: 55


1- شواهد التنزيل: ج 1 ص286 ح293.

ولوْلاهُمْ مَا خَلقْتُكَ، فَقَال: يَا رَبِّ فَأَرِنِيهِمْ.

فَأَوْحَى اللهُ عَزَّ وجَل إِلى مَلائِكَةِ الحُجُبِ أَنِ ارْفَعُوا الحُجُبَ، فَلمَّا رُفِعَتْ إِذَا آدَمُ بِخَمْسَةِ أَشْبَاحٍ قُدَّامَ العَرْشِ، فَقَال: يَا رَبِّ مَنْ هَؤُلاءِ؟

قَال: يَا آدَمُ هَذَا مُحَمَّدٌ نَبِيِّي، وهَذَا عَليٌّ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ ابْنُ عَمِّ نَبِيِّي ووَصِيُّهُ، وهَذِهِ فَاطِمَةُ ابْنَةُ نَبِيِّي، وهَذَانِ الحَسَنُ والحُسَيْنُ ابْنَا عَليٍّ ووَلدَا نَبِيِّي.

ثُمَّ قَال: يَا آدَمُ هُمْ وُلدُكَ، فَفَرِحَ بِذَلكَ، فَلمَّا اقْتَرَفَ الخَطِيئَةَ قَال: يَا رَبِّ أَسْأَلكَ بِمُحَمَّدٍ وَعَليٍّ وفَاطِمَةَ والحَسَنِ والحُسَيْنِ لمَّا غَفَرْتَ لي، فَغَفَرَ اللهُ لهُ بِهَذَا، فَهَذَا الذِي قَال اللهُ عَزَّ وجَل: «فَتَلقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلماتٍ فَتابَ عَليْهِ»(1)، فَلمَّا هَبَطَ إِلى الأَرْضِ صَاغَ خَاتَماً فَنَقَشَ عَليْهِ: مُحَمَّدٌ رَسُول اللهِوعَليٌّ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ، ويُكَنَّى آدَمُ بِأَبِي مُحَمَّدٍ»(2).

أما قوله: (فذا أوجب لحقي) فلعل الوجه فيه أن سهم ذي القربى شفع بسهم الله والرسول (صلى الله عليه وآله)، وكلاهما يعود له من بعده (صلى الله عليه وآله)، كما أن السهام الثلاثة الأخرى تعود ولاية التصرف فيها وصرفها في مواردها للإمام (عليه السلام) وقيل كلها ملك الإمام (عليه السلام) وهو يصرفها في مصارفها.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): أَنَّهُ سَأَلهُ عَنْ قَوْل اللهِ عَزَّ وجَل: «وَاعْلمُوا

ص: 56


1- سورة البقرة: 37.
2- اليقين: ص174 ب31 الباب فيما نذكره من رواية أبي الفتح محمد بن علي الكاتب الأصفهاني النطنزي من تسمية الله جل جلاله لمولانا علي (عليه السلام) بأمير المؤمنين.

أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وللرَّسُول ولذِي القُرْبى واليَتامى والمَساكِينِ وابْنِ السَّبِيل»(1)، فَقَال: «أَمَّا خُمُسُ اللهِ عَزَّ وجَل فَللرَّسُول يَضَعُهُ فِي سَبِيل اللهِ، وأَمَّا خُمُسُ الرَّسُول فَلأَقَارِبِهِ، وخُمُسُ ذَوِي القُرْبَى فَهُمْ أَقْرِبَاؤُهُ، واليَتَامَى يَتَامَى أَهْل بَيْتِهِ، فَجَعَل هَذِهِ الأَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ فِيهِمْ، وأَمَّا المَسَاكِينُ وابْنُ السَّبِيل فَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّا لا نَأْكُل الصَّدَقَةَ ولا تَحِل لنَا فَهِيَ للمَسَاكِينِ وأَبْنَاءِ السَّبِيل»(2). أي من ذريتهم.وعَنِ العَبْدِ الصَّالحِ (عليه السلام) قَال: «الخُمُسُ مِنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ، مِنَ الغَنَائِمِ والغَوْصِ ومِنَ الكُنُوزِ ومِنَ المَعَادِنِ والمَلاحَةِ، يُؤْخَذُ مِنْ كُل هَذِهِ الصُّنُوفِ الخُمُسُ فَيُجْعَل لمَنْ جَعَلهُ اللهُ تَعَالى لهُ، ويُقْسَمُ الأَرْبَعَةُ الأَخْمَاسِ بَيْنَ مَنْ قَاتَل عَليْهِ ووَليَ ذَلكَ، ويُقْسَمُ بَيْنَهُمُ الخُمُسُ عَلى سِتَّةِ أَسْهُمٍ، سَهْمٌ للهِ وسَهْمٌ لرَسُول اللهِ وَسَهْمٌ لذِي القُرْبَى وسَهْمٌ لليَتَامَى وسَهْمٌ للمَسَاكِينِ وسَهْمٌ لأَبْنَاءِ السَّبِيل، فَسَهْمُ اللهِ وسَهْمُ رَسُول اللهِ لأُولي الأَمْرِ مِنْ بَعْدِ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) وِرَاثَةً فَلهُ ثَلاثَةُ أَسْهُمٍ، سَهْمَانِ وِرَاثَةً وسَهْمٌ مَقْسُومٌ لهُ مِنَ اللهِ، ولهُ نِصْفُ الخُمُسِ كَمَلا، ونِصْفُ الخُمُسِ البَاقِي بَيْنَ أَهْل بَيْتِهِ، فَسَهْمٌ ليَتَامَاهُمْ وسَهْمٌ لمَسَاكِينِهِمْ وسَهْمٌ لأَبْنَاءِ سَبِيلهِمْ، يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ عَلى الكِتَابِ والسُّنَّةِ مَا يَسْتَغْنُونَ بِهِ فِي سَنَتِهِمْ، فَإِنْ فَضَل عَنْهُمْ شَيْ ءٌ فَهُوَ للوَالي، وإِنْ عَجَزَ أَوْ نَقَصَ عَنِ اسْتِغْنَائِهِمْ

ص: 57


1- سورة الأنفال: 41.
2- وسائل الشيعة: ج 9 ص509 ب1 باب أنه يقسم ستة أقسام ثلاثة للإمام وثلاثة لليتامى والمساكين وابن السبيل ممن ينتسب إلى عبد المطلب بأبيه لا بأمه وحدها الذكر والأنثى منهم وأنه ليس في مال الخمس زكاة ح1.

كَانَ عَلى الوَالي أَنْ يُنْفِقَ مِنْ عِنْدِهِ بِقَدْرِ مَا يَسْتَغْنُونَ بِهِ، وإِنَّمَا صَارَ عَليْهِ أَنْ يَمُونَهُمْ لأَنَّ لهُ مَا فَضَل عَنْهُمْ، وإِنَّمَا جَعَل اللهُ هَذَا الخُمُسَ خَاصَّةً لهُمْ دُونَ مَسَاكِينِ النَّاسِ وأَبْنَاءِ سَبِيلهِمْعِوَضاً لهُمْ مِنْ صَدَقَاتِ النَّاسِ تَنْزِيهاً مِنَ اللهِ لهُمْ، لقَرَابَتِهِمْ بِرَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) وكَرَامَةً مِنَ اللهِ لهُمْ عَنْ أَوْسَاخِ النَّاسِ، فَجَعَل لهُمْ خَاصَّةً مِنْ عِنْدِهِ مَا يُغْنِيهِمْ بِهِ عَنْ أَنْ يُصَيِّرَهُمْ فِي مَوْضِعِ الذُّل والمَسْكَنَةِ، ولا بَأْسَ بِصَدَقَاتِ بَعْضِهِمْ عَلى بَعْضٍ، وهَؤُلاءِ الذِينَ جَعَل اللهُ لهُمُ الخُمُسَ هُمْ قَرَابَةُ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله)»(1).

رواية أخرى

ثم إنه وردت رواية أخرى أكثر تفصيلاً من هذه الرواية توضح بعض ما غمض منها وتزيد، وهي ما رواها في الكتاب نفسه، كما رواه بعض العامة(2) أيضاً:

عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: سمعت أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) يقول:

اجتمعت أنا وفاطمة والعباس وزيد بن حارثة عند رسول الله (صلى

الله عليه وآله)، فقال العباس: يا رسول الله كبرت سني ودق عظمي وكثرت مئونتي، فإن رأيت يا رسولالله أن تأمر لي بكذا وكذا وسقاً من الطعام فافعل.

فأجابه النبي (صلى الله عليه وآله).

ص: 58


1- الكافي: ج 1 ص539 باب الفي ء والأنفال وتفسير الخمس وحدوده وما يجب فيه ح4.
2- انظر مسند أحمد، أوائل مسند علي (عليه السلام) رقم 646، ج1 ص84، وج2 ص59.

فقالت فاطمة: يا رسول الله إن رأيت أن تأمر لي كما أمرت لعمك فافعل.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): نعم.

ثم قال زيد بن حارثة: يا رسول الله كنت أعطيتني أرضاً كانت معيشتي منها، ثم قبضتها، فإن رأيت أن تردها علي فافعل.

فقال (صلى الله عليه وآله): نعم.

فقلت أنا: إن رأيت أن توليني هذا الحق الذي جعله الله لنا في كتابه من هذا الخمس فاقسمه في حياتك كيلا ينازعنيه أحد بعدك.

فقال النبي (صلى الله عليه وآله): فافعل، فولانيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقسمته في حياته، ثم ولانيه أبو بكر فقسمته في حياته، ثم ولانيه عمر فقسمته حتى كان آخر سنة من سني عمر أتاه مال كثير فعزل حقنا ثم أرسل إلي فقال: هذا حقكم فخذه. فقلت: بنا عنه غنى العام، وبالمسلمين حاجة، فرده تلك السنة فلم يدعني إليه أحد بعده حتى قمت مقامي هذا، فلقيني العباس فقال: يا علي لقد نزعت اليوم منا شيئاً لايرد إلينا أبداً.

وجوب الخمس

مسألة: يجب الخمس في الغنائم وفي أرباح المكاسب، وفي هذه الرواية دلالة على ذلك من جهتين: من جهة سؤال الإمام (عليه السلام) ومن جهة استجابة الرسول (صلى الله عليه وآله).

فإن الخمس إن لم يكن واجباً لم يسأله علي (عليه الصلاة والسلام)، وإن لم

ص: 59

يكن (عليه السلام) يسأله فإنه (صلى الله عليه وآله) كان يأخذه ويضعه في مورده(1)، ومن الواضح أنه (صلى الله عليه وآله) لم يكن يعطي حق غير علي لعلي، وإنما أعطاه ما سأله لأنه كان حقه، فهو كمن يسأل حقه من الإرث، أو من الوصية، أو من يطلب ديناً له على الغير، أو من يطلب ما له الولاية عليه وما أشبه.

قَال الصَّادِقُ (عليه السلام): «إِنَّ اللهَ لا إِلهَ إِلا هُوَ لمَّا حَرَّمَ عَليْنَا الصَّدَقَةَ أَنْزَل لنَا الخُمُسَ، فَالصَّدَقَةُ عَليْنَا حَرَامٌ، والخُمُسُ لنَا فَرِيضَةٌ، والكَرَامَةُ لنَا حَلال»(2).وعَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: «كُل شَيْ ءٍ قُوتِل عَليْهِ عَلى شَهَادَةِ أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وأَنَّ مُحَمَّداً رَسُول اللهِ فَإِنَّ لنَا خُمُسَهُ، ولا يَحِل لأَحَدٍ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنَ الخُمُسِ شَيْئاً حَتَّى يَصِل إِليْنَا حَقُّنَا»(3).

سؤال الخير

مسألة: يستحب سؤال ما فيه الخير من العظيم، سواء كان الخير مما يعود للسائل أو للمسؤول، كما يستحب للعظيم أن يطلب سؤاله الخير، كما طلب (صلى الله عليه وآله) ذلك حيث ابتدأهم به.

وفي هذا الحديث أن أسامة سأل أن يرد عليه أرض كذا وكذا، فقال (صلى الله عليه وآله): هو لك، وانتزاع الرسول (صلى الله عليه وآله) الأرض من أسامة إما لأنه

ص: 60


1- ومورده هو نفس ما سأله الإمام علي (عليه السلام).
2- من لا يحضره الفقيه: ج 2 ص41 باب الخمس ح1649.
3- الكافي: ج 1 ص545 باب الفي ء والأنفال وتفسير الخمس وحدوده وما يجب فيه ح14.

لم يكن مالكاً لها، أو لأنه لم يكن يستحقها بالعنوان الأولي فقبضها منه، ثم وهبها أو أجازه فيها بطلبه اللاحق، وإما أن يكون المراد بالانتزاع الاشتراء ونحوه.

ولعل الرواية الأخرى التي نقلناهاتفيد الوجه الأول(1).

ثم إنه لم يرد في التواريخ والتفاسير والأحاديث أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) انتزع أرض إنسان من يده أبداً، وإن كان له الحق في ذلك بالولاية، فإن ولايته (صلى الله عليه وآله) كولاية الله سبحانه، وهكذا الإمام المعصوم (عليه السلام)، أما الفقيه فليست له تلك الولاية المطلقة، بل ولايته محددة بحدود وشروط ذكرناها في كتبنا.

تشريع الخمس

مسألة: ظاهر هذه الرواية أن الخمس مما شرعه النبي (صلى الله عليه وآله) وأمضاه الله تعالى، فتكون من الأدلة على أن الله فوّض إلى نبيه دينه، كما في الروايات.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «إِنَّ اللهَ أَدَّبَ نَبِيَّهُ حَتَّى إِذَا أَقَامَهُ عَلى مَا أَرَادَ قَال لهُ: «وَأْمُرْ بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهِلينَ»(2) فَلمَّا فَعَل ذَلكَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) زَكَّاهُ اللهُ فَقَال: «إِنَّكَ لعَلى خُلقٍ عَظِيمٍ»(3)، فَلمَّازَكَّاهُ

ص: 61


1- وهو أنه لم يكن مالكاً بل كان الرسول (صلى الله عليه وآله) قد وضعها تحت تصرفه فقط.
2- سورة الأعراف: 199.
3- سورة القلم: 4.

فَوَّضَ إِليْهِ دِينَهُ فَقَال: «ما آتاكُمُ الرَّسُول فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا»(1)، فَحَرَّمَ اللهُ الخَمْرَ وَحَرَّمَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) كُل مُسْكِرٍ، فَأَجَازَ اللهُ ذَلكَ كُلهُ، وَإِنَّ اللهَ أَنْزَل الصَّلاةَ وَإِنَّ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) وَقَّتَ أَوْقَاتَهَا فَأَجَازَ اللهُ ذَلكَ لهُ»(2).

كما ورد تشريعه (صلى الله عليه وآله) بالنسبة إلى عدد ركعات المغرب والرباعيات وغيرها.

لكن لعل الرواية الأخرى تفيد أن تشريع الخمس كان ابتداءً من الله تعالى إذ جاء فيها:

«إن رأيت(3) أن توليني هذ الحق الذي جعله الله لنا في كتابه من هذا الخمس فاقسمه في حياتك كيلا ينازعنيه أحد بعدك»، وقد يجمع بتعدد النزول(4).

عَنْ فُضَيْل بْنِ يَسَارٍ قَال: سَمِعْتُ أَبَاعَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُول لبَعْضِ أَصْحَابِ قَيْسٍ المَاصِرِ: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَل أَدَّبَ نَبِيَّهُ (صلى الله عليه وآله) فَأَحْسَنَ أَدَبَهُ، فَلمَّا أَكْمَل لهُ الأَدَبَ قَال: «إِنَّكَ لعَلى خُلقٍ عَظِيمٍ»(5)، ثُمَّ فَوَّضَ إِليْهِ أَمْرَ الدِّينِ وَالأُمَّةِ ليَسُوسَ عِبَادَهُ، فَقَال عَزَّ وَ جَل: «ما آتاكُمُ الرَّسُول فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ

ص: 62


1- سورة الحشر: 7.
2- بصائر الدرجات: ج 1 ص379 ب4 باب التفويض إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ح5.
3- الخطاب من أمير المؤمنين (عليه السلام) لرسول الله (صلى الله عليه وآله).
4- فإن بعض آيات القرآن الكريم نزلت مرتين، وبعضها نزلت مراراً.
5- سورة القلم: 4.

عَنْهُ فَانْتَهُوا»(1)، وَإِنَّ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) كَانَ مُسَدَّداً مُوَفَّقاً مُؤَيَّداً بِرُوحِ القُدُسِ، لا يَزِل وَ لا يُخْطِئُ فِي شَيْ ءٍ مِمَّا يَسُوسُ بِهِ الخَلقَ، فَتَأَدَّبَ بِآدَابِ اللهِ، ثُمَّ إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَل فَرَضَ الصَّلاةَ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ عَشْرَ رَكَعَاتٍ، فَأَضَافَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) إِلى الرَّكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، وَإِلى المَغْرِبِ رَكْعَةً فَصَارَتْ عَدِيل الفَرِيضَةِ لا يَجُوزُ تَرْكُهُنَّ إِلا فِي سَفَرٍ، وَأَفْرَدَ الرَّكْعَةَ فِي المَغْرِبِ فَتَرَكَهَا قَائِمَةً فِي السَّفَرِ وَالحَضَرِ، فَأَجَازَ اللهُ عَزَّ وَجَل لهُ ذَلكَ كُلهُ فَصَارَتِ الفَرِيضَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ رَكْعَةً.

ثُمَّ سَنَّ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) النَّوَافِل أَرْبَعاً وَثَلاثِينَ رَكْعَةً مِثْليِ الفَرِيضَةِ، فَأَجَازَ اللهُ عَزَّ وَجَل لهُ ذَلكَ، وَالفَرِيضَةُ وَالنَّافِلةُ إِحْدَى وَخَمْسُونَ رَكْعَةً، مِنْهَا رَكْعَتَانِ بَعْدَ العَتَمَةِ جَالساً تُعَدُّ بِرَكْعَةٍ مَكَانَ الوَتْرِ.وَفَرَضَ اللهُ فِي السَّنَةِ صَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَسَنَّ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) صَوْمَ شَعْبَانَ وَثَلاثَةَ أَيَّامٍ فِي كُل شَهْرٍ مِثْليِ الفَرِيضَةِ، فَأَجَازَ اللهُ عَزَّ وَجَل لهُ ذَلكَ.

وَحَرَّمَ اللهُ عَزَّ وَجَل الخَمْرَ بِعَيْنِهَا وَحَرَّمَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) المُسْكِرَ مِنْ كُل شَرَابٍ، فَأَجَازَ اللهُ لهُ ذَلكَ كُلهُ.

وَعَافَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) أَشْيَاءَ وَكَرِهَهَا وَلمْ يَنْهَ عَنْهَا نَهْيَ حَرَامٍ، إِنَّمَا نَهَى عَنْهَا نَهْيَ إِعَافَةٍ وَكَرَاهَةٍ ثُمَّ رَخَّصَ فِيهَا، فَصَارَ الأَخْذُ بِرُخَصِهِ وَاجِباً عَلى العِبَادِ كَوُجُوبِ مَا يَأْخُذُونَ بِنَهْيِهِ وَعَزَائِمِهِ، وَلمْ يُرَخِّصْ لهُمْ رَسُول اللهِ

ص: 63


1- سورة الحشر: 7.

(صلى الله عليه وآله) فِيمَا نَهَاهُمْ عَنْهُ نَهْيَ حَرَامٍ، وَلا فِيمَا أَمَرَ بِهِ أَمْرَ فَرْضٍ لازِمٍ، فَكَثِيرُ المُسْكِرِ مِنَ الأَشْرِبَةِ نَهَاهُمْ عَنْهُ نَهْيَ حَرَامٍ لمْ يُرَخِّصْ فِيهِ لأَحَدٍ، وَلمْ يُرَخِّصْ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) لأَحَدٍ تَقْصِيرَ الرَّكْعَتَيْنِ اللتَيْنِ ضَمَّهُمَا إِلى مَا فَرَضَ اللهُ عَزَّ وَجَل، بَل أَلزَمَهُمْ ذَلكَ إِلزَاماً وَاجِباً لمْ يُرَخِّصْ لأَحَدٍ فِي شَيْ ءٍ مِنْ ذَلكَ إِلا للمُسَافِرِ، وَليْسَ لأَحَدٍ أَنْ يُرَخِّصَ شَيْئاً مَا لمْ يُرَخِّصْهُ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) فَوَافَقَ أَمْرُ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) أَمْرَ اللهِ عَزَّ وَجَل، وَنَهْيُهُ نَهْيَ اللهِ عَزَّ وَجَل، وَوَجَبَ عَلى العِبَادِ التَّسْليمُ لهُ كَالتَّسْليمِ للهِ تَبَارَكَ وَتَعَالى»(1).

ص: 64


1- الكافي: ج 1 ص266 باب التفويض إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإلى الأئمة (عليه السلام) في أمر الدين ح4.

الدعاء عند دخول مسجد

اشارة

عن فاطمة الكبرى (عليها السلام) ابنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) قالت: «إن النبي (صلى الله عليه وآله)كان إذا دخل المسجد يقول: "بِسْمِ اللهِ، اللهُمَّ صَل عَلى مُحَمَّدٍ وَآل مُحَمَّدٍ وَاغْفِرْ ذُنُوبي، وَافْتَحْ لي أبْوابَ رَحْمَتِكَ". وإذا خرج يقول: "بِسْمِ اللهِ، اللهُمَّ صَل عَلى مُحَمَّدٍ وَآل مُحَمَّدٍ وَاغْفِرْ ذُنُوبي، وَافْتَحْ لي أبْوابَ فَضْلكَ"»(1).

-----------------------------

أدعية دخول المسجد

مسألة: يستحب قراءة دعاء الدخول في المسجد.

وهل المستحب هذا الدعاء الخاص أو أي دعاء، لا يبعد أن يكون من باب المستحب في المستحب، أي تعدد المطلوب، لا الخصوصية المنحصرة بهذا الدعاء دون غيره(2).

ص: 65


1- مستدرك الوسائل: ج 3 ص394 ب32 باب استحباب الوقوف على باب المسجد و الدعاء بالمأثور عند الخروج منه ح2.
2- لعل ظاهر كلام المصنف (قدس سره) أن هنا مستحبات ثلاثة، من باب تعدد المطلوب وهي: الدعاء فإنه مستحب مطلقاً، والدعاء عند دخول المسجد، فإنه مستحب في مستحب، وخصوص الدعاء المأثور فإنه مستحب في مستحب في مستحب.

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «إِذَا دَخَلتَ المَسْجِدَ فَصَل عَلى النَّبِيِ (صلى الله عليه وآله) وإِذَا خَرَجْتَ فَافْعَل ذَلكَ»(1).

وقَال (صلى الله عليه وآله): «لا تَجْعَلوا المَسَاجِدَ طُرُقاً حَتَّى تُصَلوا فِيهَا رَكْعَتَيْن»(2).

أدعية الخروج من المسجد

مسألة: يستحب قراءة دعاء الخروج من المسجد.

ثم هل المستحب في دعاء الدخول أن يدعو قبل الدخول، أو مع الدخول، أو بعد الدخول، وكذلك بالنسبة إلى الخروج، احتمالات، ولا يبعد الإطلاق لأنه المتفاهم عرفاً.

عَنْ أَبِي حَفْصٍ العَطَّارِ شَيْخٍ مِنْ أَهْل المَدِينَةِ قَال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُول: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليهوآله): «إِذَا صَلى أَحَدُكُمُ المَكْتُوبَةَ وخَرَجَ مِنَ المَسْجِدِ فَليَقِفْ بِبَابِ المَسْجِدِ ثُمَّ ليَقُل: اللهُمَ دَعَوْتَنِي فَأَجَبْتُ دَعْوَتَكَ، وصَليْتُ مَكْتُوبَتَكَ وانْتَشَرْتُ فِي أَرْضِكَ كَمَا أَمَرْتَنِي فَأَسْأَلكَ مِنْ فَضْلكَ العَمَل بِطَاعَتِكَ واجْتِنَابَ سَخَطِكَ والكَفَافَ مِنَ الرِّزْقِ بِرَحْمَتِكَ»(3).

ص: 66


1- الكافي: ج 3 ص309 باب القول عند دخول المسجد والخروج منه ح2.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 4 ص4 باب ذكر جمل من مناهي النبي (صلى الله عليه وآله) ح4968.
3- الكافي: ج 3 ص309 باب القول عند دخول المسجد والخروج منه ح4.

استحباب البسملة

مسألة: تستحب البسملة مطلقاً، أي عند كل عمل وحركة وسكون، وكل فعل وقول، وعند اتخاذ كل قرار والعزم عليه، وحتى عند كل تفكير، فإن الله تعالى هو الرحمن الرحيم، فالابتداء باسمه الكريم يكون المنشأ لنزول رحمته.

وعَنِ الرِّضَا عَليِّ بْنِ مُوسَى (عليه السلام) أَنَّهُ قَال: «إِنَ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) أَقْرَبُ إِلى اسْمِ اللهِ الأَعْظَمِ مِنْ سَوَادِ العَيْنِ إِلى بَيَاضِهَا»(1).

وعَنْ عَليٍّ (عليه السلام) فِي حَدِيثٍ: أَنَّ رَجُلا قَال لهُ إِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُعَرِّفَنِي ذَنْبِيَ الذِي امْتُحِنْتُ بِهِ فِي هَذَا المَجْلسِ، فَقَال: «تَرْكُكَ حِينَ جَلسْتَ أَنْ تَقُول (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) إِنَّ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) حَدَّثَنِي عَنِ اللهِ عَزَّ وجَل أَنَّهُ قَال: كُل أَمْرٍ ذِي بَال لا يُذْكَرُ بِسْمِ اللهِ فِيهِ فَهُوَ أَبْتَرُ»(2).وعنْ هَارُونَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: قَال لي: «كَتَمُوا (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) فَنِعْمَ واللهِ الأَسْمَاءُ كَتَمُوهَا، كَانَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) إِذَا دَخَل إِلى مَنْزِلهِ واجْتَمَعَتْ عَليْهِ قُرَيْشٌ يَجْهَرُ بِ- (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ويَرْفَعُ بِهَا صَوْتَهُ فَتُوَلي قُرَيْشٌ فِرَاراً، فَأَنْزَل اللهُ عَزَّ وجَل فِي ذَلكَ: «إِذا ذَكَرْتَ

ص: 67


1- عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج 2 ص5 ب30 باب فيما جاء عن الرضا (عليه السلام) من الأخبار المنثورة ح11.
2- وسائل الشيعة: ج 7 ص170 ب17 باب استحباب الابتداء بالبسملة مخلصاً لله مقبلاً بالقلب إليه في كل فعل صغيراً كان أو كبيراً وكل ما يحزن صاحبه وكراهة ترك التسمية عند ذلك ح4.

رَبَّكَ فِي القُرْآنِ وَحْدَهُ وَلوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً»(1)»(2).

الصلاة على النبي والآل

مسألة: يستحب الصلاة على محمد وآله مطلقاً.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «إِذَا ذُكِرَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) فَأَكْثِرُوا الصَّلاةَ عَليْهِ، فَإِنَّهُ مَنْ صَلى عَلى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) صَلاةً وَاحِدَةً صَلى اللهُ عَليْهِ أَلفَ صَلاةٍ فِي أَلفِ صَفٍّ مِنَ المَلائِكَةِ، ولمْ يَبْقَ شَيْ ءٌ مِمَّا خَلقَهُ اللهُ إِلا صَلى عَلى العَبْدِ، لصَلاةِ اللهِ عَليْهِ وصَلاةِ مَلائِكَتِهِ، فَمَنْ لمْ يَرْغَبْ فِي هَذَا فَهُوَ جَاهِل مَغْرُورٌ، قَدْبَرِئَ اللهُ مِنْهُ ورَسُولهُ وأَهْل بَيْتِهِ»(3).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ صَلى عَليَّ صَلى اللهُ عَليْهِ ومَلائِكَتُهُ، ومَنْ شَاءَ فَليُقِل ومَنْ شَاءَ فَليُكْثِرْ»(4).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: مَنْ قَال يَا رَبِ صَل عَلى مُحَمَّدٍ وآل مُحَمَّدٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، قُضِيَتْ لهُ مِائَةُ حَاجَةٍ، ثَلاثُونَ للدُّنْيَا والبَاقِي للآخِرَةِ»(5).

ص: 68


1- سورة الإسراء: 46.
2- الكافي: ج 8 ص66 حديث القباب ح387.
3- الكافي: ج 2 ص492 باب الصلاة على النبي محمد وأهل بيته (عليهم السلام) ح6.
4- الكافي: ج 2 ص492 باب الصلاة على النبي محمد وأهل بيته (عليهم السلام) ح7.
5- الكافي: ج 2 ص493 باب الصلاة على النبي محمد وأهل بيته (عليهم السلام) ح9.

الدعاء لغفران الذنوب

مسألة: يستحب الدعاء لغفران الذنوب مطلقاً، وإن كان الداعي معصوماً لا يذنب قط، وقد أشرنا إلى وجهه سابقاً.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «مَنِ اسْتَغْفَرَ اللهَ مِائَةَ مَرَّةٍ حِينَ يَنَامُ بَاتَ وقَدْ تَحَاتَّ عَنْهُ الذُّنُوبُ كُلهَا، كَمَا يَتَحَاتُّ الوَرَقُ مِنَ الشَّجَرِ، ويُصْبِحُ وليْسَ عَليْهِ ذَنْبٌ»(1).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «مَنِ اسْتَغْفَرَ اللهَ بَعْدَ العَصْرِ سَبْعِينَ مَرَّةً، غَفَرَ اللهُ لهُ ذَلكَ اليَوْمَ سَبْعَمِائَةِ ذَنْبٍ، فَإِنْ لمْ يَكُنْ لهُ فَلأَبِيهِ، فَإِنْ لمْ يَكُنْ لأَبِيهِ فَلأُمِّهِ، فَإِنْ لمْ يَكُنْ لأُمِّهِ فَلأَخِيهِ، فَإِنْ لمْ يَكُنْ لأَخِيهِ فَلأُخْتِهِ، فَإِنْ لمْ يَكُنْ لأُخْتِهِ فَللأَقْرَبِ فَالأَقْرَبِ»(2).

وقَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ أَكْثَرَ الاسْتِغْفَارَ جَعَل اللهُ لهُ مِنْ كُل هَمٍّ فَرَجاً، ومِنْ كُل ضِيقٍ مَخْرَجاً، ويَرْزُقُهُ مِنْحَيْثُ لا يَحْتَسِب»(3).

ص: 69


1- وسائل الشيعة: ج 6 ص451 ب13 باب ما يستحب قراءته عند النوم من الإخلاص والجحد والتكاثر وغيرها واستحباب التهليل مائة والاستغفار مائة ح2.
2- وسائل الشيعة: ج 6 ص482 ب27 باب استحباب الاستغفار بعد العصر سبعين مرة فصاعدا وتلاوة القدر عشرا ح1.
3- مستدرك الوسائل: ج 5 ص317 ب21 باب استحباب الإكثار من الاستغفار ح4.

الدعاء يوم الجمعة

اشارة

عن فاطمة بنت النبي (صلى الله عليه وآله) قالت:

«سمعت النبي (صلى الله عليه وآله) يقول: إن في الجمعة لساعةً لا يرافقها رجل مسلم يسأل الله عزوجل فيها خيراً إلا أعطاه إياه».

قالت: فقلت: يا رسول الله أي ساعة هي؟

قال: إذا تدلى نصف عين الشمس للغروب.

قال: وكانت فاطمة (عليها السلام) تقول لغلامها: اصعد على الظراب، فإذا رأيت نصف عين الشمس قد تدلى للغروب فأعلمني حتى أدعو»(1).

--------------------------

توضيح

الظراب: جمع المظرب، وهي الروابي الصغار أو الحجر المرتفع، واحدها ظَرِبٌ، على زنة كتف، وقد يجمع في القلة على أظرب.

وقولها (عليها السلام): «اصعد على الظراب» الظاهر أنه لوجود تلال أو بيوت أو أشجار تمنع من رؤية غروب الشمس.

ويحتمل في قولها «حتى أدعو»،وجهان: أصل الدعاء، وكيفيته(2).

ص: 70


1- معاني الأخبار: ص399 باب نوادر المعاني ح59.
2- أصل الدعاء بمعنى كونها (عليها السلام) مشغولة بعمل ما، فكان على الغلام أن يعلمها حتى تنشغل بالدعاء، وأما كيفيته فهو بمعنى كونها مشغولة بأصل لدعاء من قبل، لكنه عند ما يعلمها تنشغل بالدعاء الخاص للحوائج أو لحوائج المؤمنين خاصة أو بتضرع أكبر نظراً لكون الساعة أقرب للاستجابة.

وقد سبق أنه لا يراد ب (غلام) في أمثال هذا الحديث خصوص الرجل في قبال المرأة، لا لعدم مفهوم للقب فقط، بل لما جرى في سيرة الفصحاء على ذكر شخص أو صنف وإرادة النوع أو الكلي، وذكر الغلام وإرادة الأعم منه بحسب القرائن.

نعم عادة يطلق الغلام على الذكر والغلامة على الأنثى.

الجمعة وأدعيتها

مسألة: يستحب الدعاء يوم الجمعة.

وهو مستفاد من هذا الحديث أيضاً، وإن كان بصدد وقت خاص من يوم الجمعة إلا أن الفهم العرفي هو تعدد المطلوب، لمناسبات الحكم والموضوع، كما أنه يفهم ذلك من الروايات الأخر المذكورة في يوم الجمعة، على ما ورد في البحار وغيره.عَنْ جَابِرٍ قَال: كَانَ عَليٌّ (عليه السلام) يَقُول: «أَكْثِرُوا المَسْأَلةَ يَوْمَ الجُمُعَةِ والدُّعَاءَ، فَإِنَّ فِيهِ سَاعَاتٍ يُسْتَجَابُ فِيهَا الدُّعَاءُ والمَسْأَلةُ، مَا لمْ تَدْعُوا بِقَطِيعَةٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ أَوْ عُقُوقٍ، واعْلمُوا أَنَّ الخَيْرَ والشَّرَّ يُضَاعَفَانِ يَوْمَ الجُمُعَةِ»(1).

عَنْ عَليِّ بْنِ مَهْزِيَارَ قَال: كَتَبْتُ إِلى أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) وشَكَوْتُ إِليْهِ كَثْرَةَ الزَّلازِل فِي الأَهْوَازِ وقُلتُ: تَرَى ليَ التَّحْوِيل عَنْهَا، فَكَتَبَ (عليه السلام):

ص: 71


1- بحار الأنوار: ج 86 ص349 ب4 أعمال يوم الجمعة وآدابه ووظائفه ح25.

«لا تَتَحَوَّلوا عَنْهَا وصُومُوا الأَرْبِعَاءَ والخَمِيسَ والجُمُعَةَ واغْتَسِلوا وطَهِّرُوا ثِيَابَكُمْ وابْرُزُوا يَوْمَ الجُمُعَةِ وادْعُوا اللهَ فَإِنَّهُ يَرْفَعُ عَنْكُمْ» قَال: فَفَعَلنَا فَسَكَنَتِ الزَّلازِل(1).

وعَنِ النَّبِيِّ (صَلوَاتُ اللهِ عَليْهِ وآلهِ): «فِي السَّاعَةِ التِي يُسْتَجَابُ فِيهَا الدُّعَاءُ يَوْمَ الجُمُعَةِ يَقُول: "سُبْحَانَكَ لا إِلهَ إِلا أَنْتَ يَا حَنَّانُ يَا مَنَّانُ يَا بَدِيعَ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ يَا ذَا الجَلال والإِكْرَامِ"، ثُمَّ يَدْعُوبِمَا يَليقُ بِالتَّوْفِيق»(2).

أقسام الأُفق

ولا يخفى أنه لا فرق في ذلك بين الأُفق الحسي أو الأُفق الترسي، كمن كان في الطائرة أو على جبل أو ما أشبه ذلك، أما الأفق الحقيقي فلا، حيث إن المنجمين قسموا الأفق على ثلاثة أقسام:

1: الأفق الحسي الذي يشاهد في الصحراء مثلاً.

2: الأفق الترسي الذي يشاهد من فوق شيء عال.

3: الأفق الحقيقي، وهو نصف كرة الأرض بالخط الموهوم لمن كان في أي منطقة من الأرض فإنه يفرض الأرض نصفياً، نصفاً ظاهراً في محل وقوفه، ونصفاً مخفياً في الجهة المقابلة له.

وهناك تعاريف أخر لأقسام الأفق(3).

ص: 72


1- من لا يحضره الفقيه: ج 1 ص544 باب صلاة الكسوف والزلازل والرياح والظلم وعلتها ح1515.
2- جمال الأسبوع: ص408 ذكر ما يختار روايته في فضلها.
3- قال في المستند: (الأفق الترسي الذي هو الحسي عرفاً المتأخر عن السقوط عن الأفق الحقيقي، والحسي باصطلاح أهل الهيئة، وهو الحسي للبصر الملاصق للأرض) مستند الشيعة: ج4 ص26. وقال في منهاج الملة في بيان الوقت والقبلة: ص94: (وبتعبير آخر يطلق الأفق على ثلاث دوائر: إحداها: دائرة عظيمة ثابتة يقوم الخطّ الواصل بين سمتي الرّأس، والقدم عموداً عليها، ويقطع العالم من المركز بنصفين، ويسمّى الأفق الحقيقي. والثّانية: دائرة صغيرة ثابتة تماسّ الأرض من فوق موازيه للأفق الحقيقي، و يسمّى الأفق الحسّي، والبعد بينه وبين الأوّل نصف قطر الأرض. والثّالثة: دائرة ثابتة على شكل: ترس، ترتسم محيطها من طرف خطّ يخرج من البصر إلى سطح الفلك الأعظم مماسّا للأرض، إذا أدير ذلك الخطّ مع ثبات طرفه الذي في البصر ومماسّه للأرض، وتسمّى الأفق الحسّي أيضاً، أي كما تسمّى ترسّياً، وهي قد تكون عظيمة، وقد تكون صغيرة، إذ ربّما تنطبق على الأولى فتكون عظيمة، وربّما تقع تحتها فتكون صغيرة، أو فوقها، وتحت الثّانية بحسب اختلاف قامة النّاظر، وإن كان النّاظر في قعر البئر يكون الأفق الترسي فوق الحسّي. وقال ابن الهيثم في رسالته: إنّ قامة النّاظر إن كانت أربعة أذرع، أو ثلاثة أذرع ونصفاً، كان الأفق الحسّي بالمعنى الثّاني تحت الأفق الحقيقي بأربع دقائق وستّة وعشرين ثانية، وهذه الدّائرة: هي الفاصلة بين ما يرى و ما لا يرى حقيقة. أمّا الاولى: فقد يفصل بينهما حقيقة إذا لم ينطبق الثّانية عليها، وقد لا يفصل أصلاً إذا انطبق الثالثة، لكونها فوق الأرض ويرى ما تحتها من الفلك. أمّا الثّانية: فلا تفصل حقيقة لكونها فوق الأرض، ويرى ما تحتها من الفلك حقيقة) انتهى.

الوقت الخاص في الجمعة

مسألة: يتأكد استحباب الدعاء في أوقات محددة من يوم الجمعة ومنها ما ورد في هذه الرواية، وذلك للاستجابة وغيرها.

ص: 73

فِي حَدِيثِ الأَرْبَعِمِائَةِ قَال (عليه السلام): «مَنْ كَانَ لهُ إِلى رَبِّهِ حَاجَةٌ فَليَطْلبْهَا فِي ثَلاثِ سَاعَاتٍ، سَاعَةٍ فِي يَوْمِ الجُمُعَةِ، وسَاعَةٍ تَزُول الشَّمْسُ، وحِينَ تَهُبُّ الرِّيَاحُ، وتُفَتَّحُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وتَنْزِل الرَّحْمَةُ ويَصُوتُ الطَّيْرُ، وسَاعَةٍ فِي آخِرِ الليْل عِنْدَ طُلوعِ الفَجْرِ، فَإِنَّ مَلكَيْنِ يُنَادِيَانِ: هَل مِنْ تَائِبٍ يُتَابُ عَليْهِ، هَل مِنْ سَائِل يُعْطَى، هَل مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَيُغْفَرَ لهُ، هَل مِنْ طَالبِ حَاجَةٍ فَتُقْضَى لهُ، فَأَجِيبُوا دَاعِيَ اللهِ واطْلبُوا الرِّزْقَ فِيمَا بَيْنَ طُلوعِ الفَجْرِ إِلى طُلوعِ الشَّمْسِ، فَإِنَّهُ أَسْرَعُ فِي طَلبِ الرِّزْقِ مِنَ الضَّرْبِ فِي الأَرْضِ، وهِيَ السَّاعَةُ التِي يُقَسِّمُ اللهُ فِيهَا الرِّزْقَ بَيْنَ عِبَادِهِ، تَوَكَّلوا عَلى اللهِ عِنْدَ رَكْعَتَيِ الفَجْرِ إِذَا صَليْتُمُوهَا، فَفِيهَا تُعْطَوُا الرَّغَائِبَ»(1).

مباشرة الأمور وتسبيبها

مسألة: يستحب للعظيم أن يباشر بنفسه بعض الأمور، إلاّ إذا كان فيه محذور أو كان في التسبيب فائدة، كما كانت (عليها السلام) تقول لغلامها: «اصعد..»(2).

وفي الحديث: «أَنَّهُ (عليه السلام) اشْتَرَى تَمْراً بِالكُوفَةِ فَحَمَلهُ فِي طَرَفِ رِدَائِهِ، فَتَبَادَرَ النَّاسُ إِلى حَمْلهِ وقَالوا: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ نَحْنُ نَحْمِلهُ، فَقَال (عليه السلام): رَبُ العِيَال أَحَقُّ بِحَمْله»(3).

ص: 74


1- وسائل الشيعة: ج 7 ص68 ب25 باب استحباب الدعاء في السحر وفي الوتر وما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ح1.
2- إذ قد لا يكون صعود المرأة على التلال في المدينة مناسباً لشأنها وحشمتها ووقارها.
3- مناقب آل أبي طالب عليهم السلام: ج 2 ص104 في المسابقة بالتواضع.

الدعاء وطلب الخير

مسألة: ينبغي طلب الخير في الدعاء، دون طلب الشر، ولا مجهول الخيرية والشرية.

و(الخير) في قول الصديقة (عليها السلام) الخير الواقعي، أي ما هو خير عند الله حقيقة لا ما يتوهم خيراً وإن لم يكن كذلك، فإنه كثيراً ما يطلب الناس المال أو المسكن أو حل مشكلة ما، لكن الله حيث يعلم أنه لا خير في ذلك وأنه لا مصلحة للسائل فيه، لا يستجيب له، والغالب أن يخفى وجه المصلحة على الناس في عدم استجابة دعائهم، ولو علموها لرضوا بقضاء الله وقدره.

عَنِ الحُسَيْنِ بْنِ أَعْيَنَ أَخُو مَالكِ بْنِ أَعْيَنَ، قَال: سَأَلتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) عَنْ قَوْل الرَّجُل للرَّجُل: جَزَاكَ اللهُ خَيْراً مَا يَعْنِي بِهِ، فَقَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): إِنَّ خَيْراً نَهَرٌ فِي الجَنَّةِ، مَخْرَجُهُ مِنَ الكَوْثَرِ، والكَوْثَرَ مَخْرَجُهُ مِنْ سَاقِ العَرْشِ، عَليْهِ مَنَازِل الأَوْصِيَاءِ وشِيعَتِهِمْ، عَلى حَافَتَيْ ذَلكَ النَّهَرِ جَوَارِي نَابِتَاتٌ كُلمَا قُلعَتْ وَاحِدَةٌ نَبَتَتْ أُخْرَى، سُمِّيَ بِذَلكَ النَّهَرُ، وذَلكَ قَوْلهُ تَعَالى: «فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ»(1)، فَإِذَا قَال الرَّجُل لصَاحِبِهِ: جَزَاكَاللهُ خَيْراً، فَإِنَّمَا يَعْنِي بِذَلكَ تِلكَ المَنَازِل التِي قَدْ أَعَدَّهَا اللهُ عَزَّ وجَل لصَفْوَتِهِ وخِيَرَتِهِ مِنْ خَلقِهِ»(2).

وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ رَجُل مِنْ أَهْل الكُوفَةِ كَانَ يُعْرَفُ بِكُنْيَتِهِ، قَال: قُلتُ لأَبِي

ص: 75


1- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام): ج 2 ص104 في المسابقة بالتواضع.
2- الكافي: ج8 ص30 حديث يأجوج ومأجوج ح298.

عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): عَلمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ، فَقَال: «نَعَمْ، قُل: "يَا مَنْ أَرْجُوهُ لكُل خَيْرٍ، ويَا مَنْ آمَنُ سَخَطَهُ عِنْدَ كُل عَثْرَةٍ، ويَا مَنْ يُعْطِي بِالقَليل الكَثِيرَ، يَا مَنْ أَعْطَى مَنْ سَأَلهُ تَحَنُّناً مِنْهُ ورَحْمَةً، يَا مَنْ أَعْطَى مَنْ لمْ يَسْأَلهُ ولمْ يَعْرِفْهُ، صَل عَلى مُحَمَّدٍ وآل مُحَمَّدٍ، وأَعْطِنِي بِمَسْأَلتِي مِنْ جَمِيعِ خَيْرِ الدُّنْيَا وجَمِيعِ خَيْرِ الآخِرَةِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مَنْقُوصٍ مَا أَعْطَيْتَنِي، وزِدْنِي مِنْ سَعَةِ فَضْلكَ يَا كَرِيمُ"»(1).

ص: 76


1- الكافي: ج 2 ص584 باب دعوات موجزات لجميع الحوائج للدنيا والآخرة ح20.

حرمة الجار

اشارة

في حديث عن فاطمة الزهراء (عليها السلام) قالت:

«يا بُنَيَّ الجارُ ثُمَّ الدّارُ»(1).

-------------------------

الجار ثم الدار

مسألة: يستحب تقدم أمور الجار على أمور الدار، في الجملة.

وذلك فيما إذا لم يكن أمر الدار واجباً، كالنفقة الواجبة للزوجة والوالدين والولد وما أشبه، وإلا فالواجب مقدم على المستحب، لما قرر في محله من أن الاقتضائي مقدم على اللااقتضائي.

وهل المراد بالجار الجار القريب، أو الجار إلى أربعين داراً، أو الجار مطلقاً؟

احتمالات، وإن كان الثالث أقرب بمذاق الشارع، والثاني بما ورد فيالنص، والأول بالانصراف(2).

ص: 77


1- وسائل الشيعة: ج 7 ص112 ب42 باب استحباب اختيار الإنسان الدعاء للمؤمن على الدعاء لنفسه ح7.
2- لعل المراد الانصراف في المتفاهم العرفي، وهو يختلف باختلاف المناطق والبلاد والمحلات وكونها سكنية أو تجارية مثلاً أو كونها في القرية أو المدينة الكبيرة أو الصغيرة، ووجود فواصل بين البيوت كالشوارع والساحات وغيرها، وعليه فالجار قد يتسع لأكثر من أربعين بيتاً من كل طرف وقد يكون أقل منها بكثير.

قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «هَل تَدْرُونَ مَا حَقُ الجَارِ، مَا تَدْرُونَ مِنْ حَقِّ الجَارِ إِلا قَليلا، أَلا لا يُؤْمِنُ بِاللهِ واليَوْمِ الآخِرِ مَنْ لا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ، فَإِذَا اسْتَقْرَضَهُ أَنْ يُقْرِضَهُ، وإِذَا أَصَابَهُ خَيْرٌ هَنَّأَهُ، وإِذَا أَصَابَهُ شَرٌّ عَزَّاهُ، لا يَسْتَطِيل عَليْهِ فِي البِنَاءِ يَحْجُبُ عَنْهُ الرِّيحَ إِلا بِإِذْنِهِ، وإِذَا اشْتَرَى فَاكِهَةً فَليُهْدِ لهُ فَإِنْ لمْ يُهْدِ لهُ فَليُدْخِلهَا سِرّاً، ولا يُعْطِي صِبْيَانَهُ مِنْهَا شَيْئاً يُغَايِظُونَ صِبْيَانَهُ»، ثُمَّ قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «الجِيرَانُ ثَلاثَةٌ، فَمِنْهُمْ مَنْ لهُ ثَلاثَةُ حُقُوقٍ: حَقُّ الإِسْلامِ وحَقُّ الجِوَارِ وحَقُّ القَرَابَةِ، ومِنْهُمْ مَنْ لهُ حَقَّانِ: حَقُّ الإِسْلامِ وحَقُّ الجِوَارِ، ومِنْهُمْ مَنْ لهُ حَقٌّ وَاحِدٌ: الكَافِرُ لهُ حَقُّ الجِوَار»(1).

وقَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «وَمَازَال جَبْرَئِيل (عليه السلام) يُوصِينِي بِالجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُ»(2).

وفي وصية أمير المؤمنين (عليه السلام): «اللهَ اللهَ فِي جِيرَانِكُمْ، فَإِنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) أَوْصَى بِهِمْ، ومَا زَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) يُوصِي بِهِمْ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُم»(3).

ص: 78


1- مستدرك الوسائل: ج 8 ص424 ب72 باب وجوب كف الأذى عن الجار ح14.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 4 ص13 باب ذكر جمل من مناهي النبي (صلى الله عليه وآله) ح4968.
3- الكافي: ج 7 ص51 باب صدقات النبي (صلى الله عليه وآله) وفاطمة والأئمة (عليهم السلام) ووصاياهم ح7.

تعليم الأولاد الآداب

مسألة: يستحب تعليم الأولاد الآداب والتعاليم الإسلامية كما قالت الصديقة فاطمة (عليها السلام): «يا بني...».

وذكر الابن للحاجة إلى طرف خطاب ولجهات أخرى، وليس للحصر وتحديد الحكم به.

عَنْ عَليٍّ (عليه السلام) فِي حَدِيثِ الأَرْبَعِمِائَةِ قَال: «عَلمُوا صِبْيَانَكُمْ مِنْ عِلمِنَا مَا يَنْفَعُهُمُ اللهُ بِهِ، لا تَغْلبْ عَليْهِمُ المُرْجِئَةُ بِرَأْيِهَا»(1).

وفي حَدِيثِ الأَرْبَعِمِائَةِ قَال (عليه السلام): «عَلمُوا صِبْيَانَكُمُ الصَّلاةَ وخُذُوهُمْ بِهَا إِذَا بَلغُوا ثَمَانِيَ سِنِينَ»(2).

وقَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ عَلمَ وَلدَهُ القُرْآنَ فَكَأَنَّمَا حَجَّ البَيْتَ عَشَرَةَ آلافِ حِجَّةٍ، واعْتَمَرَ عَشَرَةَ آلافِ عُمْرَةٍ، وأَعْتَقَ عَشَرَةَ آلافِ رَقَبَةٍ مِنْ وُلدِ إِسْمَاعِيل(عليه السلام) وغَزَا عَشَرَةَ آلافِ غَزْوَةٍ، وأَطْعَمَ عَشَرَةَ آلافِ مِسْكِينٍ مُسْلمٍ جَائِعٍ، وكَأَنَّمَا كَسَى عَشَرَةَ آلافِ عَارٍ مُسْلمٍ، ويُكْتَبُ لهُ بِكُل حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، ويُمْحَى عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ، ويَكُونُ مَعَهُ فِي قَبْرِهِ حَتَّى يُبْعَثَ، ويَثْقُل مِيزَانُهُ، ويُجَاوَزُ بِهِ عَلى الصِّرَاطِ كَالبَرْقِ الخَاطِفِ، ولمْ يُفَارِقْهُ

ص: 79


1- وسائل الشيعة: ج 21 ص478 ب84 باب استحباب تعليم الأولاد في صغرهم الحديث قبل أن ينظروا في علوم العامة ح5.
2- وسائل الشيعة: ج 4 ص21 ب3 باب استحباب أمر الصبيان بالصلاة لست سنين أو سبع ووجوب إلزامهم بها عند البلوغ ح8.

القُرْآنُ حَتَّى يَنْزِل بِهِ مِنَ الكَرَامَةِ أَفْضَل مَا يَتَمَنَّى»(1).

الجار والتعايش السلمي

مسألة: يستحب بيان مدى اهتمام الإسلام بالجار وبسائر الآداب الاجتماعية وما يرتبط بالتعايش السلمي مع الآخرين والتكافل بينهم.

ثم إنه لعل من الحِكَم في قول الصديقة (صلوات الله عليها): «الجار ثم الدار»، أن المجتمع لو بني على التكافل والاهتمام بالغير والجار أبلغ الاهتمام، عاد نفعه إلى الجميع، أهل الدار والجيران جميعاً.

أما الجيران فواضح، وأما أهل الدار فلأنه إنما يمد إليهم يداً واحدة ويمدون إليه أيادي كثيرة، كما في العكس لو قبض يده عنهم فهو يقبض يداًواحدة، وهم يقبضون أيادي كثيرة.

في الكافي: عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ مَنْصُورٍ، قَال سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُول: «مَنْ كَفَّ يَدَهُ عَنِ النَّاسِ فَإِنَّمَا يَكُفُّ عَنْهُمْ يَداً وَاحِدَةً وَيَكُفُّونَ عَنْهُ أَيْدِياً كَثِيرَةً»(2).

وفي البحار: عَنْ صَعْصَعَةَ بْنِ صُوحَانَ قَال: عَادَنِي أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) فِي مَرَضٍ ثُمَّ قَال: «انْظُرْ فَلا تَجْعَلنَّ عِيَادَتِي إِيَّاكَ فَخْراً عَلى قَوْمِكَ، وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ فِي أَمْرٍ فَلا تَخْرُجْ مِنْهُ فَإِنَّهُ ليْسَ بِالرَّجُل غِنًى عَنْ قَوْمِهِ، إِذَا خَلعَ مِنْهُمْ يَداً وَاحِدَةً يَخْلعُونَ مِنْهُ أَيْدِيَ كَثِيرَةً، فَإِذَا رَأَيْتَهُمْ فِي خَيْرٍ فَأَعِنْهُمْ عَليْهِ، وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ

ص: 80


1- جامع الأخبار: ص49 الفصل الثالث والعشرون في القراءة.
2- الكافي: ج 2 ص643 باب التحبب إلى الناس والتودد إليهم ح6.

فِي شَرٍّ فَلا تَخْذُلنَّهُمْ وَليَكُنْ تَعَاوُنُكُمْ عَلى طَاعَةِ اللهِ فَإِنَّكُمْ لنْ تَزَالوا بِخَيْرٍ مَا تَعَاوَنْتُمْ عَلى طَاعَةِ اللهِ تَعَالى وَتَنَاهَيْتُمْ عَنْ مَعَاصِيهِ»(1).

فإن من يهتم بجيرانه يهتمون به بأجمعهم ويساندونه في المشاكل والمشاق وفي سفره وحضره وغيرها، وهذا ينفع في السكينة والاستقرار النفسي إضافة إلى نفعه فيما لو مرت به ضائقةمالية أو مشكلة سياسية أو حدثت فتنة أو بلية أو عرض له أو لأهله حادث في ليل أو نهار.

ص: 81


1- بحار الأنوار: ج 71 ص148 ب8 حمل النائبة عن القوم وحسن العشرة معهم ح2.

فضائل بعض السور

اشارة

عن فاطمة الزهراء (عليها السلام): «قارئ الحديد ، وƒإذا وقعت وسورة الرحمن يدعى في ملكوت السماوات: ساكن الفردوس»(1).

-------------------------------

قراءة القرآن

مسألة: يستحب قراءة القرآن مطلقاً، وخاصة سورة الحديد والواقعة والرحمن.

وقولها (عليها السلام): «يدعى ... الفردوس» من باب المجاز بالأوْل.

و(الفردوس) طبقة من أعالي طبقات الجنة ومنها تنفجر أنهارها.

ثم إن منازل الجنة ودرجاتها تختلف بعضها عن بعض، كما أن لجهنم دركات تختلف بعضها عن بعض، ففي الجنة اختلاف البهاء والنضارة وسائر الماديات والمعنويات حسناً، وفي جهنم العكس عذاباً وإيلاماً وبشاعةً.

وأمثال هذا الحديث محمول علىالاقتضاء دون العلية التامة، فلا يقال: قد يكون قارئ الحديد والواقعة والرحمن كافراً أو فاسقاً قد رجحت سيئاته ولم تنله

ص: 82


1- مسند فاطمة (عليها السلام) للسيوطي: ص2 ح2، الدرّ المنثور: ج6 ص140.

الشفاعة؟

لأنه يقال: المراد إن قارءها المجتمعة فيه سائر الشرائط لا فاقدها، فهو كما جاء في رواية (حصني) حيث قال (عليه السلام): «بشرطها وشروطها وأنا من شروطها»(1).

ثواب قراءة السور

مسألة: يستحب بيان ثواب قراءة السور - ومنها ما ورد في هذا الحديث الشريف - وما يترتب عليها من الأجر، كما يستحب التشجيع على قراءتها، فإن بعض السور أهم من بعض وأكثر ثواباً وإيجاباً للدرجات على ما ورد في هذا الحديث والأحاديث الأخر المذكورة في كتاب القرآن من البحار وغيره.

وقد يكون بعضها أهم وأنفع من جهة, وبعضها الآخر من جهة أخرى، كما فصله (رحمه الله) في موضع من البحار.

وفي الروايات أوقات خاصة لقراءة سورة الواقعة وغيرها، ومن المستحبالعمل بها، وهي على نحو تعدد المطلوب كما سبق.

عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «لا تَدَعُوا قِرَاءَةَ سُورَةِ الرَّحْمَنِ والقِيَامَ بِهَا، فَإِنَّهَا لا تَقِرُّ فِي قُلوبِ المُنَافِقِينَ، وَتُؤْتَى بِهَا يَوْمَ القِيَامَةِ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ وأَطْيَبِ رِيحٍ، حَتَّى تَقِفَ مِنَ اللهِ مَوْقِفاً لا يَكُونُ أَحَدٌ أَقْرَبَ إِلى اللهِ مِنْهَا، فَيَقُول لهَا: مَنِ الذِي كَانَ يَقُومُ بِكِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ويُدْمِنُ قِرَاءَتَكِ، فَتَقُول: يَا رَبِّ فُلانٌ وفُلانٌ، فَتَبْيَضُّ وُجُوهُهُمْ، فَيَقُول لهُمُ:

ص: 83


1- غوالي اللئالي: ج 4 ص94 الجملة الثانية في الأحاديث المتعلقة بالعلم وأهله وحامليه ح134.

اشْفَعُوا فِيمَنْ أَحْبَبْتُمْ، فَيَشْفَعُونَ حَتَّى لا يَبْقَى لهُمْ غَايَةٌ، ولا أَحَدٌ يَشْفَعُونَ لهُ، فَيَقُول لهُمُ: ادْخُلوا الجَنَّةَ واسْكُنُوا فِيهَا حَيْثُ شِئْتُمْ»(1).

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «مَنْ قَرَأَ الوَاقِعَةَ كُل ليْلةٍ قَبْل أَنْ يَنَامَ لقِيَ اللهَ ووَجْهُهُ كَالقَمَرِ ليْلةَ البَدْرِ»(2).

وعن أبي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الحَدِيدِ والمُجَادَلةِ فِي صَلاةٍفَرِيضَةٍ أَدْمَنَهُمَا لمْ يُعَذِّبْهُ اللهُ حِينَ يَمُوتُ أَبَداً، ولا يَرَى فِي نَفْسِهِ ولا فِي أَهْلهِ سُوءاً أَبَداً، ولا خَصَاصَةً فِي بَدَنِهِ»(3).

استمرار القراءة

مسألة: لعله يستظهر من (قارئ الحديد) أنه المستمر على قراءتها، لا من قرأها مرة واحدة، لمكان اسم الفاعل مع مناسبات الحكم والموضوع.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) صَلى عَلى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَقَال: لقَدْ وَافَى مِنَ المَلائِكَةِ سَبْعُونَ أَلفاً وفِيهِمْ جَبْرَئِيل (عليه السلام) يُصَلونَ عَليْهِ، فَقُلتُ لهُ: يَا جَبْرَئِيل بِمَا يَسْتَحِقُّ صَلاتَكُمْ عَليْهِ، فَقَال: بِقِرَاءَتِهِ

ص: 84


1- وسائل الشيعة: ج 6 ص146 ب65 باب استحباب قراءة الحواميم والرحمن والزلزلة والعصر في النوافل ح2.
2- وسائل الشيعة: ج 6 ص113 ب45 باب استحباب القراءة في نافلة العشاء بالواقعة والتوحيد وقراءة الواقعة كل ليلة ح5.
3- وسائل الشيعة: ج 6 ص147 ب66 باب استحباب قراءة الحديد والمجادلة والتغابن والطلاق والتحريم والمدثر والمطففين والبروج والبلد والقدر والهمزة والجحد والتوحيد في الفرائض ح1.

قُل هُوَ اللهُ أَحَدٌ، قَائِماً وقَاعِداً ورَاكِباً ومَاشِياً وذَاهِباً وجَائِياً»(1).

وعَنْ إِسْمَاعِيل بْنِ سَهْل، قَال: كَتَبْتُ إِلى أَبِي جَعْفَرٍ الثَّانِي (عليه السلام) عَلمْنِي شَيْئاً إِذَا أَنَا قُلتُهُ كُنْتُ مَعَكُمْ فِيالدُّنْيَا والآخِرَةِ، فَقَال: فَكَتَبَ بِخَطِّهِ أَعْرِفُهُ: «أَكْثِرْ مِنْ تِلاوَةِ إِنَّا أَنْزَلنَاهُ ورَطِّبْ شَفَتَيْكَ بِالاسْتِغْفَارِ»(2).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «لا تَدَعُوا قِرَاءَةَ سُورَةِ طه، فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّهَا ويُحِبُّ مَنْ قَرَأَهَا ومَنْ أَدْمَنَ قِرَاءَتَهَا أَعْطَاهُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ولمْ يُحَاسِبْهُ بِمَا عَمِل فِي الإِسْلامِ وأُعْطِيَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الأَجْرِ حَتَّى يَرْضَى»(3).

ص: 85


1- الكافي: ج 2 ص622 باب فضل القرآن ح13.
2- وسائل الشيعة: ج 16 ص69 85 باب وجوب الاستغفار من الذنب والمبادرة به قبل سبع ساعات ح13.
3- وسائل الشيعة: ج 6 ص252 ب51 باب استحباب قراءة سور القرآن سورة سورة ح10.

من أدعية الولادة

اشارة

عن فاطمة (عليها السلام): «أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما دنت ولادتها، أمر أم سلمة وزينب بنت جحش أن تأتينها فتقرأ عندها (آية الكرسي) و«إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الذي خَلقَ السَّماواتِ وَالأَرْضَ في سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ يُغْشِي الليْل النَّهارَ يَطْلبُهُ حَثيثاً وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لهُ الخَلقُ وَ الأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ العالمينَ»، ويعوذاها بالمعوذتين»(1).

---------------------------

قراءة القرآن عند الولادة

مسألة: يستحب قراءة القرآن عند الولادة خصوصاً آية الكرسي و«إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ» والمعوذتين.

ولا يبعد أن تكون هاتان الآيتان وهاتان السورتان من باب المستحب في المستحب، فإن قراءة القرآن عند الولادة مطلقاً بل مطلقاً(2) مستحب، خصوصاً بعد ما ورد من الحث الكبير على القراءة(3)، وأنه شفاء لما في الصدور،قال

ص: 86


1- المعوّذتين، بضم الميم وتشديد الواو وكسرها.
2- أي حتى في غير حال الولادة.
3- انظر الكافي: ج2 ص611 باب ثواب قراءة القرآن. ووسائل الشيعة: ج6 ص186: بَابُ اسْتِحْبَابِ كَثْرَةِ قِرَاءَةِ القُرْآنِ فِي الصَّلاةِ وَغَيْرِهَا وَعَلى كُل حَال وَخَتْمِهِ وَافْتِتَاحِهِ وَاسْتِمَاعِ قِرَاءَتِهِ وَاخْتِيَارِهَا عَلى غَيْرِهَا مِنَ المَنْدُوبَاتِ.

تعالى: «وَنُنَزِّل مِنَ القُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ للمُؤْمِنينَ»(1).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) فِي وَصِيَّةِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) لعَليٍّ (عليه السلام) قَال: «وَعَليْكَ بِتِلاوَةِ القُرْآنِ عَلى كُل حَال»(2).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «قِيل: يَا رَسُول اللهِ أَيُّ الرِّجَال خَيْرٌ، قَال: الحَال المُرْتَحِل، قِيل: يَا رَسُول اللهِ وَمَا الحَال المُرْتَحِل، قَال: الفَاتِحُ الخَاتِمُ الذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ وَيَخْتِمُهُ فَلهُ عِنْدَ اللهِ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ»(3).

وعَنِ الصَّادِقِ (عليه السلام) فِي حَدِيثٍ أَنَّهُ قَال:

«عَليْكُمْ بِتِلاوَةِ القُرْآنِ، فَإِنَّ دَرَجَاتِالجَنَّةِ عَلى عَدَدِ آيَاتِ القُرْآنِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ يُقَال لقَارِئِ القُرْآنِ: اقْرَأْ وَارْقَ، فَكُلمَا قَرَأَ آيَةً يَرْقَى دَرَجَةً»(4).

وعَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) قَال: «أَفْضَل العِبَادَةِ قِرَاءَةُ القُرْآنِ»(5).

ص: 87


1- سورة الإسراء: 82.
2- المحاسن: ج 1 ص17 ب10 وصايا النبي (صلى الله عليه وآله) ح48.
3- وسائل الشيعة: ج 6 ص189 ب11 باب استحباب كثرة قراءة القرآن في الصلاة وغيرها وعلى كل حال وختمه وافتتاحه واستماع قراءته واختيارها على غيرها من المندوبات ح9.
4- الأمالي، للصدوق: ص359 المجلس السابع والخمسون ح10.
5- وسائل الشيعة: ج 6 ص168 ب1 باب وجوب تعلم القرآن وتعليمه كفاية واستحبابه عينا ح10.

حضور النساء للولادة

مسألة: يستحب أمر بعض النساء حتى يأتين من أوشك أن تلد، فإن حضورهن يوجب طمأنينة نفس الوالدة وسكونها، فيسهل عليها الولادة، إضافة إلى أنهن يساعدنها في حاجاتها.

ثم هل المراد ولادتها (عليها السلام) للإمام الحسن (عليه السلام) أو الإمام الحسين (عليه السلام) أو زينب (عليها السلام) أو أم كلثوم (عليها السلام)؟ هذا مما لا يظهر من هذه الرواية، أما أن يكون المراد ولادة خديجة لها (عليهما السلام) فذلك خلاف الظاهر، بل غير محتمل، لأنها ولدت بمكة وتزوج رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأم سلمة وزينب في المدينة بعد فترة طويلة(1).

تعويذ الطفل

مسألة: يستحب تعويذ الطفل بالمعوذتين، وغيرهما مما ورد في الروايات.

عَنْ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: «إِنَّ إِبْليسَ عَليْهِ لعَائِنُ اللهِ يَبُثُّ جُنُودَ الليْل مِنْ حَيْثُ تَغِيبُ الشَّمْسُ وتَطْلعُ، فَأَكْثِرُوا ذِكْرَ اللهِ عَزَّ وجَل فِي هَاتَيْنِ السَّاعَتَيْنِ، وتَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ شَرِّ إِبْليسَ وجُنُودِهِ، وعَوِّذُوا صِغَارَكُمْ فِي تِلكَ

ص: 88


1- ولدت فاطمة الزهراء (عليها السلام) بمكة بعد مبعث النبي (صلى الله عليه وآله) بخمس سنين، وكان عمر النبي (صلى الله عليه وآله) 45 سنة، وتزوج رسول الله (صلى الله عليه وآله) بزينب بنت جحش في السنة الخامسة من الهجرة، كما تزوج (صلى الله عليه وآله) بأم سلمة في السنة الرابعة أو الثالثة من الهجرة.

السَّاعَتَيْنِ فَإِنَّهُمَا سَاعَتَا غَفْلةٍ»(1).

وعَنْ عَليٍّ (عليه السلام): أَتَى النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) فَوَافَقَهُ مُغْتَمّاً، فَقَال: يَا مُحَمَّدُ مَا هَذَا الغَمُّ الذِي أَرَاهُ فِي وَجْهِكَ، قَال: الحَسَنُ والحُسَيْنُ أَصَابَتْهُمَا عَيْنٌ، فَقَال: يَا مُحَمَّدُ صَدِّقِ العَيْنَ فَإِنَّ العَيْنَ حَقٌّ، ثُمَّ قَال: أَفَلا عَوَّذْتَهُمَا بِهَذِهِ الكَلمَاتِ، قَال: ومَا هُنَّ يَا جَبْرَئِيل، فَقَال: قُل: "اللهُمَّ يَا ذَا السُّلطَانِ العَظِيمِ والمَنِّ القَدِيمِ والوَجْهِ الكَرِيمِ، يَا ذَا الكَلمَاتِ التَّامَّاتِ، والدَّعَوَاتِ المُسْتَجَابَاتِ، عَافِ الحَسَنَ والحُسَيْنَ مِنْ أَنْفُسِ الجِنِّ وأَعْيُنِ الإِنْسِ"، فَقَالهَا النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) فَقَامَا يَلعَبَانِ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَال النَّبِيُّ (صلى

الله عليه وآله) لأَصْحَابِهِ: عَوِّذُوا نِسَاءَكُمْ وأَوْلادَكُمْ بِهَذِهِالتَّعْوِيذِ، فَإِنَّهُ لا يَتَعَوَّذُ المُتَعَوِّذُونَ بِمِثْله»(2).

ص: 89


1- الكافي: ج 2 ص522 باب القول عند الإصباح والإمساء ح2.
2- المجتنى: ص28 فصل فيما نذكره من العوذة التي ذكرها جبرئيل (عليه السلام) من العين.

من تختم بالعقيق

اشارة

عن فاطمة الزهراء (عليها السلام) قالت: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من تختم بالعقيق لم يزل يرى خيراً»(1).

------------------------

التختم بالعقيق

مسألة: يستحب التختم بالعقيق، ويستحب بيان فضله.

والظاهر أن قولها (عليها السلام): «لم يزل يرى خيراً» أعم من الخير المعنوي والمادي والظاهري والباطني، كما دلت عليه روايات عديدة، وكما توصل العلم الحديث إلى بعضها أيضاً(2).

ص: 90


1- وسائل الشيعة: ج 5 ص88 ب52 باب استحباب التختم بالعقيق الأحمر والأصفر والأبيض ح2.
2- قالوا: العقيق يتكون من مادة ثاني أوكسيد السيليكون وينتمي إلى عائلة حجر الكوارتز، ويحتمل أن يكون قسم من تأثيراتها لخصوصية في هذه المادة، ويعتقد العلماء أن العقيق يساعد على تقليل أو منع النزيف وعلى تقليل الالتهابات، وعلى التئام إصابات العمود الفقري، كما يقوي القلب والرئتين كما يساعد على إنتاج الهيموغلوبين ويساعد على شفاء الأمراض المنقولة بالدم، كما ينفع في التوازن العاطفي وفي جودة تدفق الطاقة ويساعد على تقليص الاكتئاب وضغوط العمل، ولعل لذلك ورد عن الإمام الرضا (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «تختموا بالعقيق فإنه لا يصيب أحدكم غم ما دام ذلك عليه» وسائل الشيعة: ج5 ص86 ب51 ح5997، وقال بعض العلماء: إن حجر العقيق اليماني توجد فيه ترددات منخفضة جداً وقد تصل إلى ميكرو هيرز أو نانو هيرز أو بيكو هيرز أو ميلي هيرز المشابه لترددات الخلايا المخية الخاصة بالقدرة على التركيز، فيسهل على المؤمن التركيز في الصلاة ويزداد خشوعه، ولعل لذلك ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «صلاة ركعتين بفص عقيق تعدل ألف ركعة بغيره» وسائل الشيعة: ج5 ص91 ب53 ح6012.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «تَخَتَّمُوا بِالعَقِيقِ فَإِنَّهُ مُبَارَكٌ، وَمَنْ تَخَتَّمَ بِالعَقِيقِ يُوشِكُ أَنْ يُقْضَى لهُ بِالحُسْنَى»(1).

وعَنْ رَبِيعَةِ الرَّأْيِ قَال: رَأَيْتُ فِي يَدِ عَليِّ بْنِ الحُسَيْنِ (عليه السلام) فَصَّ عَقِيقٍ، فَقُلتُ: مَا هَذَا الفَصُّ، فَقَال: «عَقِيقٌ رُومِيٌّ»، وَقَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ تَخَتَّمَ بِالعَقِيقِ قُضِيَتْ حَوَائِجُهُ»(2).

وقَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام):«العَقِيقُ أَمَانٌ فِي السَّفَرِ»(3).

وعَنِ الرِّضَا (عليه السلام) قَال: كَانَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُول: «مَنِ اتَّخَذَ خَاتَماً فَصُّهُ عَقِيقٌ لمْ يَفْتَقِرْ وَ لمْ يُقْضَ لهُ إِلا بِالتِي هِيَ أَحْسَنُ»(4).

وروي أنه شَكَا رَجُل إِلى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) أَنَّهُ قُطِعَ عَليْهِ الطَّرِيقُ فَقَال (صلى الله عليه وآله): «هَلا تَخَتَّمْتَ بِالعَقِيقِ فَإِنَّهُ يَحْرُسُ مِنْ كُل سُوءٍ»(5).

ص: 91


1- الكافي: ج 6 ص470 باب العقيق ح3.
2- الكافي: ج 6 ص470 باب العقيق ح4.
3- الكافي: ج 6 ص470 باب العقيق ح5.
4- الكافي: ج 6 ص471 باب العقيق ح6.
5- الكافي: ج 6 ص471 باب العقيق ح8.

ثم إنه هل تأثير العقيق واقعي غيبي أو مادي وإن لم يصل إليه العلم؟ احتمالان.

لكن الظاهر أن التأثير في الجهتين، كما أذعن به بعض العلماء، ولا يخفى أن عدم علمنا بالتأثير حتى المادي منه يعود إلى أن العالم مليء بالأسباب والمسببات ونحن لا نعلم أكثرها، فإن كثيراً من هذه الأشعة وما أشبه من الأمور المحيطة بنا لم تكتشف إلاّ في العصر الحديث، وهم يعترفون بأن أكثرها لم تكتشف بالكامل بعد، وما المانع أن يكن للعقيق تأثيراً في النفس أو الروح أو الجسم أو في مايحيط بالإنسان أو فيها بأجمعها مما يوجب السعادة والشقاء، وقد أشرنا إلى أمثال هذه المباحث في كتاب الآداب والسنن.

ص: 92

إذا مرض المؤمن

اشارة

عن فاطمة الكبرى (عليها السلام) قالت: «قال النبي (صلى الله عليه وآله): إذا مرض العبد أوحى الله إلى ملائكته أن ارفعوا عن عبدي القلم ما دام في وثاقي، فإني أنا حبسته حتى أقبض(1) أو أخلي سبيله، كان أبي يقول: أوحى الله إلى ملائكته اكتبوا لعبدي أجر ما كان يعمل في صحته»(2).

----------------------------

تذكير الناس بألطاف الله

مسألة: يستحب تذكير الناس دائماً بألطاف الله تعالى المختلفة في مختلف الحالات.

عَنْ هِشَامِ بْنِ أَحْمَرَ قَال: كُنْتُ أَسِيرُ مَعَ أَبِي الحَسَنِ (عليه السلام) فِي بَعْضِ أَطْرَافِ المَدِينَةِ إِذْ ثَنَى رِجْلهُ عَنْ دَابَّتِهِ فَخَرَّ سَاجِداً فَأَطَال وأَطَال، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ ورَكِبَ دَابَّتَهُ، فَقُلتُ: جُعِلتُ فِدَاكَ قَدْ أَطَلتَ السُّجُودَ، فَقَال: «إِنَّنِي ذَكَرْتُ نِعْمَةً أَنْعَمَ اللهُ بِهَا عَليَّ فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَشْكُرَ رَبِّي»(3).

ص: 93


1- أي حتى أقبض روحه.
2- عوالم العلوم: ج 11 قسم2 فاطمة (سلام الله عليها) ص917 حديثها (عليها السلام) في رفع القلم عن العبد في مرضه ح97.
3- الكافي: ج 2 ص98 باب الشكر ح26.

وعَنْ أَبِي الحَسَنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: «التَّحَدُّثُ بِنِعَمِ اللهِ شُكْرٌ، وتَرْكُ ذَلكَ كُفْرٌ، فَارْتَبِطُوا نِعَمَ رَبِّكُمْ بِالشُّكْرِ، وحَصِّنُوا أَمْوَالكُمْ بِالزَّكَاةِ، وادْفَعُوا البَلاءَ بِالدُّعَاءِ، فَإِنَّ الدُّعَاءَ جُنَّةٌ مُنْجِيَةٌ تَرُدُّ البَلاءَ وقَدْ أُبْرِمَ إِبْرَاماً»(1).

ثواب المريض

مسألة: يستحب بيان ما للمؤمن من الثواب عند المرض وأن منه رفع القلم عنه.

والظاهر أن المراد برفع القلم هو رفعه بالنسبة إلى التكاليف التي يشق أو يعسر عليه، أو لا يتمكن من إتيانها، فهي ساقطة لأدلة العسر والحرج والضرر والمرض وما أشبه، كالصوم، لا كالصلاة التي لا تترك بحال، نعم ربما يوجب ذلك تخفيفها.

وكذلك بالنسبة إلى ما يجب تركه مما يقع في عسر وحرج وضرر رافع للتكليف، إذا كان مما يرتفع بها، لا مثل الزنا واللواط فإنهما محرمان وإنكان عسراً عليه الترك(2).

وهكذا رفع القلم بالنسبة إلى المستحبات والمكروهات إذا لم يتمكن ولو لعسر وحرج أن يفعلها أو يتركها.

ص: 94


1- وسائل الشيعة: ج 7 ص40 ب8 باب استحباب الدعاء عند الخوف من الأعداء وعند توقع البلاء ح9.
2- أو كان يوجب مرضه مرضاً نفسياً أو جسدياً أو لغلبة الحرارة عليه أو شبه ذلك، فإن الحرمة لا ترتفع بها.

فظهر أن رفع القلم هنا ليس كرفع القلم عن الصبي حتى يحتلم إلى آخره، إذ المنصرف بقرينة المقام ما ذكرناه، لا الإطلاق كما في الصبي والمجنون ونحوهما.

ويحتمل أن يراد برفع القلم إلى أكثر من الساعات السبعة، فلا يكتب عليه الملكان شيئاً إلاّ لو لم يتب لفترة أكثر من فترة الإنسان غير المريض(1).

والفرق بين ما لا يكتب وما يكتب ثم يمحى كبير(2)، والفرق حقيقي مضافاً إلى كونه اعتبارياً، وفي الحزازة.

المرض والشفاء من الله

مسألة: يستحب بيان أن الله عزوجل هو مسبب الأسباب كلها، والمرض والعافية من الله تعالى، وكل شيء منه وبإذنه سبحانه، كما ورد في هذا الحديث: «أنا حبسته».

قال سبحانه: «وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَليماً حَكيماً»(3).

وقال تعالى: «فَلمْ تَقْتُلوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمَى»(4).

ص: 95


1- ويؤيد هذا الاحتمال ما ورد في هذه الرواية من أن الله أوحى إلى ملائكته كي يرفعوا القلم، لأن الملائكة هم الذين بيدهم هذا القلم أي قلم تسجيل الأعمال.
2- وليعتبر ذلك بملاحظة الصفحة البيضاء التي لم يكتب عليها شيء أو التي كتب عليها ثم محي.
3- سورة الإنسان: 30.
4- سورة الأنفال: 17.

وقال سبحانه: «أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ»(1).

وقال تعالى: «وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفينِ»(2).

إلى غيرها من الآيات.

وفي الأدعية: «اللهم إن كنت أمرضتني»(3).

وقال الإمام الباقر (عليه السلام): «وإن أمرضني» أي الله «أحب المرض، وإنشفاني أحب الشفاء والصحة»(4).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «إِنَّ نَبِيّاً مِنَ الأَنْبِيَاءِ مَرِضَ فَقَال: لا أَتَدَاوَى حَتَّى يَكُونَ الذِي أَمْرَضَنِي هُوَ يَشْفِينِي، فَأَوْحَى اللهُ عَزَّ وَجَل إِليْهِ: لا أَشْفِيكَ حَتَّى تَتَدَاوَى فَإِنَّ الشِّفَاءَ مِنِّي»(5).

ثم إن الفائدة في تذكير الناس بأن المرض ونظائره من الله تعالى هي تضرعهم إليه ولجوؤهم له، طلباً للشفاء، فتتوثق رابطتهم بخالقهم، ويتأكد لديهم ضرورة تجنب سخطه وتحري مرضاته، وفي ذلك خير الدنيا والآخرة جميعاً.

ولا يتوهم مما ذكرناه(6) الجبر، لأن قانون الأسباب والمسببات لا ينافي

ص: 96


1- سورة الواقعة: 64.
2- سورة الشعراء: 80.
3- مكارم الأخلاق: ص389 دعاء المريض لنفسه.
4- مسكن الفؤاد: ص87 الباب الثالث في الرضا.
5- وسائل الشيعة: ج 2 ص409 ب4 باب استحباب ترك المداواة مع إمكان الصبر وعدم الخطر وخصوصا من الزكام والدماميل والرمد والسعال وما ينبغي التداوي به ووجوبه عند الخطر بالترك ح7.
6- من أن الله عزوجل هو مسبب الأسباب كلها، والمرض والعافية من الله تعالى، وكل شيء منه وبإذنه سبحانه.

اختيار الشخص، فللإنسان دور في كثير من الأفعال حيث يمكنه الفعل ويمكنه الترك، نعم كلها بإذن الله تعالى، فتكون صادرة عن الشخص باختياره وهو الفاعللها، لكن حيث كان العقل والقوة والجوارح وما أشبه من الأسباب والآلات والأجهزة كلها من الله سبحانه، فإنه بهذا الاعتبار يصح نسبة الفعل إليه عزوجل، ولأنه تعالى المهيمن بقاءً أيضاً إذ له أن يمنعه.

ومثاله العرفي: من يعطي شخصاً ما يمكنه تشغيله مع بقاء أجهزة التحكم الأساسية بيده، فلو أراد منَعَه، وحينئذ كل ما يفعله من بيده الجهاز من خير أو شر فهو بإرادته، لكنه محكوم بقدرة عليا لو شاءت لمنعت(1)، ومن هنا ينسب الفعل إليها أيضاً.

حق الشفاعة

مسألة: حق الشفاعة أولاً وبالذات لله عزوجل، فإن الأمر كله بيده، قال تعالى في هذا الحديث: «أو أخليّ سبيله».

ويلزم الاعتقاد بذلك، وقد منح الله سبحانه هذا الحق لأوليائه من الأنبياء والأئمة والصالحين (عليهم السلام) على حسبدرجاتهم ومراتبهم.

قال سبحانه وتعالى: «وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ

ص: 97


1- والكمبيوترات الحديثة من هذا القبيل، إذ يمكن التحكم فيها عن بعد وعلى خلاف إرادة الجالس خلفها، بل حتى الطائرات يمكن برمجتها بحيث يفقد الطيار القدرة على توجيهها لو تدخل مركز المراقبة والرادار.

مُشْفِقُونَ»(1).

وبهذه الآية ونظائرها يجاب عن توهم أن لا شفيع إلا الله استناداً إلى قوله تعالى: «قُل للهِ الشَّفاعَةُ جميعاً»(2)، نعم أصل الشفاعة له سبحانه، وبمقدوره أن يمنحها من يشاء من عباده الصالحين، وقد منحها بدليل تلك الآية(3).

وفي الروايات المتواترة الدليل على الأمرين، وقبل ذلك الآيات المباركة.

قال عزوجل: «يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لهُ الرَّحْمنُ ورَضِيَ لهُ قَوْلا»(4).وقال سبحانه: «وَكَمْ مِنْ مَلكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْني شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لمَنْ يَشاءُ ويَرْضى»(5).

وعَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): ... قُلتُ: قَوْلهُ: «لا يَمْلكُونَ الشَّفاعَةَ إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً»(6)، قَال: إِلا مَنْ دَانَ اللهَ بِوَلايَةِ

ص: 98


1- سورة الأنبياء: 28.
2- سورة الزمر: 44.
3- أي قوله تعالى: «لا يشفعون إلاّ لمن ارتضى» سورة الأنبياء: 28، وقوله سبحانه: «من ذا الذي يشفع عنده إلاّ بإذنه» سورة البقرة: 255. حيث أعطاهم الله حق الشفاعة لكن في إطار ما يرضيه وحسب الضوابط الكلية، فمثلاً لهم أن يشفعوا لأصحاب المعاصي من المؤمنين دون الكفار، كما قال عزوجل: «إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء» سورة النساء: 48.
4- سورة طه: 109.
5- سورة النجم: 26.
6- سورة مريم: 87.

أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ والأَئِمَّةِ مِنْ بَعْدِهِ، فَهُوَ العَهْدُ عِنْدَ الله»(1).

وعَنِ الصَّادِقِ، عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام) أَنَّ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) قَال: «ثَلاثَةٌ يَشْفَعُونَ إِلى اللهِ عَزَّ وجَل فَيُشَفِّعُهُمْ: الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ العُلمَاءُ ثُمَّ الشُّهَدَاء»(2).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «شِيعَتُنَا مِنْ نُورِ اللهِ خُلقُوا، وإِليْهِ يَعُودُونَ، واللهِ إِنَّكُمْ لمُلحَقُونَ بِنَا يَوْمَ القِيَامَةِ، وإِنَّا لنَشْفَعُ فَنُشَفَّعُ، ووَاللهِ إِنَّكُمْ لتَشْفَعُونَ فَتُشَفَّعُونَ، ومَا مِنْ رَجُل مِنْكُمْ إِلا وسَتُرْفَعُ لهُ نَارٌ عَنْ شِمَالهِ وجَنَّةٌ عَنْيَمِينِهِ فَيُدْخِل أَحِبَّاءَهُ الجَنَّةَ وأَعْدَاءَهُ النَّارَ»(3).

ورُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) أَنَّهُ قَال: «لا يَقْبَل اللهُ الشَّفَاعَةَ يَوْمَ القِيَامَةِ لأَحَدٍ مِنَ الأَنْبِيَاءِ والرُّسُل حَتَّى يَأْذَنَ لهُ فِي الشَّفَاعَةِ، إِلا رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) فَإِنَ اللهَ قَدْ أَذِنَ لهُ فِي الشَّفَاعَةِ مِنْ قَبْل يَوْمِ القِيَامَةِ، فَالشَّفَاعَةُ لهُ ولأَمِيرِ المُؤْمِنِينَ وللأَئِمَّةِ مِنْ وُلدِهِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلكَ للأَنْبِيَاءِ (صوات الله عليهم)»(4).

ص: 99


1- الكافي: ج 1 ص431 باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية ح90.
2- مستدرك الوسائل: ج 11 ص20 ب1 باب وجوبه على الكفاية مع القدرة عليه أو الاحتياج إليه وسقوطه عن الأعمى والأعرج والفقير ح45.
3- بحار الأنوار: ج 8 ص37 ب21 الشفاعة ح11.
4- تأويل الآيات الظاهرة: ص465.

فرح المؤمنة

اشارة

قالت فاطمة (عليها السلام) وقد اختصمت إليها امرأتان، فتنازعتا في شيء من أمر الدين، إحداهما معاندة والأخرى مؤمنة، ففتحت على المؤمنة حجتها، فاستظهرت على المعاندة، ففرحت فرحاً شديداً.

فقالت فاطمة (عليها السلام): «إن فرح الملائكة باستظهارك عليها أشد من فرحك، وإن حزن الشيطان ومردته بحزنها عنك أشد من حزنها، وإن الله قال للملائكة: أوجبوا لفاطمة بما فتحت على هذه المسكينة الأسيرة من الجنان ألف ألف ضعف ما كنت أعددت لها، واجعلوا هذه سنة في كل من يفتح على أسير مسكين فيغلب معانداً مثل ألف ألف ما كان معداً له من الجنان»(1).

------------------------

احتمالان

يحتمل في قول الصديقة (عليها السلام): «إن الله قال للملائكة» أحد الوجوه التالية:

1: إنها (عليها السلام) سمعت ذلك من أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبينته، إما سماع الصغرى أو الكبرى المنطبقة على الصغرى، فتأمل.

ص: 100


1- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): ص347 ح229.

2: إنها (عليها السلام) سمعت ما كلم الله به الملائكة كما سمعته الملائكة، كيف لا وهي أشرف من الملائكة، بل هي الحجة عليهم وعلى سائر المخلوقات.

قال الإمام العسكري (عليه السلام): «نحن حجج الله على خلقه، وجدّتنا فاطمة حجة الله علينا»(1).

الرجوع إلى أهل الذكر

مسألة: يجب الرجوع إلى (أهل الذكر) عند حدوث خلاف أو نزاع في المسائل العقائدية وغيرها، قال تعالى: «فَاسْأَلوا أَهْل الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلمُونَ»(2)، وكما صنعت هذه المراة المؤمنة وأقرتها الصديقة فاطمة (عليها السلام).

قَال أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «وَإِنَّهُ لذِكْرٌ لكَ ولقَوْمِكَ وسَوْفَ تُسْئَلونَ»(3) قَال: «رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) وأَهْلُ بَيْتِهِ أَهْلُ الذِّكْرِ وهُمُ المَسْئُولونَ»(4).وعَنْ هِشَامِ بْنِ سَالمٍ، قَال: سَأَلتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) عَنْ قَوْل اللهِ

ص: 101


1- عوالم العلوم: ج 11 قسم2 فاطمة (سلام الله عليها) ص1030 ب4 باب أن الأئمة (عليهم السلام) من ولد فاطمة (عليها السلام) ح5.
2- سورة النحل: 43، سورة الأنبياء: 7.
3- سورة الزخرف: 44.
4- بصائر الدرجات: ج 1 ص37 ب18 باب في أئمة آل محمد (عليهم السلام) وأن الله قرنهم بنبيه في السؤال فقال وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسئلون ح5.

تَعَالى: «فَسْئَلوا أَهْل الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلمُونَ»(1) مَنْ هُمْ، قَال: «نَحْنُ»، قَال: قُلتُ: عَليْنَا أَنْ نَسْأَلكُمْ، قَال: «نَعَمْ»، قُلتُ: عَليْكُمْ أَنْ تُجِيبُونَا، قَال: «ذَلكَ إِليْنَا»(2).

المرجع العقدي

مسألة: يجب وجوباً كفائياً وجود من يرجع إليه الناس في مسائلهم العقائدية ونحوها، ابتداءً أو لدى النزاع أو الشبهة وما أشبه، ويلزم على الحوزات العلمية أن تمهد لذلك، كما أن الوجوب كفاية يشمل مختلف الناس، قال تعالى: «وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ ليَنْفِرُوا كَافَّةً فَلوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُل فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ ليَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَليُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِليْهِمْ لعَلهُمْ يَحْذَرُونَ»(3).وفي تفسير الإمام العسكري (عليه السلام):

قال الإمام (عليه السلام): قال علي بن أبي طالب (عليه السلام): «مَنْ كَانَ مِنْ شِيعَتِنَا عَالماً بِشَرِيعَتِنَا فَأَخْرَجَ ضُعَفَاءَ شِيعَتِنَا مِنْ ظُلمَةِ جَهْلهِمْ إِلى نُورِ العِلمِ الذِي حَبَوْنَاهُ، جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَعَلى رَأْسِهِ تَاجٌ مِنْ نُورٍ يُضِي ءُ لأَهْل جَمِيعِ تِلكَ العَرَصَاتِ، وَعَليْهِ حُلةٌ لا يَقُومُ لأَقَل سِلكٍ مِنْهَا الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا، ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ: يَا عِبَادَ اللهِ هَذَا عَالمٌ مِنْ تَلامِذَةِ بَعْضِ آل مُحَمَّدٍ، أَلا فَمَنْ أَخْرَجَهُ فِي

ص: 102


1- سورة النحل: 43.
2- بصائر الدرجات: ج 1 ص39 ب19 باب في أئمة آل محمد (عليهم السلام) أنهم أهل الذكر الذين أمر الله بسؤالهم والأمر إليهم إن شاءوا أجابوا وإن شاءوا لم يجيبوا ح4.
3- سورة التوبة: 122.

الدُّنْيَا مِنْ حَيْرَةِ جَهْلهِ فَليَتَشَبَّثْ بِنُورِهِ ليُخْرِجَهُ مِنْ حَيْرَةِ ظُلمَةِ هَذِهِ العَرَصَاتِ إِلى نُزْهِ الجِنَانِ، فَيُخْرِجُ كُل مَنْ كَانَ عَلمَهُ فِي الدُّنْيَا أَوْ فَتَحَ عَنْ قَلبِهِ مِنَ الجَهْل قُفْلا، أَوْ أَوْضَحَ لهُ عَنْ شُبْهَةٍ»(1).

وقال الإمام العسكري (عليه السلام): قَالتِ الصِّدِّيقَةُ فَاطِمَةُ الزَّهْرَاءُ (عليها السلام): سَمِعْتُ أَبِي (صلى الله عليه وآله) يَقُول:

إِنَّ عُلمَاءَ شِيعَتِنَا يُحْشَرُونَ فَيُخْلعُ عَليْهِمْ مِنْ خِلعِ الكَرَامَاتِ عَلى قَدْرِ كَثْرَةِ عُلومِهِمْ وَجِدِّهِمْ فِي إِرْشَادِ عِبَادِ اللهِ، حَتَّى يُخْلعَ عَلى الوَاحِدِ مِنْهُمْ أَلفُ أَلفِ خِلعَةٍ مِنْ نُورٍ، ثُمَّ يُنَادِي مُنَادِي رَبِّنَا عَزَّ وَجَل:أَيُّهَا الكَافِلونَ لأَيْتَامِ آل مُحَمَّدٍ، وَالنَّاعِشُونَ لهُمْ عِنْدَ انْقِطَاعِهِمْ عَنْ آبَائِهِمُ الذِينَ هُمْ أَئِمَّتُهُمْ، هَؤُلاءِ تَلامِذَتُكُمْ وَالأَيْتَامُ الذِينَ تَكَفَّلتُمُوهُمْ وَنَعَشْتُمُوهُمْ، فَاخْلعُوا عَليْهِمْ كَمَا خَلعْتُمُوهُمْ خِلعَ العُلومِ فِي الدُّنْيَا، فَيَخْلعُونَ عَلى كُل وَاحِدٍ مِنْ أُولئِكَ الأَيْتَامِ عَلى قَدْرِ مَا أَخَذُوا عَنْهُمْ مِنَ العُلومِ، حَتَّى إِنَّ فِيهِمْ يَعْنِي فِي الأَيْتَامِ لمَنْ يُخْلعُ عَليْهِ مِائَةُ أَلفِ خِلعَةٍ مِنْ نُورٍ، وَكَذَلكَ يَخْلعُ هَؤُلاءِ الأَيْتَامُ عَلى مَنْ تَعَلمَ مِنْهُمْ، ثُمَّ إِنَّ اللهَ تَعَالى يَقُول: أَعِيدُوا عَلى هَؤُلاءِ الكَافِلينَ للأَيْتَامِ حَتَّى تُتِمُّوا لهُمْ خِلعَهُمْ وَتُضْعِفُوهَا، فَيُتِمُّ لهُمْ مَا كَانَ لهُمْ قَبْل أَنْ يَخْلعُوا عَليْهِمْ وَيُضَاعِفُ لهُمْ، وَكَذَلكَ مَنْ بِمَرْتِبَتِهِمْ مِمَّنْ خُلعَ عَليْهِ عَلى مَرْتِبَتِهِمْ.

فَقَالتْ فَاطِمَةُ (عليها السلام): إِنَّ سِلكاً مِنْ تِلكَ الخِلعِ لأَفْضَل مِمَّا طَلعَتْ عَليْهِ الشَّمْسُ أَلفَ أَلفِ مَرَّةٍ.

وقَال الإمام العسكري (عليه السلام): وَقَال عَليُّ بْنُ مُوسَى (عليه السلام):

ص: 103


1- بحار الأنوار: ج 7 ص224 ب8 أحوال المتقين والمجرمين في القيامة ح144.

يُقَال للعَابِدِ يَوْمَ القِيَامَةِ نِعْمَ الرَّجُل كُنْتَ، هِمَّتُكَ ذَاتُ نَفْسِكَ وَكُفِيتَ النَّاسَ مَئُونَتَكَ فَادْخُل الجَنَّةَ، فَيُقَال للفَقِيهِ: يَا أَيُّهَا الكَفِيل لأَيْتَامِ آل مُحَمَّدٍ، الهَادِي لضُعَفَاءِ مُحِبِّيهِ وَمَوَاليهِ، قِفْ حَتَّى تَشْفَعَ لكُل مَنْ أَخَذَ عَنْكَ أَوْ تَعَلمَ مِنْكَ، فَيَقِفُ فَيَدْخُلالجَنَّةَ مَعَهُ فِئَامٌ وَفِئَامٌ، حَتَّى قَال عَشْراً، وَهُمُ الذِينَ أَخَذُوا عَنْهُ عُلومَهُ وَأَخَذُوا عَمَّنْ أَخَذَ عَنْهُ وَعَمَّنْ أَخَذَ عَنْهُ إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ، فَانْظُرُوا كَمْ فَرْقٌ مَا بَيْنَ المَنْزِلتَيْنِ.

ثُمَّ قَال: قَال الحَسَنُ بْنُ عَليٍّ (عليه السلام): يَأْتِي عُلمَاءُ شِيعَتِنَا القَوَّامُونَ لضُعَفَاءِ مُحِبِّينَا وَأَهْل وَلايَتِنَا يَوْمَ القِيَامَةِ وَالأَنْوَارُ تَسْطَعُ مِنْ تِيجَانِهِمْ، عَلى رَأْسِ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ تَاجٌ قَدِ انْبَثَّتْ تِلكَ الأَنْوَارُ فِي عَرَصَاتِ القِيَامَةِ وَدُورِهَا مَسِيرَةَ ثَلاثِمِائَةِ أَلفِ سَنَةٍ، فَشُعَاعُ تِيجَانِهِمْ يَنْبَثُّ فِيهَا كُلهَا، فَلا يَبْقَى هُنَاكَ يَتِيمٌ قَدْ كَفَلوهُ وَمِنْ ظُلمَةِ الجَهْل وَحَيْرَةِ التِّيهِ أَخْرَجُوهُ، إِلا تَعَلقَ بِشُعْبَةٍ مِنْ أَنْوَارِهِمْ، فَرَفَعَتْهُمْ فِي العُلوِّ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمْ رَبَضَ(1) غُرَفِ الجِنَانِ، ثُمَّ يُنْزِلهُمْ عَلى مَنَازِلهِمُ المُعَدَّةِ لهُمْ فِي جِوَارِ أُسْتَادِيهِمْ وَمُعَلمِيهِمْ وَبِحَضْرَةِ أَئِمَّتِهِمُ الذِينَ كَانُوا إِليْهِمْ يَدْعُونَ، وَلا يَبْقَى نَاصِبٌ مِنَ النَّوَاصِبِ يُصِيبُهُ مِنْ شُعَاعِ تِلكَ التِّيجَانِ إِلا عَمِيَتْ عَيْنَاهُ وَصَمَّتْ أُذُنَاهُ وَخَرِسَ لسَانُهُ وَيَحُول عَليْهِ أَشَدُّ مِنْ لهَبِ النِّيرَانِ فيَحْمِلهُمْ حَتَّى يَدْفَعَهُمْ إِلى الزَّبَانِيَةِ، فَيَدْعُوهُمْ إِلى سَواءِ الجَحِيمِ.وَقَال: قَال مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ (عليه السلام): «مَنْ أَعَانَ مُحِبّاً لنَا عَلى عَدُوٍّ لنَا فَقَوَّاهُ وَشَجَّعَهُ حَتَّى يَخْرُجَ الحَقُّ الدَّال عَلى فَضْلنَا بِأَحْسَنِ صُورَةٍ، وَيَخْرُجَ البَاطِل الذِي يَرُومُ بِهِ أَعْدَاؤُنَا فِي دَفْعِ حَقِّنَا فِي أَقْبَحِ صُورَةٍ، حَتَّى يَنْتَبِهَ الغَافِلونَ

ص: 104


1- الربض، محركة: سور المدينة.

وَيَسْتَبْصِرَ المُتَعَلمُونَ وَيَزْدَادَ فِي بَصَائِرِهِمُ العَالمُونَ، بَعَثَهُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ فِي أَعْلى مَنَازِل الجِنَانِ، وَيَقُول: يَا عَبْدِيَ الكَاسِرُ لأَعْدَائِي، النَّاصِرُ لأَوْليَائِي، المُصَرِّحُ بِتَفْضِيل مُحَمَّدٍ خَيْرِ أَنْبِيَائِي، وَبِتَشْرِيفِ عَليٍّ أَفْضَل أَوْليَائِي، وَتُنَاوِي مَنْ نَاوَاهُمَا، وَتُسَمِّي بِأَسْمَائِهِمَا وَأَسْمَاءِ خُلفَائِهِمَا، وَتُلقِّبُ بِأَلقَابِهِمْ فَيَقُول ذَلكَ، وَيُبَلغُ اللهُ ذَلكَ جَمِيعَ أَهْل العَرَصَاتِ، فَلا يَبْقَى كَافِرٌ وَلا جَبَّارٌ وَلا شَيْطَانٌ إِلا صَلى عَلى هَذَا الكَاسِرِ لأَعْدَاءِ مُحَمَّدٍ، وَلعَنَ الذِينَ كَانُوا يُنَاصِبُونَهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ النَّوَاصِبِ لمُحَمَّدٍ وَ عَليٍّ (عليهما السلام).

وَقَال عَليُّ بْنُ مُوسَى الرِّضَا (عليه السلام): أَفْضَل مَا يُقَدِّمُهُ العَالمُ مِنْ مُحِبِّينَا وَمَوَالينَا أَمَامَهُ ليَوْمِ فَقْرِهِ وَفَاقَتِهِ، وَذُلهِ وَمَسْكَنَتِهِ، أَنْ يُغِيثَ فِي الدُّنْيَا مِسْكِيناً مِنْ مُحِبِّينَا مِنْ يَدِ نَاصِبٍ عَدُوٍّ للهِ وَ لرَسُولهِ، يَقُومُ مِنْ قَبْرِهِ وَالمَلائِكَةُ صُفُوفٌ مِنْ شَفِيرِ قَبْرِهِ إِلى مَوْضِعِ مَحَلهِ مِنْ جِنَانِ اللهِ، فَيَحْمِلونَهُ عَلىأَجْنِحَتِهِمْ، يَقُولونَ: مَرْحَباً طُوبَاكَ طُوبَاكَ يَا دَافِعَ الكِلابِ عَنِ الأَبْرَارِ، وَيَا أَيُّهَا المُتَعَصِّبُ للأَئِمَّةِ الأَخْيَارِ»(1).

نصرة الضعيف

مسألة: تستحب نصرة الضعيف مطلقاً وقد تجب، ويتأكد الاستحباب والوجوب في نصرة الضعيف عقائدياً، وذلك برفع الشبهات وبيان الأدلة في المنازعات العلمية وما أشبه.

ص: 105


1- بحار الأنوار: ج 7 ص224-226 ب8 أحوال المتقين والمجرمين في القيامة ح144.

ومما يرشدنا إلى ذلك ما ورد عن الإمام العسكري (عليه السلام) قال:

قَال الحَسَنُ بْنُ عَليِّ بْنِ أَبِي طَالبٍ (عليهم السلام) وَ قَدْ حَمَل إِليْهِ رَجُل هَدِيَّةً، فَقَال لهُ: أَيُّمَا أَحَبُّ إِليْكَ أَنْ أَرُدَّ عَليْكَ بَدَلهَا عِشْرِينَ ضِعْفاً عِشْرِينَ أَلفَ دِرْهَمٍ، أَوْ أَفْتَحَ لكَ بَاباً مِنَ العِلمِ تَقْهَرُ فُلانَ النَّاصِبِيِّ فِي قَرْيَتِكَ، تُنْقِذُ بِهِ ضُعَفَاءَ أَهْل قَرْيَتِكَ، إِنْ أَحْسَنْتَ الاخْتِيَارَ جَمَعْتُ لكَ الأَمْرَيْنِ، وَإِنْ أَسَأْتَ الاخْتِيَارَ خَيَّرْتُكَ لتَأْخُذَ أَيَّهُمَا شِئْتَ.

فَقَال: يَا ابْنَ رَسُول اللهِ فَثَوَابِي فِي قَهْرِي ذَلكَ النَّاصِبَ وَاسْتِنْقَاذِي لأُولئِكَ الضُّعَفَاءِ مِنْ يَدِهِ قَدْرُهُ عِشْرُونَ أَلفَ دِرْهَمٍ؟قَال: بَل أَكْثَرُ مِنَ الدُّنْيَا عِشْرِينَ أَلفَ أَلفِ مَرَّةٍ.

فَقَال: يَا ابْنَ رَسُول اللهِ فَكَيْفَ أَخْتَارُ الأَدْوَنَ بَل أَخْتَارُ الأَفْضَل، الكَلمَةَ التِي أَقْهَرُ بِهَا عَدُوَّ اللهِ وَأَذُودُهُ عَنْ أَوْليَاءِ اللهِ.

فَقَال الحَسَنُ بْنُ عَليٍّ (عليه السلام): قَدْ أَحْسَنْتَ الاخْتِيَارَ، وَعَلمَهُ الكَلمَةَ وَأَعْطَاهُ عِشْرِينَ أَلفَ دِرْهَمٍ، فَذَهَبَ فَأَفْحَمَ الرَّجُل، فَاتَّصَل خَبَرُهُ بِهِ، فَقَال لهُ إِذْ حَضَرَهُ: يَا عَبْدَ اللهِ مَا رَبِحَ أَحَدٌ مِثْل رِبْحِكَ، وَلا اكْتَسَبَ أَحَدٌ مِنَ الأَوِدَّاءِ مَا اكْتَسَبْتَ، اكْتَسَبْتَ مَوَدَّةَ اللهِ أَوَّلا، وَمَوَدَّةَ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) وَعَليٍّ (عليه السلام) ثَانِياً، وَمَوَدَّةَ الطَّيِّبِينَ مِنْ آلهِمَا ثَالثاً، وَمَوَدَّةَ مَلائِكَةِ اللهِ رَابِعاً، وَمَوَدَّةَ إِخْوَانِكَ المُؤْمِنِينَ خَامِساً، فَاكْتَسَبْتَ بِعَدَدِ كُل مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ مَا هُوَ أَفْضَل مِنَ الدُّنْيَا أَلفَ مَرَّةٍ فَهَنِيئاً لكَ هَنِيئاً»(1).

ص: 106


1- بحار الأنوار: ج 2 ص8 ب8 ثواب الهداية والتعليم وفضلهما وفضل العلماء وذم إضلال الناس ح16.

وعن الإمام العسكري (عليه السلام) قال: قَال الحُسَيْنُ بْنُ عَليٍّ (صَلوَاتُ اللهِ عَليْهِمَا) لرَجُل أَيُّهُمَا أَحَبُّ إِليْكَ، رَجُل يَرُومُ قَتْل مِسْكِينٍ قَدْ ضَعُفَ أَتُنْقِذُهُ مِنْ يَدِهِ، أَوْ نَاصِبٌ يُرِيدُ إِضْلال مِسْكِينٍ مِنْضُعَفَاءِ شِيعَتِنَا تَفْتَحُ عَليْهِ مَا يَمْتَنِعُ بِهِ وَيُفْحِمُهُ وَيَكْسِرُهُ بِحُجَجِ اللهِ تَعَالى؟

قَال: بَل إِنْقَاذُ هَذَا المِسْكِينِ المُؤْمِنِ مِنْ يَدِ هَذَا النَّاصِبِ، إِنَّ اللهَ تَعَالى يَقُول: «مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً»(1) أَيْ وَمَنْ أَحْيَاهَا وَأَرْشَدَهَا مِنْ كُفْرٍ إِلى إِيمَانٍ فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً مِنْ قِبَل أَنْ يَقْتُلهُمْ بِسُيُوفِ الحَدِيدِ»(2).

ويفهم من هذا الحديث وسائر الأحاديث مما نقلناه وغيره، أهمية النصرة العلمية للمعتقدات الحقة، وأهمية الدفاع عن العقائد الصحيحة ودعمها، وكثرة ثوابها.

ولا يستغرب مثل هذا الثواب فإن الجنة لا نهاية لها كماً ولا كيفاً، والله سبحانه غير محدود في فضله ورحمته، كما أنه غير محدود في عذابه ونقمته، إلا أن الفرق أن العذاب يكون بالعدل إذ لا ظلم، أما الثواب فيكون بالإحسان والفضل ، كما قرر ذلك في مباحث الكلام.

وفي تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) قال:قَال عَليُّ بْنُ الحُسَيْنِ (عليه السلام) لرَجُل: أَيُّهُمَا أَحَبُّ إِليْكَ، صَدِيقٌ كُلمَا رَآكَ أَعْطَاكَ بَدْرَةَ دَنَانِيرَ، أَوْ صَدِيقٌ كُلمَا رَآكَ نَصَرَكَ لمَصِيدَةٍ مِنْ مَصَايِدِ الشَّيْطَانِ،

ص: 107


1- سورة المائدة: 32.
2- بحار الأنوار: ج 2 ص9 ب8 ثواب الهداية والتعليم وفضلهما وفضل العلماء وذم إضلال الناس ح17.

وَعَرَّفَكَ مَا تُبْطِل بِهِ كَيْدَهُمْ وَتَخْرِقُ شَبَكَتَهُمْ وَتَقْطَعُ حَبَائِلهُمْ؟

قَال: بَل صَدِيقٌ كُلمَا رَآنِي عَلمَنِي كَيْفَ أُخْزِي الشَّيْطَانَ عَنْ نَفْسِي فَأَدْفَعُ عَنِّي بَلاءَهُ.

قَال: فَأَيُّهُمَا أَحَبُّ إِليْكَ، اسْتِنْقَاذُكَ أَسِيراً مِسْكِيناً مِنْ أَيْدِي الكَافِرِينَ، أَوِ اسْتِنْقَاذُكَ أَسِيراً مِسْكِيناً مِنْ أَيْدِي النَّاصِبِينَ؟

قَال: يَا ابْنَ رَسُول اللهِ سَل اللهَ أَنْ يُوَفِّقَنِي للصَّوَابِ فِي الجَوَابِ.

قَال: اللهُمَّ وَفِّقْهُ.

قَال: بَل اسْتِنْقَاذِي المِسْكِينَ الأَسِيرَ مِنْ يَدَيِ النَّاصِبِ، فَإِنَّهُ تَوْفِيرُ الجَنَّةِ عَليْهِ وَإِنْقَاذُهُ مِنَ النَّارِ، وَذَلكَ تَوْفِيرُ الرُّوحِ عَليْهِ فِي الدُّنْيَا وَدَفْعُ الظُّلمِ عَنْهُ فِيهَا، وَاللهُ يُعَوِّضُ هَذَا المَظْلومَ بِأَضْعَافِ مَا لحِقَهُ مِنَ الظُّلمِ، وَيَنْتَقِمُ مِنَ الظَّالمِ بِمَا هُوَ عَادِل بِحُكْمِهِ.

قَال: وُفِّقْتَ للهِ أَبُوكَ، أَخَذْتَهُ مِنْ جَوْفِ صَدْرِي، لمْ تَخْرِمْ مِمَّا قَالهُ رَسُول اللهِ (صلى اللهعليه وآله) حَرْفاً وَاحِداً»(1).

وَسُئِل البَاقِرُ مُحَمَّدُ بْنُ عَليٍّ (عليه السلام) إِنْقَاذُ الأَسِيرِ المُؤْمِنِ مِنْ مُحِبِّينَا مِنْ يَدِ الغَاصِبِ يُرِيدُ أَنْ يُضِلهُ بِفَضْل لسَانِهِ وَبَيَانِهِ، أَفْضَل أَمْ إِنْقَاذُ الأَسِيرِ مِنْ أَيْدِي أَهْل الرُّومِ؟

قَال البَاقِرُ (عليه السلام): أَخْبِرْنِي أَنْتَ عَمَّنْ رَأَى رَجُلا مِنْ خِيَارِ المُؤْمِنِينَ يَغْرَقُ وَعُصْفُورَةٌ تَغْرَقُ لا يَقْدِرُ عَلى تَخْليصِهِمَا بِأَيِّهِمَا اشْتَغَل فَاتَهُ الآخَرُ أَيُّهُمَا

ص: 108


1- بحار الأنوار: ج 2 ص9 ب8 ثواب الهداية والتعليم وفضلهما وفضل العلماء وذم إضلال الناس ح18.

أَفْضَل أَنْ يُخَلصَهُ؟

قَال: الرَّجُل مِنْ خِيَارِ المُؤْمِنِينَ.

قَال (عليه السلام): فَبُعْدُ مَا سَأَلتَ فِي الفَضْل أَكْثَرُ مِنْ بُعْدِ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ، إِنَّ ذَاكَ يُوَفِّرُ عَليْهِ دِينَهُ وَجِنَانَ رَبِّهِ وَيُنْقِذُهُ مِنْ نِيرَانِهِ، وَهَذَا المَظْلومُ إِلى الجِنَانِ يَصِيرُ»(1).

الاستظهار على المعاند

مسألة: يستحب الاستظهار على المعاند، وقد يجب.ولا فرق بين أن يكون الناصر رجلاً أم امرأة، والمنصور رجلاً أو امرأة، والمعاند رجلاً أو امرأة، لفهم الملاك من أمثال هذه الروايات.

قَال جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ (عليه السلام): «مَنْ كَانَ هَمُّهُ فِي كَسْرِ النَّوَاصِبِ عَنِ المَسَاكِينِ مِنْ شِيعَتِنَا المُوَالينَ حَمِيَّةً لنَا أَهْل البَيْتِ، يَكْسِرُهُمْ عَنْهُمْ ويَكْشِفُ عَنْ مَخَازِيهِمْ ويُبَيِّنُ عَوَارَهُمْ ويُفَخِّمُ أَمْرَ مُحَمَّدٍ وآلهِ، جَعَل اللهُ تَعَالى هِمَّةَ أَمْلاكِ الجِنَانِ فِي بِنَاءِ قُصُورِهِ ودُورِهِ، يَسْتَعْمِل بِكُل حَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ حُجَجِهِ عَلى أَعْدَاءِ اللهِ أَكْثَرَ مِنْ عَدَدِ أَهْل الدُّنْيَا أَمْلاكاً، قُوَّةُ كُل وَاحِدٍ يَفْضُل عَنْ حَمْل السَّمَاوَاتِ والأَرَضِينَ، فَكَمْ مِنْ بِنَاءٍ وكَمْ مِنْ نِعْمَةٍ وكَمْ مِنْ قُصُورٍ لا يَعْرِفُ قَدْرَهَا إِلا رَبُّ العَالمِين»(2).

ص: 109


1- بحار الأنوار: ج 2 ص9 ب8 ثواب الهداية والتعليم وفضلهما ... ح18.
2- الاحتجاج: ج 1 ص19 فصل في ذكر طرف مما أمر الله في كتابه من الحجاج والجدال بالتي هي أحسن وفضل أهله.

إفراح الملائكة وإحزان الشياطين

مسألة: يستحب أن يفعل الإنسان ما يفرح الملائكة ويحزن الشياطين، فإن الملائكة يفرحون ويحزنون أيضاً كما أن الشياطين يحزنون ويفرحون.

أما حزن الملائكة فكما في روايات شهادة الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام).

وأما فرحهم فكما في هذه الرواية.

كما أن في الروايات ما يدل على فرح الشياطين وحزنهم، ومنها هذه الرواية.

وقد يستدل على استحباب فعل ما يفرح الملائكة وما يحزن الشياطين بهذه الرواية، بملاحظة مناسبات الحكم والموضوع، وبالدلالة العرفية الالتزامية، وكشف فرح الملائكة عن كونه محبوباً مطلوباً مأموراً به وغير ذلك.

لكن لا نعرف هل أن فرح الملائكة والشياطين وحزنهم من جنس فرحنا وحزننا أو من جنس آخر، كما أن أطعمة الجنة من جنس آخر، كما ورد بالنسبة إلى الجنان ونعيمها: «ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر»(1)،وهكذا بالنسبة إلى عذاب النار والعياذ بالله منها.

وكما أن طعام الملائكة والجن هو من جنس آخر، وقد ورد في الملائكة أن طعامهم التسبيح والتهليل والتقديس:

ص: 110


1- بحار الأنوار: ج 8 ص92 ب23 الجنة ونعيمها رزقنا الله وسائر المؤمنين حورها وقصورها وحبورها وسرورها.

وفي الرواية: «وَجَعَل فِي كُل سَمَاءٍ سَاكِناً مِنَ المَلائِكَةِ، خَلقَهُمْ مَعْصُومِينَ، مِنْ نُورٍ مِنْ بُحُورٍ عَذْبَةٍ، وهُوَ بَحْرُ الرَّحْمَةِ، وجَعَل طَعَامَهُمُ التَّسْبِيحَ والتَّهْليل والتَّقْدِيس»(1).

وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَال عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلامٍ للنَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) فِيمَا سَأَلهُ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ جَبْرَئِيل فِي زِيِّ الإِنَاثِ أَمْ فِي زِيِّ الذُّكُورِ، قَال (صلى الله عليه وآله): «فِي زِيِّ الذُّكُورِ»، قَال: فَأَخْبِرْنِي مَا طَعَامُهُ، قَال: «طَعَامُهُ التَّسْبِيحُ، وشَرَابُهُ التَّهْليل»، قَال: صَدَقْتَ يَا مُحَمَّد(2). الحديث.

عون المؤمن

مسألة: يستحب بيان ثواب عون المؤمنأو المؤمنة.

قَال مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ (عليه السلام): «مَنْ أَعَانَ مُحِبّاً لنَا عَلى عَدُوٍّ لنَا، فَقَوَّاهُ وشَجَّعَهُ حَتَّى يَخْرُجَ الحَقُّ الدَّال عَلى فَضْلنَا بِأَحْسَنِ صُورَتِهِ، ويَخْرُجَ البَاطِل الذِي يَرُومُ بِهِ أَعْدَاؤُنَا دَفْعَ حَقِّنَا فِي أَقْبَحِ صُورَةٍ، حَتَّى يَتَنَبَّهَ الغَافِلونَ، ويَسْتَبْصِرَ المُتَعَلمُونَ ويَزْدَادَ فِي بَصَائِرِهِمُ العَامِلونَ، بَعَثَهُ اللهُ تَعَالى يَوْمَ القِيَامَةِ فِي أَعْلى مَنَازِل الجِنَانِ، ويَقُول: يَا عَبْدِيَ الكَاسِرَ لأَعْدَائِي، النَّاصِرَ لأَوْليَائِي، المُصَرِّحَ بِتَفْضِيل مُحَمَّدٍ خَيْرِ أَنْبِيَائِي، وبِتَشْرِيفِ عَليٍّ أَفْضَل أَوْليَائِي، وتُنَاوِي إِلى مَنْ نَاوَاهُمَا وتُسَمِّى بِأَسْمَائِهِمَا وأَسْمَاءِ خُلفَائِهِمَا وتُلقِّبُ بِأَلقَابِهِمَا، فَيَقُول ذَلكَ، ويُبَلغُ اللهُ جَمِيعَ أَهْل العَرَصَاتِ. فَلا يَبْقَى مَلكٌ ولا جَبَّارٌ ولا شَيْطَانٌ إِلا صَلى

ص: 111


1- بحار الأنوار: ج 54 ص92 ح79.
2- بحار الأنوار: ج 56 ص253 ب24 آخر في وصف الملائكة المقربين ح16.

عَلى هَذَا الكَاسِرِ لأَعْدَاءِ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) ولعَنَ الذِينَ كَانُوا يُنَاصِبُونَهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ النَّوَاصِبِ لمُحَمَّدٍ وعَليٍّ (عليهما السلام)»(1).

عون المسكين

مسألة: يستحب عون المسكين الأسير،وهذا من باب تعدد المطلوب، فيزداد الثواب ويتعدد.

إحقاق الحق

مسألة: يجب إحقاق الحق وإبطال الباطل.

قال الإمام العسكري (عليه السلام) في حديث: «وسُئِل البَاقِرُ مُحَمَّدُ بْنُ عَليٍّ (عليهما السلام): إِنْقَاذُ الأَسِيرِ المُؤْمِنِ مِنْ مُحِبِّينَا مِنْ يَدِ النَّاصِبِ يُرِيدُ أَنْ يُضِلهُ بِفَضْل لسَانِهِ وبَيَانِهِ أَفْضَل، أَمْ إِنْقَاذُ الأَسِيرِ مِنْ أَيْدِي أَهْل الرُّومِ، قَال البَاقِرُ (عليه السلام) للرَّجُل: أَخْبِرْنِي أَنْتَ عَمَّنْ رَأَى رَجُلا مِنْ خِيَارِ المُؤْمِنِينَ يَغْرَقُ وعُصْفُورَةٌ تَغْرَقُ لا يَقْدِرُ عَلى تَخْليصِهِمَا، بِأَيِّهِمَا اشْتَغَل فَاتَهُ الآخَرُ، أَيُّهُمَا أَفْضَل أَنْ يُخَلصَهُ، قَال: الرَّجُل مِنْ خِيَارِ المُؤْمِنِينَ. قَال (عليه السلام): فَبُعْدُ مَا سَأَلتَ فِي الفَضْل أَكْثَرُ مِنْ بُعْدِ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ، إِنَّ ذَاكَ يُوَفِّرُ عَليْهِ دِينَهُ وجِنَانَ رَبِّهِ، ويُنْقِذُهُ مِنَ النِّيرَانِ، وهَذَا المَظْلومُ إِلى الجِنَانِ يَصِيرُ»(2).

ص: 112


1- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): ص350 ح235.
2- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): ص349 ح233.

حل القضايا المرفوعة

مسألة: يستحب لمن ترافعوا إليه في أمر من الأمور الاعتقادية والفقهية أو الأخلاقية أو حتى العلمية حل القضية والنظر في الأمر وقد يجب ذلك، وأما الترافع في باب القضاء إلى القاضي المنصوب أو إلى قاضي التحكيم، فقد فصلناه في كتاب القضاء.

ثم إن قوله تعالى: (واجعلوا هذه سنة...) يفيد أن كل من يهدي الغير وينصر المستضعف في مسألة دينية فإن كلما يعطى من الثواب - وهو ألف ضعف ما كان الله أعده له كما في هذه الرواية - يعطى معادله أيضاً للصديقة الكبرى (صلوات الله عليها)، إذ (من سنّ سنة حسنة ....) وذلك إلى انتهاء الدنيا.

ص: 113

البِشر في وجه المؤمن

اشارة

قالت فاطمة (عليها السلام): «البِشر(1) في وجه المؤمن يوجب لصاحبه الجنة، والبِشر(2)

في وجه المعاند المعادي يقي صاحبه عذاب النار»(3).

---------------------------

استحاب البشر

مسألة: يستحب البِشر في وجه المؤمن، فإنه مما يدخل السرور في قلبه، كما يوجب تقوية روابط المؤمنين وتوادهم وتحاببهم، وإدخال السرور في قلب المؤمن وخدمته بأي وجه كان مستحب، كما يدل عليه الأدلة العامة الكثيرة بل وبعض الروايات الخاصة، وإيجابه الجنة قد يكون لأنه يوجب لصاحبه التوفيق للعمل بالطاعات واجتناب المحرمات.مسألة: قد يكون من المستحب - في الجملة - البشر في وجه المعاند المعادي

ص: 114


1- وفي بعض النسخ: بِشر.
2- وفي بعض النسخ: بِشر.
3- مستدرك الوسائل: ج 12 ص262 ب27 باب وجوب الاعتناء و الاهتمام بالتقية و قضاء حقوق الإخوان ح2، التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): ص354 في مداراة النواصب ح243.

وربما لزم لعناوين ثانوية، وقد يكون منها: كونه من باب التقية واتقاء الشر وما أشبه.

قَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «إِنَّا لنَبْشِرُ فِي وُجُوهِ قَوْمٍ وإِنَّ قُلوبَنَا تَقْليهِمْ، أُولئِكَ أَعْدَاءُ اللهِ نَتَّقِيهِمْ عَلى إِخْوَانِنَا لا عَلى أَنْفُسِنَا»(1).

وكَانَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) فِي مَنْزِلهِ إِذَا اسْتَأْذَنَ عَليْهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلول، فَقَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «بِئْسَ أَخُو العَشِيرَةِ، ائْذَنُوا لهُ»، فَلمَّا دَخَل أَجْلسَهُ وبَشَرَ فِي وَجْهِهِ، فَلمَّا خَرَجَ قَالتْ لهُ عَائِشَةُ: يَا رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) قُلتَ فِيهِ مَا قُلتَ وفَعَلتَ بِهِ مِنَ البِشْرِ مَا فَعَلتَ، فَقَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «يَا عُوَيْشُ يَا حُمَيْرَاءُ إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ يُكْرَمُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ»(2).

ومنها: للإنسانية، فالإنسان بما هوهو مكرم، قال سبحانه: «وَقُولوا للنَّاسِ حُسْناً»(3)، فهو يشمل المعاند والمؤمن وهكذا غيرهما، وقد ذكرنا في مبحث سابق أن القول أعم من الفعل والإشارة واللفظ والكتابة.

وربما يكون منه ما قاله أمير المؤمنين (عليه السلام) : «أو نظير لك في الخلق»(4)،

ومنها: كونه لاجتذابه إلى الدين، وقد جاء في تفسير الإمام العسكري (عليه

ص: 115


1- بحار الأنوار: ج 72 ص401 ب87 التقية والمداراة ح42.
2- بحار الأنوار: ج 72 ص401 ب87 التقية والمداراة ح42.
3- سورة البقرة: 83.
4- فهو مقتضى الإنسانية إذ (كل إناء بالذي فيه ينضح).

السلام) عن الإمام الصادق (عليه السلام) «قَوْلهُ عَزَّ وجَل «وَقُولوا للنَّاسِ حُسْناً»(1)، أَيْ للنَّاسِ كُلهِمْ مُؤْمِنِهِمْ ومُخَالفِهِمْ، أَمَّا المُؤْمِنُونَ فَيَبْسُطُ لهُمْ وَجْهَهُ، وأَمَّا المُخَالفُونَ فَيُكَلمُهُمْ بِالمُدَارَاةِ لاجْتِذَابِهِمْ إِلى الإِيمَانِ، فَإِنَّهُ بِأَيْسَرِ مِنْ ذَلكَ يَكُفُّ شُرُورَهُمْ عَنْ نَفْسِهِ وعَنْ إِخْوَانِهِ المُؤْمِنِين»(2).

ثواب البِشر

مسألة: يستحب بيان ثواب البِشر، كما فعلت (صلوات الله عليها)، كما ينبغي بيان آثاره وفوائده وثمراته، ومنها: تأثيره في رفع أو تقليل الأمراض النفسية كمرض الكآبة المنتشر في هذا العصر، فإن البِشر معد.

ومنها: تأثيره في تقارب القلوب، فإن الظاهر يسري للباطن.

ومنها: تأثيره في تقليل الغيبة والتهمة لتأثيره في التحاب والتوادد، عكس العبوس والتهجم، فإنه يسبب التباغض ونفرة القلوب ويفتح الباب للغيبة والتهمة.

ص: 116


1- سورة البقرة: 83.
2- بحار الأنوار: ج 72 ص401 ب87 التقية والمداراة ح42.

السخاء والبخل

اشارة

قالت الصديقة فاطمة (عليها السلام): قال لي أبي رسول الله (صلى الله عليه وآله):

«إياك والبخل، فإنه عاهة لا تكون في كريم، وإياك والبخل فإنه شجرة في النار وأغصانها في الدنيا، فمن تعلق بغصن من أغصانها أدخله النار، والسخاء شجرة في الجنة وأغصانها في الدنيا، فمن تعلق بغصن من أغصانها أدخله الجنة»(1).

-------------------------

استحباب السخاء

مسألة: يستحب السخاء وقد يجب، وذلك بلحاظ ما به يتعلق.

والفرق بين (السخاء) و(الجود) و(الكرم) إذا اجتمعت:

أن السخاء: عطاء بلحاظ المعطي، وكمال نفسي، فهو اسم للهيئة.

والكرم: عطاء مع إكرام للمعطى له.

والجود: عطاء محض، فهو اسم للفعل الصادر.

ص: 117


1- دلائل الإمامة: ص70 ح9.

وقيل: الكريم من يعطي من غيرسؤال، والجواد من يعطي مع السؤال(1)، ولعله يعود إلى ما ذكرناه فإنه من صغرياته، وقيل العكس.

نعم إن ذكر أحدها شمل الجميع، لأنها مما إذا افترقت اجتمعت، والعكس بالعكس.

عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام) أَنَّ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) قَال: «السَّخِيُ مُحَبَّبٌ فِي السَّمَاوَاتِ، مُحَبَّبٌ فِي الأَرْضِ، خُلقَ مِنْ طِينَةٍ عَذْبَةٍ، وخُلقَ مَاءُ عَيْنَيْهِ مِنْ مَاءِ الكَوْثَرِ، والبَخِيل مُبَغَّضٌ فِي السَّمَاوَاتِ، مُبَغَّضٌ فِي الأَرْضِ، خُلقَ مِنْ طِينَةٍ سَبِخَةٍ، وخُلقَ مَاءُ عَيْنَيْهِ مِنْ مَاءِ العَوْسَجِ»(2).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «شَابٌ سَخِيٌ مُرَهَّقٌ فِي الذُّنُوبِ أَحَبُّ إِلى اللهِ مِنْ شَيْخٍ عَابِدٍ بَخِيل»(3).

كراهة البخل

مسألة: يكره البخل وقد يحرم، وذلك بالنسبة إلى ما يتعلق به.

قول الصديقة (عليها السلام): (فإنه عاهة لا تكون في كريم) أي البخل عاهة وآفة لا تكون في كريم النفس.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: قَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «إِذَا لمْ

ص: 118


1- واستدلوا عليه بما ورد في الصحيفة السجادية: «وأنت الجواد الكريم» فإنه ترق من صفة إلى صفة أعلى.
2- الكافي: ج 4 ص39 باب معرفة الجود والسخاء ح3.
3- الكافي: ج 4 ص41 باب معرفة الجود والسخاء ح14.

يَكُنْ للهِ فِي عَبْدٍ حَاجَةٌ ابْتَلاهُ بِالبُخْل»(1).

وعَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ (عليهما السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «مَا مَحَقَ الإِسْلامَ مَحْقَ الشُّحِّ شَيْ ءٌ»(2).

وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: «المُوبِقَاتُ ثَلاثٌ، شُحٌّ مُطَاعٌ، وَهَوًى مُتَّبَعٌ، وَإِعْجَابُ المَرْءِ بِنَفْسِه»(3).

التحذير والترغيب

مسألة: يستحب التحذير من سوء النوايا وسوء الصفات وسوء الأفعال، والترغيب في مكارمها: النيات والصفات والأفعال.

لا يقال: لا يتصور التحذير من بعضها والترغيب فيها، لعدم اختياريتها.لأنه يقال: هي اختيارية باختيارية المقدمات وما أشبه، كمن بيده منشؤه ولو بنحو العلة المعدة(4).

ثم إن التحذير والترغيب إنما يكون مستحباً فيما إذا لم يكن المحذَّر منه والمرغَّب إليه حراماً وواجباً، وإلاّ كان داخلاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الواجبين حسب الشروط المقررة شرعاً.

ص: 119


1- الكافي: ج 4 ص44 باب البخل والشح ح2.
2- الكافي: ج 4 ص45 باب البخل والشح ح5.
3- وسائل الشيعة: ج1 ص103 ب23 ح246.
4- كالأب والأم فإن أفعالهما حين انعقاد النطفة علة معدة لطيب جوهر الطفل أو خبثه ومثاله الظاهر ولد الزنا.

ويتضح معنى كونهما شجرة في النار وشجرة في الجنة، بملاحظة أن للماديات أشجاراً خارجية لها أغصان، يكون كل من تعلق بها في حال ارتفاع أو انخفاض حسب تحرك الغصن ارتفاعاً وانخفاضاً، كذلك في المعنويات(1)، فإن الجود والبخل وكذلك سائر الصفات كالعدالة والظلم، والشجاعة والجبن، ونحوها من المعنويات لها مراتب من الوجود(2)،ولها أصول معنوية إما في الجنة أو في النار، خاصة على ما بيناه من احتمال كون الجنة والنار محيطتين بالإنسان حتى في هذه الحياة لكن منفاذه إليهما مغلقة.

وعلي أي، فإن كون أصولها في الجنة أو النار يستفاد من الروايات في مختلف الأبواب.

كما أن ذلك يتضح بالتدبر في منشأ هذه الصفات، فمن أين هي، فالإنسان يولد ثم يتصف بصفات كثيرة بين حسنة وسيئة، فهل وجدت تلك الصفات بنفسها وبلا أسباب ولا شرائط ولا معدات ولا مزايا ولا خصوصيات؟

كلا، بل الظاهر أن الصفات في الإنسان تكون كسائر ما يخلق، من الألوان المختلفة والأحجام المتنوعة والخواص المتعددة في الأشجار ونحوها، فكلها تستخرج من مخازنها وتنبعث من منابعها.

قال سبحانه: «وَإِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ

ص: 120


1- والمعنويات المذكورة في كلام الإمام المؤلف ره هي من قسم (الطاقة) وتندرج في مباحثها، وبذلك يمكن تفسير ما ذكره علمياً أيضا.
2- وهي المعبر عنها بالطاقة، نعم ليست الطاقة من المجردات على رأي الإمام المصنف قدس سره حيث ينكر وجود مجرد حقيقي غير الله تعالى ويرى أن الطاقة - في واقعها - نوع من المادة الخفيفة، وقد اختلفت خواصها لخفتها لا لاختلافها جوهراً عن المادة.

مَعْلومٍ»(1)، فالشمس مخزن للأنوار والأشعة والطاقة، والبحار للمياهوغيرها، والأرض للتراب والمعادن وهكذا، فعند ما يُخلق الإنسان ويبدأ بتربية نفسه أو يربيه غيره من الأبوين أو المعلم أو غيرهم، فإن التربية والتلقين تجتذب هذه الصفات إليه من مخازنها ومعادنها شيئاً فشيئاً، ثم إنه إذا غيّر الشخص أسلوبه فإن تلك الصفات ترجع إلى مخازنها بالتدريج أو دفعة، فحالها حال البحار حيث إنها بسبب التبخر تصعد إلى السماء ثم تنزل على شكل قطرات، ثم إن هذه ترجع إلى البحار بالمآل، وكذلك حال كثير من الأشياء في الدنيا على ما يراه الإنسان، وأما في الآخرة فقد يستفاد ذلك من بعض الآيات والروايات(2).قال (عليه السلام) في حديث: «وَالأَمْرُ وَالنَّهْيُ لا يَجْتَمِعَانِ إِلا بِالوَعْدِ وَالوَعِيدِ، وَالوَعْدُ لا يَكُونُ إِلا بِالتَّرْغِيبِ، وَالوَعِيدُ لا يَكُونُ إِلا بِالتَّرْهِيبِ، وَالتَّرْغِيبُ لا يَكُونُ إِلا بِمَا تَشْتَهِيهِ أَنْفُسُهُمْ وَتَلذُّهُ أَعْيُنُهُمْ، وَالتَّرْهِيبُ لا يَكُونُ إِلا بِضِدِّ ذَلكَ»(3).

ص: 121


1- سورة الحجر: 21.
2- ومما يدل على ما ذكره الإمام المؤلف (قدس سره) ما توصل إليه العلم الحديث من أن الطاقة قد تتحول إلى مادة وبالعكس، أما تحول الطاقة إلى مادة فإن الطاقة الشمسية تتحول إلى مادة في النباتات من خلال عملية التمثيل الضوئي (التمثيل الكلوروفيلي) فالأخشاب والثمار ليست بأجمعها من المواد التي تمتصها النباتات من الأرض بل بعضها مستمد من طاقة الشمس، وتسمى عملية تحويل الطاقة إلى مادة ب (الإنتاج الزوجي) إلى عكسها فيمسى (الإفناء الزوجي) كما أن الإنسان نجح في تحويل طاقة إلى مادة على مستوى الجسيمات وذلك في معجلات الجسيمات particle acceleraror وكما يتحول شعاع جاما إلى الكترون وبوزيترون.
3- بحار الأنوار: ج5 ص316 ب15 ح13 عن الاحتجاج.

الاجتناب عن المنقصة

مسألة: يستحب الاجتناب عن كل عاهة وآفة ومنقصة معنوية أو مادية، ويستفاد ذلك من تعليل الصديقة (صلوات الله عليها) نهيها عن البخل بأنه عاهة، الظاهر في كراهتها بما هي هي، وككبرى كلية، والعاهة هي الآفة.

قال (صلى الله عليه وآله): «عَليْكَ بِمَسَاوِي الأَخْلاقِ فَاجْتَنِبْهَا، فَإِنْ لمْ تَفْعَل فَلا تَلومَنَّ إِلا نَفْسَك»(1).

وقَال علي (عليه السلام): «دَعِ السَّفَهَ فَإِنَّهُ يُزْرِي بِالمَرْءِ ويَشِينُهُ»(2).

وعَنْ عَليِّ بْنِ الحُسَيْنِ (عليه السلام) قَال: «إِذَا قَامَ قَائِمُنَا أَذْهَبَ اللهُ عَزَّ وَجَل عَنْ شِيعَتِنَا العَاهَة»(3).

البخل والنار

مسألة: يستحب بيان أن البخل يوجب دخول النار.

والمراد به البخل عن أداء ما وجبإنفاقه كالزكاة والخمس، أو البخل الأعم من حيث إنه مقدمة طبيعية للبخل عن إعطاء الواجب وأنه يجر إليه، فإن طبيعة الإنسان واحدة، و«من حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه»(4).

ص: 122


1- المحاسن: ج 1 ص17 ب10 وصايا النبي (صلى الله عليه وآله) ح48.
2- عيون الحكم والمواعظ: ص249 ح4657.
3- بحار الأنوار: ج52 ص316 ب27 ح12.
4- مجمع البحرين: ج 6 ص53 مادة (حوم) أي: من قارب المعاصي ودنا منها قرب وقوعه فيها.

السخاء والجنة

مسألة: يستحب بيان أن السخاء يوجب دخول الجنة، فإن الحسنات بعضها آخذ بعنق بعض حتى تدخل صاحبها الجنة، كما في الرواية.

رُوِيَ عَنِ العَالمِ (عليه السلام) أَنَّهُ قَال: «السَّخَاءُ شَجَرَةٌ فِي الجَنَّةِ أَغْصَانُهَا فِي الدُّنْيَا، فَمَنْ تَعَلقَ بِغُصْنٍ مِنْهَا أَدَّتْهُ إِلى الجَنَّةِ»(1).

اختيارية الصفات

مسألة: البخل والكرم ونظائرهما اختيارية باختيارية مقدماتها، ومن هنا ورد الحث على التحلي بالكرم والتخلي عن البخل.

رُوِيَ: «أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَل أَوْحَى إِلى مُوسَى (عليه السلام) أَنْ لا تَقْتُل السَّامِرِيَّ فَإِنَّهُ سَخِيٌّ»(2).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) لبَنِي سَلمَةَ: «يَا بَنِي سَلمَةَ مَنْ سَيِّدُكُمْ، قَالوا: يَا رَسُولاللهِ سَيِّدُنَا رَجُل فِيهِ بُخْل، فَقَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَى مِنَ البُخْل»(3).

ص: 123


1- مستدرك الوسائل: ج 15 ص260 ب16 باب استحباب الجود والسخاء ح19.
2- من لا يحضره الفقيه: ج2 ص61 باب فضل السخاء والجود ح1709.
3- الكافي: ج4 ص44 باب البخل والشح ح3.

ذم الظلم

اشارة

عن فاطمة الكبرى (عليها السلام) قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «ما التقى جندان ظالمان إلاّ تخلى الله عنهما، فلم يبال أيهما غلب، وما التقى جندان ظالمان إلاّ كانت الدبرة(1) على أعتاهما»(2).

-------------------------

الظلم حرام مطلقا

مسألة: الظلم حرام(3)، بمختلف أنواعه، ولا استثناء فيه، فهو علة تامة له، وبذلك يختلف عن مثل (الكذب) حيث إنه مقتض له، وربما جاز كما إذا كان لإصلاح ذات البين وشبهه، أما الظلم فإنه من العناوين الآبية عن التخصيص.

قال تعالى: «وَتِلكَ القُرى أَهْلكْناهُمْ لمَّا ظَلمُوا وَجَعَلنا لمَهْلكِهِمْ مَوْعِداً»(4).

ص: 124


1- في نسخة: الدائرة.
2- عوالم العلوم: ج 11 قسم2 فاطمة (سلام الله عليها) ص918 حديثها (عليها السلام) في ذم الظلم ح195، عن كشف الغمة: ج 1 ص581 العاشر في ذكر أولاده.
3- والظاهر أن حرمته مولوية يستحق فاعله عليه العقاب، لا إرشادية.
4- سورة الكهف: 59.

وقَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله):«إِيَّاكُمْ والظُّلمَ فَإِنَّهُ يُخَرِّبُ قُلوبَكُم»(1).

وقَال أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «ابْعُدُوا عَنِ الظُّلمِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ الجَرَائِمِ وأَكْبَرُ المَآثِمِ»(2).

حرمة الحرب

مسألة: الحرب بين فئتين ظالمتين محرمة، وإمداد أحدهما محرم آخر، سواء كان الإمداد بالمال أم بالتشجيع أم بغير ذلك.

قال تعالى: «تِلكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلها للذينَ لا يُريدُونَ عُلوًّا فِي الأَرْضِ ولا فَساداً والعاقِبَةُ للمُتَّقين»(3).

التخلي عن الظالم

مسألة: يلزم بيان أن الله يتخلى عن الظالم، كما يلزم التخذيل عن الظالم قدر المستطاع بالقول والفعل،

ومعنى تخلي الله عنه أنه لا ينظر إليهنظر الرحمة ولا يلطف به بألطافه الخاصة، بل يتركه ليرى جزاءه ويواجه نتيجة عمله، ولا ينصره نصرة غيبية،

ص: 125


1- مشكاة الأنوار: ص315 الفصل الخامس في الظلم والحرام.
2- مستدرك الوسائل: ج 12 ص100 ب77 باب تحريم الظلم ح8.
3- سورة القصص: 83.

وإن كان قد ينتصر أحياناً بالأسباب الظاهرية، كما أنه أحياناً قد ينكسر، فإن هناك أسباباً ظاهرية وأسباباً واقعية، وافتقاد أحدهما لا يلازم افتقاد الآخر، وذلك على عكس المؤمن الذي ينصر الله ورسله، فإن الله ينصره، «يا أَيُّهَا الذينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَ يُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ»(1).

ولا يخفى أن الأعتى من الظلمة هو الأسوأ.

ثم إن الظلم له آثار كونية دنيوية وأخروية حسب ارتباط الكون بعضه ببعض، ولذا قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «اتقوا الظلم فإنه ظلمات يوم القيامة»(2)، كما جاء ورد عكسه في الخير:

عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: «يُبْعَثُ يَوْمَ القِيَامَةِ قَوْمٌ تَحْتَ ظِل العَرْشِ وُجُوهُهُمْ مِنْ نُورٍ ورِيَاشُهُمْ مِنْ نُورٍ، جُلوسٌ عَلى كَرَاسِيَّ مِنْ نُورٍ» إلى أن قال: «فَيُنَادِي مُنَادٍ: هَؤُلاءِ قَوْمٌ كَانُوا يُيَسِّرُونَ عَلىالمُؤْمِنِينَ ويُنْظِرُونَ المُعْسِرَ حَتَّى يُيَسَّرَ»(3).

غلبة الظالم

مسألة: يستحب بيان أن الله تعالى لا يبالي أيهما غلب، فمن كان ظالماً لا ينبغي أن يفرح الناس بغلبته وإن كان صديقاً أو رحماً أو من نفس العشيرة أو الجماعة أو البلدة، وذلك لأن غلبته شر له، كما أنها أيام قلائل وامتحان، قال

ص: 126


1- سورة محمد: 7.
2- الكافي: ج 2 ص332 باب الظلم ح10.
3- وسائل الشيعة: ج 18 ص366 ب25 باب وجوب إنظار المعسر وعدم جواز معاسرته ح3.

سبحانه: «وَلا يَحْسَبَنَّ الذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلي لهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلي لهُمْ ليَزْدَادُوا إِثْمًا وَلهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ»(1).

وقال بنو إسرائيل لقارون: «لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الفَرِحين»(2).

والمراد الفرح ببطر وطغيان، فإن كل علم ومال وجاه وسلاح وغلبة لم تأت من مصادر صحيحة أو لم تصرف في طرق صحيحة وإن نشأت من مناشئ صحيحة، فإنها سبب حزن وكآبة وبلاء وسوء عاقبة في الدنيا والآخرة، نعوذ بالله من ذلك.

وفي الأحاديث: «عن ماله مِمَّ اكتسبه،وفيمَ أنفقه»(3).

ص: 127


1- سورة آل عمران: 178.
2- سورة القصص: 76.
3- كشف اليقين: ص227 المبحث السادس في وجوب محبته ومودته.

الحث على النظافة

اشارة

عن فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لا يلومن إلاّ نفسه من بات وفي يده غمر»(1).

-----------------------------

النظافة قبل النوم

مسألة: يستحب نظافة اليد عند المنام، فإن النظافة مستحبة مطلقاً، وبعض أنواعها آكد استحباباً من بعض، كما أن بعضها واجبة كالنظافة للوضوء الواجب وبالوضوء كذلك، وللغسل وبالغسل الواجب وما أشبه، وقد ورد: «النظافة من الإيمان»(2).

ثم إن وساخة اليد عند المنام أسوأ منها في اليقظة، لأنها تلوث الفرش والبدن وما أشبه، بينما في اليقظة ليست كذلك، هذا بالإضافة إلى أن الغمروهو الدسومة والزهومة من اللحم، يجلب الحيوانات الضارة والمؤذية إلى يده

ص: 128


1- كشف الغمة: ج 1 ص554 من روى من أولاد الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) عنه عن النبي (صلى الله عليه وآله).
2- مستدرك الوسائل: ج 16 ص319 ب92 باب استحباب تخليل الإنسان بعد الأكل وكراهة تركه ح9.

وجسمه(1)، هذا إضافة إلى الآثار الغيبية المذكورة في أمثال هذه الروايات.

قَال (صلى الله عليه وآله): «تَخَللوا، فَإِنَّهُ مِنَ النَّظَافَةِ، والنَّظَافَةُ مِنَ الإِيمَانِ، والإِيمَانُ وصَاحِبُهُ فِي الجَنَّة»(2).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «مَنْ تَطَهَّرَ ثُمَ أَوَى إِلى فِرَاشِهِ بَاتَ وفِرَاشُهُ كَمَسْجِدِهِ، فَإِنْ قَامَ مِنَ الليْل فَذَكَرَ اللهَ تَنَاثَرَتْ عَنْهُ خَطَايَاهُ، فَإِنْ قَامَ مِنْ آخِرِ الليْل فَتَطَهَّرَ وصَلى رَكْعَتَيْنِ وحَمِدَ اللهَ وأَثْنَى عَليْهِ وصَلى عَلى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) لمْ يَسْأَل اللهَ شَيْئاً إِلا أَعْطَاهُ، إِمَّا أَنْ يُعْطِيَهُ الذِي يَسْأَلهُ بِعَيْنِهِ، وإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَ لهُ مَا هُوَ خَيْرٌ لهُ مِنْهُ»(3).

وقَال عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَليٍّ الحَلبِيُ: سُئِل أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) عَنِ الرَّجُل أَيَنْبَغِي لهُ أَنْ يَنَامَ وهُوَ جُنُب،ٌ فَقَال: «يُكْرَهُ ذَلكَحَتَّى يَتَوَضَّأَ»(4).

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) عَنْ آبَائِهِ، عَنْ عَليٍّ (عليهم السلام) قَال: «اغْسِلوا صِبْيَانَكُمْ مِنَ الغَمَرِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَشَمُّ الغَمَرَ فَيَفْزَعُ الصَّبِيُّ فِي رُقَادِهِ ويَتَأَذَّى بِهِ الكَاتِبَانِ»(5).

ص: 129


1- كالفأرة وغيرها.
2- مستدرك الوسائل: ج 16 ص319 ب92 باب استحباب تخليل الإنسان بعد الأكل وكراهة تركه ح9.
3- الكافي: ج 3 ص468 باب صلاة فاطمة عليها السلام وغيرها من صلاة الترغيب ح5.
4- من لا يحضره الفقيه: ج 1 ص83 باب صفة غسل الجنابة ح179.
5- وسائل الشيعة: ج 3 ص337 ب27 باب استحباب غسل المولود ح1.

من لم يتنظف

مسألة: يستحب بيان أن من لم يراع النظافة فلا يلومن إلاّ نفسه، وهذا كناية عن أنه بنفسه السبب دون غيره، فإنه قد يسبب الغير ضرراً للإنسان وقد يتسبب هو في إضرار نفسه، فإذا كان السبب هو بنفسه فاللوم عليه.

ثم إن لوم النفس قد يجب في بعض الموارد ليحصل التنبه والتحذر عن الوقوع في الحرام من باب المقدمة، ومن الواضح أن النفس منها لوامة، كما قال سبحانه: «وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللوَّامَة»(1).

ص: 130


1- سورة القيامة: 2.

أحقية المالك

اشارة

قالت الصديقة فاطمة (عليها السلام): «الرجل أحق بصدر دابته، وصدر فراشه، والصلاة في منزله إلاّ إمام يجتمع الناس عليه»((1).

---------------------------

الإنسان أحق بملكه

مسألة: الإنسان أحق بكل ما يملكه، وما ذكرته الصديقة (صلوات الله عليها) هو مصاديق هذه الكبرى، ولعله خصتها بالذكر لكثرة الابتلاء بها، أو لخفائها على البعض.

ويلحق به أنه أحق بكل ما له فيه حق الاختصاص(2)، كما هو أحق بكل ما يرتبط به على نحو شرعي، كالزوجة فإنها مرتبطة به وإن لم يكن يملكها.

نعم ربما يقتضي الأدب والفضل أن يقدم غيره على نفسه فيما يملكهإذا كان الشيء صالحاً لذلك، إلا أن الحق يبقى للإنسان المالك أو ذي الاختصاص.

ص: 131


1- عوالم العلوم: ج 11 قسم2 فاطمة (سلام الله عليها) كلامها (عليها السلام) في أحقية المالك ح197.
2- كمن سبق إلى موضع في المسجد، أو مسكن بالمدرسة، أو محل في السوق، أو سائر المشتركات.

وصدر الدابة في قبال عقبها، إذ قد يردف الراكب إنساناً خلفه وقد يعطيه الصدر ويجلس هو خلفه.

والحاصل: المراد أنه إذا أذن المالك لشخص في الركوب فلا يزاحم المالك في صدر دابته بغير رضاه، وكذا لو أذن له في دخول منزله، وكذا لا يتقدم للصلاة في منزل الغير إلاّ برضا صاحبه، نعم لو اجتمع الناس على تقديم شخص ينبغي لصاحب المنزل القبول وإن لم يجب عليه، فالاستثناء(1) أشبه بالمنقطع، لتزاحم الحقين(2)، وإن كان اللا اقتضائي لا يزاحم الاقتضائي.

قال (صلى الله عليه وآله): «النَّاسُ مُسَلطُونَ عَلى أَمْوَالهِم»(3).

الأحق بالأفضل

مسألة: الإنسان أحق بالأفضل مما يملكه.

وقول الصديقة (عليها السلام): «أحق»، إما أن يراد به المعنى الحقيقي للأحقية من باب أفعل التفضيل، فمعناها على هذا: أن الغير له حق أيضاً في الجملة، ويمكن تصور ذلك إذا أباح صاحب الحق لغيره، وإما أن يراد به المعنى المجازي أي بلا تفضيل، وذلك كما لو لم يبح له، فإن صاحب الحق له الحق كاملاً ولا حق لغيره، وعندئذ يحمل لفظ (أحق) على التجرد من معنى الأفضلية، فلا يدل على الاشتراك في الأصل وترجيح هذا على هذا وتفضيله،

ص: 132


1- أي في قولها (عليها السلام): «إلا أمام يجتمع الناس».
2- حق صاحب المنزل وحق الناس في تقديم من شاؤوا.
3- غوالي اللئالي: ج 1 ص222 الفصل التاسع في ذكر أحاديث تتضمن شيئا من أبواب الفقه ذكرها بعض الأصحاب في بعض كتبه مروية بطريقي إليه ح99.

مثل: «أَوْلَى لكَ فَأَوْلَى»(1)، ومثل قول الفقهاء: إنه (أحوط) و(أقوى) وما أشبه، حيث ذكر الأدباء أنه قد ينسلخ (أفعل التفضيل) عن معنى المفاضلة بحسب القرائن الخارجية والداخلية.

وفي رواية قالت (عليها السلام): «صاحب الدابة أحق بصدرها».

حرمة انتهاك الحقوق

مسألة: انتهاك حقوق الآخرين حرام، ولافرق في الحق بين الصغير والكبير، والحقير والخطير، كما لا فرق في المنتهِك للحقوق بين الأمير والوزير، والرئيس والمرؤوس، والشريف والوضيع، والرجل والمرأة والحر والعبد، كما لا فرق في المنتهَك حقه بين مختلف الأفراد.

قَال أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «لا تُضِيعَنَ حَقَّ أَخِيكَ اتِّكَالا عَلى مَا بَيْنَكَ وبَيْنَهُ، فَإِنَّهُ ليْسَ لكَ بِأَخٍ مَنْ أَضَعْتَ حَقَّه»(2).

وقَال أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «مِنَ العُقُوقِ إِضَاعَةُ الحُقُوقِ»(3).

ص: 133


1- سورة القيامة: 34.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 4 ص392 ومن ألفاظ رسول الله (صلى الله عليه وآله) الموجزة التي لم يسبق إليها ح5834.
3- عيون الحكم والمواعظ: ص467 ح8502.

آداب المائدة

اشارة

عن فاطمة (عليها السلام): «في المائدة اثنتا عشر خصلة، يجب على كل مسلم أن يعرفها، أربع فيها فرض، وأربع فيها سنة، وأربع فيه تأديب.

فأما الفرض: فالمعرفة، والرضا، والتسمية، والشكر.

وأما السنة: فالوضوء قبل الطعام، والجلوس على الجانب الأيسر، والأكل بثلاث أصابع، ولعق الأصابع.

وأما التأديب: فالأكل بما يليك، وتصغير اللقمة، والمضغ الشديد، وقلة النظر في وجوه الناس»(1).

-------------------------

المراد بالفرض

ربما يراد من الفرض والسنة والآداب في هذه الرواية مراتب الاستحباب، وربما يراد من الفرض ما فرضه الله(2) بالمعنى اللغوي، أي ما أثبته، ومن السنة ما سنه الله أو رسوله (صلى الله عليهوآله).

ص: 134


1- عوالم العلوم: ج 11 قسم2 فاطمة (سلام الله عليها) ص920 كلامها (عليها السلام) في آداب المائدة ح201.
2- أي حدده الله وشرعه، وهو أعم من الواجب والمستحب، كا هو ظاهر كلام المصنف (قدس سره).

والفرق بين ما هو سنة وما هو أدب، أن الأولى ما سنها الرسول (صلى الله عليه وآله)، والثاني ما يرشد إليه العقل أو العلم أو التجربة وإن أيده الشرع، وإلا فمن المعلوم أن الشكر والتسمية وما أشبه ليس بفريضة بمعنى الوجوب الشرعي المانع من النقيض.

تعلم الآداب

مسألة: يستحب تعليم وتعلم آداب المائدة، بل مطلق الآداب الإسلامية.

ثم إن آداب المائدة كثيرة مذكورة في كتاب الأطعمة والأشربة، وقد ذكرت الصديقة الطاهرة (عليها السلام) جملة مفضلة منها، كما لا يخفى.

قَال (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ اللهَ ومَلائِكَتَهُ يُصَلونَ عَلى خِوَانٍ عَليْهِ مِلحٌ وخَل»(1).

وعَنْ مِسْمَعٍ أَبِي سَيَّارٍ، قَال: قُلتُ لأَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه

السلام): إِنِّي أَتَّخِمُ، قَال: «سَمِّ»، قُلتُ: قَدْ سَمَّيْتُ، قَال: «فَلعَلكَ تَأْكُل أَلوَانَ الطَّعَامِ»، قُلتُ: نَعَمْ، قَال: «فَتُسَمِّي عَلى كُل لوْنٍ»، قُلتُ: لا، قَال: «فَمِنْ هَاهُنَاتَتَّخِمُ»(2).

وعَنْ مُوَفَّقٍ المَدِينِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَال: بَعَثَ إِليَّ المَاضِي (عليه السلام) يَوْماً وحَبَسَنِي للغَدَاءِ، فَلمَّا جَاءُوا بِالمَائِدَةِ لمْ يَكُنْ عَليْهَا بَقْل، فَأَمْسَكَ يَدَهُ ثُمَّ قَال

ص: 135


1- الدعوات، للراوندي: ص146 فصل في ذكر أشياء من المأكولات والمشروبات وكيفية تناولها ح380.
2- وسائل الشيعة: ج 24 ص362 ب61 باب استحباب التسمية على كل إناء وعلى كل لون وكلما عاد إلى الطعام وعلى كل لقمة ح4.

للغُلامِ: «أَمَا عَلمْتَ أَنِّي لا آكُل عَلى مَائِدَةٍ ليْسَ فِيهَا خَضِرٌ فَأْتِنِي بِالخَضِرِ»، قَال: فَذَهَبَ الغُلامُ وجَاءَ بِالبَقْل فَأَلقَاهُ عَلى المَائِدَةِ، فَمَدَّ (عليه السلام) يَدَهُ ثُمَّ أَكَل(1).

وعَنْ أَبِي خَدِيجَةَ قَال: سَأَل بَشِيرٌ الدَّهَّانُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) وأَنَا حَاضِرٌ فَقَال: هَل كَانَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَأْكُل مُتَّكِئاً عَلى يَمِينِهِ أَوْ عَلى يَسَارِهِ، فَقَال: «مَا كَانَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَأْكُل مُتَّكِئاً عَلى يَمِينِهِ ولا عَلى يَسَارِهِ، ولكِنْ يَجْلسُ جِلسَةَ العَبْدِ تَوَاضُعاً للهِ»(2).

وعَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله): «أَنَّهُكَانَ لا يَأْكُل الحَارَّ حَتَّى يَبْرُدَ ويَقُول: إِنَّ اللهَ لمْ يُطْعِمْنَا نَاراً، إِنَّ الطَّعَامَ الحَارَّ غَيْرُ ذِي بَرَكَةٍ فَأَبْرِدُوهُ، وكَانَ إِذَا أَكَل سَمَّى ويَأْكُل بِثَلاثِ أَصَابِعَ ومِمَّا يَليهِ، ولا يَتَنَاوَل مِنْ بَيْنِ يَدَيْ غَيْرِهِ، ويُؤْتَى بِالطَّعَامِ فَيَشْرَعُ قَبْل القَوْمِ ثُمَّ يَشْرَعُونَ، وكَانَ يَأْكُل بِأَصَابِعِهِ الثَّلاثِ الإِبْهَامِ والتِي تَليهَا والوُسْطَى، ورُبَّمَا اسْتَعَانَ بِالرَّابِعَةِ، وكَانَ يَأْكُل بِكَفِّهِ كُلهَا، ولمْ يَأْكُل بِإِصْبَعَيْنِ ويَقُول: إِنَّ الأَكْل بِإِصْبَعَيْنِ هُوَ أَكْل الشَّيْطَانِ»(3).

تحصيل المعرفة

مسألة: يستحب أو يجب تحصيل المعرفة، ولعل المراد بالمعرفة في كلام الصديقة (عليها السلام): معرفة الله ومعرفة أولياء النعم وحقوقهم.

ص: 136


1- المحاسن: ج 2 ص507 ب87 أبواب البقول باب ح651.
2- المحاسن: ج 2 ص457 ب51 باب الأكل متكئا ح389.
3- وسائل الشيعة: ج 24 ص435 ب112 باب جملة من آداب المائدة ح12.

قال تعالى: «وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَ رَسُولهُ مِنْ فَضْله»(1).

وقال عزوجل: «وَلوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولهُ وَقالوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتينَا اللهُ مِنْ فَضْلهِ وَرَسُولهُ إِنَّا إِلى اللهِراغِبُون»(2).

وجَاءَ رَجُل إِلى رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) قَال: مَا رَأْسُ العِلمِ، قَال: «مَعْرِفَةُ اللهِ حَقَ مَعْرِفَتِهِ»، قَال: ومَا حَقُ مَعْرِفَتِهِ، قَال: «أَنْ تَعْرِفَهُ بِلا مِثَال ولا شَبِيهٍ، وتَعْرِفَهُ إِلهاً وَاحِداً خَالقاً قَادِراً، أَوَّلا وآخِراً وظَاهِراً وبَاطِناً، لا كُفْوَ لهُ ولا مِثْل لهُ، وذَلكَ مَعْرِفَةُ اللهِ حَقَ مَعْرِفَتِه»(3).

وقال الإمام الرضا (عليه السلام):

«... فَإِنْ قَال قَائِل: فَلمَ وَجَبَ عَليْكُمْ مَعْرِفَةُ الرُّسُل والإِقْرَارُ بِهِمْ والإِذْعَانُ لهُمْ بِالطَّاعَةِ، قِيل لهُ: لأَنَّهُ لمَّا لمْ يَكْتَفِ فِي خَلقِهِمْ وقُوَاهُمْ مَا يُثْبِتُونَ بِهِ لمُبَاشَرَةِ الصَّانِعِ تَعَالى حَتَّى يُكَلمَهُمْ ويُشَافِهَهُمْ لضَعْفِهِمْ وعَجْزِهِمْ، وكَانَ الصَّانِعُ مُتَعَالياً عَنْ أَنْ يُرَى ويُبَاشَرَ وكَانَ ضَعْفُهُمْ وعَجْزُهُمْ عَنْ إِدْرَاكِهِ ظَاهِراً، لمْ يَكُنْ بُدٌّ لهُمْ مِنْ رَسُول بَيْنَهُ وبَيْنَهُمْ مَعْصُومٍ يُؤَدِّي إِليْهِمْ أَمْرَهُ ونَهْيَهُ وأَدَبَهُ ويُفَقِّهُهُمْ عَلى مَا يَكُونُ بِهِ اجْتِلابُ مَنَافِعِهِمْ ودَفْعُ مَضَارِّهِمْ، إِذْ لمْ يَكُنْ فِي خَلقِهِمْ مَا يَعْرِفُونَ بِهِ مَا يَحْتَاجُونَ إِليْهِ مِنْ مَنَافِعِهِمْ ومَضَارِّهِمْ، فَلوْ لمْ يَجِبْ عَليْهِمْ مَعْرِفَتُهُ وطَاعَتُهُ لمْيَكُنْ لهُمْ فِي مَجِي ءِ الرَّسُول مَنْفَعَةٌ ولا سَدُّ حَاجَةٍ، ولكَانَ يَكُونُ إِتْيَانُهُ عَبَثاً لغَيْرِ مَنْفَعَةٍ ولا صَلاحٍ، وليْسَ هَذَا مِنْ صِفَةِ الحَكِيمِ الذِي

ص: 137


1- سورة التوبة: 74.
2- سورة التوبة: 59.
3- جامع الأخبار: ص5 الفصل الأول في معرفة الله تعالى.

أَتْقَنَ كُل شَيْ ء»(1).

وعَنِ الحَارِثِ بْنِ المُغِيرَةِ قَال: قُلتُ لأَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ مَاتَ لا يَعْرِفُ إِمَامَهُ مَاتَ مِيتَةً جَاهِليَّةً»، قَال: «نَعَمْ»، قُلتُ: «جَاهِليَّةً جَهْلاءَ أَوْ جَاهِليَّةً لا يَعْرِفُ إِمَامَهُ، قَال: «جَاهِليَّةَ كُفْرٍ ونِفَاقٍ وضَلال»(2).

وعَنْ سَالمٍ قَال: سَأَلتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) عَنْ قَوْل اللهِ عَزَّ وجَل: «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتابَ الذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالمٌ لنَفْسِهِ ومِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ومِنْهُمْ سابِقٌ بِالخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ»(3)، قَال: السَّابِقُ بِالخَيْرَاتِ الإِمَامُ، والمُقْتَصِدُ العَارِفُ للإِمَامِ، والظَّالمُ لنَفْسِهِ الذِي لا يَعْرِفُ الإِمَامَ»(4).

وعَنْ سَدِيرٍ قَال: قُلتُ لأَبِي جَعْفَرٍ (عليهالسلام): إِنِّي تَرَكْتُ مَوَاليَكَ مُخْتَلفِينَ يَتَبَرَّأُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، قَال: فَقَال: «ومَا أَنْتَ وذَاكَ، إِنَّمَا كُلفَ النَّاسُ ثَلاثَةً، مَعْرِفَةَ الأَئِمَّةِ والتَّسْليمَ لهُمْ فِيمَا وَرَدَ عَليْهِمْ والرَّدَّ إِليْهِمْ فِيمَا اخْتَلفُوا فِيهِ»(5).

ص: 138


1- علل الشرائع: ج 1 ص252 ب182 باب علل الشرائع وأصول الإسلام ح9.
2- الكافي: ج 1 ص377 باب من مات وليس له إمام من أئمة الهدى وهو من الباب الأول ح3.
3- سورة فاطر: 33.
4- الكافي: ج 1 ص214 باب في أن من اصطفاه الله من عباده وأورثهم كتابه هم الأئمة (عليهم السلام) ح1.
5- الكافي: ج 1 ص390 باب التسليم وفضل المسلمين ح1.

الراضا بالمقسوم

مسألة: يستحب أو يجب تحصيل الرضا بما قسمه الله، فإن في الرضا بذلك رضاه تعالى، وفيه راحة النفس وطمأنينتها، والسعادة في الدنيا، والأجر في الآخرة.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِيهِ (عليهما السلام) قَال: قَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (صَلوَاتُ اللهِ عَليْهِ): «الإِيمَانُ لهُ أَرْكَانٌ أَرْبَعَةٌ، التَّوَكُّل عَلى اللهِ، وتَفْوِيضُ الأَمْرِ إِلى اللهِ، والرِّضَا بِقَضَاءِ اللهِ، والتَّسْليمُ لأَمْرِ اللهِ عَزَّ وجَل»(1).

وقَال علي بن الحسين (عليه السلام): «الرِّضَا بِمَكْرُوهِ القَضَاءِ أَرْفَعُ دَرَجَاتِ اليَقِينِ»(2).

وقَال اللهُ تَعَالى: «يَا دَاوُدُ قُل لعِبَادِي: يَا عِبَادِي مَنْ لمْ يَرْضَ بِقَضَائِي ولمْ يَشْكُرْ عَلى نَعْمَائِي ولمْ يَصْبِرْ عَلى بَلائِي فَليَطْلبْ رَبّاً سَوَائِي»(3).

التسمية عند الأكل

مسألة: يستحب التسمية عند الأكل، عن الإمام الصادق (عليه السلام)، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «إِذَا وُضِعَتِ المَائِدَةُ حَفَّتْهَا أَرْبَعَةُ آلافِ مَلكٍ،

ص: 139


1- الكافي: ج 2 ص47 باب خصال المؤمن ح2.
2- تحف العقول: 278 وروي عنه عليه السلام في قصار هذه المعاني.
3- جامع الأخبار: ص113 الفصل السبعون في البلاء.

فَإِذَا قَال العَبْدُ: بِسْمِ اللهِ، قَالتِ المَلائِكَةُ: بَارَكَ اللهُ عَليْكُمْ فِي طَعَامِكُمْ، ثُمَّ يَقُولونَ للشَّيْطَانِ: اخْرُجْ يَا فَاسِقُ لا سُلطَانَ لكَ عَليْهِمْ، فَإِذَا فَرَغُوا فَقَالوا الحَمْدُ للهِ قَالتِ المَلائِكَةُ: قَوْمٌ أَنْعَمَ اللهُ عَليْهِمْ فَأَدَّوْا شُكْرَ رَبِّهِمْ، وَإِذَا لمْ يُسَمُّوا قَالتِ المَلائِكَةُ للشَّيْطَانِ: ادْنُ يَا فَاسِقُ فَكُل مَعَهُمْ، فَإِذَا رُفِعَتِ المَائِدَةُ وَلمْ يَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَليْهَا قَالتِ المَلائِكَةُ: قَوْمٌ أَنْعَمَ اللهُ عَليْهِمْ فَنَسُوا رَبَّهُمْ»(1).

والظاهر أن الاستحباب والثواب لمن سمى بنفسه، فلا يكفي ذكر التسمية في المسجّل مثلاً، وأما تسمية الغير فقد ورد عن ابن الحجاج قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إِذَا حَضَرَتِ المَائِدَةُ وَسَمَّى رَجُل مِنْهُمْ أَجْزَأَ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ»(2).

نعم لا شك في رجحان تسمية آحادهم،كما تستحب التسمية عند أكل كل نوع من الطعام، وعند الأكل من كل آنية وإن اتحدت أطعمتها، بل مع كل لقمة.

وتستحب إعادة التسمية لو تكلم أثناء الطعام.

والتسمية بالعربية أفضل، والظاهر كفاية ترجمتها بلغات أخرى في مثل الأكل، ولعله يكفي ذكر الاسم بوحده مثل (الله) أو (الرحمن) للصدق العرفي.

قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «مَا مِنْ رَجُل يَجْمَعُ عِيَالهُ وَيَضَعُ مَائِدَتَهُ فَيُسَمُّونَ فِي أَوَّل طَعَامِهِمْ وَيَحْمَدُونَ فِي آخِرِهِ فَتُرْفَعُ المَائِدَةُ حَتَّى يُغْفَرَ لهُمْ»(3).

ص: 140


1- راجع الكافي: ج 6 ص292 باب التسمية والتحميد والدعاء على الطعام ح1.
2- الكافي: ج 6 ص294 باب التسمية والتحميد والدعاء على الطعام ح9.
3- وسائل الشيعة: ج 24 ص353 ب57 باب استحباب التسمية في أول الطعام والتحميد في آخره ح6.

وقَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «اذْكُرِ اسْمَ اللهِ عَلى الطَّعَامِ فَإِذَا فَرَغْتَ فَقُل: الحَمْدُ للهِ الذِي يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ»(1).

وعَنْ عُبَيْدِ بْنِ زُرَارَةَ قَال: أَكَلتُ مَعَ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) طَعَاماً فَمَا أُحْصِي كَمْ مَرَّةً قَال: «الحَمْدُ للهِ الذِي جَعَلنِي أَشْتَهِيهِ»(2).وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: قَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «ضَمِنْتُ لمَنْ يُسَمِّي عَلى طَعَامِهِ أَنْ لا يَشْتَكِيَ مِنْهُ»، فَقَال لهُ ابْنُ الكَوَّاءِ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ لقَدْ أَكَلتُ البَارِحَةَ طَعَاماً فَسَمَّيْتُ عَليْهِ وَآذَانِي، فَقَال: «لعَلكَ أَكَلتَ أَلوَاناً فَسَمَّيْتَ عَلى بَعْضِهَا وَ لمْ تُسَمِّ عَلى بَعْضٍ يَا لكَعُ»(3).

وعَنْ مِسْمَعٍ قَال: شَكَوْتُ مَا أَلقَى مِنْ أَذَى الطَّعَامِ إِلى أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) إِذَا أَكَلتُهُ، فَقَال: «لمْ تُسَمِّ»، فَقُلتُ: إِنِّي لأُسَمِّي وَإِنَّهُ ليَضُرُّنِي، فَقَال لي: «إِذَا قَطَعْتَ التَّسْمِيَةَ بِالكَلامِ ثُمَّ عُدْتَ إِلى الطَّعَامِ تُسَمِّي»، قُلتُ: لا، قَال: «فَمِنْ هَاهُنَا يَضُرُّكَ، أَمَا لوْ أَنَّكَ إِذَا عُدْتَ إِلى الطَّعَامِ سَمَّيْتَ مَا ضَرَّكَ»(4).

وعَنْ دَاوُدَ بْنِ فَرْقَدٍ، قَال: قُلتُ لأَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): كَيْفَ أُسَمِّي عَلى الطَّعَامِ، قَال: فَقَال: «إِذَا اخْتَلفَتِ الآنِيَةُ فَسَمِّ عَلى كُل إِنَاءٍ»، قُلتُ: فَإِنْ نَسِيتُ أَنْ أُسَمِّيَ، قَال: «تَقُول: بِسْمِ اللهِ عَلىأَوَّلهِ وَآخِرِهِ»(5).

ص: 141


1- وسائل الشيعة: ج 24 ص353 ب57 باب استحباب التسمية في أول الطعام والتحميد في آخره ح3.
2- الكافي: ج 6 ص295 باب التسمية والتحميد والدعاء على الطعام ح17.
3- الكافي: ج 6 ص295 باب التسمية والتحميد والدعاء على الطعام ح18.
4- الكافي: ج 6 ص295 باب التسمية والتحميد والدعاء على الطعام ح19.
5- الكافي: ج 6 ص295 باب التسمية والتحميد والدعاء على الطعام ح20.

الشكر عند الأكل

مسألة: يستحب الشكر عند الأكل، بل عند كل لقمة، شكراً بالقول، وشكراً بالعمل بمراعاة حدود ما أوجبه الله.

عن الصنعاني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «كَانَ عَليُّ بْنُ الحُسَيْنِ (عليه السلام) إِذَا وُضِعَ الطَّعَامُ بَيْنَ يَدَيْهِ قَال: اللهُمَّ هَذَا مِنْ مَنِّكَ وَفَضْلكَ وَعَطَائِكَ فَبَارِكْ لنَا فِيهِ وَسَوِّغْنَاهُ وَارْزُقْنَا خَلفاً إِذَا أَكَلنَاهُ وَرُبَّ مُحْتَاجٍ إِليْهِ، رَزَقْتَ فَأَحْسَنْتَ اللهُمَّ وَاجْعَلنَا مِنَ الشَّاكِرِينَ، فَإِذَا رُفِعَ الخِوَانُ قَال: الحَمْدُ للهِ الذِي حَمَلنَا فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَرَزَقَنَا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلنَا عَلى كَثِيرٍ مِنْ خَلقِهِ تَفْضِيلا»(1).

وعَنِ ابْنِ بُكَيْرٍ قَال: كُنَّا عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) فَأَطْعَمَنَا ثُمَّ رَفَعْنَا أَيْدِيَنَا فَقُلنَا: الحَمْدُ للهِ، فَقَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «اللهُمَّ هَذَا مِنْكَ وَمِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولكَ، اللهُمَّ لكَ الحَمْدُ، صَل عَلى مُحَمَّدٍ وَآل مُحَمَّدٍ»(2).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): أَنَّ أَبَاحَنِيفَةَ أَكَل مَعَهُ فَلمَّا رَفَعَ الصَّادِقُ (عليه السلام) يَدَهُ مِنْ أَكْلهِ قَال: الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالمِينَ، اللهُمَّ هَذَا مِنْكَ وَمِنْ رَسُولكَ (صلى الله عليه وآله)، فَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ أَجَعَلتَ مَعَ اللهِ شَرِيكاً، فَقَال لهُ: «وَيْلكَ إِنَّ اللهَ يَقُول فِي كِتَابِهِ: «وَما نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولهُ مِنْ فَضْلهِ»(3)، وَيَقُول فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: «وَلوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ

ص: 142


1- الكافي: ج 6 ص294 باب التسمية والتحميد والدعاء على الطعام ح12.
2- الكافي: ج 6 ص296 باب التسمية والتحميد والدعاء على الطعام ح22.
3- سورة التوبة: 74.

وَرَسُولهُ وَقالوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلهِ وَرَسُولهُ»(1)، فَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: وَاللهِ لكَأَنِّي مَا قَرَأْتُهُمَا قَطُّ(2).

الوضوء قبل الطعام

مسألة: يستحب الوضوء قبل الطعام.

ثم إن الوضوء إن قرأ بضم الواو أريد به الوضوء المصطلح أو غسل الأعضاء، وإن قرأ بفتحها أريد به الماء أي ما يتوضأ به، كالفطور والسحور بالفتح لما يفطر أو يتسحر به(3).وقد وردت روايات عديدة في غسل اليدين قبل الطعام:

عن النبي (صلى الله عليه وآله): «غسل اليدين قبل الطعام ينفي الفقر، وبعده ينفي الهم»(4).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): «غسل اليدين قبل الطعام وبعده زيادة في العمر، وإماطة للغمر عن الثياب ويجلو البصر»(5).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «من غسل يده قبل الطعام وبعده عاش

ص: 143


1- سورة التوبة: 59.
2- وسائل الشيعة: ج 24 ص351 ب56 باب استحباب التسمية والتحميد في أول الأكل وفي أثنائه لا الصمت ح9.
3- لسان العرب، مادة (وضأ).
4- مكارم الأخلاق: ص139 الفصل الثاني في آداب غسل اليد وغيرها.
5- الكافي: ج 6 ص290 باب الوضوء قبل الطعام وبعده ح3.

في سعة، وعوفي من بلوى في جسده»(1).

إلى غيرها من الروايات.

كما وردت أحاديث بالوضوء قبل الطعام وبعده، فعن النبي (صلى الله عليه وآله): «الوُضُوءُ قَبْل الطَّعَامِ يَنْفِي الفَقْرَ وبَعْدَهُ يَنْفِي الهَمَّ ويُصَحِّحُ البَصَر»(2).

وقال في المسالك: (المراد بالوضوءهنا غسل اليدين).

وهذا هو الأظهر لاستظهار مفسرية روايات (غسل اليد) للروايات الوارد فيها لفظ (الوضوء) ، ولذا لم يذكر الفقهاء الوضوء المصطلح من مستحبات المائدة، كما بنينا عليه في باب الأطعمة والأشربة أيضاً(3).

عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَاليِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: قَال: «يَا أَبَا حَمْزَةَ الوُضُوءُ قَبْل الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ يُذْهِبَانِ الفَقْرَ»، قُلتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَذْهَبَانِ بِالفَقْرِ، فَقَال: «نَعَمْ يَذْهَبَانِ بِهِ»(4).

وعَنِ السَّكُونِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكْثُرَ خَيْرُ بَيْتِهِ فَليَتَوَضَّأْ عِنْدَ حُضُورِ طَعَامِهِ»(5).

وقَال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُول: «الوُضُوءُ قَبْل الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ يَزِيدَانِ فِي الرِّزْقِ»(6).

ص: 144


1- الكافي: ج 6 ص290 باب الوضوء قبل الطعام وبعده ح1.
2- مكارم الأخلاق: ص139 الفصل الثاني في آداب غسل اليد وغيرها.
3- موسوعة (الفقه): الأطعمة والأشربة، ج77 ص94 - 96.
4- الكافي: ج 6 ص290 باب الوضوء قبل الطعام وبعده ح2.
5- الكافي: ج 6 ص290 باب الوضوء قبل الطعام وبعده ح4.
6- الكافي: ج 6 ص290 باب الوضوء قبل الطعام وبعده ح5.

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «الوُضُوءُ قَبْل الطَّعَامِ يَبْدَأُ صَاحِبُ البَيْتِ لئَلا يَحْتَشِمَ أَحَدٌ، فَإِذَا فَرَغَ مِنَ الطَّعَامِ بَدَأَ بِمَنْ عَنْ يَمِينِ صَاحِبِ البَيْتِ حُرّاً كَانَ أَوْ عَبْداً»(1).

قال: وفي حديث آخر: «يَغْسِل أَوَّلا رَبُّ البَيْتِ يَدَهُ ثُمَّ يَبْدَأُ بِمَنْ عَلى يَمِينِهِ، وَإِذَا رُفِعَ الطَّعَامُ بَدَأَ بِمَنْ عَلى يَسَارِ صَاحِبِ المَنْزِل وَيَكُونُ آخِرُ مَنْ يَغْسِل يَدَهُ صَاحِبَ المَنْزِل لأَنَّهُ أَوْلى بِالصَّبْرِ عَلى الغَمَرِ»(2).

وعَنِ الفَضْل بْنِ يُونُسَ، قَال: لمَّا تَغَدَّى عِنْدِي أَبُو الحَسَنِ (عليه السلام) وَجِي ءَ بِالطَّسْتِ بُدِئَ بِهِ (عليه السلام) وَكَانَ فِي صَدْرِ المَجْلسِ، فَقَال (عليه السلام): «ابْدَأْ بِمَنْ عَلى يَمِينِكَ»، فَلمَّا تَوَضَّأَ وَاحِدٌ أَرَادَ الغُلامُ أَنْ يَرْفَعَ الطَّسْتَ، فَقَال لهُ أَبُو الحَسَنِ (عليه السلام): «دَعْهَا وَاغْسِلوا أَيْدِيَكُمْ فِيهَا»(3).

عند الجلوس على المائدة

مسألة: يستحب على المائدة الجلوس على جانبه(4) الأيسر.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «إِذَا أَكَلتَ فَاعْتَمِدْ عَلى يَسَارِكَ»(5).

وفي الفقيه في آداب المائدة: عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «وَأَمَّا السُّنَّةُ

ص: 145


1- الكافي: ج 6 ص290 باب صفة الوضوء قبل الطعام ح1.
2- الكافي: ج 6 ص291 باب صفة الوضوء قبل الطعام ح1.
3- الكافي: ج 6 ص291 باب صفة الوضوء قبل الطعام ح3.
4- أي جانب الجالس.
5- وسائل الشيعة: ج 24 ص254 ب7 باب عدم كراهة وضع اليد على الأرض وقت الأكل واستحباب خلع النعل عنده ح3.

فَالجُلوسُ عَلى الرِّجْل اليُسْرَى»(1).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام) قَال: قَال الحَسَنُ بْنُ عَليٍّ (عليهما السلام): «فِي المَائِدَةِ اثْنَتَا عَشْرَةَ خَصْلةً، يَجِبُ عَلى كُل مُسْلمٍ أَنْ يَعْرِفَهَا، أَرْبَعٌ مِنْهَا فَرْضٌ، وأَرْبَعٌ سُنَّةٌ، وأَرْبَعٌ تَأْدِيبٌ، فَأَمَّا الفَرْضُ: فَالمَعْرِفَةُ والرِّضَا والتَّسْمِيَةُ والشُّكْرُ، وأَمَّا السُّنَّةُ: فَالوُضُوءُ قَبْل الطَّعَامِ والجُلوسُ عَلى الجَانِبِ الأَيْسَرِ والأَكْل بِثَلاثِ أَصَابِعَ ولعْقُ الأَصَابِعِ، وأَمَّا التَّأْدِيبُ: فَالأَكْل مِمَّا يَليكَ وتَصْغِيرُ اللقْمَةِ وتَجْوِيدُ المَضْغِوقِلةُ النَّظَرِ فِي وُجُوهِ النَّاسِ»(2).

الأكل بثلاث أصابع

مسألة: يستحب الأكل بثلاث أصابع، والظاهر أن ذلك في قبال الأكل بإصبعين أو إصبع واحدة، فإنها أكلة الجبارين كما في الرواية(3).

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): أَنَّهُ كَانَ يَجْلسُ جِلسَةَ العَبْدِ وَيَضَعُ يَدَهُ عَلى الأَرْضِ وَيَأْكُل بِثَلاثِ أَصَابِعَ، وَأَنَّ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): كَانَ يَأْكُل هَكَذَا ليْسَ كَمَا يَفْعَل الجَبَّارُونَ أَحَدُهُمْ يَأْكُل بِإِصْبَعَيْهِ»(4).

روي «أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يأكل بثلاث أصابع ويكره الأكل

ص: 146


1- من لا يحضره الفقيه: ج 4 ص355 باب النوادر وهو آخر أبواب الكتاب ح5762.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 3 ص359 باب الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة وغير ذلك من آداب الطعام ح4270.
3- راجع الفقه: ج77 ص151.
4- الكافي: ج 6 ص297 باب نوادر ح6.

بإصبعين»(1).

وروي: «كَانَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) يَسْتَاكُ عَرْضاً ويَأْكُل هَرْتاً، وقَال:الهَرْتُ أَنْ يَأْكُل بِأَصَابِعِهِ جَمِيعاً»(2).

الأكل مما يليه

مسألة: يستحب الأكل مما يلي الإنسان، فإنه من الأدب والكرامة والأخلاق.

عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «مَا مِنْ شَيْ ءٍ إِلا وَلهُ حَدٌّ يَنْتَهِي إِليْهِ» فَجِي ءَ بِالخِوَانِ فَوُضِعَ، فَقَالوا فِيمَا بَيْنَهُمْ: قَدْوَ اللهِ اسْتَمْكَنَّا مِنْهُ، فَقَالوا: يَا أَبَا جَعْفَرٍ هَذَا الخِوَانُ مِنَ الشَّيْءِ، فَقَال: «نَعَمْ»، قَالوا: فَمَا حَدُّهُ، قَال: «حَدُّهُ إِذَا وُضِعَ قِيل بِسْمِ اللهِ، وَإِذَا رُفِعَ قِيل الحَمْدُ للهِ، وَيَأْكُل كُل إِنْسَانٍ مِمَّا بَيْنَ يَدَيْهِ وَلا يَتَنَاوَل مِنْ قُدَّامِ الآخَرِ شَيْئاً»(3).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «إِذَا أَكَل أَحَدُكُمْ فَليَأْكُل مِمَّا يَليهِ»(4).

وعَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله): أَنَّهُ قَدِمَ عَليْهِ رَجُل فَأَضَافَهُ فَأَدْخَلهُ بَيْتَ أُمِّ سَلمَةَ ثُمَّ قَال: «هَل عِنْدَكُمْ شَيْ ءٌ»، قَال: فَأَتَوْنَا بِجَفْنَةٍ كَثِيرَةِ الثَّرِيدِ والوَذَرِ،

ص: 147


1- بحار الأنوار: ج 63 ص414 ب17 جوامع آداب الأكل.
2- الكافي: ج 6 ص297 باب نوادر ح5.
3- الكافي: ج 6 ص292 باب التسمية والتحميد والدعاء على الطعام ح3.
4- الكافي: ج 6 ص297 ح3.

فَجَعَلذَلكَ الرَّجُل يُجِيل يَدَهُ فِي جَوَانِبِهَا، فَأَخَذَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) يَمِينَهُ بِيَسَارِهِ ووَضَعَهَا قُدَّامَهُ ثُمَّ قَال: «كُل مِمَّا يَليكَ فَإِنَّهُ طَعَامٌ وَاحِدٌ» فَلمَّا رُفِعَتِ الجَفْنَةُ أَتَوْنَا بِطَبَقٍ فِيهِ رُطَبٌ، فَجَعَل يَأْكُل مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وجَعَل رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَجُول فِي الطَّبَقِ ثُمَّ قَال للرَّجُل: كُل مِنْ حَيْثُ شِئْتَ فَإِنَّهُ غَيْرُ طَعَامٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ أَتَوْنَا بِوَضُوءٍ فَغَسَل يَدَهُ ثُمَّ مَسَحَ وَجْهَهُ وذِرَاعَيْهِ وقَال: هَذَا الوَضُوءُ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّار»(1).

وقَال (صلى الله عليه وآله): «إِذَا وُضِعَتِ المَائِدَةُ فَليَأْكُل أَحَدُكُمْ مِمَّا يَليهِ ولا يُنَاوِل ذِرْوَةَ الطَّعَامِ، فَإِنَّ البَرَكَةَ تَأْتِيهَا مِنْ أَعْلاهَا، ولا يَقُومُ أَحَدُكُمْ ولا يَرْفَعُ يَدَهُ وإِنْ شَبِعَ حَتَّى يَرْفَعَ القَوْمُ أَيْدِيَهُمْ، فَإِنَّ ذَلكَ يُخْجِل جَليسَه»(2).

تصغير اللقمة

مسألة: يستحب تصغير اللقمة، فإنه أصحللبدن وأرفق بالمعدة، ومما يعين على جودة المضغ، ولم نستبعد في (الفقه) تعدي ذلك إلى الشراب أيضاً للمناط.

قال (صلى الله عليه وآله) في حديث خصال المائدة: «وأَمَّا الأَدَبُ فَتَصْغِيرُ اللقْمَةِ» الحديث(3).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «ثَلاثَةُ أَنْفَاسٍ فِي الشُّرْبِ أَفْضَل مِنْ نَفَسٍ وَاحِدٍ»(4).

ص: 148


1- مستدرك الوسائل: ج 16 ص284 ب58 باب استحباب الأكل مما يليه لا مما قدام غيره ح2.
2- مستدرك الوسائل: ج 16 ص284 58 باب استحباب الأكل مما يليه لا مما قدام غيره ح3.
3- من لا يحضره الفقيه: ج 4 ص355 باب النوادر وهو آخر أبواب الكتاب ح5762.
4- الكافي: ج 6 ص383 باب شرب الماء من قيام والشرب في نفس واحد ح7.

مضغ الطعام جيداً

مسألة: يستحب مضغ الطعام مضغاً شديداً، فإنه أهنأ وأمرأ، كما أنه يخفف على المعدة(1)، ويحرز فوائد الطعام، وله فوائد أخرى(2)، فالمضغ المرحلة الأولى من الهضم، نعم إذا أوجب عدم المضغ الضرر البالغ المنهي عنه حرم على ما هو مذكور في باب «لا ضرر».

قال (صلى الله عليه وآله) في حديث خصال المائدة: «والمَضْغُ الشَّدِيدُ»(3).

وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: «مَنْ أَرَادَ أَنْ لا يَضُرَّهُ طَعَامٌ فَلا يَأْكُل طَعَاماً حَتَّى يَجُوعَ وتَنْقَى مَعِدَتُهُ، فَإِذَا أَكَل فَليُسَمِّ اللهَ وليُجِدِ المَضْغَ وليَكُفَ عَنِ الطَّعَامِوهُوَ يَشْتَهِيهِ ويَحْتَاجُ إِليْهِ»(4).

قلة النظر للآخرين

مسألة: يستحب عند الأكل قلة النظر في وجوه الناس، وربما من وجوهه أنه بإكثار النظر إلى وجوههم يرى ما يكره، والنظر لوجوههم قد يسبب لهم أذى

ص: 149


1- فإن عدم مضغ الطعام جيداً يسبب عسر الهضم.
2- مثل: أن تجويد المضغ يعتبر من موانع السمنة، فالمخ - على ما قالوا - يرسل إشارات للمعدة بالاكتفاء بعد عشرين دقيقة من الابتداء بأكل الطعام، ومع سرعة الأكل سيلتهم الإنسان كمية أكبر من حاجته خلال هذه العشرين دقيقة، أما مع تجويد المضغ سيكون الأمر معتدلاً متوازناً.
3- الكافي: ج 6 ص383 باب شرب الماء من قيام والشرب في نفس واحد ح7.
4- وسائل الشيعة: ج 24 ص433 ب112 باب جملة من آداب المائدة ح4.

وإحراجاً.

قال (صلى الله عليه وآله) في حديث خصال المائدة: «وقِلةُ النَّظَرِ فِي وُجُوهِ النَّاسِ»(1).

بيان مراتب الاستحباب

مسألة: يستحب ذكر مراتب المستحبات وفضل بعضها على بعض.

ثم إن هذه الأمور على إطلاقها من الواجبة والمستحبة مطلقاً كل في مورده، نعم يتأكد استحبابها على المائدة.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في معنى القضاء والقدر: «الأَمْرُ بِالطَّاعَةِوالنَّهْيُ عَنِ المَعْصِيَةِ، والتَّمْكِينُ مِنْ فِعْل الحَسَنَةِ وتَرْكِ المَعْصِيَةِ، والمَعُونَةُ عَلى القُرْبَةِ إِليْهِ، والخِذْلانُ لمَنْ عَصَاهُ، والوَعْدُ والوَعِيدُ والتَّرْغِيبُ والتَّرْهِيبُ كُل ذَلكَ قَضَاءُ اللهِ فِي أَفْعَالنَا وقَدَرُهُ لأَعْمَالنَا»(2).

وقَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «رَحِمَ اللهُ عَبْداً تَكَلمَ فَغَنِمَ، أَوْ سَكَتَ فَسَلمَ، إِنَّ اللسَانَ أَمْلكُ شَيْ ءٍ للإِنْسَانِ، أَلا وإِنَّ كَلامَ العَبْدِ كُلهُ عَليْهِ إِلا ذِكْرَ اللهِ تَعَالى، أَوْ أَمْرٌ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ نَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ، أَوْ إِصْلاحٌ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ»(3).

ص: 150


1- الكافي: ج 6 ص383 باب شرب الماء من قيام والشرب في نفس واحد ح7.
2- الاحتجاج: ج 1 ص209 احتجاجه (عليه السلام) فيما يتعلق بتوحيد الله وتنزيهه عما لا يليق به من صفات المصنوعين من الجبر والتشبيه والرؤية والمجي ء والذهاب والتغيير والزوال والانتقال من حال إلى حال في أثناء خطبه ومجاري كلامه ومخاطباته ومحاوراته.
3- مستدرك الوسائل: ج 9 ص32 ب103 باب كراهة كثرة الكلام بغير ذكر الله تعالى ح15.

الحجاب

اشارة

قالت الصديقة فاطمة (عليها السلام) في حديث: «وَخَيْرٌ لهُنَّ أَنْ لا يَرَيْنَ الرِّجَال ولا يَرَاهُنَّ الرِّجَال»(1).

وعَنْ عَليٍّ (صَلوَاتُ اللهِ عَليْهِ) أَنَّهُ قَال لفَاطِمَةَ (عليها السلام): «مَا خَيْرُ النِّسَاءِ»، قَالتْ: «وأَنْ لا يَرَيْنَ الرِّجَال ولا يَرَوْنَهُنَّ»(2).

----------------------

النظر الحرام

مسألة: لا يجوز للرجل رؤية الأجنبية، ولا للمرأة رؤية الأجنبي في غير ما استثني كالوجه والكفين حيث استثناهما جملة من الفقهاء، والاحتياط(3) وإن كان في العدم(4) إلا أن الظاهر الاستثناء بشرط أن لا يكون موضع ريبة وفتنة, وأن لا يكون بتزيين وتجميل.قال سبحانه: «قُل للمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ

ص: 151


1- كشف الغمة: ج 1 ص466 منزلتها عند النبي صلى الله عليه وآله.
2- انظر بحار الأنوار: ج 37 ص69 ب50 مناقب أصحاب الكساء وفضلهم (صلوات الله عليهم).
3- الاستحبابي.
4- أي عدم إظهارها وجهها وكفيها، وعدم نظر الرجال إليها.

وَ لا يُبْدينَ زينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ليَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَ لا يُبْدينَ زينَتَهُنَّ إِلاَّ لبُعُولتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَني إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَني أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعينَ غَيْرِ أُولي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجال أَوِ الطِّفْل الذينَ لمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَ لا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلهِنَّ ليُعْلمَ ما يُخْفينَ مِنْ زينَتِهِنَّ وَ تُوبُوا إِلى اللهِ جَميعاً أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لعَلكُمْ تُفْلحُون»(1).

وقال تعالى: «وَإِذا سَأَلتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلكُمْ أَطْهَرُ لقُلوبِكُمْ وَ قُلوبِهِنَّ»(2).

والمسألة مذكورة تفصيلاً في كتاب النكاح وغيره.

عَنْ مَسْعَدَةَ بْنِ زِيَادٍ قَال: سَمِعْتُ جَعْفَراً (عليه السلام) وسُئِل عَمَّا تُظْهِرُ المَرْأَةُ مِنْ زِينَتِهَا، قَال: «الوَجْهَ والكَفَّيْنِ»(3).

التأكيد على الحجاب

مسألة: يستحب التأكيد على الحجاب، فإن أصل الحجاب خير، وتركه شر، والتأكيد فيه فضل.

ص: 152


1- سورة النور: 31.
2- سورة الأحزاب: 53.
3- وسائل الشيعة: ج 20 ص202 ب109 باب ما يحل النظر إليه من المرأة بغير تلذذ وتعمد وما لا يجب عليها ستره ح5.

ومعنى كون الحجاب خيراً اللزوم لا الأفضلية، فإن (خير) كما ذكره الأدباء قد ينسلخ عن معنى الأفضلية ويظهر بالقرينة، ومنها مناسبة الحكم والموضوع.

قال أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «صِيَانَةُ المَرْأَةِ أَنْعَمُ لحَالهَا وأَدْوَمُ

لجَمَالهَا»(1).

وقَال (عليه السلام): «مَنْ أَطَاعَ امْرَأَتَهُ أَكَبَّهُ اللهُ عَلى مَنْخِرَيْهِ فِي النَّارِ»، فَقِيل: ومَا تِلكَ الطَّاعَةُ.

قَال: «تَدْعُوهُ إِلى النِّيَاحَاتِ والعُرُسَاتِ والحَمَّامَاتِ ولبْسِ الثِّيَابِ الرِّقَاقِ فَيُجِيبُهَا»(2).

وفي حديث المعراج: «فَقَالتْ فَاطِمَةُ: حَبِيبِي وقُرَّةَ عَيْنِي أَخْبِرْنِي مَا كَانَ عَمَلهُنَّ، فَقَال (صلى الله عليه وآله): أَمَّا المُعَلقَةُ بِشَعْرِهَا فَإِنَّهَا كَانَتْ لا تُغَطِّي شَعْرَهَا مِنَ الرِّجَال»(3).

وعَنْ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) قَال:كُنْتُ قَاعِداً فِي البَقِيعِ مَعَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) فِي يَوْمِ دَجْنٍ ومَطَرٍ إِذْ مَرَّتِ امْرَأَةٌ عَلى حِمَارٍ فَوَقَعَ يَدُ الحِمَارَ فِي وَهْدَةٍ فَسَقَطَتِ المَرْأَةُ، فَأَعْرَضَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) فَقَالوا: يَا رَسُول اللهِ إِنَّهَا مُتَسَرْوِلةٌ، قَال: اللهُمَّ اغْفِرْ للمُتَسَرْوِلاتِ ثَلاثاً، أَيُّهَا النَّاسُ اتَّخِذُوا السَّرَاوِيلاتِ

ص: 153


1- عيون الحكم والمواعظ: ص303 ح5382.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 1 ص115 باب غسل يوم الجمعة ودخول الحمام وآدابه وما جاء في التنظيف والزينة ح241.
3- وسائل الشيعة: ج 20 ص213 ب117 باب جملة مما يحرم على النساء وما يكره لهن وما يسقط عنهن ح7.

فَإِنَّهَا مِنْ أَسْتَرِ ثِيَابِكُمْ، وحَصِّنُوا بِهَا نِسَاءَكُمْ إِذَا خَرَجْن»(1).

فوائد الحجاب

وفوائد الحجاب كثيرة:

منها: طهارة القلوب، قال تعالى: «ذلكُمْ أَطْهَرُ لقُلوبِكُمْ وَ قُلوبِهِنَّ»(2)، فإنه يقطع الخواطر الشيطانية والوساوس النفسانية.

ومنها: صون المرأة عن الأذى والتعدي وعن طمع الطامعين وعدوان المعتدين، قال تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْواجِكَ وَ بَناتِكَ وَ نِساءِ المُؤْمِنينَ يُدْنينَ عَليْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ ذلكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَ كانَ اللهُ غَفُوراً رَحيماً»(3).

ومنها: حفظ الأسرة من التفككوالضياع.

ومنها: حفظ الحياء، وبالحياء تحفظ الأديان.

ومنها: إنه تكريم للمرأة وعز ووقار. إلى غير ذلك.

ولا يخفى أن قولها (عليها السلام): «خير لها» ظاهر في الإرشاد إلى حسن الستر في غير ما يجب ستره، وإن احتمل أنه(4) أعم من المولوية، لتبعية الأحكام للمصالح الواقعية.

ص: 154


1- مستدرك الوسائل: ج 3 ص245 ب7 باب استحباب اتخاذ السراويل وما أشبهه ح1.
2- سورة الأحزاب: 53.
3- سورة الأحزاب: 59.
4- أي خير.

الحجاب حتى عند الأعمى

اشارة

روي أنه: استأذن أعمى على فاطمة (صلوات الله عليها)، فحجبته، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لم حجبتيه وهو لا يراك»، فقالت (عليها السلام): «إن لم يكن يراني فأنا أراه، وهو يشم الريح»(1).

--------------------------

أقول: الظاهر من الرواية أن الصديقة (صلوات الله عليها) ذكرت ملاكين ووجهين للتحجب عن الأعمى، مما يشمل غيره أيضاً، كون المرأة تراه وإن لم يرها هو، وكونه يشم ريحها، والظاهر أن كلاً منهما كاف للتححب منه.

التحجب عن غير المبصر

مسألة: يستحب التحجب عن الأعمى أو الاحتجاب عنه إن لم يمكن التحجب(2)، بل يستحب التحجب عن غير المبصر مطلقاً،وإن كان لشد عينه مثلاً أو لظلام أو ما أشبه، نظراً لشم الريح كما سبق، والإحساس بالحركة

ص: 155


1- النوادر، للراوندي: ص14 شأن المرأة.
2- توضيحه: لعل ظاهر الحديث أنها (عليها السلام) لم تأذن له بالدخول عليها، ولعلها لأنها كانت متعطرة حينذاك، كما قالت : (يشم الريح).

وغيرها(1).

عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللهِ قَال: اسْتَأْذَنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ عَلى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) وعِنْدَهُ عَائِشَةُ وحَفْصَةُ، فَقَال لهُمَا: «قُومَا فَادْخُلا البَيْتَ»، فَقَالتَا: إِنَّهُ أَعْمَى، فَقَال: «إِنْ لمْ يَرَكُمَا فَإِنَّكُمَا تَرَيَانِهِ»(2).

وعن أمّ سلمة قالت: كنت عند النبيّ (صلى الله عليه وآله) وعنده ميمونة، فأقبل ابن امّ مكتوم وذلك بعد أن أمر بالحجاب، فقال (صلى الله عليه وآله): «احتجبا»، فقلنا: يا رسول الله أليس أعمى لا يبصرنا، فقال (صلى الله عليه وآله): «أفعمياوان أنتما، ألستما تبصرانه»(3).

الاستفهام الإعلامي

مسألة: يستحب الاستفهام الإعلامي للتعليم.فإن سؤال الرسول (صلى الله عليه وآله) من فاطمة (عليها السلام) كان لأجل تعليم الغير والإعلام، لوضوح علمه (صلى الله عليه وآله) بهذه الخصوصيات.

ص: 156


1- فهو مظان الإثارة، والحجاب بعد الظلام وقاية بعد وقاية.
2- الكافي: ج 5 ص534 ح2.
3- جامع أحاديث الشيعة: ج 25 ص634 ب12 باب تحريم رؤية المرأة الرجل الأجنبى وان كان أعمى ح2.

حجاب الريح

مسألة: يلزم أن تحجب المرأة حتى ريحها عن الأجنبي، فإن المحجبة يختفي ريحها تحت حجابها، بخلاف غيرها، وفي ريح بدن المرأة نوع من الإثارة أيضاً.

هذا عن ريح بدنها بنفسه، وكذا رائحة العطر، وإن كان يرى البعض أن تعطر المرأة في حضرة الأجنبي مكروه ما لم يستلزم محرماً وإلاّ حرم.

قال (عليه السلام): «أَيُّمَا امْرَأَةٍ اسْتَعْطَرَتْ وخَرَجَتْ ليُوجَدَ رِيحُهَا فَهِيَ زَانِيَةٌ، وكُل عَيْنٍ زَانِيَة»(1).

وقَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «أَيُّمَا امْرَأَةٍ تَطَيَّبَتْ لغَيْرِ زَوْجِهَا لمْ تُقْبَل مِنْهَا صَلاةٌ حَتَّى تَغْتَسِل مِنْ طِيبِهَا كَغُسْلهَا مِنْ جَنَابَتِهَا»(2).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «أَيُّ امْرَأَةٍ تَطَيَّبَتْ ثُمَّ خَرَجَتْ مِنْ بَيْتِهَا فَهِيَ تُلعَنُ حَتَّى تَرْجِعَ إِلى بَيْتِهَا مَتَى مَا رَجَعَتْ»(3).وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «لا يَنْبَغِي للمَرْأَةِ أَنْ تُجَمِّرَ ثَوْبَهَا إِذَا خَرَجَتْ مِنْ بَيْتِهَا»(4).

ص: 157


1- مجموعة ورام: ج 1 ص28 باب الروائح وما جاء في الطيب وألوانه والتطيب به واستعماله.
2- الكافي: ج 5 ص507 باب حق الزوج على المرأة ح2.
3- الكافي: ج 5 ص518 باب التستر.
4- الكافي: ج 5 ص519 باب التستر ح3.

المرأة وقربها من الله

اشارة

روي أنه في الجواب على سؤال النبي (صلى الله عليه وآله): متى تكون المرأة أدنى من ربها؟

قالت فاطمة (عليها السلام): «أدنى ما تكون من ربها أن تلزم قعر بيتها»(1).

-----------------------------

حكمة الحديث

والحكمة في ذلك واضحة، فإن القضية مما قياساتها معها، إذ الشواغل عن التوجه إلى الله تعالى خارج المنزل كثيرة وخاصة بالنسبة للمرأة، وليست المحرمات فقط، بل حتى الكثير من المحللات بالمعنى الأعم كذلك، كالذهاب للسوق والتسوق وما أشبه.

ومنه يعلم أحد وجوه قوله تعالى: «وَقَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ»(2)، فإن رجحانه بالمناط يشمل سائر النساء أيضاً، للقاعدةالعامة ولضميمة مثل هذه الرواية.

ص: 158


1- مستدرك الوسائل: ج 14 ص182 ب21 باب استحباب حبس المرأة في بيتها أو بيت زوجها فلا تخرج لغير حاجة ولا يدخل عليها أحد من الرجال ح2.
2- سورة الأحزاب: 33.

عن أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: قَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «لا تَبْدَءُوا النِّسَاءَ بِالسَّلامِ، ولا تَدْعُوهُنَّ إِلى الطَّعَامِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) قَال: «النِّسَاءُ عِيٌّ وعَوْرَةٌ، فَاسْتُرُوا عِيَّهُنَّ بِالسُّكُوتِ، واسْتُرُوا عَوْرَاتِهِنَ بِالبُيُوتِ»(1).

وقال (عليه السلام): «إِنَّمَا النِّسَاءُ عِيٌّ وعَوْرَةٌ، فَاسْتُرُوا العَوْرَةَ بِالبُيُوتِ، واسْتُرُوا العِيَّ بِالسُّكُوتِ»(2).

والعورة بمعنى ما يجب ستره. والعيّ(3) بلحاظ غلبة عواطفها.

المرأة وعدم الخروج

مسألة: يستحب للمرأة أن لا تخرج من بيتها بدون حاجة دينية أو دنيوية.

فإن الخروج لحاجة دينية أو دنيوية مشروعة، مما اتفق العقل والنقل على جوازه، وعدم استحباب البقاء لدىالضرورة أو عند الحاجة الشرعية، وسيرة المسلمات والمؤمنات من زمن الرسول (صلى الله عليه وآله) إلى اليوم من غير نكير على ذلك.

أما حديث: «مسجد المرأة بيتها»(4)، فمحمول على أحد الوجوه الآتية

ص: 159


1- الكافي: ج 5 ص535 باب التسليم على النساء.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 3 ص390 باب المذموم من أخلاق النساء وصفاتهن ح4372.
3- العيّ بالكسر: عدم العلم.
4- ونظيره (خير مساجد نسائكم البيوت). من لا يحضره الفقيه: ج 1 ص238 باب فضل المساجد وحرمتها وثواب من صلى فيها ح718. وأيضاً: (قَال النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله: صَلاةُ المَرْأَةِ وَحْدَهَا فِي بَيْتِهَا كَفَضْل صَلاتِهَا فِي الجَمْعِ خَمْساً وعِشْرِينَ دَرَجَةً). وسائل الشيعة: ج 5 ص237 ب30 باب استحباب اختيار المرأة الصلاة في بيتها على الصلاة في المسجد واستحباب اختيارها أستر موضع في دارها ح5.

، ولذا كان النبي (صلى الله عليه وآله) لا ينهى النساء عن الحضور في صلاته، وكذلك أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام).

بل ورد في الصحيح عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله: «كَانَ النِّسَاءُ يُصَلينَ مَعَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) فَكُنَّ يُؤْمَرْنَ أَنْ لا يَرْفَعْنَ رُءُوسَهُنَّ قَبْل الرِّجَال لضِيقِ الأُزُر»(1).

وعلى أي، فإنها تحمل على بعض مراتب التأكيد والمجاز لا على نحوالحقيقة.

وقد يراد بها - بلحاظ مجموع النصوص - ما لو لم يتيسر لها التستر المطلوب والحشمة اللازمة خارج المنزل، في المسجد أو غيره، كما قد تحمل على ما لو كان خروجها من المنزل يفوّت حق زوجها أو يضيع شؤون أولادها أو ما أشبه.

وكان الرسول (صلى الله عليه وآله) يخرج النساء معه إلى الحج، وكذلك أحياناً يخرجن مع رجالهن في الجهاد لا ليجاهدن بل للتداوي وتهيئة الطعام وما أشبه.

إلى غير ذلك مما تواترت به الروايات في السيرة الطاهرة.

ص: 160


1- من لا يحضره الفقيه: ج 1 ص396 باب الجماعة وفضلها ح1176.

ما يوجب القرب الإلهي

مسألة: يستحب فعل ما يوجب الدنو من الله تعالى.

ثم إن قول الصديقة (صلوات الله عليها): «أن تلزم قعر بيتها» يفيد بالظهور العرفي أو الملاك أو بمناسبة الحكم والموضوع(1) رجحان عدم انشغالها بالشواغل التي تبعدها عن ربها تعالى حتى داخل المنزل.

كمشاهدة الأفلام والمسلسلات غير النافعة دينياً أو علمياً، وإن لم تكن مشتملة على الحرام، وكذلك العبث بالأجهزة الحديثة والألعاب وشبه ذلك، ولعله يشعر به (قعر بيتها) فإن البيت هو الغرفة، فما وجه خصوصية القعر.

وفي الدعاء: «اللهُمَّ اجْعَلنَا مِنْ أَقْرَبِ مَنْ تَقَرَّبَ إِليْك»(2).

وفي الصحيفة: «وَيَا مَنْ تَنْقَطِعُ دُونَ رُؤْيَتِهِ الأَبْصَارُ صَل عَلى مُحَمَّدٍ وآلهِ، وأَدْنِنَا إِلى قُرْبِك»(3).وفيها أيضاً: «وَاجْعَل مَا خَوَّلتَنِي مِنْ حُطَامِهَا وعَجَّلتَ لي مِنْ مَتَاعِهَا بُلغَةً إِلى جِوَارِكَ، ووُصْلةً إِلى قُرْبِكَ وذَرِيعَةً إِلى جَنَّتِك»(4).

ص: 161


1- وهو كونها أدنى ما تكون من ربها.
2- بحار الأنوار: ج 87 ص339 ب5 عوذة يوم الجمعة ح53.
3- الصحيفة السجادية، وكان من دعائه (عليه السلام) لنفسه ولأهل ولايته.
4- الصحيفة السجادية، وكان من دعائه (عليه السلام) في المعونة على قضاء الدين.

أخبار المعراج

اشارة

في حديث طويل عن رؤية النبي (صلى الله عليه وآله) أنواع العذاب لنساء أمته ليلة الإسراء والمعراج، قالت فاطمة (عليها السلام): «حبيبي وقرة عيني، أخبرني ما كان عملهنّ وسيرتهن حتى وضع الله عليهن هذا العذاب»؟

فقال (صلى الله عليه وآله): «يا بنتي، أما المعلقة بشعرها فإنها كانت لا تغطي شعرها من الرجال.

وأما المعلقة بلسانها فإنها كانت تؤذي زوجها.

وأما المعلقة بثديها فإنها كانت تمتنع من فراش زوجها.

وأما المعلقة برجليها فإنها كانت تخرج من بيتها بغير إذن زوجها.

وأما التي كانت تأكل لحم جسدها فإنها كانت تزين بدنها للناس.

وأما التي شُدّت يداها إلى رجليها وسُلط عليها الحيات والعقارب فإنها كانت قذرة الوضوء قذرة الثياب، وكانت لا تغتسل من الجنابة والحيض ولا تتنظف، وكانت تستهين بالصلاة.

وأما العمياء الصماء الخرساء فإنها كانت تلد من الزنا فتعلقه في عنق زوجها.

وأما التي كانت تقرض لحمها بالمقاريض فإنها كانت تعرض نفسها على الرجال.

ص: 162

وأما التي كانت تحرق وجهها وبدنها وهي تأكل أمعاءها فإنهاكانت

قوادة.

وأما التي كان رأسها رأس خنزير وبدنها بدن الحمار فإنها كانت نمامة كذابة.

وأما التي كانت على صورة الكلب، والنار تدخل في دبرها وتخرج من فيها، فإنها كانت قينة(1) نواحة حاسدة».

ثم قال (صلى الله عليه وآله): «ويل لامرأة أغضبت زوجها، وطوبى لامرأة رضي عنها زوجها»(2).

----------------------------

لماذا هذه العقوبات

قد يستغرب بعض الناس من هذه العقوبات ويقول بضعف الرواية، لكن الاستغراب يندفع بعد ملاحظة الأمور التالية:

1: العقوبات الواردة في القرآن الكريم على الكفر وعلى أنواع المعاصي الأخرى:

قال تعالى: «فَالذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍيُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالجُلودُ * وَلهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ *

ص: 163


1- قنية: أي مغنية، ونواحة أي بالباطل.
2- بحار الأنوار: ج 8 ص309 ب24 النار أعاذنا الله وسائر المؤمنين من لهبها وحميمها وغساقها وغسلينها وعقاربها وحياتها وشدائدها ودركاتها بمحمد سيد المرسلين وأهل بيته الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين) ح75.

كُلمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الحَرِيقِ»(1).

وقال سبحانه: «إِنَّ الذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْليهِمْ نَاراً كُلمَا نَضِجَتْ جُلودُهُمْ بَدَّلنَاهُمْ جُلوداً غَيْرَهَا ليَذُوقُوا العَذَابَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً»(2).

وقال تعالى: «إِذِ الأغْلاَل فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاَسِل يُسْحَبُونَ * فِي الحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ»(3).

وقال سبحانه: «وَالذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيل اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَليمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَليْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ»(4).

وقال تعالى: «إِنَّا أَعْتَدْنَا للظَّالمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالمُهْل يَشْوِي الوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقاً»(5).

وقال سبحانه: «وَالذِينَ كَفَرُوا لهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَى عَليْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلكَ نَجْزِي كُل كَفُورٍ»(6).

وقال تعالى: «تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ* ليْسَ لهُمْ طَعَامٌ

ص: 164


1- سورة الحج: 19 - 22.
2- سورة النساء: 56.
3- سورة غافر: 71 - 72.
4- سورة التوبة: 34 - 35.
5- سورة الكهف: 29.
6- سورة فاطر: 36.

إلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ * لاَ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِنْ جُوعٍ»(1).

2: العقوبات الواردة في الروايات المعتبرة على أنواع المعاصي، وهي أكثر من أن تحصى.

3: إن (الجزاء) عبارة عن أحد أمور:

فإما هو نفس العمل وقد ظهر بلباسه الواقعي، وحينئذ يندفع الإشكال، لأن هذا العقاب هو نفس عمله، لا أمر آخر ليقال لم جوزي بهذا الجزاء، فهو كمن يقلع عينه بالسكين فإن افتقاده لعينه هو نفس عمله وليس أمراً آخر صار جزاءً لعمله فلا يصلح القول لم جوزي بهذا الجزاء.

وإما أنه ثمرة عمله، بمعنى أن العمل بذرة تنمو لتتحول إلى هذه الثمرة، كبذرة البرتقال التي تتحول إلى البرتقال، ولا إشكال حينئذ أيضاً، إذ من يبذر نواة الحنظل سيثمر له الحنظل، ومن يعاشر الذئاب ستفرسه طبيعياً.

وبعبارة أخرى: إن عمل الإنسان في هذه الدنيا نواة، سواء كان عملاً قلبياًأو لسانياً، جوانحياً أو جوارحياً، وهو(2) يعطي الثمر المشابه للعمل، كالبرتقال من شجرته، والحنظل من حبته، وهكذا كما سبق، فإن كل عمل من خير أو شر هو نواة لنتيجة وثمرة تابعة له.

وما ورد من أنواع العقاب في حديث المعراج على بعض نساء الأمة، والتي ذكرها رسول الله (صلى الله عليه وآله) في هذه الرواية وفي عشرات الروايات الأخر، كله من ثمار أعمال الإنسان نفسه، إن لم تكن هي هي كما هو مقتضى الاحتمال

ص: 165


1- سورة الغاشية: 4-7.
2- أي هذا العمل الذي هو نواة.

الأول، وهي حقائق كشف عنها الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) أو كشف عنها الأنبياء السابقون أو الأوصياء أو الأئمة المعصومون (عليهم الصلاة والسلام).

وإما أنه جزاء من الله على العمل المعصية لا بالنحوين الأولين، وهنا لا إشكال أيضاً، فإن الله هو المالك الحقيقي وهو المنعم الحقيقي وهو العادل المطلق وقد حذّر وأنذر، فمن خالف فقد اختار بنفسه جزاءه فهو المقصّر حينئذ.

قال تعالى حكاية عن قول الشيطان للذين استكبروا: «وَقَال الشَّيْطَانُ لمَّا قُضِيَ الأمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لي عَليْكُمْ مِنْ سُلطَانٍ إلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لي فَلاَ تَلومُونِي وَلومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْل إِنَّ الظَّالمِينَ لهُمْعَذَابٌ أَليمٌ»(1).

نعم الجاهل القاصر لا يعاقب، بل يعاد امتحانه يوم القيامة.

4: إن هتك حرمة الله تعالى والاستهانة بمعصيته من أكبر الذنوب، وقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «أَشَدُّ الذُّنُوبِ مَا اسْتَهَانَ بِهِ صَاحِبُهُ»(2).

وقَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «يَا أَبَا ذَرٍّ لا تَنْظُرْ إِلى صِغَرِ الخَطِيئَةِ وَلكِنِ انْظُرْ إِلى مَنْ عَصَيْتَ»(3).

ويتضح ذلك بملاحظة أن الفعل الواحد يختلف قبحاً وفداحةً بنسبته إلى أشخاص مختلفين، فإن صفع الشخص العادي معصية، أما صفع الأب والأم

ص: 166


1- سورة إبراهيم:22.
2- وسائل الشيعة: ج 15 ص312 ب43 باب وجوب اجتناب المحقرات من الذنوب ح6.
3- مستدرك الوسائل: ج 11 ص349 ب43 باب وجوب اجتناب المحقرات من الذنوب ح8.

جريمة، وصفع المعصوم (عليه السلام) داهية عظمى، فما بالك بمن يعصي رب الأرباب ويستهين بنواهيه ويهتك حريم شريعته.

ثم إنه لا يخفى أن مقتضى قوله سبحانه: «مَنْ عَمِل سَيِّئَةً فَلاَ يُجْزَى إلاَّ مِثْلهَا»(1)، وقولهتعالى: «جزاءً وفاقاً»(2)، أن هذه الجزاءات لا تكون خارجة عن حدود العدالة، وعن المماثلة بالسيئة التي اقترفها الإنسان، رجلاً كان أو امرأة، كما ذكره العلماء في كتبهم الكلامية وألمعنا إليه في الأصول.

قال عزوجل: «يا أَيُّهَا الذينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا اليَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلونَ»(3).

إظهار الشعر للأجانب

مسألة: يحرم إظهار المرأة شعرها للأجانب، قال تعالى: «وَليَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ»(4).

ولا فرق بين الشعر الأصلي أو الشعر الذي زرع في رأسها بعملية بحيث عد عرفاً شعرها.

عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ: أَنَّ الرِّضَا (عليه السلام) كَتَبَ فِيمَا كَتَبَ مِنْ جَوَابِ

ص: 167


1- سورة الأنعام: 160، سورة غافر: 40.
2- سورة النبأ: 26.
3- سورة التحريم: 7.
4- سورة النور: 60.

مَسَائِلهِ: «حُرِّمَ النَّظَرُ إِلى شُعُورِ النِّسَاءِ المَحْجُوبَاتِ بِالأَزْوَاجِ وغَيْرِهِنَّ مِنَ النِّسَاءِ لمَا فِيهِ مِنْ تَهْيِيجِ الرِّجَال ومَا يَدْعُو التَّهْيِيجُ إِلى الفَسَادِ والدُّخُول فِيمَا لايَحِل ولا يَجْمُل، وكَذَلكَ مَا أَشْبَهَ الشُّعُورَ إِلا الذِي قَال اللهُ تَعَالى: «وَالقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَليْسَ عَليْهِنَّ جُناحٌ»(1) أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ الجِلبَابِ ولا بَأْسَ بِالنَّظَرِ إِلى شُعُورِ مِثْلهِن»(2).

وعَنْ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) قَال: «مَنِ اطَّلعَ فِي بَيْتِ جَارِهِ فَنَظَرَ إِلى عَوْرَةِ رَجُل أَوْ شَعْرِ امْرَأَةٍ أَوْ شَيْ ءٍ مِنْ جَسَدِهَا كَانَ حَقّاً عَلى اللهِ أَنْ يُدْخِلهُ النَّارَ مَعَ المُنَافِقِينَ الذِينَ كَانُوا يَتَّبَّعُونَ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ فِي الدُّنْيَا، ولا يَخْرُجُ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى يَفْضَحَهُ اللهُ، ويُبْدِي للنَّاسِ عَوْرَتَهُ فِي الآخِرَةِ، ومَنْ مَلأَ عَيْنَيْهِ مِنِ امْرَأَةٍ حَرَاماً حَشَاهُمَا اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ بِمَسَامِيرَ مِنْ نَارٍ، وحَشَاهُمَا نَاراً حَتَّى يَقْضِيَ بَيْنَ النَّاسِ ثُمَّ يُؤْمَرُ بِهِ إِلى النَّارِ»(3).

إيذاء الزوج أو الزوجة

مسألة: يحرم على الزوجة أذية الزوج، كما يحرم على الزوج إيذاء زوجته، فإنإيذاء المؤمن والإضرار به مطلقاً حرام(4).

ص: 168


1- سورة النور: 31.
2- علل الشرائع: ج 2 ص565 ب364 باب علة تحريم النظر إلى شعور النساء المحجوبات ح1.
3- وسائل الشيعة: ج 20 ص195 ب104 باب تحريم النظر إلى النساء الأجانب وشعورهن ح16.
4- قال الإمام المؤلف (قدس سره) في موسوعة (الفقه): ج93 كتاب المحرمات ص19: وهكذا يحرم إيذاء الكافر المحترم، سواء كان معاهداً أو ذمياً أو محايداً، أما أذية الكافر الحربي فلا بأس به إذا لم يكن نفس العمل حراماً.

قال تعالى: «وَالذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً»(1).

وعن أَبي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قال: «قَال اللهُ عَزَّ وَجَل: ليَأْذَنْ بِحَرْبٍ مِنِّي مَنْ آذَى عَبْدِيَ المُؤْمِنَ، وَليَأْمَنْ غَضَبِي مَنْ أَكْرَمَ عَبْدِيَ المُؤْمِنَ»(2).

وقَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ أَيْنَ الصُّدُودُ لأَوْليَائِي، فَيَقُومُ قَوْمٌ ليْسَ عَلى وُجُوهِهِمْ لحْمٌ، فَيُقَال: هَؤُلاءِ الذِينَ آذَوُا المُؤْمِنِينَ وَنَصَبُوا لهُمْ وَعَانَدُوهُمْ وَعَنَّفُوهُمْ فِي دِينِهِمْ، ثُمَّ يُؤْمَرُ بِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ»(3).

وقوله (صلى الله عليه وآله): «وأماالمعلقة بلسانها فإنها كانت تؤذي زوجها» أي بما هو حرام، لا بما كان من حقوقها، كما لو لم ترد أن تعمل خارج المنزل أو ما أشبه.

ثم إن إيذاءها المحرم، أعم من الإيذاء باللسان أو باليد أو الإشارة أو الكتابة أو غير ذلك.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

«أَيُّمَا امْرَأَةٍ آذَتْ زَوْجَهَا بِلسَانِهَا لمْ يَقْبَل اللهُ عَزَّ وجَل مِنْهَا صَرْفاً ولا عَدْلا ولا حَسَنَةً مِنْ عَمَلهَا حَتَّى تُرْضِيَهُ، وإِنْ صَامَتْ نَهَارَهَا وقَامَتْ ليْلهَا وأَعْتَقَتِ الرِّقَابَ وحَمَلتْ عَلى جِيَادِ الخَيْل فِي سَبِيل اللهِ، وكَانَتْ فِي أَوَّل مَنْ يَرِدُ النَّارَ،

ص: 169


1- سورة الأحزاب: 58.
2- الكافي: ج 2 ص350 باب من آذى المسلمين واحتقرهم ح1.
3- الكافي: ج 2 ص351 باب من آذى المسلمين واحتقرهم ح2.

وكَذَلكَ الرَّجُل إِذَا كَانَ لهَا ظَالماً»(1).

وقَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ اللهَ عَزَّ وجَل غَافِرُ كُل ذَنْبٍ إِلا رَجُل اغْتَصَبَ أَجِيراً أَجْرَهُ أَوْ مَهْرَ امْرَأَة»(2).

من حقوق الزوج

مسألة: يحرم على الزوجة الامتناع عن وطي الزوج وما يريده من الاستمتاع المحلل، فإن ذلك من حقوقه الشرعية.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «أَتَتِ امْرَأَةٌ إِلى رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) فَقَالتْ: مَا حَقُّ الزَّوْجِ عَلى المَرْأَةِ، فَقَال: أَنْ تُجِيبَهُ إِلى حَاجَتِهِ وإِنْ كَانَتْ عَلى قَتَبٍ، ولا تُعْطِيَ شَيْئاً إِلا بِإِذْنِهِ، فَإِنْ فَعَلتْ فَعَليْهَا الوِزْرُ ولهُ الأَجْرُ، ولا تَبِيتَ ليْلةً وهُوَ عَليْهَا سَاخِطٌ»(3).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلى رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) فَقَالتْ: يَا رَسُول اللهِ مَا حَقُّ الزَّوْجِ عَلى المَرْأَةِ، قَال: أَكْثَرُ مِنْ ذَلكَ، فَقَالتْ: فَخَبِّرْنِي عَنْ شَيْ ءٍ مِنْهُ، فَقَال: ليْسَ لهَا أَنْ تَصُومَ إِلا بِإِذْنِهِ يَعْنِي تَطَوُّعاً، ولا تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِهَا إِلا بِإِذْنِهِ، وعَليْهَا أَنْ تَطَيَّبَ بِأَطْيَبِ طِيبِهَا وتَلبَسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهَا وتَزَيَّنَ بِأَحْسَنِ زِينَتِهَا وتَعْرِضَ نَفْسَهَا عَليْهِ غُدْوَةً وعَشِيَّةً، وأَكْثَرُ مِنْ ذَلكَ حُقُوقُهُ

ص: 170


1- من لا يحضره الفقيه: ج 4 ص14 باب ذكر جمل من مناهي النبي (صلى الله عليه وآله) ح4968.
2- مستدرك الوسائل: ج 14 ص31 ب5 باب تحريم منع الأجير أجرته ح7.
3- الكافي: ج 5 ص508 باب حق الزوج على المرأة ح8.

عَليْهَا»(1).

الإذن في الخروج من البيت

مسألة: يحرم على الزوجة خروجها من البيت بدون إذن زوجها، لصحيح علي بن جعفر، عن أخيه (عليه السلام)، قال: سألته عن المرأة ألها أن تخرج بغير إذن زوجها، قال: «لا»(2).

وصحيح محمد بن مسلم، عن الإمام الباقر (عليه السلام)، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «وَ لا تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِهَا إِلا بِإِذْنِهِ وَ إِنْ خَرَجَتْ مِنْ بَيْتِهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ لعَنَتْهَا مَلائِكَةُ السَّمَاءِ وَ مَلائِكَةُ الأَرْضِ وَ مَلائِكَةُ الغَضَبِ وَ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ حَتَّى تَرْجِعَ إِلى بَيْتِهَا»(3).

نعم يستثنى من ذلك ما لو منعها عن الخروج بحيث لم يكن من المعروف في المعاشرة، لقوله تعالى: «وَعَاشِرُوهُنَّ بِالمَعْرُوفِ»(4)، فالروايات منصرفة عن هذه الصورة.

ص: 171


1- الكافي: ج 5 ص508 باب حق الزوج على المرأة ح7.
2- وسائل الشيعة: ج 20 ص159 ب79 باب وجوب تمكين المرأة زوجها من نفسها على كل حال وجملة من حقوقه عليها ح5.
3- الكافي: ج 5 ص507 باب حق الزوج على المرأة ح1.
4- سورة النساء: 19.

التزين للأجانب

مسألة: يحرم على الزوجة بل مطلق المرأة تزيين بدنها للأجانب، وفي حديث مناهي الرسول (صلى الله عليه وآله) كما في أمالي الصدوق (رحمه الله): «وَنَهَى أَنْ تَتَزَيَّنَ لغَيْرِ زَوْجِهَا، فَإِنْ فَعَلتْ كَانَ حَقّاً عَلى اللهِ عَزَّ وَجَل أَنْ يُحْرِقَهَا بِالنَّارِ»(1).

القذارة المانعة

مسألة: يحرم القذارة المانعة عن الوضوء الواجب للصلاة الواجبة أو الطواف الواجب أو ما أشبه، ويكره غير المحرمة منها.

عَنِ ابْنِ مُسْكَانَ قَال: بَعَثْتُ بِمَسْأَلةٍ إِلى أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) مَعَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْمُونٍ، قُلتُ: سَلهُ عَنِ الرَّجُل يَبُول فَيُصِيبُ فَخِذَهُ قَدْرُ نُكْتَةٍ مِنْ بَوْلهِ فَيُصَلي ويَذْكُرُ بَعْدَ ذَلكَ أَنَّهُ لمْ يَغْسِلهَا، قَال (عليه السلام) : «يَغْسِلهَا ويُعِيدُ صَلاتَهُ»(2).وعَنْ سَمَاعَةَ قَال: سَأَلتُهُ عَنِ المَنِيِ يُصِيبُ الثَّوْبَ، قَال (عليه السلام): «اغْسِل الثَّوْبَ كُلهُ إِذَا خَفِيَ عَليْكَ مَكَانُهُ قَليلا كَانَ أَوْ كَثِيراً»(3).

ص: 172


1- من لا يحضره الفقيه: ج 4 ص6 باب ذكر جمل من مناهي النبي (صلى الله عليه وآله) ح4968. وفي الأمالي، للصدوق: ص423 المجلس السادس والستون ح1: (نَهَى أَنْ تَتَزَيَّنَ المَرْأَةُ لغَيْرِ زَوْجِهَا فَإِنْ فَعَلتْ كَانَ حَقّاً عَلى اللهِ عَزَّ وجَل أَنْ يُحْرِقَهَا بِالنَّار).
2- الكافي: ج 3 ص406 باب الرجل يصلي في الثوب وهو غير طاهر عالما أو جاهلا ح10.
3- الكافي: ج 3 ص54 باب المني والمذي يصيبان الثوب والجسد ح3.

ورُوِيَ: «أَنَّ المَرْأَةَ تَسْتَحِقُّ عَذَابَ النَّارِ بِتَرْكِ تَغْطِيَةِ شَعْرِهَا مِنَ الرِّجَال، وأَذَى زَوْجِهَا، وإِرْضَاعِ غَيْرِ أَوْلادِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، والخُرُوجِ مِنْ بَيْتِهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ، والتَّزَيُّنِ للنَّاسِ، وقَذَارَةِ الوُضُوءِ والثِّيَابِ، وتَرْكِ الغُسْل مِنَ الجَنَابَةِ والحَيْضِ، وتَرْكِ التَّنْظِيفِ، والتَّهَاوُنِ بِالصَّلاةِ»(1).

قذارة الثياب

مسألة: يحرم قذارة الثياب المانعة من الصلاة والطواف وما أشبه، والمراد بها النجاسة غير المعفو عنها، ويكره غير المانعة منها.

فِقْهُ الرِّضَا (عليه السلام): «إِنْ أَصَابَ ثَوْبَكَ دَمٌ فَلا بَأْسَ بِالصَّلاةِ فِيهِ مَا لمْ يَكُنْ مِقْدَارَ دِرْهَمٍ وَافٍ، والوَافِي مَا يَكُونُ وَزْنُهُ دِرْهَماً وثُلثاً، ومَا كَانَ دُونَ الدِّرْهَمِ الوَافِي فَلا يَجِبُ عَليْكَ غَسْلهُ ولا بَأْسَ بِالصَّلاةِ فِيه»(2).

وعَنِ العَالمِ (عليه السلام): «أَنَ قَليل الدَّمِ وكَثِيرَهُ إِذَا كَانَ مَسْفُوحاً سَوَاءٌ، ومَا كَانَ رَشْحاً أَقَل مِنْ مِقْدَارِ دِرْهَمٍ جَازَتِ الصَّلاةُ فِيهِ، ومَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ دِرْهَمٍ غُسِل»(3).

ص: 173


1- هداية الأمة إلى أحكام الأئمة (عليهم السلام): ج7 ص87 السابع: في جملة مما يحرم على النساء ويكره لهن ويسقط عنهن ح8.
2- مستدرك الوسائل: ج 2 ص565 ب15 باب جواز الصلاة مع نجاسة الثوب والبدن بما ينقص عن سعة الدرهم من الدم مجتمعا عدا ما استثني ح1.
3- مستدرك الوسائل: ج 2 ص565 ب15 باب جواز الصلاة مع نجاسة الثوب والبدن بما ينقص عن سعة الدرهم من الدم مجتمعا عدا ما استثني ح1.

غسل الجنابة

مسألة: يحرم عدم الغسل من الجنابة لأداء الصلاة وما أشبه، والحرمة هنا بنحو الطريقية تحفظاً على العبادات من صلاة وصوم وحج، وإلاّ فإنه لا يحرم البقاء جنباً لساعات مثلاً ما لم تفوته عبادة.

قال تعالى: «يا أَيُّهَا الذينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلمُوا ما تَقُولونَ، ولا جُنُباً إِلاَّ عابِري سَبيل حَتَّى تَغْتَسِلوا، وإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وأَيْديكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً»(1).

قَال أَبُو جَعْفَرٍ البَاقِرُ (عليه السلام): «إِذَا دَخَل الوَقْتُ وَجَبَ الطَّهُورُ والصَّلاةُ، ولا صَلاةَ إِلا بِطَهُورٍ»(2).

غسل الحيض

مسألة: يحرم عدم الغسل من الحيضكذلك(3)، وهذا كسابقه.

عَنْ سَمَاعَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) فِي حَدِيثٍ قَال: «وغُسْل

ص: 174


1- سورة النساء: 43.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 1 ص33 باب وقت وجوب الطهور ح67.
3- أي لأداء الصلاة وما أشبه.

الحَيْضِ وَاجِبٌ»(1).

التطهير من النجاسات

مسألة: يحرم عدم التطهير من النجاسة كذلك(2)، وهذا كسابقه أيضاً.

عَنْ سَمَاعَةَ قَال: قَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «إِذَا دَخَلتَ الغَائِطَ فَقَضَيْتَ الحَاجَةَ وَلمْ تُهَرِقِ المَاءَ ثُمَّ تَوَضَّأْتَ وَنَسِيتَ أَنْ تَسْتَنْجِيَ فَذَكَرْتَ بَعْدَ مَا صَليْتَ فَعَليْكَ الإِعَادَةُ»(3).

وقَال عَليٌّ (عليه السلام): «مَنْ صَلى فِي ثَوْبٍ نَجِسٍ فَلمْ يَذْكُرْهُ إِلا بَعْدَ فَرَاغِهِ فَليُعِدْ صَلاتَه»(4).

الاستهانة بالصلاة

مسألة: تحرم الاستهانة بالصلاة، ففي صحيح زرارة، عن الإمام الباقر (عليه السلام): «لا تَتَهَاوَنْ بِصَلاتِكَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) قَال عِنْدَ مَوْتِهِ: ليْسَ مِنِّي مَنِ اسْتَخَفَّ بِصَلاتِهِ، ليْسَ مِنِّي مَنْ شَرِبَ مُسْكِراً، لا يَرِدُ عَليَّ

ص: 175


1- وسائل الشيعة: ج 2 ص271 ب1 باب وجوب غسل الحيض عند انقطاعه للصلاة والصوم ونحوهما ح2، من لا يحضره الفقيه: ج 1 ص78 باب الأغسال ح176.
2- أي لأداء الصلاة وما أشبه.
3- الكافي: ج2 ص19 باب القول عند دخول الخلاء ... ح17.
4- مستدرك الوسائل: ج2 ص586 ب33 ح2805.

الحَوْضَ لا وَاللهِ»(1).

ولا يخفى الفرق بين التهاون بالصلاة والاستهانة بها، كما في رواية المعراج: «وكانت تستهين بصلاتها»، وبين الاستخفاف بها، وقد ألمعنا إليه في الفقه(2).

قَال الصَّادِقُ (عليه السلام): «إِنَّ شَفَاعَتَنَا لا تَنَال مُسْتَخِفّاً بِالصَّلاةِ»(3).

وقَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «وَاللهِ إِنَّهُ ليَأْتِي عَلى الرَّجُل خَمْسُونَ سَنَةً ومَا قَبِل اللهُ مِنْهُ صَلاةً وَاحِدَةً، فَأَيُّ شَيْ ءٍ أَشَدُّ مِنْ هَذَا، واللهِ إِنَّكُمْ لتَعْرِفُونَ مِنْ جِيرَانِكُمْ وأَصْحَابِكُمْ مَنْ لوْ كَانَ يُصَلي لبَعْضِكُمْ مَا قَبِلهَا مِنْهُ لاسْتِخْفَافِهِ بِهَا، إِنَّ اللهَ عَزَّ وجَللا يَقْبَل إِلا الحَسَنَ فَكَيْفَ يَقْبَل مَا يُسْتَخَفُّ بِهِ»(4).

حرمة الزنا

مسألة: يحرم الزنا، قال تعالى: «وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً»(5).

وهو من أكبر الكبائر، كما أنه يشمل الوطأ قبلاً ودبراً، بالإنزال وبدونه.

قال تعالى: «وَالذينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ولا يَقْتُلونَ النَّفْسَ التي

ص: 176


1- الكافي: ج 3 ص269 باب من حافظ على صلاته أو ضيعها ح7.
2- موسوعة (الفقه): ج93 ص394.
3- من لا يحضره الفقيه: ج 1 ص206 باب فرض الصلاة ح618.
4- الكافي: ج 3 ص269 باب من حافظ على صلاته أو ضيعها ح9.
5- سورة الأسراء: 32.

حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ ولا يَزْنُونَ ومَنْ يَفْعَل ذلكَ يَلقَ أَثاماً»(1).

وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: قَال النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): «فِي الزِّنَا خَمْسُ خِصَال، يَذْهَبُ بِمَاءِ الوَجْهِ، ويُورِثُ الفَقْرَ، ويَنْقُصُ العُمُرَ، ويُسْخِطُ الرَّحْمَنَ، ويُخَلدُ فِي النَّارِ، نَعُوذُ بِاللهِ مِنَ النَّارِ»(2).

وقَال أَبُو إِبْرَاهِيمَ (عليه السلام): «اتَّقِ الزِّنَا فَإِنَّهُ يَمْحَقُ الرِّزْقَ ويُبْطِل الدِّينَ»(3).

النسب الكاذب

مسألة: يحرم الإدخال في النسب وربط غير الولد بالزوج، قال تعالى: «وَمَا جَعَل أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلكُمْ قَوْلكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ»(4).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «أَنَّهُ وُجِدَ فِي ذُؤَابَةِ سَيْفِ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) صَحِيفَةٌ مَكْتُوبٌ فِيهَا: لعْنَةُ اللهِ وَالمَلائِكَةِ عَلى مَنْ أَحْدَثَ حَدَثاً، أَوْ آوَى مُحْدِثاً، وَمَنِ ادَّعَى إِلى غَيْرِ أَبِيهِ فَهُوَ كَافِرٌ بِمَا أَنْزَل اللهُ، وَمَنِ ادَّعَى إِلى غَيْرِ مَوَاليهِ فَعَليْهِ لعْنَةُ الله»(5).

ص: 177


1- سورة الفرقان: 68.
2- الكافي: ج 5 ص542 باب الزاني ح9.
3- الكافي: ج 5 ص541 باب الزاني ح2.
4- سورة الأحزاب: 4.
5- وسائل الشيعة: ج29 ص27 ب8 ح35065.

المرأة وعرض نفسها

مسألة: يحرم عرض المرأة نفسها على غير الزوج، وإن كان لمجرد أن يرى محاسنها مثلاً، كما اعتادته بعض النساء غير الملتزمات، ولا فرق في عرضها نفسها بين كونه بالمباشرة أو بالواسطة، وبين كونه بالفعل أو بالقول، وبين كونه بواسطة جهاز كالتلفون أو التلفزيون أو غيرهما.

قال تعالى: «وَقَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ ولا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهِليَّةِ الأُولى وأَقِمْنَ الصَّلاةَ وآتينَ الزَّكاةَ وأَطِعْنَ اللهَ ورَسُولهُ»(1).

وقال عزوجل: «وَقُل للمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ ويَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ولا يُبْدينَ زينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وليَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ ولا يُبْدينَ زينَتَهُنَّ»(2).

وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: «قَضَى أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) فِي امْرَأَةٍ أَمْكَنَتْ نَفْسَهَا مِنْ عَبْدٍ لهَا فَنَكَحَهَا أَنْ تُضْرَبَ مِائَةً ويُضْرَبَ العَبْدُ خَمْسِينَ جَلدَةً»(3).

ص: 178


1- سورة الأحزاب: 33.
2- سورة النور: 31.
3- الكافي: ج 5 ص493 باب المرأة يكون لها العبد فينكحها ح1.

القيادة المحرمة

مسألة: تحرم القيادة، وهي الجمع بين الرجل والمرأة للزنا والعياذ بالله، وهي محرمة وإن لم يفعلا، وكذا تحرم الدياثة وهي ما لو كانت من محارم القواد.

عَنْ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قِيل لهُ: «بَلغَنَا أَنَّ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) لعَنَ الوَاصِلةَ والمَوْصُولةَ، قَال: إِنَّمَا لعَنَ رَسُول اللهِ الوَاصِلةَ التِي كَانَتْ تَزْنِي فِي شَبَابِهَا، فَلمَّا أَنْ كَبِرَتْ كَانَتْ تَقُودُ النِّسَاءَ إِلى الرِّجَال فَتِلكَ الوَاصِلةُ والمَوْصُولةُ»(1).

وعَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) عَنْ جَبْرَئِيل (عليه السلام) قَال: «اطَّلعْتُ فِي النَّارِ فَرَأَيْتُ وَادِياً فِي جَهَنَّمَ يَغْلي، فَقُلتُ: يَا مَالكُ لمَنْ هَذَا، فَقَال: لثَلاثَةٍ، المُحْتَكِرِينَ والمُدْمِنِينَ الخَمْرَ والقَوَّادِينَ»(2).

حرمة النميمة

مسألة: تحرم النميمة، وفي صحيح ابن سنان، عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِشِرَارِكُمْ، قَالوا: بَلى

ص: 179


1- المحاسن: ج 1 ص114 ب53 عقاب القوادة.
2- وسائل الشيعة: ج 17 ص426 ب27 باب تحريم الاحتكار عند ضرورة المسلمين وما يثبت فيه وحده ح11.

يَا رَسُول اللهِ، قَال: المَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ، المُفَرِّقُونَ بَيْنَ الأَحِبَّةِ، البَاغُونَ للبُرَآءِ المَعَايِبَ»(1).

وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: «مُحَرَّمَةٌ الجَنَّةُ عَلى القَتَّاتِينَ المَشَّاءِينَ بِالنَّمِيمَةِ»(2).

حرمة الكذب

مسألة: يحرم الكذب.

عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: «كَانَ عَليُّ بْنُ الحُسَيْنِ (صلوات الله عليه) يَقُول لوُلدِهِ: اتَّقُوا الكَذِبَ الصَّغِيرَ مِنْهُ والكَبِيرَ، فِي كُل جِدٍّ وهَزْل، فَإِنَ الرَّجُل إِذَا كَذَبَ فِي الصَّغِيرِ اجْتَرَى عَلى الكَبِيرِ، أَمَا عَلمْتُمْ أَنَّ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) قَال: مَا يَزَال العَبْدُ يَصْدُقُ حَتَّى يَكْتُبَهُ اللهُ صِدِّيقاً، ومَا يَزَال العَبْدُ يَكْذِبُ حَتَّى يَكْتُبَهُ اللهُ كَذَّاباً»(3).وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: «إِنَ الكَذِبَ هُوَ خَرَابُ الإِيمَانِ»(4).

ص: 180


1- الكافي: ج 2 ص369 باب النميمة ح1.
2- الكافي: ج 2 ص369 باب النميمة ح2.
3- الكافي: ج 2 ص338 باب الكذب ح2.
4- الكافي: ج 2 ص339 باب الكذب ح4.

حرمة الغناء

مسألة: يحرم الغناء والاشتغال به، وفي صحيح الريان، قال: سَأَلتُ الرِّضَا (عليه السلام) يَوْماً بِخُرَاسَانَ، فَقُلتُ: يَا سَيِّدِي إِنَّ هِشَامَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ العَبَّاسِيَّ حَكَى عَنْكَ أَنَّكَ رَخَّصْتَ لهُ فِي اسْتِمَاعِ الغِنَاءِ!، فَقَال: كَذَبَ الزِّنْدِيقُ إِنَّمَا سَأَلنِي عَنْ ذَلكَ فَقُلتُ لهُ: إِنَّ رَجُلا سَأَل أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) عَنْ ذَلكَ فَقَال أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): إِذَا مَيَّزَ اللهُ بَيْنَ الحَقِّ وَالبَاطِل فَأَيْنَ يَكُونُ الغِنَاءُ، فَقَال: مَعَ البَاطِل، فَقَال لهُ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): قَدْ قَضَيْتَ»(1).

ثم إنه كما يحرم الغناء يحرم تشيجع المغني أو المغنية عليه وتحسينهما، فقد جاء في صحيح حماد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سَأَلتُهُ عَنْ قَوْل الزُّورِ، قَال: «مِنْهُ قَوْل الرَّجُل للذِي يُغَنِّي أَحْسَنْتَ»(2).

حرمة النوح بالباطلمسألة: يحرم النوح بالباطل، وهو من مصاديق (قول الزور) المنهي عنه في الآية الشريفة(3)، ومن مصاديق الكذب، نعم لسان الحال ليس من الكذب، ولا

ص: 181


1- بحار الأنوار: ج 76 ص243 ب99 الغناء ح14.
2- وسائل الشيعة: ج 17 ص309 ب99 باب تحريم الغناء حتى في القرآن وتعليمه وأجرته والغيبة والنميمة ح21.
3- سورة الحج: 30. قال تعالى: «ذلكَ ومَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لهُ عِنْدَ رَبِّهِ وأُحِلتْ لكُمُ الأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَليْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثانِ واجْتَنِبُوا قَوْل الزُّور».

المبالغة والتورية والإغراق، فتأمل.

في حديث المناهي عنه (صلى الله عليه وآله): «نَهَى عَنِ الرَّنَّةِ عِنْدَ المُصِيبَةِ، ونَهَى عَنِ النِّيَاحَةِ والاسْتِمَاعِ إِليْهَا، ونَهَى عَنِ اتِّبَاعِ النِّسَاءِ الجَنَائِزَ»(1).

ورُوِيَ أَنَّهُ (عليه السلام) قَال: «لا بَأْسَ بِكَسْبِ النَّائِحَةِ إِذَا قَالتْ صِدْقاً»(2).

حرمة الحسد

مسألة: يحرم إظهار الحسد، أما الحسد بذاته من دون إظهار فرذيلة وقد رفعالقلم عنه كما في حديث الرفع(3).

قال (عليه السلام): «أَنَّ المُؤْمِنَ لا يَسْتَعْمِل حَسَدَهُ»(4).

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): قَال اللهُ عَزَّ وجَل لمُوسَى بْنِ عِمْرَانَ (عليه السلام): «يَا ابْنَ عِمْرَانَ لا تَحْسُدَنَّ النَّاسَ عَلى مَا

ص: 182


1- من لا يحضره الفقيه: ج 4 ص5 باب ذكر جمل من مناهي النبي (صلى الله عليه وآله) ح4968.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 1 ص183 باب التعزية والجزع عند المصيبة وزيارة القبور والنوح والمأتم ح552.
3- قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «رفع عن أمتي تسع: الخطأ، والنسيان، وما أكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطروا عليه، والحسد، والطيرة، والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفهة ولا لسان». تحف العقول: ص50. والظاهر رجوع قيد (ما لم ينطق) إلى الثلاثة الأخيرة، ويؤكده ما رواه الكافي في حديث الرفع: «وضع عن أمتي تسع ... والحسد ما لم يظهر بلسان أو يد». الكافي: ج 2 ص463 باب ما رفع عن الأمة ح2.
4- الكافي: ج 8 ص108 حديث أبي بصير مع المرأة ح86.

آتَيْتُهُمْ مِنْ فَضْلي، ولا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ذَلكَ، ولا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ، فَإِنَّ الحَاسِدَ سَاخِطٌ لنِعَمِي، صَادٌّ لقَسْمِيَ الذِي قَسَمْتُ بَيْنَ عِبَادِي، ومَنْ يَكُ كَذَلكَ فَلسْتُ مِنْهُ وليْسَ مِنِّي»(1).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «إِنَ الحَسَدَ يَأْكُل الإِيمَانَ كَمَا تَأْكُل النَّارُالحَطَبَ»(2).

إغضاب الزوج

مسألة: يحرم إغضاب الزوج في الجملة، وقد جاء في صحيح علي بن جعفر، عن أخيه الإمام الكاظم (عليه السلام) قال: سَأَلتُهُ عَنِ المَرْأَةِ المُغَاضِبَةِ زَوْجَهَا، هَل لهَا صَلاةٌ أَوْ مَا حَالهَا، قَال: «لا تَزَال عَاصِيَةً حَتَّى يَرْضَى عَنْهَا»(3).

والظاهر أن الحرمة خاصة بإغضابه في حقوقه الواجبة، دون غيرها كما لو لم تطعه في الطبخ أو الكنس أو الإرضاع مما أوجب غضبه، فإنه لا دليل على حرمة هذا الإغضاب.

ص: 183


1- الكافي: ج 2 ص307 باب الحسد ح6.
2- الكافي: ج 2 ص306 باب الحسد ح2.
3- وسائل الشيعة: ج 20 ص162 ب80 باب أنه لا يجوز للمرأة أن تسخط زوجها ولا تتطيب ولا تتزين لغيره فإن فعلت وجبت إزالته ح8.

إرضاء الزوج

مسألة: يجب أو يستحب إرضاء الزوج، فالواجب في حقه الواجب، والمستحب في حقه المستحب، وهذا طريقي مقدمي، كما يحرم إسخاطه بغير الحق.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «ثَلاثَةٌ لا يُرْفَعُ لهُمْ عَمَل، عَبْدٌ آبِقٌ، وامْرَأَةٌ زَوْجُهَا عَليْهَا سَاخِطٌ، والمُسْبِل إِزَارَهُ خُيَلاءَ»(1).

وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: «ولا شَفِيعَ للمَرْأَةِ أَنْجَحُ عِنْدَ رَبِّهَا مِنْ رِضَا زَوْجِهَا»(2).

وقَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «أَيُّمَا امْرَأَةٍ بَاتَتْ وزَوْجُهَا عَليْهَا سَاخِطٌ فِي حَقٍّ لمْ تُقْبَل مِنْهَا صَلاةٌ حَتَّى يَرْضَى عَنْهَا»(3).

خطاب الأب

مسألة: يستحب أن تخاطب البنت أباهابكلمة (حبيبي وقرة عيني) وقد سبق نظيره، ويكره أن يسمي الولد والده باسمه.

عَنْ أَبِي الحَسَنِ مُوسَى (عليه السلام) قَال: سَأَل رَجُل رَسُول الله (صلى الله عليه وآله) مَا حَقُّ الوَالدِ عَلى وَلدِهِ، قَال: لا يُسَمِّيهِ بِاسْمِهِ، ولا يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْهِ،

ص: 184


1- الكافي: ج 5 ص507 باب حق الزوج على المرأة ح3.
2- بحار الأنوار: ج 78 ص345 ب10 وجوب الصلاة على الميت وعللها وآدابها وأحكامها ح11.
3- الكافي: ج 5 ص507 باب حق الزوج على المرأة ح2.

ولايَجْلسُ قَبْلهُ ولا يَسْتَسِبُّ لهُ»(1).

سبب العذاب

مسألة: يستحب السؤال عن سبب العذاب وعن موجبه من أنواع المعاصي من الأفعال والأقوال.

قال تعالى: «أَوَلمْ يَسيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الذينَ مِنْ قَبْلهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وأَثارُوا الأَرْضَ وعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وجاءَتْهُمْ رُسُلهُمْ بِالبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ ليَظْلمَهُمْ ولكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلمُون»(2).

العذاب وأنواعه

مسألة: يستحب بيان كيفية العذاب وأنواعه ليرتدع الناس عن المعاصي، فإن كثيراً من الناس لا يرتدع عن المعصية إلاّ لو سمع نوع العذابوتفصيله، وقد أسهبت الروايات الشريفة بعد الآيات الكريمة في ذكر تفاصيل العذاب ومنها هذه الرواية، وقد شاهدنا وسمعنا عن الكثير الذين ارتدوا عن المعتاصي بعد قراءة أو سماع مثل هذه الروايات.

وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) «بَشيراً ونَذيراً»(3)، فهما كجناحي

ص: 185


1- الكافي: ج 2 ص158 باب البر بالوالدين ح5.
2- سورة الروم: 9.
3- سورة البقرة: 119، سورة سبأ: 28، سورة فاطر: 24، سورة فصلت: 4. بل ورد (إنما أنت منذر) فلعله يفيد تغليب جانب الإنذار.

الطائر لا يستقيم الفرد أو المجتمع إلاّ بهما، إضافة إلى كونهما حقاً في حد ذاتهما.

وقد ورد «إنك أرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة، وأشد المعاقبين في موضع النكال والنقمة»(1)، ومن أسمائه جل وعلا: (المنتقم)(2) و(القهار)(3) و(شديد العقاب)(4) و(سريعالحساب)(5) و(ذو انتقام)(6) و(شديد العذاب)(7) وغيرها، وقد تكرر بعض هذه الصفات في القرآن الكريم مراراً عديدة(8).

ص: 186


1- تهذيب الأحكام: ج 3 ص108 دعاء أول يوم من شهر رمضان ح38.
2- علل الشرائع: ج 1 ص43 ب38 باب العلة التي من أجلها سمي أصحاب الرس أصحاب الرس والعلة التي من أجلها سمت العجم شهورها بآبانماه وآذرماه وغيرها إلى آخرها ح1.
3- سورة يوسف: 39، سورة الرعد: 16، سورة إبراهيم: 48، سورة ص: 65، سورة الزمر: 4، سورة غافر: 16.
4- سورة البقرة : 196 و211، سورة آل عمران: 11، سورة المائدة: 2 و98، سورة الأنفال: 13 و25 و48 و52، سورة الرعد: 6، سورة غافر: 3 و22، سورة الحشر: 4 و7.
5- سورة البقرة: 202، سورة آل عمران: 19 و199، سورة المائدة: 4، سورة الرعد: 41، سورة إبراهيم: 51، سورة النور: 39، سورة غافر: 17.
6- سورة آل عمران: 4، سورة المائدة: 95، سورة إبراهيم: 47.
7- سورة البقرة: 165.
8- تكرر مثلا (شديد العقاب) أربع عشرة مرة، و(منتقمون) ثلاث مرات: سورة السجدة: 22، سورة الزخرف: 41، سورة الدخان: 16.

من أحوال يوم القيامة

اشارة

قالت فاطمة (عليها السلام) في حديث: «فقلت: يا أبة أهل الدنيا يوم القيامة عراة؟

فقال (صلى الله عليه وآله): نعم، يا بنية.

فقلت: وأنا عريانة؟

قال: نعم وأنت عريانة، وإنه لا يلتفت فيه أحد إلى أحد.

قالت فاطمة (عليها السلام): فقلت له: واسوأتاه يومئذ من الله عزوجل.

فما خرجتُ حتى قال لي: هبط علي جبرئيل الروح الأمين (صلى الله عليه وآله) فقال لي:

يا محمد، اقرأ فاطمة السلام، وأعلمها أنها استحيت من الله تبارك وتعالى فاستحيى الله منها، فقد وعدها أن يكسوها يوم القيامة حلتين من نور.

قال علي (عليه السلام): فقلت لها: فهلا سألتيه عن ابن عمك؟

فقالت: قد فعلت.

فقال: إن علياً (عليه السلام) أكرم على الله عزوجل من أن يعرّيه يوم القيامة»(1).

------------------------------

ص: 187


1- بحار الأنوار: ج 43 ص55 ب3 مناقبها وفضائلها وبعض أحوالها ومعجزاتها (صلوات الله عليها) ح48.

حلة من نور

قوله (صلى الله عليه وآله): نعم، إشارة لما كتب في لوح المحو والإثبات، وأما إكساؤها حلتين من نور فهو ما كان مسطوراً في اللوح المحفوظ، وتفصيل اللوحين ومبحث البداء في كتب الكلام.

ثم إن النور الشديد ساتر كما هو واضح، حيث لا تمكن الرؤية عبره، قال (صلى الله عليه وآله): (حلتين من نور).

إضافة إلى أننا لا نعلم خصوصيات الآخرة وما يرتبط بها من الحلي وما أشبه.

وكونه ساتراً تشريف بالإضافة إليه تعالى، فهو كصلاة المرأة بحجاب كامل وإن لم يكن في بيتها أحد ينظر إليها، فإنه نوع احترام وتشريف، بالإضافة إلى مقام عظمة الله سبحانه.

استحباب الحياء

مسألة: الحياء(1) مستحب، وربما كان واجباً.

وعرفه بعضهم بأنه (غريزة تمنع الإنسان من ارتكاب القبائح ومنالتقصير في حقوق الخلق والخالق)، ولا يخفى أن وجوبه في مورده مقدمي وليس واجباً في مقابل سائر الواجبات(2).

ص: 188


1- وضد الحياء هو الخلع، يقال الخليع في مقابل الحيي، والخليع من خلع جلباب الحياء.
2- كما أن الظاهر أن استحباب الحياء نفسي.

والروايات الواردة في الحياء كثيرة منها:

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «الحَيَاءُ مِنَ الإِيمَانِ، والإِيمَانُ فِي الجَنَّةِ»(1).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وكَانَ مِنْ قَرْنِهِ إِلى قَدَمِهِ ذُنُوباً بَدَّلهَا اللهُ حَسَنَاتٍ، الصِّدْقُ والحَيَاءُ وحُسْنُ الخُلقِ والشُّكْرُ»(2).

الاستحياء

مسألة: ينبغي الاستحياء من الله تعالى، ففي الواجب وجوباً، وفي المستحب استحباباً.

ولعله نقل الحياء إلى باب الاستفعال دلالة على الطلب كما هو الأصل في هذا الباب، قال سبحانه: «إِنَّ اللهَ لاَ يَسْتَحْيِيأَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا»(3).

نعم قد يكون استفعل بمعنى فَعَل المجرد، مثل استقر بمعنى قرّ.

عَنْ عَليِّ بْنِ الحُسَيْنِ (عليه السلام) قَال: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَمَل إِسْلامُهُ ومُحِّصَتْ ذُنُوبُهُ ولقِيَ رَبَّهُ وهُوَ عَنْهُ رَاضٍ، وَفَاءٌ للهِ بِمَا يَجْعَل عَلى نَفْسِهِ للنَّاسِ

ص: 189


1- الكافي: ج 2 ص106 باب الحياء ح1.
2- الكافي: ج 2 ص107 باب الحياء ح7.
3- سورة البقرة: 26.

، وصِدْقُ لسَانِهِ مَعَ النَّاسِ، والاسْتِحْيَاءُ مِنْ كُل قَبِيحٍ عِنْدَ اللهِ وعِنْدَ النَّاسِ، وحُسْنُ خُلقِهِ مَعَ أَهْله»(1).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «استحيوا من الله حق الحياء»، فقلنا: إنا لنستحيي يا رسول الله من الله تعالى، فقال: «ليس ذلك ما أمرتكم به وإنما الاستحياء من الله أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا»(2).

أثر الحياء

مسألة: ينبغي بيان أثر الحياء من الله تعالى.

فإن الإنسان إذا أطاع الله سبحانه أعطاه الله ما يحب، وحيث إنه عزوجل أمر بالحياء منه، فمن استحياه أعطاه ما أحب من الستر يوم القيامة.

قال سبحانه: «وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ»(3).

وقال تعالى: «وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ»(4).

إلى غيرها من الآيات والروايات.

ص: 190


1- مشكاة الأنوار: ص172 الفصل التاسع عشر في الصدق والاشتغال عن عيوب الناس والنهي عن الغيبة.
2- شرح نهج البلاغة: ج 1 ص129 فصل في الكلام على السجع.
3- سورة البقرة: 40.
4- سورة التوبة: 111.

كرامة الإمام

مسألة: يستحب بيان كرامة أمير المؤمنين علي (عليه السلام) عند الله تعالى.

فإنه (عليه السلام) حيث كان مطيعاً للباري بتمام معنى الكلمة، أعطاه الله ما أحب في الدنيا والآخرة.

ثم إنه يستفاد من هذا الحديث وروايات أخرى أن سائر الأنبياء والأئمة والأوصياء (صلوات الله عليهم أجمعين) كذلك في الستر يوم القيامة، فهم أكرم على الله عزوجل من أن يعريهم.

وهذه الروايات مخصصة لما دل على أن الناس «يُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً»(1)، أي: غير مختونين كحالة ولادتهم من أمهاتهم.

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ بَعَثَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالى النَّاسَ مِنْ حُفَرِهِمْ غُرْلا مُهْلا جُرْداً مُرْداً فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، يَسُوقُهُمُ النُّورُ وَتَجْمَعُهُمُ الظُّلمَةُ حَتَّى يَقِفُوا عَلى عَقَبَةِ المَحْشَرِ، فَيَرْكَبُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً، وَيَزْدَحِمُونَ دُونَهَا فَيُمْنَعُونَ مِنَ المُضِيِّ، فَتَشْتَدُّ أَنْفَاسُهُمْ وَيَكْثُرُ عَرَقُهُمْ وَتَضِيقُ بِهِمْأُمُورُهُمْ وَيَشْتَدُّ ضَجِيجُهُمْ وَتَرْتَفِعُ أَصْوَاتُهُمْ، قَال: وَهُوَ أَوَّل هَوْل مِنْ أَهْوَال يَوْمِ القِيَامَة»(2).

بل سيأتي في رواية أخرى أن المؤمنين يسترون يوم القيامة أيضاً، ولعل

ص: 191


1- بحار الأنوار: ج7 ص69 عن رسول الله (صلى الله عليه وآله).
2- بحار الأنوار: ج 7 ص268 ب11 محاسبة العباد وحكمه تعالى في مظالمهم وما يسألهم عنه وفيه حشر الوحوش ح35.

الفرق في درجات الستر وأنواعه(1)، كما يشاهد في الدنيا من أنواع الملابس وأصناف الساتر، كما لعله في مدة الستر واستغراقه لكل مراحل القيامة ومواقفها أو كونه لبعضها فقط.

ثم إنه يؤيد قوله (صلى الله عليه وآله) في هذا الحديث أن أهل الدنيا عراة يوم القيامة ولو بالملاك قوله سبحانه: «وَلقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلقْنَاكُمْ أَوَّل مَرَّةٍ»(2)، وإن كانت الآية تدل على انفراد كل واحد يوم المحشر بلا خدم ولا حشم ولا ما أشبه(3)، لكن ملاكها ربما يشمل ما نحن فيه ولو بقرينة سائر الروايات، بل قد يقال«كَمَا خَلقْنَاكُمْ أَوَّل مَرَّةٍ» تأسيس وليس تأكيداً، فيفيد المجيء مجردين من كل شيء من الثروة والسلطة والرئاسة وحتى الثياب(4).

وفي الخرائج: قالت الزهراء (عليها السلام): يا رسول الله وما فرادى، قلت: عراة»(5).

ص: 192


1- إذ النور الساتر أنواع وأصناف وله مراتب ودرجات.
2- سورة الأنعام: 94.
3- قال في مجمع البيان: «فرادى» أي وحداناً لا مال لكم ولا خول ولا ولد ولا حشم.
4- وفي مجمع البيان في تفسير هذه الآية: «كما خلقناكم أول مرة»: (كما خلقناكم في بطون أمهاتكم فلا ناصر لكم، وقيل: معناه ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله): تحشرون حفاةً عراةً غرلاً).
5- الخرائج والجرائح: ج1 ص90.

السؤال عن يوم القيامة

مسألة: يستحب السؤال عن أحوال يوم القيامة وكيفية الحشر، وعدد المواقف وما هي، إلى غير ذلك.

عَنْ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: «لمَّا نَزَلتْ هَذِهِ الآيَةُ «وَجِي ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ»(1)، سُئِل عَنْ ذَلكَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) فَقَال: أَخْبَرَنِي الرُّوحُ الأَمِينُ أَنَّ اللهَ لا إِلهَ غَيْرُهُ إِذَا جَمَعَ الأَوَّلينَ وَالآخِرِينَ أَتَى بِجَهَنَّمَ، تُقَادُ بِأَلفِ زِمَامٍ، أَخَذَ بِكُل زِمَامٍ مِائَةُ أَلفِ مَلكٍ مِنَ الغِلاظِ الشِّدَادِ، لهَا هَدَّةٌ وَتَغَيُّظٌ وَزَفِيرٌ، وَإِنَّهَا لتَزْفِرُ الزَّفْرَةَ فَلوْ لا أَنَّ اللهَ عَزَّ وَ جَل أَخَّرَهُمْ إِلى الحِسَابِ لأَهْلكَتِ الجَمْعَ، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْهَا عُنُقٌ يُحِيطُ بِالخَلائِقِ البَرِّ مِنْهُمْ وَ الفَاجِرِ، فَمَا خَلقَ اللهُ عَزَّ وَ جَل عَبْداً مِنْ عِبَادِهِ مَلكاً وَ لا نَبِيّاً إِلا نَادَى: رَبِّ نَفْسِي نَفْسِي، وَأَنْتَ يَا نَبِيَّ اللهِ تُنَادِي: أُمَّتِي أُمَّتِي، ثُمَّ يُوضَعُ عَليْهَا صِرَاطٌ أَدَقُّ مِنْ حَدِّ السَّيْفِ عَليْهِ ثَلاثُ قَنَاطِرَ، أَمَّا وَاحِدَةٌ فَعَليْهَا الأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ، وَأَمَّا الأُخْرَى فَعَليْهَا الصَّلاةُ، وَأَمَّا الأُخْرَى فَعَليْهَا عَدْل رَبِّ العَالمِينَ لا إِلهَ غَيْرُهُ، فَيُكَلفُونَ المَمَرَّ عَليْهِ، فَتَحْبِسُهُمُ الرَّحِمُ وَالأَمَانَةُ، فَإِنْ نَجَوْا مِنْهَا حَبَسَتْهُمُ الصَّلاةُ، فَإِنْ نَجَوْا مِنْهَا كَانَ المُنْتَهَىإِلى رَبِّ العَالمِينَ جَل وَعَزَّ، وَهُوَ قَوْلهُ تَبَارَكَ وَتَعَالى: «إِنَّ رَبَّكَ لبِالمِرْصادِ»(2) وَالنَّاسُ عَلى الصِّرَاطِ فَمُتَعَلقٌ وَقَدَمٌ تَزِل وَقَدَمٌ تَسْتَمْسِكُ، وَالمَلائِكَةُ حَوْلهُمْ يُنَادُونَ: يَا حَليمُ اغْفِرْ وَاصْفَحْ وَعُدْ بِفَضْلكَ وَسَلمْ سَلمْ، وَالنَّاسُ يَتَهَافَتُونَ فِيهَا

ص: 193


1- سورة الفجر: 23.
2- سورة الفجر: 14.

كَالفَرَاشِ، وَإِذَا نَجَا نَاجٍ بِرَحْمَةِ اللهِ عَزَّ وَجَل نَظَرَ إِليْهَا فَقَال: الحَمْدُ للهِ الذِي نَجَّانِي مِنْكِ بَعْدَ إِيَاسٍ بِمَنِّهِ وَفَضْلهِ إِنَّ رَبَّنا لغَفُورٌ شَكُورٌ»(1).

القيامة وأحوالها

مسألة: يستحب بيان أن يوم القيامة لا يلتفت فيه أحد إلى أحد لشدة الهول والدهشة، قال تعالى: «يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَل كُل مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُل ذَاتِ حَمْل حَمْلهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ»(2).

وقال سبحانه: «يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالمُهْل * وَتَكُونُ الجِبَال كَالعِهْنِ * وَلاَ يَسْأَل حَمِيمٌ حَمِيماً»(3).

وقال عزوجل: «فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُمِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لكُل امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ»(4).

ص: 194


1- بحار الأنوار: ج7 ص126 ب6 ح1 عن الأمالي للصدوق.
2- سورة الحج: 2.
3- سورة المعارج: 8 - 10.
4- سورة عبس: 33 - 37.

السلام على الصديقة

مسألة: يستحب أن يقرئ الناس فاطمة (صلوات الله عليها) السلام، كما أقرأها الله تعالى، وفي الحديث: «تَخَلقُوا بِأخْلاقِ اللهِ»(1).

ولا فرق في ذلك بين حال حياتها وبعد استشهادها، كما ورد وسبق نظيره.

عَنْ زَيْدٍ الشَّحَّامِ، قَال: قُلتُ لأَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): مَا لمَنْ زَارَ وَاحِداً مِنْكُمْ؟ قَال: «كَمَنْ زَارَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وآله»(2).

من فضائل الصديقة

مسألة: يستحب بيان أن الله تعالى قد أقرأ فاطمة (صلوات الله عليها) السلام، فبيان ذلك وبيان مطلق فضائلهم (عليهم السلام) عبادة.

قَال النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): «الحَسَنُ والحُسَيْنُ خَيْرُ أَهْل الأَرْضِ بَعْدِي وبَعْدَ أَبِيهِمَا، وأُمُّهُمَا أَفْضَل نِسَاءِ أَهْلالأَرْضِ»(3).

ص: 195


1- بحار الأنوار: ج 58 ص129.
2- من لا يحضره الفقيه: ج2 ص578 ح3163.
3- عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج 2 ص62 ب31 باب فيما جاء عن الرضا (عليه السلام) من الأخبار المجموعة ح252.

كرسي النور

اشارة

عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ (عليهما السلام) قَال: «إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ مِنْ لدُنِ العَرْشِ: يَا مَعْشَرَ الخَلائِقِ غُضُّوا أَبْصَارَكُمْ حَتَّى تَمُرَّ فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، فَتَكُونُ أَوَّل مَنْ يُكْسَى، وَيَسْتَقْبِلهَا مِنَ الفِرْدَوْسِ اثْنَا عَشَرَ أَلفَ حَوْرَاءَ مَعَهُنَّ خَمْسُونَ أَلفَ مَلكٍ عَلى نَجَائِبَ مِنْ يَاقُوتٍ أَجْنِحَتُهَا مِنْ زَبَرْجَدٍ وَأَزِمَّتُهَا مِنَ اللؤْلؤِ الرَّطْبِ، عَليْهَا رَحَائِل مِنْ دُرٍّ، عَلى كُل رَحْل نُمْرُقَةٌ مِنْ سُنْدُسٍ، حَتَّى تَجُوزَ بِهَا الصِّرَاطَ وَيَأْتُونَ الفِرْدَوْسَ، فَيَتَبَاشَرُ بِهَا أَهْل الجَنَّةِ.

وَتَجْلسُ عَلى عَرْشٍ مِنْ نُورٍ، وَيَجْلسُونَ حَوْلهَا وَفِي بُطْنَانِ العَرْشِ قَصْرَانِ قَصْرٌ أَبْيَضُ وَقَصْرٌ أَصْفَرُ مِنْ لؤْلؤٍ مِنْ عِرْقٍ وَاحِدٍ، وَإِنَّ فِي القَصْرِ الأَبْيَضِ سَبْعِينَ أَلفَ دَارٍ مَسَاكِنَ مُحَمَّدٍ وَآل مُحَمَّدٍ، وَإِنَّ فِي القَصْرِ الأَصْفَرِ سَبْعِينَ أَلفَ دَارٍ مَسَاكِنَ إِبْرَاهِيمَ وَآل إِبْرَاهِيمَ.

وَيَبْعَثُ اللهُ إِليْهَا مَلكاً لمْ يَبْعَثْ إِلى أَحَدٍ قَبْلهَا وَلمْ يَبْعَثْ إِلى أَحَدٍ بَعْدَهَا فَيَقُول لهَا: إِنَّ رَبَّكَ يَقْرَأُ عَليْكَ السَّلامَ وَيَقُول لكَ: سَلينِي أُعْطِكِ.

فَتَقُول: قَدْ أَتَمَّ عَليَّ نِعْمَتَهُ وَأَبَاحَنِي جَنَّتَهُ وَهَنَّأَنِي كَرَامَتَهُ وَفَضَّلنِي عَلى نِسَاءِ خَلقِهِ، أَسْأَلهُ أَنْ يُشَفِّعَنِي فِي وُلدِي وَذُرِّيَّتِي وَمَنْ وَدَّهُمْ بَعْدِي وَحَفِظَهُمْ بَعْدِي.

قَال: فَيُوحِي اللهُ إِلى ذَلكَ المَلكِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَحَوَّل عَنْ مَكَانِهِ أَنْ خَبِّرْهَا أَنِّي قَدْ شَفَّعْتُهَا فِي وُلدِهَا وَذُرِّيَّتِهَا وَمَنْ وَدَّهُمْ وَأَحَبَّهُمْ وَحَفِظَهُمْ بَعْدَهَا.

ص: 196

قَال: فَتَقُول: الحَمْدُ للهِ الذِي أَذْهَبَ عَنِّي الحَزَنَ وَأَقَرَّ عَيْنِي.ثُمَّ قَال جَعْفَرٌ (عليه السلام): كَانَ أَبِي (عليه السلام) إِذَا ذَكَرَ هَذَا الحَدِيثَ تَلا هَذِهِ الآيَةَ: «وَالذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلتْناهُمْ مِنْ عَمَلهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ كُل امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ»(1)»(2).

--------------------------

عدم تكذيب الأحاديث

مسألة: لا يجوز تكذيب الحديث بمجرد عدم وصول العلم إليه، أو بمجرد عدم تعقله، أي عدم إدراك العقل له(3).

وفي هذه الرواية قد لا يفهم المراد بالنور وما ورد مترتباً عليه، ولا يصح إنكارها، وربما يراد به ما يشمل الأشعة كالليزر مثلاً، وللأشعة من القوة والتأثير ما قد يفوق الماديات الأخر، كما يحتمل أن يتكثف النور، ويحتمل أن تكون الأجسام ألطف مما عليه الآن ولو في بعض مراحل البرزخ والقيامة(4)، كمايحتمل أن يرمز بالنور إلى ما هو أظهر خواصه، أي الظاهر بنفسه المظهر لغيره لا هذا الموجود الخاص، وستأتي إشارة أخرى لذلك، والله العالم.

عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) أَوْ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)

ص: 197


1- سورة الطور: 21.
2- بحار الأنوار: ج 24 ص274 ب63 الآيات الدالة على رفعة شأنهم ونجاة شيعتهم في الآخرة والسؤال عن ولايتهم ح60.
3- ويختلف ذلك عن إدراك العقل لعدمه كما هو واضح.
4- لعله إشارة إلى القالب المثالي في فترة، من غير نفي التجسم الحقيقي وعودة الجسم بنفسه.

قَال: «لا تُكَذِّبُوا بِحَدِيثٍ أَتَاكُمْ أَحَدٌ، فَإِنَّكُمْ لا تَدْرُونَ لعَلهُ مِنَ الحَقِّ فَتُكَذِّبُوا اللهَ فَوْقَ عَرْشِهِ»(1).

وعَنْ أَبِي الحَسَنِ (عليه السلام)، أَنَّهُ كَتَبَ إِليْهِ فِي رِسَالةٍ: «ولا تَقُل لمَا بَلغَكَ عَنَّا أَوْ نُسِبَ إِليْنَا هَذَا بَاطِل وإِنْ كُنْتَ تَعْرِفُ خِلافَهُ، فَإِنَّكَ لا تَدْرِي لمَ قُلنَا وعَلى أَيِّ وَجْهٍ وصِفَةٍ»(2).

خصوصيات الآخرة

مسألة: لا يجوز إنكار خصوصيات ما تنقله الروايات عن عالم البرزخ والقيامة أو الجنة والنار، لمجرد استبعادها والاستغراب منها، أو لمجرد عدم العلم بوجهها أو وجوهها.

ومن ذلك استغراب أن لا يكون الملكمرسلاً إلى أحد قبل الصديقة (عليها السلام)، ولا إلى أحد بعدها، وفي ذلك نوع توقير لها وتعظيم، خاصة بعد معرفة أن الله خلق من الملائكة أعداداً هائلة لجهات لا تحصيها العقول ولا تحيط بها الأوهام.

قال (صلى الله عليه وآله): «مَنْ رَدَّ حَدِيثاً بَلغَهُ عَنِّي فَأَنَا مُخَاصِمُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَإِذَا بَلغَكُمْ عَنِّي حَدِيثٌ لمْ تَعْرِفُوهُ فَقُولوا اللهُ أَعْلم»(3).

ص: 198


1- بصائر الدرجات: ج 1 ص538 ب22 باب فيمن لا يعرف الحديث فرده ح5.
2- بصائر الدرجات: ج 1 ص538 ب22 باب فيمن لا يعرف الحديث فرده ح4.
3- منية المريد: ص372.

مودة العترة

مسألة: ينبغي تحريض الناس على مودة أهل البيت (عليهم السلام) بكل الطرق الشرعية الممكنة، ومنها بث ونشر وشرح وترجمة أمثال هذه الرواية الشريفة.

قال تعالى: «ذلكَ الذي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الذينَ آمَنُوا وعَمِلوا الصَّالحاتِ قُل لا أَسْئَلكُمْ عَليْهِ أَجْراً إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبى ومَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لهُ فيها حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ»(1).

شرط الشفاعة

مسألة: لا ريب في أن الشفاعة تنال من ذكر في الرواية من شيعة الزهراء (عليها السلام) ومن حفظها وأحبها، ولكن شرط نيلها البقاء على ودّهم (عليهم السلام) وذريتهم وحفظهم حتى الممات، إذ قد تسلب المعاصي - والعياذ بالله - من الإنسان ذلك الود والحفظ، فيموت على غيرهما فلا يستحق هذه الشفاعة، وربما تلك المعاصي تؤخر الشفاعة.

عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَحْيَا حَيَاتِي ويَمُوتَ مَمَاتِي، ويَدْخُل الجَنَّةَ التِي وَعَدَنِي رَبِّي، جَنَّةَ عَدْنٍ مَنْزِلي، قَضِيبٌمِنْ قُضْبَانِهِ غَرَسَهُ رَبِّي بِيَدِهِ ثُمَّ قَال لهُ كُنْ فَكَانَ، فَليَتَوَل عَليّاً مِنْ

ص: 199


1- سورة الشورى: 23.

بَعْدِي والأَوْصِيَاءَ مِنْ ذُرِّيَّتِي، أَعْطَاهُمُ اللهُ فَهْمِي وعِلمِي، وايْمُ اللهِ ليَقْتُلنَّ ابْنِي لا أَنَالهُمُ اللهُ شَفَاعَتِي»(1).

وعَنْ أَبِي شِبْل قَال: قُلتُ لأَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): رَجُل مُسْلمٌ فَجَرَ بِجَارِيَةِ أَخِيهِ فَمَا تَوْبَتُهُ، قَال: «يَأْتِيهِ وَيُخْبِرُهُ وَيَسْأَلهُ أَنْ يَجْعَلهُ فِي حِل وَلا يَعُودُ»، قُلتُ: فَإِنْ لمْ يَجْعَلهُ مِنْ ذَلكَ فِي حِل، قَال: «يَلقَى اللهَ عَزَّ وَجَل زَانِياً خَائِناً»، قَال: قُلتُ: فَالنَّارُ مَصِيرُهُ، قَال: «شَفَاعَةُ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) وَشَفَاعَتُنَا تُحِيطُ بِذُنُوبِكُمْ يَا مَعْشَرَ الشِّيعَةِ فَلا تَعُودُوا وَلا تَتَّكِلوا عَلى شَفَاعَتِنَا، فَوَ اللهِ لا يَنَال أَحَدٌ شَفَاعَتَنَا إِذَا فَعَل هَذَا حَتَّى يُصِيبَهُ أَلمُ العَذَابِ وَيَرَى هَوْل جَهَنَّمَ»(2).

وقَدْ رُوِيَ عَنْ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) أَنَّهُ قَال: «لا تَتَّكِلوا بِشَفَاعَتِنَا، فَإِنَّ شَفَاعَتَنَا قَدْ لا تَلحَقُ بِأَحَدِكُمْ إِلا بَعْدَ ثَلاثِمِائَةِ سَنَةٍ»(3).

سؤال الخير للناس

مسألة: يستحب أن يسأل الإنسان من الله سبحانه الخير للناس من الأرحام وغيرهم، كما طلبت الصديقة (عليها السلام) الخير لذريتها وحتى لمن ودّهم، مع وضوح كثرة غير السادة فيهم.

نعم لابد أن يكون طلب الخير في المحل القابل، فلا يصح طلب الشفاعة

ص: 200


1- بصائر الدرجات: ج 1 ص48 ص22 باب في الأئمة (عليهم السلام) وما قال فيهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأن الله أعطاهم فهمي وعلمي ح1.
2- من لا يحضره الفقيه: ج4 ص39 باب ما يجب به التعزير والحد.. ح5034.
3- بحار الأنوار: ج70 ص331 ب137 ح16 بيان.

للناصبي مثلاً.

قال تعالى: «وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلمَّا تَبَيَّنَ لهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لاَوَّاهٌ حَليمٌ»(1).

وقال سبحانه: «اسْتَغْفِرْ لهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلنْ يَغْفِرَ اللهُ لهُمْ ذَلكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولهِ»(2).

نعم طلب الهداية لمن يحتمل فيه ذلك مطلوب.

والظاهر أن المراد بمن ودّهم لها، ممن لم يكن على غير طريقتهم عناداً، وإلاّ فالذي على غير طريقتهم ليس ممن تناله كرامته سبحانه.

ويؤكده قولها: (لها) في (من ودهم لها)، اللهم إلاّ إذا كان من القاصرينحسب ما ذكر في مباحث أصول الدين، فإن وده لهم لأجلها (عليها السلام) قد يسبب نجاحه في امتحان الآخرة.

بل لعل ظاهر الرواية العموم لمن ودهم لها، أي العموم لكل قاصر، بل لعله لا يجتمع (أو ودهم لها) مع كونه معانداً، فتأمل.

ص: 201


1- سورة التوبة: 114.
2- سورة التوبة: 80.

مقام الصديقة في المحشر

مسألة: يستحب بيان مقام فاطمة (عليها السلام) يوم المحشر، حيث تجلس على كرسي من نور...

وقد سبق بعض الكلام عن النور، ونضيف:

إننا لا نعلم حقيقة النور الأخروي والمراد به، بل لا نعلم حقيقة النور الدنيوي ولا أنواعه كلها، أو ما فيه من الخصوصيات والمزايا إلاّ بعضها فقط مما كشفه العلم الحديث، كما لا نعلم خصوصيات الأجسام هنالك في بعض مراحل القيامة، فلا يستغرب أن يكون النور حاملاً للإنسان وأن يجلس الإنسان على كرسي من النور أو غيره(1).

قال (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ اللهَ تَعَالى إِذَا بَعَثَ الخَلائِقَ مِنَ الأَوَّلينَ والآخِرِينَ، نَادَى مُنَادِي رَبِّنَا مِنْ تَحْتِ عَرْشِهِ: يَا مَعْشَرَ الخَلائِقِ غُضُّوا أَبْصَارَكُمْ لتَجُوزَ فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ سَيِّدَةُ نِسَاءِ العَالمِينَ عَلى الصِّرَاطِ. فَيَغُضُّ الخَلائِقُ كُلهُمْأَبْصَارَهُمْ، فَتَجُوزُ فَاطِمَةُ (عليها السلام) عَلى الصِّرَاطِ، لا يَبْقَى أَحَدٌ فِي القِيَامَةِ إِلا غَضَّ بَصَرَهُ عَنْهَا، إِلا مُحَمَّدٌ وعَليٌّ والحَسَنُ والحُسَيْنُ والطَّاهِرُونَ مِنْ أَوْلادِهِمْ، فَإِنَّهُمْ مَحَارِمُهَا، فَإِذَا دَخَلتِ الجَنَّةَ بَقِيَ مِرْطُهَا مَمْدُوداً عَلى الصِّرَاطِ، طَرَفٌ مِنْهُ بِيَدِهَا وهِيَ فِي الجَنَّةِ، وطَرَفٌ فِي عَرَصَاتِ القِيَامَةِ»(2).

ص: 202


1- فمثلاً بعض الخواص التي اكتشفها العلماء للنور ولبعض أنواعه وللأشعة بأنواعها كالليزر وغيره القدرة على تحريك الأجسام وغيرها.
2- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): ص434 ح15.

بيان النعمة

مسألة: يستحب بيان ما أنعم الله تعالى به على الإنسان، حيث قالت الصديقة (عليها السلام): «قد أتم علي نعمته وهنأني كرامته وأباحني جنته»، فإنه نوع من الشكر والحمد.

قال تعالى: «وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّث»(1).

وقَال (صلى الله عليه وآله): «التَّحَدُّثُ بِنِعْمَةِ اللهِ شُكْرٌ، وتَرْكُهَا كُفْرٌ، ومَنْ لمْ يَشْكُرِ القَليل لمْ يَشْكُرِ الكَثِيرَ، ومَنْ لمْ يَشْكُرِ النَّاسَ لمْ يَشْكُرِ اللهَ جَل وعَزَّ»(2).

إذهاب الحزن

مسألة: يستحب حمد الله تعالى على إذهاب الحزن، قال تعالى: «وَقَالوا الحَمْدُ للهِ الذِي أَذْهَبَ عَنَّا الحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لغَفُورٌ شَكُورٌ»(3).

وهو نوع ثناء على الله سبحانه، ونوع شكر للنعمة أيضاً، كما أن به دفعالضرر المحتمل، فقد اجتمعت فيه هذه الجهات، إضافة إلى أنه مما تستجلب به المنفعة.

ص: 203


1- سورة الضحى: 11.
2- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: ص27 طرف من كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله) فى آدابه، ومواعظه، وأمثاله، وحكمه ح75.
3- سورة فاطر: 34.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «كَانَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) إِذَا وَرَدَ عَليْهِ أَمْرٌ يَسُرُّهُ قَال: الحَمْدُ للهِ عَلى هَذِهِ النِّعْمَةِ، وإِذَا وَرَدَ عَليْهِ أَمْرٌ يَغْتَمُ بِهِ قَال: الحَمْدُ للهِ عَلى كُل حَال»(1).

الحزن والرقة

مسألة: الحزن والرقة على ما أصاب الولد والذرية ومن ودّهم من المصائب أو ما يمكن أن يواجههم من المخاطر مطلوب، فإنه من دلائل الإنسانية والرحمة المطلوبين عقلاً وشرعاً.

قال تعالى: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لنْتَ لهُمْ وَلوْ كُنْتَ فَظّاً غَليظَ القَلبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلكَ»(2).

وقال سبحانه: «بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ»(3).

والروايات في العطف والرحمة والمحبة والرفق وما أشبه أكثر من أن تحصى.

عَنْ أَبَانٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ رَاشِدٍ، قَال:«كُنْتُ مَعَ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) حِينَ مَاتَ إِسْمَاعِيل ابْنُهُ (عليه السلام) فَأُنْزِل فِي قَبْرِهِ، ثُمَّ رَمَى بِنَفْسِهِ عَلى الأَرْضِ مِمَّا يَلي القِبْلةَ، ثُمَّ قَال: هَكَذَا صَنَعَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) بِإِبْرَاهِيمَ»(4).

ص: 204


1- الكافي: ج 2 ص97 باب الشكر ح19.
2- سورة آل عمران: 159.
3- سورة التوبة: 128.
4- الكافي: ج 3 ص194 باب من يدخل القبر ومن لا يدخل ح7.

من هم الفائزون

مسألة: يستحب بيان أن الشيعة هم الفائزون يوم القيامة، حيث تشفع لهم الصديقة فاطمة (عليها السلام).

عَنِ الصَّادِقِ (عليه السلام) عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ يُؤْتَى بِكَ يَا عَليُّ عَلى حَجَلةٍ مِنْ نُورٍ، وعَلى رَأْسِكَ تَاجٌ لهُ أَرْبَعَةُ أَرْكَانٍ، عَلى كُل رُكْنٍ ثَلاثَةُ أَسَاطِيرَ: لا إِلهَ إِلا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُول اللهِ عَليٌّ مِفْتَاحُ الجَنَّةِ، ثُمَّ يُوضَعُ لكَ كُرْسِيٌّ يُعْرَفُ بِكُرْسِيِّ الكَرَامَةِ فَتَقْعُدُ عَليْهِ، يُجْمَعُ لكَ الأَوَّلونَ والآخِرُونَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَتَأْمُرُ لشِيعَتِكَ إِلى الجَنَّةِ، وبِأَعْدَائِكَ إِلى النَّارِ، فَأَنْتَ قَسِيمُ الجَنَّةِ وأَنْتَ قَسِيمُ النَّارِ، لقَدْ فَازَ مَنْ تَوَلاكَ، وخَابَ وخَسِرَ مَنْ عَادَاكَ، فَأَنْتَ فِي ذَلكَ اليَوْمِ أَمِينُ اللهِ وحُجَّةُ اللهِ الوَاضِحَة»(1).

وفي الحديث أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) «ضَرَبَ عَلى مَنْكِبِ عَليٍّ (عليه السلام) ثُمَّ قَال: هَذَا وَ شِيعَتُهُ هُمُ الفَائِزُونَ»(2).

ص: 205


1- بشارة المصطفى: ج 2 ص210 كرسي الكرامة الذي يجلس عليه علي (عليه السلام).
2- بحار الأنوار: ج7 ص178 ب8 ح17 عن كتاب فضائل الشيعة.

قميص الحسين (علیه السلام)

اشارة

وفي رواية عن أحوال يوم القيامة: «... فتأتي فاطمة (عليها السلام) على نجيب من نجب الجنة، يشيعها سبعون ألف ملك، فتقف موقفاً شريفاً من مواقف القيامة، ثم تنزل عن نجيبها فتأخذ قميص الحسين بن علي (عليه السلام) بيدها مضمخاً بدمه، وتقول: يا رب هذا قميص ولدي، وقد علمت ما صنع به.

فيأتيها النداء من قبل الله عزوجل: يا فاطمة لك عندي الرضا.

فتقول: يا رب انتصر لي من قاتله.

فيأمر الله تعالى عنقاً من النار فتخرج من جهنم فتلتقط قتلة الحسين بن علي (عليه السلام) كما يلتقط الطير الحب، ثم يعود العنق بهم إلى النار، فيعذبون فيها بأنواع العذاب، ثم تركب فاطمة (عليها السلام) نجيبها حتى تدخل الجنة، ومعها الملائكة المشيعون لها، وذريتها بين يديها وأولياؤهم من الناس عن يمينها وشمالها»(1).

--------------------------

مواقف القيامة

مواقف القيامة على أقسام، منها مواقف شريفة كهذا الموقف، ومنها مواقف مخزية ومهيبة وغيرها، فإن القيامة «فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلفَ

ص: 206


1- الأمالي، للمفيد: ص130 المجلس الخامس عشر ح6.

سَنَةٍ»(1)،وتشتمل على كثرة المواقف، وقد ذكرت بعضها الروايات.

قَال أَبُو عَبْدِ اللهِ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ (عليه السلام): «فَحَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْل أَنْ تُحَاسَبُوا، فَإِنَّ فِي القِيَامَةِ خَمْسِينَ مَوْقِفاً كُل مَوْقِفٍ مِثْل أَلفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ، ثُم تَلا هَذِهِ الآيَةَ: «فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلفَ سَنَةٍ»(2)»(3).

مواقف الصديقة

ثم إنه يبدو من الجمع بين هذه الرواية وسائر الروايات أن للصديقة (صلوات الله عليها) مواقف متعددة ومطالبات عديدة، وقد تكون متعاقبة وربما كانت منفصلة، فترفع في بعضها قميص الحسين (عليه السلام)، وفي بعضها يكون بيدها رأس الحسين (عليه السلام)، وفي بعضها كفا أبي الفضل العباس (عليه السلام) وهكذا، وذلك إتماماً للحجة أكثر، ويؤيده ما سبق ويأتي.

والظاهر أن طلب الصديقة (عليها السلام): (يا رب انتصر لي من قاتله) هو إحدى طلباتها، وهناك طلبات أخرى كالشفاعة لشيعتها وما أشبه، سبقبعضها في الروايات التي ذكرناها.

ويحتمل في قوله (عليه السلام): (فتلتقط قتلة الحسين) أن تكون النار موجهة(4) ، كما يحتمل أن تكون مشعرة، قال تعالى: «وَإِنَّ الدَّارَ الآَخِرَةَ لهِيَ

ص: 207


1- سورة المعارج: 4.
2- سورة المعارج: 4.
3- الأمالي، للمفيد: ص274 المجلس الثالث والثلاثون ح1.
4- وذلك مثل ما نجده الآن من الصواريخ الموجهة أو الأجزهة المختلفة التي يتحكم فيها بآلة التحكم عن بعد.

الحَيَوَانُ لوْ كَانُوا يَعْلمُونَ»(1)، بل حتى في الدنيا، قال سبحانه: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ»(2).

وتشييع سبعين ألف ملك لها (عليها السلام) قد يكون للتوقير والتعظيم والاحترام والتبجيل والتجليل، وقد يكون للهيبة، وقد يكون إضافة إلى ذلك لكون المشيعين ممن تناط بهم مسؤوليات وأعمال ووظائف فعلاً أو قوة(3).

مخلوقات الجنة

ربما يظهر من هذه الرواية وغيرها أن بعض المخلوقات الموجودة في الجنةتنتقل بإذن الله تعالى إلى عالم القيامة أو غيره، ويحتمل أن يخلق ذلك الحيوان أو الشيء في عالم سابق وأن تكون إضافته للجنة لكون مآله إليها، من باب المجاز بالأوْل أو المشارفة.

قتلة الحسين في النار

مسألة: يجب الاعتقاد بأن قتلة الإمام الحسين (عليه السلام) في النار، ويستحب بيان ذلك.

فإن قتل المؤمن العادي موجب لدخول النار والخلود فيها، فكيف بقتل

ص: 208


1- سورة العنكبوت: 64.
2- سورة الإسراء: 44.
3- (فعلاً) في نفس مكان السير، و(قوةً) إذ لعل أدوارهم تعقب ذلك في مراحل القيامة اللاحقة أو هي في الجنة.

الإمام الحسين (صلوات الله عليه) وأصحابه وأهل بيته (عليهم السلام).

قال سبحانه: «مَنْ قَتَل نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَل النَّاسَ جَمِيعاً»(1).

وفي آية أخرى: «وَمَنْ يَقْتُل مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالداً فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَليْهِ وَلعَنَهُ وَأَعَدَّ لهُ عَذَاباً عَظِيماً»(2).

لا تبرأة للقتلة

مسألة: لا تجوز تبرأة كل أو بعض منشارك بنحو من الأنحاء في قتل الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته وأصحابه الكرام، بأي وجه من الوجوه، كالقول بأن المأمور معذور!، فإنه لا عذر في ارتكاب حرمات الله وقتل أوليائه، وكالقول بأن بعضهم كان جاهلاً قاصراً، وذلك لأن من الواضح عدم مجال لاحتمال ذلك، لأن الحجج كانت في أعلى الدرجات، كما أن الآيات والبينات التي أتمها الرسول (صلى الله عليه وآله) على الأمة في شأن سبطه سيد الشهداء (عليه السلام) ثم البراهين التي ساقها إليهم الإمام الحسين (عليه السلام) قبل عاشوراء ويوم عاشوراء مما لا تترك مجالاً لاحتمال وجود قاصر في جيش الأعداء أبداً.

عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ قَال: قُلتُ لأَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): مَا أَقُول إِذَا أَتَيْتُ قَبْرَ الحُسَيْنِ (عليه السلام)، قَال: «قُل: السَّلامُ عَليْكَ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، صَلى اللهُ

ص: 209


1- سورة المائدة: 32.
2- سورة النساء: 93.

عَليْكَ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، رَحِمَكَ اللهُ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، لعَنَ اللهُ مَنْ قَتَلكَ، ولعَنَ اللهُ مَنْ شَرِكَ فِي دَمِكَ، ولعَنَ اللهُ مَنْ بَلغَهُ ذَلكَ فَرَضِيَ بِهِ، أَنَا إِلى اللهِ مِنْ ذَلكَ بَرِيء»(1).

الشكاية من الظالم

مسألة: تجوز الشكاية من الظالم، والجواز بالمعنى الأعم، إذ قد تستحب وقد تجب.

فإن الشكاية من الظالم مما سنها الله سبحانه لإقامة العدل في الكون، وليس ذلك من باب الحقد وما أشبه حتى يقال بأن الصديقة (صلوات الله عليها) أرفع من مثل ذلك، بل من باب إحقاق الحق وإبطال الباطل والانتصار للمظلوم وهو مظهر للعدل الإلهي.

قال تعالى: «وَلكِنْ حَقَّتْ كَلمَةُ العَذَابِ عَلى الكَافِرِينَ»(2).

وقال سبحانه: «قال إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وحُزْني إِلى اللهِ وأَعْلمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلمُون»(3).

وعَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ قَال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُول: «مَنْ شَكَا إِلى مُؤْمِنٍ فَقَدْ شَكَا إِلى اللهِ عَزَّ وجَل، ومَنْ شَكَا إِلى مُخَالفٍ فَقَدْ شَكَا اللهَ

ص: 210


1- مستدرك الوسائل: ج 10 ص299 ب45 باب استحباب زيارة الحسين (عليه السلام) بالزيارة المأثورة وآدابها وصلاة ركعتي الزيارة بعدها وزيارة الشهداء ح1.
2- سورة الزمر: 71.
3- سورة يوسف: 86.

عَزَّوجَل»(1).

كما أن ذلك من الحكمة، إذ الحكمةهي وضع الأشياء مواضعها(2)، ومنها: إن المماثل ينبغي أن ينتهي إلى المماثل من باب السنخية، قال سبحانه: «وَلقَدْ ذَرَأْنَا لجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الجِنِّ وَالإِنْسِ لهُمْ قُلوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولئِكَ كَالأنْعَامِ بَل هُمْ أَضَل أُولئِكَ هُمُ الغَافِلونَ»(3).

وقال الشاعر: (إن الطيور على أشكالها تقع).

فالمجرمون ينتهون إلى النار بسوء اختيارهم لا بجبر ولا قسر، والمصلحون ينتهون إلى الجنة بحسن اختيارهم كذلك، وقد ذكر تفصيل ذلك العلامة السيد عبد الله الشبر (رحمه الله) في كتابه (مصابيح الأنوار في حل مشكلات الأخبار) في بحث الطينة، وذكرنا في بعضمباحثنا عن الطينة بعض ما يؤيد المطلب.

ص: 211


1- وسائل الشيعة: ج 2 ص412 ب6 باب جواز الشكوى إلى المؤمن دون غيره ح3.
2- وقد يقال: إن الحقد كعنوان لا يصدق إلا مع كون العداوة والبغضاء لا لوجه حق، إذ لو كان بوجه حق كبغض أعداء الله تعالى والانطواء على ذلك فإنه لا يصدق عليه الحقد، وإن فرض صدقه عليه فإن ليس من الحقد المذموم بل هو من الممدوح لأنه مما أمر به الله، قال عزوجل عن لسان النبي إبراهيم (عليه السلام): (كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء ابداء حتى تؤمنوا بالله وحده) كما أن من فروع الدين وملحقاتها تولي أولياء الله وحبهم، والتبري من أعداء الله وبغضهم، وذلك كعكسه.
3- سورة الأعراف: 179.

بيان فضلهم بوجوه البيان

مسألة: يستحب بيان أن الصديقة فاطمة (عليها السلام) يوم القيامة تأتي على نجيب من نجب الجنة ويشيعها سبعون ألف ملك...

وقد سبق مكرراً أن البيان بوجوهه المختلفة مستحب، فقد يكون باللسان، وقد يكون بالقلم والبنان، وقد يكون بنقل رواية أو سبك قصة أو تجسيد مثال أو صنع فلم أو إقامة مسرح أو غير ذلك، لكن بشرط رعاية كافة شؤوناتهم (صلوات الله عليهم) بما لا يكون هتكاً ووهناً، بل بما يحفظ الحرمة والقداسة ويزيد الناس إيماناً على إيمانهم.

وربما يشمله ملاك ما روي عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «مَنْ ذُكِرْنَا عِنْدَهُ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ حَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ عَلى النَّارِ»(1).

أو يقال الذكر هنا بالمعنى الأعم فيشمل ما سبق.

مشايعة العظيم

مسألة: يستحب مشايعة العظيم، كما وردفي هذا الحديث: «يشيعها سبعون ألف ملك»، وقد سبق نظيره.

ولعل من وجوه استحباب مشايعة العظيم إضافة إلى الاستحقاق الذاتي وأنه وضع للشيء في موضعه، أن في ذلك تشجيعاً على الفضيلة والتقوى

ص: 212


1- وسائل الشيعة: ج 14 ص509 ب66 باب استحباب البكاء لقتل الحسين وما أصاب أهل البيت (عليهم السلام) وخصوصا يوم عاشوراء واتخاذه يوم مصيبة وتحريم التبرك به ح19.

والعلم، كما يرونه من مكانة العظيم وجلالة شأنه، وأن في ذلك ربطاً وشدّاً للناس بالقادة الصالحين، فإن الناس عادة يريدون بطبعهم أن يتحلقوا حول الكبار فإن لم يتحلقوا ويجتمعوا حول الصالحين منهم تحلقوا حول الطالحين أو انفرط زمام أمرهم وكان فوضى.

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ المَدَائِنِيِّ قَال: سَأَلتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) عَنْ قَوْلهِ تَعَالى: «ثُلةٌ مِنَ الأَوَّلينَ وثُلةٌ مِنَ الآخِرِينَ»(1)، قَال: «ثُلةٌ مِنَ الأَوَّلينَ مُؤْمِنُ آل فِرْعَوْنَ، وثُلةٌ مِنَ الآخِرِينَ عَليُّ بْنُ أَبِي طَالبٍ عليه السلام»(2).

هذا واستحباب التشييع وارد حتى في جنازة المؤمن، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «مَنْ شَيَّعَ جَنَازَةَ مُؤْمِنٍ حَتَّى يُدْفَنَ فِي قَبْرِهِ وَكَّل اللهُ عَزَّ وجَل بِهِ سَبْعِينَمَلكاً مِنَ المُشَيِّعِينَ يُشَيِّعُونَهُ ويَسْتَغْفِرُونَ لهُ إِذَا خَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ إِلى المَوْقِفِ»(3).

القضية الحسينية

مسألة: يستحب الاهتمام بما يرتبط بالإمام الحسين (عليه السلام) ومظلوميته، والاهتمام يشمل النفسي والفكري والعملي، كما يشمل الشخصي والعام.

قال تعالى: «ذلكَ ومَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى

ص: 213


1- سورة الواقعة: 39-40.
2- بحار الأنوار: ج 35 ص333 ب12 أنه (عليه السلام) السابق في القرآن وفيه نزلت ثلة من الأولين وقليل من الآخرين ح8.
3- الكافي: ج 3 ص173 باب ثواب من مشى مع جنازة ح2.

القُلوب»(1).

ذرية الصديقة وشيعتها

مسألة: يستحب بيان أن ذرية فاطمة (عليها السلام) بين يديها إلى الجنة، وأولياءهم من الناس عن يمينها وشمالها، فإن ذلك من دواعي تقوية إيمان الناس، إضافة إلى أنه إظهار لفضلهم وتفضيلهم وتعظيم شأنهم وتعظيم شعائر الله تعالى.

وفي الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله):«...فَقَالتِ المَلائِكَةُ إِلهَنَا وسَيِّدَنَا لمَنْ هَذَا النُّورُ الزَّاهِرُ الذِي قَدْ أَشْرَقَتْ بِهِ السَّمَاوَاتُ والأَرْضُ، فَأَوْحَى اللهُ إِليْهَا: هَذَا نُورٌ اخْتَرَعْتُهُ مِنْ نُورِ جَلالي لأَمَتِي فَاطِمَةَ ابْنَةِ حَبِيبِي وزَوْجَةِ وَليِّي وأَخِي نَبِيِّي وأَبِي حُجَجِي عَلى عِبَادِي، أُشْهِدُكُمْ مَلائِكَتِي أَنِّي قَدْ جَعَلتُ ثَوَابَ تَسْبِيحِكُمْ وتَقْدِيسكُمْ لهَذِهِ المَرْأَةِ وشِيعَتِهَا ومُحِبِّيهَا إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ»(2).

ص: 214


1- سورة الحج: 32.
2- تأويل الآيات الظاهرة: ص143.

يا عدل أحكم

اشارة

وفي رواية في أحوال يوم القيامة:

«... فتتعلق فاطمة (عليها السلام) بقائمة من قوائم العرش فتقول: يا عدل أحكم بيني وبين قاتل ولدي»(1).

--------------------------

حسن العدل

مسألة: العدل حسن وواجب، وذلك من المستقلات العقلية التي لا يشك فيها عاقل، نعم قد يختلف في بعض المصاديق وأن هذا مصداق للعدل أو لا، ولكن لا يشك في أن ما كشف الشارع عن كونه عدلاً فهو عدل، كما لا شك في أن ما أطبق العقلاء على كونه عدلاً فهو عدل.

والحكم بين ولي المقتول والقاتل من مصاديق العدل دون شك شرعاًوعقلائياً. قال تعالى: «قُل أَمَرَ رَبِّي بِالقِسْطِ»(2).

ص: 215


1- راجع عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج 2 ص26 ب31 باب فيما جاء عن الرضا (عليه السلام) من الأخبار المجموعة ح6، بحار الأنوار: ج 37 ص70 ب50 مناقب أصحاب الكساء وفضلهم (صلوات الله عليهم).
2- سورة الأعراف: 29.

وقال (عليه السلام): «العدل خير الحكم»(1).

المطالبة بالحكم على الظالم

مسألة: يستحب وقد يجب طلب الحكم على الظالم لما ارتكبه من الظلم، وقد ذكرناه وجهه في مبحث آنف، ولذا تقول الصديقة (عليها الصلاة والسلام): «يا عدل» فإن مقتضى العدالة ذلك.

نعم العفو في الظلم الخفيف أفضل، وقد يقيد بالظلم الخفيف الشخصي، لا النوعي(2)، إلا لو رأى من بيده الولاية كالإمام (عليه السلام) المصلحة في ذلك.

أما الظلم على الشريعة وعلى البشرية بإغوائهم وإضلالهم فلا مجال فيه.

والله ورسوله (صلى الله عليه وآله) وأولياؤه (عليهم السلام) أعلم بمكان العفو من مكانالمطالبة بمجازاة الظالم، وأن الاستحباب أو الوجوب في هذا الجانب أو ذاك.

فلا منافاة بين مثل ذلك ومثل قوله سبحانه: «وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ للتَّقْوَى»(3)، وقوله تعالى: «خُذِ العَفْوَ»(4)، إذا أريد بالعفو، العفو عن الظلم

ص: 216


1- مستدرك الوسائل: ج 11 ص318 ب37 باب وجوب العدل ح8.
2- لعل المقصود من الظلم الوارد على عائلة أو عشيرة أو جماعة أو ما أشبه.
3- سورة البقرة: 237.
4- سورة الأعراف: 199.

الوارد عليه(1).

التعلق بما يرتبط بالعظيم

مسألة: يستحب التعلق بما يرتبط بالعظيم، كما تعلقت الصديقة (عليهاالسلام) بقوائم العرش، ومنه يستفاد أيضاً استحباب التعلق بالأضرحة المشرفة للنبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) ونظائرها(2).

عَنْ عَليِّ بْنِ مُوسَى الرِّضَا (عليه السلام) قَال: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ (عليهم السلام) عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَال: كَانَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) فِي قُبَّةِ أَدَمٍ ورَأَيْتُ بِلال الحَبَشِيَّ وقَدْ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ ومَعَهُ فَضْل وَضُوءِ رَسُول اللهِ، فَابْتَدَرَهُ النَّاسُ، فَمَنْ أَصَابَ مِنْهُ شَيْئاً يَمْسَحُ بِهِ وَجْهَهُ، ومَنْ لمْ يُصِبْ مِنْهُ شَيْئاً أَخَذَ مِنْ يَدَيْ صَاحِبِهِ فَمَسَحَ بِهِ وَجْهَهُ، وكَذَلكَ فُعِل بِفَضْل وَضُوءِ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام)(3).

ص: 217


1- إذ يحتمل أن يراد بالعفو الزائد، أي الفائض عن أموالهم، وذلك قبل الزكاة، قال في التبيان في الآية 198 من سورة الأعراف: (أمر الله تعالى نبيه أن يأخذ مع الناس بالعفو وهو التساهل فيما بينه وبينهم، وقبول اليسير منهم، الذي سهله عليهم، ويسر فعله لهم، وأن يترك الاستقصاء عليهم في ذلك، وهذا يكون في مطالبة الحقوق الواجبة لله تعالى وللناس وغيرها، وهو في معنى الخبر عن النبي (صلى الله عليه وآله): "رحم الله سهل القضاء سهل الاقتضاء"، ولا ينافي ذلك أن لصاحب الحق والديون وغيرها استيفاء الحق وملازمة صاحبه حتى يستوفيه، لأن ذلك مندوب إليه دون أن يكون واجباً ، وقد يكون العفو في قبول العذر من المعتذر وترك المؤاخذة بالإساءة).
2- مثل أعمدة المشاهد المشرفة، بل وجدرانها وأبوابها وغيرها.
3- عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج 2 ص69 ب31 باب فيما جاء عن الرضا (عليه السلام) من الأخبار المجموعة ح319.

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) فِي حَدِيثٍ: «أَنَّ امْرَأَةً بَذِيَّةً قَالتْ لهُ: نَاوِلنِي مِنْ طَعَامِكَ، فَنَاوَلهَا، فَقَالتْ: لا واللهِ إِلا الذِي فِي فِيكَ، فَأَخْرَجَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) اللقْمَةَ مِنْ فِيهِ فَنَاوَلهَا إِيَّاهَا فَأَكَلتْهَا، قَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): فَمَا أَصَابَهَا بَذَاءٌ حَتَّى فَارَقَتِالدُّنْيَا»(1).

ص: 218


1- وسائل الشيعة: ج 25 ص218 ب131 باب جواز أكل لقمة خرجت من فم الغير والشرب من إناء شرب منه ومص أصابعه ولسان الزوجة والبنت ح1.

عزاء الحسين (علیه السلام) يوم المحشر

اشارة

في حديث حول أحوال القيامة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): يقال للصديقة فاطمة (عليها السلام): ادخلي الجنة، فتقول: «لا أدخل حتى أعلم ما صُنع بولدي من بعدي».

فيقال لها: انظري في قلب القيامة، فتنظر إلى الحسين (صلوات الله عليه) قائماً ليس عليه رأس، فتصرخ صرخة، وأصرخ لصراخها، وتصرخ الملائكة لصراخنا، فيغضب الله عزوجل لنا عند ذلك»(1).

-----------------------------

التظلم

مسألة: التظلم إذا كان من أهله وفي محله فهو من كمال المطلوب، وكذلك البكاء والصراخ والعويل والنوح ونظائرها، ولعل كونه كمالاً مطلوباً موجباً لزيادة الدرجات هو السبب في قولها (عليها السلام): «لا أدخل ...».ثم صراخها (عليها السلام) وصراخ رسول الله (صلى الله عليه وآله) معها وصراخ

ص: 219


1- بحار الأنوار: ج 43 ص222 ب8 تظلمها (صلوات الله عليها) في القيامة وكيفية مجيئها إلى المحشر ح8، عن ثواب الأعمال: ص217 عقاب من قتل الحسين (عليه السلام).

الملائكة مما لا شك في رجحانه، فإنهم لا يفعلون شيئاً إلا بأمر ربهم، ولحكمة، هذا إضافة إلى كونه مزيداً من الحجة على أولئك الظالمين والمجرمين، فيكون استحقاقهم للعذاب أوضح لدى الخلائق، ولا يبقى لهم مجال للاعتذار والتأويل، فإن المجرم لو عرضت أمامه جريمته مرة أخرى وهو في المحكمة لم يتجرأ على تبريرها، ولا طلب الصفح إذ يرى نفسه مستحقاً للعقوبة جديراً بها.

عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) قَال: «يَجِي ءُ يَوْمَ القِيَامَةِ ثَلاثَةٌ يَشْكُونَ، المُصْحَفُ والمَسْجِدُ والعِتْرَةُ، يَقُول المُصْحَفُ: يَا رَبِّ حَرَّفُونِي ومَزَّقُونِي، ويَقُول المَسْجِدُ: يَا رَبِّ عَطَّلونِي وضَيَّعُونِي، وتَقُول العِتْرَةُ: يَا رَبِّ قَتَلونَا وطَرَدُونَا وشَرَّدُونَا، فَأَجْثُو للرُّكْبَتَيْنِ فِي الخُصُومَةِ، فَيَقُول اللهُ عَزَّ وجَل لي: أَنَا أَوْلى بِذَلكَ مِنْكَ»(1).

ومن التظلم: ما روي عَنْ يُونُسَ بْنِ عَمَّارٍ قَال: قُلتُ لأَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): إِنَّ لي جَاراً مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ آل مُحْرِزٍ قَدْ نَوَّهَ بِاسْمِي وشَهَرَنِي، كُلمَا مَرَرْتُ بِهِ قَال:هَذَا الرَّافِضِيُّ يَحْمِل الأَمْوَال إِلى جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَال: فَقَال لي: «فَادْعُ اللهَ عَليْهِ إِذَا كُنْتَ فِي صَلاةِ الليْل وأَنْتَ سَاجِدٌ فِي السَّجْدَةِ الأَخِيرَةِ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ الأُوليَيْنِ، فَاحْمَدِ اللهَ عَزَّ وجَل ومَجِّدْهُ وقُل: "اللهُمَّ إِنَّ فُلانَ بْنَ فُلانٍ قَدْ شَهَرَنِي، ونَوَّهَ بِي وغَاظَنِي وعَرَضَنِي للمَكَارِهِ، اللهُمَّ اضْرِبْهُ بِسَهْمٍ عَاجِل تَشْغَلهُ بِهِ عَنِّي، اللهُمَّ وقَرِّبْ أَجَلهُ واقْطَعْ أَثَرَهُ وعَجِّل ذَلكَ يَا رَبِّ السَّاعَةَ السَّاعَةَ"، قَال: فَلمَّا قَدِمْنَا الكُوفَةَ قَدِمْنَا ليْلا فَسَأَلتُ أَهْلنَا عَنْهُ، قُلتُ: مَا فَعَل فُلانٌ، فَقَالوا: هُوَ مَرِيضٌ، فَمَا انْقَضَى آخِرُ كَلامِي حَتَّى سَمِعْتُ الصِّيَاحَ مِنْ

ص: 220


1- وسائل الشيعة: ج 5 ص202 ب5 باب استحباب الصلاة في المسجد الذي لا يصلى فيه وكراهة تعطيله ح2.

مَنْزِلهِ، وقَالوا: قَدْ مَاتَ»(1).

مواساة العترة

مسألة: من المستحب مواساة العترة الطاهرة (عليهم السلام)، لما ثبت من الأدلة على استحباب المواساة، مطابقةً والتزاماً، وما فيها من الأجر والثواب.

إضافةً إلى أن حسن المواساة من الفطريات التي فطر الله الناس عليها، ولذا نجد إطباق كافة الأمم عليها وإن اختلفت صورها ومصاديقها.قَال علي (عليه السلام): «ثَلاثُ خِصَال تَجْتَلبُ بِهِنَّ المَحَبَّةَ، الإِنْصَافُ فِي المُعَاشَرَةِ، والمُوَاسَاةُ فِي الشِّدَّةِ والانْطِوَاعُ، والرُّجُوعُ إِلى قَلبٍ سَليمٍ»(2).

وعَنِ الصَّادِقِ (عليه السلام) قَال: «ثَلاثُ دَعَوَاتٍ لا يُحْجَبْنَ عَنِ اللهِ، مِنْهَا رَجُل مُؤْمِنٌ دَعَا لرَجُل مُؤْمِنٍ وَاسَاهُ فِينَا، ودُعَاؤُهُ عَليْهِ إِذَا لمْ يُوَاسِهِ مَعَ القُدْرَةِ عَليْهِ والاضْطِرَارِ إِليْهِ»(3).

مواساة الملائكة

مسألة: يستحب بيان أن الملائكة يواسون النبي وآله (صلى الله عليه وعليهم).

ثم إنه يستفاد من الروايات أن كل ما خلقه الله سبحانه قام بمواساتهم

ص: 221


1- الكافي: ج 2 ص512 باب الدعاء على العدو ح3.
2- كشف الغمة: ج 2 ص349.
3- وسائل الشيعة: ج 9 ص428 ب27 باب استحباب مواساة المؤمن في المال ح5.

(عليهم الصلاة والسلام)، ومنه حزن الكون بمختلف مظاهر الحزن لقتل الإمام الحسين (عليه

السلام)، ومن مظاهره الحمرة المغربية، ولا يستغرب ذلك بعد معرفة أن الكون شاعر، وأن له درجة من الاختيار، وأن الله تعالى ربط في الجملة بعض التشريع ببعض التكوين، وبعضالتكوين ببعضه الآخر.

أما الأولان، فلقوله تعالى: «تُسَبِّحُ لهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَ الأَرْضُ وَ مَنْ فيهِنَّ وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَليماً غَفُوراً»(1).

وقوله سبحانه: «ثُمَّ اسْتَوَى إِلى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَال لهَا وَللأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ»(2).

وأما الأخير فكثير، كطوفان نوح (عليه السلام) إذ ربطه الله تعالى بعصيانهم، وآيات موسى (عليه السلام) من قمل وجراد وضفادع وطوفان وغيرها، وكشق القمر وكثير من معاجز الأنبياء (عليهم السلام)، بل ومثل قوله تعالى: «وَلوْ أَنَّ أَهْل القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لفَتَحْنَا عَليْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ»(3).

ثم الظاهر أن حب الأولاد والاهتمام بهم جبلي لا يفارق الأبوين حتى فيما بعد عالم الدنيا، إلا أن يشاء الله كما قال تعالى: «يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَل كُل

ص: 222


1- سورة الإسراء: 44.
2- سورة فصلت: 11.
3- سورة الأعراف: 96.

مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُل ذَاتِ حَمْل حَمْلهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ»(1).

إغضاب المعصوم

مسألة: يستحب بيان أن الله تعالى يغضب لغضب النبي وآله (صلوات الله عليه وعليهم أجمعين) فاللازم اجتناب ما يغضب المعصومين (عليهم السلام).

وقد ثبت في علم الكلام أن المراد بغضب الله سبحانه النتيجة، كما قالوا: (خذ الغايات واترك المبادئ)، لأن الله عزوجل ليس محلاً للحوادث كالغضب والفرح وما أشبه.

أما قوله سبحانه: «فَلمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ»(2)، فالمراد فعلوا ما أوجب الغضب لو كان الطرف يغضب طبيعياً.

فلا يقال: إن هذا يستلزم التكرار المنافي للحكمة، لقاعدة خذ الغايات(3).

ص: 223


1- سورة الحج: 2.
2- سورة الزخرف: 55.
3- وربما دل بعض الروايات على أن إطلاق هذه الصفات هو بلحاظ اتصاف أشرف خلقه بها، وهم الرسول وأهل بيته (عليه وعليهم السلام) وإطلاقها عليه تعالى هو بلحاظ أنه مسبب الأسباب وإليه يرجع الأمر كله، نظير: «وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ» سورة الأنفال: 17. فقد ورد مثلاً عَنِ ابْنِ أَبِي يَعْفُورٍ قَال: قَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «إِنَّ اللهَ وَاحِدٌ أَحَدٌ، مُتَوَحِّدٌ بِالوَحْدَانِيَّةِ، مُتَفَرِّدٌ بِأَمْرِهِ، خَلقَ خَلقاً فَفَوَّضَ إِليْهِمْ أَمْرَ دِينِهِ، فَنَحْنُ هُمْ، يَا ابْنَ أَبِي يَعْفُورٍ نَحْنُ حُجَّةُ اللهِ فِي عِبَادِهِ، وشُهَدَاؤُهُ عَلى خَلقِهِ، وأُمَنَاؤُهُ عَلى وَحْيِهِ، وخُزَّانُهُ عَلى عِلمِهِ، ووَجْهُهُ الذِي يُؤْتَى مِنْهُ، وعَيْنُهُ فِي بَرِيَّتِهِ، ولسَانُهُ النَّاطِقُ، وقَلبُهُ الوَاعِي، وبَابُهُ الذِي يَدُل عَليْهِ، ونَحْنُ العَامِلونَ بِأَمْرِهِ، والدَّاعُونَ إِلى سَبِيلهِ، بِنَا عُرِفَ اللهُ، وبِنَا عُبِدَ اللهُ، نَحْنُ الأَدِلاءُ عَلى اللهِ، ولوْلانَا مَا عُبِدَ اللهُ». التوحيد للصدوق: ص152 ب12 باب تفسير قول الله عز وجل (كل شي ء هالك إلا وجهه) ح9.

الاهتمام بالولد

مسألة: يستحب الاهتمام بالولد، كما قالت الصديقة (عليها السلام): «حتى أعلم ما صنع بولدي».

ومن الاهتمام به معرفة أحواله، من صحة ومرض، وتقدم وتأخر، وغنى وفقر، وعلم وجهل، واتصاف بفضيلة وعدمها، فإن ذلك من الإنسانية ومن مظاهر الرحمة ومن أسباب التلاحم والتعاون والتقدم.

عَنْ يُونُسَ بْنِ يَعْقُوبَ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، قَال: كَانَ قَوْمٌ أَتَوْا أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) فَوَافَقُوا صَبِيّاً لهُ مَرِيضاً، فَرَأَوْا مِنْهُ اهْتِمَاماً وغَمّاً، وجَعَل لا يَقِرُّ، قَال: فَقَالوا: واللهِ لئِنْ أَصَابَهُ شَيْ ءٌ إِنَّا لنَتَخَوَّفُ أَنْ نَرَى مِنْهُ مَا نَكْرَهُ، قَال: فَمَا لبِثُوا أَنْ سَمِعُوا الصِّيَاحَ عَليْهِ، فَإِذَا هُوَ قَدْ خَرَجَ عَليْهِمْ مُنْبَسِطَ الوَجْهِ فِي غَيْرِالحَال التِي كَانَ عَليْهَا، فَقَالوا لهُ: جَعَلنَا اللهُ فِدَاكَ لقَدْ كُنَّا نَخَافُ مِمَّا نَرَى مِنْكَ أَنْ لوْ وَقَعَ أَنْ نَرَى مِنْكَ مَا يَغُمُّنَا، فَقَال لهُمْ: إِنَّا لنُحِبُّ أَنْ نُعَافَى فِيمَنْ نُحِبُّ، فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللهِ سَلمْنَا فِيمَا أَحَبَّ»(1).

ص: 224


1- الكافي: ج 3 ص226 باب الصبر والجزع والاسترجاع ح14.

الصراخ والبكاء والتباكي

مسألة: يستحب الصراخ والبكاء أو التباكي لرؤية الإمام الحسين (عليه السلام) وهو مضرج بدمه أو مقطوع الرأس، ولو كان في لوحة رسم، أو عند سماع مصيبته، أو عند كتابتها، أو عند إلقائها وقراءتها، أو حتى عند التفكير فيها، فإن في ذلك حطة للذنوب وزيادة في الدرجات.

عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلمٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: كَانَ عَليُّ بْنُ الحُسَيْنِ (عليه السلام) يَقُول: «أَيُّمَا مُؤْمِنٍ دَمَعَتْ عَيْنَاهُ لقَتْل الحُسَيْنِ (عليه السلام) حَتَّى تَسِيل عَلى خَدَّيْهِ بَوَّأَهُ اللهُ بِهَا غُرَفاً يَسْكُنُهَا أَحْقَاباً، وأَيُّمَا مُؤْمِنٍ دَمَعَتْ عَيْنَاهُ حَتَّى تَسِيل عَلى خَدِّهِ فِيمَا مَسَّنَا مِنَ الأَذَى مِنْ عَدُوِّنَا فِي الدُّنْيَا بَوَّأَهُ اللهُ مُبَوَّأَ صِدْقٍ، وأَيُّمَا مُؤْمِنٍ مَسَّهُ أَذًى فِينَا فَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ حَتَّى تَسِيل عَلى خَدِّهِ مِنْ مَضَاضَةِ مَا أُوذِيَ فِينَا صَرَفَ اللهُ عَنْ وَجْهِهِ الأَذَى وآمَنَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ سَخَطِهِ والنَّارِ»(1).

صراخ لصراخ

مسألة: يستحب الصراخ لصراخ أهل البيت (عليهم السلام).

ولا وجه لما قد يتوهمه البعض من منافاة ذلك للوقار والتحضر، فإن الوقار مطلوب إلاّ على مصاب أهل البيت (عليهم السلام) ومن تبعهم وما شاكل

ص: 225


1- وسائل الشيعة: ج 14 ص501 ب66 باب استحباب البكاء لقتل الحسين وما أصاب أهل البيت (عليهم السلام) وخصوصاً يوم عاشوراء واتخاذه يوم مصيبة وتحريم التبرك به ح3.

ذلك، وقد ورد: «وَارْحَمْ تِلكَ الصَّرْخَةَ التِي كَانَتْ لنَا»(1).

وقبله ورد: «وَارْحَمْ تِلكَ الأَعْيُنَ التِي جَرَتْ دُمُوعُهَا رَحْمَةً لنَا، وَارْحَمْ تِلكَ القُلوبَ التِي جَزِعَتْ وَاحْتَرَقَتْ لنَا»(2).

ثم إن البكاء والضجيح والصراخ على الفقيد العظيم هو مظهر الإنسانية، والوقار في مثل هذه الحالة مذموم.

الجهر بظلامة الحسين (علیه السلام)

مسألة: يستحب الجهر بمظلومية الإمام الحسين (عليه السلام) والمبادرة إلى إقامة الشعائر الحسينية عند سماعها.ولعل في نقل المعصوم (عليه السلام) هذه الرواية وأمثالها دليلاً على ذلك، وأنه حتى يوم القيامة ينبغي بل لا يخلو من ذكر مظلومية الحسين (عليه السلام) وقراءة العزاء أمام المحشر بأجمعهم، إذ تصرخ الصديقة فاطمة (عليها السلام) والنبي (صلى الله عليه وآله) والملائكة لذلك.

وبذلك ينعقد أكبر مجلس عزاء على الإمام الحسين (عليه السلام) يوم القيامة، حيث يحضره جميع الملائكة وجميع البشر من آدم (عليه السلام) إلى آخر البشر.

وحيث إن الجزاء من سنخ العمل وأنه «قُل كُل يَعْمَل عَلى شَاكِلتِهِ»(3)،

ص: 226


1- مستدرك الوسائل: ج 10 ص231 ب26 باب تأكد استحباب زيارة الحسين بن علي (عليه السلام) ووجوبها كفاية ح4.
2- ثواب الأعمال: ص95 ثواب من زار قبر الحسين (عليه السلام).
3- سورة الإسراء: 84.

فلعل مشاركة كل مؤمن ومسلم وإنسان في عزاء القيامة يكون على حسب درجة ومرتبة مشاركته في العزاء على سيد الشهداء (عليه السلام) في الدنيا، وعلى حسب ما علمه الله تعالى منه أنه لو أمكنه لفعل، وعلى حسب ما علمه الله سبحانه منه أنه لو علم لفعل، والله العالم.

ص: 227

المحكمة الإلهية الكبرى

اشارة

في الحديث عن أحوال يوم القيامة: إن فاطمة (عليها السلام) تقول:

«إِلهِي وَسَيِّدِي احْكُمْ بَيْنِي وَبَيْنَ مَنْ ظَلمَنِي، اللهُمَّ احْكُمْ بَيْنِي وَبَيْنَ مَنْ قَتَل وُلدِي.

فَإِذَا النِّدَاءُ مِنْ قِبَل اللهِ جَل جَلالهُ: يَا حَبِيبَتِي وَابْنَةَ حَبِيبِي، سَلينِي تُعْطَيْ، وَاشْفَعِي تُشَفَّعَيْ، فَوَ عِزَّتِي وَجَلالي لا جَازَنِي ظُلمُ ظَالمٍ.

فَتَقُول: إِلهِي وَسَيِّدِي ذُرِّيَّتِي وَشِيعَتِي وَشِيعَةُ ذُرِّيَّتِي وَمُحِبِّيَّ وَمُحِبِّي ذُرِّيَّتِي.

فَإِذَا النِّدَاءُ مِنْ قِبَل اللهِ جَل جَلالهُ: أَيْنَ ذُرِّيَّةُ فَاطِمَةَ وَشِيعَتُهَا وَمُحِبُّوهَا وَمُحِبُّو ذُرِّيَّتِهَا، فَيُقْبِلونَ وَقَدْ أَحَاطَ بِهِمْ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ فَتَقْدُمُهُمْ فَاطِمَةُ (عليها السلام) حَتَّى تُدْخِلهُمُ الجَنَّة»(1).

------------------------

المصالح والمفاسد الواقعية

مسألة: أفعال الله تعالى معللة بالمصالح والمفاسد الواقعية فعلاً وتركاً، أمراً ونهياً، بالنظر إلى حكمته، لا لجبر جابر له، فإنه عزوجل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، لكنه أبى إلا أن يخلقبحكمة، ويفعل أو يترك بحكمة.

ص: 228


1- الأمالي، للصدوق: ص17 المجلس الخامس ح4.

قال تعالى: «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِليْنَا لاَ تُرْجَعُونَ * فَتَعَالى اللهُ المَلكُ الحَقُّ لاَ إِلهَ إلاَّ هُوَ رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ»(1).

وقال سبحانه: «لوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لهْواً لاَتَّخَذْنَاهُ مِنْ لدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلينَ»(2).

وبذلك يتضح وجه ما ورد في دعاء كميل: «فباليقين أقطع لو لا ما حكمت به من تعذيب جاحديك، وقضيت به من إخلاد معانديك، لجعلتَ النار كلها برداً وسلاماً، وما كان لأحد فيها مقراً ولا مقاماً، لكنك تقدست أسماؤك أقسمت أن تملأها من الكافرين، من الجنة والناس أجمعين، وأن تخلد فيها المعاندين»(3).

فإن حكمه وقسمه بالنظر للمصلحة والمفسدة، واستحقاق أولئك للعقاب والعذاب، فإنه عزوجل العدل الذي لا يجور.

وفي هذا الحديث «لا جازاني ظلم ظالم».

وفي بعض الأحاديث: «إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالى إِذَا بَرَزَ لخَلقِهِ أَقْسَمَ قَسَماً عَلى نَفْسِهِ فَقَال: وَعِزَّتِي وَجَلالي لا يَجُوزُنِي ظُلمُ ظَالمٍ، وَلوْ كَفٌّ بِكَفٍّ، وَلوْ مَسْحَةٌ بِكَفٍّ، وَلوْ نَطْحَةٌ مَا بَيْنَ القَرْنَاءِ إِلى الجَمَّاءِ، فَيَقْتَصُّ للعِبَادِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ حَتَّى لا تَبْقَى لأَحَدٍ عَلى أَحَدٍ مَظْلمَةٌ ثُمَّ يَبْعَثُهُمْ للحِسَاب»(4).

ص: 229


1- سورة المؤمنون: 115-116.
2- سورة الأنبياء: 17.
3- مصباح المتهجد: ج 2 ص848 دعاء آخر وهو دعاء الخضر (عليه السلام).
4- الكافي: ج 2 ص443 باب في أن الذنوب ثلاثة ح1.

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ رَبِّي عَزَّ وَ جَل حَكَمَ وَ أَقْسَمَ أَنْ لا يَجُوزَهُ ظُلمُ ظَالمٍ»(1).

وقال داود (عليه السلام): «أَيْ رَبِّ وَكَيْفَ لا أَخَافُ وَ قَدْ عَمِلتُ مَا عَلمْتَ، وَأَنْتَ الحَكَمُ العَدْل الذِي لا يَجُوزُكَ ظُلمُ ظَالمٍ فَأَوْحَى اللهُ عَزَّ وَ جَل إِليْهِ تُبْ يَا دَاوُدُ»(2).

فإنه تعالى جل عن أن يجوزه ظلم ظالم، و(جل) يعني عظم قدره وارتفع عن الأمر القبيح المخالف للحكمة(3)، كما أن ذلك مخالف لعزته تعالى.

الحكم على الظالم

مسألة: طلب الحكم على الظالم راجح مطلوب، وقد يكون واجباً في صور، منها إذا كان الظلم على الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) ومن يتلوهم، فإن فيه إظهاراً لعدل الله ولحكمته، فكما أن طلب العفو عمن يستحقه حسن، كذلك طلب العذاب لمن يستحقه حسن في الجملة، وكل منهما مظهر لصفة من صفات الله تعالى، فإنه (أرحم الراحمين) و(أشد المعاقبين).

قال سبحانه:«وَلاَ تُصَل عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ»(4).

ص: 230


1- مستدرك الوسائل: ج 18 ص287 ب20 باب نوادر ما يتعلق بأبواب قصاص الطرف ح2.
2- تفسير القمي: ج 2 ص231.
3- في مجمع البحرين: (الجليل من أسمائه تعالى وهو راجع إلى كمال الصفات، كما أن الكبير راجع إلى كمال الذات، والعظيم راجع إلى كمال الذات والصفات).
4- سورة التوبة: 84.

وقال تعالى: «اسْتَغْفِرْ لَهمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ»(1).

وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) في حديث: «وأَمَّا الظُّلمُ الذِي لا يَدَعُهُ فَالمُدَايَنَةُ بَيْنَ العِبَادِ»(2).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «أَوْحَى اللهُ إِلى نَبِيٍّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ فِي مَمْلكَةِ جَبَّارٍ مِنَ الجَبَابِرَةِ أَنِ ائْتِ هَذَا الجَبَّارَفَقُل لهُ: إِنِّي لمْ أَسْتَعْمِلكَ عَلى سَفْكِ الدِّمَاءِ واتِّخَاذِ الأَمْوَال، وإِنَّمَا اسْتَعْمَلتُكَ لتَكُفَّ عَنِّي أَصْوَاتَ المَظْلومِينَ فَإِنِّي لنْ أَدَعَ ظُلامَتَهُمْ وإِنْ كَانُوا كُفَّاراً»(3).

طلب الشفاعة

مسألة: يستحب طلب الشفاعة من الله سبحانه.

ثم إن الشفاعة لا تنافي قوله سبحانه: «كُل امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ»(4).

وقوله تعالى: «فَمَنْ يَعْمَل مِثْقَال ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَل مِثْقَال ذَرَّةٍ

ص: 231


1- سورة التوبة: 80.
2- الكافي: ج 2 ص331 باب الظلم ح1.
3- وسائل الشيعة: ج 7 ص129 ب52 باب وجوب توقي دعوة المظلوم بترك الظلم ودعوة الوالدين بترك العقوق واستحباب دعاء المظلوم والوالدين ح3.
4- سورة الطور: 21.

شَرّاً يَرَهُ»(1).

وقوله سبحانه: «وَأَنْ ليْسَ للإِنْسَانِ إلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى»(2)، وما أشبه.

فإن الشفاعة معناها التوسيط، لاإعطاء من لا يستحق.

كما أن الشفاعة هي من شأن الشافع، فله سعيه وكسبه، وكذلك يقال بمثله في أدلة العفو والغفران وما أشبه، وهكذا نظيره الإرث والهبة.

فلا يقال: كيف يرث من لم يعمل لاستحصال تلك الأموال شيئاً، وكيف يحصل الشخص على المال من الإرث وهو لم يسع فيه؟

وكذلك الأمر في الضيافة وغيرها، بل وحتى التسامح في الأسعار مع المشتري، ونظائر ذلك كثير، مما بنى عليه العقلاء، ويدرك الإنسان حسنه بالوجدان.

وتفصيل الكلام مذكور في الكتب الكلامية، وعليه فلا منافاة بين الطائفتين من الأدلة.

ص: 232


1- سورة الزلزلة: 7 - 8.
2- سورة النجم: 39 - 40.

ظلم الصديقة

مسألة: من أشد المحرمات ظلم الصديقة فاطمة (صلوات الله عليها)، فإن شدة الحرام والعقوبة كما تتبع نوع المعصية تتبع مدى عظمة من وقعت عليه وانتهكت حرمته، فإن الكذب مثلاً حرام لكن الكذب على الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) أشد حرمةً، ولذا كان هذا الكذب مبطلاً للصوم، وضرب الغير عدواناً حرام لكن ضرب الأُم أشد حرمة.. وهكذا.

وفي كتاب سليم، في حديث مجيء الرجلين للاعتذار عن الصديقة فاطمة (عليها السلام): «قَالتْ: نَشَدْتُكُمَا بِاللهِ هَل سَمِعْتُمَا رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُول: فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي فَمَنْ آذَاهَا فَقَدْ آذَانِي، قَالا: نَعَمْ، فَرَفَعَتْ يَدَهَا إِلى السَّمَاءِ فَقَالتْ: اللهُمَّ إِنَّهُمَا قَدْ آذَيَانِي فَأَنَا أَشْكُوهُمَا إِليْكَ وإِلى رَسُولكَ، لا واللهِ لا أَرْضَى عَنْكُمَا أَبَداً حَتَّى أَلقَى أَبِي رَسُول اللهِ وأُخْبِرَهُ بِمَا صَنَعْتُمَا فَيَكُونَ هُوَ الحَاكِمَ فِيكُمَا»(1).

قتل الأطهار

مسألة: من أشد المحرمات قتل ولدالصديقة (صلوات الله عليها)، حتى وإن لم يكونوا من الأئمة (عليهم السلام) فكيف إذا كانوا منهم.

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالكٍ قَال: دَخَلتُ عَلى رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) فَقَال: قَدْ

ص: 233


1- كتاب سليم بن قيس الهلالي: ج 2 ص869 الحديث الثامن والأربعون.

أُعْطِيتُ الكَوْثَرَ، قُلتُ: ومَا الكَوْثَرُ، قَال: نَهَرٌ فِي الجَنَّةِ عَرْضُهُ وطُولهُ مَا بَيْنَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ، لا يَشْرَبُ أَحَدٌ مِنْهُ فَيَظْمَأَ، ولا يَتَوَضَّأُ مِنْهُ أَحَدٌ أَبَداً فَيَشْعَثَ، لا يَشْرَبُهُ إِنْسَانٌ خَفَرَ ذِمَّتِي ولا مَنْ قَتَل أَهْل بَيْتِي»(1).

وعَنْ جَابِرٍ قَال: قَال أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «دَعَا رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) أَصْحَابَهُ بِمِنًى، فَقَال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَليْنِ، أَمَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا لنْ تَضِلوا كِتَابَ اللهِ وعِتْرَتِي أَهْل بَيْتِي، فَإِنَّهُمَا لنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَليَّ الحَوْضَ، ثُمَّ قَال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ حُرُمَاتِ اللهِ كِتَابَ اللهِ وعِتْرَتِي والكَعْبَةَ البَيْتَ الحَرَامَ، ثُمَّ قَال أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): أَمَّا كِتَابَ اللهِ فَحَرَّفُوا، وأَمَّا الكَعْبَةَ فَهَدَمُوا، وأَمَّا العِتْرَةَ فَقَتَلوا، وكُل وَدَائِعِ اللهِ فَقَدْ تَبَّرُوا»(2).

مقام الصديقة

مسألة: يستحب بيان مقام فاطمة (عليها السلام) ومنزلتها عند الله حيث يخاطبها: «سليني تُعطَي، اشفعي تشفّعي...».

والظاهر الإطلاق لكل ما سألته، والعموم ولكل من شفعت في حقه وما شفعت فيه.

ومن المعلوم أنها (عليها السلام) لا تسأل ما لا يوافق الحكمة، ولا تشفع لمن لا يرتضيه الله، قال عزوجل: «لا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لمَنِ ارْتَضَى»(3)، فهي كأبيها

ص: 234


1- شواهد التنزيل: ج 2 ص487 ح1163.
2- بصائر الدرجات: ج 1 ص413 ح3.
3- سورة الأنبياء: 28.

رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد أدبها ربها بما يجعلها لا تسأل إلاّ الأصلح الأنفع، وفي الحديث: «إن الله أدب نبيه ففوض إليه دينه»(1).

حبيبة الله

مسألة: يستحب بيان أن الصديقة فاطمة (صلوات الله عليها) هي حبيبة الله تعالى، كما أن الرسول (صلى الله عليه وآله) هو حبيبه سبحانه.

وقد سبق الكلام عن أن مثل هذه الأوصاف عند وصف الباري تعالى بها،يراد بها غاياتها، ف (الحبيب) هو المقرب جداً لدى الشخص، وهو الذي تلبى طلباته، ويمنح أفضل ما يمكن أن يمنح، وعلى حسب ظرفيته وسعته، «أَنْزَل مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا»(2).

وحيث إن وجودهم (صلوات الله عليهم) هو أسمى الوجودات الإمكانية وأوسعها،كان ما ينالها وينالهم باعتبارها حبيبة لله تعالى ما لا يمكن لنا وصفه، بل لا يمكن لنا دركه، إذ أنى للإناء الصغير أن يحيط بالبحر الكبير، بل الفاصل أكبر وأكبر.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «إِنَّمَا سُمِّيَتْ فَاطِمَةُ لأَنَّ الخَلقَ فُطِمُوا عَنْ مَعْرِفَتِهَا أَوْ مِنْ مَعْرِفَتِهَا»(3).

ص: 235


1- وسائل الشيعة: ج26 ص142 ب20 ح32682.
2- سورة الرعد: 17.
3- تفسير فرات الكوفي: ص582 ح747.

من صفات الله تعالى

مسألة: يجب الاعتقاد بعدل الله تعالى وعلمه وقدرته، حيث لا تجوزه ظلم ظالم، والاعتقاد بعدله وعلمه إضافة إلى أنه واقع فإنه كمال للمعتقد، فكما أن العلم بالحقائق كمال كذلك الاعتقاد بما ينبغي أن يعتقد به.

قال الشيخ الصدوق (رحمه الله): اعتقادنا أنّ الله تبارك وتعالى أمرنا بالعدل، وعاملنا بما هو فوقه، وهو التفضّل، وذلك أنّه عزّ وجل يقول: «مَنْ جاءَ بِالحَسَنَةِ فَلهُ عَشْرُ أَمْثالها ومَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلا مِثْلها وهُمْ لا يُظْلمُونَ»(1).

والعدل هو أن يثيب على الحسنة، ويعاقب على السيّئة(2).

ص: 236


1- سورة الأنعام: 160.
2- اعتقادات الإماميه، للصدوق: ص69 باب الاعتقاد في العدل.

حلي الصديقة يوم القيامة

اشارة

روي عن فاطمة (عليها السلام) بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنها قالت:

«قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله): ألا أبشرك، إذا أراد الله أن يتحف زوجة وليه في الجنة بعث إليك تبعثين إليها من حليّك»(1).

------------------------

الهدية للمتزوجة

مسألة: يستحب إعطاء الهدية للمتزوجة جديداً، وربما يستفاد منه ملاكاً المتزوج كذلك.

بل الإهداء للزوجة مطلقاً مستحب، وكذا الزوج.

على ما يستفاد من هذه الرواية في الجملة، مضافاً إلى إطلاق أدلة الهدايا.

والقول بأنه لا تقاس أحوال الآخرة بالدنيا فلا ربط له بالمقام، فتأمل.

فالدنيا والآخرة وإن اختلفتا بما لا يتصور، إلا أنهما من حيث القوانين

ص: 237


1- دلائل الإمامة: ص67.

الكلية الإلهية، وشمول المستقلات العقلية تحت حكم إله عادل قدير غفور رحيم، واحد إلاّ ما خرج بالدليل في هذا الجانب أو في ذلك الجانب، وقد حقق ذلك في مباحث أصول الدين.

قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «يَا مَعْشَرَ المَلإِ تَهَادَوْا فَإِنَّ الهَدِيَّةَ تَذْهَبُ بِالسَّخِيمَةِ، ولوْ دُعِيتُ إِلى كُرَاعٍ أَوْ ذِرَاعٍ شَكَّ عَائِذٌ لأَجَبْتُ، ولوْ أُهْدِيَ إِليَّ ذِرَاعٌ أَوْ كُرَاعٌ شَكَّ عَائِذٌ لقَبِلت»(1).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «نِعْمَ الشَّيْ ءُ الهَدِيَّةُ أَمَامَ الحَاجَةِ، وقَال: تَهَادَوْا تَحَابُّوا فَإِنَّ الهَدِيَّةَ تَذْهَبُ بِالضَّغَائِنِ»(2).

بشارة المؤمن

مسألة: يستحب بشارة المؤمن، حيث قال (صلى الله عليه وآله) في هذا الحديث: «ألا أبشرك».

ثم كلما كان المؤمن أعلا درجة كانتالبشارة له أعظم أجراً، وكلما كانت البشارة أعظم في إدخال السرور في قلبه كان ثوابها أكبر.

عَنْ مُعَمَّرِ بْنِ خَلادٍ قَال: سَمِعْتُ أَبَا الحَسَنِ (عليه السلام) يَقُول: «إِنَّ للهِ عِبَاداً فِي الأَرْضِ يَسْعَوْنَ فِي حَوَائِجِ النَّاسِ هُمُ الآمِنُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، ومَنْ أَدْخَل

ص: 238


1- مستدرك الوسائل: ج 13 ص206 ب71 باب استحباب الإهداء إلى المسلم ولو نبقاٌ وقبول هديته ح13.
2- وسائل الشيعة: ج 17 ص289 ب88 باب استحباب الإهداء إلى المسلم ولو نبقا وقبول هديته ح18.

عَلى مُؤْمِنٍ سُرُوراً فَرَّحَ اللهُ قَلبَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ»(1).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «مَنْ أَدْخَل السُّرُورَ عَلى مُؤْمِنٍ فَقَدْ أَدْخَلهُ عَلى رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله)»(2).

ما يرتبط بالمعصوم

مسألة: يستحب بيان أهمية ما يرتبط بالمعصوم (عليه السلام) بجهة من الجهات، من ملابسه، وحليها، وكتبه، وخاتمه، وماء وضوئه، والأرض التي كان يجلس عليها، والمنزل الذي كان يسكنه، والمكان الذي كان يخطب عليه، والمسجد الذي صلى فيه، وغيرذلك، كضريحه وحرمه وتراب مشهده وما أشبه.

ثم إن في هذا الحديث دليلاً آخر على لطف الله تعالى بالصديقة (عليها السلام)، فإن ظاهره أن الله سبحانه في كل مورد مورد يبعث إليها لكي تكون واسطة الفيض على زوجات أوليائه بإرسال بعض حليها، وذلك لطف عظيم من الله عزوجل.

كما أنه يظهر لنا أن عناية الله تعالى الخاصة بأوليائه لا تنقطع، فإن التحفة فوق الهدية، تتضمن عناية خاصة بالشخص بين فترة وأخرى، والمعصوم ع هو محل عناية الباري عزوجل الخاصة.

ص: 239


1- الكافي: ج 2 ص197 باب السعي في حاجة المؤمن ح2.
2- الكافي: ج 2 ص192 باب إدخال السرور على المؤمنين ح14.

عَنْ رَجُل عَنْ بُكَيْرٍ، قَال: لقِيتُ أَبَا بَصِيرٍ المُرَادِيَّ، فَقُلتُ: أَيْنَ تُرِيدُ، قَال: أُرِيدُ مَوْلاكَ، قُلتُ: أَنَا أَتْبَعُكَ، فَمَضَى مَعِي فَدَخَلنَا عَليْهِ وأَحَدَّ النَّظَرَ فَقَال: «هَكَذَا تَدْخُل بُيُوتَ الأَنْبِيَاءِ وأَنْتَ جُنُبٌ»، قَال: أَعُوذُ بِاللهِ مِنْ غَضَبِ اللهِ وغَضَبِكَ، فَقَال: أَسْتَغْفِرُ اللهَ ولا أَعُودُ، رَوَى ذَلكَ أَبُو عَبْدِ اللهِ البَرْقِيُّ عَنْ بُكَيْرٍ(1).

ص: 240


1- بحار الأنوار: ج 97 ص130 ب3 آداب الزيارة وأحكام الروضات وبعض النوادر ح16.

شفاعة النبي

اشارة

قالت فاطمة (عليها السلام) لرسول الله (صلى الله عليه وآله):

«يا أبتاه أين ألقاك يوم الموقف الأعظم، ويوم الأهوال، ويوم الفزع الأكبر»؟

قال (صلى الله عليه وآله): «يا فاطمة عند باب الجنة ومعي لواء الحمد وأنا الشفيع لأمتي إلى ربي».

قالت: «يا أبتاه فإن لم ألقك هناك»؟.

قال: «ألقيني على الحوض وأنا أسقي أمتي».

قالت: «يا أبتاه إن لم ألقك هناك»؟.

قال: «القيني على الصراط وأنا قائم أقول: رب سلم أمتي».

قالت: «فإن لم ألقك هناك».

قال: القيني وأنا عند الميزان أقول: «رب سلم أمتي».

قالت: فإن لم ألقك هناك.

قال: القيني على شفير جهنم أمنع شررها ولهبها عن أمتي، فاستبشرت فاطمة (عليها السلام) بذلك، صلى الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها(1).

-----------------------------

ص: 241


1- بحار الأنوار: ج 8 ص35 ب21 الشفاعة ح6، عن الأمالي، للصدوق: ص276 المجلس السادس والأربعون ح12.

مواطن اللقاء

الظاهر من هذا الحديث ومما سيأتي وغيرهما، أن هناك مواطن متعددة للقاء أولياء الله برسول الله (صلى الله عليه وآله)، كما أن هنالك مواطن متعددة للقاء المذنبين من أمته به (صلى الله عليه وآله).

والظاهر أيضاً أن آخر هذه المواطن هو على باب الجنة، وهذا الموطن هو لمن تجاوز عقبات وأهوال يوم القيامة كلها حتى أصبح مهيئاً لدخول الجنة، فيلتقي برسول الله (صلى الله عليه وآله) في آخر مرحلة إما كنوع من الكرامة له، أو لتتميم الشفاعة في حقه لدخول الجنة أو لنيل مراتب أعلى منها.

ولعل ابتداءه (صلى الله عليه وآله) بلقائه بها (عليها السلام) عند باب الجنة، إشارة إلى سمو مقامها وتجاوزها أهوال القيامة بدون حاجة إلى معونة أو شفاعة، ولعله نوع من إبراز مقامها للناس، ولعله إشارة إلى تكفلها هي شفاعة المذنبين في المراحل السابقة وانشغالها بذلك، ثم موعدها مع الرسول (صلى الله عليه وآله) عند باب الجنة، أو لغير ذلك، والله العالم.

وأما قولها (عليها السلام): «فإن لم ألقك هناك»، فيحتمل فيه أن وجهه هو ذهاب النبي (صلى

الله عليه وآله) وإيابه،وتردده بين مراحل القيامة ومواطنها، فتارة عند باب الجنة يشفع للسابقين إليها، وتارة هو عند حوض الكوثر ليشفع لمن وصلوا إليها للتو، وأخرى عند شفير جهنم يشفع لمن توقفوا عندها طويلاً، أو لمن وصلوها بعد غيرهم، وذلك لوضوح أن بعض الناس يمر على الصراط كالبرق الخاطف، وبعضهم يمشون متثاقلين، وبعضهم يزحفون عليها زحفاً.

ص: 242

كما يحتمل أن يكون وجهه ترددها هي (عليها السلام) بين مواطن المحشر، للشفاعة لذريتها وشيعتها ومحبيهم ولشفاعة أمة جدها وشيعة بعلها، ولغير ذلك مما قد يكون أنيط بها يوم القيامة مما لا نعلمه.

الشفاعة النبوية

مسألة: يجب الاعتقاد بالشفاعة النبوية في يوم القيامة.

وكذلك شفاعة سائر الأنبياء (عليهم السلام) وسائر الأوصياء والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين)، فإن لكلهم الشفاعة بإذن الله.

ولا منافاة بين ذلك مما ثبت عقلاً ونقلاً، وبين قوله سبحانه: «قُل للهِ الشَّفَاعَةُجَمِيعاً»(1)، فإن الله عزوجل يأذن لهؤلاء الأطهار (عليهم السلام) بالشفاعة ويمنحها لهم، كما أن العزة المنتشرة بين المسلمين إنما هي من عزة الله سبحانه، فيعطي منها ما يشاء لمن يشاء، قال تعالى: «مَنْ كَانَ يُرِيدُ العِزَّةَ فَللهِ العِزَّةُ جَمِيعاً»(2)، وكما أن الرزق والعلم وغيرهما لله عزوجل ويمنحها لمن شاء من عباده بالقدر الذي يشاء، إلى غير ذلك.

قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «لكُل نَبِيٍّ دَعْوَةٌ قَدْ دَعَا بِهَا وقَدْ سَأَل سُؤْلا، وقَدْ خَبَأْتُ دَعْوَتِي لشَفَاعَتِي لأُمَّتِي يَوْمَ القِيَامَةِ»(3).

ص: 243


1- سورة الزمر: 44.
2- سورة فاطر: 10.
3- الخصال: ج 1 ص29 ترك النبي (صلى الله عليه وآله) دعوته لخصلة ح103.

وعَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «إِذَا قُمْتُ المَقَامَ المَحْمُودَ تَشَفَّعْتُ فِي أَصْحَابِ الكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي، فَيُشَفِّعُنِي اللهُ فِيهِمْ، واللهِ لا تَشَفَّعْتُ فِيمَنْ آذَى ذُرِّيَّتِي»(1).

من أحوال القيامة

مسألة: يستحب بيان أن ليوم القيامة زحاماً وضيعةً ومخمصةً، وقد سألت الزهراء (عليها السلام) أباها (صلى الله عليه وآله) بقولها: «أين ألقاك» مراراً، وذلك لأن ذلك اليوم هو يوم الموقف الأعظم ويوم الأهوال ويوم الفزع الأكبر، فهو يوم هائل عصيب لا نعرف تفصيله، فإننا لا نعرف عن الآخرة وما بعد الموت إلا القليل القليل، وبعض الصور التقريبية، فإن ما ذكر لنا من أحوال الآخرة هي تقريبات لمداركنا وأفهامنا، كما يقال للطفل الذي مداركه لم تصل إلى لذة المناجاة وما أشبه: إن المناجاة حلوة مثل الحلواء والفالوذج، أو الرياضيات مهمة كما أن الملابس أو الفراش هام أو ما أشبه مما يقرب إلى ذهنه، وقد ورد حول الجنة: «ما لا عين رأيت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر»(2).

ونسبة الآخرة بالنسبة إلى الدنيا هي مثل نسبة الدنيا إلى عالم الأجنة بل أبعد، حيث إن الجنين لا يمكن أن يدرك ما في الدنيا من أفلاك وبحار وأشجار وأطيار ومعادن، فكيف يدرك مافيها من سفر وإقامة وتجارة وثقافة وسياسة

ص: 244


1- الأمالي، للصدوق: ص294 المجلس التاسع والأربعون ح3.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 4 ص17 باب ذكر جمل من مناهي النبي (صلى الله عليه وآله) ح4968.

واقتصاد، وإنما يقرب إلى ذهنه لو فرض إمكان التقرب مع ما هو فيه من الخصوصيات والمزايا.

الموقف الأعظم

مسألة: يستحب بيان أن يوم القيامة هو يوم الموقف الأعظم، ويوم الأهوال، ويوم الفزع الأكبر.

فإن الأهوال في كل العوالم كعالم الذر والدنيا والبرزخ، تهون بالنسبة إلى أهوال عالم القيامة، فأين ارتفاع درجة الحرارة في الدنيا إلى درجة خمسين وستين مما يرهق البشر بشدة، من هبوط الشمس وكونها على مسافة قليلة من الأرض وحرارتها فوق أن تتصور(1)، حتى ورد أن دماغ الإنسان سيغلي من حرارة الشمس ولكن لا موت هنالك.

قال (صلى الله عليه وآله): «لا تَتَمَنَّوُا المَوْتَ فَإِنَّ هَوْل المُطَّلعِ شَدِيدٌ، وإِنَّ مِنْ سَعَادَةِ المَرْءِ أَنْ يَطُول عُمُرُهُ ويَرْزُقَهُ اللهُالإِنَابَةَ إِلى دَارِ الخُلود»(2).

وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سِنَانٍ، عَمَّنْ سَمِعَ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) يَقُول: «لمَّا حَضَرَتِ الحَسَنَ (عليه السلام) الوَفَاةُ بَكَى، فَقِيل لهُ: يَا ابْنَ رَسُول اللهِ تَبْكِي ومَكَانُكَ مِنْ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) الذِي أَنْتَ بِهِ، وقَدْ قَال فِيكَ مَا قَال

ص: 245


1- قالوا: إن حرارة السطح الخارجي للشمس هو خمسة آلاف درجة، وأن الحرارة في مركزها هو خمسة ملايين درجة، علماً بأن الحديد يذوب في درجة أربعمائة، والفولاذ يذوب في درجة ستمائة.
2- الدعوات، للراوندي: ص122 فصل في فنون شتى من حالات العافية والشكر عليها ح297.

، وقَدْ حَجَجْتَ عِشْرِينَ حَجَّةً مَاشِياً، وقَدْ قَاسَمْتَ مَالكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ حَتَّى النَّعْل بِالنَّعْل، فَقَال: إِنَّمَا أَبْكِي لخَصْلتَيْنِ: لهَوْل المُطَّلعِ وفِرَاقِ الأَحِبَّةِ»(1).

وقال علي (عليه السلام): «آه مِنْ قِلةِ الزَّادِ وطُول الطَّرِيقِ وبُعْدِ السَّفَرِ وعِظَمِ المَوْرِد»(2).

لقاء المعصوم

مسألة: يستحب الدعاء وطلب اللقاء بالرسول (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) يوم المحشر، كما قد يستفاد من سؤال الصديقة (عليها السلام) عن وقت أو أوقات لقائها به.ثم الظاهر أن سؤالها (عليها السلام): (أين ألقاك) لم يكن لوحشتها هي من أهوال المحشر، فإنها التي يرضى الله لرضاها، ويغضب لغضبها، وهي الشافعة المشفعة، والراضية المرضية، بل كان سؤالها للتوسط للشفاعة لمن يحتاجها من أمته (صلوات الله عليهما).

ومما يفيد ذلك جوابه (صلى الله عليه وآله) مكرراً: (وأنا الشفيع لأمتي) و(أنا أسقي أمتي) و(أنا قائم أقول رب سلم أمتي) و(أمنع شررها ولهبها عن أمتي).

كما أن مما يعطي ذلك ما ورد في آخر الحديث: «فاستبشرت فاطمة (عليها السلام) بذلك»، فإن الظاهر أن استبشارها كان لتأكيده على شفاعته لأمته في مواطن عديدة.

ص: 246


1- الكافي: ج 1 ص461 باب مولد الحسن بن علي (صلوات الله عليهما) ح1.
2- عيون الحكم والمواعظ: ص557 ح10252.

وفي الدعاء: «اللهُمَّ أَرِنِي الطَّلعَةَ الرَّشِيدَةَ والغُرَّةَ الحَمِيدَةَ، واكْحُل بَصَرِي بِنَظْرَةٍ مِنِّي إِليْهِ، وعَجِّل فَرَجَهُ وسَهِّل مَخْرَجَه»(1).

وفي دعاء الندبة: «مَتَى تَرَانَا ونَرَاكَ وقَدْ نَشَرْتَ لوَاءَ النَّصْرِ تُرَى»(2).

شفاعة الرسول

مسألة: يستحب بيان أن الرسول (صلى الله عليه وآله) يوم القيامة يشفع لأمته، ويدعو لهم بالسلامة، ويسقيهم من الكوثر، فإن ذلك إضافة كونه ذكر فضيلة له (صلى الله عليه وآله) فإنه يحببه إلى الناس ويسبب التفافهم حوله أكثر، مما ينفع دينهم ودنياهم، وقد سبق مراراً.

عَنْ سَمَاعَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: سَأَلتُهُ عَنْ شَفَاعَةِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) يَوْمَ القِيَامَةِ، فَقَال: يُلجَمُ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ العَرَقَ، فَيَقُولونَ: انْطَلقُوا بِنَا إِلى آدَمَ يَشْفَعُ لنَا عِنْدَ رَبِّنَا، فَيَأْتُونَ آدَمَ، فَيَقُولونَ: يَا آدَمُ اشْفَعْ لنَا عِنْدَ رَبِّكَ فَيَقُول: إِنَّ لي ذَنْباً وخَطِيئَةً فَعَليْكُمْ بِنُوحٍ، فَيَأْتُونَ نُوحاً (عليه السلام) فَيَرُدُّهُمْ إِلى مَنْ يَليهِ، ويَرُدُّهُمْ كُل نَبِيٍّ إِلى مَنْ يَليهِ حَتَّى يَنْتَهُوا إِلى عِيسَى (عليه السلام) فَيَقُول: عَليْكُمْ بِمُحَمَّدٍ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) فَيَعْرِضُونَ أَنْفُسَهُمْ عَليْهِ ويَسْأَلونَهُ، فَيَقُول: انْطَلقُوا، فَيَنْطَلقُ بِهِمْ إِلى بَابِ الجَنَّةِ ويَسْتَقْبِل بَابَ الرَّحْمَةِ ويَخِرُّ سَاجِداً فَيَمْكُثُ مَا شَاءَ اللهُ، فَيَقُول اللهُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ واشْفَعْ تُشَفَّعْ، واسْأَل تُعْطَ، وذَلكَ هُوَ قَوْلهُ: «عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً

ص: 247


1- مستدرك الوسائل: ج 5 ص74 ب22 باب نبذ مما يستحب أن يدعى به عقيب كل فريضة ح9.
2- المزار الكبير: ص582 الدعاء للندبة.

مَحْمُوداً»(1)»(2).

سقي الماء

مسألة: يستحب سقي الماء مطلقاً، للمؤمن والكفار وحتى للحيوان، فإن (لكل كبد حرى أجر)(3)، بل وحتى الأشجار والنباتات.

قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «دَخَلتُ الجَنَّةَ فَرَأَيْتُ فِيهَا صَاحِبَ الكَلبِ الذِي أَرْوَاهُ مِنَ المَاء»(4).

وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام) عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) قَال: «مِنْ أَفْضَل الأَعْمَال عِنْدَ اللهِ إِبْرَادُ الكِبَادِ الحَارَّةِ، وإِشْبَاعُ الكِبَادِ الجَائِعَةِ، والذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لا يُؤْمِنُ بِي عَبْدٌ يَبِيتُ شَبْعَانَ وأَخُوهُ أَوْ قَال جَارُهُالمُسْلمُ جَائِعٌ»(5).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «أَرْبَعٌ مَنْ أَتَى بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ دَخَل الجَنَّةَ، مَنْ سَقَى هَامَّةً ظَامِئَةً، أَوْ أَشْبَعَ كَبِداً جَائِعَةً، أَوْ كَسَا جِلدَةً عَارِيَةً، أَوْ أَعْتَقَ رَقَبَةً عَانِيَةً»(6).

ص: 248


1- سورة الإسراء: 79.
2- تفسير القمي: ج 2 ص25.
3- جامع الأخبار: ص139 الفصل التاسع والتسعون في كسب الحلال.
4- مستدرك الوسائل: ج 7 ص191 ص17 باب استحباب الصدقة ولو على غير المؤمن حتى دواب البر والبحر وعلى الذمي عند ضرورته كشدة العطش ح2.
5- وسائل الشيعة: ج 24 ص327 ب44 باب وجوب إطعام الجائع عند ضرورته ح4.
6- وسائل الشيعة: ج 23 ص12 ب1 ح9.

وعَنْ مِسْمَعٍ أَبِي سَيَّارٍ قَال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُول: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرَبَ الآخِرَةِ، وخَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ وهُوَ ثَلجُ الفُؤَادِ، ومَنْ أَطْعَمَهُ مِنْ جُوعٍ أَطْعَمَهُ اللهُ مِنْ ثِمَارِ الجَنَّةِ، ومَنْ سَقَاهُ شَرْبَةً سَقَاهُ اللهُ مِنَ الرَّحِيقِ المَخْتُومِ»(1).

مقام الرسول

مسألة: يستحب بيان مقام الرسول (صلى الله عليه وآله) يوم القيامة، حيث بيده لواء الحمد والشفاعة.

ولا منافاة بين كون (لواء الحمد) بيد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومن ثم بيد أمير المؤمنين (عليه السلام) كما في الروايات.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حديث:

«فَيُنَادِي المُنَادِي وَيَسْمَعُ النِّدَاءَ جَمِيعُ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالمُؤْمِنِينَ: هَذِهِ دَرَجَةُ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله)، فَقَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): فَأَقْبِل يَوْمَئِذٍ مُتَّزِراً بِرَيْطَةٍ مِنْ نُورٍ، عَليَّ تَاجُ المُلكِ وَإِكْليل الكَرَامَةِ، وَعَليُّ بْنُ أَبِي طَالبٍ أَمَامِي وَبِيَدِهِ لوَائِي وَهُوَ لوَاءُ الحَمْدِ، مَكْتُوبٌ عَليْهِ: "لا إِلهَ إِلا اللهُ، مُحَمَّدٌ رَسُول اللهِ، المُفْلحُونَ هُمُ الفَائِزُونَ بِاللهِ"، فَإِذَا مَرَرْنَا بِالنَّبِيِّينَ قَالوا: هَذَانِ مَلكَانِ لمْ نَعْرِفْهُمَا وَلمْ نَرَهُمَا، وَإِذَا مَرَرْنَا بِالمَلائِكَةِ قَالوا: هَذَانِ نَبِيَّانِ مُرْسَلانِ، حَتَّى أَعْلوُ الدَّرَجَةَ وَعَليٌّ (عليه السلام) يَتْبَعُنِي، فَإِذَا صِرْتُ فِي أَعْلى الدَّرَجَةِ مِنْهَا وَعَليٌّ أَسْفَل مِنِّي بِيَدِهِ لوَائِي، فَلا يَبْقَى يَوْمَئِذٍ نَبِيٌّ وَلا مُؤْمِنٌ إِلا رَفَعُوا رُءُوسَهُمْ

ص: 249


1- الكافي: ج 2 ص200 باب تفريج كرب المؤمن ح3.

إِليَّ يَقُولونَ: طُوبَى لهَذَيْنِ العَبْدَيْنِ مَا أَكْرَمَهُمَا عَلى اللهِ، فَيُنَادِي المُنَادِي يَسْمَعُ النَّبِيُّونَ وَجَمِيعُ الخَلائِقِ: هَذَا حَبِيبِي مُحَمَّدٌ وَهَذَا وَليِّي عَليُّ بْنُ أَبِي طَالبٍ، طُوبَى لمَنْ أَحَبَّهُ وَوَيْل لمَنْ أَبْغَضَهُ وَكَذَّبَ عَليْه»(1).

الاهتمام بالأُمة

مسألة: يستحب بيان مدى اهتمام نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله) بالأُمة والرعية في الدنيا والآخرة.

قال تعالى: «لقَدْ جَاءكُمْ رَسُول مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَليْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَليْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ»(2).

قیل: الرأفة شدة الرحمة، وقيل: رؤوف بالمطيعين ورحيم بالمذنبين، وقيل: رؤوف بأقربائه ورحيم بأوليائه، وقيل: رؤوف بمن رآه ورحيم بمن لم يره(3).

وفي رواية العياشي: عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: تَلا هَذِهِ الآيَةَ «لقَدْ جاءَكُمْ رَسُول مِنْ أَنْفُسِكُمْ»(4)، قَال: «مِنْ أَنْفُسِنَا، قَال: «عَزِيزٌ عَليْهِ ما عَنِتُّمْ»، قَال: مَا عَنِتْنَا، قَال: «حَرِيصٌ عَليْكُمْ»: عَليْنَا «بِالمُؤْمِنِينَ

رَؤُفٌ رَحِيمٌ» قَال: بِشِيعَتِنَا رَءُوفٌ رَحِيمٌ، فَلنَا ثَلاثَةُ أَرْبَاعِهَا وَلشِيعَتِنَا

ص: 250


1- بحار الأنوار: ج7 ص326 ب17 ح2 عن تفسير القمي.
2- سورة التوبة: 128.
3- انظر بحار الأنوار: ج16 ص303 ب11.
4- سورة التوبة: 128.

رُبُعُهَا»(1).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: قَالرَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ أَصْبَحَ لا يَهْتَمُ بِأُمُورِ المُسْلمِينَ فَليْسَ بِمُسْلمٍ»(2).

العطف على الأُمة

مسألة: يجب على القائد الإسلامي أن يكون عطوفاً تجاه الأُمة وينجيهم من الهلكات.

قال تعالى: «فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لنْتَ لهُمْ ولوْ كُنْتَ فَظًّا غَليظَ القَلبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ واسْتَغْفِرْ لهُمْ وشاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّل عَلى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلينَ»(3).

ص: 251


1- تفسير العياشي: ج 2 ص118 ح166.
2- الكافي: ج 2 ص163 باب الاهتمام بأمور المسلمين والنصيحة لهم ونفعهم ح1.
3- سورة آل عمران: 159.

لا أصبر عنك ساعة

اشارة

عن ابن عباس قال(1):

قالت فاطمة (عليها السلام) للنبي (صلى الله عليه وآله) وهو في سكرات الموت:

«يا أبة، أنا لا أصبر عنك ساعة من الدنيا، فأين الميعاد غداً؟».

قال: أما إنك أول أهلي لحوقاً بي، والميعاد على جسر جهنم.

قالت: يا أبة أليس قد حرم الله عزوجل جسمك ولحمك على النار؟

قال: بلى ولكني قائم حتى تجوز أمتي.

قالت: فإن لم أرك هناك؟

قال: تريني عند القنطرة السابعة من قناطر جهنم، أستوهب الظالم من المظلوم.

قالت: فإن لم أرك هناك؟

قال: تريني في مقام الشفاعة وأنا أشفع لأمتي.

قالت: فإن لم أرك هناك؟

ص: 252


1- ظاهره أن ابن عباس يروي ذلك عن الرسول (صلى الله عليه وآله) وفاطمة (عليها السلام) مباشرة، وأنه كان حاضراً حين جرى هذا الحديث والحوار.

قال: تريني عند الميزان وأنا أسأل الله لأمتي الخلاص من النار.

قالت: فإن لم أرك هناك؟قال: تريني عند الحوض، حوضي عرضه ما بين أيلة(1) إلى صنعاء، على حوضي ألف غلام بألف كأس كاللؤلؤ المنظوم، وكالبيض المكنون، من تناول منه شربة فشربها لم يظمأ بعدها أبداً، فلم يزل يقول لها حتى خرجت الروح من جسده (صلى الله عليه وآله)» (2).

--------------------------

التأسيس لا التأكيد

الظاهر من (فلم يزل يقول لها) ليس تكرار ما سبق من كلامه، بل إنه استمر في الكلام بمطالب جديدة وفوائد عديدة عن عالم الآخرة، ولعل الراوي نسي سائر الكلام، أو اختصره، أو أنه لم ينقل له، ويشهد للتأسيسيته دون التكرار والتأكيد، الرواية السابعة التي ذكرت ما لم يذكر ههنا.

ولعل الوجه في أن المذكور في هذه الرواية هو عكس المذكور في الرواية السابقة في تسلسل لقائها به (عليهما السلام): إن التسلسل في هذه الرواية زماني(3)، أما التسلسل في الروايةالسابقة فرتبي(4)، فقدم هناك لهذه الجهة أو نظيرها.

كما يحتمل أن يكون وجه الاختلاف ما أشرنا إليه من أن للنبي (صلى الله عليه وآله) ذهاباً وإياباً بين عرصات يوم القيامة، من جسر جهنم وباب الجنة، وأن

ص: 253


1- أيلة جبل بين مكة والمدينة قرب ينبع، وبلد بين ينبع ومصر، ولعله المقصود.
2- كشف الغمة: ج 1 ص497 خطبة الزهراء (عليها السلام).
3- لأن أول ما يصله أهل المحشر هو جسر جهنم، وآخر ما يصلون إليه هو باب الجنة.
4- أي بلحاظ منزلة ورتبة الذي تناله الشفاعة، فإنه وهو عند باب الجنة أعلى رتبة منه وهو عنده جسر جهنم ينتظرها، ولعل مقصود الإمام المؤلف غير ذلك.

ذهابه وإيابه يتكرر عدة مرات، بل قد يكون كثيراً جداً، فيكون التسلسل معكوساً تارة بسبب النظر إلى ابتدائه من جسر جهنم وانتهائه إلى باب الجنة، وأخرى بلحاظ رجوعه عكس ذلك، ويحتمل غير ذلك، والله العالم.

السعي للقاء المعصوم

مسألة: يستحب السعي للقاء النبي والإمام (عليهما السلام) في الدنيا إن أمكن، كما يستحب طلبه والسعي للقائه في لحظات الاحتضار، ثم في القبر والبرزخ، ثم في يوم القيامة، ثم في الجنة، فإن لقاءه خير وبركة وعبادة وثواب، كما أن النظر إليه عبادة، وسماع كلامه عبادة، وهكذا.

ثم إن من السعي للقائه ملاكاً:السعي لزيارته في مشهده الشريف.

ويستفاد استحباب الطلب والسعي للقائه من أدلة كثيرة، منها ما يفهم من كلام الصديقة (عليها السلام) هنا بالدلالة الالتزامية، إذ قالت: (يا أبة إني لا أصبر عنك ساعة من الدنيا) و(فأين الميعاد غداً).

وعدم الصبر عنه (صلى الله عليه وآله) لجهات عديدة: نفسية وروحية وعلمية وغيرها، فإن في محضره (صلى الله عليه وآله) كل الخير.

وفي الدعاء: «متى ترانا ونراك»(1).

وأيضاً: «اللهُمَّ أَرِنِي الطَّلعَةَ الرَّشِيدَةَ وَالغُرَّةَ الحَمِيدَةَ وَاكْحُل ناظِرِي بِنَظْرَةٍ مِنِّي إِليْهِ»(2).

ص: 254


1- المزار الكبير: ص582 الدعاء للندبة.
2- بحار الأنوار: ج99 ص111 ب7.

السؤال عما يهم

مسألة: يستحب السؤال عن الأمور المهمة فيما إذا كان السؤال أو الجواب مفيداً، فإن العلم كمال في حد ذاته، والعلم بشؤون الآخرة بتفاصيلها مطلوب ومستحب ومفيد، خاصة إذا أصبحت الآخرة همّ الإنسان وشغلت ذكره وفكره، فإنه بذلك يكون من أبناء الآخرة وإن عاش ظاهراً في الدنيا.

ولعل هذه الأسئلة والأجوبة لإفادة الغير، من باب: (إياك أعني واسمعي يا جارة)، فإنهم (عليهم الصلاة والسلام) يعلمون كل شيء بتعليم الله سبحانه لهم، وقد ورد علمهم (عليهم السلام) بما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة(1).

ص: 255


1- عَنْ عَبْدِ الأَعْلى بْنِ أَعْيَنَ قَال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُول: «قَدْ وَلدَنِي رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) وأَنَا أَعْلمُ كِتَابَ اللهِ وفِيهِ بَدْءُ الخَلقِ ومَا هُوَ كَائِنٌ إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ، وفِيهِ خَبَرُ السَّمَاءِ وخَبَرُ الأَرْضِ وخَبَرُ الجَنَّةِ وخَبَرُ النَّارِ، وخَبَرُ مَا كَانَ وخَبَرُ مَا هُوَ كَائِنٌ، أَعْلمُ ذَلكَ كَمَا أَنْظُرُ إِلى كَفِّي، إِنَّ اللهَ يَقُول فِيهِ تِبْيَانُ كُل شَيْ ءٍ». الكافي: ج 1 ص61 باب الرد إلى الكتاب والسنة وأنه ليس شي ء من الحلال والحرام وجميع ما يحتاج الناس إليه إلا وقد جاء فيه كتاب أو سنة ح8. وعَنْ سَيْفٍ التَّمَّارِ قَال: كُنَّا مَعَ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) جَمَاعَةً مِنَ الشِّيعَةِ فِي الحِجْرِ، فَقَال: عَليْنَا عَيْنٌ، فَالتَفَتْنَا يَمْنَةً ويَسْرَةً فَلمْ نَرَ أَحَداً، فَقُلنَا: ليْسَ عَليْنَا عَيْنٌ، قَال: ورَبِّ الكَعْبَةِ ورَبِّ البَيْتِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ لوْ كُنْتُ بَيْنَ مُوسَى والخَضِرِ لأَخْبَرْتُهُمَا أَنِّي أَعْلمُ مِنْهُمَا، ولأَنْبَأْتُهُمَا بِمَا ليْسَ فِي أَيْدِيهِمَا، لأَنَّ مُوسَى والخَضِرَ أُعْطِيَا عِلمَ مَا كَانَ ولمْ يُعْطَيَا عِلمَ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ، وإِنَّ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) أُعْطِيَ عِلمَ مَا كَانَ ومَا هُوَ كَائِنٌ إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ فَوَرِثْنَاهُ مِنْ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) وِرَاثَةً. بصائر الدرجات: ج 1 ص129 ب7 باب في الأئمة (عليهم السلام) أنهم أعطوا علم ما مضى وما بقي إلى يوم القيامة ح1. وعَنِ الأَصْبَغِ بْنِ نُبَاتَةَ عَنْ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَليٍّ (عليه السلام) قَال سَمِعْتُهُ يَقُول: إِنَّ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) عَلمَنِي أَلفَ بَابٍ مِنَ الحَلال والحَرَامِ ومِمَّا كَانَ ومَا هُوَ كَائِنٌ إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ، كُل يَوْمٍ يَفْتَحُ أَلفَ بَابٍ فَذَلكَ أَلفُ أَلفِ بَابٍ حَتَّى عَلمْتُ المَنَايَا والوَصَايَا وفَصْل الخِطابِ». بصائر الدرجات: ج 1 ص305 ب16 باب في ذكر الأبواب التي علم رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمير المؤمنين (عليه السلام) ح11.

كما ورد أن الصديقة (عليها السلام) كانت تقرأ القرآن وهي في بطن أُمها، وكانت تحدثها(1)، إلى غير ذلك.والظاهر أن أيلة وصنعاء وألف غلام وألف كأس من باب المثال إشارة إلى الكثرة، كما في قوله عزوجل: «إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهمْ سَبْعينَ مَرَّةً»(2)، حيث يراد به الكثرة، والذي يدل على ذلك الروايات الأخر الدالة أن عدد الكؤوس على الحوض كعدد النجوم(3).

ص: 256


1- عن مفضل بن عمر عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث: أن خديجة لما حملت بفاطمة (عليها السّلام) كانت فاطمة تحدّثها في بطنها وتصبرها وكانت تكتم ذلك من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فدخل عليها يوما فسمع خديجة تحدّث فاطمة فقال: يا خديجة من تحدثين؟ فقالت: الجنين الذي في بطني يحدّثني ويؤنسني، فقال: يا خديجة هذا جبرئيل يخبرني أنها انثى، وأنها النسل الطاهرة الميمونة؛ إن الله سيجعل نسلي منها ويجعل من نسلها أئمة ويجعلهم خلفائي في أرضه بعد انقضاء وحيه. إثبات الهداة: ج 2 ص194 الفصل الثالث والثلاثون ح633.
2- سورة التوبة: 80.
3- قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) فِي حِجَّةِ الوَدَاعِ فِي مَسْجِدِ الخَيْفِ: «إِنِّي فَرَطُكُمْ وإِنَّكُمْ وَارِدُونَ عَليَ الحَوْضَ، حَوْضٌ عَرْضُهُ مَا بَيْنَ البَصْرَةِ وصَنْعَاءَ، فِيهِ قُدْحَانٌ مِنْ فِضَّةٍ عَدَدَ النُّجُومِ، أَلا وإِنِّي سَائِلكُمْ عَنِ الثَّقَليْنِ، قَالوا: يَا رَسُول اللهِ ومَا الثَّقَلانِ، قَال: كِتَابُ اللهِ الثَّقَل الأَكْبَرُ طَرَفٌ بِيَدِ اللهِ وطَرَفٌ بِأَيْدِيكُمْ فَتَمَسَّكُوا بِهِ لنْ تَضِلوا ولنْ تَزِلوا، والثَّقَل الأَصْغَرُ عِتْرَتِي وأَهْل بَيْتِي، فَإِنَّهُ قَدْ نَبَّأَنِي اللطِيفُ الخَبِيرُ أَنَّهُمَا لنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَليَّ الحَوْضَ كَإِصْبَعَيَّ هَاتَيْنِ، وجَمَعَ بَيْنَ سَبَّابَتَيْهِ ولا أَقُول كَهَاتَيْنِ وجَمَعَ بَيْنَ سَبَّابَتِهِ والوُسْطَى فَتَفْضُل هَذِهِ عَلى هَذِهِ». تفسير القمي: ج 1 ص3.

ويستبعد أن يكون (عدد النجوم)مشيراً إلى تلك، وحصرها بها (الألف) تحديداً، بل الظاهر أن تلك من مصاديق هذه.

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَال قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «أَنَا سَيِّدُ الأَنْبِيَاءِ والمُرْسَلينَ وأَفْضَل مِنَ المَلائِكَةِ المُقَرَّبِينَ، وأَوْصِيَائِي سَادَةُ أَوْصِيَاءِ النَّبِيِّينَ والمُرْسَلينَ، وذُرِّيَّتِي أَفْضَل ذُرِّيَّاتِ النَّبِيِّينَ والمُرْسَلينَ، وأَصْحَابِيَ الذِينَ سَلكُوا مِنْهَاجِي أَفْضَل أَصْحَابِ النَّبِيِّينَ والمُرْسَلينَ، وابْنَتِي فَاطِمَةُ سَيِّدَةُ نِسَاءِ العَالمِينَ، والطَّاهِرَاتُ مِنْ أَزْوَاجِي أُمَّهَاتُ المُؤْمِنِينَ، وأُمَّتِي خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للنَّاسِ، وأَنَا أَكْثَرُ النَّبِيِّينَ تَبَعاً يَوْمَ القِيَامَةِ، وَلي حَوْضٌ عَرْضُهُ مَا بَيْنَ بُصْرَى وصَنْعَاءَ فِيهِ مِنَ الأَبَارِيقِ عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ، وخَليفَتِي عَلى الحَوْضِ يَوْمَئِذٍ خَليفَتِي فِي الدُّنْيَا، فَقِيل: ومَنْ ذَاكَ يَا رَسُول اللهِ، قَال: إِمَامُ المُسْلمِينَ وأَمِيرُ المُؤْمِنِينَ ومَوْلاهُمْ بَعْدِي عَليُّ بْنُ أَبِي طَالبٍ، يَسْقِي مِنْهُ أَوْليَاءَهُ ويَذُودُ عَنْهُ أَعْدَاءَهُ كَمَا يَذُودُ أَحَدُكُمُ الغَرِيبَةَ مِنَ الإِبِل عَنِ المَاءِ، ثُمَّ قَال (صلى الله عليه وآله): مَنْ أَحَبَّ عَليّاً وأَطَاعَهُ فِي دَارِ الدُّنْيَا وَرَدَ عَلى حَوْضِي غَداً وكَانَ مَعِي فِي دَرَجَتِي فِي الجَنَّةِ، ومَنْ أَبْغَضَ عَليّاً فِي دَارِ الدُّنْيَا وعَصَاهُ لمْ أَرَهُ ولمْ يَرَنِي يَوْمَ القِيَامَةِ واخْتَلجَ دُونِي وأُخِذَ بِهِ ذَاتَالشِّمَال إِلى النَّارِ»(1).

ص: 257


1- الأمالي، للصدوق: ص298 المجلس التاسع والأربعون ح12.

استيهاب الظلم

مسألة: هل يستحب في الظلامات الشخصية، استيهاب الظالم من المظلوم في الجملة، ولو بتعويضه بشيء.

ربما تختلف المصاديق، وقد تكون معنونة بعناوين أخرى فتحمل أحكامها.

أول من يلحق بالنبي

مسألة: يستحب بيان أن الصديقة (عليها السلام) كانت أول من لحقت بالرسول (صلى الله عليه وآله)، وذكر أسبابه، وهي ما ورد عليها من ظلم القوم لها.

ولا يخفى أن الخسائر والأضرار التي تسببت عن فقد الصديقة (عليه السلام) في تلك السن المبكرة وأضرارها على المسلمين بل على الخلائق كافة، مما لا يعلمه إلا الله والمعصومون (عليهم السلام)، فإن خسارة العالم الواحد تحدث به «ثُلمَةٌ لا يَسُدُّهَا شَيْ ءٌ إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ»(1)،فكيف بخسارة المعصوم (عليه السلام)، وكيف إذا

ص: 258


1- بصائر الدرجات: ج 1 ص5 ب2 باب ثواب العالم والمتعلم ح10. قَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «المُؤْمِنُ العَالمُ أَعْظَمُ أَجْراً مِنَ الصَّائِمِ القَائِمِ الغَازِي فِي سَبِيل اللهِ، وإِذَا مَاتَ ثُلمَ فِي الإِسْلامِ ثُلمَةٌ لا يَسُدُّهَا شَيْ ءٌ إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ». وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «إِذَا مَاتَ المُؤْمِنُ الفَقِيهُ ثُلمَ فِي الإِسْلامِ ثُلمَةٌ لا يَسُدُّهَا شَيْءٌ». الكافي: ج 1 ص38 باب فقد العلماء ح2.

كانت المحور في حديث الكساء، والأم للأئمة النجباء والحجة عليهم (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين).

قَالتْ عَائِشَةُ: أَقْبَلتْ فَاطِمَةُ (عليها السلام) تَمْشِي كَأَنَّ مِشْيَتَهَا مِشْيَةُ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) قَال النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): «مَرْحَباً بِابْنَتِي» فَأَجْلسَهَا عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ شِمَالهِ ثُمَّ أَسَرَّ إِليْهَا حَدِيثاً فَبَكَتْ، ثُمَّ أَسَرَّ إِليْهَا حَدِيثاً فَضَحِكَتْ، فَقُلتُ لهَا: حَدَّثَكِ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) بِحَدِيثٍ فَبَكَيْتِ، ثُمَّ حَدَّثَكِ بِحَدِيثٍ فَضَحِكْتِ، فَمَا رَأَيْتُ كَاليَوْمِ أَقْرَبَ فَرَحاً مِنْ حُزْنٍ مِنْ فَرَحِكِ، فَقَالتْ: «مَا كُنْتُ لأُفْشِيَ سِرَّ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله)» حَتَّى إِنَّهُ إِذَا قُبِضَ سَأَلتُهَا فَقَالتْ: «أَسَرَّ إِليَّ فَقَال: إِنَّ جَبْرَئِيل كَانَ يُعَارِضُنِي بِالقُرْآنِ كُل سَنَةٍ مَرَّةً وإِنَّهُ عَارَضَنِي بِهِ العَامَ مَرَّتَيْنِ، ولا أَرَانِي إِلا وقَدْ حَضَرَ أَجَلي، وإِنَّكِ أَوَّل أَهْل بَيْتِي لحُوقاً بِي، ونِعْمَ السَّلفُ أَنَا لكِ، فَبَكَيْتُ لذَلكِ، ثُمَّ قَال: أَلا تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُونِي سَيِّدَةَ نِسَاءِ هَذِهِ الأُمَّةِ أَوْ سَيِّدَةَنِسَاءِ المُؤْمِنِينَ فَضَحِكْتُ لذَلك»(1).

المعصوم وحرمته على النار

مسألة: يجب الاعتقاد بأن الله عزوجل حرّم جسم المعصوم (عليه السلام) ولحمه على النار، فإنهم (عليهم السلام) أشرف خلائق الله تعالى، وقد خلق الكون بما فيه الجنة والنار لأجلهم، وبيدهم مقاليد الكون بإذنه تعالى، وحبهم والاعتقاد بهم هو الضمان للجنة، وبغضهم وعداؤهم هو تمام السبب للدخول في النار، فكيف يمكن أن تمسهم النار، بل إن النار تمتنع على المؤمن بهم حقاً والشيعي لهم

ص: 259


1- روضة الواعظين: ج 1 ص150 مجلس في ذكر وفاة فاطمة (عليها السلام).

صدقاً فكيف بهم(1).

عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ آبَائِهِ، عَنْ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَليٍّ (عليهم السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «سَيُدْفَنُ بَضْعَةٌ مِنِّي بِأَرْضِ خُرَاسَانَ، لا يَزُورُهَا مُؤْمِنٌ إِلا أَوْجَبَ اللهُ عَزَّ وجَل لهُالجَنَّةَ وحَرَّمَ جَسَدَهُ عَلى النَّارِ»(2).

الدعاء للخلاص من النار

مسألة: يستحب الدعاء للخلاص من النار له ولغيره، ولابد من الإلحاح في الدعاء والتوسل بمن جعلهم الله الوسيلة، ولابد من السعي للخلاص من النار بالتزام الطاعات واجتناب الحرمات، فإن حرها لا يطاق، وعذابها لا تتحمله الجبال الرواسي، فكيف بهذا الإنسان الضعيف الذي «تؤلمه البقة، وتقتله الشرقة، وتنتنه العرقة»(3).

قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لعقيل (عليه السلام): «أتئن من حديدة أحماها إنسانها للعبه، وتجرني إلى نار سجرها جبارها لغضبه، أتئن من الأذى ولا أئن من لظى»(4).

ص: 260


1- ويقول الشاعر المهلم عن عوالم القدس: فإن النار ليس تمس جسماً عليه غبار زوار الحسين الغدير: ج6 ص12.
2- عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج 2 ص255 ب66 باب في ذكر ثواب زيارة الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) ح4.
3- نهج البلاغة، قصار الحكم: الحكمة 419.
4- نهج البلاغة، الخطب: خ224 من كلام له عليه السلام يتبرأ من الظلم.

قال تعالى: «رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا العَذابَ إِنَّامُؤْمِنُونَ»(1).

وفي دعاء المجير المَرْوِيّ عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله): «سُبْحَانَكَ يَا اللهُ تَعَاليْتَ يَا رَحْمَانُ أَجِرْنَا مِنَ النَّارِ يَا مُجِير»(2).

وصف الكوثر

مسألة: يستحب بيان وصف حوض الكوثر وما يشتمل عليه من النعم كما ورد في الروايات.

نعم إنا فإنا لا نعرف عنه إلاّ بقدر ما وصلنا من المعصوم (عليه السلام)، وأما حقيقته ما هي وهل هو ماء كمياه الدنيا، أو سائل آخر شُبّه به، وأنه كيف يرفع الظمأ أبداً، فهل يحدث في شاربه تغييراً في خصائصه وجوهره بحيث لا يظمأ بعدها، إلى غير ذلك فإنه مما لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم.

وفي رواية قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه

السلام): «إنّ الكوثر عليه اثنا عشر ألف شجرة، كل شجرة لها ثلاثمائة وستّون غصناً، فإذا أراد أهل الجنة الطرب هبّت ريح، فما من شجرة ولا غصن، إلا وهو أحلى صوتاً من الآخر، ولولاأنّ الله تعالى كتب على أهل الجنة أن لا يموتوا، لماتوا فرحاً من شدة حلاوة تلك الأصوات، وهذا النهر في جنّة عدن، وهو لي ولكَ ولفاطمة والحسن والحسين وليس لأحد فيه شي ء»(3). أي أمره بيد هؤلاء الأطهار وهم

ص: 261


1- سورة الدخان: 12.
2- البلد الأمين: ص362 دعاء المجير.
3- نوادر الأخبار: ص358 باب الحوض ح5.

(عليهم السلام) يسقون شيعتهم منه.

وعَنِ الحُسَيْنِ بْنِ أَعْيَنَ، قَال سَأَلتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) عَنْ قَوْل الرَّجُل للرَّجُل: جَزَاكَ اللهُ خَيْراً مَا يَعْنِي بِهِ، فَقَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «إِنَّ خَيْراً نَهَرٌ فِي الجَنَّةِ مَخْرَجُهُ مِنَ الكَوْثَرِ، فَالكَوْثَرُ مَخْرَجُهُ مِنْ سَاقِ العَرْشِ، عَليْهِ مَنَازِل الأَوْصِيَاءِ وشِيعَتِهِمْ، وعَلى حَافَتَيْ ذَلكَ النَّهَرِ جَوَارِي نَابِتَاتٌ كُلمَا قُلعَتْ وَاحِدَةٌ نَبَتَتْ أُخْرَى، سَمِينٌ تِلكَ الجَوَارِي بِاسْمِ ذَلكَ النَّهَرِ، وذَلكَ قَوْلهُ عَزَّ وجَل فِي كِتَابِهِ: «فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ»(1) فَإِذَا قَال الرَّجُل لصَاحِبِهِ جَزَاكَ اللهُ خَيْراً فَإِنَّمَا يَعْنِي تِلكَ المَنَازِل التِي أَعَدَّهَا اللهُ لصَفْوَتِهِ وخِيَرَتِهِ مِنْ خَلقِه»(2).

وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي معنى الكوثر قَال: (نَهَرٌ فِي الجَنَّةِ عُمْقُهُ فِي الأَرْضِ سَبْعُونَأَلفَ فَرْسَخٍ، مَاؤُهُ أَشَدُّ بَيَاضاً مِنَ اللبَنِ، وأَحْلى مِنَ العَسَل، شَاطِئَاهُ مِنَ اللؤْلؤِ والزَّبَرْجَدِ واليَاقُوتِ، خَصَّ اللهُ تَعَالى بِهِ نَبِيَّهُ وأَهْل بَيْتِهِ (صلوات الله عليهم) دُونَ الأَنْبِيَاء»(3).

وعَنْ مِسْمَعِ بْنِ عَبْدِ المَلكِ كِرْدِينٍ البَصْرِيِّ قَال: قَال لي أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «يَا مِسْمَعُ... وإِنَّ الكَوْثَرَ ليَفْرَحُ بِمُحِبِّنَا إِذَا وَرَدَ عَليْهِ حَتَّى إِنَّهُ ليُذِيقُهُ مِنْ ضُرُوبِ الطَّعَامِ مَا لا يَشْتَهِي أَنْ يَصْدُرَ عَنْهُ، يَا مِسْمَعُ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ شَرْبَةً لمْ يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَداً، ولمْ يَسْتَقِ بَعْدَهَا أَبَداً، وهُوَ فِي بَرْدِ الكَافُورِ ورِيحِ المِسْكِ وطَعْمِ الزَّنْجَبِيل، أَحْلى مِنَ العَسَل وأَليَنَ مِنَ الزُّبْدِ وأَصْفَى مِنَ الدَّمْعِ وأَذْكَى مِنَ العَنْبَرِ، يَخْرُجُ مِنْ تَسْنِيمٍ ويَمُرُّ بِأَنْهَارِ الجِنَانِ، يَجْرِي عَلى رَضْرَاضِ الدُّرِّ

ص: 262


1- سورة الرحمن: 70.
2- تأويل الآيات الظاهرة: ص618.
3- تأويل الآيات الظاهرة: ص821.

واليَاقُوتِ، فِيهِ مِنَ القِدْحَانِ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ، يُوجَدُ رِيحُهُ مِنْ مَسِيرَةِ أَلفِ عَامٍ، قِدْحَانُهُ مِنَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ وأَلوَانِ الجَوْهَرِ، يَفُوحُ فِي وَجْهِ الشَّارِبِ مِنْهُ كُل فَائِحَةٍ حَتَّى يَقُول الشَّارِبُ مِنْهُ: يَا ليْتَنِي تُرِكْتُ هَاهُنَا لا أَبْغِي بِهَذَا بَدَلا ولا عَنْهُ تَحْوِيلا.

أَمَا إِنَّكَ يَا ابْنَ كِرْدِينٍ مِمَّنْ تَرْوَى مِنْهُ، ومَا مِنْ عَيْنٍ بَكَتْ لنَا إِلا نُعِّمَتْبِالنَّظَرِ إِلى الكَوْثَرِ، وسُقِيَتْ مِنْهُ مَنْ أَحَبَّنَا، وإِنَّ الشَّارِبَ مِنْهُ ليُعْطَى مِنَ اللذَّةِ والطَّعْمِ والشَّهْوَةِ لهُ أَكْثَرَ مِمَّا يُعْطَاهُ مَنْ هُوَ دُونَهُ فِي حُبِّنَا، وإِنَّ عَلى الكَوْثَرِ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) وفِي يَدِهِ عَصًا مِنْ عَوْسَجٍ يَحْطِمُ بِهَا أَعْدَاءَنَا، فَيَقُول الرَّجُل مِنْهُمْ: إِنِّي أَشْهَدُ الشَّهَادَتَيْنِ، فَيَقُول: انْطَلقْ إِلى إِمَامِكَ فُلانٍ، فَاسْأَلهُ أَنْ يَشْفَعَ لكَ، فَيَقُول: تَبَرَّأَ مِنِّي إِمَامِيَ الذِي تَذْكُرُهُ، فَيَقُول: ارْجِعْ إِلى وَرَائِكَ فَقُل للذِي كُنْتَ تَتَوَلاهُ وتُقَدِّمُهُ عَلى الخَلقِ فَاسْأَلهُ إِذَا كَانَ خَيْرَ الخَلقِ عِنْدَكَ أَنْ يَشْفَعَ لكَ، فَإِنَّ خَيْرَ الخَلقِ مَنْ يَشْفَعُ، فَيَقُول: إِنِّي أَهْلكُ عَطَشاً، فَيَقُول لهُ: زَادَكَ اللهُ ظَمَأً وزَادَكَ اللهُ عَطَشاً، قُلتُ: جُعِلتُ فِدَاكَ وكَيْفَ يَقْدِرُ عَلى الدُّنُوِّ مِنَ الحَوْضِ ولمْ يَقْدِرْ عَليْهِ غَيْرُهُ، فَقَال: وَرِعَ عَنْ أَشْيَاءَ قَبِيحَةٍ وكَفَّ عَنْ شَتْمِنَا أَهْل البَيْتِ إِذَا ذُكِرْنَا، وتَرَكَ أَشْيَاءَ اجْتَرَى عَليْهَا غَيْرُهُ، وليْسَ ذَلكَ لحُبِّنَا ولا لهَوًى مِنْهُ لنَا ولكِنَّ ذَلكَ لشِدَّةِ اجْتِهَادِهِ فِي عِبَادَتِهِ وتَدَيُّنِهِ، ولمَا قَدْ شَغَل نَفْسَهُ بِهِ عَنْ ذِكْرِ النَّاسِ، فَأَمَّا قَلبُهُ فَمُنَافِقٌ ودِينُهُ النَّصْبُ، واتِّبَاعُهُ أَهْل النَّصْبِ ووَلايَةُ المَاضِينَ، وَتَقْدِيمُهُ لهُمَا عَلى كُل أَحَدٍ»(1).

ص: 263


1- كامل الزيارات: ص102 الباب الثاني والثلاثون ثواب من بكى على الحسين بن علي عليه السلام ح6.

شفاعة الصديقة

اشارة

روي أن فاطمة (عليها السلام) لما سمعت بأن أباها (صلى الله عليه وآله) زوّجها وجعل الدراهم مهراً لها، قالت: يا رسول الله إن بنات الناس يتزوجن بالدراهم، فما الفرق بيني وبينهن، أسألك أن تردها وتدعو الله تعالى أن يجعل مهري الشفاعة في عصاة أمتك؟

فنزل جبريل (عليه السلام) ومعه بطاقة من حرير مكتوب فيها: «جعل الله مهر فاطمة الزهراء (عليها السلام) شفاعة المذنبين من أمة أبيها (صلى الله عليه وآله) »، فلما احتضرت (عليها السلام) أوصت أن توضع تلك البطاقة على صدرها تحت الكفن فوضعت، وقالت: «إذا حشرتُ يوم القيامة رفعتُ تلك البطاقة بيدي وشفّعتُ في عصاة أمة أبي»(1).

---------------------------

رفع البطاقة

يحتمل في قول الصديقة (عليها السلام): «رفعتُ تلك البطاقة بيدي»

وجهان:

الأول: إنه لإظهارها، فإن أفضل وسيلة لذلك هو إشهارها برفعها عالمياً،

ص: 264


1- عوالم العلوم: ج 11 ق1 فاطمة (سلام الله عليها) ص462 ح35.

وذلك إما لكي يتعرف عليهاالعصاة من أمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيقصدوها أو لتكون علامة بارزة للملائكة على ما جرت سنة الله تعالى من إيجاد مظهر لكل مخبر.

الثاني: إن لرفع تلك البطاقة أثراً كنور أو غيره، ولا يستبعد ذلك بعد ما وجدناه من الآثار في الدنيا لبعض الأحجار الكريمة والنباتات وغيرها، فإننا لا نعلم حقيقة تلك البطاقة من الحرير التي أهديت لها (عليها السلام)، والله العالم.

قيمة المرء

مسألة: ينبغي أن يزيد الإنسان من معرفته لقيمته، وأنه أسمى من الماديات، ولا يعوّض بها ولا يقارن، وأنه إن طلبها فبقدر الكفاف لتوقف بدنه وشبهه عليها، لا لأنها هي الثمن لنفسه أو وقته، وقد قال الشاعر:

أنفاس عمرك أثمان الجنان فلا *** تشري بها لهباً في الحشر يشتعل

وقالت الصديقة (عليها السلام): «بنات الناس يتزوجن بالدراهم»، وينبغي أن يكون فرق أيضاً بين المؤمنة الموالية للزهراء (عليها السلام) وبين عامة الناس.وقال عليّ (عليه السلام): «لكُل شَيْ ءٍ قِيمَةٌ، وقِيمَةُ المَرْءِ مَا يُحْسِنُهُ»(1).

وفي الديوان المنسوب إليه (عليه السلام):

ص: 265


1- بحار الأنوار: ج 62 ص49 ب1 الكلاب وأنواعها وصفاتها وأحكامها والسنانير والخنازير في بدء خلقها وأحكامها.

النَّاسُ مِنْ جِهَةِ التِّمْثَا أَكْفَاٌ *** أَبُوُمْ آدَمُ والأُمُّ حَوَاءُ

وَ إِنَّمَا أُمَّهَاتُ النّاِ أَوْعِيَة *** مُسْتَوْدَعَاٌ وللأَحْسَابِ آبَاٌ

فَإِنْ يَكُنْ لهُمْ مِنْ أَصِلهِمْ شَرفٌ *** يُفَاخِرُونَ بِهِ فَالطِّينُ والمَاُ

وَ إِنْ أَتَيْتَ بِفَخْرٍ مِنْ ذَوِي نَسَب *** فَإِنَّ نِسْبَتَنَا جُوٌ وعَليَاُ

لا فَضْل إِلا لأَهْل العِلمِ إِنَّهُم *** عَلى الهُدَى لمَنْ اسْتَهْدى أَدِلاءُ

وَ قِيمَةُ المَرْءِ مَا قَدْ كَانَ يُحْسِنُه*** وَ الجَاهِلونَ لأَهْل العِلمِ أَعْدَاءٌفَقمْ بِعِلمٍ ولا تَبْغِي لَه بَدلا

فَالنَّاسُ مَوْتَى وأَهْل العِلمِ *** أَحْيَاء(1)

مهر معنوي ومادي

مسألة: ينبغي للمؤمنة ولأولياء أمرها إضافة أمر معنوي إلى المهر المادي، كنسخة من القرآن الكريم، أو الصحيفة السجادية، أو نهج البلاغة، أو تحف العقول، أو مسبحة من تراب قبر الحسين (عليه السلام)، أو ما أشبه ذلك، وقد طلبت الصديقة (عليها السلام) أمراً معنوياً مهراً لها.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، قَال: «إِنَّ اللهَ تَعَالى أَمْهَرَ فَاطِمَةَ (عليها السلام) رُبُعَ الدُّنْيَا، فَرُبُعُهَا لهَا، وأَمْهَرَهَا الجَنَّةَ والنَّارَ، تُدْخِل أَعْدَاءَهَا النَّارَ، وتُدْخِل أَوْليَاءَهَا الجَنَّةَ، وهِيَ الصِّدِّيقَةُ الكُبْرَى، وعَلى مَعْرِفَتِهَا دَارَتِ القُرُونُ

ص: 266


1- ديوان أمير المؤمنين (عليه السلام): ص24.

الأُوَل»(1).

عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ شُعَيْبٍ قَال: لمَّا زَوَّجَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) عَليّاً فَاطِمَةَ (عليهما السلام) دَخَل عَليْهَا وهِيَ تَبْكِي، فَقَال لهَا: «مَا يُبْكِيكِ، فَوَ اللهِ لوْ كَانَ فِيأَهْلي خَيْرٌ مِنْهُ مَا زَوَّجْتُكِهِ، ومَا أَنَا زَوَّجْتُهُ ولكِنَّ اللهَ زَوَّجَكِ وأَصْدَقَ عَنْكِ الخُمُسَ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ والأَرْضُ»(2).

وقال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) في حديث: «ولقَدْ نَحَل اللهُ طُوبَى فِي مَهْرِ فَاطِمَةَ (صلوات الله عليها) فَجَعَلهَا فِي مَنْزِل عَليٍّ (عليه السلام)»(3).

حق الشفاعة

مسألة: يجب الاعتقاد بمقام الصديقة الزهراء (عليها السلام) وأن لها فيما لها حق الشفاعة للعصاة من أُمة أبيها وشيعة بعلها (عليهم السلام).

فإنها (صلوات الله عليها) حجة الله، وهي كسائر الأنبياء والأولياء ومريم الصديقة (عليهم السلام) ومن أشبه يشفعون للعصاة، كما ورد بذلك النص، ودل عليه العقل، وقد تقدم الكلام في ذلك في الجملة.

عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلمٍ الثَّقَفِيِّ قَال: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) يَقُول: «لفَاطِمَةَ(عليها السلام) وَقْفَةٌ عَلى بَابِ جَهَنَّمَ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ كُتِبَ بَيْنَ عَيْنَيْ

ص: 267


1- الأمالي، للطوسي: ص668 م36 ح6.
2- الكافي: ج 5 ص378 باب ما تزوج عليه أمير المؤمنين فاطمة (عليهما السلام) ح6.
3- علل الشرائع: ج 1 ص179 ب142 باب العلة التي من أجلها سميت فاطمة (عليها السلام) فاطمة ح6.

كُل رَجُل مُؤْمِنٌ أَوْ كَافِرٌ، فَيُؤْمَرُ بِمُحِبٍّ قَدْ كَثُرَتْ ذُنُوبُهُ إِلى النَّارِ فَتَقْرَأُ فَاطِمَةُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ مُحِبّاً، فَتَقُول: إِلهِي وسَيِّدِي سَمَّيْتَنِي فَاطِمَةَ وفَطَمْتَ بِي مَنْ تَوَلانِي وتَوَلى ذُرِّيَّتِي مِنَ النَّارِ ووَعْدُكَ الحَقُّ وأَنْتَ لا تُخْلفُ المِيعادَ، فَيَقُول اللهُ عَزَّ وجَل: صَدَقْتِ يَا فَاطِمَةُ إِنِّي سَمَّيْتُكِ فَاطِمَةَ وفَطَمْتُ بِكِ مَنْ أَحَبَّكِ وتَوَلاكِ وأَحَبَّ ذُرِّيَّتَكِ وتَوَلاهُمْ مِنَ النَّارِ ووَعْدِيَ الحَقُّ وأَنَا لا أُخْلفُ المِيعَادَ، وإِنَّمَا أَمَرْتُ بِعَبْدِي هَذَا إِلى النَّارِ لتَشْفَعِي فِيهِ فَأُشَفِّعَكِ، وليَتَبَيَّنَ لمَلائِكَتِي وأَنْبِيَائِي ورُسُلي وأَهْل المَوْقِفِ مَوْقِفُكِ مِنِّي ومَكَانَتُكِ عِنْدِي، فَمَنْ قَرَأْتِ بَيْنَ عَيْنَيْهِ مُؤْمِناً فَخُذِي بِيَدِهِ وأَدْخِليهِ الجَنَّة»(1).

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَال: إِنَّ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) كَانَ جَالساً ذَاتَ يَوْمٍ وعِنْدَهُ عَليٌّ وفَاطِمَةُ والحَسَنُ والحُسَيْنُ (عليهم

السلام) فَقَال: «... وكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلى ابْنَتِي فَاطِمَةَ (عليها السلام) قَدْ أَقْبَلتْ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلى نَجِيبٍ مِنْ نُورٍ، عَنْ يَمِينِهَا سَبْعُونَ أَلفَ مَلكٍ، وعَنْ يَسَارِهَا سَبْعُونَ أَلفَ مَلكٍ، وبَيْنَ يَدَيْهَا سَبْعُونَ أَلفَ مَلكٍ،وخَلفَهَا سَبْعُونَ أَلفَ مَلكٍ، تَقُودُ مُؤْمِنَاتِ أُمَّتِي إِلى الجَنَّةِ، فَأَيُّمَا امْرَأَةٍ صَلتْ فِي اليَوْمِ والليْلةِ خَمْسَ صَلوَاتٍ، وصَامَتْ شَهْرَ رَمَضَانَ، وحَجَّتْ بَيْتَ اللهِ الحَرَامَ، وزَكَّتْ مَالهَا، وأَطَاعَتْ زَوْجَهَا، ووَالتْ عَليّاً (عليه السلام) بَعْدِي، دَخَلتِ الجَنَّةَ بِشَفَاعَةِ ابْنَتِي فَاطِمَةَ (عليها السلام) وإِنَّهَا لسَيِّدَةُ نِسَاءِ العَالمِين»(2).

مما يدفن مع الإنسان

مسألة: يستحب أن يدفن مع الإنسان الشيء المهم معنوياً مما ينفعه لآخرته

ص: 268


1- الأمالي، للصدوق: ص486 المجلس الثالث والسبعون ح18.
2- الأمالي، للصدوق: ص287 المجلس الثامن والأربعون ح3.

كالتربة الحسينية، ويعرف ذلك فيما يعرف بالملاك من وصية الصديقة (عليها السلام) حيث وضعت معها صك الشفاعة.

ولعل السيد ابن طاووس (قدس سره) الذي أوصى أن يكتب على عقيق أسماء الأئمة الطاهرين (عليهم الصلاة والسلام) ويوضع في القبر معه، اتخذه من ملاك أمثال هذه الرواية، كالملاك فيما يكتب على الكفن أو ما أشبه.

عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ الحِمْيَرِيِّ قَال: كَتَبْتُ إِلى الفَقِيهِ (عليه السلام) أَسْأَلهُ عَنْ طِينِ القَبْرِ يُوضَعُ مَعَ المَيِّتِ فِي قَبْرِهِ، هَل يَجُوزُ ذَلكَ أَمْ لا، فَأَجَابَ وقَرَأْتُ التَّوْقِيعَ ومِنْهُ نَسَخْتُ: «يُوضَعُ مَعَ المَيِّتِ فِي قَبْرِهِ ويُخْلطُ بِحُنُوطِهِ إِنْ شَاءَ اللهُ»(1).

المهر المعنوي

مسألتان: يجوز في الجملة أن يكون المهر معنوياً كالشفاعة، كما يجوز أن يكون المهر حقاً لا مالاً، كحق التحجير على رأي المشهور(2)، ونحوه مما تصح المعاوضة عليه.

أما الحقوق التي تصح المعاوضة على إسقاطها، كحق الشفعة وحق

ص: 269


1- تهذيب الأحكام: ج 6 ص76 ب22 باب حد حرم الحسين (عليه السلام) وفضل كربلاء وفضل الصلاة عند قبره وفضل التربة وما يقال عند أخذها وفضل التسبيح بها والأكل منها وما يجب على زائريه (عليه السلام) أن يفعلوه ح18.
2- حيث يرون التحجير حقاً، أما على رأي الإمام المؤلف (قدس سره) فإنه يراه مالاً، ويرى التحجير سبباً للملك.

الدعوى واليمين والخيار فالظاهر أنها كذلك أيضاً، لإطلاق روايات «ما تراضيا عليه»(1)،أما الإنصراف إلى المادي وما يملك فهل هو بدوي، فصلناه في الفقه.

عَنْ زُرَارَةَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام)، فِي رَجُل تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلى سُورَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ ثُمَّ طَلقَهَا قَبْل أَنْ يَدْخُل بِهَا فَبِمَا يَرْجِعُ عَليْهَا، قَال: «بِنِصْفِ مَا يُعَلمُ بِهِ مِثْل تِلكَ السُّورَةِ»(2).

وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: «جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلى رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) فَقَالتْ: زَوِّجْنِي، فَقَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) مَنْ لهَذِهِ المَرْأَةِ، فَقَامَ رَجُل فَقَال: أَنَا يَا رَسُول اللهِ، زَوِّجْنِيهَا، فَقَال: مَا تُعْطِيهَا، فَقَال: مَا لي شَيْ ءٌ، فَقَال: لا، فَأَعَادَتْ فَأَعَادَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) الكَلامَ فَلمْ يَقُمْ غَيْرُ الرَّجُل أَحَدٌ، ثُمَ أَعَادَتْ، فَقَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) فِي المَرَّةِ الثَّالثَةِ: تُحْسِنُ مِنَ القُرْآنِ شَيْئاً، فَقَال: نَعَمْ، فَقَال: زَوَّجْتُكَهَا عَلى مَا تُحْسِنُ مِنَ القُرْآنِ أَنْ تُعَلمَهَا إِيَّاهُ»(3).

البنت وطلب المهر

مسألة: يجوز للبنت أن تطلب بمهر غير ما يجعله الوالد، لأن المهر حقها وهي التي تملكه.

ص: 270


1- الكافي: ج 5 ص378 باب أن المهر اليوم ما تراضى عليه الناس قل أو كثر ح3. وفيه: (وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: الصَّدَاقُ مَا تَرَاضَيَا عَليْهِ مِنْ قَليل أَوْ كَثِيرٍ فَهَذَا الصَّدَاقُ).
2- الكافي: ج 5 ص382 باب نوادر في المهر ح14.
3- مستدرك الوسائل: ج 15 ص61 ب2 باب جواز كون المهر تعليم شي ء من القرآن وعدم جواز الشغار وهو أن يجعل تزويج امرأة مهر أخرى ح1.

قال تعالى: «وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدال زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَ تَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وإِثْماً مُبيناً»(1).

وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: سَأَلتُهُ عَنْ رَجُل تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلى أَنْ يُعَلمَهَا سُورَةً مِنْ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وجَل فَقَال: مَا أُحِبُّ أَنْ يَدْخُل بِهَا حَتَّى يُعَلمَهَا السُّورَةَ ويُعْطِيَهَا شَيْئاً، قُلتُ: أَيَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهَا تَمْراً أَوْ زَبِيباً، قَال: «لا بَأْسَ بِذَلكَ إِذَا رَضِيَتْ بِهِ كَائِناً مَا كَانَ»(2).

وجه طلب تغيير المهر

ثم إن ما صنعه النبي (صلى الله عليه وآله) من جعل مهر الصديقة (عليها السلام) الدراهم، ثم سؤالها أن يردها ويجعل مهرها الشفاعة، كان كله لأجل إعلام الناس بحقيقة مهرها، وأنه الشفاعة لا الدراهم بما هي هي، وبياناً لمقامها وكرامتها على الله عزوجل.

إضافة إلى وضوح أن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يكن يتصرف على خلافالقاعدة، فيمهر دون علم من له الأمر، وإن أمكن حمله على التفويض له، أو على عموم ولايته، لكن الأقرب ما ذكر، خاصة أنه مع التفويض أو إعمال الولاية ربما لم يكن الرد هو الأنسب، وإن كان يمكن توجيهه بأنه كان طلباً لا رداً. وأما على اتخاذ مثل ذلك طريقة للإعلام والتعليم والإلفات، فإن الأمر واضح.

ص: 271


1- سورة النساء: 20.
2- الكافي: ج 5 ص380 باب نوادر في المهر ح4.

الاهتمام بالعصاة

مسألة: يستحب أو يجب الاهتمام بالعصاة، والسعي لهدايتهم، والشفاعة لمن يستحقها منهم، لا تركهم وإهمالهم فإن ذلك يزيدهم بعداً، نعم يلزم أن لا يكون الاهتمام بحيث يشجعهم على المعصية.

قال تعالى: «قُل يا عِبادِيَ الذينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَميعاً إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحيم»(1).

وقال سبحانه: «وَإِذْ قال مُوسى لقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ العِجْل فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ»(2).

كتابة المهر

مسألة: يستحب كتابة المهر، فإنه أتقن وأوثق، وفي الحديث: «إِذَا عَمِل أَحَدُكُمْ عَمَلا فَليُتْقِن»(3)، كما يستفاد ذلك عرفاً من أن مهر الصديقة (عليها السلام) كانت مكتوباً على بطاقة من حرير، مع أنه كان يمكن إبلاغه شفوياً، فتأمل.

عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُول: «اكْتُبُوا فَإِنَّكُمْ لاتَحْفَظُونَ حَتَّى تَكْتُبُوا»(4).

ص: 272


1- سورة الزمر: 53.
2- سورة البقرة: 54.
3- الكافي: ج 3 ص263 ح45.
4- الكافي: ج 1 ص52 باب رواية الكتب والحديث وفضل الكتابة والتمسك بالكتب ح9.

وضع شيء مع الميت

مسألة: يجوز وضع شيء مع الميت، إذ لا دليل على الحرمة، وإن لم تكن لوضعه جهة رجحان، والأصل الإباحة، نعم يلزم أن لا يكون هتكاً له، كما يلزم أن لا يكون بجهة التشريع، ويلزم أن لا يكون من الإسراف، أو من حق الورثة من دون رضاهم، أو ما أشبه.

وهناك رجحان في وضع بعض الأشياء التي تفيد الميت، كالتربة الشريفة والجريدتين وما أشبه.

قال الإمام الرضا (عليه السلام): «وَاجْعَل مَعَهُ جَرِيدَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا عِنْدَ تَرْقُوَتِهِ تُلصِقُهَا بِجِلدِهِ ثُمَّ تَمُدُّ عَليْهِ قَمِيصَهُ، وَالأُخْرَى عِنْدَ وَرِكِهِ»(1).

وفي الوسائل: (إِنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَزْنِي وتَضَعُ أَوْلادَهَا وتُحْرِقُهُمْ بِالنَّارِ خَوْفاً مِنْ أَهْلهَا ولمْ يَعْلمْ بِهِ غَيْرُ أُمِّهَا، فَلمَّا مَاتَتْ دُفِنَتْ، فَانْكَشَفَ التُّرَابُ عَنْهَا ولمْ تَقْبَلهَا الأَرْضُ، فَنُقِلتْ مِنْ ذَلكَ المَكَانِ إِلى غَيْرِهِ فَجَرَى لهَا ذَلكَ، فَجَاءَ أَهْلهَا إِلى الصَّادِق (عليه السلام) وحَكَوْا لهُ القِصَّةَ، فَقَال لأُمِّهَا: مَا كَانَتْ تَصْنَعُ هَذِهِ فِي حَيَاتِهَا مِنَ المَعَاصِي، فَأَخْبَرَتْهُ بِبَاطِنِأَمْرِهَا، فَقَال الصَّادِقُ (عليه السلام): «إِنَّ الأَرْضَ لا تَقْبَل هَذِهِ لأَنَّهَا كَانَتْ تُعَذِّبُ خَلقَ اللهِ بِعَذَابِ اللهِ، اجْعَلوا فِي قَبْرِهَا شَيْئاً مِنْ تُرْبَةِ الحُسَيْنِ (عليه السلام)» فَفُعِل ذَلكَ بِهَا فَسَتَرَهَا اللهُ تَعَالى)(2).

ص: 273


1- مستدرك الوسائل: ج2 ص213 ب6 ح1826 عن فقه الرضا (عليه السلام).
2- وسائل الشيعة: ج 3 ص29 ب12 باب استحباب وضع التربة الحسينية مع الميت في الحنوط والكفن وفي القبر ح2.

صفة يوم القيامة

اشارة

عن فاطمة (عليها السلام) قالت لأبيها (صلى الله عليه وآله):

«يا أبة أخبرني كيف يكون الناس يوم القيامة»؟

قال: يا فاطمة يشغلون فلا ينظر أحد إلى أحد، ولا والد إلى ولده، ولا ولد إلى أمه(1).

قالت: هل يكون عليهم أكفان إذا خرجوا من القبور؟

قال: يا فاطمة تبلى الأكفان وتبقى الأبدان، يُستر عورة المؤمنين، وتبدو عورة الكافرين.

قالت: يا أبتى ما يستر المؤمنين؟

قال: نور يتلألأ لا يبصرون أجسادهم من النور(2).

قالت: يا أبت فأين ألقاك يوم القيامة؟

قال: انظري عند الميزان وأنا أنادي: «رب أَرْجِحْ من شهد أن لا إله إلا الله».

وانظري عند الدواوين إذا نشرت الصحف وأنا أنادي: «رب حاسب أمتي

ص: 274


1- الظاهر أن هذه مرحلة من مراحل القيامة، فإنه في مراحل أخرى يشفع بعض المؤمنين لبعض.
2- ولعل هذا النور هو (نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم) سورة التحريم: 8، ويحتمل كونه غيره.

حساباً يسيراً».

وانظري عند مقام شفاعتي على جسر جهنم، كل إنسان يشغل بنفسه وأنا مشتغل بأمتي أنادي: «رب سلم أمتي» والنبيون (عليهم السلام) حولي ينادون: «رب سلم أمة محمد (صلى الله عليه وآله)».

وقال (صلى الله عليه وآله): «إن الله يحاسب كل خلق إلاّ من أشرك بالله، فإنه لا يحاسب ويؤمر به إلى النار»(1).

--------------------------

وجه نداء الأنبياء

لعل الوجه في نداء الأنبياء (عليهم السلام) وهم حول رسول الله (صلى الله عليه وآله): «رب سلم أمة محمد»، هو أن في ذلك توقيراً واحتراماً لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، فإن احترام الأمة كاحترام العشيرة والعائلة احترام لكبيرها، كما لعله لأجل أن أمة الرسول (صلى الله عليه وآله) هي أفضل الأمم من حيث المجموع، لأنها خاتمة الأمم أو لتضمنها الأئمة (عليهم السلام) والتالي تلوهم.

بين القصور والتقصير

ثم عدم محاسبة من أشرك، إذا كانعن عمد، لما دل من الروايات على امتحان القاصرين يوم القيامة، كما دل عليه العقل أيضاً، فإن الله سبحانه لا يؤاخذ شخصاً ما لم تتم الحجة عليه، قال تعالى: «وَما كُنَّا مُعَذِّبينَ حَتَّى نَبْعَثَ

ص: 275


1- جامع الأخبار: ص175 الفصل التاسع والثلاثون والمائة في القيامة وأفزاعها وأهوالها.

رَسُولاً»(1)،(2).

ثم إن القاصر لا إثم عليه، أما المقصر(3) فمذنب في تقصيره، وربما يمتحن يوم القيامة أيضاً، لإطلاق أدلة أن من في الفترة بين الرسل ومن أشبه يمتحن يوم القيامة، ولا منافاة بين أن يعاقب على تقصيره بعض العقاب، وبين أن يعاد امتحانه ليوفّى نصيبه منه كاملاً إن سقط فيه، وليعفى عما بقي منه بل ليثاب الجنة إن نجح، فتأمل.

عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: «إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ احْتَجَّ اللهُ عَزَّ وجَل عَلى خَمْسَةٍ، عَلى الطِّفْل، والذِي مَاتَ بَيْنَالنَّبِيَّيْنِ، والذِي أَدْرَكَ النَّبِيَّ وهُوَ لا يَعْقِل، والأَبْلهِ والمَجْنُونِ الذِي لا يَعْقِل، والأَصَمِّ والأَبْكَمِ، فَكُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَحْتَجُّ عَلى اللهِ عَزَّ وجَل، قَال: فَيَبْعَثُ اللهُ عَليْهِمْ رَسُولا فَيُؤَجِّجُ لهُمْ نَاراً فَيَقُول لهُمْ: رَبُّكُمْ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَثِبُوا فِيهَا، فَمَنْ وَثَبَ فِيهَا كَانَتْ عَليْهِ بَرْداً وسَلاماً، ومَنْ عَصَى سِيقَ إِلى النَّارِ»(4).

ص: 276


1- سورة الإسراء: 15.
2- بناءً على أن (نبعث رسولاً) كناية عن الحجة أو البلاغ، أو لكونه مصداقها، أو لوحدة الملاك بين من لم يبعث في زمنه الرسول وبين من بعث لكنه لم يعلم به أو بما قاله قصوراً، راجع (الأصول) للإمام المؤلف (قدس سره).
3- الظاهر أن مقصود الإمام المؤلف: الكافر المقصر، ولعله أيضاً المخالف المقصر لا العاصي المقصر.
4- الخصال: ج 1 ص283 يحتج الله عز وجل يوم القيامة على خمسة ح31.

السؤال عن حال الناس في القيامة

مسألة: يستحب السؤال عن حال الناس في يوم القيامة، فإن في ذلك العبرة والموعظة والإنذار والهداية، وذلك تأسياً بالصديقة (صلوات الله عليها) إذ سألت.

انشغال الناس في المحشر

مسألة: يستحب بيان أن الناس في يوم القيامة ينشغلون بأنفسهم، فلا ينظر أحد إلى أحد، لا والد إلى ولده، ولا ولد إلى والدته، وذلك لعظيم الأهوال وشدة الأحوال.

وربما من وجوه استحبابه أن يهتم المرء بإصلاح نفسه، فلا يشغله المال والأهل والولد عن ذلك، ولا يبيع آخرته بدنيا غيره.

قال تعالى: «يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ واخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزي والدٌ عَنْ وَلدِهِ ولا مَوْلودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الحَياةُ الدُّنْيا ولا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الغَرُور»(1).

ص: 277


1- سورة لقمان: 33.

ستر المؤمن

مسألة: يستحب بيان أن يوم القيامة تستر عورة المؤمن بالنور كرامة له، وتبدو عورة الكافر مهانة له، وفي ذلك تشجيع للأول، وحجر على الأخير.

وهناك أمور تؤثر إيجاباً أو سلباً على الستر يوم القيامة.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) أَنَّهُ قَال: «مَنْ سَتَرَ عَوْرَةَ مُؤْمِنٍ سَتَرَ اللهُ عَزَّ وجَل عَوْرَتَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، ومَنْ هَتَكَ سِتْرَ مُؤْمِنٍ هَتَكَ اللهُ سِتْرَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ»(1).

وقَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «مَنْ سَتَرَ عَلى أَخِيهِ المُؤْمِنِ عَوْرَةً سَتَرَ اللهُ عَوْرَتَهُ يَوْمَ القِيَامَة»(2).

وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: «من قرأ هذه السورة» سورة الجاثية «سكن الله روعته يوم القيامة إذا جثا على ركبتيه، وسترت عورته، ومن كتبها وعلقها عليه أمن من سطوة كل جبار وسلطان، وكان مهاباً محبوباً وجيهاً في عين كل من يراه من الناس،تفضلاً من الله عز وجل»(3).

الستر بالنور

مسألة: يجوز ستر العورة بالنور حيث لا تكون مرئية، إذ سترها طريقي كي لا يراه الناظر المحترم، فيكفي أي نوع منه كان، ولذا لا يجب الستر إذا كان

ص: 278


1- المؤمن: ص69 ب8 باب ما حرم الله عز وجل على المؤمن من حرمة أخيه المؤمن ح187.
2- مشكاة الأنوار: ص107 الفصل الثامن في أذى المؤمن وتتبع عثراته.
3- البرهان في تفسير القرآن: ج 5 ص23 ح2.

الطرف أعمى لا يبصر، أو نائماً أو منشغلاً عن النظر إليه، وإن كان أفضل.

الشرك في النار

مسألة: الشرك والمراد به الأعم من الكفر، هو أكبر المحرمات وعقوبته النار، حيث يؤمر بالمشرك إلى جهنم.

قال تعالى: «إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذلكَ لمَنْ يَشاءُ ومَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظيماً»(1).

الدعاء للأُمة

مسألة: يستحب الدعاء لسلامة الأُمة، والسعي في ذلك.والدعاء قد يكون بلفظ يشملهم جميعاً، أو بذكر الأصناف وما أشبه.

وقد ورد عن الناحية المقدسة: «وتَفَضَّل عَلى عُلمَائِنَا بِالزُّهْدِ والنَّصِيحَةِ، وعَلى المُتَعَلمِينَ بِالجَهْدِ والرَّغْبَةِ، وعَلى المُسْتَمِعِينَ بِالاتِّبَاعِ والمَوْعِظَةِ، وعَلى مَرْضَى المُسْلمِينَ بِالشِّفَاءِ والرَّاحَةِ، وعَلى مَوْتَاهُمْ بِالرَّأْفَةِ والرَّحْمَةِ، وعَلى مَشَايِخِنَا بِالوَقَارِ والسَّكِينَةِ، وعَلى الشَّبَابِ بِالإِنَابَةِ والتَّوْبَةِ، وعَلى النِّسَاءِ بِالحَيَاءِ والعِفَّةِ، وعَلى الأَغْنِيَاءِ بِالتَّوَاضُعِ والسَّعَةِ، وعَلى الفُقَرَاءِ بِالصَّبْرِ والقَنَاعَةِ، وعَلى الغُزَاةِ بِالنَّصْرِ والغَلبَةِ، وعَلى الأُسَرَاءِ بِالخَلاصِ والرَّاحَةِ، وعَلى الأُمَرَاءِ

ص: 279


1- سورة النساء: 48.

بِالعَدْل والشَّفَقَةِ، وعَلى الرَّعِيَّةِ بِالإِنْصَافِ وحُسْنِ السِّيرَةِ، وبَارِكْ للحُجَّاجِ والزُّوَّارِ فِي الزَّادِ والنَّفَقَةِ، واقْضِ مَا أَوْجَبْتَ عَليْهِمْ مِنَ الحَجِّ والعُمْرَةِ، بِفَضْلكَ ورَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِين»(1).

الحذر مما يؤدي إلى النار

مسألة: يجب الحذر الدائم من أن يعمل الإنسان أو يقول أو ينوي أو حتى يفكر بما يؤدي به إلى النار.وإنما ذكرنا النية والتفكر لما دل من الكتاب والسنة على أنه أيضاً يحاسب على ذلك ويعاتب، وإن لم يعاقب في الجملة، قال سبحانه: «قُل إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلمْهُ اللهُ وَيَعْلمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللهُ عَلى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ»(2).

فإن نفس علم الله بما أخفاه الشخص من نية سيئة، أسوأ لمن أعطي الإدراك، من المحاسبة ومن أنواع من العقوبة، أو لا ترى من علم باطلاع أبيه أو عشيرته على نيته السرقة وإن لم يسرق، كيف يخجل ويتألم ويلوم نفسه أشد الملامة، بل لعل تألمه النفسي أشد عليه من عقوبة السجن أو الجلد أو قطع اليد.

قال تعالى: «للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلى كُل شَيْءٍ

ص: 280


1- البلد الأمين: ص349 دعاء آخر مروي عن المهدي (عليه السلام).
2- سورة آل عمران: 29.

قَدِيرٌ»(1).

وبذلك يظهر وجه التأمل في إطلاق ما ذكره الشيخ الطوسي (رحمه الله) في تفسيره حول هذه الآية الشريفة(2)، فتأمل(3).

ص: 281


1- سورة البقرة: 284.
2- قال في التبيان: (ويجوز أن تكون الآية الثانية بينت الأولى وأزالت توهم من صرف ذلك إلى غير وجهه، فلم يضبط الرواية فيه، وظن أن ما يخطر للنفس أو تحدث نفسه به مما لا يتعلق بتكليفه فإن الله يؤاخذه به. والأمر بخلاف ذلك، وإنما المراد بالآية ما يتناوله الأمر والنهي من الاعتقادات والإرادات وغير ذلك مما هو مستور عنا، فأما ما لا يدخل في التكليف فخارج عنه لدلالة العقل، ولقوله (عليه السلام) تجوز لهذه الأمة عن نسيانها وما حدثت به أنفسها)، التبيان في تفسير القرآن: ج 2 ص382.
3- لعل وجهه أن الكلام عن المحاسبة لا المؤاخذة التي بنى عليها الطوسي (رحمه الله) كلامه، إضافة إلى أن التجاوز عن ما حدثت به النفس، كما في الحديث قد يراد به التجاوز عن العقوبة لا المحاسبة أو عن العقوبة المعهودة لا مطلقاً.

التحذير من عذاب النار

اشارة

قالت الصديقة فاطمة (عليها السلام): «الويل، ثم الويل لمن دخل النار»(1).

----------------------

إخبار يفيد الإنشاء

وهذا الكلام من الصديقة (عليها السلام) إخبار، لكنه يستلزم الإنشاء، فالمعنى عرفاً أنه حيث كان كذلك فاجتنبوا ما يسبب دخولها، أو هو إخبار في مقام الإنذار.

و(الويل) كلمة تقال عند الهلكة.. فالمعنى أن الويل والهلاك والخسارة الحقيقية هي لمن دخل النار، أما ما عدا ذلك فأمره يهون، ولعل هذه الكلمة قيلت لتسلية من فقد أباً أو أماً أو رحماً، فقال أو قالت: ويلي أو يا ويلي، فيجاب عندئذ ب (الويل ثم الويل لمن دخل النار).

ص: 282


1- الدروع الواقية: ص276 الفصل الرابع والعشرون فيما نذكره من حديث اليوم الذي ترفع فيه أعمال كل شهر.

الابتعاد عن موجبات النار

مسألة: يجب الابتعاد عن أي عمل يوجب دخول النار، فإن عذابها لا يطاق، كما هو مجرب في نار الدنيا التي هي أخف وأخف بمئات المرات بل آلاف المرات من نار الآخرة.

والعمل هنا بالمعنى الأعم فيشمل القول والفعل والعقيدة وما أشبه مما توجب النار.

قَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام):

«إِنَ نَارَكُمْ هَذِهِ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءاً مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ، وقَدْ أُطْفِئَتْ سَبْعِينَ مَرَّةً بِالمَاءِ ثُمَّ التَهَبَتْ، ولوْ لا ذَلكَ مَا اسْتَطَاعَ آدَمِيٌّ أَنْ يُطْفِئَهَا وإِنَّهَا ليُؤْتَى بِهَا يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى تُوضَعَ عَلى النَّارِ فَتَصْرُخُ صَرْخَةً لا يَبْقَى مَلكٌ مُقَرَّبٌ ولا نَبِيٌّ مُرْسَل إِلا جَثَى عَلى رُكْبَتَيْهِ فَزَعاً مِنْ صَرْخَتِهَا»(1).

التحذير من نار جهنم

مسألة: يستحب التحذير من نار جهنم.

قال تعالى: «فَإِنْ لمْ تَفْعَلوا ولنْ تَفْعَلوا فَاتَّقُوا النَّارَ التي وَقُودُهَا النَّاسُ والحِجارَةُ أُعِدَّتْ للكافِرينَ»(2).

ص: 283


1- تفسير القمي: ج 1 ص366.
2- سورة البقرة: 24.

وقال سبحانه: «يا أَيُّهَا الذينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وأَهْليكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ والحِجارَةُ عَليْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ ويَفْعَلونَ ما يُؤْمَرُون»(1).

ص: 284


1- سورة التحريم : 6.

التعداد على الميت

اشارة

قال أمير المؤمنين (عليه السلام):... «إن فاطمة (سلام الله عليها) لما قبض أبوها (صلى الله عليه وآله) أسعدتها بنات هاشم، فقالت: اتركن التعداد وعليكن بالدعاء»(1).

وفي نسخة: «ساعدتها بنات بني هاشم»(2).

--------------------------

الدعاء للميت

مسألة: يستحب الدعاء للميت فإنه يفيده أكثر من التعداد، فكلام الصديقة (عليها السلام) كان على وجه بيان الأفضل للتعليم، أو لما سيأتي ذكره.

قال العلامة المجلسي (رحمه الله) في البحار:

(بيان، لعلها (صلوات الله عليها) إنما نهت عن تعداد الفضائل للتعليم، إذ ذكر فضائله (صلى الله عليه وآله) كان صدقاًوكان من أعظم الطاعات، فكان غرضها (عليها السلام) أن لا يذكروا أمثال ذلك في موتاهم، لكونها مشتملة على الكذب

ص: 285


1- الكافي: ج 3 ص218 باب ما يجب على الجيران لأهل المصيبة واتخاذ المأتم ح6.
2- بحار الأنوار: ج 79 ص75 ب16 التعزية والمأتم وآدابهما وأحكامها ح8.

غالباً وانتفاع الميت بالاستغفار والدعاء أكثر على تقدير كونها صدقاً، والمراد بالقول الحسن أن لا يقولوا فيما يذكرونه للميت من مدائحه كذباً، أو الدعاء والاستغفار وترك ذكر المدائح مطلقاً إلا فيما يتعلق به غرض شرعي) (1).

ولا منافاة بين أنها (عليها السلام) كانت تنعى أباها (صلى الله عليه وآله) وبين كلامها، فإن النعي غير التعداد، كما أن السجاد (صلوات الله عليه) كان ينعى شهداء الطف ويبكي ويبين مظلومية الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام) ويفضح الظالمين بذلك، بينما التعداد لم يكن كذلك عادة، ولعل تعداد الناس العاديين يشتمل على بعض ما يخالف الواقع، أو بعض ما يوافقه لكنه من جهة النتيجة غير مطلوب(2).

وقد يقال: إن التعداد ذكر المفاخر والمكارم ولكن بما يشبه الشكوى، من هنا كان مرجوحاً مطلقاً أو بالنسبة إلىالدعاء، أو كان المقام يقتضي زيادة الحزن على رسول الله (صلى الله عليه وآله) دون ما يخفف اللوعة والمصاب، فكانت (عليها السلام) تريد إثارة الأحزان على فقده (صلى الله عليه وآله) بأكبر قدر ممكن كي لا يطمع في إطفاء ذكره، وذلك من أسباب بكائها ليل نهار، وبناء بيت الأحزان بعد منعها من المدينة، وشبه ذلك.

ويحتمل أمرها (عليها السلام) بالدعاء لدفع البلاء الذي كان ربما سينزل بالناس بعد فقد رسول الله (صلى الله عليه وآله) بل بعد قتله، قال تعالى: «وَمَا كَانَ اللهُ ليُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ»(3)، وقال

ص: 286


1- بحار الأنوار: ج 79 ص75 ب16 التعزية والمأتم وآدابهما وأحكامها.
2- نظير (كلمة حق يراد بها باطل).
3- سورة الأنفال: 33.

سبحانه: «أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِل انْقَلبْتُمْ عَلى أَعْقَابِكُمْ»(1)، فكان الأهم حينئذ الدعاء عن التعداد، وإن كان تعداد فضائله (صلى الله عليه وآله) ذا فضل في حد نفسه.

بيان فضائل الميت

مسألة: يستحب ذكر فضائل الميت بما فيه العِبرة والموعظة والتحريض على التأسي بمكارم أخلاقه وحميد خصاله والعمل بالحسنات من سننه، شرط أن يخلو من الكذب وسائر المحرمات.قَال (صلى الله عليه وآله): «اذْكُرُوا مَحَاسِنَ أَمْوَاتِكُمْ وكُفُّوا عَنْ مَسَاوِيهِم»(2).

وفي الرواية: «لا تَقُولوا فِي مَوْتَاكُمْ إِلا خَيْراً»(3).

وقَال النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): «لا تَنْسَوْا مَوْتَاكُمْ فِي قُبُورِهِمْ، ومَوْتَاكُمْ يَرْجُونَ إِحْسَانَكُمْ، ومَوْتَاكُمْ مَحْبُوسُونَ يَرْغَبُونَ فِي أَعْمَالكُمُ البِرَّ، وهُمْ لا يَقْدِرُونَ، أَهْدُوا إِلى مَوْتَاكُمُ الصَّدَقَةَ والدُّعَاء»(4).

ص: 287


1- سورة آل عمران: 144.
2- غوالي اللئالي: ج 1 ص159 الفصل الثامن في ذكر أحاديث تشتمل على كثير من الآداب ومعالم الدين روايتها تنتهي إلى النبي (صلى الله عليه وآله) بطريق واحد من طرقي المذكورة آنفاً ح142.
3- بحار الأنوار: ج 72 ص239 ب66 الغيبة.
4- مستدرك الوسائل: ج 2 ص114 ب20 باب استحباب الصلاة عن الميت والصوم والحج والصدقة والبر والعتق عنه والدعاء له والترحم عليه والتشريك بين اثنين في ركعتين وفي الحج ح8.

في مواجهة الطغاة

اشارة

روي أنه: لما أخرج بعلي (عليه السلام) خرجت فاطمة (عليها السلام) واضعة قميص(1) رسول الله (صلى الله عليه وآله) على رأسها، آخذة بيدي ابنيها، فقالت: ما لي يا أبا بكر تريد أن تؤتم ابني وترملني من زوجي، والله لولا أن تكون سيئة لنشرت شعري، ولصرخت إلى ربي.

فقال رجل من القوم: ما تريد إلى هذا، ثم أخذت (عليها السلام) بيده (عليه السلام) فانطلقت به(2).

------------------------

القوم أرادوا قتل الإمام

مسألة: ظاهر كلام الصديقة (عليها السلام) ههنا إضافة إلى قرائن وأدلة أخرى تاريخية، أن القوم كانوا جادين في قتل أمير المؤمنين (عليه السلام) إن لم يبايع، أو مطلقاً حتى وإن بايع، إلا لو استسلم مطلقاً، لكنه (عليه السلام) لم يبايع ولم يستسلم، نعم سكت عن حقه لأنه كان موصى به، ومع ذلك كان (عليه السلام) يحتج على القوم ويخالفهم وينتقدهم ويعترض على قراراتهم.

ص: 288


1- القميص هو الثوب الذي يلبس.
2- الكافي: ج 8 ص238 حديث القباب ح320.

فقولها (عليها السلام): «ما لي يا أبا بكر أراك تريد ...» صريح في أنها علمت بإرادته قتل الإمام، وحيث إنها تدخلت بهذه الطريقة وفضحت نواياهم وهددتهم بالدعاء وما أشبه تراجعوا.

وهذا مما يلزم بيانه للناس.

وفي أكثر من مورد أرادوا قتل الإمام (عليه السلام) ولكن الله تعالى حفظه.

في الخرائج: «أَنَّ عَليّاً (عليه السلام) لمَّا امْتَنَعَ مِنَ البَيْعَةِ عَلى أَبِي بَكْرٍ، أَمَرَ خَالدَ بْنَ الوَليدِ أَنْ يَقْتُل عَليّاً إِذَا مَا سَلمَ مِنْ صَلاةِ الفَجْرِ بِالنَّاسِ، فَأَتَى خَالدٌ وجَلسَ إِلى جَنْبِ عَليٍّ (عليه السلام) ومَعَهُ السَّيْفُ(1).

وفي كتاب سليم: (قَامَ عُمَرُ فَقَال لأَبِي بَكْرٍ وهُوَ جَالسٌ فَوْقَ المِنْبَرِ: مَا يُجْلسُكَ فَوْقَ المِنْبَرِ وهَذَا - يعني علياً (عليه السلام) - جَالسٌ مُحَارِبٌ لا يَقُومُ فَيُبَايِعَكَ، أَوتَأْمُرُ بِهِ فَنَضْرِبَ عُنُقَهُ، والحَسَنُ والحُسَيْنُ (عليهما السلام) قَائِمَانِ، فَلمَّا سَمِعَا مَقَالةَ عُمَرَ بَكَيَا، فَضَمَّهُمَا (عليهما السلام) إِلى صَدْرِهِ فَقَال: لا تَبْكِيَا فَوَ اللهِ مَا يَقْدِرَانِ عَلى قَتْل أَبِيكُمَا...

ثُمَّ قَال: قُمْ يَا ابْنَ أَبِي طَالبٍفَبَايِعْ.

فَقَال (عليه السلام): فَإِنْ لمْ أَفْعَل.

قَال: إِذاً واللهِ نَضْرِبُ عُنُقَكَ.

فَاحْتَجَ عَليْهِمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ مَدَّ يَدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَفْتَحَ كَفَّهُ، فَضَرَبَ عَليْهَا أَبُو بَكْرٍ ورَضِيَ بِذَلكَ مِنْهُ

ص: 289


1- الخرائج والجرائح: ج 2 ص757 الباب الخامس عشر في الدلالات والبراهين على صحة إمامة الاثني عشر إماماً (عليهم السلام) ح75.

.

فَنَادَى عَليٌّ (عليه السلام) قَبْل أَنْ يُبَايِعَ والحَبْل فِي عُنُقِهِ: «يَا ابْنَ أُمَّ إِنَّ القَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وكادُوا يَقْتُلونَنِي»(1)،(2).

تكريم المقدسات

مسألة: يستحب تكريم الشيء المقدس الذي له نوع ارتباط وانتساب بالله وبأوليائه الطاهرين (عليهم السلام) والتبرك به، كوضعه على الرأس إذا كان مما يقتضي ذلك، ومن مصاديقه قميص رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ومنه يعلم حكم الأقمشة التي توضع على الأضرحة الشريفة فإنها تكتسب القدسية وينبغي التبرك بها.

وهو نوع توسل واستعطاف أيضاً، كما إنه نوع تواضع، والتواضع مما يقربالعبد إلى ربه عزوجل، وقد ورد أن أفضل وقت يتقرب به الإنسان إلى الله تعالى حينما يكون ساجداً، فكلما كان التواضع أكثر كان القرب المعنوي أكثر.

عَنْ أَبِي هَارُونَ المَكْفُوفِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: كَانَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) إِذَا ذَكَرَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) قَال: «بِأَبِي وأُمِّي وقَوْمِي وعَشِيرَتِي، عَجَبٌ للعَرَبِ كَيْفَ لا تَحْمِلنَا عَلى رُءُوسِهَا واللهُ عَزَّ وجَل يَقُول فِي كِتَابِهِ «وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها»(3)، فَبِرَسُول اللهِ (صلى الله

ص: 290


1- سورة الأعراف: 150.
2- كتاب سليم بن قيس الهلالي: ج 2 ص593 الحديث الرابع.
3- سورة آل عمران: 103.

عليه وآله) أُنْقِذُوا»(1).

وعن الرَّيَّانُ بْنُ الصَّلتِ قَال: (لمَّا أَرَدْتُ الخُرُوجَ إِلى العِرَاقِ وعَزَمْتُ عَلى تَوْدِيعِ الرِّضَا (عليه السلام) فَقُلتُ فِي نَفْسِي: إِذَا وَدَّعْتُهُ سَأَلتُهُ قَمِيصاً مِنْ ثِيَابِ جَسَدِهِ لأُكَفَّنَ بِهِ، ودَرَاهِمَ مِنْ مَالهِ أَصُوغُ بِهَا لبَنَاتِي خَوَاتِيمَ، فَلمَّا وَدَّعْتُهُ شَغَلنِي البُكَاءُ والأَسَفُ عَلى فِرَاقِهِ عَنْ مَسْأَلةِ ذَلكَ، فَلمَّا خَرَجْتُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ صَاحَ بِي: «يَا رَيَّانُ ارْجِعْ» فَرَجَعْتُ فَقَال لي: «أَمَا تُحِبُّ أَنْ أَدْفَعَ إِليْكَ قَمِيصاً مِنْ ثِيَابِ جَسَدِي تُكَفَّنُ فِيهِ إِذَا فَنِيَ أَجَلكَ، أَومَا تُحِبُّ أَنْأَدْفَعَ إِليْكَ دَرَاهِمَ تَصُوغُ بِهَا لبَنَاتِكَ خَوَاتِيمَ»، فَقُلتُ: يَا سَيِّدِي قَدْ كَانَ فِي نَفْسِي أَنْ أَسْأَلكَ ذَلكَ فَمَنَعَنِي الغَمُّ بِفِرَاقِكَ، فَرَفَعَ (عليه السلام) الوِسَادَةَ وأَخْرَجَ قَمِيصاً فَدَفَعَهُ إِليَّ، ورَفَعَ جَانِبَ المُصَلى فَأَخْرَجَ دَرَاهِمَ فَدَفَعَهَا إِليَّ وعَدَدْتُهَا فَكَانَتْ ثَلاثِينَ دِرْهَماً) (2).

وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيل بْنِ بَزِيعٍ قَال: سَأَلتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) أَنْ يَبْعَثَ إِليَ بِقَمِيصٍ مِنْ قُمُصِهِ أُعِدُّهُ لكَفَنِي، فَبَعَثَ إِليَّ بِهِ، قَال: فَقُلتُ لهُ: كَيْفَ أَصْنَعُ بِهِ، قَال: «انْزِعْ أَزْرَارَهُ»(3).

ص: 291


1- الكافي: ج 8 ص266 حديث القباب ح388.
2- عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج 2 ص212 ح17.
3- وسائل الشيعة: ج 3 ص12 ب2 باب عدد قطع الكفن الواجب والندب وجملة من أحكامها ح21.

نشر الشعر

مسألة: يستحب للمرأة أن تنشر شعرها للدعاء، فيما لا يراها الرجال، وهو نوع توسل واستعطاف وإظهار انكسار يوجب التقرب إلى الله سبحانه أكثر فأكثر، وقد ورد في قصة عاشوراء أن السيدة ليلى أم علي الأكبر (عليه السلام) نشرت شعرها في الخيام وأخذت تدعو حتى يرد الله ولدها عليها سالماً، فاستجاب الله دعاءها.

ويكفي ظهور كلام الصديقة (عليها السلام) في أن ذلك من طرق استجابة الدعاء لولا المحذور الخارجي.

وربما كان من الحكمة في نشر الشعر، أنه كلما كان الإنسان أشعث وأغبر يكون أقرب للتواضع والتذلل والانكسار، وأبعد من الكبر والغرور.

ولذا ورد استحباب ذلك في الحج، وفي زيارة الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام)، مضافاً إلى أن الأشعث الأغبر في زيارة الحسين (عليه السلام) نوع مواساة مع العترة الطاهرة (عليهم السلام) في يوم كربلاء حيث كانوا كذلك.

ثم إنه يحتمل في (لولا أن تكون سيئة) أحد أمرين:

الأول: لولا أن تحدث سيئة، إذ لو نشرت (عليها السلام) شعرها لغضب الله علىالقوم وأهلكهم بزلزلة أو غيرها، ولم يكن رسول الله (صلى الله عليه وآله) يريد ذلك، ولا أمير المؤمنين (عليه السلام) ولا الزهراء (عليها السلام) ليقضي الله أمراً كان مفعولاً.

الثاني: كون العمل هذا سيئة في محضر الرجال، كما هو واضح

ص: 292

.

عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: «واللهِ لوْ نَشَرَتْ شَعْرَهَا مَاتُوا طُرّاً»(1).

التصريح باسم الظالم

مسألة: يجوز التصريح باسم الظالم لفضحه إلى يوم القيامة، والجواز هنا بالمعنى الأعم(2)، كما أشرنا إليه في الفصل الثاني من الكتاب(3).

الصراخ إلى الرب

مسألة: ربما يكون من المستحب الصراخ إلى الرب في المشاكل في مقام الاستنجاد، لا الاحتجاج والشكاية.وهذا لا ينافي استحباب المناجاة كما في بعض الروايات.

عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: «مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ التِي لمْ تُغَيَّرْ: أَنَّ مُوسى (عليه السلام) سَأَل رَبَّهُ، فَقَال: يَا رَبِّ، أَقَرِيبٌ أَنْتَ مِنِّي فَأُنَاجِيَكَ، أَمْ بَعِيدٌ فَأُنَادِيَكَ، فَأَوْحَى اللهُ عَزَّ وجَل إِليْهِ: يَا مُوسى، أَنَا جَليسُ مَنْ ذَكَرَنِي، فَقَال مُوسى: فَمَنْ فِي سِتْرِكَ يَوْمَ لاسِتْرَ إِلا سِتْرُكَ، قَال: الذِينَ يَذْكُرُونَنِي فَأَذْكُرُهُمْ، ويَتَحَابُّونَ فِيَّ فَأُحِبُّهُمْ، فَأُولئِكَ الذِينَ إِذَا أَرَدْتُ أَنْ أُصِيبَ أَهْل الأَرْضِ بِسُوءٍ، ذَكَرْتُهُمْ، فَدَفَعْتُ عَنْهُمْ بِهِمْ»(4).

ص: 293


1- الكافي: ج 8 ص238 حديث القباب ح321.
2- فقد يكون واجباً وقد يكون مستحباً أو مباحاً فيما إذا تساوى المتزاحمان.
3- أي في شرح الخطبة الشريفة التي ألقتها الصديقة الطاهرة (عليها السلام) في المسجد.
4- الكافي: ج 2 ص496 باب ما يجب من ذكر الله عز وجل في كل مجلس ح4.

حرمة تيتيم الأطفال

مسألة: يحرم تيتيم الأطفال.

وهل هذا عنوان آخر غير عنوان القتل، فيستحق عليه عقوبة أخرى، فمن قتل من لا ولد له استحق عقوبة القتل، ومن قتل ذا الولد استحق مضافاً إليها عقوبة تيتيم الأولاد، لا يبعد الثاني.

ويكفي في الاختيارية كون المقدمات بيده، وقصده القتل، وإن لم يقصد كل ما يترتب عليه، فلا يقال كيف يفرق بين الشخصين بأمر غير اختياري.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «اللهَ اللهَ فِي الأَيْتَامِ، فَلا تُغِبُّوا أَفْوَاهَهُمْ، ولا يَضِيعُوا بِحَضْرَتِكُمْ، فَقَدْ سَمِعْتُ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُول: مَنْ عَال يَتِيماً حَتَّى يَسْتَغْنِيَ أَوْجَبَ اللهُ عَزَّ وجَل لهُ بِذَلكَ الجَنَّةَ، كَمَا أَوْجَبَ لآِكِل مَال اليَتِيمِ النَّار»(1).

وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلمٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: سَمِعْتُهُ يَقُول: «الكَبَائِرُ سَبْعٌ، قَتْل المُؤْمِنِ مُتَعَمِّداً، وقَذْفُ المُحْصَنَةِ، والفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ، والتَّعَرُّبُ بَعْدَ الهِجْرَةِ، وأَكْل مَال اليَتِيمِ ظُلماً، وأَكْل الرِّبَا بَعْدَ البَيِّنَةِ، وكُل مَا أَوْجَبَاللهُ عَليْهِ النَّارَ»(2).

ص: 294


1- الكافي: ج 7 ص51 باب صدقات النبي (صلى الله عليه وآله) وفاطمة والأئمة (عليهم السلام) ووصاياهم ح7.
2- الكافي: ج 2 ص277 باب الكبائر ح3.

حرمة ترميل النساء

مسألة: يحرم ترميل النساء، والبحث فيه كالبحث في المسألة السابقة.

ويستثنى من ذلك ومن قبله ما لو كان موجب الترميل والتيتيم بالحق، كما لو جنده في جيش الهداية تحت راية إمام الحق.

المرأة وإثبات الحق

مسألة: يجوز للمرأة الخروج من البيت لإثبات الحق، والجواز هنا بالمعنى الأعم.

ولا فرق في الحق بين كونه حقها الخاص أو حقاً عاماً من حقوق الأمة، كما لا فرق بين أن يكون خروجها بنفسه وبمفرده سبباً لإحقاق الحق أو خروجها في جملة من الناس.

ومنه يظهر أن خروج المرأة للمشاركة في المظاهرات الحقة التي تطالب بإحقاق الحق مع مراعاة الضوابط الشرعية جائز، ومع نهي الزوج لابد من مراعاة حقه إن لم يكن الخروج واجباً،وإلا فيلاحظ الأهم من الحقين(1)، والمرجع هو الحاكم الشرعي عند التشاحّ.

قال علي (عليه السلام): «ثَلاثٌ لا يُسْتَحْيَى مِنْهُنَّ: خِدْمَةُ الرَّجُل ضَيْفَهُ،

ص: 295


1- حق زوجها في عدم خروجها من المنزل، وحق الناس أو الدين الذي يراد المطالبة به.

وقِيَامُهُ عَنْ مَجْلسِهِ لأَبِيهِ ومُعَلمِهِ، وطَلبُ الحَقِ، وإِنْ قَل»(1).

الدفاع عن حق الزوج

مسألة: يجوز للمرأة الخروج من البيت للدفاع عن حق زوجها، والجواز هنا بالمعنى الأعم، كما سبق البحث عن ذلك في المجلدات السابقة.

الإخراج القهري

مسألة: يستحب بيان أن القوم أخرجوا علياً أمير المؤمنين (عليه السلام) ولم يخرج هو باختياره، وذلك دفعاً للمغالطة، وربما وجب بيان ذلك.

روى البلاذري في تاريخه عن المدائني، عن مسلمة بن محارب، عن سليمان التيمي وعن ابن عون: أن أبابكر أرسل إلى علي (عليه السلام) يريد البيعة فلم يبايع، فجاء عمر ومعه فتيلة، فتلقته فاطمة (عليها السلام) على الباب، فقالت فاطمة: يا ابن الخطّاب أتراك محرقاً علي بابي، قال: نعم، وذلك أقوى فيما جاء أبوك(2).

ص: 296


1- عيون الحكم والمواعظ: ص212 ح4230.
2- أنساب الأشراف: ج1 ص586.

بين الأهم والمهم

مسألة: يستحب أو يجب تقديم الأهم على المهم في الجملة، وكل في مورده، كما قالت الصديقة (عليها السلام): «لولا أن تكون سيئة».

ثم إن تشخيص الأهم والمهم في غير الشؤون العامة، أمره بيد المكلف نفسه، لكن عليه أن يتثبت منه ويبذل جهده في التشخيص الموضوعي لذلك.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «كَانَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَليُّ بْنُ أَبِي طَالبٍ (صلوات الله عليه) يَقُول للنَّاسِ بِالكُوفَةِ: يَا أَهْل الكُوفَةِ أَتَرَوْنِّي لا أَعْلمُ مَا يُصْلحُكُمْ، بَلى ولكِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُصْلحَكُمْ بِفَسَادِ نَفْسِي»(1).

وعَنْ زُرَارَةَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام)، قَال: «إِنَّ النَّاسَ لمَّا صَنَعُوا مَا صَنَعُوا إِذْ بَايَعُوا أَبَا بَكْرٍ، لمْ يَمْنَعْ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) مِنْ أَنْ يَدْعُوَ إِلى نَفْسِهِ إِلا نَظَراً للنَّاسِ وتَخَوُّفاً عَليْهِمْ أَنْ يَرْتَدُّوا عَنِ الإِسْلامِ، فَيَعْبُدُوا الأَوْثَانَ، ولا يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ، وأَنَّ مُحَمَّداً رَسُول اللهِ (صلى

الله عليه وآله)، وكَانَ الأَحَبَّ إِليْهِ أَنْ يُقِرَّهُمْ عَلى مَا صَنَعُوا مِنْ أَنْ يَرْتَدُّوا عَنْ جَمِيعِ الإِسْلامِ، وإِنَّمَا هَلكَالذِينَ رَكِبُوا مَا رَكِبُوا، فَأَمَّا مَنْ لمْ يَصْنَعْ ذلكَ ودَخَل فِيمَا دَخَل فِيهِ النَّاسُ عَلى غَيْرِ عِلمٍ ولا عَدَاوَةٍ لأَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام)، فَإِنَّ ذلكَ لا يُكْفِرُهُ ولا يُخْرِجُهُ مِنَ الإِسْلامِ، ولذلكَ كَتَمَ عَليٌّ (عليه السلام) أَمْرَهُ، وبَايَعَ مُكْرَهاً حَيْثُ لمْ يَجِدْ أَعْوَاناً»(2).

ص: 297


1- الأمالي، للمفيد: ص207 المجلس الثالث والعشرون ح40
2- الكافي: ج 8 ص295 حديث نوح (عليه السلام) يوم القيامة ح454.

الدفاع عن الولاية

مسألة: يجب الدفاع عن حريم الولاية بكل السبل المشروعة الممكنة، وهكذا صنعت الصديقة الزهراء (عليها السلام).

وحريم الولاية أمر مرتبط بالدنيا والآخرة، إذ بالولاية تصبح دنيا الناس سعيدة، كما تصبح آخرتهم كذلك.

قال سبحانه: «لاَكَلوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلهِمْ»(1).

وقال تعالى: «وَلوْ أَنَّ أَهْل القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لفَتَحْنَا عَليْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ»(2).

إذ القيادة الصحيحة توجب هداية الناس إلى الحق والخير والفضيلة والصراط المستقيم وإلى ما ينفعهم في معاشهم ومعادهم.

قالت الصديقة فاطمة (عليها السلام): «وَاللهِ لوْ تَكَافُّوا عَنْ زِمَامٍ نَبَذَهُ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) إِليْهِ لاعْتَلقَهُ وَلسَارَ بِهِمْ سَيْراً سُجُحاً، لا يَكْلمُ خِشَاشُهُ، وَلا يُتَعْتِعُ رَاكِبَهُ، وَلأَوْرَدَهُمْ مَنْهَلا نَمِيراً فَضْفَاضاً تَطْفَحُ ضَفَّتَاهُ، وَلأَصْدَرَهُمْ بِطَاناً قَدْ تَحَيَّرَ بِهِمُ الرَّيُّ غَيْرَ مُتَحَل مِنْهُ بِطَائِل إِلا بِغَمْرِالمَاءِ وَرَدْعِهِ شَرَرَهُ السَّاغِبَ وَلفُتِحَتْ عَليْهِمْ بَرَكَاتٌ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَسَيَأْخُذُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون»(3).

ص: 298


1- سورة المائدة: 66.
2- سورة الأعراف: 96.
3- بحار الأنوار: ج 43 ص158 ب7 ما وقع عليها من الظلم وبكائها وحزنها وشكايتها في مرضها إلى شهادتها وغسلها ودفنها وبيان العلة في إخفاء دفنها صلوات الله عليها ولعنة الله على من ظلمها ح8.

وعَنْ سَلمَانَ الفَارِسِيِّ قَال: (إِنَّ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ يُقَال لهَا أُمُ فَرْوَةَ تَحُضُ عَلى نَكْثِ بَيْعَةِ أَبِي بَكْرٍ وتَحُثُّ عَلى بَيْعَةِ عَليٍّ (عليه السلام).

فَبَلغَ أَبَا بَكْرٍ ذَلكَ فَأَحْضَرَهَا واسْتَتَابَهَا، فَأَبَتْ عَليْهِ، فَقَال: يَا عَدُوَّةَ اللهِ أَتَحُضِّينَ عَلى فُرْقَةِ جَمَاعَةٍ اجْتَمَعَ عَليْهَا المُسْلمُونَ فَمَا قَوْلكَ فِي إِمَامَتِي.

قَالتْ: مَا أَنْتَ بِإِمَامٍ، قَال: فَمَنْ أَنَا، قَالتْ: أَمِيرُ قَوْمِكَ، اخْتَارَكَ قَوْمُكَ ووَلوْكَ، فَإِذَا كَرِهُوكَ عَزَلوكَ، فَالإِمَامُ المَخْصُوصُ مِنَ اللهِ ورَسُولهِ، يَعْلمُ مَا فِي الظَّاهِرِ والبَاطِنِ، ومَا يَحْدُثُ فِي المَشْرِقِ والمَغْرِبِ مِنَ الخَيْرِ والشَّرِّ، وإِذَا قَامَ فِي شَمْسٍ أَوْ قَمَرٍ فَلا فَيْ ءَ لهُ، ولا تَجُوزُ الإِمَامَةُ لعَابِدِ وَثَنٍ ولا لمَنْ كَفَرَ ثُمَّ أَسْلمَ، فَمِنْ أَيِّهِمَا أَنْتَ يَا ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ)(1).إلى آخر الرواية وفيها معجزة للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام).

ص: 299


1- الخرائج والجرائح: ج 2 ص548 فصل في أعلام أمير المؤمنين عليه السلام ح9.

مع غاصبي فدك

اشارة

روي أن فاطمة (عليها السلام) نادت(1):

«يا أبا بكر ما أسرع ما أغرتم على أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والله لا أكلم عمر حتى ألقى الله»(2).

---------------------------

الحلف على ترك الكلام

مسألة: يجوز الحلف على ترك التكلم مع الظالم والطاغوت.

فإن أصل التكلم مع الآخرين في نفسه جائز، فيجوز الحلف على عدمه أو على فعله مع الرجحان الشرعي أو العرفي،وأما التكلم مع الطاغوت فإن كان فيه الإعانة له على ظلمه، أو سبباً لتقوية ملكه فحرام، وكذا لو عدّ ركوناً

ص: 300


1- لعل ظاهر (نادت) كونها (عليها السلام) في محفل من الناس فرفعت صوتها كي يسمع، أو كان الظالم ساهياً عنها لاهياً فنادته، فإن (نادى) يختلف عن (قال) كما لا يخفى، قال تعالى: «وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِل يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلاَ تَكُنْ مَعَ الكَافِرِينَ» سورة هود: 42، وقال سبحانه: «وَنَادَى أَصْحَابُ الجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ» سورة الأعراف: 44، وقال تعالى: «وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الجَنَّةِ» سورة الأعراف: 50.
2- السقيفة وفدك، لأبي بكر الجوهري: ص51 القسم الأول: السقيفة.

للظالم، قال تعالى: «وَلاَ تَرْكَنُوا إِلى الذِينَ ظَلمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْليَاء ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ»(1).

وعلى أي، يصح الحلف على الترك، بل النذر عليه فيما نحن فيه، لرجحانه شرعاً أو عرفاً.

حرمة الإغارة على العترة

مسألة: تحرم الإغارة على أهل بيت الرسول (صلى الله عليه وآله) والإسراع في ذلك، كما فعله القوم، والحرمة بالنسبة إليهم (عليهم السلام) هي الأشد، وإلا فكل إغارة ظلم حرام.

عَنْ عَليٍّ (عليه السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ اللهَ حَرَّمَ الجَنَّةَ عَلى مَنْ ظَلمَ أَهْل بَيْتِي أَوْ قَاتَلهُمْ أَوْ أَغَارَ عَليْهِمْ أَوْ سَبَّهُمْ»(2).

عدم التكلم مع الظالم

مسألة: يجوز ترك الكلام مع الظالم إذالم يفده الكلام.

قال تعالى: «وَإِذا سَمِعُوا اللغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وقالوا لنا أَعْمالنا ولكُمْ أَعْمالكُمْ سَلامٌ عَليْكُمْ لا نَبْتَغِي الجاهِلينَ»(3).

ص: 301


1- سورة هود: 113.
2- صحيفة الإمام الرضا (عليه السلام): ص90 باب الزيادات ح15.
3- سورة القصص: 55.

وسُئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن الحديث الذي جاء عن النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ أَفْضَل الجِهَادِ كَلمَةُ عَدْل عِنْدَ إِمَامٍ جَائِرٍ» مَا مَعْنَاهُ، قَال: «هَذَا عَلى أَنْ يَأْمُرَهُ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ وهُوَ مَعَ ذَلكَ يُقْبَل مِنْهُ، وإِلا فَلا»(1).

الصديقة لا تكلم فلاناً

مسألة: يستحب بيان أن الصديقة فاطمة (عليها السلام) قد أقسمت على أن لا تكلم ابن الخطاب، وهذا من أظهر الأدلة على مدى ظلمه وعدوانه على آل رسول الله (صلى الله عليه وآله).

بيان: يقال أغارت الفرس إغارة إذا أسرعت في العدو، والاسم الغارة(2)، والإغارة أيضاً تعني النهب والإقدام السريع على أخذ مال أو سلب حق ظلماً وقهراً وغدراً وحرباً، والذي كان منالقوم هو أخذ المال والحق بل الحقوق ظلماً وغدراً وقهراً وقسراً.

والظاهر أن الإغارة والغارة تتضمن المفاجأة أيضاً، لا السرعة فقط، ولعل المفاجأة متضمنة في السرعة فأغنى ذكرها عن ذكرها.

ثم إنه لعل الوجه في أن الصديقة (عليها السلام) قالت: (والله لا أكلم عمر) ولم تقل (لا أكلم أبا بكر) مع أن ابن أبي قحافة هو الرئيس والقائد، أنها كانت تريد من جهة عقوبة الثاني بذلك لأنه الأكثر تشدداً في الظاهر، وكانت تريد من جهة تكرار احتجاجها على الأول مراراً لتصل كلمتها إلى العالم، فإن الاحتجاج

ص: 302


1- الكافي: ج 5 ص60 باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ح16.
2- لسان العرب، مادة (غور).

مرة واحدة قد يخفى أو يمحى أما الاحتجاج مراراً عديدة أمام الناس وفي حالات مختلفة فيصعب إنكاره وكتمه وجحده.

ثم إن قولها (عليها السلام): «أغرتم» دليل على اشتراكهم جميعاً في تلك الجريمة البشعة النكراء.

روي أنه دَخَل عَليٌّ عَلى فَاطِمَةَ (عليهما السلام) فَقَال: «يَا بِنْتَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) قَدْ كَانَ مِنْ هَذَيْنِ الرَّجُليْنِ مَا قَدْ رَأَيْتِ، وقَدْ تَرَدَّدَ مِرَاراً كَثِيرَةً ورَدَدْتِهِمَا ولمْ تَأْذَنِي لهُمَا، وقَدْ سَأَلانِي أَنْ أَسْتَأْذِنَ لهُمَا عَليْكِ، فَقَالتْ: واللهِ لا آذَنُ لهُمَا ولاأُكَلمُهُمَا كَلمَةً مِنْ رَأْسِي حَتَّى أَلقَى أَبِي فَأَشْكُوَهُمَا إِليْهِ بِمَا صَنَعَاهُ وارْتَكَبَاهُ مِنِّي.

فَقَال عَليٌّ (عليه السلام): فَإِنِّي ضَمِنْتُ لهُمَا ذَلكِ، قَالتْ: إِنْ كُنْتَ قَدْ ضَمِنْتَ لهُمَا شَيْئاً فَالبَيْتُ بَيْتُكَ والنِّسَاءُ تَتَّبِعُ الرِّجَال، لا أُخَالفُ عَليْكَ بِشَيْءٍ فَأْذَنْ لمَنْ أَحْبَبْتَ، فَخَرَجَ عَليٌّ (عليه السلام) فَأَذِنَ لهُمَا، فَلمَّا وَقَعَ بَصَرُهُمَا عَلى فَاطِمَةَ (عليها السلام) سَلمَا عَليْهَا، فَلمْ تَرُدَّ عَليْهِمَا وحَوَّلتْ وَجْهَهَا عَنْهُمَا، فَتَحَوَّلا واسْتَقْبَلا وَجْهَهَا حَتَّى فَعَلتْ مِرَاراً، وقَالتْ: يَا عَليُّ جَافِ الثَّوْبَ، وقَالتْ لنِسْوَةٍ حَوْلهَا: حَوِّلنَ وَجْهِي، فَلمَّا حَوَّلنَ وَجْهَهَا حَوَّلا إِليْهَا فَقَال أَبُو بَكْرٍ: يَا بِنْتَ رَسُول اللهِ إِنَّمَا أَتَيْنَاكِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِكِ واجْتِنَابَ سَخَطِكِ، نَسْأَلكِ أَنْ تَغْفِرِي لنَا وتَصْفَحِي عَمَّا كَانَ مِنَّا إِليْكِ، قَالتْ: لا أُكَلمُكُمَا مِنْ رَأْسِي كَلمَةً وَاحِدَةً أَبَداً حَتَّى أَلقَى أَبِي وأَشْكُوَكُمَا إِليْهِ وأَشْكُوَ صَنِيعَكُمَا وفِعَالكُمَا ومَا ارْتَكَبْتُمَا مِنِّي»(1).

ص: 303


1- علل الشرائع: ج 1 ص187 ب149 باب العلة التي من أجلها دفنت فاطمة (عليها السلام) بالليل ولم تدفن بالنهار ح2.

إرث النبي (صلی الله علیه و آله)

اشارة

روي أنه دخلت فاطمة (عليها السلام) على أبي بكر.. فقالت له: لئن متَّ اليوم من كان يرثك؟

قال: ولدي وأهلي.

قالت: فلم ورثتَ أنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) دون ولده وأهله(1).

-----------------------

توضيح

لعل مبنى كلام الصديقة (عليها السلام) يتألف من صغرى وكبرى:

أما الصغرى فهي: لست أنت بوارث رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذ لا قرابة بينك وبينه.

وأما الكبرى فهي: كل من لا يرث شخصاً مع وجود إحدى طبقات الإرث، فإنه لا يرثه بعنوان آخر، كعنوان أنه وكيله أو خليفته، إذ ليست الوكالة والخلافة من أسباب الإرث.

وحيث علم ابن أبي قحافة عدم تحقق الصغرى بالبداهة، إذ ليس هو من طبقات الإرث، وعلم عدم تحقق الكبرى بضرورة الإسلام، إذ (المقام) ليس سبباً للإرث خاصة مع علمه بأنه غاصب، أفحموانقطع.

ص: 304


1- السقيفة وفدك: ص117.

ثم إن دخول الصديقة (عليها السلام) عليه لعله كان في المسجد أمام الناس، كما يحتمل كونه في مكان آخر.

الاحتجاج على الظالم

مسألة: يستحب الاحتجاج على الظالم بمختلف الأساليب الممكنة وبيان الأمثلة لفضحه، وقد يجب، وربما كان جائزاً، فهو منقسم حسب اختلاف الموارد بمختلف الأحكام المذكورة، كما أنه قد يحرم أو يكره مع انطباق العنوانين على المصداق الخارجي، وإن احتاج تصوير الأخير إلى تأمّل.

وفي كتاب سليم:

(وقَامَ بُرَيْدَةُ الأَسْلمِيُّ وقَال: أَتَثِبُ يَا عُمَرُ عَلى أَخِي رَسُول اللهِ (صلى

الله عليه وآله) وأَبِي وُلدِهِ وأَنْتَ الذِي نَعْرِفُكَ فِي قُرَيْشٍ بِمَا نَعْرِفُكَ، أَلسْتُمَا قَال لكُمَا رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): انْطَلقَا إِلى عَليٍّ وسَلمَا عَليْهِ بِإِمْرَةِ المُؤْمِنِينَ، فَقُلتُمَا: أَعَنْ أَمْرِ اللهِ وأَمْرِ رَسُولهِ، قَال (صلى الله عليه وآله): نَعَمْ، فَقَال أَبُو بَكْرٍ: قَدْ كَانَ ذَلكَ ولكِنَّ رَسُول اللهِ قَال بَعْدَ ذَلكَ: لا يَجْتَمِعُ لأَهْل بَيْتِيَ النُّبُوَّةُ والخِلافَةُ، فَقَال: واللهِ مَا قَال هَذَا رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) واللهِلا سَكَنْتُ فِي بَلدَةٍ أَنْتَ فِيهَا أَمِيرٌ، فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ فَضُرِبَ وطُرِدَ)(1).

ص: 305


1- كتاب سليم بن قيس الهلالي: ج 2 ص593 الحديث الرابع.

بيان ظلامة الصديقة

مسألة: يستحب أو يجب - كل في مورده - بيان أن ابن ابي قحافة قد منع الصديقة فاطمة (عليها السلام) من إرثها، وغصب حقها بغير حجة له، بل مع قيام الحجة عليه.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «وأَمَّا ابْنَتِي فَاطِمَةُ فَإِنَّهَا سَيِّدَةُ نِسَاءِ العَالمِينَ مِنَ الأَوَّلينَ والآخِرِينَ... وأَنِّي لمَّا رَأَيْتُهَا ذَكَرْتُ مَا يُصْنَعُ بِهَا بَعْدِي، كَأَنِّي بِهَا وقَدْ دَخَل الذُّل بَيْتَهَا، وانْتُهِكَتْ حُرْمَتُهَا، وغُصِبَتْ حَقَّهَا، ومُنِعَتْ إِرْثَهَا، وكُسِرَ جَنْبُهَا، وأَسْقَطَتْ جَنِينَهَا، وهِيَ تُنَادِي: يَا مُحَمَّدَاهْ، فَلا تُجَابُ، وتَسْتَغِيثُ فَلا تُغَاثُ، فَلا تَزَال بَعْدِي مَحْزُونَةً مَكْرُوبَةً بَاكِيَةً تَتَذَكَّرُ انْقِطَاعَ الوَحْيِ عَنْ بَيْتِهَا مَرَّةً وتَتَذَكَّرُ فِرَاقِي أُخْرَى، وتَسْتَوْحِشُ إِذَا جَنَّهَا الليْل لفَقْدِ صَوْتِيَ الذِي كَانَتْ تَسْتَمِعُ إِليْهِ إِذَا تَهَجَّدْتُ بِالقُرْآنِ، ثُمَّ تَرَى نَفْسَهَا ذَليلةً بَعْدَ أَنْ كَانَتْ فِي أَيَّامِ أَبِيهَا عَزِيزَةً، فَعِنْدَ ذَلكَ يُؤْنِسُهَا اللهُ تَعَالى ذِكْرُهُ بِالمَلائِكَةِ، فَنَادَتْهَا بِمَا نَادَتْ بِهِ مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ فَتَقُول: يَا فَاطِمَةُ «إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وطَهَّرَكِ واصْطَفاكِ عَلى نِساءِ العالمِينَ»(1)، يَا فَاطِمَةُ «اقْنُتِي لرَبِّكِ واسْجُدِيوارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ»(2)، ثُمَّ يَبْتَدِئُ بِهَا الوَجَعُ فَتَمْرَضُ فَيَبْعَثُ اللهُ عَزَّ وجَل إِليْهَا مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ تُمَرِّضُهَا وتُؤْنِسُهَا فِي عِلتِهَا، فَتَقُول عِنْدَ ذَلكَ: يَا رَبِّ إِنِّي قَدْ سَئِمْتُ الحَيَاةَ وتَبَرَّمْتُ بِأَهْل الدُّنْيَا فَأَلحِقْنِي بِأَبِي، فَيَلحَقُهَا اللهُ عَزَّ وجَل بِي، فَتَكُونُ أَوَّل

ص: 306


1- سورة آل عمران: 42.
2- سورة آل عمران: 43.

مَنْ يَلحَقُنِي مِنْ أَهْل بَيْتِي، فَتَقْدَمُ عَليَّ مَحْزُونَةً مَكْرُوبَةً مَغْمُومَةً مَغْصُوبَةً مَقْتُولةً، فَأَقُول عِنْدَ ذَلكَ: اللهُمَّ العَنْ مَنْ ظَلمَهَا، وعَاقِبْ مَنْ غَصَبَهَا، وذَلل مَنْ أَذَلهَا، وخَلدْ فِي نَارِكَ مَنْ ضَرَبَ جَنْبَهَا حَتَّى أَلقَتْ وَلدَهَا، فَتَقُول المَلائِكَةُ عِنْدَ ذَلكَ: آمِينَ»(1).

ص: 307


1- الأمالي، للصدوق: المجلس الرابع والعشرون ح1.

والله لقد آذيتماني

اشارة

روي أنه: كان رجلان من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) سألا أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يشفع لهما، فسألها فأجابت، ولما دخلا عليها قالا لها: كيف أنت يا بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟

فقالت: بخير بحمد الله.

ثم قالت لهما: أما سمعتما من النبي (صلى الله عليه وآله) يقول: فاطمة بضعة مني فمن آذاها فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله؟

قالا: بلى.

قالت: والله لقد آذيتماني، فخرجا من عندها وهي ساخطة عليهما(1).

---------------------------

والرجلان هما: ابن أبي قحافة وابن الخطاب.

حمد الله على كل حال

مسألة: يستحب حمد الله على كل حال، فإنه الذي لا يحمد على مكروه سواه.

ص: 308


1- راجع دلائل الإمامة: 134 خبر وفاتها ودفنها وما جرى لأمير المؤمنين (صلوات الله عليه) مع القوم ح43.

وهكذا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله)كما في الروايات(1).

وأما قول الصديقة (عليها السلام): (بخير)، فأي خير أعظم من الإيمان والعصمة والكرامة العليا عند الله عزوجل، ثم أي خير أعظم من أن يرضي الإنسان ربه بإطاعة أمره وصبره، وكانت (عليها السلام) في صبرها على المصاب وعملها بما أمرها به أبوها وبعلها، بأعلى درجات الخير.

وعلى أي، فإن ما خاره الله لعبده هو الخير وإن كانت فيه المشاق والأهوال.

التقية في مواردها

مسألة: تجوز التقية في مواردها وربما وجبت.

ولعل عدم ذكر اسم الرجلين في هذه الرواية، والتعبير ب (وكان رجلان) هو من تقية الراوي أو الكاتب أو المستنسخ.

ويجوز لمن ليس في تقية أن يصرحبالاسمين، وإن فرض أن الرواية في أصلها لم تكن مصرحة، ونظير ذلك في الروايات كثير:

قال (عليه السلام): «والله لقد تَقَمَّصَها فلان»(2).

ص: 309


1- عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «كَانَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) إِذَا وَرَدَ عَليْهِ أَمْرٌ يَسُرُّهُ قَال: الحَمْدُ للهِ عَلى هَذِهِ النِّعْمَةِ، وإِذَا وَرَدَ عَليْهِ أَمْرٌ يَغْتَمُّ بِهِ قَال: الحَمْدُ للهِ عَلى كُل حَال» الكافي: ج 2 ص97 باب الشكر ح19.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 2 ص51 حديث السقيفة.

وفي نسخ نهج البلاغة: «تَقَمَّصَها ابن أبي قحافة»(1).

عَنْ أَبِي عُمَرَ الأَعْجَمِيِّ قَال: قَال لي أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «يَا أَبَا عُمَرَ إِنَّ تِسْعَةَ أَعْشَارِ الدِّينِ فِي التَّقِيَّةِ، ولا دِينَ لمَنْ لا تَقِيَّةَ لهُ»(2).

وقَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «ولوْ شَاءَ لحَرَّمَ عَليْكُمُ التَّقِيَّةَ وأَمَرَكُمْ بِالصَّبْرِ عَلى مَا يَنَالكُمْ مِنْ أَعْدَائِكُمْ عِنْدَ إِظْهَارِكُمُ الحَقَّ، أَلا فَأَعْظَمُ فَرَائِضِ اللهِ عَليْكُمْ بَعْدَ فَرْضِ مُوَالاتِنَا ومُعَادَاةِ أَعْدَائِكُمُ اسْتِعْمَال التَّقِيَّةِ عَلى أَنْفُسِكُمْ وأَمْوَالكُمْ ومَعَارِفِكُمْ، وقَضَاءُ حُقُوقِ إِخْوَانِكُمْ، وإِنَّ اللهَ يَغْفِرُ كُل ذَنْبٍ بَعْدَ ذَلكَ ولا يَسْتَقْصِي، وأَمَّا هَذَانِ فَقَل مَنْ يَنْجُو مِنْهُمَا إِلا بَعْدَ مَسِّ عَذَابٍ شَدِيدٍ، إِلا أَنْيَكُونَ لهُمْ مَظَالمُ عَلى النَّوَاصِبِ والكُفَّارِ فَيَكُونُ عِقَابُ هَذَيْنِ عَلى أُولئِكَ الكُفَّارِ والنَّوَاصِبِ قِصَاصاً بِمَا لكُمْ عَليْهِ مِنَ الحُقُوقِ ومَا لهُمْ إِليْكُمْ مِنَ الظُّلمِ، فَاتَّقُوا اللهَ ولا تَتَعَرَّضُوا لمَقْتِ اللهِ بِتَرْكِ التَّقِيَّةِ والتَّقْصِيرِ فِي حُقُوقِ إِخْوَانِكُمُ المُؤْمِنِينَ»(3).

ص: 310


1- علل الشرائع: ج 1 ص150 ب122 باب العلة التي من أجلها ترك أمير المؤمنين (عليه السلام) مجاهدة أهل الخلاف ح12.
2- الكافي: ج 2 ص217 باب التقية ح2.
3- وسائل الشيعة: ج 16 ص224 ب28 باب وجوب الاعتناء والاهتمام بالتقية وقضاء حقوق الإخوان المؤمنين ح13.

القسم على المهم

مسألة: يجوز القسم على المطالب المهمة الدينية، وقد قالت الصديقة (عليها السلام) في هذه الرواية: «والله...».

كما أنه قد يجب ذلك، وقد يستحب، وقد يكره، وقد يحرم، حسب المصاديق المختلفة على ما ذكرناه سابقاً.

عَنْ يُونُسَ بْنِ يَعْقُوبَ قَال: كَانَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) كَثِيراً مَا يَقُول: «واللهِ»(1).

قبول التوسط

مسألة: يستحب قبول التوسط والشفاعة، كما سألها أمير المؤمنين فأجابت الصديقة (عليهما السلام)(2).

والظاهر أن التوسط من قبل أمير المؤمنين (عليه السلام) كان لأجل فضح الطغاة أكثر فأكثر، كي يثبت للناس غضبها (عليها السلام) عليهما بوجه آخر جديد.كما أن فيه جانب التعليم أيضاً، فإنهما (صلوات الله عليهما) نور واحد، وعملهما وفعلهما يكون من كل على طبق الآخر، إضافة إلى أن قبوله (عليه

ص: 311


1- وسائل الشيعة: ج 23 ص200 ب1 باب كراهة اليمين الصادقة وعدم تحريمها ح11.
2- والحاصل أنه يستحسن من الفاعل الشفاعة ومن القابل قبولها وعدم ردها.

السلام) التوسط لهما كان فيه نوع دفع تهمة عن نفسه(1).

إجابة الزوج

مسألة: يستحب إجابة الزوج في الشفاعة والتوسط، حتى في الأمور المتعلقة بحقها دون حقه، أي ما كان حقاً لها، فإذا طلب منها زوجها قبلت، فكيف بما كان من حق زوجها(2).

الصديقة ساخطة عليهما

مسألة: يستحب بيان أن الصديقة الزهراء (عليها السلام) كانت ساخطة على ابن أبي قحافة وابن الخطاب وأنهما قدأذياها.

كما قالت (عليها السلام): «والله لأدعونَّ اللهَ عليك»(3).

إقرار الخصم

مسألة: يستحب بيان أن الأول والثاني قد أقرا بحديث البضعة والإسخاط.

ولعل السبب في إقرارهما مع أنه كان بضررهما، قوة هيمنة الصديقة (عليها

ص: 312


1- دفع تهمة أن الإمام يدعي سخطها وليس الأمر كذلك، ودفع تهمة أنه هو المحرك لها والمؤجج لغضبها، إذ عند ما أسمعتهما ما أسمعت علم الناس والتاريخ غضبها عليهما وأنهما آذياها ولم ترض عنهما أبداً.
2- كأن يتوسط لتقبل أداء الحق الذي عليه، أو يتوسط للتوسط في أمر لا يجب عليها التوسط فيه.
3- السقيفة وفدك: ص102 القسم الثاني فدك.

السلام) الروحية، فإن المجرم كثيراً ما يعترف إذا كان القاضي أو الطرف ذا نفسية قوية مهيمنة.

كما يحتمل أن يكون إقرار المجرم نتيجة ضغط الوجدان، وهذا الاحتمال غير وارد فيما نحن فيه، فإن رؤوس الفتنة والنفاق لا ضمير لهم، بل سياستهم المكر والخداع والظلم والجور.

ويحتمل أنهما أقرا لعلمهما بأنه لو أنكرا الواقع لطردتهما، فحاولا بالاعتراف أن يظهرا بعض المرونة ويتظاهرا بشيء من الإنصاف كي يسترضيانها بعد ذلك، لكنهما أخطئا في توهم أنهما قادران على كسب رضاها، بل أفحمتهما الصديقة (عليها السلام) بالحجة الدامغة، وأغلقت عليهما أبواب المكروالخداع، وألزمتهما بما التزما به.

الصديقة بضعة الرسول

مسألة: يستحب بيان أن الصديقة فاطمة (عليها السلام) بضعة من الرسول (صلى الله عليه وآله)، وأن من آذاها فقد آذاه، والإيذاء يشمل حتى الطفيف منه، فكيف بالشديد كما صنعا أكبر الإيذاء لها.

ومن المتواتر قوله (صلى الله عليه وآله): «فاطمة بضعة مني فمن آذاها فقد آذاني»(1).

ص: 313


1- بعض مصادر العامة في نقل هذا الحديث: الإصابة: ج4 ص366، كنز العمّال: ج12 ص11، 12، 112، ج13 ص646، المستدرك للحاكم: ج3 ص154، أسد الغابة: ج5 ص322، صحيح البخاريّ: ج3 ص136، ج4 ص210، ج7 ص47، صحيح الترمذي: ج5 ص698، سنن ابن ماجة: ج1 ص644، سنن الترمذي: ج5 ص656، المستدرك على الصحيحين: ج3 ص173، صحيح مسلم: ج 5 ص54، سنن النسائي: ج5 ص95، مسند أحمد: ج4 ص571، المصنّف لابن أبي شيبة: ج7 ص527 ح4، نور الأبصار: ج1 ص96، مقتل الخوارزمي: ج1 ص60، إرشاد القلوب: ج2 ص294.

حرمة إيذاء الحجج

مسألة: يحرم إيذاء الصديقة فاطمة وعلي أمير المؤمنين (عليهما السلام) بأيوجه من الوجوه، وبأي نحو من الأنحاء.

قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ هَذَا الأَمْرَ يَمْلكُهُ بَعْدِي اثْنَا عَشَرَ إِمَاماً، تِسْعَةٌ مِنْ صُلبِ الحُسَيْنِ (عليه السلام) أَعْطَاهُمُ اللهُ عِلمِي وفَهْمِي، مَا لقَوْمٍ يُؤْذُونَنِي فِيهِمْ لا أَنَالهُمُ اللهُ شَفَاعَتِي»(1).

وعَنْ جَابِرٍ قَال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) يَقُول لعَليٍ (عليه السلام): «مَنْ آذَاكَ فَقَدْ آذَانِي»(2).

حرمة إيذاء النبي في أولاده

مسألة: يحرم إيذاء النبي (صلى الله عليه وآله) في نفسه، وفي أهل بيته (عليهم السلام)، وفي أُمّته.

ومن إيذائه في أُمّته إضلالهم، أرأيت لو أن شخصاً أضل أولادك فكم كان

ص: 314


1- كفاية الأثر: ص166 باب ما روي عن الحسن بن علي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في النصوص على الأئمة الاثني عشر (صلوات الله عليهم).
2- شواهد التنزيل: ج 2 ص149 ح777.

يؤلمك ذلك، وقد ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أنا وعلي أبوا هذه الأمة»(1).وقال تعالى: «لقَدْ جَاءكُمْ رَسُول مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَليْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَليْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ»(2).

وعَنْ سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُول: «أَهْل بَيْتِي أَمَانٌ لأَهْل الأَرْضِ كَمَا أَنَ النُّجُومَ أَمَانٌ لأَهْل السَّمَاءِ» قِيل: يَا رَسُول اللهِ فَالأَئِمَّةُ بَعْدَكَ مِنْ أَهْل بَيْتِكَ، قَال: «نَعَمْ الأَئِمَّةُ بَعْدِي اثْنَا عَشَرَ، تِسْعَةٌ مِنْ صُلبِ الحُسَيْنِ، أُمَنَاءُ مَعْصُومُونَ، ومِنَّا مَهْدِيُّ هَذِهِ الأُمَّةِ، أَلا إِنَّهُمْ أَهْل بَيْتِي وعِتْرَتِي مِنْ لحْمِي ودَمِي، مَا بَال أَقْوَامٍ يُؤْذُونَنِي فِيهِمْ لا أَنَالهُمُ اللهُ شَفَاعَتِي»(3).

حرمة إيذاء الله

مسألة: يحرم إيذاء الله تعالى، ومعنى إيذاؤه عصيانه مما يوجب غضبه، أو إيذاء أوليائه، أو فعل ما يفعله الموذي بالنسبة إلى من يقبل الإيذاء، لامتناع التأذي بالمعنى الحقيقي عقلاًعلى الله تعالى.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): قَال اللهُ

ص: 315


1- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): ص330 في أن الوالدين محمد (صلى الله عليه وآله) وعلي (عليه السلام) ح190، مستدرك الوسائل، الخاتمة: ج 5 ص14.
2- سورة التوبة: 128.
3- كفاية الأثر: ص29 باب ما جاء عن أبي سعيد الخدري، عن النبي (صلى الله عليه وآله) في النصوص على الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام).

عَزَّ وجَل: «مَنِ اسْتَذَل عَبْدِيَ المُؤْمِنَ فَقَدْ بَارَزَنِي بِالمُحَارَبَةِ»(1).

وعَنِ الحُسَيْنِ بْنِ عَليٍّ (عليهما السلام) عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) عَنْ جَبْرَئِيل، عَنِ اللهِ تَعَالى، قَال: «مَنْ عَادَى أَوْليَائِي فَقَدْ بَارَزَنِي بِالمُحَارَبَةِ، ومَنْ حَارَبَ أَهْل بَيْتِ نَبِيِّي فَقَدْ حَل عَليْهِ عَذَابِي، ومَنْ تَوَلى غَيْرَهُمْ فَقَدْ حَل عَليْهِ غَضَبِي، ومَنْ أَعَزَّ غَيْرَهُمْ فَقَدْ آذَانِي، ومَنْ آذَانِي فَلهُ النَّارُ»(2).

غضب الصديقة

مسألة: يلزم الاعتقاد بأن الصديقة فاطمة (عليها السلام) قد غضبت عليهما، ولم ترض عنهما أبداً، وهذا دليل على أنهما من أهل النار خالدين فيها، كما سبق تفصيله.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إنمافاطمة بضعة مني، من أغضبها فقد أغضبني»(3).

ص: 316


1- الكافي: ج 2 ص354 باب من آذى المسلمين واحتقرهم ح11.
2- عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج 2 ص68 ب31 باب فيما جاء عن الرضا (عليه السلام) من الأخبار المجموعة ح315.
3- شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار (عليهم السلام): ج 3 ص31.

وصية الصديقة

اشارة

قالت فاطمة (عليها السلام):

«يا بن العم، أريد أن أوصيك بأشياء فاحفظها».

إلى أن قالت: «إذا أنا قضيتُ نحبي فأخرجني من ساعتك، أي ساعة كانت من ليل أو نهار، ولا يحضرن من أعداء الله وأعداء رسوله للصلاة عليّ».

قال علي (عليه السلام): «أفعل»(1).

-------------------------

توضيح

المراد من الإخراج في الساعة: عدم التأخير أياماً.

وقولها (عليها السلام) حسب هذه النسخة: (من ليل أو نهار) لا يتنافى مع وصيتها بالدفن ليلاً، لأنهما كالعام والخاص، والمطلق والمقيد، مضافاً إلى علمهما (صلوات الله عليهما) بوقت مفارقتها للحياة، وأنه قريب الليل وسيكون الدفن ليلاً من دون تأخير إلى يوم غد.

ص: 317


1- علل الشرائع: ج 1 ص187 ب149 باب العلة التي من أجلها دفنت فاطمة (عليها السلام) بالليل ولم تدفن بالنهار ح2.

استحباب الوصية

مسألة: الوصية مستحبة، وربما وجبت، كما في بعض أنواع الوصية العهدية وغيرها على ما فصل في كتاب الوصية من الفقه، وقد ذكرناه آنفاً.

الإسراع في تجهيز الميت

مسألة: يستحب الإسراع في تجهيز الميت وعدم تأخيره، إلاّ فيما استثني شرعاً.

فإن التسريع في تجهيزه نوع احترام له، والتأخير هتك عادة إلاّ فيما استثني، وقد يستلزم التأخير إيذاء الأحياء وصرفهم عن الأهم من شؤونهم.

وقد أخر دفن الرسول (صلى الله عليه وآله) لثلاثة أيام لمصلحة أهم، ولعلها كانت حضور مختلف الناس جنازته الشريفة وأن يشهدوا على موته، وبذلك يبطل قول ابن الخطاب: (إن محمداً لم يمت)(1)، أو ما يقال من أنه لم يتوف بل رفع إلىالسماء كالسيد المسيح (عليه السلام).

ولعل من المصلحة منع هتك النبي (صلى الله عليه وآله) بإخراجه، فإن القوم بعد ما كانوا يفرغون عن أمر السقيفة وغصب الخلافة، كانوا لابد أن يأتوا ليصلوا على جثمان النبي (صلى الله عليه وآله)، فإذا وجدوه قد تم دفنه ربما تجاسروا

ص: 318


1- راجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 2 ص40 حديث السقيفة: روى جميع أصحاب السيرة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما توفي كان أبو بكر في منزله بالسنح فقال عمر بن الخطاب فقال: ما مات رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولا يموت.

ونبشوا القبر الشريف، وإن كان أمير المؤمنين (عليه السلام) قادراً على دفعهم، لكنه لم يرد أن يثير خلافاً من هذا الحيث، أو يريق دماءً لذلك.

ولم يكن إصرارهم بإخراج الزهراء (عليها السلام) للصلاة عليها بهذه المنزلة، فإن الصديقة (عليها السلام) كانت بنتاً للرسول (صلى الله عليه وآله) ولم يكن همهم في إخراجها والصلاة عليها بمثل همهم بإخراج الرسول (صلى الله عليه وآله) والصلاة عليه، حيث ادعوا خلافته، إلى غير ذلك من المصالح المحتملة.

عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «يَا مَعْشَرَ النَّاسِ لا أُلفِيَنَّ رَجُلا مَاتَ لهُ مَيِّتٌ فَانْتَظَرَ بِهِ الصُّبْحَ، ولا رَجُلا مَاتَ لهُ مَيِّتٌ نَهَاراً فَانْتَظَرَ بِهِ الليْل، لا تَنْتَظِرُوا بِمَوْتَاكُمْ طُلوعَ الشَّمْسِ ولا غُرُوبَهَا، عَجِّلوا بِهِمْ إِلى مَضَاجِعِهِمْ يَرْحَمُكُمُ اللهُ، فَقَال النَّاسُ: وأَنْتَيَا رَسُول اللهِ يَرْحَمُكَ اللهُ»(1).

وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «إِذَا مَاتَ المَيِّتُ أَوَّل النَّهَارِ فَلا يَقِيل إِلا فِي قَبْرِهِ»(2).

وهناك مخصصات يرجح عندها التأخير بعض الوقت.

ص: 319


1- الكافي: ج 3 ص137 باب تعجيل الدفن ح1.
2- الكافي: ج 3 ص138 باب تعجيل الدفن ح2.

حفظ الوصية

مسألة: يستحب توصية الوصي بحفظ الوصية، فإنه نوع تأكيد، والتأكيد وإن كان مورده عادة الموارد المحتملة للخلاف، ولكن فيما نحن فيه كان التأكيد لتعليم الآخرين، أو لتأكيد أنه هو وصيها لا غير، فإن من الواضح أن علياً (عليه الصلاة والسلام) كان ينفذ الوصية بالكامل.

ويحتمل في (فاحفظها) أي في الذهن والذاكرة، لأن اعتمادهم غالباً كان عليها دون الكتابة.

قال تعالى: «فَمَنْ بَدَّلهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلى الذينَ يُبَدِّلونَهُ إِنَّ اللهَ سَميعٌ عَليم»(1).

وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلمٍ قَال: سَأَلتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) عَنِ الرَّجُل أَوْصَى بِمَالهِ فِي سَبِيل اللهِ، فَقَال: «أَعْطِهِ لمَنْ أَوْصَى لهُ بِهِ وإِنْ كَانَ يَهُودِيّاً أَوْ نَصْرَانِيّاً، إِنَّ اللهَ عَزَّ وجَل يَقُول: «فَمَنْ بَدَّلهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلى الذِينَ يُبَدِّلونَهُ»(2)»(3).وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: سُئِل عَنْ رَجُل أَوْصَى بِحَجَّةٍ، فَجَعَلهَا وَصِيُّهُ فِي نَسَمَةٍ، فَقَال: يَغْرَمُهَا وَصِيُّهُ ويَجْعَلهَا فِي حَجَّةٍ كَمَا

ص: 320


1- سورة البقرة: 181.
2- سورة البقرة: 181.
3- من لا يحضره الفقيه: ج 4 ص200 باب وجوب إنفاذ الوصية والنهي عن تبديلها ح5462.

أَوْصَى بِهِ، فَإِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتَعَالى يَقُول: «فَمَنْ بَدَّلهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلى الذِينَ يُبَدِّلونَهُ»(1)»(2).

لا شرعية للظالمين

مسألة: يجب السعي لعدم تمكين أعداء الدين والظالمين من استفادة وِجهة شرعية لأنفسهم، سواء بعدم الحضور في مجالسهم، أم بعدم السماح لهم بالمجيء إلى المجالس التي يعقدها الشخص، أم غير ذلك.

وإلا لاغتر الناس بهم ولأصبحوا مقبولين عند المجتمع، وذلك يضر الدين والدنيا، فاللازم دفع مثل هذا الضرر الكبير.

وهذا ما صنعته الصديقة (صلوات الله عليها) إذ أوصت بعدم حضور أعداء الله جنازتها، وعدم الصلاة عليها.

قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ أَرْضَى سُلطَاناً بِسَخَطِ اللهِ خَرَجَ مِنْ دِينِ اللهِ»(3).

وفي كتاب سُليْم بْن قَيْسٍ، قَال: سَمِعْتُ عَليَّ بْنَ أَبِي طَالبٍ (عليه السلام) يَقُول: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «احْذَرُوا عَلى دِينِكُمْ ثَلاثَةَ رِجَال» إلى أن قال: «وَرَجُل آتَاهُ اللهُ عَزَّ وجَل سُلطَاناً فَزَعَمَ أَنَّ طَاعَتَهُ طَاعَةُ اللهِ، ومَعْصِيَتَهُ

ص: 321


1- سورة البقرة: 181.
2- الكافي: ج 7 ص22 باب أن الوصي إذا كانت الوصية في حق فغيرها فهو ضامن ح2.
3- الكافي: ج 2 ص373 باب من أطاع المخلوق في معصية الخالق ح5.

مَعْصِيَةُ اللهِ، وكَذَبَ، لا طَاعَةَ لمَخْلوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الخَالقِ، لا طَاعَةَ لمَنْ عَصَى اللهَ، إِنَّمَا الطَّاعَةُ للهِ ولرَسُولهِ ولوُلاةِ الأَمْرِ الذِينَ قَرَنَهُمُ اللهُ بِنَفْسِهِ ونَبِيِّهِ فَقَال: «أَطِيعُوا اللهَ وأَطِيعُوا الرَّسُول وأُولي الأَمْرِ مِنْكُمْ»(1)، لأَنَّ اللهَ إِنَّمَا أَمَرَ بِطَاعَةِ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) لأَنَّهُ مَعْصُومٌ مُطَهَّرٌ لا يَأْمُرُ بِمَعْصِيَةِ اللهِ، وإِنَّمَا أَمَرَ بِطَاعَةِ أُولي الأَمْرِ لأَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ مُطَهَّرُونَ لا يَأْمُرُونَ بِمَعْصِيَةِ اللهِ»(2).

وصية الزوجة

مسألة: يستحب للزوجة أن توصي زوجها بأمورها مع توفر الكفاءة فيه، تأسياً بالصديقة الطاهرة (صلوات الله عليها).كما يمكن لها أن توصي غيره.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) فِي حَدِيثٍ: «أَنَ فَاطِمَةَ بِنْتَ أَسَدٍ أَوْصَتْ إِلى رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) فَقَبِل وَصِيَّتَهَا، فَلمَّا مَاتَتْ نَزَعَ قَمِيصَهُ وقَال: كَفِّنُوهَا فِيهِ»(3).

من آذى الصديقة

مسألة: يجب الاعتقاد بأن من آذى فاطمة (عليها السلام) وفعل ما فعل كان من أعداء الله وأعداء رسوله (صلى الله عليه وآله)، ويستحب وقد يجب بيان ذلك

ص: 322


1- سورة النساء: 59.
2- كتاب سليم بن قيس الهلالي: ج 2 ص884 الحديث الرابع والخمسون.
3- وسائل الشيعة: ج 3 ص49 ب26 باب استحباب التبرع بكفن الميت المؤمن ح4.

للناس وفضحهم للتاريخ، وقد فصلناه سابقاً.

ثم إن العداء له ثلاثة مراكز: القلب واللسان والجوارح، وقد قام القوم بأكبر العداء وأشدها وأجمعها ضد العترة الطاهرة (صلوات الله عليهم).

أما من يدعي الحب ويفعل بجوارحه فعل الأعداء، للرياسة أو الشهرة أو المال أو غير ذلك، فهو أيضاً عدو كما لا يخفى، وكذا ما يرتبط باللسان، نعم ربما يكون بعض المراتب من المستثنيات تقية على ما هو مذكور في الفقه.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «إِنَّ أَصْحَابَ الكَهْفِ أَسَرُّوا الإِيمَانَ وأَظْهَرُواالكُفْرَ، وكَانُوا عَلى إِجْهَارِ الكُفْرِ أَعْظَمَ أَجْراً مِنْهُمْ عَلى إِسْرَارِ الإِيمَانِ»(1).

ص: 323


1- وسائل الشيعة: ج 16 ص231 ب29 باب جواز التقية في إظهار كلمة الكفر... ح16.

السلام الله

اشارة

عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «لما توفّيت خديجة (عليها السلام) جعلت فاطمة (عليها السلام) تلوذ(1) برسول الله (صلى الله عليه وآله) وتدور حوله وتقول: يا أبت أين اُمّي؟

قال: فنزل جبرئيل (عليه السلام) فقال له: ربّك يأمرك أن تقرأ فاطمة السلام وتقول لها: إنّ اُمّك في بيت من قصب(2)، كعابه(3) من ذهب، وعمده ياقوت أحمر، بين آسية ومريم بنت عمران.

فقالت فاطمة (عليها السلام): إنّ الله هو السلام ومنه السلام وإليه السلام»(4).

-----------------------

أحوال العظماء

مسألة: ينبغي ذكر أحوال العظماء وما حدث في حياتهم وعند مماتهم، كما ينبغي كتابة ذلك وتوثيقه، وقد سبق في الكتاب.

ص: 324


1- تلوذ به: أي تلتجأ إليه.
2- القصب هنا هو الجوهر المجوّف.
3- الكِعاب: جمع كعب، وهو الأنبوبة بين كل عقدتين.
4- الأمالي للطوسي: ص175 المجلس السادس ح46.

وهذا من مصاديق إحياء أمرهم وتذاكره.

عَنْ شُعَيْبٍ العَقَرْقُوفِيِّ قَال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُول لأَصْحَابِهِ: «تَزَاوَرُوا وتَلاقَوْا وتَذَاكَرُوا أَمْرَنَا وأَحْيُوهُ»(1).

وقد ورد: «مَنْ وَرَّخَ مُؤمِناً فَقَدْ أحْياهُ»(2).

الباري يسلم على الصديقة

مسألة: يستحب بيان أن جبرائيل (عليه السلام) نزل من السماء وأقرأ سلام الباري عزوجل لفاطمة (عليها السلام).

كما يستحب للمؤمن أن يسلم ويصلي عليها.

عَنْ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ، عَنْ فَاطِمَةَ (عليهما السلام) قَالتْ: قَال لي رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «يَا فَاطِمَةُ مَنْ صَلى عَليْكِ غَفَرَ اللهُ لهُ وأَلحَقَهُ بِي حَيْثُ كُنْتُ مِنَ الجَنَّة»(3).

ص: 325


1- الكافي: ج 2 ص175 باب التراحم والتعاطف ح1.
2- سفينة البحار: ج2 ص641.
3- مستدرك الوسائل: ج 10 ص211 ب14 باب استحباب زيارة فاطمة (عليها السلام) وموضع قبرها ح2.

مكانة خديجة

مسألة: يستحب بيان مكانة أم المؤمنين خديجة (عليها السلام) في الجنة.

رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) قَال: «اشْتَاقَتِ الجَنَّةُ إِلى أَرْبَعٍ مِنَ النِّسَاءِ، مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ، وآسِيَةَ بِنْتِ مُزَاحِمٍ زَوْجَةِ فِرْعَوْنَ وهِيَ زَوْجَةُ النَّبِيِّ فِي الجَنَّةِ، وخَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلدٍ زَوْجَةِ النَّبِيِّ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ، وفَاطِمَةَ بِنْتِ مُحَمَّد»(1).

تسلية المفجوع

مسألة: يستحب تسلية الطفلة التي فقدت أُمها، والأخذ من خاطرها والاهتمام بها.

وكذلك فيمن فقدت أو فقد أبوه.

روي: لمَّا أُصِيبَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالبٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) أَتَى رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) أَسْمَاءَ (رَضِيَ

اللهُ عَنْهَا) فَقَال لهَا: «أَخْرِجِي إِليَّ وُلدَ جَعْفَرٍ»، فَخَرَجُوا إِليْهِ، فَضَمَّهُمْ إِليْهِ وشَمَّهُمْ ودَمَعَتْ عَيْنَاهُ، فَقَالتْ: يَا رَسُول اللهِ أُصِيبَ جَعْفَرٌ، قَال: «نَعَمْ أُصِيبَ اليَوْمَ»، قَال عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ: أَحْفَظُ حِينَ دَخَلرَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) عَلى أُمِّي فَنَعَى إِليْهَا أَبِي، ونَظَرْتُ إِليْهِ وهُوَ يَمْسَحُ عَلى رَأْسِي ورَأْسِ أَخِي وعَيْنَاهُ يُهْرِقَانِ الدُّمُوعَ حَتَّى تَقَطَّرَ لحْيَتُهُ ثُمَّ قَال: «اللهُمَّ إِنَّ جَعْفَراً قَدْ قَدِمَ

ص: 326


1- كشف الغمة: ج 1 ص466 منزلتها عند النبي (صلى الله عليه وآله).

إِلى حُسْنِ الثَّوَابِ فَاخْلفْهُ فِي ذُرِّيَّتِهِ بِأَحْسَنِ مَا خَلفْتَ أَحَداً مِنْ عِبَادِكَ فِي ذُرِّيَّتِهِ»، ثُمَّ إِنَّهُ (عليه السلام) قَال: «يَا أَسْمَاءُ أَ لا أُبَشِّرُكِ»، قَالتْ: بَلى بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي، قَال: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وجَل جَعَل لجَعْفَرٍ جَنَاحَيْنِ يَطِيرُ بِهِمَا فِي الجَنَّة»(1).

الالتجاء إلى المعصوم

مسألة: يستحب الالتجاء في المصائب والنوائب، بل ومطلق الحاجات إلى الوسائل إلى الله تعالى والأدلاء عليه، كما صنعت (عليها السلام)، إذ عاذت بأبيها ولجأت إليه، عند موت أمها خديجة الكبرى (عليها السلام).

أما الدوران حوله (صلى الله عليه وآله) فهو مظهر من مظاهر الالتجاء إليه، وهو ذو أثر وضعي وفائدة نفسية ومادية ومعنوية(2).قال تعالى: «وَما أَرْسَلنا مِنْ رَسُول إِلاَّ ليُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ ولوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ واسْتَغْفَرَ لهُمُ الرَّسُول لوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحيماً»(3).

ص: 327


1- مسكن الفؤاد: ص106 الباب الرابع في البكاء.
2- والظاهر أنه يؤثر في إيجاد حالة التوزان النفسي والفكري والروحي في الإنسان، ولذا كان من الواجب أو المستحب الطواف حول البيت، وكذلك الطواف حول أضرحة المعصومين (عليهم السلام).
3- سورة النساء: 64.

توقيفية الأسماء

مسألة: أسماء الله وصفاته توقيفية في الجملة، فلا يصح تسميته أو وصفه بأمر اختراعاً، وقد سبق نظيره.

و(السَّلام) من أسمائه عزوجل، قال تعالى: «هُوَ اللهُ الذِي لاَ إِلهَ إلاَّ هُوَ المَلكُ القُدُّوسُ السَّلاَمُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللهُ الخَالقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ لهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى يُسَبِّحُ لهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ»(1).

و(السَّلاَمُ) هو الذي سلم من كل نقص وعيب وآفة، والسلام حق السلامة هو السالم من آفة الفناء ومن الحاجة إلى غيره في أصل وجوده وصفاته وأفعاله، وهو كقولك: زيد عدل، مبالغة في كونه سليماً أو كونه عادلاً، أما فيه تعالى فلا مبالغة كما لا يخفى، وذلك لأن من عادة العرب أن يضعوا المصادر في موضع الأسماء ويصفون بها، هذا بحسب الوضع اللغوي.

(ومنه السَّلام) لأنه تعالى هو الواهب لكل أنواع السلام المادي والمعنوي، الظاهري والباطني، فكلها بأمره ومنه عزوجل.

(وإليه السَّلام) فإنه ما من شيء إلاّيكون إليه أيضاً، وهو مثل «إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِليْهِ رَاجِعُونَ»(2).

ص: 328


1- سورة الحشر:23 - 24.
2- سورة البقرة: 156.

عن أبي عبد الله (عليه السلام): «...«وَللهِ المَثَل الأَعْلَى»(1) الذِي لا يُشْبِهُهُ شَيْ ءٌ ولا يُوصَفُ ولا يُتَوَهَّمُ، فَذَلكَ المَثَل الأَعْلى، ووَصَفَ الذِينَ لمْ يُؤْتَوْا مِنَ اللهِ فَوَائِدَ العِلمِ فَوَصَفُوا رَبَّهُمْ بِأَدْنَى الأَمْثَال وشَبَّهُوهُ بِالمُتَشَابِهِ مِنْهُمْ فِيمَا جَهِلوا بِهِ فَلذَلكَ قَال: «وَما أُوتِيتُمْ مِنَ العِلمِ إِلا قَليلا»(2)، فَليْسَ لهُ شِبْهٌ ولا مِثْل ولا عَدْل، و«لهُ الأَسْماءُ الحُسْنى»(3) التِي لا يُسَمَّى بِهَا غَيْرُهُ، وهِيَ التِي وَصَفَهَا فِي الكِتَابِ فَقَال: «فَادْعُوهُ بِها وذَرُوا الذِينَ يُلحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ»(4) جَهْلا بِغَيْرِ عِلمٍ، فَالذِي يُلحِدُ فِي أَسْمَائِهِ بِغَيْرِ عِلمٍ يُشْرِكُ وهُوَ لا يَعْلمُ، ويَكْفُرُ بِهِ وهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ يُحْسِنُ، فَلذَلكَ قَال: «وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلا وهُمْ مُشْرِكُونَ»(5) فَهُمُ «الذِينَ يُلحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ»(6) بِغَيْرِ عِلمٍ، فَيَضَعُونَهَا غَيْرَ مَوَاضِعِهَا، يَا حَنَانُ إِنَّ اللهَ تَبَارَكَوتَعَالى أَمَرَ أَنْ يُتَّخَذَ قَوْمٌ أَوْليَاءَ فَهُمُ الذِينَ أَعْطَاهُمُ اللهُ الفَضْل وخَصَّهُمْ بِمَا لمْ يَخُصَّ بِهِ غَيْرَهُمْ، فَأَرْسَل مُحَمَّداً (صلى الله عليه وآله) فَكَانَ الدَّليل عَلى اللهِ بِإِذْنِ اللهِ عَزَّ وجَل، حَتَّى مَضَى دَليلا هَادِياً فَقَامَ مِنْ بَعْدِهِ وَصِيُّهُ (عليه السلام) دَليلا هَادِياً عَلى مَا كَانَ، هُوَ دَل عَليْهِ مِنْ أَمْرِ رَبِّهِ مِنْ ظَاهِرِ عِلمِهِ، ثُمَّ الأَئِمَّةُ الرَّاشِدُونَ (عليهم السلام)»(7).

ص: 329


1- سورة النحل:60.
2- سورة الإسراء: 85.
3- سورة طه: 8.
4- سورة الأعراف: 180.
5- سورة يوسف: 106.
6- سورة الأعراف: 180.
7- التوحيد: ص324 ب50 باب العرش وصفاته ح1.

فضل خديجة (علیها السلام)

اشارة

عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله) منزله، فإذا عائشة مقبلة على فاطمة (عليها السلام) تصايحها وهي تقول: والله يا بنت خديجة ما ترين إلاّ أنّ لاُمّك علينا فضلاً، وأي فضل كان لها علينا، ما هي إلاّ كبعضنا.

فسمعت مقالتها فاطمة (عليها السلام)، فلمّا رأت فاطمة (عليها السلام) رسول الله (صلى الله عليه وآله) بكت، فقال لها: ما يبكيك يا بنت محمّد؟

قالت: ذَكَرَتْ اُمّي فتنقّصتها فبكيت.

فغضب رسول الله (صلى الله عليه وآله): ثم قال: «مه يا حميراء، فإنّ الله تبارك وتعالى بارك في الولود الودود، وإنّ خديجة (رحمها الله) ولدت منّي طاهراً وهو عبد الله وهو المطهّر، وولدت منّي القاسم وفاطمة ورقية واُمّ كلثوم وزينب، وأنت ممّن أعقم الله رحمه فلم تلدي شيئاً»(1).

--------------------------

حقداً على العترة

مسألة: ينبغي بيان ما كانت تصدر من بعض زوجات النبي (صلى الله عليه وآله) من الحقد ضد العترة الطاهرة (عليهم السلام) وإيذائها لهم.

ص: 330


1- الخصال: ج2 ص404 باب السبعة ح116.

عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ (عليه السلام)عَنْ أَبِيهِ، عَنْ آبَائِهِ، عَنْ عَليٍّ (عليهم السلام) قَال: «كُنْتُ أَنَا ورَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) فِي المَسْجِدِ بَعْدَ أَنْ صَلى الفَجْرَ ثُمَ نَهَضَ ونَهَضْتُ مَعَهُ، وكَانَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَّجِهَ إِلى مَوْضِعٍ أَعْلمَنِي بِذَلكَ، وكَانَ إِذَا أَبْطَأَ فِي ذَلكَ المَوْضِعِ صِرْتُ إِليْهِ لأَعْرِفَ خَبَرَهُ، لأَنَّهُ لا يَتَصَابَرُ قَلبِي عَلى فِرَاقِهِ سَاعَةً وَاحِدَةً، فَقَال لي: أَنَا مُتَّجِهٌ إِلى بَيْتِ عَائِشَةَ، فَمَضَى (صلى الله عليه وآله) ومَضَيْتُ إِلى بَيْتِ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ (عليها السلام) فَلمْ أَزَل مَعَ الحَسَنِ والحُسَيْنِ (عليهما السلام) فَأَنَا وهِيَ مَسْرُورَانِ بِهِمَا، ثُمَّ إِنِّي نَهَضْتُ وسِرْتُ إِلى بَابِ عَائِشَةَ فَطَرَقْتُ البَابَ، فَقَالتْ: مَنْ هَذَا، فَقُلتُ لهَا: أَنَا عَليٌّ، فَقَالتْ: إِنَّ النَّبِيَّ رَاقِدٌ.

فَانْصَرَفْتُ ثُمَّ قُلتُ: النَّبِيُّ رَاقِدٌ وعَائِشَةُ فِي الدَّارِ، فَرَجَعْتُ وطَرَقْتُ البَابَ فَقَالتْ لي: مَنْ هَذَا، فَقُلتُ لهَا: أَنَا عَليٌّ، فَقَالتْ: إِنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) عَلى حَاجَةٍ، فَانْثَنَيْتُ مُسْتَحْيِياً مِنْ دَقِّ البَابِ، ووَجَدْتُ فِي صَدْرِي مَا لا أَسْتَطِيعُ عَليْهِ صَبْراً، فَرَجَعْتُ مُسْرِعاً فَدَقَقْتُ البَابَ دَقّاً عَنِيفاً، فَقَالتْ لي عَائِشَةُ: مَنْ هَذَا، فَقُلتُ: أَنَا عَليٌّ، فَسَمِعْتُ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُول: يَا عَائِشَةُ افْتَحِي لهُ البَابَ، فَفَتَحَتْ ودَخَلتُ، فَقَال لي: اقْعُدْيَا أَبَا الحَسَنِ أُحَدِّثْكَ بِمَا أَنَا فِيهِ أَوْ تُحَدِّثْنِي بِإِبْطَائِكَ عَنِّي.

فَقُلتُ: يَا رَسُول اللهِ حَدِّثْنِي، فَإِنَّ حَدِيثَكَ أَحْسَنُ، فَقَال: يَا أَبَا الحَسَنِ كُنْتُ فِي أَمْرٍ كَتَمْتُهُ مِنْ أَلمِ الجُوعِ، فَلمَّا دَخَلتُ بَيْتَ عَائِشَةَ وأَطَلتُ القُعُودَ ليْسَ عِنْدَهَا شَيْءٌ تَأْتِي بِهِ، فَمَدَدْتُ يَدِي وسَأَلتُ اللهَ القَرِيبَ المُجِيبَ، فَهَبَطَ عَليَّ حَبِيبِي جَبْرَئِيل (عليه السلام) ومَعَهُ هَذَا الطَّيْرُ، ووَضَعَ إِصْبَعَهُ عَلى طَائِرٍ بَيْنَ يَدَيْهِ

ص: 331

، فَقَال: إِنَّ اللهَ عَزَّ وجَل أَوْحَى إِليَّ أَنْ آخُذَ هَذَا الطَّيْرَ وهُوَ أَطْيَبُ طَعَامٍ فِي الجَنَّةِ، فَآتِيَكَ بِهِ يَا مُحَمَّدُ، فَحَمِدْتُ اللهَ عَزَّ وجَل كَثِيراً، وعَرَجَ جَبْرَئِيل فَرَفَعْتُ يَدِي إِلى السَّمَاءِ فَقُلتُ: اللهُمَّ يَسِّرْ عَبْداً يُحِبُّكَ ويُحِبُّنِي يَأْكُل مَعِي مِنْ هَذَا الطَّيْرِ، فَمَكَثْتُ مَليّاً فَلمْ أَرَ أَحَداً يَطْرُقُ البَابَ، فَرَفَعْتُ يَدِي ثُمَّ قُلتُ: اللهُمَّ يَسِّرْ عَبْداً يُحِبُّكَ ويُحِبُّنِي وتُحِبُّهُ وأُحِبُّهُ يَأْكُل مَعِي مِنْ هَذَا الطَّيْرِ، فَسَمِعْتُ طَرْقَ البَابِ وارْتِفَاعَ صَوْتِكَ، فَقُلتُ لعَائِشَةَ: أَدْخِلي عَليّاً، فَدَخَلتَ فَلمْ أَزَل حَامِداً للهِ حَتَّى بَلغْتَ إِليَّ، إِذْ كُنْتَ تُحِبُّ اللهَ وتُحِبُّنِي، ويُحِبُّكَ اللهُ وأُحِبُّكَ، فَكُل يَا عَليُّ.

فَلمَّا أَكَلتُ أَنَا والنَّبِيُّ الطَّائِرَ قَال لي: يَا عَليُّ حَدِّثْنِي، فَقُلتُ: يَا رَسُول اللهِ لمْ أَزَل مُنْذُ فَارَقْتُكَ أَنَا وفَاطِمَةُ والحَسَنُ والحُسَيْنُ مَسْرُورِينَ جَمِيعاً، ثُمَّ نَهَضْتُأُرِيدُكَ فَجِئْتُ فَطَرَقْتُ البَابَ فَقَالتْ لي عَائِشَةُ: مَنْ هَذَا، فَقُلتُ: أَنَا عَليٌّ، فَقَالتْ: إِنَّ النَّبِيَّ رَاقِدٌ، فَانْصَرَفْتُ.

فَلمَّا أَنْ صِرْتُ إِلى بَعْضِ الطَّرِيقِ الذِي سَلكْتُهُ رَجَعْتُ فَقُلتُ: النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) رَاقِدٌ وعَائِشَةُ فِي الدَّارِ لا يَكُونُ هَذَا، فَجِئْتُ فَطَرَقْتُ البَابَ فَقَالت لي: مَنْ هَذَا، فَقُلتُ لهَا: أَنَا عَليٌّ، فَقَالتْ: إِنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) عَلى حَاجَةٍ، فَانْصَرَفْتُ مُسْتَحْيِياً، فَلمَّا انْتَهَيْتُ إِلى المَوْضِعِ الذِي رَجَعْتُ مِنْهُ أَوَّل مَرَّةٍ وَجَدْتُ فِي قَلبِي مَا لا أَسْتَطِيعُ عَليْهِ صَبْراً وقُلتُ: النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) عَلى حَاجَةٍ وعَائِشَةُ فِي الدَّارِ، فَرَجَعْتُ فَدَقَقْتُ البَابَ الدَّقَّ الذِي سَمِعْتَهُ، فَسَمِعْتُكَ يَا رَسُول اللهِ وأَنْتَ تَقُول لهَا: أَدْخِلي عَليّاً.

فَقَال النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): أَبَى اللهُ إِلا أَنْ يَكُونَ الأَمْرُ هَكَذَا، يَا حُمَيْرَاءُ مَا حَمَلكِ عَلى هَذَا.

ص: 332

قَالتْ: يَا رَسُول اللهِ اشْتَهَيْتُ أَنْ يَكُونَ أَبِي يَأْكُل مِنْ هَذَا الطَّيْرِ، فَقَال لهَا: مَا هُوَ بِأَوَّل ضِغْنٍ بَيْنَكِ وبَيْنَ عَليٍّ، وقَدْ وَقَفْتُ عَلى مَا فِي قَلبِكِ لعَليٍّ إِنْ شَاءَ اللهُ، لتُقَاتِلنَّهُ.

فَقَالتْ: يَا رَسُول اللهِ وتَكُونُ النِّسَاءُ يُقَاتِلنَ الرِّجَال؟

فَقَال لهَا: يَا عَائِشَةُ إِنَّكِ لتُقَاتِلينَعَليّاً ويَصْحَبُكِ ويَدْعُوكِ إِلى هَذَا نَفَرٌ مِنْ أَهْل بَيْتِي وأَصْحَابِي فَيَحْمِلونَكِ عَليْهِ، وليَكُونَنَّ فِي قِتَالكِ لهُ أَمْرٌ يَتَحَدَّثُ بِهِ الأَوَّلونَ والآخِرُونَ، وعَلامَةُ ذَلكِ أَنَّكِ تَرْكَبِينَ الشَّيْطَانَ ثُمَّ تُبْتَليْنَ قَبْل أَنْ تَبْلغِي إِلى المَوْضِعِ الذِي يُقْصَدُ بِكِ إِليْهِ فَتَنْبَحُ عَليْكِ كِلابُ الحَوْأَبِ، فَتَسْأَلينَ الرُّجُوعَ فَتَشْهَدُ عِنْدَكِ قَسَامَةُ أَرْبَعِينَ رَجُلا مَا هِيَ كِلابَ الحَوْأَبِ، فَتَنْصَرِفِينَ إِلى بَلدٍ أَهْلهُ أَنْصَارُكِ وهُوَ أَبْعَدُ بِلادٍ عَلى الأَرْضِ مِنَ السَّمَاءِ وأَقْرَبُهَا إِلى المَاءِ، ولتَرْجِعِنَّ وأَنْتِ صَاغِرَةٌ غَيْرُ بَالغَةٍ مَا تُرِيدِينَ، ويَكُونُ هَذَا الذِي يَرُدُّكِ مَعَ مَنْ يَثِقُ بِهِ مِنْ أَصْحَابِهِ، وإِنَّهُ لكِ خَيْرٌ مِنْكِ لهُ، وليُنْذِرَنَّكِ بِمَا يَكُونُ الفِرَاقَ بَيْنِي وبَيْنَكِ فِي الآخِرَةِ، وكُل مَنْ فَرَّقَ عَليٌّ بَيْنِي وبَيْنَهُ بَعْدَ وَفَاتِي فَفِرَاقُهُ جَائِزٌ.

فَقَالتْ: يَا رَسُول اللهُ ليْتَنِي مِتُّ قَبْل أَنْ يَكُونَ مَا تَعِدُنِي، فَقَال لهَا: هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ والذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ليَكُونَنَّ مَا قُلتُ حَقٌّ كَأَنِّي أَرَاهُ، ثُمَّ قَال لي: قُمْ يَا عَليُّ فَقَدْ وَجَبَتْ صَلاةُ الظُّهْرِ حَتَّى آمُرَ بِلالا بِالأَذَانِ، فَأَذَّنَ بِلال وأَقَامَ وصَلى وصَليْتُ مَعَهُ ولمْ يَزَل فِي المَسْجِد»(1).

ص: 333


1- الاحتجاج: ج 1 ص197 خطبة أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد فتح البصرة.

المصايحة المحرمة

مسألة: مصايحة الأولياء حرام، وأما المصايحة على أهل البيت (عليهم السلام) فهو من أشد المحرمات.

عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلمٍ قَال: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه

السلام) يَقُول: «لمَّا حَضَرَ الحَسَنَ بْنَ عَليٍّ (عليه السلام) الوَفَاةُ قَال للحُسَيْنِ (عليه السلام): يَا أَخِي إِنِّي أُوصِيكَ بِوَصِيَّةٍ فَاحْفَظْهَا، إِذَا أَنَا مِتُّ فَهَيِّئْنِي ثُمَّ وَجِّهْنِي إِلى رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) لأُحْدِثَ بِهِ عَهْداً، ثُمَّ اصْرِفْنِي إِلى أُمِّي (عليها

السلام) ثُمَّ رُدَّنِي فَادْفِنِّي بِالبَقِيعِ، واعْلمْ أَنَّهُ سَيُصِيبُنِي مِنْ عَائِشَةَ مَا يَعْلمُ اللهُ والنَّاسُ صَنِيعُهَا وعَدَاوَتُهَا للهِ ولرَسُولهِ وعَدَاوَتُهَا لنَا أَهْل البَيْتِ، فَلمَّا قُبِضَ الحَسَنُ (عليه السلام) ووُضِعَ عَلى السَّرِيرِ ثُمَّ انْطَلقُوا بِهِ إِلى مُصَلى رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) الذِي كَانَ يُصَلي فِيهِ عَلى الجَنَائِزِ، فَصَلى عَليْهِ الحُسَيْنُ (عليه السلام) وحُمِل وأُدْخِل إِلى المَسْجِدِ، فَلمَّا أُوقِفَ عَلى قَبْرِ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) ذَهَبَ ذُو العُوَيْنَيْنِ إِلى عَائِشَةَ فَقَال لهَا: إِنَّهُمْ قَدْ أَقْبَلوا بِالحَسَنِ ليَدْفِنُوا مَعَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله)، فَخَرَجَتْ مُبَادِرَةً عَلى بَغْل بِسَرْجٍ فَكَانَتْ أَوَّل امْرَأَةٍ رَكِبَتْ فِي الإِسْلامِ سَرْجاً، فَقَالتْ: نَحُّوا ابْنَكُمْ عَنْ بَيْتِي، فَإِنَّهُ لايُدْفَنُ فِي بَيْتِي ويُهْتَكُ عَلى رَسُول اللهِ حِجَابُهُ، فَقَال لهَا الحُسَيْنُ (عليه السلام): قَدِيماً هَتَكْتِ أَنْتِ وأَبُوكِ حِجَابَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) وأَدْخَلتِ عَليْهِ بَيْتَهُ مَنْ لا يُحِبُّ قُرْبَهُ، وإِنَّ اللهَ سَائِلكِ عَنْ ذَلكِ يَا عَائِشَةُ»(1)،

ص: 334


1- الكافي: ج 1 ص300 و303 باب الإشارة والنص على الحسين بن علي (عليهما السلام) ح1 وح3.

الخبر.

إغضاب النبي

مسألة: يستحب بيان أن البعض من زوجات النبي (صلى الله عليه وآله) كانت تغضب رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتؤذيه وبذلك تستحق ما ورد في الآيات الكريمة:

قال تعالى: «إِنَّ الذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولهُ لعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لهُمْ عَذَاباً مُهِيناً»(1).

وقال سبحانه: «وَالذِينَ يُؤْذُونَ رَسُول اللهِ لَهمْ عَذَابٌ أَليمٌ»(2).

منزلة خديجة

مسألة: يستحب بيان مكانة أم المؤمنين خديجة (عليها السلام) ومنزلتها عند رسولالله (صلى الله عليه وآله).

عَنْ أُمِّ رُومَانَ قَالتْ: كَانَ لرَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) جَارَةٌ قَدْ أَوْصَتْهُ خَدِيجَةُ أَنْ يَتَعَاهَدَهَا، فَحَضَرَ عِنْدَهُ شَيْ ءٌ مِنَ المَأْكَل فَأَمَرَ بِإِعْطَائِهَا، وقَال: هَذِهِ أَمَرَتْنِي خَدِيجَةُ بِأَنْ أَتَعَاهَدَهَا، فَقَالتْ عَائِشَةُ: وكُنْتُ أَحْسُدُهَا لكَثْرَةِ ذِكْرِهِ لهَا، فَقُلتُ: يَا رَسُول اللهِ لا تَزَال تَذْكُرُ خَدِيجَةَ كَأَنْ لمْ يَكُنْ عَلى ظَهْرِ الأَرْضِ غَيْرُهَا

ص: 335


1- سورة الأحزاب: 57.
2- سورة التوبة: 61.

، فَقَال: قُومِي عَنِّي، فَقَامَتْ إِلى نَاحِيَةٍ مِنْهُ فِي البَيْتِ، فَقَالتْ أُمُّ رُومَانَ: فَقُلتُ: يَا رَسُول اللهِ لا تُؤَاخِذْ عَائِشَةَ فَإِنَّهَا حَدِيثَةُ سِنٍّ، فَنَادَاهَا إِليْهِ فَقَال: «يَا عَائِشَةُ إِنَّ خَدِيجَةَ آمَنَتْ إِذْ كَفَرَ بِي قَوْمُكِ، ورُزِقْتُ مِنْهَا الوَلدَ وحُرِمْتُمُوه»(1).

أفضل نساء النبي

مسألة: يستحب بيان أن أفضل نساء النبي (صلى الله عليه وآله) هي خديجة أم المؤمنين (عليها السلام).

وفي الحديث: «ثُمَّ تَسْتَقْبِلكِ أُمُّكِ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلدٍ أَوَّل المُؤْمِنَاتِ بِاللهِ وَ بِرَسُولهِ وَ مَعَهَا سَبْعُونَ أَلفَ مَلكٍ بِأَيْدِيهِمْأَلوِيَةُ التَّكْبِير»(2).

وقَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «أَفْضَل نِسَاءِ الجَنَّةِ أَرْبَعٌ: خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ»(3).

المرأة الولود

مسألة: من فضائل المرأة أن تكون ولوداً ودوداً.

عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «تَزَوَّجُوا

ص: 336


1- عمدة عيون صحاح الأخبار في مناقب إمام الأبرار: ص394 فصل في ذكر مناقب خديجة (عليها السلام) ح789.
2- بحار الأنوار: ج8 ص53 ب21 ح59.
3- بحار الأنوار: ج8 ص178 ب23 ح133.

بِكْراً وَلوداً، ولا تَزَوَّجُوا حَسْنَاءَ جَمِيلةً عَاقِراً، فَإِنِّي أُبَاهِي بِكُمُ الأُمَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ»(1).

وعَنْ عَليٍّ (عليه السلام) قَال: «مَنْ أَرَادَ مِنْكُمُ التَّزْوِيجَ فَليُصَل رَكْعَتَيْنِ وليَقْرَأْ فِيهِمَا فَاتِحَةَ الكِتَابِ ويس، فَإِذَا فَرَغَ مِنَ الصَّلاةِ فَليَحْمَدِ اللهَ تَعَالى وليُثْنِ عَليْهِ وليَقُل: اللهُمَّ ارْزُقْنِي زَوْجَةً وَدُوداً وَلوداً شَكُوراً غَيُوراً، إِنْ أَحْسَنْتُ شَكَرَتْ، وإِنْ أَسَأْتُ غَفَرَتْ، وإِنْ ذَكَرْتُ اللهَ تَعَالى أَعَانَتْ، وإِنْ نَسِيتُ ذَكَّرَتْ، وإِنْ خَرَجْتُ مِنْعِنْدِهَا حَفِظَتْ، وإِنْ دَخَلتُ عَليْهَا سَرَّتْنِي، وإِنْ أَمَرْتُهَا أَطَاعَتْنِي، وإِنْ أَقْسَمْتُ عَليْهَا أَبَرَّتْ قَسَمِي، وإِنْ غَضِبْتُ عَليْهَا أَرْضَتْنِي، يَا ذَا الجَلال والإِكْرَامِ هَبْ لي ذَلكَ، فَإِنَّمَا أَسْأَلكَ ولا أَجِدُ إِلا مَا مَنَنْتَ وأَعْطَيْتَ. وقَال: مَنْ فَعَل ذَلكَ أَعْطَاهُ اللهُ مَا سَأَل»(2).

علم الغيب

مسألة: يستحب بيان أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يعلم الغيب حيث أخبر بأن تلك المرأة عقيمة ولا تلد شيئاً.

عن أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «إِنَّ اللهَ فَضَّل أُولي العَزْمِ مِنَ الرُّسُل بِالعِلمِ عَلى الأَنْبِيَاءِ، وَوَرَّثَنَا عِلمَهُمْ، وفَضَّلنَا عَليْهِمْ فِي فَضْلهِمْ، وعَلمَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) مَا لا يَعْلمُونَ، وعَلمَنَا عِلمَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) فَرَوَيْنَا لشِيعَتِنَا، فَمَنْ قَبِل مِنْهُمْ فَهُوَ أَفْضَلهُمْ، وأَيْنَمَا نَكُونُ فَشِيعَتُنَا مَعَنَا»(3).

ص: 337


1- الكافي: ج 5 ص333 باب كراهية تزويج العاقر ح2.
2- مستدرك الوسائل: ج 6 ص325 ب30 باب استحباب الصلاة عند إرادة التزويج ح1.
3- الإمامة والتبصرة : ص139 ب37 باب أن لديهم الكتب التي انزلت على الأنبياء ح160.

التنقيص الحرام

مسألة: إنكار الفضيلة تنقيص وهو لا يجوز، ولذا قالت الصديقة (عليها السلام): «ذَكَرَتْ أُمّي فَتَنَقَّصَتْها»، مع أنها بحسب ظاهر هذه الرواية قالت: (وأي فضل كان لها علينا، إن هي إلا كبعضنا).

ويتضح ذلك بملاحظة أن الأستاذ في الجامعة لو قيل عنه إنه أي فضل له على الطالب في الابتدائية وأنه ما هو إلاّ مثله في العلم ... ألم يكن هذا تنقيصاً وكذباً وإهانةً.

والفرق فيما نحن فيه أكبر.

قال تعالى: «وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ ولا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدينَ»(1).

ص: 338


1- سورة هود: 85، سورة الشعراء: 183.

الصلوات على الصديقة

اشارة

عن أمير المؤمنين، عن فاطمة (عليهما السلام) أنّها قالت: قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يا فاطمة من صلى عليك غفر الله له وألحقه بي حيث كنت من الجنّة»(1).

الصلاة على الزهراء

مسألة: يستحب الصلاة والسلام على الصديقة فاطمة الزهراء (عليها السلام).

وكذلك على العترة الطاهرة (عليهم السلام).

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «الصَّلاةُ عَليَّ وعَلى أَهْل بَيْتِي تَذْهَبُ بِالنِّفَاقِ»(2).

ص: 339


1- مستدرك الوسائل: ج 10 ص211 ب14 باب استحباب زيارة فاطمة (عليها السلام) وموضع قبرها ح2.
2- الكافي: ج 2 ص492 باب الصلاة على النبي محمد وأهل بيته (عليهم السلام) ح8.

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «سَمِعَ أَبِي رَجُلاً مُتَعَلقاً بِالبَيْتِ وهُوَ يَقُول: اللهُمَ صَل عَلى مُحَمَّدٍ، فَقَال لهُ أَبِي: يَا عَبْدَ اللهِ لا تَبْتُرْهَا، لا تَظْلمْنَاحَقَّنَا، قُل: اللهُمَّ صَل عَلى مُحَمَّدٍ وأَهْل بَيْتِهِ»(1).

ثواب الصلاة

مسألة: يستحب بيان ثواب الصلاة والسلام على الصديقة فاطمة (عليها السلام).

عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ المَلكِ النَّوْفَليِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَال: دَخَلتُ عَلى فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) فَبَدَأَتْنِي بِالسَّلامِ وقَالتْ: قَال أَبِي وهُوَ ذَا حَيٌّ: «إِنَّ مَنْ سَلمَ عَليَّ وعَليْكِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ فَلهُ الجَنَّةُ».

قَال: فَقُلتُ لهَا: هَذَا فِي حَيَاتِهِ وحَيَاتِكِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ ومَوْتِكِ.

قَالتْ: «فِي حَيَاتِنَا وبَعْدَ مَوْتِنَا»(2).

ص: 340


1- الكافي: ج 2 ص495 باب الصلاة على النبي محمد وأهل بيته (عليهم السلام) ح21.
2- كشف اليقين في فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام): ص354 المبحث العشرون في زوجته (عليها السلام).

مع ابنة طلحة

اشارة

روي أن عائشة بنت طلحة دخلت على فاطمة (عليها السلام) فرأتها باكية، فقالت لها: بأبي أنت وأمّي ما الذي يبكيك؟

فقالت لها: «أسائلتي عن هنة حلق بها الطائر وحفي بها السائر، ورفعت إلى السماء أثراً، ورزئت في الأرض خبراً، إنّ قحيف تيم وأحيول عدي جاريا أبا الحسن في السباق، حتّى إذا تفرّيا بالخناق أسرّا له الشنان، وطوياه الإعلان، فلمّا خبا نور الدين وقبض النبيّ الأمين (صلى الله عليه وآله) نطقا بفورهما، ونفثا بسورهما، وأدلا بفدك، فيا لها كم من مِلك مُلك(1)، إنّها عطيّة الربّ الأعلى للنجيّ الأوفى، ولقد نحلنيها للصبية السواغب من نجله ونسلي، وإنّها لبعلم الله وشهادة أمينه، فإن انتزعا منّي البلغة ومنعاني اللمظة فأحتسبها يوم الحشر زلفة، وليجدنّها آكلوها ساعرة حميم في لظى جحيم»(2).

-----------------------

ص: 341


1- ولعل الصحيح: (فيا لها من مِلك مُلك) أي من ملك لأهل البيت (عليهم السلام) تملكه غيرهم غصباً، ف (كم) للتأكيد والمبالغة وبيان كثرة ما غصبوه وعظمه.
2- بحار الأنوار: ج 29 ص182 ب11باب نزول الآيات في أمر فدك وقصصه وجوامع الاحتجاج فيه، وفيه قصة خالد وعزمه على قتل أمير المؤمنين (عليه السلام) ح38.

توضيح المجلسي

قال العلامة المجلسي (رحمه الله) في كتابه القيم بحار الأنوار:

(عن هنة): أي شي ء يسير قليل، أو قصّته منكرة قبيحة(1).

(حلق بها الطائر): تحليق الطّائر ارتفاعه في الهواء، أي انتشر خبرها، إذ كان الغالب في تلك الأزمنة إرسال الأخبار مع الطيور.

(حفي بها السائر): أي أسرع السائر في إيصال هذا الخبر حتى حفي وسقط خفّه ونعله، أو رقّ رجله أو رجل دابته، يقال: حفي كعلم إذا مشى بلا خفّ ولا نعل، أو رقّت قدمه أو حافره. أو هو من الحفاوة وهي المبالغة في السّؤال.

وفي بعض النسخ: (وخفي بها الساتر): أي لم يبق ساتر لها، ولم يقدر الساترون على إخفائها.

(رفعت إلى السماء أثراً): أي ظهرت آثاره في السماء عاجلاً وآجلاً من منع الخيرات وتقدير شدائد العقوبات لمن ارتكبها.

(رزئت في الأرض خبراً): يقال رزأه كجعله وعمله، أصاب منه شيئاً، ورزأه رزءاً أو مرزأة أصاب منه خيراً، والشي ء نقصه، والرزيئة المصيبة، فيمكن أنيقرأ على بناء المعلوم، أي أحدثت من جهة خبرها في الأرض مصائب، أو المجهول بالإسناد المجازي، والأول أنسب معنىً، والثاني لفظاً، ويمكن أن يكون بتقديم المعجمة على المهملة، يقال: زري عليه زرياً، عابه وعاتبه، فلا يكون مهموزاً.

ص: 342


1- والثاني أنسب كما هو أوفق بالسياق.

وفي بعض النسخ: (ربت) بالراء المهملة والباء الموحّدة، أي نمت وكثرت.

وفي بعضها: (رنّت) من الرنين.

وفي نسخة قديمة: (ورويت) من الرواية.

(إنّ قحيف تيم) لعلها (صلوات الله عليها) أطلقت على أبي بكر قحيفاً، لأنّ أباه أبو قحافة، والقحف بالكسر العظم فوق الدماغ، والقحف بالفتح قطع القحف أو كسره، والقاحف المطر يجي ء فجأة فيقتحف كل شيء، أي يذهب به، وسيل قحاف كغراب جزاف.

و(الأحيول) تصغير الأحول، وهو لو لم يكن أحول ظاهراً فكان أحول باطناً لشركه، بل أعمى، ويقال أيضا ما أحوله، أي ما أحيله(1).

(جاريا أبا الحسن (عليه السلام) في السباق): يقال جاراه أي جرى معه،والسّباق المسابقة، أي كانا يريدان أن يسبقاه في المكارم والفضائل في حياة النبيّ (صلى الله عليه وآله).

(حتى إذا تفريا بالخناق(2) أسرّا له الشنئان): يقال تفرّى أي انشقّ، والخناق ككتاب الحبل يخنق به، وكغراب داء يمتنع معه نفوذ النفس إلى الرية والقلب.

وفي بعض النسخ: بالحاء المهملة، وهو بالكسر جمع الحنق بالتحريك، وهو الغيظ أو شدّته.

ص: 343


1- قال الفراء: يقال هو أحول منك، أي أكثر حيلة، وما أحوله، كذا في لسان العرب.
2- أي كادا يموتان اختناقاً.

و(الشنئان) العداوة، أي لما انشقا بما خنقهما من ظهور مناقبه وفضائله، وعجزهما عن أن يدانياه في شي ء منها، أو من شدة غيظه أكمنا له العداوة في قلبهما منتهضين للفرصة.

وفي بعض النسخ: (تعريا) بالعين والراء المهملتين، فلعل المعنى بقيا مسبوقين في العراء، وهو الفضاء والصحراء، متلبسين بالخناق والغيظ.

وفي بعض النسخ: (ثغراً) أي توقراً وثقلاً.

وفي بعضها: (تغرغراً) من الغرغرة، وهي تردّد الروح في الحلق، ويقال يتغرغر صوته في حلقه، أي يتردّد، وهومناسب للخناق.

وفي بعضها: (تقرّرا) أي ثبتا ولم يمكنهما الحركة،

وفي بعضها: (تعزّبا) بالمهملة ثم المعجمة، أي بعدا ولم يمكنهما الوصول إليه، وكان يحتمل تقديم المعجمة أيضاً، والمعنى قريب من الأول.

وفي بعضها: (تقرباً) بالقاف والباء الموحدة، ويمكن توجيهه بوجه.

وكان يحتمل النون(1)، وهو أوجه، فالخناق بالخاء المكسورة، أي اشتركا فيما يوجب عجزهما، كأنهما اقترنا بحبل واحد في عنقهما.

وفي بعضها: (تفرداً) بالفاء والراء المهملة والدال، وهو أيضاً لا يخلو من مناسبة.

(طوياه الإعلان) أي أضمرا أن يعلنا له العداوة عند الفرصة، وفي الكلام حذف وإيصال، أي طويا عنه، يقال: طوى الحديث أي كتمه، ويقال: خبت النار أي سكنت وطفئت.

ص: 344


1- أي تقرناً.

(نطقا بفورهما): أي تكلما فوراً، أي بسبب فورانهما.

وفي بعض النسخ: (نطفا) بالفاء، أي صبّا ما في صدورهما فوراً، أو بسبب غليان حقدهما وفوران حسدهما. ويحتملأن تكون الباء زائدة، يقال نطف الماء أي صبّه، وفلاناً قذفه بفجور، أو لطّخه بعيب. وفي الحديث: رأيت سقفاً تنطف سمناً وعسلاً، أي تقطر، وفي قصة المسيح (عليه السلام) ينطف رأسه ماءً، وفار القدر فوراً وفوراناً: غلا وجاش، وأتوا من فورهم: أي من وجههم، أو قبل أن يسكنوا.

و(نفثا بسورهما): نفثه كضرب رمى به، والنفث: النّفخ والبزق. وسورة الشيء: حدّته وشدّته، ومن السّلطان سطوته وإعتداؤه. وسار الشراب في رأسه سوراً دار وارتفع، والرّجل إليك وثب وثار.

و(أدلاّ بفدك): قال الجوهري: الدل الغنج والشكل، وفلان يدل على أقرانه في الحرب كالبازي يدل على صيده، وهو يدل بفلان أي يثق به، والحاصل: أنهما أخذا فدك بالجرأة من غير خوف.

وفي بعض النسخ: (وا ذلا بفدك) بالذال المعجمة على الندبة، ولعله تصحيف.

(فيا لها كم من ملك ملك) من قبيل يا للماء، للتعجب، أي يا قوم تعجبوا لفدك.

وقولها: (كم من ملك) بيان لوجه التعجب.وفي بعض النسخ: (فيا لها لمن ملك تيك).

ص: 345

وفي بعضها: (فيا لها لمزة لك تيك). واللمزة بضم اللام وفتح الميم العيّاب. و(تيك) اسم إشارة، والظاهر أن الجميع تصحيف.

و(النجيّ): هو المناجي المخاطب للإنسان، أي لمن خصّه الله بنجواه وسرّه وكان أوفى الخلق بعهده وأمره.

و(الصبية): بالكسر جمع الصّبي.

و(السغب): الجوع.

و(النجل): الولد.

و(البلغة) بالضم: ما يتبلغ به من العيش.

و(اللماظة) بالضم: ما يبقى في الفم من الطعام. وقال الشاعر في وصف الدنيا: (لماظة أيّام كأحلام نائم).

ويقال: ما ذقت لماظاً، بالفتح أي شيئاً.

و(اللمظة) بالضم: كالنكتة من البياض، واللماظة هنا أنسب.

و(الزّلفة) بالضم: كالزّلفى القرب والمنزلة، أي اعلم أنها سبب لقربي يوم الحشر، أو اصبر عليها ليكون سبباً لقربي. قال في النهاية: وفيه من صام إيماناً واحتساباً، أي طلباً لوجه الله وثوابه، والاحتساب من الحسب كالاعتدادمن العدّ، و إنّما قيل لمن ينوي بعمله وجه الله: احتسبه، لأنّ له حينئذ أن يعتدّ عمله، فجعل في حال مباشرة الفعل كأنّه معتدّ به، والاحتساب في الأعمال الصالحات وعند المكروهات هو البدار إلى طلب الأجر وتحصيله بالتسليم والصبر، أو باستعمال أنواع البر والقيام بها على الوجه المرسوم فيها طلباً للثواب المرجوّ منها، ومنه الحديث: من مات له ولد فاحتسبه، أي احتسب الأجر بصبره

ص: 346

على مصيبته.

(سعر النار): كمنع، أوقدها.

و(الحميم): الماء الحارّ.

و(اللظى): كفتي النار أو لهبها، ولظى معرفة جهنّم، أو طبقة منها، أعاذنا الله تعالى منها ومن طبقاتها ودركاتها. انتهى(1).

وقول الصديقة (عليها السلام): «هنة حلق بها الطائر» خبر وليس بإنشاء بظاهره، ويمكن أن يقصد بمثله الإنشاء(2)، لكنه خلاف ظاهر الكلام هنا.

السؤال عن الظلامات

مسألة: يحسن السؤال وقد يجب عن فدائحصنائع الجبابرة والطغاة وهناتهم، أي أفعالهم القبيحة المنكرة، بغية فضحهم وكشفهم أمام الناس.

والسؤال أنواع وله مصاديق، ومنه السؤال عبر وسائل الإعلام كالمذياع والتلفاز والجرائد وغير ذلك.

قال تعالى: «وَإِذَا المَوْؤُدَةُ سُئِلت * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلتْ»(3).

ص: 347


1- انظر بحار الأنوار: ج29 ص183 - 189.
2- بأن يكون أمراً بنشر الخبر.
3- سورة التكوير: 8 - 9.

حرمة القبيح المنكر

مسألة: يحرم الفعل القبيح المنكر، ويشتد حرمةً إذا كان من النوع الذي ينتشر خبره في الناس، ويحلق به الطائر، ويحفى به السائر، لشدة قبحه وفداحته.

كما يحرم ما يصنعه البعض من إشاعة القبائح بذريعة السبق الصحفي لنيل الشهرة أو الأموال أو شبه ذلك، قال تعالى: «إِنَّ الذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الذِينَ آمَنُوا لهُمْ عَذَابٌ أَليمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَاللهُ يَعْلمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلمُونَ»(1).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (عليه السلام) أَنَّهُ قَال: «مَنْ قَال فِي أَخِيهِ المُؤْمِنِ شَيْئاً يَعْلمُهُ مِنْهُ يُرِيدُ بِهِ انْتِقَاصَةً فِي نَفْسِهِ وَ مُرُوَّتِهِ، فَهُوَ مِنَ الذِينَ قَال اللهُ: «إِنَّ الذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الفاحِشَةُ فِي الذِينَ آمَنُوا لهُمْ عَذابٌ أَليمٌ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَة»(2)»(3).

الهمز واللمز

مسألة: الهمز واللمز محرمان، ولكنهما قد يكونان واجبين كما سيأتي.

ص: 348


1- سورة النور:19.
2- سورة النور:19.
3- مستدرك الوسائل: ج9 ص113 ب132 ح10392.

أما المحرم، فهو همز المؤمن ومطلق من كان ذا حرمة، قال تعالى: «وَيْلٌ لكُلّ هُمَزَةٍ لمَزَةٍ»(1).

وأما الواجب فهو الهمز واللمز والتنقيص من أهل البدع ومن الجبابرة والطواغيت مراعياً سائر الموازين الشرعية.

قال تعالى: «وَامْرَأَتُهُ حَمَّالةَ الحَطَبِ»(2).

وقال سبحانه: «فَمَثَلهُ كَمَثَل الكَلبِ إِنْ تَحْمِل عَليْهِ يَلهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلهَثْ ذَلكَ مَثَل القَوْمِ الذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا»(3).

وقال تعالى: «فِي قُلوبِهِمْ مَرَضٌ وَالقَاسِيَةِ قُلوبُهُمْ»(4).

وقال سبحانه: «إِنْ هُمْ إلاَّ كَالأنْعَامِ بَل هُمْ أَضَل سَبِيلاً»(5).وقال تعالى: «وَلقَدْ ذَرَأْنَا لجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الجِنِّ وَالإِنْسِ لَهمْ قُلوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولئِكَ كَالأنْعَامِ

ص: 349


1- سورة الهمزة: 1. قيل: (الهمزة) الذي يعيبك بظهر الغيب، و(اللمزة): الذي يعيبك في وجهك، وقيل: (الهمزة) الذي يؤذي جليسه بسوء لفظه، و(اللمزة) الذي يكسر عينه على جليسه ويشير برأسه ويومي بعينه، وقيل: هما بمعنى واحد، راجع (مجمع البيان) وغيره.
2- سورة المسد:4.
3- سورة الأعراف: 176.
4- سورة الحج: 53.
5- سورة الفرقان: 44.

بَل هُمْ أَضَل أُولئِكَ هُمُ الغَافِلونَ»(1).

وقال عزوجل: «وَلاَ تُطِعْ كُل حَلاَفٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ للخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُل بَعْدَ ذَلكَ زَنِيمٍ»(2).

وجرى على ذلك قول الصديقة (عليها السلام): «قحيف تيم، وأحيول عدي»(3).

أقسام التنافس

مسألة: التنافس أقسام، فمنه المستحب والواجب، ومنه الحرام والمكروه.

أما الواجب فالتنافس في فعل الواجبات، ووجوبه مقدمي، قال تعالى: «وَفِي ذَلكَ فَليَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ»(4).

وأما المستحب فالتنافس في فعل المستحبات.

وأما الحرام فالتنافس في فعل المعاصي والآثام، ومنه منافسة المنصوبمن الله تعالى على منصبه وغصب مكانته، فإنه من أظهر مصاديق المنكر، ومحادة الله عزوجل، كما صنع ابن أبي قحافة وابن الخطاب، حيث قالت (عليها السلام): «إِنَّ قَحِيفَ تَيْمٍ وَأُحَيْوِل عَدِيٍّ جَارَيَا أَبَا الحَسَنِ (عليه السلام) فِي السِّبَاقِ، حَتَّى إِذَا تَفَرَّيَا

ص: 350


1- سورة الأعراف: 179.
2- سورة القلم:10 - 13.
3- بحار الأنوار: ج 29 ص182 ب11باب نزول الآيات في أمر فدك وقصصه وجوامع الاحتجاج فيه وفيه قصة خالد وعزمه على قتل أمير المؤمنين (عليه السلام) ح38.
4- سورة المطففين: 26.

بِالخِنَاقِ أَسَرَّا لهُ الشَّنَآنَ، وَطَوَيَاهُ الإِعْلان».

إيفاء الجواب

مسألة: ينبغي إيفاء السؤال حقه من الجواب، واستيفاء ما له مدخلية وفائدة في الغرض من دون تطويل مضر، مراعياً سائر الجوانب، وقد فصلت الصديقة (صلوات الله عليها) في استعراض تاريخ ما جرى عليهم، وأوجزته أبلغ الإيجاز وأوفاه، حيث قالت: (إن قحيف تيم ... جحيم).

قال (عليه السلام): «أَقْلل المَقَال، وقَصِّرِ الآمَال، ولا تَقُل مَا يُكْسِبُكَ وِزْراً، ويُنَفِّرُ عَنْكَ حُرّاً»(1).

وقال (عليه السلام): «إذا ازدحم الجواب نفي الصواب»(2).

بغض الحق وأهله

مسألة: يحرم بغض الحق كما يحرم بغض أهله، وأشد الدرجات حرمةً بغض رسول الله وأهل بيته (عليه وعليهم السلام) في أنفسهم وفيما فرضه الله لهم من المكانة والفضل.

قالت الصديقة (صلوات الله عليها): «أسرا له الشنئان».

قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ اللهَ فَرَضَ عَليْكُمْ طَاعَتِي ونَهَاكُمْ عَنْ مَعْصِيَتِي، وأَوْجَبَ عَليْكُمُ اتِّبَاعَ أَمْرِي، وفَرَضَ عَليْكُمْ مِنْ طَاعَتِهِ طَاعَةَ عَليِّ بْنِ

ص: 351


1- عيون الحكم والمواعظ: ص83 ح2015.
2- غرر الحكم: ص442 لا تشاور هؤلاء ح10094.

أَبِي طَالبٍ بَعْدِي كَمَا فَرَضَ عَليْكُمْ مِنْ طَاعَتِي، ونَهَاكُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ كَمَا نَهَاكُمْ عَنْ مَعْصِيَتِي، وجَعَلهُ أَخِي ووَزِيرِي ووَصِيِّي ووَارِثِي، وهُوَ مِنِّي وأَنَا مِنْهُ، حُبُّهُ إِيمَانٌ، وبُغْضُهُ كُفْرٌ، مُحِبُّهُ مُحِبِّي، ومُبْغِضُهُ مُبْغِضِي، وهُوَ مَوْلى مَنْ أَنَا مَوْلاهُ، وأَنَا مَوْلى كُل مُسْلمٍ ومُسْلمَةٍ، وأَنَا وهُوَ أَبَوَا هَذِهِ الأُمَّة»(1).

بغض النبي والعترة

مسألة: بغض رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبغض علي وأهل البيت (عليهم السلام) نُصب، وهو أشد من الكفر، كما قرر في محله.عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالكٍ قَال: نَظَرَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) إِلى عَليِّ بْنِ أَبِي طَالبٍ (عليه السلام) فَقَال: «يَا عَليُّ مَنْ أَبْغَضَكَ أَمَاتَهُ اللهُ مِيتَةً جَاهِليَّةً، وَحَاسَبَهُ بِمَا عَمِل يَوْمَ القِيَامَةِ»(2).

وعَنْ عَليٍّ (عليه السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «يَا عَليُّ أَنْتَ أَخِي ووَزِيرِي وصَاحِبُ لوَائِي فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ، وأَنْتَ صَاحِبُ حَوْضِي، مَنْ أَحَبَّكَ أَحَبَّنِي، ومَنْ أَبْغَضَكَ أَبْغَضَنِي»(3).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يَا سَلمَانُ، مَنْ أَحَبَّ فَاطِمَةَ ابْنَتِي فَهُوَ فِي الجَنَّةِ مَعِي، ومَنْ أَبْغَضَهَا فَهُوَ فِي النَّارِ، يَا سَلمَانُ حُبُّ فَاطِمَةَ (عليها السلام)

ص: 352


1- كنز الفوائد: ج 2 ص13 فصل من فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام) والنصوص عليه من رسول الله (صلى الله عليه وآله).
2- مستدرك الوسائل: ج18 ص181 ب8 باب جملة مما يثبت به الكفر والارتداد ح22447.
3- عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج 1 ص294 ب28 باب فيما جاء عن الإمام علي بن موسى (عليه السلام) من الأخبار المتفرقة ح47.

يَنْفَعُ فِي مِائَةٍ مِنَ المَوَاطِنِ أَيْسَرُهَا المَوْتُ والقَبْرُ وَالمِيزَانُ والمَحْشَرُ والصِّرَاطُ وَالعَرْضُ والحِسَابُ، فَمَنْ رَضِيَتِ ابْنَتِي عَنْهُ رَضِيتُ عَنْهُ، ومَنْ رَضِيتُ عَنْهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، ومَنْ غَضِبَتْ عَليْهِ فَاطِمَةُ (عليها السلام) غَضِبْتُ عَليْهِ، ومَنْ غَضِبْتُ عَليْهِ غَضِبَ اللهُ عَليْهِ، يَا سَلمَانُ وَيْل لمَنْ يَظْلمُهَا ويَظْلمُ بَعْلهَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ عَليّاً (عليه السلام) ووَيْللمَنْ يَظْلمُ شِيعَتَهَا وذُرِّيَّتَهَا»(1).

نية الغدر

مسألة: تبييت النية على الغدر بالمؤمن والوثوب على أهل الحق محرم مقدمي ما لم يصاحبه محرم آخر، وهو كاشف عن خبث الباطن ومسقط للعدالة.

إما إذا كان ذلك بالنسبة إلى المعصوم (عليه السلام) فنية ذلك من أكبر المحرمات، فكيف بعمله.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، قَال: سَأَلتُهُ عَنْ قَرْيَتَيْنِ مِنْ أَهْل الحَرْبِ لكُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَلكٌ عَلى حِدَةٍ اقْتَتَلوا ثُمَّ اصْطَلحُوا ثُمَّ إِنَّ أَحَدَ المَلكَيْنِ غَدَرَ بِصَاحِبِهِ فَجَاءَ إِلى المُسْلمِينَ فَصَالحَهُمْ عَلى أَنْ يَغْزُوَ مَعَهُمْ تِلكَ المَدِينَةَ، فَقَال أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «لا يَنْبَغِي للمُسْلمِينَ أَنْ يَغْدِرُوا ولا يَأْمُرُوا بِالغَدْرِ، ولا يُقَاتِلوا مَعَ الذِينَ غَدَرُوا، ولكِنَّهُمْ يُقَاتِلونَ المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدُوهُمْ، ولا يَجُوزُ عَليْهِمْ مَا عَاهَدَ عَليْهِ الكُفَّارُ»(2).

ص: 353


1- مائة منقبة: ص127 المنقبة الحادية والستون.
2- الكافي: ج 2 ص337 باب المكر والغدر والخديعة ح4.

وقال علي (عليه السلام): «المَكْرُ والخَدِيعَةُ والغَدْرُ فِي النَّار»(1).

الحذر من المنافقين

مسألة: يجب الحذر من المنافقين وأهل الباطل، ويلزم أن لا ينخدع الإنسان بظاهرهم، ويكفي دلالة على ذلك قول الصديقة (صلوات الله عليها): «حتى إذا تفريا بالخناق أسر له الشنآن وطوياه الإعلان... نطقا بفورهما ونفثا بسورهما».

قال علي (عليه السلام): «تجنّبوا البخل والنّفاق فهما من أذمّ الأخلاق»(2).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِيَّاكُمْ وتَخَشُّعَ النِّفَاقِ، وهُوَ أَنْ يُرَى الجَسَدُ خَاشِعاً والقَلبُ ليْسَ بِخَاشِعٍ»(3).

وقال علي (عليه السلام): «شَرُّ الأَخْلاقِ الكَذِبُ والنِّفَاقُ»(4).

صفات الجبابرة

مسألة: يلزم أن يعرف الناس صفات الجبابرة والطواغيت وكيفية عملهم، وذلك للوقاية والعلاج والتصدي.

وقد ذكرت (عليها السلام) في هذا الحديث ثلاث صفات لهم:

1: نطقا بفورهما.

ص: 354


1- مستدرك الوسائل: ج 9 ص83 ب119 باب تحريم المكر والحسد والغش والخيانة ح11.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: ص321 ح78.
3- تحف العقول: ص60 وروي عنه (صلى الله عليه وآله) في قصار هذه المعاني.
4- عيون الحكم والمواعظ: ص293 ح5214.

2: نفثا بسورهما.

3: وأدلا بفدك.

فالنطق: هو ظاهر القول، ولعله كناية عن الإعلان عما أسراه.

والنفث: هو ما وراء ذلك من الفعل، ولعله تشبيه لفعلهما ب (النفاثات في العقد) وهو شبيه النفخ وأقل من التفل.

والأدلاء: هو الفعل محضاً ولعله مع الجرأة(1).

واللازم الالتفات لهذه الثلاثة والتحسب لها ووضع الخطط لمواجهة كل منها.

قال الإمام الصادق (عليه السلام): «إِيَّاكُمْ والتَّجَبُّرَ عَلى اللهِ، واعْلمُوا أَنَّ عَبْداً لمْ يُبْتَل بِالتَّجَبُّرِ عَلى اللهِ إِلا تَجَبَّرَعَلى دِينِ اللهِ، فَاسْتَقِيمُوا للهِ ولا تَرْتَدُّوا عَلى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلبُوا خاسِرِينَ، أَجَارَنَا اللهُ وإِيَّاكُمْ مِنَ التَّجَبُّرِ عَلى اللهِ ولا قُوَّةَ لنَا ولكُمْ إِلا بِالله»(2).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «الجَبَّارُونَ أَبْعَدُ النَّاسِ مِنَ اللهِ عَزَّ وجَل يَوْمَ القِيَامَةِ»(3).

ص: 355


1- ويقال لمن ألقى إنساناً في بلية قد دلاه في كذا، وعليه ف (أدلاّ بفدك) أي أوقعا الناس في فتنة وبلاء بسبب فدك.
2- الكافي: ج 8 ص12 كتاب الروضة ح1.
3- وسائل الشيعة: ج 15 ص381 ب59 باب تحريم التجبر والتيه والاختيال ح7.

أنواع العطاء

مسألة: لله تعالى نوعان من العطايا، عطايا بأسباب ظاهرة، وأخرى بأسباب غير ظاهرة، فمن الثاني عطية الله تعالى فدكاً لرسوله (صلى الله عليه وآله)(1)، ومن الأول عطية الرسول (صلى الله عليه وآله) فدكاً للزهراء (عليها السلام) إذ كان نحلة. وفي الدعاء: «يا وَاهِبَ العَطَايَا»(2).

وأيضاً: «يا جَزِيل العَطَايَا»(3).

وعَنْ أَبِي الحَسَنِ (عليه السلام) قَال: «نَحْنُ فِي العِلمِ وَالشَّجَاعَةِ سَوَاءٌ، وَفِي العَطَايَا عَلى قَدْرِ مَا نُؤْمَرُ»(4).

ذكر بعض العلل

مسألة: يصح عند تعدد العلل الطولية أو المتكافئة، ذكر أحدها في كل مقام ناسبه، ولعل منه قول الصديقة (صلوات اللهعليها)، «ولقد نحلنيها للصبية السواغب»، فإنها كانت إحدى الحكم في إنحاله إياها فدكاً، ولعل منها أيضاً توفير أموال وافية بيدها ويد بعلها علي (عليهما السلام) لما يريانه من المصلحة في

ص: 356


1- لأنه كان بواسطة جبرائيل (عليه السلام) ودون واحد من أسباب التمليك الظاهرة.
2- من لا يحضره الفقيه: ج1 ص324 باب التعقيب ح949.
3- تهذيب الأحكام: ج3 ص90 ح22.
4- الكافي: ج1 ص275 باب في أن الأئمة (صلوات الله عليهم) في العلم والشجاعة والطاعة سواء ح2.

حماية الدين وأهله(1).

إنحال الصبية

مسألة: يستحب إنحال الصبية الجوعى ما يفي بإشباعهم، ويتأكد في الجوعى مع النصب والتعب، والظاهر أن مراد الصديقة (عليها السلام) من (الصبية السواغب) هو الأخير لأن (السغب) هو الجوع مع التعب.

ويدل ذلك أيضاً على أن نسله (صلى الله عليه وآله) الكرام سيكونون كذلك في الجملة، والتاريخ خير شاهد على ذلك، فإن الظالمين منعوا حقهم.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «مَنْ أَشْبَعَ مُؤْمِناً وَجَبَتْ لهُ الجَنَّةُ»(2).

وعَنْ أَبِي الحَسَنِ الرِّضَا (عليه السلام)،عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام)، أَنَّهُ قَال: «إِنَّمَا اتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَليلا لأَنَّهُ لمْ يَرُدَّ أَحَداً، ولمْ يَسْأَل أَحَداً قَطُّ غَيْرَ اللهِ تَعَالى»(3).

وفي قُنُوتُ الإِمَامِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ (عليه السلام): «يَا غَوْثَ اللهْفَانِ، ومَأْوَى الحَيْرَانِ، ومُرَوِّيَ الظَّمْئَانِ، ومُشْبِعَ الجَوْعَانِ، وكَاسِيَ العُرْيَان»(4).

ص: 357


1- والهبة لغايةٍ لا تتقيد بتلك الغاية إلا لو شرط شرطاً لازماً.
2- الكافي: ج 2 ص200 باب إطعام المؤمن ح1.
3- وسائل الشيعة: ج 9 441 ب32 باب كراهة المسألة مع الاحتياج حتى سؤال مناولة السوط والماء ح9.
4- بحار الأنوار: ج 82 ص219 ب33 في القنوتات الطويلة المروية عن أهل البيت عليهم السلام ح1.

علم الله وطلب الحق

مسألة: يستحب التأكيد على أن كل حق للإنسان فهو بعلم الله تعالى، كما قالت الصديقة (عليها السلام): «وَإِنَّهَا لبِعِلمِ اللهِ».

قال تعالى: «إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَليْهِ شَيْ ءٌ فِي الأَرْضِ ولا فِي السَّماء»(1).

وعَنِ الحُسَيْنِ بْنِ خَالدٍ، قَال: سَمِعْتُ الرِّضَا عَليَّ بْنَ مُوسَى (عليه السلام) يَقُول: «لمْ يَزَل اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالى عَالماً قَادِراً حَيّاً قَدِيماً سَمِيعاً بَصِيراً، فَقُلتُ لهُ: يَا ابْنَ رَسُول اللهِ إِنَّ قَوْماً يَقُولونَ: إِنَّهُ عَزَّ وجَل لمْ يَزَل عَالماً بِعِلمٍ، قَادِراً بِقُدْرَةٍ، وحَيّاً بِحَيَاةٍ، وقَدِيماً بِقِدَمٍ، وسَمِيعاً بِسَمْعٍ، وبَصِيراً بِبَصَرٍ، فَقَال (عليه السلام): مَنْ قَال بِذَلكَ ودَانَ بِهِ فَقَدِ اتَّخَذَ مَعَ اللهِ آلهَةً أُخْرى، وليْسَ مِنْ وَلايَتِنَا عَلى شَيْ ءٍ، ثُمَّ قَال (عليه السلام): لمْ يَزَل اللهُ عَزَّ وجَل عَالماً قَادِراً حَيّاً قَدِيماً سَمِيعاً بَصِيراً لذَاتِهِ، تَعَالى عَمَّا يَقُول المُشْرِكُونَ والمُشَبِّهُونَ عُلوّاً كَبِيراً»(2).

شهادة المعصوم الواحد

مسألة: تكفي شهادة المعصوم الواحد (عليه السلام) فلا حاجة إلى التعدد، لأنه (عليه السلام) إذا شهد كشف عن الواقع كما هو، مما يحصل القطع بما شهد، حتى في جهة الأحكام الظاهرية، ومما يوضح ذلك وبالأولوية تسمية الرسول (صلى الله عليه وآله) لمن شهد له - وهو خزيمة بن ثابت ب (ذي الشهادتين).

ص: 358


1- سورة آل عمران: 5.
2- الأمالي، للصدوق: ص278 المجلس السابع والأربعون ح5.

عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (عليه السلام): أَنَّ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) اشْتَرَى فَرَساً مِنْ أَعْرَابِيٍّ فَأَعْجَبَهُ، فَقَامَ أَقْوَامٌ مِنَ المُنَافِقِينَ حَسَدُوا رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) عَلى مَا أَخَذَ مِنْهُ، فَقَالوا للأَعْرَابِيِّ: لوْ بَلغْتَ بِهِ إِلى السُّوقِ بِعْتَهُ بِأَضْعَافِ هَذَا، فَدَخَل الأَعْرَابِيَّ الشَّرَهُ، فَقَال: أَلا أَرْجِعُ فَأَسْتَقِيلهُ؟

فَقَالوا: لا، وَلكِنَّهُ رَجُل صَالحٌ، فَإِذَا جَاءَكَ بِنَقْدِكَ فَقُل مَا بِعْتُكَ بِهَذَا، فَإِنَّهُ سَيَرُدُّهُ عَليْكَ.

فَلمَّا جَاءَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) أَخْرَجَ إِليْهِ النَّقْدَ، فَقَال: مَا بِعْتُكَ بِهَذَا.

فَقَال النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): وَالذِي بَعَثَنِي بِالحَقِّ لقَدْ بِعْتَنِي بِهَذَا.

فَقَامَ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ، فَقَال: يَا أَعْرَابِيُّ أَشْهَدُ لقَدْ بِعْتَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) بِهَذَا الثَّمَنِ الذِي قَال.

فَقَال الأَعْرَابِيُّ: لقَدْ بِعْتُهُ وَمَا مَعَنَاأَحَدٌ.

فَقَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) لخُزَيْمَةَ: كَيْفَ شَهِدْتَ بِهَذَا؟

فَقَال: يَا رَسُول اللهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي تُخْبِرُنَا عَنِ اللهِ وَأَخْبَارِ السَّمَاوَاتِ فَنُصَدِّقُكَ وَلا نُصَدِّقُكَ فِي ثَمَنِ هَذَا الفَرَسِ.

فَجَعَل رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) شَهَادَتَهُ شَهَادَةَ رَجُليْنِ فَهُوَ ذُو الشَّهَادَتَيْنِ»(1).

ص: 359


1- مستدرك الوسائل: ج 17 ص381 ب14 باب أن للقاضي أن يحكم بعلمه من غير بينة ح1.

حرمة مصادرة الأموال

مسألة: تحرم مصادرة أموال الناس وأراضيهم وممتلكاتهم المنقولة وغير المنقولة، ولا تحل بأي ذريعة مما اعتادت الحكومات الجائرة على التذرع بها لمصادرة أموال الناس.

قال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «لا يَحِل مَال امْرِئٍ مُسْلمٍ إِلا بِطِيبِ نَفْسِه»(1).

وقَال (صلى الله عليه وآله): «وحُرْمَةُ مَالهِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ»(2).

وأول من سنّ مصادرة الأراضي في المسلمين هو ابن أبي قحافة وابن الخطاب حيث غصبا فدك وصادراها من بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فعلى من سنها آثام كل أرض تصادر، أو حق يغصب إلى يوم القيامة، إذ «مَنِ اسْتَنَّ بِسُنَّةٍ سَيِّئَةٍ فَعَليْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِل بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْ ء»(3).

ص: 360


1- نهج الحق وكشف الصدق: ص493 الفصل السابع في الحجر وتوابعه وفيه مسائل.
2- الكافي: ج 2 ص360 باب السباب ح2.
3- مستدرك الوسائل: ج 12 ص229 ب15 باب استحباب إقامة السنن الحسنة وإجراء عادات الخير والأمر بها وتعليمها وتحريم إجراء عادات الشر ح2.

الراضي بالحرام

مسألة: الراضي بغصب الغاصب وظلم الظالم شريك له في إثمه، فكيف بالراضي والمدافع بقول أو فعل عن غصب حق سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين (عليها السلام).

قال علي (عليه السلام): «إِيَّاكَ ومُصَاحَبَةَ أَهْل الفُسُوقِ فَإِنَّ الرَّاضِيَ بِفِعْل قَوْمٍ كَالوَاحِدِ مِنْهُمْ»(1).

وقال (عليه السلام): «الرَّاضِي بِفِعْل قَوْمٍ كَالدَّاخِل مَعَهُمْ فِيهِ، وعَلى كُل دَاخِل فِي بَاطِل إِثْمَانِ إِثْمُ العَمَل بِهِ وإِثْمُ الرِّضَا بِهِ»(2).

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «العَامِل بِالظُّلمِ والمُعِينُ لهُ والرَّاضِي بِهِ شُرَكَاءُ ثَلاثَتُهُمْ»(3).

احتساب الظلامات عند الله

مسألة: يستحب أن يحتسب الإنسان المؤمن كل ظلامة تقع عليه زلفةً وقربةً إلى اللهتعالى، كما صنعت الصديقة (صلوات الله عليها) حيث قالت: «فاحتسبها يوم المحشر زلفة»، إذ يزداد الإنسان بذلك أجراً يعوضه الله عن ظلامته.

ص: 361


1- عيون الحكم والمواعظ: ص98 ح2264.
2- وسائل الشيعة: ج 16 ص141 ب5 باب وجوب إنكار المنكر بالقلب على كل حال وتحريم الرضا به ووجوب الرضا بالمعروف ح12.
3- الكافي: ج 2 ص333 باب الظلم ح16.

وقد قال الإمام الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء: «هَوَّنَ عَليَّ مَا نَزَل بِي أَنَّهُ بِعَيْنِ اللهِ»(1).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) في صفين: «فإنكم بعين الله ومع ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله»(2).

الاحتساب والنهي عن المنكر

مسألة: لا ينفي احتساب الظلامة زلفى، وجوب النهي عن المنكر والسعي لإبطال الباطل، كما صنعت الصديقة (صلوات الله عليها)، إذ أعلنت وجهرت وصدعت بالحق وفضحت المبطل وصنعت ما صنعت (صلوات الله عليها)(3).وفي الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لقَدْ أَوْحَى اللهُ فِيمَا مَضَى قَبْلكُمْ إِلى جَبْرَئِيل، وأَمَرَهُ أَنْ يَخْسِفَ بِبَلدٍ يَشْتَمِل عَلى الكُفَّارِ والفُجَّارِ، فَقَال جَبْرَئِيل: يَا رَبِّ أَخْسِفُ بِهِمْ إِلا بِفُلانٍ الزَّاهِدِ ليَعْرِفَ مَا ذَا يَأْمُرُ اللهُ بِهِ. فَقَال اللهُ عَزَّ وجَل: بَل اخْسِفْ بِفُلانٍ قَبْلهُمْ. فَسَأَل رَبَّهُ، فَقَال: يَا رَبِّ عَرِّفْنِي لمَ ذَلكَ وهُوَ زَاهِدٌ عَابِدٌ، قَال: مَكَّنْتُ لهُ وأَقْدَرْتُهُ، فَهُوَ لا يَأْمُرُ بِالمَعْرُوفِ، ولا يَنْهَى عَنِ المُنْكَرِ، وكَانَ يَتَوَفَّرُ عَلى حُبِّهِمْ فِي غَضَبِي لهُمْ.

فَقَالوا: يَا رَسُول اللهِ وكَيْفَ بِنَا ونَحْنُ لا نَقْدِرُ عَلى إِنْكَارِ مَا نُشَاهِدُهُ مِنْ

ص: 362


1- اللهوف على قتلى الطفوف: ص117 المسلك الثاني في وصف حال القتال وما يقرب من تلك الحال.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 9 ص146 ب151.
3- إضافة إلى أن اللقب لا مفهوم له، وإثبات الشيء لا ينفي ما عداه.

مُنْكَرٍ، فَقَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): لتَأْمُرُنَّ بِالمَعْرُوفِ ولتَنْهُنَّ عَنِ المُنْكَرِ، أَوْ ليَعُمَّنَّكُمْ عِقَابُ اللهِ، ثُمَّ قَال: مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَراً فَليُنْكِرْهُ بِيَدِهِ إِنِ اسْتَطَاعَ، فَإِنْ لمْ يَسْتَطِعْ فَبِلسَانِهِ، فَإِنْ لمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلبِهِ، فَحَسْبُهُ أَنْ يَعْلمَ اللهُ مِنْ قَلبِهِ أَنَّهُ لذَلكَ كَارِهٌ»(1).

وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي ليْلى الفَقِيهِ قَال: إِنِّي سَمِعْتُ عَليّاً (عليه السلام) يَقُول يَوْمَ لقِيَنَا أَهْل الشَّامِ: «أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ إِنَّهُ مَنْ رَأَى عُدْوَاناً يُعْمَل بِهِ ومُنْكَراً يُدْعَى إِليْهِ فَأَنْكَرَهُ بِقَلبِهِ فَقَدْسَلمَ وبَرِئَ، ومَنْ أَنْكَرَهُ بِلسَانِهِ فَقَدْ أُجِرَ وهُوَ أَفْضَل مِنْ صَاحِبِهِ، ومَنْ أَنْكَرَهُ بِالسَّيْفِ لتَكُونَ كَلمَةُ اللهِ العُليَا وكَلمَةُ الظَّالمِينَ السُّفْلى فَذَلكَ الذِي أَصَابَ سَبِيل الهُدَى وقَامَ عَلى الطَّرِيقِ ونَوَّرَ فِي قَلبِهِ اليَقِينُ»(2).

تجسم الأعمال

مسألة: الظاهر تجسم الأعمال، والأدلة عليه من الكتاب والسنة كثيرة، ذكرناها في بعض الكتب، ويستفاد ذلك أيضاً من قول الصديقة (عليها السلام): «وَليَجِدَنَّهَا آكِلوهَا سَاعِرَةَ حَمِيمٍ(3) فِي لظَى جَحِيمٍ»، إذ ظاهره أن نفس فعلهم هذا سيجدونه حميماً مسعرة في نار جهنم.

عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَحَدِهِمَا (عليهما السلام) قَال: «إِذَا مَاتَ العَبْدُ المُؤْمِنُ

ص: 363


1- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): ص479 ح307.
2- وسائل الشيعة: ج 16 ص133 ب3 باب وجوب الأمر والنهي بالقلب ثم باللسان ثم باليد وحكم القتال على ذلك وإقامة الحدود ح8.
3- الحميم: هو الماء الحار.

دَخَل مَعَهُ فِي قَبْرِهِ سِتَّةُ صُوَرٍ، فِيهِنَّ صُورَةٌ هِيَ أَحْسَنُهُنَّ وَجْهاً وأَبْهَاهُنَّ هَيْئَةً وأَطْيَبُهُنَّ رِيحاً وأَنْظَفُهُنَّ صُورَةً، قَال: فَيَقِفُ صُورَةٌ عَنْ يَمِينِهِ، وأُخْرَى عَنْ يَسَارِهِ، وأُخْرَى بَيْنَيَدَيْهِ، وأُخْرَى خَلفَهُ، وأُخْرَى عِنْدَ رِجْليْهِ، ويَقِفُ التِي هِيَ أَحْسَنُهُنَّ فَوْقَ رَأْسِهِ، فَإِنْ أُتِيَ عَنْ يَمِينِهِ مَنَعَتْهُ التِي عَنْ يَمِينِهِ، ثُمَّ كَذَلكَ إِلى أَنْ يُؤْتَى مِنَ الجِهَاتِ السِّتِّ، قَال: فَتَقُول: أَحْسَنُهُنَّ صُورَةً: مَنْ أَنْتُمْ جَزَاكُمُ اللهُ عَنِّي خَيْراً، فَتَقُول التِي عَنْ يَمِينِ العَبْدِ: أَنَا الصَّلاةُ، وتَقُول التِي عَنْ يَسَارِهِ: أَنَا الزَّكَاةُ، وتَقُول التِي بَيْنَ يَدَيْهِ: أَنَا الصِّيَامُ، وتَقُول التِي خَلفَهُ: أَنَا الحَجُّ والعُمْرَةُ، وتَقُول التِي عِنْدَ رِجْليْهِ: أَنَا بِرُّ مَنْ وَصَلتَ مِنْ إِخْوَانِكَ، ثُمَّ يَقُلنَ: مَنْ أَنْتَ فَأَنْتَ أَحْسَنُنَا وَجْهاً وأَطْيَبُنَا رِيحاً وأَبْهَانَا هَيْئَةً، فَتَقُول: أَنَا الوَلايَةُ لآِل مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله»(1).

ص: 364


1- المحاسن: ج 1 ص288 ب46 باب الشرائع ح432.

شهود ابن أبي قحافة

اشارة

روي عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لمّا قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) وجلس أبو بكر مجلسه، بعث إلى وكيل فاطمة (صلوات الله عليها) فأخرجه من فدك، فأتته فاطمة (عليها السلام) فقالت: يا أبا بكر ادّعيت أنّك خليفة أبي وجلست مجلسه، وأنت بعثت إلى وكيلي فأخرجته من فدك، وقد تعلم أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) صدّق بها عليّ، وأنّ لي بذلك شهوداً.

فقال: إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) لا يورث!.

فرجعت (عليها السلام) إلى عليّ (عليه السلام) فأخبرته، فقال: ارجعي إليه وقولي له: زعمت أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) لا يورث وَوَرِثَ سُليْمانُ داوُدَ، وورث يحيى زكريّا، وكيف لا أرث أنا أبي.

فقال عمر: أنتِ مُعلمة.

قالت: وإن كنت مُعلمة فإنّما علمني ابن عمّي وبعلي.

فقال أبو بكر: فإنّ عائشة تشهد وعمر أنّهما سمعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو يقول: النبيّ لا يورث!.

فقالت: هذا أوّل شهادة زور شهدا بها، ثم قالت: فإنّ فدك إنّما هي صدّق

ص: 365

بها عليَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولي بذلك بيّنة.فقال: لها هلمّي ببيّنتك.

قال: فجاءت بأمّ أيمن وعليّ (عليه السلام).

فقال أبو بكر: يا أمّ أيمن إنّك سمعت من رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول في فاطمة؟

فقالت: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: إنّ فاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة، ثم قالت أمّ أيمن: فمن كانت سيّدة نساء أهل الجنّة تدّعي ما ليس لها، وأنا امرأة من أهل الجنّة ما كنت لأشهد بما لم أكن سمعت من رسول الله (صلى الله عليه وآله).

فقال عمر: دعينا يا أمّ أيمن من هذه القصص، بأيّ شي ء تشهدين؟

فقالت: كنت جالسة في بيت فاطمة (عليها السلام) ورسول الله (صلى الله عليه وآله) جالس حتّى نزل عليه جبرئيل، فقال: يا محمّد قم فإنّ الله تبارك وتعالى أمرني أن أخطّ لك فدكاً بجناحي، فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله) مع جبرئيل (عليه السلام) فما لبث أن رجع، فقالت فاطمة: (عليها السلام) يا أبة أين ذهبت، فقال: خطّ جبرئيل (عليه السلام) لي فدكاً بجناحه وحدّ لي حدودها، فقالت: يا أبة إنّي أخاف العيلة والحاجة من بعدك، فصدِّقْ بها عليّ، فقال: هي صدقة عليك، فقبضتها، قالت: نعم، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا أمّ أيمن اشهدي، ويا عليّ اشهد.

فقال عمر: أنت امرأة ولا نجيز شهادة امرأة وحدها، وأمّا عليّ فيجرّ إلى نفسه!.

ص: 366

قال: فقامت مغضبة وقالت: اللهم إنّهما ظلما ابنة نبيّك حقّها،فاشدد وطأتك عليهما.

ثم خرجت وحملها عليّ على أتان عليه كساء له خمل، فدار بها أربعين صباحاً في بيوت المهاجرين والأنصار، والحسن والحسين (عليهما السلام) معها، وهي تقول: يا معشر المهاجرين والأنصار انصروا الله وابنة نبيّكم، وقد بايعتم رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم بايعتموه أن تمنعوه وذريّته مما تمنعون منه أنفسكم وذراريكم، ففوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ببيعتكم.

قال: فما أعانها أحد، ولا أجابها ولا نصرها.

قال: فانتهت إلى معاذ بن جبل(1) فقالت: يا معاذ بن جبل(2) إنّي قد

ص: 367


1- كان معاذ أميرا باليمن، انظر قاموس الرجال: ج10 ص98.
2- الظاهر أن معاذ بن جبل كان منحرفاً عن الإمام علي (عليه السلام) من البداية، فمثلاً حين أوحى الله تعالى إلى رسوله (صلى الله عليه وآله) أن يقيم علياً (عليه السلام) علماً وخليفة من بعده للناس، قال معاذ لرسول الله (صلى الله عليه وآله): (أشرك في ولايته الأول والثاني حتى يسكن الناس إلى قولك ويصدقوك)! فنزل قوله تعالى: «لئن أشركت ليحبطن عملك» كما جاء في تأويل الآيات: ص 510 سورة زمر، وانظر بحار الأنوار: ج23 ص362. وكان معاذ من الشهود على الصحيفة الملعونة والحديث المجعول المفترى على رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إن الله لم يكن ليجمع لنا أهل البيت النبوة والخلافة) وأول من شهد بذلك عمر، ثم أبو عبيدة الجراح وسالم مولى أبي حذيفة ومعاذ بن جبل، وقد تعاهد هؤلاء الخمسة مع أبي بكر على ذلك، وقال فيهم أمير المؤمنين (عليه السلام): «لقد وفيتم بصحيفتكم الملعونة». وقد جاء في كتاب سليم بن قيس: إنه كان من أصحاب الصحيفة أن يزيلوا علياً (عليه السلام) من الخلافة. وقد دعا معاذ بالويل والثبور عند موته، انظر بحار الأنوار: ج28 ص122 كما جاء في إرشاد الديلمي. كما أن معاذ كان مع سالم وأبي عبيدة شاهرين سيوفهم حتى أخرجوا أبا بكر وأصعدوه المنبر. راجع رجال المامقاني، وقاموس الرجال للتستري: ج10 ص97 - 98، ومستدركات على رجال الحديث وغيرها. وهذا نص ما ورد في الإرشاد: ج2 ص391 - 392: قال عبد الرحمن بن غنم الأزدي: حين مات معاذ بن جبل وكان أفقه أهل الشام وأشدهم اجتهاداً، قال: مات معاذ بن جبل بالطاعون، فشهدته يوم مات والناس متشاغلون بالطاعون، قال: وسمعته حين احتضر وليس معه في البيت غيري وذلك في زمن خلافة عمر بن الخطاب، فسمعته يقول: ويل لي، ويل لي، فقلت له: مم، قال: من موالاتي عتيقا وعمر على خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ووصيه علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فقلت: إنك لتهجر، فقال: يا ابن غنم هذا رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلي بن أبي طالب (عليه السلام) يقولان: أبشر بالنار وأصحابك أفليس قلتم: إن مات رسول الله زوينا الخلافة عن علي بن أبي طالب فلن تصل إليه، فاجتمعت أنا وأبو بكر وعمر وأبو عبيدة وسالم مولى حذيفة، قال: قلت: متى يا معاذ، قال: في حجة الوداع، قلنا: نتظاهر على علي (عليه السلام) فلا ينال الخلافة ما حيينا، فلما قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) قلت لهم: أكفيكم قومي الأنصار واكفوني قريشاً، ثم دعوت على عهد رسول الله على هذا الذي تعاهدنا عليه بشر بن سعد وأسيد بن حصين فبايعاني على ذلك، قلت: يا معاذ إنك لتهجر، فألصق خده إلى الأرض فما زال يدعو بالويل والثبور حتى مات.

جئتك مستنصرة، وقد بايعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) على أن تنصره وذرّيته وتمنع مما تمنع منه نفسك وذرّيتك، وأنّ أبا بكر قد غصبني على فدك وأخرج وكيلي منها.

قال: فمعي غيري؟

ص: 368

قالت: لا، ما أجابني أحد.

قال: فأين أبلغ أنا من نصرك.

قال: فخرجت من عنده، ودخل ابنه، فقال: ما جاء بابنة محمّد إليك؟

قال: جاءت تطلب نصرتي على أبي بكر، فإنّه أخذ منها فدكاً.

قال: فما أجبتها به؟

قال: قلت: وما يبلغ من نصرتي أنا وحدي.

قال: فأبيت أن تنصرها؟

قال: نعم.قال: فأيّ شي ء قالت لك؟

قال: قالت لي: والله لا نازعتك الفصيح من رأسي حتّى أرد على رسول الله (صلى الله عليه وآله).

قال: فقال: أنا والله لا نازعتك الفصيح من رأسي حتّى أرد على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، إذ لم تجب ابنة محمّد.

قال: وخرجت فاطمة (صلوات الله عليها) من عنده وهي تقول: والله لا أكلمك كلمة حتّى أجتمع أنا وأنت عند رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ثم انصرفت.

فقال عليّ (عليه السلام) لها: ائتي أبا بكر وحده فإنّه أرقّ من الآخر، وقولي له: ادّعيت مجلس أبي وأنّك خليفته وجلست مجلسه، ولو كانت فدك لك ثم استوهبتها منك لوجب ردّها عليّ.

ص: 369

فلمّا أتته وقالت له ذلك، قال: صدقت.

قال: فدعا بكتاب فكتبه لها بردّ فدك، فخرجت والكتاب معها، فلقيها عمر فقال: يا بنت محمّد ما هذا الكتاب الذي معك؟

فقالت: كتاب كتب لي أبو بكر بردّ فدك.

فقال: هلمّيه إليّ، فأبت أن تدفعه إليه، فرفسها برجله وكانت (عليها السلام) حاملة بابن اسمه المحسن فأسقطت المحسن من بطنها، ثمّ لطمها، فكأنّي أنظر إلى قرط في أذنها حين نقف، ثم أخذ الكتاب فخرقه، فمضت ومكثت خمسة وسبعين يوماً مريضة ممّا ضربها عمر، ثم قبضت.فلمّا حضرتها الوفاة دعت عليّاً (صلوات الله عليه) فقالت: إمّا تضمن وإلا أوصيت إلى ابن الزبير.

فقال عليّ (عليه السلام): أنا أضمن وصيّتك يا بنت محمّد.

قالت: سألتك بحقّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا أنا متّ أن لا يشهداني ولا يصليا عليّ.

قال: فلك ذلك.

فلما قبضت (صلوات الله عليها)، دفنها ليلاً في بيتها، وأصبح أهل المدينة يريدون حضور جنازتها، وأبو بكر وعمر كذلك، فخرج إليهما عليّ (عليه السلام)، فقالا له: ما فعلت بابنة محمّد، أخذت في جهازها يا أبا الحسن.

فقال عليّ (عليه السلام): قد والله دفنتها.

قالا: فما حملك على أن دفنتها ولم تعلمنا بموتها.

ص: 370

قال: هي أمرتني.

فقال عمر: والله لقد هممت بنبشها والصّلاة عليها.

فقال عليّ (صلوات الله عليه): أما والله ما دام قلبي بين جوانحي وذو الفقار في يدي فإنّك لا تصل إلى نبشها، فأنت أعلم.

فقال أبو بكر: اذهب، فإنه أحقّ بها منّا، وانصرف الناس(1).

-----------------------------

توضيح المجلسي

قال العلامة العلامة المجلسي (رحمه الله):

(بيان): قال في النهاية: الوطء في الأصل الدّوس بالقدم، فسمّي به الغزو والقتل، لأنّ من يطأ على الشيء برجله فقد استقصى في إهلاكه وإهانته، ومنه الحديث: اللهمّ اشدد وطأتك على مضر، أي خذهم أخذاً شديداً، انتهى(2).

والخمل: بالتحريك هدب القطيفة ونحوها.

قولها (عليها السلام): لا نازعتك الفصيح.. أي لا أنازعك بما يفصح عن المراد، أي بكلمة من رأسه، فإنّ محل الكلام في الرأس، أو المراد بالفصيح اللسان.

ص: 371


1- بحار الأنوار: ج 29 ص189 ب11 باب نزول الآيات في أمر فدك وقصصه وجوامع الاحتجاج فيه وفيه قصة خالد وعزمه على قتل أمير المؤمنين (عليه السلام) ح39، عن الاختصاص: ص183 حديث فدك.
2- أي كلام النهاية.

قوله: حين نقف، على بناء المجهول، أي كسر من لطم اللعين، والجوانح الضّلوع تحت التّرائب ممّا يلي الصّدر، واحدتها جانحة(1).

انتهى كلام المجلسي (رضوان الله عليه).

غصب المنصب الشرعي

مسألتان: يحرم غصب منصب من له المنصب شرعاً، كالولي والقيّم والخليفة الشرعي، كما يحرم أن يجلس الغاصب مجلس المغصوب منه، والثاني من فروع الأولى.

وقول الصديقة (صلوات الله عليها): «وَجَلسَ مَجْلسَهُ» يحتمل فيه إرادة المعنيين: المجلس المعنوي بغصب الخلافة ظاهرياً وبفرض السلطة قسراً، والمجلس المادي بالجلوس على منبر رسول الله (صلى الله عليه وآله).

قال (عليه السلام) في تفسير الآية: « «فَاتَّقُوا» بِذَلكَ عَذَابَ «النَّارِ التِي وَقُودُهَا» حَطَبُهَا «النَّاسُ والحِجارَةُ» حِجَارَةُ الكِبْرِيتِ أَشَدُّ الأَشْيَاءِ حَرّاً «أُعِدَّتْ» تِلكَ النَّارُ «للكافِرِينَ»(2) بِمُحَمَّدٍ والشَّاكِّينَ فِي نُبُوَّتِهِ، والدَّافِعِينَ لحَقِّ أَخِيهِ عَليٍّ، والجَاحِدِينَ لإِمَامَتِه»(3).

وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ قَال: كَانَ رَسُول اللهِ (صلى

الله عليه وآله) ذَاتَ يَوْمٍ جَالساً وعِنْدَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فِيهِمْ عَليُّ بْنُ أَبِيطَالبٍ (عليه السلام) إِذْ قَال: «مَنْ قَال لا إِلهَ إِلا اللهُ دَخَل الجَنَّةَ»، فَقَال رَجُلانِ مِنْ أَصْحَابِهِ: فَنَحْنُ نَقُول لا إِلهَ إِلا

ص: 372


1- بحار الأنوار: ج29 ص194.
2- سورة البقرة: 24.
3- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): ص202 ح92.

اللهُ، فَقَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «إِنَّمَا تُقْبَل شَهَادَةُ أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ مِنْ هَذَا ومِنْ شِيعَتِهِ، الذِينَ أَخَذَ رَبُّنَا مِيثَاقَهُمْ»، فَقَال الرَّجُلانِ: فَنَحْنُ نَقُول لا إِلهَ إِلا اللهِ، فَوَضَعَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَدَهُ عَلى رَأْسِ عَليٍّ (عليه السلام) ثُمَّ قَال: «عَلامَةُ ذَلكَ أَنْ لا تَحُلا عَقْدَهُ، ولا تَجْلسَا مَجْلسَهُ، ولا تُكَذِّبَا حَدِيثَهُ»(1).

رسول الغاصب

مسائل: يحرم أن يبعث الغاصب رسولاً من قبله لإنجاز غصبه وتنفيذه، كما صنع ابن أبي قحافة، إذ بعث إلى وكيل الصديقة فاطمة (عليها السلام) فأخرجه من فدك.

كما يحرم على هذا الرسول أن يمتثل أمر الغاصب فينجز ما أمره به، بل حتى أن يبلغ رسالته إليه، لأنه نوع من التعاون على الإثم، وفيما يرتبط بالعترة الطاهرة (عليهم السلام) يكون من أشد الحرام.

كما يحرم على المبلغ إليه أن ينزعيده من ولايته ويسلم الوقف أو الملك أو غيرهما للغاصب إلا لو كان هناك محذور أهم شرعاً.

عن الإمام الصادق (عليه السلام): «وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُعِينُوا عَلى مُسْلمٍ مَظْلومٍ، فَيَدْعُوَ اللهَ عَليْكُمْ، فَيُسْتَجَابَ لهُ فِيكُمْ؛ فَإِنَّ أَبَانَا رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) كَانَ يَقُول: إِنَّ دَعْوَةَ المُسْلمِ المَظْلومِ مُسْتَجَابَة»(2).

ص: 373


1- ثواب الأعمال: ص7 ثواب من تقبل منه شهادة لا إله إلا الله.
2- الكافي: ج 8 ص8 كتاب الروضة ح1.

تحمل المشاق ومطالبة الحق

مسألة: تجب المطالبة بالحق في الجملة، وإن تكبد المحق في طريق ذلك المشاق، وقد طالبت الصديقة (عليها السلام) بحقها حيث ورد في هذا الحديث: «أتته فاطمة (عليها السلام) فقالت: يا أبابكر ادعيت أنك ...» الحديث.

عَنْ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) أَنَّهُ قَال: «قَدْ فَرَضَ اللهُ التَّحَمُّل عَلى الأَبْرَار»(1).

وَقَال (عليه السلام): «ثَلاثٌ لا يُسْتَحْيَا مِنْهُنَّ، خِدْمَةُ الرَّجُل ضَيْفَهُ، وَقِيَامُهُ عَنْ مَجْلسِهِ لأَبِيهِ وَمُعَلمِهِ، وَطَلبُ الحَقِّ وَإِنْ قَل»(2).

قَال عَليٌّ (عليه السلام):

صَبَرْتُ عَلى مُرِّ الأُمُورِ كَرَاهَة *** وَ أَبْقَيْتُ فِي ذَاكَ الصَّوَابَ مِنَ الأَمْرِ(3)

علم الغاصب

مسألة: لا شك أن ابن أبي قحافة كان يعلم بأن فدكاً كانت ملكاً للصديقة فاطمة (عليها السلام) ومع ذلك قام بمصادرها ظلماً وجوراً، والأدلة على ذلك

ص: 374


1- مستدرك الوسائل: ج7 ص212 ب26 ح8065.
2- مستدرك الوسائل: ج16 ص260 ب24 ضمن الرقم 19800.
3- الأمالي، للطوسي: ص703 مجلس يوم الجمعة الثالث عشر من شهر رمضان سنة سبع وخمسين وأربع مائة ح11.

كثيرة:

منها: إنه بعث إلى وكيل فاطمة (عليها السلام) فأخرجه من فدك، وكان يعلم بأن اليد دليل الملك شرعاً وعرفاً.

ومنها: إنه لا يعقل أن تكون فاطمة (عليها السلام) قد استولت على فدك ظلماً، ونصبت وكيلاً لها في زمان رسول الله (صلى الله عليه وآله) بدون أن يكون ملكها إياها، فلا يمكن أن يكون يدها يد عدوان والعياذ بالله، ولم تكن الزهراء (عليها السلام) ولا سائر النساء ممن يتولين شؤون الأملاك العامة، ولا الخاصة التي لا ترتبط بهن.

ومنها: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد أن ملك فاطمة (عليها السلام) فدكاً بأمر الله عزوجل، حول حتى إدارة فدك عليها، وأمرها أن تنصب وكيلاً عنها على فدك، ليتأكد للناس تمليكه لها، وإلاّ لم يكن داع لذلك، بل كان من الممكن أن ينصب هو وكيلاً، أو يأمر أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) بنصب

وكيل.ومنها: قول الصديقة (عليها السلام): «وقد تعلم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) صدق بها عليّ».

فدك نحلة وهبة

مسألة: كانت فدك نحلة(1) من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهبة منه للزهراء (عليها السلام) في حال حياته، ولم تكن إرثاً، وإنما ناقشت الزهراء (عليها السلام) في

ص: 375


1- يقال: نحله أي أعطاه ووهبه من طيب نفس بلا توقع عوض.

الإرث تنزلاً ومحاججةً وإلزاماً للخصم، وبياناً لكون الخصم يخالف صريح القرآن.

إضافة إلى أن الإرث على مقتضى القاعدة الشرعية إن لم تكن فدك هبة فرضاً، فبقيت على ملكه (صلى الله عليه وآله) فتكون إرثاً للصديقة (عليها السلام)(1).

وفي الحديث: «إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعث علياً (عليه

السلام) إِلى فَدَكٍ فَصَالحَهُمْ عَلى أَنْ يَحْقِنَ دِمَاءَهُمْ، فَكَانَتْ حَوَائِطُ فَدَكٍ لرَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) خَاصّاً خَالصاً، فَنَزَل جَبْرَئِيل فَقَال: إِنَّ اللهَ عَزَّ وجَل يَأْمُرُكَ أَنْ تُؤْتِيَ ذَوِي القُرْبَىحَقَّهُ، فَقَال: يَا جَبْرَئِيل ومَنْ قَرَابَاتِي ومَا حَقُّهَا، قَال: فَاطِمَةُ فَأَعْطِهَا حَوَائِطَ فَدَكٍ ومَا للهِ ولرَسُولهِ فِيهَا، فَدَعَا رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) فَاطِمَةَ (عليها السلام) وكَتَبَ لهَا كِتَاباً جَاءَتْ بِهِ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهَا إِلى أَبِي بَكْرٍ وقَالتْ: هَذَا كِتَابُ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) لي ولابْنَي»(2).

الصدقة ومعناها العرفي

مسألة: ليست للصدقة(3) حقيقة شرعية، بل هي باقية على معناها اللغوي والعرفي، والشارع أضاف قيوداً للصدقة بالمعنى المصطلح.

وعليه فلا يتوهم المنافاة بين كون فدك نحلة من رسول الله (صلى الله عليه وآله)

ص: 376


1- ولا يتوهم أن المرأة لا ترث من الأرض إذ الزوجة، هي التي لا ترث زوجها من الأرض، أما البنت فترث من كل شيء.
2- إعلام الورى: ص100 غزوة خيبر.
3- في مجمع البحرين: (الصدقة ما أعطي الغير به تبرعا بقصد القربة غير هدية، فتدخل فيها الزكاة والمنذورات والكفارة وأمثالها)

لفاطمة (عليها السلام) وبين قولها ههنا: إنه تصدق بها عليها، ومن هنا يطلق على المهر الصدقة، وجمعها صَدُقَات، قال تعالى: «وَآتُوا النِّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلةً فَإِنْ طِبْنَ لكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً»(1).عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «كُل مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ»(2).

وقَال علي (عليه السلام): «الدُّعَاءُ للسَّائِل إِحْدَى الصَّدَقَتَيْنِ»(3).

المغالطة المحرمة

مسألة: المغالطة بغرض تضييع الحقوق محرمة، ومنها ما صنعه ابن أبي قحافة حيث أجاب عن قول الزهراء (عليها السلام): «وقد تعلم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) صدق بها علي، وإن لي بذلك شهوداً»، بقوله: (إن النبي لا يورث)، فإنه مغالطة صريحة، إذ لم تقل الزهراء (عليها السلام) أن فدك إرث، بل قالت: هي نحلة صدق بها عليها النبي (صلى الله عليه وآله)، فأجاب: إن النبي لا يورث! والحال أن الإرث بعد الممات، والنحلة حال الحياة.

قال تعالى: «الذينَ يُجادِلونَ في آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وعِنْدَ الذينَ آمَنُوا كَذلكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُل قَلبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ»(4).

ص: 377


1- سورة النساء: 4.
2- الكافي: ج 4 ص26 باب فضل المعروف ح2.
3- عيون الحكم والمواعظ: ص26 ح314.
4- سورة غافر: 35.

وقال سبحانه: «إِنَّ الذينَ يُجادِلونَ في آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلطانٍ أَتاهُمْ إِنْ في صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالغيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّميعُ البَصير»(1).

وقال (صلى الله عليه وآله): «مَنْ جَادَل فِي خُصُومَةٍ بِغَيْرِ عِلمٍ لمْ يَزَل فِي سَخَطِ اللهِ حَتَّى يَنْزِع»(2).

الرجوع إلى الحجة

مسألة: يجب الرجوع إلى الإمام (عليه السلام) أو من نصبه في الحوادث الواقعة، والائتمار بأمره، وذلك للإطلاقات وتأسياً بالصديقة (صلوات الله عليها)، حيث (رجعت إلى علي (عليه السلام) فأخبرته فقال: ارجعي...)، إضافة إلى كونه عقلياً.

عَنْ نُعْمَانَ الرَّازِيِّ قَال: كُنْتُ جَالساً أَنَا وبَشِيرٌ الدَّهَّانُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) فَقَال: «لمَّا انْقَضَتْ نُبُوَّةُ آدَمَ وانْقَطَعَ أَكْلهُ، أَوْحَى اللهُ عَزَّ وجَل إِليْهِ أَنْ يَا آدَمُ قَدِ انْقَضَتْ نُبُوَّتُكَ وانْقَطَعَ أَكْلكَ فَانْظُرْ إِلى مَا عِنْدَكَ مِنَ العِلمِ والإِيمَانِ ومِيرَاثِ النُّبُوَّةِ وأُثْرَةِ العِلمِ والاسْمِالأَعْظَمِ فَاجْعَلهُ فِي العَقِبِ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ عِنْدَ هِبَةِ اللهِ، فَإِنِّي لمْ أَدَعِ الأَرْضَ بِغَيْرِ عَالمٍ يُعْرَفُ بِهِ طَاعَتِي ودِينِي، ويَكُونُ نَجَاةً لمَنْ أَطَاعَه»(3).

ص: 378


1- سورة غافر: 56.
2- مجموعة ورام: ج 1 ص109 باب ما جاء في المراء والمزاح والسخرية.
3- علل الشرائع: ج 1 ص195 ب153 باب العلة التي من أجلها لا تخلو الأرض من حجة الله عز وجل على خلقه ح1.

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «خَرَجَ الحُسَيْنُ بْنُ عَليٍّ (عليه السلام) عَلى أَصْحَابِهِ فَقَال: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللهَ جَل ذِكْرُهُ مَا خَلقَ العِبَادَ إِلا ليَعْرِفُوهُ، فَإِذَا عَرَفُوهُ عَبَدُوهُ، فَإِذَا عَبَدُوهُ اسْتَغْنَوْا بِعِبَادَتِهِ عَنْ عِبَادَةِ مَنْ سِوَاهُ، فَقَال لهُ رَجُل: يَا ابْنَ رَسُول اللهِ بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي فَمَا مَعْرِفَةُ اللهِ، قَال: مَعْرِفَةُ أَهْل كُل زَمَانٍ إِمَامَهُمُ الذِي يَجِبُ عَليْهِمْ طَاعَتُه»(1).

العمل بقول المعصوم

مسألة: يجب العمل بقول المعصوم (عليه السلام) وإن كان عسراً وحرجاً، إذا كان أمره وارداً مورد العسر والحرج، فلا منافاة بين لزوم الاتباع في القضية الخارجية المأمور بها وإن كانت عسرة وحرجة، وأدلة نفي العسر والحرج المذكورة بنحو القضية الحقيقية.ومن أظهر مصاديق ذلك ما فعلته الصديقة فاطمة (عليها السلام) حيث عملت بأمر أمير المؤمنين (عليه السلام) في كل ما قاله (صلوات الله عليه) في سلسلة الحوادث بعد شهادة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ومنه امتثالها ههنا بأمره إذ قال: ارجعي إليه وقولي له: (زعمت) ثم مواجهة ابن الخطاب لها...

فإن من الواضح لكل مخدرة أن من أشق المشاق عليها أن تخاصم الرجال، فكيف إذا كانت مثل الصديقة فاطمة (عليها السلام)، وكيف إذا كان خصمها مثل ابن أبي قحافة وابن الخطاب، بل إن نفس الذهاب إلى مثلهما يحتاج إلى جهاد النفس وأي جهاد.

ص: 379


1- علل الشرائع: ج 1 ص9 ب9 باب علة خلق الخلق واختلاف أحوالهم ح1.

ولكن كان كل تلك التضحيات لأجل فضح الباطل وأهله.

ثم إنها (عليها السلام) كانت عرضة لأشد المخاطر، كما حدث بالفعل، مما ورد في هذا الحديث الشريف، حيث رفسها الثاني برجله فأسقطت المحسن (عليه السلام)، ثم لطمها على وجهها، فلعنة الله على الظالمين، وسيعلم الذين ظلموا آل محمد أي منقلب ينقلبون والعاقبة للمتقين.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «مِنَّا الإِمَامُ المَفْرُوضُ طَاعَتُهُ، مَنْ جَحَدَهُ مَاتَ يَهُودِيّاً أَوْ نَصْرَانِيّاً، واللهِ مَا تَرَكَ اللهُ الأَرْضَمُنْذُ قَبَضَ اللهُ آدَمَ إِلا وفِيهَا إِمَامٌ يُهْتَدَى بِهِ إِلى اللهِ، حُجَّةً عَلى العِبَادِ، مَنْ تَرَكَهُ هَلكَ، ومَنْ لزِمَهُ نَجَا، حَقّاً عَلى اللهِ»(1).

إبطال الحجج

مسألة: يحرم محاولة إبطال الحجج بصرف عنان الجدال إلى غير مصب النقض والإبرام وتضييع الحق بذلك، ومنه ما صنعه ابن الخطاب حيث حاول ذلك في مواجهة حجة الصديقة الزهراء (عليها السلام) بقوله: (أنت معلمة)، إذ أي ربط لكونها معلمة أو غير معلمة بتمامية الحجة، فإنها احتجت بالقرآن الكريم على أن الأنبياء يورّثون، فحاول المغالطة بتهمة أنت معلمة.

ثم إنها (عليها السلام) قالت: «وإن كنتُ معلمة فإنما علمني ...»، إي إن الحجة لا يضعفها تعلمها من شخص، بل إنه يقويها تعلمها من مثل أمير المؤمنين علي (عليه السلام) المحيط بإقرارهم بعام الكتاب العزيز وخاصه وناسخه ومنسوخه.

ص: 380


1- المحاسن: ج 1 ص92 ب17 عقاب من لم يعرف إمامه ح45.

قال تعالى: «وَالذينَ يَسْعَوْنَ في آياتِنا مُعاجِزينَ أُولئِكَ فِي العَذابِ مُحْضَرُون»(1).

دقة الكلمات

مسألة: يلزم في بعض المقامات، كمقام الشهادة وما يتعلق بالحقوق والقوانين، وكذا مقام الاستدلال العلمي الدقيق، ويرجح في مقامات أخرى، اختيار الكلمة والعبارة بدقة بالغة، كي لا تفيد الأعم أو الأخص النافي أو المغاير، ومن ذلك قول الإمام للصديقة (صلوات الله عليهما): «ارجعي وقولي له زعمت...»، فإن الزعم يقال عادة للدعوى غير المطابقة للواقع.

قَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) فِي خُطْبَةٍ خَطَبَهَا بِالكُوفَةِ: «اللهُمَّ فَلا بُدَّ لكَ مِنْ حُجَجٍ فِي أَرْضِكَ، حُجَّةٍ بَعْدَ حُجَّةٍ عَلى خَلقِكَ، يَهْدُونَهُمْ إِلى دِينِكَ، ويُعَلمُونَهُمْ عِلمَكَ... اللهُمَّ وإِنِّي لأَعْلمُ أَنَّ العِلمَ لا يَأْرِزُ كُلهُ، ولا يَنْقَطِعُ مَوَادُّهُ، فَإِنَّكَ لا تُخْلي أَرْضَكَ مِنْ حُجَّةٍ عَلى خَلقِكَ، إِمَّا ظَاهِرٍ يُطَاعُ، أَوْ خَائِفٍ مَغْمُورٍ ليْسَ بِمُطَاعٍ، لكَيْلا تَبْطُل حُجَّتُكَ ويَضِل أَوْليَاؤُكَ بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَهُم»(2).

ص: 381


1- سورة سبأ: 38.
2- الغيبة، للنعماني: ص137 ب8 ما روي في أن الله لا يخلي أرضه بغير حجة ح2.

شهادة الزور وإسنادها

مسألة: تحرم شهادة الزور، ويحرم استشهادها، أي طلب شهادة الزور من الغير، كما هو ظاهر حال ابن أبي قحافة فإنه في المرة الأولى ادعى الحديث زوراً ولم يشهد عليه، ثم لما رجعت إليه الصديقة (عليها السلام) مرة أخرى استهشد عائشة وعمر.

والظاهر أنهم لجهلهم لم يلتفتوا إلى أن الاستشهاد صار لغواً بعد استدلال الصديقة (عليها السلام) بالآيتين الكريمتين من كتاب الله عزوجل، إذ لا يبقى مجال لذلك بعده، فالحديث إذا خالف كتاب الله طرح بلا شك(1).

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَال: «شَاهِدُ الزُّورِ لا تَزُول قَدَمَاهُ حَتَّى تَجِبَ لهُ النَّارُ»(2).

وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: «مَا مِنْ رَجُل يَشْهَدُ بِشَهَادَةِ زُورٍ عَلى مَال رَجُل مُسْلمٍ ليَقْطَعَهُ إِلا كَتَبَ اللهُ لهُ مَكَانَهُ صَكّاً إِلى النَّارِ»(3).ثم الظاهر أن قول ابن أبي قحافة (هلمي ببينتك)، كان ثقة منه بخوف الجميع من الشهادة لها، وكان لإظهار أنه منصف، ثم لأخذ فسحة من الوقت للتفكير في الجواب على حجتها الجديدة لو أتت ببينة، كما حدث ذلك بالفعل.

ص: 382


1- عندنا وعند العامة.
2- الكافي: ج 7 ص383 باب من شهد بالزور ح2.
3- الكافي: ج 7 ص383 باب من شهد بالزور ح1.

والظاهر أن ابن أبي قحافة كان أشبه بمعاوية، وكان ابن الخطاب أشبه بيزيد، إذ اختار الأولان طريقة التعامل مع المعارضين بالمكر والحيلة والخداع وإظهار اللين، فإن لم تنجح فالقضاء على من يخالفهم بالسم أو القتل غيلة، كما قتلوا سيد الخزرج ووضعوا شعراً على لسان الجن، أو تسليط الأراذل عليهم.

ولذا قال ابن أبي قحافة: (صدقت) ثم تصدى ابن الخطاب للصديقة الطاهرة (عليها السلام) فأخذ الكتاب بالقوة ورفسها برجله ولطمها، والمشتكى إلى الله.

والمستظهر أن ذلك كان نوعاً من تقسيم الأدوار بينهما من قبل، ليظهر ابن أبي قحافة بمظهر المسالم، ثم يجهض ابن الخطاب أي مطلب اضطر صاحبه لتلبيته حفاظاً على ذلك الملبس الخادع.

شهادة المرأة في الماليات

مسألة: مجيء الصديقة الزهراء (عليها السلام) بأم أيمن وأمير المؤمنين علي (عليه السلام) هل يعد من الأدلة على نفوذ شهادة الرجل والمرأة الواحدة في الماليات، أو أن العمل لا جهة له، فلعله كان لأن قولها (عليها السلام) يورث العلم أو لغير ذلك؟

ثم إن الزهراء (عليها السلام) لم تأت بأمثال سلمان والمقداد وعمار وأبي ذر (رضوان الله عليهم) للشهادة، لعله كان صوناً لهم من القتل، لأن القوم كانوا لا يتورعون عن قتلهم لو شهدوا، ويدل عليه ضرب عمر لفاطمة (عليها السلام)

ص: 383

ورفسه إياها برجله ولطمه على خدها لمجرد أن يأخذ منها ورقة شهادة ابن أبي قحافة بفدك.

عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: «أَرَأَيْتَ أُمَّ أَيْمَنَ فَإِنِّي أَشْهَدُ أَنَّهَا مِنْ أَهْل الجَنَّةِ ومَا كَانَتْ تَعْرِفُ مَا أَنْتُمْ عَليْهِ»(1).

وفي كتاب سليم: إن ابن الخطاب دَعَا بِالنَّارِ فَأَضْرَمَهَا فِي البَابِ ثُمَّ دَفَعَهُ فَدَخَل فَاسْتَقْبَلتْهُ فَاطِمَةُ (عليها

السلام) وصَاحَتْ: يَا أَبَتَاهْ يَا رَسُول اللهِ، فَرَفَعَ عُمَرُالسَّيْفَ وهُوَ فِي غِمْدِهِ فَوَجَأَ بِهِ جَنْبَهَا، فَصَرَخَتْ: يَا أَبَتَاهْ، فَرَفَعَ السَّوْطَ فَضَرَبَ بِهِ ذِرَاعَهَا) الحديث(2).

شهادة المرأة في الصدقة

مسألة: ربما يقال إنه يستفاد من قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) في هذا الحديث: «يا أم أيمن اشهدي، ويا علي اشهد»، كفاية شهادة المرأة والرجل الواحد في الصدقة، حيث المتفاهم عرفاً، وإن احتمل غيره.

ثم على القول بعدم قبول الشهادة أو قبولها مبعضة، فإن قوله (صلى الله عليه وآله) يكون دليلاً على الاستثناء في خصوص هذا الفرض، فتكون من خصائصه (صلى الله عليه وآله)، فتأمل.

عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: «قَضَى أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) فِي غُلامٍ شَهِدَتْ عَليْهِ امْرَأَةٌ أَنَّهُ دَفَعَ غُلاماً فِي بِئْرٍ فَقَتَلهُ، فَأَجَازَ شَهَادَةَ المَرْأَةِ بِحِسَابِ

ص: 384


1- الكافي: ج 2 ص405 باب المستضعف ح6.
2- كتاب سليم بن قيس الهلالي: ج 2 ص585 الحديث الرابع.

شَهَادَةِ المَرْأَةِ»(1).وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الحَكَمِ قَال: سَأَلتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) عَنِ امْرَأَةٍ شَهِدَتْ عَلى رَجُل أَنَّهُ دَفَعَ صَبِيّاً فِي بِئْرٍ فَمَاتَ، قَال: «عَلى الرَّجُل رُبُعُ دِيَةِ الصَّبِيِ بِشَهَادَةِ المَرْأَةِ»(2).

وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: «تُقْبَل شَهَادَةُ المَرْأَةِ والنِّسْوَةِ إِذَا كُنَ مَسْتُورَاتٍ مِنْ أَهْل البُيُوتَاتِ، مَعْرُوفَاتٍ بِالسِّتْرِ والعَفَافِ، مُطِيعَاتٍ للأَزْوَاجِ، تَارِكَاتٍ للبَذَاءِ والتَّبَرُّجِ إِلى الرِّجَال فِي أَنْدِيَتِهِمْ»(3).

قال في الجواهر: (وتقبل شهادة المرأة الواحدة بلا يمين في ربع ميراث المستهل، وفي ربع الوصية، والاثنين في النصف، والثلاثة في الثلاثة أرباع، والأربعة في تمام المال بلا خلاف أجده فيه، بل عن الخلاف والسرائر الإجماع عليه، وقد تقدم في الوصية النصوص الدالة على ذلك فيها ... وعليه يحمل ما سمعته في النصوص من قبول شهادة القابلة وحدها في المنفوس. لكن عن ابن إدريس وابن حمزة اشتراط عدمالرجال، وإطلاق النص حجة عليهما)(4).

ص: 385


1- الاستبصار: ج 3 ص27 ب17 باب ما يجوز شهادة النساء فيه وما لا يجوز ح17.
2- الاستبصار: ج 3 ص27 ب17 باب ما يجوز شهادة النساء فيه وما لا يجوز ح18.
3- الاستبصار: ج 3 ص13 ب9 باب العدالة المعتبرة في الشهادة ح2.
4- جواهر الكلام: ج 41 ص173.

بطلان قول الخصم

مسألة: إن قول ابن الخطاب: (أنت امرأة ولا نجيز شهادة امرأة وحدها، وأما علي فيجر إلى نفسه) باطل من جهات:

الأولى: إن اتهام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) بأنه يجر النار إلى قرصه مخالف لكتاب الله ولصريح كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقد قال عزوجل: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ ليُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْل البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً»(1).

وقال سبحانه: «يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُول وَأُولي الأمْرِ مِنْكُمْ»(2).

وقال تعالى: «يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ»(3).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار»(4).

وقال (صلى الله عليه وآله): «إني تاركفيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي»(5).

ص: 386


1- سورة الأحزاب: 33.
2- سورة النساء: 59.
3- سورة التوبة: 119.
4- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 18 ص72 ب77 ومن وصية له عليه السلام لعبد الله بن العباس أيضا لما بعثه للاحتجاج على الخوارج.
5- صحيح مسلم: ج5 ص22، ج4 ص1873، مسند أحمد: ج5 ص492، ج3 ص17، ج5 ص181، سنن الترمذي: ج5 ص622، 662، المعجم الكبير للطبراني: ج5 ص170، أسد الغابة: ج2 ص13، الدّر المنثور: ج7 ص349، كنز العمّال: ج1 ص878، سنن النسائي: ج5 ص130، سنن ابن ماجة: ج1 ص43، مستدرك الحاكم: ج3 ص118، 109، الاستيعاب: ج2 ص473، تهذيب التهذيب: ج7 ص337، السيرة الحلبية: ج3 ص336، مجمع الزوائد: ج9 ص163، الصواعق المحرقة: ص230، الشافي: ج3 ص120، أمالي المفيد: ص134، تحف العقول: ص34، الإرشاد للمفيد: ج1 ص165، الاستغاثة: ج1 ص144.

الثانية: إن يد الزهراء (عليها السلام) كانت على فدك، واليد حجة شرعاً، والشهادة مؤكدة عندئذ فلا وجه لردها، وإن لم يتوقف الحق عليها فرضاً.

الثالثة: إنه وسائر الناس كانوا يعلمون بملك الصديقة الزهراء (عليها السلام) لفدك، لظهور وجودها بيد عاملها، ومع العلم يحرم مصادرة الحقوق وإن لم تكن بينة فكيف إذا كانت.

الرابعة: إنه وغيره علموا ملكية الزهراء (عليها السلام) لفدك بشهادة أم أيمن التي ثبت لهم أنها من أهل الجنة، وكيف تشهد وهي من أهل الجنة كذباً على رسول الله (صلى الله عليه وآله).الخامسة: إن عمر شهد مع عائشة بأن الرسول (صلى الله عليه وآله): قال: (النبي لا يورث)، فكيف جازت شهادة عائشة معه ولم تجز شهادة أم أيمن مع علي (عليه السلام)، مع أن كلتا الشهادتين كانتا في أمر مالي.

السادسة: إن شهادة المرأة نافذة في الجملة في الأمور المالية وغيرها حسب المذكور في باب الشهادات حتى إذا كانت وحدها(1)، فلا يجوز ردها ورفضها بالمرة.

ص: 387


1- ففي الوصية لو شهدت المرأة الواحدة نفذت في الربع، ولو شهدت اثنتان نفذت في النصف، ولو شهدت ثلاثة ففي ثلاثة أرباع، وأربعة ففي الكل. كما تقبل شهادتهن منضمة إلى الرجال في الأموال والحقوق، انظر (المسائل الإسلامية)، أحكام القضاء والشهادات.

السابعة: إن حقوق الآدمي تثبت أيضاً بشاهد ويمين.

وفي الآية مفهوم اللقب لا غير، والروايات دلت على الاكتفاء، فثبت ذلك(1) على ما ذكره الأصوليون.الثامنة: إن ابن أبي قحافة وابن الخطاب هما اللذان كانا يجران النار إلى قرصهما، إذ انتزعا فدك لتكون تحت تصرفهما يفعلان بها ما شاءا، فلو فرض كونهما أو أحدهما قاضياً لكانا في معرض التهمة، فوجب الترافع إلى قاض آخر غير متهم، هذا كله تنزلاً ومن باب إلزام الخصم.

قَال أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «قَضَى أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) فِي وَصِيَّةٍ لمْ تَشْهَدْهَا إِلا امْرَأَةٌ أَنْ تَجُوزَ شَهَادَةُ المَرْأَةِ فِي رُبُعِ الوَصِيَّةِ إِذَا كَانَتْ مُسْلمَةً غَيْرَ مُرِيبَةٍ فِي دِينِهَا»(2).

وعَنْ رِبْعِيٍّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) فِي شَهَادَةِ امْرَأَةٍ حَضَرَتْ رَجُلا يُوصِي ليْسَ مَعَهَا رَجُل فَقَال: «يُجَازُ رُبُعُ مَا أَوْصَى بِحِسَابِ شَهَادَتِهَا»(3).

ص: 388


1- قال في الشرائع: أما عن حقوق الآدمي ما يثبت بشاهدين، وبشاهد وامرأتين، وبشاهد ويمين، وهو الديون والأموال كالقرض والقراض والغصب وعقود المعاوضات كالبيع والصرف والسلم والصلح والإجارة والمساقاة والرهن ... وللتفصيل راجع موسوعة (الفقه): ج86 كتاب الشهادات ص268 - 275.
2- تهذيب الأحكام: ج 9 ص180 ب7 باب الإشهاد على الوصية ح9.
3- الكافي: ج 7 ص4 باب الإشهاد على الوصية ح4.

الدعاء على الظالم

مسألة: يستحب الدعاء على الظالم وقد يجب، تأسياً بالصديقة (صلوات الله عليها) إذ قالت: «اللهم ... عليها».

قَال الصَّادِقُ (عليه السلام): «ثَلاثُ دَعَوَاتٍ لا يُحْجَبْنَ عَنِ اللهِ تَعَالى: دُعَاءُ الوَالدِ لوَلدِهِ إِذَا بَرَّهُ، ودَعْوَتُهُ عَليْهِ إِذَا عَقَّهُ، ودُعَاءُ المَظْلومِ عَلى ظَالمِهِ، ودُعَاؤُهُ لمَنِ انْتَصَرَ لهُ مِنْهُ، ورَجُل مُؤْمِنٌ دَعَا لأَخٍ لهُ مُؤْمِنٍ وَاسَاهُ فِينَا، ودُعَاؤُهُ عَليْهِ إِذَا لمْ يُوَاسِهِ مَعَ القُدْرَةِ عَليْهِ واضْطِرَارِ أَخِيهِ إِليْهِ»(1).

وعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، كأَنَّ الذِي دَعَا بِهِ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) عَلى دَاوُدَ بْنِ عَليٍّ حِينَ قَتَل المُعَلى بْنَ خُنَيْسٍ وأَخَذَ مَال أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلكَ بِنُورِكَ الذِي لا يُطْفَى، وبِعَزَائِمِكَ التِي لا تُخْفَى، وبِعِزِّكَ الذِي لا يَنْقَضِي، وبِنِعْمَتِكَ التِي لا تُحْصَى، وبِسُلطَانِكَ الذِي كَفَفْتَ بِهِ فِرْعَوْنَ عَنْ مُوسَى عليه السلام»(2).

المرأة والأمر بالمعروف

مسألة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان على النساء كوجوبهما على الرجال، مع مراعاة الشروط الشرعية، وذلك للآيات والروايات، ومنها صنيع الصديقة (عليها السلام) في هذا المقام، وكذلك صنيع أمير المؤمنين (عليه السلام).

ص: 389


1- الأمالي، للطوسي: ص280 المجلس العاشر ح79.
2- الكافي: ج 2 ص557 باب الدعاء للكرب والهم والحزن والخوف ح5.

قال تعالى: «وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْليَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ»(1).

رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) أَنَّهُ قَال: «لا تَزَال أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا أَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ ونَهَوْا عَنِ المُنْكَرِ، وتَعَاوَنُوا عَلى البِرِّ والتَّقْوَى، فَإِذَا لمْ يَفْعَلوا ذَلكَ نُزِعَتْ مِنْهُمُ البَرَكَاتُ وسُلطَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ ولمْ يَكُنْ لهُمْ نَاصِرٌ فِي الأَرْضِ ولا فِي السَّمَاءِ»(2).

حتى اليأس

مسألة: يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى اليأس(3)، وقد يحصل اليأسبالمرة الأولى، وقد لا يحصل حتى بالمائة مرة.

ولعل الإمام (صلوات الله عليه) (دار بها أربعين صباحاً) لأن حد اليأس الظاهري كان هو ذلك، ولعله كان حداً لإتمام الحجة الظاهرية.

ويحتمل أن يكون الدوران على المهاجرين والأنصار واحداً واحداً بالتسلسل لا بنحو الاجتماع والتكرار، فإنهم كانوا بالألوف، فكانا يمران كل صباح على مجموعة وهكذا، ويؤيده مثل (فانتهت إلى معاذ بن جبل ...) وربما كان الأقوى، وإن لم يكن التكرار في الجملة ببعيد لسامع الجار واستماع المار ونقل الأخبار.

ص: 390


1- سورة التوبة: 71.
2- وسائل الشيعة: ج 16 ص123 ب1 باب وجوبهما وتحريم تركهما ح18.
3- أي الاطمينان بعدم التأثير. من هنا اشترط الفقهاء وجوب ذلك باحتمال التأثير.

منع الأذى

مسألة: الواجب على المسلمين أن يمنعوا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعترته وذريته (عليهم السلام) الأذى، كما يمنعون عن أنفسهم وذراريهم، بل هو أولى بالوجوب وآكد، والحرمة بتركه أشد، إذ «النَّبِيُّ أَوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ»(1).

وأما (البيعة) حيث قالت: «وقد بايعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) على أن تنصره وذرّيته وتمنع مما تمنع منه نفسك وذرّيتك» فتأكيد على ذلك.

ثم إن السبب في تخصيص معاذ بن جبل بالذكر هو كونه من أصحاب الصحيفة الملعونة، إضافة إلى مكانته في القوم وتأثيره، وكان قد أرسله رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى اليمن.

وأما ما نقل من أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال عنه: (الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما يحب رسول الله) فالظاهر أنه من أخبارهم المجعولة(2).

ص: 391


1- سورة التوبة: 71.
2- روي أن النبي (صلى الله عليه وآله) لما أرسل معاذاً إلى اليمن قال له: بما ذا تقضي، قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد في كتاب الله، قال: بسنة رسول الله، قال: إن لم تجد في سنة رسول الله، قال: أجتهد رأيي، فقال (عليه السلام): الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضاه الله و رسوله. كنز الفوائد: ج2 ص207.

ولعل سؤال معاذ (فمعي غيري) كان بغرض استطلاع الأخبار والتجسس.

ويؤكد سوء حاله قول الصديقة (عليها السلام) له: (والله لا نازعتك ...) مع أنها (صلوات الله عليها) لم تجبَهْ الكثيرين غيره بمثل هذا الكلام.

نصرة المعصوم

مسألة: نصرة المعصومين (عليهم السلام) واجبة خاصة إذا استنصروا، ولا يدفع الوجوب عدم وجود ناصر آخر، فإن المعصوم (عليه السلام) لو استنصر وجب الامتثال، وأما كيفيته فموكولة إلى نظره (صلوات الله عليه).

ولذلك فإن اعتذار معاذ بن جبل عن نصرة الزهراء (عليها السلام) بقوله: (فأين أبلغ أنا من نصرك) باطل مردود، إذ غاية الأمر أن يستشهد وحيداً في طريق الدفاع عن إمام زمانه وعن ابنة نبيه (صلى الله عليه وآله)، قال تعالى: «مَا كَانَ لأَهْل المَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أَنْ يَتَخَلفُوا عَنْ رَسُول اللهِ وَلاَ يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَمَخْمَصَةٌ فِي سَبِيل اللهِ وَلاَ يَطَئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الكُفَّارَ وَلاَ يَنَالونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إلاَّ كُتِبَ لهُمْ بِهِ عَمَل صَالحٌ إِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ»(1).

وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال: «إِنَّمَا أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَأْتُوا هَذِهِ الأَحْجَارَ فَيَطُوفُوا بِهَا ثُمَّ يَأْتُونَا فَيُخْبِرُونَا بِوَلايَتِهِمْ ويَعْرِضُوا عَليْنَا نَصْرَهُمْ»(2).

ص: 392


1- سورة التوبة: 71.
2- الكافي: ج 4 ص549 باب إتباع الحج بالزيارة ح1.

وعَنْ خَيْثَمَةَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَال سَمِعْتُهُ يَقُول: «ونَحْنُ الذِينَ بِنَا نَزَل الرَّحْمَةُ وبِنَا تُسْقَوْنَ الغَيْثَ، ونَحْنُ الذِينَ بِنَا يُصْرَفُ عَنْكُمُ العَذَابُ، فَمَنْ عَرَفَنَا ونَصَرَنَا وعَرَفَ حَقَّنَا وأَخَذَ بِأَمْرِنَا فَهُوَ مِنَّا وإِليْنَا»(1).

الاستعلام عن الأمور الخطيرة

مسألة: يجب الاستعلام عن ما يحتمل كونه من الأمور الخطيرة المرتبطة بشؤون الدين أو الدنيا حتى لو لم نقل بلزوم الفحص في الشبهات الموضوعية، نظراً لخصوصيتها، فلا يجوز الإهمال أوالتساهل والإغضاء بدعوى عدم لزوم الفحص، وذلك لاستقلال العقل بوجوبه في الشك في التكليف قبل الفحص، وفي الشبهة الموضوعية في الأمور الخطيرة أيضاً فإن الاحتمال فيها منجز عقلاً.

ومن صغريات هذه الكبرى سؤال ابن معاذ من أبيه معاذ بن جبل: (ما جاء بابنه محمد إليك ...).

ومنه يظهر حرمة تجاهل السؤال عن الأحداث الخطيرة التي تجري في البلاد الإسلامية، فيمن احتمل أن يكون له مباشرة أو بالواسطة، بقول أو فعل، تأثير في الأمر أو قسط من النهي عن المنكر أو الأمر بالمعروف ولو بتعاضد قوله أو عمله مع قول الآخرين وعملهم.

ص: 393


1- بصائر الدرجات: ج 1 ص63 ب3 باب في الأئمة أنهم حجة الله وباب الله وولاة أمر الله ووجه الله الذي يؤتى منه وجنب الله وعين الله وخزنة علمه جل جلاله وعم نواله ح10.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «مَنِ اسْتَرْشَدَ عَلمَ»(1).

وقال (عليه السلام): «مَنْ أَحْسَنَ السُّؤَال عَلمَ»(2).

وقال (عليه السلام): «العَقْل يُوجِبُ الحَذَرَ»(3).

وقال (عليه السلام): «دَوَامُ الفِكْرِوالحَذَرِ يُؤْمِنُ الزَّلل ويُنْجِي مِنَ الغِيَرِ»(4).

أعداء الصديقة

مسألة: يجب التأسي بفاطمة الزهراء (عليها السلام) إذا خاصمت شخصاً أو قاطعته، فإنه نوع نصرة لها وتبرٍ من أعداء الله، وعكسه خذلان وعدم تبرٍ.

كما يجب التأسي بسائر المعصومين (عليهم السلام) كذلك.

وأما احتمال كون مثل ذلك قضية خاصة فليس بصحيح، لمقام التأسي بهم (عليهم السلام)، وليس الاستدلال بالملاك فقط، بل بظهور فعل الصديقة (عليها السلام) عرفاً في أن خذلانه علة تامة للزوم مقاطعته لطبيعي المكلفين.

قال الإمام الحجة (عليه السلام): «وفِي ابْنَةِ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) لي أُسْوَةٌ حَسَنَة»(5).

ص: 394


1- عيون الحكم والمواعظ: ص451 ح8040.
2- عيون الحكم والمواعظ: ص424 ح7181.
3- عيون الحكم والمواعظ: ص24 ح210.
4- عيون الحكم والمواعظ: ص251 ح4708.
5- الغيبة، للطوسي: ص286 ف4 فصل بعض معجزات الإمام المهدي (عليه السلام) وما ظهر من جهته (عليه السلام) من التوقيعات على يدي سفرائه.

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «اللهُمَّ هَؤُلاءِ أَهْلي، أَنَا حَرْبٌ لمَنْ حَارَبَهُمْ، وسِلمٌ لمَنْ سَالمَهُمْ، مُحِبٌّ لمَنْ أَحَبَّهُمْ، ومُبْغِضٌ لمَنْ أَبْغَضَهُمْ، فَكُنْ لمَنْ حَارَبَهُمْ حَرْباً، ولمَنْ سَالمَهُمْ سِلماً، ولمَنْ أَحَبَّهُمْ مُحِبّاً، ولمَنْ أَبْغَضَهُمْ مُبْغِضاً»(1).

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ يَحْيَى الحَضْرَمِيِّ، قَال: سَمِعْتُ عَليّاً (عليه السلام) يَقُول: «كُنَّا جُلوساً عِنْدَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) وهُوَ نَائِمٌ ورَأْسُهُ فِي حَجْرِي، فَتَذَاكَرْنَا الدَّجَّال فَاسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) مُحْمَرّاً وَجْهُهُ فَقَال: لغَيْرُ الدَّجَّال أَخْوَفُ عَليْكُمْ مِنَ الدَّجَّال، الأَئِمَّةُ المُضِلونَ، وسَفْكُ دِمَاءِ عِتْرَتِي مِنْ بَعْدِي، أَنَا حَرْبٌ لمَنْ حَارَبَهُمْ، وسِلمٌ لمَنْ سَالمَهُمْ»(2).

البدائل

مسألة: يلزم في المطالبة بالحقوق اللازمة سلوك الطرق المختلفة ووضع البدائل، تحسباً لاحتمال عدم نجاح بعضها.

ومن ذلك ما صنعه علي (عليه السلام) إذ جعل البديل عن الأسلوب الأول الذي لم ينجح ظاهرياً فقال: (ائتي أبا بكروحده).

ولا يخفى أن قوله (عليه السلام): «فإنه أرق من الآخر» يراد به الأرق بالنظر إلى سياسته الظاهرية لا بالنظر إلى قلبه وواقعه، فإنه كان يتظاهر بالرقة أحياناً حيث كان يرى اللين أقرب إيصالاً لمآربه ومقاصده وأنفذ في تأثير مكره وإخداعه، كما يراد به بيان أشدية الثاني، فكان هو والثاني يتقاسمان الأدوار في

ص: 395


1- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): ص376 ح261.
2- الأمالي، للطوسي: ص512 المجلس الثامن عشر ح27.

غصب الخلافة وظلم العترة الطاهرة (عليهم السلام).

الإنكار على الطاغية

مسألة: يجب الإنكار على الطاغية حتى في محضره وفي وجهه، ومنه قول الصديقة (عليها السلام) في هذا الحديث للأول: «ادعيت مجلس أبي ...».

قَال أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «مَنْ تَرَكَ إِنْكَارَ المُنْكَرِ بِقَلبِهِ ويَدِهِ ولسَانِهِ فَهُوَ مَيِّتٌ بَيْنَ الأَحْيَاء»(1).

وقَال الصَّادِقُ (عليه السلام): «العَاقِل مَنْ كَانَ ذَلولا عِنْدَ إِجَابَةِ الحَقِّ، مُنْصِفاً بِقَوْلهِ، جَمُوحاً عِنْدَ البَاطِل، خَصْماًبِقَوْلهِ، يَتْرُكُ دُنْيَاهُ ولا يَتْرُكُ دِينَهُ»(2).

وقَال علي (عليه السلام): «أَحْسَنُ العَدْل نُصْرَةُ المَظْلومِ»(3).

تلبية المعصوم

مسألة: تجب تلبية طلب المعصوم (عليه السلام) وإن لم يكن المطلوب واجباً بالعنوان الأولي، لولايته أولاً، ولأن حقوقه على آحاد المسلمين أكثر من أن تحصى.

ولذلك وغيره قالت الصديقة الزهراء (عليها السلام) لابن أبي قحافة: «ولو كانت فدك لك ثم استوهبتها منك لوجب ردها علي».

ص: 396


1- تهذيب الأحكام: ج 6 ص181 ب80 باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ح23.
2- مستدرك الوسائل: ج 11 ص210 ب8 باب في وجوب طاعة العقل ومخالفة الجهل ح25.
3- عيون الحكم والمواعظ: ص113 ح2489.

هذا بالإضافة إلى أنه صغرى لرضاها، حيث «إنّ الله يغضب لغضب فاطمة، ويرضى لرضاها»(1).

إيذاء المعصوم

مسائل: لا شك في أن إيذاء المؤمن حرام، فكيف بإيذاء المعصومين (عليهم السلام) فهو أشد حرمة، كما لا ريب في أن ضرب المؤمن حرام، فكيف بضرب المعصوم (عليه السلام) فإنه من أكبر الكبائر.

وإسقاط الجنين من الكبائر، فكيف بإسقاط جنين المعصوم (عليه السلام) فهو المصيبة العظمى والجريمة الكبرى.

ومن الواضح أنه ينطبق على الثاني حيث رفس فاطمة (عليها السلام) برجله حتى أسقطت محسناً، قوله تعالى: «وَمَنْ يَقْتُل مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالداً فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَليْهِ وَلعَنَهُ وَأَعَدَّ لهُ عَذَاباً عَظِيماً»(2)، من جهتين:

قتله الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء (عليها السلام) وقتله المحسن (عليه السلام)، إذ كان قد ولجته الروح وكان لستة أشهر حينما قتل.

هذا كله إضافة إلى انطباق العناوين الأخرى عليه، كفراره من الزحف، واتهامه رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأنه يهجر والعياذ بالله، وغصبه للخلافة،

ص: 397


1- المعجم الكبير: ج1 ص66 ح182، المستدرك على الصحيحين: ج3 ص154، ميزان الاعتدال: ج2 ص492 ح4560، مجمع الزوائد: ج9 ص203، كنز العمّال: ج13 ص674 ح37725.
2- سورة النساء: 93.

وإسخاطه الزهراء (عليها السلام) وإغضابها، ومعاداته لأمير المؤمنين (عليه السلام) وإحراقه دارفاطمة (عليها السلام)، وغيرها وغيرها.

قَال رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): «إِذَا قُمْتُ المَقَامَ المَحْمُودَ تَشَفَّعْتُ فِي أَصْحَابِ الكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي فَيُشَفِّعُنِي اللهُ فِيهِمْ، واللهِ لا تَشَفَّعْتُ فِيمَنْ آذَى ذُرِّيَّتِي»(1).

وقَال (صلى الله عليه وآله): «الأَئِمَّةُ بَعْدِي اثْنَا عَشَرَ» ثُمَّ قَال: «كُلهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ، ثُمَّ يَخْرُجُ قَائِمُنَا فَيَشْفِي صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِين،َ أَلا إِنَّهُمْ أَعْلمُ مِنْكُمْ فَلا تُعَلمُوهُمْ، أَلا إِنَّهُمْ عِتْرَتِي مِنْ لحْمِي ودَمِي، مَا بَال أَقْوَامٍ يُؤْذُونَنِي فِيهِمْ لا أَنَالهُمُ اللهُ شَفَاعَتِي»(2).

إتلاف الوثائق

مسألة: إتلاف وثائق الآخرين على حقوقهم وممتلكاتهم حرام، فإنه إضافة إلى أنه تصرف في ملك الغير، هو تضييع لها، فله حرمة نفسية وحرمة غيرية.

أما ما صنعه ابن الخطاب من أخذهالكتاب وخرقه فإنه من أشد المحرمات، لأنه إضافة إلى الجهتين كان اعتداءً على بضعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وانتهاكاً لمقامها (عليها السلام).

ص: 398


1- الأمالي، للصدوق: ص294 المجلس التاسع والأربعون ح3.
2- كفاية الأثر: ص44 باب ما جاء عن سلمان الفارسي (رحمة الله عليه) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في النصوص على الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام).

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يَا أَبَا ذَرٍّ، سِبَابُ المُسْلمِ فُسُوقٌ، وقِتَالهُ كُفْرٌ، وأَكْل لحْمِهِ مِنْ مَعَاصِي اللهِ، وحُرْمَةُ مَالهِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ»(1).

كيفية السؤال

مسألة: يستحب السؤال بحق رسول الله (صلى الله عليه وآله) تحصيناً للمطالب المهمة.

قَال (صلى الله عليه وآله): «أَخْبَرَنِي جَبْرَئِيل (عليه السلام): لمَّا ثَبَّتَ اللهُ عَزَّ وجَل اسْمَ مُحَمَّدٍ عَلى سَاقِ العَرْشِ قُلتُ: يَا رَبِّ هَذَا الاسْمَ المَكْتُوبَ فِي سُرَادِقِ العَرْشِ أَرِنِي أَعَزَّ خَلقِكَ عَليْكَ، قَال: فَأَرَاهُ اللهُ عَزَّ وجَل اثْنَيْ عَشَرَ أَشْبَاحاً أَبْدَاناً بِلا أَرْوَاحٍ بَيْنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ، فَقَال: يَا رَبِّ بِحَقِّهِمْ عَليْكَ إِلا أَخْبَرْتَنِي مَنْ هُمْ، قَال: هَذَا نُورُ عَليِّ بْنِ أَبِي طَالبٍ، وهَذَا نُورُ الحَسَنِ والحُسَيْنِ، وهَذَا نُورُ عَليِّ بْنِ الحُسَيْنِ، وهَذَا نُورُ مُحَمَّدِ بْنِ عَليٍّ، وهَذَا نُورُ جَعْفَرِبْنِ مُحَمَّدٍ، وهَذَا نُورُ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ، وهَذَا نُورُ عَليِّ بْنِ مُوسَى، وهَذَا نُورُ مُحَمَّدِ بْنِ عَليٍّ، وهَذَا نُورُ عَليِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، وهَذَا نُورُ الحَسَنِ بْنِ عَليٍّ، وهَذَا نُورُ الحُجَّةِ القَائِمِ المُنْتَظَرِ، قَال: فَكَانَ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُول: مَا أَحَدٌ يَتَقَرَّبُ إِلى اللهِ عَزَّ وجَل بِهَؤُلاءِ القَوْمِ إِلا أَعْتَقَ اللهُ تَعَالى رَقَبَتَهُ مِنَ النَّارِ»(2).

ص: 399


1- الأمالي، للطوسي: ص537 مجلس يوم الجمعة الرابع من المحرم سنة سبع وخمسين وأربعمائة ح1.
2- كفاية الأثر: ص170 باب ما روي عن الحسين بن علي (عليهما السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في النصوص على الأئمة الاثني عشر (صلوات الله عليهم أجمعين).

الدفن في البيت

مسألة: يجوز الدفن في البيت، كما صنع أمير المؤمنين (عليه السلام) إذ دفن الصديقة فاطمة (عليها السلام) في بيتها حسب هذه الرواية، وهناك روايات أخرى، ومن هنا بقي القبر الشريف وسيبقى مجهولاً للدلالة على ظلاماتها.

ولا شرعية للقوانين المجعولة من قبل الحكومات في هذه الأزمنة حيث تمنع من الدفن إلاّ في أماكن خاصة تحددها الدولة.

نعم إذا كان هناك عنوان ثانوي ملزم، يلزم مراعاته حسب ما تشخصه شورى الفقهاء المراجع.

عدم الاغترار بالمظاهر

مسألة: ينبغي أن لا يغتر الإنسان بالمظاهر وخاصة ما يرتبط بالطغاة والحكام، إذ كثيراً ما تكون المظاهر مخالفة للواقع عن عمد وقصد.

ومنه ما ورد في هذا الحديث: أصبح أهل المدينة يريدون حضور جنازتها وفلان وفلان كذلك.

فإن هذا الحضور كان لأجل التغطية على ما صدر منهم من الظلم تجاهالصديقة الطاهرة (عليها السلام).

قال تعالى: «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الحَياةُ الدُّنْيا»(1).

ص: 400


1- سورة فاطر: 5.

وقيل: في التوراة:

قُل لصَاحِبِ المَال الكَثِيرِ: لا يَغْتَرَّ بِكَثْرَةِ مَالهِ وغِنَاهُ، فَإِنِ اغْتَرَّ فَليُطْعِمِ الخَلقَ غَدَاءً وعِشَاءً، وقُل لصَاحِبِ العِلمِ: لا يَغْتَرَّ بِكَثْرَةِ عِلمِهِ، فَإِنِ اغْتَرَّ فَليَعْلمْ أَنَّهُ مَتَى يَمُوتُ، وقُل لصَاحِبِ العَضُدِ القَوِيِّ: لا يَغْتَرَّ بِقُوَّتِهِ، فَإِنِ اغْتَرَّ بِقُوَّتِهِ فَليَدْفَعِ المَوْتَ عَنْ نَفْسِهِ»(1).

مراتب الأمر

مسألة: يصح الأمر - في الجملة - ويصدق إطلاقه حتى من الداني للعالي، ومن المساوي للمساوي، ومن المساوي: قول أمير المؤمنين (عليه السلام): «هي أمرتني».

ويدل على التساوي بعض الروايات.

علم النفس

مسألة: يلزم على العلماء والخطباء والمفكرين والمبلغين وسائر المؤمنين معرفة علم نفس الأمم والشعوب والناس، فيما يقع مقدمةً وطريقاً للإرشاد والتزكية والتعليم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ص: 401


1- بحار الأنوار: ج 74 ص42 ب2 مواعظ الله عز وجل في سائر الكتب السماوي وفي الحديث القدسي وفي مواعظ جبرئيل (عليه السلام) ح9.

فإن معرفة علم نفس الأفراد والأمم يوجب معرفة الطريق الأفضل للتأثير الإيجابي في الناس، ومعرفة أنهم لمَ يفعلون كذا، و لمَ يهملون كذا، و لمَ يخافون، و لمَ يؤيدون، و لمَ يعارضون ... إلى غير ذلك.

وربما كان من مصاديق تلك المعرفة وغيرها الوصية ب (أن لا يشهداني ...) و(دفنها ليلاً)، فإن ذلك من أقوى أسلحة المظلومية النافذة في نفوس الناس، ومن أقوى الأدلة على ظلم القوم للصديقة الطاهرة (عليها السلام) عند العام والخاص.

وكذلك معرفة سبب (أصبح أهل المدينة يريدون حضور جنازتها) ولعل منه أن الناس يحاولون إسكات ضميرهم إذا خذلوا الحق، وذلك بالتعويض ببعض المظاهر، فينبغي أن لا ينخدع بها الإنسان، فإنها لا عمق لها ولا واقعية، بل إن بها يكون تفويت الأهم عادة.قال تعالى: «وآتَيْناهُ مِنْ كُل شَيْ ءٍ سَبَباً»(1).

وفي الأحراز المأثورة: «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، يَا مَالكَ الرِّقَابِ، ويَا هَازِمَ الأَحْزَابِ، يَا مُفَتِّحَ الأَبْوَابِ، يَا مُسَبِّبَ الأَسْبَابِ، سَبِّبْ لنَا سَبَباً لا نَسْتَطِيعُ لهُ طَلباً، بِحَقِّ لا إِلهَ إِلا اللهُ، مُحَمَّدٌ رَسُول اللهِ، صَلى اللهُ عَليْهِ وعَلى آلهِ أَجْمَعِين»(2).

ص: 402


1- سورة الكهف: 84.
2- مهج الدعوات: ص45 حرز لمولانا القائم (عليه السلام).

الإرادة القوية

مسألة: يجب على الدُعاة إلى الخير والحق أن يتحلوا بالإرادة القوية والجنان الثابت، وأن يعدوا مع ذلك القوة النفسية والمنطقية والإعلامية والاجتماعية وغيرها اللازمة للدفاع عن الحق ومواجهة الباطل، ولعله أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى هذين الجانبين بقوله: (ما دام قلبي ... فأنت أعلم).

قال تعالى: «يُثَبِّتُ اللهُ الذينَ آمَنُوا بِالقَوْل الثَّابِتِ فِي الحَياةِ الدُّنْيا وفِي الآخِرَةِ ويُضِل اللهُ الظَّالمينَ ويَفْعَل اللهُ ما يَشاء»(1).

وفي الدعاء: «وقَوِّنِي فِي سَبِيلكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِين»(2).

وقال (عليه السلام): «وَمَا كُل مَنْ أَرَادَ شَيْئاً قَدَرَ عَليْهِ، ولا كُل مَنْ قَدَرَ عَلى شَيْ ءٍ وُفِّقَ لهُ، ولا كُل مَنْ وُفِّقَ لهُ أَصَابَ لهُ مَوْضِعاً، فَإِذَا اجْتَمَعَ النِّيَّةُ والقُدْرَةُ والتَّوْفِيقُ والإِصَابَةُ فَهُنَاكَ تَجِبُ السَّعَادَةُ»(3).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:«المُؤْمِنُ لهُ قُوَّةٌ فِي دِينٍ، وحَزْمٌ فِي لينٍ، وإِيمَانٌ فِي يَقِينٍ، وحِرْصٌ فِي فِقْهٍ، ونَشَاطٌ فِي هُدًى، وبِرٌّ فِي اسْتِقَامَةٍ، وعِلمٌ فِي حِلمٍ، وكَيْسٌ فِي رِفْقٍ، وسَخَاءٌ فِي حَقٍّ، وقَصْدٌ فِي غِنًى، وتَجَمُّل فِي فَاقَةٍ، وعَفْوٌ فِي قُدْرَةٍ، وطَاعَةٌ للهِ فِي نَصِيحَةٍ، وانْتِهَاءٌ فِي شَهْوَةٍ، ووَرَعٌ فِي رَغْبَةٍ، وحِرْصٌ فِي جِهَادٍ، وصَلاةٌ فِي

ص: 403


1- سورة إبراهيم: 27.
2- بحار الأنوار: ج 94 ص216 اليوم الرابع والعشرون ح1.
3- كشف الغمة: ج 2 ص208.

شُغُل، وصَبْرٌ فِي شِدَّةٍ، وفِي الهَزَاهِزِ وَقُورٌ، وفِي المَكَارِهِ صَبُورٌ، وفِي الرَّخَاءِ شَكُورٌ، ولا يَغْتَابُ، ولا يَتَكَبَّرُ، ولا يَقْطَعُ الرَّحِمَ، وليْسَ بِوَاهِنٍ، ولا فَظٍّ، ولا غَليظٍ، ولا يَسْبِقُهُ بَصَرُهُ، ولا يَفْضَحُهُ بَطْنُهُ، ولا يَغْلبُهُ فَرْجُهُ، ولا يَحْسُدُ النَّاسَ، يُعَيَّرُ ولا يُعِيِّرُ، ولا يُسْرِفُ، يَنْصُرُ المَظْلومَ، ويَرْحَمُ المِسْكِينَ، نَفْسُهُ مِنْهُ فِي عَنَاءٍ، والنَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ، لا يَرْغَبُ فِي عِزِّ الدُّنْيَا، ولا يَجْزَعُ مِنْ ذُلهَا، للنَّاسِ هَمٌّ قَدْ أَقْبَلوا عَليْهِ، ولهُ هَمٌّ قَدْ شَغَلهُ، لا يُرَى فِي حُكْمِهِ نَقْصٌ، ولا فِي رَأْيِهِ وَهْنٌ، ولا فِي دِينِهِ ضَيَاعٌ، يُرْشِدُ مَنِ اسْتَشَارَهُ، ويُسَاعِدُ مَنْ سَاعَدَهُ، ويَكِيعُ عَنِ الخَنَا والجَهْل»(1).

ص: 404


1- الكافي: ج 2 ص231 باب المؤمن وعلاماته وصفاته ح4.

الخاتمة

وكان هذا بعض ما روي عن الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) مع شرح مختصر أو استنباط موجز أو تفريع أو تشقيق أو تطبيق، سميناه بكتاب (من فقه الزهراء) (عليها أفضل الصلاة والسلام).

علماً بأن رواياتها وكلماتها في مختلف أبواب الأصول والفروع وسائر العلوم أكثر من أن تحصى، فإن ما فقد منها أو أتلف، كثير جداً، لتوفر دواعي الغاصبين للخلافة والحكومات الظالمة والأعداء والحساد على محو آثار العترة الطاهرة (صلوات الله عليهم).

وهناك أيضاً روايات أخرى وأدعية متعددة مروية عنها (عليها السلام) لم نوفق لشرحها، ذكر بعضها السيد الأخ (رحمه الله) في كتابه (كلمة فاطمة الزهراء عليها السلام) وغيره في غيرها، يمكن استدراكها، عسى أن يوفق الله بعض العلماء للبحث عنها، واستنباط الأحكام الشرعية منها، إنه سميع الدعاء.

ومن اللازم أن يهتم الفقهاء العظاموالمحدثون والمدرسون والمحققون وأساتذة الجامعات ومراكز الدراسات والمعاهد العلمية والطلاب الفضلاء بدراسة

ص: 405

وتدريس وتعليم وتعلم فقه الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء (عليها السلام)، ليكون ذلك وسيلة لهم إلى رضوان الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام)، وليكون مقدمة لتطبيق أحكام الإسلام على الأنام، ولإسعاد البشر رجالاً ونساءً في الدنيا والآخرة، وما ذلك على الله بعزيز.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

قم المقدسة

محمد الشيرازي

1414 ه

ص: 406

الفهرس

عقاب التهاون بالصلاة 5

شرح الحديث.. 6

عقاب التهاون بالصلاة 7

بركة العمر 9

بركة الرزق. 10

سيماء الصالحين. 10

استجابة الدعاء 12

دعاء الصالحين. 13

موت الذل \ الموت جوعاً 14

الموت عطشاً 15

عذاب القبر. 16

ضيق القبر. 17

ظلمة القبر. 18

سحب المجرم 19

ص: 407

شدة الحساب.. 20

عدم النظرة الإلهية 21

الترك والتهاون. 22

أهمية الصلاة 24

حرمة الخمر والمسكر 26

حرمة مطلق المسكر 27

المسكر خمر حكماً 28

حرمة حتى القطرة 29

قاعدة الإلزام لا تشمل الخمر 31

التعليم والإنذار 32

الخمر وعدم قبول الصلاة \ حرمة الخمر مطلقا 34

التلذذ بالخمر \ صلاة شارب الخمر 35

الأضحية \ إطراف المسافر 38

استحباب الأضحية 39

وقت الأضحية 40

روايات في الأضحية 41

السؤال للتعليم. 42

أدب الصائم \ صوم الجوارح. 45

مصب الكلام 48

صيانة اللسان \ صيانة السمع. 49

صيانة البصر 50

صيانة الجوارح. 51

صوم بلا فائدة 53

ص: 408

وجوب الخمس.. 54

من حكمة الخمس.. 55

رواية أخرى. 58

وجوب الخمس.. 59

سؤال الخير. 60

تشريع الخمس.. 61

أدعية دخول المسجد. 65

أدعية الخروج من المسجد. 66

استحباب البسملة 67

الصلاة على النبي والآل. 68

الدعاء لغفران الذنوب.. 69

الدعاء يوم الجمعة 70

الجمعة وأدعيتها 71

أقسام الأُفق. 72

الوقت الخاص في الجمعة 73

مباشرة الأمور وتسبيبها 74

الدعاء وطلب الخير. 75

حرمة الجار \ الجار ثم الدار 77

تعليم الأولاد الآداب.. 79

الجار والتعايش السلمي. 80

فضائل بعض السور \ قراءة القرآن. 82

ثواب قراءة السور 83

استمرار القراءة 84

ص: 409

من أدعية الولادة 86

قراءة القرآن عند الولادة 86

حضور النساء للولادة \ تعويذ الطفل. 88

من تختم بالعقيق. 90

إذا مرض المؤمن \ تذكير الناس بألطاف الله. 93

ثواب المريض.. 94

المرض والشفاء من الله. 95

حق الشفاعة 97

فرح المؤمنة 100

الرجوع إلى أهل الذكر 101

المرجع العقدي. 102

نصرة الضعيف.. 105

الاستظهار على المعاند. 109

إفراح الملائكة وإحزان الشياطين. 110

عون المؤمن. 111

عون المسكين \ إحقاق الحق. 112

حل القضايا المرفوعة 113

البِشر في وجه المؤمن 114

ثواب البِشر 116

السخاء والبخل. 117

كراهة البخل. 118

التحذير والترغيب.. 119

الاجتناب عن المنقصة \ البخل والنار 122

ص: 410

السخاء والجنة 123

اختيارية الصفات.. 123

ذم الظلم \ الظلم حرام مطلقا 124

حرمة الحرب \ التخلي عن الظالم. 125

غلبة الظالم. 126

الحث على النظافة \ النظافة قبل النوم 128

من لم يتنظف.. 130

أحقية المالك \ الإنسان أحق بملكه 131

الأحق بالأفضل \ حرمة انتهاك الحقوق. 133

آداب المائدة 134

تعلم الآداب.. 135

تحصيل المعرفة 136

الراضا بالمقسوم 139

التسمية عند الأكل. 139

الشكر عند الأكل. 142

الوضوء قبل الطعام 143

عند الجلوس على المائدة 145

الأكل بثلاث أصابع. 146

الأكل مما يليه 147

تصغير اللقمة 148

مضغ الطعام جيداً \ قلة النظر للآخرين. 149

بيان مراتب الاستحباب.. 150

الحجاب \ النظر الحرام 151

ص: 411

التأكيد على الحجاب.. 152

فوائد الحجاب.. 154

الحجاب حتى عند الأعمى 155

الاستفهام الإعلامي. 156

حجاب الريح. 157

المرأة وقربها من الله. 158

المرأة وعدم الخروج. 159

ما يوجب القرب الإلهي. 161

أخبار المعراج. 162

لماذا هذه العقوبات.. 163

إظهار الشعر للأجانب.. 167

إيذاء الزوج أو الزوجة 168

من حقوق الزوج. 170

الإذن في الخروج من البيت.. 171

التزين للأجانب 172

قذارة الثياب.. 173

غسل الجنابة \ غسل الحيض.. 174

التطهير من النجاسات \ الاستهانة بالصلاة 175

حرمة الزنا 176

النسب الكاذب.. 177

المرأة وعرض نفسها 178

القيادة المحرمة \ حرمة النميمة 179

حرمة الكذب.. 180

ص: 412

حرمة الغناء 181

حرمة النوح بالباطل. 181

حرمة الحسد. 182

إغضاب الزوج. 183

خطاب الأب.. 184

العذاب وأنواعه 185

من أحوال يوم القيامة 187

استحباب الحياء 188

الاستحياء 189

أثر الحياء 190

كرامة الإمام 191

السؤال عن يوم القيامة 193

القيامة وأحوالها 194

السلام على الصديقة \ من فضائل الصديقة 195

كرسي النور 196

عدم تكذيب الأحاديث.. 197

خصوصيات الآخرة 198

مودة العترة \ شرط الشفاعة 199

سؤال الخير للناس. 200

مقام الصديقة في المحشر 202

بيان النعمة \ إذهاب الحزن. 203

الحزن والرقة 204

من هم الفائزون. 205

ص: 413

قميص الحسين (علیه السلام) 206

مواقف القيامة 206

مواقف الصديقة 207

مخلوقات الجنة 208

قتلة الحسين في النار 208

لا تبرأة للقتلة 209

الشكاية من الظالم. 210

مشايعة العظيم. 212

القضية الحسينية 213

ذرية الصديقة وشيعتها 214

حسن العدل. 215

المطالبة بالحكم على الظالم. 216

التعلق بما يرتبط بالعظيم. 217

التظلم. 219

مواساة العترة \ مواساة الملائكة 221

إغضاب المعصوم 223

الاهتمام بالولد. 224

الصراخ والبكاء والتباكي. 225

الجهر بظلامة الحسين (علیه السلام) 226

المحكمة الإلهية الكبرى. 228

الحكم على الظالم. 230

طلب الشفاعة 231

ظلم الصديقة 233

ص: 414

مقام الصديقة 234

حبيبة الله. 235

من صفات الله تعالى. 236

الهدية للمتزوجة 237

بشارة المؤمن. 238

ما يرتبط بالمعصوم 239

شفاعة النبي. 241

مواطن اللقاء 242

الشفاعة النبوية 243

من أحوال القيامة 244

الموقف الأعظم. 245

لقاء المعصوم 246

شفاعة الرسول. 247

سقي الماء 248

مقام الرسول. 249

الاهتمام بالأُمة 250

العطف على الأُمة 251

لا أصبر عنك ساعة 252

التأسيس لا التأكيد. 253

السعي للقاء المعصوم 254

السؤال عما يهم. 255

أول من يلحق بالنبي. 258

المعصوم وحرمته على النار 259

ص: 415

الدعاء للخلاص من النار 260

وصف الكوثر 261

شفاعة الصديقة 264

قيمة المرء 265

مهر معنوي ومادي. 266

حق الشفاعة 267

مما يدفن مع الإنسان. 268

المهر المعنوي. 269

البنت وطلب المهر 270

وجه طلب تغيير المهر 271

الاهتمام بالعصاة \ كتابة المهر 272

وضع شيء مع الميت.. 273

صفة يوم القيامة 274

وجه نداء الأنبياء \ بين القصور والتقصير. 275

السؤال عن حال الناس في القيامة 277

ستر المؤمن. 278

الشرك في النار 279

الحذر مما يؤدي إلى النار 280

التحذير من عذاب النار 282

الابتعاد عن موجبات النار 283

التعداد على الميت \ الدعاء للميت.. 285

بيان فضائل الميت.. 287

في مواجهة الطغاة \ القوم أرادوا قتل الإمام 288

ص: 416

تكريم المقدسات.. 290

نشر الشعر 292

التصريح باسم الظالم. 293

حرمة تيتيم الأطفال. 294

حرمة ترميل النساء 295

الدفاع عن حق الزوج. 296

بين الأهم والمهم. 297

الدفاع عن الولاية 298

مع غاصبي فدك. 300

حرمة الإغارة على العترة 301

الصديقة لا تكلم فلاناً 302

إرث النبي (صلی الله علیه و آله) 304

الاحتجاج على الظالم. 305

بيان ظلامة الصديقة 306

والله لقد آذيتماني. 308

التقية في مواردها 309

القسم على المهم \ قبول التوسط. 311

إجابة الزوج. 312

الصديقة بضعة الرسول. 313

حرمة إيذاء النبي في أولاده 314

حرمة إيذاء الله. 315

غضب الصديقة 316

وصية الصديقة 317

ص: 417

استحباب الوصية \ الإسراع في تجهيز الميت.. 318

حفظ الوصية 320

لا شرعية للظالمين \ وصية الزوجة 322

أحوال العظماء 324

الباري يسلم على الصديقة 325

مكانة خديجة (علیها السلام) \ تسلية المفجوع. 326

الالتجاء إلى المعصوم 327

توقيفية الأسماء 328

فضل خديجة (علیها السلام) 330

المصايحة المحرمة 334

إغضاب النبي. 335

أفضل نساء النبي. 336

علم الغيب.. 337

التنقيص الحرام 338

الصلوات على الصديقة 339

ثواب الصلاة 340

مع ابنة طلحة 341

توضيح المجلسي. 342

السؤال عن الظلامات.. 347

الهمز واللمز 348

أقسام التنافس.. 350

بغض الحق وأهله 351

بغض النبي والعترة 352

ص: 418

نية الغدر \ الحذر من المنافقين. 354

صفات الجبابرة 354

أنواع العطاء 356

إنحال الصبية 357

علم الله وطلب الحق. 358

شهادة المعصوم الواحد. 358

حرمة مصادرة الأموال. 360

الراضي بالحرام 361

احتساب الظلامات عند الله. 361

تجسم الأعمال. 363

شهود ابن أبي قحافة 365

توضيح المجلسي. 371

غصب المنصب الشرعي. 372

رسول الغاصب.. 373

تحمل المشاق ومطالبة الحق. 374

فدك نحلة وهبة 375

الصدقة ومعناها العرفي. 376

المغالطة المحرمة 377

الرجوع إلى الحجة 378

العمل بقول المعصوم 379

إبطال الحجج. 380

دقة الكلمات.. 381

شهادة الزور وإسنادها 382

ص: 419

شهادة المرأة في الماليات.. 383

شهادة المرأة في الصدقة 384

بطلان قول الخصم. 386

الدعاء على الظالم. 389

حتى اليأس. 390

منع الأذى. 391

نصرة المعصوم 392

الاستعلام عن الأمور الخطيرة 393

أعداء الصديقة 394

البدائل. 395

تلبية المعصوم 396

إيذاء المعصوم 397

إتلاف الوثائق. 398

كيفية السؤال. 399

الدفن في البيت.. 400

مراتب الأمر 401

الإرادة القوية 403

الخاتمة 405

الفهرس. 407

ص: 420

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.