نبراس الاصول

المجلد 1

هویة الکتاب

نبراس الاصول

الجزء الاول

السید جعفر الحسینی الشیرازی

ص: 1

اشارة

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام علی محمد وآله الطاهرين، ولعنة الله علی أعدائهم أجمعين إلی يوم الدين

وبعد: فهذا الكتاب هو خلاصة بحوث أ ُلقيت على بعض طلبة العلوم الدينية في علم أصول الفقه، وكان المنهج هو استيعاب أهم الآراء والمناقشات، واختيار ما هو الأقرب في النظر القاصر، مع مراعاة الإيجاز غير المخلّ قدر المستطاع(1).

أسال الله سبحانه التوفيق والسداد، إنه ولي ذلك.

12 / ذي الحجة / 1433

ص: 3


1- كما أن المنهج في هذه البحوث ليس نقل نصّ كلمات الأعلام دائماً، بل روعي النقل بالمعنی أيضاً، وأحياناً نقل توضيح وتلخيص بعض العلماء لكلماتهم، ذلك أنَّ الغرض كان إيصال الفكرة بوضوح.

ص: 4

بحوث تمهيديّة

اشاره

ص: 5

ص: 6

فصل فی تعريف علم الأصول

اشاره

غالب التعريفات هي شرح الاسم - أي تبديل لفظ بلفظ آخر أقرب إلی الذهن - كقولهم (سعدانة نبت)، فلا يشترط انعكاسها واطرادها.

وقد ذكر صاحب الكفاية - في بحث الاجتهاد والتقليد(1)

- أن التعاريف الحقيقية لايعلمها إلاّ الله تعالی.

وكلامه يستلزم عدم وجود حدّ حقيقي.

ويمكن أن يقال: إنَّ ذلك صحيح بالنسبة إلی الوجودات الخارجية التي لم يصنعها الإنسان، وأما ما اخترعه فيمکنه بيان حدّها بشكل كامل، لمعرفته بحقيقتها، مثل الصناعات ونحوها.

وعليه فيمکن تعريف العلوم التي أنتجتها الأذهان البشرية، ولذا كان دأبهم تعريف العلوم والنقض والابرام فيها.

نعم قد لايکون البحث عن الحد التام مفيداً، ولذا أعرض البعض عن التعريفات لعدم ترتب فائدة عملية عليها.

ولو فرض عدم إمكان التعريف بالحدّ، وكون الحدود هي شرح الاسم، فالأولی التعريف بالأقرب فالأقرب، لتتضح الصورة أكثر.

ص: 7


1- إيضاح كفاية الأصول 5: 338-339.

وأما علم الأصول - ليكون ضابطة للمسائل الأصولية - فقد عُرّف بتعريفات متعددة، منها:

التعریف الأول

«إنه العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعية» أي: ما كانت واسطة في الاستنباط في كبری الاستدلال.

وأورد عليه بأمور:

الإشكال الأول: الأصول هو نفس القواعد، تارة يعلمها وتارة يجهلها، بشهادة صحة إضافة العلم والجهل، يقال عالم بالأصول وجاهل به(1).

ولعلّه لذلك بدّل المحقق الخراساني(2) العلم إلی صناعة يعرف بها... الخ، أي ليس مجرد إدراك، بل هو فن فوق العلم، كالصياغة والنجارة. فالصناعة يراد بها الملكة.

ولكن لازم ذلك عدم كون نفس القواعد من علم الأصول، فلا تكون هذه الكتب من الأصول بل مقدمة له، لأنها مقدمة لحصول الملكة.

وفي الحقائق توجيهه بقوله: ولعل الباعث علی ذكر (العلم) في التعريف كونه منشأ الأثر في الفنون دون نفس المعلوم، والمصحح لهذا الاستعمال وحدة العلم والمعلوم وإن اختلفا اعتباراً(3).

ولعل مراده أن المعلوم بوجوده الذهني هو العلم، لأن الصورة الذهنية

ص: 8


1- نهاية الأفكار 1: 12.
2- إيضاح كفاية الأصول 1: 22.
3- حقائق الأصول 1: 15.

هي المعلوم وهي العلم.

ويمكن القول بأن حقيقة العلم مجهولة لنا، قيل: هو نور يكون به الكشف، ولذا مع الغفلة يكون انعكاس للصورة في الذهن مع عدم الإدراك. فتأمل.

الإشكال الثاني: عدم شموله لبحث الأصول العملية، ولا الأمارات، لأنها لا تُثبت الحكم الشرعي الواقعي بل إما جعل حكم ظاهري أو تنجيز وإعذار، ولا الظن علی الانسداد علی الحكومة.

أما الأول - أي الأصول العملية - : فبعضها لا يستنبط بها أحكام شرعية، بل هي وظائف تنجيزاً وتعذيراً، كالأصول العقلية.

وبعضها أحكام شرعيّة، كأصالة الحل، لکنها ليست أحكاماً بناءً على إنكار الحكم الظاهري، وعلی إثباته هي بنفسها حكم شرعي، لا أنه يستنبط منها حكم شرعي.

إن قلت: إنها تقع في كبری الاستنباط، فيقال: هذا مشكوك الحل، وكل مشكوك الحل حلال، فهذا حلال.

قلت: النتيجة هي نفس القاعدة، لكن كان تطبيقها علی فرد جزئي. وبعبارة أخری: هي واسطة في التطبيق لا في الاستنباط.

أما الثاني - الأمارات - : فقد يقال: إنها لا تثبت الحكم الشرعي، بل إما جعل حكم ظاهري أو تنجيز وإعذار.

ص: 9

وأجاب المحقق العراقي(1):

نحن نقول بمتمم الكشف. لأنها تقع وسطاً في القياس، هكذا: إن هذا مما قام علی وجوبه خبر الواحد، وكل ما كان كذلك فهو منكشف - بحكم الشارع بكونه كاشفا - ، فهذا منكشف.

أقول: لعله يشير إلی أنه علم تنزيلي، فيكون كاشفاً عن الواقع كالعلم.

وأجاب المحقق الإصفهاني(2):

بأن علم الأصول ما يُبحث فيه عن القواعد الممهدة لتحصيل الحجة علی الحكم الشرعي، بلا حاجة إلی إحراز الحكم الشرعي الواقعي.

وفيه: أنه في الحقيقة إرجاع له إلی الوظيفة العلمية، أي إن الوظيفة هي هكذا، وهذا في الحقيقة ليس استنباطاً للحكم الشرعي، إذ هو ليس حجة علی الحكم الشرعي، بل ابراء الذمة.

وقال المحقق النائيني(3):

إنّه إذا أريد من الحكم الماخوذ في التعریف الأعم من الواقعي والظاهري، فمباحث الأصول العملية تدخل في المسائل التي يستنبط منها الحكم الشرعي.

ويرد عليه: أنه ليس استنباطاً للحكم الظاهري بل جعل له، فتامل.

وقيل: إن الحكم الظاهري في موارد الأصول العملية هو نفس القاعدة الأصولية وليس مستنبطاً منها.

وقيل: إن أخذهم (العلم) في تعريفه يكشف عن أن مرادهم بالأحكام

ص: 10


1- نهاية الأفكار 1: 20.
2- نهاية الدراية 1: 42.
3- أجود التقريرات 1: 6.

الأعم من الظاهرية والواقعية، لا خصوص الواقعية، وإلاّ لم يكن لأخذ قيد العلم وجه أصلاً، إذ الأحكام الواقعية لا تكون معلومة غالباً في الفقه.

أما الثالث - أي الانسداد علی الحكومة - : فإنه لا يتوصل بنتيجة هذه المسألة إلی حكم شرعي، سواء أريد من الظن علی الحكومة:

1- حكم العقل بجواز التبعيض في الاحتياط والاكتفاء بالامتثال الظني، وهذا ليس حكماً شرعياً، لأن حكم العقل لا يرتبط باستنباط الحكم الشرعي بل بإفراغ الذمة.

2- أم قلنا بأن العقل يری حجية الظن، وهذا لا يوجب سوی التنجيز والتعذير.

توضيح الأول: أن الواقع يتنجز بالعلم الإجمالي المستلزم للإتيان بجميع المحتملات حتى الموهومات، لكن مقدمات الانسداد تبيّن عدم لزوم الاتيان بالموهومات - أو هي والمشكوكات - ، فلا دلالة لها علی حجية الظن. بل الاتيان بخصوص المظنونات ينتج من ضمّ العلم الإجمالي ومنجزيته إلی حكم العقل بعدم لزوم الإتيان بالموهومات والمشكوكات.

إذن ليست نتيجة المسألة حجية الظن أصلاً.

الإشكال الثالث: شمول التعريف للقواعد الفقهية، كقاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده»، وقاعدة الطهارة، فإنها قواعد ممهدة يستنبط منها الحكم الشرعي.

ولمعرفة صحة الإشكال من عدمه لابدّ من تعريف القواعد الفقهية وبيان الفرق بينها وبين الأصول، ثم البحث عن أن هذا الإشكال وارد أم لا.

ص: 11

وقد ذكرت عدة فروق، نذكر بعضها:

الفرق الأول: إن القواعد الفقهية خاصة بالشبهات الموضوعية، ولا تجري في الشبهات الحكمية، أما المسائل الأصولية فهي تجري في الحكمية دون الموضوعية.

وفيه: أولاً: جريان بعض القواعد الفقهية في الأحكام الكلّية.

مثلاً: قاعدة لا ضرر، تنفي الضمان الكلّي في الموارد التي لا نص فيها علی الضمان. وكذا تنفي الحكم الذي ينشأ منه الضرر نوعاً، من غير أن تصل النوبة إلی البراءة ونحوها.

وثانياً: أكثر القواعد الفقهية توصلنا إلی أحكام جزئية، كوجوب الصلاة والضمان(1).

فلابد من إضافة قيد الكلّية في المسائل الأصولية، مع إدخال ما يتوصل به إلی الأحكام الجزئية في القواعد الفقهية.

وثالثاً: بعض المسائل الأصولية تجري في الشبهات الموضوعية الكلية، كالاستصحاب في الشبهات الموضوعية.

الفرق الثاني: إن القاعدة الفقهية قابلة لإلقائها علی العامي كي يطبقها علی جزئياتها، دون المسائل الأصولية فهي بيد المجتهد خاصة، ففي القاعدة الفقهية يذكر في الموضوع تمام قيود الحكم الواقعي فيلقی إليه(2).

مثلاً: قاعدة الفراغ والتجاوز، وقاعدة اليد، وقاعدة ما يضمن، هي من

ص: 12


1- منتقی الأصول 1: 32.
2- أجود التقريرات 1: 7.

القواعد الفقهية، فهي أحكام كلّية تلقی إلی المكلف، وهو الذي يضمّ صغرياتها إليها، فينتج حكماً جزئياً شخصياً.

أما المسائل الأصولية فهي بيد المجتهد، فإنه يستخرج منها الأحكام الكلّية ثم يُلقي تلك الأحكام إلی المكلفين ليطبقوها علی جزئياتها.

مثلاً: يَستخرج من مسألة حجية خبر الواحد كثيراً من الواجبات الكلّية، ويبيّن للمقلد الوجوب، ففي كلّ مورد جزئي يتحقق الموضوع يعرف المقلد الوجوب.

وفيه: أولاً: النقض...

أ) بقاعدة الطهارة في الشبهات الحكمية، فهي من وظيفة المجتهد خاصة حيث يطبقها علی مواردها، وذلك لاشتراطها بالفحص، ولا يتأتی ذلك من العامي.

ب) وبالشرط المخالف للكتاب والسنة، فتطبيقها بيد المجتهد خاصة، وذلك لتوقفها علی معرفة الكتاب والسنة، ليميّز كون الشرط مخالفاً أم لا(1).

ج) وبقاعدة من بلغ، بناءً علی دلالتها علی الاستحباب.

وثانياً: رُبَّ مسألة فقهية جزئية في الشبهات الموضوعيّة لا يمكن إلقائها إلی العامي.

مثلاً: لو علم بنقصان ركعة من إحدى الصلاتين - الظهر أو العصر - وهذه من فروع مسألة العلم الإجمالي في الشبهات الموضوعية.

الفرق الثالث: المسائل الأصولية تجري في مختلف أبواب الفقه،

ص: 13


1- نهاية الأفكار 1: 21.

بخلاف القواعد الفقهية فهي خاصة ببعض الأبواب دون بعض.

وبذلك تخرج مثل قاعدة الطهارة عن التعریف المذكور، وتدخل في مسائل الفقه، بلحاظ عدم سريانها في جميع أبواب الفقه.

إن قلت: إن قاعدة لا ضرر ولا حرج غير مختصة بباب دون باب.

أجاب المحقق العراقي(1): بأن القاعدتين لا تنتجان حكماً كلّياً، إلاّ في ظرف جريانهما في مقدار الفحص من الطرق أو في موارد التبعيض في الإحتياط في الشبهات الحكمية، فالقاعدتان لا تنتجان حكماً كلّياً، وإنّما إنتاجهما له أيضاً من جهة خصوصية في المورد، فتدبر.

وفيه: أولاً: أنه تسليم بالإشكال، ولكن مع إخراج القواعد الفقهية بفرق آخر.

وثانياً: أنه تسليم بأن بعض القواعد الفقهية تكون كلّية، ولكن مع بيان سبب كليّتها - وهو خصوصية المورد - ، فتأمل.

الفرق الرابع: إن القواعد الفقهية هي أحكام فقهية كلّية تطبق علی مواردها ولا يستنبط منها حكم شرعي، نعم قد يکون تطبيقها بحاجة إلی خبروية(2). عكس المسائل الأصولية فإنها يستنبط منها الحكم الفقهي.

وأشكل عليه(3): بأن ذلك يستلزم أن يکون التمييز بين الأصولية والفقهية إنّما يرتبط بكيفية صياغة المسألة مع كون الروح واحدة، مثلاً مسألة اقتضاء

ص: 14


1- مقالات الأصول 1: 55.
2- نهاية الدراية 1: 43.
3- بحوث في علم الأصول 1: 22.

النهي عن العبادة للفساد:

أ) يمكن طرحها أصولياً: فيقال هل النهي عن العبادة يقتضي الفساد أم لا؟ وذلك لأن البطلان مستنبط من الاقتضاء.

ب) ويمكن طرحها فقهياً: فيقال العبادة المنهي عنها باطلة أم لا؟ وذلك لأن بطلان كل عبادة محرمة يکون تطبيقاً.

وفيه: أن ذلك يرتبط بالغرض من طرح المسألة، ولذا قد تكون مسألة واحدة داخلة في عدة علوم بتعلق غرض تلك العلوم بها، مثل مسألة التجري حيث يمكن طرحها أصولياً وفقهياً وكلامياً باعتبار الأغراض المختلفة، فليس مجرد صياغة ألفاظ.

الفرق الخامس: إن المستنتَج من المسائل الأصولية لا يکون إلاّ حكماً كلّياً، بخلاف المستنتَج من القاعدة الفقهية، فإنه يکون حكماً جزئياً وإن صلحت في بعض الموارد لاستنتاج الحكم الكلّي أيضاً، إلاّ أن صلاحيتها لاستنتاج الحكم الجزئي هو المائز بينها وبين المسائل الأصولية(1).

وهذا هو الأقرب.

الإشكال الرابع: علی تعريف المشهور: عدم طرده، وذلك لدخول علم الرجال في هذا التعريف.

والجواب: أولاً: إمكان القول بأن كليات علم الرجال داخلة في الأصول، لأنها قواعد كلية يستنبط منها حكم شرعي، مثل وثاقة مشايخ الثلاثة، ودلالة الترضي علی الوثاقة، وأما الجزئيات - وهي عمدة علم

ص: 15


1- فوائد الأصول 1: 19.

الرجال من التوثيق والتضعيف - فهي ليست قواعد.

وفيه: أن إثبات وثاقة زرارة مثلاً ينتج منه حكم كلّي، وهو حجية ما يرويه زرارة، وهذا حكم كلّي تُستنبط منه أحکامٌ فقهية في مختلف الأبواب.

وثانياً: إن علم الأصول هو العلم بالكبريات التي لو انضمّت إليها صغرياتها استنتج منها حكم فرعي كلّي، فعلم الأصول هو الجزء الأخير من الاستنباط، وأما سائر العلوم فهي مقدمات، مثلاً نحتاج في الاستنباط إلی معرفة معاني الألفاظ عبر اللغة، ثم أبنية الكلمات ومحلّها من الإعراب عبر النحو والصرف، ثم سلسلة سند الخبر عبر الرجال، ثم حجية الخبر عبر الأصول(1).

فخرج علم الرجال لأنّ الكبری هي (حجية خبر الثقة)، والصغری هي (حجية خبر زرارة).

وأشكل عليه(2): بأن هذا الكلام يستلزم خروج جملة من البحوث الأصولية - سواء اللفظية أم العقلية - :

1- مثال اللفظية، الكبری: حجية الظهور، والصغری: دلالة الأمر علی الوجوب، والنهي علی الحرمة... الخ.

وأجيب عنه: بأن حجية الظهور ليست مسألة أصولية بل هي من المسلّمات.

ص: 16


1- فوائد الأصول 1: 18.
2- بحوث في علم الأصول 1: 27.

وفيه: أن كيفية الإثبات لا يوجب الدخول أو الخروج عن الأصول، بل لو انطبق التعريف عليها دخلت وإلاّ خرجت، سواء كانت من المسلّمات أم لا.

2- مثال العقلية، الكبری: قواعد التعارض، والصغری: مسألة اجتماع الأمر والنهي، ومسألة اقتضاء الأمر للنهي عن الضد.

وثالثاً: إن المدار في المسألة الأصولية: علی وقوعها في طريق استنباط الحكم الشرعي بنحو يکون ناظراً إلی إثبات الحكم بنفسه أو بكيفية تعلقه بموضوعه، أما لو كان ناظراً إلی الموضوع فقط فليس من المسائل الأصولية، ومسائل علم الرجال واقعة في طريق استنباط الموضوع لا نفس الحكم ولا لكيفية تعلقه بموضوعه، بل شأنه إثبات موضوع الحكم محضاً من كون السند موثوقاً به كي تشمله أدلة التعبد به(1).

ومن أمثلة ذلك توضيحاً:

1- مباحث العام والخاص والمطلق والمقيد، نتيجتها ليست استنباط ذات الحكم، ولكن من المعلوم أنه يستفاد منها كيفية تعلق الحكم بموضوعه أي هل بكل الأفراد أم بعضها.

2- مباحث المفاهيم وضعت لبيان سنخ إناطة الحكم بشئ، فهو من أنحاء وجود الحكم وثبوته.

بخلاف البحوث الأدبية، فإنها تنظر إلی الموضوع بنظرة مجردة عن الحكم، وكذا البحوث اللغوية كمعنی الصعيد لا نظر له إلی الحكم أصلاً ولا بكيفية تعلق الحكم بالموضوع.

ص: 17


1- مقالات الأصول 1: 54.

وبعبارة أخری(1): إن مسائل الرجال وأدلته، لا تكوّن لدی الفقيه أدلة علی الجعل الشرعي الكلّي، فوثاقة الراوي يحتاج إليها الفقيه باعتبارها موضوعاً لدليلية الدليل، حيث إن دليلية الخبر منوطة بوثاقة المخبر، والدليل هو نفس الخبر.

وأما أدلة الرجالي فهي أدلة علی تلك الوثاقة لا علی الجعل الشرعي الكلّي.

ورابعاً: لو عجزنا عن إخراج علم الرجال عن علم الأصول يمكن الالتزام بأن علم الرجال هو من مباحث الأصول، وإنّما أفردوه بالبحث في علم مستقل لكثرة مسائله وتشعبها(2).

الإشكال الخامس: أن مرادكم من «الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية»...(3).

أ) إن كان بلا واسطة، فيلزم خروج مباحث الألفاظ طراً - التي شأنها إثبات الوضع والظهور - مثل مبحث الأوامر والنواهي، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، والمفهوم والمنطوق، لأن نتيجتها ليست إلاّ تعيين الظهور كظهور هيأة الأمر في الوجوب، وهذا لا يقع في طريق استنباط الحكم الشرعي بتشكيل قياس واحد، بل يحتاج إلی قياسين لانتاج الحكم الشرعي، يکون نتيجه أحدهما صغری لكبری القياس الآخر، فيقال - مثلاً - :

ص: 18


1- بحوث في علم الأصول 1: 34.
2- نهاية الأفكار 1: 23.
3- نهاية الأفكار 1: 21؛ مقالات الأصول 1: 54.

هذا أمر، وكل أمر ظاهر في الوجوب، فهذا ظاهر في الوجوب.

أو هذا ظاهر في الوجوب، وكل ظاهر يجب التعبد به والعمل علی طبقه بمقتضی ما دلّ علی وجوب الأخذ بكل ظاهر، فهذا يجب التعبد به والعمل علی طبقه.

نعم: مثل مسألة حجية الخبر الواحد، لا تحتاج إلاّ إلی قياس واحد، فيقال: هذا مما أخبر العادل بوجوبه، وكل ما كان كذلك يجب التعبد بمضمونه، فهذا يجب التعبد بمضمونه.

ب) وإن كان مع الواسطة، فيلزم دخول مسائل كثيرة من العلوم الأدبية كالنحو والصرف في المسائل الأصولية، باعتبار وقوع نتيجتها - بالأخرة - في طريق الاستنباط.

والجواب: باختيار الشق الأول، ولدفع الإشكال يقال:

أولاً: المقصود ليس وقوعه دائماً بلا واسطة، بل يکفي في أصولية المسألة وقوعه أحياناً بلا واسطة، بخلاف سائر العلوم فإنها لا تقع في طريق الاستنباط بلا واسطة أصلاً(1).

وفيه: أن غالب مباحث الألفاظ لا تقع بلا واسطة أصلاً، كما في مثال دلالة الأمر علی الوجوب.

وثانياً: إن المسائل اللفظية يترتب الحكم عليها بواسطة حجية الظهور، إلاّ أنها حيث كانت من الجلاء والتسليم - بحيث يری أن الحكم يترتب بمجرد تنقيح موضوعها وهو أصل الظهور - ، لم تُخِلَّ واسطتها الارتكازية

ص: 19


1- فوائد الأصول 1: 19.

في أصولية هذه المسائل، بل بمجرد إثبات الظهور تترتّب النتيجة(1).

وثالثاً(2): المهم في العلوم الأدبية ليس إثبات الظهور للكلمة والكلام.

وعلی فرض كون المقصود هو إحراز الظهور، فإن غاية ما يقتضيه ذلك هو وقوع نتيجتها في طريق استنباط موضوعات الأحكام، لا في طريق استنباط نفس الأحكام.

إن قلت: هذا يستلزم خروج مثل مباحث العام والخاص - مثلاً - .

قلت: إن هذه المباحث تتكفل بإثبات كيفية تعلّق الحكم بموضوعه، وهذا في الحقيقة من أنحاء وجود الحكم وثبوته، فلذا خرج بحث المشتق عن الأصول، لأنه يتكفل إحراز موضوع الحكم وأنه خصوص المتلبس بالفعل أم الأعم، ولا يتكفل بالبحث عن الحكم بذاته، ولا بكيفية تعلقه بموضوعه.

إلی هنا ننتهي من تعريف المشهور، وهو تعريف لا بأس به مع إجراء بعض التعديلات عليه.

التعریف الثاني

ذكر في المنتقی(3) ضابطاً لأصولية المسألة وحاصله:

المسألة التي ترفع التردد والتحيّر الحاصل للمكلف من احتمال الحكم:

1- وذلك لأن المكلف إذا إلتفت إلی شيء بلحاظ حكمه، فقد يحتمل

ص: 20


1- منتقی الأصول 1: 35.
2- نهاية الأفكار 1: 22.
3- منتقی الأصول 1: 29.

وجوبه أو يحتمل حرمته أو سائر الأحكام.

2- ومن هذا الاحتمال ينشأ في نفسه التردد، والعجز بالنسبة إلی العمل، فهل يفعل أو لا... الخ.

3- والمسألة الأصولية ترفع هذا التحيّر - سواء كانت واقعة في طريق الاستنباط أم لا - وهي علی أقسام:

أ) ما أوجب العلم منها - كالملازمات العقلية - فيرتفع التردد بارتفاع منشأه تكويناً.

ب) الأمارات غير العلمية، فنتيجة حجيتها هو تنجيز الواقع بها أو التعذير عنه، فارتفع التحيّر بذلك.

ج) الأصول العملية العقلية، ومفادها التعذير والتنجيز، فارتفع التحيّر أيضاً.

د) الأصول العملية الشرعية: فهي ترفع التحير علی جميع المبانی فيها.

ه-) وكذا الظن الانسدادي علی الحكومة.

والحاصل: إن لنا (واقع الحكم) و(رافع التحيّر). فواقع الحكم - الذي تتكفل به القواعد الفقهية والمسائل الفقهية - لا يرفع التحيّر، بل الذی يرفعه دليله وهو مسألة أصولية.

ويرد عليه: النقض بقاعدة الطهارة في الشبهات الحكمية، فإنها رافعة للتحيّر والتردد من غير بيان الحكم الواقعي للمورد المحتمل، وكذا النقض بفتوى الفقيه، هذا مضافاً إلى دخول جميع الأدلة الجزئية في التعريف، فتأمل.

ص: 21

التعریف الثالث

تعريف صاحب الكفاية(1): بأن الأصول: صناعة يعرف بها القواعد التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام، أو التي ينتهی إليها في مقام العمل، بناءً علی أن مسألة حجية الظن علی الحكومة ومسائل الأصول العملية في الشبهات الحكمية من الأصول.

وقد مرت بعض الإشكالات في طي المباحث الماضية.

ولنذكر إشكالين آخرين ذكرهما المحقق الإصفهاني(2):

الإشکال الأول: لزوم فرض غرض جامع بين الغرضين، لئلا يکون فن الأصول فنّين.

وتوضيحه: أن تمايز العلوم - عند صاحب الكفاية - بالأغراض، فإذا كان الغرض: الاستنباط والإنتهاء في مقام العمل، صار علم الأصول علمين.

وأجاب عنه في المنتقی(3): بتصوير غرض خارجي جامع بين الغرضين، ويترتب علی جميع مسائل علم الأصول، وهو ارتفاع التردد والتحيّر للمكلف من احتمال الحكم.

وفيه: أن الكلام في تصوير صاحب الكفاية، لا في تعريف غيره.

الإشکال الثاني: إن الانتهاء في مقام العمل:

أ) إما يُقيد بالفحص واليأس، فيلزم خروج الأمارات، إذ في الرجوع إليها

ص: 22


1- إيضاح كفاية الأصول 1: 22.
2- نهاية الدراية 1: 42.
3- منتقی الأصول 1: 27.

لا يشترط الفحص واليأس، لأن الفحص شرط في الأصول العملية.

ب) وإما لا يقيد بهما، فيلزم دخول جميع القواعد العامة الفقهية، فإنها المرجع في جزئياتها، أي هي مما ينتهي إليها المجتهد في مقام العمل والتطبيق.

والجواب: أن الأمارات داخلة في الصدر، فلا ضير في خروجها عن الذيل، فالأصول العملية هي التي ينتهی إليها في مقام العمل، واشتراطها بالفحص مستفاد من الأدلة ويُشعر به قوله «أو التي ينتهی...» الخ.

اللهم إلاّ أن يقال بأن المراد من الاستنباط إن كان احراز الحكم الشرعي، خرجت الأمارات عن الصدر أيضاً، لأنه - وعلی رأي صاحب الكفاية - المجعول فيها إما المنجزية والمعذرية، أو الحكم المماثل، وهي بكلا الوجهين لا تقع في طريق الاستنباط(1).

نعم لو كان المراد من الاستنباط تحصيل الحجة علی الواقع - ويکون ذلك عن طريق اعتبار الأمارات كاشفة عن الواقع - فحينئذٍ تدخل الأمارات في الصدر.

التعریف الرابع

تعريف المحقق العراقي(2): إن القواعد الخاصة التي تعمل في استخراج الأحكام الكلّية الإلهية، أو الوظائف العملية الفعلية - عقلية أو شرعية - ، ولو بجعل نتيجتها كبری القياس في استنتاج:

ص: 23


1- منتقی الأصول 1: 27.
2- نهاية الأفكار 1: 20.

أ) إما الحكم الشرعي الواقعي، مثل: هذا ما أخبر العادل بوجوبه، وكلما كان كذلك فهو واجب واقعاً، وهذا علی مبنی الكشف.

ب) أو الحكم الشرعي الظاهري، مثل: هذا مما تيقن سابقاً بوجوبه وشك لاحقاً، وكلما كان كذلك فهو واجب ظاهراً.

ج) أو الحكم العقلي، مثل: هذا مما لم يرد عليه بيان، وكلما كان كذلك فلا حرج فيه أو يجب الاحتياط فيه أو يتخيّر... الخ.

وحيث إن بعض القواعد الفقهية داخلة في التعريف، قال: لابد من إضافة قيد (عدم اختصاصها بباب دون باب من أبواب الفقه).

وفيه: أولاً: إنّ الأصول قواعد يستخرج منها الأحكام الفقهية، فقد تكون أحكاماً جزئية، فقوله (الكلّية) محل تأمل.

وثانياً: قوله (ولو بجعل...) لم يتضح المقصود منه، بل يلزم أن تقع النتيجة في كبری القياس - كما مرّ - .

هذا مضافاً إلى أنه عبارة أخری عن تعريف المحقق الخراساني مع تبديل الألفاظ، فتأمل.

وهناك تعريفات أخری متقاربة مضموناً، وقد يکون عليها إشكالات، فراجع المفصّلات.

ص: 24

فصل في الوضع

البحث الأول: في معنى الوضع

علاقة اللفظ بالمعنی علاقة سببيّة - أي اللفظ سبب لوجود المعنی في الذهن - فكيف حصلت هذه العلاقة؟

في ذلک أقوال ثلاثة:

الأول: إنها دلالة ذاتية لا تنالها يد الجعل.

الثاني: إنها دلالة إعتبارية بسبب جعل الجاعل - وهو الواضع - .

الثالث: إنها حالة متوسطة بينهما.

أما القول الأول:

فواضح الإشكال، لاختلاف اللغات، ولو كانت ذاتية لما اختلفت، ولذا كانت اللغة ترتبط بالإكتساب وبالتعلم، مع عدم وجود أية أمور ذاتية فيها.

كما أن الاختلاف في اللغات ليس في تخطئة كل أهل لغة لغيرهم ممن لهم لغة أخری، بل يرجع اختلافهم إلی الجعل والاعتبار.

وبعبارة أخری - كما في المنتقی(1) - : الأمور الجعليّة تختلف باختلاف الأنظار، دون الأمور الواقعيّة الحقيقية، فإنها لا تختلف باختلاف الأنظار،

ص: 25


1- منتقی الأصول 1: 45.

وإن اختلفت فيها الأنظار.

وأما القول الثالث:

1- فهو الذي يظهر من المحقق العراقي(1) وحاصله:

أ) الوضع أمر إعتباري - وهو جعل الملازمة بين اللفظ والمعنی - .

ب) إنه تنشأ من هذه الملازمة الاعتبارية، ملازمة حقيقية، وهذه النقطة هي الفرق بين الوضع وغيره من الإعتبارات.

ج) إن المجعول مقيد بصورة العلم بالجعل.

وأشكل عليه: بأن الملازمة باعتبار اشتراطها بالعلم بالوضع تكون متأخرة عنه، فلا يعقل أن يکون الوضع هو نفس هذه الملازمة، وإلا يلزم تأخر الشيء عن نفسه(2).

والجواب: هو ما يظهر من خلال كلام المحقق العراقي، وقرره في المنتقی(3): بأن الجاعل يجعل الملازمة بين اللفظ والمعنی في صورة العلم بهذا الجعل، بنحو يکون العلم قيداً للمجعول، لا قيداً للجعل، وأخذ (العلم بالجعل) قيداً (للمجعول) أمر ممكن.

2- كما قد يظهر من المحقق النائيني حيث قال(4): إن اختصاص لفظ بمعنی لابد أن يکون لجهة إقتضت إختصاصه به ليخرج عن الترجيح بلا

ص: 26


1- نهاية الأفكار 1: 26؛ مقالات الأصول 1: 61؛ منتقی الأصول 1: 48.
2- بحوث في علم الأصول 1: 73.
3- منتقی الأصول 1: 48.
4- فوائد الأصول 1: 30.

مرجح، ولا يشترط أن تكون تلك الجهة راجعة إلی ذات اللفظ - حتی تكون دلالة الألفاظ علی معانيها ذاتية - بل لابد من جهة خارجة عن الذات.

ويرد عليه:

أولاً: إن المرجح موجود، ولعله انسباق تلك الكلمة إلی الذهن حين تصور المعنی وإرادة وضع لفظ له(1).

وثانياً: إن المرجح هو الإرادة، بعد كون المصلحة في الكلي الطبيعي للَّفظ، فيکون اختيار بعض الألفاظ دون بعض بترجيح الإرادة لها، وهذا نظير طريقي الهارب ورغيفي الجائع، ومرجع هذا إلی أنه ترجيح مع المرجح، وهي الإرادة.

فلا يکون من الترجيح بلا مرجح الذي هو محال، لرجوعه إلی الترجّح بلا مرجح، لأنه مساوق لوجود معلول بلا علة، وذلك لأنه مع وجود الإرادة خرج موضوعاً عن الترجيح بلا مرجح.

وثالثاً: النقض بوضع الأعلام الشخصيّة.

وأما القول الثاني:

وهو كون الوضع دلالة إعتبارية بسبب جعل الجاعل، حيث لا يمكن إيجاد سببيّة بين شيئين بمجرد الإعتبار، فإن السببية صفة ذاتية للسبب الحقيقي، فلا يمكن جعلها تكويناً لشيء لا يکون سبباً، فضلاً عن وضعها تشريعاً واعتباراً، بل الواضع يقوم بعمل تمهيدي يترتب عليه قيام السببيّة بين

ص: 27


1- نهاية الأفكار 1: 25.

اللفظ والمعنی(1).

وذلك لأن الاعتبار علی قسمين(2):

1- أن يکون من الأمور التسبيبيّة، كالبيع، فإنه سبب لاعتبار الشارع أو العقلاء للملكية.

2- أن يکون من الأمور المباشرية، كالوضع، فإنه ليس سبباً لاعتبارهم، نعم قد يتوقف أثره علی إمضائهم أو مشاركتهم له فيه.

إذن: فالسؤال: ما هو العمل الذي قام به الواضع؟ فيه آراء:

الرأي الأول: العَلامة

كما ذهب إليه المحقق الإصفهاني(3): بأن اللفظ وضع علی المعنی، ليکون علامة عليه، مثل العَلَم المنصوب علی رأس الفرسخ، فدلالة اللفظ علی معناه كدلالة إشارات المرور ونحوها.

نعم الفرق بين اللفظ وبين سائر العلامات - وهو غير فارق - أن الوضع فيها حقيقي بوضع العلاقة تكويناً، والوضع في اللفظ اعتباري - لأنه أمر ذهني - .

وأشكل عليه: أولاً: إن هذه من المعاني الدقيقة التي لا يلتفت إليها العرف في أوضاعهم، مع أن وضع اللفظ علی المعنی هو من الأمور العرفيّة.

وفيه: أن الوضع من الأمور الارتكازية في العرف، والنزاع إنّما هو في

ص: 28


1- بحوث في علم الأصول 1: 74.
2- نهاية الدراية 1: 46-47.
3- نهاية الدراية 1: 47.

تفسير ذلك المعنی والكشف عنه، وتحديده بنحو جامع ومانع، والدقة في هذا المقام لا في نفس المعنی(1).

وثانياً: إن هناك فرقاً آخر بين الوضع في الألفاظ وبين الوضع في سائر الدلالات - غير کون الوضع حقيقي أو اعتباري - ، وهو أنه في مثل العَلم يکون كاشفاً عن شيء - وهو كون المكان رأس فرسخ - ، بخلاف الوضع فإن (الموضوع عليه) و(المنكشف) هو المعنی بنفسه(2)، وبيانه: بأن الدلالة في العَلم هي دلالة تصديقية، في حين أن الدلالة في الألفاظ تصورية.

أقول: وهذا أيضاً إشكال لفظي لأن الفرق غير فارق.

وثالثاً: إن الوضع التكويني لا يقتضي دلالة (الموضوع) علی (الموضوع له) بنفسه، فوضع العَلم - مثلاً - لا يکفي للدلالة ما لم يكن بناء علی أن لا يوضع العَلم إلاّ لذلك.

وبعبارة أخری: إن تحقق الدلالة إنّما هو بالبناء في كليهما، أي يقرر الواضع دلالة العَلم علی رأس الفرسخ، ودلالة اللفظ علی ذلك المعنی، وإلا فمجرد وضع العَلم لا يدل علی أنه رأس الفرسخ من غير بناء سابق، وكذا مجرد وضع اللفظ علی معنی لا يُحقق دلالته عليه، ما لم يكن هنالك بناء علی عدم وضع العَلم إلاّ للدلالة علی الفرسخ، وعدم وضع اللفظ إلاّ للدلالة علی المعنی.

ومن هذا يظهر أن قوله بأن «الوضع في سائر العلامات حقيقي وفي

ص: 29


1- منتقی الأصول 1: 55-56.
2- منتقی الأصول 1: 56.

الألفاظ اعتباري» محل تأمل.

لأن (البناء) ليس إلاّ أمراً اعتبارياً في كليهما، والمبرز لهذا البناء هو أمر تكويني ويکون باتخاذ القرار باللفظ أو الكتابة أو نحو ذلك، وأما وضع العلم خارجاً فهذا يرتبط بالاستعمال، كالنطق باللفظ.

وفيه: بأنه في جعل شيء علامة لشيء آخر ثلاث مراحل، والعَلاميّة هي المرحلة المتوسطة، وتلك المراحل هي: 1- تصور ذي العلامة والعلامة.

2- اتخاذ القرار المعلن بأن هذا علامة لذاك. 3- استعمال العَلامة، والوضع هو المرحلة الثانية، وأما الثالثة فهي مرحلة الاستعمال، والحاصل: إن الوضع ليس مجرد البناء بل إظهاره ليكون اللفظ علامة للمعنى متى ما استعمل فيه.

والحاصل: إن الأقرب هو أن الوضع جعل الملازمة بين اللفظ والمعنى بحيث يصبح اللفظ علامة على المعنى، وهذه العَلاميّة لازمة للوضع لا أنها حقيقته، فتأمل.

الرأي الثاني: التنزيل

أي اعتبار اللفظ وجوداً تنزيلياً للمعنی، ولا بأس ببيان أقسام التنزيل ليتضح المراد، فنقول: إن التنزيل قسمان:

1- أن يکون بمعنی الاعتبار، أي يکون فرضاً، مع وجود أثر عقلائي أو شرعي لذلك الفرض، وهذا عكس الخيال، فإنه فرض من غير أثر عقلائي أو شرعي.

ومثاله: فرض الجاهل عالماً، ثم ترتيب آثار العالم عليه، وفرض عدم النسب في ولد الزنا فيترتب عليه عدم إرثه.

ص: 30

2- أن يکون أمراً واقعياً انتزاعياً، فيکون (المنزَّل) بديلاً عن (المنزَّل عليه) في ترتيب آثاره التكوينية أو غيرها، وهذا ليس أمراً جعلياً، لكنه قد ينشأ من أمر جعلي.

ومثاله: كون التيمم بدلاً عن الوضوء، فنفس البدلية أمر واقعي، وإن كان منشؤها اعتبار ترتب الأثر علی البدل.

إذا اتضح ذلك، نقول: إن التنزيل في الوضع إنّما هو من القسم الأول، فإن للمعنی وجوداً خارجياً أو ذهنياً، فيفرض الواضع أن اللفظ متحد مع المعنی، والغرض من ذلك هو جريان بعض آثار المعنی علی اللفظ، ومن تلك الآثار تصور المعنی عند الإحساس به، فيترتب علی اللفظ أيضاً هذا الأثر فيتصور المعنی عند سماع اللفظ.

وأشكل عليه: أولاً: إنا لا نجد آثار المعنی الخارجي علی وجود اللفظ، مثلاً آثار (الماء) الخارجية لا تترتب علی لفظه، فما هو معنی التنزيل إذن؟

وفيه: أنه لا يشترط في التنزيل ترتيب كل الآثار، بل يکفي في صحته ترتب بعضها، وهنا تصور المعنی عند الاحساس به يترتب علی اللفظ، وهذا يکفي في صحة التنزيل.

وثانياً: ما قيل: من أن الغرض من الوضع هو دلالة اللفظ علی المعنی ليحصل التفهيم، والدلالة تقتضي الاثنينية، واعتبار الوحدة بين الدال والمدلول تقتضي عدم الدلالة، فيکون الوضع لغواً، لصيرورته بلا أثر!

ويرد عليه: أن الوحدة الاعتبارية لا تنافي التعدد الذاتي، والمعتبر في مقام الدلالة هو الثاني، والتنزيل يقتضي الأول.

ص: 31

وأما حديث اللغوية فغير صحيح، لأن للوحدة أثراً، بل لهذه الوحدة - علی هذا القول - تمام الدخل في ترتب الغرض، وهو حصول التفهيم والتفهم(1)، فإن الأثر التكويني المقصود للاعتبار هو التلازم بين (الانتقال إلی اللفظ) و(الانتقال إلی المعنی)، وهذا لا يتحقق إلاّ (باعتبار الوحدة).

ويمكن: فرض الدلالة مع الوحدة، وذلك لأن الوحدة هي بين شخص اللفظ وشخص المعنی، والمدلول فيهما هو الطبيعي، فكما أن الوجود الخارجي يدل علی الكلي كذلك اللفظ الذي هو وجود تنزيلي.

الرأي الثالث: التعهد

وبيانه - كما نقله السيد الوالد(2) عن المحقق الحائري - : إنه التزام من الواضع أنه متی أراد معنی وتعقله، وأراد إفهام الغير، تكلّم بلفظ كذا، فإذا إلتفت المخاطب بهذا الالتزام، ينتقل إلی ذلك المعنی عند استماع ذلك اللفظ.

وبعبارة أخری كما قرّره في نهاية الأفكار(3) عن بعض، ولعلّه المحقق النهاوندي:

أنه من المستحيل جعل العلقة والارتباط بين شيئين لا علاقة بينهما، وذلك لحصر الإضافات بالإضافات الخارجية، والملازمات الواقعية الذاتية.

وما يمكن تعقله هو التعهد، أي يلتزم الواضع ويتعهد تعهداً كلياً بأنّ مَن

ص: 32


1- منتقی الأصول 1: 58.
2- الأصول 1: 24.
3- نهاية الأفكار 1: 27-28.

أراد معنیً وتعقله وأراد إفهام الغير، تلفظ بلفظ كذا، وهذا التعهد هو جعل ارتباط بين (إرادة المعنی) و(إرادة التلفظ بلفظ كذا) فهو جعل علقة بين إرادتين، وليس جعلاً تكوينياً للعلقة بين اللفظ والمعنی.

فإذا التفت المخاطب إلی هذا الالتزام والتعهد - عن طريق إعلام الواضع أو استعمال الآخرين - فلا جرم ينتقل ذهنه إلی ذلك المعنی عند سماع اللفظ منه.

وأشكل عليه: أولاً: إن الوضع غير الالتزام، فالأول فعل، والثاني انفعال(1).

ويمكن أن يقال: بأنهما كليهما فعل، إلاّ أن أحدهما وهو الالتزام مقدمة للآخر، لا نفسه.

وثانياً: الالتزام يبقی مادام الشخص ملتزماً، أما الوضع فهو يبقی وإن رفع الواضع يده عن وضعه.

والجواب: أنه كما يکون التزام من الواضع الأول، كذلك يکون التزام من الآخرين، ويمكن لأحدهم أن يرفع التزامه ويبتدع اصطلاحاً جديداً في محاوراته فقد يکون مفيداً إذا اتبعه الآخرون، وإلاّ يبقی في حد كلمات نفسه لا غيره.

وثالثاً: استلزام التعهد للدور، وبيانه من وجوه، منها:

الوجه الأول: إنّ تعهد ذكر اللفظ عند قصد تفهيم المعنی، يتوقف علی

ص: 33


1- الأصول 1: 24.

العلم بأنه وُضع له، فلو فرض أن الوضع عبارة عن ذلك التعهد، لدار(1).

وأجيب عن هذا الإشكال بأجوبة:

منها: إن لنا تعهدين:

أ) التعهد الكلي النفساني المتعلق بذكر طبيعي اللفظ عند إرادة تفهيم طبيعي المعنی وهذا هو الوضع - علی هذا المبنی¬ - .

ب) التعهد الشخصي الفعلي الثابت في مرحلة الاستعمال، وهذا مايتوقف علی العلم بالوضع.

وفيه: أن التعهدين شيء واحد، فالثاني مصداق للأول وليس غيره.

ومنها: إن كل مستعمل هو متعهد، فيکون العلم متأخراً عن التعهد دائماً، سواء في الكلي أو الجزئي.

ولازم هذا الجواب: أن كل متكلّم واضعٌ، نهاية الأمر إن أوّل المتعهدين كان الواضع الأول، والآخرون تبعوه!

ومنها: إن العِلم متأخر عن تعهد الواضع، ولكنه متقدم علی استعمال أهل اللسان، وهذا هو الأصح في الجواب.

الوجه الثاني: إن التعهد يتوقف علی مقدورية متعلقه - وهو التفهيم - ، إذ مع عدم مقدورية التفهيم يستحيل التعهد، والقدرة علی التفهيم بهذا اللفظ غير حاصله قبل التعهد، بل هي متوقفة علی التعهد.

والجواب: إن التعهد قضية شرطية حقيقية، والقضية الشرطية لا تتوقف

ص: 34


1- نهاية الدراية 1: 48.

علی إمكان طرفيها، بل تكون صادقة حتی مع استحالتهما، كقوله تعالی: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا ءَالِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}(1)، فلا يتوقف التعهد علی القدرة علی التفهيم، نعم في مرحلة الاستعمال لابد من القدرة علی التفهيم، وإلاّ كان الاستعمال لغواً وليس مستحيلاً - كخطاب الأطرش مثلاً - .

ورابعاً: إنه يستلزم من وجوده عدمه، وبيانه بمقدمات:

1- إن التعهد المذكور يوجب انحصار إفهام المعنی باللفظ.

2- ومع الانحصار يکون التفهيم قهرياً.

3- ومع القهريّة لا يکون مجال للتفهيم بغير اللفظ - سواء تعهد أم لا - .

4- فلا معنی للتعهد المذكور.

وبعبارة أخری(2): إنه مع انحصار المفهم باللفظ، لامجال ل-(التعهد بالتفهيم باللفظ الخاص)، فإن كون اللفظ مفهّماً - وإن نشأ بواسطة التعهد - إلاّ أنه حيث كان الفهم منحصراً به، كان التعهد بالتفهيم به عند إرادة التفهيم بلا وجه ولا محصل، إذ لا مجال للتفهيم بغيره - تعهد أم لم يتعهد - فالتفهيم قهري لا محيص عنه، فلا معنی للتعهد المذكور.

وفيه: أن حصول التفهيم قهراً إنّما هو للعلم ببقاء التعهد، فإنه كما يلزم التعهد ابتداءً، يشترط استمراره، إذ يمكن رفع اليد عن الانحصار عن طريق تغيير الوضع.

وخامساً: إن ماينتج من الوضع هو دلالة تصورية - أي انتقال المعنی إلی

ص: 35


1- سورة الأنبياء، الآية: 22.
2- منتقی الأصول 1: 63.

الذهن بمجرد ذكر اللفظ - ، في حين أن التعهد ينتج منه دلالة تصديقية، وهي كون اللفظ كاشفاً عن إرادة المتكلم لإفهام المعنی.

ولا يخفی أن أصحاب نظرية التعهد لا يمانعون عن ذلك، بل ذكر بعضهم أن هذا هو من ميزات نظرية التعهد.

وسادساً: قد تصدر ألفاظاً من غير ذی شعور كالببغاء، وينتقل الذهن إلی المعنی، مع عدم وجود تعهد أصلاً.

والجواب: إنه في هذه الموارد لا توجد علقة وضعية بل انتقال الذهن إنّما هو لأجل أنس الذهن بهذه العلقة، كالشباهة في التكوينيات، فإن رؤية شبيه قد توجب تصوّر شبيهه مع عدم وجود دلالة ولا علقة أخری بل هي مجرد قضية اتفاقية.

وسابعاً: إن كان المراد من التعهد هو البناء علی ذكر اللفظ عند إرادة تفهيم المعنی، فيلزم من ذلك أن يکون مدلول اللفظ هو (إرادة التفهيم) لا (المعنی)، وإنّما يکون المعنی من قيود المدلول لا نفسه، وهذا ينافي دعوی وضع اللفظ للمعنی!!

وثامناً: أيّد في المنتقی(1) بطلان التعهد بأمثلة:

أ) تحقق الوضع من الأخرس الذي لا يستطيع الكتابة، ولا يمكنه الاستعمال قط - كما لو وضع اسماً لولده - مع أنه لا تعهد لديه بذكر اللفظ والتفهيم به عند قصد التفهيم.

وفيه: أنه تعهد - علی القول به - لغيره لا لنفسه.

ص: 36


1- منتقی الأصول 1: 66.

ب) لو وضع اسماً مباركاً علی ولده لا بقصد الاستعمال بل بقصد التبرك كوضعهم اسم (محمد) علی الوليد لمدة سبعة أيام.

وفيه: أنه تعهد لمدة معينة ينتهي بعدها - علی القول بالتعهد - .

ج) لو وضع اسماً قبيحاً علی ولده لكي لا تصيبه عين، مع عدم إجازته لاستعمال ذلك الاسم.

وفيه: أنه تعهد - علی القول به - ويوجب دلالة ذلك اللفظ علی ذلك الوليد، ولكن المنع إنّما هو في الاستعمال العمومي لا استعمال نفس الوالد والوالدة مثلاً، وهذا نظير الألفاظ القبيحة التي يمنع عن استعمالها عند العموم مع أن دلالتها علی المعنی لا إشكال فيها.

هذا مضافاً إلی أن الإشكال في هذه الأمثلة يرد علی الوضع بأي معنی كان.

فتحصل: أن نظرية (التعهد)، لا إشكال عليها ثبوتاً، وإنّما الإشكال في مقام الإثبات، حيث لا نری ذلك في الواضعين.

البحث الثاني: في الواضع

إدعی المحقق النائيني(1) أن الواضع هو الله تعالی، واستدل لذلك:

بأن اللغات دقيقة جداً - في ألفاظها ومعانيها - ، ولا قدرة لمجموعة من الناس فضلاً عن واضع واحد لاستيعاب كل تلك الألفاظ والمعاني.

ولو كان الوضع من البشر لذكر في التاريخ اسمه، بينما لا نجد ذلك في أية لغة من اللغات.

والنتيجة: أن الواضع هو الله تعالی، لا بإرسال الرسل وإنزال الكتب، ولا

ص: 37


1- فوائد الأصول 1: 30.

بطريق الجعل التكويني بل عن طريق الإلهام، فيُلهم كل قوم بلفظ لمعنی، مع وجود مناسبة بينهما مخفية علينا.

ويرد عليه: أولاً: إنه لا أحد ينكر وجود قوة وملكة في الإنسان تجعله قادراً علی الوضع، وتلك الملكة هي بجعل منه تعالی، كما قال سبحانه: {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}(1)، وهذا ليس خاصاً بالوضع، بل في جميع ممارسات الإنسان الاختيارية، فإن البذرة من الله تعالی، ونموها باختيار الإنسان.

وثانياً: أنه لا يدعي أحد أن كل اللغة أو غالبها هي بوضع تعييني، بل يقال: إن الحاجة دعت الإنسان إلی التعبير عما يدور في ذهنه، وكانت في المجتمعات البدائية معاني قليلة، ثم تطورت بالتدريج وبمرور أجيال، وكلّما ظهرت حاجة، تعارف استعمال لفظ، وهذا نظير استعمال الأطفال لألفاظ مخصوصة فيما بينهم، بل قد يستعملها الكبار في تكلمهم معهم، ولو كانوا يتركون علی ما هم عليه لتولدت لغة جديدة خاصة بهم.

ومن ذلك يظهر وجه النظر في دليله الثاني.

وثالثاً: في تسمية الأولاد هل يجد أحدنا أن ذلك الاسم الخاص بإلهام منه تعالی(2)؟! وكذا بالوجدان لا نشاهد في الأوضاع التعيينية - سواء في الآلات أو المعاني الجديدة - أيَّ إلهام.

وقد استدل بأدلة أخری علی كون الواضع هو الله تعالی.

منها: كيف قدّر لإنسان ما قبل اللغة أن يلتفت إلی إمكانية الاستفادة من

ص: 38


1- سورة الرحمن، الآية: 4.
2- نهاية الأفكار 1: 24.

الألفاظ ووضعها بازاء المعاني؟

والجواب: إن وجود القوة والملكة بجعل من الله لكن ذلك ليس وضعاً، بل كما ذكرنا كل أعمال الإنسان الاختيارية منشؤها ملكات ذاتية جعلها الله تعالی.

ومنها: كيف نفسر اتفاق مجموعة من الناس علی لغة معينة؟

والجواب: إن المجتمعات البدائية كانت صغيرة جداً، فيمکن حصول الوضع بالتدريج - بالتعيّن غالباً وبالتعيين أحياناً - وخاصة مع تعلّم الأبناء من الأباء، وكلّما قلّت الارتباطات عبر الهجرة وانقطاع الاتصال تغيرت اللغات بمرور الزمان، ولذا قد ثبت اشتراك كثير من اللغات في أصلها وتغيرها وتطورها بحسب عامل الهجرة وانقطاع الاتصال.

بل اللغة الواحدة لمجموعة واحدة تتغير باستمرار، كما نشاهد ذلك في اللهجات العامية في اللغة العربية، ولولا القرآن الكريم لتحوّلت اللغة العربية إلی مجموعة لغات، كما حدث لغيرها.

نعم، لايمكن إنكار أن آدم (علیه السلام) كان يتكلم بلغة مع زوجته وأولاده، وذلك بتعليم من الله تعالی، ولكن هذا الأمر لا يسري إلی كل اللغات.

والحاصل: إن قوة التكلم والقدرة علی الوضع إنّما هي من الله تعالی، ونفس عملية الوضع هي فعل بشري قام به أجيال من الناس وفي فترات طويلة، وهذه العملية مستمرة ولذا تتطور اللغات وتتغير.

البحث الثالث: أقسام الوضع
اشاره

الوضع: هو حكم بين طرفين، أحدهما اللفظ والآخر المعنی، فلابد من ملاحظتهما حين الوضع.

ص: 39

ثم إنه قد يُقَسَّم الوضع بلحاظ المعنی، وقد يُقَسّم بلحاظ منشأ الوضع، وقد يُقَسّم بلحاظ اللفظ.

فالأول: التقسيم بلحاظ عموم المعنی وخصوصه، وهو علی أربعة اقسام.

والثاني: التقسيم إلی الوضع التعييني والتعيني.

والثالث: التقسيم بلحاظ أن الوضع شخصي أو نوعي، كما في وضع الهيئات حيث لم يلحظ معنی خاص.

التقسیم الأول: التقسيم باعتبار منشأ الوضع

قسموا الوضع باعتبار منشأه إلی تعييني وتعيني، وإلی التعييني بالإنشاء وبالاستعمال، فالأقسام ثلاثة:

1- الوضع التعييني الإنشائي: وذلك بجعل العلقة بين اللفظ والمعنی بجملة إنشائية، نظير عقد البيع.

2- الوضع التعييني الاستعمالي: وذلك عبر استعمال لفظ في معنی بغرض الوضع، كأن يقول: (ناولوني ولدي علياً) قاصداً وضع اسم (علي) علی وليده، ونظير هذا المعاطاة التي هي إنشاء فعلي لحصول الملكيه.

3- الوضع التعيّني: وذلك بحصول العلاقة بين اللفظ والمعنی بكثرة الاستعمال.

وأشكل علی الثاني:

أولاً: بأن ذلك الاستعمال ليس بحقيقة ولا مجاز.

والجواب: أن ذلك غير ضائر، إذ لا دليل علی إنحصار الاستعمال فيهما، بل هذا النوع من الاستعمال لا يأباه الطبع، وهو واقع بلا استقباح.

ص: 40

وثانياً: إن فيه اجتماع لحاظين، الآلي تارة، لأن اللفظ حين الاستعمال غير ملحوظ بنفسه بل بما هو آلة للمعنی، والاستقلالي أخری، نظراً إلی إقتضاء الوضع لأن يکون النظر إليه استقلالياً.

والجواب(1): إن الملاحظ شيئان:

أ) شخص هذا اللفظ، وهو متعلق اللحاظ الآلي.

ب) طبيعة هذا اللفظ، وهو الذي قصد الواضع تحقق العلاقة والربط بين هذه الطبيعة وبين المعنی، وهذا متعلق اللحاظ الإستقلالي، فلم يجتمع اللحاظان في موضوع واحد كي يستلزم اجتماع اللحاظين المحال.

وقد يقال بعدم المحذور في اجتماع اللحاظين، وذلك لأن اللحاظ يرتبط بالوجود الذهني، ولا مانع في أن يکون هناك وجودان في الذهن! ونظيره في التكوينيات النظر في المرآة لمعرفتها بنفسها ولمعرفة الصورة المنطبعة فيها.

وأشكل علی الثالث:

أولاً(2): إن استعمال اللفظ في معنی لابد أن يکون مصاحباً لقرينة لتدل علی المعنی، فلا وجه لأن يختص اللفظ بالدلالة علی المعنی بكثرة الاستعمال، بل لابد من دلالتهما معاً - اللفظ والقرينة - علی المعنی.

وفيه(3): أن اللفظ يقترن بالمعنی في كل الاستعمالات، لكن القرينة

ص: 41


1- نهاية الأفكار 1: 31.
2- منتقی الأصول 1: 72.
3- بحوث في علم الأصول 1: 96.

تختلف من مورد لآخر، تارة حالية، وأخری ارتكازية، وثالثة لفظية، وصياغات الألفاظ تختلف، فلا يحصل إقتران بين القرينة والمعنی، بل بين اللفظ والمعنی.

وثانياً: قد يقال: بأنه لابد في تحقق العلقة الوضعية بين اللفظ والمعنی من القصد إلی تحققها في أحد تلك الاستعمالات، وإلا فبدونه لا يكاد يجدي مجرد الاستعمال في تحققها، ولو بلغ الاستعمال في الكثرة ما بلغ.

وفيه: أنه مبنيّ علی القول بأن العلاقة الوضعيّة هي بالجعل الإنشائي، ولكن الصحيح أن العلاقة كما تتحقق بالإنشاء القولي أو الفعلي، كذلك تتحقق بواسطة كثرة الاستعمال، ويشاهد هذا بالوجدان في استعمال الألفاظ المجازية بكثرة حتی تنقلب إلی حقيقة(1).

والحاصل: إن كثرة الاستعمال توجب استيناس أذهان أهل المحاورة بالانتقال من سماع اللفظ إلی المعنی، فلا حاجة إلی دعوی اعتبار أهل المحاورة علی حد اعتبار الواضع، فإنه لغو بعد حصول النتيجة(2).

ثم إنه قيل: إن التعهد - علی مبنی التعهد - إن كان ابتدائياً فالوضع تعييني، وإن كان منشؤه كثرة الاستعمال فالوضع تعيني.

وفيه: أن التعيّني ليس تعهد وجعل علقة، بل اختصاص اللفظ بالمعنی يحصل قهراً ومن كثرة الاستعمال(3).

ص: 42


1- نهاية الأفكار 1: 31.
2- نهاية الدراية 1: 49.
3- فوائد الأصول 1: 29.

وبعبارة أخری - كما في المنتقى -(1): إن كثرة الاستعمال من الأمور التشكيكية، فإذا بلغت من الكثرة بحيث حصلت العلقة بين اللفظ والمعنی فلا ملاك للتعهد، لأن الغرض حاصل بدونه - وهو قابلية اللفظ للتفهيم - ، وإن لم تبلغ إلی ذلك الحد فلا وضع تعيّني.

التقسیم الثاني: التقسيم باعتبار المعنى
اشاره

أي التقسيم باعتبار المعنی المُتصوَّر، فتارة يکون باعتبار الحصر العقلي، وأخری باعتبار الممكن من الأقسام، وثالثة باعتبار الواقع منها.

فباعتبار الحصر العقلي الأقسام أربعة، 1- الوضع العام والموضوع له العام 2- الوضع الخاص والموضوع له الخاص 3- الوضع العام والموضوع له الخاص 4- عكسه.

فالوضع: هو المعنی المتصوّر، ويُسمی وضعاً مجازاً.

والموضوع له: المعنی الذي يُقرِّر الواضع وضع اللفظ لذلك المعنی.

والعام: يراد منه معناه اللغوي - أي المطلق - وهو الصورة الذهنية الكلية.

والخاص: هو المقيد، أي الصورة الذهنية الجزئية.

1- الوضع العام والموضوع له العام

لا إشكال في وقوع هذا القسم في كافة اللغات، مثل أسماء الأجناس.

ثم إن عمومية الوضع علی نحوين(2):

الأول: ما هو المشهور: من لحاظ معنی كلي عام ووضع اللفظ بازائه،

ص: 43


1- منتقی الأصول 1: 72.
2- نهاية الأفكار 1: 32-34.

كما في لفظة الإنسان، حيث يلاحظ الواضع مفهوم الإنسان في ذهنه، فيضع لفظ الإنسان بازاء ما تصوره من المعنی الكلي العام.

والعمومية هنا باعتبار المتعلّق، نظير كلّية الأحكام التكليفية، فإن كليتها باعتبار متعلّقها، لانحلالها حسب أفراد المتعلق إلی إرادات وأحكام جزئية، وإلاّ فنفس الحكم وتلك الإرادة المتعلقة بعنوان لا تكون إلاّ شخصيّة.

الثاني: أن يکون الموضوع له: الجهة المشتركة بين الأفراد المتصورة في الذهن، التي تمتاز بها أفراد كل نوع عن أفراد نوع آخر، بنحو لا يكاد تحققه في الذهن إلاّ مع الخصوصية وبالوجود الضمني المستقل.

وبعبارة أخری: الموضوع له ليس المفهوم المنتزَع بل هو منشأ انتزاع هذا المفهوم العام المنتزع عن الأفراد المتصورة في الذهن، وهي الجهة المشتركة.

وفي كلا القسمين لابد من توسيط آله الملاحظة.

أما الأول: فلأنّ أسامي الأجناس موضوعة للمهية المهملة - أي اللابشرط المقسمي - وهي مما لا يمكن تصورها بنفسها، لأن ما في الذهن إما مطلق أو مقيد، فلابد من توسيط آلة ملاحظة تشير إلی الجامع بين الماهية المقيدة والمطلقة.

وأما الثاني: لأن الجامع لا يكاد يتحقق في الذهن إلاّ في ضمن أفراده الذهنية، فلابد في مقام التفهيم من دالين اثنين، أحدهما: علی نفس الجامع، والآخر علی الخصوصية، وكذلك في مقام الوضع.

ص: 44

وأشكل عليه المحقق الإصفهاني(1) - والإشكال راجع إلی تصوير النحو الثاني - وحاصله: إن الموجودات بما هي موجودات ليس فيها جهة اشتراك أصلاً:

أ) لا للماهية بما هي هي، لأنها - في حد ذاتها - غير واجدة إلاّ لذاتها وذاتياتها، وليس منهما الكلّية أو جهة الاشتراك، لأنها من الأعراض.

ب) ولا للماهية بما هي موجودة - خارجاً أو ذهناً - لأنها بقيد كونها موجودة تكون جزئية.

بل الكلية والاشتراك من إعتبارات الماهية حين كونها في الذهن، فإذا كان النظر مقصوراً علی الماهية فيقال إنها جهة جامعة مشتركة، فالمنتزع عن الأفراد هي الجهة المشتركة وهي وحدة واحدة بطبيعة واحدة، وصحة انتزاع هذا الواحد من كل واحد من الوجودات هو معنی وجود الطبيعي بالعرض في الخارج.

فلسيت الجهة المشتركة هي منشأ الانتزاع حتی تكون الموضوع له، بل جهة الاشتراك هي بنفسها منتزعة، فتأمل.

فحاصل إشكال المحقق الإصفهاني: أنه لا محصل للنحو الثاني - مما ذكره المحقق العراقي في عمومية الوضع - وذلك لعدم وجود عمومية أصلاً:

أ) لا في الماهية بما هي هي، لأنها في حدّ ذاتها غير واجدة لما يعرض عليها، والكلية والجزئية من العوارض.

ص: 45


1- نهاية الدراية 1: 50-51.

ب) ولا للماهية بما هي موجودة - سواء في الذهن أم في الخارج - لأنها حينئذٍ جزئية.

ج) ولا لما ينتزع عن الأفراد - وهو جهة الاشتراك - وذلك لأن جهة الاشتراك هي وحدة واحدة بوحدة طبيعية - بمعنی أنها تنتزع من كل فرد - .

ويمکن أن يقال: إن الوجودات الجزئية مرکبة عادة من أجزاء أو قيود، سواء في الخارج أم في الذهن، فبعد ملاحظة تشابه بعض هذه الأجزاء أو القيود يمکن اعتبار تلك المتشابهات هي الجهة المشترکة فينتزع منها جامع عنواني.

ثم إنه لافرق في تصوّر الواضع المعنی الكلي حين الوضع بين: أن يکون تصوره بالكنه والحقيقة، كتصوره للإنسان بحدّه التام، أم بالوجه والعنوان، كالتصور بالحدّ الناقص، أم بالمشير، من دون دخل لذلك المشير في المعنی.

2- الوضع الخاص والموضوع له الخاص

ولا ريب في وقوعه في كافة اللغات، كأسماء الأعلام الشخصيّة، وذلك بأن يلاحظ الواضع معنی جزئياً حقيقياً، فيضع اللفظ لنفس ذلك الجزئي الحقيقي.

3- الوضع العالم والموضوع له الخاص
اشاره

وقد أشكل في إمكانه بأمور:

الإشکال الأول: إنه حين الوضع يلزم لحاظ المعنی الموضوع له، والمعنی الخاص إما ملحوظ أو غير ملحوظ، والأول: يستلزم كون الوضع خاصاً، وذلك للحاظ الخاص وهذا خلف، والثاني: يمتنع معه الوضع لعدم

ص: 46

اللحاظ.

وأجيب: بأنه يمكن الوضع للأفراد بلا إلتفات تفصيلي إليها، بل العنوان العام المشير إليها يکون واسطة في الوضع، وبعبارة أخری: العام وجه للأفراد، وتصوره تصور لها بوجهٍ، فيلحظ العام طريقاً إلی أفراده.

وبيانه بأنه لا يحتاج في الوضع ولا في أي حكم آخر إلی الالتفات التفصيلي إلی المحكوم عليه، بل يمكن الحكم عليه بواسطة عنوان عام مشير إليه، بلا إلتفات إلی نفس المعنون بالمرّة.

ثم إن عدم الالتفات إما للجهل بجميع الخصوصيات الموجبة للجزئية، أو لعدم إمكان الالتفات إلی الخاص، كما لو كان الحكم علی مصاديق العام مع كونها كثيرة جداً بحيث لا يمكن الالتفات إلی جميعها أصلاً.

ورُدّ الجواب(1): بأن (الموضوع له) في الوضع العام والموضوع له الخاص:

أ) لا يمكن أن يکون الفرد بوجوده الخارجي، إذ هو يمتنع أن يکون معروضاً للّحاظ، لأن الذهن لا يقبل الوجود الخارجي، لتقابلهما.

ب) ولا يمكن أن يکون (الموضوع له) الفرد بوجوده الذهني، إذ يمتنع أن يعرض اللحاظ علی الوجود الذهني، بمعنی أن يوجد في الذهن ثانياً، لاستحالة أن يکون للشيء الواحد وجودان.

ج) فانحصر (الموضوع له) في المفاهيم الجزئية - بلا وصف تلك المفاهيم بالوجود الخارجي أو الذهني.

ص: 47


1- منتقی الأصول 1: 74-75.

وهذه المفاهيم ليست وجهاً للعام أصلاً، وذلك لأن المفاهيم في مرحلة مفهوميتها متباينة - كتباين مفهوم زيد مع مفهوم الإنسان - ، نعم العام يکون وجهاً لأفراده الموجودة في الذهن أو الخارج - أي هو وجه لمصاديقه الذهنية أو الخارجيّة - لأنه متحد معها بنحو من أنحاء الاتحاد، ولذا يصح حملها عليه بملاك الاتحاد في الوجود، ولكن أثبتنا أن الموضوع له ليس الفرد بوجوده الذهني ولا الفرد بوجوده الخارجي، بل الموضوع له هو المفاهيم الجزئية، وليس العام وجهاً لها.

وفيه: أولاً: أن الجزئيات لها مفاهيم، ويمكن انتزاع المفهوم العام منها، كإنتزاع مفهوم الفرد من الإنسان، وبعبارة أخری(1): المفهوم العام الذي يتصوره الواضع ليس هو المفهوم العام المنتزع من الخارج ابتداءً فحسب، كمفهوم الإنسان الذي لا يصلح أن يکون فانياً إلاّ في الواقع الخارجي المنتزع منه، بل المفهوم العام المنتزع من نفس المفاهيم الجزئية التي يراد الوضع لها، كمفهوم الفرد من الإنسان الذي هو منتزع عن مفهوم زيد وعمرو وخالد وهكذا.

وثانياً: بأنّه لا يشترط اللحاظ في الوضع أصلاً، بل يکفي في صحته الإشارة إلی المعنی بلا لحاظه، فتأمل.

الإشكال الثاني(2): إنه لا يعقل وجود الجامع إلاّ بالتجرد عن كل الخصوصيات الفرديّة، فلا يکون الجامع حاكياً عن الأفراد بخصوصياتها،

ص: 48


1- بحوث في علم الأصول 1: 89.
2- نهاية الأفكار 1: 37.

فكل فرد له جزئان تحليليان - الجامع والخصوصية - ولا يمكن الاكتفاء بتصور الجزء للوضع للكل.

وحاصل الإشكال أن شيئاً من العناوين التفصيلية، كعنوان الإنسان والحيوان ونحوهما، وكذا العناوين العامة العرضية، كعنوان الذات والشيء ونحوهما، لا يمكن أن يکون مرآة إلی الأفراد الخاصة والعناوين التفصيلية، لأن غاية ما تحكي عنه تلك العناوين، إنّما هي الجهة المشتركة بين الأفراد التی بها امتياز كل فرد من هذا النوع عن أفراد نوع آخر، وأما حكايتها عن الأفراد بما لها من الخصوصيات التي بها إمتياز كل فرد من هذا النوع عن الفرد الآخر من ذلك النوع، فلا، بل هو مستحيل، لأن (الفرد والخصوصية) تتباين مفهوماً مع مفهوم (العام)، والمباين لا يمكن أن يکون وجهاً للمباين.

وجوابه: وله تقريران:

التقرير الأول: حسب المحكي عن المحقق العراقي في بدائع الأفكار: أن الجامع قسمان:

1- أن يکون الجامع الكلي جزءاً تحليلياً لما هو فرده بالذات، كالإنسان بالنسبة إلی زيد وعمرو.

2- أن يکون الجامع بالنسبة إلی أفراده بالعرض، كالجامع الانتزاعي بالنسبة إلی مناشئ انتزاعه، كالإمكان بالنسبة إلی ماهية الإنسان، إذ بفرز ما به الامتياز في الأفراد لا نحصل علی مفهوم الإمكان، بل نحصل علی الجنس مثلاً، بل الإمكان في كل منها قائم بالماهية بخصوصياتها، وبفصلها المميز لها عن الماهية الأخری.

ص: 49

وبعبارة أخری(1): إن حيثية الجامع، تارة: تكون ثابتة في أفراده ضمناً، فلا يعقل حكايته عن الأفراد بخصوصياتها، لأن مرجعه إلی حكاية الجزء عن الكل، وهذا ما يکون دائماً في الجامع مع أفراده بالذات.

وتارة أخری: تكون حيثية الجامع قائمة بأفراده قياماً عرضياً، علی نحو تكون قائمة بهذا الفرد بخصوصه، وبذلك بخصوصه، فيمکن أن يُتخذ الجامع مرآةً للأفراد بخصوصياتها - وهذا يکون في الجامع الانتزاعي العرضي مع أفراده بالعرض، وهي مناشئ انتزاعه - .

التقرير الثاني: ما في نهاية الأفكار(2): بكفاية لحاظ الموضوع له، ولو بوجه إجمالي، مشيراً به إلی الأفراد الخاصة في مقام الوضع، المعبّر عنها بما ينطبق عليه مفهوم الإنسان أو مفهوم الذات أو الشيء.

وأشكل عليه في المنتقی(3): بأن هذا يستلزم كون الوضع والموضوع له عامين وهذا خلاف الفرض بكون الموضوع له خاصاً. لأن هذه المفاهيم المنتزعة عن الخصوصيات المنطبقة عليها، هي مفاهيم عامة، وضع بإزائها بعض الألفاظ الدالة عليها، كلفظ الفرد والشخص ونحوهما. إذ كل ما يتصور مما هو حاك عن الأفراد يکون كلياً، والوضع بإزائه يستلزم عموم الموضوع له.

أقول: لعل إشكاله يرد علی التقرير الأول، وأما التقرير الثاني فلا يرد

ص: 50


1- بحوث في علم الأصول 1: 90.
2- نهاية الأفكار 1: 37.
3- منتقی الأصول 1: 78.

عليه هذا الإشكال لتصريحه «بأن الوجه الإجمالي يشار به إلی الأفراد الخاصة في مقام الوضع».

مثلاً يقول: (من في هذه الدار سميته علياً) فإن (الموضوع له) ليس الكلي الذي ينطبق علی مصاديقه، بل (الموضوع له) الأفراد بخصوصياتهم، وقد جعل العنوان الكلي (من في هذه الدار) مشيراً إلی تلك الأفراد، فتأمل.

أقسام الوضع العام والموضوع له الخاص

ثم إنّه قيل بأنّ أنحاء تصوّر (الوضع العام الموضوع له الخاص) علی ثلاثة(1):

1- أن يکون (الموضوع له) - الملحوظ بتوسط العنوان العام الكلي - هو الأفراد المخصوصة بخصوصياتها التفصيلية الجزئية، كما لو لاحظ في مقام الوضع عنوان الإنسان مشيراً بهذا العنوان إلی المصاديق الخاصة.

نظير التكاليف، كقوله (أكرم من في الدار) مشيراً به إلی الأفراد الخارجيّة.

2- أن يکون (الموضوع له) عبارة عن الأفراد والصور التفصيلية، ولكن بحيث تعمّ الكلي والجزئي، مثلاً لفظ (شيء)، يشير به إلی ما ينطبق عليه هذا العنوان، سواء كان كلياً كالإنسان والحيوان، أم جزئياً كزيد وعمرو.

3- أن يکون (الموضوع له) - الملحوظ بتوسط العنوان الكلي - ، هو معنی إجمالي مبهم، كالشبح، بحيث يکون نسبته إلی الصور التفصيلية هي نسبة الإجمال والتفصيل، بحيث لو انكشف الغطاء لكان ذلك المعنی

ص: 51


1- نهاية الأفكار 1: 35.

الإجمالي عين المعنی التفصيلي.

ومثّلوا للثاني: بأسماء الإشارة، فيقال (هذا الإنسان) و(هذا زيد).

ومثّلوا للثالث: بأسماء الإشارة أيضاً، والضمائر، والموصولات، التي يعبّر عنها بالمبهمات وسيأتي الكلام فيها، وأنها ليست من (الموضوع له الخاص) فانتظر.

ويرد علی هذا البيان، أنّه في القسم الأول والثاني إن لاحظ الواضع الأفراد بخصوصياتها التفصيلية خرج عن الوضع العام إلی الوضع الخاص، وإن لم يكن كذلك دخل في القسم الثالث.

الاشتراك اللفظي أم المعنوي؟

ذهب المحقق النائيني(1)إلی أن (الوضع العام والموضوع له الخاص) يکون من المشترك اللفظي، وذلك لأن الإشتراك اللفظي هو أن يكون اللفظ واحداً مع تعدد المعنی، وهكذا فيما نحن فيه، إذ (الموضوع له) هو الأفراد، وهي متباينة، فإن الاشتراك اللفظي تارة يکون مع تعدد الأوضاع - كلفظ العين - ، وتارة يکون مع وضع واحد، ولكنه في الحقيقة ينحل إلی أوضاع متعددة.

مثلاً: قد يسمی كل مولود يولد في ليلة معينة ب-(علي)، فهنا أوضاع متعددة لمعاني متعددة، وقد يجمع الأوضاع كلها في لفظ واحد فيقول: (كلّ مَن يولد في هذه الليلة فقد سميته علياً). فهذا النوع من الاشتراك يرجع إلی الوضع العام والموضوع له الخاص، لأنه جامع عرضي قد تصوره

ص: 52


1- فوائد الأصول 1: 32.

الواضع ووضع اللفظ بازائه.

وأما الشيخ الأعظم فيظهر من تقريرات درسه(1) الفرق بين (الوضع العام والموضوع له الخاص) وبين (الاشتراك اللفظي) - وذلك في بحث الصحيح والأعم - .

ووجهه المحقق النائيني(2): بأن مراده من (الاشتراك اللفظي) لعله ما تعدد فيه الوضع حقيقة، لا ما كان التعدد بالانحلال (كما في الوضع العام والموضوع له الخاص).

أقول: إن (الاشتراك اللفظي) اصطلاح خاص بتعدد الوضع مع اختلاف المعنی، نعم ملاكه يجري في (الوضع العام والموضوع له الخاص)، فتأمل.

4- الوضع الخاص والموضوع له العام
اشاره

بأن يتصور الواضع مصداقاً جزئياً فيضع اللفظ لكليّه.

وقد اختلف في إمكانه، والأشهر استحالة هذا القسم.

وبيان وجه الاستدلال على استحالته

وقد استدل علی الاستحالة بوجوه، منها:

الوجه الأول: ما ذكره في المنتقی(3)، وحاصله: أنه لابد من الإشارة الذهنية للمعنی الموضوع له، إذ لايمكن الوضع لشيء بدون تصوره أو بدون الإشارة إليه، وكل ما يکون مشيراً إلی المعنی العام يکون كلياً، مثلاً

ص: 53


1- مطارح الأنظار 1: 49.
2- فوائد الأصول 1: 33.
3- منتقی الأصول 1: 80-81.

لو تصورنا مفهوماً جزئياً كزيد، وأردنا الوضع لكليّه المنطبق عليه بلا تصور لذلك الكلي - لكي لا ينقلب إلی الوضع العام - فلابد من الإشارة إلی ذلك الكلي، وكل ما يتصور كونه مشيراً إلی ذلك الكلي فهو كلي، مثل عنوان (منطبق) أو عنوان (كلي)، فيقال: (ما هو كلي زيد) أو (ما هو منطبق علی زيد).

وواضح أن هذه المفاهيم كليه، فانقلب إلی (الوضع العام) أيضاً.

وفيه: أنّ (الوضع) ليس للعنوان المشير، فلا يضر كليّة ذلك العنوان المشير.

الوجه الثاني: ما ذكره المحقق الإصفهاني(1): من أن الوضع للكلي لايحتاج إلاّ إلی ملاحظته، بخلاف الوضع للأفراد غير المتناهية، فإن لحاظ غير المتناهي غير معقول، فلابد من لحاظها بجامع يجمع شتاتها، ويشمل متفرقاتها، وهو الكلي المنطبق عليها، فإن لحاظها بالوجه لحاظها بوجهٍ.

وأشكل عليه: بأنه كما يمكن التصور الإجمالي للأفراد عبر تصور العام - في الوضع العام والموضوع له الخاص - ، كذلك يمكن التصور الإجمالي للعام عبر تصور الخاص، لتضمّن الخاص علی العام باعتباره جزءاً منه، - وهذا في الوضع الخاص والموضوع له العام - ، نعم يمكن التصور التفصيلي للعام، لكنه غير لازم بعد فرض كفاية التصور الإجمالي.

والحاصل: إن التصور الإجمالي إن كان كافياً، فلا فرق بين التصور الإجمالي للخاص أو التصور الإجمالي للعام، وعدم إمكان التصور

ص: 54


1- نهاية الدراية 1: 49.

التفصيلي للأفراد مع إمكانه للعام غير فارق.

وفيه نظر: لأن تصور العام الذي هو في ضمن الخاص ليس تصوراً إجمالياً له، بل هو تصور تفصيلي له ولكن انضم إليه تصور أمور أخری تفصيلياً - وهي المشخصات الفردية - بخلاف تصور الأفراد، فإنها لكثرتها - مثلاً - لا يمكن تصورها إلاّ بنحو الإجمال وعبر العام.

فالأولی: الإشكال بأن عدم الحاجة لا تثبت الاستحالة، بل أقصی ما تثبته هو العبثيّة، فتأمل.

الوجه الثالث: ما ذكره المحقق العراقي(1): وهو التباين بين (الكلي) وبين (الفرد والخصوصيه)، وكذا (الكلي المقيد). فمفهوم الإنسان مباين مع مفهوم زيد، وكذا مباين مع مفهوم الإنسان المقيد بالزيديّة - مثلاً - ، ولا يکون المباين وجهاً لمباينه.

ومع تجريده عن الخصوصية، وذلك عبر لحاظه بما أنّه قابل للإنطباق علی زيد وعلی غيره، يکون من الوضع العام والموضوع له العام.

وأشكل عليه: أولاً: بالنقض في (الوضع العام والموضوع له الخاص)، بأنه كيف لم يقل باستحالته مع التباين بين الكلي وبين الخاص؟

وفيه: أن هناك - أي في الوضع العام والموضوع له الخاص - يُضفي الواضع الخصوصية بنحو إجمالي علی المفهوم العام، وتلك الخصوصية بسبب إجمالها لا توجب الإنقلاب إلی (الوضع الخاص والموضوع له الخاص)، عكس ما هنا - أي في الوضع الخاص والموضوع له العام - ، فإن

ص: 55


1- نهاية الأفكار 1: 37.

تجريد الخاص عن الخصوصية يوجب انقلابه إلی الوضع العام، فتأمل.

وثانياً: إن الخصوصية لا تباين ذات الطبيعة بلا تقيدها بأي قيد - في اللابشرط القِسمي - فلا تباين بين العام والخاص.

وفيه: أن الكلام في المفهوم، ولا إشكال في أن مفهوم الإنسان يباين مفهوم زيد، لأن المفهوم هو الصورة الذهنية - وهي جزئية - ومن المعلوم تباين الوجودات الجزئية.

وثالثاً: إن ما ذكره لا يجري في القسم الثاني من الجامع - وهو الجامع العرضي، كالفرد والشيء ونحو ذلك، كما مرّ.

الوجه الرابع: ما ذكره المحقق الخراساني(1)، وحاصله: أن العام يصلح لأن يکون آلة للحاظ أفراده ومصاديقه بما هو عام، فإنه من وجوهها، ومعرفة الشيء بوجهه معرفة له بوجهٍ ما، فلذا أمكن الوضع العام والموضوع له الخاص.

بخلاف الخاص، فإنه بما هو خاص، لا يکون وجهاً للعام، ولا لسائر الأفراد فلا تكون معرفته وتصوره معرفة للعام، ولا للأفراد أصلاً ولو بوجه.

ويرد عليه: أنه ما المراد (بكونه وجهاً)؟

أ) إن كان المراد (الانتزاع)، حيث إن العام ينتزع من الخاص، فلذا يکون تصور العام مستلزماً للتصور الإجمالي للخاص، وليس كذلك الخاص إذ لا ينتزع عن العام!

ص: 56


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 27-29.

ففيه: أن الخاص منشأ انتزاع العام، فأي مانع من أن يکون تصور الخاص مستلزماً للتصور الإجمالي للعام، فكما أن تصور أربعة أشياء يکون مستلزماً للتصور الإجمالي للزوجية، كذلك تصور الزوجية مستلزم للتصور الإجمالي للأشياء الأربعة.

ب) وإن كان المراد (المرآتية)!

ففيه: أن إدعاء الفرق خال عن الدليل، لأن العام والخاص متحدان وجوداً - باعتبار أن الطبيعي موجود بوجود فرده - ، ومتغايران مفهوماً، لأن المفاهيم جزئية، والجزئيات متباينة.

فالأولی: في بيان وجه الاستحاله، أن يقال إن الواضع إذا تصور الخاص:

1- فإن تصور العام، إنقلب إلی الوضع العام.

2- وإن لم يتصور العام، لم يكن الوضع له، إذ كيف يضع اللفظ لشيء لم يتصوره.

إن قلت: يشير إلی العام من غير تصوره، كما في الوضع العام والموضوع له الخاص.

قلت: إن الإشارة إلی العام تستلزم تصوره دائماً، لأنه شيء واحد، فينطبع في الذهن قهراً، بخلاف الإشارة إلی الأفراد، فإنها لا تنطبع في الذهن بالإشارة إليها إلاّ بنحو إجمالي، والإجمال لا يضر بالوضع العام - كما مرّ - فتأمل.

الاستدلال على إمكانه

ثم إنه قد استدل علی إمكان هذا القسم بدليلين:

ص: 57

الدليل الأول: ما عن المحقق الرشتي(1): من أن الوضع الخاص والموضوع له العام كالمنصوص العلة، فإنه فيها يکون موضوع الحكم شخصياً، ومع ذلك يسري إلی كل ما فيه العِلّة.

وكذا إذا وضع لفظ لمعنی باعتبار ما فيه من الفائدة - كدواء مركب من أشياء - فإن الوضع يسري إلی كل ما فيه تلك الفائدة، فيکون الموضوع له عاماً، مع كون آلة الملاحظة خاصاً.

والجواب: أولاً(2): أن اللحاظ الذي لابد منه في الوضع للكلي، هو لحاظ نفس الكلي - أي علی نحو اللابشرط المقسمي - ، ولحاظ الفرد من حيث فرديته أو لحاظ الكلي الموجود فيه لا دخل له بلحاظ الكلي بما هو كلي.

وثانياً(3): أنه لا ربط للمقام بمنصوص العلة، ولو سلّم الربط فإن الحاكم في منصوص العلة لو لم يلحظ العلة لم يكن قاصداً للحكم العام، وإن لحظها فقد لحظ العام بعد لحاظه للخاص.

الدليل الثاني: ما عن المحقق الحائري: بأنه قد يری شبحاً من دون العلم بنوعه ولا بجنسه ولا بأي عنوان ينطبق عليه، بل لا ينطبق عليه سوی عنوان (الشبح)، فإذا وضع اللفظ بإزاء العنوان الواقعي المنطبق علی هذا الشبح، كان من الوضع الخاص، إذ الملحوظ حال الوضع هو هذا الموجود الخاص - وهو الشبح - والموضوع له عام لأنه الكلي المنطبق علی الشبح.

ص: 58


1- راجع الأصول 1: 27.
2- نهاية الدراية 1: 50.
3- الأصول 1: 28.

وفيه: أن هنا عنوان عام عرضي هو (كل ما ينطبق علی هذا الشبح)، فانقلب إلی الوضع العام.

البحث الرابع: في المعنى الحرفي
اشاره

وفيه مطالب:

المطلب الأول: في معنى الحروف
اشاره

لا إشكال في وقوع الوضع والموضوع له العامين، كما لا إشكال في وقوع الخاصين، إنّما الكلام في وقوع الوضع العام والموضوع له الخاص - بعد الفراغ عن إمكانه - .

وقد مثّلوا له بالحروف، والأسماء الشبيهة بها كالموصولات وأسماء الإشارة، والشباهة من جهة الافتقار.

فلابد من تحقيق الأمر في معاني الحروف، ليتضح صحة هذا الكلام من عدمه.

ولا يخفی أن المدلول الإجمالي للحروف واضح لأهل اللسان، ومع الشك يمكن مراجعة كتب النحو أو اللغة، وإنّما البحث هنا في معرفة حقيقة المعنی الحرفي، أي كيفية تصورنا له، فالبحث في الحقيقة هو بحث لتحليل واقع نفهمه ونستعمله.

ثم إن المباني في المعنی الحرفي ثلاثة:

1- إن الحروف لم توضع لمعنی، وأن حالها حال علامات الإعراب.

2- إن معانيها كالأسماء، فالوضع والموضوع له عامين، وإنّما الاختلاف بين الأسماء والحروف فيما سنذكره.

ص: 59

3- إن للحروف معاني تختلف اختلافاً ذاتياً عن المعاني الاسمية.

المبنى الأول: عدم وضع الحروف لمعنى

وحاصله: أن الحروف كعلامات الإعراب، ولم توضع لمعنی أصلاً، بل هي علامات لبعض حالات الاسم والفعل، فكما أن (الرفع) علامة لكون الاسم فاعلاً - مثلاً - من غير أن يکون للرفع معنی، كذلك (في) - مثلاً - علامة علی كون ما بعدها ظرفاً(1).

وفيه: أولاً: الإشكال في (المقاس عليه) أي في حركات الإعراب، وفي (المقاس) أي في الحروف.

أما المقاس عليه: فإن حركات الإعراب تدل علی معان وخصوصيات خارجة عن مدلول الاسم، ولذلك يتغير المعنی بتغيرها وتبدلها، مع أن مدلول الاسم واحد لا تبدل فيه.

وبعبارة أخری: لفظ (زيد) - مثلاً - لا يدل إلاّ علی الذات العارية عن الخصوصية، - أي الماهية اللابشرط المقسمي وهي الماهية الصرفة - والخصوصيات ليست داخلة في معناه(2)، فلو استعمل لفظ زيد وأريد به الدلالة علی الماهية مع الخصوصيات كان مجازاً، لأنه من استعمال اللفظ في غير ما وضع له الذي هو الماهية الصرفة.

وأما المقاس: فإنه بضم الحرف إلی الاسم يفهم معنی وخصوصية ما، خارجة عن مدلول الاسم، بحيث لا تفهم تلك الخصوصية بذكر الاسم

ص: 60


1- نقله في فوائد الأصول 1: 34؛ نهاية الأفكار 1: 39.
2- نهاية الأفكار 1: 39.

وحده، فيتعين أن يکون الدال عليها هو الحرف، إذ ليس في الكلام غيره مما يمكن القول بكونه دالاً علی المعنی(1).

إن قلت: المقصود هو وضع (الاسم المقيد بالحرف) للمعنی الخاص، بحيث لا يبقی في الحرف مدلول إضافي في الكلام يستفاد بنحو تعدد الدال والمدلول كما هو المطلوب(2).

قلت: إن الأسماء وضعت لذات المعنی، ولم توضع للمعنی المقيد أصلاً، وإلاّ لزم الوضع إلی ما لا نهاية، لاختلاف التركيبات بما لا يمكن حصره، وذلك مما لا يمكن الالتزام به.

وثانياً: يلزم من ذلك جواز حذف الحروف، إذ علی هذا المبنی لا دلالة لها بل هي علائم كعلائم الإعراب التي يجوز حذفها في الوقف ونحوه من غير تغير في المعنی، وهذا اللازم باطل قطعاً لاختلال المعنی في أكثر التركيبات لو حذفت الحروف منها.

إن قلت: إن الحروف تشخص المراد الجدي ولذا لم يجز حذفها.

قلت(3): إن الحروف تكمّل المدلول الاستعمالي، ولذا لا تكون الجملة تامة بدون الحروف سواء كان لها مدلول جدي أم لا.

المبنى الثاني: كون الحروف كالأسماء

إن للحروف معنیً لا يختلف عن معنی الأسماء، فيکون الوضع

ص: 61


1- أجود التقريرات 1: 24؛ منتقی الأصول 1: 94.
2- بحوث في علم الأصول 1: 232.
3- بحوث في علم الأصول 1: 233.

والموضوع له عامين في الحروف كالأسماء، وذلك لأن الحروف لا تشتمل علی خصوصية توجب جزئية المعنی:

1- لا خصوصية في الوجود الخارجي: وذلك لاستعمال الحروف في المعاني الكلية في كثير من الأحيان مثل (سِر من البصرة إلی الكوفة) فيتحقق الامتثال بالابتداء بالسير من أية منطقة من البصرة.

2- ولا خصوصية في الوجود الذهني - المعبّر عنه باللحاظ - إذ يرد عليه ثلاثة إشكالات، كما في الكفاية(1):

أولاً: عدم الصدق علی الخارجيات، لأن المعنی مقيد باللحاظ وهو أمر ذهني، وما كان مقيداً بأمر ذهني لا موطن له إلاّ الذهن، فيمتنع امتثال مثل (سِر من البصرة)، إلاّ بالتجريد، وهو يستلزم المجازية.

وثانياً: لزوم اجتماع لحاظين في مقام الاستعمال، أحدهما: اللحاظ المأخوذ في المعنی، والثاني: اللحاظ اللازم في مقام الاستعمال، حيث لا يمكن استعمال لفظ في معنی إلاّ مع لحاظ ذلك المعنی.

وثالثاً: لزوم جزئية المعنی في الأسماء، باعتبار أن اللحاظ الاستقلالي لحاظ - وهو وجود ذهني - فيکون جزئياً دائماً، لأن الكليات إنّما هي في المفاهيم لا في الوجودات.

فتحصّل: أنه لا فرق بين الحرف والاسم في المعنی، وإنّما الفرق بينهما باعتبار اللحاظ الآلي والإستقلالي، فإذا لوحظ في مقام الاستعمال باللحاظ الآلي يصير معنی حرفياً، وإن لوحظ باللحاظ الاستقلالي يصير معنیً اسمياً.

ص: 62


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 35-37.

ونتيجة ذلك هي أن الوضع والموضوع له عامين في الحروف كالأسماء، لأن ذات المعنی كلي، وعدم كون اللحاظ - الآلي كالاستقلالي - موجباً لجزئيته.

وأورد عليه إشكالات، منها:

الإشكال الأول: إنه علی ذلك يلزم الترادف بينهما، وجواز استعمال الحروف مكان الأسماء وبالعكس، مع بداهة بطلان ذلك.

والجواب: من وجوه منها:

الجواب الأول(1): إن منشأ عدم صحة استعمال أحدهما مكان الآخر هو قصور الوضع وعدم إطلاقه، فإن الاسم وضع لكي يراد معناه بما هو في نفسه، بخلاف الحرف فإنه وضع لكي يراد معناه بما هو آلة لملاحظة خصوصية حال المتعلق.

فليس منشأ عدم صحة الاستعمال، وجود المانع عن الاستعمال المذكور بعد إطلاق الوضع واقتضائه جواز الاستعمال المذكور، كما ليس منشأه من جهة تقيد المعنی في الاسم باللحاظ الاستقلالي والحرف باللحاظ الآلي، فإن ذلك مستحيل للوجوه الثلاثة التي ذکرت.

إن قلت(2): إن ذلك يقتضي أن يکون حدوث العلقة الوضعية وحصولها بين اللفظ والمعنی متوقفاً علی الاستعمال، لوضوح كون المراد باللحاظ الآلي والاستقلالي: اللحاظ في حال الاستعمال، ولازم ذلك أنه لا وضع - بمعنی لا

ص: 63


1- نهاية الأفكار 1: 41.
2- منتقی الأصول 1: 91.

وجود للعلقة الوضعية - بين اللفظ والمعنی قبل الاستعمال، وبطلان هذا لا يحتاج إلی بيان.

قلت: ليس المراد أن حصول الوضع يتوقف علی الاستعمال، بل المراد أن الوضع كان لبعض مصاديق المعنی العام، فالابتداء مثلاً له مصداقان أحدهما الابتداء الاستقلالي وقد وضع له الاسم فقط، والآخر الابتداء الآلي وقد وضع له الحرف فقط، فهذا الوضع من قبيل (ضيّق فم الركية)، فتأمل.

الجواب الثاني: إنه لافرق بين الاسم والحرف في المعنی، إلاّ أن الواضع اشترط استعمال الاسم فيما لو قُصد الاستعمال استقلالاً، واشترط استعمال الحرف فيما لم يُقصد استقلالاً بل قُصد لغيره(1).

ويرد عليه - لو أريد ظاهره، ولم يکن المقصود منه ما ذکر في الوجه السابق - :

أولاً: ما في المنتقی(2): من أن (الشرط) المأخوذ في الوضع: إما يرجع إلی (الموضوع له) بحيث يکون من قيوده، أم لا.

فعلی الأول: يلزم تقييد (الموضوع له) بالآلية والاستقلالية، فيکون رجوعاً إلی ما فرّ منه، فيرد عليه الإشكالات الثلاث المتقدمة.

وعلی الثاني: يلزم منه رجوع الشرط إلی تعدد المطلوب، فإن الشرط إذا لم يرجع إلی الموضوع له، كان مطلق المعنی هو الموضوع له في الحرف والاسم بلا قيد، وإنّما ثبت الإشتراط بنحو الاستقلال بلا دخل له في

ص: 64


1- فوائد الأصول 1: 47.
2- منتقی الأصول 1: 89.

الموضوع له، إذ الشرط خارج عن دائرة الموضوع له، فيرجع المحذور من جواز استعمال كل واحد منهما مكان الآخر.

وثانياً: ما في الفوائد(1) من أنه لا ملزم لاتباع شرط الواضع، فإنه أقصی ما يقال إن الواضع هو الله تعالی وأنه ألزم بهذه الكيفية من الاستعمال، فتكون مخالفته عصياناً، وهو لا يقتضي عدم صحة الاستعمال المذكور.

مثلاً: لو وضع اسم (زيد) علی الوليد واشترط عدم إطلاقه عليه ليلاً، فلو خالفه أحد واستعمله في الليل، لايکون غلطاً، بل عصياناً علی أسوء الفروض.

هذا فضلاً عن عدم ثبوت كون الواضع هو الله تعالی، وعدم وجود أي دليل علی هذا الاشتراط، بل مع القول بأن اللغات إنّما هي بالوضع التعيّني لا يکون معنی لهذا الشرط أصلاً.

الإشكال الثاني: مخالفته للوجدان، حيث نجد في أنفسنا اختلاف معنی (من) و(الابتداء).

قال المحقق العراقي(2): مخالفته لما عليه الوجدان والارتكاز من انسباق الروابط الخاصة في موارد استعمالها.

وسيأتي مزيد توضيح لكلامه حين ذكر أقوال المبنی الثالث.

وأما ما في الفوائد(3) من أن مثل ألفاظ (الابتداء) (الانتهاء) (الظرف)

ص: 65


1- فوائد الأصول 1: 49.
2- نهاية الأفكار 1: 43.
3- فوائد الأصول 1: 49.

(النداء) يکون لكل منها معنی متحصل في نفسه، بحيث يسبق إلی ذهن السامع لتلك الألفاظ معانيها، ولا يصح أن يقال للمتكلم أنه ليس لمفردات كلامه معنی متحصل، نعم يصح أن يقال له: ليس لكلامه نسبة يصح السكوت عليها، وهذا بخلاف التكلم بلفظة (من) (إلی) (في) (يا) (ك)، فإنه لا يسبق إلی ذهن السامع من هذه الألفاظ معنی أصلاً، ويصح أن يقال للمتكلم بذلك: إنه ليس لمفردات كلامه معنی، بل يُعَدّ هذا الوجه من التكلم مستهجناً ومستبشعاً.

ففيه تأمل، وذلک لانسباق المعنی من بعض الحروف وجداناً.

الإشكال الثالث: إن الاسم والحرف لو كانا متحدي المعنی وكان الفرق بمجرد اللحاظ الاستقلالي والآلي، لكان طبيعي المعنی الوحداني قابلاً لأن يوجد في الخارج علی نحوين، كما يوجد في الذهن علی طورين، مع أن الحرفي - كالنسب والروابط - لا يوجد في الخارج إلاّ علی نحو واحد وهو (الوجود لا في نفسه)، ولا يعقل أن توجد النسبة في الخارج بوجود نفسي(1).

وأجيب عنه: بأنه لا يلزم تطابق الوجود الخارجي والوجود الذهني في كل الخصوصيات، فالعرض لا يوجد في الخارج إلاّ في موضوعه، مع إمكان لحاظه في الذهن مستقلاً عن موضوعه، فله في الذهن طورين مع أنه في الخارج علی نحو واحد.

إن قلت: مثل معنی الابتداء قابل للنحوين من الوجود - الاستقلالي

ص: 66


1- نهاية الدراية 1: 51.

والآلي - سواء في الذهن أم في الخارج.

قلت: لعلّه لم يكن نظر المحقق الإصفهاني إلی كل المعاني الحرفية، حتی يستشكل عليه بهذا الإشكال، بل كان نظره إلی أمثال النسب والروابط التي لا توجد في الخارج إلاّ آلة.

الإشكال الرابع: إذا كان (الموضوع له) في كل من الحرف والاسم واحداً، فلازم ذلك حدوث علاقة بين معنی الاسم والحرف، بنحو يصح استعمال كل منهما مكان الآخر مجازاً، بل العلاقة الثابتة أقوی العلاقات - إذ العلقة هي في الإتحاد الذاتي بين المعنيين - مع وضوح عدم جواز استعمال أحدهما مكان الآخر حتی مجازاً(1).

وفيه: أولاً: الاستعمال المجازي مرتبط بالعرف، لا بالدقة العقلية، والمعنی - علی هذا المبنی - وإن كان متحداً دقة لكنه مختلف عرفاً(2).

ويمكن بيانه بطريقه أخری: وهو أنه لا يکفي مجرد العلقة في المجازية، فلا يصح إطلاق (الأسد) علی (الأبخر) و(المشعر)، بل لابد من قبول ذوق العرف لذلك.

وثانياً: أنه بناءً علی عدم تحقق العلقة الوضعية يکون الحرف مهملاً إذا لم يُلاحَظ آلة، وكذا الاسم يکون مهملاً إن لم يلاحظ بالاستقلال، والمهمل لا يصح استعماله لا حقيقة ولا مجازاً.

ويرد عليه: أنه في جميع الاستعمالات المجازية، يکون اللفظ وضع

ص: 67


1- فوائد الأصول 1: 49.
2- منتقی الأصول 1: 94.

لمعنی واستعمل في معنی آخر، وكذا هنا الحرف وضع للمعنی الآلي فيستعمل في المعنی الاستقلالي مثلاً.

الإشكال الخامس: النقض بموارد لوحظت بعض الأسماء آلة، أو الحروف استقلالاً، منها:

النقض الأول: الأسماء التي أ ُخذت معانيها معرفاً لغيرها وآلة للحاظه، مثل العناوين الكلية المأخوذة في القضايا حال كونها معرفات، مثلاً الكلي آلة للحاظ أفراده ومصاديقه، فإن الكلي تارة يلحظ بما هو ويحمل عليه المعقولات الثانوية - كالإنسان نوع - ، وأخری يلحظ مرآةً لأفراده وسارياً فيها ويحمل عليه الأحكام الثابتة للأفراد، فيقال (الماء يرفع العطش) و(النار حارة)، وعليه فيلزم أن تكون المعاني الاسمية حرفياً إذا لوحظت مرآة لمصاديقها وفانية فيها(1).

وفيه: أن معنی الآلية هو فناء مفهوم في مفهوم آخر، لا فناء العنوان في المصداق الخارجي(2).

قال المحقق العراقي(3): إنهم أطبقوا علی كونها - أي الحروف - غير مستقلة بالمفهومية، وربما أرجع (عدم الاستقلال بالمفهومية) إلی عدم استقلالها في مقام لحاظها بجعلها آلة لملاحظة حال الغير، قبال مفاهيم الأسماء الملحوظة بالاستقلال، وإلی ذلك نظر من قال بأن معانيها آلية

ص: 68


1- دراسات في علم الأصول 1: 39.
2- بحوث في علم الأصول 1: 235.
3- مقالات الأصول 1: 83.

ومرآتيّة.

وبعبارة أخری - كما قيل - : المعاني الاسمية والحرفية بناءً علی المبنی الثاني واحدة وإنّما الفرق في اللحاظ فقط، بمعنی أن (الابتداء) في (من) لوحظ آلة - أي رابطاً بين الطرفين - فوضع له الحرف، وفي لفظ (الابتداء) لوحظ مستقلاً فوضع له الاسم.

النقض الثاني: النقض بالمصادر، فإن فرقها عن أسماء المصادر هو أن المصادر أخذت بما هي أوصاف لمعروضاتها، بخلاف أسماء المصادر الملحوظ فيها الحدث بما هو شيء في نفسه، مع قطع النظر عن كونه وضعاً لغيره.

وأجيب: بأن المصادر مركبة من مادة وهيأة، فالمادة هي نفس الحدث وهو معنی اسمي، وأما الهيأة فلا بأس في القول بأنها معنی حرفي(1).

وفيه: أن غرض المستشكل هو أن المصدر - بمادة وهيأته - لم يلاحظ بشكل مستقل، بل لوحظ حالة في غيره، فانطبق عليه المعنی الحرفي - علی المبنی الثاني - .

فالأولی: الجواب عنه بما مرّ في الجواب عن النقض الأول.

النقض الثالث: قد يکون المعنی الحرفي هو المقصود بالإفادة، كما لو كان الموضوع والمحمول معلومين، مع الجهل بخصوصياتهما، فلو سأل شخص عن تلك الخصوصيات فأجيب عنها، فإن السائل والمجيب ينظران إلی هذه الخصوصيات بالنظرة الاستقلالية، مع أنها حالة في الغير ومعنی حرفي.

ص: 69


1- بحوث في علم الأصول 1: 236.

وفيه(1): أولاً: المستعمِل ينتزع مفهوماً اسمياً مشيراً به إلی واقع المعنی الحرفي الخاص ويجعله مدخول الاستفهام، نظير الإشارة إلی (العدم) والحكم عليه، فإن له وجوداً ذهنياً ولذا أشار إليه وحكم عليه، ولكن هذا الوجود الذهني يشير إلی واقع (العدم)، وكذا مثل (واجب الوجود) و(ممتنع الوجود) فإن المفهوم المنطبع في الذهن إنّما هو موجود ذهني ممكن، لكنه يشير إلی واقع لا يمكن إحضاره إلی الذهن، فتأمل.

وثانياً: أن يکون اللحاظ الاستقلالي متعلقاً بطرف المعنی الحرفي، أي بالمعنی الاسمي المتحصص بالحرف - بما هو متحصص - فيکون لحاظ التحصص تبعاً، كما لو سأل (إن زيداً هل جاء في البر أم البحر؟)

المبنى الثالث: اختلافهما بالذات

إن المعاني الحرفية تختلف عن المعاني الاسمية بالذات.

ولتصوير هذا المبنی وجوه متعددة - وهي أقوال مختلفة - منها:

القول الأول: الإيجادية

وهو ما ذهب إليه المحقق النائيني(2) وحاصله: أنه لا جامع بين المعنی الحرفي والمعنی الاسمي، وأن الحروف وضعت لإيجاد معنی في الغير - مع أربعة قيود - ، والأسماء وضعت بازاء المفاهيم المقررة في وعاء العقل.

وأما القيود الأربعة، فهي:

1- إن المعنی الحرفي إيجادي لا إخطاري، عكس المعنی الاسمي.

ص: 70


1- راجع منتقی الأصول 1: 92-93؛ بحوث في علم الأصول 1: 236.
2- فوائد الأصول 1: 35-45.

والإخطار: هو كون استعمال اللفظ في المعنی يوجب إخطار معناه في ذهن السامع واستحضاره لديه، لأن المفاهيم الاسمية لها نحو تقرر وثبوت في وعاء العقل - الذي هو وعاء الإدراك - .

والإيجاد: هو أن يکون استعمال اللفظ موجباً لايجاد المعنی من دون أن يکون للمعنی نحو تقرر وثبوت بدون الاستعمال، بل المعاني توجد في موطن الاستعمال، مثل كاف الخطاب وياء النداء، بداهة أنه لولا قولك (يا زيد) و(إياك) لما كان هناك نداء ولا خطاب، ولا يكاد يوجد معنی ياء النداء وكاف الخطاب إلاّ بالاستعمال.

2- إن المعنی الحرفي قائم بغيره لا بنفسه، والمعنی الاسمي قائم بنفسه.

فالمعنی الاسمي مدرك من حيث نفسه وله تقرر في وعاء العقل من دون أن يتوقف إدراكه علی إدراك أمر آخر، حيث إنه معنی يقوم بنفسه في مرحلة التصوّر والإدراك، وله نحو تقرر وثبوت.

وإن النسبة بين المعاني الحرفية والمعاني الاسمية هي النسبة بين المصداق والمفهوم، (فالنداء) مفهوم اسمي موطنه الذهن، والنداء الذي يوجد ب-(يا) هو مصداقه في الخارج، ومن الواضح الفرق بين المصداق والمفهوم، فالحروف بأجمعها إنّما وضعت لايجاد مصاديق الربط والنسبة، والأسماء وضعت بازاء مفاهيم تلك الروابط، فلا ترادف بين لفظة (يا) وبين لفظة (النداء).

3- إن المعنی الحرفي ليس له تقرر وثبوت بعد إيجاده.

بل كان إيجاده في موطن الاستعمال، ويکون الاستعمال مقوماً له،

ص: 71

ويدور حدوثه وبقاؤه مدار الاستعمال.

4- إن المعنی الحرفي حين إيجاده مغفول عنه وغير ملتفت إليه.

بداهة أن المعنی الحرفي - بما أنه معنی حرفي - لو کان ملتفتاً إليه قبل الاستعمال أو حين الاستعمال، لما كان موطنه الاستعمال، بل كان له موطن غير الاستعمال، إذ لا يمكن الالتفات إلی شيء من دون أن يکون له نحو تقرر في موطن، نظير الغفلة عن الألفاظ حين تأدية المعاني بها، لفناء اللفظ في المعنی وكونه مرآة له.

وبعبارة أخری(1): إن المعنی الحرفي بعد أن كان من سنخ اللحاظ والتصوّر وكيفية من كيفياته ولم يكن من المفاهيم المتقررة، كان غير قابل لتعلّق اللحاظ الاستقلالي به والإلتفات إليه، لأن اللحاظ في ظرفه غير ملتفت إليه أصلاً ومغفول عنه، والإلتفات يکون لنفس الملحوظ، فما يکون من سنخ اللحاظ ومن كيفياته - كالنسبة والربط - لم يكن قابلاً للإلتفات.

إن قلت: إن بعض الحروف ليست إيجادية، بل تحكي عن النسبة الخارجيّة مثل (من) و (إلی) ونحوهما ولذا فصّل صاحب (الحاشية علی المعالم) بين الحروف، فاعتبر بعضها إيجادية وبعضها إخطارية(2).

قلت: الحاكي عن النسبة هو الجملة وليس الحرف، فمثل (سرت من البصرة) لا شك من خطور الابتداء والانتهاء الحرفي - أي النسبة الابتدائية والانتهائية - ، لكن ليس الحاكي عنها الحرف بل كل الجملة بتركيبها.

ص: 72


1- منتقی الأصول 1: 97.
2- هداية المسترشدين 1: 146.

هذا محصل ما يستفاد من كلام المحقق النائيني في الفوائد.

ويرد عليه عدة إشكالات:

الإشكال الأول: إن هنالك نسبة بين الموجودين الخارجيين، ونسبة في الذهن بين المفهومين، وحرف يُنطق به في الكلام.

وفي الأول والثاني: تكون النسبة جزئية، رابطة بين الوجودين الخارجيين أو المفهومين الذهنيين.

وأما الثالث: فإن استعمال الحرف قد يکون للحكاية عن النسبة الموجودة في الخارج، فتكون المفاهيم الذهنية ونسبتها مرآة للحكم علی الخارج، وقد يکون لإيجاد شيء في الخارج كالنداء ب-(يا).

الإشكال الثاني: إن لنا مواطن ثلاث: الخارج، وذهن المتكلم، وذهن السامع.

أ) فإن كان المراد من (الإخطار): كشف الأسماء عن معنی في ذهن المتكلم، فالحروف كذلك.

ب) وإن كان المراد من (الإيجاد): هو إيجاد الحروف للمعنی في ذهن السامع، فالأسماء كذلك.

ج) وإن كان المراد هو وجود المعنی في الخارج، فكلاهما - أي الأسماء والحروف - قد يکونان إيجاديين وقد يکونان إخطاريين، أي قد يُوجدان المعنی في الخارج، وقد يحكيان عن وجوده في الخارج.

الإشكال الثالث: إنه لا يکون الكلام جدياً إلاّ إذا كان المتكلّم قاصداً له، ففي مثل (يا زيد) يکون هنالك تصوّر للنداء - بمعناه الحرفي - ثم قصده،

ص: 73

فالمعنی الحرفي حاضر في الذهن قبل الاستعمال.

إن قلت: في مثل (يا زيد) لا يکون النداء حاصلاً قبل الاستعمال!!

قلت: النداء بوجوده الخارجي يتوقف علی كلمة (يا)، ولكن بوجوده الذهني الربطي - أي بمعناه الحرفي - لا يحتاج إلی هذه الكلمة، بل يسبقها.

والحاصل: إن (يا) النداء، كما تُوجد النداء في الخارج، كذلك لها معنی في الذهن قبل الاستعمال، وإلاّ كان الاستعمال من غير قصد ولغواً.

الإشكال الرابع: لم يعرف معنی محصل ل-(الغفلة عن المعنی الحرفي) إذ عدم تعلق اللحاظ بالمعنی الحرفي باعتبار أنه من تحصيل الحاصل حيث إن المعنی الحرفي من سنخ اللحاظ، لا يلازم الغفلة عنه، بل كونه من سنخ اللحاظ هو عين الالتفات إليه، فإن اللحاظ هو بمعنی وجود الشيء في الذهن، والغفلة هي بمعنی عدم وجوده فيه، ففي الكلام تهافت.

والحاصل: إن المفهوم يحتاج إلی تعلق اللحاظ به ليوجد في الذهن، لكن اللحاظ أو ما كان من سنخه هو موجود في الذهن حاضر فيه فيکون ملتفتاً إليه، فتأمل.

الإشکال الخامس(1): إن مضامين الأسماء تكون في رتبة سابقة عن كشف الألفاظ عنها، فلو كان شأن الحروف هو إيجاد الارتباطات الخاصة بين مفاهيم الأسماء، فإن ذلك يلزمه تأخر صقع الارتباط بين المفهومين عن صقع الألفاظ.

فمضامين الأسماء متقدمة علی الألفاظ، والألفاظ مقدمة علی الربط - الذي

ص: 74


1- نهاية الأفكار 1: 49.

هو المعنی الحرفي علی هذا المبنی - ومعنی ذلك تقوّم الربط بما هو متقدم عليه بمرتبتين وهو محال.

وبيان المحالية - كما عن البدائع(1) - ما تصورته النفس حال كونه غير مرتبط، لا يعقل إحداث الربط فيه، لأن الوجود لا ينقلب عما هو عليه، مثلاً لو قال: (زيد)، فإنه يتصور السامع مفهومه مستقلاً لعدم علمه بعدُ بالربط وبمفاد الجملة، فلو قال بعد ذلك (في الدار) فإن إحداث الربط في الموجود غير المرتبط ممتنع.

وأشكل عليه(2): بأن الربط من خصوصيات نفس اللحاظ والتصور، فبذكر لفظ (زيد) يتحقق تصوره بلا أي تقيد، وبعد ذكر (في الدار) تضاف إلی ذلك اللحاظ والتصور خصوصية، ولا محذور في ذلك لأن الربط هو إضافة خصوصية إلی الوجود، فهو نظير حدوث الأوصاف علی الوجود الخارجي.

وفيه تأمّل: لأن الحرف يكشف عن الربط الموجود في ذهن المتكلم، وايجادية الحرف هي بمعنی تأخر ذلك الربط في ذهن السامع، فكيف يکون ما في ذهن السامع رابطاً للمفاهيم الموجودة في ذهن المتكلم؟

الإشکال السادس(3): أنّ لازم هذا القول هو إخراج جميع مثل هذه التقييدات عن حيّز الطلب والإرادة في الطلب المنشأ بالهيأة، كما في نحو

ص: 75


1- نقله في منتقی الأصول 1: 102.
2- منتقی الأصول 1: 104.
3- نهاية الأفکار 1: 49.

(سر من البصرة إلی الكوفة)، لأنه علی هذا المبنی تقييد السير بالبصرة في الموطن المتأخر عن موطن مفهومي الاسمين - أعني ذات السير والبصرة - ، وإن ذلك يستلزم كون هذا التقييد في عرض الطلب المنشأ بالهيأة، وذلك لأنه كما لفظ (من) علة لتحقق التقيد والإرتباط الخاص، كذا الهيأة علة لإيجاد الطلب، فكان العلتان في عرض واحد، فمعلوليهما - وهما الطلب والتقييد في عرض واحد - ولازم ذلك خروج جهة التقيد عن حيّز الطلب وتجريد متعلقه عنه، من جهة استحالة أن يؤخذ في متعلق الطلب ما هو في عرضه.

وبعبارة أخری: لو التزم بايجادية المعنی الحرفي لزم أن يکون معنی الحرف في حيّز الطلب وصقعه لا في حيّز المطلوب وصقعه، لأنهما يوجدان باللفظ، فيکون المعنی الحرفي متحققاً حال تحقق الطلب، فلا يکون مأخوذاً في المطلوب لتقدم المطلوب علی الطلب، فلا يکون القيد مأخوذاً في المطلوب، وإلاّ لزم الخلف - لتقدم المطلوب بقيوده علی الطلب - .

وأجيب عنه(1): بأن تقدم المطلوب علی الطلب إنّما هو في ذهن الآمر، والحروف ليست موجدة لمعانيها في ذهنه، بل توجدها في ذهن السامع، وليس المطلوب في ذهن السامع متقدماً علی الطلب، وأما بالنسبة إلی المتكلم فالمعنی الحرفي ليس من صقع الطلب لأنه متحقق قبل التلفظ.

وفيه تأمل: لنفس ما ذكرناه في الجواب السابق، فإن الطلب متأخر عمّا في ذهن الآمر، فلو لم يقصد الآمر التقيدات فلا تكون متعلقة لطلبه أصلاً فلا يجب امتثالها، فتأمل.

ص: 76


1- منتقی الأصول 1: 104.

القول الثاني: الوجود الرابط

ما ذهب إليه المحقق الإصفهاني(1): وهو أن الحروف موضوعة للوجود الرابط، وهو أضعف أنحاء الوجود، وذلك لأن الوجود علی أربعة أنحاء:

1- في نفسه ولنفسه وبنفسه، وهو الواجب تعالی.

2- في نفسه ولنفسه ولكن بغيره، وهو الجوهر.

3- في نفسه ولغيره وبغيره، وهو الأعراض، ويعبّر عنه بالوجود الرابطي.

4- لا في نفسه ولغيره وبغيره، وهو الوجود الرابط، وهذا هو المعنی الحرفي.

ومعنی (في نفسه) أنه في مرتبة ذاته لا يحتاج إلی أن يتقوّم بوجود غيره فيمکن تصوّره مستقلاً، ومعنی (لنفسه) هو أنه في مرتبة وجوده الخارجي لا يحتاج إلی محلّ، ولذا كان العرض (لغيره) لأنه في وجوده محتاج إلی محل، ومعنی (بنفسه) أي لا يحتاج إلی علّة لوجوده وهذا منحصر في الواجب تعالی، لأن سائر أنحاء الوجود ممكنه تحتاج إلی علّة لايجادها.

واستدل علی تحقق (الوجود الرابط): بأنا قد نتيقن بوجود الجوهر والعرض، فنعلم بوجود زيد ونعلم بوجود القيام - مثلاً - ، ولكنا نشك في ثبوت هذا العرض المقطوع به للموضوع المقطوع به فلا ندري هل القائم زيد أم عمرو.

ومن الواضحات لزوم تغاير متعلق الشك واليقين، وحيث كان متعلق اليقين هو: (الجوهر والعرض)، فيکون متعلق الشك أمراً آخر هو (الوجود

ص: 77


1- نهاية الدراية 1: 52-55.

الرابط).

وأشكل عليه بإشكالات، منها:

1- إشكال مبنائي، بعدم تحقق (الوجود الرابط)، وأن الدليل غير تام، لأنا قد نتيقن بالطبيعي ونشك في المصداق، مع أن الوجود في الخارج واحد، وهكذا هنا يکون اليقين بطبيعي العرض - كالقيام في المثال - ، والشك في مصداقه - أي تحققه في زيد - .

وفيه: أنه لعل المقصود هو إثبات تغاير (بين الجوهر والعرض) وبين (الوجود الرابط)، فقد نعلم ونقطع بوجود الجوهر والعرض، ولكن نشك في الارتباط بينها، فلا ندري هل هناك ارتباط أم لا بين (زيد) وبين (القيام)، وهذا يدل علی أن هناك شيء آخر غير الجوهر والعرض وهو (الوجود الرابط)، وإلاّ لم يكن مورداً للشك، بل كان ينبغي القطع بعدم وجوده، فلاتشبه (الطبيعي ومصداقه)، فتأمل.

2- إشكال بنائي، بأنه قد تستعمل الحروف في موارد يعلم بعدم وجود الرابط بينها مثل (الله عالم)، مع عدم تحقق أية نسبة وربط بين الواجب وصفاته الذاتية، لأنها عين ذاته.

وفيه نظر: أولاً: إنّ استعمال الكلمات في الواجب تعالی إنّما هو بنفس المعاني المستعملة في غيره وذلك لقصور اللغة، فتلك المعاني مرادة بالإرادة الاستعمالية، ولكنها قد لا تكون مرادة بالإرادة الجدّية، والمدار في الحقيقة والمجاز علی الإرادة الاستعمالية لا الإرادة الجدّية، كما ذكروا نظيره في العام المخصص بالمنفصل.

ص: 78

وثانياً: إن الربط إنّما هو في المفهوم الذهني للمتكلم، لا في الوجود الخارجي، فقد ذكرنا أن الألفاظ تدل علی المعاني في ذهن المتكلّم، والمفاهيم الموجودة في ذهنه ممكنات فلا إشكال في إيجاد الربط بينها، ويدل الحرف علی ذلك الربط، فتأمل.

القول الثالث: العَرَض النسبي

وهو ما نسب إلی المحقق العراقي، ولكن لا يظهر هذا منه في نهاية الأفكار ولا في المقالات، بل يظهر منه ردّ هذا الكلام(1).

وحاصل هذا القول هو أن الحرف موضوع للعرض النسبي، أي العرض المتقوّم في وجوده بطرفين كالأبوة والبنوة.

وذلك لأن الأعراض علی قسمين، فمنها ما لا يتقوم إلاّ بطرف واحد كالكم والكيف وهذا معنی اسمي، ومنها ما يتقوم بالطرفين مثل الأبوة والبنوة فهذا معنی حرفي!! مثلاً (من) موضوعة للإبتداء المتقوم ب-(المبتدِأ) و(المبتدأ منه)، و (في) موضوعة للظرفية، المتقومة بالظرف والمظروف.

إن قلت: المعاني الإفرادية تحتاج في إفادة المعنی التركيبي إلی رابط يربط بعضها ببعض، فإذا كان معنی الحرف نفس (العرض النسبي) احتاج الكلام إلی رابط يربط بعض أجزائه ببعض لعدم صلاحية الحرف للربط إذا كان معناه نفس العرض.

قلت: الرابط هو الهيأة التركيبية في الكلام، فلفظ (في) - مثلاً - يدل علی العرض الأيني العارض علی زيد في قولنا (زيد في الدار) والرابط بين (زيد)

ص: 79


1- راجع نهاية الأفكار 1: 45.

و(في) و(الدار) هو الهيأة التركيبية، وكذلك هيأة مثل (عالم) و(أبيض) و(مضروب)... الخ تدل علی ربط العرض بموضوعٍ ما.

وأشكل عليه(1): بأن المعنی الحرفي إن كان هو العرض النسبي، فلا يفترق حينئذٍ عن المعنی الاسمي، لأن كليهما - علی هذا المبنی - موضوعان للعرض النسبي، فلفظ (في) ولفظ (الظرفية) سيکونان بمعنی واحد، وهذا خلاف الوجدان، إذ إن الأعراض التسع - كلها ومنها الأعراض النسبيّة - من الوجودات المستقلة في ذاتها، وهي معان اسمية.

وعليه فبناءً علی هذا لا يظهر هنالك فرق ذاتي بين الاسم والحرف في المعنی، وهذا يناقض ما ذكره من الفرق الذاتی بينهما.

فتحصل أن الصحيح هو ما ذهب إليه المحقق الإصفهاني من كون معنی الحروف هو الوجود الرابط، لتعقله في نفسه ولعدم ورود إشكال عليه، مع ورود الإشكال علی كل الأقوال الأخری.

المطلب الثاني: في كيفية الوضع للحروف

بعد أن تبين معنی الحرف، نأتي إلی البحث عن كيفية الوضع في الحروف، فهل هو من (الوضع العام والموضوع له العام)، أم هو من (الوضع العام والموضوع له الخاص)؟

أما علی المبنی الثاني - وهو مبنی صاحب الكفاية من عدم الفرق بين المعنيين الاسمي والحرفي - فواضح أن الموضوع له عام، لأن اللفظ وضع للمعنی المطلق.

ص: 80


1- منتقی الأصول 1: 110-111.

وأما علی المبنی الثالث - سواء قلنا بإيجادية الحروف أم بإخطاريتها - ، فقد اختلف الأعلام:

1- فقد قيل: بأن الموضوع له عام.

قال المحقق النائيني(1): بعد ما كان قوام المعنی الحرفي بالغير - وكان وجوده بعين استعماله - ، فالخصوصية اللاحقة له باعتبار ذلك الغير، كالبصرة في (سرت من البصرة) ومكة في (سرت من مكة) ونحوهما...

أ) هل هي مما يتقوّم بها المعنی الحرفي، ولاحقة له بهويته - علی نحو التقييد داخل والقيد خارج - فيکون الموضوع له خاصاً.

ب) أم أن تلك الخصوصية خارجة عن المعنی الحرفي كلاً، فتكون تلك الخصوصية نظير المحل الذي يحتاج إليه العرض في التحقق، مع أنه خارج عن هوية ذاته ولا يتقوم به معنی العَرَض؟ فيکون الموضوع له عاماً.

والصحيح هو أن (الموضوع له) عام، لأنا حينما ننظر إلی استعمالات (من) و(إلی) - مثلاً - نجد أن معنی الكلمتين مختلف، لكن حينما ننظر إلی مختلف استعمالات (من) - مثلاً - نجد أن هنالك معنی وحداني في كل تلك الاستعمالات، وهو الجامع الموجود في كل تلك الاستعمالات الجزئية، وهذا يكشف عن وحدة المعنی الموضوع له، ولو كان المعنی جزئياً لكان ما يوجد بقولك (سرت من البصرة) مبايناً لما يوجد بقولك (سرت من الكوفة)، كمباينة شخصين اسم كل واحد منهما (زيد)، بداهة تباين الجزئيات بعضها مع بعض، وحيث لا نری تفاوتاً بين النسب الابتدائية التي

ص: 81


1- فوائد الأصول 1: 56.

توجدها لفظ (من)، فنعلم أن لفظة (من) موضوعة للقدر الجامع بين ما يوجد في تلك الموارد.

2- وقيل: إن الموضوع له في الحروف خاص لا عام.

واستدل له(1): بأنه إن لوحظ الطرفان إنعدم الجامع، وإن لم يلحظ الطرفان لم يكن الجامع من المعاني الحرفية لأن المعنی الحرفي متقوم بالطرفين.

فإن تصور كون الموضوع له عاماً إنّما يکون بلحاظ الوضع للجامع بين الوجودات الخاصة، والجامع غير متحقق ولا يتصور فيما نحن فيه إلاّ بالغاء خصوصية الطرفين، ليکون الجامع كلي الوجود، إذ مع ملاحظة الطرفين يکون كل وجود مبايناً للوجود الآخر، لأنه فرد آخر، وكل فرد بخصوصيته مغاير للفرد الآخر، ولا يمكن تجريد المعنی عن الطرفين لتقوم المعنی الحرفي بهما.

وفيه: أنه من الصحيح إن تصور المعنی الكلي المجرد عن الطرفين ملازم لاسمية ذلك المعنی، ولكن لا يشترط في الوضع التصور التفصيلي للمعنی، بل يکفي الإشارة إلی ذلك المعنی من غير تصوره تفصيلاً، وقد مرّ نظيره في الحكم علی (العدم) و(الواجب) و(الممتنع)، فإنه لا يمكن تصورها بحقيقتها لأن ما في الذهن هو وجود ممكن، لكن عبر ذلك الممكن يشار إليها، وهكذا الجامع الحرفي لا يمكن تصوره ولكن يمكن أن يشار إليه عبر جزئياته، فتأمل.

ص: 82


1- منتقی الأصول 1: 120.
المطلب الثالث: ثمرة البحث في المعنى الحرفي

ستذكر الثمرة إن شاء الله تعالی في بحث الواجب المشروط.

وحاصلها أن ثمرة البحث في رجوع القيد إلی المادة أو إلی الهيأة - بأن يکون الوجوب مقيداً أم الواجب - تبتني علی المعنی الحرفي في بعض الصور.

مثلاً لو قال: (إن استطع فحُجَّ)، بأن کان الدال علی الوجوب الهيأة...

1- فهل القيد - وهو الاستطاعة - قيد للمادة وهو الحج، فالوجوب مطلق، فيجب تحصيل الاستطاعة، کما أن الأمر بالصلاة مطلق فيجب تحصيل مقدمته وهي الوضوء - مثلاً - .

2- أم القيد هو قيد للهيأة، فيكون الوجوب مقيداً بالاستطاعة، فلاوجوب قبلها، فلايجب تحصيل مقدمته التي هي الاستطاعة.

فإذا أمكن رجوع القيد إلی أيٍّ من المادة والهيأة، فالمتّبع هو ظهور اللفظ في أيٍّ واحد منهما، وإن لم يكن ظهور فالمرجع سائر الأدلة أو الأصول العملية.

ولكن قد يدعی عدم إمكان رجوع القيد إلی الهيأة، فلابدَّ من رجوع القيد إلی المادة، ومن هنا أنكر جمعٌ (الوجوب المشروط).

وأمّا وجه عدم الإمكان فهو مبتنٍ علی ما قُرّر في المعنی الحرفي، بأحد وجهين:

الأول: إن قيل بأن في المعنی الحرفي (الموضوع له خاص)، فلا يمكن رجوع القيد إلی الهيأة - التي هي معنی حرفي - ، لأنّ الخصوصية هي بمعنی

ص: 83

الجزئية، والجزئي لا يقبل الإطلاق - الذي له قابلية الصدق علی الكثيرين - ، وإذا امتنع الإطلاق إمتنع التقييد، لأن تقابلهما تقابل العدم والملكة، حيث إن التقييد هو تضييق دائرة المطلق.

والحاصل: إن الإطلاق والتقييد يرتبطان بالمفاهيم، لا بالوجودات، وبناءً علی (الموضوع له الخاص) في الحروف، يمتنع رجوع القيد إلی الهيأة التي هي معنیً حرفي.

واُورد عليه: بأن خصوصية الموضوع له لا تنافي التقييد، لأن الإطلاق الأفرادي هو الذي لا يتصور في الخاص، دون الإطلاق الأحوالي، فيمکن التقييد والإطلاق في الجزئي بلحاظ الأحوال!!

مثلاً: (زيد) جزئي لا إطلاق له من حيث فرديته، لأن الوجود هو هو لا غيره، ولكنه قد تعرضه حالات مختلفة فيقال: (زيد مقيداً بالحالة الفلانية) أو يقال: (زيد من غير تقييده بحالة خاصة).

وبعبارة أخری: هناك قيود ترجع إلی ذات الشيء، وهذه يستحيل لحوقها بالموجودات بعد وجودها، وهناك قيود هي عوارض علی الشيء فيمکن لحوقها بها.

الثاني: إن المعنی الحرفي متقوّم بالآلية، فيلاحظ آلة في غيره، فلا يصح الإطلاق والتقييد فيه، وذلك لأنهما يقتضيان اللحاظ الإستقلالي، أي لا يمكن تقييد شيء من غير التوجه إليه، وحيث إن المعنی الحرفي مغفول عنه - لأنه آلة في غيره - فلا يمكن تقييده!

وفيه: أن الآلية ليست بمعنی الغفلة عن الشيء - كما مرّ - بل بمعنی عدم

ص: 84

تحقق وجود الشيء بالاستقلال، بحيث يکون وجوده متقوماً بالطرفين، ففي الذهن لا يمكن تصور المعنی الحرفي إلاّ مع تصوّر الطرفين، وهذا لا يلازم الغفلة عنه، فتأمل.

وفي هذا تفصيل - مبنیً و بناءً - سيأتي بحثه إن شاء الله تعالی.

البحث الخامس: في الإنشاء والإخبار
اشارة

إن الإنشاء والإخبار يرتبطان بالهيأة، ولذا كانا معنیً حرفياً، فتمّ البحث عنهما تتمة للبحث عن المعنی الحرفي.

ولابد من البحث في مقامات ثلاث: 1- معنی الإنشاء والإخبار، 2- الفارق بين الجمل الإخبارية والإنشائية، 3- في كيفية الإيجاد في العقود.

المقام الأول: معنى الإنشاء والإخبار

وفيه أقوال:

القول الأول: ما ذهب إليه المشهور: من أن (الإنشاء) هو إيجاد المعنی بواسطة اللفظ في عالم الاعتبار، فيکون إلقاء اللفظ سبباً لاعتبار العقلاء للمعنی، مثلاً حين إجراء عقد البيع، يتحقق بهذا اللفظ اعتبار العقلاء للملكية.

وأما الإخبار فهو الحكاية عن الخارج - وليس إيجاد المعنی فيه - وحينئذٍ فقد تتطابق الحكاية مع الخارج فيکون صدقاً، وقد لا تتطابق فيکون كذباً.

وأشكل عليه بأمور، منها:

الإشكال الأول: إن هذا التعريف لا يشمل مثل التمنّي والترجي ونحوهما من الأمور التكوينية التی لها ما بإزاء في الخارج، حيث إنها

ص: 85

صفات نفسانية، ووجودها تابع لتحقق أسبابها التكوينية، ولا ترتبط بالإعتبار أصلاً، مثلاً من يرجو رحمة الله، ويقول (لعلّ الله يرحمني) فإن الترجي بما هو صفة نفسانية موجود في نفسه، وقد عبّر عمّا في نفسه بلفظة (لعلّ) سواء اعتبر العقلاء الترجي أم لم يعتبرونه.

وأجيب عنه: أولاً: بأنه لا ضير في خروج الصيغ الدالة علی التمني ونحوه عن الإنشاء فإن هذا ليس بمحذور(1).

وسيأتي التحقيق في ذلك.

وثانياً: إن معنی الإنشاء هو استعمال اللفظ لا بقصد الحكاية - سواء قصد الإيجاد أم لم يقصد - ، فليس معنی الإنشاء هو استعمال اللفظ في المعنی بقصد إيجاده!

وفيه: أن ذلك خروج عن تعريف المشهور، بل هو تسليم بورود الإشكال عليه.

الإشكال الثاني: إن العقلاء إنّما يعتبرون الشيء إذا كان له ثمرة، ومع فقدان الثمرة لا اعتبار للعقلاء، إذ هو لغو فلا يرتكبونه، وعليه: يلزم عدم تحقق الإنشاء في المورد الذي يعلم المُنشئ بعدم ترتيب الأثر، وهذا يستلزم خروج عدة من الموارد التي نقطع بأنها إنشاء، مثل الإنشاء المكرّر بصيغ متعددة، لاعتبار العقلاء للمعنی بأول إنشاء، فلا يوجد بالثاني والثالث... ومثل بيع الغاصب والفضولي، فإنهما يعلمان بعدم ترتيب الأثر علی إنشائهما.

ص: 86


1- منتقی الأصول 1: 136.

وأجيب: أولاً(1): بأنه ليس الإنشاء علة تامة لترتب الأثر - أي الإيجاد - بل قد يکون جزء العلة للإيجاد، فيترتب الأثر عليه مع انضمام سائر ما له دخل في التأثير، وعليه فالإنشاء هو إيجاد المعنی باللفظ في الاعتبار مع تحقق سائر الشرائط الدخيلة في ذلك الإيجاد، ففي مثل الغاصب والفضولي إذا انضم إليه رضى المالك، فتأمل.

وثانياً: إن الإنشاء علی قسمين: ما لا يقبل التأكيد - كالملكية - فيکون التكرار لغواً، وما يقبله - كالطلب - فلا يکون التكرار لغواً.

وفيه: أن ما لا يقبل التأكيد لا يکون التكرار فيه لغواً، بل هو بقصد إيجاد المعنی لو لم يكن الإنشاء الأول كافياً لوجود خلل فيه - مثلاً، وكيف يکون لغواً مع أن ديدن العقلاء التكرار في أمثال هذه الموارد.

وثالثاً: إن الغاصب يدعي أنه المالك بالحقيقة الادعائية، فيُرتب هو علی فعله ما يترتب علی فعل المالك الحقيقي، فيجري الصيغة بقصد الإيجاد، فتأمل.

القول الثاني: إن (الإنشاء) هو إيجاد المعنی في نفس الأمر، لا الحكاية عن ثبوته وتحققه في موطنه من ذهن أو خارج، و(الخبر) هو الحكاية عن ثبوت المعنی في موطنه.

ومعنی نفس الأمر: أنه ليس مجرد تخيّل، كفرض الإنسان جماداً، ولا بمعنی أن له وجوداً خارجياً، وإنّما للشيء ثبوت لا في الخارج بل في الذهن في نفس الأمر، ولنعبر عنه بعالم الإنشاء.

ص: 87


1- منتقی الأصول 1: 134.

مثلاً: ملكية المشتري قبل البيع لم يكن لها ثبوت، ولكن بعد الإنشاء حصل لها نحو ثبوت وخرجت عن مجرد فرض وتخيّل، مع أنها ليس لها ما بإزاء في الخارج.

وعليه: فيدخل في هذا التعريف ما كان خارجاً عن تعريف المشهور، مثل:

1- التمني ونحوه، لأنه لا يعتبر في الإنشاء بناءً علی هذا القول إيجاد الشيء في عالمه - وهو الوجود الخارجي التكويني - كي يقال: بأنه تابع لأسبابه التكوينية، بل تتحقق تلك الصفات في عالم الإنشاء، حتی وإن لم تتحقق في الخارج، ويترتب عليها آثارها في ذلك العالم.

2- وكذا يدخل في التعریف الإنشاء المكرّر، إذ لا يعتبر - علی هذا القول - ترتب أثر شرعي أو عرفي عليه، بل بكل إنشاء يوجد المعنی في عالمه الخاص به - وهو عالم الإنشاء - ، فليس الإنشاء الثاني إيجاد الموجود حتی يستشكل بأنه تحصيل للحاصل.

والحاصل: إن (الإنشاء) هو إيجاد المعنی بوجود إنشائي غير إيجاده في عالمه المناسب له، سواء كان الواقع الخارجي أم الاعتباري.

وفيه: أولاً: إنه لم يذكر لهذا القول دليل في مقام الإثبات، فبعد إمكان هذا المعنی في عالم الثبوت نحن بحاجة إلی إثباته.

وثانياً: إن الظاهر في إنشاءات العقلاء أنه يقصدون إيجاد المعنی في عالم الاعتبار العقلائي، فما ذكر مخالف للإنشاءات العقلائية.

ص: 88

القول الثالث: ما يظهر من المحقق الإصفهاني(1)، وحاصله: إن الإنشاء هو ثبوت المعنی باللفظ، أي يراد ثبوت المعنی بعين ثبوت اللفظ، فينسب الثبوت إلی اللفظ بالذات، وإلی المعنی بالعرض. فاللفظ - بواسطة العلقة الوضعية - وجود المعنی تنزيلاً في جميع النشآت، فكأنّ المعنی ثابت في مرتبة ذات اللفظ، بحيث لا ينفك عنه في مرحلة من مراحل الوجود.

ولا يمكن أن يراد ثبوت المعنی منفصلاً عن اللفظ، بأن يکون اللفظ آلة لثبوت المعنی، بحيث ينسب الثبوت إلی كل منهما بالذات، لأن الآلية تتحقق إما في الذهن أو في الخارج، وكلاهما غير معقول هنا:

1- أما الخارج، فإنه يتوقف علی حصول مطابق الشيء أو مطابق ما ينتزع عنه، وليس اللفظ يُوجد أحدهما، فنسبة الوجود بالذات إلی نفس المعنی - مع عدم وجود مطابقه ولا مطابق منشأه - غير معقول.

2- أما الذهن فلا يعقل أن يکون اللفظ آلة لإيجاد المعنی فيه لجهتين:

أ) إن وجود المعنی يکون بتصور المعنی، وليس اللفظ علة للوجود الذهني للمعنی.

ب) إن هذا النحو من الإيجاد غير خاص بالإنشاء، فيشمل الإخبار أيضاً.

إن قلت: هذا المطلب - أي ثبوت المعنی باللفظ - جار في جميع الألفاظ بالنسبة إلی معانيها، من دون اختصاص بالإنشائيات؟

قلت: الفرق أن المتكلم قد يتعلق غرضه بالحكاية عن النسبة الواقعيّة في موطنها باللفظ المنزل منزلتها، وقد يتعلق غرضه بإيجاد نفس هذه النسبة

ص: 89


1- نهاية الدراية 1: 274.

بايجاد اللفظ المنزل منزلتها. فمفاد (بعت) - إنشاء وإخباراً - واحد، وهي النسبة المتعلقة بالملكية، وهيأة (بعت) وجود تنزيلي لهذه النسبة الإيجادية القائمة بالمتكلّم والمتعلقة بالملكية:

فقد يقصد وجود تلك النسبة خارجاً بوجودها التنزيلي الجعلي، فهذا الإنشاء.

وقد يقصد - إضافة إلی ثبوت المعنی تنزيلاً - الحكاية عن ثبوته في موطنه وهذا الإخبار.

وأورد عليه: أولاً: إن كون الإنشاء هو إيجاد المعنی عرضاً بوجود اللفظ، يبتني علی كون الوضع هو تنزيل اللفظ منزلة المعنی، فيکون اللفظ وجوداً تنزيلياً للمعنی، وبذلك يکون وجوده وجوداً للمعنی بالعرض، إذ المُنَزَّل نحو وجود للمنزَّل عليه - بالعرض والمسامحة - .

لكن قد عرفت أن الوضع هو ارتباط اللفظ والمعنی، أو اعتبار اللفظ علی المعنی ونحو ذلك، وعليه فلا يکون المعنی وجوداً بالعرض للّفظ، إذ طرف العلقة الوضعية لا يکون وجوداً بالعرض لطرفها الآخر.

وفيه تأمل: لأن المقصود من إيجاد المعنی عَرَضاً، هو وجوده بتبع وجود اللفظ، وهذا لا ينافي ما ذكر في معنی الوضع من أنه ارتباط اللفظ والمعنی، بل إن هذا هو نتيجة الارتباط، حيث إن إيجاد الربط بين اللفظ والمعنی بسبب الوضع يُنتج وجود المعنی بتبع وجود اللفظ.

وثانياً: لو كان الإنشاء هو الإيجاد بشرط أن لا يکون الغرض الحكاية، يلزم أن يکون من أقسام الإنشاء: الجملة الخبرية التي لم تستعمل بقصد

ص: 90

الحكاية، بل بداعي استمرار ارتكاز مدلولها في ذهن المخاطب بتكرارها بلا أن يقصد الحكاية - مثلاً - .

وفيه نظر: إذ هو خلط بين معنی الجملة وبين الداعي إلی التكلّم، فإن التكرار بداعي الرسوخ في الذهن هو داعي التكلم وليس معنی الجملة، وإنّما معنی الجملة - التي توجد حتی مع التكرار - هو ثبوت المعنی تنزيلاً بقصد الحكاية.

وبعبارة أخری: الإرادة الاستعمالية هي ثبوت المعنی تنزيلاً مع قصد الحكاية، نعم بالإرادة الجدّية لا قصد للحكاية، فتأمل.

والحاصل: إنه لا إشكال في مرحلة الثبوت علی هذا القول نعم لا دليل إثباتي عليه، بل عمل العقلاء علی خلافه.

القول الرابع: إن الإنشاء هو إبراز الصفات النفسية - سواء كانت اعتبارية أم حقيقية - ، فالمتكلم يتمنی ثم يبرز هذا التمني بلفظ (ليت)، ويعتبر ملكية زيد في نفسه ثم يبرز هذا الاعتبار الشخصي بقوله (بعت).

وفيه: أولاً: مع اعتبار العقلاء يکون الاعتبار الشخصي لغواً، بل ليس ذلك من ديدن العقلاء.

وثانياً: إن اعتبار الملكية - مثلاً - لا تكون قبل اجراء صيغة العقد، فبالوجدان لا يعتبر البائع الكتاب ملكاً للمشتري قبل اجراء العقد، بل حتی مع إنشاء الايجاب لا يکون هناك اعتبار شخصي، بل هذا الاعتبار بعد إتمام القبول، فالحاصل: إنه لا اعتبار شخصي قبل الإنشاء كي يکون الإنشاء مبرزاً له.

فتحصل أنه لابد من الذهاب إلی ما قال به المشهور، بعد إمكانه في

ص: 91

نفسه، وظهور فعل العقلاء فيه.

المقام الثاني: الفارق بين الجمل الإخبارية والإنشائية
اشارة

كان البحث السابق حول علاقة الإنشاء بالمعنی، وأن الإنشاء مُوجد للمعنی، والخبر حكاية عن المعنی.

وهذا البحث حول ذات المعنی، وأنه هل المعنی في الخبر والإنشاء واحد أم مختلف.

وهنا أمران:

الأول: الجمل المختصة بالإنشاء، كالتمني والترجي والاستفهام والأمر ونحوها.

الثاني: الجمل المشتركة مثل (بعت) و(يعيد).

الأمر الأول: في الجمل المختصة بالإنشاء

وفيها أقوال:

القول الأول: إن الجملة الإنشائية وضعت لهذه المعاني - الطلب، التمني، الترجي... الخ - وليست كذلك الجملة الخبرية.

إن قلت: قد تستفاد هذه المعاني من الجملة الخبرية كقولك: (أطلب منك كذا).

قلت: الطلب مستفاد من الكلمة لا من هيأة الجملة.

إن قلت: ما هو الفرق بين الجملة الإنشائية في مثل (ليت زيداً قائم)، وبين الألفاظ الدالة علی نفسٍ مفهوم التمني - مثلاً - .

قلت: هنا فرقان:

ص: 92

1- الجملة الإنشائية وُضعت لإبراز واقع هذه الصفات والكشف عنها، ولذا كانت كلاماً تاماً، بينما تلك الألفاظ وضعت بإزاء مفاهيمها بقصد إحضارها تصوراً، لذا كانت كلاماً ناقصاً، وبعبارة أخری: الجملة الإنشائية وضعت للمصداق، وتلك الألفاظ وضعت للمفهوم.

2- الجملة الإنشائية تُوجد معناها باللفظ - لذا كانت كلاماً تاماً - ، بخلاف تلك الألفاظ.

ويرد علی هذا القول: ما مرّ في ردّ القول الرابع من البحث السابق فراجع.

القول الثاني: للمحقق الإصفهاني(1)، وهو أن الجملة الإنشائية وضعت للنسبة القائمة بين المتكلّم وبين المادة، ففي صيغة الأمر مثلاً هناك نسبة بين المتكلّم والمخاطب والمادة، وهكذا في سائر القضايا.

وتوضيحه: أن المتكلم الذي يريد بعث غيره يستعمل صيغة الأمر، فتتحقق علاقة بينه وبين القضية المبعوث لها، وهنا ينتزع شيئان: مفهوم اسمي يعبّر عنه (بالطلب)، ومفهوم حرفي هو معنی صيغة الأمر.

إن قلت: بأن هذا المعنی يستلزم وجود نسبتين اثنتين في الجملة الإنشائية، إحداهما النسبة في مدخول الأداة - مثل قيام زيد في قولك هل زيد قائم - ، والأخری النسبة بين المستفهم والمستفهم عنه.

قلت: لامحذور في تعدد النسبة في الجملة الواحدة، بل ذلك واقع كثيراً سواء النسب الناقصة أم التامة، كقولنا (غلام زيد قائم) فهنا نسبتان، فنسبة

ص: 93


1- نهاية الدراية 1: 62.

في (غلام زيد) وهي نسبة ناقصة لا يصح السكوت عليها، ونسبة أخری بين المبتدأ والخبر وهي نسبة تامة.

القول الثالث: ما نسب إلی المحقق العراقي - وإن كان يظهر من نهاية الأفكار خلافه(1) - وهو أن الجملة تدل علی نسبة المفهوم إلی مدخولها، مثلاً نسبة الاستفهام إلی الجملة المستفهم عنها.

والفرق بين القولين الثالث والثاني: هو أن مفهوم الاستفهام علی الوجه السابق خارج عن المدلول، بينما هو داخل في المدلول علی هذا القول لأنه طرف النسبة.

وأشكل عليه: بأن ذلك يقتضي نقصان الجملة الإستفهامية، وذلك لعدم دال علی أحد طرفي النسبة - أي الاستفهام - ، حيث إن أداة الاستفهام دالة علی صرف النسبة، فأين الدال علی أحد طرفي النسبة - وهو مفهوم الإستفهام - ؟

إن قلت: تدل عليه قرينة عقلية، حيث لا تمكن النسبة إلاّ بين طرفين.

قلت: هذا لا يخرج الجملة عن كونها ناقصة، فهل يصح مثل (زيد في) اعتماداً علی وجود قرينة علی (الدار) مثلاً؟

وفيه تأمل: وذلك لوقوع حذف أجزاء من الكلام لوجود قرينة عليها، كما قال:

وفي جواب كيف زيد قل دنف

فزيد استغني عنه إذ عرف

ص: 94


1- نهاية الأفکار 1: 57.

وصحة أو عدم صحة الحذف يرتبط باستعمال أهل اللسان، فعدم صحة (زيد في) لأجل عدم استعمالهم ذلك، ولو كانوا يستعملونه لصح.

القول الرابع: إن الأداة في الاستفهام ونحوه أو هيأة الجملة، تبين وعاء النسبة، فهناك نسبة واحدة سواء في الجملة الخبرية أم الجملة الإنشائية، لكن وعاء النسبة في الجملة الخبرية هو خارج الذهن، ويدل علی ذلك خلوّ الجملة عن الأداة في لغة العرب، وأما في لغة الفرس - مثلاً - فتدلّ كلمة (است) عليه، لكن في الجملة الإنشائية الوعاء هو (عالم التمني) أو (عالم الاستفهام)... الخ، و(ليت) و(هل)... تدل علی ذلك الوعاء.

فتحصل أنه لا توجد نسبتان، إحداهما مدلول الأداة والأخری مدلول مدخولها، بل النسبة واحدة، فمثل (زيد) و(عالم) متحدان - بنحو الحمل الشايع - في عالم الخارج في الجملة الخبرية، وهما متحدان في عالم الاستفهام في الجملة الاستفهامية.

ومرجع هذا القول إلی ما ذكره المحقق الخراساني من الإيجاد في عالم الإنشاء.

إن قلت: ماذا يحصل إن أجبنا ب-(نعم) في الاستفهام؟

قلت: يحصل تبدل الوعاء من عالم الإنشاء إلی عالم الثبوت الخارجي.

وفيه نظر: أما في بعض اللغات الأخری فتوجد أداتان مثلاً (آيا) و(است) في الفارسية فيقال (آيا زيد عالم است) فهل الأداة الثانية لغو حيث لا تدل علی النسبة؟

وذلك يدل علی وجود نسبة محفوظة في المدخول سواء دخلت أداة أم

ص: 95

لم تدخل، نعم مع دخول الأداة تحصل نسبة ثانية.

والحاصل: إن الأقرب هو ما ذكره المحقق الإصفهاني من أن الجمل المختصة بالإنشاء تدلّ على النسبة بين شخص المتكلم وبين القضية المدخولة كالمستفهم والقضية المستفهم عنها.

الأمر الثاني: في الجمل المشتركة بين الإنشاء والإخبار

فهل تستعمل الجملة الإنشائية في معنی يختلف عن معنی الخبر، إما بوضع آخر أو مجازاً، أم أنها مستعملة في نفس المعنی وحينئذٍ ما هو الفارق بينهما؟

1- أما علی مبنی التعهد في الوضع، فالمعنی يختلف، إذ عليه تكون الدلالة الوضعية تصديقية حيث إن المدلول الوضعي للجملة الخبرية هو قصد الحكاية، وليس هذا معنی الإنشاء قطعاً.

2- وأما علی سائر المباني حيث إن الدلالة الوضعية تصورية، وقصد المعنی خارج عن حريم الوضع:

أ) فقد يقال بأن ذات المعنی في الخبر والإنشاء واحد، وهذا ما ذهب إليه المحقق الخراساني(1)، فكما ذهب إلى أنّ المعنی في الحرف والاسم واحد، كذلك في الإنشاء والإخبار، ففي مثل (بعت) يکون المعنی نسبة البيع إلی المتكلم، ففي الإخبار يکون بقصد الحكاية وفي الإنشاء يکون بقصد الإيجاد، من غير أن يکون هذا القصد داخلاً في المعنی، بل هو من أنحاء الاستعمال.

ص: 96


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 38-39.

ب) والأقرب أن يقال: إن ذات المعنی مختلف في الإخبار والإنشاء، وأن هذه الجمل - كبعت ويعيد - وضعت للخبر، وأما استعمالها في الإنشاء فهو إما بوضع تعيني جديد، وإما مجاز.

ويؤيد كونه مجازاً تبادر الإخبار من أمثال هذه الكلمات، ولا تستعمل في الإنشاء إلاّ بقرينة.

المقام الثالث: في كيفية الإيجاد في العقود

قد يقال: كيف يتم الإيجاد في العقود، مع أنه لا إيجاد بمجرد قوله (بعت)، بل تحقق البيع يتوقف علی القبول، فقبل القبول لا إيجاد، فكيف يکون الإيجاب إنشاءً مع عدم تحقق الإيجاد به؟ كما لا يعقل الإيجاد من غير وجود لاستحالة انفكاك المعلول عن العلة؟

والجواب: أولاً: إن الايجاب معدّ، وتتحقق العلة التامة للإيجاد بالقبول.

وفيه: أن ذلك خلاف ظاهر كلامهم في الإنشاء بأنه إيجاد.

وثانياً: إن العقد يوجد في عالم الاعتبار بمجرد الإيجاب من غير أثر.

وفيه: أنّ العقلاء لا يعتبرون تحقق العقد بمجرد الإيجاب، مضافاً إلی أن الاعتبار من غير أثر لغو لا يفعله العقلاء.

وثالثاً: إن الإيجاب يُحقِّق العقد، لكنه مراعی بالقبول، فإن تحقق القبول إنكشف تحقق العقد من حين الإيجاب.

وفيه: أنه لا تترتب الآثار في الفترة بين الإيجاب والقبول، حتی بعد إكمال العقد.

ورابعاً: أن يقال إن اللفظ الدال علی الإيجاب ليس إنشاء للعقد، بل هو

ص: 97

إنشاء للإيجاب، ويتحقق الإيجاب في عالم الاعتبار العقلائي، ويتحقق أثره العقلائي وهو صلاحية لحوق القبول به، وتحقق العقد هو أثر الأثر لا أثر نفس الإيجاب.

البحث السادس: الأسماء الملحقة بالحروف
اشاره

وهي التي يُعبّر عنها بالمبهمات، كأسماء الإشارة، وضمائر المخاطب والغائب، والموصولات.

فهل الموضوع له فيها عام أم خاص، وفيها أقوال:

القول الأول: ما ذهب إليه المحقق الخراساني(1)، وحاصله: أنّ الوضع والموضوع له والمستعمل فيه في هذه الأسماء عام، مثلاً (هذا) معناه المفرد المذكر، وأما تشخّصه فلا يرتبط بالمعنی الموضوع له، ولا بالمستعمل فيه، بل هو تشخصٌ نتيجة الاستعمال، إذ كان التشخص بالإشارة الخارجية، وهي لا تكون إلاّ بالشخص.

وأشكل عليه(2): بأن الإشارة الخارجية تتعلق بالفرد دون الطبيعة والكلي، فلا يصح القول بأن أسماء الإشارة موضوعة ليشار بها إلی معانيها، مع الإلتزام بأن معانيها كلية.

إن قلت: نريد الفرد من اللفظ - وإن كان اللفظ موضوعاً للكلي - ، كسائر الألفاظ الموضوعة للطبائع، فإنها تستعمل ويراد بها الفرد، مثل (أكلت الخبز).

ص: 98


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 40-41.
2- منتقی الأصول 1: 155.

قلت: إنه خلاف المدعی بأن (المستعمل فيه) عام أيضاً، مضافاً إلی أن اللفظ الموضوع للطبيعة لا يستعمل في الفرد، وإلا كان مجازاً، إذ هو استعمال اللفظ في خلاف ما وضع له، ولذا التزموا بأن المستعمل فيه ليس الفرد، بل هو الكلي بلحاظ انطباقه علی هذا الفرد.

وفيه: أن أسماء الإشارة - مثلاً - موضوعة لمعناها، وهو المفرد المذكر، ولكن بغرض أن يشار بها إلی شيء - سواء بالإشارة الخارجية إلی الشيء الجزئي، أم بالإشارة الذهنية إلی الكليات ونحوها - ، فليس (ليشار بها إلی معانيها) ضمن المعنی، لا المعنی الموضوع له، ولا المعنی المستعمل فيه، بل هو من خصوصيات الاستعمال، كما صرّح المحقق الخراساني.

ومن هذا تبين أن ما ذكر في الإشكال والجواب (بعبارة إن قلت... قلت...) لا وجه له.

القول الثاني: ما ذهب إليه المحقق العراقي(1)، وحاصله: أن الموضوع له فيها هو معان إبهامية، تكون نسبتها إلی الذوات التفصيلية من قبيل الإجمال والتفصيل، لا من قبيل الكلي والفرد، ولكن مع اشتمالها علی خصوصية زائدة، كخصوصية الإشارة، والغيبة، والخطاب، والمعهودية ونحوها.

فأسماء الإشارة مثلاً وضعت لمعنی مستقل متعلق للإشارة، لا لنفس الإشارة، وهذا المعنی لا يعقل أن يکون من المفاهيم التفصيلية، مثلاً في (هذا الإنسان) لا يكاد ينسبق في الذهن إلاّ معنی واحد، وهذا المفهوم الواحد يستحيل أن يکون معنی كل واحد من اللفظين، للزوم اجتماع

ص: 99


1- نهاية الأفكار 1: 58؛ مقالات الأصول 1: 104.

اللحاظين في شيء واحد.

وبعبارة أخری: إن معنی (هذا) في قولنا (هذا الإنسان) لو كان مفهوماً تفصيلياً يوازي مفهوم الإنسان للزم لحاظ هذا المفهوم التفصيلي مشيراً ومشاراً إليه في آن واحد، وبهذا يجتمع لحاظان في شيء واحد وهو محال، لأن اللحاظ هو الوجود في الذهن، ولا يعقل اجتماع وجودين في شيء واحد.

أقول: الظاهر أن أصل الدعوی (وهي أن الموضوع له فيها هو معان إبهامية، وفرقها عن الذوات التفصيلية بالإجمال والتفصيل) متين، ولعلّه هو المنساق إلی الذهن من هذه الكلمات فعندما نقول (هذا زيد)، فإنه باستماع لفظ (هذا) ينعكس في ذهن السامع شخص أو شيء غير محدد الاسم وإن كان معلوماً بالإجمال، وبقولنا (زيد) يتضح له بالتفصيل.

ولکن الاستدلال باستحالة اجتماع اللحاظين، محل تأمل.

أولاً: بالنقض بالحمل الأولي الذاتي - الذي ملاكه الاتحاد المفهومي - فكلٌ من (الإنسان) و(حيوان ناطق) له مفهوم تفصيلي، ومع ذلك يكون المفهوم واحداً، وهكذا في حمل المترادفات مثل (الإنسان بشر).

لا يقال: (حيوان ناطق) أكثر تفصيلاً من (الإنسان).

لأنه يقال: إن ذلك لا ينافي كون (الإنسان) ذا مفهوم تفصيلي غير مبهم.

وثانياً: بالحلّ بأن اللفظ له معنی تفصيلي في الذهن ثم بتكراره أو بحمل المترادف أو بالحمل الأولي يتكرر المفهوم في الذهن، فلا اجتماع للحاظين في شيء واحد، فتأمل.

ص: 100

القول الثالث: إن مثل (هذا) موضوع للإشارة الخارجيّة، لا الذهنية المتوجهة إلی مدلول الكلمة، مثلاً (الرجل) في قولنا (هذا الرجل)، فلفظ (هذا) بمنزلة الإشارة باليد والعين، فكما أنه بتحريك اليد والعين مشيراً إلی زيد يوجد مصداق الإشارة الخارجية، كذلك بلفظ (هذا)، فهي آلة لإيجاد مصداق الإشارة والخطاب، وأن معانيها إيجادية لا إخطارية.

ويرد عليه: أولاً: إن أسماء الإشارة ونحوها قد تستعمل في الكليات وهي أمور ذهنية، من غير أن يکون الاستعمال مجازاً، ولو كان الوضع للإشارة الخارجية كانت مجازاً حينئذٍ.

وثانياً: إنه لو استعملتَ (هذا) مثلاً من غير إشارة حقيقية بل أردت التمثيل فقط كقولك (اسم الإشارة مثل هذا)، فلا إشكال في عدم المجازية، مع أن لازم هذا القول هو مجازية الاستعمال، لعدم استعمال الكلمة في معناها الحقيقي الذي هو الإشارة الخارجيّة.

وبعبارة أخری(1): لا يکون هناك تطابق بين (الممثَّل) و(الممثَّل له) إذ أحدهما الإشارة بالمعنی الحقيقي، والآخر بغير المعنی الحقيقي فيکون الاستعمال مجرد لقلقة لسان.

وثالثاً: ما في المقالات(2): من أن لازم الوضع لصرف الإشارة، كون معانيها من النسب والروابط، وهو لا يناسب اسميتها، وصيرورتها مبتدأ تارة وخبراً أخری.

ص: 101


1- مقالات الأصول 1: 103.
2- مقالات الأصول 1: 103.

وفيه تأمل: إذ النسب والروابط قد وضع لها أسماء كما وضع لها حروف كقولنا (زيد علی السطح) و(زيد فوق السطح)، فالمعنی الحرفي قد يؤدّی بالاسم، وقد يؤدّی بالفعل، وقد يؤدی بالحرف... الخ(1).

ورابعاً: ما في المقالات أيضاً، قال: ويؤيده: صورة الإشارة الذهنية من سماع هذا اللفظ من النائم والساهي، مع الجزم بعدم إشارتهما خارجاً، ولو كان اللفظ موضوعاً للإشارة الخارجية، فلا معنی لانسباق مفهومهما في الذهن، لأنه أجنبي عن الموضوع له، والمفروض أنه لا موجب لهذا الانسباق أيضاً إلاّ الوضع.

وفيه: أن للألفاظ دلالة تصورية، لا تصديقية، وقد مرّ الإشکال علی مبنی التعهد، فليس معنی اللفظ أن المتكلّم قاصد لمعناه، بل هناك ملازمة بين ذلك اللفظ وذلك المعنی بحيث لو سمع العارف باللغة اللفظ انتقل المعنی إلی ذهنه لأجل هذه الملازمة، کما اختاره المحقق العراقي في معنی الوضع وقد مرّ.

وهنا لو فرض أن المعنی هو الإشارة الخارجيّة، لانتقل إلی ذهن السامع حتی لو لم يكن المتكلم قاصداً بل كان نائماً أو ساهياً.

القول الرابع: إن لفظ (هذا) مثلاً موضوع لمدلول (الرجل) - مثلاً - المتحصّص بالإشارة الخارجيّة، علی نحو أخذ الإشارة الخارجية قيداً في المعنی، لا نفس المعنی كما کان في القول الثالث.

و يرد عليه: ما أورد علی القول السابق.

ص: 102


1- الأصول 1: 29-30.

القول الخامس(1): إن المعنی في كلّها - الضمائر والإشارة والموصولات - هو: ذات وإشارة، والإشارة هي النسبة الخاصة، فتفترق عن الحروف، بأن الحروف للنسبة فقط، وهذه ذات مع نسبة، وبناء هذه الثلاثة يؤيد دخول الإشارة في المعنی، حيث إن بناء الأسماء هو بسبب شباهتها بالحروف.

فحاصل المعنی هو: ذات مقيدة بالإشارة، بحيث يکون القيد جزءاً للمعنی، وليس المقصود الإشارة الخارجية، كما هو واضح، وحينئذٍ فيکون فرق هذه الثلاثة هو أن:

1- اسم الإشارة هو (الذات المُبينة بالإشارة)، مثل (هذان).

2- والضمير هو (الذات الملوّنه بالسبق، المبينة بالإشارة) مثل (هما).

3- والموصول هو (الذات المحتاجة إلی الصلة المبينة بالإشارة) مثل (اللذان).

ثم إنه علی هذا يکون الموضوع له عاماً ولكن المستعمل فيه خاص.

أقول: إن هذا كلام متين، ولعلّه قريب من كلام المحقق العراقي، مع إجراء بعض التعديلات عليه:

أولاً: لازم كون المستعمل فيه خاصاً هو المجازية، لأن المعنی الموضوع له إذا كان عاماً، فاستعمال اللفظ في غيره يکون استعمالاً في خلاف ما وضع له.

وأما حديث استعمال الكلي في الفرد فقد أجبنا عنه فيما سبق ببيان كيفية ذلك الاستعمال، فراجع.

ص: 103


1- الأصول 1: 42.

وثانياً: إن الفروق المذكورة حاصلها أن الضمائر والموصولات هي بنفس معنی أسماء الإشارة مع زيادة، ولازمه كونهما من مصاديق أسماء الإشارة، لأن الجامع بينها هو (الذات المبينة بالإشارة) مع زيادة قيد في الموصول والضمير.

فالأولی في بيان الفرق بينها هو ما ذكره المحقق العراقي(1) بأن:

1- الإشارة: موضوعة لجهة عرضية إبهامية، منطبقة علی الصور التفصيلية، مع خصوصية الإشارة الذهنية.

2- والضمائر، موضوعة لجهة عرضية إجمالية، متحدة مع ما يماثل مفهوم مرجعها مع خصوصية الغيبة والحضور.

3- والموصولات: موضوعة لجهة عامة عرضية قبال خصوصيات الصور، وقبال الموصوفات، مع اشتمالها علی خصوصية المعهودية.

فالجامع هو الجهة العرضية الإبهامية وإنّما كانت عرضاً لخروجها عن حريم الذات فتعرض عليها.

ولا يخفی أن تعريفه للموصولات فيه شيء من الغموض، فتأمل.

كما لا يخفی أنه علی مبنی المحقق العراقي يکون المعنی من قبيل (الوضع العام والموضوع له الخاص) ولو بنحو خروج القيد ودخول التقيد، كما في نهاية الأفكار.

نعم لو جعلنا الخصوصية خارج المعنی لكنها ملازمة له، كان الموضوع له عاماً.

ص: 104


1- نهاية الأفكار 1: 60.

وكذا لو قلنا بأن الموضوع له هو الجهة المشتركة، الذي كان المعنی الثاني من عمومية الوضع، لا الكلي ومصداقه، فراجع أوائل بحث الوضع.

القول السادس: إن الموضوع له هو الذوات التفصيلية.

وفيه: أنه يلزم انسباق مفهوم زيد مرتين في قولنا (هذا زيد)، وكذا انسباق مفهوم الإنسان مرتين من قولنا (هذا الإنسان)، تارة من لفظ (هذا) وأخری من لفظ (زيد) أو لفظ (الإنسان)(1).

هذا مع أنه قد يشار إلی الشيء المبهم من دون أن تعرف تفاصيله أبداً، فتأمل.

القول السابع(2): الموضوع له في أسماء الإشارة هو نفس الإشارة الذهنية إلی الذوات التفصيلية، كما يوهمه ظاهر تعبير بعض علماء الأدب كابن مالك حيث قال: (بذا لمفرد مذكر أشر)، وإثبات هذا المدعی يکون عبر مقدمتين:

1- معنی الإشارة الذهنية: هو توجه النفس نحو المعنی الحاضر، بنحو يختلف عن أصل التصور واللحاظ، نظير الإشارة الخارجية بالعين فإنها خصوصية تختلف عن أصل النظر.

2- إن الإشارة - خارجية كانت أم ذهنية - فعلٌ، لكنه فعلٌ آلي إلی المعنی المشار إليه.

وفيه تأمل: أولاً: بعد أن لم يكن المقصود من الإشارة مفهومها الذي

ص: 105


1- نهاية الأفكار 1: 59.
2- منتقی الأصول 1: 158.

هو معنی اسمي، بل كان المقصود هو مصداق الإشارة، يلزم خروجها من الاسمية إلی الحرفية، ولازم ذلك عدم جواز اجراء أحكام الأسماء عليها كالاخبار عنها، والاخبار بها، ووقوعها فاعلاً ومفعولاً... الخ(1).

لكن هذا الإشكال مبنائي، فلا يرد علی من يجوّز وضع الاسم علی المعنی الحرفي، کما مرّ في مثل (زيد علی السطح) و(زيد فوق السطح) حيث يذهب البعض إلی أن المعنی الحرفي دلّ عليه الحرف تارة (وهو علی)، والاسم أخری (وهو فوق).

وثانياً: قد لا يکون المشار إليه من الذوات - كالمعاني الكلية - ، وقد لا تكون ذات تفصيلية كما لو أراد إشارة إلی شيء مردد أو مبهم.

ولا يخفی أن هذا إشكال لفظي.

وثالثاً: إن المتبادر من (هذا) ليس مجرد الإشارة بل المشار إليه داخل في ضمن معناه، كما مرّ بيانه.

فذلكة

قد يقال: إنّ (هذا) لم يوضع للإشارة الخارجية، لأن ذلك لا يرتبط بالوضع، بل هو أمر تكويني، وإنّما وضع للإشارة الذهنية فحسب - أي الذهن يشير إلی المعنی - .

وأما اقتران كلمة (هذا) بالإشارة الخارجية - أحياناً - فذلك مما لا يرتبط بالمعنی أصلاً، إذ كثيراً ما يحرّك الإنسان يده أو رأسه حين استعماله لفظاً دالاً علی معنی، مع عدم كون تلك الحركة جزءاً من المعنی.

ص: 106


1- نهاية الأفكار 1: 59.

وبعبارة أخری(1): إنّ من المتعارف في الاستعمالات إقتران اللفظ بما يرادف معناه من الأفعال الخارجية - لو كان له مرادف - مثلاً رفع الرأس إلی الأعلی حين استعمال كلمة (فوق) من الأمور الواضحة، لكن ليس هذه الحركة جزءاً من معنی (فوق).

وحيث إن اسم الإشارة موضوعة للإشارة الذهنية، ولم يكن في الخارجيات ما يصلح للتعبير عنها غير الإشارة الخارجية - لكونهما من سنخ واحد - كان من الطبيعي انضمام الإشارة الخارجية إلی لفظ الإشارة وهو (هذا).

وبعبارة ثالثة: قد يکون هناك وضع لفظ لمعنی، وقد يکون وضع تحرّك لنفس ذلك المعنی - وهذا غالباً يکون بالوضع التعيني - فاقترانهما أحياناً ليس دليلاً علی كون أحدهما جزء معنی الآخر.

وفيه تأمل: بل اسم الإشارة يدل علی شيء مع الإشارة سواء ذهنية أم خارجية، مثلاً قولنا: (جاء هذا) معناه ذات مشار إليها، وهذه الإشارة قد تكون ذهنية باعتبار سبق عهد للمعنی، وقد تكون خارجيّة باعتبار عدم سبق معنی في الذهن.

إن قلت: لا تكون الألفاظ موضوعة للوجودات الخارجيّة، بل قيل باستحالته.

قلت: لم يظهر وجه الاستحالة، بل علی مبنی كون الوضع علامة فاللفظ شيء خارجي جعل علامة علی موجود خارجي، وهذا الجعل هو أمر

ص: 107


1- منتقی الأصول 1: 159.

اعتباري، وهذا لا محذور فيه كما مرّ.

البحث السابع: في هيأة الجُمل

الهيأة معنی حرفي فناسب البحث عنها، وإن كان قد مرّ البحث في بعض الهيئات كالإنشاء والخبر.

ومعنی الهيأة: هو الحالة الخاصة الناشئة من تركيب مفردات معينة - سواء كانت حروفاً أم كلمات - .

وهيأة الجمل: هي الهيأة المتكوّنة من كلمتين أو أكثر، بحيث يکون للمجموع مدلول جديد لم يكن ثابتاً لتلك الكلمات قبل انضمامها.

وقد ذهب المشهور: إلی أن هيأة الجملة موضوعة للنسبة الذهنية، فإن صح السكوت عليها فهي النسبة التامة، وإلاّ فهي النسبة الناقصة.

وأشكل عليه: أولاً: هناك جمل لا يعقل وجود نسبتها في الخارج، كقولنا (شريك الباري ممتنع) فليس في الخارج (شريك للباري) حتی يکون طرفاً للنسبة.

وكذلك في الحمل الشايع الصناعي لا يعقل النسبة الخارجية، لأن الحمل الشايع هو اتحاد الموضوع والمحمول خارجاً - مثل زيد قائم - ، فلا يعقل النسبة التي قوامها الاثنينية.

وفيه: أن المراد وجود النسبة في الذهن، ولا إشكال في وجود مفهوم (شريك الباري) و(ممتنع) في صقع الذهن، فهنا مفهومان بينهما نسبة، وهيأة الجملة تدل علی تلك النسبة الذهنية.

وثانياً: إن النسبة لا يعقل نقصانها، لأن أمرها دائر بين الوجود والعدم،

ص: 108

فعلی هذا المعنی المشهور لا يوجد فرق بين الجمل التامة والجمل الناقصة.

والجواب من وجوه:

الجواب الأول: ما في البحوث(1)، وحاصله: أنه في الجملة الناقصة يکون (المتصوَّر) شيء واحد، ولكنه بالتحليل العقلي يتحول إلی نسبة ومنتسبين، وحيث إن المتصوَّر واحد كان لابد من نقصانه، وأما الجملة التامة فالمتصور فيها شيئان.

وفيه: أنه قد يکون في الجملة الناقصة تصور شيئين، مثلاً (الإنسان القائم) جملة ناقصة يتصور فيها شيئان، ولا فرق في تعدد التصور بينها وبين الجملة التامة في (زيد قائم)، وهذا هو الواضح لمن تأمل الجملتين، نعم في مثل (غلام زيد) قد يصح ادعاء وحدة المُتصوَّر.

الجواب الثاني: ما في نهاية الأفكار(2) وحاصله: أنه في الجمل التامة النسبة إيقاعية، أي المعنی المصدري، وفي الجمل الناقصة النسبة وقوعيّة أي المعنی الاسم مصدري، وحينئذٍ ليست الزيادة والنقصان في نفس النسبة، بل النسبة لها وجود جزئي، لكنها علی نحوين، في النحو الأول يکون الكلام تاماً، وفي الثاني ناقصاً.

ولعل مراده: أن الشيء إذا كان منسوباً إلی الفاعل كانت جملة مفيدة يصح السكوت عليها وهذا ما يستفاد من المعنی المصدر، الذي قوامه بنسبة الحدث إلی فاعله، وإن لم يكن الشيء منسوباً إلی الفاعل كانت جملة ناقصة

ص: 109


1- بحوث في علم الأصول 1: 268.
2- نهاية الأفکار 1: 54.

لا يصح السكوت عليها، وهذا ما يستفاد من المعنی الاسم مصدري - الذي قوامة بالحدث المجرد عن فاعله - .

وفيه: أن النسبة الناقصة قد تكون بمعنی المصدر مثل قولنا (ضَرْبُ زيد) فهنا النسبة إيقاعية مع كونها ناقصة، وقد تكون الجملة التامة بلا إيقاع كقولنا (الإنسان حيوان ناطق)، فتأمل.

الجواب الثالث: إن الألفاظ والهيئات وضعت لكي يتمكن الإنسان من التعبير عما في ذهنه، فإن دلت الهيأة علی كل ما في ذهنه كانت الجملة تامة، ووضعت لها الهيأة التامة، وإن لم تعبر عن كل ما في ذهنه كانت الجملة ناقصة ووضعت لها الهيأة الناقصة، فالتمامية والنقصان لا يرتبطان بالنسبة أصلاً، بل بمدی تعبير الجملة عما يدور في ذهن المتكلّم.

الجواب الرابع: إن النسبة نوعان: قد تكون حمليّة وهذه تفيد المستمع فائدة تامة لذا كانت الجملة تامة، وقد لا تكون حملية - كالوصفية والإضافية - وهذه لا تفيده فائدة تامة لذا كانت جملة ناقصة، فالنسبة في كلا النوعين غير ناقصة بل هي تامة رابطة بين المنتسبين، وإنّما التمام والنقصان في أمر هو خارج عن حريم النسبة.

البحث الثامن: هل الدلالة تتبع الإرادة؟

هل اللفظ موضوع للمعنی بما هو هو، أو بما هو مراد؟ فيه قولان:

القول الأول: أنه موضوع للمعنی بما هو.

والدليل: هو انسباق ذات المعنی وتبادره عند سماع اللفظ، ولو من لافظ غير ذي شعور أو الساهي والغالط، ولولا الوضع لذات المعنی لم يكن لهذا

ص: 110

التبادر وجه.

إن قلت: إنه من جهة أنس الذهن، لا أنه من حاقّ اللفظ.

قلت: يدفعه التبادر في الألفاظ غير المأنوسة، لو علم بالوضع.

بل لا يعقل الوضع للفظ بما هو مراد، وذلك لأن الإرادة متأخرة عن المعنی، فلا يمكن أخذها فيه، سواء قلنا بأن الإرادة هي: اللحاظ المقوّم للاستعمال، أم إرادة تفهيم المعنی، أم إرادة الحكم في مقام الجِدّ.

القول الثاني: إن الألفاظ موضوعة للمعنی بما هو مراد!!

واستدل لذلك: بأن الغرض من الوضع هو تفهيم المعنی، والتفهيم ملازم مع إرادة المعنی حين إلقاء اللفظ، فهذا يقتضي تضييق دائرة الوضع، فيختص المعنی والموضوع له بحال إرادة المعنی، وإن لم يكن مقيداً بها.

وبعبارة أخری: وضع اللفظ للحصة، فلا يرد إشكال تأخر الإرادة عن المعنی - .

وفيه: مبنیً بأن الغرض من الوضع ليس هو تفهيم المعنی، بل جعل ملازمة بين اللفظ والمعنی، كما مرّ تفصيله في بحث الوضع، ومقتضی ذلك هو الإنتقال من اللفظ إلی المعنی - علی نحو الدلالة التصورية - حتی لو كان التلفظ من لافظ غير ذي شعور.

ويؤيده: أنهم يضّمون مقدمة - مثل بناء العقلاء - لإثبات أن المتكلم في مقام الإفادة، فلو كان ذلك بمقتضی الوضع، كان يکفي نفس الوضع بلا ضم مقدمات، مثل دلالة اللفظ علی المعنی الحقيقي، حيث إنه من حاق اللفظ فلا يحتاج إلی ضمّ أيّة مقدمة.

ص: 111

و من هذا يتضح النظر فيما نسب إلی الفارابي والمحقق نصير الدين الطوسي، حيث نسب إليهما بأنهما ذهبا إلی أن الدلالة تتبع الإرادة، فإن أرادا الدلالة التصورية، ففيه نظر كما ذكرنا. وإن أرادا الدلالة التصديقية، فلا بأس بهذا الكلام، لكنه غير مرتبط بالوضع.

ص: 112

فصل في الاستعمال

اشارة

ما مرّ کان في الوضع، وهو عمل الواضع، وأما الاستعمال فبمعنی الاستفادة من ذلك اللفظ للدلالة علی المعنی، فهنا مقامات:

المقام الأول: في معنى الاستعمال

علاقة اللفظ بالمعنی لها جانبان:

1- ما يرتبط بالسامع، ويعبّر عن هذه العلاقة بالدلالة، إذ تصوّر أحدهما يوجب الانتقال إلی تصور الآخر، للعارف باللغة.

2- ما يرتبط بالمتكلّم، ويعبّر عنه ب-(الاستعمال)، فالمتكلّم يستعمل اللفظ في المعنی ويتخذه أداة لتفهيمه.

ثم إن (الاستعمال) لا يتحقق بمجرد التلفظ - ولو من النائم والساهي مثلاً - ، بل يتقوّم بالإرادة، وتسمی بالإرادة الاستعمالية.

وذلك لأن الإرادة نوعان:

1- الإرادة الاستعماليه: وهي إرادة استعمال اللفظ في المعنی، سواء المعنی الحقيقي أم المجازي، وسواء أراد تفهيم المعنی أم أراد اللُغز، أم استعمل المشترك من غير قرينة لغرضٍ ما.

وقيل(1): هي إرادة التلفظ باللفظ بما أنه دال، أي له صلاحية لايجاد

ص: 113


1- بحوث في علم الأصول 1: 132.

صورة المعنی في الذهن.

وقيل: هو إرادة استعمال اللفظ فيما وضع له، والمجاز يدخل فيه، لأنه حقيقة ادعائية.

2- الإرادة الجدّية: وهي إرادة المعنی واقعاً سواء دلّ عليه الكلام، أم كانت تلك الدلالة بمعونة كلمات أخری، وبهذا التعريف يخرج الهزل.

ويدخل في الإرادة الجدّية موارد، منها:

1- العام المخصَّص بمنفصل، فإن الإرادة الجدّية هي بعض الأفراد، لكن بالإرادة الاستعمالية يراد جميع الأفراد، ولذا كان لفظ العام مستعملاً في معناه من غير مجازية، إذ المجاز والحقيقة يرتبطان بالإرادة الاستعمالية لا الجدّية.

2- الأفعال الزمانية المستعملة في الله تعالی، كقولنا (كان الله)، فإن لفظ كان مستعملة في نفس المعنی الموضوع له - وهي الفعل مع الزمان - ، لكن الزمان غير مراد بالإرادة الجدّية للملتفت إلی المعارف الدقيقة.

وسيأتي أن الأقرب هو دلالة الأفعال علی الزمان، وأن استعمالها في الله تعالی استعمالها بنفس معناها الموضوع له، لكن بالإرادة الاستعمالية لا الجدّية، فلا مجاز فيها.

3- التأويلات، فإن كثيراً منها خلاف الظاهر وفي غير ما وضع له، ولكنها ليست بمجاز، لأنها لا ترتبط بالإرادة الاستعمالية، بل بالإرادة الجدّية، ولا تكون من استعمال اللفظ في أكثر من معنى، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

ص: 114

المقام الثاني: في كيفية الاستعمال

ثم هل في استعمال اللفظ في المعنی يلاحظ اللفظ استقلالاً، أم يکون مرآةً، أم يکون إفناءً للّفظ في المعنی، مباني ثلاث.

والأقرب أن اللفظ يلاحظ مرآة للمعنی مع إمكان الالتفات إلی اللفظ بنفسه، ولذا ينتقي الخطيب الألفاظ المناسبة، ويلاحظ القواعد النحوية والصرفية، فيما لم تتحول إلی سليقة فيه.

أما حديث الاستقلالية، وكونها كالكنايات، حيث تلاحظ معانيها بالاستقلال وكذا تلاحظ لوازمها الكنائية، فذلک خلاف الوجدان.

وكذا الإفناء إذا لم يرجع إلی المرآتية فلا معنی محصل له، ويخالفه الوجدان في إمكان ملاحظة اللفظ مستقلاً.

المقام الثالث: استعمال اللفظ وإرادة شخصه أو صنفه أو نوعه

1- إرادة الشخص، مثل: (زيد لفظ) مع إرادتنا لنفس كلمة (زيد) التي خرجت من الفم في هذه الجملة.

وهذا لا يکون من الاستعمال، بل من الإيجاد، إذ لم يستعمل لفظ (زيد) للدلالة علی معنی، بل بنفس التلفظ به أوجدنا الموضوع في الخارج.

وقد يستدل لذلك: بعدم معقولية اتحاد الدال والمدلول ولو باعتبارين، وذلك لأنهما علة ومعلول، فلا يعقل اجتماعها في شيء واحد ولو من جهتين، وإلاّ لزم تقدم الشيء علی نفسه.

2- إرادة الصنف مثل (ضَرَبَ فعلٌ ماض) فإن المراد صنف (ضرب)، فلا يشمل نفس كلمة (ضرب) الموجودة في هذه الجملة لأنها مبتدأ.

ص: 115

3- إرادة النوع، مثل (زيد اسم) مع إرادة كل أفراد (زيد) بوجودها اللفظي، فتشمل نفس (زيد) في الجملة.

ولا يرد إشكال اتحاد الدال والمدلول، وذلك لأن المدلول: طبيعي (زيد)، والدال شخص (زيد)، فتأمل.

ص: 116

فصل في علائم الحقيقة والمجاز

اشارة

وقبل البحث لابأس بذكر مقدمتين:

المقدمة الأولی: قيل(1) بأنه لا فائدة في هذا البحث، لأن المدار في معرفة المراد علی ظهور الكلام في المعنی، سواء كان حقيقياً أم مجازياً، أما مجرد كون المعنی حقيقياً فلا يجدي في الحكم بكونه مراداً.

وفيه: أنه مع المعرفة بالمعنی الحقيقي يحصل ظهور فيه.

المقدمة الثانية: إن هناک بحوث خمسة ترتبط بهذا البحث، وهذا الفصل منعقد للبحث الخامس(2):

الأول: لو عرفنا المعنی الحقيقي عن المجازي، ولم نعلم المراد فلابد من الحمل علی الحقيقة، وذلك للظهور، ومنشأ هذا الظهور هو: أصالة الحقيقية، وأصالة عدم القرينة، وقبح إرادة المجاز بدون نصبها.

والظاهر أن المنشأ هو أصالة الحقيقة فقط، وهي أصل عقلائي، نعم بما أن العقلاء لا شغل لهم بالتعبد في أمورهم، بل محرّكهم أغراضهم العقلائية، فإن تسالمهم علی أصالة الحقيقة يکون بسبب عدم وجود القرينة وقبح إرادة المجاز بدونها.

ص: 117


1- منتقی الأصول 1: 172.
2- الأصول 1: 63-64.

وقيل: الحمل علی الحقيقة هو بسبب غلبة الاستعمال في المعنی الحقيقي.

وفيه: أن الغلبة إذا لم توجب الظهور لا اعتبار بها.

الثاني: لو عرفنا المراد ولم نعلم أن ذلك المعنی المستعمل فيه هل هو المعنی الحقيقي أم المجازي، فعن السيد المرتضی أن الاستعمال علامة الحقيقة.

وفيه: أنه لا أصل عقلائي بعد معرفة المراد، لأن غرضهم هو معرفة المراد، وهو حاصل، ولا غرض لهم في معرفة أنه علی نحو الحقيقة أم المجاز، فثبت أن الاستعمال أعم من الحقيقة.

الثالث: لو عرف المعنی في زماننا، ولم يعرف في زمانهم، فالأصل العقلائي هو عدم النقل، وباصطلاح آخر: أصالة تشابه الأزمان.

الرابع: لو عرف أفراد المعنی، وشك في دخول فرد آخر، فلا تمسك بالإطلاق، لأنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

الخامس: إذا لم نعرف المعنی الحقيقي عن المجازي، فقد ذكرت علائم أربع:

العلامة الأولى: تنصيص أهل اللغة

وأشكل عليه: بأن اعتبار كلامهم: إما من جهة أنهم أهل الخبرة، أو من باب الشهادة، أو من باب الانسداد.

أما الأول: فإنهم ليسوا بصدد تعيين الأوضاع، بل في صدد بيان ما هو مستعمل فيه، فلا دلالة لكلامهم علی المعنی الحقيقي أم المجازي.

ص: 118

وأما الثاني: فيشترط فيه العدد والعدالة، فضلاً عن أن شهادتهم في الاستعمال لا في الوضع.

وأما الثالث: فلا حجية للانسداد الصغير، لأنه لا يوجب العُسر والحرج الكامل الرافع للتكليف فضلاً عن الهرج والمرج، فإن الانسداد الصغير هو الانسداد في بعض الأشياء مما لا يوجب الانسداد في كل الأحكام، وفي هذا الانسداد لا مانع من الاحتياط، فلا تصل النوبة إلی حجية أيّ ظنٍ.

ونظير ذلك ادعاء البعض الانسداد في معرفة الرجال، ولذا قالوا بحجية كل ظن في الرجال.

وقد أشكل عليه: بأن الاحتياط حينئذٍ في موارد الروايات التي لا نعلم بوثاقة رجالها غير موجب للعسر ولا للحرج فلا تصل النوبة إلی حجية الظن المطلق.

أقول: إن اللغويين هم أهل خبرة في الأوضاع، فلا يذكرون المعاني المجازية، فهل ذكروا الرجل الشجاع في معنی الأسد؟ مع أن الاستعمال فيه كثير جداً، وهل ذكروا الكريم في معنی البحر؟ وهل ذكروا جميل الوجه في معنی القمر... الخ.

كل ذلك دليل علی أنهم يذكرون المعنی الحقيقي فقط دون المعنی المجازي.

أما حجية قول اللغوي الواحد الثقة من غير اشتراط عدد ولا عدالة، فهو يرتبط بمسألة فقهية في كفاية إخبار الثقة الواحد في الموضوعات الخارجية أو عدم كفايته.

ص: 119

وسيأتي تفصيل بحث حجية قول اللغوي في بحوث الظنون الخاصة إن شاء الله تعالی.

العلامة الثانية: التبادر

فلولا الوضع لما تبادر المعنی الموضوع له.

وأشكل عليه بإشكالات، منها:

الإشکال الأول: النقض بالمجاز المشهور، والحقيقة المغمورة.

وفيه: أن المجاز المشهور إذا لم يصل إلی حد الوضع الجديد فلا تبادر فيه، وكذا الحقيقة المغمورة يتبادر المعنی فيها للعالم بالوضع إذا لم يصل إلی حد النقل بتغيير الوضع والسقوط عن المعنی الموضوع له.

الإشکال الثاني: الدور، لأن التبادر متوقف علی العلم بالوضع، والعلم بالوضع متوقف علی التبادر.

وفيه: أولاً: العلم الارتكازي هو سبب التبادر، والتبادر سبب للعلم التفصيلي، فلا دور.

إن قلت(1): إن أريد أن العلم بالوضع علة للتبادر فهذا غير معقول، وذلك لأن العالم بمجرد استعلامه عن علم نفسه يحصل له اليقين المباشر بعلمه - إذا كان عالماً - ، ويستحيل أن يوسّط بينه وبين علمه الذي يستعلم عنه واسطة يبرهن بها عليه، لأجل حضور العلم في أفق نفسه.

قلت: إن العالم بالعلم الارتكازي حينما يستعلم عن علم نفسه، فحينئذٍ

ص: 120


1- بحوث في علم الأصول 1: 165.

يتسائل عن نفسه أن دلالة اللفظ هل هي من حاق الكلمة أم لا، وحينما يعلم بأنها من حاق اللفظ من غير قرينة يحصل له العلم التفصيلي بالوضع.

وبعبارة أخری: إنه بمجرد الاستعلام عن نفسه لا يخرج عن حالة الغفلة عن الوضع والعلم الارتكازي، بل لابد من إعمال الفكر ونفي أن الدلالة بالقرائن كي يتوصل إلی أن ذلك كان من حاق اللفظ، فهنا لابد من توسيط التبادر.

وثانياً: إن التبادر عند العالم، دليل علی المعنی الحقيقي عند المستعلم.

وثالثاً: عن المحجة(1) بأن الوضع علة للتبادر، والتبادر سبب للعلم بالوضع، نعم يشترط العلم بالوضع ليکون الوضع علة للتبادر، فاختلف الموقوف عليه التبادر، والموقوف علی التبادر.

وفيه: أن المشروط متوقف علی الشرط، فيکون الشرط جزءاً من العلة، فالوضع بشرط العلم كان علة للتبادر، وهو علة للعلم بالوضع، فثبت الدور.

ورابعاً: يکفي لارتفاع الدور تغاير الموقوف والموقوف عليه، تغايراً بالشخص، فهنا علمان تفصيليان أحدهما علة للتبادر، والآخر معلول له.

وفيه: أنه لغو إثباتاً، بل غير معقول ثبوتاً، لأنه تحصيل للحاصل، لعدم التغاير بين العلمين فإذا كان عالماً بالوضع فلا يعقل تكرار هذا العلم.

الإشکال الثالث: إن التبادر لا يمكن الاستناد إليه إلاّ مع تحقق الاطراد، فلابد من ضمّ الاطراد إلی التبادر ليکون علامة علی الوضع.

ص: 121


1- نقله في نهاية الدراية 1: 78.

قال المحقق العراقي(1): إن هذه العلائم الثلاث ليست في مساق واحد، فالتبادر: علامة لوجود الوضع. وصحة السلب: علامة عدم الوضع. والاطراد: علامة استناد التبادر أو صحة السلب إلی حاق اللفظ، ورافع لاحتمال استنادها إلی قرينه حافة بالكلام.

ولذا اشترط المحقق الخراساني(2): العلم باستناد التبادر إلی نفس اللفظ، وأما فيما احتمل استناده إلی القرينة، فلا تجدي أصالة عدم القرينة في إحراز كون الاستناد إليه لا إليها، لأن أصالة عدم القرينة هي لإحراز المراد، لا لإحراز الموضوع له بعد معرفة المراد، فإنها لا تجري حينئذٍ.

وفيه تأمل: إذ لانسلّم بأنّ كل الأصول العقلائية هي لأجل تشخيص المراد فقط، بحيث لا تجري مع العلم بالمراد، بل الظاهر أنهم يجرون الأصول لفائدتها لهم، فكما تكون الفائدة لفهم المراد في الموارد العامة كذلك قد تكون لفهم المراد في موارد أخرى، وفيما نحن فيه قد يتوقف العلم بالمراد في كثير من الموارد علی العلم بالمعنی الحقيقي، فحين التبادر مع احتمال استناده إلی القرينة، يمكن نفي القرينة بالأصل العقلائي لا لهذا المورد الذي تبادر فيه، بل للموارد المشكوكه، فتأمل.

العلامة الثالثة: عدم صحة السلب

وقد يعبّر عنه بصحة الحمل، وهي علامة الحقيقة، وأما صحة السلب بقول مطلق فهو علامة المجاز.

ص: 122


1- مقالات الأصول 1: 113.
2- إيضاح کفاية الأصول 1: 65.

ولا يخفی أن الحمل:

1- قد يکون أوّلياً ذاتياً - الذي ملاكه الاتحاد الذاتي - ، فقد يکون الاختلاف في الإجمال والتفصيل مثل (الإنسان حيوان ناطق)، وقد يکون في المترادفين مثل (الإنسان بشر).

2- وقد يکون شائعاً صناعياً - الذي ملاكه الاتحاد الخارجي مع تغاير المفهوم - .

وعلاميّة الحمل فيه إنّما هو إذا كان بين الكلي وفرده مثل (زيد إنسان)، لا ما إذا كان بين الكليين المتساويين مثل (الناطق ضاحك)، ولا ما إذا كان بينهما عموم من وجه مثل (الأبيض إنسان).

ولا يخفی أن معنی صحة الحمل هو: حمل المعنی - المشكوك وضع اللفظ له - علی اللفظ بما له من المعنی الارتكازي، أو بالعكس.

وبيانه كما عن بدائع الأفكار(1): بأن اللفظ بما له من معنی، يُحمل علی المعنی المشكوك وضعه له، فإن صحّ الحمل كان دليلاً علی الحقيقة، وإلاّ كان قرينة علی عدم وضع اللفظ له.

فالموضوع والمحمول هما لفظان بما لهما من المعنی، لا اللفظ مجرداً عن المعنی، كي يقال بأنه لا معنی للحمل.

أما في الحمل الأولي الذاتي: كما لو شككنا في أن لفظ (الإنسان) هل موضوع (للحيوان الناطق) أم لا؟ فصحة الحمل تدل علی اتحاد المعنی الارتكازي للّفظ، مع نفس المعنی الذي يشك في وضع اللفظ له، وذلك

ص: 123


1- بدائع الأفکار 1: 98؛ منتقی الأصول 1: 176.

دليل الوضع.

وأما في الحمل الشايع الصناعي والذي علاميته خاصة في الحمل بين الفرد والكلّي: فإذا علمنا أن (زيداً) وجود (للإنسان) باعتباره فرداً له، ثم صحّ حمل (الحيوان الناطق) علی (زيد)، فإن صحة هذا الحمل تكشف عن اتحاد معنی الإنسان والحيوان الناطق، وذلك يدل علی وضع (الإنسان) علی (الحيوان الناطق)، ولولا ذلك لم يكن الفرد بما أنه وجود لأحدهما وجوداً للآخر.

وأشکل عليه بأمور منها:

الإشکال الأول: ما أشكله المحقق العراقي علی هذه العلامة(1)، بأن المدار في الحقيقة هو أن يکون اللفظ موضوعاً علی المفهوم، فلا يکفي الاتحاد الخارجي حتی وإن صح الحمل، وكذا لا يکفي الاتحاد الذاتي فيما لو تغاير المفهوم.

وفي الحمل الأولي: المفهوم متباين، فأحدهما بسيط والآخر مركب، علی رغم الاتحاد الذاتی.

وفي الحمل الشايع: تباين المفهومين أوضح، فمفهوم الإنسان مغاير لمفهوم الناطق، رغم اتحادهما خارجاً.

ومع تغاير المفهوم لا يصح استعمال اللفظ الموضوع لأحد المفهومين في المفهوم الآخر علی نحو الحقيقة بل يکون مجازاً.

نعم صحة السلب تكشف عن اختلاف المفهومين وعدم اتحادهما.

ص: 124


1- نهاية الأفكار 1: 67-68.

وفيه تأمل، وذلك لأن تغاير المفهومين إنّما هو بالتحليل العقلي، وإلا فهما معنی واحد تمّ بيانه تارة بالإجمال وأخری بالتفصيل.

الإشكال الثاني: مافي نهاية الدراية(1)، من أن صحة الحمل وصحة السلب لا تكون علامة، لأن العلم بصحة الحمل يحتاج إلی سبب آخر من تنصيص أهل اللسان أو التبادر... فيخرج عن كونه علامة مستقلة.

وفيه تأمل: لأن الحمل إنّما يکون بالمعنی الارتكازي، من غير حاجة إلی التنصيص أو التبادر... الخ، فإذا صح الحمل بما له من معنی ارتكازي كشف عن كونه حقيقة بالتفصيل.

الإشكال الثالث: إن الحمل لا نظر له إلی الاستعمال - وأنه هل هو مستعمل في المعنی الموضوع له أم لا - ، بل الحمل ناظر إلی المعنی، فمع إتحاد المعنيين ذاتاً أو وجوداً يصح الحمل، ولكن هل هو حمل بنحو حقيقي أم مجازي فذلك لا يرتبط بالحمل.

وفيه: أن المحمول هو اللفظ بما له من معنی ارتكازي وبلا قرينه، وهذا هو حمل اللفظ بمعناه الموضوع له المرتكز في الذهن، وذلك علامة الحقيقية(2).

الإشكال الرابع: في الحمل الذاتي لابد من التغاير بين الموضوع والمحمول - كما لابد من نوع اتحاد - ، فمع التغاير كيف يكشف حمل اللفظ علی معنی عن كون ذلك المعنی هو الموضوع له اللفظ؟

ص: 125


1- نهاية الدراية 1: 79؛ بحوث في علم الأصول 1: 169.
2- بحوث في علم الأصول 1: 169.

وفيه: أن التغاير قد يکون في اللفظ فقط، كحمل (الإنسان) علی (البشر)، فهذا التغاير صححّ الحمل، ولكنه لا ينافي اتحاد المعنی.

وقد يکون التغاير في الإجمال والتفصيل - كالحد والمحدود - وهذا لا ينافي العينية الذاتية.

والحاصل: إن التغاير إنّما هو في أمور لا ترتبط بحاقّ المعنی، وذلك صحح الحمل.

العلامة الرابعة: الاطّراد

وقد ذكر الاطّراد علامة علی المعنی الحقيقي، وعدم الاطراد علامة علی المجاز.

وأشكل عليه: بأن المعنی المجازي يطَّرد إطلاق اللفظ عليه، كإطلاق الأسد علی الشجاع.

إن قلت: نوع العلاقة في مثل (الأسد والرجل الشجاع)، هي المشابهة، ولا اطّراد في إطلاق الأسد علی كل ما شابهه كالمُشعر والأبخر، وكذا عدم صحة إطلاق الأسد علی غير الإنسان من الشجعان.

قلت: المراد صنف العلاقة وهي شباهة الرجل الشجاع بالأسد، وهذه مصححة لإطلاق الأسد علی كل رجل شجاع.

ولا يخفی أن الاطّراد علی أقسام، منها:

1- اطّراد التبادر، بمعنی أنه في الاستعمالات المختلفة يتبادر معنی خاص، وقد مرّ عن المحقق العراقي أن هذا الاطّراد ليس علامة بنفسه بل هو شرط علاميّة التبادر!

ص: 126

2- اطّراد الاستعمال من غير قرينة، فإذا شاهدنا استعمالات مختلفة للّفظ في معنی من غير قرينة نكتشف أن ذلك المعنی هو المعنی الحقيقي لذلك اللفظ.

3- اطّراد الاستعمال مع القرينة، كالأسد في الرجل الشجاع، ومن الواضح أنه لا يکون علامة للحقيقة.

ثم إنه لو شككنا بأن الاطّراد مع القرينة أم بدونها، فلا تجري أصالة الحقيقة، لأنها لا تجري مع العلم بالمراد، كما مرّ.

ص: 127

فصل في الحقيقة الشرعية

اشارة

للبحث مقدمات ثلاث:

المقدمة الأولی: لا إشكال في وجود ماهيات شرعية مخترعة، وقد استعمل الشارع لبيانها ألفاظاً، وتلك الألفاظ كانت مستعملة في اللغة قبل الشرع...

1- فهل نقلها الشارع إلی معانيها الجديدة، فتكون حقيقة شرعية؟

2- أم استعملها مجازاً، فلا حقيقة شرعية، وإنّما صارت حقيقة في المعاني الجديدة بعد زمان الرسول (صلی الله علیه و آله) فهي حقيقة متشرعيّة؟

3- أم أن الشارع استعملها في نفس المعاني اللغوية، باعتبار أن المعاني الشرعية هي من مصاديق المعاني اللغوية؟

المقدمة الثانية: في ثمرة هذا البحث، فقد قيل بأن مرادات الشارع من الألفاظ التي استعملها واضحة، سواء في القرآن الكريم أم في كلام الرسول (صلی الله علیه و آله) ، فلا ثمرة للبحث سواء ثبتت الحقيقة الشرعية أم لا، لأن المهم أن نفهم كلام الشارع، أما أنه استعمل الألفاظ علی نحو الحقيقة أم المجاز فلا فائدة فيه.

وفيه نظر: وذلك لأن العبادات الشائعة كالصلاة والصوم والحج، يعرف مرادات الشارع من ألفاظها، ولكن في كثير من الأمور التي لا شيوع

ص: 128

لألفاظها، كما في الشروط والموانع والقواطع ونحوها قد لا يُعرف مراد الشارع، فإن ثبتت الحقيقة الشرعية حملنا ألفاظه عليها، وإلاّ فعلی المعنی اللغوي.

المقدمة الثالثة: على فرض ثبوت الحقيقة الشرعية، فإن الوضع الشرعي فيها قد يكون تعينيّاً - بكثرة استعمال الشارع - ، وقد يكون تعيينياً ولكن من قبيل الوضع بنفس الاستعمال، فقد ذكر صاحب الكفاية(1) أن الوضع التعييني علی قسمين - كما مرّ - :

1- أن يضع اللفظ علی معنی ثم يستعمل اللفظ في ذلك المعنی.

2- أن يکون الوضع بنفس الاستعمال، كأن يولد له مولود فيقول: (ناولوني ولدي علياً)، قاصداً وضع اسم (علي) بنفس هذا الكلام.

وقرّبه في المنتقی(2): بأن استعمال اللفظ في معنی، وقصد دلالته عليه لمّا كان من لوازم الوضع، كان الاستعمال دالاً بالدلالة الالتزامية علی الوضع، وموجباً لخطوره في ذهن المخاطب، وعليه: فيقصد إيجاد الوضع بهذه الدلالة الالتزامية.

وفيه: أن هذه الدلالة الالتزامية معلول للوضع، فكيف تكون سبباً لتحقق الوضع؟

اللهم إلاّ أن يکون مراده أن المصحح لهذا النوع من الوضع هو هذه العلاقة.

ص: 129


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 76-77.
2- منتقی الأصول 1: 186.

ولكن مع كون الوضع اعتباراً عقلائياً، ومع تصحيحهم لهذا النوع من الوضع فلا حاجة إلی البحث عن العلاقة.

ثم إنه قيل: بأنه لابد من نصب قرينة علی أنه يريد الوضع، وهذه القرينة ليست قرينة المجاز، بل قرينة للوضع.

وأشکل عليه: بأن الوضع التعييني الاستعمالي ليس بحقيقة ولا بمجاز، أما أنه ليس باستعمال حقيقي فلعدم استعمال اللفظ فيما وضع له، وأما أنه ليس بمجازي فلعدم كونه استعمالاً في غير ما وضع له.

أقول: مرّ الجواب عنه، مضافاً إلی أن (الاستعمال الحقيقي) و(الاستعمال المجازي) اصطلاحان، فيمکن اصطلاح (الحقيقة) علی كل استعمال صحيح ليس بمجازي، كما يمكن اصطلاح (المجاز) علی كل استعمال صحيح ليس بحقيقي، بل لابد منه لو كان الحقيقة والمجاز من العدم والملكة.

كما أنه علی مبنی التعهد، يکون الوضع هو أمر نفسي يُعبّر عنه باللفظ، فيکون الاستعمال متأخراً عن الوضع في هذا القسم - وهو الوضع التعييني الاستعمالي - ، فتأمل.

البحث الأول: الأقوال في الحقيقة الشرعية

القول الأول: ادّعی صاحب الكفاية(1): أن ادعاء الحقيقة الشرعية بنحو الوضع التعييني الاستعمالي غير مجازفة.

والدليل أو المؤيد لذلك أمور:

ص: 130


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 79.

المؤيِّد الأول: إنه لا إشكال في تبادر المعنی الشرعي إلی الأذهان من ألفاظ الشارع، والمراد أذهان من كانوا في عصره، فلابد أن يکون الوضع التعييني بأحد النحوين، وحيث يعلم بعدم كون الوضع بالنحو الأول - إذ لو كان الرسول (صلی الله علیه و آله) يصرّح بوضع هذه الألفاظ لتلك الماهيات الشرعيّة لتمَّ نقله في الروايات والتاريخ قطعاً - انحصر في أن يکون الوضع بالنحو الثاني.

وفيه نظر: إذ سبب التبادر لا ينحصر في الوضع بأحد النوعين، بل يمكن أن يکون علی نحو الوضع التعيّني بكثرة الاستعمال، أو بنحو استعماله بنفس معناه اللغوي باعتبار أن المعنی الشرعي أحد مصاديق المعنی اللغوي ثم حصول الانصراف في استعمالاته، ولذا بقيت سائر المصاديق علی نحو الحقيقة.

المؤيِّد الثاني: أنّه لو لم تثبت الحقيقة الشرعية لزم الاستعمال المجازي، مع فقدان العلاقة المصححة للمجاز في بعض الاستعمالات كالصلاة التي معناها اللغوي (الدعاء)، ولا علاقة لهذا المعنی مع الصلاة الشرعية.

إن قلت: العلاقة هي علاقة الجزء والكل.

قلت: يشترط في هذه العلاقة أن يکون جزءاً أصلياً كالرقبة في الإنسان.

وفيه نظر: لأن المصحح للاستعمال المجازي هو قبول الذوق له، وتلك العلاقات إنّما جمعها بالاستقراء علماء البلاغة، ولا ينحصر المجاز فيها، ومع قبول الذوق لاستعمال الصلاة في الأركان المخصوصة لا حاجة إلی تلك العلاقة.

مضافاً إلی أن الصلاة ليست بمعنی الدعاء في اللغة على ما قيل.

ص: 131

المؤيِّد الثالث: أيد المحقق العراقي الوضع التعييني الاستعمالي(1): بأن كل مخترع لماهية بناؤه وديدنه علی وضع لفظ مخصوص أيضاً بازاء اختراعه لا أنه يستعمل فيه اللفظ مجازاً بلا وضع خاص، وعلی ذلک جرت طريقة العقلاء، والشارع ما جاوز هذه الطريقة المألوفة، وإلاّ كان عليه البيان لئلا يحملوا اللفظ الصادر عنه - عند عدم القرينة - علی المعنی الشرعي، فيکون نفس عدم البيان كاشف عن كون جريه علی طبق ديدن العقلاء، فثبت بذلك الوضع والحقيقة الشرعية.

وفيه تأمل: لعدم ثبوت كون هذه الماهيات مخترعة شرعية، وذلك لوجود هذه العبادات في الشرائع السابقة، مع استعمال العرب نفس هذه الألفاظ لتلك العبادات، فلم يكن العرب اليهود ولا النصاری يستعملون ألفاظاً أخری للتعبير عن هذه العبادات.

ويؤيده: قوله تعالی: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ}(2) فضمير كتب يرجع إلی الصيام، ولو كان ذلك الصيام شيئاً آخر لزم الاستخدام وهو نوع من المجاز، لكن الظاهر عدم الاستخدام.

إن قلت: ثبوت المعاني سابقاً لا يدل علی كون هذه الألفاظ تستعمل فيها، ونقل القرآن لتلك العبادات بهذه الألفاظ ليس دليلاً علی استعمالها في هذه المعاني قبل الإسلام، إذ لعل النقل كان بالمعنی أو الترجمة.

قلت: من الظاهر أن هذه المعاني كانت بهذه الألفاظ عند أصحاب

ص: 132


1- نهاية الأفكار 1: 71.
2- سورة البقرة، الآية: 183.

الديانات الأخری، وكذلك كانت معلومة لدی العرب المعاشرين لأصحاب تلك الديانات، وخاصه أن أصحابها كانوا من العرب أيضاً.

إن قلت: عباداتهم كانت تختلف عن عباداتنا.

قلت: الاختلاف في بعض الأجزاء والشرائط لا يوجب اختلاف الحقيقة والماهية، كما في عباداتنا حيث تختلف الأجزاء والشرائط ومع ذلك يطلق الاسم، مثلاً صلاة الظهر الرباعية وصلاة المسافر والمضطر كلها صلاة حقيقة مع اختلاف الشرائط والأجزاء، وسيأتي تفصيل بحثه في بحث الصحيح والأعم.

القول الثاني: عدم ثبوت الحقيقة الشرعية، وأن الصحيح أنه لا حقيقة شرعية بل هي حقائق لغوية فللمعنی اللغوي مصاديق متعددة منها المصداق الشرعي.

نعم يمكن ادعاء انصراف اللفظ في استعمالات الشارع إلی الماهيات الشرعية، وسبب الانصراف هو الأنس الذهني.

فتحصل أن قِدَم الاستعمال ينفي المجازية، ولا يثبت الحقيقة الشرعية - كما قيل - ، وهذا هو الأقرب.

القول الثالث: إن الألفاظ المستعملة في زمان الرسول (صلی الله علیه و آله) مجملات، وذلك لأن الوضع التعييني مقطوع العدم، ولا طريق لنا إلی الوضع التعيّني، كما عن المحقق النائيني(1).

القول الرابع: إن الحقيقة الشرعية لا تكفي إلاّ إذا ثبت هجر المعنی

ص: 133


1- أجود التقريرات 1: 49-50.

السابق، والحال أن الهجر غير ثابت، كما عن المحقق العراقي(1).

ويرد عليهما: ما ذكرناه من أنها حقائق لغوية، مع انصرافها إلی المصداق الشرعي في لسان الشارع.

ثم علی فرض إثبات الحقيقة الشرعية فيمکن الجواب(2):

عن القول الثالث: بأن الإهمال كاف في الإخفاء، ولذا اختفت مسألة السجدة علی التراب، وكيفية الوضوء وكلمة آمين... الخ، مع كثرة تكرار الرسول للصلاة.

وأن طريق إثبات التعيني هو عقلائي، كما في كل آت بدين جديد.

وأنه لو لم يثبت الوضع فلا إجمال، بل لابد من الحمل علی المعنی الحقيقي - أي اللغوي - .

وعن القول الرابع: بأن بناء العقلاء استعمالهم فيما وضعوه، لا فيما وضعه غيرهم، إذا كان بناؤهم تأسيس طريقة جديدة، خصوصاً فيمن يريد نسخ ما قبله من الأديان واجتثاث جذور الجاهلية.

البحث الثاني: كيفية تشخيص مراد الشارع

ثم إذا شككنا في مراد الشارع من تلك الألفاظ، فلتشخيصه تختلف المباني:

1- إن قلنا بالحقيقة الشرعية بالنقل - عبر الوضع التعييني الاستعمالي - فلابد من الحمل علی المعنی الشرعي.

ص: 134


1- مقالات الأصول 1: 134.
2- الأصول 1: 74.

2- وإن قلنا بالحقيقة الشرعية علی نحو الاشتراك بلا هجر المعنی السابق، بأن كان كثرة الاستعمال سبباً للحقيقة الشرعية مع بقاء المعنی اللغوي علی حقيقته، فلابد من القول بإجمال اللفظ.

3- وإن قلنا بأنها حقائق عرفية، والمعنی الشرعي مصداق، فلابد من التوقف إذ هذا كالاشتراك. اللهم إلاّ إذا أدعي الانصراف إلی المعنی الشرعي، كما قرّبناه.

4- وإن قلنا بأنها مجازات، فلابد من الحمل علی المعنی اللغوي.

البحث الثالث: زمان الاستعمال

لايخفی أنه بناءً علی ثبوت الحقيقة الشرعية إنّما يحمل اللفظ عليها مع العلم بتاريخ الوضع، وتأخر الاستعمال عنه.

وأما مع الجهل بتاريخهما أو تاريخ أحدهما، فلا أثر، بل يکون اللفظ مجملاً، وذلك لعدم العلم بأنه استعمله قبل الحقيقة أم بعدها.

وقد يدعی إمكان إثبات تأخر الاستعمال علی الحقيقة الشرعية، بأحد وجهين:

الوجه الأول: أصالة تأخر الاستعمال عن الوضع للمعنی الشرعي.

وفيه: أنه معارض بأصالة تأخر الوضع عن الاستعمال، مضافاً إلی أنه أصل مثبت، إذ هذا الأصل هو استصحاب عدم استعمال الشارع إلی حين وضعه، وهو يلازم تأخر الاستعمال عن الوضع، فيکون مراده المعنی الشرعي.

الوجه الثاني: أصالة عدم النقل.

ص: 135

وقد يقال: بأنها الاستصحاب القهقري، لكنه ليس بحجة، لعدم دلالة دليل الاستصحاب عليه، إذ دليله فيما لو کان اليقين سابقاً والشك لاحقاً، دون العكس.

وقد يقال: بأنها أصل عقلائي، فيکون لازمه حجة، إذ مثبتات الأمارات حجة - كما يقال - ، وبذلك يثبت تأخر الاستعمال عن الحقيقة الشرعية.

وفيه: أن الأصل العقلائي هو عدم النقل مع الشك في أصل النقل، وذلك لأن الظهور الشخصي الفعلي للّفظ يكشف ببناء العقلاء عن الظهور النوعي للّفظ في الحال الحاضرة وفي الماضي أيضاً.

وأما مع العلم بالنقل، والشك في تقدمه وتأخره، فلا بناء للعقلاء أصلاً، فيکون اللفظ مجملاً.

ص: 136

فصل في الصحيح والأعم

اشارة

ولا يخفی أن النزاع إنّما هو في الماهيات المخترعة المركبة، أما الألفاظ الموضوعة للمعاني المفردة - كالركوع - فلا يتصور النزاع فيها، لأن أمرها دائر مدار الوجود والعدم(1).

وهنا مباحث:

المبحث الأول: في العبادات
اشاره

وهنا مطالب:

وقبل الخوض فيها لابد من تقديم مقدمات.

المطلب الأول: في تصوير النزاع

بناء علی القول بالحقيقة الشرعية فلا إشكال في تصوير النزاع بأن يقال هل الشارع وضع الأسماء للصحيح أم للأعم.

وأما علی عدم القول بها فلابد من تصوير النزاع، وإن لم يمكن تصوير النزاع فلا يکون هذا البحث مستقلاً عن بحث الحقيقة الشرعية، بل يکون من فروعه، إذ هو نتيجة أحد القولين فقط.

ولكن الأصح هو إمكان تصوير النزاع علی سائر الأقوال:

ص: 137


1- نهاية الأفكار 1: 72.

1- أما علی القول بأنها حقائق لغوية، فيقال: هل عادة الشارع الاستعمال في المصداق الصحيح أم الأعم؟

2- وأمّا علی القول بأنها حقائق لماهيات كانت قبل الإسلام، فيقال: ما هو ذلك المعنی الذي استعمل الشارع الألفاظ فيه، هل هو الصحيح أم الأعم؟

3- وأما علی القول بالمجازية، فقد تمّ تصوير النزاع بوجوه، منها:

التصوير الأول: ذكره المحقق الخراساني(1): فيقال ما هو المجاز الأقرب، بمعنی أن أيّ المعنيين اعتبرت أولاً العلاقة بينه وبين المعنی الحقيقي؟ وذلك لكي يحمل اللفظ عليه مع عدم القرينة المعينة.

وأشكل عليه: أولاً: بأنه لابد من ثبوت الأول في اعتبار العلاقة، ولا طريق إليه.

وثانياً: إن الأوّلية في اعتبار العلاقة توجب الظهور، وهذا أيضاً لا طريق إليه.

إن قلت: إنه قد يکون طريق لإحراز الظهور، في أحد المجازين، كما في المجاز الراجح أو المجاز المشهور.

قلت: لا إشكال في الكبری، إنّما الكلام في أنه لا طريق لذلك في الألفاظ التي استعملها الشارع.

والحاصل: إن العلاقة المصححة للاستعمال فيهما هي بدرجة واحدة عرفاً، فلم يحرز الظهور في أي منهما.

ص: 138


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 88.

التصوير الثاني: ما عن تقريرات الشيخ الأعظم(1) بأنه:

أ) علی الصحيح: فالمجاز هو استعمال اللفظ في العبادة الصحيحة فقط، ثم هناك تصرف في أمر عقلي، وهو اعتبار الفاسدة من أفراد الصحيح - أي اعتبار الفاقدة للأجزاء والشرائط واجدة لها - ، فلا يکون سبك مجاز من مجاز أصلاً، بل مجاز واحد، فمع عدم القرينة في التصرف في الأمر العقلي يحمل علی الواجد.

ب) وعلی الأعم: فيُدّعی أن اللفظ مستعمل في الأعم، والصحة والفساد بدال آخر، ومع عدم الدال يحمل اللفظ علی ظاهره - وهو الأعم - .

وأشكل عليه: أما الأول: فليس بعرفي، إذ لا إشكال في عرفية الاستعمال في الأعم ابتداء، بل هو واقع كما في تقسيم العبادة إلی الصحيحة والفاسدة.

وأما الثاني: فكذلك ليس بعرفي، فإن تعدد الدال والمدلول طريقة عقلائية لو أريد التحفظ علی المعنی الحقيقي، أما مع المجاز فلا موجب عرفي لهذه الطريقة، فتأمل.

التصوير الثالث(2): إن النزاع في تحديد القرينة العامة التي كان الشارع يعتمدها في استعمالاته المجازية، فالصحيحي يدعي أن مفادها الصحيح، والأعمي يدعي أن مفادها الأعم.

وفيه: عدم الطريق إلی معرفة مفاد القرينة العامة.

ص: 139


1- مطارح الأنظار 1: 32-33.
2- بحوث في علم الأصول 1: 189.

التصوير الرابع: ما يستفاد من كلمات المحقق النائيني(1): وعبارة الفوائد هي: لو لم نقل بالحقيقة الشرعية، فلا إشكال في ثبوت الحقيقة المتشرعية، فيقع الكلام في المسمّى عند المتشرعة، وأنه هل هو الصحيح أو الأعم، ومن المعلوم أن ما هو مسمى عند المتشرعة هو المراد الشرعي عند إطلاق تلك الألفاظ سواء كان الإطلاق على نحو الحقيقة أو على نحو المجاز.

ويمكن تقرير كلامه بنحو آخر، بأن يقال: الحقيقة ثابتة لدی المتشرعة، للتبادر عندهم، ومنشؤها هو كثرة الاستعمال في زمان الشارع وما بعده، وحينئذٍ فنلاحظ ما هو المتبادر عندنا، فنحمل كلام الشارع عليه.

وفيه(2): أنه لا تلازم بين كثرة استعمال الشارع وبين الحقيقة عند المتشرعة، فلعلّ الشارع أكثر الاستعمال في جانب، ولكن المتشرعة أكثروا في جانب آخر لحاجتهم إليه، فتأمل.

المطلب الثاني: في معنى الصحة

وهنا أمور:

الأمر الأول: يقال إن الصحة هي التمامية، وبيان التمامية بأحد وجهين:

الوجه الأول: إن لها واقعاً مستقلاً غير الآثار، كموافقة الأمر وإسقاط القضاء...، وقد يقال: بأن هذا الواقع هو جامعية الأجزاء والشرائط.

وفيه نظر: لأنه قد يکون العمل صحيحاً مع كونه غير جامع للأجزاء والشرائط، كمن نسي شرطاً أو جزءاً ولم يكن ركناً، فعمله صحيح مع عدم

ص: 140


1- فوائد الأصول 1: 59-60.
2- منتقی الأصول 1: 199.

كونه جامعاً.

والحاصل: إن التمامية هنا ليست مقابل النقصان، بل هي مقابل الفساد.

الوجه الثاني: إنها أمر ينتزع عن مقام ترتب الأثر(1)، فهي التمامية بلحاظ الأثر المهم(2)، فلا واقع للتمامية إلاّ التمامية من حيث موافقة الأمر أو إسقاط القضاء ونحو ذلك.

وعليه فيمتنع أن يکون الأثر من لوازم التمامية، لأن مقوم الشيء لا يکون أثره.

إن قلت: بأنه خلط بين تمامية الشيء في نفسه - وهو الجامعية للأجزاء والشرائط - وبين التمامية بلحاظ مرحلة الامتثال والإجزاء.

وبعبارة أخری: إنه خلط بين واقع التمامية وبين عنوانها - الذي هو ينتزع عن الشيء بلحاظ أثره - ، فالصلاة مثلاً لم توضع بإزاء ذلك العنوان، بل بإزاء واقعه ومعنونه - وهو الأجزاء والشرائط - .

قلت(3): الجزئية والشرطية ليس لهما واقع، وإنّما هما ينتزعان عن الشيء بلحاظ نحو دخله في حصول ما لوحظت الأمور المتكثرة واحداً بالإضافة إليه، والتي ينتزع لها عنوان المركب.

فليس الركوع - بما هو - جزءاً، بل هو فعل تام مستقل، وإنّما صار جزءاً بلحاظ دخله في حصول المأمور به ومتعلق الأمر.

ص: 141


1- نهاية الدراية 1: 95.
2- نهاية الأفكار 1: 73.
3- منتقی الأصول 1: 203.

فلا معنی للتمامية من حيث استجماع الأجزاء والشرائط، بل هي في طول التمامية بلحاظ أحد هذه الآثار.

فتحصل: أن التمامية أمر إضافي، يختلف باختلاف الجهة الملحوظة في الشيء، فلا يکون الشيء تاماً أو ناقصاً في نفسه من غير لحاظ أية جهة خارجية كحصول الأثر أو كونه مأموراً به ونحو ذلك.

مثلاً: بناءً علی القول بإجزاء الأمر الظاهري، فعند كشف الخلاف يکون العمل صحيحاً بنظر الفقيه، لقوله بالإجزاء، وفاسداً بنظر المتكلم لعدم مطابقة المأتي به للمأمور به(1).

ومن ذلك يتبين أن الصحة هي التمامية لا بقول مطلق بل من حيث ترتب الأثر المترقب، لوضوح عدم صدق الفاسد علی ناقص بعض الأجزاء إذا كان مؤثراً لنفس أثر الكامل(2).

الأمر الثاني: بعد أن تبين أن التمامية هي أمر ينتزع عن مقام ترتب الأثر، يتمّ الكلام حول هذا الأثر، فيقال:

1- لا يمكن إرادة الصحة بمعنی التمامية من حيث موافقة الأمر، لأن الشيء لا يتصف بموافقة الأمر إلاّ بعد تعلق الأمر، فلا يمكن أن يکون متعلّقا للأمر، إذ هو خلف.

2- وكذا لا يمكن إرادة الصحة من حيث إسقاط الإعادة والقضاء، لنفس الوجه، حيث لا يتصف الشيء بذلك إلاّ بعد تعلق الأمر.

ص: 142


1- نهاية الأفكار 1: 74.
2- منتقی الأصول 1: 204.

3- فيتعيّن: التام من حيث ترتب الأثر.

إن قلت(1): يلزم أخذ ما هو خارج عن الذات فيها، لأن الأثر خارج عن الذات، حيث إنه بمنزلة المعلول لها.

قلت: أولاً: تأخر الأثر عن الذات إنّما هو في الوجود الخارجي، أما في التسمية فلا مانع من وضع اسم واحد للعلة والمعلول معاً، لأن الدخل في المسمی لا يوجب الدخل في الذات.

وثانياً: المراد ما يکون له قابلية التأثير، وهذا داخل في ذات الشيء، لأن الجهة التي تقتضي عِليّة العِلة داخلة في ذاتها.

وبعبارة أخری: ترتب الأثر فعلاً هو من لوازم الصحة، وأما كونه مؤثراً فهو مقوّم للصحة، وهنا الاسم ليس للوجود بل هو للطبيعة بما هي.

الأمر الثالث: هل الموضوع له - بناءً علی الصحيح - هو التام من حيث ترتب الأثر من جميع الجهات، فحينئذٍ لا يحتاج ترتب الأثر علی الشيء فعلاً إلاّ إلی وجوده خارجاً، أم أن الموضوع له هو التام من بعض الجهات؟

والجهات التي تعتبر في ترتب الأثر علی العبادة هي: تحقق الأجزاء والشرائط، وعدم النهي، وعدم المزاحم، وقصد القربة.

1- الشرائط والأجزاء:

ذهب الشيخ الأعظم - علی ما في تقريراته(2) - إلى أنّ الصحة هي التمام من حيث الأجزاء دون الشرائط. وذلك لأن الأجزاء بمنزلة المقتضي للتأثير،

ص: 143


1- نهاية الدراية 1: 96.
2- مطارح الأنظار 1: 101.

والشرط متأخر عن المقتضي بحسب الرتبة إذ بالشرط تكون فعلية التأثير، والفعلية إنّما تفرض في صورة وجود ما يقتضي التأثير.

وأشكل عليه: بأن الاختلاف الرتبي إنّما هو في مقام التأثير في المعلول، لا في مقام التسمية.

2- عدم النهي:

ذهب المحقق النائيني(1) إلی خروج عدم النهي، لعدم إمكان أخذه في المسمی، إذ هو فرع المسمّی، لأنه متعلقه.

وأشكل عليه: بأن النهي قد يتعلق بذات الشيء، لا بما هو المسمّی، فلا يکون متأخراً عن المسمی.

3- عدم المزاحم:

ذهب المحقق النائيني أيضاً(2) إلی خروجه، لنفس الوجه السابق - أي تأخر مزاحم المسمی عن المسمی - .

وأشكل عليه(3): بأن المزاحم علی قسمين:

أ) المزاحم لنفس الشيء، فلا يتجه الكلام.

ب) المزاحم لأمر الشيء - كالإزالة التي تزاحم أمر الصلاة، ولا تزاحم نفس الصلاة - فيتجه الكلام.

لكن الظاهر أن المراد هو الأول لا الثاني.

ص: 144


1- فوائد الأصول 1: 61.
2- فوائد الأصول 1: 61.
3- منتقی الأصول 1: 209.

4- قصد القربة:

ذهب المحقق العراقي(1) إلی خروجه، لأن قصد القربة متأخرة عن المسمى، إذ هي متأخرة عن الأمر، والأمر متأخر عن المسمى.

وقيل: بأنه لا يمكن أخذ قصد القربة في متعلق الأمر، نعم يمكن أخذ مفهومه في المسمی، لكن هذا المسمی لا يمكن الأمر به، إذ الأمر تعلق بالمسمی فيکون متأخراً عنه.

وحيث إن تعيين المسمی لأجل تشخيص متعلق الأمر، فيمتنع أن يکون المسمی هو الفعل من جميع جهاته حتی قصد القربة.

نعم لو قلنا بأن هناك أمران، أو قلنا بمتمم الجعل فلا محذور فيه، وسيأتي تفصيل إمكان أو امتناع أخذ قصد القربة في المتعلق في بحث التوصلي والتعبدي.

المطلب الثالثة: في تصوير الجامع
اشاره

ذهب المحقق النائيني(2) إلی عدم لزوم تصوير الجامع بين الأفراد - سواء علی القول بالصحيح أم الأعم - تبعاً لتقريرات الشيخ الأعظم(3)، وبيانه:

إن لفظ الصلاة - مثلاً - موضوعة للواجدة لجميع الأجزاء والشرائط، فيکون استعمالها في سائر المراتب من باب الادعاء والتنزيل، أو من باب اكتفاء الشارع به، كما في صلاة الغريق، فالموضوع له - علی كلا القولين -

ص: 145


1- نهاية الأفكار 1: 75.
2- فوائد الأصول 1: 62-64.
3- مطارح الأنظار 1: 49-50.

هو المرتبة العليا فقط، وحينئذٍ لا أفراد حقيقية أخری كي نحتاج إلی الجامع.

وأشكل عليه: بأن للصلاة مراتب عليا كثيرة، وكلها في عرض واحد، كصلاة الصبح والمغرب والظهر والوتر، وصلاة الآيات، والعيدين، وغيرها... فلابد من وجود جامع بينها، ولا يصح القول بأن إحداها هي المرتبة العليا والبقية يطلق عليها لفظ الصلاة بالعناية والحقيقة الادعائية، بل كلها في عرض واحد، فلابد من البحث عن الجامع بينها، سواء الجامع علی الصحيح، أم علی الأعم، مع وضوح عدم إمكان الالتزام بالاشتراك اللفظي فيها.

1- تصوير الجامع على الصحيح

وقد ذكرت لتصوير الجامع علی القول بالصحيح وجوه:

الجامع الأول: ما ذكره صاحب الكفاية(1)، من وجود جامع بسيط بين الأفراد، لكن لا يمكننا تعيينه بالاسم لعدم معرفتنا بحقيقته، وهذا الجامع متحد خارجاً مع أفراده، نعم يمكن جعل عنوان مشير إلی ذلك الجامع.

والدليل علی ذلك هو وحدة الأثر، الكاشفة عن وحدة المؤثر، لأن المعلول الواحد لا يصدر عن المتعدد، فالنهي عن الفحشاء أثر يترتب علی جميع الصلوات الصحيحة، ولهذا المعلول عِلة واحدة - وهي الجامع - ، ولكنا لا نعرف حقيقة تلك العلة، وقد عرفناها عبر معلولها، ويمكن انتزاع عنوان يشير إلی تلك الحقيقة مثل: الناهية عن الفحشاء.

ص: 146


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 97.

وأشكل عليه: بما ورد في تقريرات الشيخ الأعظم(1): من أن الجامع إما بسيط، أو مركب، وكلاهما غير ممكن!!

أما المركب: فلا يمكن أن يکون جامعاً، لأنه يختلف صحة وفساداً بحسب الحالات، فكل جزء من المركب يمكن فرض صحة الصلاة بدونه.

وأما البسيط: فأمره دائر بين أن يکون عنوان المطلوب، أو ملزوم مساوي له.

والأول: غير ممكن لأنه يرد عليه:

أولاً: أخذ ما لا يتأتی إلاّ من قِبل الطلب في متعلق الطلب، لأن عنوان المطلوب ينتزع عن الشيء بعد تعلق الطلب به، والمسمی متعلّق الطلب، فهو سابق علی الطلب، فلا يمكن أن يکون المسمی هو المطلوب.

وثانياً: حصول الترادف بين لفظ الصلاة - مثلاً - ولفظ المطلوب، وهو بديهي البطلان.

وثالثاً: عدم جريان البراءة عند الشك في جزئية شيء أو شرطيته، بل لابد من جريان الاشتغال، وذلك لرجوع الشك إلی المحصِّل، إذ المأمور به بسيط ومعلوم لا إجمال فيه، فيکون الشك في جزئية شيء شكاً في المأمور به، فرجع الشك إلی المحصِّل.

والثاني: غير ممكن أيضاً لورود الإشكال الثالث عليه.

وأجاب: صاحب الكفاية(2) بأن الجامع لا ينحصر في الجامع العنواني - سواء كان مركباً أم بسيطاً - بل يمكن فرض جامع حقيقي، وهو متحد مع الأفراد

ص: 147


1- مطارح الأنظار 1: 46-47.
2- إيضاح کفاية الأصول 1: 97.

الخارجية، وتدل الآثار علی ذلك الجامع.

ثم إنه يمكن التزام أنه جامع بسيط مع كونه ملزوماً للمطلوب، ومع ذلك يمكن جريان البراءة.

وذلك لأن الاحتياط إنّما يکون فيما لو كان وجود ذلك الشيء البسيط يغاير وجود الأجزاء والشرائط، كما لو كان مسبباً عنها، كالطهارة المسببة عن الوضوء حيث إن الإنسان مأمور بالطهارة وهي مسبب عن الغسلتين والمسحتين، أما فيما نحن فيه، فليس الجامع مستقلاً عن الأجزاء والشرائط، بل هي من الكلي والفرد حيث إن وجود الكلي بوجود الفرد، فيکون الشك في الحقيقة شكاً في التكليف وأنه هل هناك أمر تعلق بالجزء أو الشرط المشكوك أم لا، فتجري البراءة دون الاحتياط.

أقول: يمكن أن يكون نظر الشيخ الأعظم غير ما فهمه صاحب الكفاية، وسيأتي بيانه في ذيل الجامع الثاني بإذن الله تعالى.

إشكالات أخرى بناءً ومبنیً:

أما مبنیً: فأولاً: عدم صحة قاعدة الواحد من أساسها، لأنها مبتنية علی كون العلل بالتوليد، والصحيح أنها بالتوافي، وهو أحد الأقوال في العِليّة، قال السبزواري: «أو بالتوافي عادة الله جرت»(1)، ولذا قد يسلب منها الأثر من غير تبدل حقيقتها، كنار ابراهيم (علیه السلام) .

وثانياً: ما في الأصول(2) من أن وحدة الأثر إنّما تلازم وحدة المؤثر في

ص: 148


1- شرح منظومة السبزواري: 114.
2- الأصول 1: 80.

الأمور الطبيعية لا فيما إذا جعل الفاعل المختار أثراً بعدة مؤثرات. ولا يخفی أن هذا الجواب إنما هو في طول الجواب الأول.

وأما بناءً: فقد أشكل المحقق الإصفهاني(1) بإشكالات ثبوتية وإثباتية - وإن کان في بعضها مناقشة - :

فأولاً: بعدم إمكان جامع ذاتي مقولي لأفراد الصلاة، وذلك لأن الصلاة مؤلفة من عدة مقولات متباينة، كالكيف والوضع وغيرهما، ولا يعقل وجود جامع في صلاة شخصية واحدة، فضلاً عن فرض الجامع لجميع المراتب.

ووجه ذلك: أن المقولات أجناس عالية، فلا جنس لها، وفرض جامع فيما نحن فيه يساوق فرض جنس أعلی من المقولات، كما لا يمكن فرض المركب مقولة برأسها لاعتبار البساطة في المقولات، مع لزومه إلی عدم تناهيها.

وثانياً: إن فرض الجامع البسيط المقولي المتحد مع الأفراد يستلزم التناقض، إذ كيف يتحد البسيط مع المركب؟ وذلك لأن البسيط هو ما لا جزء له، فاتحاده مع الأجزاء بمعنی كونه ذا أجزاء، وهذا خلف.

إن قلت: الكلي الطبيعي بسيط وهو متحد مع فرده المركب خارجاً.

قلت: قد مرّ أن معنی وجود الكلي الطبيعي بوجود فرده هو أن الكلي ينتزع عن الفرد الخارجي.

وثالثاً: علی فرض إمكان وجود الجامع البسيط المقولي، فلا دليل عليه إثباتاً.

ص: 149


1- نهاية الدراية 1: 99-101.

إن قلت: الدليل هو وحدة الأثر الكاشفة عن وحدة المؤثر.

قلت: إن الأثر هنا - كالنهي عن الفحشاء - ليس واحداً بالحقيقة، بل هو واحد اسماً ومتكثر حقيقة، وذلك لاختلاف أنحاء الفحشاء المستلزم لتغاير كيفية النهي عنها، كما أن كل مرتبة من مراتب الصلاة تؤثر في النهي عن مرتبة من مراتب الفحشاء.

ورابعاً: إن الجامع علی الصحيح، يمكن فرضه جامعاً للأعم، لتداخل مراتب الصحيح والأعم.

وذلك لأن المفروض اتحاد هذا الجامع مع ذات الأجزاء والشرائط، ولا يمكن لحاظ جهة إضافتها إلی الفاعل وصدورها عن المكلف، إذ هي جهة اعتبارية، ولا يعقل دخل الاعتبارية في فرض الجامع المقولي، إذ يمتنع تأثير الأمر الاعتباري في أمر حقيقي واقعي.

فتحصل أن الملحوظ ذات الأجزاء والشرائط، وهي في نفسها قابلة للصحة والفساد، فهذا الجامع المفروض لها المتحد معها، قابل لأن يکون جامعاً للأعم في الوقت الذي يکون جامعاً للصحيح.

الجامع الثاني: أن يفرض للأفراد الصحيحة جامع عنواني، لا حقيقي مقولي، كعنوان الناهي عن الفحشاء، ويکون اللفظ موضوعاً بإزائه.

وأشكل عليه: أولاً: لزوم الترادف بين لفظ الصلاة وعنوان الناهي عن الفحشاء، وهو غير متحقق عرفاً(1).

وفيه: أن هذا العنوان هو معنی الصلاة، كما يقال معنی الإنسان الحيوان

ص: 150


1- نهاية الدراية 1: 99.

الناطق، وهذا أجنبي عن الترادف الذي هو أن يوضع لفظان لمعنی واحد.

وثانياً: لزوم كون استعمال اللفظ في الذات المعنونة بالعنوان مسامحياً ومجازياً، لأن اللفظ موضوع للعنوان لا المعنون(1).

ولكن يمكن القول: بأن العنوان هو وجه للمعنون أو مرآة له أو فانٍ فيه - حسب المباني المختلفة - ، وهذا المقدار كافٍ في رفع المجاز أو المسامحة، فتأمل.

وثالثاً: لزوم إجراء الاشتغال عند الشك في جزئية شيء للمأمور به، لأن المأمور به هو العنوان الانتزاعي - وهو يتحصل بالأجزاء والشرائط جميعاً - فالشك في جزئية شيء يستلزم الشك في تحقق هذا العنوان عند عدم الاتيان به.

ولعله علی هذا الجامع العنواني أشكل الشيخ الأعظم حيث قال: إن كون الجامع بسيطاً يستلزم عدم جريان البراءة، وكأنّ الجامع المقولي كان معلوم الاستحالة لديه، ويشعر بنظره هذا جعله (عنوان المطلوب) أحد طرفي الترديد(2)، فيکون إشكاله وارداً، ولا يرد عليه ما تقدم عن المحقق الخراساني، إذ من المعلوم عدم اتحاد الجامع العنواني مع الأجزاء والشرائط، لأنه ينتزع عنها باعتبار تلبسها بعرض خاص غيرها(3).

الجامع الثالث: أن يفرض جامع مبهم من جميع الجهات إلاّ بعض الجهات المعرِّفة، ولا يکون جامعاً مقولياً ذاتياً، ولا عنوانياً.

ص: 151


1- نهاية الدراية 1: 99.
2- منتقی الأصول 1: 220.
3- نهاية الدراية 1: 99.

وتقرير هذا الجامع بأحد وجهين:

التقرير الأول: للمحقق الإصفهاني(1)، وحاصله:

أن هذا الجامع مبهم من كل الجهات إلاّ بعض الجهات المعرّفة - كجهة النهي عن الفحشاء والمنكر ونحوها - ، وهو جامع مركب من جملة أجزاء، فيصدق علی جميع مراتب العمل، سواء القليل منها من حيث الأجزاء والشرائط أم الكثير.

وتوضيحه: أن العناوين المنتزعة عن الخارجيات علی ثلاثة أقسام:

1- المعيّن بجميع جهاته، كمفهوم الإنسان.

2- المردَّد، كمفهوم (أحدهما)، وهذا لا وجود له في الخارج، بل الموجود أحد الفردين أو الأفراد.

3- المفاهيم المبهمة غير المتعينة وغير المرددة بحسب حقيقتها، القابلة للانطباق علی كل فرد محتمل وهي ثابتة في الخارج، وتكون نسبتها إلی الأفراد نسبة الطبيعي إلی فرده، كالشبح من بعيد حيث إنه قابل للانطباق علی كل فرد يحتمل أن يکون الشبح.

وكلّما زاد الإبهام وقلّت درجات التعيين كانت دائرة الصدق أوسع وأشمل، والعكس بالعكس.

إن قلت: ما الفرق بين المردَّد والمبهم، أ ليس المردد من مصاديق المبهم؟

قلت: الفرق أن المردَّد لا وجود له في الخارج بل هو عنوان قابل

ص: 152


1- نهاية الدراية 1: 101.

للانطباق علی الخارجيات، مثلاً (أحدهما) غير موجود خارجاً، لكنه يمكن انطباقه علی زيد أو علی عمرو، أما المفهوم المبهم فله مصداق في الخارج، لكنه في مرحلة المفهوم غير معيّن إلاّ من بعض الجهات المعرفة، ولذا كان المبهم كلي، عكس المردد فليس بكلي.

فتحصل أن جامع الأفراد الصحيحة ليس حقيقياً مقولياً، ولا عنوانياً، بل هو أمر مبهم يعرّفه بعض المعرفات كجهة نهيه عن الفحشاء والمنكر، وهذه الجهة هي التي أوجبت خروج الأفراد الفاسدة، وتبقی سائر الجهات مبهمة، فيکون قابلاً للانطباق علی كل الأفراد الصحيحة.

ودليل هذا الجامع: هو التبادر، حيث إنه جامع عرفي.

ومثاله العرفي: (الخمر) الذي لها جهات: اللون، والرائحة، والفاكهة التي اتخذت منها، وغيرها من الجهات التي تختلف أفراد الخمر فيها. والمتبادر عند إطلاقه هو سنخ (المائع المسكر) لا أكثر، فيکون مبهماً من سائر الجهات، فحقيقتها مجهولة، ولكن هناك جهة معرّفة هي (المائع المسكر) مع إبهام في سائر الجهات، فلذا تنطبق علی كل أفرادها.

و مثال آخر: (الكلمة)، و(الدار) وغيرهما.

وهكذا (الصلاة)، فجهتها المعرِّفة (النهي عن الفحشاء وأمثالها)، مع إبهام من سائر الجهات، ولذا تصدق علی صلاة الظهر للمختار المقيم، وعلی صلاة الغريق، وعلی كل المراتب التي بينهما.

وأشكل عليه: أولاً: بإنكار الإبهام في الماهيات الاعتبارية، إذ لا يعقل الإبهام في ذات الأشياء.

ص: 153

وفيه: أن الشيء بذاته معين، والإبهام إنّما حصل بسبب عدم اتضاح حقيقته، بل اتضحت منه جهة مع إبهام سائر الجهات.

وثانياً: إن الجامع المذكور ليس متعلقاً للأمر، بل متعلقه نفس الأجزاء المتقيده بقيود كما هو المتبادر.

وفيه: أن هذا الجامع ينتزع عن الشيء، كانتزاع الكلي عن فرده، فلذا ينطبق علی الأجزاء والقيود تمام الانطباق، فهو متعلق للأمر باعتبار انتزاعه عن الأجزاء والقيود، فتأمل.

التقرير الثاني: للمحقق العراقي(1) وهو الجامع الوجودي، وحاصله:

1- بعد بطلان الاشتراك اللفظي، وبطلان تخصيص الوضع ببعض الأنواع وجعل البقية أبدالاً... فلا محيص عن الكشف عن القدر المشترك بين تلك المختلفات الكمية والكيفية، يکون ذلك الجامع هو المسمی بالصلاة... مع لزوم كونه مشكِّكاً ينطبق علی الزائد والناقص تمام الانطباق... نظير مفهوم (الجمع) الصادق علی الثلاثة والأربعة والخمسة، ونظير (الكلمة) التي تنطبق علی المركب من حرفين أو ثلاثة أو أربعة...

2- ومن طرق اكتشاف ذلك الجامع: هو صدق مفهوم الصلاة علی الصلوات المختلفة بحسب الكمية والكيفية، وانسباق وحدة المفهوم منها، الحاكية عن اتحاد الحقيقة.

3- ثم إن هذا الجامع لا يمكن أن يکون ذاتياً مقولياً ولا جامعاً عنوانياً - لما مرّ - ، فلابد من القول بأن الجامع هو الجامع الوجودي، مع كونه مبهماً من

ص: 154


1- نهاية الأفكار 1: 81-84.

طرف غير الأركان - علی نحو اللابشرط - ، وبحيث يشار إليها في مقام الإشارة الإجمالية بأنها معراج المؤمن - مثلاً - .

فتحصل: أن حقيقة الصلاة: هي معنی بسيط وحداني، ليس بجوهر ولا بعرض، بل مرتبة خاصة من الوجود المتشكل من المقولات الخاصة بعد الغاء خصوصيات الحدود، ولها جهة كلية بالنسبة إلی الأفراد العرضية بنحو التواطي، وجهة كليّة بالقياس إلی الأجزاء والأفراد الطولية بنحو التشكيك.

إن قلت: وهل يمكن أن يکون الشيء غير جوهر ولا عرض.

قلت: دخل الحدود والمقولات الخاصة إنّما هو من باب كونها من المشخصات الفردية لحقيقة الصلاة - مثلاً - ، من غير أن يکون لها دخل في أصل حقيقة الصلاة أصلاً، وحينئذٍ لا يلزم كون حقيقة الصلاة أمراً مركباً من المقولات المتعددة، فحقيقة الصلاة ليست جوهراً ولا عرضاً ولكن مصاديقها الخارجية تكون مركبة من الأعراض المختلفة.

إن قلت: لو كان الجامع الوجودي هو المسمی بالصلاة من غير دخل الخصوصيات الفردية في حقيقة الصلاة، فيمکن الاتيان بصلاة المضطر بدلاً عن المختار، لوجود الجامع من كونه هو المطلوب.

قلت: إن الحالات الخاصة توجب حصر المصداق في فرد معين بخصوصيات معينة، ولو من جهة إناطة القرب في كل حالة بمصداق خاص، مثلاً (الماء المشبع) يختلف من حالة إلی أخری وعن شخص إلی آخر، فماء الكوز، والحب، والشط مصاديق للماء المشبع لكن قد ينحصر المصداق في أحدها في حالة خاصة أو بالنسبة إلی شخص خاص.

ص: 155

وبعبارة أخری موجزة: إمكان تصوير جامع وجودي - ليس بذاتي ولا عنواني - بين الأفراد الصحيحة، باعتبار اشتراكها جميعاً في الحيثية الوجودية، ولو كانت من مقولات مختلفة، فدخل تلك المقولات المتباينة في الصلاة - مثلاً - باعتبار دخل وجودها، بلا دخل خصوصية تلك المقولة، وطريق اكتشاف ذلك الجامع هو انسباق وحدة المفهوم عن الصلوات المختلفة الدال علی اتحاد حقيقتها.

وأشكل عليه: أولاً: بأنّ الوجود غير مأخوذ في معاني الألفاظ، بل الموضوع له هو ذات المعنی، الصالح للوجود خارجاً وذهناً.

وأجيب: بأنه لم يظهر وجه المنع عن وضع الألفاظ للوجود الخارجي، نعم عامة الألفاظ موضوعة للحقائق مع قطع النظر عن وجودها الخارجي، لكن لا محذور عن الوضع للوجود.

وثانياً: إن كان الوضع لواقع الوجود، فإن ذلك الواقع مجهول فكيف يمكن وضع اللفظ له؟

وإن كان الوضع للعنوان المنتزع - كعنوان الوجود والموجود - فإن لازم ذلك صحة إطلاق لفظ الصلاة - مثلاً - علی كل وجود وموجود.

وفيه نظر: إذ نختار الشق الأول ونقول: إن الوضع لواقع الوجود ممكن حتی مع الجهل به، وقد صرّح المحقق العراقي بكونه مبهماً مع إمكان الإشارة الإجمالية إليه بأنه معراج المؤمن مثلاً، وذلك لأن الجهل بواقع الشيء لا يمنع عن المعرفة الإجمالية به عبر الآثار مثلاً.

ويمكن أن نختار الشق الثاني ونجيب بأن الاسم لمفهوم الوجود أو

ص: 156

الموجود المنتزع عن وجود خاص، أي إن هذه الحصة من الوجود لها هذا الاسم، من غير دخل للخصوصيات في التسمية.

وبعبارة أخری: العنوان المنتزع من حصة خاصة هو المسمی بالصلاة، لا العنوان المنتزع من مطلق الأشياء.

وثالثاً: إن هذا الجامع غير عرفي، ولا ينسبق إلی الأذهان حين سماع لفظ الصلاة، فهذا الجامع لا إشكال فيه ثبوتاً، وإنّما الإشكال في عدم الدليل عليه، وإنّما التزم به المحقق العراقي من باب اللابدّية والاضطرار، بعد لزوم الجامع وبطلان الجامع الذاتي المقولي والجامع العنواني.

لكن الظاهر عرفيّة الجامع الذي صوّره المحقق الإصفهاني بل وتبادره من ألفاظ العبادات، فلا وجه للالتزام بالجامع الوجودي، فتأمل.

2- تصوير الجامع على الأعم

ذكر صاحب الكفاية(1) بأنه لا يمكن الجامع علی الأعم، وذلك لعدم اشتراك الفاسد مع الصحيح في الأثر فلا جامع ذاتي، كما لا يمكن جامع تركيبي

- كالأركان - ، إذ لو كانت الأركان (بشرط شيء) لزم عدم صدق المسمی علی الفاقد لها، وإن كانت (لا بشرط) يکون الإطلاق علی الواجد مجازاً.

وفيه: إمكان تصوير الجامع البسيط، وهو المقتضي للأثر بأن يکون مؤثراً شأناً لا بمعنی الفعلية، وبذلك يدخل الفاسد لأن له شأنية التأثير - إذا اجتمعت معه سائر الأجزاء والشرائط -(2).

ص: 157


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 98.
2- نهاية الأفكار 1: 86.

وإمكان تصوير الجامع المركب العنواني، عن طريق انتزاع الجامع عن هذه الأجزاء سواء كانت قليلة أم كثيرة، مثل انتزاع (الكلمة) عن حرفين وثلاثة وأربعة... الخ.

أما الجامع الذي تم تصويره فمن وجوه:

الجامع الأول: ما عن المحقق القمي، من أن الجامع هو خصوص الأركان، وسائر الأجزاء والشرائط دخيلة في المأمور به لا المسمّی.

وفيه: أولاً: عدم الطرد والعكس، فلازمه عدم صدق الصلاة علی فاقد ركن من الأركان مع استجماعها لسائر الأجزاء والشرائط، لأنها ليس الموضوع له - وهو مجموع الأركان - .

ولزوم صدق اسم الصلاة علی مجرد الأركان من دون سائر الأجزاء والشرائط، وليس كذلك، إذ لا يصدق الاسم عليها.

وثانياً: لزوم المجازية في استعمال اللفظ في جميع الأجزاء والشرائط.

وثالثاً: إن كان المراد الأركان بجميع مراتبها - حسب اختلاف الموارد من صلاة القادر والعاجز والغريق... - فلابد من تصوير جامع للأركان بجميع مراتبها ليکون هو الموضوع له، فعاد المحذور(1).

ورابعاً: إما يلتزم بخروج سائر الأجزاء والشرائط مطلقاً، أو يلتزم بخروجها عند عدمها.

والأول: يلزم منه أن يكون إطلاق الصلاة على التامة الأجزاء مجازاً من باب إطلاق اللفظ الموضوع للجزء على الكل.

ص: 158


1- فوائد الأصول 1: 75.

والثاني: يلزم منه كون الشيء داخلاً في الماهية حال وجوده، وخارجاً عنها حال عدمه، وهذا محال(1).

الجامع الثاني: أن تكون الصلاة اسم لمعظم الأجزاء التي تدور التسمية مدارها.

وأشكل عليه: أولاً: إما يراد مفهوم المعظم أو حقيقته(2).

أما مفهوم المعظم فلا يمكن أن يکون اسماً للصلاة، وذلك لأن الألفاظ موضوعة بإزاء الحقائق، لا المفاهيم التي لا موطن لها إلاّ العقل.

وأما حقيقة المعظم وواقعه، فيلزم منه الترادف بين لفظ (الصلاة) وبين (المعظم)، مضافاً إلی أنه يختلف باختلاف حالات المكلفين، فيلزم أن يکون المعظم بالنسبة إلی البعض غير المعظم بالنسبة إلی الآخرين وهذا يلزم منه محذوران:

الأول: تبادل الماهية، وهذا بديهي البطلان، لأن الشيء الواحد له ماهية واحدة.

الثاني: التردّد في تعيين الداخل من الخارج حينما تجتمع جميع الأجزاء والشرائط.

وفيه تأمل: لأن الصلاة مثلاً مركب اعتباري لا حقيقي، والمستحيل هو تبادل الماهية في الأمور الحقيقية.

وثانياً: يلزم منه المجازية في إطلاق لفظ الصلاة علی التام الأجزاء

ص: 159


1- فوائد الأصول 1: 75.
2- فوائد الأصول 1: 76.

والشرائط.

وفيه نظر: لأن الإطلاق علی التام إنّما هو بلحاظ اشتماله علی المعظم.

تقريب آخر لهذا الجامع: احتمل المحقق النائيني أن يکون الجامع هو (المعظم)، ولكن من قبيل (الكلي في المعيّن) كالصاع من صبرة، الذي ينطبق علی كل ما يمكن أن ينطبق عليه، مثلاً الصلاة موضوعة لسبعة أجزاء - فرضاً - بحيث لا يضر تبادل السبعة حسب اختلاف الحالات.

وأشكل عليه: بأنه يلزم منه كون إطلاقه علی الأكثر من السبعة مجازاً، مضافاً إلی عدم إمكان إثباته - لو فرض عدم المحذور في مرحلة الثبوت - .

الجامع الثالث: إن وضع ألفاظ العبادات كوضع الأعلام الشخصية، التي لا يضر فيها تبادل الحالات المختلفة - من صغر وهرم وصحة ومرض... الخ - كذلك الحال في ألفاظ العبادات.

وأشكل عليه في الكفاية(1): بالفرق، إذ الموضوع له في الأعلام أمر محفوظ في جميع الحالات، وهو وجوده الخاص، فمادام الوجود باقياً، كان الشخص باقياً، وليس كذلك في الصلاة، لاختلاف تركيبها بحسب الحالات.

واعترض عليه(2) في المنتقی، وحاصله: بأن الوضع في الأعلام إما للوجود أو للشخص.

والأول: لابد من أن يکون المراد وجود شيء معين، فيقع السؤال عن ذلك المعين ما هو؟

ص: 160


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 102.
2- منتقی الأصول 1: 228.

والثاني: إمّا لمفهوم الشخص، وهو فاسد للزوم الترادف، وإمّا لمصداق الشخص وواقعه، فيلزم المجازية حين استعمال اللفظ بخصوصياته.

وفيه تأمل: إذ يمكن أن يراد الوجود بما هو حصة خاصة، ويوضع اللفظ لتلك الحصة، بلا حاجة إلی معرفة كنهها، وتلك الحصة تتوارد عليها الحالات المختلفة.

ويمكن أن يراد الشخص لكن مع كونه لا بشرط عن الخصوصيات فلا يلزم المجازية حين استعماله مع خصوصياته.

الجامع الرابع: إن الوضع في ألفاظ العبادات نظير الوضع في المعاجين التي وضعت للصحيح التام، ثم العرف يتسامحون فيطلقون اللفظ علی الفاقد تنزيلاً له منزلة الواجد، حتی صار الفاقد حقيقة بسبب كثرة الاستعمال.

وأشكل عليه: بالفرق، فإن المعاجين وضعت ابتداءً للكامل، إذ المعاجين معلومة الحدّ والمقدار، ولكن صحيح العبادات غير معلوم الحد والمقدار، لاختلاف المراتب العرضية للصلاة الصحيحة من أربع ركعات إلی ثلاثة إلی اثنين، ومن اليومية إلی الآيات إلی العيدين... الخ، فكلها في عرض واحد من غير أن يکون أحدها الأصل.

المطلب الرابع: ثمرة البحث

الثمرة الأولی: قد يقال: بأن ثمرة بحث الصحيح والأعم، هي إمكان التمسك بالإطلاق علی القول بالأعم، وعدم إمكانه علی القول بالصحيح.

وذلك لأن إثبات الحكم لموضوع ٍ ما فرع ثبوت ذلك الموضوع، ومع الشك في الموضوع لا يجدي الإطلاق، بل يکون من التمسك بالعام في

ص: 161

الشبهة المفهومية.

فلو قال المولی (أكرم العالم) - مثلاً - ، وشككنا في أن (العالم) يشمل (الشعراء) أم لا، فحينئذٍ إثبات إطلاق (أكرم العالم) لا يجدي في إثبات وجوب الإكرام للشعراء، لعدم ثبوت كونهم من العلماء.

نعم لو أحرزنا الموضوع وشككنا في أن ترتب الحكم عليه مقيد بقيد زائد أم لا، فإنه يمكن التمسك بالإطلاق لنفي ذلك القيد الزائد، ففي المثال: لو شككنا في اشتراط الهاشميّة في العالم، فمع العلم بأنه عالم يمكن نفي قيد الهاشميّة بالإطلاق.

وفيما نحن فيه، علی القول بالصحيح، لم يحرز صدق اسم الصلاة - مثلاً - علی الفرد الذي ليس فيه الجزء أو الشرط المشكوك جزئيته أو شرطيته، ومع عدم إحراز أنه صلاة لا يجدي التمسك بالإطلاق.

أما علی القول بالأعم، فإنه يحرز الاسم، سواء كان المشكوك جزءاً أو شرطاً واقعاً أم لم يكن، وبعد إحراز الاسم - وهو الموضوع - يمكن نفي الجزئية والشرطية بالإطلاق.

وفيه: أولاً: إنه لا ثمرة عملية تترتب علی ذلك(1).

فإن النصوص الدالة علی العبادات: إما ليست في مقام البيان، بل هي في مقام أصل التشريع، كقوله تعالی: {أَقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ}(2)، وإما في مقام بيان الأجزاء والشرائط وذلك عبر بيانها بخصوصياتها.

ص: 162


1- نهاية الأفكار 1: 96.
2- سورة البقرة، الآية: 43.

فعلی الأول فلا إطلاق لفظي حتی علی القول بالأعم.

وعلی الثاني يوجد إطلاق مقامي، حيث إن المولی في مقام بيان ما هو دخيل في المأمور به، وهذا الإطلاق محكَّم سواء علی القول بالصحيح أم الأعم، فانتفت الثمرة.

وسيأتي إن شاء الله تعالی الفرق بين الإطلاق اللفظي والإطلاق المقامي، وأن الأول يرتبط بما يستفاد من اللفظ، والثاني هو دلالة الحال علی عدم أخذ القيد الزائد، فإن من يريد بيان تفاصيل الصلاة - مثلاً - وذكر أنها تبدأ بالتكبير وعدّد الأجزاء والشرائط إلی انتهائها بالتسليم، إذا لم يذكر شرطاً أو قيداً، لكانت حالته دالة علی عدم جزئيتها أو شرطيتها، وهذ قرينة خاصة يعتمد عليها العقلاء في أمورهم.

وثانياً: إنه لا يمكن التمسك بالإطلاق حتی علی الأعم، لأن اللفظ وإن كان ينطبق علی الصحيح والفاسد، إلاّ أن المأمور به هو خصوص الصحيح.

فلو شك في دخالة جزء أو شرط في المأمور به، فلا إحراز لكون الفاقد صحيحاً - حيث إن القيد علی تقدير اعتباره دخيل في الصحة - وحينئذٍ لا يحرز صدق المطلق علی المشكوك فيه، فالمطلق في قوة أن يقول (صلّ الصلاة الصحيحة)، وفاقد ذلك المشكوك لا يعلم بأنه (صلاة صحيحة) فيکون شكاً في تحقق الموضوع.

وبعبارة أخری - كما قيل - : تقييد المراد الجدي كتقييد المراد الاستعمالي.

ويمكن الجواب عن هذا الإشكال بوجوه:

ص: 163

منها: ما في المنتقی(1): وبيانه يتوقف علی أمرين:

1- بناء العقلاء هو كشف المراد الجدي عن طريق الظاهر، ولذا لو كان للكلام ظاهر ثم ادعی المتكلم أنه لم يقصد ذلك الظاهر لم تسمع دعواه.

2- والمراد الجدي في ألفاظ العبادات هو ما يترتب عليه الأثر، ومن المعلوم أن الأثر يترتب علی مجموعة من الأجزاء والشرائط.

وعليه: فلو تردد المراد الجدي بين الأقل والأكثر - وأنه الأجزاء التسعة أم العشرة - ، وكان هناك ظهور يعين لنا مقداره، وجب التمسك بذلك الظهور.

وفيما نحن فيه، بناءً علی الأعم فإن لفظ الصلاة - مثلاً - يصدق علی الأقل والأكثر، وحيث تردد المراد الجدي - إذ الفرض حصول العلم بكون المراد الجدي كميّة معينة من الأجزاء والشرائط، وإنّما التردّد في مقدارها وأنه الأقل أم الأكثر - أمكن التمسك بظهوره الإطلاقي في تعيين المراد الجدي، وأنه الأقل، دون الأكثر لعدم القرينة عليه،

فلا يکون من قبيل التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، بل هو تمسك بظهور المطلق في الإطلاق لإحراز المراد الجدي، وهذا لا محذور فيه.

وبناءً علی الصحيح، لا ظهور للفظ العبادة، لأن اللفظ موضوع لتلك الحصة المعينة واقعاً، المرددة عندنا، فاللفظ ظاهر في تلك الحصة، ولم يعلم أنها الأقل أم الأكثر، فيکون اللفظ مجملاً.

ومنها(2): أن هنا حكمين لا تنافي بينهما فلا يقيد أحدهما الآخر، وهما:

ص: 164


1- منتقی الأصول 1: 240-243.
2- منتقی الأصول 1: 243.

1- حكم العقل بعدم تعلق الأمر إلاّ بالصحيح، وهو الواجد للملاك والمصلحة.

2- ودليل تعلق الأمر بفعل الأجزاء والشرائط كقوله تعالی: {وَأَقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ}(1).

وحيث لا منافاة بينهما، أمکن جريان كلا الدليلين، فدليل الأمر يدل بالملازمة علی ثبوت الملاك في الفعل، فيکون الفعل بجميع أفراده صحيحاً واجداً للملاك.

فيکون (دليل الأمر) وارداً علی (الحكم العقلي)، لأن (الحكم العقلي) هو عدم تعلق الأمر بالفاسد، و(دليل الأمر) يدل علی صحة كل أفراد الصلاة، فلا يبقی موضوع له.

وفيه تأمل: أولاً: لأن هذا الكلام يجري بناءً علی كلا القولين - الصحيح والأعم - ، ونتيجته إمكان التمسك بالإطلاق علی كليهما، وبذلك تنتفي الثمرة.

وثانياً: إن دليل الأمر لم يتعلق بفعل الأجزاء والشرائط بشكل مطلق، بل تعلق بالصحيح منها، فلازمه هو وجود الملاك في الفرد الصحيح لا مطلقاً، فالتمسك بالدليل لإثبات صحة كل الأفراد تمسك بالعام في الشبهة المصداقية، فتأمل.

الثمرة الثانية: ما عن المحقق القمي(2) بظهور الثمرة في النذر، بأن نذر أن يتصدق بدرهم علی المصلّي، فعلی الصحيح لا وفاء للنذر إلاّ بإعطاء الدرهم

ص: 165


1- سورة البقرة، الآية: 43.
2- قوانين الأصول 1: 105.

لمن صلی صحيحاً، وعلی الأعم يجوز إعطائه لمن كانت صلاته فاسدة.

وفيه: أولاً: أنه لو صحت هذه الثمرة فهي خاصة بباب النذر وشبهه، ولا تجري في عامة أبواب الفقه فلا تكون المسألة أصولية، اللهم إلاّ أن يقال بأنهم لم يعتبروها مسألة أصولية بل ذكروها في المقدمات.

وثانياً: بأن هذه ثمرة جزئية لا يناسبها بحث كهذا البحث في الأصول.

وثالثاً: عدم صحة هذه الثمرة من أساسها، لأن النذر تابع لقصد الناذر، ومع غفلته فإن ارتكاز الناذر هو الصلاة الصحيحة، سواء كان اللفظ للصحيح أم للأعم.

وبعد الانتهاء من هذه المقدمات ندخل في أصل الموضوع.

المطلب الخامس: أدلة الطرفين
1- من أدلة القائل بالصحيح

الدليل الأول والثاني: التبادر وعدم صحة السلب.

ولكن هذان أمران وجدانيان، فإنكارهما سهل، بل يمكن ادعاء العكس، كما حدث فعلاً حيث استدل بهما للأعم.

الدليل الثالث: إثبات الآثار للمسمّيات - من غير تقييدها بالصحيح - ، ومن المعلوم عدم ترتب تلك الآثار علی غير الصحيحة، كقوله تعالی: {إِنَّ الصَّلَوٰةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ}(1)، و«الصوم جنة من النار»(2)... وغيرها، والأمر يدور بين الوضع لخصوص الصحيح فيکون الاستعمال حقيقياً، وبين

ص: 166


1- سورة العنکبوت، الآية: 45.
2- الكافي 2: 19.

الوضع للأعم فيکون مجازياً، والأول هو المتعين.

وفيه: أولاً: إن المراد واضح، وبعد اتضاحه لا يوجد أصل يعيّن أنه حقيقي أم مجازي، فإن (أصالة الحقيقة) كما مرّ تجري مع الشك في المراد، وأما مع العلم به - مع عدم العلم بأنه حقيقي أم مجازي - فلا تجري.

وثانياً: إرادة أحد المصاديق من المعنی الحقيقي لا تستلزم المجازية، إذ هي من باب التطبيق، لا من استعمال اللفظ في غير ما وضع له، نظير استعمال الإنسان في زيد.

وثالثاً: عن فوائد صاحب الكفاية(1)، بأن الاستدلال المذكور هو من قبيل التمسك بعموم العام لإخراج ما يعلم بخروجه عن حكم العام عن موضوعه، فراراً عن لزوم التخصيص علی تقدير دخوله في موضوع العام.

مثلاً لو قال: (أكرم كل عالم)، وعلمنا بخروج زيد، لكن هل كان عالماً وخرج بالتخصيص، أم لم يكن زيد عالماً فخروجه موضوعي وبالتخصص، فلا تجري هيهنا أصالة العموم لكي يثبت عدم التخصيص وأن خروجه بالتخصص.

فالاستدلال مبنيّ علی حجية أصالة العموم مطلقاً حتی فيما علم بخروجه وشك في سبب الخروج، ولكن المبنی محل نظر إذ دليل حجية أصالة العموم هي السيرة وهي لبيّة، والقدر المتيقن منها هو ما كان معلوم الفردية وشك في خروجه.

الدليل الرابع: الروايات الدالة علی نفي الماهية بمجرد انتفاء جزء أو

ص: 167


1- نهاية الأفكار 1: 89.

شرط، مثل: «لا صلاة إلاّ بطهور»(1) و«لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب»(2)، ولو كان الموضوع له هو الأعم، لما كانت الماهية تنتفي بانتفاء أحد أجزائها أو شرائطها.

وأشكل عليه: أولاً: بأن المراد نفي الكمال، لا نفي الماهية، كقوله (لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد)(3).

وفيه: أن ذلك مجاز لا يصار إليه إلاّ بالقرينة.

وثانياً: إنه قد تكون الصلاة صحيحة بدون فاتحة الكتاب في بعض الحالات، كالاضطرار والنسيان، وكذا بدون الطهور لفاقد الطهورين كما يراه بعض الفقهاء، فالجامع علی القول بالصحيح يشمل الواجد والفاقد.

إذن فالنفي راجع إلی نفي الماهية في بعض الحالات، كحالة الاختيار والذكر، دون غيرها.

الدليل الخامس: عدم إمكان إرادة الصحيح في بعض الروايات، كقوله: (دعي الصلاة أيام أقرائك)(4)، فإن الحائض غير قادرة علی الصلاة الصحيحة، فالنهي عنها نهي عن غير المقدور، فلابد من حمل الصلاة علی الأعم لقدرتها علی الصلاة الفاسدة.

وفيه: أولاً: أن النهي هنا إرشادي، لإرشادها إلی عدم قدرتها علی

ص: 168


1- من لا يحضره الفقيه 1: 58.
2- عوالي اللئالي 1: 196.
3- تهذيب الأحكام 1: 92.
4- عوالي اللئالي 2: 207.

الصلاة، وليس نهياً مولوياً، وذلك لوضوح عدم حرمة إتيانها بصورة الصلاة كما لو أرادت تعليم الصغار، نعم لو أتت به بقصد القربة مع فرض إمكانه كان حراماً من جهة التشريع لا من جهة النهي المولوي.

وثانياً: إن استعمال الصلاة هنا في الأعم، والاستعمال لا يدل علی الحقيقة.

وأشكل عليه: بأن الاستدلال ليس بالاستعمال، بل بعدم العناية، فإنا لا نجد أيّة مجازية في هذا الاستعمال.

ولعل مقصود السيد المرتضی حيث ذهب إلی أن الاستعمال علامة الحقيقة، إلی هذا، أي الاستعمال بدون عناية علامة للحقيقة.

2- من أدلة القائل بالأعم

فمضافاً إلی استدلالهم بالتبادر وصحة السلب، استدلوا بأمور أخری، منها:

الدليل الأول: إن الألفاظ الموضوعة للأمور الحقيقية، أو المركبات الخارجية، وضعت للأعم من الصحيح والفاسد، فالبيض اسم للأعم سواء كان صحيحاً أم فاسداً، والدار تطلق علی العامرة وعلی الخربة، والشارع لم ينهج طريقة أخری في التسمية أو الاستعمال، وتعلّق الأمر بالصحيح - لتعلق الغرض به - لا ينافي التسمية بالأعم، كما في تعلّق الغرض بالصحيح في الأمور الخارجية.

الدليل الثاني: صحة التقسيم إلی الصحيح والفاسد، فيقال: الصلاة إما صحيحة وإما فاسدة، ولو كانت اسماً للصحيح لكان من تقسيم الشيء إلی

ص: 169

نفسه وإلی غيره.

وحيث إن استعمال اللفظ من غير عناية، كشف ذلک عن أن الاستعمال في المعنی الحقيقي.

الدليل الثالث: الاستدلال بمثل قوله «بني الإسلام علی خمس: على الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية، ولم يناد بشيء كما نودي بالولاية، فأخذ الناس بأربع وتركوا هذه»(1)، مع أن الصلاة بغير ولاية باطلة، فلو كانت اسماً لخصوص الصحيح لكان يقول: فترك الناس الخمس كلها.

وأشكل عليه: بأن المذكورة في صدر الرواية هي الصحيحة قطعاً لأن الاسلام يُبنی علی العبادات الصحيحة لا الفاسدة.

والمراد بالأربع في الذيل أيضاً: إما الصحيحة ولكن حسب اعتقادهم، أي فأخذ الناس بما زعموه صحيحاً من الصلاة والصوم والزكاة والحج، وإما الصحيحة من غير جهة الولاية، حيث إن الصحيح كما مرّ هو من غير ناحية قصد القربة، والولاية من شؤونات قصد القربة(2).

ويرد عليه: أولاً: أن إرادة الصحيح من الصدر لا ينافي الوضع للأعم، لأن الصحيح أحد مصاديق المعنی، ولا إشكال في جواز استعمال اللفظ بالمعنی الحقيقي في أحد مصاديقه.

وثانياً: بأنّ الولاية غير مرتبطة بقصد القربة في العمل، بل هي واجب نفسي مستقل بالاعتقاد بالأئمة (علیهم السلام) ، ووجودها شرط في صحة العبادة من

ص: 170


1- الكافي 2: 18.
2- نهاية الأفكار 1: 90.

غير أخذها في قصد القربة التي هي قصد أمر المولی، فتأمل.

الدليل الرابع: لا إشكال في صحة تعلق النذر بترك الصلاة في مكان مكروه كالحمّام، كما لا إشكال في حصول الحنث بفعلها فيه، وعليه: فلو كانت الصلاة اسماً لخصوص الصحيح، لم يحصل الحنث، لأن هذه الصلاة تكون منهياً عنها، والنهي في العبادة موجب لفسادها، فلم يرتكب مخالفة النذر، وحينئذٍ يقال: إنه غير قادر علی الإتيان بمتعلق النذر، فيبطل نذره، للزوم كون متعلق النذر مقدوراً.

وأشكل عليه: أولاً: مبنیً: بأنّ كراهة العبادة: إما بمعنی كونها أقل ثواباً مع رجحانها والثواب عليها. وإما بمعنی الكراهة في أمر يلازم العبادة - كالكون في الحمام في حال الصلاة - .

فعلی الأول: يکون النذر باطلاً من أساسه، لأن الصلاة في الحمام راجحة، فتركها مرجوح، فلا يصح تعلق النذر به.

وعلی الثانی: فإن كان متعلق النذر نفس العبادة دون اللازم، فكذلك النذر باطل من أساسه.

وإن كان متعلق النذر ذلك اللازم، فالصلاة صحيحة - لعدم النهي عنها بل النهي عن لازمها - ، فلو أتی بها حنث النذر بسبب ارتكابه ذلك اللازم.

إن قلت: تسری الحرمة من اللازم إلی ذات العبادة لعدم انفكاكها.

قلت: لازم ذلك بطلان الصلاة في الحمام ولو من غير نذر(1).

وثانياً: بناءً: فإن المراد الصحة اللولائية، أي لولا النذر لكانت الصلاة

ص: 171


1- نهاية الأفكار 1: 92.

صحيحة، وذلك لأن الصحة المتفرعة عن النذر لا يمكن أخذها في متعلق النذر، لأن الصحة والفساد المترتبان علی النذر متأخران عنه، فلا يمكن أخذهما في متعلق النذر الذي هو موضوع النذر فيکون مقدماً عليه، فتأمل.

المبحث الثاني: في المعاملات
اشاره

وفيه مطالب:

المطلب الأول: في تحرير محل النزاع

إن النزاع في الوضع للصحيح أم للأعم كما يجري في المعاملات العرفية كذلك يجري في المعاملات الشرعية.

وقيل: إن البحث خاص للوضع بنظر العقلاء، إذ لولا ذلك كانت أدلة الإمضاء لغواً حيث يکون مفاد {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}(1) هو أن البيع الصحيح صحيح!!

ويرد عليه: أولاً: لو فرض الاستعمال في الأعم في هذه الآية، فإنه لا يضر، لأن الاستعمال أعم من الحقيقة.

وثانياً: إن الإشكال إنّما يرد لو قيل بوضع اللفظ لعنوان الصحيح، ولا نقول به، بل نقول بأن الوضع هو لحقيقة الصحيح دون عنوانه، فمعنی {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} هو أحل الله مبادلة مال بمال المقرون بالاختيار... الخ، وهذا ليس بلغو.

ثم إن في المعاملات ثلاثة أمور:

ص: 172


1- سورة البقرة، الآية: 275.

1- السبب، كالعقد والإيقاع والمعاطاة.

2- المسبب، وهي الأفعال التي تتولد من الأسباب الخاصة، كالتمليك والتزويج.

3- آثار المسبب، كالملكية والزوجية ونحوهما.

وليس البيع - مثلاً - الأول، فإنه تُنشأ به المعاملة، فلو كانت نفس المعاملة لزم اتحاد المُنشأ - بالفتح - مع ما ينشأ به وهو محال، ولا الثالث فإنه أثر البيع وليس نفس البيع، فظهر أن المعاملة هي الفعل التوليدي الذي له أسبابه الخاصة وله آثار معلومة.

ثم إن المحقق الخراساني(1) ذهب إلی جريان النزاع لو قلنا بأن المعاملة هي السبب، وعدم جريانه لو قلنا بأنها المسبب، وذلك لأن السبب مركب فيمکن فيه الصحة لو تمت الأجزاء والشرائط، والفساد لو لم تتم، دون المسبب لأنه بسيط فأمره دائر بين الوجود والعدم.

وتفصيل ذلك(2):

1- إن قلنا إنها أسامٍ للأسباب، كما هو المترائی من ظاهر من عبّر عنها في مقام شرعيتها بقولهم البيع عقد كذا، فلا إشكال في دخولها في حريم النزاع، فقد يترتب الأثر علی العقود فتكون صحيحة، وقد لا يترتب فتكون فاسدة.

2- وإن قلنا بأنها أسامي للمسبَّبات وأنها أمور بسيطة ناشئة من قبل

ص: 173


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 129.
2- نهاية الأفكار 1: 97.

أسبابها الخاصة والعقد موجد لها، فحينئذٍ قد يقال بعدم جريان النزاع فيها...

تارة: من جهة أنها بنفسها آثار، وكلامنا في المؤثرات التي يترتب عليها الآثار، مع أن معنی الصحة هي ترتب الأثر المقصود، فالبحث في المؤثرات لا في الآثار.

وأخری: لأنها بسيطة فأمرها دائر مدار الوجود والعدم، فلا يتصور فيها التمامية والنقصان.

وأشكل عليه بأمور منها:

الإشکال الأول: فيقال أما علی الشِق الأول فبأنّها وإن كانت آثاراً، إلاّ أنها يترتب عليها أحكام، كجواز التصرف وحرمته، وحسب ما ذكرنا فإن المعاملة هي الأفعال التوليدية التي يترتب عليها آثار.

وأما الشق الثاني: فله وجه إن قلنا باتحاد حقيقة البيع ومصداقه عند العرف والشرع، فيکون مورد التخالف - كالبيع الربوي - من تخطئة الشرع للعرف، ولكن إن قلنا بالشقوق الأخری فلا.

وذلك لأن في عدم إمضاء الشارع مثل المعاملة الربوية ثلاث احتمالات:

الأول: اتحاد حقيقة البيع ومصداقه شرعاً وعرفاً، فتكون التخطئة إنّما هي في عدّ العرف غير البيع مصداقاً للبيع، ولازمه: عدم قابليته للاتصاف بالصحة والفساد، بل أمره دائماً دائر بين الوجود والعدم، ومبنی هذا الوجه: أن البيع أمر واقعي انتزاعي عن منشأه، وغير منوط بالجعل.

ويرد عليه: عدم صحة المبنی بل البيع من الأمور الاعتبارية.

الثاني: اتحاد حقيقة البيع ومصداقه شرعاً وعرفاً، لكن نهي الشارع ليس

ص: 174

لتخطئة العرف في عدّه مصداقاً للبيع، بل هو تخصيص بمعنی عدم ترتب الأثر علی البيع، ولازمه: قابلية الاتصاف بالصحة والفساد، إذ أمكن وجود البيع غير المؤثر، فالبيع قد يتصف بالصحة والفساد وقد لا يتصف.

ويرد عليه: التهافت بين القول بتحقق البيع مع عدم تحقق آثاره، وهو مخالف لما عليه الإرتكاز.

الثالث: إن للبيع مصداقين - عرفي وشرعي - وكل واحد منهما منشأ للآثار عند الشارع أو العرف.

ودليل هذا الوجه: أن المسببات هي أمور اعتبارية جعلية، فلا معنی للتخطئة هنا، لأن البيع المضاف إليهم والمصداق المختص بهم متحقق لا محالة - وذلك لأن الاعتبار بيد المعتبر - ، نعم المصداق الشرعي يکون تحققه تابع لاعتبار الشارع.

ويرد عليه(1): أن الأثر وإن كان من الأمور الاعتبارية، إلاّ أن كون هذا السبب مقتضياً للاعتبار هو أمر تابع لما يراه العقلاء من المصالح والمفاسد، ومقتضيات قائمة بالسبب، وليس أمراً جزافاً، فيمکن التخطئة في الوجه والباعث علی جعل الشيء سبباً، لا في نفس السبب، ولا في المسبب.

وبعبارة أخری: حيث إن العقول متفاوتة في إدراك المصالح والمفاسد، فقد يری العرف صلاحية الشيء للتأثير ولكونه سبباً للاعتبار، ولكن يری الشارع عدم صلاحيته.

الإشكال الثاني: عدم جريان النزاع أيضاً علی القول بأن المعاملات أسامٍ

ص: 175


1- نهاية الدراية 1: 137.

للأسباب، وذلك لأنه وإن أمكن جريان النزاع ثبوتاً، إلاّ أنه لا يجري إثباتاً، إذ ذلك يتوقف علی فرض ثمرة، والثمرة منتفية علی رأي صاحب الكفاية، حيث إنه يری إمكان التمسك بالإطلاق - سواء قيل بالصحيح أم بالأعم - .

وفيه: أن التمسك بالإطلاق يبتني علی مقدمات هي محل خلاف، فيکفي وجود الثمرة علی بعض الأقوال.

الإشكال الثالث: إن البيع يسند إلی الأشخاص، فيقال: (باع زيد) مثلاً، فلو كان البيع اسماً للمسبب لم يصح إسناده إلی الأشخاص، بل هو من فعل الشارع.

وفيه: النقض: بإسناد الأحكام الشرعية والعرفية إلی المكلّف، فيقال مثلاً: طهّر فلان ثوبه مع أن الطهارة هي حكم الشارع.

والحلّ: بأن القدرة علی السبب قدرة علی المسبب، فالإنسان قادر علی الإحراق بإلقاء الورقة في النار مع أن الإحراق هي فعل النار، لكن الإنسان قادر عليه بقدرته علی سببه.

وبعبارة أخری: إن أحكام الشارع قضايا حقيقية عادة، ولكن فعليّة الحكم منوط بوجود موضوعه، فمن يُوجِد الموضوع يصح إسناد الحكم إليه.

الإشكال الرابع: إن النسبة بين العقد والمعاملة ليست نسبة السبب والمسبب، بل هي نسبة الآلة إلی ذي الآلة(1).

وذلك لأن المسبب التوليدي ما يترتب علی سببه بمجرد وجوده بلا

ص: 176


1- فوائد الأصول 1: 81.

توسط الإرادة له، بل ترتبه قهري، ولذا لم يكن بنفسه متعلقاً للإرادة، بل الإرادة تتعلق به بتبع تعلقها بالسبب، كالإحراق بالنسبة إلی الإلقاء في النار.

بخلاف ذي الآلة، فإنه اختياري بنفسه وبالمباشرة، فلا يترتب علی تحقق الآلة قهراً، بل تتعلق الإرادة بذي الآلة بنفسه، كالكتابة بالنسبة إلی القلم، فلا تترتب علی القلم قهراً بل الكتابة مقدورة بنفسها.

وبعبارة أخری: الكتابة هي نفس تحريك القلم علی القرطاس، فهي فعل اختياري، دون الإحراق فإنه ليس بذاته فعل الإنسان وإنّما فعله هو الإلقاء.

وفيه: أولاً(1): أن الآلة ليست من الأفعال، بل هي من الأمور التكوينية التابعة وجودها لأسبابها، وأما السبب فهو من الأفعال، فآلة الكتابة - القلم - ليست من الأفعال بل هي موجود تكويني من الجواهر، وسبب الكتابة هو تحريك القلم علی القرطاس.

وفيما نحن فيه العقد هو من الأفعال الاختيارية، لأنه إنشاء واستعمال اللفظ، وليس من الجواهر حتی يکون آلة.

وفيه تأمل: لأن الآلة هي ما يتوصل بها إلی الشيء المقصود، فتخصيصها بالجواهر بلا وجه، فكما يمكن التوصل إلی الشيء عبر الآلة التي هي جوهر، كذلك قد يکون عبر العَرَض، ومنه الكلام الذي هو من مقولة الكيف.

وثانياً: إن السبب هو الاستفادة من الآلة، وهذا يتصور في العقد، فإنه حتی لو فرض أن الكلام آلة، لكن الاستفادة من هذه الآلة هو سبب تحقق

ص: 177


1- منتقی الأصول 1: 281.

المسبب، كما أن القلم آلة لكن سبب الكتابة هو تحريك القلم، فيصح البحث في أن المعاملة هي السبب أو المسبب. فتأمل.

المطلب الثاني: في ثمرة النزاع في المعاملات
اشاره

وفيه مقامان:

المقام الأول: في الثمرة على القول بأن المعاملة اسم للسبب

فقد قيل: بإمكان التمسك بإطلاق ألفاظ المعاملات بناءً علی الأعم، وعدم إمكانه بناءً علی الصحيح، لو شك في فرد خاص من المعاملة، كبيع الغرر أو بغير العربية.

لأن التمسك بالإطلاق علی الصحيح يکون من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، حيث إن لفظ البيع - مثلاً - موضوع لما هو المؤثر واقعاً أو ما له اقتضاء التأثير، فإذا شك في فرد من أفراد البيع أنه ممضی أم لا، يکون مرجع الشك إلی أن ذلك الفرد مؤثر أو مقتضٍ للتأثير أم لا، فلا إحراز لصدق البيع عليه، وحينئذٍ لا يمكن التمسك بمثل {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}(1)، لأنه تمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

وأشكل عليه: بامكان التمسك بالإطلاق حتی علی القول بالصحيح بأحد طريقين، فتنتفي الثمرة:

الطريق الأول: التمسك بدلالة الاقتضاء لأن الشارع أمضی البيع العرفي، فعدم بيانه في مورد الشك كاف في التمسك بالإطلاق.

حيث إن الممضی هو العقد المؤثر، ولا طريق لنا لتعيين مصداق موضوع

ص: 178


1- سورة البقرة، الآية: 275.

الإمضاء، وذلك يقتضي الاعتماد علی العرف في تشخيص المصداق، وأن ما هو موثر عرفاً يکون مؤثراً شرعاً، ولولا ذلك كان دليل الامضاء لغواً لعدم المعرفة بما أمضاه الشارع.

اللهم إلاّ إذا كان الشك في اعتبار شيء عرفاً لعدم العلم بكونه بيعاً أصلاً(1).

والحاصل: إن دليل الامضاء يتكفل أمرين(2):

1- إمضاء العقد، وهو ما يتكفله المدلول المطابقي للكلام.

2- أن ما هو مؤثر عند العرف يکون مؤثراً عند الشارع، وهو ما يتكفله الدليل الالتزامي الاقتضائي.

وفيه تأمل: وذلك لوجود القدر المتيقن من المعاملات الممضاة، وبذلك ترتفع لغوية الكلام.

الطريق الثاني: التمسك بالإطلاق المقامي، حيث إنه علی مبنی وضع اسم المعاملة للسبب، فإن البيع موضوع لما هو المؤثر واقعاً، ونظر العرف والشرع طريق إليه، فإذا كان المولی في مقام البيان، وحكم بنفوذ كل ما هو مؤثر واقعاً بلا تقييده بمصداق خاص، يکون هذا الإطلاق حجة علی أن المُمَلِّك في نظر العرف مملِّك في نظر الشرع.

وفيه تأمل: حيث إن إحراز الإطلاق المقامي يتوقف علی إحراز أن المولی قد تصدی لبيان تمام مقصوده بنفس دليل الإمضاء، ولا طريق لنا

ص: 179


1- الأصول 1: 105.
2- منتقی الأصول 1: 288.

لإحراز هذا التصدي، بل الظاهر أن تدريجيّة الأحكام تدل علی أن الشارع يبين مقصوده عبر خطابات متعددة، فلذا لابد من ملاحظة كل خطاباته لإحراز تمام مراده.

إن قلت: بعد الفحص وعدم العثور علی الردع نكتشف الإمضاء.

قلت: هذا دليل لبي، يتمسك فيه بالقدر المتيقن، وقد يکون مورداً للعلم الإجمالي أو الاستصحاب، فتأمل.

فتحصَّل أن الثمرة تامة، فعلی الأعم يمكن التمسك بالإطلاق وعلی الصحيح لا يمكن.

المقام الثاني: في الثمرة على القول بأن المعاملة اسم للمسبَّب

فمع الشك في إمضاء السبب هل يمكن التمسك بإطلاق الدليل لإثبات صحة المعاملة، أو لا يمكن، إذ دليل الإمضاء يتكفل إمضاء المسبب دون السبب؟

وبعبارة أخری: هل إمضاء المسبب يلازم إمضاء السبب أم لا؟

وقد ذكرت عدّة طرق لإثبات الملازمة:

الطريق الأول: لولا إمضاء السبب لكان امضاء المسبب لغواً.

وفيه: أنه لا ملازمة عرفية في ذلك، واللغوية إنّما تلزم إذا لم يجعل الشارع سبباً أو لم يُمض سبباً في الجملة، فلابد من الأخذ بالقدر المتيقن(1).

الطريق الثاني: ما مرّ من أن المعاملة ليست من قبيل السبب والمسبب بل من قبيل الآلة.

ص: 180


1- فوائد الأصول 1: 80.

وقد تقدم تفصيله مع الإشكال عليه.

الطريق الثالث: وحدة السبب والمسبب بالمسامحة العرفية، فلا اثنينية ولا تعدد في البين حتی يقال: بأن إمضاء المسبب أجنبي عن إمضاء السبب.

وأشكل عليه(1): بعدم العبرة بالمسامحة العرفية إلاّ في تشخيص المفاهيم دون التطبيقات، فتطبيق العرف المسبب علی السبب لا يُعتدُّ به.

ويرد عليه: بأنه قد يقال بأن المسامحة ليست في المصداق، بل في المفهوم، أي إن ألفاظ المعاملات وإن كانت موضوعة حقيقة للمسببات، لكن العرف يتوسع في المفهوم، فتأمل.

الطريق الرابع: إن المسبب منحلّ خارجاً بعدد الأسباب، فليس هناك مسبب خارجي واحد له أسباب عديدة كي يقال بعدم دلالة إمضائه علی إمضاء كافة أسبابه.

وأشكل عليه(2): بأنه لا يجدي تعدد المسبب في إمضاء السبب المشكوك، لعدم العلم بإمضاء المسبب الناشیء من السبب المشكوك، للشك فيه من جهة السبب، والمفروض إجمال الكلام من هذه الجهة، فلا إطلاق للكلام كي يتمسك به.

وبعبارة أخری: لا إطلاق لقوله تعالی: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}(3) من جهة السبب، بل إطلاقه من جهة المسبب، فقد تمَّ امضاء كل تمليك عرفي من

ص: 181


1- نتائج الأفكار 1: 119.
2- منتقی الأصول 1: 293.
3- سورة البقرة، الآية: 275.

النقد والنسيئة والسلم والصرف... الخ، لكن لا نظر للدليل علی الأسباب أصلاً، فليس الدليل في مقام البيان من هذه الجهة.

فتحصل: أنه بناءً علی أن المعاملة اسم للمسبب لا فرق في جريان الإطلاق بين القول بالصحيح أم الأعم، إذ لو قلنا بالتلازم بين إمضاء المسبب والسبب أمكن التمسك بالإطلاق مطلقاً، وإلاّ فلا، فتأمل.

المبحث الثالث: في الجزء المستحب في العمل الواجب

وهذا بحث استطرادي مكمّل لبحث الصحيح والأعم.

فقد أشكل ثبوتاً علی الجزء المستحب: بأنه إن كان دخيلاً في الماهية بحيث تنتفي بانتفائه كان جزءاً واجباً لا مستحباً، وإن لم يكن دخيلاً في الماهية فليس بجزء أصلاً.

وبعبارة أخری: الواجب الذي له أجزاء ارتباطية، امتثال كل جزء منه يحصل حين امتثال مجموع الأجزاء، فعدم الإتيان بإحداها يؤدي إلی عدم امتثال المجموع، وحيث إن امتثال الأجزاء الواجبة لا يتوقف علی الإتيان بالجزء المستحب فلا يکون جزءاً للواجب أصلاً.

والجواب: أولاً: إن الاستحباب هو في التطبيق، أي تطبيق الطبيعة علی هذا الفرد، مثلاً للصلاة فردان: أحدهما بلا قنوت، والثاني مع القنوت، فيمکن للمكلَّف أن يُطبِّق الطبيعة المأمور بها علی أيٍّ منهما شاء، لكن يستحب التطبيق علی الفرد الواجد للقنوت، نظير ما قيل في العبادة المكروهة كالصلاة في الحمام، بأن الكراهة ليس في فعل الصلاة فإنها عبادة راجحة، وإنّما الحزازة في تطبيقها علی الصلاة في الحمام.

ص: 182

وفيه: أن هذا خلاف ظاهر الأدلة الدالة علی جزئية القنوت للصلاة، وكذا سائر الأجزاء المستحبة، ولا يُصار إليه إلاّ بعد العجز عن دفع الإشكال من أصله.

وثانياً: إن الجزء المستحب ليس بجزء حقيقة، بل هو مستحب مستقل لكن ظرفه في الواجب، كمن نذر التصدق حين الصلاة، وكطواف النساء بعد الحج والعمرة - علی ما قيل - .

ويرد عليه: ما ورد علی الجواب الأول بعينه.

وثالثاً: إن الجزء المستحب هو جزء للفرد لا للطبيعة، ولهذا الجواب تقريران:

التقرير الأول: ما ذكره المحقق العراقي(1): من أن الجزء المستحب عند وجوده يوجب مزية للفرد الواجد له علی الفاقد، وتكون جزءاً للفرد لا للطبيعة - لأنها من قبيل اللابشرط بالنسبة إليها فتتحقق الطبيعة معها وبدونها - غاية الأمر الفرد المشتمل عليها يصير من أكمل الأفراد وأفضلها.

وبمثل هذا يجاب عن إشکال دخول الشيء في الماهية حين وجوده وعدم دخوله حين عدمه، کالبيت ذي الغرف فالغرفة الثانية حين وجودها جزء مع عدم جزئيتها حين عدمها، فيقال: إنها جزء من الفرد لا من الطبيعة.

التقرير الثاني: ما في المنتقی(2): من أن هذه الخصوصية - كالقنوت في الصلاة - توجب تأكد المصلحة في الواجب، فهنا أمر وجوبي واحد مؤكد

ص: 183


1- نهاية الأفكار 1: 101.
2- منتقی الأصول 1: 298-301.

هو للطبيعة مع الخصوصية، فالقنوت جزء من الصلاة، ومصلحته مرتبطة بمصلحة الصلاة بحيث تزداد معه، وهذه المصلحة غير ملزمة لذا جاز ترك القنوت.

نعم لو كانت المصلحة ملزمة لوجب الاتيان بذلك الجزء كالجهر في الصلوات الجهرية، لكن مع الغفلة عن الجهر لا إعادة ولا قضاء، لأنه أدرك مصلحة الصلاة مع عدم إمكان تدارك المصلحة الزائدة، وهذا ما اكتشفناه من أدلة صحة الصلاة مع الغفلة عن الجهر.

وبعبارة أخری: ليس للقنوت - مثلاً - مصلحة مستقلة أصلاً، بل مصلحة ضمنية متعلقة بمصلحة الطبيعة، بحيث تتفاوت مصلحة الطبيعة بوجود القنوت وعدم وجوده، فلا يمكن تعلق الأمر الاستحبابي بالقنوت لعدم استقلاله بالمصلحة فلا أمر مستقل به لأن الأمر تابع لملاكه من المصلحة، كما لا يمكن تعلق الأمر الاستحبابي بالصلاة لاستلزامه لاجتماع الضدين لأن الصلاة تعلق بها الأمر الوجوبي، فحينئذٍ لابد من القول من تداخل الأمرين - الوجوبي والاستحبابي - فيحصل أمر وجوبي واحد مؤكد.

ويمكن أن يقال: إن الجزء المستحب قد يکون مستحباً نفسياً وله مصلحة بنفسه، مع دلالة الأدلة علی استحباب إتيانه أيضاً في ضمن واجب آخر، كالقنوت حيث إنه مستحب ولو في خارج الصلاة.

فالأولی الالتزام بالتقرير الأول.

إن قلت: الميزة أو زيادة المصلحة، قد تكون بسبب كون الشيء جزءاً للفرد، وقد تكون بسبب تقارنه مع ذلك الفرد، فكيف أثبتم الجزئية؟

ص: 184

قلت: ظاهر الأدلة الجزئية، ومع دفع الإشكال الثبوتي بما ذكر - من الميزة أو زيادة المصلحة- فلا وجه لرفع اليد عن الظاهر، ولذا فهم الفقهاء الجزئية قبل طرح هذا الإشكال الثبوتي.

ص: 185

فصل في الاشتراك اللفظي

لا إشكال في وقوع الاشتراك اللفظي في لغة العرب وغيرها من اللغات، فإنكاره إنكار للبديهي، والإشكال العقلي عليه شبهة مقابل البديهة، مضافاً إلی إمكان دفع الإشكالات، فهنا بحوث:

البحث الأول: دعوی امتناعه عقلاً، بأحد وجهين:

الوجه الأول: إن الوضع هو اختصاص لفظ بمعنی، وهو يقتضي المرآتية وفناء اللفظ في المعنی، ولا يعقل فناء لفظ واحد في معنيين.

وفيه: أولاً: المرآتية والفناء - علی القول بها - إنّما هي في مرحلة الاستعمال، أما في مرحلة الوضع فلا مرآتية ولا فناء، بل لابد من تصور اللفظ وتصور المعنی مستقلاً، فهذا الإشکال في حقيقته يرجع إلی إثبات امتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنی لا في استحالة الاشتراك اللفظي.

وثانياً: إن المحذور هو في المرآتية الفعلية بحيث يکون للّفظ ظهور فعلي مطلقاً حتی مع وجود المزاحم، وليس هناك محذور في اقتضاء الظهور بحيث يصل إلی الفعلية لو لم يكن مانع، والقرينة تكون مانعاً عن أحد المعنيين فلا محذور.

الوجه الثاني: استحالة الاشتراک علی مبنی التعهد، إذ معناه أنه كلما جاء باللفظ فقد قصد معناه الموضوع له، ولازم هذا فعلية كلا التعهدين في مورد

ص: 186

ذكر المشترك، لأنه شرط في كلا التعهدين معاً.

وفيه: إمکان کون (المتعهَّد به) هو قصد أحد المعنيين علی نحو الإجمال. مضافاً إلی إمکان تقييد كل واحد من التعهدين بعدم قصد المعنی الآخر.

البحث الثاني: دعوی لغويته فيمتنع وقوعه.

واستدل له: بأنه لو لم ينصب القرينة لأخلّ بالتفهيم والتفهم، ومع نصبها يکون تطويلاً بلا طائل.

وفيه: أولاً: إن الغرض قد يتعلق بالإجمال.

وثانياً: لا تطويل بلا طائل مع الاتكال علی القرائن الحالية، أو أن القرينة لها غرض آخر غير القرينية کما لو قال: (عيني توجعني)، فإن هذا الفعل مقصود بذاته مع كونه قرينة أيضاً، كما أنه قد يکون غرض عقلائي في التطويل.

وثالثاً: إن منشأ الاشتراك - غالباً أو دائماً - هو تعدد الأقوام والقبائل وأماكن الناطقين بلغة واحدة، وحين اجتماعها أو جمع مفردات اللغة يحصل الاشتراك، ويقال بنظير ذلك في الترادف أيضاً.

البحث الثالث: دعوی وجوبه، واستدل له بعدم تناهي المعاني مع تناهي الألفاظ.

وفيه: عدم الحاجة إلی المعاني غير المتناهية إلاّ بالمقدار الذي يرتبط بحياة الناس، وهي متناهية.

وبعبارة أخری - كما قيل - : وضعت الألفاظ لما يتصوره الناس، والمعاني

ص: 187

التي يتصورونها محدودة وقد وضعت الألفاظ لها من غير حاجة إلی المزيد، نعم كلّما احتاجوا إلی معنی جديد لم يألفوه من قبل وضعوا له لفظاً جديداً، أو استعاروا اللفظ من سائر اللغات، ويؤيد ذلك كثرة المهملات في جميع اللغات مما يكشف عدم الحاجة إلی أوضاع كثيرة، هذا مضافاً إلی تناهي المعاني الکلية، وإلی عدم تناهي الألفاظ بترکيب بعضها مع بعض.

ص: 188

فصل في استعمال اللفظ في أكثر من معنى

اشارة

هل يجوز استعمال اللفظ في أكثر من معنی واحد علی نحو الاستقلال بنحو كان كل واحد من المعنيين أو المعاني كما إذا لم يستعمل اللفظ إلاّ فيه؟

والكلام في ضمن بحوث:

البحث الأول: في بيان الثمرة

وقد ذكر المحققون موارد يبتني فيها الكلام علی جواز أو امتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنی...

منها: ما لو جاء أمر بشيئين، ثم دلّ دليل منفصل علی استحباب أحدهما، فهل يبقی الأمر علی وجوبه بالنسبة إلی الأول أم لا(1)، كالأمر بالأذان والإقامة مع قيام الدليل المنفصل علی استحباب الأذان.

ومنها: قوله: «كلّ شيء نظيف حتی تعلم أنه قذر»(2) فهل يمكن استفادة قاعدتي الطهارة والاستصحاب؟ وکذا قوله: «كل شيء هو لك حلال حتی تعلم أنه حرام بعينه»(3) فهل يستفاد منه الحلية والاستصحاب؟

ص: 189


1- منتقی الأصول 1: 305.
2- وسائل الشيعة 3: 467.
3- الكافي 5: 313.

إذ الحلية والطهارة تحتاج إلی النظر إلی أصل ثبوت المحمول، وأما الاستصحاب فيحتاج إلی أن يکون النظر إلی استمرار المحمول فارغاً عن أصل ثبوته.

ومنها: قوله تعالی: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا ءَاتَىٰهَا}(1)، فالموصول هل يراد منه فعل المكلف أم التكليف، فعلی الأول: المعنی (لا يكلّفها إلاّ فعلها)، فيکون الموصول مفعولاً به، فيدل علی اشتراط القدرة، وعلی الثاني: المعنی (لا يكلفها إلاّ تكليفاً) أي لا يراد منها إلاّ أداء التكاليف أما غيرها فلا يراد منها، فيکون الموصول كالمفعول المطلق.

وإنّما كانا معنيين لأن تعدد النسبة تقتضي تعدد النظر واللحاظ، فعلی جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنی يمكن استفادة المعنيين، وإلاّ فلا.

ومنها: استفادة قاعدتي الاستصحاب واليقين من قوله (علیه السلام) : «لا ينقض اليقين بالشك»(2).

ذكر هذه الثلاثة في نهاية الأفكار(3).

البحث الثاني: في تحرير محل النزاع

ينبغي بيان محل الكلام والنقض والإبرام، ليخرج البحث عن النزاع اللفظي أحياناً، فإن الصور المتصورة متعددة، وهي:

الصورة الأولی: أن يکون اللحاظ واحداً والملحوظ متعدداً، سواء كان

ص: 190


1- سورة الطلاق، الآية: 7.
2- الكافي 3: 352.
3- نهاية الأفکار 1: 107.

هذا الملحوظ مستقلاً غير مرتبط بشيء كلحاظ نقاط متعددة، أم كان الملحوظ غير مستقل كلحاظ رأس الخط وذيله، حيث إن الخط متشكل من مجموعة نقاط مترابطة.

ولا إشكال في إمكان هذه الصورة، فلابد من البحث عن وقوعها وجوازها لغة بعد ثبوت إمكانها.

إن قلت: اللحاظ هو التصور وإيجاد المعنی في الذهن، فلا معنی لتعدد المتصور مع كون اللحاظ واحداً.

قلت: (التصور) هو إيجاد الشيء في الذهن، و(اللحاظ) هو توجه النفس إلی شيء ملحوظ بعد تصوره وايجاده في الذهن، کذا في نهاية الأفکار(1).

الصورة الثانية: أن يکون الملحوظ (بشرط لا) عن لحاظ شيء آخر.

وفي هذه الصورة لا إشكال في عدم جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنی، لأنه خلف، حيث اشترط في كل معنی عدم لحاظ المعنی الآخر.

الصورة الثالثة: أن يکون هناك لحاظان، فلكل معنی لحاظ مستقل، فهل يجوز استعمال لفظ واحد حينئذٍ؟

وهذا هو محل الكلام والنقض والإبرام في الإمكان وعدم الإمكان، ويرتبط إمكانه وعدمه علی المباني المذكورة في الوضع، من أنه جعل اللفظ مرآتاً للمعنی وفانياً فيه، أم أنه علامة، أم أنه التعهد.

فاتضح أن الامتناع أو الإمكان يرتبط بالمباني في الوضع والاستعمال.

أمّا علی مبنی كون الألفاظ علامة للمعنی - ومرجعه إلی كشف العلامة

ص: 191


1- نهاية الأفکار 1: 104.

عن ذي العلامة ككشف الدخان عن النار - فقد يقال بالامتناع وقد يقال بالجواز.

وأمّا علی مبنی أن الألفاظ فانية في المعاني - لكونها مرآة لها - فلابد من الامتناع كما سيأتي توضيحه بإذن الله تعالى.

البحث الثالث: في إمكانه وامتناعه

فقد استدل لعدم الإمكان بوجوه، بعضها مبنائية، منها:

الوجه الأول - بناءً على كون الألفاظ فانية في المعاني - : بأنه يمتنع إفناء شيء واحد في شيئين لاستلزامه التناقض إذ لو فنی في الأول لا يبقی شيء كي يفنی في الثاني.

إن قلت: قد وقع إفناء الواحد في المتعدد، وذلك في العام الاستغراقي حيث يحكم علی الأفراد بتوسط عنوان عام يکون كاشفاً عنها، ويکون لحاظه لحاظها، فكما يمكن أن يکون المفهوم الواحد فانياً في أفراده المتعددة كذلك يمكن أن يکون اللفظ الواحد فانياً في المعاني المتعددة(1).

قلت: معنی وحدة العام هو الطبيعة أو الجامع، لكنه ينطبق علی مصاديق، فلا نقصد بالمعنی الوجود الخارجي، بل ما يوجد في الذهن الذي هو المفهوم وهو بسيط لا تكثر فيه، لكنه بوجوده الخارجي مصاديق متعددة، فتأمل.

إن قلت: في الوضع العام والموضوع له الخاص، وضع اللفظ لكل واحد

ص: 192


1- نهاية الأفكار 1: 110؛ منتقی الأصول 1: 308.

من الأفراد بخصوصه بتوسط عنوان عام، فليكن كذلك باب الاستعمال فيستعمل اللفظ في كل واحد من المعاني بتوسط عنوان عام.

قلت: في باب الوضع لا توجد مرآتية ولا فناء، بل هما في مرحلة الاستعمال كما أشرنا إليه في بحث الاشتراك.

أقول: قد مرّ في بحث الوضع الإشكال في المبنى، وأن الوضع هو جعل العلاميّة مما لا يستلزم الإفناء، مضافاً إلى أن الإفناء الممتنع إنّما هو في الأمور التكوينية لا الاعتبارية.

الوجه الثاني: استعمال اللفظ في أكثر من معنی يستلزم اجتماع لحاظين في وقت واحد، وذلك للحاظ المعنی الأول والثاني معاً، وذلك مستحيل.

وفيه: عدم استحالته إذا كان متعلق اللحاظين متعدداً، فإن النفس يمكنها التوجه إلی عدة أشياء في وقت واحد، مثل اجتماع الحب والبغض مع اختلاف المتعلق، فيحب ولده ويبغض عدوه معاً، ومثل لحاظ الموضوع والمحمول حين الحكم، فمثل (زيد عالم) المتكلم يتصورهما ويلحظهما معاً في وقت واحد وإلاّ لما صحّ الحكم.

الوجه الثالث: استلزامه صدور الكثير عن الواحد وهو ممتنع، حيث إن المعاني المتعددة تصدر من لفظ واحد.

ويرد عليه: أولاً: بأنه ليس اللفظ علة لوجود المعنی، وإلاّ لزم إيجاد المعنی حتی لغير العارف باللغة، وقد مرّ تفصيله.

وثانياً: بأنّ اللفظ مركب وله جهات متعددة، وحينئذٍ لا يکون من صدور الكثير من الواحد بل صدور الكثير من الكثير، كالنار التي هي علة للإحراق

ص: 193

والحرارة والضوء والدخان... الخ.

وثالثاً: بأنّ ذلك في الأمور الحقيقية - لأن دليلهم عليه هو لزوم السنخية وإلاّ لصدر كل شيء من كل شيء - فلا تجري القاعدة في الأمور الاعتبارية، وما نحن فيه من الاعتباريات.

هذا مضافاً إلى الإشكال في قاعدة الواحد من أصلها، كما مرّت الإشارة إليه.

الوجه الرابع: إن معنی جعل اللفظ علامة للمعنی هو أن اللفظ سبب لانتقال المعنی إلی الذهن، فيکون اللفظ إيجاداً والمعنی وجوداً، ولا يخفی اتحاد الإيجاد والوجود، وإنّما تغايرهما بالاعتبار حيث إن الإيجاد هو باعتبار نسبته إلی العلة، والوجود باعتبار نفسه.

وحينئذٍ لا يمكن تعدد المعنی للّفظ الواحد، لاستلزامه وحدة الإيجاد مع تعدد الوجود.

وفيه(1): أن متعلق الوجود والإيجاد هنا مختلف، فإيجاد اللفظ ووجوده متحد فهو واحد، كما أن إيجاد المعنی ووجوده متعدد، واستحالة الاختلاف إنّما هو مع وحدة المتعلق كايجاد زيد ووجوده، أما مع تعدد المتعلق فلا إشكال، فالمستشكل فرض أن الإيجاد تعلق باللفظ والوجود تعلق بالمعنی، لكن الصحيح هو اختلاف المتعلق، وحينئذٍ لا بأس بالتعدد، أي إن إيجاد اللفظ ووجوده واحد، وايجاد المعنی ووجوده متعدد. وذلك لأن إيجاد اللفظ في الخارج فيکون وجوده كذلك لاتحادهما، وايجاد

ص: 194


1- نهاية الدراية 1: 150-151.

المعنی في الذهن فيکون وجوده كذلك، ولا يعقل اتحاد الخارج مع الذهن.

البحث الرابع: في وقوعه

بعد إثبات إمكان استعمال اللفظ في أكثر من معنی يأتي البحث عن وقوعه، فهل هو واقع أم لا؟

ذهب صاحب المعالم إلی المنع، وإستدل له بأنه إخلال بقيد الوحدة المأخوذ في الوضع.

والجواب: أن قيد الوحدة هل هو جزء من الموضوع له، أو أنه دخيل في الغرض من غير أن يکون جزءاً للموضوع له؟

أما الأول: أي كونه جزءاً من الموضوع له، فيرد عليه:

أولاً: إن الموضوع له هو ذات المعنی بلا لحاظ قيد الوحدة أصلاً، ويدل عليه الوجدان ومراجعة حال الوضع، ولذا التزم المحقق القمي(1) بأن الوضع للمعنی في حال الوحدة لا بقيدها - أي هي قضية حينيّة لا وصفية - .

وثانياً: لو فرض أن المعنی هو بقيد الوحدة، فلا مانع لاستعمال اللفظ في أكثر من معنی مجازاً، إذ هو من استعمال اللفظ في جزء المعنی.

إن قلت: هذا ليس استعمالاً للّفظ في جزء المعنی - بعد إلغاء قيد الوحدة - بل: إمّا استعمال في المباين إذ الشيء بقيد الوحدة يباين الشيء بقيد الانضمام لتباين الشيء (بشرط لا) عن الشيء (بشرط شيء)، وإمّا من استعمال الشيء

ص: 195


1- قوانين الأصول 1: 141.

في جزء المعنی منضماً إلی جزء معنی شيء آخر، وهذان ليسا من العلائق المصححة للمجاز.

قلت: إن صحة المجاز إنّما هو بقبول الذوق العرفي له، والعلائق المصححة للمجاز إنّما هي قواعد غالبية، فقد لاحظ علماء الأدب المجازات فاكتشفوا لها علائق خاصة، وإلاّ فليس صحة المجاز وعدم صحته تدور مدار هذه العلائق.

وثالثاً: ما ذكره المحقق العراقي(1) وهو: ما المراد من (الوحدة) المدعی أخذها في المعنی الموضوع له؟ فيها ثلاثة احتمالات:

1- الوحدة الذاتية، المساوقة لشيئية الشيء في مقابل كون الشيء اثنين.

وهذه الوحدة محفوظة في موارد استعمال اللفظ في أكثر من معنی، حتی لو كان ألف، فيقال ألف واحد.

2- لحاظ المعنی مستقلاً، لا في ضمن معنی آخر يتركب معه، بمعنی كون المعنی منفرداً في الوجود غير مركب مع آخر.

ومن الواضح أن هذا اللحاظ محفوظ في المقام.

3- نفي ثبوت لحاظ للمعنی الآخر في مقام الاستعمال، أي وحدة المعنی وانفراده عن المشارک، بمعنی أن الواضع حين الوضع يضع اللفظ للمعنی الذي لا مشارک له حال الاستعمال.

ويرد علی هذا الاحتمال من أن الوحدة اللحاظية في مقام الاستعمال من مقومات الاستعمال، فلا يعقل أخذها في المعنی المستعمل فيه، وهو سابق

ص: 196


1- نهاية الأفكار 1: 111؛ راجع بحوث في علم الأصول 1: 154.

رتبة علی الاستعمال، فلا يُوخذ في المستعمل فيه.

وأما الثاني: أي كون قيد الوحدة دخيلاً في الغرض...

فقد قيل: إن ضيق الغرض لا يوجب ضيق العلقة الوضعية، حتی لو سلم ذلك في باب العبادات حيث إن القربة دخيلة في الغرض مع عدم امكان أخذها شرطاً، وهذا الدخل في الغرض يوجب عدم إطلاق متعلق الأمر.

وذلك لأن إيجاد الملازمة أمر خارجي واقعي مترتب علی الوضع - كما مرّ سابقاً - ، فإذا أوجدت هذه العلقة ثبتت فيما تعلق به غرض الواضع وفيما لا يتعلق.

والحاصل: إنه لا محذور في استعمال اللفظ في أكثر من معنی.

نعم هو خلاف الظاهر في الألفاظ، ولذا لا يتمسك العقلاء بأصالة الحقيقة لإثبات استعمال المشترك في كلا معنييه، بل يصبح اللفظ مجملاً.

ثم إنه لو قيل بالامتناع العقلی فلا معني للبحث عن الظهور على تقدير الجواز، فإن ذلك رجم للغيب حيث إن الظهور لا يبتني علی الفرضيات بل علی الألفاظ المستعملة خارجاً(1).

البحث الخامس: في التثنية والجمع

اعتبر صاحب المعالم(2) استعمال اللفظ في أكثر من معنی بسبب قيد الوحدة في المفرد مجاز، وفي التثنية والجمع حقيقة، وذلك لأن علامة التثنية والجمع تدل علی إرادة المعنيين من المدخول، فلا محذور.

ص: 197


1- منتقی الأصول 1: 315.
2- معالم الدين: 39.

وأشكل عليه بأمور، منها:

الإشكال الأول: ما ذكره صاحب الكفاية(1)، وحاصله: أنه من الصحيح أنهما بمنزلة تكرار اللفظ، إلاّ أن الظاهر أن المراد من كل لفظ فرد من أفراد معناه، فيراد من المثنی - مثلاً - فردان من طبيعة واحدة لا معنيان.

إن قلت: وماذا عن تثنية الأعلام، حيث يراد من المثنی معنيان، حيث إن الموضوع له في كل واحد منهما مباين للآخر، فليس هناك طبيعة كي تقبل الأفراد.

قلت: أولاً: نلتزم التأويل بأن يراد من المثنی في الأعلام: المسمی، مثلاً (زيدان) يراد به فردان من المسمّی بزيد، و(المسمّی) جامع عنواني وله أفراد فيکون كالطبيعة.

ولا يرد إشكال تنكير لفظ العَلَم حينئذٍ، لأنا قد التزمنا بالتأويل، فلا ضير في ذلك.

وثانياً: إن إرادة فردين من معنيين في المثنی ليس من استعمال اللفظ في أكثر من معنی، لأن المثنی في قوة تكرار لفظ المفرد، وهذا فيما لو لم نلتزم بالتأويل وقلنا: إن الموضوع له في المثنی أعم من فردين لمعنی واحد أم فردين من معنيين.

نعم لو أريد من أحد المعنيين فردان منه، ومن المعنی الآخر فردان منه أيضاً، كان استعمالاً للّفظ في أكثر من معنی، وهذا مع وضوح بطلانه إذ يستلزم أن يكون المراد من المثنی أربعة أفراد، يوجب خللاً في قيد الوحدة

ص: 198


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 152.

الذي لم يجوّزه صاحب العالم.

إن قلت: وماذا عن تثنية اسم الإشارة مثل (هذان)، حيث لا يمكن التأويل بالمسمی.

قلت: يکفي الجواب الثاني، مضافاً إلی أن صاحب الكفاية التزم في أسماء الإشارة بأن الوضع عام والموضوع له عام أيضاً، فيکون المعنی كلياً.

الإشكال الثاني: إن للتثنية والجمع وضعين، علی نحو تعدد الدال والمدلول، فالمادة موضوعة للطبيعة المهملة - أي اللابشرط المقسمي - ، والهيأة موضوعة لإرادة المتعدد من مدخولها.

فإذا دلت المادة علی معنی - كالعين الجارية - فلا يعقل أن يراد من المثنی والجمع أكثر من طبيعة واحدة، لأن مدخول الهيأة طبيعة واحدة، والهيأة لا تدل إلاّ علی التعدد، فلابد أن يراد فردين من طبيعة واحدة.

إن قلت: قد تكون المادة تدل علی المتعدد فحين التثنية والجمع لابد من التكرار في ذلك المتعدد، مثلاً (العشرة) معناها متعدد وتثنيتها (عشرتان) يدل علی تكرار هذا المتعدد.

قلت: إن معنی (العشرة) واحد لا متعدد، لأن كل فرد صار جزءاً للمعنی علی نحو الانضمام، وبعبارة أخری: مفهوم العشرة بسيط، وإن كان الوجودات الخارجية متعددة.

البحث السادس: في بطون القرآن الكريم

قد قيل: إن ذلك من موارد وقوع استعمال اللفظ في أكثر من معنی، وهو أدلّ دليل علی الإمكان.

ص: 199

وأجيب بوجوه:

أحدها: لصاحب الكفاية(1): بإرادة هذه المعاني بنفسها حال الاستعمال في المعنی الواحد فقط، لا أنها مرادة من اللفظ.

وفيه: أنه علی هذا لا تكون هذه المعاني بطوناً للقرآن، بل تكون أجنبية عنه.

اللهم إلاّ أن يقال بالاضطرار إلی هذا التأويل الذي هو خلاف الظاهر لوجود المحذور العقلي في استعمال اللفظ في أكثر من معنی!

أما الإشكال عليه: بأن إرادة المعاني مستقلة، سبب عدم عظمة القرآن، لإمكان ذلك في غير القرآن، بل حتی في الألفاظ المهملة، حيث يمكن أن ترد معاني كثيرة إلی الذهن حال التلفظ بها من باب القضية الاتفاقية!!

فغير وارد: لأن عظمة القرآن في ألفاظه ومعانيه، وعدم كون البطون من معانيه لا يضّر بتلك العظمة، بل القرآن يتكوّن من الحروف والكلمات والجمل العربية وقد استعمل نفس طريقة العرب، لكنهم يعجزون علی الإتيان بمثله في ألفاظه ومعانيه، بل وفي مقارناته.

ثانيها: له أيضاً: من أن البطون لوازم معناه المستعمل فيه اللفظ، وإن كانت تلك اللوازم خفية بحيث لا تصل إليها أذهاننا.

وأما الإشكال بأن خفاء اللوازم عن أذهان الناس لا يوجب عظمة!

ففيه: أن عدم فهم الأكثر لا ينافي العظمة، إذ هناك من يعرف تلك

ص: 200


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 155.

المعاني، ثم يبين بعضها للناس، وهم الرسول (صلی الله علیه و آله) والأئمة (علیهم السلام) ، كما أن الكتب العلمية الغامضة لا يفهمها أكثر الناس وهذا لا يقلّل من قيمتها، مع وجود مزية للقرآن بأن ظاهره أنيق يفهمه من يعرف اللغة وباطنه عميق لا يعرفه إلاّ من خوطب به.

ثالثها: للمحقق العراقي(1): بأن يراد من البطون المصاديق المتعددة لمعنی واحد كلي، التي تتفاوت في الظهور والخفاء، فما ظهر سُمّي ظهراً، وما خفي سُمّي بالبطن.

لكن لا يمكن هذا في بعض الموارد التي ورد فيها أحاديث في بيان البطون، فإنه بينها تباين أحياناً.

رابعها: إن جميع تلك المعاني مرادة من اللفظ لكن لا من قبيل استعمال اللفظ في أكثر من معنی، بل كلّها ملاحظة بلحاظ واحد لكنها مستقلة في نفسها كما مرّ في ملاحظة خمسة نقاط بلحاظ واحد، فحينئذٍ يقال: إن الناس يلتفتون إلی إحدی تلك المعاني، وهي المعبر عنها بالظاهر، لكنهم لقصورهم لا يتمكنون من الالتفات إلی سائرها إلاّ ببيان من المعصومين (علیهم السلام) .

خامسها: إن بعض أوجه الاستحالة إنّما هي بالنسبة إلی البشر، كاجتماع اللحاظين، ولا تجري في الخالق - عزوجل - فإنه لا يعقل فيه اللحاظ، بل هو سبحانه عالم ولاحدّ لعلمه، فلا يرد المحذور حينئذٍ.

سادسها: الالتزام بتعدد النزول والإيجاد حسب تعدد المعنی، وهذا

ص: 201


1- نهاية الأفكار 1: 118.

الاحتمال لا يمكن إثباته لكنه ثبوتاً كافٍ لدفع الإشكال، والله العالم بحقائق كتابه.

البحث السابع: في قصد المعاني في الصلاة

قد يقال: كيف نقصد معاني الآيات التي نقرؤها في الصلاة، مع أن ذلك من استعمال اللفظ في أكثر من معنی؟ لأن التكليف هو القراءة، وهي استعمال اللفظ في اللفظ حكاية، فإذا قصد بالآية المعنی الذي استعملت فيه لم تتحقق القراءة لاستلزامه استعمال اللفظ في أكثر من معنی.

والجواب: بالإشكال مبنیً وبناءً:

فأولاً: لا إشكال في جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنی، بما ذكرناه في البحث الثالث والرابع.

وثانياً: بالإشکال علی تفسير (القراءة) بما ذكر، فإن القراءة ليست الحكاية عن الألفاظ بالألفاظ، بل هي ذكر ما يماثل كلام الغير من حيث إنه يماثله، وهذا في قبال ذكره من تلقاء نفسه من باب توارد الخواطر فإنه ليس بقراءة.

وهذا المعنی غير مشروط بعدم إنشاء المعنی به، نظير من يمدح محبوبه بقصيدة بعض الشعراء، فقد قرأ قصيدة ذلك الشاعر ومدح محبوبه ولم يستعمل اللفظ في أكثر من معنی(1).

وثالثاً: بأن قصد معنی الآية ليس باللفظ، وإنّما هذا القصد يکون مقارناً

ص: 202


1- نهاية الدراية 1: 162.

للقراءة من باب القضية الاتفاقية، ففي (إهدنا الصراط المستقيم) مثلاً نطلب الهداية مقارناً لقرائتها، لا أنها تطلب بها(1).

ولا يخفی أن هذا تسليم للإشكال، فضلاً عن عدم صحته في نفسه.

ورابعاً: بأن قصد المعنی من اللفظ لا يکون في عرض القراءة بل في طولها، فيقصد باللفظ الحاكي معناه وهو اللفظ المحكي عنه، ويقصد باللفظ المحكي عنه معناه وهو طلب الهداية مثلاً.

إن قلت: يستلزم ذلك اجتماع اللحاظ الآلي والاستقلالي في المحكي عنه، فاللفظ المحكي بما أنه محكي ومستعمل فيه يکون ملحوظاً بالاستقلال، وبما أنه حاك عن المعنی وفانٍ فيه يکون ملحوظاً آلةً(2).

قلت: قد مرّ إمكان اجتماع هذين اللحاظين كالخطيب الذي يقصد المعنی من اللفظ مع انتقائه الألفاظ.

إن قلت: إن الاستعمال كذلك غير معقول، إذ الاستعمال هو الإعلام، أو إيجاد المعنی باللفظ، أو إفناء اللفظ في المعنی - حسب المباني - وكل هذا لا يوصف به ما لا وجود له خارجاً، بل وجوده جعلي وتنزيلي. والفرض هو إنشاء المعنی باللفظ، فاللفظ مما ينشأ به ويتوسل به إلی ثبوت المعنی وهذا مع عدم تحقق ما ينشأ به ويتوسل به غير معقول(3).

قلت: اللفظ المحكي عنه وإن لم يكن له وجود إلاّ في الذهن - باعتباره

ص: 203


1- نهاية الدراية 1: 163.
2- منتقی الأصول 1: 320.
3- نهاية الدراية 1: 162.

معنى اللفظ الحاكي - ، إلاّ أن الوجود الذهني مرتبة من مراتب الوجود، فيصح أن يتصف بالعَلاميّة، أو يكون موجداً لمعنى آخر يكون في طوله، أو يفنى في معناه الذي يقع في طوله، فلا محذور في ذلك، فتأمل.

ص: 204

فصل في المشتق

اشارة

هل المشتق حقيقة في خصوص المتلبس بالمبدأ في الحال، أو في الأعم منه ومن المنقضي منه؟

ولابد من بيان أمور.

الأمر الأول: في أصولية المسألة

لا يخفی أن الأكثر عَدّوا المسألة من مقدمات علم الأصول، وذلك لعدم انطباق ملاك علم الأصول عليها، فهي بحث في تمييز المعنی الحقيقي عن المجازي في بعض المفردات اللغوية - وهي هيأة المشتقات - ، ولكن لما كانت مصاديق المسألة كثيرة، حيث لا تخلو الأدلة في كل الأبواب الفقهية من ألفاظ المشتق لذلك كان للبحث أهمية.

وقد يقال بأصولية المسألة، لانطباق ملاك علم الأصول عليها، وحينئذٍ يكون البحث مبنوياً ويرتبط بتعيين ملاك أصولية المسألة، وقد مرّ تفصيلها.

الأمر الثاني: في المتلبس في الاستقبال

نسب إليهم إتفاقهم علی كون المشتق مجازاً فيما يتلبس به في الاستقبال(1).

ص: 205


1- الأصول 1: 117.

وفي الفوائد(1): والسر في المجازية في الاستقبال، والاختلاف فيما انقضی، أن المشتق هو العنوان المتولد من قيام العرض بموضوعه - من غير أن يکون الزمان مأخوذاً في حقيقته - وحينئذٍ فقد وقع الاختلاف بالنسبة إلی ما انقضی عنه المبدأ، حيث إنه قد تولّد عنوان المشتق، إذ قام العرض بمحلّه في الزمان الماضي، وهذا بخلاف ما يتلبس بعدُ، فإنه لم يتولد عنوان المشتق لعدم قيام العرض بمحلّه.

والحاصل: إنه فيما يتلبس في المستقبل لم يقم العرض بمحلّه، فكيف يمكن أن يتوهم صدق العنوان علی وجه الحقيقة مع أنه لم يتحقق العنوان بعدُ؟!

لكن يمكن أن يقال: إن الحقيقة والمجاز يرتبطان بظهور اللفظ في المعنی بغير قرينة أو معها، والظهور يرتبط بالمحاورات والفهم العرفي وليس بهذه الدقة العقلية.

اللهم إلاّ أن يقال: إن تطابق اللغات علی شيء يكشف عن سبب الوضع والظهور.

الأمر الثالث: في محلّ البحث

إن مرجع البحث إلی مرحلة الوضع، وتشخيص ما هو (الموضوع له) في المشتق، أي في مدلول الكلمة، وليس البحث في مرحلة الحمل.

وبعبارة أخری(2): هنا ثلاث نسب طولية:

ص: 206


1- فوائد الأصول 1: 82.
2- نهاية الأفكار 1: 118.

الأولى: نسبة تلبس الذات بالمبدأ واتصافها به، مع قطع النظر عن مقام جريه وتطبيقه علی المصداق الخارجي، حتی لو لم يكن لها مصداق خارجي أصلاً، مثلاً نفس مفهوم (الضارب) بما هو هل ذات لها النسبة إلی المبدأ، أو مبدأ له نسبة إلی الذات.

الثانية: نسبة انطباق ذلك المتلبس والمتصف بالمبدأ علی المصداق الخارجي، مثلاً (زيد) في (زيد ضارب)، وهذه النسبة متأخرة عن تلك.

الثالثة: النسبة الحكمية، مثل قولك (أكرم زيداً الضارب)، فقد نسبت الإكرام إلی زيد المنطبق عليه الذات المتلبسة بالمبدأ.

والكلام إنّما هو في النسبة الأولی، فهل مدلول الكلمة الذات المتلبسة بالمبدأ علی نحو الإطلاق - من دون إضافة قيد (أمس) أو (كان)... الخ - بنحو يلازم عدم صحة جريه وتطبيقه إلاّ علی المتلبس بالمبدأ في الحال، أم أن المدلول عبارة عن الذات المتلبسة بالمبدأ في الجملة ولو بقطعة منها مما مضی، الملازم خارجاً لصحة انطباقها علی المتلبس بالمبدأ ولو بقطعة منها مما مضی؟

فتبين أن صحة إطلاق المشتق وجريه علی الذات المنقضي عنها المبدأ في الحال وعدم صحته إنما هي من لوازم النزاع في مدلول الكلمة وتبعاته، لا أنه مورد البحث والنزاع.

ولعله إلی هذا يرجع ما حُكي عن صاحب المحجة(1) حيث قال:

أ) إن عدم صحة الإطلاق علی المنقضي مبنيّ علی كون الحمل

ص: 207


1- نقله في نهاية الدراية 1: 164.

(هوهو)، كالجوامد، فكما لايصح إطلاق لفظ الماء علی الهواء باعتبار زوال الصورة المائية، كذلك هيهنا، حيث إن المشتق - علی هذا المبنی - عنوان انتزاعي فصدقه يتوقف علی بقاء منشأ انتزاعه.

ب) وأن صحة الإطلاق إنّما هي بناءً علی أنه حمل (ذو هو) لا (هو هو)، فيفرق عن الجوامد.

وهذا الكلام وإن كان بظاهره خلاف المصطلح في حمل (هو هو) و(ذو هو) ولذا أشكل عليه المحقق الإصفهاني(1) بأنه خلط بين حمل مبدأ الاشتقاق فهو (حمل ذو هو) وبين حمل نفس المشتق فهو (هو هو)، بلا فرق بين المتلبس والمنقضي عنه.

إلا أن الظاهر أن مراده هو نفس ما ذكره المحقق العراقي في النسبة الأولی والثانية، فتأمل.

الأمر الرابع: في معنى المشتق
اشارة

ويراد بالمشتق في الأصول: كل وصف يجري علی الذات بملاحظة اتصافها بمبدءٍ ما، سواء كان مشتقاً صرفياً وهو ما كان لمادته وضع ولهيأته وضع آخر، أم كان جامداً صرفياً وهو ما كان له وضع واحد بمادته وهيأته.

وبذلك يتبين أن بين المشتق الصرفي والمشتق الأصولي عموماً من وجه.

1- فقد يکون أصولياً لا صرفياً، في الجوامد التي تجري علی الذات وتنقضي عنه، كالعبد والزوج.

2- وقد يكون العكس كما في المصادر والأفعال واسم الزمان.

ص: 208


1- نهاية الدراية 1: 164-165.

3- وقد يجتمعان في مثل (الناصر) و(المقتول) ونحوهما.

1- المشتق الأصولي غير الصرفي

وجريان البحث فيه لوجود الملاك الذي بقاء الذات مع تبدل الوصف.

وقد ذكر الفقهاء مسألة إرضاع الزوجتين الكبيرتين للزوجة الصغيرة، وهذه المسألة لها شقوق وصور مختلفة، تختلف الأحكام فيها، والشاهد في بعض الصور:

فلو أرضعت الكبيرةُ الأولی المدخول بها الصغيرةَ، حرمتا معاً، لصيرورة الكبيرة أماً للزوجة، وصيرورة الصغيرة بنتاً للزوجة المدخول بها، ثم بعد ذلك لو أرضعتها الكبيرة الثانية فهل تحرم الثانية أم لا؟ فقد بنی بعضهم المسألة علی بحث المشتق، إذ لو كان حقيقة فيمن انقضی أيضاً فهذه الصغيرة زوجة فصارت الثانية أماً للزوجة، ولو قلنا بأنه حقيقة في خصوص المتلبس فلا تصير الثانية أماً للزوجة لعدم كون الصغيرة زوجة حين إرضاعها لها.

إن قلت: كيف تحرم الكبيرة الأولی مع الصغيرة بناءً علی كونه حقيقة في خصوص المتلبس؟ فإن الرضعة الأخيرة كما كانت موجبة لاتصاف المرضعة بالأمومة، كذلك موجبة لخروج الصغيرة عن الزوجية، فكلاهما معلولين للإرضاع من دون تقدم أحدهما علی الآخر، فلا يصدق (أم الزوجة) و(بنت الزوجة).

وبعبارة أخری إن هنا ثلاث صور في كلها المحذور:

1- عدم حرمتهما معاً، وهذا خلاف المقطوع به، لاجتماع الزواج بأم الزوجة وببنت الزوجة.

ص: 209

2- حرمة إحداهما دون الأخری، وهذا ترجيح بلا مرجح.

3- حرمتهما معاً، وهذا تحريم من غير تحقق سببه، فلا هذه صارت اُماً للزوجة ولا تلك بنتاً للزوجة.

قلت: قد أجيب عن ذلك بأحد الوجوه التالية:

أولاً: إن تحريمهما تعبّد، قد دلت عليه الروايات، منها ما عن أبي جعفر (علیه السلام) : قيل له إن رجلاً تزوّج بجارية صغيرة، فأرضعتها امرأته، ثم أرضعتها امرأة له أخری، فقال ابن شبرمة حرمت عليه الجارية وأمرأتاه؟ فقال أبو جعفر (علیه السلام) : أخطأ ابن شبرمة، تحرم عليه الجارية وامرأته التي أرضعتها أولاً، فأما الأخيرة فلم تحرم عليه، كأنها ارضعت ابنته(1).

وفيه: أن الخبر - مع قطع النظر عن إرساله - يدل علی أن سبب التحريم ليس التعبّد الصِرف، بل هو صدق عنوان (أم الزوجة) و(بنت الزوجة)، فلّما لم يصدق عنوان محرِّم علی المرضعة الثانية لم تحرم، كما أن الخبر يدل علی أن المشتق ليس بحقيقة علی من انقضی عنه المبدأ.

وثانياً: العرف يری اتحاد ظرف الأمومة مع ظرف الزوجية، بلحاظ شدة اتصال الزمانين أحدهما بالآخر، وإن كان بالدقة لا يجتمعان لتضادهما شرعاً.

وثالثاً(2): إن الأمومة وإن كانت في رتبة متأخرة عن علتها التي هي الرضعة الأخيرة، لكنها متقارنة معها زماناً، كما هو شأن كل معلول مع علته،

ص: 210


1- الكافي 5: 446.
2- نهاية الأفكار 1: 131.

وحينئذٍ فإذا كان ظرف الأمومة متحد زماناً مع ظرف علتها، وكانت الزوجية أيضاً متحققة للصغيرة في ذلك الظرف فلا جرم يلزمه اتحاد ظرفي الأمومة والزوجية أيضاً.

وفيه: أن الرضعة الأخيرة كما هي علة للأمومة، كذلك الأمومة علّة لانفساخ الزوجية، فكان ظرف الأمومة متحد مع ظرف الانفساخ زماناً، ولا يعقل اجتماع الزوجية وانفساخها في زمان واحد، فتأمل.

2- المشتق الصرفي غير الأصولي
اشارة

ما قيل في خروجه عن المشتق الأصولي مع كونه مشتقاً صرفياً، موارد متعددة منها:

المورد الأول: ما لا يعقل انفكاكه عن الذات

مثل (الممكن) فإن الإمكان لا ينقضي عن الممكن أصلاً، لاستحالة تبدّله إلی الواجب أو الممتنع. ويلحق بهذا الجوامد المنتزعة عن نفس الذات، كالإنسان والحجر، فإن منشأ الانتزاع هو تحقق الأجناس والفصول، وبزوالها لا تبقی ذات كي يقع الكلام في صدق المشتق عليها أو كونه حقيقة فيها أم لا.

ويرد عليه: أن الكلام في الهيأة وليس في المادة، فمثل (الممكن) استحالة انقضاء المبدأ عن الذات مع بقائها يرتبط بالمادة، لا الهيأة، والكلام إنّما هو في وضع هيأة المشتق في خصوص المتلبس أو الأعم منه ومن المنقضي.

أما الجوامد المنتزعة عن الذات فليست مشتقاً صرفياً ولا أصولياً، فلا تكون مورداً للبحث أصلاً.

ص: 211

المورد الثاني: اسم الزمان

فقد يقال: إن اسم الزمان يتصرّم، فلا يتصور وجود ذات انقضی عنها التلبس كي يبحث في أن اسم الزمان حقيقة فيها أم لا، وبعبارة أخری: لا يوجد جامع بين حالتي الحدوث والبقاء في الزمان.

وأشكل عليه: أولاً: بما في الكفاية(1) من أن النزاع في مفهوم المشتق والموضوع له اللفظ، وهذا لا يرتبط بتحقق المصداق الخارجي وعدم تحققه.

فمفهوم (اسم الزمان) عام للمتلبس والمنقضي - بناءً علی وضعه للأعم - لكن مصداقه الخارجي واحد وهو خصوص المتلبس، نظير لفظ (الواجب) حيث إنه كلي مع انحصار مصداقه خارجاً في واحد.

وفيه: أن اسم الزمان علی ما ذکره خارج عن غرض البحث، فلا معنی لادخاله فيه.

ولا يخفى أن الإشکال ليس في مادته، بل في هيأة اسم الزمان نفسها، فلا يمكن الجواب بما أجبنا عنه في مثل لفظ (الممكن).

وثانياً: التفصيل بين وضع هيأة اسم الزمان والمكان بوضع واحد، فيجري النزاع لترتب الثمرة علی أحد الفردين - وهو المكان - ، وبين القول بوضعين، فلا يجري في الزمان لعدم ترتب الثمرة عليه.

وثالثاً(2): بأنه يمكن جريان البحث إذا لوحظ الزمان شيئاً واحداً مستمراً

ص: 212


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 166-167.
2- نهاية الأفكار 1: 129.

عرفاً، وإن كان في الحقيقة مركب من آنات مختلفة لكل واحد منها هوية خاصة، لكن العرف يراه شيئاً واحداً فيکون هناك وجود اعتباري واحد، وهذا هو المصحِّح لاستصحاب الزمان - مع تبدل الموضوع دقةً - ، مثلاً العرف يری (اليوم) و(الشهر) و(السنة)... شيئاً واحداً، لذا يصح وقوع مبدأ فيها ثم انقضائه مع بقائها، فما يحدث في أول اليوم ينقضي مع بقاء اليوم.

وأشکل عليه(1): بأن اتصال الهويات المتغايرة لا يُصحح بقاء تلك الهوية التي وقع فيها الحدث حقيقة، بل مجازاً من باب نسبة ما يوصف به الجزء إلی الكل.

وبعبارة أخری: إن اليوم - مثلاً - واحد اعتباري، لأنه مركب من الأجزاء المختلفة تُشكّل كلها معاً هذا الكل وهو اليوم، فنسبة ما وقع في أحد الأجزاء - كالآن الأول من اليوم - إلی اليوم يکون مجازاً، حتی لو قلنا بأن المشتق حقيقة في الأعم، وذلك لأن نسبة ما للجزء إلی الكل مجاز.

وأجيب(2) أولاً: بأن الاعتراض يتجه في الجزء والكل العرضيين لا التدريجيين، لأن الكل التدريجي يکون موجوداً بتمامه بوجود كل جزء من أجزائه، فالنهار موجود بشخصه لا بجزئه في جميع الآنات المتدرجة منه.

وفيه تأمل: لأن القول بوجود الكل بتمامه حال وجود أحد الأجزاء دون سائر الأجزاء تناقض، نعم الكلي يوجد بوجود فرده وهذا لا يرتبط بوجود الكل بوجود أحد أجزائه.

ص: 213


1- نهاية الدراية 1: 170.
2- بحوث في علم الأصول 1: 369.

وثانياً: بأن العرف يراه واحداً اعتبارياً، فما وقع في الجزء يراه واقعاً في الكل، والحقيقة والمجاز ترتبط بالعرف لا بالدقة، وهذا الكلام يجری في النسبة إلی المكان أيضاً، فيقال مثلاً كربلا مقتل الإمام الحسين (علیه السلام) وهذا تعبير حقيقي، مع أن القتل وقع في جزء منها، فتأمل.

المورد الثالث: المصدر واسم المصدر

أما المصدر فهو الحدث مع انتسابه إلی فاعلٍ ما، وأما اسم المصدر فهو الحدث من حيث هو هو مع قطع النظر عن انتسابه إلی الفاعل.

وسبب خروجهما عن البحث:

أولاً: لأنه لا توجد ذات كي يبحث عن انقضاء المبدأ عنها وأنه حقيقة حينئذٍ أم لا، فيکون من السالبة بانتفاء الموضوع.

وبعبارة أخری: ليست الذات من معنی المصدر ولا اسم المصدر، بل معنی اسم المصدر هو المبدأ فقط، ومعنی المصدر هو المبدأ مع النسبة فقط.

ثانياً: ولأن مدلولهما نفس المبدأ فلا يعقل البحث عن انقضاء المبدأ عن نفسه فإنه تناقض.

وثالثاً: عدم صحة الحمل - لا الذاتي ولا الشايع - لتغاير المبدأ والذات في الوجود والماهية، حيث لا يکون المصدر واسم المصدر جاريان علی الذات، فلا يصح مثل (زيد ضَرْبٌ) إلاّ بالتأويل والمجاز.

ولا يخفی أن هذه الثلاثة طولية.

ص: 214

ثم إنه في الكفاية(1) تخصيص هذا الاستثناء بالمصادر المزيدة، وذلك لأن المصدر المجرد ليس مشتقاً صرفياً ولا أصولياً لأنه منشأ الاشتقاق.

ويرجع البحث في المبنی بأن أصل الاشتقاق هل هو المصدر، أو الفعل الماضي، أو المادة المجردة عن الهيأة، وتفصيل ذلك خارج عن غرض الأصول.

المورد الرابع: الأفعال

فهي مشتق صرفي لا أصولي.

وذلك لأن الأفعال تدل علی النسبة التصديقية، وهي متغايرة مع الذات(2)، أي تدل علی نسبة المبدأ إلی الذات وقيامه بها، فلا يصح الحمل لتغاير الذات والنسبة، وعدم الاتحاد بوجهٍ ما، نعم يصح الإسناد فيقال (نَصَر زيد عمراً)، والإسناد غير الحمل.

وبعبارة أخری(3): فإن النسبة في الفعل لها جهة حركة من العدم إلی الوجود، فيحضر من سماع (ضَرَب زيد) - مثلاً - حركة الضرب حقيقة من العدم إلی الوجود بحقيقة الحركة الصدورية، فكأنّ الفعل يری الحدث المخصوص متحركاً من العدم إلی الوجود.

بخلاف (الضارب) فإن النسبة المأخوذة فيه نسبة الواجدية للمبدأ ولها جهة ثبات وقرار وبها يکون مفادها وجهاً وعنواناً للذات، فحيث إن مفاد

ص: 215


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 167.
2- منتقی الأصول 1: 334.
3- نهاية الدراية 1: 176.

الوصف أمر منتزع عن الذات متحد معها يکون بقاؤها موهماً لبقائه، بخلاف ما إذا لم يكن كذلك فإنه لا موهم للبقاء.

المورد الخامس: ما لم يكن فعلاً

وقد توهم اختصاص البحث بما إذا كان المبدأ فعلياً كالقيام، دون ما كان ملكة أو حرفة أو اسم آلة، كالمجتهد والتاجر والمفتاح، فلا تكون مشتقاً أصولياً مع كونها مشتقات صرفيّة.

وذلك لصدقها حتی لو لم يزاولها فعلاً، فيصدق التاجر والمجتهد علی واجد ملكة الاجتهاد وحرفة التجارة حتی لو كان نائماً أو منشغلاً بضدها، وكذا المفتاح يصدق حتی لو لم يفتح به فعلاً.

وعليه: فتكون هذه الموارد حقيقة في الأعم من المتلبس والمنقضي، وأما سائر الموارد ففيها البحث والنزاع في أنها حقيقة لخصوص المتلبس أم الأعم.

وفيه نظر: أولاً: لأنه مع زوال الملكة أو تغيير الحرفة وكسر الآلة لا يصدق المجتهد والتاجر والمفتاح، وهذا يدل علی عدم وضعها للأعم.

وثانياً: لأن اختلاف المبادي لا يوجب اختصاص البحث بمبدأ دون آخر، بل في كلّها يجري البحث، لكن في موارد الحرفة والملكة واسم الآلة لابد من التحقيق عن سبب فرقها عن سائر المشتقات.

ومحتملات الفرق أربعة:

الاحتمال الأول: دلالة الهيأة علی الأعم من المتلبس والمنقضي في خصوص هذه الموارد، فيقال إن هيأة (فاعل) مثلاً في هذه الموارد وضعت

ص: 216

للأعم، وفي سائر الموارد وضعت لخصوص المتلبس، أو أنها وضعت للمتلبس فقط لكن في هذه الموارد استعملت مجازاً في الأعم.

وفيه: أنه لا يمكن الالتزام بهذا الاحتمال، لوضوح وضع واحد في الهيأت، وهو وضع نوعي يستعمل بمعنی واحد في جميع الموارد، كما لا معنی للالتزام بالمجازية في مثل التاجر والمجتهد فإن إطلاقها حقيقي.

الاحتمال الثاني: دلالة المادة علی معنی الملكة أو الحرفة ونحوهما، فمعنی التاجر من له حرفة التجارة وهكذا سائر الأمثلة.

وفيه: أن هذا أيضاً لا يمكن الالتزام به، لاستلزامه تعدد الوضع، في المادة أو المجاز، لأن سائر الاشتقاقات لا تدل علی الملكة والحرفة وأمثالهما، فمثلاً (اتّجر) يدل علی الفعلية لا الملكة، فإذا كان مادة (ت ج ر) تدل علی الحرفة لزم تعدد الوضع، أو المجاز في (اتجر)، وكلاهما لا يمكن الالتزام به.

الاحتمال الثالث: التصرف في (الجري)، بأن يقال إن صاحب الملكة ونحوها في حالة النوم مثلاً متلبس بالمبدأ توسعة عرفية، وذلك لأن العرف ينزل الفاقد منزلة الواجد.

وبتعبير آخر: إن تكرار مزاولة المبدأ باستمرار استلزم إلغاء العرف للفواصل الزمنية المتخللة بين فترات صدور المبدأ من الذات، فكأنّ الذات متلبسة بالمبدأ دائماً.

إن قلت: إن ذلك يستلزم المجازية وهو خلاف الوجدان.

قلت: بل وضع تعيّني جديد، والالتزام به أقل محذوراً من الالتزام بوضع

ص: 217

المشتق للأعم، وكذا من الاحتمال الأول والثاني.

إن قلت: لازم ذلك صحة استعمال وصف اشتقاقي آخر مكانها، كأن يقال: زيد متلبس بالصياغة أو الكتابة في حال نومه!

قلت: الوضع التعيني المدّعی إنّما هو في خصوص تلك الألفاظ مع بقاء سائر الاشتقاقات علی معناها الوضعي الأول، فليس المدّعی تحقق وضع جديد في المادة حتی يرد هذا التساؤل، بل إن مثل التاجر والمجتهد والمفتاح صار لها وضع تعيني جديد بخصوصها. فتأمل.

الاحتمال الرابع(1): القول بأن صحة الإطلاق من جهة أن في الذات اقتضاء وجود المبدأ وفعليته، الناشي ذلك الاقتضاء من جهة تكرر المبدأ منه في الخارج كالتاجر، أو جعل الجاعل كالقاضي، أو تحقق الملكة كالمجتهد أو غيرها، ففي الحقيقة لما كان قضيتها تحقق المبدأ في الخارج، أوجب اعتبار العقلاء وجود المقتضی - بالفتح - عند تحقق مقتضيه.

ويرد عليه: أن مثل (البقال) لا يوجد فيه أي مقتضي من الذات، وإن كان المراد قابليته لذلك فكل الناس لهم القابلية لهذا العمل حتی وإن لم يزاولوه أصلاً، نعم يصح الكلام في الملكة واسم الآلة فقط دون الكثير من الحرفات.

الأمر الخامس: في معنى الحال المأخوذ في العنوان

قد يقال: بأن هذا البحث عديم الجدوی، لأنا لم نأخذ (الحال) في

ص: 218


1- نهاية الأفكار 1: 133.

العنوان، بل نحرر البحث هكذا: هل مفهوم المشتق خصوص المتلبس بالمبدأ فعلاً أو الأعم منه وممّن انقضی عنه التلبّس(1).

ويرد عليه: أن كلمة (فعلاً) هي بنفس معنی (الحال)، فلابد من معرفة المراد منها ومنه.

والمحتملات ثلاثة:

الاحتمال الأول: حال النطق

ولا يمكن أن يراد هذا لوجوه:

منها: إنه مناف لحكمة الوضع، لأن المشتق يستعمل في الأزمنة الثلاثة، فلماذا يوضع لأحدها؟

ومنها: أنّا لا نری بالوجدان مجازية في مثل (سيجيء زيد بعد سنة وهو لابس المغفر) و(كان زيد ضارباً أمس) و(سيکون ضارباً غداً).

ومنها: عدم دلالة الاسم علی الزمان، فمعنی المشتق الذات والحدث فقط(2).

هذا مضافاً إلی أن القضايا الحقيقية مثل (العالم يجوز تقليده) لا إشكال في عدم إرادة خصوص المتلبس حال الكلام، مع عدم كونه مجازاً قطعاً.

الاحتمال الثاني: حال الجري والتطبيق

وهذا أيضاً لا يمكن أن يکون مراداً لوجوه منها:

أولاً: قد مرّ أن هذه المرحلة متأخرة عن مرحلة نفس المشتق، وكلامنا

ص: 219


1- منتقی الأصول 1: 340.
2- الأصول 1: 136.

إنّما هو في نفس مدلول الكلمة مع قطع النظر عن التطبيق في الخارج.

وثانياً: إن هذا يستلزم المجاز في الإسناد لا في الكلمة، مثلاً تطبيق (ضارب) علی زيد الذي ضرب أمس، بقولنا: (زيد ضارب)، مجاز في إسناد الكلمة إلی زيد، والبحث إنّما هو في نفس مدلول كلمة ضارب.

الاحتمال الثالث: حال التلبس

وليس المقصود زمان التلبس، بل المراد حال (نسبة اتصاف المبدأ بالذات)، لأن البحث في مدلول الكلمة مع قطع النظر عن الزمان الذي وقعت فيه، وعن انطباقها علی الخارج أو عدم انطباقها.

وبعبارة الفوائد(1): المراد بالحال هو حال التلبس بالمبدأ، أي حال تحقق المبدأ وفعليّة قيامه بالذات.

وبعبارة أخری: المراد بالحال هو وجود العنوان المتولد من قيام العرض بمحلّه، سواء كان مقارناً لزمان الحال كما إذا كان ضارباً حين قولي: (زيد ضارب)، أو كان سابقاً علی زمان الحال، أو لاحقاً له، كما إذا قلت: (كان زيد ضارباً) أو (سيکون زيد ضارباً).

نعم لا يخلو الزماني من الزمان لاستحالة خروجه عن الزمان، إلاّ أن ذلك ليس بمعنی كونه جزءاً من مدلول اللفظ.

إن قلت: اشترطوا في عمل اسم الفاعل كونه بمعنی الحال أو الاستقبال.

قلت: إن التطبيق والجري - وهو أمر لا يرتبط بمفهوم المشتق بنفسه - في الحال أو الاستقبال هو شرط العمل، فيکون من باب تعدد الدال والمدلول،

ص: 220


1- فوائد الأصول 1: 90.

ولذا اتفقوا علی مجازيته في الاستقبال مع إعمالهم له حينئذٍ.

إن قلت: المتبادر من لفظة (الحال) هو زمان النطق.

قلت: المفيد هو التبادر من نفس لفظ المشتق، أما ما جعله العلماء في العنوان فلا يفيد تبادر معنیً منه، وبتعبير آخر(1) ثبوت الانسباق لا يرتبط بعالم الموضوع له وتعيينه وأن المقصود في العنوان ما هو، بل ذاك أجنبي عنه.

الأمر السادس: في تعيين الأصل العملي
اشارة

لو لم تتم الأدلة التي ستذكر لتعيين أحد المعنيين - الوضع لخصوص المتلبس أو للأعم - فهل هناك أصل عملي في البين، سواء أصل عقلائي أم شرعي، في المسألة الأصولية أم الفرعية؟ فهنا مطلبان:

المطلب الأول: في المسألة الأصولية

أي في تعيين المراد من هيأة المشتق مع قطع النظر عن المصاديق الجزئية. وهنا أصلان:

الأصل الأول: أصالة عدم ملاحظة الخصوصية.

وفيه: أولاً: معارضتها بأصالة عدم ملاحظة العمومية، إذ الوضع للأعم يستدعي لحاظ العموم، كما أن الوضع للأخص يستدعي ملاحظة الخصوص، للتباين المفهومي بين العام والخاص، وبعبارة أخری(2): لأن المفاهيم - في حد مفهوميتها - متباينات، فمع دوران الأمر بين الوضع

ص: 221


1- منتقی الأصول 1: 342.
2- نهاية الدراية 1: 194.

لمفهوم أو مفهوم آخر ليس أحدهما متيقناً بالنسبة إلی الآخر، فإن التيقن في مرحلة الصدق - لمكان العموم والخصوص - لا دخل له بمرحلة المفهوم الذي هو الموضوع له.

أي إن أصالة العموم ونفي القيد الزائد إنّما هي في المصداق الخارجي، للتيقن بالعام والشك في القيد الزائد، وليست في مرحلة المفهوم للتباين بين المفاهيم فلا يکون من قبيل القيد الزائد.

وثانياً: إن هذه الأصالة ليست حكماً شرعياً ولا موضوعاً لحكم شرعي فلا تجري إلاّ بنحو الأصل المثبت، كما أنها ليست أصلاً عقلائياً، لأن الأصول العقلائية إنّما هي في تشخيص المراد بعد العلم بالوضع، ولا أصل عقلائي في تشخيص الأوضاع.

الأصل الثاني: ترجيح الاشتراك المعنوي الملازم للوضع للأعم، علی الحقيقة والمجاز الملازم للوضع للأخص، وذلك لغلبة الأول علی الثاني.

ويرد عليه: بناءً: بمنع الغلبة، بل قد يقال: إن أكثر لغة العرب مجازات. ومبنیً: بمنع الترجيح بالغلبة.

المطلب الثاني: في المسألة الفرعية

أي ثبوت الحكم للألفاظ المشتقة مع عدم تعيين الموضوع له فيها.

وقد تختلف الأصول حسب الموارد، ومن أمثلته:

1- لو انقضی عن زيد العلم، ثم قال المولی (أكرم العالم)، فلا نعلم وجوب إكرام زيد، ولا حالة سابقة، فالأصل البراءة.

2- ولو كان عالماً حين صدور الحكم ثم صار جاهلاً، فاستصحاب

ص: 222

الإكرام جار.

وأشكل عليه: بعدم جريان الاستصحاب لا في الموضوع وهو كونه عالماً، ولا في الحكم وهو وجوب الإكرام.

أما الأول: أي استصحاب الموضوع، فيقال: هل المستصحب هو ذات الموضوع، أو الموضوع بوصف كونه موضوعاً للحكم؟

أ) واستصحاب ذات الموضوع لا يثبت موضوعية الموجود إلاّ بنحو الأصل المثبت.

ب) والموضوعية متقومة بالموضوع، ومع الشك في بقاء المعروض لا يجری الاستصحاب، إذ يعتبر في الاستصحاب بقاء المعروض لتقوم صدق النقض والإبقاء ببقائه، فتكون الشبهة مصداقية، فلا يمكن التمسك فيها بعموم دليل الاستصحاب.

وفيه(1): أن هنا شقاً ثالثاً وهو استصحاب انطباق المفهوم علی الموجود الخارجي، وهذا هو الذي نقصد استصحابه، حيث إن المقصود هو عالمية هذا الشخص مثلاً.

وبعبارة أخری: نستصحب عالمّية هذا الشخص لليقين السابق والشك اللاحق بها، فالمعروض هذا الشخص وهو باقٍ فيصدق النقض والابرام.

وأما الثاني: أي استصحاب الحكم.

فقد أشكل عليه من جهة الشك في بقاء موضوع هذا الحكم - وهو العالم في المثال - ، فيکون الاستصحاب تمسكاً بالعام في الشبهة المصداقية.

ص: 223


1- منتقی الأصول 1: 345.

وفيه: أن العرف يری بقاء الموضوع، وهذا كاف في صحة الاستصحاب وتحقق النقض والإبرام.

وأما ما يقال: من اختلاف الموارد، فقد يکون المشتق جهة تقييدية نظير (قلّد المجتهد) فلا يجري الاستصحاب لتغيير الموضوع بنظر العرف، وقد يکون جهة تعليلية نظير (أكرم العالم)، فيجري الاستصحاب لبقاء الموضوع.

ففيه تأمل: لعدم الفرق عرفاً بين الموارد، بل كلّها تكون من الجهة التعليلية، فتأمل.

الأمر السابع: في بساطة أو تركب المشتق
اشارة

وهنا جهات:

الجهة الأولى: في المقصود من التركب والبساطة

وفيه احتمالان:

الاحتمال الأول: بحسب المفهوم، فيکون مفهوم المشتق علی التركب: (ذات ثبت لها المبدأ).

وهذا الاحتمال غير مراد، لعدم تبادر وانسباق هذا المعنی من المشتقات، فلا يخطر في البال من لفظ العالم: ذات لها العلم - مثلاً - ، مضافاً إلی أن عامة المفاهيم بسيطة، أي المتصور منها شيء واحد لا شيئان أو أشياء متعددة، فلا وجه لتوهم التركّب من جهة المفهوم.

الاحتمال الثاني: أو بحسب الحقيقة وبمنشأ الانتزاع، أي لدی التحليل هل المشتق شيء واحد أم أنه مركب، مثلاً مفهوم (الإنسان) بسيط، لكن لدی التحليل العقلي يتجزأ إلی جنس وفصل، فهل المشتق كذلك أم لا؟

ص: 224

ثم إنه علی القول بالبساطة فإن المراد هو عدم أخذ (الذات) في حقيقة المشتق، وليس المراد البساطة من كل الجهات.

الجهة الثانية: المأخوذ في حقيقة المشتق

إنه في الخارج ثلاثة أشياء: (ذات) و(مبدأ) و(نسبة بينهما)، فأيّ منها اُخذ في حقيقة المشتق؟ المحتملات خمسة(1):

الاحتمال الأول: المشتق وضع لكل هذه الثلاثة، فتكون (الذات) جزء المدلول.

وفيه: أن المشتق مركب من مادة وهيأة، ولم تؤخذ الذات في أيّ منهما، إذ المادة تدل علی الحدث، والهيأة معنی حرفي لا تدل إلاّ علی قيام المبدأ بالذات، فلا يوجد شيء يدل علی الذات.

اللهم إلاّ أن يقال: إن هناك وضعاً ثالثاً للمادة والهيأة مجموعاً لتدل علی الذات المتلبسة بالمبدأ.

لكن ذلك مما لا يمكن الالتزام به، إذ الظاهر أن هناك وضعاً نوعياً للمواد ووضعاً نوعياً آخر للهيئات، من غير حاجة إلی وضع ثالث للمركب منهما، إذ لا يتعلق به غرض، فيکون لغواً.

الاحتمال الثاني: إن المشتق وضع ل-(المبدأ) و(النسبة) فقط، من غير أخذ الذات في المدلول، فيکون بسيطاً من هذه الجهة وإن كان في الواقع مركباً.

وهذا ما اختاره المحقق العراقي، واستدل لذلك: بأن المبدأ هو وجه وعنوان للذات وطور من أطوارها، وهذا المعنی هو الذي تقتضيه قاعدة

ص: 225


1- الأربعة الأولی في نهاية الأفكار 1: 141.

انحلال أوضاع المشتقات بحسب المادة والهيأة، فالمادة وضعت لنفس الحدث، والهيأة وضعت للدلالة علی إضافة قيام المبدأ بالذات.

الاحتمال الثالث والرابع: وضع المشتق للمبدأ محضاً. إما بنحو القضية الحينية، أي المبدأ في حال قيامه بالذات واتحاده معها، وإما بعنوان اللا بشرط، فيفترق عن المصدر بأن المصدر بشرط لا.

ويرد علی كلا الوجهين:

أولاً: استلزام ذلك إخراج المشتق عما تقتضيه قاعدة انحلال الوضع فيه إلی وضع للمادة ووضع للهيأة، والمصير إلی دعوی كون الوضع في الأوصاف من قبيل الوضع في الجوامد.

وثانياً: يستلزم أيضاً عدم صحة جعل المشتقات موضوعات للأحكام الخاصة مثل الإكرام في أكرم العالم وأطعمه وقبّل يده، فإن المبدأ لا يدله ولا بطن ولا يمكن إكرامه... وغير ذلك مما ذكره المحقق العراقي(1).

الاحتمال الخامس: إن معنی المشتق هو (ما له مبدأ الاشتقاق)، وهذا ما اختاره المحقق الإصفهاني، حيث بدّل (الذات) إلی أمر مبهم ينطبق علی الذات وعلی غيرها، كما في (البياض أبيض) و(الوجود موجود).

وكلامه يرجع - بالنتيجة - إلی البساطة بمعنی تمثّل صورة وحدانية في الذهن، وإلی التركب بحسب وجوده التفصيلي وهو (ما له مبدأ الاشتقاق).

فقال ما حاصله(2): إن التحقيق يقتضي اعتبار أمر مبهم مقوّم لعنوانية

ص: 226


1- نهاية الأفكار 1: 142-144.
2- نهاية الدراية 1: 219-221.

العنوان، ودليله الوجدان والبرهان.

أمّا الوجدان: فإنه عند سماع لفظ (القائم) تتمثل صورة مبهمة متلبسة بالقيام - وهذا هو تفصيل المعنی الوحداني المتمثل في الذهن - وبعبارة أخری: الصورة المنعكسة في الذهن شيء واحد بسيط، ولدی تحليلها نجد أن حقيقتها صورة مبهمة متلبسة بالقيام.

وأمّا البرهان: فإن المبدأ حيث إنه مغاير لذي المبدأ، فلا يصح الحكم باتحاده معه في الوجود، وإن اعتبر فيه ألف إعتبار، إذ جميع الاعتبارات لا توجب انقلاب حقيقة المبدأ عما هي عليه من المغايرة مع ذي المبدأ، لأن المغايرة ليست اعتبارية حتی ننفيها باعتبار آخر.

وكذا النسبة - وهي نسبة الواجدية للمبدأ - لا يصح حملها علی ما يقوم به المبدأ للمغايرة كما هو واضح.

وكذا المجموع من النسبة والمبدأ.

إذن لا مناص من الالتزام بوضع هيأة (ضارب) و(كاتب) للعنوان، وذلك العنوان هو (الصورة المتلبسة بالضرب أو الكتابة).

وهذه الصورة قابلة للاتحاد مع الموضوع وجوداً، فمفاد (زيد قائم) هو أن وجود الصورة الذاتية لزيد وجود للصورة المنتزعة منه بالعرض، فهذا الوجود الواحد وجود لصورة زيد المنطبعة في الذهن بالذات، ووجود لصورة متلبسة بالقيام بالعرض.

وهذه الصورة مبهمة من جميع الجهات لم يؤخذ فيها جوهر أو عرض أو أمر اعتباري، فتكون قابلة للاتحاد معها مثل (زيد قائم) و(البياض أبيض) و(الوجود موجود).

ص: 227

ومن الواضح أن هذا الأمر المبهم ليس هو الذات ولا المفاهيم المندرجة تحت الذات.

الجهة الثالثة: من أدلة البساطة

منها: ما ذكره السيد الشريف، وتبعه في الكفاية(1)، بأنه لابد من القول ببساطة المشتق للمحذور في التركيب، وذلك لأن مقتضی التركيب هو أن يکون معنی المشتق (ذات لها المبدأ)، وهذه (الذات) إما مفهوم الذات أو مصداقها، وفي كليهما المحذور.

أما الأول: - مفهوم الذات - فهو عرض عام، فعلی القول به يلزم دخول العرض العام في الفصل فی مثل (الإنسان ناطق) أي ذات لها النطق، فإن مفهوم الذات عارض عليها وهو عرض عام.

وأجيب: بأن (الناطق) ليس فصلاً في الحقيقة، بل هو كذلك في عرف المنطقيين، إذ لا يعلم فصول الأشياء إلاّ الباري تعالی.

وفيه: أولاً: إنهم أرادوا ذكر الفصل الحقيقي وليس مجرد اصطلاح، ومرادهم الحقيقة التي كانت سبباً للنطق، فإن تلك الحقيقة هي الفصل الواقعي، وقابلية النطق هي المبرز لتلك الحقيقة.

وثانياً: إن المشتق ليس هو الفصل، بل الفصل هو المبدأ فقط، كما أن العرض الخاص هو (الضحك) وليس الضاحك، فأخذ الشيء والذات ونحوهما في المشتق إنّما هو لتصحيح الحمل(2).

ص: 228


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 221.
2- نهاية الدراية 1: 205.

وثالثاً: إن لفظ (الناطق) ونحوه من الفصول قد استعمل بمعناه اللغوي والعرفي من غير تجوّز أو وضع اصطلاح، لكن بالإرادة الجدّية لم يريدوا دخول مفهوم الذات في هذه الفصول.

وبعبارة أخری: إن المجاز أو دخول العرض العام في الفصل إنّما يلزم إذا تطابقت الإرادة الجدّية مع الإرادة الاستعمالية، أما لو كانت الاستعمالية هي بنفس المعنی اللغوي والعرفي، وكانت الجدّية عدم إرادة الذات فلا مجاز ولا دخول العرض العام في الفصل، وهذا نظير ما ذكروه في العام المخصَّص، فإن العام ليس بمجاز واستعمل بنفس معناه وهو العموم لكن لم تكن الإرادة الجدّية إلاّ بالخاص.

وأما الثاني: - مصداق الذات - فلازمه انقلاب مادة (الإمكان الخاص) في القضايا إلی (الضرورة) حيث صار الموضوع جزءاً من المحمول، وحمل الشيء علی نفسه ضروري، فمعنی (الإنسان ضاحك) هو (الإنسان إنسان له الضحك).

إن قلت: ذكر صاحب الفصول(1) أنّ المحمول ليس هو الموضوع بشكل مطلق كي يکون الحمل ضرورياً فليس الحمل هو (الإنسان إنسان)، بل المحمول هو الموضوع المقيد بالضحك.

قلت: إن المحمول إما ذات المقيد من غير دخل للقيد والتقيد أصلاً، فيکون الحمل ضرورياً لحمل الشيء علی نفسه.

وإما جهة التقييد والقيد دخيلة في المحمول، فتنحل القضية إلی قضيتين

ص: 229


1- الفصول الغرويّة: 62.

(الإنسان إنسان) و(الإنسان له النطق) والقضية الأولی ضرورية، وإنّما قلنا بالانحلال لأن الوصف قبل العلم به خبر، فعندما يقال (زيد عالم متقي) فالمتقي وإن كان وصفاً لكنه في الحقيقة خبر ثانٍ، وهذا ما ذكره صاحب الكفاية(1) جواباً عن صاحب الفصول.

ويرد عليه: مضافاً إلی ما ذکرناه من الإرادة الجدّية والاستعمالية...

أولاً: إن (الإنسان إنسان) أمر معلوم فلا يکون خبراً، لما ذكروه من أن الأخبار بعد العلم بها أوصاف، فبناء علی هذا لا تنحل القضية إلی قضيتين.

وثانياً: إن القضيتين إحداهما ضرورية والثانية ممكنة، فالمركب منهما ممكن، لأن النتيجة تتبع أخس المقدمتين.

وثالثاً(2): إن المحتملات ثلاث، ولا يوجد انقلاب في أيٍّ منها:

1- ثبوت إمكان الكتابة للإنسان، وهذا أمر ضروري، فلا انقلاب بل القضية ضرورية.

2- ثبوت إمكان الإنسان الذي له الكتابة - أي إمكان هذه الحصة - ، وهذا أيضاً قضية ضرورية.

3- ثبوت نفس هذه الحصة الممكنة لطبيعي الإنسان، فهو بالإمكان لا بالضرورة، لأن ورود هذا القيد علی الإنسان - الموجب لكونه حصة - بالإمكان، فثبوت هذه الحصة الممكنة لطبيعي الإنسان بالإمكان.

ومثل (الإنسان كاتب) هو من الثالث، إذ معناه هو حمل الإنسان الذي له

ص: 230


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 228-229.
2- نهاية الدراية 1: 212.

الكتابة علی الإنسان، ولازمه إفادة كون الإنسان ذا حصة خاصة، لا إفادة إمكان الكتابة له كما في المحتمل الأول، ولا إفادة إمكان الحصة له كما في المحتمل الثاني، فلا تكون القضية ضرورية بل ممكنة، فتأمل.

الأمر الثامن: الأقوال في المشتق
اشارة

وفي الموضوع له المشتق قولان:

الأول: إن الموضوع له هو خصوص المتلبس، وعليه متأخرو الأصحاب.

الثاني: إن الموضوع له هو الأعم من المتلبس والمنقضي، وعليه متقدموهم.

وأما التفصيلات الأخری فمنشأها توهم اختلاف المشتق باختلاف مبادئه أو أحواله، وقد مرّ الإشكال عليه، فلا وجه لهذه التفصيلات لبطلان منشئها.

1- من أدلة القول بأنه لخصوص المتلبس

والأدلة إما ثبوتيّة - بمعنی عدم إمكان الأعم - ، وإما اثباتيّة.

فالأول: ما ذهب إليه المحقق النائيني(1)، وحاصله:

أنه علی القول ببساطة المشتق لابدّ من المصير إلی الوضع لخصوص المتلبس، وذلك لأن معنی البساطة هو أن المشتق يکون نفس المبدأ، فمعنی (قائم) هو (القيام) - مع ملاحظته بكيفية يصح معها الحمل كما مرّ - فمفهوم المشتق يتقوّم بالمبدأ، فمع انعدامه لا يصدق المشتق، لعدم معناه.

وأما علی القول بتركب المشتق: فلا يجري هذا المحذور، لأن معنی التركب هو (الذات المنتسب لها المبدأ) فالركن الوطيد هو الذات، وأما

ص: 231


1- فوائد الأصول 1: 120.

انتساب المبدأ إليها فيمکن أن يکون جهة تعليلية، ولم يؤخذ في هذه النسبة زمان دون زمان، فتصدق علی المتلبس وعلی المنقضي.

ولكن يجري محذور آخر، وذلك لأن الوضع للأعم من المتلبس والمنقضي يقتضي وجود جامع، لعدم القول بالاشتراك اللفظي في المشتقات:

أ) وذلك الجامع لا يکون ذاتياً، لأن جزء المركب هو (النسبة)، وهي معنی حرفي، والمعنی الحرفي إيجادي، ومن الواضح أنه لا جامع ذاتي بين الوجودات، بل الجامع إنّما هو في الماهية.

ب) ولا يکون الجامع الزمان، إذ من المعلوم عدم أخذ الزمان في معنی المشتق.

ويرد عليه: مبنیً: بما مرّ من أنَّ المعنی الحرفي ليس إيجادياً.

وبناءً: بكفاية الجهة المشتركة حتی مع عدم وجود الجامع - كما مرّ نظيره عن المحقق العراقي - .

وبإمكان وجود جامع عنواني، وهو يکفي في صحة الوضع، لكونه اعتبارياً خفيف المؤنة، مثل عنوان (أحدهما).

إن قلت: إن هنا سنخين من الربط - ربط حقيقي واقعي في المتلبس، وربط مسامحي ادعائي في المنقضي لزوال أحد طرفي النسبة وهو المبدأ، ومن الواضح أن النسبة الحقيقية إنّما هي بين شيئين، فلا جامع بين هذين السنخين.

قلت: الجامع الحقيقي مفقود ولا كلام لنا فيه، وأما الجامع العنواني فيمکن، ويصح أن يکون هو الموضوع له.

ص: 232

فتحصل عدم وجود إشكال ثبوتي في الوضع لأيٍّ من المتلبس أو الأعم.

والثاني: - أي ما دلّ علی الوضع لخصوص المتلبس إثباتاً - فوجوه متعددة، منها:

الدليل الأول: التبادر، وبُرهن عليه بأن صدق المشتق علی الذات إنّما هو لوجود المبدأ، ولا صدق بعد فقده، لأنّ الصدق آناً ما وإن أعطی حيثيّة اعتبارية باقية إلاّ أن المتبادر هو قيام المبدأ لا قيام الحيثيّة.

وهذا البرهان غير نافع، فإن التبادر إنّما هو بسبب الظهور الكاشف عن الوضع، وهو أمر وجداني لا برهاني.

الدليل الثاني: صحة السلب عن المنقضي عنه المبدأ. فكما أن سلب الإيمان عمّن سيؤمن لاحقاً دليل عدم كون المشتق حقيقة في من لم يتلبس بعد بالمبدأ، كذلك سلب الإيمان عمّن كفر وانقضی عنه الإيمان، فإنهما من وادٍ واحد، فيکون الحمل مجازاً في كليهما.

إن قلت: صحة السلب تنافي صحة الحمل، مع أنه لا إشكال في صحة إطلاق السارق والزاني علی الذي ارتكب السرقة والزنا في الماضي، فقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا}(1) وقوله سبحانه: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ...}(2) ليس من المجاز في شيء، مع وضوح انقضاء السرقة والزنا حين إجراء الحدّ.

قلت: إنّما أطلق عليهما الزاني والسارق باعتبار حال التلبس، وقد مرّ

ص: 233


1- سورة المائدة، الآية: 38.
2- سورة النور، الآية: 2.

معنی (الحال) وأن المراد به حال التلبس، فليس المبدأ قد انقضی عنهما حين إطلاق السارق والزاني عليهما، فراجع.

إن قلت: إن صحة السلب إنّما تكون علامة، إذا كانت بشكل مطلق، لا ما إذا كانت في حال دون حال، وهنا سلب المشتق إنّما هو في حال الانقضاء دون حال التلبس.

قلت: السلب عن المنقضي في كل الأحوال وبشكل مطلق علامة عدم الوضع له.

الدليل الثالث: الخلف، ببيان أنه قد يکون تضاد بين المبادئ، وقد يتبادلان في الذات، كأن يکون كافراً ثم يصبح مؤمناً، أو يکون أبيض فيصير أسود، فلو صدق المشتق علی المنقضي، فإما أن يصدق علی المتلبس أو لا يصدق، والأول جمع بين الضدين، والثاني بديهي البطلان.

وفيه: أن التضاد إنّما يکون في الخارج، ولا تضاد في إطلاق الألفاظ إذا اختلف الاعتبار، فهو كافر باعتبار الماضي ومؤمن باعتبار الحال، وأبيض باعتبار ما انقضى وأسود باعتبار ما تلبس.

2- من أدلة القول بالأعم

واستدل القائل بوضع المشتق للأعم من المتلبس والمنقضي بأمور منها:

الدليل الأول: المتبادر من المشتق أنه المتلبس بالمبدأ آناً ما، فمثل (المقتول) يطلق بنحو حقيقي ولو بعد مضي فترات طويلة.

وفيه: أولاً: إنه إطلاق بلحاظ حال التلبس.

وثانياً: إنه يمکن أن يكون الإطلاق من باب التوسعة في المادة بحيث

ص: 234

يشمل حال الانقضاء أيضاً، وذلك لأن المهم هو الأثر الحاصل من حين التلبس إلی سائر الأوقات، فالأثر - وهو زهوق الروح مثلاً - مستمر، ولولا هذه التوسعة لم يتبادر أصلاً، فالعالم والجاهل ونحوهما لا يطلق بنحو حقيقي إلاّ علی المتلبس.

الدليل الثاني: صحة السلب، في مثل الزاني والسارق، وإن انقضی عنهما المبدأ.

ويرد عليه: ما مرّ في الأول، بأن الإطلاق بلحاظ حال التلبس، أو إنه من باب التوسعة في المادة، ويدل علی ذلك صحة السلب لو كان الإطلاق بلحاظ الآن لا بلحاظ حال التلبس.

الدليل الثالث: کثرة الاستعمال في موارد الانقضاء، فلو كان مجازاً فيها لزم كثرة المجاز المنافية لحكمة الوضع.

وفيه: أولاً: أكثرية الاستعمال في المتلبس.

وثانياً: إن غالب الموارد المستعملة في المنقضي إنّما هو باعتبار التلبس.

وثالثاً: كما تكون حكمة في الاستعمال بالمعنى الحقيقي كذلك تكون في المجاز.

ورابعاً: بأن أكثرية المجاز لا تنافي حكمة الوضع، ولذا قيل بأن أكثر كلام العرب مجازات.

مضافاً إلی أن المجاز هو في مرحلة الاستعمال، وكلامنا الآن في مرحلة الوضع.

الدليل الرابع: قوله تعالی: (فاجلدوا)، و(فاقطعوا)، فهما حكمان ثابتان

ص: 235

لمن صدق عليه الزاني والسارق، ولولا الصدق علی من انقضی عنه المبدأ لزم انتفاء الموضوع حين إجراء الحكم.

وفيه: أولاً: إن الإطلاق بلحاظ حال التلبس.

وثانياً: إن الآيتين لبيان القضية الحقيقية، فمن ارتكب السرقة أو الزنا استحق هذه العقوبة في نفس حال الارتكاب، نعم الإجراء بعد الثبوت الشرعي بالشهود أو الإقرار.

وبعبارة أخری: إن الزنا والسرقة حيث تعليلي، فيکفي حدوثهما في ثبوت الحدّ الشرعي، وإن ثبت عند الحاكم الشرعي بعد انقضائهما، فلا يرتبط الحدّ بالاسم بل هو مرتبط بحدوث الجريمة.

الدليل الخامس: استدلال الإمام (علیه السلام) بقوله تعالی: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّٰلِمِينَ}(1) علی عدم لياقة من عبد الصنم للإمامة(2)، ومن الواضح توقف الاستدلال علی كونه حقيقة في الأعم من المتلبس والمنقضي.

وفيه: أولاً: إن الاستدلال لا يتوقف علی كون المشتق حقيقة في الأعم، بل هناك احتمال آخر - هو الأرجح - بأن الآية في مقام بيان عظمة الإمامة، حيث إن إبراهيم (علیه السلام) نالها بعد نبوته، وهكذا منصب عظيم لا يليق بمن عبد صنماً أو ارتكب ظلماً آخر في حياته حتى لو فرضت توبته منه.

وثانياً: إن {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّٰلِمِينَ} قضية حقيقية، فحينما كانوا متلبسين بالظلم شملهم (لا ينال) أبداً.

ص: 236


1- سورة البقرة، الآية: 124.
2- الكافي 1: 175.

إن قلت: لولا القرينة الخارجية لكانت الآية مثل (لا يُصَلّی خلف الفاسق) حيث إنه بانقضاء الفسق عنه وصيرورته عادلاً جازت الصلاة خلفه.

قلت: بل الظاهر أنه في القضايا الحقيقية يکفي للحکم حدوث الموضوع - ولو آناًما - ، فإن الظاهر أنه حيث تعليلي، فلذا ترتب الحكم لا يحتاج إلی بقاء الموضوع، وفي مثل (لا يصلی خلف الفاسق) القرينة علی العكس حيث دلت علی أن الفسق حيث تقييدي، ولولا القرينة لأمكن القول بعدم جواز الصلاة خلفه أبداً.

الأمر التاسع: في صفات الباري تعالى

قد يتسائل عن كيفية حمل صفات الباري تعالی عليه، من ثلاث جهات:

الجهة الأولی: إنه لابد في الحمل من تغاير الموضوع والمحمول، والمفروض أن صفاته الذاتية عين ذاته، فلا تغاير بينها.

والجواب: بما في الکفاية(1) من أن الاتحاد بين الذات المقدسة وصفاتها الذاتية إنّما هو في الوجود، وأما المغايرة فهي في المفهوم، فإن مفهوم العلم - مثلاً - يغاير مفهوم الذات، والتغاير المفهومي مُصحِّح للحمل، كما في الحمل الشايع الصناعي.

وإليه يرجع ما في نهاية الدراية(2): من أنه لا يحتاج إلی إثبات المغايرة بين الموضوع مع مبدأ المحمول، بل يکفي مغايرة نفس المحمول مع الموضوع، ففي مثل (السواد أسود) و(الوجود موجود) يوجد اتحاد

ص: 237


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 245.
2- نهاية الدراية 1: 240.

الموضوع مع مبدأ المحمول، وإنّما صح الحمل لتغايرهما مفهوماً.

الجهة الثانية: المشتق إنّما يصدق في مورد تتحقق فيه النسبة بين المبدأ والذات، والنسبة تقتضي المغايرة والاثنينية، وليس كذلك في صفات الباري الذاتية.

والجواب من وجوه:

الجواب الأول: ما ذكره الفصول(1) من النقل في صفاته تعالی.

وأشكل عليه في الكفاية(2): بأنه خلاف الوجدان إذ لا يفهم معنيان فيه تعالی وفي غيره.

مضافاً إلی أن ذلك المعنی الآخر إمّا ضد العلم وهو الجهل، وهذا بديهي البطلان، وإمّا أن لا يکون ذلك المعنی مفهوماً، فيکون الوصف مجرد لقلقة لسان، وهذا أيضاً باطل.

أقول: أما الإشكال الأول فوارد، وأما الثاني ففيه:

أولاً: إمكان القول بنقل مجموع المادة والهيأة، ففي مثل العالم إلی (ما كان العلم عين الذات) لا ما كان العلم مغايراً.

وثانياً: إمكان القول بنقل الهيأة، أي عدم استعمال الهيأة في النسبة - وهي المعنی الموضوع لها - فلا إشكال.

وثالثاً: عدم فهم كنه علمه لا يستلزم كون الوصف مجرد لقلقة لسان، كيف والعلم عين ذاته وكنه ذاته مجهول لنا وكذا كنه علمه، نعم المقدار

ص: 238


1- الفصول الغرويّة: 62.
2- إيضاح کفاية الأصول 1: 247.

الذي ندركه أن علمه ليس بجهل، لا بمعنی أن معنی العلم هو عدم الجهل، بل بمعنی مقدار فهمنا من العلم هو هذا المقدار لا أكثر، کما أن المعرفة به عن طريق الآثار، وهو ليس بمعنی فهم كنهه.

ثم إنه لا يخفی أن كلام الفصول والإشكال والجواب إنّما هو لو قلنا بأن النسبة جزء المعنی، أمّا لو قلنا ببساطة المشتق - بمعنی دلالته علی المبدأ فقط - فلا مجازية أصلاً، لأن اللفظ مستعمل في معناه الموضوع له، فقد توجد قرينة عقلية تدل علی النسبة من غير دخالتها في المعنی الموضوع له، وقد توجد قرينة عقلية علی العكس بمعنی عدم وجود النسبة كما في صفاته الذاتية.

الجواب الثاني: ما مرّ من أن الإرادة الاستعمالية هي في نفس المعنی الذي تستعمل في غيره تعالی، مع عدم إرادة جدية لذلك، في الملتفت إلی هذه الأمور المعارفيّة.

الجواب الثالث: ما في الكفاية(1) من أن أنحاء القيام والتلبس تختلف باختلاف أنحاء المبادي وأطوارها، من الصدوري، والحلولي، والوقوع فيه، والوقوع عليه، والانتزاع، والاتحاد.

وفي صفات الباري تعالی القيام إنّما هو بنحو الاتحاد خارجاً بين العلم وذاته تعالی - مثلاً - .

وأشكل عليه: بأنه في التلبس لابد من وجود النسبة بين الذات والمبدأ، والنسبة تتوقف علی الاثنينية، ففرض التلبس مع كون القيام بنحو الاتحاد غير معقول، إذ هو خلف.

ص: 239


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 249.

ووجّهه المحقق الإصفهاني(1) بأنه من مصححات صدق المشتق هو عينية المبدأ لتمام ذات الموضوع، كما في صدق الأسود علی السواد، وبيانه: أن اتصاف الجسم ب-(الأسود) إنّما هو بواسطة (السواد)، وهو أمر خارج عن ذات الجسم، فبطريق أولی يكون اتصاف (السواد) ب-(الأسود)، لأن وجدان الشيء لنفسه ضروري.

وأورد عليه في المنتقی(2): بأنه لا معنی لواجدية الشيء لنفسه، بل هي إضافة خاصة تتقوّم بالواجد والموجود، فصارت اثنينية، لأن الإضافة بطبعها تقتضي ذلك، فلا معنی لأن يقال: الشيء واجد لنفسه، بل يقال: الشيء عين نفسه.

وفيه: أنها مناقشة لفظية بأن المتبادر من لفظ (الواجد) ذلك، وليس كلامنا في اللفظ، بل في حقيقة إطلاق المشتق - كالعالم - عليه تعالی، وإطلاق المشتق يکون بأحد الأنحاء التي ذكرها في الكفاية.

الجواب الرابع: إن إطلاق هذه الألفاظ إنّما هي علی اسمه تعالی، واسمه غير ذاته، بل الاسم مخلوق له سبحانه، فلا مانع في الاثنينية ووجود النسبة، بل هي أمر لابد منه، فتأمل.

الأمر العاشر: في دلالة الفعل على الزمان

اشتهر بين النحاة أن الفرق بين الاسم والفعل هو دلالة الفعل علی الزمان دون الاسم، كما قال ابن مالك:

المصدر اسم ما سوی الزمان من

مدلولي الفعل كأمنٍ من أمِن

ص: 240


1- نهاية الدراية 1: 240.
2- منتقی الأصول 1: 363.

وأورد علی ذلك عدة إشكالات، منها ما في الكفاية(1):

الإشكال الأول: مفهوم الزمان اسمي، فيمتنع أن يکون مدلولاً للهيأة، فإن مدلولها معنی حرفي.

وفيه: أولاً: إن المحقق الخراساني لم يفرّق بين المعنی الاسمي والحرفي إلاّ باللحاظ، فليلتزم به هنا أيضاً، وكذا علی مبنی أن معنی الحرف هو الوجود الرابط، حيث يمكن القول بأن الزمان في الفعل يکون وجوداً رابطاً، فتأمل.

وثانياً: بأنه قد يقال: بأن الزمان مدلول المركب من المادة والهيأة، فالمادة تدل علی الحدث، والهيأة تدل علی النسبة، والمجموع المركب يدل علی الزمان، ولا بأس بوضع المركب لعدم لزوم اللغوية حينئذٍ، لحصول الفائدة بالدلالة علی الزمان.

الإشكال الثاني: إن لازم دلالة الفعل علی الزمان هو أن يکون للهيأة معنيان: حرفي وهو النسبة، واسمي وهو الزمان.

وجوابه: اتضح مما سبق من دلالة الهيأة التركيبية علی الزمان، مضافاً إلی أنه لا محذور من أن يکون للهيأة معنيان حرفي واسمي - كل واحد منهما جزء المعنی - إلاّ محذور اجتماع اللحاظين الآلي والاستقلالي وقد عرفت عدم الإشكال في اجتماعهما، كما أنه لا يلزم من ذلك استعمال اللفظ في أكثر من معنى، لكون كل واحد منهما جزءاً للمعنى.

الإشكال الثالث: الفعل إمّا ما يدل علی الطلب كالأمر والنهي، أو يدل

ص: 241


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 170-171.

علی حكاية كالماضي والمضارع.

والأول: لا دلالة له علی الزمان، إذ المادة تدل علی الحدث، والهيأة تدل علی إنشاء الطلب.

وكون الإنشاء في الحال ليس بمعنی دلالته علی الزمان، لأن جميع الزمانيات تقع في الزمان مع عدم دلالتها عليه.

والثاني: لا دلالة له أيضاً، إذ قد يسند الماضي والمضارع إلی ما لا يقع في الزمان، كنفس الزمان في قولنا: (مضی الزمان)، وكالمجرد فيقال: (علم الله)، ومن الواضح أن لا مجازية في البين.

ويرد على الثاني: ما مرّ من الإرادة الجدّية والاستعمالية.

وعلى الأول: بأن ما ذكر من عدم دلالة الإنشاء علی الزمان مجرد ادعاء لم يقم عليه برهان، إذ يمكن ادعاء أن المجموع من المادة والهيأة يدل علی الزمان في الخبر وفي الإنشاء.

ودليل ذلك هو التبادر في الفعل الماضي والمضارع، وفي مثل (يجيء زيد بعد سنة وقد عَلِم كذا)، فإن (عَلِم) استعمل بمعناه الحقيقي ويدل علی الزمان الماضي، لكن مضيّه نسبي، أي بالنسبة إلی وقت مجيئه، وهذا كاف في صحة استعماله بمعناه الحقيقي.

وكذا لا يبعد ادعاء التبادر في الأمر والنهي وسائر الإنشاءات، بادعاء دلالته علی الحال والاستقبال، لا بمعنی زمان الإنشاء فهو في حال النطق قطعاً لاستحالة إنفكاك الإيجاد عن الوجود، بل بمعنی زمان متعلقه، وهذا لا ينافي عدم الدلالة علی الفور والتراخي، إذ الدلالة علی الزمان المطلق - حالاً واستقبالاً - يختلف عن الدلالة عليهما، فمعنی طلب إيجاد الشيء في المستقبل مثلاً أعم من الفور بمعنی أول

ص: 242

المستقبل أو التراخي، فتأمل.

إن قلت: كيف يمكن الدلالة علی الزمان الحال والمستقبل مع أن ذلك يقتضي وجود جامع بينهما، ومن المعلوم أن آنات الزمان متباينة لا جامع بينها، فلا جامع بين الحال والاستقبال؟

قلت: يکفي الجامع العنواني من غير حاجة إلی الجامع الحقيقي كما مرّ نظيره.

ثم إنه علی مبنی عدم دلالة الفعل علی الزمان فما هو الفرق بين الفعل الماضي والمضارع، ولماذا لا يجوز استعمال أحدهما مكان الآخر بنحو الحقيقة؟ فإذا كانت المادة تدل علی الحدث، والهيأة علی نسبة المبدأ إلی الذات فمن أين جاء الفرق؟

ذكر المحقق الخراساني(1): أن لكل من الماضي والمضارع خصوصية تلازم الزمان الماضي في الفعل الماضي، وتلازم الزمان الحال أو الاستقبال في الفعل المضارع، لكنها توجد في الزمانيات دون غيرها!

وأما تلك الخصوصية فقد قيل فيها أمور منها:

1- التحقق في الماضي، والترقب في المستقبل، وتحقق الفعل من الفاعل الزماني لابد أن يکون في الزمان الماضي، كما أن ترقبه يلازم صدوره منه فعلاً أو بعد حين، وذلك لاستحالة وقوع الفعل من الفاعل الزماني خارج الزمان، فهذا لازم عقلي لذلك.

إن قلت: فهل معنی (إني أترقب علم زيد) هو: (أترقب ترقب علم زيد).

ص: 243


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 172.

قلت: (الترقب) ليس جزء للمعنی، بل هو لازم للفعل أو للجملة، وحينئذٍ فلا إشكال في التصريح به فيکون نظير قولنا (نورالشمس) فليس النور هو ضمن معنی الشمس حتی يستلزم التكرار في النور، بل هو لازم لها وقد تَمّ التصريح به، فلا إشكال.

وعليه فلا داعي للقول بأن هذه النسبة هي (القابلية للترقب أو التحقق) أو (النسبة القابلة لأحدهما).

2- السبق في الماضي واللحوق في المستقبل، فإن السبق واللحوق لايتقومان بالزمان، بل هما ينتزعان من وجود الشيء، مع عدم تحقق الآخر، فإن كان قد تحقق الآخر وانعدم فهي اللحوق، وإن لم يكن قد تحقق بعد فهي السبق.

وبتعبير آخر(1): لا بمعنی السبق واللحوق الزمانيين، بل الأعم منه ومن غيره، فيکون السبق واللحوق زمانياً فيما لو انتسب إلی الزمانيات، وذاتياً فيما لو انتسب إلی نفس الزمان، ورتبياً فيما لو انتسب إلی المجرد.

وقد يُوجّه كلام النحاة بأنهم أرادوا الدلالة بالإلتزام، وحينئذٍ فيمکن أحد تعبيرين لهذه الدلالة الالتزامية، إما يقال: بأنه بنحو خروج القيد ودخول التقيد، أو بأن يقال: بأن الهيأة موضوعة للربط، وهو ينحلّ بالتحليل إلی نحوين هما: ربط بالفاعل - الذي يقوم بالفعل - وهذه دلالة بالمطابقة، وربط بالظرف الذي يقع فيه من حيث السبق واللحوق، وهذه دلالة بالإلتزام، فتأمل.

ص: 244


1- نهاية الأفكار 1: 127.

المقصد الأول في الأوامر وفيه فصول

اشارة

ص: 245

ص: 246

فصل في مادة الأمر

اشارة

وفيه مطالب:

المطلب الأول: في معنى الأمر

ذكرت للأمر معانٍ متعددة، كالطلب، والشيء، والفعل، والحادثة... الخ.

ولا يخفی أن بعض هذه من اشتباه المصداق بالمفهوم، فإن المعنی العام قد يکون له مصاديق جزئية، وكل مصداق له خصوصيات خاصة وليس لتلك الخصوصيات دخل في المفهوم، وبعضها من باب الخلط بين الكلمات ونسبة معنی إحداها للأخری، كقولهم من المعاني الغرض مستدلين بنحو (جئت لأمر كذا) مع أن الغرض يستفاد من (لام) التعليل لا من كلمة الأمر.

ثم إنه قد اختلف المحققون في أن للأمر معنيين بنحو الاشتراك اللفظي أم له معنی واحد بنحو الاشتراك المعنوي.

الاتجاه الأول: الاشتراك اللفظي بين معنيين.

وقد اختلفوا في تعيين المعنی الثاني، بعد اتفاقهم علی أن الطلب هو المعنی الأول، علی أقوال:

الأول: إنه مشترك لفظي بين الطلب والشيء.

وأشكل عليه: بأن (الأمر) أخص من الشيء، فلا يطلق علی بعض الجوامد مع إطلاق الشيء عليها، مثل (زيد شيء) ولا يقال (زيد أمر)، فلو

ص: 247

كان بين الأمر والشيء ترادف لصح استعمال أحدهما مكان الآخر شأن كل مترادفين.

الثاني: إن المعنی الثاني هو (الشيء لا بعرضه العريض)(1) فالأمر أخص من الشيء حيث لا يشمل: (الأعلام) و(أسماء الذوات)، فلا يقال (زيد أمر)، و(الرجل أمر)، مع صحة إطلاق الشيء عليهما.

والظاهر أن هذا المعنی لا مرادف له في اللغة، ولا إشكال فيه.

الثالث: إن المعنی الثاني هو (الحادثة المهمة).

وفيه: بأنه يصح القول بأنه جاء لأمر غير مهم، وهذا لا تناقض فيه ولا مجازية.

الرابع: إن المعنی الثاني هو (الفعل).

وأشكل عليه: بصحة إطلاق (الأمر) علی المعدوم وعلی المحال، مع أنهما ليسا فعلاً، فيقال: (شريك الباري أمر محال)، وكذا يطلق الأمر علی بعض الجامدات - وهي ليست فعلاً - مثل: (النار أمر ضروري في الشتاء).

وفيه تأمل: لأن المراد هو الفعل الذي يرتبط بالموضوع، أي تحقق الشريك، والتدفئة بالنار، وهذا نظير تعلق التكليف بالذات، حيث يراد الفعل المقصود منها، مثل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}(2) أي أكلها، وكذا هنا في هذه الأمثلة.

الاتجاه الثاني: كون المعنی واحداً بالاشتراك المعنوي.

ص: 248


1- مقالات الأصول 1: 205.
2- سورة المائدة، الآية: 3.

وفي هذا الاتجاه أقوال وذلك عن طريق إرجاع أحد المعنيين إلی الآخر:

1- إن المعنی هو (الفعل)، والطلب يرجع إليه ومن مصاديقه، وذلك لأن الفعل في معرض أن يُطلب، ولذا يعبّر عنه ب-(المطلب) حتى لو لم يتعلق به الطلب.

2- إن المعنی هو (الواقعة المهمة)، والطلب من مصاديقها.

3- ان المعنی هو الجامع بين الطلب والواقعة، أو الجامع بين الطلب وما ينشأ منه، ولو لم نعرف ذلك الجامع بالضبط.

ويرد علی هذه الأقوال كُلِّها إشکالان:

الإشکال الأول: اختلاف صيغة الجمع، فالأمر بمعنی الطلب يجمع علی (أوامر)، والأمر بالمعنی الآخر يجمع علی (أمور)، وهذا يكشف عن اختلاف المعنی، إذ لا يتعارف في اللغة أن يتحد المفهوم مع تعدد الجمع للمصاديق بحيث لا يصح استعمال كلا الجمعين في كل المصاديق، بل لو كان المعنی واحداً لصح استعمال كل المجموع في كل المصاديق.

الإشکال الثاني: الاشتقاق وعدم الاشتقاق، فإن المعنی الواحد إما يصح الاشتقاق فيه أو لا يصح، ولم يعهد في اللغة صحة الاشتقاق في أحد المصاديق دون الآخر، و(الأمر) بمعنی الطلب يشتق منه آمر ومأمور ويأمر... الخ، وأما (الأمر) بالمعنی الآخر جامد لا يشتق منه.

وهذا كله يكشف عن تعدد المعنی، هذا مضافاً إلی الإشكالات الواردة علی كل واحد من المعاني المذكورة - كما مرّ - .

فالأقرب هو ما ذكره المحقق العراقي من الاشتراك اللفظي بين الطلب وبين الشيء لا بعرضه العريض.

ص: 249

المطلب الثاني: في اشتراط العلّو والاستعلاء

هل يشترط في صدق الأمر: العلو أو الاستعلاء، أو لا يشترط أيٌّ منهما؟ وبعبارة أخری: هل يصدق (الأمر) علی مطلق الطلب الصادر حتی لو لم يكن فيه استعلاء ولم يكن من العالي؟

والكلام هنا إنّما هو في المعنی اللغوي والعرفي للكلمة، وليس البحث في حكم العقل بوجوب الطاعة، إذ لا إشكال في اعتبار العلو الحقيقي حينئذٍ.

ولا يخفی أن الطلب الموجه بلا علو ولا استعلاء لا يسمی (أمراً)، كطلب المسكين استرحاماً، كما لا إشكال في كون طلب العالي المستعلي (أمراً) عرفاً ولغة.

إنّما الكلام في الطلب الصادر من العالي بلا استعلاء، وكذا من غير العالي مع الاستعلاء.

وقد يقال: بعدم الثمرة العملية لهذا البحث، لأن كلامنا إنّما هو في الأوامر الصادرة عن الله تعالی وهو جامع بين العلو والاستعلاء، وهي أمر قطعاً.

وأورد عليه: بأن طلبه قد يکون بلا استعلاء، فهل يطلق عليه (الأمر) أم لا؟ فهنا ننقح الصغری، وفي المطلب التالي ننقح الكبری - وهي إفادة الأمر للوجوب - فعلی مبنی كفاية العلو وعدم الحاجة إلی الاستعلاء إذا لم نعلم وجود الاستعلاء في أمره تعالی - كما لو احتمل كونه للإباحة أو للاستحباب ونحوهما - نقول (هذا أمر، لوجود العلو) و(كل أمر يفيد الوجوب)، فالنتيجة (هذا يفيد الوجوب)، ولولا ذلك لكان من التمسك

ص: 250

بالعام في الشبهة المصداقية.

وعلی كل حال فالأقوال في البحث أربعة:

القول الأول: اشتراط العلو دون الاستعلاء، ودليله صحة السلب عن الطلب الصادر عن السافل والمساوي حيث يصح أن يقال إنّه ليس بأمر، بل هو سؤال أو التماس.

وأشكل عليه: بأن طلب العالي استدعاءً لا يسمی أمراً.

وأجيب: بأن ذلك للقرينة، وإلا فمع عدم وجود دليل علی كونه بالاستعلاء أم ليس باستعلاء، يطلق عليه الأمر أيضاً.

وفيه نظر: لأن هذا وجه عدم لزوم إحراز الاستعلاء، لا عدم اشتراطه.

القول الثاني: اشتراط الاستعلاء، حتی لو لم يكن علواً، ودليله: تقبيح السافل المستعلي فيما لو أمر سيده، فيقال له: (لِمَ أمرت سيّدك!).

وفيه: أن التقبيح إنّما هو علی استعلائه، وعلی تنزيل نفسه عالياً الموجب لصدور الأمر منه، فقد أثبت لنفسه مقاماً ليس هو أهلاً له، فإطلاق الأمر عليه بناءً علی اعتقاده، وهو مجاز للمشاکلة، وهذا نظير الحقيقة الادعائية.

القول الثالث: کفاية أحدهما - إما العلو أو الاستعلاء - .

وفيه: صحة السلب عن المستعلي غير العالي، وعن العالي غير المستعلي.

القول الرابع: اشتراط كلا الأمرين، إذ مطلق الطلب من العالي لا يسمی أمراً، وإنّما الطلب الصادر منه بحسب مقام مولويته أو علوه المستتبع لغضبه علی المخالفة واستحقاق المأمور للعقاب، مضافاً إلی صحة سلب الأمر عن المستعلي غير العالي كما مرّ، وهذا القول هو الأقرب وهو المتبادر.

ص: 251

المطلب الثالث: في منشأ دلالة الأمر على الوجوب
اشارة

وهذا البحث كما يجري في المادة كذلك يجري في الصيغة.

لا خلاف بين المحققين في دلالة الأمر علی الوجوب، إنّما الكلام في منشأ هذه الدلالة، هل هي بالوضع، أم بدليل العقل، أم بالإطلاق؟ فالأقوال ثلاثة:

القول الأول: دلالتها بالوضع.

وقد أنكره المحقق العراقي(1) وآخرون، مستدلين في إنكارهم بأمور:

منها: صدق الأمر حقيقة علی الطلب الصادر من العالي، حتی لو كان الطلب استحبابياً، مع عدم وجود عناية في ذلك، وهذا كاشف عن كون الأمر حقيقة في مطلق الطلب، ولولا ذلك لكانت عناية في صدق الأمر علی الطلب الاستحبابي.

وفيه: صحة السلب عن الطلب الاستحبابي في مثل: لم يأمر الله بصلاة الليل مثلاً.

ومنها: صحة التقسيم إلی الوجوب والاستحباب بقولنا: الأمر إما وجوبي أو ندبي، مع وضوح عدم صحة تقسيم الشيء إلی نفسه وإلی غيره، واشتراط وجود المقسم في كل الأقسام.

وفيه: أن التقسيم دليل علی إرادة الأعم من لفظ الأمر في مقام التقسيم، والاستعمال أعم من الحقيقة.

ولا يخفی أن استدلال هؤلاء في عدم العناية في المقسم فيرجع إلی

ص: 252


1- نهاية الأفكار 1: 160.

التبادر.

ومنها: إن فعل المندوب طاعة، وكل طاعة مأمور بها.

وفيه: أنه إن كان المراد من المأمور به معناه الحقيقي فالكبری ممنوعة، وإن كان المراد أعم من معناه الحقيقي فذلك لا يفيد المدعی.

وأما أدلة القائل بأن دلالته علی الوجوب بالوضع فمنها:

1- 2- التبادر وصحة السلب عن غيره.

3- الاستدلال بمثل قوله تعالی: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ}(1) وقوله تعالی: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ}(2) وقول الرسول (صلی الله علیه و آله) : «لولا أن أشقّ علی أمتي لأمرتهم بالسواك»(3) ونحو ذلك، فإن مخالفة الأمر لازمه وجوب الحذر والتوبيخ، مع وضوح عدم لزوم الحذر ولا استحقاق التوبيخ في ترك المستحب، وكذا لزوم المشقة من الأمر لازمه الوجوب إذ لا مشقة في المستحب لجواز تركه.

وفيه: أن هذا من باب التمسك بأصالة عدم التخصيص لإثبات التخصّص(4)، وذلک لايصح لأن دليل حجية أصالة عدم التخصيص هو بناء العقلاء، فيما لو شك في المراد، وأما فيما لو علم المراد بخروج فرد لكن لم يعلم أنه خارج عن الموضوع أم عن الحكم فلا يجري العقلاء الأصل، لأن المهم عندهم هو فهم مراد المتكلّم، وبعد فهم مراده فلا يهمهم شيء آخر،

ص: 253


1- سورة النور، الآية: 63.
2- سورة الأعراف، الآية: 12.
3- الكافي 3: 22.
4- نهاية الأفکار 1: 161.

فلا أصل لهم حينئذٍ.

وهكذا فيما نحن فيه، فبعد علمنا بخروج الأمر الاستحبابي عن الحكم - وهو وجوب الحذر والتوبيخ والمشقة - ، بعد ذلك لا نعلم بأن سبب الخروج هل لعدم كونه أمراً أي (التخصص)، أم سببه خروجه عن الحكم بعد كونه أمراً أي (التخصيص).

القول الثاني: إن منشأ الدلالة علی الوجوب هو حكم العقل(1).

فإن المدلول الوضعي للأمر هو الطلب لا الوجوب، ولكن كل طلب يصدر من العالي ولا يقترن بالترخيص في المخالفة، يحكم العقل بلزوم امتثاله وإطاعته، وحينئذٍ ينتزع منه عنوان الوجوب.

أما إذا اقترن بالترخيص، فلا يحكم العقل بلزوم امتثاله، فينتزع منه الاستحباب، فكل من الوجوب والاستحباب شأن من شؤون حكم العقل المترتب علی طلب المولی.

وأورد عليه بأمور، منها:

أولاً: لو ورد ترخيص بالعام وأمر بالخاص، مثل: (لا يجب إكرام العلماء)، و(أكرم الفقهاء)، فالمبنی المتسالم عليه هو أن هذا الأمر يخصص ذلك الترخيص العام.

لكن علی هذا المبنی، لا تعارض أصلاً كي يجمع بتقديم الخاص الأظهر علی العام الظاهر، حيث إن الأمر يدل علی أصل الطلب وهو لا ينافي الترخيص في الترك، بل يکون هذا العام رافعاً لحكم العقل بالوجوب في

ص: 254


1- فوائد الأصول 1: 136.

الخاص، لأن حكم العقل متوقف علی عدم الترخيص، وقد وُجد هذا الترخيص.

وثانياً: لو احتملنا الترخيص المنفصل، فلا يحكم العقل حينئذٍ، إذ لا حكم له إلاّ مع القطع، ولذا قالوا: «إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال»، أي الاستدلال العقلي.

القول الثالث: إن منشأ الدلالة علی الوجوب هو الانصراف.

بمعنی أن كثرة الاستعمال في الوجوب سبب انصراف الأمر إلی خصوص الوجوب، مع أنه موضوع للطلب الأعم من الوجوب والاستحباب.

وأورد عليه: بأنه لا توجد كثرة الاستعمال في الوجوب، بل تستعمل في المستحب بكثرة، حتی أن صاحب المعالم(1) مع أنه ذهب إلی وضعها للوجوب، قال: بأن الاستعمال في الندب كان شائعاً، بحيث صار الاستحباب من المجازات الراجحة التي تساوي احتمال الحقيقة حين استعمال اللفظ.

القول الرابع: إن المنشأ هو الإطلاق بمقدمات الحكمة، وبيان الإطلاق من وجوه، منها:

البيان الأول: وهو ما ذكره المحقق العراقي(2)، وحاصله: أن الأمر يدل علی الطلب، وهو إما شديد أو ضعيف، والضعيف هو الاستحبابي، وهذا فيه جهة نقص، فلا يقتضي المنع عن الترك، وحيث إنه ناقص احتاج إلی تحديد وتقييد، بخلاف الطلب الوجوبي، فإنه لا تحديد فيه حتی يحتاج إلی التقييد.

ص: 255


1- معالم الدين: 53.
2- نهاية الأفكار 1: 162.

وحينئذٍ فحيث يکون الآمر بصدد البيان، فمقتضی الإطلاق هو كون طلبه طلباً وجوبياً لا استحبابياً.

وفيه تأمل: أولاً: لأن المبنی هو بساطة الوجوب والاستحباب، فلا يکون عدم المنع عن الترك من مدلول الأمر أصلاً، وأما المدلول الالتزامي فهو لا يمكن إثباته أو نفيه بالإطلاق، إذ لا بأس بعدم التعرض للمدلول الالتزامي للمولی الذي هو في مقام البيان.

وثانياً: إن الإطلاق يختص فيما لو رأی العرف قيداً زائداً ولم يتعرض له المولی في مقام البيان، فيقال: إن حكمته تمنع من عدم التعرض له إذا كان يريده، فعدم التعرض من المولی الحكيم يكشف عن عدم الإرادة، وأما لو لم يلتفت العرف إلی قيد أصلاً - ولو ارتكازاً - فإنه يری دوران الأمر بين المتباينين، لا أنه يراه من الإطلاق والتقييد.

إن قلت: شدة الإرادة من سنخ الإرادة، بخلاف ضعفها التي تعني عدم المرتبة الشديدة من الإرادة، فصار تحديد في الاستحباب دون الوجوب.

قلت: هذا بيان دقي لا يلتفت إليه العرف، والمناط هو رؤية العرف قيداً زائداً فينفيه بالإطلاق، مضافاً إلی استلزام هذا الكلام للتركب في المستحب وهو خلف.

البيان الثاني: للمحقق العراقي أيضاً(1)، وهذا يتركب من مقطعين:

الأول: الوجوب ليس مجرد الطلب، فإن ذلك ثابت في المستحبات أيضاً، فلابد من عناية زائدة في الوجوب، وهذه العناية ليست انضمام النهي

ص: 256


1- نهاية الأفكار 1: 162.

أو المنع عن الترك إلی الطلب - إذ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضده - ، وإنّما العناية هي عدم الترخيص في الترك في الوجوب، وأما في المستحب فهي الترخيص في الترك، فالوجوب طلب متميز بقيد عدمي، والاستحباب طلب متميز بقيد وجودي.

الثاني: وإذا كان شيء مشترك بين شيئين، وكان المميز لأحدهما عدمياً وللآخر وجودياً، فإنه يتعين بالإطلاق الحمل علی الأول.

وذلك لأن الأمر العدمي لا مؤونة فيه بحسب النظر العرفي، فلو كان المقصود الأمر الوجودي فعدم ذكره خلاف الظهور العرفي من حال المتكلم، وحيث لم يذكره المولی فقد دلّ ذلك علی عدم إرادته.

وفيه(1): أنه ليس كل أمر عدمي لا يلحظ عرفاً أمراً زائداً، وهنا لا يری العرف أنه دوران بين الأقل والأكثر، بل يراه من المتباينين اللذين هما في عرض واحد، ويری الكلام مجملاً إذ لم يعيّن أحدهما.

مضافاً إلی استلزام التركب لو قلنا بأن الترخيص في الترك وعدمه جزء مدلول الأمر، وإن قلنا بأن الترخيص وعدمه لازم، فقد مرّ عدم إمكان نفيه أو اثباته بالإطلاق، فتأمل.

ثمرة البحث في منشأ الدلالة على الوجوب

ثم إنه قد ذكرت ثمرات في هذا الخلاف - في أن دلالة الأمر علی الوجوب بالوضع، أم حكم العقل، أم الانصراف، أم الإطلاق -(2) منها:

ص: 257


1- بحوث في علم الأصول 2: 22.
2- بحوث في علم الأصول 2: 24-27.

الثمرة الأولی: جريان قواعد الجمع الدلالي والعرفي علی مسلك الوضع والإطلاق، إذ تكون الدلالة في الدليلين لفظية، وأما علی مسلك حكم العقل فلا تجري تلك القواعد، وإنّما يکون دليل الترخيص وارداً علی حكم العقل بالوجوب ورافعاً لموضوعه، كما مرّ تفصيل بيانه في الإشكال علی هذا المبنی.

الثمرة الثانية: ثبوت دلالة السياق علی مسلك الوضع، وسقوطه علی مسلك الإطلاق وحكم العقل، وذلك فيما لو وردت أوامر متعددة في سياق واحد وعرفنا من الخارج استحباب بعضها.

1- فعلی الوضع: يختل ظهور الباقي في الوجوب، لاستلزامه تغاير مدلولات تلك الأوامر، مع أن وحدة السياق يوجب ظهوراً في إرادة المعنی الواحد.

2- وعلی حكم العقل: فإن جميع الأوامر مستعملة في معنی واحد، وهو الطلب، وأما الوجوب فهو حكم عقلي خارج عن مدلول اللفظ وهو متوقف علی مقدمة أخری، وهي عدم الترخيص، وتماميتها لا يُخِلّ بالسياق.

3- وعلی الإطلاق: الأوامر مستعملة بمعنی واحد - هو الطلب - ، لكن أريد من بعضها المقيد بدالٍ آخر فلم تختل وحدة السياق.

ويرد علی الأول: أن ظهور الوضع أقوی من ظهور السياق، فلذا دأب الفقهاء علی حمل كل تلك الأوامر علی الوجوب، واستثناء ما قام الدليل علی استحبابه، مع ذهاب أكثرهم إلی أن الدلالة علی الوجوب وضعية.

وعلی الثاني والثالث: أن الملاك في وحدة السياق هو الإرادة الجدّية لا الاستعمالية. اللهم إلاّ أن يقال بأن الظاهر هو تطابقهما معاً، فتأمل.

ص: 258

الثمرة الثالثة: لو أمر بشيئين بأمر واحد وثبت من الخارج عدم وجوب أحدهما، كما لو قال: (اغتسل للجنابة والجمعة).

أ) فعلی الوضع: لا يمكن إثبات وجوب الآخر بنفس هذا الأمر، لاستلزامه استعمال لفظ الأمر في أكثر من معنی.

ب) وعلی حكم العقل: إن الأمر مستعمل بمعنی واحد، وإنّما الوجوب من شيء آخر وهو الترخيص الثابت لأحدهما دون الآخر.

ج) وعلی الإطلاق: فإن الأمر ينحلّ إلی حصتين، وتقييد إطلاق أحدهما لا يستوجب تقييد إطلاق الآخر.

ويرد علی الأول: أن لفظ (اغتسل) مستعمل في الوجوب في كليهما، لكن لا يراد هذا الوجوب بالإرادة الجدّية في الجمعة، فلذا لا نجد مجازية في هذه الجملة - إذ الحقيقة والمجاز يرتبطان بالإرادة الاستعمالية دون الإرادة الجدّية - كما قالوا مثل ذلك في العام المخصص.

هذا مضافاً إلی الإشكال مبنیً بجواز الاستعمال في الأكثر - كما مرّ - ، وإلی أن العطف في قوة التكرار فالأمر الظاهر يدل علی الوجوب والمقدر يدل علی الاستحباب في المثال.

وعلی الثاني والثالث: ما مرّ من اختلال وحدة السياق، والتي كان الملاك فيها الإرادة الجدّية، مع عدم وجود ظهور وضعي أقوی منها.

الثمرة الرابعة: لو ورد عام وعلمنا بقرينة خارجية عدم وجوبه في الخاص، فهل يمكن إثبات الاستحباب فيه، كما لو قال: (أكرم العالم) وعلمنا بعدم وجوب إكرام غير الفقيه.

أ) فعلی الوضع: لا يمكن، لأن معنی الأمر الوجوب، وخروج الخاص

ص: 259

عن هذا المعنی أعم من إثبات الاستحباب أو غيره.

ب) وعلی حكم العقل: الأمر مستعمل في الطلب علی كل حال، والترخيص ثبت في حصة فيکون الاستحباب، ولم يثبت في أخری فيکون الوجوب.

ج) وعلی الإطلاق: لا وجه لرفع اليد عن أصل الطلب في غير الفقهاء في المثال، لأن الأمر دال علی الطلب ووجود القيد أخرجه عن الوجوب ولم يخرجه عن أصل الطلب.

وهناك ثمرات أخری مذكورة، فيها تأمل أيضاً.

المطلب الرابع: في الطلب والإرادة
اشارة

1- قد يکون البحث لغوياً، لمعرفة مفهوم الكلمتين، وأنه واحد أم متعدد، فهذا لا يرتبط بالأصول، والظاهر هو أن (الإرادة) تكون نفسية، و(الطلب) فعلاً خارجياً - سواء كان لفظاً أم لا - .

كما أن الظاهر أن كلمة (الطلب) لم تستعمل في الآيات والروايات في الله تعالی، وفسّرت الروايات (الإرادة) فيه تعالی بالإيجاد، فهي من صفات الفعل وليست ذاتية.

2- وقد يکون البحث أصولياً، بأن يقال: إن المادة أو الصيغة كاشفة عن الواقع، فهل ذلك الواقع شيء واحد هو الطلب والإرادة، وحينئذٍ فبمادة الأمر أو صيغته نحرز إرادة المولی، فيترتب عليهما ما يترتب علی إحراز إرادته.

أم أن ذلك الواقع هو الطلب دون الإرادة، فلا يترتب عليها ما يترتب علی إحراز إرادة المولی(1).

ص: 260


1- منتقی الأصول 1: 382؛ نهاية الدراية 1: 361.

3- وقد يکون بحثاً عقلياً، وأنه عند أمر المولی هل هناك شيئان أحدهما طلب والآخر إرادة، أم لا يکون إلاّ شيء واحد.

ثم لا يخفی أنهم بحثوا في مقامين:

الأول: في اتحاد وعدم اتحاد الطلب والإرادة.

الثاني: في الجبر والتفويض والأمر بين الأمرين، وإنّما انجرّ البحث إلی هذا الأمر، لأن أحد استدلالات الأشاعرة علی عدم اتحاد الطلب والإرادة مبتنٍ علی مسألة الجبر، كما سيأتي توضيحه.

المقام الأول: في تغاير الطلب والإرادة
اشارة

وهنا أمور:

الأمر الأول: في عدم كون النزاع لفظياً

ادّعی صاحب الكفاية(1) أن النزاع بين الطرفين قد يکون لفظياً.

ولكن هذه الدعوی تخالف استدلالات الطرفين والنقض والابرام فيها، وذلك...

1- لأنّ القائلين بالاتحاد، استدلوا بأنا نجد في أنفسنا عند الأمر بالشيء العلم بالمصلحة والإرادة والحب أو البغض، ولا نجد شيئاً آخر قائماً بالنفس يسمی الطلب.

2- ولأن القائلين بالمغايرة ادعوا فروق ثلاثة بين الطلب والإرادة من الله تعالی، وهي فروق باطلة وفاسدة، کما سيأتي، إلاّ أن ذلک يکشف عن عدم کون النزاع لفظياً، وتلک الفروق هي:

ص: 261


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 282.

الأول: إن الطلب يتعلق بالمحال، والإرادة لا تتعلق إلاّ بالممكن. ومثّل الأشاعرة لذلك بتكليف الكفار بالإيمان، والعصاة بالعمل، مع زعمهم امتناع صدورهما منهم بعد علمه سبحانه بعدم تحققهما، فزعموا استحالةتعلق إرادته بالإيمان والعمل المستحيل منهم، وكما في موارد الأمر بما يعلم انتفاء شرط تحققه.

الثاني: إن الطلب يمكن تخلّفه عن المراد، والإرادة يستحيل تخلفها عن المراد، فزعموا أن الله تعالی لو کان يريد من الكفار الإيمان ومن العصاة العمل لتحقق مراده، لأنه تعالی إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيکون، فعلی الاتحاد يلزم عدم تحقق العصيان من العباد لعدم جواز تخلف إرادته عن المراد، فخلطوا بين الإرادة التکوينية والتشريعيّة، کما زعموا أن المراد في التشريعية هو صدور العمل من العبد.

الثالث: زعموا أن طلبه تابع لمصلحة في نفس الطلب، فيکون موضوعاً لحكم العقل بوجوب الاطاعة، أما إرادته فزعموا أنها لا تتبع لمصلحة في نفسها ولا تكون موضوعاً لحكم العقل بوجوب الطاعة، ولذا أنكروا التحسين والتقبيح العقليين، وجوزوا الأمر بالشيء مع خلوه عن المصلحة.

والحاصل: إنهم للفرار من هذه الإشكالات وغيرها، التزموا بالمغايرة بين الطلب والإرادة، فالتزموا بأن الطلب وما يحكی عنه - أي الأمر - يقبل هذه اللوازم، دون الإرادة.

الأمر الثاني: من أدلة القائلين بالتغاير

الدليل الأول: ما استدل به الأشاعرة، علی أن الله تعالی يوصف بالتكلّم، كما يوصف بالعلم والقدرة، وصفاته تعالی قديمة، فيکون كلامه قديماً.

ص: 262

وحيث يمتنع أن يراد الكلام اللفظي، لوضوح حدوثه وتصرّمه، فلابد من أن يکون كلامه شيئاً آخر في نفسه تعالی، وهو الكلام النفسي، ويکون الكلام اللفظي كاشفاً عن ذلك الكلام النفسي، فالطلب يكشف عن الكلام النفسي، وهو غير الإرادة، لأنه سبحانه يوصف بكليهما فيقال إنه متكلّم وإنه مريد، وذلك يقتضي المغايرة.

والجواب: أن التكلم ليس من صفات الذات، بل هو من صفات الفعل، فينطبق علی الكلام اللفظي، من غير حاجة إلی اختلاق كلام نفسي، وهذا الكلام اللفظي هو طلبه تعالی، كما أن إرادته هي فعله - كما دلت عليه الروايات المستفيضة الصحيحة(1) - ، فتكون أوامره اللفظية طلباً وإرادة، بمعنی أنه لا يوجد شيئان أحدهما طلبه والآخر إرادته، بل نفس إيجاده لهذه الألفاظ هو إرادته وطلبه.

الدليل الثاني: للأشاعرة أيضاً، بأن إرادته لا تنفك عن المراد، ففي أمر الكفار بالإيمان والعصاة بالعمل لا يکون هناك إرادة وإلاّ لآمنوا جميعاً وعملوا بالصالحات قهراً، فعصيانهم وعدم إيمانهم يكشف عن عدم إرادته، مع أنه طلب منهم وأمرهم.

والجواب: أنه هو خلط بين الإرادة التكوينية والإرادة التشريعية، ومتعلق الإرادتين مختلف، ففي التكوينية إرادته في تحقق الوجود، فلا محالة يتحقق الوجود، ولا شيء يُعجز الله تعالی عن ذلک، وفي التشريعية ليس المتعلق هو الوجود بل المتعلق هو التشريع ولذا لا محالة يصدر الحكم

ص: 263


1- راجع شرح أصول الکافي، للمؤلف 2: 220-230.

ويتحقق التشريع بمجرد إرادته تعالی، فالمؤمنون المطيعون والكفار والعصاة أراد الله تشريع الحكم لهم وقد تحققت إرادته بالتشريع، كما أراد تكويناً أن يکونوا مختارين فتحققت إرادته في اختيارهم وعدم إكراههم.

والحاصل: إن معنی (أراد منا الإيمان) هو أراد تشريع الحكم علينا، فلم تتخلف الإرادة عن المراد.

الدليل الثالث: لهم أيضاً، بأنّه في الأوامر الامتحانية يوجد طلب ولا توجد إرادة.

والجواب(1) إن الأوامر الامتحانية علی قسمين:

الأول: ما لا يکون في متعلقه مصلحة بوجه من الوجوه، لا بعنوانه الأوليّ ولا بعنوانه الثانوي، كما لو كان الأمر بالإيجاد لمحض امتحان العبد، وفهم أنه بصدد الطاعة والامتثال أم لا.

والثاني: ما يکون في متعلقه مصلحة بالعنوان الثانوي - وإن لم تكن فيه مصلحة بالعنوان الأولي بل قد تكون فيه المفسدة - كما لو أمره بطبخ طعام في الظهر ليتغدی به، وغرضه هو أن يری كيفية طبخه حتی يأمره بالطبخ لضيوفه.

فنقول: إن الثاني لا ينفك عن إرادة العمل، بل تعلقت الإرادة الحقيقية من المولی بإيجاد العمل من المأمور، وأنه يستحق العقوبة علی المخالفة فيما لو خالف.

وأما الأول: فليس هنالك إرادة حقيقية، ولكنا نمنع كونه طلباً وأمراً

ص: 264


1- نهاية الأفكار 1: 172.

حقيقياً، بل هو طلب وأمر صوري، وعليه فلا يکون موضوعاً لحكم العقل بوجوب الإطاعة والامتثال، ولذلك يحاول المولی أن لا يطّلع العبد بواقع قصده وأن أمره لمحض امتحانه.

ومن المعلوم أن غرض المولی من هذا البعث - وهو الامتحان - يتحقق علی محض تخيّل العبد كونه أمراً حقيقياً ناشئاً عن إرادة جديّه متعلقة بالعمل وإن لم يكن كذلك بحسب الواقع.

إن قلت: فكيف يصح للمولی معاقبته علی المخالفة.

قلت: ذلك لتجريه، لأن التجري حرام ويستحق فاعله العقوبة، كما هو الأصح.

ثم إنه قد استدل آخرون علی تغاير الطلب والإرادة - وإن لم تنفع الأشعري في مبتغاه - ، منها:

الدليل الرابع: ما استدل به المحقق النائيني(1)، بأن هناك واسطة بين الإرادة وبين العمل، وبيانه بثلاثة مقدمات:

1- إن العقلاء يفرقون بين حركة المرتعش، والحركة الصادرة عن غير المرتعش بفعله، فيسندون الثانية إلی الشخص ويلومونه ويعاقبونه أو يثيبونه عليها، دون الأولی.

2- إن منشأ حركة المرتعش هو المرض وهو أمر غير اختياري، كما أن منشأ فعل الإنسان هو الإرادة وهي أمر غير اختياري، فكلّما حصل المرض أو حصلت الإرادة حصل الارتعاش أو الفعل، لأنهما علّة، والفعل معلول،

ص: 265


1- فوائد الأصول 1: 131؛ أجود التقريرات 1: 89.

ويستحيل انفكاك العلة عن المعلول، هذا إذا لم نقل بأن هناك واسطة بين الإرادة وبين الفعل.

3- فلابد أن يکون سبب الفرق هو وجود صفة أخری بين الإرادة والفعل، يستطيع بها الشخص من الفعل وعدمه، بحيث إنه بعد الإرادة له أن يفعل وله أن لا يفعل، وهذه الصفة هي تصدي النفس نحو المطلوب وبتعبير آخر حملة النفس، وهذه هي مناط الاختيار، وهي الفارقة بين حركة المرتعش وغيره.

فثبت وجود صفة أخری غير الإرادة وهي المعبر عنها بالطلب!

ثم إنه ردّ علی من ادعی الاتحاد قائلاً: إن من ذهب إلی الاتحاد لم يزد علی إدعاء الوجدان، ثم استدل علی التغاير بأمور ثلاثة:

الأول: أنا بالوجدان نری شيئاً آخر، هو صفة قائمة بالنفس وراء الإرادة تسمی الطلب.

الثاني: إنّ الانبعاث لا يکون إلاّ بالبعث، والبعث من مقولة الفعل، وأما الإرادة فهي من الكيفيات النفسانية، فلو لم يكن هناك فعل نفساني يقتضي الانبعاث لزم أن يکون انبعاث بلا بعث.

الثالث: يلزم من الاتحاد كونه تعالی مقهوراً، إذ إرادته عين ذاته فهي غير اختيارية له، وكونه مقهوراً بديهي البطلان.

و يرد عليه: أولاً: علی المقدمة الثانية بأن كثيراً من مقدمات الإرادة ليست اختيارية، أما الشوق المؤكد المعبر عنه بتحريك العضلات فهو اختياري، وعلته النفس بالذات، وليس لهذا التوجه علّة، وإلاّ لزم الجبر أو

ص: 266

التسلسل، وإلی هذا يرجع مقوله: اختيارية كل شيء بالإرادة، واختيارية الإرادة بالذات.

وثانياً: علی المقدمة الثالثة بأن الإرادة هي علة الفعل، وهي علة مبقية، كما أنها علة محدثة، فمع إرادة الفعل تتحرك العضلات نحوه، لكن يمكن إيقاف هذه الحركة بإزالة الإرادة.

وثالثاً: ليس المقصود من الإرادة الملكة، كي يقال بأنها هبة منه تعالی وهي غير اختيارية، بل معنی الإرادة هو القصد إلی الفعل، وهذا من مقولة الفعل، كما أن الطلب من مقولة الفعل فلا محذور من القول باتحادهما، وهذا إشكال علی الدليل الثاني.

ورابعاً: إرادته تعالی من صفات الفعل، فليست عين ذاته - كما دلت عليه الروايات المعتبرة - فلا يرد إشكال المقهورية أصلاً، وهذا إشكال علی الدليل الثالث.

الدليل الخامس: ما ذكره المحقق الإصفهاني(1)، فقد التزم بإمكان صفة أخری غير الإرادة، لكنها مما لا تنفع الأشاعرة، فلا تثبت الكلام النفسي.

وحاصله: أن الكلام النفسي مردد بين ما قام البرهان علی عدم إمكانه، وبين ما ليس مدلولاً للكلام اللفظي مع إمكانه في نفسه.

أ) إذ الكلام النفسي لو كان من سنخ الماهية، فهو علی احتمالين:

الأول: قيام هذه الماهية بالنفس، كسائر الصفات النفسية، فيکون من الكيفيات النفسانية.

ص: 267


1- نهاية الدراية 1: 263-266.

وفيه: أن البرهان دل علی حصر الكيفيات النفسية، وليس الكلام النفسي أحدها.

الثاني: قيام هذه الماهية بالنفس قياماً بصورته العلمية.

وفيه: أنه داخل في مقولة العلم، لا أنه شيء آخر قبال العلم.

ب) وإن كان الكلام النفسي من سنخ الوجود، فهو معقول، لكنه لا يمكن أن يکون مدلولاً للكلام اللفظي، فليس الطلب في قباله.

أما معقوليته: فلأنّه ليس من صفات النفس، بل من أفعال النفس ومخلوقاتها، فإن للنفس القابلية في إيجاد الصور، ثم حمل إحداها علی الأخری، والحكم بأن هذا ذاك، والتصديق والجزم به، ومنه: الأحاديث النفسانية.

بل نسبة النفس إلی معلولاتها نسبة الخلق والإيجاد مطلقاً، كما قيل:(كل ما ميزتموه بأوهامكم في أدق معانية فهو مخلوق لكم مردود إليكم).

وأما عدم إمكان كونه مدلولاً للكلام اللفظي: فلأنّ الدلالة ليست إلاّ بمعنی كون اللفظ واسطة للانتقال من سماعه إلی المدلول، وهذا هو شأن المهية، أما الوجود الحقيقي فلا ينتقل باللفظ.

وأورد عليه في المنتقی(1): بأن استعمال اللفظ وإرادة الوجود الخارجي منه كثير، كالأعلام، وكاستعمال اللفظ الكلي وإرادة فرد معين منه، والمصحح له: هو أن الموضوع له ومدلول اللفظ هو نفس المهية الكلية أو الجزئية، وإرادة الفرد المعين والوجود المتميز إنّما هو بالتطبيق.

ص: 268


1- منتقی الأصول 1: 384.

وهنا يمكن فرض الكلام اللفظي دالاً علی نفس المفهوم وذاته، لا بما أنه موجود، وإرادة ما هو موجود في النفس منه من باب التطبيق، لا الاستعمال والكشف والحكاية.

ويمكن الجواب بطريقة أخری، وهو أنه يمكن أن يکون اللفظ موضوعاً للوجود الخارجي لا لمهيته، وهذا أمر وجداني في الأعلام، ويکون إحضار هذا المعنی إلی الذهن بوجهه وعنوانه لا بذاته، وهذا المقدار يکفي في تصحيح وضع اللفظ للوجودات الخارجية أو الذهنية، فلا يرد إشكال استحالة تبدل وجود الشيء من عالم الخارج إلی الذهن، ولا إشكال تحصيل الحاصل في الوجودات الذهنية، وقد مرّ بعض الكلام فيه في المعنی الحرفي، فراجع.

وفي الأصول(1) أشكل السيد الوالد علی المحقق الإصفهاني بأمرين:

الأول: عدم تسليم الحصر وهذا إشكال مبنائي.

والثاني: إمكان الالتزام بأن الكلام النفسي من سنخ الوجود، ويکون الانتقال إليه بالوجه، وهذا ليس صفة العلم بل صفة أخری.

والحاصل: إنه حتی لو ثبتت صفة أخری في النفس فلا تكون مدلولة للطلب، بل تكون الألفاظ إخبار عنها، فتأمل.

الأمر الثالث: هل المصلحة هي في الطلب أم في متعلقه؟

حيث أثبتنا اتحاد الطلب والإرادة، وأنه لابد فيه من المصلحة، فهل المصلحة في نفس الطلب، أم لابد من كونها في متعلّق الطلب؟

ص: 269


1- الأصول 1: 181.

وتظهر فائدة البحث في مسألة الملازمة(1) ...

1- فعلی كون المصلحة في نفس الطلب لا في المتعلق، يسقط هذا البحث رأساً، إذ بمجرد إدراك العقل حسن شيء أو قبحه لا يمكننا كشف حكم الشارع فيه، وكذا العكس فبمجرد حكم الشارع لا يمكن الكشف عن الحسن والقبح.

2- وأما علی كون المصلحة في المتعلق، فمع حكم الشارع، يتم كشف الحسن والقبح فيحكم العقل أيضاً، وليس كذلك العكس، إذ مع حكم العقل - فيما لو أدرك حسن شيء أو قبحه - لا يمكن العلم بحكم الشرع، لأن مجرد وجود المصلحة في المتعلق لا يکون علة لحكمه، لاحتمال وجود المانع أو المزاحم، نعم يثبت المقتضي.

إن قلت: قد يکون حكم الشارع امتحانياً، فكيف يتم كشف الحسن أو القبح كي يحكم العقل؟ وكيف يحكم بالمصلحة في المتعلق؟

قلت: أولاً: قد مرّ أن الأوامر الامتحانية لابد فيها من مصلحة في المتعلق، وإلاّ كانت صورة أمر.

وثانياً: يمكن القول بأن نفس الامتحان متعلق الطلب، إمّا لاتحاد ذلك المتعلق والامتحان، وإما لانتزاع الامتحان من المتعلّق.

إن قلت: كيف يکون الامتحان متعلقاً للطلب والحال أنه متأخر عنه، إذ لولا الطلب لما كان امتحان؟

قلت: الامتحان علة غائية، فهي متقدمة في التصور لكنها متأخرة عن

ص: 270


1- نهاية الأفكار 1: 173.

العمل، ويکفي لتعلق الطلب به تقدم التصور، فتأمل.

أما الثاني: وهو كون المصلحة في المتعلق لا في نفس الطلب فيدل عليه:

أولاً: الوجدان، إذ كشف كون الصفات النفسية ذات الإضافة عِلةً لشيء إنّما هو بالوجدان، وهو الحاكم بأن الحب والبغض لا يتحقق إلاّ باعتبار خصوصية في المتعلق - اما واقعاً أو توهماً - ، كما أن كشف العليّة في الأمور الخارجية إنّما هو بتكرار الملازمة خارجاً، إلی حد القطع بكون أحدهما علة للآخر.

وثانياً: البرهان، إذ لو كانت المصلحة في الطلب نفسه لزم الترجيح بلا مرجح في الأمرين المتساويين في جميع الخصوصيات، بل في أمر واحد، بأنه لماذا صار ذلك الشيء محبوباً لا مبغوضاً.

إن قلت: المصلحة في نفس الطلب.

قلت: بعد تحقق كلّي المصلحة في تعلق الطلب بأحد الفردين، أو تعلق الأمر بفرد واحد دون النهي أو العكس يکون ترجيح أحدهما علی الآخر ترجيحاً بلا مرجح.

اللهم إلاّ أن يقال: إنه مع وجود المصلحة في الكلي أو في النوع لا قبح ولا استحالة في اختيار أحدهما باعتباره أحد مصاديق الكلي، وذلك كرغيفي الجائع وطريقي الهارب، فتأمل.

وأما الأول: وهو كون المصلحة في الطلب نفسه فقد أستدل له: بوقوعه في بعض المسائل الفقهية، والوقوع أدلّ دليل علی الإمکان.

ص: 271

1- منها: ما لو قصد الإقامة عشرة أيام، فعليه أن يصلي الرباعية تماماً، ثم بعد صلاة رباعية واحدة يجب عليه الاستمرار بالتمام وكذا الصيام، حتی لو عدل عن الإقامة وانصرف عنها.

فهنا لم تترتب التمام ولا الصيام علی الإقامة عشرة أيام خارجاً، ولا علی الأمرين معاً - الإقامة خارجاً مع قصدها - ، بل ترتبا علی مجرد القصد فوجبت الصلاة تماماً في أول صلاة رباعية وبعدها وجب الاستمرار والصيام حتی مع العدول.

وعليه: فقد ترتب الحكم علی مجرد إرادة الإقامة، لا علی المصلحة في المتعلّق، فليكن في غيره كذلك، لأن حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد.

والجواب: أولاً: إن القائل قد خلط بين قصد العبد وبين إرادة المولی، والکلام إنّما هو في أنه هل يمكن أن يطلب المولی - والطلب متحد مع الإرادة - أمراً لا لمصلحة في متعلقه بل لمصلحة في نفس الطلب أم لا؟ وأمّا المثال فهو في تعلق قصد العبد بالإقامة، فنقول إن طلب المولی إنّما هو لمصلحة في المتعلق، وذلك المتعلق هو العمل الذي انضم إلی قصد العبد.

وبعبارة أخری: القصد قد يوجب مصلحة أو مفسدة في العمل الخارجي، نظير القيام الذي هو بقصد التعظيم أو الذي هو بقصد الإهانة، فمع أن العمل الخارجي هو بصورة واحدة لكن ذلك القصد أوجب مصلحة أو مفسدة فيه. وكذا هنا قصد الإقامة أوجب مصلحة في نفس التمام والصيام، وبعد صلاة رباعية فإن العدول لا يوجب زوال تلك المصلحة، وذلك لأن القصد يکون علة محدثة لا مبقية، نعم ما دامه لم يصل رباعية فهو علة محدثة ومبقية.

ص: 272

والحاصل: إن المصلحة ليست في إرادة المولی ليرجع إلی المصلحة في نفس الطلب بل المصلحة في المتعلّق، ولكن المصلحة في المتعلّق نشأت من قصد العبد.

وثانياً: ما ذكره المحقق العراقي(1): من أن وجوب التمام والصيام إنّما هو علی نفس الإقامة الخارجية، غايته لا علی وجودها المنحفظ بقول مطلق، بل علی وجودها المنحفظ من ناحية القصد المزبور، فهو الذي كان موضوعاً لحكم الشرع بوجوب الصوم والتمام، وذلك لتحقق ما هو الموضوع للحكم المزبور.

ولعلّ مراده أنه لو قصد الإقامة عشرة أيام، فلها فردان، أحدهما: الفرد الحقيقي، وهو البقاء عشرة أيام كاملة، والثاني: فرد ادعائي، وهو ما لو قصد العشرة وصلی رباعية ثم عدل، فإن هذه الفترة القصيرة تعتبر شرعاً عشرة أيام ادعاءً، فلذا يترتب عليها أحكامها من التمام والصيام.

فلا يرد علی المحقق العراقي الإشکال بأن مقصوده إن كان وجود المصلحة في المركب الانضمامي - أي الإقامة المقيدة بالقصد - فهذا يخالف ما عليه الفقهاء من عدم اشتراط استمرار الإقامة.

وإن كان مقصوده سد باب (عدم الإقامة من جهة عدم القصد) حتی لو فرض انفتاح باب آخر لعدم الإقامة - كالخروج جبراً - فكأنّ هذا حفظ لمرتبة من مراتب وجود الإقامة، فهذا عبارة أخری عن القصد، لأن سدّ عدم الشيء بعدم إحدی مقدماته ليس إلاّ عبارة أخری عن إيجاد تلك المقدمة.

ص: 273


1- نهاية الأفكار 1: 174.

ثم إنه قد يتوهم أن الإشكال إنّما هو في من لا يريد الإقامة عشرة أيام لكنه يقصدها لتصحيح صومه وصلاته ثم بعد رباعية يعدل عنها! وحيث إنه توهم هكذا أشكل عليه بعدم إمكان تحقق القصد حينئذٍ.

مع أن المثال إنّما هو في القاصد حقيقة، ثم بعد صلاة رباعية يبدو له فيغير القصد أو يضطر إليه.

2- ومنها: لو وُقِف حوض لوضوء من ينوي الصلاة في مسجد معيّن، فلو قصد الصلاة في ذلك المسجد، فتوضأ، ثم حصل له البداء، فالوضوء صحيح، مع أن المصلحة إنّما كانت في القصد.

ولا يخفی أن هذا المثال أكثر إشكالاً من السابق، وذلك لوجود شيء من الخارج هناك ناقصاً وهو البقاء لمدة يوم مثلاً فيمکن تنزيله منزلة التام، وأما في هذا المثال فلا يوجد شيء ولو کان ناقصاً من العمل الخارجي أي من الصلاة.

فلابد من الجواب بأن ارتكاز الواقف يشمل هذا الشخص الذي توضأ بنية الصلاة في ذلك المكان لكنه طرأ طارئ منعه عن ذلك. أو يقال: إن قصده كذلك أوجب مصلحة في ذلك الوضوء فطلبه المولی لتحقق المصلحة في متعلق هذا الطلب.

الأمر الرابع: أنحاء المانعية

ثم إن كون المصلحة في المتعلّق لايُراد به العِليّة، بل المعنی كون تلك المصلحة تقتضي تعلّق الإرادة بذلك الشيء بحيث تؤثر لولا وجود المانع أو المزاحم(1).

ص: 274


1- نهاية الأفكار 1: 175.

ثم إن المانعية علی نحوين:

النحو الأول: في أصل تأثير المصلحة في الإرادة الفعلية، أو في مباديها من الرجحان والمحبوبية.

سواء كان المانع من العبد، كما لو حصل تزاحم بين تكليفين مع عدم قدرة العبد علی الجمع بينهما، أم كان من جهة المولی، كما لو لاحظ مصلحة أهم تزاحم مصلحة العمل، كمصلحة التسهيل، فقد يکون في شيء في نفسه مصلحة ملزمة للتكليف، لكن لتزاحمه مع مصلحة التسهيل التي هي أهم لا يأمر به المولی.

وحينئذٍ فلا إشكال في عدم الوجوب، وذلك لانتفاء سببه.

ويترتب علی هذا إنكار الملازمة، لأن مجرد إدراك العقل حسن الشيء أو قبحه، لا يوجب كشف حكم الشرع علی طبقه، من جهة احتمال مزاحمة تلك المصلحة بمصلحة أخری أهم في نظر الشارع، ولو فرض أنها مصلحة التسهيل.

اللهم إلاّ أن يُدّعی بناء العقلاء - وليس حكم العقل - علی أنهم لو أحرزوا المقتضي فإنهم يجرون علی طبقه من دون الاعتناء باحتمال وجود المانع أو المزاحم، حتی لو لم يكن أصل يقتضي عدم المانع أو المزاحم، فتأمل(1).

النحو الثاني: في تأثير المانع في مقام إبراز المولی، لا في نفس المصلحة، وهذا فيما لو لم يتمكن المولی من إظهار طلبه، تقية مثلاً.

ص: 275


1- نهاية الأفكار 1: 176.

وحيث علم بالملاك - وهي المصلحة الملزمة من غير مانع أو مزاحم - وجب العمل علی طبقه، وذلك لاستقلال العقل بلزوم الاتيان وعدم جواز الترك، كما لو غرق ابن المولی حيث يجب علی العبد إنقاذه لوجود الملاك حتی لو منع مانع عن أمر المولی إياه.

المقام الثاني: في نفي الجبر

ذهبت المعتزلة إلی التفويض، والأشاعرة إلی الجبر، والشيعة إلی الأمر بين الأمرين، والبحث في جهتين.

الجهة الأولی: الكلام إنما هو في معرفة فاعل الأفعال الصادرة عن الإنسان، هل هو نفسه استقلالاً، أو الله تعالی، أم لكل من الإنسان والله نصيب؟

1- التفويض: وهو أن الفاعل هو الإنسان محضاً، بلا مدخلية للربّ تعالی في تلك الأفعال.

ويرده: أن معنی هذا هو عدم حاجة المعلول إلی العلة، وهو باطل بالضرورة، فإن الإنسان يحتاج إلی إفاضة الوجود من الباري تعالی بشكل مستمر في وجوده وفي صفاته الدخيلة في أعماله، ومن المعلوم أن وجود الإنسان - بنفسه وبصفاته - علّة في أفعاله.

2- الجبر: وهو أن الفاعل هو الله تعالی محضاً، والإنسان هو المحلّ القابل لذلك العمل، ثم اصطلحوا لأعمال الإنسان ب-(الكسب) ومقصودهم هو أن الله يخلق أعمال الإنسان كلّما أرادها الإنسان، فيکون اقتران إرادة الإنسان مع خلق الله للعمل من باب الصدفة الدائمة.

ص: 276

ويرده: الفرق بالضرورة بين حركة المرتعش وحركة الأصابع الاختيارية، وهذا ما نجده وجداناً، مضافاً إلی قبح العقاب لو لم يكن العمل من الإنسان، وأيضاً فإن إرادة الإنسان هي من أعماله، فعلی مبناهم لابد من كونها فعل الله تعالی، فينتج أنه تعالی يخلق الإرادة فهل بإرادة أخری من الإنسان وهكذا... فيتسلسل، أم لا فلا يوجد كسب حينئذٍ.

3- الأمر بين الأمرين: بمعنی أن الإنسان هو الفاعل المباشر لفعله ولكن بما أفاض الله تعالی عليه - فيضاً مستمراً - الوجود والقدرة... الخ.

وهذا ما يدل عليه البديهة والوجدان، فالإنسان يطيع أو يعصي بواسطة هذه الأمور التي يفيضها الله تعالی عليه آناً فآناً.

الجهة الثانية: بعد إثبات كون الفاعل هو الإنسان - بطريقة الأمر بين الأمرين - لابد من إثبات كونه مختاراً في فعله، فقد يکون هناك فاعل بالاضطرار كالنار التي يصدر منها الإحراق بلا اختيار.

وهنا شبهة معروفة، لها مقدمتان:

1- أفعال الإنسان ممكنة، والممكن لا يتحقق ما لم يجب، ولذا قالوا (الشيء ما لم يجب لم يوجد)، فلابد من أن يکون صدور الفعل من الإنسان بالضرورة.

2- والضرورة تنافي الاختيار، لأنها تساوق الاضطرار.

وأجيب بأمور، منها:

أولاً: الإشكال علی المقدمة الثانية، وذلك بادعاء أن الضرورة لا تنافي الاختيار، وذلك عبر تفسير الاختيار بأنه (إن أراد فعل، وإن لم يرد لم

ص: 277

يفعل)، ومن المعلوم أن القضية الشرطية صادقة حتی لو لم يتحقق طرفيها أو اضطر إليهما، إذن تصدق هذه القضية الشرطية - التي هي الاختيار - حتی مع الاضطرار إلی الإرادة وإلی الفعل!!

وفيه: أن تفسير الاختيار بهذه القضية الشرطية حتی مع الاضطرار إلی طرفيها، محلّ تأمل واضح، لأنه ليس هذا معناه لا في اللغة ولا في العرف، كما أنه لا يحلّ مشكلة العقاب، فإذا كانت المعصية ناشئة عن الإرادة بالضرورة، والإرادة ناشئة عن مقدماتها بالضرورة، وهكذا إلی أن ينتهي الأمر إلی إرادة الرب تعالی، فتكون هذه المعصية كحركة المرتعش يقبح العقاب عليها.

وثانياً: بالإشکال علی المقدمة الأولی، بأن (الشيء ما لم يجب لم يوجد) ليس بكلي، وذلك بإنكار قانون العلية، والالتزام بأن الشيء يخرج عن الإمكان إلی الوجود بلا حاجة إلی توسيط الضرورة.

وفيه: أن هذا إثبات للصدفة، وليس إثبات للاختيار - حيث إن الصدفة غير الاختيار - ، فلو فرض محالاً غليان الماء بلا علة، فهذا معناه تحقق الغليان صدفة وليس معناه أن الغليان كان اختيارياً للماء(1).

وثالثاً: النقاش في المقدمة الثانية (الضرورة تنافي الاختيار)، وذلك بأن يقال إن الضرورة الناشئة عن الاختيار لا تخرج العمل عن كونه اختيارياً، فإن ما بالاختيار لا ينافي الاختيار.

بيانه: أن الاختيار هو صفة نفسانية، تتحقق بجعل هذه الصفة من الله تعالی

ص: 278


1- راجع بحوث في علم الأصول 1: 32.

في الإنسان، وهذه الصفة تجعل الأفعال تحت سيطرة الإنسان بحيث إن شاء فعل وإن شاء ترك، فإذا شاء الفعل مع عدم وجود الموانع تحققت العلة التامة للفعل، فيتحقق الفعل بالضرورة، وهذه الضرورة لا تنافي اختيارية الفعل من الأساس، وإن لم يشأ لم يتحقق الشيء بالضرورة لعدم تحقق علته.

ثم إن قولنا (له أن يفعل وله أن يترك) هو ذاتي لهذه الملكة، فلا تسلسل ولا جبر.

نعم الحكمة تقتضي أن تكون هذه الأعمال لمصلحة، ولو المصلحة في الكلي كرغيفي الجائع وطريقي الهارب، وبدون المصلحة تکون لغواً أو قبيحاً أو خطأ، لا محالاً.

فمن يستعمل هذه الصفة - عن طريق إعمال الاختيار - في المعصية، فقد ارتكب قبيحاً لا محالاً، وبهذا يتبين أن المصلحة أو المفسدة أو العلم بهما ليس العلة للأفعال ولا جزء علة، نعم قد تكون الداعي لإعمال هذه الصفة التي هي الاختيار.

وبذلك يتبين الإشكال علی رفع اليد عن إطلاق قوانين (العِليّة) في الأفعال الاختيارية، وعلی رفع اليد عن قاعدة (الشيء ما لم يجب لم يوجد).

وذلك لأنه لا يعقل وجود الممكن بلا علة، كما لا يعقل عدم وجوده مع تحقق العلة.

فتحصل أن إعمال الاختيار مع انتفاء الموانع هو علة لتحقق أفعال الإنسان، وحيث كان المنشأ هو الاختيار فهذه الضرورة لا تنافيه، لأنها في طوله لا في عرضه.

ثم إنه قيل: بأن الضابط في اختيارية الأفعال هو: كل فعل أو ترك يکون

ص: 279

لاعتقاد الإنسان بأن فيه المصلحة أو المفسدة دخل في تحققه.

وفيه: أن بعض الأفعال هي من اللغو أو العبث مع العلم بعدم المصلحة أو المفسدة فيها، ومع ذلك تكون أعمالاً اختيارية، فتأمل.

وقد بحثنا موضوع نفي الجبر تفصيلاً وإثبات الأمر بين الأمرين ومعناه في کتاب شرح أصول الکافي(1) فراجع.

ص: 280


1- شرح أصول الكافي 2: 501-528.

فصل في صيغة الأمر

اشارة

وفيه مباحث:

المبحث الأول: في مدلول صيغة الأمر

ذكروا معان متعددة لصيغة الأمر، كالطلب، والترجي، والتمني، والتهديد، والتسخير... الخ، كقوله تعالی: {وَأَقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ}(1)، و{اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ}(2) و{تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ}(3) و{كُونُواْ قِرَدَةً}...(4).

والظاهر أن للصيغة معنی واحدة، والمعاني المذكورة إنّما هي دواعي التلفظ بصيغة الأمر.

قيل(5): إن كون بعض هذه دواعي غير معقول، لأن الداعي هو العلة الغائية، وهي تتأخر عن الشيء في الخارج وتترتب عليه.

وبعض هذه الدواعي لا تترتب علی الأمر فلا يمكن أن تكون داعياً له، كالتمني والترجي والتهديد، فإنها تحصل بأسبابها الخاصة.

ص: 281


1- سورة البقرة، الآية: 43.
2- سورة فصلت، الآية: 40.
3- سورة الزمر، الآية: 8.
4- سورة البقرة، الآية: 65.
5- منتقی الأصول 1: 397.

وفيه تأمل: لأن الداعي هو إبراز التهديد والتمني والترجي ونحوها، وهذا يحصل بمجرد الإنشاء، أما ما في النفس من التمني ونحوه فله أسبابه الخاصة وهو لا يرتبط بالصيغة، وإنّما الصيغة تبرزه، وأما هذه فتترتب علی الصيغة.

فما هو ذلك المعنی؟ وقد ذکروا أموراً:

الأول: ما ذهب إليه المحقق الخراساني(1) من أن معنی الصيغة هو (إنشاء الطلب).

وأشكل عليه: بأن الصيغة هي إنشاء، فلا يعقل أن يکون معناها إنشاء، لأنه من إيجاد الموجود وهو تحصيل الحاصل المحال.

ووُجّه كلام المحقق الخراساني بتوجيهات:

منها: أن يکون مراده (الطلب الإنشائي)، كما وجهوا قول الشيخ الأعظم: «البيع إنشاء تمليك عين بمال»(2)، بأنه أراد: التمليك الإنشائي.

وأورد عليه(3): بأن الطلب الإنشائي هو بمعنی الطلب الموجود بوجوده الإنشائي، فلا يقبل الإنشاء ثانياً لامتناع إيجاد الموجود.

ويمكن الجواب: بأن المراد القابلية للإيجاد في عالم الإنشاء، فليس المراد الطلب الموجود فعلاً، بل الطلب القابل للوجود في ذلك العالم.

ومنها: أن يکون مراده أن الموضوع له والمستعمل فيه هو (الطلب) مع

ص: 282


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 299.
2- المکاسب 3: 11.
3- منتقی الأصول 1: 389.

تقييد العلقة الوضعية بأن يکون الاستعمال في مقام الإنشاء والإيجاد، لا في مقام الإخبار، وقد مرّ تفصيل الكلام فيه في المعنی الحرفي، وحينئذٍ فلا إشكال علی كلام المحقق الخراساني، إلاّ الإشكال المبنائي حيث ذهب إلی عدم الفرق بين المعنی الاسمي والمعنی الحرفي إلاّ بلحاظ الواضع، فساوی بين الاسم والحرف في المعنی - وهو الطلب - وفرّق بينهما بتقييد العلقة الوضعية.

الثاني: ما ذهب إليه المحقق العراقي(1)، وحاصله: أن الصيغة موضوعة للنسبة الطلبية، كغيرها من الحروف الموضوعة للنسب الخاصة.

وبيانه يتوقف على أمرين:

1- إن الصيغة موضوعة للنسبة الإرسالية الإيقاعية.

2- وأن دلالتها علی الطلب من جهة الملازمة.

أما الأول: فقد مرّ أن المشتقات تنحل إلی مادة وهيأة، وأن الهيأة لا تدل إلاّ علی النسبة الإرسالية، والمحركية بين المبدأ والفاعل، لكن دلالتها ليست على مفهوم هذه النسبة، لأنه معنی اسمي، بل دلالتها على مصداقه وصورة ذلك الربط الخاص الحاصل من تحريك المأمور به نحو العمل علی طبق الإرسال الخارجي.

وأما الثاني: فلأن المتكلم في مقام الجدّ بالإرسال، فينتقل الذهن من تلك النسبة الإرسالية إلی مفهوم الطلب.

وسبب هذا التلازم إنّما هو التلازم الخارجي بين منشأ الطلب وهو الإرادة

ص: 283


1- نهاية الأفكار 1: 178.

الخارجية، وبين منشأ النسبة وهو البعث والإرسال الخارجي، فاللفظ وجه للمفهوم، والمفهوم وجه لمنشأه، وبين المنشأين ملازمة في الخارج، وحينئذٍ ينتقل الذهن عند تصور أحد المفهومين إلی المفهوم الآخر.

الثالث: دعوی كون الهيأة موضوعة للنسبة الصدورية بين الفعل والمخاطَب، بداعي الطلب.

إذ استعمال الهيأة في النسبة الصدورية قد يکون بداعي الإخبار، كالجمل الخبرية، وقد يکون بداعي الإنشاء كالألفاظ الموضوعة لما يقبل الإيجاد مثل بعت، وقد لا يکون بداعي الإخبار أو الإنشاء بل بداعي آخر كالطلب لعدم قابلية الطلب للإيجاد، وبذلك يحصل الانبعاث نحو الفعل والتحرك إليه.

وسبب هذا التفصيل هو الإشكال في إنشائية بعض الصيغ - كصيغة التمني - حيث إنها ليست إخباراً، ولا معانيها قابلة للإيجاد بالألفاظ.

ويرد عليه: مضافاً إلی الإشكال في مبناه، أنا لا نری في الآمر أنه استعمل اللفظ في صدور الفعل من المخاطب بداعي الطلب، بل نراه استعمل الهيأة في مقام أسبق من مقام الصدور، وهو مقام التسبيب إلی الصدور، والبعث نحو الفعل.

وبعبارة أخری(1): الآمر لا يلاحظ الصدور من المخاطب بحيث يستعمل اللفظ فيها، بل لحاظه يتركز علی ما هو السبب في ذلك، وهو نسبة الطلب والبعث.

ص: 284


1- منتقی الأصول 1: 393.
المبحث الثاني: في مدلول الصيغة
اشارة

والکلام في مقامين:

المقام الأول: في دلالتها على الوجوب

هل تدل صيغة الأمر علی الطلب الإلزامي، أم تدل علی مطلق الطلب الجامع بين الإلزامي والاستحبابي؟

الظاهر دلالتها علی الوجوب عند الإطلاق، لكن الكلام في منشأ هذه الدلالة، هل هو الوضع أم الإطلاق أم حكم العقل.

أما القول بدلالتها علی الوجوب بالوضع فقد استدل له: بالتبادر، مؤيداً بأصالة تشابه الأزمان - أي أصالة عدم النقل - المقتضي لوضعها لخصوص الطلب الالزامي(1)، والظاهر أن هذا التبادر إنّما هو من حاق اللفظ بحيث يسبق الوجوب إلی الذهن ولو مع عدم تمامية مقدمات الحكمة.

ومع هذا التبادر لا حاجة للاستدلال بأصالة عدم القرينة لإثبات الوضع لخصوص الوجوب، وذلك لما مرّ من أن هذه الأصالة حجة في تشخيص المرادات لا في تعيين الأوضاع.

كما لا حاجة إلی الاستدلال بآية الحذر ونحوها - مما مرّ في بحث المادة - ، وذلك لما مرّ من أنه بعد العلم بالمراد لا يوجد أصل عقلائي يدل علی أن هذا المراد علی نحو الحقيقة.

وأشكل المحقق النائيني(2) علی دلالة الصيغة علی الوجوب، وذلك عبر

ص: 285


1- نهاية الأفكار 1: 180.
2- فوائد الأصول 1: 134.

بيان معنی الوجوب والاستحباب.

وحاصله: أن الوجوب ليس مركباً من (الإذن في الفعل مع المنع عن الترك)، ولا الاستحباب مركباً من (الإذن في الفعل مع الرخصة في الترك)، وذلك لوضوح بساطة مفهوم الوجوب والاستحباب.

وكذا ليس الطلب حقيقة مشككة، کي يكون الوجوب هو الطلب الشديد والاستحباب الطلب الضعيف، وذلك لأن الطلب غير قابل للشدة والضعف، حيث إن العرف لا يری اختلافاً في الطلب التكويني بين تصدي النفس وحملتها، بين شرب المضطر للماء وبين شرب غيره للماء للتبريد مثلاً، فما لم يصل إلی هذه الحملة ليس بطلب، وإن وصل كان طلباً من غير فرق، كما لا يری العرف اختلافاً في الطلب التشريعي فإنه لو قال: (اغتسل) كان طلباً، سواء في (اغتسل للجنابة)، أم في (اغتسل للجمعة).

وبعبارة أخری: الطلب دائر بين الوجود والعدم، فإن حصلت حملة النفس أو صدر التشريع كان طلباً، وإلاّ فلا من غير فرق بين الوجوب والاستحباب.

إذن: فالصيغة لم تستعمل إلاّ لايقاع النسبة بداعي البعث والتحريك، والدلالة علی الوجوب إنّما هو بحكم العقل، كما مرّ تفصيله في بحث المادة.

وأورد عليه(1): بإمكان وجود الفرق بين الوجوب والاستحباب ثبوتاً وإثباتاً:

ص: 286


1- منتقی الأصول 1: 401.

أما ثبوتاً ففي المبدأ والمنتهی:

أ) أما المبدأ: فالطلب إنّما هو باعتبار المصلحة، وهذه المصلحة تختلف، ولذا تختلف الإرادة تبعاً لها.

إن قلت: إن الشوق إذا لم يصل إلی حد تحريك العضلات لا يسمی إرادة؟

قلت: هذا في الإرادة التكوينية دون التشريعية.

ب) وأما في المنتهی: فإن الأمر ينشأ بداعي البعث والتحريك نحو الفعل، فيمکن أن يکون البعث حتمياً، أو غير حتمي، كما في التكوينيات حيث قد يکون دفع قوي أو خفيف.

وبعد ثبوت الاختلاف ثبوتاً، يمكن إرجاع اختلاف الوجوب والاستحباب إلی الوضع، لأن الواضع يضع الألفاظ المختلفة للمعاني المختلفة، ومع وجود الفرق لا إشكال في وضع مادة أو هيأة لتلك المعاني، فيکون الوجوب هو الطلب الناشئ عن الإرادة الحتمية، والاستحباب هو الطلب الناشئ عن الإرادة غير الحتمية، فيقال: إن صيغة الأمر وضعت للنسبة الطلبية الناشئة عن الإرادة الحتمية.

وأما إثباتاً: فإنه بعد علم العقل بأن الطلب قد يکون علی نحو الوجوب وقد يکون علی نحو الاستحباب، فلا حكم له، وحيث إنا نجد دلالة الصيغة علی الوجوب فلابّد من أن نرجع إلی الوضع أو الإطلاق.

أقول: لا فرق بين الإرادة التكوينية والتشريعية، من جهة أنه إذا لم يكن تصدي لا يکون إرادة ولا طلباً، وإنّما الفرق أن (المتصدی إليه) قد يکون

ص: 287

فعل نفس الطالب فيکون التصدي هو تحريك العضلات، وقد يکون فعل الغير فيکون التصدي هو إصدار الأمر.

فما لم يكن تصدي الفاعل ولا أمر الآمر لا يکون طلباً، وإذا حصل التصدي تحقق الطلب، فيصح ما ذكره المحقق النائيني من أن الطلب غير قابل للشدة ولا للضعف، وكذلك الإرادة، نعم المقدمات قد تتسم بالقوة والضعف كالحب ونحوه.

فالأولی الجواب: بأن الطلب وإن كان غير قابل للشدة والضعف، لكن مصاديقه متعددة، فإن كان في الفعل مصلحة ملزمة وكان البعث حتمياً كان ذلك المصداق إلزامياً، وإلاّ لم يكن إلزامياً من غير فرق في حقيقة المصداقين، وحينئذٍ فيمکن للواضع أن يضع الصيغة للمصاديق التي كانت في الفعل مصلحة إلزامية وأراد المستعمل البعث الحتمي، فتأمل.

المقام الثاني: في استعمال الصيغة في الوجوب والاستحباب معاً

لو فرض أنه قال: (اغتسل للجنابة والجمعة)، أو (صل الفريضة والنافلة)، فيرد إشكال أن أمرنا دائر بين ثلاثة احتمالات، وفي كلها المحذور:

1- عدم إمكان استعمال الصيغة في كلي الطلب، لأن الطلب جنس، ولابد في تحققه من أن يتحدَّد بفصل.

2- وعدم إمكان استعمال الصيغة في الطلب الوجوبي والطلب الاستحبابي معاً، لاستلزامه استعمال اللفظ في أكثر من معنی.

3- ولا إرادة أحدهما، لأنه خلف، إذ المفروض كون أحدهما واجباً والآخر مستحباً.

ص: 288

والجواب: أولاً: بوجود شق رابع لا محذور فيه، وبيانه بأحد وجهين:

الوجه الأول: إن المستعمل فيه واحد هو النسبة الإيقاعية، مع استفادة الوجوب من حكم العقل، ولا ربط له بالمستعمل فيه(1).

وقد مرّ الإشكال علی المبنی، أما مع قبول المبنی، فهذا البناء لا إشكال فيه.

الوجه الثاني: إن اللفظ استعمل في النسبة الطلبية، لكن المُنشأ إرادتان: حتمية منبثقة عن وجود المصلحة اللزومية، وغير حتمية ناشئة عن مصلحة غير لزومية، فالمستعمل فيه واحد وهو المعنی الموضوع له أي النسبة الطلبية، لكن منشأ الاستعمال متعدد(2).

إن قلت: إن هذا استعمال في غير الموضوع له وهو الوجوب.

قلت: علی فرض كونه مستعملاً في غير الموضوع له يکون مجازاً، وذلك لا محذور فيه.

وثانياً: بالإشكال علی الشق الأول، حيث إن عدم وجود الجنس بلا فصل إنّما هو في الخارج، بل لا يوجد في الخارج إلاّ الجزئيات الحقيقية، وأما في الذهن فيمکن تصوّر الكلي والحكم عليه، كقولنا: (الحيوان جسم نام متحرك بالإرادة)، فهنا (الحيوان) تمّ تصوّره من غير فصل، وكما لو جعل الكلي مقسماً... إلی غير ذلك من الأمثلة.

وثالثاً: بالإشكال في الشق الثاني...

ص: 289


1- فوائد الأصول 1: 136.
2- منتقی الأصول 1: 407.

أ) إمّا عن طريق الإشكال في المبنی، كما مرّ في بحث استعمال اللفظ في أكثر من معنی.

ب) وإما بالقول بأن العطف في قوة تكرار الصيغة، فأداة العطف تدل علی نسبة طلبية ثانية غير النسبة المدلول عليها بالصيغة.

المبحث الثالث: في دلالة الجملة الخبرية على الوجوب
اشارة

لا إشكال في جواز استعمال الجمل الخبرية في مقام إنشاء الطلب، إنّما الكلام في جهتين، في دلالتها علی الطلب، وفي دلالتها علی الوجوب، أو الرجحان الجامع بين الوجوب والاستحباب.

فهنا مطالب:

المطلب الأول: في كيفية دلالتها على الطلب

وقد ذكر لها وجوه متعددة، منها(1):

الوجه الأول: استعمالها في الطلب مجازاً.

وفيه: أن الذوق العرفي يشهد ببقائها علی معناها الخبري واستعمالها فيه، فلا مجازية في البين.

الوجه الثاني: استعمالها في معناها - وهو النسبة الايقاعية - بداعي الطلب، لا مطلقاً ليکون كذباً بل فيمن يريد الانقياد، فالداعي هو إفادة الملزوم - وهو الطلب والبعث - ، نظير الكنايات التي يراد ملزومها.

الوجه الثالث: استعمالها في معناها، لا بداعي الطلب، بل بداعي الإخبار، بأحد بيانيين:

ص: 290


1- نهاية الأفكار 1: 180-182؛ بحوث في علم الأصول 2: 55؛ الأصول 1: 197-199.

1- مع تقييد (المخبر عنه)، أي هو اخبار عن أمر مستقبلي، لكن لا من مطلق المكلَّفين بل من المنقادين منهم.

2- الإخبار بتحقق الفعل بلحاظ تحقق مقتضيه وعلته وهو الطلب، وهذا أمر شائع عند العقلاء، حيث يرتبون الآثار علی الأشياء - ومنها الإخبار - بمجرد تحقق المقتضي لها، وفيما نحن فيه إرادة المولی عِلّة لصدور الفعل من العبد، ولو بمعونة حكم عقله بوجوب الإطاعة.

إن قلت: إن إرادة المولی بوجودها الواقعي ليست سبباً - ولو بنحو الاقتضاء - لحكم العقل بوجوب الإطاعة، وإنّما السبب هو قطع العبد بإرادة المولی - ولو بالجهل المركب - ، فحين استعمال الجملة الخبرية لا يکون المكلف علی علم بالإرادة، فأين المصحح لإخبار المولی؟

قلت: إن إرادة الفعل واقعاً هي سبب لإعلام المكلّف، والإعلام سبب لحكم العقل بالإطاعة، وحكم العقل بالاطاعة سبب لتحقق الفعل خارجاً، فالإرادة الواقعية سبب لوجود العمل ولو بوسائط.

الوجه الرابع: إن هناك نسبة إيقاعية خارجية، وهو تُلازِم الوجود ولا تنفك عنه، كما أن هناك نسبة إيقاعية ذهنية، فإذا كان المتكلّم في مقام الجِدّ بهذا الإيقاع، فمقتضی جِدّه هو الملازمة مع إرادة الوجود من المكلّف، وحيث إن المتكلّم ليس يقصد الحكاية عن الواقع، فلابد من كونه بصدد الإنشاء لعدم الخلو عنهما.

وهذه الوجوه وإن كانت ممكنة كلّها - علی سبيل منع الخلو - إلاّ أن الأقرب هو الوجه الثالث حسب البيان الثاني.

ص: 291

المطلب الثاني: في دلالتها على الوجوب

ولا إشكال في ظهور الجملة الخبرية الواقعة في مقام الطلب علی الوجوب.

وأما ما ذهب إليه بعض من عدم دلالتها علی الوجوب استناداً إلی أنها مستعملة في غير معناها الحقيقي، مع كون المعاني المجازية متعددة، ولا مرجح للوجوب، لعدم أقوائيته.

ففيه إشكال، لشهادة الذوق العرفي السليم علی الظهور في الوجوب، مضافاً إلی ما مرّ من عدم المجازية بل استعمالها في معناها الحقيقي.

إنّما الكلام في منشأ هذا الظهور، وقد قيل فيه وجوه، منها:

أولاً: ما في الكفاية(1): من أنه إخبار عن وقوع المطلوب في مقام الطلب، إظهاراً بأنه لا يرضی إلاّ بوقوعه، فيکون ظهوره أقوی من ظهور الصيغة.

وأشكل عليه: بأن الإخبار بالوقوع لا يكشف إلاّ عن إرادة الوقوع، للمناسبة بينهما، ولا دلالة علی كون تلك الإرادة بنحو خاص بحيث لا يرضی بتركه.

وفيه: أن وقوع الفعل خارجاً من المنقاد يلازم الوجوب والطلب الحتمي، فإن الطلب غير الحتمي لا يستلزم وقوع الفعل خارجاً من المنقاد، إذ يمكن أن يفعل أو أن لا يفعل، حيث إن عدم الفعل لا ينافي الانقياد لجهة عدم الإلزام، فتبين أن الإلزام مستلزم لوقوع الفعل خارجاً ومناسب له

ص: 292


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 308.

بشدة(1).

ثانياً: ما قيل: من أن (الشيء ما لم يجب لم يوجد)، فإذا لم توجد علته التامة المقتضية لضرورة وجوده - لعدم انفكاك المعلول عن العلة - فلا يوجد الشيء. فإذا أخبر بوجود الشيء وتحققه كان ذلك كاشفاً عن ضرورة وجوده ولابدّيته، والمناسب لذلك المقام هو الوجوب التشريعي والطلب الإلزامي، فيدل الإخبار علی الوجوب بالملازمة.

وأشكل عليه(2): بأن هذا ليس أمراً عرفياً واضحاً، بل هو أمر دقيق لا يدركه كل أحد بالإدراك البدوي، فلا يمكن دعوی الظهور العرفي للّفظ استناداً إليه.

وفيه: أن عدم الالتفات ودقة المعنی لا تنافي ارتكازيته في أذهان العرف، نظير المعنی الحرفي الذي يفهمه أهل اللسان بارتكازهم ويستعملونه في كلامهم مع كون حقيقته من أدق الأمور.

والأولی إرجاع هذا الوجه بما ذكر في المطلب الأول الوجه الثالث ببيانه الثاني، وهو الذي رجحه المحقق العراقي.

المطلب الثالث: في أنواعها

الجملة الخبرية المستعملة في مقام الطلب علی قسمين:

الأول: ما كان معناها مستقبلاً، كالفعل المضارع، أو الماضي الذي انقلب معناه إلی المستقبل عبر أداة الشرط مثل (إذا كانت ملطخة بالعذرة أعاد

ص: 293


1- نهاية الدراية 1: 313.
2- نهاية الدراية 1: 313.

الوضوء)(1) فإن (أعاد) هنا معناه مستقبلي.

أما الماضي الذي بقي علی مضيّه فلا يستعمل في مقام الطلب، وذلك لعدم مناسبة الطلب الحقيقي للماضي الذي يدل علی تحقق الفعل ومضيّه، بل التكليف يناسب المستقبل لأنه طلب بإيجاد العمل.

الثاني: ما يستفاد منها وضع الفعل علی عهدة المكلّف وفي ذمته، كالجملة الاسمية في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}(2)، والفعلية الماضوية في قوله سبحانه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}(3).

وقيل في وجهه(4): أن العهدة والذمة إنّما هي وعاء الضمانات، وما يلزم تنفيذه عقلائياً وعرفاً، فيکون مناسباً مع الوجوب.

المبحث الرابع: في اقتضاء الصيغة المباشرة أو التسبيب أو الأعم
اشارة

إن الأفعال قد يکون لها ظهور - ولو بالقرينة العامة - علی المباشرة، كالصلاة، وقد يکون لها ظهور في التسبيب كالبناء، وقد لا يکون لها ظهور خاص، وحينئذٍ فما هو مقتضی إطلاق الصيغة إن كان لها إطلاق، وعلی فرض عدم وجود الإطلاق فهل هناك أصل عملي يقتضي أحدهما؟

ومرجع ذلك إلی أن الواجب هل هو أمر تخييري بين فعل الشخص مباشرة أم أن المطلوب هو القيام بالفعل ولو بالتسبيب إليه، أم كفاية تحقق

ص: 294


1- الكافي 3: 36.
2- سورة آل عمران، الآية: 97.
3- سورة البقرة، الآية: 183.
4- بحوث في علم الأصول 2: 59.

الفعل من الغير مطلقاً؟

فهنا مقامان:

المقام الأول: الأصل اللفظي

وتقريره من أحد وجهين:

الوجه الأول: إن إطلاق الهيأة - الدالة علی الوجوب - يقتضي بقاء الوجوب حتی لو فعل الغير، ولا إطلاق للمادة كي يقال إن إطلاقها يدل علی أن مورد التكليف هو الفعل من أيِّ شخص كان، وذلك لأن فعل الغير خارج عن اختيار المكلف، فلا يکون مأموراً به، فلا إطلاق للمادة، فيبقی إطلاق الهيأة سليماً عن المعارض.

ويرد عليه: أولاً: إن هذا القائل يذهب إلی أن استفادة الوجوب إنّما هو بحكم العقل، فلا معنی للقول بإطلاق الهيأة، کما أنه يذهب إلی إمكان الأمر بالجامع إذا كانت بعض مصاديقه ممكنة - حتی لو تعذرت مصاديق أخری - ، وفيما نحن فيه الجامع من (فعل الإنسان بنفسه وفعل الغير) ممكن، وإن كان فعل الغير - وهو أحد المصاديق - خارج عن القدرة. وإن کان لنا إشکال في کلا المبنيين.

وثانياً: إن فعل الغير قد يکون مقدوراً، فيما أمكن المكلَّف التسبيب إلی صدور الفعل من الغير، إما إلجاءً، أو عبر إيجاد الداعي، كاستئجاره للعمل.

الوجه الثاني: يتكوّن من دعويين: لزوم نسبة الفعل إلی المأمور، والتفصيل في المباشرة وعدم المباشرة.

أما الأولی: فإن النسبة الصدورية - وهي نسبة المبدأ إلی الفاعل - قد

ص: 295

تعلّق بها الأمر، حيث إن النسبة الإرسالية وهي مدلول الأمر تطرأ علی النسبة الصدورية.

ومع تحقق الفعل من غير نسبة وتسبيب للمكلّف، لا تصدق النسبة الفعلية - المأخوذة في متعلّق الأمر - فالأصل عدم السقوط حيث لا قرينة.

أما الثانية: فإن كان المقصود هو النسبة الفعلية الصدورية فقط، فالأصل عدم اشتراط المباشرة، وإن كان المقصود مضافاً إلی النسبة الفعلية، نسبة الحلول فيه - كما في العرض ومحلّه - فالأصل اشتراط المباشرة.

ويرد علی الأولی: أنه بناءً علی إطلاق المادة، فإن النسبة الصدورية لا تختص بالمخاطب.

اللهم إلاّ أن يقال: إن خطاب المكلّف عبر صيغة الأمر ظاهر في تعلّق التكليف به - مباشرة أو تسبيباً - ، فلا إطلاق للمادة أصلاً لعدم تمامية مقدمات الحكمة فيها، مع تماميتها في جانب الهيأة، فتأمل.

ويرد علی الثانية: أن معرفة المقصود هو قرينة، والعمل به إنّما هو عمل بالقرينة، لا بالإطلاق.

فتحصل أنه لا أصل لفظي إلاّ لو قلنا بإطلاق الهيأة من غير إطلاق للمادة.

ثم إن المحقق النائيني(1)، أشكل علی كفاية فعل الغير بوجهين، وبهما ينتفي الإطلاق:

الإشکال الأول: إن الاستنابة إن كانت طرفاً للوجوب التخييري، كان مقتضی ذلك سقوط الوجوب بمجرد الاستنابة، وهو باطل قطعاً، لعدم فراغ

ص: 296


1- أجود التقريرات 1: 147.

الذمة بمجرد الاستنابة قطعاً.

وأورد عليه(1): بأن طرف التخيير ليس هو الاستنابة، بل الطرف هو فعل الغير الصادر بتسبيب المكلّف، فلا يسقط التكليف بمجرد الاستنابة، لأن ما يحصل به الغرض ليس مشتركاً بين فعل المكلف وبين التسبيب إلی فعل غيره، بل بين فعل نفسه وفعل الغير.

الإشکال الثاني: إنه قام الإجماع علی جواز التبرع في كل ما تدخله النيابة، ولا معنی لكون فعل الغير من أطراف الوجوب التخييري.

وأورد عليه(2): أن الملاك هو حصول الغرض بوجود الفعل في الخارج بلا دخل لخصوصية فاعله، غاية الأمر أن المورد اقتضی توجيه الخطاب إلی مكلّف خاص، كما في وجوب تطهير الثوب للمکلَّف بالصلاة، وكما في القضاء عن الميت فإنه علی القول بصحة عمل المتبرع يسقط وجوب القضاء عن الولي، فيکون فعل غير المكلّف كفعله في تحصيل الغرض الداعي إلی وجوب ذلك الفعل علی المكلف، نظير الملاك في الوجوب التخييري بين فعلين لمكلّف واحد.

إن قلت: فعل الغير غير داخل تحت القدرة، فلا يصح أن يخاطب به بنحو التخيير بين فعله وفعل غيره.

قلت: لما كان المكلّف يعلم أن هذا التكليف يسقط عنه بفعل غيره، فحينئذٍ يخيّره العقل بين أن يفعله هو بنفسه وبين أن يتسبب إلی فعل غيره،

ص: 297


1- نهاية الأفكار 1: 205 (الهامش) عن بدائع الأفکار.
2- نهاية الأفكار 1: 205 (الهامش) عن بدائع الأفکار.

فإن فَعله الغير سقط التكليف عنه، وإلا بقي مخاطباً، حيث إن الخطاب متوجه إليه حين عدم فعل الغير، كما في الواجب التخييري حيث الخطاب بكل من الفعلين أو الأفعال متوجّه إلی المكلّف حين عدم الآخر.

المقام الثاني: الأصل العملي

وقد اختلف فيه بين البراءة والاحتياط.

القول الأول: البراءة وقد ذهب إليه المحقق العراقي(1)، وذلك لاختلاف ما نحن فيه عن مورد دوران الأمر بين التعيين والتخيير الذي يکون الأصل فيه الاحتياط، وبيانه:

أن منشأ الاحتياط في دوران الامر بين التعيين والتخيير هو العلم الإجمالي باشتغال ذمة المكلَّف، كما في دوران الأمر بين وجوب صلاة الظهر مطلقاً حتی لو صلّی الجمعة وبين وجوب الجمعة في حال ترك الظهر، فيلزم الاحتياط وذلك بفعل ما يحصل به اليقين بفراغ الذمة.

وأما في ما نحن فيه فالعلم الإجمالي غير موجود، وبيان ذلك عبر مقدمتين:

الأولى: الخطاب متوجِّه إلی المكلّف، تفصيلاً، ولا يکون عِدله فعل الغير، لخروجه عن قدرته واختياره.

الثانية: المكلّف يعلم بتوجه الخطاب إليه في حال ترك غيره، ولكنه يشك في توجه الخطاب إليه في حال فعل الغير، إذ حينئذٍ لا علم بالتكليف أصلاً بل شك فيه.

ص: 298


1- نهاية الأفكار 1: 206.

والنتيجة: هي جريان البراءة عن التكليف في حال أداء الغير للفعل.

وفيه تأمل: أما المبنی: فإن مورد دوران الأمر بين التعيين والتخيير ليس من موارد العلم الإجمالي، لأنه في العلم الإجمالي يعلم بوجود تكليف بين فعلين أو تركين، ولا يتمكّن من الموافقة القطعيّة إلاّ بارتكابهما معاً - فعلاً أو تركاً - ، وفي مورد الدوران بين التعيين والتخيير يتمكّن من الموافقة القطعية بارتكاب أحد الطرفين الذي وهو طرف التعيين.

وأما البناء: فإنه ما من شك في توجه الخطاب إلی المكلف - سواء فعل الغير أم لا - ، إنّما الكلام في أن فعل الغير هل هو مسقط للتكليف أم لا، لا أنه رافع للتكليف من أول الأمر.

القول الثاني: الاشتغال وقد ذهب إليه المحقق النائيني(1):

1- إمّا لأصالة الاشتغال، حيث إن اشتغال الذمة بالتكليف متيقن، وإنّما الشك بسقوطه بفعل الغير، والأصل يقتضي عدم كونه مسقطاً.

2- وإمّا لاستصحاب بقاء التكليف حتی مع فعل الغير.

إن قلت: إن المتيقن السابق هو وجوب الإتيان في ظرف عدم صدور الفعل من غيره، وأما وجوب الإتيان في ظرف صدوره من الغير فمشكوك من أول الأمر.

قلت: لا شك في توجه الخطاب إليه، إنّما الكلام في سقوط التكليف بفعل الغير بعد ثبوته في الذمة، كما مرّ.

القول الثالث: جريان استصحاب القدر الجامع بين الوجوب التام - أي

ص: 299


1- فوائد الأصول 1: 142-143؛ أجود التقريرات 1: 151.

وجوبه علی المكلف سواء فعله الغير أم لا - وبين الوجوب الناقص.

وأشكل عليه: بأن المورد من موارد الأقل والأكثر فتجري البراءة، مضافاً إلی عدم وجود الجامع، لعدم تعلق القدرة بفعل الغير.

وفيه تأمل: لأن مورد الأقل والأكثر الارتباطي هو وجوب شيء مركب مع الشك في وجوب أحد الأجزاء، فيکون أصل البراءة فيه حاكماً علی أصالة اشتغال الذمة، وأما الاستقلالي فهو معلومية وجوب الأقل، مع الشك في تعلق الوجوب بالزائد مستقلاً.

وليس ما نحن فيه منهما، لا من الارتباطي لوضوح عدم تعلق التكليف بالمركب من فعله وفعل غيره، ولا من الاستقلالي إذ هو من دوران الأمر بين متباينين، إذ مع الاتيان بنفسه لا شك في عدم وجوب فعل الغير، ومع اتيان الغير لا معلومية بوجوب فعل هذا الغير أصلاً، فتأمل.

المبحث الخامس: في اقتضاء الصيغة صدور الفعل عن اختيار أم عدمه

إذا شك في سقوط الواجب بالمصداق غير الاختياري من فعل المكلف نفسه، فهل هناك أصل لفظي أو عملي يدل علی السقوط بالاختياري فقط، أم بالأعم من الاختياري وغيره؟

أما الأصل العملي فيعرف مما مرّ في المبحث السابق.

وأما الأصل اللفظي، ففيه صورتان:

الأولی: إن كانت المادة مطلقة، كان الفعل غير الاختياري مصداقاً للواجب، فيثبت الإجزاء وسقوط الواجب به.

الثانية: إن كانت المادة مقيدة بالاختياري، فإطلاق الهيأة يقتضي عدم

ص: 300

سقوط التكليف بالفعل غير الاختياري، ومعنی إطلاق الهيأة هو وجوب الحصة الاختيارية مطلقاً حتی لو أتی بغيرها.

ويمكن إثبات تقييد المادة من طرق ثلاثة:

الطريق الأول: ما ذكره المحقق النائيني(1) من أن الأمر إنّما هو بغرض الباعثيّة - أي إيجاد الداعي في نفس المكلَّف - ، ومن الواضح استحالة التحريك نحو غير المقدور، إذن فالعقل يقيد إطلاق المادة وذلك بمقيد متصل لبّي.

والحاصل: إن الفعل غير الاختياري لا يمكن إيجاد الداعي إليه، فلا يکون متعلقاً للوجوب.

وأشكل عليه: بأن الجامع بين الحصة الاختيارية وغيرها، مقدور واختياري، فتعلّق الأمر بالجامع لا ينافي داعي التحريك والباعثيّة، فلو تحقق الفعل غير الاختياري تحقق المأمور به - وهو الجامع - ، فيسقط التكليف.

ولکن قد مرّ الإشکال في هذا، وأن الأمر بالجامع إنما هو بلحاظ حصصه الاختيارية.

الطريق الثاني: ما قيل: من أن الإطلاق والتقييد من العدم والملكة، فإذا استحال التقييد استحال الإطلاق. وفيما نحن فيه، لا إطلاق للمادة للحصة غير الاختيارية، حيث يستحيل تقييدها بذلك.

وأشكل عليه: بأن الإطلاق إنّما هو في مقابل التقييد بالحصة الاختيارية، وهو أمر ممكن، فيکون الإطلاق باعتبار الحصة الاختيارية ممكناً أيضاً.

ص: 301


1- فوائد الأصول 1: 143.

وفيه تأمل: لأن الإطلاق إنّما هو بالنسبة إلی الحصتين - حيث لا يخلو الأمر عنهما - فإذا استحال التقييد بأحدهما استحال الإطلاق أيضاً علی كل حال.

الطريق الثالث: إن إطلاق المادة للحصة غير الاختيارية لغو، لعدم إمكان الانبعاث نحوها.

وأشكل عليه: بأن فائدة الإطلاق هو أنه لو وقعت الحصة غير الاختيارية اتفاقاً، أمکن للمكلّف الاجتزاء بها.

وفيه تأمل: لأن الإطلاق إنّما يتم بمقدمات الحكمة، وهي غير ناظرة إلی الحالات الاتفاقية.

لكن قد يقال: بإمكان إثبات سقوط التكليف بالفعل غير الاختياري حتی لو قيدنا المادة بالفعل الاختياري، وذلك بأحد وجهين:

الوجه الأول: التمسك بعموميّة الملاك، وذلك عن طريق القول بإطلاق المادة للحصة غير الاختيارية باعتبار الملاك، حتی لو منعنا عن إطلاقها باعتبار الخطاب، نظير باب التزاحم، حيث يمكن إثبات الاجتزاء بالضد المهم إذا زاحمه الأهم، بناءً علی استحالة الترتب، عن طريق التمسك بإطلاق المادة بلحاظ الملاك.

ويرد عليه: أولاً: بأن الدلالة علی الملاك هي دلالة التزامية وهي تابعة للدلالة علی التكليف بالدلالة المطابقية - حيث إن كل تكليف لازمه وجود الملاك - ، وسقوط الدلالة المطابقية سواء بمتصل أم منفصل يوجب سقوط الدلالة الالتزامية ذاتاً وحجية.

ص: 302

إن قلت: في المنفصل تنعقد دلالة مطابقية فيتبعها الالتزامية، وحين مجيء المقيد المنفصل تسقط حجية الدلالة المطابقية فقط وتبقی الالتزامية - بذاتها وبحجيتها - .

قلت: الإرادة الجدّية حتی في المنفصل تكون في التقييد، فلا دلالة أصلاً للّازم - وهو الملاك - لا بالذات ولا بالحجية.

وثانياً: بأن التنظير غير سديد، للفرق بين المقامين من جهتين، حتی وإن قلنا بعدم تبعية الدلالة الالتزامية في الحجية للدلالة المطابقية في المنفصل:

الجهة الأولى: إن ما نحن فيه يکون المقيد لإطلاق المادة بلحاظ الخطاب، هو حكم العقل - بأن التكليف هو بداعي المحركية - وهذا مقيد متصل، فيمنع عن أصل انعقاد الإطلاق في المادة خطاباً، فلا ينعقد الإطلاق ملاكاً أيضاً.

بخلاف باب التزاحم، فإن سقوط الإطلاق في المادة إنّما هو باعتبار المعارضة، وهو مخصِّص منفصل.

الجهة الثانية: فيما نحن فيه انعقاد إطلاق المادة بلحاظ الملاك معارض مع إطلاق الهيأة.

بخلاف مورد التزاحم الذي يکون الأمر بالمهم ساقطاً علی كل حال فلا إطلاق له لا مادة ولا هيأة.

الوجه الثاني: إن الأصل اللفظي لا يقتضي السقوط ولا عدم السقوط، لأن الدليل الدال علی عدم إطلاق المادة - حسب المفروض - :

أ) إن كان متصلاً، فيبقی إطلاق الهيأة سليماً عن المعارض، لعدم انعقاد إطلاق للمادة أصلاً.

ص: 303

ب) وإن كان منفصلاً، انعقد ظهور للمادة، فتتعارض مع إطلاق الهيأة، فيتساقطان، ثم بعد قيام الدليل علی عدم إطلاق للمادة لا يرجع ظهور الهيأة أصلاً(1).

وفيه: أن الفرض الثاني لا وجه له أصلاً، لأن الدليل المقيد للمادة هو متصل دائماً حيث إنه حكم العقل، كما ذكرناه في صدر البحث عن المحقق النائيني - ، وحينئذٍ يبقی إطلاق الهيأة سليماً عن المعارض دائماً.

المبحث السادس: في سقوط التكليف بالفعل المحرّم وعدمه

ذهب المحقق النائيني(2) إلی عدم السقوط، مستدلاً لذلك: بأن السقوط لابد أن يکون لمكان اتحاد متعلق الأمر مع متعلّق النهي خارجاً، وإلاّ لم يعقل السقوط، وأنّ هذا الاتحاد بأحد نحوين:

1- أن تكون النسبة بين المتعلقين العموم والخصوص المطلق، فيندرج في باب النهي عن العبادة، ويخرج الفرد المحرّم عن سعة دائرة الأمر، ويتقيد الأمر بما عدا ذلك، ولا فرق في العبادة وغيرها.

2- أن تكون النسبة العموم من وجه، فيندرج في باب اجتماع الأمر والنهي.

فإن قلنا بالامتناع وتقديم النهي، فيکون من صغريات النهي عن العبادة.

وإن قلنا بالجواز، فإن الفرد المحرّم لا يصلح للتقريب، لعدم حسنه الفاعلي، وهذا الفرد وإن كان فيه ملاك الأمر إلاّ أنه لما يقع مبغوضاً عليه - لمجامعته

ص: 304


1- نهاية الأفكار 1: 207-208 (الهامش) عن بدائع الأفکار.
2- فوائد الأصول 1: 144.

للحرام - فلا يصلح لأن يتقرب به.

والحاصل: عدم سقوط الأمر مطلقاً بالفرد المحرم.

وأورد عليه بعدة إيرادات:

الأول: ما عن المحقق العراقي(1): من أن إطلاق الخطاب يكشف عن وجود مصلحة ملزمة في متعلقه مطلقاً - ولو كان بعض أفراده محرّماً - ، نعم غلبة ملاك النهي يوجب فعلية النهي وعدم فعلية ملاك الأمر، وهذا لا يستلزم انتفاء الملاك، وحينئذٍ فبفعل المحرّم يحصل الغرض الداعي لأصل الخطاب، فيسقط بانتفاء الموضوع، لا بالامتثال.

وفيه تأمل، يعلم مما سبق، وذلك لسقوط الدلالة الالتزامية تبعاً لسقوط الدلالة المطابقيّة.

الثاني: ما في المنتقی(2): من أن الفرد المحرّم يمتنع تعلق الوجوب به، فلا يکون من أفراد الواجب، ففرض تحريمه يساوق لفرض عدم فرديته للواجب، فيرجع الشك إلی إسقاط غير الواجب للوجوب، فيتمسك بالإطلاق في إثبات بقائه، من غير فرق بين الصور المختلفة التي ذكرها المحقق النائيني.

وذلك لأن القول بجواز اجتماع الأمر والنهي يرجع في الحقيقة إلی الالتزام بأن متعلّق الأمر غير متعلق النهي، فالمأمور به ليس محرّماً بل المحرّم غيره، فلا يکون من الإتيان بالفرد المحرم للمأمور به، لأن القائل بالجواز

ص: 305


1- نهاية الأفكار 1: 208 (الهامش) عن بدائع الأفکار.
2- منتقی الأصول 1: 508.

إنّما يقول به إذا كانا بعنوانين متباينين، وليس كذلك فيما نحن فيه.

الثالث: ما في البحوث(1): بأنه حتی لو اشترطنا الحسن الفاعلي، صح التمسك بإطلاق المادة بناءً علی جواز الاجتماع.

إذ القول بالجواز إذا کان علی أساس دعوی تعدد الوجود، فحينئذٍ ما يکون متعدد وجوداً يکون متعدداً إيجاداً وفاعلية، فيکون الحسن الفاعلي محفوظاً.

وإذا كان القول بالجواز علی أساس أن الوجود الواحد اجتمع فيه حسن وقبح وحرمة ووجوب من جهتين، فلتكن الفاعلية الواحدة أيضاً مجمعاً للحسن والقبح في وقت واحد من جهتين.

المبحث السابع: في التوصلي والتعبدي
اشارة

التعبدي: هو الواجب الذي أخذ قصد القربة فيه، والتوصلي: ما لا يشترط فيه قصد القربة.

وقصد القربة هي قصد أمر المولي، وقد يقال: إنها قصد الملاك، أو قصد المحبوبية في متعلق الأمر.

وهنا مطالب:

المطلب الأول: قصد الأمر

أما قصد الأمر فقد قيل باستحالة اشتراطه، وبيان وجه الإشکال من وجوه:

الإشکال الأول: الدور أو الخلف في مقام الأمر:

ص: 306


1- بحوث في علم الأصول 2: 71-72.

فإن الأمر يتوقف علی ثبوت متعلقه، وقصد الأمر يتوقف علی ثبوت الأمر، فأخذه في متعلق الأمر يستلزم فرض توقف الأمر عليه.

وبعبارة أخری: قصد الأمر يتوقف علی الأمر، والأمر يتوقف علی متعلقه، وحيث إن قصد الأمر من المتعلق فالأمر يتوقف علی قصد الأمر.

والحاصل: إن ما لا يكاد يتأتی إلاّ من قِبل الأمر لا يمكن أخذه في متعلق الأمر.

وأورد عليه: بأن الأمر لا يتوقف علی وجود متعلقه خارجاً، بل علی وجوده ذهناً، أي يتصور المولی المتعلق ثم يبعث نحوه، فإنه يمكن تصور قصد الأمر حتی لو لم يكن أمر أصلاً، وأما قصد الأمر فإنه يتوقف علی الأمر بوجوده الخارجي لا التصوري، فلا دور ولا خلف.

وبعبارة أخری: قصد الأمر بوجوده الخارجي يتوقف علی الأمر، والأمر يتوقف علی الوجود التصوري للمتعلق ومنه قصد الأمر.

الإشکال الثاني: الدور أو الخلف في مقام الامتثال:

فإن الأمر يتوقف علی القدرة علی متعلقه، إذ لا يصح الأمر مع عدم القدرة.

والقدرة علی قصد الأمر تتوقف علی الأمر، إذ لا يمكن قصد الأمر بدون وجود أمر.

وأورد عليه بما يمكن بيانه بنحوين:

النحو الأول(1): بأن شرطية القدرة علی نوعين:

1- الشرط الذي هو جزء العلة التامة.

ص: 307


1- منتقی الأصول 1: 471.

2- الشرط بما يکون رافعاً للغوية الفعل.

والأول دخيل في الوجود، والثاني ليس دخيلاً فيه بل رافع للّغوية، وهذا ليس في الرتبة السابقة علی المشروط، فلا يمتنع فرض تأخره عنه رتبة.

وشرطية القدرة علی المتعلق من قبيل الثاني، لأن القدرة مصححة للتكليف، وبدونها يکون التكليف لغواً لا محالاً ذاتياً، إذن لا مانع من أن تكون القدرة ناشئة عن نفس التكليف - لعدم تقدمها رتبة - وبذلك يرتفع اللغوية أيضاً.

وبعبارة أخری: القدرة المصححة للأمر إنّما هي القدرة علی المتعلق في ظرف الامتثال، لا في ظرف الأمر.

النحو الثاني(1): بأن القدرة المشروطة هي القدرة الشأنية - أي القدرة لو تعلق الأمر بها - لا القدرة الفعلية.

وفي المقام القدرة الشأنية حاصلة، إذ لو تعلق الأمر كان قصد الأمر مقدوراً، وهذه قضية صادقة حتی قبل تعلق الأمر، إذ القضية الشرطية صادقة حتی لو لم يتحقق طرفاها.

الإشکال الثالث: إن أخذ قصد الأمر في متعلق الأمر يستلزم عدم القدرة علی الاتيان بالفعل بقصد الأمر، وذلك من جهتين:

الجهة الأولی: لزوم تعلق الأمر بغير الاختياري - وهو قصد القربة - إذ الإرادة ليست بالاختيار، وإلاّ لزم التسلسل.

وفيه: أولاً: مبنیً: بأن الإرادة اختيارية، لكن اختياريتها بنفسها لا بإرادة

ص: 308


1- بحوث في علم الأصول 2: 75.

أخری، فلا تسلسل.

وثانياً: بناءً: بأن القصد - هنا - ليس بمعنی الإرادة، بل الداعي، أي الإتيان بالفعل بداعي حصول الموافقة والامتثال.

وثالثاً: نقضاً: بأن المستشكل يصحح أخذ القربة بحكم العقل - كما سيأتي - ، وكما أنه لا أمر شرعي بغير الاختياري، كذلك لا حكم للعقل فيه أيضاً.

الجهة الثانية: عدم القدرة علی الإتيان بالمأمور به، وذلك لأن المركب الارتباطي لا يمكن الإتيان بكل جزء منه مستقلاً، بل لا يمكن الامتثال إلاّ عبر الإتيان بالكل.

فلا يمكن الإتيان بذات الفعل وهو جزء من المركب، بداعي وجوب الكل وهو ذات الفعل مع قصد الأمر، بل لابد من الإتيان بالكل (أي الذات مع قصد الأمر) بداعي الأمر، وهذا يستلزم المحال، لأن الأمر لا يکون محركاً نحو محركية نفسه، وملاك الاستحالة هو استحالة عِليّة الشيء لعليّة نفسه.

وبعبارة أخری: الأمر يدعو الإنسان للإتيان بالمتعلق، وحيث إن المتعلق هو ذات الفعل مع قصد الأمر، فلازمه أن يدعو الأمر إلی قصد الأمر، وحيث إن هنا أمر واحد فيکون المعنی أن يدعو الأمر إلی داعوية نفسه وهو محال.

والسِرّ في ذلك(1) أن الشيء إنّما يکون داعياً للعمل إذا كان بنفسه أثراً مرغوباً أو لكونه ذا أثر مرغوب.

ص: 309


1- منتقی الأصول 1: 424.

والجزء الضمني ليست لموافقته أثر مرغوب - لا شرعاً ولا عقلاً - من تحصيل مثوبة أو دفع عقوبة أو حصول تقرب ونحوها من الآثار، إذ هذه الآثار إنّما تترتب علی الكل لا علی الجزء.

وهكذا الأمر، فإن حصول الأثر من الامتثال والثواب والطاعة إنّما يکون علی موافقة الأمر بالمركب، ولا تتعدد الطاعة والمعصية ولا الثواب والعقاب، وليس لموافقة الأمر بالجزء أيّ أثر - إذ موافقة الأمر بالكل شيء بسيط غير قابل للتعدد لأنه تنتزع الموافقة عن الاتيان بجميع الأجزاء والشرائط.

وحينئذٍ فإن كان (داعي امتثال الأمر) جزءاً من المتعلق كان الأمر مستلزماً لأن يکون الشيء داعياً لداعوية نفسه.

ويرد عليه: أن معنی داعوية الأمر الضمني هو داعوية الأمر الاستقلالي إلی جزء من أجزائه، وفيما نحن فيه الأمر بالمركب - وهو الذات مع داعي الأمر - يدعو إلی جزئه الذي هو الذات، فإذا أتی بالذات بداعي الأمر فقد تحقق الجزء الآخر من الواجب - وهو داعي الأمر - ، فيتحقق الامتثال(1).

وبعبارة أخری: إنه لو تحقق بعض الأجزاء من غير اختيار أو بقصد آخر، فإنه لا يسقط الأمر بالباقي، بتوهم أن المأمور به هو المركب فلا يمكن حينئذٍ الأمر بالمركب بسبب كون بعض أجزائه حاصلة فيکون الأمر بها في ضمن المركب تحصيلاً للحاصل. وإنّما لا يسقط الأمر لبقاء الغرض في تحقيق المركب، وذلك يدعو للأمر بالباقي.

ص: 310


1- کتاب القضاء للمحقق العراقي: 24؛ بحوث في علم الأصول 2: 76.

وفيما نحن فيه الأمر يدعو إلی جزء المتعلق وهو الذات بالأمر الضمني، فالعبد باتيانه بهذا الجزء مقارناً مع داعي الأمر محقِّق الجزء الآخر، فيحصل غرض المولی ومطلوبه.

الإشکال الرابع: الدور بلحاظ متعلق المتعلق(1)، وبيانه بمقدمتين:

المقدمة الأولى: إن الأحكام الشرعية لها متعلقات، وهي أفعال المكلف التي يکون الحكم الشرعي مقتضياً لإيجادها كالصلاة، أو زاجراً عنها كشرب الخمر.

ولها متعلّق المتعلّق - ويعبّر عنها بالموضوع - ، وهي أوصاف المكلّف، أو الأشياء الخارجية المرتبطة بالمتعلّق الأول، كالبلوغ والعقل، وكالوقت في الصلاة، وكالخمر في لا تشرب الخمر، وكالعقد في أوفوا بالعقود.

المقدمة الثانية: الأحكام الشرعية هي قضايا حقيقية، فإذا وجد الموضوع - وهو متعلق المتعلق - وجد الحكم، ففي الأمثلة الماضية يکون حقيقتها هكذا: (إذا وجد الوقت فصلّ)، و(إذا وجدت خمر فلا تشربها)، و(إذا وجد عقد ففِ به). فيکون الحكم تابعاً للموضوع - أي متعلق المتعلق - في الإنشاء والفعلية.

أما في مرحلة الإنشاء: فإن الجاعل يری إناطة مجعوله بتحقق الموضوع، فيری أن الحكم متأخر عن موضوعه.

وأما في مرحلة الفعلية: فلأنه لا فعلية للحكم مع عدم الموضوع.

بعد هاتين المقدمتين، نأتي إلی ما نحن فيه:

ص: 311


1- فوائد الأصول 1: 145-150.

فإذا أمر المولی بالفعل وكان قصد الأمر جزءاً منه، فيکون (الأمر) نفسه متعلقاً للمتعلق - أي موضوع للأمر - ، فقوله (صل مع قصد الأمر) يرجع إلی قوله (إن وجد أمر فصلّ مع قصده).

وهذا دور، أو فيه ملاك الدور، في ثلاثة عوالم:

1- عالم الإنشاء: لأن المولی يلاحظ (الأمر) متقدماً، ليکون موضوعاً - أي متعلق المتعلق - ويلاحظه متأخراً لأن قصد الأمر فرع الأمر نفسه، فهذا تناقض في اللحاظ.

2- عالم الفعلية: إذ فعلية الأمر سوف تكون متوقفة علی فعلية موضوعه، ومن المعلوم أن قصد الأمر جزء من الموضوع - حسب الفرض - ، فتحصل توقف فعلية الأمر علی فعلية الموضوع الذي جزؤه الأمر، وهذا دور.

3- عالم الامتثال: وذلك لأن قصد الامتثال متأخر بالطبع عن تمام الأجزاء، لأن الامتثال إنّما هو بإتيان الأجزاء، فالمكلف يقصد الامتثال عبر الإتيان بالأجزاء، فلابد أن يکون المكلف قاصداً للامتثال قبل قصد الامتثال - الذي هو أحد الأجزاء - وهو محال.

ويرد عليه: أولاً: الفرق بين شرط الوجوب وشرط الواجب، فالأول يکون مفروض الوجود حين إنشاء الحكم أو فعليته، دون الثاني إذ لا يتوقف الحكم عليه أصلاً.

وثانياً(1): بالإشكال في الكبری - وهي كل ما كان متعلق المتعلق يلزم أن يکون مفروض الوجود - ، إذ لا دليل علی هذه الكبری، لا في مرحلة

ص: 312


1- منتقی الأصول 1: 435.

الإنشاء، ولا في مرحلة الفعلية، ولا في مرحلة الامتثال.

بيانه: أن الحكم إما ينشأ من مصلحة في متعلقه أم لا...

وعلی الأول: فقد يکون متعلق المتعلّق مقوماً لاتصاف الفعل بالمصلحة، كالاستطاعة في الحج، ففي هذه الصورة يکون الحكم - الذي هو إرادة المولی للفعل - متأخراً، فيقال: إن وجدت الاستطاعة فحج.

وقد لا تكون المصلحة متوقفة علی متعلق المتعلق، لكن فعلية المصلحة تتوقف عليه، كالوضوء للصلاة، فهذا لاتتوقف إرادة المولی عليه، فيقال: تجب الصلاة عليك مطلقاً سواء توضأت أم لا.

وفيما نحن فيه، (الأمر) من النوع الثاني الذي لا تكون المصلحة متوقفة عليه، فإن الأمر ينشأ عن الإرادة، أو هو الإرادة نفسها، فهو متأخر عن القيود التي تكون دخيلة في اتصاف الفعل بالمصلحة، فلا تكون المصلحة متوقفة عليه، نعم تحققها خارجاً متوقف عليه كالوضوء الذي لا تتوقف مصلحة الصلاة عليه، لكن فعلية المصلحة تتوقف عليه.

وعلی الثاني: وهو في الأحكام التي لا تتبع المصلحة في المتعلّق كالأوامر الإمتحانية، فإن فرض وجود متعلق المتعلق وتأخر الأمر عنه إنّما يکون لغرض عقلائي في هذا الفرض، وإلاّ كان لغواً.

مثلاً: إيجاب الصلاة بالنسبة إلی الوقت، فإن فرض وجود الوقت له أثر وهو عدم صيرورة المكلف في عهدة التكليف قبل الوقت، فلا تجب المقدمات عقلاً لعدم الوجوب أصلاً.

وليس كذلك فرض وجود الأمر، فإنه لا أثر له، إذ لا يوجد زمان يکون المكلّف في عهدة التكليف قبل حصول الأمر.

ص: 313

والحاصل: إنه لا محذور من عدم لحاظ وجود الأمر حين الإنشاء.

كما لا محذور من عدم وجود الأمر حين الفعلية، بل لا إشكال في تأخر الأمر حين الفعلية.

وأما في مقام الامتثال فيمکن دفع الإشكال بتغاير قصد الأمر، فإن المأخوذ جزءاً من المتعلّق هو قصد الأمر الضمني المتعلق بذات الفعل، وإن المتفرع علی الأمر هو قصد امتثال الأمر الاستقلالي، فيقصد الامتثال بالأجزاء كما يقصد الامتثال بالمجموع، فلا محذور، فتأمل.

الإشکال الخامس: استلزام الخلف بأخذ قصد الأمر في متعلقه.

فعن المحقق العراقي(1): أن الخلف هو بتقدم اللحاظ وتأخره، فإن المولی يُلاحظ قصد الأمر متأخراً عن نفس الأمر، فإذا أخذ قصد الأمر في موضوع الأمر لزم أن يلاحظه متقدماً علی نفس الأمر، فيلزم تقدم المتأخر بحسب اللحاظ، وهذا محال، إذ يمتنع أن يری الشيء الواحد متقدماً ومتأخراً.

إن قلت: إن الموقوف عليه غير الموقوف عليه، لأن (الأمر الخارجي) هو الذي يتوقف علی قصد الأمر، وما يتوقف عليه قصد الأمر هو (العلم بالأمر) فلا خلف ولا دور، فيکون الملاحظ متقدماً هو العلم بالأمر، والملاحظ متأخراً هو الأمر الخارجي.

وذلك لأن قصد الأمر ليس معلولاً للأمر بوجوده الخارجي بل للأمر بوجوده العلمي، فإن القصد والداعوية تتحقق بعد الاطلاع علی الأمر لا

ص: 314


1- نهاية الأفكار 1: 188-189.

بمجرد وجوده الخارجي، كما أن التحرز عن الأخطار متفرع علی العلم بها، لا علی وجودها الواقعي مع الجهل بها.

قلت: إن قصد الأمر متوقف علی العلم به، إلاّ أن العلم مأخوذ بنحو الطريقية إلی الواقع، فلا يری المكلف نفسه إلاّ وهو منبعث عن الأمر الخارجي. وحينئذٍ يکون قصد الأمر متوقفاً علی العلم بالأمر الذي هو طريق إلی الواقع، فصار قصد الأمر متوقفاً علی الأمر بوجوده الواقعي، فعاد المحذور.

والجواب(1): إن ما يؤخذ في متعلق الأحكام هو المفاهيم والطبائع، لا المصاديق الخارجية، ومن المعلوم أن المفاهيم ينظر إليها بالاستقلال، لا أنها تلاحظ آلة، فتأمل.

فتحصل أنه لا محذور في اشتراط قصد القربة في التعبديات.

هذا كله بناءً علی تفسير قصد القربة بقصد الأمر.

المطلب الثاني: قصد المحبوبية أو الملاك

وقد يقال: إن قصد القربة هي (قصد المحبوبية)، أو (قصد الملاك)، فلا محذور إذ لم يؤخذ الأمر في متعلق نفسه، فقصد المحبوبية غير متفرع علی الأمر كي يلزم الدور، كما لا تلزم داعوية الشيء لداعوية نفسه، ولا تقدم اللحاظ وتأخره... إلی آخر المحذورات السابقة.

لكن قد يستشكل في ذلك بإشكالات ثبوتية وإثباتية:

الإشکال الأول: ما عن المحقق النائيني(2): من استحالة أخذ قصد

ص: 315


1- منتقی الأصول 1: 440.
2- فوائد الأصول 1: 151.

المحبوبية، لأن لازم ذلك كون المصلحة قائمة بالفعل المأتي به بداعي المصلحة، وذلك دور، إذ لا مصلحة في الفعل المجرد عن هذا القصد، وحينئذٍ يکون الاتيان بداعي المصلحة فرع قيام المصلحة به، الذي هو فرع أن يؤتی به بداعي المصلحة، وهذا إشكال ثبوتي.

ويرد عليه: ما مرّ من أن الأمر يدعو إلی جزئه الضمني - وهو الإتيان بالذات - فإذا أتی بهذا الجزء بداعي المحبوبية أو المصلحة تحقق الجزء الآخر أيضاً.

الإشکال الثاني: ما عن المحقق الخراساني(1)، وحاصله: أن اعتبار قصد المحبوبية أو الملاك، إما علی التعيين أو بالتخيير بينه وبين قصد الأمر.

والأول: يستلزم عدم صحة العمل بدون قصد المحبوبية أو الملاك، مع أنه لا إشكال في كفاية قصد الأمر في حصول الامتثال حتی لو لم يقصد المحبوبية، وهذا إشكال إثباتي.

والثاني: يستلزم أخذ داعي الأمر في متعلق الأمر - ولو كأحد طرفي التخيير - بأن يقول: صلّ بقصد الأمر أو بقصد المحبوبية، فتعود المحاذير السابقة، وهذا إشكال ثبوتي.

والجواب(2): أولاً: الالتزام بالتخيير، لكن لا علی نحو الوجوب التخييري ليلزم المحذور، بل بنحو التقييد، وذلك بأن يؤخذ عدم الإتيان بداعي الأمر قيداً لموضوع الوجوب المتعلق بقصد المحبوبية، كأن يأوّل هكذا: (صلّ بقصد

ص: 316


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 331.
2- منتقی الأصول 1: 452.

المحبوبية إن لم تأت بها بداعي الأمر)، والنتيجة هي نفس نتيجة الوجوب التخييري، لكن مع عدم الأمر بقصد الأمر ليلزم المحذور، نظير أن يقول (إن لم تسافر فتصدّق بدرهم)، حيث لم يتعلق الأمر بالسفر، لكن المكلف بالنتيجة يری نفسه مخيراً بين السفر وبين التصدّق.

وثانياً: عدم أخذ قصد المصلحة علی نحو التقييد كي لا يصح غيره، بل اعتبار قصد المصلحة مهملاً بالنسبة إلی قصد الأمر، فيرجع إلى حكم المولی بكفاية قصد المحبوبية، مضافاً إلی حكم العقل بكفاية قصد الأمر في تحقق الامتثال لتحقق غرض المولی، وبذلك يسقط الأمر فينتفي موضوع قصد المحبوبية.

الإشکال الثالث: ما ذكره المحقق الإصفهاني(1) - وهو إشكال إثباتي - بأن جواز الاقتصار على الإتيان بالفعل بداعي الأمر، يكشف عن تعلق الأمر بنفس الفعل، لا بالفعل بداعي حسنه، إذ لا يمكن إتيانه بداعي الأمر إلاّ مع تعلقه بذات الشيء، وإلا يلزم اجتماع داعيين على فعل واحد، أو يکون داعي الأمر من قبيل داعي الداعي، وكلاهما خلاف الفرض.

وفيه: أنه لا إشكال في عدم وجود مصلحة في ذات العمل مجرداً عن قصد القربة فلابد من انضمام قصد القربة - سواء أخذ ضمن المتعلّق أم دلّ العقل عليه - وحينئذٍ إما نأخذها عن طريق قصد الأمر - ولو لم يكن متعلقاً للأمر - أو عن طريق قصد المحبوبية مع كونها متعلقاً للأمر، فتأمل.

الإشكال الرابع: ما قيل من أن اتفاق العلماء علی كفاية إتيان العبادة

ص: 317


1- نهاية الدراية 1: 336.

بقصد أمرها يكشف عن عدم أخذ قصد المحبوبية أو الملاك في متعلق الأمر، إلاّ إذا قلنا بلزوم قصد الأمر منضماً إلی قصد المحبوبية أو الملاك، ولم يقل بذلك أحد.

وفيه: أن الاتفاق علی الاكتفاء بداعي الأمر لا يكشف عن تعلق الأمر بذات العمل، كيف وقد اشترطوا قصد الأمر.

مضافاً إلی أن القدماء وأكثر المتأخرين اشترطوا قصد القربة في العبادة من غير التطرق إلی الكيفية، فلم يوجد عين ولا أثر في كلمات أغلبهم عن قصد الأمر، وإنّما المتأخرون وضّحوا قصد القربة بأنها قصد الأمر، فيمکن بيانه بأنه قصد المحبوبية ونحو ذلك.

المطلب الثالث: دفع المحذور بتعدد الأمر

قد يقال: بإمکان دفع الإشكال بالالتزام بتعدّد الأمر، حيث إن الأول يتعلق بذات العمل، والثاني بقصد الأمر، عكس التوصلي حيث لا يوجد فيه إلاّ أمر واحد بذات الفعل.

وهذا المطلب ثمَّ بيانه بطرق مختلفة، منها:

الطريقة الأولی: ما في الكفاية(1): من أن الأمر الأول يتعلق بذات العمل فيکون أمراً مطلقاً، والأمر الثاني يکون مقيداً للأمر الأول.

وأورد عليه: بأنّه مع إتيان الأمر الأول بدون قصد الامتثال هل يسقط الأمر الأول أم لا؟

فعلی الأول: يلزم منه سقوط الأمر الثاني أيضاً لفوات موضوعه،

ص: 318


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 326.

وبالسقوط لا تلزم الإعادة، وذلك يكشف عن عدم صيرورة الفعل بالأمر الثاني تعبدياً، إذ لو كان تعبدياً لم يسقط بدون قصد القربة، وهذا ما لا يلتزم به أحد.

وعلی الثاني: يلزم منه عدم سقوط الأمر مع تحقق متعلقه، فإن عدم سقوط الأمر يكشف عن توقف حصول الغرض - الموجب للأمر الأول - علی الإتيان بالفعل بقصد القربة، وبدون قصد القربة لا يحصل الغرض فلا يسقط الأمر، وحينئذٍ فالعقل يحكم بلزوم (قصد الأمر)، لتحصيل الغرض، وهذا الحكم في كيفية إطاعة أمر المولی، فيکون الأمر الثاني إرشادياً لا مولوياً.

وعليه لم يمكن تصحيح أخذ القربة بالأمر الثاني - لكونه إرشادياً - ، بل تصحيح قصد القربة بحكم العقل.

والحاصل: إن سقوط الأمر الأول يكشف عن عدم العباديّة وهو خلاف الفرض، وعدم سقوطه إنّما هو بحكم العقل فيکون أخذ قصد القربة بحكم العقل لا بالأمر الثاني.

إن قلت: يسقط الأمر الأول بشخصه لتحقق متعلقه، إذ بقاؤه يکون طلباً للحاصل، لكن يتولد أمر آخر مثله، وذلك لبقاء الغرض.

قلت: إن كان الغرض علة لحصول الأمر، فبدونه لا يسقط الأمر، كما أن ما تحقق في الخارج ليس مقتضی الأمر حتی يکون بقاء الأمر طلباً للحاصل.

الطريقة الثانية: ما ذهب إليه المحقق النائيني(1)، والذي عبر عنه ب-(متمم

ص: 319


1- فوائد الأصول 1: 161-162.

الجعل).

وحاصله: أن الأمر الأول يتعلق بالطبيعة المهملة - اللا بشرط المقسمي - ، لا بالطبيعة المطلقة، لأنه إذا استحال التقييد بقصد الأمر استحال الإطلاق أيضاً، لتقابل الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة. فلابد من رفع إهمال الأمر الأول بالأمر الثاني، وهو ليس جعلاً جديداً بل هو متمم للجعل الأول، وذلك لعدم إمكان بقاء الإهمال الثبوتي، فلابد للمولی من رفع الإهمال بأمر ثان يبين فيه الإطلاق أو التقييد.

وهذا الكلام يجري في كل شيء لا يمكن أخذه في متعلق الأمر.

وأشكل عليه: أولاً: بإشكال مبنائي، بأن تقابلهما تقابل الضدين الذين لاثالث لهما، فإذا استحال التقييد ثبت الإطلاق، نظير جهلنا بذات الباري مع عدم إمكان علمنا به، حيث يدل علی أن تقابل العلم والجهل ليس من تقابل العدم والملكة.

وفيه: أن الإطلاق بقوة العموم، فمعناه شمول المطلق للمصاديق كلها، فإذا استحال فرد من الأفراد فلا معنی لشمول الإطلاق له، إذ يکون الإطلاق حينئذٍ بمعنی شمول المطلق لذلك الفرد المستحيل ولغيره.

كما أن مثال العلم والجهل أيضاً من العدم والملكة، قال الوالد في الأصول(1)، إن ذات الباري قابلة لكي يُعلم أو يُجهل بها، وإنّما يجهل بها الممكن لنقص فيه لا لعدم قابلية الذات، فتأمل.

وثانياً: بإشكال بنائي، بأن إهمال الأمر الأول غير معقول، كي يُرفع بالأمر

ص: 320


1- الأصول 1: 208.

الثاني، لأن الحكم له وجود في عالم الاعتبار، وكل موجود لابدّ من أن يکون متشخصاً في صقع وجوده ويستحيل أن يوجد مُردّداً، كما أن المشرِّع لا يعقل أن يکون متردداً أو جاهلاً بإنشائه حين الإنشاء، وذلك لأن الأمر من مجعولاته.

وفيه(1): أن المراد هو الإهمال المفهومي، أي إن مدلول الأمر الأول اسم جنس - أي ذات الطبيعة المهملة الجامعة بين المطلقة والمقيدة - حيث إن الإطلاق والتقييد حيثيتان لحاظيتان زائدتان علی ذات الطبيعة المهملة، وهذا المعنی معقول في نفسه، نعم الإهمال المصداقي والفرد المُردّد مستحيل في ذاته، لكنه غير مرتبط بكلام المحقق النائيني.

وثالثاً: بأن الطبيعة المهملة إما بقوة الإطلاق أو بقوة التقييد.

وعلی الأول: يرجع إلی كلام الكفاية، حيث يکون متعلق الأمر الأول مطلقاً.

وعلی الثاني: لا توجد حاجة إلی الأمر الثاني، لأن الأمر المهمل في قوة التقييد بقصد القربة ونحوها، فبالأمر الأول يتحقق تمام غرض المولی من غير حاجة إلی الأمر الثاني، فتأمل.

الطريقة الثالثة: ما ذهب إليه المحقق العراقي(2)، وحاصله: أن الجعل واحد ولكن المجعول متعدد، وذلك لأن الأمر قد يراد به السنخ - أي النوع - فقد تكون أفراد عرضية، مثل أكرم العالم، وقد تكون أفراد طولية، وهذا

ص: 321


1- بحوث في علم الأصول 2: 91.
2- مقالات الأصول 1: 238-240.

علی قسمين:

1- الطولية الذاتية، بأن يكون أحدهما معلولاً للآخر، مثل (إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة)(1)، فإن وجوب الطهور مقدّمي معلول لوجوب الصلاة.

2- الطولية لأجل إناطة موضوع أحدهما علی قيام الفرد الآخر من الحكم علی موضوع آخر، أي إذا قام حكم علی موضوع، تولّد منه موضوع حكم آخر، مثل (صدّق العادل) الشامل بإطلاقه الأفراد الطولية في الخبر بالواسطة، فإن موضوع هذا الإنشاء هو كل خبر يکون لمؤدّاه أثر، وذلك لا يستلزم الدور لأن الحجيّة التي تحقق الموضوع هي غير الحجيّة التي تتبع ذلك الموضوع، ولا مانع من أن يکون كل ذلك بجعل واحد وقد أخذ في موضوعه طبيعي الأثر الشرعي.

وهكذا فيما نحن فيه، فإنه يراد من إنشاء الأمر سنخ الوجوب، وهو موجود في فردين طوليين، فبالجعل الواحد يثبت أولاً أمر ضمني بذات الصلاة، وهذا لم يؤخذ في موضوعه أمر آخر، ثم ثانياً يکون أمر ضمني آخر بقصد الأمر، ويکون الأمر الأول محققاً لموضوعه، ولابأس بأن يکون كل ذلك بجعل واحد.

ويمكن أن يورد عليه: بالفرق بين المقامين، حيث إنه في الخبر مع الواسطة تكون هناك أحكاماً عديدة مستقلة، فيعقل أن يُحَقّق أحدها موضوع الآخر.

ص: 322


1- من لا يحضره الفقيه 1: 33.

وأما ما نحن فيه فالموضوع لكلا الأمرين واحد، فلا يعقل الطولية، لأن قوله (صلّ) - مثلاً - موضوعه الأجزاء والشرائط ومنها قصد القربة، فتأمل.

المطلب الرابع: مقتضى الأصل اللفظي والعملي
اشارة

لو شككنا في عبادية عمل أو توصليته، فهل هناك أصل يدل علی أحدهما؟

والبحث في ثلاثة مقامات: في الإطلاق اللفظي، والإطلاق المقامي، والأصل العملي.

المقام الأول: في الإطلاق اللفظي

والكلام يختلف بحسب المباني الثلاث...

1- فعلی مبنی جواز أخذ قصد القربة في متعلق الأمر، ودفع إشكال الدور والخلف... الخ، تكون قصد القربة كسائر الأجزاء والشرائط، فيمکن نفيها بالإطلاق حين الشك في دخلها.

2- وأما علی مبنی الاستحالة، والقول بأن الفرق بين التوصلي والتعبدي إنّما هو في الغرض الذي يتوقف علی قصد القربة وعدم توقفه، مع عدم الفرق في تعلق الأمر فيهما، فهنا إشكالات في التمسك بالإطلاق، منها:

الإشكال الأول: إنه لا يمكن ذلک، لأنه إذا استحال التقييد استحال الإطلاق أيضاً.

وأورد عليه المنتقی إيرادين(1):

أولاً: بأنه لا وقع لهذا التمسك بالإطلاق ولا بالإشكال عليه أصلاً، وذلك

ص: 323


1- منتقی الأصول 1: 455؛ بحوث في علم الأصول 2: 97.

لعدم الشك أصلاً - علی هذا المبنی - للعلم بعدم دخل قصد القربة في متعلق أمر المولی لاستحالته.

وأما دخل قصد القربة في حصول غرض المولی أو عدم حصوله فهذا لا يرتبط أصلاً باللفظ كي نبحث عن إطلاقه أو عدم إطلاقه، فإن الإطلاق يتكفل ثبوت الحكم لموضوعه لا أكثر، وموضوع الشك - وهو الدخل في الغرض - غير مرتبط بذلك أصلاً.

وثانياً: بأن استحالة الإطلاق عند استحالة التقييد علی قسمين:

القسم الأول: استحالة شمول الخطاب للمقيد، وهذا علی نوعين:

أ) الاستحالة في نفس ثبوت الحكم للمقيد، أي عدم صلاحية ذات المقيد لثبوت الحكم فيه، مثلاً تقييد الحكم بالعاجزين.

وهذا النوع من استحالة التقييد توجب استحالة الإطلاق - بمعنی شمول الحكم للمقيد أيضاً بالإطلاق - .

ب) الاستحالة ليست في ثبوت الحكم للمقيد، بل في نفس عملية التقييد أو في نتيجة التقييد، ومثال الأول الدور المذكور هنا، حيث لا محذور في المقيد وهو وجوب الصلاة مع قصد القربة، لكن نفس التقييد كان فيه المحذور، ومثال الثاني تقييد الخطاب بالكفار فقط فإن المقيد وهو تكليف الكفار لا محذور فيه، وإنّما المحذور في حصر الخطاب بهم فإن ذلك مستهجن وقبيح فيستحيل علی الحكيم.

وفي هذا النوع استحالة التقييد لا يوجب استحالة الإطلاق، لأن المحذور كان في نتيجة التقييد - وهو تخصيص الحكم بالمقيد فقط أو في عمليّة التقييد - وكلا المحذورين يرتفع بالإطلاق.

ص: 324

وحيث إن أخذ قصد القربة في العبادة من هذا النوع الثاني، فاستحالة التقييد بقصد القربة لا تستلزم استحالة الإطلاق، فتأمل.

القسم الثاني: استحالة نفي القيد، فيکون الخطاب مهملاً.

وعليه يکون استحالة التقييد بقصد القربة يستلزم استحالة الإطلاق، فتثبت التوصلية.

ويدل عليه: أن تقابل الإطلاق والتقييد هو تقابل العدم والملكة،حيث إن الإطلاق هو عدم التقييد في الموضع القابل للتقييد.

وأشكل عليه(1) بإنكار تقابل العدم والملكة بينهما، إذ ليست المسألة لغوية أو عرفية لنرجع إلی اللغة والعرف، كمعنی لفظ الأعمی، بل المسألة واقعية،ترتبط بسريان الطبيعة إلی تمام الأفراد وعدم السريان.

وحينئذٍ، فإن كان الإطلاق ذاتياً، بمعنی حصول الإطلاق مع عدم المانع الذي هو لحاظ قيد، فيقابله التقييد الذي هو لحاظ قيد، فيکون التقابل من السلب والإيجاب.

وإن كان الإطلاق لحاظياً - أي لحاظ شيء زائد علی أصل الطبيعة - ، والتقييد كذلك، فيکون الإطلاق من اللا بشرط القسمي، والتقييد من بشرط شيء، فيکونان أمرين وجوديين، فالتقابل بينهما من الضدين.

وأورد عليه(2) بأنه لا معنی لإطلاق شيء إلاّ عدم تقييده بشيء من شأنه التقييد به، فما يستحيل التقييد به يستحيل الإطلاق من جهته.

ص: 325


1- نهاية الدراية 1: 339 (الهامش)؛ بحوث في علم الأصول 2: 99.
2- نهاية الدراية 1: 337.

وفيه: أن الإطلاق تارة يكون جمع القيود، وتارة يكون بمعنى رفضها، وما ذكره يجري في الأول دون الثاني، وسيأتي توضيحه.

الإشكال الثاني ما ذكره المحقق الإصفهاني(1): بأن عدم التقييد لا يكشف عن عدم دخل قيد في الغرض، فلعلّه ممكن الدخل غير ممكن التقييد.

وأشكل عليه(2): بأنه إنّما يتمّ لو كان أخذ القيد ودخله في المتعلّق ممكناً ثبوتاً، لكن كان هناك مانع عن بيانه بالدليل. وليس ما نحن فيه كذلك، إذ أخذ القيد ثبوتاً ممتنع، فلا معنی لهذا الكلام الإثباتي.

ويرد عليه: بأنه لا إشكال عند المحقق الإصفهاني في عدم إمكان أخذ قصد القربة في متعلق الأمر، بل كلامه في دخله في الغرض أو عدم دخله، وحينئذٍ يکون عدم بيان الشارع مستنداً إلی استحالة أخذه في متعلق الأمر، وليس إلی عدم دخله في الغرض.

نعم لو كان أخذه ممكناً ومع ذلك لم يذكره الشارع، أمكن القول بعدم دخله في الغرض، أما مع استحالة أخذه فعدم بيانه لا يلازم عدم دخله في الغرض، فتأمل.

3- وأما علی مبنی تعدد الأمر:

أ) فإن قلنا بتعدد الأمر بحيث يکون الأول مطلقاً والثاني مقيداً، فلا محذور في التمسك بالإطلاق.

ص: 326


1- نهاية الدراية 1: 340.
2- منتقی الأصول 1: 459.

ب) وإن قلنا بمتمم الجعل، فيکون الجعل الأول غير تام، فلا معنی لإطلاقه أصلاً.

اللهم إلاّ أن يقال: إنه مع عدم العثور علی متمم الجعل، يمكن إثبات الإطلاق بمقدمات الحكمة، إذ عدم ذكر متمم الجعل بمعنی عدم نصب القرينة علی الخلاف.

ج) وإن قلنا بوحدة الجعل وتعدد المجعول، فلا إطلاق في البين، إذ تعدد المجعول لا يثبت إلاّ بوجوب الجامع بين ذات الفعل وقصد القربة، وحينئذٍ لا يکون شك في وجوب قصد القربة لكي ينفی بالإطلاق، ومع عدم دلالة الدليل علی وجوب الجامع بل دلالته علی وجوب الذات، فلا طريق لإثبات تعدد المجعول، بل يمكن ادعاء أن المجعول - وهو وجوب الذات - مطلق، فتأمل.

المقام الثاني: في الإطلاق المقامي

بأحد بيانين(1):

البيان الأول: إن ظاهر المولی أنه بصدد بيان تمام غرضه، فلو كان الأمر قاصراً عن بيان تمام غرضه لعدم إمكان أدائه به، لزم علی المولی تكميل البيان ولو بجملة خبرية، فإن لم يبين المولی ذلك انعقد إطلاق مقامي في كلامه لنفي دخل قصد القربة في الغرض.

البيان الثاني: لو كان قصد القربة دخيلاً في الغرض كان علی المولی بيانه - ولو بجملة خبرية - وإلاّ لزم نقض الغرض، ولكن بشرطين:

ص: 327


1- نهاية الأفكار 1: 199؛ بحوث في علم الأصول 2: 104.

أ) أن يکون قصد القربة مغفولاً عنه عند العرف.

ب) أن لا يکون الأصل الاشتغال.

أما لو كان العرف ملتفتاً إلی إمكانية اشتراط قصد القربة مع کون الأصل الاشتغال، فلا يلزم من عدم البيان نقض الغرض، وذلك لأن العبد لابد من أن يأتي بقصد القربة لاحتماله اشتراطها مع جريان الاشتغال في حقه.

والحاصل: إنه حينئذٍ وإن لم يصل المولی إلی غرضه عبر البيان لكنه يصل إليه عبر الأصل العملي وهو الاشتغال.

لكن يمكن أن يستشكل في الشرط الثاني، وذلك لأن موارد أصالة الاشتغال مختلف فيها بشدة، بل قد يتوهم جريان الإطلاق اللفظي لنفي اشتراط قصد القربة، فلذا على المولى البيان، نعم لو كانت أصالة الاشتغال في المورد متفق عليها مع عدم توهم جريان الإطلاق اللفظي فلا لزوم للبيان فيمكن نفي اشتراط قصد القربة بالإطلاق المقامي، فتأمل.

المقام الثالث: في الأصل العملي

فهل هو البراءة عن قصد القربة، أم الاشتغال بلزوم الإتيان بها؟

قيل: بأن الأصل الاشتغال حتی لو قلنا بالبراءة في الأقل والأكثر الارتباطيين، فما نحن فيه ليس من مصاديق تلك المسألة.

وبيان هذا عبر وجوه...

الوجه الأول: الفرق بين الأسباب والمسببات التكوينية حيث لا تجري فيها البراءة، لأن وضعها ليست من الشارع لكي يکون رفعها بيده، وبين الأسباب والمسببات الشرعية، والتي يتصرف فيها الشارع ويبين حدّها، فمع الشك فيها نرجع إلی البراءة لأنها أمور مجعولة له فيمکنه رفعها.

ص: 328

وفيما نحن فيه: إنّما الشك في دخل قصد القربة في الغرض، لا في المأمور به لعدم إمكان أخذ قصد القربة فيه، والدخل في الغرض أمر تكويني فلا يمكن رفعه بالبراءة.

ويرد عليه: أن عدم بيان الشارع - ولو بجملة خبرية - يكشف عن عدم دخالته في الغرض، إذ لو كان دخيلاً فيه لكان عدم بيانه نقضاً للغرض.

فصحيح أن رفعه ووضعه ليس بيده، لكنه كان يمكنه بيان دخالته في الغرض فيکون عدم بيانه نقضاً للغرض.

الوجه الثاني: التفريق بين الموردين بواسطة البراءة العقلية والشرعية.

ففي كلتا المسألتين لا تجري العقلية إذ لابد من الجزم بتحصيل غرض المولی، وهو لا يحصل إلاّ بالأكثر، وأما البراءة الشرعية فتجري في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين، لأن وضعها ورفعها بيد المولی، فإطلاق متعلق الأمر يكشف عن حصول الغرض به، ولا تجري البراءة الشرعية فيما نحن فيه لأن وضع قصد القربة لم يكن بيده فلا يکون رفعه بيده أيضاً.

والحاصل: إنه في الأقل والأكثر الارتباطيين تكون البراءة الشرعية واردة علی البراءة العقلية بإزالة موضوعها، وأما في قصد القربة فلا تجري البراءة الشرعية ولا العقلية، فلابد من الاحتياط.

ويرد عليه: أن عدم البيان - ولو بجملة خبرية - يكشف عن عدم دخل قصد القربة في الغرض، ومع الجزم بعدم دخالة قصد القربة في الغرض تجري البراءة العقلية بلا إشكال.

الوجه الثالث: التفريق بين الموردين بالشك بالتكليف والمكلف به.

ص: 329

ففي الأقل والأكثر الارتباطيين: يمكن الذهاب إلی البراءة وذلك عبر القول بانحلال العلم الإجمالي ورجوع الشك إلی الشك في التكليف بذلك الجزء أو الشرط، فتجري البراءة.

وأما في اشتراط قصد القربة: فلا شك في التكليف، حيث نعلم بعدم أخذ قصد القربة في متعلق الأمر، بل الشك في مقام امتثال التكليف، فهل التكليف المعلوم يسقط بدون قصد القربة أم لابد من الإتيان بها، وسبب هذا الشك هو عدم العلم بدخالة قصد القربة في الغرض، حيث إن الأمر معلول للغرض، ولا يسقط المعلول إلاّ بسقوط غرضه.

و يرد عليه: أن الشك بسقوط التكليف وعدم سقوطه يزول بعلمنا بعدم دخالة قصد القربة في الغرض، لما مرّ من أن عدم بيانه يكشف عن عدم دخالته في الغرض، فتأمل.

المطلب الخامس: أصالة التعبدية

وقد يقال: إنه مع الشك في التوصلية والتعبدية، فالأصل التعبدية، وقد يستدل بأمور منها:

الدليل الأول: قوله تعالی: {وَمَا أُمِرُواْ إِلَّا لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}(1) حيث دلت الآية علی حصر الأوامر في العبادية، وأما التوصليات فهي خرجت بدليل خاص مخصّص للآية.

والجواب: أولاً: إن الحصر إضافي، بقرينة أن الخطاب للكفار - كما دلت عليه الآيات السابقة - فالمعنی لم يؤمروا بالتوحيد إلاّ ليعبدوا الله وحده

ص: 330


1- سورة البينة، الآية: 5.

دون الأوثان.

وثانياً: إن ظاهر الآية هو حصر العبادة في الإخلاص، لا حصر الأوامر في العبادة، وذلك لأن المستثنی قد يکون مطلقاً وقد يکون مقيداً...

أ) فإذا لم يكن مقيداً فظاهره حصر المستثنی منه في المستثنی، كما لو قال: (لم آمرك إلاّ بالسفر) حيث ظاهره حصر جميع الأوامر في السفر، فلا أمر له غيره.

ب) وإذا كان مقيداً فظاهره حصر المستثنی في القيد، كما لو قال: (لم آمرك إلاّ بسفر الطاعة)، حيث ظاهره حصر الأمر بالسفر في سفر الطاعة، لا حصر جميع أوامره بسفر الطاعة(1).

وثالثاً: استلزامه تخصيص الأكثر، حيث إن أكثر الأوامر توصليات.

وفيه نظر: مبنیً بعدم الإشكال في تخصيص الأكثر إذا لم يستلزم الاستهجان، كما لو أراد بيان حكم المستثنی وحكم المستثنی منه فقال: (أكرم الشعراء إلاّ فسّاقهم)، وكان فساقهم أكثر، وكما إذا كان المستثنی أكثر في الفرد لا في النوع مثل: (أكرم العلماء إلاّ النحاة)، وكان أكثر أفراد العلماء النحاة، لكن كانت الأنواع الأخری كثيرة وإن كانت أفرادها قليلة، وكما في العكس، والعبادات أكثر أفراداً كأفراد الصلاة والصوم... الخ.

وبناءً: بأنه بضميمة المستحبات تكون العبادات أكثر(2).

الدليل الثاني: الروايات الدالة علی أن الأعمال بالنيات وإنّما لامرءٍ ما

ص: 331


1- راجع منتقی الأصول 1: 466.
2- فوائد الأصول 1: 157.

نوی(1).

و فيه: أن الروايات في بيان النتيجة - كالثواب - ، لا علی توقف صحة العمل علی قصد القربة.

وللشيخ الأعظم تفصيل في الجواب(2): بين ما أريد نفي العمل تكويناً، أو نفي صحة العمل، أو نفي نسبة الفعل إلی الفاعل، والأول يستلزم الكذب، والثاني يستلزم تخصيص الأكثر المستهجن، والثالث أجنبي عن قصد القربة.

والحاصل: عدم ارتباط هذه الروايات باشتراط قصد القربة.

المبحث الثامن: دلالة الأمر على الوجوب النفسي التعييني العيني

أما الوجوب النفسي والغيري - فالنفسي: هو ما وجب لنفسه من غير ارتباط وجوبه بوجوب آخر، والغيري: ما وجب لغيره بأن كان مقدمة له - ، فالإطلاق يقتضي النفسيّة.

وأما الوجوب التعييني والتخييري، فالإطلاق يقتضي التعيينية، أي الوجوب علی كل حال سواء أتی بمحتمل البدلية أم لا، ولا فرق في ذلك علی مختلف المباني في الوجوب التخييري(3).

1- سواء قلنا: إنه الإيجاب مشروطاً بترك الغير - فيکون من الواجب المشروط - ، فإن الإطلاق يقتضي عدم الاشتراط.

2- أم قلنا: بأنه إيجاب الجامع بين الفعلين أم الأفعال، فإن المادة مطلقة

ص: 332


1- راجع تهذيب الأحكام 1: 83.
2- مطارح الأنظار 1: 316-317.
3- راجع بحوث في علم الأصول 2: 114.

وظاهرة في أن الأمر تعلّق بنفس هذا العنوان لا بالجامع، كما أن الهيأة لها إطلاق أحوالي أي حتی لو تحقق الآخر، ولازم هذا التعيينية.

3- أم قلنا: بأنه وجوب ضعيف مشوب بجواز الترك إلی بدل، حيث إنه واسطة بين الوجوب والاستحباب، فإن الإطلاق يقتضي بقاء الوجوب حتی مع الإتيان بمحتمل البدلية.

وأمّا الوجوب العيني والكفائي، فكذلك الإطلاق يقتضي العينية، أي سواء أتی الآخر به أم لم يأت.

والحاصل: إن الإطلاق أيضاً يقتضي بأن الواجب ليس متوقفاً علی مقدمة، ولا أنه جزء من مركب، ولا توقفه علی شخص آخر بأن يکون المكلف منضماً إلی شخص آخر(1).

ثم لا يخفی أنه في صيغة الأمر يتمسك بالإطلاق اللفظي، لكن إن استفيد الوجوب من دليل لبّي فلابد من التمسك بالإطلاق المقامي، أو بالأصل العملي بالاشتغال، فتأمل.

وكما تجري البحوث في الواجب كذلك في المستحب والحرام والمكروه.

المبحث التاسع: الأمر عقيب الحظر

في مدلول الأمر عقيب الحظر أو توهمه، ويلحق به النهي عقيب الوجوب أو توهمه.

ولابد من الكلام في نقاط:

ص: 333


1- الأصول 1: 212.

النقطة الأولی: في تنقيح محل البحث، وهو ما إذا لم يكن عموم أو إطلاق يشمل ما بعد النهي، بحيث يکون النهي كالتخصيص أو التقييد(1)، وما إذا كان متعلق الأمر عين متعلق النهي، لا العموم والخصوص، وإلا فلا إشكال في التخصيص(2).

النقطة الثانية: لا إشكال في عدم دلالة الأمر حينئذٍ علی الوجوب، وذلك لقيام القرينة النوعية علی عدم إرادته، وهذه القرينة ليست قرينة المجازية، إذ لا مجازية في الصيغة، بل قد يقال: إنّ الإرادة الاستعمالية - التي هي ملاك الحقيقة والمجاز - تعلقت بنفس المعنی الموضوع له، وهو النسبة الإرسالية، ولكن لا توجد إرادة جدية فلا يكشف الأمر عن إرادة هذه النسبة جداً، بل القرينة تدل علی عدم إرادته، وهكذا علی مبنی الدلالة علی الوجوب بالإطلاق حيث لم تتم مقدمات الحكمة لوجود القرينة علی الخلاف وهذا لا يستلزم المجازية، وكذلك علی مبنی الدلالة العقلية إذ ذاك لا يرتبط باللفظ ووضعه، فقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ}(3) ليس مجازاً البتة، فتأمل.

وأما احتمال الدلالة علی الوجوب، بزعم أن الأمر عقيب الحظر أو توهمه من صغريات الصيغة وهي تدل علی الوجوب، وهكذا توهم زوال علة النهي فلم يبق وجه لعدم الوجوب!!

ففيهما: عدم ظهور الصيغة في الوجوب، لوجود القرينة النوعية.

ص: 334


1- الأصول 1: 215.
2- نهاية الأفكار 1: 209.
3- سورة المائدة، الآية: 2.

النقطة الثالثة: بعد عدم الدلالة علی الوجوب، فما هو مدلول الصيغة؟

1- فقد يقال: بالإباحة وضعاً، للتبادر.

وفيه: عدم فائدة التبادر إذا كان مستنداً علی القرينة.

2- أو بالإباحة إما بالقرينة، أو لعدم تمامية مقدمات الحكمة لوجود القرينة علی الخلاف، على اختلاف المباني في كيفية دلالة الصيغة على الوجوب.

وقد يقال: إن الإباحة بالمعنی الأخص لها قيد عدمي فتثبت بالإطلاق، فتأمل.

3- أو الحكم السابق علی التحريم - أياً كان - لزوال علة النهي فيرجع الأمر إلی ما كان عليه.

وفيه: أنه لو لم يكن عموم أو إطلاق فلا وجه للرجوع إلی الحكم السابق، لعدم دليل ولا أصل من استصحاب أو غيره.

4- الإجمال، إذ لا موجب لظهورها في سائر الأحكام بعد عدم ظهورها في الوجوب.

وفيه: أن القرينة النوعية العامة رافعة للإجمال ودالة علی الإباحة.

النقطة الرابعة: في الأمر بعد الحظر في العبادات.

يمكن استفادة خصوصية الاستحباب(1)، لا من جهة ظهورالاستحباب - بعد ارتفاع الظهور في الوجوب - بل لمناسبة خصوصية المورد.

والدليل: هو أن الأمر كما يدل علی الوجوب، يدل علی محبوبية المتعلّق

ص: 335


1- راجع نهاية الأفكار 1: 210.

ورجحانه، وبعد ارتفاع الظهور في الوجوب من جهة وقوعه عقيب الحظر تبقی المحبوبية.

وفيه: أولاً: هذا عام لكل أمر تبعه حظر ثم أمر آخر رافع للحظر، وليس خاصاً بالعبادات.

وثانياً: إن جهة إثبات الاستحباب هو أنه لا معنی لعبادة غير راجحة - وجوباً أو استحباباً - فلا تخلو العبادات منهما، كما يظهر من مجمل الأدلة.

المبحث العاشر: في المرّة والتكرار
اشارة

هل صيغة الأمر تقتضي المرّة أو التكرار، أو لا تقتضي إلاّ صرف وجود الطبيعة؟

وهنا أمور:

الأمر الأول: المراد من المرة والتكرار

وفيه ثلاثة وجوه:

1- الفرد والأفراد.

2- الوجود الواحد والوجودات.

والفرق بينهما(1) هو أنه علی الأول يکون الفرد بخصوصية الفردية تحت الطلب، بخلافه علی الثاني فإن مطلوبية الفرد إنّما هي لكونه مصداقاً للطبيعي فتكون الخصوصية الفردية خارجاً عن دائرة الطلب.

وتظهر الثمرة في مقام الامتثال حيث إنه على الأول يقع الامتثال بالخصوصية، دون الثاني حيث لا يقع الامتثال بالخصوصية بل ربّما صدق

ص: 336


1- نهاية الأفكار 1: 211.

التشريع مع قصد الخصوصية، فتأمل.

3- الدفعة والدفعات.

ويظهر الفرق بين هذا وبين الوجهين الأولين في أنه:

أ) علی القول بالمرة، فعلی تفسيرها بالدفعة فإنه يتحقق الإمتثال بالمتعدد إذا جاء به دفعة واحدة.

ب) وعلی القول بالتكرار، فعلی تفسيره بالأفراد أو الوجودات يکفي المتعدد دفعة، وأما علی تفسيره بالدفعات فلا يکفي.

ثم إنه لو كان المراد الوجه الأول لكان اللازم دمج هذا البحث في المسألة الأخری الآتية في أن (الأمر يدل علی الطبيعة أو الفرد)، بأن يقال: هل الأمر يدل علی الطبيعة أم الفرد، وعلی فرض دلالته علی الفرد فهل يدل علی فرد واحد أم الأفراد.

فالأظهر هو أن مرادهم المعنی الثاني أو الثالث.

الأمر الثاني: الدلالة على الطبيعة

الظاهر دلالة الأمر علی الطبيعة - لا المرة ولا التكرار - وذلك لأنه لا وضع ولا إطلاق لأحدهما...

1- أما عدم الوضع لأحدهما: فلأنّ صيغة الأمر مركبة من المادة والهيأة، أما الهيأة فلا تدل إلاّ علی النسبة الإرسالية البعثية - كما مر سابقاً - ، وأما المادة فهي دالة علی المهية الصرفة وهي ذات الطبيعة، ولا يوجد شيء دال علی المرة أو التكرار.

هذا مضافاً إلی أن الوضع لأحدهما يستلزم المجاز في الآخر، وهذا لا يمكن الالتزام به.

ص: 337

2- وأما الإطلاق: فقد يقال: إن إطلاق الصيغة يدل علی البدلية، ففي نحو (أكرم العالم) يکفي إكرام كل واحد من العلماء مرّة واحدة وبنوع واحد من الإكرام، وذلك لتحقق الطبيعة بذلك، فلو أراد المولی زائداً علی ذلك كان عليه البيان.

نعم الموضوع وهو (العالم) إطلاقه دال علی الشمول، فلو أراد المولی بعض العلماء كان عليه نصب القرينة.

والحاصل: إن الإطلاق بلحاظ المتعلّق بدلي، وبلحاظ الموضوع شمولي.

والوجه في ذلك: الفهم العرفي، وهو حجة، لحجية الظواهر، فلا يرد إشكال أن المطلق يدل علی ذات الطبيعة من دون أخذ قيد زائد معها، فمن أين الفرق؟

وبيان الفارق العرفي، أو تشريح المرتكز العرفي(1): أن الموضوع يلحظ مفروض الوجود في المرتبة السابقة علی الحكم، وحيث إن الموجود جزئي - حيث إن الشيء ما لم يتشخص لم يوجد - فلا محالة يتكرر الموضوع بتكرر الأفراد.

وليس المتعلق كذلك - أي لا يفرض وجوده قبل الحكم - ولولا ذلك لكانت الأوامر والنواهي طلباً للحاصل، مثلاً طلب إيجاد الإكرام المفروض وجوده، ولكان في الأخبار قضية ضرورية بشرط المحمول مثلاً (العالم عادل) يکون بمعنی (العالم المفروض كونه عادلاً عادلٌ).

والحاصل: إن المتعلق لا يلحظ مفروض الوجود والثبوت في المرتبة

ص: 338


1- بحوث في علم الأصول 2: 122.

السابقة علی الحكم والأمر، فلا معنی للانحلال بلحاظه.

ثم إنه لا فرق في ذلك بين الأوامر والنواهي في مرحلة الجعل، أي كلاهما يدلان علی صرف الطبيعة - إيجاداً في الأوامر وإعداماً في النواهي - ، وإنّما الفرق في مرحلة الامتثال، حيث إن إيجاد الطبيعة يتحقق بفرد واحد، وأما إعدامها يکون بالاستمرار في عدم إيجادها.

إن قلت: لماذا لايسقط النهي بمخالفته مرّة واحدة عبر إيجاد الطبيعة المنهي عنها.

قلت: إن علة النهي والغرض منه مستمر، فلا محالة لا يسقط، وسيأتي تفصيل ذلك في أوائل النواهي(1).

الأمر الثالث: في تكرار الامتثال
اشارة

وفيه ثلاث مقامات:

المقام الأول: تعدد الامتثال

فإن كانت الأفراد عرضية، فقد يقال بوقوعها جميعاً امتثالاً لأمرالمولی لتساوي الطبيعة بالنسبة إليها جميعاً.

وأما لو كانت الأفراد طولية، فلا يعقل كونها جميعاً امتثالاً، وذلك لأنه بتحقق الفرد الأول من الطبيعة يتحقق الغرض فيسقط الحكم، فلا يکون الثاني امتثالاً جديداً، اللهم إلاّ أن يکون تبديلاً للامتثال وهذا سيأتي في المقام الثاني.

إن قلت: يمكن فرض تعدد الامتثال، بإرجاعه إلی التخيير بين الأقل

ص: 339


1- في الفصل الأول، البحث الرابع.

والأكثر، حيث يکون أحد طرفي التخيير (بشرط لا عن الزيادة)، والطرف الآخر (بشرط شيء).

قلت: ثبوتاً يرجع إلی كون الجميع امتثالاً واحداً لو اختار الزيادة، فلا يکون من تعدد الامتثال، وأما إثباتاً فلا يمكن استفادة هذا التخيير من إطلاق الدليل.

المقام الثاني: هدم الامتثال

كما لو كان للامتثال شرط متأخر، فلو ترك الشرط وأتی بفرد آخر مع الشرط، يکون الثاني امتثالاً دون الأول، كما لو قضت المستحاضة الكثيرة صومها الموسّع ولم تغتسل ليلاً عمداً، فيبطل صومها ويلزمها صوم آخر - علی بعض المباني الفقهية - .

المقام الثالث: تبديل الامتثال

وهنا نقاط ثلاث:

النقطة الأولی: الصور التي يمكن البحث عنها - ثبوتاً وإثباتاً - وهي كالتالي(1):

أ) ثبوتاً:

1- قد لا يعقل الفرد الثاني لعدم قابلية الموضوع، كالقتل.

2- وقد لا يکون لتحقق الغرض، كالضرب.

3- تبديل قبل تحقق الغرض الأقصی، كتبديل الماء قبل الشرب.

4- تبديل بعد الإطاعة مع إستمرار الغرض، كتبديل المصباح بعد

ص: 340


1- الأصول 1: 220.

الإضاءة.

5- قد يعقل الفرد الثاني من دون تبديل عرضياً، كعقدين وإيقاعين.

6-7- أو طولياً أو هما، كالأمر بالتزيين الذي يحصل بعشرة مصابيح أو بعشرين بحيث كانت الثانية في عرض الأولی أو طولها.

ب) في مرحلة الإثبات:

1- إن كان إطلاق أو ملاك جاز طولاً، كإعادة الصلاة، أو عرضاً أو هما، كأخذ النائب المتعدد في الحج في عام واحد أو أعوام.

2- إن لم يكن إطلاق أو ملاك، فإن احتمل الضرر الواجب دفعه لم يجز، وإلاّ جاز للبراءة العقلية.

النقطة الثانية: في الإمكان ثبوتاً.

ذهب المحقق الخراساني(1) إلی إمكان التبديل، إذا لم تكن نسبة المتعلق إلی الغرض بنحو العليّة، بل كانت بنحو الإقتضاء، كالماء الذي يأمر المولی بإحضاره بغرض الإرتواء، فمادامه لم يشربه يجوز تبديله بفرد آخر مساو له أو أفضل منه، وذلك لأن الأمر باق ببقاء الغرض الداعي إليه.

وأشكل عليه: أولاً(2): إنه لو بقي الأمر الأول - المتعلق بالجامع بين الفرد المأتي به وسائر الأفراد - لكان من طلب الحاصل، ولو لم يتعلق ذلك الأمر بالفرد المأتي به لم يكن نفس الأمر الأول بل أمر جديد، وهذا خلاف الفرض.

ص: 341


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 359.
2- بحوث في علم الأصول 2: 128.

والجواب: إنه نفس الأمر الأول، لكنه خرج منه الفرد المأتي به، وهذا لا يوجب صيرورته أمراً جديداً، نظير ما لو أمر بالطبيعة مع إمكان أحد الأفراد ثم استحال، فإن الأمر يبقی علی حاله رغم خروج أحد الأفراد عن تحته.

والحاصل: إن الأمر وإن تعلق بالطبيعة وهي قد تحققت بالفرد الأول، لكن يمكن بقاء الأمر لبقاء غرضه مع خروج ذلك الفرد عن تحته، فتأمل.

وثانياً(1): إن الإتيان بالمأمور به - بحدوده وقيوده - علّة تامة للغرض الباعث للأمر، وأما مثال الماء فإن الإرتواء ليس غرضاً للأمر لعدم تمكن العبد من تحقيقه، بل الغرض من الأمر هو تمكن المولی من رفع عطشه وهو حاصل بالإمتثال الأول، نعم هو غرض مقدمي لا غرض أصيل.

وبعبارة أخری: إن هنا غرض أدنی وهو يترتب علی فعل العبد، وغرض أقصی وهو الإرتواء وهو يترتب علی فعل المولی، وهو ليس متعلق للأمر لعدم تمكن العبد منه، وأما ما يترتب علی فعل العبد فهو الغرض الأدنی وهو يتحقق باحضار الماء فلا محالة من سقوط الأمر.

وأجيب: بأن الغرض الأدنی قد يکون مقدمياً إلی الغرض الأقصی، والمقدمية لا تحصل إلاّ بعد الوصول إلی تمام النتيجة، وذلك لأن الغرض والحب الغيري لا يکون إلاّ في المقدمة الموصلة.

وبعبارة أخری: قد يکون الغرض الأقصی خارجاً عن قدرة العبد لكنه اُمر بإتيان ما هو تحت قدرته برجاء تحقق الجزء الآخر، فمادام لم يتحقق الجزء الآخر لم تتحقق المقدمية ولا الغرض الأدنی.

ص: 342


1- نهاية الدراية 1: 361.

النقطة الثالثة: في جواز تبديل الامتثال وذلك لأنه(1)...

1- علی مبنی المقدمة الموصلة، فإن الواجب هو الحصة المقارنة لترتب الغرض الأقصی، فما لم يترتب عليها الغرض الأقصی لا تكون واجبة ولا يشملها الوجوب.

وحينئذٍ فلو أتی بالفرد الأول صحّ الإتيان بفرد آخر برجاء امتثال الأمر به وتحصيل غرض المولی، فإذا اختار المولی في تحصيل غرضه الثاني كان هو مصداق الامتثال دون الأول حيث لا يکون امتثالاً.

إن قلت: ليس هذا من تبديل الامتثال لعدم كون الأول امتثالاً أصلاً.

قلت: ليس النزاع لفظياً حتی نبحث عن أنه تبديل أم لا، بل الكلام في جواز إتيان بفرد آخر سواء سمّي امتثالاً أم لا.

2- وعلی مبنی عدم قبول المقدمة الموصلة، وأن الواجب هو ما يصلح للإيصال:

أ) فإن تحقق الغرض الأقصی - كالإرتواء - فلا مجال لتحصيل الامتثال ثانياً.

ب) وإن لم يتحقق، كما لو لم يشربه، فإن الأول امتثال وبه يسقط الأمر، لكن يمكن الإتيان بفرد آخر بداعي تحصيل ما هو محبوب للمولی والوصول إلی ملاك الأمر.

وبعبارة أخری: إن الأمر وإن سقط لكن ملاكه لا زال باقياً، فيکون نظير الاحتياط.

ص: 343


1- منتقی الأصول 2: 14؛ نهاية الأفكار 1: 225-226.

وبذلك يتضح الإشكال في القول: بأن الفرد الأول مسقط للأمر حيث كان امتثالاً فلا مجال للإتيان بفرد آخر فلا يکون الآخر امتثالاً.

وذلك لأن سقوط الأمر لا يعني سقوط الملاك والمحبوبية، فالثاني ليس امتثالاً للأمر لكن فيه ملاك الامتثال، فتأمل.

3- ومع عدم تحقق الغرض الأقصی يراه العرف مخيراً بين إبقاء الفرد الأول وبين الإتيان بفرد آخر، وهذا التخيير لا إشكال فيه ثبوتاً، إذ في الواجب التخييري يجوز الإتيان بكلا فردي الوجوب دفعة ويکون كلاً منهما امتثالاً للأمر، کما أن الإبقاء والإتيان بفرد جديد كلاهما في عرض واحد فيکون كلاهما امتثالاً، هذا إذا كان الإبقاء اختيارياً، وإلا لم يكن طرفاً للوجوب التخييري.

النقطة الرابعة: في ذکر مصداق فقهي لتبديل الامتثال:

فقد وردت روايات في جواز أو استحباب إعادة الصلاة جماعة لمن صلاها فرادی(1)، فقد يقال: إنها في تبديل الامتثال، فلابدّ من النظر في تلك الروايات لمعرفة مدلولها، وهي علی أقسام:

1- فمنها: ما دل علی الإعادة جماعة(2)، فقد يقال: إن الإعادة هي تبديل الامتثال.

إن قلت: لايدل الأمر بالإعادة علی تبديل الامتثال، بل لعلّه لأجل أمر جديد استحبابي له امتثال جديد.

ص: 344


1- راجع الروايات في وسائل الشيعة 8: 401-404.
2- وسائل الشيعة 8: 403 عن تهذيب الأحكام.

قلت: إن الثانية صلاة الظهر - مثلاً - ، ومن المعلوم عدم ثبوت صلاتي ظهر في يوم واحد لا بنحو الوجوب ولا بنحو الاستحباب.

اللهم إلاّ أن يقال: إن الصلوات اليومية الواجبة هي خمسة، ولا مانع من زيادتها إذا كان الزائد استحبابياً، فتأمل.

2- ومنها: ما دلّ علی جعل الثانية الفريضة، فعن الإمام الصادق (علیه السلام) : في الرجل يصلّي الصلاة وحده ثم يجد جماعة؟ قال: يصلي معهم ويجعلها الفريضة إن شاء(1).

فقد يقال: بدلالتها علی تبديل الامتثال، لقوله: (ويجعلها الفريضة)، ولا يخفی أن قوله: (إن شاء) قيد لقوله: (يصلي معهم).

وأشكل عليه: أولاً: بأن معنی (يجعلها الفريضة) هو يصليها بنية الوجوب، إذ لا يجوز الجماعة في الصلاة المستحبة.

وفيه: أن الألف واللام في (يجعلها الفريضة) للعهد، فمعنی الجملة إنه يجعل هذه الصلاة الثانية الصلاة الفريضة، وليس المعنی ينوي الوجوب.

وثانياً: إن (الفريضة) لا يراد به الواجبة، بل هي عنوان معرِّف بقطع النظر عن الوجوب والاستحباب، فالمعنی: ويجعل الصلاة الثانية صلاة الظهر، وهذا لا يدل علی تبديل الامتثال، بل هو بمعنی إعادة الصلاة حتی لو كانت مستحبة.

وفيه: أن الحمل علی كونها معرِّفاً خلاف الظاهر، بل الظاهر كون الألف واللام للعهد، فالمعنی يجعل هذه الصلاة الثانية نفس الفريضة السابقة، وهذا

ص: 345


1- وسائل الشيعة 8: 401 عن من لا يحضره الفقيه.

يساوق تبديل الامتثال.

3- ومنها: ما دل علی أن الله يختار أحبها إليه(1)، وظاهرها أن الاختيار في مقام الامتثال، لا مقام الثواب. فيمکن تصحيح ذلك بالشرط المتأخر بأن تكون الأولی هي الواجبة بشرط أن لا يأتي بفرد أحب.

وأما احتمال أن (الاختيار) في الثواب لا في الامتثال، فيردّه أنه خلاف الظاهر، وأن الثواب لكليهما، حيث إن إحداهما امتثال، والأخری انقياد.

المبحث الحادي عشر: في الفور والتراخي

والبحث في نقاط:

النقطة الأولی: في تحرير محل النزاع، فنقول: إن البحث في دلالة الأمر علی الفور أو جواز التراخي، فيرجع إلی قولين: الدلالة علی الفور أو الطبيعة، ولا قائل بالدلالة علی التراخي فقط.

النقطة الثانية: الصحيح الدلالة علی الطبيعة، وذلك لعدم دلالة المادة ولا الهيأة علی الفور وضعاً، وأما الإطلاق فإن إطلاق المادة يقتضي تحقق الإمتثال سواء بالفور أو التراخي.

وأما الاستدلال لذلك بأن الزمان غير مأخوذ في المشتقات.

فيرد عليه: أن القائل بالفور لا يقول بأخذ الزمان في مفهوم الأمر، بل مراده وجوب المسارعة، ولازم ذلك هو الفعل في أول الأزمنة، من غير أن يکون هذا اللازم مأخوذاً في المفهوم، كما أن القائل بجواز التراخي يقول بعدم وجوب المسارعة لا بأخذ الزمان مخيّراً في مفهوم الأمر.

ص: 346


1- وسائل الشيعة 8: 403 عن الكافي وتهذيب الأحكام.

وأما القائل بالفور فقد استدل(1):

1- بالعقل، وذلك باستحالة انفكاك الإرادة عن المراد، ففي التكوينيات تكون الإرادة علة لتحقق المراد، وفي التشريعيات تكون الإرادة مقتضية للمراد، فيجب اتصال حركة العبد بأمر المولی.

وفيه: أولاً: إن الأمر هو البعث نحو الشيء، وفوره وعدم فوره يرتبط بالمتعلق، فإذا كان المتعلّق هو الطبيعي الجامع بين الفرد الحالي والاستقبالي فالأمر يقتضي ذلك لا غير.

وثانياً: إن عدم تخلّف الإرادة التشريعية عن المراد إنّما هو بمعنی صدور الحكم والتكليف من المولی بمجرد إرادته، فهذا معنی صحيح لكن هذه الإرادة علة تامة للتكليف، ولا ارتباط لها بفعل العبد لا بنحو العلية ولا بنحو الاقتضاء.

2- وبالنقل: لقوله تعالى: {فَاسْتَبَقُواْ}(2)، وقوله سبحانه: {وَسَارِعُواْ}(3) حيث دلّت علی الاستباق والمسارعة نحو المأمور به وهو يساوق الفور.

وفيه: أولاً: الحمل علی وجوب المسارعة والاستباق يستلزم تخصيص الأكثر، لخروج المندوبات والواجبات الموسعة التي هي أكثر الواجبات.

وثانياً: إن الأمر في الآيتين للإرشاد لما هو المرتكز في العرف والعقل بحسن المسارعة والاستباق، وحيث كان هذا هو المرتكز فلابد من الحمل

ص: 347


1- نهاية الأفكار 1: 218-219.
2- سورة يس، الآية: 66.
3- سورة آل عمران، الآية: 133.

علی الإرشاد.

النقطة الثالثة: علی القول بالفور، لو لم يبادر، فهل يسقط الوجوب كاملاً أم لا؟ وبناء علی عدم سقوطه هل يجب فوراً ففوراً أم لا؟

وجه الاحتمالات هو أن المستفاد من الأدلة هل هو وحدة المطلوب أم تعدده؟

والظاهر هو التعدد، فلا سقوط لأصل التكليف بالتأخير.

كما أنّ المسارعة والاستباق لهما إطلاق بالنسبة إلی الفور الثاني وهكذا، لأنه مع عدم الإتيان فوراً تبقی دلالة الآيتين علی المسارعة والاستباق، فلابد من الإتيان في الآن الثاني وهكذا.

النقطة الرابعة: إن عدم الدلالة علی الفور إنّما هو مع عدم القرينة، ومع وجود القرينة لابد من الأخذ بها.

ومن القرائن الدالة علی الفور: علم المكلف بعدم تمكنه من الإتيان في الآن الثاني، فيحكم العقل - لتحقيق الاطاعة - بالفور.

ص: 348

فصل في الإجزاء

اشارة

لا إشكال في أن الإتيان بالمأمور به يقتضي الإجزاء في الجملة، بمعنی الإكتفاء به و عدم الحاجة إلی الإعادة أو القضاء.

وقبل الخوض في البحث لا بأس بالإشارة إلی أصولية المسألة، وأنها عقلية ولفظية.

1- فالفصول عنون البحث بأن الأمر بالشيء إذا أتي به علی وجهه هل يقتضي الإجزاء؟

وأشكل عليه: بأن الإجزاء ليس من شؤون أمر المولی، بل من شؤون فعل العبد، مضافاً إلی عدم دلالة المادة ولا الهيأة علی الإجزاء، وأما الدلالة الالتزامية فهي خارجة عن الدلالة اللفظية.

2- وقد يقال: بأن مسألة الإجزاء من المبادي الأحكامية، لأن الكلام في دلالة الدليل، ولأن النزاع ليس في أصل الكبری، وإنّما النزاع فيما تثبت به الكبری، أي الوفاء بالملاك وعدم الوفاء به، وكذا إمكان أو عدم إمكان تدارك المصلحة الفائتة، فلو ثبتت هذه الأمور ثبت الإجزاء، وإلاّ فلا، والحاصل: إنه لابدّ من البحث في هذه الأمور ويتفرع عليها الإجزاء وعدمه.

ويرد عليه: أن الكلام في كبری كلية تنطبق علی جميع الأدلة، فليس البحث في كل دليل بمفرده حتی يکون خاصاً به، ولذا ينطبق علی البحث

ص: 349

ملاك أصولية المسألة.

3- وقد يقال: إن البحث عقلي صرف، لحكم العقل بالإجزاء من دون دلالة اللفظ.

وفي الأصول(1): الأقرب جعله عقلياً بالنسبة إلی الأمر الذي امتثله، ولفظياً بالنسبة إلی غيره.

أما الأول: فلأن الغرض الداعي إليه يحصل بالمأتي به، وهو موجب لسقوطه، إذ لو لم يحصل لزم انفكاك المعلول (أي الغرض) عن علته ( أي المأتي به)، ولو حصل الغرض ولم يسقط الأمر لزم وجود العلة بلا معلول.

وأما الثاني: فلأن الكلام في دلالة الأوامر الاضطرارية والظاهرية علی الإجزاء، وذلك يستلزم ملاحظة أدلتها، هل هي علی التوسعة في المأمور به علی نحو الحكومة أم لا.

ثم إنا نجري علی التعبير الشائع من (إجزاء الأمر) وذلك اختصاراً للعبارة.

ثم إنه لا إشكال في الإجزاء إذا أتي بالأمر الواقعي، فلا داعي للحديث عنه.

إنّما الكلام في إجزاء الأمر الاضطراري والأمر الظاهري عن الأمر الواقعي، فالكلام في مقامين:

المقام الأول: إجزاء الأمر الاضطراري عن الأمر الواقعي
اشارة

والبحث تارة في مرحلة الثبوت، وأخری في مرحلة الإثبات.

ص: 350


1- الأصول 1: 226.
المرحلة الأولى: البحث الثبوتي

والصور المتصورة أربعة، والآثار أيضا أربعة.

أما الصور فهي: 1- كون الأمر الاضطراري وافياً بتمام الغرض 2- وكونه وافياً ببعض الغرض مع كون الباقي إلزامياً غير قابل للتدارك 3- والصورة السابقة مع إمكان تدارك الباقي 4- وكونه وافياً ببعض الغرض مع عدم كون الباقي الزامياً.

وأما الآثار فهي: 1- الإجزاء عن الواقع 2- وصحة العمل وضعاً مع البدار 3- وجواز البدار تكليفاً 4- وجواز إيقاع المكلف نفسه في الاضطرار.

الصورة الأولی: وفاء الأمر الاضطراري بتمام الغرض.

ولا إشكال في الإجزاء لتحقق تمام غرض المولی، وبه يسقط التكليف، ومن ذلك يتضح صحة العمل وضعاً مع البدار، وجواز البدار تكليفاً، وجواز إيقاع المكلف نفسه في الاضطرار.

اللهم إلاّ إذا كان الوفاء بالغرض كاملاً إنّما هو في صورة استمرار الاضطرار، فلا يجوز البدار إذا لم يمكن تدارك الغرض أو المقدار الملزم منه، وكذا لو كان الوفاء بالغرض مشروطاً بأن لا يکون الاضطرار عن سوء الاختيار.

إن قلت: إن كان الأمر الاضطراري يفي بتمام الغرض كان لابد من التخيير بين الفعلين، لا أن يکون أحدهما اختيارياً والآخر اضطرارياً.

قلت: وفاء الأمر الاضطراري بتمام الغرض إنّما هو في صورة الاضطرار، لا في صورة التمكن من الإتيان بالأمر الواقعي.

الصورة الثانية: الوفاء ببعض الغرض، مع كون الباقي إلزامياً، غير قابل

ص: 351

للتدارك.

ولا إشكال في الإجزاء لعدم إمكان تدارك الباقي، وصحة العمل مع البدار وضعاً، وعدم جوازه تكليفاً إذا احتمل زوال الاضطرار مع عدم جواز ايقاع النفس في الاضطرار، لفوات مقدار ملزم من الغرض، بل قد يفوت کل الغرض إذا کان ترتب الأثر متوقفاً علی عدم سوء الاختيار.

نعم يمکن أن يقال: إنه إذا كان المأمور به عبادة فعدم جواز البدار يقتضي بطلان العبادة، لأن النهي فيها موجب للفساد، فحينئذٍ لا تترتب الآثار الثلاثة، فلا إجزاء، ولا صحة للعمل، ولا جواز للبدار، ولکن المکلّف قد فوّت جزءاً ملزماً من غرض المولی - حسب الفرض - .

اللهم إلاّ أن يقال: إن البدار لايرتبط بذات العبادة فحرمته لا تسري إلی العبادة کما قاله بعضهم في الجهر والإخفات، وفيه تأمل.

وقد يقال: بتعاكس الوضع والتكليف، فلو كان العمل صحيحاً مع البدار فلا يجوز البدار تكليفاً لاستلزامه تفويت مقدار ملزم من المصلحة، وأما لو كان البدار موجباً للبطلان فلا يحرم لعدم تفويته للمصلحة بل يکون لغواً.

لکن لايخفی أن الشق الثاني خلاف الفرض.

الصورة الثالثة: الوفاء ببعض الغرض، مع كون الباقي إلزامياً قابلاً للتدارك.

قد يقال: بأنه لا إشكال في عدم الإجزاء بل اللازم التدارك، فيصح البدار، ويجوز لكنه عمل لغو، وكذا يجوز إيقاع النفس في الاضطرار لكنه لغو، إلاّ إذا كان سوء الاختيار مفوتاً للغرض.

لکن يمکن أن يقال: إنه العمل لو کان عبادياً فالبدار غير ممکن، وذلک لأن

ص: 352

العبادة إذا کان لغواً کانت باطلاً فلا يمکن الإتيان بها مع البدار أصلاً، فتأمل.

الصورة الرابعة: الوفاء ببعض الغرض، مع عدم كون الباقي إلزامياً.

وتترتب كل الآثار الأربعة، لعدم كون الزيادة ملزمة بل استحبابية، إلاّ إذا كان الوفاء بالغرض متوقفاً علی عدم كونه بسوء الاختيار.

المرحلة الثانية: البحث الإثباتي
اشارة

والكلام في موضعين: في وجوب الإعادة في الوقت، ووجوب القضاء خارج الوقت.

الموضع الأول: في الإعادة

لا يخفی أنه ليس الكلام فيما لو ثبت أن الأمر الاضطراري إنّما هو فيما لو استمر العذر إلی آخر الوقت، لأنه حينئذٍ بعد ارتفاع العذر في الوقت ينكشف أن لا أمر اضطراري، بل أمر ظاهري، وسيأتي الحديث عنه في المقام الثاني.

وقد ذهب المحقق العراقي(1) إلی أن ظاهر أدلة الاضطرار هو استمرار الاضطرار في كل الوقت، إلاّ إذا استفيد عدم لزوم الاستمرار من الدليل، كدليل التقية ونحوها.

أما إذا لم يستفد من ظاهر الدليل أياً منهما - من الاستمرار أو عدمه - فهنا صورتان:

الصورة الأولی: وجود إطلاق لدليل الأمر الاختياري، بحيث يشمل من أدّی الوظيفة الاضطرارية، فلا إجزاء.

ص: 353


1- نهاية الأفكار 1: 228.

إلاّ إذا قيد دليل الأمر الاضطراري هذا الإطلاق، وقد يقال بالتقييد بأحد طرق، منها:

الطريق الأول: الإطلاق المقامي لدليل الأمر الاضطراري، فإن له ظهوراً في أن المولی في مقام بيان تمام ما هي وظيفة المكلّف، فلو لم يكن الفعل الاضطراري كافياً لكان عليه البيان بأن علی المكلف الإعادة لو ارتفع العذر.

ويرد عليه: أولاً: عدم وجود إطلاق مقامي، إذ الظاهر كون المولی في مقام بيان الوظيفة في حال الاضطرار، لا بيان الحكم مع زوال الاضطرار.

وثانياً: معارضة هذا الإطلاق - علی فرض ثبوته - ، مع إطلاق دليل الحكم الاختياري.

إن قلت: إن الإطلاق المقامي وارد علی الإطلاق اللفظي، لأن من شرط الإطلاق اللفظي أن لا ينصب المولی قرينة علی الخلاف، والإطلاق المقامي بنفسه قرينة.

قلت: هذا إنّما يکون لو كان الإطلاق المقامي مقارناً مع كلام المولی، أما لو تأخر عنه فإنه ينعقد الإطلاق اللفظي فيتعارضان، وما نحن فيه من هذا القبيل حيث إن الأمر الاختياري سابق علی الأمر الاضطراري فينعقد له إطلاق، ثم بمجيء الأمر الاضطراري يکون له إطلاق، فيتعارضان.

الطريق الثاني: لو استفيدت البدلية من دليل الأمر الاضطراري، بأن تنزّل الوظيفة الاضطرارية منزلة الوظيفة الاختيارية، كما في قوله (علیه السلام) : «التيمم أحد الطهورين»(1)، فتكون للبدلية إطلاق تشمل ما بعد زوال

ص: 354


1- الكافي 3: 64.

الاضطرار، لمن أتی بالفعل في حال الاضطرار.

وأورد عليه(1) إشكالان:

الأول: معارضة إطلاق البدلية، مع ظهور دليل الحكم الاختياري في دخل القيد أو الجزء المضطر إلی تركه في المصلحة ولو ببعض مراتبها الملزمة، خرجت فترة الاضطرار لأن الأمر به يکون محالاً حيث إنه أمر بما لا يطاق، وتبقی فترة زوال الاضطرار.

الثاني: إن إطلاق دليل الأمر الاختياري مقدّم علی إطلاق البدليّة، لكونه أظهر وللحكومة.

أما الأظهرية: فلأن الظهور الأول مستند إلی وضع الهيأة التركيبية في دخل ما هو موضوع الخطاب والأمر في المصلحة، وهذا الظهور أقوی من ظهور الإطلاق في أدلة الاضطرار بالوفاء بتمام المصلحة.

وأما الحكومة: فلأنّ لازم إطلاق أدلة الاختيارية - بعد ما اقتضی حفظ الاختيار في تحصيل القيد - هو كونه ناظراً إلی رفع الاضطرار عنه، ومرجعه إلی نظره إلی رفع موضوع أدلة الاضطرار.

وبعبارة أخری: - كما قيل - إن دليل الوظيفة الاختيارية بظهوره في دخل القيود والأجزاء في المصلحة الواقعية يقتضي لزوم حفظ القدرة عليها، والمنع عن تفويتها بإيقاع النفس في الاضطرار الذي هو موضوع الوظيفة الاضطرارية، وهذا يعني أن دليل الحكم الاختياري حاكم علی دليل الحكم الاضطراري، لأنه ناظر إلی موضوعه.

ص: 355


1- مقالات الأصول 1: 275.

والجواب: أولاً: بعدم الأظهرية، وذلك لأن المعارض لإطلاق البدلية ليس أصل الظهور في دخل القيد ليکون بالوضع، بل إطلاق الظهور بحيث يشمل ما إذا أتی بالأمر الاضطراري فارتفع العذر.

وثانياً(1): إن الحكومة تعني رفع الموضوع شرعاً بغرض رفع الحكم المترتب عليه، كما في مثل: (لا شك لكثير الشك) ومثل: (لا ربا بين الوالد والولد)، وليس من الحكومة النهي عن تحقيق الموضوع خارجاً كي يکون حاكماً علی دليل حكم رُتب علی ذلك الموضوع، فلو عصی وأوجد ذلك الموضوع، فهذا الدليل لا يدل علی انتفاء تحققه في الخارج لكي ينتفي حكمه المترتب عليه.

وفيما نحن فيه: غاية الحال هو النهي عن إيقاع النفس في الاضطرار، أما لو أوقع نفسه فيه أو وقع فيه، فإن دليل الحكم الواقعي لا ينفي تحقق الاضطرار ليکون حاكماً علی دليل الوظيفة الاضطرارية.

والحاصل: إن الحكومة ليست مجرد النظر، بل النظر مع رفع الموضوع أو تضييقه أو توسعته شرعاً، لإثبات أو نفي حكم، وما نحن فيه ليس كذلك، بل غاية الأمر هو نظر دليل إلی موضوع دليل آخر للنهي عنه، فتأمل.

الصورة الثانية: عدم وجود إطلاق، فالمرجع حينئذٍ إلی الأصول العملية.

فصاحب الكفاية(2) ذهب إلی جريان أصالة البراءة عن الزائد، وذلك

ص: 356


1- بحوث في علم الأصول 2: 146.
2- إيضاح کفاية الأصول 1: 388.

بارجاعه إلی الشك في أصل التكليف.

ويرد عليه إشكالان:

الإشکال الأول ما ذكره المحقق العراقي(1): بأن اللازم الإحتياط، وذلك لأن المتصور أحد أمرين:

الأول: الشك في وفاء الفعل الاضطراري بتمام مصلحة الاختياري أو عدم وفائه إلاّ ببعض المصلحة، فالمرجع الاحتياط، لاندراجه في باب التعيين والتخيير، للعلم بوفاء الاختياري بتمام المصلحة مع الشك في وفاء الاضطراري بالتمام، فيدور الأمر بين تعيين الاختياري أو التخيير بينه وبين الاضطراري.

ويرد عليه: أن الكلام إنّما هو في فرض ثبوت الأمر الاضطراري، وإلا خرج البحث إلی المقام الثاني من إجزاء الأمر الظاهري عن الواقعي، ومع ثبوت الأمر الاضطراري لا دوران بين التعيين والتخيير، بل لابد من القول بالإجزاء.

الثاني: مع إحراز وفاء الاضطراري ببعض المصلحة، فالشك في مفوتية الاضطراري للبعض الآخر من المصلحة أو عدم مفوتيته.

فالمرجع الاحتياط أيضاً، لأن مرجع الشك إنّما هو في القدرة علی الامتثال وتحصيل الغرض، وذلك لأن المكلف يعلم ببقاء قدر ملزم من المصلحة، إنّما شكه في القدرة علی استيفائها، فلابد من الاحتياط بإعادة الفعل لكي يقطع ببراءة الذمة، لأن الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية.

ص: 357


1- نهاية الأفكار 1: 230.

وأورد عليه: بأن المحتملات ثلاثة، لا غير، ونتيجة كلها البراءة دون الاحتياط، وهي:

1- تبدل المصلحة، أي عدم لزوم تدارك الباقي من المصلحة، وذلك لوجود مصلحة أخری في الاضطراري - كالتسهيل - تقوم مقام الفائت، فرجع إلی الأمر الأول، والجواب نفس الجواب.

2- رفع اليد عن الفائتة، أي إمكان الأمر التعييني بالاضطراري - من غير تخيير بينه وبين الاختياري - من غير تدارك المصلحة الفائتة، وذلك لرفع المولی يده عن ذلك المقدار الفائت من المصلحة لو أتی المكلف بالاضطراري.

وحينئذٍ يکون عدم الإتيان بالاضطراري قيداً في وجوب الاختياري، أي لا أمر بالاختياري إلاّ إذا لم يأت بالاضطراري، فمرجعه إلی أن الاختياري ليس بواجب في حال الإتيان بالاضطراري، فرجع الشك إلی أصل التكليف، وهو مجری البراءة، فلم يكن الشك في المحصّل كي يقال: إن الشك في القدرة فيجب الاحتياط.

3- عدم رضا المولی بتفويت المقدار المتبقی من الملاك.

فيکون الشك من قبيل الأقل والأكثر، إذ يشك في أن الواجب هو مطلق الاختياري (في حال عدم تفويت الباقي من المصلحة لو أتی بالاضطراري)، أو الاختياري المقيد بعدم سبق الاضطراري (علی تقدير التفويت)، فيکون الشك في هذا القيد، ومقتضی القاعدة عدم اشتراطه كسائر موارد الأقل والأكثر.

وفيه: أن نتيجة المحتمل الثالث هو الاحتياط دون البراءة، وذلك لأن

ص: 358

نفي قيد (عدم سبق الاضطراري) يساوق وجوب الاختياري علی كل حال سواء سبقه الاضطراري أو لم يسبقه، ومقتضاه لزوم الاعادة وعدم الإجزاء، فتأمل.

وحيث إن ظاهرالدليل هو الاحتمال الثالث، ثبت الاحتياط كما ذكره المحقق العراقي.

الإشكال الثاني: إن هنا أصل حاكم علی أصالة البراءة، وهو الاستصحاب التعليقي، فإنه في أول الوقت تصحّ هذه القضية (وجوب الفعل الاختياري لو زال الاضطرار) فهذا الحكم ثابت قبل الإتيان بالفعل الاضطراري، ثم بعد الإتيان به يشك في عدم الوجوب، فيستصحب هذا الوجوب التعليقي.

والجواب: أن لا يقين سابق في هذه القضية التعليقيّة، وذلك لأنه لو استوفی الأمر الاضطراري تمام المصلحة يکون الواجب من أول الأمر هو الجامع بين الاختياري والاضطراري، لا خصوص وجوب الاختياري.

ثم لا يخفی أن هنا ثلاثة مباني في كيفية تصوير الأمرين - الاختياري والاضطراري - وتختلف عليها النتيجة من حيث البراءة أو الاحتياط.

الأول: تعدد الأمر، فأحدهما بالجامع بين الاختياري والاضطراري، والآخر بالحصة الاختيارية.

وعليه يکون قطع بوجود الأمر بالجامع مع الشك في الأمر الآخر، ومرجعه إلی الشك في التكليف الزائد.

الثاني: التخيير بين الأقل والأكثر، أي بين الأمر الاختياري بعد زوال

ص: 359

العذر وبين الاضطراري حين العذر والاختياري بعد زواله.

ومرجعه إلی الاحتياط، وذلك لعدم كفاية الاضطراري وحده قطعاً لأنه ليس طرف التخيير أصلاً.

الثالث: استحالة التخيير بين الفعل الاختياري والاضطراري بنحو الأقل والأكثر.

وحينئذٍ فيرجع الشك إلی الشك في التعيين والتخيير، فعلی تقدير التخيير يکون الإجزاء، وعلی تقدير التعيين يکون عدم الإجزاء، وحيث دار الأمر بينهما فالاختياري مأمور به علی كل حال دون الاضطراري فلابد من الاحتياط.

الموضع الثاني: في القضاء

وهنا مطلبان:

المطلب الأول: هل لدليل القضاء إطلاق بحيث يشمل الدليل بإطلاقه من جاء بالفعل الاضطراري في الوقت.

ومحلّ هذا البحث هو في الفقه، والظاهر عدم وجود هكذا إطلاق.

وعلی فرض وجوده، فهل دليل الأمر الاضطراري يُقيد هذا الإطلاق؟ لابد من المراجعة إلی المباني في الأمر الاضطراري، فإن النتيجة تختلف باختلافها...

1- فعلی مبنی المحقق النائيني من الملازمة العقلية بين الأمر الاضطراري وبين الإجزاء، يمكن القول بعدم لزوم الإعادة، لأن وجود الأمر الاضطراري في صورة استمرار العذر في كل الوقت أمر مسلّم، وحينئذٍ يقال: إن دخل القيد المتعذر في الملاك إن كان بشكل مطلق فلا معنی للأمر الاضطراري

ص: 360

في الوقت لفقدانه للملاك، وإن كان غير دخيل في حال العذر فقد حصل الملاك فلا معنی للقضاء.

ويرد عليه: أنه قد يکون للوقت مدخلية في جزء من الملاك، وللقيد المتعذر أيضاً جزء آخر من الملاك، فيمکن الوصول إلی كل الملاك عبر امتثال الاضطراري في الوقت والقضاء خارج الوقت.

2- وأما على مبنى المحقق العراقي من بناء علی كون الأمر الاضطراري تعيينياً فالنتيجة هي الإجزاء في الوقت وخارجه كما مرّ، وبذلك يتقيد دليل القضاء.

3- وكذا علی القول باستفادة البدلية من دليل الأمر الاضطراري فهي بدلية بشكل مطلق.

4- وكذا بناءً علی القول بوجود إطلاق مقامي لدليل الأمر الاضطراري، وإن كان الأظهر عدم وجود هكذا إطلاق، لعدم نظرٍ إلی خارج الوقت أصلاً.

المطلب الثاني: بعد عدم وجود إطلاق فما هو مقتضی الأصل العملي؟

ذهب المحقق الخراساني(1) إلی أن الأصل البراءة عن وجوب القضاء.

وقد يقال: إن القضاء إما بأمر جديد أو بنفس الأمر الأول.

أ) فإن كان بأمر جديد، فالشك في أصل التكليف، فلا وجه للاحتياط ولا للاستصحاب التعليقي.

ب) وإن كان بنفس الأمر الأول - بأن يکون هناك أمران: أمر بالجامع،

ص: 361


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 388.

وأمر بإيجاد الجامع في الوقت - ، فمع الشك في الإجزاء يکون من دوران الأمر بين التعيين والتخيير فمقتضی القاعدة الاحتياط بالقضاء.

وذلك لأنه يعلم بالأمر بصلاة بتيمم في الوقت علی كل حال، كما يعلم بوجود أمر آخر مردد بين (الصلاة بوضوء خارج الوقت) وبين (الجامع بينها وبين الصلاة في الوقت بتيمم).

وفيه نظر: لأن الأمر بالصلاة بتيمم هو نفس الأمر بالجامع، فتكون النتيجة هو أن الأمر بالجامع معلوم وقد أدّی هذا الأمر بالصلاة بتيمم في الوقت، وأما الأمر (بالصلاة بوضوء خارج الوقت) فهو مشكوك فتجري فيه أصالة البراءة.

المقام الثاني: إجزاء الأمر الظاهري عن الواقعي
اشارة

أما تحرير محل البحث...

فقد يقال: بأن محلّ البحث هو ما إذا استند علمه إلی حجة شرعية، بحيث لا تزول حجيتها في ظرفها مع انكشاف كون الواقع خلافها.

أما لو لم تكن حجة شرعية كما لو عمل بخبر الفاسق بتوهم أنه عادل، فلم يثبت في حقه حكم ظاهري أصلاً، نظير انكشاف مخالفة القطع للواقع حيث لا حكم ظاهري، فلا يجري بحث الإجزاء، ومثاله ما لو انكشف خطأ المجتهد حيث إنه لنفسه لم يكن حكم ظاهري، نعم لمقلديه فقد كان حكم ظاهري.

ولا يخفی أن هذا هو بناءً علی ثبوت الحكم الظاهري، أما علی القول بالتنجيز والإعذار فلا.

ص: 362

ثم إن الحكم الظاهري قد يکون ثبوته بأمارة أو بأصل، وانكشاف الخلاف قد يکون بالعلم وقد يکون بأمارة وقد يکون بأصل عملي، فهنا بحوث:

البحث الأول: انكشاف الخلاف بالعلم

ومقتضی القاعدة عدم الإجزاء، إذ الحكم الظاهري لا يرفع الحكم الواقعي الفعلي، فلم يمتثل المكلف الحكم الواقعي، فالمطلوب منه امتثاله، وهو معنی عدم الإجزاء.

أما القول بالإجزاء فمن وجوه منها:

الوجه الأول: تفصيل صاحب الكفاية(1) بين:

أ) كون الحكم الظاهري موسعاً للموضوع بالحكومة، فالإجزاء، كما في أصالة الطهارة والحليّة واستصحابهما، التي توسع الاشتراط بهما، فسواء كانت طهارة واقعية أم طهارة علمية فقد تحقق الشرط الواقعي، وحينئذٍ لا يکون العلم بالنجاسة بعد العمل من باب انكشاف فقدان الشرط، بل قد تحقق للعمل شرطه الواقعي وهي الطهارة العلمية.

ب) كون الحكم الظاهري لاحراز الواقع فقط، فلا إجزاء حينئذٍ، لانكشاف فقدان الفعل لشرطه الواقعي، فلم يمتثل، فلابد من التكرار.

وأورد عليه المحقق النائيني وغيره بإشكالات(2) منها:

الإشكال الأول: النقض بسائر أحكام الطهارة، كطهارة ماء الوضوء،

ص: 363


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 389.
2- فوائد الأصول 1: 249-251.

وطهارة الملاقي ونحو ذلك.

وأجيب: أولاً(1): إن الدليل المتكفل لإثبات موضوع ظاهري بلحاظ أثر معين علی قسمين:

1- أن يکون لضد هذا الموضوع أثر آخر مناقض لأثره، كما في استصحاب ملكية زيد الذي أثره جواز البيع، وضد الملكية هو الوقف الذي أثره مناقض وهو عدم جواز البيع، فهنا يتعارض الأثران، فيکون الحكم بأحدهما ظاهراً لا واقعاً، فبانكشاف الخلاف يتبين عدم إمتثال الحكم الواقعي.

2- أن لا يکون أثر لضد هذا الموضوع، كما في الطهارة بلحاظ الشرطية للصلاة، فإن أثرها هو صحة الصلاة، وليس لضدها - وهي النجاسة - أثر يناقض الشرطية، وذلك لأن النجاسة لم تؤخذ مانعاً كي يقال: إن أثرها المانعية عن الصلاة، وذلك لأنه لو كان أحد الضدين شرطاً لا يعقل أن يکون الضد الآخر مانعاً، لتساوي الضدين رتبة فيلزم تساوي رتبة أثريهما، وليس كذلك هنا، وذلك لاختلاف الشرط والمانع رتبة، فإذا ثبتت الشرطية لأحدهما لا تثبت المانعية للآخر.

وفيه: أن دليل الطهارة لو كان حاكماً وموسعاً لدليل الاشتراط فلا فرق فيه بين ثبوت أثر للضد أو عدم ثبوت أثر له.

کما أن الحكومة يجب أن تكون عرفية بحيث يستفاد من نفس دليل الحاكم أنه ناظر إلی الدليل المحكوم وموسّع له، أما إذا كانت التوسعة غير

ص: 364


1- منتقی الأصول 2: 50.

عرفية فلا تثبت الحكومة.

وثانياً(1): إن أصالة الطهارة توسع موضوع الحكم الذي أخذ فيه الطهارة، ولا تضيق موضوع حكم أخذ فيه النجاسة.

ويرد عليه: أنه قد يکون تلازم بين التوسعة والتضييق، فدليل الطهارة إن وسع الموضوع فلابد من القول بطهارة الملاقي، مع أن عدم تضييق موضوع النجاسة معناه نجاسة الملاقي، فحصل التعارض بين الحكمين، فلم تثبت الحكومة، فتأمل.

الإشكال الثاني: إن ادعاء الحكومة غير صحيح، وذلك لأنها برأي صاحب الكفاية ما كان الدليل الحاكم مفسراً للدليل المحكوم، وليست أدلة قاعدة الطهارة والحلية واستصحابهما مفسرة بل ولا ناظرة إلی دليل شرطية الطهارة في ثوب المصلي - مثلاً - ، بل هي تشريع لقاعدة عامة مع قطع النظر عن هذا الاشتراط.

والجواب: إن هذا إشكال لفظي، فيلزم ملاحظة واقع التوسعة في الشرطية، سواء سميناها حكومة أم لا، فهل مثل قوله «كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر»(2) يوسّع ما دلّ علی اشتراط طهارة ثوب المصلي، بحيث تكون شرطية الطهارة أعم من كونها طهارة واقعية أم ظاهرية، فيلزم النقاش في هذا.

الإشكال الثالث: إن هذه الحكومة - في الطهارة والحلية - ليست

ص: 365


1- بحوث في علم الأصول 2: 158.
2- وسائل الشيعة 3: 467 عن تهذيب الأحكام.

حكومة واقعية بحيث توسع الشرط الواقعي كي يشمل الطهارة والحلية الواقعية والظاهرية، بل هي حكومة ظاهرية، فلا تكون توسعة حقيقية كي تكون (الطهارة المعلومة) شرط واقعي.

وذلك لأن الحكم الظاهري متأخر عن الحكم الواقعي في الرتبة، فلا يعقل توسعته للحكم الواقعي إلاّ في الظاهر، حيث إن الحكم الظاهري موضوعه أو ظرفه الشك بالحكم الواقعي، ومن المعلوم تقدم الشيء علی الشك به.

والجواب: إن أصالة الطهارة لا يراد منها توسعة الطهارة الواقعية، بل هي توسع (شرطية الطهارة في الصلاة)، وكلاهما - أصالة الطهارة وشرطية الطهارة - في رتبة واحدة مجعولان من الشارع، فيمکن توسعة أحدهما للآخر.

الإشكال الرابع: المجعول في الحكومة في الأدلة الظاهرية إنّما هو في طول المجعول الواقعي وفي الرتبة المتأخرة عنه، فلا يمكن أن يکون المجعول الظاهري موسعاً أو مضيقاً للمجعول الواقعي، مع أنه لم يكن في عَرضه، وليس هناك حكمان واقعيان مجعولان(1).

ولهذا الإشكال بيانان:

البيان الأول: إن المجعول بالأصول أمر ظاهري - قد لوحظ فيه الجهل بالواقع - ، فكيف تتكفل الأصول توسعة المجعول بها واقعاً، إذ هذا خلف فرض كون المجعول بها أمر ظاهرياً.

ص: 366


1- فوائد الأصول 1: 250.

وفيه: اختلاف (المجعول) و(ما توسّعه الأصول)، فأصالة الطهارة - مثلاً - تجعل (الطهارة الظاهرية)، ولا توسع نفس الطهارة الواقعية كي يلزم الخلف، بل توسع الشرط الواقعي، ولا امتناع في كون الطهارة الظاهرية شرطاً واقعياً.

البيان الثاني: إن الحكم بصحة الصلاة مع الطهارة الظاهرية - بحيث لو انكشف الخلاف لم تجب الإعادة - هذا الحكم بحاجة إلی أمرين: (الحكم بالطهارة ظاهراً) و(توسعة دائرة الشرطية) بحيث تشمل الطهارة الظاهرية أيضاً، وهذان أمران طوليان، فلابد أولاً من جعل الطهارة الظاهرية، ثم بعد ذلك توسعة الشرطية لتشمل هذه الطهارة الظاهرية.

ولا يمكن لجعل واحد أن يکون علة لكليهما، إذ معاليل العلة الواحدة كلها في عرض واحد، فإذا كان بين شيئين طولية فلابد من جعلين.

وأجيب عنه: بأن هنا جعلاً واحداً وهو (جعل أحكام الطهارة الواقعية لمشكوك الطهارة)، والطهارة الظاهرية منتزعة عن هذا الجعل.

إن قلت: أحياناً لا يکون لمشكوك الطهارة أحكام الطهارة الواقعية، كماء الوضوء والملاقي... الخ، بل هنا حكم ظاهري أولاً ثم توسعة الشرطية، فعاد المحذور.

قلت: لا إشكال في إجراء أحكام الطهارة الواقعية مادام الجهل مستمراً، فإذا علم بالنجاسة فيأتي الكلام بأن عدم ترتب تلك الأحكام يکون من حين العلم أو ينكشف عدم ترتبها من الأول، فلا إشكال في ذلك الجعل أصلاً، فتأمل.

ص: 367

الإشكال الخامس: إنه لو كانت حكومة (الأصل) علی (الشرطية) توجب حكماً ظاهرياً، لزم القول بالحكومة في الأمارات أيضاً، لأنها تجعل حكم ظاهري مماثل.

ولا يخفی عدم ورود هذا الإشكال علی المحقق الخراساني، لعدم إلتزامه بالحكم الظاهري في الأمارات، بل يذهب إلی المنجزية والمعذرية.

نعم من يلتزم بالحكم الظاهري عليه بيان الفارق بين الأصل والأمارة.

وقد بين المحقق الإصفهاني(1) الفارق بأن:

1- الأصل يجعل فرد ظاهري في مقابل الفرد الواقعي مع قطع النظر عن الواقع، وحينئذٍ فلا يوجد خلاف حتی يتصور كشف خلاف، لأن الأصل وسّع موضوع الحكم.

2- وأما الأمارة فإنها تجعل الفرد الواقعي، أي إن مفاد الأمارة هو الواقع، فلا توسّع موضوع الحكم بل تتكفل لثبوت آثار الواقع علی ما اعتبر بالأمارة، فإذا تبين أنه غير واقع فقد انكشف الخلاف، فتأمل.

الإشكال السادس(2): بأن قاعدة الطهارة تقابل دليلين واقعيين:

1- دليل نجاسة الشيء وطهارته.

2- ودليل اشتراط الصلاة بالطهارة.

وقاعدة الطهارة لا تكون حاكمة علی الأول، لأنها لا توسع الموضوع ولا تضيّقه، فيدور الأمر بين التخصيص وبين الحكم الظاهري، ونتيجة الأول

ص: 368


1- نهاية الدراية 1: 392-394.
2- بحوث في علم الأصول 2: 161.

الإجزاء لأن الخاص هو حكم واقعي، وفي نتيجة الثاني احتمالان - من ملاحظة دليل الشرطية ومقايسته مع قاعدة الطهارة - :

أ) تنزيل المشكوك منزلة الطهارة الواقعية، فتفيد الحكومة الواقعية والإجزاء.

ب) التنزيل بلحاظ الجري العملي والوظيفة في حالة الشك، فلا إجزاء، لأنها تحدد الوظيفة العملية ولا تدل علی سقوط الواقع.

وحيث أخذ (الشك) في موضوع أصالة الطهارة، فالظاهر عرفاً هو المعنی الثاني، ولا أقلّ من الإجمال، فلا يمكن الحكم بالتوسعة الموجبة للإجزاء.

ثم إن المحقق الخراساني(1) فصّل بين الأمارات القائمة علی الموضوع فذهب إلی الإجزاء، وبين الأمارات القائمة علی الحكم فلا إجزاء.

وذلك للحكومة في الأول، وبذلك يتوسع دائرة موضوع الحكم، فيکون فرد جديد للموضوع يضاف إلی الفرد الواقعي - كما مرّ تفصيله - ، وأما في الثاني فلأنّ الأمارة تتكفل بإيجاد مصلحة في المتعلق بناءً علی السببية، وهذه المصلحة لا ترتبط بمصلحة الواقع غير المستوفاة، وأما بناءً علی الطريقية فلا تتحقق أيّة مصلحة، لا مصلحة جديدة ولا مصلحة الواقع، فتبقی مصلحة الواقع فيجب استيفاؤها.

وقد مرّ الإشكال علی الحكومة، فلا إجزاء مطلقاً.

الوجه الثاني - من طرق إثبات إجزاء الأمر الظاهري عن الأمر الواقعي - :

ص: 369


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 401.

ما ذكره المحقق الخراساني(1) من الإجزاء بناءً علی السببيّة في الجملة.

وذلك لأنه بناءً على السببيّة يکون مؤدی الأمارة ذا مصلحة واقعيّة، فتجري حينئذٍ الاحتمالات الثبوتية - التي ذكرت في المأموربه الاضطراري - ، وقد مرّ أن نتيجة ثلاثة من الاحتمالات هو الإجزاء، ونتيجة أحدها هو عدم الإجزاء، وحيث ينتفي هذا بالإطلاق تكون النتيجة هي الإجزاء.

وأورد عليه المحقق النائيني(2): بأن هذا يتم بناءً علی التصويب وهو باطل قطعاً، وأما السببية الممكنة فهي الذهاب إلی المصلحة السلوكية، وعليها يبقی الواقع علی ما هو عليه، ولا يکون مؤدی الأمارة ذا مصلحة في نفسه، بل أقصی ما هناك هو وجود مصلحة في العمل علی طبق الأمارة يتدارك بها ما فات من مصلحة الواقع، فتبين أنه لا وجه للإجزاء لا بالنسبة إلی القضاء ولا إلی الإعادة.

أما بالنسبة إلی الإعادة، فلأنه لم تفُت مصلحة العمل بالواقع مع بقاء الوقت وإمكان الاستيفاء، غاية الأمر أن سلوك الطريق كان فيه مصلحة يتدارك بها مصلحة أول الوقت.

وأما بالنسبة إلی القضاء، فلأنّ الفائت مصلحة الوقت دون مصلحة المجموع من الوقت والعمل، فاتباع الأمارة فيه مصلحة يتدارك بها مصلحة الوقت دون مصلحة أصل العمل.

إن قلت: إن مصلحة الوقت غير مستقلة، بل هي في ضمن مصلحة الصلاة،

ص: 370


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 398.
2- فوائد الأصول 1: 247-248.

فإذا أدرك مصلحة الوقت - عبر المصلحة السلوكية حيث عمل بالأمارة - فقد أدرك مصلحة الصلاة، لعدم الانفكاك، فلذا لا يلزم القضاء، وأما في الإعادة فإن مصلحة أول الوقت غير مرتبطة بمصلحة الصلاة، بل هي مصلحة استقلالية، فتكون نظير القنوت، حيث عدم تعقّل الجزء المستحب في ضمن واجب.

قلت: مع قطع النظر عن الإشكالات المبنائية، فإن تدارك مصلحة الوقت قد يکون بالجبران والتعويض، لا بتحقق مصلحة الوقت بنفسه الملازم لتحقق مصلحة الصلاة، وبعبارة أخری: إن المصلحة السلوكية هي مصلحة مستقلة عن مصلحة الواقع، فتحققها ليس بمعنی تحقق مصلحة الواقع، وحينئذٍ فالعمل بالأمارة المخالفة للواقع في الوقت كان فيه مصلحة مشابهة لمصلحة الوقت لا مصلحة الوقت بنفسه، وهذه المصلحة المشابهة لا تلازم تحقق مصلحة الصلاة.

وأجاب المحقق الإصفهاني(1) بعدم تلازم السببية مع التصويب حتی لو لم نقل بالمصلحة السلوكية.

بيانه: إمكان افتراض مصلحة في مؤدی الأمارة المخالفة للواقع - بما هو مؤدی أمارة مخالفة للواقع - ، وهذه المصلحة في عرض مصلحة الواقع، بمعنی كون المؤدی مشتملاً علی الملاك لا بعنوانه الأولي وفي نفسه، بل بالعنوان الثانوي.

وهذا يوجب الإجزاء لحصول الغرض، ولا يوجب التصويب الذي هو تبدل الحكم الواقعي التعييني إلی الأمر بالجامع بين الواقع وبين مؤدی الأمارة

ص: 371


1- نهاية الدراية 1: 405.

المخالفة للواقع بما هو مؤدّی أمارة مخالفة، لاستحالة ذلك، إذ لا يعقل أن يکون الجامع مأموراً به، بحيث يسري منه الأمر إلی الفردين تخييراً، إذ لابدّ من تعلق أمر بالواقع ثم مخالفة الأمارة له، وبعد ذلك يکون المؤدی ذا مصلحة ومصداقاً للجامع، فتأخر الجامع عن الأمر بالواقع بمرتبتين.

وبعبارة أخری: لا ثبوت لهذا الموضوع في حدّ موضوعيته في ضمن الواقع قبل تعلق الأمر بالجامع.

وبعبارة ثالثة: (مؤدی أمارة مخالفة للواقع) ليس له تقرر لولا الأمر التعييني بالواقع، إذ لو كان الأمر الواقعي تخييرياً لم تكن الأمارة متعلقة بما يخالف الواقع.

أقول: مضافاً إلى الإشكال المبنائي في المصلحة السلوكية، إنه على فرض ثبوتها فلا طريق لإثبات تداركها لمصلحة الواقع - سواء في الوقت أم في خارجه - ، كما لا طريق لإثبات كونها في عرض مصلحة الواقع.

وأما مسألة تأخر الجامع عن الأمر بالواقع بمرتبتين فيمكن الجواب عنه بما أجيب في أخذ قصد القربة في متعلق الأمر، فراجع، وتأمل.

البحث الثاني: انكشاف الخلاف بأمارة شرعية
اشارة

كما لو أجری أصالة البراءة ثم وجد خبراً صحيحاً دالاً علی الوجوب، فقد يکون ذلك في الموضوعات وقد يکون في الأحكام.

دليل عدم الإجزاء

أ) أما في الموضوعات، فقد ادعی المحقق النائيني(1) عدم الخلاف في

ص: 372


1- فوائد الأصول 1: 251.

عدم الإجزاء، فيكون نظير كون الشيء مستصحب الطهارة أو الملكية ثم قامت البينة علی النجاسة أو عدم الملكية، وذلك لأن الأمارات لها طريقية عن الواقع، وقد تبين خطؤها تعبداً، بل ثبت تعبداً طريق آخر وهو الأمارة المنجّزة، وعليه فتنتقض الآثار التي عمل بها بمقتضی الاستصحاب - مثلاً - .

ب) وأما في الأحكام الشرعية، كما في تبدل الاجتهاد، فالصحيح عدم الإجزاء في كل الصور سواء كان:

1- لأجل استظهار جديد خلاف الاستظهار السابق، كما لو كان يری عدم دلالة الأمر علی الوجوب ثم استظهر دلالته عليه، وليس سبب عدم الإجزاء هوأن استظهاره الأول لم يكن مستنداً إلی حجة شرعية بل إلی فهمه ورأيه وهو ليس بحجة، وذلك لحجية رأيه وفهمه مادام لم يتبدل، وإلاّ لما جاز العمل به مطلقاً، بل سبب عدم الإجزاء هو تبين خطؤه وعدم كونه طريقاً مع بقاء مصلحة الواقع علی ما هي عليه.

2- أم لأجل العثور علی دليل آخر يترجح علی الدليل الأول، لنفس الجهة، حيث إن الصحيح الطريقية وبقاء الواقع علی ما هو عليه، فانكشاف الخطأ يکون حجة شرعية علی عدم إدراك الواقع، فلابد من إدراكه.

نعم لو تعارضا وكانا متساويين وقلنا بالتخيير، فإن اختار الأول أجزأ، وإن اختار الثاني فعليه الاعادة أو القضاء، ولا يخفی أن هذا الفرض خارج عن الموضوع.

أدلة الإجزاء

وقد يقال بالإجزاء - فيما لو قامت الأمارة علی الحكم خلافاً للحجة السابقة - بوجوه، منها:

ص: 373

الوجه الأول: إن عدم الإجزاء يستلزم العسر والحرج، وكفاية الحرج والعسر والضرر النوعي في رفع أصل التكليف، كما في عدم وجوب السواك للمشقة(1)، ومثل الشفعة حيث عُلّلت في الأخبار بالضرر(2)، مع وضوح عدم عموميته لكل الأفراد ولجميع الأحوال.

وفيه(3): إنه من الخلط بين حكمة التشريع وعلة الحكم، ففي الحكمة لا حاجة إلی الاطراد، أما في العلة فقد جعل الضرر والحرج ونحوهما علة لنفي حكم ثابت، فيکون لها حكومة علی الأدلة الأولية، فلا تكون نوعية، لأن الحكومة كالتخصيص تقصر دائرة الأحكام الأولية بغير حالة الضرر والحرج، فيکون الحكم الأولي ثابتاً في غير صورة الضرر والحرج.

وبعبارة أخری: تارة المولی يلاحظ الحرج والضرر ونحوهما فلا يجعل حكماً، وتارة يشرّع الأحكام الأولية ثم يرفعها في حالة عروض الحرج ونحوه، ففي الأول يکون نوعياً وفي الثاني يکون شخصياً.

ولا يخفی أن مقتضی هذا الكلام هو اقتضاء القاعدة عدم الإجزاء، مع رفع اليد عنه في كل مورد ثبت الحرج ونحوه.

الوجه الثاني: إنه لا ترجيح للاجتهاد الثاني علی الاجتهاد الأول، بعد أن كان كل منهما مستنداً إلی الطرق الشرعية الظنية.

وبعبارة أخری: الحجة الثانية لا تمنع من حجية الأولی في ظرفها، فتكون

ص: 374


1- راجع الكافي 3: 22.
2- راجع الكافي 5: 280.
3- فوائد الأصول 1: 257.

لدينا حجتان، فلا ترجيح لأحدهما علی الأخری، مع كون إحداهما تقتضي الإجزاء والأخری عدمه.

وفيه: ليس هنا تعارض حتی يقال بأنه لا ترجيح، بل الكلام في زوال الأول بالثاني، وبعبارة أخری: الحجة الثانية لم تنف حجية الأولی في حينه إلاّ أنها تمنع من حجيتها فعلاً وبقاءً(1).

الوجه الثالث: ادعاء الإجماع علی الإجزاء.

وفيه: التأمل في تحقق هذا الإجماع، مضافاً إلی احتمال كونه مدركياً، وأنه دليل لبيّ، فلو فرض صحته فإنه يتمسك فيه بالقدر المتيقن، وهو سقوط الإعادة والقضاء، أما سائر الأحكام الوضعية فلا.

الوجه الرابع: ما عن الفصول(2) من أن المسألة الواحدة لا تتحمل اجتهادين ولو بحسب زمانين، والمراد جزئي المسألة، وإلا فكلّيها مما لا إشكال في تحملها لاجتهادين، وما أكثر تبدل رأي المجتهدين.

وفيه(3): إن كان المراد عدم تحملها اجتهادين في زمان واحد فذلك ضروري، لاستحالة اجتماع الضدين والنقيضين، وهذا لا يرتبط بما نحن فيه من تبدل الاجتهاد.

وإن كان المراد في زمانين، فذلك واضح البطلان، لعدم محذور عقلي أو نقلي في تعدد الاجتهاد في مسألة واحدة في وقتين مختلفين مع كون كل

ص: 375


1- فوائد الأصول 1: 258؛ منتقی الأصول 2: 68.
2- الفصول الغرويّة: 409.
3- فوائد الأصول 1: 258.

منهما طريقاً إلی الواقع.

وإن كان المراد من حيث الآثار فلا يترتب أثر الثاني بعد ترتب أثر الأول، فهو إدعاء من غير دليل.

البحث الثالث: في انكشاف الخلاف بالأصل

وهنا صورتان:

الصورة الأولی: انكشاف الخلاف بالاستصحاب.

سواء كان في الموضوع كما لو أجری أصلاً وعمل بمقتضاه ثم تبين له أن هناك استصحاب سببي حاكم علی ذلك الأصل، بحيث يکون العمل باطلاً، أم كان في الحكم كما لو قام دليل لديه علی وجوب الظهر في عصر الغيبة، ثم تبين له خللاً في الدليل فأجری استصحاب بقاء وجوب الجمعة الثابت في زمان الحضور.

أ) ففي الوقت: تجب الاعادة، لأجل هذا الاستصحاب، وقد يقال بجريان أصالة اشتغال الذمة.

ب) وفي خارج الوقت: يلزم القضاء، سواء قلنا بأن القضاء بالأمر الأول، أو قلنا بأنه بأمر جديد مع کون موضوع القضاء هو عدم الإتيان، وقد ثبت الأمر الجديد كما ثبت عدم الإتيان بمقتضی الاستصحاب.

وأمّا إن قلنا بأنه بأمر جديد مع كون موضوعه الفوت، فقد يقال: بعدم جريان الاستصحاب حينئذٍ لأنه أصل مثبت، فإن استصحاب عدم الإتيان لازمه العقلي أو العرفي هو الفوت، والفوت موضوع القضاء، وبعدم جريان الاستصحاب تجري أصالة البراءة ومقتضاها الإجزاء.

ص: 376

وقد يشكل علی ذلك بناءً علی كون موضوع القضاء الفوت(1).

أولاً: في الاستصحاب الموضوعي:

لأنّ جريان أصالة البراءة وعدم جريان الاستصحاب لكونه مثبتاً يستلزم منه عدم وجوب القضاء حتی إذا انكشف الخلاف في الوقت، لكنه قصَّر ولم يُعِدْ إلی أن خرج الوقت، فحينئذٍ يشك في توجه أمر جديد، ولا يمكن إثبات موضوعه - الذي هو الفوت - بالاستصحاب.

والجواب: إنه مع وجوب الفريضة ظاهراً، فإنه يصدق الفوت الظاهري، من غير حاجة إلی إثبات الفوت بالاستصحاب، ويکفي الفوت - واقعياً أم ظاهرياً - في تحقق موضوع القضاء.

إن قلت: لازم هذا الجواب هو وجوب القضاء حتی لو انكشفت صحة الصلاة، لأنه في الوقت جری في حقه حكماً ظاهرياً بالاعادة، فقصّر ولم يُعد حتی خرج الوقت، فتحقق الفوت الظاهري، فيتحقق موضوع القضاء حتی مع انكشاف صحة الصلاة التي صلاها في الوقت.

قلت: إنه يستفاد من دليل القضاء أنه لتدارك ما فات علی المكلفين، ويکون القضاء تبعاً للشيء المتدارك، فإن كان واقعياً كان القضاء كذلك، وإن كان ظاهرياً ً فالأمر بالقضاء ظاهري، فيرتفع الأمر بالقضاء مع انكشاف صحة الفريضة.

وثانياً: في الاستصحاب الحكمي:

لأنّ موضوع القضاء مركب من أمرين: الفوت، وكون الشيء واجباً،

ص: 377


1- بحوث في علم الأصول 2: 168-170.

والأول ثابت بالوجدان لأنه لم يصلّ الجمعة - في المثال - ، والثاني ثابت بالاستصحاب، وليس الأصل مثبتاً، لأنا لم نُر ِد به إثبات الفوت لأنه ثبت وجداناً، بل مجرد الوجوب.

وفيه: أن (الفوت) ليس منتزعاً عن عدم الإتيان بالشيء، بل عدم الإتيان بالشيء الواجب - فيما نحن فيه - ، فلابد من إثبات الوجوب أولاً لنتمكن من انتزاع عنوان الفوت، فعاد محذور الأصل المثبت، فتأمل.

الصورة الثانية: انكشاف الخلاف بالاشتغال - عبر العلم الإجمالي - .

كما لو كان يری التمام في بعض مسائل السفر، ثم تردد بين القصر والتمام، فحصل له علم إجمالي بوجوب أحدهما.

1- فقبل الصلاة، لا إشكال في لزوم الاحتياط بالجمع.

2- وبعد العمل بأحدهما، فهل يأتي بالآخر داخل الوقت، أو يقضيه في خارج الوقت؟

والكلام إنّما هو حسب مقتضی القاعدة، مع قطع النظر عن الأدلة الخاصة.

وقد يستدل بأدلة علی وجوب الإتيان بالآخر - أداءً وقضاءً - مما يعني عدم الإجزاء، منها:

الدليل الأول: استصحاب اشتغال الذمة، حيث علم اشتغالها بالصلاة - مثلاً - بدخول الوقت، ولا يعلم الإتيان بهذا الواجب، فمع الإتيان بالآخر - أداءً أو قضاءً - يقطع بفراغ ذمته، وبدون الإتيان به لا قطع بالفراغ.

وأشكل عليه: أما في الوقت: فلخروج أحد الطرفين عن محل الإبتلاء

ص: 378

حين حدوث العلم الإجمالي، وذلك لأنه قد أتی بالتمام مثلاً، فلا تكليف متوجه إليه، وإنّما يشك في توجه تكليف بالقصر، فالأصل البراءة.

وأما في خارج الوقت: فمضافاً إلی ذلك، فلأن القضاء بأمر جديد، ولا يعلم بتحققه، إذ لا يعلم الفوت ولا عدم الإتيان، فالأصل البراءة.

وفيه: إشكال مبنائي، وذلك لأن القضاء ليس بأمر جديد، ولعدم الفرق عقلاً في الواجب والحرام بين ما لو ارتكب أحدهما وخرج عن محلّ ابتلائه ثم حصل العلم الإجمالي، وبين ما لو حصل العلم الإجمالي قبل الارتكاب، نعم لو لم يكن محل ابتلائه أصلاً - لا قبل العلم ولا بعده - فالوجه البراءة فيما هو محل ابتلائه، فتأمل.

الدليل الثاني: تبعية القضاء للأداء، وحيث وجب في الوقت الاحتياط - بحسب العلم الإجمالي - وجب القضاء خارج الوقت أيضاً.

وأشكل عليه: أولاً: عدم معلومية الوجوب أداءً، بناءً علی خروج أحد الطرفين عن محل الابتلاء، كما ذكر في الوجه السابق.

وثانياً: إن وجوب الاحتياط عقلي، ومن غير المعلوم شمول دليل القضاء للواجبات العقلية.

وفيه: أن الواجب هو ما أمر به الشارع، وهو مجهول لنا، وإنّما الاحتياط كان للحفاظ عليه، ولا يعلم أداؤه لذلك الواجب.

وهذا نظير من جهل القبلة، فوجب عليه الاحتياط بالصلاة إلی الجهات الأربع، فصلی إلی أحدها فقط، فهل يلتزم بعدم وجوب القضاء عليه احتياطاً؟!

ص: 379

تكملة: في عدم إجزاء القطع

في الكفاية(1): لا ينبغي توهم الإجزاء في القطع بالأمر في صورة الخطأ، وذلك لأن الإجزاء إنّما هو في صورة كشف الأمر الشرعي عن وجود مصلحة في متعلقه، وحيث لا أمر - كما في صورة القطع - فلا إجزاء بعد انكشاف الخطأ.

وبعبارة أخری: الإجزاء فرع وجود الحكم، فيبحث في إجزائه وعدم إجزائه، أما في صورة القطع فلا حكم، بل تنجيز وإعذار، لأن القطع مجرد كاشف وليس له صلاحية إنشاء حكم، فمع انكشاف الخلاف لم يكن هناك سوی تخيّل الحكم.

وقد استثنی صاحب الكفاية(2) موردين:

الأول: كون المقطوع به مشتملاً علی كل المصلحة، واشتماله عليها إنّما هو في صورة القطع فقط لا مطلقاً، وإلاّ كان واجباً تخييرياً.

الثاني: كونه مشتملاً علی بعض المصلحة مع عدم إمكان تدارك الباقي، حتى لو كان الاشتمال علی بعض المصلحة مطلقاً - في حالة القطع وعدمها - ، إذ لا يستلزم ذلك الوجوب التخييري كما هو واضح.

فالإجزاء ليس لأجل امتثال الأمر المقطوع به، بل لخصوصية اتفاقية في المتعلّق.

ومثاله: الإتمام جهلاً بالقصر، والاخفات والجهر في مكان الآخر جهلاً أو

ص: 380


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 403.
2- إيضاح کفاية الأصول 1: 403-404.

نسياناً أو سهواً، وإنّما صحت الصلاة لأجل الاشتمال علی كل مصلحة الواقع في هذه الأحوال، أو لعدم إمكان تدارك المتبقي من مصلحة الواقع.

وعليه: لا يکون ذلك الفعل مأموراً به ولا متعلقاً للحكم، وإنّما هو محصّل لكل المصلحة في حال القطع أو لبعضها مع عدم إمكان تدارك الباقي.

وذهب المحقق البروجردي(1): إلی إمكان إدخال صورة أخرى في البحث، وهي ما لو كان القطع مأخوذاً شرعاً بنحو الموضوعية، كما في ذوي الأعذار بناءً علی جواز البدار لهم بمجرد القطع ببقاء العذر إلی آخر الوقت.

ويرد عليه: بأنه لو كان قطعاً موضوعياً وصفياً، فلا انكشاف للخلاف أصلاً، نعم لو كان القطع الوصفي جزءاً من الموضوع لجری هذا الكلام، فتأمل.

ص: 381


1- نهاية الأفكار 2: 255.

فصل في مقدمة الواجب

اشارة

وفيه بحوث:

البحث الأول: في أصولية المسألة

حيث إن البحث عن الملازمة بين وجوب ذي المقدمة ووجوبها، ثم من إثبات الملازمة يستنبط الحکم الفقهي وهو وجوب المقدمة.

لکن قد يقال إنها كلامية، أو فقهية، أو من المبادي الأحكامية.

1- كونها كلامية: لرجوعها إلی البحث عن استحقاق المثوبة علی الموافقة والعقوبة علی المخالفة.

وفيه: أولاً: إن العقوبة والمثوبة إنّما هما علی ترك أو فعل الواجب النفسي، وأما المقدمة فلا يترتب عليها ذلك.

وثانياً: مع إمكان بحثها أصولية - كما سيأتي - لا داعي للقول بالاستطراد فيها.

2- وكونها فقهية: لأنه بحث عن (الوجوب) للمقدمة، فلا تكون واسطة لاستنباط الحكم، بل هي بحث عن نفس الحكم الذي يعرض علی فعل المكلّف.

وأورد عليه: أولاً: إن البحث في المقدمة أعم من مقدمة الواجب والحرام والمكروه والمستحب، فالمهم هو البحث عن الملازمة بين ذي

ص: 382

المقدمة وبين المقدمة في الحكم.

وثانياً: بعدم انطباق ميزان المسألة الفقهية، وبانطباق ميزان المسألة الأصولية.

أما الأول(1): فإنّ الاستقراء يقتضي أن ملاك المسألة الفقهية هو وحدة الملاك والحكم والموضوع، فالمحمول دائماً شخصي بموضوع وحداني بملاك خاص، كما في مثل الصلاة واجبة.

وليس هذا الملاك متوفراً في مقدمة الواجب، لأن المحمول متعدد، فهي وجوبات متعددة مختلفة شدة وضعفاً، بموضوعات عديدة، بملاكات متعددة.

وأورد عليه(2): أولاً: بأنّ ضابط العلم إما الجامع بين المسائل وإما الغرض، ففرض ضابط بدونهما لا وجه له، وأما علم الفقه فهو ما يبحث عن العوارض الشرعية لفعل المكلّف، سواء تعدد ملاكه أم لا.

وفيه: أن ما ذكره في نهاية الأفكار إنّما هو نتيجة الاستقراء حسب ما ذكره، فيرجع إلی الضابط الأول، أي الجامع بين المسائل يکون واحداً موضوعاً ومحمولاً وملاكاً.

نعم يرد إشكال آخر، وملخصه أن الجامع هو الغرض، لا الموضوع ولا المحمول ولا الملاك، وذلك الغرض يترتب علی عوارض فعل المكلف.

وثانياً: بأن الملاك واحد، وهو عنوان المقدمية، فإنه هو الذي يوجب

ص: 383


1- نهاية الأفكار 1: 259.
2- منتقی الأصول 2: 98-99.

ترشح الوجوب علی المقدمة.

وفيه: أن عنوان المقدمية لا واقع له وليس هو سبباً للوجوب، وإنّما هناك عدة ترشحات للوجوب لا جامع حقيقي لها، نعم جامعها العنواني (عنوان المقدمية)، وهو ليس سبباً للوجوب، فتأمل.

وأما الثاني(1): فإنّ ميزان المسألة الأصولية هو ما يکون نتيجتها واقعة في طريق استنباط الحكم الفرعي، وهذا الميزان ينطبق علی ما نحن فيه، حيث يقال: هذه مقدمة الواجب، وكل مقدمة للواجب واجبة، فهذه واجبة، فإن المحمول في الكبری ليس شخصياً، فلا يصح النقض بالشرط المخالف للكتاب حيث يقال: إنه فاسد، وذلك لأن الفساد شخصي، بخلاف الوجوب في المقدمة حيث إنها وجوبات مختلفة متنوعة.

ويرد عليه: أن هذا تطبيق وليس استنباطاً، وقد مرّ أن المسألة الأصولية ما تقع في كبری الاستنباط، وأما التطبيق فإن جميع المسائل الفرعية لها مصاديق تنطبق الكبری علی تلك المصاديق.

3- وكونها من المبادي الأحكامية، ولذلك تقريران:

التقرير الأول(2): بأن بحث المقدمة ليس عن أحد الأدلة الأربعة الذي هو (العقل)، بل البحث في المبادي، وبيانه: أن (العقل) الذي هو أحد الأدلة الأربعة:

أ) إما يراد به الإذعان العقلي الموصل إلی حكم شرعي.

ص: 384


1- نهاية الأفكار 1: 260.
2- نهاية الدراية 2: 7.

وليس البحث في المقدمة عن وجوبها الشرعي، فلا يکون البحث مرتبطاً بموضوع علم الأصول، بل هو بحث عن ثبوت أو نفي قضية عقلية بحتة وذلك من المبادي.

ب) وإما يراد به نفس العقل أي إثبات شيء للعقل.

وليس البحث في وجوب المقدمة عن نفس العقل، بل المهم فيها البحث عن ثبوت الملازمة، وهي ما أذعن به العقل وهو غير نفس العقل.

ويرد عليه(1): إشكال مبنائي على إخراج ما يبحث عن نفس الموضوع عن المسائل وإدخاله في المبادي، بل المراد من عوارض فعل المكلف هو ما يشمل التعيين للموضوع، فما له دخل في استنباطه - أي يکون كبری للاستنباط - يکون من مسائل الأصول، وإلاّ فالخبر الواحد - مثلاً - ليس من عوارض السنة.

التقرير الثاني(2): إنه بعد عدم انطباق ضابط المسألة الأصولية، وهو رفع التحيّر، إذ هنا لا تحيّر حيث يعلم المكلف بأنه لابد من الإتيان بالمقدمة، سواء كانت واجبة أم لا. وبعد عدم انطباق ضابط المسألة الفقهية، وهو ما يبحث فيها عن العوارض الشرعية لفعل المكلّف، إذ وجوب المقدمة شرعاً لا أثر عملي له، فلا طاعة وعصيان، ولا ثواب وعقاب، ولا بعث وزجر...

فإنه ينطبق ضابط المبادي، لأن ثمرة هذه المسألة تحقيق صغری مسألة أصولية أخری وهي التعارض والتزاحم، فيما لو كانت المقدمة محرمة في

ص: 385


1- الأصول 1: 285.
2- منتقی الأصول 2: 100-101.

نفسها، فإن قلنا بوجوبها حصل التعارض بين الحرمة الذاتية وبين الوجوب المقدّمي، وإن قلنا بعدم وجوبها حصل التزاحم بين الحرمة الذاتية في المقدمة وبين الوجوب لذي المقدمة.

وحيث إن التعارض والتزاحم من مسائل الأصول، فإن البحث عن صغری المسألتين من المبادي، فتأمل.

ويرد عليه: الإشکال مبنی في ضابط المسألة الأصولية، فراجع أول الکتاب.

البحث الثاني: في تقسيمات المقدمة
التقسیم الأول: تقسيمها إلى مقدمة داخلية وخارجية
اشارة

أما الداخلية فهي الأجزاء المأخوذة في المأمور به، وأما الخارجية فهي ما كان خارجاً عن الماهية لكن يتوقف وجود المأمور به عليها.

1- أما الأجزاء الداخلية
اشارة

فالبحث فيها في مقامين:

المقام الأول: هل الأجزاء مقدمة داخلية؟

فيه إشكال، وقد تمَّ بيان الإشكال بصور مختلفة، وحاصله: أن المركب لا يکون إلاّ نفس الأجزاء، فيلزم من مقدميتها كون الشيء الواحد مقدماً ومؤخراً، وذلك لأن ذي المقدمة معلول، والمقدمة علّة أو جزء العلة.

وببيان آخر: إنه لابد من اثنينية بين ذي المقدمة وبين المقدمة، إذ ذو المقدمة يحتاج إليها، ولا يمكن احتياج الشيء إلی نفسه.

وببيان ثالث: إنها تقع في طريق وجوده، والشيء لا يقع في طريق وجود

ص: 386

نفسه.

وببيان رابع: إن بينهما تضايف، ولا يعقل ذلك في شيء واحد.

وأجيب: بأن للجزء جهتين، إحداهما جهة الذات، والأخری جهة اجتماع الجزء مع غيره من الأجزاء، وجهة الذات متقدمة علی جهة الاجتماع، لأن الأول معروض والثاني عارض، فالجزء لا بشرط عن الاجتماع، والكل بشرط شيء - وهو الاجتماع - ، وحيث حصل تقدم وتأخر فيمکن أن يکون أحدهما مقدمة للآخر.

وفيه تأمل: لأن ذي المقدمة ليس جهة الاجتماع، بل ذات الجزء بجهة الاجتماع، وحيث كانت المقدمة هي ذات الجزء عاد المحذور.

وبعبارة أخری: إن جهة الاجتماع أمر اعتباري في المركبات الشرعية، ففي الحقيقة إن الكل هو نفس الأجزاء لكن بهذا الاعتبار، نعم لو كان ذو المقدمة هو صفة الاجتماع بنفسه من دون دخل الموصوف لكان لهذا الجواب مجال.

المقام الثاني: في دخول المقدمة الداخلية في البحث

وذلك علی فرض إمكانها.

فقد يقال بعدم دخولها في البحث لجهتين:

الجهة الأولی: عدم المقتضي للوجوب الغيري فيها، وذلك لعدم وجود ملاکه، فإن تعدد الاعتبار - الموجب للمغايرة بين الكل والجزء - لا يجدي، لأن الملاك إنّما يرتبط بواقع الشيء لا بالاعتبارات الخارجة عن حقيقته.

اللهم إلاّ أن يقال: إن لقيد الاجتماع دخلاً في الملاك، فيکون للجزء بما هو ملاك الوجوب الغيري، وله بقيد الاجتماع ملاك الوجوب النفسي،

ص: 387

فتأمل.

الجهة الثانية: وجود المانع - علی فرض وجود المقتضي - ، وهو استلزامه لاجتماع المثلين، لأن الوجوب النفسي المتعلق بالكل متعلّق بالأجزاء حقيقة، لأن الكل هو عين الأجزاء، فلا يعقل وجوبها الغيري لاستلزامه اجتماع المثلين وهو محال.

إن قلت: يتأكد الوجوب، كالواجبات النفسية التي تقع مقدمة لواجب آخر، كصلاة الظهر حيث إنها مقدمة لصلاة العصر.

قلت: إذا كان الوجوب الغيري معلولاً للوجوب النفسي فلا يعقل التأكد، لاستلزامه تأثير المتأخر في المتقدم أو الخلف.

أما الأول: فلأنّ الوجوب الغيري متأخر، وهو يترشح من الوجوب النفسي، فيمتنع التأكد لأن المتأخر لا يعقل أن يؤكد المتقدم، حتی وإن كانا مقترنين زماناً لاستحالة تأثير المعلول في علته.

وأما الثاني: فلأنّ الوجوب النفسي علة للوجوب الغيري، فمع التأكد ينعدم الوجوب النفسي بحدّه الخاص ويحدث فرد جديد للوجوب مؤكد، فيلزم انعدام علة الوجوب الغيري، فينعدم الوجوب الغيري لانعدام المعلول بانعدام علته، وهذا خلف(1).

ويرد عليه: إن المقصود هو أن العلة والمعلول مجتمعين يکونان علة لمعلول آخر، فالوجوب النفسي والغيري معاً صارا علة لوجوب ثالث هو الوجوب المؤكد، وليس ذلك بمعنی زوال العلة الأولی ليکون خلفاً، ولا

ص: 388


1- منتقی الأصول 2: 105.

تأكد الوجوب النفسي الأول ليکون تأثيراً للمتأخر في المتقدم، بل حدوث وجوب ثالث هو الوجوب المؤكد.

مضافاً إلی أن الذي يحدث هو وجوب نفسي جديد، أي مرتبة شديدة من الوجوب السابق، وهو صالح لترشح الوجوب منه إلی المقدمة، إلاّ لو قيل باستلزامه للتسلسل، فتأمل.

إن قلت: إنه لو قلنا بكفاية تعدد العنوان في رفع محذور اجتماع الضدين، في بحث اجتماع الأمر والنهي، نقول بنظير ذلك هنا، أي كفاية تعدد العنوان لرفع محذور اجتماع المثلين، لأن النفسي يطرأ علی عنوان المركب، والغيري يطرأ علی الأجزاء بعنوان المقدمية.

قلت: إن عنوان المقدمية ليس جهة تقييدية بل تعليلية، فالوجوب ليس عارضاً علی عنوان المقدمية بل هو عارض علی ذات المقدمة ونفس الذات طرأ عليها الوجوب النفسي، فاجتمع المثلان، عكس ذلك الباب، حيث إن الوجوب طرأ علی عنوان الصلاة، والحرمة علی عنوان الغصب.

ثم لا بأس بنقل كلام المحقق العراقي في عدم مقدمية الأجزاء(1)، قال - ما محصّله - : إن الأجزاء وجودات مستقلة، لكن وحدتها باعتبار تعلّق الأمر بها، واتحاد المصلحة القائمة بها، وحينئذٍ بعد تعلّق الأمر بها ينتزع منها الجزئية والكلية حسب اللحاظ، فإن لاحظناها بما هي انتزعت الجزئية، وإن لوحظت مجتمعة انتزعت الكلية، بلا تقدّم وتأخر بينها.

مثلاً: السرير هو اجتماع الخشبات المختلفة، حيث يمكن أن يکون لكل

ص: 389


1- نهاية الأفكار 1: 263-264.

خشبة مصلحة مستقلة وتكليف مستقل، ويمكن كون الجميع تحت مصلحة واحدة وتكليف واحد.

وهذا يدل علی أن المناط ليس الوحدات الخارجية، وإنّما وحدة الوجوب المتعلّق بالمتكثرات، فلا يمكن أخذ تلك الوحدة الناشئة من قبل الأمر في متعلقه.

إن قلت: ليست الجزئية مقدمة للكلية كي يرد ما ذكرت، بل ذات الجزء - وهو لا يتوقف علی الأمر - مقدمة علی الجزء بصفة الاجتماع.

قلت: غاية ذلك هو مقدمية ذوات الأجزاء بالنسبة إلی الهيأة التي هي جزء المركب، لا بالنسبة إلي نفس المركب - وهو ذوات الأجزاء مع الهيأة الاجتماعية - وحينئذٍ:

فإن كان الواجب هو الهيأة، صارت الأجزاء مقدمات خارجية، وهذا خلاف الفرض، لأن الكلام في المقدمة الداخلية.

وإن كان الواجب الذوات مع الهيأة الاجتماعية، فالوجوب يتعلق بالأمور المتكثرة والتي منها الهيأة، إذ إن معروض الوجوب هو منشأ هذه الوحدة الاعتبارية، لقيام المصلحة بذلك المنشأ - لا بالاعتبار - فيکون معروض الوجوب هو المتكثرات الخارجية - ومنها الأجزاء - فلا توجد مقدمية حينئذٍ.

إن قلت: الوحدة اللحاظية متقدمة علی التكليف.

قلت: إن الوجوب لا يتعلّق إلاّ بما قامت به المصلحة واللحاظ، وهو لا يکون إلاّ الذوات المتكثرة الخارجية، لأنها هي المؤثرة في الغرض دون العنوان الطاري.

ص: 390

2- أما المقدمة الخارجية

وهي ما كان لها دخل في تحقق ذي المقدمة، سواء كان القيد خارجاً والتقيد داخلاً، أم كان التقيد خارجاً أيضاً، كالمقدمات العقلية كنصب السلّم للكون علی السطح.

فقد ذكروا لها أقساماً، ومنها:

1- الشرط: وهو ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده الوجود، كالطهارة بالنسبة إلی الصلاة.

2- عدم المانع: والمانع هو ما يلزم من وجوده العدم، ولا يلزم من عدمه الوجود، كاستدبار القبلة.

3- السبب: وهو ما يلزم من عدمه العدم، ويلزم من وجوده الوجود لذاته - أي في نفسه بأن لا يقترن مع عدم الشرط أو وجود المانع أو قيام سبب آخر - ، وبذلك يتضح أن العلة التامة من مصاديق السبب.

4- المعدّ: وهو ما كان له دخل في وجود الشيء، بأن يُهيّئ لوجوده من غير ترشح وجوده منه، سواء كان له دخل في وجود الجزء اللاحق من المقدمة كالخطوة الأولی، أم لم يكن له دخل كالبذر الذي يهيأ للزرع من غير توقف وجود الشمس والهواء علی البذر.

وقد ذكرت فروق ومناقشات ونقض وابرام، إلاّ أن هذه الكلمات اصطلاحات، ولا مشاحة في الاصطلاح.

ثم إن المحقق نائيني فصّل في العلة والمعلول(1): بين ما كان لهما وجود

ص: 391


1- فوائد الأصول 1: 269-270.

مستقل كالطلوع والنهار، وبين ما كانا فعل واحد معنون بعنوانين كالإلقاء والإحراق.

فالأول: يوجب المغايرة بين العلة والمعلول، فتكون داخلة في محل النزاع، حيث إن العلة لها وجوب مقدمي والمعلول له وجوب نفسي، حيث إنه مقدور بالواسطة فيمکن أن يکون متعلقاً للتكليف، وحيث إن المصلحة قائمة بالمعلول فلا تكون العلة واجبة نفسياً.

والثاني: لا يوجبها، إذ ليس هناك إلاّ فعل واحد معنون بعنوانين طوليين أولي وثانوي، وهذا في الحقيقة ليس من باب العلة والمعلول - إذ هما يستدعيان وجودين - ، فليس الإحراق معلول الإلقاء، بل المعلول هو الاحتراق، وإنّما الإحراق هو نفس الإلقاء لكن باعتبارين.

وبذلك يفرّق بين المسببات التوليدية التي لكل واحد منهما وجود يخصّه كطلوع الشمس والنهار، وبين العناوين التوليدية التي ليست لكل واحد منهما وجود يخصّه بل هما شيء واحد حقيقة بعنوانين كفري الأوداج والقتل.

وبهذا يظهر الفرق في أسباب الضمان بين المباشرة - العناوين التوليدية - ، وبين التسبيب - المسببات التوليدية - .

التقسیم الثاني: تقسيم المقدمة إلى عقلية وشرعية وعادية

وأشكل الكفاية(1) أولاً: برجوع الشرعية إلی العقلية، لأن قاعدة المشروط عدم عند عدم شرطه عقلية.

ص: 392


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 419-420.

وثانياً: بأن العادية: ان كانت المراد أنها حسب العادة بلا توقف، كلبس النعال للخروج من الدار، فهذه ليست بمقدمة أصلاً، وإن كان هناك توقف كالصعود علی السطح بواسطة السلّم رجعت إلی المقدمة العقلية وذلك لاستقلال العقل - بعد توسيط العادة - باستحالة تحقق المشروط بدون شرطه.

وأجاب المحقق العراقي(1): بأن هذا المقدار لا يقتضي رجوع الشرعية والعادية إلی العقلية، إذ محطّ نظر هذا التقسيم هو أصل الإناطة ومنشأه، وحكم العقل إنّما هو بعد تحقق الإناطة وتحقق منشأها...

1- فقد تكون الإناطة ذاتية، بلا توسط شيء من جعل شرعي أو قضاء عادة.

2- وقد تكون شرعية، أي محتاجة إلی اعتبار الشارع، كالصلاة في ظرف الطهارة، ولولا حكم الشارع لكان العقل يجوّز تحقق الصلاة من غير طهارة.

إن قلت: دخلها في المصلحة يجعلها عقلية.

قلت: يکفي في عدم كونها عقلية إمكان أن لا يعتبرها الشارع حين الأمر، لقيام مصلحة أخری كالتسهيل.

3- وقد تكون عادية، فلولا حكم العادة لم يحكم العقل بالتوقف، كما في علوم المعصومين (علیهم السلام) حيث إنها لدنيّه، مع أن العادة تقضي بحصول العلم بالتعلّم لمدّة مديدة.

وأما المحقق الإصفهاني فقال(2):

ص: 393


1- نهاية الأفكار 1: 270.
2- نهاية الدراية 2: 28.

1- بأن التقسيم قد يکون بلحاظ الحاكم بالمقدمية، فهذا التقسيم غير صحيح، لأن العادة ليست حاكمة إذ لا يراد منها العرف هنا، بل المراد منها هنا هو طبع الشيء بلا قسر قاسر.

2- وقد يکون بلحاظ التوقف في حدّ نفسه، فالواجب بما هو إما متقيد بوجود ما يسمّی مقدمة مع قطع النظر عن الأنظار ووجوه الاعتبار، فالتوقف واقعي، وإما متقيد بحسب جعل الجاعل واعتبار المعتبر، فالتوقف جعلي، كالصلاة فإنها بما هي حركات لا تتوقف علی الوضوء مع قطع النظر عن جعل الشارع.

إن قلت: المقدمة العادية هي مقدمة عقلية، لاستحالة صعود السطح بلا نصب سلّم، حيث لا جناح ولا قدرة خارقة، لاستحالة تحقق المعلول من غير علة.

قلت: قد يستحيل الشيء برهاناً بالامتناع الذاتي، كالطفرة، فيکون كطي المسافة للوصول إلی السطح، فتكون مقدمة عقلية، وقد يستحيل الشيء لا برهاناً، بل الامتناع وقوعي كالطيران حيث إن الجسم الثقيل بالطبع ليس له الطيران إلاّ بقاسر من جناح أو قوة خارقة مع إمكان الطيران ذاتاً فلا تکون مقدمة عقلية بل عادية، نعم بالنسبة إلی عدم القوة عقلي.

والحاصل: إن أصل الجامع - وهو طي المسافة - عقلي، لكن إنحصار الجامع في نصب السلّم مثلاً يکون سبباً لكونه واجباً بالعرض فهو عادي، فتأمّل.

التقسیم الثالث: تقسيمها إلى مقدمة الوجود والوجوب والصحة والعلم

فالأول: كنصب السلّم للكون علی السطح، والثاني: كالاستطاعة للحج،

ص: 394

والثالث: كالطهارة للصلاة حيث يستحيل اتصاف الذات بالصحة بدونها، والرابع: ما يتوقف العلم بالشيء عليه، سواء كانت من الأقل والأكثر كغسل فوق المرفق، أم من المتباينين كالصلاة إلی الجهات الأربع.

وأشكل علی الأول: بأن مقدمة الوجود إما راجعة إلی مقدمة الوجوب إذا كان دخل الشيء في اتصاف الذات بالوصف العنواني - أي الوجوب - ، وإما راجعة إلی مقدمة الواجب إذا كان دخله في وجود المتصف فارغاً عن أصل الاتصاف - كالوضوء للصلاة - .

ويرد عليه: بأن المراد هو الشق الثاني، ومقدمة الواجب هي نفس مقدمة الوجود، إذ يتوقف عليها وجوده خارجاً، ولا مانع من دخول شيء واحد في تقسيمات متعددة باعتبارات مختلفة.

وأشكل علی الثاني: بأنه لا يتحقق الوجوب إلاّ بعد تحقق المقدمة، ومع وجود المقدمة لا يترشح الوجوب إليها، لأنه يکون طلباً للحاصل.

وأشكل علی الثالث: بأن مقدمة الصحة ترجع إلی مقدمة الوجود، بناءً علی أن العبادات أسامي للصحيحة.

إن قلت: إن ذلك مختص بالعبادات دون سائر الواجبات التوصلية.

قلت: إن الغرض إنّما هو في مقدمة الواجب، لا مقدمة المسمّی بالواجب، فإنه لا كلام في عدم ترشح الوجوب من المسمی غير الصحيح وذلك لعدم وجوبه أصلاً، وبذلك يتضح أنه حتی علی مبنی الأعم لا ترشح إلاّ من الصحيح.

وأشكل علی الرابع: أولاً: بأن وجود الواجب لا يتوقف علی المقدمة

ص: 395

العلمية أصلاً، فالصلاة إلی الجهات الأربع لا تكون دخيلة في حصول نفس الواجب، بل في حصول العلم بالامتثال، ووجوب هذا العلم عقلي لا شرعي.

وثانياً: بأن تحصيل العلم - في غير المعارف الاعتقادية - ليس واجباً شرعياً كي يبحث عن الوجوب الشرعي لمقدماته، وقد أحصی المحقق العراقي(1) موارد وجوب تحصيل العلم وأرجعها إلی الوجوب العقلي:

1- في فراغ الذمة عند العلم الإجمالي، فإن العلم عقلي محض، وذلك لكي لا يقع في محذور مخالفة التكليف الثابت المنجز ذلك التكليف بالعلم الإجمالي.

2- وفي وجوب الفحص في الشبهات البدوية الحكمية، وذلك بحكم العقل أيضاً، وهذا الوجوب إما لعدم تحقق حكم العقل بقبح المؤاخذة، وإما لمنجزية التكليف الواقعي - علی تقدير وجوده - وعدم معذورية المكلف لولا الفحص، وحكم الشارع حينئذٍ إرشادي.

3- وفي الأمر بالتعلّم، والمؤاخذة علی عدمه في قوله: «أ فلا تعلّمت»(2)، وهذا الأمر إرشادي أيضاً لحكم العقل بعدم جواز الرجوع إلی البرائة إلاّ بعد الفحص، ولو كان الحكم مولوياً لأمكنه الإجابة بأنه لم يكن يعلم بوجوب تحصيل العلم بالأحكام الشرعية، ووجوب هذا موجب للتسلسل.

4- وفي الشبهات الموضوعية الواجب فيها الفحص، فالوجوب عقلي أيضاً، أما علی مبنی وجوب الفحص فيها جميعاً إلاّ ما خرج فلمنجزية

ص: 396


1- نهاية الأفكار 1: 271-272.
2- أمالي المفيد: 228.

التكليف الواقعي بحكم العقل، وأما علی مبنی عدم وجوب الفحص فيها إلاّ ما خرج، فلأن تلك الموارد خارجة بحكم العقل وأمر الشارع إرشاد، فإما تدخل في منجزية العلم الإجمالي كالفحص عن دم العُذْرة والحيض لدوران الأمر بين وجوب أو حرمة الصلاة والصوم، وإما تدخل في منجزية احتمال التكليف للواقع وعدم المعذرية في الرجوع إلی الأصول النافية لولا الفحص كما في الأمر بالبحث عن الماء بمقدار غلوة أو غلوتين.

اللهم إلاّ أن يقال: بأنه لا يحكم العقل بالمنجزية لولا حكم الشارع بوجوب الفحص، ولولا ذلك لوجب الفحص في كل الشبهات الموضوعية، فتأمل.

التقسیم الرابع: تقسيم المقدمة إلى متقدمة ومقارنة ومتأخرة
اشارة

وقد أشكل باستحالة المقدمة المتأخرة، والذي منها الشرط المتأخر، وحاصل الإشكال: إما تأثير المعدوم في الموجود لو كان تأثير الشرط حين تحقق المشروط، وإما لزوم تغيير الواقع عما وقع عليه لو كان التأثير من حين تحقق الشرط.

وبعبارة أخری: إن معنی الشرط هو كونه دخيلاً في وجود المشروط، فيکون من أجزاء العلة، وتأخر الشرط معناه تأثير المعدوم في الموجود أو تغير الموجود عمّا وقع عليه.

بل قد يقال بتعميم الإشكال إلی الشرط المتقدِّم المنقضي عند وجود المشروط، كالإيجاب في العقد، بل أجزاء القبول غير الجزء الأخير.

فالبحث في ثلاثة مواطن:

ص: 397

الموطن الأول: الشرط المتأخر للحكم التكليفي أو الوضعي

ذهب المحقق الخراساني(1) إلی أن شرط الحكم هو الوجود العلمي للشرط لا الوجود الواقعي، والوجود العلمي مقارن للحكم مطلقاً.

وقد يوجّه كلامه بلزوم كون العلة والمعلول في عالم واحد - الذهن أو الخارج - للزوم السنخية بينهما، فلا تؤثر الأمور الخارجية في المتصورات، وكذا العكس، وحيث إن الحكم صادر عن إرادة الآمر فلا معنی لتأثير الخارج فيه، بل الإرادة في نفس المولی، فمقدماتها ذهنية، ومن تلك المقدمات تصوّر الشيء، وهذا التصور هو المؤثر في الحكم ويوجب إرادته.

والحاصل: إن المؤثر هو العلم بالشيء وهو مقارن مطلقاً، لا متأخر.

إن قلت: فلماذا سميت الأمور الخارجية بالشرط؟

قلت: بلحاظ كونها متعلقاً للشرط.

وأشكل عليه المحقق النائيني(2): بأن ذلك خلط بين القضايا الخارجية والقضايا الحقيقية، حيث إن ما ذكره يرتبط بالقضايا الخارجية، وهي ليست محل البحث في الشرط المتأخر.

وذلك لأن موضوع الحكم...

1- قد يکون شيئاً متحققاً في الخارج، وهو ما يعبر عنه بالقضايا الخارجية، والدخيل في ملاك الأمر في هذه القضايا هو علم المولی بتحقق

ص: 398


1- إيضاح کفاية الأصول 1: 428.
2- فوائد الأصول 1: 276-278.

الموضوع وبكونه ذا مصلحة، فيتصور - مثلاً - وجود زيد وأنه صديق فيأمر بإكرامه، حتی لو كان عدواً في الواقع، وفي هذه القضايا لا يمكن تصور شرط متأخر، إذ الشرط هو العلم وهو مقارن دائماً.

2- وقد يکون شيئاً مفروض الوجود مع قطع النظر عن تحققه في الخارج، وهو ما يعبر عنه بالقضايا الحقيقية، وفيها لا يکون تشخيص تحقق الموضوع مهمة المولی، وبناءً عليه يمكن انفكاك الجعل عن المجعول، نظير الوصية التمليكية.

والحاصل: إنّ المؤثر في التكليف في القضايا الخارجية هو علم المولی بتحقق الموضوع، وفي القضايا الحقيقية تحقق الموضوع خارجاً، سواء علم به المولی أم لا، إذ الحكم يدور مدار تحقق الموضوع لا علی مدار علم المولی، فكلام صاحب الكفاية إنّما هو في القضايا الخارجية وليس كلامنا فيها.

وأجيب عنه: أولاً: بما يستفاد من كلمات المحقق العراقي(1): باستحالة انفكاك الجعل عن المجعول، لأن نسبتهما هي نسبة الإيجاد إلی الوجود، وهما متحدان ذاتاً وإنّما التغاير بالاعتبار، فلو لوحظ الشيء بالنسبة إلی الفاعل كان إيجاداً ولو لوحظ بالنسبة إلی القابل كان وجوداً.

إن قلت: كيف ذلك ونشاهد كثيراً عدم تحقق المجعول إلاّ بعد حين؟

قلت: لا انفكاك بين الجعل والمجعول، وإنّما قد تتأخر بعض آثار المجعول، وذلك بلحاظ احتياج الآثار إلی أمور أخری، فيکون المجعول

ص: 399


1- راجع نهاية الأفكار 1: 281.

كالمقتضي والمعدّ.

وهذا نظير ما يقال في مراتب الحكم، فإن الإنشاء لا باعثية له إلاّ بعد تحقق مجموعة من الأمور وعندها يتحول الحكم إلی الفعلية ثم التنجّز.

مثلاً: في وجوب الحج ليس المجعول سوی الوجوب علی المستطيع، وهذا متحقق بمجرد الجعل، أما كون هذا المجعول له أثر الباعثية ونحوها فهو مرتبط بأمور أخری غير الجعل.

وعليه فإن المولی لاحظ الموضوع في القضايا الحقيقية أيضاً كملاحظته للموضوع في القضايا الخارجية وهذا اللحاظ مقارن.

والحاصل: إن المولی يتصور الموضوع - وهو من يُفرض أنه مستطيع - ثم يجعل الحكم عليه، فيوجد حكماً يتعلق بذلك الشيء المفروض الوجود، نعم فعلية وتنجز ذلك الحكم متوقفة علی أمور أخری.

إن قلت: شرط الوجوب يکون مؤثراً في إتصاف الفعل بأنه ذو ملاك ومصلحة، كالاستطاعة في وجوب الحج حيث لا ملاك للوجوب بدونها، وذلك أمر تكويني خارجي، يکون المؤثر فيه الشرط بوجوده الخارجي لا اللحاظي، فرجع إشكال تأثير المتأخر في المتقدم.

قلت: يمكن القول بعدم دخالة الشرط المتأخر في الملاك، لكن عدمه موجب لعدم تحقق الملاك أو إفساده وعدم تأثيره، وهذا أمر واقع كثيراً في العرفيات، ككون شرب الدواء له فائدة بشرط الحمية مثلاً بعد ذلك(1).

وثانياً: بأنه من الصحيح لزوم تحقق الموضوع - بما له من الأجزاء

ص: 400


1- بحوث في علم الأصول 2: 181.

والتقيدات والحدود - قبل مجيء الحكم، ولكن المدعی هو تحققه بجميع ما يعتبر فيه من الحدود والتقيدات فعلاً بمحض تحقق القيود في مواطنها - سابقاً أو مقارناً أو لاحقاً - ، نظراً إلی كشف تحقق القيد في موطنه المتأخر في الواقع عن كون الأمر السابق محدوداً بالحدود التي بها يترتب عليه الأثر، فالشرط المتأخر إنّما هو طرف في الإضافة، وليس مؤثراً(1).

وعليه فلا فرق بين القضايا الحقيقية والخارجية من جهة تحقق جميع ما يعتبر فيهما حين الحكم، فتأمل.

الموطن الثاني: الشرط المتأخر للواجب
اشارة

والإشكال فيه إما بحسب الواجب أو بحسب الملاك.

وأما الأول: فيمكن الجواب عنه بما مرّ عن المحقق العراقي بأنه ليس من باب التأثير كي يستشكل في تأثير المتأخر في المتقدم، بل من باب حدود الوجود والحصة، فيرجع في حقيقته إلی تخصيص الواجب بخصوص الحصة التي يعقبها الشرط.

وبعبارة أخری: تخصيص المفهوم المأخوذ في متعلّق الأمر، وهذا المفهوم كما يمكن تخصيصه بقيد متقدم كذلك بقيد متأخر.

وأما الثاني: فالإشكال في كون الملاك أمراً تكوينياً، فالشرط في الحقيقة له دخل في ذلك الملاك فيکون مؤثراً حقيقة.

وأجاب عنه المحقق الخراساني(2): بأنه ليس الملاك المصلحة - التي هي

ص: 401


1- نهاية الأفكار 1: 281.
2- إيضاح کفاية الأصول 1: 432-433.

أمر تكويني - ، بل هو عبارة عن الحسن والقبح، وهما من المقولات الاعتبارية الواقعية، فيمکن استناده إلی شرط من جنسه، كالتعقب والمسبوقية، فيمکن انتزاع الحسن أو القبح من الفعل بهذا الاعتبار.

فالسبق واللحوق تنشأ من مقايسة العقل بين الصوم والغسل - مثلاً - وهذه المقايسة حاضرة دائماً لدی العقل، فصار شرطاً مقارناً.

وأشكل عليه(1): بتعقل الشرط المتأخر حتی في باب المصلحة، وأنه غير مختص بأحكام الآمر، مثلاً يأمر الطبيب بشرب دواء صباحاً مشروطاً بشيء متأخر كالحمية ليلاً، فلابد من الجواب بطريقة يدفع الإشكال حتی في باب المصلحة.

وقد أجيب: بأن الفعل المشروط ليس علة للمصلحة، وأنها لا توجد بفعله، بل ذلك الفعل يوجد أثراً وهذا الأثر باق إلی زمان تحقق الشرط، فبمجموع ذلك الأثر وهذا الشرط تتم أجزاء العلة للمصلحة، ففي المثال: شرب الدواء يوجد أثراً في الجسم وهذا الأثر باق إلی حين الحمية الليلية، فينضم ذلك الأثر مع هذه الحمية فتحقق علة البرء.

فرع: في غسل المستحاضة

ثم إن المثل الشائع للشرط المتأخر للواجب هو غسل المستحاضة الكثيرة ليلاً بعد انقضاء الصوم حيث ذهب بعض الفقهاء إلی توقف صحة الصوم عليه.

وقد يشكل: من جهة أخری غير جهة تأخر الشرط عن المشروط، وهو أن

ص: 402


1- بحوث في علم الأصول 2: 183.

شرط صحة الصوم ليس الغسل بنفسه وإنّما الطهارة المسبَّبة عن الغسل - كما هو الأصح - فالغسل دخيل في تحقق الطهارة المعتبرة في الصوم السابق، وهذه الطهارة إما تتحقق في حال الصوم فيلزم تأثير المعدوم، وإما تتحقق حال الغسل فيلزم وقوع العمل بلا طهارة، وإما أن يقال إن الشرط هو التعقب بالطهارة، ومعنی ذلك عدم شرطية الطهارة بنفسها وصحة الصوم بلا طهارة وهذا يصعب الالتزام به.

نعم لو قيل بأن الشرط ليس الطهارة وإنّما هو نفس الغسل، فيمکن القول بأن الشرط هنا هو التعقب بالغسل كسائر موارد الشرط المتأخر، نظير ما يقال في العقد الفضولي وأنّ الإجازة اللاحقة كاشفة، فالشرط هو التعقب بالرضا وهو متحقق حين العقد.

بل قد يقال: إن المورد هنا أكثر إشكالاً من مورد العقد الفضولي(1)، وذلك لجهة أن المؤثر هناك هو العقد وهو أمر تكويني، وهو متعنون بعنوان التعقب بالرضا وهو أمر انتزاعي، والمؤثر هنا هو نفس عنوان التعقب - حيث إن التعقب بالطهارة هو المؤثر من غير أن يکون عنواناً لشيء آخر - ، فصار المؤثر العنوان الانتزاعي البحت، وخاصة فيمن اغتسلت غسلها الأول لصلاة الفجر بعد دخول الوقت بقليل حيث تقع اللحظات الأولی من الفجر قبل الغسل، ففي تلك اللحظات الصوم صحيح لكن المؤثر في الصحة عنوان انتزاعي بحت - وهو التعقب بالطهارة - .

ويمكن الجواب: باختيار شقّ رابع وهو أن صحة صوم المستحاضة

ص: 403


1- منتقی الأصول 2: 132؛ راجع فوائد الأصول 1: 282-284.

مشترط بالطهارة ومشترط أيضاً بغسل وطهارة لاحقتين، فهي حين العمل طاهرة لكن لا يكفي ذلك لصحة صومها بل لابد من تحقق شرط آخر وهو اغتسالها وطهارتها بالليل وحينئذٍ يكون هذا الشرط الثاني بمعنى تعقّب الصوم بالغسل الليلي.

كما يمكن القول بأن العبادات - ومنها الصوم - مركبات اعتبارية فلا مانع من كون المؤثر فيها الأمور الانتزاعية أو الاعتبارية، فتأمل.

الموطن الثالث: الشرط المتقدم

والإشكال فيه بنفس الإشكال في الشرط المتأخر، حيث إن العلة يلزم أن تكون مقارنة للمعلول بتمام أجزائها فلو تقدم بعضها وأثّر بعد انقضائه كان من تأثير المعدوم.

والجواب: هو نفس ما مرّ من أن الحصة هي المأمور بها، أو أن ذلك المتقدم يوجب أثراً باقياً وحين تحقق سائر الأجزاء تنضم إلی هذا الأثر فتتم العلة فيتحقق المشروط.

ولذا قيل(1): إن الشرط إذا كان متمماً لفاعلية الفاعل أو قابلية القابل فلابد أن يکون مقارناً مع المعلول، وأما إذا كان مُعدّاً - بمعنی كونه مقرباً للشيء من الامتناع إلی الإمكان بحيث يوجد إذا تحققت علته - فلا إشكال فيه، وذلك لأنّ المُعدّ إما يکون علّة للعلة كالخطوة الأولی التي هي علة للكون في المكان الثاني، وإما يكون علة للأثر الباقي بعد زوالها - حيث إنها علة محدثة لا مبقية - ، وذلك الأثر يکون جزءاً من العلة.

ص: 404


1- راجع نهاية الدراية 2: 33.
البحث الثالث: تقسيمات الواجب
التقسیم الأول: تقسيمه إلى مطلق ومشروط
اشارة

ولا يخفی أن كل واجب مطلق هو مشروط ولو من جهة الشرائط العامة للتكليف، فالمراد إطلاقه أو اشتراطه بالنسبة إلی قيد من القيود.

ثم إن البحث في إمكان الواجب المشروط في مرحلتين: الثبوت والإثبات.

المرحلة الأولى: في الغرض وفي الإرادة من المولى

1- فقد يكون القيد دخيلاً في الملاك والغرض، بأن تكون المصلحة وغرض المولی في المقيَّد لا في المطلق، وهذا لا كلام فيه.

2- وقد يكون البحث في إمكان الإرادة المشروطة، حيث إن الأمر دائر بين وجود الإرادة وعدم وجودها، فكيف يمكن اشتراط الإرادة بشيء؟

وبعبارة أخری: إن كانت الإرادة موجودة فلا معنی لتعليقها بشيء، وإن لم تكن موجودة فلا معنی للوجوب إذ هو فرع الإرادة.

ولتصحيح الواجب المشروط وجوه، منها:

الوجه الأول:

ما ذهب إليه الشيخ الأعظم، من أن الإرادة غير مشروطة، وإنّما المشروط هو المراد، وهو متعلق الإرادة.

ومثاله العرفي: قول الطبيب إن مرضت فاشرب الدواء، فالمراد - وهو شرب الدواء - مقيّد بحالة المرض، لا هذه الإرادة، بل هي مطلقة.

ومثاله الشرعي: حجّ إن استطعت، فإرادة المولی غير مقيدة بالاستطاعة، بل هو يريد فعلاً لكن المراد وهو الحج مقيّد بها.

ص: 405

والدليل علی ذلك أمران:

الدليل الأول: إن المولی إذا إلتفت إلی شيء فإما يريده أو لا يريده، والثاني خارج عن محل البحث لأن المفروض وجود الأمر، والأول معناه وجود الإرادة، وإذا وجد الشيء بقيوده وحدوده فلا معنی لاشتراط وجوده بشيء، لأنه موجود فعلاً.

وبعبارة أخری - كما قيل - : لابد من وجود إرادة في الجملة، للفرق بين الواجب المشروط وغير الواجب، فنتسائل: قبل تحقق الشرط إما الإرادة فعلية وهذا يستلزم رجوع القيد إلی المراد، وإما غير فعلية وهذا خلاف الوجدان لأنا نجد فرقاً بين شخصين غير مريضين أحدهما قرّر شرب الدواء حين المرض، والآخر قرّر عدم شربه حين المرض، فالأول له إرادة فعلية دون الثاني.

الدليل الثاني: إن صدور الأمر من المولی وطلبه للفعل - قبل تحقق الشرط - دليل علی وجود الإرادة، ولولا الإرادة لما أمر المولی ولما طلب الفعل من العبد.

والجواب عنهما: أن هنالك شقاً ثالثاً وهو وجود إرادة مقيدة من قبيل ضيق فم الركية، وبعبارة أخری: توجد إرادة فعلية لكنها مشروطة بما سيأتي بيانه.

الوجه الثاني:

في الواجب المشروط تكون الإرادة فعلية، مع رجوع القيد إلی نفس الإرادة لا المراد، وليس القيد هو وجود الشرط خارجاً، بل القيد هو لحاظه، وهذا اللحاظ فعلي حين وجود الإرادة، نعم فاعلية الإرادة - بمعنی ترتب

ص: 406

الأثر عليها - مشروط بتحقق الشرط خارجاً(1)، وذلك لأن الإرادة من عالم النفس فلابد أن يكون قيدها من الأمور الذهنية.

وأشكل عليه: بأن مجرد التصور لا يكون شرطاً للإرادة، بل لابد من التصديق بوجوده، فمثلاً مجرد تصور العطش لا يكفي في إرادة شرب الماء.

وفيه تأمل: لأن اللحاظ ليس هو التصور المجرد، بل هو توجه النفس إلى الشيء، فيكون الواجب المشروط من قبيل القضية الشرطية التي هي صادقة حتى مع عدم تحقق طرفيها، فتأمل.

الوجه الثالث:

ما يقال: من أنه في الواجب المشروط إرادتان(2)، لكل واحدة منهما أثر.

الأولى: إرادة بالعمل الذي له شرط، كشرب الماء المشروط بالعطش.

وهذه ليست إرادة فعلية قبل تحقق الشرط وجداناً، بل تتحقق عند تحقق الشرط، فلذا قبل تحقق الشرط لا إرادة للفعل لذا لا يكون الفعل واجباً لعدم إرادة المولی له، كالحج قبل الاستطاعة حيث لا إرادة له.

الثانية: إرادة لا تتعلّق بالعمل، بل تتعلق بالجامع بين (شرب الماء) و(الارتواء)، وهي إرادة فعلية، ولذا لا يذهب إلی مکان يعلم بأنه يعطش فيه بما لا يمكنه شرب الماء، وذلك لأن الجامع كان سبباً إلی عدم ذهابه، مع عدم كونه سبباً إلی شربه الماء، لفعلية إرادة الجامع وعدم فعلية إرادة

ص: 407


1- نهاية الأفكار 1: 295-296.
2- بحوث في علم الأصول 2: 191.

شرب الماء، فتأمل.

الوجه الرابع:

في الواجب المشروط يريد المولی الحكم الإنشائي لا الحكم الفعلي، لكن هذا الحكم الإنشائي يصير فعلياً مع تحقق الشرط.

ثم لا يخفی أن الوجوه الثلاثة الأخيرة كلّها ممكنة ثبوتاً، وبكل واحد منها يندفع إشكال استحالة رجوع القيد إلی الإرادة، ومع عدم الاستحالة لا وجه لصرف القيد عن ظاهره اللفظي.

المرحلة الثانية: في رجوع الشرط إلى الوجوب
اشارة

والبحث إنّما هو فيما إذا كان الوجوب مستفاداً من صيغة الأمر، لا من دليل لبيّ أو من مفهوم اسمي، وهنا مقامات:

المقام الأول: في إشكالات على رجوع القيد إلى الهيأة

وقد أشكل علی رجوع الشرط إلی الوجوب بإشكالات، منها:

الإشكال الأول: إن الوجوب مستفاد من الهيأة، وهي معنی حرفي، وهو جزئي، فلا يكون قابلاً للتقييد، حيث إن التقييد يكون في المفاهيم الكلية.

وبعبارة أخری: إنه لا مجال للإطلاق والتقييد في ما كان الموضوع له خاصاً، إذ الفرد الموجود من الطلب لا يعقل أن يكون مطلقاً، وإذا استحال الإطلاق استحال التقييد، لتقابلهما تقابل العدم والملكة.

وأجيب: أولاً: مبنیً: بعمومية الموضوع له في الحروف.

وبناءً: بأن الفرد الموجود ينشأ من الأول مقيداً، فيكون القيد من حدود وجوده.

ص: 408

وثانياً: بإمكان التقييد في الجزئي الحقيقي باعتبار الحالات الطارئة العارضة، كتقييد زيد بكونه في زمان معين أو مكان معين.

وفيه: أن التقييد هنا يرجع إلی الذات لا الحالات، حيث إن الوجوب هو مفاد الهيأة وليس الوجوب من عوارض المفاد.

وثالثاً: ما قيل: من الفرق بين التضييق والتعليق، فالأول غير ممكن، أما الثاني فممكن بمعنی توقف وجوده علی شيء.

الإشكال الثاني: إن المعنی الحرفي يلاحظ آلياً، فلا يمكن التوجه إلی إطلاقه وتقييده.

أورد عليه: أولاً: ما مرّ من إمكان التوجه إلی الحروف ومعانيها، فقد يغفل الإنسان علی التوجه إليها لكن لا بمعنی عدم إمكان ملاحظتها، ولذا قد يختار المتكلّم الحروف المناسبة لكلامه فيتوجه إليها استقلالاً، كما أنه في بعض المرادات يكون كل الغرض في المعنی الحرفي في مثل (في المسجد) في جواب (أين زيد) حيث كل الغرض في الظرفية المستفادة من (في).

وثانياً: إمكان تقييد المعنی الحرفي عن طريق معنی اسمي يشير إليه، كما في وضع الحروف لمعانيها، حيث إنه حكم عليها بواسطة معنی اسمي.

هذا مضافاً إلی ما مرّ من الإشكال علی كون المعنی الحرفي يلاحظ آلياً.

الإشكال الثالث: إن الهيأة في الأمر للإيجاد، والإيجاد آبٍ عن التعليق، فإن تعليق الإيجاد يساوق عدمه - سواء في التكوينيات أم في الاعتباريات - .

ويرد عليه: إنه لا مانع عن أن لا يكون إيجاداً إلاّ بعد تحقق القيد،

ص: 409

بمعنی كون الهيأة من مقدمات الإيجاد لا نفسه.

مضافاً إلی ما مرّ من أنه إيجاد للوجوب المقيّد، لا الوجوب المطلق.

المقام الثاني: في الإشكال على رجوع القيد إلى المادة

وأورد علی رجوع القيد إلی المادة إشكال إطلاق الوجوب، وحيث وجب الفعل ترشح الوجوب علی مقدماته، ومعناه وجوب تحصيل المقدمات، كتحصيل الاستطاعة للحج.

وأجيب: بأن الحكم تابع للمصلحة، فقد تقتضي المصلحة وقوع القيد تحت الأمر، كالوضوء بالنسبة إلی الصلاة، وقد تقتضي عدم وقوعه تحته كالاستطاعة للحج.

ويرد عليه: أولاً: إن الملازمة بين وجوب المقدمة ووجوب ذي المقدمة عقلية، وهي غير قابلة للتخصيص.

وثانياً: عدم تعقل أن يكون (عدم التكليف بشيء) دخيلاً في المصلحة في شيء آخر.

اللهم إلاّ أن يقال: إن الكلام ليس في دخالة عدم مصلحة التكليف بالاستطاعة في مصلحة الحج، بل الكلام في عدم المصلحة في الأمر بالاستطاعة.

المقام الثالث: في الثمرة في رجوع القيد إلى الهيأة أو المادة
اشارة

والثمرة بين القولين تظهر في سائر المقدمات - غير الشرط - .

1- فعلی القول برجوع القيد إلی المادة، يترشح الوجوب إلی سائر المقدمات، فيجب تحصيلها حتی قبل تحقق الشرط - إن علم أو احتمل

ص: 410

تحققه - كحفظ الماء للوضوء قبل دخول الوقت، وأما بالنسبة إلی الشرط فحيث لم تكن المصلحة في وقوعه تحت الأمر، فقبل حصوله - اتفاقاً - لا يوجد طلب لعدم تعلق المصلحة به، وبعد حصوله لا طلب لكونه طلباً للحاصل.

2- وعلی القول برجوع القيد إلی الهيأة، لا وجوب قبل تحقق الشرط، فلا ترشح لسائر المقدمات أيضاً.

استثناءان:
اشارة

وقد يستثنی من ذلك: المعرفة والمقدمات المفوتة.

الاستثناء الأول: في المعرفة

قد يقال: بأن وجوب المقدمات الوجودية للواجب المشروط متوقفة علی حصول الشرط، كوجوب نفس الواجب المشروط، إلاّ في المعرفة بها فإنها واجبة حتی قبل تحقق الشرط.

وأورد عليه بإشکال معروف، حاصله أنه قبل تحقق الشرط لا يعقل ترشح الوجوب من ذي المقدمة إليها، فكيف يعقل وجوب تعلم المسائل قبل حصول الشرط.

وأجاب المحقق الخراساني: بأن وجوب المعرفة ليس بترشح الوجوب عليها من ذي المقدمة، بل لاستقلال العقل بتنجز الأحكام بمجرد احتمالها، إلاّ مع الفحص واليأس عن الظفر بدليل التكليف، فإنه لا فرق في ملاك حكم العقل بين احتمال حكم موجود حيث إن المكلف قادر علی الإطاعة بالفحص، وبين احتمال حكم سيوجد حيث يقدر المكلف علی الإطاعة بتمهيد المقدمة - وهي المعرفة - .

ص: 411

وأشكل عليه: أولاً: بالنقض بسائر المقدمات الوجودية، فأي فرق بين المعرفة وبين تحصيل الممكن من المقدمات كالرفقة ونحوها في الحج مثلاً.

وثانياً: إن الدليل أخص من المدعی، حيث لا يشمل ما لو تمكن من المعرفة بعد حصول الشرط، وكذا فيما أمكنه الاحتياط.

وثالثاً: بالفرق بين الفحص عن حكم محتمل، وبين تحصيل المقدمات، حيث سبب التنجز في الأول هو العلم الإجمالي بوجود تكاليف كثيرة فلابد من الفحص، ولا يوجد هذا الملاك في التكليف المحتمل المستقبلي.

وفيه نظر: لأن الملاك غير منحصر في العلم الإجمالي، حيث يجب الفحص في الشبهات البدوية الحكميّة حتی مع انحلال العلم الإجمالي الكبير بوجود تكاليف كثيرة، كما سيأتي بحثه في باب البراءة إن شاء الله تعالی.

ورابعاً: بأن التكليف المستقبلي غير منجز حتی مع العلم بتحقق الشرط، وذلك لاحتمال عروض الغفلة ونحوها، ومعها لا يتنجز التكليف المعلوم فكيف بالمحتمل، ففرق بين التكليف الحاليّ المحتمل الملتفت إليه، وبين التكليف المحتمل الاستقبالي(1).

اللهم إلاّ لو علم بعدم طروّ الغفلة ونحوها عليه، وهذا فرض نادر جداً.

والحاصل: إنه لا دليل علی تميّز المعرفة عن غيرها من المقدمات.

ص: 412


1- نهاية الدراية 2: 70-71.
الاستثناء الثاني: في المقدمات المفوتة

وهي المقدمات التي لا يتمكن المكلف من تحصيلها حين تحقق الشرط في الواجب المشروط.

ولا إشكال علی مبنی الشيخ من كون الوجوب فعلياً، إذ يترشح الوجوب إليها من ذي المقدمة، لكن يرد الإشكال علی مبنی المشهور من عدم فعلية الوجوب، وحاصله: استحالة الوجوب الغيري للمقدمات عند عدم وجوب ذي المقدمة.

وأجيب عن ذلك بوجوه، منها:

الوجه الأول: بأنها واجبة بوجوب نفسي - ولو تهيُّأً - .

وفيه: فقدان الدليل علی ذلك في غالب الموارد.

الوجه الثاني: إن لها وجوباً عقلياً، لأن امتناع ذي المقدمة بالاختيار، وهو لا ينافي العقاب.

وفيه(1): إنّما العقاب إذا كان ذلك ناشئاً عن سوء الاختيار، أما لو كان ناشئاً عن ترخيص شرعي، فلا سوء اختيار لكي يعاقب علی ما ليس بالاختيار. والحاصل: إنه لا عقاب علی الامتناع الذي لم ينشأ من سوء الاختيار، نظير الغافل ونحوه.

وفيه تأمل: لأن الترخيص الشرعي هو أول الكلام.

الوجه الثالث: إن العلم بتوجه التكليف الفعلي إليه فيما بعد، وكذا الابتلاء بغرض المولی، يكفيان في حكم العقل بلزوم تحصيل المقدمات

ص: 413


1- نهاية الأفكار 1: 319.

قبل تحقق الشرط، كمن يعلم بعروض عطش شديد له في برّ لا يوجد فيه ماء، فلو لم يحمل الماء كان مذموماً.

وأورد عليه(1): إنه من الممنوع جداً كون العلم بثبوت التكليف فيما بعد موجباً لوجوب تحصيل مقدماته الوجودية قبل الشرط، واستحقاق العقوبة علی تفويت الواجب في ظرفه.

وذلك لأن المصحح للعقوبة علی التفويت، هو البيان في ظرف التكليف، لا مطلق البيان ولو قبل التكليف، وكذا العكس فإن اللا بيان - الذي هو موضوع قبح العقاب - هو اللا بيان في ظرف التكليف لا عدم البيان مطلقاً حتی لو انقلب إلی البيان في ظرف التكليف.

ومرجع هذا الكلام إلی أن احتمال عروض الغفلة ونحوها حين تحقق الشرط يكفي في عدم العلم بالبيان في ظرف التكليف، فلا مصحح للعقوبة.

وفيه نظر: وذلك لأن حفظ غرض المولی واجب عقلاً حتی لو لم يكن أمر، والغفلة وإن كانت رافعة للتكليف، لكن مجرد احتمالها غير ضار بالبيان، وإلا فلو كان الواجب فعلياً وقد تحققت شرائطه وكان له مقدمات وجودية فهل يقال بعدم وجوبها لاحتمال سقوط وجوب ذي المقدمة بالغفلة؟!

وقد بيّن المحقق النائيني هذا الدليل بمقدمات ثلاث(2):

المقدمة الأولى: إن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً، وإن نافاه

ص: 414


1- نهاية الأفكار 1: 320.
2- راجع فوائد الأصول 1: 196-208؛ أجود التقريرات 1: 219-223.

خطاباً، أما الخطاب فلأنّ التكليف إنّما هو بغرض إيجاد الداعي إلی الفعل، وغير المختار لا يمكن إيجاد الداعي فيه، فيكون خطابه لغواً، أما العقاب فقوامه اختيارية العمل، وخروج الفعل عن القدرة حيث كان بالاختيار فلا يضر باختياريته.

المقدمة الثانية: حكم العقل بلزوم تحصيل الغرض الملزم للمولی، حتی لو لم يأمر به لمانع من غفلة أو استحالة ونحوهما، كما لو كان ابن المولی يغرق وكان مانع من أمر المولی لعدم علمه أو لقاسر ونحوهما، كما مرّ نظيره في قصد القربة.

المقدمة الثالثة: إن دخل القدرة علی الفعل في الملاك علی أربعة صور:

الصورة الأولی: أن لا تكون دخيلة في الملاك، بل تكون شرطاً عقلياً لتصحيح التكليف، كما في غرق ابن المولی، وهنا يلزم تحصيل القدرة علی الفعل - بالإتيان بالمقدمات المفوتة - حتی قبل الوجوب حفظاً لغرض المولی.

الصورة الثانية: أن تكون دخيلة في الملاك بشكل مطلق - سواء قبل الوجوب أم بعده - نظير دخالة الغسل في صحة الصوم، وهنا أيضاً يلزم تحصيل القدرة علی الفعل - بالإتيان بالمقدمات - حتی قبل زمان الوجوب، حفظاً لغرض المولی.

الصورة الثالثة: أن تكون القدرة دخيلة فيما لو حصل شرط الوجوب، فقبل هذا الشرط لا قدرة علی الملاك، كالحج مع الاستطاعة، حيث إنه قبل الاستطاعة لا يمكن تحصيل ملاك الحج الواجب، وهنا يوجد فرق بين المقدمات قبل حصول الشرط فلا تجب، وبعد حصوله فتجب.

ص: 415

الصورة الرابعة: أن تكون القدرة دخيلة في الملاك فيما لو حصل شرط الواجب، وهنا حيث لا ملاك قبل شرط الواجب، فلا يجب تحصيل القدرة قبل زمان الواجب.

ولا يخفی أن ظاهر الأدلة - إثباتاً - هو الصورة الأولی، وأحياناً الصورة الثانية، فبناءً على ذلك يجب تحصيل المقدمات المفوتة مطلقاً.

الوجه الرابع: - من وجوه القول بوجوب المقدمة المفوتة - : القول بأنه من موارد الشرط المتأخر، بمعنی أن الوقت ونحوه شرط للوجوب بنحو الشرط المتأخر، فإذا علم بحصوله في ظرفه فإنه يعلم بفعلية الحكم قبل حصول الشرط.

وأشكل عليه: المحقق الإصفهاني(1) بأن ذلك إرجاع للواجب المشروط إلی الواجب المعلّق، لأن الهدف هو تصحيح وجوب المقدمة قبل زمان ذي المقدمة، فلابد من فرض تأخر زمان الواجب وتقيّده بوقت معيّن متأخر، فالالتزام بالشرط المتأخر الملازم لفعلية الوجوب المصحح لوجوب المقدمة فعلاً إنّما يتعقل بناءً علی الالتزام بالواجب المعلق.

والحاصل: إن الالتزام بفعلية الوجوب قبل زمان الواجب هو إخراج للواجب عن الواجب المشروط والتزام بالمعلّق.

الوجه الخامس: ما مرّ من الالتزام بإرادتين: إحداهما بالجامع، والآخر بالفعل الخاص، وحيث كانت الإرادة بالجامع فعلية فلا بأس بالقول بالوجوب تبعاً لها فيترشح إلی المقدمات المفوتة.

ص: 416


1- نهاية الدراية 2: 86.

إن قلت: في بعض الموارد لم يلتزموا بوجوب المقدمة المفوتة، فأجازوا - مثلاً - أن يُجنب قبل الوقت مع علمه بعدم تمكنه من الغسل في الوقت.

قلت: ثبوتاً الموارد تختلف باختلاف كيفية دخل الشرط في الملاك، فإن كانت القدرة علی المقدمة دخيلة في تحصيل الملاك - سواء قبل الوقت أم بعده - فحينئذٍ يجب تحصيلها حفظاً لغرض المولی.

وإن لم تكن كذلك، بحيث لا تكون القدرة علی المقدمة قبل زمان ذي المقدمة دخيلة في الملاك أصلاً، فلا وجوب للمقدمة قبل الوقت أصلاً، وذلك لعدم ارتباطها بغرض المولی.

وأما إثباتاً، فاللازم متابعة ظاهر الدليل ومدی دلالته علی كيفية الدخل.

وقد ذكر بعض الفقهاء أن قوله تعالی: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَوٰةِ فَاغْسِلُواْ}(1) ظاهر علی تعليق الوضوء علی القيام إلی الصلاة، وهو بمعنی دخول الوقت، ومعنی ذلك أن الملاك في الصلاة بالطهارة المائية متوقف علی الوقت فلا يلزم حفظ الماء ولا الوضوء قبل الوقت.

وأشكل عليه: بأن غاية ما تدل عليه الآية هو دخل الوقت في تحقق الملاك الملزم للوضوء، أما الدلالة علی دخالة القدرة بنحو خاص في تحقق الملاك فلم تتكفل الآية ببيانه(2).

المقام الرابع: في دوران الأمر بين رجوع القيد إلى الهيأة أو المادة
اشارة

لو رجع القيد إلی المادة - أي الواجب - فلا إشكال في وجوب تحصيل

ص: 417


1- سورة المائدة، الآية: 6.
2- منتقی الأصول 2: 197.

القيد، كالوضوء للصلاة، كما لا إشكال فيما لو رجع إلی الهيأة - أي الوجوب - في عدم وجوب تحصيله، كالاستطاعة للحج.

أما لو شك في رجوعه إلی أيٍّ منهما فهل هناك قاعدة يرجع إليها، أم لابد من ملاحظة الدليل في كل مورد؟

فنقول: إن دليل التقييد تارة يكون منفصلاً، وأخری متصلاً، فهنا بحثان:

البحث الأول: في المقيِّد المنفصل

إن مقتضی القاعدة هو التعارض بين إطلاق المادة وإطلاق الهيأة، وبتساقطهما يكون المرجع الأصول العملية.

أ) الأصل اللفظي

ولكن قد ذكر الأعلام بعض المرجحات لرجوع القيد إلی المادة، منها:

المرجح الأول: ما نسب إلی الشيخ الأعظم، من أن إطلاق الهيأة شمولي، حيث يوجب هذا الإطلاق توسيع الوجوب لحالة فقدان القيد، وأما إطلاق المادة فهو بدلي، حيث مدلوله صرف الوجود للطبيعة وهو ينطبق علی أيِّ فرد من أفرادها، والإطلاق الشمولي أقوی من الإطلاق البدلي.

وأشكل عليه صغری وكبری...

أما الصغری: فبأن الأقوائية إن لم توجب ظهوراً فلا اعتبار بها، ولعلّ منشأ توهمها هو ما يقال في تقدم العام علی المطلق حيث إن الأول شمولي والثاني بدلي، مع أن التقدم هناك بسبب الظهور الناشئ من كون دلالة العام علی الشمول بالوضع ودلالة المطلق علی البدلية بمقدمات الحكمة، مضافاً إلی أن العام مقدم علی المطلق حتی إذا كان المطلق شمولياً.

ص: 418

وأما الكبری: فبأن الشمول والإطلاق في الهيأة والمادة إنّما هما بمقدمات الحكمة، فهي قد تقتضي الشمول، أو البدلية، أو التعيين، ومع اتحاد منشأ الدلالة يتساوی الظهور.

ثم عن المحقق النائيني أنّه قد استدل علی الكبری بأمور(1)، منها:

الدليل الأول: بأن التقييد في البدلي لا يوجب التصرف في الحكم الشرعي، إذ كان الحكم علی الطبيعة التي تتحقق بفرد واحد، فرجوع القيد إلی المادة لا يوجب تصرفاً للحكم، غاية الأمر هو تحديد دائرة الانطباق علی الأفراد بإخراج الأفراد التي لا قيد فيها.

وأما في الشمولي فإن التقييد يوجب رفع الحكم عن بعض الأفراد.

ومع دوران الأمر بين رفع الأمر عن الحكم أو رفع اليد عن التوسعة مع المحافظة علی الحكم، تعيّن الثاني.

ويرد عليه: أولاً: إنه استحسان لا يوجب ظهوراً، ففي مثل: أكرم عالماً ولا تكرم الفاسق، لا ظهور أقوی في العالم الفاسق.

وثانياً: ما قيل: من أن المدلول الالتزامي للبدلي هو شمول الترخيص في تطبيق المطلق علی الكل، وهذا الترخيص هو حكم شرعي، وهو شمولي.

ومرجع هذا الإشكال إلی أن المطلق البدلي له مدلول التزامي شمولي، فيتعارض إطلاقان شموليان أحدهما بالمطابقة والآخر بالالتزام، فتأمل.

الدليل الثاني: إن انعقاد الإطلاق البدلي بالإضافة إلی جميع الأفراد يتوقف علی أن لا يكون هناك مانع عن انطباقه علی بعضها، إذ لو كان مانع

ص: 419


1- راجع فوائد الأصول 4: 729-730.

فلا إطلاق، إذ إن من مقدمات الحكمة عدم القرينة علی الخلاف، والإطلاق الشمولي يصلح أن يكون مانعاً عن الإطلاق البدلي، فهو قرينة تمنع انعقاده.

ويرد عليه: أولاً: إن العكس كذلك، فانعقاد الإطلاق الشمولي يتوقف علی أن لا يمنع عنه الإطلاق البدلي.

وثانياً: بأنه في كل تعارض يكون لكلٍّ من المتعارضين صلاحية سلب الحجية عن الآخر، إلاّ أن تساويهما وعدم وجود مزية لأحدهما علی الآخر يكون مانعاً عن انعقاد الحجية لكليهما.

وثالثاً: ما قيل: بأن التقدم إنّما هو فيما لو كان التعارض بالذات، وهنا ليس كذلك بل التعارض نشأ من أمر خارج عن الذات وهو العلم برجوع القيد إلی أحدهما، وهذا لا يوجب التقديم حتی لو كان أحدهما أقوی، فتأمل.

المرجح الثاني - مما استدل به الشيخ الأعظم لرجوع القيد إلی المادة - :

أن تقييد المادة تقييد واحد، عكس تقييد الهيأة إذ هو يستلزم تقييد المادة أيضاً، حيث لا معنی لصدق الواجب من دون وجوب، فلا تقع المادة مطلوبة من غير وجوب.

ومن البيّن ترجيح تقييد واحد علی تقييدين.

وبعبارة أخری - ويمكن اعتبارها مرجحاً ثالثاً - : إن تقييد المادة قدر متيقن دون الهيأة.

وأما المحقق الخراساني فقد قبل الاستدلال في المنفصل، دون المتصل، حيث لا إطلاق في المتصل، فلا يكون من التقييد الذي هو خلاف الأصل.

ص: 420

والجواب: أولاً: بمنع الكبری، فإن الأمر تابع للظهور، وحيث لا ظهور - حيث إن كلامنا في حالة الشك - فالإجمال، دون هذا الوجه وأمثاله.

وثانياً: ما عن المحقق الإصفهاني(1): من أن النسبة بين تقييد المادة والهيأة عموم من وجه، فلا يستلزم كل تقييد للهيأة تقييداً للمادة، نظير الاستطاعة فإنها قيد لوجوب الحج دون الواجب، فلو استطاع ثم أزال الاستطاعة عمداً فحجّ متسكعاً، صح ّحجه وبرئت ذمته.

والحاصل: إنه لا قدر متيقن في البين فيما لو دار التقييد بين المادة والهيأة، فالظهور وإن انعقد إلاّ أن العلم الإجمالي بعروض التقييد علی أحدهما أوجب سقوط كليهما عن الاعتبار، فلا يمكن التمسك بشيء منهما.

ويرد عليه: أن الاستطاعة ليست الاستطاعة المستمرة بل مطلق الاستطاعة، وحينئذٍ فالقيد للوجوب والواجب كما لا يخفی، ولا يوجد مثال آخر للعموم من وجه، بل لا معنی لصدق الواجب من غير وجوب.

وثالثاً: بان تقييد المادة بعد تقييد الهيأة ليس تقييداً بل هو تقيّد، فهو من السالبة بانتفاء الموضوع.

وبعبارة أخری - كما قيل - : الأمر دار بين تقييد وتقييد آخر يبطل محل الإطلاق، لا بين تقييد وتقييدين، ولا دليل علی أولوية الثاني علی الأول.

ب) الأصل العملي

ثم إنه لو وصل الأمر إلی الأصول العملية - بعد عدم وجود مرجح لأحد

ص: 421


1- راجع نهاية الدراية 2: 96-97 (الهامش).

التقييدين علی الآخر - فالظاهر أن الأصل هو البراءة، فلا وجوب، وحينئذٍ فلا ترشح للمقدمات، فمقتضی الأصل هو نتيجة تقييد الهيأة.

وقد يقال: باستصحاب الوجوب في المقيّد المنفصل لانعقاد ظهور في الوجوب مع الشك في بقائه بسبب الشك في رجوع القيد إلی الهيأة، دون المتصل إذ لا انعقاد للظهور أصلاً.

وفيه: أنه بعد ورود القيد لا يقين بالوجوب السابق، فالمورد من قاعدة اليقين دون الاستصحاب.

وبعبارة أخری: إن القيد وإن كان منفصلاً، إلاّ أن المراد الجدّي بالوجوب غير معلوم، فلا يقين سابق، بمعنی أن الشك ساري وليس طارئاً، فتأمل.

البحث الثاني: في المقيِّد المتصل

ولا يخفی أنه يمنع من انعقاد الظهور في كليهما - في المادة والهيأة - وذلك لاحتفاف الكلام بما يمكن أن يكون قرينة لأيٍّ منهما، فيكون الأمر مجملاً من جهة هذا القيد، فلابد من الرجوع إلی الأصول العملية، وقد ذكرنا أن مقتضاها البراءة دون الاستصحاب مطلقاً.

التقسیم الثاني: تقسيم الواجب إلى المنجز والمعلّق
اشارة

ومن تقسيمات الواجب المطلق تقسيمه...

1- إلی المعلّق، وهو الواجب المقيّد بقيد استقبالي خارج عن قدرة المكلّف كالزمان. وبعضهم أضاف ما كان مقيداً بقيد نعلم عدم لزوم تحصيله، لكن لو حصل اتفاقاً حلّ وقت الواجب، فتأمل.

ص: 422

2- وإلی منجّز وهو ما لم يكن مقيداً بهكذا قيد.

كالحج فإنه واجب مشروط بالنسبة إلی الاستطاعة، لكن بعد حصولها ودخول شهر شوال يكون معلّقاً بحلول يوم عرفة، وحلوله خارج عن اختيار المكلف.

وبعبارة أخری: المنجّز: ما كان الوجوب والواجب حالياً، والمعلّق: ما كان الوجوب حالياً والواجب مقيداً بزمان متأخر فيكون استقبالياً.

ثم إن هيهنا أمران:

الأمر الأول: في صحة هذا التقسيم

فقد أورد عليه إشكالات منها:

الأول: ما عن الشيخ الأعظم: من إنكار هذا التقسيم.

لكن إنكاره في الحقيقة يرجع إلی إنكار الواجب المشروط - حسب المشهور - ، وذهابه إلی أن الواجب المشروط هو نفس الواجب المعلّق، لإشكاله علی رجوع القيد إلی الهيأة، فيكون المشروط عنده هو ما كان الوجوب حالياً والواجب استقبالياً - وهو نفس الواجب المعلق - .

وقد مرّ في الواجب المشروط إمكان رجوع القيد إلی الهيأة فيكون المشروط، وإلی المادة فيكون المعلّق - إذا كان القيد زمان متأخر ونحوه - .

الثاني: ما عن المحقق الخراساني: من عدم الثمرة في هذا التقسيم، لأن المنجز والمعلّق كلاهما من الواجب المطلق المقابل للمشروط، وخصوصية كونه حالياً أو استقبالياً لا توجب هذا التقسيم ما لم توجب الاختلاف في المهم من الثمرة.

ص: 423

ولکن سيأتي بيان الأثر، وأنه لأجل تصحيح وجوب المقدمة قبل تحقق زمان الواجب، حيث إنه في المعلق الوجوب فعلي فيترشح الوجوب منه إلی مقدماته.

الثالث: ما قيل: من أن المعلّق قسم من المشروط لا من المطلق، فيوم عرفة - مثلاً - بالنسبة إلی الحج وإن كان غير مقدور، لكن له دخلاً في ملاك الحج، وإلا لم يكن وجه لأخذه في موضوع الحج، فصار واجباً مشروطاً بالشرط المتأخر، فتأمل.

الأمر الثاني: في استحالة الواجب المعلّق وإمكانه
اشارة

وهنا قولان:

القول الأول استحالته، واستدل لذلك بوجوه:

الوجه الأول: ما نُسِب إلی المحقق النهاوندي: من أن الإرادة التشريعية كالتكوينية في جميع الخصوصيات، إلاّ أن الفرق أن التكوينية تتعلق بفعل النفس والتشريعيّة بفعل الغير.

وحيث يستحيل انفكاك الإرادة التكوينية عن المراد - لأنها الشوق المستتبع لتحريك العضلات دون مجرد الشوق - فكذلك التشريعية، فلا يمكن وجود تكليف حالي مع كون الواجب استقبالياً.

ويرد عليه: أولاً: بأن (المراد) في التشريعية هو الأمر أو النهي، وهو لا ينفك عنها أبداً، فإن كانت إرادة كان أمر أو نهي، وإلاّ فلا إرادة من غير تحقق الأمر والنهي، فالإرادة علّة لهما فلا يتأخران عنها إلاّ رتبة، بل قد مرّ أنها نفس الطلب فراجع.

ص: 424

وحتی في الباري - جلّ وعلا - فإن الإرادة فيه من صفات الفعل كما دلّ عليه متواتر الروايات، بل ودليل العقل أيضاً، وقد مرّ شطر من البحث في مبحث الطلب والإرادة.

وأما توهم أن (المراد) هو فعل الغير، فلا يخفی ضعفه، وذلك لانفكاك فعل الغير عنها في العصيان، وفي الواجب الموسع، ونحو ذلك.

نعم انبعاث الغير وفعله هو الغرض من هذا الطلب، ويتعلق به الرغبة والحب، دون الإرادة التي هي الشوق المستتبع لتحريك العضلات في المخلوق، وإصدار الأمر في الخالق.

والحاصل: ما يتعلق به الشوق المستتبع لتحريك العضلات هو الطلب بغرض إيجاد الباعثية.

وثانياً: ما في الكفاية من إنكار المبنی - وهو امتناع انفكاك المراد عن الإرادة التكوينية - بل يمكن تعلّقها بأمر استقبالي، فإن ما تعّلق به الشوق قد يحتاج إلی مقدمات كثيرة - كطي المسافة نحوه - ، وفعل هذه المقدمات ليس بإرادة استقلالية، بل إرادتها تبعيّة لإرادة الوصول إلی المكان المعلوم، فلولاه لما أراد المقدمات.

فهذا الانبعاث نحو المقدمات دليل علی تعلّق الإرادة بأمر استقبالي.

وأشكل عليه المحقق الإصفهاني(1): بأن الشوق إلی المقدمة تابع للشوق إلی ذي المقدمة، وليست إرادتها تابعة لإرادته، حيث إنه لا إرادة فعلاً إلی ذي المقدمة، بل الشوق إلی المقدمة وصل إلی حدّ تحريك العضلات،

ص: 425


1- نهاية الدراية 2: 73.

دون الشوق إلی ذي المقدمة فإنه لم يصل إلی ذلك الحد.

والحاصل: إن التبعية في أصل الشوق لا في حدّه.

وثالثاً: بإنكار ما ذكره من معنی للإرادة التكوينية، بل معناها هو الشوق المستتبع لتحريك العضلات أعم من كونه شأناً أم فعلاً، والشاهد علی ذلك أنه قد يتعلّق الشوق لفعل حالي فيتحرك نحوه، وقد يكون الشوق آكد في أمر استقبالي لكن لا تحريك نحوه لكونه استقبالياً، فكلاهما إرادة.

وأورد عليه(1): بأن الوجدان شاهد علی أنه قد يحصل الشوق إلی شيء فيستتبع تحريك العضلات ويُعدّ إرادة، وقد يحصل شوق آكد لشيء آخر من دون استتباع لتحريك العضلات لوجود المانع ولا يُعدّ إرادة، مثلاً قد يشتاق إلی الاستجمام لكن لا يتحرك نحوه لعدم امتلاكه للمال.

والحاصل: إن مجرد الشأنية في تحريك العضلات لا يوجب كون الشيء إرادة.

ورابعاً: بأنه لو سلّم عدم الانفكاك في التكوينية، فلا يسلم في التشريعيّة إذ هي الطلب من الغير، وفعل الغير يتأخر عن طلب المولی ولو بزمان قليل، إذ الطلب يكون لإيجاد الداعي في المأمور، وحدوث الداعي يكون عبر مقدمات من تصوره ونحو ذلك، وهذا لا يحدث إلاّ بعد البعث ولو بزمان قليل.

ولا يخفی أن هذا الجواب مبنيّ علی أن المراد في الإرادة التشريعية هو فعل الغير، وقد مرّ الإشکال فيه.

ص: 426


1- منتقی الأصول 2: 158.

الوجه الثاني - من أدلة استحالة الواجب المعلّق - : هو أن القدرة من شرائط التكليف عقلاً، فالوجوب متوقف عليها، وفي المعلّق لا قدرة قبل زمان الواجب، فالواجب المعلّق يستلزم تحقق الشيء قبل تحقق شرطه، وهو محال، لتأخر الشيء عن شرطه، حيث إن الشرط من أجزاء العلة.

ويرد عليه: أولاً: الالتزام بأن القدرة حين زمان الواجب هي شرط متأخر للوجوب.

وثانياً: ما مرّ في التعبدي والتوصلي بأنه لا يراد من الشرط هنا الشرط الذي يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده الوجود - كما هو المصطلح - فإن ذاك من أجزاء العلة. بل يراد المعنی العرفي للشرط، وهو ما يكون مصححاً للتكليف ومخرجاً له عن اللغوية، وهذا لا إشكال في إمكان تأخره عن الحكم، إذ لا لغوية في التكليف بأمر استقبالي كما لا لغوية في التكليف بالأمر الحالي، بل قد يكون غرض عقلائي للتكليف بالأمر الاستقبالي كالتهيؤ وعدم الحاجة إلی التكرار لو كان المكلفون عدّة، ونحو ذلك.

الوجه الثالث(1): ويتوقف علی مقدمات ثلاث:

1- إن الغرض من الآمر هو البعث، فلا يصح الأمر مع عدم إمكان كونه باعثاً، لأن المصلحة تترتب علی الفعل الاختياري للمأمور دون مطلق الفعل ولو جبراً.

2- والبعث والانبعاث متضايفان، فلا يصدق أحدهما بدون الآخر.

3- والمتضايفان متكافئان في القوة والفعل، فإذا كان بعثاً بالإمكان كان

ص: 427


1- نهاية الدراية 1: 76-77.

انبعاثاً بالإمكان.

والنتيجة: هي أنه لا يمكن الانبعاث نحو أمر استقبالي - لخروج الوقت عن القدرة - ، فلا يمكن البعث نحوه، وذلك بمعنی عدم الأمر به.

والحاصل: إن المحذور ليس انفكاك الفعل خارجاً عن الأمر، بل انفكاك البعث عن الانبعاث.

وأورد عليه بالإشكال في المقدمة الأولی(1)، وذلك بأن حقيقة الأمر ليست البعث، بل اقتضاؤه، أي ما يقتضي الداعوية والبعث، فوجود المانع لا ينافي الاقتضاء - سواء كان المانع من الخارج أو لعدم قبول المحل - .

إن قلت: لا فائدة في أمر لا داعوية له فعلاً، باعتبار أن اقتضاؤه للباعثية إنّما هو مع وجود مانع دائم هو عدم قابلية المحلّ.

قلت: يكفي في الفائدة داعويته استقبالاً، وترشح الوجوب إلی مقدماته ونحو ذلك.

القول الثاني: إمكان الواجب المعلق

والقائلون بالإمكان، استدلوا بالوقوع، فإن أمكن القائلين بالاستحالة إيجاد مخرج ثبوتي لهذا الموارد بحيث لا تنحصر صحتها علی القول بالواجب المعلّق فهو، وإلاّ أثبتت هذه الموارد الواجب المعلق، ومنها:

الأول: الواجبات التدريجية المقيدة بالزمان، فإن الوجوب المتعلّق بالجزء الأخير يتعلق به من أول الشروع في العمل، فالوجوب حالي والواجب استقبالي، كالصوم حيث يتعلق الوجوب من الفجر بالإمساك في

ص: 428


1- نهاية الأفكار 1: 310؛ منتقی الأصول 2: 161.

تمام الوقت.

وقد تفصی المحقق النائيني(1)، بأن الواجب وشرطه إذا كانا تدريجيين، كانت فعلية الوجوب تدريجية أيضاً، إذ فعلية الحكم بفعلية موضوعه، فبعد أن كان الشرط تدريجي الحصول، كانت فعلية الحكم تدريجية بتدريجية الشرط.

والحاصل: إنه لا يكون التكليف المتعلّق بالجزء الأخير فعلياً من أول الوقت.

وحيث أمكن هذا ثبوتاً، فلا دليل علی حمل ما ثبت علی الواجب المعلّق.

الثاني: الواجبات التدريجية غير المقيّدة بزمان معين، كالواجبات الموسعة، فإن الوجوب يتعلّق بالجزء الأخير منها من حين الابتداء بها، مع أن الجزء الأخير غير مقدور منذ البداية، فلزم ما هو المحذور في الواجب المعلّق من تعلق الوجوب بما هو مقيد بغير المقدور.

وأجيب(2): بأن العمل مقدور بالواسطة، فالجزء الأخير - وإن كان متأخراً في وجوده - إلاّ أنه مقدور فعلاً وذلك بالقدرة علی الإتيان بالأجزاء السابقة.

الثالث: الواجبات التي يتوقف حصولها علی مقدمات، فالوجوب متعلق بالواجب قبل الإتيان بمقدماته مع عدم القدرة علی الإتيان به قبلها.

والجواب: ما مرّ في المورد السابق، مضافاً(3) إلی عدم فعلية التكليف

ص: 429


1- فوائد الأصول 1: 209.
2- منتقی الأصول 2: 170.
3- نهاية الدراية 2: 76.

بذي المقدمة قبل الإتيان بالمقدمة، وذلك لوجود المانع عن فعليته ومحركيته، نعم يتعلّق به الشوق لكن لا يصل إلی فعلية التكليف لأجل المانع.

وأما التكليف بالمقدمة فهو فعلي، لترشح الشوق إليها، مع عدم المانع عن محركية هذا الشوق.

تتمتان

التتمة الأولی: تظهر الثمرة في الواجب المعلّق في إمكان ترشح الوجوب إلی المقدمات قبل تحقق القيد، دون الواجب المشروط الذي لا يترشح الوجوب منه علی المقدمات.

وقد ظهر صحة هذه الثمرة من مطاوي الكلمات السابقة.

التتمة الثانية: قيل: بأن الوجوب لا يترشح علی ثلاثة أنواع من المقدمات:

الأولى: مقدمات الوجوب، لأن الوجوب يتوقف عليها، فلا وجوب قبل حصولها حتی يترشح عليها، إلاّ علی وجه دائر، وبعد تحقق المقدمة وتحقق الوجوب في ذيها لا ترشح للوجوب عليها لأنه من طلب الحاصل.

وفيه: أنّه قد مرّ الكلام في هذا، إلاّ أنه لا يرتبط بالمعلَّق بل بالمشروط.

الثانية: المقدمة الوجودية المأخوذة عنواناً للمكلف، كالمسافر والحاضر، فإن السفر هو مقدمة وجودية للقصر، لكن يمتنع ترشح الوجوب عليه، لأن التكليف بالقصر لا يكون إلاّ بعد تحقق السفر، حيث إنه اُخذ في موضوع الحكم فلابد من وجوده قبل الحكم، وبعد الحكم يكون تعلق التكليف به طلباً للحاصل.

ص: 430

وفيه: أنّ الظاهر دخول هذا في القسم السابق، لأن السفر ليس مقدمة لوجوب أصل الصلاة، بل هو مقدمة لوجوب مصداق منه وهو القصر، فالسفر مقدمة وجوب لا مقدمة وجود.

الثالثة: المقدمة الوجودية المأخوذة في الواجب بقيد حصولها اتفاقاً، بمعنی أن يكون الواجب هو الفعل المقيّد بهذا القيد الحاصل بنحو الاتفاق - سواء حصل اتفاقاً عن اختيار أم غير اختيار - لا بالبعث والتحريك.

وإنما لا يترشح التكليف عليه مع تعمّد فعله، لأن الترشح خلف فرض أخذه قيداً بنحو الاتفاق، وبعد حصوله اتفاقاً لا معنی لطلبه لأنه طلب الحاصل.

وفيه: أن هذا مجرد فرض، لا واقع له فيما نعلم من التكاليف.

التقسیم الثالث: تقسيمه إلى الواجب النفسي والغيري
اشارة

وهنا أمور:

الأمر الأول: في تعريفهما

وتعريفهما متعدد، إلاّ أن الأفضل تعريف النفسي: بما وجب لنفسه لا لواجب آخر، والغيري: بما وجب لواجب آخر، ويلازم ذلك كون العقاب علی ترك النفسي بما هو هو، وعدم العقاب علی الغيري إلاّ باعتبار أدائه إلی ترك واجب آخر.

إن قلت: إنّ سبب وجوب الواجبات هو المصالح والملاكات اللزومية، ومعنی ذلك انقلاب غالب الواجبات النفسية - غير المعرفة ونحوها - إلی واجبات غيرية.

ص: 431

قلت: هذا التعريف ناظر إلی التقسيم باعتبار الإلزام لا باعتبار الملاك.

وبعبارة أخری - كما قيل - : إنّ المجعول في الذمة إن كانت المصلحة يكون مُحصِّلها واجباً غيرياً، وإن كان المجعول فعل المكلّف كالصلاة فإن المصلحة لا تكون هي الواجب، بل تكون ملاك الوجوب، فيكون الفعل هو الواجب بنفسه.

سؤال: إن كانت المصلحة هي سبب الوجوب، فلماذا لم تجعل هي بنفسها في ذمة المكلف، بل المجعول في الذمة أسباب الوصول إليها، مع أن القاعدة تقتضي التطابق بين ما يجعله المولی في الذمة وبين غرضه؟

والجواب: أولاً: ما عن المحقق النائيني(1): بأنه ربما تتوقف تلك المصالح علی أمور أخری خارجة عن اختيار المكلّف، فيكون فعله هو جزء السبب وهو الداخل في اختياره، فيؤمر به.

إن قلت: إنّ الغرض الأدنی - من الإعداد والتهيّؤ - يكون تحت القدرة، ومع ذلك لم يأمر المولی به؟

قلت: إنه ليس الغرض الحقيقي، فلا فرق حينئدٍ بين أن يطلب المولی الفعل، أو الغرض الأدنی.

وثانياً: ما قيل من أنه ربّما تلتبس الطرق الموصلة لتلك المصلحة، بحيث يكون عدم تعيين طريق موصل إليها يؤدي إلی عدم معرفة غالب أو الكثير من المكلفين.

وكذا قد يكون غموض لدی المكلف في معرفة المصلحة نفسها، بحيث

ص: 432


1- أجود التقريرات 1: 167.

لا يمكنه تشخيصها إلاّ من قبل المولی نفسه، ومن خلال ما يأمر به من الأفعال والعناوين التي قد تكون مشيرة إليها، فلا محيص عن الأمر بها(1).

الأمر الثاني: في الشك في النفسية والغيريّة
اشارة

لو شك في أن الواجب نفسي أم غيري، فهل هنا أصل يعيّن أحدهما؟ والكلام في مقامين: مقتضی الأصل اللفظي، ومقتضی الأصل العملي.

المقام الأول: في مقتضى الأصل اللفظي
اشارة

وفيه مطلبان:

المطلب الأول: في التمسك بإطلاق الهيأة

فقد يقال: بإمكان التمسك بإطلاق الهيأة، لإثبات كون الواجب نفسياً لا غيرياً، فإن الإطلاق يقتضي عدم تقييد الوجوب بواجب آخر، أي الوجوب ثابت سواء وجب شيء آخر أم لا، حيث إن الغيرية هي تقييد الوجوب بواجب آخر، فلو كانت الغيريّة مرادة للمولی لزم التنبيه عليها.

وقد أشكل عليه بإشكالين:

الإشكال الأول: ذهب الشيخ الأعظم بأنه لا يمكن التمسك بالإطلاق في الهيأة، إذ هو شأن المفاهيم القابلة للسعة والضيق، وأما الواقع فغير قابل لهما، فيمتنع فيه الإطلاق والتقييد.

أما كون مدلول الهيأة واقع الطلب: فلأنّ الفعل يتصف بالمطلوبية بمجرد الإنشاء، فيقال عنه بأنه مطلوب، واتصاف شيء بالعَرَض إنّما هو بطروّ واقع العرض عليه لا مفهومه، مثلاً الجسم لا يتصف بالبياض إلاّ بعروض حقيقة

ص: 433


1- بحوث في علم الأصول 2: 222.

البياض عليه.

وأجيب عنه: أولاً: بما قاله المحقق الخراساني، من أن واقع الطلب تابع لأسبابه التكوينية، إذ هو من الصفات النفسية الخارجية، وهي لا تتحقق بالإنشاء، فيكون مدلول الصيغة هو مفهوم الطلب وهو قابل لتعلق الإنشاء به، لأنه أحد أسباب وجوده.

إن قلت: كيف يتصف الفعل بالمطلوبية بمجرد الأمر والإنشاء؟

قلت: إن المطلوبية إنّما هي المطلوبية الإنشائية، وهي قد تلازم المطلوبية الحقيقية وقد تنفك عنها، فاتصاف الفعل بالمطلوبية إنّما هو لتعلّق الطلب الإنشائي به.

وثانياً: بما قاله المحقق الإصفهاني(1)، عبر ثلاث مقدمات:

الأولی: إن التفاوت بين النفسي والغيري في الداعي، فالداعي في النفسي هو حسن ذاته، وفي الغيري هو التوصل إلی واجب نفسي، فالإطلاق هو عدم تقييده بانبعاثه عن داع آخر غير نفس الوجوب.

الثانية: إن إطلاق البعث - بمعنی عدم كونه منبعثاً عن داع آخر - لا يتنافی مع كون البعث المنشأ جزئياً، فلا مانع من التمسك بإطلاق الصيغة لنفيه، حتی لو كان الموضوع له هو واقع الطلب، إذ مرجع الإطلاق هو التمسك بظهور الصيغة في هذا الفرد دون ذاك، لاحتياج أحدهما إلی مؤنة زائدة.

ص: 434


1- نهاية الدراية 2: 107.

الثالثة: إن القيود التي تكون من قبيل الدواعي والأسباب لا توجب ضيق المعنی، بخلاف القيود التي تكون في الشؤون والأطوار.

وعليه فلا مانع من التمسك بالإطلاق، حتی لو التزمنا بأن مدلول الصيغة واقع الطلب.

وأورد عليها بإيرادات(1)...

أما المقدمة الأولی: فبأنّ النفسية بالمعنی المذكور قيد زائد أيضاً، سواء أخذت وجودية بانبعاث الوجوب عن حسن نفسه، أم عدمية بانبعاثه لا عن داعي غيره.

وأما الثانية: فإن الإطلاق لا يثبت النفسية من جهة الداعي - كما مرّ - فلا يبقی مجال لادعاء أن التقييد لا ينافي الجزئية الحقيقية، إذ ينحصر الإطلاق حينئذٍ في الشؤون والأطوار.

وأما الثالثة: بأن التقييد بالداعي إما في المفهوم أو في المصداق...

أ) أما في المفهوم، فإن تقييده بالداعي يضيّق دائرته، إذ التقييد بداعٍ يُخرج ما لم يكن منطلقاً من ذلك الداعي، كما أن الاحتراق ينطبق علی كل فرد إلاّ أن الاحتراق بسبب خاص يُخرج سائر الأفراد المنطلقة من أسباب أخری.

ب) وأما في المصداق، فهو غير قابل للتضييق - سواء كان القيد من قبيل الداعي أم من قبيل الشؤون والأطوار - فادعاء التضييق في الثاني دون الأول لا وجه له.

ص: 435


1- منتقی الأصول 2: 217.

الإشكال الثاني: إن الهيأة معنی حرفي، فهي ملحوظة باللحاظ الآلي، والإطلاق يتنافی مع الآلية، إذ هو يستدعي اللحاظ الاستقلالي، لأنه في مقام البيان الملازم لتوجه المكلّف إلی المعنی استقلالاً.

وفيه: مبنیً بإمكان ملاحظة المعنی الحرفي استقلالاً، كما مرّ مفصلاً.

المطلب الثاني: في التمسك بإطلاق المادة

وقد ذکر له وجوه، ومنها:

الوجه الأول: الإطلاق الأحوالي للواجب - في المادة، وفي الهيأة إن قلنا بقابليتها للإطلاق والتقييد - أي يجب هذا الواجب سواء وجب واجب آخر أم لا.

وأمّا ما قيل: وشرط هذا الإطلاق أن لا يكون المشكوك مشروطاً بأمر ملازم دائماً مع وجوب الواجب الآخر، وتظهر الثمرة في تعدد الثواب والعقاب.

ففيه: أن الكلام حول إطلاق الأمر وليس حول الواقع الخارجي.

الوجه الثاني: التمسك بإطلاق المادة في ذلك الواجب الآخر - الذي يحتمل أن يكون هذا الواجب مقدمة له - فذاك الواجب يتحقق سواء تحقق هذا أم لا.

إن قلت: الإطلاق هو اللا بشرط القسمي - وليس الطبيعة المهملة التي هي اللا بشرط المقسمي - ، فحينئذٍ يكون الإطلاق قيداً مقابل تقييد الواجب بغيره.

ولا يخفی جريان هذا الإشكال في التعييني والعيني أيضاً.

ص: 436

قلت: إن النفسية - وكذا التعيينية والعينية - تلازم الإطلاق من حيث وجوب الغير وعدمه، فإطلاق الوجوب يلازمها كما لا يخفی.

المقام الثاني: في مقتضى الأصل العملي

فلو لم يكن إطلاق أو أصل لفظي آخر يدل علی النفسية أو الغيرية، فما هو مقتضی الأصل العملي؟ الظاهر أن للمسألة صورتين:

الصورة الأولی: العلم الإجمالي بالوجوب الفعلي علی كل حال، فمرجع الشك هو إلی تقيّد هذا الواجب - المشكوك كونه نفسياً أم غيرياً - بذلك الواجب الآخر، والأصل هو عدم هذا التقيّد، فيجب هذا الواجب علی كل حال، فيمكنه الإتيان به مقدماً أم مؤخراً، وهذه النتيجة تتطابق مع الوجوب النفسي.

إن قلت: كونه نفسياً معارض بكونه غيرياً، للعلم الإجمالي بأحدهما، فكما أن الأصل لو جری ينفي الغيرية كذلك ينفي النفسية، فيتساقطان بمعنی عدم جريانهما.

قلت: منشأ الشك في النفسية والغيرية هو الشك في التقيّد وعدمه، فالأصل عدم التقيّد أي البراءة منه.

وقد مثل له المحقق النائيني(1) بما لو علم بعد الزوال بوجوب كل من الوضوء والصلاة مع الشك في أن وجوب الوضوء غيري أم نفسي - بالنذر مثلاً - .

وفي المثال تأمل، لأن الوجوب الغيري معلوم علی كل حال بسبب العلم

ص: 437


1- فوائد الأصول 1: 222.

بوجوب الصلاة مع كون الوضوء مقدمة له، وإنّما الشك في إضافة وجوب نفسي إليه أم لا، وحينئذٍ فمقتضی القاعدة إجراء البراءة عن هذا الوجوب الزائد.

وإن شئت قلت: بأن تقديم الوضوء علی الصلاة واجب علی كل حال للعلم بمقدميته للصلاة المعلومة الوجوب، وحينئذٍ تكون النتيجة متطابقة مع الواجب الغيري.

كما اتضح الإشكال في إرجاعه الشك في الصلاة إلی الأقل والأكثر الارتباطي الذي يذهب إلی جريان البراءة فيه، وذلك لمعلومية كون الوضوء مقدمة للصلاة علی كل حال فلا شك في وجوب الأكثر.

اللهم إلاّ أن يكون غرضه ذكر مثال فرضي، فالأولی التمثيل بالشك في وجوب الوضوء نفسياً بالنذر أو وجوب مس القرآن بالنذر مع كون الوضوء مقدمة له.

الصورة الثانية: عدم العلم الإجمالي بالوجوب الفعلي، بأن كان احتمال الوجوب النفسي فعلياً، واحتمال الوجوب الغيري تقديرياً، مع عدم العلم بوجوب ذي المقدمة أصلاً، أو مع العلم بعدم وجوبها الفعلي.

فالظاهر هو جريان البراءة عن أصل الوجوب، فلا مورد للبحث عن نفسيته وغيريّته.

ومن ذلك يتبين الإشكال فيما ذكره المحقق النائيني(1) من أن مرجع الشك هو إلی الشك باشتراط أحد الواجبين بشرط الآخر، والأصل هو نفي

ص: 438


1- فوائد الأصول 1: 223.

الاشتراط، ومثّل له بما لو علم قبل الزوال بوجوب كل من الوضوء والصلاة، فيشك في وجوب الوضوء قبل الزوال بمعنی الشك في اشتراطه بالزوال.

وجه الإشكال، مضافاً إلی ما مرّ من الإشكال في المثال، هو أن العلم بوجوب الوضوء تقديري، أي علی تقدير عدم مقدميته، فرجع الشك إلی أصل الوجوب، فالقاعدة هي البراءة عنه.

إن قلت: إذا جرت أصالة عدم الاشتراط ثبت الشق الآخر وهو الوجوب النفسي لدوران الأمر بين الوجوب النفسي أو الغيري.

قلت: هذا أصل مثبت لأن نفي أحد الضدين لا يثبت الضد الآخر إلاّ عقلاً، فتأمل.

ومن مصاديق هذه الصورة: ما لو علم بوجوب شيء - مشكوك في كونه غيرياً أم نفسياً - مع الشك في وجوب ذلك الغير، فمرجع الشك إلی الشك في أصل الوجوب الفعلي، فالأصل البراءة عن الوجوب، ومثّل له بالعلم بوجوب الوضوء المشكوك كونه غيرياً للصلاة مع الشك في وجوب الصلاة.

وذهب المحقق النائيني(1) إلی الوجوب بملاك وجوب الأقل في الأقل والأكثر الارتباطي، فكما أن العلم بوجوب ما عدا السورة مع الشك في وجوبها يقتضي وجوب امتثال ما عُلم، ولا يجوز إجراء البراءة فيه مع احتمال كون ما عدا السورة غيرياً - مقدمة للصلاة مع السورة - فكذلك في المقام.

ص: 439


1- فوائد الأصول 1: 223.

وفيه تأمل: إذ هناك الأقل معلوم علی كل حال وإنّما الشك في وجوب الزائد، وأما هنا فالوضوء - في مثاله - غير معلوم علی كل حال، بل علی فرض وجوب الصلاة لا علی فرض عدم وجوبها، هذا مضافاً إلی الإشكال في أصل المثال كما مرّ.

الأمر الثالث: في استحقاق العقاب على الأوامر الغيرية

وتحرير محل البحث: هو أن البحث قد يكون في الثواب أو العقاب.

أما الثواب: فهل هو عن استحقاق له بحيث يكون تركه ظلماً، أو استحقاق المدح، أو التفضل؟ الصحيح أن الثواب كلّه تفضل منه تعالی، ويستحقه العبد من جهة الوعد فقط لا بحكم العقل ابتداءً وبالذات، كما أنه لا معنی لاستحقاق المدح إلاّ بمعنی اقتضاء العمل للمدح بحيث لا يكون المدح بلا موجب، فعليه لا استحقاق للثواب لا في النفسي ولا في الغيري، فتلزم ملاحظة الأدلة في التفضّل بالثواب، وهي كما دلت علی الوعد به في النفسيات، كذلك دلت عليه في كثير من الغيريات.

وأما العقاب: فكلّه عن استحقاق، وذلك يكفي في جدوی هذا البحث حتی علی القول بعدم الاستحقاق في الثواب بل التفضل فيه.

استدلّ القائل بوحدة الثواب والعقاب - بحيث لا يكون ثوابان وعقابان أحدهما للواجب النفسي والآخر للغيري - بأمور، منها:

الدليل الأول(1) بأنه:

أ) إن قيل: إن استحقاق الثواب والعقاب يدوران مدار عنوان الإطاعة

ص: 440


1- نهاية الأفكار 1: 325.

والمعصية، فهنا يتم البحث عن تحققهما أو عدم تحققهما في المقدمات، وحينئذٍ نسوق الأدلة ونردّها علی تعدّد أو عدم تعدد الثواب أو العقاب.

ب) وأما لو قلنا: بأن الاستحقاق من تبعات عنوان التسليم للمولی الجامع للانقياد والطاعة، أو الطغيان عليه الجامع للتجري والعصيان، فحينئذٍ يمكن الالتزام بترتبهما علی الأمر الغيري وتركه، لكن مع وحدة المثوبة والعقوبة عند تعدد المقدمات، وذلك لوحدة التسليم أو الطغيان التابعين لوحدة الغرض وتعدده.

ويدل عليه: مدح العقلاء له أو ذمهم، بمجرد الشروع في المقدمات، وليس لذلك وجه إلاّ تحقق عنوان التسليم بموافقة الأمر الغيري، كتحققه بموافقة الأمر النفسي.

الدليل الثاني(1): إن المقدمات إما شرعية أو عقلية، والعقلية إما من قبيل الأسباب التوليدية أو المعدات.

1- ففي المقدمات الشرعية، يكون امتثال أمرها بعين الأمر المنبسط علی الواجب بما له من أجزاء وشرائط وموانع، نظير الأجزاء الذي يكون امتثالها بعين امتثال الأمر بالكل.

2- وفي المقدمات العقلية التي تكون من قبيل الأسباب التوليدية، فإن الأمر بالسبب أمر بالمسبب، وكذا العكس، وذلك لأن المسبب يكون عنواناً للسبب، ويكون وجوده بعين وجود مسببه، ويتحد معه في الوجود، فليس هناك أمران كي يبحث عن الاستحقاق عليهما.

ص: 441


1- فوائد الأصول 1: 224.

3- وفي المقدمات العقلية التي تكون من قبيل المعدّات، فإن الأمر بالمقدمة إنّما تولّد من الأمر بذي المقدمة، فليس له امتثال بحيال ذاته علی غير هذا الوجه.

وفيه تأمل، لأن الثالث أشبه بالمصادرة، فإن منشأ الأمر بالمقدمة أياً كان لا ينافي استحقاق الثواب أو العقاب عليه، بل اللازم ملاحظة دلالة الدليل علی الاستحقاق وعدمه.

الدليل الثالث(1): إن الثواب إنّما ينشأ عن إتيان العمل مرتبطاً بالمولی، بأن يأتي به بداعي الأمر - وهو معنی الامتثال - ، والأمر الغيري لا يصلح للداعوية والتحريك، فلا يمكن الإتيان بالعمل بداعي امتثال الأمر الغيري.

وذلك لأن المكلف عند الإتيان بالمقدمة...

أ) إما يكون عازماً علی عدم الإتيان بذي المقدمة، فلا يمكنه قصد الأمر الغيري حين الإتيان بالمقدمة، إذ ملاك تعلق الأمر الغيري بالمقدمة هو جهة مقدميتها أو بما هي مقدمة.

ب) وإما يكون عازماً علی الإتيان بذي المقدمة، فإتيانه بالمقدمة - مع التفاته إلی مقدميتها - قهري لتوقف ذي المقدمة عليها، أي يأتي بها سواء تعلق بها أمر غيري أم لا، فالإتيان بالمقدمة في هذا التقدير لا ينشأ عن تحريك الأمر الغيري، بل هو قهري، فلا يكون امتثالاً، فلا ثواب له.

وفيه تأمل: أولاً: باستلزام هذا الكلام عدم الثواب علی أكثر الواجبات التي يلتزم بها الناس حتی لو لم يكن لها أمر، وذلك لعلمهم بالمصلحة أو

ص: 442


1- منتقی الأصول 2: 237؛ وراجع نهاية الأفكار 2: 113.

للعرف والعادة ونحو ذلك، إذ وجود تلك الدواعي إنّما هي قبل الأمر أو مع قطع النظر عنه، فيأتي بها الناس سواء كان هناك أمر أم لا، كبِرّ الوالدين والنظافة ونحوها.

وثانياً: إن وجود داعي سابق لا يعني عدم إمكان قصد الأمر، فإن هذا داع آخر ينضم إلی الداعي الأول، بحيث يكون كل واحد من الداعيين جزء العلة مع كون كل واحد منهما مؤثراً بوحده لو كان مستقلاً.

وهذا نظير المستحب النفسي الذي يكون واجباً غيرياً، كالوضوء للصلاة، فإن من يريد الصلاة يتوضأ قهراً وهذا لا يعني تمحض الداعي في الغيريّة.

والحاصل: لابدية الإتيان ليس بمعنی عدم التمكن من قصد الأمر واقعاً، فتأمل.

الدليل الرابع: ترتب الثواب علی الإتيان بالمقدمة التي يقصد بها التوصل إلی ذي المقدمة، حتی مع عدم التمكن من ذي المقدمة - حيث لم يتحقق المطلوب النفسي - ، وذلك يكشف عن وجود ثواب مستقل لامتثال الأمر الغيري.

والجواب: أولاً: إن ثوابه علی الانقياد، أو إن الثواب الواحد منبسط علی كل من ذي المقدمة ومقدماته.

إن قلت: فكيف لا يستحق ثواباً أصلاً لو حصل له البداء وانصرف قاصداً ترك الواجب النفسي بقطع مقدماته؟

قلت(1): يرتفع من حينه ما استحقه سابقاً بفعل المقدمات أو تركها،

ص: 443


1- نهاية الأفكار 1: 326.

والأولی اعتبار الاستمرار شرطاً متأخراً بحيث يتبين عدم استحقاقه من الأول لو ترك المقدمات، كما يقال نظير ذلك في إحباط الثواب وأنه تعالی وعد الثواب مشروطاً بعدم فعل ما ينافيه من الارتداد ونحوه.

وثانياً: بالنقض بالأجزاء التي قطعها ولم يكمّل الواجب لمانع حصل له، حيث يثاب علی ما فعله من الأجزاء، مع التسالم علی وحدة استحقاق الثواب علی الأجزاء.

وثالثاً: إن عدم ترتب الثواب علی المقدمات الأولی لو حصل له البداء يكشف عن عدم تعدد الثواب، وإلا لكان اللازم أن يكون نظير من يفعل واجباً نفسياً ويترك واجباً نفسياً آخر، حيث يستحق الثواب علی الأول حتی مع ترك الثاني.

الدليل الخامس: هناك فرق في الثواب بين الواجب الذي لا مقدمات له أو له مقدمات قليلة، وبين الواجب الذي له مقدمات كثيرة وشاقة، وهذا يكشف عن وجود ثواب للواجب الغيري.

والجواب: أن شدة الثواب ليست بمعنی تعدد الثواب، فالثواب في فرض وجود مقدمات كثيرة وصعبة أكثر لكنه ثواب واحد علی الواجب النفسي باعتبار صعوبته، أو هو واحد منبسط علی المقدمة وذي المقدمة باعتبار الصعوبة والمشقة في الامتثال.

إن قلت: لو قلنا بالثواب المنبسط فلا إشكال، لكن لو قلنا بأن الثواب علی الواجب النفسي فلا فرق من حيث الصعوبة والسهولة بين ما لو كان له مقدمات كثيرة أو قليلة، فالصلاة هي نفسها سواء كانت مقدماتها صعبة أم

ص: 444

سهلة.

قلت: صحيح أن الواجب النفسي بنفسه كان علی طريقة واحدة سواء صعبت المقدمات أم سهلت، لكن له حصص مختلفة، فالحصة التي كانت مقدماتها أصعب يكون الثواب عليها أكثر، فتأمل.

الأمر الرابع: في الطهارات الثلاث
اشارة

لا إشكال في عباديتها، كما لا إشكال في كونها مقدمة للصلاة.

وأشکل عليه: باستلزام عباديتها للدور، إذ لابد في العبادية من قصد الأمر، وقصد الأمر الغيري متوقف علی عباديتها.

بيانه: 1- تتوقف رافعية الحدث علی كون الوضوء عبادة. 2- والعبادية تتوقف علی الأمر الغيري، إذ العبادة هي الفعل بقصد الأمر. 3- والأمر الغيري يتوقف علی أن يكون الوضوء عبادة، حيث إن المقدمة إنّما هي الأفعال بقصد القربة، فلابد أن تكون عبادة قبل تعلّق الأمر الغيري.

ولا يخفی أن مرجع هذا الإشکال إلی إشكال كيفية قصد الأمر في عامة العبادات، حيث إن متعلق الأمر سابق علی الأمر، فإذا كان قصد الأمر مأخوذاً في المتعلق - شرطاً أو جزءاً - لزم تقدم الأمر وتأخره، فيمكن استفادة جواب هذا الإشکال هنا عن جواب الإشكال هناك، ومنها:

الجواب الأول: تعدد الأمر، ببيان(1) توجه أمر غيري بذات الوضوء باعتبار دخالتها ضمناً في تحقق ذي المقدمة، مع الكشف عن تعلق أمر غيري آخر بوصفها، وهو إتيانها بداعي أمرها المتعلّق بها.

ص: 445


1- نهاية الأفكار 1: 329.

الجواب الثاني(1): وهو علی مبنی متمم الجعل، وحاصله: أن هذا الإشكال مبني علی أن جهة عبادية الوضوء إنّما تكون من ناحية أمره الغيري، لكن الصحيح أن الوضوء إنّما يكتسب العبادية من ناحية الأمر النفسي المتوجه إلی الصلاة بما لها من الأجزاء والشرائط، بداهة أن نسبة الوضوء إلی الصلاة كنسبة الفاتحة إليها، حيث إن الوضوء اكتسب حصة من الأمر بالصلاة لمكان قيديته، كاكتساب الفاتحة لمكان جزئيتها.

إن قلت: الوضوء كالستر والاستقبال، فكيف صار عبادياً دونها؟

قلت: التفاوت في الملاك حيث إنه اقتضی قيدية الوضوء علی وجه العبادية دونها.

ويرد عليه: الفرق بين الأجزاء حيث إنها بنفسها تشكل الواجب النفسي، فالأمر بالصلاة أمر بها ضمناً والوجوب منبسط عليها، وبين الشرائط حيث لا انبساط للأمر عليها، بل لابد من تولد أمر غيري، فتأمل.

الجواب الثالث: ما نسب إلی الشيخ الأعظم مع ردّه، وحاصله: عدم توقف المقدمية علی قصد الأمر، وإنّما تتوقف علی قصد عنوان راجح يُشار إليه بقصد الأمر.

بيانه: إن الوضوء - مثلاً - معنون بعنوان قصدي راجح في نفسه، بمعنی أن ذلك العنوان الراجح لا يتحقق من دون قصده، فالوضوء بقصد ذلك العنوان هو مقدمة للصلاة مع قطع النظر عن الأمر الغيري المتعلّق به، فلم تتوقف المقدمية علی قصد الأمر، لكن لمّا لم يكن ذلك العنوان معلوماً لنا فلابد من

ص: 446


1- فوائد الأصول 1: 228.

قصده إجمالاً - حيث إنه عنوان قصدي - ، والطريق إلی قصده إجمالاً هو قصد امتثال الأمر الغيري، إذ الأمر الغيري تعلق بالوضوء بلحاظ ذلك العنوان المتعنون به.

والحاصل: إن العبادية في الوضوء ليست ناشئة عن قصد الأمر الغيري كي يلزم الدور، بل هي ناشئة عن رجحانه في نفسه بلحاظ العنوان القصدي المنطبق عليه.

ويرد عليه: أن قصد ذلك العنوان إجمالاً لا ينحصر في قصد الأمر، بل يمكن الإشارة إلی ذلك العنوان وقصده عبر الوصف، أي إتيان العمل متصفاً بالوجوب، وبه يتم الإشارة الإجمالية، مع وضوح بطلان الوضوء حينئذٍ، لخلوّه عن قصد القربة، فتأمل.

الجواب الرابع: إنها مستحبة نفساً، وتجب مقدمة للصلاة، فتعدد الأمر، فهي تعبدية من جهة، وتوصلية من جهة أخری، فلها أمر نفسي قبل تعلق الأمر الغيري بها، فلا دور.

وأورد عليه: أولاً: بأنه لا دليل علی استحباب التيمم في نفسه، مع كونه عبادة إجماعاً حيث لا يصح إلاّ بقصد القربة، فليس فيه إلاّ أمر واحد هو الأمر الغيري.

وأجيب: بأن الإجماع دل علی عبادية التيمم، وحينئذٍ فلابد من وجود أمر آخر - هو الأمر الاستحبابي النفسي - لئلا يلزم الدور، وبعبارة أخری نكتشف استحبابه النفسي من كونه عبادياً، إذ لا عبادة من دون أمر، وحيث لا يمكن أن يكون ذلك الأمر هو الأمر الغيري فلابد أن يكون هنا أمر آخر

ص: 447

نفسي.

وثانياً: انعدام الأمر النفسي الاستحبابي بعروض الوجوب، لامتناع اجتماع المثلين أو الضدين.

وأجيب: أن انعدامه إنّما هو بحدّه لا بواقعه، وبيانه: أن الطهارات الثلاث لها رجحان ذاتي أوجب استحبابها، ثم بعد مقدميتها للصلاة مثلاً يندك ذلك الاستحباب بالوجوب الغيري، فتتداخل الإرادتان وتنشأ منهما إرادة موحدة مؤكدة، كاشتداد السواد الضعيف، وکتداخل النورين.

والحاصل: إنه مع وجود الرجحان الذاتي يصح الإتيان بها عبادة، فلذا لا يصح قصد الأمر النفسي لاندكاكه بل يقصد الأمر الغيري الغالب علی الاستحباب مع كونه مشوباً بجهة راجحة في نفسه.

وفيه تأمل، بل الأولی القول بأنه قبل الأمر الغيري كان المتعلق هو الوضوء الذي له أمر نفسي - استحبابي - فلا محذور في تعلق الأمر الغيري بهذا العمل القربي من غير استلزام الدور، وانقلاب النفسي إلی الغيري لا يضر.

وبعبارة أخری: إن متعلق الأمر الغيري - بما فيه قصد الأمر - سابق علی هذا الأمر الغيري، فلا دور، فيمكن إرادة هذا المتعلق بأمر جديد غيري، وإن استلزم هذا الأمر الجديد انقلاب الأمر الاستحبابي النفسي إلی أمر وجوبي غيري، هذا من حيث المبدأ - وهو الإرادة في المولی - ، وكذا في المنتهی وهو مرحلة الامتثال، فإن وجود الأمر الغيري وتحققه كاف في صحة قصده، فتأمل.

ص: 448

وثالثاً: لو كانت العبادية ناشئة من تعلق الأمر النفسي بها، لما صحّ الإتيان بها بقصد أمرها الغيري من دون قصد الأمر النفسي، نظير عدم تحقق قصد القربة في صلاة الظهر بقصد الأمر المتعلق بصلاة العصر، مع أن الظهر مقدمة للعصر، إذ لا تصح لولاها.

مع أنه لا إشكال في صحة الطهارات الثلاث حتی لو أتی بها بداعي الأمر الغيري من غير التفات إلی الأمر النفسي.

وأجيب: بأن عدم صحة الأمر الغيري في صلاة الظهر إنّما هو لعدم وجوده أصلاً، وذلك لغلبة الوجوب النفسي فيها - بعد عدم إمكان اجتماع وجوبين فيها - فلا يمكن قصد الأمر الغيري لأنه من السالبة بانتفاء الموضوع، عكس الطهارات الثلاث حيث إن وجوبها الغيري هو الغالب.

وفيه: أن لازم ذلك عدم إمكان قصد الأمر النفسي في الطهارات لعدم وجوده بتزاحمه مع الأمر الغيري، فإن كفی وجود الملاك النفسي في تصحيح القربة في الطهارات كفی الملاك الغيري في تصحيحها في صلاة الظهر، فتأمل.

ورابعاً: قد لا يوجد استحباب نفسي بسبب سقوطه بالمزاحمة مع مستحب أهم، كما لو دار الأمر بين الوضوء وبين إرواء عطشان، فلا أمر استحبابي نفسي مع أنه لا إشكال في صحة الوضوء بقصد الأمر الغيري.

وفيه: أن استحباب الأهم ساقط بتزاحمه مع الواجب الغيري، فيبقی المستحب النفسي غير الأهم سليماً عن المعارض، وبعبارة أخری: ليس التزاحم طولياً بأن يكون تزاحم بين المستحبين ثم تزاحم المستحب الأهم

ص: 449

مع الواجب الغيري، بل التزاحم عرضي، مضافاً إلی أنه لو فرض طوليته فإنه بزوال منشأ سقوط المهم بعد تزاحم الأهم مع الواجب الغيري بعد ذلك يرجع الاستحباب النفسي، مع إمكان تصحيح بقائه بناءً علی ملاك الترتب.

وخامساً: إن المستحب النفسي ليس هو المسحتان والغسلتان، وإنّما الطهور المتولد منها، فتكونان مقدمة للمستحب النفسي - الذي هو الطهور - ، فلم تثبت عباديتها!!

والجواب: أنه لو فرض صحة المبنی فإن القربة في الطهور لا تنفك عن القربة في الغسلتين والمسحتين، لأنها تكون من الأسباب التوليدية، حيث لا تكون قدرة علی المسببات إلاّ عن طريق أسبابها، فلا معنی لاشتراط القربة في الأمر غير الاختياري بنفسه مع عدم اشتراطه في سببه الاختياري، فتأمل.

الجواب الخامس: هو کفاية قصد التوصل إلی الواجب النفسي، حتی لو لم يكن للمقدمة أمر ولم نقل بوجوب المقدمة غيرياً، إذ يكفي في تحقق العبادية الإتيان بالعمل منسوباً إلی المولی، وهذه النسبة تتحقق بقصد التوصل.

وأشكل عليه بأمور(1)، منها:

الإشکال الأول: إن القرب والثواب عند الإتيان بالمقدمة يمكن أن يرجع إلی أحد وجوه ثلاثة:

1- الشروع في إطاعة الأمر الوجوبي النفسي، فالثواب علی الواجب النفسي.

2- أن يكون الثواب علی نفس العمل من جهة كشفه عن الانقياد، وهو

ص: 450


1- منتقی الأصول 2: 261.

صفة حسنة لدی العبد، ففي الواقع الثواب ليس علی العمل بل علی الانقياد.

3- أن يكون الثواب علی ذات العمل باعتبار مقربيته بنفسه، وحينئذٍ فالثواب علی نفس المقدمة.

ولا ينفع الأول والثاني في العبادية، إذ لا تقرب بنفس العمل بهما، مع أن أحد الاحتمالين إن لم يكن أرجح فلا أقل من عدم تعين الثالث، فلا طريق لإثبات العبادية!!

ويرد عليه: أن الكلام إنّما هو في تصحيح العبادية، ونسبة العمل إلی المولی بأن يأتي به مضافاً إليه كافٍ فيها، وحينئذٍ فالثواب علی أيٍ كان فلا يضر في تحقق العبادية.

وبتعبير آخر: إن الأدلة دلت علی لزوم قصد القربة، وذلك كما يتحقق بقصد أمر نفس الواجب، يتحقق أيضاً بقصد التوصل إلی واجب آخر.

الإشكال الثاني: غالب المقدمات يؤتی بها بقصد التوصل، إذ لا يكون غرض العبد فيها غير الوصول بها إلی الواجب النفسي، فلازمه كون جميع هذه المقدمات تعبدية.

ويرد عليه: أنه لا يشترط في التوصليات القربة، وليس ذلك بمعنی عدم إمكانها، وإنّما الكلام في اشتراط قصد القربة في صحة الطهارات الثلاث التي هي مقدمة لواجبات نفسية، وبهذا الوجه - المذكور في الجواب الخامس - يمكن قصد القربة فلم يكن محذور، كما يمكن بهذا الوجه الإتيان بالتوصليات بنحو التعبد لكن مع عدم اشتراطه.

الإشكال الثالث: إنه لو جاء بالمقدمة بقصد التوصل وجاء بذيها بداعٍ

ص: 451

غير قربي كالرياء، لزم أن تكون المقدمة بما أنها مقدمة عبادية دون ذيها، وهو مستبعد جداً.

وفيه: أنه لا وجه للاستبعاد، بعد دلالة الدليل علی صحة العمل المقدّمي العبادي، فأي مانع من تحقق العبادية في الوضوء القربي والإثابة عليه مع بطلان الصلاة لأجل الرياء فيها، وهكذا في كل المقدمات التي يقصد بها التوصل إلی الواجب النفسي، نعم علی القول بأن الثواب لأجل الشروع في إطاعة الأمر النفسي قد يتأمل في الثواب لعدم تحقق تلك الإطاعة، كما في الشروع في الأجزاء ثم بترها وعدم إكمالها.

الإشكال الرابع: إن تحقق العبادية بقصد التوصل يستلزم الدور، إذ إن التوصل إنّما هو بما يكون مقدمة، والمقدمة هي: (ما كان عبادة) لا ذات العمل، مع أن العبادية - بناءً علی هذا الوجه - ناشئة عن قصد التوصل.

وبعبارة أخری: قصد التوصل يكون بما هو عبادة، والعبادة متوقفة علی قصد التوصل، فلزم الدور المصرّح.

والجواب: إن ذات العمل أيضاً مقدمة، فلا يتوقف قصد التوصل علی عبادية العمل بنفسه، وبتعبير آخر: ذات العمل جزء من الموصل باعتبار توقف ذي المقدمة عليه، فإذا قصد التوصل بتلك المقدمة - التي هي ذات العمل - تحققت العبادية، فلم يتوقف قصد التوصل علی العبادية، فتأمل.

تنبيهان:
التنبيه الأول

قد يرد إشكال، وهو أنه لو انحصر طريق عبادية الطهارات الثلاث في

ص: 452

استحبابها النفسي، مع عدم قيام دليل خاص علی ذلك الاستحباب، بل استفيد من نفس دليل مقدميتها مع الاتفاق علی أنها عبادية...

فحينئذٍ يكون الاستحباب النفسي فقط في ظرف ثبوت الوجوب الغيري، وهو لا يكون إلاّ بعد دخول الوقت، وعليه فلا يمكن إثبات الاستحباب النفسي قبل الوقت فلا تصح تلك الطهارات حينئذٍ، مع أنه لا إشكال في صحة الإتيان بها قبل الوقت!!

والجواب أولاً: بأن دليل مقدميتها يثبت استحبابها النفسي مطلقاً، إذ لا يمكن استحبابها في حال الوجوب الغيري لاستحالة اجتماع المثلين أو الضدين، فحصر الاستحباب في حالة الوجوب الغيري ثم رفعه دائماً لغو، فتأمل.

وثانياً: علی مبنی الواجب المشروط من أن الوجوب فعلي والواجب استقبالي، يكون الوجوب النفسي لذي المقدمة ثابتاً قبل الوقت وهو يكفي في صحة ترشح الوجوب علی مقدماته.

لكن لا يمكن الالتزام بهذا الجواب هنا، حتی لو قبلنا أصل المبنی، لما ذكرناه في الجواب السابق من لغوية جعل الاستحباب النفسي ثم رفعه دائماً.

التنبيه الثاني

في حقيقة الطهارات الثلاث، وفيها أقوال ثلاثة:

القول الأول: إن الأمر تعلق بالطهارة باعتبار أنها مسبّب عن الأفعال الخارجية، كالغسلتين والمسحتين في الوضوء فهي سبب توليدي للطهارة التي هي الشرط في الصلاة ونحوها.

ص: 453

القول الثاني: إن الأمر تعلق بالطهارة بما أنها عنوان انتزاعي عن هذه الأفعال الخارجية، أو أنها عنوان اعتباري لها، فليست هي أمراً مغايراً لهذه الأفعال بل هي عنوان لها، كالتعظيم الذي هو عنوان للقيام ينتزع منه أو يعتبر عليه.

وأورد عليه: بأن وجود العنوان إنّما هو بعين وجود المعنون، فإذا كانت الطهارة عنواناً للأفعال الخارجية المخصوصة، فلابد من انعدامها بانتهاء المسح، إذ لا يعقل بقاء العنوان من غير معنون، إذ لا يمكن الانتزاع مع زوال منشأ الانتزاع، ولا الاعتبار إلاّ مع فرض وجود المعنون فلابد من اعتبارين، وهو لغو فإن فرض المعدوم موجوداً ثم اعتبار عنوان له لا حاجة له بعد إمكان الاعتبار من غير هذا الفرض، وذلك عبر الالتزام بالقول الأول أو الثالث(1).

القول الثالث: إن الأمر لم يتعلق بالطهارة بل تعلق بنفس الأفعال، فالمقدمة هي نفس الغسلتين والمسحتين، لا الطهارة الناتجة عنهما، وقد يستظهر من بعض الأدلة هذا القول، كما قد يستظهر القول الأول، وتفصيل المسألة في الفقه.

البحث الرابع: في المقدمة الموصلة
اشارة

والکلام في جهات ثلاث:

الجهة الأولى: في متعلق أصل الوجوب
اشارة

فعلی القول بوجوب المقدمة، فما هو متعلق الوجوب؟ فيه أقوال:

1- ذات المقدمة، 2- أو ذاتها عند إرادة ذي المقدمة، كما عن المعالم،

ص: 454


1- قريب منه في منتقی الأصول 2: 265.

فتكون هذه الإرادة قيداً للوجوب، 3- أو ذاتها بشرط قصد التوصل إلی ذيها، كما عن الشيخ الأعظم، 4- أو خصوص المقدمة الموصلة، كما عن الفصول.

وفي الفوائد(1): ولعلّ منشأ اعتبار القيود الزائدة علی الذات هو استبعاد كون الواجب نفس الذات من غير اعتبار شيء، مع أنه قد تكون الذات محرّمة ويتوقف واجب أهم عليها، كما لو فرض توقف إنقاذ الغريق علی التصرف في ملك الغير، فإن القول بكون التصرّف واجباً مطلقاً ولو لم يكن من قصد المتصرّف إنقاذ الغريق - بل العدوان أو التنزه - مما يأباه الذوق، ولا يساعد عليه الوجدان.

وأما القول الثاني - بأن تكون إرادة المقدمة من قيود وجوب المقدمة - ، فقد أشكل عليه بأمور:

الإشكال الأول: ما عن المحقق النائيني(2)، وحاصله: أن اشتراط وجوب المقدمة بإرادة ذي المقدمة...

أ) إما أن يكون مقصوراً علی المقدمة لا علی ذيها، فهذا ينافي تبعية وجوب المقدمة لوجوب ذيها في الإطلاق والاشتراط.

ب) وإما أن يشمل ذي المقدمة أيضاً، وهذا يلزم إناطة التكليف بالشيء عند إرادته، وهو محال لجهتين:

الأولی: حصول الشيء عند تعلّق الإرادة به، فلو تأخر التكليف عن

ص: 455


1- فوائد الأصول 1: 285.
2- فوائد الأصول 1: 286.

الإرادة، لزم وقوع التكليف حين حصول الشيء وهو طلب الحاصل.

الثانية: لا معنی لاشتراط التكليف بالإرادة، لأن التكليف إنّما هو بعث للإرادة وتحريكها، فلا يمكن إناطة التكليف بها، لاستلزامه إباحة الشيء.

وفيه تأمل: أما الشق الأول فهو أشبه بالمصادرة، لأن البحث والكلام في وجوب المقدمة علی كل حال أم في صورة إرادة ذي المقدمة، فلا يصح جعل محل البحث دليلاً علی أحد الاحتمالات، وبعبارة أخری: أن هذا الكلام هو مقابلة ادعاء بآخر بلا إقامة برهان.

وأما الشق الثاني: فإن محذور طلب الحاصل إنّما يترتب لو أراد المكلف ذي المقدمة من كل الجهات، أما لو كان المراد هو إرادة ذي المقدمة من غير ناحية هذه المقدمة - وبعبارة أخری كما قيل: سد باب عدم ذي المقدمة من سائر الجهات غير جهة المقدمة المنظورة - فلا يكون طلباً للحاصل، كما لو أراد ذي المقدمة غافلاً عن هذه المقدمة أو عن مقدميتها، فعند الالتفات إليها لا مانع من ترشح الوجوب إليها حينئذٍ، فتأمل.

نعم الجهة الثانية من الإشكال واردة حيث لا يصح تعليق الوجوب النفسي بالإرادة، لأنه مساوق للإباحة.

الإشكال الثاني: ما عن المحقق العراقي(1) من أن ملاك الحكم الغيري ثابت لذات المقدمة، وحيثية القصد المزبور أجنبيّة عنه بالمرة، فلو أتی بالمقدمة لا بقصد التوصل كان إتيانه محصلاً لغرض الآمر بلا كلام، فمع أجنبية القصد المذكور لا يكاد يترشح الوجوب الغيري إلاّ علی ذات

ص: 456


1- نهاية الأفكار 1: 333.

المقدمة بنفسها.

وأورد عليه: بأن الواجب قد يسقط بغير الواجب - إذا تحقق به غرض المولی - ، وفيما نحن فيه الواجب إنّما هو الفعل بعنوان المقدمة لا ذات الفعل، فلو لم يأت به بهذا النحو لم يأت بالواجب، ويدل عليه حرمة التصرف في ملك الغير إذا كان مقدمة غير منحصرة للإنقاذ الواجب - مثلاً - فإنه يحصل به غرض المولی مع عدم وجوبه بل مع حرمته، فتأمل.

القول الثالث: الواجب هو المقدمة بشرط قصد التوصل إلی ذيها، فيكون هذا الشرط قيداً للواجب، واستدل له بأمور:

الدليل الأول: ما حاصله: باختلاف الحيث التعليلي عن التقييدي في الأحكام الشرعية، فالتعليلي هو ملاكات الأحكام، والتقييدي هو ما يشترط في الواجب، مثل عنوان الصلاة حيث لابدّ من قصده لتتحقق الصلاة.

وأما الأحكام العقلية، فالتعليلي فيها يرجع إلی التقييدي، حيث إن الأغراض في الأحكام العقلية هي عناوين لموضوعاتها في:

1- ما يرجع إلی الاستحالة والإمكان - وهو العقل النظري - مثلاً الحكم باستحالة شيء بسبب الدور هو حكم باستحالة الدور، فالحيث التعليلي وهو الدور موضوع لحكم العقل.

2- ما يرجع إلی الحسن والقبح - وهو العقل العملي - كحكم العقل بحسن ضرب اليتيم تأديباً، فإن مرجعه إلی حسن التأديب.

وفيما نحن فيه: مطلوبية المقدمة ليست لذاتها، بل لحيثية مقدميتها والتوصل بها، فالموضوع الحقيقي لحكم العقل إنّما هو نفس التوصل، حيث رجع الحيث التعليلي إلی التقييدي.

ص: 457

وأشكل عليه: أولاً: بأن البحث في وجوب المقدمة ليس عن اللابدية العقلية، بل عن الحكم الشرعي اللازم لحكم العقل.

وثانياً: إن ما نحن فيه ليس من موارد العقل العملي ولا النظري، حيث منشأ الحكم ليس الحسن أو القبح، ولا الاستحالة والإمكان، وإنّما المنشأ هو الوجدان الارتكازي، والوجدان يحكم بأنها تعليلية.

ولا يخفی أن هذا يرجع إلی الأول بإنكار عقلية الوجوب، إذ لا يخلو حكم العقل عن الأمرين - الحسن والقبح أو الاستحالة والإمكان - ، مضافاً إلی أن منشأ هذا الوجدان هو العقل العملي كما يظهر بالتأمل.

وثالثاً: إن هذا البيان يثبت المقدمة الموصلة، لا قصد التوصل، فإنه أثبت أن جهة الوجوب هو المقدمية والتوصل، وهذا هو مقالة صاحب الفصول، ولا يثبت قصد التوصل كما هو مدعی هذا القول، فتأمل.

هذا مضافاً إلی الإشكال في كبری رجوع الحيث التعليلي إلی التقييدي في الأحكام العقلية.

الدليل الثاني: متعلق التكليف - تعبدياً كان أم توصلياً - لا يقع علی صفة الوجوب إلاّ لو كان اختيارياً، ومن دون القصد لايكون الفعل اختيارياً بل قهرياً، فقد يحقق غير الاختياري الغرض في التوصليات، لكنه لا يكون ذلك الفرد غير الاختياري مصداقاً للواجب.

ويرد عليه: أولاً: بأن القصد يختلف عن الداعي، وعدم الداعي لا يسبب قهرية العمل وعدم اختياريته، فمن يدخل السوق لا لشراء اللحم المأمور به بل لزيارة صديق لا شك في اختيارية دخوله مع عدم قصده

ص: 458

التوصل.

وبعبارة أخری: الدواعي قد تختلف، لكن قصد أصل العمل موجود علی كل حال.

وثانياً: بما يقال: من أن القدرة علی الجامع بين المقدور وغير المقدور تصحح تعلق التكليف بهذا الجامع مما يستلزم تعلق التكليف بالفرد غير المقدور أيضاً، إذ تكفي القدرة علی فرد من الجامع في صحة التكليف بالجامع، وعليه: فإذا كان الواجب هو الطبيعي الجامع، كان الإتيان به لا بقصد التوصل مصداقاً للجامع، فيكون مشمولاً للخطاب.

وفيه نظر: لأن الطبيعي بالنسبة إلی الأفراد كالآباء بالنسبة إلی الأبناء، لا كالأب بالنسبة إلی الأبناء، وذلك لأن الطبيعي ينتزع من الفرد، وهذا معنی قولهم: «إن الطبيعي موجود بوجود فرده»، ومن المعلوم إن المنتزَع يختلف باختلاف منشأ انتزاعه، نعم المفهوم واحد، لكنه ليس مورداً للتكليف حيث إنه وجود ذهني، فتأمل.

الدليل الثالث: ما عن الشيخ الأعظم من أنه لا ريب بأنا نجد أن من يأتي بالمقدمة بدون قصد التوصل بها إلی ذيها، بل بداعٍ آخر، لا يعدّ في العرف ممتثلاً للوجوب الغيري وآتياً بمتعلّقه، مما يكشف عن كون معروضه هو المقدمة التي يقصد بها التوصل.

ووضّحه في المنتقی(1): بأن نفس الوجه الذي يقام دليلاً علی أصل وجوب المقدمة يقتضي تعلّق الوجوب بخصوص ما يقصد بها التوصل، فإن

ص: 459


1- منتقی الأصول 2: 287.

دليل الملازمة هو بناء العرف علی وجوبها، ويكشف عنه وجود بعض الأوامر العرفية بالمقدمة، كقوله: أدخل السوق واشتر اللحم، والعرف يری أن من يؤمر بالمقدمة هو من كان في مقام امتثال الأمر بذيها، لا من ليس في مقام امتثال الأمر بذي المقدمة.

إن قلت: کيف يصح تكليف من يعلم بعصيانه؟

قلت: يمكن أن يكون ذلك لإلقاء الحجة عليه، فيترتب عليه عقابه ومؤاخذته، وهذا غير متحقق في الأمر الغيري حيث لا عقاب علی مخالفته، فسبب الإيجاب ليس إلاّ تحصيل الواجب، والمفروض انتفاؤه.

ويرد عليه: أن ترشّح الوجوب من ذي المقدمة على المقدمة إنّما هو ترشّحٌ واقعيٌ وغير مرتبط بعنوان المقدمية، فلذا الإتيان بالمقدمة إتيان بواقع الواجب الغيري، فيكون ممتثلاً حتى لو لم يقصد، نعم لو أريد الامتثال المستتبع للثواب أو العقاب فهذا غير متحقق حتى مع قصد الامتثال لعدم ترتب ثواب أو عقاب على الأمر الغيري، كما مرّ.

هذا مضافاً إلى أن الملازمة عقلية وليست عرفية كي نرجع إلى العرف في معرفة موطن الامتثال عن عدمه.

الدليل الرابع: ما ذكره المحقق النائيني(1) كاحتمال لما أراده الشيخ الأعظم، وهو خاص بمقدمة الواجب التي هي محرمة في نفسها، كالمرور بالأرض المغصوبة لإنقاذ الغريق، حيث مزاحمة الواجب الغيري مع الحرمة في المقدمة، فإذا كانت المقدمة في نفسها محرّمة فلا تصير واجبة

ص: 460


1- فوائد الأصول 1: 289؛ منتقی الأصول 2: 286.

بالوجوب الغيري إلاّ بقصد التوصل، لأن العقل يحكم بارتفاع حرمتها في هذه الصورة فقط دون ما لو قصد التنزه مثلاً.

وأورد عليه: أولاً: بأن ذلك ليس من باب التزاحم، إذ مع الالتزام بوجوب المقدمة، فإن وجوبها وحرمتها متعارضين، وذلك لتوارد حكمين علی موضوع واحد، لا علی موضوعين.

وثانياً: لو فرض تحقق التزاحم، فحكمه هو ارتفاع حكم المهم، وبقاء حكم الأهم مطلقاً، من دون دخل لقصد الامتثال للأهم وعدمه، إذ التزاحم إنّما هو بين ذات الحكمين، فوجود أحدهما يرفع الآخر سواء قصد امتثاله أم لا.

وثالثاً: إن التزاحم إنّما هو بين حرمة المقدمة وبين وجوب ذي المقدمة الموقوف علی المقدمة المحرّمة، حتی لو لم نقل بوجوب المقدمة أصلاً، فبين الإنقاذ والتصرف في المغصوب تزاحم، ولا ربط لقصد التوصل في ذلك أصلاً، فسواء قصد أم لا فإن التزاحم موجود.

اللهم إلاّ إذا قلنا بالترتب، فمن يريد عصيان الأمر بالأهم وهو الإنقاذ، يتوجه إليه خطاب تحريمي بالمهم، وهو التصرف في أرض الغير، فتأمل.

القول الرابع: ما ذهب إليه صاحب الفصول، وهو وجوب خصوص المقدمة الموصلة، وذلك بأن يكون الوجوب الغيري متعلقاً بخصوص العلة التامة التي يترتب عليها ذي المقدمة قطعاً.

والكلام تارة في الإمکان، وأخری في الوقوع، وثالثة في التعيّن.

المرحلة الأولی: في الإمکان، فلا محذور في وجوب خصوص

ص: 461

المقدمة الموصلة، وما ذكر من محاذير قابلة للدفع، وهي:

المحذور الأول: الوصول إلی الواجب ليس مما يحصل بالمقدمة في غير الأسباب التوليدية، وذلك لتوقف حصول الواجب في الأفعال الاختيارية علی إرادة المكلّف، فلا يتحقق ذي المقدمة من غير إرادة له حتی لو تحققت كل المقدمات، نعم في الأسباب التوليدية - كالإلقاء في النار حيث يتحقق به الاحتراق من غير توسط إرادة الفاعل المختار - يصح ما ذكر، لكن لازمه اختصاص وجوب المقدمة بها فقط، لأنها الموصولة دون سائر المقدمات.

وفيه: أن كل مقدمة هي جزء من العلة التامة، فذلك الوجوب ينبسط عليها جميعاً، وإرادة المكلف في غير الأسباب التوليدية أحد تلك المقدمات.

إن قلت: الإرادة ليست اختيارية، لاستلزام ذلك التسلسل، فلا يتعلّق التكليف بها، فلم يتعلق التكليف بالعلة التامة!

قلت: أولاً: الإرادة اختيارية، لكن لا بإرادة أخری بل بنفسها، كما مرّ.

وثانياً: ما قيل: من أنه لو فرض وجود المانع في تعلق التكليف بالإرادة، فهذا لا يمنع عن تعلق الوجوب بسائر المقدمات الموصلة مما هي دخيلة في الغرض، نظير ما قيل في قصد القربة.

المحذور الثاني: إن الأمر يسقط بأحد أمور أربعة: الموافقة، أو المخالفة، أو ارتفاع الموضوع، أو حصول الغرض، فحين الإتيان بالمقدمة قبل تحقق ذي المقدمة: لا مخالفة لأنه أتی بالواجب الغيري، وليس من

ص: 462

ارتفاع الموضوع وذلك للإتيان بمتعلقه، ولا بحصول الغرض حيث إن الغرض هو تحقق ذي المقدمة والمفروض أنه لم يتحقق بعد، فلم يبق إلاّ القول بأن سقوطه لأجل الموافقة وهو المطلوب حيث يثبت وجوب مطلق المقدمة دون خصوص الموصلة منها.

وفيه: أن الموافقة مراعاة بتحقق ذي المقدمة، فلو لم يأت به ثم توقف الإتيان به علی تكرار المقدمة وجب التكرار، وهذا دليل عدم سقوط الأمر الغيري بالمقدمة حين الإتيان بها، نظير الأمر الضمني بالجزء حيث إنه لو أتی به فسقوط الأمر به مراعی بالإتيان بالكل.

والسر في ذلك(1) أن الأمر الضمني له جانبان: جانب الداعوية، فعند الإتيان بالجزء تنتفي الداعوية، وجانب الامتثال فهو لا يسقط بمجرد ذلك بل امتثاله يتوقف علی الإتيان بباقي الأجزاء المرتبطة به.

وهكذا في المقدمة، حيث فرضنا وجوب العلة التامة، فكانت لكل مقدمة وجوب ضمني لأنها جزء الواجب، فتأمل.

المحذور الثالث(2): الدور في الوجود، وحاصله: أن الإيصال إلی ذي المقدمة ليس من الصفات الخارجية، بل هو أمر ينتزع عن الإتيان بذي المقدمة، فأخذ هذا القيد الانتزاعي - المتوقف تحققه علی الإتيان بذي المقدمة - في الواجب المقدمي يستلزم الدور، إذ يكون الواجب النفسي مقدمة للمقدمة - لتوقف تحقق الإيصال علی تحققه - ، وحيث إن وجوده

ص: 463


1- منتقی الأصول 2: 299.
2- راجع فوائد الأصول 1: 345؛ أجود التقريرات 1: 345؛ نهاية الأفكار 1: 338.

متوقف علی المقدمة لزم الدور.

وبعبارة أخری: الواجب النفسي في ذي المقدمة يتوقف علی المقدمة، وهي تتوقف علی تحقق الواجب النفسي لكي يتحقق عنوان الإيصال.

والجواب: أن قيد (الإيصال) لم يؤخذ مقوماً للمقدمة، وإنّما أخذ مقوماً للواجب الغيري، وأما المقدمة فهي ذات العمل، فلا دور.

وبعبارة أخری: الواجب الغيري في المقدمة يتوقف علی الواجب النفسي في ذي المقدمة، وهذا الواجب النفسي يتوقف علی ذات المقدمة مع قطع النظر عن وجوبها الغيري.

المحذور الرابع: الدور في الوجوب، وحاصله: أن وجوب المقدمة إنّما يترشح من وجوب ذيها، فوجوبها معلول لوجوبه، فإذا كان وجوب ذيها معلولاً لوجوبها لزم الدور، وبيانه: أن ذي المقدمة - بناءً علی وجوب المقدمة الموصلة - يكون مقدمة لما هو واجب وهو المقدمة الموصلة، حيث لا تكون المقدمة واجبة إلاّ لو أوصلت إلی ذي المقدمة.

والجواب: أولاً: عدم وجوب غيري لذي المقدمة، فهو وإن كان مقدمة للمقدمة إلاّ أنه لا ترشح للوجوب عليه لئلا يجتمع المثلان أي الوجوب النفسي والوجوب الغيري لذي المقدمة.

وثانياً: لو فرض تحقق الوجوب الغيري في ذي المقدمة فلا دور، إذ الموقوف عليه الوجوب النفسي لذي المقدمة ومنه يترشح وجوب غيري للمقدمة، ومنها يترشح وجوب غيري لذي المقدمة، فاختلف الوجوبان.

المحذور الخامس: أن تكون ذات المقدمة مقدمةً للمقدمة، وهو

ص: 464

يستلزم الخلف أو التسلسل، وذلك لأن المقدمة الواجبة هي الذات بقيد الإيصال، فكل من الذات والتقيد بالإيصال جزء المقدمة، وجزء الشيء مقدمة له لتوقفه عليه، فذات المقدمة مقدمة للمقدمة الموصلة، فلابد من ترشح الوجوب علی ذاتها لكونه مقدمة، فإن ترشح عليه فقط فهو خلف، وإن ترشح علی الذات مع أخذ قيد الإيصال فيه لزم التسلسل.

وفيه: أولاً: بالإشكال في المبنی حيث أنكرنا المقدمة الداخلية، فراجع.

وثانياً: ما قيل من أن هذا الإشكال إنّما يرد لو أخذ قيد الإيصال بعنوانه في الواجب الغيري، وأما إذا أخذ بنحو الملازمة فلا، فتأمل.

المرحلة الثانية: في وقوع وجوب خصوص المقدمة الموصلة.

واستدل له في الفصول بما حاصله: بأنه لا إشكال في صحة منع المولی عن جميع مقدمات الواجب غير التي يترتب عليها الواجب، فيمكن تصريح المولی بتحريم المقدمة غير الموصلة، وذلك يكشف عن عدم تعلق الوجوب بها، وإلا لزم اجتماع الضدين.

وهذا الدليل کما يثبت إمكان تعلق الوجوب بخصوص المقدمة الموصلة، کذلك يدل علی وقوعها أيضاً.

وأشكل عليه: بإشکالين:

الإشکال الأول: بما في الكفاية من منع دلالة الدليل علی المدعی، بأنا لا ندعي العِلية التامة بل ندعي اقتضاء كل مقدمة - موصلة أم غيرها - للوجوب، وهذا لا ينافي عدم وجوب بعض المقدمات لمانع.

ويضاف إليه إمكان المنع حتی عن بعض المقدمات الموصلة، فيما لو

ص: 465

كانت متعددة، كالمنع عن المرور بالأراضي المغصوبة لإنقاذ الغريق مع عدم انحصار طريق الإنقاذ بها.

ولا يخفی أن هذا الإشكال إنّما يرد لو كان المراد الاستدلال علی تعيّن الوجوب في المقدمة الموصلة، لكن لو كان المراد إثبات إمكانها بل وقوعها فلا يرد، فتأمل.

الإشکال الثاني: بما في الكفاية أيضاً لردّ المدّعی عبر بيان عدم إمكان المنع عن المقدمة غير الموصلة، بأن هذا المنع يستلزم جواز ترك ذي المقدمة، وهو خلف.

بيانه: أن وجوب الواجب متوقف علی القدرة عليه - قدرة عقلية، وقدرة شرعية بعدم النهي عنه - فلا وجوب لغير المقدور، فإذا فرض المنع عن المقدمة غير الموصلة، كان تحقق القدرة الشرعية علی المقدمة متوقفاً علی الإتيان بذي المقدمة، فمع عدم الإتيان بذي المقدمة تكون كل المقدمات محرّمة حيث إنها غير موصلة، إذ المفروض المنع عن غير الموصلة، وحينئذٍ لا يكون الواجب مقدوراً للنهي عن كل المقدمات.

ويرد عليه: أولاً: إن إمكان الإتيان بالواجب يستلزم إمكان الإتيان بالمقدمة الموصلة، وإن عدم الإتيان به وإن كان لازمه عدم التمكن من الإتيان بالموصلة في حال ترك الواجب، إلاّ أن المكلّف حيث كان يمكنه الإتيان بالواجب فكان يمكنه الإتيان بالمقدمة الموصلة، وفي ظرف عدم الإتيان به وإن كان لا يقدر علی الإتيان بالمقدمات إلاّ أن ما بالاختيار لا ينافي الاختيار.

ص: 466

وبعبارة أخری: إن المكلّف في ظرف ترك ذي المقدمة غير قادر علی المقدمة الموصلة فلا يكون حينئذٍ قادر شرعاً علی ذي المقدمة، لكن بما أن ذي المقدمة واجب نفسي مطلق والمكلّف قادر علی تحقيقه خارجاً، ففي ظرف الإتيان هو قادر علی المقدمة الموصلة، وهذا المقدار يكفي في تحقق القدرة.

وثانياً: ما في الفوائد(1) من أنه لا يلزم التكليف بغير المقدور، لأنه يكون من قبيل اشتراط الشيء بأمر متأخر، فالتوصل وإن تأخر وجوده عن وجود المقدمة وكان يحصل بالإنقاذ مثلاً، إلاّ أنه أخذ شرطاً في جواز المقدمة، وهذا مما لا محذور فيه، بعد ما كان الإنقاذ فعلاً اختيارياً للمكلّف.

المرحلة الثالثة: في تعيّن الوجوب في المقدمة الموصلة.

ويدل عليه: أن ملاك وجوب المقدمة هي إيصالها إلی ذي المقدمة، حيث لا مصلحة نفسية فيها، كما أن مصلحتها الغيرية ليس الوصول إلی أمر آخر، بل الوصول إلی ذي المقدمة حصراً، وحيث إن التكليف تابع للملاك، ولا يوجد الملاك إلاّ في المقدمة الموصلة، فلابد من تعيّن الوجوب فيها.

الجهة الثانية: في متعلق الوجوب الغيري في المقدمة الموصلة

ثم إنه علی القول بوجوب خصوص المقدمة الموصلة، فما هو متعلق الوجوب الغيري؟ فيه احتمالات:

الاحتمال الأول: ما ذهب إليه المحقق العراقي(2) من تعلق الوجوب

ص: 467


1- فوائد الأصول 1: 292.
2- نهاية الأفكار 1: 340.

الغيري بالحصة التوأم مع سائر المقدمات وذي المقدمة، علی نحو القضية الحينيّة، أي الوجوب الغيري لا يتعلق إلاّ بالمقدمة في حال الإيصال من غير كون التقييد بالإيصال متعلقاً للوجوب، وبعبارة أخری: الوجوب الغيري قاصر عن التعلق بالمقدمة إلاّ في حال الإيصال إلی ذي المقدمة.

نظير الأوامر الضمنية المتعلّقة بالأجزاء في المركبات الارتباطية، حيث تختص الأوامر الضمنية بكل جزء من المركب في حال انضمام بقية الأجزاء، لا مقيداً بها، وإلا استلزم الدور، وقصورها بنفسها - لضمنيتها - عن الشمول للجزء عند عدم انضمام بقية الأجزاء.

ففي المقدمة دخل كل مقدمة هو سدّ باب عدم ذيها من قِبَلها - وهذا لا يختلف فيه الانفكاك عن ذيها وعدم الانفكاك - إلاّ أن التكليف المتعلق بكل واحد من السدود هو انحلالي ضمني، فالتكليف قاصر عن الشمول لحال عدم تحقق بقية السدود، وذلك لعدم الملاك في المقدمة غير الموصلة.

وأما عدم إمكان تقييد متعلق الوجوب بقيد الإيصال، فلأن الإرادة من المقدمات، وهي غير قابلة لتعلّق الطلب بها، فيكون التكليف المتعلّق ببقية المقدمات ناقصاً، فلابد من تعلق الوجوب بالحصة التي تتقارن مع الإيصال.

والحاصل: إن ملاك الوجوب في المقدمة هو الإتيان بذي المقدمة، فلا ملاك إلاّ في المقدمة الموصلة - كما سيأتي - لكن بما أنه لا يمكن أخذ الإيصال قيداً للوجوب لأنه يتوقف علی الإرادة وهي غير قابلة لتعلق التكليف، فلابد من تعلق الوجوب بالحصة التي تلازم الإيصال.

وأورد عليه: أولاً: عدم المحذور في تعلق الوجوب بالإرادة لأنها

ص: 468

اختيارية، واختياريتها بذاتها لا بإرادة أخری فلا يلزم التسلسل - كما مرّ - ، فلا محذور من تعلق الوجوب بالعلة التامة التي منها الإرادة، فوجه عدم إمكان أخذ قيد التوصل في متعلق الوجوب هو ما سيأتي من عدم توقف ذي المقدمة عليه.

وثانياً: بأن الحصة التوأم تكون في المصاديق الجزئية المتشخصة في الخارج، حيث يكون القيد مشيراً إلی المصداق المتشخّص مع عدم كون الموضوع مقيداً به، نظير قوله (صلی الله علیه و آله) «خاصف النعل»(1)، دون المفاهيم والقضايا الحقيقية حيث لا تشخص ولا تحصص.

وفيه: أن القضايا الحقيقية قد يكون الغرض مترتباً علی خصوص نوع منها لا علی كلّها، كما مرّ نظيره في أخذ قصد القربة في العبادات، فإن مثل (الصلاة واجبة) قضية حقيقية، مع كون الغرض في خصوص الصلاة بقصد القربة، فمع البناء علی عدم إمكان أخذ هذا القصد في متعلق الوجوب، فإن العقل يحكم بوجوب خصوص النوع الذي صار توأماً مع هذا القصد، لا الأنواع الأخری لعدم تعلق غرض بها.

وثالثاً: إن مجرد ملاحظة القيد مع عدم التقييد به لا يوجب رفع اليد عن الإطلاق، فمجرد ملاحظة الحصة التوأم لا يوجب تخصيص الوجوب بها.

وفيه: أنه لو فرض عدم إمكان التقييد لبعض المحاذير مع توقف الغرض علی نتيجة التقييد، فإنه لا محذور من الذهاب إلی وجوب خصوص الحصة التوأم علی نحو القضية الحينية، فمجرد توقف الغرض يكفي في وجوب

ص: 469


1- الكافي 5: 12.

خصوص الحصة التوأم بلا حاجة حتی إلی ملاحظتها.

الاحتمال الثاني: ما ذهب إليه المحقق الإصفهاني(1) من عدم المحذور في أخذ قيد التوصل في متعلق الوجوب الغيري، وذلك لأن قيد التوصل ليس متأخراً عن الإتيان بذي المقدمة ليلزم المحذور، بل هو في عرضه، فالمقدمة عِلة لتحقق ذي المقدمة ولهذا القيد، والمعاليل للعلة الواحدة كلّها في عرض واحد.

بيانه: أن كل مقدمة لها القابلية للإيصال إلی ذي المقدمة، لكن ما بالقوة غير مرتبط بالغرض الأصيل المترتب علی وجود ذي المقدمة، بل لابد من فعليتها، فوقوع كل مقدمة علی صفة المقدمة الفعلية ملازم لوقوع المقدمات الأخری علی تلك الصفة ولوقوع ذيها في الخارج.

ويرد عليه: أولاً: بأن ما كان في عرض ذي المقدمة - باعتبار أنهما معلولين لعلة واحدة - لا يمكن أن يترشح عليه وجوب من ذي المقدمة، وقيد التوصل ملازم لوجود ذي المقدمة، فيكون ترشح الوجوب عليه من تحصيل الحاصل.

وثانياً: بأن قيد التوصل إنّما هو أمر انتزاعي، ولا دخل له في تحقق ذي المقدمة، فلا يمكن أن يكون متعلقاً للوجوب الغيري.

نظير توقف رفع حجر علی أربعة رجال، فإن الرفع متوقف عليهم وليس متوقفاً علی عنوان الزوجية المنتزع عنهم، رغم أن الزوجية لا تنفك عن الأربعة، وهكذا الأمر في المقدمة الموصلة، إذ الغرض من الأمر بها هو

ص: 470


1- نهاية الدراية 2: 138.

الإتيان بذي المقدمة، وهذا الغرض غير متوقف علی عنوان الإيصال، بل علی ذات المقدمة الموصلة.

إن قلت: إن عنوان التوصل إنّما ينتزع عن المقدمة بعد تحقق ذي المقدمة، فكيف ينبسط الوجوب الغيري علی هذا العنوان، مع أن توقف ذي المقدمة علی المقدمة يعني تقدم الواجب الغيري علی تحقق الواجب النفسي؟

قلت: لا محذور في كون الإتيان بذي المقدمة شرطاً متأخراً، فلا مانع عن كون متعلق الوجوب هو ذات المقدمة بقيد الإيصال الذي هو مشروط بتحقق ذي المقدمة - بنحو الشرط المتأخر - .

الاحتمال الثالث: هو أن الوجوب الغيري متعلق بذات المقدمة الموصلة، أي كل المقدمات التي تشكل العِلة التامة لتحقق ذي المقدمة، إما وجوب واحد منبسط عليها كلها، أو لكل واحد منها وجوب خاص بها لكن مع عدم تعلق الوجوب بعنوان التوصل، إذ هذا العنوان - كعنوان المقدمية وعنوان العلية - غير دخيل في وجود ذي المقدمة.

والحاصل: إن الغرض لا يترتب إلاّ علی خصوص المقدمة الموصلة، لكن من غير دخل لعنوان الإيصال في هذا الغرض فلا يكون متعلقاً للوجوب الغيري.

ولا يخفی أن هذا الاحتمال قريب من الحصة التوأم، بل قد يقال بأنه هي بنفسها.

الجهة الثالثة: في ثمرة المقدمة الموصلة

وقد ذكرت ثمرات، ومنها:

ص: 471

الثمرة الأولی: وهي تتوقف علی الالتزام بمباني ثلاث: 1- توقف أحد الضدين علی ترك الآخر، 2- وأن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده، 3- وأن النهي عن الشيء - حتی الغيري - يقتضي فساده.

فعلی هذه المباني، لو تزاحم واجب عبادي مهم مع واجب آخر أهم، كالصلاة الموسعة مع إزالة النجاسة عن المسجد المضيّقة، فحينئذٍ...

أ) علی القول بوجوب خصوص المقدمة الموصلة دون غيرها، فالصلاة صحيحة غير فاسدة، لأن الواجب مقدمةً هو الترك الموصل إلی الإزالة، لا مطلق الترك، وفعل الصلاة ليس نقيضاً للترك الموصل، لجواز ارتفاعهما معاً، كما لو ترك الصلاة ولم يشتغل بالإزالة.

فالضد العام للترك الموصل ليس فعل الصلاة بل رفع الترك وهو أعم من فعل الصلاة ومن تركها تركاً غير موصل، فلا تسري الحرمة إلی فعل الصلاة كي تفسد بالنهي عنها.

ب) وأما علی القول بوجوب مطلق المقدمة، فالصلاة فاسدة، لأن الواجب مقدمة هو ترك الصلاة مطلقاً، وهو الضد العام لفعل الصلاة.

وأشكل عليه: - مع قطع النظر عن الإشكالات المبنائية في المباني الثلاث - في التقريرات بعدم الفرق بين القولين، وفساد العبادة بناءً عليهما، وذلك لأن فعل الصلاة لا يكون نقيضاً لا للترك الموصل، ولا لمطلق الترك، وإنّما النقيض هو (عدم الترك) و(عدم الترك الموصل).

فنقيض مطلق الترك هو عدمه وهو ينطبق علی الفعل، كما أن نقيض الترك الموصل هو عدم الترك الموصل وهو جامع ينطبق علی الفعل وعلی الترك غير الموصل، فتحريم الجامع يساوق تحريم الأفراد، فعليه تكون

ص: 472

الصلاة منهياً عنها علی كلا القولين، فتكون فاسدة، إذ لا فرق في انطباق الحرام علی فردٍ واحد فقط أم علی فردين.

وأجاب عنه في الكفاية: بأنه علی الموصلة لا يكون الفعل إلاّ مقارناً لما هو النقيض - وهو رفع الترك - المجامع مع الفعل تارة ومع الترك المجرد أخری، ولا يكاد يسري حرمة الشيء إلی ما يلازمه، فضلاً عما يقارنه أحياناً، وبعبارة أخری: إن رفع الترك هو أمر عدمي فلا يعقل أن يكون جامعاً، بل قد يقترن معهما بنحو القضية الاتفاقية.

وأما علی مطلق المقدمة، فإن الفعل بنفسه يعاند الترك المطلق وينافيه، لا ملازم للمعاند والمنافي، فتأمل.

تصوير آخر للثمرة الأولی: ثم إن المحقق العراقي(1) صوّر هذه الثمرة بناءً علی ما ذهب إليه من الحصة التوأم، ببيان: أن الوجوب المتعلّق بالمقدمة كان ناقصاً غير تام، فلا يشمل إلاّ ترك الصلاة في حال إرادة الضد الواجب وهو الإزالة، فالبغض الناشئ من هذا الوجوب الناقص - أي وجوب ترك الصلاة حين الإتيان بجميع المقدمات - الذي تعلق ذلك البغض بفعل الصلاة أيضاً بغض ناقص، بحيث لا يشمل إلاّ الفعل في حال إرادة الضد، لا مطلق وجوده ولو في ظرف الصارف وعدم إرادة الوجود.

إن قلت: (ترك الإزالة) مبغوض بالبغض التام، وحيث إن (الصلاة) لها مقدمية لهذا الشيء المبغوض كانت مبغوضة بالبغض التام.

قلت: (ترك الإزالة) مستند إلی الصارف الذي هو عدم وجود المقتضي - أي

ص: 473


1- نهاية الأفكار 1: 346.

الإرادة - ، لا إلی وجود الصلاة، فلا يصح استناد عدم وجود الشيء إلی الشرط أو المانع مع عدم وجود مقتضيه، وذلك لسبق المقتضي رتبة علی بقية أجزاء العلة من الشرط والمانع.

ويرد عليه: أن سوق الكلام إلی البغض إرجاع له إلی الأمر المبنائي من أن الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضده في بعض الصور، بل المراعی حينئذٍ هو البغض وعدمه، وكلامنا هنا في البحث البنائي أي بعد قبول أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده، وحيث إن المراد هو الضد العام الملازم مع النقيض، فلا محيص عن الالتزام بأن الموجبة الجزئية نقيض السالبة الكلية. فتأمل.

الثمرة الثانية: ما في نهاية الأفكار(1): في ضمان الأجرة علی المقدمة وعدمه، فيما لو استناب في فعل الواجب كالحج أو الزيارة، فمات المأمور به بعد فعل بعض المقدمات كالمشي مسافة...

أ) فعلی القول بوجوب مطلق المقدمة، فإنه يستحق الأجرة علی ما أتی به، لأن الأمر بالحج عنه أمر بالمقدمات.

ب) وعلی المقدمة الموصلة، حيث لم يكن المأتي به من المقدمات فلا استحقاق للأجرة، مع وضوح أن تخيل فعل ما استؤجر عليه لا يوجب أجراً.

وفيه: أولاً: إن هذه الثمرة الجزئية لا يمكن أن تكون ثمرة لمسألة أصولية.

وثانياً: رجوع استحقاق الأجر علی ارتكازهما، وفي الأمر الارتباطي

ص: 474


1- نهاية الأفکار 1: 347.

تكون الإجارة علی الفعل أجمع لا علی الناقص الذي لم يوصل إلی المقصود سواء قلنا بوجوب خصوص الموصلة أم مطلق المقدمة.

الثمرة الثالثة: ما في النهاية أيضاً(1): من أنه لو فرض انحصار المقدمة بالفرد الحرام، كالمشي في الأرض المغصوبة لإنقاذ الغريق...

أ) فعلی القول بوجوب مطلق المقدمة يكون المشي المزبور واجباً، وإن لم يترتب عليه الإنقاذ، فلا يكون حراماً حتی لو قصد عدم الإنقاذ.

ب) وعلی الموصلة فإنه علی تقدير عدم الإيصال يكون دخول الأرض محرماً، فلو لم يقصد الإيصال وقع محرماً، ولو قصد الإيصال كان معذوراً لانقياده.

وأما علی تقدير الإيصال، فإنه مع قصد الإيصال يكون مطيعاً، ومع عدم قصده يكون متجرياً.

أقول: وقد مرّ الكلام في المقدمة المحرمة إذا كانت منحصرة، وأنه من باب التزاحم فراجع.

البحث الخامس: ثمرة بحث المقدمة

وقد ذكرت لأصل بحث المقدمة ثمرات، ولا يخفی أن أكثرها لو صحت فإنما هي ثمرات للمسألة الفرعية لا للمسألة الأصولية منها:

الثمرة الأولی: وهي عدم جواز أخذ الأجرة عليها، لعدم جواز الأجرة علی الواجبات.

وفيه: بأنه لا دليل علی أن الوجوب مانع عن أخذ الأجرة، فإنه لا

ص: 475


1- نهاية الأفکار 1: 348.

يخرجها عن المالية، إن كانت من الأموال، فلذا يجوز أخذ الأجرة علی الصناعات الواجبة كفاية ونحوها.

علی أنه لو أقيم الدليل فإنما هو في العبادات، حيث يتوهم منافاة أخذ الأجرة مع قصد القربة، فالمانع هو العبادية حتی لو لم تكن واجبة، حيث إنه بين الوجوب والعبادة عموم من وجه، ومن المعلوم أن مقدمة الواجب - بما هي - غيرية.

وأما ما ذهب إليه المحقق النائيني(1) من أن أخذ الأجرة في المقدمة وعدمه يدوران مدار جوازه وعدم جوازه في ذي المقدمة، فإذا وجبت المقدمة - ولو من جهة اللا بدية العقلية - خرجت عن سلطانه فلا يصح أخذ الأجرة عليها!

فيرد عليه: أن التبعية إنّما هي في الوجوب، ولا دليل علی التبعية في كل شيء، فالعبادات غالب مقدماتها غير عبادية وهي ليست تابعة لها فيها، مع معلومية عدم الخروج عن سلطانه بمجرد الوجوب، بل هذا أشبه بالمصادرة.

الثمرة الثانية: حصول الإصرار علی الصغيرة وترتب الفسق عليها، فيما لو ترك واجباً له مقدمات متعددة.

وأورد عليه: أولاً: بأنه لا طاعة ولا عصيان، فلا ثواب ولا عقاب علی الأمر الغيري، فإن هتك المولی إنّما هو بترك الأمر النفسي، وذلك لأن تعدد العصيان تابع لتعدد الغرض، ولا غرض متعدد هنا.

إن قلت: إنه بناءً علی انبساط الوجوب علی كلٍ من النفسي والغيري

ص: 476


1- فوائد الأصول 1: 299.

يكون لها إطاعة وعصيان ضمنيّان.

قلت: إن ذلك لا يوجب تعدد المعصية ولا الطاعة، فيكون نظير ترك الواجب المركب أو فعله.

وثانياً: بأن ترك مقدمة واحدة يوجب عدم التمكن من سائر المقدمات ومن الواجب النفسي فتسقط عن حيّز الوجوب.

وفيه: أن ما بالاختيار لا ينافي الاختيار، فعدم التمكن من سائر المقدمات ومن الواجب إنّما هو بسوء اختياره في ترك المقدمة الأولی، مضافاً إلى أن المقدمات قد تكون عرضية فلا يلزم من ترك أحدها زوال القدرة على الأخرى.

وثالثاً: بأن الإصرار إنّما يتحقق بتكرار المعصية لمرات متعددة - ولو مرتين علی بعض المباني - أما ارتكاب معاصٍ عديدة دفعة واحدة فلا يتحقق به الإصرار، كالنظر إلی أجنبيات بنظرة واحدة، اللهم إلاّ إذا كان نوع المعصية متعدداً، وعلی كل حال: فإن الإصرار أمر عرفي وهو يتحقق بالدفعات المتعددة لا بالدفعة الواحدة ولو كان المتعلق متعدداً.

ورابعاً: مبنیً بما قيل: من عدم الدليل علی أن الفرق بين الصغيرة والكبيرة في حصول الفسق وعدم حصوله لو ارتكب مرة واحدة، فإن الدليل دلّ علی أن الفرق بينهما في العفو عن الصغيرة وعدم إيعاد النار عليها، عكس الكبيرة، فتأمل.

الثمرة الثالثة: ما عن الوحيد البهبهاني، من أن المقدمة إذا كانت محرّمة، كالمرور بالأرض المغصوبة مقدمة لإنقاذ الغريق، فعلی القول بوجوبها يلزم

ص: 477

اجتماع الأمر والنهي، دون القول بعدم وجوبها.

وأشكل عليه: أولاً: بأن الاجتماع إنّما هو فيما لو تعلق الأمر والنهي بعنوانين ثم اجتمعا في فرد اتفاقاً، وليس هنا كذلك، لأن عنوان المقدمة حيث تعليلي خارج عن متعلق الأمر، فالوجوب والحرمة تعلّقا بذات المقدمة وهو شيء واحد.

وأجيب: بتعلقهما بعنوانين هما الطبيعي والحِصة.

وفيه: أن الحصة هي نفس الطبيعي بلا تفاوت بينهما، نعم للطبيعي حصص أخری، وهذا لا يوجب التفاوت.

وثانياً: عدم لزوم الاجتماع أصلاً، لأن المقدمة إما منحصرة، فالملاك الأقوی يبقی دون الأضعف، فلا اجتماع. وإما غير منحصرة، فيختص الوجوب بغير الفرد المحرّم، إذ العقل الحاكم بالملازمة، لا يحكم إلاّ بالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته المباحة.

وأجيب: بأنه في غير المنحصرة، الفرد المحرّم واجد للملاك أيضاً، إذ علی القول بجواز الاجتماع فإن اجتماع الصلاة مع الغصب - مثلاً - لا يخرج الصلاة عن المطلوبية حتی لو فرض لها مصاديق أخری.

والأولی الجواب بأن هذا إشكال مبنائي علی مسألة الاجتماع ببيان عدم إمكانه، أما لو فرض إمكانه فيكون ما نحن فيه من مصاديقه.

وثالثاً: بأن الغرض من المقدمة هو التوصل إلی الواجب النفسي، فمع توصليتها يمكن الوصول بها إلی ذي المقدمة مطلقاً - سواء قلنا بوجوبها أم لا - .

ص: 478

وحتی المقدمة العبادية، فلو قلنا بجواز الاجتماع صحت العبادة سواء قلنا بوجوب المقدمة أم لا، وإن قلنا بالامتناع وتقديم جانب النهي فهي فاسدة مطلقاً من غير فرق.

فتحصل أنه لا تظهر الثمرة سواء قلنا بجواز الاجتماع أم بعدم إمكانه في كل الحالات.

الثمرة الرابعة: التوسعة في التقرب، فإنها وإن كانت توصلية غالباً إلاّ أنه يمكن قصد أمرها وفي ذلك كثرة ما يتقرب به.

وفيه: أن الغرض هو الواجب النفسي فالإتيان بمقدماته بغرضه يوجب التقرب حتی لو لم تكن تلك المقدمات واجبة.

البحث السادس: دليل وجوب المقدمة
اشارة

وهنا مقامان: الأول في تأسيس الأصل العملي، والثاني في ذكر أدلة الأقوال.

المقام الأول: في تأسيس الأصل

ليرجع إليه لو لم تتم أدلة وجوبها، وهو تارة في المسألة الأصولية، وأخری في المسألة الفقهية.

الأول في المسألة الأصولية - وهي الملازمة - فقد يقال: إن هذه الملازمة إما واقعية أو انتزاعية بحيث تنتزع من حصول أحد المتلازمين عند حصول الآخر، وكلاهما لا حالة سابقة لهما، فإن هذه الملازمة - وجوداً وعدماً - أزلية، فلا يقين سابق، فلا جريان للاستصحاب.

وأشكل عليه: بأنه إن أريد القضية الحقيقية الشرطية - وهي صادقة حتی

ص: 479

قبل تحقق طرفيها بل واستحالتهما - فهذه لا حالة سابقة لها.

أما لو أريد القضية الخارجية، أي المنتزعة عن وجود العلة خارجاً، فهي مسبوقة بالعدم.

الثاني: في المسألة الفقهية، وذلك بإجراء أصل العدم، وقد أشكل عليه بعدة إيرادات:

الإشكال الأول: إن إجراء أصل العدم يستلزم احتمال التفكيك بين المتلازمين، إذ نحتمل واقعاً وجود الملازمة ثبوتاً، لكن حيث لا دليل إثباتاً فنريد نفي الملازمة عبر التعبّد، وهذا من التعبد فيما يحتمل استحالته.

وكما لا يمكن التعبد بما هو محال كاجتماع الضدين، كذلك لا يمكن التعبد فيما يحتمل الاستحالة، كالتعبد فيما يحتمل كونه من اجتماع الضدين.

والجواب أولاً: بما في الكفاية من أن التنافي إنّما هو بين الحكمين الواقعيين لا الفعليين، والتعبد إنّما هو بالحكم الفعلي الذي لا احتمال في كونه من المحال، إذ لا احتمال للملازمة في الفعليين!!

وفيه: أنه لا تنافي بين الواقعيين أيضاً إن أريد بهما الحكمين الإنشائيين إذ لا تنافي بين الإنشاءات بما هي وجودات لفظية.

وثانياً: بما في نهاية الدراية(1) بأن مجرد الاحتمال المذكور لا يمنع من التمسك بالأصل بعد مساعدة الدليل عليه، إذ لا يعتني العقلاء بمجرد الاحتمال، كما جاز التعبد بالظن مع احتمال استحالته، وذلك لأنه لا طريق

ص: 480


1- نهاية الدراية 2: 169.

للجزم بالاستحالة، ومجرد الاحتمال لا يكفي في الحكم بالمنع.

وأورد عليه(1): بأن الاستحالة المحتملة علی نوعين:

1- أن تكون في الحكم الواقعي - أي المؤدی - لا في التعبد، فهذا الاحتمال لا يضرّ بالتمسك بدليل التعبد، إذ المحتمل استحالته إنّما هو الحكم الواقعي، وأما التعبد فهو مقطوع الإمكان.

2- أن تكون الاستحالة المحتملة في أمر مشترك بين الحكم الواقعي وبين التعبد، وحينئذٍ يستحيل التعبد لاستلزامه التناقض أو الخلف.

وذلك لأن إثبات التعبد بدليل إنّما هو بمعنی ثبوت التعبد بالقطع واليقين - لفرض أن دليل التعبد قطعي - ، وحينئذٍ...

أ) فإن بقي احتمال الاستحالة في التعبد، كان ذلك تناقضاً.

ب) وإن ارتفع احتمال الاستحالة في التعبد استلزم ذلك ارتفاع احتمال الاستحالة في الواقع، إذ وجه الاستحالة هو الأمر المشترك بين الحكم الواقعي وبين التعبد، وحينئذٍ يرتفع سبب الشك في الواقع، إذ سبب الشك في الواقع هو احتمال الاستحالة فقط، فيثبت الواقع، وبثبوته يرتفع التعبد لأنه إنّما كان في ظرف الشك في الواقع، فمع العلم به لا يبقی مجال للتعبد، وهذا خلف.

ومثال التعبد بالظن من النحو الأول لذا لم يكن فيه مانع، وأما ما نحن فيه فمن النحو الثاني، وذلك لأن استصحاب عدم الوجوب يستلزم ثبوت التعبد قطعاً، وهذا لا ينسجم مع بقاء احتمال الاستحالة في التعبد، فيكون تناقضاً.

ص: 481


1- بحوث في علم الأصول 2: 276.

وفرض ارتفاع الاستحالة في التعبد سبب ارتفاع احتمال الاستحالة في الحكم الواقعي، فيقطع بعدم الملازمة لا محالة، فيقطع بعدم الوجوب الغيري الواقعي، فلم يبق مجال للاستصحاب مع القطع، وهذا خلف، فتأمل.

الإشكال الثاني: عدم ترتب الأثر علی هذا الأصل، مع أن جريان الأصل مرتبط بالأثر، إذ لولاه كان لغواً، نظير عدم جريان الأصل فيما هو خارج محلّ الابتلاء حتی مع العلم الإجمالي، فمن يريد امتثال الواجب النفسي يفعل المقدمة سواء كانت واجبة أم لا، ومن لا يريده يتركها كذلك.

والجواب: إن هناك ثمرات عملية وإن لم تكن أصولية بل فرعية - علی بعض المباني وقد مرّت - ، وهذه الثمرات تصحح جريان الأصل.

الإشكال الثالث: إن وجوب المقدمة - لو ثبت - فهو من لوازم الماهية، فلا تناله يد الجعل إثباتاً ونفياً.

والجواب: أولاً: إنه ليس من لوازم الماهية بل من لوازم الوجود(1)، إذ مناط لوازم الماهية هو الانتزاع من الشيء مع قطع النظر عن وجوده الذهني والخارجي، كالزوجية المنتزعة من الأربعة فلا وجود لها غير وجود الأربعة، ولا جعل لها غير جعلها، بل الجعل واحد ينسب إلی الماهية بالذات وإلی لوازمها بالعرض.

بخلاف إرادة المقدمة فإنها بحسب الوجود غير إرادة ذي المقدمة، لا أن إرادة واحدة متعلقة بذي المقدمة بالذات وبالمقدمة بالعرض، ومع تعدد الوجود يلزم تعدد الجعل، نعم هو جعل بالتبع لكنه ليس جعلاً بالعرض.

ص: 482


1- نهاية الدراية 2: 166.

وثانياً: من أنه حتی لو فرض كونه من لوازم الماهية، لكنه مجعول تبعاً بتبع جعل وجوب ذي المقدمة، وهذا الجعل التبعي يكفي في صحة كونه بيد الشارع - بما هو شارع - ، فتأمل.

الإشكال الرابع: إن وجوب المقدمة - إن ثبت - يكون لازماً قهرياً لوجوب ذي المقدمة، فلا يكون اختيارياً، فلا يجري الأصل فيه، لعدم قابليته للوضع ولا للرفع.

وفيه: أن الإيجاب بالاختيار لا ينافي الاختيار(1)، إذ العلة المتأصلة فيها واحدة، فإذا تمّت تلك العلة وبلغت حدّ الوجوب وجد معلولها قهراً، وهو عين الإيجاد بالإرادة والاختيار، وإلا لزم صدور المعلول من غير علته التامة، أو إمكان انفكاك المعلول عن علته التامة، فهو نظير المسبب التوليدي بعد حصول سببه، فلا مانع من جريان الأصل فيه، لأنه اختياري باختيارية سببه.

المقام الثاني: في أدلة الأقوال

وقد استدل علی وجوب المقدمة بأدلة، منها:

الدليل الأول: وهو أمر وجداني، حيث يجد الإنسان من نفسه أن من أراد شيئاً أراد مقدماته لو التفت إليها، وحينئذٍ قد يصرّح بالأمر بها، نظير قوله أدخل السوق واشتر اللحم، فكلا الأمرين (أدخل) و(اشتر) مولويان!!

وأشكل عليه: بأن الملازمة لا تكون في جميع مراحل الحكم.

1- أما في مرحلة الاقتضاء - وهي مرحلة الملاك - فلأنه لو تحقق الملاك

ص: 483


1- نهاية الدراية 2: 168.

في المقدمات لكانت واجباً نفسياً بعين وجوب ذي المقدمة لوجود الملاك في كليهما، هذا خلف.

2- وأما في مرحلة الإنشاء، فلوضوح عدم التلازم بين الإنشاء ات التي هي ألفاظ.

إن قلت: نعني بالتلازم بين الإرادتين التلازم بين الشوق إلی ذي المقدمة والشوق إلی المقدمة.

قلت: الإرادة غير الشوق، إذ هي إعمال القدرة وهجمة النفس - كما مرّ - وهذا ليس الشوق، نعم قد يكون الشوق من مقدماتها.

هذا مضافاً إلی عدم كفاية ثبوت الملازمة بين الشوقين، بل لابد من الملازمة بين الوجوبين، وذلك لأن مرادات المولی إذا لم يأمر بها لا يجب امتثالها، نعم لو احرز أن عدم أمره لمانع له من تقية أو جهل بحيث كان يأمر لولاه فإن العقل يحكم بلزوم تحصيل غرضه الملزم، وليس ما نحن فيه من ذلك.

إن قلت: إن التلازم إنّما هو في الداعوية، بمعنی أن إنشاء الوجوب النفسي يكون داعياً للمولی لإنشاء وجوب المقدمات.

قلت: لا دليل على ثبوت هذا الداعي، وذلك لعدم الحاجة إلی إنشاء وجوبها، حيث إن العبد إن كان بصدد الإطاعة كفاه الأمر النفسي، وإن لم يكن بصددها لم ينفعه ضمّ الأمر بالمقدمات إلی الأمر بذي المقدمة، اللهم إلاّ إذا كان الغرض التأكيد أو إلفات العبد إلی المقدميّة، وهذا المقدار لا يثبت التلازم في الداعوية، فتأمل.

الدليل الثاني: ما قيل: من أنه لو لم تكن المقدمة واجبة لجاز تركها،

ص: 484

وحينئذٍ فإما يعاقب علی الترك أو لا يعاقب، والأول خلف، والثاني مستلزم لانقلاب الواجب النفسي المطلق - وهو ذو المقدمة - إلی واجب مشروط، مع انقلاب المقدمة من مقدمة الوجود إلی مقدمة الوجوب، وهو خلف أيضاً، وحيث بطل التالي فالمقدّم مثله.

والجواب: ما مرّ من أن ترك المقدمة بما هي جائز ولا عقاب عليه، إنّما العقاب علی ترك الواجب النفسي وهو ذو المقدمة.

الدليل الثالث: وجود الأمر في بعض المقدمات - عرفية كانت أم شرعية - ، مثل (أدخل السوق واشتر اللحم)، وهذا الأمر يدل علی وجود إرادة غيرية - لا نفسية للعلم بعدمها لعدم ملاك نفسي - وإذا ثبتت الملازمة في بعض الموارد ثبتت في كل الموارد لعدم إمكان التبعيض.

والجواب: عدم انحصار الداعي في الأمر المولوي كي يكون سبب الأمر هو ثبوت الملازمة، بل يمكن أن يكون الداعي هو الإرشاد إلی مقدميتها.

إن قلت: ظاهر الأمر المولوية!!

قلت: لا ظهور في المولوية في الأوامر المتعلّقة بالمقدمات، بل ظاهره الإرشاد إلی المقدمية، كما في الأوامر المتعلقة بالأجزاء والشرائط.

القول الثالث: التفصيل بين السبب التوليدي وغيره، فيجب في الأول دون الثاني.

واستدل له: بأن الأمر إنّما هو لإيجاد الداعي في نفس المكلّف، فما لا يمكن إرادته لا يعقل تعلّق التكليف به، والمسبب التوليدي لا يمكن إرادته

ص: 485

حيث لا يمكن تحققه من غير سببه، وإذا تحقق سببه خرج عن دائرة الاختيار، وعليه فإذا تعلّق الأمر بالمسبب فإنه في الواقع قد تعلّق بالسبب، كما لو أمر بالإحراق فهو أمر بالإلقاء في النار في الحقيقة.

ويرد عليه: أولاً: بأنه ليس تفصيلاً في وجوب المقدمة، بل هو ذهاب إلی أن الأسباب التوليدية ليست مقدمة للواجب، بل هي الواجب بنفسها.

وثانياً: المسببات التوليدية مقدورة بالواسطة فلذا يمكن إرادتها، فيمكن تعلّق التكليف بها بلا إشكال.

القول الرابع: التفصيل بين الوجوب الشرعي والعقلي، فالأول ثابت للمقدمة دون الثاني.

واستدل له: بأن المقدمية في المقدمة الشرعية متوقفة علی إيجابها شرعاً، إذ لولا الإيجاب الشرعي لم تكن مقدمة أصلاً، عكس العقلية، فلا توقف لمقدميتها علی إيجابها.

وفيه: أولاً: إن الأمر بذي المقدمة إنّما هو أمر مقيد، فينتزع منها المقدمية حينئذٍ، فلا تتوقف مقدميتها علی إيجابها شرعاً.

وثانياً: استحالة كون المقدمية متوقفة علی الإيجاب الشرعي، إذ الإيجاب الغيري متوقف علی مقدميتها، فلا يمكن أن تكون المقدمية متوقفة عليه، وإلا لزم الدور.

البحث السابع: مقدمة المستحب والحرام والمكروه

أما مقدمة المستحب: فهي كمقدمة الواجب بلا فرق، إذ في كليهما طلب، وذلك المطلوب النفسي يتوقف علی مقدماته، فجهة المنع عن

ص: 486

النقيض في الواجب وعدم المنع عنه في المستحب لا تكون فارقاً في محلّ الكلام.

أما مقدمة المكروه: فهي كمقدمة الحرام، كما سيأتي توضيحها.

أما مقدمة الحرام: فإن لم نقل بالملازمة فلا كلام.

وإن قلنا بالملازمة، فلا تكون نظير مقدمة الواجب في وجوب كل مقدمة، بل لا يكون الحرام إلاّ مجموع المقدمات - بحيث تكون العلة التامة في ارتكاب الحرام - أو الجزء الأخير منها بحيث لو أتی به لا يبقی اختيار في ترك الحرام.

1- فعلی القول بالمقدمة الموصلة: يكون الحرام مجموع المقدمات معاً، لا جميعها، فكل مقدمة تكون محرّمة بشرط الانضمام.

2- وعلی عدم القول بها، فلا يكون الحرام إلاّ الجزء الأخير.

وسبب الفرق بين مقدمة الواجب ومقدمة الحرام، من وجوه منها:

الوجه الأول: أنه في الواجب يكون المطلوب الفعل، وهذا الفعل يتوقف علی الإتيان بجميع المقدمات، إذ لو لم يأت بأحدها انتفی المطلوب، فلذا يسري الوجوب إلی جميعها، لكن في الحرام المطلوب هو الترك، وذلك الترك يتوقف علی ترك أحدها فقط.

وقد فصّل بعض الأصوليين في ذلك الواحد فقال:

1- في الأفعال التوليدية - التي لا تكون الإرادة واسطة - يتحقق ترك الحرام بترك إحدی المقدمات فلا يكون المطلوب إلاّ ترك إحداها تخييراً، وذلك لأن التكاليف تابعة للأغراض، والغرض متوقف علی ترك إحداها

ص: 487

تخييراً فلا وجه لتحريم سائر المقدمات، وإنّما كان المطلوب ترك أحدها تخييراً لأن كل المقدمات تكون في عرض واحد بالنسبة إلی ذي المقدمة.

2- وفي الأفعال غير التوليدية - مما تكون الإرادة واسطة - يكون المطلوب ترك آخر المقدمات وهي الإرادة لا غيرها، وذلك لأن امتثال النهي يتوقف علی ترك أحدها، فلو لزم ترك غير الإرادة فإنه يستتبع ترك الإرادة أيضاً، فيكون طلباً لتركهما مع أن ترك الحرمة غير متوقفة علی تركهما بل متوقفة علی ترك أحدهما!!

وفيه: أن المقدمات الطولية - سواء في التوليدية أم في غيرها - يكون ترك ما في الطول يستلزم ترك ما بعده في السلسلة، فالمطلوب هو ترك واحد سواء كان رأس السلسلة أم آخرها، نعم لو ترك غيرالآخر فإنه يستلزم ترك ما بعده لكن ذلك لا يوجب القول بوجوب ترك كلها، بل اللازم ترك واحد سواء استتبع ترك مقدمات أخری أم لا، فتأمل.

الوجه الثاني(1): وجوب المقدمة وحرمتها مترشح عن وجوب ذيها وحرمته، فثبوت الوجوب لها أو الحرمة فرع دخالتها في ثبوت ملاك الوجوب والحرمة.

فمقدمة الحرام إنّما تحرم فيما لو كانت سبب وجود المفسدة، ووجودها منحصر في المقدمة الأخيرة في التوليدية، فتحرم لوجود المفسدة.

وأما مقدمة الواجب فهي واجبة لأجل دخالتها في الملاك بحيث لولاها لفاتت المصلحة، وجميع المقدمات لها هذا الأثر.

ص: 488


1- منتقی الأصول 2: 334.

ويعلم الإشكال فيه مما ذكر في الإشكال علی الوجه الأول.

والثمرة بين المسلكين: هو حرمة جميع المقدمات بناءً علی المقدمة الموصلة، وحرمة أحدها بناءً علی عدم القول بالموصلة، ومثّل له في نهاية الأفكار(1) بالمتوضي بالماء المباح في مصبّ غصبي مع تمكنه من المنع عن وصول ماء الوضوء إلی المصب ولو بجعل كفه حاجزاً.

أ) فعلی تخصيص الحرمة بالجزء الأخير يقع وضوؤه صحيحاً، لأن الجزء الأخير هو حيلولة الكف وهو غير مرتبط بالوضوء، ولا فرق حينئذٍ في الصحة بين علمه من أول الأمر أم جهله.

ب) وأما علی حرمة جميع المقدمات، فلو لم يمنع كان وضوؤه باطلاً، إذ جميع المقدمات ومنها نفس أفعال الوضوء تكون محرّمة، والنهي في العبادة موجب لفسادها.

نعم لو لم يعلم بذلك من أول الأمر أو كان بانياً علی إيجاد المانع، فاتفق ذلك - ولو من جهة بدائه - وقع وضوؤه صحيحاً، إذ لا حرمة فعلية في أفعال الوضوء حينئذٍ.

ص: 489


1- نهاية الأفکار 1: 358.

فصل في الضد

اشارة

وقد عنون بعضهم البحث بأن «الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضده أم لا»، ولا بأس بهذا العنوان حيث إن غالب النواهي والأوامر تكون بالألفاظ، لكن أصل البحث عقلي وليس بلفظي، إذ الحكم مرتبط بالوجوب سواء كان مستفاداً من لفظ أم من دليل لبّي.

وهنا بحوث:

البحث الأول: في أصولية المسألة

حيث يمكن طرحها أصولية، وطرحها من المبادي الأحكامية، ومع إمكان الأول لا وجه للثاني ليكون بحثاً استطرادياً.

1- أما إمكان طرحها من المبادي الأحكامية، فلأنها بحث عن لوازم أحد الأحكام، أي البحث عن لوازم الوجوب، وأنه هل يلزم منه حرمة ضده أم لا.

ولا يخفی اختلاف هذا عن المبادي التصورية التي يتوقّف عليها تصوّر ذات وذاتيات الموضوع والمحمول، وعن المبادي التصديقية التي هي أدلة ثبوت المحمول للموضوع، وذلك لأن البحث عن لوازم المحمول لا يدخل في أيٍّ منهما.

2- وأما إمكان طرحها أصولية، فلانطباق ضابطة المسألة الأصولية عليها،

ص: 490

لأنّ هذه المسألة هي كبری دليل استنباط بعض الأحکام الشرعية، فبها يستنبط الحكم بلا توسّط مسألة أصولية أخری.

فإنه علی القول بالاقتضاء يستنبط حرمة الضد، فكانت المسألة طريق لاستنباط الحكم الفرعي، وهو الحرمة في مختلف أبواب الفقه.

وعلی القول بعدم الملازمة يستنبط صحة الضد العبادي في مختلف الأبواب.

نعم لبطلان الضد العبادي علی الملازمة لابد من ضم مسألة أصولية أخری هي دلالة النهي علی الفساد، لكن ذلك لا يخلّ بأصوليتها، إذ يكفي فيها وقوعها في طريق الاستنباط من غير واسطة أحياناً.

البحث الثاني: في الضد الخاص

ونعني به الأمر الوجودي الذي لا يمكن اجتماعه مع المأمور به لجهة من الجهات، ولو لعدم قدرة المكلّف علی الجمع بينهما، كالصلاة وإزالة النجاسة عن المسجد.

فقد يقال: إنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده الخاص، واستدل لذلك بأمور، منها:

الدليل الأول: إثبات مقدمية أحد الضدين للضد الآخر، وهذا الدليل يتوقف علی أركان ثلاث: 1- إثبات توقف كل واحد من الضدين علی عدم الآخر. 2- ووجوب مقدمة الواجب. 3- وحرمة الضد العام للواجب، مثلاً الإزالة الواجبة متوقفة علی عدم الصلاة، فعدم الصلاة صار واجباً لأنه مقدمة للواجب، والضد العام لعدم الصلاة هو الصلاة وهو محرّم، وهنا

ص: 491

يبحث في الركن الأول، أما الثاني فقد مرّ بحثه في المقدمة، وأما الثالث فسيأتي في البحث اللاحق.

أما إثبات المقدمية فبأحد طريقين:

الطريق الأول: إن عدم المانع من أجزاء العلة، فيكون مقدمة للمعلول، وفيما نحن فيه كل واحد من الضدين مانع عن الآخر، فعدم كل واحد منهما هو عدم المانع للآخر، فيكون من أجزاء علة الآخر، وبذلك ثبت مقدمية عدم كل ضد للضد الآخر، كمقدمية عدم الصلاة للإزالة.

وأشكل عليه بعدة إشكالات، منها:

الإشكال الأول: إن المقدمية تستلزم الدور، إذ كما أن التضاد يقتضي توقف وجود الإزالة علی عدم الصلاة لتوقف الشيء علی عدم مانعه، كذلك يقتضي توقف عدم الصلاة علی وجود الإزالة لتوقف عدم الشيء علی وجود مانعه، وذلك لثبوت المانعية من الطرفين.

وأجيب أولاً: بأن التوقف من جانب الوجود فعليٌ، فإن وجود الإزالة متوقف علی عدم الصلاة، لكن التوقف من جانب العدم تقديريٌ، إذ عدم الصلاة لا يتوقف علی الإزالة إلاّ في فرض غير واقع أصلاً، وعليه فلا يكون دور أصلاً.

وذلك لأن عدم الشيء يستند إلی عدم مقتضيه لا إلی وجود المانع، نعم لو فرض وجود المقتضي فحينئذٍ ينسب العدم إلی وجود المانع.

وفيما نحن فيه لا يتحقق المقتضي أبداً، وذلك لأن المقتضي هو إرادة الصلاة، ومع إرادة الإزالة لا توجد إرادة للصلاة أصلاً، لعدم معقولية إرادة

ص: 492

الضدين، فعدم إرادة الصلاة هو سبب عدم تحقق الصلاة لا المانع الذي هو الإزالة.

وهكذا لو كان المتعلق واحداً مع إرادة شخصين، فإنه حينئذٍ وإن أمكن إرادة كل واحد منهما لأحد الضدين، لكن ما يتحقق خارجاً هو إرادة الأقوی، فعدم تحقق ما أراده الأضعف إنّما هو لعدم حصول شرطه وهو القدرة، لا المانع الذي هو وجود الضد الآخر.

وفيه: أن هذا البيان لا يكفي لدفع ملاك الدور - وهو تقدم الشيء علی نفسه - لأن الاعتراف بإمکان استناد عدم الصلاة إلی وجود الإزالة علی تقدير وجود المقتضي والشرط إنّما هو قبول بكون وجود الضد سابق رتبة علی عدم الضد الآخر.

مع أن عدم الضد الآخر في رتبة ذلك الضد حيث إن النقيضين في رتبة واحدة، فتقدم عدمه معناه تقدم وجوده أيضاً، وهذا يعني تقدم أحد الضدين علی الضد الآخر مع أنهما في مرتبة واحد، فاستلزم تقدم الشيء علی نفسه، وهو ملاك استحالة الدور.

إن قلت: لا يوجد ملاك الدور، وذلك لأن توقف عدم الصلاة علی وجود الإزالة إنّما هو في صورة وجود المقتضي والشرط، لكن صدق القضية الشرطية لا يقتضي صدق طرفيها، وفيما نحن فيه يمتنع تحقق المقتضي والشرط، وذلك سبب لعدم صدق المقدّم، فلا يصدق التالي، نظير ما لو كان زيد والداً لعمرو، فقلنا: (وجود زيد متقدم علی عمرو، ولو كان عمرو والداً لزيد لكان وجود عمرو متقدماً)، فهذه قضية شرطية صحيحة،

ص: 493

لكن حيث امتنع المقدم امتنع التالي، فلا دور.

قلت: في هذه القضية الشرطية خصوصية تقتضي صدق تاليها، وهي المانعية، فإنه لو لم تكن الإزالة مانعة عن الصلاة - حتی يسند عدم الصلاة إليها فيما لو تحقق المقتضي والشرط - لزم أن لا يكون الضد مانعاً، وحينئذٍ فلا وجه للقول بأن الإزالة متوقفة علی عدم الصلاة، لأن المانعية من الطرفين، فتأمل.

الجواب الثاني ما عن المحقق الإصفهاني(1): من أنه لا تقدم لعدم أحد الضدين علی الآخر، وذلك لأن العدم لا يحتاج إلی فاعل وقابل، إذ هو ليس بشيء كي يكون قابلاً للتأثير والتأثر، فلا يحتاج العدم إلی شيء آخر يكون مصححاً لفاعلية الفاعل أو متمماً لقابلية القابل، وحيث لم يكن توقف فلا دور، لعدم تمامية كلا القضيتين: توقف الإزالة علی عدم الصلاة، وتوقف عدم الصلاة عليها.

الجواب الثالث: إنه لو سلمنا توقف عدم الصلاة علی الإزالة، فإنا لا نسلم العكس بأن تتوقف الإزالة علی عدم الصلاة، وذلك لأن العدم لا علة له، فإن قابلية التأثر إنّما هو في الوجودات لا في الأعدام، إذ لو كان العدم مؤثراً لأمكن وجود الممكن من غير علة، وهو بديهي الاستحالة.

إن قلت: قد يُعلّل العدم - عند العرف والعلماء - كقولهم: لم تحترق الورقة لوجود الرطوبة، وكقولهم: عدم العلة علة العدم.

قلت: هذا تعبير مسامحي، إذ العدم غير قابل للتأثير والتأثر، فليس لعدم

ص: 494


1- نهاية الدراية 2: 183.

الرطوبة تأثير في الإحراق، وإنّما المؤثر هي النار فقط، لكن قد يكون الأمر الوجودي كالرطوبة حاجزاً فلا يدع المقتضي يؤثر في مقتضاه لأقوائيته، فعدمه غير مؤثر، وكذا انخرام العدم متوقف علی وجود العلة، فعدم العلة ليس سبباً لعدم المعلول في الحقيقة، وإنّما وجوده متوقف علی علته.

الجواب الرابع: إنه لو سلّم أن للعدم علة، فعلة عدم الضد هي (عدم عدم الضد الآخر) وليس نفس الضد، وعدم العدم لا ينطبق علی وجود الضد الآخر، إذ الأعدام لا تنطبق علی الوجودات، ولولا ذلك لزم انقلاب ما حيثية ذاته طرد العدم إلی ما ليس كذلك.

وأشكل عليه(1): أن (عدم العدم) إما صرف مفهوم لا واقع له أو له واقع، والأول لا يصلح للتأثير إذ المفهوم ليس له قابية التأثير والسببية، والثاني محال لاستلزامه وجود الواسطة بين الوجود والعدم، هو عدم العدم!! فلابد أن يكون (عدم العدم) هو نفس الوجود.

ويمكن أن يقال: العدم لا واقع له، فلو فرض أن له علة فتكون علته كذلك لا واقع لها للزوم السنخيّة، كما أنه لا يلزم ارتفاع النقيضين إذ (عدم الصلاة) و(عدم عدم الإزالة) كلاهما عدم خاص، فارتفاع الوجود وعدم الضد الخاص ليس من ارتفاع النقيضين، فتأمل.

الإشكال الثاني: إن مجرد المعاندة لا تستلزم مقدمية أحد المتمانعين للآخر، وإلا لكان ذلك في المتناقضين أولی، مع وضوح عدم إمكان كون أحد المتناقضين مقدمة للآخر، وذلك لكونهما في رتبة واحدة، وعدم الآخر

ص: 495


1- منتقی الأصول 2: 350.

هو نفس الشيء، فإذا كانت مقدمية، كان الشيء مقدمة لنفسه.

وأجيب(1): بأن القياس مع الفارق، إذ الاستحالة في النقيضين لجهة أخری، وهي: مقدمية الشيء لنفسه، باعتبار أن ارتفاع الوجود هو عين العدم البديل له.

وفيه: أن ملاك المقدمية لو كان والمعاندة، لكان ملاكاً في كل مورد، فعدم كون المعاندة سبباً للمقدمية في المتناقضين كاشف عن عدم كونها ملاكاً في الضدين.

الإشكال الثالث: إن المانعية قد تكون بمعنی مزاحمة أحد الضدين لتأثير مقتضي الضد الآخر، فحينئذٍ المانع وعدمه يكونان في مرتبة العلة، فيمكن القول بالمقدمية.

لكن إن كانت في وجوديهما بمعنی عدم اجتماعهما في الوجود، فلا يصلح المانع حينئذٍ للمقدمية، وذلك لأن الضدين في مرتبة واحدة فعدمهما كذلك في نفس المرتبة.

وبعبارة أخری كما في البحوث(2): إن المقتضيين لوجود الضدين لا تنافي بينهما فلذا يمكن اجتماعهما، لكن لا يمكن تأثيرهما معاً وذلك لامتناع اجتماع الضدين خارجاً، ولا تأثير أحدهما إن تساويا لأنه ترجح بلا مرجح، فلابد من عدم تحقق أيٍّ منهما، نعم لو كان أحدهما أقوی لتحقق ومنع عن الآخر.

ص: 496


1- أنظر نهاية الدراية 2: 199-200.
2- بحوث في علم الأصول 2: 298.

وفيما نحن فيه لا تتوقف الإزالة علی عدم الصلاة، بل تتوقف علی قوة مقتضي الإزالة، فتبيّن أن التمانع إنّما هو في مرحلة المقتضي لا في مرحلة وجود الضد - حيث يكونان في رتبة واحدة - ، فلا مقدمية.

بل يستحيل المانعية في الضد، وذلك لأن الضد إما مانع قبل وجوده، وهذا مستحيل، لأن المانعية فرع وجود المانع، وإما بعد وجوده، وهذا مستحيل أيضاً، إذ إن وجوده كان متوقفاً علی أقوائية مقتضيه علی مقتضي الآخر - لو كان - ، فوجود الضد كان متوقفاً علی المانع عن الآخر، فيستحيل أن يكون هو المانع عن الآخر.

الطريق الثاني: إثبات المقدمية من غير توقف، عبر التقدم بالطبع، کما ذکره المحقق الإصفهاني(1):

وذلك لأن التقدم علی أنحاء ثلاثة:

الأول: التقدم في الوجود، كتقدم العلة التامة علی معلولها، ولا يمكن توقف العلة علی معلولها للزوم الدور.

الثاني: التقدم في الزمان، كتقدم الموجود في الزمان الأول علی الموجود في الزمان الثاني، ولا يمكن توقف الأول علی الثاني، للزوم ملاك الدور.

الثالث: التقدم بالطبع، بحيث لا يكون لأحد الشيئين وجود إلاّ وللآخر وجود دون العكس، وهو علی أنحاء أربعة:

1- أن يكون المتقدم سبباً لقوام الآخر، كالجزء والكل، مثل الواحد والكثير.

ص: 497


1- نهاية الدراية 2: 180-183.

2- أن يكون مؤثراً في المتأخر، كالمقتضي ومقتضاه.

3- أن يكون مصححاً لفاعلية الفاعل، كالشرط والمشروط.

4- أن يكون متمماً لقابلية القابل، كعدم المانع والشرط العدمي، مثل عدم الرطوبة للاحتراق.

وما نحن فيه من هذا الرابع، إذ كلما وجد الضد كان الآخر معدوماً لا محالة، دون العكس إذ قد يكون (عدم الضد) لكن من دون وجود الضد الآخر، كما في الضدين اللذين لهما ثالث، فعدم الضد متمم لقابلية المحلّ لعروض الضد الآخر عليه، إذ بدون عدم الضد لا يكون المحلّ قابلاً، فحينئذٍ ثبتت المقدمية من دون توقف، فلا دور.

وفيه: أنّ التقدم بالطبع لا يكون ملاكاً للوجوب الغيري، إنّما الملاك التوقف في الوجود، والمتأخر بالطبع قد لا يتوقف وجود الآخر عليه، ففي المثال: لا يتوقف الاحتراق إلاّ علی النار، وليس متوقفاً علی عدم الرطوبة، بل وجود الرطوبة حاجز، فهي بوجودها حاجز ومانع، وليس لعدمها تأثير في الاحتراق بل يكون المؤثر له حينئذٍ النار فقط، فتأمل.

الدليل الثاني - لاقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده الخاص - : الملازمة بين وجود أحد الضدين وعدم الآخر، فيتلازمان في الحكم.

وهذا الدليل يتوقف علی مقدمات ثلاث:

1- إثبات أن كل ضد ملازم مع عدم ضده الآخر، حيث لا يمكن اجتماع الضدين.

2- إثبات أن المتلازمين في الوجود متلازمان في الحكم، إذ اختلافهما فيه سبب عدم إمكان امتثالهما معاً، فيقع في المخالفة، مثلاً لو كان أحدهما

ص: 498

واجباً والآخر حراماً، فإن امتثل الوجوب خالف الحرمة، وكذا العكس، وعليه ففيما نحن فيه حيث ثبتت ملازمة وجود أحد الضدين مع عدم الآخر، كان طلبه ملازماً لطلب ترك ضده.

3- إثبات أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده العام.

مثلاً: الإزالة ملازمة لعدم الصلاة، فإذا وجبت الإزالة وجب عدم الصلاة، وإذا وجب عدم الصلاة حرمت الصلاة.

ولا يخفی أن البحث في هذا الدليل إنّما هو في المقدمة الثانية، وهو بحث كبروي، إذ المقدمة الأولی وهي البحث الصغروي لا كلام فيها، إنّما الكلام في أن التلازم هل يقتضي الموافقة في الحكم أم لا، كما أن الدليل الأول كان البحث فيه صغروياً بعد إثبات الكبری - وهي وجوب المقدمة - في بحث مقدمة الواجب، فيبحث في أن عدم أحد الضدين هل هو مقدمة أم لا.

وأورد عليه: أولاً: بأن عدم جواز الاختلاف لا يستلزم التوافق في الحكم، بل هناك شق ثالث، وهو خلوّ أحد المتلازمين عن الحكم، فلا اختلاف لانتفاء الموضوع.

إن قلت: من المسلّم به عدم خلو الوقائع عن الحكم.

قلت: ملاك عدم خلوّ الواقعة عن الحكم هو أن لا يبقی المكلّف متحيراً في مقام العمل، فإذا ارتفع التحيّر بطريق آخر - غير جعل الحكم - فلا إشكال علی خلوها عن الحكم، وفيما نحن فيه لا تحيّر للمكلّف عملاً، إذ بعد وجوب أحد المتلازمين لا يبقی المكلّف متحيراً بالنسبة إلی الآخر، وذلك لأنه لو امتثل الحكم تحقق هذا المتلازم قهراً.

ص: 499

وثانياً: بأن ما ذكر من سبب تلازمهما في الحكم - من عدم إمكان امتثالهما والوقوع في المخالفة لو اختلفا فيه - إنّما يجري فيما لو كان أحدهما واجباً والآخر محرماً، أما لو كان الآخر مباحاً فلا يحري المحذور.

وثالثاً: إن مقدمات الوجوب من الحب والإنشاء إنّما هي تتعلق بالشيء الذي فيه المصلحة، ولا تسري إلی غيره مما يلازمه حيث قد لا توجد فيه مصلحة فلا يتعلق به حب ولا إنشاء، فتأمل.

البحث الثالث: في ملاكات الضدين

ثم إن صور وجود الملاك في كلا الضدين متعددة(1)، وهي أن الضدين...

إما متساويان بحسب الملاك والمصلحة، أم لا بل كانت لأحدهما مزية، وعلی التقديرين الملاكان: إما موسعين أو مضيقين أو مختلفين...

الأول: أن يكونا موسعين، فلا تنافي بينهما، حيث يحكم العقل بكون متعلقيهما ذا مصلحة ملزمة مع إمكان إدراك الملاكين، وحيث كانا موسعين فيجوز تقديم أيٍّ منهما شاء، سواء تساوی الملاكان، أم كان لأحدهما مزية.

الثاني: أن يكون أحدهما موسعاً والآخر مضيقاً، فحيث يمكنه إدراك كلا الملاكين لزم تقديم المضيّق حتی لو كان الأهم هو الموسع.

الثالث: أن يكونا مضيقين فهنا صورتان:

ص: 500


1- نهاية الأفكار 1: 365.

الصورة الأولی: أن يتساويا في الملاك، فهنا شقان:

1- إن يكونا ضدين لا ثالث لهما، كالحركة والسكون، والنوم واليقضة، فالحكم هو التخيير بحكم العقل، ولا معنی للتخيير الشرعي، إذ لا مجال لإعمال المولوية أصلاً، إذ في ظرف ترك أحد الضدين يكون الآخر موجوداً قهراً، فلا معنی للبعث أصلاً.

وبعبارة أخری: الأمر التخييري بشيئين بعد أن كان مرجعه إلی المنع عن ترك المجموع، فلا جرم يختص بما إذا تمكن المكلّف من ترك كلا الأمرين، ولكن هنا حيث لا يتمكن من تركهما فلا وجه للمولوية، لا بالنسبة إلی ترك المجموع، ولا بالنسبة إلی ترك أحد الفعلين، وذلك لامتناع ترك المجموع حيث لابد من تحقق أحدهما قهراً.

2- أن يكونا ضدين ولهما ثالث، كانقاذ الغريقين، وكالصلاة والإزالة، فهنا ليس للمكلف ترك كلا الأمرين، بل يجب عليه الإتيان بأحدهما مخيراً بينهما تخييراً شرعياً، وذلك لأنه لا يمكن المنع عن تركهما - بإيجاب فعلهما - أما الوجوب التخييري فلا مانع عنه، بعد تمكن المكلف من الإتيان بأحدهما وكذا ترك جميعها، فحينئذٍ يكون مجال لإعمال الجهة المولوية بالأمر بينهما مخيراً.

الصورة الثانية: إذا كان أحدهما أهم والآخر مهم، فقد ذكر المحقق العراقي(1) أن الأمر بالأهم تام، والأمر بالمهم ناقص، أي لو اتفق انحفاظ المهم من جانب الأهم، فحينئذٍ يلزم حفظ المهم من سائر الجهات، نظير

ص: 501


1- نهاية الأفكار 1: 366-367.

الواجب التخييري الذي كان الأمر بكل واحد منهما أمراً ناقصاً بمعنی لزوم سدّ باب عدمه من سائر الجهات سوی الشقّ الآخر للواجب التخييري.

وبعبارة أخری: المنع عن بعض أنحاء تروكه - وهو الترك في حال ترك الآخر - مع أن الترك في حال الوجود الآخر هو تحت الترخيص.

وليس هذا من جهة تقييد الطلب أو المتعلّق، بل لجهة قصور نفس الوجوبين حينئذٍ في اقتضاء حفظ الوجودين علی الإطلاق حتی في حال وجود الآخر، وهذا القصور ناش عن ملاكيهما، حيث يضادان فيوجب ذلك خروج أحد الوجودين عن كونه ذا مصلحة عند تحقق الآخر، فيتحصل من ذلك حرمة تركهما ووجوب الإتيان بأحدهما.

وبهذا البيان أمكن الجمع بين الأمر بالمهم والأمر بالأهم في رتبة واحدة، فأمر تام بالأهم وأمر ناقص بالمهم، أي حفظ المهم من سائر الجهات في ظرف انحفاظه من قبل ضده الأهم اتفاقاً.

وذلك لأن محذور عدم جواز الأمر بالضدين، إما في المولی حيث لا يمكن إرادة الضدين، وإما في العبد حيث لا يقدر علی الجمع بينهما، فيكون التكليف بهما تكليفاً بما لا يطاق.

فيكون المهم حينئذٍ كالواجب المشروط، فلو اتفقت الاستطاعة تحققت الإرادة والأمر بالحج، وإلاّ فلا، وفيما نحن فيه لو اتفق ظرف عدم الضد الأهم فإن الأمر بالمهم يكون مقتضياً لحفظ متعلقه من سائر الجهات - غير ضده الأهم - .

وعليه، فإنه أمكن الجمع بين الأمرين في رتبة واحدة، من دون الاحتياج إلی الترتب - الذي هو في رتبتين - .

ص: 502

أقول: لا يخفی أن هذا إنّما يكون حين ارتفاع الأمر بالأهم - لعجز أو غفلة ونسيان ونحوهما - وإلاّ فمع التمكن من الأهم والالتفات إليه لا يتحقق شرط وجوب المهم، فيكون نظير الواجب المشروط الذي لم يتحقق شرطه، فرجع الأمر إلی رتبتين، فإن مجرد العصيان لا يوجب ارتفاع الأمر بالأهم لتحقق شرط المهم. وسيأتي مزيد توضيح في بحث الترتب إن شاء الله تعالی.

البحث الرابع: في الضد العام

هل الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده العام الذي هو نقيضه، أي ترکه؟

لا إشکال في صحة استعمال أحدهما مکان الآخر، فلا فرق بين أن يقول: (صلِّ) أو أن يقول: (لا تترك الصلاة)، فليس الکلام في صحة الاستعمال وإنّما في الاقتضاء.

وهذا الاقتضاء قد يراد به العينيّة أو التضمن أو الالتزام.

أما الأول: فالصحيح عدم العينيّة، لأن النهي هو الزجر، والأمر هو البعث والإرسال، ولا إشکال في عدم اتحادهما بل اختلافهما ماهوي.

نعم لو فسرنا النهي بأنه طلب نقيض الشيء، فلا إشکال في العينيّة، لأن معنی لا تشرب الخمر هو طلب ترك شربه.

وأما الثاني: وهو التضمن، فعلی القول بأن الأمر بالشيء هو طلب الفعل مع المنع عن النقيض - وبهذا يمتاز عن المستحب - يكون النهي عن ضده العام جزءاً من مفهومه.

وأشکل عليه: بأن الوجوب والاستحباب بسائط، فالوجوب مرتبة

ص: 503

شديدة من الطلب، والاستحباب مرتبة ضعيفة منه، ولا يراد من هذا التعريف إلا تقريب معنی الوجوب، لا بيان أنه مرکب، فإن مفهوم الوجوب شيء واحد لا شيئان، ومصداقه الخارجي شيء غير مرکب بل مرتبة شديدة من الطلب.

ويرد عليه: أن الکلام ليس في الوجوب حتی يقال ببساطته، وإنّما الکلام في الأمر.

فالأولی الإشکال بأن هذا المعنی المرکب لا يتبادر من لفظ الأمر - لا من صيغته ولا من مادته - بل يتبادر الطلب الشديد فحسب.

وأما الثالث: وهو الالتزام، فتارة يلاحظ الالتزام في الجعل، وأخری في الحب والبغض والإرادة والکراهة.

1- أما في عالم الجعل، فقد قيل(1): بأن الاعتبار فعل اختياري للمولی، فيكون منوطاً بمبادئه الاختيارية، فإن أريد حصول الاعتبار الثاني بالتوليد عن الاعتبار الأول من دون حصول مبادئه، فهو خلف کونه من الأفعال الاختيارية. وإن أريد أن الاعتبار الأول داعي للاعتبار الثاني بجعل النهي الغيري، فهو لغو، حيث إنه اعتبار غيري لا طاعة ولا داعوية له.

2- أما بلحاظ الحب والبغض والإرادة والکراهة - بمعنی أنه مع حب الشيء يتولد بغض لترکه - فهذا أمر ثابت بالوجدان، وعليه يثبت بالأمر بالشيء بغض ترکه والنهي عنه.

ويرد عليه: أولاً: إنه قد يكون للشيء وللازمه معاً اعتبار واحد، فلا

ص: 504


1- بحوث في علم الأصول 2: 316.

خلف ولا لغوية، مضافاً إلی کفاية اختيارية الاعتبار الثاني بکونه متولداً من الاعتبار الأول الاختياري، فانه کما يكون الفعل اختيارياً إذا کان بلا واسطة کذلك مع الواسطة.

وثانياً: بأنه لا لغوية في الاعتبار الثاني حتی لو فرض کونه غيرياً، لوجود جانب التأکيد والتحفيز فيه.

وثالثاً: بأن مجرد الحب والبغض والإرادة والکراهة لا تکون إنشاءً للأمر أو النهي، فإثبات البغض في الترك لا يكفي لإثبات النهي عنه.

البحث الخامس: ثمرة بحث الضد

فقد ذکر أنّ ثمرة البحث هي بطلان العبادة، بضميمة أن النهي عن العبادة يوجب الفساد، وقد ذکر للثمرة فرعان:

الأول: لو کانت العبادة موسعة وکان ضدها واجباً فورياً، کالأمر بإزالة النجاسة عن المسجد مع کون ضدها هو صلاة الظهر في أول الوقت.

الثاني: لو کانا مضيقين مع کون ضد العبادة هو الأهم.

وأشکل علی هذه الثمرة بإشکالات، منها:

الإشکال الأول: بأن العبادة باطلة علی کل حال - سواء قلنا باقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده أم لا - ، لأنه مع الأمر بضدها فلا أمر لها، لعدم إمکان طلب الضدين والأمر بهما، فتبطل العبادة لعدم الأمر بها.

وأجيب عنه بعدة أجوبة، منها:

الجواب الأول: - وهو خاص بالفرع الأول - بأنه للواجب الموسع أمر بالجامع، وهو يكفي في العبادية إذا لم يكن نهي، وذلك لأن الجامع ليس

ص: 505

ضداً للواجب المضيّق، وإنّما ضده خصوص الفرد المزاحم، فإذا أمر بالجامع فإن انطباقه علی الفرد المزاحم قهري، فيكون ذلك الفرد من مصاديق المأمور به، فيكون الإجزاء عقلياً.

وأشکل عليه المحقق النائيني(1): بأنّ الملاك في اشتراط القدرة في التکليف أحد شيئين:

1- إمّا حکم العقل بقبح تکليف العاجز، فيصح الجواب، لأن هذا القبح مرتفع بالتکليف بالجامع بين المقدور وغير المقدور شرعاً، فلا يكون المکلَّف في حرج من التکليف، لإمکان إتيانه بالفرد المقدور.

2- وإمّا کون الخطاب في التکليف يقتضي اختصاص التکليف بالمقدور، حيث إن التکليف هو البعث، وذلك لا يكون إلا مع قابلية الانبعاث، إذ هما - البعث والانبعاث - شيء واحد حقيقة والاختلاف بالاعتبار کالإيجاد والوجود، فإذا استحال أحدهما استحال الآخر، وعليه فمع استحالة الانبعاث يستحيل البعث، ومع عدم القدرة يستحيل الانبعاث فلا تکليف، وحينئذٍ فإن نفس التکليف والخطاب يجعل الخطاب إلی الجامع خطاباً خاصاً بالفرد المقدور، حيث إن البعث والانبعاث لا يكون إلا بالنسبة إلی المقدور من الأفراد.

وأورد عليه بعدم الفرق بين الملاکين:

تارة: بالإمکان علی کليهما(2)، فإنه حتی علی الثاني يصح الأمر بالجامع

ص: 506


1- فوائد الأصول 1: 314.
2- مباحث الأصول 3: 58.

الشامل لغير المقدور، وذلك لأن الانبعاث نحو الجامع - وهو متعلق التکليف - مقدور فيكون البعث نحوه مقدوراً.

وتارة أخری - وهي الأصح - : بعدم الإمکان علی کليهما(1)، إذ لا يصح الأمر بالجامع علی کلا التقديرين.

أما علی الأول: - وهو قبح تکليف العاجز - فلأن تعلق الأمر بالجامع إنّما هو بالإطلاق، وهو غير معقول، وذلك لأن امتناع التقييد قد يلازم

استحالة الإطلاق، وقد يلازم ضرورته - حيث يمتنع قصر الحکم علی بعض الأفراد - ، وما نحن فيه من قبيل الأول، لأن استحالة ثبوت الحکم لغير المقدور ليس لأجل امتناع قصر الحکم علی بعض الأفراد، بل لأجل امتناع ثبوت الحکم له بالخصوص، وإذا استحال ثبوت الحکم لغير المقدور فهو ممتنع مطلقاً - سواء کان بعنوانه الخاص أو بعنوان مطلق - ، وعليه فالإطلاق ممتنع کالتقييد.

أما الثاني: فلأنه يرجع إلی قبح تکليف العاجز، وذلك لأن التکليف إنّما هو لأجل جعل الداعي، وذلك بمعنی جعل ما يمکن أن يكون داعياً، أي ما له اقتضاء الداعوية ولو لم يكن داعياً بالفعل، فيمکن حينئذٍ التکليف بغير المقدور لإمکان وجود المقتضي مع عدم تأثيره، کالنار بلا إحراق، إلاّ أن جعل مقتضی الداعوية حينئذٍ لغو لعدم ترتب الأثر عليه، فيكون قبيحاً، فرجع إلی قبح تکليف العاجز لکونه لغواً، لا لعدم إمکانه.

الجواب الثاني: کفاية وجود الملاك في صحة العبادة، ويتحقق التقرب

ص: 507


1- منتقی الأصول 2: 368.

بذلك، لعدم اشتراطه بقصد الأمر، بل يكفي فيه قصد الملاك، نعم مع وجود النهي لا يكفي الملاك، إذ النهي في العبادة موجب لفسادها حتی مع وجود الملاك.

وعليه فحتی لو لم يكن أمر بالصلاة المزاحمة بالإزالة - مثلاً - إلاّ أنّها صحيحة لوقوعها عبادةً بقصد ملاکها.

وأما طريق إحراز الملاك فأمران:

الطريق الأول: الدلالة الالتزامية لصيغة الأمر، وذلك لأن لها دلالتان: مطابقية وهي طلب الفعل، والتزامية وهي وجود الملاك، إذ الأحکام تابعة لملاکاتها، ولولاها لم يصدر حکم عن الشارع، وعليه: فإن سقوط الدلالة المطابقية عن الحجية بالتعارض أو التزاحم لا يستلزم سقوط الدلالة الالتزامية، لعدم التلازم بين الدلالتين سقوطاً.

وفيه: أن التبعية وعدمها يرتبط بظهور اللفظ وعدمه...

1- فقد يكون للّفظ ظهور في الدلالة الالتزامية حتی مع سقوط المطابقية بالتعارض أو التزاحم، کما لو تعارض خبران في الوجوب والحرمة فتسقط دلالتهما وحجيتهما في کل واحد من الحکمين، مع بقاء الظهور في الدلالة الالتزامية بنفي الحکم الثالث کالاستحباب - مثلاً - ، وکما لو تعارضت البينتان في أن البائع باع لزيد أم لعمرو، فسقوط الدلالة المطابقية لا تعني سقوط الدلالة الالتزامية بوقوع البيع، وأن الحق لا يعدوهما، فتصل النوبة إلی الأدلة الأخری، کقاعدة العدل والإنصاف ونحوها.

2- وقد لا يكون ظهور، فلا حجية للدلالة الالتزامية حينئذٍ، کما لو أخبر بطلوع الشمس، ولازمه وجود النهار، فمع العلم بخطأ خبره لا ظهور في

ص: 508

الدلالة الالتزامية.

ولا فرق في ذلك بين کون الدلالة الالتزامية بالوضع أم بحکم العقل أم بغيرهما، کما لا فرق في کون سقوط الدلالة المطابقية بالمنفصل أو المتصل، نعم مع کون المخصِّص متصلاً فعدم الظهور أوضح.

وفيما نحن فيه: مع سقوط الأمر بالمزاحمة لا يبقی ظهور للّفظ في وجود الملاك أصلاً، وخاصة بضميمة ما قيل: من أن اشتراط القدرة مخصِّص متصل، فکما يهدم الحجية کذلك يهدم أصل الظهور.

الطريق الثاني: إحراز الملاك عبر إطلاق المادة، وهو ما قد يظهر من عبارات المحقق النائيني(1)، وذلك لأن صيغة الأمر في مثل (صلّ) دلّت علی ثبوت شيئين: الحکم - وهو الوجوب - وذلك بدلالة وضعيّة، والملاك بدلالة حالية بالإطلاق المقامي، فتکون کلا الدلالتين مطابقية.

وحينئذٍ فإن سقوط إحدی الدلالتين المطابقيتين - وهي الحکم - إنّما هو بسبب اشتراط القدرة، سواء کان السقوط لأجل قبح تکليف العاجز، أم لأجل اقتضاء الخطاب لإمکان الانبعاث، وهذا الاشتراط لا يرتبط بالملاك، إذ لا قبح في وجود الملاك في العاجز، کما أن الملاك لا داعوية له للانبعاث، وعليه: فلا يمکن تقييد الملاك بصورة عدم المزاحمة، التي تتحقق بها القدرة الشرعية علی امتثال الخطاب.

نظير اشتراط التکليف بکون متعلقه محلاً للابتلاء، فعدم الابتلاء لا يكشف عن عدم الملاك في تلك الحال.

ص: 509


1- أجود التقريرات 2: 25-28.

نعم لو صرّح المولی باشتراط القدرة، کما لو قال: (حج إن استطعت)، أو قال: (تيمم إن فقدت الماء)، فحينئذٍ لا معنی لأخذ قيد في متعلق الطلب إثباتاً مع عدم دخله ثبوتاً.

وفيه: أولاً: عدم دلالة الخطاب علی الملاك بالمطابقة أصلاً، فمثل (صلّ) لا دلالة مطابقية له علی کونه ذا ملاك، وإنّما هي دلالة التزامية ناشئة عن علمنا بأن المولى حكيم، فرجع إلی الأول.

وثانياً: لا فرق بين التصريح باشتراط القدرة وعدمها، فلو سلّم الدلالة المطابقية للملاك فيمکن أن يقال: إنّ التصريح باشتراط القدرة إنّما هو لدخلها في الوجوب مثلاً، ولا تکشف عن عدم وجود الملاك في حال عدم القدرة، بل تکشف عنه ولکن لا بمرتبة الوجوب، فتأمل.

فتحصل: أنه لا طريق لإحراز الملاك، کما لا يبقی الأمر حين المزاحمة، فلا وجه لتصحيح العبادة حينئذٍ لعدم الأمر ولعدم الملاك، فرجع الإشکال بعدم الثمرة، إذ العبادة باطلة سواء قلنا باقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده أم عدم الاقتضاء.

الإشکال الثاني - علی الثمرة - : صحة العبادة مطلقاً سواء قلنا باقتضاء الأمر للنهي عن ضده أم لا(1)، وذلك لأن العبادة وإن کانت منهياً عنها، إلا أن النهي المتعلّق بها غيري، ناشئ عن مقدمية ترکها للمأمور به أو ملازمته لها، وليس ناشئاً عن مفسدة في نفس متعلقه، کي يكون مزاحماً لما فيه من المصلحة وموجباً لاضمحلالها.

ص: 510


1- فوائد الأصول 1: 316.

إن قلت: لا طريق لنا إلی إحراز الملاك، لتعارض الأمر بالإزالة مع الأمر بالصلاة، وبعد تقديم الإزالة - إما لضيق وقتها أو لأهميتها - لم يبق مجال لاستکشاف الملاك، کما هو في سائر موارد التعارض؟

قلت: إن المقام ليس من باب التعارض بل هو من باب التزاحم.

ويرد عليه: أولاً: ما هو المقصود بالملاك؟

1- فإن کان المقصود المحبوبية الذاتية، فمن الواضح أن النهي - حتی الغيري منه - يستلزم مبغوضية العمل، ولو لأجل المفسدة في الغير، فلا يكون محبوباً، فلا يكون مقرباً، فلم تتحقق العبادية.

2- وإن کان المقصود المصلحة، فإن مجرد المصلحة لا توجب تقرباً إلی المولی لو لم ترتبط به، کمن يأتي بالصالحات لفائدتها الدنيوية، أو دفعاً للحرج، لا لأمر المولی، مضافاً إلی أنه بعد سقوط الأمر لا طريق لإحراز المصلحة أصلاً.

وثانياً(1): إن إدخاله في باب التزاحم محل تأمل، وذلك لأنه بناءً علی اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده، يكون الأمر بکل ضد موجباً للنهي عن ضده الآخر، فيتعارضان في وجود المصلحة أو المفسدة، وأما بناءً علی عدم الاقتضاء فعلی عدم القول بالترتب لا طريق لإحراز الملاك في الضد الآخر فيتعارضان أيضاً، نعم علی القول بالترتب يكون من قبيل التزاحم لوجود الأمر والملاك في کليهما، فتأمل.

ص: 511


1- مباحث الأصول 3: 63-64.

ص: 512

فهرست الموضوعات

بحوث تمهيديّة

فصل في تعريف علم الأصول

التعريف الأول8

التعريف الثاني20

التعريف الثالث22

التعريف الرابع23

فصل في الوضع

البحث الأول: في معنى الوضع25

البحث الثاني: في الواضع37

البحث الثالث: أقسام الوضع39

التقسيم الأول: التقسيم باعتبار منشأ الوضع40

التقسيم الثاني: التقسيم باعتبار المعنى43

1- الوضع العام والموضوع له العام43

2- الوضع الخاص والموضوع له الخاص46

3- الوضع العالم والموضوع له الخاص46

أقسام الوضع العام والموضوع له الخاص51

الاشتراك اللفظي أم المعنوي؟52

4- الوضع الخاص والموضوع له العام53

وبيان وجه الاستدلال على استحالته53

الاستدلال على إمكانه57

ص: 513

البحث الرابع: في المعنى الحرفي59

المطلب الأول: في معنى الحروف59

المبنى الأول: عدم وضع الحروف لمعنى60

المبنى الثاني: كون الحروف كالأسماء61

المبنى الثالث: اختلافهما بالذات70

المطلب الثاني: في كيفية الوضع للحروف80

المطلب الثالث: ثمرة البحث في المعنى الحرفي83

البحث الخامس: في الإنشاء والإخبار85

المقام الأول: معنى الإنشاء والإخبار85

المقام الثاني: الفارق بين الجمل الإخبارية والإنشائية92

الأمر الأول: في الجمل المختصة بالإنشاء92

الأمر الثاني: في الجمل المشتركة بين الإنشاء والإخبار96

المقام الثالث: في كيفية الإيجاد في العقود97

البحث السادس: الأسماء الملحقة بالحروف98

فذلكة106

البحث السابع: في هيأة الجُمل108

البحث الثامن: هل الدلالة تتبع الإرادة؟110

فصل في الاستعمال

المقام الأول: في معنى الاستعمال113

المقام الثاني: في كيفية الاستعمال115

المقام الثالث: استعمال اللفظ وإرادة شخصه أو صنفه أو نوعه115

فصل في علائم الحقيقة والمجاز

العلامة الأولى: تنصيص أهل اللغة118

العلامة الثانية: التبادر120

العلامة الثالثة: عدم صحة السلب122

ص: 514

العلامة الرابعة: الاطّراد126

فصل في الحقيقة الشرعية

البحث الأول: الأقوال في الحقيقة الشرعية130

البحث الثاني: كيفية تشخيص مراد الشارع134

البحث الثالث: زمان الاستعمال135

فصل في الصحيح والأعم

المبحث الأول: في العبادات137

المطلب الأول: في تصوير النزاع137

المطلب الثاني: في معنى الصحة140

المطلب الثالثة: في تصوير الجامع145

1- تصوير الجامع على الصحيح146

2- تصوير الجامع على الأعم157

المطلب الرابع: ثمرة البحث161

المطلب الخامس: أدلة الطرفين166

1- من أدلة القائل بالصحيح166

2- من أدلة القائل بالأعم169

المبحث الثاني: في المعاملات172

المطلب الأول: في تحرير محل النزاع172

المطلب الثاني: في ثمرة النزاع في المعاملات178

المقام الأول: في الثمرة على القول بأن المعاملة اسم للسبب178

المقام الثاني: في الثمرة على القول بأن المعاملة اسم للمسبَّب180

المبحث الثالث: في الجزء المستحب في العمل الواجب182

ص: 515

فصل في الاشتراك اللفظي

فصل في استعمال اللفظ في أكثر من معنى

البحث الأول: في بيان الثمرة189

البحث الثاني: في تحرير محل النزاع190

البحث الثالث: في إمكانه وامتناعه192

البحث الرابع: في وقوعه195

البحث الخامس: في التثنية والجمع197

البحث السادس: في بطون القرآن الكريم199

البحث السابع: في قصد المعاني في الصلاة202

فصل في المشتق

الأمر الأول: في أصولية المسألة205

الأمر الثاني: في المتلبس في الاستقبال205

الأمر الثالث: في محلّ البحث206

الأمر الرابع: في معنى المشتق208

1- المشتق الأصولي غير الصرفي209

2- المشتق الصرفي غير الأصولي211

المورد الأول: ما لا يعقل انفكاكه عن الذات211

المورد الثاني: اسم الزمان212

المورد الثالث: المصدر واسم المصدر214

المورد الرابع: الأفعال215

المورد الخامس: ما لم يكن فعلاً216

الأمر الخامس: في معنى الحال المأخوذ في العنوان218

الأمر السادس: في تعيين الأصل العملي221

المطلب الأول: في المسألة الأصولية221

المطلب الثاني: في المسألة الفرعية222

ص: 516

الأمر السابع: في بساطة أو تركب المشتق224

الجهة الأولى: في المقصود من التركب والبساطة224

الجهة الثانية: المأخوذ في حقيقة المشتق225

الجهة الثالثة: من أدلة البساطة228

الأمر الثامن: الأقوال في المشتق231

1- من أدلة القول بأنه لخصوص المتلبس231

2- من أدلة القول بالأعم234

الأمر التاسع: في صفات الباري تعالى237

الأمر العاشر: في دلالة الفعل على الزمان240

المقصد الأول في الأوامر وفيه فصول

فصل في مادة الأمر

المطلب الأول: في معنى الأمر247

المطلب الثاني: في اشتراط العلّو والاستعلاء250

المطلب الثالث: في منشأ دلالة الأمر على الوجوب252

ثمرة البحث في منشأ الدلالة على الوجوب257

المطلب الرابع: في الطلب والإرادة260

المقام الأول: في تغاير الطلب والإرادة261

الأمر الأول: في عدم كون النزاع لفظياً261

الأمر الثاني: من أدلة القائلين بالتغاير262

الأمر الثالث: هل المصلحة هي في الطلب أم في متعلقه؟269

الأمر الرابع: أنحاء المانعية274

المقام الثاني: في نفي الجبر276

ص: 517

فصل في صيغة الأمر

المبحث الأول: في مدلول صيغة الأمر281

المبحث الثاني: في مدلول الصيغة285

المقام الأول: في دلالتها على الوجوب285

المقام الثاني: في استعمال الصيغة في الوجوب والاستحباب معاً288

المبحث الثالث: في دلالة الجملة الخبرية على الوجوب290

المطلب الأول: في كيفية دلالتها على الطلب290

المطلب الثاني: في دلالتها على الوجوب292

المطلب الثالث: في أنواعها293

المبحث الرابع: في اقتضاء الصيغة المباشرة أو التسبيب أو الأعم294

المقام الأول: الأصل اللفظي295

المقام الثاني: الأصل العملي298

المبحث الخامس: في اقتضاء الصيغة صدور الفعل عن اختيار أم عدمه300

المبحث السادس: في سقوط التكليف بالفعل المحرّم وعدمه304

المبحث السابع: في التوصلي والتعبدي306

المطلب الأول: قصد الأمر306

المطلب الثاني: قصد المحبوبية أو الملاك315

المطلب الثالث: دفع المحذور بتعدد الأمر318

المطلب الرابع: مقتضى الأصل اللفظي والعملي323

المقام الأول: في الإطلاق اللفظي323

المقام الثاني: في الإطلاق المقامي327

المقام الثالث: في الأصل العملي328

المطلب الخامس: أصالة التعبدية330

المبحث الثامن: دلالة الأمر على الوجوب النفسي التعييني العيني332

المبحث التاسع: الأمر عقيب الحظر333

ص: 518

المبحث العاشر: في المرّة والتكرار336

الأمر الأول: المراد من المرة والتكرار336

الأمر الثاني: الدلالة على الطبيعة337

الأمر الثالث: في تكرار الامتثال339

المقام الأول: تعدد الامتثال339

المقام الثاني: هدم الامتثال340

المقام الثالث: تبديل الامتثال340

المبحث الحادي عشر: في الفور والتراخي346

فصل في الإجزاء

المقام الأول: إجزاء الأمر الاضطراري عن الأمر الواقعي350

المرحلة الأولى: البحث الثبوتي351

المرحلة الثانية: البحث الإثباتي353

الموضع الأول: في الإعادة353

الموضع الثاني: في القضاء360

المقام الثاني: إجزاء الأمر الظاهري عن الواقعي362

البحث الأول: انكشاف الخلاف بالعلم363

البحث الثاني: انكشاف الخلاف بأمارة شرعية372

دليل عدم الإجزاء372

أدلة الإجزاء373

البحث الثالث: في انكشاف الخلاف بالأصل376

تكملة: في عدم إجزاء القطع380

فصل في مقدمة الواجب

البحث الأول: في أصولية المسألة382

البحث الثاني: في تقسيمات المقدمة386

التقسيم الأول: تقسيمها إلى مقدمة داخلية وخارجية386

ص: 519

1- أما الأجزاء الداخلية386

المقام الأول: هل الأجزاء مقدمة داخلية؟386

المقام الثاني: في دخول المقدمة الداخلية في البحث387

2- أما المقدمة الخارجية391

التقسيم الثاني: تقسيم المقدمة إلى عقلية وشرعية وعادية392

التقسيم الثالث: تقسيمها إلى مقدمة الوجود والوجوب والصحة والعلم394

التقسيم الرابع: تقسيم المقدمة إلى متقدمة ومقارنة ومتأخرة397

الموطن الأول: الشرط المتأخر للحكم التكليفي أو الوضعي398

الموطن الثاني: الشرط المتأخر للواجب401

فرع: في غسل المستحاضة402

الموطن الثالث: الشرط المتقدم404

البحث الثالث: تقسيمات الواجب405

التقسيم الأول: تقسيمه إلى مطلق ومشروط405

المرحلة الأولى: في الغرض وفي الإرادة من المولى405

المرحلة الثانية: في رجوع الشرط إلى الوجوب408

المقام الأول: في إشكالات على رجوع القيد إلى الهيأة408

المقام الثاني: في الإشكال على رجوع القيد إلى المادة410

المقام الثالث: في الثمرة في رجوع القيد إلى الهيأة أو المادة410

استثناءان:411

الاستثناء الأول: في المعرفة411

الاستثناء الثاني: في المقدمات المفوتة413

المقام الرابع: في دوران الأمر بين رجوع القيد إلى الهيأة أو المادة417

التقسيم الثاني: تقسيم الواجب إلى المنجز والمعلّق422

الأمر الأول: في صحة هذا التقسيم423

الأمر الثاني: في استحالة الواجب المعلّق وإمكانه424

ص: 520

تتمتان430

التقسيم الثالث: تقسيمه إلى الواجب النفسي والغيري431

الأمر الأول: في تعريفهما431

الأمر الثاني: في الشك في النفسية والغيريّة433

المقام الأول: في مقتضى الأصل اللفظي433

المقام الثاني: في مقتضى الأصل العملي437

الأمر الثالث: في استحقاق العقاب على الأوامر الغيرية440

الأمر الرابع: في الطهارات الثلاث445

تنبيهان:452

التنبيه الأول452

التنبيه الثاني453

البحث الرابع: في المقدمة الموصلة454

الجهة الأولى: في متعلق أصل الوجوب454

الجهة الثانية: في متعلق الوجوب الغيري في المقدمة الموصلة467

الجهة الثالثة: في ثمرة المقدمة الموصلة471

البحث الخامس: ثمرة بحث المقدمة475

البحث السادس: دليل وجوب المقدمة479

المقام الأول: في تأسيس الأصل479

المقام الثاني: في أدلة الأقوال483

البحث السابع: مقدمة المستحب والحرام والمكروه486

فصل في الضد

البحث الأول: في أصولية المسألة490

البحث الثاني: في الضد الخاص491

البحث الثالث: في ملاكات الضدين500

البحث الرابع: في الضد العام503

ص: 521

البحث الخامس: ثمرة بحث الضد505

فهرست الموضوعات513

ص: 522

المجلد 2

هویة الکتاب

نبراس الاصول

الجزء الثانی

السید جعفر الحسینی الشیرازی

ص: 1

اشارة

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام علی محمد وآله الطاهرين، ولعنة الله علی أعدائهم أجمعين إلی يوم الدين

ص: 3

ص: 4

فصل في الترتب

اشارة

وهذا الفصل من فروع بحث الضد، إلا أنه أفرزناه في فصل خاص به لکثرة مسائله وأهمية بحثه، فالغرض من بحث الترتب هو بيان إمکان أو امتناع الأمر بالضدين المتزاحمين إذا تعلق الأمر بالأهم وتعلق الأمر بالمهم في حال عصيان الأهم أو ترکه.

وقد اخترنا منهجية السيد الأخ (رحمة الله) في کتابه (الترتب) لأنها الأحسن في ترتيب المواضيع، فهنا مباحث:

المبحث الأول: في شروط تحقق موضوع الترتب

اشارة

ذکر السيد الأخ عشرة شروط مع المناقشة في بعضها، قد تستفاد من مطاوي کلام الأعلام، مع إمکان إضافة شروط أخری.

الشرط الأول: وجود تضاد بين الأمرين

مع کونهما مما لهما ثالث، وهذا التضاد إنّما هو بالعرض، حيث لا تنافي بين الإنشائين، وإنّما هو في مرحلة امتثال المکلف للحکم حيث لا يقدر عليهما لتضاد المتعلقين وعدم تمکنه من الجمع بينهما.

ولا فرق في هذا التضاد بين کونه من غير واسطة، أو بواسطة حکم شرعي، مثلاً إذا وجب قصد الإقامة في بلد، فلو عصی ولم يقصدها وجب عليه القصر والإفطار، فإنه لا تضاد في الأصل بين قصد الإقامة وبين القصر

ص: 5

والإفطار، وإنّما نشأ من الحکم الشرعي بقصر وإفطار غير المقيم، وبتمام وصيام المقيم.

فالمثال يكون من مصاديق الترتب لجريان ملاکه فيه، نعم هو مثال فرضي لا واقع له، إذ الواجب قد يكون الإقامة، ولا يشترط قصدها أصلاً، فسواء قصد أم لم يقصد أو قصد ضدها إن بقي - ولو اتفاقاً - فقد امتثل الأمر بالبقاء، فليس قصد الإقامة واجباً حتی نفرضه الأهم، بل الواجب نفس الإقامة، وحکم القصر والتمام والإفطار والصيام يرتبط بالقصد أو العلم، وليس هو الواجب حتی يكون ترکه مثلاً محققاً للعصيان الذي هو موضوع الأمر بالمهم، فتأمل.

إن قلت: إن التقابل علی أربعة أنواع - هي النقيضان، والضدان، والعدم والملکة، والمتضايفان - فلماذا خص البحث بالضدين؟

قلت(1): أما النقيضان: فلأن عصيان أحدهما مساوق لتحقق الآخر، فلا معنی للأمر به لأنه من طلب الحاصل، وهذا الکلام يجري في الضدين اللذين لا ثالث لهما کما لا يخفی.

وأما المتضايفان: فلضرورة وجود کل واحد منهما بالقياس إلی وجود الآخر، وامتناعه بالقياس إلی عدمه، فلا يعقل إناطة وجود أحدهما بعصيان الآخر، لأنه يؤول إلی إيجاب إيجاد الشيء في ظرف عدمه.

وأما العدم والملکة: فلرجوعهما إلی النقيضين، لکن مع لحاظ المحلّ القابل.

ص: 6


1- الترتب: 13؛ موسوعة الفقيه الشيرازي 12: 22.

إن قلت(1): قد يجري البحث في المتخالفين - وهما الأمران الوجوديان اللذين لا مانع من اجتماعهما وارتفاعهما کالسواد والحلاوة - کالتطهير والتعطير، بأن کان الثاني معلقاً علی عصيان الأول، مع عدم الأمر بالجمع بينهما - مع قابلية المحلّ وقدرة المکلف - لمفسدة في الأمر بالجمع مثلاً، ولم يكن تخييراً لکون الأول أهم؟

قلت: إنهما وإن کانا متخالفين بالذات إلا أنهما تحولا إلی متضادين بالعرض.

کما لا وجه لتخصيص الموضوع بالأمرين لجريانه في النهيين، والمختلفين، فالأقسام أربعة.

الشرط الثاني: كون التكليفين إلزاميين

ويرد عليه: عدم الفرق بين الإلزاميين وغيرهما، حيث يجري بحث الترتب فيهما أيضاً، وذلك لأن مبادئ الحکم غير الإلزامي مسانخة لمبادي الإلزامي، إلا أن الاختلاف في المرتبة القوية والضعيفة، فکما يجوز أو يمتنع اجتماع إرادتين إلزاميّتين متضادتين، کذلك إرادتين غير إلزاميتين، أو مختلفتين.

فالأقرب جريان بحث الترتب مطلقاً، فهنا صورتان:

الصورة الأولی: کون أحد الحکمين إلزامياً مع کون الآخر غير إلزامي، من غير فرق بين کون الأهم أيهما...

أ) فقد يأمر بإلزامي أهم، ويشترط في غير الإلزامي عصيانه، کأن يقول:

ص: 7


1- الترتب: 14؛ موسوعة الفقيه الشيرازي 12: 22.

(حُجّ، فإن عصيت فيستحب لك الزيارة).

ب) وقد يكون غير الإلزامي هو المطلوب، ويشترط في الإلزامي ترکه، کأن يقول: (يستحب لك الزيارة، فإن ترکتها فتجب عليك الزراعة في البستان)، والمورد إنّما هو فيما لم يكن الملاك في الزراعة مطلقاً، وإنّما کان الملاك في حال تواجده في البلد فقط، فإن کان خارجاً فلا ملاك له، ويمکن تقريب المثال بأن تکون الزراعة کفائية مع وجود من فيه الکفاية، فيأمره مستحباً بالزيارة فإن تركها تصير الزراعة عليه واجباً عينياً لمصلحة في الأمر، أو لتحقق ملاك العينية حينئذٍ، فتأمل.

ولا يخفی أن هذا يدخل في الترتب لو کان شرط الحکم الثاني أعم من عصيان الأمر الأول أو ترکه، أما لو کان شرطه العصيان فلا يدخل فيه، إذ لا عصيان في ترك غير الإلزامي.

الصورة الثانية: کونهما غير إلزاميين، فإن لم يترتب أحدهما علی ترك الآخر کانا من المستحب التخييري حتی لو کان أحدهما أهم، ولا يرتبط حينئذٍ ببحث الترتب.

أما لو ترتب أحدهما علی الآخر جری بحث الترتب، وذلك بأن يكون شرط استحباب الثاني هو ترك الأول، بأن يستحب الأول بشکل مطلق، ثم يقول المولی: لو ترکته استحب لك کذا، وهذا أيضاً يصحّ لو قلنا بکفاية ترك الأول في تحقق موضوع الترتب، کما مرّ.

الشرط الثالث: كون المتعلقين عباديين أو كون المهم عبادياً

وسبب اشتراطه لأجل أن تکون المسألة ذا أثر علمي، فتصح العبادة علی إمکان الترتب، وتفسد علی الامتناع إن لم يمکن تصحيحها بالملاك.

ص: 8

وأما في التوصليات فالأثر يترتب ولو مع عدم وجود الأمر.

وفيه أولاً: إن التوصليات هي ما لا يشترط قصد أمرها، لکن يمکن أن يكون الأمر بها دخيلاً في المصلحة، بحيث لا يترتب الأثر من غير أمر، لا بمعنی توقف الملاك علی الأمر لکي يستلزم الدور، بل بمعنی وجود الملاك مطلقاً مع عدم إمکان الوصول إليه إلا بوجود الأمر، فتأمل.

وثانياً: وجود الثمرة الأصولية(1)

وهي فساد الضد العبادي للمهم - حتی لو کان هذا المهم توصلياً - ، بناءً علی اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده الخاص واقتضاء النهي لفساد العبادة.

مثلاً: لو أمره بالسفر ثم أمره بالإزالة علی تقدير عصيان السفر، فعلی إمکان الترتب تجب الإزالة وتبطل الصلاة التي ضدها، وعلی عدم إمکانه لا أمر بالإزالة فلا نهي عن الصلاة.

لکن يشترط في هذه الثمرة عدم تحقق تضاد بين الأهم وبين ضد المهم أي بين السفر في المثال وبين نفس الصلاة، فتأمل.

وثالثاً: وجود ثمرات فقهية، منها: أخذ الأجرة عليها، ومنها: إسناد الأمر إلی الشارع، ومنها: الإتيان به بداعي الأمر، ومنها: حصول الفسق بترك الأهم والمهم معاً مع کونهما من الصغائر وتحقق الإصرار بصغيرتين بناءً علی إمکان الترتب، وعدم حصوله بناءً علی عدم إمکانه، ومنها: غير ذلك مما ذکره السيد الأخ في کتاب الترتب، فراجع.

ص: 9


1- الترتب: 21؛ موسوعة الفقيه الشيرازي 12: 32.
الشرط الرابع: أن لا يكون المهم مشروطاً بالقدرة الشرعية

وقد مرّ تفصيله في طرق إحراز الملاك بعد سقوط الأمر، فراجع.

ومختصره: أن المحقق النائيني ذهب(1) إلی أن الخطاب المترتب علی عصيان خطاب الأهم يتوقف علی کون متعلقه حال المزاحمة واجداً للملاك، والکاشف عن ذلك الملاك هو إطلاق المتعلّق، فإذا کان الخطاب مقيداً بالقدرة الشرعية لم يبق للخطاب بالمهم محلّ أصلاً، فلذا لا يصح الوضوء في موارد الأمر بالتيمم لا بالملاك ولا بالترتب.

وقد مرّ الإشکال فيه: بأن جميع الخطابات مقيدة بالقدرة الشرعية، بحکم العقل بقبح تکليف العاجز، وهذه قرينة متصلة، ومع عدم القدرة لا خطاب، فلا طريق لاستکشاف الملاك.

نعم في مرحلة الثبوت يمکن بقاء الملاك مع ارتفاع الخطاب لکن لا طريق لإحراز ذلك الملاك.

وعليه: فلا فرق بين تقييد الخطاب لفظاً أو الاکتفاء بتقييده لباً.

الشرط الخامس: أن يكون التضاد بين المتعلقين اتفاقياً

إذ لو کان التضاد دائمياً کان الدليلان متعارضين، إذ يكون التصادم حينئذٍ في مقام الجعل لا في مقام الامتثال، ضرورة أنه لا معنی لجعل حکمين لفعلين متضادين دائماً، وعليه: فيخرج الدليلان عن موضوع الترتب.

وفرّع المحقق النائيني(2)

علی ذلك: عدم صحة کلام کاشف الغطاء، من

ص: 10


1- فوائد الأصول 1: 367.
2- فوائد الأصول 1: 369.

أن صحة الجهر في موضع الإخفات وبالعکس جهلاً إنّما هي بالترتب، حيث دفع بذلك الإشکال في کيفية صحة العبادة حينئذٍ مع استحقاق العقاب علی ترك الآخر.

وجه البطلان: أن التضاد بين الجهر والإخفات دائمي وليس اتفاقي.

وفيه(1): أولاً: ثبوتاً، يحتمل وجدانهما للملاك، وإنّما التعاند في مقام الفعلية لا في مقام الجعل، کما يحتمل اختصاص أحدهما بالملاك.

إن قلت: في صورة التضاد الدائمي يكون الجعل لغواً؟

قلت: لا لغوية إذا کانا واجدين للملاك وحصل الأثر العملي، وإلا لزم ذلك في الاتفاقي أيضاً، إذ لا فرق في الاستحالة بين الدائمي والاتفاقي، فالمستحيل کما يكون محالاً في الدائمي يكون محالاً في الاتفاقي، ونفس دليل جواز الترتب - لو قيل به - کما يجري في الاتفاقي يجري في الدائمي أيضاً.

ومثاله: الأمر بتلوين الجدار باللون الأخضر ثم الأصفر - مثلاً - علی سبيل الترتب، فمع أن التضاد بين اللونين دائمي، لکن لا لغوية في هکذا أمر لو قلنا بإمکان الترتب.

وثانياً: إثباتاً، بأنه لا تعارض بين الدليلين، بل التعارض بين الإطلاقين - أي إطلاق کل منهما مع الآخر - ، فلا موجب لرفع اليد عن کليهما أو أحدهما، بل إما يرفع اليد عن إطلاقيهما إن لم تحرز أهمية أحدهما علی الآخر فينتج التخيير، وإما يرفع اليد عن إطلاق المهم إن أحرز أهمية الآخر فيكون علی

ص: 11


1- الترتب: 27-28؛ موسوعة الفقيه الشيرازي 12: 38-40.

سبيل الترتب، ورفع اليد عن إطلاقه يكون باشتراطه بعصيان الأهم.

إن قلت: يلزم أن يكون الجمع عرفياً، بأن يكون أحدهما أو کلاهما قرينة عرفية لتفسير الآخر، وليس کذلك في الأمرين بالضدين الدائمين، إذ العرف يراه من التعارض.

قلت: لا فرق في ذلك بين الاتفاقي والدائمي، فإن لم يكن الجمع عرفياً کان التعارض فيهما ثابتاً، وإن کان عرفياً رفع التعارض بذلك ودخل في الترتب إن قلنا بإمکانه، کما أنه لو صرّح بالتعليق فلا تعارض عرفي، فتأمل.

الشرط السادس: أن لا يكون المهم ضروري الوجود عند العصيان

وفرق هذا عن سابقه، أن ذاك کان في اشتراط التضاد الاتفاقي لا الدائمي، وهذا في اشتراط أن يكون لهما ثالث، فهذا أخص من ذاك، فحتی لو أشکلنا علی الشرط السابق لابد لنا من قبول هذا الشرط - في الجملة - .

فعن المحقق النائيني(1):

أن مورد الخطاب الترتبي هو ما إذا کان خطاب المهم مترتباً علی عصيان الأمر بالأهم، وهذا لا يكون إلا فيما إذا لم يكن المهم ضروري الوجود عند العصيان، کالضدين اللذين لهما ثالث، أما فيما لا ثالث لهما ففرض عصيان أحدهما هو فرض وجود الآخر، فيكون طلبه طلباً للحاصل.

وبالجملة: فإن الأمر بالمهم قبل وجود موضوعه ليس بفعلي، وبعده يكون طلباً للحاصل.

إن قلت: لو أخذ العزم علی العصيان شرطاً للأمر بالمهم فلا يرد

ص: 12


1- راجع فوائد الأصول 1: 372.

المحذور.

قلت: إنه في حال العزم علی العصيان يكون منشغلاً بالأهم - لفرض أنهما لا ثالث لهما - فيكون الأمر بالمهم حينئذٍ من طلب المرجوح حين الانشغال بالراجح وهو قبيح.

إن قلت: مع ملاحظة قيد الدوام في المتعلّق يمکن جريان الترتب، إذ بلحاظ الزمان الممتد يخرجان عما لا ثالث لهما، وذلك بأن يبعّض فيهما، فتارة يأتي بهذا، وأخری بذلك، فيأمره بالدوام علی الأول فإن عصی فبالدوام علی الثاني.

قلت: هذا خروج موضوعي عن الشرط.

وأما ما مثّل لهذا الشرط من الجهر والإخفات...

فيرد عليه: أن الضدين قد لا يكون لهما ثالث بلحاظ موضوع خاص، ولکن من دون ذلك اللحاظ يكون لهما ثالث، فالجهر والإخفات لهما ثالث وهو السکوت، نعم لو لوحظا بالنسبة إلی القاري فلا ثالث لهما.

فلابد من ملاحظة لسان الدليل، فإن کان من قبيل: تجب عليك القراءة الجهرية فإن عصيت فالقراءة الإخفاتية، في قبال ترك القراءة الذي هو الثالث، فيمکن جريان الترتب، أما لو کان من قبيل: القارئ إن لم يجهر بالقراءة فيجب عليه الإخفات، فلا يمکن جريانه.

ثم إنه لا ينحصر هذا الشرط في الضدين اللذين لا ثالث لهما، بل يجري في الأضداد لو أمر بجميعها، حيث إن المحذور يرد في الأمر بالأخير دون سواه.

وتظهر ثمرة هذا الشرط بعدم إمکان إدراج الخطابين - في الضدين

ص: 13

اللذين لا ثالث لهما - في المتزاحمين کي يمکن تصحيحهما بالخطاب الترتبي، وذلك لحصول التنافي في مرحلة الجعل لا في مرحلة الامتثال، وسيأتي تفصيله.

الشرط السابع: أن يكون الخطاب بالأهم منجزاً على المكلف

فلو لم يتنجز، کما في موارد جريان البراءة عن المجهول، لم يعقل الأمر بالمهم علی الترتب، وذلك لانتفاء موضوعه - وهو عصيان الأهم - بمقتضی جريان البراءة عنه.

وأشکل عليه: بعدم اشتراط الترتب بالعصيان، لجريان ملاك الترتب في ترك الأهم، وهو عدم لزوم طلب الجمع بين الضدين في زمان واحد الناشئ عن الأمرين، وذلك لأن فعل المهم في ظرف ترك الأهم مقدور فلا يكون التکليف به قبيحاً.

والجواب - کما ذکره السيد الأخ في کتاب الترتب -(1):

بأن الترتب علی معنيين: مطلق التعليق ولو لم يلزم محذور، ونوع خاص من التعليق.

فالأول: کما لو علّق الأمر بالمهم علی صورة عدم وصول الأهم، ولعلّه لا يمانع عن وقوع هذا الفرض حتی القائلين بالاستحالة، وذلك لاختلاف الداعي، والاستحالة إنّما هي في حالة تماثل الداعي.

ولا يخفی أن مورد جريان البراءة عن المجهول من هذا القبيل، فالداعي للمهم هو إيجاد الداعي في العبد، وأما الداعي في الأهم - فيمن لم يتنجز عليه - فلا يعقل أن يكون إيجاد الداعي إذ ما يعلم عدم ترتبه علی الشيء لا

ص: 14


1- الترتب: 34؛ موسوعة الفقيه الشيرازي 12: 45-46.

يعقل أن يكون غرضاً منه.

والثاني: لو تنجز التکليف بالأهم علی المکلف، فحينئذٍ يجري البحث في الإمکان والاستحالة حيث اجتمع حکمان بعثيان علی المکلّف، وعليه فهذا الشرط صحيح.

الشرط الثامن: وصول التكليف بنفسه

وإلا لم يتحقق العصيان - حتی لو وصل بطريقه - ومع عدم تحقق العصيان ينتفي موضوع الترتب.

ويرد عليه: مضافاً إلی ما مرّ في الشرط السابق...

أولاً: جريان البحث في صورة وصوله بطريقه، کالشبهات الحکمية قبل الفحص، وحينئذٍ فبالوصول بطريقه يتحقق العصيان، لأن ما بالاختيار لا ينافي الاختيار.

وثانياً: يمکن تعميم العصيان المأخوذ في الترتب بعصيان الأمر الواقعي، وعصيان الأمر المقدمي الطريقي، فتأمل.

الشرط التاسع: عدم أخذ الجهل في موضوع الأمر الترتبي

إنّ المکلف بالإخفات إذا جهر مع جهله بوجوب الإخفات، فحينئذٍ قد تحقق واقعاً عصيان الأمر بالإخفات، إلاّ أنه يستحيل جعله موضوعاً لوجوب الجهر في ظرف الجهل، لجهتين:

الأولی ما في الأجود(1):

من استحالة جعل حکم يمتنع إحرازه، بسبب

ص: 15


1- أجود التقريرات 2: 93.

الجهل بتحقق موضوعه.

وبعبارة أخری: لو لم يكن المکلّف محرزاً للعصيان لم يتنجز عليه التکليف المتوقف علی العصيان، لعدم إحراز موضوعه وشرطه، لأن التكليف الواقعي لا يتنجّز مع الجهل به، وبدونه لا يتحقق العصيان الذي فُرض اشتراط الجهر به أيضاً.

الثانية ما في الفوائد(1):

من أنه لا يصح التکليف إلا فيما أمکن الانبعاث عنه، ولا يمکن الانبعاث عن التکليف إلا بعد الالتفات إلی ما هو موضوع التکليف، وإلی العنوان الذي رتب التکليف عليه، وفيما نحن فيه لا يعقل الالتفات إلی ما هو موضوع التکليف بالجهر الذي هو کون الشخص عاصياً للتکليف الإخفاتي.

وأشکل عليه السيد الأخ(2):

أولاً: بأنه إنّما يرد الإشکال لو سيق الأمر بالمهم بداعي التحريك، أما لو صدر الأمر بلحاظ سقوط القضاء - حيث إن الفعل مأمور به - فلا يرد المحذور.

وثانياً: بما أجيب عن الإشکال في جعل النسيان موضوعاً للتکليف، کأن يخاطبه بعنوان ملازم للجهل أو النسيان، أو يخاطبه بوصفه الشخصي، کأن يقول: يا فلان يجب عليك الجهر، ونحو ذلك من الأجوبة.

الشرط العاشر: كون المتزاحمين في عرض واحد زماناً

فلا يجري الترتب في الواجبين الطوليين إذا فرض عدم قدرة المکلف

ص: 16


1- فوائد الأصول 1: 370.
2- الترتب: 37؛ موسوعة الفقيه الشيرازي 12: 49.

علی الجمع بينهما اتفاقاً، نظير عدم تمکنه من القيام إلا في إحدی الصلاتين - الظهر والعصر - مثلاً.

ولهذه المسألة صورتان(1):

تأخر الأهم، وتأخر المهم.

الصورة الأولی: تقدّم المهم وتأخّر الأهم زماناً.

قيل: علة عدم جريان الترتب هو أن الخطاب الترتبي: إما يلاحظ بالنسبة إلی نفس الخطاب المتأخر، فيكون عصيانه شرطاً للأمر المتقدم، وإما يلاحظ بالنسبة إلی الخطاب المتولد منه نحو: (إحفظ قدرتك لامتثاله)، فيكون عصيان حفظ القدرة للأهم شرطاً للأمر بصرف القدرة للمتقدم.

وأورد علی الأول: بأنه من الشرط المتأخر، وبعدم جدواه في رفع المزاحمة، لأن نفس الخطاب المتأخر غير مزاحم للخطاب المتقدم - لعدم اجتماعهما في الزمان - بل المزاحم هو الخطاب المتولد منه، وفرض عصيان المتأخر في زمانه لا يسقط وجوب حفظ القدرة له، وذلك لعدم سقوط خطاب المتأخر ما لم يتحقق عصيانه، فلا يسقط خطاب حفظ القدرة له.

وحينئذٍ: خطاب (إحفظ قدرتك) موجب للتعجيز عن المتقدم، إذ لا يعقل الأمر بالمتقدم في مرتبة وجوب حفظ القدرة للمتأخر.

والجواب: أولاً: أن متعلق التکليفين وإن لم يكونا متزاحمين لاختلاف زمانهما، إلا أن الخطابان متنافيان، لعدم إمکان امتثالهما بالجمع بينهما، فلا يمکن البعث بهما.

وثانياً: بعدم استلزامه للشرط المتأخر، وذلك بجعل الشرط للمهم هو

ص: 17


1- الترتب: 28؛ موسوعة الفقيه الشيرازي 12: 50.

(العزم علی عصيان الأهم) وليس العصيان نفسه، فيكون شرطاً مقارناً، مع إمکان أخذ (التعقب بالعصيان) شرطاً فلا يكون متأخراً.

إن قلت: لا دليل علی کون التعقب شرطاً.

قلت: إن الدليل علی المهم في هذه الصورة هو إطلاق دليله، ولابد من رفع اليد عن الإطلاق لو ثبتت استحالة شمول الحکم لفرد اتفاقاً، ولکن مع إمکان وعرفية الترتب ولو باشتراط التعقب يلزم التمسك بإطلاق دليل المهم.

وبعبارة أخری: المفروض هو اشتمال المهم علی الملاك الملزم مع عدم وجود محذور فيه - وذلك بطلبه مشروطاً بتعقبه بعصيان المتأخر - فلا حاجة إلی دليل بخصوصه علی شرطية التعقب.

وثالثاً: اجتماعهما في الزمان ممکن، بکون وجوب الأهم معلقاً أو مشروطاً بالوقت المتأخر، فتأمل.

وأورد علی الثاني: أولاً: بأنه لا دليل علی وجود خطاب شرعي متعلّق بحفظ القدرة، إلا الوجوب المقدمي، ولا نقول بوجوب المقدمة شرعاً.

وثانياً: إن عدم حفظ القدرة للمتأخر لا يكون إلا بفعل وجودي يوجب صرف القدرة إليه، وذلك الفعل الوجودي... إما نفس المتقدم، أو فعل آخر، أو الجامع بينهما.

والأول: يلزم منه طلب الحاصل، فيكون کما لو قال المولی - في مثال عدم تمکن العبد من القيام في صلاتين -: إن قمت في الصلاة المنذورة فقد عصيت خطاب (إحفظ القدرة علی القيام في الفريضة)، فيجب عليك

ص: 18

الواجب المهم وهو القيام في المنذورة، مضافاً إلی لزوم کون الشيء شرطاً لوجوب نفسه!!

والثاني: يلزم منه تعلق الطلب بالممتنع، إذ مع انشغاله بالأمر الوجودي الآخر لا تبقی قدرة لا للأهم ولا للمهم.

والثالث: يلزم منه کلا المحذورين.

والجواب: أولاً: بالنقض في جميع الأوامر الترتبية، فإن مثل (أزل النجاسة عن المسجد فإن عصيت فصلّ) کذلك، إذ ترك الإزالة إما يلازم فعل الصلاة فيكون طلباً للحاصل، أو يلازم فعل غير الصلاة فيكون طلباً للممتنع، أو الأعم فيستلزم کلا المحذورين.

إن قلت: القياس مع الفارق، لأن ترك الإزالة قد تتقارن مع أفعال وجودية وقد لا تتقارن معها، بأن لا يشتغل بفعل وجودي، وحينئذٍ لا مانع من أمره بالصلاة إذ لا محذور من طلب الحاصل أو طلب الممتنع.

قلت: يرد المحذور هنا أيضاً، إلا أنه ذو شقوق ثلاثة، وذلك لاستحالة الإتيان بالمهم في حال عدم الانشغال بفعل وجودي أصلاً.

وثانياً: بالحلّ، بأنه لا محذور في وجوب الشيء حال الاشتغال بضده أو حال عدم الاشتغال بشيء، لأن امتناعه بالغير - أي استحالة المعلول لعدم تحقق علته - ، وهذا لا ينافي الإمکان الذاتي والوقوعي، کما لا ينافي جواز التکليف، فإنه يمکن أمر القائم بالقعود، لأن القعود ممکن له بإيجاد علته، وکذا ما نحن فيه، هذا مضافاً إلی أن الأمر الوجودي الآخر قد لا يستنزف القدرة أصلاً.

ص: 19

الصورة الثانية: تقدّم الأهم وتأخّر المهم زماناً.

فقد قيل في سبب عدم جريان الترتب فيها: بأن سقوط الأمر بالأهم يرفع المانع عن الأمر بالمهم، کالأمر بالتيمم بعد سقوط الأمر بالوضوء، فلا استحالة.

وأورد عليه(1):

بإمکان تعاصر الفعليتين، بتعليق وجوب المهم، أو کونه مشروطاً بالوقت المتأخر علی نحو الشرط المتأخّر، وذلک بغرض التحريک نحو مقدماته المفوّتة - مثلاً - فيجتمع في وقت واحد تحريکان متضادان نحو الأهم والمهم - ولو بالتحريک نحو مقدماتهما - ويتحقق بذلک موضوع الترتب، فتأمل.

المبحث الثاني: في أدلة استحالة الترتب

الدليل الأول: طلب الضدين

إن المحذور في طلب الضدين في عرض واحد يجري في طلبهما علی نحو الترتب أيضاً، فإنه وإن لم يكن في مرتبة طلب الأهم اجتماع طلبهما، إلا أنهما يجتمعان في مرتبة طلب المهم، وذلك لوضوح بقاء فعلية الأمر بالأهم في مرتبة طلب المهم لبقاء ملاکه وعدم سقوط طلبه بالعصيان لعدم انتفاء موضوعه، مع فعلية الأمر بالمهم لأجل تحقق شرط فعليته وهو عصيان الأهم.

إن قلت: إن هناك فرقاً بين الاجتماع في عرض واحد وبين الاجتماع علی نحو الترتب، فهناك کل منهما يطارد الآخر، وهنا ليس کذلك، إذ طلب المهم لا يطارد طلب الأهم، لأن طلب المهم إنّما هو في حال عدم الإتيان بالأهم، فلا يريد المولی غير الأهم في حال الإتيان بالأهم!!

ص: 20


1- الترتب 41؛ موسوعة الفقيه الشيرازي 12: 54.

قلت: إن التطارد يحصل حين عصيان الأهم، حيث إن المولی حينذاك يريدهما معاً، فيحصل التطارد بينهما، بل يكفي الطرد من طرف المهم فإنه مع طلبه يكون طارداً لطلب ضده وهو الأهم.

ولأجل اتضاح محاور هذا الدليل، ليتضح مرکز الإشکالات اللاحقة عليه، لابد من تلخيصه في ست نقاط - کما في کتاب الترتب للسيد الأخ(1)-:

1- فعلية الطلبين علی تقدير عصيان الأمر بالأهم، أما فعلية طلب الأهم فلأنّ الأمر لا يسقط بالعصيان، لعدم فوات الموضوع، وأما فعلية طلب المهم فلتحقق موضوعه فعلاً.

2- تضاد متعلقي الطلبين، وإلاّ خرج عن فرض المسألة، وأمکن اجتماع الأمر بهما بلا إشکال.

3- سراية التضاد بين المتعلقين إلی نفس الطلبين.

4- استحالة تضاد الطلبين، إمّا لاستحالة انقداح الطلب الحقيقي المتعلق بالمحال في نفس المولی، وإما لاستلزامه اللغوية.

5- لا فرق في استحالة التضاد بين کون التضاد مطلقاً، کما في الطلبين العرضيين المتعلقين بالضدين، أو علی تقدير دون تقدير، کما في الطلبين الطوليين علی نحو الترتب، وذلك لأنه يكفي في بطلان الملزوم ترتب لازم باطل عليه ولو في بعض الأحيان.

6- لو فرض عدم التطارد بين الأمرين في صورة تحقق موضوع الأمر بالمهم، کفی في الاستحالة الطرد من طرف واحد، فإن الأمر بالمهم وإن لم

ص: 21


1- الترتب: 44؛ موسوعة الفقيه الشيرازي 12: 58.

يقتض طرد الأمر بالأهم فرضاً، لکن الأمر بالأهم لا محالة يقتضي طرد الأمر بالمهم - أي يكون مانعاً عن حدوث الأمر بالمهم - .

وقد أورد علی هذا الدليل بعدة إشکالات...

الإشکال الأول:

ما نقله المحقق الإصفهاني عن بعض(1): من أن اقتضاء کل أمر لإطاعة نفسه إنّما هو في رتبة سابقة علی إطاعته، وذلك لأن رتبة الإطاعة هي مرتبة تأثيره وأثره، ومن البديهي أن اقتضاء کل علّة لأثرها إنّما يكون في رتبة ذاتها، وذاتها متقدمة رتبة علی تأثيرها وأثرها.

ولازم ذلك کون عصيان الأمر - وهو نقيض الإطاعة - أيضاً متأخر عن الأمر واقتضائه.

وعليه: فإذا أنيط أمرٌ بعصيان مثل هذا الأمر فلا شبهة في أن هذه الإناطة تُخرج الأمرين عن المزاحمة، إذ في رتبة الأمر بالأهم - وتأثيره في صَرْف القدرة نحوه - لا وجود للأمر بالمهم، وفي رتبة وجود الأمر بالمهم لا يوجد اقتضاء للأمر بالأهم، فلا مطاردة بين الأمرين، بل کل يؤثر في رتبة نفسه علی وجه لا يوجب تحيّر المکلف في امتثال کل منهما، ولا يقتضي کل من الأمرين إلقاء المکلّف فيما لا يطاق.

وأجيب عنه بأجوبة متعددة، منها...

الجواب الأول: للمحقق الإصفهاني(2)

- وهو جواب کبروي -: بأن

ص: 22


1- نهاية الدراية 2: 216.
2- نهاية الدراية 2: 220.

ملاك التزاحم والتضاد ليس المعيّة الرتبيّة الطبعية، بل المعية الوجودية الزمانية، فمجرد عدم کون أحد المقتضيين في رتبة المقتضي الآخر لا يرفع المزاحمة، فاللازم لتصحيح الترتب هو بيان عدم منافاة أحد الاقتضائين للآخر لمکان الترتب، لا مجرد بيان اختلاف رتبة الاقتضائين.

وما ذکر من عدم اقتضاء الأمر بالأهم في رتبة وجود الأمر بالمهم إنّما هو بمعنی عدم معيّة الاقتضائين رتبةً، لا سقوط أحد الاقتضائين عن الاقتضاء حين وجود الاقتضاء الآخر.

فالحاصل: أن مجرد تأخر الأمر بالمهم عن الأمر بالأهم بحسب الرتبة لا يدفع الاستحالة في حال وجود المعية في الاقتضاء وجوداً زمانياً.

الجواب الثاني - وهو جواب صغروي -: بأن ما ذکر من الاختلاف الرتبي، وبه يخرج الأمران عن التزاحم في التأثير، إنّما يتم لو کان الأمر بالمهم مشروطاً، أما لو فرض کونه معلقاً - بأن يكون التقييد للمادة لا للهيأة - فحينئذٍ يكون الأمر بالمهم سابقاً علی العصيان، فيتزاحم الاقتضاءان في رتبة واحدة، إذ يكون المتأخر عن العصيان حينئذٍ هو المطلوب لا الأمر.

الجواب الثالث - وهو جواب نقضي -: بأنه لو کان الاختلاف الرتبي نافعاً في دفع التطارد، لنفع في أخذ العلم بالحکم موضوعاً لحکم ضده، لتأخره عنه برتبتين، وذلك لتأخر الحکم بالضد عن العلم، وتأخر العلم عن المعلوم - وهو الحکم بالضد الآخر - ، فيخرج الحکمان عن المزاحمة، وهذا مما لا يلتزم به حتی القائل بإمکان الترتب.

إن قلت: القياس مع الفارق، وذلك لتعدد المتعلق ووحدة سنخ الحکم في

ص: 23

الأمر الترتبي، بخلاف مورد النقض حيث المتعلق واحد وسنخ الحکم مختلف.

قلت: إن الملاك واحد وهو التضاد مع الاختلاف الرتبي في کليهما، فالفرق غير فارق.

وفيه(1): أن المحذور في مورد النقض لا ينحصر في تزاحم الاقتضائين، بل هناك محذور آخر هو استلزام اللغوية، حيث يمتنع تصديق المکلّف بالحکم، لفرض علمه بالضد، فلا يمکن جعل الحکم بداعي جعل الداعي للامتثال، وذلك لعدم ترتب الامتثال عليه، وما لا يترتب علی الشيء في علم الجاعل لا يمکن أن يكون غرضاً للجعل، وبعبارة أخری: يكون هذا من مصاديق الردع عن العمل بالقطع، فلذا کان مستحيلاً.

والحاصل: إنه لعلّ من أجاز الترتب لا يجوّز أخذ العلم بالحکم موضوعاً لحکم ضده لا من باب التضاد حتی يدفع باختلاف الرتبة، بل من باب آخر هو ما ذکر، فتأمل.

الجواب الرابع - وهو نقضي أيضاً -: بأنه إذا قيّد الأمر بالمهم بامتثال الأمر بالأهم لا بعصيانه، فإن تعدد الرتبة لا يجدي حتی عند القائل بالترتب.

وأورد عليه: بأنه علی تقدير امتثال الأهم يكون فعل المهم غير مقدور في نفسه، إذ الضد المقيّد بوجود ضده ممتنع، فيكون الأمر به أمراً بالممتنع في نفسه، بخلاف الأمر بالضد حال ترك ضده، فإنه مقدور في نفسه.

وفيه(2): أنه لا فرق بينهما في الاستحالة، وذلك لأن مقدورية المهم حال

ص: 24


1- الترتب: 59؛ موسوعة الفقيه الشيرازي 12: 77.
2- الترتب: 61؛ موسوعة الفقيه الشيرازي 12: 79.

ترك ضده الأهم إنّما يتم لو أخذ مطلقاً وبما هو هو، أما لو أخذ بما أنه مأمور بضده الأهم فلا فرق في الحالين، فيستحيل المهم لوجود المانع عنه - وهو الأمر بضده - .

نعم هناك فرق غير فارق، وهو عدم القدرة الشرعية علی إتيان المهم حين ترك الأهم، وعدم القدرة العقلية علی إتيان المهم حين فعل الأهم.

الجواب الخامس - وهو جواب صغروي -: باتحاد الرتبة في الترتب، وذلك لأن الأمر بالمهم وإن لم يصعد إلی مرتبة الأمر بالأهم، ولکن الأمر بالأهم ينزل إلی مرتبة الأمر بالمهم، حيث إن العلة وإن کانت أقدم من المعلول رتبة لکن معنی ذلك عدم تقييد العلة بالرتبة المتأخرة، لا أنها مقيدة بالرتبة المتقدمة، بل لها إطلاق، فيلزم فعلية الاقتضائين في الرتبة المتأخرة.

وفيه: أنه إن أريد المعيّة في الوجود زماناً فهذا رجوع إلی الجواب الأول، وإن أريد الرتبة العقلية الاصطلاحية فما ذکره غير معقول، وذلك لأن الرتبة هي نحو وجود للشيء فلا يعقل الاتصاف بنحوين من الوجود في وقت واحد.

وبعبارة أخری: کما في کتاب الترتب(1): إن التقدم والتأخر لا يكونان إلا لملاك يقتضيهما، ومع حصول ملاك التقدم لا يعقل حصول ملاك التأخر، فإن ذلك من الجمع بين المتنافيين.

هذا تمام الکلام في الإشکال الأول علی الدليل الأول للاستحالة.

ص: 25


1- الترتب: 62؛ موسوعة الفقيه الشيرازي 12: 80-81.

الإشکال الثاني:

إن الأمر بالمهم وسقوط الأمر بالأهم کلاهما معلولان لعصيان الأمر بالأهم، أو معلولان لما يلازمه وهو انتفاء الموضوع، وذلك لأن العصيان من أسباب سقوط الأمر، وحينئذٍ ففي رتبة الأمر بالمهم لا أمر بالأهم - کي يقتضي امتثاله - فلا يتنافي الأمران.

والجواب: أولاً: ما مرّ من أن ملاك التضاد هو المعيّة الوجودية، فالاختلاف الرتبي لا يدفع التضاد.

وثانياً: بأن الأمر بالأهم مستمر حتی في ظرف عصيانه، وذلك لعدم فوات الموضوع في باب الترتب، وإلا فمع فوات الموضوع لا إشکال في صحة الأمر بالمهم حتی عند القائل باستحالة الترتب.

بل حتی مع فوات الموضوع لا يكون الفوات عِلة لسقوط الأمر، وذلك لعدم معقولية العِليّة بين الأعدام، لأن التأثير إنّما هو للوجودات، والعدم ليس بشيء حتی يكون مؤثراً، فإن فاقد الشيء لا يعطيه، بل الواقع هو عدم وجود علة للأمر بالمهم حين انتفاء الموضوع، لأن انتفاءه هو علة عدم الأمر، فهذا النوع من التعبير مجازي.

الإشکال الثالث:

إن ذلك بسوء اختيار المکلف حيث يعصي فيما بعد بالاختيار، ولولا عصيانه لما توجه إليه الخطاب بالمهم، وحيث عصی بسوء اختياره فلا دليل علی امتناع تکليفه بالضدين.

کمن دخل داراً مغصوبة حيث يكون بقاؤه وخروجه محرّمين، لکونهما تصرّفاً في المغصوب، فلا بأس بتوجه کلا الخطابين إليه،لسوء اختياره.

ص: 26

والجواب: أولاً: أن طلب المحال محال في نفسه حتی لو کان بسوء الاختيار، إذ لا تنقدح إرادة الضدين في نفس المولی مع علمه بتضادهما، فطلب المحال من المحالات الذاتية، لا أنه قبيح کي يقال بارتفاع القبح بسوء الاختيار.

وثانياً: لو فرض عدم محاليته، فلا ريب في کونه قبيحاً مطلقاً حتی في صورة سوء الاختيار، لأن الأمر إنّما هو بداعي إيجاد الداعي، أو لإتمام الحجة ليصح العقاب، وکلاهما منتف هنا، إذ لا يمکن إيجاد الداعي فيه لاستحالة الانبعاث نحوه، کما أن العقاب مترتب عليه بسبب سوء الاختيار، فيكون تکليفه من غير غرض، وهو عبث يقبح علی الحکيم، کما لو نهاه - وهو في حال السقوط - عن الارتطام بالأرض، فإنه يعدّ عابثاً عند العقلاء.

ولذا لا يصح نهيه عن البقاء وعن الخروج من المغصوب، بل يأمره بأخفهما وهو الخروج، وهذا الأمر في الحقيقة إرشاد إلى أقلّهما مفسدة أو عقاباً.

إن قلت: الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار؟

قلت: إنه لا ينافي الاختيار عقاباً، لکنه ينافيه خطاباً، ولا ملازمة بين جواز العقاب وجواز الخطاب.

مضافاً إلی أنه لا امتناع هنا أصلاً، فلا تجري القاعدة، وذلك لتمکن المکلّف من امتثال الأمر بالأهم، فلا يتحقق موضوع الأمر بالمهم، فلا يكون ثمة عصيان أصلاً.

وثالثاً: النقض بما لو علّق طلب الضدين علی أمر اختياري في عرض

ص: 27

واحد بلا حاجة إلی الترتب في تصحيحه، مع أنه محال بلا ريب.

الإشکال الرابع:

إن الأمر بالمهم في طول الأمر بالأهم، لأنه متأخر عن عصيان الأهم المتأخر عن الأمر بالأهم. وکل شيء کان في طول آخر لا يعقل أن يزاحمه، إذ لو کان مزاحماً في ظرف عدمه لزم تأثير المعدوم وهو محال، وإن کان مزاحماً في ظرف وجوده لزم الخلف، لأنه متوقف علی وجود الأول في رتبة سابقة.

وعليه: فإذا لم يكن الأمر بالمهم مزاحماً للأمر بالأهم وطارداً له، فلا يكون العکس أيضاً، وذلك لأن ملاك المزاحمة والمطاردة هو التضاد، ولو کان لتحققت المزاحمة والمطاردة من الطرفين. والنتيجة: هي عدم التضاد بين الأمر بالمهم والأمر بالأهم.

والجواب: أولاً: علی الکبری، وذلك لأن الطولية بين الشيئين لا تمنع عن المزاحمة بينهما، نعم لو کان بينهما عِلية، فلا مزاحمة ولا تضاد، لکن إذا لم تکن عِلية بل تقدّم بالطبع فقد يكون مزاحمة کما في بعض المعدّات کالخطوة الأولی والثانية، فإنهما لا تجتمعان في الوجود وبينهما تضاد، مع أن الثانية متأخرة عن الأولی، بل لا تتحقق الثانية إلا مع إعدام الأولی، فتأمل.

وثانياً: علی الصغری بأن الأمر بالأهم والأمر بالمهم معلولان لعلتين متضادتين، وهما إرادة الأهم وإرادة المهمّ، ومن الواضح أن تضادّ الإرادتين - تبعاً لتضاد المتعلقين - يستتبع تضاد الحکمين. وحينئذٍ فيستحيل الطولية بينهما بأن يكون أحدهما علة أو جزء علة للآخر، وذلك لتقارن العلة

ص: 28

والمعلول زماناً، وحيث استحال اجتماع الضدين فيستحيل العِلية بينهما.

وثالثاً: إن القول بأنه (إذا لم يكن الأمر بالمهم مزاحماً للأمر بالأهم وطارداً له فلا يكون العکس) مما لا وجه له، وذلك لأن الضدين قد يلاحظان معاً فحينئذٍ يوصفان بالمطاردة من الطرفين، ولکن قد يلاحظ سبق وجود أحدهما، وحينئذٍ يكون الضد الموجود طارداً دون العکس، وذلك لأن الضد الموجود يمنع عن تحقق ضده مادام موجوداً.

وما نحن فيه من قبيل الثاني، إذ انقداح إرادة الأهم في نفس المولی مانع عن انقداح إرادة المهم في نفسه، وحينئذٍ تطرد إرادة الأهم إرادة المهم ولا عکس، فتأمل(1).

ورابعاً: علی الصغری، بعدم تسليم الطولية بين الأمر بالأهم وعصيان الأمر بالأهم، وذلك لأن العصيان لا يتوقف علی الأمر بالأهم بل هو معلول لِعلَلِه التکوينية.

وفيه: العصيان لا يتحقق إلا بعد الأمر، إذ الأمر متقدم بالطبع علی المعصية، إذ لا تحقق لها بدونه، مع إمکان تحققه بدونها - وهذا هو ملاك التقدم بالطبع کما مرّ - .

وخامساً: ما قيل: من أن هذا الوجه يستلزم الدور، لأن الترتب متوقف علی عدم التضاد، فتوقف عدم التضاد علی الترتب دور مصرّح.

وفيه: أن الأول ثبوتِي، ففي الواقع إن لم يكن تضاد صحّ الترتب، والثاني: إثباتي فإنا عن طريق الترتب نکتشف عدم التضاد، فتأمل.

ص: 29


1- وللتفصيل راجع کتاب الترتب: 67؛ موسوعة الفقيه الشيرازي 12: 86.

الإشکال الخامس:

ما نقله في نهاية الدراية(1)، وحاصله: أن وجود کل شيء طارد لجميع أعدامه المضافة إلی أعدام مقدماته أو وجود أضداده، فطلب مثل هذا الوجود يقتضي حفظ متعلّقه من قِبل مقدمات وجوده وعدم أضداده بقول مطلق، وفي هذه الصورة يستحيل الترخيص الفعلي في مقدمة من مقدماته أو وجود ضد من أضداده، بخلاف ما إذا خرج أحد أعدامه عن حيز الأمر، إما لکونه قيداً لنفس الأمر، أو بأخذ وجوده من باب الاتفاق، فإنه في هاتين الصورتين لا يترشح إليه الأمر، ولا يكون العدم من قِبل هذه المقدمة أو هذا اللازم مأموراً بطرده، بل المأمور بطرده عدمه من قبل غيره من المقدمات والأضداد.

وفيما نحن فيه: مرجع الأمر بالأهم - لمکان إطلاقه - إلی سدّ باب عدمه من جميع الجهات حتی من قبل ضده المهم، ومرجع الأمر بالمهم - لترتبه علی عدم الأهم - إلی سدّ باب عدمه في ظرف عدم انسداد باب عدم الأهم من باب الاتفاق.

ولا منافاة بين قيام المولی بصدد سدّ باب عدم الأهم مطلقاً، وسد باب عدم المهم في ظرف انفتاح باب عدم الأهم من باب الاتفاق، فلا يكون للأمر بالمهم محرّکية إلا في ظرف انفتاح باب عدم الأهم اتفاقاً.

وبعبارة أخری: عدم المعلول يتصوّر له حصص - مع أنه واحد بسيط -: فتارة يسند إلی عدم المقتضي، وأخری إلی عدم الشرط، وثالثة إلی وجود

ص: 30


1- نهاية الدراية 2: 220.

الضد.

ويرد عليه: عدم سقوط الأمر بالأهم بسبب عصيانه - ما لم يفت الموضوع، فإن فات خرج عن موضوع الترتب - ففي ظرف العصيان يكون طلب الأهم مستلزماً لسدّ باب عدمه بجميع حصصه، ومنها الحصة الملازمة لوجود الضد المهم، فيكون المکلّف مأموراً بطرد المهم فلا يعقل الأمر به حينئذٍ، فکما لا يصح الأمر بالضدين المتقابلين بشکل مطلق کذلك لا يصح الأمر بهما علی سبيل الترتب، مع أن هذا الوجه جار في الأمر بشکل مطلق أيضاً، فتأمل.

إن قلت: إنه علی تقدير العصيان لا يوجد أمر بطرد الأهم، لأنه من الأمر بتحصيل الحاصل، فينحصر الأمر بالمهم بسدّ باب عدمه من سائر الجهات، وعليه فلم يحصل تنافي حين عصيان الأهم بين الأمر بالأهم والأمر بالمهم.

قلت: بل الأمر بالمهم بمعنی طلب استمرار طرد الأهم، فرجع التنافي.

هذا تمام الكلام في الدليل الأول لاستحالة الترتب.

الدليل الثاني: تعدد استحقاق العقاب

وقد استدل لاستحالة الترتب بعدم تعدد استحقاق العقاب.

وبيانه کما في کتاب الترتب(1):

إن استحقاق العقوبة علی مخالفة الأمر المولوي لازم عقلي للمخالفة، وهذا اللازم غير قابل للوضع حيث إنه من تحصيل الحاصل، ولا الرفع لأنه تفکيك بين اللازم وملزومه، إلا برفع أو وضع منشأ انتزاعه.

ص: 31


1- الترتب: 78؛ موسوعة الفقيه الشيرازي 12: 98-99.

وعلی الترتب يكون هناك أمران مولويان فعليان، فلازم ذلك استحقاق المکلف لعقابين لو خالف الأمرين، ومعنی ذلك استحقاق العقاب علی ترك ما لا يكون داخلاً تحت قدرة المکلّف - وهو أحد الفعلين - ، مع أنّ مناط حسن العقوبة هو القدرة علی الامتثال، فعدم تعدد الاستحقاق کاشف عن عدم تعدد الأمر.

وبتقرير آخر، کما عن المحقق النائيني(1)،

إن القائل بالترتب لا يخلو من أمرين:

1- إما الالتزام بتعدد العقاب علی تقدير عصيانهما معاً، کما لو اشتغل بأمر آخر مثلاً.

2- وإما الالتزام بعدم استحقاق العقاب علی ترك الواجب المهم.

والأول: لا سبيل له إليه، فکما لا يمکن تعلّق التکليف بغير المقدور، کذلك لا يمکن العقاب عليه، وفيما نحن فيه حيث يستحيل الجمع بين المتعلقين فيستحيل العقاب علی ترکهما معاً.

والثاني: لازمه إنکار الترتب، وانحصار الأمر المولوي بخطاب الأهم، وکون الأمر بالمهم إرشاداً محضاً إلی کونه واجداً للملاك، ضرورة عدم معنی للقول بوجود الأمر المولوي مع عدم العقاب عليه.

وأشکل عليه بعدّة إشکالات، منها:

الإشکال الأول: النقض بالأوامر الکفائية، التي لا يمکن صدور الواجب فيها إلا من بعض المکلّفين علی البدل، مع أن جميع المخاطبين يستحقون

ص: 32


1- أجود التقريرات 2: 87.

العقاب علی مخالفته.

بيان ذلك: إن القدرة علی امتثال التکليف في الکفائي مخصوصة ببعض المکلفين علی البدل، فلا يعقل صدور الواجب عن جميعهم دفعة واحدة، لامتناع الواجب بطبعه عن الاشتراك فيه، کما لا يعقل صدوره تدريجاً، لسقوط التکليف بامتثال من فيه الکفاية، وذلك لعدم بقاء موضوع للتکليف حينئذٍ، ومع ذلك توجه الخطاب إلی الجميع، ويصح عقابهم لو لم يقم بالتکليف من به الکفاية، فکذلك فيما نحن فيه من الأمر الترتبي.

وأجيب عنه: أولاً: بالفرق بين المقامين:

أما في الکفائي: فإنه توجد قدرات متعددة بعدد المکلفين، غاية الأمر أن إعمال کلٍ منهم لقدرته إنّما يتوقف علی عدم وجود المزاحم الخارجي، والذي منه سبق غيره إلی الامتثال.

وأما في الأمر الترتبي: فإنما توجد قدرة واحدة قائمة بمکلّف واحد.

وفيه(1): عدم الفرق بينهما، وذلك لأن القدرة تطلق علی معنيين:

1- مجرّد المقتضي، بأن يمتلك قوة العضلات علی الفعل.

2- المقتضي منضماً إلی عدم المانع.

وعلی التقديرين لا فرق بين الوجوب الکفائي والترتبي، إذ الأول موجود في کلا المقامين، لوجود القوة العضلية عند کل واحد من المکلفين في الواجب الکفائي، وعند المکلف علی کل واحد من المتعلقين في الواجب الترتبي، وأما الثاني، فإن القدرة مشروطة في کلا المقامين، إذ قدرة کل

ص: 33


1- الترتب: 80؛ موسوعة الفقيه الشيرازي 12: 101.

مکلّف علی أداء الواجب الکفائي - الذي لا يتحمل التکرار - مشروطة بعدم سبق غيره إليه، کما أن قدرة المکلف الواحد علی أحد الضدين مشروطة بعدم تلبسه بالضد الآخر.

وثانياً: عدم تسليم تعدّد العقاب في الواجبات الکفائية، وذلك لوحدة الملاك أو الغرض، وليس في مخالفة التکليف الواحد إلا عقاب واحد، فيتوزع ذلك العقاب علی مجموع العصاة في الواجب الکفائي، وهذا بخلاف الترتب إذ تعدد فيه الأوامر تبعاً لتعدد المبادي فلابد من تعدد العقاب، فيلزم المحذور.

اللهم إلا أن يقال: بعدم تسليم وحدة التکليف ووحدة العقاب، وسيأتي تفصيل تصوير الواجب الکفائي إن شاء الله تعالی.

الإشکال الثاني: النقض بتکليفين يتضاد متعلقاهما في القدرة، مع کون المتأخر منوطاً بعدم امتثال المتقدّم، وحتی القائل بالترتب لا يمانع عنه، وذلك لعدم تقارن الفعلين زماناً. وعليه: فلو عصی المکلف کلا الأمرين فإنّه يستحق عقابين مع عدم القدرة علی الفعلين.

کمن يعجز عن صوم کل أيام الشهر لکنه يتمکن من الصوم يوماً مع الإفطار في اليوم الآخر، فيجب عليه صوم اليوم الأول، فلو ترکه ولم يصمه استحق العقوبة ووجب عليه صوم اليوم الثاني، فلو ترکه استحق عقوبة أخری.

وأجيب عنه بعدة أجوبة، منها(1):

ص: 34


1- الترتب: 83؛ موسوعة الفقيه الشيرازي 12: 104.

أولاً: مورد النقض إنّما هو من مصاديق بحث الترتب، وذلك لعدم تسليم اشتراط العرضية في تحقق موضوع الترتب - کما مرّ في الشرط العاشر من شرائط تحقق الموضوع - ، إذن جواز تعدد العقاب في المثال مبني علی جوازه في کلي الترتب، فبناء جواز الترتب علی تعدد العقاب في المثال دور واضح.

وفيه: أن مورد النقض ليس من الترتب في شيء، بل هو انتفاء موضوع الأول، فلا أمر له لعدم وجود موضوع له.

وثانياً: إن تعدد العقاب في المقيس عليه غير مسلّم، إذ مناط الاستحقاق هو (ترك الفعل المقدور) وهذا المناط جار في مورد النقض أيضاً.

وفيه: أن لازم هذا القول عدم تحقق عصيان للأمر الثاني أصلاً، إذ العصيان تحقق بالأول، فلا معنی لعصيان الثاني، فلا معنی لوجوبه.

وبعبارة أخری: إن القدرة إذا کانت لأحد الفعلين، فمع ترکه للأول هل تحقق عصيان أم لا؟

لا محيص عن القول بتحققه، وحينئذٍ فلا يتحقق عصيان للثاني.

وثالثاً: إن الأمر بهما في المقيس عليه إنّما هو من باب تعدد المطلوب، أي يوجد طلبان أحدهما بالجامع والآخر بإيجاد هذا الجامع في ضمن حصة معينة، ومتعلق کلا الطلبين مقدور، فعصيانهما يوجب تعدد استحقاق العقاب.

وفيه: أنه لا يوجد إلا طلب واحد، لأن الأمر بالجامع إنّما هو أمر بإيجاد الحصة، إذ الکلي الطبيعي موجود بوجود فرده، فلا يوجد طلبان.

ص: 35

ورابعاً - وهو العمدة -: هو تعدد القدرة في المقيس عليه، وذلك لأنه کان قادراً علی صوم اليوم الأول فعصاه فاستحق عقاباً، ثم بعد ذلك کان قادراً علی صوم اليوم الثاني فعصاه فاستحق عقاباً آخر، واستحقاق العقاب لا يترتب علی الفرضيات بأن يقال: لو کان يصوم اليوم الأول لما کان قادراً علی صوم اليوم الثاني، بل يترتب علی الواقعيات الخارجية، وليس الترتب کذلك فمع عصيان الأهم هو مکلّف بالأهم والمهم مع عدم قدرته إلا علی أحدهما.

الإشکال الثالث: إشکال علی الکبری، فعن المحقق النائيني(1)،

من أن العبرة في استحقاق العقاب هو ملاحظة کل خطاب بالنسبة إلی کل مکلّف في حدّ نفسه، أي يلاحظ الخطاب وحده مع قطع النظر عن اجتماعه مع خطاب آخر.

إن قلت: لازم هذا صحة الأمر بالضدين، لفرض تعلق القدرة بکل واحد منهما لو قطع النظر عن اجتماعه مع الآخر؟

قلت: الفرق واضح، لأن الأمر بالضدين محال في نفسه مطلقاً، فلا يعقل صدوره عن المولی، فلا تصل النوبة إلی بحث القدرة واستحقاق العقاب ونحو ذلك.

إن قلت: ماذا لو فرض إمکان طلب الضدين من المولی، کما لو غفل عن التضاد بينهما، فإن طلبه حقيقي، فحينئذٍ يقال: يصح العقاب علی مخالفتهما لتعلق القدرة بالنسبة إلی کل متعلق مع قطع النظر عن المتعلق الآخر.

ص: 36


1- فوائد الأصول 1: 365.

قلت(1): إن الأمر الناشئ عن الغفلة ليس بأمر حقيقة، وذلك لعدم الموضوعية في الأمر، بل هو طريق إلی کشف الملاکات الواقعية، فإذا علم المکلف بعدم ذي الطريق لم يكن الأمر منجزاً، ولم يستحق العبد العقاب علی مخالفة مثل هذا الأمر.

کما أن العکس کذلك، فلو کان هناك ملاك ملزم لکن لم يتمکن المولی من الأمر به لمحذور - من جهل أو إکراه أو نحو ذلك - فيجب تحصيل ذلك الملاك، لأن الأمر طريق، فإذا حصل ذي الطريق لم يكن الطريق مهماً.

الإشکال الرابع: علی الکبری أيضاً، فقد قيل: إنّ الميزان في صحة العقاب هو (أن يكون التخلص من المخالفة مقدوراً)، وليس الميزان (کون الامتثال مقدوراً).

ففي باب الترتب يمکن التخلص من مخالفة التکليفين عبر امتثال الأمر بالأهم، نعم لا يمکن امتثالهما معاً لکن ذلك ليس المناط في صحة العقاب.

وفيه: أن لازم هذا الميزان هو صحة الأمر بجميع المحالات الذاتية معلقاً علی عصيان تکليف مولوي - مثلاً - کأن يقول: لا تدخل الدار فإن دخلتها فعليك الجمع بين النقيضين، مع أن الميزان المذکور وهو إمکان التخلص من المخالفة موجود في المورد، وذلك بعدم إيجاد مقدّم هذه القضية الشرطية.

وأما حديث (الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار)، فقد مرّ أن المراد به

ص: 37


1- الترتب: 86؛ موسوعة الفقيه الشيرازي 12: 108.

الامتناع بالغير، لا الامتناع الذاتي أو الوقوعي، فراجع.

الإشکال الخامس: الالتزام بإمکان وحدة العقاب حتی مع وجود أمرين مولويين، وهذا إشکال کبروي راجع إلی تعيين ملاك استحقاق العقوبة، وذلك بأن يقال: إن ملاك الاستحقاق للعقاب هو تفويت الغرض، فلو فرض اشتمال المهم علی بعض مصلحة الأهم...

1- فإن أتی المکلّف بالأهم، فقد أدرك تمام المصلحة.

2- وإن أتی بالمهم، فقد أدرك بعض المصلحة، فلا عقوبة إلا بقدر البعض الآخر.

3- وإن ترکهما معاً، فلا يستحق إلا عقوبة واحدة بمقدار مصلحة الأهم، وذلك لأن الأمر بالمهم إنّما کان لتدارك بعض مصلحة الأهم.

والجواب(1): أولاً: ما مرّ من أن استحقاق العقوبة لازم عقلي للأمر المولوي، فلا يعقل الانفکاك أصلاً، وبما أن الأمر بالمهم مولوي - بناءً علی الترتب - فلابد من وجود عقاب له، اللهم إلا إذا انکرت الملازمة، وحينئذٍ فلا طريق لإثبات استحقاق العقوبة علی أيّ أمر مولوي إطلاقاً، وهذا ما لا يمکن الالتزام به.

وثانياً: إنه قد تکون مصلحة المهم من غير سنخ مصلحة الأهم، بل حتی مع السنخية فقد يكون الغرض من الأهم والغرض من المهم في عرض واحد کما في إنقاذ غريقين.

ص: 38


1- الترتب: 95؛ موسوعة الفقيه الشيرازي 12: 118.
الدليل الثالث: النهي عن المهمّ

وقد استدل بذلک علی استحالة الترتب، وهو مبني علی القول بأن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده العام.

وبيانه: أن الأمر بالأهم يقتضي حرمة نقيضه، والمهم إما مصداق للنقيض، أو ملازم له مع القول بسراية الحکم من أحد المتلازمين إلی الآخر، أو ملازم له من غير سراية لکن مع القول بلزوم عدم اختلاف المتلازمين في الحکم.

وأشکل عليه: بأن...

1- المصداقية غير معقولة، إذ لا يمکن أن يكون الوجود مصداقاً للعدم، إذ هي متوقفة علی الاتحاد بين الشيئين، ولا يعقل اتحاد الوجود والعدم.

2- وسراية الحکم غير ممکنة، لا في الملاك، إذ هو صفة تکوينية ولا يعقل انتقال العرض من معروض لآخر، ولا في إرادة المولی، ولا في الجعل إذ هما تابعان للملاك، مضافاً إلی استلزام السراية لانحصار الحکم في الواجب والحرام.

3- وأما علی مبنی عدم اختلاف المتلازمين في الحکم، فکذلك غير معقول، إذ لا يعقل إرادة الضدين مع الالتفات إلی کونهما ضدين، فإذا کان (عدم الأهم) مبغوضاً للمولی فکيف يكون ملازمه وهو (وجود المهم) محبوباً لديه، مضافاً إلی أنه لو کانت مصلحة في أحد المتلازمين ومفسدة في الآخر فحينئذٍ يكون الحکم للغالب منهما، وإن تساويا فالإباحة، فلا يعقل أن يكون أحدهما وهو عدم الأهم ذا مفسدة مؤثرة في التحريم الفعلي، والآخر وهو وجود المهم ذا مصلحة مؤثرة في الوجوب الفعلي.

ص: 39

إن قلت: إن المانع عن اختلاف المتلازمين في الحکم إنّما هو لزوم التکليف بما لا يطاق، وهذا المحذور لا يجري في الترتب، وذلك لأنه لو اختار الأهم ارتفع موضوع المهم، لکن لو عصی الأهم ثبت الحکم اللزومي للمهم فيكون المکلف بسوء اختياره ألقی نفسه في المحذور، فلا يكون من التکليف بما لا يطاق.

قلت: قد مرّ عدم صحة هکذا تکليف حتی وإن کان بسوء الاختيار، فإنه مصحح للتکليف بالممتنع الغيري، لا الذاتي أو الوقوعي، وإرادة الضدين ممتنع ذاتاً، فراجع.

المبحث الثالث: أدلة إمكان الترتب، ومناقشتها

اشارة

ثم إن القائلين بجواز الترتب - أي إمکانه - استدلوا بأمور، منها:

الدليل الأول
اشارة

ما ذکره المحقق النائيني(1)،

وهو يتألف من عدة مقدمات:

المقدمة الأولى

لتحرير محل النزاع، کما صرح به المحقق النائيني نفسه(2)، فهي لا ترتبط بتصحيح الترتب.

المقدمة الثانية

لبيان عدم المطاردة بين الأمر بالمهم والأمر بالأهم، وذلك لاختلاف الرتبة، سواء قبل تحقق الشرط أم بعده...

ص: 40


1- فوائد الأصول 1: 336، 357.
2- فوائد الأصول 1: 352.

أما قبل تحقق الشرط: فلما مرّ من أن عصيان الأهم متأخر عن الأهم، وهذا العصيان متقدم علی المهم لأنه شرط تحققه.

وأما بعد تحقق الشرط - وهذا هو المقصود بيانه في هذه المقدمة - فلأنّ التأخر الرتبي يبقی محفوظاً حتی مع تحقق الشرط، وذلك لبقاء الواجب المشروط واجباً مشروطاً حتی مع تحقق الشرط، ولا يتصف بصفة الإطلاق، فلا ينقلب عمّا هو عليه.

وذلك لأن الشروط ترجع إلی الموضوع، والموضوع لا ينسلخ عن الموضوعية بعد وجوده خارجاً، وإلاّ صار الحکم بلا موضوع، فدعوی انقلاب الواجب المشروط إلی مطلق تساوق دعوی خروج الموضوع عن موضوعيته بعد وجوده خارجاً.

وسبب ذلك هو أن الأحکام الشرعية قضايا حقيقية لا خارجية، مثلاً وجوب الحج أنشِأ مشروطاً بوجود موضوعه - وهو البالغ العاقل المستطيع - ، وهذا لا يفرق فيه الحال بين تحقق الاستطاعة لزيد - مثلاً - أو عدم تحققها، فليس لزيد حکم يخصّه، کي يقال: بأنه لا معنی لاشتراط الاستطاعة في زيد المستطيع فإنه من طلب الحاصل.

فتبين الفرق بين القضايا الحقيقية حيث يبقی الواجب المشروط مشروطاً، وبين القضايا الخارجية.

والنتيجة هي عدم کون الأهم والمهم في عرض واحد بل رتبتهما مختلفة، فلم يجتمع الضدان.

وأورد عليه إشکالات عديدة، منها:

الإشکال الأول: ما مرّ من عدم دفع محذور طلب الضدين بالاختلاف

ص: 41

الرتبي، بل لابد من الاختلاف في الزمان.

الإشکال الثاني: إنه لو فرض انتفاء التضاد بين الخطابين - لفرض طوليتهما - لکن يبقی الإشکال في حکم العقل بتنجز التکليفين، بمعنی أن للعقل تنجيزين، أحدهما يتعلق بالأهم لکونه مطلقاً، والآخر يتعلّق بالمهم لتحقق شرطه، فحصل التهافت في حکم العقل، وهو باطل قطعاً، فالمقدّم مثله.

إن قلت: التنجز تابع للأمر، فإن أمکن رفع التضاد بين الأوامر باختلاف الرتبة، أمکن ذلك أيضاً في التنجز.

قلت: بل الأمر بالعکس، فيستدل بوجود المحذور في التنجز علی عدم ارتفاع التضاد في الأوامر حتی مع طوليتها فيما لو کانت في زمان واحد.

الإشکال الثالث: إن القول برجوع شرائط التکليف إلی قيود الموضوع، إما يراد به شرائط الجعل وهي علل ودواعي الحکم الذي يريد المولی تحققها عبر التکليف، وإما يراد به شرائط المجعول من المادة والهيأة.

والأول: محال، بمعنی استحالة کون الداعي قيداً للموضوع، لاستلزامه إما خروج الواجب المطلق عن الوجوب، أو تحصيل الحاصل، أو الأمر بالشيء بلا ملاك.

مثلاً: قوله تعالی: {وَأَقِمِ الصَّلَوٰةَ لِذِكْرِي}(1)

يكون الموضوع هو (المکلف المتذکر)...

فقبل الصلاة: لا يكون متذکراً، فلم يتحقق الموضوع کي يترتب عليه

ص: 42


1- سورة طه، الآية: 14.

الحکم، لأن الحکم لا يدعو إلی موضوع نفسه، إذ وجوده متفرع علی وجود موضوعه، فدعوته إليه تستلزم تقدم الشيء علی نفسه.

وحين الصلاة: يكون الأمر بأدائها طلباً للحاصل.

وبعد الصلاة: لقد استوفي الملاك، فلا يكون الأمر بها إلا أمراً بلا ملاك يقتضيه.

والثاني: أي إن أريد شرائط المجعول، فإرجاع القيد إلی الموضوع يستلزم عدم وجود الواجب المشروط أصلاً، بل عليه تکون الواجبات کلها مطلقة.

وفيه(1): هو أنّ الأول: غير مراد للمحقق النائيني إذ کلامه منصرف عنه، وأما الثاني: فلأن المراد من الموضوع هو متعلّق المتعلّق أي (المکلّف)، ورجوع شرائط التکليف - الهيأة - إلی المکلّف لا يلغي الواجب المشروط، حيث لا فرق بين قولنا: (المکلف يجب عليه الحج إن استطاع) وبين (المکلّف المستطيع يجب عليه الحج)، وذلك لعدم داعوية الحکم إلی إيجاد موضوعه، وأما شرائط المادة فهي أجنبية عن البحث حيث إنها غير مرادة.

الإشکال الرابع: لو رجعت الشرائط إلی قيود الموضوع، لم يصح الاستصحاب في مثل (الماء نجس إذا تغيّر) حينما نشك في بقاء النجاسة بعد زوال التغيّر، للشك في کون التغيّر عِلّة محدثة أم علة مبقية، وذلك لأن الموضوع يكون بعد إرجاع الشرط إلی الموضوع هو (الماء المتغيّر)، وبعد

ص: 43


1- الترتب: 116؛ موسوعة الفقيه الشيرازي 12: 145.

زوال التغيّر يكون الموضوع قد تبدّل!!

وفيه: أن المناط في بقاء الموضوع في الاستصحاب ليس البقاء الحقيقي، بل ولا بقاء ما أخذ في لسان الدليل، بل البقاء العرفي، ولا فرق في ذلك بين کون الوصف مأخوذاً في الشرط أو في الموضوع.

فتحصل ورود الإشكالين الأول والثاني على المقدمة الثانية، وعدم ورود الإشكالين الثالث والرابع.

المقدمة الثالثة

ذکرها المحقق النائيني(1)

لبيان دفع ما تخيل من توقف الخطاب الترتبي علی الواجب المعلّق والشرط المتأخر. فهي أيضاً لا ترتبط بالدليل.

المقدمة الرابعة

المقدمة الرابعة(2)

وهي أهم المقدمات، بل عليها يبتني أساس إمکان الترتب، وحاصلها: رفع التنافي بين الأمرين في مرحلة التأثير والداعوية الفعلية، فهي تتکفل منع اجتماع تأثير الأمرين الترتبيين في زمان واحد، بمعنی أنه بالترتب يمنع من فرض حصول التأثير الفعلي لهما في زمان واحد - وإن اجتمع الأمران في زمان واحد - .

وذلك لأن تأثير الأهم ينتهي عند حدّ، ثم يبدأ تأثير المهم، وذلك لخصوصية هي (العصيان) أو (مخالفة الأمر وعدم تأثيره).

بيانه: أن الأمر لا إطلاق له ولا تقييد بالنسبة إلی (عدم المؤثرية)، سواء

ص: 44


1- فوائد الأصول 1: 341.
2- فوائد الأصول 1: 348؛ وراجع منتقی الأصول 2: 413.

کان الإطلاق والتقييد في الموضوع - أي المکلّف - أو في المتعلّق، لأن (التقييد) هو بمعنی ترتب الحکم علی الخصوصية المأخوذة قيداً - في الموضوع أو في المتعلق - بحيث يكون ثبوت الحکم مرتبطاً بتحقق تلك الحصة المقيّدة، و(الإطلاق) هو نفي دخالة الخصوصيات، بمعنی ثبوت الحکم بثبوت أي فرد من الأفراد، لتعلق الحکم علی نفس الطبيعة الموجودة في ضمن أفرادها.

أما (مؤثرية الأمر) و(عدم مؤثّريته) فلا يعقل الإطلاق والتقييد فيهما، لا بلحاظ الموضوع، ولا بلحاظ الحکم، وذلك لأنهما من الأمور اللاحقة لتحقق الأمر، ففي الظرف الذي يفرض فيه وجود (المؤثرية) أو (عدم المؤثرية) لابد من فرض وجود الأمر قبلها، فهما فرع ثبوت الأمر.

وبعبارة أخری: الخطاب بنفسه مقتضٍ لوضع ذلك التقدير ورفعه، وهذا مختص بباب الطاعة والمعصية، ويستحيل الإطلاق والتقييد فيه، إذ وجوب الفعل لو کان مشروطاً بوجوده لزم طلب الحاصل، ولو کان مشروطاً بعدمه لزم طلب الجمع بين الضدين، فالخطاب هو المقتضي للبعث والزجر لا أنه مقيّد بهما.

وعليه: يظهر انحفاظ خطاب الأهم حال العصيان من جهة اقتضائه لرفع هذا التقدير، بخلاف خطاب المهم فإنه لا نظر له إلی وضع هذا التقدير ورفعه، حيث إن ذلك التقدير هو موضوع خطاب المهم، والحکم لا نظر له لموضوعه، فلا خطاب المهم يرتفع لمرتبة الأهم ليقتضي موضوع نفسه، ولا خطاب الأهم ينزل ويقتضي شيئاً غير رفع موضوع خطاب المهم، فالخطابان في مرتبتين طوليتين - وإن اتحدا زماناً - .

ص: 45

وبعبارة ثالثة - كما في المنتقى -: إن عصيان الأهم هو نهاية داعوية الأهم، حيث إن ظرف عصيان الأهم هو ظرف نهاية داعويته - حيث إن الأمر لا ينظر إلی عصيانه لا بالإطلاق ولا بالتقييد - کما أنه ظرف ابتداء داعوية المهم، فخطاب الأهم وإن کان موجوداً إلا أنه لا داعوية له.

والحاصل: إنه في حال العصيان لا يؤثر الأهم فلا فعلية له، بل الفعلية للمهم حيث إن موضوعه مقيّد بالعصيان!!

ويرد عليه: أولاً: إن استحالة التقييد قد يلزم منه استحالة الإطلاق، وذلك لو استحال ثبوت الحکم علی المقيّد، لأن المحذور إنما هو في شمول الحکم للحصة، فلا فرق بين شموله لها لوحدها أم شموله لها مع غيرها، وقد تکون الاستحالة في نفس التقييد فيكون الإطلاق ضرورياً، مثلاً يستحيل التقييد في الأحکام العقلية فلابد من الإطلاق حتماً.

وما نحن فيه من قبيل الثاني، إذ لا محذور في شمول الحکم لکلتا الحالتين - حالة العصيان والامتثال - بمعنی بقاء الحکم فيهما، بل المحذور إنّما هو في نفس تقييد الحکم بحالة العصيان لاستحالة أخذ المتأخر في الموضوع المتقدم.

کما أن الحکم يشترك بين العالم والجاهل، فيستحيل تخصيصه بحالة العلم للزوم الدور، وبحالة الجهل للزوم اللغوية، فلابد من عدم التقييد فيكون الحکم شاملاً لکلتا الحالتين.

وقد مرّ أن عدم التقييد إن لوحظ فيه المحل القابل فيكون الإطلاق والتقييد من العدم والملکة، فإذا استحال أحدهما استحال الآخر لعدم المحلّ القابل، وإن لوحظ عدم التقييد مطلقاً فيكون من السلب والإيجاب

ص: 46

فيكونان نقيضين، فارتفاع أحدهما يلازم ضرورة الآخر.

وثانياً: إن ما ذکره في المنتقی من انتهاء الداعوية حين العصيان محل تأمل، لأن الأمر بعد صدوره يدعو لنفسه، وهذا معنی الداعوية، وانتهاؤها حين العصيان مجرد دعوی من غير دليل، بل بقاء الأمر هو بمعنی الداعوية والباعثية لأنها مقتضی ذاته فيستحيل انفکاکها عنه.

وبعبارة أخری: إن عدم أخذ حالة العصيان، - وعدم المؤثرية - في متعلق الأمر لا يعني عدم داعوية الأمر، بل الداعوية هي حقيقة الأمر وذاتيّه، فالقول بتجرد الأمر عنها تناقض، وعليه فتکون مؤثرية الأهم مستمرة حتی في حال العصيان ويكون للأمر الفعلية والتنجز، فيحصل التهافت بينها وبين مؤثرية المهم.

وبتعبير آخر: عصيان العبد لا يقطع بعث المولی نحو المتعلّق، بل البعث مستمر مادام الأمر موجوداً، فإذا انتفی الأمر انتفی البعث، والمفروض في باب الترتب هو بقاء الأمر بالأهم، فتأمل.

المقدمة الخامسة
اشارة

المقدمة الخامسة(1)

لبيان عدم اجتماع الضدين في الأمرين الترتّبيين، وهنا مطلبان:

المطلب الأول

إن الحکمين قد لا يكون أحدهما رافعاً لموضوع الآخر، مثل: (صلِّ وصم)، وقد يكون أحدهما رافعاً لموضوع الآخر، وهذا علی خمسة أقسام فالرافع:

ص: 47


1- فوائد الأصول 1: 352؛ وراجع مباحث الأصول 3: 70-111.

1- قد يكون نفس جعل الحکم الأول، کما لو تعلق الزکاة بشيء فلا يتعلق به الخمس علی بعض المباني.

2- وقد يكون فعلية الحکم المجعول، مثل الحکم بحرمة ما وقع متعلقاً للشرط، فلو اشترط حيازة شيء - وهو مباح - في ضمن عقد لازم، ثم سبق إلی حيازته الغير، فالحکم بحرمة حيازة ملك الغير يرفع وجوب الوفاء بالشرط.

3- وقد يكون وصول المجعول، کارتفاع حرمة الإفتاء بغير علم حينما ينقلب جهله إلی علم.

4- وقد يكون تنجز الواصل، کما لو تنجزت عليه حرمة التصرف في أمواله، فيرتفع بذلك وجوب الزکاة، کما قيل.

5- وقد يكون امتثال المنجز، مثل ارتفاع وجوب الکفارة بامتثال الأمر بالصوم في شهر رمضان.

والترتب - إن قلنا بإمکانه - يكون من القسم الأخير، حيث إنّ المولی أوجب الصلاة علی تقدير عدم الإزالة، فامتثال وجوب الإزالة رافع لوجوب الصلاة لعدم تحقق موضوعه، وبعدم امتثال الأمر بالإزالة يتحقق موضوع وجوب الصلاة، مع عدم التعارض بين الأمرين...

أ) لا في مبادئ الحکم، إذ لا منافاة بين حب الشيء وحب ضده، مع کونه عاجزاً عن تحصيلهما معاً، کمن يحب أن يكون يوم عرفة في عرفات، ويحب أن يكون أيضاً في کربلاء.

ب) ولا في نفس الحکم، لأنه اعتبار، ولا تنافي بين الاعتبارات.

ج) ولا في اقتضاء الامتثال لو تزاحما، إذ لو تنجز وجوب الإزالة لم تجب الصلاة، ولو لم يتنجز وجوب الإزالة لم يكن هذا الوجوب داعياً

ص: 48

للامتثال.

وفيه تأمل: وذلك لأن الأمر بالإزالة باق علی تنجزه مادام موضوعه موجوداً، فإنّه لا وجه لسقوط التنجز بالعصيان مع بقاء الملاك ووجود الخطاب، بل هو تفکيك بين اللازم والملزوم، کما مرّ في الإشکال علی المقدمة الرابعة.

المطلب الثاني

إن المحذور في الأمر بالضدين هو طلب الجمع، حيث لا يقدر المکلّف علی امتثالهما، أما لو لم يكن طلباً للجمع، بل کان الجمع في الطلب، فلا محذور.

بيانه(1):

إن الخطاب الترتبي لا يقتضي إيجاب الجمع، فلا وجه لاستحالته، لأن الجمع هو اجتماع کل واحد منهما في زمن امتثال الآخر، بحيث يكون امتثالهما متقارناً، والذي يوجب المحذور: إمّا تقييد کل من المتعلقين أو أحدهما بحال فعل الآخر، وإمّا إطلاق کل من الخطابين لحال فعل الآخر.

لکن الخطاب الترتبي لا يقتضي إيجاب الجمع، بل يقتضي نقيضه، بحيث لا يكون الجمع مطلوباً لو فرض إمکانه، وإلاّ لزم المحال في المطلوب والطلب.

1- أما في المطلوب: فلأن مطلوبية المهم تکون في ظرف عصيان الأهم، حيث إنّها مقيدة بحال العصيان، فلو وقع علی صفة المطلوبية في حال امتثال

ص: 49


1- فوائد الأصول 1: 359-361؛ الترتب: 125؛ موسوعة الفقيه الشيرازي 12: 156.

الأهم - کما هو لازم إيجاب الجمع - لزم الجمع بين النقيضين.

2- وأما في الطلب: فلأن خطاب الأهم من عِلل عدم خطاب المهم، لاقتضائه رفع موضوعه، فلو اجتمعا - کما هو لازم إيجاب الجمع - لکان من اجتماع الشيء مع علة عدمه، وهو محال.

ويرد عليه: أولاً: إن تقييد خطاب المهم - مع إطلاقه في حدّ نفسه - إنّما هو بحکم العقل دفعاً لمحذور الأمر بما لا يطاق، فلا يوجد في الأدلة الشرعية التصريح بتقييد المهم بعصيان أو ترك الأهم، فإذا فرض إمکان صدورهما معاً عن المکلّف ارتفع المحذور، ولم يكن هناك سبب لتقييد المهم، بل کان الأمران عرضيين فعليين، فقوله: «بحيث لا يكون الجمع مطلوباً لو فرض إمکانه» محلّ نظر.

إن قلت: هذا لو أحرزنا ملاك المهم في عرض الأهم، لا في صورة ترتب ملاك المهم علی العصيان.

قلت: نفس إطلاق المهم کاشف إنّي عن ثبوت الملاك.

وثانياً: إن ما ذکر هو في الواقع دليل لبطلان الترتب لا لجوازه، وذلك لأنه يقال: لو کان هناك أمران علی نحو الترتب لزم الجمع بين المتعلقين، لکن التالي باطل فالمقدم مثله.

وذلك لأنا أثبتنا بقاء الأمر بالأهم وفعليته ومنجزيته حتی في حال عصيانه، فمع الأمر بالمهم حينئذٍ يكون طلب بالجمع، فتأمل.

الدليل الثاني

مما استدل به علی إمکان الترتب هو الوقوع، فإنه أدلّ دليل علی

ص: 50

الإمکان، وذلك لوضوح عدم تحقق المحال في الخارج، وقد مثّلوا لذلك بأمثلة في الشرعيات والعرفيات.

1- أما الشرعيات، فقد مثّل المحقق النائيني(1)

بأمثلة...

منها: ما لو فرض حرمة الإقامة علی المسافر من أول الفجر إلی الزوال، فلو عصی وأقام فلا إشکال في وجوب الصوم عليه، فقد توجّه عليه کلٌّ من حرمة الإقامة ووجوب الصوم ولکن مرتباً.

ومنها: عکس المثال، کما لو فرض وجوب الإقامة من أول الزوال، فيكون وجوب القصر عليه مترتباً علی عصيان وجوب الإقامة.

ومنها: وجوب الخمس المترتب علی عصيان خطاب أداء الدين - إذا لم يكن الدين من عام الربح - .

ويرد عليه: أولاً: إن ذلك إنّما يكون لو تمّ إحراز أنّ ما وقع هو مصداق للکبری التي يراد إثباتها، ولا يمکن الإحراز إلا بنفي جميع الاحتمالات الأخری، وحصر الأمر في ما يراد إثباته.

والأمثلة الشرعية المذکورة، وغيرها، يمکن کون الأمر إرشادياً إلی وجود المصلحة في متعلقه، وذلك(2)

لأن المصلحة أمر تکويني لا تزول بالعجز عن تحقيقها بسبب التضاد، کما أن محبوبية الشيء لا تستلزم مبغوضية الضدّ الخاص، والخطاب يكشف عن وجود الملاك من غير فرق بين الخطاب المولوي أو الإرشادي، حيث لا يصح الأمر فيهما إلا بملاك

ص: 51


1- فوائد الأصول 1: 357-359.
2- راجع الترتب: 130؛ موسوعة الفقيه الشيرازي 12: 163.

يقتضيه، والأمر وإن کان ظاهراً في المولوية إلا أنه لو کان هناك محذور عقلي لابدّ من صرفه إلی الإرشادية، کما في أوامر الطاعة.

إن قلت: قد مرّ عدم کفاية قصد الملاك في العبادية، بل لابدّ من وجود أمر؟

قلت: نعم لابدّ من وجود أمر، لکن يكفي الأمر الإرشادي لتصحيح العبادية.

إن قلت: إنه من استعمال اللفظ في أکثر من معنی، بأن نحمل الأمر علی المولوية إن لم يوجد تزاحم، وعلی الإرشادية في حال التزاحم؟

قلت: کلّا، المعنی واحد وهو الطلب، لکن مع اختلاف الداعي، فتأمل،

مضافاً إلی ما مرّ من عدم الإشکال في استعمال اللفظ في أکثر من معنی.

وثانياً: الإشکال علی الأمثلة صغروياً.

أما الأول: فإن وجوب الصوم لا يترتب علی الإقامة المحرّمة، بل يتوقف علی قصد الإقامة، وهذا القصد ليس بحرام، کما مرّ.

وأما الثاني: فکذلك، لأنّ وجوب القصر متوقف علی عدم قصد الإقامة، وهي ليست واجبة، وإنّما الواجب عدم الإقامة.

وأما الثالث: فبالإشکال في وجوب الخمس حينئذٍ.

2- أما العرفيات، فقد مثّلوا له بقول الوالد لولده: (إذهب إلی المدرسة)، فإذا عصی الولد قال له: (أکتب في الدار ولا تخرج منه)، وأمثال هذا کثير في العرفيات.

ويرد عليه: ما ورد علی الأمثلة الشرعية، بإمکان کونها إرشادية، فلا

ص: 52

تصلح استدلالاً علی وقوع الترتب.

ولا يصغی إلی ما يقال: بأن الوجدان شاهد علی عدم الفرق بين الأمر الأول والثاني حيث نراهما کليهما مولويين!! وذلك لأن عدم الفرق إنّما هو في رؤية المصلحة لکن مع إضافة المولوية في الأمر الأول، ويؤيده ما مرّ من عدم تعدد العقاب عند عرف العقلاء، فتأمل.

الدليل الثالث

مما استدل به علی جواز الترتب، ما قيل(1): من أن الأمر بالمهم علی تقدير ترك الأهم، مرجعه إلی الأمر بالجامع بين فعل الأهم وفعل المهم، ومن المعلوم أن الأمر بالأهم لا يضاد الأمر بالجامع، وإنّما التضاد بين الأهم تعييناً والمهم تعييناً، وذلك لأنّ الإرادة المشروطة ترجع في واقعها إلی الإرادة المطلقة للجامع بين فعل الأهم وفعل المهم، ومن المعلوم أن الأمر بالأهم لا يضادّ الأمر بالجامع، کما لو أمره بزيارة الإمام الحسين (علیه السلام) في ليلة الجمعة، وأمره بزيارة أحد الأئمة (علیهم السلام) في ليلة الجمعة، فلا تنافي بين الأمرين.

ويرد عليه: أولاً: إن الإرادة التعيينية إنّما هي بالأهم، فلو کان هو مصداق الجامع فلا إشکال، لکن لو صار المصداق فرداً آخر - وهو المهم - فيحصل التنافي.

وبعبارة أخری: إن المولی في حال العصيان يطلب منه المهم تعييناً، وهو يتنافي مع طلب الأهم تعييناً.

ص: 53


1- مباحث الأصول 3: 114.

وثانياً: ما مرّ من أنه مع بقاء طلب الأهم حين العصيان، لا يكون المکلّف قادراً شرعاً علی الإتيان بالمهم، وقد ذکرنا في ما مضی أن الجامع بين المقدور وغير المقدور لا يكون مقدوراً، لمّا مرّ من أن الکلي والأفراد کالآباء والأبناء، لا کالأب والأبناء.

وثالثاً: قد لا يمکن تصوّر جامع، فيما لو کان المطلوب في أحدهما وجودياً وفي الآخر عدمياً، فتأمل.

الدليل الرابع

ما قيل: من أن المحذور في الأمر بالضدين إما في الحکم، أو في مبدأه، أو في منتهاه، وکل المحاذير منتفية في الأمر الترتبي.

1- أما في نفس الحکم: فلما مرّ من أنه إنشاء واعتبار، ولا تضاد بين الإنشاءات والاعتبارات في حدّ نفسها، بل التضاد فيها يكون بالعرض باعتبار المبدأ أو المنتهی.

2- وأما في المنتهی: فلأن المحذور إنّما يتولّد في صورة استلزام أمر المولی لتحيّر المکلّف حتی في صورة الانقياد، کالأمر بالضدين، أما الأمران الترتبيّان فلا يوجبان وقوع المکلف في التحير، لإمکانه الانقياد عبر الإتيان بالأهم، فينتفي موضوع المهم.

3- وأما في المبدأ، وهو الإرادة ومقدماتها...

أ) فإن التکليف کما يصدر بداعي التحريك والانبعاث، کذلك قد يصدر بدواعي أخری، کالاختبار وإتمام الحجة.

ب) وکما تجب إطاعة المولی فيما کان الداعي هو التحريك والانبعاث، کذلك تجب الإطاعة في الأوامر الأخری التي تصدر بدواعي أخری.

ص: 54

ج) وما يعلم المولی عدم ترتبه علی الشيء لا يعقل أن يكون غرضاً منه، فإذا علم المولی عدم انبعاث العبد لا يعقل أن يكون غرضه من أمره هو انبعاثه وتحريكه.

د) والمستحيل إنّما هو تعلّق إرادتين بغرض التحريك بأمرين متضادين، وذلك لعدم إمکان ترتب أحدهما عليه، ولا استحالة فيما لو کانت إحدی الإرادتين بداعي التحريك، والأخری بداعي الاختبار وإتمام الحجة.

وعليه: فإن الأمر بالأهم - بالنسبة إلی من يعلم المولی عصيانه - لا يكون بداعي التحريك والانبعاث، ولکن مع ذلك تجب إطاعته، وأما الأمر بالمهم فيكون بداعي التحريك لمن يمتثله وبداع آخر لمن لا يمتثله، فتحصل: أنه لا محذور في اجتماع هکذا إرادتين.

وفيه تأمل: أولاً: فإن المحذور في المنتهی لا ينحصر بتحيّر العبد، بل هناك محذور آخر هو عدم قدرة المکلّف شرعاً علی امتثال المهم، کما مرّ تفصيله.

وثانياً: النقض بالأمر بالضدين بداعيين أحدهما البعث والآخر الامتحان، وهذا واضح البطلان، حتی مع قطع النظر عن الإشکال في المنتهی من تحيّر المکلّف وعدم قدرته، فتأمل.

وثالثاً: لو علم بعصيان العبد لکلا الأمرين - الأهم والمهم - فإن الداعي علی الأمرين هو واحد لا متعدد، فلابد من القول باستحالته، فيكون تفصيلاً في إمکان الترتب.

ورابعاً: عدم جريان هذا الوجه في الأوامر العرفية حيث لا يعلم المولی - عادة - بحالة العبد من جهة الامتثال وعدمه، بل قد يحتمل عدم امتثاله

ص: 55

للأهم، وعليه فيكون کلا الأمرين بداعي التحريك.

هذا تمام الکلام في أدلة إمکان الترتب، وقد تبين عدم نهوضها لذلك، مع قيام الدليل علی عدم إمکانه، فالأقوی هو استحالة الترتب مطلقاً.

المبحث الرابع: ما يُناط به الأمر بالمهم

اشارة

وقد جلعه بعضهم دليلاً علی استحالة الترتب، وذلك لا يخلو من احتمالات خمسة: أن يناط بنفس عصيان الأهم بنحو الشرط المقارن، أو المتقدم، أو المتأخر، أو علی العزم علی العصيان، أو بکون المکلّف ممن يصدر منه العصيان في المستقبل.

الاحتمال الأول: الإناطة بالعصيان بنحو الشرط المقارن

وقد قيل باستحالة ذلك، لوجوه ثلاثة:

الوجه الأول: ما عن المحقق الخراساني، وحاصله: لزوم تقدم البعث علی الانبعاث، ضرورة أن البعث إنّما يكون لإيجاد الداعي في المکلّف، ولا يحصل الداعي فيه إلا بعد تصوره، وتصور أمور أخری کالثواب والعقاب، ولا يمکن هذا إلا بعد زمان البعث، وقد مرّ تفصيله.

فلو کان عصيان الأهم مأخوذاً في الأمر بالمهم على نحو الشرط المقارن، مع تزامن عصيان الأهم وطاعة المهم، للزم تقارن البعث والانبعاث.

مثلاً: من ترك الإزالة باشتغاله بالصلاة، فإن الابتداء بالصلاة هو عصيان للأمر بالإزالة فيتحقق شرط الأمر بالصلاة، فيكون ذلك الأمر متقارن مع نفس الصلاة، فلزم تقارن البعث والانبعاث، وهو غير معقول!!

ص: 56

وأورد عليه: أولاً: بعدم معقولية انفکاك البعث والانبعاث، إذ هما متضايفان، فهما متکافئان في القوة والفعل، فتأخر الانبعاث عن البعث غير معقول.

إن قلت: البعث التشريعي قد ينفك عن الانبعاث في العُصاة، وکذا ما ذکر من أن إيجاد الداعي لا يكون إلا بعد الأمر؟

قلت: البعث التشريعي هو جعل ما يمکن أن يكون داعياً، فمضايفه هو الانبعاث إمکاناً.

إن قلت: قد ينقض هذا بالواجب المنجّز، قبل حصول مقدماته الوجودية، کالصلاة والوضوء، مع عدم إمکان الانبعاث نحو ذي المقدمة إلا بعد وجود مقدماته؟

قلت: تحصيل المقدمات في المنجز ممکن، وهذا يكفي في إمکان ذي المقدمة، بخلاف البعث إلی الشيء قبل حضور وقته، فإن الفعل المتقيّد بالزمان المتأخر يستحيل فعله في الزمان المتقدّم.

وثانياً: ما عن المحقق النائيني(1)

من أنه لو فرض علم المکلف قبل الوقت بتوجه الخطاب إليه في وقته، لکفی ذلك في إمکان تحقق الامتثال من غير حاجة إلی تقدم البعث علی الانبعاث، بل وجود الخطاب قبل الوقت لغو، وذلك لأن المحرّك هو الخطاب المقارن لصدور متعلّقه، لا الخطاب المفروض وجوده قبله، وبتعبير آخر: يلزم تقدم العلم بالخطاب لا نفس الخطاب!

ص: 57


1- راجع فوائد الأصول 1: 344-345.

وحيث إن الغرض هو تصحيح وجود الأمر حين الاشتغال بالمهم، فيكفي هذا الجواب في إمکان تقارن العصيان مع الأمر، فتقع الصلاة مثلاً من أولها مأموراً بها، فلا تصل النوبة إلی الجواب بعدم اللغوية في فعلية المجعول قبل حلول وقت إمکان الامتثال، إذ يكفي في دفع اللغوية محرکيته نحو المقدمات المفوتة ونحوها.

هذا مضافاً إلی إمکان تصحيح الجزء الأول من الصلاة - في المثال - بالملاك لو قلنا بکفايته في العبادات.

اللهم إلا أن يقال بأن هذا خروج عن هذا الاحتمال الأول إلی الاحتمال الثاني - وهو الشرط المتقدم - .

الوجه الثاني: إن العصيان هو ترك المأمور به في مقدار من الوقت يتعذر عليه الإتيان به فيما بعد في ذلك الوقت، ففوت الأهم - الذي يُحقِّق شرط المهم - لا يتحقق إلا بمضيّ زمان بحيث لا يتمکن المکلّف من إطاعة أمره في ذلك الزمان، وفي هذا الزمان کما يفوت الأهم کذلك لا يمکن الإتيان بالمهم فيه، لأن الأمر بالمهم لا يوجد إلا بعصيان الأهم، ففي الآن الأول لا عصيان فلا أمر بالمهم، فيكون الإتيان بالمتعلق من غير أمر.

ويرد عليه: أولاً: إن العصيان ممتد بامتداد الأمر، وهو شيء واحد واقع في زمان ممتد، لا أنه عصيانات متعددة، وعليه فمع مضي الزمان الأول يتحقق العصيان، فيصدر الخطاب بالمهم مع بقاء نفس العصيان، فکان مقارناً، فتأمل.

وثانياً: إن ما يتوقف علی انقضاء الأمد هو العلم بالعصيان، وأما نفس العصيان فهو لا يحتاج إلی مضي زمان بل يتحقق منذ الآن الأول الذي فيه

ص: 58

يصدر خطاب المهم، وبعبارة أخری: انتزاع العصيان هو الذي يتوقف علی انقضاء الآن الأول، لا نفس العصيان، وذلك لأن العصيان هو عدم الإتيان بالمأمور به وهذا يتحقق منذ اللحظة الأولی.

الوجه الثالث: إن عصيان الأمر بالأهم علة لسقوطه، فلا ثبوت للأمر بالأهم في ظرف العصيان، وذلك لتقارن زمان العلة والمعلول، وعليه فلا يجتمع الأمر بالأهم مع الأمر بالمهم في ذلك الآن، فينتفي الترتب، لاشتراطه بتقارن الأمرين الفعليين في زمان واحد.

وأورد عليه: بأن العصيان ليس علة لسقوط التکليف، إلا إذا فات الموضوع، وذلك لأن سبب الأمر هو الغرض، وذلك الغرض مستمر في ظرف العصيان إذا لم يفت الموضوع.

الاحتمال الثاني: الإناطة بالعصيان على نحو الشرط المتقدّم

وقد قيل بعدم صحته لأنّه خروج عن موضوع الترتب، وإن لم تکن هناك استحالة، حيث يمکن طلب أحد الضدين بعد سقوط طلب الآخر، کالأمر بالتيمم بعد سقوط الأمر بالوضوء.

وذلك لاشتراط تزامن الأمرين الفعليين في الترتب، ومع تحقق العصيان وانتهاء أمده - کما هو المفروض في الشرط المتقدّم - ، فلا تتزامن فيه الفعليتان، فلا يكون من الترتب.

وبيان ذلك کما في کتاب الترتب(1): أن امتداد العصيان مطابق لامتداد الأمر، فإذا کان الأمر بالمهم متأخراً عن العصيان فلا يخلو ظرفه من أحد

ص: 59


1- الترتب: 165؛ موسوعة الفقيه الشيرازي 12: 208-209.

ثلاثة:

1- ففي ظرف العصيان لا وجود للأمر بالمهم، لفرض أن العصيان شرط متقدم.

2- وقبل العصيان لا وجود له أيضاً، لاستلزامه سبق المشروط علی شرطه السابق عليه.

3- وبعد العصيان لا وجود للأمر بالأهم، لأن معنی (بعد العصيان) هو عدم وجود الأمر، إذ مع بقاء الأمر يبقی العصيان، فلا يزول العصيان إلا بانتفاء الأمر.

الاحتمال الثالث: إناطته بالعصيان على نحو الشرط المتأخر

بأن يكون الأمر بالمهم متقدماً علی عصيان الأمر بالأهم.

وأشکل عليه باستلزامه لمحالين:

الأول: استلزامه للشرط المتأخر، وذلك لإناطة الوجوب المتقدم بالعصيان المتأخر.

والثاني: استلزامه للواجب المعلّق، وذلك بلحاظ سبق زمان وجوب المهم علی زمان امتثال المهم.

بيانه(1):

إن (عصيان الأهم) متأخر عن (وجوب المهم)، لأن الفرض کونه شرطاً متأخراً، فيكون زمان امتثال الأهم متأخراً، إذ لا يعقل انفکاك زمان الامتثال عن العصيان، إذ القدرة تتعلق بالطرفين لا بطرف واحد، وإلاّ لکان ضرورة أو امتناع، وعليه: فإذا کان زمان امتثال الأهم متأخراً کان زمان

ص: 60


1- الترتب: 166؛ موسوعة الفقيه الشيرازي 12: 210.

امتثال المهم متأخراً أيضاً، للزوم تعاصر زمان الأهم والمهم في الترتب.

ويرد عليه: مبنیً بإمکان الشرط المتأخر والواجب المعلّق، وأما بناءً فلا يرد عليه إشکال مع الالتزام بالمبنی.

إن قلت: يمکن فرض الشرط المتأخر مع عدم استلزامه للواجب المعلّق، کما لو فرض تزاحم واجبين في زمانين مع عدم قدرة المکلف في الجمع بينهما، کوجوب القيام في النافلة المنذورة وفي صلاة الفريضة، مع کون المهم أسبق زماناً، فيأمر المولی بالقيام في النافلة المنذورة معلقاً علی عصيان الأمر بالقيام في الفريضة - الذي هو أهم - في الزمان اللاحق، فهنا اتحد زمان الوجوب والواجب فلم يكن من الواجب المعلّق في شيء، وقد مرّ تفصيل المثال في شرائط تحقق الموضوع.

قلت: هنا وإن انحلّ التعليق في جانب المهم لکن يبقی الواجب المعلّق في جانب الأهم، فالأمر بالقيام في الفريضة المتأخرة فعلي - لفرض لزوم تعاصر التکليفين الفعليين - مع کون زمانه لاحقاً، فتأمل.

الاحتمال الرابع: إناطته على العزم بالعصيان، أو عدم العزم على الامتثال

وقد أشکل عليه بإشکالين:

الإشکال الأول: ما ذکره المحقق الإصفهاني(1)،

بأنه يلزم منه إما الواجب المعلّق لانفکاك زمان الوجوب عن زمان الواجب، وإما الشرط المتقدم، وإما کلاهما.

بيانه: أن الأمر بالمهم لا يخلو من فروض ثلاثة:

ص: 61


1- نهاية الدراية 2: 217.

1- إن کان في زمن العزم علی العصيان - وهو متقدم علی العصيان - للزم الواجب المعلّق، حيث إن زمان المهم إنّما هو في زمان العصيان الذي هو متأخر عن زمان العزم علی العصيان.

2- وإن کان في زمن العصيان نفسه - وهو متأخر عن العزم علی العصيان - للزم الشرط المتقدم.

3- وإن کان في الزمان المتوسط بين العصيان والعزم عليه، للزم کلا الأمرين.

ويرد عليه: عدم انحصار الفروض في الثلاثة، وذلك لإمکان أن يكون الشرط مقارناً ومن غير تعليق، وذلك بتقارن الشرط والوجوب والواجب زماناً، بأن يأخذ العزم شرطاً إذا قارن زمان الوجوب والواجب، وحيث إن البحث ثبوتي فيكفي هذا الاحتمال الممکن لإبطال الاستحالة، فضلاً عن الإشکال المبنائي بإمکان کل من الشرط المتقدم والواجب المعلّق.

الإشکال الثاني: ما عن المحقق النائيني(1):

من أن عِلة إمکان الترتب - کما مرَّت في المقدمة الرابعة والخامسة من دليله - تقتضي أن يكون الشرط هو العصيان لا العزم عليه، وهي أن يكون الأمر بالأهم يقتضي هدم شرط الأمر بالمهم، واقتضاؤه إنّما هو هدم موضوع الأمر بالمهم، ولا تعرض له بصورة عدم الهدم بالعصيان، کما أن الأمر بالمهم لا يقتضي وضع موضوعه، لأن الحکم لا يتعرض لموضوعه، فلا يكون طلباً للجمع بين الضدين فلم تحصل منافاة بين الأمرين.

ص: 62


1- أجود التقريرات 1: 85.

وعليه: فإن الأمر بالأهم يقتضي بذاته هدم عصيان الأهم، لا هدم العزم علی العصيان.

وأورد عليه: أولاً(1): بأن اقتضاء شيء لشيء يساوق لاقتضائه علته، کما أن اقتضائه لطرده يساوق لاقتضائه طرد علته، وفي الأوامر إرادة إيجاد المتعلق للأمر تقتضي إيجاد علته، وإرادة رفعه تقتضي رفع علته، وإرادة دفعه تقتضي الحيلولة دون وجود علته، وما نحن فيه من الأخير، فإن الأمر بالأهم يقتضي دفع العصيان فيقتضي دفع العزم عليه باعتبار جزء علته.

وثانياً: ما قيل: من أن الذي يقتضي الأمر هدمه أولاً وبالذات ليس هو العصيان وترك الأهم، بل إنّما هو العزم عليه وعدم العزم علی الامتثال، لأن التکليف إنّما يجعل من أجل أن يكون داعياً في نفس العبد، فمقتضاه الأوَّلي إيجاد الداعي والعزم، فهو يهدم العزم علی العصيان وعدم العزم علی الامتثال.

وفيه: عدم جريانه في التوصليات، مضافاً إلی أن الوجدان شاهد بأن ما يجعل التکليف لأجله هو (الفعل بشرط العزم)، ومعنی ذلك إرادة الحصة من الفعل لا طبيعي الفعل، فتأمل.

الاحتمال الخامس: الإناطة باتصاف المكلف بلحوق العصيان

بأن يناط الأمر بالمهم بکون المکلّف ممن سيصدر عنه العصيان في المستقبل، فشرط الأمر بالأهم هو اتصاف المکلّف بأنه سيعصي.

وأشکل عليه: أولاً: بأن اللاحق والملحوق متضايفان، فلابد من

ص: 63


1- الترتب: 172؛ موسوعة الفقيه الشيرازي 12: 218.

تکافئهما قوة وفعلاً، فکيف يمکن أن يكون الملحوق - وهو المکلف الذي سيعصي - بالفعل، مع کون اللاحق - وهو نفس العصيان - بالقوة؟

وفيه(1): أن غير المتکافئين ليسا بمتضايفين، وما هما متضايفان متکافئان.

بيانه: أنه لا تضايف بين ذات اللاحق والملحوق، ولذا يمکن تصور أحدهما من غير تصور الآخر، مع أن المتضايفين متلازمان تحققاً وتعقلاً، نعم يوجد تضايف بين اللاحق بما هو لاحق، والملحوق بما هو ملحوق، وهما متکافئان في التحقق حيث إنهما وجودان ذهنيان يتحققان معاً ويستحيل تصور أحدهما من غير تصور الآخر، فتأمل.

وثانياً: ما في نهاية الدراية(2)

من استحالة هذا الاحتمال من جهة إناطة الوجوب بالشرط المتأخر، فإن کون المکلف ممن يعصي ليس من أکوان المکلف المنتزعة عنه بلحاظ العصيان المتأخر، بل إخبار بتحقق العصيان منه في المستقبل، فلا کون ثبوتي بالفعل ليكون شرطاً مقارناً للوجوب.

وفيه(3): أنه لا يشترط وجود صفة عينية في صدق العنوان الانتزاعي علی المنتزع منه واتصافه به حقيقة، بل يكفي في الصدق کونه لو عُقل عُقل معه ذلك العنوان، کما في ذاتي باب الکليات حيث ينتزع الجنس والفصل مثلاً من الوجود مع عدم کونهما صفة عينية فيه، وکما في ذاتي باب البرهان - وهو ما لم يكن مقوماً للذات ولکن کان لحاظه بنفسه کافياً في انتزاع ذلك العنوان

ص: 64


1- الترتب: 176؛ موسوعة الفقيه الشيرازي 12: 222.
2- نهاية الدراية 2: 215.
3- الترتب: 177؛ موسوعة الفقيه الشيرازي 12: 223.

دون توقف ذلك علی لحاظ شيء آخر - کانتزاع الزوجية من الأربعة، وکما فيما لم يكن ذاتياً لکن توقف انتزاعه علی لحاظ أمر خارج عنه، کانتزاع عنوان الأب والإبن.

وما نحن فيه من قبيل الثالث، فإن تصور الذات مع لحاظ وصف تلبسها بالمبدأ في المستقبل کاف في انتزاع عنوان (الملحوق بالعصيان) وصدقه عليه من الآن حقيقة، فيكون شرطاً مقارناً لا متأخراً.

وثالثاً: لزوم الخلف، حيث إن المکلّف مع کونه ممن يعصي يجوز له ترك المهم إلی فعل الأهم، وذلك لإطلاق وجوب الأهم، مع أنه لا يجوز ترك الواجب التعييني، وعلی جواز الترتب يجب المهم تعييناً مع تحقق شرطه.

وفيه: أن الوجوب التخييري إنّما يكون مع بقاء الموضوع، کخصال الکفارة، وليس من الواجب التخييري جواز ترك الواجب إلی غيره بهدم موضوعه، کالحاضر الذي يجوز له ترك التمام بالسفر، وفيما نحن فيه ترك المهم إلى فعل الأهم هو من تبديل الموضوع، فتأمل.

ص: 65

فصل هل يجوز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه

وهنا أمور:

الأول: قيل: المراد بالجواز الإمکان الوقوعي، أما الذاتي فلا إشکال في إمکانه لعدم امتناع الإنشاء في نفسه.

وأورد عليه: بعدم الفرق بينهما إلا بالاصطلاح، وذلك لأنه لا فرق في الاستحالة بين کون الشيء محالاً في نفسه کاجتماع النقيضين، أو کونه مستلزماً للمحال کالأمر بالضدين، وذلك لاستحالة کليهما بعد عدم إمکان انفکاك اللازم عن الملزوم في المحال الوقوعي.

الثاني: المراد بالأمر هو الأمر الحقيقي الذي هو بعث نحو الشيء، أما الأمر الصوري فلا إشکال فيه حتی مع العلم بانتفاء شرطه، لعدم کونه بعثاً حقيقة، وقد مثّلوا له بالأوامر الامتحانية.

وفيه تأمل: لأنها علی أقسام:

فمنها: ما کان بعثاً حقيقة نحو المراد لأجل الاختبار، کمن يأمر عبده بالطبخ، ليری کيفية طبخه، ليأمره بعد ذلك للطبخ للضيوف، فهنا بعث حقيقي بداعي الامتحان، وفي هذا القسم يجب علی العبد الامتثال حتی لو علم بأن الأمر امتحاني، بل قد يصرّح المولى بكونه امتحانياً، مع لزوم امتثاله قطعاً.

ومنها: ما کان بغرض اختبار إطاعة العبد عن عصيانه، مع عدم تعلّق غرض

ص: 66

أصلاً بالمتعلّق، فهنا أيضاً بعث حقيقي ويجب علی العبد الامتثال أيضاً.

ومنها: ما کان صورة أمر من غير أن يكون بعثاً حقيقياً، فهذا ليس امتحاناً، وإدراجه في الامتحان مجاز، ولا يجب امتثاله لعدم کونه بعثاً أصلاً.

ولا يخفی أن المراد من البعث الحقيقي: هو إمکان کونه باعثاً، فيكون مضايفه إمکان الانبعاث، فيدخل فيه الأوامر التعذيرية لإتمام الحجة، فإنها أوامر حقيقية مع عدم کونها بعثاً حقيقياً، للعلم بعدم انبعاث العبد، ومنه أمر الکفار بالفروع مع العلم بعدم امتثالهم.

الثالث: الشرط هنا يراد به شرط المجعول، لا شرط الجعل، وإلا فإنه من الواضح استحالة الشيء بانتفاء شرطه، إذ الشرط جزء من العلة، وانتفاء المعلول بانتفاء العلة أمر بديهي، فيكون رجوع الضمير إلی الأمر من باب الاستخدام، فالأمر يراد به الإنشاء والضمير يراد به الفعلية، فکان الأمر في مرتبتين.

إن قلت: إن الإنشاء مع العلم بعدم تحقق شرط المجعول يستحيل أن يكون بداعي البعث، للعلم بعدم الانبعاث، وأما بداعي الامتحان فخارج عن العنوان، والأمر من غير داع لغو أو محال؟

قلت: لا تنحصر الدواعي في البعث أو الامتحان، بل قد يكون الغرض في المقدمات، مضافاً إلی أن إخراج داعي الامتحان عن العنوان لا وجه له، فتأمل.

الرابع: قد يقال: إن ثمرة هذا البحث هو جواز النسخ قبل العمل أو قبل حلول وقت العمل، فلا يحتاج إلی تأويل ما ورد من نسخ بعض الأحکام قبل العمل بها، کالأمر بذبح إسماعيل.

أو يقال: بأنه تصحيح لشمول التکليف للکفار والعصاة ونحوهم ممن کان يعلم الشارع بعدم امتثالهم أصلاً.

ص: 67

فصل في تعلق الأمر بالطبائع أو الأفراد

ولا يخفی أن المسألة أعم من الأمر والنهي، بل والإنشاءات الأخری، فهنا أمور:

الأمر الأول: تظهر ثمرة هذا البحث في مسألة الاجتماع، فلو قلنا بتعلقها بالأفراد، فتکون الخصوصيات الفردية داخلة في متعلق الأمر، فلا يعقل تعلق النهي بها، لأنه من طلب الضدين، وأما لو قلنا بتعلقها بالطبائع فقد يقال: بإمكان الاجتماع، لأنهما تعلقا بطبيعتين، فيكون کالنظر إلی الأجنبية في الصلاة، حيث يحرم نظره وتجب صلاته.

الأمر الثاني: قد يتوهم أن المقولة المعروفة (الماهية بما هي ليست إلا هي، لا موجودة ولا معدومة، ولا مطلوبة ولا غير مطلوبة... ولا متصفة بأية صفة أخری)، تدل علی عدم إمکان تعلق الأمر بالطبيعة!!

وفيه: أن المراد هو أنها في مرتبة ذاتها غير موصوفة بشيء إلا بجنسها وفصلها - حيث تترکب منهما - وهذا لا ينافي عروض الأوصاف المختلفة عليها في مرتبة ما بعد ذاتها، فقولهم: (بما هي) إنّما هو لتحديد المعروض، فإنه لو کان الوجود ذاتي لها استحال عليها العدم وکانت واجب الوجود، وإن کان العدم ذاتي لها کانت ممتنع الوجود بالذات.

إن قلت: قولهم (لا موجودة ولا معدومة) يستلزم ارتفاع النقيضين وهو

ص: 68

محال.

قلت: الاستحالة في الخارج لا في وعاء لحاظ ذات الماهية، وفي الذهن لها وجود ذهني، لکن له إشارة إلی ذلك المفهوم القابل للوجود وللعدم في الخارج.

والحاصل: إن الممتنع هو إدخال شيء من العوارض في ذات الماهية فيستحيل عليها غير ذلك، أما عروض شيء عليها من غير إدخاله في حقيقتها فلا شك في إمکانه.

الأمر الثالث: في الفرق بين الطبيعة والفرد، فمن جهة: لا شك في أن الأفراد متباينة، ولذا لا يصح حمل بعضها علی بعض، ومن جهة أخری: نری جهة مشترکة بينها بحيث يصح انتزاع ماهية واحدة منها، وهذه الجهة المشترکة ذاتية لا عرضية - فيخرج مثل الجامع العنواني الذي مرّ تفصيله في المعنی الحرفي - ، وبذلك يتبين أن الجهة المشترکة الذاتية هي الطبيعة، والخصوصيات المتباينة العارضة علی تلك الطبيعة هي التي يتشکّل منها الأفراد.

إن قلت: الطبيعة أمر ذهني، فکيف تکون معروضاً للخصوصيات الفردية التي تتعلق بالوجود الخارجي؟ وهل يعقل أن يكون العارض والمعروض في عالمين؟ وکيف يقال بالنسبة إلی مثل عروض الإمکان علی الممکن، إذا کان الممکن من الوجودات الخارجية مع أن الإمکان أمر ذهني، إذ لو کان خارجياً لزم التسلسل؟

قلت(1): إن الطبيعة تلاحظ بما هي مرآة للخارج، فالعارض والمعروض

ص: 69


1- نهاية الأفکار 1: 380.

کلاهما ذهني، لکن الموجود الخارجي يكون معروضاً بالعرض حيث إن تلك الصور لوحظت فانية في الخارج، فتأمل.

الأمر الرابع: لا إشکال ثبوتاً في کل من تعلق الأمر بالطبيعة وبالفرد.

وقد أشكل علی تعلق الأمر بالأفراد بإشكالين:

الإشكال الأول: بأنه لا يكون الفرد فرداً إلا بعد وجوده، فإن الشيء ما لم يوجد لم يتشخص، وحينئذٍ لا يعقل تعلق الأمر به، لأنه من طلب الحاصل.

وفيه: أن المراد هو إيجاد الفرد في الخارج، أي يكون الأمر بعثاً نحو الفرد الخارجي الذي ليس بموجود حين الأمر، ويكون الغرض من الأمر إيجاد الداعي في العبد لإيجاده.

إن قلت: الإيجاد والوجود شيء واحد حقيقة، وفرقهما بالاعتبار، فإن لوحظ بالنسبة إلی الفاعل کان إيجاداً، وإن لوحظ بالنسبة إلی القابل کان وجوداً، ککل فعل وانفعال، وعليه: فإذا استحال کون متعلق الأمر الوجود فيستحيل کونه الإيجاد!!

قلت: المقصود هو أن متعلق الغرض هو ما سيوجد لاحقاً بإيجاد المکلف له، فلا انفکاك بين الوجود والإيجاد، نعم هو حين الأمر غير موجود خارجاً، لکن المولی يلاحظه فيكون ما في ذهنه مرآة لما في الخارج، وبهذا البيان لا محذور في تعلق الأمر بالفرد.

وبعبارة أخری: إن المولی يتصور الشيء فيشتاق إليه، وحيث إنه غير موجود فيبعث العبد عبر الأمر لإيجاده خارجاً، وفي مولی الموالي يعلم

ص: 70

بالمصلحة في الشيء الذي ليس بموجود، فيبعث إليه لإيجاده لتتحقق تلك المصلحة.

الإشکال الثاني: بأن الأفراد غير متناهية، فيستحيل تعلق الطلب بکلّها علی سبيل البدل.

وفيه: أن الخصوصيات الفردية وإن کانت کثيرة جداً لکنها متناهية، مضافاً إلی عدم تناهي الباري جلّ وعلا فلا محذور في عدم تناهي الطلب، هذا فضلاً عن أن الطلب واحد وإنّما المتعلّق غير متناهي فرضاً، فلا محذور في صدور هکذا طلب من الإنسان أيضاً.

أما في مرحلة الإثبات:

فالصحيح هو تعلق الأمر بالطبائع لا الأفراد، وذلك لعدم تعلّق غرض المولی بالخصوصيات الفردية، فإنه لو فرض إمکان تجرد فعل المکلف عن کل الخصوصيات الفردية لکان غرضه يتحقق من دونها، نعم في الخارج تتلازم الطبيعة مع الخصوصيات، لکن مجرد التلازم أو الملازمة لا يكون سبباً لسراية حکم أحد المتلازمين أو اللازم والملزوم إلی الآخر، کما مرّ في بحث المقدمة.

الأمر الخامس: في منشأ هذا البحث.

1- قيل: إن هذا البحث يرتبط ببحث وجود الطبيعي في الخارج أو عدم وجوده، فعلی الأول يكون تعلق الحکم بالطبيعي ممکناً، وعلی الثاني لا يمکن تعلق الحکم به لأنه تکليف بغير المقدور.

وأشکل عليه: بأن البحث معقول علی کلا القولين، لأن القائلين بعدم

ص: 71

وجوده في الخارج يقصدون عدم وجوده بالذات، أما وجوده بالعرض فلا ينکرونه، بل هو ثابت علی کل حال، ولذا صح الحمل في قولنا: (زيد إنسان).

2- وقيل: إنه يرتبط بالخلاف في أن (الشيء ما لم يتشخص لم يوجد)، أو أن (الشيء ما لم يوجد لم يتشخّص)، بمعنی أن معروض الوجود هل هو الماهية الشخصية أو ذات الماهية، فعلی الأول يكون الحکم متعلقاً بالفرد، وعلی الثاني يتعلق بالطبيعة، وذلك لأن الإرادة التشريعية في کيفيتها تابعة للإرادة التکوينية.

وأورد عليه: بعدم ثبوت کون متعلق الإرادة التشريعية کالتکوينية، فيمکن علی الأول أيضاً تعلّق الحکم بالطبيعة بعدم ملاحظة مشخصاتها.

3- وقيل: إن النزاع لأجل تحديد أن الواجبات الشرعية - التي يجب فرد منها علی سبيل البدل - هل وجوبها علی نحو التخيير العقلي أم الشرعي؟ فعلی القول بکون المتعلق هو الطبيعة يكون التخيير عقلياً، إذ هناك حکم واحد متعلق بالطبيعة التي نسبتها إلی الأفراد سواء، فالترديد بينها عقلي، وعلی القول بکون المتعلّق الأفراد تکون هنالك أحکام متعددة بعدد الأفراد علی سبيل البدل، وهذا هو التخيير الشرعي.

وأشکل عليه(1): بأن الأمر يرتبط بماهية التخيير الشرعي، فإن قيل: بأنه تعلق الحکم بکل فرد وبکل خصوصية بنفسها - بمعنی أن کل خصوصية لوحظت بنفسها وأخذت في متعلّق الوجوب التخييري - ، فحينئذٍ يرجع

ص: 72


1- منتقی الأصول 2: 478.

التخيير الشرعي إلی العقلي، وذلك لعدم ملاحظة کل فرد بخصوصيته المباينة لخصوصية الآخر، بل يلتزمون بملاحظة الجهة الجامعة والمشترکة بين الأفراد بما هي أفراد، وأما لو قيل: بأن مرجع التخيير الشرعي إلی تعلّق الحکم بعنوان انتزاعي ينطبق علی کلتا الخصوصيتين، مثل عنوان (أحدهما)، فيكون الجامع انتزاعي عنواني، عکس التخيير العقلي الذي يكون الجامع حقيقياً، فحينئذٍ يصحّ ما ذکره، إذ بناءً علی کون المتعلّق هو الفرد يكون الجامع عنوانياً - وهو الفرد - فيكون التخيير شرعياً، وأما بناءً علی کون المتعلّق الطبيعة يكون الجامع حقيقياً فيكون التخيير عقلياً.

وسيأتي مزيد بيان في بحث الواجب التخييري.

ص: 73

فصل في نسخ الوجوب

اشارة

لو نسخ الوجوب فهل يبقی الجواز - بمعناه الأعم - أو الاستحباب؟

والکلام في مرحلتي الدلالة اللفظية والأصل العملي:

المرحلة الأولى: في دلالة اللفظ

والظاهر أنه لا دلالة، لا من الدليل الناسخ، ولا من الدليل المنسوخ.

أما الدليل الناسخ: فدلالته تنحصر في رفع ما تضمنه الدليل المنسوخ من الحکم، ولا نظر له إلی إثبات حکم آخر أصلاً.

وأما الدليل المنسوخ: فکذلك لا دلالة له علی حکم من الأحکام، لا بالدلالة الالتزامية لما مرّ في أنها تسقط بسقوط الدلالة المطابقية، ولا بالدلالة المطابقية، كأن يقال: إن الأمر يدل علی طلب الفعل مع المنع عن الترك، والدليل الناسخ إنّما رفع المنع، ولم يرفع الطلب.

وعدم الدلالة لجهتين:

الأولی: عدم ترکب الأحکام، بل هي أمور بسيطة، کما مرّ تفصيله.

والثانية: عدم إمکان بقاء الجنس من غير فصل، فلو فرض ترکب الوجوب فإن الطلب جنس يشمل الوجوب والاستحباب، وفصل الوجوب هو المنع من الترك، فلو زال الفصل زال الجنس معه، إلا لو دلّ الدليل علی حدوث فصل جديد، بل لو حدث فصل جديد فلابد من جنس جديد، لما

ص: 74

مرّ من أن الجنس والفصل ونحوهما أمور انتزاعية، وذلك لأصالة الوجود، وهي ترتبط بالماهية، وکل انتزاع يختلف عن الانتزاع الآخر، وقد مرّ أن نسبة الطبيعي إلی الأفراد کنسبة الأبناء إلی الآباء، فتأمل.

نعم لو قلنا بأن دلالة الأمر علی الوجوب إنّما هي بدلالة العقل، بأن ينتزع العقل الوجوب من طلب الفعل مع عدم الترخيص في الترك، فحينئذٍ يمکن إثبات الاستحباب، وذلك لأن الدليل الناسخ يُثبت حينئذٍ الترخيص، ولا يُسقط أصل الطلب، فيبقی الطلب مع الترخيص في الترك وهو الاستحباب، لکن قد مرّ الإشکال في أصل المبنی، فراجع.

المرحلة الثانية: في مقتضى الأصل العملي

قد يقال: بجريان الاستصحاب، بأنه حين الوجوب کان جائزاً بالمعنی الأعم، فيستصحب هذا الجواز.

وأورد عليه: بأنه من القسم الثالث من استصحاب الکلي، فلا يجري.

وأشکل عليه: أولاً: بأن الاستصحاب هنا من قبيل النوع الثاني من القسم الثالث وهو ما کان تباينٌ دقةً مع وحدة الموضوع عرفاً، بأن کان أحدهما الفرد الشديد، والآخر الفرد الضعيف، کاستصحاب السواد، حين زوال السواد الشديد، مع احتمال تبدله بالسواد الخفيف أو بالبياض، وما نحن فيه کذلك، لأن الفرق بين الوجوب والاستحباب إنّما هو في الطلب الشديد والطلب الضعيف، وعليه: فلو شك في بقاء الجواز في ضمن الاستحباب صحّ إجراء استصحاب الکلي.

وفيه: أن جريان الاستصحاب في هذا النوع من القسم الثالث إنّما هو

ص: 75

لحفظ الوحدة العرفية، فالعرف يری السواد الخفيف نفس السواد السابق الشديد، والملاك في الاستصحاب وحدة الموضوع عرفاً، فلا يكفي وحدة الموضوع دقة، کما لا يضرّ تعدد الموضوع دقة مع وحدته عرفاً، وفيما نحن فيه يری العرف الوجوب والاستحباب وکذا سائر الأحکام أفراداً متباينة.

وثانياً(1): بأن الوجوب والاستحباب إن أريد منهما الإنشاء بداعي البعث، فهما متباينان عقلاً وعرفاً، وليس التفاوت بينهما بالشدة والضعف.

وإن أريد منهما الإرادة الحتمية والندبية، فهما مرتبتان من الإرادة، ولا تفاوت في الإرادة بين الشديدة والضعيفة بل هي نوع واحد، بل لا تفاوت بينهما - شدة وضعفاً - في الوجود أيضاً.

وحينئذٍ علی مبنی جعل الحکم الظاهري في الأمارات والأصول فلا يجري الاستصحاب، لأن الإرادة ليست حکماً شرعياً ولا موضوعاً لحکم شرعي.

وأما علی مبنی التنجيز والتعذير، فيصحّ استصحاب الإرادة، لأن اليقين بها کما يكون منجزاً لها حدوثاً يكون منجزاً لها بقاءً بالاستصحاب.

وثالثاً: إن الاستصحاب هنا ليس من الکلي أصلاً، بل هو استصحاب شخصي، وذلك لأن عدم الحرمة کان معلوماً سابقاً فيجري استصحابه، ولا يضرّ اقتران عدم الحرمة مع الوجوب، وذلك لأن العدم لا يتغيّر ولا يتعدّد باختلاف مقارناته.

وفيه: أن الوجوب کما کان مقترناً مع عدم الحرمة کذلك کان مقترناً مع

ص: 76


1- نهاية الدراية 2: 265-266.

عدم الکراهة وعدم الاستحباب وعدم الإباحة بالمعنی الأخص، وحيث نعلم إجمالاً بتبدّل الوجوب إلی أحد هذه الأربعة فتتعارض استصحابات عدمها لو جرت، فلا يجري أيٌّ منها، فتأمل.

ص: 77

فصل في الوجوب التخييري

اشارة

وفيه بحثان:

البحث الأول: في إمكانه

لا إشکال في وقوع الوجوب التخييري في الأوامر الشرعية، وکذا بين الموالي العرفية، وهو أدل دليل علی الإمکان، لکن وقع البحث عن کيفية تصويره بما لا يستلزم منه المحال.

فقد يقال: کيف يكون واجباً مع جواز ترکه؟

وقد يقال(1):

بأنه لا يمکن تعلق إرادة الفاعل بأحد شيئين أو الأشياء من غير تعيين.

ولحلّ الإشکال ذکرت وجوه، منها:

الوجه الأول: إرجاعه إلی الوجوب التعييني، بأن يكون الواجب هو ما يختاره المکلف، فالواجب علی کل مکلّف ما يختاره، بل المکلّف الواحد إذا اختار تارة هذا وأخری ذاك کان الواجب في کل مرّة غيره في المرّة الأخری.

وأشکل عليه: أولاً: بأن ذلك غير معقول مطلقاً، لأن إيجاب ما يختاره

ص: 78


1- فوائد الأصول 1: 232.

من طلب الحاصل، إذ قبل الاختيار لا وجوب له، وبعد الاختيار يكون الفعل قد وقع فلا معنی لطلبه.

وفيه: أن المراد ليس إيجاب ما اختاره فعلاً، بل مرجع الأمر إلی قضية شرطية، أي إيجاب ما سيختاره.

إن قلت: يلزم من هذا إما الواجب المعلّق أو الشرط المتأخر.

قلت: لا يلزم المعلّق لأن الوجوب والواجب فعليّان، وليس الواجب استقبالياً، مضافاً إلی أن المبنی إمکانهما کما مرّ.

وثانياً: بأن ذلك غير معقول في صورة العصيان، فإنه لو عصی ولم يأت بأيٍّ من خصال التخيير، فيلزم أحد محذورين: إما ارتفاع الوجوب لعدم تحقق موضوعه، فيرتفع العصيان، فيلزم من العصيان عدم العصيان وهو محال، وإما بقاء الوجوب بلا موضوع وهو محال أيضاً.

إن قلت: إن الواجب هو ما يختاره بنحو القضية الشرطية.

قلت: لا يمكن إجراء هذا الجواب هنا، وذلك لأن القضية الشرطية صادقة حتى مع عدم تحقق طرفيها، لكن حيث لم يختر المكلّف أيّاً منهما لم يتحقق شرط الوجوب فلا وجوب لانتفاء شرطه، وهذا بديهي البطلان.

وثالثاً: إن ذلك يخالف قاعدة الاشتراك في التکليف، حيث يختلف الواجب علی الأشخاص، بل علی الشخص الواحد في المرات المتعددة.

وفيه: أن القاعدة مستفادة من دليل لبيّ، وقد تمّ تخصيصها في موارد متعددة، فليكن ما نحن فيه من تلك الموارد، مضافاً إلی أن الجميع مشترك في التکليف وهو (وجوب ما يختاره)، واختلاف المتعلق لا يوجب تعدد

ص: 79

الحکم، کما في وجوب الوفاء بالنذر، فهو حکم يشترك فيه الجميع، مع اختلاف متعلقات النذور.

ورابعاً: إنه خلاف ظاهر الدليل في الواجبات التخييرية.

وفيه: أن کلامنا في مرحلة الثبوت، ولا غضاضة في مخالفة ظاهر الدليل إذا انحصرت معقولية الشيء في ما يقتضي تأويل الدليل.

وخامساً: أن هذا الوجه خلاف الوجدان، حيث لا نجد في أنفسنا أن متعلق هذا الوجوب هو ما يختاره المکلف.

الوجه الثاني: إرجاعه إلی وجوبين مشروطين، بأن يكون الواجب هذا إن لم يأت بالآخر، والواجب الآخر إن لم يأت بهذا، وذلك لأن لکل واحد ملاك يخصّه، واستيفاء أحدهما مانع عن استيفاء الباقي، وتخصيص أحدهما بالوجوب بلا مرجح.

وأشکل عليه: أولاً: إن الوجوب إنّما هو للملاك الملزم، ففرضهما مشروطين إنّما هو بسبب أن امتثال أحدهما يكون مفوتاً لملاك الآخر، ولازم ذلك هو وجوب الإتيان بهما معاً لو تمکن من الجمع، لأنه حينئذٍ يتمکن المکلف من الجمع بين الملاکين الملزمين، وهذا اللازم لا يمکن الالتزام به قطعاً.

وفيه: أنه يمکن ثبوتاً أن لا يتمکن المکلّف من استيفاء کلا الملاکين حتی لو جمع بينهما، بل يتنصّف الملاك، بأن يكون کل واحد منهما محرزاً لبعضه، وعليه فلا يجب الجمع لعدم إمکان إحراز الملاکين الملزمين معاً، نظير ما لو أمر المولی بالإتيان بأحد طعامين مع وجود ملاك الإشباع في کل

ص: 80

واحد منهما، فلا يجب الجمع بينهما لعدم إمکان اشباعين حتی لو أکل منهما.

وثانياً: بأن التزاحم إذا کان قبل الخطاب فلا يمکن أن يكون کل واحد تاماً في الملاکية، فبالنتيجة بعد الکسر والانکسار يكون الملاك التام واحداً ويكون العبرة به، ومع وحدة الملاك لا تکون أفراد الواجب التخييري من الواجب المشروط، فإنه مبني علی تعدد الملاکات.

نعم لو کان التزاحم بعد الخطاب - کإنقاذ الغريقين - کان خطاب کل واحد منهما مشروطاً بعدم فعل الآخر، لتمامية الملاك في کل واحد، وذلك لاشتراط التکليف بالقدرة، وهي إنّما تکون في حال عدم فعل الآخر.

وفيه: أن ما ذکر إنّما يتم لو کان أحد الملاکين أقوی، فيترجح علی الآخر، فيؤمر به، ويسقط الآخر، أما لو تساوی الملاکان فلا وجه لترجيح أحدهما علی الآخر، وحيث لا يمکن الجمع بينهما - لعدم التمکن من إحراز الملاکين معاً کما سيأتي - ، فلا طريق إلا بتأثيرهما معاً علی نحو الواجب المشروط، فتأمل.

وثالثاً: إن ذلك يستلزم معصيتين إذا ترکهما معاً، وذلك لتحقق شرط الواجب المشروط في کليهما، مع أن المتسالم عليه هو استحقاق عقاب واحد في ترك الواجبات التخييرية.

وفيه: أن ملاك کليهما وإن کان فعلياً، لکن تحصيل کلا الملاکين غير ممکن، حيث إن فوات أحدهما علی المولی مما لابدّ منه، فلا تعدد للعقاب حينئذٍ.

ص: 81

نعم(1)

لو کان ترك کل واحد منهما سبب لاتصاف الآخر بالملاك، فقد فوّت العبد علی المولی ملاکين، بينما کان يمکنه عبر الإتيان بأحدهما أن يحصّل أحد الملاکين، ويرفع موضوع الملاك الآخر.

ورابعاً: إن هذا الوجه يبتني علی صحة القول بالترتب، فإنه التزام به - لأن وجوب کل واحد منهما مشروط بترك الآخر - ، فلا يمکن للقائل بالامتناع أن يلتزم بهذا مع أنه ترتبين اثنين.

وفيه: أ نه لو کان الواجبان مشروطين فلا يلزم الترتب، لأن المحذور في الترتب هو كون أحدهما مطلقاً وبترکه يتحقق موضوع الآخر فيستلزم طلب الضدين وهو محال کما مرّ تفصيله، أما لو کان کلاهما مشروطاً بترك الآخر فلا يستلزم طلب الضدين، فلم يبق محذور.

وخامساً: عدم عموم هذا الوجه لکل الواجبات التخييرية، حيث لا يشمل الأمرين الضمنيين - کالحمد والتسبيحات - ، وذلك لأن الواجبات الضمنيّة مجعولة بجعل واحد لا جعول متعددة.

وفيه: أن الجعل الواحد لا ينافي الواجبين المشروطين، وذلك لانبساط الوجوب الواحد علی کل الأجزاء بکيفياتها، فلا مانع من القول بانبساطه علی الحمد والتسبيحات المشروطين.

وسادساً: إن هذا الوجه خلاف الوجدان، حيث نری في الواجبات التخييرية العرفية ثبوت وجوب واحد لا وجوبين، بل لا نری إلا غرضاً واحداً يمکن تحصيله بکل واحد من خصال الواجب التخييري.

ص: 82


1- مباحث الأصول 3: 285.

الوجه الثالث: إن الواجب هو الجامع، فالملاك واحد، وبما أنا لا نعرف ذلك الجامع، ولامصاديقه، فيبيّن الشارع تلك المصاديق، فمرجع التخيير الشرعي إلی التخيير العقلي.

وقد يستدل لهذا بقاعدة الواحد، ولکن قد مرّ الإشکال عليها، وعلی فرض صحتها فهي تجري في الواحد الشخصي لا الواحد النوعي، إذ يمکن صدور الواحد النوعي عن المتعدد، کالحرارة الصادرة عن الحرکة والنار والکهرباء مثلاً، وادعاء الجامع فيها لا يخلو عن مصادرة، بل خلاف الواقع.

إن قلت: يعتبر في الجامع أن يكون أمراً عرفياً يصحّ تعلق التکليف به بنفسه، بحيث يكون من المسببات التوليدية، وهذا لا يوجد في الواجبات التخييريّة.

قلت: هذا لو أراد المولی الأمر بالجامع، فلابد من معرفة المکلفين بمصاديقه - ولو بعضها - ليتمکنوا من الامتثال، أما لو تعلّق الغرض بجامع مخفيّ لا يتمکن المکلف من معرفة مصاديقه، فإنه لابد من الأمر بالمصاديق، فليكن هکذا في الواجبات التخييرية.

الوجه الرابع(1): أن يفرض غرضان، لکل منهما اقتضاء إيجاب ما يُحصّل ذلك الغرض، لکن مصلحة التسهيل اقتضت الترخيص في ترك أحدهما، فحينئذٍ يوجب المولی کليهما - لوجود الغرض الملزم في نفسه - لکن مع الترخيص في ترك کل واحد منهما إلی البدل، فيكون التخيير شرعياً من دون لزوم الإرجاع إلی الجامع.

ص: 83


1- نهاية الدراية 2: 270-271.

وفرق هذا عن الوجه الثاني أن ذلك کان يفرض وجوبين مشروطين، وهذا يفرض وجوبين مطلقين.

وأشکل عليه: بمخالفته لظاهر الدليل، حيث يدل علی وحدة الجعل لا تعدده.

وهذا الإشکال يمکن بيانه بطرق مختلفة، فتارة: باستلزامه خلاف الظاهر في وجود وجوبين مستقلين، وأخری: بأن إحراز وجود ملاکين لا يمکن إلا عبر الخطاب، وظاهره وحدة الملاك، وثالثة: بعدم الدليل علی وجود مصلحة التسهيل، ورابعة: بأنه لا دليل علی کون فعل کل واحد منهما رافعاً لموضوع الآخر.

ويرد عليه: بأن الکلام إنّما هو في کيفية تصوير الواجب التخييري في مرحلة الثبوت لدفع الإشکال العقلي، فإذا انحصر الوجه في هذا فلابد من القول به.

الوجه الخامس: إن الإرادة تعلقت في الواجب التخييري بکل واحد من الشيئين علی البدل، وذلك بأن يكون کل واحد منهما بدلاً عن الآخر(1).

إن قلت: أمر الإرادة دائر بين الوجود والعدم، فکيف تتعلق بالشيئين علی البدل؟

قلت: إن عدم الإمکان إنّما هو في إرادة (الفاعل)، فلابد من إرادته شيئاً تعييناً ليفعله، وأما (الآمر ) فلا محذور في تعلق إرادته بالشيئين علی البدل، فيكون نظير إرادة الآمر بالکليّ مع إرادة الفاعل للجزئي بخصوصياته الفردية.

ص: 84


1- فوائد الأصول 1: 235.

وبعبارة أخری: الإرادة التکوينية لا يمکن تعلقها إلاّ بالجزئي المعلوم، وأما الإرادة التشريعية فهي إيجاد الداعوية نحو الشيء ولا محذور بأن يكون نحو الشيئين علی البدل.

وفيه: أن کان المراد الفرد المردّد فيرجع إلی الوجه الآتي وسنتکلم حوله، وإن کان الأمر نحو الجامع فيرجع إلی الوجه الثالث، فلا وجه يتعقّل بتعلق الإرادة بشيء لا علی التعيين، فتأمل.

الوجه السادس: تعلّق الوجوب في الواجب التخييري بالفرد المردد - هذا أو ذاك - لقيام الغرض بأحدهما، فيأمر به لا علی التعيين.

وأشکل علی الفرد المردد بوجوه، منها:

الإشکال الأول: بأن الفرد المردد لا وجود له في الخارج ولا في الذهن، فکيف يمکن تعلّق العَرَض به، ومن البديهي استحالة قيام العرض من غير معروض، وذلك لأن الوجود يساوق التشخص، فلا مجال للترديد في الموجود بما هو موجود.

وأجاب الشيخ الأعظم(1)

- في مسألة بيع صاع من صبرة - بأن المحال تعلّق العرض الحقيقي بالمردد، أما الاعتباري فهو خفيف المؤنة، حيث يمکن اعتبار ما ليس بموجود، أو اعتبار وصف لما ليس بموجود.

الإشکال الثاني: استلزامه الخلف، لأن وصف المعيّن بالمردد يستلزم: إما تعيّن المردد، أو تردد المعيّن(2).

ص: 85


1- المكاسب، البيع 4: 251.
2- نهاية الدراية 2: 271-272.

وبتعبير آخر: إن أريد مفهوم المردّد، فهو ليس بمردد بل معيّن وهو الجامع بين الفردين بجامع عنواني انتزاعي، وإن أريد مصداق المردّد فهو مستحيل سواء في الذهن أم في الخارج، لأن الوجود يساوق التشخص.

وأجيب: بأن مفهوم الفرد المردد متعيّن في نفسه ولذا هو قابل للتصور ويمکن الحکم عليه، وبما أن الصفات النفسية لا تتعلّق بالخارجيات لتغاير عالم الذهن وعالم الخارج فلابد من أن يكون البعث نحو المفهوم الذهني من غير ارتباط له بالخارج، نظير الإخبار عن أحد شيئين کمجيء زيد أو عمرو مع إمکان عدم مجيء کليهما، ومع ذلك حصل الإخبار، کذلك في الإنشاء.

وأورد عليه: بأن الغرض لا يترتب علی (مفهوم أحدهما)، فلا يكون البعث نحوه، بل يترتب علی کل واحد منهما بواقعه الخارجي.

الإشکال الثالث: إنه يمکن تعلق الصفات الاعتبارية بالفرد المردد، لکن للبعث خصوصية تمنع من تعلّقه بالفرد المردد، حيث إنه لإيجاد الداعي في المکلّف، وحيث لا يمکن تعلّق إرادة المکلّف بالفرد المردد لعدم إمکان إيجاده، فلا يكون التکليف المتعلّق بالفرد المردد قابلاً للتحريك، فيمتنع هذا التکليف.

والحاصل: إنه حتی لو قلنا بإمکان تعلّق الأعراض بالفرد المردد، لا يمکن القول بتعلّق البعث به للمحذور المذکور.

وفيه نظر: لإمکان التحرك نحو أحد الأمرين علی نحو التعيين، فالأمر وإن کان علی نحو الترديد، لکن الانبعاث ممکن بالتوجه إلی المعيّن،

ص: 86

وبذلك يحصل غرض المولی.

والأقرب الجواب عن کل الإشکالات بما في المنتقى(1):

من أن مفهوم الفرد المردد معيّن في الذهن، والبعث نحوه بما هو مرآة للخارج، وقد مرّ أن الأمر إنّما هو لإيجاد الداعوية، أي إمکان الانبعاث نحو الشيء، فيكون حقيقة الأمر هو إمکان البعث، ومن الواضح أنه يمکن الانبعاث نحو المصداقين علی سبيل البدل ولکن بواسطة مفهوم أحدهما.

وهکذا الأمر في الإخبار بالمردد، فهو إخبار عن مفهوم ذهني معين جعل مرآة للواقع الخارجي، فتأمل.

الوجه السابع: تعلّق الأمر بالکلي الانتزاعي، الذي هو جامع عنواني، وهو عنوان أحدهما، وتکون المصاديق الخارجية مصاديق لهذا العنوان الانتزاعي.

ولا يخفی رجوع هذا الوجه إما إلی الفرد المردد أو إلی الوجه الثالث حيث إن الجامع إما حقيقي وإما عنواني انتزاعي.

البحث الثاني: في التخيير بين الأقل والأكثر

لا إشکال في وقوعه في الشرعيات، کالتخيير بين الإتيان بالتسبيحات مرّة أو ثلاث مرّات، إنّما الکلام في کيفية تصويره في مرحلة الثبوت، فإن الأقل والأکثر...

1- تارة دفعيين کالتخيير بين إلقاء صاع من الماء أو صاعين، أو التصدق بدرهم أو درهمين دفعة، فالإشکال بأن الزائد يجوز ترکه لا إلی

ص: 87


1- منتقی الأصول 2: 493-494.

بدل، فکيف يكون واجباً؟

2- وأخری تدريجيين، کمثال التسبيحات، والإشکال في أنه بمجرد تحقق الأقل يحصل الغرض، فيحصل الامتثال، فيسقط الأمر، وعليه فيستحيل أن يكون الأکثر مصداقاً للواجب.

أما الأول: فالجواب أن کلاهما - الأقل والأکثر - محصّلان للغرض، وفي الأکثر ليس المحصّل هو الأقل الذي في ضمنه، وحينئذٍ فلابد من التخيير بينهما، إذ تخصيص الأقل بالوجوب من غير مخصص.

وقد ذکرنا في بحث الصحيح والأعم جواب الإشکال عن دخول الشيء في الماهية وخروجه عنها، فصلاة الظهر وصلاة الغريق کلاهما صلاة صحيحة مع ما بينهما من الاختلاف الشاسع، وکذا الدار الوسيعة والدار الضيقة کلاهما دار مع الاختلاف في کثير من الأجزاء.

والحاصل: ما في نهاية الدراية(1)

من أن الماهية واحدة والاختلاف إنّما هو في الوجود، فالماهية المنتزعة عن الفردين المختلفين هي ماهية واحدة ذاتاً، وإنّما الاختلاف بين الفردين في الوجود، لأن الوجود مشکِّك وله مراتب قوة وضعفاً، کالنور الشديد والضعيف، حيث إن ماهيتهما واحدة والاختلاف في شدة الوجود أو ضعفه، ومثل الخط الطويل والقصير فکلاهما مصداق لماهية واحدة - وهي الکم المتصل - .

وحينئذٍ لابد من التخيير بين الأقل والأکثر، لعدم اختلافهما في الماهية، فهما من طبيعة واحدة، والفارق إنّما هو في الوجود.

ص: 88


1- نهاية الدراية 2: 274.

إن قلت: إذا کانا يختلفان في الوجود فکيف يصدر منهما الغرض الواحد؟

قلت: مع قطع النظر عن الإشکال في أصل القاعدة، وأنها علی فرض صحتها إنّما هي في الواحد الشخصي لا النوعي، نقول: إنّهما مشترکان في أصل الوجود، ومختلفان في مرتبة الوجود، والغرض إنّما يتحقق من نفس الوجود مع قطع النظر عن مرتبته.

والحاصل: إنه ليس للأکثر وجودان - وجود للأقل ووجود للزيادة - بل وجوده واحد لکن من المرتبة الشديدة.

أقول: أصل الجواب لا بأس به، لكن لا دليل على التشكيك في الوجود، بل الوجود سنخان واجب لا نعلم حقيقته، وممكن متواطئ في الوجود، وما يرى من الشدة والضعف إنّما هو في الزيادة في الكم كماء الحوض وماء البحر حيث لا تشكيك في وجودهما بل الزيادة في الكم وهي لا توجب تشكيكاً في الوجود بل ضم وجود إلى وجود، وأما مثال النور فقد أثبت العلم الحديث أن هناك جُزَيئيات تشكل النور فبزيادة عددها يزداد النور وبقلّة العدد يضعف، وكذا الصفات النفسية ونحوها فإن شدتها باعتبار المتعلق لا في نفسها، فتأمل.

وأما الثاني: فالجواب هو بإرجاع الأکثر والأقل إلی المتباينين، ولا ضير في ذلك، لأن الغرض هو بيان وجه إمکان التخيير في مثل التسبيحات، وذلك بأن يكون التخيير بين (الأقل بشرط لا عن الزيادة)، وبين (الأقل بشرط الزيادة) ومن المعلوم التباين بين (الشيء بشرط لا) و (الشيء بشرط شيء)، فلا يكون الأقل في ضمن الأکثر واجباً بالاستقلال.

ص: 89

إن قلت: حين الانتهاء من الأقل يكون أمره دائراً بين الوجود والعدم، أي أن لا يأتي بالزيادة أو أن يأتي بها، وهذا هو اللابدية العقلية، فلا يكون من الواجب التخييري أصلاً.

قلت: قبل الابتداء لم يكن أمره دائراً بينهما فقط، بل کان شق ثالث هو ترکهما معاً، وحينذاك يكون أمر المولی بأحدهما مخيّراً لا محذور فيه، فيكون من التخيير الشرعي، هذا مضافاً إلى عدم الضير في إرجاع التخيير الشرعي إلى التخيير العقلي مطلقاً.

إن قلت: إن (بشرط الشيء) و (بشرط لا) متباينان، فکيف يصدر منهما الغرض الواحد، بل الأمر أکثر إشکالاً، حيث إنهما متناقضان، وذلك يستلزم تأثير النقيضين في شيء واحد؟

قلت: إن المؤثر هو ذات الشيء - التسبيحات مثلاً - وهو جامع بين الأقل والأکثر، فتأمل.

ص: 90

فصل في الوجوب الكفائي

اشارة

بعد تحقق الوجوب الکفائي خارجاً قطعاً، يكون الکلام حول کيفية تصويره في مرحلة الثبوت، وحل إشکال التضاد بين (أداء الواجب بفعل البعض)، وبين (عصيان الکل فيما لو ترکوا جميعاً)، وذلك لأن عصيان الکل ملزوم وجوبه علی کل واحد منهم، کما أنّ أداء الواجب بفعل البعض لازمه عدم وجوبه علی کل أحد.

والجواب: عدم التلازم بين (الوجوب علی کل أحد)، وبين (لزوم إتيان کل واحد منهم)، کما سيتضح من کيفية تصوير الواجب الکفائي.

ثم قد يقال بوحدة الغرض، وقد يقال بتعدده...

الاحتمال الأول: تعدد الغرض

بأن يقال: إن هناك أغراض متعددة بفعل کل واحد من المکلفين، لکن مع عدم إمکان اجتماع تلك الأغراض للمضادة بينها، إما في أصل الاتصاف بالغرض فيما لو کانت المضادة قبل الأمر، أو في وجود الأغراض لتزاحمها فيما لو کانت المضادة بعد الأمر.

ويرد عليه: أولاً: عدم الامتثال لو قام المکلّفون بالفعل دفعة واحدة، نظير عدم الامتثال فيما لو أراد المولی اختبار قوة أحد عبيده ليأمره بشيء، فأمرهم جميعاً برفع حجر بنحو الوجوب الکفائي، فلو اشترکوا في رفع

ص: 91

الحجر لما تحقق غرض المولی أصلاً.

إذ مع المضادة بين الأغراض إما أن يتحقق في الواجب الکفائي کلّ الأغراض وهو خلف فرض تضادها، وإما بعضها دون بعض وهو ترجيح بلا مرجح، وإما عدم تحقق أيٍّ منها، وهو خلاف المتسالم عليه من تحقق الامتثال.

وثانياً(1): إن لازم تعدد الأغراض ومضادتها، هو کون التکليف إما منوطاً بعصيان الآخرين أو منوطاً بعدم إتيانهم...

والأول: يستلزم الدور، إذ يستلزم تأخر کل واحد من التکاليف عن الآخر برتبتين - بل ثلاث رتب - وکذا العکس، مثلاً تکليف زيد متوقف علی عصيان عمرو، وعصيانه فرع تکليفه، وتکليفه متوقف علی عصيان زيد، وعصيان زيد متوقف علی تکليف زيد.

والثاني: لا يلزم منه محذور الدور، حيث إن العدم سابق علی الأمر، لکن يلزم منه محذور تعلّق تکليف تام بذمّة کل واحد من المکلّفين وهو مستحيل لمضادة الأغراض حسب الفرض وامتناع اجتماعها في الوجود، فيكون البعث الفعلي نحوها جميعاً محال.

الاحتمال الثاني: وحدة الغرض

اشارة

بأن يقال: إن الغرض واحد، وهو يحصل بتحقيقه سواء بفعل الکل معاً أو بفعل البعض ممن فيه الکفاية، فهنا طرق:

ص: 92


1- نهاية الأفکار 1: 396.
الطريق الأول
اشارة

تکليف الجميع، ويمکن تصويره بوجوه.

الوجه الأول

ما ذهب إليه المحقق العراقي(1)

من أنّ الوجوب الکفائي - کالوجوب التخييري - هو وجوب ناقص، بمعنی تعلّق الوجوب بفعل کل واحد من المکلفين بنحو لا يقتضي إلا المنع عن بعض أنحاء تروکه - وهو ترکه في حال ترك بقية المکلفين - .

إلا أن الفرق بين التخييري والکفائي، هو أنه في التخييري توجّه التکليف إلی کلا الشقين، لأنه تکليف بالجامع إلی مکلف واحد، وفي الکفائي لا يمکن الأمر بالجامع بين فعل النفس وفعل الغير، لأنه أمر بالجامع بين المقدور وغير المقدور، وقد مرّ أن هذا الجامع غير مقدور، فلا يمکن التکليف به.

الوجه الثاني

وجوبه علی الجميع بنحو مطلق، إلا أن مصلحة التسهيل اقتضت الترخيص في ترك الباقين، کما مرّ عن المحقق الإصفهاني(2)

في التخييري.

الوجه الثالث

وجوبه علی الجميع بنحو الواجب المشروط بعدم إتيان الآخرين.

وهذا الوجه لا يمکن الالتزام به في الکفائي، لاستلزامه عدم تحقق

ص: 93


1- نهاية الأفکار 1: 395.
2- ([2]) نهاية الدراية 2: 271.

الوجوب لو أتوا به دفعة لعدم تحقق الشرط - وهو عدم إتيان الآخرين - .

اللهم إلا أن يقال إن الشرط عدم إتيان الآخرين به قبلاً، فلو أتوا به جميعاً لم يكن مخالفة للشرط.

الطريق الثاني

تکليف الفرد المردد، أي عنوان أحد المکلفين بنحو العموم البدلي.

وهذا أمر معقول في نفسه کما مرّ في الواجب التخييري.

أمّا إشکال: عدم ثبوت الفرد المردد فلا ماهية له ولا وجود، مع استلزامه الخلف باتحاد المعين مع المردد.

فجوابه: أن مفهوم الفرد المردد له تعيّن في الذهن، والبعث إليه باعتبار مرآتيته للواقع الخارجي، وقد مرّ التفصيل في الواجب التخييري.

إن قلت: لا يمکن إيجاد الداعي في الفرد المردد فيستحيل توجه الأمر إليه.

قلت: بما أنه مرآة للواقع الخارجي، فيمکن إيجاد الداعي في الأشخاص عبر مفهوم الفرد المردد وتوجه التکليف إليه.

الطريق الثالث

تکليف المجموع من حيث المجموع، أي وجوب واحد علی المجموع(1).

وأورد عليه: بأنه من المعقول تعلق الأمر الواحد الشخصي بمجموع أفعال بحيث يترتب الغرض علی مجموعها، وعدم ترتبه رأساً بفقد بعضها - کالأمر

ص: 94


1- نهاية الأفکار 2: 279.

بالصلاة المرکبة من أفعال ومقولات مختلفة - ، لکن تعلّق الحکم بمجموع أشخاص فهو غير معقول، لعدم إمکان انقداح الداعي، إذ ليس مجموع الأشخاص شخصاً ينقدح الداعي في نفسه، بل لابد من انقداح الداعي في نفس کل واحد، وهو مع شخصية البعث محال، فلابد من تعدده، فيخرج عن هذا الفرض، إذ يؤول الأمر إلی تعلّق أفراد من طبيعي البعث بأفراد من عنوان المکلّف، فتأمل.

ويمکن الإشکال من وجه آخر: وهو أن تکليف المجموع من حيث المجموع يخرجه عن الکفائي، إذ عليه يجب علی الجميع الاشتراك في الفعل ليتحقق المجموع من حيث المجموع، کما يلزم منه سقوط التکليف عن الجميع لو عصی البعض، فتأمل.

الطريق الرابع

التكليف من غير موضوع، أي من دون توجيهه إلی المکلفين، فالمهم هو تحقق الفعل بالمعنی الاسم المصدري.

ويرد عليه(1): أن البعث کما هو متقوم بالفعل المبعوث إليه، کذلك متقوم بالمکلّف المبعوث، فإنه لا يعقل البعث نحو الفعل من دون بعث أحد، فإنه إذا اشتاق المولی العرفي إلی شيء فإن کان اشتياقه إلی فعل نفسه فيحرك عضلاته نحوه، وإن کان إلی فعل الغير فلا محالة يكون ذلك الغير هو المشتاق صدور الفعل منه، نعم الحب والبغض قد يتعلق بالشيء مع قطع النظر عن الفاعل، لکن الأمر والنهي - وهما بعث وزجر - لا يعقل عدم

ص: 95


1- نهاية الدراية 2: 279.

تعلقهما بالمبعوث والمزجور.

الطريق الخامس

تعلق التكليف بصِرف الوجود، لتعلق الغرض علی صدور الفعل من صرف وجود المکلّف، فبامتثال أحد المکلفين يتحقق الفعل من صرف وجود الطبيعة فيسقط الغرض، فلا يبقی مجال لامتثال الباقين، وهذا ما ذهب إليه المحقق النائيني(1).

وقد أورد عليه المحقق الإصفهاني(2)

ببيان أن (صرف الوجود) قد يراد منه أحد معاني ثلاثة وکلها محل إشکال في الواجب الکفائي.

إلا أن الأولی الإشکال عليه، بأن الواجب الکفائي قد يلزم فيه تعدد المکلفين الذين بهم الکفاية، کما في الجهاد، وحينئذٍ فلا يسقط التکليف بقيام المجاهد الأول، مع أنه يفترض تحقق صرف الوجود للمکلّف، حسب المبنی.

تكملة

استثنی المحقق النائيني(3)

صورة وجود ملاکات متعددة لا يمکن استيفاء جميعها، فحينئذٍ يقع التزاحم في مقام الفعلية، فيكون خطاب کل منهم مشروطاً بعدم فعل الآخر.

مثلاً: لو فرضنا شخصين فاقدين للماء، ثم في وقت الصلاة وجدا ماءً لا

ص: 96


1- أجود التقريرات 2: 271.
2- نهاية الدراية 2: 278.
3- أجود التقريرات 1: 272.

يكفي إلا لوضوء أحدهما، فإلزام کل واحد منهما بحيازة الماء مشروط بعدم سبق الآخر، فإن سبق أحدهما سقط التکليف عن الآخر، کما أنهما يعصيان ويستحقان العقاب لو ترکا الحيازة.

ثم إنه لو کانا علی تيمّم فهل يبطل تيمّمهما، أو لا يبطل أيٌّ منهما، أو يبطل أحدهما علی البدل؟

فهنا أمور ثلاثة: الأمر بالوضوء، والأمر بالحيازة، والقدرة علی الحيازة، وحيث إن بطلان التيمم في لسان الدليل لم يترتب علی الأمر بالوضوء، ولا حيازة الماء، بل هو مترتب علی وجدان الماء - المتحقق في ظرف القدرة علی الحيازة - فحينئذٍ يبطل التيممان معاً.

وفي المنتقی(1):

إن موضوع التيمم هو عدم وجدان الماء، فبمجرد القدرة علی استعماله يرتفع موضوعه، فيبطل التيمم، لقدرة کليهما علی استعمال الماء وذلك بالسبق إليه، وأما موضوع الوضوء فهو وجدان الماء لکن بما أن الجميع لا يتمکنون من إعمال القدرة في استعماله، فأمر کلهم في عرض واحد محال، وذلك لوقوع التزاحم في مقام الامتثال، فلا يمکن إلا أمر أحدهما بالوضوء.

والحاصل: إن بطلان التيمم متوقف علی أصل القدرة علی الماء، أما موضوع وجوب الوضوء فهو فعلية المقدور في الخارج.

أقول: إن أصل المثال لا يرتبط بالواجب الکفائي، بل هو من التزاحم بين الواجبات العينية أو بين ملاکاتها، مع فوت الموضوع في مکلّف مع سبق

ص: 97


1- منتقی الأصول 2: 502.

مکلّف آخر، فليس المطلوب وضوء واحد إما أن يقوم به هذا أو ذاك کفاية، بل المطلوب هو وضوءان يقوم بکل واحد منهما کل واحد من المکلّفين، إلا أن سبق أحدهما يفوّت الموضوع علی الآخر.

کما أن وجدان الماء لا يتحقق بالقدرة الشأنية - بحيث لو سبق لحاز الماء - ، بل وجدانه يتحقق بالقدرة الفعلية، بأن لا يكون مانع عن الوصول إليها، ومن المعلوم أن سبق الغير مانع فلم يتحقق وجدان الماء، فالأقوی عدم بطلان تيمم من لم يتمکن من السبق إليها.

نعم لو ترك کليهما الماء فهنا نعلم إجمالاً بتوجه خطاب فعلي إلی أحدهما، لکنه غير منجز، فيكون نظير واجدي المني في الثوب الواحد، فتأمل.

ص: 98

فصل في الواجب الموسع والمضيق

اشارة

لا يخفي عدم خلو الفعل عن الزمان، لكن قد يؤخذ الزمان في التكليف أو متعلّقه فهو الواجب الموقت، وقد لا يؤخذ فهو غير الموقت، وهذا إما يجب فوراً وإما يجوز التراخي فيه.

ثم الموقت تارة يكون مضيقاً، بأن يكون الزمان بمقدار الواجب كالصوم، وتارة أخرى يكون موسعاً بأن يكون الزمان أوسع من الواجب كالصلوات اليومية.

وهنا بحوث:

البحث الأول: في رجوع القيد الزماني إلى المادة أو الهيأة

فإن قلنا باستحالة الواجب المعلّق فلابد من إرجاع القيد إلى الهيأة ليكون وقت الوجوب والواجب واحداً، وإن قلنا بإمكانه فيمكن ثبوتاً إرجاعه إلى أي منهما بأن يقال: (الصلاة المقيدة بالوقت واجبة) أو (الوجوب المقيد بالوقت قد تعلق بالصلاة).

البحث الثاني: في دفع الإشكال العقلي عليهما

1- أما المضيق: فقد أشكل عليه بأنه لابد من تقدم البعث على الانبعاث، وحينئذٍ:

فإما أن يقال بتقدم الوجوب - ولو آناً ما - على الوقت، وهو خلف فرض

ص: 99

المضيق، بل يستحيل بناءً على استحالة الواجب المعلق، ولاستلزامه تقدّم المشروط على شرطه.

وإما أن يقال بتأخر الوجوب - ولو آناً ما - عن أول الوقت، وهو خلف أيضاً، لأن المفروض أن ذلك الوقت هو أول الوقت لا قبل الوقت.

والجواب: هو التقدم الرتبي بين البعث والانبعاث، بل لا يعقل التقدم الزماني، لعدم انفكاكهما في الوجود، بل هما وجود واحد إن نُسب إلى الفاعل كان بعثاً، وإن نُسب إلى القابل كان انبعاثاً.

لا يقال: لابد من تحقق تصور وتصديق المكلّف للأمر ثم تحرّكه نحوه، وهذا لابد له من زمان، فلابد من تأخر الانبعاث!!

فإنه يقال: يكفي فيه الإخبار السابق بأنه سيكون بعث في ذلك الوقت، وقد مرّ الكلام حول هذا في بحث الترتب، فراجع.

2- وأما الموسع: فقد أشكل عليه بأنه إمّا يجوز تركه في الزمان الأول إلى بدل، أو يجوز تركه إلى غير بدل.

والأول: يستلزم التخيير بين الفعل في الزمان الأول وبين الأفعال الأخرى في سائر الوقت، وهذا خلاف فرض كونه واجباً موسعاً تعيينياً بل يدخل حينئذٍ في الواجب التخييري.

والثاني: معناه عدم الوجوب إذ جاز تركه لا إلى البدل.

والجواب(1): إن الحركة بين المبدأ والمنتهى على قسمين: متوسطة

ص: 100


1- نهاية الدراية 2: 281.

فيكون الزمان ظرفاً، وقطعية فيكون مفرّداً، والإشكال إنّما يرد لو قلنا بالقطعية، وأما على المتوسطة فالواجب هو طبيعي الفعل في طبيعي الوقت، والتخيير العقلي بين الأفراد لا ينافي الوجوب الشرعي التعييني.

ومن ذلك يتضح أن التخيير في الموسع عقلي لا شرعي، لأنه ليس من ترك الشيء إلى بدله، بل من تطبيق الكلي على أفراده، فإن ملاحظة الفعل بنحو الحركة التوسطية يوجب كون الواجب هو الكلي فيكون تطبيقه على الأفراد عقلياً، عكس ما لو لوحظ الفعل بنحو الحركة القطعية فإن ذلك يوجب التخيير الشرعي بين تلك الأفعال التي ستكون حينئذٍ واجبات مضيقة.

والحاصل: إن الصلاة المقيدة بأول الوقت ليست واجبة شرعاً كي يقال: لا بدل لها، بل الواجب الصلاة بين الحدّين، فتكون الصلاة في أول الوقت ووسطه وآخره أفراد لها.

البحث الثالث: في القضاء خارج الوقت

اشارة

فلو انقضى الوقت، ولم يأت بالفعل، فهل يجب القضاء بالأمر الأول، أم لابد من توجّه أمر جديد، بحيث لو لم يكن أمر جديد لما وجب القضاء؟

وقد أشكل على أصل القضاء بأنه لو كان للوقت دخل في مرتبة من الغرض أو في غرض آخر فلا معنی للتدارك، حيث إن مصلحة الوقت غير قابلة للتدارك، إذ لو أمكن كان معنى ذلك عدم دخل الوقت في تلك المصلحة، وأما مصلحة ذات الفعل فهي غير فائتة حينئذٍ لأنه كما يمكن استيفائها في الوقت يمكن ذلك في خارجه.

ص: 101

والجواب(1): إن القضاء هو تدارك للفائت بنحو من أنحاء التدارك، لا بتمام حقيقة التدارك، وذلك بأحد طريقين:

إما أن تقوم المصلحة في الفعل في الوقت بالمرتبة العليا من المصلحة وقد فاتت، ويمكن تدارك المصلحة لكن بالمرتبة الدنيا في خارج الوقت.

وإما العناية في إطلاق الفوت، ففي الفعل مصلحة في الوقت وخارجه، لكن في الوقت توجد أيضاً مصلحة أخرى لازمة الاستيفاء.

وسيأتي مزيد توضيح في البحث الرابع.

ثم لابد من البحث في مرحلتي الثبوت والإثبات:

1- أما مرحلة الثبوت

فاحتمالات ثلاث:

الأول: تعدد المطلوب وتعدد التكليف، إما بأن يقال: بأنه لا يكون الوقت قيداً لأصل الوجوب، بل هناك وجوبان أحدهما لأصل الفعل، والآخر للوقت، أو يقال: بأن التقييد بالوقت ليس بلحاظ أصل المطلوب، بل بلحاظ كماله، بناءً على إمكان توجه وجوبين للحصة الواحدة.

ولازم ذلك هو لزوم الإتيان بالفعل خارج الوقت، إذ بانقضاء الوقت يفوت أحد المطلوبين دون الآخر.

الثاني: وحدة المطلوب ووحدة التكليف، بأن ينحصر المطلوب في شيء واحد، هو الفعل المقيد بالوقت، فلا مطلوبية له بعده.

ولازم ذلك عدم القضاء خارج الوقت، لفوات المطلوب كاملاً بانتهاء

ص: 102


1- نهاية الدراية 2: 282.

الوقت.

الثالث: وحدة المطلوب في صورة الإمكان، وتعدده في صورة العجز، فيكون تكليفان: أحدهما للقادر في الوقت، والآخر للعاجز مطلقاً.

ولازم ذلك ثبوت القضاء بعد الوقت لخصوص العاجز دون القادر العاصي.

2- وأما مرحلة الإثبات

فالمحتملات ثلاث أيضاً:

عدم دلالة الأمر الأول على القضاء مطلقاً - سواء كان دليل الوقت متصلاً أم منفصلاً - ، أو دلالته مطلقاً، أو التفصيل بأن يقال: بالدلالة إن كان متصلاً أو كان منفصلاً مع إطلاق دليل القيد، وبعدم الدلالة إن كان منفصلاً مع عدم إطلاق دليل القيد وإطلاق دليل الوجوب.

أما الأول - بعدم الدلالة مطلقاً - فاستدل له بأمور(1):

منها: إن الغاية إن كان لها مفهوم بعدم استمرار الحكم إلى ما بعد الغاية، فالقيد يكون دالاً على عدم لزوم القضاء، وإن لم يكن لها مفهوم فهذا معناه السكوت عما بعد الغاية، وعلى كل حال لا يثبت استمرار الحكم، فلا دلالة على لزوم القضاء خارج الوقت.

ومنها: أنّ تعدد المطلوب خلاف ظاهر الأدلة، إذ لا فرق بين الزمان وغيره من القيود، فكما لا يلتزم في سائر القيود بتعدد المطلوب كذلك في الزمان، ولا وجه للتفرقة بينهما مع وحدة الملاك في المقامين، ولا يمكن

ص: 103


1- منتقی الأصول 2: 508.

الالتزام في سائر القيود بتعدد المطلوب، لأن ذلك خلاف البديهة العرفية من حمل المطلق على المقيد.

وأما الثالث: فقد يستدل له(1)

بأن الوقت...

إن كان بدليل متصل، فالاتصال يوجب إجماله وكذا إجمال دليل الواجب، فلا يبقى ظهور حتى يتمسك به لإثبات الوجوب بعد الانقضاء.

وإن كان بدليل منفصل، وكان لدليل الواجب إطلاق، وكان دليل الوقت مجملاً، فيتمسك بإطلاق دليل الواجب الشامل لحالة ما بعد الوقت.

ويرد عليه: أن دليل التوقيت - متصلاً أم منفصلاً - ظاهر في وحدة المطلوب، كسائر أدلة القيود، كما مرّ قبل قليل.

وبأنّ الواجب إما عبادة أو معاملة، وأدلة العبادات لا إطلاق لها، لأنها طُرّاً واردة في مقام بيان أصل المشروعية، لا في مقام بيان تلك الجهات كما ذكر هذا في بحث الصحيح والأعم(2)،

وأما أدلة المعاملات فكذلك يراد منها المعاملة الصحيحة لا الفاسدة، حتى لو صحت تسميتها بها، وهي في مقام بيان أصل المشروعية دون مقام بيان سائر الجهات، فالمعنى أحل الله البيع الصحيح، ولا يمكن إحراز البيع الصحيح بتسميته بيعاً.

وفيه تأمل، وسيأتي بحث إطلاق أدلة العبادات إن شاء الله تعالی.

البحث الرابع: في قيام الدليل على القضاء

لو قام الدليل على لزوم القضاء - كما في الصلاة والصوم - فهل هذا الأمر

ص: 104


1- نهاية الأفكار 1: 397.
2- نهاية الأفكار 1: 397.

الثاني يكشف عن تعدد المطلوب، فيتبع القضاء الأداء، أم هو أمر مستقل؟

الاحتمالات الممكنة ثلاثة(1):

الأول: أن يكون هناك أمران، أحدهما بذات العمل، والآخر بإيقاعه في الوقت الخاص.

الثاني: أن يكون أمر واحد، لكنه مقيد بالوقت الخاص للمختار، وغير مقيد به لغير المختار، فيكون نظير الأمر بالتمام للحاضر وبالقصر للمسافر.

الثالث: أن يكون الأمر بالقضاء أمراً مستقلاً، موضوعه فوات الواجب الأول.

وقد اختار المحقق النائيني في مرحلة الإثبات ثالث الاحتمالات، لوجوه منها:

الوجه الأول: ظاهر لفظ (القضاء) هو تدارك ما فات في وقته، والاحتمالان الأولان لا ينطبق عليهما لفظ القضاء، لعدم إمكان تدارك الوقت، وعدم فوات ذات العمل كي يتدارك.

الوجه الثاني: ثبوت القضاء شرعاً في الحج والصوم المنذورين في وقت معين، مع أن النذر تابع لقصد الناذر، وقصده هو التقييد بنحو الوحدة، ومع ذلك أمر الشارع بالقضاء.

الوجه الثالث: انفصال زمان القضاء عن زمان الأداء غالباً، نظير الصوم الذي فوته يكون في أول الليل أو قبله، لكن الأمر بالقضاء إنّما هو في حال

ص: 105


1- فوائد الأصول 1: 237-238.

الفجر، لاستحالة الواجب المعلّق، وهذا إنّما يكون بناءً على الاحتمال الثالث، دون الاحتمالين الأولين، لأن مقتضاهما اتصال الأمر بالفاقد بالأمر بالواجد.

ويمكن الإشكال على الوجوه:

أما الأول: فهو بحث لفظي، ولا تحمل كلمات الروايات على الاصطلاحات المتأخرة، مضافاً إلى عدم وجود لفظ القضاء في بعض رواياته.

وأما الثاني: فلأن ذلك - على فرض صحة الصغرى - إنّما هو لدليل خاص.

وأما الثالث: فبالإشكال مبنى، حيث لا استحالة للواجب المعلّق.

البحث الخامس: في استصحاب الوجوب

لو شك في كون التقييد بنحو وحدة المطلوب حيث لا يلزم القضاء إلا بأمر جديد، أم أنه بنحو تعدد المطلوب حيث يجب القضاء بنفس الأمر الأول، فما هو مجرى الأصول العملية؟

1- فالأقرب ما ذهب المحقق الخراساني(1) من عدم جريان الاستصحاب، وذلك للزوم وحدة الموضوع في القضيتين المتيقنة والمشكوكة، ولا وحدة هنا، إذ الزمان المأخوذ في المتعلّق يراه العرف مقوماً للموضوع.

2- وقد يقال: بأنه لو تردد بين بقاء المطلوب أو زواله، فهو من النوع

ص: 106


1- إيضاح كفاية الأصول 2: 222.

الثاني من القسم الثالث من استصحاب الكلي - وهو ما كان زوال فرد مع احتمال حدوث فرد جديد لكن من المرتبة الخفيفة - فمقتضى الاستصحاب هو بقاء الوجوب خارج الوقت، إذ(1)

عند ذهاب الوقت يشك في ذهاب أصل المطلوبية، أو ذهاب مرتبة منها مع بقاء المطلوبية ببعض مراتبها.

أما لو تردد بين وحدة المطلوب وتعدده، فهو من القسم الثاني من استصحاب الكلي، حيث إنه بناءً على وحدة المطلوب يعلم بزوال الوجوب، وبناءً على تعدد المطلوب يعلم ببقائه، فيمكن إجراء الاستصحاب(2)، وذلك بإجراء استصحاب كلّي الوجوب الثابت أولاً، وقد كان ذلك الوجوب مردداً بين الوجوب الضمني بناءً على وحدة المطلوب، والوجوب النفسي الاستقلالي بناءً على تعدد المطلوب، والأول هو الفرد القصير، والآخر هو الفرد الطويل، ويترتب على هذا الاستصحاب أثره من الدعوة والتحريك، وهذا بناءً على انحلال الأمر بالمشروط.

البحث السادس: في استصحاب الموضوع

وذلك لو دلّ الدليل على وجوب القضاء مع الفوات، فلو شك المكلّف بعد الوقت في أنه هل أتى بذلك العمل في الوقت أم لا؟

فلو لم يكن دليل على أن الوقت حائل، فما هو الأصل العملي الذي يجري هنا؟

1- فإن قلنا: بأن القضاء بالأمرالأول، فمع الشك يكون مجرى قاعدة

ص: 107


1- نهاية الأفكار 1: 398.
2- منتقی الأصول 2: 512.

الاشتغال، للعلم باشتغال الذمة بذلك الأمر، وعدم العلم بفراغها.

2- وإن قلنا: بأنه بأمر جديد، فإن كان الفوت الذي هو موضوع القضاء أمراً وجودياً فلا يجري الاستصحاب لأنه مثبت، فإن استصحاب عدم الإتيان يلازم الفوت وهو لازم عقلي، وإن كان الفوت أمراً عدمياً فهو عين عدم الإتيان، فلا يكون أصلاً مثبتاً لأن الأثر الشرعي وهو وجوب القضاء يترتب عليه مباشرة من غير واسطة.

ص: 108

فصل في الأمر بالأمر بالشيء

اشارة

وفيه ثلاث مطالب:

المطلب الأول: في مرحلة الثبوت

الصور الممكنة ثبوتاً، أن غرض المولى إمّا حصول ذلك الشيء أو لا، وعلى كل تقدير فإما له غرض في توسيط الغير أو لا.

1- أن يكون له غرض في حصول الشيء، من غير غرض في توسيط الغير، بل يكون الغير مجرد مبلّغ فيكون تبليغه طريقياً، فحينئذٍ يجب على العبد الإتيان بالعمل حتى لو بلغه من غير طريقه.

2- له غرض في حصوله، مع وجود غرض في توسيط الغير، بأن يكون لأمر الغير موضوعية، فغرض المولى يتحقق بأمرين معاً: هما وجود المصلحة في الفعل، مع مصلحة في الطريق، فحينئذٍ لا يجب الامتثال لو وصل من غير طريقه، وذلك لعدم تحقق غرض المولى عند ذاك.

3- أن لا يكون له غرض في الشيء، وإنّما الغرض في أمر الآمر بنحو الموضوعية، وحينئذٍ يجب إطاعة الآمر ولا يجب الامتثال لو وصل من غير طريقه، وذلك لأن الغرض هو جعل الولاية للآمر، فالمصلحة ليست في ذات الفعل، بل في إطاعة الثاني للأول.

4- أن لا يكون له غرض لا في الشيء ولا في توسيط الغير، وهذا لغو،

ص: 109

لعدم ترتب فائدة ومصلحة على هذا الأمر أصلاً.

المطلب الثاني: في مرحلة الإثبات

وظاهر الأمر بالأمر هو الصورة الأولى، لوجود ظهور نوعي عرفي في كون الأول مجرد واسطة في التبليغ، إلا إذا دلّ الدليل على كون أمر الأول دخيلاً في الغرض بحيث لا يتحقق لولاه، وقد يستظهر من بعض الأدلة بأن الأحكام الشرعية من هذا القبيل، فلا يترتب الغرض عليها إلا بأخذها من النبي (صلی الله علیه و آله) والأئمة (علیهم السلام) .

المطلب الثالث: في الثمرة

فقد يقال: بأن ثمرته هو شرعية عبادات الصبي، وترتّب أحكام العبادة عليها - إن لم يكن دليل خاص على خلاف ذلك - ، كجواز الاقتداء به، وجواز نيابته عن الغير، وعدم وجوب الإعادة عليه لو بلغ أثناء الوقت بعد إكمال الصلاة أو في أثنائها، حيث ورد في الحديث «مروا صبيانكم بالصلاة»(1).

ولإثبات ترتب تلك الآثار طريقان:

الطريق الأول: إن هذا الحديث يدل على كون عبادتهم مشروعة، فيترتب عليها آثار العبادة كلّها.

وأشكل عليه(2): بأن هذا المقدار لا يكفي لإثبات وفاء المأتي به في الصغر بمصلحة الواجب، كي يلزمه الاجتزاء به عن فعل الواجب - فيما لو

ص: 110


1- مستدرك الوسائل 3: 19.
2- نهاية الأفكار 1: 399.

كان بلوغه بعد الفراغ عن العبادة أو في أثنائها - ، وذلك لأن العبادة قبل البلوغ تكون واجدة للمصلحة، لكن هل تلك المصلحة هي من سنخ المصلحة الملزمة الثابتة في حال البلوغ؟

وبعبارة أخرى: إن أمرهم يدل على كون الفعل محبوباً لكن هل بملاك المصلحة الموجودة في البالغين أم بملاك التمرين؟

الطريق الثاني: ضم المشروعية المستفادة من قوله (علیه السلام): «مروا صبيانكم بالصلاة»(1)

إلى إطلاقات الخطابات في التكاليف كقوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ}(2)، وإطلاقات الأدلة الدالة على ترتب الآثار.

إن قلت: إن دليل رفع القلم يدل على عدم ترتب تلك الآثار.

قلت: إن ضمّ دليل الرفع إلى دليل مشروعية عباداتهم ينتج منه أن دليل رفع القلم هو لرفع الإلزام لا أكثر.

وعليه فإن أفعال الصبي تستوفي المصلحة كاملة، فلا مجال لاستيفاء آخر، فلا تجب الإعادة بعد البلوغ في الوقت أو خارجه، كما تترتب سائر الآثار لولا الدليل الخاص.

اللهم إلا أن يقال: إن ارتكاز المتشرعة على أن الخطابات خاصة بالبالغين، فحينئذٍ لا إطلاق لخطابات التكاليف ولا إطلاق لأدلة آثارها، فتأمل.

ص: 111


1- مستدرك الوسائل 3: 19.
2- سورة البقرة، الآية: 43.

فصل في الأمر بعد الأمر

لو كرّر المولى أمره، فهل يحمل الأمر الثاني على التأكيد فلا يجب التكرار، أم على التأسيس فيجب؟

وهذا فيما لو أمكن التأسيس بسبب قدرة الفاعل وقابلية القابل ونحو ذلك، وأمكن التأكيد بأن كان قبل الامتثال مثلاً، فهنا حالتان:

الحالة الأولى: لو ذكر سببين، كما لو قال: (إن جاء زيد فأطعم)، و(إن جاء عمرو فأطعم)، فالأمران ظاهران في التأسيس، بل قيل: كذلك لو ذكر لأحدهما سبب دون الآخر، على تأمل في هذا.

الحالة الثانية: أن لا يذكر سبباً أصلاً، أو ذكر سبباً واحداً في كلا الأمرين:

1- فثبوتاً: كلاهما محتمل.

فقد قيل: بأن إطلاق المادة يقتضي التأكيد، وإطلاق الهيأة يقتضي التأسيس.

أ) فإن مقتضى إطلاق المادة هو إرادة الطبيعي، وهو يدل على التأكيد، لأن الطبيعة واحدة، فلا يمكن تعلّق الطلب بها مرتين، وإلا استلزم اجتماع المثلين.

وفيه نظر: لما مرّ من أن نسبة الطبيعي إلى الأفراد كنسبة الآباء إلى الأبناء،

ص: 112

فالطبيعي الذي ينتزع من الأمر الأول غير الطبيعي الذي ينتزع من الأمر الثاني، فلا اجتماع للمثلين، فتأمل.

ب) وإن مقتضى إطلاق الهيأة بناءً على عدم جزئيتها هو التأسيس، ومعنى الإطلاق هو أن المولى يطلب الشيء سواء كان هناك طلب آخر أم لا.

وحيث يتعارض الإطلاقان، فلابد من رفع اليد عن أحدهما، فإما عن إطلاق المادة، وذلك بحملها علی الطبيعة المهملة أو على الفرد، وإما عن إطلاق الهيأة.

وقيل: هنا احتمالان(1):

إما ترجيح إطلاق المادة، لأنها أسبق رتبة، حيث إنها معروضة للهيأة، فيجري إطلاق المادة بلا معارض، فلا تصل النوبة إلى إطلاق الهيأة.

وإما ترجيح إطلاق الهيأة، وذلك لأن سبب وجود المادة في الخارج هو الهيأة، حيث إن الوجوب هو سبب امتثال العبد بإيجاد المادة.

ويرد عليه: أولاً: باقترانهما وجوداً، وأن انعقاد الإطلاق لا يكفي فيه الأسبقيّة الرتبيّة، بل حتى مع الأسبقيّة في الوجود، لأن الملاك هو الإرادة الجدّية.

وثانياً: بأنه لو سلمنا إجداء التقدم في انعقاد الإطلاق للمتقدم، فإنما يجدي التقدم الإنشائي، حيث إنّ الإطلاق يرتبط بالإنشاء، فلا يجدي فيه التقدم والتأخر في الخارج، فتأمل.

ص: 113


1- نهاية الأفكار 1: 401.

2- وأما إثباتاً: فالظاهر أن هناك ظهور نوعي في التأكيد.

إن قلت: إن هيأة الأمر لا تدل إلا على الوجوب فقط، أما التأسيسية والتأكيدية فليس شيء منهما مدلولاً لها، إذ لم توضع الهيأة لطلبٍ لم يكشف عنه بكاشف أسبق، ولذا ليس التأكيد بمجاز.

قلت: إن الكلام في استفادة التأكيد أو التأسيس من الإطلاق، لا من الوضع، فلا يرد حينئذٍ هذا الإشكال.

3- وأما مع الشک، لأجل الإجمال - بأن قلنا بتعارض إطلاق المادة والهيأة، وعدم ترجيح أحدهما على الآخر - فإن مقتضى الأصل هو البراءة عن التكليف الزائد، فيكون نتيجة الأصل هو نتيجة التأكيد.

ص: 114

المقصد الثاني في النواهي وفيه فصول

اشارة

ص: 115

ص: 116

فصل في صيغة النهي

اشارة

وفيها بحوث:

البحث الأول: في مدلول الصيغة

فقد يقال: بأنه طلب الترك، وعليه: فلا فرق بين الأمر والنهي في المعنى إلا في المتعلّق، فأحدهما يتعلق بالفعل والآخر بالترك.

وأشكل عليه: أولاً: باستلزامه انقلاب بعض الواجبات إلى محرمات، كالصوم الذي هو طلب ترك المفطرات.

وأجيب: بأن الأمر والنهي يرتبطان بالمصلحة والمفسدة، فما كان فيه المصلحة كان مأموراً به سواء كانت المصلحة في الفعل أو الترك، وما كان فيه المفسدة كان منهياً عنه سواء كانت المفسدة في الفعل أو الترك.

وفيه: أن هذا وإن کان صحيحاً في نفسه إلاّ أنه لا يدفع الإشكال عن تفسير النهي ب-(طلب الترك)، بل هو تفسير آخر له.

وثانياً: بأن النهي مركب من مادة وهيأة، ففي مثل (لا تشرب الخمر) لا تدل المادة على الترك، فليس معنى (الشرب) هو (عدم الشرب) مجازاً، كما هو أوضح من أن يخفى، كما لا تدل الهيأة إلا على النسبة الإرسالية - أي الطلب على هذا المبنى - ، فمن أين استفيد (الترك)، وما هو الدال عليه؟

وفيه: أن النهي إنّما يكون بأداته، مثل (لا)، ففي مثل (لا تشرب) لنا

ص: 117

معنييان حرفيان: أحدهما يستفاد من كلمة (لا)، والآخر من الهيأة، فلا محذور في كون الدال على الترك هو أداة النهي.

وثالثاً: إن الارتكاز العرفي لا يساعد على كون مدلول النهي هو طلب الترك، بل ارتكازهم على الدلالة على الزجر في النهي، مع كون الداعي هو ذلك الزجر.

إن قلت: لا دلالة للنهي على الزجر التكويني، وأما الزجر التشريعي فالنهي بنفسه مصداق له، فلابد من كون المدلول شيئاً آخر، فإن الشيء لا يكون كاشفاً عن نفسه!

قلت: قد مرّ عدم اشتراط الكشف في الدلالة الوضعية، بل يكفي الإخطار، أي إيجاد المعنى في الذهن، كسائر الإنشائيات.

إن قلت: إن العدم لا يتعلق به قدرة المكلف، لأنه أزلي، فكيف يتعلق به التكليف؟

قلت: ليس الكلام في الأزلي من العدم، بل النعتي منه، وحينئذٍ فلو لم تتعلق القدرة بالعدم لكان الوجود ضرورياً، كما في العكس فلو لم تتعلق بالوجود لكان الامتناع ضرورياً.

والحاصل: إنه لا إشكال ثبوتاً في كون مدلول الصيغة هو (طلب الترك)، إنّما الكلام في أن الارتكاز العرفي يدل على أن معناها هو الزجر.

البحث الثاني: كيفية الامتثال في النهي
اشارة

و(الكف) هو حالة نفسية تمنع من انسياق النفس نحو الشيء، وبعبارة أخرى: إيجاد حالة في النفس تمنع من ارتكاب الشيء حين حصول الرغبة

ص: 118

فيه، أو تمنع عن حدوث الرغبة بحيث لولا النهي لأمكن فعل الشيء.

وهنا أمران:

الأمر الأول: في تحقق امتثال النهي

والظاهر تحققه بالترك، إذ المفسدة الموجبة للنهي عن الشيء إنّما هي في تحقق الشيء خارجاً، ولذا يرتبط التكليف بالتروك الخارجية، ولا ارتباط لها في الحالة النفسية أصلاً، وهكذا في جانب الأمر، فالمصلحة ترتبط في التوصليات في الفعل دون الأمر النفسي، وعليه فلو ترك الشيء غفلة أو لسبب آخر غير نهي المولى، فقد تحقق الغرض من النهي، وذلک بعدم تحقق المنهي عنه في الخارج.

إن قلت: إن النهي قد صدر لإيجاد الداعي، وهذا إنّما يتعقل في صورة وجود المقتضي للفعل، بحيث يكون المكلف في مقام العمل، فينهى المولى عنه، أما لو لم يكن العبد في مقام العمل فلا معنى للنهي عنه لتحقق الانتهاء والانزجار.

قلت: أولاً: لا ينحصر سبب النهي في إيجاد الداعي، فقد يكون لإتمام الحجة حتى مع العلم بالعصيان وعدم إيجاد الداعي.

وثانياً: في التكاليف العامة يصح أمر الجميع ونهيهم فيما لو أراد إيجاد الداعي ولو في البعض، فتحقق الانزجار في البعض لا يمنع عن صحة النهي العام للجميع.

وثالثاً: إن لازم هذا الكلام عدم صحة نهي من كفّ نفسه لا لأجل نهي المولى، فهل يقال: بعدم صحة نهيه لعدم إيجاده الداعي، هذا فضلاً عن

ص: 119

تقوية الداعي بالسبب الثاني الذي هو النهي الشرعي.

ورابعاً: إن صحة النهي لا تتوقف على فعلية إيجاد الداعي، بل يكفي في الصحة إمكان إيجاده، كما مرّ في الأوامر.

الأمر الثاني: في الثواب على الامتثال

والظاهر أن الترك إن لم يكن مسبباً عن النهي، فلا ثواب فيه، لأن الثواب إنّما يكون في الطاعة، وهي لا تتحقق بمجرد الترك، وإنّما بقصد الامتثال، فالقصد مأخوذ فيها، وبعبارة أخرى: إن الامتثال وإن لم يكن من الأمور القصدية - لأنه مطابقة المتروك للمنهي عنه، ومطابقة المأتي به للمأمور به - إلا أن الإطاعة عنوان قصدي، فالعقل لا يرى التارك والفاعل من غير قصد مستحقاً للثواب.

نعم قد يقال: بأن الثواب على امتثال التکاليف الشرعية كلّه تفضّلي - كما مرّ - ولا مانع من التفضل في بعض التروك أو الأفعال حتى من غير قصد أمر المولى، كما قيل بثبوت هذا التفضل في الثواب على ترك شرب الخمر وعلی البکاء على الإمام الحسين (علیه السلام) حتى لو لم يقصد النهي أو الأمر.

البحث الثالث: في عموم النهي الشمولي

إن هناك فرقاً بين الأمر والنهي، من حيث إن امتثال الأمر يتحقق بإيجاد الطبيعة مرة واحدة، ولكن في امتثال النهي لابد من عدم إيجاد أي فرد من أفرادها، وعلى ضوء ما مرّ من أن الأوامر والنواهي تتعلق بالطبائع دون الأفراد كيف يمكن تصوير هذا الفرق، فهل هو بالوضع أم الإطلاق أم بدلالة العقل؟

لا إشكال في عدم الفرق وضعاً، لأن المادة تدل على الطبيعة، ولا تدل

ص: 120

الهيأة إلا على النسبة الإرسالية أو الزجرية، وكذا لا فرق من جهة الإطلاق، لأن الشمولية والبدلية لا تستفاد من الإطلاق كما سيأتي، فلابد أن يكون الفرق بدلالة العقل، وفي كيفية تصويرها وجوه، منها:

الوجه الأول: ما ذهب إليه المحقق الخراساني(1): من أن وجود الطبيعة يكون بوجود فرد، ولكن عدمها لا يكاد يكون إلا بعدم جميع الأفراد.

ويرد عليه(2): أولاً: أن النواهي كالأوامر على أقسام، فقد يكون أمر بنحو السريان للطبيعي في الأفراد، ولازمه مطلوبية كل الحصص الفردية، فينحل الطبيعي إلى تكاليف بعدد الحصص، وقد يكون بنحو صرف الوجود ولازمه مطلوبية أول وجود للطبيعي، فكذلك النهي قد يكون بنحو السريان وذلك في غالب النواهي وقد يكون بنحو صرف الوجود بأن يكون المبغوض أول الوجودات دون سائر الأفراد، كما لو أمره بالهدوء لكيلا يعلم بهم العدو، فإنه مع الصياح الأول يتحقق كل المبغوض، فلا مبغوضية لسائر الصياح، وحينئذٍ فالسؤال ما هو الذي جعل الأمر من قبيل الثاني، والنهي من قبيل الأول؟

وثانياً: العدم والوجود متناقضان، فلابد أن يُلاحظا بشكل واحد من جهة الإطلاق والتقييد والإهمال، فلا يصح ملاحظة الوجود بشكل وملاحظة العدم بشكل آخر.

وعليه فإن الطبيعة المأخوذة في الأمر والنهي لابد من ملاحظتها فيهما إما

ص: 121


1- إيضاح کفاية الأصول 2: 232.
2- نهاية الأفكار 1: 403.

بنحو الطبيعة المهملة وجوداً وعدماً فتكون النتيجة جزئية في الأمر والنهي، وإما بنحو الوجود السِعِي - وهو العام الشمولي - فتكون النتيجة عموم الحكم لجميع الأفراد في الأمر والنهي، وإما بنحو الكثرة - وهو العام المجموعي - فتكون النتيجة وجوب واحد وحرمة واحدة لجميع الأفراد مجتمعين.

ولا يصح ملاحظة الوجود بنحو صرف الوجود بحيث ينطبق على أول الوجودات، ونقيضه عدم ناقض العدم وهو بقاء العدم الكلي على حاله كي يكون لازم مثل هذا الوجود تحقق الطبيعة بفرد، ولازم نقيضه انتفاء الطبيعة بانتفاء جميع الأفراد.

وذلك(1)

لأن طارد العدم الكلي لا مطابق له في الخارج، لأن كل وجود هو جزئي فيطرد عدمه البديل له، لا عدمه وعدم غيره، فأول الوجودات أوّل ناقض للعدم، ونقيضه عدم هذا الأول، فإن عدم الوجود الأول يستلزم عدم الثاني والثالث وهكذا لا أنه عينها.

أورد عليه: بأن أصل المطلب - وهو لزوم ملاحظة الوجود والعدم في النقيضين بنحو واحد - لا إشكال فيه، وإنّما القائل بأن الطبيعة في الأمر والنهي هي صرف الوجود يريد بذلك إثبات الفرق بين الأمر والنهي، سواء كان الفرق بالمطابقة أو بالالتزام، فإن صرف الوجود يتحقق بأول فرد ففي الأمر يراد هذا الفرد فيتحقق به، وفي النهي يراد ترك هذا الفرد الذي هو أول الوجودات، وامتثاله لا يكون إلا بترك جميع الأفراد، لأن أي فرد يوجد فهو أول وجود الطبيعة فترك أول الوجودات لا يتحقق إلا بترك جميع

ص: 122


1- نهاية الدراية 2: 289.

الأفراد(1)،

فلا يضر بالمقصود كون عدم صرف الوجود ليس هو عين ترك جميع الأفراد بل هو ملازم له.

لكن لا يمكن الالتزام بهذا كما سيأتي في البحث الرابع بإذن الله تعالى.

الوجه الثاني(2): إن سبب الأمر والنهي هو المصلحة والمفسدة، والغالب تحقق المصلحة كاملة بالفرد الأول، دون المفسدة التي هي سارية غالباً في جميع الأفراد، وهذه الغلبة أوجبت ظهوراً في كون الطبيعة في الأمر على نحو صرف الوجود، وفي النهي على نحو الوجود الساري.

البحث الرابع: في استمرار النهي بعد العصيان

لو عصى النهي فارتكب المخالفة، فهل يسقط النهي بحيث لا محذور في الارتكاب مرّات أخرى، أم لا يسقط؟

لا إشكال في استمرار النهي في الأوامر العرفية والشرعية، إلا إذا كانت قرينة على سقوطه، فما هو الوجه في ذلك؟

وفي ذلك وجوه منها:

الوجه الأول: إن النهي لا يدل وضعاً ولا بدلالة العقل على حكم ما بعد المخالفة فلا يدل على استمرار طلب الترك أو عدم استمراره، ولكن إطلاقه يدل على استمراره، وذلك الإطلاق هو ثبوت النهي مطلقاً، سواء عصى أم لم يعص، أي تعميم الطبيعة إلى ما بعد العصيان.

وأورد عليه: بأن مقدمات الحكمة لا تدل على أزيد من إرادة الطبيعة

ص: 123


1- منتقی الأصول 3: 10.
2- راجع فوائد الأصول 1: 395.

غير المقيدة، فليس المولى في مقام البيان من جهة البدلية أو الشمولية أو نحو ذلك، فلا يمكن التمسك بالإطلاق هنا لإثبات الشمولية.

الوجه الثاني: ما ذكر في البحث السابق، من الغلبة التي أوجبت قرينة نوعية عامة في جميع الأوامر والنواهي بحيث إن إرادة غير ذلك بحاجة إلى قرينة صارفة، فلم يكن الفرق من حيث المتعلق الذي هو الطبيعة التي لا تفترق فيهما.

ومن ذلك يظهر الإشكال في مبنى كون المتعلق صرف الوجود، فإنه لو كان ذلك متعلقاً للنهي لسقط النهي بأول مخالفة، لأن المرات الأخرى لا تكون أول الوجودات، بل ثاني وثالث الوجودات وهكذا، وهي غير منهي عنها بناءً على مبنى صرف الوجود.

فإن قلت: إن أول الوجودات منهي عنه باللفظ حيث يراد به صرف الوجود، وأما سائر الوجودات فهي منهي عنها بالملاك لتلك القرينة العامة.

قلت: مضافاً إلى أن الارتكاز يدل على أن سائر الوجودات مشمولة للنهي بنفسه، أنه لا وجه لحمل المتعلق على شيء يكون غرض المولى أعم منه دائماً، بل حيث إن المفسدة عامة حتى لما بعد العصيان، فمن اللغو تخصيص النهي لحالة ما قبل العصيان ثم تعميمه بالملاك.

البحث الخامس: في الحرمة الكفائية والتخييرية

1- أما الحرمة الكفائية: فلا إشكال في وقوعها، ومعناها تحريم الجمع، لا تحريم الجميع، كما لو منع المولى أحد عبديه - لا على التعيين - عن الذهاب، لحاجته إلى واحد منهما، فلو ذهب أحدهما دون الآخر لم يفعلا

ص: 124

حراماً وكذا لو بقيا، أما لو ذهبا معاً أثِما جميعاً.

إن قلت: إن ذهب الأول تعويلاً على بقاء الثاني، فذهب الثاني أيضاً فهل يأثم الأول أيضاً؟

قلت: الأمر مرتبط بكيفية التحريم، فيحتمل أن يقال إن سبب وقوع المحذور هو الثاني دون الأول فهو الذي كان سبباً للجمع الممنوع، ويحتمل شمول الحرمة للأول أيضاً بأن لا يجوز له الذهاب - في المثال - إلا بعد الاطمئنان ببقاء الثاني، فتأمل.

إن قلت: إن التحريم الكفائي في حقيقته هو وجوب كفائي، ففي المثال وجوب بقاء أحدهما عند المولى.

قلت: إذا كان ملاك التحريم هو المفسدة في الشيء كان ذلك سبباً للتحريم لا لوجوب ضده، وهذا هو الفرق بين الواجب والحرام، حيث إن الملاك إن كان المصلحة كان الوجوب وإن كان المفسدة كانت الحرمة.

2- أما الحرمة التخييرية: بأن تكون المفسدة في الجمع لا في الجميع، كما لو نهاه عن أكل أحد طعامين على سبيل البدل حيث يكون في اجتماعهما الضرر لا في كل واحد منهما منفرداً.

فالمطلوب منه ترك أحدهما أو تركهما، كما أنه في الواجب التخييري كان المطلوب فعل أحدهما أو فعلهما معاً، فإن كان التركان في عرض واحد حصل بهما الامتثال، كالإتيان بالواجبين التخييريين في عرض واحد، وإن كان أحدهما أسبق حصل به الامتثال دون الثاني لسقوط الغرض، إلا لو كان النهي مستمراً فيحصل بهما الامتثال أيضاً، فتأمل.

ص: 125

فصل في اجتماع الأمر والنهي

اشارة

وهنا بحوث:

البحث الأول: في عنوان المسألة

عنون الكثير المسألة بأنه (هل يجوز اجتماع الأمر والنهي في واحد أم لا)، فلا بأس بالتعرض إلى مفردات هذا العنوان مختصراً.

الأول: (الجواز) لا يراد به التكليف كما هو واضح، إذ لا إشكال في أمر المولى بطبيعتين مختلفتين مع إمكان اجتماعهما في مجمع واحد أحياناً، كالصلاة والغصب، كما لا يراد به القبح لوضوح عدم القبح فيما لو كان الاجتماع بسوء اختيار المكلف، وإنّما يراد به الإمكان، بحيث يكون تعدد العنوان في المجمع مصححاً لتعلق إرادة وكراهة ثم أمر ونهي به، أم لا يكون مصححاً عقلاً.

الثاني: (الاجتماع) لا يراد به الاتحاد من جميع الجهات، فإن تضاد الأحكام من البديهيات، وعدم إمكان اجتماع الضدين في محل واحد من الواضحات، بل المراد أن تعدد الجهة هل يرفع أحد شروط استحالة اجتماع الضدين أم لا، ولذا رجّح المحقق النائيني تغيير العنوان إلى أنه «إذا اجتمع متعلق الأمر والنهي - من حيث الإيجاد والوجود - فهل يلزم منه أن يتعلق

ص: 126

كل من الأمر والنهي بعين ما تعلق به الآخر أو لا يلزم ذلك»(1).

وبعبارة أخرى: إن استحالة اجتماعهما مطلبٌ مفروغ عنه، إنّما الكلام في أن ما نحن فيه اجتماع لهما فيستحيل أو ليس اجتماع فيمكن.

الثالث: (الأمر والنهي) لا يراد بهما إنشاؤهما، وذلك لعدم التضاد بين الوجودات الإنشائية، وإنّما المراد المبدأ أي اجتماع إرادة وكراهة، أو المنتهى أي اجتماع وجوب وتحريم، حيث الکلام في أنه مع اختلاف الجهة هل يمكن اجتماع الإرادة والكراهة أو الوجوب والتحريم، أم لا.

الرابع: (الواحد) لا يراد به الواحد الشخصي، لوضوح عدم قدرة المكلف على فعل شيء واحد وتركه معاً فلا يصح البحث عن إمكان ذلك أو عدمه.

ولا الواحد بالجنس، لوضوح إمكان اختلاف أحكام الأنواع أو الأصناف، كالسجود لله الواجب، والسجود للصنم المحرّم.

ولا الواحد بالإيجاد المتعدد بالوجود، وذلك لاتحاد الإيجاد والوجود، وإنّما فرقهما في الاعتبار، فباعتبار نسبته إلى الفاعل كان إيجاداً، وباعتبار نسبته إلى القابل كان وجوداً، فلا يعقل وحدة الإيجاد مع تعدد الوجود حقيقة.

ولا الواحد العرفي المتعدد دقة، وذلك لأن البحث عقلي وليس لفظياً.

بل الكلام في عموم أو إطلاق كلا الدليلين وانطباق الطبيعتين على المجمع، فهل يعقل شمول الإطلاقين له أم لا؟

والحاصل: إن المراد الواحد بالوجود، والذي انطبق عليه مفهوم طبيعتين

ص: 127


1- فوائد الأصول 1: 396-397.

مختلفتين، بمعنى انتزاعهما منه، كالحركة التي ينتزع منها الصلاة والغصب، فهل وحدة العنوانين في الوجود مصحِّح لتعلق الأمر والنهي بهذا الوجود الواحد أم لا؟

إن قلت: إن عنوان البحث يلزم أن يكون بنحوٍ يدخل فيه جميع الأقوال في المسألة، وفيما نحن فيه يبتني القول بالامتناع على وحدة المتعلقين وجوداً، ويبتني القول بالجواز على تعدده، فكيف يصح أخذ وحدة المتعلقين وجوداً في عنوان البحث؟

قلت: إن الأمر والنهي يتعلقان بالطبائع التي هي مفاهيم ذهنية ولكن بما هي فانية في الوجودات الخارجية، والظاهر أنه لا خلاف في وحدة المجمع وجوداً، وإنّما الخلاف في أن تعدد المتعلّق جهةً هل مصحح للاجتماع أم لا، فتأمل.

البحث الثاني: في الفرق بين هذه المسألة، ومسألة اقتضاء النهي للفساد
اشارة

فقد يتوهم اتحادهما، لأن البحث هنا عن أن النهي هل يوجب سقوط الأمر فتفسد العبادة لعدم الأمر بها، والبحث هناك عن أن النهي عن العبادة هل يقتضي عدم وقوعها مصداقاً للمأمور به فتفسد.

وقد ذكر الأعلام جملة من الفروق، منها:

الفرق الأول

إن الاختلاف في الموضوع، وذلك ببيانين:

الأول: ما عن المحقق القمي(1)،

من أن الموضوع هنا في العامين من

ص: 128


1- قوانين الأصول 1: 358.

وجه، كالصلاة والغصب، والموضوع هناك في العموم المطلق كالصلاة والصلاة في جلد غير المأكول - مثلاً - .

الثاني: ما عن صاحب الفصول(1)،

من أن الفرق بالموضوع أيضاً، لكن لا بالوجه الذي ذكر في القوانين، وذلك لإمكان كون المطلق والمقيد من مصاديق الاجتماع، بل البحث هنا في طبيعتين - سواء كانت النسبة بينهما من وجه، أو العموم المطلق كالناطق والشاعر - ، وهناك البحث في طبيعة واحدة.

ويرد عليهما: أن تعدد الموضوع لا يوجب تعدد المسألة مع وحدة الجهة، فمثل مقدمة الصلاة ومقدمة الصوم موضوعان لكن البحث عن وجوب مقدمتهما مسألة واحدة، لوحدة جهة البحث، وهي سراية وجوب ذي المقدمة إلى المقدمة أو عدم سرايتها.

الفرق الثاني

إن الاختلاف في جهة البحث، كما في الكفاية(2)، فالجهة في مسألة الاجتماع هي أنه لو تعدد العنوان مع وحدة المعنون فهل يوجب ذلك السراية أم لا، والجهة في مسألة الاقتضاء هي أن النهي هل يقتضي البطلان أم لا بعد الفراغ عن توجه النهي إلى العبادة.

وبعبارة أخرى: إنه بناءً على القول بالامتناع وترجيح جانب النهي تكون مسألة الاقتضاء من صغريات مسألة الاجتماع.

وأورد عليه: أولاً: بأنه إن أريد من جهة البحث الحيث التعليلي - وهي

ص: 129


1- الفصول الغرويّة: 125.
2- إيضاح کفاية الأصول 2: 237.

العلة لثبوت المحمول للموضوع - فليس البطلان في مسألة الاقتضاء حيث تعليلي، بل هو المحمول بنفسه، فكان لابد من ذكر جهة البطلان، وهي عدم تمشي قصد القربة - مثلاً - .

وإن أريد الغرض، فإنه من الواضح أنه في المسألتين واحد، وهو تصحيح العبادة المنهي عنها أو عدم تصحيحها.

وثانياً: إن الفساد في مسألة الاجتماع مستند إلى النهي بوجوده العلمي حيث لا تتمشى قصد القربة، وفي مسألة الاقتضاء إلى النهي بوجوده الواقعي، فالفرق من هذه الجهة، لا ما ذكر.

وفيه: صحة الصلاة في حال الجهل أو النسيان في المسألة الثانية كما لو صلى في جلد ما لا يؤكل لحمه جهلاً فلم يؤثر النهي بوجوده الواقعي.

الفرق الثالث

إن الاختلاف في الرتبة.

وذلك لأن مسألة الاجتماع تنقّح موضوع مسألة الاقتضاء، فالبحث هنا في سراية النهي إلى ما تعلق به الأمر وعدم سرايته، فإذا ثبتت السراية تنقّح موضوع المسألة هناك فحينذاك يبحث عن اقتضاء النهي للفساد أو عدمه.

وأورد عليه: بأن البحث في مسألة الاجتماع ليس في السراية وعدمها، بل عن أصل إمكان الاجتماع حتى مع عدم السراية، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

الفرق الرابع

إن الاختلاف في المسألتين إنّما يكون لو تعدد المحمول مع تعدد

ص: 130

الحيث التعليلي معاً، فلا يكفي تعدد أحدهما دون الآخر.

وفي مسألة الاجتماع والاقتضاء يختلف المحمولان، حيث إن محمول مسألة الاجتماع هو الامتناع والإمكان، ومحمول مسألة الاقتضاء الفساد والصحة، كما تختلف المسألتان في الحيث التعليلي، ففي الاجتماع طلب الضدين وعدمه مثلاً، وفي الاقتضاء تمشي أو عدم تمشي قصد القربة، فتأمل.

الفرق الخامس

إن مسألة (الاقتضاء) تندرج في مسألة التعارض، لأجل تكاذب الدليلين في أصل المصلحة، بالإضافة إلى التمانع في مرحلة الحكم، وأما مسألة (الاجتماع) فهي تندرج في مسألة التزاحم - ولو على القول بالامتناع - وذلك لوجود الملاك في كليهما، ويدل عليه حكمهم بصحة العبادة في الغصب مع الغفلة أو الجهل بالموضوع أو الحكم عن قصور حتى على القول بتقديم جانب النهي، فاللازم الرجوع إلى قواعد باب التزاحم بترجيح أقوى الملاكين ولو كان الآخر أقوى سنداً، عكس مسألة الاقتضاء التي تندرج في التعارض فلابد من ترجيح أقوى السندين(1).

إن قلت: مسألة الاجتماع أيضاً تندرج في التعارض، لأن الفرق بين التزاحم والتعارض - كما عن المحقق النائيني(2)

- هو أن (التعارض) إنّما هو في مرحلة نفس الحكم حيث تتزاحم الملاكات، وأما (التزاحم) فهو في مرحلة الامتثال وعدم قدرة العبد على الجمع بينهما، بعد الفراغ عن أصل

ص: 131


1- نهاية الأفكار 1: 412.
2- راجع فوائد الأصول 1: 317.

التشريع حسب الملاك ولكن اتفق اجتماعهما.

قلت(1): حقيقة التزاحم هو وجود الملاكين مع ضيق الخناق من تحصيلهما، وحقيقة التعارض هو عدم إحراز الملاكين، بل قد نعلم بعدم وجود الغرض في أحد الموردين، فلا فرق بين كون الغرضين في مقام الجعل أو في مقام الامتثال.

وعليه فبقرينة صحة الصلاة في الغصب مع النسيان نعلم بوجود الملاكين، فيكون من باب التزاحم لا التعارض.

ويرد عليه: أنه حتى في مسألة الاقتضاء لو كان جاهلاً أو ناسياً صحت عبادته كمن صلّى في جلد ما لا يؤكل لحمه جاهلاً أو ناسياً، فعلى كلامه تدخل مسألة الاقتضاء في باب التزاحم أيضاً، فلم يحصل الفرق بينهما، هذا مع قطع النظر عن البحث في المبنی، وسيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى.

البحث الثالث: في أصولية المسألة

وقد ذهب صاحب الكفاية إلى أصوليتها لانطباق ضابطها عليها، وهي وقوع المسألة في كبرى دليل الاستنباط(2)،

كأن يقال: هذه الصلاة في المغصوب قد اجتمع فيها الأمر والنهي، وكلما اجتمع فيه الأمر والنهي فهو باطل على الامتناع، فهذه الصلاة باطلة، أو كلما اجتمعا فيه فهو صحيح على الإمكان، فهذه الصلاة صحيحة.

وأشكل عليه بإشكالات، منها:

ص: 132


1- نهاية الأفكار 1: 413.
2- إيضاح کفاية الأصول 2: 242.

الإشكال الأول: بأنها لا تقع مباشرة في طريق الاستنباط، بل لابد من ضم كبرى أخرى إليها لتكون منتجة، فالمسألة في إمكان الاجتماع وعدمه، فلابد من ضم (فساد العبادة بالنهي)، فتكون صورة البرهان هكذا: (هذه الصلاة وقعت في المغصوب)، (والاجتماع ممتنع فيقدم النهي)، (فالعبادة منهي عنها)، (فهي فاسدة)، فالحكم الفرعي الكلي لم يستنبط من مسألة الاجتماع مباشرة.

وأجيب: أولاً: بأنه يكفي في الأصولية وقوع المسألة كبرى الاستنباط مباشرة ولو على بعض المباني، وفيما نحن فيه على مبنى جواز الاجتماع لا نحتاج إلى ضمّ كبرى أخرى.

وأورد عليه: بأنه لابد من ضم كبرى أخرى، فإن مجرد إمكان الاجتماع لا يصحح العبادة، بل لابد من ضم (عدم قدح النهي عن مصداق المأمور به في صحة العبادة) هذا لو قلنا بوحدة المعنون، أما على القول بتعدده فلابد من ضم كبرى أخرى هي (إمكان الأمر بالجامع بين المقدور وغير المقدور) مثلاً(1).

وثانياً: بأنه لو أردنا الحكم الوضعي من صحة العبادة أو بطلانها فلابد من ضم كبرى أخرى، لكن لو أردنا الحكم التكليفي من الوجوب والحرمة فلا نحتاج إلى ضم شيء آخر، كأن نقول: هذا مما اجتمع فيه الأمر والنهي، والاجتماع ممكن، فهذا واجب، أو نقول: هذا مما اجتمعا فيه، والاجتماع ممتنع مع تقديم جانب النهي، فهذا حرام.

ص: 133


1- بحوث في علم الأصول 3: 51.

الإشكال الثاني(1): بأن البحث إنّما هو عن صغرى مسألة أصولية أخرى، فتكون مسألة الاجتماع من المبادي التصديقية، وذلك لرجوع البحث إلى البحث عما يقتضي وجود الموضوع لمسألة التزاحم أو التعارض.

وذلك لأن البحث في مسألة (الاجتماع) عن أن اتحاد المتعلقين هل يقتضي تعلق الأمر والنهي بعين ما تعلق به الآخر، وهذا بحث عن صغرى التعارض، فتكون من مبادئ مسائل التعارض، وكذا البحث عن كفاية المندوحة بحث عن صغرى التزاحم.

وبتعبير آخر كما في المنتقى(2): إن في مسألة الاجتماع احتمالات ثلاث، وكلها لا تقع في طريق الحكم مباشرة، بل تكون صغرى للتزاحم أو التعارض...

1- فعلى الامتناع لأجل التضاد، يكون تعارض بين الدليلين، فكانت من المبادئ التصديقية للتعارض.

2- وعلى الامتناع لأجل التزاحم - حيث لايمكن التمسك بإطلاق كلا الدليلين بل لابد من تقييد أحدهما - تكون المسألة من المبادي التصديقية للتزاحم في مرحلة الحكم.

3- وعلى الجواز من كلتا الجهتين - التضاد والتزاحم - يمكن التمسك بإطلاق كلا الدليلين من غير تقييد أحدهما، فتكون المسألة من التزاحم في مرحلة الامتثال.

ص: 134


1- فوائد الأصول 1: 400.
2- منتقی الأصول 3: 22.
البحث الرابع: في عقلية المسألة

حيث إن المبحوث في هذه المسألة هو الإمكان والامتناع، وذلك مما لا يرتبط بالألفاظ، فلذا كانت مسألة عقلية.

وأما ذكرهم لها في مباحث الألفاظ، فلأن الغالب الدلالة على الوجوب أو الحرمة باللفظ، مع عدم تخصيص القدماء فصلاً للأمور المستقلة العقلية، فتبعهم في الترتيب المتأخرون.

إن قلت: يكفي في إدخال المسألة في مباحث الألفاظ قول بعضهم: (بالإمكان العقلي والامتناع العرفي) فإنه يكفي في كونها لفظية على أحد الأقوال.

قلت: ليس المراد من (الامتناع العرفي) الامتناع لفظاً، فإن ذلك لا يرجع إلى معنى محصل، لعدم ارتباط الألفاظ بالإمكان والامتناع أصلاً، بل مرادهم التسامح العرفي حتى في الوجوب والحرمة المدلول عليهما بغير اللفظ، فإنه على هذا القول حيث إن المجمع متعدد دقةً فلا امتناع عقلي، لكن لما كان يراه العرف واحداً لذا يجري فيه البحث.

وبتعبير آخر: إن العقل يحكم بامتناع اجتماعهما في شيء واحد، لكن تشخيص كونه واحداً أم لا فهذا لا يرتبط به بل يرتبط بالعرف.

وأورد على هذا القول: بأن العرف ليس بحجة في تشخيص المصداق، فلا معنى للامتناع العرفي حتى من هذه الجهة.

وأجيب: بأن التسامح العرفي قد يكون سبباً لظهور اللفظ أو لسقوط ظهوره في معنى، فيدخل في باب حجية الظواهر وعدم حجية غير الظواهر.

ص: 135

وفيما نحن فيه قد يقال: بوجود تنافر بين الأمر والنهي عرفاً، حتى لو لم يثبت التنافر عقلاً، وهذا يوجب دلالة التزامية عرفية لدليل كل من الأمر والنهي على نفي الآخر فيتعارضان(1)،

فتأمل.

ثم إن المحقق الخراساني(2)

ذهب إلى أن غاية الأمر دعوى دلالة اللفظ على عدم وقوع بعد اختيار جواز الاجتماع.

وأشكل عليه: بأنه إن كان المراد عدم شمول إطلاق الأمر والنهي للمجمع، فغايته عدم الدلالة، لا الدلالة على العدم.

البحث الخامس: في عموم البحث لكل أنواع الواجب والحرام

فعن صاحب الفصول(3)

أنه خصص البحث بالواجب النفسي العيني التعييني، إما من جهة انصراف الواجب إليها، أو للإطلاق حيث إن الثلاثة لها قيود زائدة من المقدمية للغير أو العِدل أو عدم فعل غيره، كما مرّ مفصلاً.

ويرد عليه: أن البحث في الاجتماع بحث عقلي في إمكانه أو امتناعه ولا يرتبط باللفظ كي نستند إلى الانصراف أو مقدمات الحكمة.

ولو فرض أن البحث لفظي فلا يمكن الاستناد إلى الإطلاق أيضاً، لأن من مقدمات الحكمة أن لا تكون قرينة في البين، وفيما نحن فيه توجد قرينة تعمّ البحث إلى الثلاثة وهي قرينة عقلية لعموم الملاك في كل الأقسام، كما لا يمكن الاستناد إلى الانصراف حيث إن منشأه إما غلبة

ص: 136


1- مباحث الأصول 3: 395.
2- إيضاح کفاية الأصول 2: 246.
3- الفصول الغرويّة: 124.

الوجود أو غلبة الاستعمال، وكلاهما مفقودان في المقام.

وكذا في جانب الحرمة لا فرق في أقسامها فتشمل الحرمة التخييرية والكفائية وغيرهما، فإن قلنا باستحالة الاجتماع فلا يجتمع الواجب بأي قسم من أقسامه مع الحرام بأي أقسامه، وقد عمّم المحقق الخراساني في الكفاية البحث لجميع أقسام الوجوب(1).

وأشكل عليه المحقق الإصفهاني(2)

بأنه على مبنى المحقق الخراساني لا يجري البحث في الوجوب المقدمي، إلا فيما لو كان له عنوان آخر غير المقدمية كالطهارات الثلاث.

وذلك لأن الأمر المقدمي عنده لا يتعلق إلا بما هي مقدمة بالحمل الشائع عقلاً، لا بعنوان المقدمية، وعليه فلا يكون المجمع واحداً ذا وجهين، فتأمل.

البحث السادس: في أخذ قيد المندوحة

فقد يقال: إن النزاع في الاجتماع إنّما هو فيما كان للمكلّف مفرّ وطريق لامتثال الأمر والنهي معاً، كما لو تمكن من الصلاة في غير المغصوب، ولولا المندوحة استحال التكليف بكليهما، لعدم قدرة المكلّف على الامتثال، والتكليف بالمحال محال.

وأشكل عليه: أولاً: بأن البحث في الاجتماع إنّما هو في ارتفاع التضاد بتعدد العنوان أو عدم ارتفاعه، فالكلام في مرحلة التكليف، أما قيد المندوحة فهي مرتبطة بمرحلة الامتثال، وليس الكلام في مسألة الاجتماع في ذلك.

ص: 137


1- إيضاح کفاية الأصول 2: 246.
2- نهاية الدراية 2: 295.

وبعبارة أخرى إن البحث في مقامين: الأول: في إمكان الاجتماع أو استحالته، الثاني: في صحة التكليف بالأمر والنهي في الواحد المتعدد العنوان أم لا، وكلامنا في الأول وقيد المندوحة مرتبط بالثاني.

نعم لو قلنا بالإمكان في المقام الأول، فلابد من القول بوجود شرائط التكليف في المقام الثاني من العقل والقدرة ونحوهما، وقيد المندوحة يرتبط بالقدرة، لكن ذلك غير مرتبط ببحث الاجتماع.

وأجيب(1): بأن عنوان المسألة عام، و لا يُقيَّد العنوان بتعدد الجهة وعدمها لأنها حيث تعليلي، فليست حيثاً تقييدياً مُقوّماً للموضوع كي يقال بعدم احتياج عنوان البحث إلى التقييد بالمندوحة ليتمحّض البحث في خصوص الجواز والامتناع من حيث خصوص التضاد وعدمه.

مضافاً إلى أن الغرض يترتب على الجواز الفعلي، فلابد من تعميم البحث وإثبات الجواز من جميع الوجوه اللازمة من تعلق الأمر والنهي بواحد ذي وجهين، لا الوجوه العارضة من باب الاتفاق، فلا يقاس المندوحة وعدمها بسائر الجهات الاتفاقية المانعة عن الحكم بالجواز فعلاً.

وفيه: أن مثل العقل والقدرة من غير جهة المندوحة أيضاً كالمندوحة ليست مشترطة من باب الاتفاق، بل هي شروط عقلية دائمة، فتأمل.

وثانياً(2): بأنه لو كان تعدد الجهة مجدياً في تعدد المعنون، لكان مجدياً في التقرب به من حيث رجحان نفسه، فإن عدم المندوحة يمنع عن الأمر

ص: 138


1- نهاية الدراية 2: 296.
2- نهاية الدراية 2: 297.

لعدم القدرة على الامتثال، ولا يمنع عن الرجحان الذاتي الصالح للتقرب به، فكما أن تعدد الجهة يكفي من حيث التضاد، كذلك من حيث ترتب الثمرة، وهي صحة الصلاة، فلا موجب للتقييد بالمندوحة، لا على القول بالتضاد إذ لعدم الصحة تكفي الاستحالة من جهة التضاد، ولا على القول بعدم التضاد وذلك لحصول التقرب لو قلنا بتعدد الجهة.

أقول: إنه مع عدم المندوحة لا إشكال في سقوط أحد التكليفين - الأمر والنهي - لئلا يكون تكليفاً بما لا يطاق، والغالب سقوط النهي للاضطرار إلى المنهي عنه، نعم لو دار الأمر بين امتثال أحدهما حصراً كما لو خيره الظالم بين الصلاة في المغصوب أو عدم الصلاة في المباح فحينئذٍ يسقط أضعفها ملاكاً ويبقي الآخر، ولو تساويا تخير.

ومع سقوط أحد التكليفين لا موضوع لبحث الاجتماع، لأن المسألة فيما لو كان هناك أمر ونهي بطبيعتين ثم اجتمعت الطبيعتان في فرد اتفاقاً مع إمكان امتثالهما في فرد آخر، وعليه فإن عدم القدرة الشرعية بعدم المندوحة وإن كانت في مرحلة الامتثال إلا أن عدم القدرة دائماً في حال عدم المندوحة يكون سبباً لعدم التكليف أصلاً في حال عدم المندوحة فرجع البحث إلى المقام الأول، فتأمل.

البحث السابع: في عموم النزاع سواء قلنا بأن التكاليف تتعلق بالطبائع أم بالأفراد

قد يتوهم: أنه لا إشكال في الامتناع بناءً على تعلق الأحكام بالأفراد وذلك لأن الجواز يبتني على تعدد المتعلّق، والفرد واحد في ماهيته ووجوده، وأما بناءً على تعلقها بالطبائع فقد يقال بالجواز وقد يقال بجريان

ص: 139

القولين من الجواز والامتناع.

ومنشأ التوهم هو أن الفرد وجود واحد شخصي، ويستحيل تعلق حكمين بالواحد الشخصي فإنه من اجتماع الضدين، عكس الطبيعة التي هي كلي.

وأجاب صاحب الكفاية(1):

بأن (المجمع) شيء واحد وله وجهان، سواء قلنا بأن التكاليف تتعلق بالطبائع أم بالأفراد، فلذا يجري البحث عن جدوى تعدد الوجه في رفع التضاد أم عدم جدواها، وذلك لأن موضوع الحكمين هو المجمع على كل حال، والمجمع هو وجود خارجي يعبر عنه بالفرد، لكن على القول بتعلق التكاليف بالطبائع لا تدخل الخصوصيات الخارجية في متعلق التكليف، وعلى تعلقها بالأفراد تدخل تلك الخصوصيات في متعلّق التكليف.

والحاصل: إن الموضوع هو الفرد الخارجي على كل حال، لكن قد تلاحظ فيه الخصوصيات الخارجية وتكون متعلقاً للأمر، وقد لا تلاحظ تلك الخصوصيات وإنّما يلاحظ الوجوب السِعي المعبّر عنه بالطبيعة.

وأشكل عليه: بأن تعلق التكليف بالفرد إنّما هو بمعنى تعلق التكليف بجميع الخصوصيات الفردية والتي منها تقيد الطبيعة بالمكان الخاص في مثل الصلاة في المغصوب، فصار المكان الخاص متعلقاً للأمر ومتعلقاً للنهي، وهذا بمعنى تعلق حكمين في شيء واحد بوجه واحد، وهو محال حتى عند القائل بالجواز.

وردّه المحقق الإصفهاني(2):

بأن الفرد ليس هو الطبيعة المقيدة بالمكان

ص: 140


1- إيضاح کفاية الأصول 2: 253.
2- نهاية الدراية 2: 298.

الجزئي بل هو الطبيعة المقيدة بكلي المكان وكلي الزمان وهكذا كلي سائر الخصوصيات، فهذا المكان الخاص لم يتعلق به أمر.

إن قلت: كلي المكان لا يوجب التفرّد، فإن ضمّ كلي إلى كلي لا يستلزم الفردية، وإن أوجب تضييق دائرة الصدق.

قلت: إن الفرد وإن كان عبارة عن الطبيعة مقيدة بالمكان الخاص مثلاً، إلا أن القيد ذات المكان لا بعنوان أنه غصب، فهو مأمور به بعنوان أنه لازم للطبيعة، ومنهي عنه باعتبار أنه غصب، فتحقق الوجهان المطلوبان.

وفيه تأمل: لأن ما ذكره من تقيد الطبيعة بكلي الخصوصيات هو أحد المباني في تعلق الأحكام بالأفراد، وهناك مباني أخرى منها تقيدها بالخصوصيات الجزئية على نحو الواجب التخييري - تخييراً شرعياً - فعاد الإشكال على المحقق الخراساني.

البحث الثامن: الملاك في الاجتماع
اشارة

قد يُدّعى أنه لا يمكن فرض الاجتماع إلاّ لو كان في متعلقي الأمر والنهي ملاك الحكم مطلقاً حتى في مورد التصادق.

والكلام في مرحلتين:

المرحلة الأولى: في مقام الثبوت

فلابد من وجود الملاكين في المجمع، فعلى الجواز يكون محكوماً بكلا الحكمين، وعلى الامتناع يكون محكوماً بأقوى الملاكين، وفي حال التساوي التخيير أو يحكم بحكم غيرهما.

وذلك لجهتين:

ص: 141

الأولى: إنه لو لم يكن لأحدهما ملاك فلا يكون محكوماً بحكمه بل يحكم بالحكم الآخر الذي له ملاك، ولو لم يكن لأي منهما ملاك فلابد أن يحكم بغيرهما، فليس هناک اجتماع أصلاً من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

وبعبارة أخرى: إن وجود المقتضي للحكم في رتبة سابقة عن نفس الحكم، فيمتنع الحكم من غير ملاك، فلا تصل النوبة إلى البحث عن إمكان الاجتماع وعدمه.

وأورد عليه: بأنه خلط بين الامتناع بالذات لأجل التضاد وهو محلّ الكلام، وبين الامتناع بالعرض لأجل عدم وجود الملاك، فإن هذا لا يرتبط بالبحث.

وفيه: ما مرّ في بحث المندوحة، من أن الغرض هو إثبات إمكان الاجتماع أو امتناعه فعلاً، ولا فرق في ذلك بين كون منشأ الامتناع ذاتي أم بالغير.

الثانية: ما قيل من أن ثمرة الاجتماع لا تظهر إلا مع وجود الملاكين، فإن نتيجة القول بالجواز هي فعلية الوجوب في المجمع رغم كونه مصداقاً للحرام، وهذا لا يمكن إلا مع وجود ملاك الوجوب والحرمة معاً.

وأورد عليه: أولاً: إنه يكفي في الثمرة عدم إحراز انتفاء أحد الملاكين في المجمع، ولا يشترط إحراز ثبوتهما، إذ بمجرد عدم إحراز ارتفاع أحد الملاكين يتمسك بإطلاق دليل الأمر.

وفيه: أن هذا هو بيان للزوم إحراز الملاك، لكن مع بيان كيفية إحرازه، وهو إطلاق الدليلين، والحاصل: إنه لابد من إحراز الملاك تارة عن طريق الأمر بإطلاقه وأخرى عن طريق آخر، فتأمل.

وثانياً: بأنه لا ينبغي أن يؤخذ في موضوع المسألة ما يكون دخيلاً في

ص: 142

ترتب الثمرة على تلك المسألة، مثلاً دلالة الأمر على الوجوب تتوقف على عدم المعارض، مع وضوح عدم أخذ ذلك شرطاً في موضوع البحث الذي هو دلالة الأمر على الوجوب.

وفيه: أن الثمرة لو توقفت على وجود شيء بشكل دائم بحيث لا تترتب تلك الثمرة إلا بشرط وجوده فلابد من أخذه في موضوع البحث، وما ذكر من التنظير إنّما هو أمر عدمي، فتأمل.

وقد أشكل على أصل اشتراط الملاك: بأن مسألة الاجتماع لا ترتبط ببحث الملاك أصلاً، وذلك لإمكان البحث فيها حتى من القائلين بعدم لزوم المصلحة والمفسدة في متعلق الحكم، حيث إن جهة البحث هي اجتماع الضدين في موضوع واحد، أو عدمه، واجتماع الضدين محال حتى عند من ينكر تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد.

والجواب: ما مرّ في بحث اشتراط المندوحة، من أن ملاك الاستحالة قد يكون التضاد فيجري النزاع حتى من القائلين بعدم التبعية حسب الادّعاء، وقد يكون الملاك شيئاً آخر - کعدم الملاك - فيجري النزاع على حسب رأي العدلية.

أما ما قيل: من أن المراد من الملاك ليس المصلحة والمفسدة في المتعلق، بل المراد مبادئ الحكم - سواء رجعت إلى العبد من المصلحة والمفسدة أم رجعت إلى نفس المولى - إذ لابد لكل حكم من وجود غرض للمولى حتى عند منكر التبعية.

ففيه: أن منكري التبعية لا يشترطون غرضاً في الحكم مطلقاً، سواء رجع

ص: 143

إلى العبد أم إلى المولى، فلا يشترطون لا المصلحة والمفسدة للعبد، ولا أي غرض آخر للمولى سوى إرادته.

المرحلة الثانية: في مقام الإثبات

قد يقال: 1- بأنه قد يحرز ملاك واحد فقط، فإن كان الدليل الأخبار، فالخبران متعارضان، ولابد من إعمال قواعد التعارض، من الترجيح بالسند أو التخيير، ونحو ذلك.

2- وقد يحرز وجود الملاكين، فيتزاحم المقتضيان، فلابد من إعمال قواعد التزاحم من تقديم الأقوى ملاكاً، وإن كان الآخر أقوى سنداً.

نعم لو تكفّل الدليلان للحكم الفعلي، حصل التعارض في مرحلة الفعلية، فلابد من إعمال قواعد التعارض حينئذٍ.

3- ولو لم يكن طريق للملاك سوى إطلاق الدليلين على الحكم الفعلي، فعلى القول بالامتناع يحصل تصادم بين الدليلين، مع عدم الدلالة على وجود الملاك فيهما، لأن ارتفاع أحد الحكمين قد يكون لأجل المزاحم، وقد يكون لأجل عدم وجود المقتضي.

والحاصل: إنه لو كان مفاد الدليلين الحكم الفعلي مع الذهاب إلى الامتناع، وقع تعارض بينهما، فيتساقطان، فلا طريق لإثبات الملاك.

وأشكل عليه المحقق الإصفهاني(1):

بإمكان إحراز الملاك حينئذٍ بأحد طريقين:

الطريق الأول: الدلالة الالتزامية للدليلين على الملاك، بعد سقوط

ص: 144


1- نهاية الدراية 2: 302.

الدلالة المطابقية لهما بالتعارض.

وأورد عليه: أولاً: بالنقض بما لو كان متعلّق الدليلين واحداً كما لو تعارض دليلان مفادهما (صلّ) و(لا تصلّ)، فمع سقوط الدلالة المطابقية بالتعارض لا يلتزم أحد ببقاء الدلالة الالتزامية بل يجرون فيهما أحكام التعارض.

وأجاب عنه المحقق العراقي(1): بأن لكل أمر ثلاث دلالات التزامية: الدلالة على المصلحة في المطلوب، والدلالة على النهي عن الضد العام، والدلالة على أن لا مصلحة للضد العام - وهذه لازم اللازم - ، فيحصل التنافي بين الدليلين في الدلالة الالتزامية على الملاك أيضاً، ففي المثال (صلّ) يدل على المفسدة في ترك الصلاة، و(لا تصلّ) يدل على المفسدة في فعلها.

وهذا بخلاف مورد الاجتماع في مثل (صلّ) و(لا تغصب)، حيث لا يدل الأمر على النهي عن الضد الخاص.

وأشكل عليه: بعدم وجود الدلالة الالتزامية الثالثة في مورد النقض، وذلك لأن حرمة الضد العام حرمة تبعية ناشئة عن نفس ملاك الأمر بالفعل، وليس بملاك آخر.

ومع قطع النظر عن هذا، فإن الأمر بالشيء يدل على وجود ملاك فيه، ولا يدل - إثباتاً أو نفياً - على ملاك في الترك، فتأمل.

وثانياً: الإيراد المبنائي، بتبعية الدلالة الالتزامية للدلالة المطابقية - ثبوتاً وسقوطاً - إلا مع علمنا بصدور أحد الدليلين، فحينئذٍ نعلم تفصيلاً بالدلالة

ص: 145


1- نهاية الأفكار 1: 440.

الالتزامية على نفي الثالث.

الطريق الثاني: التمسك بإطلاق المادة

وذلك لأنه مع عدم إطلاق الهيأة بأن كان هناك محذور عقلي لشمول الوجوب لصورة من الصور، كصورة العجز، فالوجوب يختص بغير هذه الصورة، لكنه يتعلق بذات الواجب، لا الواجب المقيد بهذه الصورة، وذلك لإطلاق المادة.

وبعبارة أخرى: لا إطلاق للهيأة، لوجود محذور عقلي، ولكن لا محذور في إطلاق المادة، بأن يكون عدم العجز مثلاً ظرفاً لتعلق الوجوب بالمادة المطلقة، لا قيداً.

ونتيجة ذلك هو أن لذات الصلاة مثلاً ملاكاً بلا تقييد بتلك الصورة.

وأشكل عليه(1): بأن هذا إنّما يتم في الموانع العقلية التي تقيد الوجوب، فلا وجوب مع العجز مثلاً، لا فيما نحن فيه، لأنه لو وجدت مندوحة فالوجوب مطلق ويريده المولی على كل حال ولكن الواجب يتقيد بالحصة المباحة.

البحث التاسع: الحكم في التزاحم الملاكي

لو قلنا بإمكان إثبات الملاك عبر إطلاق المادة أو بالدلالة الالتزامية، أو ثبت الملاك بدليل آخر، فهل التزاحم الملاكي تجري فيه أحكام التزاحم الامتثالي، أم أحكام التعارض؟

أما التزاحم الامتثالي: فهو ما لو جعل الحكم طبقاً لملاكه، ولكن العبد لا يتمكن في مرحلة الامتثال من امتثال كلا الحكمين، كما لو لم يتمكن

ص: 146


1- مباحث الأصول 3: 410.

من إنقاذ كلا الغريقين، فلكل واحد منهما ملاك، والمولى جعل الحكم بوجوب الإنقاذ، لكن العبد لم يتمكن من امتثال أحدهما.

وأما التزاحم الملاكي: فهو ما لو وجدت المصلحة والمفسدة في شيء، ولم نعلم أن المولی رجح أيهما فجعل الحكم طبقاً له.

والفرق بينهما: أن التزاحم الملاكي إنّما هو تزاحم في الجعل، فيتنافي الدليلان لعدم صدور أحدهما، وأما التزاحم الامتثالي فهو تزاحم في الفعلية من غير تزاحم في الجعل فلا تنافي بين الدليلين لإمكان صدورهما معاً.

كما قد يقال: بأنه في التزاحم الامتثالي العقل هو الحاكم بترجيح أحدهما على الآخر لأهميته أو نحو ذلك، أما في التزاحم الملاكي فالحاكم هو المولى لأنه هو الذي يجعل الحكم طبقاً لأحد الملاكين ولا طريق للعقل لتشخيص ذلك، فتأمل.

فلابد من بيان بعض مرجحات باب التزاحم، وسيأتي تفصيلها(1).

فنقول: لو علمنا بوجود هذه الملاكات من دليل خارج فلابد من الترجيح بها، وإن لم يكن لنا إلاّ إطلاق الدليل، فحينئذٍ لابدّ من ملاحظة كلّ مورد على حِدة، فالمرجحات...

منها: الترجيح بالأهمية، حيث إنه في التزاحم الامتثالي لابد من الترجيح بها لو علمنا بها، وأما في التعارض فحيث لم نكشف وجود الملاكين، فلا وجه للترجيح بها، لأن الترجيح بها فرع وجود الملاك الأهم، وهو غير ثابت بسبب التعارض.

ص: 147


1- راجع فوائد الأصول 1: 323.

وأما فيما نحن فيه - من التزاحم الملاكي - فإنه مع كون الدليل على وجود الملاك هو نفس دليل الحكم، فحينئذٍ نعلم بوجود الملاكين، ولكن لا طريق لإحراز أهمية أحدهما على الآخر، كي تكون تلك الأهمية سبباً للجعل، إذ لا دلالة التزامية على الأهمية، ولا الإطلاق يدل عليها.

ومنها: ترجيح ما لا بدل له على ما له بدل، نظير صوم النذر وصوم خصال الكفارة.

وفيما نحن فيه - من التزاحم الملاكي - لا يمكن إثبات أصل الملاك عبر إطلاق الدليل، لتعارض مفاد الدليلين في أصل وجود الملاك، فلا تصل النوبة إلى هذا المرجح، لأنه فرع إحراز الملاكين معاً.

مثلاً: (صلّ) له إطلاق بدلي بحيث يشمل حتى الصلاة في المغصوب، فيدل على وجود مصلحة في هذا الفرد أيضاً، و(لا تغصب) له إطلاق شمولي يدل على وجود مفسدة في الغصب مطلقاً - حتى لو كان صلاة - فيتعارضان.

وبعبارة أخرى - كما قيل -: لو كانت مفسدة في الغصب لما كان يقتضي ملاك الصلاة جعل وجوبها مطلقاً بحيث يشمل الصلاة في المكان المغصوب، وذلك لإمكان الصلاة في مكان آخر، فالإطلاق البدلي لدليل وجوب الصلاة ينفي بالالتزام أصل مفسدة الغصب في المجمع، وإطلاق دليل الغصب يقتضي وجود المفسدة فيه، فيقع التكاذب، فالتعارض.

نعم لو علمنا بدليل خارج أن ما لا بدل له يوجد فيه الملاك، فلا إشكال في لزوم الترجيح به، وذلك لوجود المقتضي وهو الملاك، وعدم المانع، حيث إن مصلحة الآخر قابلة للاستيفاء في فرد آخر - حيث إنه له بدل - فتأمل.

ص: 148

ومنها: ترجيح المشروط بالقدرة العقلية على المشروط بالقدرة الشرعية، كالجهاد العيني والحج، حيث إن وجوب الجهاد سبب عدم القدرة الشرعية على الحج لاشتراطه بالاستطاعة، فلا وجوب فيه.

وفيما نحن فيه - من التزاحم الملاكي - لا إحراز لأصل الملاك، حتى نرجحه بكونه مشروطاً بالقدرة العقلية، ومن ذلك كلّه يتضح أن الحكم هو التعارض فتجري فيه أحكامه.

وحيث إن الوظيفة حين التعارض هي الجمع الدلالي أولاً، ثم الترجيح بالسند ثانياً، ثم التخيير أو التساقط ثالثاً، فلابد من النظر في جريان هذه الثلاثة فيما نحن فيه...

الأول: الجمع الدلالي

فقد يقال: إنه لو أحرزنا أهمية الملاك في أحدهما حملناه على الحكم الفعلي وحملنا الآخر على الحكم الاقتضائي.

وفيه: أنه ليس بجمع عرفي، مضافاً إلى أن العرف لا يعتبر غير الفعلي حكماً، فالحمل على الاقتضائي ليس بجمع بل إسقاط الدليل الآخر.

الثاني: الترجيح بالسند

ففي المتباينين يحصل تكاذب في السندين، لسراية التعارض من الدلالة إلى السند، فلابد من إعمال المرجحات السندية، وحينئذٍ فإن عرفنا الملاك من الخارج، كان ثابتاً على كل حال حتى في الساقط لكن من غير تأثيره في الحكم، وإن كان ثابتاً عبر الدليل سقط ملاک المرجوح، وأما ملاك الراجح، فقد يقال: يقدّم الأقوى منهما سنداً، ثم عبر دليل الإن يستكشف أن

ص: 149

مدلوله أقوى مقتضياً.

وأورد عليه: أولاً: بأنه لا إحراز لأصل المقتضي فضلاً عن أقوائيته، وذلك لأن الترجيح ناشئ عن المصلحة النوعية، لأكثرية إصابة الواقع في الخبر الراجح.

وثانياً: بعدم الفائدة في إحراز أصل الملاك فضلاً عن الأقوائية، وذلك لأن الترجيح السندي إنّما هي للأخبار الدالة عليه، ولتلك الأخبار إطلاق يشمل صورة إحراز الملاك وعدمه وأقوائية وعدمها، فتأمل.

الثالث: التساقط، لو لم نقل بالتخيير

فلو قلنا بسقوط الدلالة مطلقاً - حتى في نفي الثالث - فإن لم نحرز من الخارج أياً من الملاكين، رجعنا إلى الأصول العملية، حتى لو كان مقتضاها حكم ثالث غير ما هو موجود في الخبرين.

وإن أحرزنا الملاكين، فلا يجوز الرجوع إلى أصل يفوّت كلا الملاكين، وإنّما الأصل المتطابق مع أحدهما، فتأمل.

البحث العاشر: في ثمرة بحث الاجتماع

قد يتسائل: بأن المشهور ذهبوا إلى الامتناع مع تقديم جانب النهي، فلا يكون العمل العبادي صحيحاً، لكنهم مع ذلك أفتوا بصحة الصلاة في المغصوب جهلاً قصورياً، مع أنه بالاجتماع قد سقط الأمر واقعاً ولم يكن يوجد إلا النهي، فکيف يتمّ الجمع بينهما؟

وقد يفصّل حسب المباني، فيقال: إنه لو أتى بالمجمع...

1- فعلى القول بالجواز: فإنه يحصل الامتثال، لو أتى به بداعي الامتثال،

ص: 150

حتى في العبادات، نعم قد ارتكب حراماً للنهي أيضاً، فيكون نظير النظر إلى الأجنبية في الصلاة.

2- وعلى القول بالامتناع مع تقديم جانب الأمر: فإنه يحصل الامتثال، ويسقط الأمر، مع عدم ارتكاب معصية، لعدم وجود النهي.

3- وعلى القول بالامتناع مع تقديم النهي...

ففي التوصليات: يحصل الغرض فيسقط الأمر، كمن غسل ثوبه الذي يريد الصلاة فيه بماء مغصوب.

وأما في التعبديات:

أ) فمع الالتفات إلى الحرمة، لا يحصل امتثال، لعدم تمشي قصد القربة.

ب) ومع عدم الالتفات والتقصير، فإنه وإن تمكن من قصد القربة - لجهله بالحرمة - لكن العمل لا يصلح للتقرب به، حيث إن العمل معصية، ولا يمكن التقرب بالمعصية، وحينئذٍ لا يتحقق غرض المولى، فلا يسقط الأمر.

ج) وأما مع عدم الالتفات قصوراً، فقد يقال بسقوط الأمر، ولتصحيح ذلك وجوه مختلفة، منها:

الوجه الأول: اشتمال المجمع على ملاك الوجوب، وذلك يكفي في صحة العمل، لتحقق الحسن الفعلي والفاعلي، أي لاشتمال الفعل على المصلحة مع صدوره حسناً، فحتى لو لم يكن هناك أمر ولم يكن هذا الفعل امتثالاً له، لكن الأمر بالطبيعة يسقط لتحقق الملاك.

وأشكل عليه: أولاً: بتحقق التزاحم بين ملاكي الوجوب والتحريم في المجمع، وبعد ترجّح ملاك التحريم يكون الفعل مبغوضاً مطلقاً - حتى في

ص: 151

حالة الجهل القصوري - ، فإن معذورية الجاهل لا ترفع بغض المولى للفعل بعد فرض الامتناع وترجح جانب النهي.

وبعبارة أخرى: وجود المفسدة شيء واقعي لا يرتبط بالعلم والجهل، وحينئذٍ كيف يصلح ما هو مبغوض المولى للمقربية له؟

وفيه نظر: إذ (المحبوبية الفعلية) ليست من شرائط حصول التقرب، بل يكفي فيه توهم المحبوبية حتى لو كان في توهمه خاطئاً بأن كان الفعل مبغوضاً للمولى.

وبعبارة أخرى: إن الحسن الفاعلي بالانقياد يكفي في حصول التقرب إلى المولى حتى لو لم يكن حسناً فعلياً، فمن صلّى باستصحاب الوضوء مع انتقاضه واقعاً، فصلاته مقربة للمولى رغم بطلانها وعدم محبوبيتها، وكذا مع المبغوضية كمن أنقذ جندي العدوّ بتوهم أنه من جنوده.

وعليه: فإذا كان الملاك موجوداً وحصل التقرب بتوهم المحبوبية، يكون المجمع امتثالاً للأمر المتعلق بالطبيعة.

وثانياً: بأنه لا طريق لنا إلى إحراز الملاك إلاّ الأمر، لکنه قد سقط بالاجتماع.

وأجيب: بعدم لزوم إحراز الملاك في المجمع، وذلك لصحة المجمع في حال الجهل حتى مع عدم إحراز الملاك، وذلك بإجراء أصالة البراءة، لأن الشك في الملاك - الذي يكون سبباً لعدم إجزاء المجمع - مسبّب عن الشك في (تقييد الواجب بعدم الغصب)، فصار المورد من مصاديق الأقل والأكثر الارتباطيين.

ص: 152

وبعبارة أخرى(1):

بأنه بلحاظ الملاك يشك في أن (إباحة المكان) هل هي دخيلة في الملاك أم لا؟ فالأصل البرائة عن دخلها فيه.

وبلحاظ الخطاب يشك في تقيد الخطاب ب-(الإباحة)، فالأصل البراءة عن هذا القيد، نظير سائر موارد الأقل والأكثر الارتباطيين.

وقد يورد عليه: بأن مثل: (صلّ)، لمادته إطلاق أي الصلاة في مجمع أو غيره، و لهيأته إطلاق أي الوجوب حتى في المجمع، فمع الذهاب إلى الامتناع وترجيح جانب النهي، نعلم بتقييد أحدهما فيما لو تعارض مع مثل: (لا تغصب)، فالأمر يدور في (صلّ) بين تقييد المادة وذلك يكشف عن عدم الملاك في المجمع، وبين تقييد الهيأة بمعنى عدم الوجوب للصلاة في المغصوب واختصاص الوجوب بالصلاة في المباح مع عدم تقييد الصلاة به، وقد مرّ أن تقييد المادة أولى من تقييد الهيأة، لأن المادة مقيدة على كل حال، حيث إن تقييد الهيأة يستلزم تقييد المادة، دون العكس، مضافاً إلى الظهور العرفي في تقييد المادة، وعليه فمع وجود الدليل الاجتهادي بتقييد المادة الكاشف عن عدم الملاك لا تصل النوبة إلى أصل البراءة، فتأمل.

الوجه الثاني: إن الأحكام تابعة للمصلحة والمفسدة المؤثرة في الحسن والقبح الفعليين، فمع عدم القبح الفعلي لا يوجد هناك حكم واقعي - حتى وإن كان الفعل مشتملاً على المصلحة - .

وعليه: فمع الجهل القصوري، لا يحكم العقل بقبح العمل، فلا توجد حرمة، فيكون الأمر ثابتاً من غير مزاحم.

ص: 153


1- بحوث في علم الأصول 3: 75.

وأشكل عليه: أولاً: بأنّ هذا هو التصويب بعينه، إذ مرجع هذا إلى اختصاص الأحكام بالعالم دون الجاهل، وقد ثبت في محله اشتراك العالم والجاهل في الأحكام الواقعية، بمعنى أن الأحكام عامة غير مقيدة بأحدهما أو بكليهما.

وثانياً: إنه لو فرض رفع التضاد في الحكم، فلا يمكن رفعه في مباديه، فالإرادة والكراهة متضادان حتى مع عدم تنجز الحكم.

الوجه الثالث: إن المجمع وافٍ بالملاك، فيمكن الإتيان به بداعي الأمر بالطبيعة - حتى وإن لم يشمله الأمر بنفسه - ، وذلك لأنّ المجمع أحد أفراد الطبيعة، وعدم تعلق الأمر به ليس لعدم المقتضي بل لوجود المانع، وحينئذٍ لا يرى العقل فرقاً بين المجمع وبين غيره من أفراد الطبيعة في الوفاء بالملاك.

ويرد عليه: أولاً: ما مرّ من أن الأمر المتعلق بالطبيعة لا يشمل الأفراد غير المقدورة - بالقدرة الشرعية - ، لأن الطبيعي والفرد كالآباء والأبناء.

وثانياً: النقض بصورة العلم بالغصب، فهذا يعلم بأن للطبيعة أمر، فيقصد أمر الطبيعة، فتمكّن من قصد القربة، لأنها قصد الأمر كما مرّ، فلا وجه لأن يقال: إن العلم بالغصب مانع عن التقرب.

الوجه الرابع: إن لازم الأمر بالطبيعة بنحو صرف الوجود، هو الترخيص في تطبيقه على كل فرد من أفراده، والعلم بالغصب ينافي الترخيص في التطبيق على الفرد المحرّم، دون الجهل به، فإن الترخيص ثابت لعدم تنجز الحرمة، فلا مانع من التمسك بإطلاق الأمر بالصلاة في حالة الجهل.

ويرد عليه: أن عدم التنجيز هو في الظاهر، مع بقاء الحرمة الواقعية، وهي

ص: 154

تنافي الترخيص الواقعي، وأما الترخيص الظاهري فإنه لا ينفع، لما مرّ من عدم إجزاء الظاهري عن الواقعي، مع أن المفروض ذهابهم هنا إلى الإجزاء بعدم الحاجة إلى إعادة الجاهل أو قضائه.

والحاصل: إنه قد اتضح عدم انسجام الذهاب إلى الامتناع وترجيح جانب النهي مع القول بصحة الصلاة في المغصوب جهلاً.

اللهم إلا أن يكون ذهاب المشهور إلى صحة الصلاة من باب الدليل الخاص، وهو قاعدة «لا تعاد»(1).

وأشكل عليه: برجوع إباحة المكان إلى بعض هذه الخمسة، فإن الحركة کالرکوع مثلاً هي نفس التصرف في المغصوب، فيبطل الركوع، فتبطل الصلاة بنفس دليل (لا تعاد)، وذلك لفقدان أحد الخمسة الذي هو الركوع.

وبعبارة أخرى: لم يتحقق الركوع - مثلاً - لأنه اسم للصحيح، والحركة الركوعية التي هي تصرف في الغصب ليست هي الركوع الصحيح بل صورة ركوع، فالصلاة لا ركوع فيها، فهي باطلة.

وفيه نظر: وذلك لأن الركوع وإن كان بالدقة العقلية متحد مع الحركة التي هي التصرف في المغصوب ولكن الظاهر العرفي هو مغايرة الركوع لشرط إباحة المكان، فيرى العرف فقدان هذه الصلاة لأمر خارج عن الخمسة مع توفر الخمسة كلّها، وسيأتي تتمة لهذا في بحث (مفهوم الاستثناء).

ص: 155


1- من لا يحضره الفقيه 1: 279.
البحث الحادي عشر: دليل عدم إمكان الاجتماع

وهو ما ذكره المحقق الخراساني بمقدمات أربع(1):

المقدمة الأولى: إن الأحكام الخمسة متضادة، فلا يمكن اجتماعها في محل واحد.

وأشكل عليه: بعدم التضاد في مراحل الحكم...

1- أما مرحلة المصلحة والمفسدة، فلا محذور في اجتماعهما في شيء واحد، لعدم تضادهما، بل قد يترتبان معاً على بعض الأفعال.

وفيه: أن المراد المصلحة والمفسدة الغالبتين، فإنهما لا يجتمعان، وذلك لأن التي تصير سبباً للوجوب هي المصلحة الغالبة على المفسدة لا ذات المصلحة، وكذا المفسدة الغالبة هي التي تكون منشأ للحرمة.

2- وأما مرحلة الإرادة والكراهة، فقد قيل: بأن التضاد صفة خارجية عارضة على الحقائق الخارجية، فلا تضاد في الصفات النفسية العارضة لما في النفس، فيمكن اجتماع الحالات والكيفيات المختلفة في آنٍ واحد، كما لا تضاد في متعلّق تلك الصفات النفسية، لأن المتعلق ليس هو الفعل الخارجي بل هو الوجود الذهني، إذ يستحيل تقوّم ما في النفس بما في خارجها، وإلا لزم انقلاب الوجود الذهني إلى الوجود الخارجي، وهو محال.

وفيه: الإشكال مبنىً، وبيانه: أنه لا تنافي بين المفاهيم الذهنية، ولكن قد يحصل التضاد مع وحدة المصداق الذهني، ولذا قالوا بأن اجتماع النقيضين مفهوماً ذهنياً ممكن، ويستحيل تحقق مصداقه في الذهن.

ص: 156


1- إيضاح کفاية الأصول 2: 270-276.

هذا مضافاً إلى أن المتعلّق هو الوجود الذهني بما هو مرآة في الخارج وفانٍ فيه.

3- وأما مرحلة الإنشاء، فقد يقال: بعدم تضاد الأحكام في هذه المرحلة، حيث إن الإنشاء خفيف المؤنة وهو مجرد اعتبار، ولا تنافي بين الاعتبارات المختلفة.

وفيه: أن الإنشاء هو قصد إيجاد المعنى باللفظ في عالم الإنشاء، وليس مجرد لقلقة لسان، ومع التفات المولى إلى التضاد في المصلحة والمفسدة الغالبتين وكذا التضاد بين الإرادة والكراهة، وكذا في المراحل الأخرى، ومرحلة امتثال المكلف، مع ذلك لا يعقل قصد إيجاد معنيين متنافيين، ولا يفرق في هذا المباني المختلفة في حقيقة الإنشاء، كما مرّ تفصيلها.

4- وأما مرحلة الفعلية، فأشكل عليه: باستحالة ثبوت الحكمين الفعليين، إما للّغوية، وإما لاستحالته في نفسه حتى من غير الحكيم.

أما الأول: فلأن المولى الملتفت إلى عدم قدرة المكلف في الإتيان بهما معاً، يكون لاغياً إذا جعل الحكمين الفعليين.

وأما الثاني: فلأن الداعوية إما مأخوذة في حقيقة التكليف الذي هو جعل ما يمكن أن يكون داعياً، وإما هي الغرض من التكليف على مبنى من يرى التكليف بأنه جعل الفعل في عهدة المكلف، ومن المعلوم عدم إمكان الداعوية إلى الفعل والترك معاً(1).

وأورد عليه: أولاً: بأنّ الدليل أخص من المدعى، فيجري في الواجب

ص: 157


1- منتقی الأصول 3: 83.

والحرام، دون الواجب والمستحب أو الحرام والمكروه، نعم هو يفيد في خصوص بحث اجتماع الأمر والنهي الذي هو محلّ بحث الاجتماع.

وثانياً: بناءً على المبنى الثاني من أن الداعوية هي الغرض من التكليف، حيث يمكن ذلك من الساهي والغافل ونحوهما، نعم لا يجري هذا الإشكال في مورد البحث من الأوامر والنواهي الشرعية.

والحاصل: هو ثبوت التضاد في مرحلة الفعلية بين الأمر والنهي في الأوامر الشرعية.

ومن كل ذلك يتبين ثبوت المقدمة الأولى بوجود التضاد بين الأحكام الشرعية.

المقدمة الثانية: ترتب الغرض على حقيقة الشيء وواقعه، لا على عنوانه، لأن الأحكام تابعة للأغراض، وهي لا تترتب على العناوين، وإنّما على الأفعال الخارجية، وبهذا يتبين أن متعلق الأمر والنهي هو الوجود الخارجي للشيء، وهو واحد.

وأشكل عليه: بعدم تعلق الأحكام بالموجودات الخارجية، إذ الحكم من عالم الإنشاء وهو موجود ذهني، فلا يعقل أن يتعلق بما هو في عالم الخارج، بل تعلقها به يستلزم طلب الحاصل إذا كان الموضوع موجوداً في الخارج، أو تعلق الوصف بالمعدوم إذا لم يكن موجوداً.

وفيه: أن الصورة الذهنية مرآة لما في الخارج، فيكون المطلوب هو إيجاد الشيء وتحقيقه في الخارج، كما مرّ.

المقدمة الثالثة: إن تعدد العنوان لا يستلزم تعدد المعنون، بل قد يتعدد

ص: 158

العنوان مع وحدة المتعلّق من كل الجهات، كالعناوين الوصفية الصادقة على ذات الباري تعالى.

وأشكل عليه(1): بأنّ تعدد العنوان قد يكون مع تعدد المعنون وقد يكون مع وحدته، وذلك لأن العناوين علی ثلاثة أقسام: فقد تطلق على المفاهيم الطولية في الوجود كالعلية والمعلولية، وهذه يستحيل انطباقها على شيء واحد، وقد تكون تلك العناوين في مرتبة الذات فيجب انطباقها على شيء واحد كصفات الباري الذاتية، وقد تكون العناوين في مرتبة متأخرة عن الذات مع كون تلك العناوين في عرض واحد، كالعناوين الصادقة على الذات بلحاظ عروض الأعراض، كالسواد والطول والحلاوة في شيء واحد فحينئذٍ يتعدد المعنون.

وعليه فلابد من البحث في الصغرى، لنرى أنها من أي الأقسام الثلاثة.

وفيه: أن هذا ليس نقضاً للمقدمة، إذ الهدف منها بيان إمكان انفكاك تعدد العناوين عن تعدد المعنون، لا إثبات الانفكاك دائماً.

اللهم إلا أن يكون الغرض بيان أن الذات هي مطابقة للعناوين دائماً، رداً على من ذهب إلى أن لازم تعدد العنوان هو تعدد الخصوصية في المعنون، فحينئذٍ نقول: إن الأمثلة الشرعية التي وقعت مورداً للبحث هي من قبيل القسم الثالث، فتأمل.

المقدمة الرابعة: اتحاد المجمع ذاتاً وماهيةً، وعدم ابتناء المسألة على أصالة الوجود أو الماهية، ولا على تعدد الجنس والفصل في الخارج أو عدم

ص: 159


1- نهاية الدراية 2: 315.

تعددهما، ولا على إمكان تعدد الفصل مع وحدة الجنس في شيء واحد.

أما الأول: فقد يتوهم أنه بناءً على أصالة الوجود، لا يكون الصادر عن الفاعل إلا الوجود وأنه متعلق التكليف، لا الماهية التي هي أمر انتزاعي ذهني، وحيث إن وجود الذات واحد فلذا يمتنع تعلق الأمر والنهي معاً به، وأما بناءً على أصالة الماهية فلا خارجية للوجود وإنّما هو أمر انتزاعي، بل المتحقق في الخارج هو الماهية، والماهيات متباينة، فيكون متعلق الأمر غير متعلق النهي.

وفيه: أن الوجود الواحد ليس له إلا ماهية واحدة، وكذا العكس، فلا فرق بين القولين.

إن قلت: فكيف انطبق على الوجود الواحد عنوانان كعنوان الصلاتية والغصبية مثلاً!!

قلت: ليس معنى تعدد العنوان هو تعدد الماهية، بل هو ينتزع من وجود واحد وماهية واحدة، وبعبارة أخرى: أمثال هذه العناوين هي تنتزع عن الوجودات والماهيات وليست هي ماهية مستقلة، كما سيأتي بعد قليل بيانه.

وأما الثاني: فقد يتوهم جواز الاجتماع إذا كان تعلق أحدهما بالماهية الجنسية والآخر بالماهية الفصلية، وعدم جوازه بناءً على عدم تعددهما.

وفيه: أن الصلاة والغصب ليس أحدهما جنس أو فصل للآخر، بل قد ينفكان كثيراً، لأن النسبة بينهما العموم من وجه، مع أن النسبة بين الجنس والفصل هي العموم المطلق، مضافاً إلى أن الأمثلة الشرعية من المفاهيم الانتزاعية التي لا تكون جنساً أو فصلاً.

ص: 160

وأما الثالث: فقد يتوهم أن الحركة بما هي حركة جنس، والصلاتية والغصبية فصلان.

وفيه: - مضافاً إلى أن المورد من المفاهيم الانتزاعية التي ليس لها جنس أو فصل - استحالة أن يكون للشيء الواحد فصلان، بل لكل ماهية فصل واحد.

وحيث تمتّ المقدمات الأربع، تبين امتناع اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ولو تعدد العناوين.

البحث الثاني عشر: أدلة الإمكان

وقد استدل له بوجوه، وبعضها أدلة الجواز في بعض الصور، فهي أدلة لبعض التفصيلات.

الدليل الأول: ما ذكره المحقق النائيني(1)

لإثبات تعدد الوجود في موارد الاجتماع، وهو بحث صغروي بعد أخذ الكبرى - وهي إمكان الاجتماع مع تعدد الوجود وامتناعه مع وحدته - مسلّمة.

وقد ذكر عدة أمور، لكنها تصبّ في تنقيح الموضوع أو زيادة توضيح للدليل، فنكتفي بإيراد أصل الدليل، وحاصله: أن التركيب بين متعلقي التكليفين إما تركيب انضمامي بأن يكون وجود كل واحد منهما غير وجود الآخر، فيمكن الاجتماع، وإما تركيب اتحادي بأن يكونا وجوداً واحداً في الحقيقة، فيمتنع الاجتماع.

1- وفي مبادئ الاشتقاق يكون التركيب انضمامياً، كالغصب والصلاة، وذلك لأن المبدأ هوية واحدة سارية في كل الأفراد، كالبياض فإنه ماهية

ص: 161


1- فوائد الأصول 1: 406-408.

واحدة سواء كان في السکّر أم في العاج - مثلاً - أم في غيرهما، وكالصلاة فإن ماهيتها لا تختلف سواء كانت مع الغصب أو بدونه.

وحيث كانت الماهية واحدة لزم أن يكون تركيبها مع غيرها تركيباً انضمامياً، وإلا لزم الانقلاب المحال.

2- وأما في العناوين الاشتقاقية كالعالم والعادل يكون التركيب اتحادياً، لأن معروض العنوان هي الذات، وهي لا تتعدد بتعدد العناوين، حتى لو تعددت الأعراض القائمة بها.

وأشكل عليه: أولاً: بأن سراية المبدأ في كل الأفراد لا يلزم منه التركيب الانضمامي، وذلك للنقض بالجنس والفصل، حيث إن الجنس محفوظ بتمام حقيقته مع جميع الفصول، مع أن التركيب اتحادي لا انضمامي.

وفيه: أن مقصود المحقق النائيني ظاهراً أن الماهية الواحدة لا يمكن أن تنقلب عما هي عليه فتتحد مع ماهية أخرى، ومورد النقض لا يرتبط بالبحث، إذ لا ماهية للجنس والفصل، وإلا لزم التسلسل، فتأمل.

وثانياً: إن ما ذكره إنّما يصح في المبادئ المتأصلة، فلازم تعدد المبدأ هو تعدد الوجود، فيستحيل انطباق ماهيتين على وجود واحد، نظير العلم والعدالة، وأمّا لو كان أحد المبدءين أو كلاهما من المبادئ الانتزاعية فلا محذور في انتزاعهما من وجود واحد، وذلك لأن المبدأ الانتزاعي لا وجود له إلا بوجود منشأه، فلابد من ملاحظة المنشأ، فمع تغاير المنشأين وجوداً يتعدد المبدءان، وإن اتحد منشأ انتزاع المبدءين فلا يتعددان، وذلك لأن الوجود الخارجي واحد لا غير.

ص: 162

وفي الأمثلة الشرعية كالغصب والعدالة، كلا المبدءين منتزعان لا متأصلان، فالحركة الخارجية الموجودة باعتبار كونها تصرفاً في ملك الغير بغير إذنه ينتزع منها الغصب، وباعتبار جزئيتها للصلاة ينتزع منها الركوع مثلاً، فلا تعدد في الوجود، فتأمل.

الدليل الثاني: تعدد الجهة في الوجود الواحد تكفي في تعلق الأمر بجهة وتعلق النهي بجهة أخرى.

وفرق هذا عن سابقه هو أن الدليل السابق كان لإثبات تعدد الوجود، وهذا الدليل لإثبات كفاية تعدد الجهة حتى مع الوجود الواحد.

فقد يقال(1): إن الخصوصية على قسمين:

الأول: أن يترتب الأثر سواء وجدت الخصوصية أم لا، لكن اتصاف الأثر بالمصلحة يتوقف على وجود تلك الخصوصية، كترتب الآثار على الدواء سواء كان مريضاً أم لا، لكن المصلحة تتوقف على وجود المرض.

وهذا خارج عن البحث، لأن الأثر لا يرتبط بالخصوصية، بل دورها إنّما هو في صيرورة الأثر مصلحة أو مفسدة، وحيث يمتنع اجتماع المصلحة الراجحة مع المفسدة الراجحة فلا إشكال في امتناع اجتماع الحكمين حينئذٍ.

ولا يعقل أن تكون الخصوصية متعلقاً للحكم، لأن الفعل عند وجودها يصير ذا مصلحة أو مفسدة فتنشأ إرادة وحب أو كراهة وبُغض، ثم أمر ونهي نحو الفعل، لا نحو الخصوصية التي هي موجودة، فيكون طلبها طلباً للحاصل.

ولذا لم يختلف الأصوليون - حتى القائلين بجواز الاجتماع - في تعارض

ص: 163


1- منتقی الأصول 3: 100.

مثل أكرم العالم ولا تكرم الفاسق في العالم الفاسق، لأن خصوصية الفسق والعلم أوجبت مصلحة ومفسدة في الذات، وحيث يستحيل كونهما غالبتين، فلا اجتماع وإنّما تعارض.

الثاني: أن لا يترتب الأثر إلا مع وجود الخصوصية، وحينئذٍ فقد يقال...

1- بإمكان الاجتماع، فيما لو كانت المصلحة في خصوصية، والمفسدة في خصوصية أخرى، أو كان أحدهما في ذات العمل والآخر في الخصوصية، وذلك لأن الخصوصية وإن لم يكن لها وجود مستقل، إلا أنها يمكن أن تكون متعلقاً للأغراض العقلائية - من غير ملاحظة العمل - فتنشأ إرادة وكراهة إحداهما للذات والأخرى للخصوصية، أو إحداهما لخصوصية وأخرى لخصوصية أخرى، حتى لو كانتا في وجود واحد، ولا يلزم التضاد، لأن تضاد الحكمين لأجل منشأهما، ومع اختلاف المنشأ لا تضاد!!

2- أو بامتناع الاجتماع، فيما لو كان مركز الإرادة والكراهة واحداً، سواء بالمطابقة أم بالتضمن، كما لو كانت إحداهما في ذات العمل والأخرى في الذات مع الخصوصية، أو إحداهما في الخصوصية والأخرى في الذات مع الخصوصية، أو كانتا في المجموع، وذلك لاتحاد منشأ الإرادة والكراهة فيحصل التضاد!!

ويرد عليه: أنه مع اتحاد الوجود حتى لو اختلف مركز الإرادة والكراهة - بأن كانت إحداهما في خصوصية والأخرى في خصوصية ثانية، أو كانت إحداهما في الذات والأخرى في الخصوصية - فإن العمل المتضمن لتلك الخصوصية واحد، فهل يريده المولى أم لا يريده، فإن المولى الملتفت إلى عدم انفكاك الفعل عن الخصوصية أو عدم انفکاک الخصوصيتين لا يعقل

ص: 164

تحقق إرادة غالبة وكراهة غالبة في نفسه، بل يحصل بينهما كسر وانكسار ويكون الترجيح للأقوى ومع التساوي التعارض.

وقد مرّ نظير هذا الكلام في عدم تعقل أن يكون تضاد في حكم المتلازمين أو اللازم والملزوم، مع تعدد وجودهما، فكيف بما نحن فيه حيث وجود واحد يتضمن خصوصية منتزعة عنه.

ولا يجدي التفصي بأن ذلك الاجتماع بسوء اختيار العبد.

وذلك لأن سوء الاختيار لا يجعل المحال ممكناً، بل يرفع قبح العقاب مثلاً، وقد مرّ نظير ذلك في بحث مقدمة الواجب بناءً على الملازمة فاختار مقدمة محرّمة بسوء اختياره مع تمكنه من مقدمة مباحة.

الدليل الثالث: ما عن المحقق العراقي(1)،

من أن الوجود الواحد إذا كانت له حيثيتان بحيث صار بإحداهما مصداقاً لعرض وبالأخرى مصداقاً لعرض ٍ آخر، فحينئذٍ...

1- إما أن تكون جهة مشتركة بين الحيثيتين، فلا يمكن الاجتماع، وذلك لاستلزام المحال باجتماع حكمين في شيء واحد - وهي الجهة المشتركة - حيث إن متعلق الحكم هو الوجود الذهني، وهذا النحو من الوجود يشتمل على الطبيعي مع خصوصية الوجود، فيكون الحكم ثابتاً للطبيعي المتحقق في الوجود الذهني ضمناً، فالحكمان الثابتان للخصوصيتين قد تعلّقا بالجهة الجامعة، وذلك لتحقق الجهة الجامعة في كلا الخصوصيتين.

2- وإما أن لا تكون جهة مشتركة بين الحيثيتين، فيمكن الاجتماع،

ص: 165


1- نهاية الأفكار 1: 425.

لاختلاف متعلق الحكمين.

وأورد عليه: أولاً(1):

بالنقض بعروض الأوصاف الخارجية على الموجودات الخارجية فيما لو كان أحدها عارضاً على فرد من الطبيعي والآخر عارضاً على فرد آخر منه، فبناءً على ما ذكره يلزم عروض وصفين متضادين على الطبيعي، الذي هو الجهة الجامعة بين الفردين.

وفيه: أن الكلام في الوجود الواحد الذي له حيثيتان فيهما جهة مشتركة، ومورد النقض هو في وجودين لا في وجود واحد، فلا يرد هذا النقض.

وثانياً: ما مرّ من أن الحكم إنّما يتعلق بالوجود الذهني بما هو مرآة وفانٍ في الخارج، لعدم تعلق الغرض بالوجود الذهني كي يكون بما هو هو متعلقاً للحكم، فسواء كانت جهة مشتركة أم لم تكن لا يمكن الاجتماع لاتحاد الوجود.

الدليل الرابع: ما عن المحقق القمي(2)،

من أن الفرد مقدمة للطبيعي، فإن متعلق الأحكام الطبايع، وحيث كان متعلق الأمر طبيعي الصلاة مثلاً ومتعلق النهي طبيعي الغصب، فحينئذٍ...

إن قلنا بعدم الملازمة في الحكم بين ذي المقدمة وبين المقدمة، فلا محذور لعدم تعلق الحكم بالفرد - الذي هو المجمع - فلا اجتماع للضدين.

وأما لو قلنا بالملازمة فيجب ويحرم الفرد الواحد وفي ذلك اجتماع الضدين وهو محال.

ص: 166


1- منتقی الأصول 3: 104-105.
2- قوانين الأصول 1: 324-326.

ويرد عليه: أولاً: عدم كون الفرد مقدمة للطبيعي، بل الطبيعي ينتزع عنه في الخارج، وأما التعبير بأن الطبيعي عين الفرد في الخارج فلا يخلو عن مسامحة، بل الصحيح أن الفرد منشأ لانتزاعه، لا أنه مقدمة له، ولذا قالوا الحق أن الطبيعي موجود بوجود فرده.

وثانياً: بأنه على الملازمة لا يلزم محذور اجتماع الضدين، لأن مقدمة الواجب إذا صارت محرّمة لجهة من الجهات - كما لو ركب الدابة المغصوبة إلى الحج - فسقوط الوجوب وعدم الملازمة حينئذٍ لا يكون سبباً لسقوط حكم ذي المقدمة، وفيما نحن فيه لو فرضنا أن الفرد مقدمة للطبيعي، فحيث إن الوجوب لطبيعي والحرمة لطبيعي آخر فلا اجتماع للحكمين المتضادين، وسقوط حرمة أو وجوب المقدمة - الذي هو الفرد - لمحذور لا يستلزم سقوط حكم ذي المقدمة، فتأمل.

البحث الثالث عشر: في العبادات المكروهة
اشارة

قد ثبت في الشرع كراهة بعض العبادات - وهي بين واجب ومستحب - كالصلاة في الحمام، وكصوم يوم عاشوراء، وكالصلاة في مواضع التهمة، بل استحباب بعض العبادات الواجبة كالصلاة المفروضة في المسجد، وقد اعتبر ذلك دليلاً على جواز الاجتماع.

قد يقال: بأن هذا الإشكال يرد حتى على القائل بإمكان الاجتماع، إذ الذي يرى الجواز إنّما يراه لو تعدد العنوان، ولا تعدد للعنوان في غالب العبادات المكروهة.

ولكن لا يرد الإشكال على بعض المباني، كالذي يذهب إلى الامتناع

ص: 167

لأجل أن الأمر بصرف الوجود يستلزم الترخيص في المصاديق، فإن الترخيص لا ينافي الكراهة كما سيأتي، وكالذي يذهب إلى الجواز فيما إذا كان الأمر يتعلق بصرف وجود الطبيعة وكان النهي متعلقاً بالفرد، حيث لا محذور عنده في إرادة المولى للجامع مع النهي عن بعض الأفراد.

ثم إن البحث في أقسام ثلاثة: 1- العبادة التي لها بدل كالصلاة في الحمام، 2- وما ليس لها بدل كصوم يوم عاشوراء، 3- وما لو تعلق النهي بعنوان آخر غير العبادة لكنه اجتمع معها في فردٍ ما كالصلاة في مواضع التهمة.

القسم الأول: العبادة التي لها بدل

فقد يقال: إن الكراهة هي بمعنى المنقصة والحزازة، وهما لا يجتمعان مع المقرّبية التي لابد منها في العبادة، وحينئذٍ بعد الكسر والانكسار بين المصلحة العبادية والحزازة في الكراهة يترجح الأقوى، فإما لا تبقى على عباديتها، وإما لا كراهة فيها!!

والجواب من وجوه:

الوجه الأول: إن النهي ليس مولوياً، وإنّما هو إرشاد إلى قلة الثواب، فلا تكون الكراهة حينئذٍ بمعنى المنقصة والحزازة، وإرشادية النهي وإن كانت خلاف الظاهر إلا أنه لابد من المصير إليها دفعاً للمحذور، فإن أمكن دفع الإشكال مع حفظ المولوية في النهي فهو، وإلاّ فلابد من الحمل على الإرشاد.

ومعنى قلة الثواب هو أنه يفترض لطبيعة الصلاة مصلحة وثواب معين، فتنقصان في الحمام، وفي عكسه تزدادان في المسجد مثلاً.

إن قلت: يستحيل تأثير المعدوم في الموجود، فكيف أثر عدم الصلاة

ص: 168

في الحمام في المصلحة الكاملة والثواب التام؟

قلت: إن المصلحة الكاملة والثواب التام يترتبان على نفس الصلاة، وإيقاعها في الحمام يؤثر في قلتهما، مضافاً إلى إمكان افتراض أمر وجودي ينطبق على تركها في الحمام.

إن قلت: الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده العام الكاشف عن مبغوضية ذلك الضد، والمصلحة الكاملة مأمور بها، فيكون ضدها منهياً عنه ومبغوضاً.

قلت: منشأ النهي المولوي قد يكون المفسدة التي تنافي المصلحة، وقد يكون فقدان المصلحة التامة وهذه لا تنافيه، كما سيأتي توضيحه.

الوجه الثاني: لو قلنا بإمكان تعلق الأمر والنهي بخصوصيتين ولو في وجود واحد، فنقول بأن النهي إنّما هو عن خصوصية الكون في الحمام، لا عن ذات العبادة التي هي الصلاة، فاختلف مركز الأمر والنهي، حيث إن النهي عن التقييد لا عن المقيد، وحينئذٍ يحمل النهي على ظاهره من المولوية.

وعن المحقق النائيني(1):

حمل النهي على ظاهره من كونه مولوياً تنزيهياً، وذلك بقصد الزجر عن متعلقه، وهذا الزجر التنزيهي لا يقيد إطلاق الأمر، لا في مقام الجعل، ولا في مقام الامتثال.

أما في مقام الجعل: فلا منافاة، لأن متعلق الأمر صرف الوجود للطبيعة، ومتعلق النهي هو الفرد الخاص، فلم يتعلق الحكمان بشيء واحد كي يلزم التضاد.

ص: 169


1- فوائد الأصول 1: 437-438.

وأما في مقام الامتثال، فلا منافاة أيضاً، حيث إن تعلق الحكم بصرف الوجود يستلزم حكم العقل بترخيص المكلف في تطبيق المأمور به على أي فرد شاء - حتى لو كان الفرد المكروه - وذلك لإمكان اجتماع الترخيص مع الكراهة.

نعم لو كان الزجر عن المتعلق تحريمياً لزم تقييد إطلاق الأمر، لمنافاة الترخيص مع الحرمة، وعدم إمكان اجتماعهما.

وأشكل عليه: أولاً: بأن معنى حكم العقل بترخيص تطبيق المأمور به على أي فردٍ من الأفراد، هو عدم دخل الخصوصية - لا وجوداً ولا عدماً - في المأمور به، وحينئذٍ يمكن تطبيق المأمور به على الفرد المحرّم أيضاً، إذ لا منافاة بين عدم دخل الخصوصية في المأمور به وبين حرمة ذلك الفرد، وعليه فيكون الفرد المحرّم مصداقاً للمأمور به.

وفيه: أن عدم إمكان تطبيقه على الفرد المحرّم حينئذٍ لعدم تمشي قصد القربة، ولولا ذلك لأمكن القول به، بعبارة أخرى: إن عدم دخل الخصوصية هو سبب ترخيص العقل لولا المانع، وفي الفرد المحرّم يوجد المانع.

وثانياً: عدم إمكان أن تكون الطبيعة متعلقة للأمر، والفرد متعلقاً للنهي التنزيهي، وذلك لأن الفرد إذا كان مشتملاً على مفسدة فإن كانت غالبة فلا ملاك للأمر، فلا أمر، فلا امتثال، وإن كانت مغلوبة فلا ملاك للكراهة، وإن تساويا كان مباحاً لا واجباً ولا مكروهاً!!

لكن لا يخفى أن هذا إشكال مبنائي، إذ علی القول بجواز الاجتماع لاختلاف مركز الأمر والنهي وتمّ تصحيح الاجتماع بذلك فلا يرد الإشكال

ص: 170

فيما نحن فيه.

القسم الثاني: العبادات المكروهة التي لا بدل لها

كصوم يوم عاشوراء، فإن الأمر الاستحبابي بالصوم عام استغراقي، فيشمل الصوم في كل يوم - إلا ما استثني - فكل يوم ليس بديلاً عن يوم آخر، بل هو مستحب أصلي مستقل، ولا إشكال في صحة صوم يوم عاشوراء مع أرجحية الترك، فكيف اجتمع الاستحباب مع الكراهة؟ مع أنه قد يتوهم عدم إمكان حمل النهي على الإرشاد إلى أقلية الثواب، إذ لا توجد أفراد أخرى لهذا الصوم ليكون أقل ثواباً بالنسبة إليها؟

والجواب من وجوه:

الوجه الأول: أن يقال: باشتمال الفعل والترك على المصلحة، لكن مصلحة الترك أكثر، فيكون النهي إرشاداً إلى ذلك، فلا طلب للترك ولا زجر.

الوجه الثاني: إن حقيقة النهي هي طلب الترك، ومنشؤه قد يكون المفسدة في الفعل، وهذا يضاد الأمر بالفعل الذي منشؤه المصلحة فيه، وقد يكون منشؤه المصلحة في الترك - أو ما يلازمه - فلا مفسدة في الفعل، وحينئذٍ يصح الفعل، لاشتماله على المصلحة من دون المفسدة، ولا يضر فيه كون مصلحة الترك أقوى.

وقد أورد عليه المحقق النائيني(1):

بأن معنى ذلك هو كون المورد من التزاحم بين المستحبين، وأثر هذا التزاحم هو الأمر التخييري بينهما مع كون أحدهما أفضل، لاشتماله على مصلحة أكثر.

ص: 171


1- فوائد الأصول 1: 439.

ولكن لا يمكن التزاحم إلا إذا كان المتزاحمان مما لهما ثالث بحيث يمكنه تركهما، فيتعلق الأمر التخييري بهما ويكون هذا الأمر صالحاً للداعوية.

أما لو لم يكن لهما ثالث - كالنقيضين أو الضدين اللذين لا ثالث لهما - فلا يخلو المكلف عن أحدهما قهراً، فلا يعقل الطلب التخييري بهما، إذ لا يكون هذا الأمر داعياً لارتكاب أحدهما أبداً، وما نحن فيه من هذا القبيل، لأن الأمر دائر بين صوم يوم عاشوراء وبين تركه ولا شق ثالث.

إن قلت: بل يوجد ثالث وهو الصوم من غير قصد القربة، فالمستحب هو الحصة الخاصة من طبيعي الصوم - الذي هو الصوم بقصد القربة - لا نفس الطبيعي، فالشقوق ثلاثة: ترك الصوم، الصوم بقصد القربة، الصوم لا بقصد القربة!!

قلت: إن متعلق الأمر هو الصوم بقصد القربة، وضده أو نقيضه هو ترك هذا الصوم، والصوم لا بقصد القربة داخل في ترك هذا الصوم، لا أنه ضده الآخر، وذلك لأن فعل بني أمية لعنهم الله لم يكن الإمساك المجرد، بل الصوم بقصد القربة، فترك هذا الصوم هو الراجح سواء أمسك لا بقصد القربة أو لم يمسك أصلاً.

الوجه الثالث: ما عن المحقق النائيني(1)،

من اختلاف متعلّق الأمر والنهي، إذ متعلق الأمر هو ذات العبادة، ومتعلق النهي هو التعبّد بالعمل والتقرّب به إلى الله تعالى، فيكون النهي في طول الأمر، ولا ينافي هذا النهي قصد القربة لكونه تنزيهياً.

ص: 172


1- فوائد الأصول 1: 439.

وهذا نظير الأمر الناشئ من تعلّق الإجارة بعمل عبادي، كما لو آجره لينوب عن الميت في قضاء الصلاة، حيث إن متعلق الأمر العبادي هو ذات العمل، ومتعلق الأمر الإجاري هو إتيان العمل بداعي الأمر الثابت له، وبذلك تنحل شبهة كيفية انسجام أخذ الأجرة مع قصد القربة.

وأشكل عليه في المقيس والمقيس عليه:

أ) أما في المقيس عليه - وهو الإجارة للنيابة في عمل عبادي - فلأنّ ذات العمل يكون متعلقاً لكلا الأمرين - الأمر العبادي استقلالاً والأمر الإجاري ضمناً - فاتحد متعلق الأمرين فلا طولية في البين، بل لابد من التداخل بينهما، ولا يجدي اختلاف رتبة الذات مع الذات المقيدة.

ب) وأما في المقيس - وهو صوم عاشوراء - فلأن التشبّه بالأعداء، محرّم لا أنه مكروه، مضافاً إلى أن الأمر قد تعلق بالذات بقصد القربة - ولو عن طريق متمم الجعل - فاتحد متعلق الأمر والنهي.

الوجه الرابع: ما في المتنقى(1)

من أن النهي إرشاد إلى أقلية الثواب وأن غيره أكثر ثواباً، وذلك لأن كل صوم مستحب لا بدل له، إلا أنه تحفّ ببعض الأفراد خصوصية توجب نقصان مصلحته وثوابه عما عليه سائر الأفراد الأخرى، وذلك لأنه ليس من متعارف المكلفين الصوم في جميع أيام السنة، بل يصومون بعض الأيام ويتركون أخرى، فالنهي في الحقيقة إرشاد إلى أولوية الإتيان بغير هذا الفرد، فالأفراد الأخرى أبدال طولية بحسب البناء العملي للمكلفين لا بحسب جعل الحكم.

ص: 173


1- منتقی الأصول 3: 126.

وبعبارة أخرى: النهي هو بمعنى إن كنت تريد صوم يوم من الأسبوع فاجعله غير يوم عاشوراء، لتنال ثواباً أكثر!!

وفيه: أن لازم ذلك عدم الكراهة لمن يصوم الدهر عملاً، أو من اضطر إلى ترك المفطرات طوال يوم عاشوراء - لعدم وجدانه إياها مثلاً - حيث ينوي الصوم، وأمثال ذلك، مع أنه لا إشكال في الكراهة أيضاً.

القسم الثالث: ما لو كانت الكراهة على عنوان آخر غير العبادة

لكنه اجتمع معها في مجمع واحد، كالصلاة في مواضع التهمة...

1- فإن كان ذلك العنوان ملازماً للعبادة من غير اتحاد، فلا إشكال حتى على القول بالامتناع، وذلك لتعدد الوجود، فيكون كالنظر إلى الأجنبية في الصلاة.

2- وإن كان متحد وجوداً مع العبادة، فهذا القسم في الحقيقة يرجع إلى القسم الأول، فيكون نظير الصلاة في الحمام، حيث يكون العنوان المكروه المنطبق على العبادة من خصوصيات ذلك الوجود، المستلزم لنقصان مصلحة العبادة وقلة ثوابها، فيجري في هذا القسم ما جرى هناك.

البحث الرابع عشر: في الاضطرار إلى الحرام
اشارة

والكلام إنّما هو على مبنى الامتناع مع غلبة ملاك النهي على ملاك الأمر، حيث يكون المجمع حينئذٍ مبغوضاً، فالعبادة غير قابلة للتقرب بها.

ولكن لو اضطر إلى الحرام، فهل يمكن التقرب بذلك العمل فتقع العبادة صحيحة؟

والكلام في موضعين: ما كان الاضطرار لا بسوء الاختيار، وما كان بسوء

ص: 174

الاختيار.

القسم الأول: الاضطرار لا بسوء الاختيار

فقد يقال: بأن هذا الاضطرار سبب لعدم تأثير ملاك الحرمة، فترتفع المبغوضية، فيؤثر ملاك الوجوب من غير مزاحم، فيصح العمل العبادي لارتفاع المانع عن الصحة.

وأورد عليه: أولاً: بأنه لا طريق إلى الملاك إلا الخطاب، فلا يكفي الاستدلال للوجوب بالملاك، بل لابد من القول بأن الحرمة كانت مانعة عن إطلاق دليل الوجوب، وبارتفاعها يرتفع المانع عن شمول إطلاق الدليل، إن كان له إطلاق.

وثانياً: ما عن المحقق النائيني(1) من أن القيود العدمية في المأمور به - وهي التي تجعل الحكم مختصاً ببعض الموارد - على أنحاء ثلاثة:

1- ما كانت بدلالة النهي الغيري، كالنهي عن لبس جلود ما لا يؤكل لحمه في الصلاة، فهذا إرشاد إلى مانعية الشيء عن صحة العبادة.

وهذا النهي لا يرتفع بالاضطرار، لإطلاق دليله، والاضطرار لا يرفع سوى الحكم التكليفي دون الوضعي.

2- ما كانت بدلالةٍ تبعيّةٍ للنهي النفسي الدال على التحريم، فبناءً على امتناع الاجتماع يستفاد من الدليل المانعية عن صحة العمل.

وهذه المانعية قد تكون في طول الحرمة، فحينئذٍ ترتفع المانعية بارتفاع الحرمة، لارتفاع سبب المانعية، كالنهي عن الصلاة في ثوب الحرير للرجال،

ص: 175


1- راجع فوائد الأصول 1: 444-446؛ أجود التقريرات 2: 182-184.

وقد تكون في عرض الحرمة فلا ترتفع كالنهي عن الوضوء بماء مغصوب، وذلك لأن النهي يقتضي الحرمة والمانعية معاً، فهو علة لمعلولين، والاضطرار ينفي المعلول الأول دون المعلول الثاني، وحيث إن المعلولين في رتبة واحدة فيستحيل عدم تأثير العلة في أحدهما لو لم تؤثر في الآخر لمانع عنه.

3- ما كانت الحرمة ثابتة لأجل مزاحمة المأمور به مع المنهي عنه، - كما على بعض مباني إمكان الاجتماع - فحينئذٍ يتزاحم الحكمان، ومع الاضطرار ترتفع الحرمة، فتزول المزاحمة، فيؤثر ملاك الوجوب أو إطلاقه.

إذا اتضح ذلك تبين الإشكال - لو كانت الحرمة من النحو الثاني وكانت في عرض المانعية - حيث إن ارتفاع الحرمة بالاضطرار لا يوجب ارتفاع المانعية، فلا يؤثر ملاك الوجوب!!

وفيه: أن المقتضي لأحد الضدين هو جزء العلة لايجاده، ومانع عن تأثير مقتضي الضد الآخر، لا أنه علة لعدم الضد الآخر، لأن الملاك شيء وجودي فلا يمكن أن يكون علة للشيء العدمي، فليس الملاك علة لمعلولين عرضيين بحيث لو ارتفع أحدهما بالاضطرار بقي الآخر، بل هو علة لشيء واحد يرفعه الاضطرار، فتأمل.

وثالثاً: بأنه لو قلنا ببقاء الدلالة الالتزامية بعد سقوط الدلالة المطابقية، فإنه يكفي ذلك في إثبات المانعية، حيث إن دليل النهي يدل على عدم الوجوب - أي المانعية - التزاماً، فتأمل.

القسم الثاني: الاضطرار بسوء الاختيار

كمن دخل الأرض المغصوبة عالماً عامداً، حيث يضطر إلى الخروج الذي هو تصرف في المغصوب أيضاً.

ص: 176

وهل ترتفع الحرمة والمبغوضية حينئذٍ، أم أن سوء الاختيار سبب بقائهما؟ ثم على فرض ارتفاع الحرمة فهل يجب الفعل الذي يوجب التخلص عن الحرام - كالخروج عن المغصوب - أم لا؟ فهنا مطالب ثلاث:

المطلب الأول: في ارتفاع الحرمة، ولا إشكال في ذلك، لعدم صحة التكليف بغير المقدور - حتى لو كان بسوء الاختيار - إذ هو لغو لا يورث الداعوية حيث لا يتمكن المكلف من تنفيذه.

إن قلت: قد يتمكن المكلف من عدم الخروج عن المغصوب، وذلك بالبقاء فيه، فلا يكون الخروج غير مقدور فيصح التكليف بالحرمة فيه!!

قلت: حيث إن مفسدة البقاء أكثر عادة فلابد من عدم تحريم الخروج، وإلاّ كان المولى ناقضاً لغرضه ومُوقعاً في المفسدة الأكبر، فالمكلف مضطر إلى الخروج شرعاً، والاضطرار الشرعي كالاضطرار العقلي بلا فرق، وحيث كان الخروج مضطراً إليه فلا إشكال في ارتفاع الحرمة.

لا يقال: الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار؟

فإنه يقال: لا ينافيه عقاباً - وذلك لتفويت غرض المولى والايقاع في المفسدة - ، لكنه ينافيه خطاباً، لما ذكرناه من اللغوية وعدم الداعوية.

وقد ذكر المحقق النائيني(1)

عدم جريان القاعدة في مثل الخروج عن المغصوب، مستدلاً بأنه لابد من تحقق أمور أربعة لجريان القاعدة وهي: 1- عدم قدرة المكلف، 2- وعدم صحة توجيه الخطاب لا عقلاً ولا شرعاً، 3- وكون الملاك ثابتاً مطلقاً - حتى في حال عدم وجود المقدمة - ، 4- وكون

ص: 177


1- فوائد الأصول 1: 450-452؛ أجود التقريرات 2: 189-193.

وجود المقدمة موجباً للقدرة على ذي المقدمة لا عدمها. وهذه الأمور مفقودة فيما نحن فيه فلا تجري فيها القاعدة!!

أما الأول: فلأنه لابد من عدم القدرة على الشيء حتى يصدق الموضوع، وهو (الامتناع)، وليس الخروج كذلك، فإنه مقدور حيث يمكنه فعله أو تركه، نعم أصل الغصب - بمقدار زمان الخروج - ليس مقدوراً، لكنه خارج عن الكلام.

ويرد عليه: ما ذكرناه قبل قليل من أن الممتنع الشرعي كالممتنع العقلي، حيث إن الاضطرار إلى الخروج - فيما كان البقاء يستلزم الغصب الزائد - شرعي.

هذا مضافاً إلى أن البحث إنّما هو في الاضطرار إلى أصل الغصب فيدخل في الاضطرار العقلي، ولا وجه لإخراج أصل الغصب عن محل البحث وحصره في الخروج.

وأما الثاني: لأن مورد القاعدة ما كان امتناعاً، فلا يصح فيه الخطاب أصلاً، وليس ما نحن فيه كذلك، إذ الخروج - فيما استلزم الغصب الزائدة - واجب عقلاً.

وأورد عليه: بأن الاضطرار إلى الخروج إنّما نشأ من حكم العقل بلزوم الخروج، فراراً من أشد المحذورين، فحينئذٍ هو مضطر شرعاً إلى الخروج، فامتنع عليه البقاء شرعاً، فتأمل.

وأما الثالث: فلأن مورد القاعدة هو وجود ملاك الحكم مطلقاً - سواء تحققت المقدمة أم لا - ، وليس الخروج كذلك، إذ الملاك في الخروج إنّما هو بعد الدخول، وأما قبل الدخول فلا ملاك للخروج.

ص: 178

ويرد عليه: أن حرمة الغصب إنّما هي قضية حقيقيّة، فكل غصب فيه مفسدة، سواء كان بالخروج أم بغيره، نعم خارجاً لا يتحقق خروج بدون دخول، لكن لا ربط لذلك بالقضية الحقيقية.

وأما الرابع: فلأن مورد القاعدة ما كان وجود المقدمة سبباً للقدرة على الحرام، وعدم المقدمة سبباً لعدم القدرة عليه، والشأن فيما نحن فيه بالعكس، حيث إن وجود المقدمة - وهي الدخول - سبب للامتناع أي الاضطرار إلى الخروج.

ويرد عليه: أن المناط هو كون الامتناع مستنداً إلى اختيار المكلف، فلا فرق عقلاً بين كون الامتناع مستنداً إلى فعل أو ترك المقدمة، فتأمل.

والحاصل: إنه لا شك في ارتفاع الحرمة بالاضطرار إلى الخروج، حتى وإن كان اضطراراً عرفياً لا عقلياً، كالمضطر إلى أكل الميتة، فإنه قادر علی الإمساك عن الأكل إلى حدّ الموت، فليس الاضطرار عقلياً - كالساقط من شاهق حيث لا يتمكن من إيقاف السقوط - ، لكنه اضطرار عرفي، وهو مناط ارتفاع الحرمة.

مضافاً إلى ما ذكرناه من اضطراره العقلي إلى أصل الغصب - ولو بمقدار زمان الخروج - فترتفع هذه الحرمة عقلاً للغوية الخطاب حينئذٍ.

أما الشيخ الأعظم فقد استدل لعدم الحرمة، بأنه لا تكليف بالحرمة لا قبل الدخول ولا بعده...

أما قبل الدخول: فإنه لا يتمكن من الخروج أو عدمه.

إن قلت: إنه يتمكن من ترك الخروج بترك الدخول!!

ص: 179

قلت: في الواقع إنه ترك الدخول، وليس ترك الخروج إلا من باب السالبة بانتفاء الموضوع، نظير من لم يشرب الخمر لعدم وقوعه في المهلكة، فإنه لا يصدق عليه إلا أنه لم يقع في المهلكة، لا أنه لم يشرب الخمر في المهلكة!!

وأما بعد الدخول: فإن خروجه مما يترتب عليه التخلص من الحرام، فلا يمكن أن يتصف بالمبغوضية فلا حرمة لعدم الملاك لها.

والأقرب أن مراد الشيخ الأعظم ما ذكره في المنتقى(1)

من أن للخروج فرضين:

الأول: فرض الخروج في ظرف ما قبل الدخول، ومن الواضح أنه غير مقدور، إذ قبل الخروج غير قابل لإعمال الإرادة فيه إيجاداً أو تركاً، بل الترك متحقق قهراً بترك الدخول، فهو في هذا الظرف متروك في نفسه.

الثاني: فرض الخروج في ظرف ما بعد الدخول، فهو مقدور - لقبوله تعلق الإرادة به - لكنه لا يصح تعلق التكليف به، لأنه مورد الاضطرار، ومقدمة للتخلص عن الحرام.

وهذا بخلاف البقاء، فإنه بعد الدخول قابل للتحريم، إذ لا يقع مقدمة للواجب!!

وعليه فلا يرد على كلام الشيخ الأعظم ما أورده المحقق الخراساني عليه من إشكالات(2) حيث حمل كلام الشيخ على أنه يشترط في صحة

ص: 180


1- منتقی الأصول 3: 142.
2- إيضاح کفاية الأصول 2: 319-322.

التكليف القدرة المباشرية على متعلقه، وعدم صحته مع القدرة عليه بالواسطة، فأورد عليه بإشكالات:

منها: النقض بالبقاء، حيث إنه قبل الدخول غير مقدور، فكيف تعلق التكليف بحرمته؟

وفيه: أنه بعد الدخول يكون البقاء مقدوراً، وحيث إنه يستلزم الغصب الزائد بلا اضطرار إليه يكون مبغوضاً، فلا مانع من الحكم بحرمته، عكس الخروج الذي هو مقدمة للتخلص عن الحرام.

ومنها: القدرة على الخروج وعدمه قبل الدخول، إلا أنها قدرة بالواسطة، ولا يعتبر في صحة التكليف سوى القدرة، سواء كانت بواسطة أم بدونها.

وفيه: أن الشيخ الأعظم لا ينكر ذلك، ولذا إلتزم بالواجب المعلق - وقد سماه بالواجب المشروط كما مرّ - مع أن القدرة فيه تتوقف على الواسطة كما هو واضح.

المطلب الثاني: في ارتفاع المبغوضية وعدمها، فهل المقدميّة للتخلص عن الحرام تصير سبباً لارتفاع مبغوضية الخروج، أم أن الخروج يبقى على ما هو عليه من المبغوضية!!

وقد يقال بارتفاع المبغوضية، لوجوه، منها:

الوجه الأول: بأنه بعد الدخول إلى الغصب - مثلاً - ، لا يكون الخروج مبغوضاً، لأنه مقدمة للتخلص عن الحرام، وحيث إن التخلص محبوب للمولى، كانت مقدمته محبوبةً أيضاً، فلا يمكن اتصاف الخروج بغير المحبوبية.

ص: 181

وأورد عليه: أولاً: بأن الخروج مشتمل على مفسدة التحريم، وحيث إنه كان بسوء الاختيار فلا يمكن اتصافه بغير المبغوضية، نعم الاضطرار إلى التخلص يرفع الحرمة، لكنه لا يرفع المبغوضية، ودليل المقدمية لا يثبت أكثر من ذلك.

وثانياً: بأن أمثال المورد داخلة في باب التزاحم، ففي المثال تتزاحم حرمة الخروج لكونه غصباً، مع لزوم التخلص عن الغصب الزائد، وترجيح أحد المتزاحمين لأهميته لا يرفع المبغوضية عن الآخر حتى لو لم يكن بسوء الاختيار، فضلاً عما كان بسوء الاختيار.

وحيث إن محط النظر حول ارتفاع المبغوضية وعدمها، فلا يهمنا البحث عن تشخيص المتزاحمين...

وأن التزاحم هل هو بين الخروج والتخلص.

أم أن التزاحم بين الخروج والبقاء، بأن يقال: إنّ المضطر إليه هو مقدار من الغصب، فلابد من ملاحظة ما يستلزم الغصب الأقل، فقد يكون في البقاء فيلزم الخروج، وقد يكون في الخروج فيلزم البقاء - كما لو تمكن من استرضاء المالك لو بقي، في مدة أقل من مدة الخروج - ، وقد يتساويان فيتخير، وعليه فيحرم ما استلزم غصباً زائداً لوجود مقتضي الحرمة - وهي مفسدة الغصب - مع عدم المانع، عكس ما لا يستلزم غصباً زائداً فلا يحرم لوجود المانع.

وإنما لم يهمنا ذلك لأنه يرتبط برفع الحرمة، لا بالمبغوضية التي هي محل الكلام.

ص: 182

الوجه الثاني: إن الكلام حول المبغوضية التي هي سبب للأثر، لا المبغوضية الطبيعية، فهي توجد حتى في الموارد القهرية التي لم تكن بسوء الاختيار، بل قد مرّ إمكان اجتماع الحب والبغض لشيء واحد لكن المولى يراعي في أحكامه الغالب منهما، ويحكم بعد الكسر والانكسار، فمن يضطر إلى قطع يده حفاظاً على حياته، يبغض القطع ويحبه، لكن الحب غالب فلذا يمكّن الطبيب من قطعها.

وفيما كان بسوء الاختيار فإن البُغض الطبيعي موجود، لكن حيث إن الشق الآخر أهم لذا لا يكون هذا البُغض منشأ للأثر.

وأورد عليه: أنه وإن لم يكن منشأ ً للتحريم لوجود المانع أو المزاحم الأهم، لكنه منشأ لصحة العقاب إن كان بسوء الاختيار.

وأجيب: بأن صحة العقاب ليست على فعل المضطر إليه، وإنّما هو لإلقاء النفس فيما يضطر إليه.

نعم يمكن التفصيل بين ما يضطر عقلاً إلى ذلك الشيء كما في الأسباب التوليدية، كمن يلقي بنفسه من شاهق فيصح عقابه على نفس الارتطام بالأرض لا على الإلقاء، وبين الاضطرار الشرعي - مما لا يسلب القدرة العقلية - كمن يذهب إلى الصحراء ليضطر إلى أكل الميتة، فيكون العقاب على الذهاب لا على أكلها، وذلك للفرق بين الموردين، إذ في الأول لا تكليف شرعي بعد الاضطرار فلا يخاطبه المولى بالامتناع عن الارتطام وهو في حالة الهُو ِيّ، عكس الثاني حيث يأمره الشارع بالأكل حذراً من المحذور الأشد، فتأمل.

ص: 183

وقد يقال: باستحالة ارتفاع المبغوضية، ويستدل لذلك بصحة العقاب، وقد عرفت ما فيه.

وقد يقال: باستلزام ارتفاع المبغوضية إلى تعليق التحريم وعدمه على إرادة المكلف، فإذا لم يرد الدخول حرم، وإذا أراده لم يحرم!!

وفيه: أنه لا دخل للإرادة في ذلك، بل يحرم الغصب مطلقاً، أراد الدخول أم لم يرده على نحو القضية الحقيقية، نعم ترتفع الحرمة بعد الدخول للاضطرار، لكن ارتفاعها لا يلازم ارتفاع المبغوضية كما عرفت.

المطلب الثالث: في كون الخروج مأموراً به.

واستدل له: بأن الخروج مقدمة للتخلص عن الحرام، أو هو بنفسه تخلص عنه.

وأورد عليه: بأن التخلص ليس بواجب شرعي، بل هو حكم عقلي منتزع عن حرمة الغصب، فليس هنا سوى حكم واحد هو حرمة الغصب(1).

مضافاً إلى ابتناء ذلك على وجوب مقدمة الواجب، أو على القول بأن النهي عن الشيء يقتضي الأمر بضده، ولا نقول بهما.

ص: 184


1- منتقی الأصول 3: 148.

فصل في التزاحم

اشارة

وفيه مبحثان:

المبحث الأول: في شرائط تحقق موضوع التزاحم

فقد ذكرت عدة شروط، منها:

الشرط الأول: وجود الملاك في كلا المتزاحمين، مع كون التزاحم في مرحلة الامتثال دون مرحلة الجعل، فإن التزاحم على قسمين:

أحدهما: التزاحم في مرحلة الملاك، بأن يوجد مناط الوجوب ومناط الحرمة معاً، كالميسر الذي فيه إثم كبير ومنافع للناس، وهنا المولى يعلم بالمناطين ويرجح أحدهما على الآخر بعد الكسر والانكسار، فالميسر مثلاً إثمه أعظم من نفعه، فهنا يوجد حكم واحد فقط وهو الذي يطابق الملاك الراجح، فلو فرض قيام دليلين حدث بينهما تعارض.

ثانيهما: التزاحم في مرحلة الامتثال، أي بعد جعل الحكم على موضوعه، حصل تزاحم بين تكليفين.

الشرط الثاني: أن يكون توارد الحكمين على موضوعين، كإنقاذ غريقين، دون موضوع واحد، كالصلاة في المغصوب، وذلك لأن علاج التزاحم هو بتقديم الأهم إما بالترتب أو بدونه، ومع عدم الأهم التخيير، وهذا العلاج لا يمكن فيما لو ورد حكمان على موضوع واحد، أما الترتب

ص: 185

فممتنع إذ ترك الأهم مساوق للإتيان بالمهم فيمتنع الأمر به، هذا فضلاً عن امتناع جعل حكمين متضادين على موضوع واحد.

أقول: هذا على المبنى المختار من عدم إمكان اجتماع الأمر والنهي حتى مع اختلاف الجهة، أما القائل بالجواز مع اختلاف الجهة فيمكنه إجراء هذا العلاج، فتأمل.

الشرط الثالث: أن يكون منشأ التزاحم في مقام الامتثال هو عدم قدرة المكلف على امتثالهما معاً، كعدم تمكنه من إنقاذ الغريقين معاً، أما لو كان المنشأ الدليل الخاص في المورد فليس من التزاحم في شيء.

وأما ما مثّل به المحقق النائيني(1)

من أن الدليل دال على عدم وجوب الزكاة في كل سنة مرتين، فيحصل التزاحم بين من كانت له أول السنة خمسة وعشرين بعيراً وزكاتها خمس شياة، ثم زادت واحدة في وسط السنة، حيث زكاة ستة وعشرين بعيراً بنت مخاض، فيتزاحم حكما الزكاة في أول السنة القادمة ووسطها بين وجوب دفع خمس شياة أو دفع بنت مخاض، وعدم وجوب الزكاتين لا يرتبط بعدم قدرة العبد على دفعهما بل بالدليل الخاص...

فليس من التزاحم في شيء، وذلك لعدم إحراز الملاك للنصاب الثاني إلى حين حلول حول على النصاب الأول، ولذا أفتى مشهور الفقهاء بأنه يبقى على النصاب الأول فلمّا يحول الحول يدفع زكاته وهو خمس شياة ثم بعد ذلك ينتقل إلى النصاب الآخر، نعم مع إحراز الملاك يكون لهذا الكلام

ص: 186


1- فوائد الأصول 1: 319.

مجال، لكن لا إحراز له بعد قيام الدليل على عدم وجوب زكاتين في عام واحد، إذ لا طريق لإحراز الملاك إلا الخطاب، والمفروض عدم وجود ذلك الخطاب، لعدم إطلاق الدليل بعد قيام الدليل الخاص.

ثم إن المحقق النائيني(1)

ذكر أن منشأ التزاحم وعدم القدرة أحد أمور خمسة:

1- أن يكون عدم القدرة اتفاقي، لا للتضاد بين الأمرين، كتزاحم إنقاذ غريقين.

2- عدم القدرة للتضاد الاتفاقي بين الأمرين، بمعنى استحالة تحقيق الأمرين معاً لجهة العجز من جهة المقدور، كما لو أمره بملازمة زيد وأمره بالبقاء في الدار، فكان زيد في الدار ثم خرج منها.

3- إذا كانت ماهيتان اتحدتا في الخارج، كالصلاة والغصب، فلو كانت ماهية واحدة كإكرام العالم الفاسق فهو من التعارض.

4- إذا كان الحرام مقدمة لواجب اتفاقاً، كدخول الدار المغصوبة لإنقاذ غريق، أما لو كانت المقدمية دائمة فهو من التعارض.

5- إذا تلازم الواجب والحرام اتفاقاً، كاستقبال القبلة واستدبار الجدي لمن سكن العراق دون من سكن اليمن مثلاً.

المبحث الثاني: في الفرق بين التزاحم والتعارض
اشارة

وعن المحقق النائيني(2)

أنهما يفترقان في أمور ثلاثة: في مورد التنافي

ص: 187


1- فوائد الأصول 1: 320-321؛ وراجع منتقی الأصول 3: 40-41.
2- فوائد الأصول 1: 317؛ أجود التقريرات 2: 33.

والتصادم، وفي الحاكم بالتخيير أو الترجيح، وفي جهات التقديم.

الفرق الأول: في مورد التنافي والتصادم

وفيه قولان:

القول الأول: إنه قد يكون التصادم في الملاك، بأن يكون مقتضی الوجوب والحرمة - مثلاً - موجودين، فحينئذٍ في مرحلة جعل الحكم يلاحظ المولى الجهتين، ويحكم بعد الكسر والانكسار بينهما: إما بترجيح أحدهما على الآخر، أو بالتخيير لو لم يكن مرجحاً، ويستحيل جعل الحكمين المتضادين معاً.

فهذا المورد يرجع إلى التعارض ومن مصاديقه، وفي ذلك تضييق دائرة الجعل.

وقد لا يكون تصادم في الملاك، حيث لم يكن محذور في جعل كلا الحكمين على موضوعهما المفروض، لكن يحصل التصادم في مقام فعلية الحكمين، بحيث يكون امتثال أحدهما مستلزماً لارتفاع موضوع الآخر، لا تضييق دائرة الجعل، وهذا هو التزاحم المبحوث عنه هيهنا.

وقد يوجّه كلام المحقق النائيني بأن الحكم لا نظر له إلى موضوعه، فلا ينظر إلى ما يرفعه، فمع تقديم أحدهما لا يكون الآخر داعياً إلى صرف القدرة في متعلق نفسه، فاستلزام أحد الحكمين لرفع موضوع الآخر سبب لعدم التنافي في الجعل.

وأشكل عليه(1): أولاً: مبنىً، بأن الحكم قد ينظر إلى موضوع نفسه،

ص: 188


1- منتقی الأصول 3: 34.

كالأمر بالوضوء حيث ينظر إلى حفظ الماء، فيجب حفظه، مع أن الماء هو موضوع وجوب الوضوء.

وفيه: أن الكلام في القضايا الحقيقية التي هي جملة شرطية في حقيقتها، بأنه إن وجد الموضوع فالحكم كذا، وليس الكلام فيما لو دل الدليل الخاص على وجوب تحقيق الموضوع أو أجزائه أو شرائطه.

وثانياً: بناءً، بأنه حتى لو فرض صحة عدم نظر الحكم إلى موضوعه، فإن ما نحن فيه مستثنى منها، وذلك لأن الحكم يدعو إلى متعلقه بأن تصرف القدرة فيه، وذلك ملازم للاحتفاظ بموضوع الحكم، إذ صرفها في غيره يقتضي إعدام موضوعه.

والحاصل: إن نظر الحكم إلى موضوعه فيما نحن فيه بحفظ القدرة، إنّما هو من جهة اقتضاء الحكم إلى متعلقه، وهو أمر ملازم لكل حكم، وحيث لا يتمكن المكلف من امتثال كلا الحكمين - إذ القدرة واحدة - ، فيمتنع جعل كليهما لما مرّ من أن حقيقة الحكم هي الداعوية.

وعليه: ففي المورد الذي لا يمكن أن يترتب على الجعل الداعويّة والتحريك لا يكون المجعول هو الحكم، فلا يكون جعلاً، فرجع إلى التنافي في مقام الجعل، فصار كالتعارض.

مضافاً إلى أن المراد من الداعوية هو إمكانها لا فعليتها، فلذا يصح تكليف العصاة مع العلم بعدم امتثالهم.

وإلى أن (الحكم بوجوب حفظ القدرة) ليس من باب نظر الحكم إلى موضوعه، بل لا يرتبط بمرحلة الجعل، بل هو في مرحلة الامتثال، فإن العقل

ص: 189

يستقل بوجوب الامتثال، والذي من مقدماته حفظ القدرة بعدم صرفها في فعل آخر، فتأمل.

وثالثاً: بأنه لا علاج للتزاحم إلا بتقييد أحد الحكمين بترك امتثال الآخر أو عصيانه - كالترتب - ومن الواضح أن هذا التقييد يرجع إلى تضييق دائرة الجعل والإنشاء، فيكشف عن كون التنافي في مقام الجعل، وإلاّ لم يكن وجه للتصرف فيه بعد أن كان التنافي في مقام آخر.

وفيه: أن القائل بجواز الترتب لا يقول بسقوط الحكم الأول وإلا خرج عن الترتب، مضافاً إلى ما مرّ من أنّ الجعل إنّما هو بنحو القضية الحقيقية، وعدم القدرة أو لزوم صرفها في الغير رافع للموضوع لا مقيد للجعل، فتأمل.

القول الثاني: إنه قد يرتفع الحكم مع بقاء الموضوع وهذا في التعارض، وقد يرتفع الحكم بسبب ارتفاع موضوعه وهذا هو التزاحم.

مثلاً قوله: (أكرم العلماء) وقوله: (لا تكرم الفساق) متعارضان في العالم الفاسق، وترجيح أحدهما على الآخر إنّما هو مع بقاء الموضوع، وأما في قوله: (أنقذ الغريق) مع تنافي إنقاذ غريقين لعدم قدرة المكلف عليهما، فإن ترجيح أحدهما - لأهميته مثلاً - يكون تعجيزاً للمكلّف عن الآخر فلا يجب لانتفاء موضوعه، فالجعل لا قصور فيه لعدم تنافي الحكمين معاً، لكن فعلية الحكم في أحدهما استلزمت انتفاء موضوع الآخر، فلا يوجد حكم لعدم وجود موضوع من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

الفرق الثاني: في الحاكم بالترجيح والتخيير

ففي التزاحم: الحاكم هو العقل، حيث يستقل بترجيح ذي المزية،

ص: 190

والتخيير عند عدمها.

وفي التعارض: الحاكم هو الشرع، لأن حجية الأمارات من باب الطريقية، وحيث تعارضتا سقطت طريقيتهما عقلاً، فلابد من حكم الشارع بترجيح أحدهما على الآخر.

وأورد عليه: أولاً: بأن الحاكم في كليهما الشرع، إذ هو الجاعل للحكم، فيكون الترجيح العقلي كاشفاً عن حكم الشرع.

وفيه: أنه مع فرض جعل كلا الحكمين بنحو القضية الحقيقية، ووضوح أن الأحكام تتبع المصالح والمفاسد، فوجود المزية مرجح عقلي، فلو فرض وجود حكم شرعي بالترجيح فإنه إرشاد إلى حكم العقل، فتأمل.

وثانياً: بأنه مع تعارض الأمارات لا وجه للتساقط مع وجود المزية التي توجب الأقربية إلى الواقع، بل العقل يرجح بها أيضاً، فلا فرق في الترجيح بذي المزية عقلاً بين التزاحم والتعارض، نعم مع تساوي الأمارات يتساقطان ولا حكم بالترجيح لا عقلاً ولا شرعاً، بل إما التخيير أو الرجوع إلى الأدلة أو الأصول الأخرى.

وفيه: أن هذا مبني على كون المرجحات المذكورة في الروايات إنّما هي من باب الأقربية إلى الواقع، وإنّما ذكرت في الروايات كمثال - كما ذهب إليه الشيخ الأعظم - ، لكن في ذلك تأمل وإشكال.

نعم يمكن القول بأنّه لا طريق في حالة التعارض إلى معرفة وجود الملاك إلا بيان الشارع، وفي حالة التزاحم وجود الملاك في كليهما محرز، وكذا إطلاق الخطاب - فيما كان إطلاق - للمورد أيضاً محرز لولا التزاحم،

ص: 191

وإنّما القصور من جهة قدرة المكلف غالباً، فهنا العقل هو الذي يرجح بالملاك الأهم، ومع عدم معرفته يستقل بالتخيير، فتأمل.

الفرق الثالث: في جهات التقديم
اشارة

وقد ذكر أنها أربع: 1- تقديم ما ليس له بدل على ما له بدل، 2- تقديم المشروط بالقدرة العقلية على المشروط بالقدرة الشرعية، 3- ترجيح الأسبق زماناً على المتأخر وذلك في المشروط بالقدرة الشرعية، 4- ترجيح الأهم.

الأول: تقديم ما ليس له بدل على ما له بدل

وله صورتان:

الصورة الأولى: ما له بدل في عرضه مما كان واجباً تخييرياً شرعاً أو عقلاً.

ومثال الشرعي: تزاحم أداء الدين مع إطعام كفارة الصيام، فهنا الترجيح لأداء الدين، لأن المكلف قادر على الكفارة بالصيام ستين يوماً مثلاً.

ومثال العقلي: تزاحم إنقاذ غريق مع الصلاة في أول الوقت، فالترجيح للإنقاذ.

ووجه التقديم: ما قيل: من أن الواجب التخييري لا اقتضاء له بالنسبة إلى خصوص الفرد المزاحم، حيث إن المكلف مخير في مقام الامتثال بين المصاديق المختلفة، وأما الواجب التعييني فإنه حيث ينحصر الامتثال فيه فإن له اقتضاءً ودعوةً إلى خصوص ما فيه التزاحم.

مضافاً إلى أن تقديم التعييني يستلزم حفظ غرض المولى في كلا حكميه، عكس ترجيح التخييري حيث يستلزم فوات أحد الغرضين.

ص: 192

وأورد عليه: أن هذا يرفع التزاحم من أساسه، لا أنه وجه للتقديم مع المزاحمة.

وفيه: ما مرّ من أن الأحكام قضايا حقيقية، فعدم شمول الحكم لمورد التزاحم لارتفاع الموضوع، لا لعدم الحكم مع وجود الموضوع، فراجع.

الصورة الثانية: ما كان لأحدهما بدل طولي، كالوضوء والتيمم، فلو تعارض الوضوء مع الطهارة من الخبث - لقلة الماء - قُدِّم الثاني على الأول.

وقد يستدل له: أولاً: بأنه لو دار الأمر بين إهمال أصل المصلحة أو تحصيل بعض المصلحة، كان الثاني أولى، بشرط أن لا تكون مقدار المصلحة الفائتة أهم من أصل المصلحة الأخرى.

وفيه: أن المناط إن كان أهمية أصل المصلحة من أحدهما، أو المقدار الفائت من الآخر، فحينئذٍ لابد من اكتشاف الأهمية من الأدلة، والأهمية قد تكون في ما له البدل، وقد تكون في ما ليس له بدل، وغالباً لا طريق إلى إحرازها.

وثانياً: بأن ما يكون له بدل طولي يكون الوجوب فيه مقيداً بالقدرة الشرعية، فيرجع إلى المرجح الثاني أي إن الوضوء إنّما يجب مع القدرة عليه، وحيث تزاحم مع التطهير من الخبث فلا قدرة عليه، فينتقل إلى بدله الذي هو التيمم.

وفيه: أن عدم القدرة على الوضوء حين التزاحم هو فرع ترجيح الطهارة من الخبث عليه، فالقول بترجيح الطهارة الخبثية لعدم القدرة على الطهارة الحدثية مصادرة أو دور.

ص: 193

الثاني: تقديم المشروط بالقدرة العقلية على المشروط بالقدرة الشرعية
اشارة

وفيه مطالب:

المطلب الأول: في المقصود بهما

فيقال: إنّ القدرة العقلية يضادها العجز التكويني، بأن لا يتمكن من الفعل أصلاً حتى لو أراده المكلف، وأما القدرة الشرعية فيراد بها عدم صعوبة القيام بالفعل، ويضادها المشقة الشديدة ونحوها وهو ما يعبر عنه في الأدلة بالطاقة وعدم الطاقة، فالإنسان يتمكن تكويناً من الصوم حتى الموت، لكنه لا يتمكن من ذلك عرفاً بمعنى الصعوبة الشديدة في فعل ذلك.

ونتيجة ذلك: هو أن المشروط بالقدرة الشرعية، تكون القدرة دخيلة في ملاك الحكم فيه، بحيث لا ملاك له من دونها، فالاستطاعة دخيلة في وجوب الحج، بحيث لولاها لما كان له ملاك، بخلاف المشروط بالقدرة العقلية حيث لا دخل للقدرة في ملاكه، فالعجز تكويناً عن إنقاذ الغريق لا يكون سبباً لسقوط ملاكه، وإنّما يسقط به فعلية الحكم عن العاجز.

وبعبارة أخرى: في المشروط بالقدرة الشرعية تكون القدرة دخيلة في الملاك وفي الخطاب.

وأما المشروط بالقدرة العقلية تكون القدرة دخيلة في الخطاب فقط دون الملاك.

ولبقاء الملاك أو ارتفاعه آثار هامة ستتضح في طي البحوث القادمة.

المطلب الثاني: في دليل التقديم

وهو (ورود) دليل المشروط بالقدرة العقلية على دليل المشروط بالقدرة الشرعية، وذلك لأن القدرة في المشروط بالشرعية قد أخذت في الموضوع،

ص: 194

وبانتفائها ينتفي الموضوع.

ومع التزاحم مع المشروط بالقدرة العقلية، فإما يبقى حكم المشروط بالشرعية ومعنى ذلك الحكم بلا موضوع وهو باطل، وإما نمنع من جريان الدليل الآخر فيثبت موضوع المشروط بالشرعية وهو دور مصرّح، وذلك لأن مانعية المشروط بالشرعية عن الحكم الآخر متوقف على تمامية موضوع المشروط بالشرعية، وتمامية موضوعه متوقف على عدم الآخر.

وليس ذلك في العكس، لأن بقاء المشروط بالعقلية لا مانع منه، إذ المشروط بالشرعية لا يمنع عن موضوعه، إذ القدرة التكوينية موجودة حتى لو وجب المشروط بالشرعية، فموضوع المشروط بالعقلية تام، فيترتب عليه حكمه، من غير لزوم محذور بقاء الحكم بلا موضوع أو محذور الدور، حيث إن تمامية موضوعه غير متوقف على عدم الآخر(1).

وهكذا في كل (ورود)، فالدليل على الوجوب - مثلاً - وارد على أصالة البراءة، إذ موضوعها الشك، فمع قيام الدليل على الوجوب إما تجري البراءة مع عدم موضوعها الذي هو الشك، وإما نقول بمنع البراءة لدليل الوجوب فيلزم الدور، حيث إن مانعية البراءة عن دليل الوجوب متوقف على تمامية موضوعها، وتماميته يتوقف على عدم الحكم الآخر.

ومثاله: تزاحم الحج المشروط بالاستطاعة شرعاً مع الزكاة التي لم يؤخذ في لسان الدليل القدرة عليها، فالزكاة مقدمة عليه، إذ لا استطاعة على الحج مع وجوب الزكاة حيث لا يبقى عنده ما يكفيه للذهاب إلى الحج.

ص: 195


1- منتقی الأصول 3: 51.
المطلب الثالث: في دفع الإشكالات

فمنها: ما أورد على كون القدرة عقلية، فيما إذا لم تؤخذ القدرة في لسان الدليل(1)، ومرجع ذلک إلى عدم إطلاق الخطاب الشرعي، فإنه مع عدم أخذ القدرة في لسان الدليل لا إطلاق كي يتمسك به لإثبات كون القدرة عقلية، حتى يتم ترجيح المشروط بها على المشروط بالقدرة الشرعية.

ومنها: زعم أن القدرة في الأدلة جميعاً شرعية.

الإشكال الأول: إن كل خطاب يقتضي القدرة على متعلقه، حيث إن حقيقة الخطاب ليس إلا ترجيح أحد طرفي المقدور، ومع اقتضاء كل أمر القدرة على متعلقه كيف يصح التمسك بإطلاق الأمر على عدم تقييد المتعلق بالقدرة كي يستنتج من ذلك عقلية القدرة المعتبرة فيه؟ بل مقتضى الخطاب هو شرعية القدرة في جميع التكاليف!

وحتى لو فرض عدم ثبوت تقييد القدرة بالقدرة الشرعية، لكن اقتضاء الخطاب صالح للقرينية وذلك مانع عن انعقاد الإطلاق.

والجواب: هو أن اشتراط القدرة إنّما هو بحكم العقل بقبح تكليف العاجز، ومن الواضح أن هذا الاشتراط عقلي لا شرعي.

وأما على مبنى المحقق النائيني من أن اشتراط القدرة إنّما هو لاقتضاء الخطاب له(2).

فإن هذا الاقتضاء لا يمكن أن يقيد المتعلق، وذلك لأن هذا الاقتضاء إنّما

ص: 196


1- فوائد الأصول 1: 323-326.
2- فوائد الأصول 1: 323.

جاء من جهة الخطاب فهو متأخر عنه، فلا يمكن أن يقيد المادة التي هي متقدمة.

مضافاً إلى أن الخطاب يدل على وجود الملاك في المتعلق، وذلك لتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد، فإطلاق الأمر بضميمة هذه التبعية يكون كاشفاً عن قيام الملاك بذات المتعلق (أي المادة) وأما الهيأة فإنها ترد على نفس هذا المتعلق بلا قيد.

وعليه: فيمكن التمسك بالإطلاق على قيام الملاك بالمتعلق بلا تقييده بالقدرة شرعاً.

الإشكال الثاني: إن التمسك بالإطلاق في رفع ما شُك في قيديته، إنّما هو لأجل مقدمات الحكمة، والتي منها لزوم نقض الغرض وإيقاع المكلف في خلاف الواقع لو كان القيد مشكوكاً، وهذا لا يجري فيما نحن فيه، لأن المتعلق لو كان واقعاً مشروطاً بالقدرة بحيث كان لها دخل في ملاكه، لم يلزم من إهمال ذكرها نقضاً للغرض، ولا إيقاع المكلف في خلاف الواقع، إذ لا يمكنه فعل غير المقدور حتى يقع في خلاف الواقع.

والجواب: أولاً: أنه قد يلزم إيقاع المكلف في خلاف الواقع إذا لم يبيّن المولى اشتراطها بنحو دخالتها في الملاك، وذلك لأن عدم القدرة الشرعية لا تلازم عدم القدرة التكوينية، فالمكلف يمكنه الإتيان بالفعل مع عدم قدرته الشرعية عليه لكن مع قدرته تكويناً، وهذا يلزم منه إغراء المكلف بالجهل بإيهامه وجوب ما ليس بواجب عليه، كما قد يلزم منه مخالفة التكليف، كما لو كانت الصلاة مقيدة بالقدرة عليها شرعاً، فلو أخلّ بالبيان فقد يكون المكلف عاجزاً عنها لمزاحمتها بالأهم، ومع هذا قد يغُرّه إطلاقها، فيأتي بها

ص: 197

ويترك مزاحمها وفي ذلك إيقاع المكلف في خلاف الواقع.

وثانياً: إنّ إيقاع المكلف في خلاف الواقع ليس من مقدمات الحكمة، بل التي من المقدمات هي كون المتكلم في مقام بيان مراده.

وفيه: أن عدم إيقاعه في خلاف الواقع هو منتزع عن مقدمتين، وهما كون المتكلم في مقام بيان مراده، مع عدم نصب قرينة على الخلاف، فهو من مقدمات الحكمة بهذا الاعتبار، فتأمل.

الإشكال الثالث: قد يقال: إن القدرة الشرعية مأخوذة في جميع الأحكام الشرعية، فلا مصداق لهذا المرجح، بل هو فرض صرف، وذلك لوجود أدلة عامة تجري في جميع التكاليف تقتضي تقييدها جميعاً بالقدرة الشرعية، وهي أدلة رفع الحرج والاضطرار ونحوها.

وأجيب(1): بأن أثر تقييد الحكم بالقدرة الشرعية ودخالتها في موضوع الحكم يظهر في جهتين:

الأولى: في أن ارتفاع القدرة الشرعية مساوق لارتفاع ملاك الحكم، وحينئذٍ فإن كان كلا الحكمين مشروطاً بها لزم ترجيح الأهم كما سيأتي، وإن كان الأهم مشروطاً بها فقط لزم ترجيح المهم عليه كما مرّ في المطلب السابق.

ودليل رفع الحرج والاضطرار ونحوها، لا يتكفل برفع الملاك، لأن ظاهر الدليل هو أن ارتفاع الحكم إنّما هو لأجل الامتنان والتسهيل على العباد، وظاهره ثبوت الملاك بحيث لولا جهة الامتنان والتسهيل لثبت الحكم، وحينئذٍ فلو كان الأهم مشروطاً بالقدرة الشرعية ولم يكن المهم مشروطاً بها في لسان الدليل فلا

ص: 198


1- راجع منتقی الأصول 3: 72.

دلالة لدليل رفع الحرج والاضطرار ونحوهما على تقييد الملاك في المهم بالقدرة الشرعية، فلابد من ترجيح دليل المهم على دليل الأهم كما عرفت.

الثانية: في تقديم غير المشروط بالشرعية على المشروط بها في مورد التزاحم، وذلك لارتفاع موضوع المقيد بالقدرة الشرعية.

وفيما نحن فيه فإن دليل الاضطرار ونحوه لا يرفع موضوع الحكم، وذلك لأن موضوع الحكم لا نظر فيه إلى التقييد بعدم الاضطرار من جهة الحكم الشرعي المزاحم، لأن رفع الاضطرار - مثلاً - لا يراد به الاضطرار التكويني، إذ الارتفاع حينئذٍ ثابت ببداهة العقل، فلا مِنّة في رفع الحكم حينئذٍ، ولا يحتاج إلى الاستيهاب بالتضرّع لرفع الحكم، بل المراد الاضطرار العرفي - بمعنى المشقة الشديدة ونحوها - حيث يمكن إبقاء الحكم عقلاً، فيكون رفعه منةً.

والحاصل: إن رفع الاضطرار إنّما يصح فيما لم يكن التكليف ممتنعاً، فلا يجري دليل الرفع في صورة المزاحمة، لأن جعل التكليفين في نفسه ممتنع لعدم القدرة التكوينية على امتثالهما، فارتفاع أحد الحكمين مع وجود الآخر قهري، فلا يكون مشمولاً لدليل الرفع، فلا يكون موضوع الحكم مقيداً بعدم الاضطرار من جهة المزاحم بواسطة دليل الرفع، وعليه فلا يكون أحد الحكمين رافعاً لموضوع الآخر، فتأمل.

المطلب الرابع: لو كان المشروط بالقدرة الشرعية أهم

هل تقديم المشروط بالعقلية يشمل صورة كون المشروط بالشرعية هو الأهم؟ احتمالان:

الاحتمال الأول: هو تقديم الأهم مطلقاً، واستدل له بأدلة، منها:

ص: 199

الدليل الأول: عدم المانع عن تقديم الأهم عقلاً للقدرة التكوينية عليه، ولا شرعاً، إذ لا مانع إلا وجوب المهم وهو غير صالح للمانعية، لأنه بمزاحمته مع الأهم لا يكون مقدوراً، فلا يكون الأمر به فعلياً، ومع عدم فعليته لا يكون مانعاً عن الأهم.

ويرد عليه: أولاً: إنه مصادرة، إذ محل البحث في الأهمية هيهنا هل هي سبب للترجيح أم لا، فلا يصح جعلها دليلاً على التقديم، وما ذكره ليس بأولى من قلب الاستدلال بأن يقال: إن الأهم غير مقدور لمزاحمته بالمهم فلا يكون فعلياً.

وثانياً: إن المهم رافع لموضوع الأهم، حيث إن المهم غير مشروط بالقدرة الشرعية مع كون الأهم مشروطاً بها، فيكون هناك مانع شرعي عن وجوب الأهم.

الدليل الثاني: حيث إن المفروض وجود الملاك في كلا الحكمين لولا التزاحم، ففيما نحن فيه لا يخلو المورد من ثلاث صور:

1- ترجيح الأهم والحكم طبقاً له، وهذا هو المطلوب.

2- ترجيح المهم والحكم على طبقه، وهذا ترجيح المرجوح وهو قبيح.

3- الحكم بوجوب أحدهما لا بعينه، فحينئذٍ يحكم العقل بالأهم حصراً، وبعبارة أخرى: إن ثبوت الملاكين معاً وإن كان يستلزم التخيير الشرعي إلا أن العقل يستقل بترجيح الأهم.

وأورد عليه: بأن إيجاب أحدهما رافع لموضوع الآخر، فلا مانع من إيجاب المهم الرافع لموضوع الأهم، وحينئذٍ لا ملاك ولا غرض في الأهم

ص: 200

كي يكون ترجيح المهم عليه ترجيحاً للمرجوح.

وبعبارة أخرى - كما قيل -: إن الأهمية ثابتة لولا الحكم بالمهم، ومع الحكم به لا أهمية، إذ لا ملاك ولا غرض، فتأمل.

الاحتمال الثاني(1): إن ترجيح المهم إنّما يكون ترجيحاً للمرجوح القبيح عقلاً، إذا كان ملاك الأهم ثابتاً مطلقاً - حتى في صورة التزاحم - وحينئذٍ فلا يكون الحكم بالمهم رافعاً لملاكه بل يكون ترجيحاً للمرجوح وتفويتاً للغرض الأهم.

وليس الشأن فيما نحن فيه كذلك، فإن ثبوت ملاك الأهم مشروط بعدم المانع عن متعلق الحكم، فثبوت المانع العقلي يرفع ملاك الأهم، فلا تفويت للغرض الأهم، بل هو من قبيل رفع الغرض الأهم وعدم تحققه في الخارج وهو ليس بقبيح.

وحينئذٍ: فلابد من ترجيح المشروط بالقدرة العقلية، حتى وإن لم يكن هو الأهم، لتحقق الملاك فيه مطلقاً، بل لا يمكن ترجيح المشروط بالشرعية عليه، حتى لو كان أهم، لتقييد ملاكه بالقدرة واستلزامه تفويت الملاك الآخر بلا سبب.

المطلب الخامس: اشتراط العلم بهما

إن الترجيح بالمشروط بالعقلية على المشروط بالشرعية إنّما هو مع العلم بهما، وأما لو علمنا بأحدهما دون الآخر، فهنا صورتان:

الصورة الأولى: لو ثبت كون القدرة في أحدهما شرعية، ولم نعلم

ص: 201


1- راجع فوائد الأصول 1: 323.

بالآخر، فلابد من ترجيح الثاني، للجزم بإبراء الذمة معه، لأنه لو كانت القدرتان شرعية فقد أدى التكليف لكونه مخيراً، ولو كانت القدرة في الثاني عقلية لكان تكليفه منحصراً بأدائها، فيكون المورد من موارد الدوران بين التعيين والتخيير.

وقيل: بالتخيير بينهما، لأن الشك في سعة الملاك والخطاب، وهو مورد جريان أصالة البراءة.

وفيه نظر: لأن الخطاب مطلق وهو طريق إلى اكتشاف الملاك.

اللهم إلا أن يقال: إن الكلام في صورة عدم وجود الإطلاق وأنه لابد من الأخذ بالقدر المتيقن، وهو يفيد فائدة التقييد بالقدرة الشرعية، فتأمل.

الصورة الثانية: لو ثبت عقلية القدرة في أحدهما ولم نعلم بالآخر، فقد يقال: بترجيح معلوم الاشتراط بالعقلية، لأن سعة الملاك واشتغال الذمة به معلوم والآخر مشكوك، والاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية، ولا عكس لأن الآخر لو كانت القدرة فيه عقلية لكان مخيراً وإلا فلا، فرجع إلى دوران الأمر بين التعيين والتخيير.

المطلب السادس: في كيفية إحراز كون القدرة عقلية أم شرعية

فقد يقال(1): بأن هنا حالتان:

الحالة الأولی: إذا لم تؤخذ القدرة في لسان الدليل فالأصل فيها أن تكون عقلية، فلا تكون دخيلة في الملاك، وذلك تمسكاً بالدلالة الالتزامية حتى مع سقوط الدلالة المطابقية في حالة العجز، وتمسكاً بإطلاق المادة،

ص: 202


1- مباحث الأصول 3: 151-152.

حيث إن لها إطلاقان: في الملاك وفي الحكم، فإذا قُيد الثاني بسبب العجز فلا تقييد للأول.

لكن مرّ الإشكال في كلا المبنيين، وذكرنا سقوط الدلالة الالتزامية تبعاً لسقوط الدلالة المطابقية، وأن طريق معرفة الملاك هو الخطاب فإذا سقط الخطاب أو قُيِّد فلا طريق إلى معرفة وجود الملاك أو إطلاقه.

الحالة الثانية: إذا لم تؤخذ القدرة في لسان الدليل، فالأصل أن تكون القدرة شرعية فتكون دخيلة في الملاك.

ويدل عليه: بأنه لو حملت القدرة على العقلية كان التقييد بها في لسان المولى إرشادياً، والأصل هو المولوية دون الإرشادية، ونعني بالأصل الظهور، حيث إن صِرف التأكيد مستبعد عرفاً.

وأورد عليه: بالإشكال في المبنى، فليس كل ما دل عليه العقل يكون حكم المولى به إرشادياً، ولا يجري محذور الدور أو تعدد العقاب إلا في أوامر الطاعة، دون غيرها مما يستقل به العقل، فلا مانع من كونها مولوية.

وبعبارة أخرى - كما في البحوث -: إن التقييد بالقدرة مولوي على كل حال، إذ هو تضييق المولى دائرة تشريعه وتخصيصه بصورة القدرة، نعم منشأ هذا التقييد يختلف، فقد يكون ضيق الملاك، وقد يكون قبح تكليف العاجز.

المطلب السابع: لو كان كلاهما مشروطاً بالقدرة العقلية

فهنا صور:

الصورة الأولى: إذا تساويا في الأهمية وتقارنا زماناً، فلا محيص عن

ص: 203

الالتزام بالتخيير العقلي والشرعي، وإلا لزم الترجيح بلا مرجح، فإن امتثال كل واحد منهما رافع لموضوع الآخر، من غير وجود مرجح لرفع موضوع أحدهما دون الآخر.

والمراد من التخيير العقلي - هنا -: تساوي الملاكين والخطابين، مع تقييد كل واحد منهما بترك الآخر، والمراد من التخيير الشرعي - هنا -: هو تساوي الملاكين مع سقوط الخطابين وثبوت تكليف آخر بالإتيان بأحدهما مخيراً.

الصورة الثانية: إذا كان أحدهما أهم - سواء كان متقدماً زماناً أم متأخراً - ، فلابد من ترجيح الأهم، كما لو كان الصيام في النهار يمنع من الجهاد في النهار، أو يمنع من الجهاد في الليلة التي تلي الصوم، مع كون الجهاد فرض عين لا بديل له.

واستدل له: أولاً: بالورود، فإن كل حكم مقيد لُبّاً بعدم الانشغال بما لا يقلّ أهمية عنه، فالانشغال بالأهم سبب عدم تحقق قيد وجوب المهم، دون العكس حيث الانشغال بالأهم لا يكون سبباً لعدم تحقق هذا القيد بل القيد باقٍ.

وثانياً: بحكم العقل بقبح تفويت الغرض الأهم، وأن الحكم بالمهم حينئذٍ ترجيح للمرجوح على الراجح.

الصورة الثالثة: إذا تساويا في الأهمية مع كون أحدهما أسبق زماناً، وسيأتي بيان هذه الصورة تفصيلاً في المرجح الآتي.

الثالث: الترجيح بالأسبق زماناً
اشارة

أما موضوع هذا الترجيح، فقد اتضح مما سبق من أنه مع وجود البديل العَرْضي لأحدهما فهو المرجح، وكذا لو كان أحدهما مشروطاً بالقدرة

ص: 204

العقلية فيرجح على المشروط بالقدرة الشرعية، وأما مع فقد هذين المرجحين، فقد يقال بترجيح الأسبق زماناً، وللمسألة حالات، منها:

الحالة الأولى: إذا كان كلاهما مقيداً بالقدرة الشرعية، وتساويا في الأهمية، مع كون أحدهما أسبق من الآخر، كما لو دار الأمر بين القيام في صلاة الظهر أو صلاة العصر، أو دار الأمر بين صيام النصف الأول من شهر رمضان، أو النصف الثاني منه، لمرض يمنع من صيامه كله، فهنا صور(1):

1- السبق بالموضوع والامتثال

كما لو نذر زيارة الإمام الرضا (علیه السلام) في رجب لو شافى الله ولده، ونذر زيارة الإمام الحسين (علیه السلام) في شعبان لو جاء مسافره، مع عدم استطاعته إلا لإحدى الزيارتين، فشافى الله ولده قبل قدوم المسافر ثم قدم.

فهنا لابد من ترجيح الأسبق زماناً وامتثالاً، وذلك لأن الوجوب السابق تام الموضوع وهو فعلي، ولا مانع عنه عقلاً ولا شرعاً، إذ ليس المانع الشرعي إلا الوجوب الآخر وهو ليس بثابت لعدم تحقق موضوعه.

لكن هذه الصورة خارجة عن البحث، إذ لا تمانع، فالأول في ظرفه لا مانع عنه، والثاني لا موضوع له، ومع عصيان الأول يسقط لفوات الموضوع، فلا مانع حينئذٍ عن فعلية الثاني.

وقد يستثنى من ذلك ما لو كان السابق بنحو الواجب الموسع، إذ لا تزاحم بين الموسع الذي هو لا اقتضائي بالنسبة إلى الوقت وبين المضيق الذي هو اقتضائي بالنسبة إلى وقته.

ص: 205


1- فوائد الأصول 1: 330؛ منتقی الأصول 3: 53.

وفيه نظر: لأنه لو تحقق موضوع الأسبق مع عدم تحقق موضوع المتأخر، فإنه لا مانع من المبادرة إلى امتثاله حتى لو كان موسعاً، إذ الفرض عدم تحقق موضوع الآخر، فلا فعلية بل لا وجوب أصلاً له، ومع امتثال الأول لا يبقى مجال لامتثال الثاني لعدم القدرة عليه حسب الفرض، نعم لو لم يبادر إلى الأول باعتبار توسعته ثم تحقّق موضوع الثاني تحقّق التزاحم مع كون كليهما اقتضائياً لفرض فوات كل واحد منهما بترك الآخر.

2- السبق في الامتثال مع التقارن في الموضوع

كمثال نذر الزيارتين، ثم تحقق شرطهما معاً، كما لو قدم مسافره وشافى الله ولده في آنٍ واحد.

فهنا لابد من التخيير بينهما، لوقوع التزاحم بلا مرجح، وذلك لتحقق الموضوع والوجوب في وقت واحد، مع حصول التنافي بينهما في مقام الامتثال.

3- السبق في الموضوع والتقارن في الامتثال

كما في المثال، إذا تحقق شرط أحد النذرين أولاً، ثم تحقق شرط النذر الثاني، مع كون المنذور في كليهما في وقت واحد، كما لو نذر زيارة الإمام الرضا (علیه السلام) في أول رجب إن شافى الله ولده، ونذر زيارة الإمام الحسين (علیه السلام) في أول رجب إن جاء مسافره، فجاء المسافر، ثم شُفي ولده.

فهنا لابد من ترجيح الأسبق زماناً، وذلك لفعلية وجوبه حين تحقق موضوعه من غير منافي، فلا يبقى مجال لتحقق موضوع الثاني لعدم تحقق القدرة فيه.

وبعبارة أخرى: إن الخطاب السابق قد شغل الوقت، فلم يبق موضع

ص: 206

للواجب الآخر.

الحالة الثانية: إذا كان كلاهما مقيداً بالقدرة العقلية، مع تساويهما في الأهمية، وكون أحدهما أسبق، كمثال القيام في صلاة الظهر أو العصر، فهنا فرضان:

الفرض الأول: إذا كان التنافي بين إطلاقي الخطابين لا بين أصل الحكمين، وحينئذٍ يستقل العقل بسقوط الإطلاقين، والتخيير العقلي بأن يقيد كل واحد منهما بما إذا ترك الآخر، إذ التنافي بين الإطلاقين لا بين أصل الحكمين فيرفع اليد عنهما بمقدار الضرورة وذلك بالتقييد بالكيفية المذكورة.

وفي هذا الفرض لابد من تقديم الأسبق زماناً، لأن معنى التخيير العقلي هو أن ثبوت أحد الحكمين مشروط بترك الآخر، وفيما نحن فيه امتثال الواجب المتأخر غير معقول في ظرف المتقدم، أي لا يمكن امتثال القيام في صلاة العصر إذا كان هو في صلاة الظهر، فحينئذٍ ترك المتأخر قهري فتحقق شرط وجوب المتقدم، فيجب الإتيان به.

الفرض الثاني: إذا كان التنافي بين أصل الحكمين، فقد ذهب المحقق النائيني(1)

إلى عدم الترجيح بالأسبق زماناً، إذ لا مانع من تعلق خطاب واحد بكل منهما بنحو البدل، فيكون كل واحد منهما واجباً تخييرياً، إذ التقدم والتأخر الزماني لا يمنع من صحة ذلك.

وأشكل عليه: بأنه مع فرض تساويهما في الملاك فإن بناء العقلاء هو

ص: 207


1- راجع فوائد الأصول 1: 333-335.

عدم تفويت الملاك الأول، وخاصة مع احتمال حدوث طارئ يمنع عن امتثال الثاني في وقته.

وفيه: أن ذلك فرض خارج عن مورد الكلام، إذ هذه الجهة تكون سبباً لعدم تساويهما، مع أن الفرض هو تساويهما من كل الجهات سوى أسبقية أحدهما.

ثم إنه في مرحلة الإثبات يتردد الأمر بين سقوط أصل أحد الخطابين أو كلاهما وبين سقوط إطلاقهما من هذه الجهة، والثاني أقرب للظهور، فتأمل.

فرع: في مثال تزاحم النذر والحج

فلو نذر زيارة الإمام الحسين (علیه السلام) في يوم عرفة قبل حصول الاستطاعة، ثم استطاع للحج، فما هو المقدم منهما؟ قولان:

القول الأول: تقديم النذر، لأنه غير مقيد بالقدرة الشرعية في لسان الدليل، مع تقيد الحج بالقدرة الشرعية في لسانه.

وذلك لأن وجوب الوفاء بالنذر تام الموضوع وهو فعلي، ولا مانع عنه لا عقلاً لوجود القدرة التكوينية عليه، ولا شرعاً إذ لا موضوع للواجب الآخر الذي هو الحج.

وأمّا ما ورد في الحديث من أن: «شرط الله قبل شرطكم»(1)

فلا دلالة له، إذ لا شرط له تعالى مع عدم القدرة، بل هو تعالى قيد الحج بالاستطاعة، ولا استطاعة فيما نحن فيه.

ويرد عليه: ما سيأتي في الدليل الثاني من القول الثاني.

ص: 208


1- تهذيب الأحكام 7: 370.

القول الثاني: تقديم الحج، وانحلال النذر، واستدل له بأدلة، منها:

الدليل الأول: وقد ذكره المحقق النائيني(1)،

وبيانه: إن وجوب النذر أيضاً مقيد بالقدرة الشرعية، وتلك القدرة ترتفع بالمانع الشرعي، ولكن وجوب الوفاء مقيد بقيد آخر، وهو أن لا يكون متعلق النذر مُحلِّلاً للحرام، بمعنى أن لا يكون متعلقه ملازماً للوقوع في الحرام، حتى لو كان ذلك المتعلق راجحاً في نفسه، والحرام هنا هو ترك الواجب.

إن قلت: إن وجوب الوفاء يرفع وجوب الحج، فلا ارتكاب للحرام.

قلت: وجوب الوفاء لا يمكنه رفع وجوب الحج، وإلا لزم الدور، إذ فعلية وجوب الوفاء تتوقف على عدم فعلية وجوب الحج - لئلا يلزم تحليل الحرام - فلو كان عدم التكليف بالحج متوقفاً على فعلية وجوب الوفاء للزم الدور.

وأشكل عليه: أولاً: بأنه لا تحليل للحرام - الذي هو ترك الحج - إذ ذلك إنّما يكون لو تحققت الاستطاعة، فمع عدم تحققها لا تحليل للحرام، وحينئذٍ فلا فرق في حصول التمانع بين أن يكون أحدهما رافعاً لموضوع الآخر من جهتين - هما عدم القدرة والتحليل للحرام - ، وبين كون الآخر رافعاً لموضوع الأول من جهة واحدة - وهي عدم القدرة - .

وفيه نظر: وذلك لأن المراد من تحليل الحرام هنا هو أنه لولا النذر لكان حراماً، فيراد الاستفادة من دليل النذر على عدم صحة هذا النذر من أساسه، نعم لا بأس بالإشكال بعدم صحة هذا الاستظهار من دليل النذر، فتأمل.

ص: 209


1- فوائد الأصول 1: 330-331.

وثانياً: بأنه لا دور، إذ فعلية وجوب أحدهما ملازم لعدم فعلية وجوب الآخر، لا أنه متوقف عليه، وهكذا الحال في كل دور معي، وإلا لزم إشكال الدور في كل تزاحم مع عدم ترجيح أحدهما على الآخر، مثلاً يقال: إنقاذ الغريق الأول فعلي لعدم فعلية إنقاذ الغريق الثاني، وعدم فعلية إنقاذ الثاني متوقف على فعلية إنقاذ الأول.

وثالثاً: إن القدرة في النذر ليست شرعية بل عقلية، لعدم أخذها في لسان الدليل.

إن قلت: إن الناذر إنّما ينذر بما يقدر على الإتيان به، فتكون القدرة مأخوذة في موضوع وجوب الوفاء، قبل تعلق النذر، فتكون دخيلة في الملاك.

قلت: إن هذا يدل على اشتراط أصل القدرة، وذلك لحكم العقل باشتراطها في جميع التكاليف، ولا دلالة فيه على تعيين كونها شرعية.

الدليل الثاني: إنه لابد في صحة النذر من الرجحان واقعاً، والنذر المستلزم لترك الحج لا رجحان فيه ولا في متعلقه، بحسب ارتكاز المتشرعة، وبحسب أهمية الحج وما له من فوائد، وليس لتوهم المكلَّف أثر في الرجحان وعدمه، لأن الملاك هوالرجحان الواقعي لا التصوري.

الرابع: الترجيح بالأهمية أو احتمالها
اشارة

أما الترجيح بالأهمية:

فقد عُلم حاله مما سبق، وأنه لا ترجيح بها مع وجود البدل لأحدهما، أو كون أحدهما مشروطاً بالقدرة العقلية مع كون الآخر مشروطاً بالقدرة

ص: 210

الشرعية، وفي غير ذلك لابّد من الترجيح بها حتى لو كان غير الأهم أسبق زماناً.

وأما الترجيح باحتمال الأهمية:

1- فقد قيل: إن احتمال الأهمية إما لجهة تأثير شيء في المصلحة فهنا مجرى الاشتغال، وإما لجهة احتمال انضمام ملاك آخر مع ملاكه، فالأصل عدمه فيكون مجرى أصالة التخيير.

وأورد عليه: بأن هذا إنّما هو على مبنى حكم العقل بلزوم تحصيل الغرض الملزم للمولى، وأما على مبنى تنافي الحكمين في مقام الامتثال مع كون الدليلين متكفلين للحكم الفعلي، فلابد من تقديم محتمل الأهمية مطلقاً.

2- وأما المحقق النائيني(1) فقد ذهب إلى أنه بناءً على التخيير الشرعي، أي سقوط كلا الخطابين واستكشاف العقل خطاباً تخييرياً، تكون المسألة من موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير، التي اختلفت الآراء فيها بين البراءة والاشتغال.

وأما بناءً على التخيير العقلي، أي عدم سقوط الخطابين بل تقييد إطلاق كل واحد منهما، فلابد من ترجيح محتمل الأهمية، وذلك للقطع بتقييد غير محتمل الأهمية مع الشك في تقييد محتمل الأهمية.

وبتعبير آخر: نعلم ببراءة الذمة مع امتثال محتملها إذ التكليف به معلوم إما تعييناً وإما تخييراً بينه وبين الطرف الآخر، عكس غير محتملها فإن

ص: 211


1- فوائد الأصول 1: 334-335.

الإتيان به لا يوجب الأمن من العقاب، ولا الجزم بسقوط خطاب محتمل الأهمية.

وأشكل عليه(1): بأنه لا فرق في وجوب ترجيح محتمل الأهمية بين التخيير العقلي أو الشرعي، وذلك لسقوط إطلاق ما لا يحتمل أهميته على كل حال فلا حجية لإطلاقه، عكس محتمل الأهمية إذ لا علم بسقوط إطلاقه، فيتمسك به عملاً بأصالة الإطلاق، فبناء على التخيير العقلي لا إحراز لتقييد إطلاق محتمل الأهمية، وبناءً على التخيير الشرعي لا إحراز لسقوط دليله، فتأمل.

نعم في غير باب التزاحم قد يكون الترجيح لمحتمل الأهمية، وقد لا يكون الترجيح به، ففي الدوران في المسألة الأصولية - أي في مقام الحجية - لا إشكال في التعيين، لأن الآخر مشكوك الحجية، والشك فيها مسرح عدمها.

وفي الدوران بينهما في المسألة الفرعية، إن كان التخيير عقلياً كما لو أمر بطبيعة ثم شك في تقيدها بخصوصية، فالأصل عدم تلك الخصوصية مما ينتج منه التخيير وعدم الترجيح بمحتمل الأهمية، وإن كان التخيير شرعياً، كما لو علم بتعلق الأمر بفرد وشك في أنه بخصوصه متعلق للأمر أم أنه مخير بينه وبين غيره، فهنا خلاف بين الأعلام في البراءة أو الاشتغال.

تتمة: في كيفية إحراز الأهمية

قال المحقق النائيني(2):

ومسألة الأهمية تختلف باختلاف ما يستفاد من

ص: 212


1- منتقی الأصول 3: 69.
2- فوائد الأصول 1: 335.

الأدلة، ومناسبة الحكم والموضوع، فما كان لحفظ بيضة الإسلام يقدّم على كل شيء، وما كان من حقوق الناس يقدم على غيره، كما أن ما كان من قبيل الدماء والفروج يقدّم على غيره، وأما فيما عدا ذلك فاستفادة الأهمية يحتاج إلى ملاحظة المورد وملاحظة الأدلة.

وقد يقال(1): 1- إذا كان الحكمان من الأحكام الارتكازية العقلائية والتي يفهم العرف ملاكها، فهنا توجد دلالة التزامية عرفية على أن الملاك لحكم الشرع هو ذلك الملاك، وحينئذٍ فبمعرفة الملاكين يمكن معرفة الأهم، وذلك فيما رجح العقلاء أحدهما ارتكازاً، مثل حرمة دم الإنسان وماله، فإن الملاك العقلائي هو حفظ الشخص وحفظ ما يرتبط به، فلو توقف إنقاذه على صرف ماله كان الإنقاذ أهم.

2- وكذا إذا وردت أحكام ثانوية بلحاظ الطوارئ والحالات في أحدهما دون الآخر، كالصلاة التي لا تترك بحال، فحينئذٍ نكتشف أهمية الجامع بين أفراد الصلاة على ما لم يرد فيه ذلك كالصوم.

3- وكذا كون أحدهما مما بُني عليه الإسلام، أو التأكيد الشديد على امتثاله، أو التأكيد على العقوبة في تركه، مع عدم ورود مثل ذلك في مزاحمه، فحينئذٍ يعلم أهميته ولا أقل من احتمال الأهمية، نظير الحج والنذر، حيث بني الإسلام على الحج وهناك أوامر شديدة في لزوم امتثاله وفي كفر تاركه ولم يرد مثل ذلك في النذر.

أقول: الأقرب هو الرجوع إلى ارتكاز المتشرعة - وهذا الارتكاز في أكثر

ص: 213


1- بحوث في علم الأصول 3: 185-187.

الأحيان ينشأ من الأدلة الشرعية، أو مما ذُكر - فلا أقل من كونه سبباً لاحتمال الأهمية في أحدهما دون الآخر، فتأمل.

ص: 214

فصل في اقتضاء النهي للفساد

اشارة

وفيه بحوث:

البحث الأول: في أنواع النهي
اشارة

الأنواع الداخلة في محل البحث والخارجة عنه، ولاب-ّد من بحث كل واحد على انفراد ليتبيّن الداخل عن الخارج.

النوع الأول: النهي الإرشادي

وهنا صورتان:

الصورة الأولى: النهي عن أصل العبادة أو المعاملة، ولا ريب في دلالته على الفساد - سواء في العبادة أم المعاملة - وذلك لأن هذا النهي إنّما هو إرشاد إلى المانعية، بمعنى عدم أخذ الشيء في الماهية، وذلك يستلزم تقييد إطلاق أدلة العبادات والمعاملات بغير هذه الحصة، أي عدم تحقق الماهية مع تحقق ذلك الشيء.

وبعبارة أخرى - كما قيل -: إن العبادة أو المعاملة لا تنطبقان على تلك الحصة، أما العبادة فهي عنوان انتزاعي من انطباق المأمور به على المأتي به، ولا تنطبق على تلك الحصة، وأما المعاملة فهي إمضائية، ولا إمضاء مع دلالة الشرع على المانعية.

وبعبارة أخرى: النهي الإرشادي إما هو إرشاد إلى أصل البطلان، أو إرشاد إلى عدم المطلوبية، وذلك لا يكون إلا مع عدم الملاك، ولا إشكال

ص: 215

في البطلان مع عدم وجود الملاك، لوضوح عدم الأمر وعدم الإمضاء.

ومن ذلك يتضح خروج النهي الإرشادي عن محل البحث، لوضوح اقتضائه للفساد.

الصورة الثانية: النهي عن جزئها أو شرطها

1- فإن كان ذلك الجزء أو الشرط مورداً لتوهم الأمر به، فظاهر النهي هو إرشاد إلى أنه ليس بجزء ولا بشرط، ولا دلالة له على بطلان أصل العبادة أو المعاملة، كالنهي عن طواف الحائض فهو إرشاد إلى عدم جزئيته للحج.

2- وإن لم يكن الشرط أو الجزء مورداً لتوهم الأمر أصلاً، فظاهر النهي هو إرشاد إلى بطلان العمل رأساً، أي إرشاد إلى مانعية ذلك الجزء أو الشرط، وذلك لأنه مع عدم توهم الأمر لا وجه للنهي إلا بيان المانعية، كما أنه مع الأمر بهما لا وجه للأمر سوى الشرطية أو الجزئية، وذلك يصنع ظهوراً يكون سبباً للحمل على الإرشاد.

نعم ظاهر الأوامر والنواهي - إن لم تكن قرينة على الخلاف - هو أن الأمر استعمل بداعي البعث، والنهي بداعي الزجر، لا بداعي الإخبار - الذي هو معنى الإرشادية - .

النوع الثاني: النهي التنزيهي

وقد ذکرت وجوه لدخوله في البحث أو خروجه، وهي ترتبط بالمباني المختلفة التي تمّ مناقشة بعضها فيما مضی، فلا داعي لتکرار المناقشات:

فمنها: ما ذكره المحقق النائيني(1):

من أن الرخصة الوضعية بالنسبة إلى

ص: 216


1- فوائد الأصول 1: 455.

الإتيان بأي فرد - المستفاد من تعلق الأمر بالطبيعة - لا تنافي النهي التنزيهي المتضمن للرخصة أيضاً، وذلك لأن التخيير العقلي في تطبيق الكلي على أيِّ فردٍ إنّما هو بمعنى الرخصة في ترك ذلك الفرد، والنهي التنزيهي يتضمن الرخصة في تركه، فلا تنافي بينهما.

نعم لو فرض تعلق النهي التنزيهي بذات العبادة - بحيث يتحد متعلق الأمر والنهي - لكان لدعوى اقتضائه للفساد مجال، لأن ما كان مرجوحاً ذاتاً لا يصلح لأن يتقرب به، لكن لا وجود لهكذا نهي في النواهي الشرعية.

ومنها: ما ذكره المحقق العراقي(1):

من أن غاية ما يقتضيه النهي التنزيهي إنّما هو الدلالة على وجود حزازة في الشيء، وهذا لا يكفي في فساده بناءً على جواز اجتماع المحبوبية والمبغوضية في عنوان واحد بالتفكيك في أنحاء حدود الشيء، وأما بناءً على عدم الجواز فالنزاع يعمّ النواهي التنزيهية أيضاً.

ومنها: ما ذکره المحقق الخراساني(2):

من أن ظاهر النهي وإن كان النهي التحريمي، إلا أن ملاك البحث يشمل التنزيهي في العبادات دون المعاملات.

وحاصله أن النهي التنزيهي في العبادات: إن كان إرشاداً إلى قلة الثواب أو نقصان المحبوبية فلا يقتضي البطلان أصلاً، إذ إطلاق دليل الوجوب يشمل هذا الفرد أيضاً مع عدم المانع عنه، إذ يمكن التقرب بما هو أقل ثواباً

ص: 217


1- نهاية الأفكار 1: 452.
2- إيضاح کفاية الأصول 2: 371.

كما مرّ في مثل الصلاة في الحمام، وإن كان النهي زجراً فلا إشكال في البطلان لأن الزجر يكشف عن مبغوضية غالبة، وهي لا تجتمع مع المحبوبية الغالبة، وقد مرّ عدم إمكان اجتماع الأمر والنهي.

وأما النهي التنزيهي في المعاملات: فلا دلالة له على البطلان أصلاً، إذ هو إما إرشاد إلى وجود مفسدة قليلة، أو إلى أكثرية المصلحة في تركه، وكلاهما لا ينافي الامضاء، فتشمله إطلاقات الأدلة، وإما إلى وجود حزازة فيه، وحيث لا يشترط قصد القربة فيها فلا مانع عن شمول الإطلاقات لهذا الفرد أيضاً، وسيأتي مزيد توضيح إن شاء الله تعالى.

النوع الثالث: النهي التحريمي المولوي

ذهب المحقق العراقي(1)

إلى خروجه عن مورد البحث كالإرشادي، وإرجاعه البحث إلى بحث صغروي، بأن النهي المتعلّق بعنوان - معاملة كانت أم عبادة - هل هو مولوي تحريمي فلا يقتضي الفساد، أم هو إرشاد إلى خلل فيه فيقتضيه!

واستدل لذلك: بأنّ الحرمة التكليفية في المعاملة لا تلازم الفساد الوضعي، فلذا لا بطلان لها فيما لو نهى الوالد أو حلف على عدم البيع، ونحو ذلك.

وأما في العبادة: فلأن الفساد المتصور لا يخلو من أحد أمرين:

1- انتفاء الملاك والمصلحة، وعدم ترتب الغرض، وهذا غير مترتب على النهي، إذ لا دلالة ولا إشعار للنهي على عدم المصلحة في متعلقه، بل

ص: 218


1- نهاية الأفكار 1: 453-455.

غاية ما يقتضيه هو الدلالة على وجود المفسدة في متعلقه، ولا مضادة بينهما كي يكون الدلالة على أحدهما يلازم نفي الآخر.

2- وعدم قصد القربة، لكن هذا مترتب على العلم بالنهي، لا على نفس وجود النهي، مع أن مقتضى ظاهر العنوان هو ترتب الفساد على نفس النهي بوجوده الواقعي، ولو فرض أن المراد بالعنوان هو العلم بالنهي فلا إشكال في الفساد، فلا بحث لكي يقع محلاً للنزاع.

ويرد عليه أولاً: بأن الكثيرين ذهبوا إلى أن النهي المولوي التحريمي في العبادة يقتضي الفساد، مع ذهابهم إلى أن النهي الإرشادي يقتضيه أيضاً، فلا وجه لرجوع النزاع إلى نزاع صغروي إذ على كلتا الحالتين يكون النهي دالاً على الفساد.

وثانياً: إن النهي يدل على وجود مفسدة غالبة في متعلقه، وهذا يدل على عدم وجود مصلحة غالبة، وبينهما المضادة الواضحة، فكل واحد منهما يلازم نفي الآخر.

وثالثاً: المقصود هو عدم إمكان التقرب بالعبادة المنهي عنها، سواء لعدم صلاحيتها للتقرب فيما إذا كان نهي واقعي حتى لو لم يعلم به، أو لعدم إمكان التقرب بها فيما إذا توهم وجود النهي حتى لو لم يوجد نهي، فتأمل.

النوع الرابع: النهي الغيري

أ) فإن كان نهياً غيرياً أصلياً - بأن كان مدلولاً للخطاب - شمله البحث، وذلك لوجود الملاك فيه، قال المحقق الإصفهاني(1):

التكليف المقدّمي - بعثاً أو زجراً -

ص: 219


1- نهاية الدراية 2: 383.

لا يوجب القرب والبُعد، بل هما مترتبان على موافقة التكليف النفسي ومخالفته، فالنهي المقدمي وإن كان لا يجامع الأمر لتضادهما، إلا أن مجرد النهي عن شيء لا يسقطه عن الصلوح للتقرب به إذا لم تكن مخالفته مبعّدة، إلا أن يقال: بأن مقدميته للمبعِّد كافية في المنع عن التقرب به، كما لا يبعد.

ب) وإن كان تبعياً - بأن لم يكن مدلولاً للخطاب - فهو وإن لم يكن نهياً لفظياً، إلا أنه داخل في ملاك البحث، وذلك لأن سبب الفساد هي الحرمة - لا استحقاق العقاب - وهذه الحرمة توجد في النهي التبعي أيضاً، ولذا في بحث (اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده) جعلوا الثمرة فساد الضد إذا كانت عبادة، كما لو توقفت إزالة النجاسة عن المسجد على ترك الصلاة في أول الوقت - كما مرّ مفصلاً - .

ثم إن النهي إذا تعلّق بذات العبادة، فكيفية التعلّق مختلفة، وهي سبعة أقسام، والنتيجة تختلف باختلاف الصور، ذكرها المحقق العراقي(1) فنذكرها مع تعديلات.

فالنهي إما مولوي، وإما في مقام دفع توهم الوجوب الفعلي، أو المشروعية الفعلية، أو المشروعية الاقتضائية، وإما إرشاد إلى خلل في العبادة، أو إلى اقتران ملاكها بالمانع، أو إلى إخلالها بعبادة أخرى.

1- أمّا النهي المولوي المتعلق بعنوان العبادة، فهو يقتضي الفساد من جهة الإخلال بالقربة، وذلك متوقف على العلم بالنهي، ولا يقتضي الفساد من جهة الدلالة على فقدان الملاك، لأن النهي يدل على مفسدة في متعلقه ولا

ص: 220


1- نهاية الأفكار 1: 456.

دلالة له على عدم وجود ملاك الأمر، نعم مع الشك في الملاك فالأصل عدمه، وإنّما نسب الفساد إلى النهي لأنه كشف عن عدم وجود الملاك أو صار سبباً للشك فيه، وسيأتي مزيد توضيح لهذا القسم.

2- وأمّا لو كان النهي في مقام دفع توهم الوجوب الفعلي، فهو يدل على عدم الوجوب، لكنه لا يدل على عدم الاستحباب أو عدم الرجحان أو عدم الملاك أو وجود المفسدة، وحينئذٍ لو جرى عموم أو إطلاق دال على رجحانه أو استحبابه فهو المطلوب، وإلا فالأصل يقتضي الفساد.

3- وأمّا لو كان في مقام دفع توهم المشروعية الفعلية، كالنهي عن النافلة في وقت الفريضة، فهذا النهي لا يدل إلا على عدم الفعلية، ولا ملازمة بين عدم الفعلية وعدم الملاك، وحينئذٍ فلو قام دليل على توفر الملاك في العمل فلا إشكال في صحته، وإلا فالأصل عدم الملاك فالفساد.

والأقرب أن هذا النهي إرشادي، وقد مرّ تفصيل بحث العبادات المكروهة، وذلك لأن نفي الفعلية يساوق انتفاء الملاك ظاهراً لعدم طريق لإحرازه إلا الأمر، ومع بقاء الأمر يكون فعلياً فلا طريق إلا لحمل النهي على الإرشاد.

4- وأمّا لو كان النهي في مقام دفع المشروعية الاقتضائية، فالنهي يقتضي الفساد، لدلالته على انتفاء الملاك.

ولا يخفى عدم وجود مثال لهذا المورد.

5- وأمّا ولو كان إرشاداً إلى خلل في العبادة، فيدلّ على انتفاء الملاك، فتفسد.

6- وأمّا لو كان إرشاداً إلى اقترانها بالمانع، كالتكتّف، فيدلّ على الفساد

ص: 221

لوجود المانع من دون مبغوضية أو حرمة.

ولا يخفى أن هذا لو لم يكن هناك دليل آخر دال على المبغوضية والحرمة، كحرمة إبطال الصلاة الفريضة مثلاً، كمن يلبس جلد ما لا يؤكل لحمه ثم يبدأ بالصلاة فلا تنعقد أصلاً فلا مبغوضية، أما مثل التكتف فهو إبطال للصلاة بعد انعقادها فتكون محرمة، ولكن ليست الحرمة من جهة النهي الإرشادي، كما لا يخفى.

7- ولو كان إرشاداً إلى إخلاله بغيره، كالسجود عند سماع آية السجدة وهو في الصلاة، فبالنسبة إلى الظرف - أي العمل الذي وقع فيه العمل - يكون النهي دالاً على فساده لأنه إرشاد إليه، وأما بالنسبة إلى المظروف - أي نفس العمل الذي نُهي عنه - فلا دلالة على فساده، إلا إذا كان إبطال الظرف حراماً فحينئذٍ يحرم المبطل بالحرمة الغيرية، فيفسد مع العلم بالنهي، بناءً على الامتناع وتقديم جانب النهي.

البحث الثاني: في معنى العبادة والمعاملة
1- أما العبادة

فقد يقال: إن عبادية الشيء إما ذاتية له كالسجود، وإما باعتبار الأمر به، أي لو أمر به لكان أمره عبادياً لا يسقط بدون قصد القربة، وحينئذٍ يبحث عن أن النهي هل يمنع عن العبادية التي لولا النهي لكان الشيء عبادياً.

وفيه: أولاً: في العبادة الذاتية إن كان المراد المعنى اللغوي فهو ليس محلاً للكلام، وإن أريد العبادة الشرعية فيستحيل انفكاك الذاتي عن الذات، ولا معنى لكون الشيء عبادة مع حرمته، فالأقرب عدم كون شيء عبادة

ص: 222

ذاتاً أصلاً، إلا لو أريد المعنى اللغوي الذي هو غاية الخضوع.

وثانياً: إنه على مبنى عدم إمكان أخذ قصد القربة في متعلق الأمر، لا فرق من جهة الأمر بين التعبّدي والتوصلي، فلا يكون الأمر عبادياً، وإنّما اشتراط قصد القربة يستفاد من دليل العقل كما مرّ في بحث التعبدي والتوصلي.

وثالثاً: قد يسقط الأمر العبادي من دون قصد القربة، كالزكاة، نعم ترتب الثواب يتوقف على قصد القربة.

فالأقرب تعريف العبادية: بأنها ما كان قصد القربة جزءاً من المتعلق أو شرطه على مبنى إمكان أخذ قصد القربة في المتعلق، أو ما كان الغرض يتوقف على قصدها على مبنى عدم إمكان أخذها، وأما مثل الزكاة فلفوات الموضوع لو أتى بها من غير قصد القربة، فتأمل.

وحينئذٍ فالمراد أنه لو تعلق النهي بالعبادة الشأنية هل النهي يقتضي الفساد أم لا، بعد وضوح عدم إمكان تعلّقه بالعبادة الفعلية، وبتعبير آخر: کشف النهي عن عدم عباديتها حينئذٍ.

2- وأما المعاملة

فيراد منها: كل ما لا يشترط فيه قصد القربة، من العقود والإيقاعات بل و التصرفات التي لها أثر شرعي كالتحجير والرضاع ونحوهما، فيقال: هل النهي يقتضي فسادها أم لا؟

وقد مرّ معنى الصحة والفساد في المعاملة في بحث الصحيح والأعم، وأن المراد هو ترتب الأثر المتوقّع أو عدم ترتبه، فهل النهي في المعاملة يقتضي عدم ترتب الأثر عليها أو لا يقتضي ذلك؟

ص: 223

ومن ذلك يتضح دخول مثل التحجير والرضاع في مورد البحث، وذلك لترتب الأثر أو عدم ترتبه عليها، فلا وجه لاخراجها عن البحث بعد جريان الملاك فيها.

فيختص البحث بما كان قابلاً للاتصاف بالصحة والفساد، كي يمكن البحث عن أن النهي هل يقتضي فساده أم لا، وأما ما لا يقبلهما - إما لعدم كونه ذا أثر، أو لكون الأثر يلازمه دائماً - فهو خارج عن البحث لعدم اتصافه بالفساد أصلاً.

البحث الثالث: في كون الصحة من الأمور المجعولة شرعاً أم لا؟

ذهب صاحب الكفاية(1) إلى التفصيل في العبادات:

1- فعلى تفسيرهما بموافقة الأمر وعدم موافقته، لا تكون مجعولة شرعاً، لأن الموافقة وعدمها أمران انتزاعيان من مطابقة المأتي به مع المأمور به أو عدم مطابقته، وهذان يرتبطان بفعل العبد لا أمر المولى، إذ بجعل المأمور به لا تتحقق الموافقة، بل لابد من تحقق المأتي به الذي هو فعل العبد.

2- وعلى تفسيرهما بسقوط القضاء والإعادة، أو عدم سقوطهما...

أ) فبالنسبة إلى إتيان المأمور به بالأمر الواقعي، فإن سقوطهما من اللوازم العقلية، وذلك لحصول الغرض وسقوط الأمر، إذ مع الإتيان ثانياً إما يحصل ما حصل أولاً وهو تحصيل للحاصل المحال، وإما يحصل غيره فهو غير المأمور به.

ب) وبالنسبة إلى إتيان المأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري، فإن

ص: 224


1- إيضاح کفاية الأصول 2: 381-384.

سقوط طبيعي الأمر قد يكون مجعولاً إذا لم يكن الاضطراري أو الظاهري وافياً بتمام الملاك، فحينئذٍ يمكن للشارع الحكم بالسقوط تخفيفاً ومنّة على العباد، وربّما يحكم بعدم السقوط وثبوت القضاء والإعادة.

ج) وأما سقوط القضاء والإعادة في الأفراد، فليس بمجعول شرعي، بل الأفراد تتصف بالصحة والفساد بمجرد انطباق المأتي به على ما هو المأمور به، فإن انطباق الكلي الطبيعي على الفرد وعدم الانطباق ليس بمجعول شرعي، بل هو أمر قهري.

وأما في المعاملات، فإن الصحة فيها بمعنى ترتب الأثر على المعاملة، وهو مجعول للشارع سواء بنحو التأسيس أم الإمضاء.

وأشكل عليه(1): بأن القضاء والإعادة ليسا من العناوين الجعلية، لأنهما من فعل المكلف تكويناً، بل المجعول الحكم الذي هو إيجاب القضاء أو الإعادة وعدمه، فإذا قال الشارع: (أسقطت القضاء) مثلاً، رجع إلى عدم إيجاب القضاء، لمصلحة التسهيل والتخفيف، الراجحة على المصلحة المقتضية للتكليف بالقضاء، وحيث إن الكلام في الصحة والفساد الموصوف بهما الفعل، فلا يكون (الإيجاب) محلاً للبحث، إذ ليس الوجوب وعدمه حكمين للمأمور به الاضطرار والظاهري، بل الوجوب وعدمه حكمان للقضاء.

فإن قلت: إن مُسقطيّة المأتي به لأمر القضاء والإعادة إنّما هي جعليّة، بتبع إنشاء عدم وجوب القضاء والإعادة، وبعبارة أخرى: الصحة هنا هي

ص: 225


1- نهاية الدراية 2: 388-389.

كون المأتي به علة لعدم الأمر بالقضاء أو الإعادة.

قلت: إن العلة لعدم الأمر بالقضاء هي مصلحة التسهيل المانعة عن اقتضاء بقية المصلحة للقضاء، وهي واقعية جعلية.

والحاصل: إن فعل المكلف لا يتصف بسقوط القضاء وعدم ايجابه، مثلاً الصلاة بالتيمم لا تتصف بوجوب القضاء وعدمه.

وفيه: أنه لا يشترط في كون الشيء مجعولاً أن يتصف فعل المكلف بالأمر المجعول، بل يكفي فيه ترتبه على فعله، بحيث كان فعل المكلف علة لذلك الأثر، مع كون العِليّة جعلية غير تكوينية، وفيما نحن فيه إيجاب القضاء أو عدم إيجابه يترتب على المأتي به.

وبعبارة أخرى: إن المأتي به يترتب عليه أثر مجعول وهو نفي القضاء مثلاً.

وأما مصلحة التسهيل فهي علة غائية لإسقاط القضاء وهذا لا ينافي العِليّة بين المأتي به وبين عدم الإيجاب من جهة أخرى، فتأمل.

كما يمكن القول: بأن ترتب الأثر في المعاملات إنّما هو لأجل جعل العلية بأن يكون العقد علة للملكية مثلاً أو لأجل ترتيب الشارع الأثر بعد تحقق العقد من باب التوافي، وكلاهما مجعول للشارع، لذا يمكنه توسيع أو تضييق العِليّة، أو لا يرتب الأثر أو يرتبه، ولو كان أمراً تكوينياً لما أمكن ذلك.

أما المحقق النائيني(1) فذهب إلى ما يقرب كلام صاحب الكفاية في

ص: 226


1- فوائد الأصول 1: 460.

العبادات دون المعاملات، وحاصل كلامه:

أن الأقوى كون الصحة والفساد - سواء في العبادات أم المعاملات - من الأمور الانتزاعية، كالسببية والشرطية والجزئية والمانعية، فلا تكون جعلية باعتبار الانتزاع، وإنّما منشأ الانتزاع قد يكون مجعولاً في الغالب، وقد لا يكون مجعولاً...

أما في العبادات:

1- فالإتيان بمتعلق الأوامر - سواء الواقعي الأولي أم الاضطراري أم الظاهري - مجزٍ عن أمر نفسه، فالمأتي به ينطبق على المأمور به، ومن هذا الانطباق ينتزع وصف الصحة - أي كون المأتي به صحيحاً - وهذا الانطباق ليس مجعولاً شرعياً، وإنّما المجعول الشرعي هو تعلق الأمر بما ينطبق على المأتي به (كالصلاة بأجزائها وشرائطها...) أما كون المأتي به منطبق أو لا فهو يدور مدار واقعه، والصحة والفساد تنتزعان عن نفس الانطباق وعدمه، فعليه لا يكونان مجعولين شرعاً.

2- أما لو شك في الانطباق، فللشارع الحكم بالبناء على الانطباق - كالأصول الجارية في قاعدة الفراغ - وحينئذٍ من حكم الشارع بالانطباق ينتزع وصف الصحة، فيكون منشأ الانتزاع مجعولاً شرعياً حيث حكم الشارع - وباعتبار الأصل - بالانطباق.

لكن الصحة حينئذٍ ظاهرية، فإذا انكشف الخلاف وتبين عدم الانطباق فلا صحة بناءً على ما مرّ من عدم الإجزاء.

نعم للشارع الحكم بالصحة بعد انكشاف الخلاف، ومرجع الصحة في مثل هذا إلى الاكتفاء بما أتى به عن الواقع، وهذه ترجع إلى الصحة الواقعية

ص: 227

بوجه، أي تكون برزخاً بين الأحكام الظاهرية والواقعية الثانوية، فمن جهة أخذ الشك في موضوعها تكون حكماً ظاهرياً، ومن جهة كونها موجبة لسقوط التكليف الواقعي - حتى بعد انكشاف الخلاف - تكون شبيهة بالأحكام الواقعية الثانوية.

والحاصل: إن التعبد بانطباق المأمور به الواقعي على المأتي به مجعول شرعي، فصارت الصحة حينئذٍ مجعولة.

وأما في المعاملات: فالمجعول هو ترتب الأثر عند تحقق سببه، وهذا لا يتصف بالصحة والفساد، بل المتصف بهما هو الفرد المأتي به من المعاملة، وهذا الفرد إنّما يتصف بالصحة عند انطباقه على ما يكون مؤثراً، والانطباق أمر واقعي ومنه تنتزع الصحة، فليست إذن مجعولة شرعاً.

وأورد عليه: أولاً: بأن الانطباق ليس الملاك في الصحة، للنقض بمثل الصلاة الجهرية المأتي بها إخفاتاً جهلاً تقصيرياً، فإنها صحيحة مع عدم الانطباق، ولذا يعاقب على تقصيره.

وفيه: أن هذا المورد وأشباهه من قبيل الصحة الظاهرية التي حكم الشارع فيها بالاكتفاء حتى مع انكشاف الخلاف.

وثانياً: بأنه لا يمكن التعبد بانطباق الواقع على المأتي به فيما لو شك في الانطباق، وذلك لأنه لا يصح التعبد إلا بما كان مجعولاً شرعياً أو موضوعاً لأثر شرعي، وليس انطباق الواقع على المأتي به من المجعولات الشرعية!!

وفيه: أن الانطباق أمر واقعي، لكن التعبد به - أي فرض الانطباق - أمر جعلي، نظير الأمارات التنزيلية حيث ينزل مؤداها منزلة الواقع بالجعل

ص: 228

الشرعي.

وثالثاً: يرد على ما ذكره في المعاملات بما مرّ من أنه يمكن جعل العِليّة وهذا يكفي في كون الشيء مجعولاً للشارع بجعل منشأ الانتزاع، نعم ترتب المعلول على العلة أمر قهري.

البحث الرابع: في مقتضى الأصل حين الشك في اقتضاء النهي للفساد

والبحث قد يكون عن الأصل في العبادات وقد يكون في المعاملات، وتارة البحث عن الأصل في الملازمة العقلية، أو في الدلالة اللفظية، وثالثة البحث في المسألة الأصولية أو الفرعية الفقهية(1).

1- أما في العبادات في المسألة الأصولية العقلية - أي الملازمة بين النهي والفساد -:

فالصحة والفساد تكون بأحد معاني ثلاث...

الأول: الصحة والفساد من حيث موافقة الأمر وعدمه، فحينئذٍ لا مورد للشك أبداً كي يبحث عن الأصل فيه، إذ على مبنى عدم جوازالاجتماع لا يوجد أمر، للفراغ عن تعلق النهي بالعبادة، وعلى مبنى جواز الاجتماع لا إشكال في موافقة الأمر، فلا تصل النوبة إلى الشك أصلاً.

الثاني: الصحة والفساد بمعنى موافقة الملاك، بأن يفي العمل بالملاك أو لا يفي به.

وقد يقال: بالقطع بالصحة من حيث الملاك فلا مورد للشك أصلاً، لأن المفروض تعلق النهي بالعبادة - لا ببعضها - ، فالمنهيّ مستجمع لجميع

ص: 229


1- راجع نهاية الدراية 2: 391-392؛ وفوائد الأصول 1: 462.

الأجزاء والشرائط الدخيلة في الملاك، نعم قد يشك في منافاة المبغوضية الفعلية مع التقرب المعتبر في العبادة، ولا أصل حينئذٍ يعيّن أحد الطرفين.

وبعبارة أخرى - كما قيل -: إنه مع تعلق النهي بالعمل، يحتمل بقاء ملاك الأمر مع كون ملاك النهي مانعاً عن تأثيره، كما يحتمل انتفاء ملاك الأمر أصلاً وهو المصلحة الراجحة، إذ مع تعلق النهي لا توجد مصلحة راجحة للأمر.

لكن لا يخفى أن قصد القربة دخيل في ملاك الأمر قطعاً - حتى لو قلنا بعدم إمكان أخذه في متعلق الأمر - فحينئذٍ نقطع بعدم موافقة الملاك، فلا شك في الفساد.

نعم لو كان غافلاً عن النهي أمكنه قصد القربة، فحينئذٍ لا إشكال في الصحة من حيث تحقق الملاك، وقد يُشكّ في حصول التقرب بهذا العمل، إلاّ أنّه لا دليل على دخالة التقرب بهذا المعنى في تحقق العبادة، فتأمل.

الثالث: الصحة والفساد بمعناهما - من التمامية وعدمها - مع قطع النظر عن الأمر والملاك.

فقد يقال: بأنه لا أصل في البين، إذ الملازمة إن كانت فهي أزلية، فليس لها حالة سابقة، حتى لو قلنا بجريان الاستصحاب في الأحكام العقلية.

2- وأما في العبادات في المسألة الفرعية الفقهية

أ) فتارة: تكون تلك العبادة مأمور بها مع قطع النظر عن النهي...

فإن تعلق النهي بجزء العبادة أو شرطها فحينئذٍ قد يقال: بأن الشك في اقتضاء النهي للفساد يستتبع الشك في مانعية المنهي عنه عن العبادة، فتندرج في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين، وتختلف الآراء بين البراءة أو الاشتغال.

ص: 230

وإن تعلق النهي بنفس العبادة فقد يقال: بأن الأصل الفساد، للقطع باشتغال الذمة بالعبادة المقرِّبة، ومع الشك في صدورها قُربيّة لا قطع بفراغ الذمة، فيجب تحصيل الفرد غير المبغوض بالفعل، مع وضوح عدم رجوع الشك إلى المانعية، وذلك لاقتضاء النهي حرمة العبادة، ومع حرمتها لا يمكن تصحيحها، فتأمل.

ب) وتارة: لا تكون تلك العبادة مأمور بها حتى مع قطع النظر عن النهي...

فقد يقال: کما عن المحقق النائيني(1):

أن الشك في اقتضاء النهي للفساد يوجب الشك في مشروعية العبادة، والأصل عدم مشروعيتها.

وفيه نظر: إذ يكفي في عدم مشروعيتها عدم الأمر بها، مع عدم إمكان إحراز الملاك، بل إحراز عدمه بعدم الأمر بها حتى في حالة عدم النهي، اللهم إلا في العبادة الذاتية، وقد مرّ الإشكال عليها.

3- وأما في المعاملات

فالشك في اقتضاء النهي للفساد يستتبع الشك في صحة المعاملة، والأصل يقتضي عدم الصحة، لأصالة عدم ترتب الأثر عليها، والمفروض أن الكلام في حالة عدم وجود دليل من إطلاق أو عموم، وإلاّ لما وصلت النوبة إلى البحث عن الأصل في حالة الشك.

4- وأما في الدلالة اللفظية سواء في العبادة أو المعاملة

فإنه لا يوجد أصل يعيّن دلالة اللفظ أو عدم دلالته.

ص: 231


1- فوائد الأصول 1: 462.

وأما ما ذكره المحقق الإصفهاني(1):

من أنه في المسألة الأصولية يكون النزاع في أن النهي هل هو ظاهر في الحرمة التكليفية أم في الإرشاد إلى المانعية، ولا يوجد أصل يعيّن أحد الأمرين، وأما في المسألة الفرعية فيتمسك لإثبات الصحة بالإطلاق حيث إن العبادية لا تنافي الحرمة المولوية ولا دليل على المانعية!!

ففيه: أولاً: انه لا معنى للإرشاد إلى المانعية مع كون النهي عن نفس العبادة لا عن جزئها، فينحصر الأمر في الحرمة التكليفية التي لا تنسجم مع الصحة أصلاً، كما مرّ.

وثانياً: إن الكلام إنّما هو مع الشك، بمعنى عدم وجود دليل لفظي من إطلاق ونحوه، ففرض وجود الإطلاق خروج عن موضوع البحث.

البحث الخامس: في أقسام متعلق النهي في العبادة
اشارة

فقد ذكر صاحب الكفاية أنه على أقسام خمسة، وهي بأمثلتها من الوصول(2).

1- النهي عن نفس العبادة، كصوم العيدين، وصلاة الحائض.

2- النهي عن جزئها، كقراءة العزيمة في الصلاة، أو السجود رياءً.

3- النهي عن شرطها الخارج عنها، وذلك بخروج القيد ودخول التقيد، كالصلاة في الساتر الحريري أو النجس.

4- النهي عن وصفها الملازم لها بأن لا توجد العبادة بدونه، كالجهر

ص: 232


1- نهاية الدراية 2: 391-392.
2- الوصول إلى كفاية الأصول 2: 486-487.

والاخفات في القراءة فإن الوصفين لا ينفكان عنها وإن كانت هي تنفك عن أحدهما.

5- النهي عن وصفها غير الملازم، بأن كانت النسبة بينهما العموم من وجه، كالغصب في الصلاة.

وأشكل أولاً: على أصل التقسيم(1):

بأن القسم الأول داخل في القسم الرابع والخامس، وذلك لأنه لا يمكن النهي عن العبادة لذاتها، إذ لا يتعلق النهي بذات العبادة بنفسها وبما هي هي، بل لابد أن تكون هناك خصوصية أوجبت النهي، كصلاة الحائض وصوم العيدين، فجعل النهي عن العبادة لذاتها قسيماً للنهي عن العبادة لوصفها لا يستقيم، بل يكون النهي عن العبادة لوصفها في كليهما.

وأجيب: بأن النهي قد يتعلق بالذات ولكن بسبب الخصوصية، حتى لو كانت تلك الخصوصية من قبيل أوصاف المكلف، وتارة يتعلق النهي أولاً وبالذات بالخصوصية فيبحث حينئذٍ عن سراية النهي إلى ذات العبادة أم لا، فقد تكون الخصوصية غير اختيارية - كحلول يوم العيد والحيض - فلا وجه للنهي عنها إلا النهي عن ذات العبادة، وأما الخصوصية الاختيارية فالغالب تعلق النهي بها أولاً وبالذات ثم يبحث عن سراية النهي إلى ذات العبادة كالنهي عن الجهر في الصلاة الاخفاتية أو الصلاة في المغصوب، نعم قد تكون تلك الخصوصية الاختيارية سبباً للنهي عن ذات العبادة كالنهي عن الصلاة حال السكر، وهذا يرتبط بالاستظهار من الدليل، فتأمل.

ص: 233


1- فوائد الأصول 1: 463.

وثانياً: بتعميم الإشكال، فقد قال المحقق الإصفهاني(1):

بأن هذا التقسيم لا وجه له أصلاً وذلك لأن...

أ) البحث في دلالة النهي عن العبادة على الفساد، فلا فرق بين عبادة وأخرى - سواء كانت كلاً أم جزءاً أم شرطاً أم وصفاً - فالحكم في الجميع واحد.

ب) فإن كان المقصود هو البحث عن فساد الكل بفساد الجزء، وفساد المشروط بفساد الشرط، فهذا لا ربط له بالمسألة - التي هي اقتضاء النهي للفساد - بل قد يقال: بأنه بحث فقهي يحرر في مسائل الخلل في الصلاة.

ج) وإن كان المقصود البحث عن سراية الحرمة من الجزء أو الشرط أو الوصف المنهي عنه إلى الكل والمشروط والموصوف، فإن أريد الحرمة الحقيقية في نفس العبادة فرجع البحث إلى القسم الأول أي حرمة نفس العبادة، ولا دخل في سبب حرمة العبادة في مسألة اقتضائها للفساد.

د) فالأقرب كون هذا البحث بحثاً عن المبادي، أي عن صغريات المسألة، حيث لم تبحث في مكان آخر، فتأمل.

وأما تفصيل البحث في هذه الأقسام فنقول:

1- النهي عن نفس العبادة

وسيأتي بحثه.

2- النهي عن جزء العبادة

وفيه احتمالان، هما:

الاحتمال الأول: عدم بطلان المركب ببطلان جزئه، ويستدل له...

ص: 234


1- نهاية الدراية 2: 392-393.

أولاً: بأنه لا دليل علی كون جزء العبادة عبادة(1)،

إذ لا ملازمة بين جزئية شيء للعبادة وبين كونه عبادة، بل يمكن تعلق الأمر بالعمل المركب بنحو الاستغراق لأجزائه من دون كون جميع الأجزاء عبادة، كما أن التقيد بالشرط جزءٌ مع أنه ليس بعبادي.

وفيه تأمل: إذ الأمر ينبسط على جميع الأجزاء، كما مرّ، فتكون الأجزاء واجبة بوجوب ضمني، وحيث كان الأمر عبادياً فلابد من عبادية جميع الأجزاء لانبساطه - وهو عبادي - عليها، وأما كون التقيد بالشرط جزء مع أنه ليس بعبادي، فلأنّه جزء عقلي لا خارجي، أريد به دفع إشكال كيفيّة دخالة شيء في شيء مع كونه خارجاً عن حقيقته.

وثانياً: بعدم الدليل على استلزام بطلان الجزء بطلان المركب، فيما لو لم يكتف بالجزء الباطل بل كرره صحيحاً، إلا إذا استلزم التكرار محذوراً آخر - كالقِران بين السورتين - فيكون البطلان لذلك المحذور، من غير استناده إلى بطلان الجزء.

الاحتمال الثاني: بطلان المركب مطلقاً، وقد ذهب إليه المحقق النائيني(2) من غير فرق بين كون ذلك الجزء من سنخ الأقوال أو الأفعال، وسواء اقتصر على ذلك الجزء المنهي عنه أم لا، وسواء كان اعتبار ذلك الجزء في العبادة بشرط لا أو لا بشرط.

والدليل على ذلك أن النهي عن جزءٍ يوجب تقيد العبادة بما عدا ذلك

ص: 235


1- منتقی الأصول 3: 186.
2- فوائد الأصول 1: 465.

الجزء، فتكون نسبة العبادة إليه (بشرط لا)، ونفس اعتبار العبادة بشرط لا عن شيء، يوجب فساد العبادة الواجدة لذلك الشيء، لوجوه ثلاثة:

الأول: عدم كون الواجد لها من أفراد المأمور به، بل المأمور به غيره، فمن أتى بالمنهي عنه لا يكون آتياً بالمأمور به.

الثاني: أدلة إبطال الزيادة للصلاة تشمل هذا المورد، فهذا قد زاد في صلاته مثلاً، فتفسد.

الثالث: أدلة إبطال التكلم للصلاة إذا كان المنهي عنه من سنخ الأقوال تشمل هذا المورد، وذلك للإطلاقات الدالة على بطلان الصلاة بالتكلم، ويستثنى من ذلك القرآن والذكر، وبالنهي عن القِران - مثلاً - تخرج هذه الزيادة عن الاستثناء، فتندرج في إطلاقات المُبطليَّة!!

وأورد عليه: أولاً: بأن ادعاء صيرورة العبادة حينئذٍ (بشرط لا) خالٍ عن الدليل، بل الجزء المحرّم ليس بجزء في الواقع، فيكون خارجاً عن حقيقة العبادة، فلا فرق بينه وبين مثل النظر إلى الأجنبية في الصلاة.

وبعبارة أخرى - كما قيل -: إن إطلاق دليل العبادة يقتضي كون نسبتها إلى الجزء المحرّم هو (لا بشرط) هذا على المبنى المنصور من كون العبادات أسامي للصحيح.

إن قلت(1): على كونها أسامي للأعم، فإنَّ الجزء المنهي عنه مقوّم للعمل، فالعمل المأتي به مع الجزء المحرّم يطلق عليه الصلاة - مثلاً - فيكون هذا الجزء مقوماً للفرد، فلا يمكن شمول الإطلاق لهذا الفرد، لامتناع تعلّق

ص: 236


1- منتقی الأصول 3: 189.

الأمر بالفرد ذي الجزء المحرّم، فلا يكون هذا الفرد مأموراً به، وهذا هو المقصود من أخذ العبادة (بشرط لا) عن الجزء المحرّم، أي مانعيته عنها، فلا يصح قياسه بالنظر إلى الأجنبية حين الصلاة - مثلاً - .

قلت: إن تكرار ذلك الجزء يجعل المقوّم مردداً بين الجزء الباطل والصحيح، أو يجعلهما كليهما مقوّمين للفرد، فلا محذور من شمول الأمر لهذا الفرد، لعدم لزوم تعلق الأمر بكل الخصوصيات الفردية، فشخص الصلاة الخارجية لها تشخصات كثيرة غير داخلة تحت الأمر، وإنّما الداخل فيها بعض الكليات المنطبقة على الفرد الخارجي، فتأمل.

وثانياً: اختصاص الوجه الثاني والثالث بخصوص الصلاة، وذلك يناسب المسألة الفقهية لا الأصولية، مضافاً إلى الإشكال في إطلاق أدلة إبطال الزيادة، أو شمول أدلة إبطال التكلم للسورة حتى المنهي عنها، والتفصيل في الفقه.

3- النهي عن شرط العبادة

فهو على نوعين:

النوع الأول: أن يكون الشرط عبادة كالوضوء، فإنه يبطل الشرط بناءً على أن النهي في العبادة يوجب الفساد، وببطلانه يبطل المشروط.

لا يقال: لا يسري بطلانه إلى المشروط لو لم تتنجز حرمة الشرط، للجهل بها، حيث يمكن ادعاء إطلاق دليل الشرطية، فإن النهي تعلّق بالقيد والأمر تعلّق بالتقييد!!

فإنه يقال: إن التقييد إنّما هو بالشرط العبادي، لا بما يتوهم عباديته، ففي

ص: 237

الجهل وإن أمكن قصد القربة، لكن لا صلاحية للعمل للتقرب به، فلا يشمله إطلاق دليل الشرطية.

النوع الثاني: أن لا يكون الشرط عبادياً، كالستر بالمغصوب في الصلاة، فقد يقال(1): بإمكان التسمك بإطلاق دليل الشرطية لإثبات أن هذا مصداق للشرط، ولا يستلزم ذلك اجتماع الأمر والنهي، إذ النهي تعلّق بالقيد لا بالتقيّد، والأمر الضمني في الشرط يتعلّق بالتقيّد ولا يسري إلى القيد، فيكون متعلقهما مختلفاً.

وأشكل عليه: بأن النهي يصلح أن يكون قرينةً فلا تتم مقدمات الحكمة في دليل الشرطية، فإن مصب النهي والأمر وإن كان مختلفاً لكنه واحد عقلاً، فتأمل.

فتحصل: أن بطلان الشرط في كلا القسمين مما يستلزم بطلان المشروط.

5/4- النهي عن وصف العبادة

فحيث لا فرق بين الوصف الملازم والوصف المفارق لوحدة الملاك فيهما، لذلك نذكرهما معاً.

فقد يقال: بسراية النهي عن الوصف إلى الموصوف، فيبطل الموصوف لو قلنا بأن النهي يستلزم الفساد، واستدل له المحقق الخراساني(2): باستحالة كون القراءة التي يجهر بها - مثلاً - مأموراً بها، مع كون الجهر بها منهياً عنه فعلاً، فلذا تكون القراءة منهياً عنها أيضاً.

ص: 238


1- بحوث في علم الأصول 3: 122.
2- إيضاح کفاية الأصول 2: 393.

وأشكل عليه: أولاً: بأن هذا المقدار لا يثبت حرمة القراءة، لأن الجهر ملازم لها، وقد مرّ عدم لزوم اتفاق المتلازمين في الحكم، وأنه لا دليل على سراية حكم أحدهما للآخر، نعم يلزم عدم اختلافهما في الحكم، وحينئذٍ فالقراءة غير منهي عنها لكنها ليست مأموراً بها، فيمكن تصحيحها بكفاية وجود الملاك فيها.

إلا أن يقال: بأنه لا طريق للملاك إلاّ الأمر، وحيث سقط الأمر فلا دليل على الملاك، أو يقال: بأنه لا يلزم كون جميع أجزاء العبادة مأموراً بها، وكذا في الواجب التوصلي.

لا يقال: بناءً على جواز اجتماع الأمر والنهي، فأي فرق بين الصلاة والغصب حيث يقال بالصحة، وبين الجهر في الصلاة الاخفاتية حيث يقال بالبطلان؟

لأنه يقال: الفرق هو تعدد العنوان في الصلاة وفي الغصب، وعدم تعدده في القراءة الجهرية، إذ الواجب هو القراءة والحرام هو القراءة الجهرية.

وفيه تأمل: لأن ملاك الجواز هو تعدد العنوان حتى لو كان الوجود واحداً، والعنوان هنا متعدد، أي القراءة والجهر، فتأمل.

وثانياً: بإشكال صغروي في المثال(1)

بأن القراءة هي من الأعراض لأنها من الكيف المسموع، والجوهر هو الهواء الذي تعرض عليه القراءة، والأمر يختلف باختلاف المباني:

1- فإن قيل بإمكان التشكيك في الماهية الواحدة، فحينئذٍ تكون نفس

ص: 239


1- نهاية الدراية 2: 393-394.

الماهية النوعية بما هي شديدة تارة وضعيفة أخرى، وحينئذٍ القراءة الجهرية ماهية واحدة شديدة لا تعدد فيها، وكذلك القراءة الاخفاتية، فالنهي يتعلق بالعبادة بنفسها.

2- وإن قيل بعدم معقولية التشكيك في الذاتيات، فحينئذٍ المراتب أنواع متباينة - أي ماهيات مختلفة - فالنهي في القراءة الجهرية أو الاخفاتية متعلق بالماهية النوعية، فالقراءة هي الجنس والمراتب - من الجهر والاخفات - فصول لها، فالنهي عن الجهر مثلاً نهي عن نفس القراءة بناءً على اتحاد الجنس والفصل.

3- نعم لو قلنا بتعدد الجنس والفصل في الوجود، فالنهي حينئذٍ عما ينضم في الوجود إلى العبادة، لا عن العبادة نفسها - التي هي القراءة - .

والتحقيق أن الأعراض بسائط، ولا تعدد للجنس والفصل في الوجود، بل الشدة والضعف إنّما هي في الوجود، وعليه فالمنهي عنه هو نفس القراءة الجهرية أو الاخفاتية، لأن الجهر والاخفات كلاهما عرضان والشدة والضعف فيهما بحسب الوجود، وحيث إن الوجود بسيط فلا تركب لكي يتعدد متعلق الأمر والنهي، وهذا نظير السواد - الذي هو كيف مرئي - فإن شدته ليس وجوداً أو ماهية أخرى غير نفس السواد، بل السواد وجوداً وماهيةً، فتأمل.

البحث السادس: في إمكان تعلق النهي بالعبادة - ثبوتاً -

قد يقال: بعدم إمكان تعلق النهي بالعبادة أصلاً، فيكون البحث من باب السالبة بانتفاء الموضوع، وبيان ذلک بوجوه ومنها:

الوجه الأول: إن العبادة هي ما توجب القرب إليه تعالى، ولا يعقل

ص: 240

النهي عن ذلك، لأنه للبُعد عنه سبحانه.

والجواب(1): بأنه ليس المراد العبادة الفعلية، بل المراد تعلق النهي بما كان من سنخ الوظائف التعبدية، بحيث لو لم يتعلق النهي بها وتعلق بها الأمر كان أمراً عبادياً، فلا يسقط إلا بالتقرب إليه تعالى.

لا يقال: إن منافاة النهي والعبادية أمر واضح، لا يحتاج إلى هذا البحث المفصَّل.

لأنه يقال: بإمكان دفع المنافاة على بعض المباني، بل دفع المنافاة في حال عدم العلم بالنهي، أو توهمه مع عدم وجوده واقعاً كما سيأتي، مضافاً إلى البرهنة العقلية على المنافاة، أي بيان البرهان العقلي لهذا الأمر الارتكازي.

الوجه الثاني: إن النهي عن العبادة لا يجتمع مع الأمر بها، ومع عدم الأمر تكون العبادة فاسدة لعدم مشروعيتها، فلا تصل النوبة إلى اقتضاء النهي للفساد، بل الفساد يستند إلى أسبق عِلله وهو عدم المشروعية.

والجواب(2): أولاً: بأن الفساد لولا النهي مستند إلى أصالة عدم المشروعية، وهي أصل عملي، ومع النهي يكون الفساد من جهة الدليل الاجتهادي، فلا يستند الشيء إلى الأصل العملي مع وجود الدليل الاجتهادي.

إن قلت: استناد الفساد إلى الدليل خروج عن محل البحث - الذي هو

ص: 241


1- فوائد الأصول 1: 463.
2- فوائد الأصول 1: 463.

الملازمة بين الحرمة والفساد - !!

قلت: إن الدليل هنا هو نفس النهي الدال على الحرمة، وهو دليل اجتهادي، وليس المراد قيام دليل آخر على الفساد ليكون خروجاً عن محل البحث.

وثانياً: إنه ربما يشمل إطلاق دليل المشروعية لتلك العبادة، بحيث لو لم يكن نهي لشملها الإطلاق، فمع النهي عنها يكون الفساد مستنداً إلى النهي فقط.

الوجه الثالث: أن النهي الموجب للفساد إما يتعلق بذات العبادة من غير قصد القربة، أو يتعلق بها مع قصد القربة.

والأول: لا يلتزم به أحد، فهل يقال بحرمة الإمساك عن المفطرات طوال اليوم لا بقصد القربة؟! أو بحرمة تعليم الحائض الصلاة عملاً للأطفال مثلاً، فتقوم بجميع أجزائه وشرائطه من غير قصد القربة؟!

والثاني: غير ممكن، فلا يمكن قصد القربة أصلاً، إذ إن كانت القربةُ هي قصد الأمر فلا يوجد أمر كي يقصده، وإن أريد معنى آخر فلا يمكن التقرب به مع العلم بالنهي، ومع الجهل به لا يكون للعمل صلاحية التقريب فلا يكون عبادة.

والجواب: أولاً: إن القائل قد توهم أن سبب الفساد هو الحرمة، وأمرها دائر بين عدم وجودها في الأول، وعدم إمكانها - لعدم تحقق موضوعها - في الثاني.

لكن الصحيح أن النهي بنفسه سبب للفساد - كما سيأتي - وهذا لا يتوقف

ص: 242

على وجود الحرمة، فالنهي الإرشادي لا حرمة فيه مع أنه إرشاد إلى الفساد، وكذا مع عدم العلم بالنهي تكون العبادة فاسدة مع عدم وجود الحرمة الفعلية، وعليه: فنلتزم بالشق الثاني ونقول إن الإتيان بالفعل مع قصد القربة منهي عنه - سواء فرضنا هناك حرمة أم لا - وهو يوجب الفساد.

وثانياً: بأنه يمكن القول بأن النهي مانع عن عباديتها لذلك تقع فاسدة، بأن يكون في العمل مصلحة مع كونه مصداقاً لعبادة مأمور بها، لکن النهي مانع عن تأثير المصلحة وعن صلاحية العمل للتقرب.

وثالثاً: أن يقال بأنه يمكن الإتيان بالعمل مع قصد القربة، لكنه يكون تشريعاً، فهو يقصد أمراً غير موجود مع نسبته إلى الشارع، فتكون الحرمة تشريعية لا ذاتية - لئلا يلزم اجتماع المثلين - .

إن قلت: إن الإتيان بالعمل بقصد قربي لا يلازم التشريع، إذ يمكن الإتيان به رجاءً.

قلت: إنه مع العلم بالنهي لا وجه للرجاء، ومع عدم العلم به لا تشريع.

إن قلت: وأي دليل على حرمة التشريع العملي - إذا لم ينسبه إلى الشرع بالقول ليكون افتراءً - وهل ذلك إلا مخالفة التزامية التي لا دليل على حرمتها، ولو فرض حرمته فلا وجه لعدم اجتماعه مع الحرمة الذاتية، لعدم استلزام اجتماع المثلين إذ الحرمة الذاتية في الفعل، والحرمة التشريعية في القلب!!

قلت: مع قطع النظر عن المبنى، فإن التشريع هو الالتزام القلبي مع إظهاره قولاً أو عملاً، فتدخل العبادة المنهي عنها إذا أتي بها بقصد القربة

ص: 243

في الافتراء المنهي عنه.

وبعبارة أخرى: في التشريع تكون الحرمة للعمل بشرط الالتزام القلبي، أو أن الحرمة لهما معاً - أي للعمل والالتزام - فحينئذٍ عاد محذور اجتماع المثلين.

وعليه فإذا حرمت تشريعاً فلا يمكن شمول دليل الأمر لهذا الفرد - لعدم إمكان اجتماع الأمر والنهي - وحيث لا أمر كانت العبادة فاسدة، فتأمل.

البحث السابع: من أدلة فساد العبادة مع النهي عنها

وعمدة الأدلة ثلاثة، وهي: عدم إحراز الملاك، وعدم وجود الأمر، وعدم تمشي قصد القربة، وكلها مبطل للعبادة.

الدليل الأول: إنّه مع النهي عن العبادة لا طريق لإحراز الملاك فيها، وحتى مع فرض إحرازه فإنه مغلوب، والمغلوب غير صالح للعبادية، وإلا لما كان مغلوباً(1)، ومن المعلوم أن النهي عن العبادة يكشف عن ثبوت مفسدة فيها أقوى من مصلحتها، وعليه فينحصر تصحيح العبادة عبر الملاك بما إذا كان عدم الأمر بها لأجل عدم القدرة عليها، لمكان المزاحمة.

وفيه: أولاً: إن غلبة المصلحة لا يلازم عدم ملاكيتها للعبادية، نعم غلبة المفسدة مانع عن فعلية الأمر بها، وبالجهل يرتفع المانع، إذ يمكن حصول القرب بهذه العبادة مع وجود ملاكٍ لها.

وثانياً: إن المراد التقرب بحسب موازين العبودية والمولوية(2)، فقتل

ص: 244


1- فوائد الأصول 1: 465.
2- بحوث في علم الأصول 3: 111.

عدو المولى بتوهم أنه صديقه ليس اقتراباً منه بل ابتعاد عقلاً، كما أن قتل صديقه بتوهم أنه عدوه اقتراب إليه، وإن كان مفوتاً لغرضه، وحينئذٍ ففيما نحن فيه لا محيص عن بطلان العبادة، لإطلاق الهيأة في الأمر بالعبادة، أي إطلاق الوجوب سواء أتى بالفرد المنهي عنه أم لم يأتِ.

ولو فرض الإشكال على هذا الإطلاق - للإشكال في إطلاق الهيأة لجزئيتها، أو لعدم إحراز كون المولى في مقام البيان من هذه الجهة، أو لغير ذلك - فحينئذٍ تكون أصالة اشتغال الذمة بالتكليف بالعبادة محكّمة، إذ الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية، ونتيجة ذلك هو وجوب الإعادة أو القضاء مع الإتيان بالعبادة المنهي عنها، وهذا هو نتيجة البطلان، فتأمل.

وقد يقرر الدليل: بأن النهي يتنجز مع وصوله إلى العبد، فيكون الفعل معصية يحكم العقل بقبحها، فيكون الفعل مبعِّداً، فيستحيل أن يكون مقرِّباً، للتضاد بينهما، والمبعِّد لا يصلح لأن يكون عبادة.

ولا يخفى أن هذا لا يرتبط بقصد القربة، بل بصلاحية الفعل للمقربية أو المبعدية - مع قطع النظر عن قصد العبد للقربة - فلذا يمكن إجراء هذا الدليل في التوصليات أيضاً، على تأمل.

وقد يقال: إن القرب والبعد ينشأ من الدواعي النفسية، فلو أمكن إيجاد فعل بداعيين - داعي محبوب وداعي مبغوض - كان الفعل مقرباً ومبعداً من جهتين، وفيما نحن فيه تتعدَّد الجهة لو كان الأمر بالجامع وكان النهي عن حصة معينة!!

وأورد عليه: أولاً: بأن النهي عن الحصة يخصِّص الجامع المأمور به بغيرها، فالجامع الموجود فيها غير مطلوب، وذلك لأن نسبة الطبيعي إلى

ص: 245

أفراده كنسبة الآباء إلى الأبناء.

وثانياً: إنّ الداعي بما هو داعي ليس مقرباً ولا مبعداً، بل لابد من أن يقترن بالعمل، فيلوّن ذلك الداعي العمل، فيكون العمل مقرباً أو مبعداً، فقتل عدوّ المولى بتوهم أنه صديقه مبعِّد، لكن ليس لجهة الداعي فقط، بل العمل مُبعّد بنفسه لما اقترن بهذا الداعي، حتى وإن كان محبوباً في نفسه، فتأمل.

نعم أصل الإشكال هو عدم إمكان إحراز الملاك مع عدم الأمر، وحيث لا يمكن اجتماع الأمر والنهي حتى على القول بالجواز لعدم تعدد العنوان هنا، فعدم الأمر ثابت، فلا طريق للملاك.

الدليل الثاني(1): إنّه مع قيام النهي لا محيص عن تقييد إطلاق الأمر بما عدا مورد النهي - بعد ما كانت النسبة بينهما العموم المطلق مع كون متعلق النهي أخص - فإنه لولا التقييد لزم إلغاء النهي بالمرة، أو اجتماع الضدين، وحينئذٍ لا أمر، ومع عدم الأمر تفسد العبادة، لاشتراط الأمر في صحتها، كما مرّ مفصلاً في بحث التوصلي والتعبدي بعدم كفاية الملاك حتى مع إحرازه، بل لابد في العباديَّة من وجود الأمر.

الدليل الثالث: إنّه مع وصول النهي إلى العبد، لا يمكنه قصد القربة:

فلا يمكنه قصد الأمر، حيث يقطع العبد بعدم وجوده مع علمه بالنهي، ومع عدم إمكان اجتماعهما.

ولا يمكنه قصد الملاك، إذ لا طريق إلى الملاك إلاّ الأمر، والمفروض

ص: 246


1- فوائد الأصول 1: 464.

انتفاء الأمر، وحينئذٍ لا محيص عن بطلان العبادة.

نعم يمكن القول بأن العبد لو تخيل إمكان اجتماع الأمر والنهي، أو تخيل إمكان اجتماع الحب والبغض من جهتين في المولى، أو أتى بالعمل بقصد رجاء وجود الملاك، فحينئذٍ يمكنه قصد القربة، لكنه لا يمكنه الاجتزاء بتلك العبادة إلا إذا انكشف عدم وجود النهي، فتأمل.

البحث الثامن: حالات المكلّف

ذكر المحقق النائيني(1)

أن النهي في العبادة موجب لفسادها، من غير فرق بين حالة الاختيار، وحالة الاضطرار الموجب لرفع الحرمة، وكذا حالة النسيان، وذلك لأن المانعية ليست معلولة للحرمة حتى تدور مدارها، بل كلاهما معلولان للمفسدة والمبغوضية الواقعية التي أوجبت النهي، وهي أمور واقعية لا ترتفع بالاضطرار.

ثم أشكل على حكم المشهور بصحة صلاة من اضطر إلى لبس الحرير والذهب في الصلاة أو نسيهما، وذلك لأن (إطلاق الأمر) و(الحرمة) كلاهما في عرض واحد، والتضاد بينهما هو الذي كان سبباً للمانعية، ولولا التضاد لما كان للمانعية وجه، ففي حالة الاضطرار لا يمكن أن يكون ارتفاع الحرمة مقدمة لثبوت الأمر بالعبادة.

وحتى لو فرضنا الطولية، فإن المانعية ليست معلولة للحرمة، كي يكون ارتفاع المانعية موجباً لارتفاع الحرمة، بل كلاهما معلولان لعلة ثالثة، وهي المفسدة، وهي ثابتة، إذ ارتفاع أحد المعلولين لا يكون سبباً لارتفاع العلة،

ص: 247


1- فوائد الأصول 1: 467.

ومن المعلوم أن الاضطرار والنسيان لا يوجب إلا رفع الحرمة، لأن الرفع للمِنّة، ولا ترتفع بها المفسدة الواقعية.

ومن ذلك يتضح الإشكال على كلام آخر للمشهور فيما لو شك في شيء أنه حرير أو ذهب، حيث أجروا أصالة الحل والبراءة، باعتبار أنهما أصل سببي فلا يبقى مجال للأصل المسببي وهو المانعية.

إذ ليست المانعية مسبباً عن الحرمة كي يرتفع المسبب بإجراء الأصل في السبب.

وفيه تأمل:

أما الأول فيرد عليه:

أولاً: إن رفع أحد الضدين ليس مقدمة للآخر، لكنه ملازم لثبوت الضد الآخر إن كان من الضدين اللذين لا ثالث لهما.

وثانياً: بإمكان التمسك بإطلاق الأمر بعد ارتفاع المقيَّد بسبب الاضطرار، فلا يبقى وجه لبقاء المانعية، وإطلاق الأمر دليل اجتهادي فلا يبقى مجال لاستصحاب المانعية.

وثالثاً: لازم كلامه عدم وجوب الصلاة على هذا المضطر أصلاً، لا أداءً لبطلانها بالمانع، ولا قضاءً بناءً على تبعية القضاء للأداء، أو بناءً على عدم تحقق الفوت حينئذٍ، كما مرّ في بحث الإجزاء.

وأما الثاني، فيرد عليه:

أولاً: لا يعقل ارتفاع المعلول إلا بارتفاع العلة، فلا يعقل بقاء العلة وأحد المعلولين مع زوال المعلول الآخر، هذا في العلل التكوينية.

ص: 248

وثانياً: إن النهي هو جزء من العلة، وليست المفسدة هي العلة التامة، وبانتفاء جزء العلة - وهو النهي - تنتفي العلة، فينتفي كلا معلوليها.

وثالثاً: إن الدليل إنّما يجري بناءً على إجراء أصالة الاشتغال في الشك في الشرط، وأما بناءً على إجراء أصالة البراءة - كما هو الأقرب - فلا، فتأمل.

البحث التاسع: في النهي عن المعاملة
اشارة

النهي عنها قد يكون إرشاداً إلى المانعية فلا إشكال في دلالته على البطلان، وذلك لعدم تحقق الشيء مع وجود مانعه، وهذا يساوق البطلان.

وقد يكون تكليفياً، وهذا على أقسام أربعة، إذ تارة يكون النهي عن ذات السبب، أي عن العقد الذي هو فعل للمكلَّف، كالنهي عن البيع وقت نداء يوم الجمعة، وتارة عن ذات المسبب، كالنهي عن بيع المصحف للكافر حيث إنه نهي عن ملكيته له، وتارة عن آثار المسبب كالنهي عن تسليم الثمن، وتارة عن التسبيب أي التسبيب لذلك المسبب المعين بالسبب الخاص.

القسم الأول: النهي عن السبب بذاته

ولا دلالة فيه على الفساد بوجه من الوجوه، لا لفظاً كما هو واضح، ولا عقلاً لعدم التنافي بين مبغوضية السبب وبين ترتب الأثر عليه، نظير العلل التكوينية، حيث إن مبغوضية إيجاد النار لا ينافي ترتب الإحراق عليها، وبعبارة أخرى: مبغوضية السبب لا تسلب سببيته منه.

إن قلت: ألا يشترط في صحة السبب رجحانه، لا أقل من عدم مبغوضيته؟ وكيف يمضي الشارع أو يؤسس معاملة يبغضُ سببها؟

قلت: يكفي في الإمضاء عدم ترتب مفسدة غالبة على المسبَّب، وأن

ص: 249

لزوم رجحان السبب أو عدم مبغوضيته لا دليل عليه بوجه من الوجوه، ولذا تترتب الآثار على الواجبات التوصلية حتى لو كان السبب محرّماً، كالطهارة المترتب على الغسل بماء مغصوب.

القسم الثاني: النهي عن ذات المسبَّب
اشارة

فقد يقال بدلالته على الفساد، وعن بعض العامة دلالته على الصحة، والأقرب عدم دلالته على الفساد أيضاً.

وهنا أمران:

الأمر الأول: في إمكان النهي عن المسبَّب

قد يقال: بعدم إمكانه، لأن المسبب فعل لله تعالى بالإمضاء أو التأسيس، ولا يمكن أن يوجّه للمكلَّف نهي متعلّق بفعل شخص آخر.

وفيه: أن تشريعه من الله تعالى - تأسيساً أو امضاءً - إنّما هو بمعنى جعل السببيّة الاعتبارية بينهما، وحينئذٍ يصبح المسبَّب تابعاً للسبب، وحيث إن السبب فعل توليدي للمكلَّف فيمكن تعلق النهي بالمسبَّب.

لا يقال: صحيح أنه فعل توليدي للمكلَّف، لكنه فعل مباشري منه تعالى، فلماذا جعل السببيّة في هذه الصورة مع بغضه له!!

لأنه يقال: إن جعل السببيّة الكليّة قد تكون أهمّ من سلب السببيّة عن هذا المورد المبغوض، فيكون نظير السببيّة التكوينية التي هي بجعل منه تعالى بناءً على الأصح من التوافي، مع بغض المسبّب أحياناً، فينهى عنه، لكن مع ارتكابه يتحقق المسبب، كالنهي عن الإحراق - مثلاً - .

وبعبارة أخرى - كما قيل -: قد يكون في المسبّب مفسدة لذلك ينهى

ص: 250

عنه، لكن بعد تحققه تكون مصلحة أقوى في اعتبار المسبّب.

الأمر الثاني: في الأقوال في المسألة

القول الأول: دلالة النهي على الفساد، واستدل له بأمور، منها:

الدليل الأول: روايات خاصة، كصحيحة زرارة عن الإمام الباقر (علیه السلام) ، قال: سألته عن مملوك تزوج بغير إذن سيده؟ فقال (علیه السلام): ذاك إلى سيده إن شاء أجازه، وإن شاء فرّق بينهما، قلت: أصلحك الله إن الحكم بن عتيبة وإبراهيم النخعي وأصحابهما يقولون: إن أصل النكاح فاسد، ولا تحل إجازة السيد له! فقال أبو جعفر (علیه السلام): إنه لم يعص الله، وإنّما عصى سيده، فإذا أجازه فهو له جائز(1).

وجه الاستدلال هو أن صحة نكاح هذا العبد يتوقف على أن لا يكون معصية لله ولا للسيد، فمع انتفاء أحدهما لا يقع صحيحاً، ومن المعلوم أن الحرام معصية لله فلا تكون المعاملة صحيحة.

وبعبارة أخرى: إن عدم معصية الله هو جزء من العلة لوقوع النكاح صحيحاً، والمعلول ينتفي بانتفاء علته، ويمكن بيانه: بأن المعصية مانع، أو بيانه: بأن هذا من مفهوم الشرط.

وبعبارة ثالثة: إن هذا النكاح ليس حراماً كي يقع فاسداً، بحيث لا يمكن إصلاحه بإجازة السيد، فيدل على ملازمة الحرمة مع الفساد في النكاح وسائر المعاملات لعموم العلة.

والجواب: أن المعصية وإن كانت ظاهرة في مخالفة الحكم التكليفي،

ص: 251


1- وسائل الشيعة 21: 114.

إلا أن المراد منها هنا مخالفة الحكم الوضعي - الذي هو الإمضاء والتشريع - فيكون المراد من المعصية عدم الإمضاء، فمعنى الرواية هو أن عدم إمضاء المعاملة سبب لفسادها، وهذا لا يختلف فيه إثنان، وليس معناها أن مخالفة الحكم التكليفي موجب للفساد.

وإنما رفعنا اليد عن الظاهر لقرائن دلت على أن المراد من المعصية مخالفة الحكم الوضعي(1)،

منها:

1- المقابلة بين (معصية الله) و(معصية السيد)، وذلك لوضوح أن معصية المولى هي معصية لله تعالى إذا كان المراد المخالفة التكليفية، فلا تفكيك بينهما إلا في المعصية الوضعية، وحينئذٍ فالمعنى أن هذا العقد ليس مما لم يُمْضِه الله تعالى، بل أوقفه على إمضاء السيد، فإن أمضاه السيد أمضاه الله، وإلاّ فلا.

2- وضوح عدم حرمة العقد من غير إذن السيد، إذ لا دليل على احتياج كلام العبد إلى إذن مولاه بحيث لو منعه عن الكلام وجب عليه الإطاعة، وإنّما المقدار الذي دل عليه الدليل هو في أفعاله التي تعلق بها غرض المولى - لا مطلق الأفعال حتى لو كانت عادية كالعبث باللحية وحك الوجه مثلاً - .

وعليه: فمجرد إجراء العقد ليس معصية تكليفية للسيد، وإنّما معصية السيد هو ترتيب الأثر عليه، فبقرينة المقابلة يكون المعنى: إن عقده ليس مما لم يرتب الله الأثر عليه، وذلك لتشريع أصله مع إيقافه على إذن السيد.

3- ما قيل: من أن النهي لو كان متعلقاً بالمسبّب - أي إيجاد العلقة

ص: 252


1- بحوث في علم الأصول 3: 133.

الزوجية - فهذا النهي غير قابل للعصيان أبداً، إذ مع عدم الإمضاء لا يقع المسبب، ومع الإمضاء لا عصيان، وحيث يستحيل العصيان التكليفي فلا معنى للنهي التكليفي، بل لابد من حمل النهي على الإرشاد.

الدليل الثاني: ما ذكره المحقق النائيني(1)

وحاصله: أن الأمر والنهي الشرعيين موجبان لخروج متعلقهما عن سلطة المكلف، فيكون في عالم التشريع مقهوراً على الفعل أو الترك.

ففي الواجب يكون مقهوراً على الفعل تشريعاً، ولذا لا يجوز أخذ الأجرة على الواجبات، لخروج الفعل بالإيجاب الشرعي عن تحت القدرة والسلطنة، فلا يمكنه تمليكه إلى الغير ليأخذ أجرة عليه، نعم لو تعلق الإيجاب بنفس الإيجاد لا بالعمل فحينئذٍ يمكنه أخذ الأجرة على العمل، كما في الصناعات النظامية، لأن الوجوب تعلق بالإيجاد لا بالعمل!! وكذا في عدم جواز بيع منذور الصدقة أو مشروطها ضمن العقد.

وهكذا في الحرام، يكون المكلف مقهوراً على الترك، فيخرج الفعل عن سلطنته، فيكون النهي مخصصاً لعموم قوله: «الناس مسلطون على أموالهم»(2)،

إذ من شرائط صحة المعاملة السلطنة وعدم الحجر.

إن قلت: إن الوجوب والحرمة لا ينافيان السلطنة!!

قلت: لا معنى لبقاء السلطنة مع المنع الشرعي، كما لا معنى لبقائها مع سلب السلطنة عن نفسه بنذر أو شرط، بعد ما دلّ الدليل على لزوم الوفاء

ص: 253


1- فوائد الأصول 1: 472.
2- عوالي اللئالي 1: 222.

بالنذر والشرط.

والحاصل: إن الممنوع عنه شرعاً موجب لسلب السلطنة، ومعه لا صحة للمعاملة.

ويرد عليه: أولاً: إنه مصادرة، لأن عدم السلطة على المعاملة هي محل البحث، أي هل النهي يوجب رفع السلطة على المسبّب أم لا يوجبه، فالاستدلال بعدم السلطة هو عين مدعى القائل بالفساد.

وثانياً: إنه لا ملازمة بين حرمة الشيء وترتب آثاره عليه، إذ لا دليل على التلازم بين الوضع والتكليف، فحرمة الغسل بماء مغصوب لا يعني عدم حصول الطهارة به، كذلك حرمة المعاملة لا تعني ارتفاع السببيّة بوجه من الوجوه - لا لفظاً وعقلاً - فعدم السلطنة تكليفاً لا تلازم عدمها وضعاً.

وثالثاً: الإشكال على ما ذكره من الأمثلة، فأما الواجبات فحرمة أخذ الأجرة عليها لعدم وصول مقابلها إلى دافع المال، لا لأجل وجوبها.

كما أنه في الصناعات النظامية لا يعقل تعلق الإيجاب بالإيجاد مع عدم تعلقه بالوجود، وذلك لوحدة الإيجاد والوجود حقيقة، والاختلاف بينهما بالاعتبار فقط - فإذا نُسب الوجود إلى الفاعل كان إيجاداً، وإذا نسب إلى القابل كان وجوداً - فلا معنى لتفكيك الوجوب حينئذٍ، فتأمل.

كما أن دليل وجوب الوفاء بالنذر والشرط لا يدلان على أكثر من عدم جواز إزالة موضوع الوفاء بالكلية، فأي مانع من بيعه مع اطمئنانه برجوعه إليه حين الوفاء بالنذر أو الشرط؟!

القول الثاني: دلالة النهي في المسبب على الصحة

ص: 254

واستدل له: بأنه لابد من كون المنهي عنه مقدوراً، لعدم جواز تعلق التكليف بالممتنع، ومع فساد المنهي عنه لا قدرة على تحقيقه، فيكون النهي عنه لغواً، وعليه فإن عدم لغوية النهي تستدعي عدم فساد المنهي عنه.

ويرد عليه: أولاً: النقض بالعبادات، وقد قلنا هناك بأن المراد: (العبادة لولا النهي)، وفي المعاملة نقول أيضاً إنها لولا النهي مقدورة، فبالنهي قد زالت القدرة، وهذا النوع من القدرة - أي التي تزول بعد الحكم - لا دليل على اشتراطها، بل لابد من كون الشيء مقدوراً قبل تعلق النهي، نعم في الأوامر لابد من بقاء القدرة حتى بعد الأمر.

وثانياً: ما مرّ من أن الإنشاء هو إيجاد الشيء في عالم الإنشاء - على بعض المباني - ، وذلك قد يستتبع اعتبار شرعي وعقلائي وقد لا يستتبع، ولذا يصدق البيع حقيقة على بيع الغاصب مع عدم تحقق الاعتبار الشرعي.

وفي النهي عن المسبّب يكون متعلق التحريم هو الوجود الإنشائي، وهو مقدور لعدم توقفه على الاعتبار الشرعي، بل بالعكس الاعتبار الشرعي يتوقف عليه، فيمكن للشارع عدم الاعتبار الشرعي للمعاملة - وهو معنى الفساد - مع تحقق الوجود الإنشائي، وعليه: فلا دلالة للنهي على الصحة.

وهنا مباني أخرى في إنشاء الملكية تطلب في كتاب المكاسب.

فالصحيح هو أن النهي عن المسبب لا يدل على صحة أو فساد، بل الحكم بصحة المعاملة إنّما هو لإطلاق دليلها الجاري حتى في مورد النهي.

القسم الثالث: النهي عن آثار المسبّب

1- فإذا تعلق النهي بأثر مع كون ذلك الأثر مقتضى العقد، كالنهي عن

ص: 255

التصرف في الثمن في البيع، في قوله: «ثمن العذرة من السُحت»(1)

مثلاً، أو كالنهي عن الوطي في النكاح، فحينئذٍ يدلّ النهي على الفساد، للدلالة الالتزامية العرفية على بطلان المعاملة حينئذٍ.

2- وأما لو تعلق النهي بأثر ليس هو مقتضى العقد، وإنّما من الآثار التي ترتب عليه...

فقد يقال: بدلالته على الفساد، وذلك لأن صحة المعاملة تستلزم تقييد دليل ذلك الأثر، والأصل عدم التقييد مما يلزم منه بطلان المعاملة.

وفيه نظر: وذلك لأنه قد يكون دليل الأثر لبياً أو لفظياً من غير إطلاق، مضافاً إلى أن أصالة عدم التقييد إن أريد بها الأصل العملي فهذا اللازم مثبت، وإن أريد بها الأصل العقلائي فإن العقلاء لا يجرونها لإثبات هذا الأثر، وبعبارة أخرى - كما قيل -: إنه لا تجري أصالة عدم التخصيص لإثبات التخصّص.

القسم الرابع: النهي عن التسبيب

وهذا في الحقيقة يرجع إلى النهي عن السبب أو المسبب، وإلا فلا يتصور النهي عن التسبيب من غير نهي عن السبب أو المسبب.

وأما ما مثلوا له من المراهنة بعوض، حيث لا يحرم التمليك بعوض، كما لا تحرم المراهنة بذاتها وإنّما المحرم التسبيب إلى حصول التمليك بهذا السبب الخاص.

فغير سديد لأن المراهنة بذاتها ليست معاملة ولا سبباً، والكلام إنّما هو

ص: 256


1- الاستبصار 3: 56.

في النهي المتعلق بالمعاملة، ولا تكون إلا المراهنة بعوض، والنهي فيها ليس عن التسبيب بل عن نفس السبب أو المسبب، فتأمل.

تتمة

قد يقال(1): بأنه عند الشك في المولوية والإرشادية، فالأصل هو عدم النفوذ وعدم المشروعية.

إن قلت: دليل البراءة يدل على الصحة، وذلك لأنه مع اقتران المعاملة بمشكوك المانعية يشك في تأثيرها في النقل والانتقال، فتكون المانعية مرفوعة بدليل البراءة!!

قلت: لا تجري أصالة البراءة لا عقلاً ولا نقلاً.

أما عقلاً: فلأن جريانها لنفي العقوبة، ولا إلزام في المعاملة كي تنفي العقوبة المحتملة.

وأما نقلاً: فلأن مجرى البرائة النقلية هو الامتنان، ولا امتنان هنا في إثبات الصحة برفع المشكوك المانعيّة.

لا يقال: إن دليل الحلية كقوله: «كل شيء هو لك حلال»(2) و{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}(3)

ليس مسوقاً للامتنان، وحينئذٍ فمع اقتران المعاملة بمشكوك المانعية يشك في حليتها وضعاً أي في نفوذها في النقل والانتقال، فبدليل الحلية يثبت كونها حلالاً وضعاً مؤثرة في النقل والانتقال.

ص: 257


1- نهاية الأفكار 1: 460.
2- الكافي 5: 313.
3- سورة البقرة، الآية: 275.

لأنه يقال: ظاهر دليل الحلية هو الحلية التكليفية، ولذا لم يتوهم أحد من الأصحاب جريان هذه الأدلة في أبواب المعاملات لإثبات الصحة فيها.

وعليه: فمع عدم جريان أصالة البراءة عن المانعية، يجري الأصل المسببي وهو الاستصحاب، وهو يعني عدم نفوذ المعاملة وعدم مشروعيتها.

ويرد عليه: أولاً: إنه لا فرق في العقوبة بين كونه يترتب على نفس العمل أو على ما يستلزمه العمل، فدليل البراءة يجري في كلا الحالتين، نعم يمكن القول بأن البراءة العقلية تنفي لزوم المعاملة ولا تنفي أصلها، وبعبارة أخرى تنفي الأمر الإلزامي بوجوب الوفاء لأن هذا مما يترتب على مخالفته العقوبة.

وثانياً: بأن المناط في الامتنان مصب الحكم لا مآله، وإلا فلا يخلو حكم امتناني من عدم الامتنان في مآله، فتقرير فعل العبد - بالحكم بالصحة فيه - امتنان عليه، وإن استلزم وجوب الوفاء، فتأمل.

ص: 258

المقصد الثالث في المفاهيم وفيه مقدمتان وفصول

اشارة

ص: 259

ص: 260

المقدمة الأولى: في تعريف المفهوم وتمييزه عن المنطوق

فالمنطوق هو المعنى المطابقي أو التضمني للّفظ، وأما إنكار المحقق النائيني للدلالة التضمنية(1)

فغير وارد.

والمفهوم هو معنى التزامي، ولكن ليس كل معنى التزامي بمفهوم اصطلاحاً، فليس (الجود) مفهوماً اصطلاحياً لكلمة (حاتم) مع أنه معنى التزامي له، وكذا ليس وجوب المقدمة مفهوماً للّفظ الدال على وجوب ذي المقدمة، فلابد من تمييز المعاني الالتزامية ليتحدّد المفهوم فيها، وقد ذكرت وجوه لهذا التحديد، منها:

الوجه الأول: ما ذكره المحقق الخراساني(2)،

وحاصله: أن المفهوم ليس لازماً لنفس المعنى المطابقي للّفظ، وإنّما هو لازم الخصوصية الموجودة فيه - سواء كانت دلالة اللفظ على تلك الخصوصية بالوضع أم بمقدمات الحكمة - فكان مفهوم الشرط من المفاهيم، لأنه ليس لازماً للربط، وإنّما هو لازم لخصوصية في الربط وهي كونه بنحو العلة المنحصرة، ولم يكن وجوب المقدمة مثلاً من المفاهيم إذ هو لازم لأصل وجوب المقدمة.

وأورد عليه: بخروج مفهوم الموافقة، لأنه ليس لازم للخصوصية وإنّما

ص: 261


1- فوائد الأصول 1: 476.
2- إيضاح کفاية الأصول 2: 415.

لأصل المعنى، فمثل قوله تعالى: {فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفّٖ}(1)

لازم معناه حرمة الضرب، وليس حرمة الضرب لازمة لخصوصية.

الوجه الثاني: ما ذكره المحقق الإصفهاني(2)،

وحاصله: أنه لو اشتمل الكلام على قضيتين، فالمذكورة منهما هي المنطوق، وغير المذكورة هي المفهوم.

وذلك لأن المعنى إما يفهم من نفس اللفظ أولاً وبالذات فهذا هو المنطوق، وإما يفهم منه بالتبع فهو المفهوم، فلابد في المفهوم من فهمه من نفس اللفظ ولكن بالتبع، فإذا فُهم معنى لكن ليس من اللفظ وإنّما بدلالة العقل - مثلاً - أو لم يفهم من كلام واحد وإنّما من كلامين فليس من المفهوم في شيء.

وهذا وجه وجيه ولا يرد عليه شيء مما أورد على سائر الوجوه، وهو أقرب إلى الارتكاز العرفي.

الوجه الثالث: ما ذكره المحقق النائيني(3) وحاصله: أن المفهوم هو لازم اللفظ مع كونه بيّناً بالمعنى الأخص، بمعنى أنه من مجرد تصور الملزوم ينتقل الذهن إلى اللازم، فليس من المفهوم ما لو كان لازماً غير بيّن، وذلك لعدم وضوح الملازمة، أو كان بيّناً بالمعنى الأعم، وذلك لعدم كفاية تصور الملزوم للانتقال إلى اللازم، بل لابد من تصور الملزوم والملازمة، مع كون

ص: 262


1- سورة الإسراء، الآية: 23.
2- نهاية الدراية 2: 409-410.
3- فوائد الأصول 1: 477.

الملازمة واضحة، كأقل الحمل المستفاد من آيتين.

وأما استدلالهم لإثبات المفهوم بوجوه عقلية دقيقة، حيث أثبتوا اللازم عبرها، فاحتياج إثبات اللازم إليها يدخله في اللازم البيّن بالمعنى الأعم، أو اللازم غير البين!!

فلعلّ تلك الأدلة توجيه عقلي لأمر ارتكازي عرفي، لا أن اللزوم يتوقف على إثباتها.

وأورد عليه: بدخول الكنايات مثل (الجود) الذي هو لازم بيّن بالمعنى الأخص للفظ (حاتم) مع أنه ليس من المفاهيم، وكذلك نظير دلالة مطهريّة الشيء على كونه طاهراً.

ولذلك عدّل المحقق العراقي(1) التعريف إلى «أن المفهوم هو قضية غير مذكورة - إما بحكمها أو بموضوعها - لازمة لقضية مذكورة لزوماً بيناً بالمعنى الأخص»، فيدخل في التعريف مفهوم الشرط، حيث إن الموضوع وإن كان واحداً في القضيتين إلا أن الحكم مختلف حيث إن أحدهما مذكور والآخر غير مذكور، وكذا يدخل فيه مفهوم الموافقة، إذ تارة يكون الحكم المذكور واحداً في المفهوم والمنطوق سواء مع اختلاف الموضوع كما لو قال: (لا تُهن عبد زيد) فمفهومه بالأولوية لا تُهن نفس زيد أيضاً، أو مع اختلاف الحكم كقوله تعالى: {فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفّٖ}(2)

ومفهومه لا تضربهما.

ص: 263


1- نهاية الأفكار 1: 469.
2- سورة الإسراء، الآية: 23.

ومن ذلك يتضح أن تعريف المفهوم بأنه: (حكم لغير مذكور) أو (حكم غير مذكور) ليس بتام.

المقدمة الثانية: في سبب دلالة الجملة على المفهوم

ولابد من تحقق أمرين معاً لكي تتحقق الدلالة على المفهوم.

الأمر الأول: عدم الانفكاك، بأن يكون الربط بينهما دائمياً، بحيث يعلم عدم تحقق الآخر عند فقدان أحدهما بسبب لعدم الانفكاك.

وقد يقال: بأنه يلزم كون الربط بنحو العلة المنحصرة، فلابد من 1- اللزوم بينهما لا الاتفاق، 2- والعليّة التامة لا أن يكونا معلولين لعلة ثالثة، ولا كون أحدهما جزء علة للآخر، 3- وأن تكون علة منحصرة لا بديل لها.

وفيه: كفاية عدم الانفكاك، وحينئذٍ لا فرق بين وجود العِليّة وعدم وجودها، ولا بين كون أحدهما علة للآخر أم كون كليهما معلولين لثالث، ولا بين العلة التامة وجزء العلة، إذ مع عدم الانفكاك لا يعقل وجود أحدهما دون الآخر، وإلاّ كان خلفاً.

ثم إنه بناءً على لزوم العليّة الانحصارية، كيف يمكن استفادة ذلك من الجملة؟

قد يقال: إن الانحصار يستفاد من النسبة - التي هي الوجود الرابط - إما من الأداة كأدوات الشرط في الجمل الشرطية، أو من هيأة الجملة كما في الجملة الوصفية.

وأشكل عليه: بأنه على مبنى كون المعنى الحرفي هو الوجود الرابط، لا فرق في النسبة بين النسبة الانحصارية وغير الانحصارية، إذ الانحصار

ص: 264

وعدمه ينتزعان من ملاحظة عدم وجود تلك النسبة في الموارد الأخرى، وهذا لا يرتبط بمدلولها، ففي الشرط مثلاً ينتزع الانحصار من عدم وجود الجزاء مع عدم الشرط.

وعلى مبنى كون المعنى الحرفي إيجادي، فإنه لا فرق في الإيجاد بين انحصار الموجد وعدم انحصاره، فتأمل.

الأمر الثاني: أن يكون الحكم في الجملة طبيعي الحكم أي سنخه، لا شخصه.

وذلك لأن انتفاء شخص الحكم لا ينافي وجود شخص آخر منه، والمراد من (طبيعي الحكم) هو الطبيعي بنحو اللا بشرط المقسمي، وسيأتي بيانه في مفهوم الشرط.

إن قلت(1): لا يمكن وجود الحكم السنخي، سواء كان الوجوب بمادته أم الهيأة.

1- أما لو كان بمادة الأمر، فلأن الحكم جزئي حيث تحقق بهذا الإنشاء الخاص.

2- وأما لو كان بهيأة الأمر فكذلك، حتى لو قلنا بأن الموضوع له في الحروف عام، وذلك لأن المعنى العام - وهو القدر المشترك - لا يمكن إحضاره في الذهن إلا في إحدى الخصوصيات، حيث إن الموجود الذهني جزئي أيضاً.

قلت: أما الأول فيرد عليه: أن جزئيته إنّما كانت من خصوصيات

ص: 265


1- نهاية الأفكار 1: 474-475.

الاستعمال، وذلك مما لا يرتبط بنفس الحكم.

وأما الثاني ففيه: أولاً: إن الهيأة وإن كانت تدل على النسبة الجزئية إلا أن لازمها الطلب وهو كلي، ولا يشترط اتفاق اللازم والملزوم في الكلية والجزئية.

وثانياً: بأن النسبة وإن كانت جزئية في الذهن، إلا أنها بتبع طرفيها قابلة للانطباق على الكثيرين.

أقول: أما المباني فقد تم البحث عنها في المعنى الحرفي فلا نطيل بإعادتها.

إلا أنه يمكن القول بأن المعاني الذهنية وإن كانت وجودات جزئية إلا أنها تدل على مفاهيم كلية قابلة للانطباق على كثيرين، بما أن تلك الوجودات الذهنية مرآة لها، أو بانتزاعها من تلك الوجودات.

وأما قابلية انطباق الجزئي على كثيرين بالتبع، فغير معقول إلا لو أريد الانتزاع أو المرآتية، فتأمل.

ص: 266

فصل في مفهوم الشرط

اشارة

وهيهنا بحوث:

البحث الأول: في المنطوق

قد يُتسائل عن الشيء الذي يدل على ارتباط الجزاء بالشرط؟ وهنا قولان:

القول الأول: ما ذهب إليه المحقق الإصفهاني(1)

وقيل: إنه يستفاد من بعض كلمات المحقق النائيني أيضاً، وحاصله: أن شأن أداة الشرط هو جعل متلوها - أي الشرط - واقعاً موقع الفرض والتقدير، وأن الملازمة ونحوها تستفاد من ترتيب الجزاء والتالي على أمر مقدر الوجود مفروض الثبوت، ولذا قيل: إن كلمة (لو) حرف امتناع، لأن مدخولها الماضي، وفرض وجود شيء في الماضي لا يكون إلا مع عدم تحققه، فلذا يكون المفروض محالاً، وحيث رُتّب شيء على المحال في الماضي فهو محال أيضاً، إذ لو كان الشرط علته المنحصرة فإنه لم يوجد، ولو لم يكن علته المنحصرة - بأن كانت له علة أخرى أيضاً - فهي أيضاً لم توجد ولذا رُتب عدمه على عدم المفروض وجوده، فتبين أن كون (لو) حرف امتناع ليس التزاماً بالمفهوم

ص: 267


1- نهاية الدراية 2: 53، 412.

ولا بالعلية المنحصرة في الشرط.

وقد استدل لذلك بالوجدان وبملاحظة مرادفات أداة الشرط في الفارسية.

وقد يستدل له(1): بأن الجزاء قد يكون استفهاماً - مثلاً - كقولك: (إن جاء زيد فهل تكرمه؟) فهنا لا تعليق للجزاء على الشرط، إذ الاستفهام منجز وليس معلقاً على المجيء، وليس ذلك إلا لأن الشرط منجز - وهو فرض الوجود - فكذلك الجزاء.

وأشكل عليه: أولاً: بأنه لو كانت أداة الشرط تجعل متلوها مفروض الوجود لم يكن حاجة للإتيان بالفاء على الجزاء، كما يشهد لذلك المعنى الاسمي للفرض، كما لو قيل: (على فرض مجيء زيد يجيء عمرو) ولا يقال: (فيجيء عمرو) فهذا يكشف عن اختلاف المعنى!

وفيه: عدم لزوم تطابق المعنى الاسمي والحرفي في التركيب، فلذا قد يستعمل أحدهما مكان الآخر نظير: (زيد على السطح)، و(زيد فوق السطح)، وقد لا يصح الاستعمال نظير: (سرت من البصرة)، و(سرت ابتداء البصرة)، هذا مضافاً إلى عدم استعمال الفاء مع أداة الشرط أحياناً، كقولك: إن جاء زيد أخبرته بكذا، كما أنه في بعض اللغات لا تستعمل مرادفات الفاء في الجزاء عادة، وليس ذلك إلا لكيفية استعمال أهل اللسان، ولا يرتبط بحقيقة معنى الجملة الشرطية وأجزائها.

وثانياً: بأن الامتناع في مدخول (لو) إنّما هو لدلالة نفس (لو) على ذلك،

ص: 268


1- بحوث في علم الأصول 3: 149.

وليس لأجل ما ذكره من أن فرض وجود شيء في الماضي إنّما هو بسبب عدم تحقق ذلك الشيء، ودليل ذلك هو صحة استعمال (لو) مع الجهل بتحقق الشيء في الماضي مع إمكان تحققه حينذاك، في مثل: لو كان أبوك قد مات أمس فأمواله هي ملك لك.

ومن ذلك يتبين أن فرض شيء في الماضي كما يكون لعدم تحققه، كذلك قد يكون للجهل بتحققه مع احتمال التحقق واقعاً.

وثالثاً: مثال إن جاء زيد فهل تكرمه، الاستفهام في الحقيقة إنّما هو عن الملازمة، وليس عن الجزاء، فالمراد بالإرادة الجدّية هو (هل إن جاء زيد تكرمه)؟

إن قلت: يمكن النقض عليه بمثل (إن جاء زيد فأكرمه) فهل يلتزم المحقق الإصفهاني بفعلية وجوب الإكرام؟!

قلت: يمكنه الجواب بأن الإنشاء فعلي والمنشأ - وهو الحكم - أيضاً فعلي، لكنه من الواجب المعلق الذي يكون الوجوب فعلياً والواجب استقبالي، وقد مرّ الكلام في الواجب المعلق فراجع.

القول الثاني: دلالة أداة الشرط على الربط بين الشرط والجزاء.

وقد يستدل له: بالتبادر والوجدان، وأيضاً بأن الكلام قبل دخول الأداة لم يكن بحاجة إلى جزاء، كما في قولك: جاء زيد، ولكن بعد دخولها لابد من الجزاء، وسبب ذلك أحد أمرين، أولهما ينسجم مع كلا القولين، وثانيهما لا ينسجم إلا مع هذا القول، فلو أبطلنا الأول ثبت الثاني، وبه يثبت القول الثاني.

ص: 269

1- إن الأداة تبدّل النسبة في متلوّها من تامة إلى ناقصة، لذا احتيج إلى الجزاء.

2- بقاء النسبة تامة، لكن الاحتياج إلى الجزاء ليس إلا لخصوصية في الأداة، وتلك الخصوصية ليست إلا دلالة الأداة على الربط، ومن الواضح أن الربط لابد له من طرفين، وهذا ينسجم مع القول الثاني، ولكن لا توجد هذه الخصوصية بناءً على القول الأول، إذ الافتراض ليس ربطاً حتى يحتاج إلى طرف آخر.

وفيه: أنه على القول الأول أيضاً لابد من الجزاء حتى مع كون النسبة تامة، وذلك لأن الافتراض لا يكون إلا بغرض، فينتظر السامع بيان ذلك الغرض، فقولك: (نفترض مجيء زيد) جملة فيها نسبة تامة، لكن الاحتياج إلى الجزاء لأجل إفهام السامع سبب هذا الفرض.

وعليه فلا نحتاج إلى إطالة الكلام في إبطال الأمر الأول ليثبت الأمر الثاني، لما عرفت بأن كلا الأمرين ينسجمان مع كلا القولين.

البحث الثاني: في كيفية استفادة المفهوم
اشارة

وذلک يتوقف علی أمرين: 1- إثبات العلية المنحصرة أو عدم الانفكاك، 2- كون الجزاء سنخ الحكم لا شخصه.

أما الأمر الأول

فقد يقال بعدم الحاجة إليه، وعلى فرض الحاجة يكون الكلام في كيفية إثبات العِليّة أو عدم الانفكاك، وكذا الانحصار في القضايا الشرطية ليستفاد منها المفهوم، فهنا اتجاهان:

ص: 270

الاتجاه الأول: ما ذهب إليه المحقق العراقي من عدم الحاجة إلى إثبات الانحصار ولا إلى العلية، ببيان(1)

حاصله في نقاط:

1- القضية الحملية - مع قطع النظر عن دخول أداة الشرط عليها - هي قضية طبيعية بنحو اللا بشرط المقسمي، أي إثبات الحكم بنحو الطبيعة المهملة - لا الطبيعة المطلقة، ولا الحصر حيث إنهما بحاجة إلى عناية زائدة - فلذا لا مفهوم للقضايا اللقبيّة، فمثل (أكرم زيداً) لا يتعارض مع (أكرم عمراً)، لأن ثبوت الطبيعة المهملة لزيد لا ينافي ثبوت شخص آخر من هذا السنخ لعمرو.

2- إن موضوع هذه القضية له حالات مختلفة، فزيد له حالة القيام والقعود وغير ذلك، والجملة الحملية لها إطلاق من هذه الجهة، وبتعبير آخر: للموضوع إطلاق بحسب الحالات، فهذا الحكم المهمل مترتب عليه في كل تلك الحالات، فلذا لا يجوز إثبات وجوب آخر للإكرام بحسب بعض الحالات، وذلك لاستلزامه اجتماع المثلين.

ثم إن هذا الإطلاق يقتضي حصر الطبيعي بهذا الفرد، وذلك بلحاظ أن إطلاق هذا الحكم الشخصي لجميع الحالات يستلزم عدم ثبوت فرد آخر منه لموضوعه في بعض الحالات.

3- وطبع أداة الشرط الواردة على الجملة، هو أن الجملة الجزائية بما لها من المعنى الذي يقتضيه طبع القضية الحملية، تناط بالشرط.

بعد اتضاح هذه النقاط الثلاث يتضح أن مثل (إن جاء زيد فأكرمه) لازمه قهراً هو انتفاء وجوب الإكرام عن زيد عند انتفاء المجيء، وعدم

ص: 271


1- نهاية الأفكار 1: 479.

ثبوت وجوب آخر له في غير حالة المجيء، وذلك لمنافاة ثبوته مع طبع الجملة من ثبوت ذلك الوجوب لزيد في جميع حالاته - والتي منها حالة عدم المجيء - ومعنى ذلك عدم وجوب الإكرام في حالة عدم المجيء، وهذا هو المفهوم بعينه.

ويرد عليه: أن الدلالة الثالثة تصلح لأن تكون قرينة ترفع الإطلاق في الدلالة الثانية.

بيانه: أنه قبل الشرط كان لزيد إطلاق أحوالي لجميع الحالات التي منها حالة عدم المجيء، إلا أنه بعد دخول الشرط بقوله: (إن جاء زيد) فلا معنى لبقاء ذلك الإطلاق الأحوالي، فمن اللغو أن يكون معنى الكلام هو: (إن جاء زيد فيجب الإكرام المقيد بحالة عدم المجيء) بل هو من الأمر بالمحال، فإذا لم يجز التقييد لم يجز الإطلاق أيضاً، لأن هذا الإطلاق الأحوالي هو جمع للقيود في حقيقته، فتأمل.

الاتجاه الثاني: ما ذهب إليه المشهور من الاحتياج إلى إثبات العِليّة الانحصارية.

وذلك يتوقف على إثبات شيئين: الترتب بنحو العِليّة، وكونها عِليّة منحصرة.

الأول: دلالة أداة الشرط بالوضع على ترتب الجزاء على الشرط ترتب المعلول على علته، وقد ادعي على ذلك التبادر.

إن قلت: قد يكون بالعكس حيث يكون الشرط مترتباً على الجزاء، كقولنا: إن كان النهار موجوداً فالشمس طالعة!!

ص: 272

قلت: هنا أيضاً ترتب لكنه في مقام الإثبات أي العلم بطلوع الشمس متوقف على العلم بوجود النهار.

ويرد عليه: أن الدلالة على أصل الترتب مما لا ينكر، لكنها أعم من الترتب بنحو العلة والمعلول ومن سائر أنحاء عدم الانفكاك، فلذا لا مجازية في مثل (إن كان الضوء موجوداً فالحرارة موجودة) مع أنهما معلولان لعلة واحدة ولا ينفكان، وكذا في القضايا الاتفاقية.

الثاني: في إثبات الانحصار، وقد يستدل له بأدلة، منها:

الدليل الأول: انصراف العلاقة اللزومية بين الشرط والجزاء إلى أكمل أفراد هذه العلاقة، وهو العلية المنحصرة.

وأورد عليه: أولاً: بمنع الكبرى - أي كون الأكملية منشأ للانصراف - إذ غالب المطلقات بعض أفرادها أكمل من بعض - لجهة من الجهات - مع عدم تحقق الانصراف إليها.

وثانياً: بمنع الصغرى - وهو أكملية اللزوم الانحصاري - إذ حقيقة العلة لا تختلف بين وجود عِدل لها أو عدم وجوده، بل الانحصار وعدمه خارج عن حقيقتها، إذ هو أمر ينتزعه الذهن حين ملاحظة العِدل أو عدمه.

إن قلت: إن الملازمة من الطرفين - أي بين وجوديهما وكذا بين انتفائيهما - يجعل الملازمة أكمل، عكس الملازمة من طرف واحد التي هي بين الوجودين فقط!!

قلت: إن كل معلول ينتفي بانتفاء علته، فإذا كان للعلة عِدل فإن ذلك معلول آخر في حقيقته لكنه من سنخ المعلول الأول، وانتفاؤه أو عدم

ص: 273

انتفائه، لا يرتبط بالعلة الأولى أصلاً، فتأمل.

الدليل الثاني: إطلاق الشرط - بمادته - بمعنى كون الشرط هو المؤثر في الجزاء، سواء سبقه شيء آخر أم قارنه أم لا، فإنه مع عدم الانحصار لا يكون هو المؤثر مع سبق العلة الأخرى، ولا يكون هو تمام المؤثر مع اقتران العلة الأخرى، وفي ذلك تقييد لأثر الشرط، فبالإطلاق ينتفي وجود علة أخرى.

وأشكل عليه: أولاً: بعدم كون المتكلم في مقام البيان من هذه الجهة - أي وجود مؤثر آخر أم لا - فلا إطلاق، لعدم تحقق مقدمات الحكمة، بل الغالب كون المتكلم في مقام تأثير الشرط في الجزاء فقط.

وثانياً: ما ذكره المحقق الإصفهاني(1)

من أن القدر المسلم من القضية الشرطية إفادة العِليّة، وصلاحية الشيء للتأثير من دون دخل شيء - وجوداً أو عدماً - في عِليّته الذاتية، وأما ترتب المعلول بالفعل على العلة فهو أمر قد يتفق سوق الإطلاق بلحاظه.

بيانه: إنه في القضايا الشرطية يكون المتكلم في مقام بيان اقتضاء هذا الشرط لتحقق الجزاء، وهذا لا ينافي عدم ترتب الجزاء لوجود مانع - مثلاً - وحينئذٍ فتأثير غيره لو سبقه لا ينافي كون الشرط مقتضياً، كما لا ينافي كون غيره مقتضياً أيضاً فيؤثران معاً لو اجتمعا.

وأجيب(2): بأن الالتزام بهذا يستلزم تأسيس فقه جديد، إذ معناه عدم

ص: 274


1- نهاية الدراية 2: 416.
2- منتقی الأصول 3: 228.

استفادة الوجوب عند تحقق الشرط في الأحاديث الشرطية، إذ لا رافع لاحتمال وجود المانع أو احتمال انتفاء شرط المقتضي، فمثل «إذا ذهب النوم بالعقل فليُعد الوضوء»(1)

يدل على الوجوب الفعلي للوضوء قطعاً، لا على اقتضائه فقط.

وفيه تأمل: إذ قلّما يكون الدليل في المسألة الفقهية هو المفهوم فقط، بل غالب الموارد يوجد دليل آخر بل أدلة أخرى إلى جنب المفهوم، هذا مضافاً إلى إمكان نفي المانع بالأصل، مع أن احتمال انتفاء شرط المقتضي كافٍ في عدم إجراء الحكم، فتأمل.

الدليل الثالث: إطلاق الشرط - بهيأته - على كونه بنحو التعيين، بمعنى أنه لا بديل له عند انتفائه، وإلاّ كان اللازم تقييده بمثل (أو كذا)، فيكون نظير إطلاق الوجوب على كونه تعيينياً لا تخييرياً، ونفسياً لا غيرياً!!

وأشكل عليه: أولاً: بما في الكفاية(2)

من أن مقدمات الحكمة لا تجري في المعاني الحرفية - ومنها الهيأة - إذ الإطلاق والتقييد فرع اللحاظ، وقد مرّ من صاحب الكفاية أن الفرق بين المعنى الاسمي والحرفي هو في اللحاظ الآلي والاستقلالي، وحينئذٍ فلا إطلاق في هيأة الشرط لعدم اللحاظ فيها وإلاّ انقلبت إلى معنى اسمي.

ويرد عليه: أن الهيأة في صيغة الأمر أيضاً معنى حرفي فكيف استفاد من إطلاقها الدلالة على الوجوب التعييني وكذا الوجوب النفسي؟! وكذا في

ص: 275


1- وسائل الشيعة 1: 253.
2- إيضاح کفاية الأصول 2: 425-426.

استفادة الوجوب دون الندب من صيغة الأمر بناءً على وضعها لخصوص الطلب، واستفادة الوجوب من الإطلاق بمعونة مقدمات الحكمة بناءً على عدم الوضع!!

وأجاب عنه المحقق الإصفهاني(1)

بأنه على مسلك المحقق الخراساني يحل الإشكال بملاحظة المعنى الحرفي الوسيع أو الضيق بتبع المعنى الاسمي، فملاحظة العلة والمعلول على نحو لا ينفك أحدهما عن الآخر هي ملاحظة العلية المنحصرة بالتبع.

أو نقول بأن مقدمات الحكمة تجري في المادة لا في الهيأة، فنقول: الصلاة بلا عِدل واجبة - مثلاً - .

وردّه في المنتقى(2)

بأن هذا يدفع الإشكال في الواجب التعييني والنفسي، ولا يدفعه في استفادة الوجوب من صيغة الأمر بناءً على وضعها للطلب، وذلك لأن الاختلاف بين الوجوب والندب لا يرتبط بمتعلقهما أصلاً، بل هو اختلاف في حقيقتهما - وذلك يرجع إلى الهيأة - فإن متعلق الوجوب هو نفس متعلق الندب، فتأمل.

وثانياً: بأن قياس ما نحن فيه على الوجوب النفسي والتعييني مع الفارق، لأن الوجوب الغيري يحتاج إلى مؤنة زائدة هي وجوب ذي المقدمة، وكذا الوجوب التخييري يحتاج إلى العِدل، فالإطلاق ينفي هذين القيدين، ويثبت الوجوب حتى مع عدم تحقق ما يتوهم كونه ذا المقدمة، وكذا حين تحقق

ص: 276


1- نهاية الدراية 2: 415.
2- منتقی الأصول 3: 225.

العِدل. وأما الانحصار أو عدم الانحصار فكلاهما قيدان زائدان.

وبعبارة أخرى: إن كيفية تأثير الشرط في الجزاء لا يختلف مع وحدة الشرط أو تعدده، فالشرط مؤثر في الجزاء بكيفية واحدة سواء كان له بديل عند انتفائه أم لم يكن له بديل.

والحاصل: إن التمسك بالإطلاق إنّما هو لنفي الخصوصية الزائدة، وفيما نحن فيه كلا المحتملين فيهما قيد زائد فلا يمكن إثبات أحدهما.

الدليل الرابع: إطلاق الجزاء في نفي العِدل، وهو ما ذكره المحقق النائيني(1)

وحاصله: أنه لو لم يكن الشرط لتحقق الموضوع - بأن أمكن أن يناط به المحمول، كالمجيء الذي لا يتوقف عليه الإكرام عقلاً - فإن أناط المولى الجزاء بذلك الشرط فلا محالة يكون الجزاء مقيداً به، في عالم الجعل والتشريع، ومقتضى إناطته به بالخصوص هو دوران الجزاء مداره وجوداً وعدماً - بمقتضى مقدمات الحكمة والإطلاق - حيث قيد المولى الجزاء بذلك الشرط، ولم يقيده بشيء غيره لا على نحو الاشتراك ولا على نحو الاستقلال، فينتفي الجزاء حينئذٍ بانتفاء الشرط، وهذا هو المفهوم بعينه.

فمقدمات الحكمة تجري في ناحية الجزاء - من حيث عدم تقييده بغير الشرط الذي جُعل في القضية - .

وبعبارة أخرى: الإكرام لا يتوقف على المجيء عقلاً، وحينئذٍ فالإكرام بالإضافة إلى المجيء إما مهمل أو مطلق أو مقيد، والإهمال ممتنع في مقام الثبوت، والإطلاق ينافي ترتب الحكم عليه، فتعين أن يكون مقيداً به.

ص: 277


1- فوائد الأصول 1: 482.

وأما إشكال عدم اختلاف العلة المنحصرة والعلة غير المنحصرة... فجوابه: بأنا لا نريد إثبات الإطلاق من هذه الجهة، بل نريد ذلك عن طريق تقيد الجزاء بوجود شرط، ومن المعلوم اختلاف التقييد مع الانحصار وعدمه.

وأورد عليه: بالنقض في كل القضايا، إذ كل حكم يترتب على موضوعه، فهل يقيد الموضوع بذلك!! ومعنى ذلك هو ثبوت المفهوم للّقب.

هذا مضافاً إلى ما ذكره المحقق الإصفهاني(1): من أن الإطلاق لا يكون إلا مع انحفاظ ذات المطلق، فالإطلاق من حيث الضميمة معقول، وأما الإطلاق من حيث البدل فلا، إذ لا يكون بدله إلا في ظرف عدمه، فلا يعقل إطلاق القيد في ظرف عدم نفسه، وقياسه بالواجب التعييني والتخييري مع الفارق، فإن الإطلاق المعيِّن للوجوب التعييني ليس في الواجب من حيث كونه ذا بدل، بل الإطلاق في الوجوب من حيث عدم كونه مشوباً بجواز الترك إلى بدل، فتأمل.

الدليل الخامس: التمسك بالإطلاق المقامي، وهو التمسك بعدم بيان المتكلم في كل مورد يكون عدم التقييد - لو أراد القيد - مُخلاً بمراده.

إن قلت: لا يمكن إجراء هذا الوجه حين الشك، لتوقف الإطلاق على مقدمات الحكمة التي منها إحراز كون المولى في مقام البيان.

قلت(2): إنه حيث كان الغالب في الاستعمالات العرفية هو استعمال

ص: 278


1- نهاية الدارية 3: 417 (الهامش).
2- منتقی الأصول 3: 237.

القضية الشرطية في هذا المقام، فكلّ ما يشك فيه يلحق بالغالب، إذ الغلبة بحد تكون من الأمارات العرفية الموجبة لظهور الكلام في ذلك!!

وهذا نظير ما عن جمع من الأعلام بأنه لا يحتاج في الإطلاق اللفظي إلى إحراز كون المولى في مقام البيان بل يكفي عدم العلم بكونه في مقام الإهمال أو الإجمال، وسيأتي توضيح ذلك في باب المطلق والمقيد إن شاء الله تعالى.

هذا كله في تحقق الشرط الأول للدلالة على المفهوم، ألا وهو إثبات عدم الانفكاك أو العلية المنحصرة، وقد تبين من مجموع ما مرّ أنه يمكن ادعاء الظهور العرفي في الجملة الشرطية على الدلالة على انتفاء الجزاء حين انتفاء الشرط.

وأما الأمر الثاني

بأن يكون الجزاء سنخ الحكم لا شخصه، فلابد فيه من البحث في جهات ثلاث.

الجهة الأولی: الحاجة إلى هذا الشرط لإثبات المفهوم في القضايا الشرطية.

وقد أنكره المحقق الإصفهاني(1)، وأنه لا حاجة إليه، بل يمكن إثبات المفهوم حتى لو كان الجزاء شخص الحكم، ببيان: أن المعلق على العلة المنحصرة هو نفس وجوب الإكرام المنشأ في شخص هذه القضية، لكنه لا بما هو متشخص بلوازمه، بل بما هو وجوب، فإذا كانت علة الوجوب - بما

ص: 279


1- نهاية الدراية 2: 419.

هو وجوب - منحصرة في المجيء مثلاً، استحال أن يكون للوجوب فرد آخر بعلة أخرى.

ويمكن أن يقال: إن هذا البيان في حقيقته رجوع إلى إثبات سنخ الحكم، وإلاّ فلا أحد ينكر كون الحكم المنشأ متشخصاً وجزئياً لاستحالة إنشاء الكلي، فتأمل.

الجهة الثانية: في معنى السنخ هنا، وهو يحتمل وجوهاً:

الأول: الطبيعة الشاملة لجميع الأفراد، أي إثبات طبيعة الوجوب بحيث لا يشذ عنها فرد.

وفيه: أنّ هذا وإن كان لازمه انتفاء سنخ الحكم عقلاً، إلا أن ظاهر الأمر بالإكرام في الشرطية وغيرها على حدّ سواء(1)،

أي كما لا يُنشأ في سائر القضايا طبيعة الوجوب التي تشمل جميع الأفراد كذلك فيما نحن فيه.

الثاني(2): الطبيعة الناقضة للعدم.

أي طبيعة الوجوب، بمعنى وجودها الناقض للعدم - وإن تشخص بلوازم الوجود - .

ولازم هذا عدم الدلالة على السنخ لأن كل وجود بديل عدم نفسه، لا العدم المطلق، فانتفاؤه انتفاء نفسه لا انتفاء سنخ الوجوب.

وفيه تأمل: لأن الوجود إذا كان مطلقاً كان عدمه البديل مطلقاً أيضاً، فليس المراد عدم كل الوجودات حتى يقال إن وجود الطبيعة ليست بديلاً عن هذا

ص: 280


1- نهاية الدراية 2: 418.
2- نهاية الدراية 2: 418.

العدم، بل المراد عدم نفس الطبيعة المطلقة الذي هو مطلق مثلها، فتأمل.

الثالث: ذات الطبيعة غير المقيدة لا بالوحدة ولا بالتعدد.

وهذا مع الانحصار يلازم المفهوم، إذ ثبوت هذه الطبيعة مع عدم الشرط يكشف عن عدم الانحصار، وهذا خلف ما أثبتناه في الشرط الأول من الانحصار.

الرابع: الطبيعة بمعنى صرف الوجود - أي أول الوجودات - .

وهذا أيضاً يلازم المفهوم، لنفس ما ذكر في الوجه السابق، إذ مع عدم الشرط لو ثبت أول الوجود كشف ذلك عن عدم الانحصار، وهذا خلف.

إن قلت: الثابت بالشرط الثاني هو الوجود الثاني لا الوجود الأول، فلا خلف، حيث إن الوجود الأول منحصر في الشرط الأول، فلا ينافي إناطة الوجود الثاني بشرط آخر!

قلت(1): إذا تحقق الشرط الثاني أولاً، فإنه يتحقق به الوجود الأول، ويكفي هذا في تحقق الخلف، كما أنه لو تحقق كلا الشرطين معاً كانا مؤثرين في الوجود الأول وهذا خلف فرض الانحصار.

إن قلت: انتفاء المطلق لا ينافي ثبوت المقيد!

قلت: يتضح مما مرّ أن المقصود ليس المطلق المقابل للمقيد، بل المطلق الشامل للمقيد.

وفيه: أن لازم هذا أن المكلّف لو خالف المفهوم مرّة واحدة فلا محذور في تكرار المخالفة لأن المرة الثانية ليست أول الوجودات،

ص: 281


1- منتقی الأصول 3: 221.

والمنطوق والمفهوم كلاهما - على هذا الاحتمال - إنّما هما في أول الوجودات، فتأمل.

فتحصّل أن المتعيّن هو الاحتمال الثالث وهو بضميمة الشرط الأول يلازم المفهوم.

الجهة الثالثة: في إثبات كون السنخ - بالمعنى الذي يستلزم المفهوم - مدلولاً للكلام، وقد استدل لذلك بأمور غالبها مبنوية منها:

الوجه الأول: على مبنى القائل بأن الموضوع له في الحرف عام، فإن مدلول الهيأة في الجزاء هو مفهوم الوجوب، حيث إن الموضوع له في المعاني الحرفية عام كالأسماء، ومفهوم الوجوب كلي فيكون سنخاً، وهذا بخلاف المصداق الذي هو جزئي فيكون شخصياً.

ويرد عليه: أن كون الموضوع له في الحروف عاماً لا ينافي شخصية الحكم، إذ خصوصيات الاستعمال قد توجب جزئية المعنى كما مرّ في المعنى الحرفي، فحينئذٍ لابد من إثبات عدم الشخصية في مرحلة الاستعمال.

الوجه الثاني: على مبنى القائل بأن الموضوع له في الحروف خاص، فقد يقال: بأن المنوط بالشرط ليس مدلول الهيأة - إذ المعنى الجزئي غير قابل للتعليق - وإنّما هو المادة المنتسبة إلى الوجوب، كما عن المحقق النائيني(1).

وأورد عليه: بأن مفاد هذا الكلام هو إناطة المادة المعروضة للوجوب،

ص: 282


1- فوائد الأصول 1: 484.

ولم يذكر دليلاً على كون تلك المادة المنتسبة سنخ أم شخص.

الوجه الثالث: رجوع الحكم إلى المعتبَر - بالفتح - لا الاعتبار، والمعتبَر هو مفهوم الحكم، وهو كلي، فيكون سنخاً، وهذا نظير ما يقال: إنّ الإجازة في البيع الفضولي كاشفة حكماً حيث إن الاعتبار من حينها مع كون المعتبَر من حين العقد.

وأورد عليه: بأن ذلك لا يلازم المفهوم، إذ لا منافاة بين هذا المعتبَر - وهو المفهوم المنوط بالشرط - وبين وجود معتبَر آخر هو المفهوم غير المنوط على الشرط.

مضافاً إلى عدم تصوّر تعليق المفهوم على شيء، إذ التعليق بلحاظ وجود الشيء لا بلحاظ ذات الشيء(1).

الوجه الرابع: إن الأحكام تتعلق بالطبائع لا بالأفراد، وظاهر الطبيعة هي الطبيعة بنحو اللا بشرط المقسمي أي ذات الطبيعة غير المقيدة لا بالوحدة ولا بالتعدد - وهو المعنى الثالث للسنخ - ، وحينئذٍ فأداة الشرط وإناطة الجزاء بالشرط لا يغيّران إطلاق الجزاء، وبذلك يثبت كون الحكم في الجزاء سنخاً لا شخصاً.

الوجه الخامس: ما قيل من أن الإطلاق المقامي بنفسه يكفي في إفادة السنخ - لو استفدنا المفهوم من هذا المقام - إذ ظهور الجملة الشرطية في المفهوم مستند إلى هذا الإطلاق، فيكشف عن كون المتكلم في مقام بيان ما هو الشرط لسنخ الحكم، فتأمل.

ص: 283


1- منتقی الأصول 3: 240.
البحث الثالث: فيما لا مفهوم له من القضايا الشرطية

وقد ذكروا جملة من القضايا لا مفهوم لها، منها:

المورد الأول: النذور والأوقاف والصدقات ونحوها.

فقد ذكر المحقق الخراساني(1):

أن انتفاء الحكم في الجزاء ليس من جهة المفهوم، بل لعدم قابلية الشيء لذلك، فإنه إذا صار شيء وقفاً على أحد أو أوصى به أو نذر له فإنه لا يقبل أن يصير وقفاً على غيره أو وصية أو نذراً له، فإن الحكم المنوط هو شخصي لا كلي، وانتفاء شخص الحكم في هذه الأمور عن غير مورد المتعلّق عقلي، وذلك لانتفاء الشيء بانتفاء موضوعه.

وأشكل عليه: أولاً(2): بأن لانحصار الشرط أثرين: أحدهما: عدم ثبوت الجزاء على غير الشرط عند وجود الشرط، والآخر: عدم ثبوت الجزاء على غير الشرط عند انعدامه، والذي يمتنع تعلق الوقف عليه مرة أخرى هو الأول، وأما بالنسبة إلى حال عدمه فله أثر، لعدم امتناع وقف الموقوف على أحد على غيره بنحو الطولية وفي فرض عدمه، وعليه فلا وجه لإنكار البحث في المفهوم في المقام بعد تصور ثبوت الوقف على غير مورد الشرط عند انتفاء مورد الشرط.

وثانياً(3): إذا أنكرنا اقتضاء القضية لانحصار العلة فإنه كما في موارد

ص: 284


1- إيضاح کفاية الأصول 2: 438.
2- منتقی الأصول 3: 242.
3- نهاية الأفكار 1: 483.

الحكم السنخي يحتمل وجود علة أخرى غير المذكورة في القضية، ولذا لا يحكم حينئذٍ بانتفاء السنخ عند الانتفاء، كذلك في موارد شخص الحكم يحتمل فرد علة أخرى في البين - بحيث كانت العلة للحكم الشخصي هو الجامع بينهما - وحينئذٍ فلا مجال لجعل الانتفاء عقلياً.

المورد الثاني: القضايا المسوقة لبيان تحقق الموضوع، مثل (إن رزقت ولداً فأختنه) وعدم دلالتها على المفهوم واضح، وذلك لأنه يلزم في استفادة المفهوم كون القضية في المنطوق والمفهوم واحدة مع اختلافهما في السلب والإيجاب، فلابد من انحفاظ الموضوع في المفهوم، ففي مثل (إن جاء زيد فأكرمه) يكون المفهوم (إن لم يجيء زيد فلا يجب إكرامه) فانحفظ الموضوع والمحمول في جملة الشرط والجزاء مع الفارق في السلب والإيجاب.

ولكن مع عدم بقاء الموضوع يكون انتفاء الحكم من باب السالبة بانتفاء الموضوع، وليس من المفهوم في شيء.

وبعبارة أخرى(1): إن الحكم في الجزاء مقيد بموضوعه، كما أنه مقيد بالشرط، وهذان التقييدان طوليان عرفاً ودقة، أي وجوب الإكرام يتقيد بزيد ثم يتقيد هذا الوجوب بالمجيء.

وعليه فإذا كان الشرط مغايراً مع الموضوع كان مقتضى الإطلاق هو انتفاء وجوب الإكرام عند انتفاء المجيء وهذا هو المفهوم.

وأما إذا كان الشرط مساوياً للموضوع بحيث كان انتفاء الشرط هو انتفاء

ص: 285


1- بحوث في علم الأصول 3: 176.

الموضوع، فحينئذٍ ينتفي الحكم في الجزاء، إلا أن انتفاؤه لأجل انتفاء موضوعه، وهذا انتفاء عقلي لا يرتبط بالجملة الشرطية أصلاً.

ثم إنه قد استثنى في البحوث(1)

ما لو كان الشرط مساوقاً مع تحقق الموضوع، لكنه ليس هو الأسلوب الوحيد لتحقق الموضوع، أي يمكن انتفاؤه مع بقاء الموضوع، نظير ما قالوه في آية النبأ، حيث إن مجيء الفاسق بالنبأ محقق لذلك النبأ الذي هو موضوع حكم التبين، إلا أنه يمكن افتراض النبأ من غير جهة الفاسق، فلا يكون انتفاؤه مساوقاً مع انتفاء مصب الحكم وموضوعه، فيكون المعنى (النبأ إن جاء به فاسق فتبينوا)، فيكون مقتضى إطلاق التعليق ثبوت المفهوم.

أقول: هذا في الحقيقة إخراج للشرط عن كونه محققاً للموضوع، وذلك عن طريق افتراض أن للنبأ حالتين، وبعبارة أخرى: إنه في المثال نفترض وجود النبأ ثم نفترض له حالتان، والحكم بالتبين منوط على إحدى الحالتين، فيكون كافتراض حالات مختلفة لزيد ثم تعليق الحكم على حالة المجيء مثلاً.

البحث الرابع: فيما لو كان الجزاء كلياً له مصاديق

فهل المفهوم هو أنه مع انتفاء الشرط ينتفي الجزاء بنحو العام المجموعي، أم بنحو العام الاستغراقي؟ كما في قوله (علیه السلام): «إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شيء»(2)

فهل المفهوم هو أنه (إذا لم يبلغ قدر كر نجسه

ص: 286


1- بحوث في علم الأصول 3: 176.
2- الكافي 3: 2.

كل شيء) فيكون عاماً استغراقياً فينجس القليل بملاقاة كل واحدة من النجاسات، أم المفهوم (نجّسه شيءٌ ما) فلا تتحقق النجاسة إلا بملاقاته لكل النجاسات معاً فيكون عاماً مجموعياً؟

ذكر المحقق النائيني(1):

أن المفهوم تابع للمنطوق موضوعاً ومحمولاً ونسبةً، إلا أنهما يختلفان بالسلب والإيجاب، وحيث إن المنطوق كلي استغراقي فيكون المفهوم كذلك.

لا يقال: نقيض السالبة الكلية هو موجبة جزئية، فمعنى الرواية: نجاسة القليل في الجملة بنجاسةٍ ما، ولا يفيد نجاسته بجميع النجاسات.

لأنه يقال: أولاً: إن المباحث الأصولية والفقهية تبنى على الاستظهارات العرفية من الأدلة بخلاف المباحث المنطقية التي تبنى على البراهين العقلية، وحيث إن المستفاد من الحديث هو عموم السلب أي (لم ينجسه كل فرد فرد من أنواع النجاسات من البول والدم... الخ) كذلك يكون المفهوم أي (نجسه كل فرد فرد من البول والدم و...).

وثانياً: إن النكرة في سياق النفي تدل على العموم، وهذا العموم معنى حرفي يرتبط بالهيأة، فلا يمكن تعليق هذا العموم، بأن يكون المدلول في المنطوق هو تعليق (سلب العموم) على الشرط، بل المعلق هو الحكم وهو مطلق باقتضاء مقدمات الحكمة، وهذا يقتضي كونه استغراقياً.

نعم لو كانت الدلالة على العموم بالاسم، كلفظة (كل) فحيث يمكن لحاظ المعنى مع كون الموضوع له عاماً، لذا يمكن تعليق كل من (عموم

ص: 287


1- فوائد الأصول 1: 485.

الحكم) و(الحكم العام) فتعيين أحدهما بحاجة إلى قرينة.

وبعبارة أخرى - كما قيل -: في مقام الثبوت: إما المعلق على الشرط هو (عموم الحكم) أي كل الأحكام على نحو العام المجموعي، فالمنفي في المفهوم حينئذٍ هو مجموع الأحكام معاً، وإما المعلق هو (الحكم العام) أي كل حكم حكم، فالمنفي في المفهوم على هذا هو كل حكم حكم.

وفي مقام الإثبات: الدال على العموم إما الاسم فيحتمل كلا الأمرين - عموم الحكم أو الحكم العام - والتعيين بحاجة إلى قرينة، وإما الحرف فيتعين الحكم العام، إذ العموم مدلول للحرف وهو غير قابل للتعليق، إذ التعليق لا يكون إلا فيما يمكن لحاظه مع كونه من المفاهيم الكلية، والمعنى الحرفي لا يمكن لحاظه وهو جزئي.

وأشكل عليه: أولاً: مبنىً بكلية المعاني الحرفية، وبإمكان لحاظها، كما مرّ.

وثانياً: في المثال بأن المنطوق فيه جزئي لا كلي، إذ هذه القضية وأمثالها تستعمل في نفي خصوص المرتبة العليا ويفهم انتفاء غيرها بالأولوية.

وفيه: أنه أشبه بالأكل من القفا، برفع اليد عن الظهور في العموم، ثم تعميم الحكم عبر الأولوية.

وثالثاً: بأن نقيض السالبة الكلية حتى عند العرف هو الموجبة الجزئية، فإن مثل (زيد في الدار) نقيض (لا أحد في الدار) عرفاً ودقةً.

وفيه: أن المقصود هو أنه يكفي في التناقض تحقق الموجبة الجزئية مقابل السالبة الكلية، وهذا أدنى درجات التناقض، وإلا فبين السالبة الكلية

ص: 288

والموجبة الكلية أيضاً تناقض، وحينئذٍ في الأمثلة الشرعية هل يراد أدنى درجات التناقض أم أعلاه؟ فهذا يرتبط بالاستظهار العرفي من الجملة.

ورابعاً: إن مدلول الجزاء - والذي عُلّق على الشرط - هو (الحكم على الطبيعة السارية)، فلا يكون المعلق عموم الحكم أو الحكم العام أصلاً.

وعليه: فالمفهوم هو انتفاء الطبيعة السارية عند انتفاء الشرط، وذلك يتحقق بانتفائه عن بعض الأفراد، ولا يتوقف على انتفائه عن جميع الأفراد، فحينئذٍ إذا كان المنطوق سالبة كلية كان المفهوم موجبة جزئية!!

وفيه: أن الطبيعة السارية عبارة أخرى عن الحكم العام، كما لا محذور في تعليق العموم بما هو عموم وإن كان في الخارج لا يتحقق إلا في ضمن الأفراد، فتأمل.

فتحصّل أنه لا إشكال على كلام المحقق النائيني سوى الإشكالات المبنائية، ومع قبول مبانيه فلا محيص عن الذهاب إلى ما ذهب إليه.

البحث الخامس: لو تعدد الشرط مع اتحاد الجزاء في جملتين

كما لو فُرض أنه قال: «إذا خفي الأذان فقصّر»، وفُرض أنه قال: «إذا خفيت الجدران فقصّر»(1)،

فحينئذٍ يقع التعارض بين منطوق كل منهما مع مفهوم الآخر، وذلك لإطلاقهما، فالمفهوم في الجملة الأولى هو إذا لم يَخْفَ الأذان فلا يجب القصر حتى وإن خفيت الجدران، وهذا يعارض منطوق الثانية، وكذا العكس.

ص: 289


1- هاتان الجملتان مصطيدتان من الأخبار، ولمراجعة نصوص الأحاديث راجع وسائل الشيعة 8: 470-473.

وبعبارة أخرى - كما قيل -: مفهوم كل منهما ينفي وجوب القصر بانتفاء الشرط المذكور في المنطوق، كما أن منطوق الأخرى يثبت وجوبه بتحقق الشرط الآخر.

وهنا وجوه لرفع التعارض:

الوجه الأول: رفع اليد عن إطلاق المفهومين.

لأن النسبة هي العموم والخصوص المطلق، والمنطوقان أخص مطلقاً من المفهومين، إذ المفهوم هو (إذا لم يخف الأذان فلا يجب القصر سواء خفيت الجدران أم لا)، وهذا أعم من المنطوق في (إذا خفيت الجدران فقصّر)، وهكذا النسبة بين المفهوم والمنطوق الآخر.

وفيه: أولاً: إن النسبة بينهما العموم والخصوص من وجه، لا المطلق، إذ المنطوق أعم من صورة المفهوم وعدمه أيضاً، فالمنطوق هو (إذا خفيت الجدران فقصّر سواء خفي الأذان أم لا).

وثانياً: أقوائية ظهور المنطوق من ظهور المفهوم، فيقدم الأظهر على الظاهر.

الوجه الثاني: سقوط المفهومين في كلا الشرطيتين، وحينئذٍ يكون المدلول في الجملتين هو ثبوت الجزاء عند تحقق أيٍّ من الشرطين، من غير دلالة مفهومية على عدم الحكم عند فقد الشرطين أو أحدهما.

وفيه: أن التعارض إنّما هو بنحو العموم من وجه، والدلالة على المفهوم إن كانت مستندة إلى إطلاق الشرط أو الجزاء، فلا وجه لرفع اليد عن هذا الإطلاق في مورد التعارض مع مطلق آخر في مورد الاجتماع، مع كون

ص: 290

النسبة بينهما العموم والخصوص من وجه، بل لابد من مراعاة الطرق العلاجية لرفع التعارض، فإن لم توجد فالتساقط في مورد الاجتماع حصراً، فلا وجه لسقوط المفهوم بالمرّة.

الوجه الثالث: رفع اليد عن إطلاق الشرط في المنطوقين، واعتبار الشرط هو المركب منهما، فيتوافق المنطوقان مع المفهومين حينئذٍ، فالمعنى (إذا خفي الأذان والجدران معاً فقصّر) وهذا لا يتعارض مع المفهوم في (إذا لم تختف الجدران فلا يجب القصر)، وهكذا مع المفهوم الآخر.

وقد ذكر المحقق النائيني(1)

أن ذلك هو مقتضى العلم الإجمالي، وحاصله:

أن للشرط إطلاقين: أحدهما كونه علة تامة، أي لا بديل له فيكون مقابل (أو)، والآخر كونه علة منحصرة أي لا يحتاج إلى مكمّل فيكون مقابل (الواو)، وتعدد الشرط ينافي العلية التامة المنحصرة، فلابد من رفع اليد عن أحد الظهورين، وحيث لم يكن أحد الظهورين أقوى من ظهور الآخر، ولا أحدهما حاكماً على الآخر - لكون كليهما بالإطلاق ومقدمات الحكمة - كان اللازم الجري على ما يقتضيه العلم الإجمالي، حيث نعلم بتقييد أحد الإطلاقين ولا نعلمه بالخصوص، والقدر المتيقن هو ترتب الجزاء حين حصول كلا الشرطين، وذلك لعدم العلم بترتب الجزاء لو حصل أحدهما.

وأشكل عليه(2): بأن قواعد باب التعارض تدل على التصرف في محلّ

ص: 291


1- فوائد الأصول 1: 487.
2- منتقی الأصول 3: 249-250.

المعارضة، والتعارض فيما نحن فيه إنّما هو بين مفهوم كل منهما مع منطوق الآخر، وليس محل المعارضة هو ظهور كل منهما في الاستقلال، حتى وإن كان رفع اليد عن ذلك الظهور سبباً لارتفاع المعارضة.

وبعبارة أخرى: إنه لابد من إعمال قواعد باب التعارض للجمع، وإلا كان جمعاً تبرعياً، والجمع التبرعي يرفع به المعارضة لكن لا يصار إليه، وفيما نحن فيه لا يدور الأمر بين الإطلاقين في دلالتهما على الاستقلال، بل المعارضة إنّما هي بين المنطوق والمفهوم.

وفيه: أن هذا الوجه ليس جمعاً كي يكون تبرعياً، بل هو مقتضى الأصل العملي حين لم يمکن ترجيح أحد المتعارضين على الآخر، بعد حصول التعارض بين المفهوم والمنطوق وحصول تعارض بين إطلاق الشرطين في القضيتين، أي بين إطلاق الشرط الأول في العلية التامة المنحصرة وبين إطلاق الشرط الثاني في ذلك أيضاً.

الوجه الرابع: اعتبار المؤثر في الجزاء هو الجامع بين الشرطين، فسببيّة كل شرط باعتبار كونه فرداً للجامع، وحينئذٍ يكون المفهوم في الجامع لا للفرد، فيرتفع التعارض.

وقد يستدل له: باستحالة تأثير المتعدد في الواحد.

ويرد عليه: مبنىً: ببطلان قاعدة الواحد من أساسها، كما مر.

وبناءً: بأنها في الواحد الشخصي التكويني، فلا تجري في الواحد بالنوع حيث لا مانع من تأثير المتعدد في الواحد بالنوع لتعدد الأثر واقعاً بتعدد الأفراد، كما لا تجري هذه القاعدة في الأمور الاعتبارية الجعلية، بل دليلها

ص: 292

يجري في العلل التكوينية، حيث قالوا: بأنه لابد من سنخية وربط خاص بين العلة والمعلول.

وإن أمكن الجواب عن الإشكال بالواحد النوعي: بأن المعلول الواحد نوعاً لا يمكن أن يصدر إلا من العلة الواحدة نوعاً بناءً على هذه القاعدة، فتأمل.

البحث السادس: في تداخل الأسباب والمسببات
اشارة

وذلك فيما كانت قضيتان شرطيتان، واختلف الشرط فيهما مع تشابه في الجزاء من حيث وحدة المادة، فلو فرض تحقق الشرطين معاً فهل يتعدد الجزاء وحينئذٍ يجب تكراره إذا كان حكماً تكليفياً، أم يكتفي بواحد؟

وفرق هذا عن سابقه أن ذاك كان فيما نعلم بوحدة الجزاء ولا نعلم بأن الشرط هو كل واحد بانفراد أم بالانضمام أو غير ذلك، وهذا فيما نحتمل تعدد الجزاء بتعدد الشرط.

ومعنى تداخل الأسباب هو اقتضاء الشرطين معاً لجزاء واحد فيكون تداخلاً في مقام الجعل، ومعنى تداخل المسببات هو افتراض تعدد الحكم مع كفاية الإتيان بفرد واحد فيكون تداخلاً في مقام الامتثال، فالبحث في مقامين:

المقام الأول: في تداخل الأسباب
اشارة

وفيه مطالب:

المطلب الأول: في أدلة عدم التداخل

ومنها:

الدليل الأول: إن عدم التداخل لا يستلزم خلافاً للظاهر أبداً، عكس التداخل حيث يستلزم منه ذلك، وبيانه: أن للجملة الشرطية ظهوران:

ص: 293

أحدهما، ظهورها في الحدوث عند الحدوث - أي حدوث الجزاء عند حدوث الشرط - والآخر: ظهور الجزاء في وحدة متعلق الحكم، وهذا يقتضي وحدة الحكم، إذ لا يمكن تعلق حكمين بموضوع واحد وإلاّ لزم اجتماع المثلين.

وبناءً على القول بعدم التداخل فإنّه مع تعدد الشرط ينتفي الظهور الثاني ويبقى الظهور الأول، وذلك لأن الظهور في الحدوث عند الحدوث مستند إلى الوضع، وأما الظهور الثاني فمستند إلى مقدمات الحكمة أي إطلاق متعلّق الحكم، حيث يدل هذا الإطلاق على أن المتعلّق إنّما هو بنحو الطبيعة السارية في الأفراد حتى لو كانت امتثالاً لحكم آخر، ومن المعلوم أن الإطلاق متوقف على عدم البيان، وللظهور الأول صلاحية لأن يكون بياناً، فيكون وارداً على الظهور الثاني، والنتيجة هي أن الحكم في كل شرطية يكون الفرد الذي لم يكن متعلقاً للحكم في الشرطية الأخرى.

وأما بناءً على القول بالتداخل يلزم إما رفع اليد عن الظهور في الحدوث عند الحدوث حيث لا يحدث الجزاء بالشرط الثاني، وإما رفع اليد عن ظهور الجزاء في الوحدة، ببيان ذكره في الكفاية(1):

بأن متعلق الجزاء وإن كان واحداً صورة إلا أنه حقائق متعددة حسب تعدد الشرط لكنها متصادقة على واحد، فالذمة وإن اشتغلت بتكاليف متعددة حسب تعدد الشرط إلاّ أن الاجتزاء بواحد لكونه مجمعاً.

وأورد عليه: بأنه لا يجري هذا الدليل فيما لو حدث الشرطان معاً،

ص: 294


1- إيضاح کفاية الأصول 2: 455.

والحدوث يستند إلى كليهما مع وحدة الحكم فانحفظ كلا الظهورين مع القول بالتداخل.

وفيه: أنه يكفي في بطلان التداخل مخالفته للظاهر ولو في بعض الفروض، فعدم التداخل لا مخالفة فيه مطلقاً، عكس التداخل الذي فيه المخالفة غالباً - وهي ما لو تدرّج الشرطان - ولا يمكن التفصيل حينئذٍ بين حالة التقارن وحالة التدرج، للعلم بأن الحكم في كلا الحالتين على نسق واحد.

الدليل الثاني: ظهور الشرط في كونه علة مستقلة وتامة للجزاء، مع ظهوره في كونه علة للحكم لا لتأكيده، وحيث يستحيل اجتماع علتين تامتين على معلول واحد، فلابد من المصير إلى عدم التداخل.

وأورد عليه: بأن الظهور الأول مستند إلى مقدمات الحكمة والتي منها عدم البيان، ويرتفع هذا الظهور بذكر الشرط الثاني في القضية الشرطية الثانية.

الدليل الثالث: ما بيّنه المحقق النائيني(1)

وهو يتوقف على مقدمات:

1- إن القضية الشرطية هي في الحقيقة قضية طبيعية حملية، يكون الشرط موضوعاً لها والجزاء محمولاً لها، فقوله (حج إن استطعت) كقوله: (المستطيع يحج).

2- وفي القضية الحملية ينحل الحكم بانحلال الموضوع، فيتعدد الحكم بتعدد الأفراد، فكذلك في القضية الشرطية.

3- إن الطلب يتعلق بالطبيعة بنحو صرف الوجود، وهذا مدلول لفظي، فلذا يكتفى في مقام الامتثال بإتيان الطبيعة مرة واحدة، إلا أن عدم لزوم

ص: 295


1- فوائد الأصول 1: 493-496.

التكرار ليس مدلولاً لفظياً، بل هو من باب حكم العقل بأن المطلوب الواحد إذا امتثل لا يمكن امتثاله مرة أخرى، وهذا لا ينافي كون المطلوب إيجاد الطبيعة مرتين، فلو قام الدليل على أن المطلوب متعدد فلا يعارضه حكم العقل على أن امتثال الطبيعة يحصل بإتيانها.

4- ظاهر القضية الشرطية هو تأثير كل شرط لجزاء مستقل وهذا مدلول لفظي، فلا يعارضه حكم العقل بكفاية إتيان الطبيعة مرة واحدة في حصول الامتثال، لأن حكمه إنّما هو فيما لو لم يكن مقتض ٍ للتعدد، لا فيما إذا صرّح بالتعدد كما لو قال: (أكرم زيداً مرتين) أو مع الظهور اللفظي في التعدد كما فيما نحن فيه حيث ظهور الشرطيتين في تعدد التأثير والجزاء.

والحاصل: إن وحدة المطلوب إنّما هو لعدم ما يقتضي التعدد، وفيما نحن فيه يوجد المقتضي للتعدد وهو ظهور الجملة في الانحلال وتعدد المطلوب والطلب، ويكون هذا الظهور وارداً على حكم العقل بوحدة متعلق الحكم في الجزاء.

المطلب الثاني: في مقتضى الأصل العملي

لو لم يقم دليل على التداخل أو عدمه، ووصلت النوبة إلى الأصل العملي، فما هو مقتضاه؟

ذكر المحقق النائيني(1)

أن الشك قد يكون في الحكم التكليفي، وقد يكون في الحكم الوضعي.

أما الأول: فالشك في تداخل الأسباب يرجع إلى الشك في اقتضاء

ص: 296


1- فوائد الأصول 1: 490.

السبب الثاني لتعقبه بالجزاء، وتوجه التكليف به زائداً على التكليف المتوجه بالسبب الأول، فالأصل البراءة!

وأما الثاني: فربما يختلف الأصل، مثلاً لو شك في اقتضاء العيب للخيار زائداً على ما اقتضاه بيع الحيوان أو المجلس، فمقتضى الأصل هو عدم ثبوت خيار العيب، لكن يمكن أن يقال: إن مقتضى الأصل بقاء الخيار بعد الأيام الثلاثة!

ويرد على الأول: أولاً: بأنه مع جريان الأصل السببي لا تصل النوبة إلى أصالة البراءة وهي أصل مسببي، وذلك لأن التداخل إنّما هو إسقاط لسببية الثاني، وهذه السببية شرعية فتستصحب، فتأمل.

وثانياً: بناءً على جريان الاستصحاب التعليقي يمكن القول بأن السبب الثاني لو كان متقدماً زماناً لأثّر أثره، فيستصحب تأثيره حتى مع تأخيره، فتأمل.

ويرد على الثاني: أولاً: بأنه لا وجه لإجراء الأصل العملي في بقاء الخيار، وذلك للعلم ببقائه، لأن التداخل - على فرض صحته في الخيار - لا يوجب رجوع الأطول مدة إلى أقصرها.

وثانياً: إن هذا الاستصحاب هو استصحاب للكلي، وهو إما قسم آخر غير أقسامه الثلاثة، إذ فيما نحن فيه نعلم بحدوث الفرد القصير ثم زواله مع الشك في أصل حدوث الخيار الآخر، فليس حدوث الفرد الثاني متقارناً مع زوال الفرد الأول، فلا يكون من القسم الثالث، كما نعلم بحدوث الفرد القصير فلا يكون من القسم الثاني، وفي هذا لا يجري الاستصحاب، وإما

ص: 297

هو من مصاديق القسم الثالث فلا يجري لعدم كونه من قسم الشديد والضعيف.

المطلب الثالث: لو لم يمكن تكرار الجزاء

إن بحث التداخل إنّما هو فيما أمكن تكرار الجزاء، كالإكرام حيث له القابلية للتعدد، وأما ما لا قابلية له للتكرار فهو خارج عن البحث، بل لا إشكال حينئذٍ في التداخل، بأن يكون كل سبب هو جزء العلة للجزاء، كالقتل إذا اجتمع سببان له.

وأما المحقق النائيني(1)

فقد ذكر أن ما لا يقبل التعدد على قسمين:

الأول: المسبب الذي يمكن تقييده بالسبب، كالقتل قصاصاً فيما لو قتل اثنان، فإنه لا يمكن قتل القاتل مرتين، لكن يمكن تقييد وجوبه بكل واحد من السببين، فيقال: قتله لأجل قتل زيد، أو قتله لأجل قتل عمرو - مثلاً - فلو ارتفع أحدهما بعفو الأولياء يبقى وجوب القصاص بحاله، وذلك لوجود السبب الآخر، وكالخيار المسبب عن أمرين فلو سقط أو أسقط أحدهما بقي الآخر.

وهذا القسم داخل في محل الكلام من التداخل وعدمه وله أثر عملي ببقاء المسبب حتى مع سقوط أحد السببين.

الثاني: المسبب الذي لا يقبل التقييد بالسبب، كوجوب القتل في حقوق الله تعالى كالارتداد والمحاربة مثلاً، وحيث لا يمكن العفو عن حق الله، فلا يقيد القتل بهذه الأسباب، فلا أثر عملي للقول بالتداخل أو عدمه، ومجرد

ص: 298


1- فوائد الأصول 1: 491.

القابلية للتأكيد ليس أثراً عملياً.

وفيه: أولاً: إنه لا أثر عملي على كل حال، إذ التداخل إنّما هو مع بقاء السببين معاً، فيستحيل استقلال كل واحد منهما بالمسبب، لاستلزامه تأثير علتين تامتين في معلول واحد، ولا وجه لترجيح أحدهما على الآخر في التأثير، لكونه ترجيحاً بلا مرجح، فلا محيص عن القول بالتداخل حينئذٍ، وأما مع سقوط أحدهما عن السببية - كالعفو عن القصاص في المثال - فإنه لا موضوع لتداخل الأسباب، أي يكون من باب السالبة بانتفاء الموضوع، لعدم تعدد الأسباب حينئذٍ حتى يبحث عن تداخلها.

وأما استمرار أثر الأطول مدة فهو ليس نتيجة للتداخل أو عدم التداخل، بل لأجل أن العلة المركبة منهما تؤثر أثرها في المعلول، ومن ضمن ذلك المدة الأطول، فتأمل.

وثانياً: ما يقال: من أن محذور اجتماع المثلين لا يرتفع بالتقييد، فوجود خيارين - بمعنى حق نقض الملكية - لا يعقل لكونهما مثلان، نعم يرتفع بما ذكر محذور اللغوية، لكنها لم تكن الإشكال.

المطلب الرابع: في مثال التداخل في الوضوء

إن عدم التداخل إنّما هو للظهور - الوضعي أو الإطلاقي - فلا مانع عقلاً عن رفع اليد عن هذا الظهور لو قام عليه الدليل، ومما قد يقال بقيام الدليل عليه، هو تداخل أسباب الوضوء والغسل، حيث إن الأحداث المتعددة والتي لها السببية لوجوبهما تتداخل، فيجب وضوء واحد، وكذا غسل واحد.

وقد أشكل في ذلك، بأنه ليس من باب تداخل الأسباب لوجوه، منها:

ص: 299

الإشكال الأول(1): بأن سبب الوضوء هو الحدث، وهو غير قابل للتعدد، نعم محققات الحدث كثيرة، لكن لا يتكرر الحدث بها، فالمؤثر هو أول أسبابه، فليس هناك تداخل في الأسباب، بل شرط واحد هو الحدث.

إن قلت: لم يرد في لسان الدليل سببية الحدث للوضوء والغسل؟

قلت: من قيام الدليل على كفاية وضوء واحد لجميع أسبابه، نكتشف كون سبب الوضوء:

إما العنوان الواحد الحاصل بأحد النواقض، وذلك العنوان هو السبب، وهو الحدث، ولا قابلية له للتعدد، فإن حصلت طولاً كان السبب الأول، أو عرضاً كانت السببية لها جميعاً بمعنى كون كل واحد جزء السبب.

وإما السبب هو صرف الوجود من النواقض، وهو يحصل بأول سبب حصل في الخارج لا مطلق الوجود القابل للتكرار.

ولا يمكن القول بأن المسبب - وهو الطهارة الحاصلة بأول وضوء - غير قابل للتعدد أو التأكيد أو الانتساب إلى سبب من حيث وإلى سبب آخر من حيث آخر، وذلك لورود الدليل على أن الوضوء على الوضوء نور.

وأجيب أولاً: بأنه لا محذور عقلاً في تعدد الحدث، ولا دليل نقلي على عدم قابليته للتعدد، لكونه أمراً اعتبارياً، ولا مانع من تعدد الاعتبار فيه.

وفيه: أن تعدد الاعتبار لابد أن يكون لغرض عقلائي، ومع الاكتفاء بوضوء واحد وعدم ترتب أي أثر آخر على تعدده فلا وجه للاعتبارات الأخرى، وهذا هو معنى عدم قابليته للتعدد.

ص: 300


1- فوائد الأصول 1: 498.

وثانياً: بأن سبب الوضوء ليس هو الحدث ولا النواقض أصلاً، بل إما جهة الاستحباب النفسي، أي الكون على الطهارة، وهو واحد، أو شرطيته للصلاة ونحوها، ومع تعدد المشروط يمكن الالتزام بتعدد الأسباب حينئذٍ، فتأمل.

الإشكال الثاني: أن يقال: إن الوضوء محقق للطهارة، والنواقض نواقض لها، فالمجعول هو الطهارة، وذلك لظهور الروايات في وجود شيء مجعول ومستمر، ولا يمكن أن يكون الوضوء لتصرمه، ولا الحدث لعدم ذكره في الروايات بل هو وارد في لسان الفقهاء.

وعليه يتضح سبب التداخل، إذ النقض غير قابل للتعدد، فلو حصل أول سبب انتقضت الطهارة، فلا يكون الثاني نقضاً لامتناع حصول الحاصل.

وفيه: أن النواقض ليست سبباً للوضوء كي يُصار إلى تداخلها، بل النواقض أسباب على البدل لنقض الطهارة - على هذا المبنى - فليس كفاية الوضوء الواحد مع تعدد النواقض لأجل التداخل في أسبابه - وهذا هو محل الكلام - فتأمل.

ثم بناءً على تعدد الحدث وتداخله بحيث يكتفى بوضوء واحد في رفع جميع الأحداث، فلو نوى رفع حدث دون آخر - في خصوص الوضوء دون الغسل - فقد يقال ببطلان الوضوء حينئذٍ:

1- إما لأنه تشريع، حيث لم يشرع الشارع الوضوء الرافع لبعض الأحداث دون بعض، فيبطل العمل من جهة التشريع، لعدم قصد الأمر، فلا قصد للقربة، لأن ما قصده غير مأمور به، وهو لم يقصد المأمور به.

2- وإما للتناقض في النية، إذ رفع بعض الأحداث ملازم لرفع بقية

ص: 301

الأحداث، فلا يمكن نية عدم رفع البعض.

اللهم إلا أن يقال بأنه تناقض هذه النية لا ينافي صحة أصل العمل، لأنه أتى بالعمل بقصد القربة، فضميمة نية أخرى لا تبطل العمل - إلا لو استلزم محذور آخر كالتشريع - .

المطلب الخامس: فيما ذكره فخر المحققين

وهو ابتناء التداخل وعدمه على كون الأسباب الشرعية معرّفات فتتداخل الأسباب، أو مؤثرات فلا تتداخل.

والمراد من (المؤثر) كونه سبباً واقعياً أفصح عنه الشارع، ومن (المعرّف) كون السبب الواقعي شيئاً آخر، وإنّما المذكور يلازمه فيكون عنواناً له، وإنّما لم يذكر الشرط الواقعي لصعوبة إفهامه للمكلف، فيؤتى بلازمه الذي يفهمه المخاطب.

فبناءً على كونها معرّفات يحتمل وحدة الشرط الواقعي، فتكون الشروط المتعددة عنواناً للشرط الواقعي - الذي هو واحد - ولا محذور في تعدد العنوان، كما يحتمل تعدد الشرط الواقعي فيكون كل شرط مذكور عنواناً لشرط واقعي، وحينئذٍ...

فإن لم يقم دليل على ترجيح أحد الاحتمالين على الآخر، فالأصل البراءة عن الحكم الزائد - أي التكليف الثاني - ، أي مع تحقق الشرط الثاني نشك في حدوث تكليف ثانٍ متعلّق بالمسبب، فالأصل عدمه.

وقد يقال: بوجود الدليل على ترجيح الاحتمال الثاني - أي تعدد الشرط الواقعي - فلا تصل النوبة إلى الأصل، وذلك لأحد وجوه، منها:

الوجه الأول: دلالة الجملة على حدوث الجزاء عند حدوث الشرط،

ص: 302

وهو يقتضي تعدد الجزاء بتعدد الشرط.

وأشكل عليه(1): بأن الجملة إنّما تدل على حدوث الجزاء عند حدوث الشرط الواقعي، فإذا فرض كون الشرط الواقعي غير مذكور، فلا طريق للعلم بوحدته أو تعدده، فلا دليل على تعدد الشرط الواقعي كي يتعدد الجزاء بتعدده.

وفيه: أن المقصود هو ظهور الجملة في حدوث الجزاء للشرط المذكور حتى لو لم يكن واقعياً، وصِرف الاحتمال لا يوجب رفع اليد عن الظهور.

وبعبارة أخرى: إن الشرط الواقعي وإن كان غير مذكور - بناءً على كون الأسباب معرفات - إلا أن المذكور عنوان له، وظاهر تعدد العنوان هو تعدد المعنون.

الوجه الثاني: ظاهر كون الشرط معرفاً هو المعرفية الفعلية، فيمتنع أن يكون كلا الشرطين - مع تعاقبهما - معرفاً فعلاً للحكم الواحد، إذ لا معنى للعلم بالحكم ثانياً بعد تحقق العلم به أولاً، فلابد من تعدد الحكم المعرَّف، والحاصل أن تعدد المعرِّف يستدعي تعدد المعرَّف!

وأشكل عليه: أولاً: بأن المخاطب قد يكون متعدداً فذكر معرِّف لكل واحد منهما للشيء الواحد لا ينافي وحدة المعرَّف.

وثانياً(2): بأن المراد من المعرفية هو المرآتية، وهذا لا ينافي تعدد المرآة مع وحدة المرئي.

ص: 303


1- منتقی الأصول 3: 264.
2- منتقی الأصول 3: 265.
المقام الثاني: في تداخل المسببات
اشارة

وهو بمعنى أن تكون الأسباب المتعددة سبباً لتعدد الأحكام مع الاكتفاء بامتثال واحد، وهو صورتان:

الصورة الأولى: كون متعلق الحكمين طبيعة واحدة - كالإكرام مثلاً - .

والظاهر عدم معقولية التداخل، وذلك لاستحالة تعلق حكمين بطبيعة واحدة، لاستلزامه اجتماع المثلين، بل لابد من الذهاب إلى تعلق الحكمين بفردين من الطبيعة، فإن الأصل هو تعلق الأحكام بالطبائع كما مرّ، إلا أن محذور اجتماع المثلين سبب للذهاب إلى تعلقها بالأفراد فيما نحن فيه، وحينئذٍ فلا اكتفاء بفرد واحد، بل لابد من الإتيان بالأفراد المتعددة وحسب تعدد الأسباب.

إن قلت: ورد في الشرع موارد يكتفى فيها بفرد واحد في امتثال الأوامر المتعددة، كالاكتفاء بغسل واحد عن الجنابة والحيض - مثلاً - ، وكذا في الوضوء بعد الأحداث المتعددة.

قلت: أولاً: في هذين المثالين احتمالات متعددة ثبوتاً، منها: وحدة الحكم لا تعدده، ومنها: تعدد الحكم لفردين لكن الاكتفاء بواحد ليس من باب تداخل المسببات بل لأجل فوات موضوع الحكم الثاني، ومع تعدد الاحتمالات ثبوتاً لا طريق لإثبات تداخل المسبّبات في هذه الأمثلة.

وثانياً: ما مرّ من أنّ الأسباب المتعددة توجب حدثاً واحداً وهو يرتفع بوضوء واحد، أو أن الحدث - حتى لو كان متعدداً - ليس سبباً للوضوء، وإنّما ترتفع كل هذه الأحداث بوضوء واحد، فالمأمور به وضوء واحد، فخرج المورد عن تعدد المسببات، وبعبارة أخرى: لو قلنا بتعدد الحدث

ص: 304

فالمسبب للنواقض هو أحداث متعددة، وليس الكلام في تداخل هذه المسببات، وإنّما الكلام في ارتفاع كلها بوضوء أو غسل واحد، فلا يرتبط ذلك بتداخل المسببات(1).

الصورة الثانية: كون متعلق الحكمين طبيعيتن تصادقتا في واحد، سواء كان تغايرهما بالذات كالإكرام والضيافة، أم لم يكن التغاير بالذات وإنّما بقيود الطبيعة، كصلاة نافلة المغرب وصلاة الغفيلة، فكلاهما من طبيعة واحدة هي الصلاة لكن يختلفان بالقيود.

فالظاهر أنه لا تداخل للمسببات هنا، وإنّما يرجع في حقيقته إلى تداخل الأسباب، فلو قال: أكرم العالم، وقال: أكرم الهاشمي، فلا يكتفي بإكرام العالم الهاشمي، إلا بتداخل الأسباب، وذلك لاستحالة اجتماع حكمين في المجمع لاجتماع المثلين.

إن قلت: لا محذور في الحكمين في المجمع لاختلاف المتعلقين، إذ يختلف الحكمان في مصاديق كثيرة فلا محذور في صدور الحكمين من المولى.

قلت: ليس الكلام في جواز صدور حكمين من المولى، إذ يكفي في صحتهما اختلاف المتعلق، وإنّما الكلام في أنه في المجمع يستحيل اجتماع حكمين، وقد مرّ الكلام فيه في بحث اجتماع الأمر والنهي.

إن قلت: المجمع هو مصداق متعلق الحكمين - أي صرف الوجود من كل طبيعة - لا نفس المتعلّق.

ص: 305


1- منتقی الأصول 3: 266.

قلت: الطبيعة هي أمر انتزاعي من الأفراد الخارجية، فمتعلق الغرض في الحقيقة هو الأفراد والطبيعة مرآة لها.

إن قلت: إن العرف يرى أن العمل الواحد المنطبق عليه عناوين متعددة، أكثر ثواباً مما كان له عنوان واحد.

قلت: إن أكثرية الثواب ينسجم مع تأكد الحكم، وليس دليلاً على تعدده.

وحيث رجع الأمر إلى تداخل الأسباب فلابد من مراجعة الدليل لنرى كيفية ظهوره، وهل هو ظاهر في التداخل أو عدمه.

ويمكن ادعاء أنه مع كون الجملة شرطية فالظهور في التعدد، ولذا لا يكتفى في النذر المتعدد بوفاء واحد، وأما مع إنشاء الحكم ابتداء منجزاً غير معلق على شرط كما لو قال: (أكرم العالم) و(أضف الهاشمي) فالأقرب الظهور في التداخل، وذلك لتحقق غرض المولى من كلا الأمرين، فتأمل.

تتمتان

التتمة الأولى: بناءً على إمكان التداخل، فهل يكفي في امتثالهما في العبادات قصد أحدهما بحيث يسقط الأمر الآخر حتى مع عدم قصده بل وقصد عدمه، أم لابد من قصدهما معاً ليتحقق امتثالهما؟

والجواب: إن كان قصد الشيء بعنوانه جزءاً من المتعلق، فلا يتحقق بدونه، إذ لابد في الامتثال من إتيان الشيء بكل أجزائه وشروطه.

وإن لم يكن قصد الشيء بعنوانه جزءاً، بل قلنا بكفاية ارتباط العمل بالمولى في صحته، بأن يكون هناك أمر واقعي من المولى مع قصد العبد

ص: 306

امتثال أمر المولى - ولو الأمر الآخر - فحينئذٍ يسقط الأمر الآخر حتى لو لم يقصده العبد، وذلك لتحقق الامتثال بمطابقة المأتي به للمأمور به، فتأمل.

التتمة الثانية: في مثال تداخل النافلة والغفيلة

بناءً على إمكان التداخل في المسببات، فهل يمكن الاجتزاء بالغفيلة عن ركعتين من نافلة المغرب؟

قد يقال: إن التمييز في العبادات المتشابهة صورة إنّما هو بالقصد، فصلاة الصبح ونافلتها - مثلاً - متشابهتان صورة في كل الجهات إلا في النية.

وحينئذٍ فقد يكون القصدان متنافيين بحيث لا يجتمعان كالمثال، وقد لا يتنافيان كالقيام تعظيماً وفسحاً، وكإكرام رجل عالم هاشمي بقصد إكرام العالم وقصد إكرام الهاشمي.

وفي النافلة والغفيلة حيث لا نعلم بتنافي القصدين أو عدم تنافيهما، فلا علم لنا بفراغ الذمة من كلا التكليفين لو أتى بصلاة واحدة بقصدهما، فالمرجع قاعدة الاشتغال، لجريانها حتى في المستحبات.

وفيه: أن الأصل عدم تنافي القصود، فيكون حاكماً على أصالة الاشتغال، وبعبارة أخرى: إن التنافي إنّما يكون لو أخذ القصد بشرط لا، وأصالة عدم التقييد تكون محكمة، ونتيجتها هو كون القصد لا بشرط، فتأمل.

ص: 307

فصل في مفهوم الوصف

مرّ في أول بحث المفاهيم أنه لابد في إثبات المفهوم من إحراز أمرين: الترتب الانحصاري، وكون الحكم سنخياً لا شخصياً، ففي الوصف إن لم يكن الحكم منحصراً في الموضوع المقيد بالوصف، أو كان الحكم شخصياً فلا دلالة له على المفهوم.

أما الأول: فأقصى ما يدل عليه الكلام هو أن البعث أو الزجر تعلّق بالموضوع الموصوف، ولا دلالة له على الترتب فضلاً عن الانحصار.

وأما الثاني: فلأنه(1)

لا دلالة للقضية بطبعها على كون الحكم المعلّق على الوصف هو السنخ، كي يقتضي انتفاءه عند انتفاء القيد، بل غايتها الدلالة على مجرد ثبوت الحكم للمقيد بنحو الطبيعة المهملة غير المنافي لثبوت فرد آخر مثله في غير مورد القيد، كما كان ذلك هو الشأن في القضايا اللقبية، حيث لا فرق بينهما من هذه الجهة.

وقد استدل لإثبات المفهوم بوجوه منها:

الوجه الأول: لغوية ذكر الوصف لو لم يفد المفهوم، وارتفاع اللغوية إنّما يكون لو اختص سنخ الحكم بالموضوع المقيد بالوصف.

ص: 308


1- نهاية الأفكار 1: 499.

ويرد عليه: عدم انحصار الفائدة في المفهوم، بل قد تكون هناك أغراض أخرى، كالتنبيه إلى المورد الخاص، كإثبات فسق الوليد في آية النبأ، أو كون المقيد بالوصف مورداً للسؤال فكان الجواب متطابقاً مع السؤال، أو كون المولى في مقام تشريع الحكم للمقيد مع السكوت عن غيره، ونحو ذلک.

الوجه الثاني: ما ذكره المحقق الإصفهاني(1)،

وحاصله:

1- إن الأصل في القيد أن يكون احترازياً، فمعنى قيدية شيء لموضوع الحكم هو أن ذات الموضوع غير قابلة لتعلق الحكم بها إلا بعد اتصافها بالوصف، فالوصف متمم لقابلية القابل، وهو معنى الشرط حقيقة.

2- عِليّة الوصف بعنوانه، إذ مع تعدد العلة لا يكون الوصف بعنوانه علة، بل العلة هو الجامع الذي فيه، وحيث إن ظاهر الكلام هو عِليّة الوصف بعنوانه لا بالجامع الذي فيه فلا يمكن وجود علة أخرى، وذلك لقاعدة الواحد.

3- كون المنوط بهذا الوصف هو نفس الوجوب بما هو وجوب، لا بما هو شخص من الوجوب.

وعليه: فلا محالة ينتفي سنخ الوجوب بانتفاء ما هو دخيل في موضوعية الموضوع لسنخ الحكم.

وأورد عليه: أولاً: بأن الاحترازيّة يراد بها تضييق دائرة الموضوع، لا الاحتراز عن شمول حكم آخر من سنخه لموضوع آخر، فلا فرق بين ذكر

ص: 309


1- نهاية الدراية 2: 435-436.

الموضوع بلفظة واحدة أو بلفظتين، فلا فرق بين أن يقول: (أكرم الرجل العالم)، وبين أن يشير إلى العلماء ويقول: (أكرم هؤلاء).

وثانياً: عدم ثبوت أصل عِليّة الوصف، فلا تصل النوبة إلى البحث عن انحصارها أو عدم انحصارها، هذا مضافاً إلى أصل الإشكال في قاعدة الواحد - كما مرّ مراراً - وعلى فرض صحتها فلا تجري في الواحد النوعي، وما نحن فيه منه.

وثالثاً: عدم ثبوت كون المنوط على الموضوع السنخ، كما أشرنا إليه في صدر البحث.

والحاصل(1): أن التقييد بالوصف وإن كان ظاهراً في دخالة الوصف، لكن لا ظهور له في أنه دخيل في سنخ الحكم حتى ينتفي بانتفائه، بل يمكن أن يكون دخيلاً في شخصه فلا يلازم المفهوم.

الوجه الثالث: ما اتفقوا عليه من حمل المطلق على المقيد، كما لو قال: (أعتق رقبة)، ثم قال: (أعتق رقبة مؤمنة)، حيث استفادوا المفهوم أي (لا يجب عتق الرقبة غير المؤمنة) وبذلك المفهوم قيدوا إطلاق (اعتق رقبة)، ولولا المفهوم لم يكن وجه للتقييد لعدم تنافي المثبتين، وإنّما التقييد يكون بين المثبت والنافي، حيث يحصل تعارض، ويرتفع بحمل الظاهر وهو المطلق على الأظهر وهو المقيد.

ويرد عليه: إنهم لا يحملون المطلق على المقيد إذا كانوا مثبتين، بل يصرّحون بعدم التنافي بينهما، وإنّما يحملونه لو دلت قرينة خارجية على

ص: 310


1- منتقی الأصول 3: 276.

وحدة الحكم، كما في المثال، وذلك لا يرتبط بالمفهوم البتة.

الوجه الرابع: إن القيد إذا كان للحكم دلّ على المفهوم، وذلك لما مرّ في مفهوم الشرط من أن الحكم مطلق، وهو منوط بالشرط، فبانتفاء الشرط ينتفي الحكم المطلق - الذي هو سنخ الحكم - وبذلك يثبت المفهوم.

وفي الوصف وإن كان الظاهر رجوع القيد إلى الموضوع، ففي مثل (أكرم الرجل العالم) ظاهر العالم كونه قيداً للرجل، إلا أن قيود الموضوع ترجع في الواقع إلى كونها قيوداً للحكم، فالإكرام مقيد واقعاً بالعالم.

وذلك لما قيل من أنه لو قُيِّد الموضوع فالحكم بالإضافة إلى ذلك القيد إما مطلق أو مهمل أو مقيد، والأول خلف، والثاني يستلزم الإهمال في مقام الثبوت وهو ممتنع، فثبت الثالث.

ويرد عليه: أولاً: أن الترتب الانحصاري هو الدال على المفهوم دون مطلق الإناطة، كما مرّ.

وثانياً: إن ذلك يتوقف على إثبات أن الحكم سنخ لا شخص، وقد ذكرنا عدم ثبوت كون الحكم في الوصف سنخياً.

وثالثاً: بعدم ثبوت رجوع قيود الموضوع إلى الحكم، بل يمكن إطلاق الحكم بالنسبة إليه مع عدم استلزامه الخلف، وذلك بالالتزام بالواجب المعلق، فتأمل.

تتمة:

لابد من فرض بقاء الموضوع حين انتفاء الوصف، لكي يتمّ البحث عن بقاء الحكم، وإلاّ فلا معنى لبقاء الحكم مع زوال الموضوع، فيكون الوصف

ص: 311

حينئذٍ نظير الشرط المحقِّق للموضوع، حيث لا مفهوم، لوضوح انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه.

وفرض بقاء الموضوع حتى مع زوال القيد هي:

1- كون الوصف أخص مطلقاً، مثل (أكرم العالم الفقيه) حيث إن الفقيه أخص مطلقاً من العالم.

2- كون النسبة بين الوصف والموصوف الخصوص والعموم من وجه، مثل (أكرم الرجل العادل) ففي صورة وجود الموصوف مع زوال الوصف - كالرجل الفاسق - يتم البحث عن المفهوم.

وأما الصور الخارجة عن البحث فهي:

1- لو كان الوصف أعم مطلقاً، مثل (أكرم الفقيه العالم)، فمع انتفاء العلم ينتفي الفقه أيضاً، فلا موضوع ليبحث عن بقاء الحكم فيه.

2- لو كانا متساويين، كالإنسان والناطق مثلاً، فبانتفاء الوصف ينتفي الموصوف أيضاً، لفرض تساويهما.

3- كون النسبة من وجه مع انتفاء الموصوف، مثل (أكرم الرجل العالم) لو كانت امرأة عالمة.

4- كون النسبة من وجه مع انتفاء الموصوف والوصف معاً، نظير قوله: «في سائمة الغنم زكاة»(1)

فقيل: يدل المفهوم على أنه لا زكاة في الإبل المعلوفة، وذلك لأن الوصف هو العلة المنحصرة لزكاة الأنعام!

وفيه: أولاً: إنه لا دليل على العِليّة فضلاً عن الانحصار، إلاّ لو دلت قرينة

ص: 312


1- عدة الأصول 2: 469.

خارجية عليه، فيخرج بذلك عن البحث.

وثانياً: إن هذا الكلام يجري في الشق الثاني والثالث أيضاً، فلا وجه لحصره في الشق الرابع.

ومن كل ذلك يتضح أنه لابد من كون الوصف معتمداً على الموضوع، مثل (أكرم الرجل العالم)، فلو كان هو بنفسه موضوعاً مثل (أكرم العالم) خرج عن البحث، لأن انتفاء الوصف حينئذٍ يساوق انتفاء الموضوع، فتأمل.

ص: 313

فصل في مفهوم الغاية

اشارة

وفيه مطالب:

المطلب الأول: في دلالتها على المفهوم

إن الغاية أقسام: فقد تكون غاية للحكم، كقوله تعالى: {فَلَا تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ}(1)،

وقد تكون غاية لمتعلق الحكم كقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّيْلِ}(2)، فهو غاية للصوم، وقد تكون غاية لموضوع الحكم - أي متعلق المتعلق - كقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}(3).

وفي دلالة على المفهوم خلاف، وأقوال، منها:

القول الأول: ما ذهب إليه المحقق الخراساني(4)

من التفصيل: بين غاية الحكم، فتحقق الغاية دال على ارتفاع الحكم كما في قوله: «كل ما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه»(5)

وذلك للظهور في

ص: 314


1- سورة النساء، الآية: 140.
2- سورة البقرة، الآية: 187.
3- سورة الإسراء، الآية: 34.
4- إيضاح کفاية الأصول 2: 477.
5- الكافي 6: 339.

المفهوم حينئذٍ، ولأن المفهوم هو مقتضى تقييد الكلام بالغاية وإلاّ لما كانت الغاية غاية.

وبين غاية الموضوع، فلا تدل على المفهوم فتكون نظير الوصف، كما لو قال: (سِر من البصرة إلى الكوفة)، فهي تقتضي تقييد شخص الحكم بها، ولا دلالة لها في ارتفاع سنخ الحكم حين تحقق الغاية، لعدم الوضع لذلك، ولا قرينة عامة تدل على الانتفاء حين تحققها.

وأورد على الأول: بأن الغاية كما يمكن أن تكون غاية لسنخ الحكم كذلك يمكن أن تكون غاية لشخصه، والنافع لإثبات المفهوم هو الأول دون الثاني، نعم قد تكون قرينة خاصة تدل على ارتفاع الحكم، كما في المثال الذي ذكره، إذ القرينة العقلية - وهي امتناع اجتماع الضدين - دلت على ارتفاع الحلية حين العلم بالحرمة، والقرينة الشرعية على طريقية العلم لا موضوعيته، فحينئذٍ لا يرتبط ارتفاع الحكم في الغاية بالمفهوم أصلاً.

وعلى الثاني: برجوع قيود الموضوع إلى الحكم، كما مرّ في بحث الوصف.

اللهم إلا أن يقال: بأنه وإن رجعت قيود الموضوع إلى الحكم إلا أن رجوعها إلى الموضوع مباشرة منع ظهورها في المفهوم.

القول الثاني: ما في المنتقى(1)

من التفصيل: بين ما إذا كان الكلام مسوقاً لبيان الغاية فقط، مع كون الحكم مفروغاً عنه، فكان المولى في مقام بيان غايته وحدّه، وحينئذٍ كان مقتضى الإطلاق المقامي ثبوت المفهوم وارتفاع

ص: 315


1- منتقی الأصول 3: 284.

الحكم بحصول الغاية، وإلا لم تكن الغاية غاية للحكم، كقوله تعالی: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}(1)

فإن أصل جواز الأكل معلوم والآية مسوقة لبيان غايته، وبين ما إذا كان مسوقاً لبيان الحكم المُغيّى، فلا دلالة له على المفهوم، إذ اعتبار حكم مقيد بقيد لا يتنافى مع اعتباره مقيداً بقيد آخر، أو غير مقيد بقيد.

ويرد عليه: بأنه لا فرق عرفاً بين ذكر الغاية مع الحكم، أو بيان الحكم أولاً ثم ذكر غايته، فلا فرق بين أن يقول: (اقرأ هذا الدعاء حتى نهاية شهر رمضان)، أو يفصل بينهما فيقول أولاً (اقرأ هذا الدعاء)، ثم يقول (اقرأه حتى نهاية الشهر)، كما لا فرق دقة بين تحديد الطبيعة من البداية، أو تعلق الأمر بها ثم تحديدها.

نعم لو كان المولى يريد تحديد الموضوع والحكم من كل أطرافه، دل على المفهوم، كمثال آية الصوم، فليس وجه الدلالة على حرمة الأكل بعد الفجر معلومية جوازه قبل الفجر، بل لكون المولى في صدد بيان الصوم بحدوده كلها من بدايته ونهايته وسائر أحكامه.

القول الثالث: عدم الدلالة على المفهوم، إلا إذا قامت قرينة، وذلك لأن الركن الأول للمفهوم - وهو الترتب الانحصاري - وإن تحقق في الغاية، إذ تحقق الغاية سبب لانتفاء الحكم فلا معنى لاستمراره بعدها، إلا أن الركن الثاني وهو انتفاء سنخ الحكم لا الشخص غير معلوم التحقّق.

وعليه: فإن الدليل لا يتعرض لما بعد الغاية، فإذا جاء دليل آخر دل على

ص: 316


1- سورة البقرة، الآية: 187.

ثبوت الحكم لما بعد الغاية أيضاً لم يكن تعارض بينهما، وإنّما يحصل التعارض لو ثبت المفهوم.

المطلب الثاني: في دخول الغاية في حكم المغيى أو خروجها عنه

1- قيل بخروجها، لكونها من حدوده فلا تكون محكومة بحكمه، وحيث إن موضوع الحكم هو المُغيّى - أي ذو الغاية - والغاية خارجة عنه فلا يشملها حكمه، لأن الحكم يتعلق بالموضوع لا بشيء خارج عن الموضوع.

2- وقيل بالتفصيل(1)

بأن مبدأ الشيء ومنتهاه: تارة يكون بمعنى أوله وآخره، فدخوله في الشيء من الواضحات، وتارة أخرى بمعنى ما يبتدأ من عنده وما ينتهى عنده الشيء، فخروجه من الشيء من الواضحات أيضاً.

وإنما الكلام صغروي: بأن مدخول (حتى) و (إلى) هو المنتهى بالمعنى الأول، أو الثاني.

نعم أكثر الموارد - ولعله الأظهر - كون مدخول (حتى) و (إلى) هو من قبيل الثاني، أي ما ينتهي عنده الشيء لا ما هو آخر الشيء.

ومعنى ذلك عدم وجود ظهور ولا قاعدة على أحدهما، فالأمر يبتنى على القرائن الخارجية، ومع الشك فالمورد من الأقل والأكثر الارتباطيين فتجري فيه أصالة البراءة على المبنى المنصور، وأصالة الاشتغال على المبنى الآخر.

3- وقد يقال: بالفرق بين (إلى) فالغاية خارجة، و(حتى) فداخلة.

وكأنه خلط بين (حتى) العاطفة والجارة، فمثل (أكلت السمكة حتى

ص: 317


1- نهاية الدراية 2: 439-440.

رأسها) ليست للغاية، فهي خارجة عن البحث أصلاً، وأما الجارة فلا فرق بينها وبين (إلى).

ص: 318

فصل في مفهوم الاستثناء

اشارة

وفيه بحوث:

البحث الأول: في حكم المستثنى

لا إشكال في أن الحكم في المستثنى منه لا يشمل المستثنى، فمثل (أكرم العلماء إلا زيداً) لا يشمل وجوب الإكرام زيداً، وإلاّ لم يكن معنى للاستثناء أصلاً، فيكون لغواً حينئذٍ، بل غلطاً.

وقد يقال: إن الاستثناء يدل على انتفاء الحكم الثابت لعنوان المستثنى منه عن المستثنى، فلا ينافي ثبوت حكم مماثل للمستثنى لكن بعنوان آخر، فلا تعارض بين أن يقول: (أكرم الفقير حتى لو كان فاسقاً)، وبين أن يقول: (أكرم الشعراء إلا فساقهم) فالفقير الشاعر الفاسق - وهو مصداق اجتماع موضوع الحكمين - يُكرَم من جهة فقره لا من جهة شاعريته! وكذا لو كان بين المتعلقين العموم من وجه مثل (أكرم) و(تصدق) في مورد الاجتماع!

وفيه: أن الاستثناء - وهو متصل - قد عنون الموضوع في المستثنى منه، فمعنى قوله الثاني هو: (أكرم الشاعر غير الفاسق)، فيتعارض بالعموم من وجه مع (أكرم الفقير حتى لو كان فاسقاً).

مضافاً إلى ما مرّ من أن تعدد الجهة مع وحدة المتعلّق أو الموضوع لا ترفع التضاد المتحقق بطلب الضدين في شيء واحد واقعاً، مع كونه متعدد العنوان.

ص: 319

البحث الثاني: من أدلة الطرفين

1- استدل بعض العامة على نفي الدلالة على الحصر بمثل قوله (صلی الله علیه و آله): «لا صلاة إلا بطهور»(1) فلو كان للاستثناء الدلالة كان المعنى أن الطهور وحده صلاة!!

وفيه: أنه لم يقل: (إلا الطهور)، وإنّما قال: (إلا بطهور) وبينهما فرق واضح، فعلى مبنى الصحيحي المعنى لا صلاة إلا لو كانت مع الطهارة، وعلى مبنى الأعمي لا صلاة صحيحة أو مأمور بها أو مجزية إلا بالطهارة، والحاصل أن معنى الحديث أن الصلاة - التي هي تمام الأجزاء والشرائط - لا تتحقق إلا مع الطهارة التي هي أحد شرائطها.

2- وقد استدل القائلون بالحصر بكلمة التوحيد، أي (لا إله إلا الله) إذ لو لم تدل على الحصر لم يكن معنى لقبول إسلام من ينطق بها!!

إن قلت: خبر (لا) النافية للجنس إما (ممكنٌ) أو (موجودٌ)، والأول لا يثبت به الإقرار بوجود الله بل إمكانه، وهذا المقدار لا يفيد في التوحيد، والثاني لا يُنفى به إمكان غير الله، بل ينفي عدم وجوده الخارجي، وهذا لا يكفي في التوحيد.

قلت: بل المقدّر هو (موجود)، ويكفي في التوحيد نفي وجود غير الله تعالى، مع إثبات وجوده سبحانه، إذ نفي وجود إله غير الله يلازم نفي ألوهية هذا الغير، لأن غير الموجود يحتاج إلى خالق لإيجاده، فلا يكون إلهاً.

وأما القول بأن كلمة (الله) بمعنى واجب الوجود، وأن نفي وجود الغير

ص: 320


1- من لا يحضره الفقيه 1: 33.

يساوق عدم وجوب وجوده، وأن إمكانه يساوق وجوده وذلك لوجوبه، فتدل الكلمة على التوحيد سواء قدّر الخبر (ممكن) أو (موجود).

فيرد عليه: أن وجوب الوجود لازم كونه إلهاً، وليس ذلك معنى كلمة (الله)، مضافاً إلى خفاء هذا اللازم على عامة من كان ينطق بالشهادة، فلا وجه لهذا التأويل أصلاً.

3- وقد يستدل على الحصر: بأن كلا ركني المفهوم متوفران في الاستثناء، أما الترتب الانحصاري فلدلالة الاستثناء على الحصر وضعاً، فمثل (أكرم العلماء إلا زيداً) يراد حصر الحكم في المستثنى منه بحيث لا يشمل المستثنى، وأما كون الحكم في المستثنى سنخاً لا شخصاً فللإطلاق بعد تمامية مقدمات الحكمة فيه، فيدّل على أن الإكرام - في المثال - يراد به سنخه، وعليه فإن سنخ الإكرام منحصر في العلماء، فلا يجب إكرام غيرهم لمنافاته لحصره فيهم، فيدل على عدم وجوب إكرام زيد بأي نوع من أنواع الإكرام.

وفيه: أن الحكم في طرف المستثنى منه، أي (أكرم العلماء) في المثال لا دلالة له على السنخ، وإلا لزم القول بمفهوم الوصف، أو اللقب في مثل (أكرم القوم إلا زيداً) مع وضوح أن الاستثناء إنّما هو من هذا الحكم، فلا معنى للذهاب إلى أن الحكم في المستثنى منه هو الشخص مع كون الحكم في المستثنى هو السنخ، فتأمل.

البحث الثالث: الاستثناء من النفي أو الإثبات

قد يقال(1): بأن الجملة الاستثنائية إذا كانت نافية كانت دلالتها على

ص: 321


1- بحوث في علم الأصول 3: 214.

المفهوم أوضح، لأن نفي الطبيعة لا يكون إلا بنفي جميع حصصها، فيكون الاستثناء منها إثباتاً لا محالة.

وأما إثبات الطبيعة فقد يكون بحصة خاصة، ويكون الاستثناء بلحاظ شخص تلك الحصة الخاصة، وهذا وإن كان مجرد احتمال ولا يضر بالإطلاق في متعلّق الحكم، إلا أن هذا الاحتمال سبب كون النفي أوضح.

وفيه تأمل: لأن الظهور غير مرتبط بالاحتمالات، بل يرتبط بما يبدو ويتبادر لأذهان أهل اللسان، والظاهر عدم الفرق في الظهور بين الاستثناء من النفي أو الإثبات.

البحث الرابع: هل الدلالة بالمنطوق أم المفهوم

الدلالة على نفي الحكم في الجملة الموجبة أو إثبات الحكم في الجملة السالبة، هل هو بالمنطوق أم بالمفهوم، ومعنى كونه بالمفهوم أن هناك خصوصية في الحكم الموجود في المستثنى منه، ولازمها عدم وجود الحكم في المستثنى، ومعنى كونه بالمنطوق أن نفس كلمة (إلاّ) مثلاً تدل بالمطابقة على نفي الحكم في المستثنى منه.

الظاهر الثاني، لأنه لا معنى للاستثناء إلا الإخراج، فلو كان هذا بالمفهوم لم يكن للفظ الاستثناء معنى مطابقي منطوق، وهو واضح الإشكال.

وفي المنتقى(1)

بيان الأثر العملي لهذا البحث، وحاصله: أنه لو شك في سعة الحكم في المستثنى أو ضيقه، فبناء على دلالة المنطوق يتمسك بالإطلاق، مع عدم إمكان التمسك به بناءً على الدلالة بالمفهوم إذ دلالته

ص: 322


1- منتقی الأصول 3: 289-290.

إلتزامية، ففي قوله (علیه السلام) «لا تعاد الصلاة إلا من خمسة»(1) لو شككنا في ثبوت الإعادة من جهة هذه الخمس في بعض الحالات، فعلى القول بالدلالة المفهومية لا مجال لإحراز ثبوت الإعادة في مورد الشك، حتى مع علمنا بنفي الإعادة بشكل مطلق في المستثنى منه، إذ لعلّ الاستثناء من حيث المجموع لا من حيث كل فرد فرد، وأما على القول بالدلالة بالمنطوق، فالإطلاق يثبت الإعادة حينئذٍ إذ معنى الاستثناء هو (وتعاد من خمس بشكل مطلق).

وفيه تأمل.

البحث الخامس: في الدلالة على الحصر بغير أدوات الاستثناء

كما لو قال: (إنما يجب إكرام زيد)، وكتقديم ما حقه التأخير - لو قلنا بدلالته على الحصر - ودلالته على المفهوم واضحة، وذلك لتوفر كلا ركني المفهوم، أما الترتب الانحصاري فلأن المفروض هو كون الأداة أو التركيب للحصر، وأما كون الحكم سنخاً لا شخصاً، فقد يقال بأن أداة الحصر أو التركيب الدال على الحصر تدل على أن المحصور هو سنخ الحكم من غير حاجة إلى إجراء مقدمات الحكمة، وذلك لأن حصر شخص الحكم أمر ثابت حتى مع عدم استعمال ما يدل على الحصر، فلو لم يكن المراد حصر سنخ الحكم لكان ما يدلّ على الحصر تأكيداً أو لغواً، والأول خلاف الظاهر، والثاني خلاف دلالة الاقتضاء.

ص: 323


1- من لا يحضره الفقيه 1: 339.

فصل في مفهوم اللقب والعدد

أما اللقب فهو الموضوع الذي ليس بوصف، كما لو قال: (أكرم زيداً)، وعدم دلالته على المفهوم واضح، وذلك لعدم توفر كلا ركني المفهوم، فلا دلالة على الترتب الانحصاري، كما لا دلالة على سنخ الحكم، فلا وجه لثبوت المفهوم.

وأما العدد فأيضاً لا دلالة له على المفهوم للسبب نفسه، إلاّ لو قامت قرينة خاصة على أن المتكلم في مقام التحديد من طرف الأقل و الأكثر، أو من طرف أحدهما، وحينئذٍ الدلالة على المفهوم لا ترتبط بالعدد نفسه بل ترتبط بالقرينة، فيخرج عن محل البحث.

ص: 324

المقصد الرابع في العام والخاص وفيه فصول

اشارة

ص: 325

ص: 326

وهنا بحوث تمهيدية

البحث الأول: في تعريف العام

معنى العموم هو شمول المفهوم لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه مع کون الشمول لفظياً.

فإذا لم يكن شاملاً لم يكن عاماً بل خاصاً، والتقييد ب- (يصلح) ليدخل في التعريف العام المخصص، والتقييد ب- (ينطبق) لإخراج ما لا يصلح أن ينطبق عليه، كأفراد سائر العمومات، والتقييد ب- (كون الشمول لفظياً) لإخراج المطلق، فإن الفرق بينه وبين العام - مع شمولهما كليهما لأفرادهما - هو أن دلالة العام على الشمول لفظية، ودلالة المطلق عليه إنما هي بمقدمات الحكمة، اللهم إلا أن يقال: إن قيد (ما يصلح) يُخرج المطلق أيضاً، فتأمل.

وقد يقال: بأنه تعريف لفظي فلا وجه للنقض والإبرام فيه، وخاصة أن هذا اللفظ لم يرد في الأدلة الشرعية كي يدور الحكم مداره، بل الآثار إنما هي لمصاديق العام - أياً كان تعريفه - .

البحث الثاني: في أقسام العموم

اشارة

وفيه مطالب:

المطلب الأول: في أقسام العموم

وهو على أقسام ثلاثة:

1- العام الاستغراقي: بأن يكون كل فرد فرد موضوعاً للحكم، كما لو

ص: 327

قال: (أكرم العلماء)، فيتعدد الحكم بتعدد الأفراد.

2- العام المجموعي: بأن تكون الأفراد معاً موضوعاً للحكم فهي كالأجزاء لمأمور به واحد، فلا يكون ممتثلاً إذا أتى بالبعض دون البعض.

3- العام البدلي: بأن يكون الموضوع هو فرد واحد على البدل، وبعبارة أخرى: أن يكون كل فرد موضوعاً للحكم لكن على البدل، فإذا أتى بفرد واحد فقد امتثل الحكم.

والحاصل: إن المتكلم يلاحظ جميع الأفراد فلذا صار عاماً، والتقسيم إلی الأقسام الثلاثة إنما هو في كيفية أخذ العموم في الموضوع، بمعنى أن المتكلّم يلاحظ الموضوع فرداً فرداً أو كل الأفراد كفرد واحد، أو أحدها على البدل.

وأما ما قيل: من أن التقسيم يرتبط بكيفية تعلق الحكم، فيكون التقسيم متأخراً عن الموضوع وعن الحكم.

فيرد عليه ما ذكره المحقق الإصفهاني(1) من استحالة اختلاف المتقدم بالطبع من ناحية المتأخر بالطبع.

والمعنى هو استحالة تقييد الموضوع - وهو العام - بالحكم أو بما ينشأ منه، فإن الاستغراقية والمجموعية والبدلية من خصوصيات العام - وهو موضوع الحكم - فكيف تنشأ هذه الخصوصية من الحكم الذي هو متأخر رتبة عن الموضوع!!

أما المحقق النائيني(2)

فقد أخرج العموم البدلي عن أقسام العموم، إذ

ص: 328


1- نهاية الدراية 2: 444-445.
2- فوائد الأصول 1: 514-515.

العموم بمعنى الشمول، والبدلية تنافي الشمول.

بل نُسب إليه أنه ألحق العموم البدلي بالمطلق، لكونه علی الغالب يستفاد من إطلاق المتعلّق.

وأشكل عليه: بأن العموم البدلي يستفاد من اللفظ، كلفظة (أيّ) فلا يرتبط استفادته من مقدمات الحكمة، ويترتب على ذلك ثمرة هامة، في تعارض المطلق مع العام حيث رجّحوا العام، إذ الظهور الوضعي أقوى وهو يصلح أن يكون قرينة على المراد من المطلق، فلم تتم مقدمات الحكمة في طرف المطلق.

والحاصل: إن الفارق بين العموم والإطلاق هو استفادة الشمول من اللفظ أم من مقدمات الحكمة، وحيث إن بعض ألفاظ العموم دالة على العموم البدلي، فلا وجه لإخراج العموم البدلي عن العام وإلحاقه بالمطلق!!

المطلب الثاني: دوران الأمر بين العموم الاستغراقي أو البدلي

فما هو المرجح؟

ذهب المحقق النائيني(1)

إلى أن الأصل اللفظي الإطلاقي يقتضي الاستغراقية، لأن المجموعية تحتاج إلى عناية زائدة، وهي لحاظ جميع الأفراد على وجه الاجتماع وجعلها موضوعاً واحداً.

وأشكل عليه: أولاً: بأن الاستغراقية أيضاً بحاجة إلى عناية زائدة، لأن جميع الأفراد تلاحظ في كليهما وإلا لم يكونا عامين، فتارة يلاحظ الفرد لا بشرط عن الإتيان بالآخر، فهو واجب مثلاً سواء أتى بالآخر أم لا وهو

ص: 329


1- فوائد الأصول 1: 515.

الاستغراقي، وأخرى يلاحظ الفرد بشرط لا فهو البدلي.

وثانياً: بأن الأمر يرتبط بكيفية تصوير الوجوب على البدل، وقد مرّ في الواجب التخييري، فهل يلاحظ الجامع بين الأفراد أو يلاحظ كل فرد منفرداً على البدل، فعلى الأول لا مؤونة زائدة، وعلى الثاني قد يقال بزيادة قيد على البدل، فتأمل.

وثالثاً: إن كان المراد من (الأصل اللفظي الإطلاقي) الظهور، فهو مرتبط بكيفية الوضع، فقد يضع الواضع اللفظ لما فيه المؤونة الزائدة فيكون ظاهراً فيه دون ما لم يضع له، وقد يكون بالعكس.

وحيث إن ألفاظ العموم وضعت للشمول وله مصداقان فلا يجري أصل لفظي في جانب الموضوع، كما أن لفظ الرجل مطلق له مصداقان - مثلاً -: الرجل العالم والرجل غير العالم، فلا يجري الإطلاق لتعيين اللفظ في الثاني باعتبار عدم المؤونة الزائدة، بل الظهور اللفظي يشملهما على حدّ سواء.

نعم لو كان الأمر مرتبطاً بالأصل الحكمي، فإن قلنا بأن العموم البدلي هو بمعنى تعلق تكليف واحد بالجامع والاستغراقي يتعدد التكليف بتعدد الأفراد فالأصل مع الأول، لكنه أصل البراءة وليس أصلاً لفظياً، أما لو قلنا بأنه تكاليف متعددة تسقط بامتثال أحدها، فالأصل العملي هو الاشتغال وهو يساوق في النتيجة مع الاستغراقي، فتأمل.

المطلب الثالث: في الأعداد

شمول الأعداد لآحادها ليس من باب العموم، إذ الأعداد لا تصلح لأن تنطبق على آحادها، فعشرة مثلاً لا تنطبق على الواحد، بل الآحاد أجزاء لها.

وتظهر الثمرة فيما لو ورد دليل علی العدد ودليل آخر مضاد له علی

ص: 330

بعض الآحاد، کما لو قال: (أکرم العشرة)، وقال: (لا تکرم الواحد منهم)، حيث يحصل تعارض بينهما، مع أنه لاتعارض بين العام والخاص، إذ يحمل العام علی الخاص.

البحث الثالث: في أدوات العموم

1- فمنها: (كل)
اشارة

والكلام في مقامات ثلاث:

المقام الأول: في وجه دلالة (كل) على العموم

أما أصل الدلالة عليه فواضحة، وإنكاره مكابرة، وقد اختلف في وجه الدلالة على قولين:

القول الأول: دلالتها على استيعاب ما يُراد من مدخولها، فلابد أولاً من تحديد المراد من المدخول ثم الدلالة بواسطة (كل) على استيعاب تمام المراد، ففي مثل: (أكرم كل عالم) لابد أولاً من إثبات إطلاق العالم ثم استيعاب جميع الأفراد بواسطة (كل)، فالدلالة طولية.

وأشكل عليه بأمور، منها:

الإشكال الأول(1) بأنه تارة: يراد الإطلاق الأفرادي، وهذا مما لا يُحتاج إليه، لأن لفظة (كل) تدل على الشمول لكل الأفراد.

وتارة أخرى: يراد الإطلاق الأحوالي، وهذا أجنبي عن لفظة (كل)، بل هنا دالان ومدلولان ولا يرتبط أحدهما بالآخر، ف-(كل) لسعة الأفراد، و(مقدمات الحكمة) لسعة الحالات.

ص: 331


1- نهاية الدراية 2: 446-447.

وتارة ثالثة: يراد من المدخول الطبيعة المهملة - سواء من حيث الأفراد أم الحالات - ، وحينئذٍ فالمدخول مهمل في حدّ ذاته - بمعنى اللاتعيّن - فلا تجري فيه مقدمات الحكمة، و(كل) دال على السعة من حيث الشمول - أي التعيّن من هذه الجهة - ولا منافاة بينهما، ويستحيل أن يكون الإهمال والسعة من جهة واحدة لتنافيهما.

والجواب: أولاً: بالنقض بدخول (كل) على الجمع المحلّى باللام، فالمدخول يدل على العموم وكل تدل عليه، مع أنه لا استحالة ولا لغوية.

وثانياً: بالحل، باختيار الشق الأول، مع الحاجة إلى الإطلاق في المدخول وإلى (كل)، لأن إطلاق المدخول إنما هو في قبال العموم البدلي، فيدل على نفيه، و(كل) تدل على استيعاب الأفراد، مثلاً: (أكرم كل عالم) فإطلاق (عالم) يدل على عدم كونه بدلياً، و(كل) يدل على كونه مستوعباً، فتأمل.

وثالثاً: بعدم انحصار الشقوق في ثلاثة، بل هنا شق رابع، وهو أن يكون المدخول الطبيعة المطلقة، بمعنى غير المقيدة بقيد وهذا ما يستفاد من مقدمات الحكمة، ويكون (كل) دالاً على الاستيعاب الأفرادي.

الإشكال الثاني: لزوم اللغوية من الإتيان بلفظة (كل)، إذ مع إحراز عموم المدخول بمقدمات الحكمة لا تبقى حاجة في الدلالة على العموم بدالٍ آخر.

إن قلت: يكون ذلك تأكيداً.

قلت: لابد في التأكيد من أن يكون الدالان في عرض واحد، وفيما نحن

ص: 332

فيه الدلالتان طوليتان، فإنه لو ارتفع الإطلاق في المدخول ارتفع الاستيعاب الأفرادي في (كل).

وفيه: أن المدخول قد يكون ظاهراً في العموم البدلي إذا كان مفرداً منكّراً، كما لو قال: (أكرم عالماً)، فدخول (كل) يعيّنه في العموم الاستغراقي، وعدم الإتيان بالمدخول يجعل الكلام مبهماً، إذ لا معنى لأن يقول: (أكرم كل)، فالجمع بين كل والمدخول يدل على المطلوب، وهذا كافٍ في رفع اللغوية، بل ضرورة الجمع بين إطلاق المدخول وكل.

الإشكال الثالث(1): إنه لا يمكن أن يكون المقصود: استيعاب تمام المراد الجدي - الذي يُحدد بالإطلاق فلذا يكون العموم متأخراً عنه وفي طوله - ، وذلك لأنه قد لا يكون للمتكلم مراد جدّي.

كما لا يمكن أن يكون المقصود: استيعاب تمام المراد الاستعمالي، لأن المراد الاستعمالي هو نفس المدلول الوضعي - لأن الأصل عدم المجازية - فرجع إلى القول الثاني - أي دلالة (كل) على استيعاب ما ينطبق عليه - وذلك لأن المدخول هو اسم جنس وهو موضوع للطبيعة السارية في كل الأفراد فلا نحتاج إلى مقدمات الحكمة حينئذٍ، فتأمل.

القول الثاني: دلالة (كل) على استيعاب ما ينطبق عليه مدخوله، فلا حاجة حينئذٍ إلى إجراء مقدمات الحكمة، لأن الاستيعاب لتمام المدخول - وبمعناه الموضوع له - يستفاد من نفس كلمة (كل).

وأشكل عليه: بأن المدخول إن كان اسم الجنس...

ص: 333


1- بحوث في علم الأصول 3: 230-231.

أ- فإن أريد منه الطبيعة المهملة بنحو اللابشرط المقسمي بحيث تدل (كل) على استيعاب هذا المعنى، فهذه الطبيعة يستحيل انطباقها على الأفراد الخارجية، لأن الجامع بين ما يقبل الانطباق على الخارج وما لا يقبل الانطباق يستحيل وجوده في الخارج.

ب- وإن أريد دلالة (كل) على الطبيعة المطلقة، فهذا خلف فرض دلالتها على الاستيعاب.

ج- وإن أريد دلالة (كل) على أمرين: تحديد المدخول في الطبيعة المطلقة، ثم استيعاب المدخول، فهذا غير صحيح لعدم وجود دلالتين طوليتين للفظة (كل) ونحوها من سائر الأدوات.

د- فلا يبقى إلا القول بأن دلالة المدخول على الطبيعة المطلقة إنما هو بمقدمات الحكمة، مع دلالة (كل) على استيعاب أفرادها.

وأورد عليه: بإمكان اختيار الشق الأول من غير لزوم المحذور المذكور، وهو أن يكون مدلول اسم الجنس هو الطبيعة المهملة بمعنى عدم تقيّدها لا تقيّدها بالعدم، وعليه فإن اسم الجنس الذي لم يُقيّد بقيد قابل للانطباق على الأفراد بذاته من غير حاجة إلى إجراء مقدمات الحكمة.

هذا مضافاً إلى الإشكال في الكبرى - أي قوله بأن الجامع بين ما يقبل وما لا يقبل الانطباق يستحيل وجوده في الخارج - وذلك لأن مقتضى الجامعية هو وجود الجامع في مصاديقه، فإذا كان من مصاديقه ما يقبل الانطباق في الخارج، وُجد الجامع معه، وإلا لم يكن جامعاً.

والثمرة بين القولين: تظهر فيما لو تعارض العام مع مطلق، فعلى القول الأول يتساويان، إذ عموم كليهما مستفاد من مقدمات الحكمة، فيصلح كل

ص: 334

واحد منهما أن يكون قرينة على عدم إطلاق الآخر، فتختلّ مقدمات الحكمة في كليهما، وأما على القول الأول يتقدم العموم المستفاد من (كل) على إطلاق الآخر، إذ يكون العموم حينئذٍ مستفاداً من الوضع لا من مقدمات الحكمة، فيكون قرينة على عدم إطلاق الآخر حيث تختلّ إحدى مقدمات الحكمة فيه.

المقام الثاني: في استيعاب الأجزاء والأفراد

إن (كل) تارة تستعمل في استيعاب الأجزاء، كما لو قال: (طهّر كل المسجد)، وأخرى تستعمل في استيعاب الأفراد، كما لو قال: (أكرم كل عالم)، مع كون (كل) في الموردين بمعنى واحد، فما هو السبب في هذا الاختلاف؟

قد يقال: وهو الظاهر أن استفادة استيعاب الأجزاء أو الأفراد إنما يرتبط بالمدخول، فإن كان للمدخول مصداق واحد، كان لاستيعاب الأجزاء، إذ لا معنى لاستيعاب الأفراد حينئذٍ لعدم وجود أفراد، ففي المثال حيث إن (المسجد) يراد به مسجداً خاصاً بدلالة لام العهد فلابد من الاستيعاب في غير الأفراد ولا يكون ذلك إلا باستيعاب الأجزاء.

وإن كان للمدخول مصاديق متعددة - بأن أريد منه الطبيعة - فحينئذٍ يكون الاستيعاب في جميع جهات الطبيعة، ومنها أفرادها، ففي مثال: (أكرم كل عالم) يراد به طبيعة العالم الشاملة للأفراد كلها.

وقد يقال: إن الدال على الأفراد هو التنوين التنكيري، وأما مع عدم التنوين فلا دلالة على الأفراد فينصرف إلى استيعاب الأجزاء.

وفيه: أنه قد تكون دلالة على الأفراد من غير تنوين كقوله تعالى: {كُلُّ

ص: 335

الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِي إِسْرَٰءِيلَ}(1) حيث أريد به الأفراد، هذا مضافاً إلى ظهور التنوين التنكيري في البدلية كما لو قال: (أكرم رجلاً) فما الوجه في انقلابه إلى الاستغراق في (أكرم كل رجل)؟

وقد يقال: إن الدال على الأجزاء هو اللام، لأنها تدل على العهد وهو ينافي التعدد الأفرادي.

وفيه: أن الأصل في اللام أن تكون للجنس لا للعهد، ولام الجنس لا تنافي التعدد الأفرادي، مضافاً إلى نقصان هذا الوجه حيث لم يُبيّن فيه سبب الدلالة على العموم الأفراد في المجرد عن اللام.

2- ومنها: النكرة في سياق النفي أو النهي
اشارة

وفيه مطلبان:

المطلب الأول: في الدلالة على العموم

وتلك الدلالة لأن نفي الطبيعة لا يصلح إلا مع عدم وجود أي فرد من أفرادها، وكذا لا يمكن امتثال النهي عنها إلا بترك جميع أفرادها، وذلك لما مرّ في بحث النواهي أن وجود الطبيعة يكون بوجود فرد منها، وعدم وجودها لا يكون إلا بعدم وجود جميع أفرادها، فالطبيعة بمعنى واحد وإنما الفرق لهذا الوجه العقلي غير المرتبط بنفس لفظ الطبيعة.

نعم قد يمتاز النهي عن النفي، بأنه كما يمكن النهي عن مطلق الطبيعة كذلك يمكن النهي عن صرف وجودها - بمعنى أول الوجودات - كما لو نهى عن الحركة لئلا يلتفت إليهم العدو، فمع الحركة أو التفات العدو

ص: 336


1- سورة آل عمران، الآية: 93.

يسقط النهي لعدم تعلّق غرض به حينئذٍ، لكن النهي عن صرف الوجود خلاف ظاهر النهي وهو يرتبط بالقرينة، وحينئذٍ فالنكرة في سياق النهي ظاهرة في النهي عن الطبيعة المطلقة فيدل السياق على العموم.

ومع هذا البيان لا حاجة إلى حمل مثل (رجل) في (لا رجل في الدار) و (في الدار رجل) على أن المراد به أقل المراتب - أي ذات الأقل لا الأقل مقيداً بالأقلية - فيكون نفي أقل المراتب متلازماً مع نفي الجميع، عكس إثبات أقل المراتب.

فإن حمله على أقل المراتب خلاف الظاهر، بل الظاهر هو الطبيعة المطلقة التي تتحقق بفرد واحد وتنعدم بانعدام جميع الأفراد.

وأشكل على دلالة السياق على العموم بأمور منها:

الإشكال الأول: إن المعرفة في سياق العموم قد تفيد العموم أيضاً مثل: (لا تكرم الفاسق) فلا فرق بينه وبين النكرة في (لا تكرم فاسقاً).

وفيه: أن إثبات الشيء لا ينفي ما عداه، فالنكرة في سياق النفي تفيد العموم، كما أن المعرفة قد تفيد العموم، مع فرق أن المعرفة يلزم ملاحظة اللام إذ قد يراد بها فرداً معيناً بالعهد - الذكري أو الذهني أو الحضوري - فلابد من قرينة معينة لمعنى اللام، وأما في النكرة في سياق النفي فمع عدم القرينة يكون الظهور في الطبيعة فيدل السياق على العموم.

والحاصل: إن السياق فيها يدل على العموم عكس المعرفة، فلا يكتفي بالسياق بل لابد من تعيين المراد من اللام أيضاً.

الإشكال الثاني: إن هذا العموم في النكرة في سياق النهي، ليس في

ص: 337

مقام الجعل بل هو في مقام الامتثال فلا يرتبط بدلالة السياق عليه، إذ عدم الطبيعة بعدم جميع أفرادها إنما يكون في مقام الامتثال.

وفيه: أن هذا الإشكال خاص بالنكرة في سياق النهي ولا يشمل النكرة في سياق النفي، وذلك يدل على أن العموم يرتبط بجهة أخرى غير جهة الامتثال، مضافاً إلى سراية العموم من مقام الامتثال إلى مقام الجعل، بمعنى أن المولى الملتفت - ولو ارتكازاً - إلى أن عدم الطبيعة لا يكون إلا بعدم جميع أفرادها ينهى عنها بعموم أفرادها.

الإشكال الثالث: إن ذلك العموم يستفاد من الإطلاق لا من الوضع، فلابد من إدخاله في المطلقات دون العمومات.

وفيه: أن الدال على الاستيعاب هو السياق، فلا فرق بين أن يقول: (لا تكرم فاسقاً) أو (لا تكرم كل فاسق) وإجراء مقدمات الحكمة في المدخول لا يضر بالدلالة الوضعية للسياق على العموم، كما لم يكن يضر إجراؤها في مدخول (كل)، في دلالته وضعاً على العموم.

وبعبارة أخرى: إن دلالة النهي أو النفي على العموم تتبع النكرة في سعتها أو ضيقها، فالسياق يدل على جميع أفراد المنفي أو المنهي عنه، وأما مقدار هذا المنفي أو المنهي عنه فيرتبط بمقدمات الحكمة.

المطلب الثاني: قابلية تخصيص هذا العموم

قد يقال: إن العموم الثابت للنكرة في سياق النفي أو النهي يختلف عن سائر العمومات في كونه غير قابل للتخصيص، فإذا ورد إثبات في بعض المصاديق لم يكن مخصصاً بل معارضاً، فمثل: (لا رجل في الدار) يعارض (زيد في الدار) مثلاً!!

ص: 338

وفيه: أنه لا تعارض عرفاً لو كان متصلاً، وكذا لو كان منفصلاً، فلا فرق بين أن يقول: (لا تنصر أحداً إلا زيداً) وبين أن يقول: (لا تنصر أحداً) ثم يعقبه بفاصلة (أنصر زيداً) فلا نجد إلا التخصيص وهذا أمر ثابت بالوجدان.

وكذا في النفي المتصل، وأما المنفصل فقد يكون هناك ظهور في التعارض بين مثل: (لا أحد في الدار) ثم (زيد في الدار)، ولعله بسبب أن قوة السياق في نفي الطبيعة جعلت الكلام آبياً عن التخصيص، فتأمل.

3- ومنها: الجمع المحلّى باللام
اشارة

وفيه مطالب:

المطلب الأول: دلالته على العموم

لا إشكال في دلالة الجمع المحلّى باللام على العموم، لظهوره فيه عرفاً.

وقد يستدل لدلالته على العموم بأمور:

منها: صحة الاستثناء في مثل: (أكرم العلماء إلا زيداً)، والاستثناء يدل على العموم، وإلا لم يكن له وجه.

وفيه: أنه كما يصح الاستثناء من العام كذلك يمكن من المطلق فيصح مثلاً: (أحل الله البيع إلا الربا)، وذلك لأن الاستثناء يدل على الشمول في المستثنى منه، وهو أعم من العموم والإطلاق.

ومنها: لغوية الإتيان باللام لو لم يكن له دلالة على العموم.

وفيه: أن الداعي لاستعمال اللام متعدد، منها التزيين، ومنها مراعاة قواعد اللغة في التعريف والتنكير، ومنها العهد الذهني أو الذكري أو الحضوري، وغير ذلك.

ص: 339

المطلب الثاني: في بيان سبب دلالته على العموم

لا يخفى أن الجمع المحلّى باللام يتركب من اللام، وهيأة الجمع، والهيأة التركيبيّة منهما، ومن المادة، لا كلام في المادة، وإنما الكلام في أن الدال على العموم هل إحدى الثلاث الأولى، أو شيء آخر؟ وفي ذلك وجوه:

الوجه الأول: دلالة الهيأة التركيبية.

وفي سبب الدلالة احتمالات، منها:

الاحتمال الأول: إن هذه الهيأة معنى اسمي، ومعناها (المتعدد من الأفراد) وكل فرد من الأفراد هو مصداق لهذا المعنى.

وفيه: مضافاً إلى الإشكال في المبنى وذلك لكون الهيئات معانياً حرفية، أن الفرد ليس مصداقاً للمتعدد من الأفراد إلا بدلالة التزامية، وأن (المتعدد من الأفراد) لا دلالة له على الاستيعاب، بل هو أقرب إلى البدلية.

الاحتمال الثاني: هو أنه لا إشكال في دلالة الجمع المحلّى باللام على العموم، ولا يمكن أن تكون هذه الدلالة من اللام ولا من الجمع، لما سيأتي من الإشكالات على كليهما، فلا يبقى إلا القول بدلالة الهيأة التركيبية على العموم وضعاً، مع كون المدلول معنى حرفياً، وهذا هو أقرب الوجوه كما سيتضح.

الوجه الثاني: دلالة اللام على العموم وضعاً.

ويرد عليه: أولاً: إنه يستلزم المجازية لو أريد من الجمع المحلّى باللام جماعة مخصوصة، إما لعهد ذكري أو ذهني أو حضوري، والمجازية حينئذٍ واضحة البطلان.

إن قلت: يمكن القول بالاشتراك بين العموم وبين العهد لجماعة

ص: 340

مخصوصة.

قلت: مضافاً إلى عدم شعورنا بالاشتراك حيث لا نجد فرقاً من حيث المعنى بين الموردين، أن الاشتراك سبب إجمال الكلمة لو لم تكن قرينة معيّنة، وظاهرهم هو الحمل على العموم مطلقاً، حتى مع عدم وجودها.

وثانياً: إنه يستلزم تعدد الوضع في اللام حيث إنها تدخل على المفرد ولا تدل على العموم، وتدخل على الجمع فتدل عليه، مع أن الظاهر أن معنى اللام واحد وهو العهد.

وثالثاً: قد تدخل (كل) وأمثالها على الجمع المحلّى، كقوله: (أكرم كل العلماء)، وحينئذٍ فإما يُصار إلى القول بالتأكيد، أو إلى دلالة كل منهما على الاستيعاب استقلالاً بأن تكون هنالك دلالتان على الاستيعاب، والأول خلاف الظاهر إذ الأصل هو التأسيس، والثاني يستلزم اجتماع المثلين، إذ المدخول وهو العلماء مستوعب فكيف يقبل الاستيعاب ثانية بواسطة (كل)؟!

وفيه نظر: إذ لا مانع من التأكيد لو دلّ الدليل على وضعهما للاستيعاب، كما لا اجتماع للمثلين لما مرّ من أن دلالة الألفاظ على المعاني إنما هو لكونها علامة لها، ولا مانع من وجود علامتين مستقلتين لشيء واحد، فليس هو من استيعاب المستوعب بل من الدلالة عليه.

الوجه الثالث: دلالة اللام على العهد، واستفادة العموم من جريان مقدمات الحكمة في مدخولها - أي الجمع - .

بيانه: أن الجمع يدل على البدل على مراتب كثيرة، أقلّها ثلاثة أفراد

ص: 341

وأكثرها استيعاب تمام الأفراد، وحيث إن اللام للعهد - وهو التعيين - فلابد من تعيين إحدى تلك المراتب للجمع، ولا يتحقق التعيين إلا في المرتبة العليا وهي استيعاب تمام الأفراد، لأن سائر المراتب غير معيّنة في أفراد معلومين، بل كل مرتبة منها قابلة للانطباق على بعض الأفراد دون بعض، مثلاً أدنى المراتب وهي ثلاث أفراد، غير معينّة بل يمكن انطباقها على كل ثلاثة في ضمن الأفراد فالثلاثة الأولى، والثلاثة الثانية، والثلاثة الثالثة... الخ، وهكذا سائر المراتب، حتى المرتبة التي هي قبل الاستيعاب - وذلك بخروج فرد واحد - فلا يُعلم هذا الفرد الخارج أيّاً من الأفراد.

والحاصل: إن اللام دلت على التعيين، والجمع دلّ على مرتبة من المراتب، فباقتضاء مقدمات الحكمة لابد من تعيّن تلك المرتبة في العُليا، لعدم التعيين في أيّ مرتبةٍ أخرى.

وبهذا البيان يتضح عدم ورود الإشكالات على هذا الوجه، ومنها:

الإشكال الأول: إن التعيّن غير منحصر في المرتبة العليا، بل المرتبة الدنيا - وهي أقل الجمع - أيضاً معيّنة، لكنها على البدل.

وأجيب: بأن المراد من العهد هو التعيّن في الخارج، لا التعيّن في الماهية، فماهية (الثلاثة) وإن كان معيناً إلا أنه لا تعيّن في الخارج، مع وضوح أن البدلية تنافي التعيّن، وأما أعلى المراتب فتعينها في الخارج وعلى الأفراد الخارجية.

وأما تقسيم العهد إلى الخارجي والذهني، فلا يراد من الذهني الكلي، بل يراد عدم حضور المعهود حين الذكر، فهي مصاديق خارجية غير حاضرة وهي معيّنة في الخارج ويكون الذهن مرآة لها.

ص: 342

الإشكال الثاني(1): قد يكون للأقلّ تعيّن خارجي أيضاً، وقد يكون قدر متيقن في مقام التخاطب، أو قدر متيقن في مقام خارج مقام التخاطب، وفي هذه الموارد لا تجري مقدمات الحكمة ومع ذلك لا إشكال في دلالة (الجمع المحلّى) على العموم، وبذلك نكتشف أن هذه الدلالة لا ترتبط بالإطلاق.

1- فالتعين الخارجي مثل قول المولى: (اصعد الطوابق) وكانت عشرة، فكل مرتبة من الثلاثة إلى التسعة معينة، إذ الثلاثة مثلاً معيّنة في الثلاثة الأولى فقط دون الثلاثة الثانية أو الثالثة، وهكذا سائر المراتب كلّها معيّنة، فكل المراتب معيّنة، فلا ينحصر التعيين في المرتبة العليا، ومع ذلك ظاهر اصعد الطوابق هو صعودها كلّها.

2- والقدر المتيقن في مقام التخاطب، مثل ما لو كان السؤال عن جماعة مخصوصة، كما لو سأل: هل أكرم فلاناً وفلاناً وفلاناً، فأجاب المولى: (أكرم العلماء)، فلا إشكال في عموم الجواب مع وجود قدر متيقن في مقام التخاطب، ولو كان استفادة العموم من مقدمات الحكمة لما دلّ الجواب على العموم، مع أنهم يلتزمون بأن خصوصية المورد لا تخصص الوارد حتى في مثل هذا.

3- والقدر المتيقن في خارج مقام التخاطب، كما لو قال المولى: (أكرم العلماء) وكان أحدهم عدواً للمولى، فهو داخل في الأمر مع أن الدلالة على العموم لو كانت بالإطلاق لما دلّت عليه، لاخترام مقدمات الحكمة.

وفيه تأمل: أما الأول: فإن المراتب كلها وإن كانت معينةً خارجاً

ص: 343


1- بحوث في علم الأصول 3: 243.

ومصداقاً، إلا أنه لابد من الحمل على أعلى المراتب، لأنه القدر المتيقن، أما سائر المراتب - رغم تعينها - فهي غير متيقنة، اللهم إلا أن يقال: إن مرجع هذا إلى الأقل والأكثر الارتباطي الذي هو مجرى أصالة البراءة عن الزائد.

وأما الثاني: فقد يقال: إن مقدمات الحكمة وإن انخرمت بسبب وجود قدر متيقن، إلا أن ظاهر كلام المولى هو بيان علة إكرامهم وهو كونهم من العلماء، وهذه العلة تجري في غيرهم أيضاً لذا لا يختص الحكم فيهم، فتعليق الحكم على الوصف قد يُشعر بالعلية إلا أن القرائن المقامية قد تجعله ظاهراً في العلية، ومنها ما نحن فيه.

وأما الثالث: فلا محذور في الالتزام بعدم شمول الحكم لعدو المولى في المثال، حتى لو قلنا بالدلالة الوضعية، لأن القرينة اللبيّة كالقرينة اللفظية.

لكن الإنصاف: إمكان دفع هذه الملاحظات، وعليه لا يبعد صحة هذا الإشكال في الجملة.

الإشكال الثالث: إن التعيين بالمرتبة العليا لا يرتبط بمقدمات الحكمة، بل هو بدلالة الاقتضاء، إذ تصحيح كلام المولى يتوقف على حمل التعيين على المرتبة العليا، إذ لا تعيّن في سائر المراتب، والمرتبة المعيَّنة وهي المرتبة العليا، وهذه الدلالة لاترتبط بالإطلاق كي نحتاج إلى إجراء مقدمات الحكمة ثم الإشكال فيها، فتأمل.

المطلب الثالث: في عموم المدخول أو المراد

بناءً على وضع اللام للدلالة على العموم في الجمع المحلّى باللام يأتي كلام حول أن الدلالة على عموم ما ينطبق عليه المدخول أو عموم ما يراد

ص: 344

من المدخول في مثل: (أكرم العلماء العدول)، فعلى الأول يكون التضييق تخصيصاً، وعلى الثاني لا تخصيص بل هو من باب ضيّق فم الركية، وقد مرّ البحث في ذلك في مدخول (كل) فراجع.

وأما بناءً على دلالة اللام على التعيين فقط واستفادة العموم من مقدمات الحكمة، فلا موضوع لهذا البحث أصلاً، نعم لابد من معرفة معنى المدخول لنحمله على أعلى المراتب.

ص: 345

فصل في العام المخصَّص

اشارة

إذا خُصِّص العام بمخصِّص - متصل أو منفصل - ، فلا إشكال في عدم شمول حكم العام للخاص، وإنما الكلام في حجية العام في تمام الباقي.

وهنا شبهة، حاصلها: أن العام وُضع للعموم، فتخصيصه بمعنى استعماله في غير ما وضع له، وذلك مجاز، وحيث إن المجاز مراتب متعددة، ولا يوجد مُعيِّن لإحدى تلك المراتب، فيصبح هذا العام مجملاً، فلا حجية له على أيِّ مرتبة من المراتب، فلابد للقائل بحجيته في تمام الباقي من إقامة دليل على ذلك.

والجواب: تارة بإنكار المجازية وبيان المعيِّن لتمام الباقي، وأخرى بتسليم المجازية، فالكلام في مقامين:

المقام الأول: إنكار المجازية

مع بيان سبب تعيّن العام في تمام الباقي، وبيانه يختلف بحسب اختلاف المباني.

الأول: على مبنى القائل بأن أدوات العموم وضعت للدلالة على استيعاب ما يُراد من المدخول، مع استفادة ذلك من مقدمات الحكمة.

وعليه فإن المخصص لا يُنافي العموم، وإنما هو قرينة لبيان المراد من المدخول، فمثل: (أكرم كل عالم) لا يختلف معنى (كل) سواء خُصِّص

ص: 346

بمثل: (لا تكرم فساقهم) أم لم يخصص، فهي مستعملة بمعنى واحد هو عموم ما يراد من المدخول، وحينئذٍ فالمراد الواقعي والاستعمالي من أداة العموم هو شيء واحد، فلا مجازية ألبتة، وعليه فالدلالة على تمام الباقي كان بمقدمات الحكمة.

الثاني: على مبنى القائل بأن أدوات العموم موضوعة للدلالة على استيعاب ما ينطبق عليه المدخول، فلا مجازية أيضاً، وذلك لأن هذه الأدوات حتى بعد تخصيصها مستعملة بمعناها الموضوع له، وإنما المراد الجدي هو غير الخاص من أفرادها، والمجازية ترتبط بالدلالة الاستعمالية دون الدلالة الجديّة.

فالخاص لا ينافي ظهور العام في العموم، وإنما يتعارضان في المراد الجدي، فيتقدّم الخاص على العام لكونه أظهر، فلا يكون العام حجة في الخاص لوجود المعارض، وأما في غير الخاص فلا معارضة، فيبقى العام حجة فيه.

وذلك لأنه في مقام التكلّم يوجد أصلان عقلائيان:

أحدهما: أصالة الحقيقة، بأن يكون المتكلّم استعمل اللفظ في معناه الموضوع له، وبذلك ينفي العقلاء الخطأ والغلط والسهو، والمجاز.

والآخر: أصالة تطابق المراد الاستعمالي مع المراد الجدي، بأن يكون ظاهر كلام المتكلّم هو مراده واقعاً.

وحين التخصيص لا موجب لرفع اليد عن الدلالة الأولى، ليكون العام مستعملاً في غير ما وضع له، بل لا مانع من بقاء أصالة الحقيقة، وإنما الخاص يتعارض مع الإرادة الجدّية فيتقدم عليها.

ص: 347

وبعبارة أخرى: لابد بعد التخصيص من رفع اليد عن الإرادة الجدّية في موارد الخاص، ولا وجه لرفع اليد عن أصالة الحقيقة في العام نفسه.

وحينئذٍ ففي غير الخاص يجري كلا الأصلين، فيكون للكلام ظهور في الأفراد غير المخصصَّة مع تطابق هذا الظهور مع المراد الجدي، نعم يسقط الأصل الثاني في الأفراد المخصَّصة فقط.

إن قلت: لو كانت الإرادة الجدّية تخالف الإرادة الاستعمالية، فلماذا لم يذكر المتكلّم كلاماً يتطابق مع الإرادة الجدّية؟

قلت: الغرض من ذلك ضرب القاعدة والقانون، ليكون المرجع حين الشك في خروج بعض الأفراد، وخاصة مع استلزام بيان الإرادة الجدّية طول الكلام وكثرة ذكر القيود فيه، فيذكر المولى العام ليكون المرجع والحجة كلّما لم نجد مخصصاً له، فنكتشف الإرادة الجدّية بعد عدم وجدان المخصصات.

وأورد عليه عدة إشكالات، منها:

الإشكال الأول(1): لو لم يكن الإنشاء بعثاً حقيقياً في بعض الأفراد مع كونه متعلقاً به في مرحلة الإنشاء، لزم صدور الواحد عن داعيين، بلا جهة جامعة بينهما وهما ضرب القاعدة وجعل الداعي!!

ولا يكفي القول بأن الداعي هو مجرد جعل القاعدة، إذ لا يترتب عليها البعث لعدم إنشائه بداعي البعث كما لايترتب عليها الحجية إذ هي متقوّمة بالكاشف عن البعث، كما لا يمكن الالتزام بانقلاب الإنشاء بحيث كان قبل

ص: 348


1- نهاية الدراية 2: 450.

المخصص لجعل القاعدة وبعده لجعل الحجية!!

ويمكن أن يقال: أولاً: كل واحد من البعث وضرب القاعدة يكون جزء العلة لصدور الإنشاء بحيث يصلح للعلية التامة لو انفرد، هذا مع قطع النظر عن أن الداعيين ليسا عِلة وإنما هما من مقدماتها، حيث إنهما من المعدّات.

وثانياً: إن الداعي لو كان جعل القاعدة فيمكن القول بأن لازمه البعث، فلم يستلزم انخرام قاعدة الواحد، هذا مع الإشكال في أصل المبنى.

الإشكال الثاني(1): إن في الأمر بالعام ظهورين، أحدهما: الظهور الاستعمالي بمعنى أن العام مستعمل في معناه الحقيقي وهو العموم، والآخر: الظهور من حيث الداعي بمعنى كون الإنشاء بداعي البعث.

وبعد ورود الخاص لابد من رفع اليد عن أحد الظهورين، إما عن الظهور الاستعمالي بأن نقول: إن العام استعمل في الخاص، وإما عن الظهور من حيث الداعي بأن نقول: إن الأمر لم يصدر بداعي البعث بل بداعي جعل القاعدة، ولا مرجح لأحدهما على الآخر.

وفيه: أن المرجح موجود، وهو أنه بعد ورود المخصص نقطع بعدم كون الإنشاء بالنسبة إلى الخاص بداعي البعث، فهذا الظهور ساقط بهذا المقدار لا محالة، وأما الظهور الاستعمالي فلا قطع بسقوطه، بل ادعاء القطع بعدم سقوطه غير مجازفة، فليس (كل) بمعنى (بعض) استعمالاً.

ثم إن المحقق الإصفهاني أجاب عن كلا الإشكالين(2): وحاصله: أنه

ص: 349


1- نهاية الدراية 2: 450.
2- نهاية الدراية 2: 451.

يمكن أن يقال: إن المخصص المنفصل إما أن يرد قبل وقت الحاجة أو بعدها...

فعلى الأول: فالإنشاء وإن كان بداعي البعث الجديّ، إلا أنه إنما يكون بالإضافة إلى موضوعه - الذي يحدّده ويعيّنه بكلامين منفصلين - فإنه لو علم أن عادة هذا المتكلم هي إفادة مرامه الخصوصي بكلامين، لم يكن ظهور كلامه في العموم دليلاً على مرامه.

وعلى الثاني: فإن الإنشاء إنما هو بداعي البعث الجدي بالإضافة إلى الجميع، غاية الأمر إن البعث المزبور منبعث في بعض أفراد العام عن المصالح الواقعية الأولية، وفي بعضها الآخر عن المصالح الثانوية بحيث ينتهي أمدها بقيام المخصّص.

وفيه: أن هذا المقدار لا يكفي في دفع الإشكال، وذلك لعدم إثباته صدور الأمر بداعي جعل القانون والقاعدة، فمن الصحيح أن ظهور كلامه في العموم لا يكون دليلاً على مرامه، لكن كيف نثبت الدلالة على كون الكلام لجعل القاعدة؟! فتأمل.

الإشكال الثالث(1): إن معنى (استعمال العام في العموم ليكون قاعدة وحجة) يحتمل أحد وجهين: إما حجية العام على العموم إذا لم يرد مخصص، وإما حجيته على الباقي إذا ورد مخصص.

أما الأول: فلا يصح، بعد كون الغالب هو ورود الخاص قبل وقت العمل بالعام، وذلك لأن حجية العام إنما هي من باب أصالة العموم، التي تجري

ص: 350


1- منتقی الأصول 3: 307.

عند حضور وقت العمل لا قبل حضوره، إذ لم يقم بناء من العقلاء على جريانها قبل حضور وقت العمل.

وأما الثاني: فلأن الحجية على الخصوص إنما هي لكونه جزء مدلول العام، فيدل العام على الخاص بالدلالة التضمنية، وذلك لا يصح إذ استعمال العام مع إرادة الخاص لغو إذ كان يمكن التعبير عن الخاص باللفظ الدال عليه، مضافاً إلى أن هذا الكلام يبتني على عدم تبعية الدلالة التضمنية للدلالة المطابقيّة.

وفيه تأمل: أما الأول: فلقيام بناء العقلاء على الحجية حتى قبل وقت العمل، خصوصاً بناءً على القول بالواجب المعلّق، وتظهر الثمرة في الإتيان بالمقدمات، ويمكن التعبير عنه ب-(الحجية اللولائية).

وأما الثاني: فلعدم اللغوية وخاصة أن استعمال العام أكثر اختصاراً وأوضح، وكونه مرجعاً في المشكوكات، مع كثرة مصاديق العام وعدم انضباطها، فلابد من تكرار الأمر مرات وكرات في كل المصاديق أو الأصناف، فبدلاً من ذلك يأتي بلفظ واحد جامع - وهو العام - ثم يُخرج منه الخاص بألفاظ معدودة أيضاً، فأن يقول: (أكرم العلماء) ثم يقول: (لا تكرم زيداً) أفضل من أن يقول أكرم عمراً وبكراً وخالداً و... ثم يعدد سائرهم، بل قد لا يمكن تعدد أفراد العام لكثرتهم أو لورود العام بنحو القضية الحقيقية التي تشمل الأفراد التي ستوجد بعد ذلك.

مضافاً إلى عدم ابتنائه على تبعية الدلالة التضمنية للدلالة المطابقية، وذلك لدلالة العام على جميع أفراده وحجيته فيها، وبالخاص خرج بعض الأفراد عن الحجية لا أن الدلالة المطابقية سقطت مع بقاء الدلالة التضمنية.

ص: 351

وبعبارة أخرى: إن الدلالة المطابقية - وهي المدلول الاستعمالي - باقية حتى بعد التخصيص، والحجية لم تسقط عن هذه الدلالة، وإنما استثني منها بعض الأفراد الخاصة، فمعنى (حجية العام على الباقي إذا ورد مخصص) ليس سقوط الحجية عن المدلول المطابقي، بل هي باقية مع استثناء بعض الأفراد.

المقام الثاني: التسليم بالمجازية

ولكن ترجيح المجاز في تمام الباقي على سائر المجازات، لأحد الوجوه التالية:

الوجه الأول: إن ترجيح المجاز في الباقي لأجل أن العقلاء يستعملون العام للإفهام، وحيث كثر التخصيص حتى قيل: (ما من عام إلا وقد خُصّ) فلو لو يكن العام مجازاً في الباقي لصار مجملاً لتعدد مراتب المجاز، وهو خلاف غرضهم من الاستعمال للإفهام، ولا طريق لرفع الإجمال إلا حمل العام على ما بقي بعد التخصيص، لأن سائر المراتب لا ترفع الإجمال، فلذا حملوا العام المخصص على هذه المرتبة، مما أوجب ظهور العام المخصص فيها من بين سائر المراتب، وهذا أقرب الوجوه.

الوجه الثاني: إن الباقي أقرب للعام من سائر المراتب.

وأشكل عليه: بأن الأقربية لا توجب ظهوراً، بل الظهور إنما يحصل بسبب كثرة الاستعمال الموجب للأنس بحيث ينسبق المعنى إلى الذهن عند سماع اللفظ.

أقول: إن الأقربية من حيث الكم وإن لم تكن سبباً لترجيح هذه المرتبة،

ص: 352

إلا أن الكلام هو بعد قبول ظهور العام المخصص في تمام الباقي والبحث عن النكتة الارتكازية التي أوجبت ترجيح العقلاء هذه المرتبة من المجاز على سائر المراتب.

الوجه الثالث: إن العام يدل على جميع أفراده، فخروج بعض الأفراد بالتخصيص وإن استلزم المجازية، لكن تلك المجازية إنما هي لأجل عدم شمول العام لأفراد الخاص، لا بسبب دخول أفراد لم تكن مصاديق للعام، وحينئذٍ فالمقتضي للحمل على الباقي - وهو كونها أفراد للعام - موجود، والمانع مفقود، لأن المانع هو صرف اللفظ عن مدلوله، والمفروض انتفاؤه عن الباقي، إذ التخصيص إنما هو في أفراد الخاص لا في سائر الأفراد.

وعلى هذا الوجه حمل صاحب الكفاية ما في تقريرات الشيخ الأعظم(1).

وأشكل عليه: بأن الدلالة على كل فرد من الأفراد ناشئة عن العموم، وقد سقط دلالة العام على العموم باستعماله في إحدى المراتب مجازاً، ولا يوجد ما يُعيّن تلك المرتبة، إذ بارتفاع الدلالة المطابقية ترتفع الدلالة التضمنية أيضاً.

الوجه الرابع: وبه فُسّرت عبارات التقريرات أيضاً، وحاصله: أن العام الاستغراقي يدل على كل فرد من أفراده بدلالة استقلالية لا ترتبط بدلالته على فرد آخر، كذلك ثبوت الحكم في كل فرد غير مرتبط بدلالته بالفرد الآخر، وعليه: فلو قام دليل ينفي دلالة العام على بعض الأفراد بقيت الدلالة على سائر الأفراد فيبقى فيها الحكم.

ص: 353


1- إيضاح كفاية الأصول 3: 32-34.

وأشكل عليه: بأن الدلالة الاستقلالية على كل فرد إنما هي بمعنى استعمال اللفظ في أكثر من معنى، مضافاً إلى أن العام لم يوضع للدلالة على كل فرد استقلالاً بل دلالته عليها هي دلالة تضمنيّة.

الوجه الخامس: إنه قد تكون المجازات متباينة، فمع عدم إرادة المعنى الحقيقي لابد من وجود قرينة تعيّن إحدى المجازات وإلا صار الكلام مجملاً.

وأما مع عدم تباينها بأن كانت من الأقل والأكثر حيث إن الأكثر هو الأقل مع زيادة، فحينئذٍ لا محذور في إرادة جميع المجازات مع تداخل بعضها في بعض، فالقرينة تصرف الكلام عن المعنى الحقيقي إلى المعنى المجازي وحيث لا تباين فيمكن حمل اللفظ على جميع تلك المجازات!!

ويرد عليه: أن الإمكان لا يعني الوقوع فما هو الدليل على ذلك، بل يبقى الإجمال أيضاً مثلاً لو قال: (جاء الرجال) ثم قال إلا (بعضهم) فهل يحمل البعض على الواحد فقط لتداخل مراتب البعض؟! أم يقال بالإجمال كالمجازات المتباينة.

مضافاً إلى أن الأكثر (لا بشرط) لا ينافي الأقل بل هو الأقل وزيادة، أما لو كان (بشرط لا) كما هو الظاهر في التخصيص فيكون من المتباينين، فتأمل.

ص: 354

فصل في إجمال المخصص

اشارة

لو كان الخاص مجملاً فهل يسري إجماله إلى العام بحيث يسقط عن الحجية في كلّ ما احتمل كونه من الخاص أم لا؟

فنقول: إن الشبهة إما مفهومية أو مصداقية، والخاص إما يكون متصلاً أو منفصلاً، وكل منهما إما يكون الدوران بين المتباينين أو الأقل والأكثر، فهنا مقامات ثلاث:

المقام الأول: في الشبهة المفهومية

كما لو قال: (أكرم العلماء)، ثم استثنى الفاسق، وتردد الفاسق بين مرتكب الكبيرة وبين مرتكب الذنب مطلقاً - كبيرة كان أو صغيرة - ، أو استثنى زيداً وتردد زيد بين زيد بن عمرو أو زيد بن بكر مثلاً، فالكلام في صور أربع:

الصورة الأولى: المتصل المردّد بين الأقل والأكثر.

وحينئذٍ لا ظهور للعام إلا في غير الخاص فمثل: (أكرم العلماء إلا الفساق) لا ينعقد ظهور للعام إلا في غير الفساق، فالموضوع هو (العالم غير الفاسق)، وهذا العنوان غير معلوم الانطباق على مرتكب الصغيرة - في المثال - ، فيكون التمسك بالعام فيه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية للعام، وهو واضح البطلان.

ص: 355

الصورة الثانية: المتصل المردّد بين المتباينين.

فأيضاً لا ينعقد ظهور للعام إلا في غير الخاص، ففي مثال تردد زيد بين ابن عمرو أو ابن بكر لا ظهور للعام في أيٍّ منهما، فلا يكون حجة فيهما.

وقد يقال: إن شمول حكم العام بالإرادة الجدّية لأحدهما مسلَّم، إلا أنه غير معلوم ومردّد بين فردين مثلاً، فيكون من موارد العلم الإجمالي...

فإن كان العام واجباً والخاص جائزاً أو بالعكس، فحينئذٍ لابد من الاحتياط بإجراء حكم الوجوب على كلا الخاصين المتباينين لإدراك الواقع بينهما.

وإن كان أحدهما واجباً والآخر محرّماً فيكون في موارد التخيير بفعل أحدهما وترك الآخر مع عدم جواز فعلهما معاً أو تركهما معاً لاستلزام ذلك المخالفة القطعية.

والحاصل: إن العام وإن لم يكن ظاهراً في كلا المتباينين، لكن مقتضى العلم الإجمالي هو ما ذكر.

الصورة الثالثة: الخاص المنفصل المردد بين متباينين.

فالعام وإن كان ظاهراً فيهما، لانعقاد ظهوره في العموم، إلا أنه ليس بحجة فيهما، وذلك للتعارض الحاصل بين الفردين، حيث نعلم إجمالاً بخروج أحدهما عن حكم العام فالتخصيص يضيّق دائرة حجية العام في غير الخاص، وحيث تردد الخاص بين متباينين فلا يكون حجة في أيٍّ منهما.

وقد يقال: إن العلم الإجمالي كما يقتضي خروج أحدهما عن حكم

ص: 356

العام كذلك يقتضي شمول الحكم لأحدهما أيضاً، فلابد من الاحتياط، كما مرّ في الصورة الماضية.

الصورة الرابعة: الخاص المنفصل المردد بين الأقل والأكثر.

أما الأقل فمعلوم الخروج عن حكم العام بلا إشكال، وأما الأكثر فخروجه مشكوك - كمرتكب الصغيرة في المثال - ، وحينئذٍ فقد يقال: بحجية العام في مورد الشك، وذلك لانعقاد ظهور العام في العموم قبل ورود المخصص، فيكون العام حجة في جميع الأفراد لأصالة مطابقة الإرادة الاستعمالية للإرادة الجدّية، وحينئذٍ مزاحمة الخاص إنما هو في المقدار المعلوم وهو الأقل فيترجح على العام لكون الخاص أقوى منه دلالةً.

وبعبارة أخرى: إن الخاص إنما يزاحم العام فيما كان الخاص حجة فيه - وهو الأقل الذي هو القدر المتيقن - أما في غيره فلا حجية للخاص فيه فلا يزاحم العام، فيكون العام حجة فيه من غير مزاحم حيث انعقد ظهور العام فيه مع أصالة المطابقة كما بينّاه.

وأشكل عليه(1): بما حاصله: أن حجية الخاص إنما هي فيما كان الخاص ظاهراً فيه فعلاً، للغوية جعل الحجية فيما لم يكن اللفظ ظاهراً فيه، كخبر الواحد المجمل الذي قد يقال بعدم شمول أدلة الحجية له للغوية جعل الحجية بعد ما لم يكن له أثر، وحينئذٍ لا يكون الخاص حجة إلا في المقدار المعلوم، وأما المشكوك فلا حجية له فيه، فيبقى العام بلا مزاحم في حجيته!!

إن قلت: جعل الحجية فيما نحن فيه ليس بلغو، لترتب أثر عملي مهم

ص: 357


1- منتقی الأصول 3: 317.

عليه، وهو سلب حجية العام في الموارد المشكوكة، فعليه فالحجية لواقع الخاص حتى لو لم يكن ظاهراً فيه، وحينئذٍ فالخاص يستلزم تضييق دائرة حجية العام بغير العنوان الواقعي للخاص، فالعبد يعلم بعد ورود الخاص بأن العام الصادر أولاً لايراد به جميع الأفراد، فالمراد الواقعي من العام تضيّق بمجيء الخاص، وحيث لا يعلم مقدار دلالته صار العام مجملاً في الأفراد المشكوكة، وأثر ذلك هو التوقف عن إثبات حكم العام لما يشك في كونه من أفراد الخاص!

قلت: هذا الكلام وإن كان متيناً، لكنه يُبتنى على القول بعدم انحلال العلم الإجمالي المردد بين الأقل والأكثر الارتباطيين، فيثبت حينئذٍ إجمال العام في مورد الشك.

لكن الصحيح هو أن العلم الإجمالي بين الأقل والأكثر الارتباطيين ينحل إلى علم تفصيلي بالأقل وشك بدوي في الأكثر، لأنه وإن علم إجمالاً بثبوت الحكم على واقع الخاص، لكنه منحل كما عرفت، فلا دليل على خروج الأكثر عن العام.

بل يمكن القول برجوع الشبهة المفهومية إلى الأقل والأكثر الاستقلاليين لأن الحكم في العام ينحل بعدد الأفراد - في العام الاستغراقي - ولا إشكال في الانحلال حينئذٍ، فتأمل.

المقام الثاني: في الشبهة المصداقية
اشارة

وهي فيما إذا عُلم مفهوم الخاص بحدوده مع الشك في انطباقه على بعض الأفراد، للاشتباه خارجاً، كما لو علم بمفهوم الفسق لكن شك في

ص: 358

كون زيد فاسقاً أم لا مثلاً، وهذا أيضاً إما في الخاص المتصل أو المنفصل، وكل واحد منهما إما يدور الأمر بين المتباينين أو الأقل والأكثر.

1- أما المتصل

سواء من المتباينين أم الأقل والأكثر، فإن ظهور العام لاينعقد إلا في غير الخاص، فالفرد المشكوك كما يُشك انطباق الخاص عليه كذلك يُشك في انطباق العام عليه، فيكون التمسك بالعام فيه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية للعام نفسه، وعليه فلا إشكال في عدم جواز التمسك بالعام حينئذٍ.

مثل ما لو قال: (أكرم العلماء إلا الفساق) يكون ظهور العام في (العالم غير الفاسق) وهذا هو الذي صار موضوعاً لوجوب الإكرام، فمع الشك في فسق زيد لا نعلم بانطباق عنوان العام وهو (العالم غير الفاسق) عليه، وبعبارة أخرى: يتعنون العام بعنوان الخاص المتصل فلا يُعلم شموله للفرد المشكوك أصلاً.

2- وأما المنفصل
اشارة

فتارة يكون الخاص لفظياً، وأخرى لبيّاً، فالكلام في موردين:

المورد الأول: المخصص اللفظي

فقد قيل: بجواز التمسك بالعام في المصداق المشكوك كونه من الخاص، وقيل: بعدم جواز التمسك به.

أما الجواز فقد يستدل له بأمور منها:

الدليل الأول: إن العام انعقد له ظهور في العموم، فيكون حجة فيه لأصالة تطابق الإرادة الاستعمالية مع الإرادة الجدّية، وأما الخاص فليس له

ص: 359

ظهور في الفرد المشكوك فلا يكون حجة فيه، فلا مزاحمة من الخاص للعام في مقام الحجية.

وبعبارة أخرى: كما عن المحقق الإصفهاني(1)

إن الحكم إنما يكون فعلياً لو وصل إلى المكلّف، إذ قد مرّ أن البعث والزجر هو بمعنى جعل ما يمكن أن يكون داعياً أو زاجراً، ومع عدم وصول الحكم والجهل به لا يُعقل ذلك، فلا يكون الحكم فعلياً، وفيما نحن فيه: انطباق عنوان العام على الفرد المشكوك معلوم فيكون حجة فيه، وانطباق عنوان الخاص غير معلوم فلا يكون المخصّص حجة فيه، إذ الأول فعلي والثاني غير فعلي، ومناط المعارضة هو فعلية كلا المتعارضين لا مجرد صدور الإنشائين المتناقضين، وحينئذٍ فإن مجرد ورود المخصص لا يوجب اختصاص حجية العام بما عدا المعنون بعنوان الخاص، غاية الأمر إن حكم العام بالنسبة إلى العالم العادل الواقعي حكم واقعي، وبالإضافة إلى الفاسق الواقعي المشكوك فسقه حكم ظاهري، بمعنى أنه رُتّب حكم فعلي على موضوع محكوم بحكم مخالف واقعي.

وأشكل عليه بإشكالات، منها:

الإشكال الأول: بأن العام وإن كان ظاهراً في الفرد المشكوك، لكن حجيته فيه غير معلومة وذلك لأن الخاص يوجب تضييق حجية العام بغير الخاص.

فإن المخصص كاشف نوعي عن عدم وجوب إكرام العالم الفاسق،

ص: 360


1- نهاية الدراية 2: 454-455.

ولازمه قصر حكم العام على بعض مدلوله، فهنا كاشفان نوعيان لايرتبط حجية أحدهما بالآخر، وقصر حكم العام لايدور مدار انطباق عنوان المخصص على شخص في الخارج حتى يتوهم عدمه مع عدم الانطباق، بل لازم وجود هذا الكاشف الأقوى اختصاص الحكم العمومي ببعض أفراده، وحيث إنه أقوى فيكون حجة رافعة لحجية العام بالإضافة إلى بعض مدلوله(1).

وبعبارة أخرى: المخصّص كما يكشف نوعاً عن ثبوت الحكم لعنوان الخاص، كذلك يكشف بالملازمة عن نفي حكم العام عن عنوان الخاص للمنافاة بينهما، ولازمه عقلاً هو قصر حكم العام على بعض مدلوله.

وفيه: - مع قطع النظر عن الإشكالات المبنائية - أن حجية الخاص إنما هي في الأفراد الواصلة وهي الأفراد المعلوم كونها من مصاديق الخاص، وأما الأفراد المشكوكة فليس الخاص حجة فيها لعدم وصول شيء فيها، وعليه: فإن الخاص يضيّق دائرة العام ويقصره على غير الأفراد المعلوم كونها من الخاص، فلا دلالة مطابقية للخاص على حجيته في الأفراد المشكوكة، فتسقط الدلالة الالتزامية - الدالة علی تضييق العام وعدم شموله للأفراد المشكوكة - ، وحينئذٍ ينطبق العام على الفرد المشكوك من غير معارض، فتأمل.

الإشكال الثاني: عدم الفرق بين الشبهة المفهومية والشبهة المصداقية، فكيف تمسكوا بالعام في الشبهة المفهومية الدائرة بين الأقل والأكثر، ولم

ص: 361


1- نهاية الدراية 2: 455.

يتمسكوا بالعام في الشبهة المصداقية الدائرة بينهما، مع وحدة الدليل والإشكال في كلا الموردين؟!!

وأجيب(1): ببيان الفرق بين الموردين، وحاصله: بأن الأحكام في القضايا الشرعية هي بنحو جعل الحكم على الموضوع المفروض تحققه، فيكون مفادها هو ثبوت الحكم على تقدير ثبوت الموضوع، فلا نظر للمولى إلى جهة انطباق الموضوع على مصاديقه ولا يتدخل فيها، ولذا يصح جعل حكم على موضوع لا وجود له فعلاً، وبعبارة موجزة: إن القضايا تتكفل بيان الكبريات، وأما الصغريات فإحرازها على المكلف بنفسه.

وحيث كان مدلول الدليل هذا فالحجية تنحصر في هذا المقدار فقط، بمعنى أن الإرادة الواقعية تعلّقت بثبوت الحكم على الموضوع المفروض الوجود.

وعليه: فالمصداق الخارجي للخاص لا يتكفل فيه لا الدليل العام ولا الدليل الخاص إذ لا يرتبطان بالمصداق الخارجي أصلاً، فعدم حجية الخاص في المصداق المشتبه لا يصحح التمسك بالعام في ذلك المصداق، لعدم حجية العام فيه أيضاً، بل إطلاق عدم الحجية على المصداق الخارجي إطلاق مسامحي لأن مقام حجية الدليل لا يرتبط بالخارج أصلاً.

فاتضح الفرق بين الشبهة المفهومية والمصداقية، إذ في الشبهة المفهومية بين الأقل والأكثر يكون الخاص في مورد اشتباه المفهوم مجملاً فلا يكون مزاحماً للعام إلا بمقدار كشفه عن المراد الجدي - وهو القدر المتيقن -

ص: 362


1- منتقی الأصول 3: 325.

فيبقى العام بلا مزاحم، وليس كذلك في مورد الشبهة المصداقية، فإنه لا قصور للخاص في مقام الحجية أصلاً.

وفيه تأمل: لأن لازمه عدم حجية العام ولا الخاص في المصاديق المعلومة أيضاً، إذ على هذا الكلام لانظر للدليل إلى المصاديق الخارجية!! وتصحيح حجية العام أو الخاص في المصاديق المعلومة إنما يكون عبر القول بأن الحكم كان يرتبط بالموضوع المفروض الوجود وقد فرض وجوده هنا، فكذلك فيما نحن فيه إذ الفرد المشكوك كونه من الخاص مفروض الوجود للدليل العام فيكون الدليل العام حجة فيه، وليس مفروض الوجود للدليل الخاص فلا يكون حجة فيه، فتحصل عدم الفرق بين الموردين والتفريق من غير فارق، فتأمل.

الدليل الثاني: ما استدل به المحقق العراقي(1) علی حجية العام في الشبهة المصداقية للخاص إذا نشأ الاشتباه عن اشتباه الحکم، لا إذا نشأ من الاشتباه الخارجي، وحاصل کلامه يرتکز علی نقطتين:

النقطة الأولی: بيان الفرق بين التخصيص والتقييد، وأن التخصيص لايوجب تعنون العام بعنوان الخاص بل يبقی علی عمومه، فالتخصيص إنما هو من قبيل إنعدام بعض الأفراد - بموت أو نحوه - ولايقتضي إحداث عنوان سلبي أو إيجابي في ناحية الأفراد الباقية، فلا تنقلب عن کونها تمام الموضوع للحکم إلی جزئه، وأما التقييد فإنه يوجب تعنون عنوان العام بأمر وجودي أو عدمي، وعليه ففي العام يكون أصل تطبيق العنوان علی المورد

ص: 363


1- نهاية الأفکار 1: 519-522.

عند الشك جزمياً، وبعد هذا الجزم فإنه يكفي في الحجية احتمال مطابقة هذا الظهور للواقع في الأفراد المشکوکة، وذلك لشمول دليل التعبد بالظهور الآمر بإلغاء احتمال الخلاف، لکفاية احتمال مطابقة الظهور للواقع في لزوم التعبد بذلك الظهور.

وبعبارة أخری: إن شأن التخصيص - سواء في المتصل أو المنفصل - إنما هو مجرد إخراج بعض الأفراد أو الأصناف عن تحت حکم العام و تخصيصه بالأفراد المتبقية، ولا يقتضي إحداث عنوان إيجابي أو سلبي في الأفراد الباقية في مقام موضوعيتها للحکم، فالتخصيص بمنزلة انعدام بعض الأفراد، ومجرد اختصاص حکم العام حينئذٍ بغير دائرة الخاص لايكون من جهة تعنون الأفراد الباقية بعنوان خاص، بل إنما ذلك من جهة القصور في نفس الحکم الناشیء من جهة تضييق دائرة الغرض والمصلحة عن الشمول ثبوتاً بغير الأفراد الباقية.

وأما باب التقييد فليس کذلك، بل التقييد بشيء يقتضي تعنون موضوع الحکم بوصف وجودي أو عدمي غير حاصل قبل توصيفه به، فمثل: اعتق رقبة، واعتق رقبة مؤمنة، تنقلب الرقبة من کونها تمام الموضوع إلی جزء الموضوع، فالموضوع حينئذٍ (الرقبة المقيدة بالإيمان).

النقطة الثانية: إنه في الشبهة المصداقية، قد تکون شبهة حکمية بمعنی الاشتباه في منافاة عنوانٍ ما لحکم العام، کعنوان النحوي لقوله: أکرم العلماء مثلاً، وقد تکون شبهة موضوعية بمعنی الشك في ثبوت المنافي - المعلوم منافاته - في فرد من أفراد العام، کالشك في فسق زيد بعد العلم بإخراج الفساق عن قوله: أکرم العلماء مثلاً.

ص: 364

أما في الشبهة الحکمية فالعام حجة، لأن مرجع رفع الجهل فيها هو المولی، فهو يتصدي لإثبات الحکم، وحيث ثبت ذلك بالعام ولم يثبت وجود الخاص کان العام حجة.

وأما في الشبهة الموضوعية، فليس العام بحجة، إذ موضوع الحجية هو الظهور التصديقي للکلام، وهو يتوقف علی کون المتکلّم بصدد الإفادة والاستفادة عبر اللفظ، وذلك يتوقف علی إلتفاته لمرامه، والموالي العرفية قد يجهلون انطباق مرامهم علی الأفراد الخارجية، ومع جهلهم واحتمال خروج الفرد المشکوك عن مرامهم کيف يتعلق قصدهم بتفهيمه؟!

وأشکل الأولی: بأنه لايمکن ضيق الحکم وقصوره مع عموم الموضوع وسعته، وذلك لأن الحکم يتبع الموضوع - إن واسعاً فواسع و إن ضيقاً فضيق - ، وبعبارة أخری(1):

الموضوع في مرحلة الثبوت إما مطلق أو مقيد بغير الخاص أو مهمل، والإطلاق ينافي التخصيص، والإهمال ثبوتاً غير ممکن، فلم يبق إلاّ التقييد بغير الخاص.

ولا يصح التنظير بموت أحد الأفراد، لأن الموضوع إنما هو الموضوع المفروض الوجود بلا نظر إلی الخارج، فانتفاء أحد الأفراد خارجاً لايوجب تغيراً في الموضوع، بخلاف التخصيص فإنه يزاحم الدليل العام في حجيته.

وأشکل الثانية: بأن إجمال الخاص يسري إلی إجمال العام، فلا يعلم حينئذٍ بتصدي المولی لإثبات الحکم العام في العنوان المشکوك، فحينئذٍ لم تحرز دلالة العام أصلاً في العنوان المشکوك ليكون حجة فيه.

ص: 365


1- منتقی الأصول 3: 331.

الدليل الثالث: ما نقله المحقق النائيني مع ردّه(1)، وحاصله: أن المتکلّم في إلقائه العام کأنّه قد جمع النتائج وذکر حکم الأفراد بعبارة العام، فکل فرد من أفراد العام قد ذکر حکمه بذکر العام، ومن جملة الأفراد الفرد المشکوك، وحيث لم يُعلم دخوله في الخاص وجب ترتيب ما ذکره أولاً - أي في العام - .

ويرد عليه: أن القضية إما حقيقية أو خارجية.

أما الحقيقية: فلا تعرّض فيها لحکم الأفراد، وإنما سيقت لبيان الکبری الکلية، وإنما يعلم حکم الأفراد بعد ضم الصغری إليها.

وأما الخارجية: فإن العنوان فيها و إن لم يكن له دخل في مناط الحکم، إلاّ أنه - علی کل حال - لوحظ مرآةً لما يحتوي من أفراد، وهي الأفراد ما عدی الفرد الذي ينطبق عليه عنوان الخاص، وحينئذٍ فالمشکوك لايحرز کونه من أفراد العام الذي لايكون معنوناً بعنوان الخاص.

وبعبارة أخری - کما قيل -: کيفية استعمال العام والخاص في الحقيقية والخارجية علی نهج واحد، غاية الأمر في الحقيقية کانت أصالة العموم قبل المخصص محرزة لکون عنوان العام تمام الموضوع للحکم الواقعي، وفي الخارجية کانت محرزة لکون المتکلم لم يحرز وجود ما لايريده في ضمن أفراد العام، ولکن بعد ورود الخاص نعلم أن المولی أحرز فرداً لا يريده، وبذلك نحرز أنه لايريد کل أفراد العام بل خصوص ما لم يكن من أفراد الخاص، و أن مجرد کونه فرداً للعام ليس موجباً للحکم، فالمشکوك لايعلم اندراجه تحت العام، کما لو قال: أکرم کل من في الدار، ولا تکرم عدوّي

ص: 366


1- فوائد الأصول 1: 527.

الذي هو في الدار.

الدليل الرابع: ما نقله المحقق النائيني أيضاً مع ردّه(1)،

وحاصله: أن العام حجة في الفرد المشکوك، لکونه من أفراد العام، والخاص ليس بحجة فيه للشك في کونه فرداً له، فيجب الأخذ بالحجة وترك اللاحجة.

وفيه: أن عنوان العام بعد ما صار جزء الموضوع لمکان الخاص، لايكون حجة في الفرد المشکوك، فيكون هذا الفرد بالنسبة إلی العام والخاص علی حدّ سواء في عدم الحجية، ولاتجري أصالة العموم کما تقدم.

إن قلت: فکيف تتمسکون بالأصول العملية عند الشك؟ کما لو شك في کون شيء حلالاً أم حراماً فإنه يتمسك بمثل أصالة الحل، فکذلك عند اندراج الفرد المشکوك فيما هو المراد من العام يتمسك بمثل أصالة العموم.

قلت: بينهما فرق، إذ الأصول العملية مجعولة في مرتبة عدم الوصول إلی الواقع واليأس عنه، بخلاف الأصول اللفظية، فإنها واقعة في طريق إحراز الواقع والوصول إليه، والمفروض أنه قد أحرز المراد الواقعي من العام، وهو العالم غير الفاسق مثلاً، أما کون زيد عالماً غير فاسق فهو أجنبي عن المراد الواقعي، فلا تجري فيه أصالة العموم.

الدليل الخامس: التمسك بدلالة العام لإثبات عدم دخول الفرد المشکوك في الخاص، ففي المثال نتمسك بأکرم العلماء لإثبات أن هذا الفرد المشکوك ليس بفاسق فليس داخلاً في الخاص، وبذلك نحرز دخوله في العام موضوعاً دون الخاص.

ص: 367


1- فوائد الأصول 1: 528.

وأشکل عليه: بأنه إما يراد عدم کونه فرداً للخاص واقعاً و إما عدم کونه فرداً له ظاهراً.

والأول: ليس بصحيح، لأن تشخيص انطباق العنوان أو عدم انطباقه ليس من شؤون المولی بما هو مشرّع، نعم إذا تصدي المولی لتشخيص الانطباق فذلك آية علی أنه قد أحرز القيد خارجاً و أنه أراد إرشاد العبد إليه.

والثاني: و إن کان من شؤون المولی، إذ جعل الموضوع الظاهري من شؤونه فيترتب عليه الحکم الظاهري، إلاّ أنه غير ممکن، إذ لا يمکن للدليل العام وهو دليل واحد أن يدل علی الحکمين الظاهري و الواقعي معاً وذلك للطولية بينهما، فلابد من جعل حکم واقعي ثم جعل حکم ظاهري عند الشك في ذلك الحکم الواقعي، فالظاهري متأخر عن الواقعي بمرتبتين فلا يعقل جعلهما معاً بدليل واحد کما لايمکن للدليل العام أن يدل علی الحکم الظاهري فقط دون الواقعي، وذلك لأن الظاهري فرع وجود الواقعي مضافاً إلی استلزام هذا عدم وجود حکم واقعي في سائر أفراد العام.

المورد الثاني: في المخصص اللبي

وقد يقال: بجواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية للخاص إذا کان الخاص لبيّاً، کما لو قال المولی: (أکرم جيراني) و علمنا من قرائن خارجية بأنه لايريد إکرام أعدائه، و حينئذٍ فقد قام بناء العقلاء وسيرتهم علی التمسك بالعام في الفرد المشکوك کونه من الخاص.

واستدل له المحقق الإصفهاني(1):

بأن العام کما يدل علی عدم منافاة

ص: 368


1- نهاية الدراية 2: 457.

عنوانٍ ما لحکمه، کذلك يدل علی عدم وجود المنافي بين أفراده، فأصالة العموم محکمة في کلا الشبهتين - الحکمية والموضوعية - والمخصص اللفظي يدل علی کلا الأمرين، فکما يدل علی منافاة عنوان الخاص، کذلك يدل علی وجود المنافي، وإلاّ کان تصدي المولی لبيانه عبثاً، وعليه فالمخصص اللفظي يمنع حجية العام في کلتا الشبهتين، لکن المخصص اللُبي لايكشف إلاّ عن وجود المنافاة دون وجود المنافي لأن المنافاة الواقعية لاتدل علی وجود المنافي ولا لغو ولا عبث لعدم تصدي المولی لبيان هذا، وعليه فالمخصص اللُبي لايكشف إلا عن وجود المنافاة دون المنافي فيمنع عن حجية العام في الشبهة الحکمية دون الموضوعية.

وأشکل عليه: بأنه لايتم لا في القضية الحقيقية ولا الخارجية.

أما في القضية الحقيقية: فإن وجود الخاص - حتی اللُبي منه - يكشف عن عدم عموم المراد الجدي، إذ المولی لم يتصدَّ لتشخيص موضوع الحکم، بل تصدّی لإثبات الحکم علی تقدير الموضوع، فالمنافاة الواقعية تکشف عن عدم سعة إرادة المولی فلا يصل الأمر إلی لغوية أو عدم لغوية التخصيص.

و أما في القضية الخارجية: فإنه لو علمنا بوجود أعداء في الجيران نعلم بأن المولی لم يكن في مقام تعميم الحکم إليهم، بل أوکل تشخيص الموضوع إلی العبد، نعم مع عدم علمنا بوجود الأعداء فيهم فإن ظاهر تعميم المولی هو کونه في مقام استقصائهم بحيث تصدي لتشخيص الموضوع، فمع عدم ذکره للخاص نکتشف إحرازه عدم عداوة أيِّ واحدٍ

ص: 369

من الجيران، فمع الشك نجري حکم العام عملاً بهذا الظاهر فتأمل.

وقد مثّلوا للمخصص اللبي في القضية الخارجية بمثل ما ورد في الزيارة «ولعن الله بني أمية قاطبة»(1) مع وجود المخصص اللبي المستفاد من مجمل الأدلة وهو (حرمة لعن المؤمن منهم).

وقد ذهب المحقق الخراساني(2) إلی جواز التمسك بالعام لإثبات أن الفرد المشکوك ليس مؤمناً، فيقال: بأن فلاناً - و إن شك في إيمانه - يجوز لعنه، لمکان العموم، وکل من جاز لعنه لايكون مؤمناً، فينتج أنه ليس بمؤمن.

وقد يشترط أن لايثبت في الخارج وجود أفراد مؤمنين فيهم، وإلاّ کان ذلك قرينة علی أن المولی لم يتصدّ بنفسه لإحراز القيد في الأفراد الخارجية، إذ لو کان متصدياً کيف لم ينبّه علی وجود فرد من العام داخل في الخاص؟ وعليه فلابد أن يتصدی العبد بنفسه للتحقيق.

ففي المثال القضية خارجية ولم يثبت المخصص باللفظ حيث لم يرد لفظ خاص بالنهي عن لعن مؤمن بني أمية و إنما علمنا بهذا التخصيص من منهج الشارع، کما لم يعلم وجود أموي مؤمن خارجاً، و عليه فيجوز لعن کل أموي حتی لو شك في إيمانه، وذلك لبقاء ظهور العام في العموم حتی لهذا الفرد.

وأشکل عليه: بأن هذا المثال ليس من التخصيص بل هو من التخصّص،

ص: 370


1- مصباح المتهجّد: 774.
2- إيضاح کفاية الأصول 3: 52.

وقد توقف المحقق الخراساني و غيره: في جواز التمسك بالعام لإثبات التخصّص، فکيف تمسّکوا بالعام في هذا المثال مع کونه من موارده؟ إذ العام هو (لعن بني أمية قاطبة)، والخاص (يحرم لعن المؤمن منهم)، و عکس النقيض هو (من لايحرم لعنه ليس بمؤمن) فإذا کان العام قد تکفل إثبات جواز اللعن، کان دالاً بعکس النقيض علی عدم کون الفرد مؤمناً و أنه خارج عن الخاص تخصصاً لاتخصيصاً.

والجواب: بالفرق بين ما نحن فيه و بين تلك المسألة، إذ في دوران الأمر بين التخصيص و التخصّص نعلم بخروج الفرد عن حکم العام - سواء لعدم کونه فرداً للعام أو لتخصيص العام فيه - فلا حجية للعام في هذا الفرد کي نتمسك بعکس نقيضه، أما فيما نحن فيه فإنا نعلم بحجية الخاص في کل أفراده إذ لايجوز لعن المؤمن مطلقاً، ومع حجية الخاص أمکن التمسك بعکس نقيضه.

وبعبارة أخری کما في المنتقی(1): في تلك المسألة نعلم بخروج زيد عن (کل عالم يجب إکرامه)، ومع الشك في کون زيد عالماً لايمکن القول بأن المراد الواقعي ثبوت الحکم لجميع من يفرض کونه عالماً حتی لو کان زيداً، وذلك للعلم بخروجه، فإذا سقطت الدلالة المطابقية لم تبقَ حجية للدلالة الالتزامية، فلا حجية للعام في عکس نقيضه الذي هو مدلول التزامي، کي نثبت به عدم کون زيد عالماً، وأما ما نحن فيه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية للخاص اللبي، فالخاص حجة في مدلوله

ص: 371


1- منتقی الأصول 3: 339.

المطابقي، فالمراد الواقعي هو (عدم جواز لعن مؤمن بني أمية حتی لو کان هذا الشخص)، فإذا کان المدلول المطابقي حجة جری المدلول الالتزامي أي (کل من جاز لعنه فليس بمؤمن) وذلك بضم الصغری وهي (جواز لعن المشکوك) لأصالة العموم، إلی الکبری وهي (کل من جاز لعنه فليس بمؤمن)، فتأمل.

المقام الثالث: التمسك بالاستصحاب
اشارة

ثم إنه قد يتمسك لإثبات حکم العام للفرد المشکوك، عن طريق نفي حکم الخاص عنه بالأصل الذي ينقّح الموضوع، وذلك باستصحاب عدم العنوان الخاص.

فاعلم أن البحث تارة في تنقيح موضوع العام ليجري علی المشکوك حکم العام، و تارة في نفي حکم الخاص عن الفرد المشکوك إذا کان ذلك الحکم إلزامياً.

المطلب الأول: في تنقيح حكم العام

فنقول: إن الأوصاف الخاصة التي يتصف بها العام علی نوعين:

النوع الأول: الأعراض التي توجد بعد وجود الذات، کالفسق، فيجري فيها استصحاب العدم من غير محذور، ففي مثل: (أکرم العلماء إلا فساقهم)، حيث يحرز علم زيد مثلاً بالوجدان وعدم فسقه بالأصل، فيتحقق موضوع وجوب الإکرام.

وليس هذا بأصل مثبت لأنّا لا نريد إجراء حکم العام بهذا الأصل کي يقال: بأن أصالة عدم الفسق لاتثبت وجوب الإکرام، بل نريد بهذا الأصل

ص: 372

إدخال الفرد المشکوك في موضوع العام، و حينما دخل الفرد في موضوع العام يجري عليه حکم العام وهو وجوب الإکرام، لا بالأصل، بل بدليل وجوب الإکرام.

النوع الثاني: الأعراض الملازمة للذات، والتي توجد بوجوده و تستمر باستمراره، فهنا لاتوجد حالة سابقة للذات بعدم وجود تلك الأعراض، فهل يمکن استصحاب العدم الأزلي بأن يقال: إن الذات قبل وجودها لم تکن متصفة بذلك العرض، فلما وجدت نستصحب عدم اتصافها؟

ومثاله ما قيل: من ورود النص العام علی أن الحيض إلی الخمسين، فإذا تجاوزت المرأة الخمسين کان استحاضة، وهذا العام قد خُصّص بالمرأة القرشية، فحيضها إلی الستين، فإذا شککنا في نسب امرأة إلی قريش، فهل يمکن إجراء استصحاب عدم القرشية أم لا؟ وفيه أقوال:

القول الأول: ما ذهب إليه المحقق الخراساني(1) من جريان الاستصحاب العدمي بعد عدم وجود أصل وجودي يثبت أنها قرشية أم من قبيلة أخری، وذلك الأصل العدمي هو نفي نسبتها إلی قريش، أي قبل وجودها لم تکن قرشية فنستصحب عدم القرشية إلی حين وجودها، ولهذا الاستصحاب أثر، حيث إنه ينقّح الموضوع الذي له حکم شرعي.

ولا يعارض باستصحاب عدم کونها من قبائل أخری، لأن نفي کونها من قبائل أخری لا أثر له شرعاً، إلا بإثبات کونها من قريش - کي يجري عليها حکم الخاص - وهو أصل مثبت.

ص: 373


1- إيضاح كفاية الأصول 3: 56.

القول الثاني: ما ذهب إليه المحقق النائيني(1)

بما حاصله: أن استصحاب عدم القرشية - مثلاً - إما لايقين سابق فيه، و إما الأصل مثبت، فالذي ليس بمثبت لايقين فيه، وما فيه اليقين السابق أصل مثبت، وبيان ذلك برسم مقدمات ثلاث:

المقدمة الأولی:

في إثبات تعنون العام بعنوان الخاص، وذلك لأن العام بالنسبة إلی الأوصاف الخاصة إما مهمل أو مطلق أو مقيد، والإهمال محال إذ يستحيل علی المولی الملتفت إصدار حکم من دون موضوع أو مع إهمال بعض قيوده الملتفت إليها، واما الإطلاق فإنه يستلزم التهافت والتناقض بين مدلولي العام والخاص، فلايبقی إلاّ التقييد بأن يكون الباقي تحت العام بعد التقييد مقيداً بنقيض الخاص الخارج بالتخصيص فيكون دليل المخصص رافعاً لإطلاقه.

ولا فرق في ذلك بين المتصل والمنفصل، إذ المتصل يمنع الدلالة الاستعمالية والجدّية علی الإطلاق، والمنفصل يمنع الدلالة الجدّية علی الإطلاق، فلا إطلاق في المراد الواقعي علی کل حال.

المقدمة الثانية:

في بيان کيفية الترکيب في المواضيع المرکبة، وتطبيق ذلك علی ما نحن فيه.

أما الکبری: فإن الأوصاف والنعوت التي يتصف بها الشيء...

ص: 374


1- فوائد الأصول 1: 532-536؛ أجود التقريرات 2: 329-337.

قد تکون قائمة بذلك الشيء فتلاحظ بما هي مضافة إلی الشيء من قبيل کان الناقصة، أو يتصف بعدمها من قبيل ليس الناقصة المعبر عنها بالعدم النعتي.

وقد تکون الأوصاف من مقارنات الشيء، کما لو قال: أکرم زيداً حين مجيء عمرو، حيث إن مجيء عمرو ليس من الصفات القائمة بزيد وإنما من المقارنات التي يجمعه مع زيد عمود الزمان فقط.

وفي الأول: لايمکن إحراز عدم ذلك الوصف - الذي هو جزء الموضوع - إلاّ إذا فرض أن جهة النعتية والإضافة کانت معدومة في الحالة السابقة، ولا يكفي ملاحظة عدم ذلك الوصف في نفسه لإجراء الاستصحاب بأن نقول: إن هذا الوصف لم يكن فنستصحب عدم وجوده، إذ الذي يفيدنا هو عدم وجوده مضافاً، واستصحاب عدم الوجود لايثبت عدم الإضافة إلا بالأصل المثبت، وبعبارة أخری: في هذا لايفيدنا الأصل بمفاد ليس التامة، إذ هذا الأصل لا أثر له، بل لابد من تحقق جهة النعتية سابقاً حتی يجري الأصل بمفاد ليس التامة.

وأما في الثاني: فإنه يمکن إحراز عدم ذلك الجزء بما هو هو من قبيل ليس التامة، فنحرز أحد جزئي المرکب بالوجدان والجزء الآخر بالأصل، وبذلك يتم الموضوع ويترتب عليه الحکم.

و أما الصغری: فإن تعنون العام بضد عنوان الخاص هو من قبيل الأول دون الثاني، حيث إنه بعد ورود الخاص الذي هو من قبيل الأوصاف القائمة بعنوان العام يكون موضوع العام مرکباً من المعروض وعرضه القائم به، فيكون من مفاد ليس الناقصة أي من العدم النعتي، لا من مفاد ليس التامة

ص: 375

أي العدم المحمولي.

والسر في ذلك هو أن انقسام العام باعتبار أوصافه و نعوته القائمة به إنما هو في مرتبة سابقة علی انقسامه باعتبار مقارناته، فإذا کان دليل التخصيص کاشفاً عن تقييدٍما بمقتضی المقدمة الأولی فلابد أن يکون هذا التقييد بلحاظ الانقسام الأولي - أي الانقسام باعتبار أوصافه ونعوته - فيرجع التقييد إلی التقييد بما هو مفاد ليس الناقصة، إذ لو کان التقييد راجعاً إلی التقييد بعدم مقارناته بنحو ليس التامة، فإما أن يكون مع بقاء الإطلاق في مرحلة الذات أو مع التقييد فيها، والأول غير معقول لوضوح التدافع بين الإطلاق من جهة کون العدم نعتاً وبين التقييد بالعدم المحمولي، فمثل: أکرم العلماء إلا فساقهم لايعقل أن يكون بمعنی العلماء سواء کانوا فاسقين أم لا مقيدين بعدم الفسق، والثاني يستلزم اللغوية لعدم الحاجة إلی التقييد بالعدم المحمولي بعد التقييد بالعدم النعتي، فلا معنی لتقييد إکرام العلماء غير الفاسقين بعدم الفسق.

المقدمة الثالثة: إن تقابل الوجود النعتي الذي هو مفاد کان الناقصة مع العدم النعتي الذي هو مفاد ليس الناقصة، هو تقابل العدم الملکة، ويمکن ارتفاعهما بارتفاع موضوعهما القابل للاتصاف بهما، إذ الموضوع بعد وجوده يوجد فيه الوصف فيكون الوجود نعتاً أو لايوجود فيه الوصف فيكون العدم نعتاً، أما الموضوع قبل وجوده فهو غير قابل لعروض الوجود أو العدم النعتي عليه.

وفي مثال القرشية: فإنه بمقتضی المقدمة الأولی يكون موضوع العام وهو المرأة مقيداً بنقيض عنوان الخاص وهو القرشية، فالموضوع مرکب

ص: 376

من المرأة وغير القرشية، وبمقتضی المقدمة الثانية يكون هذا التقييد بنحو العدم النعتي أي مفاد ليس الناقصة، وبمقتضی المقدمة الثالثة يستحيل تحقق عنوان غير القرشية قبل وجود المرأة، وعليه فلا يمکن إحراز عدم القرشية بأصالة العدم الأزلي، لأن العدم النعتي الذي هو جزء الموضوع لايقين سابق فيه، والعدم المحمولي و إن کان له حالة سابقة إلاّ أنه ليس جزءاً للموضوع، بل هو ملازم له، فلا يثبت به إلاّ بناءً علی الأصل المثبت.

وأشکل علی المقدمة الأولی بإشکالات، منها:

الإشکال الأول: بأن مفاد العام هنا هو العموم الأفرادي، وهو يقتضي إخراج بعض الأفراد بالخاص، ولا يلازم تعنون العام بضد الخاص، ففي العموم الأفرادي لنا حصتان: إحداهما محکومة بحکم العام، والأخری محکومة بحکم الخاص، فإخراج بعض الأفراد لايعني تقييد سائر الأفراد بعدم الأفراد المخرجة، وذلك لأن الفرق بين الحصتين ذاتي فلا يمکن التقييد لعدم إمکان الإطلاق، فلايصح أن يقال إن زيداً مقيد بعدم عمرو، لامتناع إطلاق زيد بالنسبة إلی عمرو.

نعم لو کان العموم أحوالياً مع الذهاب إلی أن استفادة العموم ليس من الأداة و إنما من إطلاق المدخول، فالعام يدل علی الطبيعة وهي قابلة للتقييد.

وما نحن فيه من مثال القرشية العموم أفرادي - علی جميع المباني -(1) إذ مورد الکلام هو الأوصاف اللازمة للذات من حين وجودها، وهي مفرّدة، وعليه لم

ص: 377


1- منتقی الأصول 3: 357-358.

يكن الدليل المخرج للعنوان الأزلي موجباً لتقييد موضوع الحکم بضده.

الإشکال الثاني: ما ذکره المحقق الإصفهاني(1): من أن الواقع لاينقلب عما هو عليه، فما هو الموضوع لحکم العام - بحسب الظهور المنعقد له - يستحيل أن ينقلب عمّا هو عليه بسبب ورود کاشف أقوی، بل يسقط عن الحجية في المقدار المزاحم، إذ ليس للموضوعية للبعث الحقيقي - الموجود بوجود منشأ انتزاعه - مقام إلاّ مقام تعلّق البعث الإنشائي بشيء، وجعل الداعي إلی غير ما تعلق به البعث الإنشائي محال، لأنه مصداق جعل الداعي، والمفروض تعلّقه بهذا العنوان، فصيرورته داعياً إلی غير ما تعلّق به خلف محال، فليس شأن المخصص إلاّ إخراج بعض أفراد العام، وقصر الحکم علی باقي الأفراد من دون أن يجعل الباقي معنوناً بعنوان وجودي أو عدمي.

وبعبارة أخری: إن موضوع البعث الحقيقي ليس له وجود إلا في مقام الإنشاء، فموضوع البعث الإنشائي هو موضوع البعث الحقيقي، وذلك لأن الإنشاء إنما هو لأجل جعل الداعي، ويستحيل الإنشاء بداعي جعل الداعي إلی غير ما تعلّق به.

ويمکن أن يقال: إن تعلقه بعنوان العام إنما يكون تعلقاً واقعياً إن لم يخصّص، ومع التخصيص يكشف أن التعلّق بعنوان العام کان استعمالياً لاجدياً، وبعبارة أخری(2):

إنه لا مانع من أن يكون موضوع الحکم الواقعي غير المذکور في الکلام، إذا کان مما يتعارف تفهيم الواقع به وقابلاً لإرادته

ص: 378


1- نهاية الدراية 2: 458.
2- منتقی الأصول 3: 349.

منه، فتأمل.

وأشکل علی المقدمة الثانية بإشکالات، منها:

الإشکال الأول: إمکان الإهمال في مرحلة الذات مع الإطلاق أو التقييد في مرحلة المقارنات، فلا يلزم التدافع ولا اللغوية، وذلك لأن محذور الإهمال هو استحالة الحکم علی الموضوع المهمل مع التفات المولی، ولا يلزم هذا المحذور مع الاختلاف الرتبي إذا اتحد زمانهما، فإهمال الأقدم رتبة لايلازم الإهمال خارجاً.

الإشکال الثاني: عدم لزوم اللغوية، وذلك لأن التقييد في مرحلة الذات يُغني عن التقييد في مرحلة المقارنات، کالعکس، فلا فرق في أن تُقيّد المرأة بوصف عدم القرشية، أو تقيد بعدم وصف القرشية، فکل واحد منهما يغني عن الآخر، وخاصة علی ضوء ما ذکر في الإشکال الأول من عدم ورود إشکال الإهمال.

الإشکال الثالث: - و هو نقضي -: بأن هذا يلزم منه عدم صحة جريان الاستصحاب في جميع الموضوعات المرکبة، و التي يمکن إحراز أحد الجزئين بالوجدان ويراد إحراز الجزء الآخر بالأصل، وذلك لورود الإشکال في الإطلاق والتقييد، وذلك لأن مقارنة کل جزء مع الجزء الآخر إنما هي من أوصاف الجزء، فيرد نفس إشکال التدافع أو اللغوية، فتأمل.

وقد تقرر المقدمة الثانية بطريقة أخری للتفصّي عن الإشکالين الثاني والثالث - کما في المنتقی(1)

- لکنه لاينفع في التفصي عن الإشکال الأول.

ص: 379


1- منتقی الأصول 3: 352-353.

وحاصله: أن مرتبة الجزء متقدمة علی مرتبة الکل، والأمر الذي يؤخذ جزءاً لابد أن يلحظ في مرحلة جزئيته بالإضافة إلی جميع صفاته، وذلك لاحتمال دخل بعضها في جزئيته وترتب أثره الضمني، إذ ذات الجزء قد لاتکون جزءاً بدون وصف خاص، ثم بعد تکميل جهة جزئيته - مطلقاً أو مقيداً ببعض الصفات - تصل النوبة إلی لحاظه بالإضافة إلی الأجزاء الأخری وأخذه معها بلحاظ ترتب أثر الکل.

وعليه: فيندفع الإشکال الثالث، إذ في الموضوعات المرکبة وصف المقارنة وصف انتزاعي لا دخل له في التأثير إلا بلحاظ منشأ انتزاعه، والمنشأ هو وجود أحد الجزئين عند وجود الآخر، فهما يتصفان بوصف المقارنة معاً، فتعلّق الأمر بها علی حد سواء، لأن تخصيص أحدهما بلا مرجح، فاندفع الإشکال من أصله.

کما يندفع الإشکال الثاني إذ التقييد بکل منهما و إن أوجب رفع قابلية المورد للإطلاق والتقييد بالإضافة إلی الآخر، إلاّ أن ملاحظته بالإضافة إلی أوصافه و تقييده بها وجوداً وعدماً أسبق رتبة من ملاحظته بالإضافة إلی مقارناته، فلا تصل النوبة إلی أخذ العدم جزءاً، فتأمل.

القول الثالث: تفصيل المحقق العراقي(1)

وحاصله: عدم جريان الاستصحاب فيما لو کان العرض مأخوذاً في رتبة متأخرة عن وجود الذات، وجريانه فيما لو کان مأخوذاً في رتبة الذات بنفسها - لا وجودها - ، وذلك لأن نقيض کل شيء رفعه في تلك المرتبة لافي مرتبة أخری، فعلی

ص: 380


1- نهاية الأفکار 4: 200-203.

الأول: العدم الأزلي في ظرف عدم الوجود لايكون نقيضاً للوصف العارض علی الوجود، فلا يمکن إجراء الاستصحاب إلاّ بالأصل المثبت، وأما علی الثاني: فإن العدم الأزلي نقيض الوصف بلحاظ الذات، لأن نقيض المقيّد يشمل نفي القيد ونفي الذات ونفي النسبة، فيمکن الاستصحاب ويترتب عليه نفي الأثر الثابت للوصف، وعليه: فلاتختلف الحال بين کون الوصف بنحو النعتية أو الترکيب والمقارنة!!

وأشکل عليه أولاً(1): بأن کلامه أجنبي عن البحث، إذ محل الکلام هو الاستصحاب لإثبات حکم العام علی المورد المشکوك - بمعنی أخذ عدم الوصف في نفس موضوع حکم العام للوصول إلی أصالة العموم - ، وليس محل الکلام نفي الحکم الثابت لوجود الوصف.

وثانياً(2): بأنه لايشترط کون مرکز الاستصحاب النافي هو عنوان نقيض الموضوع، بل کلما يراه العقل موجباً لانتفاء الحکم المجعول شرعاً لابد أن يكون مجری الاستصحاب النافي - سواء سمّاه المنطقي بالنقيض أم لا، وفيما نحن فيه إذ رتّب الشارع الحکم علی جزئين فبانتفاء أحدهما ينتفي الحکم لامحالة، سواء کان هذا الانتفاء يُسمّی بالنقيض أم لا، فتأمل.

المطلب الثاني: في نفي حكم الخاص

أي التمسك باستصحاب العدم الأزلي لنفي حکم الخاص عن الفرد المشکوك، بأن نقول: إن الاستصحاب يدل علی عدم قرشية هذه المرأة

ص: 381


1- منتقی الأصول 3: 364.
2- بحوث في علم الأصول 3: 348.

فليس حيضها إلی الستين.

وعن المحقق النائيني(1)

أنه ذهب إلی عدم جريان هذا الاستصحاب، وبيانه بمقدمتين:

المقدمة الأولی: الربطية والناعتية من أوصاف وجود العرض لاماهيته، إذ ماهية العرض من حيث هي مستقلة في نفسها ولاربط ولاناعتية لها، لکن حين وجود العرض في الخارج يكون وجوده ربطي أي في غيره، عکس الجوهر الذي هو وجود قائم بنفسه.

المقدمة الثانية: تقابل الوجود والعدم سبب لعدم قبول أحدهما للآخر، فلا يعرض أحدهما علی الآخر بل يتناوبان في العروض في الماهية التي هي المحل القابل لهما، فهي تتصف بالوجود تارة وبالعدم أخری.

وعليه، ففيما نحن فيه: أن أريد استصحاب عدم ماهية القرشية، فعدمها الناعت المقابل لوجودها لاحالة سابقة له، وعدمها المحمولي ليس نقيضاً للوجود الناعت المأخوذ في موضوع الحکم، وإن أريد استصحاب عدم الوجود الرابط فهو غير معقول لأن العدم لايكون عرضاً علی الوجود.

وأشکل علی المقدمة الأولی(2): بأنه من الصحيح أن العدم المحمولي للقرشية لايكون نقيضاً للوجود الناعت لها، لکن لا إشکال في أن عدم القرشية المحمولي رافع لموضوع الحکم، إذ يكفي في انتفاء الحکم انتفاء أحد أجزاء موضوعه سواء کان هذا الانتفاء نقيضاً للوجود أم لم يكن

ص: 382


1- راجع منية الطالب 2: 350-351.
2- بحوث في علم الأصول 3: 345.

نقيضاً، وحينئذٍ فأرکان الاستصحاب النافي تامة.

وعلی المقدمة الثانية: بأنه ليس المأخوذ في موضوع الجعل وجوداً خارجياً معيّناً، إذ النعتية والرابطية ليست إلاّ عبارة عن ملاحظة المفهوم محصّصاً بمفهوم آخر، فالبياض تارة يُلاحظ مطلقاً فيكون مفهوماً مستقلاً، وتارة أخری يلاحظ في شيء فيكون مرتبطاً بموضوع، وهذا التحصّص والربط ثابت في مرحلة المفاهيم وبقطع النظر عن الوجود، وهذا هو المأخوذ في موضوع الجعل الشرعي بما هو مرآة عن مُعنونه الخارجي.

والحاصل: إن النعتية في الجعل إنما هي بمعنی أخذ الحصة الخاصة موضوعاً، ومن الواضح أن العدم يضاف إلی النعتية بهذا المعنی، فقرشية المرأة لم تکن في الأزل، فيكون هذا العدم مجری الاستصحاب.

ص: 383

فصل في الدوران بين العام وبين استصحاب حكم المخصص

وذلك بأن يُخصص العام، فيخرج عنه عنوان بالتخصيص، ثم طرأ الشك في أن حکم ذلك العنوان هل هو حکم العام أم حکم الخاص، فهل المرجع أصالة العموم أم استصحاب حکم الخاص؟

نظير الأدلة الدالة علی تصرف المالك في ملکه مطلقاً، فأخرج بالإجارة مدتها حيث لايجوز للمالك التصرف في العين المستأجرة، ثم شك في بقاء الإجارة أو انتهائها، فهل يتمکن المالك من التصرف وذلك عملاً بالعام، أم لابد من استصحاب حکم الإجارة التي هي الخاص؟

والظاهر أن الشبهة هنا حکمية غير مفهومية، فأمّا ما تمّ تصوريه علی أنه شبهة مفهومية فغير واضح، بل الأمثلة کلها غير مفهومية.

والظاهر أنه مع وجود إطلاق أزماني في کل الأفراد، يكون هذا الإطلاق أصلاً لفظياً وارداً علی الاستصحاب، وأما لو لم يكن إطلاق أزماني، فلا محذور في إجراء الاستصحاب لتمامية أرکانه، إلاّ إذا تبدل الموضوع فلا يجری، وحينئذٍ لابد من الرجوع إلی الأصول العملية الأخری.

وأما ما ذکر مثالاً للشبهة المفهومية، بأن کان العام هو عمومات الأحکام الإلزامية، والخاص هو إخراج غير البالغين، فشك في مرتبة أنها علامة البلوغ أم لا، کما لو شك في شعر أنه هل هو خشن أم لا.

ص: 384

فيرد عليه: أنه شبهة مصداقية لامفهومية، لأنه تارة نعلم معنی الخشن وغير الخشن ونشك في مصداق معين، فهذا من الشبهة المصداقية، وتارة نعتبر هذا الشعر حالة ثالثة، فيخرج عن محل الکلام إذ لاشبهة حينئذٍ حيث إن الخشن هو علامة البلوغ لاغيره والمفروض أن هذا نوع ثالث فليس بخشن، فتأمل.

ص: 385

فصل في دوران الأمر بين التخصيص والتخصص

اشارة

وفيه مطالب:

المطلب الأول: العلم بخروج فردٍ بعينه عن حكم العام

فلو لم يكن مصداق محکوماً بحکم العام، وشککنا في أن خروجه عن الحکم بالتخصيص أي هو من مصاديق العام لکن ليس محکوماً بحکمه بالتخصيص، أو أن خروجه عن الحکم بالتخصّص أي ليس هو من أفراد العام فلذلك لم يکن محکوماً بحکمه، فهل هناك دليل أو أصل يثبت کونه تخصيصاً أو تخصصاً؟

قد يقال: بإمکان التمسك بأصالة العموم لإثبات کون ذلك الفرد خارجاً بالتخصص، وذلك لأن العام کما له دلالة علی ثوبت الحکم لجميع أفراده، کذلك له دلالة التزامية بعکس النقيض علی أن من لم يثبت له الحکم ليس من مصاديق العام، فمثل (کل عالم يجب اکرامه) يدل بعکس النقيض علی أن (من لايجب إکرامه ليس بعالم)، وحينئذٍ فلو علمنا بعدم وجوب إکرام زيد أمکن لنا إثبات عدم کونه عالماً وذلك بالتمسك بأصالة العموم التي تثبت بعکس النقيض أن زيداً ليس بعالم.

وأشکل عليه بإشکالات، منها:

الإشکال الأول: إن اللوازم لاتکون حجة إلاّ إذا کانت من اللازم البين

ص: 386

بالمعنی الأخص - بحيث يستلزم تصور أحدهما تصور الآخر - ، فيكون دليل الحجية دالاً علی الحجية في اللازم أيضاً بدلالة عرفية، أو إذا کان اللازم مفاد أمارة، کما في الخبر حيث إن الخبر بالشيء خبر بلازمه أيضاً.

وأورد عليه: أن عکس النقيض لازم بيّن بالمعنی الأخص للعام، إذ ثبوت الحکم لجميع أفراد العام يلازم نفي العام عما لاثبوت للحکم فيه، ومن أمثلته العرفية: أنه لو عُرف أهل بلدة بالسواد ثم جاء رجل أبيض وادّعی أنه من أهل تلك البلدة، فإنه يكذّب في دعواه.

الإشکال الثاني: إن العام لانظر له إلی مصاديقه، إذ موضوع الأحکام الشرعية هي القضايا الحقيقية عادة، لا الأفراد الموجودة، والمصاديق من قبيل الثاني، فلا نظر إليها لکي يُحکم علی مصداق أنه ليس من المصاديق لمجرد عدم جريان حکم العام عليه.

وأورد عليه: بأن العام وإن لم يكن له نظر إلی المصاديق الخارجية، إلاّ أنه يتکفّل وبالدلالة الالتزامية لبيان کبری کليّة لتعيين المصداق، فينشأ تشخيص المصداق من ضمّ الصغری إلی هذه الکبری.

أقول: الأقرب هو عدم الملازمة العرفية في العمومات الشرعية، وذلك لأن کثرة التخصيص فيها حتی أنه قيل: ما من عام إلاّ وقد خص، لم تترك مجالاً لهذه الدلالة الالتزامية، فخرجت عن عرفيتها، فلا دلالة للعام عليها بوجوه.

المطلب الثاني: لو تردد الخارج بين فرد العام وفرد غيره

كما إذا صدر حکم لعام، ثم صدر خلاف حکمه في فرد، ثم تردد ذلك

ص: 387

الفرد بين فردين أحدهما من مصاديق العام والآخر ليس من مصاديقه، کما لو قال: أکرم العلماء، ولا تکرم زيداً، وتردد بين زيد العالم وزيد غير العالم.

فقد يقال: بالتمسك بأصالة العموم لإثبات وجوب إکرام زيد العالم، وذلك لأن أصالة العموم أوجبت انحلال العلم الإجمالي، وتعيين من لايجب إکرامه في زيد غير العالم.

وفيه: أن ظهور العام في العموم بشمول الإکرام لزيد العالم يلازم کون المنهي عن إکرامه هو زيد غير العالم، وهذه ملازمة غير بينة فلاتکون حجة، فلاينحلّ العلم الإجمالي، وببقاء العلم الإجمالي يكون (العلماء) مجملاً بالنسبة إلی زيد العالم فلايكون حجة فيه.

المطلب الثالث: في التمسك بعمومات الأدلة الثانوية

هل يمکن التمسك بعمومات العناوين الثانوية، لإدخال المصداق المشکوك في العام بعنوانه الأولي، وعليه فيمکن تصحيح کل عمل مشکوك الصحة بمثل أدلة وجوب الوفاء بالنذر.

کما لو شك في مصداقية الوضوء بماء الورد للوضوء، فهل يمکن إدخاله في مصاديق الوضوء الصحيح عبر النذر، بأن يقال إذا نذر الوضوء بهذا الماء وجب الوفاء به، لعموم أو إطلاق دليل وجوب الوفاء، فإذا وجب الوفاء کشف ذلك عن کونه مصداقاً للوضوء، وإلاّ لم يجب الوفاء إذ لايجب الوفاء بالعمل الفاسد، فتمّ إدخال الفرد المشکوك کونه من مصاديق العام - الذي هو الوضوء - في العام عبر الدليل الثانوي.

وبعبارة أخری: الدليل مرکب من صغری وکبری، أما الصغری فهي: هذا

ص: 388

الفرد يجب الوفاء به لعموم أدلة وجوب الوفاء بالنذر، والکبری: کل ما يجب الوفاء به يلزم أن يكون فرداً صحيحاً من أفراد العام، فالنتيجة هذا الفرد هو فرد صحيح من أفراد العام.

وقد يؤيّد ذلك: بمثل صحة الإحرام قبل الميقات بالنذر، وکذا الصوم في السفر به.

وإن أمکن ردّ التأييد: بأن المثالان إنما يصححان الإحرام والنذر في حالة النذر فقط والکلام إنما هو في تصحيح العمل مطلقاً بأن يكون النذر في حالة مصححاً للفردية في جميع الأحوال.

وأشکل عليه: بأن العناوين الثانوية قسمان:

القسم الأول: مايطرأ علی الشيء بشرط کونه محکوماً بحکم حسب عنوانه الأولي، کالنذر الذي يصحّ لو کان المتعلّق راجحاً، وفي هذا القسم لايمکن التمسك بالعنوان الثانوي لإدخال الفرد المشکوك في العام، وذلك للزوم الدور، إذ صحة النذر تتوقف علی رجحان متعلقه، فلو توقف رجحان المتعلّق علی صحة النذر الدار.

وفيه: إمکان القول بأن رجحان المتعلّق لايتوقف علی صحة النذر، بل صحة النذر يكشف عن رجحانه، فلا دور، إذ التوقف في الطرف الأول واقعي، وفي الطرف الثاني علمي، وفي مثله لا دور.

نعم يمکن الإشکال بطريقة أخری: بأن دليل صحة النذر خاص بما کان المتعلق راجحاً، فلا يمکن اکتشاف الرجحان بواسطة دليل صحة النذر، وبعبارة أخری الدليل: لايتکفل موضوعه، فموضوع وجوب الوفاء هو

ص: 389

الرجحان فلا يمکن اکتشاف الرجحان عبر وجوب الوفاء، فتأمل.

القسم الثاني: ما يطرأ علی الشيء مطلقاً مع قطع النظر عن عنوانه الأولي، کالحرج والضرر، حيث يعرضان علی الواجب والمستحب والمکروه والحرام والمباح، وفي هذا القسم يمکن التمسك بهذه الأدلة لإثبات جواز العمل إذا لم يعلم الحکم بالعنوان الأولي، أو کانت ملاکات العناوين الثانوية أقوی من ملاکات العناوين الأولية، ومع التساوي التساقط والاحتياط إن أمکن، ومع عدم إمکانه فالرجوع إلی الأدلة الأخری، حتی لو کانت الأصول العملية.

وفيه: أن هذا خروج عن مورد البحث، حيث يراد إدخال الفرد المشکوك في مصاديق العام، وما ذکر هو بيان حکم الحالة من غير ارتباط له بمورد البحث، مع وضوح أن مثل الضرر والحرج يرفعان الحکم ولا يبيّنان الموضوع وأنه مصداق لأي عام، هذا مع قطع النظر عن الإشکالات المبنائية.

ثم إن المحقق الخراساني سلك ثلاث طرق - طولية - لدفع المحذور العقلي في صحة الصوم في السفر والإحرام قبل الميقات بالنذر(1)، فإنه بعد قيام الدليل إثباتاً في صحتهما کان لابد من دفع المحذور الثبوتي بالدور، ومن الواضح أنه يكفي مجرد الاحتمال الثبوتي لدفع المحذور العقلي - بعد قيام الدليل الإثباتي علی الصحة - حيث لا وجه حينئذٍ لتأويل الدليل الإثباتي مع عدم ثوبت المحذور الثبوتي، إذ مع هذه الاحتمالات لا محذور

ص: 390


1- إيضاح کفاية الأصول 3: 63-66.

عقلاً فلاحکم للعقل بالاستحالة، فيلزم اتباع الدليل الإثباتي وعدم صحة تأويله، وتلك الطرق:

1- إما اعتبار العملين - الإحرام قبل الميقات، والصوم في السفر - راجحين ذاتاً، ووجود مانع عن تأثير هذا الرجحان، مع ارتفاع المانع بالنذر.

2- وإما کفاية الرجحان اللاحق علی النذر، فلا دور، لعدم توقف صحة النذر علی الرجحان السابق.

3- وإما تخصيص دليل رجحان متعلق النذر، بأن يقال: إن الصوم في السفر والإحرام قبل الميقات مرجوح، ومع ذلك يصح نذرهما، وبعد النذر يرجحان مع عدم توقف صحة النذر علی هذا الرجحان اصلاً.

ص: 391

فصل في وجوب الفحص عن المخصص قبل العمل بالعام

اشارة

وفيه بحثان:

البحث الأول: في أصل وجوب الفحص

فيجب الفحص عن المخصص المنفصل قبل العمل بالعام، وقد يستدل لذلك بأمور، منها:

الدليل الأول: الأدلة الدالة علی وجوب التفقه في الدين، فإنه يجب الفحص عن الأحکام الشرعية، والخاص من الموارد المحتمل وجود الأحکام فيها، فيجب الفحص عنه، کما کان الفحص عن أصل الحکم في العام واجباً، لکون ذلك کلّه من مصاديق التفقه في الدين.

وأشکل عليه: باستلزامه الدور، إذ حجية العام متوقفة علی الفحص فقبل الفحص لاحجية، کما أن وجوب الفحص متوقف علی حجيته العام، إذ لولا حجية لما وجب الفحص عن مخصصاته.

وفيه: عدم تمامية کلا رکني الدور.

أما الرکن الأول: فإن الحجية متوقفة علی الفحص نفسه، وأما المتوقف علی الحجية فهو وجوب الفحص لا الفحص نفسه.

وأما الرکن الثاني: فإنه يجب الفحص عن المخصص مع قطع النظر عن کونه خاصاً، فسواء کان العام حجة أم لايجب الفحص عن حکم الأفراد.

ص: 392

الدليل الثاني: العلم الإجمالي بتخصيص کثير من العمومات، فلا يمکن التمسك بالعمومات للتعارض الحاصل بسبب هذا العلم الإجمالي.

وأشکل عليه بأمور، منها:

الإشکال الأول: ما قيل: من أن العلم الإجمالي الکبير، ينحلّ بالعلم الإجمالي الصغير، أو بالعلم التفصيلي، انحلالاً حقيقياً فيما لو کان العلم التفصيلي ناظراً إلی العلم الإجمالي ومتعلّقاً بنفس ما تعلّق به، بحيث يعلم أن نفس ما علم إجمالاً هو ثابت في ما علم تفصيلاً أو فيما علم إجمالاً بالعلم الإجمالي الصغير، أو انحلالاً حکمياً فيما لم يكن کذلك حتی لو کان متعلّق العلمين عنواناً واحداً قابلاً للتطابق، کما لو علم إجمالاً بنجاسة بسبب الدم في أحد الإنائين ثم علم تفصيلاً بنجاسة بسبب الدم في أحد الإنائين، مع احتمال تطابق المعلومين. لکن يشترط أن يكون العلم الإجمالي الصغير أو العلم التفصيلي متقارناً زماناً مع العلم الإجمالي الکبير، أما لو حصل الإجمالي الکبير أولاً ونجّز تمام أطرافه، وبعد ذلك حصل ما يوجب الانحلال الحکمي في بعض الأطراف، فذلك لا ينفع في حلّ العلم الإجمالي الأول وإحياء الأصول العملية في الأطراف الأخری، فإن الأصل بعد أن مات لا يعود حياً، وبعبارة أخری: بعد ثبوت مقتضی الحجية في کل طرف تتنافی الحجج، فتسقط عن الحجية رأساً، فلا ترجع إلی الحجية أبداً.

وأورد عليه: مع قطع النظر عن المبنی، بأنه إنّما يکون ذلک في الأصول العملية، إذ الأصل بعد موته لايعود حياً علی هذا المبنی، وأما ما نحن فيه فالکلام في أصل لفظي هو أصالة العموم، وهذا الأصل يقتضي الحجية لولا

ص: 393

المانع، ومع العلم الإجمالي يكون المانع هو اشتباه الحجة باللاحجة، حيث إن العام المخصص لايكون حجة واقعاً، فإذا علمنا بالمخصصات حصل تمييز الحجة عن اللاحجة، فارتفع المانع عن اجراء أصالة العموم، کما لو قال المولی: أکرم العلماء، ثم علمنا إجمالاً بجهل أحد الرجلين، ثم علمنا تفصيلاً بعلم أحدهما وجهل الآخر، فلا إشکال في جريان أصالة العموم فيمن علمنا بعلمه، فتأمل.

الدليل الثالث: إن أصالة العموم هي للظهور، وحجية الظهور إنما هي ببناء العقلاء، وقد أمضاه الشارع، ولابناء لهم فيما لو کان أسلوب المولی کثرة التخصيصات بالمنفصلات، کما أن سيرة المتشرعة لها قدر متيقن وهو العمل بالعمومات بعد الفحص عن المخصص، ولا يعلم عملهم بالعمومات قبل الفحص، نعم لو فحص ولم يجد الخاص، فبناء العقلاء وسيرة المتشرعة هو بالعمل بأصالة العموم.

إن قلت: إن أصحاب الأئمة لم يكونوا يفحصون عن المخصصات، بل أودعوا العمومات في کتبهم، ولو کانوا يعملون بالمخصصات لذکروها؟

قلت: إن عدم ذکرهم للمخصصات أو عدم عملهم بها فيه احتمالات مختلفة، منها: عدم ابتلائهم بها، أو عدم حاجتهم إليها، فلذا لم يذکرها لهم الأئمة (علیهم السلام) ، أو لم تکن مصلحة في ذکرها لهم فلذا تمّ تأخيرها وخاصة في ظروف التقية، أو ذکروها في کتبهم لکن التقطيع في الأحاديث سبب عدم وصول قولهم إلينا، أو لغير ذلك، فلا يمکن الجزم بأنهم لم يكونوا يفحصون عن المخصصات حتی نکتشف من ذلك تقرير الأئمة (علیهم السلام) لهم

ص: 394

في ذلك.

هذا کلّه في المخصص المنفصل.

وأما المخصص المتصل فقد يقال: إن بناء العقلاء علی عدم لزوم الفحص عنه، حيث يعملون بالعلم من غير فحص عن المخصصات المتصلة، کما أنهم لايفحصون عن القرائن المتصلة الأخری، کقرينة المجاز حيث يحملون اللفظ علی الحقيقة.

البحث الثاني: في مقدار الفحص

فقد يقال: إن مقدار الفحص تابع لدليله، فإن کان دليله بناء العقلاء فالمقدار اللازم من الفحص هو الفحص بالمقدار الذي يخرج العام عن المعرضية للتخصيص، وإن کان دليله العلم الإجمالي، فبالمقدار الذي يوجب انحلال العلم الإجمالي من أصله، أو يوجب خروج المسألة عن أطرافه، وإن کان الدليل الظن الانسدادي، فاللازم الفحص في کل مسألة إلی حدّ الاطمئنان أو الظن نوعاً بعدم وجود الخاص.

لکن الظاهر عدم الحاجة إلی هذا الکلام کله، فإن الفقهاء العظام بحثوا في کل مسألة مسأله من مسائل الفقه وجمعوا کل ما يحتمل أن يكون دليلاً أو تخصيصاً أو معارضاً ونحو ذلك بحيث إن مراجعة مفصلات الکتب الفقهية مع عدم ذکرهم للمخصص توجب الاطمئنان بعدم وجود الخاص إذ لو کان لبان، اللهم إلاّ إذا کانت مسألة مستحدثة فيجري فيه ما ذکر، والظاهر عدم الفرق عملاً في مقدار الفحص حسب المباني الثلاث.

ص: 395

فصل في عموم الخطاب للمشافهين وغيرهم

اشارة

وفيه بحثان:

البحث الأول: في تحرير محل الكلام

1- فتارة يكون الکلام حول إمکان تکليف المعدوم، وهذا بحث عقلي.

فقد يقال: إنه لا يمکن فعلية التکليف بالنسبة إلی المعدوم، إذ البعث والزجر إنما هما لإيجاد الداعي في المکلّف، ويستحيل إيجاد الداعي في المعدوم، إذ مع إلتفات المولی لا يمکنه إيجاد البعث والزجر الحقيقيان لعدم وجود من يريد تکليفه، وبعبارة أخری: التکليف يستلزم الطلب، ولا يكون الطلب حقيقياً إلا من الموجود.

نعم يمکن تعلّق التکليف الإنشائي بالمعدوم، حيث إن الإنشاء هو إيجاد الطلب باللفظ ويكفي في صحته تعلّق غرض عقلائي به، والغرض هو تحقق الفعلية حين الوجود، لئلا يضطر المولی إلی إنشاء جديد، کما في ضرب القوانين عند العقلاء.

والحاصل: إن التکليف يكون إنشائياً بالنسبة إلی المعدوم، وفعلياً بالنسبة إلی الغائب، ومنجزاً بالنسبة إلی الحاضر الملتفت.

2- وتارة يكون الکلام حول إمکان خطاب المعدوم، ويلحق به الغائب،

ص: 396

وهذا بحث عقلي أيضاً.

ولبيان الإمکان وجوه، منها:

الوجه الأول: للمحقق النائيني(1)

فقد ذهب إلی عدم إمکانه في القضية الخارجية، وإمکانه في القضية الحقيقية.

أما في الخارجية: فلعدم إمکان مخاطبة الغائب والمعدوم، بلا تنزيل المعدوم منزلة الموجود.

وأما في الحقيقية: فحيث إنها متکفلة لفرض وجود الموضوع، فالخطاب إنما هو للذي فرض وجوده من أفراد الطبيعة في موطنه، فالأفراد متساوية في إندارجها تحت الخطاب، فالقضية الحقيقية هي الدالة علی التنزيل بنفسها، لأن شأنها فرض وجود الموضوع.

وأشکل عليه: أولاً(2): بأن ملاك القضية الحقيقية هو ترتب الحکم علی الأفراد المقدّرة الوجود، لا علی الأفراد المفروضة الحضور، وملاك الخطاب هو الحضور الذي ليس هو من مقتضيات القضايا الحقيقية.

وبعبارة أخری: في صحة خطاب المعدوم في القضايا الحقيقية لا يكفي تنزيل المعدوم منزلة الموجود، بل لابد من تنزيله منزلة الحاضر، وذلك قيد زائد علی مقتضی القضية الحقيقية، ولا دليل علی هذا التنزيل، فتأمل.

وثانياً: ما قيل: من أن تنزيل المعدوم منزلة الموجود ينفع في ترتيب الآثار الشرعية، والمخاطبة أمر تکويني لا يقبل الترتب بالتنزيل.

ص: 397


1- فوائد الأصول 1: 550.
2- نهاية الدراية 2: 474 (الهامش).

وأجيب عنه: بأنه ليس المقصود توجه الخطاب إليهم أيضاً، بل المراد أن المدلول التصديقي للخطاب يعمّهم أيضاً، أي إن المقصود بالإفهام هو کل من يبلغه الخطاب، فتأمل.

الوجه الثاني: للمحقق الخراساني(1)، وحاصله: أن الخطاب الحقيقي هو توجيه الکلام إلی الغير بقصد إفهامه، وهذا لايتحقق إلاّ بالنسبة إلی الحاضر الملتفت، نعم الخطاب المجازي يصح حتی مع الجمادات.

وقد يشکل عليه: بإمکان توجيه الخطاب الحقيقي لغير الحاضر الملتفت، بغرض وصوله إليه ولو بعد حين، کما لو کتب رسالة إلی المعدومين موجهاً خطابه إليهم، فإنه خطاب حقيقي وجداناً، وکأنّ منشأ التوهم هو حصر الخطاب باللفظ حيث إنه متصرّم الوجود فيكون مخاطبة المعدوم لغواً!!

هذا مع أن قصد الإفهام هو من دواعي الخطاب، وليس مقوماً لحقيقته، فمع عدمه يكون الخطاب لغواً عادة، لا أنه ليس بخطاب، فتأمل.

الوجه الثالث: إنه يكفي في صحة الخطاب مطلق وجود المخاطب ولو ادعاءً، فلذا صحّ خطاب مالا يشعر کالجمادات والحالات ونحو ذلك.

وأشکل عليه: إن وجود المخاطب ادعاءً يستلزم کون الخطاب أيضاً ادعائياً!!

وفيه: عدم صحة هذه الملازمة، إذ يمکن ترتيب الآثار الواقعية علی الوجود الادعائي، إذا کان له وجود حقيقي من جهة أخری، کمن يُنزل ابن

ص: 398


1- إيضاح كفاية الأصول 3: 84.

القاتل منزلة ابيه ثم يقتص منه، نعم ما ليس بموجود في الخارج أصلاً لايمکن ترتيب آثار الوجود الخارجي عليه، وفيما نحن فيه للجدار مثلاً وجود خارجي حقيقي فيمکن جعله مخاطباً ادعاءً ثم توجيه الخطاب الحقيقي إليه، فتأمل.

3- وتارة يكون الکلام حول أداة الخطاب ومدخولها، وهذا بحث لفظي، ففي نهاية الأفکار(1): إن محل البحث هو ما کان بأداة الخطاب وکان موضوع الخطاب عنواناً عاماً قابلاً للإنطباق علی الموجود والمعدوم، کقوله: (يا أيها الناس) و (يا أيها الذين آمنوا)، فهنا عموم المتلوّ ظاهر في شمول الخطاب للغائبين والمعدومين، وظهور أداة الخطاب إنما هو في الخطاب الحقيقي الخاص بالحاضرين.

فليس البحث فيما لوکان الکلام بلاخطاب، کما لو قال: (يجب علی المقيم کذا، وعلی المسافر کذا) مما کانت المخاطبة بنفس المواجهة من دون توسيط أداة خطاب في البين، حيث لا إشکال في شمول الحکم للغائب والمعدوم متی ما وجد، لعدم المحذور في التکاليف غير الفعلية التي لا تتضمن بعثاً أو زجراً.

کما لايشمل البحث فيما لو کان التخاطب بأداة الخطاب، کضمير المخاطب، وکان المکلّف بالتکليف نفس المخاطب، من غير أن يكون واسطة في التبليغ، کما لو قال: يجب عليكم کذا، لعدم صحة خطاب غير الموجود حال الخطاب، فإذا کان المکلّف هو المخاطب فيلازم ذلك

ص: 399


1- نهاية الأفکار 1: 531-532.

اختصاص التکليف بخصوص الحاضرين.

أقول: لا بأس بهذا التقسيم الثلاثي، إلاّ أن مرجع الثاني إلی ظهوره في کونه قضية حقيقية، فشموله للمعدومين لأجل ذلك وبلا إشکال، کما أن مرجع الثالث إلی ظهور الکلام في القضية الخارجية، لا للوجه الذي ذکره، فتأمل.

وعلی کل حال ففي مورد أدوات الخطاب، فقد ذکر لشمول الحکم للمعدومين والغائبين وجوه، منها:

الوجه الأول: إن عموم المدخول يرتبط بعموم الأداة، فلأيّ شيء وضعت؟

فإن قلنا: بأنها وضعت لتوجيه الکلام إلی المخاطب بغرض إفهامه، فيكون المدخول خاصاً بهذا المخاطب.

وإن قلنا: بأنها وضعت لإيقاع الخطاب، مع اختلاف الدواعي، والتي منها: الإفهام، أو إبراز الشوق، أو إبراز التحسر... الخ، وعلی هذا لا مجازية لو استعملت لا بداعي الخطاب، کما في خطاب الجمادات، فيدخل فيه خطاب المعدوم أيضاً، وبعبارة أخری: إن أدواة الخطاب إنما هي لإيجاد المعنی في عالم الإنشاء، وهو عالم ذهني، لا لإيجاده في الخارج حتی يحتاج إلی مخاطب موجود.

وقد ذهب المحقق الخراساني إلی الثاني(1)، بتقريب عدم شعورنا بالمجازية لو لم تستعمل بداعي الخطاب، نعم هي ظاهرة في الخطاب

ص: 400


1- إيضاح كفاية الأصول 3: 86-87.

الحقيقي، وليس منشأ هذا الظهور الوضع، بل الانصراف، ولا انصراف مع وجود المانع، ويوجد هذا المانع في الخطابات الشرعية، حيث نعلم بعدم اختصاص الأحکام الشرعية بالحاضرين.

وأشکل عليه المحقق العراقي(1):

بأن الظهور في الخطاب الحقيقي ظهور مستقر، فيزاحم عموم المتلوّ، ويوجب تخصيصه بالحاضرين، خصوصاً فيما يحتمل فيه مدخلية قيد الحضور في التکليف المتکفل له الخطاب.

وفيه: أن المقصود هو وجود المانع عن الانصراف، وهذا لايضرّبه استقرار الظهور في الاستعمالات التي لايوجد فيها المانع، والاشتراك في التکليف قرينة قوية توجب رفع اليد عن احتمال مدخلية قيد الحضور.

الوجه الثاني(2): أنه لا منافاة بين اختصاص الخطاب بخصوص الحاضرين وبين عموم الحکم المتکفّل له الخطاب لغير الحاضرين أيضاً، کما لا منافاة بين کون المخاطب جماعة بغرض تبليغهم مثلاً والحکم لجماعة أخرين، کما في خطاب الرجال بتکاليف النساء مثلاً يقول: يا أيها الرجال يجب الحجاب علی نسائکم، وعليه فنحمل الخطاب علی الخطاب الحقيقي وهو خاص بالحاضرين کما نبقي المتلوّ علی عمومه، بلا تعارض بينهما.

الوجه الثالث: التمسك بقاعدة الاشتراك في التکليف.

ص: 401


1- نهاية الأفکار 1: 534.
2- نهاية الأفکار 1: 534.

ويرد عليه: أولاً: إن کان المقصود هو خطاب المعدومين، فقد مرّ عدم إمکانه، وإن کان المقصود إنشاء الحکم بالنسبة إلی المعدومين أيضاً بمعنی الإيجاد في عالم الإنشاء، رجع هذا الوجه إلی الأوّل، وإن کان المقصود أن هذه القاعدة ثبتت بدليل آخر غير عموم الخطاب فهذا اقرار بعدم شمول الخطاب لهم وإنما يعمّم الحکم لجهة أخری.

نعم يمکن القول بأن مستند القاعدة هو التمسك بإطلاق الدليل لنفي قيد الحضور والوجود حين الخطاب.

وثانياً(1): بأن القاعدة تنفي الخصوصيات الذاتية، کزيّديته وعمرويّته، وأما الخصوصيات العرضيّة - والتي منها الحضور والغياب - فلا تتکفله القاعدة!

ويمکن أن يقال: إن الإطلاق کما ينفي الخصوصيات الذاتية، کذلك ينفي العَرَضيّة، کما أن خصوصية الحضور والغياب ليست من التقسيمات المتأخرة عن مرحلة الحکم حتی يستحيل الإطلاق بالنسبة إليها، مضافاً إلی أن الإطلاق هنا بمعنی رفض القيود وليس بمعنی جمعها، فتأمل.

البحث الثاني: في ثمرة عموم الخطاب أو عدمه

وقد ذکر لهذا البحث ثمرات، منها:

الثمرة الأولی: حجية الظواهر خاص بمن قُصد إفهامه، فإن کان الخطاب عاماً کانت الظواهر حجة لغيرهم، وإلاّ أختصت حجيّته بهم.

ويرد عليه: مضافاً إلی الإشکالات المبنائية:

ص: 402


1- نهاية الأفکار 1: 534.

أولاً: علی الکبری، إذ بناء العقلاء علی حجية الظواهر حتی لمن لم يُقصد إفهامه، بل حتی لو قُصد عدم إفهامه، فلو سمع کلاماً من وراء الجدار هو غير مقصود به، أو سمع إقراراً مع قصد المقرّ عدم إفهامه، رتبوا علی ظاهرها الأثر.

وثانياً: علی الصغری، يستفاد من الأخبار أن الجميع مقصود بالإفهام من الظواهر القرانية، وعليه فالثمرة منتفية.

الثمرة الثانية: بناءً علی شمول الخطاب لغير الحاضرين، فيمکنهم التمسك بالإطلاقات القرانية، فيما لو تخالف الحاضرون والغائبون والمعدومون في صفة من الصفات واحتمل دخلها في الحکم، فيمکن للغائبين والمعدومين التمسك بالإطلاق لنفي تلك الصفة، وأما لو اختص الخطاب بالحاضرين، فلا يمکنهم التمسك بالإطلاق، وذلك لأن تلك الصفة يمکن أن تکون قرينة، فلم تتم مقدمات الحکمة.

وأشکل عليه: أولاً: بقاعدة الاشتراك في التکليف.

وفيه: أنه إن کان مستند القاعدة الإطلاق فهو غير ثابت حسب الفرض، وإن کان المستند الاجماع فهو دليل لبي، فلا يمکن التمسك بها فيما نحن فيه.

وثانياً: التمسك بالإطلاق بطريقة غير مباشرة، بأن يقال: بجريان الإطلاق في حق المشافهين، ثم بقاعدة الاشتراك يجري الحکم في الغائبين والمعدومين.

فإن قلت: إن اتصاف المشافهين بالوصف يصلح قرينة لعدم الإطلاق،

ص: 403

مع عدم الحاجة إلی بيانه حتی لو کان شرطاً واقعاً وذلك لاتصافهم به.

قلت: إن الأوصاف عادة مشترکة بين المشافهين وغيرهم، مضافاً إلی أن المشافهين وإن کانوا واجدين لصفة إلاّ أنها عادة معرضة للزوال فلو کانت دخيلة في الحکم واقعاً کان لابد من بيانها، إلاّ في النادر من الأوصاف غير القابلة للزوال عن المشافهين مع عدم اتصاف المعدومين بها، کوصف حضور المعصوم مثلاً.

ص: 404

فصل في العام المتعقب بالضمير الراجع إلى بعضه

اشارة

وفيه مطلبان:

المطلب الأول: في تحرير محل النزاع:

1- لابحث فيما لو ذکر العام مقدمة للضمير، بأن کان الکلام ناقصاً لولا الکلمة التي فيها الضمير، کما لو قيل (المطلقات أزواجهن أحق بردهن)، لوضوح عدم انعقاد ظهور العام بالعموم مع اکتنافه بما هو قرينة علی إرادة البعض.

2- وإنما البحث فيما لو کان العام والضمير في کلامين متصلين، کقوله تعالی: {وَالْمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوءٖ} إلی قوله تعالی: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ}(1)، أو کانا في کلام واحد مع استقلال حکم العام، کما لو قال: (أکرم العلماء وخدامهم) مع علمنا برجوع الضمير إلی خصوص خدام العدول من العلماء.

وحينئذٍ فلابد من التصرف: إما في العام بتخصيصه مع أن الأصل هو العموم، وإما في الضمير.

والتصرف في الضمير قد يكون بالاستخدام مع أن الأصل العقلائي هو

ص: 405


1- سورة البقرة، الآية: 228.

عدم الحمل علی الاستخدام، وهذا التصرف هو بإرجاعه إلی بعض الاسم الظاهر فيكون مجازاً حيث وضع الضمير ليراد به نفس ما أريد من الاسم الظاهر، فإرادة بعضه استعمال في خلاف ما وضع له، فيكون مجازاً، وقد يكون التصرف في إسناد الضمير، بأن يسند إليه حکم عام مع إرادة الخصوص بالإرادة الجدّية.

وإنما لزم التصرف في أحدهما، لعدم إمکان بقاء العام علی عمومه، وبقاء ظهور الضمير في المطابقة.

المطلب الثاني: في علاج التعارض

وذلك عبر وجوه:

الوجه الأول: رفع التعارض بترجيح عموم العام وعدم جريان أصالة الظهور في الضمير، فتبقی أصالة الظهور في العام سليمة عن المعارض، وأما عدم جريانها في الضمير، فلمعلوميّة المقصود منه، والأصول العقلائية إنما تجري لفهم المراد، وبعد فهمه لايهمّ العقلاء کيفية ذلك الفهم، فليس له أصول خاصة لتمييز الکيفية، ولذا اشتهر أن الاستعمال أعم من الحقيقة، لأنهم بفهمهم المراد لايهمهم کونه حقيقياً أو مجازياً.

وفيما نحن فيه لايُعلم المراد من العام - المطلقات في الآية - فهل أريد جميعهن أم خصوص الرجعيات منهن، فتجري أصالة العموم، وأما ضمير (بعولتهن) فإن المراد منه معلوم وهو المطلقات الرجعيات، فلا يجري فيه أصالة التطابق أو عدم الاستخدام، فلا تعارض في البين.

إن قلت: لاتجري أصالة العموم أيضاً، وذلك لأن الکلام مکتنف بما

ص: 406

يصلح أن يكون قرينة علی الخصوص، فيكون العام مجملاً؟!

أجاب المحقق النائيني(1)

بأن ضابط احتفاف الکلام بما يصلح للقرينية هو أن يكون مما يصح أن يعتمد عليه المتکلّم في مقام بيان مراده، ولم يخرج بذلك عن طريق المحاورة، وبعبارة أخری: أن يكون ما يصلح للقرينية مجملاً في نفسه فيوجب إجمال جملة الکلام، والضمير المتعقب للعام الراجع إلی بعض أفراده لايكون کذلك، لأنه معلوم المراد ولا يوجب إجمال العام.

وخالفه في ذلك المحقق العراقي(2)،

وسيأتي البحث عن ذلك في بحث المطلق والمقيد.

إن قلت: إن عدم الاستخدام کما يقتضي أن يكون المراد من الضمير هو الخاص، کذلك يقتضي أن يكون المراد من العام المعنی الخاص، ليتطابق المرجع والضمير، وأصالة عدم الاستخدام وان کانت لاتجري في الأول لعدم الشك في المراد من الضمير، إلاّ أنها تجري في الثاني، وحيث کان لازم عدم الاستخدام هو کون المراد من العام هو الخاص، فأصالة عدم الاستخدام تجري لإثبات هذا اللازم.

قلت(3): إرادة الخاص من العام لازم عدم الاستخدام، فلابد أولاً من إثبات عدم الاستخدام بوجه ولو بالأصل، ليترتب عليه لازمه الذي هو إرادة

ص: 407


1- فوائد الأصول 1: 554.
2- نهاية الأفکار 1: 546.
3- فوائد الأصول 1: 553.

الخاص من العام، وبعد عدم جريان أصالة عدم الاستخدام، وذلك للعلم بالمراد من الضمير، کيف يمکن إثبات لازمه الذي هو إرادة الخاص من العام؟!

وبعبارة أخری: لا دلالة علی اللازم بعد عدم الدلالة علی الملزوم.

الوجه الثاني: إنکار الاستخدام من أساسه، لأن الاستخدام هو رجوع الضمير إلی معنی آخر، وليس للعام المخصص معنی آخر، ليكون مجازاً، بل العام حتی بعد تخصيصه يكون دالاً علی العموم بالإرادة الاستعمالية، والتخصيص يرتبط ببيان المراد الجدي.

وفيه: أن النزاع ليس لفظياً بأن يكون في معنی الاستخدام، فحتی لو فرض أنه ليس من الاستخدام، فإن ظاهر الضمير هو أن يكون مرجعه بالإرادة الجدّية هو الاسم الظاهر لا بعض ذلك الاسم، فلو رجع إلی بعضه کان خلاف الظاهر سواء سُمّي استخداماً أم لا.

الوجه الثالث: ما في المنتقی(1)

من أن المراد من الاستخدام أحد أمرين:

الأول: استعمال اللفظ في معنی وإرادة معنی آخر من ضميره، فأصالة عدم الاستخدام تفيد وحدة المعنی.

وهذه الأصالة لا تجري فيما نحن فيه، لأن الاستخدام ثابت سواء أريد من العام العموم أو الخصوص، وذلك لاستعمال العام في العموم حتی لو کان المراد الجدي هو الخصوص، مع رجوع الضمير إلی الخاص.

ص: 408


1- منتقی الأصول 3: 378.

ومع ثبوت الاستخدام، لا معنی لجريان أصالة عدم الاستخدام، فتبقی أصالة العموم سليمة عن المعارض.

الثاني: أن يكون الاستخدام بمعنی اختلاف المراد الجدي من اللفظ وضميره، فأصالة عدم الاستخدام تفيد وحدة المراد الجدي ولو مع اختلاف المستعمل فيه.

وقد يُدّعی أن مستند هذا هو الظهور السياقي، فيدل علی وحدة المراد الجدي بين الضمير ومرجعه، وحينئذٍ يحصل التعارض بين أصالة عدم الاستخدام وأصالة العموم.

إلاّ أنه يمکن ردّ هذا الادعاء بأن الظهور السياقي ليس إلاّ مطابقة مقام الثبوت للإثبات، وليس شيئاً آخر، وحيث نعلم فيما نحن فيه بالمراد الجدي من الضمير ومخالفته للمراد الاستعمالي لو کان المرجع عاماً، فلا معنی لجريان هذا الأصل العقلائي الذي هو مطابقة الثبوت للإثبات، فينحصر جريان الأصل في طرف العام، فلا مزاحمة لأصالة العموم.

تتمتان

الأولی: ذکر المحقق النائيني(1): أن قوله تعالی: {وَبُعُولَتُهُنَّ...}(2) ليس من الاستخدام حتی لو بقي العام علی عمومه، وذلك لأن الضمير استعمل في مطلق المطلقات، لا في خصوص الرجعيات، وإرادة الرجعيات کان بدليل آخر هو عقد الحمل أي قوله: (أحق بردهن)، فلا اختلاف بين

ص: 409


1- فوائد الأصول 1: 553.
2- سورة البقرة، الآية: 228.

المستعمل فيه العام والمستعمل فيه الضمير. مرجع ذلك إلی أن الاستخدام لايرتبط بالمراد الجدي وإنما بالمراد الاستعمالي کما مرّ قبل قليل.

الثانية: قد يقال: لو رجع الضمير إلی المطلق وأريد من الضمير المقيد، فإن ذلك لايستلزم الاستخدام، إذ الإطلاق ليس مدلولاً وضعياً للمطلق کي يلزم إرجاع الضمير إلی غير مرجعه، بل المرجع مستعمل في الطبيعة المهملة و کذلك الضمير، غاية الأمر کان المراد الجدي من الضمير الطبيعة مع القيد، فلم يختل ظهور التطابق بين الضمير ومرجعه.

وأشكل عليه(1): بأن رجوع الضمير إلی مرجعه ليس بمعنی تکرار معنی المرجع في الضمير مرة ثانية، نظير أن يقال: (قلد العالم وأکرم العالم)، بل وضع الضمير لمفهوم مبهم هو الإشارة إلی المعنی التصوري للمرجع بنحو لا وظيفة له إلا إيصال ما بعده من النسبة إلی نفس ما تقدم من المعنی المنسبق إلی الذهن، فهو مثل: (قلّد وأکرم العالم)، فليس في الذهن إلاّ صورة واحدة لمعنی واحد، لا صورتان متکرّرتان، والصورة الواحدة لاتقبل إلاّ إطلاقاً واحداً، لا إطلاقين، فلو کان بعد الضمير دالاً علی تقييد تلك الصورة الواحدة من الطبيعة، فلا محالة تکون صورة الطبيعة المفادة بالمرجع مقيدة فيكون الحکم الأول مقيداً لا محالة، فالاستخدام في الحقيقة هو سلخ الضمير عن کونه لمجرد الإشارة والإيصال إلی معنی متقدم، وعليه فلو أريد من المرجع المطلق وأريد من الضمير حصة من المطلق حصل الاستخدام.

ص: 410


1- بحوث في علم الأصول 3: 381.

فصل في تخصيص العام بالمفهوم

اشارة

وفيه بحثان:

البحث الأول: تخصيص العام بمفهوم الموافقة

ونعني به تطابق المفهوم والمنطوق في السلب والإيجاب، ومنشأ المفهوم إمّا الأولوية القطعية العقلية کدلالة {فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفّٖ}(1) علی حرمة الضرب، وإما الاشتراك في العلة المذکورة، فمثل (لا تأکل الرمان لأنه حامض) يدل علی النهي عن العنب الحامض مثلاً.

وهنا الصور متعددة، منها:

الصورة الأولی: کون المنطوق أخص مطلقاً، وکذلك المفهوم، کما لو قال: (لا تضيّف أيّ أحدٍ) وقال: (ضيّف خدام العلماء) حيث مفهومه الموافق (ضيّف العلماء)، فهنا المنطوق والمفهوم کلاهما أخص من العام، ولا إشکال في تقديمهما علی العام، إذ المنطوق أخص وهو مقدم علی العام، ويلازمه المفهوم قطعاً وهو أيضاً أخص، فيترجح علی العام، ولا وجه لتقديم العام علی المفهوم لاستلزامه تقديمه علی المنطوق أيضاً لعدم انفکاکهما عقلاً.

ص: 411


1- سورة الإسراء، الآية: 23.

الصورة الثانية: أن يكون المنطوق أخص مطلقاً، مع کون النسبة بين المفهوم والعام، العموم والخصوص من وجه، کما لو کان العام (لا تکرم الفساق)، وکان المنطوق (أکرم فساق خدام السادة) ويلازمه بالأولوية (وجوب اکرام فساق السادة) وهذا يلازمه بالأولوية (وجوب إکرام عدول السادة) فالمفهوم (وجوب إکرام السادة مطلقاً عدولاً کانوا أم فساقاً).

فبين العام والمنطوق العموم والخصوص المطلق، ولکن بين العام والمفهوم العموم من وجه، ومورد الافتراق الفاسق غير السيد وغير خادمه، وکذا السيد العادل.

قد يقال: بتقدّم المفهوم علی العام أيضاً.

واستدل لذلك المحقق النائيني(1)

بأن المفهوم أولی في ثبوت الحکم له من المنطوق، وحينئذٍ مع تقدم المنطوق الخاص علی العام لايعقل عدم تقدم المفهوم الخاص علی العام، إذ المفهوم أجلی من المنطوق، فإذا تقدم المنطوق الخاص فبالأولوية يتقدم مفهومه، فيكون المورد من موارد تقديم أحد العامين من وجه علی الآخر بمرجّح.

وبعبارة أخری: إن المرجح موجود حتی لو کانت النسبة - بعد ملاحظة المنطوق والمفهوم معاً - العموم من وجه - ، وهو أن تقديم العام سبب سقوط منطوق الخاص و بسقوطه يسقط مفهومه، إذ مع سقوط الدلالة المطابقية تسقط الدلالة الالتزامية، وعليه فيسقط الخاص بالمرّة، وهو خلاف الجمع العرفي، وإنما الجمع العرفي هو تقديم منطوق الخاص فيستلزم

ص: 412


1- فوائد الأصول 1: 556.

تقديم مفهومه، حتی لو کانت النسبة العموم من وجه، فتأمل.

الصورة الثالثة: ما کان بين المنطوقين تبايناً، مع تعارض مفهوم أحدهما مع الآخر، کما لو قال: (أکرم الخدام الأميين للعلماء) وقال (لا تکرم العلماء) فالتکليفان متباينان ولا تعارض بينهما، إلاّ أن مفهوم الأول هو (أکرم العلماء) بالأولوية، وعلاج التعارض هو بملاحظة المفهوم والمنطوق معاً لأنهما مدلولان للکلام ثم ملاحظتهما مع الدليل الآخر، وحيث إن التعارض حينئذٍ بالتنافي فلا جمع دلالي، ولا يخفی أن هذه الصورة خارجة عن فرض الکلام.

البحث الثاني: تخصيص العام بمفهوم المخالفة:

کقوله: «الماء کله طاهر»(1) وقوله: «إذا کان الماء قدر کر لم ينجسه شيء»(2)، حيث مفهومه (إذا لم يبلغ قدرکر نجسه شيء) وهذا المفهوم أخص من ذاك العام.

وهنا حيث لا أولوية ولا اشتراك في العلة، فيمکن رفع اليد عن المفهوم مع ثبوت الحکم في المنطوق، فيدور الأمربين رفع اليد عن عموم العام وبين رفع اليد عن المفهوم الخاص.

ولابدّ من أن يكون الجمع أو الترجيح عرفيّاً، وإلاّ فلا محيص للتساقط والرجوع إلی الأدلة أو الأصول الأخری.

فلا يصغی إلی الاستدلال علی ترجيح التخصيص بأنه جمع بين دليلي

ص: 413


1- وسائل الشيعة 1: 134.
2- وسائل الشيعة 1: 158.

العام والمفهوم، إذ ليس کل جمع أولی من الطرح، بل لابد من کونه عرفياً.

کما لايصغی إلی الاستدلال علی ترجيح العام بأنه أقوی لکونه بالمنطوق، إذ قد يكون المفهوم أقوی لأخصيته مثلاً.

وکون الجمع عرفياً يتمّ بملاحظة اتصال الذي له المفهوم أو انفصاله، وبملاحظة کون الدلالة علی العموم أو المفهوم بالوضع أو مقدمات الحکمة، وکون العموم آبياً عن التخصيص وعدم إبائه، فالصور کثيرة، منها:

الصورة الأولی: کون الدلالة علی العموم وعلی المفهوم بالوضع، کما لو قال: (أکرم کل عالم) وقال: (أکرم العلماء إذا کانوا عدولاً) فذهب المحقق العراقي(1) إلی الإجمال حينئذٍ إن لم يكن لأحدهما مرجّح - سواء کانا متصلين أم منفصلين - .

أما إذا کانا متصلين، فلعدم استقرار الظهور في أيٍّ منهما، حيث يصلح کل واحد منهما لأن يكون قرينة لرفع اليد عن الآخر.

وأما إذا کانا منفصلين، فإنه واستقر لکليهما ظهور، إلاّ أنهما مصطدمان، وحيث لاترجيح في البين لاتثبت الحجيّة لأيٍّ منهما، إلاّ إذا ثبتت أقوائية أحدهما علی الآخر أو کان هناك مرجّح.

وقد يقال: بأن المرجح موجود في المفهوم، لأقوائيته علی العام.

إن قلت: إن المفهوم يكون دائماً بالإطلاق لا بالوضع، وذلك لأن استفادته من دلالة المنطوق علی خصوصية ملازمة للمفهوم، کخصوصية العلة المنحصرة في مفهوم الشرط - علی القول بها - ، وغير خفي أن الدلالة

ص: 414


1- نهاية الأفکار 1: 546.

علی هذه الخصوصية إنما هي بالإطلاق، الذي هو عدم ذکر العِدل!!

قلت: إن الذي له المفهوم يدل بنفسه علی دخل مثل الشرط والوصف ونحوهما في الحکم، وإنما الإطلاق لنفي العِدل، وبعبارة أخری(1) العام يصادم دليل المفهوم في دلالته علی أصل دخالة الشرط في الحکم - والتي هي أسبق من دلالته علی المفهوم - ودليل المفهوم بلحاظ هذه الدلالة أقوی من دلالة العام علی العموم.

الصورة الثانية: کون دلالتهما بالإطلاق، وحکم هذه الصورة کالسابقة، في ترجيح المفهوم علی العام لأقوائيته بالوجه المذکور، فلا يصغی إلی ما قيل: من عدم ثبوت الإطلاق لأيٍّ منهما، وذلك لصلاحية الآخر للقرينيّة، ومن المعلوم أن من مقدمات الحکمة عدم وجود ما يصلح للقرينة.

الصورة الثالثة: کون العام بالوضع والمفهوم بالإطلاق.

فإن کانا متصلين: فقد يقال: بترجيح العام لأن ظهوره بالوضع، ومعه لايبقی مجال للإطلاق حيث إن العام صالح للبيانية، ولا عکس.

وقد يورد عليه: بأنه قد تکون جهة مرجحة للمفهوم المستفاد من الإطلاق، وهي لغوية ذکر الذي له المفهوم، وهذه الجهة توجب ثبوت الإطلاق وأقوائيته علی العام، فتأمل.

وإن کانا منفصلين: فقد يقال: بتقديم الوضع علی الإطلاق، نظراً لکون ظهور العام منجزاً، وظهور المفهوم معلّقاً علی عدم البيان.

ص: 415


1- منتقی الأصول 3: 388.

وأشکل عليه المحقق العراقي(1): بأن تقوّم الإطلاق هو عدم البيان في الکلام الذي وقع به التخاطب، لا عدم البيان بقول مطلق، والشاهد هو أخذ العرف وأهل المحاورة بظهور الکلام الملقی إليهم في الإطلاق عند عدم نصب قرينة علی الخلاف من غير حالة منتظرة بأنه لعله يأتي بيان، والنتيجة هو وقوع التعارض بين هذا الإطلاق وبين العموم لاستقرار الظهور في کليهما، فلابد من الحکم بالإجمال إن لم يكن هناك جهة مرجِّحة.

ويمکن أن يقال: مع قطع النظر عن البحث المبنائي، إن هذا الاستدلال علی فرض صحته لايجري في المولی الذي يتعارف فيه فصل القرينة، إن لم يستلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، والشاهد علی ذلك عمل العرف بعمومات کلام الموالي العرفية من غير انتظار لبيان الخاص - مثلاً - فتأمل.

الصورة الرابعة: عکس الصورة السابقة

فإن کانا في کلام واحد قُدّم المفهوم لتنجز ظهوره عکس ظهور العام.

وإن کانا في کلامين جری فيهما ما ذکر في الصورة السابقة.

تتمتان

التتمة الأولی: فيما ذکره الشيخ الأعظم في الاستدلال بآية النبأ علی حجية الخبر الواحد:

1- أما بالنسبة إلی ترجيح عموم التعليّل علی المفهوم فقال(2): إنا لو سلّمنا دلالة المفهوم علی قبول خبر العادل الغير المفيد للعلم، لکن نقول: إن

ص: 416


1- نهاية الأفکار 1: 547.
2- فرائد الأصول 1: 258.

مقتضی عموم التعليل وجوب التبيّن في کل خبر لا يؤمن الوقوع في الندم من العمل به وإن کان المخبر عادلاً، فيعارض المفهوم، والترجيح مع ظهور التعليل... إن المفهوم أخص مطلقاً من عموم التعليل مسلّم، إلاّ أنّا ندعي التعارض بين ظهور عموم التعليل في عدم جواز العمل بخبر الواحد الغير العلمي، وظهور الجملة الشرطية أو الوصفية في ثبوت المفهوم، فطرح المفهوم والحکم بخلوّ الجملة الشرطية عن المفهوم أولی من ارتکاب التخصيص في التعليل.

2- وأما بالنسبة إلی ترجيح المفهوم علی العمومات الدالة علی النهي عن العمل بغير العلم فقال(1): فالمفهوم أخص مطلقاً من تلك الآيات، فيتعيّن تخصيصها، بناءً علی ما تقرر من أن ظهور الجملة الشرطية في المفهوم أقوی من ظهور العام في العموم.

وأما منع ذلك فيما تقدم من التعارض بين عموم التعليل وظهور المفهوم، فلما عرفت من منع ظهور الجملة الشرطية المعلّلة بالتعليل الجاري في صورتي وجود الشرط وانتفائه في إفادة الانتفاء عند الانتفاء، انتهی.

وقد يفسّر کلامه: بأن التعليل آبٍ عن التخصيص، فلا يمکن تخصيصه بالمفهوم ولا بغيره، حيث إن إصابة القوم بجهالة غير قابل للتخصيص، أما الآيات الناهية عن العمل بالظن فلا إباء لها من التخصيص، فتخصص بالمفهوم!!

ومرجع هذا التفسير إلی أن المفهوم يُخصص العام مطلقاً إلاّ إذا کان

ص: 417


1- فرائد الأصول 1: 263.

هناك مرجح للعام، والإباء عن التخصيص مرجحٌ!

وأشکل عليه المحقق النائيني(1): بأن التعليل مهما بلغ من القوة، لايكون أقوی من المفهوم الخاص، والآيات الناهية عن العمل بالظن أيضاً آبية عن التخصيص! وکيف يمکن تخصيص مثل قوله تعالی: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَئًْا}(2).

ثم قال: إنه في الآيتين لاتلاحظ النسبة، بل المفهوم حاکم علی عموم التعليل وعلی عموم النهي عن العمل بالظن، لأن خبر العدل بعد ما صار حجة يخرج عن کونه ظناً، وعن کون إصابة القوم بالجهالة، ويكون علماً، وبذلك تخرج آية النبأ عن مورد البحث، إذ الکلام في التخصيص لا في الحکومة.

التتمة الثانية: في الفرق بين مفهوم الموافقة والمخالفة.

وقد ذکر المحقق النائيني(3): أن الفرق بينهما من وجهين:

الأول: في المفهوم الموافق يلاحظ التعارض والعلاج أولاً بين المنطوق والعام، ويتبعه العلاج بين المفهوم والعام، بخلاف المفهوم المخالف، فإن التعارض وعلاجه أولاً وابتداءً إنما يكون بين المفهوم والعام، إذ المنطوق ربما لايكون معارضاً أصلاً.

الثاني: إن المنطوق في المفهوم الموافق لو قدم علی العام لأخصيته،

ص: 418


1- فوائد الأصول 1: 559.
2- سورة يونس، الآية: 36؛ سورة النجم: الآية 28.
3- فوائد الأصول 1: 560.

فالمفهوم أيضاً يقدّم علی العام مطلقاً، ولو کان نسبته مع العام العموم من وجه، بخلاف المفهوم المخالف، فإنه لو کان بين المفهوم والعام العموم من وجه يعامل معهما معاملة العموم من وجه، فربما يقدم العام علی المفهوم في مورد التعارض، ويخصّص المفهوم به، إذ المفهوم العام قابل للتخصيص ولا تخرج القضية بذلك عن کونها ذات مفهوم.

ويمکن أن يقال: أما الأول: فقد مرّ أنه لا وجه للتفكيك بين المنطوق والمفهوم في الموافق، لتلازمها عقلاً مع وضوح ذلك لدی العرف، فلابد من ملاحظتهما معاً في نسبتهما مع العام.

وأما في المخالف فلا کلام فيما لم يكن المنطوق معارضاً للعام، إنما الکلام فيما لو عارضه فکذلك لابد من ملاحظة المنطوق والمفهوم معاً في نسبتهما إلی العام، لتلازمها عرفاً.

وأما الثاني: فکذلك، لتلازم الموافق مع المنطوق، فالعرف ينظر إليهما کمدلول واحد للکلام حيث إن الإرادة الجدّية تعلقت بهما معاً حتی لو کان هناك تقدم رتبي للمنطوق علی مفهوم الموافق، وحينئذٍ فالمنطوق الخاص مطلقاً مع مفهومه الخاص من وجه يلاحظان معاً، فتکون نسبتهما إلی العام من وجه، وکذلك في المخالف، فتأمل جيداً.

ص: 419

فصل في الاستثناء المتعقب لجمل متعددة

اشارة

وکذا بعض التوابع الأخر، کالوصف کما لو قال: (أکرم العلماء والشعراء العدول)، ومثال الاستثناء قوله تعالی: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَٰتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَٰنِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَٰدَةً أَبَدًا وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْفَٰسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(1).

وهنا بحوث ثلاث: ثبوتي، وإثباتي، ومقتضی الأصل العملي.

البحث الأول: في مرحلة الثبوت

أي في إمکان الرجوع إلی غير الأخيرة، وذلك عبر طريقين:

الطريق الأول: ما سلکه صاحب المعالم(2) ببيان أن الحروف - ومنها أدوات الاستثناء - الوضع فيها عام والموضوع له خاص، فحيث کان الوضع عاماً صحّ کون معنی أداة الاستثناء عاماً، لکي يرجع الاستثناء إلی الکل.

وأشکل عليه المحقق الخراساني(3): بأن کيفية الوضع والموضوع له، لاترتبط بصحة الاستثناء من کل الجمل السابقة إذ لايتغير معنی الأداة بوحدة أو تعدد المستثنی أو المستثنی منه، فلا فرق في معنی الاستثناء بين

ص: 420


1- سورة النور، الآية: 4-5.
2- معالم الدين: 123.
3- إيضاح کفاية الأصول 3: 114.

(أکرم العلماء إلاّ زيداً) وبين (أکرم العلماء والشعراء إلا الفساق من کليهما)، حيث المعنی في کلا المثالين الإخراج، من غير تفاوت في المعنی حين اختلاف النسبة.

وأورد عليه المحقق الإصفهاني(1): بأن الموضوع له إن کان خاصاً بأن کانت أداة الاستثناء موضوعة للإخراجات الخاصة فلا محالة يتعدد الإخراج بتعدد أحد الطرفين، إذ النسبة تتعدد بتعدد أطرافها، وحينئذٍ فإن دلّت أداة الاستثناء علی إخراجات متعددة لزم استعمال اللفظ في أکثر من معنی، فلابد من وحدة الإخراج وذلك بلحاظ الوحدة في الجمل المتعددة أو الوحدة في الاستثناءات المتعددة.

وأجاب عنه في المنتقی(2): بأن لحاظ الوحدة في الجمل المتعددة إما عبر جامع عنواني، وهذا يخالف الوجدان إذ لانری عنواناً آخر في البين، وإما عبر لحاظ نفس العمومات بنحو المجموع، وهذا بعيد عن طريق أهل المحاورة، لاستلزامه لحاظ کل واحد من العموم بنحوين: استقلالي في مقام تعلّق الحکم به، وضمني في مقام الاستثناء.

أقول: إن الکلام في مرحلة الثبوت والإمکان، فمع الاذعان بالمباني المذکورة - من کون الحروف للمعنی الرابط أو النسبة، ومن عدم جواز استعمال اللفظ في أکثر من معنی - فلابد من انتهاج ما ذکره المحقق الإصفهاني، وأما عدم مساعدة الوجدان أو المحاورة فهذا يمکن جعله دليلاً

ص: 421


1- نهاية الدراية 2: 480-481.
2- منتقی الأصول 3: 390-391.

علی عدم رجوع الاستثناء إلاّ إلی الأخيرة في مرحلة الاثبات، أما مع قيام القرينة علی رجوعه إلی الکل إثباتاً فلابد من تصحيحه ثبوتاً بهذه الطريقة لدفع المحذور العقلي عمّا وقع في الخارج، فتأمل.

الطريق الثاني: ما ذکره صاحب المنتقی(1)

من أن أداة الاستثناء ليست ربطاً بين المستثنی والمستثنی منه، ليلزم محذور تعدد الربط أو النسبة واستعمال اللفظ في أکثر من معنی.

بل أداة الاستثناء تتکفل بيان الربط بين المستثنی والمتکلّم، حيث معناها اُخرج - بصيغة المتکلم - ، وعليه فلا يلزم المحذور، إذ لاتعدد لطرف الربط رغم تعدد المستثنی منه.

أقول: إن هذا لايساعد عليه الوجدان، ففي مثل: (جاء القوم إلاّ زيداً) هناك نسبة وربط بين زيد وبين المجيء، أو بينه وبين القوم الجائين، فليس (إلا زيداً) منقطعاً عمّا قبله بحيث يكون کالجملة المستأنفة من غير ارتباط بينهما، وأما نسبته إلی المتکلّم فهي النسبة الايجادية، أي أنه أوجد هذه النسبة في کلامه بحيث تکون مرآة عن النسبة الخارجية ودالة عليها، وليس الکلام في النسبة الايجادية وإنما النسبة والربط بين طرفي الکلام، فتأمل.

البحث الثاني: في مرحلة الإثبات

فهنا أقوال، منها:

القول الأول: ما ذهب إليه المحقق الخراساني(2): بأنه لا إشکال في

ص: 422


1- منتقی الأصول 3: 390.
2- إيضاح کفاية الأصول 3: 112-113.

رجوعه إلی الأخيرة، إذ هي القدر المتيقن، وأما الرجوع إلی غير الأخيرة فقط فهو خارج عن طريقة أهل المحاورة إن لم تکن قرينة، کما لو قال: أکرم العلماء والعدول إلا الفساق حيث قامت القرينة علی رجوعه إلی غير الأخيرة، والقرينة هي عدم صحة استثناء الشيء من ضده.

ولايخفی أن التيقن بالرجوع للأخيرة ليس بمعنی الظهور في ذلك، إذ هو محل خلاف فقد يقال به، وقد يقال بالظهور في الرجوع إلی الکل، ولکن أياً کان الظهور فالرجوع إلی الأخيرة مسلّم.

وهذا هو أقرب الأقوال وأظهرها.

القول الثاني: ما ذهب إليه المحقق النائيني(1): من التفصيل بين ما إذا کانت الجمل المتقدمة مشتملة علی الموضوع، وبين ما إذا حذف فيها الموضوع، ففي الأول يرجع إلی خصوص الأخيرة، وفي الثاني يرجع إلی الجميع، مثال الأول: أکرم العلماء وأضف الشعراء وأهن الفساق إلاّ النحوي، ومثال الثاني: أکرم العلماء والشعراء والسادات إلا النحوي.

وبعبارة أخری: في الأول حيث ذکر عقد الوضع في محلّه فيحتاج تخصص غيره إلی دليل، وأما الثاني فلأن عقد الوضع مذکور في صدر الکلام فلا يصلح الاستثناء إلاّ للرجوع إليه، وإن رجع إليه خصص الجميع لا محاله.

وأشکل عليه: بأن ذلك لايوجب ظهوراً، وخاصة أن العطف في قوة تکرار الموضوع غير المذکور.

ص: 423


1- فوائد الأصول 1: 555.

القول الثالث: ما ذهب إليه المنتقی(1): من أن في الاستثناء تقديراً لضمير راجع إلی المستثنی منه، فمثل: أکرم العلماء إلا الفساق إنما هو بمعنی إلا الفساق منهم، فلابد من تعيّن الضمير، إذ هو للإشارة إلی معنی متعيّن فلابد من سبقه، ومع سبقه...

1- فقد يتحد المحمول وتتکرر العمومات، فالضمير راجع إلی الجميع، إذ هو المعنی المتعين الصالح لرجوع الضمير إليه، وأما خصوص الأخيرة فلا تعين له ذهناً من بين العمومات، والأقربية غير صالحة للتعيين وإلاّ لکانت الأبعدية کذلك!

2- وقد يتکرر المحمول من غير عطف - سواء اتحد نوع المحمول أم اختلف - ، فهنا يتعين رجوع الضمير إلی الأخيرة، إذ بيان کل حکم بجملة مستقلة غير مرتبطة بسابقتها، يوجب کون الجملة السابقة في حکم المغفول عنها، وهذا يوجب التعيّن للأخيرة دون غيرها.

3- وقد يتکرر المحمول مع العطف، فيكون الکلام مجملاً في غير الأخيرة، إذ يحتمل أن يكون استقلال الأخيرة في الحکم موجباً لتعينه عرفاً، کما يحتمل أن يكون ربط الأخيرة بعطف موجباً لعدم تعينه لکون الجميع بمنزلة الجملة الواحدة.

ويرد عليه: أن کل هذه التقسيمات فرع فرض وجود الضمير ومن ثمّ البحث عن مرجع له، وحيث يخلو الکلام عنه فلا وجه للبحث عن مرجعه، وإرادته جداً لاتنفع بعد عدم استعماله لفظاً، هذا مضافاً إلی أنه في الإرادة

ص: 424


1- منتقی الأصول 3: 391-393.

الجدّية لامعنی لفرض الضمير بل يفرض الاسم الظاهر، ذلك لأن الإتيان بالضمير إنما هو للاختصار في الکلام مع إرادة معناه، فيكون تقدير الضمير وإرجاعه إلی اسم الظاهر کالأکل من القفا بل يقدر الاسم الظاهر بنفسه - لو احتيج إليه - .

القول الرابع: ما ذهب إليه المحقق العراقي(1): حيث فصّل بأن الدلالة في کل من العمومات والاستثناء المتصل بها، إما أن تکون بالوضع، وإما بالإطلاق ومقدمات الحکمة، وثالثة تکون الدلالة في العام بالوضع وفي الاستثناء بالإطلاق، ورابعة بعکس ذلك...

فعلی الأولين: تسقط العمومات عن الحجية، لتصادم الظهورات، ولا بد من الرجوع إلی الأصول العملية من استصحاب ونحوه.

وعلی الثالث: لابد من الأخذ بالعام وعدم الاعتناء باحتمال رجوع الخاص إليه، ولا مجال حينئذٍ لتوهم اجمال العام باتصاله بالخاص المحتمل الرجوع إليه، من جهة أن ذلك إنما هو في فرض صلاحية الخاص المتصل للقرينية عليه، وبعد فرض کون الدلالة فيه من جهة الإطلاق لايكاد يوجد صلاحية له للقرينية علی العام، بل الأمر حينئذٍ بالعکس فإن العام من جهة کون الدلالة فيه بالوضع يصلح للبيانية عليه فينفي موضوع الإطلاق في طرف الخاص، لکونه من قبيل الدليل بالنسبة إليه.

وبعبارة أخری: إن ظهور العام تنجيزي بخلاف الخاص فإن ظهوره تعليقي منوط بعدم ورود بيان علی خلافه، فيقدم الظهور التنجيزي علی

ص: 425


1- نهاية الأفکار 1: 543-544.

التعليقي، بخلاف العکس فإن صلاحية هذا الظهور التعليقي للقرينية علی الظهور التنجيزي دوري.

وعلی الرابع: لابد من الحکم في غير الأخيرة بالإجمال، وذلك لاحتمال صلاحية الخاص للقرينية والبيانية للعمومات عند عدم ظهوره في الرجوع إلی الجميع.

وأورد عليه: أولاً: بأن إطلاق المستثنی منه فرع رجوع الاستثناء إلی الجمل، ومع الشك لاموضوع للإطلاق! إذ لو أريد إجراء الإطلاق مع قطع النظر عن إضافته إلی المستثنی منه فهو غير معقول إذ لابد من الإضافة إلی شيء ليحصل الإطلاق، وإن أريد إجراء الإطلاق بعد تحصيل مفهوم معيّن له - عبر وقوعه صفة للمستثنی منه ومضافاً إليه - فالشك إنما هو في نفس ذلك المفهوم وأنه الجملة الأخيرة أو المجموع.

أقول: هذا إنما يصح لو کان المحمول متعدداً کما لو قال: أکرم العلماء وأضف الشعراء إلا الفساق، وأما لو کان المحمول واحداً - سواء تکرر أم لا - فلا مورد لهذا الإشکال کما لو قال: أکرم العلماء وأکرم الشعراء إلاّ الفساق، فإنه يمکن القول بإطلاق عدم إکرام الفساق فيشمل فساق العلماء والشعراء معاً.

وثانياً(1): بأن محذور الدور لايندفع بالمنع عن وجود الشيء خارجاً - أي المنع عن تحقق الموقوف والموقوف عليه خارجاً - بل لابد من إبطال أحد المتوقفين في نفسهما، وذلك لاستحالة علية الشيء لنفسه في عالم العلية والمعلولية، فليست الاستحالة من شؤون عالم الوجود الخارجي کي ندفع

ص: 426


1- بحوث في علم الأصول 3: 398.

الدور بمنع المتوقفين رأساً کمنع الإطلاقين هنا، وعليه فلابد من دفع الدور بأن الدلالة الإطلاقية في کل من المتعارضين ليست موقوفة علی عدم فعلية الآخر، بل علی عدم الإطلاق الشأني في الآخر، وهو غير موقوف علی فعلية الإطلاق، فلا دور!

وفيه تأمل: لأن کلام المحقق العراقي في عدم صلاحية الظهور التعليقي للقرينية، وعدم الصلاحية أعم من الوجود الخارجي، وبعبارة أخری: عدم الصلاحية في ذاتها ونفسها، مضافاً إلی أنه لايمکن فرض انفکاك العلية عن الوجود، ففرض عالم العلية والمعلولية في وعاء نفس الأمر في غير الوجود الخارجي لا وجه له، حيث إنه لو أريد الفرض فهذا الفرض بمکان من الإمکان إذ فرض المحال ليس بمحال، فتأمل.

البحث الثالث: مقتضى الأصل العملي

وحيث إن الأخيرة هي القدر المتيقن، ولا ظهور في غيرها، إذ الاستثناء متصل، فلا ظهور لغير الأخيرة في شمول مورد الاستثناء، فحينئذٍ تکون مجملة في موارد الاستثناء، فلابد من الرجوع فيها إلی مقتضی الأصل العملي، فإن کانت حالة سابقة استصحبت وإلاّ جرت أصالة البراءة.

إن قلت: لابد من عدم شمول الاستثناء لتلك الجمل، لأنها ألفاظ عامة فلابد من حملها علی العموم لتشمل حتی مورد الاستثناء، وذلك عملاً بأصالة الحقيقة!

قلت: أولاً: هذا يبتني علی تعبديّة أصالة الحقيقة، بمعنی بناء العقلاء علی العمل بالعموم حتی لو لم يكن ظهور نوعي، وبعبارة أخری: بناء

ص: 427

العقلاء علی حمل الألفاظ علی المعاني الحقيقية ولو لم تکن الألفاظ ظاهرة فيها، بأن يكونوا قد اتفقوا علی هذه القاعدة لا لأجل الظهور النوعي!

وهذا غير ثابت، بل الثابت عدمه، فليس لهم تعبد خاص هنا، بل عملهم بأصالة العموم إنما هو من باب الظهور فقط لاغير، وهکذا في بقية الألفاظ.

وثانياً: قد يقال: بأن العموم قد يكون بالإطلاق، فلا تتم مقدمات الحکمة، إذ الاستثناء يحتمل للقرينية.

وقد يشکل عليه: بأن ما يصلح للقرينية يلزم أن يكون ظاهراً في القرينية عرفاً، وإلاّ فمجرد احتمال القرينية لايمنع عن تمامية مقدمات الحکمة، وسيأتي تفصيله في بحث المطلق والمقيد.

ص: 428

فصل في تخصيص القرآن بخبر الواحد

وهذا البحث يرتبط ببحث حجية خبر الواحد، وبشرح معنی الأخبار الدالة علی الإعراض عن الخبر المخالف للکتاب، وببحث التعادل والتراجيح في الترجيح بالسند أو الدلالة، وسنشير إلی بعض البحوث هنا مختصراً، والتفصيل في البحثين إن وفقنا الله تعالی.

وفي المسألة قولان:

القول الأول: التخصيص بالخبر المعتبر.

قد يقال: إن ذلك إذا لم يكن اعتباره للانسداد، لأن الحجية فيه من باب الاحتياط، وهو إنما يجري إذا لم يكن دليل، وعموم الکتاب دليل.

وفيه تأمل: وذلك لأن الاحتياط قد يكون لإدراك الدليل الخاص، وحينئذٍ لابد منه حتی مع وجود الدليل الخاص، کما لو علمنا بتخصيص العام بأحد الدليلين، وما نحن فيه من هذا القبيل، فتأمل.

واستدل للتخصيص بأمور، منها:

الدليل الأول: سيرة الأصحاب المتصلة بزمان المعصومين (علیهم السلام) ، مع علمنا بأن عملهم لم ينحصر بالخبر المحفوف بالقرينة.

الدليل الثاني: إن جميع الأخبار مخصصة لعمومات الکتاب، کالأخبار الدالة علی الحرمة تخصص مثل قوله تعالی: {خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ

ص: 429

جَمِيعًا}(1)، وکذا جميع الأخبار الدالة علی الوجوب، تخصص الآيات الدالة علی البراءة، فيلزم من عدم الجواز لغوية جعل الحجية للخبر الواحد.

القول الثاني: عدم جواز التخصيص، واستدل لذلك بأمور، منها:

الدليل الأول: قطعية الکتاب، وظنية الأخبار، ولا اعتبار للظني في قبال القطعي.

والجواب: إن التخصيص لايرتبط بالصدور کي يرجح القطعي علی الظني، بل يرتبط بالدلالة وهي في الکتاب ظنية، إذ الدلالة علی العموم إنما هو بأصالة العموم الراجعة إلی تطابق المراد الجدي مع الاستعمالي، وحجية أصالة العموم إنما هي فيما لم تکن قرينة علی خلافها، والخبر الخاص قرينة، وبعبارة أخری: أصالة العموم والخبر کلاهما ظنيان دلالةً، والجمع العرفي بينهما بالتخصيص، إذ ذلك يستلزم العمل بهما، عکس العمل بالعام المستلزم لطرح الخبر الخاص.

ولولا ذلك لم يجز تخصيص الخبر المتواتر القطعي الصدور بالخبر الواحد، ولا يلتزم به أحد.

الدليل الثاني: الأخبار المتواترة علی وجوب طرح الخبر المخالف للکتاب، والخاص مخالف، فيجب طرحه بمعنی عدم حجيته.

ويرد عليه: أولاً: بأن التخصيص ليس مخالفة عرفاً، حيث لايرون مخالفة بين مثل: أکرم الشعراء ولا تکرم فساقهم.

ص: 430


1- سورة البقرة، الآية: 29.

وثانياً: وعلی فرض کون التخصيص مخالفة، فلابد من تأويل کلمة (المخالفة)، وذلك للقطع بصدور بعض أخبار التخصيص عنهم - لثبوتها بالتواتر أو لاحتفافها بالقرينة - ولا يعقل أن ينهوا عن العمل بما قالوه (علیهم السلام) .

وثالثاً: حمل المخالفة علی مخالفة الحکم الواقعي لا مخالفة الظاهر، للعلم بعدم إرادة الظاهر أحياناً کما في المتشابهات، وذلك لما مرّ من أن الخاص يبيّن المراد الجدي مع بقاء العام علی عمومه، فالمعنی إنهم لايقولون ما يخالف واقع القران، لکن قد يصدر منهم ما يخالف الظاهر مع کونه موافقاً للواقع.

وأشکل عليه: بأن هذه الروايات وردت للضابطة، لکي يعرف الناس الخبر الصادر عنهم عن غيره، والناس لايعرفون إلاّ الظواهر، وأما المرادات الواقعية فلا يعلمها إلاّ الراسخون، وهم الرسول (صلی الله علیه و آله) والائمة (علیهم السلام) .

وفيه نظر: لأن الناس يعرفون المرادات الواقعية عبر معرفتهم بالظاهر، إذ المراد الاستعمالي کاشف عن المراد الجدي، ولکن مع مجيء الخاص فلا يكشف المراد الاستعمالي عن المراد الجدي في مورد الخاص، إذ الخاص يمنع عن ذلك، وعليه فلا يعلم مخالفة الخاص للمراد الواقعي.

الدليل الثالث: لو جاز التخصيص لجاز النسخ بأن يعتبر الخاص ناسخاً، لأن الأول تخصيص في الأفراد والثاني في الأزمان، والتالي باطل، فالمقدم مثله.

والجواب: إن مقتضی القاعدة هو جواز نسخ الخاص للعام، إلاّ أنا رفعنا اليد عنه لما سيأتي في الفصل اللاحق، هذا مضافاً إلی أن النسخ قليل جداً

ص: 431

فدواعي الضبط فيه کثيرة، عکس التخصيص فلو کان نسخ لتواتر أو استفاض نقله.

ص: 432

فصل الدوران بين التخصيص والنسخ

اشارة

في زمان العام والخاص ستة صور:

1- تقارن العام والخاص.

2- تقدم العام، مع صدور الخاص قبل حضور وقت العمل.

3- تقدم العام، مع صدور الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام، والعام قد يكون لبيان الحکم الواقعي، وقد يكون لبيان الحکم الظاهري.

4- تقدم الخاص، وصدور العام قبل حضور وقت العمل بالخاص.

5- تقدم الخاص، وصدور العام بعد حضور وقت العمل بالخاص.

6- تقدم العام وتأخر الخاص مع عدم العلم بأن صدوره کان قبل حضور وقت العمل أو بعده.

الصورة الأولی والثانية: ولابد من التخصيص، وذلك لعدم جواز النسخ قبل حضور وقت العمل علی المشهور، للّغويّة، فيكون الخاص مبيناً للإرادة الجدّية من العام.

الصورة الثالثة: وهي علی قسمين:

القسم الأول: ما کان العام لبيان الحکم الواقعي

وقد ذهب المحقق الخراساني إلی النسخ(1)، إذ لو لم يكن الخاص مراداً

ص: 433


1- إيضاح کفاية الأصول 3: 126.

من الأول کان ذکر العام من غير بيان الخاص إغراءً للمکلف بالجهل وتحميله ما ليس من تکليفه، وخاصة فيما استلزم ارتکاب المکلّف للمحرمات، کما لو کان العام (اقتل العدو في الحرب) وکان الخاص (لاتقتل الجريح منهم).

وأيّده في الحقائق(1)

بأنه لو کان الخاص مخصصاً لکان خلفاً، لأن المخصص کاشف عن عدم کون العام مطابقاً للإرادة الجدّية، والمفروض أن العام بعمومه مطابق لها، ووارد لبيان عموم الحکم الواقعي، ولو بلحاظ قبل زمان ورود الخاص.

إن قلت: قد تکون مصلحة في تأخير البيان تزاحم مفسدة إيقاع المکلف في المخالفة.

قلت: لابد من ثبوتها، وإلاّ فمجرد احتمالها لايصحح تأخير البيان، فتأمل.

وفي المنتقی(2) ذکر معاني تأخير البيان عن وقت، وهي ثلاث:

1- تأخير البيان عن وقت العمل والامتثال، کإنشاء الوجوب لأفعال أمس، وهذا لغو، لعدم ترتب الداعوية عليه.

2- تأخير البيان عن وقت البيان، أي تأخير البيان عن الوقت الذي يكون المتکلم في مقام البيان، وهذا قبيح، وقد عبّر عنه المنتقی بأنه خلف، ولا مشاحة في الاصطلاح.

ص: 434


1- حقائق الأصول 1: 536.
2- منتقی الأصول 3: 398.

3- تأخير البيان المفوّت للمصلحة واستيفاء الغرض، وهذا قبيح لايصدر من الحکيم.

والعمدة في الإشکال في تأخير الخصوصيات هو الأول، وإن کان يظهر الثاني من صاحب الکفاية.

وأياً کان المراد من تأخير البيان عن وقت الحاجة، فإن ذلك لايصدر عن الحکيم، فلذا لابد من حمل الخاص حينئذٍ علی النسخ لاستلزام التخصيص، المحذور المذکور.

لکن يمکن أن يقال:

بعدم المحذور في تأخر البيان عن وقت الحاجة - بمعنی تفويت الغرض - إن کان هنالك ملاك أهم.

ولا يرد الإشکال بعدم الفائدة حينئذٍ في جعل الحکم، وذلك لأنه قد لا يمکن الجعل في الزمان اللاحق - حين زوال الملاك الأهم المعارض - ، مضافاً إلی عدم المحذور في الجعل الإنشائي وعدم الفعلية إلا بعد حين، وأيضاً لعمل نفس الأئمة (علیهم السلام) والخواص من أصحابهم.

وأما لغوية إنشاء حکم فعلاً لزمان سابق، فذلك إنما يكون لو لم يكن له أثر، أما لو کان له أثر غير إمکان الداعوية، کترتب القضاء والضمان ونحو ذلك فلا إشکال فيه، فتأمل.

القسم الثاني: ما کان العام لبيان الحکم الظاهري

وقد ذهب المحقق الخراساني إلی التخصيص حينئذٍ(1)، وذلك لعدم

ص: 435


1- إيضاح کفاية الأصول 3: 127.

المنافاة بين الحکم الظاهري المذکور في العام وبين الحکم الواقعي المذکور في الخاص، لعدم کون العموم مراداً بالإرادة الجدّية، فلا ينافيه التخصيص حتی بعد حضور وقت العمل.

وسبب ترجيح التخصيص علی النسخ - علی ما قيل - هو کثرة التخصيص الموجبة لظهور الخاص فيه، کما أنه ليس فيه تأخير البيان عن وقت الحاجة، لکون حکم العام ظاهرياً.

ويرد عليه: أنه بوصول الحکم الواقعي يرتفع موضوع الحکم الظاهري وليس ذلك من النسخ ولا من التخصيص.

والإشکال عليه: بأن ذلك يستلزم استعمال لفظ العام في أکثر من معنی حيث أريد الحکم الظاهري والواقعي، وکذا بعدم إمکانه لأن الحکم الظاهري في طول الحکم الواقعي... .

غير وارد، لأن الکلام فيما لو کان العام لبيان الحکم الظاهري دون الواقعي، فتأمل.

الصورة الرابعة: يترجح الخاص فيها، وذلك لعدم جواز النسخ قبل حضور وقت العمل علی مبنی المشهور

الصورة الخامسة: احتمل فيها التخصيص أو النسخ.

أما احتمال التخصيص، فلعدم المحذور فيه، لعدم استلزامه تأخير البيان عن وقت الحاجة، کما لو قال: (لاتحترم الظالم) ثم قال: (احترم کل إنسان) فتقديم الخاص غير مضرّ بمراده أصلاً.

وأما احتمال النسخ، فلإمکان انتهاء أمد الخاص، والحکم عليه بحکم

ص: 436

العام.

وقد يرجح الأول لوجهين:

الوجه الأول: کثرة التخصيص وندرة النسخ، بحيث يكون ظهور الخاص في الدوام ولو کان عبر الإطلاق الأزماني أقوی من ظهور العام في العموم ولو کان بالوضع، إذ مناط الحجية هو الظهور، وبعد ثبوته لا أهمية لمنشئه.

وأشکل عليه بأمور منها:

الإشکال الأول(1): بأن أصالة العموم أصل لفظي حيث تستفاد من الإطلاق، وأصالة عدم النسخ هي أصل عملي حيث تستفاد من استصحاب عدم النسخ لا من الدليل، إذ الدليل المتکفل لأصل الحکم لا يمکن أن يكون بنفسه متکفلاً لإثباته ولاستمرارة، لتأخر الاستمرار رتبة عن الحکم.

وأجيب: بأن الدليل کما بالإطلاق يعم الأفراد العرضية، کذلك بإطلاقه يعمّ الأفراد الطولية التدريجية، وهذا معنی استمراره، فکلاهما يستفادان من الإطلاق.

الإشکال الثاني(2): إنما کثر التخصيص وقلّ النسخ، لأن مبنی الفقهاء علی ذلك، وخاصة فيمن کانوا في الصدر الأول، وإلاّ لو کان مبناهم علی النسخ لصار أکثر، فلابد من البحث عن سبب ترجيحهم التخصيص.

فلعل التزامهم بذلك بسبب انقطاع النسخ بوفاة الرسول (صلی الله علیه و آله) ، أو من جهة

ص: 437


1- أجود التقريرات 2: 399-400.
2- مقالات الأصول 1: 484-485.

تذبذب الأحکام لو التزموا بالنسخ في هذه الخصوصيات، وهذا دليل عقلي لايوجب أقوائية الظهور - کما قيل - .

وقد يقال: بأن کلام الأئمة (علیهم السلام) ليس تشريعياً فعلياً للحکم، بل هو بيان للحکم الواقعي الثابت من أول الأمر، فکلامهم کلّه بمنزلة واحدة، فلا تقدم ولا تأخر، فيكون الکل بمنزلة المقارن، فيتعين الخاص للتخصيص ولا يحتمل النسخ.

وأشکل عليه(1): بأنه يمکن أن يكون ابتداء الحکم من حين بيان المعصوم (علیه السلام) وإن کان جعله سابقاً، أي إن کلامهم يكشف عن سبق جعل الحکم، لکن إثبات کون المجعول سابقاً يحتاج إلی دليل، والطريق الوحيد لجرّ الحکم إلی السابق وإثبات تحقّقه من أول الأمر هو الإطلاق، وعليه فيدور الأمر بين التصرف بأصالة العموم وبين رفع اليد عن الإطلاق، فاحتمال النسخ ثابت.

الوجه الثاني(2): منع دلالة العام علی العموم، وذلك لصلاحية الخاص للتخصيص، وذلك يمنع جريان مقدمات الحکمة - والتي يتوقف عليها العموم - فالعموم لا مقتضي له، فلا تصل النوبة إلی البحث عن المانع عنه، ولا فرق في ذلك بين تقدم الخاص أو تأخره، وإن کان الخاص المتقدم أولی في منع العموم، إذ لو فرض قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة، فلا يسلّم قبح تقديمه عنها.

ص: 438


1- منتقی الأصول 3: 402.
2- أجود التقريرات 1: 398.

وأشکل عليه: علی طبق مبناه بأن ثبوت حکم الخاص المتقدم في زمان ورود العام لايكون إلاّ بالاستصحاب، فلا يصلح لمناهضة أصالة العموم.

ويمکن دفعه: بأنه لافرق في القرينة أو محتملها - بناءً علی منعها من انعقاد مقدمات الحکمة - بين منشأ تلك القرينة، حتی لو کان أصلاً عملياً! فتأمل.

الصورة السادسة: قد يقال فيها بعدم وجود دليل لفظي، فلابد من الرجوع إلی الأصل العملي، ومقتضاه البراءة، حيث إن الشك في أصل التکليف، إذ علی التخصيص لم يكن مکلفاً بالخاص أصلاً، وعلی النسخ کان مکلفاً به إلی حين النسخ.

لا يقال: يرجح التخصيص بکثرته علی النسخ.

فإنه يقال: الکثرة لاتوجب إلاّ الظن، والفرق بين هذه الصورة وسابقتها أن هناك انعقد بالإطلاق ظهور في استمرار الخاص، والکثرة قوّت هذا الظهور، أما هنا فليس الأمر يدور بين ظهورين کي يقوّي أحدهما بالظن المذکور، بل دوران الأمر بين ورود الخاص قبل حضور وقت العمل أو بعده، وليس أحدهما يؤدّي إلی الظهور کي يقوّي بالظن، وهذا ما ذهب إليه المحقق الخراساني(1).

خلاصة الکلام: إن الخاص المتأخر الدائر أمره بين التخصيص والنسخ، والأرجح کونه تخصيصاً لا نسخاً، إلاّ أنه لاثمرة عملية له بالنسبة إلينا، إذ العام في غير الخاص حجة لنا، وأما الخاص فلا فرق بين کونه ناسخاً أو

ص: 439


1- إيضاح کفاية الأصول 3: 129-130.

خاصاً، هذا بالنسبة إلی من لم يكن في ذلك العهد، نعم من کان في زمان العام ثم أدرك زمان صدور الخاص، فإن کان نسخاً فلا شيء عليه، وإن کان تخصيصاً ولم يستلزم ترك واجب له قضاء فلا شيء عليه، وإن استلزم ترک واجب له قضاء فعلی ما مرّ في مسألة الإجزاء لابد من القضاء مع کونه معذوراً شرعاً.

وأما الخاص المتقدم فالأرجح فيه التخصيص، مع احتمال النسخ، ولا يلزم من النسخ محذور تذبذب الشريعة، وذلك لکثرة الأخبار المعرض عنها أو الساقطة بالتعارض، فليُضف إليها الخاص المتقدم لو قلنا بالنسخ.

تتمة: بحث حول البداء

وهو بحث کلامي، وقد ذکر في علم أصول الفقه استطراداً، تتمة لبحث النسخ، فلنشر إليه مختصراً.

(البداء) في اللغة هو الظهور سواء کان بعد الخفاء أو الإخفاء أو بعد العدم، وإذا استلزم الجهل فهو محال علی الله تعالی، بل البداء فيه إما بمعنی الإظهار بعد الإخفاء ويكون الإخفاء لمصلحة وبعد تبدلها يكون الإظهار، نظير إخفاء أمد الحکم في النسخ، وإما بمعنی الإيجاد بعد العدم، بمعنی إيجاد تقدير بعد أن لم يكن، أو تبدل تقدير بمحو التقدير السابق وإيجاد تقدير جديد، فيقال: بدا لله بمعنی أنه أوجد تقديراً جديداً بعد أن لم يكن.

وسبب البداء هو إعلام العباد بقدرة الله وقيمومته، ثم التوجه والتضرع إليه تعالی والدعاء والصدقة وصلة الرحم ونحو ذلك، فإن الإنسان إذا علم بإمکان تغيير التقدير فإنه يلتجئ إليه تعالی ليغيّره نحو الأحسن، ويتوجه إلی الطاعات التي تزيد في العمر والرزق ونحوها، وينتهي عن المعاصي التي

ص: 440

توجب نقصان العمر والرزق وأمثالها.

وفي البداء ردّ علی اليهود الذين زعموا أن يدالله مغلولة، وعلی من زعم أنه تعالی لم يخلق إلاّ العقل الأول، وعلی من زعم أنه فعل الأفعال دفعة واحدة ولا فعل له بعد ذلك، وعلی غيرهم ممن حدّدوا قدرته وعزلوه عن ملکه بأوهامهم السقيمة سبحانه وتعالی عما يقولون علواً کبيراً.

کما أن البداء صفة فعل وليس بمعنی العلم الذي هو صفة ذات، ولا منافاة بين العلم الأزلي بما هو کائن وبين تقدير غيره ثم البداء فيه، کما لم تکن منافاة بين علمه تعالی بعدم تحقق ذبح اسماعيل (علیه السلام) وبين أمر ابراهيم (علیه السلام) به.

وقد ذکرنا بعض التفصيل في شرح أصول الکافي فراجع(1).

ص: 441


1- شرح أصول الکافي 2: 439-444.

ص: 442

المقصد الخامس في المطلق والمقيد والمجمل والمبيّن وفيه فصول

اشارة

ص: 443

ص: 444

مطالب تمهيدية

المطلب الأول: في تعريفهما

عُرّف المطلق بأنه (ما دل علی شائع في جنسه)، و(الجنس) بمعنی الطبيعة، فيشمل الکلي باعتبار أفراده، والشخص باعتبار حالاته، و(الشيوع) بمعنی شمول الجزئيات والحالات علی البدل، وعُرّف المقيد بعکس ذلك أي (ما لم يدل علی شائع في جنسه).

وحيث إن التعريف شرح للاسم فلا مجال للإشکال عليه بعدم الاطراد والانعکاس وبغير ذلك والتي ذکرها بعض الأصوليين... .

منها: عدم الاطراد، إذ يشمل ما دل علی الشائع بالوضع مثل (مَن) الاستفهامية، کما لو قال: (مَن تکرم؟) حيث دل بالوضع علی شائع في جنسه، لقابليته للانطباق علی کثيرين.

ومنها: عدم الانعکاس، حيث لايشمل ما دل علی الماهية مع قطع النظر عن الأفراد، کاسم الجنس وعلم الجنس، وکذا عدم انطباقه علی الإطلاق الشمولي.

ومنها(1): إن الظاهر من التعريف کون الإطلاق والتقييد من صفات

ص: 445


1- فوائد الأصول 1: 562.

اللفظ، إذ المراد من الموصول هو اللفظ - لأن الدلالة لفظية - مع أن الظاهر هو کون الإطلاق والتقييد من صفات المعنی، وذلك لأن لفظ المطلق يدل علی الطبيعة، ولا دلالة له علی الشمولية أو البدلية، حيث إنهما يستفادان من کيفية تعلق الحکم بالطبيعة، إذ الحکم الوارد علی صرف الوجود يقتضي البدلية في مقام الامتثال ولذلک يکتفی بفرد واحد، والحکم الوارد علی الطبيعة بلحاظ مطلق الوجود يقتضي الشمولية.

وهذه الإشکالات وإن أمکن النقاش فيها، إلاّ أنه لاحاجة له، لما ذکر.

والمراد بالشياع(1)...

تارة: سريان الطبيعة في ضمن جميع الأفراد، وهو المعبر عنه بالعموم السرياني في اصطلاح بعضهم.

وتارة أخری: قابلية الطبيعي للانطباق علی القليل والکثير انطباقاً عَرضياً.

ويطلق المعنی الأول غالباً علی المواد المأخوذة في طي النواهي النفسية، کقوله لاتشرب الخمر، وفي طي الأحکام الوضعية مثل قوله احلّ الله البيع، فهذا هو نوع ضيق في الطبيعة حيث لاينطبق إلاّ علی الکثير، إلاّ أنه من جهة سريانه في ضمن الأفراد کان له إطلاق.

ويطلق المعنی الثاني غالباً علی المواد المأخوذة في طي کثير من الأوامر، والمطلق بهذا المعنی أوسع دائرة من ذاك، من جهة عدم اعتبار تقيده بشيء من الخصوصيات حتی خصوصية السريان، فهو مجامع مع کل خصوصية ونقيضها، وقابل للانطباق علی القليل والکثير - وهو اللابشرط المقسمي - .

ص: 446


1- نهاية الأفکار 1: 560.
المطلب الثاني: في الإطلاق والتقييد في الجمل التركيبية

ذکر المحقق النائيني(1) أن الإطلاق والتقييد کما يردان علی المفاهيم الإفرادية کذلك يردان علی الجمل الترکيبية، ومعنی إطلاقها هو عدم تقييدها بما يوجب ظهورها في خلاف ما تکون ظاهرة فيه لولا تقييدها بذلك، وبعبارة أخری: الجمل الترکيبية قد تکون ظاهره في معنی، وکان تقييدها يوجب انقلاب ظهورها.

مثلاً: في الجمل الطلبية الإطلاق يقتضي النفسية العينيّة، والتقييد يوجب الغيرية أو التخييرية أو الکفائية، وکالعقد حيث يقتضي إطلاقه نقد البلد والنقد، وتقييده يقتضي خلاف ذلك، وليس ذلك لأجل الانصراف، ولذا لم يقل أحد بأن الدرهم الواقع في ضمن الإقرار منصرف إلی درهم البلد مثلاً، وکالبحث في باب المفاهيم حيث هو بحث عن إطلاق الجملة أو تقييدها.

فالفرق أن الإطلاق في المفاهيم الفردية يوجب التوسعة والتقييد يوجب التضييق، وفي الجمل الترکيبية علی العکس من ذلك.

وحيث لا ضابط لإطلاق الجمل الترکيبية لم يبحثوا عنه، وإنما لابد من البحث عنه في خصوص کل مورد.

وأشکل عليه: أولاً: بأن الجمل الترکيبية لا معنی لها کي يكون لذلك المعنی إطلاق، وقد مرّ عدم وضع ثالث غير وضع المادة أو الهيأة الإفرادية.

وثانياً: ما ذکره من الأمثلة لايرجع إلی إطلاق الجملة أو تقييدها، ففي الأمر الإطلاق مدلول للهيأة أو المادة أو المادة المنتسبة - حسب المباني - .

ص: 447


1- فوائد الأصول 1: 563.

وفي المعاملة الانصراف هو الذي أوجب تقييده بنقد البلد وکذا بالنقد دون النسيئة مثلاً، وهذا الانصراف لايوجد في الإقرار، ولعل سببه کثرة الأول بحسب النقد ونقد البلد، وکثرة انشغال الذمة بنقود مختلفة حيث لاينصرف إلی أحدها.

والمفهوم في الجملة الشرطية مدلول للأداة أو للشرط أو للجزاء کما مرّ وکلها إفرادية.

المطلب الثالث: في الإطلاق حسب الحالات المختلفة

قال المحقق النائيني(1): إن محل الکلام في المقام إنما هو في الإطلاق القابل لأن يكون جزء مدلول اللفظ، وفي الأعلام لايمکن أن يتوهم دخول الإطلاق باعتبار الطواري والحالات في مدلول اللفظ بحيث تکون التسوية بين القيام والقعود جزء مدلول لفظ زيد، فإن هذا ضروري الفساد، لوضوح أن لفظ زيد موضوع للذات المشخصة مع قطع النظر عن الحالات والطواري، فالإطلاق المبحوث عنه في کونه جزء مدلول اللفظ أو عدم کونه جزء مدلول اللفظ إنما هو في العناوين الکلية القابلة الصدق علی کثيرين، کأسماء الأجناس وما يلحق بها من العناوين العرضية.

وأشکل عليه(2): بأنه لايضر الفرق بين الفرد و الطبيعي في ذلك، إذ في الطبيعي الحصص السارية في ضمن أفراد الطبيعي، وفي الفرد تحليل الذوات الشخصية إلی حصص سارية في ضمن الحالات المتبادلة، فالتعدد

ص: 448


1- فوائد الأصول 1: 564.
2- نهاية الأفکار 1: 559.

بحسب التحليل لا الوجود الخارجي، ولذا لايصدق زيد القائم علی زيد القاعد، فإن تقييد زيد بالقيام يمنع عن شمول الحصة المحفوظة في ضمنه بالنسبة إلی ما کان من سنخه من بقية الحصص.

المطلب الرابع: في التقابل بين الإطلاق والتقييد

هل تقابلهما من تقابل العدم والملکة، وعليه فلا يمکن الإطلاق إلاّ لو أمکن التقييد، أم تقابلهما تقابل السلب والإيجاب وعليه فيجب الإطلاق إن امتنع التقييد؟

استدل للأول:

أولاً: بأن الإطلاق هو تسرية الحکم لمورد القيد وغيره، والتقييد هو اختصاص الحکم بمورد القيد، فلابد أن يكون المطلق مقسماً للمقيد وغيره، فإذا لم يكن مقسماً لهما امتنع الإطلاق، إذ لا معنی لتسرية الحکم لمورد القيد وغيره بعد أن لم يكن مورد القيد من أقسامه، فثبت أن الإطلاق هو عدم التقييد في مورد يقبل التقييد، فيكون من العدم والملکة، ولذا ذهبوا إلی امتناع إثبات التعبدية بإطلاق متعلق الوجود، کما مرّ.

ويرد عليه: أنه قد يمتنع الحکم علی الحصة المقيدة فهذا يلازم امتناع الإطلاق، وقد يمتنع تخصيص الحکم بالحصة فهنا امتناع التقييد يلازم ضرورة الإطلاق، وعليه فتارة يكون التقابل تقابل العدم والملکة، وأخری: تقابل السلب والإيجاب، وبعبارة أخری: تارة الإطلاق يكون جمعاً للقيود، وأخری رفضاً للقيود، فمثلاً تقييد الحکم بالعالم ممتنع فيلازم ضرروة عموم الحکم للعالم والجاهل.

ص: 449

وثانياً: إن الإطلاق هو اللابشرط القسمي - لأن اللابشرط المقسمي يجتمع مع القيد إذ هو مقسم له، فلا يكون مقابلاً له - وحينئذٍ فيقال: إن کون الإطلاق قسماً هو بمعنی وجود قسم آخر وهو التقييد، وحيث امتنع أحد القسمين امتنع الآخر.

وأورد عليه: بأن المأخوذ في المقسم وفي تعدد الأقسام ليس الانطباق الفعلي، کي يكون امتناع أحد الأفراد موجباً لانتفاء کون الأفراد الأخری أقساماً من الجامع، بل الملحوظ هو الانطباق الشأني وقابلية الصدق، وهي متحققة ولو امتناع الحکم فعلاً علی الفرد المعين.

والأولی أن يقال: إن انحصار الجامع في فرد أو حصة لايكون سبباً لعدم جامعيّته، لأنه انتزاع ذهني، وکما يمکن انتزاعه عن الموجود الخارجي يمکن عما لم يوجد أو يمتنع وجوده لسبب من الأسباب، ولذا قالوا إن واجب الوجود کلي منحصر في فرد واحد مع وضوح امتناع الأفراد الأخری.

أما ما قيل: في امتناع کون المطلق هو اللابشرط المقسمي من أنه مهمل ويمتنع الإهمال في مرحلة الثبوت!

فمحل للتأمل، إذ الإهمال الممتنع - علی فرض تسليم امتناعه - إنما هو بمعنی عدم وضوح الموضوع، و اللابشرط المقسمي هو الجامع وهو لاخفاء فيه لوضوحه وإنما لم يلاحظ فيه القيد أو عدم القيد، فالإهمال بهذا المعنی لامحذور فيه وفي جعله موضوعاً للحکم.

فتحصل: أن الإطلاق إن کان بمعنی جمع القيود فإنه، يمتنع إذا امتنع

ص: 450

أحد القيود، إذ عدم امتناعه خلف، فيکون التقابل بينهما من السلب ولإيجاب، وأما إذا کان بمعنی رفض القيود، فامتناع التقييد يلازم ضرورة الإطلاق لأنه رفض لهذا الممتنع.

ص: 451

فصل في أقسام المطلق

الأول: اسم الجنس

أي أسماء الطبائع الکلية المنطبقة علی أفرادها الجزئية، سواءکانت جوهراً أم عرضاً، وسواء کانت اعتبارية أم انتزاعية.

ثم إنه قد اختلف في الموضوع له لفظ اسم الجنس علی قولين:

القول الأول: إنها موضوعة علی الطبيعة المطلقة المأخوذة بنحو اللابشرط والإرسال، أي المهية بقيد الخلوّ عن جميع الخصوصيات والقيود، وعليه يكون الإطلاق جزء المعنی، فلا يحتاج في استفادته إلی قرينة، بل يكفي الاستعمال في الحمل علی المعنی الحقيقي من غير حاجة إلی شيء آخر.

وأشکل عليه: بأن هذه الطبيعة غير قابلة للانطباق علی الخارجيات، فاستعمالها يستلزم تجريد اللفظ عن معناه الحقيقي، واستعماله مجازاً، لکون الإطلاق هو المعنی الموضوع له، والخارجيات غير مطلقة بل جزئيات متشخصة بالخصوصيات الجزئية.

وبعبارة أخری: يكون استعمال المطلق في المقيد مجازاً، إذ هو وضع لئلا تلاحظ فيه القيود، فيكون من قبيل کلمة النساء التي تنطبق علی المرأة الواحدة ضمن سائر النساء لکن استعماله فيها مجاز.

ص: 452

القول الثاني: إن الموضوع له في اسم الجنس هو الطبيعة المهملة القابلة للإطلاق والتقييد، حيث إن عدم اعتبار المعنی مقيداً بقيد التجرد جعله قابلاً للانطباق علی القليل والکثير، فلا مجازية في استعماله في الأفراد، إذ لم يكن التجرد جزءاً من المعنی حتی يكون استعماله في غير المجرد مجازاً.

وأشکل عليه(1): بأن الطبيعة المجردة لاتکون مقسماً لتلك الاعتبارات حقيقة، بل المقسم الحقيقي هو القدر المشترك المحفوظ في ضمن المجردة وغيرها، والذي لايكون له في الزمن وجود منحاز مستقل إلا بحسب التعقل الثانوي، والذي يدل عليه أن استعمال اسم الجنس في الطبيعة المأخوذة بنحو السريان - کما في النواهي - استعمال حقيقي، مع أن الذهاب إلی کونها موضوعة للطبيعة المجردة يستلزم المجازية في استعمالها في الطبيعة السارية، لأنها لاتقبل الانطباق إلا علی الکثير، کما أن الطبيعة المقيدة لاتقبل الانطباق إلاّ علی القليل.

وفيه تأمل: لأن التجرد لاينافي لحاظ القيد، فکما لا يكون استعماله في الطبيعة المقيدة مجازاً، کذلك لايكون استعماله في السارية مجازاً.

نعم يمکن الإشکال علی من يذهب إلی القول الأول مع ذهابه إلی أن استعمال اسم الجنس في الطبيعة المجردة والسارية استعمال حقيقي وأن استعماله في الطبيعة المقيدة مجازي.

والحاصل: إن ما وضع له اسم الجنس هو المهية من غير ملاحظة کونها بشرط شيء، أو بشرط لا، أو لا بشرط، وهي المقسم لهذه الأقسام الثلاثة.

ص: 453


1- نهاية الأفکار 1: 562.

وبعبارة أخری: الجامع بين هذه الثلاثة هو ما وُضع له اسم الجنس، إذ الأقسام متباينة، فلا يمکن أن يكون أحدها مقسماً للآخر، فمثل الإنسان لم يلاحظ فيه البياض، ولا عدم البياض، ولا اللابشرط عن البياض وعدمه، ولذا کان مقسماً لکل هذه الأقسام الثلاثة.

والذي يدلّ عليه هو صدق الماهية علی الأفراد من غير عناية، سواء لوحظ وجود القيد، أو لوحظ عدم القيد، أو لوحظ اللابشرط عن وجوده وعدمه.

ولولا ذلك لزم المجاز في استعمال اسم الجنس علی الأفراد، لأنها ليست لابشرط، بل هي متصفة بالقيود.

وأما إشکال: لزوم عدم تحقق الشيء في الخارج، لأن ملاحظة اللابشرط سبب أخذ اللحاظ في المعنی، واللحاظ أمر ذهني لا تحقق له في الخارج.

فيمکن الجواب عنه: بأن اللابشرط القسمي يرجع إلی الماهية من غير دخل القيد وعدمه في الحکم، فإذا وضع اللفظ علی ذات ما تعلّق به اللحاظ کان التعبير باللحاظ للإشارة إلی تلك الذات، فلا يتمّ الإشکال، وذلك لعدم أخذ اللحاظ في الموضوع له، وصلاحية الموضوع له بنفسه للانطباق علی الخارج من دون أية عناية.

والحاصل: إن العمدة في الإشکال هو أخذ القِسم في المقسم، إذ لو کان (اللابشرط القِسمي) قسيمَ (بشرط شيء) و (اللابشرط) لم يمکن أخذه فيهما، ولکان استعمال اللفظ فيهما استعمالاً في غير ما وضع له.

اللهم إلا أن يكون المقصود إنکار اللابشرط القسمي، وبيان أن الأقسام

ص: 454

إثنان - هما البشرط شيء و اللابشرط - والجامع لهما هو ذات ما تعلق به اللحاظ، فيكون إطلاق اللابشرط القسمي عليه اصطلاحاً مع کون المراد هو نفس اللابشرط المقسمي حسب اصطلاح الأصوليين.

ثم إنه قيل: إن الفرق بين کون اسم الجنس موضوعاً للّابشرط القسمي أو المقسمي، أنه علی الأول يستفاد عموم الحکم لجميع الأفراد من الوضع لا القرينة، عکس الثاني حيث لابد من استفادته من قرينة الحکمة، وذلك لأن اللابشرط القسمي هو لحاظ عدم القيد - سواء کان الوجود أم العدم - وعدم القيد يساوق الإطلاق فإذا کان هذا هو المعنی الموضوع له کان الإطلاق ثابتاً بالوضع، وأما اللابشرط المقسمي فهو عدم لحاظ شيء وهو يساوق الإهمال فلابد من استفادة الإطلاق من القرائن بعد عدم استفادته من المعنی الموضوع له.

والحاصل: إن استعمال اسم الجنس في الماهية المطلقة والماهية المرسلة والمقيدة بشرط شيء أو المقيدة بشرط لا أو المقيدة باللابشرط استعمالاً حقيقياً هو دليل علی وضعها للجامع بينها وليس الاّ الطبيعة المجردة المعبرّ عنها باللابشرط المقسمي.

الثاني: عَلَم الجنس

مثل أسامة للأسد، وهو کاسم الجنس في الدلالة علی الماهية المجردة، فما هو الفرق بينهما؟

1- ذهب المحقق الخراساني(1)

إلی عدم الفرق بينهما من جهة المعنی،

ص: 455


1- إيضاح کفاية الأصول 3: 151.

وإنما الفرق لفظي، فأحدهما معرفة والآخر نکرة، وفائدة ذلك التوسع في اللغة، کالتأنيث اللفظي.

وفيه: أنه مع إمکان وجود الفرق المعنوي، لا وجه لجعل الفرق لفظياً، فإن التوسع في اللغة وإن کان واقعاً، إلاّ أنه فيما لو لم يختلف المعنی أصلاً.

2- وذهب المشهور إلی اسم الجنس وضع للماهية المجردة، وأما عَلَم الجنس فوضع لمعنی مرکب من الماهية المجردة والتعيّن الذهني، لذا کان الأول نکرة والثاني معرفة، إذ التعيّن هو سبب التعريف.

وأشکل عليه: بأن اللحاظ أمر ذهني، فلو کان جزءاً من المعنی لم يصح إطلاقه علی الخارجيات إلاّ بعناية، مع وضوح عدم المجاز في مثل (هذا أسامة) في إشارة إلی أسد معين خارجاً!

وأجيب: أولاً(1) بأنه لو کان المراد من التعيّن التعيّن بالجنس صح إطلاقه علی الخارجيات بلا عناية، والمراد هو أن کل معنی طبيعي متعيّن في نفسه وذلك ذاتي له، لکن علم الجنس موضوع للمتعيّن بما هو متعيّن، واسم الجنس موضوع لذات المتعيّن.

إن قلت(2): أن التعريف لايمکن أن يكون مستنداً إلی المفاهيم، بأن يقال: إن تعيّن المفهوم سبب لتعريفه، وذلك لأن المفاهيم کلّها کذلك، فلو کان هذا هو المقياس لکانت الألفاظ جميعاً معارف.

قلت: من الواضح أن جميع المفاهيم معيّنة في حد ذاتها، وإنما المراد

ص: 456


1- نهاية الدراية 2: 495.
2- منتقی الأصول 3: 411.

أخذ قيد التعيّن في المفهوم أو عدم أخذه، فعلی الأول يکون المتعيّن معرفة وعلی الثاني يکون المتعيّن نکرة.

وثانياً(1): إن التعريف هو تعيين المصداق، والامتياز في مرحلة الانطباق، بحيث يكون مصداق المعنی معيناً في فرد خاص - خارجاً أو ذهناً - وليس المراد التعيّن عند المتکلم، وإلاّ لکان (رأيت رجلاً) معرفة، ولا عند السامع وإلاّ لکان (رأيت زيداً) نکرة إذا لم يعرفه السامع، واسم الجنس ليس معيناً في مرحلة الانطباق، إذ لاحدّ للأفراد، بل کل ما يفرض وجوده من الطبيعة يصدق عليه الإنسان مثلاً، فلذا کان نکرة، وأما علم الجنس فهو متعيّن ذهناً حتی لو کان منطبقاً علی الکثير لکونه موضوعاً للطبيعة بقيد التعيّن الذهني، نظير أسماء الإشارة والضمائر فإن تعريفها باعتبار تعيين معناها ذهناً حتی لو کانت منطبقة علی الکثير کما لو کان مرجع الضمير کلياً.

والتعيّن الذهني لايمنع من الانطباق علی الخارجيات، وذلك لأن العلم لايتعلّق بالخارج، وإنما يتعلق بالصورة الذهنيّة، فالخارج هو المعلوم بالعرض دقة وبالذات عرفاً، وعليه فالإشارة الذهنية وإن کانت تتعلق بالأمر الذهني حقيقة لکن للخارج نحو ارتباط بها، ولذا يشار إلی شيء خارجي، ويقال: هذا هو المعنی، وذلك يدل علی ربط بينهما لا يوجد بين الإشارة وغيره من المعاني التي لم تتعلق بها الإشارة.

والحاصل: إن الموضوع له هو المشار إليه بالعرض لا بالذات وهذا يصدق علی الخارجيات من غير عناية فيكون نظير اسم الإشارة والضمير.

ص: 457


1- منتقی الأصول 3: 413.

وثالثاً: إن اللحاظ إنما هو في مرحلة الاستعمال، ولم يؤخذ في الموضوع له، کما مرّ نظيره من صاحب الکفاية في المعنی الحرفي، واللحاظ في مرحلة الاستعمال مما لابد منه علی کل حال، إذ لايمکن استعمال اللفظ في معنی إلا بعد خطور ذلك المعنی في الذهن وتوجهه إليه، فليس المراد من التعيّن اللحاظ فتأمل.

الثالث: المفرد المعرّف بلام الجنس

لايخفی أن مدخول لام التعريف باقٍ علی ما هو عليه من المعنی، فالمعنی واحد سواء دخلت اللام أم لم تدخل، فإذا دخلت لام التعريف علی اسم الجنس عُبّر عنها بلام الجنس، وکان من باب تعدد الدال والمدلول.

فنقول: الألف واللام قد تکون للجنس مثل: (الحمد لله)، أو الاستغراق مثل قوله تعالی: {إِنَّ الْإِنسَٰنَ لَفِي خُسْرٍ}(1)، أو للعهد الذکری کقوله تعالی: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولًا * فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ}(2)، أو العهد الخارجي مثل: (اغلق الباب)، أو العهد الذهني کما لو قال: (أکرم الرجل) وهو معيّن بينهما، کما أن هناك لام للتزيين مثل (الحسين).

وهل الاشتراك بينها لفظي أم معنوي؟

فالمشهور أنها موضوعة للتعريف وتفيد التعيين، إذ التعيين هو سبب التعريف، وبعبارة أخری: إذا أريد التعيين جيء بالتعريف، وقد يستثنی

ص: 458


1- سورة العصر، الآية: 2.
2- سورة المزمّل، الآية: 15-16.

العهد الذهني إذ هو لايفيد التعيين وغير قابل للانطباق علی الکثير، لأنه إشارة إلی المعنی الموجود في الذهن من غير تعيين في أي مصداق من المصاديق الخارجية، قال الرضي صاحب شرح الکافية والشافية(1): وإنما اختصت لام التعريف بالاسم لکونها موضوعة لتعيين الذات المدلول عليها مطابقة في نفس الدال.

وأشکل عليه(2): أولاً: بأنه لايمکن تعيين الجنس في الخارج، إذ المعيّن فيه هم الأفراد، ولا وجود للجنس في الخارج، ولازم الإشارة إلی المعنی المتميز في الذهن هو عدم إمکان حمل المعرّف بلام الجنس علی الأفراد، إذ المعرّف به أمر ذهني والأفراد خارجية، ولا يعقل اتحادهما مع أنا نری صحة الحمل ووقوعه، کقوله تعالی: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}(3).

وثانياً: إن هذا المبنی فيه تکلّف غير محتاج إليه، حيث لازمه أن اللام وضعت لمعنی وتعيين ذلك المعنی يكون بالقرينة، وذلك لأن بين أقسام اللام اشتراك لفظي أو معنوي، وعلی کل حال يُحتاج إلی قرينة فإن کان لفظياً کانت لتعيين المعنی، وإن کان معنوياً کانت لتعيين المصداق، وحتی لو قيل بأنها للتزيين احتيج إلی القرينة للدلالة علی المراد.

ويمکن الجواب عن الأول(4): بإمکان الالتزام بکون الموضوع له هو

ص: 459


1- شرح الکافية 1: 44.
2- إيضاح کفاية الأصول 3: 155.
3- سورة الکوثر، الآية: 3.
4- منتقی الأصول 3: 414.

طرف الإضافة وأخذ القيد بنحو المعنی الحرفي، بأن يكون التقيد داخلاً والقيد خارجاً، وهذا لاينافي الصدق علی الخارجيات.

وعن الثاني: بأن معنی اللام واحد هو التعريف والاقسام إنما هي باعتبار خصوصيات المستعمل فيه، فليست القرينة أمراً خارجاً عن نفس الکلام وسياقه حتی يكون تکلّفاً، مضافاً إلی أن هذا إشکال عام في جميع المشترکات اللفظية فيقال: مع الاحتياج إلی القرينة يكون الوضع للمعاني لغواً، أو يكون الاشتراك بنفسه لغواً، وما يجيب هناك فليجب به هنا أيضاً.

وقد استدل المحقق الإصفهاني(1): علی کون اللام للتعيين: بأن اللام أداة التعريف والتعيين، بمعنی أنها وضعت للدلالة علی أن مدخولها واقع موقع التعيين - إما جنساً أو استغراقاً أو عهداً بأقسامه - علی حدّ سائر الأدوات الموضوعة لربط خاص، کحرف الابتداء الموضوع لربط مدخوله بما قبله أي ربط المبتدأ به بالمبتدأ من عنده وهکذا.

والمراد من الإشارة إلی مدخوله، کون المدخول واقعاً موقع التعيّن والمعروفية بنحو من الأنحاء المتقدمة، لاکون المدخول مشاراً إليه ذهناً بمعنی کونه ملحوظاً بما هو ملحوظ.

وأشکل عليه: بأن الإشارة الذهنية من سنخ الوجودات، کالإشارة الخارجية، فليست من المفاهيم، فکيف تقع طرفاً للربط، مع أن الحروف تربط بين المفاهيم الذهنية لا الوجودات، ولا يصح قياسها ب- (من)، لأنها أداة ربط مفهوم البصرة ومفهوم السير.

ص: 460


1- نهاية الدراية 2: 495.

وأجيب: بأنه لابد أن يکون الربط بين الطرفين واقعاً، إذ يستحيل الربط بطرف واحد، لکن لايلزم ملاحظة کلا طرفي الربط، بل يمکن دلالة الحرف علی الربط من طرف واحد، فتأمل.

الرابع: النكرة

أي المفرد المنوّن غير المعرّف، مثل رجل، وهي قسمان:

القسم الأول: المعيّن واقعاً، سواء کان معلوماً عند المتکلّم أو السامع أو کليهما، أو غير معلوم، وهو في الإخبار عادة، مثل جاء رجل.

وهذا يكون من باب تعدد الدال والمدلول، فالنکرة تدل علی الماهية، والتنوين علی الوحدة، فهي ثبوتاً معينة، ولکن إثباتاً يحتمل انطباقه علی کثيرين.

القسم الثاني: ما لم يكن معنياً في الواقع، وهذا يكون في الإنشاءات، کالأمر والنهي.

وهنا أقوال عدة، منها:

القول الأول: إن معناها الفرد المردد، أي الفرد علی البدل، وهذا المدلول جزئي لا کلي.

وأشکل عليه: بعدم إمکان الفرد المردد، فلا معنی لطلب إيجادة، کما أنه ليس بجزئي بل هو کلي طبيعي فلذا له قابلية الانطباق علی کثيرين.

وبعبارة أخری: کل فرد في الخارج هو هو، لا هو أو غيره، وحيث إن النکرة تصدق علی الخارجيات فليست هي الفرد المردد.

القول الثاني: إن معناها الطبيعة بقيد الوحدة، ولذا لايصح تطبيقها إلاّ

ص: 461

علی واحد فقط من غير فرق بين الآحاد، بمعنی إمکان الإيجاد خارجاً في ضمن أيّة خصوصية، وبذلك يتبيّن الفرق بينها وبين اسم الجنس حيث إنه وضع للطبيعة المهملة فلذا يصح تطبيقه علی الواحد وعلی الأکثر.

وأشکل عليه: أولاً(1): بأنه إرجاع النکرة إلی الطبيعة المتقيّدة بعنوان الواحد بما هو هذا المفهوم، وهذا قابل للانطباق علی القليل والکثير إذا کانت في عَرض واحد، لأن هذا العنوان کلي کأسامي الأجناس، وتقيّده بقيد الواحد لايخرجه عن القابلية للانطباق العَرضي علی الکثير والقليل، فعليه يتعدد الامتثال إذا أتی بالأفراد دفعة واحدة فيعتبر الجميع امتثالاً، وهذا لايمکن الالتزام به.

وفيه تأمل: لأن قيد الوحدة کما ينفي التعدد الطولي فهو ينفي التعدد العَرضي، نعم مع الايتان بها معاً فيکون من قبيل ضم الامتثال إلی غيره مع إمکان کون کل واحد امتثالاً فتأمل.

وثانياً: إن کان المراد أن التنوين يدل علی الوحدة، و(رجل) مثلاً يدل علی الطبيعة، فيرد عليه: أن التنوين إنما هو للتمکين من الإعراب ولا دلالة له علی وحدة أو غيرها، ولو لا ذلك لزم القول بالاشتراك فيه.

القول الثالث(2): النکرة هي الطبيعة المتقيدة بإحدی الحصص، علی أن يكون (الأحد) بياناً ومقدراً لکم القيد، وأنه إحدی الحصص، قبال التمام والبعض والعشرة والعشرين ونحوها، من دون أن يكون عنوان الأحد بنفسه

ص: 462


1- نهاية الأفکار 1: 566.
2- نهاية الأفکار 1: 565-567.

قيداً للطبيعة بوجه أصلاً، ولازم ذلك عدم صلاحيتها للانطباق علی المتکثر إلاّ بنحو البدليّة دون العَرضيّة، والحاصل: إن الطبيعة مقيدة بالخصوصيات وعنوان الواحد يكون مقدِّراً لکمّ القيد لا أنه قيد، وعليه فلا فرق حينئذٍ بين النکرة الواقعة في حيّز الطلب أو حيّز الإخبار.

وعليه لو تعددت الامتثالات دفعة، لايكون الامتثال إلاّ بواحد منها، کما أن الخصوصيات کلّها تکون داخلة في حيّز الطلب، فلو قصدها في مقام الامتثال لم يكن تشريعاً.

ويمکن أن يقال: إنه لاغرض للمولی في الخصوصيات أصلاً فلا وجه لإدخالها في حيّز الطلب، أو حيز الإخبار، وعليه فلا يصح تفسير النکرة بأنها الطبيعة المتقيدة بإحدی الخصوصيات، وبعبارة أخری کما لاغرض للمولی في الخصوصيات فلا معنی لإدخالها تحت حيّز الطلب، وکذا في المخبر لا غرض له في الإخبار عنها، فتأمل.

القول الرابع(1): بأنه لافرق بين النکرة في حيّز الإخبار أو البعث، فالموضوع له واحد، وذلك لأن الطبيعة قد تلاحظ بنفسها فهو الکلي، وقد تلاحظ بقيد يوجب تشخصها وعدم صدقها علی کثيرين فهو الجزئي، وقد تلاحظ بقيد يضيّق دائرة الطبيعة ولا يشخصه فهي الحصة، والنکرة من الثالث.

والحاصل: إنه في النکرة، الطبيعة ملحوظة بنحو عدم التعيّن وعدم التقيد بما يعينه، بعد ما کانت في ذاتها لا متعيّنة بقيد ولا غير متعيّنة به، ولا فرق

ص: 463


1- نهاية الدراية 2: 495.

في عدم التعيّن بين کون النکرة في الإخبار أو الإنشاء، فمثل (جئني برجل) غير متعيّن في مرحلة الطلب، ومثل (جاءني رجل) غير متعيّن في مرحلة الإسناد وإن کان معيناً في الواقع.

وهذا هو الأقرب.

ص: 464

فصل في كيفية استفادة الإطلاق

اشارة

الإطلاق تارة يستفاد من اللفظ، وأخری من غير اللفظ، فهنا مباحث:

المبحث الأول: في منشأ الإطلاق اللفظي

في استفادة الإطلاق من المطلق مبانٍ ثلاث: الاستفادة من الوضع، أو من ظهور الکلام في کون الطبيعة تمام الموضوع، أو من مقدمات الحکمة.

أما الأول: فقد عرفت استلزامه للمجاز حين التقييد، وهذا ما لا يمکن الالتزام به.

وأما الثاني: فقد ذهب إليه المنتقی(1) ببيان: أن اللفظ المأخوذ في موضوع الحکم ظاهر في کونه تمام الموضوع، ففي مثل: (أکرم زيداً) ظاهر أخذ (زيد) في الموضوع هو کونه تمام الموضوع، وهذا الظهور يصطلح عليه بالظهور السياقي، وهو ثابت لا کلام فيه.

وفيما نحن فيه اللفظ المأخوذ في موضوع الحکم هو الطبيعة بما هي، وظاهر أخذ الطبيعة في موضوع الحکم أنها تمام الموضوع، وبذلك يثبت الحکم في کل مورد تثبت فيه وتوجد، ومما يؤيد ذلك اصطلاحهم علی ظهور المطلق بالظهور الإطلاقي، فإنه دال علی وجود ظهور للمطلق وهذا

ص: 465


1- منتقی الأصول 3: 433.

لايتلائم مع استفادة الإطلاق من مقدمات الحکمة، کما لا نقع في إشکال أن الإطلاق خصوصية زائدة کالتقييد، فکيف يثبت بعدم التقييد، کي نضطر إلی التخلّص عنه بدعوی بناء العقلاء علی الإطلاق عند عدم التقييد.

أقول: هذا في حقيقته إنما هو تلخيص لمقدمات الحکمة وبيان نتيجتها، فإن الظهور في کون اللفظ المأخوذ في الموضوع هو تمام الموضوع، في الحقيقة هو لازم کون المولی في مقام البيان ولم يقيّد موضوعه بقرينة، ولو کانت القدر المتيقن التخاطبي، فلو لم يكن في مقام البيان لم يستفد منه کون اللفظ تمام الموضوع، وکذا لو قامت قرينة فهي تصرف اللفظ عن کونه تمام الموضوع، وکذا لو کان قدر متيقن في مقام التخاطب - علی القول به - .

فالثالث هو الأقرب، بأن يتوقف الإطلاق علی مقدمات الحکمة، أي بملاحظة حکمة المولی وأنه لايُخِلّ بمراده لکونه حکيماً، وهي مقدمات ثلاث:

الأولی: أن يكون المتکلم في مقام البيان، أي بيان تمام مراده، لا الإجمال إثباتاً، أو الإهمال ثبوتاً، فمع انتفاء هذه المقدمة ينتفي موضوع الإطلاق، فلا يكون إرادة المقيّد إخلالاً بالغرض.

الثانية: أن لاتکون قرينة توجب التعيين في المقيّد، فلو وجدت قرينة کانت هي المتّبعة، لکشفها عن مراد المتکلّم حينئذٍ.

الثالثة: انتفاء القدر المتيقن في مقام التخاطب، فلو کان انصراف عمل العقلاء به لا بالإطلاق، وأما القدر المتيقن في الخارج فلا يضرّ لعدم اعتماد

ص: 466

العقلاء عليه.

أما نتيجة المقدمات فهل هي الحمل علی الطبيعة الصرفة - أي صرف الوجود - والذي من شأنها عدم قابلية انطباقها إلاّ علی أول وجود الطبيعي کما ذهب إليه المحقق النائيني(1)، أو الحمل علی الطبيعة المهملة - والتي هي مقسم للطبيعة الصرفة والمقيّدة - کما ذهب إليه المحقق العراقي؟(2)

أما الأول: فقد يستدل له: بأن المتکلّم اعتبر تلك الصورة المجردة الفاقدة لجميع القيود والخصوصيات - حتی خصوصية السريان في ضمن الأفراد - ، وذلك لايكون إلاّ الطبيعة الصرفة التي من شأنها قابلية الانطباق علی القليل والکثير عرضياً، ومن لوازمها سقوط الطلب والأمر عنها بأول وجودها، کما في أغلب الموارد المأخوذة في حيّز الأوامر.

وأشکل عليه: بأنه يلزم من ذلك المصير إلی اختلاف نتيجة الحکم بوقوع الطبيعة في حيّز الأمر أو النهي، والالتزام في الأوامر بأن المقدمات تنتج صرف الطبيعي المنطبق علی أول الوجود، وفي النواهي تنتج الطبيعة السارية، وهذا لايمکن الالتزام به.

وأما الثاني: فقد يستدل له(3) بأن مدلول اللفظ هو الطبيعة المهملة، والتي من شأنها سعة الانطباق علی الأفراد الطولية والعرضية، فلا وجه لتقييد اللفظ بأول الوجودات مع کون الطبيعة شاملة له ولغيره، فالطبيعة مأخوذة في

ص: 467


1- فوائد الأصول 1: 581.
2- نهاية الأفکار 1: 568.
3- نهاية الأفکار 1: 568.

جميع الأقسام والصور، ومن شأن ذلك الانطباق علی الأفراد العرضية والطولية، ولو بتوسط انطباقه علی الطبيعة الصرفة والطبيعة المأخوذة بنحو السريان.

وأما الفرق بين الأمر بسقوط التکليف بأول الوجود، وبين النهي بعدم سقوطه وانحلاليته، فلأجل أن المصلحة في الأوامر قائمة علی الشخص ومن لوازمه العقلية حصولها وتحققها بتمامها بأول وجود الأفراد، وأما في النواهي فالمفاسد قائمة علی نحو السنخ الموجب لمبغوضية الطبيعي مهما وجد وفي ضمن أيِّ فردٍ تحقق من الأفراد الطولية أو العرضية، من غير فرق في معروض المصلحة، المصلحة والمفسدة ومن غير اختلاف في نتيجة مقدمات الحکمة.

وفيه: أن الإثبات تابع للثبوت، فإذا کانت المصلحة والمفسدة هکذا، کان لابد من إرادة ذلك من اللفظ علی حسبهما، نعم المحقق العراقي يلتزم بذلك أي بدخول جميع الخصوصيات الفردية تحت الطلب علی سبيل البدل، کما مرّ في بحث النکرة.

فالأقرب الالتزام بصدر الکلام بأنه لاوجه لتقييد الطبيعة بصرف الوجود، بل نتيجة المقدمات هي الطبيعة المهملة القابلة للانطباق علی الطبيعة الصرفة وعلی غيرها، وأما الفرق بينهما فقد مرّ في بحث دلالة الأوامر والنواهي علی الطبيعة لا الأفراد.

المبحث الثاني: في مقدمات الحكمة
اشارة

وهي ثلاث مقدمات:

ص: 468

المقدمة الأولى: كون المتكلّم في مقام البيان
اشارة

وفيه مطالب:

المطلب الأول: في المقصود من (مقام البيان)

فقد يقال: بأنه مقام بيان المراد الاستعمالي، أو مقام بيان المراد الجدي.

فعلی الأول: يكون مقصود المتکلّم إعطاء الحجة، وهذا يلازم ظهور اللفظ في الإطلاق الکاشف عن کون الإطلاق تمام المراد.

وعلی الثاني: يكون مقصود المتکلّم البيان بأعم من الکلام الذي أطلقه ومن کلام آخر ولو منفصلاً.

أما الأول: فقد أشکل عليه:

أولاً: بأنه لا معنی للإطلاق الاستعمالي في الإنشائيات، إذ من اللغو البعث - مثلاً - نحو المطلق مع عدم وجود الداعي إلاّ إلی المقيّد، وإنما يكون البعث نحو ما للمتکلّم الداعي للبعث إليه، فلابد من کون المتکلّم في الإنشائيات في مقام بيان مراده الواقعي الجدي.

وبعبارة أخری: إنه في الإخبار للّفظ معنی قد يراد جداً وقد لايراد، وأما في الإنشاء فاللفظ يُوجد المعنی، وهذا قد يكون بداعي البعث - في الأوامر مثلاً - وقد لايكون بداعيه، وليس الداعي معنی للّفظ کما هو واضح، وحينئذٍ فلا وجه لإيجاد المعنی کالطلب في المطلق مع عدم الداعي إليه واقعاً.

ويمکن الجواب عنه: بأن هناك سبباً عقلائياً للبعث نحو المطلق مع عدم وجود الداعي إليه، وهو ضرب القاعدة والقانون ليرجع إليه حين الشك، کما مرّ.

ص: 469

وثانياً: بأنه عليه لايصح تقديم المقيد علی المطلق دائماً، بل لابد من ترجيح أقوی الظهورين فلو کان المطلق أقوی للزم تقديمه، ککل تعارض بين ظاهرين؟!!

وأما الثاني: فقد أشکل عليه: بعدم إمکان التمسك بالمطلقات إذا قُيّدت بمقيّد منفصل، إذ المقيد يكشف عن عدم الإرادة الجدّية لبيان الإطلاق، وبثبوت عدم کون المتکلّم في مقام البيان تختل أولی مقدمات الإطلاق، ومعنی هذا هو سقوط عامة الإطلاقات عن الحجية لتقييد أکثرها بالمنفصلات!

وأجيب(1): بأن انثلام الکشف عن کونه في مقام البيان من جهة لايوجب انثلامه من جهات أخر.

ويشکل الجواب: بأنّ ورود القيد يكشف عن عدم کون الطبيعة موضوعاً للحکم، فلا وجه لجريان الإطلاق فيها.

وبيانه کما في المنتقی(2): بأنه إذا ورد المقيّد کشف ذلك عن کون الموضوع هو الحصة أي المقيّد، ولم يكن المتکلّم في مقام البيان من جهات الحصة وخصوصياتها، وأما ما کان في مقام بيانه - وهو الطبيعة - فليست مورداً للإطلاق بعد ورود القيد، لتبين عدم کونها موضوعاً للحکم.

وذلك لأن الإطلاق من سائر الجهات - في فرض التقييد - موضوعه الحصة الخاصة، وهذا الإطلاق هو في طول المقيّد، وعليه فلم يثبت هذا

ص: 470


1- نهاية الدراية 2: 498.
2- منتقی الأصول 3: 435.

الإطلاق في المطلق السابق، ولا دليل عليه بعد التقييد!!

مثلاً: لو قال: (أکرم العالم) ثم قيّده بالعادل بمقيد منفصل، فإطلاق الموضوع من حيث السيادة وعدمها موضوعه العالم العادل لا ذات العالم، إذ لا معنی للإطلاق من حيث السيادة - مثلاً - إلاّ في حدود وإطار العالم العادل، إذ لايثبت الحکم مع فرض کون موضوعه العالم العادل للعالم المطلق من جهة السيادة وعدمها ولو لم يكن عادلاً!

وفيه تأمل: لأن المقيّد کاشف عن المراد الجدي في المطلق، فالإطلاق من سائر الجهات في طول المقيّد إثباتاً لا ثبوتاً، فتأمل.

وأما ثمرة القولين فهو أنه إذا ورد مقيّد منفصل...

فعلی الأول: لا يُخلّ بظهور المطلق في الإطلاق بعد استقرار ظهوره، فيتعارضان، فلابد من علاج التعارض.

وأما علی الثاني: فإنه يُخلّ بالإطلاق، لکشفه عن تقييد المراد الجدّي، فلا تعارض أصلاً لعدم استقرار ظهور له، فيكون المقيد المنفصل مکمّلاً للکلام في بيان المراد الجدّي.

وقد أشکل عليه: بأنه لا فرق بينهما، إذ بناء العقلاء علی إبراز المولی تمام مقصوده بلفظ التخاطب، لابه وبکلام آخر، وعليه فسواء کان في مقام بيان المراد الجدي أو الاستعمالي ينعقد لکلامه ظهور، فيتعارض مع المقيدات علی کل حال!!

والجواب: أولاً: أن بناؤهم علی ذلك إنما هو في متکلّم لاتکون عادته علی بيان مقاصده في عدة کلمات ولو منفصلة.

ص: 471

وثانياً: ما قيل: من أن بناء العقلاء إنما هو لظهور حال المتکلّم في کونه في مقام بيان جميع مقصوده، وإجراء أصالة عدم المانع، بمعنی أصالة عدم کونه في مقام بيان مقصوده بهذا الکلام وبغيره، وهذا الأصل يرتفع بمجرد مجيء المقيّد، وبذلك ينتفي سبب الحکم بالإطلاق، وهو حکم العقل بعدم نقض المولی لغرضه، إذ لانقض للغرض بعد ذکر المقيد.

وبعبارة أخری: إن مقدمات الحکمة تنتج الإطلاق، لحکم العقل بأنه لولا ذلك لکان المولی ناقضاً لغرضه، وبذکر المقيد المنفصل لايكون ناقضاً للغرض، فينتفي سبب الحکم بالإطلاق، فکلّما ظفرنا بقيد ارتفع موضوع حکم العقل.

المطلب الثاني: البيان من كل الجهات

لايخفی إن هذه المقدمة لاترتبط ببيان مقصود المتکلّم، فإن ذلك يتکفّله اللفظ الذي يتکلّم به، وإنما وظيفتها هو أن الشيء الذي يريد المتکلّم بيانه هو تمام المراد لاجزؤه، فلابد في البداية من تعيين معنی الکلام وهذا يرتبط بالظهورات من وضع أو قرينة، وبعد ذلك يأتي دور هذه المقدمة بأن هذا المعنی هو تمام المراد ولا يراد معه شيء آخر من القيود المختلفة.

وهذا ما يعبرون عنه بکون المتکلّم في مقام البيان من کل الجهات أو من جهة دون أخری، مثلاً قوله تعالی: {فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}(1) في مقام بيان الحلية من جهة التذكية لا في مقام بيان الطاهرة والنجاسة ولا في مقام بيان الحليّة من جهات أخری بقرينة صدر الآية، وبعد ثبوت مراد

ص: 472


1- سورة المائدة، الآية: 4.

المتکلّم تأتي هذه المقدمة لإثبات أنه تمام مراده فلا يؤخذ في التذكية قيد خاص لم يذکر، کنوع کلب الصيد وزمانه ومکانه... إلی آخر القيود، فلا يثبت بالآية طهارة موضع العض، ولا حلية محرمات المذكّی کسواد العين والطحال والمثانة ونحوها.

والحاصل: إنه إذا کان للمطلق جهات عديدة، فلابد من استفادة الإطلاق من کون المتکلّم في مقام البيان من کل تلك الجهات، وإلاّ کان الإطلاق منحصراً في الجهة أو الجهات التي کان المتکلّم في مقام بيانها، وبعبارة أخری: إن کان المتکلّم ناظراً إلی کل تلك القيود کان اللفظ مطلقاً من کل تلك الجهات، و أما إن کان في مقام البيان من بعض تلك الجهات کان مطلقاً بالنسبة إليها ومهملاً بالنسبة إلی غيرها.

نعم لو کان في مقام البيان من جهة لکنها لازمت جهة أخری کان للکلام إطلاق من الجهتين، وهذه الملازمة أو التلازم قد يكون عقلياً أو شرعياً أو عادياً.

1- أما الملازمة العقلية، فکالحکم بصحة الصلاة في حال الجهل بتنجس ثوبه بعذرة غير مأکول اللحم، ولازمه العقلي - بالأولوية العقلية - صحة الصلاة في بصاقه، حيث إن النجس إن لم يكن مانعاً لم يكن الطاهر مانعاً بطريق أولی، وهذه ملازمة عقلية في سلسلة المعاليل.

2- وأما الملازمة الشرعية، کالحکم بالقصر الذي يلازمه الحکم بالإفطار حتی لو لم يكن الشارع في مقام بيان حکم الإفطار.

3- وأما الملازمة العادية، فکالحکم بطهارة سؤر الهرة حيث إنه في مقام البيان من جهة الأفراد دون الحالات، ولکن بملاحظة قلة عدم ملاقاة فم الهرة

ص: 473

بالميتة وقلة غمسه في الماء الکر أو الجاري مثلاً فعدم الإطلاق من جهة هذه الحالة سبب لحمل طهارة سؤر الهرة علی الفرد النادر جداً بأن لم يمسّ فمها الميتة أو ملاقاته للکرّ أو الجاري بعد المسّ، فالملازمة العادية تقتضي الإطلاق من جهة الحالات أيضاً حتی لو لم يكن المولی في مقام بيانها، فتأمل.

ولا يخفی أنه لا توجد ضابطة کليّة لمعرفة موارد کون المولی في مقام البيان من کل الجهات أو من بعضها، بل لابد في الفقه من ملاحظة کل مورد علی حدة، فإنه يختلف ذلك باختلاف الموارد والخصوصيات والقرائن و المناسبات.

المطلب الثالث: الأدلة الواردة في بيان أصل التشريع

قد يقال: بأنه لا شبهة في عدم استفادة الإطلاق من الأدلة الواردة في بيان أصل التشريع، مثل قوله تعالی: {وَأَقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ}(1)، فإن الورود في مقام التشريع يكون قرينة علی أن المتکلّم ليس في مقام البيان(2).

وذکر نظير ذلك بعض الفقهاء في قوله تعالی: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}(3) حيث قالوا إنه في مقام أصل التشريع ومن المعلوم أن هذا المقام هو مقام إهمال لامقام بيان.

أقول: لا معنی للمناقشة في الأمثلة فإنها ترتبط بالاستظهار حسب ظهور الکلام أو القرائن، إنما الکلام في أنه هل يمکن استفادة نتيجة الإطلاق من

ص: 474


1- سورة البقرة، الآية: 43.
2- فوائد الأصول 1: 574.
3- سورة البقرة، الآية: 275.

مجموع الکلام الوارد في مقام أصل التشريع ومن المقيدات؟

ويبدو أن له صورتين:

1- أن يكون المقيّد بياناً لبعض المصاديق، وحينئذٍ لاطريق لإثبات نتيجة الإطلاق، إذ لعل المراد الواقعي للمتکلّم هو هذا المصداق وقد بيّنه في کلامين: أحدهما في مقام التشريع والآخر في مقام التفصيل.

2- أن يكون المقيد بياناً للشروط والموانع ونحوها، وحينئذٍ يمکن نفي ما لم يذکر من القيود بالاستعانة بکلا الکلامين، إذ لو أراد قيوداً أخری کان عدم بيانها - و لو بشکل منفصل - إخلالاً بالغرض، فتأمل.

المطلب الرابع: الحاجة إلى هذه المقدمة

قد يقال(1) إن هذه المقدمة مستدرکة، وذلك لأن إحراز کون المتکلّم في مقام البيان يحتاج إليه في کل الظهورات حتی الظهورات الوضعية، إذ لا يمکن الاستناد إلی کلام المتکلّم في تشخيص مراده ما لم يحرز أنه في مقام البيان، وإلاّ فلو کان نطقه باللفظ لأجل تجربة صوته، فلا يمکننا أن نقول إن مراده معنی اللفظ!!

فکما أن بناء العقلاء في إحراز المراد في الظهورات الوضعية بأصالة الجدّ ونحوها، کذلك في الظهور الإطلاقي، فلذا يحملون علی الإطلاق حتی مع الشك کما سيأتي في المطلب اللاحق!! وهکذا يرد هذا الإشکال علی المقدمة الثانية.

أقول: يمکن الفرق بأن عدم إرادة الظهور الوضعي بتجربة الصوت

ص: 475


1- منتقی الأصول 3: 433.

والهزل وأمثالهما نادر جداً، في حين أن عدم إرادة الإطلاق بالإهمال أو الإجمال غير عزيز، فکان لابد من التنبيه علی هذه المقدمة، فتأمل.

المطلب الخامس: الشك في كون المتكلّم في مقام البيان
اشارة

إذا شککنا في کون المتکلّم في مقام البيان، فهل هناك أصل اجتهادي أو عملي، يُحرزبه کونه في مقامه؟

وهنا صورتان: احتمال الإهمال من کل الجهات، وإحراز البيان من جهة والشك في جهة أخری.

الصورة الأولى

ذهب المحقق الخراساني(1) إلی أنه لايبعد أن يكون بناء العقلاء علی أن المتکلّم في مقام البيان، إذا لم يكن ما يوجب صرف وجه الکلام إلی غيره، ولذا يتمسکون بالإطلاقات مع عدم إحرازهم کون المتکلّم بصدد البيان.

وبتعبير آخر(2): فإنه لاطريق لنا إلی أحراز کون المتکلّم في مقام البيان إلاّ من جهة الأصل العقلائي، لمکان أن الظاهر من حال کلّ متکلّم هو کونه في مقام بيان مراده، وکونه في مقام الإهمال والإجمال يحتاج إلی إحراز ذلك، وإلاّ فطبع الکلام والمتکلّم يقتضي أن يكون في مقام البيان.

ومعنی ذلك أن ظاهر الحال يصنع ظهور لفظياً لدی العقلاء بکونه في مقام البيان، ولذا کان هذا أصلاً اجتهادياً لا أصلاً عملياً.

إن قلت: لعل تمسك المشهور بالإطلاقات حين الشك لأجل أنهم کانوا

ص: 476


1- إيضاح کفاية الأصول 3: 172-173.
2- فوائد الأصول 1: 574.

يرون وضع المطلقات للإرسال والشمول، وکلّما شککنا في أن المتکلّم هل أراد المعنی الموضوع له أم أراد معنی آخر فأصالة الحقيقة تدل علی حمله علی الموضوع له!

قلت: لم تصح النسبة إلی المشهور، وليس التمسك بالإطلاق حين الشك خاص بمن يری أنه لأجل الوضع، بل حتی القائلين بالدلالة عبر مقدمات الحکمة التزموا بذلك.

وأشکل عليه: بأمور منها:

الإشکال الأول: إنّ الکلام بعدُ في تحقيق وجه للکلام، فکيف جعل الوجه مفروغاً عنه؟

فلابد من البحث عن وجه الکلام، ليكون صغری لبناء العقلاء علی کون المتکلّم في مقام بيان وجه الکلام!

وحاصل ما ذکره المحقق الإصفهاني(1): أن الأصول المعمولة في باب المحاورات...

1- تارة ترتبط بالظهور الوضعي، کأصالة عدم النقل، وذلک ببقاء الظهور الوضعي، وکأصالة الحقيقة بفعلية الظهور الوضعي.

2- وأخری بالظهور الإطلاقي، کأصالة البيان، فهي ترتبط بالظهور الإطلاقي، وحيث إنه في قبال الإهمال فمفادها أنه في مقام بيان تمام موضوع حکمه، لا في مطابقة مقام الإثبات لمقام الثبوت، إذ الکلام في تحقق مقام الإثبات، وأنه أيّ مقدار - إطلاقاً وتقييداً - .

ص: 477


1- نهاية الدراية 2: 499 (الهامش).

3- وهنا أصل آخر هو أصالة مطابقة المراد الاستعمالي للمراد الجديّ، حيث ترتبط بمطابقة الظهور الفعلي الاستعمالي للمراد الجدي، ويقابله الکناية حيث إن المراد الاستعمالي محقق مع عدم کونه مراداً جدياً، کما يقابله ما نحن فيه حيث إن المراد الجدي محقق - إما بالإطلاق أو بالتقييد - لکنه يشك في أنه بصدد إظهار ذلك المراد الجدي أو بصدد أمر آخر.

وکما أن العقلاء في مورد الشك في الکناية يحکمون بمطابقة المراد الجدي للاستعمالي وبذلك ينفون الکناية، إذ الجد لايحتاج إلی التنبيه عليه، فإن جدّ الشيء لا يزيد عليه، فکذلك فيما نحن فيه يحکمون بأن المولی الذي مراده محقق فهو بالجبلة والطبع - أي لو خُلي ونفسه - يقوم بصدد إظهاره، لأن کونه بصدد إظهار أمر آخر يحتاج إلی التنبيه عليه، فينتج أن المراد الاستعمالي غير مهمل، بل إما مطلق أو مقيد، فبضميمة عدم التقييد يثبت الإطلاق، خصوصاً إذا کان المورد مقام الحاجة!!

وأورد عليه: أولاً: بأن أمر المراد الجدي ليس دائراً بين الإطلاق والتقييد حتی يثبت الإطلاق بنفي التقييد، بل هنا شق ثالث هو الإهمال، بأن يكون المولی في مقام أصل التشريع.

إن قلت: الإهمال الثبوتي ليس قسيماً لهما، وذلك لعلم المولی بمراده واقعاً وهو إما مطلق أو مقيد؟

قلت: الإهمال الثبوتي لاينافي علمه، لأن الکلام في دلالة اللفظ لا فيما يعلمه المولی ويقصره واقعاً من غير دلالة لفظية عليه.

وثانياً: إن إثبات الإطلاق بنفي التقييد إن أريد به اللابشرط القسمي فلا

ص: 478

يصح، إذ هما قسمان أحدهما في عرض الآخر فلا وجه لنفي أحدهما لإثبات الآخر من غير دليل معيّن، وإن أريد به اللابشرط المقسمي رجع إلی الإهمال إذا کان الإطلاق جمعاً للقيود، نعم إذا کان رفضاً للقيود فلا يرجع إلی الإهمال، بل يمکن حينئذٍ إثبات الإطلاق بنفي التقييد، فتأمل.

الإشکال الثاني: إن هذا البناء علی الحمل علی البيان حين الشک إنما هو في المتکلّم الذي من دأبه بيان کل مرامه في مجلس التخاطب، وأما إذا کان من دأبه بيان مقصوده في خطابات متعددة، فلا ظهور في الإطلاق أو لا حجية له، إلاّ بعد مضيّ زمان يستلزم تأخير البيان عنه تأخيراً عن وقت الحاجة، وبذلك يرتفع الشك!!

وأجيب: أولاً: إن هذا الإشکال لايرد في أمثال زماننا في عهد الغيبة حيث قد انقضی زمان البيان، وانعقد الظهور أو تمت الحجيّة.

وثانياً(1): إن هيهنا صوراً ثلاث...

1- أن يكون السائل - مثلاً - ممن لايرجی لقاؤه بعد إلقاء الکلام إليه، فلا معنی لأن يقال: إن الإمام (علیه السلام) بصدد بيان مراده في خطابات متعددة، فإذا ورد مقيد بعد ذلك لزم إعمال قواعد التعارض.

2- أن يکون ممن يكون بحضرة الإمام (علیه السلام) ويجتمع معه کثيراً، فيمکن القول بهذه العادة بتفريق المقصود في خطابات متعددة!

3- أن يكون المقيد من الإمام (علیه السلام) اللاحق، فلا يمکن القول بأن العادة في التأخير!

ص: 479


1- منتقی الأصول 3: 441.

أقول: أما الصورة الأولی فإنه قد لايحتاج السائل إلی بيان القيد، لعلم الإمام (علیه السلام) بأنه يأتي به مقيداً في الأوامر، ولا يحتاج إلی فعل غير المقيّد في النواهي، فذکر المطلق مع عدم ذکر القيد لايكون إخلالاً بالغرض أو تأخيراً للبيان عن وقت الحاجة.

وأما الصورة الثالثة فلابد من تخصيصها بما لم يدرك الراوي الإمام (علیه السلام) اللاحق، وإلاّ فإن کونهم نوراً واحداً لايمنع عن التعويل في بيان القيد إلی الإمام اللاحق.

هذا مضافاً إلی ما مرّ من أن التشريعات کلّها صدرت عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقد علّمها الأئمة (علیهم السلام) ، إلاّ أن فعليّة بعضها کانت منوطة ببيانهم (علیهم السلام) ، فقبل وصول زمان الفعلية، لايكون عدم البيان تأخيراً له عن وقت الحاجة ولا نقضاً للغرض.

کما أنه يمکن ادعاء أن ما وصلنا من المقيدات عن إمام لايدل علی عدم صدورها عن إمام سابق، فلعلّ الإمام السابق بين المطلق والمقيد کما بينه الإمام اللاحق، إلاّ أن أصحاب المجاميع الروائية اختاروا رواية المقيد من الإمام اللاحق لا السابق إما لعلو السند أو لأصحيته أو لجهة أخری، فلم يرووه عن الإمام السابق وبضياع الأصول والکتب لم يصل المقيد إلينا إلا بالرواية عن الإمام اللاحق عليهم جميعاً الصلاة والسلام، ومع هذا الاحتمال يبطل الاستدلال بنقض الغرض أو التأخير عن وقت الحاجة، إذ إذا جاء الاحتمال في الدليل العقلي بطل الاستدلال به، لعدم حکم العقل فيما لاجزم له فيه، فتأمل.

فتحصل: أنه لا إشکال علی إحراز البيان حين الشك فيه بالأصل

ص: 480

العقلائي، هذا کلّه في الصورة الأولی من الشك في کونه في مقام البيان أو الإهمال.

الصورة الثانية

إذا أحرز کونه في مقام البيان من جهة وشك في جهة أخری.

فقد يقال: بأنه لا دليل علی إحراز کونه في مقام البيان من الجهة المشکوکة، وذلك لعدم اللغوية في الکلام بعد إحراز کونه في مقام البيان من جهة! أي إن سبب الحمل علی کونه في مقام البيان إنما هو لدلالة الاقتضاء فإذا ارتفعت اللغوية عن الکلام بکونه في مقام البيان من جهة سقطت دلالة الاقتضاء، فلم يبق وجه للحمل علی البيان من الجهة المشکوکة.

وفيه: أن اللغوية ليست السبب للحمل علی الإطلاق، وإنما تمامية مقدمات الحکمة تنتج أن عدم ذکر القيد لو کان مراداً استلزم تأخير عن الحاجة وذلك مفوّت للغرض فلا يرتکبه الحکيم، وحيث کان الأصل العقلائي في التعميم - کما ذکرنا في الصورة السابقة - فتتم مقدمات الحکمة.

المقدمة الثانية: أن لايكون هناك ما يوجب التعيين

فلو نصب المتکلم قرينة علی التقييد، أو کانت قرينة من حالٍ أو مقالٍ، لکان الکلام ظاهراً في المقيّد، ووجب حمله عليه، لحجية الظواهر.

وهذه من حيث الکبری واضحة، إنما الکلام في بعض الصغريات حيث دار الکلام فيها حول کون شيء قرينةً تصرف المطلق إلی المقيد، أو کونه معارضاً بحيث لابد من إعمال قواعد التعارض، وذلك إما متصل أو منفصل.

أما المتصل: فإن کان ما يوجب التعيين أخصاً مطلقاً، فهو ظاهر في

ص: 481

القرينية، کما لو قال: أکرم العالم ولا تکرم فاسق العلماء.

وأما إن کان بينهما عموم من وجه، کما لو قال: أکرم العالم ولا تکرم الفاسق، فهنا يحتمل عدم انعقاد الإطلاق لأيٍّ من الدليلين في العالم الفاسق، ويحتمل تعارضهما بعد انعقاد الإطلاق فيها.

والأقرب هو اختلال المقدمة الأولی حينئذٍ حيث مع الاتصال يثبت أن المولی في مقام بيان المجمع، إذ لا وجه للقول بأنه في مقام البيان في کليهما معاً لاستلزامه تهافت صدر الکلام وذيله، کما لا وجه للقول بأنه في مقام البيان في أحدهما دون الآخر لعدم الترجيح بينهما.

وأما المنفصل: فقد يقال(1): بأن موضوع حکم العقل بعدم نقض الغرض - الذي هو مفاد مقدمات الحکمة - إنما هو کون المتکلّم في مقام البيان وعدم إقامة حجة علی مدخلية قيد في مرامه، إذ لو أقام حجة عليه لايلزم عليه نقض الغرض بوجه أصلاً، وحينئذٍ فمهما ظفرنا بحجة علی القيد فيما بعد يلزمه ارتفاع موضوع حکم العقل من جهة انقلاب اللابيان بوجود البيان.

وعليه فلابد من الرجوع إلی المقدمة الأولی، فإن أريد من البيان بيان المراد الاستعمالي فيتعارض المطلق مع القرائن المنفصلة وترجيحها إنما يكون لو کانت أقوی ظهوراً، وإن أريد منه بيان المراد الجدي بأعم من لفظ التخاطب فلا تعارض أصلاً کما مرّ، فتأمل.

وقد يصاغ البحث بطريقة أخری(2) بأنه قد يشترط عدم القرينة

ص: 482


1- نهاية الأفکار 1: 573.
2- بحوث في علم الأصول 3: 422.

المنفصلة بنحو الشرط المتأخر أو بنحو الشرط المتقارن... .

والأول: فهو بمعنی أن تکون الدلالة الإطلاقية متوقفة علی عدم مجيء القرائن المنفصلة، بحيث لو جاءت قرينة کشفت عن عدم دلالة إطلاقية أصلاً.

ويرد عليه: أنه خلاف الوجدان، إذ ينعقد الظهور ويأخذ به العقلاء من أول الأمر، وليس سبب ذلك أصالة عدم القرينة، إذ اجراؤها إنما هو بعد ثبوت الظهور، والکلام هنا بعدُ في أصل الظهور، وأما الاستصحاب فهو مثبت.

والثاني: فهو بمعنی انعقاد الظهور واستمراره إلی حين مجيء القرينة، فإذا جاءت سقط من حينه.

ويرد عليه: أن هذا إنما يكون مع القطع بعدم القرينة حالاً مع احتمالها استقبالاً، وأما مع احتمالها حالاً فلا، إذ لا تأکّد من الظهور الإطلاقي حينئذٍ.

وفيه: أن مجرد احتمالها حالاً لايمنع من انعقاد الظهور، وحيث إنه حجة فلابد من العمل بمقتضاه، فإن جاءت قرينة سقط من حينه فترتفع الحجية حينئذٍ فتأمل.

المقدمة الثالثة: عدم وجود قدر متيقن في مقام التخاطب

والقدر المتيقن قد يكون في الوجود الخارجي أي المصاديق، وقد يكون في مقام التخاطب أي في الجعل.

أما الأول: فهو بمعنی کون الفرد أو الحصة کاملين وأعلی الأفراد أو الحصص، من غير ظهور لأولوية الحکم لهما من نفس الکلام، کما لو قال: (أکرم العالم) فأکمل أفراده الأعلم الأورع، لکن هذا الکلام لايوجب

ص: 483

استفادة أولوية ثبوت الحکم له من نفس الخطاب.

وهذا لايضر بالإطلاق، إذ لاينعقد ظهور فيه، ولا يصرف الظهور عن غيره، بل الظهور ينعقد علی الإطلاق، بل لو أضرّ بالإطلاق لم يبق مطلق أصلاً، لعدم خلو المطلقات عن أفراد أو حصص لها ميزة علی غيرها، ولأنه لو کان مراداً کان عدم بيانه إخلالاً بالمراد.

وأما الثاني: فهو محل الکلام في هذه المقدمة.

فقد يقال: بأنه لابد من عدم وجود قدر متيقن في مقام التخاطب لينعقد الإطلاق.

وقد يفصّل بين کون المتکلّم في مقام بيان تمام المرام وإلقاء الحجة وبين ما إذا کان في مقام البيان بأعم من الکلام الذي به التخاطب.

وفصل المحقق الخراساني(1)

بين ما إذا کان المتکلم في مقام بيان تمام مراده وبين کونه في مقام بيان تمام مراده وأنه تمام المراد.

واستدل للقول الأول: بأنه مع وجود القدر المتيقن التخاطبي لو کان هو المراد لم يلزم منه نقض للغرض، فلذا جرت سيرة العقلاء علی الاعتماد عليه وعدم التصريح به!

ويرد عليه عدة إشکالات، منها:

الإشکال الأول: وهو عمدتها، إن أريد الانصراف فذلك صحيح، إذ معه لاظهور للّفظ إلاّ في المعنی المنصرف إليه سواء کان فرداً أو حصة، وإن أريد غيره فلا وجه له لعدم إخلاله بالظهور أصلاً، والظاهر أن القائلين بهذه

ص: 484


1- إيضاح کفاية الأصول 3: 169.

المقدمة يريدون شيئاً غير الانصراف.

الإشکال الثاني: إنه لافرق بين القدر المتيقن في مقام التخاطب وفي الوجود الخارجي، وذلك لعدم ثبوت نقض الغرض لو کان المقصود هو القدر المتيقن، وبعبارة أخری: مع وجود القدر المتيقن - خارجاً أو خطاباً - لا إخلال بالظهور في الإطلاق!!

وفيه: أن القدر المتيقن الخارجي لايفهم من الکلام ولا ينساق الذهن إليه، فلا يصح إرادته من دون إقامة القرينة عليه، فکون المتکلم في مقام البيان يجعل الکلام ظاهراً في عدم إرادته بالخصوص، وليس کذلک القدر المتيقن في مقام التخاطب.

إن قلت: إن ثبوت الحکم للقدر المتيقن التخاطبي إما لکونه أحد مصاديق المطلق أو لدخالة عنوانه في موضوع الحکم، وحيث لم يذکر المولی القيد فلابد أن يكون الموضوع هو المطلق لا المقيد!!

قلت: ليس المراد من هذه المقدمة إلاّ التشكيك في الإطلاق مع وجود القدر المتيقن التخاطبي لا إثبات القيد.

الإشکال الثالث: لو کان المطلق في الجواب عن السؤال عن مورد خاص، فلا يصح حينئذٍ التمسك بإطلاقه، لأن مورد السؤال هو القدر المتيقن من الجواب، لأن عدم شمول الکلام لشأن بيانه مستهجن، مع أنهم اطبقوا علی أن خصوصية المورد لاتخصص الوارد.

وفيه: أن خصوصية المورد لاتضع ظهوراً، مضافاً إلی أنه قدر متيقن في الوجود الخارجي لا في مقام التخاطب.

ص: 485

الإشکال الرابع: إن هذا الاشتراط يتم في المطلق الشمولي دون البدلي، إذ في الشمولي القدر المتيقن مراد علی کل حال سواء أريد المطلق أم المقيد، لأن الحکم شامل لکل الأفراد ولا يرتبط الامتثال في بعضها بالامتثال بالبعض الآخر، وأما في البدلي فإنه يتردد بين خصوصيتين أي خصوص القدر المتيقن أم الإطلاق، فتعلق الحکم بالقدر المتيقن يلازم عدم صحة الامتثال بغيره!!

وفيه: أنه مصادرة، إذ من المعلوم شمول الدليل للقدر المتيقن سواء کان المطلق شمولياً أم بدلياً، فيكون الإتيان به امتثال علی کل حال، وأما غير القدر المتيقن فحصول الامتثال به مشکوك في کليهما، وعليه فما ذکر في الشمولي يجري في البدلي أيضاً بأن يقال: إرادة بعض الأفراد في المطلق البدلي - وهي القدر المتيقن - لايختلف بين إرادتها بالخصوص أو في ضمن الأفراد الأخری علی البدل!!

نعم إن کان المقصود الإرجاع إلی بحث الأقل والأکثر، وأن الامتثال بالقدر المتيقن لازم في الشمولي علی کل حال، عکس البدلي حيث يلزم الامتثال به علی تقدير عدم الإطلاق مع عدم لزومه علی تقدير الإطلاق، فله وجه، إلاّ أن الکلام هنا في ظهور اللفظ لا في الأصل العملي.

وأما القول الثاني: فهو التفصيل بين کون المتکلّم في مقام بيان تمام المرام وإلقاء الحجة، فوجود القدر المتيقن لايوجب انثلام الظهور في الإطلاق، کما في جميع القرائن المنفصلة.

وبين کونه في مقام البيان بأعم من هذا الکلام، فوجود القدر المتيقن

ص: 486

يوجب عدم انعقاد ظهور في الإطلاق، وذلك لعدم لزوم محذور نقض الغرض لو أراد التقييد مع اتکاله علی القدر المتيقن ليكون بياناً وحجة علی القيد!!

وقد مرّ في المقدمة الأولی تفصيل کون مقام البيان هل بيان المراد الاستعمالي أم الجدي.

ويرد عليه: أولاً: إن القدر المتيقن إن کان قرينة فهو قرينة متصلة لامنفصلة، والقرينة المتصلة تمنع انعقاد الظهور سواء کانت حالية أم مقاليّة.

وثانياً: إن الاتکال علی القدر المتيقن إنما يصح لوکان الاتکال واضحاً بحيث يمنع عن انعقاد الظهور وهذا لايكون إلاّ في حالة الانصراف، وإلاّ فمجرد وجوده غير مانع عن انعقاد الظهور.

وأما القول الثالث: فهو التفصيل بين ما إذا أحرز کون المتکلّم في مقام بيان تمام مراده، فوجود القدر المتيقن مانع عن الإطلاق، لأن المقدار المتيقن إذا کان تمام المراد فهو مبيّن، وبعبارة أخری: لايكون عدم ذکره نقضاً للغرض، لأنه يُفهم من الکلام حينئذٍ.

وبين ما إذا احرز أنه في مقام بيان تمام مراده وأنه تمام مراده، فوجود القدر المتيقن غير مانع عن الإطلاق، لأن اليقين بوجوده ليس بياناً لکونه تمام المراد، فلابد أن يكون المراد هو الطبيعة المطلقة، وبعبارة أخری: إن وجود القدر المتيقن يفيد أنه مراد، لکن لا ينفي غيره، لأن إحراز کون التکلّم في مقام بيان تمام مراده لايدل علی إرادته لکون القدر المتيقن هو ذلك التمام!!

وقد يشکل عليه: بأنه إذا کان اليقين بوجوده بياناً لتمام المراد، فلابد من أن يدل بالالتزام علی أنه تمام المراد، فيكون بيانه بيان لتمام المراد.

ص: 487

والعمدة في الإشکال أن القدر المتيقن لايكون قرينة صارفة لظهور الکلام إلاّ إذا انجرّ إلی الانصراف.

المبحث الثالث: في مانعية الانصراف عن التمسك بالإطلاق

الانصراف يُخلّ بالظهور في الإطلاق، فلا حجية في غير المنصرف إليه، لعدم الحجية في الألفاظ إلا للظواهر، فلابد من التأمل في مناشيء الانصراف، وتمييز ما يُخلّ بالظهور من غيره، وقد ذکر له مناشيء.

المنشأ الأول: غلبة الوجود الخارجي، مما يوجب اُنساً للذهن في حصة خاصة، کانصراف الإنسان إلی السليم عن العيوب، وانصراف الماء إلی ماء الفرات لمن کان ساکناً عند النهر، وهذا الانصراف بدوي زائل، وذلك لأن انسباق الحصة الخاصة إلی الذهن لم يكن ناشئاً عن اللفظ، حتی يقال بحجية الظهور فيه، ولا دليل علی حجية الظهور غير المستند إلی اللفظ.

المنشأ الثاني: کثرة الاستعمال في حصة خاصة أو في معنیً مجازي بحيث صار سبباً لأنس الذهن بحيث صار اللفظ ظاهراً فيهما، وهذا حجة لاستناده إلی الظهور اللفظي، کانصراف لفظ العلماء إلی علماء الدين دون علماء الطب والهندسة ونحوهما.

وهذا علی أقسام، منها:

الأول: ما أوجب الاشتراك بين المعنی المنصرف منه والمعنی المنصرف إليه، کما قيل في لفظة الصعيد حيث وضع لمطلق وجه الأرض، ولکن کثرة استعماله في التراب الخالص صار أيضاً معنیً حقيقياً، وهذا يوجب انثلام المقدمة الثانية إذا أوجب ظهوراً فيه، وإلاّ فالمقدمة الثالثة، لکونه المقدار

ص: 488

المتيقن في مقام التخاطب.

الثاني: ما أوجب النقل إلی المعنی الثاني المنصرف إليه، وهذا يوجب ظهوراً فيه، فانثلمت المقدمة الثانية.

وأما ما يقال: من أن الاشتراك أو النقل لابدّ أن يكونا بعد الاستعمال المجازي إلی أن يتحول المعنی الثاني إلی معنی حقيقي، وليس کذلك استعمال المطلق في المقيد، إذ هو من باب تعدد الدال والمدلول أو من باب استعمال الکلي في أحد مصاديقه.

فيرد عليه: إن الوصول إلی النقل أو الاشتراك لايحتاج إلی المرور بمرحلة المجازية، بل يمکن النقل بالوضع التعيّني کما في الأعلام الشخصية المنقولة کفضل وأسد، أو الوضع التعييني في أحد المصاديق الحقيقة.

الثالث: قد يكون کثرة الاستعمال في بضع الحصص سبباً لتيقن إرادتها مع الشك في إرادة الحصص الأخری من غير أن يكون اللفظ ظاهراً في الحصة الکثيرة الاستعمال، کانصراف الماء إلی غير المياه الزاجية والکبريتية، وبهذا الانصراف تنثلم المقدمة الثالثة، إذ کثرة الاستعمال أوجب وجود قدر متيقن في مقام التخاطب وهو المقيّد.

المنشأ الثالث: الانصراف الناشیء من القرائن الخارجية، سواء کانت مناسبات عرفية أو عقلائية أو بلحاظ حالات المتکلّم، کانصراف (ما لا يؤکل لحمه) إلی غير الإنسان، وکانصراف مثل (الماء مطهّر) إلی الماء الطاهر لمرکوزية قاعدة فاقد الشيء لايعطيه مثلاً، وکانصراف الماء إلی الصالح للشرب إذا طلبه العطشان.

ص: 489

وحجيته من باب ظهور اللفظ في المعنی المنصرف إليه، ولولا ذلك لما کان حجة، وکان من الانصراف البدوي.

المنشأ الرابع: ما ذکره المحقق النائيني(1): فقد اعتبر المنشأ للانصراف المانع عن تحقق الإطلاق، هو التشكيك في الماهيّة في متفاهم العرف.

إمّا بحيث يری العرف بعض المصاديق خارجاً عن کونه فرداً لما يفهم منه اللفظ، فلفظ المطلق حينئذٍ يكون من قبيل الکلام المحفوف بالقرينة المتصلة، وذلك کانصراف لفظ ما لا يؤکل لحمه عن الإنسان.

وإمّا بحيث يشكّ العرف في بعض المصاديق، کما في المياه الزاجيّة والکبريتية، فهذا وإن لم يوجب الظهور في خصوص ما ينصرف إليه، إلاّ أنه به يختل الظهور في المنصرف عنه، إذ هو في حکم الکلام المحفوف بما يصلح لکونه قرينة، فيمنع عن انعقاد الإطلاق.

وأشکل عليه: بأن التشكيك في الماهية وإن کان سبباً کما ذکره، إلاّ أنه قد يوجب انصراف من غير تشكيك، کما قد يدعی انصراف قوله تعالی: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}(2) إلی البيع الصادر عن المالك، لا مطلق البيع.

وفيه تأمل: لرجوع ما ذکره من المثال إلی التشكيك في الماهية، ولم نجد مثالاً لغير موارد التشكيك فيها.

أقول: الأحسن هو التقسيم الثلاثي، لأنه المنشأ الأساسي، فالتشكيك في الماهية ناشيء عن غلبة الوجود أو عن کثرة الاستعمال أو عن القرائن

ص: 490


1- أجود التقريرات 2: 435.
2- سورة البقرة، الآية: 275.

المحتفة بالکلام.

ثم إنه قد قيل: إن الانصراف الناشیء عن التشكيك في الماهية قد يكون بسبب قوة الحصة أو ضعفها فمثل: (ما لا يؤکل لحمه) انصرافه عن الإنسان باعتباره أقوی أفراد الحيوان، أو لضعف الحيوانية عرفاً فيه فينصرف إلی البهيمة!!

وفيه تأمل: لأن الأقوائية لاتکون سبباً للانصراف عنه، بل علی العکس قد تکون سبباً للانصراف إليه کلفظة الإنسان بالنسبة إلی الأنبياء (علیهم السلام) ، وأما المثال فلا يخفی ما فيه لعدم ذکر لفظ الحيوان في النص، بل الانصراف عن الإنسان للمناسبة العرفية بحيث إن المقسم - وهو ما لا يؤکل لحمه - لا يشمله عرفاً.

المبحث الرابع: تكملة مقدمات الحكمة

استبدل المحقق النائيني المقدمة الثالثة بمقدمة أخری وهي(1): أن يكون الموضوع مما يمکن فيه الإطلاق والتقييد، وقابلاً لهما، وذلك بالنسبة إلی الانقسامات السابقة علی ورود الحکم، وأما الانقسامات اللاحقة کقصد القربة واعتبار العلم والجهل بالحکم، فهي مما لايمکن فيها الإطلاق والتقييد، فلا مجال للتمسك بالإطلاق.

ويرد عليه: أولاً: - کما تنبّه هو عليه - بأن هذا في الحقيقة خارج عن مقدمات الحکمة، بل محقق لموضوع الإطلاق والتقييد.

وثانياً: إن المطلق من الماهية اللابشرط المقسمي فلا يمتنع تقسيم الماهية إلی العالم بحکمها أو الجاهل به، أو المقيدة بقصد القربة أو لا، نعم

ص: 491


1- فوائد الأصول 1: 573.

قد يقال: بامتناع أخذ هذه القيود في متعلّق الحکم، وذلك أمر آخر غير إمکان تقسيم الماهية باعتبارها.

وثالثاً: ما مرّ من أن امتناع التقييد قد يلازم ضرورة الإطلاق، إذا کان الإطلاق رفضاً للقيود، لا جمعاً لها، إذ التقابل بينهما حينئذٍ تقابل السلب والإيجاب، لا العدم و الملکة، فعليه أمکن الإطلاق مع عدم القابلية للتقييد.

المبحث الخامس: نتيجة المقدمات

نتيجة مقدمات الحکمة هو الإرسال وعدم التقييد بشيء، وقد تختلف النتيجة بين البدلية أو الشمولية، وبين التوسعة أو التضييق، وذلك بحسب القرائن، فالأقسام ثلاثة:

القسم الأول: ما إذا أريد ايجاد الطبيعة، وحينئذٍ تکون النتيجة البدلية.

ويدل عليه: أن إيجاد الطبيعة يتحقق بإيجاد فرد منها، وأن الغرض يتحقق بواحد منها عادة، وأنه لايعقل إرادة إيجاد جميع الأفراد لعدم قدرة المکلّف علی ذلك عادة.

إن قلت: امتناع الاستيعاب إن کان بسبب عدم القدرة فهو غير مانع، إذ يمکن القول بأن المطلوب هو جميع الأفراد المقدورة!!

قلت: من اللغو الأمر بالجميع مع وجود المحذور دائماً ثم الاکتفاء بما أمکن، کما أن التقييد بما أمکن قيد زائد ينفيه الإطلاق.

وهذا القسم يكون في الأوامر التکليفية عادة.

القسم الثاني: ما إذا أريد بيان حکم الطبيعة، وحينئذٍ تکون النتيجة الشمولية.

ص: 492

ويدل عليه: أن حکم الطبيعة يجري في کل أفرادها، أو لأنها واردة في مقام الامتنان وهو لايناسب البدلية.

أما ما قيل: من إمکان البدلية مع الإرجاع إلی الفرد الذي يختاره المکلّف، فلا يمکن المصير إليه لاستحالة تعليق الحکم علی إرادة المکلف کما مرّ سابقاً، مضافاً إلی أن هذا التعليق قيد زائد.

وهذا القسم يكون في الأحکام الوضعية عادة، کما في قوله تعالی: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}(1) بناءً علی کونه وارداً مورد البيان.

القسم الثالث: ما إذا کان للطبيعة أصناف، ولبعض الأصناف قيد زائد دون بعض، فنتيجة مقدمات الحکمة هو عدم إرادة هذه القيود، مما ينتج تضييق الموضوع، کما في إطلاق صيغة الأمر حيث يقتضي العينيّة التعيينيّة النفسية، لأن إرادة غير ذلك بحاجة إلی بيان زائد بذکر الشق الآخر أو المکلّف الآخر، أو ذي المقدمة.

وهذا علی مبنی جريان الإطلاق والتقييد في الهيأة، وأما مع المصير إلی جزئية المعنی الحرفي فلا إطلاق وتقييد إلا في المادة، وقد مرّ تفصيله.

المبحث السادس: في الإطلاق المقامي

ما مرّ کان في الإطلاق اللفظي، وهو استفادة الإطلاق من اللفظ، بأن يكون مدلول اللفظ غير مقيّد بشيء، وهناك قسم آخر هو الإطلاق المقامي، بأن يُضاف مراد آخر غير مستفاد من اللفظ إلی المراد المستفاد من اللفظ.

ويفترقان أيضاً في کيفية استفادة الإطلاق، ففي اللفظي هناک قرينة عامة

ص: 493


1- سورة البقرة، الآية: 275.

علی استفادة الإطلاق لأن حال المتکلّم يقتضي کونه في مقام البيان حتی مع الشك فيه کما مرّ، وأما في المقامي فلابد من وجود قرينة تدل علی مراد آخر غير المراد اللفظي، وقد يذکر قرينتين:

الأولی: کون المتکلّم في مقام التحديد، فعدم ذکر شيء أو عدم الإيتان به، يكون قرينة علی عدم إرادته، کما لو أراد تعليم الصلاة فترك القنوت في الذکر أو في العمل، فهنا المقام يقتضي عدم تقييد الصلاة به بنحو الجزء الواجب أو الشرط.

الثانية: کون الإطلاق مما يناسب حال المتکلّم، کما في القيود التي يغفل عنها غالب الناس، بحيث لولا ذکرها لم يلتفتوا إليها، فعدم ذکرها دليل علی عدم قيديتها - بنحو الجزئية أو الشرطية أو المانعيّة - ، إذ لو کانت قيداً کان عدم ذکرها مع غفلة الناس عنها نقضاً للغرض کما ذکروا ذلك في قصد الوجه والتمييز.

وعلی کل حال فلا ضابطة کليّة للإطلاق المقامي، فلابد من ملاحظة کل مورد بانفراد في الفقه، ليُعلم کون المتکلّم في مقام التحديد أو کون الإطلاق مما يناسب حاله.

ص: 494

فصل في حمل المطلق على المقيد

اشارة

المطلق والمقيد قد يكونان مثبتين أو منفيين أو مختلفين، کما أنه قد نعلم بوحدة الحکم وقد نعلم بتعدده وقد نشك، کما أنهما قد يكونان في حکمين إلزاميين أو في مستحبين.

ولابد حينئذٍ من حمل المطلق علی المقيّد إذا توفرت الشروط التالية:

الشرط الأول: التنافي بين المطلق والمقيد

وهنا صور متعددة:

منها: ما إذا کانا مختلفين في النفي والإثبات، مثل: (اعتق رقبة) و (لاتعتق رقبة کافرة)، فلا إشکال في التقييد، للجمع العرفي بتقديم المقيّد لأنه الأقوی ظهوراً.

ومنها: ما إذا کانا مثبتين في حکم إلزامي، مثل: (اعتق رقبة) و (اعتق رقبة مؤمنة)، وهنا لابدّ من حمل المطلق علی المقيد.

وقد ذکر له أدلة منها:

الدليل الأول: عدم تمامية مقدمات الحکمة، بانثلام المقدمة الثانية.

الدليل الثاني: بأنه جمعٌ بين الدليلين، فإن المقيد مصداق للمطلق، فإذا اعتق رقبة مؤمنة فقد امتثل کلا الدليلين، وذلك أولی لبناء العقلاء علی الجمع إذا کان عرفياً.

ص: 495

وأشکل عليهما: بأن الجمع لاينحصر بذلك، بل يمکن بحمل الأمر في المقيد علی الاستحباب وأنه أفضل الأفراد، وبذلک لم يثبت انثلام المقدمة الثانية أيضاً.

وأجيب: بأن الحمل علی الاستحباب مجاز، وحمل المطلق علی المقيد ليس بمجاز، لأنه لم يوضع للإطلاق، بل استعمال الکلي في أحد مصاديقه حقيقة، وبعبارة أخری: أصل وجود القيد معلوم، لکن الاختلاف في کيفية التقييد فهل هو قيد للموضوع أو للحکم، والأول حقيقي، والثاني مجازي، فيكون الترجيح للأول.

ودفع الجواب: بأن الحمل علی الاستحباب لا مجازية فيه، بل المراد تأکد الوجوب، وذلك لأن المقيد المنفصل لايضر بالإرادة الاستعمالية في الإطلاق کما مرّ، بل مع التقييد نعلم بعدم الإرادة الجدّية، والمجازية ترتبط بالإرادة الجدّية لا الاستعمالية.

نعم هذا نوع تصرف لکنه ليس بأولی من التصرف الآخر بحمل أمر المقيد علی التأكيد، فيتساويان.

إن قلت: في غالب المطلقات إنما ثبت کون المولی في مقام البيان بالأصل العقلائي کما مرّ، ومع وجود المقيّد الذي هو دليل لاتصل النوبة إلی الأصل!

قلت: هذا الأصل ليس أصلاً عملياً بل هو أمارة.

فتحصل: أنه لايمکن الاستدلال بهذين الدليلين لحمل المطلق علی المقيّد في المثبتين.

ص: 496

الدليل الثالث: ما ذکره المحقق النائيني(1)، وحاصله: أن الأمر في المقيد يكون بمنزلة القرينة علی ما هو المراد من الأمر بالمطلق، والأصل الجاري في ناحية القرينة يكون حاکماً علی الأصل الجاري في ذي القرينة.

أما کونه بمنزلة القرينة: فلأن ملحقات الکلام کلها تکون قرينة علی ما أريد من أرکان الکلام، والأرکان هي الفعل والفاعل والمبتدأ والخبر، وکذا المفعول علی احتمال، وما عداها متممات للکلام من الصفة والحال والتمييز وغيرها.

وأما الحکومة: فلأن الشک في المراد من ذي القرينة يكون مسبباً عن الشك في المراد من القرينة، فمثل: (رأيت أسداً يرمي) يكون ظهور (يرمي) في رمي النبل رافعاً لظهور (أسد) في المفترس، فلا يبقی ظهور للأسد في المفترس ليدل بالملازمة علی أن المراد من يرمي رمي التراب مثلاً!! فإن الدلالة علی اللازم فرع الدلالة علی الملزوم، وظهور يرمي في رمي النبل يرفع دلالة الملزوم.

إن قلت: أصالة الحقيقة في الأسد تقتضي کونه المفترس، فيلازمه کون المراد من الرمي رمي التراب مثلاً، ومثبتتات الأصول اللفظية حجة.

قلت: إن (يرمي) يتضمن الرامي أيضاً، خلاف (الأسد) فإنه لايتضمن الرمي، نعم لازم کونه علی المعنی الحقيقي هو کون المراد من يرمي رمي التراب مثلاً، وظهور يرمی في رمي النبل يكون هادماً لظهور الأسد في المفترس، فلا يبقی له ظهور في الحيوان المفترس حتی يدل علی لازمه!!

هذا محصّل ما يستفاد من کلام المحقق النائيني، ومقتضاه هو لزوم حمل الأمر في المطلق علی المقيد، لاعلی استحباب المقيد ولا علی کونه واجباً

ص: 497


1- فوائد الأصول 1: 577-579.

في واجب، من غير ملاحظة أقوی الظهوري، إذ الدليل الحاکم مقدّم مطلقاً.

وأشکل عليه(1): أولاً: في المقيد المتصل لايوجد إلا ظهور واحد، ولذا لاينتقل السامع إلاّ إلی الحصة الخاصة، وکذا في المجاز، وذلك لعدم ملاحظة الظهور الطبيعي، فإنه ثابت لأي لفظ حتی مع الجزم بخلافه، وليس هو موضوعاً لأيّ أثر عقلائي، وإنما التصادم بين الظهورين التصديقيين، وفي المتصل لايوجد ظهورين لعدم بناء العقلاء علی إرادة ظاهر اللفظ ما لم يتم الکلام، فإن بنائهم علی الظهور الفعلي لا الطبعي.

والحاصل: إنه قبل ورود القرينة لابناء للعقلاء علی إرادة ظهور ذي القرينة، وبعد ورودها لايكون للکلام سوی ظهور واحد يتناسب مع القرينة، نعم في المنفصل ينعقد ظهور للمطلق في الإطلاق لکن بالإرادة الاستعمالية فيكون ظهوران متصادمان ولکن لاحکومة کما سيأتي في الجواب التالي.

وثانياً: عدم جريان الحکومة هنا، إذ کما يمکن أن يكون (يرمي) سبباً للتصرف في الأسد، کذلك العکس، ولا يجدي التفصي بأن دلالة الأسد علی الرامي التزامية ودلالة الرامي علی الأسد مطابقية، وذلك لعدم وجه علی فصل المدلول الالتزامي عن المدلول المطابقي کي يجري الأصل في المطابقي أولاً ثم يثبت المدلول الالتزامي، بل يصح جريان الأصل بلحاظ المدلول الالتزامي رأساً.

هذا مضافاً إلی أن دلالة يرمي علی الرامي لايوجب تعيين معنی الرمي في رمي السلاح لا رمي التراب فحمله علی الأول مصادرة.

ص: 498


1- منتقی الأصول 3: 451-453.
الشرط الثاني: وحدة الحكم في المطلق والمقيّد

فقد يقال: إن ذلك لابدّ من استفادته من خارج الدليلين، ولا يمکن استفادته منهما، وقد يقال: بإمکان استفادته منهما في بعض الصور، والصور أربعة(1):

الصورة الأولی: أن يذکر السبب في کليهما مع اختلافه، کما لو قال: (إن أفطرت فاعتق رقبة) و (إن ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة).

ولا إشکال في عدم الحمل هنا، لعدم التنافي بين الحکمين، بل في الحقيقة يرجع ذلك إلی تعدد التکليف، لعدم ارتباط السببين أحدهما بالآخر.

الصورة الثانية: أن يذکر السبب في کليهما مع اتحاده، کما لو قال: (إن ظاهرت فاعتق رقبة) و (إن ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة).

وهذا أيضاً لا إشکال في الحمل، إذ من وحدة السبب بنفسها يستفاد وحدة التکليف، بل يمکن القول بأنه مع الإتيان بالمقيد فقد امتثل أمرهما معاً وذلك لکون المقيّد من أفراد المطلق.

الصورة الثالثة: أن يذکر السبب في أحدهما دون الآخر، کما لو قال: (اعتق رقبة) و (إن ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة)، أو بالعکس.

إستشکل المحقق النائيني في الحمل، للزوم الدور منه، إذ هنا إطلاقان وتقييدان: في ناحية الواجب (عتق الرقبة مطلقاً) (وعتق الرقبة المؤمنة)، وفي ناحية الوجوب إذ (وجوب عتق غير مقيد بسبب) و (وجوب عتق مقيداً بالظهار).

فتقييد أحد الوجوبين بصورة تحقق سبب الآخر يتوقف علی وحدة المتعلّق، إذ عند اختلاف متعلّق التکليف لاموجب لحمل أحد التکليفين علی الآخر.

ص: 499


1- فوائد الأصول 1: 579-581.

کما أن وحدة المتعلق في المقام تتوقف علی حمل أحد التکليفين علی الآخر، إذ لو لم يحمل أحد التکليفين علی الآخر ولم يقيّد وجوب العتق المطلق بخصوص صورة الظهار لم تتحقق وحدة المتعلق.

والحاصل: إن حمل أحد المتعلقين علی الآخر يتوقف علی حمل أحد التکليفين علی الآخر، کما أن حمل أحد التکليفين علی الآخر يتوقف علی حمل أحد المتعلقين علی الآخر.

ويرد عليه: أولاً: النقض، بجريان هذا البيان للدور في کل مطلق ومقيد حتی مع عدم ذکر السبب فيقال: وحدة المتعلّق تتوقف علی وحدة التکليف، وکذا العکس.

وثانياً: بالحلّ، بأن تعدد الإنشاء ظاهر في تعدد الحکم، وإلاّ کان تأكيداً وهو خلاف الظاهر، وعليه فيثبت تعدد المتعلّق، فتعدد المتعلّق يتوقف علی وحدة الحکم دون العکس.

أما علی مبنی عدم استفادة الوحدة أو التعدد في الحکم من الدليلين فالأمر واضح، إذ لاتوقف من الطرفين بل وحدتهما أو تعددهما يتوقفان علی دليل آخر خارجي.

وثالثاً: بأن کلامه أخص من المدعی، وإنما يجري فيما لو تفرق القيدان بين الدليلين، فکان المتعلق في أحدهما مطلقاً مع ذکر السبب فيه، وکان الآخر بالعکس، أما لو اجتمع القيدان في دليل مع إطلاق الآخر في کليهما، کما لو قال: (اعتق رقبة) و(إن ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة) فلا يجري الدور لأن التقييدان في عرض واحد بلا توقف أحدهما علی الآخر، فتأمل.

الصورة الرابعة: عدم ذکر السبب في أيٍّ منهما.

ص: 500

ولإثبات وحدة التکليف طريقان:

الطريق الأول: ما ذکره المحقق النائيني(1): بأنه لو کان المطلوب فيهما صرف الوجود مع کون التکليف إلزامياً، اقتضی ذلك حمل المطلق علی المقيّد، ففي (رقبة) و (رقبة مؤمنة) يراد إيجاد صرف الوجود، ومعنی الحکم الإلزامي هو عدم الرضا بغيره، فالجمع بين الأمرين يقتضي وحدة المطلوب.

وبعبارة أخری(2): إن الأمر بالمطلق بما أنه يتعلق بصرف الوجود ينحل إلی حکمين: حکم بالإلزام بنفس الطبيعة وحکم بالترخيص في تطبيق الطبيعة علی کل فرد من أفرادها، والأمر بالمقيد يقتضي تعيين المقيد، فيتنافي مع الحکم الترخيصي في المطلق، لأن الامتثال بغير المقيد يجوّزه الإطلاق وينفيه التقييد.

وأشکل عليه(3): أولاً: بأنه لايمکن إثبات وحدة التکيف عبر منافاة وجوب المقيّد مع ترخيص تطبيق الطبيعة علی أيّ فرد من أفرادها، بل الأمر بالعکس، فإن المنافاة متفرعة علی وحدة التکليف أي إذا ثبت أن التکليف واحد امتنع ترخيص الشارع في امتثاله بالإتيان بأيّ فرد کان بل لابد من إلزامّه بالمقيّد، أما لو کان التکليف متعدداً فترخيص الشارع في امتثال أحد التکليفين بأيّ فرد من أفراد الطبيعة لايتنافی مع إلزامه في امتثال الآخر بالإيتان بفرد معين، لعدم توارد النفي والإثبات علی موضوع واحد بل موضوعين.

ص: 501


1- فوائد الأصول 1: 581.
2- أجود التقريرات 2: 448-449.
3- منتقی الأصول 3: 456.

أقول: کلاهما ممکن، إذ هما متلازمان، فکما يمکن إثبات الوحدة عبر إثبات المنافاة، کذلك العکس، إذ هما لايجتمعان فإثبات أحدهما يلازم الآخر، إنما الکلام في أنه لا دلالة للدليلين علی أيٍّ من الأمرين فلابد من إثبات ذلك بالقرائن الخارجية.

أما ما قيل: من أنه لا حکم آخر يتکفل الترخيص في تطبيق الطبيعة علی جميع أفرادها.

ففيه: أن الترخيص عقلي - وهو التخيير العقلي - وهو لازم الإلزام بالطبيعة، وعليه فيتنافي مع الإلزام الشرعي بالمقيّد، فيرجع إلی تنافي الدليلين الشرعيين بتنافي لازم أحدهما مع صريح الآخر.

وثانياً: بأن عدم الحمل يستلزم وحدة الامتثال أحياناً وتعدده أخری، وهذا لايمکن الالتزام به، إذ لو قدّم الامتثال بالفرد الواجد للقيد فقد امتثل کلا الأمرين، إذ يتحقق بذلك امتثال الأمر بالمطلق لکون واجد القيد فرد من أفراده، کما يتحقق امتثال الأمر بالمقيد، أما لو قدّم الامتثال بغير الواجد للقيد فهو امتثال للأمر بالمطلق فقط فلابد من امتثال آخر بالإتيان بواجد للقيد، لعدم تحقق الملاکين في الأمرين، عکس الحالة السابقة إذ بها يتحقق ملاکهما فيسقطان.

وفيه: أنه لامانع من الالتزام به ولا محذور فيه سوی الاستبعاد وهو غير ضائر، بل هو استبعاد لغير البعيد.

مضافاً إلی إمکان القول بأنه تخيير عقلي بين الأقل والأکثر، ولکن بالطريقة المذکورة، من دون کونه مراعیً، بخلاف التخيير الشرعي بينهما،

ص: 502

کما يمکن ادعاء عدم تحقق الملاکين إلا بالتکرار، وأنه لو قدّم الامتثال بالمقيّد فيجب عليه امتثال آخر وحينئذٍ فإن امتثل بالمطلق اعتبر الأول امتثالاً للأمر بالمقيد والثاني للأمر بالمطلق، وإن امتثل بالمقيد کان أحد الامتثالين للمطلق والآخر للمقيد بلا تعيين، وهو غير ضائر مادام الغرض يتحقق بهما ولو من غير تعيين، فإنه بعد تحقق الامتثال لايشترط العلم بکونه بأيٍّ من الفعلين أو أن أياً من الامتثالين لأيٍّ من الأمرين، فتأمل.

إن قلت: يمکن الجمع بين الدليلين بحمل المطلق علی الحصة الفاقدة للقيد.

قلت: هو جمع تبرعي لا شاهد له.

الطريق الثاني(1): أن لنا حالتين:

الحالة الأولی: لو کان المقيد وارداً قبل انتهاء وقت البيان، فحينئذٍ لابدّ من حمل المطلق علی المقيد، أما علی مسلك الشيخ الأعظم - من إجراء مقدمات الحکمة في المراد الجدي - فلأنه لاينعقد ظهور للمطلق قبل مضيّ زمان البيان، فإذا ورد المقيد کان له ظهور من غير مزاحم، وأما علی مسلك المحقق الخراساني - من إجراء المقدمات في المراد الاستعمالي - فظهور المطلق منعقد، لکن لاحجية له في المتکلّم الذي من دأبه بيان مرامه في زمان محدد ممتد، فإذا ورد مقيد قبل انتهاء ذلك الزمان کان حجة من غير مزاحمة لعدم حجية المطلق في الإطلاق، وهذا نظير ظهور العام في العموم قبل الفحص عن المخصص حيث لايكون الظهور حجة مع انعقاده، وکالمطلق الصادر عن الهازل فهو ظاهر لکنه غير حجة.

ص: 503


1- منتقی الأصول 3: 460-464.

الحالة الثانية: لو کان المقيد وارداً بعد انتهاء وقت البيان، فقد انعقد ظهور المطلق وحجيته في الإطلاق علی جميع المسالك، وحينئذ يتنافي مع المقيّد، ولا وجه لتقديم المقيّد علی المطلق إلاّ لکونه أقوی الدليلين وذلك جمع عرفي بينهما.

إن قلت: يشکل الأمر فيما لو استلزم تأخيرُ المقيد تأخيرَ البيان عن وقت الحاجة، فيكون عند العقلاء من التعارض بينهما، مع العلم بأنّه لايكون إلاّ مع تقدم المطلق وتأخر المقيد، وذلك فيما لو کان الکلام ملقی إلی سائل لايمکن اللقاء به مرّة أخری أو کان صدورهما من إمامين (علیهم السلام) !!

قلت: ويمکن حلّ الإشکال: بما مرّ من أن الواصل إلينا هکذا، ويحتمل أن يكون الأئمة (علیهم السلام) بينوا المقيدات مع بيان المطلقات، لکن أصحاب المجاميع اختاروا ما رووه من الروايات الکثيرة إما لجهة علو السند أو لکونه أوثق أو أفصح أو لأية جهة أخری، کما يحتمل أن عدم بيان المقيّد للراوي الذي لايمکن الالتقاء به بعد ذلك للعلم بأنه يمثل الأمر بالمطلق بالفرد الواجد للقيد، ومع هذه الاحتمالات الثبوتية، لاجزم بالتعارض إثباتاً، فيكون بناء العقلاء علی الجمع العرفي بينهما حينئذٍ بحمل المطلق علی المقيد.

أو يقال: إن الأحکام کلّها صدرت من النبي (صلی الله علیه و آله) وعلّمها أمير المؤمنين والأئمة (علیهم السلام) ، لکن المصلحة کانت تقتضي بيانها تدريجياً، فيمکن تحقق المصلحة ببيان المطلق دون المقيّد في زمان ولو اقتضی تأخير البيان عن وقت الحاجة، إذ مصلحة التدرّج أهم من ذلك فتترجح حين التزاحم، وحينئذٍ فلا تعارض.

ص: 504

الشرط الثالث: كون الحكم إلزامياً

فلو تضمنا تکليفاً استحبابياً فلا تقييد، بل يحمل المقيد علی کونه أفضل الأفراد في المستحب، وعلی أشدية الکراهة في المکروه، کما لو قال: (زر الإمام الحسين (علیه السلام) ) و(زر الإمام الحسين (علیه السلام) ليلة الجمعة)، وهذا الشرط في حقيقته راجع إلی أحد الشرطين السابقين:

أما علی مبنی استفادة وحدة التکليف من خارج الدليلين، فيقال: بأنه لا دليل يدل علی الوحدة في الأحکام غير الإلزامية، فاختل الشرط الثاني، فلا يكون الحمل عرفياً حينئذٍ.

وأما علی مبنی استفادة الوحدة من نفس الدليلين، فقد ذکر المحقق النائيني(1) أن هيهنا صوراً متعددة وفي الجميع لا وجه للحمل.

1- عدم تقييد الاستحباب بسبب، مع کون القيد راجعاً إلی الموضوع المستحب، کما لو قال: (يستحب الدعاء) و (يستحب دعاء کميل)، وذلك لعدم المنافاة بينهما بعدما کان المقيد جائز الترك.

2- إذا کان التقييد في الاستحباب والمستحب، کما لو قال: (يستحب الدعاء) و (إن أردت السفر فيستحب قراءة هذا الدعاء الخاص)، وذلك لأنه لاحمل في التکليف الإلزامي علی هذا الوجه لايحمل - کما مرّ في الصورة الثالثة في الشرط الثاني - فکيف بالتکليف الاستحبابي.

3- إذا کان التقييد في الاستحباب فقط - سواء کان التقييد يقتضي المفهوم أم لا - کما لو قال: (يستحب الدعاء) وقال (يستحب الدعاء عند

ص: 505


1- فوائد الأصول 1: 585.

رؤية الهلال) أو (إن رأيت الهلال فيستحب الدعاء)، فهنا لا موجب للحمل، وذلك لمکان تفاوت مراتب الاستحباب، فلا منافاة بين الاستحباب المطلق والاستحباب المقيد، فرجع إلی عدم تحقق الشرط الأول، إذ حتی فيما يقتضی المفهوم في نفسه فإن تفاوت مراتب الاستحباب يكون قرينة علی عدم ثبوت المفهوم للقضية الشرطية، فتأمل.

وقد يستدل لذلك: بأنه کما يدل المطلق علی الترخيص في ترك الفرد المقيد بتحقيق الامتثال بغيره کذلك يدل الدليل المقيد - لكونه مستحباً - بالترخيص في ترك المقيد، فلا منافاة بينهما!!

إن قلت: إن الدليل المقيد يقتضي عدم جواز امتثال الحکم الاستحبابي بغير المقيد، لفرض أنه ظاهر في دخالة القيد فيه فينافي ما دل علی جواز الامتثال بأي فرد ولو غير المقيد.

قلت: للقيد دخالة في المرتبة لا في أصل الحکم، نعم لو قيل بظهور القيد في دخالته في أصل الحکم، فحينئذٍ يقال: إن الترخيص إنما هو في ترك الامتثال بالمقيد، لا الترخيص بالامتثال بغيره من الأفراد.

والحاصل: إن اختلاف مراتب الاستحباب قرينة عرفية علی عدم التقييد، وإن أبيت إلا عن عدم القرينية فيقال: إنه لا دليل من الخارج علی وحدة الحکمين، وفي مورد الامتثال بالمقيد يكون من تداخل المسببات أو ببقاء استحباب آخر بمطلق أو مقيد کما مرّ تفصيله في الشرط الثاني، وعليه فلا يمکن قصد امتثال الأمر بالمقيد عبر الإتيان بغير المقيّد لکونه من التشريع المحظور فتأمل.

ص: 506

الشرط الرابع: كون المطلق بدلياً

فإذا کان شمولياً کما لو قال: (أکرم العالم) و (أکرم العالم العادل)، فهل يحمل المطلق علی المقيّد؟

الأقرب عدم الحمل، وهکذا في العام والخاص المثبتين، وقد يستدل لذلك بوجوه، منها:

الوجه الأول: إن الحکم في المطلق هو لجميع الأفراد، ففي الأفراد الواجدة للقيد يكون الحکم في المقيّد تأكيداً، ولا يمکن اعتباره تأسيساً لاستلزامة الجمع بين المثلين فهو محال، وعليه فلا يمکن اعتبار القيد احترازياً، وحينئذٍ يحمل المقيّد علی کونه أفضل الأفراد.

ويرد عليه: بأن ثبوت وحدة التکليف کما تکون بالحمل علی أفضل الأفراد، کذلك تکون بحمل المطلق علی المقيد، فإن التأكيد لاينافي تقييد المطلق، بمعنی أنه کما يمکن التأكيد مع ابقاء الإطلاق، کذلك يمکن مع تقيده بأن يكون المراد الجدي من المطلق المقيد فيكون الحکم في المقيد تأكيداً له.

الوجه الثاني: إن سبب حمل المطلق علی المقيد هو دلالة الحکم فيهما علی صرف الوجود وذلك يستلزم التنافي مما يكتشف منه وحدة التکليف، وهذا لا يجري في الإطلاق الشمولي، إذ الحکم لم يتعلق بصرف الوجود بل تعلّق بکل فرد فرد، وعليه فلا طريق لاستکشاف وحدة التکليف!

وأورد عليه: - مع قطع النظر عن الإشکال المبنائي الذي مرّ في النوع السابق - أن هناك طريقاً آخر لاستکشاف وحدة التکليف، وذلك لأنه في المقيد لا يوجد حکمان بل حکم واحد، ومن ذلك نستکشف وحدة الحکم مطلقاً، فتأمل.

ص: 507

فصل في المجمل والمبيّن

لايخفی أن العمدة في هذا البحث هو تشخيص المجملات عن المبينات جزئياً، وذلك بحث لغوي کالبحث عن معنی کلمة الصعيد مثلاً، فلا يرتبط بالبحث الأصولي.

وإنما المهم هو البحث عن قواعد کلية تنفعنا في رفع الإجمال عن المجملات.

وأما معنی المجمل فهو اللفظ الذي لا ظاهر له، وعکسه المبيّن، وقد يكون الإجمال في الجملة بعدم ظهورها في شيء حتی مع ظهور مفرداتها في معانيها.

والمجمل علی قسمين: ما لم يكن له ظاهر، أو کان له ظاهر لکن علمنا بعدم إرادته.

أما القسم الأول: فتارة يكون قباله مبيّن، کما لو ورد دليلان أحدهما: (الکر ستمائة رطل) و الآخر: (الکر ألف ومئتا رطل بالعراقي)، فالأول مجمل لاظاهر له لأن الرطل إما عراقي وإما مکّي، والمکي ضِعف العراقي، فيبحث في إمکان حمل الأول علی الرطل المکي ليتطابق مع الثاني، من دون أن يكون جمعاً تبرعياً.

وتارة في قباله مجمل آخر: کالمثال فلو وصله أمر المولی بشراء رطل

ص: 508

وبشراء رطلين من الطعام، فهل يمکنه رفع الإجمال بحمل الأقل علی المکي والأکثر علی العراقي ليتطابقان، أم أن ذلك جمع تبرعي لايرتفع به الإجمال!!

قد يقال(1): بإمکان رفع الإجمال عبر إحدی طريقتين:

الأولی: عبر جريان أصالة الجد فيهما، فيحملان علی معنی واحد ينسجم معها، لأن أيّ حمل آخر ينافي أصالة الجد فيهما.

ويشکل: بأن أصالة الجد أصل عقلائي، والعقلاء إنّما يجرونها فيما لو علموا بالمراد الاستعمالي، فيلتزمون بأن المراد الاستعمالي هو المراد جداً، لکن لايعلم اجراؤهم هذه الأصالة لمجرد رفع التناقض بين کلامي المولی مع عدم معرفتهم بالمراد الاستعمالي!

الثانية: الجمع بين جريان دليل الحجية في کليهما وبين دلالة الاقتضاء بصدقهما، حيث يحتمل أن يكون المراد في کل منهما ما يوافق الآخر.

وفيه: أولاً: إن الإجمال يمنع عن الحجية، لحجية الظواهر دون المجملات، فلا يجري دليل الحجية فيهما ليراد جمعه مع دلالة الاقتضاء.

وثانياً: بأن هذا جمع عقلي لا عرفي، فلا اعتبار به، وإنما تجري دلالة الاقتضاء لو قطعنا بصدور الدليلين مع القطع بجهة صدورهما، بل يمکن عدم جريانه حينئذٍ لأن صدق صحة الکلام واقعاً لا ينافي عدم حجيته لدی الإجمال، فتأمل.

ص: 509


1- بحوث في علم الأصول 3: 444.

وأما القسم الثاني: فإن قام دليل لتعيين المراد لزم حمل اللفظ عليه، وإلاّ بقي مجملاً، ومن ذلك متشابهات القرآن حيث لأکثرها ظاهر يقطع بعدم کونه مراداً وقد بيّنت الآيات المحکمة المراد من المتشابهات، کقوله تعالی: {إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}(1) وقوله تعالی: {لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَٰرُ}(2).

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام علی المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلی الله علی محمد وآله الطاهرين، ولعنة الله علی أعدائهم أجمعين.

30 / ج 1 / 1436

ص: 510


1- سورة القيامة، الآية: 23.
2- سورة الأنعام، الآية: 103.

فهرست الموضوعات

فصل في الترتب

المبحث الأول: في شروط تحقق موضوع الترتب... 5

الشرط الأول: وجود تضاد بين الأمرين... 5

الشرط الثاني: كون التكليفين إلزاميين... 7

الشرط الثالث: كون المتعلقين عباديين أو كون المهم عبادياً... 8

الشرط الرابع: أن لا يكون المهم مشروطاً بالقدرة الشرعية... 10

الشرط الخامس: أن يكون التضاد بين المتعلقين اتفاقياً... 10

الشرط السادس: أن لا يكون المهم ضروري الوجود عند العصيان... 12

الشرط السابع: أن يكون الخطاب بالأهم منجزاً على المكلف... 14

الشرط الثامن: وصول التكليف بنفسه... 15

الشرط التاسع: عدم أخذ الجهل في موضوع الأمر الترتبي... 15

الشرط العاشر: كون المتزاحمين في عرض واحد زماناً... 16

المبحث الثاني: في أدلة استحالة الترتب... 20

الدليل الأول: طلب الضدين... 20

الدليل الثاني: تعدد استحقاق العقاب... 31

الدليل الثالث: النهي عن المهمّ... 39

المبحث الثالث: أدلة إمكان الترتب، ومناقشتها... 40

الدليل الأول... 40

المقدمة الأولى... 40

المقدمة الثانية... 40

ص: 511

المقدمة الثالثة... 44

المقدمة الرابعة... 44

المقدمة الخامسة... 47

المطلب الأول... 47

المطلب الثاني... 49

الدليل الثاني... 50

الدليل الثالث... 53

الدليل الرابع... 54

المبحث الرابع: ما يُناط به الأمر بالمهم... 56

الاحتمال الأول: الإناطة بالعصيان بنحو الشرط المقارن... 56

الاحتمال الثاني: الإناطة بالعصيان على نحو الشرط المتقدّم... 59

الاحتمال الثالث: إناطته بالعصيان على نحو الشرط المتأخر... 60

الاحتمال الرابع: إناطته على العزم بالعصيان، أو عدم العزم على الامتثال... 61

الاحتمال الخامس: الإناطة باتصاف المكلف بلحوق العصيان... 63

فصل هل يجوز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه

فصل في تعلق الأمر بالطبائع أو الأفراد

فصل في نسخ الوجوب

المرحلة الأولى: في دلالة اللفظ... 74

المرحلة الثانية: في مقتضى الأصل العملي... 75

فصل في الوجوب التخييري

البحث الأول: في إمكانه... 78

البحث الثاني: في التخيير بين الأقل والأكثر... 87

فصل في الوجوب الكفائي

الاحتمال الأول: تعدد الغرض... 91

ص: 512

الاحتمال الثاني: وحدة الغرض... 92

الطريق الأول... 93

الوجه الأول... 93

الوجه الثاني... 93

الوجه الثالث... 93

الطريق الثاني... 94

الطريق الثالث... 94

الطريق الرابع... 95

الطريق الخامس... 96

تكملة... 96

فصل في الواجب الموسع والمضيق

البحث الأول: في رجوع القيد الزماني إلى المادة أو الهيأة... 99

البحث الثاني: في دفع الإشكال العقلي عليهما... 99

البحث الثالث: في القضاء خارج الوقت... 101

1- أما مرحلة الثبوت... 102

2- وأما مرحلة الإثبات... 103

البحث الرابع: في قيام الدليل على القضاء... 104

البحث الخامس: في استصحاب الوجوب... 106

البحث السادس: في استصحاب الموضوع... 107

فصل في الأمر بالأمر بالشيء

المطلب الأول: في مرحلة الثبوت... 109

المطلب الثاني: في مرحلة الإثبات... 110

المطلب الثالث: في الثمرة... 110

فصل في الأمر بعد الأمر

ص: 513

المقصد الثاني في النواهي وفيه فصول

فصل في صيغة النهي

البحث الأول: في مدلول الصيغة... 117

البحث الثاني: كيفية الامتثال في النهي... 118

الأمر الأول: في تحقق امتثال النهي... 119

الأمر الثاني: في الثواب على الامتثال... 120

البحث الثالث: في عموم النهي الشمولي... 120

البحث الرابع: في استمرار النهي بعد العصيان... 123

البحث الخامس: في الحرمة الكفائية والتخييرية... 124

فصل في اجتماع الأمر والنهي

البحث الأول: في عنوان المسألة... 126

البحث الثاني: في الفرق بين هذه المسألة، ومسألة اقتضاء النهي للفساد... 128

الفرق الأول... 128

الفرق الثاني... 129

الفرق الثالث... 130

الفرق الرابع... 130

الفرق الخامس... 131

البحث الثالث: في أصولية المسألة... 132

البحث الرابع: في عقلية المسألة... 135

البحث الخامس: في عموم البحث لكل أنواع الواجب والحرام... 136

البحث السادس: في أخذ قيد المندوحة... 137

البحث السابع: في عموم النزاع سواء قلنا بأن التكاليف تتعلق بالطبائع أم بالأفراد... 139

البحث الثامن: الملاك في الاجتماع... 141

المرحلة الأولى: في مقام الثبوت... 141

المرحلة الثانية: في مقام الإثبات... 144

ص: 514

البحث التاسع: الحكم في التزاحم الملاكي... 146

البحث العاشر: في ثمرة بحث الاجتماع... 150

البحث الحادي عشر: دليل عدم إمكان الاجتماع... 156

البحث الثاني عشر: أدلة الإمكان... 161

البحث الثالث عشر: في العبادات المكروهة... 167

القسم الأول: العبادة التي لها بدل... 168

القسم الثاني: العبادات المكروهة التي لا بدل لها... 171

القسم الثالث: ما لو كانت الكراهة على عنوان آخر غير العبادة... 174

البحث الرابع عشر: في الاضطرار إلى الحرام... 174

القسم الأول: الاضطرار لا بسوء الاختيار... 175

القسم الثاني: الاضطرار بسوء الاختيار... 176

فصل في التزاحم

المبحث الأول: في شرائط تحقق موضوع التزاحم... 185

المبحث الثاني: في الفرق بين التزاحم والتعارض... 187

الفرق الأول: في مورد التنافي والتصادم... 188

الفرق الثاني: في الحاكم بالترجيح والتخيير... 190

الفرق الثالث: في جهات التقديم... 192

الأول: تقديم ما ليس له بدل على ما له بدل... 192

الثاني: تقديم المشروط بالقدرة العقلية على المشروط بالقدرة الشرعية... 194

المطلب الأول: في المقصود بهما... 194

المطلب الثاني: في دليل التقديم... 194

المطلب الثالث: في دفع الإشكالات... 196

المطلب الرابع: لو كان المشروط بالقدرة الشرعية أهم... 199

المطلب الخامس: اشتراط العلم بهما... 201

المطلب السادس: في كيفية إحراز كون القدرة عقلية أم شرعية... 202

ص: 515

المطلب السابع: لو كان كلاهما مشروطاً بالقدرة العقلية... 203

الثالث: الترجيح بالأسبق زماناً... 204

فرع: في مثال تزاحم النذر والحج... 208

الرابع: الترجيح بالأهمية أو احتمالها... 210

تتمة: في كيفية إحراز الأهمية... 212

فصل في اقتضاء النهي للفساد

البحث الأول: في أنواع النهي... 215

النوع الأول: النهي الإرشادي... 215

النوع الثاني: النهي التنزيهي... 216

النوع الثالث: النهي التحريمي المولوي... 218

النوع الرابع: النهي الغيري... 219

البحث الثاني: في معنى العبادة والمعاملة... 222

1- أما العبادة... 222

2- وأما المعاملة... 223

البحث الثالث: في كون الصحة من الأمور المجعولة شرعاً أم لا؟... 224

البحث الرابع: في مقتضى الأصل حين الشك في اقتضاء النهي للفساد... 229

البحث الخامس: في أقسام متعلق النهي في العبادة... 232

1- النهي عن نفس العبادة... 234

2- النهي عن جزء العبادة... 234

3- النهي عن شرط العبادة... 237

5/4- النهي عن وصف العبادة... 238

البحث السادس: في إمكان تعلق النهي بالعبادة - ثبوتاً -... 240

البحث السابع: من أدلة فساد العبادة مع النهي عنها... 244

البحث الثامن: حالات المكلّف... 247

البحث التاسع: في النهي عن المعاملة... 249

ص: 516

القسم الأول: النهي عن السبب بذاته... 249

القسم الثاني: النهي عن ذات المسبَّب... 250

الأمر الأول: في إمكان النهي عن المسبَّب... 250

الأمر الثاني: في الأقوال في المسألة... 251

القسم الثالث: النهي عن آثار المسبّب... 255

القسم الرابع: النهي عن التسبيب... 256

تتمة... 257

المقصد الثالث في المفاهيم وفيه مقدمتان وفصول

المقدمة الأولى: في تعريف المفهوم وتمييزه عن المنطوق... 261

المقدمة الثانية: في سبب دلالة الجملة على المفهوم... 264

فصل في مفهوم الشرط

البحث الأول: في المنطوق... 267

البحث الثاني: في كيفية استفادة المفهوم... 270

أما الأمر الأول... 270

وأما الأمر الثاني... 279

البحث الثالث: فيما لا مفهوم له من القضايا الشرطية... 284

البحث الرابع: فيما لو كان الجزاء كلياً له مصاديق... 286

البحث الخامس: لو تعدد الشرط مع اتحاد الجزاء في جملتين... 289

البحث السادس: في تداخل الأسباب والمسببات... 293

المقام الأول: في تداخل الأسباب... 293

المطلب الأول: في أدلة عدم التداخل... 293

المطلب الثاني: في مقتضى الأصل العملي... 296

المطلب الثالث: لو لم يمكن تكرار الجزاء... 298

المطلب الرابع: في مثال التداخل في الوضوء... 299

ص: 517

المطلب الخامس: فيما ذكره فخر المحققين... 302

المقام الثاني: في تداخل المسببات... 304

تتمتان... 306

فصل في مفهوم الوصف

فصل في مفهوم الغاية

المطلب الأول: في دلالتها على المفهوم... 314

المطلب الثاني: في دخول الغاية في حكم المغيى أو خروجها عنه... 317

فصل في مفهوم الاستثناء

البحث الأول: في حكم المستثنى... 319

البحث الثاني: من أدلة الطرفين... 320

البحث الثالث: الاستثناء من النفي أو الإثبات... 321

البحث الرابع: هل الدلالة بالمنطوق أم المفهوم... 322

البحث الخامس: في الدلالة على الحصر بغير أدوات الاستثناء... 323

فصل في مفهوم اللقب والعدد

المقصد الرابع في العام والخاص وفيه فصول

البحث الأول: في تعريف العام... 327

البحث الثاني: في أقسام العموم... 327

المطلب الأول: في أقسام العموم... 327

المطلب الثاني: دوران الأمر بين العموم الاستغراقي أو البدلي... 329

المطلب الثالث: في الأعداد... 330

البحث الثالث: في أدوات العموم... 331

1- فمنها: (كل)... 331

المقام الأول: في وجه دلالة (كل) على العموم... 331

المقام الثاني: في استيعاب الأجزاء والأفراد... 335

ص: 518

2- ومنها: النكرة في سياق النفي أو النهي... 336

المطلب الأول: في الدلالة على العموم... 336

المطلب الثاني: قابلية تخصيص هذا العموم... 338

3- ومنها: الجمع المحلّى باللام... 339

المطلب الأول: دلالته على العموم... 339

المطلب الثاني: في بيان سبب دلالته على العموم... 340

المطلب الثالث: في عموم المدخول أو المراد... 344

فصل في العام المخصَّص

المقام الأول: إنكار المجازية... 346

المقام الثاني: التسليم بالمجازية... 352

فصل في إجمال المخصص

المقام الأول: في الشبهة المفهومية... 355

المقام الثاني: في الشبهة المصداقية... 358

1- أما المتصل... 359

2- وأما المنفصل... 359

المورد الأول: المخصص اللفظي... 359

المورد الثاني: في المخصص اللبي... 368

المقام الثالث: التمسك بالاستصحاب... 372

المطلب الأول: في تنقيح حكم العام... 372

المطلب الثاني: في نفي حكم الخاص... 381

فصل في الدوران بين العام وبين استصحاب حكم المخصص

فصل في دوران الأمر بين التخصيص والتخصص

المطلب الأول: العلم بخروج فردٍ بعينه عن حكم العام... 386

المطلب الثاني: لو تردد الخارج بين فرد العام وفرد غيره... 387

ص: 519

المطلب الثالث: في التمسك بعمومات الأدلة الثانوية... 388

فصل في وجوب الفحص عن المخصص قبل العمل بالعام

البحث الأول: في أصل وجوب الفحص... 392

البحث الثاني: في مقدار الفحص... 395

فصل في عموم الخطاب للمشافهين وغيرهم

البحث الأول: في تحرير محل الكلام... 396

البحث الثاني: في ثمرة عموم الخطاب أو عدمه... 402

فصل في العام المتعقب بالضمير الراجع إلى بعضه

المطلب الأول: في تحرير محل النزاع:... 405

المطلب الثاني: في علاج التعارض... 406

تتمتان... 409

فصل في تخصيص العام بالمفهوم

البحث الأول: تخصيص العام بمفهوم الموافقة... 411

البحث الثاني: تخصيص العام بمفهوم المخالفة:... 413

تتمتان... 416

فصل في الاستثناء المتعقب لجمل متعددة

البحث الأول: في مرحلة الثبوت... 420

البحث الثاني: في مرحلة الإثبات... 422

البحث الثالث: مقتضى الأصل العملي... 427

فصل في تخصيص القرآن بخبر الواحد

فصل الدوران بين التخصيص والنسخ

تتمة: بحث حول البداء... 440

ص: 520

المقصد الخامس في المطلق والمقيد والمجمل والمبيّن وفيه فصول

مطالب تمهيدية... 445

المطلب الأول: في تعريفهما... 445

المطلب الثاني: في الإطلاق والتقييد في الجمل التركيبية... 447

المطلب الثالث: في الإطلاق حسب الحالات المختلفة... 448

المطلب الرابع: في التقابل بين الإطلاق والتقييد... 449

فصل في أقسام المطلق

الأول: اسم الجنس... 452

الثاني: عَلَم الجنس... 455

الثالث: المفرد المعرّف بلام الجنس... 458

الرابع: النكرة... 461

فصل في كيفية استفادة الإطلاق

المبحث الأول: في منشأ الإطلاق اللفظي... 465

المبحث الثاني: في مقدمات الحكمة... 468

المقدمة الأولى: كون المتكلّم في مقام البيان... 469

المطلب الأول: في المقصود من (مقام البيان)... 469

المطلب الثاني: البيان من كل الجهات... 472

المطلب الثالث: الأدلة الواردة في بيان أصل التشريع... 474

المطلب الرابع: الحاجة إلى هذه المقدمة... 475

المطلب الخامس: الشك في كون المتكلّم في مقام البيان... 476

الصورة الأولى... 476

الصورة الثانية... 481

المقدمة الثانية: أن لايكون هناك ما يوجب التعيين... 481

المقدمة الثالثة: عدم وجود قدر متيقن في مقام التخاطب... 483

المبحث الثالث: في مانعية الانصراف عن التمسك بالإطلاق... 488

ص: 521

المبحث الرابع: تكملة مقدمات الحكمة... 491

المبحث الخامس: نتيجة المقدمات... 492

المبحث السادس: في الإطلاق المقامي... 493

فصل في حمل المطلق على المقيد

الشرط الأول: التنافي بين المطلق والمقيد... 495

الشرط الثاني: وحدة الحكم في المطلق والمقيّد... 499

الشرط الثالث: كون الحكم إلزامياً... 505

الشرط الرابع: كون المطلق بدلياً... 507

فصل في المجمل والمبيّن

فهرست الموضوعات... 511

ص: 522

المجلد 3

هویة الکتاب

نبراس الاصول

الجزء الثالث

السید جعفر الحسینی الشیرازی

ص: 1

اشارة

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين

ص: 3

ص: 4

المقصد السادس في الحكومة والورود

اشارة

ص: 5

ص: 6

تمهيد

إن تعدّد الأدلة أو الأصول قد يوجب تعارضاً مستقراً بينهما أو تزاحماً، فيقتضي ذلك ترجيح أحدهما على الآخر أو تساقطهما أو التخيير بينهما، وقد لا يوجب تعارضاً ولا تزاحماً فيتقدم أحدهما على الآخر لجهة من الجهات، ومن هذا الحكومة والورود، فلا بأس بتعريفهما وبيان فرقهما عن التخصيص والتقييد والتخصص.

1- أما الحكومة: فهي نظر أحد الدليلين بلفظه إلى الآخر، أو نظره إلى ارتكاز ذهني، وبذلك يتصرف الدليل في حكم الدليل الآخر أو في ذلك الارتكاز، وذلك يكون عبر تضييق الموضوع، أو عبر توسيعه، أو عبر بيان عدم شمول الحكم لبعض أفراد الموضوع بلسان مسالم غير معارض، فمن الأول: قوله (علیه السلام): «لا سهو في النافلة»(1)، وفيه رفع أحكام الشك عنها الثابتة بأدلة الشكيّات بلسان نفي الموضوع، ومن الثاني: قوله (علیه السلام): «الطواف بالبيت صلاة»(2)، بتوسيع الصلاة ليشمل الطواف ليجري عليه بعض أحكام الصلاة كوجوب الوضوء، ومن الثالث قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٖ}(3)،

حيث يرفع الأحكام الأولية في حالة الحرج بلسان ناظر مسالم،

ص: 7


1- تهذيب الأحكام 3: 54.
2- مستدرك الوسائل 9: 410.
3- سورة الحج، الآية: 78.

ولا بد في القسمين الأولين من نظر الدليل الحاكم على الدليل المحكوم، وأما في الثالث فيكفي فيه النظر إلى المرتكزات الذهنية للمخاطب أو توهماته حتى وإن لم يكن هناك دليل آخر ينظر إليه، كما سيأتي تفصيله.

2- وأما الورود: فهو خروج الشيء عن موضوع أحد الدليلين حقيقة بعناية التعبد بالآخر، فالورود يكون بسبب التعبد في موضوع بحيث يوجب خروج بعض الأفراد عن الدليل الآخر حقيقة، مثلاً حجية الأمارات أمر تعبدي، وهو بيان قطعاً، فيوجب خروجها حقيقة عن موضوع (قبح العقاب بلا بيان).

3- وأما التخصّص: فهو خروج الأفراد عن موضوع الدليل حقيقة وبالذات، من غير حاجة إلى تعبد، مثل خروج الجاهل تكويناً عن موضوع قول المولى: (أكرم العلماء). ومثل خروج الصوم عن موضوع قوله: {أَقِمِ الصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ الَّيْلِ}(1)

فهذا وإن لم يكن خروجاً تكوينياً إلاّ أنه خروج حقيقي عن ماهية الصلاة التي هي أمر اعتباري.

4- وأما التخصيص: فهو نفي الحكم عن بعض أفراد العام من غير تصرف في الموضوع ويكون ذلك بنحو المعارضة غير المستقرة من غير مسالمة، مع تقدم الخاص بحكم العقل بعدم إرادة العموم من العام حسب المراد الجدي.

5- وأما التقييد: فهو كالتخصيص إلاّ أنه بالنسبة إلى المطلق.

ونتيجة الورود كنتيجة التخصّص، ونتيجة الحكومة كنتيجة التخصيص

ص: 8


1- سورة الإسراء، الآية: 78.

في غير الحكومة التوسيعيّة.

6- وقد أضاف السيد الأخ: «التخريج، وهو كالورود إلاّ أن الخروج ليس بعناية التعبد، كنسبة الأدلة الموجبة للعلم - الذي هو حجة بالذات من غير عناية التعبد - مع الأصول العملية، فإنها رافعة لموضوعها بالذات»(1)، فيكون التخريج برزخاً بين الورود والتخصّص، فتأمل.

والكلام في هذا المقصد في الأولين.

ص: 9


1- كتاب التعادل والتراجيح، الحكومة والورود: 9 (مخطوط).

فصل فی الحكومة

اشارة

والكلام فيها في ضمن مباحث:

المبحث الأول: في تقسيمات الحكومة
اشارة

وهي تقسيمات متعددة، وقد يتداخل بعضها، وهي تارة باعتبار الموضوع أو الحكم، وتارة باعتبار الإثبات أو النفي، وتارة باعتبار الواقع أو الظاهر، وتارة يرتبط بكيفيتها بنفسها، وغير ذلك.

ويمكن جمع كل هذه التقسيمات في عبارة واحدة بأن يقال: إن الحكومة إما بلسان التفسير أو التنزيل أو السلب، وهي إما واقعية أو ظاهرية، والواقعية إما في الموضوع أو في الحكم، وفيهما إما للتضييق أو التوسعة، وما في الموضوع إما بيان الفردية أو عدمها حقيقة أو ادعاءً أو اعتباراً أو تنزيلاً من غير بيان أنه حقيقي أو ادعائي أو اعتباري، وما في الحكم إما إثبات الحكم نفسه أو حكم مماثل، كما أنه قد يكون نفي الحكم الثابت أو نفي طبيعة توهم تعلّق الحكم بها.

التقسيم الأول: تقسيمها إلى حكومة واقعية، وحكومة ظاهرية

1- أما الحكومة الواقعية: فهي التي لم يؤخذ في الدليل الحاكم الشك بالدليل المحكوم، بل يكون الدليلان - الحاكم والمحكوم - في رتبة واحدة.

مثل قوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَوٰاْ}(1)،

وقوله (علیه السلام): «ليس بين الرجل وولده

ص: 10


1- سورة البقرة، الآية: 275.

ربا»(1)،

حيث لم يؤخذ في الحديث الشك في موضوع الربا ولا في حكمه، بل أخرج الربا بينهما عن موضوع الربا تعبداً لكي يخرج عن حكمه بالحرمة، فالدليل الحاكم يبيّن الحكم الواقعي لمصاديق من الموضوع، فلا فرق بين حالة العلم والجهل كسائر الأحكام الواقعية.

2- وأما الحكومة الظاهرية: فهي التي أخذ في الدليل الحاكم الشك بموضوع حكم الدليل المحكوم، وعليه فيكون موضوع الدليل الحاكم متأخراً رتبة، فلا توسعة ولا تضييق واقعاً؛ لأن الشك قد أخذ فيه، كسائر الأحكام الظاهرية حيث يترتب عليها آثار الواقع ما لم ينكشف الخلاف.

مثلاً: استصحاب الملكية يُخرج الشيء عن موضوع أدلة عدم جواز بيع الوقف؛ لأن الاستصحاب في ظرف الشك يُخرج الشيء عن كونه وقفاً، لكنه إخراج في الظاهر ما دام الشك مستمراً، فلو علم بالوقف أو قامت به الأمارة زال الاستصحاب لتحقق غايته في قوله (علیه السلام): «ولكن ينقضه بيقين آخر»(2).

قال المحقق النائيني: «إن الحكومة الواقعية توجب التوسعة والتضييق في الموضوع الواقعي بحيث يتحقق هناك موضوع آخر واقعي في عرض الموضوع الأول، كما في قوله (علیه السلام): «الطواف بالبيت صلاة»(3)،

وهذا بخلاف الحكومة الظاهرية... فإنه ليس في الحكومة الظاهرية توسعة وتضييق واقعي،إلاّ على بعض وجوه جعل المؤدّى الذي يرجع إلى التصويب، وأما بناءً على

ص: 11


1- الكافي 5: 147؛ جامع أحاديث الشيعة 23: 492، وفيه: «ليس بين الوالد وولده رباً».
2- تهذيب الأحكام 1: 8.
3- مستدرك الوسائل 9: 410.

المختار من عدم جعل المؤدّى وأن المجعول فيها الوسطية في الإثبات والكاشفية والمحرزية، فليس هناك توسعة وتضييق واقعي، وحكومتها إنما تكون باعتبار وقوعها في طريق إحراز الواقع في رتبة الجهل به، فيكون المجعول في باب الطرق والأمارات والأصول في طول الواقع لا عرضه»(1).

والحاصل: أن الحكومة الظاهرية ليست نفياً للحكم الواقعي، وإلاّ لزم التصويب، كما أنه لا يثبت بها حكم ظاهري لعدم القول به، بل مرجعها إلى نفي الحكم ظاهراً بمعنى أن احتماله ليس بمنجّز، أو إثبات وظيفة للمكلّف بالتعامل مع الحالة كما لو كان الحكم الواقعي ثابتاً، فمن الأول حكومة مثل قوله (علیه السلام): «كل شيء لك حلال»(2) على أدلة الأحكام الواقعية حين الشك فيها، ومن الثاني حكومة مثل استصحاب الملكية على أدلة الوقف حين الجهل به.

ثم إن المحقق الروحاني استثنى من ذلك ما إذا لم يكن لضد الواقع أثر شرعي، فذهب إلى بقاء الحكومة حتى بعد زوال الشك - وإن لم تكن حكومة اصطلاحية لعدم وجود النظر فيها - قال: «[وتارة] لا يكون للموضوع الظاهري الثابت بالدليل ضدٌ ذو أثر مناقض لأثره، نظير الطهارة بلحاظ الشرطية للصلاة، فإنه ليس للنجاسة أثر يناقض الشرطية، وهو المانعية عن الصلاة؛ إذ لم تؤخذ النجاسة مانعاً، بل المأخوذ هو الطهارة في موضوع الشرطية - وقد تقرر أن أحد الضدين إذا أخذ شرطاً امتنع أخذ الضد الآخر مانعاً لتساوي الضدين رتبة، واختلاف الشرط والمانع في الرتبة - ... كان

ص: 12


1- فوائد الأصول 3: 19-20.
2- الكافي 6: 339.

ثبوت ذلك الأثر للموضوع المجعول ثبوتاً واقعياً، بمعنى أنه يثبت له في مرحلة الواقع ونفس الأمر؛ إذ هو فرد من أفراد موضوعه ولو في ظرف معيّن، فيثبت له واقعاً بمقتضى دليله الخاص، ومن هذا القبيل الطهارة بالنسبة إلى الشرطية في الصلاة، فإن الدليل الذي يثبت الطهارة ويكوّنها ويعتبرها في مرحلة الشك يقتضي ثبوت الشرطية للطهارة واقعاً؛ لأن موضوعها هي الطهارة وهي أمر اعتباري، واعتبار الشارع لها في مرحلة الشك تحقق فرد تكويني لها، فتثبت له واقعاً من دون مانع، فيكون حال دليل الطهارة حال الدليل المتكفل اعتبار الطهارة إذا طهر النجس في الكرّ في ثبوت الشرطية لها واقعاً؛ لأنها فرد من الموضوع»(1).

وقال أيضاً: «[ولا تصويب فيه]؛ إذ لا مانع من ثبوت الحكم واقعاً للموضوع باعتبار عدم ترتب الأثرالمناقض على ضده - لو كان ثابتاً في الواقع - مع وجود المقتضي وهو كونه فرداً للموضوع تكويناً، فحينئذٍ ثبوت الحكم ثبوتاً واقعياً لا يتصور فيه انكشاف الخلاف، بل يرتفع بارتفاع موضوعه لانكشاف الخلاف في موضوعه»(2).

وحاصله: أن الشرط الواقعي للصلاة هي الطهارة - سواء كانت واقعية أم ظاهرية - ، فكما يتحقق الشرط مع غسل المتنجس بالكر، كذلك يتحقق باستصحاب الطهارة، وأما مع وجود أثر مناقض للضد فيتعارض الأثران والترجيح لدليل الحكم الواقعي.

ص: 13


1- منتقى الأصول 2: 50-51.
2- منتقى الأصول 2: 52.

ويرد عليه: أولاً: إن كون الطهارة اعتباراً شرعياً - لو فرض صحته وعدم كونها واقعاً كشف عنه الشارع - لا يلزم منه جعل فرد تكويني لها باعتبار آخر، وذلك للفرق بين المعت-بَرين - بالفتح - لأن أحدهما اعتبار واقعي لا يرتبط بحالة الشك، والآخر اعتبار ظاهري خاص بحالة الشك، ومجرد اعتباريتهما لا يكفي في جعل أحدهما مصداقاً للآخر، وعليه فحيث إن الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعية فالطهارة الظاهرية ليست طهارة وإنما توهم طهارة، والاعتبار في حالة الشك لا يجعلها طهارة وإنما يبيّن الوظيفة العملية.

والحاصل: أن ظاهر أخذ الشارع شيئاً في الموضوع هو أخذ ذلك الشيء بوجوده الواقعي لا بوجوده المعلوم.

وثانياً: إن التفريق بين وجود أثر مناقض للضد وعدم وجوده لا وجه له؛ إذ مع وجود أثر مناقض للضد يلزم دخولهما في باب التزاحم، لا التعارض ومن ثم ترجيح الحكم الواقعي لئلا يلزم التصويب! وذلك لأنه على كلامه كلاهما أمران اعتباريان، ففي المثال: الملكية اعتبارية، والوقفيّة أيضاً اعتبارية، فاعتبار الملكية بالاستصحاب يقتضي ثبوت أثرها واقعاً وهو صحة البيع، واعتبار الوقفية يقتضي ثبوت أثرها أيضاً وهو بطلان البيع، فيتزاحمان لكون الأثرين واقعيين، ولا تصويب هنا؛ وذلك لتحقق موضوع الأثر الواقعي، فتأمل.

وثالثاً: إن الطهارة الظاهرية لا تنسجم مع مبنى التنجيز والتعذير، فلا حكم ظاهري للشارع بها، ليترتب عليها آثار الطهارة واقعاً.

وعليه فإن الحكم بصحة الصلاة إنما هو بالدليل الخاص الدال على رفع الشارع يده عن شرطية الطهارة من الخبث في حالة الجهل به، فتأمل.

ص: 14

التقسیم الثاني: تقسيمها إلى حكومة توسيعيّة وتضييقيّة

1- أما التوسيعيّة: فهي إدخال ما ليس من الموضوع فيه، ليشمله حكمه، وذلك بأن ينزّل شيئاً منزلة شيء آخر بغرض شمول حكمه له، وبعبارة أخرى: إثبات الحكم بلسان إثبات الموضوع.

ومثاله: «الطواف بالبيت صلاة»، بغرض إثبات بعض أحكام الصلاة كالطهارة من الحدث والخبث للطواف.

ومثل: (الفقاع خمر) ، لإثبات أحكام الخمر كالحرمة والحدّ عليه، وهناك احتمال آخر فيه وسيأتي.

2- وأما التضييقيّة: فهي إخراج بعض أفراد الموضوع عنه كي لا يشمله حكمه، وبعبارة أخرى: نفي الحكم بلسان نفي الموضوع.

ومثاله: (لاربا بين الوالد والولد)، حيث يراد إثبات جواز أخذ الوالد الزيادة عن ولده ولكن بلسان نفي كونه من الربا.

وغير خفي أن كلا القسمين يرتبطان أولاً وبالذات بالموضوع - توسعةً أو تضييقاً - ولكن المقصد الأساسي هو إثبات الحكم أو نفيه.

وقد يشتمل الدليل الحاكم على كليهما بأن يكون تضييقاً في موضوع دليل وتوسعةً في موضوع دليل آخر، كما لو قال: (ابن المسلم مسلم) فالإسلام باعتبار كونه اعتقاداً بالقلب وإقراراً باللسان لا يتصوّر في الرضيع مثلاً، إلاّ أن هذا الدليل يوسّع الموضوع - وهو المسلم - ليشمله، والغرض إثبات أحكام المسلم عليه كالطهارة والإرث ونحو ذلك، كما أنه يضيّق موضوع أدلة غير المسلم بحيث لا تشمل أولاد المسلمين، والغرض نفي أحكامهم عنهم كالنجاسة وعدم إرثهم من المسلمين، وغير ذلك، فتأمّل.

ص: 15

وفي هذه الحالة قد تكون التوسعة والتضييق في عرض واحد، وقد يراد أحدهما بالأصالة والآخر بالعرض.

التقسیم الثالث: تقسيمها إلى شرح عقد الوضع وشرح عقد الحمل

1- وشرح عقد الوضع: بأن يكون نظر الحاكم إلى الموضوع أو متعلّقه - توسعة أو تضييقاً - .

وقد مرّ مثال الأول في التقسیم السابق، وأما مثال الثاني فكما لو قال: (أكرم العلماء) ثم قال: (إن العرفان ليست بعلم).

2- شرح عقد الحمل: بأن يكون نظر الحاكم إلى الحكم أو متعلقه - توسعة أو تضييقاً - ومثل المحقق النائيني للأول بمثل: (وجوب الإكرام ليس في مورد زيد)، وللثاني بمثل: (الإكرام ليس بالضيافة)(1)، وذلك في مثل (العلماء يجب إكرامهم).

وأشكل على المثال الأول: بأنه تخصيص وليس حكومة؛ وذلك لمعارضته مع العام، حيث إنه ينفي الحكم الذي يثبته العام بالصراحة، ولا يكفي مجرد النظر ليجعل الناظر حاكماً، بل لا بد من نظر ٍ رافع ٍ للمعارضة من بعض الجهات، كما سيأتي بيانه.

التقسیم الرابع: تقسيمها إلى إثبات الحكم نفسه أو إثبات حكم مماثل

1- إثبات نفس الحكم: في ما لو كان الموضوع في المحكوم ماهية تكوينية أو ماهية شرعية ذات حكم شرعي فيتم بالدليل الحاكم فرض فرد ليس من تلك الماهية على أنه منها، فيجري فيه نفس الحكم المذكور في

ص: 16


1- منية الطالب 3: 408-409.

المحكوم، كالمثال المتقدم في ولد المسلم.

2- إثبات حكم مماثل: في ما كان لسان الدليل في الحاكم ناظراً إلى إثبات الشرطية أو المانعية الثابتة بالدليل المحكوم، مثل: «الطواف بالبيت صلاة»، حيث احتمل البعض بأنّه يراد به إثبات شرطية الطهارة ومانعية أجزاء غير مأكول اللحم مثلاً للطواف، وهو حكم مماثل للشرطية والمانعية الثابتة للصلاة، لا أنه يراد إدخال الطواف في موضوع قوله (علیه السلام): «لا صلاة إلاّ بطهور»(1)، فتأمّل.

ولعل كيفية النظر هذه تؤثر في عموم أحكام المحكوم للحاكم أو خصوص ما فيه النظر، فعلى الأول يثبت جميع الأحكام، لظهور التنزيل في العموم بعد أن أدخل الشيء في مصاديق الموضوع، وعلى الثاني لا يثبت إلاّ الأحكام التي تمّ النظر إليها دون غيرها، وبذلك يجاب عن إشكال تخصيص الأكثر في مثل: «الطواف بالبيت صلاة»، حيث لم يثبت به للطواف إلاّ القليل من أحكام الصلاة، فتأمل.

التقسیم الخامس: تقسيمها إلى نفي الحكم الشرعي بنفسه، أو نفي طبيعة توهم تعلقها به أو معلوليتها له

1- نفي الحكم الشرعي بنفسه، كبعض موارد الأحكام الثانوية، مثل: «رفع ما استكرهوا عليه»(2) بناءً على أن متعلّق الرفع هو (حكم ما استكرهوا عليه) بتقدير حكم، فإن الحكم - في حالة الإكراه - مرفوع عن الموضوع واقعاً بالحكومة.

2- نفي الطبيعة التي قد يتوهم تسبيب الشارع لها، سواء كانت متعلقة

ص: 17


1- المحاسن 1: 78.
2- راجع الكافي 2: 463.

لحكم شرعي، كما لو قيل: (لا حج في النسيء)، أم توهم كونها معلولة للحكم الشرعي، نظير ما قد يقال في (لا ضرر) إذ الضرر ليس حكماً ولا متعلقاً لحكم، بل هو قد يترتب على الحكم الشرعي، فيكون المقصود نفي الحكم الذي يؤدّي إلى الضرر عبر نفي الضرر بنفسه.

والفرق بينهما أنه في الأول لا بد من وجود حكم شرعي منظور إليه ليتمّ نفيه عبر الدليل الحاكم، وليس كذلك في الثاني، بل يكفي فيه احتمال تشريع الحكم، وسيأتي مزيد توضيح لذلك في التقسیم الأخير حين البحث عن اشتراط النظر في الحكومة.

التقسیم السادس: تقسيمها إلى لسان التفسير والتنزيل والسلب

1- أما لسان التفسير: بأن يكون الدليل الحاكم مفسراً وشارحاً بمدلوله اللفظي للدليل المحكوم، وهذا تارة: يكون توضيحاً بأداة شارحة، وتارة: توضيحاً بقرينة المجاز، وتارة: بتحديد الحكم، والأولان يجريان في الموضوع وفي الحكم، والثالث خاص بالحكم.

مثال الأول: ما لو قال: (طهّر يدك)، ثم قال: أعني اغسلها. ومثال الثاني: ما لو قال: (اجلب أسداً)، ثم قال: يدافع عنّا، يريد به الشجاع. ومثال الثالث: (أدلة الضرر) فهي تحدّد الحكم في العناوين الأولية بلسان التفسير والتوضيح على بعض المباني.

2- وأما لسان التنزيل: فهو أن ينزل موضوعاً بمنزلة موضوع آخر، بغرض أن يشمله حكمه، كإدخال ابن المسلم في المسلم.

3- وأما لسان السلب: فهو بأن تسلب الماهية ادعاءً عن شيء وهو من مصاديقها واقعاً، بغرض أن لا يشمله حكمها، كسلب الربا عن ربا الوالد.

ص: 18

التقسیم السابع: تقسيمها باعتبار النظر والمسالمة

1- النظر: بأن يكون الدليل الحاكم ناظراً إلى الدليل المحكوم، بحيث يلغو الحاكم لولا المحكوم، وبحيث يكون الحاكم قرينة عرفية لبيان المراد من المحكوم، سواء كان تضييقاً أم توسعة أم تفسيراً، وسواء كان في الموضوع أم الحكم أم متعلقهما، والأمثلة مرّت في التقسيمات السابقة.

2- المسالمة: وذلك فيما لم يكن نظر من الحاكم إلى المحكوم لا بالمطابقة ولا بالالتزام، ولكن بالجمع بين الدليلين يتمّ تحديد المحكوم، وذلك فيما صحّ الحاكم حتى مع عدم وجود المحكوم مع عدم معارضة لسانهما عرفاً.

إذ يكفي في صحة الحاكم وجود توهم الحكم أو احتماله حتى لو لم يكن هناك عموم أو إطلاق كي يراد تحديدهما، مثل: (دليل نفي الحرج)، فهو لا ينظر إلى أدلة الأحكام الأولية - لا بالمطابقة ولا بالالتزام - بل حيث إن الناس قد يتوهمون أو يحتملون وجود أحكام حرجية في الشرع، صدر هذا الدليل لنفي هذا التوهم من غير نظر إلى أيّ دليل آخر، ولذا يصحّ هذا النفي حتى لو لم يصدر أيّ حكم أولي، وحيث إن هذا النفي لا يعارض أدلة الأحكام الأولية فلذا يحدّدها بما لو لم ينشأ منها الحرج أو لم تكن هي حرجية بنفسها.

هذا مضافاً إلى أنه في الحكومة الظاهرية قد يدل الحاكم على عدم وجود الحكم أصلاً، فلا معنى للنظر حينئذٍ مثل ما يقال في حكومة (كل شيء لك حلال) حين الشك(1).

أقول: إن في هذا التقسيم إشكالاً، لأن القائل بالمسالمة جعلها الملاك

ص: 19


1- راجع قاعدة لا ضرر ولا ضرار: 252-253.

في الحكومة فهي عنده أعم من النظر لا أنها قسيم له.

ولكن الأقوى هو كون الملاك النظر، وهو يقتضي المسالمة في جميع موارد الحكومة، وذلك لأن الحكومة أمر واقعي وليست مجرد اصطلاح أطلقه الشيخ الأعظم أو غيره، وعليه فلا بد لخروج الحاكم عن اللغوية من نظر ٍ في الدليل الحاكم، من غير فرق بين أن يكون متعلق النظر دليلاً آخر، أو ارتكازاً صار سبباً لتوهم حكم أو احتماله، فمثل: (لا حرج) ناظر إلى ذلك التوهم، ومثل: (كل شيء لك حلال) ناظر إلى احتمال وجود الحكم ولزوم الاحتياط، ولولا هذا النظر لكان الدليل لغواً، وهذا النظر هو السبب في المسالمة، فتأمل.

مضافاً إلى ما قيل: من أن النظر أعم من النظر إلى الدليل المحكوم أو النظر إلى حكمه، فتأمل.

إن قلت: لا نظر في حكومة الأمارات على الأصول العملية مع أن جمعاً من العلماء كالشيخ الأعظم ذهبوا إلى حكومتها عليها، ولذا أشكل المحقق الخراساني على الحكومة فيهما(1)، وحاصل كلامه: أن شرط الحكومة هو نظر الدليل الحاكم إلى الدليل المحكوم، ومن المعلوم أن أدلة الأمارات كمفهوم آية النبأ لا نظر لها إلى أدلة الأصول العملية مثل لا تنقض اليقين بالشك، مضافاً إلى إشكال آخر هو أن شرط الحكومة تصرف الحاكم في المحكوم ولا تصرف للأمارات في الأصول المطابقة لها، حيث لا توسعة ولا تضييق.

قلت: أولاً: قيل: بأن كلامهم في الحكومة إنما هو باعتبار أن دليل الأمارة يجعلها علماً، ففيها تنزيل غير العلم منزلة العلم، وعلى بعض المباني

ص: 20


1- راجع إيضاح كفاية الأصول 5: 191-192.

دلالة أدلة الأمارات على إلغاء احتمال الخلاف، ففي الحقيقة الحكومة ترتبط بدليل العلم ودليل الأمارة، وبهذه الحكومة يرتفع موضوع الأصول العملية فتكون الأمارات واردة عليه.

وبعبارة أخرى: هنا ورود وحكومة، فأما الحكومة فهي بين أدلة أحكام العلم وأدلة الأمارات، وأما الورود فهو بين أدلة الأمارات وأدلة الأصول العملية.

وثانياً: إن أدلة الأمارات وإن لم تكن ناظرة إلى أدلة الأصول العملية، إلاّ أنها ناظرة إلى حكمها.

وثالثاً: إن دليل الأمارات يدل على جعلها علماً - حسب بعض المباني - فهي توسيع للعلم فتكون حاكمة على أدلة الأصول التي جعلت الغاية فيها العلم مثل: (بل انقضه بيقين آخر) و(حتى تعلم أنه حرام)، فتأمل.

التقسیم الثامن: التقسيم باعتبار كيفية التوسعة والتضييق

ففي المنتقى: الدليل الثابت به توسعة موضوع الحكم الشرعي لا يخلو في مقام اللب والواقع من أحد أحوال أربعة(1):

1- أن يكون متكفلاً لبيان فردية أمر حقيقة لعنوانٍ ما مأخوذ في موضوع الحكم الشرعي، كما لو كانت فرديته لذلك العنوان أمراً مجهولاً لدى العرف، فيتكفل هذا الدليل كشفها، ولعلّ قوله (علیه السلام) في الفقاع: «هي خمر استصغرها الناس»(2) من هذا النحو، بلسان بيان أن الفقاع فرد حقيقي للخمر وإن لم يعدّه الناس من أفراده، لاستصغاره.

ص: 21


1- منتقى الأصول 6: 399-400.
2- مستدرك الوسائل 17: 73؛ وفي روايات أخرى: «هي خميرة»، الكافي 6: 423.

2- أن يكون بلسان فردية شيء ادعاءً لا حقيقةً، بأن يدعي دخول الشيء في جنس العنوان المأخوذ في موضوع الحكم مع دخوله فيه حقيقة، ثم يستعمل اللفظ الموضوع لذلك المعنون فيه ويكون استعمالاً حقيقياً؛ لأنه تصرف في أمر عقلي وهو التطبيق، لا في أمر لغوي وهو الاستعمال.

3- أن يكون متكفلاً لبيان اعتبار شيء بأنه ذلك العنوان الذي ترتب عليه الحكم أو منه، وصحة الاعتبار متوقفة على أن يكون الأثر مترتباً على الفرد الاعتباري إما بخصوصه أو مع الفرد الحقيقي، ومع عدم العلم بذلك يستكشف ترتب الأثر على الفرد الاعتباري بدلالة الاقتضاء بعد ورود دليل الاعتبار.

4- أن يكون متكفلاً لتنزيل شيء منزلة آخر في ثبوت الحكم الثابت لذلك الشيء بلا بيان أنه فرد حقيقي أو ادّعائي أو اعتباري.

وليعلم أن هذه الأحوال تتأتّى في التضييق أيضاً. انتهى.

والثلاثة الأولى ناظرة إلى الدليل، والرابعة إلى المدلول.

المبحث الثاني: في مصحّح الحكومة

إن الحكومة في واقعها هي نفي الحكم عن بعض أفراد الموضوع أو توسيعه إلى موضوع آخر، فهي في حقيقتها كالتخصيص أو التعميم، ولكن ما هو سبب العدول عن التخصيص أو عن استعمال لفظ عام للموضوعين أو إصدار حكم مماثل على الموضوع الآخر؟

قد يقال: «إن البلاغة تقتضي اختيار المتكلّم للأسلوب الصريح ورفض الأساليب الملتوية والمعقدة؛ لأن الأسلوب الصريح أسلوب طبيعي وواضح الأداء والتفهيم، ولذلك لا بدّ أن يكون العدول عن هذا الأسلوب واختيار أسلوب التنزيل والكناية في موارد الحكومة مبنياً على مصحِّح بلاغي من

ص: 22

مراعاة جهة تتوفر في هذا الأسلوب دون الأسلوب المباشر الصريح»(1).

وهذا بعد وجود مصحّح لفظي لذلك، فإذا صحّ لفظاً وكان يؤدّي غرضاً لا يؤدّيه الأسلوب الصريح استعمل المتكلم البليغ ذلك، وإلاّ فلا.

وهذا نظير المجاز، حيث لا بد من وجود علاقة المجاز ليصح لغة استعماله، ثم لا بد أن يكون للمتكلّم غرض لا يؤدّى إلاّ بالمجاز ليصح ذلك، فالشباهة في الشجاعة مصحح المجاز لغةً، وتعظيمها والمبالغة فيها مصحّحه بلاغةً.

أ- أما المصحح اللفظي في الحكومة، فوجوه، ومنها:

1- أمّا في حالة التضييق في الموضوع: فهو أن عدم ترتب أثر الماهية - ولو الاعتباري منه - على مصداق من مصاديقها يناسب ادعاء عدم تحققها خارجاً؛ لأن ما لا أثر له يكون كالعدم.

2- وأما في حالة التضييق في الحكم: كموارد لا ضرر ونفي الحرج ونحوهما فهو أن النهي عن الماهية أو عدم تشريع حكم للماهية المرغوب عنها يناسب عدم تحققها خارجاً؛ لأن النهي أو عدم التشريع كالسبب لعدم تحققها في الخارج.

3- وأما في حالة التوسيع في الموضوع: فهو أن المشاركة في الأثر تقتضي نوع اتحاد أو شبه في الموضوع فكأن أحدهما الآخر، فهو في حقيقته تشبيه الموضوع الخافي حكمه بالموضوع الظاهر حكمه.

ب - وأما المصحح البلاغي فيها، فوجوه متعددة، ومنها:

1- أما في التضييقيّة: فقد يقال: إن ارتكاز ذهن السامع قد يكون شديداً

ص: 23


1- قاعدة لا ضرر ولا ضرار: 247.

بحكم على موضوع، أو يكون العام قوياً جداً بحيث كان آبياً عن التخصيص.

فحينئذٍ قد يورث نفي الحكم عن بعض مصاديق الموضوع رفضاً من السامع لذلك التخصيص، أو استهجاناً في الكلام، فهنا مقتضى البلاغة إخراج تلك المصاديق عن الموضوع لينتفي عنه الحكم بشكل مسالم وغير صادم ولا باستهجان.

2- وفي التوسيعيّة: قد يستهين الناس بحكم لموضوع، مع عدم استهانتهم للحكم في موضوع آخر، فيراد بالحكومة ربط الحكم بما يرتكز في ذهنهم بحيث يتم في ارتكازهم ربط ما يستهينون به بما لا يستهينون به، فحينئذٍ يتم إدخال الموضوع المستهان بحكمه في الموضوع غير المستهان بحكمه، لإيجاد نفس المانع النفسي فيه، كما في: (الفقاع خمر استصغره الناس).

3- وفي نفي الحكم: كموارد لا ضرر ولا حرج قد يكون وجه الحكومة هو ضرب قاعدة عامة يتم بها حصر جميع الأحكام الأولية في غير موارد الضرر والحرج ونحوهما؛ إذ كان يصعب تخصيص كل حكم حكم، مع صعوبة إيجاد جامع عنواني لجميع مواضيع تلك الأحكام ليتم تخصيصها بكلام واحد، فتم اختيار أسلوب الحكومة؛ لأنه أوفى بالغرض.

وقد يقال: إن الغرض هو بيان عدم تناسب ثبوت الحكم في مواردها مع المصلحة العامة، فتأمل.

المبحث الثالث: في تعارض الحاكم والمحكوم وعدمه

إن تعارض الدليلين يرتبط بالمراد الجدي منهما، ومع هذا التعارض قد يكون تعارض في المراد الاستعمالي وقد لا يكون.

مثلاً: التعارض بين (أكرم الشعراء) و(لا تكرم الفساق) في الشاعر الفاسق

ص: 24

يرتبط أولاً وبالذات بمرحلة الإرادة الجدية، حيث لا يمكن إرادة الضدين واقعاً.

والتعارض في مرحلة الإرادة الجدية قد يسري إلى مرحلة الإرادة الاستعمالية كما في العام والخاص المنفصل، وقد لا يسري كما في الحاكم والمحكوم، حيث يتعارضان في الجدية ويتسالمان في الاستعمالية، وينتج من ذلك ثبوت آثار التعارض في مرحلة الإرادة الجدية مع عدم ثبوت آثاره في مرحلة الإرادة الاستعمالية، وسيأتي بيانه.

قال المحقق الإصفهاني: «فالتحقيق أن الحاكم والمحكوم لهما جهتان: أحدهما: من حيث اللّب والواقع، وهو ليس إلاّ إثبات الحكم ورفعه، والأخرى: من حيث اللسان والعنوان، وفي هذه المرحلة لا تنافي بين مدلولهما العنواني، مثلاً: (لا شك لكثير الشك) بالإضافة إلى أدلة الشكوك، ليس بحسب اللب والواقع إلاّ رفع حكم الشك عن كثير الشك، وهو منافٍ لحكم الشك الثابت بعموم دليله أو إطلاقه، كما أنه بحسب اللسان والعنوان ليس إلاّ رفع الموضوع، وأدلة الشكوك لا تتكفل إثبات الموضوع، بل إثبات حكمه، فمدلول الدليل الحاكم عنواناً لا منافي له، فلا تعارض دليلاً ودالاً ومدلولاً من حيث الحكومة، وإن كان له المعارض والمنافي مدلولاً ودالاً ودليلاً من غير جهة الحكومة»(1).

ولعلّ مراده: أنّه لا تنافي بين اللفظين والمعنيين والدليلين في مرحلة الدلالة الاستعمالية، فمثل: (إذا شككت فابن على كذا) لفظه ومعناه يرتبطان بالشاك، ومثل: (لا شك لكثير الشك) لفظه ومعناه يدلاّن على عدم كونه

ص: 25


1- نهاية الدراية 5-6: 275.

شاكاً، وعليه: فلا يوجد تصادم لا في الدال - أي اللفظ - ، ولا المدلول - أي المعنى - ، ويتبع ذلك عدم التصادم بين الدليلين، لكن في مرحلة الإرادة الجدية فإن المقصود هو عدم شمول حكم الشك لكثير الشك مع كونه شاكاً واقعاً، فحصل التعارض بين الحاكم والمحكوم في هذه المرحلة.

وهذا عكس التخصيص بالمنفصل الذي يقع التصادم فيه في كلا المرحلتين، حيث إن الخاص في مرحلة الإرادة الاستعمالية ينفي ما أثبته العام أو يثبت مانفاه بشكل مباشر، مضافاً إلى وجود التعارض في مرحلة الإرادة الجدّية أيضاً.

وعليه: فلا يفترق التخصيص عن الحكومة التضييقية - سواء في عقد الوضع أم عقد الحمل - من حيث الواقع، وإن اختلفا من حيث الأسلوب، ففي مثل العام: (أكرم العلماء) لا فرق واقعاً بين الحاكم (الفاسق ليس بعالم)، وبين الخاص (لا تكرم فساق العلماء)، وإن اختلفا من حيث اللسان. نعم، لا تعارض في الحكومة التوسيعيّة؛ لأن الحاكم يضيف مصاديق إلى موضوع الدليل المحكوم ولا يعارضه في عمومه لمصاديقه.

ومن ذلك يتضح الإشكال في إطلاق المحقق النائيني عدم المعارضة بينهما، قال: «عدم التعارض بين الحاكم والمحكوم، فإن الحاكم إنّما يثبت أو ينفي ما لا يثبته دليل المحكوم أو ينفيه، فلا يعقل التعارض بينهما»(1)، فتأمل.

المبحث الرابع: بين الحكومة والتخصيص
اشارة

مما ذكر في المبحث السابق، من اشتراك الحكومة والتخصيص من جهة

ص: 26


1- فوائد الأصول 4: 710.

المقصود الجدي، وافتراقهما من جهة الأسلوب الاستعمالي، يتبيّن اتفاق أحكامهما باعتبار الجهة الأولى، واختلافها باعتبار الجهة الثانية، فالكلام في مقامين:

المقام الأول: نقاط الاتفاق

وهي أمور ترتبط بالمقصود من الكلام، حيث لا يختلف الحاكم عن الخاص في المراد الجدي، ويتحقق التعارض البدويّ فيهما باعتباره، وغير خفيّ أن التعارض البدويّ يرتفع بأدنى التفات بل هو مرتفع ارتكازاً، فلذا يثبت للحاكم ما ثبت للخاص في هذه الجهة، وذلك لاتحاد الملاك، ومن ذلك:

1- المخصص والحاكم المنفصلان يعارضان العام في المقصود؛ وذلك لانعقاد ظهور العام في العموم المستتبع لتعارض المدلول الجدي، وأما المتصلان فيرفعان حجيته لعدم انعقاد الظهور في العموم فلا يستتبع تعارضاً في المدلول الجدي، ومع عدم انعقاد الظهور في العموم فلا حجية فيه.

2- إجمال المتصل فيهما يسري إلى العام بسبب عدم انعقاد الظهور له، دون إجمال المنفصل؛ وذلك لانعقاد الظهور، اللهم إلاّ أن يقال: إذا كان الحاكم بلسان أي الشارحة فإنه يسري إليه عرفاً، حيث إن الظهور مراعى، فتأمل.

قال المحقق العراقي: «سراية إجمال الحاكم إلى المحكوم ولو مع انفصاله، حتى في ما لا يسري الإجمال إلى العام من الخاص المنفصل المجمل المردد مفهوماً بين الأقل والأكثر؛ وذلك لأن الحاكم بعد أن كان ناظراً إلى شرح مدلول المحكوم وتفسيره بما هو المراد من لفظه واقعاً - لا بمقدار ما فيه من الإراءة والدلالة - فلا محالة يكون إجماله وتردده بين الأقل والأكثر موجباً لإجمال المحكوم، بمعنى صيرورته بمنزلة المجمل في

ص: 27

عدم جواز الأخذ بظهوره... إلاّ أن يقال: إن كون الحاكم ناظراً إلى شرح الغير وتفسيره بما هو المراد من لفظه واقعاً لا بمقدار دلالته، إنما يتم إذا كان بلسان (أي) الشارحة، بمثل قوله: المراد من العلماء هو العدول أو غير الفساق منهم؛ إذ حينئذٍ يسري إجماله إلى المحكوم، وأما لو كان بلسان نفي الموضوع أو الحكم عن بعض أفراده، كما هو الغالب في ما بأيدينا من الأدلة، فلا يكون النظر منه إلى مدلول المحكوم إلاّ بمقدار إراءته ودلالته، وعليه فعند إجماله لا تكون حكومته إلاّ بالنسبة إلى المقدار المعلوم دلالته عليه، ولازمه الرجوع في مقدار إجماله إلى ظهور دليل المحكوم، كما في الخاص المنفصل المجمل المردد بين الأقل والأكثر، فتأمل»(1).

ولكن العمدة في عدم الفرق هو ما ذكرناه من اتحاد المناط بين الخاص والحاكم في جهة المقصود والمراد الجدي، ومع اتحاده تشترك أحكامهما المرتبطة به.

والحاصل: إنه كما لا بد من التمسك بالعام في الموارد المشكوكة بسبب إجمال المخصص المنفصل، كذلك يتمسك بعموم المحكوم حين إجمال الحاكم المنفصل، وفي عكسه كما لا يمكن التمسك بالعام في موارد إجمال المخصص المتصل، كذلك لا يمكن التمسك بالعام المحكوم في موارد إجمال الحاكم المتّصل.

3- استهجان إخراج أكثر الأفراد عن العام سواء عبر التخصيص أو الحكومة؛ إذ لا بد من التناسب بين مقام الثبوت ومقام الإثبات، فلو كان

ص: 28


1- نهاية الأفكار 4[ق2]: 136-137.

الأقل هو المراد واقعاً كان التعبير عنه إثباتاً بالعام مستهجناً، وسيأتي تفصيله في قاعدة لا ضرر.

4- عدم إمكان التخصيص والحكومة في الأحكام العقلية، والسبب فيه ما قيل من: «أن التخصيص يرجع إلى أوسعية مقام الإثبات عن مقام الثبوت في الحكم المخصَّص، والحكم العقلي ليس له مقامان: ثبوت وإثبات»(1)، وكذلك حال الحكومة، لأنها ترجع إلى أوسعية مقام الإثبات عن مقام الثبوت.

المقام الثاني: نقاط الاختلاف

وهي أمور ترتبط بأسلوب الكلام ولسانه، حيث يختلف الخاص والحاكم في المراد الاستعمالي، فيختلفان باعتباره حيث لا تعارض ولو بدويّاً بين الحاكم والمحكوم من هذه الجهة، مع وجود التعارض البدويّ بين العام والخاص، ومنها:

1- لا بد من النظر في الحكومة - سواء إلى عام أو مطلق أم إلى ارتكاز أو توهم - لأن مصحّحها يقتضي ذلك، حيث المقصود منها تحديد أو توسيع حكم معلوم أو متوهم بطريقة غير مباشرة.

وليس التخصيص كذلك؛ لأنه بأسلوب صريح لنفي أو إثبات حكم على بعض المصاديق، فلا يحتاج إلى نظره إلى حكم آخر، فمثل: (لا تكرم فسّاق الشعراء) لا يحتاج فيه إلى النظر إلى (أكرم الشعراء) مثلاً؛ وذلك لإفادة الخاص للمقصود استقلالاً عبر حكمه عليها، قال المحقق العراقي: «الدليل المخصِّص لا يكون ناظراً إلى شرح مدلول العام وبيان كميّة مفاده،

ص: 29


1- قاعدة لا ضرر ولا ضرار: 254-255.

غاية الأمر لا يتحيّر العرف في تقديمه عليه من جهة أقوائية دلالته، وهذا لا يلازم لكونه بلسانه شارحاً للمراد من العام واقعاً، ولذلك ترى صحة التعبد بالخاص الأظهر لكونه مفيداً للفائدة التامة المستقلة ولو مع عدم تشريع حكم العام إلى يوم القيامة»(1).

2- مع أقوائية العام ظهوراً أو لساناً لا يتقدم الخاص عليه، ويتقدم الحاكم عليه.

أما في الخاص فإن سبب تقديمه على العام مع تعارضهما هو أقوائيته من حيث الظهور، فلو كان العام أظهر كان ملاك التقديم فيه دون الخاص، وهكذا العام الأقوى لساناً بأن كان آبياً عن التخصيص لا يتقدم الخاص عليه لاستهجان استعمال اللفظ الآبي عن التخصيص في العام ثم تخصيصه فلذا يتعارضان ولا بد من الرجوع إلى مرجحات أخرى.

وأما في الحاكم فهو لا يعارض لسان العام ولا يكسره، فيبقى العام على عمومه، بل يحدّد موضوعه أو حكمه بلسان مسالم، فلا تعارض في اللسان ليتقدم الأظهر، ولا استهجان لعدم كسره لسان العام.

3- اختصاص الحكومة بالأدلة اللفظية بخلاف التخصيص فيمكن أن يكون الخاص لبيّاً.

وذلك لأن الحكومة ترتبط بلسان الدليل وبأسلوب كنائي فلذا اختصت بالأدلة اللفظية، عكس التخصيص حيث إنه يرتبط بالحكم على مصاديق من العام بحكم يخالف حكم العام فيشمل ما إذا كان المخصص لبياً، فتأمل.

ص: 30


1- نهاية الأفكار 4[ق2]: 135.

4- تقديم الحاكم في العامين من وجه حتى لو كان أضعف دلالةً - في نفسه - من المحكوم، وسيأتي بيانه، بخلاف التخصيص، فإن ملاك تقديم الخاص هو الأخذ بأقوى الدلالتين وطرح الأخرى، ولذا قد يت-وقف في ذلك لو تساويا دلالة، بل قد يقدّم العام على الخاص إذا كان أقوى دلالة.

5- عدم خروج سند المحكوم عن الاعتبار، بخلاف الخاص حيث قد يخرج سنده عن الاعتبار في بعض الصور كما في نهاية الأفكار(1): فإنه في موارد الحكومة لا يخرج سند المحكوم عن الاعتبار حتى في فرض اقتضاء الحاكم طرح ظهور المحكوم رأساً بحيث لا يبقى تحت ظهوره شيء من مدلوله؛ لأن الحاكم - بلحاظ تكفله لشرح مدلول المحكوم يكون بمنزلة القرينة المتصلة في تعيين المراد الواقعي من مدلول المحكوم، وأنه هو الذي تكفّل شرحه، وبذلك لا يخرج سند المحكوم عن الاعتبار، لانتهاء الأمر إلى العمل بما هو المراد منه ولو بتوسط شارحه، وهذا بخلاف التخصيص وسائر موارد الجمع العرفي فإن دليل المنفصل الأظهر - بعد ما لا يكون بلسانه شارحاً ولا موجباً لقلب ظهوره - لا محالة يكون العام باقياً على ظهوره في المراد منه، وباقية حجيته في غير الجهة المشتركة بين العام والخاص، ولذا صحّ التعبّد بسند العام، أما إذا فرض طرح ظهور العام رأساً فهذا يستلزم خروج سنده عن الاعتبار، لعدم انتهاء التعبد بسنده إلى العمل، فيصير مثل هذا الظاهر - بعد عدم حجية ظهوره - كالمجمل المعلوم عدم التعبد بسنده. انتهى باختصار.

ص: 31


1- نهاية الأفكار 4[ق2]: 135-136.
المبحث الخامس: في تقدم الحاكم على المحكوم
اشارة

وفيه مقامان:

المقام الأول: في سبب تقدم الحاكم

وقد ذكر لذلك وجوه، ومنها:

الوجه الأول: ما ذكره المحقق النائيني من أن الحاكم إنما يثبت أو ينفي ما لا يثبته دليل المحكوم أو ينفيه، ففي الفوائد: «إن التصرّف - أي في الحكم الشرعي - إنما يكون بتوسط التصرف في الموضوع... ولأجل ذلك لا تلاحظ النسبة بين دليل الحاكم والمحكوم، ولا قوة الظهور وضعفه، بل يقدّم الحاكم ولو كانت النسبة بينه وبين المحكوم العموم من وجه وكان ظهور الحاكم أضعف من ظهور المحكوم؛ بداهة أن لحاظ النسبة وقوة الظهور فرع التعارض، وقد عرفت أن دليل المحكوم لا يمكن أن يعارض دليل الحاكم؛ لأن دليل المحكوم إنما يثبت الحكم على فرض وجود موضوعه - كما هو الشأن في القضايا الحقيقيّة، ودليل الحاكم ينفي وجود الموضوع أو يثبته، فلا يمكن أن يعارض: (أكرم العلماء) مع قوله: (النحوي ليس بعالم) أو مع قوله: (المنجّم عالم) فدليل الحاكم دائماً يتكفّل بيان ما لا يتكفّل بيانه دليل المحكوم، فلا يعقل وقوع المعارضة بينهما»(1).

وأشكل عليه: أولاً: بأن التعارض غير المستقر في مرحلة المراد الجدي حاصل كما مرّ، وقوام التعارض إنما هو بحسب هذه المرحلة لا مرحلة المراد الاستعمالي، ولذا يقع التعارض بين (زيد أسد) وبين (زيد جبان) للمعارضة في

ص: 32


1- فوائد الأصول 4: 714-715.

المراد الجدي مع عدم وجود معارضة في مرحلة المراد الاستعمالي، ولا يقع تعارض بين (زيد عالم) وبين (زيد ليس بعالم) إذا أريد جداً من العالم الأول الفقيه، ومن الثاني النحوي مثلاً، وفي الحكومة فالحاكم بالإرادة الجدية ينفي ما يثبته المحكوم ولذا كان كالتخصيص من حيث النتيجة، فتأمل.

وثانياً: صحيح إن القضية الشرطية لا نظر لها إلى تحقق الموضوع، لكنها تدل على فعلية الجزاء عند تحقق الشرط، فإذا قام دليل على فعلية الشرط ثبت الحكم بالقضية الشرطية، فإن كان الشرط ما كان بنظر الشارع كان الدليل الثاني وارداً لا حاكماً؛ لأنه يرفع دليله حقيقةً لا تعبداً، وإن كان الشرط ما كان شرطاً حقيقة وقع التعارض بين الدليلين لا محالة(1).

اللهم إلاّ أن يقال: إن الحاکم والمحکوم بما هما هما لم يکن تعارض بينهما، وإنما وقع التعارض بسبب شيء آخر - هو الدليل الدال علی فعلية الشرط - ، عکس العام والخاص الذي يحصل التعارض غير المستقر بينهما بما هما هما، فتأمل.

وثالثاً: بأنه غير شامل لموارد الحكومة، لأنه لا يشمل الحكومة المرتبطة بعقد الحمل كحصول التنافي بين أدلة لا ضرر وأدلة الأحكام الأولية(2).

الوجه الثاني: ما في نهاية الأفكار: «بعد أن يكون دليل الحاكم متعرضاً لحال غيره وناظراً إلى شرح مدلوله وبيان المراد منه، لا يكاد يرى العرف تنافياً بين مدلوليهما، كي تدخل موارد الحكومة في موضوع التعارض، بل

ص: 33


1- بحوث في علم الأصول 7: 166-167.
2- منتقى الأصول 6: 407.

الحاكم عند العرف بعناية شارحيته لبيان مدلول الغير وتعرّضه له يكون بمنزلة القرائن المتصلة الحاكية مع ذيها عن معنى واحد، بلحاظ أن مدلول المحكوم هو الذي تكفّل الحاكم لشرحه لا غيره»(1).

وفيه: إن العرف کذلک لا يری تعارضاً بين العام والخاص، فلا فرق من هذه الجهة، ومع إرجاع الأمر إلی العرف فقد يقال: إن ملاک التقديم عنده في الحکومة الناظرية، وفي العام والخاص الأظهرية.

الوجه الثالث: ما قيل: من أنّ الحاكم قرينة شخصية من المتكلّم لبيان مراده من الدليل المحكوم مع بناء العقلاء على أنه يحقّ للمتكلم تفسير كلامه وتحديد مقصوده منه بنصب قرينة، وبذلك يرتفع التنافي بينهما، ويقدم الحاكم على المحكوم.

الوجه الرابع: إن الحاكم ناظر إلى المحكوم وشارح له، ولا معارضة بين الشارح و المشروح من جهة الحجيّة، وإن كان هنالك تنافي في مرحلة المراد الجدي؛ وذلك لأن العرف يجمع بينهما لأجل قرينية الشارح للمشروح.

الوجه الخامس: بناءً على إنكار النظر في الحكومة، ما قيل: من «أن أسلوب الحكومة وإن لم يكن مسوقاً للنظر إلى أيّ دليل آخر، بل هو ناظر بالأصالة إلى ارتكاز ذهني عام مخالف لمؤدّى الدليل، لكنه ناظر بنحو غير مباشر إلى نفي ما يكون حجة على هذا الارتكاز المخالف، وبذلك يستبطن تحديد تلك الحجة متى كانت عموماً أو إطلاقاً، وهذه مزيّة دلالية

ص: 34


1- نهاية الأفكار 4[ق2]: 132.

تستوجب تقديمه على تلك الحجة وتحديدها به»(1).

وهذا أيضاً مرجعه إلى الوجه الثالث؛ لأن هذا المذكور هو بيان للقرينيّة بعبارات أخرى، فتأمل.

المقام الثاني: في موارد لا يتقدّم الحاكم فيها

إن تقديم الحاكم على المحكوم إنما هو لكونه ناظراً ومسالماً له، وهذا لا ينافي وجود جهات أخرى أقوى تكون سبباً لتقديم المحكوم أحياناً؛ إذ التقديم بالنظر لا يعني إغفال تلك الجهات، بل حال النظر حال سائر الجهات المرجحة لأحد الدليلين على الآخر حيث قد تعارضها جهة أقوى.

وقد ذكرت موارد لا يتقدّم فيها الحاكم - أي ما ظاهره الحکومة وإن لم يکن حاکماً واقعاً -(2)، ومنها:

المورد الأول: ما لو خالف الحاكم الأدلة القطعية الدالة على حجية المحكوم في معناه الظاهر فيه لا في المعنى المفسّر إليه في الحاكم، فحينئذٍ لا بد من العمل بالمحكوم وتأويل الحاكم أو ردّ علمه إلى أهله.

ومثاله: ما روي من أن العبادات كلها رجل، وأن الفواحش رجل، فإنها ناظرة إلى أدلة وجوب العبادات وحرمة الفواحش، ومفسّرة لها بوجوب ولاية الأئمة (علیهم السلام) وحرمة ولاية أعدائهم لعنهم الله، وهنا يبقى المحكوم على حاله للقطع بإرادته، ولا بد من حمل الحاكم على التأويل لا الشرح والتفسير، وكمثل قوله (علیه السلام): «لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد»(3)،

ص: 35


1- قاعدة لا ضرر ولا ضرار: 260.
2- قاعدة لا ضرر ولا ضرار: 260؛ فوائد الأصول (الهامش) 4: 712 و 715.
3- مستدرك الوسائل 3: 356.

حيث إنه حاكم على إطلاق أدلة الصلاة، لكن مع القطع بصحة الصلاة في البيت لا بد من العمل بإطلاق المحكوم وحمل الحاكم على بعض الوجوه كالحمل على الكمال.

اللهم إلاّ أن يقال: إن ذلک نفي لجهة النظر لا أصله، فلا نظر في الحقيقة إلی المعنی الذي صار سبباً للتأويل، وبعبارة أخری: نفي مصداق من مصاديق النظر لا يلازم نفي أصل النظر.

المورد الثاني: لو كان تفسير الموضوع عبر الدليل الحاكم يستلزم خروج عامة الأفراد عنه بما يستهجن معه جعله موضوعاً وعنواناً في الدليل المحكوم، كما لو قال: (أكرم العلماء) ثم قال: (غير زيد ليس بعالم) فإن العرف يستهجن جعل لفظ العلماء عنواناً مع تفسيره بفرد واحد، حيث لا فرق في الاستهجان بين التخصيص أو التفسير المخرج لعامة الأفراد، فتأمل.

المورد الثالث: ما لو كان للدليل الحاكم إطلاق في النظر مع قوة الدليل المحكوم في مورد من الموارد، فهنا قد يقال: إن قوة الدليل المحكوم توجب عدم تفسيره بما في الدليل الحاكم، وقد يمثّل له بعدم حكومة أدلة لا ضرر على الأحكام التي موردها الضرر كالجهاد، فإن إطلاق نظر دليل لا ضرر لا يقاوم لغوية الدليل المحكوم لو شمله لا ضرر، قال في المنتقى: «نظير ما إذا كان الدليل المحكوم في بعض الأفراد نصاً في دلالته، فإنه يقدم على الدليل الحاكم وإن كان ناظراً إلى الدليل المحكوم، فإن النصوصية بنظر العرف تقدّم على جهة النظر، فمثلاً لو كان (أكرم كل عالم) نصاً في زيد الفاسق لأنه مورده مثلاً، ثم ورد أن (العالم الفاسق ليس بعالم) فإنه لا يشمل زيداً، وإن كان ناظراً إلى دليل (أكرم كل عالم)، والنظر يوجب

ص: 36

تقدمه عليه بحسب العرف، لكن لكونه نصاً في ذلك الفرد فالنصوصية تكون مقدمة على كون الحاكم ناظراً»(1).

وفيه: أن مرجع ذلك إلى عدم النظر، أو انصراف الدليل الحاكم عن هذا المورد، فليس هنا تعارض وترجيح الدليل المحكوم، بل عدم تعارض لعدم وجود الدليل الحاكم فهو من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

قال المحقق العراقي: «تقديم الحاكم على المحكوم - ولو كان أضعف دلالة - إنما يكون إذا لم يزاحمه دليل المحكوم في أصل نظره... وإلاّ ففي ما زاحمه المحكوم في نظره يعامل معهما من تلك الجهة معاملة سائر المتعارضين، كما لو كان مفاد الدليل المحكوم وجوب إكرام العلماء وحرمة لعنهم، وكان مفاد الحاكم عدم كون النحويين من العلماء، فإنه بالنسبة إلى حرمة اللعن - ولو من جهة انغراس الذهن بعدم جواز لعن المؤمن - يزاحمه دليل حرمة اللعن في نظره، فيوجب صرف نظره إلى حيث الإكرام، لكن هذا في الحقيقة خارج عن مفروض الكلام من تقديم الحاكم بما هو حاكم على المحكوم، لرجوعه إلى نفي نظره الذي هو حكومته بالنسبة إلى حيث حرمة اللعن»(2).

والحاصل: إنه لا بد من إثبات مقدار النظر - ولو بالإطلاق - وإلاّ اقتصر على المقدار المتيقن منه، فمثل: «الطواف بالبيت صلاة» الثابت فيه النظر من جهة الشرائط والموانع دون غيرهما، فتأمل.

ص: 37


1- منتقى الأصول 5: 470.
2- نهاية الأفكار 4[ق2]: 137.
المبحث السادس: في التحاكم

ومعناه أن يكون كل من الدليلين ناظراً للآخر ورافعاً لموضوعه في بعض المصاديق.

وغير خفي أن التحاكم الفعلي غير ممكن؛ علی مبنی التعارض الموجب للتساقط، إذ مع التساقط تنتفي الحكومة؛ لأنها وصف عارض على الدليل المعتبر، نعم علی مبنی شمول أدلة الحجية لهما اقتضاءً ومن ثَمَّ التخيير بينهما فلا محذور.

وقد ذكره من ذكره في مقام الإشكال على ادّعاء حكومة أحد الدليلين على الآخر مما يلزم منه تقديمه، فيقال: إن الآخر أيضاً له حكومة - في نفسه - فيتعارضان.

قال في المنتقى: «وقد تحقق عند الكل أن الشك لم يؤخذ في موضوع الأمارة قيداً، لاستلزامه كون نسبتها إلى الاستصحاب نسبة التحاكم لا الحكومة»(1).

وقد يمثل للتحاكم بدليل الحرج والضرر؛ إذ كل واحد منهما ناظر إلى جميع أحكام الشريعة بما فيها الآخر، فلو كان هناك حكم ضرري کالصوم الضرري، وکان رفعه حرجياً کما لو کان ترک الصوم يسبّب له حرجاً اجتماعياً کبيراً، فدليل (لا ضرر) باعتبار حكومته على سائر الأدلة يُخرج المورد عن دليل نفي الحرج، وكذا العكس، حيث إن دليل نفي الحرج حاكم على سائر الأدلة فيخرج المورد عن دليل الضرر.

ص: 38


1- منتقى الأصول 7: 303.

مثال آخر: ما ادّعاه المحقق النائيني من أن مفهوم آية النبأ بحجية خبر العادل حاكم على عموم العلة.

فأشكل عليه في المنتقى فقال: «إن العلة تقتضي التصرف في المعلّل عموماً وخصوصاً بالظهور العرفي للكلام، فلا تنافي بين ثبوت الحكم لمطلق الرمان ولمطلق الحامض في قول القائل: لا تأكل الرمان لأنه حامض، إلاّ أن التعليل يوجب قصر الحكم على الرمان الحامض، لأجل أن العرف يفهم أن الحكم يدور مدار العلة، فالتصرف في ظهور الرمان ليس من جهة التنافي بين الظهورين، بل من جهة فهم العرف أن موضوع الحكم هو العلة لا غير، وعليه فعموم التعليل يوجب التصرف في الشرط الذي هو موضوع المفهوم، كما أن المفهوم في حدّ نفسه يوجب التصرف في عموم التعليل وإخراج خبر العادل عن موضوعه، فيكون كل من المفهوم والتعليل رافعاً لموضوع الآخر فيتحقق التحاكم بينهما، ومقتضى ذلك تحقق التساقط بينهما وعدم الأخذ بأيهما»(1).

وفي الحكومة أو التحاكم في آية النبأ بحث طويل ذكره السيد الأخ في تبيين الأصول(2)، ولعلّنا نتطرق إليه حين البحث عن آية النبأ.

ص: 39


1- منتقى الأصول 4: 269.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 7: 132-142.

فصل فی الورود

اشارة

أما تعريفه فقد مرّ في الفصل السابق، وحاصله: أنه رفع أحد الدليلين لموضوع الدليل الآخر حقيقة ولكن بعناية التعبد، أي إن الشارع يعتبر شيئاً فيكون ذلك سبباً لارتفاع الموضوع المأخوذ في دليل آخر ارتفاعاً حقيقياً، مثل جعل الشارع الحجية لخبر الواحد المستلزم للبيان حقيقة الرافع لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان ارتفاعاً حقيقياً لا اعتبارياً.

وبعناية الجعل الشرعي يختلف الورود عن التخصص؛ إذ في التخصص لا حاجة إلى جعل شرعي، بل ارتفاع الموضوع فيه بذاته، كخروج الجاهل عن قوله: (أكرم العلماء).

وهنا مباحث:

المبحث الأول: بين الورود والحكومة
اشارة

وفيه مطلبان:

المطلب الأول: نقاط افتراقهما

1- فمنها: في حقيقتهما؛ إذ حقيقة الورود ارتفاع الموضوع حقيقة بعناية التعبد، وأما حقيقة الحكومة فهي في عقد الوضع توسعة أو تضييق اعتباراً، وفي عقد الحمل إخراج بعض المصاديق عن الحكم بلسان مسالم، فالحكومة اعتبارية، والورود حقيقي وإن كانا ناشئاً عن جعل شرعي.

ص: 40

2- ومنها: في النظر، حيث لا بد في الحكومة من نظر الحاكم إلى الحكم في دليل آخر أو إلى توهم الحكم كما مرّ تفصيله، ولا يشترط ذلك في الورود، حيث إنه تعبد ينتج منه رفع موضوع حكم آخر، ولهذا التعبد آثاره مع قطع النظر عن أيّ دليل آخر وآثاره، مثل جعل الحجية للخبر الواحد الرافع لموضوع البراءة، فللخبر آثاره سواء كان هناك جعل شرعي للبراءة أم لم يكن.

ويتبع ذلك أنه في الورود يثبت جميع آثار الدليل الوارد عقلاً؛ لأن جعله يستلزم جعل جميع آثاره بالتبع، كما ينتفي به جميع آثار المورود لانتفاء موضوعه، لكن في الحكومة لا بد من ملاحظة مقدار النظر ولو عبر الإطلاق، فيثبت أو ينتفي من الأحكام بمقدار النظر.

مثلاً بقوله: (صدق العادل) يثبت جميع آثار ثبوت الخبر وينتفي جميع آثار الشك، أما قوله (علیه السلام): «الطواف بالبيت صلاة»(1) فيثبت به أحكام الطهارة والمانعية فقط؛ لأن النظر منحصر بهما.

3- ومنها: إمكان كون الدليل الوارد لبياً كالإجماع؛ لأن الورود لا يرتبط بالألفاظ؛ إذ هو جعل شرعي يستلزم منه رفع موضوع دليل آخر، فلا فرق في كون هذا الجعل بلفظ أو بغيره.

4- ومنها: ما قيل: من أنه مع الشك في الوارد لا يمكن التمسك بالمورود؛ لأنه شك في موضوع الدليل المورود، فالتمسك بالدليل فيه تمسك بالعام في الشبهة المصداقية لموضوع العام، بخلاف الشك في الحاكم فإنه لا يمنع من التمسك بإطلاق الدليل المحكوم لجميع أفراده مع

ص: 41


1- مستدرك الوسائل 9: 410.

عدم وجود حجة على غير أفراده، وبهذا الإطلاق تنتفي الشبهة المصداقية فلا محذور من التمسك بالدليل المحكوم.

نعم، يمكن أن يقال: إن أصالة عدم الجعل في الوارد تجري فلا محذور في التمسك بالدليل المورود - إن كان فيه إطلاق لفظي أو شمول عقلي - كما لو شك في حجية الشهرة الفتوائية وكانت دالة على الحرمة مثلاً، فإنه يصح التمسك بقاعدة قبح العقاب بلا بيان لإثبات عدم الحرمة ظاهراً.

بل إذا كان موضوع الدليل المورود هو الشك فإن الشك في الدليل الوارد يكون محققاً لموضوع الدليل الوارد قطعاً، فتأمل.

المطلب الثاني: نقاط اتفاقهما

1- فمنها: تقدّم الوارد والحاكم حتى لو كان ظهورهما أضعف من ظهور المحكوم والمورود؛ وذلك لعدم التنافي بين الوارد والمورود وبين الحاكم والمحكوم، فيشملها دليل الحجيّة فيعمل بها جميعاً.

أما عدم تنافي الوارد والمورود؛ فلأنّ الوارد يرفع موضوع المورود، مع عدم تعرّض المورود لتحقق أو عدم تحقق موضوعه، وإنما يبيّن ترتب الحكم في فرض تحقق الموضوع، فيعمل بكليهما ما دام أدلة الحجية شاملة لهما، مع وضوح أن الترجيح بالأقوائية ظهوراً إنما هو فرع التنافي.

2- ومنها: عدم الفرق بين سبق الوارد والحاكم أو تأخرهما أو تقارنهما مع المورود والمحكوم.

أما في الورود فواضح، حيث إن الوارد له آثار بنفسه مع قطع النظر عن المورود، وأما في الحكومة فلأنه لا محذور في توسيع موضوع أو تضييقه قبل جعل الحكم عليه، ولا لغوية فيه ما دامه يستتبع حكماً، كما لو قال:

ص: 42

(العالم الفاسق ليس بعالم)، ثم قال: (أكرم العلماء).

ومن ذلك يتضح أنه لا فرق بين كون الحاكم والمحكوم وكذا الوارد والمورود متصلين أو منفصلين.

3- ومنها: عدم الفرق بين كون الدليل الحاكم أو الوارد قطعياً أو كونه حجة شرعية؛ وذلك لثبوت النظر الموجب للحكومة، وارتفاع موضوع المورود من غير فرق بين الدليل القطعي أو الحجة الشرعية، فمثلاً الخبر المتواتر والخبر الواحد المعتبر كلاهما يرفعان موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان؛ إذ هما بيان شرعي، وهكذا في الحكومة يكفي في ثبوت النظر الدليل المقطوع به ككون الفقاع خمراً أو الحجة الشرعية كعدم كون الزيادة للوالد من الربا.

المبحث الثاني: وجه تقديم الوارد على المورود

وقد ذكر لذلك وجوه، ومنها:

الوجه الأول: إن المقتضي للعمل بالوارد موجود والمانع مفقود، ولا مقتضي للعمل بالمورود، فلذا يلزم العمل بالأول دون الثاني، قال في المنتقى: «إن الأخذ بالدليل الوارد لوجود المقتضي وعدم المانع، أما وجود المقتضي: فهو دليل اعتباره وتحقق موضوعه، وأما عدم المانع: فلأن المانع المتخيّل هو الدليل المورود، وهو غير ناظر إلى ما يتكفله الدليل الوارد أصلاً، وموضوعه غير موضوعه، فكل منهما في مقام غير مقام الآخر... وأما الدليل الوارد فلا مقتضي فيه كي يؤخذ به؛ لأن ثبوته متوقف على عدم ورود الدليل الوارد؛ لأنه رافع لموضوعه»(1).

ص: 43


1- منتقى الأصول 6: 414.

إن قلت: إن الدليل الدال عليهما كثيراً ما يكونان في عرض واحد، مثل دليل الاستصحاب ودليل الأمارات الذي هو عادة الأخبار المعتبرة، وهذه الأخبار كلها في عرض واحد مع كون نسبتها العموم من وجه، فكيف تمّ ترجيح أخبار الأمارات على أخبار الاستصحاب؟

قلت: اتضح ممّا سبق أنه لا تعارض بين الوارد والمورود، ففي مورد اجتماعهما يرتفع موضوع الدليل المورود فلا وجه للأخذ به، وأما الدليل الوارد فموضوعه متحقق فيلزم العمل به من غير محذور.

الوجه الثاني: - ومرجعه إلى الوجه الأول -: إن دليل الحجة يشملهما كليهما لعدم التنافي بينهما في مرحلة الدلالة، ما دام الجعلان غير متنافيين، فيؤخذ بإطلاق دليل الحجة لهما معاً على حسب القاعدة. نعم، المجعول في الدليل الوارد يكون فعلياً لتحقق موضوعه، دون المجعول في الدليل المورود، وعدم فعليته إنما هو لتقييد مفاده بعدم وجود الآخر(1).

الوجه الثالث: ما ذكره المحقق الخراساني، وحاصله(2): إن ترجيح دليل المورود يستلزم منه أحد محذورين: إما التخصيص بلا مخصص وذلك في ما لو لم يكن هناك دليل يدل على تخصيص دليل المورود لدليل الوارد، وإما الدور وذلك في ما لو كان المخصص هو دليل المورود بنفسه، ففي مثل الاستصحاب والأمارة، يتوقف جريان دليل الاستصحاب على تخصيصه للأمارة كي لا يكون نقضاً لليقين باليقين، وتخصيصه للأمارة

ص: 44


1- راجع بحوث في علم الأصول 7: 48.
2- إيضاح كفاية الأصول 5: 189-190.

يتوقف على جريان دليل الاستصحاب؛ إذ لو لم يجرِ لكان نقضاً لليقين باليقين.

وأشكل عليه في المنتقى: «بأن التخصيص يقتضي التوارد على مورد واحد والمنافاة بينهما، وأما مع عدم المنافاة بينهما أصلاً - لاختلاف مورديهما - فلا وجه لدعوى التخصيص، فإنه لا منافاة بين ما يستلزم عالمية زيد وبين ما يثبت وجوب إكرام العالم، فإن كان مفاد دليل الاستصحاب: استصحب مع عدم الحجة، وكان مفاد دليل الأمارة اعتبار الأمارة في هذا المورد - المستلزم لقيام الحجة فلا منافاة بينهما أصلاً، ولا نظر لأحدهما إلى مفاد الآخر بتاتاً، فلا وجه لدعوى التخصيص واحتماله كي تقرر وتدفع بلزوم الدور»(1).

المبحث الثالث: في أقسام الورود

لا فرق في الورود بين كون رفع موضوع الدليل المورود في مرحلة الجعل أو الفعلية أو الامتثال.

مثال الأول: ورود الدليل الدال على عدم وجوب الزكاة مرتين في شيء واحد في السنة الواحدة، على الدليل الدال على وجوب الزكاة في الأنصبة، مثلاً لو كان له خمسة وعشرون بعيراً من أول السنة ثم زاد بعيراً في وسط السنة، ففي أول السنة القادمة يجب عليه زكاة النصاب الأول وهو خمسة وعشرون، ثم لا يجب عليه في طول السنة زكاة النصاب الثاني وهو ستة وعشرون؛ إذ لا جعل للزكاة فيه حينئذٍ بدلالة الدليل الوارد.

ص: 45


1- منتقى الأصول 6: 416.

ومثال الثاني: ورود الدليل الدال على فعلية حرام ٍ على الدليل الدال على وجوب الوفاء بالشرط غير المخالف للكتاب والسنة، حيث إنه بفعلية الحرام يرتفع موضوع وجوب الوفاء بالشرط.

وقد يفرّق بين الفعلية والتنجّز، بأن يقال: إن الورود قد يکون في مرحلة الفعلية کالمثال المذکور وقد يکون في مرحلة التنجّز، ويمثّل له بورود دليل إنقاذ النفس المحترمة على دليل وجوب الوضوء للصلاة إذا لم يكف ِ الماء إلاّ لأحدهما، حيث إنه بتنجّز إنقاذ النفس المحترمة يرتفع وجوب الوضوء في المثال، إلاّ أن الأظهر هو الورود في مرحلة الفعليّة حتی في المثال المذکور، فتأمل.

ومثال الثالث: ورود دليل الأهم بامتثاله على دليل المهم بناءً على إمكان الترتب، حيث إنه بامتثال الأهم يرتفع موضوع المهم.

ثم إنه لا يعقل الورود من الجانبين بأن يكون كل واحد من الدليلين رافعاً لموضوع الآخر؛ إذ يلزم من وجود كل واحد منهما عدمه. نعم، يمكن فرض ذلك في الأحكام غير المنجّزة لكن ذلك مجرد فرض لا واقع له في مرحلة الإثبات، فتأمل.

ص: 46

المقصد السابع في القطع

اشارة

ص: 47

ص: 48

تمهيد

اشارة

وفيه مبحثان:

المبحث الأول: في تقسيم المباحث
اشارة

وهذا البحث له ثمرة علمية، وذلك بمنهجة تقسيم المباحث والمطالب، وذلك قد ينفع في بعض التقسيمات التي تختلف أحكام الأقسام فيها.

وأما التقسيم لمباحث هذا القسم من الأصول، فقد بيّن الأعلام فيه عدة طرق، ومنها:

التقسیم الأول

وهو التقسیم الثلاثي، وفيه بيانان:

البيان الأول: للشيخ الأعظم، حيث قال: «اعلم أن المكلف إذا التفت إلى حكم شرعي، فإما أن يحصل له القطع فيه أو الظن أو الشك...»(1) إلى آخر كلامه.

وقد يشكل على المقسم، وعلى التقسيم:

أولاً: الإشكال على المقسم:

1- وأشكل على قيد (الالتفات) بأنه إن أريد من المكلف الفعلي فقيد

ص: 49


1- فرائد الأصول 1: 25.

الالتفات مستدرك، وإن أريد الشأني فهو خلاف الظاهر.

وقد يجاب: بأن الالتفات يرتبط بالتنجز لا الفعلية، فغير الملتفت مكلّف لكنه قد يكون معذوراً أو لا يكون معذوراً.

وقد يقال: بأن قيد الالتفات ليس باعتبار أخذه في المقسم، لما تقرر في محلّه من اشتراك الأحكام، بل باعتبار تفرع حصول الحالات الثلاث عليه.

2- كما أشكل على إطلاق الحكم، بل لا بد من تقييده ب- (الحكم الفعلي)؛ إذ لا أثر لتقسيم الحكم غير الفعلي، ولا بد في التقسيم من ملاحظة الأثر، وإلاّ كان لغواً.

وأجيب: بأن بعض الآثار تترتب على الحكم الاقتضائي أو الإنشائي، مثل استحقاق المثوبة في موافقته لانطباق عنوان الانقياد عليه، أو يقال: إن قيد (الفعلي) مستدرك؛ لأن الحكم يساوق الفعلي؛ إذ ما لم يصل إلى مرتبة الفعلية فليس بحكم، وفي التبيين: «وكيف يكون حكماً ما ليس بأمر ولا نهي، كما أنه ليس بإباحة، مع أن انتفاء الأصناف ملازم لانتفاء النوع، وانتفاء الأنواع ملازم لانتفاء الجنس»(1).

3- كما أشكل بأن الظاهر من قوله: (حكم شرعي) هو الحكم الواقعي مع أن الآثار تترتب على الحكم الظاهري أيضاً؛ لأنه مع تحقق الحجة الشرعية فالظانّ يقطع بالحكم الظاهري، والشاك يقطع بالوظيفة العملية، وأثر القطع هو حكم العقل بوجوب الموافقة وحرمة المخالفة، وحينئذٍ تتداخل الأقسام، كما سيأتي بيانه في الإشكال على التقسيم.

ص: 50


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 18.

وأجيب: بأن هذا المقسم والتقسيم إنما هو قبل الاستنباط وبذل الجهد، فقد يلتفت إلى موضوع وأن له حكم واقعي، وحينئذٍ إما يقطع به أو يظن أو يشك، لكن بعد الاستنباط وبذل الجهد فهو يقطع بالحكم الواقعي أو الحكم الظاهري، وبعبارة أخرى: إنه قبل الاستنباط إما قاطع بالحكم الواقعي فقطعه عليه حجة، وإما ظانّ بالحكم الواقعي فوظيفته البحث عن الأمارات، وإما شاك فوظيفته الرجوع إلى الأصول العملية. نعم، في حالة الظن والشك بعد الاستنباط يقطع بالحكم الظاهري.

هذا مضافاً إلى إشكال مبنوي بعدم ثبوت حكم ظاهري، بل إما تنجيز لو وصل إلى الحكم الواقعي أو تعذير إن لم يصل إليه.

ثانياً: الإشكال على كيفية التقسيم

1- فقد أشكل على تقسيم الشيخ الأعظم: بأن الأقسام متداخلة؛ إذ قد يكون ظاناً ولم يقم لديه طريق معتبر فعليه الرجوع إلى الأصول العملية، وقد يكون شاكاً مع قيام الطريق المعتبر فعليه اتباعه.

وأجيب: بأن التقسيم قد يكون بلحاظ الموضوع الخارجي، وقد يكون بلحاظ الآثار، كما نقسّم الإنسان تارة بأنه إما رجل أو امرأة، وتارة بأنه إما مكلّف أو غير مكلّف، فلا يصح الإشكال على التقسیم الأول بتداخل الأقسام لاشتراكها في الآثار؛ إذ كان التقسيم بلحاظ الموضوع لا بلحاظ الأثر، وفي ما نحن فيه فإن التقسيم كان بلحاظ الموضوع أي الحالة الوجدانية للمكلّف، وهي إما حالة القطع أو الظن أو الشك، فلا يصح الإشكال بأن آثار هذه الحالات متداخلة أحياناً.

ص: 51

2- كما أشكل: بعدم صحة التقابل بين الظن والشك؛ وذلك لاجتماعهما في ما كان الشك شخصياً والظن نوعياً، مع أنه لا بد في التقسيمات من عدم تداخل الأقسام، فلا يصح تقسيم الإنسان إلى أنه إما رجل وإما أبيض، لتداخلهما في الرجل الأبيض مثلاً.

وحيث كان ملاك الحجية في الأمارات هو الظن النوعي، فلا وجه لإدخال الظن الشخصي في الأقسام، بل هو يلحق بالشك، وحينئذٍ فقوله إما يحصل له الظن أو الشك فيه تداخل؛ لأن الظن الشخصي داخل في الشك.

وأجيب: بما ذكر في جواب الإشكال السابق، بأن التقسيم بلحاظ الموضوع، وكما أن القطع والشك شخصيان كذلك الظن هنا، وعليه فيكون التقسيم هكذا: إما يحصل له القطع فهو حجة عليه بالذات، وإما يحصل له الظن الشخصي فهو إما معتبر أو غير معتبر، وإما يحصل له الشك فإن كان في مورده أمارة فهو كالقطع وإلاّ فالمرجع الأصول العملية.

3- كما أشكل: بأن الشك ليس موضوعاً للأحكام بعنوانه، بل الموضوع هو (عدم الحجة)، كما أن الظن كذلك ليس موضوعاً بعنوانه، بل الموضوع هو قيام (الحجة).

والجواب(1): بأن التقسيم ليس ناظراً إلى موضوعية الشك بما هو شك، ولا الظن بما هو ظن، بل إلى تحقق هذه الحالات في الوجود الخارجي تمهيداً لبيان وظيفة المكلّف عند كل حاله.

ص: 52


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 27.

البيان الثاني للتقسيم الثلاثي: ما ذكره المحقق العراقي(1)، بأن تثليث الأقسام إنما هو بلحاظ ما للأقسام المذكورة من الخصوصيات الموجبة للطريقية والحجية من حيث الوجوب والإمكان والامتناع، لا بلحاظ مرحلة الحجية الفعلية، حيث إن القطع من جهة تماميته في الكشف عن الواقع مما وجب حجيته عقلاً ولا يعقل المنع عنه، والظن من جهة نقصه في الكاشفية مما أمكن حجيته شرعاً، وأما الشك فحيث لا كشف فيه أصلاً؛ لكونه عبارة عن نفس التردد بين الاحتمالين الذي هو عين خفاء الواقع كان مما يمتنع حجيته ويستحيل اعتباره حجة في متعلقه.

وقد يوجّه امتناع حجيته بأنه مستلزم لجعل الطريقية للمتناقضين وهو محال، فتأمل.

التقسیم الثاني

للمحقق الخراساني، قال: «اعلم أن البالغ الذي وضع عليه القلم إذا التفت إلى حكم فعلي واقعي أو ظاهري - متعلق به أو بمقلده - فإما أن يحصل له القطع به، أو لا، وعلى الثاني لا بد من انتهائه إلى ما استقل به العقل من اتباع الظن - لو حصل له وقد تمت مقدمات الانسداد على الحكومة - وإلاّ فالرجوع إلى الأصول العقلية من البراءة و الاشتغال والتخيير»(2).

وعليه فيدخل في القسم الأول - وهو القطع بالحكم الشرعي - كلٌ من القطع بالحكم الواقعي، والقطع بالحكم الظاهري عبر قيام الأمارة على

ص: 53


1- نهاية الأفكار 3: 5.
2- إيضاح كفاية الأصول 3: 200-203.

الحكم الشرعي، أو جريان الأصول العملية الشرعية، أو الظن الانسدادي على الكشف.

كما يدخل في القسم الثاني - وهو القطع بالوظيفة العقلية - الظن الانسدادي على الحكومة لو فرض حصول الظن و تمامية مقدمات الانسداد، أو الأصول العقلية لو فرض عدم الظن أو عدم تمامية المقدمات.

وأشكل عليه: أولاً: بأن هذا التقسيم لا ينطبق مع مباحث علم الأصول؛ إذ عليه كان لا بد من تقسيم الأصول إلى بابين، الأول: القطع، ويدخل فيه مباحث القطع والأمارات و الأصول العملية الشرعية والظن على الكشف، والثاني: الأصول العقلية والظن الانسدادي على الحكومة، مع أن المراد التقسيم بكيفية تنطبق على المنهج الموجود.

وثانياً: بأن الغرض من الإعراض عن تقسيم الشيخ الأعظم هو أن فيه تفكيكاً بين الموضوعات التي لها أثر واحد، وهذا بعينه جار في هذا التقسيم؛ إذ لا فرق من حيث الأثر بين كون الوظيفة بسبب حكم الشرع أو العقل؛ إذ لا بد من الجري العملي فيهما، وعليه فكان اللازم توحيد الأقسام.

وثالثاً: إن هذا التقسيم إنما هو بلحاظ ما يترتب على مباحث الأصول أحياناً، فالقطع أحياناً يترتب على مباحث حجية الخبر الواحد أو ثبوت الاستصحاب ونحوهما، إذن فهذا التقسيم ليس تقسيماً للأبحاث المحرّرة في علم الأصول، فتأمّل.

إن قلت(1): إن هذا التقسيم يكون بياناً للغاية المترتبة على مباحث

ص: 54


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 34.

الكتاب ولا محذور فيه!

قلت: ليس المطلوب مجرد التقسيم؛ إذ يمكن التقسيم باعتبارات مختلفة، إنما لا بد أن يكون التقسيم مفيداً ومنشأ ً للأثر، وينسجم مع مباحث الكتاب بشكل عام.

ورابعاً: إن أريد بالقطع التفصيلي منه استلزام خروج الإجمالي بلا وجه، وإن أريد ما يشمل الإجمالي استلزم تداخل الأقسام؛ لأن مسائل الظن على الحكومة من مسائل العلم الإجمالي.

التقسیم الثالث

لصاحب الكفاية أيضاً، وحاصله: أن المكلّف إما يحصل له القطع أو لا، وعلى الثاني: إما يقوم عنده طريق معتبر أو لا، ومرجعه على الأخير إلى القواعد المقرّرة عقلاً أو نقلاً لغير القاطع ومن يقوم عنده الطريق، ولا يرد إشكال تداخل الأقسام؛ إذ ملاك الرجوع إلى الأمارة هو الدليل المعتبر لا الظن، كما أن ملاك الرجوع إلى الأصل العملي هو عدم وجود الدليل المعتبر، لا الشك(1).

وأشكل عليه(2): بأن موضوع البحث عن الاعتبار هو الطريق اللابشرط من جهة الاعتبار وعدمه، لا عن الطريق المعتبر، فإنه لا يعقل عروض الاعتبار وعدمه على الطريق المعتبر، وبعبارة أخرى: لو كان الموضوع هو (الأمارة المعتبرة) كان اللازم البحث عن عوارضها، لا عن اعتبارها، لأن

ص: 55


1- إيضاح كفاية الأصول 3: 204.
2- نهاية الدراية 3: 17.

البحث لو كان عن الاعتبار الأول لزم تحصيل الحاصل، وإن كان عن اعتبار آخر لزم اجتماع المثلين، وإن توصلنا إلى عدم الاعتبار لزم اجتماع الضدين، فإن موضوع العلم هو ما يبحث عن عوارضه الذاتية، وأما البحث عن أصل ثبوت الموضوع فهو من المبادي.

وأجيب(1): بأن الملاحظ في هذا التقسيم هو الترتيب الطولي في الحجج والأصول العملية، وهو الذي ينفع المجتهد في استنباطه للأحكام، وفي الترتيب الطولي تكون الأمارة المعتبرة هي التي تتقدم على الأصول العملية، لا مطلق الأمارة، فتأمل.

التقسیم الرابع

ما ذكره المحقق الإصفهاني(2)، وهو أن الملتفت إلى حكمه الشرعي: إما يكون له طريق تام إليه - وهو القطع، وهو موضوع التنجّز - ، وإما يكون له طريق ناقص لوحظ لا بشرط عن الاعتبار وعدمه - وهو الطريق المبحوث عن اعتباره وعدمه - ، وإما لا يكون له طريق، أو كان طريقه غير معتبر - وهو موضوع الأصول العملية - .

وأشكل عليه في المنتقى(3): باستلزامه التداخل في ما أخذه موضوعاً للبحث في الأمارة؛ إذ قد يكون موضوعاً للأصل في بعض أفراده؛ وذلك لأن الطريق إذا لم يقم على اعتباره دليل كان مورد من موارد الأصول، مع

ص: 56


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 37.
2- نهاية الدراية 3: 17.
3- منتقى الأصول 4: 10.

أنه يصدق عليه قيام الطريق لا بشرط من حيث الاعتبار وعدمه.

وأجيب(1): بأن المحقق الإصفهاني لم يكن في صدد بيان موضوع إجراء الأمارات أو الأصول، بل بصدد فهرسة مواضيع الكتاب وفصوله، فلم يجعل الثاني مورداً للتمسك بالأمارة كي يقال في بعض الموارد مع عدم ثبوت حجيتها لا بد من التمسك بالأصل، بل جعل الثاني مورداً للبحث في الأمارة، وعليه فلا تداخل أصلاً.

المبحث الثاني: في شمول المقسم لغير المجتهد
اشارة

ف- (المكلّف) أو (البالغ الذي وضع عليه القلم) في المقسم الآنف هل يختص بالمجتهد، أم يشمل غيره؟

والبحث في مسائل ثلاث:

المسألة الأولى: في شمول مباحث الحجج والأصول العملية لغير المجتهد.

قد يقال: إن المقسم يشمل غير المجتهد وكذلك الأقسام، إلاّ أن الفرق في المصداق، فالطريق المعتبر للمقلّد هو فتوى المجتهد، فيقال: الحكم الواقعي إما يقطع به فعليه العمل به من غير رجوع إلى المجتهد، وإن لم يقطع فإن قام عنده الطريق المعتبر - وهو فتوى المجتهد لا غير - عمل به، وإلاّ فعليه الرجوع إلى الأصول العملية، وهكذا في الحكم الظاهري، فقد يقطع بفتوى المجتهد، وقد يأخذها عن طريق معتبر، وقد لا يكون له طريق... .

ص: 57


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 38.

وأشكل عليه(1): بأن أخصيّة المحمول دليل على أخصية الموضوع، لاستحالة حمل الأخص بما هو أخص على الأعم بما هو أعم، لاستلزامه الخلف، وفي علم الأصول يكون الغرض في قطع أو ظن أو شك المجتهد، وحيث كان الفرض مخاطبة المجتهد كان هو المختص بالخطاب.

وذلك لأن المقلّد لا يستطيع تحديد الموضوع، فهل القطع طريقي أو موضوعي كي يعرف كون قطعه حجة أم لا، كما لا يستطيع تحديد شرائط تنجيز العلم الإجمالي، ولا التفريق بين الظنون المعتبرة، ولا تنقيح مجاري الأصول العملية... وهكذا سائر المباحث.

وأجيب(2): بعدم تسليم أخصية الفرض؛ لأن الفرض هو بيان الكليّات المنطبقة على موضوعاتها، وعجز العامي في غالب الموارد لا يعني عدم تمكنه من التطبيق في بعض الموارد، فيكون العامي كالمجتهد المتجزي حيث يتمكن من تطبيق بعض القواعد دون بعض، فيمكن خطاب العامي بأن الظن المطلق ليس بحجة، والاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية، واستصحب حياة مجتهدك وعدم تبدل رأيه، وهكذا مسائل كثيرة في الفقه والأصول.

اللهم إلاّ أن يقال: إنّ الفائدة غير الغرض، فغاية علم الأصول مختصة بالمجتهد، فتأمل.

المسألة الثانية: هل أدلة الأحكام الظاهرية تشمل غير المجتهد أم لا؟

ص: 58


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 45.
2- نهاية الدراية 3: 14.

القول الأول: الاختصاص بالمجتهد، واستدل له بأدلة، منها:

الدليل الأول: غفلة المقلد عن الظن والشك، فلا تترتب أحكامها؛ إذ مع الغفلة لا يتحقق الشك أو الظن، ومع عدم تحقق الموضوع لا يترتب الحكم، مع وضوح أن الأحكام الظاهرية موضوعها أو ظرفها الشك.

وأشكل عليه(1): بوضوح حصول الظن أو الشك لغير المجتهد؛ لأنه قد يلتفت إلى الحكم، وغالباً يشك، وقد يحصل له الظن الشخصي أو النوعي.

ولا يضرّ عدم التفاته غالباً؛ وذلك لإمكان التعميم بعدم القول بالفصل(2)، اللهم إلاّ أن يقال: بأن عدم القول بالفصل ليس بحجة، بل الحجة هو القول بعدم الفصل، وهو مفقود في ما نحن فيه؛ لأن المسألة حديثة، مع احتمال الاستناد فيها إلى هذه الأدلة.

والحاصل(3): وضوح حصول الصفتين لغير المجتهد في الجملة، وهو كافٍ في ردّ دعوى السلب الكلي، فالموجبة الجزئية نقيض السلب الكلي المذكور في الدليل، مضافاً إلى أن المجتهد نفسه قد لا يحصل له التفات إلى موضوع من الموضوعات فلا يحصل له الظن أو الشك، وعليه فلا وجه للتفصيل بين المجتهد والمقلّد، فلا بد من التفصيل بين الملتفت وغير الملتفت سواء كانا مجتهدين أم مقلّدين.

الدليل الثاني: عدم التفات غير المجتهد إلى أدلة الأحكام الظاهرية،

ص: 59


1- منتقى الأصول 4: 12.
2- نهاية الأفكار 3: 3.
3- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 51.

فشمول الدليل له لغو.

وأجيب عن الصغرى: بأنه ملتفت إجمالاً لوجود الدليل لعلمه بأن فتوى المجتهد تستند إلى دليل وليست اعتباطاً، وبالالتفات الإجمالي تندفع اللغوية.

وعن الكبرى: باستحالة أخذ قيد الالتفات في موضوع الأحكام، لاستلزامه الدور أو الخلف، كما مرّ.

الدليل الثالث: إن الفحص موضوع أو ظرف للحكم الظاهري، وغير المجتهد عاجز عن هذا الفحص؛ لعدم تمكنه من تشخيص موارد الأمارات و الأصول ومجاريها، وعليه فلا تشمله أدلة الأحكام الظاهرية.

وأجيب: بأنه لا يشترط فيها فحص المكلّف بنفسه، بل كما يمكن الفحص بنفسه يمكن الفحص بواسطة غيره، فيكفي فحص المجتهد في ذلك، وعن المحقق النائيني(1) إن المانع عن شمول ظاهر الأدلة للمقلّد إما العلم الإجمالي بوجود مقيّدات ومخصصات للعمومات والإطلاقات، وإما عدم جريان أصالة العموم والإطلاق قبل الفحص في كلام المولى الذي يعتمد على المخصصات والمقيدات المنفصلة؛ لعدم بناء من العقلاء على العموم والإطلاق وعدم جريان مقدمات الحكمة والتي منها كون المتكلّم في مقام البيان قبل الفحص، ومن المعلوم أن بناء العقلاء هذا لا يتوقف على فحص المكلّف بنفسه، بل يكفي فحص الخبير أو الثقة.

الدليل الرابع: ما في نهاية الدراية(2): عدم انطباق عناوين موضوعات

ص: 60


1- فوائد الأصول 2: 541.
2- نهاية الدراية 3: 13.

الأحكام الظاهرية إلاّ على المجتهد، فإنه الذي جاءه النبأ، أو جاءه الحديثان المتعارضان، وهو الذي أيقن بالحكم الكلي وشك في بقائه، وهكذا.

وأجيب(1): بأن معنى المجيئ ليس هو الوصول إلى شخص المكلّف، بل معناه كون الشيء في معرض الوصول إلى عموم المكلفين مع عدم وجود مانع للمكلّف الخاص، ومن المعلوم أن أدلة الأحكام الظاهرية هي في معرض الوصول إلى غير المجتهد مع عدم المانع، فيكون التكليف في حقه فعلياً.

مضافاً إلى أن المجيء أعم من التفصيلي والإجمالي، والإجمالي حاصل بفتوى المجتهد، كما ذكروا نظير ذلك في قاعدة التسامح حيث ذكروا أن فتوى المجتهد بالاستحباب بلوغ إجمالي للثواب.

كما أن أدلة الإفتاء والاستفتاء توجب تنزيل المجتهد نفسه منزلة المقلّد، فيكون مجيء الخبر إليه بمنزلة مجي الخبر إلى مقلّده، وكذا يقينه وشكه بمنزلة يقين وشك المقلّد، وإلاّ كان تجويز الإفتاء والاستفتاء لغواً(2).

المسألة الثالثة: كيفية تخريج الإفتاء بناءً على عدم شمول أدلة الأحكام الظاهرية لغير المجتهد.

والعويصة: هي في أن الإفتاء هو من باب رجوع الجاهل إلى العالم، وذلك يتم في ما لو علم بالحكم الواقعي المشترك بينهما أو علم بالحكم الظاهري مع شمول أدلة الأحكام الظاهرية للمقلّد، وأما لو قلنا باختصاص

ص: 61


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 57.
2- نهاية الأفكار 3: 3؛ نهاية الدراية 3: 14.

تلك الأدلة بالمجتهد فيكون الحكم المستنبط خاص به، فكيف يفتي بها لغيره؟

وليتضح محل الإشكال لا بد من تقسيم الأدلة ومفادها، وفي التبيين قسّم السيد الأخ المورد إلى مراحل أربع(1)، لا إشكال في المراحل الثلاث الأولى، وإنما الإشكال في المرحلة الرابعة.

المرحلة الأولى: أن ينكشف للمجتهد الواقع بالقطع، فهنا ينكشف له حكم مشترك بين العالم و الجاهل، وحينئذٍ يخبر المجتهد المقلّد بذلك الواقع، وخبره حجة، فيتنجّز ذلك الواقع على المكلّف المقلّد.

المرحلة الثانية: أن ينكشف له الحكم الشرعي بالأمارة المعتبرة، فهنا ثلاثة أمور: الدليل المتضمن للمسألة الأصولية، والدليل المتضمن للمسألة الفرعية، ومفاد الدليل المتضمن للفرعية، والأول والثاني خاصان بالمجتهد على الفرض، لكن اختصاصهما به لا يستلزم اختصاص المفاد به، فالدليل خاص به لا المدلول؛ إذ لا منافاة بين توجيه الخطاب إلى أحد مع عمومية المفاد الذي تضمنه الخطاب إلى كل أحد، وفي ما نحن فيه ليس مفاد الأمارات المعتبرة هو التكليف على خصوص المجتهد، بل المفاد تكليف عموم المكلّفين، والمجتهد يخبر المقلّد بذلك المفاد، وخبره حجة، فيتنجز على المقلّد.

المرحلة الثالثة: أن تنكشف للمجتهد الوظيفة العملية المستفادة من الأصول العملية، مع تحقق موضوع تلك الأصول للمقلّد، فالموضوع متحقق

ص: 62


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 60-64.

في المقلّد، فيرتب المجتهد عليه المحمول، كما لو شك المقلّد في حلية التدخين، فيفتي له المجتهد بالبراءة، لتحقق موضوعها وهو الشك.

إن قلت: كيف يحرز المقلّد عدم وجود الدليل الحاكم أو الوارد على الأصل العملي، أو الدليل المعارض له؟

قلت: ذلك ينحلّ بإخبار المجتهد - ولو بنحو الإجمال - بعدم وجوده.

المرحلة الرابعة: أن تنكشف للمجتهد الوظيفة العملية المستفادة من الأصول العملية مع عدم تحقق موضوع تلك الأصول في حق المقلّد، فكيف يُجري المجتهد في حقه الأصل العملي مع عدم تحقق موضوعه؟

مثلاً لو لم يعلم المقلّد وجوب صلاة الجمعة في عصر الحضور، فلا تتم فيه أركان الاستصحاب، لكن المجتهد يعلم فتتم لديه أركانه، فالمجتهد يستصحب لنفسه لتمامية الأركان له، لكن كيف يستصحبه للمقلّد مع عدم تمامية الأركان عند المقلّد، فإن هذا من ترتيب المحمول مع عدم تحقق الموضوع، فيكون نظير أن يفتي المجتهد الحاضر بوجوب التمام على مقلّده المسافر، أو على جميع مقلديه الحاضر منهم والمسافر؟

ويمكن حلّ العويصة بوجوه، منها:

الوجه الأول: التمسك بقاعدة الاشتراك في التكليف، فوجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة - مثلاً - غير خاص بالمجتهد، بل هو حكم مشترك بينه وبين المقلّدين، فإذا ثبت بالأصل العملي الوجوب للمجتهد ثبت لغيره أيضاً بمقتضى القاعدة!

وأورد عليه: بأن هذه القاعدة خاصة بصورة وحدة الموضوع لا تعدده،

ص: 63

فلذا يستند إليها في الأحكام الواقعية - سواء انكشفت بالقطع أم بالأمارات - ، وأما الأحكام الظاهرية المستفادة من الأصول العملية فهي خاصة بمن يتحقق فيه موضوعها، سواء كان مجرى الأصول الموضوعات الخارجية أم الأحكام الكلية، فمن الأول لو قطع المجتهد بطهارة ثوب ثم شك، وقطع المقلّد بنجاسته ثم شك، فعلى المجتهد إجراء استصحاب الطهارة ويفتي للمقلّد بالنجاسة لاستصحابها، ومن الثاني استصحاب مدرك الشريعتين لمن أدركهما ولا يجري الاستصحاب لمن لم يدركهما ولا تنفع قاعدة الاشتراك لاختلاف الموضوع.

الوجه الثاني: إن متعلّق شك المجتهد - الذي هو موضوع أو ظرف الأصول العملية - ليس خصوص تكليف نفسه، بل شكه تعلّق بتكليف عموم الناس، فهو يعلم بوجوب صلاة الجمعة في عصر الحضور على الجميع مثلاً، ويشك في بقاء هذا التكليف على الجميع، فاستصحابه إنما هو استصحاب حكم الجميع، وأثره الوجوب لنفسه والإفتاء لغيره، وكذا يشك في حرمة التدخين على الجميع، فيجري أصالة البراءة عن هذه الحرمة للجميع، وهكذا سائر الأصول، ثم يفتي للمقلّد بذلك، وبضمّ أدلة وجوب تقليده يجب على المقلّد اتباعه.

وبعبارة أخرى: - كما في المنتقى(1) - يجوز إجراء المجتهد الأصل العملي لترتب أثره العملي الثابت في حق نفسه، وهو جواز الإفتاء به - لا باعتبار أثره في حق مقلده كي يقال إن موضوع الأصل العملي لم يتحقق فيه - وإذا أفتى

ص: 64


1- منتقى الأصول 4: 19.

به المجتهد أخذ به المقلّد لجريان أدلة التقليد.

ثم اعلم أن الأصولين قد ذكروا لحلّ العويصة وجوهاً أخرى خاصة بالاستصحاب، وأكثرها ترتبط ببحوث مبنوية في مباحث الاستصحاب، وللتفصيل راجع التبيين(1).

ص: 65


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 64-78.

فصل فی حجية القطع

اشارة

وفيه مباحث:

المبحث الأول: في أن الآثار للقطع أو للمقطوع

وفيه قولان:

القول الأول: ما ذكره المحقق النائيني(1) من أن المراد من وجوب متابعة القطع هو وجوب متابعة المقطوع، وهو الواقع المرئي بالقطع، وبعبارة أخرى: أن وجوب المتابعة ليست من آثار القطع، بل من آثار الواقع، لا مطلقاً، بل حين تعلّق القطع به، أو بشرط تعلّقه به.

وأشكل عليه: بأن الآثار - كوجوب المتابعة وحرمة المخالفة عقلاً - تترتب على القطع حتى لو كان مخالفاً للواقع، كما أن هذه الآثار لا تترتب على الواقع غير المقطوع به.

وأجيب بوجوه:

1- منها: إن الكلام في القطع الطريقي وهو لا يكون موضوعاً للآثار، فكيف رتبتم آثاراً عليه؟

وفيه: إن معنى الطريقية هو عدم كونه موضوعاً أو جزء موضوع للحكم

ص: 66


1- فوائد الأصول 3: 6.

الشرعي، وهذا لا ينافي كونه موضوعاً للآثار العقلية.

2- ومنها: إن القطع مغفول عنه، لكونه مرآة للواقع المقطوع به، فلا يعقل كونه موضوعاً للآثار.

وفيه: إن مفهوم القطع يمكن النظر فيه، لا بما هو هو وإنما باعتبار كونه مرآة للخارج، فيمكن الحكم على المفهوم بوجوب المتابعة وحرمة المخالفة - مثلاً - باعتبار كون هذا المفهوم مرآة للمصاديق الجزئية للقطع.

3- ومنها: إن تحرك القاطع إنما هو باعتبار المقطوع به، فالعطشان - مثلاً - يحركه الماء بوجوده الواقعي، لا قطعه بوجود الماء!

وفيه: إنه كذلك بنظر القاطع فهو يرى أن محرّكه هو الواقع، لكن في الحقيقة إن المحرّك هو قطعه؛ إذ الواقع بما هو لا يكون محرّكاً، مع أن القطع بدون واقع يكون محرّكاً.

4- ومنها: أن بعض الآثار ليست آثاراً للقطع بما هو قطع، بل هي آثار عدم وجد المؤمِّن، فلذا تترتب حتى مع الاحتمال.

وفيه: أن ترتّب أثر على القطع لا ينافي ترتب نظير ذلك الأثر على غيره؛ للاشتراك في العلة حينئذٍ.

القول الثاني: التفصيل، حيث إن بعض الآثار تترتب على القطع لا المقطوع، مثل لزوم متابعته، وبعض الآثار تترتب على الواقع، كوجوب الموافقة الالتزامية - على القول به - بناءً على كون دليلها شرعياً؛ إذ يجب الالتزام بالحرام الواقعي، لا الحرام المقطوع به مثلاً، وذلك لاشتراك الحكم بين العالم و الجاهل، وبعض الآثار تترتب عليهما معاً، مثل منجزية القطع

ص: 67

للتكليف، فلا تنجيز في صورة الخطأ، كما لا تنجيز مع عدم القطع.

وأشكل على الثاني: بأنه بناءً على كون الدليل شرعياً يكون بحث الموافقة الالتزامية مسألة فقهية وذكرها في الأصول استطرادي، وكلامنا إنما هو في الآثار الأصولية.

وعلى الثالث: بأن الأثر هو الحجية - الشاملة للمنجزية والمعذرية - والموضوع في الحجية يشمل القطع الموافق والمخالف، فليس الأثر هو خصوص المنجزية كي يقال إنها خاصة بالقطع المطابق للواقع، فتأمل.

المبحث الثاني: في طريقية القطع للواقع وحجيته
اشارة

وهنا مسائل ثلاث:

المسألة الأولى: في طريقية القطع للواقع

فقد يقال إن: الطريقية ذاتية للقطع.

وأشكل عليه: بأن القطع قد لا يكون مصيباً للواقع، فتخلّفت الطريقية عن القطع، مع معلومية أن الذاتي لا ينفك عن الذات أبداً سواء ذاتي باب البرهان أم ذاتي باب الكليات(1).

وأجيب: بأن المراد الذاتية في نظر القاطع.

وفيه: أن ملاك الذاتي هو الواقع المحفوظ في صورة العلم والجهل، وهذا لا يختلف باختلاف الأنظار، فمن أخطأ واعتقد بأن الأربعة فرد لا يصح أن

ص: 68


1- ذاتي باب الكليات هو ما ليس بخارج عن حدّ الشيء وبه قوام ذاته، وهو الجنس والفصل والنوع، وذاتي باب البرهان هو ما ينتزع عن ذات الشيء بلا توسط شيء في انتزاعه كالزوجية للأربعة، والإمكان للممكن.

يقال إن الفردية ذاتي لها.

إن قلت: إن الطريقية ذاتية في صورة الإصابة دون صورة الخطأ.

قلت: إن حالة القاطع واحدة سواء في صورة الإصابة أم الخطأ، والاختلاف إنما هو لأمر عرضي خارج عن الذات، ومع وحدة الذات والصفات لا يعقل الاختلاف في الذاتيات، كما أن الأمور الخارجية لا تكون سبباً لاختلاف الذاتي، فتأمل.

وأما القول: بأن الطريقية هي عين القطع، فغير تام؛ وذلك للانفكاك بينهما، ولا يعقل انفكاك الشيء عن نفسه.

وحيث إن المراد هو الطريقية إلى الواقع الخارجي، فلا يصح القول بعدم انفكاك العلم والمعلوم في الذهن حيث يتحدان أو يتلازمان دائماً.

المسألة الثانية: في حجية القطع ذاتاً

بمعنى حكم العقل بوجوب الجري على طبقه، وهو ذاتي للقطع؛ إذ عدم الذاتية مستلزم للتسلسل؛ إذ كل دليل إما قطعي أو ظني، فعلى الأول يلزم إقامة دليل على حجيته أيضاً، فيتسلسل، والثاني باطل قطعاً؛ لأن الأقوى - وهو القطع - إن لم يكن حجة فالأضعف - وهو الظن - لا يكون حجة بطريق أولى.

كما أنه لو لم تكن الحجية ذاتية له، أمكن النهي عنه، وهو مستلزم للتناقض واقعاً أو في نظر القاطع، وكلاهما محال، كما سيأتي في المبحث الرابع.

المسألة الثالثة: في عدم قابلية جعل الحجية للقطع

أما الجعل التشريعي فهو لغو، بل من أردأ أنواع تحصيل الحاصل؛ إذ هو

ص: 69

تحصيل تعبدي لما هو حاصل تكويناً.

وأما الجعل التكويني بمعنى الجعل البسيط وذلك بإيجاد القطع خارجاً عبر إيجاد مقدماته، فتترتب عليه الحجية، فهو بمكان من الإمكان، كإيجاد الزوجية بإيجاد الأربعة. نعم، لا يعقل الجعل التأليفي بأن يكون هناك جعلان مستقلان أحدهما للقطع والآخر للحجيّة، وذلك لوجود الذاتي بوجود الذات قهراً.

المبحث الثالث: في وجوب الجري طبقاً للقطع

قال الشيخ الأعظم: «لا إشكال في وجوب متابعة القطع والعمل عليه ما دام موجوداً»(1).

وأشكل عليه: أولاً(2): بأنه إنما تجب الحركة على وفق القطع إذا أذعن بوجود أثر لازم الاستيفاء ولم يكن هناك مزاحم أهم ولا مساوٍ في نظر العقل، فلو لم يكن أثر فلا غرض فلا وجوب للحركة، بل قد يقال: إن تحقق الحركة خارجاً ممتنع؛ إذ العلة الغائية هي عِلة فاعلية العلة الفاعلية، وعليه فلو قطع بشيء ولم يكن له غرض واجب الاستيفاء أو كان مزاحماً بالأهم أو المساوي في نظره فلا وجوب في متابعة القطع.

إن قلت: في كل قطع غرض لازم الاستيفاء؛ وذلك لأن القاطع يرى حرمة افتراء الكذب - شرعاً أو عقلاً - بخلاف ما قطع به، فيستقل العقل بلزوم الانزجار.

ص: 70


1- فرائد الأصول 1: 29.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 96-98.

قلت: إن ذلك فرع الالتفات إلى هذا الحكم - العقلي أو الشرعي - فمع عدمه لا حكم للعقل.

إن قلت: المقصود هو الأثر الذي يترتب عليه غرض الأصولي بما هو أصولي، وهو خاص بالقطع بالحكم المولوي؛ وذلك لأن خصوص الغرض يقتضي تخصيص الموضوع!

قلت: إن من الأحكام المولوية ما هي غير إلزامية، فلا ينبغي إطلاق القول بوجوب الحركة على طبق القطع بها، فتأمل.

وثانياً: بأن المراد من وجوب الجري طبقه إما الوجوب العقلي أو العقلائي، وكلاهما غير محتمل.

أما الوجوب العقلي: فقد يقال: بأنه لا حكم للعقل أصلاً، بل إما إدراك الأمور من غير حكم فيها، وإما الملائمة والمنافرة للقوة العقلية، نظير ما يقال: إن الانتقام إنما هو بحكم القوة الغضبية، ويراد به ملائمته لها، فليس للعقل سوى الانفعال.

وأما الوجوب العقلائي: فقد يقال: بعدم وجوده أيضاً، قال المحقق الإصفهاني(1): كما لا بعث ولا تحريك اعتباري من العقلاء!

ويرد على الأول: أن الوجدان قاضٍ بأن للعقل بعثاً وزجراً، فليس هناك مجرد انفعال، بل فعل، فنرى فرقاً وجداناً بين إدراك العقل بأن الكل أعظم من الجزء وبين إدراكه حسن العدل وبعثه نحوه، وكذا إدراكه قبح الظلم وزجره عنه.

ص: 71


1- نهاية الدراية 3: 18.

وعلى الثاني: بأن العقلاء يلزمون القاطع باتباع قطعه إذا كان متعلقه تكليف المولى، ويرونه مستحقاً للعقوبة لو خالف قطعه، وذلك ثابت بالوجدان.

والحاصل: أنه لا إشكال في وجود أحكام للعقل والوجدان يدل على لزوم اتباع هذا القطع، وإلاّ لزم التسلسل؛ إذ لا بد من إقامة الدليل القطعي على لزوم الاتباع، وحيث إنه قطعي لا بد من إقامة البرهان على اتباعه و هكذا.

تذييل: اختلف في منشأ الوجوب العقلي، فقيل: هو استحقاق العقاب على مخالفة المولى، وقيل: هو الإذعان باستحقاق العقوبة، وقيل: إن نفس مولوية المولى مقتضية لذلك حتى مع القطع بعدم استحقاق العقاب!!

لكن المحقق الإصفهاني(1) ذهب إلى أن استحقاق العقوبة ليست من الآثار القهرية واللوازم الذاتية لمخالفة التكليف المعلوم، بل هي من اللوازم الجعلية العقلائية؛ لأن حكم العقل باستحقاق العقاب ليس مما اقتضاه البرهان، بل هو من المشهورات التي تطابقت عليها آراء العقلاء؛ وذلك لعموم مصالحها!!

ويرد عليه: أولاً: أنا نرى بالوجدان عدم قبح عقاب المخالف قبل تحقق الجعل العقلائي، كالإنسان الأول.

وثانياً(2): إن تطابق آراء العقلاء لا بد له من منشأ بأن ينشأ بناؤهم عن

ص: 72


1- نهاية الدراية 3: 22.
2- منتقى الأصول 4: 24-25.

شيء راجح، بحيث يكون ما بنوا عليه من مصاديقه؛ وذلك لامتناع أن يكون تطابقهم عن ارتجال، فإن ذلك ينافي فرض كونهم عقلاء.

وعليه فإذا فرض كون بنائهم ناشٍ عن أمر راجح - كحفظ النظام - فننقل الكلام إليه، فهل رجحانه أمر عقلي أو عقلائي، والثاني يستلزم التسلسل، والأول لازمه عدم كون حسن العدل وقبح الظلم عقلائياً مجعولاً، بل أمر عقلي واقعي؛ لأنه من مصاديق العنوان الراجح العقلي، فالعدل هو حفظ النظام وهو حسن، والظلم إخلال به وهو قبيح، فتأمل.

المبحث الرابع: هل يمكن ترخيص الشارع في مخالفة القطع؟

سواء كان بالمنع عن العمل بالقطع أم الترخيص في مخالفته، ومحل البحث إنما هو في القطع بالحكم الفعلي مع كون القطع طريقياً؛ إذ

لا محذور في مخالفة القطع بالحكم الاقتضائي أو الإنشائي ما لم يصل إلى مرتبة الفعلية، كما أن القطع الموضوعي يكون القطع جزءاً من الموضوع، بمعنى أن الحكم يترتب على القطع الحاصل من سبب خاص لا على غيره، فإذا انتفى ذلك السبب الخاص بأن كان القطع من سبب آخر، انتفى الموضوع.

والأكثر على عدم إمكان الترخيص في مخالفته إذا تعلّق بحكم إلزامي، واستدل لذلك بأدلة، منها:

الدليل الأول: استلزام الترخيص التفكيك بين اللازم والملزوم العقليين وهو محال؛ وذلك لأن اللوازم العقلية غير قابلة للوضع لكونه تحصيلاً للحاصل، ولا للرفع لكونه خلف فرض كونه لازماً للذات.

ص: 73

نعم، يمكن إزالة القطع خارجاً فيزول لازمه، لكن هذا خارج عن محل البحث.

وأشكل عليه: أولاً: مبنىً - بما مرّ عن المحقق الإصفهاني - من أن استحقاق العقوبة على مخالفة التكليف المقطوع به لازم جعلي لا ذاتي، فيمكن الردع عنه، فينتفي إدراك العقل باستحقاق العقاب على المخالفة.

وفيه: ما مرّ آنفاً في المبحث الثالث من الإشكال على المبنى.

وثانياً: بما عن صاحب الفصول(1): من أن حكم العقل بوجوب متابعة القطع بالحكم الفعلي ليس تنجيزياً، بل هو معلّق على عدم ورود ترخيص من الشارع على مخالفته، وبعبارة أخرى: أن حكمه على نحو المقتضي

لا العلة التامة، ومن الواضح إمكان إيجاد المانع فلا يؤثر المقتضي أثره، مثلاً لو كان قطعه خلافاً للواقع أو كان ملاك المقطوع به مزاحم بملاك أقوى أو مساوي فيكون ذلك مانعاً عن تأثير المقتضي؛ وذلك لوجود مصلحة أهم في الردع، كالنهي عن عمل الوسواسي بقطعه!

وفيه: أن ذلك إرجاع للقطع إلى القطع الموضوعي، أي القطع الذي

لا ينشأ من الوسوسة في المثال، كما يقال نظير ذلك في العناوين الثانوية، فالميتة غير المضطرة إليها محرمة، بمعنى جعل الاضطرار جزءاً من الموضوع للحكم بالحرمة.

الدليل الثاني: يلزم من الترخيص في مخالفة القطع اجتماع الضدين اعتقاداً مطلقاً، واجتماعهما واقعاً في صورة الإصابة.

ص: 74


1- الفصول الغرويّة: 343.

وقد يقال: إن المحذور هو عدم إمكان تصديق المكلّف بهما معاً، وما لا يمكن تصديق المكلّف به يستحيل جعله من قبل المولى بداعي جعل الداعي، وفي نهاية الدراية(1): وكفى به مانعاً لعدم تمكن المكلّف من تصديقه بعد تصديقه بمثله أو ضده أو نقيضه، فلا يعقل من المولى حينئذٍ البعث والزجر؛ لأنهما لجعل الداعي المفروض استحالته في نظر المكلّف، وبعبارة التبيين(2): إذا فقدت العلة الغائية استحال المعلول، وحيث إن العلة الغائية للتكليف هو جعل الداعي، فإذا استحال هذا الجعل استحال التكليف.

وأشكل عليه: مبنىً بعدم التضاد في الأحكام الشرعية؛ وذلك لأن الإرادة والكراهة وكذا البعث والزجر الاعتباريين لا تضاد ولا تماثل بينهما، وبعبارة أخرى: لا وجود للأمور الاعتبارية إلاّ في وعاء الاعتبار - وهو وجود افتراضي - فلا يصح نعتها بالأوصاف الحقيقية التي هي للموجودات الخارجية.

وفيه: ما مرّ في مباحث اجتماع الأمر والنهي من وجود التضاد في المبدأ وهو الإرادة، والمنتهى وهو المراد؛ إذ مع الالتفات إلى تضادهما لايمكن إرادتهما معاً.

إن قلت: إن الداعي إلى التكليف ليس منحصراً في جعل الداعي، وعليه فيمكن أن يكون أحد الحكمين بداعي جعل الداعي، والآخر بداعي آخر.

إذ قد يكون جعل الداعي محالاً، كالنائم عن الفريضة في كل الوقت، فيكون الداعي لتكليفه هو ثبوت القضاء عليه - بناءً على كونه بالأمر الأول

ص: 75


1- نهاية الدراية 3: 19-20.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 119.

أو لتحقق الفوت - ، وكالمعاند الذي يكون الداعي لتكليفه هو إتمام الحجة لا جعل الداعي المعلوم انتفاؤه فيه.

قلت: إن داعي التكليف ليس جعل الداعي، بل هو إمكان جعل الداعي، وهو متحقق في جميع موارد التكليف، كما أن خطاب النائم لغو مادامه نائماً فيكون وجوب القضاء عليه بدليل مستقل، كما أن مقولة إن القضاء يتبع الأداء، لا عموم فيه؛ لعدم محذور في عدم تبعيته بعد أن كان كل منهما اعتباريّاً، فتأمل.

الدليل الثالث: استلزام ذلك للّغوية ونقض الغرض في صورة الإصابة؛ إذ من اللغو أن يكلّف المولى عبده بشيء ثم يرفع تكليفه حين القطع به، كما أنه نقض للغرض؛ إذ التكليف إنما هو عن مصلحة أو مفسدة، فإذا كان القطع يرفع التكليف - مع عدم إمكان رفع المصلحة أو المفسدة بالقطع لأنهما تكوينيان - لزم تفويت ملاك الحكم وهو قبيح.

وقد يجاب: بأنه في حالة الظن تكون الحجية، فلا لغوية ولا تفويت في هذه الحالة، كما أنه يمكن تبدل المصلحة مع العلم، فتأمل.

الدليل الرابع: إنه يلزم من وجوده عدمه، فلو قال: لو قطعت بالوجوب حرم عليك، يلزم منه أنه حين قطعه بالوجوب يزول هذا القطع وذلك لقطعه بالحرمة، وعليه فلا قطع بالوجوب فلا تكون حرمة؛ إذ الحكم تابع للموضوع.

اللهم إلا أن يقال: إن قطعه بالوجوب في المثال علة محدثة للحكم بالحرمة لا مبقية، فلا يدور الحكم بالحرمة مدارها، فتأمل.

ص: 76

المبحث الخامس: في معذرية القطع

وذلك في صورة عدم إصابة القطع للواقع.

وقد يستدل له: بأن المنجزية والمعذرية ضدان لا ثالث لهما، فبانتفاء المنجزية تتحقق المعذرية حتماً؛ وذلك لأن المنجزية إنما هي بوصول التكليف - ولو احتمالاً - إلى المكلّف لعدم كون التكليف بوجوده الواقعي محركاً إلاّ إذا علم به المكلّف أو احتمل وجوده، ومع القطع بالخلاف

لا وصول للتكليف ولو بنحو الاحتمال، لمنافاة الاحتمال للقطع، فلا منجزية فيكون معذوراً حتماً.

هذا إذا كان عدم وصول التكليف عن قصور، وأما لو كان عن تقصير فلا معذرية له؛ إذ ما بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً، فالقطع عن سوء الاختيار لا يرفع اختيار العبد في عدم وصول التكليف إليه، فيصح عقابه. نعم، لا يصح خطابه حين القطع.

إن قلت: إن كون القطع معذراً مستلزم لتقييد الأحكام بالعلم وهو محال؟

قلت: ليس ذلك تقييداً للأحكام، بل التنجيز منوط بالعلم، ولا محذور فيه.

ص: 77

فصل فی التجري

اشارة

وفيه مطالب:

المطلب الأول: في معنى التجري

وهو المخالفة اعتقاداً مع عدم المخالفة واقعاً.

وقد يقال(1): إنه أعم من ذلك، فيدخل فيه الاقتحام من غير مؤمِّن عقلي أو شرعي حتى وإن لم تتحقق في اعتقاده مخالفة قطعية، كما لو ارتكب بعض أطراف العلم الإجمالي برجاء مصادفة الحرام، أو برجاء عدم مصادفته، فاتفق عدم المصادفة.

ولكن مع وجود المؤمِّن الشرعي أو العقلي فلا تجرّي حتى لو احتمل مخالفة الحكم الواقعي، كما لو أجرى أصالة البراءة مع احتمال مخالفتها للواقع.

وهذا المعنى الاصطلاحي أخص مطلقاً من المعنى اللغوي الشامل للمخالفة الواقعية أيضاً.

المطلب الثاني: في حرمة الفعل المتجرّى به

سواء الحرمة بالعنوان الأولي أم الثانوي، وقد يستدل لذلك بأدلة، منها:

ص: 78


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 133.

الدليل الأول: إن موضوع الحرمة لا يمكن أن يكون الشيء بوجوده الواقعي؛ وذلك لأن معنى الشيء بوجوده الواقعي هو (الشيء المصادف للواقع)، ومن المعلوم أن إصابة الواقع وعدمها ليسا اختياريين، بدليل أنه لو كانا اختياريين لما أخطأ القاطع أبداً، مع وضوح كثرة عدم إصابة القطع للواقع.

وعليه فمعنى (لا تشرب الخمر) هو (لا تشرب مقطوع الخمرية)، فلا فرق فيه بين إصابة الواقع وخطئه.

وأشكل عليه: بأن القدرة على بعض أجزاء المركب تكفي في القدرة عليه، وكذا مقدورية بعض المقدمات كافية وإن كانت بعضها غير مقدورة، أو كان من الأفعال التسبيبية التي لا قدرة على المسبب بنفسه لكن يكفي في مقدوريته القدرة على بعض مقدماته.

وفي ما نحن فيه (الشرب المصادف للواقع) مقدور بسبب القدرة على جزء الموضوع وهو الشرب، وهذا المقدار يكفي في صحة التكليف والعقوبة على المخالفة.

الدليل الثاني: ما نقله المحقق النائيني(1)، وحاصل الدليل مركب من مقدمتين:

1- أن الموضوع ليس هو الوجود الخارجي لاستحالة الانبعاث والانزجار عنه ما لم يتصف بصفة المعلوميّة، أي إن المحرّك هو صفة العلم، فلها الموضوعية في تحقق الإرادة من غير فرق بين أن يكون للصورة النفسانية واقع يطابقها أم لا.

ص: 79


1- فوائد الأصول 2: 37-38.

2- إن داعي المولى في بعثه وزجره هو انبعاث أو انزجار المكلّف تكويناً، أي إن الغرض من التكليف هو إيجاد الإرادة التكوينية للمكلف نحو المطلوب.

ولا يعقل أن يكون الغرض من التكليف هو (تحريك إرادة العبد التكوينية المصادفة للواقع) وذلك لأن المحرّك ليس هو الواقع، بل هي الصورة العلمية، وعليه فيكون التكليف هو لتحريك مطلق الإرادة - صادفت الواقع أم لم تصادف - ، فيكون دليل تحريم الخمر دالاً على تحريم مقطوع الخمرية، أي لا تُر ِدْ مقطوع الخمرية، وهذا قد خالفه العاصي والمتجري على حدّ سواء.

وأشكل عليه: أولاً: بالنقض بالواجبات، لشمول الدليل لها، كما لو قطع بأنه بالغ، فحجّ ثم تبيّن عدم بلوغه، فعلى هذا الدليل لا بد من الاكتفاء به وعدم لزوم تكرار الحج، وهذا لا يمكن الالتزام به.

وثانياً: إشكال على المقدمة الأولى(1)، من أن المحرّك هو الواقع بشرط انكشافه أو الواقع منضماً إلى انكشافه، وبعبارة أخرى: ليس للعلم هنا موضوعية، بل طريقية، وهذه الإرادة لا توجد في المتجري؛ وذلك لعدم وجود (واقع معلوم) بل مجرد (قطع غير متطابق مع الواقع)، وبعبارة ثالثة: لم يكن التكليف بمطلق المحرّك، بل بخصوص الواقع المنكشف.

وثالثاً: على المقدمة الأولى أيضاً، بأن المحرّك ليس هو العلم، بل الالتفات، وبينهما عموم مطلق لشمول الالتفات إلى الظن والشك والوهم،

ص: 80


1- فوائد الأصول 2: 39.

وعليه فلا يصح جعل المحرّك خصوص العلم، فالعطشان يتحرك لمجرد احتمال وجود الماء، ولو رمي شبحاً باحتمال أنه إنسان فأصابه، ثم تبين أنه إنسان وقد قتله، تترتب عليه آثار القتل العمدي.

وفيه: إنه لا يضر بالإشكال، بل يوسّعه، أي بدل (لا تشرب معلوم الخمرية) يكون التكليف هو (لا تشرب محتمل الخمرية)، وهذا يشترك فيه المتجري والعاصي.

ورابعاً: إشكال على المقدمة الثانية(1)، بأن مفاد التكليف هو (الفعل الصادر عن إرادة) لا (إرادة العبد للفعل)، فهناك فرق بين (لا تُر ِدْ شرب الخمر) المشترك بين المتجري والعاصي، وبين (لا تشرب الخمر الإرادي) الذي لا يشمل المتجري؛ لأنه لم يشرب الخمر أصلاً.

وذلك لأن المصلحة أو المفسدة تترتبان على (الفعل الإرادي) لا على (إرادة الفعل).

وخامساً: منع المقدمة الثانية؛ وذلك لأن التكليف من شأنه الدعوة، فيكون المدعو إليه عنواناً في طول عنوان المعروض، فما هو المعروض لايعقل أخذ الإرادة فيه - ولو قيداً - لأن الإرادة إما ناشئة عن غير دعوة التكليف فهي أجنبيّة عنه، وإما ناشئة عن التكليف بنفسه فهي معلولة له، فلا يعقل أن تكون قيداً في موضوعه، وعليه فالفعل الصادر عن الإرادة الناشئة عن دعوة التكليف معلول له لا معروضه، فلا محيص عن تجريد المعروض عن الإرادة رأساً.

ص: 81


1- فوائد الأصول 2: 40.

وأجيب(1): بأن المعروض هو الشيء بماهيته - بما هي مرآة للخارج - والمعلول هو الشيء بوجوده العيني في الخارج، نظير العلة الغائية، حيث إنها علة فاعلية الفاعل بوجودها الذهني، ومعلولة له بوجودها الخارجي.

الدليل الثالث: قاعدة الملازمة، وحاصله: أن الفعل المتجرى به قبيح فاعليّاً ومحرّم عقلاً، وكلّما حكم العقل بحرمته وقبحه حكم الشرع بحرمته!

وأشكل عليه بأمور، منها:

الإشكال الأول: ما ذكره المحقق النائيني(2)، وحاصله: عدم إمكان استتباع القبح الفاعلي للخطاب الشرعي المولوي بحرمة ارتكاب الفعل المتجرى به؛ لأن هذا الاستتباع يفرض على أنحاء ثلاثة، وكلها ممتنعة، إما استتباع القبح الفاعلي لسراية الحرمة الثابتة لشرب الخمر الواقعيّة مثلاً إلى شرب مقطوع الخمرية، وإما استتباعه لحكم مماثل مع اختصاص هذا الحكم المماثل لخصوص عنوان المتجري، وإما استتباعه لحكم مماثل يعمّ المتجري والعاصي.

أما الفرض الأول: فهو محال؛ لأن القبح الفاعلي متأخر رتبة عن التكاليف الواقعيّة؛ إذ الحرمة الواقعية صارت سبباً للقبح الفاعلي، مثلاً القبح الفاعلي في شرب مقطوع الخمرية هو بسبب حرمة شرب الخمر ولولاها لما كان هناك قبح في شرب مقطوع الخمرية.

وما كان في مرتبة متأخرة عن التكليف لا يمكن استتباعه للتكليف؛ إذ

ص: 82


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 149.
2- فوائد الأصول 3: 42-46.

ذلك موجب لتقدم الشيء على نفسه وتأخره عنه.

إن قلت: إن المحال هو الاستتباع بنحو العلية، وأما إذا كان بنحو الكاشفية فلا إشكال، نظير كل دليل إنيّ ينتقل فيه من المعلول إلى العلة، نظير حكم العقل بحرمة الظلم، حيث يحرم شرعاً بحكم الملازمة، فالحكم العقلي كاشف عن الحرمة الشرعية لا مولّد لها!

قلت: القبح أمر واقعي وليس بجعليّ، وهو علّة للحكم الشرعي - المكشوف بحكم الملازمة - وحيث إن قبح شرب مقطوع الخمرية متوقف على حرمة شرب الخمر الواقعيّة فلا يمكن أن يكون علّة لها!

إن قلت: في المجعولات يمكن أن يكون خطاب واحد شاملاً لها مع تأخر بعضها عن بعض، كما في الخبر بالواسطة، حيث إنه مع تقدم الخبر بلا واسطة عليه فإن خطاب الحجية شامل لهما، وفي ما نحن فيه يكون وصول الحرمة الفعليّة للخمر الواقعيّة مأخوذاً في موضوع الحرمة الفعلية في الفعل المتجرى به، مع كون الحرمتين مجعولتين بخطاب واحد!

قلت(1): لا تنطبق الكبرى على ما نحن فيه، والقياس مع الفارق؛ وذلك لأن شمول الدليل في الخبر للفرد الأول يولّد فرداً جديداً من أفراد الموضوع تعبداً، فيشمله الحكم الجاري على الموضوع، وأما في ما نحن فيه فالفرد الثاني مباين للفرد الأول فلا يشمله حكمه؛ إذ موضوع قوله (الخمر حرام) هو الخمر الواقعية، وهذا يستتبع حكم العقل بقبح الفعل المتجرى به، وبعد حكم العقل بذلك يحكم الشرع - لقاعدة الملازمة - إلاّ أن (مقطوع

ص: 83


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 161.

الخمرية) ليس فرداً من أفراد (الخمر الواقعيّة) لا حقيقةً ولا تعبداً، فبعد أن كانت الحرمة محمولة على الخمر الواقعية يمتنع ثبوتها لغيرها.

وأما الفرض الثاني: هو استتباع القبح الفاعلي لثبوت حرمة مماثلة لخصوص عنوان (المتجرى به)! وهذا أيضاً محال؛ لاستحالة التكليف في ما ينقلب موضوعه بالوصول إلى المكلّف؛ وذلك لعدم كون هذا التكليف محرّكاً، فقبل الوصول لا تحريك لعدم العلم به، وبعد الوصول لا تحريك لانقلاب الموضوع، كما ذكروا نظيره في ناسي السورة حيث لا يمكن خطابه بقولنا: أيّها الناسي للسورة لا تجب عليك قراءتها! إذ بمجرد الخطاب ينقلب متذكراً.

وما نحن فيه من هذا القبيل؛ إذ لو عُلّق التحريم على عنوان المتجري فقبل وصول التحريم لا باعثية للتكليف، وبعد وصوله يلتفت المتجري إلى خطئه فينقلب الموضوع، فلا تحصل باعثية على كل حال، فيكون الخطاب لغواً لا يصدر من الحكيم!

وأورد عليه: بعدم لزوم الانقلاب ولا اللغوية؛ لأن التجري لا يختص بالعلم الوجداني، بل يجري في القطع التعبدي، كما لو قامت بينة على خمرية هذا المائع، مع احتمال المكلّف مخالفتها للواقع، فإنه يعلم تفصيلاً بحرمة هذا المائع إمّا لكونه خمراً واقعاً أو لكونه مقطوع الخمرية تعبداً، حيث إن كليهما محرّم، فلا انقلاب، كما أن لهذه الحرمة آثاراً كوجوب التوبة وسقوط العدالة ونحو ذلك فلا لغوية.

وأما الفرض الثالث: وهو استتباع القبح الفاعلي لثبوت حرمة مماثلة تعمّ المتجري والعاصي، بأن يكون موضوعها المتمرّد ونحوه.

ص: 84

وهذا أيضاً محال؛ للزوم اجتماع المثلين في نظر القاطع دائماً - وإن لم يلزم ذلك في الواقع - ؛ وذلك لأن القاطع لا يحتمل المخالفة، وإلاّ لم يكن قاطعاً، ففي نظره يجتمع الحكمان دائماً على موضوع واحد، وأحد الحكمين لا يكون داعياً ومحركاً لإرادة العبد أبداً، ومن اللغو تشريع حكم لا يوجب البعث ولو في مورد واحد.

وفي ما نحن فيه لو فرض أن للخمر حكم ولمعلوم الخمرية حكم آخر، فبمجرد العلم بخمرية شيء يعلم المكلف بوجوب الاجتناب عنه لكونه خمراً واقعاً، فالحكم الآخر وهو وجوب الاجتناب لكونه معلوم الخمرية لا يصلح للباعثية؛ إذ ليس له مورد آخر يمكن استقلاله في الباعثية، فإن العلم بالخمرية ملازم دائماً للعلم بوجوب الاجتناب عنه المترتب على الخمر الواقعية، فإن القاطع لا يحتمل المخالفة أبداً، وعليه فلا يمكن توجيه خطاب آخر على معلوم الخمريّة.

وبعبارة أخرى: النسبة الواقعيّة بين موضوع اجتنب الخمر واجتنب مقطوع الخمرية، وإن كانت العموم والخصوص من وجه، إلاّ أنها في نظر القاطع - الذي يراد تحريكه - العموم والخصوص المطلق؛ لأن القاطع لا يحتمل مخالفة قطعه للواقع، فهو يرى أن (اجتنب مقطوع الخمرية) أخص موضوعاً من (اجتنب الخمر)، وعليه فالمحرّك هو خطاب اجتنب الخمر لا اجتنب مقطوع الخمرية.

وأجيب(1) أولاً: بأنه لا محذور في وجود تكليفين أحدهما يتعلق بالكلي

ص: 85


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 171-172.

والآخر بالحصة، ولا داعي لحمل تكليف الحصة على التأكيد؛ إذ التكليف تابع للملاك، ولا مانع من وجود ملاكين في الحصة؛ وذلك لأن المحذور:

1- إما اجتماع المثلين، ولا يلزم هنا؛ لأن التكليف اعتباري فرضي وليس وجوداً حقيقياً.

إن قلت: تجتمع إرادتان وهما وجود حقيقي؟

قلت: لا مانع ثبوتاً من وجود إرادة واحدة ينشأ منها اعتباران متماثلان متعلقان بشيء واحد.

2- وإما اللغوية في الجعل الثاني، ولا يلزم ذلك؛ إذ تعدد التكليف قد يكون مؤثراً في انزجار الكثيرين مع ترتب عقوبات متعددة.

3- وإما عدم الوقوع خارجاً، فالكلام هنا في الإمكان لا في الوقوع، فتأمل!

وثانياً: إن النسبة بين التكليفين العموم من وجه حتى في نظر القاطع؛ إذ القاطع يعلم أن بعض القاطعين مخطؤون في قطعهم، أو هو بنفسه في سائر قطوعه، فيكون جعل حكمين معقولاً في نظره.

وفيه: أن هذا لا يدفع محذور عدم محركية القطع باجتناب مقطوع الخمرية مثلاً؛ لأن القاطع لا يرى النسبة عموماً من وجه في قطعه هذا، بل حين القطع يرى النسبة العموم المطلق، فلا يصلح التكليف بالأخص للمحركية أبداً، فيكون لغواً.

وثالثاً(1): بأن هذا إنما يتم في باب المحرّمات لا الواجبات؛ إذ مع اعتقاد

ص: 86


1- منتقى الأصول 4: 47.

وجوب شيء لا تكون الحرمة الناشئة من التجري واردة على نفس متعلّق الوجوب، بل تتعلق الحرمة بالترك؛ لأنه عنوان المخالفة والعصيان، ومن الواضح أنه لا تماثل بين وجوب الفعل وحرمة الترك لاختلاف الموضوع.

وفيه: أن هذا وإن دفع محذور اجتماع المثلين، لكنه لا يدفع ملاك الاستحالة باللغوية؛ لأن التكليف الوجوبي إن كان محرّكاً فلا فائدة في التحريم على التجري في الترك، وإن لم يكن التكليف الوجوبي محرّكاً لم يكن التحريمي محركاً أيضاً؛ لأن حكم الأمثال في ما يجوز وما لايجوز واحد.

فتحصل من كل ذلك أن الفرض الأول محال، ولا استحالة في الفرض الثاني والثالث.

هذا تمام الكلام في الإشكال الأول الذي ذكره المحقق النائيني على دليل الملازمة لإثبات حرمة الفعل المتجرى به.

الإشكال الثاني: إن قاعدة الملازمة تجري في سلسلة العلل، ولا تجري في سلسلة المعاليل، وما نحن فيه من الثاني.

بيانه: إنه في سلسلة العلل، لو أدرك العقل المصالح والمفاسد الواقعية من غير مزاحم فلا محالة ينتج منه حكم شرعي؛ لأن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد.

لكن تحقق ذلك بالعلم بهما من غير مزاحم نادر جداً؛ لعدم إحاطة العقل بذلك، ولا يكفي مجرد الظن؛ لأن العقل لا يحكم إلاّ في صورة القطع واليقين.

وأما سلسلة المعاليل، بمعنى أنه بعد حكم الشرع بشيء يحكم العقل أو

ص: 87

يدرك حسن الإطاعة وقبح المعصية مثلاً، فلا دليل على استلزام هذا الحكم العقلي حكماً شرعياً، بل لا يمكن ذلك لجهتين:

الجهة الأولى: إن حكم العقل إن كان كافياً في الانزجار والانبعاث، كان التكليف الشرعي لغواً، وإن لم يكف فيهما فلا يفيد الحكم الشرعي أيضاً؛ لأن العاصي كما لم يطع العقل لا يطيع الشرع أيضاً.

الجهة الثانية: لو كان القبح مستلزماً لحكم شرعي بالحرمة لزم التسلسل؛ لأن التجري والعصيان قبيحان عقلاً، وقبحهما يستتبع الحرمة الشرعية، وعصيان هذه الحرمة أو التجري فيها أيضاً قبيح عقلاً، وهو مستلزم للحرمة الشرعية... وهكذا!

ويرد على الأولى: ما مرّ أن للمحركية شدةً وضعفاً، فلو قامت الحجة الشرعية - من غير قطع - فقد يقتحم المكلّف برجاء عدم الإصابة، لكن لو علم بالحرمة على كل حال فقد يرتدع لعلمه بالحرمة على كل حال سواء أصاب أو لم يصب، كما أن حكم العقل قد لا يكون رادعاً لكثير من الناس؛ إذ قد لا يهمهم حكم العقل ولا المصلحة أو المفسدة، لكنهم قد يرتدعون لو كان حكم شرعي يستتبع عقوبة إلهيّة.

وعلى الثانية: إنه لا تسلسل في الأمور الاعتبارية ولا الانتزاعية، لانقطاعه بانقطاع الاعتبار أو الانتزاع، وما نحن فيه من هذا القبيل، وعليه فلا يلزم أحكام غير متناهية شرعية؛ إذ عدم التناهي فيها إنما هو بحسب المفهوم لا المصداق، ولا محذور في الأول، والثاني ينقطع بانقطاع الالتفات، فتأمل.

هذا تمام الكلام في الدليل الثالث على حرمة الفعل المتجرى به.

ص: 88

الدليل الرابع: الآيات والروايات التي دلت على العقاب على القصد، وهي طوائف متعددة ذكرها السيد الأخ في التبيين، فراجع(1).

وأشكل عليه: أولاً: بأن دلالتها على استحقاق المتجري على العقاب ولا تدل على حرمة الفعل المتجرى به، ولا ملازمة بين استحقاق العقاب على فعل وحرمة ذلك الفعل شرعاً!

وفيه: ثبوت الملازمة العرفيّة، بمعنى أنّ دليل العقاب ظاهر عرفاً في ثبوت الحرمة، وخاصة الأدلة التي ورد فيها الوعيد بالنار، مضافاً إلى ورود لفظ اللعن في بعض هذه الروايات وهو ظاهر في الحرمة.

وثانياً: ما ذكره المحقق النائيني(2)، من أن مفاد هذه الأدلة هو المؤاخذة على قصد ارتكاب الحرام الواقعي في صورة التلبس ببعض مقدماته، ولكن منع مانع عن وقوعه، فلا ربط له بالحرام الخيالي.

وأجاب عنه المحقق العراقي(3)، بوجود مناط بطريق أولى، فمورد الروايات هي ما إذا منعه مانع، والمتجري لم يمنعه مانع، فكيف يكون عدم منع المانع عن العمل مانعاً عن الحرمة؟!

وفيه: عدم ثبوت المناط، فضلاً عن الأولوية؛ إذ يحتمل دخل (المطابقة) في المناط، وهي مفقودة في حالة التجري. نعم، قد يمكن الاستيناس ببعض الأدلة بأنها مطلقة تشمل التصدي للحرام الواقعي والخيالي.

ص: 89


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 182-190.
2- فوائد الأصول 3: 52.
3- فوائد الأصول 3: 52 (الهامش).

وثالثاً: لا دلالة في هذه الأدلة على كون موضوع الحرمة هو الفعل، بل يمكن أن يكون النية، أو النية المظهرة بالفعل، فلا حرمة للفعل بنفسه كي يستدل بها على حرمة الفعل المتجرى به.

هذا تمام الكلام في حرمة الفعل المتجرى به.

المطلب الثالث: قبح الفعل المتجرى به وعدمه

والكلام في أن العمل إذا لم يكن قبيحاً أو حسناً في ذاته، فهل يتغيّر بتعلّق القطع به فيصير قبيحاً أو حسناً، وبعبارة أخرى: هل القطع من الوجوه والاعتبارات التي تؤثر في حسن أو قبح الشيء؟

ذهب صاحب الكفاية إلى بقاء الفعل على ما هو عليه من الحسن أو القبح، بلا حدوث تفاوت فيه بسبب تعلّق القطع به(1).

وقد يستدل له بأمور، منها:

الدليل الأول: عدم اختيارية الفعل المتجرى به بما هو مقطوع الحرمة، وكذا الفعل المنقاد به بما هو مقطوع الوجوب، وما لايكون اختيارياً

لا يكون قبيحاً أو حسناً.

ويمكن إثبات عدم الاختيارية بوجهين:

الوجه الأول: انتفاء القصد والالتفات:

أما انتفاء القصد: فلأن القطع مرآة وطريق، بمعنى أن المتجري لم يقصد الإتيان بالفعل بما هو مقطوع الحرمة - حيث إنه لم يقصد هذا العنوان - ،

ص: 90


1- إيضاح كفاية الأصول 3: 214.

ومع انتفاء القصد لا يكون الفعل اختيارياً، فالمتجري يقصد شرب الخمر مثلاً ولم يقصد شرب مقطوع الخمرية!

وأما انتفاء الالتفات: فلأن القطع يُنظر به، ولا يُنظر إليه، بمعنى غفلة القاطع عنه، ومع الغفلة لا اختيار؛ وذلك لامتناع تعلّق الإرادة بشيء مع الغفلة عنه.

وفيه(1): أولاً: وجود الالتفات ولا ضير في انتفاء القصد؛ وذلك لأن الالتفات الإجمالي - أي الارتكازي - كافٍ في اختيارية الفعل، وهو متحقق في حالة القطع؛ لأن الأمور معلومة للنفس بالعلم الحضوري وملتفت إليها إجمالاً، بل قد يقال: إن الملتفت إليه أولاً وبالذات هو القطع، والالتفات إلى المقطوع إنما هو بالواسطة.

كما أنه لو كان لعنوان من العناوين ملاك الحسن والقبح، فتارة يقصد ذلك العنوان كضرب اليتيم إيذاءً، وتارة لا يقصده، بل يقصد غيره، كما لو ضربه لا للإيذاء، بل لاختيار قوة يده، فمجرد الالتفات كافٍ حتى لو لم يقصد ذلك العنوان.

وما نحن فيه من هذا القبيل؛ إذ لو كان لعنوان (مقطوع الحرمة) ملاك القبح العقلي كفى الالتفات إلى هذا العنوان في كون الفعل اختيارياً حتى لو لم يقصده.

وثانياً: بالنقض؛ لأن العنوان الواقعي غير مقصود للفاعل، بل هو مغفول عنه، فلا يكون اختيارياً، فلا يكون حسناً أو قبيحاً، فالذي يُقدم على الصدق

ص: 91


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 217-218.

لا يلتفت إلى كون كلامه صدقاً حتى يكون فعله حسناً!!

وأجيب: 1- بأن المراد الحسن أو القبح الشأني، لا الفعلي، وإلاّ فاشتراط الاختيار في فعلية الحسن أو القبح بديهيّ!

وفيه: أنه تسليم بالإشكال؛ لأن الحسن أو القبح الشأني يساوق عدم الحسن أو القبح الفعلي!

2- وبأن واجدية الشيء للملاك أو فاقديّته، وكذا ملائمته للفطرة أو منافرته لها هما من الأمور التكوينية فلا ترتبط بالاختيار، وكذا المحبوبية أو المبغوضية لدى المولى. نعم، استحقاق الفاعل للذم أو المدح هو الذي أنيط به الاختيار، ولعل مقصود صاحب الكفاية هو الثلاثة الأولى.

الوجه الثاني: إن التجري تارة يكون مع الخطأ في الأحكام، وهذا

لا يضرّ بالاختيارية، كمن يتوهم حرمة لحم البقر، ومع ذلك يقصد أكل لحمه، فلا إشكال في وقوع الفعل عنه باختيار؛ لأن تخلّف الوصف لا يُخلّ بمقصودية الفعل.

وتارة يكون مع الخطأ في الموضوعات، كمن يشرب الخلّ بتوهم كونها خمراً، وهذا ليس بإراديّ؛ لأن (شرب الخمر) لم يتحقق، فلا معنى لافتراض كونه إرادياً، و (شرب الخلّ) لم يتصوّره ولم يمل إليه ولم يقصده المتجرى، فكيف يكون اختيارياً؟

وأشكل عليه بوجوه، منها:

الإشكال الأول: بأن الحركة لا تخلو من كونها بالطبع أو بالقسر أو بالإرادة أو بالجبر، فما لا علم له بفعله مما يلائم طبعه هو الفاعل بالطبع، وما

ص: 92

لا علم له بفعله بما لا يلائم طبعه فهو الفاعل بالقسر، وما يعلم بفعله من غير إرادته هو الفاعل بالجبر، وما يعلم بفعله وبإرادته فهو الفاعل بالإرادة.

وعليه فإن شرب هذا المايع الشخصي بتوهم كونه خمراً، ليس معلولاً لقسر قاسر ولا للطبع، بل هو معلول للإرادة، غاية الأمر إن تعلق الإرادة بشربه لاعتقاد كونه خمراً، وتخلّفه لا يوجب كون هذا الشرب الشخصي بلا إرادة، فالشوق الكلي إلى شربه يتخصّص بشرب هذا المائع بواسطة الاعتقاد، والخطأ في التطبيق لايخرج هذا الشرب عن كونه إرادياً، فكلامنا ليس عن شرب الخمر أو الخلّ، بل عن عنوان (شرب هذا المائع الشخصي).

الإشكال الثاني: إراديّة العام بتبع إراديّة الخاص، فالمقصود والواقع هو الكلي، وكون الفرد مردداً بين (عدم المقصود) و (عدم الواقع) لا يضرّ بإرادية العام، نظير استصحاب القسم الثاني من الكلي.

وبعبارة أخرى: إن المتجري قصد العنوان العام بتبع قصده لفرد خاص، وعدم وقوع ذلك الفرد الخاص، بل تحقق فرد آخر لا يضرّ بتحقق العام وقصده!

وأجيب عنه: بأن العام بما هو هو لا وجود له في الخارج، بل هو أمر ذهني، فلا تترتب عليه الآثار الخارجية، وأما ما في الخارج فلم تتحقق الحصة من العام التي هي في ضمن شرب الخمر مثلاً، وما تحقق من شرب الحصة التي هي في ضمن الخلّ لم تُقصد، فتأمل.

الإشكال الثالث: ما وضّحه في التبيين(1)، بأن الجامع ملتفت إليه ومقدور

ص: 93


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 226.

على فعله و تركه، حتى وإن لم يكن الجامع محطّ الإرادة، وهذا الصغرى.

والشيء كلّما كان ملتفتاً إليه ومقدوراً على فعله وتركه، كان اختيارياً وإن لم يكن إرادياً، والإرادية غير مقومة لاختيارية الفعل، وهذا الكبرى.

وأجاب عنه في نهاية الدراية(1)، بأن الفعل الاختياري هو ما صدر عن شعور وقدرة وإرادة، لا مجرّد الأولين!

وردّه في التبيين(2)، بعدم لزوم الثالث في الاختيارية؛ لأن ملاكها كون الفعل صادراً عن سلطنة الفاعل، بحيث كان له أن يترك، ويكفي في تحقق ذلك مجرد الالتفات إلى العنوان وصدوره منه في حالة كان له أن يمتنع عنه فيها، كما في تعلق الإرادة التكوينية بالمقدمة دون النتيجة، أو بالعكس، أو اللازم دون الملزوم، أو العكس، أو أحد المتلازمين، وكذا الرغبة والشوق.

نظير من حفر حفرة في الطريق العام مع علمه بسقوط المارّة، لكنه لم يُرد ذلك، ونظير ما لو كان متعلّق الإرادة سبباً للإكراه على الحرام أو الإلجاء إليه أو الاضطرار؛ وذلك لأن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار، وكذا الوجوب بالاختيار، فتأمل.

الدليل الثاني: - على بقاء الفعل المتجرى به على ما هو عليه من الحسن أو القبح من غير تغيّر ذلك بتعلق القطع به -: ما في الكفاية(3)، من أن القطع بالحسن أو القبح لا يكون من الوجوه والاعتبارات التي بها يكون الحسن

ص: 94


1- نهاية الدراية 3: 34.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 227.
3- إيضاح كفاية الأصول 3: 215.

والقبح عقلاً، ولا ملاكاً للمحبوبية والمبغوضية شرعاً؛ ضرورة عدم تغير الفعل عمّا هو عليه من المبغوضية والمحبوبية للمولى بسبب قطع العبد بكونه محبوباً أو مبغوضاً له، فقتل ابن المولى لا يكاد يخرج عن كونه مبغوضاً له، ولو اعتقد العبد بأنه عدوه، وكذا قتل عدوه مع القطع بأنه ابنه لا يخرج عن كونه محبوباً أبداً!

وأشكل عليه(1): بأنه ليس القطع بالحرمة في نفسه من الوجوه والاعتبارات الموجبة لقبح الفعل، لكن قد يقال: بأنه يلازم لعنوان آخر هو من العناوين المقبّحة، فيكون الفعل المتجرى به قبيحاً لأجل ذلك العنوان الملازم، ويشهد به الوجدان، وهو هتك حرمة المولى وإهانته والخروج عن رسم العبوديّة.

إن قلت: إنه تخيّل هتك وليس بهتك؟ نعم، ذلك يكشف عن أنه لا مانع له عن الهتك، لكن عدم وجود المانع يرتبط بنفسه ولا يرتبط بالفعل حتى يعنونه!

قلت: قد يكون للعنوان العام المحرّم أو القبيح مصداقان، ولا يخرج عن القبح أو الحرمة لو ارتكب المكلف الفعل بتوهم أحدهما فبان الآخر، مثلاً لو قصد قتل زيد فرماه عمداً، فبان أنه عمرو، وما نحن فيه كذلك؛ إذ للهتك مصداقان هما: المعصية الواقعية والمعصية الاعتقادية، والمتجري هتك حرمة المولى بمعصية اعتقادية متوهماً أنها معصية حقيقية، فالهتك حاصل على كل حال.

ص: 95


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 232.

لايقال: اتحاد الفعل المتجرى به مع تلك العناوين ليس دائمياً، فقد يُقدم على مقطوع الحرمة لا من باب الاستخفاف بأمر المولى ولا الجحد لمولويته، بل لغلبة الشقاء، كمعاصي غالب المسلمين!

فانه يقال: إن ذلك لا يخرجه عن الهتك، فالهتك حاصل حتى مع عدم الاستخفاف والجحد.

إن قلت: ذات العمل قد يكون حسناً - كانقاذ ابن المولى - وهذا الحسن الذاتي يزاحم القبح العرضي - بهتك حرمة المولى - ، فلا بد من البحث عن المرجّح فلا يثبت قبح الفعل المتجرى به على كل حال؟

قلت: إن الحسن هو ما يستحق فاعله المدح، والقبيح ما يستحق فاعله الذم، وعليه فلا بد من الالتفات؛ لأن غير الملتفت لايستحق مدحاً ولازماً، وحيث إن المتجري لم يكن ملتفتاً إلى الحسن الذاتي - على فرض وجوده - فلا وجود له أصلاً لكي يزاحم القبح العرضي بسبب انطباق عنوان الهتك وأمثاله، فتأمل.

المطلب الرابع: استحقاق أو عدم استحقاق المتجري للعقاب

وفيه قولان:

القول الأول: استحقاقه للعقاب، وقد يستدل لذلك بأمور، منها:

الدليل الأول: ما عن المجدد الشيرازي(1)، وحاصله أن موضوع حكم العقل بوجوب الطاعة وحرمة المعصية لايخلو من أحد ثلاثة: إما التكليف

ص: 96


1- تقريرات المجدّد الشيرازي، للروزدري 3: 277-285.

بوجوده الواقعي، أو العلم المصادف للواقع، أو العلم مطلقاً!

أما الأول: فالتكليف بوجوده الواقعي غير محرّك، فلا وجه لتوقع تحرك العبد طبقاً له، فلا يصح عقابه على مخالفته.

وأما الثاني: إنه لا بد في ترتب المحمول من إحراز تحقق الموضوع، وفي ما نحن فيه لا إحراز للمصادفة للواقع، لاحتمال مخالفة العلم للواقع، فلا تجب الطاعة لاحتمال انكشاف الخلاف، وفي ذلك غلق لباب الطاعة.

وأما الثالث: فهو التعين بعد بطلان الأولين، وهذا مشترك بين المتجري والعاصي.

وأشكل عليه: أولاً: باختيار الشق الثاني من غير محذور؛ لأن القاطع يُحرز المطابقة دائماً، وغير القاطع مع وجود الدليل المعتبر قد أحرز المطابقة تعبداً، وعليه فلا بد له من الطاعة. نعم، لو انكشف الخلاف انقلب الموضوع فترتفع الآثار.

ومن المعلوم أن العلم المصادف للواقع خاص بالعاصي دون المتجري، فلذا يستحق الأول العقاب دون الثاني!

وثانياً: ما عن المحقق النائيني(1)، إنه في باب التجري لا يوجد علم، بل جهل مركب، فليس كلامنا تفرقة بين علم وآخر، بل هو عدم سراية أحكام العلم إلى الجهل.

وفيه: أن البحث ليس لفظياً كي يقال: إن الجهل المركب ليس بعلم، بل الملاك مشترك بين العلم والجهل المركب؛ إذ الكلام في أن حكم العقل

ص: 97


1- أجود التقريرات 3: 54.

إنما هو في مطلق القطع، وأن القطع المطابق للواقع لا يمكن أن يكون موضوعاً لاستحقاق العقوبة.

الدليل الثاني: إن ملاك استحقاق العقاب منحصر بين القبح الفعلي والقبح الفاعلي، والأول غير ممكن لعدم جواز عقاب الجاهل القاصر، فتعين الثاني وهو مشترك بين العاصي و المتجري.

وفيه: أولاً: إمكان شق ثالث وهو المركب منهما، وهو متحقق في العاصي دون المتجري، إلاّ لو قيل: بأن الفعل المتجري به قبيح أيضاً، كما مرّ في المسألة السابقة.

وثانياً: اختيار شق القبح الفاعلي، لكن يقال بأن له درجات فبعضها ملازم لاستحقاق العقاب دون بعض، ولذا فبعض الرذائل الأخلاقية غير محرمة رغم قبحها، ومن المعلوم أن العصيان ملازم للدرجة الموجبة لاستحقاق العقاب، ولم يعلم ذلك في التجري.

الدليل الثالث: إن التجري حرام عقلاً، فيكون حراماً شرعاً، لقاعدة الملازمة، وكل ما كان حرام شرعاً استحق فاعله العقوبة.

وفيه: إن الملازمة أو التلازم - على القول بهما - إنما هي على نحو المقتضي، وقد يمنع مانع عن تأثير المقتضي، وفي ما نحن فيه التلازم أو الملازمة بين الحكمين سبب لمحاذير مرّ الكلام حولها كاللغوية وانقلاب الموضوع أو سراية حكم من موضوع إلى آخر... وغير ذلك.

الدليل الرابع: إنه لو ارتكب اثنان ما قطعا بحرمته، فصادف أحدهما الواقع دون الآخر، فإما أن يستحقا العقاب كلاهما، وهو المطلوب، أو لا يستحقه

ص: 98

أيٌّ منهما وهو بديهي البطلان ضرورة استحقاق العاصي له، وإما يستحق المتجري دون العاصي، وهذا أيضاً واضح البطلان، وإما يستحق العاصي دون المتجري، وهذا محال؛ وذلك لربط استحقاق العقاب على أمر غير اختياري وهو المصادفة للواقع.

وأجيب: أولاً: باختيار الشق الرابع من دون محذور؛ لأن من صادف قطعه الواقع ليس عقابه على المصادفة، بل على العصيان وهو أمر اختياري، بل يصح العقاب على المصادفة أيضاً؛ لأنها وإن لم تكن اختيارية إلاّ أن مقدماتها اختيارية، وأما من لم يصادف قطعه الواقع فلا بأس بعدم عقابه لأمر غير اختياري؛ لأن عدم العقاب على أمر غير اختياري ليس بقبيح.

وثانياً: لازم الدليل هو تساويهما في العقاب الدنيوي والأخروي وكذا الذم؛ إذ لو كان تفاوتٌ كان التفريق بأمر لا يرجع إلى الاختيار، مع أنه بالضرورة يختلف العقاب وكذلك الذم.

الدليل الخامس: ما ذكره المحقق الإصفهاني(1)، من أن مبنى المشهور استحقاق العقاب بحكم العقل، وعليه فيقال: إنّ ملاك الاستحقاق متحد في التجري والمعصية الواقعيّة؛ لأن العقاب في المعصية ليس لذات مخالفة الأمر والنهي، ولا لتفويت الغرض، ولا لارتكاب ما هو مبغوض للمولى، وذلك لتحقق هذه الثلاثة في حالة الجهل، بل الملاك كونه هتكاً للمولى؛ إذ الإقدام على ما أحرز أنه مبغوض للمولى خلاف مقتضى العبودية، والهتك مشترك بين العاصي والمتجري!

ص: 99


1- نهاية الدراية 3: 29.

وفيه: وجود شق آخر، وهو كون العقاب لأجل (المخالفة العمدية) أو (تفويت الغرض عمداً) أو (ارتكاب المبغوض عمداً) وهذا خاصة بالعاصي دون المتجري، فتأمل.

القول الثاني: عدم استحقاق المتجري للعقاب.

واستدل له: بأن عقوبة العاصي واحدة، فلوكان التجري حراماً لزم تعدد العقوبة؛ وذلك لأن الهتك وأمثاله - وهي ملاك استحقاق المتجري للعقاب - مشتركة بين العاصي والمتجري، فاجتمع في المعصية ملاكان: الهتك والمخالفة الاختيارية للمولى، وعليه فيلزم الحكم بتعدد استحقاق العقاب في العاصي لأجل الملاكين، وتعدد الأسباب يستلزم تعدد المسببات مع أن الضرورة قاضية بوحدة العقاب!

وأجيب من وجوه، ومنها:

الجواب الأول: إن الملاك المختص بالمعصية هو نفس الملاك الموجود في التجري وهو الهتك مثلاً، فلا توجد في المعصية ملاكان، بل ملاك واحد، فكلّما تحقق الملاك في مصداق استحق الإنسان العقاب.

وبعبارة أخرى: إن كليّ الهتك - مثلاً - هو الموجب للعقاب، وهذا تارة يتحقق في المعصية وتارة يتحقق في التجري، فليس سبب استحقاق العقاب المصداق بما هو هو، بل بما هو فرد من أفراد الطبيعي.

الجواب الثاني: عدم وجود المانع عن تعدد استحقاق العقاب لوجود المقتضي وعدم المانع.

أما وجود المقتضي: فلأنّ الطبيعي قد يكون ذا وجوه، فقد ينطبق وجه

ص: 100

واحد وقد ينطبق وجوه متعددة، فتتعدّد مقتضيات الاستحقاق، وفي ما نحن فيه كذلك فالخروج عن رسم العبودية له وجود متعددة كتفويت ملاك المولى الملزم، والمخالفة العمدية له، وارتكاب ما هو مبغوض له وهكذا.

وأما عدم المانع: فلأن المفروض أن الضرورة والإجماع على وحدة العقاب، وكلامنا في تعدد استحقاقه فيكون التعدد بدلالة العقل، والوحدة تفضّل منه تعالى، هذا على تسليم وجود هكذا ضرورة وإجماع، وإلاّ ففي ثبوتها كلام.

الجواب الثالث: إمكان القول بأنه في المعصية توجد معصيتان، مع استحقاق عقوبتين، إلاّ أنهما تتداخلان؛ وذلك للجمع بين حكم العقل بتعدد السبب واقتضائه لتعدد المسبب، وبين ادعاء الضرورة والإجماع على وحدة العقاب في المعصية.

وأشكل عليه: بأنه لا وجه للتداخل لكون السبب عقلي لا شرعي، مع عدم التزاحم بين السببين في مقام التأثير كي نضطر إلى القول بالكسر والإنكسار، فلا مانع من تعدد المسبب، مع كون الاستحقاق تكوينياً لا تشريعياً فلا يمكن الحكم الشرعي بوحدته؛ وذلك لأن عِليّة التجري والمعصية لاستحقاق العقاب عِليّة عقلية، مع عدم وجود المانع عن تعدد المسبب، فلا يمكن التداخل عقلاً، فتأمل.

تنبیهات
التنبیه الأول: في عموم التجري للقطع الطريقي والموضوعي

قد يقال: باختصاصه بمخالفة القطع الطريقي؛ إذ لا انكشاف للخلاف

ص: 101

في الموضوعي أصلاً؛ إذ الموضوع فيه هو القطع لا المقطوع، فما دام القطع حاصلاً فالموضوع متحقق واقعاً، فيكون مخالفته عصياناً لا تجرياً.

نعم، لو كن القطع جزءاً من الموضوع بأن كان قطعاً موضوعياً كشفياً جرى فيه بحث التجري، حيث يكون الواقع أيضاً جزءاً من الموضوع.

التنبیه الثاني: في إخلال التجري بالعدالة وعدمه

إن العدالة - على الأقوى - هي الإتيان بالواجبات وترك المحرمات عن ملكة نفسانية، فارتكاب الصغائر - مع أنها مغفورة - مخلّ بالعدالة، والتجري محرّم على الأقوى - كما مرّ - فسواء كان صغيرة أم كبيرة فهو ينقض العدالة.

وأما لو قيل: بأن العدالة هي فعل الفرائض وترك الكبائر - سواء قلنا بدخل الملكة فيها أم لم نقل - فتارة لا نقول بحرمة التجري، فلا إخلال للعدالة بسببه إلاّ إذا أخلّ بالملكة وقلنا بدخلها في العدالة.

وتارة نقول بحرمة التجري، وعليه فإن التجري إن كان على الصغائر، فبالأولوية لايخلّ بالعدالة؛ لأنه لايزيد عن الصغيرة بنفسها، وإن كان على الكبيرة، فلا يخلّ بها؛ لعدم ثبوت كونه كبيرة، فلا يترتب عليه آثارها والذي منها سقوط العدالة.

بل يمكن إجراء أصل سببي - وهو أصالة عدم كونه كبيرة - ويترتب أثرها الشرعي - وهو عدم الفسق بارتكابه - ، وليس هذا معارضاً بأصالة عدم كونه صغيرة؛ إذ لا أثر لهذا الأصل.

اللهم إلا أن يقال: بأنه لا حالة سابقة؛ إذ المعصية من الأول إما كبيرة أو صغيرة، مع عدم صحة استصحاب العدم الأزلي.

ص: 102

كما يمكن إجراء أصل مسببي، وهو استصحاب عدالة المتجري على الكبيرة، فإن العدالة كانت ثابتة وشك في استمرارها بالتجري على الكبيرة! فتأمل.

التنبیه الثالث: في جريان التجري في غير القطع
اشارة

واستدل له بوحدة المناط في صورة القطع وقيام الحجة في غير القطع.

وأشكل عليه: بأنه مع قيام الحجة قد خالف الحكم الظاهري، ومخالفة الحكم الشرعي معصية وليست تجرياً!

وأجيب: أولاً: بأنه قد انكشف الخلاف فلم تكن مخالفة للحكم الشرعي!

وفيه: إن انكشاف الخلاف تارة هو بمعنى انكشاف أنه لا حكم شرعيّ من الأول، كما في القطع المخالف للواقع، وتارة هو بانتفاء الموضوع فينتفي الحكم، والأحكام الظاهرية - على القول بها - من هذا القبيل؛ إذ موضوعها أو ظرفها الشك، فإذا انكشف الخلاف زال الشك فيزول موضوعها أو ظرفها، فينتفي الحكم من هذه الجهة، لا من جهة استكشاف عدم الحكم الشرعي من أول الأمر!

وثانياً(1): بأن الحكم الظاهري إنما هو طريق للحفاظ على الأحكام الواقعيّة، ومخالفة الحكم الطريقي بما هي هي ليست مخالفة حقيقية، ولا تترتب عليها آثار المخالفة، ولا استحقاق العقاب، فهي في واقعها كالأوامر

ص: 103


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 270.

المقدميّة.

هذا مع الإشكال مبنىً بوجود الأحكام الظاهرية، وسيأتي إن شاء الله تعالى تفصيله في بحث الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي.

ثم إنه لا بد من تعميم البحث للصور المختلفة، فنقول:

الحجة التي ليست بقطع لو تجرّى العبد فيها، فإما تكون الحجة مثبتة للتكليف أو نافية له، وفي كل صورة إما يرتكب برجاء الإصابة أو برجاء عدمها أو لا يبالي، وفي كل ذلك إما يصيب أو يُخطئ.

القسم الأول: الحجة المثبتة للتكليف المصادفة للواقع

ولا إشكال في كون المكلّف عاصياً حينئذٍ، ولا فرق في ذلك في عدم المبالاة أو رجاء الإصابة أو عدمها، وذلك لتنجز التكليف بقيام الحجة المصادفة، وعدم معذريّة الرجاء أو عدم المبالاة في ذلك.

القسم الثاني: الحجة المثبتة للتكليف المخالفة للواقع

فقد يقال بالتفصيل(1): بأنه لو ارتكب برجاء الإصابة فهو متجرٍ بالنسبة إلى الواقع، وإن ارتكب برجاء عدم الإصابة فهو متجرٍ بالنسبة إلى الطريق.

أما الأول: فلأنّ ثبوت التكليف إنما كان بالعلم التعبدي فالواقع ثابت له تعبداً، فإقدامه على المخالفة تجري على الواقع، وإنما لم يكن تجرياً على الطريق لأن مفاد أدلة الحجية هو إلغاء احتمال الخلاف، وهذا المكلّف قد ألغى هذا الاحتمال وارتكب برجاء الإصابة، وعليه فإنه لم يخالف أدلة حجية الطريق.

ص: 104


1- فوائد الأصول 3: 53.

وأما الثاني: فلأن المطلوب منه كان إلغاء احتمال الخلاف، وهذا لم يلغه، بل ارتكب برجاء عدم الخلاف!

وأورد عليه: أولاً: بأن معنى إلغاء الخلاف هو إلغاؤه عملاً لا اعتقاداً، والمكلّف بارتكابه في الأول لم يُلغه عملاً.

وثانياً: انحصار التجري في مخالفة الواقع، بناءً على عدم ثبوت أحكام ظاهرية، كما سيأتي تفصيله.

القسم الثالث: الحجة النافية للتكليف صادفت الواقع أم لا

لو ارتكب برجاء عدم المصادفة فصادف واقعاً، فلا شيء عليه لقيام الحجة ولعدم قصده التمرّد، فقد تمّ عذره، ولم يكن متجرياً، وفي حالة إصابتها فالأمر أوضح.

وأما لو ارتكب برجاء خطئها أو لأجل اللامبالاة، فقيل: إنه عاصٍ في حالة عدم إصابتها، ومتجرٍّ في حالة إصابتها، واستدل له المحقق النائيني(1) بأن للحجة وجودين: واقعياً واستنادياً، والذي يدفع المعصية أو التجري هو الحجة بوجودها الاستنادي، ولا يكفي في ذلك وجودها الواقعي.

فلو أكل لحماً من سوق المسلمين مستنداً إلى أمارية السوق شرعاً كان فعله محللاً إن كان اللحم مذكى واقعاً، وكان معذوراً إن كان ميتة واقعاً، أما لو أكل غير مستند فإن كان ميتة كان عاصياً حقيقة، وإن كان مذكى كان متجرياً.

وأشكل عليه(2): بأن تكليف الشخص غير المستند إلى الحجة غير ممكن؛

ص: 105


1- أجود التقريرات 3: 60-61.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 285.

لعدم إمكان وصول الحكم إلى المكلّف، فيكون عقابه عقاباً بلا بيان، مثلاً لو أفتى المفتي بالجواز وكانت الفتوى خطأ ً، فالتكليف الواقعي لا يمكن وصوله لهذا الشخص، ومفاد الطريق الجواز، بمعنى أنه حتى لو سلك المكلف هذا الطريق سوف لا يصل إلى الواقع أصلاً، فتنجّز التكليف والعقاب يكون من العقاب بلا بيان.

إن قلت: إن المكلف لو احتمل التكليف الواقعي فقد وصل إليه إجمالاً، وبهذا الاحتمال يتنجز التكليف عليه، كما ذكروا نظير ذلك في بحث وجوب الفحص في الشبهات الحكمية، وعليه فالحجة النافية تسقط التكليف إذا استند المكلّف إليها دون ما لم يستند.

قلت: إطلاق دليل الحجية جارٍ حتى لو لم يستند إليها المكلّف! اللهم إلاّ أن يقال: بأن المولى لم يكن في مقام البيان من هذه الجهة، فتأمل.

التنبیه الرابع: في صحة أو عدم صحة العمل العبادي المتجرّى به

كما لو صام في عيد الفطر ثم بان كونه الثاني من شوال، وكما لو تركت الحائض الاستبراء عند احتمال انقطاع الدم وصلّت ثم تبين الانقطاع، أو صلّى في مكان يزعم أنه مغضوب ثم تبيّن حليته.

قد يقال(1): إن عبادية العمل متوقفة على جهتين: العمل والعامل، أما العمل: فبأن يكون العمل في حدّ ذاته صالحاً للمقربيّة، وأما العامل: فبأن يضيف العمل إلى الله تعالى بنية القربة، بل وبرجاء التقرب كما في الاحتياط، وعليه...

ص: 106


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 291-292.

1- فعلى مبنى عدم حرمة التجري، فيمكن الذهاب إلى صحة العبادة لو فُرض تمشي قصد القربة منه.

2- وعلى مبنى حرمة التجري دون الفعل المتجرى به، فكذلك لايبعد صحة العبادة؛ لعدم سراية الحرمة إلى العبادة بنفسها، فلا قصور في صلاحية العمل للمقربيّة.

إن قلت: كيف يجمع المتجري بين اعتقاده بحرمة العمل وبين إضافته إلى المولى؟

قلت: قد لا تكون الحجة علماً، وحينئذٍ قد يحتمل المتجري خطأها، فينوي التقرب لأجل احتمال كون العمل عبادة، فتكون نيته نظير نية العبادة الاحتياطيّة.

وأما لو كانت الحجة علماً، فالصحة لأجل عدم التفات كثير من العوام إلى الملازمة بين المبعديّة والحرمة، وبين الحرمة والبطلان، فحينئذٍ يتصور فيه قصد القربة لإفراغ ذمته من الأمر الإلهي.

3- وأما على مبنى حرمة الفعل المتجرّى به، فالعمل باطل؛ لعدم صلاحية العمل بذاته للمقربيّة بعد كونه حراماً.

ص: 107

فصل فی القطع الطريقي والموضوعي

اشارة

وفيه بحوث:

البحث الأول: في أصل التقسيم

1- أما الطريقي: فهو الذي لم يؤخذ القطع في موضوع الحكم واقعاً، بل القطع مجرد طريق إلى إثبات متعلّقه، وعليه فيكون الحكم مترتباً على الموضوع بنفسه وبما هو هو فلا يترتب الحكم على القطع أصلاً. نعم، قد يكون القطع منجّزاً لذلك الحكم، فلذا لايقع هذا القطع وسطاً في البرهان، فلا يقال هذا معلوم الخمرية، وكل معلوم الخمرية حرام؛ إذ الحرمة ترتبط بالخمر بنفسها لا بمعلوم الخمرية.

ولهذا القطع أثران:

الأول: إثبات الموضوع، فيكون كالنور الذي يكشف الأشياء دون ارتباط حقيقتها به.

الثاني: تنجّز الحكم، فلا تنجّز بدونه، ولا استحقاق للعقوبة على المخالفة حينئذٍ.

2- وأما الموضوعي: فهو الذي أخذ في موضوع الحكم واقعاً، فمع عدم القطع لا تحقّق للموضوع، فلا يترتب الحكم؛ لأنه تابع للموضوع، فلذا يقع وسطاً.

ص: 108

وقد يمثل له بالقضاء، حيث إن جواز الحكم متوقف على الحق المقطوع به، وعن الإمام الصادق (علیه السلام) - في عدّ القضاة الذين مصيرهم إلى النار - قال: «ورجل قضى بالحق وهو لا يعلم فهو في النار»(1).

ولكن في المثال نظرٌ بيّناه في بحث القضاء.

البحث الثاني: في تقسيمات القطع الموضوعي
التقسیم الأول: كونه وصفياً أو كشفياً

ففي الكفاية(2): إن القطع من الصفات الحقيقية ذات الإضافة، لذا صحّ أن يؤخذ بما هو صفة خاصة وحالة مخصوصة بإلغاء جهة كشفه، أو اعتبار خصوصية أخرى فيه معها، كما صحّ أن يؤخذ بما هو كاشف عن متعلّقه وحاك عنه!

ولا يخفى أن هاتين الجهتين لازمتان للعلم دائماً لا تنفكان عنه، لكن حين الحكم قد يلاحظ الجاعل إحديهما دون الأخرى.

وأشكل في نهاية الدراية(3) على القطع الموضوعي الوصفي، بما حاصله: إن الجاعل إمّا يلاحظ الجهة المشتركة مع سائر الأعراض، أي كونه عرضاً، أو من مقولة الكيف، أو من مقولة الكيف النفساني، أو كيف نفساني له إضافة... وإمّا يلاحظ الجهة المختصة بالقطع، وهي الكشف التام عن متعلّقه.

ص: 109


1- الكافي 7: 407؛ وسائل الشيعة 27: 22.
2- إيضاح كفاية الأصول 3: 229-230.
3- نهاية الدراية 3: 46-48.

أما الأول: فيلزم منه مشاركة جميع الأعراض للقطع في الموضوعية؛ إذ لو كانت جهة الاشتراك هي علة للموضوعية فهي مشتركة مع سائر الأعراض، فلا بد من كونها موضوعاً أيضاً، وهو بديهي البطلان.

وأما الثاني: فغير معقول؛ لأن حفظ الشيء مع قطع النظر عما به هو هو محال، كحفظ الإنسان مع قطع النظر عن إنسانيته، بحيث يكون موضوعاً لحكم ٍ ما، لاستلزام ذلك الجمع بين المتناقضين؛ إذ لحاظ الإنسان موضوعاً مساوق للحاظ إنسانيته، فقطع النظر عنه يكون بمعنى الجمع بين لحاظ الشيء وقطع النظر عن لحاظه.

وحيث إن الإشكال وارد فلا بد من توجيه التقسيم أو الإذعان بعدم صحته، وقد ذكر الأعلام وجوهاً من التوجيه...

التوجيه الأول: أن المراد أن القطع قد يؤخذ في موضوع الدليل لكن لا يراد دخله في الموضوع، كقوله تعالى: {حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ}(1) فهو الكشفي، و إن كان له دخل في الموضوع فهو الوصفي.

وفيه: أن الأول هو نفس القطع الطريقي المحض.

التوجيه الثاني(2): أن لا يكون المراد إلغاء جهة كشفه في القطع الموضوعي الوصفي، بل يراد أخذ خصوصية أخرى ملازمة للقطع في الموضوع كجهة سكون النفس.

ص: 110


1- سورة البقرة، الآية: 187.
2- منتقى الأصول 4: 68-69.

وبعبارة أخرى: إن القطع الموضوعي الكشفي هو ما لو جعل المولى الموضوع هو القطع بما هو كاشف، وأما الموضوعي الوصفي فهو إضافة خصوصية أخرى إلى ذلك.

التوجيه الثالث(1): إن القطع كالنور، فكما أن للنور جهتين: فهو ظاهر بنفسه لا يحتاج في إظهاره إلى شيء، وأنه مظهر لغيره، كذلك القطع له حيثيتان: المعلوم بالذات وهو الصورة، والمعلوم بالعرض وهو ذو الصورة، فإن أ ُخذ الأول في الحكم كان موضوعياً وصفياً، وإن أ ُخذ الثاني كان موضوعياً كشفياً.

وأشكل عليه(2): بأن هذا إرجاع له إلى التقسیم الثاني - أي كون القطع تمام الموضوع أو جزءه - فهو لا يرتبط بلحاظ الصفتية والكاشفيّة، بمعنى أنه إذا لاحظنا في القطع جهة الصورة - المعلوم بالذات - واعتبر ذلك موضوعاً، كان ذلك مساوقاً لأخذ القطع تمام الموضوع، وأما إذا لاحظنا فيه جهة كاشفية هذه الصورة عن ذي الصورة - الذي هو المعلوم بالعرض - كان ذلك مساوقاً لأخذ القطع جزء الموضوع.

وأجيب عنه(3): 1- أمّا في القطع الموضوعي الكشفي: فإن لحاظ صفة في موضوع حكم لا يستلزم تقييد الحكم بوجود تلك الصفة؛ وذلك لأن الصفة قد تكون علة للمجعول، كالظلم الذي هو سبب حرمة ضرب اليتيم

ص: 111


1- فوائد الأصول 3: 10.
2- نهاية الدراية 3: 49-50.
3- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 313.

فلو لم يكن ظلماً كما في التأديب لا يكون حراماً، وقد تكون علة للجعل، كالإسكار الذي هو سبب حرمة الخمر، لكن لا يدور الحكم مداره، فلذا قطرة واحدة منه أيضاً محرّمة.

وفي ما نحن فيه لحاظ الكاشفية في القطع الموضوعي لايستلزم تقييد الحكم بالكشف، بل هو لا بشرط بلحاظ ذلك، وعليه فيمكن أن يكون اللحاظ الكشفي في القطع الموضوعي لا يساوق كون القطع جزء الموضوع بل يمكن أن يكون تمامه أيضاً، أي لحاظ الكشف يكون علة للجعل

لا للمجعول، فتأمل.

2- وأمّا في القطع الموضوعي الوصفي: فإنّه لايستلزم اللحاظ الوصفي كون الموضوع بشرط لا بلحاظ المطابقة - أي الكشف - بل قد تعتبر معه المطابقة، وقد لا تعتبر، بل يُطلق بلحاظها، وعلى هذا فلا يساوق لحاظ القطع صفة كونه تمام الموضوع، بل يمكن أن يكون جزءه، بأن يلاحظ أن الظهور الذاتي للصورة العلمية دخيل في ترتب الحكم، لكن لا على نحو العلة التامة، بل بشرط مطابقة هذه الصورة للواقعيّة العينية الخارجية!

التوجيه الرابع(1): إمكان لحاظ القطع الموضوعي بنحوين: لحاظه من حيث كشفه التام، وبه افترق عن سائر الأمارات حيث إن كشفها ناقص، لحاظه من حيث إنه من مصاديق الطريق المعتبر - الجامع بين القطع وسائر الطرق المعتبرة، وذلك الجامع هو الثبوت - ، وتظهر الثمرة في أن الأمارات لا تقوم مقام الأول وتقوم مقام الثاني.

ص: 112


1- درر الفوائد، للحائري: 330.

وأشكل عليه(1): بأنّ هذا تقسيم للقطع باعتبار حكمه، مع أن ظاهر التقسيم إنما هو بلحاظ القطع بنفسه.

وأجيب(2): بأنه يمكن إرجاعه إلى التقسيم بلحاظ الموضوع، بأن يقال: إن للقطع جهتين: أصل الكشف وهو الكشفي، وتمامية الكشف وهو الوصفي، وبأن التقسيم إنما هو بلحاظ الغرض، فقد يتعلّق الغرض بتقسيم الموضوع بلحاظ نفسه، وقد يتعلّق بتقسيمه بلحاظ حكمه، كما قد يقسم الماء بأنه إما كر أو قليل، أو يقسّم بأنه إما ينفعل بالملاقاة أو لا ينفعل، فلا مانع من كلا التقسيمين!

التقسیم الثاني: كونه تمام الموضوع أو جزئه

قد يكون القطع تمام الموضوع، بأن يرتبط الحكم وجوداً وعدماً بالقطع ولا مدخلية للواقع المكشوف في القطع أصلاً، كما لو نذر التصدق لو قطع بشيء حتى لو تبيّن خطؤه في قطعه، فالمهم عنده القطع.

وقد يكون القطع جزءاً من الموضوع، بأن يكون الموضوع مركباً من القطع والواقع، ومثاله: في الصلاة الثنائية حيث لا بد من القطع بعدد الركعات مع كونه مطابقاً للواقع، فقد قيل: بأنه لو شك وأتى بالصلاة رجاءً ثم تبيّنت المطابقة، أو قطع ثم تبيّنت زيادة أو نقيصة كانت صلاته باطلة.

وأشكل عليه المحقق النائيني: بأن القطع الموضوعي الكشفي المأخوذ على نحو تمام الموضوع إنما هو عبارة أخرى عن أخذ القطع (تمام

ص: 113


1- نهاية الدراية 3: 47.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 315.

الموضوع بنحو الطريقية) وهو مستحيل.

ولتقرير الإشكال وجوه، منها:

التقرير الأول(1): استلزامه اجتماع لحاظ الشيء ولحاظ عدمه، وحاصله: إن أخذ القطع تمام الموضوع يستدعي عدم لحاظ الواقع، وأخذه على نحو الطريقية يستدعي لحاظ الواقع، فلا يمكن أخذ القطع تمام الموضوع إلا بنحو الصفتية.

التقرير الثاني: اجتماع مدخلية الشيء في الحكم وعدمه، فإن معنى كون القطع تمام الموضوع هو أنه لا مدخلية للواقع في الحكم أصلاً، فالحكم مترتب على القطع بنفسه حتى لو كان مخالفاً للواقع، ومعنى كونه مأخوذاً بنحو الطريقيّة هو أن للواقع دخلاً في الحكم!

التقرير الثالث(2): استلزامه اجتماع اللحاظ الآلي والاستقلالي، أي إن أخذ القطع تمام الموضوع يدل على كونه ملحوظاً استقلالاً، وأخذه طريقاً إلى الواقع يدل على كونه ملحوظاً آلياً.

وأجيب عن الإشكال(3): بأن التعليل ناش ٍ عن الخلط بين مقام الجعل ومقام تعلّق القطع بشيء، فالقاطع ينظر بقطعه، ويكون القطع آلة ومرآة، لكن جاعل الحكم لموضوع القطع يمكن أن يقصر نظره على القطع بمعنى أن يرتب الحكم على القطع بلحاظ كشفه، فقطع الغير - وهو طريق - يمكن

ص: 114


1- فوائد الأصول 3: 11.
2- منتقى الأصول 4: 69-70.
3- منتقى الأصول 4: 70.

جعله تمام الموضوع للحكم، وبذلك يندفع التقرير الثالث.

وبأن الواقع المكشوف بالقطع ملحوظ ودخيل، لكن على نحو الحكمة لا العِلّة، فإن الحكمة ليست دخيلة في الموضوع لكنها دخيلة في التشريع، وعليه فيكون القطع تمام الموضوع، وإن كان أخذه فيه باعتبار طريقيته إلى الواقع، وبذلك يندفع التقرير الأول والثاني، فتأمّل.

البحث الثالث: قيام الأمارات والأصول مقام القطع
اشارة

هل تقوم الأمارات والأصول العملية - بنفس دليل اعتبارها - مقام القطع أم لا؟

والمراد من القيام هو ترتب آثار القطع عليها، كالمنجزية والمعذرية.

إن قلت: لا معنى للقيام مقام القطع؛ إذ عمل العقلاء بالأمارات الطريقية أو الموضوعية ليس من باب قيامها مقام القطع، بل في الطريقية إنما يعمل العقلاء بها لكونها موصلة إلى الواقع غالباً، من غير التفات لهم إلى كونها قائمة مقام القطع، وعليه فلا وجه للبحث عن كيفية القيام بأنه تتميم للكشف أو جعل حجية أو جعل طريقيّة ونحو ذلك من المباني المختلفة، وليس تقديمهم القطع على الأمارات لأجل كونه الأصل وكونها قائمة مقامه، بل لأجل أكثرية إصابته للواقع.

وأما في الموضوعية، فإن القطع إن أخذ موضوعاً باعتباره كاشفاً من الكواشف، فالأمارات أيضاً مصداق للموضوع لكونها كواشف فلا قيام، وإن أخذ موضوعاً باعتبار تمامية كشفه أو لكونه صفة نفسانية فلا قيام أصلاً؛ وذلك لعدم تحقق الموضوع بفقدان القطع؛ لعدم تمامية كشف الأمارات ولعدم تحقق النفسانية الخاصة.

ص: 115

قلت: يرد عليه أولاً(1): إن المراد من القيام هو الاشتراك في الأثر، حتى لو لم تكن بديلاً عنه ونازلة منزلته.

وثانياً: بأن الإشكال متفرع على القول بأن الأمارات جميعاً إمضائيات، فلا معنى حينئذٍ للقول بأن الشارع أسس أمارة أو تمّم كشفها أو جعل الحجية أو الطريقية لها، أو لو التزمنا بأن الشارع هو الذي جعل الحجية لبعض الأمارات إمّا في أصل الجعل أو في حدوده فلا يرد الإشكال.

وثالثاً: بأن عدم الالتفات إلى القيام لا يعني عدم اعتباره، بل يمكن ادعاء أن الارتكاز الإجمالي للعقلاء هو أن الحجية للقطع، وأن الأمارات إنّما هي حين فقدانه، فيكون حقيقة ارتكازهم هو إلى القيام.

والكلام في أربع مقامات: قيام الأمارات والطرق مقام القطع الطريقي المحض، وقيامها مقام القطع الموضوعي الكشفي، وقيامها مقام القطع الموضوعي الوصفي، وقيام الأصول العملية مقام القطع بأقسامه الثلاثة.

المقام الأول: قيامها مقام القطع الطريقي المحض

ولا إشكال في القيام بنفس أدلة اعتبارها؛ وذلك لأن معنى الاعتبار هو المنجزية والمعذرية، أي ترتيب آثار الواقع عليها، ولولاهما لكان الاعتبار لغواً، كما لو قال: خبر الواحد حجة عليك، لكنه لاينجز عليك حكماً ولا يكون معذراً لك!!

ولا يخفى عدم الفرق في القيام بين المباني المختلفة من كونه بمعنى تتميم الكشف أو جعل الحجية... الخ.

ص: 116


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 331.
المقام الثاني: قيامها مقام القطع الموضوعي الكشفي

كما لو قال: لو قطعت بوجوب الصلاة فتصدق بدرهم.

وأشكل عليه بإشكالات...

الإشكال الأول: عدم إمكانه؛ وذلك لاستلزامه الجمع بين اللحاظين الآلي والاستقلالي، ففي المثال للقطع أثران: وجوب الصلاة وهو طريقي؛ لعدم مدخلية القطع في وجوبها ثبوتاً، ووجوب الصدقة وهو موضوعي؛ لدخالة القطع في وجوبها ثبوتاً.

فمع الأمارة على الوجوب يتمّ تنزيل مؤدى الأمارة منزلة الواقع وذلك باللحاظ الآلي بمعنى كون الأمارة طريقاً إلى الواقع، فلا يمكن تنزيل الأمارة منزلة القطع كي تجب الصدقة وذلك للحاظ الاستقلالي لهذا القطع، حيث جعل موضوعاً لوجوب الصدقة في المثال.

وأجيب بأمور منها...

الجواب الأول: بالطولية بين التنزيلين، فالدليل بالمطابقة ينزّل المؤدى منزلة الواقع، وبالالتزام ينزّل القطع بالمؤدى منزلة القطع بالواقع.

وفيه: أنه لا ملازمة عقلاً؛ لأنها لا تكون في الأمور التعبدية، ولذا يجوز التفكيك في الأمور الاعتبارية، كما في الأصل المثبت، إلاّ إذا استلزم التفكيك اللغوية في أصل دليل الجعل، وليس كذلك في ما نحن فيه؛ إذ يكفي في عدم اللغوية تنزيل المؤدى منزلة الواقع فقط.

كما لا ملازمة عرفاً؛ لعدم انسباق هذا اللازم المزعوم في أذهان العرف؛ لعدم التفاتهم إلى هذه الملازمة.

ص: 117

ولذا قيل(1): الدلالات الالتزامية العرفية دلالات واضحة قريبة من الفهم العرفي، وهي ملازمة لمدلول اللفظ تصوراً وتصديقاً، وفي ما نحن فيه تنزيل القطع بالمؤدى منزلة القطع بالواقع الذي يصعب تصوره في نفسه، كيف يعقل أن يكون مدلولاً عرفياً التزامياً لدليل الحجية؟!

أما ما قيل: من استلزام الطولية للدور، ببيان أن: التنزيل الشرعي لا بد أن يكون مع وجود الأثر وإلاّ كان لغواً، والذي يترتب عليه الأثر هو الموضوع بتمامه فلا يترتب الأثر على جزء من الموضوع، فلا بد من إحراز تمام الموضوع إما بالوجدان أو بالتعبد أو بهما، مع لزوم كون إحراز أجزاء الموضوع في عرض ٍ واحد.

وفي ما نحن فيه تنزيل المتأخر متوقف على تنزيل المتقدم - للطولية - ، وتنزيل المتقدم متوقف على تنزيل المتأخر - لعدم ترتب الأثر على المتقدم لوحده - وهذا هو الدور بعينه.

فغير سديد: وذلك لعدم توقف تنزيل المتقدم على تنزيل المتأخر؛ إذ التنزيل الأول له أثر في نفسه حتى مع عدم التنزيل الثاني؛ وذلك لثبوت الأثر لتنزيل المؤدى منزلة الواقع بوجوب الجري العملي طبقه، حتى لو لم ينزل القطع بالمؤدى منزلة القطع بالواقع.

الجواب الثاني: إنه في مرحلة الجعل ينحصر اللحاظ باللحاظ الاستقلالي؛ إذ الجاعل حين الجعل لا بد له من لحاظ الموضوع استقلالاً، فيلاحظ مفهوم الموضوع ويجعله مرآة لمصاديقه الخارجية وتلك

ص: 118


1- بحوث في علم الأصول 4: 93.

المصاديق قد تكون استقلالية وقد تكون آلية، وبعبارة أخرى: إن النظرة الآلية إنما هي في قطع المكلّف، وأما ملاحظة الجاعل للقطع فهو استقلالي على كل حال، فتأمل.

الجواب الثالث(1): إن مبنى هذا الإشكال هو تخيّل أن المجعول في باب الطرق والأمارات هو المؤدّى وتنزيله منزلة الواقع، وعليه يقال: إن في قيام الظن مقام العلم المأخوذ موضوعاً يحتاج إلى تنزيلين: تنزيل المظنون منزلة المقطوع، وتنزيل الظن منزلة القطع.

ولكن حقيقة المجعول في باب الأمارات والأصول ليس هو تنزيل المؤدّى منزلة الواقع، فإنه غير معقول؛ لأن العلم والخمرية - مثلاً - إنما هما من الأمور التكوينية الواقعية التي لا تنالها يد الجعل تشريعاً، مضافاً إلى عدم إمكان إثبات هذا الجعل بالأدلة الشرعية، بل حقيقة المجعول هو إعطاء صفة الطريقية والكاشفية للأمارة، وجعل ما ليس بمحرز حقيقة محرزاً تشريعاً، وعليه فلا تنزيل أصلاً حتى يترتب عليه الجمع بين اللحاظين - الآلي والاستقلالي.

وسبب الإشكال هو توهم الحكومة الواقعية في أدلة الأمارات والطرق، بأن يكون توسعة واقعية للموضوع وأن دليل اعتبار الأمارة والطريق يتكفل لإثبات أحكام الواقع للمؤدّى وأحكام القطع للأمارة، والغفلة عن أن الحكومة هاهنا ظاهرية بمعنى إعطاء صفة الطريقية والكاشفية للأمارة.

وعليه فكما أن الخمر الواقعية يجب اجتنابها ويحكم بنجاستها، كذلك لو

ص: 119


1- فوائد الأصول 3: 22؛ أجود التقريرات 3: 25-27.

قامت بينة بخمرية شيء ترتب عليها وجوب الاجتناب لكون المكلف محرزاً للخمر الواقعية، والنجاسة لكونها تترتب على الخمر المحرز.

نعم، في القطع الطريقي يكون الموضوع هو نفس الواقع، وبالبينة - مثلاً - قد أحرز الواقع بجعل الشارع، وأما في القطع الموضوعي الكشفي يكون الموضوع مركباً من جزئين طوليين - الإحراز والواقع - لكن تحقق أحدهما كافٍ في تحقق الآخر، فإن الإحراز محرز بنفسه والواقع محرز به.

وأشكل عليه: بأن الكاشفية أيضاً من الأمور التكوينية التي لا تنالها يد الجعل، فيرد نفس إشكاله على جعل المؤدّى منزلة الواقع، وبأنه كما يمكن جعل الكاشفية التعبدية كذلك يمكن جعل الخمرية التعبدية، والعلمية التعبدية، هذا مع قطع النظر عن الإشكال المبنوي في دلالة أدلة الأمارات والطرق على جعل الكاشفية، وسيأتي البحث عنه.

الإشكال الثاني: عدم وقوعه، أي عدم دلالة الدليل على قيام الأمارات والطرق مقام القطع الموضوعي الكشفي، لوجوه:

منها: انصراف الأدلة عنه؛ وذلك لندرة وجوده، ولذا اضطروا بذكر مثال النذر للإشكال في الأمثلة المذكورة - على قلتها - كتوقف جواز الشهادة والقضاء على العلم بالمشهود به والمقضي به.

وأجيب: بأن الندرة - سواء في الوجود أم في الاستعمال - لا تكون سبباً للانصراف إلاّ إذا صارت سبباً لعدم شمول اللفظ المطلق لذلك الفرد النادر، وإلاّ فغالب الماهيات لها أفراد نادرة يشملها اللفظ، وقد مرّ تفصيل البحث في المطلق والمقيّد.

ص: 120

ومنها: إن دليل حجية الأمارات والطرق يدل على ترتب ما للقطع من الآثار بما هو حجة، لا بما هو صفة وموضوع؛ إذ حينئذٍ يكون القطع كسائر الموضوعات والصفات.

والمقصود أن للقطع جهتين: جهة كونه صفة نفسانية له أثره كسائر الصفات، وجهة كشفه عن متعلّقه، ودليل حجية الأمارات والطرق لا نظر له إلى الجهة الأولى، حيث إن القطع موضوع للآثار المترتبة على كونه صفة نفسانية، وقيام الأمارة أو الطريق لا يستلزم تحقق موضوع تلك الآثار.

وأجيب: بإمكان القول بإحراز الموضوع تعبداً، فالقطع وإن كان موضوعاً إلاّ أن دليل حجية الأمارة أو الطريق نزل من قامت عنده الأمارة منزلة القاطع بالحكومة! فتأمل.

ومنها: ما اختاره السيد الأخ(1)، وحاصله: أن سعة التنزيل تتوقف على أمرين:

1- ثبوتاً: في سعة حدود الاعتبار؛ إذ التنزيل قد يكون من كل جهة، وقد يكون من جهة دون أخرى، كما لو فرض أنه قال: الطواف بالبيت صلاة، فإن التنزيل من جهة الوضوء فقط.

2- وإثباتاً: ظهور الدليل قد يكون في عموم التنزيل أو خصوصه، والإثبات طريق إلى الثبوت، لأصالة التطابق بين مقام الثبوت ومقام الإثبات.

وعليه فلو كان ظهور فهو، وإلاّ كان الدليل مجملاً، ويؤخذ فيه بالقدر المتيقن، وليس ذلك من باب الظهور في القدر المتيقن، بل من باب كونه

ص: 121


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 351-352.

مراداً على كل حال.

وفي ما نحن فيه - في القطع الموضوعي الكشفي - إما يُدّعى ظهور أدلة الحجية في الخصوص لانصراف الأدلة عنه، حيث إن الظهور في مجرد المنجزية والمعذرية، وإمّا يدعى الإجمال، فلا بد من البحث عن مقدار دلالة الدليل إثباتاً للوصول إلى النتيجة.

فأمّا الدلالة الإثباتية: فقد ذكر المحقق النائيني(1) أن قيام الأمارات والطرق مقام القطع الموضوعي الكشفي هو من مقتضيات حكومة أدلة الطرق والأمارات والأصول على الواقعيات حكومة ظاهرية لا واقعية؛ وذلك لكونها واقعة في طريق إحراز الواقعيات، فتكون حاكمة على كلا جزئي الموضوع - من الواقع ومن الإحراز - بل حكومتها على الواقع لمكان كونها محرزة له، فتكون حكومتها على أحد جزئي الموضوع إنما هو بعناية حكومتها على الجزء الآخر - وهو الإحراز - فأي أثر رتّب في الشريعة على العلم بما أنه محرز يترتب على الطريق والأمارات والأصول المحرزة، ولو كان ذلك الأثر من جهة دخله في الموضوع وكونه جزئه، فإنه يكفي هذا المقدار من الأثر في صحة التعبّد، ولا يتوقف على أن يكون تمام الموضوع.

والحاصل: أن نتيجة الحكومة الظاهرية هي التوسعة في الإحراز وأنه أعم من الإحراز الوجداني وإلاّ لم يكن للحكومة معنى، وبملاحظة هذه الحكومة صحّ أن يقال: إن الموضوع هو الأعم من الإحراز الوجداني وهو

ص: 122


1- فوائد الأصول 3: 24-25؛ أجود التقريرات 3: 21-22.

العنوان الكلي، فإن هذا هو نتيجة الحكومة.

وتوضيحه: أنه في الحكومة الواقعية يكون الحاكم في عَرض المحكوم، بمعنى كون التوسعة أو التضييق واقعياً وذلك بعدم جعل حكم واقعي للحاكم يخالف المحكوم، بل هو هو، كما في قوله (علیه السلام): «الفقاع خمر»، وأما في الحكومة الظاهرية فالحاكم في طول المحكوم، والتوسعة أو التضييق ليست في الواقع، بل في مقام الإثبات فقط، نظير حكومة الأمارات و الأصول، حيث إنها حكومة في ظرف الجهل، فلا يعقل توسعتها أو تضييقها واقعاً.

والمجعول أولاً وبالذات هو صفة المحرزية والكاشفية للأمارة أو للأصل، ويتبع ذلك إحراز الواقع بهما، للتلازم بين كون الشيء محرزاً وبين إحراز الواقع به، وحينئذٍ فقيام الأمارات والطرق مقام القطع الموضوعي الكشفي أولى من قيام المؤدّى منزلة الواقع.

ومثاله ما لو قال المولى: (لو قطعت بملكية زيد فاشهد له) وهو قطع موضوعي كشفي، فإن دليل حجية اليد يكفي في صحة الشهادة له على الملكيّة؛ لأن هذا الدليل جعل الكاشفية بالأصالة، وكشف الواقع بالتبع.

وأشكل عليه: أولاً: بأن أدلة جعل الحجية للأمارات والطرق والأصول لا دلالة لها على جعل الكاشفية وإنما بالجري العملي طبقاً لها، مضافاً إلى أن عمدة الأدلة في بعض الأمارات والأصول هي الأدلة اللبيّة ولا تجري فيها الحكومة لارتباطها بالألفاظ، وعلى فرض دلالتها على جعل الكاشفية فهي منصرفة إلى ترتيب آثار المحرز لا آثار الإحراز، هذا فضلاً عن أن ما ذكره ليس حكومة، بل ورود.

ص: 123

وثانياً: ما في المنتقى(1): من أن الحكومة في الأمارات والأصول واقعية لا ظاهرية، فإن الحكومة عند المحقق النائيني تتقوم بنظر أحد الدليلين إلى الآخر بتضييق في مدلوله أو توسعة، فإذا كان دليل اعتبار الأمارة يتكفل جعل الكاشفية وتنزيل الأمارة منزلة العلم في الوسطية في الإثبات، كان ناظراً إلى الدليل الواقعي المتكفل لترتب الأحكام على القطع، وهذا حكومة واقعية ليس فيها كشف خلاف، بل انكشاف خلاف الأمارة يكون من باب تبدل الموضوع، ولا نظر له إلى الواقع بحال كي يدعى أن حكومته عليه بالحكومة الظاهرية.

وبالجملة لو كان دليل الاعتبار ناظراً إلى ترتيب آثار الواقع كان لما ذكره من دعوى الحكومة الظاهرية وجه، ولكنه ليس كذلك بل هو ناظر إلى ترتيب آثار القطع، فالحكومة على هذا واقعية.

وأشكل عليه في التبيين(2): بأنه لو فرض كون ما نحن فيه حكومة، فيمكن القول بأنها حكومة واقعية وظاهرية معاً؛ إذ هنا دليلان:

أحدهما: الدليل المتكفل لترتيب الحرمة على الخمر مثلاً، فإذا لوحظت نسبة دليل حجية الأمارة - الذي مفاده أن الأمارة إحراز - إلى هذا كانت الحكومة ظاهرية.

وثانيهما: الدليل المتكفل لترتيب الحجية - مثلاً - على الإحراز، فإذا لوحظت نسبة الدليل إلى هذا كانت الحكومة واقعية، ولا منافاة بين

ص: 124


1- منتقى الأصول 4: 74-75.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 360.

اللحاظين، إلاّ أن أحدهما ملحوظ بالتبع، والآخر ملحوظ بالذات.

والظاهر أن المنظور إليه وبالذات هو الأول، والمنظور إليه ثانياً وبالتبع هو الثاني؛ لأن الشارع عند ما يقول: الأمارة إحراز للواقع، يكون نظره الأصلي إلى دليل الواقع، مثل (الخمر حرام)، وإن كان نظره التبعي إلى دليل ترتيب الآثار على القطع، فتأمل.

المقام الثالث: قيام الطرق والأمارات مقام القطع الموضوعي الوصفي

ولا إشكال في عدم قيامها مقامه؛ لأن القطع ملحوظ بما هو حالة نفسية خاصة في القاطع، ولا تتحقق بالأمارات والطرق تلك الحالة كي يترتب عليها أحكامها.

إن قلت: إطلاق دليل الحجية يشمل ما نحن فيه؛ إذ يدل على كونها قطعاً تعبداً، فبالحكومة دخلت الأمارات والطرق في القطع، فتحقق الموضوع تعبداً، فيترتب عليه أحكامه!

قلت: كلا، لا إطلاق كما مرّ، لتحقق الانصراف حتماً على مبنى جعل المؤدّى، وعدم وجود محل للإطلاق أصلاً على مبنى الجري، فيكون من باب السالبة بإنتفاء الموضوع.

المقام الرابع: قيام الأصول العملية مقام القطع
اشارة

وهنا مطلبان:

المطلب الأول: في قيام الأصول غير المحرزة مقام القطع الطريقي

1- أما البراءة: فهي تقوم مقام القطع في المعذرية، فكما أن القطع معذّر لو بان خطؤه، فكذلك البراءة معذرة، ويكفي في القيام مقام القطع قيام

ص: 125

الشيء مقامه في بعض الآثار، ولا يشترط القيام في كل الآثار، فلا يرد الإشكال بأن القطع منجّز ولا تنجيز للبراءة، وكذا الإشكال بأن القطع كاشف ولا كاشفية لها.

2- وأما الاحتياط: فلا إشكال في كونه منجزاً، فيقوم مقام القطع أيضاً.

وأشكل عليه المحقق الخراساني(1): بأن الاحتياط الشرعي لا نقول به؛ إذ هو في مورد الشبهة البدوية التحريمية، والاحتياط العقلي - وملاكه دفع الضرر المحتمل - هو المنجزية بعينها، وليست المنجزية أثراً له حتى يقال: بأنها أثر للاحتياط فيقوم مقام القطع في أثره.

وبعبارة أخرى: لا بدّ في صحة التنزيل من مغايرة المنزَّل والمنزَّل عليه، وكذا مغايرة المنزَّل وحكم المنزَّل عليه، وإلاّ لم يصح التنزيل، وفي الاحتياط العقلي حكم المنزَّل عليه هو المنزَّل بنفسه - أي التنجيز - ، والاحتياط الشرعي لا نقول به!

وفيه: أولاً: أنه لا فرق في القيام - في ما هو المهم في المقام - بين ترتب أثر القطع على الأصل العملي، أو كون الأصل هو الأثر بنفسه.

وثانياً(2): إن هذا الإشكال إنّما يرد لو قلنا بوجود أحكام للعقل، ففسرنا الاحتياط بحكم العقل بوجوب الاجتناب، وحينئذٍ لا يكون الاحتياط العقلي سبباً للتنجز؛ إذ يكون الاحتياط في مرتبة التنجز أو في رتبة معلوله؛ وذلك لأن إدراك العقل حسن المؤاخذة على المخالفة يكون سبباً لتنجز التكليف

ص: 126


1- إيضاح كفاية الأصول 3: 240-241.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 366-367.

ولحكم العقل بوجوب الاجتناب، أو الإدراك المزبور يكون سبباً لتنجز التكليف وهذا التنجز يكون سبباً لحكم العقل بوجوب الاجتناب.

وأما إذا قلنا بأن العقل يُدرك ولا يحكم، فيكون معنى الاحتياط العقلي هو إذعان العقل باستحقاق العقاب على مخالفة التكليف المحتمل أو المعلوم بالعلم الإجمالي، فحينئذٍ لا مانع من القول بقيامه مقام القطع في تنجز التكليف - أي إثباته في ذمّة المكلّف - وذلك لأن الاحتياط صار سبباً للتنجيز، فتأمل.

3- وأما التخيير: فهو شرعي أو عقلي.

أما التخيير الشرعي: - كما في الخبرين المتعارضين - فهو يقوم مقام القطع في التعذير لو اختار المخالف للواقع، وكذا في التنجيز لو اختار التكليف الإلزامي أو أحد الإلزاميين وكان مطابقاً للواقع، هذا على بعض مباني التخيير.

وأما التخيير العقلي: فهو بمعنى اللّابدية العقلية، حيث يدور الأمر بين الفعل والترك، فيكون المكلف مضطراً إلى اختيار أحدهما، كما لو دار الأمر بين وجوب أو حرمة دفن الحربيّ، وحينئذٍ لا معنى للتنجيز أو التعذير.

المطلب الثاني: في قيام الأصول المحرزة مقام القطع

لا إشكال في قيامها مقام القطع، وقد يستدل لذلك: بأنه لولا منجزيتها ومعذريتها كان جعلها لغواً، حيث لا أثر آخر للجعل سوى المنجزية والمعذرية.

وأما ما قيل: من أن الشارع اعتبرها علماً بالحكومة، فتترتب عليها آثار العلم - المنجزية والمعذرية - .

ص: 127

ففيه: أن أدلة حجيتها إما لبيّة وليس فيها ما يدلّ على اعتبارها علماً، وإما لفظية وظاهرها الجري العملي، لا جعل الشك يقيناً، ولا يستفاد من قوله (علیه السلام): «فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك»(1) اعتبار الشك يقيناً.

ثم إن كل ما مرّ كان حول دلالة الأمارات والطرق والأصول على ترتب آثار القطع عليها، وأما لو ورد في الدليل لفظة (العلم) أو ما في معناها فقد يقال: بقيامها مقام العلم، وقد يستدل لذلك بوجوه، منها: وضع لفظة (العلم) وما بمعناها للإحراز سواء كان إحرازاً وجدانياً أم غيره، أو عموم المجاز باستعمالها في الكاشف مطلقاً، أو أن المناط في العلم ونحوه هو الكاشفية، فيعمّ كل كاشفية، أو أن العلم هو أعم من العلم بالواقع أو العلم بالوظيفة.

ويرد عليها: أن الوضع هو لخصوص الإحراز الوجداني، للتبادر وصحة السلب عن غيره، ولا قرينة للاستعمال المجازي، والمناط ظني فلا يصلح للاستناد عليه، وكذا فإن لفظة (العلم) ونحوها تنصرف إلى العلم بالواقع فقط.

ص: 128


1- تهذيب الأحكام 1: 421؛ وسائل الشيعة 3: 466.

فصل فی أخذ القطع بحكم في موضوع ذلك الحكم أو ضده أو مثله

اشارة

وهنا مباحث:

المبحث الأول: أخذ القطع في موضوع نفس الحكم بشخصه

وهو محال، وقد يستدل للاستحالة بوجوه، منها:

الدليل الأول: استلزامه الدور؛ وذلك لأن العلم متأخر عن المعلوم، والحكم متأخر عن الموضوع، فالقطع بالحكم متأخر عن الحكم، لتأخر العارض عن المعروض، فإذا صار القطع بالحكم موضوعاً للحكم لزم تقدمه، لتقدم الحكم على موضوعه، وهو الدور بعينه.

وأشكل عليه: بأن الموقوف عليه غير الموقوف عليه؛ لأن متعلق القطع هو مفهوم الحكم، أي بالحمل الأولي الذاتي، وأمّا الحكم الذي موضوعه القطع فهو مصداق الحكم، أي بالحمل الشائع الصناعي، كما مرّ نظيره في رفع إشكال الدور في أخذ قصد القربة في متعلق الأمر.

وبعبارة أخرى: الحكم المأخوذ متعلقاً للقطع هو مفهوم الحكم، والحكم المأخوذ حكماً للقطع هو مصداق الحكم.

وفيه: أنه خروج عن فرض الكلام الذي هو أخذ القطع بالحكم بنفسه موضوعاً لذلك الحكم، لا لغيره.

الدليل الثاني: استلزامه ملاك استحالة الدور - وإن لم يلزم الدور بنفسه - ،

ص: 129

وملاك استحالة الدور هو تقدم الشيء على نفسه بأن يكون متقدماً ومتأخراً في وقت واحد حتى لو لم يكن توقف في البين.

قال المحقق الإصفهاني: «إن العلم موضوع الحكم - لا متعلقه المطلوب به - ، والموضوع لا بد أن يكون مفروض الثبوت، فيلزم فرض ثبوت الشيء قبل ثبوته، وهو ملاك الدور المحال»(1).

وذلك لأنه في القضايا الحقيقية لا بد من فرض وجود الموضوع - بأجزائه وشرائطه - حتى يترتب الحكم عليه، وحيث إن رتبة الموضوع متقدمة على المحمول، فكون الموضوع هو القطع بالحكم يستلزم كون الحكم في رتبة الموضوع، مع أن الحكم متأخر رتبة عن الموضوع.

وأجاب: أولاً: إن مقتضاه فرض ثبوت العلم، لا فرض ثبوت المعلوم، وثبوت العلم لا يقتضي ثبوت المعلوم بالعرض.

وذلك لأن المعلوم بالذات هو الصورة الذهنية، وقد لا يتطابق مع المعلوم بالعرض الذي هو الواقع الخارجي؛ إذ قد يكون العلم جهلاً مركباً، وعليه فالعلم بالحكم ليس هو الحكم، فاختلف المتعلق.

كما أن كون العلم في الزمان الحال لا يقتضي وجود المعلوم فيه؛ إذ قد يكون مقدماً أو متأخراً أو مقارناً، وعليه فالموضوع العلم بالحكم وذلك يعني فعلية الحكم لا فعلية المعلوم.

ولا يخفى أن هذا الجواب يدفع الإشكال في بعض فروض المسألة، وأما لو أخذ الموضوع هو العلم مطلقاً أو العلم بالمعلوم الفعلي المطابق للواقع

ص: 130


1- نهاية الدراية 3: 69.

لزم المحذور.

وثانياً: إن ثبوت الشيء فرضاً غير ثبوته التحقيقي، فلا يلزم من فرض ثبوت الشيء هنا ثبوت الشيء قبل نفسه، فلا مانع من توقف ثبوته التحقيقي على ثبوته الفرضي.

وأشكل عليه(1): إنه ليس المراد القضية التي يكون الموضوع فيها مجرد الفرض والتقدير، بأن علق المحمول على نفس الفرض، كما يقال: فرض المحال ليس بمحال، فالفرض ليس بمحال وإن كان المفروض محالاً، بل المراد هو القضية التي يكون الموضوع فيها (المفروض)، أي لو تحقق هذا المفروض في الخارج ترتب عليه هذا المحمول، كما يقال: لو فرضنا أنك أصبحت غنياً وجبت عليك الزكاة، فقولنا: لو قطعت بالوجوب وجب عليك بنفس ذلك الوجوب ليس معناه مجرد فرض الوجوب موضوعاً للوجوب، بل المراد متى تحقق خارجاً قطعك بالوجوب وجب عليك، فرجع الإشكال.

الدليل الثالث: استلزامه الخلف، ففي نهاية الدراية(2): إن فرض تعليق الوجوب على العلم به هو فرض عدم الوجوب لطبيعي الصلاة - مثلاً - ، وفرض نفس القيد وهو العلم بوجوب الصلاة هو فرض تعلق الوجوب بطبيعي الصلاة.

أي إنّ متعلق الوجوب في الموضوع في مثل: (إن قطعت بوجوب الصلاة وجبت الصلاة عليك) هو طبيعي الصلاة، وعليه لا يمكن أن يكون

ص: 131


1- منتقى الأصول 4: 89.
2- نهاية الدراية 3: 70.

المتعلق في الحكم هو الطبيعي وإلاّ كان لغواً، بل لا بد من كونه الحصة أي: (الصلاة المعلومة الوجوب)، وهذا خلف فرض أخذ القطع بالحكم في موضوع ذلك الحكم بشخصه.

نعم، هذا الإشكال مختص بما لو طابق القطع الواقع، وأما لو خالف الواقع فلا لغوية ولا خلف.

الدليل الرابع: استلزامه تحصيل الحاصل؛ إذ الوجود الواحد لا يقبل نفس الوجود مرّة أخرى.

وقد يقال: إن الاستحالة إنّما هي في الوجود الخارجي، وأما الاعتبار فهو خفيف المؤونة، فهو يرتبط باعتبار المعتبر، ولا واقع وراء اعتباره، نظير فرض المحال الذي ليس بمحال، وعليه فلا محذور عقلي في تحصيل الحاصل في الاعتباريات، فتأمل.

الدليل الخامس: استلزامه اللغوية، فإنه لا بد من وجود مصحح للاعتبار، ومع فرض علم المكلف بالحكم كان جعل نفس الحكم مرة أخرى لغواً.

وأما ما قيل: من أن جعل الحكم إنما هو بغرض إيجاد الداعي، ومع فرض علم المكلف بالوجوب لا يوجد داع ٍ آخر بجعل للوجوب مرّة أخرى.

ففيه: إمكان تقوية الداعي بالجعل الجديد لنفس الوجوب، مضافاً إلى أن جعل الداعي أحد الأغراض، ولذا صحّ تكليف الجاهل والناسي غير الملتفتين - بنتيجة الإطلاق - مع عدم إمكان جعل الداعي فيهما؛ وذلك لوجود أغراض أخرى كوجوب القضاء مثلاً.

ص: 132

المبحث الثاني: أخذ القطع بحكم موضوعاً لمثل ذلك الحكم

كما لو قال: لو قطعت بوجوب الصلاة وجبت عليه بوجوب آخر مثل الوجوب الأول، فالوجوب في الموضوع تعلق بالصلاة بنفسها وهو عام للجاهل والعالم، والوجوب في المحمول تعلق بها بما هي مقطوعة وهو خاص بالعالم بالوجوب.

وهنا ثلاثة مباني:

المبنى الأول: الاستحالة مطلقاً وذلك لاستلزامه اجتماع المثلين.

وأجيب بأجوبة، منها:

الجواب الأول: تعدد الموضوع في مقام الجعل فلا يكون من اجتماع المثلين، كما في موارد العامين من وجه الواجبين، في مورد اجتماعهما، كما لو قال: أكرم العلماء، وقال: أكرم الهاشميين، فالعالم الهاشمي يجتمع فيه وجوبان من غير أن يكون من اجتماع المثلين، بل ما نحن فيه من العامين من وجه؛ إذ نسبة الصلاة إلى الصلاة المقطوعة هي العموم من وجه.

وفيه: أن الموضوع هو مرآة للأفراد الخارجية؛ لأنها هي الواجبة - مثلاً - ، فالوجوبان تعلقا بنفس الأفراد، فاجتمع المثلان، وليس في موارد العامين من وجه وجوبان، بل وجوب واحد متأكد.

الجواب الثاني: عدم استلزامه لاجتماع المثلين في أية مرحلة من مراحل الحكم...

أما الملاك: فالمصلحة والمفسدة يمكن اجتماعهما في شيء واحد؛ وذلك لتعدد الحيثيات في الأمور التكوينية، فيمكن اجتماع مصلحتين ملزمتين أو مفسدتين كذلك. نعم، لا يمكن اجتماع مصلحة و مفسدة

ص: 133

ملزمتين كما مرّ، وما نحن فيه من اجتماع مصلحتين أو مفسدتين؛ إذ الكلام في أخذ القطع بحكم في موضوع حكم مثله.

وأما الإرادة والكراهة: فيمكن تعددهما - في المتماثلين - باعتبار منشئهما؛ لأن ذلك من تحقق صفتين من صنف واحد في النفس، ولا محذور فيه، أو يقال: بأنهما مشككان، ففي مرتبتهما القوية كما يمكن إنشاء حكم واحد مؤكد كذلك حكمين مع وجود المصحح العقلائي.

وأما إنشاء الحكم: فهو أمر اعتباري، فيمكن للمولى الغافل إصدار حكمين متضادين فضلاً عن المتماثلين، مع أن المحال لا يمكن إيجاده حتى في حالة الغفلة، ومن ذلك يستكشف عدم المحذور من هذه الجهة في إصدار إنشائين.

وأما التنجيز والتعذير: فحيث إن الحكمين متشابهان ففي صورة الإصابة لا مانع من تنجيزهما الواقع، وفي صورة الخطأ من تعذيرهما.

وأمّا الامتثال - وهو الجري العملي للمكلّف -: فهو لا يرتبط بالحكم، وليس إلا جرياً عملياً واحداً.

المبنى الثاني: استحالة استقلال الحكمين، وإمكان التأكد(1).

أما إمكان التأكد: فهو في حقيقته رجوع إلى أن هناك حكم واحد لكنه مؤكد، كما قد تجتمع مصلحتان فتتأكد الإرادة ولذلك يتأكد البعث، ويؤيده صحة النذر في الواجبات، وكذا اجتماع الحكمين في العامين من وجه حيث يؤول إلى حكم واحد مؤكد.

ص: 134


1- منتقى الأصول 4: 91-92.

وأما استحالة الاستقلال: فلاستلزامه المحذور في المبدأ والمنتهى...

أما في المبدأ: فالمحذور هو تعلق إرادتين مستقلتين بفعل واحد.

وأما في المنتهى: فالمحذور عدم إمكان اجتماع داعيين مستقلين في شيء واحد، ومرجعهما إلى توارد علتين تامتين على معلول واحد.

وأشكل عليه(1): أما في الإرادة: فقد مرّ قبل قليل أنه لا مانع من توارد إرادتين مستقلتين إذا تعدّدت الجهات، مضافاً إلى أنه لا محذور في كون إرادة شديدة منشأ لحكمين مستقلين؛ لأنهما وجودان اعتباريان إنشائيان.

وأما في المنتهى: فلعدم انحصار إنشاء الحكم في جعل الداعي، مضافاً إلى أن المراد جعل الداعي بالقوة - أي لولا المانع - بمعنى أنه لولا المانع لكان كل حكم داعياً بالاستقلال، ولكن حيث يوجد المحذور فكلا الحكمين جزء من الداعي ولا إشكال فيه.

المبنى الثالث: الإمكان مطلقاً، تأكيداً أم تأسيساً.

إذ لا محذور عقلي في أيٍّ منهما، وليس التعدد لغواً، بل قد يكون سبباً للطاعة، حيث إن إيمان بعض العبيد ضعيف، فلو تكرر الوجوب قد يطيع بما لايطيع لو لم يتكرر.

المبحث الثالث: أخذ القطع بحكم في موضوع ضد ذلك الحكم

وهذا محال لاستلزامه اجتماع الضدين:

سواء في الملاك؛ لأن المصلحة والمفسدة وإن أمكن اجتماعهما في شيء إلاّ أن الحكم لا ينشأ إلا بعد الكسر والانكسار، فإن كانت المصلحة

ص: 135


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 404.

ملزمة صدر الحكم بالوجوب، أو المفسدة ملزمة كان حكم بالحرمة، أو يتساويان فالجواز، ولا يعقل كون المصلحة والمفسدة ملزمتين.

أم في الإرادة والكراهة؛ وذلك لأنهما تابعان للمصلحة والمفسدة الملزمتين في المولى الحكيم الملتفت، وحيث تضادت المصلحة والمفسدة بالذات تضادت الإرادة والكراهة بالتبع، كما أن التضاد في مرحلة امتثال المكلّف يسري إلى التضاد في مرحلة الإرادة.

أم في مرحلة الامتثال، لعدم قدرة المكلف على الجمع بينهما؛ لعدم إمكان اجتماع الانبعاث والانزجار في شيء واحد.

وأما في مرحلة الحكم المنشأ، ففي التبيين(1): أنه لا مانع من ذلك لو لوحظ الحكم في هذه المرحلة بذاته وبما هو هو؛ لأن الحكم موجود اعتباري، وهو مساوق للموجود الفرضي، وليس هناك اجتماع للضدين حقيقة، بل هو فرض اجتماع الضدين، ولا مانع منه؛ لأن فرض المحال ليس بمحال. نعم، يحصل التضاد بالعرض - في المبدأ والمنتهى - فتأمل.

ص: 136


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 408.

فصل فی الموافقة الالتزامية

اشارة

مطالب تمهيديّة

المطلب الأول: يرتبط هذا البحث بمبحث القطع من جهة أن التكليف المقطوع به هل يجب الالتزام به أم لا؟ كما أنه قد يقال: بأن وجوب الالتزام مانع عن جريان الأصول العملية في أطراف العلم الإجمالي، كما سيأتي بيانه.

المطلب الثاني: وأما معناها: فهو الاعتقاد بالحكم، فترتبط بالقلب، وليس معناها العلم بالحكم؛ لأنه قد يكون علم من غير اعتقاد - والذي هو الإذعان وعقد القلب - فالمنافق قد يعلم بالواقع وهو يظهر الشهادتين لساناً، وقد يلتزم بالتكاليف ظاهراً، لكنه لا يذعن ولا يعقد قلبه علی ما علمه.

وبذلك يتضح أنها اختيارية، حيث لا ملازمة قهرية بين العلم وبينها.

المطلب الثالث: في تحرير محل النزاع، فالكلام في أربعة مواضع:

الموضع الأول: في فروع الدين، وأما أصول الدين فلا إشكال في وجوب الموافقه الالتزامية في أساسيات أصول الدين - كالتوحيد والنبوة والإمامة والمعاد وبعض تفاصيلها بتفصيل يرتبط بمباحث أصول الدين - .

الموضع الثاني: قيل باختصاص البحث في التوصليات؛ لأن التعبديات

ص: 137

لا بحث فيها لتوقف قصد القربة عليها!

ويرد عليه: أن قصد القربة أعم من قصد الأمر، كما مرّ في بحث التوصلي والتعبدي، مضافاً إلى أنه لو علم بوجود الأمر من غير تعيين بأنه للوجوب أو الاستحباب فيمكنه قصد القربة من غير التزام قلبي بخصوص الحكم.

ومن ذلك يتبين أنه ليس بتشريع، حيث قصد الأمر - وهو قد ورد من الشرع - من غير تعيينه في مصداق الوجوب مثلاً.

نعم، لو علم بأن الأمر للوجوب لكنه التزم الاستحباب فقد يقال بأنه تشريع، لكن هنا بحث بأن هذا النحو من التشريع هل يضرّ بصحة العبادة؟

فقد قيل: بأنه غير ضار حيث لا تركب - لا بنحو الاتحاد ولا بنحو الانضمام - بين هذه النسبة وبين العمل العبادي، فيكون كالنظر إلى الأجنبية في الصلاة، فهو حرام لكن لا يضرّ بصحة العبادة.

وقد قيل: بأن التشريع المبطل للعبادة هو التشريع في ذات العبادة لا في وصفها، والتشريع في الوصف لا يسري إلى الذات، فمنطلق هذا الإنسان للعبادة هو أمره تعالى، وأما خصوصية الوجوب أو الندب فلم تكن مأموراً بها فلا يضر الاتيان بالخصوصية من غير داع قربي حتى لو كان تشريعاً محرماً.

ويرد عليهما: أنه لا يعقل الانفكاك بين الكلي وخصوصياته؛ إذ لا يوجد الكلي إلاّ في ضمن فرده، فلا يعقل كون الذات مقربة والخصوصيات مبعّدة لاتحادهما خارجاً - حتى وإن تعدّدا ذهناً - وقد مرّ تفصيل ذلك في باب اجتماع الأمر والنهي، فتأمل.

ص: 138

الموضع الثالث: البحث يشمل الأحكام غير الاقتضائية، فلو فرض تمامية الدليل على وجوب الموافقة الالتزامية فهو بإطلاقه أو عمومه يشمل الإباحة أيضاً.

الموضع الرابع: ملاك البحث عام، فهو كما يشمل الحكم المقطوع به كذلك يشمل ما أدت إليه الأمارات والأصول العملية.

دليل وجوبها

قد استدل لوجوب الموافقة الالتزامية بأدلة وجوب تصديق القرآن الكريم وتصديق النبي (صلی الله علیه و آله) والأئمة (علیهم السلام) كقوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ ءَامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَٰبِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَالْكِتَٰبِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ}(1)، وبأدلة وجوب التسليم كقوله سبحانه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}(2).

وأشكل عليه: بأن التصديق يقابل التكذيب، وهو من مقدمات الإذعان وليس هو هو، والموافقة الالتزامية هي الإذعان وعقد القلب، فوجوب إحدى مقدماتها لا يدل على وجوبها.

وبأن ظاهر التسليم هو الالتزام العملي، فدلالة الآية على عدم الحرج في القلب، وعدم التمرد عملاً، بل التسليم به، مضافاً إلى أن الظاهر هو نفي كمال الإيمان لا أصله، وقد يكون الكمال بالمستحبات، فلا دلالة لنفيه على

ص: 139


1- سورة النساء، الآية: 136.
2- سورة النساء، الآية: 65.

الوجوب.

هذا في الحكم المعلوم بالتفصيل.

وأما الحكم المعلوم بالإجمال فلا إشكال في إمكان الالتزام به، بأن يلتزم بما هو الثابت واقعاً والانقياد له والاعتقاد به بما هو الواقع والثابت وإن لم يعلم أنه الوجوب أو الحرمة - كما في الكفاية(1) - بل ذكر المحقق الإصفهاني: «أن طرف العلم دائماً مبيّن تفصيلاً وإنما الإجمال والتردد في طرف الطرف ومتعلقه؛ بداهة أن طرف العلم يتشخص به العلم في مرحلة النفس، وهو أمر جزئي غير مردّد، وهنا كذلك؛ لأن المعلوم هو الإلزام من الشارع أما أن متعلقه الفعل أو الترك فهو مجهول - أي غير معلوم - والإلزام المعلوم يستتبع على الفرض الالتزام به باطناً والانقياد له قلباً»(2). انتهى، وسيأتي بحث المبنى مفصلاً إن شاء الله تعالى.

ثم بعد إثبات إمكان الالتزام في المعلوم الإجمالي نقول: إن دليل الوجوب بالتفصيل يجري هنا أيضاً لوحدة الملاك والإشكال هو بنفسه من غير فرق.

دليل عدم وجوبها

ثم إنه قد استدل لعدم وجوب الالتزام - مضافاً إلى عدم الدليل على الوجوب -: بأن ملاك استحقاق العقوبة هو كون المخالفة هتكاً وظلماً، وغير خفي أن عدم الالتزام قلباً مع الالتزام عملاً ليس بهتك ولا ظلم؛ إذ

ص: 140


1- إيضاح كفاية الأصول 3: 255-256.
2- نهاية الدراية 3: 79.

الغرض من التكليف هو انقداح الداعي إلى فعل ما هو موافق لغرض المولى، وعدم المبالاة بأمر المولى إنما يكون هتكاً وظلماً إذا انجرّ إلى ترك ما يوافق غرض المولى أو فعل ما ينافيه، كذا في النهاية(1).

تكملة

في مانعية أو عدم مانعية وجوب الموافقة الالتزامية عن جريان الأصول العملية في أطراف العلم الإجمالي.

وذلك إذا لم يكن جريان الأصل في الطرفين أو الأطراف مستلزماً لمخالفة عملية مع استلزامه لمخالفة التزامية، كما لو أدخل يده النجسة في ماء مشكوك الكرية، فجريان استصحاب النجاسة في اليد والطهارة في الماء لا يستلزم مخالفة عملية، إلاّ أنه يستلزم مخالفة التزامية؛ وذلك لعلمه إما بطهارتهما لو كان الماء كراً أو نجاستهما لو كان قليلاً.

ولا يخفى أنه قد ذكر في جريان الأصول في الأطراف محاذير أربعة هي: المخالفة العملية، وتناقض الصدر والذيل، وعدم وجود الأثر العملي، والمخالفة الالتزامية، وقد ذكروا المحاذير الثلاثة الأولى مع دفعها في غير هذا الموضع.

وأما الرابع: وهو المقصود بالكلام في هذا الموضع...

فقد يقال: إن وجوب الالتزام قلباً مانع عن جريان الأصول العملية في أطراف العلم الإجمالي؛ لأن جريانها يستلزم العلم بالالتزام بما هو خلاف الواقع!

ص: 141


1- نهاية الدراية 3: 77.

وأجيب بأجوبة، منها:

الجواب الأول: إمكان الالتزام الإجمالي بالحكم الواقعي، والالتزام التفصيلي بالحكم الظاهري؛ وذلك لإطلاق أدلة وجوب الالتزام - على القول بها - فتشمل الإجمالي من الالتزام أيضاً، فكما يمكن الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي كذلك يمكن الجمع بين الالتزام الإجمالي بالواقع والالتزام التفصيلي بالظاهر.

الجواب الثاني: إن الالتزام في أطراف العلم الإجمالي لا يخلو من فروض ستة:

1- الالتزام الإجمالي، وهو المطلوب، وهو لا ينافي جريان الأصول.

2- أو سقوط وجوب الالتزام، وبذلك يرتفع المانع عن جريانها.

3- أو وجوب الالتزام بالحكم الواقعي.

لكنّه تكليف بما لا يطاق؛ لعدم علمه به.

4- أو وجوب الالتزام بكلا الطرفين، حيث إنه مقدمة للالتزام بالحكم الواقعي.

وفيه: أنّ الالتزام بالواجب الواقعي توقف على تشريعين؛ لعدم العلم بهذا الطرف ولا بذلك الطرف، فالالتزام بهما تشريع، مع عدم ثبوت كون الالتزام التفصيلي أهم.

5- أو الالتزام بأحدهما معيناً.

لكن الدليل - لو صح - إنّما دلّ على الالتزام بحكم الله تعالى، وما يعيّنه المكلّف لا يعلم كونه حكماً لله تعالى، فيكون من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، مضافاً إلى كونه تشريعاً لانطباق تعريف التشريع عليه.

ص: 142

6- أو وجوب الالتزام بأحد الأطراف مخيراً بينها.

إلاّ أن هذا ليس تخييراً عقلياً ولا شرعياً...

أما عدم كونه تخييراً عقلياً فلعدم انطباق الأقسام الثلاثة من التخيير العقلي على ما نحن فيه:

أ- وذلك لعدم التزاحم بين الواجبين؛ لأن ما نحن فيه اشتباه الواجب بغير الواجب.

ب – ولعدم كون الأطراف حصص الكلي الطبيعي المأمور به؛ لأن أحدهما ليس مصداقاً لحكم الله تعالى الواجب الالتزام به.

ج – ولعدم كون الأطراف محتملات تكليف واحد اشتبه بينها، حيث إن التكليف المنجز لا بد من البراءة اليقينية منه ليقطع بعدم العقاب على مخالفته، وذلك يستدعي الاحتياط بإتيان كل الأطراف المحتملة ومع عدم التمكن من الاحتياط يستقل العقل بلزوم الموافقة الاحتمالية بالإتيان بما أمكنه من المحتملات مخيراً بينها.

وليس ما نحن فيه كذلك؛ لكون الموافقة الاحتمالية تشريع محرّم، حيث إنها التزام مع الشك، فيسقط وجوب الالتزام لوجود المانع عنه، مع عدم إحراز أهميته على التشريع.

وأما عدم كونه تخييراً شرعياً، فلأنّه إنما يكون في ما لو كانت كل الأطراف واجبة على البدل وليس ما نحن فيه كذلك؛ لعلمنا بأن الشارع إنما أراد منا الالتزام بالحكم الواقعي، وليس هو إلاّ أحد الأطراف.

إن قلت: ملاك أدلة التخيير بين الخبرين المتعارضين ثابت في ما نحن فيه، فعليه أن يختار أحدهما ويلتزم به.

ص: 143

قلت(1): هذا التخيير لو ثبت فإنما هو حكم ظاهري، والكلام في الالتزام بالحكم الواقعي، فتأمل.

والحاصل: أنه بعد سقوط الاحتمالات الأربعة الأخيرة، لم يبق إلاّ الاحتمالين الأولين، وهما لا ينافيان جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي.

الجواب الثالث: حكومة أدلة الأصول العملية الموضوعية على أدلة وجوب الالتزام؛ إذ الأصول العملية النافية للتكليف تخرج مجاريها عن موضوع التكليف المعلوم بالإجمال، وكذا عن موضوع أدلة وجوب الالتزام، وحيث انتفى موضوع وجوب الالتزام انتفى هذا الوجوب...

أما في الشبهة الحكمية فيقال الأصل البراءة - مثلاً - عن هذا الحكم وعن ذلك الحكم، فلا يوجد حكم حتى يجب الالتزام به.

وأما في الشبهة الموضوعية، كما لو شك في أن متعلق نذره هو صوم هذا اليوم أو إفطاره بتلبية دعوة مؤمن، فالأصلان ينفيان تعلق النذر بالأمرين - أي استصحاب عدم نذر الصوم واستصحاب عدم نذر الإفطار بتلبية الدعوة - ، فحينئذٍ لا صغرى للموضوع - أي لا نذر ثابت - ، وبانتفاء الموضوع ينتفي الحكم الذي هو وجوب الوفاء بالنذر، وحينئذٍ لا مانع من الالتزام بالإباحة، فليس الحكم بها طرحاً لدليل الوجوب، بل لأجل الخروج عن موضوع الوجوب، وعليه فلا مخالفة التزامية لعدم وجود حكم ٍ كي يجب الالتزام به!

ص: 144


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 460.

وهذا الوجه منسوب إلى الشيخ الأعظم(1).

وأشكل عليه: باستلزامه الدور؛ وذلك لأن الأصول العملية إنما تجري لو لم يكن محذور في جريانها، فلو كان جريانها سبباً لدفع المحذور كان دوراً صريحاً.

وبعبارة أخرى: مع دوران الأمر بين الوجوب والحرمة - مثلاً - فإن المحذور هو احتمال عدم الالتزام بالتكليف، بل الالتزام بضد التكليف، ومع وجود هذا المحذور لا تجري الأصول العملية، فلو قلنا: بأنا ندفع هذا المحذور بواسطة إجراء الأصول - إذ مع جريان الأصول لا محذور في احتمال الالتزام بضد التكليف - صار دوراً مصرحاً، وهذا ما يستفاد من كلام المحقق الخراساني(2).

وقرّر المحقق الإصفهاني(3) الدور بكونه مضمراً وبيانه...

1- أن جريان الأصل يتوقف على عدم المانع عن جريانه، وفي ما نحن فيه يوجد مانع عقلي وهو استلزامه للمخالفة الالتزامية.

2- ورفع هذا المانع لا يمكن إلاّ برفع موضوعه - وهو الحكم - فمع ثبوت الحكم لا يمكن الإذن في المخالفة الالتزامية، فإنه إذن في المعصية وهو قبيح تنجيزاً.

3- ورفع الحكم موقوف على جريان الأصل - حسب المفروض - ،

ص: 145


1- فرائد الأصول 1: 84-85.
2- إيضاح كفاية الأصول 3: 258-259.
3- نهاية الدراية 3: 83.

فثبت الدور المضمر.

وأشكل عليه(1): بأنه لا دور:

أما بلحاظ الحكم الفعلي: فنمنع المقدمة الأولى؛ إذ مفاد جريان الأصل هو نفي الحكم، لا أن جريان الأصل متوقف على نفي الحكم، كما أن مفاد أصالة الطهارة نفي النجاسة، وليست موقوفة على نفيها وإلاّ لدار.

وعليه فحيث كان مفاد الأصل هو رفع الحكم، فبارتفاع الحكم ترتفع المخالفة، لارتفاع موضوعها، فلا يكون الإذن فيها إذناً في المخالفة، فلا قبح حينئذٍ.

وأما بلحاظ الحكم الواقعي فنمنع المقدمة الثانية؛ وذلك لأنه لا مخالفة التزامية للحكم الواقعي؛ لأن مفاد الأصل رفع الوجوب الفعلي، ولازم ذلك عدم الالتزام به، لا عدم الالتزام بالوجوب الواقعي، مضافاً إلى أنه لا مانع من المخالفة الالتزامية للحكم الواقعي المنفي - ولو نفياً تنزيلياً - كما لا مانع من مخالفة التكليف بالاجتناب عن النجاسة الواقعية المنفيّة تنزيلاً بأصالة الطهارة.

وردّه السيد الأخ في التبيين(2)، أولاً بالنقض: بالمخالفة العملية القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال، فإن مفاد الأصول العملية الجارية في أطراف العلم الإجمالي هو رفع الحكم الفعلي، وبرفعه لا يبقى موضوع للمخالفة العملية للحكم الفعلي، فلا تكون محرّمة، وهذا مما لا يمكن الالتزام به.

ص: 146


1- نهاية الدراية 3: 83-84.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 4: 470.

وثانياً بالحلّ: بأن الحكم الواقعي فعلي ومنجّز، فكيف يقال: بأنه لا فعلية له، وأنه لا ثبوت لموضوع المخالفة الالتزامية؟! وذلك لأن الحكم الفعلي هو ما وصل إلى مرحلة البعث والزجر، والحكم المنجز هو ما وصل إلى المكلّف، وكلاهما متحقق في ما نحن فيه. نعم، وصوله بالعلم الإجمالي

لا بالعلم التفصيلي، وعقلاً لا فرق بينهما! فتأمل.

ص: 147

فصل فی قطع القطّاع

اشارة

والمراد من القطاع من يتعارف قطعه من أسباب لا ينبغي حصول القطع منها، ويقابله الوسواسي الذي يتعارف عدم قطعه من الأسباب التي يقطع بها عامة الناس؛ وذلك لخلل في نفسيهما، والكلام في حجية قطعه الموضوعي أو الطريقي لنفسه، وأما حجيته لغيره فالأدلة منصرفة عنه.

فهاهنا مبحثان:

المبحث الأول: في حجية قطعه الموضوعي لنفسه

وفيه قولان:

القول الأول: إن سعة أو ضيق جعل الحجية للقطع الموضوعي تابعان لكيفية جعل المولى، فتارة يجعل القطع الحاصل من سبب متعارف موضوعاً أو جزء الموضوع، وتارة أخرى يجعله من أيّ سبب حصل كذلك.

إن قلت: إن هذا التقييد لغو؛ لأن القاطع حين القطع لا يلتفت إلى حصوله من سبب غير عادي.

قلت: كلا؛ لأن حصول القطع لا ينافي الالتفات إلى عدم كونه من سبب متعارف.

القول الثاني(1): التفصيل بين تقييد القطع الموضوعي بعنوانٍ هو حصوله

ص: 148


1- نهاية الدراية 3: 87-88.

من سبب ينبغي حصول القطع منه، فيكون التقييد لغواً؛ لأن القطاع حين حصول سبب القطع لديه يقطع بأنه سبب ينبغي حصوله منه وإلاّ يؤول الأمر إلى حدوث المعلول من غير عله بنظره.

وبين ما إذا قيّد القطع بذوات الأسباب المتعارفة، وهذا لا ينافي حصول القطع من غيرها مع كونه مردوعاً عنه، والتفات القطاع إلى ذلك.

وفيه: أولاً: إمكان التفاته إلى حصول القطع من سبب غير متعارف.

وثانياً: بأن الأثر لا ينحصر في عمله بالقطع، بل قد تكون آثار أخرى للقطاع نفسه أو لغيره، أما لنفسه فلأنه لو كان القطع مطلقاً فقد تحقق الموضوع فلا قضاء ولا إعادة بعد ذلك، ولو كان القطع مقيداً فعدم التفاته حين القطع لا ينافي وجوب القضاء أو الإعادة عليه بعد ذلك؛ لعدم تحقق الموضوع، وأما لغيره فيختلف الإطلاق أو التقييد في ترتيب الغير للأثر على قطعه، كعدم قبول شهادته في صورة التقييد، وقبولها في صورة الإطلاق.

المبحث الثاني: في حجية قطعه الطريقي لنفسه

وفيه أقوال:

القول الأول: حجيته مطلقاً؛ لأنها من اللوازم الذاتية للقطع الطريقي، فلا يعقل انفكاكها منه، فلا تنالها يد الجعل لا وضعاً ولا رفعاً، كما أن رفع الحجية يستلزم اجتماع الضدين في اعتقاد القاطع، وحقيقة في صورة الإصابة، ولغير ذلك من الوجوه التي مرّت في استحالة سلب الحجية عن القطع الطريقي.

ص: 149

وفي التبيين(1): ما دام القطع طريقياً فلا يمكن سلب حجيته، للملازمة العقلية، لكن المدعى تحوّل القطع في جميع موارد الأدلة الشرعية إلى قطع موضوعي، فإنه تنصرف ألفاظ الشارع إلى المتعارف، وقد يستشهد لذلك: بالسيرة العقلائية بين الموالي والعبيد، فلو أمره المولى بالبيع بالقيمة الرابحة، فإنه ينصرف إلى القيمة التي علم بها عن الطرق المتعارفة، فلو قطع بها عن غير الطرق المتعارفة ثم خسر، حقّ للمولى مؤاخذته، ويؤيده ما ذكره الفقهاء من أن حجية أقوال المجتهد على مقلده إنما هي لو استنبط الحكم عبر الطرق المألوفة.

القول الثاني: التفصيل بين القاصر أو المقصّر الذي أصاب قطعه الواقع، وبين المقصر الذي أخطأ فهو غير معذور باعتبار تقصيره في المقدمات وقلة مبالاته وعدم تدّبره(2).

وأشكل عليه: بأن عدم المعذرية حين التقصير في المقدمات غير خاص بالقطاع، بل هو جارٍ في كل قطع طريقي؛ لأن ما بالاختيار لا ينافي الاختيار، وعليه فهذا ليس تفصيلاً، بل هو رجوع إلى القول بالحجية مطلقاً.

القول الثالث: التفصيل بين القطاع الملتفت إلى كون قطعه غير متعارف فليس بمعذور، وبين غير الملتفت فمعذور(3).

وأشكل عليه: بعدم التلازم بين الالتفات والتقصير؛ لأن الالتفات إلى

ص: 150


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 5: 22-23.
2- نهاية الأفكار 3: 44.
3- منتقى الأصول 4: 118.

شيء لا يلازم الالتفات إلى كونه غير معتبر، فتأمل.

تكملة

قد يقال: بوجوب ردع القطاع إما بإزالة قطعه تكويناً عبر التشكيك، أو تنبيهه على مرضه ليعالجه، أو بالحيلولة تكوينياً بينه وبين المقطوع به أو بغير ذلك.

لكن لا دليل على ذلك. نعم، قد تجب الحيلولة بينه وبين ما قطع به - فعلاً أو تركاً - إذا علم من الشارع عدم رضاه به، كما لو أراد قتل محقون الدم قاطعاً بأنه مهدور الدم، أو ترك الزكاة قاطعاً بعدم وجوبها - مثلاً - .

ص: 151

فصل فی القطع الحاصل من المقدمات العقلية

اشارة

والكلام تارة: في تحقق القطع خارجاً بها، وأخرى: في إمكان الردع عن هذا القطع لو فرض تحققه، وثالثة: في كونه مرغوباً عنه أم لا؟ فالكلام في مباحث ثلاث.

تحرير محل البحث:

قد يقال: بأن دعوى الأخباريين ليست عدم حجية القطع الحاصل من المقدمات العقلية، وإنما في عدم حصول القطع منها، وأن المقدمات العقلية لا تورث إلاّ الظن، وأنه لا ملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع.

وقد يقال: بأن دعواهم في منع الكبرى، أي عدم جواز العمل بالقطع الحاصل من غير الكتاب والسنة، وعدم صلاحيته للمعارضة مع العلم الحاصل منها.

ويرد عليهم: عدم إمكان العلم بالمتعارضين.

وقد يقال: بأن دعواهم في منع الكبرى والصغرى.

ويرد عليهم: أنه لا محصّل في النزاع الصغروى؛ لأن حصول القطع منها أحياناً ولبعض الناس أمر وجداني.

المبحث الأول: في تحقق القطع عبر المقدمات العقلية
اشارة

والكلام في مقامات ثلاث:

ص: 152

المقام الأول: إدراك العقل المصلحة أو المفسدة الملزمتين

فقد يقال: إنه كلّما كان كذلك حكم الشرع أيضاً؛ لأن المصلحة والمفسدة الملزمتين علة للحكم الشرعي، وإدراك العلة يستلزم إدراك المعلول.

وأشكل عليه: أولاً: إن الأحكام وإن كانت تابعة للمصالح والمفاسد الواقعية، إلاّ أنه قد يكون مزاحم في البين، كالمصلحة أو المفسدة الأقوى أو المكافئة، أو يكون هناك مانع أو تكون فعليتهما مشترطة بشروط غير متحققه، والعقل لا إحاطة له بكل الواقع، ولذا روي: «أن دين الله عز وجل لا يصاب بالعقول الناقصة»(1).

وبعبارة أخرى: المصلحة والمفسدة مقتضي وليست علة تامة، ولا يمكن إدراك كونهما ملزمتين إلاّ بعد العلم بعدم المزاحم المساوي أو الأقوى وعدم وجود المانع ووجود شرط الفعلية، وأنّى للعقل إدراك ذلك.

وثانياً: إن الأحكام متوقفة على المصالح والمفاسد، وليس ذلك بمعنى أنه كلّما كانت مصلحة أو مفسدة كان حكم شرعي، بل يمكن اكتفاء الشارع بحكم العقل؛ لأن الغرض يتحقق بإدراك العقل أو بحكمه. نعم، لا محذور في حكم الشارع تأكيداً أو تقوية لحكم العقل أو إدراكه ولكنه ليس بلازم، ومن ذلك يتضح بأن عدم حكم الشرع ليس تفويتاً لهما.

المقام الثاني: إدراك العقل الحسن والقبح

والكلام إنما هو في الحسن و القبح المستقلين اللذين يدركهما العقل مع

ص: 153


1- كمال الدين 1: 324؛ جامع أحاديث الشيعة 1: 276.

قطع النظر عن الحكم الشرعي، كقبح الظلم وحسن العدل، وليس الكلام في الحسن أو القبح المتأخر عن حكم الشرع، كحسن الإطاعة وقبح المعصية، كي يقال: بأنهما لا يعقل أن يكونا ملاكاً للحكم الشرعي وإلاّ استلزم الدور.

ولا يخفى أن الحسن والقبح - كالمصلحة والمفسدة - لا يصلحان لوحدهما ملاكاً للحكم الشرعي بنحو العلية، كي نستكشف منهما حكم الشارع.

المقام الثالث: إدراك العقل لغير المستقلات العقلية

فإن أدرك العقل الملازمة - كما قيل في الملازمة بين وجوب الشيء وحرمة ضده الخاص - فيقطع بالحكم الشرعي؛ وذلك لأنه مع القطع بالملازمة والقطع بتحقق الملزوم يحصل القطع بتحقق اللازم، إلاّ لو قيل بأن القطع في الأحكام الشرعية موضوعي بأن يكون عن طريق الكتاب والسنّة.

وإن لم يدرك الملازمة، يقطع العقل بعدم الحكم الشرعي ظاهراً؛ وذلك لقبح العقاب بلا بيان.

المبحث الثاني: في إمكان ووقوع الردع عن القطع الحاصل عنها
المقام الأول: في إمكانه

فإن كان القطع في الأحكام طريقياً فلا يمكن، وإن كان موضوعياً فلا إشكال في إمكانه.

وعن المحقق النائيني(1): إمكان الردع، لا بمعنى المنع عن العمل بالقطع،

ص: 154


1- أجود التقريرات 3: 17-19.

بل بمعنى تقييد الحكم بعدم كونه مقطوعاً به من غير الكتاب والسنة، فالتصرف في المقطوع به لا في القطع، فلا ينافي ذلك حجية القطع الذاتية.

ويدل عليه: أنه لا مانع من تقييد الحكم بالقطع الحاصل من سبب خاص أو بعدم كونه مقطوعاً به من طريق خاص، وذلك بمتمم الجعل.

بيانه: بأنه قد مرّ عدم إمكان أخذ القطع بحكم في موضوع ذلك الحكم، كما أنه قد مرّ أن استحالة التقييد تستلزم استحالة الإطلاق لكون التقابل بينهما تقابل العدم و الملكة، ولذا قلنا باستحالة تقييد الأحكام الشرعية بالعلم بها، حيث يلزم أخذ القطع بالحكم في موضوعه، كما يستحيل إطلاقها للعالم والجاهل، حيث إن استحالة التقييد تستلزم استحالة الإطلاق، فلا بد من كون الأحكام مهملة بالنسبة إلى العلم والجهل، وحيث إن الإهمال في مقام الثبوت محال - حيث إن الملاك إما خاص بالعالم فلا بد من تقييد الحكم به، أو عام له وللجاهل فلا بد من تعميم الحكم - فلا بد من تتميم الحكم بمتمم الجعل، وبهذا المتمم إما نحصل على نتيجة التقييد فيختص الحكم بالعالم، وإما على نتيجة الإطلاق فيشمل الحكم العالم والجاهل.

وعليه ففي كل مورد ثبت تخصيص الحكم بالعالم فنلتزم بنتيجة التقييد كبعض موارد القصر، كمن صلّى في السفر تماماً جاهلاً بحكم القصر، وكل مورد لم يثبت التخصيص نلتزم بنتيجة الإطلاق؛ وذلك للعمومات الدالة على اشتراك التكليف بين الجاهل والعالم.

وفي ما نحن فيه: لا مانع بمتمم الجعل من تقييد الحكم بالقطع الحاصل

ص: 155

من سبب خاص أو بعدم كونه مقطوعاً به من طريق خاص.

أقول: مرجع كلامه إلى إمكان الردع لو كان القطع موضوعياً، فكان يمكن اختصار الدليل بذلك، كما أن الدليل بهذه الكيفية محل تأمل، لما مرّ من الإشكال على المقدمة الثانية بأنه يلزم من استحالة التقييد ضرورة الإطلاق؛ لأن الإطلاق هنا رفض للقيود لا جمعها، كما أنهما من السلب والإيجاب لا العدم والملكة.

المقام الثاني: في وقوعه

وقد استدلوا بروايات كثيرة يمكن تصنيفها في أربع طوائف: الروايات الناهية عن العمل بالرأي، والروايات الدالة على أن كل ما لم يصدر منهم فهو باطل، والروايات الدالة على أن دلالة ولي الله تعالى شرط في صحة الأعمال وترتب الثواب عليها، والروايات الدالة على مدخلية تبليغ الحجة في جواز التدين بحكمه وقوله.

ولا يخفى التواتر الإجمالي لهذه الروايات فلا كلام في سندها، إنما الكلام في دلالتها، فلو لم تثبت دلالتها على المطلوب ثبت حجية القطع الحاصل عن المقدمات العقلية تحكيماً للإطلاق بعد عدم الدليل على التقييد.

وأما الإشكالات على دلالتها فهي متعددة، منها:

الإشكال الأول: إن موضوع هذه الأخبار...

إمّا النهي عن الأحكام العقلية الظنية، وكلامنا إنما هو في الأحكام العقلية القطعية، لانصرافها إلى ما كان متعارفاً عند فقهاء العامة من الاستدلالات

ص: 156

الظنية.

وإما النهي عن الاستقلال عن المعصومين (علیهم السلام) في مقام استنباط الأحكام الشرعية.

وإما النهي عن التسرّع في إنكار الأدلة الشرعية لغرابتها، بل لا بد من التروي والتأني والسؤال حتى مع القطع بالخلاف، كما في خبر دية أصابع المرأة.

وإما على اشتراط الولاية في صحة وقبول العمل، وذلك لا يرتبط بالبحث.

الإشكال الثاني: لو سلمنا دلالتها على الانحصار في السماع عن المعصوم (علیه السلام) ، فنقول: إن هناك روايات متعددة دلت على حجية العقل، وأنه حجة الله الباطنة، وبعبارة أخرى - كما في التبيين(1) - العمل بما يحكم به العقل إنما هو عمل بدلالة ولي الله تعالى، حيث أرشدنا إلى ذلك، وقد استفاضت الأخبار الشريفة على أن العقل حجة من حجج الله تعالى، والروايات الرادعة تردع عن العمل بالعقل بما هو هو، لا بما هو مستند إلى الحجة.

إن قلت: هناك تعارض بين الروايات المانعة عن التمسك بالعقل في الأحكام الشرعية، وبين الروايات الدالة على أنه حجة.

قلت: أولاً: لا تعارض؛ إذ الأخبار الرادعة لا تدل على عدم حجية العقل كي تتعارض مع الروايات الدالة على حجيته، بل قد يقال بأنها دلت على

ص: 157


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 5: 91.

كون القطع موضوعياً.

وثانياً: على فرض تحقق التعارض فإنما هو بالعموم من وجه، فمورد افتراق المانعة هي الأحكام الظنية العقلية، ومورد افتراق الآمرة هي الأخذ بالعقل النظري - الذي يتوقف عليه التوحيد وإثبات النبوة - ، ومورد الاجتماع هي الأحكام العقلية القطعية المستندة إلى العقل العملي.

ولو فرض التعارض هنا فالترجيح للروايات الدالة على اتباع القطع، لدلالة الكتاب العزيز على لزوم اتباع العلم كقوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}(1).

وحتى لو فرض الإشكال في الترجيح، ففي مورد التعارض إن لم يكن ترجيح فالقاعدة التساقط، وحينئذٍ نرجع إلى العام الأعلى وهو دال على حجية القطع؛ وذلك لما قرر في محلّه أن العام الفوقاني لا يعارض الخاصين، وبعد تعارضهما وتساقطهما يكون هو المرجع.

الإشكال الثالث: إن الحكم العقلي قد يكون طريقاً لمعرفة كلام المعصوم (علیه السلام) ، فحينئذٍ نكشف بالدليل اللمّي واسطيته في الحكم الشرعي، وبعبارة أخرى: قد نعلم بتوسط المعصوم (علیه السلام) ولكن من غير سماع منه، كما لو علمنا بالوجدان كون عمل مقرباً، مع دلالة الدليل على صدور الأمر بكل مقرب كقوله (صلی الله علیه و آله): «ما من شيء يقربكم إلى الجنة ويباعدكم عن النار إلاّ وقد أمرتكم به»(2)، فتأمل.

ص: 158


1- سورة الزمر، الآية: 9.
2- الكافي 2: 74؛ وسائل الشيعة 17: 45.
المبحث الثالث: في كونه مرغوباً عنه
اشارة

قد يقال: بأن ذلك موجب للوقوع في الخطأ كثيراً، وبأنه يوجب التشكيك بالأحكام الشرعية وفقدان التسليم بها، وذلك مرغوب عنه شرعاً وعقلاً...

أما شرعاً: فلبعض الروايات، كخبر أبان في دية أصابع المرأة(1)، حيث كان يتصور أن كثرة وقلة الدية ترتبط بحجم الجناية، وهذا كان مرتكزاً في ذهنه، لذا أنكر الحكم أشد الإنكار.

وأما عقلاً: فلأن العقل لا يحيط بالملاكات الواقعية للأحكام، لذا كان الطريق إلى الأحكام السمع. نعم، إذا فرض إدراك العقل للملاك أو لاستحالة حكم فلا بد من اتباعه، لكن ذلك نادر جداً، مضافاً إلى العلم بالمخالفة كثيراً لمن سك هذا الطريق.

وعليه فإن من سلك المقدمات العقلية المرغوب عنها وتوصل إلى قناعات قطعية مخالفة للواقع في الأصول أو الفروع، كان مستحقاً للعقوبة، بل قد يؤدي به إلى الكفر من غير كونه معذوراً، قال الشيخ الأعظم: وأوجب من ذلك - يعني في ما يتعلق بالأحكام - ترك الخوض في المطالب العقلية النظرية، لإدراك ما يتعلق بأصول الدين، فإنه تعريض للهلاك الدائم والعذاب الخالد، وقد أشير إلى ذلك عند النهي عن الخوض في مسألة القضاء والقدر(2).

ص: 159


1- الكافي 7: 299؛ وسائل الشيعة 29: 352.
2- التوحيد للصدوق: 365؛ فرائد الأصول 1: 64.
تكملة: في موارد توهم الردع عن القطع فيها

هناك موارد في الشرع قد يتوهم أنها ردع عن العمل بالقطع الطريقي فلا بد من بيان وجهها، وللتفصيل راجع كتاب التبيين للسيد الأخ(1)، ومنها:

المورد الأول: درهم الودعي.

في ما لو أودعه أحدهما درهماً والآخر درهمان، وضاع أحدهما، حيث يقسم أحد الدرهمين بينهما، فيعطى لصاحب الدرهم نصف درهم، ولصاحب الدرهمين درهم ونصف، وبذلك رواية السكوني(2)، وقد عمل بها المشهور، مع القطع بكون الدرهم المقسّم كله إما لهذا أو لذاك، فهنا مخالفة قطعية للعلم الإجمالي، وقد يتولد منه علم تفصيلي كما لو اجتمع النصفان عند ثالث بالهبة - مثلاً - ثم اشترى بعينهما شيئاً، حيث يعلم تفصيلاً عدم تملكه لنصف ما اشتراه.

والجواب: 1- إما بالولاية الشرعية، باعتبار أن المالك الحقيقي هو الله تعالى، وهو قد ملّك غير المالك نصف الدرهم.

إلا أن يقال: إن الملكية هنا ظاهرية، وليست واقعية، فلذا لو انكشف المالك الواقعي للدرهم، وجب على الآخر ردّ نصفه إليه.

2- وإما بقاعدة العدل والإنصاف، وهي قاعدة عقلائية منشؤها تقديم الموافقة القطعية الجزئية على الموافقة الاحتمالية الكلية، فيكون التنصيف مقدمة علمية لإيصال بعض المال إلى صاحبه، نظير صرف بعض المال

ص: 160


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 5: 117-123.
2- الكافي 7: 58؛ تهذيب الأحكام 9: 162.

لإيصال الباقي إلى صاحبه الذي هو من باب المقدمة الوجودية.

وقد يقال: بأن منشأ القاعدة بعض الروايات في مورد التداعي مع إقامتهما البينة، بعد إلغاء الخصوصية بادعاء فهم المناط وهو عدم الحجة المعيّنة لأحد الطرفين في القضايا المالية.

المورد الثاني: واجدي المني في الثوب المشترك.

حيث قد يقال: بجواز اقتداء أحدهما بالآخر، أو اقتداء ثالث بهما في صلاة واحدة أو في صلاتين مترتبتين، حيث يتولد علم تفصيلي ببطلان صلاة المأموم، أما في الأول فلجنابته أو لجنابة إمامه، وأما الثاني فلبطلان صلاة أحد الإمامين، وفي الثالث بطلان الصلاة الثانية إما لبطلان صلاة إمامها أو لفوات الترتيب.

والجواب: أن هنا مبنيين:

1- كفاية الصحة الظاهرية في الإمام، بمعنى كفاية صحة صلاة الإمام في نظره لجواز الائتمام به، وعليه فلا تنجز للعلم الإجمالي؛ لأنه لو كان الإمام هو الجنب فلا بطلان لصلاة المأموم لوجدانها شرائط الصحة، فالشبهة بدوية مع وجود مؤمِّن فيها، كما لا تحقق للعلم التفصيلي، كما هو واضح.

2- عدم كفاية الصحة الظاهرية في الإمام، بل لا بد من صحة صلاته واقعاً، فهنا لا نمانع من القول ببطلان صلاة المأموم لتنجز العلم الإجمالي، بل قد يتولد منه علم تفصيلي.

المورد الثالث: الإقراران المتعاقبان على الشيء الواحد.

حيث قيل: بأنه تعطى العين للأول، والبدل للثاني، وقد يجتمعان - العين

ص: 161

والبدل - عند ثالث فيتولد عنده علم إجمالي بحرمة التصرف في أحدهما، ولو اشترى بهما شيئاً بعينه علم تفصيلاً بعدم جواز التصرّف فيه، لكون بعض ثمنه ملكاً للغير.

والجواب: 1- مبنىً: بأن الإقرار الثاني إنما هو إقرار في ملك الغير - الذي ثبتت ملكيته بالإقرار الأول - فالأثر للإقرار الأول، ولا أثر للثاني.

إن قلت: المدلول الالتزامي للإقرار الثاني هو إتلاف ملك الثاني بواسطة الإقرار للأول، وأدلة حجية الإقرار تشمل المداليل الالتزامية.

قلت: إن المدلول الالتزامي تابع للمدلول المطابقي، فإذا سقط المطابقي سقط الالتزامي، ودليل الحجية لا يشمل المدلول الالتزامي، مع فرض سقوط المدلول المطابقي.

2- وبناءً: بأن نفوذ الأحكام الظاهرية مشروط بعدم قيام العلم بالخلاف، وملكية المقَرّ له الأول للعين والمقَرّ له الثاني للبدل إنما هو حكم ظاهري، فلو اجتمعا عند ثالث لايحق له التصرف فيهما، للعلم الإجمالي في جميع الصور، وللعلم التفصيلي في بعض الصور، وهذا جارٍ في جميع الأحكام الظاهرية، حيث إن نفوذها مُغَيّى بعدم حصول العلم الإجمالي أو التفصيلي بالخلاف، فتأمل.

المورد الرابع: لو اختلف المتبايعان في تعيين الثمن أو المثمن، بعد الاتفاق على وقوع أصل البيع، مع كون الاختلاف في المتباينين - لا الأكثر والأقل - ، فلو وصل الأمر إلى التحالف، حكم الحاكم بالانفساخ ورجوع كل من الثمن والمثمن إلى مالكه الأوّل.

ص: 162

مع أن الحكم برد الثمن إلى المشتري يخالف علمه التفصيلي بكونه ملكاً للبائع، وكذلك في ردّ المثمن إلى البائع، وحينئذٍ فلو انتقلا إلى ثالث علم تفصيلاً بأن أحدهما ليس ملكاً له.

والجواب: 1- إن التحالف يوجب الانفساخ واقعاً، كاللعان في النكاح، وتلف العين قبل القبض.

2- أو أنه من باب التقاص الخاص.

3- أو أنه من باب الولاية الشرعية، وعليه فلا مخالفة إجمالية أو تفصيلية للعلم.

ص: 163

فصل فی العلم الإجمالي

اشارة

وفيه مباحث:

المبحث الأول: في حقيقة العلم الإجمالي

وفيها أقوال، منها:

القول الأول: إنه العلم بالفرد المردد، فإن أحد الشيئين لا بعينه يمكن تعلّق الصفات الحقيقية كالعلم به، وكذا الصفات الاعتبارية كالوجوب والحرمة.

وأشكل عليه: باستحالة الفرد المردد سواء في الخارج أم في الذهن، فلا وجود له أصلاً فلا يمكن تعلّق الأوصاف - حقيقية أم اعتبارية - به، فإنّ الوجودات الخارجية جزئيات متشخّصة بالخصوصيات الفردية، فإن الشيء ما لم يتشخص لم يوجد، فلا معنى للتردد الثبوتي فيها، وأما الذهن فهو أيضاً من عالم الخارج، والصور المنقوشة فيه موجودة في الخارج حقيقة، وإنما صحّ التقسيم إلى الوجود الذهني والخارجي باعتبار اختلاف المواطن، وإلاّ فالموجودات الذهنية والخارجية كلّها خارجيّة، وأما صحة تقسيم الفرد إلى المعيّن والمردّد فإنما هو باعتبار المفهوم وبالحمل الأولي الذاتي، مع كون مفهوم الفرد المردد معيناً، وليس التقسيم باعتبار المصداق وبالحمل الشايع.

ص: 164

وعليه فإذا لم يتحقق الفرد المردد لا في الخارج ولا في الذهن، فكيف يتعلّق العلم به؟!

وفيه: ما مرّ بأنه يمكن جعل المفهوم مشيراً إلى شيء محال، ولذا صحّ أن نقول: شريك الباري ممتنع، حيث إن لفظة (شريك الباري) ومفهومها ليست ممتنعة، لكنها تشير إلى ما هو ممتنع، فكذا في ما نحن فيه حيث يُجعل مفهوم الفرد المردد مشيراً إلى مصداقه الممتنع، فيتعلق العلم بالمشير وبالمشار إليه، فتأمل.

القول الثاني: إنه العلم بالجامع، قال المحقق الإصفهاني: «حقيقة العلم الإجمالي المصطلح عليه في هذا الفن لا تفارق العلم التفصيلي في حدّ العلمية، وليسا هما طوران من العلم... بل طرف العلم ينكشف به تفصيلاً ولا مجال في التردد فيه بما هو طرف العلم... نعم، متعلّق طرف العلم مجهول أي غير معلوم... بل ضم الجهل إلى العلم صار سبباً لهذا الاسم»(1).

وبعبارة أخرى - كما في التبيين(2) -: إن العلم في المقام لا يخلو من محتملات أربعة:

1- أن يكون بلا متعلق، وهو محال؛ إذ لا يعقل انكشاف بلا منكشف، حيث إن العلم صفة حقيقية ذات إضافة.

2- أن يتعلق بالفرد بحّده الشخصي المعين، وهو خلف؛ إذ هو انقلاب الإجمالي إلى التفصيلي.

ص: 165


1- نهاية الدراية 3: 89-90.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 5: 143-144.

3- أن يتعلق بالفرد المردد بين حدين أو حدود، وهو خلاف ما سبق من امتناع الفرد المردد.

4- فلم يبق إلاّ أن يكون متعلّقاً بالجامع.

وأشكل عليه: بأن العنوان الجامع لا ينطبق على الفرد بتمامه، لكن المعلوم بالعلم الإجمالي - كأحد الإنائين - ينطبق على الفرد بتمامه، فلا يكون هذا المعلوم هو العنوان الجامع، وهذا برهان من القياس الاستثنائي.

أما المقدمة الأولى: فإن الأفراد الخارجية مركبة بحسب التحليل العقلي من القدر الجامع وبه صارت الأفراد مجتمعة تحت الكلي، ومن الخصوصيات الفردية وبها تمايزت الأفراد بعضها عن بعض، والقدر الجامع لا يمكن انطباقه على الأفراد بتمامها - أي بخصوصياتها الفردية - بمعنى عدم إمكان انطباقه على الفرد الخارجي بكلا جزئيه التحليليين، مثلاً الإنسان ينطبق على القدر المشترك بين زيد وعمرو، ولا ينطبق على زيد بما له من خصوصيات في طوله وزمانه ومكانه وإضافته... الخ.

وأما المقدمة الثانية: فإن المعلوم بالعلم الإجمالي هو أحد الإنائين مثلاً، وهذا العنوان ينطبق على الفرد انطباقاً تاماً بخصوصياته الفردية.

والنتيجة: هي عدم كون هذا المعلوم هو العنوان الجامع.

وفيه(1): أن العناوين الجامعة على أنواع ثلاث، وبعضها ينطبق العنوان على الفرد بتمام خصوصياته الفردية.

فتارة: يلحظ العنوان الجامع بشرط دخول الخصوصيات وهذا يكثر في

ص: 166


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 5: 146.

الجامع العنواني، مثلاً يضع اسم زيد على المواليد في هذا اليوم، ف- (المسمّى بزيد) عنوان جامع ينطبق على المصاديق مع دخول المشخصات الفردية فيها.

وتارة: يلحظ بشرط لا، كما في صرف الحقيقة، كالبياض مجرداً عنه الموضوعات واللواحق من الزمان والمكان والجهة وغيرها.

وتارة: يلحظ لا بشرط، بأن يلحظ العنوان على نحو لو كانت الخصوصية موجودة انطبق على الفرد بتمامه، وإن لم تكن موجودة أيضاً انطبق على الفرد بتمامه الفاقد لتلك الخصوصية؛ لأن ذلك مقتضى اللابشرطية - مثلاً - البيت بالإضافة إلى السرداب، فلو كان موجوداً كان جزءاً من البيت، وإن لم يكن موجوداً انطبق على الباقي من غير نقص، وكعنوان الصلاة بالنسبة إلى القنوت، وقد مرّ بعض البحث في الجزء المستحب وغيره.

والكليات الطبيعية عادة من قبيل الثالث، فالإنسان مثلاً موضوع لماهية الحيوان الناطق على نحو اللابشرط فينطبق على زيد بتمامه، لا على جزئه التحليلي العقلي فقط.

كما أن الجامع العنواني من قبيل الأول، فهو ينطبق على فرده بما له من الخصوصيات الفردية، فمثل عنوان (الفرد) و (الشخص) ونحو ذلك هي من الجامع العنواني الذي هو جامع اختراعي مصطنع من الذهن، لا أنه منتزع من الخارج فليس كزوجية الأربعة، وفي ما نحن فيه (أحد الفردين) من هذا القبيل، فهو جامع وينطبق على الفرد بتمامه.

وعليه فلا يصح إنكار كون المعلوم بالعلم الإجمالي هو الجامع، لمجرد انطباقه على الفرد بتمامه، فتأمل.

ص: 167

القول الثالث: إنّ الإجمال إنما هو في ناحية العلم لا المعلوم، وإلاّ فالمعلوم هو الفرد بما له من الخصوصيات، فيكون وزان العلم الإجمالي كوزان المرآة غير الصافية في أنها تعكس صورة الفرد لا الكلي لكن مع كدر وعدم صفاء، فلذا قد يحدث الإجمال في ما تعكسه.

وبعبارة أخرى: في العلم الإجمالي الصورة الذهنية إنما هي صورة الفرد لا صورة الجامع، ولا يلزم من ذلك الانقلاب إلى العلم التفصيلي إن قيل بدخول الحدود الشخصية في الصورة، ولا كون المعلوم هو الجامع إن قيل بعدم دخولها فيها؛ وذلك لتوفر بعض الخصوصيات في الصورة بما يخرجها عن كونها صورة الجامع، وعدم تحقق بعض الخصوصيات الأخرى في الصورة مما يحفظ الإجمال فيها، وهذا القول ذهب إليه المحقق العراقي(1).

القول الرابع: الجمع بين الأقوال الثلاثة، عبر الذهاب إلى أن العلم الإجمالي له جوانب متعددة، وكل قول من هذه الأقوال يبيّن جانباً منه، وحاصله: أن العلم الإجمالي إنما يتعلق بمفهوم كلي، وقد أشير بهذا المفهوم إلى الخارج فصار جزئياً بالإشارة، مع كون الإشارة صالحة للانطباق على أكثر من واحد فحصل التردد في الأفراد.

بيانه: أنّه في العلم الإجمالي حيث إن المعلوم قابل للانطباق على الكثيرين فلذا صحّ القول بكونه كلياً، فصحّ القول الثاني - أي كون المعلوم كلياً - ، إلاّ أنه بهذا المفهوم يتمّ الإشارة إلى الحصة الخارجية، ولذا يتعلق المفهوم بالفرد، كما مرّ نظيره في أسماء الإشارة بناءً على كون الوضع

ص: 168


1- نهاية الأفكار 3: 299-300.

والموضوع له والمستعمل فيه عاماً، وإنما الخصوصية الجزئية تأتي من قِبل الإشارة، كذلك في ما نحن فيه حيث إن الحدود غير داخلة في الصورة العلمية وإنما الجزئية بالإشارة الذهنية، فصحّ القول الثالث - أي كون المعلوم فرداً جزئياً - ، ولكن بهذه الإشارة لا يتعيّن المشار إليه؛ لأنها إشارة إلى واقع الوجود، وهو مردد بين الأطراف، بمعنى صلاحية كل واحد منها لأن تكون المشار إليه، كما لو أشار بيده إلى أحد شيئين وتردد المشار إليه بينهما، فصحّ القول الأول، وليس هذا من باب الفرد المردد، بل من باب قابلية الإشارة للانطباق على أكثر من واحد، فتأمل.

المبحث الثاني: في ثبوت التكليف بالعلم الإجمالي
اشارة

وهو إما بحرمة المخالفة القطعية بمعنى حرمة ارتكاب جميع الأطراف في الشبهة التحريمية وحرمة ترك جميع الأطراف في الشبهة الوجوبية، وإما بوجوب الموافقة القطعية بمعنى ترك كل الأطراف في التحريمية وفعل كل الأطراف في الوجوبية.

والذي يبحث هنا هو حرمة المخالفة القطعية، وأما وجوب الموافقة القطعية فقد يتم البحث فيه في البراءة، وإن كان الأولى فنياً بحثهما معاً في موضع واحد.

ولا يخفى اختلاف الأمرين أحياناً، وإن ترتب أحدهما على الآخر أحياناً، فلو ذهبنا إلى وجوب الموافقة القطعية ترتب عليه بحث حرمة المخالفة القطعية، وأما لو ذهبنا إلى وجوب الموافقة القطعية فلا إشكال في حرمة المخالفة القطعية، بل حتى الاحتمالية؛ لأن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده العام.

ص: 169

وكذا لو ذهبنا إلى حرمة المخالفة القطعية ترتب عليه البحث عن وجوب أو عدم وجوب الموافقة القطعية، أما لو ذهبنا إلى عدم حرمة المخالفة القطعية فلا إشكال في عدم وجوب الموافقة القطعية ولا الاحتمالية.

وفي مبحث المخالفة القطعية مطالب:

المطلب الأول: في تنجز التكليف عقلاً بالعلم الإجمالي

فلا فرق في ذلك بينه وبين التفصيلي.

وقيل: بالفرق بينهما؛ لأن العصيان لا يتحقق إلاّ بالعلم بمخالفة المولى حين العمل، فلا عصيان لو لم يعلم، أو كان العلم بعد العمل، فلا قبح ثمة، وهذا متحقق في التفصيلي، وغير متحقق في الإجمالي؛ لأنه حين ارتكاب كل طرف لا علم له بالمخالفة، بل يحتملها، وإنما يعلم بها بعد ارتكاب الطرفين، ولا يضر ذلك في عدم تحقق العصيان، فلذا لو علم بارتكاب الحرام في الشبهة البدوية، فلا يؤثر هذا العلم في جواز عمله السابق، بمعنى عدم انقلابه أو كشفه عن العصيان والقبح، فلذا لا مانع عن التحقيق في ما ارتكبه من الشبهات البدوية، حتى لو كانت النتيجة العلم بارتكابه المحرّم الواقعي.

وبعبارة أخرى - كما في التبيين(1)-: إن القبيح هنا في نظر العقل أحد عناوين ثلاثة: إمّا مخالفة المولى، وهذه ليست علة للقبح والحرمة؛ إذ المخالفة متحققة في حالات الجهل والنسيان قصوراً ولا قبح فيها، وإمّا

ص: 170


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 5: 156.

العلم بمخالفة المولى، وقد ذكرنا أن العلم بها ليس قبيحاً، وإمّا المخالفة المعلومة حين العمل، وهذه هي سبب القبح بعد امتناع الوجهين الأولين ولا شق رابع.

وأشكل عليه: بوجود شق رابع، وهو أن المعتبر في القبح عقلاً هو وصول التكليف، ولا يضر بالقبح عدم تمييز المكلّف به ولذا لا إشكال في القبح والحرمة لو ارتكب كل الأطراف دفعة، كما لو نظر إلى امرأتين يحرم عليه النظر إلى إحداهما لكنه لم يميّزها عن المحلّلة، وهذا الوصول متحقق في الإجمالي والتفصيلي، فلا فرق إذن.

لا يقال: بأن الوصول إمّا الوصول القطعي، وإما مطلق الوصول ولو احتمالاً، أما الأول: فهو ليس علة تامة للقبح، ولذا يتنجز التكليف في الشبهات الحكمية قبل الفحص، مع عدم القطع بوصول التكليف، فيقبح الاقتحام، ولو صادف الحرام مثلاً لم يكن معذوراً، وأما الثاني: ففي الشبهات البدوية بعد الفحص يبقى احتمال الوصول واقعاً!

لأنه يقال: نختار الشق الأول، ولكن كون الوصول علة تامة للقبح لا ينافي وجود علة تامة أخرى له.

المطلب الثاني: في إمكان الترخيص في المخالفة القطعية

ومردّ ذلك إلى التنافي بين الحكم الواقعي المعلوم إجمالاً مع الترخيص ظاهراً أو عدم التنافي بينهما، وهنا أقوال:

القول الأول: عدم التنافي، ويستدل لذلك نقضاً وحلاً بأمور، منها:

الدليل الأول: عدم الفرق في الترخيص في ما نحن فيه، والترخيص في

ص: 171

الشبهات البدوية، فكما جاز هناك جاز هنا، وما يقال في الجواب عن شبهة التنافي هناك يجاب به هنا.

وأشكل عليه: بالفرق من جهتين:

الفرق الأول: القطع بالتنافي في ما نحن فيه، واحتماله في البدوية.

وأجيب: بأن الفرق غير فارق، وذلك لعدم احتمال المحال أصلاً، للقطع باستحالة التضاد فلا يعقل احتماله أبداً، بل إمكان المضادة يكشف عن عدم كونها مضادة أصلاً سواء كانت محتملة أم مقطوعة.

والحاصل: إنه لا فرق بين الشبهة المحصورة المقرونة بالعلم الإجمالي والشبهة البدوية، فما يقال في رفع المضادة بين الحكم الواقعي وبين الترخيص الظاهري في البدوية، يجري بعينه في المقرونة بالعلم الإجمالي.

الفرق الثاني: هو الفرق في المنتهى، وإن لم يكن بينهما فرق في الحكم ومبتداه، أما عدم الفرق في المبتدا فلأن منشأ الحكم المصلحة أو المفسدة، وهي تارة في المتعلّق وأخرى في نفس الحكم كبعض الأوامر الامتحانية، وهنا الحكم الواقعي مصلحته أو مفسدته في المتعلق، وأما الترخيص الظاهري فمصلحته في نفس الحكم فلا تضاد سواء في البدوية أم المحصورة.

وأما عدم الفرق في نفس الحكم، فلأنه إنشاء صرف، ولا تضاد بين الإنشائيات.

ولكن في المنتهى - أي في مرحلة امتثال العبد - لا تضاد في البدوية مع وجود التضاد في المحصورة، أما في البدوية فللطولية بين الواقعي

ص: 172

والظاهري، وعدم اجتماعهما معاً أبداً، فلا تضادّ؛ لأن الظاهري ظرفه أو موضوعه الشك وحينئذٍ لا ينجز الحكم الواقعي، فلو ارتفع الشك فلا حكم ظاهري، بل يتنجز الواقعي فقط.

وأما في المحصورة فلتنجز التكليف فيها لعدم الفرق عقلاً بين وصول الحكم الواقعي بالإجمال أو بالتفصيل، ومع تنجز الواقعي لا يبقى مجال للترخيص في الأطراف أصلاً، وإلاّ حصلت المضادة.

وأجيب: بأن نفس الجهة التي ترفع تنافي المبدأ، ترفعه في المنتهى أيضاً، فإنه في المبدأ تتزاحم مفسدة المتعلق ومصلحة الحكم مثلاً، فيترجح الأقوى منهما إن كان بحد الإلزام، وإلاّ فالتخيير، وكذلك في المنتهى في المحصورة تبقى الحرمة الواقعية - مثلاً - إنشائية، ويكون الجواز الظاهري فعلياً، ولا تنافي بين الفعلي والإنشائي.

وفي التبيين(1): ومآل ذلك إلى تقييد فعلية الحكم الواقعي بكونه معلوماً بالتفصيل، وأما اشتراك العالم والجاهل في الحكم فدليله الإجماع، والقدر المتيقن منه هو الاشتراك في الحكم الإنشائي دون الفعلي، كما لا يلزم الدور، لما مرّ من عدم الإشكال فيه إن كان بنحو تقييد النتيجة أو باختلاف المرتبة، بأن يكون العلم التفصيلي بالحكم الإنشائي قد أ ُخذ في موضوع الحكم الفعلي، كما لا يرد إشكال إن كان الحكم الحكم الواقعي إنشائياً بحتاً فلا يجدي حتى القطع به في صيرورته فعلياً، وذلك لإمكان كون جعل الإنشائي بنحو لو علم به لصار فعلياً.

ص: 173


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 5: 164.

إن قلت: إن مورد البحث والنقض والإبرام هو كون الحكم الواقعي في مورد العلم الإجمالي فعلياً، بمعنى إطلاق الحكم الواقعي لصورتي العلم التفصيلي والإجمالي، فتصوير كونه إنشائياً خروج عن موضوع البحث، ومع كون مورد البحث الحكم الواقعي الفعلي وقد وصل وصولاً إجمالياً - مع عدم فرق الوصول الإجمالي والتفصيلي في تنجز الحكم - كيف يُعقل الترخيص في ترك امتثاله؟ وبذلك يثبت الفرق بين البدوية والمحصورة المقرونة بالعلم الإجمالي، لعدم فعلية الحكم الواقعي في البدوية لعدم وصوله، مع فعليته في المحصورة لوصوله.

قلت: إن مورد البحث ليس مجرد فرض منفصل عن المسألة الفقهية، بل الغرض بيان إمكان الترخيص في المسائل الفقهية المطروحة، وعليه فإنّ فعلية الأحكام الواقعية في الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي إنما هي لأجل إطلاق أدلة تلك الأحكام، ولا محذور عقلاً في تقييد هذا الإطلاق، فلا فرق في أن يكون الدليل يدل على الحكم الفعلي باجتناب المتنجس المعلوم بالتفصيل، وبين إطلاق القول باجتناب المتنجس ثم تقييده بما إذا كان معلوماً بالتفصيل.

والحاصل: أنه إن انحفظ الموضوع - وهو الحكم الواقعي الفعلي المعلوم بالإجمال - فلا يمكن الترخيص لتحقق التنافي، وإن لم ينحفظ الموضوع فلا محذور في الترخيص.

الدليل الثاني: لإمكان الترخيص: جريان دليل الترخيص في الشبهة غير المحصورة في ما نحن فيه، فكما يمكن الترخيص في ارتكاب بعض أطراف غير المحصورة، مع فعلية التكليف الواقعي واحتمال المخالفة،

ص: 174

كذلك في المحصورة.

وأشكل عليه: بعدم إمكان الترخيص في غير المحصورة أيضاً، لو لوحظت في نفسها ومع قطع النظر عن انطباق عناوين ثانوية عليها، إلاّ أن المدعى فيها هو وجود عناوين ثانوية في ملاك الحكم تمنع من فعلية الحكم للجميع، وليست عناوين ثانوية في مرحلة الامتثال حتى يقال بكون تلك العناوين الثانوية شخصية.

وعليه فعنوان الحرج - مثلاً - سبب عدم فعلية الأحكام الواقعية في الشبهة غير المحصورة المقرونة بالعلم الإجمالي، وهذه العناوين ترفع فعلية الأحكام في موارد العلم التفصيلي فضلاً عن الإجمالي، فتأمل.

الدليل الثالث: ما ذكره المحقق الخراساني(1): من أنه بما أن التكليف لم ينكشف بالعلم الإجمالي تمام الانكشاف، بل كان متعلّقه مجملاً، وكانت مرتبة الحكم الظاهري - الذي موضوعه أو ظرفه الشك - محفوظة، لذا أمكن إذن المولى في مخالفته احتمالاً، بل قطعاً!

وأشكل عليه(2): بأن انحفاظ مرتبة الظاهري تحتمل معاني أربعة، وكلّها محل إشكال.

الاحتمال الأول: كون حكم العقل باستحقاق العقاب معلقاً على عدم المؤمّن من المولى، ومع وجوده لا حكم باستحقاقه.

وهذا غير ممكن؛ لأن المخالفة ظلم، فهي قبيحة قطعاً، فيستحيل تعليقها

ص: 175


1- إيضاح كفاية الأصول 3: 268.
2- نهاية الدراية 3: 96.

على شيء، وبعبارة أخرى: إن حكم العقل باستحقاق العقاب على المخالفة إنما هو بنحو العلية دون الاقتضاء كي يمكن وجود المانع منه. نعم، لو رفع المولى يده عن حكمه لانتفى القبح من باب انتفاء المخالفة، فيكون من السالبة بانتفاء الموضوع، وهذا نظير الإذن في المخالفة في المعلوم تفصيلاً، حيث يستحيل ذلك إلاّ مع رفع اليد عن الحكم.

الاحتمال الثاني: كون فعلية الحكم الإنشائي الواقعي معلقاً على وصوله تفصيلاً.

وهذا خروج عن مفروض البحث؛ لأن الكلام حول القطع الطريقي المحض، وهذا الاحتمال يصيّره موضوعياً ولا كلام فيه، بل يمكن عدم تنجز التكليف مع العلم التفصيلي، إذا كان القطع موضوعياً ومعلقاً على حصوله من سبب خاص.

ولا يخفى أن هذا الاحتمال غير منظور إليه في كلام المحقق الخراساني في انحفاظ مرتبة الحكم الظاهري؛ لأن كلامه في الانحفاظ في الإجمالي دون التفصيلي، وعلى هذا الاحتمال حتى في التفصيلي يمكن انحفاظ مرتبة الظاهري.

نعم، مع قطع النظر عن كيفية بحث الأصوليين للمسألة، فهذا الاحتمال وارد ثبوتاً، بإمكان أخذ القطع التفصيلي موضوعاً في فعلية الحكم الواقعي، سواء كان من سبب خاص أو مطلقاً.

الاحتمال الثالث: كون غرض المولى بحيث لا ينافيه جعل الحكم الظاهري في أطراف العلم الإجمالي؛ وذلك لأن الغرض تارة قوي جداً، بحيث يلزم على المولى التكليف وإيصاله إلى المكلّف ولو عبر نصب

ص: 176

الطرق والأمارات أو الأمر بالاحتياط، وتارة أخرى ليس بذلك القوة، بل يكون التنجز معلقاً على وصوله ولو اتفاقاً، وفي هذا يجوز الترخيص في مخالفته، ويمكن معرفة كون الغرض من قبيل الثاني عبر إطلاق الأدلة والأصول، بحيث تشمل أطراف العلم الإجمالي.

وأشكل عليه: بأن التكليف واصل في مورد العلم الإجمالي، فلا ينفع هذا التفصيل.

وأجيب: بإمكان كون الغرض في أدنى درجاته الموجبة للإلزام يقتضي كون بعث المولى وزجره خاصاً بصورة العلم التفصيلي.

وفيه: إن غرض المولى إما جارٍ في صورة العلم الإجمالي فالترخيص تفويت له وهو غير جائز، وإما غير جارٍ فيها فلا حكم أصلاً.

الاحتمال الرابع: كون الانحفاظ بلحاظ الحكم الواقعي من وجه، وفعلية الحكم الظاهري من جميع الوجوه، ولا منافاة بين الفعلية المطلقة ومطلق الفعلية، بل المنافاة إنما هي بين التكليفين الفعليين من جميع الوجوه، والظاهر أن هذا هو مراد المحقق الخراساني من انحفاظ مرتبة الحكم الظاهري في العلم الإجمالي، كما صرّح به في باب الاشتغال(1).

ومعنى ذلك(2): كون الحكم الواقعي فعلياً من جهة دون جهة، ولا مانع من اجتماعه مع حكم فعلي تام الفعلية - وهو الحكم الظاهري - إما بشرط وجودي، أي لو علم به صار فعلياً، وإما بشرط عدمي، أي فعلية الحكم

ص: 177


1- نهاية الدراية 3: 97؛ إيضاح كفاية الأصول 4: 218.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 5: 174.

الواقعي مشروطة بعدم قيام الأمارة أو الأصل على الخلاف، فالحكم الواقعي مقتضٍ للفعلية وقيام الأمارة أو الأصل مانع عنه.

وأشكل عليه(1): بأنه إنما يمكن جعل الحكم على خلاف الحكم الواقعي الفعلي من وجه لو لم تقم الحجة عليه، ومع قيامها فجعل الظاهري غير ممكن لحصول التنافي، وحيث إن العلم الإجمالي كالعلم التفصيلي في العلمية فلا فرق بينهما في أنه وصول التكليف عبرهما مقوّم للباعثية أو الزاجرية.

وأجيب(2): بأن قيام الحجة تارة على العلة التامة للفعلية، وهذا هو الذي لا يمكن جعل حكم منافٍ له؛ وذلك لحصول التنافي بين حكمين فعليين تامين من جهة الفعلية، وتارة أخرى على ثبوت المقتضي للفعلية، وهذا يمكن جعل حكم منافٍ له؛ وذلك لعدم المحذور في اجتماع مقتضٍ لحكم مع العلة التامة لحكم آخر.

وفي ما نحن فيه: يمكن ثبوتاً كون فعلية الحكم الواقعي مشروطة بعدم قيام أصل أو أمارة على خلافه، وعليه فمع هذا القيام لا يتحقق شرط فعلية الحكم الواقعي، بل يبقى بنحو المقتضي الذي منع عنه مانع، مع تحقق علة الحكم الظاهري، فتأمل.

القول الثاني: ما ذهب إليه المحقق النائيني(3): من التفصيل بين ما استلزم

ص: 178


1- نهاية الدراية 3: 97.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 5: 179.
3- فوائد الأصول 3: 77.

مخالفة عملية أو استلزم المنافاة بين الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال وبين الحكم الظاهري، أمّا إذا لم يستلزم أحدهما فلا مانع من الترخيص فيه بجريان الأصول في أطرافه، والصور أربعة:

1- الأصل المتكفل للتنزيل النافي للتكليف، فلا يجري في أطراف العلم الإجمالي، لاستلزام جريانه المخالفة العملية والتنافي بين الحكمين، كاستصحاب الطهارة السابقة في الأطراف مع العلم إجمالاً بنجاسة أحدهما.

2- الأصل التنزيلي المثبت للتكليف، فلا يجري أيضاً، لاستلزامه التنافي فقط، كاستصحاب النجاسة السابقة في الأطراف مع العلم بطهارة أحدهما إجمالاً؛ وذلك لأن التعبد ببقاء الواقع في كل من الإنائين ينافي العلم بعدم بقائه في واحد منهما.

3- الأصل غير التنزيلي النافي للتكليف، فلا يجري أيضاً، لاستلزامه المخالفة العملية فقط، كما لو علم بوقوع قطرة دم في أحدهما مع عدم العلم بحالتهما السابقة، فأصل الطهارة نافٍ للتكليف وغير تنزيلي، فلا منافاة للواقع لكن العمل بالأصلين يستلزم مخالفة عملية قطعية.

4- الأصل غير التنزيلي المثبت للتكليف، فلا مانع من جريانه حينئذٍ؛ لعدم استلزامه للمنافاة وعدم المخالفة القطعية، كما إذا علم إجمالاً بملكيته لأحد المالين، فجريان أصالة حرمة التصرف في الأموال لا يلزم منها لا مخالفة عملية ولا تنافي أصلاً، فلا محذور في جريانها في الأطراف.

والحاصل: أن جريان الأصول العملية في كل واحد من الأطراف يستلزم الجمع في الترخيص بين جميع الأطراف، والترخيص في الجميع يضاد التكليف المعلوم بالإجمال، فلا يمكن أن تكون رتبة الحكم الظاهري

ص: 179

محفوظة في جميع الأطراف. نعم، يمكن الترخيص في بعض الأطراف، والاكتفاء عن الواقع بترك الآخر أو فعله.

وأشكل عليه: أولاً: بما ذكره المحقق العراقي(1): بأنه لنا مجال النقض بمشكوكية كل واحد من الطرفين ومعلومية أحدهما، مع أن بين الشك واليقين كمال المناقضة، وحينئذٍ فيمكن للطرف ادعاء أن مركز الترخيص هو المشكوك بلا سرايته إلى العنوان المعلوم.

وأجاب عنه في التبيين(2): بوجود الفرق بين المقامين؛ إذ اليقين والشك صفتان تتعلقان بالمعلوم بالذات، ومتعلّق كل واحد منهما يختلف عن متعلق الآخر؛ إذ الصور الذهنية يختلف بعضها عن بعض، فليس اليقين والشك صفتان للمعلوم بالعرض - أي الواقع الخارجي - كي لا يمكن اجتماعهما في شيء واحد.

وأما ما نحن فيه: فالمفروض أن المولى حكم بالنجاسة - مثلاً - على أحدهما المعيّن المعلوم عند الله تعالى، وإن كان مجهولاً عندنا، لا على عنوان أحدهما ومفهومه الذهني، فلا يمكن الحكم بطهارة كل واحد منهما بواسطة جريان الأصل المحرز، لاستلزامه اجتماع المتضادين في النجس الواقعي منهما، وبعبارة أخرى: إن الحكم هنا للشيء بواقعه لا بعنوانه الذهني، عكس اليقين والشك فهما وصفان للصورة الذهنية المعلومة بالذات، وهي متعددة فلم يجتمع المتضادان في شيء واحد، فتأمل.

ص: 180


1- فوائد الأصول 3: 77 (الهامش).
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 5: 186.

وثانياً: بما مرّ من إمكان كون فعلية الحكم الواقعي معلّقة بشرط وجودي أو عدمي، ولم يتحقق هذا الشرط وفي صورة الجهل - حتى المقترن بالعلم الإجمالي - فلا فعلية للحكم الواقعي، فلا ينافيه جعل الحكم الظاهري.

القول الثالث: ما ذهب إليه المحقق العراقي(1): من عدم إمكان الترخيص.

واستدل له: بأن الترخيص في أطراف العلم الإجمالي إنما هو ترخيص بالمعصية، مع قبح ذلك قطعاً، أما الكبرى فمسلّمة، وأما الصغرى فللارتكاز الوجداني بمناقضة الترخيص لما علم ثبوته في عهدة المكلّف، وذلك يكشف عن العلية التامة لتنجيز العلم الإجمالي!

وفيه: أن الكلام في مرحلة الثبوت لا الإثبات، ولا ارتكاز فيه؛ إذ اشتراط الفعلية بما ذكر سابقاً بمكان من الإمكان، ومع عدم الفعلية فلا يكون الترخيص إذناً في العصيان، هذا مضافاً إلى عدم جريان الدليل في الأصول المثبتة للتكليف.

المطلب الثالث: في وقوع الترخيص في أطراف العلم الإجمالي

بناءً على إمكان الترخيص فهل هو واقع أم لا؟

وقد يستدل للوقوع: بإطلاقات أدلة الأصول والأمارات.

وقد أشكل عليه بإشكالات، منها:

الإشكال الأول: إن الإطلاق يستلزم تنافي الصدر والتتمة في مثل قوله:

ص: 181


1- نهاية الأفكار 3: 46.

«كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام»(1)، ف-(كل شيء لك حلال) يشمل أطراف العلم الإجمالي؛ لأن كل طرف مشكوك في نفسه، و(حتى تعلم) شامل للعلم الإجمالي، وحيث استحال التناقض في كلامهم (علیهم السلام) فلا بد من رفع اليد عن شمول أحدهما، وحيث لا مرجّح صارت الرواية مجملة من هذه الجهة، فلا إطلاق ولا عموم للترخيص ليشمل أطراف العلم الإجمالي.

وأورد عليه: أولاً: بأن ذلك لا يجري في الروايات غير المغياة التي لا توجد فيها تلك التتمة، كقوله (علیه السلام): «الناس في سعة ما لم يعلموا»(2).

إن قلت: إنّ ظهور هذه الروايات غير المغياة هو في نفس معنى الروايات المغياة، فتنحل الرواية إلى منطوقٍ هو رفع ما لا يعلمون، ومفهوم ٍ هو عدم رفع ما يعلمون؛ لأن تعليق الحكم على الوصف يشعر بالعلية.

قلت: ذلك من مفهوم اللقب وهو غير حجة، فإن الحكم وإن كان يزول بزوال موضوعه لاستحالة العرض من غير معروض، إلاّ أن المفيد في المفهوم زوال سنخ الحكم، والمفروض عدم الظهور في ذلك.

إن قلت: إنه في غير المغياة وإن لم يكن مناقضة في نفس الدليل، إلاّ أنها حاصلة بين الدليل وبين أدلة الأحكام الواقعية، حيث إنها شاملة للعالم والجاهل، وكذا دليل العقل حيث يدرك أو يحكم بتنجز التكليف الواصل من غير فرق بين الوصول الإجمالي أو التفصيلي.

ص: 182


1- الكافي 5: 313؛ وسائل الشيعة 17: 89.
2- عوالي اللئالي 1: 424؛ جامع أحاديث الشيعة 25: 299.

قلت: لا مناقضة مع إمكان كون الحكم الواقعي فعلياً من جهة دون جهة وكون حكم العقل في التكليف الواصل الفعلي لا الإنشائي.

لكن الإنصاف أن فعليتها من جهة دون أخرى غير ظاهرة، بل ظهور الأدلة في الفعلية المطلقة، فلأدلة الأحكام الواقعية إطلاق أو عموم شامل لأطراف العلم الإجمالي.

وثانياً: لا مناقضة حتى في الأدلة المغياة(1)؛ إذ التتمة لا تدل على حكم تعبدي ليكون له إطلاق مناقض لإطلاق الصدر، بل تدل على حكم إرشادي وهو يلازم تأكيد الصدر؛ لأن مدلول التتمة هو حجية القطع، أي استمرار الحلية إلى حين القطع بالحرمة، والغرض من ذلك تثبيت الحلية لكل شيء عن طريق إخراج صورة القطع بعدم الحلية، حيث إن الاستثناء يؤكد حكم المستثنى منه، ومن المعلوم أن حكم العقل لبّي لا إطلاق له؛ إذ الإطلاق خاص بالألفاظ(2).

وفيه: أن مجرد وجود حكم العقل في مورد لا يعني حمل كلام الشارع الموافق له على الإرشاد، بل ظاهر الأوامر كونها مولوية ولا يرفع اليد عن هذا الظاهر إلاّ بوجود محذور، كما ذكروا محذور التسلسل في أوامر الطاعة، وأما لو لم يكن محذور في المولوية فلا وجه لرفع اليد عن الظهور، ولا محذور في ما نحن فيه إلاّ ما ذكروه من اللغوية، وقد مرّ الإشكال فيه؛ إذ قد لا ينبعث أو لا ينزجر بعض الناس عن الأوامر والنواهي العقلية،

ص: 183


1- درر الفوائد في الحاشية على الفرائد: 238.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 5: 192.

لكنهم ينبعثون وينزجرون عن الأوامر الشرعية، هذا مضافاً إلى إمكان كون حكم العقل بمنجزية العلم الإجمالي معلّق على شرط فلا محذور حينئذٍ في كون الحكم الشرعي بالترخيص فعلياً مولوياً.

وثالثاً: عدم شمول التتمة للعلم الإجمالي، وذلك لقوله (علیه السلام): «بعينه»؛ لأن معناه (حتى تعلم علماً تفصيلياً)، وعليه فالصدر يشمل أطراف العلم الإجمالي من غير معارضة التتمة أصلاً.

وأورد عليه: بأن (بعينه) إن كان قيداً للمعلوم أي قوله: (أنه حرام) صحّ ما ذكر؛ لأن (الحرام بعينه) لا ينطبق على الأطراف، وإن كان قيداً للعلم أي قوله: (حتى تعلم) كان تأكيداً للعلم أي أن يكون علماً لا ظناً، فيكون المعنى حتى تعلم أنه حرام لا أن تظن أو تشك مثلاً، ومن المعلوم أن العلم بعينه أعم من التفصيلي والإجمالي.

وأما قوله (علیه السلام) في حديث آخر: «كل ما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه»(1)، فليس معناه تمييز الحرام عن غيره ليكون دالاً على العلم التفصيلي فقط؛ وذلك لأن ظاهر هذا الحديث هو في الشبهات البدوية بمعنى أن كل طبيعة إذا كان لها أفراد محلّلة وأخرى محرّمة، فمشكوكها يحمل على الحلية، فلا ربط لهذا الحديث بما نحن فيه، فتأمل.

ورابعاً: إن الظاهر من قوله: (كل شيء) هو كل مشكوك الحلية، وعليه فمرجع الضمير في قوله: (حتى تعلم أنه) هو ما كان مشكوكاً، ومن المعلوم

ص: 184


1- الكافي 6: 339؛ وسائل الشيعة 25: 118.

أن هذا لا يشمل أطراف العلم الإجمالي؛ وذلك لبقاء الشك فيها، فظهر أن التتمة خاصة بالعلم التفصيلي، فيبقى إطلاق الصدر سليماً عن المعارض.

وبعبارة أخرى - كما قيل -: إن العلم في الغاية ظاهر عرفاً في خصوص ما كان منافياً للشك ورافعاً له، بأن يكون متعلقاً بعين ما تعلق به الشك، فقوله: (حتى تعلم أنه حرام) بمعنى حتى تعلم علماً رافعاً للشك، وليس العلم الإجمالي رافعاً للشك؛ إذ تعلّقه إنما هو بالجامع أما الأطراف فكل واحد مشكوك.

إن قلت: إن تعلق العلم الإجمالي بالجامع إنما هو لكونه مرآة للأفراد، وهذا الجامع ينطبق واقعاً على الفرد المتعين في الواقع كونه هو الحرام حتى وإن جهله المكلف، وعليه فيكون أحد الفردين معلوم الحرمة فيكون الذيل شاملاً له، فليس المقصود نجاسة هذا الإناء أو ذاك مثلاً، بل الملاقي للنجس واقعاً هو النجس، فيشمله الذيل!

قلت: إن الجامع وإن كان معلوماً إلاّ أن الضمير في (أنه) لا يرجع إليه، بل يرجع إلى (كل شيء) وكما أن ظهور كل شيء في الفرد كذلك ظهور الضمير الراجع إليه، وانطباق الجامع على النجس المتعيّن واقعاً غير مجدي مع كونه مردداً بين فردين، فتأمل.

الإشكال الثاني: إن الإمام (علیه السلام) في حديث مسعدة مثّل بأمثلة كلّها من الشبهات البدوية، ولو كان كلامه (علیه السلام) شاملاً لأطراف العلم الإجمالي لكان من المناسب التمثيل به أيضاً؛ لأن في شموله لها نوع خفاء، والحديث هو: «كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قِبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة، والمملوك عندك لعلّه

ص: 185

حرّ قد باع نفسه أو خدع فبيع قهراً، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك، والأشياء كلّها على هذا حتى تستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة»(1).

إن قلت: إن المثال لا يحدّد الممثل له؛ إذ الغرض منه توضيح الممثل له وذلك يحصل بذكر حصة أو جزئي، ولا يشترط فيه ذكر سائر الحصص والجزئيات حتى لو كان ذا أنواع أو أصناف مختلفة.

قلت: ما ذكر صحيح في الجملة، إلاّ أن المثال لو تعدّد مع خفاء شمول الممثل له لحصة من الحصص، فحينئذٍ يحتمل كونه قرينة، وبذلك تختلّ بعض مقدمات الحكمة، اللهم إلاّ أن يقال: بأن احتمال القرينيّة غير مضرّ بالإطلاق، وقد مرّ تفصيله.

وقد يقال: بأن الأمثلة المذكورة توجب وهن دلالة الصدر؛ وذلك لأن الأمثلة المذكورة لا ترتبط به، وعدم ارتباط المثال بالممثل له يوجب تضعيف الدلالة أو السند أو الحجية، أو إجمالها فلا إطلاق.

وذلك لأن الصدر في أصالة الحلية، والأمثلة كلها لا ترتبط بها، بل الأولان تستند الحلية فيهما إلى اليد، والثالث تستند فيه إلى الاستصحاب.

ويمكن أن يقال: إن الحلية في الصدر أعم من أصالة الحلية وأماراتها، فتكون الأمثلة لأحد الصنفين، وذلك مما لا بأس به، بل واقع كثيراً.

الإشكال الثالث(2): دلالة بعض الأخبار على لزوم الاحتياط في بعض

ص: 186


1- الكافي 5: 313؛ وسائل الشيعة 17: 89.
2- الأصول: 614.

المصاديق مثل إهراق الإنائين والتيمم، وبيع الميتة المشتبهة بالمذكاة ممن يستحل، والاقتراع في القطيع لتعيين الشاة الموطوءة، مما يدلّ على عدم جواز ارتكاب أطراف العلم الإجمالي، إلاّ لو انحلّ ولو بأصل شرعي!

إن قلت: هذه الموارد لأجل الدليل الخاص، وذلك لا يضرّ بإطلاق الحلية لسائر الموارد؛ لأن تقييد المطلق في بعض الأفراد لا يضرّ بإطلاقه في سائر الأفراد، وكذلك العام المخصص يبقى على عمومه ولو بعد التخصيص.

قلت: الظاهر عرفاً عدم الخصوصية لهذه الموارد، فيمكن التعميم لسائر الموارد بالمناط، ويمكن التعميم بالأولوية، حيث إن الشارع يتساهل في الطهارة وحلية الأطعمة بما لايتساهل في غيرها، فلو وجب الاحتياط فيها وجب في غيرها بطريق أولى.

إن قلت: في نجاسة أحد الإنائين لا محذور في ارتكاب الأطراف؛ إذ كما يمكن الاحتياط بإراقتهما كذلك يمكن إحراز الواقع بطرق أخرى كالوضوء بأحدهما والصلاة به، ثم غسل المواضع بالثانية والوضوء بها ثم تكرار الصلاة، فيحرز بأن إحدى الصلاتين كانت بطهارة من الحدث والخبث، وغير ذلك.

قلت: ترخيص كل شيء بحسبه، ففي الشبهة الوجوبية الترخيص بالترك، وفي التحريمية الترخيص بالفعل، وفي موارد الشرطية والمانعية ونحوهما فالترخيص بترك الأطراف المحتملة الشرطية أو فعل الأطراف المحتملة المانعية ونحو ذلك، وفي ما نحن فيه لم يكن المحذور في تنجيس البدن، وإنما المحذور في الصلاة من غير طهارة حدثية أو خبثية، فكل من الإراقة والتيمم ومن الوضوء بهما بالكيفية المذكورة إحراز للشرط - أي الطهارة -

ص: 187

إما بإراقة المائين والتيمم أو الطهارة بالطريقة المذكورة أو غيرها.

والحاصل: أن هذه الطرق لا تنافي تنجز العلم الإجمالي، بل هي بيان لوجود طرق متعددة يمكن بها إحراز الموافقة القطعية؛ إذ في هذه الطرق لا يوجد ارتكاب محرّم أصلاً، فلا محذور من تجويز الارتكاب، وإنما العلم الإجمالي يرتبط بصحة الصلاة حيث لا بد من إحراز الطهارة الحدثية والخبثية ولو بالأصل العملي.

الإشكال الرابع: إنه وإن أمكن بالدقة العقلية الترخيص في الأطراف بأن لا يبلغ التكليف مرتبة الفعلية إلاّ بعد العلم التفصيلي به، كما مرّ في المطلب الثاني، إلاّ أن الترخيص عرفاً ترخيص في المعصية وتفويت لملاك الحكم، وهذا الارتكاز العرفي يصلح قرينة مانعة عن انعقاد ظهور الصدر في الإطلاق، فإن العرف إذا رأوا المولى حرّم شيئاً لملاك معيّن ثم أجاز ارتكاب الأطراف كلّها، اعتبروه مرخصاً في معصيته ومتناقضاً ومفوتاً للملاك الذي كان يراه، فلا ينعقد إطلاق في مثل: (كل شيء لك حلال) بحيث يشمل أطراف العلم الإجمالي؛ وذلك لاختلال إحدى مقدمات الحكمة، فتأمل.

المبحث الثالث: في سقوط التكليف بالعلم الإجمالي
اشارة

وفيه مطالب:

المطلب الأول: في الامتثال الإجمالي مع التمكّن من التفصيلي

وفيه صور أربع...

الصورة الأولى: التوصليات التي لا يشترط فيها الإنشاء ولا القصد.

ص: 188

كالطهارة من الخبث، فلو تردد الماء المطهِّر في إنائين، فلا مانع من غسله بكليهما، وبذلك تحصل الطهارة وضعاً؛ وذلك لتحقق الغرض وهو تحقق المأمور به في الخارج. نعم، قد يكون هناك محذور تكليفي، كالإسراف، لكن لا تلازم بين التكليف والوضع في هذه الصورة.

الصورة الثانية: التوصليات التي يشترط فيها الإنشاء.

كما في العقود والإيقاعات، مثل ما لو لم يعلم أن صيغة العقد هذه اللفظة أم تلك، فيأتي باللفظتين معاً.

فقد قيل: بعدم صحة ذلك، لكون التكرار يلازم الترديد، وذلك ينافي الجزم المعتبر في العقود و الإيقاعات، ولذا كان التعليق مبطلاً لها!

وأشكل عليه: بأن سبب اشتراط الجزم هو منافاة الترديد للقصد، والعقود والإيقاعات تتبع القصود، فلا تصح من غير قصد، وهذا إنما يكون لو كان الترديد في الإنشاء نفسه، وأما لو كان في السبب أو المسبب أو السببّية فلا إخلال بالقصد.

ومثاله في التكوينيات لو كان متردداً في أن النار توقد بهذا أم بذاك، فاستعملهما معاً، فإنه قاصدٌ للإيقاد قطعاً، وتردده في سببه غير ضائر في قصده، أو كان متردداً في أن هذا الشيء له قابلية الاحتراق أم لا فألقاه في النار بقصد تحقق الإحراق، فهو قاصد للإحراق مع تردده في المسبب، أو كان متردداً في أن الحركة الفلانية لها سببيّة للنار أم لا، فصنعها، فلا منافاة لقصده إيجاد النار. نعم، لو كان متردداً في أصل إيقاد النار فلا يكون قاصداً لها.

وهكذا في الاعتباريات فلفظ بعتُ سبب، والمبادلة مسبَّب، والعلقة بينهما

ص: 189

سببيّة، والاعتبار نفساني مبرز بقول أو فعل - الإنشاء - .

والذي يضر بالقصد ويدلّ على بطلانه الإجماع هو التردد في الرابع، وأما التردد في الثلاثة الأولى فلا دليل على بطلانه، فتشمله إطلاقات أو عمومات الأدلة، فالذي لا يدري أيّ اللفظين محقِّق للعقد إذا أتى بهما فهو قاصد إلى العقد، ولا ترديد له في إنشائه. نعم، هو لا يعلم تحقّقه بأيّ اللفظين، لكن لا دليل على اشتراط العلم بخصوص السبب هذا في الترديد في السبب، أو لا يدري أن هذه اللفظة هل تحقِّق العقد أم لا، ومع ذلك أتى بها برجاء التحقق، هو قاصد للعقد، وإن كان لا يعلم تحقّقه هذا في الترديد في المسبب، أو لا يدري صحة بيع الميتة لمن يستحل، ومع ذلك باعها له، فهو قاصد للبيع مع شكه في سببية العقد للمبادلة، بل لا ينافي العلم بعدم السببيّة لقصد وإنشاء المعاملة كبيع الغاصب، فتأمل.

الصورة الثالثة: التعبديات التي يكون امتثالها بالتكرار.

كما لو دار الواجب بين الجمعة أو الظهر، أو اشتبهت القبلة فتوقفت الصلاة إليها بتكرارها على الجهات الأربع.

فقد يقال: بعدم صحتها لوجوه، منها:

الوجه الأول: الإخلال بقصد الوجه - أي قصد الوجوب أو الاستحباب - ، فإن المكلّف لا يتمكن من قصده لعدم علمه بالواجب.

وفيه: أولاً: إنه لا إخلال بقصد الوجه أصلاً؛ لأن داعي المكلف هو الأمر الوجوبي، وهو امتثال ذلك الحكم الشرعي. نعم، هو لا يعلم بأن الواجب أيهما أو أيّها، وهذا لا يرتبط بالوجه وإنما بالتمييز.

ص: 190

إن قلت: إنّ القائل بالوجه يشترطه في كل فعل تفصيلاً، ولا يكتفي بالداعي، والقصد التفصيلي لا يتحقق إلاّ بقصد الوجوب في كل واحد، ومع علمه بعدم وجوب إلاّ واحد لا يمكنه قصد الوجوب التفصيلي!

قلت: إنّ الإجمال ليس في قصد الوجوب في كل واحد، بل وجوبها إما للأمر المتعلّق بالفعل وإما للأمر الاحتياطي، وإنما الإجمال في عدم معرفة نوع الوجوب، وذلك غير مضرّ.

وثانياً: عدم اشتراط قصد الوجه حتماً.

إن قلت: قد استدل له(1) بأن الأغراض القائمة بموضوعات الأحكام واقعاً عناوين لها في نظر العقل - حيث لا يذعن بحسن شيء إلاّ بما له من الوجه الحسن المنطبق عليه بلحاظ قيام الجهة المحسنة به قيام العرض بموضوعه - كالقيام إذا كان حسنه للتعظيم، فإن قَصَدَ الإهانة أو لم يقصد التعظيم لم يكن حسناً.

وأن هذا الفعل بما له من الوجه العقلي هو موضوع للحكم الشرعي واقعاً، بمعنى أن حكمه ليس اعتباطاً وإنما لكونه حسناً عقلاً، لتبعية الأحكام للملاكات المحسنة أو المقبحة.

وأنه لو كان سبب الحسن العقلي معلوماً وجب إتيان الفعل بذلك الوجه حتى يكون حسناً شرعاً ومأموراً به، لكي يكون الفعل صادراً عنه بالاختيار، فالقيام التعظيمي هو الواجب في المثال، فلو لم يقصد التعظيم لم يتحقق القيام التعظيمي، بل كان غير اختيارياً؛ إذ لا يكون الفعل الاختياري إلاّ عن

ص: 191


1- نهاية الدراية 3: 109.

قصد، فإن لم يكن مقصوداً لم يكن اختيارياً.

قلت: يرد عليه أن القصد لا ينحصر بقصد الوجه، بل يمكن تحققه بعنوان آخر، مثل الفعل المقرّب أو المحبوب ونحو ذلك، مضافاً إلى أنه لا يشترط في اختيارية الفعل قصده تفصيلاً، بل يكفي القصد الإجمالي، فمن رمى زيداً ليقتله فأصاب السهم عمراً فقتله، كان قتله لعمرو عمدياً قطعاً وإن لم يكن مقصوده تفصيلاً؛ وذلك لأنه قصد القتل وأخطأ في المصداق، وكذا التكرار فإن الفعل المعنون بالعنوان الحسن مقصود حتماً واختياري.

وأما ما قيل: من أن الماهية لا تتعيّن في مصداق إلاّ بمعيّن، ومع وجود الفعل الواجب والمستحب لا معيّن إلاّ النية، ولولا ذلك لزم الترجح بلا مرجح أو وجود الجنس بلا فصل وكلاهما محال.

فيرد عليه: إنه مع الانحصار في أحدهما لا معنى للمعيّن، مضافاً إلى ما مرّ من عدم انحصار المعيّن في قصد الوجه.

الوجه الثاني: الإخلال بالتمييز بمعنى عدم إحراز المأمور به، سواء كان بمعنى عدم العلم بالوجوب كالتردد بين الظهر والجمعة، أم بمعنى عدم العلم بالواجب كما في اشتباه القبلة.

وفيه: عدم الدليل على اشتراط التمييز، بل الإطلاق اللفظي والمقامي وأصالة البراءة تنفيه، أما الإطلاق اللفظي فلأن أدلة العبادات مطلقة ولم يرد دليل في تقييدها بالتمييز، ولو فرض الإشكال على ذلك فالإطلاق المقامي محكم لغفلة عامة الناس عنه فلو كان شرطاً لزم بيانه وإلاّ كان إخلالاً بالغرض، ولو وصلت النوبة إلى الأصل العملي فالأصل البراءة في الأقل والأكثر الارتباطيين.

ص: 192

الوجه الثالث: كون التكرار عبثاً بأمر المولى، والعبث ينافي الطاعة، فلا يكون العمل مقرباً.

وأجيب: أولاً: بأنه ليس من العبث لو كان التكرار بداع ٍ عقلائي، كما لو كانت مؤونة زائدة في الامتثال التفصيلي.

إن قلت: إن وجود الغرض العقلائي قد لا يصحح العبادية؛ وذلك لتوقفها على قصد القربة لتكون طاعة، والتكرار ينافي الطاعة فلا يكون العمل مقرباً، وبعبارة أخرى: العبث لا يوجب قرباً فلا يصح التقرب به.

قلت: الكلام في أن الغرض العقلائي يخرج التكرار عن كونه عبثاً، وليس المقصود أنه عبث بغرض عقلائي كي يقال بعدم صحة التقرب بالعبث حتى لو كان منطلقه غرضاً عقلائياً.

وثانياً: إن الذي لا يجتمع مع قصد القربة هو العبث بأمر المولى كأن يأتي بالعبادة استهزاءً بالمولى أو بأمره، فحينئذٍ لا تتحقق القربة، وأما العبث في كيفية الطاعة فلا يضرّ بها، كمن أمره المولى بالإتيان بماء ليشربه فجاءه بعشرة مياه، فقد امتثل أمره مع عبث في ضمّ ما لم يأمره به.

بل قد يقال: إن التكرار ليس عبثاً في كيفية الطاعة أيضاً، بل العبث إنما هو في تحصيل اليقين بطاعة الأمر، وذلك لا يرتبط لا بالعبث في الطاعة ولا في كيفيتها.

الوجه الرابع: ما ذكره المحقق النائيني(1): من تقدّم مرتبة الامتثال

ص: 193


1- فوائد الأصول 3: 71-73.

التفصيلي على الامتثال الإجمالي؛ وذلك لأن حقيقة الطاعة عقلاً هي الانبعاث عن بعث المولى، بحيث يكون الداعي والمحرك له نحو العمل هو تعلّق الأمر به، وهذا المعنى لا يتحقق في الامتثال الإجمالي، فإن الداعي له نحو العمل بكل واحد من فردي الترديد ليس إلاّ احتمال تعلّق الأمر به، فإنه لا يعلم انطباق المأمور به عليه بالخصوص. نعم، بعد الإتيان بكلا فردي الترديد يعلم بتحقق ما ينطبق المأمور به عليه، والذي يعتبر في حقيقة الطاعة عقلاً هو أن يكون عمل الفاعل حال العمل بداعي تعلّق الأمر به، ومجرد العلم بتعلق الأمر بإحدى فردي الترديد لا يقتضي أن يكون الانبعاث عن البعث المولوي، بل أقصاه أن يكون الانبعاث عن احتمال البعث بالنسبة إلى كل واحد من العملين.

وأشكل عليه المحقق العراقي: «بأن الانبعاث لا يكون إلاّ عن الجزم بالأمر ولو إجمالاً، وإنما الاحتمال مقدمة لتطبيق ما يدعوه جزماً على مورده، لا أن ما يدعوه بنفسه هو احتمال الأمر، وبين الأمرين فرق واضح»(1).

أي إن الأمر معلوم لا محتمل، وإنما المصداق محتمل، فالانبعاث إنما هو عن الأمر المعلوم، وليس الاحتمال إلاّ مقدمة للتطبيق.

وذكر السيد الأخ(2) أن علة الانبعاث مركبة من أمرين، ولا يكفي أحدهما للتحرّك إلاّ بضميمة الآخر، وهما العلم الإجمالي، واحتمال انطباق

ص: 194


1- نهاية الأفكار 3: 53.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 5: 250.

المعلوم بالإجمال على الفرد، والأول وحده لا يكفي في التحرك؛ إذ انتفاء الاحتمال مساوق للقطع بالعدم، ومعه لا يعقل التحرك؛ لأنه يكون بلا غاية تقتضيه، والثاني وحده قد لا يكفي؛ إذ قد لا ينبعث المكلّف عن الاحتمال المجرد، فالعلة في المقام مجموع العلم والاحتمال.

الوجه الخامس: استلزام التكرار لعدم الإخلاص بمعنى وجود داعي آخر غير قربي، وحاصله(1): أن الداعي هو ما يكون متأخراً عن العمل خارجاً وإن كان متقدماً تصوراً، لذلك يمتنع كون الداعي للعمل العبادي هو الأمر أو احتماله؛ لأنهما سابقان خارجاً على نفس العمل، وإنما الداعي هو امتثال الأمر وموافقته.

وحيث لا يعلم بالواجب واقعاً من المحتملات، فلا يمكنه الإتيان بها بداعي تحقق الموافقة؛ إذ لا علم بتعلق الأمر به، فيستلزم هذا الداعي التشريع المحرّم، وإنما الداعي احتمال الموافقة منضماً إلى الداعي للتكرار وهو السهولة مثلاً؛ لأن أحد الفعلين موافق للأمر قطعاً لكنه لا بعينه.

وحيث إن نسبة الداعيين إلى كل من المحتملات على حد سواء - بمعنى عدم تمييز أحدهما عن الآخر في مقام الداعوية - فيصدر كل فعل من المحتملات عن داعيين أحدهما إلهي والآخر غير إلهي، وذلك ينافي المقربيّة.

وأشكل عليه(2): أولاً: بأن تفسير الداعي بالعلة الغائية محل تأمل، وذلك

ص: 195


1- منتقى الأصول 4: 129.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 5: 255.

لعدم دلالة دليل عليه، بل تكفي إضافة العمل إلى المولى بأي نحو من أنحاء الإضافة، فيكفي الانبعاث عن الأمر بنفسه وإن لم يكن داعياً بالمعنى المصطلح، وهذا متحقق في المقام؛ إذ الانبعاث عن احتمال الأمر هو نحو من أنحاء الإضافة إلى المولى، وهو كاف في تحقق عبادية العبادة.

وثانياً: بأن ضم داع ٍ غير قربي، إذا كان من قبيل الداعي على الداعي لا مانع منه، فاختيار المكلّف الانبعاث عن احتمال البعث على الانبعاث عن البعث القطعي بداعي السهولة مثلاً غير قادح؛ لأن السهولة داع على إتيان العبادة المكرّرة بقصد القربة.

الصورة الرابعة: التعبديات التي لايستلزم امتثالها الإجمالي التكرار.

في ما لو دار الأمر بين الأقل والأكثر، كما لو شك في وجوب القنوت في الصلاة الواجبة، فيأتي به مع تمكنه من تحصيل العلم التفصيلي.

وأشكل عليه بإشكالات، منها:

الإشكال الأول: إخلال امتثال الإجمالي بقصد الوجه؛ وذلك لعدم معرفة المكلّف بحكم الجزء فلا يمكنه قصد الوجوب في الكل.

والجواب: مع قطع النظر عن الإشكال المبنوي في عدم وجوب قصد الوجه...

أولاً: بأنه لا إخلال بقصد الوجه أصلاً، حتى مع العلم بعدم وجوب بعض الأجزاء فضلاً عن الشك بها؛ وذلك لإمكان قصد وجوب المركب، سواء كان المشكوك جزءاً من الماهية أم من المشخصات الفردية.

أما لو كان جزءاً من الماهية فالوجوب تعلّق به، وأما لو لم يكن جزءاً

ص: 196

منها فغير خفيّ أن الطبيعة تنطبق على الفرد بكل ما له من المشخصات الفردية، فالصلاة - مثلاً - موضوعة على الطبيعة على نحو اللا بشرط عن الخصوصيات الفردية، ولهذه الطبيعة أفراد متفاوتة، وهي تنطبق على كل واحد منها بتمامه وكماله، بمعنى انتزاع الطبيعة من الفرد بكل خصوصياته، نظير انتزاع الطبايع من الأفراد الخارجية، فالدار - مثلاً - لها ماهية بأن يكون بناء له جدران وسقف، فلو كان الدار ذا غرف كثيرة أو قليلة فهو دار بمعنى انتزاع طبيعة الدار من هذا الفرد بما له من غرف، فإن أضاف غرفة أو نقص غرفة فهو دار، فلا يصح الإشكال: بأنه كيف يكون الشيء داخلاً في الماهية على تقدير وجوده وخارج عنها على تقدير عدمه! وذلك لانتزاع الطبيعة من الفرد الخارجي بكل ما له من خصوصيات، وحينئذٍ فحيث تنتزع الصلاة من الفرد، فهذا الفرد بكل ما له من خصوصيات شخصية مصداق للموضوع الواجب، فيصح نية الإتيان بالصلاة الواجبة حتى مع اشتمالها على الأجزاء المستحبة، وقد مرّ بعض الكلام، فراجع.

وثانياً: ما قيل: من أنّ الأجزاء المستحبة ليست أجزاءً حقيقة، بل هي مستحبات نفسية ظرفها الواجب، وعليه فمع الشك لا يخلو الواقع ثبوتاً من أن يكون المشكوك جزءاً واجباً فلا إخلال بقصد الوجه، أو مستحباً غير جزء فهو خارج عن المأتي به فلا محذور في نية الوجوب بلحاظ المجموع الذي لا يتضمن هذا المستحب.

وفيه: عدم المانع العقلي من الجزء المستحب، كما بيّناه، باعتبار كونه جزءاً من الفرد لا من الماهية، ومع دلالة الدليل بظاهره - ولو بارتكاز المتشرعة - على الجزئية المستحبة لا وجه للتأويل.

ص: 197

وعليه فإن الامتثال الإجمالي لا يُخلّ بقصد الوجه باعتبار المركب، ولكن لا يمكن نية الوجه في الجزء المشكوك بنفسه؛ وذلك لعدم العلم بوجوبه، فنية الوجوب تكون من التشريع المحرّم أو من التجري، لكن لا دليل على وجوب نية الوجه في الأجزاء حتى لو فرضنا قيام الدليل على وجوبها باعتبار المركب؛ إذ عمدة الأدلة ما مرّ أن علل الأحكام هي قيود للموضوع عقلاً، فيكون الحكم الشرعي كذلك مقيداً بها، فلا بد من الإتيان بالأفعال بما هي معنونة بتلك العناوين كي تكون اختيارية، وهذا الدليل لايجري في الأجزاء لعدم الدليل على لزوم وجود عنوان محسِّن للأجزاء، بعد انطباق عنوان محسِّن على المركب، بل لو كان للجزء عنوان محسِّن لم يكن منشأ للوجوب؛ وذلك لأن وجوب المركب وجوب واحد ناش عن حسن ذلك المركب، فلو كان منشأ وجوب الجزء عنواناً محسِّناً خاصاً به لوجب استقلالاً وهذا خلف كونه واجباً ضمنياً، فتحصل أن شأن الجزء يدور بين عدم وجود عنوان محسِّن له، وبين وجود عنوان محسِّن لكنه لم يكن ملاكاً للوجوب، فلا وجوب للجزء بنفسه ليقصده.

إن قلت: الدليل دلّ على قصد الوجه في كل عبادة، ومن المعلوم أن جزء العبادة عبادة لذا يجب قصد القربة فيها!

قلت: لا دليل على وجوب قصد القربة في كل جزء جزء بعد قصدها في المركب، بل قد يدعى قيام الدليل على العدم لمعلومية عدم لزوم قصدين للقربة تعلق أحدهما بالمركب والآخر بالجزء، فتأمل.

هذا كله في إشكال الإخلال بقصد الوجه.

الإشكال الثاني: ادعاء الإخلال بوجوب تعلم الأجزاء والشرائط، حيث

ص: 198

دلت الأدلة على وجوب العلم والمعرفة بأحكام الشرع، وذلك ينفي الاحتياط.

وفيه: ما مرّ أن وجوب المعرفة طريقي إلاّ في أصول الدين، مضافاً إلى أن المعرفة في الفروع لو فرض وجوبها النفسي فهو وجوب تكليفي ولا يرتبط به الحكم الوضعي أي صحة العمل، فتأمل.

المطلب الثاني: في الامتثال الإجمالي القطعي مع التمكّن من التفصيلي الظني

فهنا صورتان:

الصورة الأولى: في ما لو قام الدليل الخاص على حجية الظن، فنقول:

حيث إن أدلة حجية الظنون الخاصة تدل على حجيتها مطلقاً - سواء أمكن الاحتياط أم لا - أمكن للمكلّف الاجتزاء بالامتثال التفصيلي الظني أخذاً بإطلاق دليله، كما أنه لا محذور من الامتثال الإجمالي القطعي؛ وذلك لكونه محرزاً للواقع.

وأمّا المحاذير التي ذكرت في المطلب السابق - في صورة إمكان الامتثال التفصيلي القطعي - فلا تجري هاهنا؛ وذلك لعدم العبث في التكرار هنا لوجود غرض عقلائي هو إحراز الواقع، حيث إن الامتثال الظني قد لا يوصل إلى الواقع رغم كونه معذِّراً، فلذا يحسن الاحتياط عقلاً لإدراك الواقع، وشرعاً لإطلاق أدلته، كما يمكن التمحض في الداعي القربي في ما نحن فيه إذا ضم داعي إحراز الواقع إلى داعي امتثال الأمر.

إن قلت: هل مرتبة الامتثال التفصيلي الظني مقدمة على مرتبة الامتثال الإجمالي القطعي، لو سلّمنا بتقدّم الامتثال التفصيلي القطعي على الإجمالي القطعي؟

ص: 199

قلت: كلا، بل هما في عرض واحد؛ لعدم وجود أمر قطعي فيهما، فالانبعاث في كليهما عن احتمال الأمر لا القطع به؛ لأن دليل حجية الظن الخاص لا يجعله علماً، بل مدلوله التنجيز عند الإصابة والتعذير عند الخطأ، اللهم إلا أن يقال: إن الامتثال إنما هو لدليل حجيته وهو قطعي، فيتقدّم على الامتثال الإجمالي، حيث يكون الانبعاث عن احتمال الأمر.

ولا محذور في ضم الامتثال الإجمالي القطعي إلى الامتثال التفصيلي الظني؛ وذلك لوجود احتمال الخلاف، فلذا يحسن الاحتياط إدراكاً للواقع، بخلاف ما لو علم بالتكليف، فلا احتمال للخلاف ليحسن الاحتياط لأجله.

ثم إن المحقق النائيني ذهب إلى لزوم تقديم الامتثال التفصيلي الظني على الامتثال الإجمالي القطعي، بأن يمتثل المكلّف أولاً بحسب الدليل الظني ثم يحتاط بالعمل بالمحتملات، قال: «ولكن ينبغي، بل يمكن أن يقال: إنّه يتعيّن أولاً العمل بمقتضى الطريق ثم العمل بما يقتضيه الاحتياط، وعلى ذلك يبتنى الخلاف الواقع بين العلمين - الشيخ الأنصاري والسيد الشيرازي - في مسألة تقديم القصر على التمام أو تقديم التمام على القصر في المسافر إلى أربع فراسخ مع إرادة الرجوع ليومه...»(1) الخ.

وأشكل عليه في التبيين(2): بأن الظاهر حصول نوع خلط في مفهوم التقدّم والتأخر...

إذ تارة: يراد أنه بديل عنه، فيقال: هذا مقدّم على ذاك، بمعنى أنه لا يصح

ص: 200


1- فوائد الأصول 3: 71-72.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 5: 285.

أن يكون بديلاً عنه.

وتارة: يراد التقدم والتأخر الزماني، ولا دليل عليه؛ إذ لا بد من الإتيان بالمظنون بداعي العلم التعبدي، بلا فرق بين تقديم المحتمل أو تأخيره، كما أن الإتيان بالمحتمل يكون بداعي احتمال البعث بلا فرق أيضاً في التقديم والتأخير.

الصورة الثانية: في ما لو دار الأمر بين الامتثال التفصيلي الظني الثابت حجيته بالانسداد وبين الامتثال الإجمالي القطعي، فكذلك يمكنه الاجتزاء بالامتثال الظني، أو ضمّ الامتثال الإجمالي القطعي إليه؛ لأن إحدى مقدمات الانسداد هي عدم وجوب الاحتياط، وأما لو قيل: بعدم جوازه فالمتعيّن هو العمل بالظن حصراً.

المطلب الثالث: في الامتثال الإجمالي مع عدم التمكّن من التفصيلي

ولا إشكال في الاجتزاء به، بل حسنه ووجوبه عقلاً وشرعاً، ولا يرد عليه أيّ من الإشكالات السابقة، فلا طولية ولا عبث ولا إجماع على عدم كفايته حينئذٍ، كما هو واضح، ومن غير فرق بين التعبديات والتوصليات، سواء استلزم التكرار أم لا.

ص: 201

ص: 202

المقصد الثامن في الظن والأمارات

اشارة

ص: 203

ص: 204

والبحث تارة في عدم عِليّة وعدم اقتضاء الظن للحجيّة، وأخرى في إمكان جعل الحجية شرعاً، وثالثة في أصالة عدم حجية الظن عند الشك، ورابعة في الظنون الخاصة التي قام الدليل على حجيتها وخرجت عن أصالة عدم الحجية، فالكلام في فصول:

ص: 205

فصل فی عدم حجية الظن بذاته

اشارة

لا بنحو العليّة ولا بنحو الاقتضاء، لا في تنجيز التكليف ولا في التعذير عنه.

بيانه: أن العرض قد يكون ضرورياً لمعروضه كالزوجية للأربعة وقد يعبر عنه بالعليّة التامة مجازاً، وقد يكون بنحو المقتضي، أي يعرض عليه إن لم يكن مانع، وقد يكون لا بشرط - لا هو علة ولا هو مقتض ٍ - بل يعرض إن جعله جاعل وإلاّ فلا كالبياض للجدار، وفي هذا لا يكفي للحكم بالعروض مجرد عدم المانع، بل لا بد من إثبات الجعل.

وهنا مقامان:

المقام الأول: في ثبوت التكليف بالظن.

والحجية عارض، ومعروضها إن كان القطع الطريقي كانت من قبيل الأول، بحيث يستحيل انفكاك الحجية عنها.

وأما الظن فليس من قبيل العِلّة لوقوع الانفكاك بعدم حجية بعض أنواع الظنون.

كما أنه ليس من قبيل المقتضي.

واستدل لذلك بوجوه، منها:

الوجه الأول: حكم العقل أو إدراكه بعدم تنجز التكليف على العبد إن

ص: 206

ظن به بظن لم يجعل المولى الحجية له، حتى لو لم يكن مانع، وهذا أمر وجداني.

وإنما يحكم العقل أو يدرك إذ كان الشيء بذاته معروضاً للحكم، مثل الظلم قبيح، أو مصداقاً للمعروض مثل التعذيب قبيح.

الوجه الثاني: بناء العقلاء على ذلك، وفي التبيين(1): بأن بناءهم قد ينشأ من حكم العقل مثل بنائهم على استحقاق العاصي للعقوبة، فيرجع ذلك إلى إدراكهم لحكم العقل واتباعهم له، وقد لا ينشأ من حكم العقل - بأن لا يكون الشيء معروضاً ولا مصداقاً لمعروض حكم العقل - وإن كان مرجعه إلى حكم العقل بوسائط، كبنائهم العمل بقوانين المرور.

ولا يخفى أن سيرة المتشرعة في عدم اقتضاء الظن للحجية مرجعه إلى سيرتهم بما هم عقلاء، فيرجع إلى هذا الدليل فليس دليلاً مستقلاً برأسه.

إن قلت: قد يعمل العقلاء بالظن؟

قلت: أما في الأمور المهمة فلا يعتمدون إلاّ على الاطمئنان وليس الظن، وقد تتوقف الحياة العادّية على بعض أنواع الظنون كخبر الواحد والبينة فيعملون به لكن في تلك الموارد دون غيرها، والكلام الآن في الكبرى لا في بعض الجزئيات. نعم، قد يتسامحون في الأمور المستحقرة فيعملون حسب الاحتمال حتى لو لم يكن ظناً، وليس ذلك بمعنى حجيته، بل لأجل استحقار مورده بحيث لو كان خطأ ً لم يضرّهم في شيء، وكذا لو كان المحتمل خطيراً وقد انسد عليهم العلم، بل فيه قد يعملون حسب الوهم إذا

ص: 207


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 5: 293.

لم يكن طريق ولو مظنون، وأما في الحجيّة بمعنى التنجيز والتعذير فلا.

المقام الثاني: في سقوط التكليف بالظن.

والكلام الكلام، وقد ذكر لحجيته وجوه أخرى، منها:

الوجه الأول: عدم لزوم دفع الضرر المحتمل، وحينئذٍ فيجوز الاكتفاء بالظن، أما لو قيل بوجوب دفع الضرر المحتمل فلا يجوز الاكتفاء به؛ لأن احتمال بقاء التكليف بالذمة يستلزم احتمال العقوبة في صورة عدم إصابة الظن فيجب دفعه، أما لو قيل بعدم وجوب دفع الضرر المحتمل فلا.

وأورد عليه: أولاً: بأن مقتضى ذلك كفاية العمل بالوهم؛ لعدم القطع بالضرر.

وثانياً: بأن ذلك يستلزم جواز ارتكاب المعصية الثابتة، لاحتمال العفو أو التكفير، إلاّ أن يقال: إن استحقاق العقوبة ثابت حينئذٍ وهو ضرر فعلاً، لكنه غير سديد؛ لعدم كون الاستحقاق - من غير فعليه - ضرراً.

وثالثاً: إن وجوب الإطاعة عقلاً غير مرتبط بالضرر كي يقال: بأن دفع الضرر المحتمل غير لازم فلا تلزم الإطاعة حينئذٍ، بل تجب الإطاعة حتى مع الأمن من الضرر، فمقتضى مولويّة المولى وعبوديّة العبد هو الإطاعة مع قطع النظر عن استحقاق العقاب وعدمه، وبعبارة أخرى: إن استحقاق العقاب فرع وجوب الطاعة، لا أنه سبب لها.

وأما ما قيل: من عدم الخلاف في لزوم دفع الضرر الأخروي المحتمل وإنما الخلاف في دفع الدنيوي منه، وما نحن فيه الضرر الأخروي.

ففيه: إن المناط في نفس الخطر، فالخطير منه يجب دفع محتمله حتى لو

ص: 208

كان دنيوياً كالهلاك، وغير الخطير منه لا يجب دفع مقطوعه فضلاً عن محتمله حتى لو كان أخروياً، كهبوط الدرجات في الجنان.

الوجه الثاني: انسداد باب العلم في باب فراغ الذمة، فيكتفى بالظن نتيجة لدليل الانسداد.

وفيه: لا انسداد غالباً في باب الفراغ، بل يمكن تحصيل العلم أو العلمي، مضافاً إلى عدم تمامية مقدمات الانسداد حينئذٍ؛ لأن المقدمات إنما تتم لو كان الانسداد في غالب الأبواب، بحيث يستلزم الاحتياط العسر والحرج وتستلزم البراءة الخروج من الدين، أما لو كان الانسداد في باب من الأبواب - كباب الفراغ في ما نحن فيه - فلا تتم المقدمات؛ إذ لا عسر ولا حرج في الاحتياط فيه.

ص: 209

فصل فی إمكان جعل الحجية للظن

اشارة

وهنا بحوث:

البحث الأول: في معنى الإمكان هنا

والمراد الإمكان الوقوعي، أي ما لايستلزم من وجوده محذور عقلي، ويقابله الامتناع الوقوعي باستلزامه المحذور حتى لو لم يكن محالاً ذاتاً.

وليس المراد الإمكان الذاتي، وهو تساوي نسبة الماهية إلى الوجود والعدم بالنسبة إلى ذات الشيء الذي يقابله الوجوب الذاتي أو الامتناع الذاتي، لوضوح عدم امتناع حجية الظن ذاتاً، وإنّما الإشكال في زعم استلزامه لبعض المحاذير.

كما ليس المراد من الإمكان الاحتمال، أي الجهل بإمكانه أو امتناعه؛ إذ هو بمعنى عدم الحكم بشيء، فإن البحث في هذا غير مفيد، فمقولة: «كل ما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الإمكان»(1) غير مرتبطة ببحثنا الآن.

البحث الثاني: الدليل على الإمكان

وقد استدل على إمكان جعل الحجية للظن بوجوه، منها:

ص: 210


1- شرح الإشارات 3: 418.

الوجه الأول: ما ذكره الشيخ الأعظم قال: «إنا لا نجد في عقولنا بعد التأمل ما يوجب الاستحالة، وهذا طريق يسلكه العقلاء في الحكم بالإمكان»(1).

بمعنى أنه لا يشترطون في حكمهم هذا إقامة الدليل على عدم الاستحالة، بل يكفي فيه عدم قيام دليل على الاستحالة.

وأشكل عليه بأمور، منها:

الإشكال الأول: ما ذكره المحقق النائيني(2): من أن الكلام هنا في الإمكان التشريعي، بمعنى أنه هل يلزم من التعبد بالأمارات محذور في عالم التشريع - كتفويت مصلحة، أو إلقاء في مفسدة، أو الحكم من غير ملاك، أو اجتماع الحكمين المتنافيين ونحو ذلك - أو لا يلزم شيء من ذلك، وليس المراد من الإمكان هو الإمكان التكويني، بحيث يلزم من التعبد بالظن أو الأصل محذور في عالم التكوين.

وأورد عليه المحقق العراقي(3): بأنه إذا كان المحذور في المقام اجتماع الضدين أو صدور القبيح ممن يستحيل صدوره منه، فهل هذه غير الاستحالة التكوينية؟! وكون موضوع هذا الإمكان والاستحالة أمراً تشريعياً لا يقتضي خروج إمكانه عن التكوين.

ووضحّه في التبيين(4): بأن التشريع أيضاً فعل تكويني من أفعال المولى؛

ص: 211


1- فرائد الأصول 1: 106.
2- فوائد الأصول 3: 88.
3- فوائد الأصول 3: 88 (الهامش).
4- موسوعة الفقيه الشيرازي 5: 321-322.

إذ هو إظهار المولى لإرادته المولوية - وإن كان المعتَبر أمراً اعتبارياً مفروض الوجود في وعاء الاعتبار - واختلاف متعلق الإمكان غير قادح في وحدة المفهوم - الذي هو تساوي نسبة الماهية إلى الوجود والعدم، أو عدم ترتب تالي باطل أو محال - ، وكل المحذورات المذكورة إنما هي محذورات تكوينية.

الإشكال الثاني: إنه لا سيرة للعقلاء بحيث يرتبون أحكام الإمكان على المجهول، بل لو أرادوا ترتيب الآثار فلا بد من إثبات عدم الاستحالة، وعلى فرض وجود هكذا سيرة فهي غير حجة؛ لأنها لا توجب أكثر من الظن، فالتمسك بها لحجيته دور واضح.

ويمكن أن يقال: إن مراد الشيخ الأعظم أنه لو كان ظاهر الدليل على شيء مع احتمال استحالته ثبوتاً، وأن يكون المراد غير الظاهر، فإن بناء العقلاء على العمل بالظاهر وعدم الاعتناء باحتمال الاستحالة، بل مجرد الإمكان يكفي في ذلك العمل، وبعبارة أخرى: احتمال الاستحالة غير حجة، والظاهر حجة، فلا يُعارض اللاحجة الحجة، كما لو قام ظاهر الدليل على حجية خبر الواحد واحتملنا استحالة ذلك مما يستلزم منه تأويل الظاهر، فلا يعتني العقلاء بهذا الاحتمال، بل يجرون أصالة الإمكان فيعملون بظاهر الدليل، فتأمل.

الوجه الثاني: ما ذهب إليه المحقق الخراساني(1): من إثبات الإمكان بالوقوع، فإنه أدلّ دليل عليه، ولكن بعد وقوع التعبد بالظن يكون البحث

ص: 212


1- إيضاح كفاية الأصول 3: 287-288.

عن الإمكان لغواً.

ويرد عليه: إنه قد يستشكل في الوقوع، أو بعدم كون الواقع من مصاديق مورد البحث، فتأمل.

البحث الثالث: أدلة استحالة جعل الحجية للظن وردّها

وقد استدل القائل باستحالة جعل الحجية للظن بوجوه، منها:

الوجه الأول: إنه يستلزم تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة أحياناً، وذلك في ما لو خالف الظن الواقع وهو ما يحصل أحياناً في الأمارات الظنية.

وفيه: أن عدم جعل الحجية يستلزم تفويتاً وإلقاءً أكثر، فيدور الأمر بين جعل الحجية مع استلزامه ذلك قليلاً أو عدم جعلها مع استلزامه ذلك كثيراً، وبعبارة أخرى: إنه لا إشكال في فعل يكون خيره غالباً على شرّه؛ وذلك لأجل أن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل هو شر كثير، ومن المستقبح فعل أو ترك شيء كان شرّه أكثر من خيره.

والحاصل: أن عدم جعل الحجية لبعض الظنون يستلزم تفويت الواقع أكثر من جعل الحجية الذي يستلزم تفويته قليلاً، كما أن الاحتياط قد يوجب العسر والحجر أو اختلال النظام، ولذا تجد بناء العقلاء على العمل ببعض الظنون إدراكاً للواقع.

الوجه الثاني: إن جعل الحجية يستلزم التصويب أو اجتماع المثلين أو الضدين إن كان متعلّق الحكم الواقعي والظاهري واحداً، وطلب الضدين إن كان المتعلّق متعدداً، والتالي باطل فالمقدم مثله.

ص: 213

بيانه: إنه لو قامت الأمارة الظنية ولم يبق الحكم الواقعي فهذا هو التصويب الباطل بداهة، وإن بقي وكانت الأمارة مطابقة للواقع لزم اجتماع الحكمين المثلين، وإن كانت مخالفة للواقع لزم اجتماع الضدين، والاجتماع في مرحلة الحكم ومرحلة الإرادة ومرحلة الملاك من غير كسر وانكسار، هذا إن كان متعلق الحكمين - الواقعي والظاهري - واحداً، وإن تعدد المتعلق كما لو كان متعلق الحكم الواقعي السير إلى الحج، والحكم الظاهري المسير إلى المدينة في يوم واحد معين، لزم طلب الضدين، وهو محال أو قبيح.

وفيه: عدم لزوم أي من المحذورات المذكورة، كما يأتي في المبحث التالي.

البحث الرابع: وجوه الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري

وقد ذكر لذلك وجوه، منها:

الوجه الأول: إن جعل الحجية ليس بمعنى إنشاء حكم ظاهري طبقاً لمؤدّى الأمارة، وإنما المعنى هو ترتيب آثار الحجة الذاتية - أي التنجيز لدى الإصابة والتعذير لدى الخطأ - ، فلا حكم ظاهري حتى يلزم منه اجتماع مثلين أو ضدين أو طلب ضدين، كما لا اجتماع للمصلحة والمفسدة، ولا للإرادة والكراهة؛ لعدم وجود مصلحة أو مفسدة أو إرادة أو كراهة في المؤدّى.

وأشكل عليه: أولاً: بأنه قد يدفع المحذور في مرحلة الحكم، إلاّ أن الإشكال باقٍ بحاله في مرحلة الإرادة، فإن المولى يريد العمل بمؤدّى

ص: 214

الأمارة، وذلك يستلزم اجتماع إرادتين على مراد واحد حين الإصابة، والتنافي بينهما حين الخطأ.

وثانياً: وبأن جعل الحجية غير ممكن؛ إذ هو إما تخصيص لحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان أو تحصيل الحاصل، وكلاهما محال.

بيانه: أن العقل يستقل بالمنجزية حين وصول الحكم، وبالمعذرية عند عدم وصوله، وهذا حكم عقلي قهري، لا يناله يد التشريع، فإن جُعلت الحجية من دون وصول، فذلك إثبات للعقاب من غير بيان فيكون تخصيصاً لحكم العقل، وإن وصل الحكم فيترتب لازمه عليه قهراً فيكون الجعل الشرعي تحصيلاً للحاصل.

وعليه فعمل التشريع لا بد أن يكون في الموضوع - بأن يجعل شيئاً طريقاً ويعتبره علماً تعبدياً - لا أن يجعل الحجية، وهذا منسوب إلى المحقق النائيني(1).

إن قلت(2): إن جعل العقاب من قبل الشارع على الواقع عند قيام الأمارة هو بيان ورافع لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان، لا مخصصاً لها، ففي تصحيح استحقاق العقوبة ورفع موضوع القاعدة لا فرق بين جعل الطريقيّة اعتباراً وتصحيح العقاب من غير تغيّر الواقع عما هو عليه، وبين جعل العقاب رأساً، والحاصل: أن نفس جعل المنجزية بيان للواقع المجهول وبذلك يرتفع موضوع القاعدة ويصح العقاب.

ص: 215


1- أجود التقريرات 3: 131.
2- منتقى الأصول 4: 148-149.

قلت(1): إن أريد جعل المنجزية والمعذرية بالذات فهو محال؛ لأنهما انتزاعيان، ووجود الأمر الانتزاعي متوقف على وجود منشئه، وإن أريد جعلها بالعرض - أي بتبع جعل منشأ الانتزاع - فلا يمكن جعلهما مرّة أخرى، كما في زوجية الأربعة.

أقول: هذا إنما يصح في الأمور التكوينية، وأما الأمور الاعتبارية فحيث إن قوامها الفرض لغرض عقلائي، فيمكن فرض المحال، فلا محذور في فرض الزوجية من غير وجود الأربعة مثلاً، وترتيب آثار الزوجية، وعلى كل حال فإشكال المنتقى في محلّه حسب الظاهر.

الوجه الثاني: إنه لا اجتماع للمثلين والضدين أصلاً حتى لو قلنا بوجود أحكام ظاهرية...

1- لا في مرحلة مبادئ الحكم - من المصلحة والمفسدة - ؛ وذلك لأن مبادئ الحكم الواقعي هي بنفسها مبادي الحكم الظاهري، أي الحفاظ على مصلحة الواقع أو عدم الوقوع في مفسدة الواقع اقتضت إنشاء أحكام ظاهرية للوصول إلى الأحكام الواقعية؛ إذ لولا التعبد بالظن لفاتت أكثر تلك لعدم تيسّر القطع عادة، ولو كان للحكم الظاهري مصلحة أخرى فإنما هي مصلحة في نفس إنشائه لا في متعلقه فلا تنافي المصلحة أو المفسدة في متعلق الحكم الواقعي.

2- ولا في مرحلة الإرادة والكراهة؛ إذ لا إرادة ولا كراهة في متعلق الحكم الظاهري؛ إذ هو حكم طريقي مقدّمي ناش عن مصلحة في نفس

ص: 216


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 5: 345.

الحكم نظير الأوامر الامتحانية.

3- ولا في مرحلة نفس الحكم؛ إذ الحكم الواقعي حكم حقيقي، والحكم الظاهري حكم طريقي مقدمي فلا منافاة بينهما.

وأورد عليه: أولاً: قد لا يتحد مبادئ الحكمين، بل قد يكون لكل واحد منهما مصلحة خاصة به، كمصلحة الطهارة الواقعية التي هي الاجتناب عن القذارة مثلاً، ومصلحة الطهارة الظاهرية التي هي التسهيل.

وفيه: أن الكلام في عدم تعدد مصلحة الواقع أو مفسدته، وليس الكلام في ما لو كان للحكم الظاهري مصلحة في إنشائه، فالتسهيل ليست مصلحة للواقع، بل لإنشاء الحكم، فتأمل.

وثانياً: إن هذا وإن دفع الإشكال في اجتماع المثلين أو الضدين، لكنه قاصر عن دفع إشكال طلب الضدين، مثلاً لو كان الغرض الواقعي الكون في الحج وطريقه إلى الجنوب، لكن قامت الأمارة على أن طريقه إلى الشمال فحسب الحكم الواقعي يريد المولى السير جنوباً، وحسب الحكم الظاهري يريد السير شمالاً.

وثالثاً: بأن المولى يريد الحكم الظاهري؛ إذ لولا إرادته لما وجب الامتثال، وهو واضح الإشكال، ويمكن القول باتحاد الإرادة مع موافقة الحكم الظاهري للواقع، لكن لا يمكن ذلك مع مخالفته للواقع، فتأمل.

الوجه الثالث: إن الحكم الواقعي فعلي تعليقي، والحكم الظاهري فعلي تنجيزي، ولا منافاة بينهما، بمعنى أن الحكم الواقعي غير منجز لو لم يقطع به ولم تقم الأمارة عليه، ومصلحته أو مفسدته غير ملزمتين حينئذٍ، وأما

ص: 217

الحكم الظاهري - والذي هو مطابق للأمارة الظنية - فهو فعلي منجز ومصلحته ومفسدته ملزمتان، فلا اجتماع للحكمين، لا في مرحلة الملاك ولا في مرحلة الإرادة أو الكراهة، ولا في مرحلة الحكم.

وبهذا البيان يندفع إشكال عدم فعلية الحكم الواقعي لو قطعنا به، حيث إن الحكم الإنشائي حتى المقطوع منه لا يستلزم بعثاً ولا زجراً.

وذلك لأن القائل لا يرى الحكم الواقعي مجرد حكم إنشائي، بل يراه حكماً فعلياً تعليقياً، بمعنى أنه غير منجز إلاّ مع القطع به أو قيام الأمارة عليه.

كما يندفع إشكال استلزام وجود الحكم الواقعي من غير مبادئ، حيث

لا مصلحة ولا مفسدة ملزمتين للأحكام الواقعية حينئذٍ!

وذلك لأن المبادي موجودة لكنها تعليقية، أي المصلحة تكون ملزمة إن قام الدليل على الحكم الواقعي، وإلاّ فلا، فتأمل.

وأشكل عليه: أولاً: بما ذكره المحقق الإصفهاني(1): من أن الفعلية التعليقية في الحكم الواقعي قد يراد بها أحد ثلاث، وكلها محلّ إشكال:

1- الفعلية من جهة لا من جميع الجهات.

ففيه: أن الفاقد لبعض جهات الفعلية باقٍ على الشأنية؛ إذ الشيء لا يوجد ما لم ينسدّ جميع أبواب عدمه، وعليه فيبقى الحكم غير فعلي، بمعنى أنه لو كانت علة الشيء مركبة فلا يتحقق المعلول إلاّ بتحقق كل تلك الأجزاء، وفي ما نحن فيه لا يكون الحكم فعلياً إلاّ مع انسداد باب عدم الفعلية من جميع الجهات، ولو انفتح باب من أبواب العدم لم يتحقق المعلول فلا

ص: 218


1- نهاية الدراية 3: 150-151.

تتحقق الفعلية.

2- ولو أريد كون الفعلية ذات مراتب، فالفعلي من مرتبة لا ينافي الفعلية من مرتبة أخرى، بمعنى أن مرتبة فعلية الحكم الواقعي ضعيفة، ومرتبة فعلية الحكم الظاهري قوية.

ففيه: أن الشدة والضعف في الطبيعة لا ترفع تماثل فردين من طبيعة واحدة، ولا تضاد فردين من طبيعتين متقابلتين فمثلاً لا يجتمع في موضوع واحد السواد الضعيف مع السواد القوى أو البياض القوي.

3- ولو أريد كون الحكم فعلياً من جهة الحكم بداعي إظهار الشوق المطلق لا بداعي البعث والتحريك، فهو فعلي من جهة هذه المقدمة، بمعنى أن داعي المولى من إنشاء الحكم الواقعي هو مجرد إظهار الشوق إليه

لا التحريك بالبعث والزجر.

ففيه: أن الشوق إذا بلغ حداً ينبعث منه جعل الداعي كانت إرادة تشريعية، وهي منافية لإرادة أخرى على خلافها أو الإذن في خلافها، وإذا لم يبلغ هذا الحدّ فلا يكون القطع بهذا الشوق موجباً للامتثال فضلاً عن الأمارة الظنية؛ وذلك لأن القطع والأمارة يكشفان عن الواقع ولا يقلبان الشيء عما هو عليه!

ويرد عليه: أن الشق الثاني غير مراد، وأما الثالث فيرجع إلى الأول، وأما الشق الأول فلا محذور فيه؛ إذ لا مانع من كون حكم إنشائياً مع اشتراط فعليته بالعلم به أو قيام الأمارة عليه، فعدم الإذن في الخلاف يحقق الفعلية المستلزمة للبعث والزجر، فليس النزاع في لفظ الفعلية، بل في واقع الحكم - أياً كانت التسمية - ، فمادامه لا يعلم به أو لم تقم الأمارة عليه يكون

ص: 219

إنشائياً، وتتحقق الفعلية بمجرد العلم أو بالأمارة.

وثانياً: بأن ما ذكر يدفع إشكال اجتماع الضدين أو طلب الضدين في ما لو خالفت الأمارة الواقع، ولكنه لا يدفع الإشكال حين تطابق الأمارة مع الواقع حيث تنجز الحكم الواقعي مع وجود حكم ظاهري منجّز فاجتمع حكمان فعليان متماثلان، ولا يجدي القول بأنه لا حكم ظاهري حينئذٍ؛ لأنه خلف الفرض ورجوع إلى الوجه الأول، فتأمل.

الوجه الرابع(1): ما ذكره المحقق الإصفهاني بعدم اجتماع مثلين أو ضدين لا في الإرادة والكراهة ولا في الحكم:

1- أما في الإرادة والكراهة، فلأجل عدم وجودهما حين إنشاء الحكم لا في المبدأ الأعلى ولا في سائر المبادئ العالية، بل في مطلق الموالي إذا كان البعث أو الزجر لصلاح الغير لا لمنفعة المولى؛ وذلك لأن من مقدماتهما الشوق النفساني إلى الفعل أو الترك، وذلك لا يكون إلاّ في ما لو كان النفع أو الضرر عائداً إلى ذات الآمر أو إلى قوة من قواه، ولولا ذلك لكان حصول الشوق معلولاً من غير علة، وهو محال، وحيث إن أفعال المكلفين لا يعود صلاحها وفسادها إلاّ إليهم، فلذا لا معنى لانقداح الإرادة في النفس النبوية والولوية فضلاً عن المبدأ الأعلى، ومن ذلك يتضح أنه لا إرادة ولا كراهة في التكاليف فضلاً عن إرادتين أو كراهتين أو إرادة وكراهة.

2- وأما الحكم المجعول، فلا اجتماع للضدين ولا للمثلين، بل البعث والزجر ينحصر في الحكم الظاهري دون الواقعي، قال المحقق الإصفهاني:

ص: 220


1- نهاية الدراية 3: 122-123.

«إن الإنشاء بداعي جعل الداعي - الذي هو تمام ما بيد المولى - لا يعقل أن يتصف بصفة الدعوة إمكاناً إلاّ بعد وصوله إلى العبد بنحو من أنحاء الوصول، ضرورة أن الأمر الواقعي - و إن بلغ ما بلغ من الشدة والقوة - لا يعقل أن يتصف بصفة الدعوة ويوجب انقداح الداعي في نفس العبد - وإن كان في مقام الانقياد - ما لم يصل إليه»(1)، وعليه فلا بعث ولا زجر بالنسبة إلى الحكم الواقعي؛ لعدم وصوله إلى المكلف... فالأمر في الأحكام الظاهرية من قبيل المقتضي، وفي الواقعية من قبيل اللا اقتضاء.

وأشكل على الأول: أولاً: كبرىً: بأن سبب الشوق لا ينحصر في عود نفع إلى الآمر والناهي، بل قد يشتاق الإنسان إلى إصلاح غيره حتى لو لم يرجع إلى نفسه فائدة. نعم، لا بد من غرض ولكن لا ينحصر ذلك في منفعة النفس.

وثانياً: صغرىً: بعود النفع إلى أولياء الله تعالى بزيادة ثوابهم أخروياً بكثرة من عمل بسننهم، ودنيوياً باعتبار صلاح الأمة المنسوبة إليهم، كما يشتاق الأب لصلاح ابنه.

وأشكل على الثاني: أولاً: بأن المصحّح للحكم والتكليف هو أن لا يكون لغواً، ولا يشترط فيه إمكان الانبعاث، ولا يدل على ذلك لا عقل ولا بناء العقلاء، بل هناك موارد في الشرع ثبت فيها التكليف مع عدم إمكان الانبعاث، كتكليف النائم تمام الوقت بالصلاة - سواء كان مقصراً أم لا - والذي يخرج التكليف عن اللغوية وجود الأثر بالقضاء؛ إذ لولا توجه الأمر إليه وتكليفه لما لزم القضاء سواء قيل إنه بالأمر الأول أم بأمر جديد؛ إذ لا أمر

ص: 221


1- نهاية الدراية 3: 122-123.

حسب الفرض لعدم إمكان انبعاثه، وأما الأمر الثاني فهو فرع الفوت، ولا فوت مع عدم وجود الأمر الأول.

وثانياً: إن إمكان الداعوية لا ينحصر في الوصول، بل يمكن جعل الداعوية في بعض صور الجهل البسيط، كمن يحتمل وجود الأمر من غير علم ولا قيام أمارة، فيأتي بالشيء رجاءً أو احتياطاً، وبعبارة أخرى - كما في المنتقى(1) -: إن داعوية الأمر نحو متعلّقه في صورة العلم ليست تكوينية قهرية كالأسباب التوليدية في مسبباتها نظير النار في الاحراق، وإنما هي بلحاظ ما يترتب على الموافقة والمخالفة من ثواب وعقاب، وهذا الملاك بعينه ثابت في صورة الجهل البسيط مع احتمال الأمر؛ إذ يقطع بترتب الثواب عند الإتيان بالعمل، ويحتمل العقاب - مع قطع النظر عن المعذّر - وهذا يكفي في الدعوة نحو الفعل، فتأمل.

الوجه الخامس: إن الرتبة مختلفة بين الحكمين الواقعي والظاهري ونتيجة ذلك اختلاف الموضوع، وبذلك يرتفع محذور اجتماع المثلين أو الضدين، حيث إن من شروط التضاد اتحاد الموضوع، فرتبة الواقعي هي الشيء بنفسه، ورتبة الظاهري هي الشيء بوصف كونه مشكوكاً في حكمه الواقعي، فاتضح تأخر الظاهري عن الواقعي برتبتين؛ إذ موضوع الظاهري الشك في الحكم الواقعي، والشك متأخر عن الحكم الواقعي.

وأشكل عليه: أولاً(2): بأن الظاهري وإن لم يكن في تمام مراتب

ص: 222


1- منتقى الأصول 4: 158-159.
2- إيضاح كفاية الأصول 3: 305.

الواقعي، إلاّ أن الحكم الواقعي يكون في مرتبة الحكم الظاهري - أي في مرتبة الشك - حيث لم يرفع الشارع يده عن الحكم الواقعي حين الشك.

وأجيب(1): بأنه لا يعقل تجافي المتقدم عن رتبته ليكون في المرتبة المتأخرة - كما هو في المرتبة المتقدمة - بداهة أنه لا يكون التقدم والتأخر إلاّ لملاك يقتضيها، ومع حصول ملاك التقدم في الشيء لا يعقل أن يحصل فيه ملاك التأخر أيضاً؛ إذ هو جمع بين المتنافيين؛ إذ الرتبة هي نحو وجود الشيء فما اتصف بنحو من الوجود كيف يكون موصوفاً بنحو آخر منه؟!

وثانياً: بأن اختلاف الرتبة لا يرفع التنافي، فالنار والبرودة متنافيان مع تقدم رتبة النار على البرودة، حيث إنها في رتبة الحرارة لتضادهما، ورتبة الحرارة متأخرة عن رتبة النار تأخر رتبة المعلول عن رتبة العلة، وإنما الرافع للتنافي عدم الاجتماع في الوجود، وعليه فإنه مع العلم بالواقعي لا وجود للحكم الظاهري، لكن على تقدير الشك فيه يجتمع الحكمان وجوداً وهو اجتماع للمثلين أو الضدين؛ وذلك لإطلاق الحكم الواقعي - بمعنى رفض القيود - فيشمل حالة الشك أيضاً، مع تحقق موضوع الحكم الظاهري حينئذٍ، فتأمل.

الوجه السادس: اختلاف موضوع الحكم الواقعي والظاهري، فيرتفع التضاد أو التماثل؛ لأن من شرطهما وحدة الموضوع، وهو منسوب إلى المحقق الفشاركي(2)، وحاصله: أن الأحكام لا تتعلق بالموضوعات

ص: 223


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 5: 375 و 12: 80-81.
2- درر الفوائد، للحائري: 351؛ نهاية الدراية 3: 157-158.

الخارجية، بل تتعلق بالموجودات الذهنية من حيث إنها حاكية عن الخارج، ولا اجتماع في الذهن للعنوان الذي تعلق به الحكم الواقعي والعنوان الذي تعلق به الحكم الظاهري؛ إذ موضوع الحكم الواقعي هو الفعل بذاته، أي بما هو هو ومجرداً عن لحاظ العلم أو الشك في حكمه، وموضوع الحكم الظاهري الفعل بوصف كونه مشكوك الحكم، وهذان الموضوعان

لا يجتمعان؛ إذ في مرحلة الحكم الواقعي لا يمكن أخذ التقسيمات الثانوية فيه، ومنها الشك في الحكم؛ إذ وصف الشك فيه مما يعرض الموضوع بعد تحقق الحكم، وأما في مرحلة الحكم الظاهري فلا تصور للموضوع بما هو هو؛ إذ لا اجتماع لتصور الموضوع بما هو هو وتصوره بما هو مشكوك الحكم.

وبعبارة أخرى: لم يلاحظ الشك في موضوع الحكم الواقعي، حيث إن الشك من التقسيمات الثانوية التي تأتي من قبل الأمر فلا يمكن أن تؤخذ في موضوعه، كما أنه لم تلاحظ الذات بما هي هي في موضوع الحكم الظاهري، فاختلف الموضوعان.

وأشكل عليه بإشكالات مبنائية وبنائية، وأهمها ما في نهاية الدراية(1)، وحاصله: أن الذات بما هي هي لايمكن أن يراد بها...

1- الماهية المهملة؛ إذ لايلاحظ فيها شيء خارج عن الذات أصلاً كالحكم المتعلق بها، بل يلاحظ الجنس والفصل فقط، وعليه فلا يمكن الحكم عليها بشيء خارج الذات ولو كان لازماً لها، وإلاّ استلزم الخلف

ص: 224


1- نهاية الدراية 3: 161-162.

.

2- ولا الماهية المطلقة بنحو اللابشرط المقسمي؛ إذ لايعقل وجود المقسم من غير تعيّنه في أحد أقسامه.

3- ولا الماهية بشرط شيء، لاستحالة أخذ القطع بالحكم في موضوع ذلك الحكم، كأن يقول: شرب التتن بشرط العلم بحرمته حرام.

4- ولا الماهية بشرط لا، للزوم اللغوية، كأن يقول: شرب التتن بشرط عدم العلم بحرمته حرام.

5- وإنما المراد الماهية بنحو اللا بشرط القسمي، بمعنى أن المولى لاحظ شرب التتن من غير ملاحظة قيد العلم بالحكم ولا بعدمه، فيكون مطلقاً بمعنى رفض القيود.

وعليه فيكون موضوع الحكم الواقعي هو (شرب التتن مطلقاً) أي حتى في حال الجهل، وموضوع الحكم الظاهري هو (شرب التتن بشرط شيء) أي بلحاظ الجهل بالحكم الواقعي، فاجتمع الحكمان المتضادان في حالة الجهل بالحكم الواقعي.

الوجه السابع: عدم وجود محذور اجتماع الضدين أو المثلين لا في المبدأ ولا في الحكم ولا في المنتهى.

1- أما المبدأ - أعني المصلحة والمفسدة - فلأن مصلحة أو مفسدة الحكم الواقعي في المتعلّق، ومصلحة الحكم الظاهري في الجعل بنفسه، فقد لا تكون مصلحة في المتعلّق لكن يكفي في صحة الجعل وجود المصلحة في الجعل، نظير الأوامر الاحتياطية، أو الامتحانية.

إن قلت: يستحيل كون المصلحة في نفس الجعل مع عدم وجود مصلحة في المتعلّق؛ لأن الجعل فعل للمولى، وبتحققه يتحقق الغرض؛ لأن

ص: 225

كل الغرض إنما هو في الجعل وقد تحقق ذلك الجعل فيسقط التكليف، فلا امتثال لهذا الحكم أصلاً.

قلت: المراد أن لنفس الجعل مصلحة كمصلحة التسهيل - مثلاً - في الحكم الظاهري الترخيصي، وكمصلحة الحفاظ على الواقع في أمثال الأوامر الاحتياطية، فلا يتحقق الغرض حينئذٍ بنفس الجعل، وإنما بامتثال المجعول، وليس المراد أن الجعل بنفسه مصحلة، فتأمل.

2- وأما الحكم؛ فلأنّ الأحكام أمور اعتبارية، ولا تنافي بين الاعتباريات بما هي هي، فلا تنافي بين قول (افعل) و(لا تفعل)؛ وذلك لأن التضاد صفة الموجودات الحقيقية، وأما الاعتباريات فلا تضاد بينها حقيقة.

3- وأما المنتهى، فللطولية بين الحكم الواقعي والظاهري، فمع وصول الحكم الواقعي لا موضوع للحكم الظاهري؛ إذ لا شك حينئذٍ، ومع عدم وصول الحكم الواقعي لا تنجز له؛ إذ شرط التنجز الوصول، وحينئذٍ يتنجز الحكم الظاهري، وعليه فوصول كلا الحكمين معاً محال.

إن قلت: الوصول أعم من التفصيلي والإجمالي والمكلّف يعلم إجمالاً بوجود تكليف للواقعة واقعاً وإن كان يجهله؟

قلت: إن العلم الإجمالي بوجود حكم ما، ليس وصولاً، وخاصة مع تضمن المحتملات للمتباينين كالوجوب والحرمة، فتأمل.

ويرد عليه: أن المبدأ لا ينحصر في المصلحة والمفسدة، بل يشمل الإرادة والكراهة، وتعلق إرادتين بالحكم الواقعي والظاهري مع تضادهما محال لاجتماع الضدين في ما اخطأت الأمارة الواقع، ومع توافقهما كذلك لاجتماع المثلين في ما أصابت الأمارة الواقع.

ص: 226

وأما ما ذكر في الحكم والمنتهى فسديد، لكن مرجعه إلى بعض الأجوبة السابقة.

الوجه الثامن: عدم اجتماع حكمين شرعيين؛ وذلك لكون الأحكام الظاهرية إرشادية(1).

وحاصله: أن الاجتماع إنّما يكون لو كان الحكمان مولويان، وليس كذلك ما نحن فيه؛ إذ الأحكام الظاهرية إنّما هي بحكم العقل إرشاداً إلى ما هو أقرب إلى الواقع.

وذلك لأنه قد لا يتمكن المكلف من القطع تكويناً، وحينئذٍ يستقل العقل بلزوم العمل بالظن، ولو عمل بالظن وخالف الواقع لم يلزم منه اجتماع حكمين متضادين، حيث لا حكم شرعي إلاّ الحكم الواقعي ومنشؤه الملاكات الواقعية، وأما الحكم الظاهري فهو حكم عقلي منشؤه ظن المكلف بعد عدم تمكنه من القطع.

وقد يتمكن المكلف من تحصيل القطع تكويناً، لكن مع مفسدة كثيرة، فيجب عقلاً على الشارع الحكيم دفع تلك المفسدة، عن طريق عدم إيجاب تحصيل القطع، بل الاكتفاء بالظن، وحيث إن الظنون مختلفة من حيث أقربيتها إلى الواقع، كخبر الثقة بالنسبة إلى القياس، فلا إشكال في إرشاد المكلف إلى الأقرب، وعليه لا اجتماع للحكمين.

وبعبارة أخرى: الشارع لا يحكم باتباع خبر الثقة مثلاً بنحو مولوي، بل يخبر المكلّف ويرشده إلى أن خبر الثقة أقرب إلى الواقع.

ص: 227


1- درر الفوائد، للحائري: 354.

وهذا الأمر الإرشادي لا يرخّص العقل في مخالفته، أي لو طابق الواقع وخالفه المكلف لم يكن معذوراً.

وأشكل عليه(1): إن الإرادة ومباديها التي ينشأ منها الأوامر المولوية والأوامر الإرشادية هي بكيفية واحدة، حيث إن الإرادة عبارة عن الشوق الأكيد المستتبع لتحريك العضلات نحو المقصود في الإرادة التكوينية، أو تحريك الغير نحوه في الإرادة التشريعية، وحينئذٍ فإما أن يقال: بعدم انقداح الإرادة بالنسبة إلى متعلق الأوامر الإرشادية، أو يقال: بالانقداح، والأول خلاف الوجدان، والثاني يلزم منه اجتماع إرادتين متضادتين حين خطأ الأمارة كما لو كان الحكم الواقعي السير نحو المشرق والظاهري السير نحو المغرب، ومتماثلتين حين الإصابة.

نعم، لوقلنا بعدم وجود إرادة فعلية حتمية بالنسبة إلى الحكم الواقعي لتمّ دفع المحذور، لكنه رجوع إلى بعض الأجوبة السابقة.

الوجه التاسع: ما نسب إلى المحقق العراقي(2)، وحاصله: أن تنافي الأحكام التكليفية إنما هو من جهة تنافي الإرادة والكراهة والحب والبغض، وتنافي هذه إنما هو لتنافي مبادئها، بمعنى ترجح الوجود على العدم أو العكس أو التساوي، فإن الشيء الواحد بالبديهة لا يقبل أن يكون وجوده أرجح من عدمه، وعدمه أرجح في وجوده.

وهذا إنما يكون في ما لو لم يكن للشيء جهات متعددة، وأما مع

ص: 228


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 5: 396-397.
2- حقائق الأصول 2: 77؛ موسوعة الفقيه الشيرازي 5: 423.

تعددها، فيمكن ترجح الوجود على العدم بلحاظ جهة، والعكس بلحاظ جهة أخرى، ولا تنافي بين الترجيحين لاختلاف الجهة.

وإذا كان للوجود الواحد مقدمات، تعددت جهاته بتعدد تلك المقدمات، وكذلك في المركب باعتبار أجزائه.

ثم إن الإرادة التشريعية هي نحو من أنحاء الإرادة التكوينية، لكنها متعلقة بالوجود من حيث جعل الحكم، فالواجبات المولوية الصادرة عن العبد في مقام الطاعة لها مقدمات وهي: جعل الحكم، وعلم العبد، وإرادة العبد بتوسط الداعي العقلي.

وعليه فكما يمكن تعلّق الإرادة التكوينية بشيء من جهة دون أخرى كبناء البيت من جهة جدرانه دون سقفه مثلاً، كذلك قد تتعلق الإرادة التشريعية بوجود المراد من جهة إنشاء الحكم دون إعلام العبد، بل قد تتعلق الإرادة بالإعلام المضاد، وبذلك يرتفع التضاد.

وبعبارة أخرى: قد تتعلق إرادة المولى بوجود فعل ذي مصلحة من جميع الجهات الثلاث المذكورة، فتحدث إرادة غيرية للمولى بهذه الأمور، فتبعث على جعل الحكم وإعلامه للعبد وتهديده وتخويفه لكي تحصل له إرادة الفعل.

وقد تتعلق الإرادة بالوجود بلحاظ بعض هذه الجهات، فإن تعلّقت بالوجود من جهة جعل الحكم وتشريعه سُميت إرادة تشريعية واقتضت مجرد تشريع الحكم، وإن تعلقت أيضاً بالوجود بلحاظ الإعلام اقتضت حينئذٍ إعلامه.

وعليه فكل إرادة للوجود من جهة إنما تنافي كراهتها من تلك الجهة ولا

ص: 229

تنافيها من جهة أخرى، إذن فالترخيص في ظرف الشك لا ينافي الإرادة الواقعية؛ لأنها تعلّقت بالوجود من جهة جعل الحكم لا غير، وإنما كان الترخيص بلحاظ وجود الحجة على الحكم - أي جهة الإعلام - وهذه الجهة لم تكن موضوعاً للإرادة حسب الفرض.

وأشكل عليه: بأن متعلق إرادة الحكم الواقعي إن كان هو الجري العملي مطلقاً - سواء علم أم لا - فيتحقق التضاد في المبدأ والمنتهى.

وإن كان المتعلق هو الجري العملي في حالة العلم فقط، فإن ذلك يرجع إلى تعليق الإرادة المتعلّقة بالحكم الواقعي، فيرجع إلى الجواب الثالث ولا يغايره، فتأمل.

الوجه العاشر: ما ذكره المحقق النائيني(1)، وحاصله: إن الموارد التي توهم وقوع التضاد بين الأحكام الظاهرية والواقعية على أنحاء ثلاثة: موارد قيام الطرق والأمارات، وموارد الأصول المحرزة، وموارد الأصول غير المحرزة، فهنا مباحث ثلاثة.

الأول: موارد الأمارات والطرق، فالمجعول فيها هو حكم وضعي لا تكليفي حتى يتضادان، وذلك الحكم الوضعي هو الطريقية والوسطية في الإثبات، فإنها مما تنالها يد الجعل؛ إذ جميع الأحكام الوضعية قابلة للجعل ابتداءً - سوى الجزئية والشرطية والمانعية والسببيّة - من غير ضرورة لجعلها كلّها انتزاعيات عن الأحكام التكليفية، ولا يخفى أنه يكفي في دفع إشكال الاستحالة إمكان هذا الجعل، فإنه إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال العقلي.

ص: 230


1- فوائد الأصول 3: 105-112.

بل ذلك واقع خارجاً؛ إذ ليس في ما بأيدينا من الطرق والأمارات ما لا يعتمد عليه العقلاء، والعقلاء إنما يعتمدون عليها لكونها طريقاً إلى الواقع، وليس عند العقلاء جعل وتعبد وتشريع، أي لايجعلون أحكاماً تكليفية في موارد طرقهم وأماراتهم، بل شأنهم هو جعل الطريقية بتتميم الكشف وإلغاء احتمال الخلاف بالمرّة واعتبارها كالعلم، والشارع قد أمضى ذلك.

ونتيجة ذلك أنه ليس في باب الطرق والأمارات حكم تكليفي حتى ينافي الحكم الواقعي، بل ليس حال الأمارة المخالفة للواقع إلاّ كحال العلم المخالف للواقع، فلا يكون في البين إلاّ الحكم الواقعي فقط مطلقاً أصاب الطريق الواقع أو أخطأ.

وأشكل عليه: أولاً: مبنىً بأنه لا دليل على جعل الطريقية، بل ظاهر الأدلة هو أن المجعول وجوب الجري العملي كقوله: {فَسَْٔلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ}(1) وحتى آية النبأ التي أشارت إلى الكاشفية، فلعلّ ذلك جهة تعليلية أي سبب الجعل الكاشفية لا أن المجعول هي، ويكفي احتمال ذلك في إبطال الاستدلال.

وثانياً: بأن صيرورة الحكم الظاهري حكماً وضعياً لا يرفع الإشكال في المبدأ، فإن جعل الطريقية يستلزم إرادة الجري العملي بمقتضى الطريق وذلك لا يجتمع مع إرادة الجري العملي بمقتضى الحكم الواقعي المخالف، كما لا يرفع الإشكال في المنتهى، حيث لا يتمكن المكلف من الجري العملي طبقاً للمتضادين.

ص: 231


1- سورة النحل، الآية: 43.

إن قلت: فكيف قبلتم الطريقية في القطع؟

قلت: ليس في القطع جعلٌ شرعي ولا إرادة من الشارع كي يتضاد مع إرادة الواقع في صورة خطأ القطع، وأما الجري العملي حسب القطع المضاد للواقع فهو بسبب خطأ المكلف في قطعه ولا يرتبط بالشارع، فلم يتحقق التضاد بأي وجه من الوجوه.

الثاني: موارد الأصول المحرزة، فالمجعول فيها هو البناء العملي على أحد طرفي الشك على أنه هو الواقع وإلغاء الطرف الآخر وجعله كالعدم، فالمجعول ليس أمراً مغايراً للواقع، وحينئذٍ فإن كان المؤدّى هو الواقع فهو، وإلاّ كان الجري العملي واقعاً في غير محله، من دون أن يكون قد تعلّق بالمؤدّى حكم على خلاف ما هو عليه.

وذلك لأن للقطع جهات ثلاث: جهة الصفة النفسانية، وجهة الإحراز والكشف عن الواقع، وجهة الجري العملي، والأمارات نازلة منزلته من الجهة الثانية، والأصول المحرزة من الجهة الثالثة.

وأشكل عليه(1): بأنه لا يمكن أن يراد الجري العملي التكويني؛ إذ هو فعل المكلّف ولا معنى كجعله؛ إذ التشريع لا ينال إلاّ الأمور الاعتبارية.

فإن أريد من الجري العملي هو إيجابه، فهو كرّ على ما فرّ منه؛ إذ الإيجاب حكم تكليفي، فيتضاد مع الحكم الواقعي.

وإن أريد منه إمضاء الشارع لبناء العقلاء، فيرد عليه: إنه لا يعقل اجتماع إرادة إمضائية مع أخرى تأسيسية تضادها، فتأمّل.

ص: 232


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 5: 407-408.

الثالث: موارد الأصول غير المحرزة، فالأمر فيها أشكل؛ لأن المجعول ليس هو الجري العملي على بقاء الواقع، بل مع حفظ الشك يحكم على أحد طرفيه بالوضع أو الرفع، فالحرمة المجعولة في أصالة الاحتياط، والحلية المجعولة في أصالة الحل، تناقض الحلية والحرمة الواقعية على تقدير مخالفة الأصل للواقع؛ بداهة أن المنع عن الاقتحام في الشيء كما هو مفاد أصالة الاحتياط، أو الرخصة فيه كما هو مفاد أصالة الحل ينافي الجواز في الأول والمنع في الثاني.

ولا يمكن دفع الإشكال باختلاف الرتبة، بأن يقال: إن رتبة الحكم الظاهري هي رتبة الشك في الحكم الواقعي، والشك في الحكم الواقعي متأخر في الرتبة عن نفس وجوده.

وذلك لأن الحكم الظاهري وإن لم يكن في رتبة الواقعي، إلاّ أن الواقعي يكون في رتبة الظاهري لانحفاظ الحكم الواقعي في مرتبة الشك - ولو بنتيجة الإطلاق - فيجتمع الحكمان المتضادان في رتبة الشك.

وإنما يرتفع التضاد لو تفرع جعل أحد الحكمين على جعل الآخر بأن كان علته أو من أجزاء علته، حيث لا يعقل تضاد المعلول مع العلّة أو أجزائها.

وفي ما نحن فيه الشك موجب لحيرة المكلف في التكليف الواقعي، وحينئذٍ...

1- فإن كان ملاك الحكم الواقعي مهماً بحيث يريد المولى حفظه حتى في حالة الشك فلا بد من تتميم الجعل بأن ينشئ المولى تكليفاً آخر يضمه إلى التكليف الأول ليحفظ الملاك في كل الحالات، والمتمم هنا هو

ص: 233

إيجاب الاحتياط، وحينئذٍ فلا تضاد؛ إذ إيجاب الاحتياط إما يتوافق مع الحكم الواقعي فيتحد الحكم الواقعي معه ولا اثنينية، وإما يتخالف معه فالأمر بالاحتياط يكون صورياً نظير بعض الأوامر الامتحانية، وبعبارة أخرى: إن إيجاب الاحتياط موجب لتنجز الواقع عند الإصابة وصحة العقوبة لو خالف، حيث إن الحكم الواقعي واصل بطريقه - الذي هو إيجاب الاحتياط - ، ولدى عدم الإصابة فلا حكم أصلاً إلا أمر صوري بالاحتياط.

2- وأما لو لم يكن الملاك بتلك الأهمية، بل كان بمقدار جعل الحكم دون جعل متممه في ظرف الشك كما في موارد جريان أصالة البراءة، فلا تضاد أيضاً؛ وذلك لأن رفع التكليف ليس عن موطنه، بل رفع التكليف عما يستتبعه من التبعات وإيجاب الاحتياط، فالرخصة المستفادة من قوله (صلی الله علیه و آله): «رفع ما لا يعلمون»(1) نظير الرخصة المستفادة من حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان، لا تنافي الحكم الواقعي ولا تضاده؛ لأن هذه الرخصة إنما هي في طول الحكم الواقعي ومتأخر رتبتها عنه؛ لأن الموضوع فيها هو الشك في الحكم من حيث كونه موجباً للحيرة في الواقع وغير موصل إليه ولا منجز له، فقد لوحظ في الرخصة وجود الحكم الواقعي، ومعه كيف يعقل أن تضادّ الحكم الواقعي.

وبوجه آخر يمكن أن يقال: إن الرخصة والحلية تكون في عرض المنع والحرمة المستفادة من إيجاب الاحتياط، وإيجاب الاحتياط هو في طول الواقع ومتفرع عليه، فما يكون في عرضه يكون في طول الواقع أيضاً.

ص: 234


1- راجع الخصال 2: 417.

ويرد عليه: أولاً: ما مرّ أن اختلاف الرتبة لا يرفع التضاد إلاّ لو اختلفا في الوجود.

وثانياً: إن إطلاق أدلة الاحتياط يمنع من تقييدها بصورة المصادفة، وأما مثل قوله (علیه السلام): «فإن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكات»(1)، فلا دلالة لها على أن علّة الأمر بالاحتياط هو المنع عن مخالفة الواقع؛ وذلك لاحتمال كونها علة للجعل لا للمجعول، وبعبارة أخرى: كونها حكمة، فلا يدور الحكم مدارها، وعليه فتكون أمثال هذه الروايات مجملة من هذه الجهة، فلا تصلح لتقييد إطلاقات أدلة الاحتياط.

وثالثاً: ما قيل: من أن عدم وجوب الاحتياط عند مخالفته للواقع وحصر وجوبه واقعاً عند مطابقته له، يستلزم منه عدم وجوب الاحتياط عند الشك؛ لأنه من الشك في التكليف الذي هو مجرى البرائة.

وفيه(2): إن المصلحة إن كانت مهمة بنحو لا يجوز منّة المولى حتى في ظرف الجهل بها، فقهراً الإرادة المتعلّقة به وأمره يكون تبعاً لهذا الاهتمام، ومثل هذه الإرادة والأمر نفس احتماله منجز عقلاً، وخارج عن موضوع قبح العقاب بلا بيان، وطريق معرفة الأهمية هو نفس الأمر بالاحتياط؛ إذ هو أمر طريقي كاشف عن الاهتمام.

ورابعاً: ما في المنتقى(3): من أن تفرّع وجوب الاحتياط على الواقع إنّما

ص: 235


1- الكافي 1: 68؛ وسائل الشيعة 27: 157.
2- فوائد الأصول 3: 116 (الهامش).
3- منتقى الأصول 4: 164.

يتمّ لو كان الحكم الواقعي هو الوجوب - كما لو كان الشبح إنساناً محقون الدم - أما لو كان الحكم الواقعي هو الإباحة - كما لو كان الشبح حيواناً جائز الصيد - فلا معنى لتفرع الاحتياط عليه، بأن يكون الاحتياط بملاك المحافظة على ملاك هذا الحكم الواقعي الذي هو الإباحة، فإن وجوب الاحتياط إنّما يتفرّع على الوجوب الواقعي، لا الإباحة الواقعيّة.

وفيه(1): إنّ هذا الإشكال إنما يتم لو لوحظت كل واقعة بمفردها، أما لو لوحظت بمجموعها فلا؛ لأن موارد المصادفة للواقع فيها تكون سبباً للحكم بالاحتياط العام في كل الموارد، فوجوب الاحتياط لم يتفرع على الإباحة الموجودة في خصوص المورد، وإنّما على الوجوب الموجود في بعض الموارد.

الوجه الحادي عشر: إنكار مبادئ الحكم الظاهري فلا ملاك ولا إرادة تزاحم أو تعارض ملاك الحكم الواقعي وإرادة المولى إياه، كما لا تزاحم في مرحلة الامتثال(2).

1- أما في مرحلة المبدأ: فلأنه لو اشتبه الغرض - سواء التكويني أم التشريعي - فإن كان بدرجة بالغة الأهمية بحيث لا يرضى صاحبه بفواته، فحينئذٍ تتوسع دائرة محركية ذلك الغرض، لا أنه يتحقق غرض أو إرادة أخرى ليزاحمان غرض الحكم الواقعي وإرادته.

مثال الغرض التكويني: ما لو تعلق غرض تكويني بإكرام زيد، ثم اشتبه

ص: 236


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 5: 417.
2- بحوث في علم الأصول 4: 201-205.

بين نفرين، فلا غرض في إكرام غير زيد، ولكن محركية الغرض في إكرام زيد تتوسع بحيث يتحرك نحو كلا الفردين، وكذلك لا إرادة نفسية إلاّ بإكرام زيد، مع توسّع محركيتها للفردين، كما أن إكرام غير زيد ليس مقدمة لوجود المراد - أعني إكرام زيد - فلا إرادة غيرية تتعلق به، ومرجع ذلك إلى أن نفس احتمال الانطباق منشأ لمحركية الإرادة المتعلقة بالمطلوب الواقعي.

مثال الغرض التشريعي: ما لو أمره المولى بشيء فاشتبه عليه، فيجب عليه الاحتياط بالإتيان بالأفراد المحتملة - مثلاً - فالغرض والإرادة إنما هما في المطلوب الواقعي من دون توسعة فيهما، لكن حين الاشتباه تتوسع دائرة المحركية، بحيث تكون الخطابات التشريعية حافظة للغرض، وبهذا يكون حفظ الغرض منجزاً على العبد عقلاً ورافعاً لموضوع البراءة والتأمين العقلي!!

2- وأما في مرحلة المنتهى: فلأنّ التزاحم هنا ليس تزاحماً ملاكياً، وهو لا يكون إلاّ مع وحدة الموضوع، حيث يقتضي أحد الملاكين المحبوبية والآخر المبغوضية، فيتزاحمان ويقدّم الأقوى منهما فيصدر الحكم طبقاً له، وما نحن فيه الموضوع متعدد فلا تزاحم ملاكي.

3- كما أنه ليس تزاحماً امتثالياً: وهو لا يكون إلا في موضوعين مع عدم قدرة العبد على الجمع بينهما في مقام الامتثال، والقدرة تكون دخيلة في التحرك والأمر ولا يشترط وجودها في المحبوب أو المبغوض، وما نحن فيه المكلّف قادر على كليهما فلا تزاحم امتثالي.

وإنما التزاحم حفظي؛ وذلك لتعدد الموضوع مع إمكان الجمع بينهما،

ص: 237

وإنما حصل تزاحم في مقام الحفظ التشريعي من قبل المولى عند اشتباه واختلاط موارد أغراضه - الإلزامية والترخيصية، أو الوجوبية والتحريميّة - ، فإن الغرض المولوي يقتضي الحفظ المولوي له في موارد التردد والاشتباه، وذلك بتوسيع دائرة المحركية بنحو يحفظ فيه تحقق ذلك الغرض، فإذا فرض وجود غرض آخر في تلك الموارد فلا محالة يقع التزاحم بين الغرضين والمطلوبين الواقعيين في مقام الحفظ - حيث لا يمكن توسعة دائرة المحركية بلحاظهما معاً، فلا محالة يختار المولى أهمهما في هذا المقام، وعليه فهذا التزاحم ليس بلحاظ تأثير الغرضين في إيجاد الحب والبغض؛ إذ هما متعلقان بموضوعين واقعيين متعددين، ولا بلحاظ تأثيرهما في الإلزام الواقعي بهما بقطع النظر عن حالة الاشتباه والتردد؛ لأنهما بوجودهما الواقعي يمكن الجمع بينهما، بل بلحاظ تأثيرهما في توسيع دائرة المحركية من قبل المولى وحفظه التشريعي لكل منهما بالنحو المناسب له.

ولتطبيق ذلك نقول: تارة الحكم الواقعي ترخيصي والحكم الظاهري إلزامي، كما لو أوجب المولى الاحتياط في الشبهات، فلا اجتماع للضدين أو المثلين؛ إذ لا توسعة في الغرض والإرادة في الحكم الواقعي، وإنما خطابات الاحتياط لا توسع إلاّ المحركية لذلك الغرض، كما أن تقديم الغرض الإلزامي إنما هو لأهمية، وذلك لا يعني زوال الأغراض الواقعية الترخيصية، بل يزول حفظها التشريعي.

وتارة الحكم الواقعي إلزامي والحكم الظاهري ترخيصي، فلا تضاد أيضاً لنفس ما ذكر لكن لا بد من أن تكون الأحكام الترخيصية عن مقتض ٍ للترخيص، ولا يكفي مجرد عدم المقتضي للإلزام؛ لأن الترخيص الناشء

ص: 238

عن عدم المقتضي للإلزام لا يمكنه أن يزاحم مقتضى الإلزام، فدليل جعل الحكم الظاهري الترخيصي بنفسه يدل على وجود أغراض ترخيصية اقتضائية.

وتارة يكون الحكم الواقعي إلزامياً، والحكم الظاهري إلزامياً مضاداً له، فكذلك طابق النعل بالنعل.

ويرد عليه: أولاً: بأن هذا الجواب إنما يجري لو تعدد الموضوع، بحيث أمكن أن يكون لكل واحد غرض وإرادة مستقلة مع رفع التزاحم بما ذكر، ولا يجري في ما لو كان موضوع الحكم الظاهري نفس موضوع الحكم الواقعي، كما لو فرض حرمة التتن واقعاً مع جريان دليل أصالة البراءة، فلا غرضين ولا إرادتين.

وثانياً: إنه مع تعدد الموضوع وحين الاشتباه، تتعلق الإرادة بالعلم بالإتيان بالمأمور به الواقعي بما يستلزم التكرار مثلاً؛ وذلك لأهمية المؤمّن العقلي، وكما تترشح المحبوبية والإرادة من ذي المقدمة إلى مقدمات الوجود كذلك تترشح إلى المقدمة العلمية، وكما لا يعقل اجتماع إرادتين نفسيتين في موضوع واحد كذلك لا يعقل اجتماع إرادة نفسية وأخرى غيرية، فتأمل.

ص: 239

فصل أصالة عدم حجية الظن

اشارة

بعد إثبات إمكان التعبد بالظن، فهل الأصل هو حجيته أو عدم حجيته ليكون المرجع حين الشك.

وفي أصالة عدم حجيته وجوه، منها:

الوجه الأول: إن غير القطع بحاجة إلى جعل الحجية له ليترتب عليه آثارها، فمع الشك في الجعل لا يرتب العقل تلك الآثار جزماً، ولذا قالوا: الشك في الحجية موضوع عدم الحجية.

وبعبارة أخرى: إن العلم بالحجية جزء الموضوع لها، وبانتفاء الموضوع أو جزء الموضوع ينتفي الحكم جزماً؛ وذلك لأن الآثار لا يرتبها العقل على الحجة الواقعية فلذا لا يحتج المولى على العبد لو كان جاهلاً جهلاً قصورياً بالحجة، وإنما يرتب العقل الآثار على الحجة المعلومة.

وأما آثار الحجة فهي التنجيز بمعنى صحة العقوبة على المخالفة، والتعذير بمعنى كون العبد معذوراً لو أخطأت الأمارة ونحوها الواقع، والتجري على مخالفتها لو كانت مخالفة للواقع، والانقياد في موافقتها لو خالفت كذلك، وأضاف الشيخ الأعظم(1) صحة الالتزام قلباً، وصحة النسبة

ص: 240


1- فرائد الأصول 1: 131.

إلى الشارع، وكل هذه الآثار لا يرتبها العقل حين الشك في الحجية، وحيث لم يترتب اللازم - وهي هذه الآثار - عرفنا عدم وجود الملزوم - أعني الحجية - ، وسيأتي الكلام عن الأخيرين.

إن قلت: كيف يكون الشك في الحجية موضوعاً لعدم الحجية!! أليس هذا من جعل أحد الضدين موضوعاً للضد الآخر وهو محال؛ إذ يلزم من وجود الموضوع عدمه، ومن عدمه انتفاء الحكم؟

قلت: كلا، فالمتعلّق مختلف، أي الشك في الحجية الواقعية هو موضوع القطع بعدم الحجة الإثباتية فلا محذور.

وأشكل عليه(1): بأنه إذا لم يكن للحجية في حال الشك فيها أيّ أثر وكانت الآثار منوطة بالعلم بها، فأي وجه في جعل الحجة واقعاً، مع أن الحكم الوضعي إنّما يجعل بلحاظ ما يترتب عليه من الآثار، وعليه فالشك في الحجية ملازم للقطع بعدمها ثبوتاً وإثباتاً.

وفيه: أولاً: أن الأثر هو صيرورته فعلياً لو علم بها، سواء قلنا إنّها مع عدم العلم بها تكون فعلية تعليقية أم إنها إنشائية وتصير فعليه بالعلم بها، كما مرّ نظيره في الأحكام التكليفية، فلا فرق في هذه الجهة بينها وبين الأحكام الوضعية.

وصيرورتها فعلية سواء بالنسبة إلى نفس المكلف لاحقاً فيجب عليه القضاء أو الإعادة، أو بالنسبة إلى غيره، كما لو علم بجنابة زيد واقعاً فلا يصلي خلفه، أو غير ذلك.

ص: 241


1- منتقى الأصول 4: 198.

وثانياً: ترتب أثر هو الاحتياط أحياناً، في ما لو التفت المكلف إلى جهله بالحكم الواقعي مع كون الحكم الظاهري لا اقتضائياً.

وثالثاً: ما قيل: من أن الحجة الواقعية قد تكون في معرض الوصول إليها بالفحص أو بغيره، فتكون منجزة بوجودها الواقعي، ولا يكون العبد معذوراً لو ترك الفحص وكانت متطابقة مع الواقع، فحينئذٍ لا يكون الشك في الحجية موضوع عدم الحجية.

وفيه: إن هذا قيد مستدرك؛ لأن المراد مع تحقق شروط عدم الحجية، والتي منها الفحص، وقد ذكروا هذا الشرط في البراءة في الشبهات الحكمية، فلم يكن داع ٍ لذكره هنا.

الوجه الثاني: ما دلّ على عدم جواز نسبة حكم إلى الشارع من غير علم وعدم صحة الالتزام مع الشك؛ وذلك لأن جواز النسبة من لوازم الحجية، فإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم.

وأشكل عليه: بانفكاك هذين الأثرين عن الحجية، ولو كانا من آثارها لما أمكن انفكاكهما؛ لأن المراد بالأثر إما المعلول أو اللازم، ومن الواضح عدم انفكاك المعلول عن علته، ولا اللازم عن ملزومه، وذلك في الظن الانسدادي على الحكومة، فهو حجة لكن لا يجوز نسبة الحكم المستفاد منه إلى الشارع ولا الالتزام به، لكونه بحكم العقل لا الشرع.

وقد يقرر الإشكال: بأن انتفاء اللازم المساوي أو الأعم يكشف عن انتفاء الملزوم، أما اللازم الأخص فانتفاؤه يدل على انتفاء صنف من أصناف الملزوم، لا الملزوم، فتأمل.

ص: 242

وأجيب: أولاً: بثبوت الملازمة العرفية بين عدم جواز النسبة وعدم الحجية، وإن لم تثبت الملازمة العقلية، فمثل قوله تعالى: {ءَاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ}(1) يدلّ على أن النسبة من غير علم افتراء وهذا يلازم عرفاً عدم التنجيز والتعذير.

وثانياً: بعكس النقيض؛ إذ لا إشكال في أن كل ما يجوز إسناده إلى الشارع فهو حجة، وعكس نقيضه كل لا حجة لا يجوز إسناده، فتأمل.

وثالثاً: ما ذكره المحقق النائيني: من الإشكال في الكبرى ب-: «أن معنى جعل الأمارة حجة هو كونها وسطاً لإثبات متعلقها وإحراز مؤدّاها، فيكون حالها حال العلم، وهل يمكن أن يقال: إنه لا يصح التعبد بمتعلّق العلم ولا يجوز إسناده إلى الشارع إذا كان المتعلق من الأحكام الشرعية؟»(2).

وأورد عليه(3): بأن جواز الإسناد إما يترتب على الوجود الواقعي للحجة أو على الوجود الواصل لها! والأول خلاف الوجدان؛ إذ لا يصح إسناد حكم إلى المولى مع عدم العلم بل هو تشريع حتى لو كان التكليف ثابتاً واقعاً، والثاني لا ينفع في ما نحن فيه؛ إذ المفروض الشك في الحجية وذلك بمعنى عدم وصولها. نعم، عدم جواز الاستناد لا ينفع في نفي الحجية الواقعية!

وفيه(4): أن المقصود هو نفي الحجية الإثباتية بنفي جواز الاستناد، فإن

ص: 243


1- سورة يونس، الآية: 59.
2- فوائد الأصول 3: 122.
3- منتقى الأصول 4: 197-198.
4- موسوعة الفقيه الشيرازي 6: 22.

مفاد الأدلة المذكورة هو نفي ترتب آثار الحجية، لا نفي كون المشكوك حجة واقعاً.

ورابعاً: ما ذكره أيضاً من الإشكال في الصغرى، ب- «أنه ليس من وظيفة العقل جعل الظن حجة مثبتاً لمتعلّقه، بل شأن العقل هو الإدراك، وليس من وظيفته التشريع، وحكمه باعتبار الظنّ في حال الانسداد ليس معناه كون الظن حجة مثبتاً لمتعلقه، بل معناه الاكتفاء بالإطاعة الظنية للأحكام المعلومة بالإجمال عند تعذر الإطاعة العلمية، وهذا المعنى أجنبي عن معنى الحجية، فإن الحجة تقع في طريق إثبات التكاليف، والظن بناءً على الحكومة يقع في طريق إسقاط التكاليف!»(1).

وأورد عليه: بأن الحجة إما بمعناها اللغوي - وهو ما يحتج المولى على العبد به والعكس - ، ولا فرق في ذلك بين ما يقع في إثبات التكليف أو إسقاطه، وإما بمعناها الاصطلاحي - وهو ما يقع وسطاً في البرهان - ومن الواضح إمكان وقوع مايسقط التكليف وسطاً، كأن يقال: هذا مما دل الدليل العقلي على إسقاطه للتكليف، وكل ما كان كذلك فهو مسقط له، وفي التبيين(2): لأن إثبات المتعلق هو الحمل، سواء كان مرتبطاً بمرحلة الجعل الشرعي

- إيجاباً أو سلباً كأن أخبر الثقة بحرمته أو أخبر بعدم حرمته - أم لا يرتبط بمرحلة الجعل، بل بمرحلة الامتثال، كالمقام.

الوجه الثالث: الاستصحاب سواء كان استصحاب عدم الحكم الوضعي

ص: 244


1- فوائد الأصول 3: 123.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 6: 21.

أي الحجية، أو استصحاب عدم جعل الشارع، أو استصحاب عدم الحكم التكليفي.

وأشكل عليه الشيخ الأعظم(1): بأنه لا يترتب على مقتضى الاستصحاب أثر عملي، فإنه يكفي في حرمة العمل والتعبد نفس الشك في الحجية، ولا يحتاج إلى إحراز عدم ورود التعبد بالأمارة حتى يجري استصحاب العدم، فإن الاستصحاب إنما يجري في ما إذا كان الأثر مترتباً على الواقع المشكوك فيه، لا على نفس الشك.

وبعبارة أخرى: إن الأثر إذا ترتب على عدم العلم بأن كان موضوعه عدم العلم، فحينئذٍ يكفي مجرد الشك في ترتيب الأثر من غير حاجة إلى إحراز العدم بالاستصحاب، بل يكون الاستصحاب من تحصيل الحاصل، بل من أردء أنواعه، حيث إنه إثبات تعبدي لما هو ثابت بالوجدان، وما نحن فيه حرمة التعبد بالظن وحرمة النسبة يترتبان بمجرد عدم العلم بالتعبد الشرعي فلا حاجة إلى إحراز عدم وجود تعبد شرعي بالاستصحاب ليترتب عليه هذا الأثر.

وردّه المحقق الخراساني(2) بردّين:

الردّ الأول: كبروي: بأن الحاجة إلى الأثر إنما هو في الأصول الجارية في الشبهات الموضوعية، وأما الأصول الجارية في الشبهات الحكمية فلا يتوقف جريانها على أن يكون في البين أثر عملي ما وراء المؤدّى، بل

ص: 245


1- فرائد الأصول 1: 127-128.
2- راجع فوائد الأصول 3: 126، عن درر الفوائد.

يكفي في صحة جريان الأصل ثبوت نفس المؤدّى، من بقاء الحكم في الاستصحابات الوجودية، وعدمه في الاستصحابات العدمية، والحجيّة وعدمها من جملة الأحكام، فيجري استصحاب عدم الحجية عند الشك بلا انتظار أثر آخر وراء عدم الحجية.

وأجاب عنه المحقق النائيني(1) بما حاصله: أن الأصل إنّما يصح جعله لو كان المجعول فيه الجري العملي، ولذا تجري الأصول الحكمية؛ لأنها بنفسها تقتضي الجري العملي على طبق المؤدّى، بلا حاجة إلى أن يكون أثر عملي وراء المؤدّى، وفي ما نحن فيه: الحجية بوجودها الواقعي لا يترتب عليها أثر عملي أصلاً، والآثار المترتبة عليها، بعضها تترتب عليها بوجودها العلمي كالمنجزية والمعذرية، وبعضها تترتب على نفس الشك في حجيتها كحرمة التعبد والاستناد، وعليه فعدم الحجية لا يقتضي الجري العملي أصلاً؛ إذ لا أثر له إلاّ حرمة التعبد، وهو حاصل بنفس الشك، وجريان الأصل لإثبات هذا الأثر يكون من تحصيل الحاصل، بل أسوء حالاً منه.

وفيه(2): أن الأثر موجود غير عدم جواز النسبة وعدم جواز التعبد، وهو تحويل الاستناد من الأصل العقلي إلى الأصل الشرعي في الطوليين، أو ضميمة الأصل الشرعي إلى الأصل العقلي في العرضيين، نظير جعل البراءة في الشك في التكليف مع حكم العقل بالبراءة بقبح العقاب بلا بيان، فمستند القاعدة قبل ورود البيان الشرعي هو القاعدة العقلية، وبعد وروده يرتفع

ص: 246


1- فوائد الأصول 3: 127.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 6: 29.

موضوع القاعدة العقلية وهو اللابيان وذلك بسبب وجود البيان، فتنتفي القاعدة العقلية بانتفاء موضوعها وحينئذٍ يكون مستند المكلف هو الأصل الشرعي، وأثر هذا التحول هو المزيد من الباعثية والتأكيد.

إن قلت: كيف يتم دفع محذور تحصيل الحاصل؟

قلت: إن المحذور إنّما هو مع بقاء المحصّل أولاً حين وجود المحصّل الثاني، وأما مع ارتفاعه فلا يكون من تحصيل الحاصل أصلاً، وفي ما نحن فيه استصحاب عدم الحجية يرفع حكم العقل بعدم الحجية، ويحوّله إلى الدليل الشرعي على عدم الحجية، كما قام الدليل على عدم حجية القياس، حيث كان مستنده الأصالة فتحوّل إلى الدليل النقلي.

الردّ الثاني: صغروي بإثبات الأثر في هذا الاستصحاب؛ لأن الأثر قد يترتب على الواقع، وقد يترتب على الشك، وقد يترتب عليهما، وعلى الأول لا مجال إلاّ للاستصحاب، وعلى الثاني لا مجال إلاّ للقاعدة عند الشك، وعلى الثالث فلا إشكال في جريانهما معاً، وفي ما نحن فيه حرمة التعبد كما تكون أثراً للشك كذلك تكون أثراً لعدم الحجية، وحينئذٍ يجري الاستصحاب، وهو يتقدّم على القاعدة لحكومته عليها.

وأورد عليه أولاً(1): بأنه لا يعقل كون الشك في الواقع موضوعاً للأثر في عرض الواقع.

ولعلّ مقصوده أنه إن كان علم بالواقع فلا شك كي يترتب أثره، وإن كان شك في الواقع فلا يترتب أثر الواقع لعدم العلم به، وعليه فيستحيل

ص: 247


1- فوائد الأصول 3: 130.

اجتماعهما.

وثانياً(1): على فرض عدم استحالته، فلا يجري الاستصحاب أيضاً؛ لأن الأثر يترتب بمجرد الشك - وذلك لتحقق موضوعه - فلا يبقى مجال لجريان الاستصحاب، لعدم فائدته، حيث قد ترتب الأثر المطلوب قبل جريانه.

إن قلت: التقدم الزماني لا يضرّ، كما لو شك في طهارة شيء فأجرى أصالة الطهارة، ثم قامت البينة على الطهارة، فإنه لا بد من الأخذ بها مع أن أثرها هو نفس أثر أصالة الطهارة! وأما التقدم الرتبي فهو في العلة وأجزائها، وليس في ما نحن فيه عليّة؟!

قلت: إن اللاحق قد يزيل موضوع السابق، فبزواله يزول أثره، ويترتب أثر اللاحق وإن كان نظيراً للسابق، وتماثل الأثر إن كان دائمياً كان جعل اللاحق لغواً، إلاّ أنه ليس بدائمي فلا محذور في جعل الكلي حتى لو كان في بعض جزئياته ذلك، فتأمل.

وثالثاً: بأنه لا حكومة في الأصول المتوافقة، وإنّما هي في الأصول المتخالفة؛ وذلك لأن جريانها في المتوافقة يستلزم لغوية مثل قاعدة الطهارة؛ إذ في مواردها يوجد استصحاب الطهارة عادة، إلاّ في موارد نادرة كتوارد الحالتين، فتأمل.

تذييل

قد يقال: بأنه لو تمّ إشكال الشيخ الأعظم بعدم جريان استصحاب عدم

ص: 248


1- فوائد الأصول 3: 131.

الحجية، فلازمه عدم جريان استصحاب الحجية أيضاً، فلا يصح استصحاب حجية فتوى المجتهد بعد موته مثلاً!

وذلك لأن القدرة إنّما تتعلق بكلا النقيضين، فإن لم تتعلق بأحدهما فلا تتعلق بالآخر، بل سيكون الآخر إما ممتنعاً وإما ضرورياً، فعدم القدرة على الطيران مثلاً يلازم الاضطرار إلى عدم الطيران، وعدم قدرة الأجسام في عدم الحيّز يلازم ضرورة الحيّز لها - مثلاً - ، وفي ما نحن فيه حيث استحال التعبد بعدم الحجية فيستحيل التعبد بها!

وفيه: أولاً: صغرىً بأنه ليس التعبد بالحجية أو التعبد بعدم الحجية نقيضين، بل هما ضدان لهما ثالث وهو عدم التعبد بأيٍّ منهما. نعم، التعبد وعدمه نقيضان، لكن حيث كان عدم التعبّد بالحجية مقدوراً كان نقيضه وهو التعبد بالحجية مقدوراً أيضاً.

وثانياً: كبرىً بأن القاعدة المذكورة في أن القدرة تتعلق بالطرفين فإذا استحال تعلقها بأحد النقيضين استحال في الآخر، هذه القاعدة لا تجري في ما نحن فيه؛ لأن موردها إذا استحال أحد الطرفين بحيث يسلب الاختيار فيه، وليس موردها ما إذا أمكن الشيء لكن امتنع صدوره لكونه خلاف الحكمة لكونه لغواً مثلاً، فالظلم يمتنع صدوره من الله تعالى لكونه قبيحاً خلاف الحكمة، وهذا لا يعني عدم قدرته عليه، وحينئذٍ فعدم الظلم مقدور له تعالى لقدرته على الطرفين.

وفي ما نحن فيه: استصحاب عدم الحجية كان لغواً على مبنى الشيخ الأعظم لا أنه لا قدرة عليه، وعليه فالقدرة تتعلق به وباستصحاب الحجية، لكن لم يتم جعل استصحاب عدم الحجية للّغوية، وتمّ جعل استصحاب

ص: 249

الحجية لعدم محذور فيه. نعم، لو قلنا بعدم إمكان استصحاب الحجية لكونه تحصيلاً للحاصل - وهو محال ذاتاً لا تتعلق به القدرة - فللكلام مجال.

الوجه الرابع: العمومات الناهية عن القول والعمل بغير علم، حيث إنها عامة، وقد تمّ تخصيصها بالظنون المعتبرة كخبر الواحد، وكل ظن مشكوك الحجية يدخل في العام، وذلك ككلّ مصداق للعام شك في خروجه عن حكم العام، حيث يجري عليه حكم العام.

وأشكل عليه بإشكالين:

الإشكال الأول: إن الأدلة الدالة على حرمة العمل بالظن إرشادية، وفي الأوامر الإرشادية لا بد من الرجوع إلى المرشد إليه، وهو حكم العقل بعدم صحة الاعتماد على الظن، وأحكام العقل غير قابلة للتخصيص أبداً، والظنون الخاصة ليست تخصيصاً لعدم حجية الظن، بل أدلتها تجعلها علماً تنزيلياً، فليس الاعتماد فيها على الظن، بل على العلم، والحاصل: أن الآيات و الروايات الناهية عن العمل بالظن ليست مولوية ليصحّ التمسك بعمومها أو إطلاقها في مورد الشك.

وأورد عليه: أولاً: بأنه لا وجه للحمل على الإرشادية مع ظهور الأوامر والنواهي في المولوية، ومجرد وجود حكم للعقل لا يقتضي ذلك إلاّ لو كان محذور في المولوية، وقد مرّ بيانه، بل الحمل على الإرشادية يستلزم محذور آخر هو عدم العقاب على مثل الظلم؛ لأنهم ذكروا من فروق الإرشادية والمولوية عدم العقاب على مخالفة الأول، وهذا مما لا يمكن الالتزام به.

ص: 250

وثانياً: لو سلمنا إرشاديتها فيمكن التمسك بالمرشد إليه، حتى لو فرضنا عدم تخصيصه؛ لأنا نريد التمسك بالعام، لا بالخاص، وبعبارة أخرى: حيث لم يثبت الحكومة في جعل الخاص علماً تنزيلياً، فيدخل في حكم العقل بعدم جواز الاعتماد على الظن، حيث إنه لا مؤمِّن في العمل به من العقاب.

الإشكال الثاني: إنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية؛ لأن موضوع الأدلة الناهية هي الظنون غير المعتبرة، وأما الظنون المعتبرة فهي خارجة عن تلك الأدلة بالحكومة، فإذا شك في اعتبار ظن، فلا يمكن التمسك بتلك العمومات؛ وذلك لكونها شبهة مصداقية للعام؛ إذ يحتمل كون هذا الظن المشكوك حجيته ظناً معتبراً لكونه علماً تنزيلياً، مع أن الموضوع الظن غير المعتبر.

ويرد عليه: أولاً: إن موضوع العام بعد الحكومة: هو الظن الذي لا يُعلم حجيته، وليس الظن الذي ليس بحجة واقعاً، وهذا الموضوع متحقق حين الشك في حجية شيء، فليس من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية؛ لأن ما كان حجة واقعاً ولم يعلم المكلف بها لا يجوز العمل به، وفي عكسه ما لو لم يكن حجة واقعاً لكن قطع المكلف بالحجية يجوز، بل قد يجب العمل به.

مضافاً إلى أن جعل الموضوع بعد الحكومة هو الظن غير المعتبر يستلزم لغوية العمومات الرادعة عن العمل بغير العلم، لعدم تحقق موضوعها أصلاً، إذ ليس موضوعها القطع بالحجية أو بعدم الحجية، فلم يبق إلاّ الشك فيها، فلو أخرجنا صورة الشك عن الموضوع، لم يبق للموضوع مصداق!

إن قلت: إن هذه الأدلة بنفسها صارت سبباً للقطع بعدم الحجية في

ص: 251

بعض الموارد.

قلت(1): الحكم لا ينقّح موضوعه، فهو نظير أن يقال: إن (أكرم العلماء) مثلاً يوجب بنفسه القطع بكون جملة من الأفراد المشكوك في علمهم علماء! ومن هنا قيل: الحكم لا يتكفل موضوعه! فتأمل.

وثانياً: على فرض التسليم بأن نتيجة الحكومة كون موضوع العمومات هو الظن غير المعتبر واقعاً، نقول: إن هناك أصل موضوعي يرفع الشبهة المصداقية، ويجعل الظن المشكوك من مصاديق الموضوع - وهو الظن غير المعتبر - ، وذلك الأصل هو استصحاب عدم جعل العلم التنزيلي.

وفيه: إن الاستصحاب المفروض سبب لجعل العلم التعبدي بعدم الحجية، فيخرج المورد المشكوك عن موضوع العمومات - وهو ما لم يعلم الجعل التعبدي له - ، فتأمل.

تتمتان
التتمة الأولى: في عدم سراية حرمة التشريع إلى العمل

لو نسب ما لم يقم الدليل الشرعي على حجيته كان تشريعياً محرماً، وفي سراية الحرمة إلى الفعل المتشرّع به قولان:

القول الأول: عدم السراية، بل يبقى العمل على ما هو عليه من الحسن والقبح، فلو فرض كونه عبادة واقعة وأمكن تمشي قصد القربة، وقع العمل صحيحاً مثاباً عليه رغم حرمة التشريع.

ص: 252


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 6: 43.

وذلك لاختلاف الموضوع مع عدم سراية القبح من التشريع إلى العمل، فيكون كالنظر إلى الأجنبية حين الصلاة أو حلق اللحية في حال الصوم، وقد مرّ نظيره في باب التجري.

القول الثاني: السراية، واستدل له(1): بأنه من الممكن أن يكون القصد والداعي من الجهات والعناوين المغيّرة لحسن العمل وقبحه، فيكون التعبد بما لا يعلم جواز التعبد به موجباً لانقلاب العمل عما هو عليه، فتطرأ عليه جهة مفسدة، فيقبح عقلاً وشرعاً، وظاهر قوله (علیه السلام): «رجل قضى بالحق وهو لا يعلم»(2) حرمة القضاء واستحقاق العقوبة عليه، فيدل على حرمة نفس العمل.

وفيه: أن مجرد إمكان كون القصد من الجهات والعناوين المغيرّة للعمل لا يكفي في الذهاب إلى وقوعه في ما نحن فيه، بل لا بد من إقامة الدليل على كونه كذلك، وقد مرّ في باب التجري أن قتل عدو المولى لا يخرج عن كونه محبوباً له حتى لو توهم القاتل أنه ابن المولى.

وأما الحديث فدلالته على حرمة الإسناد لا إلى حرمة القضاء، وحتى لو فرض حرمة القضاء فهو ليس من جهة سراية القبح من التشريع إلى العمل، بل لعله لأجل فقدان القاضي لشرائط القضاء، فتأمل.

التتمة الثانية: في التشريع حين الشك والظن

قسّم المحقق النائيني(3) الحكم العقلي إلى طريقي وموضوعي، فتارة:

ص: 253


1- فوائد الأصول 3: 121.
2- الكافي 7: 407؛ وسائل الشيعة 27: 22.
3- فوائد الأصول 3: 125.

يكون للعقل حكم واحد بمناط واحد يعم صورة العلم والظن والشك، ومنه حكمه بقبح التشريع، وأخرى: يكون له حكمان: حكم على الموضوع الواقعي الذي استقل بقبحه، وحكم طريقي على ما يشك أنه من مصاديق الموضوع الواقعي، ومنه حكمه بقبح الظلم.

ففي التشريع تمام مناط القبح هو الإسناد إلى الشارع ما لم يعلم منه من غير دخل للواقع في ذلك، فلو فرض أن المتعبَّد به كان في الواقع مما شرّعه الشارع، ولكن المكلف لم يعلم به وأسنده إلى الشارع من غير علم كان ذلك من التشريع القبيح، ولو انعكس الأمر وأسند المكلّف إلى الشارع ما علم بتشريعه إياه وكان في الواقع مما لم يشرّعه الشارع لم يكن المكلّف مشرّعاً، لا أنه يكون مشرعاً ولمكان جهله يكون معذوراً عند العقل.

ويرد عليه: أن هذه النتيجة التي رامها لا غبار عليها، لكن لا ارتباط لها بتقسيم الحكم العقلي، بل ذلك يرتبط بالموضوع، فتارة الموضوع موجود سواء علم المكلف أم جهل فيترتب الحكم بالقبح أو الحسن، وأخرى لا وجود للموضوع إلاّ حين علم المكلّف، ولا حكم حين الجهل.

وغير خفّي أنّ العلم دخيل في جميع الأحكام العقلية، بمعنى أنه يحكم العقل بالحسن أو القبح مع العلم بالموضوع، ولا حكم له بهما مع الجهل، فالظلم الواقعي من غير علم به لا حكم للعقل باستحقاق فاعله الذم والعقاب، والإقدام على ما يتوهمه ظلماً مع خطئه تجرٍّ قبيح، فحينما يقال: إن الظلم قبيح مثلاً، فإنما هو بمعنى استحقاق العالم به للذم والعقاب، وأما قولهم: القبح الفعلي المقابل للقبح الفاعلي فالظاهر أنه لا يرتبط بالحكم العقلي، بل في حقيقته رجوع إلى القبح الفاعلي بمعنى قابلية ذلك الفعل

ص: 254

لاستتباعه لذم وعقاب فاعله إن علم به.

وحيث انتهينا من تأسيس الأصل وهو عدم الحجية عند الشك، فقد خرج من هذا الأصل - بالخروج الموضوعي بالحكومة - أمور، سنذكرها تباعاً في الفصول القادمة.

ص: 255

فصل فی حجية الظواهر

اشارة

لا يخفى: أن استنباط الحكم الشرعي من الأدلة اللفظية يتوقف على أمور ثلاثة هي: صدورها عن المشرّع، وثبوت الظهور لها، وثبوت عدم كونها في مقام التقية، وبعض هذه - كبرىً أو صغرىً - ترتبط بعلم الرجال أو الفقه أو اللغة أو ترتبط بالفهم العرفي، وبعضها يرتبط بعلم الأصول، ومن ذلك تشخيص كليات الظهور - كظهور الأمر في الوجوب مثلاً، وهذا ما تمّ بحثه في مباحث الألفاظ، وكذلك بحث حجية الظهور بمعنى كونه منجزاً ومعذراً، أي الظهور المفروغ عن كونه ظهوراً هل هو منجز ومعذّر؟ وهذا يتم البحث عنه في هذا الفصل فی ضمن مباحث.

المبحث الأول: أدلة حجية الظواهر

واستدل لحجية الظهور بأمور، منها:

الدليل الأول: سيرة المتشرعة - والمراد بهم أصحاب النبي (صلی الله علیه و آله) والأئمة (علیهم السلام) - ، وهذه السيرة تكشف عن بيان الشارع، وهذه السيرة ثابتة بلا ريب؛ إذ لو كان هناك طريقة أخرى عند الشارع للتفاهم لتمّ نقلها حتماً، وحيث لم ينقل علمنا بعدم وجودها.

وفيه: أن المتشرعة عقلاء، فقد يكون منشأ سيرتهم الشرع، وقد يكون ذلك بما هم عقلاء، ولا يكون الأول إلاّ في الأمور الشرعية الخالصة، أي

ص: 256

الأحكام التي شرّعها الشارع ولم تكن ضمن دائرة عمل العقلاء كالوضوء والغسل والصلاة، حيث إن سيرة المتشرعة فيها تكشف عن البيان الشرعي، وأما الأمور التي ليست حكماً شرعياً خالصاً، بل دأب عليها العقلاء فلا ترتبط بسيرة المتشرعة بما هم متشرعة، بل بما هم عقلاء، لا أقل من الشك، فلا يعلم كونها سيرة المتشرعة بما هم متشرعة، فلا يصح الاستدلال بها.

الدليل الثاني: بناء العقلاء، فلو تحققت الشروط الآتية، نكشف منه إمضاء الشارع، وبذلك يفترق عن سيرة المتشرعة في كيفية معرفة الحكم الشرعي، حيث بسيرة المتشرعة نكتشف البيان الشرعي، وببناء العقلاء نكتشف إمضاء الشارع ولو عبر سكوته.

وأما الشروط فهي تحقق بناء العقلاء في المورد، وعدم ردع الشارع عنه، وعدم وجود مانع عن ذلك الردع من تقية ونحوها.

أما الأول: فإن العقلاء يعملون بظواهر الكلام في موردين: في أمورهم اليومية المعاشية والمرتبطة بأغراضهم التكوينية كالعقود والإيقاعات والأقارير ونحوها، وكذا في مقام المولوية، حيث يلتزمون ويحتجون بالظواهر بين الموالي والعبيد والآمر والمأمور، وهذا مما لا شبهة فيه.

وأما الثاني: فلأنه لو ردع عنه الشارع لوصل إلينا بالتواتر حتماً، لتوفر الدواعي لنقله، حيث إنه أمر مهم يرتبط به عامة مسائل الدين وأحكامه، ولكنا نرى أنه لا يوجد فيه رواية واحدة فضلاً عن التواتر، وبذلك نكتشف عدم الردع قطعاً.

وأما الثالث: فلعدم وجود تقية في بيان عدم حجية الظواهر، بل حتى لو

ص: 257

كانت للزم البيان لارتباط المسألة بعامة مسائل الشرع، وعدم بيانه - لو كان - يلازم هدم الشريعة من أساسها، فلا تقية فيه.

وأشكل عليه بأمور، منها:

الإشكال الأول: منع بناء العقلاء بالعمل بالظواهر في أمورهم المعاشية، فإنه لا مجال للتعبد في أمورهم، بل بناؤهم إنما هو الملاك يقتضيه، ومع فقده لا بناء لهم، وذلك الملاك الاطمئنان، أو الغفلة عن احتمال خلاف الظاهر، أو مطابقة الظاهر للاحتياط، أو عدم أهمية الشيء، بحيث لا يعتنون بخلاف الظاهر فيه، وحينئذٍ فيكون العمل بالظاهر مرتبطاً بإحدى هذه الأمور.

إن قلت: إن هذه السيرة لكثرة مصاديقها اليومية - وإن كانت بالأساس لملاك في كل مورد مورد - إلاّ أن الكثرة تجعلها كالفطرة الثانوية للعرف، بحيث تصبح طريقة عقلائية يذم مخالفها، وحينئذٍ يمكن تعميمها إلى المجال التشريعي؛ لعدم الفرق في ظاهر أمر معاشي وظاهر حكم تشريعي!!

قلت(1): العقلاء لا يتعدون من سلوك معين واجد لملاك خاص إلى سلوك آخر فاقد لذلك الملاك، إلاّ في حالة الغفلة والخطأ، وكذلك إمضاء الشارع لشيء لملاك خاص لا يعني إمضاؤه لسلوك آخر فاقد لذلك الملاك مع كونه حصل بسبب الغفلة أو الخطأ، ولذا اتفقت الكلمة على التخطئة في العقليات والشرعيات والتطبيقات الصغروية. نعم، إمضاء السيرة لملاك فيها سبب لتعميم الإمضاء لكل ما كان فيه الملاك.

ص: 258


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 6: 68-69.

الإشكال الثاني: وجود الردع عن هذه السيرة بشكل عام، وذلك في النهي عن العمل بغير علم.

وفيه: إن الاستدلال بها خلف؛ لأنها ظاهرة في المنع، فالاستدلال بها على عدم حجية الظواهر يستلزم عدم حجيتها أيضاً، فيلزم من حجيتها عدم حجيتها وهو خلف.

إن قلت: يمكن دفع الخلف بأن السيرة العقلائية على حجية ظاهر الأدلة المانعة، ومنعها لا يشمل نفسها لئلا يلزم المحذور، بل المنع خاص بسائر الموارد.

قلت: إن المنع عن الظن بالظهور يكشف عدم الإطلاق في الأدلة المانعة فهو إما قرينة عرفية على عدم إرادة الظهورات من الظن الممنوع حجيته، وإما سبب لانصراف اللفظ عن الظهور.

الإشكال الثالث: وجود الردع عنها في موارد خاصة، مما يكتشف منه منع الشارع عن الملاك الذي هو فيها، فلا يختص المنع بتلك الموارد، وذلك كالردع في رواية أبان بن تغلب في دية أصابع المرأة، حيث حكم (علیه السلام) بأن دية ثلاثة أصابع ثلاثين بعيراً، ودية أربعة أصابع عشرين بعيراً(1)، حيث إن هنا ظهور لدلالة التزامية عرضية بأن الدية تكون أكثر لو كانت الجناية أكبر.

وفيه: أنه ليس نهياً عن العمل بالظهور في الدلالة الالتزامية، بل هو ذم للعمل بالقياس، وكذا ذم ردّ النص الصحيح لمجرد مخالفته للذوق من غير

ص: 259


1- الكافي 7: 299-300؛ وسائل الشيعة 29: 352.

أن تكون هناك دلالة التزلية، حيث إنه تطبيق خاطئ لقاعدة أنه «لا تكون عقوبة الأكثر أقل من عقوبة الأقل»، والغفلة عن أن العقوبات الشرعية غير خاصة بالعقوبات الدنيوية، بل لعل جمع العقوبة الدنيوية مع الأخروية يجعل عقوبة الأكبر أكثر، وحتى لو كان في غير العقوبة كما في جناية الخطأ - حيث إن الدية ليست عقوبة - إذ لا مانع من كون أثر الأكثر أقل من أثر الأقل لمصلحة أخرى أهم، فتأمل.

الدليل الثالث: الروايات الدالة على حجية الظواهر التي في بعضها الأمر بالتمسك بالقرآن والروايات، ومن مصاديق التمسك العمل بالظاهر، بل هو أجلى المصاديق، وبعضها تُرجع إلى الكتاب لاستنباط أحكام فقهية منه، وهذه الروايات متواترة وكثرتها توجب القطع بظواهرها، بل بعضها نص في المطلوب، فلا دور.

وأشكل عليه: بأن مرجع ذلك إلى بناء العقلاء، فهذه الروايات إنما هي إمضاء لسيرتهم قولاً.

وفيه: إن دلالة أكثرها على الحجية دلالة التزامية، أو تضمنية فلا دلالة لها على كونها للإمضاء القولي لسيرة العقلاء، فتأمل.

المبحث الثاني: في الشك في إرادة المتكلم للظهور
اشارة

لا يخفى أن الكلام ليس في الدلالة التصورية، التي هي دلالة اللفظ على معناه، وهو يتوقف على العلم بالوضع، وتكون هذه الدلالة حتى لو لم يرد المتكلم المعنى أو صدرت عن غير مدرك كالنائم، كما أنه ليس الكلام في الدلالة التصديقية الأولى، التي هي في ما أراد المتكلم إخطار المعنى في

ص: 260

ذهن السامع، وهي ما يعبّر عنه بالإرادة الاستعمالية، فلا دلالة تصديقية لو لم يكن المتكلم مدركاً أو لم يرد الإفهام أو نصب قرينة على الخلاف، وإن بقيت الدلالة التصورية، وهنا لا بد من إحراز كون المتكلم في مقام إخطار المعنى في ذهن السامع.

وإنما الكلام في الدلالة التصديقية الثانية، بمعنى إرادة المتكلم للمعنى بالإرادة الجدية، ولا بد في هذه الدلالة من عدم نصب قرينة منفصلة على خلاف الظاهر، فإن القرينة المنفصلة لا تمنع انعقاد ظهور الكلام في المراد الاستعمالي إلاّ أنها تمنع عن الإرادة جداً، فلا يكون الكلام حينئذٍ حجة في معناه الظاهر فيه، فلا بد من إحراز كون المراد جداً.

أما كيفية إحراز ذلك فهو الأصل العقلائي في تطابق الإرادة الجدية مع الإرادة الاستعمالية، كما مرّ تفصيله.

فإن تمّ الإحراز فلا كلام، إنما الكلام في حالة الشك، ومنشؤه إما عدم ظهور للكلام فلا تعرف الإرادة الاستعمالية، وإما احتمال عدم إرادة الظاهر بالإرادة الجدية، فهنا مقامان:

المقام الأول: في عدم انعقاد ظهور للكلام
اشارة

وسبب ذلك...

1- إما عدم العلم بالوضع فيكون الكلام مجملاً ويلحقه حكم المجمل، أو عدم العلم بحدود الوضع مع العلم به في الجملة، فحينئذٍ يؤخذ بالقدر المتيقن ويتم إجراء الأصول العملية في غيره، فالمتيقن من الصعيد - مثلاً - هو التراب الخالص فيؤخذ به، وأما سائر وجه الأرض فيجري فيها الأصول كالاحتياط أو الاستحباب باختلاف الموارد.

ص: 261

2- وإما احتمال قرينية الموجود، كالاستثناء المتعقب لجمل متعددة، حيث يحتمل رجوعه إلى غير الأخيرة أيضاً ويصلح قرينة! فحينئذٍ إن لم يخلّ هذا الاحتمال بالظهور فلا بد من الأخذ به، وإلاّ فكالسابق من الأخذ بالقدر المتيقن إن كان وفي غيره العمل بالأصول.

3- وإما احتمال وجود القرينة، فلا يعتنى بهذا الاحتمال إما لحجية الظهور مباشرة أو لأصالة عدم القرينة وبها يتحقق الظهور، ثم أصالة الظهور وحجيته، والأقرب الثاني فالعقلاء يجرون أصالة عدم القرينة أولاً ولو ارتكازاً وبذلك يتحقق الظهور الذي هو موضوع أصالة الظهور، والفرق يظهر في لزوم الفحص عن القرينة بناءً على الثاني وعدمه بناءً على الأول.

فرع

في تقطيع الأخبار حيث يحتمل اختفاء قرائن في الكلام سياقية أو لفظية، بحيث لو وصلت إلينا لم ينعقد ظهور للكلام أو انعقد في خلاف ما هو ظاهر بعد التقطيع.

والمشهور عدم الإشكال بذلك، وقيل: بأنه كلّما لا يكون اللفظ ظاهراً فيه على تقدير وجود القرينة فلا يمكن الأخذ به مع احتمالها.

وأشكل عليه: أولاً: بمعرفة المقطعين بأساليب الكلام وورعهم، وذلك يمنع عن إخفاء القرائن المغيّرة للظاهر.

إن قلت: إن الاجتهادات قد تختلف في قرينية بعض الأمور، فمعرفتهم بأسلوب الكلام وورعهم، لا يمنع عن هذا الاحتمال.

قلت: قد أجيب عن ذلك بحجية حدس خبير على آخر خاصاً في ما

ص: 262

تعذر تحصيل العلم فيه، فرؤية أصحاب المجاميع عدم قرينية شيء كافٍ في جواز اتباعهم في ذلك حتى لسائر الفقهاء، أو يقال: إن حدس الخبير وإن لم يكن حجة على خبير آخر، إلاّ أن ذلك لا يجري في الحدس القريب من الحس، وما نحن فيه كذلك، والبحث هنا مبنوي موكول إلى محله.

وثانياً: عدم اعتناء العقلاء بهذا الاحتمال، فلا يرتبون عليه أثراً في نظير المقام، بل حتى لو فرض العلم بوجود قرائن لم تصلنا فإنه غير مخلّ إما لعدم كونها شبهة محصورة، أو لعدم تنجزها حتى وإن كانت محصورة؛ وذلك لاحتمال كون تلك القرائن تتعلق بغير أخبار الأحكام، وعلى كلا الفرضين لا أثر لهذا العلم الإجمالي.

المقام الثاني: احتمال عدم تعلّق الإرادة الجدية بالظاهر

وسبب الشك...

إما الغفلة عن نصب القرينة الصارفة، أو عدم المصلحة في نصبها، أو نصب قرينة منفصلة لم نعثر عليها.

والأقوال في المسألة متعددة، منها:

القول الأول: عدم الاعتناء بهذه الاحتمالات وإجراء أصالة الظهور؛ لأن بناء العقلاء على العمل بالظاهر، ويجري هنا القولان السابقان، أحدهما: إجراء الأصول العقلائية من عدم الغفلة وعدم القرينة ونحو ذلك، حيث ينقح بذلك موضوع أصالة الظهور ثم إجراء أصالة الظهور، والآخر إجراء أصالة الظهور مباشرة.

ص: 263

القول الثاني: التفصيل بين من قُصد إفهامه فالظاهر حجة له، وبين من لم يُقصد إفهامه فلا.

واستدل له: بأن مناط حجية الظواهر خاص بالأول؛ وذلك لأنه تجري في المتكلم والسامع أصالة عدم الغفلة عن نصب أو الالتفات إلى القرينة، ومع عدم الغفلة لا وجه لعدم نصبها لو لم يكن المتكلم مريداً للظاهر، بل كان ناقضاً للغرض لولا النصب، وأما فيمن لم يقصد بالإفهام فلا يكون المتكلم ناقضاً للغرض لو نصب القرينة لخصوص من قصد إفهامه مع عدم ذكر القرينة لمن لم يُقصد بالإفهام، وليس هناك أصل عقلائي ينفي احتمال نصب قرينة لخصوص المقصود بالإفهام.

ويرد عليه الإشكال كبرى وصغرىً:

1- أما الإشكال الصغروي، فإن عامة الناس مقصودون بالإفهام في الآيات والروايات سواء المشافهون أم الغائبون عن مجلس الخطاب أم الأجيال اللاحقة؛ وذلك لأن قاعدة الاشتراك في التكليف قاعدة متفق عليها، ولا تتم هذه القاعدة إلاّ بحجية الظواهر للجميع؛ إذ لاطريق آخر لمعرفة الأحكام المشتركة لو لم يكن الظاهر حجة.

لا يقال: هناك طريق آخر لتصحيح قاعدة الاشتراك عبر إثبات حجية الظن المطلق من باب الانسداد، كما سلكه بعض القائلين بعدم حجية الظواهر لغير المشافهين!

فإنه يقال: لازم ذلك عدم حجية الظواهر لو لم يحصل الظن منها أو تحقق الظن بالخلاف، لو قلنا بأن نتيجة مقدمات الانسداد حجية خصوص

ص: 264

الظن الشخصي، وكذلك عدم حجية الظواهر لو تعارضت مع ظنون أخرى لم تثبت حجيتها بالدليل الخاص كالشهرة الفتوائية بناءً على أن نتيجة مقدمات الانسداد حجية الظن النوعي، وكلاهما مخالف للسيرة العملية للفقهاء في حجية الظواهر مطلقاً، فتأمل.

مضافاً إلى ما قيل من أن الراوي الأول الذي سمع الحديث من النبي أو الأئمة (علیهم السلام) كان مقصوداً بالإفهام، وحينما نقل إلى الراوي الثاني كان قصده إفهامه، وهكذا كل ناقل قصد فهم المنقول إليه إلى أن وصلت الأخبار إلى أصحاب المجاميع الحديثية فأودعوها في كتبهم قاصدين إفهام كل من يقرأها.

2- وأما الإشكال الكبروي: فبعدم الفرق في الحجية بين المقصود بالإفهام وغير المقصود به؛ وذلك لبناء العقلاء واتفاق العلماء وأهل اللسان على حجية الظواهر مطلقاً إذا لم يعثروا على قرينة تدل على خلاف الظاهر بعد الفحص عنها بالمقدار المتعارف إذا احتملوا وجودها أو كان من دأب المتكلم استعمال القرائن المنفصلة، كما هو دأب الشارع الأقدس.

ولذا تجد العلماء في الأحكام الجزئية يعتمدون على الظواهر في الأقارير والوصايا والعقود والإيقاعات وغيرها، حتى لو لم يكن السامع مقصوداً بالإفهام، بل حتى لو كان المقصود عدم إفهامه كالأقارير أحياناً، كما لا يقبل عذر العبد في مخالفته لو سمع مولاه يخاطب شخصاً آخر ليوصل إلى العبد رسالة فيها أوامر أو نواهي، فلا يقبل عذره بأنه لم يكن مقصوداً بالإفهام من ذلك الكلام فلم يكن الظاهر حجة له.

أما ما قيل: من أن منشأ أصالة الظهور هو كون الألفاظ كاشفة عن

ص: 265

المرادات الواقعية بحسب الوضع أو بحسب مقدمات الحكمة، وهذا المنشأ موجود فيمن لم يُقصد إفهامه!!

فللخصم أن يجيب بأنه مصادرة؛ إذ هو تكرار للمدعى، حيث الكلام في أن هذا الكشف هل هو خاص بمن قصد بالإفهام أم عام له ولغيره.

وكذا ما قيل: من دفع احتمال اعتماد المتكلّم على قرينة معهودة بينه وبين من قُصد إفهامه؛ إذ يوجد ظهور لحال المتكلّم في الجري وفق التعبير العرفي في كلامه، أو بأن الأصل عند العقلاء هو استعمال المتكلم للمنهج العرفي في الكلام والمحاورة إلاّ لو ثبت اعتماده على طريقة خاصة.

فإن للخصم أن يجيب بأنه: مصادرة أيضاً؛ لعدم قبوله بكون المنهج العرفي ذلك، فتأمل.

القول الثالث: التفصيل بين الظن الشخصي طبقاً للظاهر فهو حجة، وعدمه فلا حجية، وقد يقال: يكفي في الحجية عدم الظن بخلاف الظاهر سواء ظن بالوفاق أم شك.

واستدل له: بأن مبنى حجية الظاهر هو بناء العقلاء، وهم لا تعبّد لهم في أمورهم المرتبطة بحياتهم، بل هناك أسباب لبنائهم يدور البناء مدار تلك الأسباب بنحو العلة لا الحكمة، وسبب عملهم بالظاهر هو كشفه عن الواقع، فإذا ظنوا بالخلاف أو شكوا فلا يعملون بالظاهر وذلك لانتفاء الكاشفية حينئذٍ، والشاهد على ذلك أنه لو كتب تاجر إلى آخر بكتاب ظاهره انخفاض الأسعار وظن المكتوب إليه أن ظاهر الكلام غير مراد فإنه لا يعمل به، بل يحتاط، ولو عمل ثم تبيّن عدم إرادة الظاهر لا يعتبره العقلاء معذوراً،

ص: 266

بل يُلام على مخالفته لظنه.

وأشكل عليه بإشكالات، منها:

الإشكال الأول: بالفرق بين الظهورات التي هي في مقام المولوية والاحتجاج في الموالي والعبيد، وبين الظهورات في غير هذا المقام، وبناء العقلاء هو حجية الظهورات مطلقاً لو كانت في مقام المولوية والاحتجاج حتى لو حصل ظن شخصي بالخلاف، وأما الظهورات في غير هذا المقام فبناؤهم على العمل بها لو أورثت الاطمئنان.

ولعل السرّ في ذلك(1): هو أن إيكال الأمر إلى ظن المكلّف في مقام المولوية والاحتجاج، لا يخلو من محذور تفويت الأغراض الواقعيّة في كثير من الأحيان، فقد لا يحصل للمكلّف ظن بالوفاق وقد يحصل له ظن بالخلاف، وقد يتخذ ذلك مبرراً للتهرب من امتثال الأوامر المولوية، واعتبار الظهور حجة مطلقاً وإن كان ربّما يؤدي إلى الوقوع في مخالفة الواقع إلاّ أنّه أخف المحذورين، وهذا جارٍ في كثير من القوانين العقلائية، فقانون المرور - مثلاً - إذا أوكل إلى ظن المكلّف وتشخيصه للضرر يوجب مخالفة الواقع كثيراً، وأما اطراد الحكم فهو وإن أوجب بعض الضرر كإتلاف وقت الناس خلف الإشارة الحمراء، إلاّ أنه أهون المحذورين، فيرجح العقلاء الأول.

والحاصل: أن الكاشفية في مقام المولوية والاحتجاج حكمة لا علة، وإن شئت فقل هي علة الجعل لا المجعول، وبعبارة أخرى: إصابة الظن

ص: 267


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 6: 207.

النوعي للواقع أكثر من إصابة الظن الشخصي، فلذلك قدّم العقلاء ما هو أقوى ملاكاً، وصار بناؤهم على حجية الظواهر مطلقاً في مقام المولوية والاحتجاج.

الإشكال الثاني: ما ذكره المحقق العراقي(1): إن لازم ذلك سدّ باب التعارض في الأخبار بالمرّة، وإلغاء مبحث التعادل والتراجيح من الأصول رأساً، لاستحالة الظن الفعلي بالمتنافيين كي ينتهي الأمر إلى الترجيح أو التخيير؛ إذ لا يخلو: إما أن لا يفيد واحد منهما الظن بالمراد، وإما أن يفيده أحدهما دون الآخر، وعلى التقديرين لا ينتهي الأمر فيهما إلى التعارض لانتفاء ملاك الحجية فيهما في الأول، وكونه من باب تعارض الحجة واللاحجة في الثاني.

ولا يخفى أن هذا الإشكال إنما يجري لو قلنا بلزوم الظن بالوفاق في الحجية، وأما على القول بكفاية عدم الظن بالخلاف فلا؛ إذ يجري بحث التعارض في ما لو شك في الدليلين.

الإشكال الثالث: سيرة المتشرعة، والأدلة الروائية الدالة على حجية الظواهر مطلقة بلا فرق بين الظن بالوفاق أو الخلاف أو عدم الظن، ولذا لم نجد فقيهاً ردّ رواية معتبرة بسبب عدم الظن بظاهرها، وادعاء حصول الظن بالوفاق دائماً أو عدم الظن بالخلاف كذلك مجازفة.

المبحث الثالث: في حجية ظواهر الكتاب

زعم البعض بأنه لا حجية لظواهر الكتاب قبل تفسير النبي والآل (عليه

ص: 268


1- نهاية الأفكار 3: 89.

وعليهم الصلاة والسلام)، واستدلوا لذلك بوجوه ضعيفة، منها:

الوجه الأول: الردع عنه في روايات متواترة، وحيث كان دليل الحجية بناء العقلاء ومن شروطه عدم الردع، فإن وجود الرادع يكفي في عدم الحجية، كما مرّ.

ومن الروايات الرادعة روايات دلت على أن فهم القرآن مختص بمن خوطب به و هم الرسول وآله (عليه وعليهم الصلاة والسلام)، وأن الله تعالى لم يورث الآخرين في فهمه جزماً، فراجع الروايات في كتاب رسائل الشيخ الأعظم وغيره(1).

والجواب: أولاً: أن المراد بالروايات الرادعة هو أن المعرفة التفصيلية ومن كل الجهات مختصة بهم (علیهم السلام) وهذا لا يعني عدم معرفة غيرهم أيّ شيء، ولذا نجد أن كثيراً من بيانهم وتفسيرهم (علیهم السلام) متطابق مع الظاهر، بمعنى أنه يفهم ذلك الظاهر كل من يعرف اللسان حتى قبل ورود التفسير منهم، وتفسيرهم تأكيد لما يفهمه الآخرون أيضاً، مضافاً إلى أن الكثير من هذه الروايات ظاهرة في أن المراد الفهم العام من كل الجهات، كقوله (علیه السلام) في تفسير {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَٰبِ}(2): «إيانا عني»(3)، وكذلك قوله (علیه السلام) لأبي حنيفة: «ما ورثك الله من كتابه حرفاً»(4)، بعد ادعائه معرفة الناسخ

ص: 269


1- فرائد الأصول 1: 139-142.
2- سورة الرعد، الآية: 43.
3- الكافي 1: 229؛ وسائل الشيعة 27: 181.
4- علل الشرائع 1: 90؛ وسائل الشيعة 27: 48.

والمنسوخ وغير ذلك، فإن مقام الفتوى بحاجة إلى معرفة الكتاب حق المعرفة، وذلك لا يتيسّر إلاّ بضم القرائن المنفصلة إلى الظاهر، التي تميّز الناسخ عن المنسوخ، والعام عن الخاص، والمحكم عن المتشابة وغير ذلك.

وثانياً: إن حجية ظواهر القرآن من المرتكزات في أذهان المتشرعة، ولو كان هناك ردع عنه مطلقاً لكان اللازم كثرة الردع عنه، كما في القياس، حيث إن عليه بناء العقلاء، لكن حيث ردع عنه الشارع أكثر الأئمة (علیهم السلام) من الردع بحيث وصلتنا روايات متواترة صريحة، وحجية ظاهر الكتاب أكثر ارتكازاً في أذهان المتشرعة، فلو كان هناك ردع لأكثروا من بيانه صريحاً ولوصل إلينا متواتراً، وليس الأمر كذلك، بل لا توجد ولا رواية واحدة صريحة في الردع.

وثالثاً: إثبات متواتر الروايات لمرجعية القرآن في الأحاديث المتعارضة، بل كل حديث يخالف القرآن يضرب به عرض الجدار، ولو لم يكن ظاهره حجة لزم الدور في الأحاديث الأولى، واللغو في الثانية؛ إذ لا يكون الظاهر حينئذٍ حجة حتى يعارضه الخبر، فتأمل.

الوجه الثاني: احتواء القرآن على مضامين شامخة عالية لا تصلها عقولنا، فكان لا بد من تفسير النبي وآله (عليه وعليهم الصلاة والسلام).

وفيه: أن شموخ المضامين لا ينافي حجية الظاهر، فالظاهر شامخ لكنه يسّره الله تعالى للفهم وهو حجة، ثم هناك معاني شامخة تحتاج إلى تدبر كما يصنعه الفقهاء في استنباط بعض دقائق المسائل الفقهية بالتدبر في بعض الآيات، وكذلك علماء الأصول والكلام وغيرهم، وهذا لا ينافي

ص: 270

وجود باطن شامخ أيضاً محجوب عنا معرفته إلاّ بالمقدار الذي بينه لنا الرسول والأئمة (عليه وعليهم الصلاة والسلام)، وهذا الباطن لا يتعارض مع الظاهر أبداً فلا منافاة.

الوجه الثالث: إن الظاهر هو من المتشابه، وقد تمّ المنع عن اتّباع المتشابه في قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ}(1).

وأشكل عليه: أولاً: صغرىً بعدم كون الظاهر من المتشابه؛ وذلك لأن المتشابه ما اشتبه معناه وذلك لا يكون إلاّ في المشترك اللفظي مع عدم القرينة أو المجمل أو المجاز المشهور الذي تساوى مع الحقيقة بحيث كان التمييز بينهما بالقرينة، وليس اللفظ الظاهر في معنى من المشتبه المعنى.

وفيه: أن بعض الظواهر من المشتبهات التي ما أريد معانيها كقوله تعالى: {إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}(2) فهي ظاهرة في الرؤية البصرية إلاّ أنها آية متشابه أريد منها خلاف الظاهر وهو انتظار رحمة الله تعالى؛ وذلك لدلالة العقل والنص بعدم إمكان رؤيته تعالى، وإرجاع هذه الآية المتشابهة إلى آياتٍ محكمةٍ كقوله: {لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَٰرُ}(3) وقوله: {لَن تَرَىٰنِي}(4).

فالأقرب أن المتشابه هو المجمل أو كل ما لم يُرَدْ ظاهره - ولم يكن من

ص: 271


1- سورة آل عمران، الآية: 7.
2- سورة القيامة، الآية: 23.
3- سورة الأنعام، الآية: 103.
4- سورة الأعراف، الآية: 143.

قبيل إرادة الخاص أو المطلق - ، فهناك تباين بين معنى (المتشابه) و(الظاهر) والنسبة بينهما العموم من وجه، يفترقان في المجمل وفي الظاهر المراد، ويجتمعان في الظاهر غير المراد في غير التخصيص والتقييد.

وعليه فلا يصح الاستدلال لأنه من الاستدلال على منع شيء بمنع مباينه، فتأمل.

وثانياً: كبرىً بعد فرض تسليم شمول المتشابه للظاهر، بعدم بقاء متشابه في القرآن بعد بيان الرسول والأئمة (عليه وعليهم الصلاة والسلام)، فخرجت سائر الظواهر عن المتشابه حكماً وإن كانت داخلة فيه موضوعاً بالفرض، أو يقال: إنه بعد إرجاع المتشابهات إلى المحكمات يتبيّن معناها المراد منها فيجوز حينئذٍ العمل بها، فالمتشابه المذكور إنّما هو المتشابه بالذات والذي ارتفع تشابهه بالبيان.

إلاّ أنه قد يقال: بأن التشابه قد ارتفع في المعنى ولم يرتفع في الحدود في مثل ظهور: {تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٖ}(1) في الإطلاق.

وثالثاً: لزوم الخلف في الاستدلال بهذه الآية على عدم حجية الظواهر؛ وذلك لأن هذه الآية لفظ المتشابه ليس نصاً في الظاهر وإنما ظاهر فيه - على الفرض - ، فإثبات عدم حجية الظواهر بهذه الآية يستلزم عدم حجيتها في المنع عن العمل بالظاهر، وهو خلف.

إن قلت: النهي لا يشمل خصوص هذا الظاهر، للزوم المحذور العقلي، ولا محذور في شمولها لسائر الظواهر، فإن المحذورات العقلية ترفع الحجية

ص: 272


1- سورة النساء، الآية: 29.

بمقدارها لا أكثر.

قلت: الردع عن شيء بإحدى مصاديق ذلك الشيء غير عرفي، فالنهي عن الظاهر بالظاهر غير مراد، ويكون ذلك قرينة على عدم شمول المتشابه للظاهر.

ورابعاً: إمكان جواب استدلال الأخباريين بأنهم يعتبرون الآيات حجة بعد ورود البيان عن المعصومين، وقد ورد البيان بأن (متشابهات) في هذه الآية يراد بها بعض أئمة الضلال(1)، ولم يرد تفسيرها بالظاهر.

تتمة

قيل: إن احتمال شمول المتشابه للظاهر قادح في حجيته، لوجهين:

أحدهما: اليقين باشتغال الذمّة بالنهي عن اتّباع المتشابه، فلا بد من الاحتياط في كل مشكوك كونه متشابهاً.

وفيه: عدم شمول قاعدة (الاشتغال اليقيني يستدعى البراءة اليقينية) لما نحن فيه، لكونه شكاً في الموضوع، وفي مثله تجري البراءة، كمن شك في كون هذا المائع خمراً أم لا فتجري أصالة البراءة، وأصله هو أن الاشتغال إنّما يكون بالبعث مع العلم بالحكم، ولا يكون في الزجر مع الشك في الموضوع.

والآخر: أن احتمال كونه متشابهاً يوجب الشك في حجيته، وقد مرّ أن الشك في الحجية مسرح عدم الحجيّة.

ص: 273


1- الكافي 1: 415؛ بحار الأنوار 23: 208.

وفيه: أن المجمل الدائر بين الأقل والأكثر ليس بحجة في الأكثر، وحيث إن للمتشابه أفراد مقطوعة فلا يكون حجة في الأفراد المشكوكة، فتندرج في حجية الظواهر، وبعبارة أخرى: بعد أن ثبت حجية الظواهر بإمضاء الشارع فلا يضر في الحجية مجرد احتمال الردع، ولذا يصح احتجاج المولى على العبد لو خالف العبد ظاهر الكلام لاحتماله الردع عنه.

الوجه الرابع: العلم الإجمالي بطرو التخصيص والتقييد ونحوهما على كثير من الظواهر، وحيث تنجز العلم الإجمالي فلا بد من الاحتياط وعدم العمل بها!

الجواب: هو انحلال العلم الإجمالي، وقد تمّ بيانه بطرق ثلاث:

الطريق الأول: الانحلال الحقيقي بالانطباق القطعي، أي انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل قطعاً؛ وذلك لأن علمنا الإجمالي بمقدار خلاف الظاهر إنّما هو بالمقدار الذي بينته الروايات التي في أيدينا، ولا علم لنا بما سوى ذلك، بل مجرد احتمال وجود روايات تدل على خلاف الظاهر لم تصل إلينا، وبعبارة أخرى: دائرة العلم الإجمالي ضيقة بمقدار ما بأيدينا من الروايات الشارحة، وينحل العلم الإجمالي بالفحص فيها ووجدان المقدار المعلوم بالإجمال قطعاً.

الطريق الثاني: الانحلال الحقيقي بالانطباق الاحتمالي، بأن نعلم بيان خلاف الظاهر في مجموع الروايات - سواء الواصلة أم غير الواصلة - وبوجدان موارد من خلاف الظاهر في الروايات التي بأيدينا نحتمل انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل، ويكفي احتمال الانطباق في

ص: 274

الانحلال على المبنى.

الطريق الثالث: الانحلال الحكمي - لو لم نقل بالانحلال الحقيقي - وإنما يكون انحلال حكمي لو كان المكلف غافلاً عن تحقق موضوع الحكم في بعض الأطراف، ثم يحصل له العلم الإجمالي وينجز، ثم يلتفت إلى تحقق الموضوع سابقاً في أحد الأطراف، كما لو سقطت قطرة دم في أحد الإنائين فتنجز العلم الإجمالي بوجوب اجتنابهما، ثم علم بأن أحد الإنائين المعيّن كان نجساً بقطرة أخرى، فلا مورد لاستصحاب الطهارة فيه، فيجري استصحاب الطاهرة في الإناء الآخر من غير معارض.

وهكذا في ما نحن فيه، حيث إن تعارض أصالة الظهور في الظواهر المرادة وغير المرادة صار سبباً لتساقطها، وبعد الظفر بموارد التخصيص والتقييد ونحوها تسقط أصالة الظهور فيها، وتبقى الأصالة سليمة عن المعارض في سائر الظهورات!

إن قلت: اشتهر أن الأصل الميت لا يُحيى، وأنه إذا تنجز العلم الإجمالي تساقطت الأصول في الأطراف، فلا يرجع الأصل بعد ذلك أبداً، وبعبارة أخرى: شرط الانحلال الحكمي هو سبق المنجّز الشرعي على حدوث العلم الإجمالي، كما لو علم بنجاسة أحدهما المعيّن بالبول، ثم سقطت قطرة دم في أحدهما غير المعيّن، وحينئذٍ لا يتنجز العلم الإجمالي لعدم العلم بحدوث تكليف جديد، وما نحن فيه من قبيل تأخر العلم الإجمالي.

قلت: مع قطع النظر عن البحث المبنوي، فإن هذا الإشكال خاص بالأصول العملية، لا الأمارات؛ وذلك لسبق وجود الحجة؛ لأن إمكان

ص: 275

وصولها بالفحص يكفي في تنجزها، وبعبارة أخرى: في تمامية الحجة يكفي الحجة بوجودها الواقعي مع كونها في معرض الوصول إلى المكلّف، فالظفر بالحجة متأخر عن العلم الإجمالي وأما الحجة فهي متقدمة، فتأمل.

الوجه الخامس: ما ورد في النهي عن التفسير بالرأي، وحمل اللفظ على ظاهره منه.

ويرد عليه: أولاً: إن ذلك ليس تفسيراً ولا بالرأي؛ لأن (التفسير) هو كشف القناع عمّا عليه القناع، والظاهر لا قناع عليه، فلو عمل العبد بظاهر كلام مولاه لا يقال إنه فسّره، وكذلك (الرأي) لا يطلق على حمل اللفظ على ظاهره، بل على ما كان خلافاً للظاهر، والحمل عليه إما لتأييد ما يعتقده مسبقاً فيريد ليّ النص ليتطابق مع معتقده، وإما لأجل أن ذوقه أو هواه مع شيء فيحمل القرآن عليه حتى لو كان مجملاً أو خلاف الظاهر.

وثانياً: لو فرض أن الحمل على الظاهر من التفسير بالرأي، فأدلة العمل بظاهر القرآن - من حديث الثقلين وأحاديث العرض ونحوها - إمّا أخص من الأدلة الرادعة عن التفسير بالرأي لشمولها لحمل المشترك على إحدى معنييه من غير قرينة، ولحمل اللفظ على خلاف ظاهره، وللمجمل من غير تبيين، فيخص بها أدلة المنع، وإمّا النسبة العموم من وجه لو قلنا بأن أدلة العمل شاملة للنص أيضاً فيتعارضان في مورد الاجتماع - وهو حمل اللفظ على ظاهره - وبعد التساقط إما يكون المرجع السيرة العقلائية التي لم يثبت الردع عنها حينئذٍ أو استصحاب الحجية الثابتة قبل صدور روايات الردع، فتأمل.

ص: 276

الوجه السادس: زعم التحريف، حيث زعم سقوط كثير من الآيات ولعل في الساقطة قرينة على عدم إرادة الظاهر في الموجودة!!

وفيه: أولاً: عدم وقوع التحريف أبداً لا بسقوط ولا بتصحيف ولا بتغيير مادة أو هيأة، فالقرآن الذي بأيدينا هو هو كما نزل على رسول الله (صلی الله علیه و آله) .

وثانياً: على فرض المحال من وقوع التحريف فنقول: إن العلم الإجمالي صغير منذ البداية وهو ينحل بالفحص، أي نحن نعلم بأن الآيات التي يراد بها خلاف الظاهر موجودة في الآيات الموجود بأيدينا، وبالفحص في الروايات وسائر الآيات وجدنا موارد إرادة خلاف الظاهر من التخصيص والتقييد ونحوهما، وأما الآيات المزعوم سقوطها فلا علم إجمالي بوجود قرائن فيها تدل على إرادة خلاف الظاهر في الآيات الموجودة!

هذا مضافاً إلى القطع بأن الروايات بينت القرائن فحتى لو فرض سقوط قرينة من الكتاب فإن تلك القرينة قد بينها الأئمة (علیهم السلام) في كلامهم.

تكملة

قد يقال: إن الخلاف في حجية ظواهر الكتاب قليل الجدوى؛ لأن جلّ الآيات المتعلقة بالأصول أو الفروع مجملة لا ظاهر لها فلا بد من الرجوع إلى تفسير الرسول (صلی الله علیه و آله) والأئمة (علیهم السلام) ، مضافاً إلى أنه لو كانت ظاهرة فقد وردت روايات كثيرة في تفسيرها أو متوافقة مع حكمها.

ويرد عليه: أن الروايات الواردة في المعاملات قليلة، وهناك أحكام كثيرة فيها تستفاد من إطلاق الآيات والتي لم يرد في تفسيرها أو في الحكم المتطابق معها رواية، كما أن هناك في بعض الأحكام روايات متعارضة

ص: 277

فعلى مبنى التساقط والرجوع إلى الأدلة الأخرى يكون المرجع أحياناً إطلاق الآيات، وهناك أمثلة كثيرة مبثوثة في الفقه، وقد ذكر السيد الأخ في تبيين الأصول سبعة وثلاثين مسألة منها، فراجع(1).

مضافاً إلى أن هناك بعض مسائل العبادات لم يرد فيها حديث مع وجود إطلاق آية وإمكان التمسك به، كالاستدلال بعدم جواز الوضوء بالماء المضاف بقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً فَتَيَمَّمُواْ}(2).

تنبیهات
التنبیه الأول: الشك في تطابق الظهور الشخصي والنوعي

في ما لو شك في تطابق الظهور الشخصي مع الظهور النوعي.

وحيث قد ذكرنا أن ملاك الحجية هو الظهور النوعي، فإن علم به فهو، وإن لم يعلم به فالظهور الشخصي طريق عقلائي إلى الظهور النوعي، لبناء العقلاء على المطابقة بينهما، وقيل في سبب هذا الأصل العقلائي: إن الطبيعة الأولية للذهن هي السلامة من الشذوذ في الفهم والاعوجاج في السليقة، فيكون الذهن عرفياً ومتطابقاً للأذهان العرفية عادة، والحاصل: أن الظهور الشخصي كاشف عن الظهور النوعي، وهو كاشف عن مراد المولى.

نعم، لو علم بمخالفة الظهور الشخصي للظهور النوعي، فلا بد له من اتباع الظهور النوعي؛ وذلك لأن الظهور النوعي طريق إلى اكتشاف مراد المولى لا الظهور الشخصي، حيث إن المولى يتكلم بطريقة الناس

ص: 278


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 6: 193-198.
2- سورة النساء، الآية: 43؛ سورة المائدة، الآية: 6.

لإفهامهم، لا بطريقة شاذة لأحدهم.

ثم إنه حين الشك في المطابقة فإن الأصل وإن كان المطابقة، إلاّ أن العقلاء إنما يجرونه بعد الفحص؛ وذلك للزوم الفحص في الشبهات الحكمية، فكما لا يصح العمل بالدليل العام قبل الفحص عن الخاص ونحوه كذلك في ما نحن فيه.

وطريقة الفحص إما بالتحقيق الميداني لمعرفة العرف أو عن طريق معرفة فهم الفقهاء، وإطباقهم على فهم معنى دليل على كونه هو المعنى العرفي المراد.

التنبیه الثاني: لو تردد الخاص بين كونه فرداً للعام أو لا

لو صدر حكم للعام، ثم صدر حكم يضاده لفرد، وتردد أمره بين كونه فرداً للعام أو لا، كما لو قال: (أكرم العلماء) و(لا تكرم زيداً) وتردد زيد بين زيد العالم وزيد الجاهل، فهل أصالة العموم تعيّن زيداً في الجاهل؟

مقتضى القاعدة هو الاحتياط بمقتضى العلم الإجمالي، ففي المثال لا يجوز إكرامهما معاً، ولا ترك إكرامهما معاً لاستلزامه المخالفة القطعية، بل يكرم أحدهما ويترك إكرام الآخر مخيراً؛ وذلك لتحصيل الموافقة الاحتمالية بعد عدم إمكان إحراز الموافقة القطعية.

إلاّ لو انحلّ العلم الإجمالي، كما ذهب إليه المحقق النائيني(1)، فإن دليل العام ينفي الحرمة عن أحد طرفي العلم الإجمالي - وهو زيد العالم - ويوجب اختصاص الحرمة بالطرف الآخر، فمقتضى أصالة العموم شمول

ص: 279


1- أجود التقريرات 2: 318.

حكم وجوب الإكرام لزيد العالم في المثال، وهذا يلازم حرمة إكرام زيد الجاهل، حيث إن مثبتات الأصول اللفظية حجة.

ولا يخفى أن هذا مختص بما إذا كان الخاص المشكوك منفصلاً، وأما في المتصل فلا ينعقد ظهور في العموم مع احتمال قرينية الموجود قبل تمام الكلام، مضافاً إلى التأمل في إجراء العقلاء أصالة العموم هنا.

التنبیه الثالث: في أصالة عدم النقل
اشارة

في أصالة عدم النقل: حيث إن اللغات متحركة في طول الزمان، فالمناط هو الظهور في زمان صدور الكلام، لا غيره من الأزمنة؛ وذلك لأن أصالة الظهور أصل عقلائي ومنشؤها ظهور حال المتكلم في إفهام مرامه للمستمعين وأنه استعمل أساليب كلامهم وراعى فهمهم.

ثم إنه لا كلام في ما لو علمنا عدم تغيّر الظهور أو علمنا تغيّره، وإنما الكلام في ما لو شككنا في ذلك، فكيف نحرز ظهور زمان الصدور بعد أن لم يكن ظهور زماننا حجة؟

لا يخفى عدم جريان الاستصحاب القهقرائي لعدم توفر أركان الاستصحاب فيه فلا يقين سابق ولا شك لاحق، بل الأمر بالعكس، كما

لا يجري استصحاب عدم النقل لعدم اليقين السابق بالظهور في زمان الصدور، وكونه مثبتاً لو أريد استصحاب العدم الأزلي، حيث إن الأثر

- الذي هو الحجية - لا يترتب على عدم النقل مباشرة، بل على الظهور في زمان الصدور.

بل الدليل هو أصالة عدم النقل، وهي أصل عقلائي، ونكتة هذه السيرة العقلائية في أن تغيير الظهورات أو المعاني قليل، فالأخذ بظهورات

ص: 280

النصوص القديمة مع احتمال تغيّر بعضها أولى من إلغائها بذريعة احتمال تغيّر البعض.

تكملة: لو علمنا بالنقل وشككنا في تقدمه أو تأخّره

هل تجري أصالة عدم النقل لو علمنا بالنقل وشككنا في تقدمه على الاستعمال أو تأخره عنه، كما لو علمنا بحقيقة شرعية أو متشرعية وشككنا في أن استعمال الكلمة كان قبلها أم بعدها، مثلاً كلمة (الكراهة) كانت ظاهرة في المعنى الأعم من الحرام والمكروه الاصطلاحي، ثم تبدلت إلى اصطلاح شرعي في المرجوح المرخَّص فيه، فهنا حالتان:

الحالة الأولى: الجهل بتاريخ النقل والاستعمال، فلا يجرى استصحاب عدم النقل إلى حين الاستعمال، ولا العكس، لتعارض الاستصحابين، ولا تجري أصالة عدم النقل؛ لأن بناء العقلاء عليها حين الشك في أصل النقل، لا حين العلم به مع الشك في تقدمه أو تأخره.

الحالة الثانية: العلم بزمان النقل والشك في زمان الاستعمال، أو العكس.

وهنا لا يجري استصحاب المجهول إلى ما بعد زمان المعلوم، لا لكونه مثبتاً، بل لتعارض الاستصحابين.

إن قلت: يوجد يقين سابق في المعلوم فيجري، ولا يقين سابق في المجهول فلم تتم فيه أركان الاستصحاب!

قلت: بل يجري في المجهول الاستصحاب باعتبار الزمان الإضافي، والتفصيل في باب الاستصحاب.

كما لا تجري أصالة عدم النقل العقلائية؛ وذلك لأن الحجة هي الظهور

ص: 281

لا الوضع، ومع العلم بالوضع الجديد لا ينعقد الظهور أصلاً.

التنبیه الرابع: لو شاع الاستعمال المجازي

لو شاع استعمال لفظ في معناه المجازي أو في بعض مصاديق المعنى الحقيقي، فالأصح جريان أصالة الحقيقة لحمله على المعنى الحقيقي أو على المعنى العام؛ إذ مجرد احتمال قرينية كثرة الاستعمال غير مضرّ بأصالة الحقيقة.

كما أنه لو كانت كثرة الاستعمال سبباً للشك في النقل، فأصالة عدم النقل جارية عقلائياً.

ولذا ذهب المشهور إلى بقاء صيغة الأمر على الظهور على الوجوب رغم كثرة الاستعمال في الاستحباب، كما مرّ.

التنبیه الخامس: في تعارض الحقيقة العرفية مع اللغوية

لو تعارضت الحقيقة العرفية مع الحقيقة اللغوية، فالمقدّم هو الأول؛ وذلك لأن المتكلّم الحكيم إذا كان من أهل اللسان فإنما يتكلّم بحسب الفهم العرفي، حيث إنه يريد إفهام المستمعين، لا بحسب المعنى اللغوي.

نعم، لو جهلنا الحقيقة العرفية، فإن الحقيقة اللغوية طريق عقلائي إليها بمناط أكثرية التطابق بينهما.

ص: 282

فصل فی حجية قول اللغوي

تمهيد:

الحاجة إلى قول اللغوي إنما هي لو لم نعرف المعنى العرفي، بل نريد أن نتخذ اللغة طريقاً إليه، وذلك تارة يكون لفهم أصل المعنى، وأخرى لفهم حدود المعنى.

وليس الكلام في ما لو أورث كلام اللغوي العلم أو الاطمئنان، كما لا بحث في ما لو توفرت شروط الشهادة من العدد والعدالة، بل الكلام في ما لو لم يورث قوله الاطمئنان ولم تتوفر شروط الشهادة.

وقد استدل لحجيته بأمور، منها:

الدليل الأول: السيرة العقلائية في الرجوع إلى أهل الخبرة في مجال خبرتهم، وتتوفر في هذه السيرة شروط الحجية، فهي متصلة بزمان المعصومين، ولم يردعوا عنها، ولم يكن هناك مانع عن ردعهم، ومن المعلوم أن اللغوي خبير بالأوضاع.

وأشكل عليه: أولاً: بأن المتيقن من السيرة هو الرجوع إلى أهل الخبرة في ما إذا أوجب قولهم الوثوق والاطمئنان، لا مطلقاً، ولا يكاد يحصل من اللغوي وثوق بالأوضاع.

وفيه: أن تتبع موارد مراجعتهم إلى أهل الخبرة يكشف عن رجوعهم

ص: 283

إليهم مطلقاً وعدم تفريقهم بين حصول الاطمئنان وعدمه، إلاّ لو علموا بخطئهم، ويدل عليه عدم قبولهم عذر من ترك كلام أهل الخبرة بذريعة عدم حصول الوثوق والاطمئنان به.

وثانياً: بأن خبرته إنما هي في مجال الاستعمال لا الوضع؛ لأنه يضبط موارد الاستعمال بالتتبّع ولا يعيّن حقيقتها من مجازها.

وفيه: إن عادتهم نقل المعاني الحقيقية حصراً، ولذا لا تراهم يذكرون في معنى الأسد الرجل الشجاع، وهكذا سائر المجازات المشهورة أو غير المشهورة.

مضافاً إلى أن الاستعمال من غير قرينة آية الحقيقة؛ وذلك لحصول التبادر من غير استناده إلى سبب يدعو إلى المجازية، وعدم التفات اللغوي للقرينة منفي بأصالة عدم الغفلة، وعدم نقله لها عمداً منفيّ بوثاقته حسب المفروض.

إن قلت: اللغوي يلاحظ موارد الاستعمال الجزئية، ثم يحدس بالجامع، فكيف يعتمد على ذلك مع إمكان الخلل في حدسه بسبب احتمال عدم علمه بسائر موارد الاستعمال، فيكون الجامع جزء من الحقيقة لا كلّها، مثلاً رأى اللغوي موارد استعمال البيع وكانت كلها تبديل بضائع بالنقود أو ببضائع أخرى، فحدس أن البيع هو مبادلة مال بمال، ولم ير استعماله في مبادلة حق بحق أو حق بمال مثلاً، فكان جامعه الحدسي عاكساً لبعض الحقيقة لا كلها؟

قلت: مجرد الاحتمال غير ضائر؛ لأن حدس الخبير حجة مطلقاً، إلاّ لو عارضه دليل أقوى أو مساوي.

ص: 284

وثالثاً: إن اللغوي ليس بخبير، بل هو مخبر؛ وذلك لأن الرجوع إلى أهل الخبرة إنما هو في الأمور الحدسية التي تحتاج إلى إعمال النظر، لا الأمور الحسيّة التي لا تحتاج إلى ذلك؛ إذ اللغوي ينقل ما سمعه أو وجده من استعمالات، وعليه فيكون كلام اللغوي داخلاً في الشهادة التي تحتاج إلى العدد والعدالة.

وفيه: إن أكثر عمل اللغوي هو الحدس، بانتزاع الجامع عن موارد الاستعمالات، وهذا الجامع قد يكون قريباً أو بعيداً.

مضافاً إلى أن المشهور كفاية إخبار الثقة الواحد في الخبر الحسي، وإنما العدد والعدالة يشترط في القضاء.

الدليل الثاني: انسداد العلم باللغات أو بخصوصيات المعاني غالباً، فيكون كل ظن حجة، وقول اللغوي يورث الظن، وقد يُقرّر الدليل بالعلم الإجمالي بوجود تكاليف إلزامية في موارد الجهل بالأوضاع، ولا تجري البراءة لاستلزامها المخالفة القطعية، ولا الاحتياط لاستلزامه العسر.

وأشكل عليه: أولاً: بعدم حجية الانسداد الصغير، لعدم تمامية مقدماته فيه، فلا البراءة توجب الخروج عن الدين، ولا الاحتياط يستلزم اختلال النظام أو العسر والحرج.

إن قلت: الانسداد الصغير في اللغات يؤول إلى الانسداد الكبير؛ لأن غالب الأحكام إثباتها بالدليل اللفظي من الكتاب والسنة، وغالب الألفاظ مجهولة الحدود.

قلت: اللغوي لا يتعرض إلى بيان حدود معاني الألفاظ - سعة وضيقاً - ،

ص: 285

فلو فرض الانسداد فيها فلا يحصل الظن بها من كلامه لعدم تعرضه لها.

وثانياً: عدم تحقق الانسداد الصغير؛ وذلك لأن معاني الهيئات معلوم بالاستقراء وباتفاق أهل العربية مما يورث القطع كما أن غالب المواد معانيها معلومة بالعرف أو باتفاق أهل اللغة. نعم، قد يحتاج إلى قول اللغوي في كثير من الموارد، لكنها ليس بتلك الكثرة الموجبة للانسداد.

وثالثاً: بأنه قد لا يحصل الظن من قول اللغوي، فالدليل أخص من المدعى، كما قد يحصل الظن من غيره فالدليل أعم منه.

الدليل الثالث: ما قيل: من أن الأدلة الدالة على حجية خبر الثقة مطلقة، فتشمل خبره في الأحكام والموضوعات، ولذا يعتمد الفقهاء على الروايات المتضمنة لإخبار الثقة عن موضوعات الأحكام الشرعية، ولا فرق بين ذلك في الروايات أو في كتب اللغة.

مثلاً لو قال الراوي: (دخلت في يوم الجمعة على المعصوم فقال: هذا يوم عيد) فإن هذه الرواية تتضمن كلاماً للراوي بأنه كان يوم الجمعة، وكلاماً للمعصوم بأنه يوم عيد، ومع فرض وثاقة الراوي فكلا الأمرين حجة، وعلى هذا كان دأب الفقهاء.

وأشكل عليه: أولاً: إن مورد الروايات الإخبار عن الموضوعات الحسية، وأما كلام اللغوي فهو عن حدس، ولا حجية للخبر عن حدس.

وفيه: أن الحدس القريب إلى الحس مشمول لأدلة الحجية، كالإخبار عن العدالة والشجاعة وسائر الملكات النفسانية التي لا طريق للحس إليها، بل يتم الحدس بها عن طريق آثارها. نعم، أدلة حجية الشهادة منصرفة عن

ص: 286

الحدس البعيد عن الحسّ.

واللغوي يحدس بالجامع عن طريق تتبع موارد الاستعمال، وهو حدس قريب إلى الحس، كما لا يخفى.

وثانياً: باستلزامه الدور، حيث إن شمول دليل الحجية لكلام اللغوي إنما هو باعتبار أثره وهو الحكم الشرعي، ولولا ذلك لكان جعل الحجية لغواً، فحجية الخبر متوقفة على وجود الأثر، وهذا الأثر فرع الحجية ومتوقف عليها.

وفيه: أن الموقوف عليه غير الموقوف عليه؛ لأن الأثر متقدم لحاظاً ومتأخر خارجاً، فلا دور، وهذا نظير الإثبات التعبدي لكل موضوع ذى أثر، حيث إن شمول دليل التعبد له إنما هو باعتبار آثاره الخارجية، فيلاحظ المولى الأثر فيجعل الحجية فيترتب عليها الأثر خارجاً.

وثالثا:ً إن دليل حجية الأخبار لا يشمل الموضوعات مطلقاً، إلاّ أن حجية خبر الرواة عن الموضوع بدلالة الاقتضاء، أي باعتبار حجية خبره عن الحكم، ولا يستقيم ذلك إلاّ بحجية خبره عن الموضوع، والاّ كان خبره عن الحكم مبهماً وجعل الحجية له لغواً، فمثل خبره عن الحكم بقول الإمام اغتسل في هذا اليوم، لا معنى لجعل الحجية له إلاّ مع جعل الحجية لخبره عن أنه كان يوم الجمعة مثلاً.

وفيه: عدم وجود دلالة الاقتضاء هنا؛ وذلك لأن أدلة حجية الخبر مطلقة، وهي شاملة للأخبار التي لم يُخبر فيها الراوي عن الموضوع، وهذه هي أكثر الأخبار، فلا لغوية إذا لم تشمل تلك الأدلة الروايات المتضمنة لخبر الراوي عن الموضوعات، فأقصى حدّ يمكن القول بإجمال هذه الأخبار، ولا محذور فيه، فتأمل.

ص: 287

فصل فی الإجماع

اشارة

وفيه مبحثان

المبحث الأول: الإجماع المحصّل
اشارة

ومستند حجيته أحد أمور:

المستند الأول: قاعدة اللطف

بمعنى أن حكمة الله تعالى تقتضي بأن لا يضيع حكمه الواقعي عن الناس أجمع، وحيث اتفق العلماء جميعاً على حكم علمنا أن غير ذلك الحكم ليس حكماً واقعياً لله تعالى، ولولا ذلك لكان ضياعه خلاف الحكمة، والله سبحانه منزّه عنه، فينحصر حكمه الواقعي في هذا الذي عليه الإجماع.

ويرد عليه: أولاً: أن الثابت من القاعدة هو اللطف المحصِّل لغرض الخلقة، واللطف المحصِّل لغرض التكليف، وأما اللطف بمطلق ما يقرب المكلّفين إلى الطاعة الواقعية ويبعدهم عن المعصية الواقعية فلا، وما نحن فيه من الثالث.

أما الأول: فبمعنى توقف غرض الخلقة على شيء بحيث لولاه لكان الخلق عبثاً، وهذا من أدلة اقتضاء الحكمة لبعث الأنبياء (علیهم السلام) ، فإنّ غرض الخلقة بالعبادة ومن ثمّ الرحمة يتوقف على ذلك.

وأما الثاني: فبمعنى عبثية التكليف لولاه، كالوعد والوعيد؛ إذ لا معنى

ص: 288

للوجوب والحرمة من غير ثبوت ثواب أو عقاب، وهذا أيضاً من الحكمة.

وأما الثالث: فحيث إنه ليس غرضاً للخلقة ولا للتكليف ولا ينطبق عليه عنوان ملزم آخر فلا يدخل في باب الحكمة، بل هو داخل في باب الرحمة، ولا دليل على وجوبها دائماً.

وثانياً: لو فرض جريان القاعدة في مطلق التكليف، فالقدر الثابت إنما هو في ما لم يكن الناس السبب في ضياع الحكم الواقعي حيث غاب الإمام (علیه السلام) بسبب سوء تصرفاتهم، كما يكفي وضع الحكم الظاهري بديلاً عن الحكم الواقعي.

المستند الثاني: الحدس القطعي

ويمكن تقريره بوجوه:

التقرير الأول: الحدس بوجود دليل معتبر لم يصل إلينا، وهذا الحدس قطعي بسبب الملازمة العادية أو الاتفاقية بين وجود الدليل المعتبر، وبين ورع واحتياط العلماء الماضين وعدم عملهم بالأدلة غير المعتبرة كالقياس ونحوه، وهذه الملازمة إنما تفيد القطع لو علمنا باعتمادهم على النصوص لا على القواعد والأصول وبكون المسألة معنونة في عصر المعصومين (علیهم السلام) .

والحاصل: أن إجماعهم يكشف عن وجود نص من المعصوم (علیه السلام) وصلهم ولم يصلنا.

وأشكل عليه بأمور، منها:

الإشكال الأول(1): إنّ مدرك الحكم الشرعي في غير الضروريات

ص: 289


1- نهاية الدراية 3: 185.

والمسلّمات أربعة، والإجماع غير كاشف عن أيٍّ منها.

أما الكتاب: فهو موجود بأيدينا ولم نجد دليلاً على المسألة فيه، وعلى فرض استظهارهم دلالة خفيت عن المتأخرين، فاستظهارهم غير حجة علينا.

واما العقل: فلا يتصور وجود قضية عقلية دالة على الحكم في المسألة وهي خافية على المتأخرين.

وأما الإجماع: فلا مورد له هنا؛ لأن الكلام في نفس الإجماع، فما يستند إليه المجعول لا محالة غيره.

وأما السنة: فنعلم بأن العلماء بعد الغيبة لم يسمعوا الإمام مباشرة ولا رأوا فعله وتقريره، فينحصر المدرك في الخبر الحاكي، ولا دليل على اعتباره عندنا لا من جهة السند ولا من جهة الدلالة...

أما من حيث السند: فإنه لو اختلفت مباني المجمعين في الأسناد التي هي حجة لكشف اتفاقهم على أن المستند في غاية الصحة، لكن لو اتفقت مبانيهم كما لو كانوا يرون حجية الخبر الموثق، فحينئذٍ من لا يرى حجية إلاّ الخبر الصحيح - مثلاً - لا يمكنه الاعتماد على إجماعهم.

وأما من حيث الدلالة: فإنه من النادر كون الخبر نصاً في مدلوله، والغالب كونه ظاهراً فيه، ولا يجدي نفعاً؛ إذ الظهور عندهم لا يستلزم الظهور عندنا، وفهمهم ليس بحجة علينا، نظير استظهار القدماء نجاسة البئر من الأخبار وعدم استظهار المتأخرين.

مضافاً إلى أنهم لو عثروا على هذه الأخبار المعتبرة سنداً الظاهرة دلالة فلماذا لم يتعرضوا لها في مجاميع الأخبار ولا في الكتب الاستدلالية!

ص: 290

وأورد عليه: أولاً(1): بعدم انحصار المستند في ما ذكر، بل هناك مستندان آخران أيضاً، هما: ارتكاز المتشرعة وسيرتهم.

أما الارتكاز، بأن يكون الحكم الشرعي واضحاً عندهم نتيجة التلقي من الطبقات السابقة حتى تصل إلى المعاصرين للمعصومين (علیهم السلام) ، بحيث لم يكن الحكم بحاجة إلى إقامة الدليل بعد وضوحه.

والحاصل: أن الإجماع يحتمل كونه نتيجة الارتكاز، والارتكاز نتيجة التلقي من الطبقات السابقة، وموقف الطبقات السابقة معلول للموقف الشرعي وكاشف عنه، وهذا الارتكاز دليل قطعي وليس خبراً واحداً بحيث يمكن الإشكال عليه سنداً أو دلالةً.

وأما السيرة المتشرعية، فهي السيرة العمليه المتصلة بزمن المعصوم (علیه السلام) كالمسح ببعض الر ِجل.

وثانياً: لم يكن من دأب مؤلفي المجاميع ذكر جميع الأخبار، بل الاختيار منها، كما لم يكن من دأب الفقهاء في كتبهم الاستدلالية ذكر الأخبار الدالة على ما يذهبون إليه، فما أكثر الأخبار التي توجد في المجاميع ولم يذكرها الفقهاء السابقون في كتبهم الاستدلالية، وكذلك ما أكثر ما ذكروه في كتبهم الاستدلالية مع عدم ذكره في المجاميع، فمن المحتمل جداً وجود أخبار لم تصل إلينا ووصلت إليهم مع عدم ذكرها في كتبهم.

الإشكال الثاني(2): إن اتفاق الجمع الغفير إنما يكشف عن وجود الدليل

ص: 291


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 6: 325-330.
2- منتقى الأصول 4: 241.

المعتبر لو كانوا كلهم في عرض واحد، وأما مع تعاقبهم في الزمان فلا، لاحتمال استناد المتأخرين إلى إجماع العصر السابق عليهم لقاعدة اللطف ونحوها، وهكذا في كل عصر سابق، إلى أن يصل إلى أسبق العصور، وهؤلاء ليسوا كثيرين عدداً، وإجماعهم لا يكشف عن وجود دليل معتبر؛ إذ من المحتمل استناد كل واحد منهم إلى دليل غير معتبر عندنا سنداً أو غير ظاهر دلالة.

وفيه: إن أسبق الصور إن كان في زمن الغيبة الصغرى فاعتماد العلماء فيها على حديث واستنباطهم الحكم الشرعي منه كاشف نوعاً عن اعتباره سنداً وظهوره في المطلوب بالملازمة العادية أو الاتفاقية، ولو فرض وجود احتمال بعدم الاعتبار سنداً وعدم الظهور دلالة فهو احتمال لا يعتني به العقلاء، فتأمل.

التقرير الثاني: إن اتفاق المرؤوسين يكشف عن قول الرئيس عادة، ومع ثبوت ورعهم وانقيادهم وعدم اعتمادهم على الاستحسانات يكون الكشف قطعياً عادة.

وأشكل عليه: أولاً: بأن ذلك مشروط بملازمتهم للرئيس، وهو غير متحقق في عصر الغيبة.

إن قلت: لا فرق بين الوصول إلى الرئيس أو الوصول إلى كلامه وأوامره ونواهيه.

قلت: ذلك إذا ثبت وجود نصوص وصلت إليهم دوننا، وأما مع احتمال عملهم بالأصل العملي ونحوه فلا.

ص: 292

وثانياً(1): إنما يصح هذا إذا كان اتفاقهم عن قرار مسبق بينهم، مع ملاحظة أنه لا يحتمل فيهم التواطئ على الكذب ولا الفتوى بغير علم، وأما لو لم يكن عن قرار مسبق بينهم فلا يمكن دعوى الملازمة العادية، فتأمل.

التقرير الثالث: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإرشاد الجاهل وتنبيه الغافل كل ذلك واجب، وعدم ردع الإمام (علیه السلام) المجمعين يكشف عن رضاه وتقريره.

وفيه: إن شرط هذه الواجبات غير متحقق، وإلاّ لوجب الردع والإنكار حتى مع وجود الخلاف، والحاصل: أنه (علیه السلام) غير مكلّف بهذه الأمور في عصر الغيبة.

المستند الثالث: النصوص الشرعية

منها: قوله تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنۢ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}(2) ببيان أن مخالفة الإجماع هو اتباع لغير سبيل المؤمنين، وحيث لا واسطة فيجب اتباع سبيل المؤمنين، وشأن نزول الآية وإن كان في أصول الدين، حيث نزلت في منافق ارتد ولحق بمكة(3) إلاّ أن خصوصية المورد لا تخصص الوارد، مضافاً إلى استدلال الأئمة (علیهم السلام) بهذه الآية في بعض الفروع.

ويرد عليه: أولاً: إن (اتباع غير سبيل المؤمنين) ظاهر في ترك ما هو

ص: 293


1- فوائد الأصول 3: 150.
2- سورة النساء، الآية: 115.
3- راجع تفصيل القصة في البرهان في تفسير القرآن 3: 225-227.

شعار المؤمنين كترك الإيمان أو ترك الضروريات والمسلّمات، لا مجرد معصية عملية أو مخالفة فرعية، وغالب المسائل الإجماعية في فروع ليست لها تلك الشعارية وخاصة الفروع قليلة الابتلاء، أو غير معلومة الحكم لدى الغالب.

وثانياً: بأن المؤمنين جمع محلّى باللام فيفيد العموم، فلا بد من إحراز دخول المعصوم (علیه السلام) فيهم، ومع عدم إحرازه يكون التمسك بالآية تمسكاً بالعام في الشبهة المصداقية، فتأمل.

ومنها: ما روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «لا تجتمع أمتي على ضلالة»(1).

ويرد عليه: مع ضعف السند، أن (الضلالة) ظاهرة في الانحراف بما يستلزم الإثم، أو الانحراف في الأصول، وليس الخطأ المعذور فيه في الفروع من الضلالة، مضافاً إلى عدم تحقق الاجتماع مع عدم العلم بقول المعصوم (علیه السلام) لكونه من الأمة بل رأسها.

ومنها: قوله (علیه السلام): «فإن المجمع عليه لا ريب فيه»(2)، ومن المعلوم أن مورد الحديث هو مع عدم العلم بقول الإمام (علیه السلام) ، حيث ورد في الخبرين المتعارضين اللذين لا نعلم صدور أيّهما عن الإمام (علیه السلام) ، وهكذا في إجماعات عصر الغيبة فيشملها الحديث.

وأورد عليه: بأن المراد من «المجمع عليه» هو الشهرة الروائية، بقرينة قوله (علیه السلام) قبل هذا المقطع: «خذ بما اشتهر بين أصحابك».

ص: 294


1- الاحتجاج 2: 450.
2- الكافي 1: 68؛ وسائل الشيعة 27: 106.
المستند الرابع: الحجية العقلائية للإجماع

وحيث إن طرق الطاعة والمعصية عقلائية، فيكون الإجماع منجزاً ومعذراً. نعم، لو عارضه دليل أقوى لرجح عليه كما في تعارض سائر الأدلة.

ولهذا المستند تقريرات متعددة، منها:

التقرير الأول(1): استقرار بناء العقلاء على اتباع إجماع أهل الخبرة الثقاة من كل فن في ما هم خبراء فيه، وكفايته في مقام التنجيز والإعذار ثابتة.

ومقتضى هذا التقرير هو كون الإجماع دليلاً برأسه، لا مقدمة لكشف السنة.

التقرير الثاني: دليل السبر والتقسيم؛ وذلك لأن عدم مطابقة الإجماع للواقع إمّا لأجل تعمد الكذب وهو منفي بوثاقتهم، وإمّا لجهلهم وهو منفي بكونهم من أهل الخبرة، وإما لخطئهم في الحدس، وهو منفي عقلائياً باتفاقهم، بل احتمال خطئهم جميعاً أقل من احتمال خطأ الثقة في خبره الحسي، وحيث انتفت جميع أسباب عدم المطابقة للواقع فلم يبق إلاّ القول بإصابتهم للواقع، هو حجة عند العقلاء.

القرير الثالث: تراكم الظنون، فقد قيل: بأن الظن إنما يتولد من قلة احتمال مخالفة الواقع، وكلّما ضعف احتمال المخالفة قوي الظن إلى أن يصل إلى حد الاطمئنان، وهكذا الإجماع المحصل مع عدم وجود مخالف فاحتمال خلاف الواقع فيه منفيّ عقلائياً.

وأشكل عليه: أولاً: عدم اتصاله بزمان المعصومين (علیهم السلام) ؛ إذ الإجماع إنما هو لعلماء عصر الغيبة.

ص: 295


1- بيان الأصول 1: 314.

وفيه: أن المراد كبرى بناء العقلاء في طريقية اتفاق خبراء أيّ فن وكشفه عن الواقع، وهذه الكبرى كانت موجودة في زمنهم (علیهم السلام) ونالت تقريرهم.

وثانياً: إن تراكم الظنون إنما يجدي في الأخبار الحسيّة، كالخبر المتواتر، فإن احتمال التواطئ على الكذب وكذا احتمال خطأ الكل مستحيل عادة، وأما الأخبار الحدسية - والتي تحتاج إلى إعمال فكر ونظر - فكما يحتمل خطأ الواحد فيها كذلك يحتمل خطأ المجموع، ولذا ما أكثر اتفاق علماء الفنون المختلفة على شيء ثم اكتشافهم خطأهم فيه.

وثالثاً(1): إن هذا إنما يستقيم لو كان المجمعون أو أكثرهم يقتصرون في معرفة الأحكام على الأدلة القطعية، أما مع استناد الأكثر على الأدلة الظنية فلا يحصل القطع بوجود دليل علمي قاطع للعذر، كما لو أخبرنا مائة بظنهم بعدالة زيد فإنا لا نقطع بعدالته.

ورابعاً: تراكم الظنون لا إطلاق له، فقد لا يحصل اطمئنان لاختلاف الأخبار والأشخاص والقرائن، ولا يكفي الاطمئنان النوعي هنا، وإنّما قد يقال: بكفايته في الأمور الحسية أو الحدسية القريبة من الحس وأما الحدسية البعيدة عن الحس فربما لا يحصل الاطمئنان النوعي، فتأمل.

المبحث الثاني: الإجماع المنقول

وهذا فرع من فروع بحث حجية الخبر الواحد، فنقول:إن الخبر إذا كان

ص: 296


1- كشف القناع: 176؛ موسوعة الفقيه الشيرازي 6: 343.

في الموضوعات وكان في مقام الشهادة فلا بد من العدد والعدالة، وفي غير مقام الشهادة فالأقوى الاكتفاء بالثقة الواحد، وهكذا في الأحكام كما سيأتي.

ولا بد في حجية الخبر في الأحكام من كونه عن حس أو حدس قريب إلى الحسّ - بأن تكون مقدماته حسية - كالإخبار عن عدالة زيد مثلاً، أما الحدس البعيد عن الحس بأن كانت مقدماته نظرية فلا تشمله أدلة الحجية إلاّ إذا كان من خبير لغيره فيدخل في التقليد.

وعليه فلو أخبر شخص بخبر حسّي وكان يراه كاشفاً عن أمر حدسي، فلا يكون خبره حجة على غيره من أهل الخبرة إلاّ لمن اعتقد بالملازمة.

وناقل الإجماع حيث إنه ثقة يصدّق في نقله الحسي وهو اتفاق الفقهاء، لكن لا حجية لحدسه بكون الحكم الواقعي هو ما اتفقوا عليه؛ لأن ذلك حدسه البعيد عن الحس، وحينئذٍ فالمنقول إليه إن ثبتت عنده الملازمة بين اتفاقهم وبين الحكم الواقعي كان ذلك النقل حجة له وإلاّ فلا.

ثم إن هنا صوراً متعددة، منها:

الصورة الأولى: إخباره عن اتفاق لا ملازمة بينه وبين الحكم الواقعي عند المنقول إليه، كما لو أخبر عن اتفاق علماء عصر واحد مع اعتقاده بملازمته للحكم الواقعي، وعدم اعتقاد المنقول إليه بذلك، فحينئذٍ فنقله ليس بحجه لوجوه، منها:

الوجه الأول(1): إنه في الخبر الحسي دليل التصديق كما يشمل تصديق المخبر بأنه غير كاذب كذلك يشمل تصديق الخبر بأنه واقع، وليس كذلك في

ص: 297


1- نهاية الدراية 3: 187-188.

الحدس، فإن المنقول إليه يصدّقه في أنه حدس بهذا الأمر، لكن لا يتكفل دليل حجية الخبر كون حدسه صائباً.

فإن بناء العقلاء على التفريق بين الحس والحدس، حيث إن التصديق في الحس عندهم يستلزم التصديق بواقعية المحسوس وكونه كاشفاً عن الواقع، دون التصديق في الحدس، كما أن الأدلة اللفظية في حجية الخبر منصرفة عن الأخبار الحدسية البعيدة عن الحس.

الوجه الثاني: ما عن الشيخ الأعظم(1): بأن عمدة الأدلة اللفظية على حجية الخبر هي آية النبأ، ودلالتها على الحجية إنما هو في الأخبار الحسية دون الحدسية.

وذلك لأن حجية الخبر متوقفة على نفي تعمد الكذب ونفي الخطأ، وآية النبأ تنفي تعمد الكذب فقط فلا بد من ضمّ بناء العقلاء في نفي الخطأ لتتم دلالة الآية على الحجية، ومن المعلوم أن بناء العقلاء إنما هو في نفي احتمال الخطأ في الأخبار الحسية فقط، وحيث إن بناءهم غير متحقق في الأخبار الحدسية فيكون شمول آية النبأ لها لغواً لعدم ترتب أثر حينئذٍ.

أما عدم نفي الآية لاحتمال الخطأ فلقرائن متعددة:

1- منها: التفصيل في الآية بين الفاسق والعادل، مع وضوح عدم الفرق بينهما من جهة احتمال الخطأ، فلو كان المراد في الآية نفي احتمال الخطأ لم يكن للتفصيل وجه.

وفيه: أن وجه التفصيل غير منحصر في الجهة المذكورة، بل يمكن أن

ص: 298


1- فرائد الأصول 1: 182-183.

يكون وجه التفصيل هو التضييق على الفسقة، فيأمر الشارع بنفي احتمال الخطأ في العادل دون الفاسق لهذه الجهة مثلاً.

وعليه: فإطلاق الآية كما ينفي تعمد الكذب كذلك ينفي الخطأ في العادل دون الفاسق.

2- ومنها: التعليل في الآية حيث قال: {أَن تُصِيبُواْ قَوْمَۢا بِجَهَٰلَةٖ ...}(1) وهذا تعليل لنفي احتمال الكذب دون احتمال الخطأ؛ إذ الإصابة بجهالة والندم مشترك بين العادل والفاسق من جهة احتمال الخطأ، وليس من الصحيح تعليل أحد الحكمين المتضادين بعلة مشتركة بينهما؛ إذ جعله علة لأحدهما دون الآخر بمعنى عدم كونه علة مشتركة، وهذا خلف.

وفيه: أن خطأ العادل لا يستعقب الإصابة بجهالة ولا الندم على الإصابة بجهالة، فليس اتباعه جهالة، دون اتباع خبر الفاسق فهو جهالة وقد يستتبع الندم على هذه الجهالة.

3- ومنها: لو كان للآية إطلاق في نفي احتمال الخطأ لم يكن وجه لاشتراط الضبط في خبر العادل، وكذا لم يكن وجه لاشتراطهم في الشهادة كونها عن حسّ.

وفيه: إن عدم الإطلاق لانصراف الآية عن غير الضابط، وانصراف الشهادة إلى الشهادة الحسية فقط.

فتحصل: إن آية النبأ كما تنفي احتمال كذب العادل كذلك تنفي احتمال خطئه.

ص: 299


1- سورة الحجرات، الآية: 6.

ويمكن أن يقال: بعدم شمولها للأخبار الحدسية؛ لعدم كونها نبأ ً ولا خبراً، فتأمل.

الوجه الثالث(1): إن بناء العقلاء على حجية الخبر الحسي إنما هو لكونه كاشفاً نوعياً فعلاً عن الواقع، إذا صدر ممن يوثق بقوله ولم تكن آفة في حاسته، ومن الواضح أن الخطأ واقعاً في إحساسه - لخروجه عن الطبع أحياناً - لا يعقل أن يكون مانعاً عن تأثير المقتضي ومزاحماً له، فاحتماله ليس من احتمال المانع حتى يتوقف تأثير المقتضي على بناء العقلاء على دفع المانع، ونفس الاحتمال غير مانع على الفرض، بل الكاشف النوعي الفعلي لا يزاحمه الاحتمال أصلاً.

وأما الخبر الحدسي فمجرد كون الشخص ممن يوثق بقوله وعدم كونه ذا آفة في حاسته لا يوجب الكاشفية الفعلية لخبره، بل يتوقف على تصويب حدسه ونظره.

والحاصل: أنه في الخبر الحسي المقتضي للحجية موجود وهو الكاشفية النوعية عن الواقع بشرط وثاقة المخبر وسلامة حواسه، والمانع مفقود؛ لأن الوقوع في الخطأ خلاف الطبع فلا يمنع واقعاً واحتماله ليس من احتمال المانع.

وأما الخبر الحدسي فلا كاشفية له نوعاً فلا يوجد مقتضي للحجية فلا تصل النوبة إلى البحث عن عدم المانع.

الصورة الثانية: إخباره عن اتفاق يرى المنقول إليه الملازمة بينه وبين الحكم الواقعي، وهذا حجة للمنقول إليه؛ لأن الاتفاق ثابت بالنقل الحسي

ص: 300


1- نهاية الدراية 3: 188.

من الثقة، والملازمة ثابتة في نظر المنقول إليه، وإذا ثبت الملزوم والملازمة فحينئذٍ يثبت اللازم قهراً.

وأشكل عليه: بأن أدلة حجية الخبر تدل على حجية الخبر عن الحكم أو عن موضوع ذي حكم، وأما الإخبار عن غيرهما فلا تشمله، لعدم ترتب أثر عملي عليه، وفي ما نحن فيه اتفاق العلماء ليس بحكم شرعي، ولا موضوعه؛ إذ الحكم لا يترتب على الإجماع، وإنما يتحقق العلم بالحكم عن طريق الملازمة عند العلم بالإجماع!

وفيه: أنه يكفي في شمول أدلة الحجية أن لا يكون جعلها لغواً، ويكفي في عدم اللغوية ترتب الأثر ولو بوسائط متعددة، وما نحن فيه كذلك.

وأما الجواب: بأن نقل الإجماع كنقل خصوصيات السائل من حيث المكان ونحوه التي قد توجب اختلاف الحكم، ككون الراوي للرطل في الكر عراقياً لا مدنياً.

فيدفعه: إن خصوصية السائل ونحوها قد تلازم عرفاً معرفة خصوصية الحكم، فمن يخبر عن كون السائل عراقياً مثلاً يخبر بالملازمة عن أن موضوع الحكم هو الرطل العراقي، وليس كذلك ما نحن فيه؛ إذ خبره بالإجماع لا حجية له في مدلوله الالتزامي حيث إنه حدسي، وأما مدلوله المطابقي فهو ليس بحكم ولا موضوع ذي حكم، كذا قيل.

الصورة الثالثة: أن يخبر حساً عمّا لا تكون ملازمة بينه وبين الحكم الواقعي عند المنقول إليه، لكن بضمّ أمور أخرى تتم الملازمة، بحيث يكون المجموع سبباً تاماً، كما لو أخبر عن اتفاق علماء عصره وحصّل

ص: 301

المنقول إليه اتفاق علماء العصور اللاحقة.

ذهب المحقق الخراساني(1) إلى أن المجموع كالمحصل، ويكون حاله كما إذا كان كلّه منقولاً، ولا تفاوت في اعتبار الخبر بين ما إذا كان المخبر به تمامه أو ما له دخل فيه وبه قوامه، كما يشهد به حجية الخبر في تعيين حال السائل وخصوصية الواقعة المسؤول عنها، وغير ذلك مما له دخل في تعيين مرامه من كلامه.

وأشكل عليه المحقق الإصفهاني: «بأن تنزيل شيء منزلة شيء لا يعقل إلاّ بلحاظ ما لذلك الشيء من الأثر شرعاً، لا بلحاظ ما لغيره من الأثر - وإن كان ملزومه أو ملازمه - ؛ بداهة أن وجه الشبه لا بد من أن يلاحظ بين المشبَّه به والمشبَّه دون ما هو أجنبي عنهما»(2).

بمعنى أن صحة التنزيل تتوقف على ما للمنزل عليه من الأثر الشرعي،

لا بلحاظ غير الأثر الشرعي، ولا بلحاظ الآثار الشرعية لغيره، فمثل قوله (علیه السلام) في الفقاع: «هو خمر»(3) يراد التنزيل بلحاظ حرمة شرب الخمر، لا بلحاظ آثاره غير الشرعية كإرواء العطش، ولا الآثار الشرعية لغيره كوجوب استقبال القبلة في الصلاة.

وفي ما نحن فيه لا يمكن تنزيل الفتاوى المحكية منزلة الفتاوى المحصلة بأدلة حجية الخبر؛ إذ الفتاوى المحصلة لا أثر شرعي لها حسب

ص: 302


1- إيضاح كفاية الأصول 3: 352-353.
2- نهاية الدراية 3: 190.
3- الكافي 6: 422؛ وسائل الشيعة 25: 362.

الفرض؛ لأنها لا تكفي لكشف قول الإمام (علیه السلام) فلا نفع في تنزيل الإخبار منزلتها، كما أن القطع بقول الإمام (علیه السلام) ليس بأثر شرعي حتى يصح التعبد والتنزيل بلحاظه، وأما قول الإمام (علیه السلام) الملازم لفتوى الجماعة فله أثر شرعي وهو لزوم العمل به، إلاّ أنه ليس المنزّل عليه.

ويرد عليه: بأن أهم مستند في حجية الخبر هو بناء العقلاء، ولا فرق في بنائهم بين السبب التام أو السبب الناقص الذي تكمّل سببيته بأمور أخرى.

ثم إن المحقق الإصفهاني أشكل على كلامه بإشكالات(1) ودفعها كلّها، لكن السيد الأخ لم يرتضها(2)، نشير إليها باقتضاب.

الإشكال الأول: عدم الفرق بين ما نحن فيه وبين إخبار الرواة عن الأسئلة التي تعرف بها الأجوبة، وكذا الأفعال التي يعرف بها تقرير الإمام (علیه السلام) لها.

وأجاب: بأنها مشتملة على موضوعات الأحكام ومتعلقاتها - الموجبة لسعتها وضيقها - ، فالتعبد بها بلحاظ ما لها من الأحكام، بخلاف فتوى الجماعة فإنها لا دخل لها في قول الإمام (علیه السلام) حكماً وموضوعاً، سعةً وضيقاً.

وفيه: أنه ليس المدار في حجية الخبر على كون المخبر به موضوعاً أو متعلقاً ونحو ذلك، بل المدار على الملاك الموجب لحجية الخبر في ذلك المقام، كما مرّ.

الإشكال الثاني: إن القطع بقوله (علیه السلام) وإن لم يكن أثراً شرعياً إلاّ أنه

ص: 303


1- نهاية الدراية 3: 191-192.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 6: 381-386.

يترتب عليه أثر شرعي، وهو تنجز قوله (علیه السلام) ، والتنجز قابل للجعل الشرعي، فيتم تنزيل نقل الفتاوى منزلة الفتاوى الواقعية، فالفتاوى المنقولة تنجز الفتاوى الواقعية، وهي تنجز قول الإمام (علیه السلام) ، نظير الخبر بالواسطة.

وأجاب: بأنه لا يصح تنزيل المحكية منزلة المحصلة؛ إذ لا أثر حقيقي للمحصلة؛ لأنها غير متصفة بالتنجز ولا بالحجية على نحو الحقيقة، بل المتصف هو القطع، فاتصاف المحصلة بالتنجز إنما هو من باب كونها واسطة في العروض كجريان الميزاب فهو ليس اتصافاً حقيقياً كي ينزل الخبر منزلته.

وفيه: أن الواسطة في المقام واسطة في الثبوت لا العروض؛ لأن الواسطة في العروض إنما تكون في الأمرين العَرْضيين كجريان الماء والميزاب، أما لو كانا طوليين فالواسطة في الثبوت؛ وذلك لأن أثر الأثر أثرٌ، وفي ما نحن فيه: الفتاوى المحصلة لها أثر وهو القطع بقول الإمام، وهذا القطع له أثر هو التنجز، فصح أن يقال إن الفتاوى المحصلة لها أثر هو التنجز.

وحتى لو فرضنا أن الواسطة في العروض، لكن الأثر عرفاً يُنسب لذي الواسطة حتى لو كان بالدقة أثراً للواسطة، فيصح عرفاً نسبة التنجز إلى الفتاوى المحصلة.

الإشكال الثالث: إن ملاك الحجية مشترك بين السبب التام والسبب الناقص، فلا فرق بينهما.

وأجاب: بأن نقل السبب التام له مدلول التزامي، وهو الإخبار عن قول الإمام (علیه السلام) فيكون حجة، دون السبب الناقص.

وفيه: إن ذلك إخبار حدسي فلا يكون حجة، فثبت عدم الفرق بينهما

ص: 304

من هذه الجهة، فتأمل.

الصورة الرابعة: أن يحدس الناقل بوجود الإجماع، ومنه يحدس بقول الإمام (علیه السلام) ، وهذا ليس بحجة؛ لعدم شمول أدلة حجية الخبر لأمثال هذه الأخبار الحدسية، كما مرّ.

تتمتان
التتمة الأولى: في الشك في المنقول

فلو شككنا في أن نقله للّازم أو الملزوم هل هو عن حدس أو عن حس؟ فهنا حالات:

الحالة الأولى: لو احتملنا كون الملزوم عن حس، كما لو نقل الإجماع واحتملنا سماعه الحكم عن الإمام (علیه السلام) بالتشرف مثلاً.

وحينئذٍ فإن الأصل في الأخبار وإن كان كونها عن حس لا عن حدس ولذا لا يقبل عذر من ترك العمل بالخبر باحتمال كونه عن حدس، إلاّ أن أصالة الحس مشروطة بأن لا تكون هناك أمارة على كون الخبر عن حدس، وهذا الشرط مفقود في الإجماعات المنقولة؛ لأنها مبنية على حدس الناقل بالملزوم عادة.

الحالة الثانية: لو كان الملزوم عن حدس، لكن شككنا في أن اللازم هل هو مما تثبت به الملازمة عند المنقول إليه أم لا؟ كما لو ادعى الإجماع ولم نعلم بأن مراده اتفاق علماء عصره الذي لا يلازم الحكم الواقعي عند المنقول إليه، أم مراده اتفاق علماء جميع العصور الذي يلازمه عنده، فالأقرب عدم الحجية؛ لأنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية؛ وذلك

ص: 305

للشك في ثبوت الملازمة.

الحالة الثالثة: لو نقل الاتفاق وشككنا في أن نقله هذا عن حس أم حدس، فالظاهر جريان أصالة الحس، كما في سائر الأخبار، إلاّ لو قامت أمارة على كونه عن حدس.

التتمة الثانية: لو تعارض إجماعان منقولان

ففي الكفاية أنه: «لا يكون التعارض إلاّ بحسب المسبب، وأما بحسب السبب فلا تعارض في البين لاحتمال صدق الكل»(1).

وأشكل عليه: أولاً: إنه لو أريد بالإجماع مطلق الاتفاق ولو لعلماء عصر واحد فلا تعارض في السبب.

وأجيب: بأن الإجماع اتفاق الكل في جميع العصور، وإطلاقه على اتفاق البعض مسامحة؛ وذلك لوجود ملاك الحجية فيه باعتبار دخول الإمام (علیه السلام) في المجمعين في نظر الناقل.

وثانياً: بأنه لو أريد بالمسبب وجود الدليل المعتبر فحينئذٍ يمكن صحة النقلين.

وأجيب: بأن المراد الدليل المعتبر فعلاً لا شأناً، ولا يحصل ذلك إلاّ مع ارتفاع الموانع التي منها وجود المعارض، وهذا لا يكون إلاّ في أحدهما دون كليهما.

ص: 306


1- إيضاح كفاية الأصول 3: 355-356.

فصل فی الشهرة الفتوائية

وهي اشتهار فتوى بين الفقهاء سواء علم مستندها أم لا.

وتفترق عن الشهرة الروائية التي هي كثرة نقل أصحاب الكتب المعتبرة لرواية، وتبحث في مباحث حجية الخبر الواحد.

كما تفترق عن الشهرة العملية التي هي عمل المشهور برواية غير معتبرة السند في مقام الفتوى، وتبحث في باب التعارض والتراجيح.

ولا يخفى أن النسبة بين الشهرة الفتوائية والعملية هو العموم المطلق، كما أن النسبة بين الفتوائية والروائية وكذا الروائية والعملية هو العموم من وجه.

وعليه فلو كان مستند الفتوائية رواية غير معتبرة فيكون الدليل في الحكم أمران: الرواية التي جبر ضعف سندها بعمل المشهور مضافاً إلى الشهرة الفتوائية، وأما لو لم نعلم المستند فالدليل هو الشهرة الفتوائية.

وإن كان المستند غير معتبر بنفسه فقد تكون الشهرة الفتوائية مكملة له ورافعة لضعفه وقد لا يكون ذلك، هذا بناءً على حجيتها وعلى الجبر.

أدلة حجية الشهرة الفتوائية:

وقد استدل لحجيتها بأمور، منها:

الدليل الأول: فحوى أدلة حجية الخبر الواحد، حيث إن ملاك حجيته هو الظن النوعي باعتبار طريقيته للواقع، وغير خفي أن هذا الظن في الشهرة

ص: 307

أقوى، وحكم الأمثال في ما يجوز وفي ما لا يجوز واحد.

وأشكل عليه: أولاً: كبروياً بأنه لا بد في الفحوى من العلم بالملاك، ولا علم لنا بكون ملاك حجية الخبر ذلك، ولا يفيد الظن بالملاك لدخوله حينئذٍ في القياس الباطل، وقد يكون الملاك هو علم الشارع بمطابقة غالب الأخبار المعتبرة للواقع من غير دخل لذلك الظن النوعي.

إن قلت: إن هذا يصح في ما لو انحصرت الأدلة على حجية خبر الواحد بالنصوص، لكن من الأدلة السيرة العقلائية - الذين لا تعبد لهم في أمورهم في غير ما يرتبط بالموالي والعبيد - ونحن نعلم بأن سبب عملهم بالخبر الواحد هو ظنهم النوعي بمطابقته للواقع.

قلت: إمضاء الشارع لسيرة عقلائية لا يستلزم إمضاؤه لسببها وملاكها، كي يتم تعميم ذلك الملاك لسائر الموارد، فتأمل.

وثانياً: صغروياً بأنه لا أقوائية للظن النوعي الحاصل من الشهرة على الحاصل من الخبر؛ وذلك لأن الخبر دليل حسي والشهرة حدسي، والظن الحاصل من الحسّ أقوى، فتأمل.

وثالثاً: عدم شمول قاعدة (حكم الأمثال في ما يجوز وما لا يجوز واحد) لما نحن فيه؛ وذلك لإمكان اختلاف الحكمين الاعتباريين في الأمثال؛ إذ قد يمكن استيفاء الغرض بأحد الأمثال فلا حاجة إلى جعل الحكم على سائر الأمثال، كما لو كان هناك إناءان متماثلان في جميع الخصوصيات، فأمر المولى بإتيان الإناء الأول - الوافي بغرضه - فلا يلزمه أن يحكم بإتيان الثاني لعدم غرض له فيه!

ص: 308

وفيه: إن ذلك مبني على إمكان الترجيح بلا مرجح وهو غير صحيح؛ لأنه إن آل إلى الترجّح بلا مرجّح فهو محال لاستلزامه وجود المعلول من غير علة، وإن آل إلى الترجيح بإرادة الفاعل المختار من غير وجود مرّجح آخر - ولو كان خفياً - فهو لغو وقبيح، بل على المولى الأمر بالكلي المنطبق على الأمثال أو التخيير بينها - بناءً على عدم رجوعه إلى الأمر بالكلي - ، فتأمل.

الدليل الثاني: مقبولة عمر بن حنظلة عن الإمام الصادق (علیه السلام) ، حيث قال: «ينظر إلى ما كان من روايتهما عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإن المجمع عليه لا ريب فيه»(1). والمقصود بالمجمع عليه هو المشهور، وهو مطلق يشمل الشهرة الفتوائية، كما أن التعليل عام فيشملها أيضاً.

وأشكل عليه: أولاً: بأن المراد من (المشهور) لغةً وعرفاً: الواضح، فيكون (المجمع عليه) من مصاديق الواضح، وليس المشهور الاصطلاحي كذلك، ويدل عليه أن ظاهر (لا ريب فيه) هو نفيه حقيقة لمكان لا النافية للجنس، وهو يناسب الإجماع دون الشهرة، وكذلك جعله مصداقاً لقوله: (أمر بيّن رشده) إذ ليست الشهرة كذلك.

إن قلت: فكيف يفرض الراوي كونهما مشهورين لو أريد بالشهرة الإجماع(2)؟

قلت: لإمكان صدورهما من المعصوم (علیه السلام) أحدهما لبيان الحكم الواقعي

ص: 309


1- الكافي 1: 68؛ وسائل الشيعة 27: 106.
2- راجع فوائد الأصول 3: 154.

والآخر للتقية مثلاً، وهذا قرينة أخرى على عدم شمول المقبولة للشهرة الفتوائية؛ إذ يمكن اجتماع شهرتين روائيتين دون شهرتين فتوائيتين في زمان واحد.

وثانياً: عدم عموم التعليل في قوله (علیه السلام): «فإن المجمع عليه لا ريب فيه» كي يتم التعدي من المورد إلى غيره؛ إذ الكبرى لا بد أن تكون قابلة للتكليف مع قطع النظر عن المورد، وليس كذلك التعليل في ما نحن فيه؛ وذلك لأن المعنى الحقيقي لنفي الجنس هو نفي حقيقته، وهذا غير مراد في المشهور الاصطلاحي؛ إذ قد يتحقق الريب فيه، فلا بد أن يراد نفي الريب النسبي الإضافي، بمعنى أن الريب الموجود في الشاذ غير موجود في المشهور، وكبرويته بمعنى أنه (يجب الأخذ بكل ما لا ريب إضافي فيه)، وذلك غير ممكن، وإلاّ لزم حجية الوهم الأقوى؛ لأنه ليس فيه ريب الوهم الأضعف منه، ولزم حجية الظن؛ إذ ليس فيه ريب الشك، وهكذا(1).

وفيه: أن الحصر غير حاصر بين نفي حقيقة الريب ونفي الريب النسبي، بل هناك شق ثالث هو نفي الريب العقلائي، حيث إن العقلاء لا يعتنون بالاحتمالات الضعيفة حتى وإن كانت احتمالات عقلاً، وعليه فيمكن أن يكون معنى الحديث: المجمع عليه لا ريب عقلائي فيه، وهذا صالح للكبروية، فتأمل.

الدليل الثالث: مرفوعة زرارة عن الإمام الباقر (علیه السلام) ، قال: «قلت له: جعلت فداك يأتي عنكم الخبران والحديثان المتعارضان فبأيّهما نعمل؟

ص: 310


1- فوائد الأصول 3: 154.

فقال: يا زرارة، خذ بما اشتهر بين أصحابك»(1) والمورد وإن كان الشهرة الروائية إلاّ أنه لا يخصص الوارد.

وأورد عليه: مضافاً إلى ما مرّ من معنى المشهور، وضعف السند...

أولاً: بأن خصوصية المورد لا تخصص الوارد هو فرع عموم الوارد، وفي ما نحن فيه لا عموم ولا إطلاق؛ إذ (ما الموصولة) مبهمة، ويرفع إبهام الموصولات بما قارنها، وخصوصية السؤال يصلح لرفع الإبهام، كما أن وجوده يصلح للقرينية فلا تكتمل مقدمات الحكمة.

وثانياً: بالفرق بين مورد المرفوعة وبين الشهرة الفتوائية؛ إذ موردها في الخبرين اللذين هما حجة في نفسيهما لكن تعارضا فالشهرة تكون مرجحاً لأحدهما على الآخر، وفي الشهرة الفتوائية يراد إثبات أصل حجيتها، ومن الممكن أن لا تثبت الحجية بشيء لكنه يكون مرجحاً لإحدى الحجتين على الأخرى.

الدليل الرابع: عموم التعليل في قوله تعالى: {أَن تُصِيبُواْ قَوْمَۢا بِجَهَٰلَةٖ فَتُصْبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَٰدِمِينَ}(2)؛ وذلك لأن العمل بفتوى المشهور ليس عملاً بجهالة فلا يجب التبيّن فيه! بمعنى أن الإصابة بجهالة منتفية في العمل بفتواهم فيكون وجوب التبيّن منتفياً أيضاً.

ويرد عليه(3): أن معنى عموم العلة هو ثبوت الحكم في كل مورد

ص: 311


1- عوالي اللئالي 4: 133.
2- سورة الحجرات، الآية: 6.
3- موسوعة الفقيه الشيرازي 7: 27.

وجدت العلة فيه، لا إثبات نقيض الحكم في كل مورد لم توجد العلة فيه، فمثل: (لا تشرب الخمر لأنها مسكرة) معناها حرمة كل مسكر، لا حلية كل ما لم يكن مسكراً، وبعبارة أخرى: إن استفادة المفهوم هو فرع انحصار العلة، والتعليل لا يفيده.

وأما أصالة عدم وجود علة أخرى، فلا هي أصل عقلائي، ولا أصل شرعي، واستصحابها مثبت.

الدليل الخامس: السيرة العقلائية مع عدم ردع الشارع عنها؛ إذ أهل كل صنعة يعتمدون على ما اشتهر بين أهل الخبرة فيها.

وفيه: أن اعتمادهم إنما هو في ما أوجب الاطمئنان النوعي، وأما مع عدم الاطمئنان فلا! ويرشد إليه أنه لو خالف مجموعة من أفضل أهل الخبرة لمشهورهم فالعقلاء يتوقفون في الأمر ولا يتبعون المشهور حينئذٍ.

فتحصل: أنه لا دليل على حجية الشهرة الفتوائية، فتبقى تحت عموم عدم حجية الظن، ولكن مع ذلك فالاحتياط سبيل النجاة، والأولى عدم مخالفتها، إلاّ لو قام دليل أقوى على حكم إلزامي على خلافها.

ص: 312

فصل فی الخبر الواحد

اشارة

البحث تارة: في إحراز صدور الخبر عن المعصوم (علیه السلام) ، وأخرى: في إحراز ظهوره في معنى، وثالثة: في إحراز كونه في مقام بيان الحكم الواقعي لا التقية، والكلام الآن في الأول.

وهاهنا مباحث:

المبحث الأول: في أدلة عدم الحجية وردّها

وقد قيل بعدم حجية الخبر الواحد، واستدل له بأمور، منها:

الدليل الأول: إن خبر الواحد لا يفيد سوى الظن، والعمل بالظن منهي عنه، كما مرّ.

والجواب بأمور، منها:

الجواب الأول: الورود أو التخصّص، بمعنى أن العمل بالخبر عمل بالعلم لا بالظن؛ وذلك لأنه لا فرق في كون العمل بالعلم بين انكشاف الواقع وبين قيام دليل قطعي على الطريق، حيث إن العمل بذلك الطريق عمل بالعلم لا بالظن، وقد قامت الأدلة القطعية على حجية الخبر الواحد، كما سيأتي.

الجواب الثاني: التخصيص، بمعنى أن أدلة النهي عن العمل بالظن قد خُصصت بأدلة العمل بالخبر الواحد كآية النبأ ونحوها.

ص: 313

وفيه: أن بعض أدلة النهي عن العمل بالظن آبية عن التخصيص، كقوله تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَئًْا}(1).

الجواب الثالث: الحكومة، بمعنى أن أدلة حجية الخبر الواحد حاكمة على الأدلة الناهية عن العمل بالظن، بإخراج خبر الثقة عن موضوعها؛ وذلك لأن مفاد أدلة الحجية هو جعل الطريقية والعلمية والوسطية في الإثبات، وعليه فلا يكون العمل بالخبر عملاً بالظن.

وأشكل عليه: أولاً(2): بأن أدلة حجية الخبر الواحد تصادم الأدلة الناهية عن العمل بالظن، فلا حكومة؛ إذ لا تصادم بين الدليل الحاكم والدليل المحكوم؛ وذلك لأن مفادة الأدلة الناهية هو عدم الحجية وهو مصادم للدليل على الحجية.

بيانه: إن النهي الوارد في الآيات ليس نهياً نفسياً ذاتياً عمّا موضوعه غير الحجة وغير العلم، كي يرتفع في المورد المنزل منزلة العلم، وإنما هو نهي تشريعي يقصد به نفي الحجية عن غير العلم، فما يثبت الحجية يكون مصادماً لنفس الحكم.

وبعبارة أخرى: لا حرمة في اتباع الظن في نفسه، وإنما لا مؤمّن في اتّباعه بمعنى عدم صحة الاحتجاج به، وعليه فالأدلة الناهية تدل على عدم الحجية فتصادمها أدلة الحجية، ونتيجة ذلك التخصيص لا الحكومة؛ إذ في الحكومة لا تصادم وإنما تصرف الحاكم في موضوع الدليل المحكوم.

ص: 314


1- سورة يونس، الآية: 36.
2- منتقى الأصول 4: 253.

وثانياً: بأن الحكومة إنما هي في ما لو كان الدليل الحاكم تأسيس من الشارع، وليس كذلك حجية الخبر الواحد؛ إذ هو إمضاء منه لبناء العقلاء، فلا وجه للقول بجعل الطريقية في الكاشفية، بل ولا نظر كيما تتم الحكومة!

إن قلت: ما المانع من شمول الحكومة للأدلة غير اللفظية، حيث إنها بمعنى توسعة أو تضييق موضوع الدليل المحكوم، ولا فرق في ذلك بين كون الموسّع أو المضيّق لفظ أو غيره!

قلت: الكبرى لا إشكال فيها، إنما الكلام في أن بناء العقلاء ليس جعلاً للطريقية والكاشفية، وإنما ذلك حيث تعليلي لبنائهم، فتأمل.

اللهم إلاّ أن يقال: بأن الشارع لم يكتف بالإمضاء، بل وسّع الحجية فجعلها بأوسع من بنائهم.

وثالثاً: بأن حكومة أدلة حجية الخبر على الأدلة الرادعة عن العمل بالظن ليس بأولى من العكس بأن يقال بحكومة الأدلة الرادعة على أدلة الحجية.

إن قلت: عليه لا يبقى مورداً لأدلة الحجية فتكون لغواً حينئذٍ.

قلت: لها موارد أخرى كما لو أوجبت العلم أو الاطمئنان.

الدليل الثاني: مما استدل به على عدم حجية الخبر الواحد، السنة، وهي طوائف(1)، منها: الروايات الدالة على ردّ المخالف للكتاب، ومنها: ما دلّ على ردّ ما ليس له شاهد من القرآن الكريم، ومنها: ما دلّ على الأخذ بما

ص: 315


1- الكافي 1: 62-68؛ وسائل الشيعة 27: 106-124.

وافق الكتاب فقط، وهي روايات متواترة تفيد العلم، فلا دور ولا خلف.

ويرد على الأولى: أولاً: أن المقصود من المخالفة هو التباين الكلي، وأما ما لم يذكر في ظاهر القرآن أو أمكن الجمع العرفي بينه وبين ظاهر القرآن كالعام والخاص فليس من المخالفة في شيء.

وثانياً: لو سلمنا صدق المخالفة حتى مع الجمع العرفي، فنقول: إن هذا غير مراد قطعاً؛ وذلك للقطع بصدور المخصصات والمقيدات من الرسول والأئمة (عليه وعليهم الصلاة والسلام)، ولولا ذلك لتعطلت أكثر الأحكام.

وعلى الثانية: بأنها معارضة بالأخبار الدالة على حجية خبر الثقة، وبينهما عموم من وجه؛ إذ ما لا شاهد له قد يكون خبر الثقة وقد يكون خبر غيره، كما أن خبر الثقة قد يكون له شاهداً وقد لا يكون له شاهداً، والترجيح في مورد الاجتماع لأخبار حجية خبر الثقة؛ إذ لولا ذلك لكانت لغواً حيث إن ما له شاهد لا يحتاج إلى خبر الثقة، وما لا شاهد له تتقدم عليه روايات الطائفة الثانية!

مضافاً إلى ما مرّ من أن ردّ كل الأخبار الدالة على التخصيص أو التقييد يستلزم تعطيل الشريعة، فلا بد من حمل قوله: «ما لا شاهد له» على المخالف بمعنى المباين.

وعلى الثالثة: أن (ما لا يوافق) إمّا بمعنى المخالف فالجواب ما مرّ في الأولى، وإما بمعنى (ما لا شاهد له) فالجواب مرّ في الثانية.

المبحث الثاني: الآيات الدالة على حجية خبر الواحد
اشارة

وقد استدل على حجية الخبر الواحد بآيات، منها:

ص: 316

الآية الأولى: آية النبأ
اشارة

حيث قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن جَاءَكُمْ فَاسِقُۢ بِنَبَإٖ فَتَبَيَّنُواْ أَن تُصِيبُواْ قَوْمَۢا بِجَهَٰلَةٖ فَتُصْبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَٰدِمِينَ}(1).

والاستدلال قد يكون بمفهوم الشرط، وقد يكون بمفهوم الوصف، تارة بوجود المقتضى للمفهوم من الشرط أو الوصف، وتارة بوجود المانع عن هذا المقتضي، فالكلام في مقامات ثلاث:

المقام الأول: في الاستدلال بمفهوم الشرط

فإن وجوب التبيّن معلّق على مجيء الفاسق بالخبر، والجملة الشرطية تدل على انتفاء الجزاء حين انتفاء الشرط، وعليه فينتفي وجوب التبيّن عند مجيء العادل بالخبر.

لكن لا بد من ضمّ ضميمة ليتم الاستدلال، فإن عدم وجوب التبيّن عند مجيء العادل بالخبر إما لأجل قبول خبره أو لأجل ردّ خبره من غير حجة إلى التبيّن أصلاً، والثاني يستلزم كون العادل أسوء حالاً من الفاسق وهو باطل قطعاً، فثبت الأول، وهو المطلوب.

وهنا إشكالان:

الإشكال الأول: على الضميمة، فقد يقال بأنه لا حاجة إليها؛ وذلك لأن هناك احتمالات في نوع الوجوب في التبيّن، ولا حاجة إلى هذه الضميمة بناءً على غالب الاحتمالات، وهي:

الاحتمال الأول: الوجوب النفسي، بمعنى كون التبيّن مطلوباً بنفسه لا أن

ص: 317


1- سورة الحجرات، الآية: 6.

الغرض منه الوصول إلى شيء ما.

وليس الشأن في خبر العادل دائراً بين الرد أو القبول كي نحتاج إلى هذه الضميمة، وبها تثبت حجية خبر العادل، بل هناك شق ثالث وهو عدم وجوب التبيّن نفسياً في خبر العادل فيكون المفهوم حينئذٍ (إن جاءكم عادل فلا يجب التبيّن نفسياً) وهذا أعم من الحجية؛ إذ قد يشترك خبر الفاسق وخبر العادل في عدم الحجية لكن الوجوب النفسي للتبيّن في خبر الفاسق لأجل إهانته مثلاً لما يتبيّن كذبه، كما في شأن نزول الآية، حيث تمّ فضح الوليد على كذبه، وعليه فإضافة هذه الضميمة لم ينفع الاستدلال في شيء.

ويرد عليه: أن الوجوب النفسي خلاف ظاهر لفظ (التبيّن)، كما أنه خلاف ظاهر التعليل في قوله: {أَن تُصِيبُواْ...}.

الاحتمال الثاني: الوجوب الشرطي، بمعنى أنه لو أردتم العمل وجب عليكم التبيّن، لا مطلقاً، فالمعنى (إن جاءكم فاسق بنبأ وأردتم العمل بخبره فتبينوا)، ومفهوم هذا (إن جاءكم عادل وأردتم العمل بخبره فلا يجب التبيّن) وهو ظاهر في الحجية.

وقد رجح الشيخ الأعظم هذا الاحتمال باعتبار مادة التبيّن الظاهرة في الطريقية إلى الواقع، وكذا لظهور التعليل؛ إذ هو يناسب الوجوب الشرطي لا النفسي؛ إذ لا إصابة ولا ندم حين إرادة عدم العمل، كما أنّ من الواضحات عدم وجوب التحقيق في أخبار الفسقة إذا لم يرد العمل بها.

وأورد عليه المحقق الإصفهاني(1): بأن الوجوب الشرطي...

ص: 318


1- نهاية الدراية 3: 204.

إن أريد به كون التبيّن واجباً مشروطاً كالحج المشروط بالاستطاعة، فهو وجوب نفسي، وليس وجوباً شرطياً، فيرجع الإشكال عليه.

وإن أريد به وجوباً غيرياً مشروطاً بإرادة العمل على طبق الخبر، فهو يستلزم المحال؛ لأن وجوب المقدمة وذي المقدمة متماثلان في الإطلاق والتقييد، فإذا كان وجوب المقدمة - أي التبيّن - مشروطاً بإرادة المكلف، كان وجوب ذي المقدمة - أي الوجوب الواقعي الذي يراد الوصول إليه عبر التبيّن - أيضاً مشروطاً بإرادة المكلف، ومن غير المعقول تعليق الوجوب على إرادة المكلّف، كما مرّ.

وفيه: أن هناك شقاً ثالثاً - وهو الذي قصده الشيخ الأعظم، كما يظهر من كلامه - وهو كون وجوب التبيّن مقدمياً لجواز العمل، فالمعنى (إن جاءكم الفاسق بالنبأ فتبينوا مقدمة لجواز العمل)، ومفهومه (إن جاءكم العادل فلا يجب التبيّن مقدمة لجواز العمل)، وهذا لا إشكال فيه ثبوتاً؛ لعدم توقف الوجوب الواقعي على إرادة المكلف.

الاحتمال الثالث: الوجوب الطريقي، بمعنى أنه يجب التبيّن لحفظ الملاكات الواقعية المحتملة، لاحتمال كون الفاسق صادقاً في خبره، فالإعراض عنه يوجب فوت الملاكات الواقعية حينئذٍ، كما أن العمل به من غير تبيّن يحتمل مخالفته للواقع، فلم يبق إلاّ وجوب التبيّن.

وعلى هذا الاحتمال نحتاج إلى الضميمة؛ إذ معنى الآية أن وجوب التبين في خبر الفاسق طريقي، ومفهومها انتفاء الوجوب الطريقي في خبر العادل، فأمره يدور بين إلغاء خبره بالمرة فيكون أسوء حالاً من الفاسق وبين

ص: 319

قبوله وهو المطلوب.

ويرد عليه: أن هذا الاحتمال خلاف ظاهر الآية؛ وذلك لأن معنى الوجوب الطريقي هو: تبينوا لكي لا تفوتكم الملاكات الواقعية الاحتمالية، لكن ظاهر الآية هو عكس هذا، أي تبينوا لئلا تقعوا في المفاسد الواقعية بسبب احتمال كذب الفاسق.

الاحتمال الرابع: أن المراد من (تبينوا) ليس الوجوب، بل ملزومه أي عدم الحجيّة؛ وذلك(1): لأن التبيّن ليس كالفحص المشروط به العمل بالعام، بل معناه طلب العلم بالواقع، ويكون مدار العمل عليه لا على خبر الفاسق بعد التبيّن، ثم إن وجوب طلب العلم بالواقع لا يكون بوجه من الوجوه مرتباً ومعلّقاً على مجيء الفاسق بالخبر حتى ينتفي بانتفائه، بل المراد لزوم الإعراض عن خبر الفاسق، وصرف المكلّف إلى تحصيل العلم بالواقع لترتيب آثار الواقع، وعليه فوجوب التبيّن غير معلّق على مجيء الفاسق بالنبأ، بل معلّق على ملزومه وهو عدم الحجية، وعليه فيكون المفهوم انتفاء عدم الحجية بمجيء العادل بالنبأ، وانتفاء عدم الحجيّة مساوق للحجيّة، وبذلك لا نحتاج إلى ضمّ الضميمة، كما هو واضح.

وفيه: أن هذا خلاف ظاهر الآية، حيث إن ظاهرها تعليق وجوب التبيّن لا تعليق ملزومه، فتأمل.

هذا تمام الكلام في الإشكال الأول على مفهوم الشرط في آية النبأ،

ص: 320


1- نهاية الدراية 3: 205.

بعدم الحاجة إلى الضميمة.

الإشكال الثاني: على أصل الاستدلال بمفهوم الشرط في هذه الآية؛ وذلك لأن الجملة في الآية مسوقة لبيان تحقق الموضوع، ولا مفهوم فيها؛ وذلك لما مرّ من أنه إن كان تحقق الجزاء عقلاً متوقفاً على تحقق الشرط فإن انتفاء الجزاء بانتفاء الشرط عقلي، فلا معنى للمفهوم حينئذٍ، كما في مثل: (إن رزقت ولداً فاختنه) حيث إن الختان لا يعقل من دون تحقق الولد، والجملة الشرطية إنما يكون لها مفهوم لو لم يتوقف الجزاء عقلاً على الشرط، كما في مثل: (إن جاء زيد فأكرمه) حيث إن وجوب الإكرام لا يتوقف عقلاً على مجيء زيد، ففي حالة علم مجيئه كما يمكن وجوب إكرامه يمكن عدم وجوبه، فبالمفهوم ننفي الوجوب، وبعبارة أخرى: إن كان الشرط هو نفس الموضوع كانت الجملة الشرطية مسوقة لتحقق الموضوع ولا مفهوم لها، وإلاّ كان لها مفهوم، كما مرّ ذلك مفصلاً.

وما نحن فيه في آية النبأ الموضوع هو خبر الفاسق، والشرط هو المجيء به، ومن المعلوم أنه إذا لم يتحقق الشرط أي المجيء بالنبأ لا يمكن تحقق الجزاء وهو التبيّن.

وبعبارة أخرى: ليس مفهوم الشرط إن جاءكم عادل، بل إن لم يجئكم فاسق، ومع عدم وجود النبأ لا يمكن التبيّن عنه.

وأجيب بوجوه، منها:

الجواب الأول: ما في الكفاية(1): من أنّ تعليق الحكم بإيجاب التبيّن عن

ص: 321


1- إيضاح كفاية الأصول 3: 373.

النبأ الذي جيء به على كون الجائي به الفاسق، يقتضي انتفاؤه عند انتفائه.

وبيانه: أن الموضوع ليس هو (نبأ الفاسق) كي تكون القضية مسوقة لبيان تحقق الموضوع، بل الموضوع هو (طبيعي النبأ)، فالمنطوق هو: النبأ إن جاء به الفاسق فتبينوا، ومفهومه هو: أن النبأ إن لم يجيء به الفاسق - بل جاء به غيره - فلا يجب التبيّن.

وأورد عليه: بأن إمكان هذا المعنى ثبوتاً لا يكفي في إثباته لكي يستفاد منه المفهوم؛ إذ كما يحتمل أن يكون الموضوع هو طبيعي النبأ كذلك يمكن أن يكون الموضوع نبأ الفاسق.

الجواب الثاني: إن الموضوع قد يكون بسيطاً، وقد يكون مركباً، فإن كان بسيطاً وكان التوقف تكوينياً فلا مفهوم، أو كان التوقف تعبدياً فيوجد المفهوم، وإن كان مركباً من جزئين تكوينيين فلا مفهوم، كما لو قال: (إن رزقت طفلاً وكان ذكراً فاختنه)، أو كان مركباً من جزئين تعبديين فيوجد المفهوم، كما لو قال: (إن جاء زيد وكان ضاحكاً فأكرمه)، أو كان مركباً من جزء تكويني وآخر تعبدي فبالنسبة إلى التكويني لا مفهوم وبالنسبة إلى التعبدي يوجد المفهوم، كما لو قال: (إن رزقت ولداً يوم الجمعة فسمّه أحمد)، فبالنسبة إلى رزق الولد لا مفهوم، أما بالنسبة إلى يوم الجمعة فيوجد المفهوم بأن رزق ولداً يوم السبت فلا يجب تسميته بذلك الاسم.

وما نحن فيه - آية النبأ - من قبيل هذا الأخير أي الموضوع مركب من (وجود النبأ) و(مجيء الفاسق به) وباعتبار الثاني يكون لها مفهوم؛ إذ يمكن انتفاء مجيء الفاسق بالنبأ ومع ذلك يمكن التبيّن باعتبار مجيء العادل به.

ص: 322

ويمكن التأمل فيه: أولاً: بأن تجزئة الموضوع في الآية إنما هو بالتحليل العقلي، وظاهر الآية بساطة الموضوع.

وثانياً: ما في المنتقى(1): من أن القول بتركب الموضوع في الآية يستلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى وهو محال؛ وذلك لأن أداة الشرط المستعملة في الشرط المسوق لتحقق الموضوع تستعمل بمعنى الفرض، وفي غيره تستعمل بمعنى التعليق، فإرادة كليهما من أداة الشرط استعمال للّفظ في أكثر من معنى.

وفيه: أن أداة الشرط لها معنى واحد واستعمال واحد في جميع الموارد، ولكن اختلف في بيانه وتفسيره، فقيل: هو التعليق، وقيل: هو الفرض كما مرّ، هذا مضافاً إلى إمكان جعل الشرط ذا إضافة واحدة لا إضافتين ليكون من استعماله في أكثر من معنى، فنقول: إن كون أحد الجزئين تكوينياً والآخر تعبدياً يستلزم كون المركب منهما تعبدياً، حيث يمكن انتفاء الجزاء مع انتفاء المجموع المركب، وفي ما نحن فيه يكون الشرط (مجي الفاسق بالنبأ) والتوقف فيه تعبدي؛ إذ مع انتفائه يمكن تحقق الجزاء خارجاً، فإذا لم يكن النبأ عبر الفاسق، أمكن التبيّن حينما كان النبأ عبر العادل، فتأمل.

الجواب الثالث: كما يحتمل كون المفهوم سالبة بانتفاء الموضوع كذلك يحتمل كونه سالبة بانتفاء المحمول، فإن فرض أن المفهوم هو (لم يكن هناك نبأ) فهو من السالبة بانتفاء الموضوع فلا يجب التبيّن لعدم وجود

ص: 323


1- منتقى الأصول 4: 265.

ما يتبيّن عنه، وإن فرض أن المفهوم هو (لم يكن الجائي بالنبأ فاسقاً) فهو سالبة بانتفاء المحمول، فلا يجب التبيّن مع وجود الموضوع الذي هو النبأ.

وحيث دار المفهوم بينها، كانت السالبة بانتفاء المحمول أولى؛ لأن ذلك هو الظاهر من السلب، بل قد يقال: إن السالبة بانتفاء الموضوع مجاز.

وأورد عليه: بأن العادل غير مذكور في المنطوق، فلا يمكن أخذه في المفهوم، مع أنه يلزم تماثل المنطوق والمفهوم في كل شيء إلاّ السلب والإيجاب، وحيث كان المنطوق (مجيء الفاسق بالنبأ) يكون الفهوم (عدم مجيء الفاسق بالنبأ)، فينحصر المفهوم في السالبة بانتفاء الموضوع!.

إن قلت: عدم مجيء الفاسق بالنبأ ينطبق على مجيء العادل به!

قلت: المفهوم ليس من مقولة الألفاظ ليكون له إطلاق، وعليه فمجيء العادل بالخبر مسكوت عنه.

وفي التبيين(1) إن الإشكال صحيح في نفسه، لكنه ليس من باب السالبة بانتفاء الموضوع؛ إذ على هذا لا مفهوم للآية أصلاً، بل وجوده مستهجن عرفاً، ففي مثل: (إن تزوجت فلا تضيّع حق زوجتك) لا مفهوم له بأن يكون (إن لم تتزوج فلا يحرم عليك التضييع؛ لأنه لا زوجة لك)، بل المعنى إثبات المحمول في ظرف وجود الموضوع فقط.

وبعبارة أخرى: السالبة بانتفاء الموضوع ليست من المفهوم في شيء؛ وذلك لأن انتفاء المحمول بانتفاء الموضوع أمر قهري يجري في كل

ص: 324


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 7: 103.

الجمل الحملية والشرطية، سواء أكان شرطاً أم وصفاً أم لقباً أم غيرها.

الجواب الرابع: ما في الكفاية(1): بأنه يمكن أن يقال: إن القضية ولو كانت مسوقة لذلك إلاّ أنها ظاهرة في انحصار موضوع وجوب التبيّن في النبأ الذي جاء به الفاسق، فيقتضي انتفاء وجوب التبيّن عند انتفائه ووجود موضوع آخر، فتدبّر.

بيانه: إن تخصيص الفاسق بالذكر يدل على انحصار وجوب التبيّن بخبره، وإلاّ فلو وجب التبيّن في خبر العادل أيضاً لم يكن وجه لتخصيص الفاسق بالذكر، بل كان الأنسب تعميم الموضوع بأن يقال: (إن جاء إنسان بنبأ فتبينوا) مثلاً، وعليه فلا يجب التبيّن في موضوع آخر - الذي هو خبر العادل - لأن انحصار حكم في موضوع يدل بمفهوم الحصر على عدم وجود ذلك الحكم في مفهوم آخر.

ويرد عليه: أن تخصيص الفاسق بالذكر قد يكون لأجل كونه شأن النزول وخصوصية المورد لا تخصص الوارد، أو كان الغرض منه التنبيه على فسق الوليد وإبطال نظرية عدالة كل الصحابة، أو لغير ذلك من الأغراض.

وأمّا ما في نهاية الدراية، بما حاصله: إنكار عدم المفهوم في القضية الشرطية المسوقة لتحقق الموضوع!

قال: «إن أداة الشرط ظاهرة في انحصار ما يقع تلواً لها في ما له من الشأن بالإضافة إلى سنخ الحكم والمنشئ؛ لأن انتفاء شخص الحكم بانتفاء شخص موضوعه أو شخص علته لا يحتاج إلى دلالة على الحصر، فالحصر

ص: 325


1- إيضاح كفاية الأصول 3: 374-375.

بالإضافة إلى سنخ الحكم، فإن كان الواقع عقيبها معلقاً عليه حقيقة الحكم كانت السببّية منحصرة، ومقتضى انحصار العلة انتفاء المعلول بانتفائها، وإن كان محققاً للموضوع كان الموضوع الحقيقي منحصراً في ما وقع عقيب الأداة، ومقتضى انحصار موضوع سنخ الحكم في شيء انتفاؤه بانتفائه وإن كان هناك موضوع آخر»(1)، انتهى.

وبعبارة أخرى: إن كان الواقع عقيب أداة الشرط موضوعاً منحصراً، مثل: (إن تزوجت فانفق على زوجتك) فإن سنخ وجوب الانفاق متوقف على الزواج، وإذا انتفى الموضوع انتفى السنخ، وفي آية النبأ يفيد قوله: (فتبينوا) سنخ وجوب التبيّن، ومع انتفاء مجيء الفاسق بالنبأ ينتفي وجوب التبيّن مطلقاً، فلو جاء عادل بالنبأ فلا وجوب للتبين مطلقاً، وهو المطلوب.

فيرد عليه: بأن القضية الشرطية المسوقة لبيان تحقق الموضوع لا تفيد إلاّ موضوعية الموضوع لذلك الحكم، وإثبات موضوعية موضوع لا ينافي موضوعية موضوع آخر لذلك الحكم، كما في اللقب، وفي ما نحن فيه الآية تدل على موضوعية مجيء الفاسق بالنبأ لوجوب التبيّن، وذلك لا ينافي ثبوت هذا الحكم لموضوع آخر.

هذا مضافاً إلى ما مرّ من أن الجملة الشرطية لا تدل على الانحصار، بل

ص: 326


1- نهاية الدراية 3: 209.

لإفادة التعليق أو ربط الجزاء بالشرط أو توقيته عند الشرط، وأما الانحصار فلا بد من استفادته من القرائن.

الجواب الخامس: ما في الفوائد(1): من إمكان استظهار أن الموضوع في الآية مطلق النبأ مع كون الشرط مجيء الفاسق به في مورد النزول، حيث اجتمع في إخبار الوليد عنوانان: كونه خبراً واحداً وكون المخبر فاسقاً، والآية علّقت وجوب التبيّن على كون المخبر فاسقاً، فيكون الشرط لوجوب التبيّن كون المخبر فاسقاً لا كون الخبر واحداً؛ لأنه لو كان الشرط كون الخبر واحداً لعلّق وجوب التبيّن عليه، حيث إنه بإطلاقه شامل لخبر الفاسق، فعدم التعرّض لخبر الواحد وجعل الشرط خبر الفاسق كاشف عن انتفاء التبيّن في خبر غير الفاسق.

وبالجملة فلا إشكال في أن الآية تكون بمنزلة الكبرى الكلية ولا بد من أن يكون المورد من صغرياتها حتى لا يلزم خروج المورد عن العام؛ إذ ذاك قبيح، بل العام بالنسبة إلى المورد كالنص، فلا بد من أخذ المورد مفروض التحقق في موضوع القضية، ولما اجتمع في مورد النزول عنوانان وعلق الحكم على أحدهما دون الآخر كان الجزاء مترتباً على خصوص ما عُلّق عليه في القضية، مع فرض وجود العنوان الآخر وعدم دخله في الجزاء، وإلاّ لعلّق الجزاء عليه أيضاً.

والحاصل: أن منطوق الآية بعد ضمّ المورد إليها هو (الخبر الواحد إن

ص: 327


1- فوائد الأصول 3: 169.

كان الجائي به فاسقاً فتبينوا)، ومفاد المفهوم (الخبر الواحد إن لم يكن الجائي به فاسقاً فلا تتبينوا)، وعليه فالقضية تكون من القضايا التي علق الحكم فيها على ما لا يتوقف عليه الحكم عقلاً.

وأشكل عليه: أولاً(1): بأن ما ذكره صحيح لولا احتمال كون النكتة التنبيه على فسق الوليد، لا من جهة خصوصية له في المقام.

وثانياً(2): لا إشكال في أن مورد النزول من صغريات الكبرى، وإنما الكلام في أن الآية في مقام بيان حكم الفاسق لا في مقام تمييز ما يجب التبيّن فيه عما لا يجب.

وثالثاً(3): إنه عدول عن مفهوم الشرط إلى مفهوم الوصف، لدلالة كلمة (فاسق) على أن الموضوع هو الفسق.

ورابعاً(4): يترتب على ذلك ثبوت المفهوم لجميع الجمل الوصفية، مثلاً لو قال المولى: (أكرم هذا العالم) فقد اجتمع فيه عناوين متعددة: كونه رجلاً هاشمياً أباً عالماً... فيقال: إذا كانت لبقية العناوين مدخلية فلماذا علّق وجوب الإكرام على كونه عالماً، فيدل هذا على أن العلم هو العلة الوحيدة لوجوب الإكرام، فينتفي عند انتفائه، وهذا ما لا يلتزم به أحد خاصة وأن الوصف لم يعتمد على موضوع!

ص: 328


1- فوائد الأصول 3: 169 (الهامش).
2- فوائد الأصول 3: 169 (الهامش).
3- موسوعة الفقيه الشيرازي 7: 112-113.
4- موسوعة الفقيه الشيرازي 7: 113.

الجواب السادس(1): إن أداة الشرط شأنها التعليق دائماً، غاية الأمر أن المعلّق عليه ربّما لا يعقل له بدل يمكن أن ينوب عنه - سواء كان علة مثل: (إن سأل زيد فأجبه)، أو محققاً للموضوع مثل: (إن رزقت ولداً فاختنه) - فالانتفاء عند الانتفاء عقلي، وربّما يعقل له بدل لكنه يؤخذ في الموضوع على نحو تحقق الموضوع، فتكون النكتة فيه إظهار حصر الموضوع في ما أخذ الشرط فيه محققاً له بدعوى أنه كالمحقق الذي ينتفي الحكم بانتفائه عقلاً.

وبعبارة أخرى: إنه مع وجود البديل للشرط تم العدول من النحو العادي للجمل الشرطية إلى نحو تحقق الموضوع، ولا يكون ذلك إلاّ لإفادة الحصر، وعليه فتدل الجملة على المفهوم بنحو آكد.

وفيه(2): لو كان مورد الآية (النبأ) أمكن القول بأن العدول يدل على الحصر، إلاّ أن مورد الآية هو: (مجيء الفاسق بالنبأ) فليس هناك عدول حتى يدل على المفهوم.

وبعبارة أخرى: حيث إن شأن النزول هو مجيء الفاسق بالنبأ فلا يثبت أن المقصود هو بيان حكم طبيعي النبأ حتى يقال: بأنه عدل عنه إلى نبأ الفاسق!

المقام الثاني: في الاستدلال بمفهوم الوصف

وبيان ذلك من وجوه:

الوجه الأول: إنه لو اجتمعت حيثية ذاتية وحيثية عرضية فلا بد من

ص: 329


1- نهاية الدراية 3: 209-210.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 7: 110.

التعليل بالحيثية الذاتية دون العرضية، والعدول عن ذلك قبيح، فمن القبيح تعليل نجاسة الدم بملاقاته البول مثلاً، وفي ما نحن فيه خبر الفاسق فيه حيثية ذاتية هي كونه خبراً واحداً، وحيثية عرضية هي كونه خبر فاسق، وفي ما نحن فيه حيث عدل عن الذاتية إلى العرضية علمنا بأنه لا دخل للذاتية في التعليل.

والمراد من الذاتي هنا ذاتي باب البرهان - وهو ما يكفي في انتزاعه لحاظ الشيء بنفسه من غير ضمّ ضميمة خارجية - وفي ما نحن فيه كون الخبر واحداً هو ذاتي للنبأ، حيث إن المراد النبأ غير العلمي بقرينة قوله: (فتبينوا) و(بجهالة)، والحاصل: أن ثبوت كونه خبراً واحداً ذاتي للنبأ غير العلمي، حيث إن خبر الواحد لا يفيد العلم.

إن قلت: لازم ذلك حجية خبر من لم يكن عادلاً ولا فاسقاً، كالتائب عن الكبيرة قبل أن تتحقق فيه الملكة، أو كالذي بلغ، حيث إنه ليس بعادل لعدم استقامته على جادة الشرع ولا بفاسق لعدم صدور معصية عنه!

قلت: عموم المفهوم لا ينافي تخصيصه بأدلة أخرى، فتأمل.

ويرد عليه: بأن العدول من الذاتية إلى العرضية قد يكون لجهة عقلائية، ولا بأس بذلك، وفي ما نحن فيه لعل ذلك كان لبيان فسق الوليد.

الوجه الثاني: إن تعليق الحكم على الوصف يدل على الانتفاء عند الانتفاء.

وأشكل عليه: بأن عمدة الأدلة على ثبوت مفهوم الوصف هو لغوية ذكره إن لم يكن له دخالة في الحكم، ويكفي في رفع اللغوية هو انتفاء

ص: 330

الحكم عند انتفاء الوصف في الجملة، وعليه فلا دليل على عموم المفهوم، وثبوت الحجية لخبر الواحد في الجملة لا ينفع؛ لأنه يتمسك فيه بالقدر المتيقن كحالة أورث الخبر الواحد الاطمئنان مثلاً، هذا مع قطع النظر عن الإشكالات المبنائية في ثبوت المفهوم للوصف.

الوجه الثالث: إن التبيّن كما يكون بالقرائن الخارجية، كذلك يكون بالقرائن الداخلية ومنها عدالة الراوي، وبعبارة أخرى: التبيّن لازم في كل خبر، أما خبر الفاسق فبالقرائن الخارجية، وأما خبر العادل فبالقرينة الداخلية التي هي عدالته.

وفيه: أن مجرد العدالة لا توجب العلم، بل قد يشك في خبر العادل، أو يظن بعدم صحته، مضافاً إلى أن التبيّن منصرف عن ذلك، بل يكون أشبه بطلب الحاصل إن كان المفهوم إن جاءكم عادل فتبينوا أي عن عدالته!!

المقام الثالث: في المانع عن المفهوم

فحتى لو فرض وجود المقتضي للمفهوم فهناك موانع عنه، ويمكن ذكرها في إشكالات، ومنها:

الإشكال الأول: سقوط المفهوم بالتعارض بينه وبين عموم التعليل.

وذلك لأن علة وجوب التبيّن هي مخافة الوقوع في خلاف الواقع والندم عليه، وهذه علة مشتركة بين خبر الفاسق وخبر العادل؛ لأن العادل لا يكذب ولكنه قد يخطئ، وحين هكذا تعارض يكون رفعه بتقديم عموم التعليل حتى لو كان المورد خاصاً، ففي مثل: (لا تأكل الرمان لأنه حامض) لفظة الرمان لها إطلاق تشمل الحلو، والتعليل له عموم يشمل الخلّ، فالمقدم هو

ص: 331

عموم التعليل ويخصص الحكم بالرمان بالحامض فقط دون الحلو؛ وذلك لوجود ظهور نوعي عرفي في أن الحكم دائر مدار التعليل، وهكذا في آية النبأ، فإن الحكم وإن كان مورده خاص وهو الفاسق إلاّ أن العلة عامة تشمل غيره.

وأجيب عنه بأجوه، منها:

الجواب الأول: إن الجهالة بمعنى السفاهة، أي فعل ما لا ينبغي من العاقل، فالتعليل لا ينطبق على العمل بخبر العادل، فلا عموم له لكي يتعارض مع المفهوم.

إن قلت: إن الجهالة في الآية بمعنى الجهل لا السفاهة؛ وذلك لأن شأن نزول الآية كان خبر الوليد، والإقدام على مقتضى قوله لم يكن سفاهة؛ إذ جماعة العقلاء لا يقدمون على الأمور الخطيرة من دون الوثوق بخبر المخبر، وعليه فالمنهي عنه في الآية العمل على طبق الخبر إذا لم يوجب العلم حتى لو كان عملاً عقلائياً، وهذا الأمر ينطبق على خبر العادل.

قلت: قد تكون الكبرى واضحة مع عدم وضوح الصغرى، ويمكن في شأن نزول الآية أن يكونوا علموا بالكبرى بقبح الإقدام على العمل السفهائي، مع عدم علمهم بالصغرى - بكون اعتمادهم على خبر الوليد سفاهة، والآية نبّهتهم على الصغرى، فيكون حاصل المعنى: (لا تعملوا بخبر الوليد من غير تبيّن؛ لأنه فاسق والعمل بخبر الفاسق سفاهة) فلم يثبت عموم للتعليل.

هذا مضافاً إلى أن العقلاء قد يرتكبون العمل السفهائي لبعض الدواعي

ص: 332

النفسانية أو للغفلة.

الجواب الثاني(1): بحكومة المفهوم على عموم التعليل، ولا تعارض بين الحاكم والمحكوم، حيث إن المحكوم يرتب المحمول على فرض وجود الموضوع، وليس الحكم ناظراً إلى ثبوت أو انتفاء الموضوع، وأما الحاكم فهو يوسّع أو يضيق الموضوع فلا تصادم.

وفي آية النبأ مفاد التعليل: وجوب التبيّن عن كل ما ليس بعلم وهو جهالة، ومفاد مفهوم الشرط هو حجية خبر العادل ومعنى الحجية اعتبار خبر العادل علماً.

وأورد عليه: بمناقشات كثيرة مع قطع النظر عن الإشكال المبنائي بأن الحجية ليست بمعنى جعل العلمية.

والإشكالات تارة في أنه ليس حكومة، بل تخصيص أو تحاكم، وتارة بعدم وجود المحكوم، وتارة بوجود المانع عنها.

المناقشة الأولى: بأن المورد من موارد التخصيص وليس الحكومة(2)؛ وذلك لأن الحكومة ترتبط بالموضوع، أي توسعة أو تضييق في الموضوع لغرض نفي أو إثبات الحكم، وهذا غير متصور في ما نحن فيه، حيث إن النفي وارد على نفس الحكم لا على الموضوع، فالمفهوم وهو (إن جاءكم عادل فلا تتبيّنوا) يرتبط بنفي الحكم أي وجوب التبيّن، وهذا هو التخصيص.

ص: 333


1- فوائد الأصول 3: 172.
2- نهاية الأفكار 3: 115.

ويرد عليه: إن الحكومة أقسام، فمنها: ما يرتبط بتوسعة أو تضييق الموضوع، ومنها: الحكومة برفع الحكم، مثل: دليل لا ضرر، وفرقه عن التخصيص أنها بلسان المسالمة وهو بلسان التصادم، ومنها: عكس ذلك على ما قيل: إنّ الحكومة تكون بتوسعة الحكم بلسان عدم التصادم أيضاً.

وفي ما نحن فيه لا تصادم فلا تخصيص، فتأمل.

المناقشة الثانية: بأنه تحاكم لا حكومة(1)، وحاصله: أنه كما أن العلة تقتضي التصرف في المعلّل بالحكومة، كذلك المفهوم في حدّ نفسه يوجب التصرّف في عموم التعليل بإخراج خبر العادل عن موضوع التعليل، فيكون كل من المفهوم والتعليل رافعاً لموضوع الآخر، فيتحقق التحاكم، ومقتضى ذلك التساقط، والنتيجة هي عدم ثبوت المفهوم.

وأورد عليه(2): أولاً: بأن مقتضاه إلغاء المفهوم وانقلابه إلى مفهوم آخر، وعليه فلا تحاكم وإنما حكومة التعليل فقط، فموضوع الجملة الشرطية حينئذٍ ليس مجيء الفاسق بالنبأ، وإنما هو أعم لشموله خبر العادل أيضاً وأخص لعدم شموله خبر الفاسق العلمي، وعليه فالمعلّل - أي الشرط - يكون: (إن جاءكم نبأ غير علمي فتبينوا) وفمهومه: (إن جاءكم نبأ علمي فلا تبينوا) وهذا إلغاء للمفهوم المعهود، فلا تحاكم، بل حكومة من جهة واحدة وهي حكومة التعليل على الشرط لا حكومة التعليل على المفهوم لعدم بقاء المفهوم حتى يكون محكوماً! ونتيجة ذلك إلغاء المفهوم من جميع القضايا الشرطية المعلّلة.

ص: 334


1- منتقى الأصول 4: 269.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 7: 141.

وفيه: أن كلام المنتقى في أن كلا الطرفين له مقتضي الحكومة فيتساقطان لعدم ترجيح أحدهما على الآخر، والإشكال إنما يرد لو قلنا بفعلية حكومة التعليل على المنطوق ومن ثمّ على المفهوم، والحاصل: أنه ليس المدعى فعلية الحكومة من الطرفين، وإنما اقتضاؤها وتساقطها فيهما، فتأمل.

وثانياً: بأنه خروج عن مصطلح الحكومة، حيث إن الشرط ليس موضوعاً للمفهوم وإنما هو أصل لانتزاع المفهوم.

وفيه: أن المراد أن العلة تتصرف في المنطوق وذلك يستلزم التصرف في المفهوم بطريق غير مباشر، ولا فرق في الحكومة بين هذا وذاك، فتأمل.

المناقشة الثالثة: بعدم وجود المحكوم فلا حكومة، وحاصله: أن عموم التعليل مانع عن انعقاد المفهوم من رأس لكونه قرينة متصلة، فلا محكوم لكي تتم الحكومة!

وأورد عليه(1): بأن منشأ المانعية هو توهم المعارضة بين عموم التعليل وبين انعقاد المفهوم، مع أن الحكومة رافعة للمعارضة؛ لأنها لا تتصرف في عقد الحمل، بل تتصرف في عقد الوضع، وعليه فالدليل المحكوم ليس ناظراً لعقد وضعه - لأن الحكم لا نظر له إلى موضوعه - فلا يقتضي شيئاً بالنسبة إلى عقد الوضع، والدليل الحاكم يقتضي الرفع والوضع في عقد وضع الدليل المحكوم، ولا تنافي بين المقتضي واللامقتضي.

ص: 335


1- فوائد الأصول 3: 173.

المناقشة الرابعة: عدم تحقق شرط الحكومة، حيث إنه لا بد فيها من كون التصرف في موضوع الدليل المحكوم بلحاظ الأثر الشرعي، مع أن اعتبار شيء علماً لا أثر شرعي له.

وفيه: أنه يكفي وجود الأثر العقلي، وللعلم أثر عقلي كالمنجزية والمعذرية.

المناقشة الخامسة: وجود المانع عن الحكومة، وهو الدور: قال المحقق الإصفهاني: «إن حكومة سائر الأدلة على هذا التعليل المشترك - بين الفاسق والعادل - وجيهة، وأما حكومة المفهوم المعلّل منطوقه بنحو يمنع عن اقتضاء المفهوم المثبت لحجية خبر العادل حتى ترتفع به الجهالة تنزيلاً، فهو دور واضح»(1).

بيانه: أن حكومة المفهوم تتوقف على عدم مانعية المنطوق؛ إذ أنه لو انعقد عموم التعليل منع عن تحقق المفهوم، ومن جهة أخرى إن عدم مانعية عموم التعليل يتوقف على حكومة المفهوم كما هو مدعى المحقق النائيني!

إن قلت: لا تتوقف حكومة المفهوم على عدم مانعية عموم التعليل، بل تتوقف على انعقاد المفهوم.

قلت: إن انعقاد المفهوم كما يتوقف على وجود المقتضي - وهو الوضع اللغوي - كذلك يتوقف على عدم المانع وهو عدم انعقاد عموم التعليل!

وأورد عليها: بأن سبب المانعية هو وجود المعارضة، ومع الحكومة

ص: 336


1- نهاية الدراية 3: 212.

ترتفع المعارضة، وعليه فالمقتضي وهو الوضع اللغوي موجود، والمانع وهو انعقاد عموم التعليل مفقود!

المناقشة السادسة: إنه وإن أمكنت الحكومة بلحاظ الجهالة، حيث يقال: إن العلم التنزيلي ليس بجهالة، إلاّ أنها لا تمكن بلحاظ الندم في قوله تعالى: {فَتُصْبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَٰدِمِينَ}(1)؛ وذلك لأن الندم مشترك بين خبر العادل والفاسق لو كان مخالفاً للواقع!

وأورد عليها: بأن المراد الندم الحاصل في المخالفة وعدم العمل بالوظيفة الشرعية!! ولولا ذلك لشملت هذه العلة جميع الأمارات والطرق غير العلمية لاحتمال الوقوع في خلاف الواقع.

وبعبارة أخرى(2): إن التعليل في الآية ليس الندم حتى يقال: إنه نوعان، بل العلة الندم المتفرع عن الإصابة بجهالة بقرينة فاء التفريع، ومع الحكومة فلا إصابة بجهالة فلا يتفرع عليه الندم!

المناقشة السابعة: إن التعليل منطوق ودلالته بالمطابقة، والمفهوم دلالته بالالتزام، ولا يكون المتأخر حاكماً على المتقدم!

وأورد عليها: أولاً: أن المفهوم دلالة التزامية للمقطع الأول من الكلام والمنطوق دلالة مطابقية للمقطع الثاني من الكلام، فالمفهوم مقدّم زماناً وقد انعقد قبل المنطوق الآخر، وتزلزله وعدم استقراره باعتبار أن للمتكلم أن يلحق بكلامه ما يشاء يخرج المنطوق الآخر عن التأخر.

ص: 337


1- سورة الحجرات، الآية: 6.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 7: 137.

وفيه: إنه ليس منشأ المفهوم المعنى البدوي الذي يخطر بالبال حين سماع الكلمة، بل المعنى الذي يستقر عليه الكلام ولا يكون ذلك إلاّ بانتهاء الكلام، فلا اعتبار بخطور الحيوان المفترس حين سماع لفظ الأسد قبل النطق بالقرينة، كذلك لا اعتبار بالمفهوم الخطوري، بل إنما ينعقد المفهوم حين الانتهاء من الكلام، فتأمل.

وثانياً: حتى لو كانا في جملة واحدة فلا تأخر وتقدم بينهما في مرحلة الثبوت؛ لأن خبر الفاسق وخبر العادل في رتبة واحدة. نعم، في مرحلة الإثبات المنطوق مقدّم، والحكومة لا ترتبط بمقام الإثبات حتى يضر التأخر فيه.

وفيه تأمل: لأن الحكومة ترتبط بعالم الإثبات، كالتخصيص، ولا ترتبط بمقدمات الحكم قبل الإنشاء، ففي الواقع وإرادة المولى قد يكون حكمان أو موضوعان في مرتبة واحدة، لكن لا حكومة هناك، ولو سلمنا بوجود الحكومة هناك فنقول: إنه لا طريق إليها إلاّ اللفظ.

الإشكال الثاني - على مفهوم الوصف في آية النبأ -: تعارض الآيات الرادعة عن العمل بغير العلم مع هذا المفهوم، بتعارض العموم والخصوص من وجه، ومورد الاجتماع خبر العادل غير العلمي، فيتساقطان ويكون المرجع أصالة عدم الحجية.

فمفهوم الآية حجية خبر العادل سواء أورث العلم أم لا، ومعنى الآيات الرادعة عدم حجية العلم سواء كان عبر خبر العادل أم الفاسق، ومورد الاجتماع خبر العادل غير العلمي.

ص: 338

وفيه: لا عموم من وجه، بل المفهوم أخص مطلقاً من الآيات الرادعة؛ لأن المفهوم خاص بخبر العادل الظني، حيث إن المراد من (النبأ) النبأ غير العلمي بقرينة التعليل وقوله: (تبينوا) كما مرّ.

إن قلت: يمكن بيان العموم من وجه بطريقة أخرى: بأن الآيات الرادعة مقيدة بغير الظن الذي ثبتت حجيته في قوله: {فَسَْٔلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}(1) ونحوهما، فلا تشمل الفتوى والبينة ونحوهما، والنسبة بين الآيات الرادعة المقيدة وبين المفهوم العموم من وجه، فافتراق الرادعة: في خبر الفاسق حيث لا يشمله المفهوم، وافتراق المفهوم في فتوى الفقيه والبينة ونحوهما حيث لا تشملها الآيات الرادعة، والاجتماع في خبر العادل الواحد.

قلت: أن ذلك من جهة انقلاب النسبة، ولا نقول بها، فنسبة الأدلة الخاصة إلى الدليل العام نسبة واحدة، ولا وجه لتخصيص العام بأحدها ثم ملاحظة النسبة بين ذلك العام المخصّص وبين سائر الأدلة الخاصة.

الإشكال الثالث: إن ثبوت المفهوم يستلزم خروج المورد عن الآية، وذلك قبيح، حيث إن العام نص في المورد فلا يصح ذكره مع عدم كون المورد مصداقاً له؛ وذلك لأن المورد هو الارتداد ولا يكفي في الارتداد خبر العدل الواحد، بل لا بد من قيام البينة فيه، فبناءً على ثبوت المفهوم يكون المفهوم: (إن جاءكم عادل فلا تتبينوا) مع خروج المورد، حيث لا يصح

ص: 339


1- سورة الأنبياء، الآية: 7؛ سورة النحل، الآية: 43.

العمل به، بل لا بد من انضمام عادل آخر إليه!

وأجيب: بأنه يكفي في رفع القبح انطباق المنطوق على المورد مع تقييد المفهوم، فمعنى الآية حينئذٍ يجب التبيّن في خبر الفاسق وخبر الوليد أحد مصاديقه، والمفهوم لا يجب التبيّن في خبر العادل مع تقييده بالتعدد في خبر الارتداد.

إن قلت: لا بد من إنكار المفهوم رأساً؛ لأن تقييده غير عرفي؛ إذ مع ثبوت المفهوم يكون التشنيع عليهم بقبول خبر الفاسق من غير وجه؛ إذ في المورد لا يجوز قبول خبر العادل أيضاً، وبعبارة أخرى: لا وجه لتخصيص الفاسق بالتشنيع على قبول خبره مع أن خبر العادل أيضاً كذلك لا يجوز قبوله في المورد، فلا بد من إنكار المفهوم، ولا بأس بالتشنيع بالخاص لنكتة مع عموم التشنيع.

قلت(1): التشنيع في مورد المنطوق لا ينافي التفصيل في المفهوم، فيكون حاصل المعنى: لا تعتمد على النبأ إذا جاء به الفاسق، وأما إذا كان الجائي عادلاً فاقبل كلامه إلاّ في الارتداد فالواحد لا تقبله والمتعدد اقبله.

والحاصل: إنه لا بأس بتقييد المفهوم بالأدلة الخارجية، كما يقال: إذا كان الماء قليلاً انفعل بملاقاة النجاسة، ومفهومه إذا كان كثيراً لا ينفعل بملاقاتها بشرط عدم التغيّر، وقيد عدم التغيّر استفيد من أدلة أخرى.

الإشكال الرابع: إنّ دلالة آية النبأ على حجية خبر العادل تستلزم عدم

ص: 340


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 7: 158.

حجيته، وما استلزم وجوده عدمه محال؛ وذلك لأن السيد المرتضى ادّعى الإجماع على عدم حجية الخبر الواحد، وكلامه هذا خبر واحد، فلو كان خبر الواحد حجة كان كلامه هذا حجة، وحجية كلامه يستلزم عدم حجية خبر الواحد.

والجواب من وجوه - طوليّة -:

أولاً: خبره هذا معلوم عدم صحّته لعدم تحقق الإجماع قطعاً بمخالفة الأكثر، وأدلة الحجية ظرفها الشك، فلا تشمله.

وثانياً: تخصيص أدلة الحجية، بعدم شمولها هذا الإجماع لوجود المحذور العقلي فيه، ولا محذور في غيره.

وثالثاً(1): إن عدم شمول آية النبأ لخبر السيد المرتضى تخصص، وعدم شمولها لسائر الأخبار تخصيص، والتخصص أولى من التخصيص.

أما الكبرى: فقد تمّ البحث عنها سابقاً، وأما انطباقها على ما نحن فيه: فهو أن موضوع الحجية في آية النبأ هو (النبأ المشكوك) لا المعلوم المطابقة للواقع ولا المعلوم عدم المطابقة له، وعليه فالآية إن شملت سائر الأخبار قطعنا بعدم حجية خبر السيد المرتضى؛ لأن حجيتها تساوق عدم حجيته، حيث إن مضمون خبره عدم حجية أخبار الآحاد ولا معنى لحجية المتناقضين، فخرج خبره عن موضوع آية النبأ بالتخصّص، وأما إن شملت الآية خبره لزم خروج سائر الأخبار بالتخصيص، حيث ليس مضمونها

ص: 341


1- نهاية الأفكار 3: 119.

الحجية كي يقال: فقطع بعدم حجيتها، بل مضمونها الخبر عن الواقع، ونحن لا نعلم بمطابقة مضمونها للواقع، وعليه: فتلك الأخبار (نبأ مشكوك) لأنها وإن لم تكن حجة لكنا نحتمل مطابقتها للواقع.

وأورد عليه: بأنه دوران بين تخصيصين؛ لأن موضوع آية النبأ عرفاً ليس الخبر المشكوك الحجية، بل الخبر المشكوك مطابقته للواقع، بقرينة قوله: {أَن تُصِيبُواْ قَوْمَۢا بِجَهَٰلَةٖ}(1).

وأما ما قيل: من أن تقديم التخصّص على التخصيص لو تمّ فإنما هو أمر عقلائي لنكتة راعاها العقلاء، وهي التمسك بالعموم والإطلاق، ولا تجري هذه النكتة إلاّ في حالة الشك، ولا شك في ما نحن فيه؛ لأن خبر السيد المرتضى حاكم على العمومات؛ لأن المراد من المفهوم حسب خبر السيد المرتضى هو النبأ الذي تطمئن إليه النفوس، فلا يشمل الأخبار الظنية، وعليه فلا شك في العموم، بل علم بعدمه.

ففيه: أن النبأ في المنطوق هو المشكوك فلا يمكن أن يكون في المفهوم النبأ المورث للاطمئنان.

المقام الرابع: في الأخبار بالواسطة

وقد أشكل على دلالة آية النبأ وغيرها على حجية خبر العادل باستحالة شمولها للأخبار بالوسائط، فحتى لو سلّم دلالتها على خبر العادل فإنما تدل على الخبر الذي يرويه الراوي بلا واسطة، وأما الأخبار بالواسطة - وهي

ص: 342


1- سورة الحجرات، الآية: 6.

جميع الأخبار الواصلة إلينا - فلا.

ويمكن تقرير الاستحالة بوجوه، منها:

التقرير الأول: استلزام حجيتها تقدم الحكم على موضوعه وهو محال.

بيانه: أنه روى الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن المعصوم (علیه السلام) مثلاً روايةً، فكلام الكليني وصلنا متواتراً لتواتر كتابه الكافي فيشمله (صدّق العادل)، وأما كلام علي بن إبراهيم فإنه لم يثبت لنا بالوجدان وإنما نريد إثبات كلامه تعبداً عبر الأدلة الدالة على وجوب تصديق العادل، وعليه فهذه الأدلة مقدمة على خبره لأنه متولد عنها، فلا يمكن أن تكون تلك الأدلة حكماً لخبره؛ وذلك لاستحالة تأخر المتقدّم.

وبعبارة أخرى: صاحب الكتاب خبره ثابت لنا وجداناً فيكون موضوعاً لتلك الأدلة، وأما سائر من في السند فخبرهم ثابت لنا تعبداً بتلك الأدلة فهو متأخر عنها، فلا يمكن أن يكون موضوعاً لها، وعليه فلا دليل على حجية أخبارهم.

وأجيب: أولاً: بأن مدلول تلك الأدلة حجية طبيعي الخبر، والقضية الطبيعية - بالمعنى الأصولي - تشمل جميع الأفراد حتى المتأخرة منها، ويراد بالقضية الطبيعية في اصطلاح علم الأصول: ما كان الموضوع هو الطبيعة لا بقيد كونها كليّة، فلا تلاحظ في الأفراد خصوصياتها الفردية والتي منها التقدم والتأخّر، فالحكم يشمل الفرد المتأخر قهراً.

إن قلت: صحيح إن القضية الطبيعية تشمل جميع الأفراد سواء الطولية أم العرضية، لكن ذلك إنما يكون في ما لم يكن محذور عقلي عن شمولها

ص: 343

لبعض الأفراد، وفي ما نحن فيه المحذور موجود وهو تأخر المتقدّم.

قلت: حيث إن الأحكام تتعلق بالطبائع لا بالأفراد، فالفرد المتولّد عنها

لا يتعلق به الحكم بما هو فرد، بل بالطبيعة الموجودة فيه!

وفيه نظر: لأن هذه الطبيعة تنتزع من هذا الفرد، وقد مرّ أن النسبة ليست كنسبة الأب للأبناء، بل الأباء للأبناء، فتأمل.

وثانياً: إن مدلول تلك الأدلة قضية حقيقيّة، فالأحكام متعددة بتعدد الأفراد، وعليه فالمقدّم حكم، والمؤخّر حكم آخر، وفي الفوائد: «الذي لا يعقل هو إثبات الحكم موضوع شخصه، لا إثبات موضوع لحكم آخر»(1).

إن قلت: صحيح أن القضايا الحقيقية تنحلّ إلى أحكام متعددة بتعدد الموضوعات، إلاّ أنها دفعيّة الوجود، فكيف تنحل إلى ما هو مترتب في الوجود؟

قلت: إن التقدم والتأخر إنما هو رتبي وأما خارجاً فهذه الأخبار تولد دفعة واحدة، ففي المثل خبر الكليني وعلي بن إبراهيم وأبيه ولدت دفعة واحدة وإنما بعضها علة لبعض، فلا تقدّم وتأخر في الوجود وإنما في الرتبة، ككل علة ومعلول.

وثالثاً: إن الممتنع هو التوقف الثبوتى لا الإثباتي، وخبر الواسطة - كخبر علي بن ابراهيم - ليس وجوده الواقعي متوقفاً على أدلة الحجية، وإنما علمنا به متوقف عليها، وموضوع تلك الأدلة هو الخبر بوجوده الواقعي لا العلمي؛ لأن

ص: 344


1- فوائد الأصول 3: 179.

الأحكام تترتب على الموضوعات الواقعية، وعليه: فعلمنا بالخبر متوقف على دليل الحجية، ودليل الحجية حكمٌ للخبر الواقعي، فلا تأخر للمتقدّم، كما أن علمنا بالنار متوقف على الدخان، ووجود الدخان واقعاً متوقف على النار.

وبعبارة أخرى: المتقدّم على أدلة الحجية هو الوجود الواقعي للخبر، والمتأخر هو الوجود التعبدي له.

إن قلت(1): إن الحجية إن كانت محمولة على خصوص الخبر الواقعي فهو غير ثابت وجداناً لاحتمال اشتباه الراوي، وإن كانت محمولة على الأعم من الواقعي والتعبدي فالإشكال يعود، فإن علة الثبوت التعبدي هو أدلة الحجية، فكيف تكون محمولاً مع كونها علةً؟

قلت: إن الأمارات والطرق كاشفة عن الواقع، واحتمال اشتباه الراوي منفيّ بالأصل العقلائي، وعليه فأدلة الحجية تكشف عن الوجود الواقعي للخبر مع الواسطة لا أنها علة له وتكون حكماً له من غير محذور، فتأمل.

ورابعاً: لو فرض عدم اندفاع الإشكال بما ذكر، فيمكن أن يقال: بشمول مناط أدلة الحجية للخبر مع الواسطة، بعد شمولها للخبر بلا واسطة؛ لعدم الفرق بينهما قطعاً.

التقرير الثاني: استلزام حجيتها اتحاد الحكم والموضوع، وذلك بأخذ الحكم في موضوع نفسه، وهو محال.

بيانه: إن الحكم بوجوب التصديق لا بد أن يكون لموضوع ٍ له أثر، وإلاّ

ص: 345


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 7: 172-173.

كان لغواً، وأدلة حجية خبر الثقة تدل على حجية خبره المباشر عن المعصوم (علیه السلام) ؛ لأن له أثراً هو الحجية ووجوب الأخذ به، وأما الأخبار غير المباشرة عن المعصوم (علیه السلام) - وهي عامة الأخبار التي بأيدينا - فيستحيل شمول أدلة الحجية لها؛ لأنه لا أثر لخبر الرواة غير المباشرين إلاّ وجوب تصديقهم، ولا يصح أن يقال: (إن الخبر الذي أثره وجوب التصديق، يجب التصديق به) لأن ذلك أخذ للحكم في الموضوع، وحيث إن الحكم متأخر عن الموضوع فأخذه فيه يستلزم تقدّم المتأخر، وهو محال.

وأجيب بجوابين:

الجواب الأول: إن الخبر مع الواسطة ليس أخباراً متعددة، كي نبحث عن أثر لكل واحد منها، بل هو في حكم خبر ٍ واحدٍ، فيكفي فيه أثر واحد هو الحجيّة.

وأورد عليه: بأن السامع قد يصدّق المخبر في ما ينقله عن الواسطة مع عدم تصديق الواسطة في ما نقلته، فاجتمع تصديق وتكذيب، ولو كان الخبر غير متعدد لم يكن ذلك، وهو قرينة تعدد الخبر.

الجواب الثاني: ما عن المحقق الحائري(1): بأن أثر الخبر مع الواسطة هو ثبوت قول المعصوم (علیه السلام) وليس الأثر تصديق العادل، وحاصله: أن بين الخبر والمخبر به ملازمة نوعية ظنّية، حيث إن خبر الثقة له كاشفية نوعية ظنية عن الواقع، وهذه الملازمة غير مجعولة للشارع، بل هي ملازمة ثابتة

ص: 346


1- درر الفوائد، للحائري: 388.

بقطع النظر عن الجعل الشرعي، وحيث إن الطريق إلى أحد المتلازمين طريق للآخر، فالخبر بلا واسطة كما هو طريق إلى الخبر مع الواسطة كذلك هو طريق إلى قول المعصوم (علیه السلام) .

لا يقال(1): إنّه لا ملازمة بين الخبر والمخبر به؛ لأن الملازمة إما واقعية وإما جعلية، ولا توجد ملازمة واقعية إلاّ بين العِلّة والمعلول أو المعلولين لعلة واحدة، وهنا ليس بين الخبر والمخبر عِليّة ولا هما معلولان لعلة أخرى، كما لا توجد ملازمة جعلية؛ إذ يُراد إثبات الملازمة مع قطع النظر عن الجعل الشرعي وإلاّ لعاد الإشكال.

لأنه يقال(2): إنه لا يراد الملازمة الواقعية القطعية كي يقال: إنها بسبب العلية بينهما أو معلوليتهما لعلة أخرى، بل يراد الملازمة الظنية، أي الظن بالملازمة نوعاً.

لا يقال: بأن خبر صاحب الكتاب ليس خبر لنا عن قول المعصوم (علیه السلام) إلاّ على تقدير عدم خطأ الناقل المباشر عن الإمام (علیه السلام) ، ولا معنى لوجوب تصديق الخبر تحقيقاً عن لازم على تقدير!

بيانه(3): إن هنا ملازمتين: الأولى: الملازمة بين الخبر بالواسطة وبين الخبر بلا واسطة. الثانية: الملازمة بين الخبر بالواسطة وكلام المعصوم (علیه السلام) .

وخبر الواسطة غير ثابت بالوجدان لأننا لم نسمعه منه، وغير ثابت بالتعبد

ص: 347


1- نهاية الدراية 3: 225.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 7: 186.
3- موسوعة الفقيه الشيرازي 7: 187.

وإلاّ لعاد المحذور، وعليه فتكون القضية فرضية، أي لو كان المخبر بالواسطة قد قال ذلك الكلام لكان الإمام قد قاله، ولا يمكن حمل هذا الثاني (أي لكان الإمام قاله) على القضية الأولي (أي الخبر بالواسطة ملازم لقول الإمام) بمعنى أن المخبر بالواسطة قد قاله فالإمام قد قاله؛ وذلك لأنه لا يمكن إصدار حكم منجز على خبر معلّق.

لأنه يقال: حيث إن الملازمة الظنية النوعية قد أخرجته عن التقدير إلى التنجيز، فخبر الكليني مثلاً يكشف عن خبر علي بن إبراهيم، وهو يكشف عن خبر أبيه، وهو يكشف عن قول المعصوم (علیه السلام) وعليه فخبر على بن إبراهيم وخبر أبيه ثابتان لنا تحقيقاً لا تقديراً، فتأمل.

الآية الثانية: آية النفر
اشارة

وهي قوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٖ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}(1)

والاستدلال بهذه الآية على حجية خبر الواحد من وجوه:

الوجه الأول: الملازمة بين وجوب الإنذار ووجوب الحذر

وذلك عبر طرق، منها:

الطريق الأول: الملازمة بين إطلاق وجوب الإنذار وإطلاق وجوب الحذر - سواء أفاد الإنذار العلم أم لا - ، ففي نهاية الدراية(2): إن إطلاق

ص: 348


1- سورة التوبة، الآية: 122.
2- نهاية الدراية 3: 235.

الحذر يستكشف بإطلاق وجوب الإنذار؛ ضرورة أن الإنذار واجب مطلقاً من كل متفقه - سواء أفاد العلم للمنذَر أم لا - فلو كانت الفائدة منحصرة في التحذر كان التحذر واجباً مطلقاً وإلاّ لزم اللغوية أحياناً.

وبعبارة أخرى: إن وجوب ذي المقدمة يترشح على المقدمة، فيكون وجوبها كوجوبه، وحيث إن وجوب الإنذار - الذي هو مقدمة - مطلق، فوجوب التحذر الذي هو ذي المقدمة مطلق أيضاً، وعليه فيجب حذر المنذَرين مطلقاً ولا يكون ذلك إلاّ بالعمل بالخبر الذي رواه النافرون.

وأشكل عليه: أولاً: على الكبرى: بأن ترشح وجوب ذي المقدمة على المقدمة إنما هو في ما إذا كان فاعلهما واحداً، وأما مع الاختلاف فلا معنى لأن يكون وجوب أحد الفعلين مترشحاً عن وجوب الآخر(1)!

وفيه(2): لا الفرق في الترشح بين وحدة الفاعل أو اختلافه؛ لأن ملاك الوجوب الغيري فيهما واحد، فإن ملاكه هو ما كان وجوبه منبعثاً عن وجوب غيره، فلا فرق بين أن يقول المولى: (انصب السلّم واصعد السطح)، أو أن يقول: (انصب أنت السلّم ليصعد فلان على السطح)، ففي ما نحن فيه أمر المولى المتفقّهين بالإنذار إنما هو لأجل حذر المنذَرين، فلا يعقل أن يوجب المولى الإنذار المقدمي مطلقاً مع كون غرضه التحذر في صورة العلم فقط!

وثانياً: على الصغرى: بعدم ثبوت الإطلاق في وجوب الإنذار؛ لأن الآية

ص: 349


1- منتقى الأصول 4: 282.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 7: 212.

ليست في مقام البيان من جهة الإنذار وبيان كيفيته، بل في مقام البيان من جهة النفر والتفقه وأنه يجب على طائفة منهم لا جميعهم، كما يدل عليه صدر الآية في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً}، بل ذكرت الآية الإنذار والحذر لأجل بيان الفائدة المترتبة على النفر والتفقه.

الطريق الثاني: الملازمة بين وجوب الإنذار ووجوب الحذر عن طريق اللغوية لو لم يجب الحذر؛ وذلك لأن الإنذار واجب، حيث وقع غاية للنفر الواجب؛ وذلك لأن (لولا) إذا دخلت على الماضي أفادت التوبيخ، ولا معنى للتوبيخ على ترك غير الواجب، فإذا وجب الإنذار وجب الحذر؛ إذ لو لم يجب الحذر كان الإنذار لغواً، والحاصل: أن النفر واجب لمكان لولا، فيجب الإنذار لأنه غاية للواجب، فيجب الحذر كي لا يكون الإنذار لغواً.

ويرد عليه: أن للإنذار فوائد أخرى غير وجوب الحذر، وبها ترتفع اللغوية:

منها: حصول العلم للمنذَرين بكثرة المنذِرين، فليس إنذار الواحد لغواً إن لم يجب قبوله، بل هو مقدمة لحصول العلم.

إن قلت(1): بأن ظاهر الآية هو أن الغاية المترتبة على الإنذار والفائدة المترقبة منه هو التحذر لا إفشاء الحق وظهوره!

قلت(2): إن هذا الكلام لا بد أن يبتنى على ثبوت الإطلاق؛ إذ لو كان

ص: 350


1- نهاية الدراية 3: 238.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 7: 228-229.

المولى في مقام البيان انقعد لكلامه إطلاقان: انحصار العلة، وكونها تامة، أمّا لو لم يكن المولى في مقام البيان صارت الجملة مجملة من الجهتين، والقول بالإطلاق رجوع إلى الطريق الأول، والكلام هنا مع قطع النظر عن الإطلاق، بل بلحاظ اللغوية.

ومنها: إتمام الحجة حتى لو لم يجب التحذر.

وفيه: إنه لا معنى لإتمام الحجة بما ليس بحجة؛ إذ مع عدم وجوب الحذر لا حجية للإنذار، فلم تتم الحجة!

ومنها: انبعاث المنذَرين احتياطاً حتى لو لم يكن الحذر واجباً، وحيث إن هذا الاحتياط مطلوب ولو بنحو الاستحباب فلا لغوية! فتأمل.

الطريق الثالث: الملازمة بين الوجوبين عن طريق الغاية؛ إذ الحذر غاية الإنذار الواجب، وغاية الواجب واجبة.

أما الصغرى: فلأنّ (لعلّ) إذا توسطت بين كلامين كان ظاهره كون متلوّها غاية لما قبلها، كما في مثل: (تاجرت لعلّي أربح)، ومثل: (صليت لعلّ الله يغفر لي).

وأما الكبرى: فلأن وجوب المقدمة التي هي ذي الغاية يستلزم وجوب ذي المقدمة التي هي الغاية، فالإنذار واجب والغاية منه الحذر فيكون مثلها في الوجوب.

ويرد على الصغرى: ما مرّ بأنه لا إطلاق لوجوب الحذر ولا لوجوب الإنذار لعدم كون الآية في مقام البيان من جهتهما، والقدر المتيقن هو وجوب الحذر والإنذار حين حصول العلم، فحتى مع تسليم الكبرى يقال

ص: 351

بأن غاية الواجب المطلق واجبة مطلقاً لا غاية الواجب المهمل.

وأورد على الكبرى: بأنه لا دليل على كون غاية الواجب واجبة؛ إذ وجوب المقدمة لا يستلزم وجوب ذي المقدمة، بل يمكن كون الشيء مستحباً مع وجوب مقدمته، كما أفتى بعض الفقهاء بوجوب الأمر بالمستحبات، فإنه أمر بالمعروف وإقامة للدين ودعوة إلى الخير وكلّها واجبات!

وفيه نظر: لأن المقدمة إذا لم تكن فيها جهة وجوب نفسي فلا وجه لوجوبها من غير وجوب ذيها، لنفس الملاك في العكس - أي في ترشح وجوب ذي المقدمة إلى المقدمة - إذ لا غرض فيها حينئذٍ إلاّ التوصل إلى ذيها وحيث لم يكن ذوها واجباً فلا وجوب لها، وأما ما أفتى به الفقهاء فلعلّ وجهه أن المستحبات واجبة في الجملة بمعنى أن الشارع لا يريد تركها بشكل كلّي، فهي في حقيقتها واجب مركب من الوجوب الكفائي والوجوب التخييري، فتأمل.

الوجه الثاني: الملازمة بين حسن الحذر ووجوبه

وبيانه(1): إن معنى لعلّ في قوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} ليس الترجي الحقيقي، لاستلزامه الجهل وقد تعالى الله عن ذلك، بل معناه محبوبية الحذر شرعاً وعقلاً.

أما شرعاً: فلأن العلماء بين قائل بوجوب العمل بالخبر الواحد، وقائل

ص: 352


1- إيضاح كفاية الأصول 3: 384.

بحرمته، ولا قائل بالمحبوبية والاستحباب، فإذا ثبتت المحبوبية ثبت وجوب العمل.

وأما عقلاً: فلأن الحذر إنما هو عمّا يكون فيه خوف العقوبة، ولا يكون ذلك الخوف إلاّ مع قيام الحجة؛ إذ لو لم تقم الحجة فلا خوف من العقوبة فلا معنى للحذر، بل لا حسن فيه أصلاً، بل غير ممكن؛ وذلك لأن الحذر من الشيء فرع وجوده ومع عدم وجوده فلا يمكن الحذر قطعاً.

والجواب: عن الوجه الشرعي: أنّ المفيد القول بعدم الفصل لا عدم القول بالفصل، وبعدم الملازمة بين حسن الحذر ووجوبه، ولذا قد يحسن الاحتياط من غير وجوب كما في الشبهات الوجوبية والتحريمية التي لا تكون مقرونة بالعلم الإجمالي.

وعن الوجه العقلي: بأن متعلق الحذر غير مذكور في الآية؛ إذ لو كان المتعلق العقاب الأخروي فالملازمة تامة، وإن كان الوقوع في المفاسد وفوت المصالح غير العقوبة فلا دليل على الملازمة.

لا يقال: ظاهر الآية هو الحذر عن العقوبة الأخروية لانصرافها إليه، ولعدم معرفة الناس في الصدر الأول بفوت المصالح والوقوع في المفاسد، ولأن المتعارف إنذار المبلغين عن العقاب الأخروي لا الأمور الدنيوية.

لأنه يقال: لا وجه للانصراف، والمصالح والمفاسد مرتكزة في أذهان الناس في جميع العصور، كما أن من أهم وسائل المبلغين بيان الآثار الوضعية بتحذير الناس عن الأضرار الدنيوية وفوت منافعها، فإنها قد تحرك بعض الناس أكثر من التحذير عن العقوبة الأخروية.

ص: 353

الوجه الثالث: الملازمة بين وجوب الإنذار وحجيته

قال المحقق الإصفهاني(1): بل نقول: إن نفس وجوب الإنذار كاشف عن أن الإخبار بالعقاب المجعول إنذارٌ، ولا يكون ذلك إلاّ إذا كان حجة، وإلاّ فالإخبار المحض لا يحدث الخوف ولو اقتضاءً حتى يكون مصداقاً للإنذار حتى يجب شرعاً.

وتوضيحه(2): إن وجوب الإنذار كاشف عن كون الإخبار إنذار؛ إذ لو لم يكن إخبار المنذر إنذاراً فكيف يأمره المولى بالإنذار؟! ثم إنه تتوقف إنذارية المنذر على اقتضائه للخوف؛ إذ لو لم يقتضي الخوف لا يكون إنذاراً، ثم إن اقتضاءه للخوف يتوقف على حجيته شرعاً، حيث إنه لو لم يكن حجة فلا خوف وإذا لم يكن خوف فليس بإنذار!!

وأشكل عليه: أولاً: بأن الإنذار هو بيان ما يترتب على الفعل من المحاذير سواء أوجد مقتضي الخوف أم لا.

وثانياً: بأن اقتضاء الإنذار للخوف لا يتوقف على حجيته شرعاً إذا كان المنذر به بيان المفاسد وفوت المنافع الدنيوية، فقول الخبير الاقتصادي في الأضرار مع اقتضائه خوف التجار ليس بحجة شرعاً في الجملة.

إن قلت(3): يصدق الإنذار حتى لو لم يقتض الخوف، بل حتى مع علم المنذِر بعدم تحقق الخوف، كما في إنذار الكفار الذين لم يكونوا يبالون

ص: 354


1- نهاية الدراية 3: 238.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 7: 237-238.
3- منتقى الأصول 4: 283.

بكلام الرسول (صلی الله علیه و آله) ، كما يصح أن يقال: أنذرته فلم ينفعه، أو أنا أعلم بأنه لا ينفعه الإنذار!!

قلت: إن الكلام ليس في فعلية الخوف، بل في اقتضاء الإنذار للخوف.

إن قلت(1): قد يتحقق الخوف من العقاب فعلاً حتى لو لم يكن الإنذار حجة، لاندراج المورد في الشبهات الحكمية قبل الفحص.

قلت: إن الخوف لم يستند إلى الإنذار، بل إلى عدم وجود المؤمِّن، ففي الشبهات الحكمية قبل الفحص لا مؤمِّن سواء كان هناك إنذار أم لم يكن.

إشكالات على الاستدلال بآية النفر

ثم إنه بعد عدم دلالة الآية على حجية الخبر الواحد، قد أشكل بإشكالات أخرى، منها:

الإشكال الأول: إن التمسك بها للدلالة على حجيته تمسك بالعام في الشبهة المصداقية؛ لأن وجوب الحذر إنما هو عند الإنذار بالدين الذي تفقه به، وذلك لا يكون إلاّ مع العلم بأن ما يخبر به من الدين، وأما مع الشك - لاحتمال الخطأ أو الكذب - فلا علم بتحقق موضوع الإنذار فلا يترتب عليه الحكم الذي هو وجوب الحذر.

وأجيب: أولاً: بأن الأصل العقلائي في الثقة هو عدم الكذب وعدم الخطأ، والاستناد إلى هذا الأصل إنما هو في تحقق موضوع الآية - أي الإنذار بالدين - وأما الحكم فيستفاد من وجوب الحذر أو غيره مما مرّ،

ص: 355


1- منتقى الأصول 4: 283.

فليس ذلك إرجاع الدليل إلى بناء العقلاء في حجية الخبر الواحد.

إن قلت: وهل هذا الأصل العقلائي ممضى من طرف الشارع؟ وعلى فرض إمضائه فتحرز الحجية في مرتبة الموضوع فلا معنى للحجية في مرتبة المحمول لأنه من تحصيل الحاصل، ومعه رجع الدليل إلى الاستدلال ببناء العقلاء على حجية خبر الواحد.

قلت: إن موضوعات الأحكام ترتبط بالعرف - في غير الموضوعات المستنبطة - فلا تحتاج إلى الإمضاء، وعلى فرض احتياجها إليه فلا يستلزم الإمضاء الحجية إن فرض وجود أثر آخر غيرها، فتأمل.

وثانياً: ما في الفوائد(1): من أن الآية بنفسها تنقح الموضوع، حيث تدل على أن ما أنذر به المنذِر يكون من الأحكام الواقعية؛ وذلك لأن قول المنذِر إذا جُعل طريقاً إلى الأحكام الواقعية ومحرزاً لها وجب اتباعه كما هو الشأن في سائر الأدلة الدالة على اعتبار الطرق والأمارات.

والحاصل: أنه يتم إحراز الموضوع بواسطة نفس الآية الشريفة، حيث تدلّ على جعل الطريقية التعبدية إلى الأحكام الواقعية بواسطة قول المنذر.

وأشكل عليه المحقق العراقي(2): باستلزامه الدور؛ وذلك لتوقف وجوب القبول على إحراز كون ما أنذر به من الأحكام الواقعية، وتوقف ذلك على محرزية قول المنذِر وكاشفيته، المتوقف على وجوب الحذر والقبول.

ص: 356


1- فوائد الأصول 3: 188.
2- نهاية الأفكار 3: 128.

وبعبارة أخرى: 1- لا يجب القبول إلاّ بعد إحراز كون ما أنذر به حكماً واقعياً، 2- ولا يثبت كون الإنذار بالحكم الواقعي إلاّ بجعل الشارع الكاشفية لقول المنذر، 3- وكاشفية قوله متوقفة على وجوب الحذر والقبول.

وأجيب: أولاً(1): بأن المقدمة الثالثة غير تامة؛ لأن جعل الكاشفية لا يتوقف على وجوب القبول، بل هو مستكشف عن هذا الوجوب، حيث إن وجوب الحذر كاشف عن جعل الطريقية التعبدية لا أنه مثبت لها!

وفيه: إن جعل الطريقية تمّ بهذا الآية - بناءً على الاستدلال بها - ، وإرادة المولى لذلك ليس جعلاً للطريقية، وبعبارة أخرى: لا ينفعنا الكشف عن إرادة المولى لأنها ليست بجعل، وأما الجعل بغير هذه الآية فيخرجنا عن الاستدلال بها، فتأمل.

وثانياً: بأنه يمكن أن يقال: إن وجوب القبول علة لأمرين: أحدهما يرتبط بالموضوع وهو إحراز كون ما أنذر به من الأحكام الواقعية، والآخر يرتبط بالحكم وهو حجية هذا الإحراز، فلا توقف بينهما، بل هما في عرض واحد، ولولا ذلك كان جعل وجوب الحذر لغواً.

الإشكال الثاني على الاستدلال بآية النفر: أنّ الآية تدل على حجية فتوى المجتهد على مقلده لا على حجية خبر الواحد؛ وذلك لأن الإنذار إن كان على جهة الإفتاء فلا يكون حجة إلاّ على المقلدين، وإن كان على

ص: 357


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 7: 251.

جهة الحكاية بالتخويف فكذلك لعدم حجية حدس فقيه على آخر، وإن كان على جهة حكاية من دون تخويف فليس موضوعاً لوجوب الحذر في الآية؛ لأنها دلت على الحذر حين الإنذار لا حين الإخبار.

والجواب: أولاً(1): إنه لا بد من التعميم في الآية من وجهين:

1- تعميم التفقه لما إذا علم بالحكم من دون إعمال نظر ورأي، كما لو سمع الحكم من المعصوم بكلام صريح فصيح لا يتوقف استفادة الحكم منه على إعمال رأي ونظر.

2- التعميم من حيث الإنذار، بأن يكون الإخبار عن العقاب المجعول المسموع من الإمام (علیه السلام) بكلام صريح فصيح إنذاراً حقيقة، من دون اختصاص للإنذار بما إذا كان لرأيه ونظره دخل في تحقق الإنذار منه، فإن حجية إنذاره حينئذٍ ليس إلاّ حجية خبره عن جعل العقاب، لا حجية خبره عما استفاده برأيه ونظره، فإنه على الفرض لا رأي له ولا نظر.

والحاصل: أن دفع الإشكال ليس بدعوى صحة التخويف من الراوي ولو مع عدم حجية رأيه ونظره، بل بدعوى تحقق الإنذار منه بلا إعمال نظر ورأي.

إن قلت: الإنذار إنشاء، فكونه حكايةً أيضاً يستلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى.

قلت: إنه إخبار فقط بداعي التخويف، وحينئذٍ يطلق على هذا الخبر أنه

ص: 358


1- نهاية الدراية 3: 242-243.

إنذار.

وثانياً: لو فرض اختصاص الإنذار في الآية بتخويف المتفقه، لكن يمكن تعميم ملاك وجوب الحذر لحال الحكاية؛ لأن إنذار المتفقه

لا خصوصية له، بل حجيته لكونه طريقاً لمعرفة المحذور على العمل، بل يمكن التعميم بالأولوية؛ لأن الإخبار الحسي أولى بالحجية من الإخبار المشوب بالحدس!

الإشكال الثالث: إن الإنذار لا بد من اشتماله على التخويف، وهذا لا يكون شأن الحاكي، بل شأن الواعظ والمفتي!

وفيه(1): إن الإنذار أعم من اشتماله على التخويف صراحة أو ضمناً، فحكاية الوجوب تتضمن إخباراً عن استتباع المخالفة للعقاب، ولذا اعترف المستشكل بصدق الإنذار على فتوى المفتي.

الآية الثالثة: آية الكتمان

وهي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَٰتِ وَالْهُدَىٰ مِنۢ بَعْدِ مَا بَيَّنَّٰهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَٰبِ أُوْلَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّٰعِنُونَ}(2).

والاستدلال بدلالة الاقتضاء، بأنه إذا حرم الكتمان وجب القبول، وإلاّ كانت حرمة الكتمان لغواً.

وأشكل عليه: أولاً: بعدم إحراز الحكم؛ وذلك لعدم الإطلاق في

ص: 359


1- فوائد الأصول 3: 188.
2- سورة البقرة، الآية: 159.

وجوب القبول بحيث يشمل صورة عدم العلم بكون الخبر مطابقاً للواقع، بل وجوب القبول من هذه الجهة مهمل؛ وذلك لأن الآية في مقام بيان حرمة الكتمان لا في مقام بيان وجوب القبول كي يستفاد منها الإطلاق من جهته، وعليه فلا بد من الاقتصار على القدر المتيقن وهو صورة تحقق العلم.

وثانياً: بعدم إحراز الموضوع في صورة عدم العلم، فيكون من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية؛ وذلك لأنه لا بد من إحراز كون كلامه من (البينات والهدى) كي يجب القبول.

وقد ذكر هذين الإشكالين الشيخ الأعظم(1).

وأشكل عليهما المحقق الخراساني(2): بأنه لا بد من نفي الملازمة بين حرمة الكتمان ووجوب القبول، وأما مع قبولها فلا وقع للإشكالين؛ وذلك لأن الملازمة عقلية ومع ثبوتها تكون في جميع الصور فلا يعقل انفكاك المتلازمين أصلاً؛ إذ مع احتمال الانفكاك لا يحكم العقل بها أصلاً وعليه فالملازمة تنافي الإهمال.

وثالثاً: بعدم ثبوت الملازمة؛ وذلك لأن دلالة الاقتضاء إنما تجري في ما لو انحصرت الفائدة في وجوب القبول، وفي الآية الفائدة غير منحصرة في ذلك، بل يمكن أن يكون الغرض من عدم الكتمان هو كثرة الناقلين بحيث يحصل العلم بالحكم.

ويؤيد ذلك: شأن نزول الآية، حيث إنه في علائم النبوة وكتمان اليهود

ص: 360


1- فرائد الأصول 1: 287.
2- إيضاح كفاية الأصول 3: 392-393.

لها مع وضوح لزوم العلم في موضوع النبوة.

إن قلت: هذا الكلام يستلزم عدم وجوب إظهار الحق إذا لم يكن مقدمة لظهوره، كما لو سكت الجميع فعلمنا بعدم علم الناس بمجرد كلامنا، وهذا لا يمكن الالتزام به!

قلت(1): إن الغرض وإن كان ظهور الحق إلاّ أن الوجوب أعم منه؛ وذلك لأن الوجوب مقدمي، ومع اشتباه المقدمة بغيرها يصدر المولى حكماً عاماً بإيجاب جميع ما يحتمل المقدميّة؛ لأن إيكال الأمر إلى الناس في تشخيص المقدمة يستلزم منه مخالفة الواقع كثيراً لعدم التمييز في كثير من الأحيان، وهذا ما يعبر عنه بأن هذا الغرض حكمة لا علة.

وبعبارة أخرى(2): ذو المقدمة هو القبول الخاص المقيّد، والمقدمة هي الإظهار الخاص، لكن لعلّ الشارع جعل نطاق الوجوب أشمل وأوسع من نطاق الغرض، وقصده من ذلك تحصيل الغرض بحصول المقدمة الواقعية الموصلة أو التي يمكن أن توصل، ولذا يحكم بوجوب كل إظهار في ما نحن فيه!

إن قلت: حسب هذا فإن وجوب الإظهار ليس بنفسي ولا بمقدمي فلا يكون إلاّ مقدمة علميّة، ووجوبها عقلي لا شرعي، وهو خلاف ظاهر الآية الدالة على أن الوجوب شرعي!

قلت: إن مجرد كونه واجباً عقلاً لا ينافي الوجوب الشرعي؛ إذ لا منافاة

ص: 361


1- درر الفوائد، للحائري: 391.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 7: 271.

بين الوجوبين، فالأمر بالعدل والنهي عن الظلم مولويان رغم الوجوب والحرمة العقليين. نعم، قد يستلزم الوجوب المولوي المحذور كأوامر الطاعة فلا بد من رفع اليد عن ظهور الأمر الشرعي في المولوية، وبعبارة أخرى: مجرد وجود حكم عقلي لا يستلزم رفع اليد عن الظاهر وحمل كلام الشارع على الإرشادية.

ورابعاً(1): بعدم دلالة الآية على ما نحن فيه؛ لأن موردها في ما كان مقتضى القبول لولا الكتمان موجوداً لقوله تعالى: {مِنۢ بَعْدِ مَا بَيَّنَّٰهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَٰبِ} فالكتمان حرام في قبال إبقاء الواضح والظاهر على حاله، لا في مقابلة الإيضاح والإظهار.

وبعبارة أخرى: مورد الآية إخفاء الظاهر لا إخفاء الخفي كي يجب بالملازمة قبول الإظهار!

ويمكن أن يقال: لا معنى لإخفاء الخفي حيث إنه من تحصيل الحاصل، فلعل مقصوده هو تركه مخفياً وهو ليس بكتمان فالآية لا تشمله. نعم، منع وصول الخفي هو من الكتمان، وذلك لا يلازم وجوب الإظهار إلاّ لو قلنا بأن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده الخاص.

اللهم إلاّ أن يدفع الإشكال: بأن ملاك حرمة الكتمان يجري في إخفاء الخفي أو تركه مخفياً؛ لأن الجامع هو عدم وصول الحق إلى الناس، فتأمل.

ص: 362


1- نهاية الدراية 3: 244.
الآية الرابعة: آية السؤال

وهي قوله تعالى: {فَسَْٔلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}(1).

وجه الاستدلال نظير ما مرّ من أن وجوب السؤال يلازم وجوب القبول، ولولا ذلك لكان الوجوب لغواً، وحيث لا خصوصية لسبق السؤال فلا فرق في حجية خبر الواحد بين كونه جواباً لسؤال أو لا، وبعبارة أخرى: حجية كلام المتكلم هي علة وجوب السؤال عنه ومن ثمّ قبول كلامه، وهذه الحجية علة مشتركة لوجوب القبول سواء كان سؤال أم لا.

وأشكل عليه بإشكالات، منها:

الإشكال الأول: المراد بالآية بمقتضى سياقها علماء أهل الكتاب، وبمقتضى الروايات الأئمة (علیهم السلام) (2)، فلا تشمل غيرهم من الرواة.

وفيه: إن عدم منافاة السياق والروايات يكشف أن الخصوصيات غير مرادة، بل علماء أهل الكتاب وإن كانوا شأن نزول الآية إلاّ أنهم مصداق، كما أن الأئمة (علیهم السلام) مصداق آخر، فيدل ذلك على أن المراد من (أهل الذكر) كل من يعلم فيشمل الرواة في أخبارهم، والفقهاء في فتاواهم.

ويؤيد ذلك قوله في تتمة الآية: {إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} حيث إن الظاهر منه أنه العلة، وهي تُعمّم.

الإشكال الثاني: إن السؤال إنما هو لتحصيل العلم لا لمجرد التعبد بالجواب حتى لو لم يحصل العلم، بقرينة قوله تعالى: {إِن كُنتُمْ لَا

ص: 363


1- سورة النحل، الآية: 43.
2- الكافي 1: 210-212؛ وسائل الشيعة 27: 62-66.

تَعْلَمُونَ}.

وأجيب: أولاً: بأن المراد العلم بالجواب لا العلم بالواقع؛ لأنه على فرض الحجيّة يكون الجواب حجة قاطعة للعذر مصححة لإطلاق العلم عليه، وإلاّ فلا(1).

وفيه: أنه يستلزم تخصيص المورد الذي هو السؤال عن أحوال الأنبياء السابقين ليعلموا أن محمداً (صلی الله علیه و آله) رسول الله مثلهم.

وثانياً: وبأن المراد تحصيل الحجة، كما يقال: سل الطبيب والمهندس والسائق إن كنت لا تعلم.

وفيه(2): أن تطبيقه على المقام يحتاج إلى تأمل؛ إذ إن كان المراد تحصيل الحجة المفروغ عن حجيتها مع قطع النظر عن الآية! فلا تكون الآية دالة على حجية الخبر الواحد؛ لأن الكلي لا يتكفل مصاديقه، وإن كان المراد جعل الحجية بنفس الآية! فإن المورد مقام الخصام وليس مقام جعل الحجية، فهو إيكال الخصم إلى الحجج العقلائية فلا معنى للتعبد.

الإشكال الثالث: إن مدلول الآية منحصر في التقليد ولا يشمل الخبر؛ لأن المتبادر من (أهل الذكر) ليس كل من علم ولو بسماع رواية عنهم (علیهم السلام) ، بل المراد من يُعَدّون أهل العلم في مثله.

ويرد عليه: أولاً: ما ذكره المحقق الإصفهاني(3): بإمكان تعميم العلم

ص: 364


1- نهاية الدراية 3: 246.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 7: 289.
3- نهاية الدراية 3: 245.

والتفقه ونحوهما لصورة معرفة الحلال والحرام من دون إعمال نظر ورأي بحيث لا يكون لقوله إلاّ حيثية الخبر عن الحكم.

إن قلت: المقصود في باب حجية الخبر هو إثبات حجية خبر الثقة حتى لو كان ناقلاً محضاً من غير عن معرفة، وكلام المحقق الإصفهاني غير كافٍ لإثبات هذا، بل يدل على كفاية المعرفة غير الاجتهادية!

قلت: عامة الرواة ينقلون عن معرفة غير اجتهادية، مضافاً إلى عدم الخصوصية في المعرفة، حيث إن الملاك هو الوصول إلى كلام المعصوم (علیه السلام) .

وثانياً: على فرض كون المراد بأهل الذكر من يُعَدّون أهل العلم في مثله فيكون المراد التقليد...

فقد يقال: إن الظاهر أن سؤالهم إنما هو لكون الجواب طريقاً إلى الواقع، فلا موضوعية لعنوان كونهم من أهل الذكر، ولا للتقليد.

بل قد يقال: إن الرواية حسّية والدراية حدسية فتكون الرواية ولو من غير الفقيه أقوى وصولاً إلى الواقع من الدراية من الفقيه، فتأمل.

وثالثاً: بأنه لو كان الراوي فقيهاً وجب قبول روايته، وبعدم الفصل تثبت حجية سائر الروايات.

إن قلت: في رواية الفقيه جهتان: جهة الحكاية وجهة الدراية، والحجية إنما هي من الجهة الثانية وهي مفقودة في رواية غير الفقهاء.

قلت: الفرض هو مجرد نقله للرواية من دون استنباطه ودرايته، فتكون حينئذٍ جهة الدراية أجنبية عن روايته.

ص: 365

الآية الخامسة: آية الأذن

وهي قوله تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٖ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ}(1).

وجه الاستدلال: هو مدح النبي (صلی الله علیه و آله) بتصديقه للمؤمنين، فتصديقهم حسن، وهو يلازم الوجوب هنا بقرينة السياق، ولعدم الفصل فی ما نحن فيه.

وأشكل عليه بأمور، منها:

الإشكال الأول: بأن المراد من (الأذن) سريع القطع، لا القبول تعبداً.

وأجيب: بأن (الأذن) في الآية لا يراد به سريع القطع؛ لأن شأن النزول المنافق الذي اتهم الرسول (صلی الله علیه و آله) بالأذن ومن المعلوم أنه (صلی الله علیه و آله) لم يكن سريع القطع، فتفسيره بذلك يستلزم خروج المورد وهو مستهجن، كما أن سرعة القطع ليست مورداً للمدح، بل الممدوح الاعتدال في ذلك مع أن الآية مدحته (صلی الله علیه و آله) بأنه (أذن خير)، بل المراد به من لا يستمر في المؤاخذة، بل يسأل ولا يردّ على الكاذب؛ لأن ترك السؤال سبب تكرار العمل والإصرار، وهو يستلزم هتك الستر وضرره أكثر من ضرر السكوت.

لكن لا يخفى أن هذا المعنى لا ينفع الاستدلال بالآية لحجية خبر الواحد، فعلى كل حال سواء أريد من (الأذن) سرعة القطع أم عدم المؤاخذة والسكوت فلا دلالة له على التصديق.

الإشكال الثاني: إن قوله: {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} يراد به التصديق التعبدي

ص: 366


1- سورة التوبة، الآية: 61.

بترتيب بعض الآثار، وهذا لا يكفي لإثبات حجية الخبر الواحد؛ لأن ترتيب بعض الآثار لا يساوق الحجيّة التي هي ترتيب جميع الآثار.

وقد ذكرت مجموعة من القرائن تدل على أن المراد ترتيب بعض الآثار، منها: تكرار كلمة الإيمان مما يدل على أن أحدهما إيمان حقيقي والآخر صوري، ومنها: اختلاف حرف الجر، ومنها: التعبير ب- (أذن خير) إذ قد يكون ترتيب جميع الآثار ضرراً، ومنها: أن هنا إخبارين، حيث إن مورد الآية إخبار منافق في قبال إخبار الله تعالى فلا يعقل ترتيب جميع الآثار عليه.

ويمكن أن يقال: إن التكرار: قد يكون للتأكيد أو لبيان المراتب فلا دلالة له على اختلاف المعنى.

وأمّا اختلاف حرف الجر: فبسبب أن التعدية بالباء تفيد معنى الاعتقاد بالوجود، والتعدية باللام تفيد معنى التصديق.

وأمّا قوله: {أُذُنُ خَيْرٖ} فلعلّ المراد به المصلحة النوعية، وهي تنسجم مع الضرر الشخصي.

وأمّا الإخباران: فيمكن القول بأن تصديق المؤمنين لا ينافي تصديق الله تعالى، بل هو بأمره سبحانه، فقوله: {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} لا يشمل المنافقين ولا يلزم منه خروج المورد المستهجن، بل ينتهي الكلام عند قوله: {أُذُنُ خَيْرٖ لَّكُمْ}، ثم يبتدأ كلام جديد لبيان صفة أخرى من صفات الرسول (صلی الله علیه و آله) هي تصديقه للمؤمنين.

وبعبارة أخرى: الآية بصدد بيان مطلبين: أولاهما: في المورد وهو

ص: 367

كونه (صلی الله علیه و آله) أذن خير للجميع، وثانيتهما: التصديق الواقعي وهو خاص بالمؤمنين، ويؤيد ذلك صحيحة حريز في قصة إسماعيل بن الإمام الصادق (علیه السلام) ، حيث قال الإمام (علیه السلام): «يقول: يصدّق الله ويصدّق للمؤمنين، فإذا شهد عندك المؤمنون فصدّقهم»(1)، ومعنى الحديث هو ترتيب جميع الآثار لا مجرد إظهار التصديق!

هذا تمام الكلام في الاستدلال بالقرآن الكريم على حجية خبر الواحد.

المبحث الثالث: الاستدلال على حجية الخبر الواحد بالسنة

والمراد الاستدلال بالروايات المتواترة الدالة على حجيته، وهي طوائف كثيرة بلغت مرتبة التواتر الإجمالي، والإشكال الدلالي في بعض هذه الطوائف لا يضرّ بعد كون الدال منها متواتراً إجمالياً، ومقتضى التواتر الإجمالي حجية أخصها مضموناً، والظاهر أن الأخص هو حجية مطلق أخبار الثقاة، وحتى لو تنزلنا وقلنا بأن أخصها مضموناً هي حجية الخبر الذي جميع رواته من الشيعة العدول الثقاة غير المعارض للكتاب والسنة، فإن ذلك يكفي لإثبات حجية مطلق خبر الثقاة، حيث إن بعض الروايات الجامعة لهذه الأوصاف دلّت على ذلك.

فمنها: الروايات الدالة على إرجاع المعصومين (علیهم السلام) إلى بعض الثقاة، كأبان بن تغلب، ومحمد بن مسلم، والعمروي وابنه، وفي بعضها بيان سبب الإرجاع بكونهم ثقاة.

ص: 368


1- الكافي 5: 299؛ وسائل الشيعة 19: 83 .

ومنها: ما دلت على النهي عن ردّ الرواية لمجرد عدم قبول قلبه لها.

ومنها: ما دلت على ترجيح بعض الروايات على بعض بموافقة الكتاب ومخالفة العامة والأوثقية ونحوها، مما يدل على أن أصل حجية خبر الثقة مسلّم لا إشكال فيه.

ومنها: ما دلت على حجية نقل الثقاة بشكل مطلق.

ومنها: ما دلت على عمل أصحاب الأئمة (علیهم السلام) بخبر الثقاة مما يدل على تقرير المعصومين (علیهم السلام) .

ومنها: غير ذلك مما هو مذكور في المجاميع(1).

المبحث الرابع: الاستدلال على حجية الخبر الواحد بالإجماع
اشارة

وهو إما منقول، أو محصّل قولاً، أو محصّل عملاً، فهنا مطالب:

المطلب الأول: الإجماع المنقول

فقد ادعى الإجماع الشيخ الطوسي في العدة.

وأورد عليه: بأنه دوري.

وأجيب: بأنه محفوف بالقرينة القطعية، فلا تتوقف حجية هذا الإجماع على حجية الخبر الواحد، والقرائن كثيرة:

فمنها: كثرة ناقليه، كالعلامة وابن طاووس والمجلسي والحرّ العاملي قدس الله أسرارهم.

ص: 369


1- راجع جامع أحاديث الشيعة المجلد: 1؛ ووسائل الشيعة المجلد: 27؛ وأيضاً راجع فرائد الأصول 1: 297-309؛ وموسوعة الفقيه الشيرازي 7: 313-332، وغيرها.

ومنها: نقل الكشي إجماع الطائفة على تصحيح ما صحّ عن مجموعة من أصحاب الأئمة (علیهم السلام) .

ومنها: نقل الشيخ الطوسي مقبولية مراسيل ابن أبي عمير، ومقبولية رواياته وروايات البزنطي وصفوان.

ومنها: قول أصحاب الرجال بأن فلاناً لا يعتمد عليه في ما ينفرد به، أو قولهم: فلان صحيح الحديث، أو طعنهم في بعض من يكثر رواية المراسيل ويعتمد على الضعفاء.

والحاصل: أن التتبع يدل على صحة ما ادعاه الشيخ الطوسي رضوان الله تعالى عليه من إجماع الأصحاب على حجية الخبر الواحد.

المطلب الثاني: الإجماع المحصّل القولي

وقد أورد عليه: أولاً: كبروياً بأنه معلوم الاستناد إلى الآيات والروايات وغيرها.

وهذا إشكال مبنوي.

وثانياً: صغروياً بما في الكفاية(1): من اختلاف الفتاوى في ما أخذ في اعتباره من الخصوصيات، ومعه لا مجال لتحصيل القطع برضاه (علیه السلام) من تتبّعها.

اللهم إلاّ أن يدّعى توافقها على الحجيّة في الجملة، وإنما الاختلاف في الخصوصيات المعتبرة فيها، ولكن دون إثباته خرط القتاد.

ص: 370


1- إيضاح كفاية الأصول 3: 403.

وبعبارة أخرى: إنه وإن اختلفت الفتاوى في شرائط حجية الخبر الواحد، إلاّ أنها متفقة على حجيته في الجملة، والغرض هنا هو إثبات ذلك - أي الحجية في الجملة - في مقابل السلب الكلي.

وبعبارة ثالثة: هنا جامع وخصوصيات فردية، وفتاواهم تنحل إلى فتوى بالجامع أي حجيته في الجملة وفتوى بالخصوصيات، فلئن اختلفوا في الخصوصيات فقد اتفقوا على الجامع!

لكن يمكن ردّ ذلك بأن الفتوى قد لا تنحل، بل إنما كانت باعتبار تلك الخصوصيات الفردية، وعليه فلا جامع ليكون مجمعاً عليه!

وثالثاً: صغروياً أيضاً بعدم تحققه، لمخالفة مثل السيد المرتضى وابن إدريس.

إن قلت: مخالفتهم غير معلومة، بل ذهابهم إلى عدم الحجية لعلّه كان لأجل اعتقادهم بانفتاح باب العلم، والكلام إنما هو في ما لو تعذر العلم.

قلت: لا يكفي في تحقق الإجماع عدم العلم بالمخالفة، بل لا بد من العلم بالموافقة، فالإجماع التقديري غير حجة، وأما ما عن السيد المرتضى: «إن العمل بالظن متعيّن في ما لا سبيل فيه إلى العلم»(1)، فيحتمل أن يريد به حجية الظن المطلق حين الانسداد، وليس كلامنا الآن فيه.

المطلب الثالث: الإجماع العملي

فقد قيل: بأننا نشاهد عمل جميع الفقهاء في جميع العصور بالأخبار،

ص: 371


1- راجع فرائد الأصول 1: 343.

وغالبها أخبار آحاد، وادعاء عملهم بها من باب القرينة القطعية تعويل على ما يُعلم خلافه بالضرورة.

وأشكل عليه: بأن الاتفاق العملي إنما ينفع لو علمنا بوجه اتفاقهم مع موافقتنا إياهم على ذلك الوجه، وفي ما نحن فيه اختلفوا في وجه العمل، فبعضهم عمل بها لزعمه قطعية صدور ما في الكتب الأربعة، وبعضهم لزعمهم بوجود القرائن القطعية، وبعضهم لزعمهم حجية الظن، وآخرون لزعمهم الانسداد، وغير ذلك، وهذه جهات نختلف معهم فيها، ولو اعتقدنا بجهة أخرى كدلالة الآيات مثلاً، فيكون التعويل على تلك الجهة لا على الاتفاق.

وقد يقال: بأن جميع المتشرعة - حتى غير المجتهدين - متفقون على أخذ الأحكام عن المعصومين (علیهم السلام) أو عن الفقهاء بواسطة خبر الثقاة مع اتصال سيرتهم بزمان المعصومين (علیهم السلام) .

وفيه: أن عملهم هذا لم يكن من باب كونهم متشرعة حتى يرجع الأمر إلى الإجماع العملي، بل من باب كونهم عقلاء، فيرجع إلى بناء العقلاء وسيرتهم وهو الدليل التالي.

المبحث الخامس: الاستدلال على حجية الخبر الواحد بسيرة العقلاء

وحيث إن التشريع منحصر في الدين، فلا بد لحجية سيرة العقلاء شرعاً من خمسة أمور: ثبوت هذه السيرة، واتصالها بزمن المعصومين (علیهم السلام) ، وعدم ردعهم عنها، وعدم وجود المانع عن الردع، وشيوع تلك السيرة بحيث تكون محل رجوع المتشرعة؛ لأن الشاذة لا تحتاج إلى الردع حتى لو كانت

ص: 372

خلاف الشرع.

وهذه جهات متوفرة في الخبر الواحد.

أما الجهة الأولى: أي ثبوت هذه السيرة، فهو واضح لا نقاش فيه.

لا يقال: إنهم إنما يعملون بالخبر الذي يورث الاطمئنان، ونحن نريد إثبات حجيته مطلقاً!

لأنه يقال(1): في دائرة الموالي والعبيد يرى العقلاء خبر الثقة منجزّ ومعذّر حتى لو لم يورث الاطمئنان، فلا يُعذرون من لم يعمل به لمجرد عدم الاطمئنان الشخصي، ومن المعلوم أن طرق الطاعة والمعصية عقلائية. نعم، في دائرة الأمور الشخصية قد لا يرون ملزماً للعمل به، مع أنهم لو اعتمدوا عليه فلا يؤاخذون.

وأما الجهة الثانية: أي اتصالها بزمن المعصومين (علیهم السلام) ، فمما لا شك فيه؛ لأن عمل العقلاء بما هم عقلاء شامل لجميع الأزمنة؛ لأنه ليس باتفاق جعلي كإشارات المرور، بل هو عمل بمقتضى عقلهم، وهو أمر مشترك بين الجميع في جميع الأزمنة.

ومن ذلك يتضح الجهة الخامسة وهي شيوعها بين جميع العقلاء.

وأما الجهة الرابعة: فمن المعلوم عدم وجود غرض خاص للجائرين في حجية الخبر الواحد حتى يتحقق موضوع التقية فيها، مع عدم وجود مانع آخر يتصوّر، مضافاً إلى أنه لو كان العمل به ممنوعاً لكان بيانه أهم لتوقف

ص: 373


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 7: 355-356.

غالب الدين عليه، ولذا ورد في المنع عن القياس متواتر الروايات مع أن الابتلاء به أقلّ من الابتلاء بالخبر الواحد.

وأما الجهة الثالثة: وهي عدم الردع عن هذه السيرة، فنقول: إن الرادع إما خاص أو عام.

أما الرادع الخاص: فلا يوجد قطعاً فلا توجد حتى رواية واحدة، ولو كان لبان حتماً مع توفر الدواعي لنقله.

وأما الردع العام: فقد ادعي دلالة الآيات على المنع عن العمل بالظن فتشمل الخبر الواحد، ومع وجود الردع العام لا حاجة إلى الردع الخاص!

وقد مرّ شطر من الكلام حول هذه الآيات في ردّ استدلال المانعين عن حجية الخبر الواحد بها، ومنها: اختصاصها بأصول الدين، ومنها: انصرافها عن الظن الذي قام الدليل على اعتباره.

ويضاف إليها أجوبة أخرى، ومنها:

الجواب الأول: ما ذكره المحقق الخراساني(1): بأنه لا يكاد يكون الردع بها إلاّ على وجه دائر؛ وذلك لأن الردع بها يتوقف على عدم تخصيص عمومها أو تقييد إطلاقها بالسيرة على اعتبار خبر الثقة، وهو يتوقف على عدم الردع عنها بها، وإلاّ لكانت مخصصة أو مقيدة لها.

بيانه: إن الآيات إنما تكون رادعة عن العمل بالخبر الواحد إذا لم تخصصها السيرة، حيث إنها إذا خصصتها فلا تشمل الآيات الخبر الواحد

ص: 374


1- إيضاح كفاية الأصول 3: 406.

لتردع عنه.

وعدم تخصيص السيرة للآيات متوقف على رادعية الآيات، حيث إنها إن لم تكن رادعة لخصصتها السيرة فأخرجت الخبر الواحد عنها.

وعليه فالردع بالعمومات غير ثابت، بل غير ممكن، فتكون السيرة حجة لوجود المقتضي وعدم المانع.

إن قلت: إن هذا الدور بنفسه يجري لو قلنا بحجية السيرة، حيث إن الحجية متوقفة على عدم الردع عنها بالعمومات، كما أن عدم الردع عنها بالعمومات متوقف على حجية السيرة!

قلت: إن حجية السيرة لا تتوقف على ثبوت عدم الردع، بل على عدم ثبوت الردع، حيث إن العقلاء يعتبرون العمل بخبر الثقة في تكاليف المولى طاعة له وعدم العمل معصية له، وعدم ثبوت الردع عن طريقتهم كافٍ في إثبات الحجيّة.

وأشكل عليه: أولاً: بعدم جريان الدور في الردع ببطلان مقدمة الدور الأولى؛ وذلك لأن الردع لا يتوقف على عدم التخصيص، بل على عدم ثبوت التخصيص، لجريان أصالة العموم حتى مع الشك، وعليه مع جريان عموم الردع لا تكون السيرة حجة حتى تخصِّص تلك العمومات.

وثانياً: بجريان الدور في حجية السيرة، بأنه لا بد في الحجية من ثبوت عدم الردع، ولا يكفي عدم ثبوت الردع؛ وذلك لعدم حجية السيرة العقلائية في نفسها، بل لا بد من القطع بإمضاء الشارع لها؛ لأنه المشرّع الوحيد، ومع الشك في الإمضاء يحصل الشك في الحجية وهو مسرح عدم الحجيّة.

ص: 375

لكن قد يقال(1): إنه يمكن اكتشاف الإمضاء الشرعي من عدم ثبوت الردع، فلا حاجة إلى ثبوت عدم الردع بطريقة أخرى؛ وذلك لأن العمل بخبر الثقة من ارتكازات العقلاء الفطرية، وهم يطبقونها في دائرة الشرع أيضاً، فلو كان الشارع رادعاً كان لا بد عليه من الجهر بالردع، وإلاّ كان ناقضاً لغرضه، فلا يكفي السكوت ولا الإجمال في الردع، كما وقع نظيره في القياس، وعليه فمن عدم ثبوت الردع بنفسه نكتشف عدم وجود الردع واقعاً.

والحاصل: عدم وجود دور لا في رادعية الآيات عن السيرة، ولا في مخصصية السيرة للآيات، وعليه لا بد من تقديم الخاص وهي السيرة على العام وهي الآيات الرادعة، فتأمل.

الجواب الثاني: ما في الكفاية أيضاً، وحاصله(2): بأنه لو تعارضت السيرة في حجية الخبر الواحد مع إطلاق الآيات الرادعة في عدم حجيته، تساقطا، والمرجع حينئذٍ استصحاب الحجية الثابتة قبل نزول الآيات الرادعة.

وأشكل عليه: أولاً: بورود نفس إشكال الدور الذي أورده المحقق الخراساني على مخصصية السيرة.

وفيه: إن حجة الاستصحاب ثابتة بأدلته، وأركانه تامة في ما نحن فيه، فلا محذور في تخصيصه للآيات، وأما السيرة فكانت مشترطة بعدم الردع، وهو غير ثابت، بل دوري!

ص: 376


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 7: 368-369.
2- إيضاح كفاية الأصول 3: 409.

وثانياً: بأن دليل حجية الاستصحاب أخبار آحاد، فلا يمكن الاستدلال به على حجية الخبر الواحد.

ويمكن أن يجاب بتواتر أخباره بالتواتر الإجمالي، كما قد يدعى ذلك لوجود أكثر من خمسة عشرة رواية، بل أكثر.

وثالثاً: إن الحجية قبل نزول الآيات الرادعة غير معلومة؛ لأنها آيات مكية، وحينذاك كان عدد المسلمين قليل جداً مع تمكنهم من سؤال الرسول (صلی الله علیه و آله) في كل شيء، فكان باب العلم منفتح لهم قطعاً، فلم يثبت إمضاء لهذه السيرة!

الجواب الثالث: للمحقق الخراساني أيضاً في حاشيته على الكفاية، بأنه: «ليس حال السيرة مع الآيات الناهية إلاّ كحال الخاص المقدّم والعام المؤخر، في دوران الأمر بين التخصيص بالخاص أو النسخ بالعام»(1).

أي إن للخاص إطلاق أزماني، وللعام أو المطلق عموم أو إطلاق أفرادي وبينهما تعارض، والترجيح لإطلاق الخاص الأزماني، حيث إن التخصيص مقدّم على النسخ.

وأشكل عليه: أولاً: بأن الدوران بين التخصيص والنسخ يتوقف على إحراز حجية السيرة قبل نزول الآيات لتكون قابلة لتخصيص الآيات، فيدور الأمر بين التخصيص والنسخ، وإحراز الحجية متوقف على إمكان الردع عنها قبل نزولها، وأنّى لنا بإثبات ذلك!

ص: 377


1- كفاية الأصول 2: 343 (الهامش).

وفيه نظر: لأن الردع عن العمل بأخبار الآحاد في مسائل الدين في مكة لم يكن فيه أيّ محذور عكس تحريم الخمر ونحوه، حيث كان لا بد من تدريجية الأحكام، فالصحيح الإشكال بعدم ثبوت الإمضاء، كما مرّ قبل قليل.

وثانياً: إن من شروط حجية سيرة العقلاء هي كونها محل ابتلاء المتشرعة في أمور دينهم، ولم يكن الأمر كذلك في صدر الإسلام قبل نزول الآيات الرادعة؛ إذ كانت الأحكام قليلة جداً مع انفتاح باب العلم فيها قطعاً للمسلمين آنذاك.

وثالثاً: لا إطلاق أزماني للسيرة وإمضائها؛ لأنها دليل لبي يقتصر فيه على القدر المتيقن، وهو زمان ما قبل ورود الآيات الرادعة، فلا معارض لإطلاق أو عموم الآيات.

وأجيب(1): بأنا وإن كنّا نسلّم بأن السيرة وإمضاءها دليل لبيّ، لكن الروايات الخاصة تجعل لها إطلاقاً أزمانياً، كقوله (علیه السلام) «حلال محمد حلال أبداً إلى يوم القيامة وحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة»(2) وحيث لا فرق في الحكم التأسيسي والحكم الإمضائي، فيكفي في إطلاقها الثبوت في زمانٍ ما.

ورابعاً: بأن وجه تقدّم الخاص المتقدّم على العام المتأخر هو أقوائية ظهوره، ولا أقوائية للدليل الإمضائي!

ص: 378


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 7: 376-377.
2- الكافي 1: 58.

وفيه: أن سبب ترجيح الخاص المقدم هو قلة النسخ، فهو مقدّم على العام حتى لو كان ظهور العام أقوى، فتأمل.

الجواب الرابع: حكومة السيرة على العمومات الرادعة، حيث إن العقلاء يعتبرون الخبر علماً، فيترتب عليه آثاره.

وأجيب: أولاً: بأن الحكومة - بإخراج فرد أو إدخال فرد في الموضوع - يرتبط بالتشريع؛ لأن الغرض من الحكومة إجراء الحكم على فرد أو عدم إجرائه عليه، وليس ذلك من شؤون العرف والعقلاء.

وفيه: أن دور الشرع هنا فقط الإمضاء، فالحاكم هم العقلاء وهم يعتبرون خبر الواحد علماً، وقد حصل الإمضاء الشرعي على هذا.

وثانياً: بأنه يشترط في الحكومة الطولية، وبذلك يرتفع التعارض، ولا طولية هنا؛ لأن مفاد اعتبار العقلاء جعله علماً، ومفاد الآيات الرادعة سلب صفة العلمية عنه، وهذان في عرض واحد، فتأمل.

الجواب الخامس: ورود السيرة العقلائية على العمومات الرادعة، فعن المحقق النائيني(1): إن العمل بخبر الثقة في طريقة العقلاء ليس من العمل بما وراء العلم، بل هو من أفراد العمل به، لعدم التفاتهم إلى مخالفة الخبر للواقع، فهو خارج عن الظن موضوعاً.

وفيه: التفاتهم كثيراً إلى احتمال مخالفة الواقع، وعليه فلا ورود، الذي هو نفي الموضوع حقيقة!

ص: 379


1- فوائد الأصول 3: 195.

الجواب السادس: ما ذكره المحقق الإصفهاني(1): من أنّ البناء العملي العقلائي إما على اتباع الظهور العمومي مطلقاً ولو كان في قباله خبر، أو على اتباعه ما لم يكن في قباله خبر كما هو الواقع، فلا محالة لا مقتضي لحجية الظهور العمومي في ما يتعلّق بخبر الثقة، وحيث لم يكن منهم بناء عملي فلا موقع للإمضاء، فهذا الظهور العمومي لا مقتضي لحجيته في بعض مدلوله، فلا رادع عن البناء العملي عن اتباع خبر الثقة.

وحاصله: أنه لا يمكن التنافي في أبنية العقلاء، وحيث لا شك في ثبوت بنائهم على العمل بأخبار الثقاة فلا يعقل بناؤهم على حجية ظهور الأدلة الرادعة في العموم.

وفيه: عدم التنافي في ما نحن فيه لأجل أن حجية الظهورات عندهم بناء نظري، أي يرونها كاشفة عن الواقع، وأما حجية أخبار الثقاة عندهم فبناء بناء عملي، ومخالفتهم العملية للظهورات أحياناً ليس لعدم بنائهم على حجيتها، بل قد يكون لعدم امتثالهم أو لوجود المزاحم، كما أنهم قد لا يعملون بالخبر الواحد لا لأجل عدم البناء، بل لأجل المخالفة أو وجود المزاحم، فتأمل.

المبحث السادس: الاستدلال على حجية الخبر الواحد بالعقل

وبيانه من وجوه، منها:

الوجه الأول: العلم الإجمالي بأن الكثير من الأخبار الموجودة بأيدينا

ص: 380


1- نهاية الدراية 3: 254.

صادرة عن المعصومين (علیهم السلام) ، وكان مقتضى هذا العلم الإجمالي الاحتياط في جميعها، إلاّ أن فيه المحذور، فيتمّ التنزل إلى الموافقة الظنية!

وأورد عليه: أولاً: بأن سبب الاحتياط في الأخبار هو اشتمالها على الأحكام الواقعية، وهذا غيرخاص بها، بل سائر الأمارات الظنية كذلك مشتملة عليها، فالعلم الإجمالي أوسع دائرة من الأخبار، وعليه فيلزم الاحتياط في جميع الأمارات الظنية، ومع عدم إمكانه يتمّ التنزل عقلاً إلى امتثال ما يظن أنه حكم الله تعالى واقعاً، ومرجع هذا إلى دليل الانسداد.

وفيه: إن ملاك الانحلال عدم زيادة المعلوم بالعلم الإجمالي الكبير على المعلوم بالعلم الإجمالي الصغير، وهذا الملاك موجود في ما نحن فيه؛ وذلك لأن الروايات تضمنت أحكاماً واقعية، ولا علم لنا بوجود تكليف آخر في سائر الأمارات، لاحتمال تطابق مضمون ما اشتملت منها على أحكام واقعية مع بعض الروايات.

وثانياً: إن مقتضى هذا الدليل هو لزوم العمل بكل خبر ظن باشتماله على حكم واقعي، لا العمل بما ظن صدوره، وبينهما عموم من وجه، فقد يكون الخبر صادراً عن تقّية فلا ظن بمطابقتها للواقع، وقد يكون الراوي غير ثقة مع مطابقة روايته للقواعد العامة فلا ظن بصدورها مع الظن بمطابقتها للواقع؛ وذلك لأنه حين العلم الإجمالي يكون العمل بالخبر الواحد للوصول إلى الحكم الواقعي، وبعبارة أخرى: وجوب العمل به ليس نفسياً، بل مقدمياً.

وفيه: أنه لا وجه للعمل بكل خبر ظن بمضمونه أو ظن بصدوره، بل مقتضى العلم الإجمالي هو العمل بكل خبر - سواء أثبت التكليف أو نفاه -

ص: 381

إلى حدّ الضرر والحرج ونظائرهما.

أو يقال: إنه لا بد من العمل بكل الأخبار المظنونة مع العمل بسائر الأخبار إلى تحقق المحذور بالضرر ونحوه.

وثالثاً: إن هذا الدليل - لوصح - فإنما مقتضاه العمل بالخبر من باب الاحتياط، ولا يثبت حجيته، مع أن المقصود إثبات الحجية، وبينهما فروق:

1- منها: صحة أو عدم صحة الاستناد إلى المولى، فما كان حجة صحّ نسبته إليه، وأما لو كان العمل به من باب الاحتياط فلا تصح النسبة إليه لعدم ثبوتها.

2- ومنها: حجية مثبتات الأدلة الاجتهادية، مع عدم حجية مثبتات الأصول العملية والتي منها الاحتياط.

إلاّ أن يقال: بأن العلم الإجمالي بثبوت الملزومات يستلزم العلم الإجمالي بثبوت اللوازم، فلو كان في اللوازم أو آثارها حكم إلزامي يكون ذلك الحكم معلوماً بالعلم الإجمالي أيضاً، فتأمل.

3- ومنها: لو كان الخبر حجة لخصصت أو قيّدت به الأدلة الاجتهادية العامة أو المطلقة؛ لأن الحجة يخصص ويقيّد الحجة كما يتقدم الخبر الحجة على الأصول العملية مطلقاً.

أما لو كان العمل بالخبر من باب الاحتياط لما جاز تخصيص وتقييد الأدلة اللفظية به إذا كان هذا التخصيص والتقييد خلافاً للاحتياط؛ وذلك لانتفاء سبب العمل بالخبر؛ لأن العمل كان من باب الاحتياط، فإذا صار خلافاً للاحتياط انتفى سبّبه.

ص: 382

وأما ما قيل في وجهه: من حكومة الأدلة الاجتهادية على الأصول العملية، فالعام اللفظي يكون حاكماً على الاحتياط الذي هو أصل عملي.

فيرد عليه: بأن العلم وارد على الأدلة الاجتهادية، وهنا علم بصدور بعض هذه الأخبار، لكن بسبب اختلاطها بغيرها حصل علم إجمالي أوجب الاحتياط، فانخرام عموم العام معلوم.

اللهم إلاّ أن يقال: إن العلم بمطابقة بعض الأخبار للواقع لا يلازم العلم بتخصيص العمومات اللفظية بها؛ إذ لعل الأخبار الصادرة لم تكن الأخبار المخصصة، مضافاً إلى أن العام لو كان حكماً إلزامياً والخاص غير إلزامي كان الاحتياط بالعمل بعموم العام، فتأمل.

وهكذا لو كان العمل بالخبر من باب الاحتياط لم يكن مرجحاً على الأصول العملية بشكل مطلق، بل يرجح ما دامه مطابقاً للاحتياط، فإذا صار الاحتياط مع سائر الأصول العملية لرجحت عليه، كما لو كان الأصل العملي مثبتاً للتكليف وكان الخبر نافياً له، مثل ما لو تردد أمره بين القصر والتمام، وكان مقتضى العلم الإجمالي الجمع ومقتضى الخبر التمام أو القصر.

الوجه الثاني - من الأدلة العقلية على حجية الخبر -: أن غالب أجزاء وشرائط وموانع وقواطع العبادات مذكورة في أخبار الآحاد دون غيرها، وبعدم العمل بها نقطع بالمخالفة العملية، وعليه فلا بد من العمل بها بشرط أن تكون في الكتب المعتمدة مع عمل جمع بها من غير ردّ ظاهر.

وأورد عليه: أولاً: بأنه أخص من المدعى؛ إذ لا يدل على حجية

ص: 383

الأخبار الدالة على نفي هذه المذكورات، خصوصاً إذا اقتضى الأصل الجزئية والشرطية كما في الأقل والأكثر الارتباطيين على بعض المباني، كما لا يدل على حجية الأخبار المثبتة للمذكورات إذا كان في مقابلها دليل اجتهادي من عموم أو إطلاق.

وثانياً: بأنه لا وجه للشرطين المذكورين؛ لأن العلم الإجمالي ليس بخاص بالأخبار الموجودة في هذه الكتب، ولا بالأخبار التي عمل بها الأصحاب من غير ردّ ظاهر، بل هو شامل لجميع الأخبار فلا انحلال له. نعم، على بعض المباني ينحل العلم الإجمالي كما مرّ؛ لعدم علمنا بتضمن تلك الأخبار أحكاماً زيادة على ما في الأخبار المعمول بها من هذه الكتب.

الوجه الثالث: دلالة العقل على حجية مطلق الظن فيدخل في ذلك أخبار الآحاد، وقد استدل لذلك بأدلة متعددة، منها:

الدليل الأول: مخالفة المجتهد الظن بالتكليف مظنةٌ للضرر، الذي هو تفويت المصلحة والوقوع في المفسدة في الدنيا والعقاب في الآخرة، ودفع الضرر المظنون واجب عقلاً.

وأشكل عليه بإشكالين:

الإشكال الأول: على الكبرى، بعدم وجوب دفع الضرر المظنون حتى على مسلك العدلية في التحسين والتقبيح العقليين.

وأجيب: أولاً(1): بأن الحكم المذكور إلزامي أطبق العقلاء على الالتزام

ص: 384


1- فرائد الأصول 1: 368.

به في جميع أمورهم وعلى ذم من يخالفه، لذا استدل به المتكلمون في وجوب شكر المنعم الذي هو مبنى وجوب معرفة الله تعالى، ولولاه لم يثبت وجوب النظر في المعجزة، ولم تكن حجة على غير الناظر فيها، بل الأقوى وجوب دفع الضرر المحتمل فضلاً عن المظنون.

وقد يقال: إن إطباقهم إنما هو في الضرر المظنون، بل والمحتمل الكبير، دون اليسير منه وما نحن فيه الضرر كبير جداً وهو العقوبة الأخروية فلا بد من توقيّه.

وثانياً: بأن من لا يقول بالتحسين والتقبيح العقليين كالأشاعرة يسلّم بالتحسين والتقبيح الشرعيين، وقد دلت الأدلة الشرعية على وجوب دفع الضرر المظنون وعدم جواز تعريض النفس للمهالك الدنيوية أو الأخروية حتى المحتملة منها، كقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}(1)، وقوله تعالى: {أَن تُصِيبُواْ قَوْمَۢا بِجَهَٰلَةٖ}(2).

إن قلت: الآيات إما تحذّر عن الضرر المعلوم أو ظاهرها الإرشاد، فمثل الآية الأولى في التهلكة المعلومة، ومثل الآية الثانية إرشاد، ولذا من عمل بخبر الفاسق وقتل مؤمناً فقد ارتكب حراماً لا حرامين، وعليه فلا دلالة على وجوب دفع الضرر المحتمل.

قلت: بل ظاهر الآية الأولى في التهلكة المحتملة بقرينة السياق، حيث إنه حث على الإنفاق في سبيل الله تعالى، والتحذير من أن عدم الإنفاق قد

ص: 385


1- سورة البقرة، الآية: 195.
2- سورة الحجرات، الآية: 6.

يكون سبباً لسيطرة الأعداء، وذلك أمر محتمل لا مقطوع، وأما الآية الثانية فالإرشاد لا ينافي الحكم الشرعي، ولا محذور في تعدد العقاب إلاّ الاستبعاد، مضافاً إلى احتمال العقوبة الغليظة، فتأمل.

وثالثاً: استقلال العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل حتى لو لم نقل بالتحسين والتقبيح العقليين؛ لأن الملاك غير منحصر بهما، ولذا أطبق العقلاء على لزوم دفع هذا الضرر المحتمل مع اختلافهم في التحسين والتقبيح.

لكن يمكن أن يقال: بانحصار الملاك فيهما، وأما من خالف فيهما فلأجل توهمات ومغالطات مع غفلته عن كونهما المستند لوجوب دفع الضرر المحتمل، وبعبارة أخرى: إن العقل يستقل بالمبنى وبالبناء، ومن أنكر المبنى وقبل البناء فلمغالطته في المبنى ولغفلته عن توقف البناء على ذلك المبنى.

وأما ما قيل: بأن هناك ملاكاً آخر هو الملائمة والمنافرة مع العقل والفطرة، كالأعمال السفهية التي تنافرهما مع عدم كونها قبيحة عقلاً.

فيرد عليه: أن مجرد المنافرة لا تنتج تكليفاً عقلياً، فتأمل.

الإشكال الثاني: على الصغرى، بأنه ليس مخالفة الظن مظنة للضرر؛ وذلك لأن الضرر إما العقوبة أو المفسدة أو تفويت مصلحة.

1- أما العقوبة: فقد يقال: إنه لا ملازمة بين التكليف المعلوم وبين العقوبة على المخالفة، فضلاً عن الملازمة بين التكليف المظنون وبينها، فلا يصل الكلام إلى أن الملازمة بين شيئين يستلزم الملازمة بين الظن بهما.

ص: 386

وإنما الملازمة بين التكليف المنجز وبين استحقاق العقوبة على المخالفة، فلذا لو ارتكب الحرام الواقعي جهلاً بالموضوع أو بالحكم من غير تقصير فلا عقوبة عليه قطعاً.

إن قلت: إنه وإن لم يستقل بالتنجز إلاّ أنه يحتمل العقوبة على مخالفة التكليف المظنون، فيظن بالتنجز، والظن بالتنجز ظن باستحقاق العقوبة.

قلت: مع عدم العلم بالتنجز لا ظن به وإنما علم بعدمه؛ لأن الموضوع هو قبح العقاب بلا بيان واصل، ومع عدم وصوله يستقل العقل بقبح العقاب، والظن غير المعتبر ليس بياناً واصلاً.

2- وأما المفسدة: فقد يقال:

أولاً: بأنه ليس بالضرورة كون ملاك الحكم ما في المتعلق من المفسدة أو المصلحة، بل يكفي في صحته وجود الملاك في الجعل، وعليه فلا يوجد ضرر ولا مفسدة دنيوية في المخالفة.

إن قلت: لو كان الملاك في الجعل، كانت المتعلقات متساوية ولا خصوصية لها، فيكون تخصيص بعضها بالحكم ترجيح بلا مرجح.

قلت: تكفي الإرادة في الترجيح كطريقي الهارب ورغيفي الجائع، حيث إن المصلحة في الكلي الجامع وتحققه يكون بإحدى المصاديق التي ترجحها الإرادة مع عدم المصلحة في تخيير المكلف.

مضافاً إلى أن الخصوصية قد تكون في المجعول له، كصعوبة مصداق دون آخر حين امتحانه، كتحريم الغناء مثلاً لو فرض أن الملاك في جعل الحكم دون المتعلّق وتمّ اختياره لصعوبة ذلك على المكلفين لكون الامتناع

ص: 387

عنه خلاف الهوى، فتأمل.

ويرد عليه: بأنه قد يستظهر من الآيات والروايات على تبعية الأحكام لملاكات في متعلقاتها لا في الجعل، كقوله تعالى: {يَسَْٔلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَٰتُ...}(1) الآية، وفي الحديث: «إنا وجدنا كل ما أحل الله ففيه صلاح العباد وبقاؤهم ولهم إليه الحاجة، ووجدنا المحرّم من الأشياء لا حاجة للعباد إليه ووجدناه مفسداً»(2).

وثانياً: حتى على فرض تبعية الأحكام للملاكات في متعلقاتها، لا يلزم كونها مفسدة، بل قد يكون حزازة، وقد يكون ضرراً نوعياً ولا ضرر له على الشخص، وقد يكون فوت مصلحة لا وقوع في المفسدة.

وأورد عليه: بأن الحزازة إذا كانت عظيمة بحيث صارت سبباً للتكليف فهي من مصاديق المفسدة، كما أن فوت المصلحة ضرر، وحتى لو لم يكن ضرراً باعتباره عدم نفع فإن ملاك الضرر جارٍ فيه، كما أنه لا فرق بين الضرر النوعي والشخصي في صحة جعلهما ملاكاً للحكم بالتحريم.

وثالثاً: إنه لو فرض في أنه قد يكون الملاك في الجعل، لكنه كذلك قد يكون في المتعلّق، فكلاهما محتمل، كما أن احتمال تفويت المصلحة أو وجود الحزازة يساوق احتمال الضرر، وحينئذٍ يتحقق وجوب دفع الضرر المحتمل.

ص: 388


1- سورة المائدة، الآية: 4.
2- علل الشرائع 2: 592؛ وسائل الشيعة 25: 51.

وفيه: وجود المؤمّن الشرعي والعقلي بحديث الرفع وبقبح العقاب بلا بيان، وبذلك يجوز الاقتحام، فلا مظنة للضرر سواء كان عقاباً أم مفسدة.

الدليل الثاني: عدم الأخذ بالظن ترجيح للمرجوح على الراجح، وهو قبيح.

وأورد عليه: بأن هذا لوحده لا يكفي، بل لا بد من ضمّ مقدمات أخرى مثل أن البراءة موجبة للخروج عن الدين، وأن الاحتياط موجب للعسر والحرج، فرجع إلى دليل الانسداد.

وأما الإشكال على الكبرى: بأن ترجيح المرجوح لا إطلاق لقبحه؛ إذ قد يكون في المرجوح جهة رجحان كمصلحة التسهيل، وحتى على فرض قبحه فلا دليل على كونه في حدّ الإلزام.

فيرد عليه: أن وجود تلك الجهة كالتسهيل تجعله راجحاً؛ إذ لا محذور في ترجيح الوهم على الظن لأمر لا يرجع إلى ذاته، وأن الكلام هنا في مورد التكليف المشتمل على غرض لزومي، فالقبح لو كان يكون بحد الإلزام.

ص: 389

فصل فی دليل الانسداد

اشارة

وهو من الأدلة العقلية التي أقيمت على حجية الظن، ولهذا الدليل خمس مقدمات، لو تمت بأجمعها انتجت حجية مطلق الظن في الجملة، وهي:

1- العلم الإجمالي بوجود تكاليف فعلية.

2- انسداد باب العلم والعلمي بمعظم الأحكام.

3- كون إهمال الأحكام أو إجراء البراءة فيها مستلزمين للخروج عن الدين.

4- عدم وجود بديل عن الظن، لا الاحتياط، ولا الأصول العملية في كل الأطراف أو بعضها، ولا تقليد الانسدادي للانفتاحي.

5- قبح ترجيح غير الظن عليه؛ لأن الراجح عقلاً هو الإطاعة الظنية، دون المشكوكة أو الموهومة.

المقدمة الأولى: العلم بوجود تکالیف فعلیة

ولم يذكرها الشيخ الأعظم، وأشكل عليه المحقق الإصفهاني(1): بأن عدم ذكرها إما لوضوحها أو لعدم مقدميتها، أما الأول: فغير صحيح؛ إذ من الواضح أنه لولاها لم يكن مجال لسائر المقدمات إلاّ بنحو السالبة بانتفاء

ص: 390


1- نهاية الدراية 3: 272.

الموضوع؛ إذ لولا العلم الإجمالي فلا حكم عقلاً أصلاً، وأما الثاني: فلا يوجب الاستغناء عنها حيث إن مقدمية بعض المقدمات الأخرى أيضاً واضحة، بل لعلّها أوضح.

إن قلت: على بعض المباني لا أثر للعلم الإجمالي لعدم تنجزه، حيث تجوز المخالفة الاحتمالية على بعض المباني، وتجوز المخالفة القطعية على بعضها الآخر، ومع ذلك تكفي سائر المقدمات - لو فرض صحتها - في إثبات حجية الظن، لوضوح أن الإهمال يستلزم الخروج عن الدين، ولذا ذهب إلى حجية الظن في حال الانسداد مثل المحقق القمي القائل بعدم تنجز العلم الإجمالي في الجملة!

قلت: أصل وجود العلم الإجمالي مما لا بد منه، ولا فرق في ذلك بين القول بتنجزه أو عدم تنجزه، وغير المنجز إن لم يكن مفيداً في سائر الموارد لكنه مفيد لجريان سائر مقدمات الانسداد لئلا تكون من السالبة بانتفاء الموضوع.

ثم إنه قد أشكل على هذه المقدمة بإشكالات، منها:

الإشكال الأول: انحلال هذا العلم الإجمالي، بسبب الاضطرار إلى بعض الأطراف؛ وذلك لعدم إمكان الاحتياط في جميعها، فينحل العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي بجواز المضطر إليه، وشبهة بدوية في غيره.

وأورد عليه: أولاً: مبنىً، بأن الاضطرار قد يكون لأحدهما المعين أو لأحدهما غير المعين، وهنا صور مختلفة اختلفت الآراء فيها في الانحلال وعدمه، وسيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى.

ص: 391

وثانياً: بأنه حتى لو فرض الذهاب إلى الانحلال في سائر الموارد لكن

لا يمكن الانحلال هنا لاستلزامه الخروج عن الدين.

وثالثاً: بأن شرط الانحلال بسبب الاضطرار هو عدم زيادة المقدار المعلوم بالإجمال عن المقدار المضطر إليه، فمع العلم بالزيادة لا انحلال، كما لو علم بنجاسة إنائين من ثلاثة ثم اضطر إلى ارتكاب أحدهما، وما نحن فيه من هذا القبيل.

الإشكال الثاني: انحلال العلم الإجمالي الكبير إلى علم إجمالي صغير، ففي الكفاية(1): انحلال العلم الإجمالي بما في الأخبار الصادرة عن الأئمة الطاهرين (علیهم السلام) التي تكون في ما بأيدينا من الروايات في الكتب المعتبرة، ومع الانحلال لا موجب للاحتياط إلاّ في خصوص ما في الروايات، وهو غير مستلزم للعسر فضلاً عما يوجب الاختلال، ولا إجماع على عدم وجوب الاحتياط بما في الروايات حتى لو سلمنا بوجود الإجماع بعدم وجوب الاحتياط في جميع الأطراف.

وفيه(2): التنافي بين هذا الإشكال وبين المقدمة الأولى، فإمّا الإشكال غير وارد أو المقدمة الأولى لا حاجة لها؛ إذ لو أريد من المقدمة الأولى العلم الإجمالي المنجّز، فدليل الانسداد لا يبتني عليها وذلك للإجماع أو لاستلزام الخروج عن الدين حتى مع عدم تنجز العلم الإجمالي، ولو أريد منها أصل وجود العلم الإجمالي تكويناً، فالإشكال غير وارد لعدم فرض التنجز في

ص: 392


1- إيضاح كفاية الأصول 3: 435.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 8: 77.

هذه المقدمة كي يشكل بعدم التنجز!!

المقدمة الثانية: انسداد باب العلم والعلمي بمعظم الأحكام

وهي انسداد باب العلم والعلمي بالأحكام في هذه العصور.

أما انسداد باب العلم فواضح؛ إذ إن اليقينيات قليلة جداً، وهي خاصة عادة بالضروريات والمتواترات، مع إجمالها غالباً لعدم العلم بالأجزاء والشروط والقواطع والموانع ونحو ذلك.

وأما انسداد باب العلمي - وهو الظن الخاص - فلعدم قيام دليل يقيني على حجية الخبر الواحد؛ إذ مع قيامه ينحل العلم الإجمالي لوفاء الأخبار بمعظم مسائل الشريعة ولا مانع من الرجوع في غير مواردها إلى الأصول العملية.

وفي التبيين(1): إن تمامية انسداد باب العلمي يتوقف على نفي أحد أمور ثلاثة وهي: حجية أخبار الثقاة، ووثاقة رواة الأحاديث الموجودة بأيدينا، وحجية ظواهر الكلام بالنسبة إلينا، وأما مع ثبوتها جميعاً فلا انسداد لباب العلمي؛ وذلك لكفاية الروايات الموجودة بأيدينا بمعظم الفقه فلا يستلزم إجراء الأصول العملية في سائر الموارد الخروج عن الدين أو العسر والحرج أو ترجيح المرجوح على الراجح.

وحيث قد أقمنا الدليل على الأمور الثلاثة معاً، فلا انسداد لباب العلمي، وبذلك ينهدم أساس دليل الانسداد.

المقدمة الثالثة: الإهمال والبراءة سبب الخروج عن الدین

وهي عدم جواز إهمال الأحكام المعلومة بالإجمال، وقد استدل الشيخ

ص: 393


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 8: 78.

الأعظم لذلك بعدة أدلة(1)، منها:

الدليل الأول: الإجماع على عدم جواز إهمال الأحكام بالمرّة - كالأطفال والمجانين - في حالة الانسداد.

إن قلت: إنه إجماع تقديري، حيث لم يذكر الانسداد في كلام القدماء.

قلت: نقطع بهذا الإجماع فلا يضرّ تقديريته، وبأن التقدير في المعلَّق عليه وهو الانسداد لا المعلَّق الذي هو عدم جواز إهمال الأحكام بالمرّة فإنه معلوم اتفاق الكل عليه.

ويرد عليه: بأن هذا الإجماع محتمل الاستناد، فلا اعتبار به عند الأغلب.

الدليل الثاني: استلزام الإهمال المخالفة القطعية، بل الخروج العملي عن الدين.

الدليل الثالث: العلم الإجمالي المنجّز بوجود تكاليف واقعية.

وأشكل عليه في الكفاية(2): بعدم توقف صحة هذه المقدمة على تنجز العلم الإجمالي، بل تصح حتى لو قلنا بعدم التنجز في حالة الاضطرار إلى بعض الأطراف، كما مرّ.

إن قلت: مع عدم تنجز العلم الإجمالي يكون العقاب على المخالفة في سائر الأطراف - على تقدير المصادفة - عقاباً بلا بيان؛ وذلك لأن البيان هو العلم الإجمالي، ومع عدم تنجزه لا بيان!

قلت: قد علمنا بإيجاب الاحتياط من اهتمام الشارع بمراعاة تكاليفه

ص: 394


1- فرائد الأصول 1: 388-396.
2- إيضاح كفاية الأصول 3: 437-438.

الواقعية بحيث ينافيه عدم إيجابه الاحتياط، هذا مضافاً إلى الإجماع على عدم جواز الإهمال في هذه الحال - أي حال جواز أو وجوب ارتكاب بعض الأطراف - .

وأشكل عليه المحقق الإصفهاني(1): بأنه إن كان المراد وجوب الاحتياط - بحرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية - فهو منافٍ لما ذكره في المقدمة الرابعة من عدم وجوب الاحتياط التام، وإن كان مراده وجوب الاحتياط الناقص - بحرمة المخالفة القطعية دون وجوب الموافقة القطعية فهو منافٍ لمبناه من عدم التفكيك بينهما.

وأجاب في المنتقى(2): بأنّ عدم التفكيك إنما هو في ما لو كان وجوب الاحتياط بمقتضى العلم الإجمالي، أما لو كان بمقتضى دليل آخر فالمتّبع مقدار دلالة ذلك الدليل، نظير دلالة بعض الأدلة على وجوب الصلاة إلى جهة واحدة فقط عند اشتباه القبلة، فلا يجوز الإهمال ولا تجب الصلاة إلى الجهات الأربعة، وما نحن فيه من هذا القبيل، فقد دل الدليل - كالإجماع أو شدة اهتمام الشارع بأحكامه - على حرمة المخالفة القطعية حين الانسداد، ولا دلالة على وجوب الموافقة القطعية، فتأمل.

المقدمة الرابعة: لا بدیل للظن
اشارة

وهي عدم وجود طريق آخر؛ إذ لا يجب الاحتياط التام، بل قد لا يجوز، كما لا يجوز إجراء الأصول العملية، وكذا لا يجوز تقليد المجتهد

ص: 395


1- نهاية الدراية 3: 273-274.
2- منتقى الأصول 4: 334.

الانسدادي للمجتهد الانفتاحي، كما لا تجوز القرعة ونحوها لتعيين الحكم، فهنا أمور:

الأمر الأول: عدم وجوب الاحتياط التام

فمع استلزامه لاختلال النظام فلا إشكال في عدم وجوبه، بل عدم جوازه.

وأما مع استلزامه العسر أو الحرج أو الضرر...

فقد ذهب الشيخ الأعظم(1) إلى حكومة دليلها على دليل الاحتياط؛ إذ نفيها إنما هو بمعنى نفي الحكم المترتب عليها، وعليه فلو أراد الشارع من المكلف امتثال الأحكام الواقعية المجهولة كانت إرادته التشريعية ضرراً على المكلف أو موجبة لعسره أو حرجه، فيكون حكمه ضررياً.

وأما المحقق الخراساني(2): فقد ذهب إلى أن الضرر المرفوع إنما هو الضرر الناشئ عن حكم الشارع، وكذا في العسر والحرج، ولا يرفع الضرر وأخواته الناشئة عن حكم العقل، وعند الاحتياط لم تنشأ هذه إلاّ عن حكم العقل بوجوب الاحتياط، وهذا لا يرتبط بحكم الشارع فلا تكون المذكورات مرفوعة حينئذٍ، والحاصل: أن متعلق التكليف ليس حرجياً أو عَسِراً أو ضررياً فلا يرفع بأدلتها.

والمسألة مبنائية، وسيأتي الكلام فيها في مباحث لا ضرر إن شاء الله تعالى.

ثم إن هناك فروق بين الذهاب إلى حجية الظن في حال الانسداد وبين

ص: 396


1- راجع فرائد الأصول 1: 407-408.
2- إيضاح كفاية الأصول 3: 442.

الذهاب إلى وجوب الاحتياط ما لم يؤدّ إلى الضرر وأخواته...

منها: عدم لزوم الاحتياط في المشكوكات والموهومات على الأول، ووجوبه ما لم يؤدّ إلى الضرر وأخواته على الثاني بناءً على إمكان التوسط في التنجيز.

ومنها: المطلقات القطعية أو المدلول عليها بالظن الخاص والمثبتة للتكاليف يمكن تخصيصها أو تقييدها بناءً على الأول، مع عدم إمكان ذلك بناءً على الثاني، حيث إن الاحتياط أصل فلا تقيّد أو تخصّص به الأمارات.

إن قلت: الظن الانسدادي أيضاً لا يخصص أو لا يقيد الأدلة الاجتهادية؛ وذلك للطولية بينهما.

قلت: الطولية في الدليل لا المدلول، نظير تخصيص الخبر الواحد للعام الثابت بالعلم مع وضوح الطولية بين العلم والظن؛ وذلك لأن المدلولين من الظواهر ولا طولية بينهما، وكذا لو دل دليل الانسداد على حجية الظن، فلا فرق بين هذه الحجية وبين الحجية الثابتة بالعلم أو بالظن الخاص، فتأمل.

ومنها: عدم جواز الإسناد إلى الشارع بناءً على الثاني، وجواز الإسناد إليه بناءً على الأول، ولا فرق في ذلك بين القول بالكشف أو الحكومة؛ لأنهما يرتبطان بالدليل، وأما المدلول فهو حكم الشارع الظاهري من غير فرق بينهما، فتأمل.

الأمر الثاني: عدم جواز الرجوع إلى الأصول العملية
اشارة

والأصول إما مثبة للتكليف أو نافية له، فهنا مقامان:

ص: 397

المقام الأول: في الأصول المثبتة للتكليف

أما الأصول غير الاستصحاب فلا محذور من جريانها، لوجود المقتضي - وهو أدلتها - وفقدان المانع، كما لو شك في القصر أو التمام، فالاحتياط جارٍ هنا من غير محذور.

وأما الاستصحاب فله حالتان:

الحالة الأولى: أن لا يعلم بانتقاض الحالة السابقة في بعض الأطراف، نظير الاستصحاب في الشبهات الحكمية.

فكذلك لا محذور في جريانه، لوجود المقتضي وارتفاع المانع.

الحالة الثانية: أن يعلم بانتقاضها في بعض الأطراف:

فإن قلنا بأن المانع عن جريان الاستصحاب منحصر في المخالفة العمليّة القطعيّة، فهذا المانع غير متحقق في ما نحن فيه؛ إذ الكلام في إثبات التكليف، فلا علم بالمخالفة لو امتثل.

وأما لو قلنا بأن المانع غير منحصر فيها، بل المخالفة العلميّة أيضاً مانع لحصول التنافي في دليل الاستصحاب بين الصدر والذيل، فهل هذا المانع متحقق هنا أم لا؟

قد يقال(1): بعدم تحققه أيضاً فلا مانع من جريان الاستصحاب في ما نحن فيه؛ وذلك لأن علم المجتهد بالأحكام الشرعية إنما هو علم بالقضايا الحقيقية، وهذه القضايا فعلية محمولها يتوقف على فعلية موضوعها، وعليه فلا أثر للعلم الإجمالي للمجتهد بالقضايا الحقيقية، إلاّ إذا صارت

ص: 398


1- نهاية الدراية 3: 282-283.

محمولاتها فعلية، ولا فعلية للمحمولات مع عدم فعلية الموضوعات، كعلمنا بوجوب الحج مشروطاً بالاستطاعة، حيث لا أثر لهذا العلم إلاّ لو تحققت الاستطاعة خارجاً.

وعليه فلا أثر ليقين المجتهد بحكم سابقاً وشكه في بقائه؛ لأن بقاء الحكم إنما يكون له أثر إذا كان الموضوع فعلياً، وأما لو لم يكن فعلياً فلا أثر لليقين والشك.

وفي ما نحن فيه: لا علم للمجتهد بأحكام فعلية على الإجمال؛ لأن ابتلاءه بالوقائع تدريجي، وكلّما تحقق موضوع واقعة تحقق الحكم، مثلاً تكون صلاة الجمعة محل ابتلائه فعلاً فيعلم بتكليفه، لكن لا تكليف له في الوقائع المستقبليّة؛ لأن التكليف محمول، وحيث لم يبتل بالواقعة فلم يتحقق الموضوع، إذن فلا تحقق للعلم الإجمالي بالتكليف، فلا استصحاب إلاّ في الواقعة المبتلى بها دون الوقائع المستقبلية.

والحاصل: لا علم إجمالي بالتكاليف؛ إذ في حالته لا يوجد إلا أصل واحد، فلا تعارض بين الاستصحابات لتتساقط! وذلك للتدريج في فعلية الأحكام.

وأشكل عليه: أولاً(1) بعدم تحقق التدريجية، ووجود العلم الإجمالي من أول الأمر؛ وذلك لأن المجتهد يعلم بأنه في مواقع ابتلائه بالاستنباطات تكون هناك تعبدات استصحابية موضوعاتها فعلية، وهذا كافٍ في تحقق علمه الإجمالي بأن الاستصحابات في مواقعها مخالفة إجمالاً للواقع الذي

ص: 399


1- نهاية الدراية 3: 283.

علمه، ومن الواضح أن هذا العلم الإجمالي الموجود من أول الأمر هو عين اليقين الإجمالي الناقض في موقع فعلية الاستصحاب بفعلية موضوعه، لا أنه يحدث له عند إجراء الاستصحابات، وإنما الفرق بلحاظ الأطراف بنحو الكلية قبل الاستنباط، ولحاظها بالتفصيل عند التعرض للاستنباط.

والحاصل: أن اليقين الناقض موجود قبل الاستنباط، فيمنع عن جريان الأصل في أول مرحلة من الاستنباط، لعلمه بمخالفته أو مخالفة الأصل المبتلى به في واقعة أخرى، وتدريجية الفعلية لا تمنع عن ترتيب الأثر فعلاً.

وثانياً(1): إمكان فرض فعلية ابتلائه بجميع الوقائع التي لها حكم، وذلك بالابتلاء الفتوائي، كما لو استنبط جميع الأحكام وكتبها في كتاب وأراد إصداره!

المقام الثاني: في الأصول النافية للتكليف

فقد ذهب صاحب الكفاية(2) إلى انحلال العلم الإجمالي، فلا يكون ثمة مانع عن جريان الأصول النافية، وذلك بفرض أن الأحكام المعلومة بالعلم التفصيلي والظن الخاص والأصول المثبتة تكون بمقدار المعلوم بالعلم الإجمالي، وحينئذٍ ينحل هذا العلم فيمكن إجراء مثل أصل البراءة في الباقي حينئذٍ، وحتى لو فرض عدم وفاء الموارد المذكورة بالمقدار المعلوم بالإجمال فلا مانع من جريان الأصول النافية لكون الاحتياط في الباقي يستلزم الحرج أو أخواته، ومع الاضطرار إلى الاقتحام في بعض الأطراف

ص: 400


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 8: 125.
2- إيضاح كفاية الأصول 3: 449.

يسقط العلم الإجمالي، وعلى فرض وجوب الاحتياط لعلمنا بأن عدم جريانه يستلزم الخروج عن الدين، تكون الأصول النافية محلاً للاحتياط دون الأصول المثبة، ويرفع اليد عن وجوب الاحتياط فيها بمقدار العسر والحرج أو اختلال النظام.

وأورد عليه: أولاً: بأن الثلاثة - موارد العلم والظن الخاص والأصول المثبتة - بناءً على الانسداد، قليلة جداً فلا انحلال للعلم الإجمالي.

وثانياً: بأن رفع اليد عن بعض الأصول النافية دون الأصول المثبة، ترجيح بلا مرجح لأنها في عرض واحد؛ إذ مع وجود العلم الإجمالي المنجّز أو العلم الإجمالي الواجب العمل به لمحذور العسر والحرج أو الخروج عن الدين يجب الاحتياط في جميع موارد الأصول من غير فرق بين النافية والمثبتة، ولو كان هناك حرج وأمثاله فهو في جميعها فيرفع اليد عن مقدار منها من غير فرق بين المثبتة والنافية.

هذا مضافاً إلى الإشكال المبنائي بعدم سقوط العلم الإجمالي مع الاضطرار إلى بعض أطرافه.

الأمر الثالث: عدم جواز رجوع المجتهد الانسدادي إلى الانفتاحي

وذلك للإجماع القطعي، وقصور أدلة الرجوع إلى العالم عن الشمول لهذا المورد؛ إذ إنّها إمّا في حالة الجهل، ولذا اتفقوا على أن المجتهد إذا لم يتوصل إلى الدليل جاز له إجراء أصل البراءة دون الرجوع إلى المجتهد الذي توصّل إلى الحكم حتى لو كان الأعلم، وإمّا في حاله عدم العلم بخطأ المستند ومن المعلوم أن الانسدادي يرى خطأ الانفتاحي.

ص: 401

إن قلت: لا تخطئة لو كان الانفتاحي قريب العهد بزمان المعصومين (علیهم السلام) بحيث اعتقد الانسدادي بأن زمانه كان زمان الانفتاح، فيكون نظير سؤال من لا يعرف الطريق عمّن يعرفه.

قلت: إن تقليده يستلزم تقليد الميت ابتداءً، وتقليد المجتهد لغيره، وقد ادعي الإجماع على عدم جوازهما، وهذا الإجماع يشمل ما نحن فيه لعدم رجوع أيٍّ من المجتهدين إلى غيرهم في ما لم يعلموا حكمه أبداً.

الأمر الرابع: عدم جواز القرعة

وذلك لأنها خاصة في بعض موارد الشبهات الموضوعية، ولا تجري في الشبهات الحكمية الكلية بالإجماع وبالضرورة الفقهية، بل ذلك من المنكرات في أذهان المتشرعة، بل قد يقال: إن (المشتبة) و(المشكل) ظاهر في المشتبه والمشكل بالذات، لا المعلوم بالذات المشتبه أو المشكل في الحكم.

المقدمة الخامسة: قبح ترجيح الشک والوهوم علی الظن

ترجيح الإطاعة الظنية على المشكوكة أو الموهومة، لقبح ترجيح المرجوح على الراجح عقلاً، وحرام شرعاً، حيث إن طرق الطاعة والمعصية عقلائية ولا لوم عندهم للمولى إذا عاقب عبده حين ترجيح الوهمية أو الشكيّة على الظنية.

وأشكل عليه: بأن الكبرى لا تنطبق على ما نحن فيه من باب الانسداد، لترجيح العقل الاحتياط بالمقدار الممكن حتى في المشكوكات والموهومات على الإطاعة الظنية. نعم، مع عدم إمكان الاحتياط لعسر أو

ص: 402

حرج أو اختلال النظام فالعقل يرجّح الظنية عليهما، لكن لا يخفى إمكانه ولو بمقدار قليل.

ومن كل ذلك يتبيّن عدم تمامية مقدمات الانسداد، للإشكال في الأولى بانحلال العلم الإجمالي الكبير إلى الصغير، وفي الثانية بعدم انسداد باب العلمي، وفي الخامسة حيث لا تدل إلاّ على لزوم التبعيض في الاحتياط،

لا حجية الظن مطلقاً.

تنبیهات
التنبيه الأول: حجية الظن في الانسداد الكبير

نتيجة مقدمات الانسداد - على فرض صحتها - هو حجية الظن في الانسداد الكبير، أما لو حصل انسداد صغير في الموضوعات أو متعلقاتها فلا حجية للظن إلاّ لو رجع الصغير إلى الكبير، ولذا لا حجية للظنون الرجالية من باب الانسداد، بل يلزم الاحتياط فيها.

وهكذا في عكسه، فلو فرضنا حصول الانسداد الكبير لكن مع انفتاح باب العلم في موضوع من الموضوعات كما لو فرضنا حصول التواتر في غالب الرجال، فلا يضر ذلك الانفتاح بحجية الظن في سائر الرجال؛ وذلك لشمول دليل حجية الظن الانسدادي لذلك.

وإن كان الأقرب حجية الظنون الرجالية لا من باب الانسداد، بل لبناء العقلاء على الاعتماد عليها، فتأمل.

التنبيه الثاني: عدم حجية الظن في غير الأحكام

إن نتيجة المقدمات هي حجية الظن في خصوص الأحكام الشرعية

ص: 403

والموضوعات المرتبطة بالأحكام، ولا تنفع لحجيته في غير الأحكام، كما لو ظننا بعدالة الراوي لحكم الشرعي فهو حجة، لكن لا ينفع هذا الظن في تصحيح شهادته؛ لأن العدالة موضوع خارجي لم يرتبط بحكم شرعي في الشهادة. نعم، هي موضوع له أثر شرعي، لكن ذلك لا ربط له بمقدمات الانسداد.

وبعبارة أخرى: الظن المرتبط بحكم كلي يكون حجة لا الظن المرتبط بحكم جزئي؛ وذلك لعدم جريان مقدمات الانسداد فيه. نعم، لو فرض انسداد باب العلم والعلمي في الموضوعات الخارجية المرتبطة بالأحكام الجزئية كان الظن حجة فيها أيضاً بناءً على تمامية المقدمات.

التنبيه الثالث: اختلاف درجات الظن

لو اختلفت درجات الظن، فلا بد من اختيار الظن الأقوى على الأضعف، لجريان دليل قبح ترجيح المرجوح على الراجح، فلذا لا بد من تقليل الاحتمالات في الأخبار من جهة السند أو الدلالة أو جهة الصدور، مثلاً في حال الانسداد لو تمكنا من تحصيل العلم بصحة السند لا يصح عدم تحصيل هذا العلم، وهكذا في سائر الجهات؛ وذلك لأن تقليل الاحتمالات يقوّي الظن بالحكم الواقعي، فتأمل.

التنبيه الرابع: إثبات التكلف لا اسقاطه

إن مقدمات الانسداد على فرض صحتها إنما تجري في إثبات التكليف، لا في إسقاطه، وعليه فلا بد من تحصيل العلم بالامتثال؛ لأن الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية.

ص: 404

وقيل: بعدم الفرق، وأن الظن الانسدادي حجة سواء في إثبات التكليف أم في إسقاطه؛ وذلك لأن القطع بالإتيان لا يوجب القطع بالامتثال؛ لأن العلم بالامتثال لا يؤدّي إلى القطع بإبراء الذمة واقعاً، فمثلاً لا فرق بين من صلى الجمعة إلى القبلة المعلومة وبين من صلاها إلى القبلة المظنونة، فكلاهما يظنان بامتثال التكليف الواقعي من غير قطع؛ إذ لعل الواجب واقعاً الظهر دون الجمعة!

وأورد عليه: أولاً: بعد قيام الحجة الشرعية على حكم يستقل العقل بوجوب إفراغ الذمة منه بالقطع، فمع الظن الانسدادي بالتكليف تقوم الحجة على التكليف فيتنجز فلا بد من القطع بإفراغ الذمة، فالعقل يستقل بوجوب الإفراغ القطعي مع تنجز التكليف حتى لو كان ذلك التنجز بالدليل الظني.

وثانياً: ما مرّ في التنبیه السابق مع أن الظن الأقوى أرجح عقلاً من الظن الأضعف.

وثالثاً: بعدم جريان بعض المقدمات في مرحلة الاسقاط؛ لعدم انسداد العلم والعلمي في مرحلة الامتثال، كما لا حرج ولا اختلال للنظام في الاحتياط فيه.

ص: 405

فصل الظن في أصول الدين

اشارة

وأصول الدين قسمان: ما يجب الاعتقاد به لو علم به، وما يجب الاعتقاد به مطلقاً، فهنا بحوث:

البحث الأول: ما يلزم الاعتقاد به لو علم به

فلا يجب تحصيل العلم به، لعدم وجوب الاعتقاد في حالة الجهل، بل لو تحقق العلم بالاختيار أو صدفة وجب عقد القلب عليه.

وفي هذه المسائل لا حجية للظن - سواء كان ظناً خاصاً أم انسدادياً - .

أما في حالة الانسداد فلا تجري مقدماته؛ وذلك لإمكان الاحتياط في هذه المسائل بالاعتقاد الإجمالي بها.

وأما في حال انفتاح باب العلمي فهل القطع بها موضوعي أم طريقي، أي هل الاعتقاد مترتب على الواقع ليكون القطع طريقياً فتقوم الأمارات مقام القطع، أم أن الاعتقاد مترتب على العلم بالواقع فلا تقوم مقامه؟

وعن المحقق الخراساني: ترجيح موضوعية العلم في هذه المسائل، قال: «ومن هنا عُلم عدم جواز الإخبار ببعض تفاصيل الحشر والنشر بمجرد مساعدة ظهور آية أو رواية عليه، كما هو ديدن بعض الواعظين»(1).

ص: 406


1- درر الفوائد في الحاشية على الفرائد: 169.

وفيه: إطلاق الأدلة اللفظية لحجية الخبر الواحد، وعدم الفرق بين الأصول والفروع في الأدلة اللبيّة كبناء العقلاء، فهي تدل على حجية الأخبار والظواهر المتعلّقة بهذا القسم من أصول الدين، مع عدم قيام دليل على توقف الاعتقاد على العلم، وعليه فلا بد من الاعتقاد بما دلت عليه الأخبار المعتبرة، وكذا بظواهر الآيات والروايات المعتبرة، فتأمل.

البحث الثاني: ما يلزم الاعتقاد به مطلقاً
اشارة

أي الاعتقاد به واجب مطلق، فيجب تحصيل العلم به، وليس الوجوب مشروطاً بحصول العلم، وهنا مقامات ثلاث:

المقام الأول: في القادر على تحصيل العلم

وهذا لا يجوز له الاقتصار على الظن، بل لا بد له من تحصيل العلم، ولا فرق في منشأ العلم بالحق، سواء كان عن استدلال أم عن تقليد، ولا دليل على لزوم تحصيل القطع عن استدلال، بل هو تحصيل للحاصل، كما لا دليل على الوجوب النفسي للاستدلال.

والحاصل: أنه كان المطلوب من هذا الإنسان العلم بالواقع والاعتقاد به، وهذا قد علم واعتقد، ولا دليل على أكثر من ذلك.

وأما ذم تقليد الكفار لآبائهم فلكونه باطلاً مع عدم قطعهم به، بل كانوا يقولون: {إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا}(1).

بل يمكن القول: بأنه لو لم يعلم بل اعتقد عن ظن فقد ارتكب محرّماً

ص: 407


1- سورة الجاثية، الآية: 32.

تكليفياً بترك تحصيل العلم، لقوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ}(1)، لكن حيث إن عقيدته صحيحة فهو مسلم في الدنيا والآخرة؛ وذلك لأن الإسلام يتحقق بالاعتقاد بالحق، وأما كونه عن علم فهذا من الأحكام الفرعية، فتأمل.

المقام الثاني: في الجاهل القاصر
اشارة

أي القاصر عن تحصيل العلم بما يجب الاعتقاد به مطلقاً.

فالكلام في وجود الجاهل القاصر، وفي كفره، وفي تكليفه، وفي وجوب تحصيل الظن عليه، فهنا مطالب:

المطلب الأول: في وجود الجاهل القاصر

قد يقال: بعدم وجوده، واستدل له بأمور، منها:

الدليل الأول: إن الأدلة حصرت الإنسان في المؤمن والكافر، وعلى خلود الكافر في جهنم، مع دلالة العقل على قبح عقاب القاصر، وعليه فكل كافر مخلّد في جهنم مع عدم كونه قاصراً.

وأشكل عليه: أولاً: بوجود الواسطة وهي المعبّر عنها بالضلال.

وفيه: أن الضال إما مؤمن أو كافر؛ وذلك لأن الضلال في الأصول كفر باطناً، حتى وإن لم يخرجه عن الإسلام ظاهراً، والضلال في الفروع لا يخرج المسلم عن الإسلام.

وثانياً: عمومات خلود الكفار في جهنم مخصصة عقلاً فلا تشمل

ص: 408


1- سورة محمد، الآية: 11.

القاصر، بل دلت الروايات على امتحانه في الآخرة بنار يخلقها الله ويأمره بدخولها(1)، وحتى على القول بعدم تخصيصها يقال: بأن القاصر الناجح في امتحان الآخرة يخرج موضوعاً عنها.

وثالثاً: عن المحقق الخراساني في حاشيته على الكفاية(2) ما ملخّصه: أنّ استحقاقه النار لبُعده عن ساحة جلاله تعالى، وهو يقتضي دخوله في النار، وهذا لازم ذاتي له، والذاتي لا يعلل! ويؤيده النصوص الدالة على خلود الكافر مطلقاً في النار مما يشمل القاصر. نعم، هو لا يؤاخذ على كفره لقصوره!!

وفيه نظر: لأن الشقاوة والسعادة ليستا ذاتيين، بل هما نتيجة إرادة الإنسان وسوء أو حسن اختياره، مضافاً إلى استقلال العقل بعدم استحقاق القاصر العذاب فإنه ظلم، وإلى أن الأحاديث دلت على أن عذاب جهنم هو غضب وانتقام، كما دلت على امتحان القاصر في الآخرة مرّة أخرى.

الدليل الثاني: إن غاية خلق كل إنسان هي علمه بأصول الدين، قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٖ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمَۢا}(3)، وما لا يترتب على الشيء لا يكون غاية، وعليه: فلا وجود للجاهل القاصر!

ويرد عليه: النقض بالمجانين وأطفال الكفار الذين ماتوا قبل تمييزهم، وبأنه غاية للنوع لا لكل شخص، أو تأويل العلم بالمقتضي له، وبأن الدليل

ص: 409


1- الكافي 3: 248-249.
2- كفاية الأصول 2: 385 (الهامش).
3- سورة الطلاق، الآية: 12.

أخص من المدعي، فإن الآية وأمثالها دلت على كون معرفة الله هي الغاية وهي فطرية فلا قاصر فيها.

المطلب الثاني: في كفر الجاهل القاصر

قيل: هما من العدم والملكة، وقيل: بل من الضدين الوجوديين اللذَين لا ثالث لهما، وقيل: ضدان لهما ثالث، والأقرب هو الثاني؛ وذلك لأن كل من تشهد الشهادتين حكم عليه بالإسلام ظاهراً، وكل من أنكرهما أو أنكر أحدهما حكم عليه بالكفر، فالمنكر قلباً المتشهّد لساناً منافق وهو محكوم عليه بالإسلام ظاهراً وإن كان كافراً باطناً، والمتيقّن قلباً المنكر لساناً كافر كما قال تعالى: {وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ}(1).

وعليه: فالجاهل القاصر الذي لا يظهر الشهادتين محكوم عليه بالكفر وتترتب عليه آثاره في المناكحة والموارثة والنجاسة وسائر أحكام الكفر؛ لأن ذلك أثر وضعي.

المطلب الثالث: في تكليف الجاهل القاصر

بمقتضى اشتراك العالم والجاهل في التكليف، فالجاهل القاصر بالأصول الاعتقادية مكلّف، لكن تكليفه غير منجّز لقبح تنجّز التكليف بغير المقدور، وكفره غير مانع عن تكليفه غير المنجّز، لتكليف الكافر بالأصول بلا إشكال، ب--ل وبالفروع بناءً على الأصح، لقول-ه تعال-ى: {وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَوٰةَ وَهُم بِالْأخِرَةِ هُمْ كَٰفِرُونَ}(2)، ولولا ذلك لتساوى

ص: 410


1- سورة النمل، الآية: 14.
2- سورة فصلت، الآية: 6-7.

أكبر الكفار إجراماً مع غير المجرم منهم في العذاب الأخروي، وهو خلاف الأدلة بزيادة عقاب الأول على الثاني، ولأدلة أخرى مذكورة في محلّها.

المطلب الرابع: في تحصيل الجاهل القاصر للظن

فهل يجب عليه ذلك؟ ولو حصلّه فهل هو حجة؟

وعن الشيخ الأعظم: «أن الظاهر عدم وجوب تحصيله الظن؛ لأن المفروض عجزه عن الإيمان والتصديق المأمور به، ولا دليل آخر على عدم جواز التوقف»(1)، ولعل المراد هو حكم العقل بالتوقف لعدم كون الظن حجة ولعدم كونه مؤمِّناً.

ويمكن أن يقال: إذا لم يكن دوران بين محذورين ولم يضرّه الاعتقاد بما ظنّه واحتمل الضرر في عدم الاعتقاد به فإن العقل يحكم بوجوب الاعتقاد حينئذٍ، دفعاً للضرر المحتمل، كمن يظن بوجود الله تعالى ويحتمل العقاب في عدم الاعتقاد به، بل يمكن أن يقال: بخروج هذا عن القصور موضوعاً، فتأمل.

وقيل: بأن الظن المطلق لا دليل عليه، بل قد يأمر العقل بالتوقف والبقاء في الشك؛ لأن عدم التوقف اقتحام في ما لا يعلم، وعليه فيكون معذوراً، وأما الظن الخاص فهو حجة عليه، لإطلاق الإدلة.

وفيه: أن إطلاق الأدلة فرع ثبوت الأصول الاعتقادية، وإلاّ لزم الدور، فلذا لا يصح الاستدلال على التوحيد إلاّ بالعقل.

ص: 411


1- فرائد الأصول 1: 576.
المقام الثالث: الجاهل المقصّر

الذي عجز عن تحصيل العلم بأصول الدين بسوء اختياره، فهذا مكلّف ويستحق العقوبة، لكن يسقط الخطاب عنه؛ لأن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً وينافيه خطاباً. نعم، لو لم يعجز عن تحصيل العلم بقي الخطاب أيضاً.

البحث الثالث: التمييز بين القسمين

فبعض الأمور الاعتقادية أمرها واضح، فالاعتقاد بوجود الله تعالى من قبيل الواجب المطلق، والاعتقاد ببعض تفاصيل الجنة كأوصاف الحور العين من الواجب المشروط، ولكن في بعضها الآخر التمييز في غاية الإشكال.

وذهب الشيخ الأعظم(1) على أنّ إطلاق بعض الأدلة يدل على عموم وجوب المعرفة، وما كان من قبيل الواجب المشروط بحاجة إلى تقييد، وعليه فيجب تحصيل المعرفة بعموم الأمور الاعتقادية سواء كانت من أصول المعارف أم فروعها، واستدل لذلك بأربع أدلة:

الدليل الأول: قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(2) والمراد بالعبادة هنا المعرفة.

وفيه: تفسير العبادة بالمعرفة خلاف ظاهر الكلمة، ولم ترد عن أئمة الهدى (علیهم السلام) ، مع أن الآية ليست في مقام بيان متعلّق المعرفة أي ما يجب

ص: 412


1- فرائد الأصول 1: 559.
2- سورة الذاريات، الآية: 56.

معرفته وما لا يجب حتى يتمسك بإطلاقها، بل في مقام بيان كونها الغاية، مضافاً إلى أنه يكفي في امتثال الأمر بالطبيعة الإتيان بفرد منها ولا يلزم الاستيعاب.

الدليل الثاني: قوله (علیه السلام): «لا أعرف شيئاً بعد المعرفة أفضل من هذه الصلاة»(1).

وفيه: عدم كون الحديث في مقام البيان من جهة متعلق المعرفة، بل في مقام بيان الأفضلية.

مضافاً إلى ما قيل: من عدم التلازم بين الأفضلية على الواجب وبين الوجوب، فقد يكون مستحب أفضل من واجب كالسلام وردّه، وقد يكون سبب ذلك أقوائية ملاك المستحب لكن لم يُجعل وجوبه لتلازحم الملاكات في مرحلة الجعل كالتزاحم مع مصلحة التسهيل كما في السواك.

إن قلت: الأفضلية إن كانت حيثيّة فلا تدل على الوجوب كأفضلية ردّ السلام عليه من حيث الثواب، لكن الأفضلية المطلقة ظاهرة عرفاً في الوجوب!

قلت: لا ظهور مع العلم بكثرة التزاحم وكثرة كون المصلحة الملزمة في غير الأفضل مع عدم كونها ملزمة في الأفضل، فتأمل.

الدليل الثالث: قوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٖ...}(2) الآية، بضميمة استشهاد الإمام (علیه السلام) بها على وجوب النفر لمعرفة الإمام، فالدين أعم من

ص: 413


1- الكافي 3: 264؛ وسائل الشيعة 4: 38.
2- سورة التوبة، الآية: 122.

الأصول والفروع.

إن قلت: إن التفقه مقيّد بكونه في الدين، والمشكوك لا يعلم كونه من الدين، فيكون من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

قلت: لا بد لنا من معرفة حكم الشرع في المسائل الأصولية سواء بالنفي أو الإثبات، وكلاهما من الدين فمع دلالة الدليل يكون إثباتها من الدين، ومع دلالته على العدم يكون نفيها من الدين.

وفيه: ما مرّ من أن الآية ليست في مقام بيان ما يجب التفقه فيه، بل في مقام بيان النفر أو كيفيته.

الدليل الرابع: عمومات أدلة وجوب تحصيل العلم، بل قد يظهر منها أن الاشتغال بتحصيل المعارف واجب عيني مع كون تحصيل علم الفروع واجب كفائي!

إن قلت: دلالتها على الوجوب تستلزم تخصيص الأكثر؛ إذ لو أريد مطلق العلم لخرجت العلوم غير الدينية وهي الأكثر، وإن أريد العلوم الدينية فأكثرها ليست بواجبة كالعلم بالمستحبات والمكروهات، بل الواجبات والمحرمات التي ليست محل الابتلاء.

قلت: لو كان الخاص مجموعات ثلاث مثلاً فتخصيص إحداها ليس من تخصيص الأكثر حتى لو كانت مصاديقه أكثر، مضافاً إلى أنه لو أريد بيان الملاك للمستثنى وللمستثنى منه، كأن يكون ملاك الإكرام العلم وملاك عدم الإكرام الفسق، فيقال: (أكرم الشعراء إلاّ الفساق)، فلا إشكال في ذلك حتى لو كانت مصاديق المستثنى أكثر، لعدم استهجان ذلك عرفاً.

ص: 414

البحث الرابع: تخيّر المجتهد بين استنباط تفاصيل الأصول والفروع

ذهب الشيخ الأعظم(1) إلى أنه لا يمكن تحصيل تفاصيل علم المعارف إلاّ لمن كانت له قدرة الاستنباط من الأدلة الشرعية مع إحاطته بالبراهين العقلية، والواجد لذلك المجتهد، فلا بد له من الانشغال بالفروع أيضاً فيتزاحمان فيتخير المجتهد لعدم إحراز أهمية إحداهما على الأخرى.

وقد يقال: بعدم التزاحم، إمّا لعدم إطلاق وجوب تحصيل المعارف إلاّ بالمقدار الواجب معرفته للجميع، وإمّا لعدم وجوب استنباط الفروع لواجد الملكة وجواز أن يقلّد غيره، وإمّا لوجود البدل في الفروع ولا بدل في الأصول.

أما الأول: فقد مرّ الكلام فيه.

وأما الثاني: ففيه احتمالان:

أحدهما: الجواز، واستدل له:

أولاً: بالسيرة العقلائية، حيث إن موضوع رجوع الجاهل إلى العالم هو الجاهل بالفعل، فواجد الملكة مخيّر عندهم بين الاستنباط وبين الرجوع إلى غيره، ولا يرونه ملزماً بالاحتياط، واحتمال خطأ الغير غير مانع؛ وذلك لاحتماله في جميع الأمارات والطرق مع عدم إخلال هذا الاحتمال بالتنجيز والإعذار فيها، مضافاً إلى النقض بالعامي غير الواجد للملكة المتمكن من تحصيلها ومع تمكنه من الاحتياط.

وثانياً: إطلاقات الأدلة اللفظية، كسؤال أهل الذكر، فإن شرطه عدم

ص: 415


1- فرائد الأصول 1: 560.

العلم لا عدم التمكن منه، ولا انصراف إلى المتمكن.

وثالثاً: باستصحاب الحكم الوضعي أو التكليفي أي الحجية أو جواز التقليد لمن كان مقلداً فصار مجتهداً، أما لو لم يكن مقلداً أو كان محتاطاً قبل اجتهاد فجريان الاستصحاب متوقف على القول بالاستصحاب التعليقي، وأمّا كونه فاقداً للملكة ثم واجداً لها فلا يوجب تبدل الموضوع؛ لأنهما وصفان طارئان على الذات في نظر العرف.

والآخر: عدم الجواز، واستدل له: بأن الاشتغال اليقيني بتنجز التكاليف الواقعية على واجد الملكة يستدعي البراءة اليقينية، مع العلم بالبراءة لو استنبط، والشك فيها لو قلّد، إلاّ أن يقال: بأنه مع وجود الإطلاقات السالفة فلا شك في الحجية.

وبالإجماع الذي نقله الشيخ الأعظم، إلاّ أن يقال: لا إجماع لعدم تعرّض الأكثر لهذه المسألة، بل خالف بعض فيها.

وأما الثالث: فقد يقال: إن استنباط الفروع له بدل وهو الاحتياط أو التقليد، وأما استنباط الأصول فلا بدل له، وقد مرّ أن من مرجحات باب التزاحم ترجيح ما لا بدل له على ما له بدل.

اللهم إلاّ أن يقال: إن الأصول لها بدل أيضاً بالتقليد الموجب للعلم، وعليه فلا تزاحم أصلاً، لوجود البدل لكليهما، بأن يستنبط في أحدهما ويقلّد في الآخر، فتأمل.

ص: 416

فهرست الموضوعات

المقصد السادس في الحكومة والورود

تمهيد7

فصل في الحكومة

المبحث الأول: في تقسيمات الحكومة10

التقسيم الأول: تقسيمها إلى حكومة واقعية، وحكومة ظاهرية10

التقسيم الثاني: تقسيمها إلى حكومة توسيعيّة وتضييقيّة15

التقسيم الثالث: تقسيمها إلى شرح عقد الوضع وشرح عقد الحمل16

التقسيم الرابع: تقسيمها إلى إثبات الحكم نفسه أو إثبات حكم مماثل16

التقسيم الخامس: تقسيمها إلى نفي الحكم الشرعي بنفسه، أو نفي طبيعة توهم تعلقها به أو معلوليتها له17

التقسيم السادس: تقسيمها إلى لسان التفسير والتنزيل والسلب18

التقسيم السابع: تقسيمها باعتبار النظر والمسالمة19

التقسيم الثامن: التقسيم باعتبار كيفية التوسعة والتضييق21

المبحث الثاني: في مصحّح الحكومة22

المبحث الثالث: في تعارض الحاكم والمحكوم وعدمه24

المبحث الرابع: بين الحكومة والتخصيص26

المقام الأول: نقاط الاتفاق27

المقام الثاني: نقاط الاختلاف29

المبحث الخامس: في تقدم الحاكم على المحكوم32

المقام الأول: في سبب تقدم الحاكم32

ص: 417

المقام الثاني: في موارد لا يتقدّم الحاكم فيها35

المبحث السادس: في التحاكم38

فصل في الورود

المبحث الأول: بين الورود والحكومة40

المطلب الأول: نقاط افتراقهما40

المطلب الثاني: نقاط اتفاقهما42

المبحث الثاني: وجه تقديم الوارد على المورود43

المبحث الثالث: في أقسام الورود45

المقصد السابع في القطع

تمهيد49

المبحث الأول: في تقسيم المباحث49

المبحث الثاني: في شمول المقسم لغير المجتهد57

فصل في حجية القطع

المبحث الأول: في أن الآثار للقطع أو للمقطوع66

المبحث الثاني: في طريقية القطع للواقع وحجيته68

المسألة الأولى: في طريقية القطع للواقع68

المسألة الثانية: في حجية القطع ذاتاً69

المسألة الثالثة: في عدم قابلية جعل الحجية للقطع69

المبحث الثالث: في وجوب الجري طبقاً للقطع70

المبحث الرابع: هل يمكن ترخيص الشارع في مخالفة القطع؟73

المبحث الخامس: في معذرية القطع77

فصل في التجري

المطلب الأول: في معنى التجري78

المطلب الثاني: في حرمة الفعل المتجرّى به78

ص: 418

المطلب الثالث: قبح الفعل المتجرى به وعدمه90

المطلب الرابع: استحقاق أو عدم استحقاق المتجري للعقاب96

تنبيهات101

التنبيه الأول: في عموم التجري للقطع الطريقي والموضوعي101

التنبيه الثاني: في إخلال التجري بالعدالة وعدمه102

التنبيه الثالث: في جريان التجري في غير القطع103

القسم الأول: الحجة المثبتة للتكليف المصادفة للواقع104

القسم الثاني: الحجة المثبتة للتكليف المخالفة للواقع104

القسم الثالث: الحجة النافية للتكليف صادفت الواقع أم لا105

التنبيه الرابع: في صحة أو عدم صحة العمل العبادي المتجرّى به106

فصل في القطع الطريقي والموضوعي

البحث الأول: في أصل التقسيم108

البحث الثاني: في تقسيمات القطع الموضوعي109

التقسيم الأول: كونه وصفياً أو كشفياً109

التقسيم الثاني: كونه تمام الموضوع أو جزئه113

البحث الثالث: قيام الأمارات والأصول مقام القطع115

المقام الأول: قيامها مقام القطع الطريقي المحض116

المقام الثاني: قيامها مقام القطع الموضوعي الكشفي117

المقام الثالث: قيام الطرق والأمارات مقام القطع الموضوعي الوصفي125

المقام الرابع: قيام الأصول العملية مقام القطع125

المطلب الأول: في قيام الأصول غير المحرزة مقام القطع الطريقي125

المطلب الثاني: في قيام الأصول المحرزة مقام القطع127

فصل في أخذ القطع بحكم في موضوع ذلك الحكم أو ضده أو مثله

المبحث الأول: أخذ القطع في موضوع نفس الحكم بشخصه129

المبحث الثاني: أخذ القطع بحكم موضوعاً لمثل ذلك الحكم133

ص: 419

المبحث الثالث: أخذ القطع بحكم في موضوع ضد ذلك الحكم135

فصل في الموافقة الالتزامية

دليل وجوبها139

دليل عدم وجوبها140

فصل في قطع القطّاع

المبحث الأول: في حجية قطعه الموضوعي لنفسه148

المبحث الثاني: في حجية قطعه الطريقي لنفسه149

فصل في القطع الحاصل من المقدمات العقلية

المبحث الأول: في تحقق القطع عبر المقدمات العقلية152

المقام الأول: إدراك العقل المصلحة أو المفسدة الملزمتين153

المقام الثاني: إدراك العقل الحسن والقبح153

المقام الثالث: إدراك العقل لغير المستقلات العقلية154

المبحث الثاني: في إمكان ووقوع الردع عن القطع الحاصل عنها154

المقام الأول: في إمكانه154

المقام الثاني: في وقوعه156

المبحث الثالث: في كونه مرغوباً عنه159

تكملة: في موارد توهم الردع عن القطع فيها160

فصل في العلم الإجمالي

المبحث الأول: في حقيقة العلم الإجمالي164

المبحث الثاني: في ثبوت التكليف بالعلم الإجمالي169

المطلب الأول: في تنجز التكليف عقلاً بالعلم الإجمالي170

المطلب الثاني: في إمكان الترخيص في المخالفة القطعية171

المطلب الثالث: في وقوع الترخيص في أطراف العلم الإجمالي181

المبحث الثالث: في سقوط التكليف بالعلم الإجمالي188

ص: 420

المطلب الأول: في الامتثال الإجمالي مع التمكّن من التفصيلي188

المطلب الثاني: في الامتثال الإجمالي القطعي مع التمكّن من التفصيلي الظني199

المطلب الثالث: في الامتثال الإجمالي مع عدم التمكّن من التفصيلي201

المقصد الثامن في الظن والأمارات

فصل في عدم حجية الظن بذاته

عدم حجية الظن بذاته 206

فصل في إمكان جعل الحجية للظن

البحث الأول: في معنى الإمكان هنا210

البحث الثاني: الدليل على الإمكان210

البحث الثالث: أدلة استحالة جعل الحجية للظن وردّها213

البحث الرابع: وجوه الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري214

فصل أصالة عدم حجية الظن

تتمتان252

التتمة الأولى: في عدم سراية حرمة التشريع إلى العمل252

التتمة الثانية: في التشريع حين الشك والظن253

فصل في حجية الظواهر

المبحث الأول: أدلة حجية الظواهر256

المبحث الثاني: في الشك في إرادة المتكلم للظهور260

المقام الأول: في عدم انعقاد ظهور للكلام261

فرع262

المقام الثاني: احتمال عدم تعلّق الإرادة الجدية بالظاهر263

المبحث الثالث: في حجية ظواهر الكتاب268

تنبيهات278

التنبيه الأول: الشك في تطابق الظهور الشخصي والنوعي278

ص: 421

التنبيه الثاني: لو تردد الخاص بين كونه فرداً للعام أو لا279

التنبيه الثالث: في أصالة عدم النقل280

تكملة: لو علمنا بالنقل وشككنا في تقدمه أو تأخّره281

التنبيه الرابع: لو شاع الاستعمال المجازي282

التنبيه الخامس: في تعارض الحقيقة العرفية مع اللغوية282

فصل في حجية قول اللغوي

حجية قول اللغوي 283

فصل في الإجماع

المبحث الأول: الإجماع المحصّل288

المستند الأول: قاعدة اللطف288

المستند الثاني: الحدس القطعي289

المستند الثالث: النصوص الشرعية293

المستند الرابع: الحجية العقلائية للإجماع295

المبحث الثاني: الإجماع المنقول296

تتمتان305

فصل في الشهرة الفتوائية

الشهرة الفتوائية 307

فصل في الخبر الواحد

المبحث الأول: في أدلة عدم الحجية وردّها313

المبحث الثاني: الآيات الدالة على حجية خبر الواحد316

الآية الأولى: آية النبأ317

المقام الأول: في الاستدلال بمفهوم الشرط317

المقام الثاني: في الاستدلال بمفهوم الوصف329

المقام الثالث: في المانع عن المفهوم331

المقام الرابع: في الأخبار بالواسطة342

ص: 422

الآية الثانية: آية النفر348

الوجه الأول: الملازمة بين وجوب الإنذار ووجوب الحذر348

الوجه الثاني: الملازمة بين حسن الحذر ووجوبه352

الوجه الثالث: الملازمة بين وجوب الإنذار وحجيته354

إشكالات على الاستدلال بآية النفر355

الآية الثالثة: آية الكتمان359

الآية الرابعة: آية السؤال363

الآية الخامسة: آية الأذن366

المبحث الثالث: الاستدلال على حجية الخبر الواحد بالسنة368

المبحث الرابع: الاستدلال على حجية الخبر الواحد بالإجماع369

المطلب الأول: الإجماع المنقول369

المطلب الثاني: الإجماع المحصّل القولي370

المطلب الثالث: الإجماع العملي371

المبحث الخامس: الاستدلال على حجية الخبر الواحد بسيرة العقلاء372

المبحث السادس: الاستدلال على حجية الخبر الواحد بالعقل380

فصل في دليل الانسداد

المقدمة الأولى: العلم بوجود تكاليف فعلية390

المقدمة الثانية: انسداد باب العلم والعلمي بمعظم الأحكام393

المقدمة الثالثة: الإهمال والبراءة سبب الخروج عن الدين393

المقدمة الرابعة: لا بديل للظن395

الأمر الأول: عدم وجوب الاحتياط التام396

الأمر الثاني: عدم جواز الرجوع إلى الأصول العملية397

المقام الأول: في الأصول المثبتة للتكليف398

المقام الثاني: في الأصول النافية للتكليف400

الأمر الثالث: عدم جواز رجوع المجتهد الانسدادي إلى الانفتاحي401

ص: 423

الأمر الرابع: عدم جواز القرعة402

المقدمة الخامسة: قبح ترجيح الشك والوهم على الظن402

تنبيهات403

التنبيه الأول: حجية الظن في الانسداد الكبير403

التنبيه الثاني: عدم حجية الظن في غير الأحكام403

التنبيه الثالث: اختلاف درجات الظن404

التنبيه الرابع: إثبات التكلف لا اسقاطه404

فصل الظن في أصول الدين

البحث الأول: ما يلزم الاعتقاد به لو علم به406

البحث الثاني: ما يلزم الاعتقاد به مطلقاً407

المقام الأول: في القادر على تحصيل العلم407

المقام الثاني: في الجاهل القاصر408

المطلب الأول: في وجود الجاهل القاصر408

المطلب الثاني: في كفر الجاهل القاصر410

المطلب الثالث: في تكليف الجاهل القاصر410

المطلب الرابع: في تحصيل الجاهل القاصر للظن411

المقام الثالث: الجاهل المقصّر412

البحث الثالث: التمييز بين القسمين412

البحث الرابع: تخيّر المجتهد بين استنباط تفاصيل الأصول والفروع415

فهرست الموضوعات417

ص: 424

المجلد 4

هویة الکتاب

نبراس الاصول

الجزء الرابع

السید جعفر الحسینی الشیرازی

ص: 1

اشارة

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام علی محمد وآله الطاهرين، ولعنة الله علی أعدائهم أجمعين إلی يوم الدين

ص: 3

ص: 4

المقصد التاسع في أصالة البراءة

اشارة

ص: 5

ص: 6

وأصالة البراءة أ ُولى الأصول العملية، التي موضوعها أو مسرحها الشك حين لا أمارة ولا طريق، ولا تجري معهما ومع القطع لورودها عليها بإزالة الشك وجداناً أو تعبداً، فالبراءة الشرعية موضوعها (لا يعلمون)، والعقلية (عدم البيان)، والقطع علم وبيان وجداناً، والأمارة والطريق علم تنزيلاً وبيان، وتجري البراءة في الشبهات الموضوعية والحكمية مع عدم وجود حالة سابقة.

واستدل لها بأمور، نذكرها في ضمن فصول:

ص: 7

فصل الآيات القرآنية الدالة على البراءة

اشارة

وقد استدل بعدة آيات، منها:

الآية الأولى

قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا}(1).

ببيان: أن المراد عدم وصول الحكم؛ إذ لا خصوصية للبعث، وتخصيصه بالذكر مع عموم الحكم إنما هو لأن الغالب كون الوصول عبره، قال السيد الوالد: «البعث كناية عن إيصال الحجة، وإلاّ كان تعبداً صرفاً وهو خلاف الظاهر»(2)، فالآية تأكيد لما استقل به العقل من عدم العقاب من غير بيان، لقبحه.

وهناك فرق واضح بين خصوصية البعث وعدمها، فعلى الأول لا دلالة على البراءة وذلك لتحقق الغاية حتى في ما لا يعلم، وعلى الثاني يمكن الاستدلال بالآية عليها لعدم تحقق الغاية - التي هي البيان - في ما لا يعلم.

وأشكل على الاستدلال بأمور، منها:

الإشكال الأول: إنما يمكن الاستدلال على البراءة بما ينفي استحقاق

ص: 8


1- سورة الإسراء، الآية 15.
2- الأصول: 703.

العقاب، والآية تنفي فعليته، ولا ملازمة بينهما، فمثلاً التائب لا فعلية لعذابه؛ لأنه مغفور لكن لا يسقط استحقاقه للعقاب، إلاّ لتفضّل الله عليه.

وأجيب بعدة أجوبة، منها:

الجواب الأول: كفاية عدم فعلية العذاب للبراءة؛ لأن المهمّ وجود المؤمِّن من العذاب ولا فرق في ذلك بين عدم الاستحقاق أصلاً أو الاستحقاق مع عدم فعلية العقاب.

وفيه: أولاً: إن العقاب وعدمه لا يرتبط بعلم الأصول، وإنما المرتبط به الانتهاء إلى الحكم الشرعي حتى لو لم يكن عقاب؛ إذ قد يقال: بإمكان الاستحقاق والحرمة الشرعية مع الوعد بعدم العقاب، كما قيل ذلك في الظهار، والحاصل: أن غرض علم الأصول القواعد التي يستنبط بها الحكم الشرعي حتى لو لم يكن هناك عقاب لجهة من الجهات، فتأمّل.

وثانياً: بأن المطلوب من المكلّف هو عدم العصيان، فلا يجوز له ارتكاب الحرام حتى لو علم بعدم العقاب، ولذا القائلون بحرمة الظهار مع العفو عنه ذهبوا إلى ترتب آثار الحرام التكليفية أو الوضعية مع ذهابهم إلى عدم العقوبة، فتأمل.

الجواب الثاني: ثبوت عدم استحقاق العقاب بالملازمة حتى و إن كان المدلول المطابقي للآية نفي الفعلية، ولازم نفي الاستحقاق هو نفي التكليف لعدم الانفكاك بينهما عقلاً.

قال الشيخ الأعظم(1):

إن الخصم يدعي أن في ارتكاب الشبهة الوقوع

ص: 9


1- فرائد الأصول 2: 23.

في العقاب والهلاك فعلاً من حيث لا يعلم، ويعترف بعدم المقتضي للاستحقاق على تقدير عدم الفعلية.

ولا يخفى أن ادعاء الشيخ هو اعتراف الخصم بالملازمة بين نفي الفعلية ونفي الاستحقاق، لا الملازمة بين الاستحقاق والفعلية، فليس كلامه مجرد جدل معه كي يستشكل عليه بأنّ ذلك لا ينفعنا في الاستدلال على البراءة لأنفسنا.

وقد يؤيّد كلام الشيخ الأعظم: بأنه لا معنى للحرمة مع العفو عنها دائماً، فعدم فعلية العقاب دائماً يكشف عن عدم وجود المقتضي لاستحقاقه.

اللهم إلا أن يقال: بآثار أخرى ترتّب على الحرمة، كالفسق وكالترغيب إلى تركه لمن لا يريد العصيان ونحو ذلك.

وأشكل عليه المحقق الخراساني(1):

بأن الوعيد بالعقوبات إنما هو من باب الإخبار بالشيء لقيام ما يقتضيه - أي بيان المقتضي فقط - وقد يكون هناك مانع يزاحم تأثير المقتضي، فهو يزاحم تأثيره لا أصل وجوده، وحاصله: أنه لا تلازم بين استحقاق العقوبة وبين فعليتها حتى في المعصية المعلومة، لاحتمال العفو، فضلاً عن الملازمة في مجهول الحرمة.

وردّه في المنتقى(2)

بما حاصله: أنه حتى وإن لم نقل بالملازمة بينهما إلاّ أن في ما نحن فيه خصوصية تدل على الملازمة؛ وذلك لعدم الدليل على الاستحقاق سوى ما هو ظاهر فعلية العقاب وهو منفي بالآية الشريفة، فإن

ص: 10


1- درر الفوائد في الحاشية على الفرائد: 188.
2- منتقى الأصول 4: 376.

الآية إن دلّت على نفي فعلية العقاب كانت منافية لمفاد روايات الوقوف عند الشبهة؛ إذ لا يجتمع احتمال الهلكة مع عدم فعلية العقاب، ومقتضى ذلك إمّا تخصيص الروايات إن كانت الآية أخص مطلقاً باعتبار شمولها للعلم الإجمالي، وإمّا طرحها لمخالفتها للكتاب إن كانت النسبة العموم من وجه.

وفيه(1): أن هنالك طوائف من الروايات في الاحتياط لا تدل على الهلكة كي تعارض الآية كقوله (علیه السلام) : «ويكفّوا عما لا يعلمون»(2)،

وهذه الروايات - بناءً على دلالتها على وجوب الاحتياط - لا تنافي الآية، فإن مفاد الروايات وجوب التوقف والاحتياط ولازم ترك هذا الوجوب استحقاق العقاب، ومفاد الآية نفي فعلية العذاب، فتأمل.

الجواب الثالث: الآية تدل على نفي الاستحقاق أيضاً، ويمكن بيان ذلك بوجوه:

البيان الأول: إن الأدلة الشرعية الدالة على العقوبات والمثوبات لها ظهور في اقتضاء الأفعال لها لا في العلية، وبقرينة المقابلة فالأدلة الدالة على نفي الثواب والعقاب كذلك.

وأشكل عليه(3): بالفرق بين الإثبات والنفي؛ إذ القضايا المثبتة للخواص والآثار تكون اقتضائية لا فعلية؛ إذ قلّما يوجد في العالم ما يكون علة تامة

ص: 11


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 8: 209.
2- الكافي 1: 50؛ وسائل الشيعة 27: 155.
3- نهاية الدراية 4: 23-24.

لثبوت شيء، بل لا محاله له شرط أو مانع، ولو من حيث قبول القابل، وإن فرض أن الفاعل تام الفاعلية، بخلاف طرف النفي، فإن العدم فعلي على أي حال سواء كان بعدم مقتضيه أو بعدم شرطه أو بوجود مانعه، فلا موجب للحمل على الاقتضاء دون الفعلية.

والحاصل: أن ظاهر القضايا المثبتة هو الاقتضاء لعدم التحقق غالباً حتى مع وجود المقتضي، وظاهر القضايا النافية هو الفعلية؛ لأنه يكفي في عدم التحقق عدم وجود شرط أو وجود مانع وما هو يكون غالباً.

وفيه: أن ذلك إنما يصح في القضايا الحقيقية، وأما لو أريد بيان أمر متحقق جرت العادة عليه بنحو القضية الخارجية، فلا فرق بين النفي والإثبات في الفعلية، فلا فرق بين (كان زيد يصوم كل يوم) وبين (كان زيد لا يصوم أيّ يوم)، والآية لبيان جريان سنته تعالى، وعليه فالآية دلت على عدم فعلية العذاب ولم تدل على عدم استحقاقه.

البيان الثاني(1): سياق الآية - حيث إن هناك فقرات متعددة - ظاهر في أنها لبيان الطريقة المشروعة في مقام العذاب والثواب، وأن العذاب لا يكون إلاّ على طبق الموازين العقلائية، قال تعالى: {وَكُلَّ إِنسَٰنٍ أَلْزَمْنَٰهُ طَٰئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ كِتَٰبًا يَلْقَىٰهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا * مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ...}(2)

ص: 12


1- منتقى الأصول 4: 373.
2- سورة الإسراء، الآيه: 13-15.

الآية، فتكون ظاهرة في نفي العقاب عند عدم الحجة لأنه خلاف الموازين، وأن تقيّده بقيام الحجة مما تقتضيه الموازين، فنفي العذاب وإن كان في حدّ نفسه أعم من نفي الاستحقاق لكنه في المقام ظاهر في أن منشأه هو عدم الاستحقاق.

وأشكل عليه: بأن الاحتمالات في الآية ثلاثة: العذاب ليس شأننا، أو ليس فعلنا، أو ليس دأبنا، والاحتمال الأول هو الذي يدل على نفي الاستحقاق دون الآخرين.

وأما السياق ففي الآية سياقان: لاحق وسابق على قوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ}، وأما السابق فظاهره نفي الاستحقاق لأنه لبيان الطريقة العقلائية، كما ذكر، لكن اللاحق ظاهره نفي الفعلية، حيث قال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَٰهَا تَدْمِيرًا}(1)؛

لأنه يدل على فضله تعالى بنفي فعلية العقاب، والسياقان متساويان، فلا ظهور في الفعلية أو الاستحقاق من جهة السياق، فتأمل.

البيان الثالث(2): إن الظاهر من الآية هو كونها بصدد إظهار العدل، ببيان: أنه سبحانه لم يكن من شأنه أن يعذب قوماً إلاّ بعد البيان وإتمام الحجة، ومن الواضح عدم اختصاص ذلك بقوم دون قوم ولا بعذاب دون عذاب، كوضوح ملازمة ذلك لكون المنفي فيها هو الاستحقاق والمعرضية للعذاب الفعلي، لا الفعلية المحضة مع ثبوت الاستحقاق، لعدم مناسبة ذلك مع البيان

ص: 13


1- سورة الإسراء، الآية: 16.
2- نهاية الأفكار 3: 205.

المزبور؛ لأن مع الاستحقاق وإن كان من شأنه سبحانه العفو رأفةً ورحمةً على العباد، إلاّ أنه من شأنه العذاب أيضاً، ومثله ينافي ظهورها في أنه ليس من شأنه ذلك.

وأشكل عليه(1): بأنه لا ملازمة بين عدم كونه من شأنه تعالى وبين عدم استحقاقهم؛ وذلك لأن لله تعالى شأنين: شأن بما هو عادل، وشأن بما هو رحيم، فليس من شأنه أن يعذّب قبل تمام الحجة إمّا لأنهم لا يستحقون، وإمّا لأنه منافٍ لمقام الرحمة الإلهية، فلو قال أحد: ليس من شأني ردّ الشتم بمثله، لم يكن معناه عدم استحقاق الشاتم الردّ بالمثل، بل لعدم كونه مناسباً لمقامه، ونظير ذلك {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ}(2)

فليس معناها عدم استحقاقهم، بل بالعكس الآية ظاهرة في استحقاقهم لكن الشأن الربوبي أجل من تعذيبهم لوجود الرسول (صلی الله علیه و آله) فيهم.

هذا تمام الكلام في الإشكال الأول على الاستدلال بالآية.

الإشكال الثاني: دلالة الآية إنما هي على عدم العذاب في ما لو لم يصدر حكم، ولا دلالة لها على عدمه حين عدم وصوله، وعليه فقوله: {حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا}(3)

كناية عن عدم صدور البيان الشرعي، ولا يجدي التمسك بالاستصحاب؛ لأنه خروج عن الاستدلال للبراءة بالآية.

وفيه نظر: لأن الآية كناية عن عدم الوصول؛ إذ لا موضوعية عرفاً للبعث

ص: 14


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 8: 220.
2- سورة الأنفال، الآية: 33.
3- سورة الإسراء، الآية: 15.

بحيث يستحق العقاب حتى لو لم يصله شيء، بل ظهورها في الطريقية، فلذا لا عقاب على الذين عاصروا ظهور الإسلام لكن لم يصلهم قصوراً منهم لكونهم في أطراف الأرض، والحاصل: ظهور {نَبْعَثَ رَسُولًا} على الوصول لا الصدور، لدلالته على الطريقية دون الموضوعية.

الإشكال الثالث: المراد من الآية العذاب الدنيوي، بقرينة أن الآية في مقام الإخبار عن الأمم السابقة بعدم وقوع العذاب فيها قبل إرسال الرسل، والذي يثبت البراءة هو نفي العذاب الأخروي.

وفيه: أولاً: إطلاق الآية للعذابين.

وثانياً: انسلاخ (كان) عن الزمان في الله تعالى، فلا دلالة لها على الإخبار عن الأمم السابقة.

وفيه: أنه إذ لا انسلاخ عن الزمان في أفعاله تعالى، وأما ذاته تعالى فهي وإن لم تكن زمانيّة، إلاّ أن الأفعال مستعملة في الزمان بالإرادة الاستعمالية، كما مرّ.

وثالثاً: لو فرض دلالتها على نفي العذاب الدنيوي، فالعذاب الأخروي منتفٍ بطريق أولى.

إن قلت: قد ينفى العذاب الدنيوي مع ثبوت العذاب الأخروي كما في تكرار صيد المحرم، قال الله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ}(1).

قلت: ذاك في مقام التنكيل، حيث يراد بيان أن عظم الجريمة لا يسعها

ص: 15


1- سورة المائدة، الآية: 95.

عقاب دنيوي فيؤخّر إلى الآخرة، وليس كذلك آية {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ}.

الآية الثانية

قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا ءَاتَىٰهَا}(1).

ومورد الآية وإن كان إيتاء المال، إلاّ أن خصوصية المورد لا تخصص الوارد، والوارد - وهو الموصول - عام، والقرينة على عمومه أنه للتعليل، وذلك لا يناسب خصوصية المورد، وإيتاء كل شيء بحسبه ، فإيتاء المال إعطاؤه، وإيتاء الحكم إيصاله، وإيتاء الفعل الإقدار عليه.

وأشكل على الاستدلال بها بأمور، منها:

الإشكال الأول(2): إن إرادة الأعم من الحكم والمال يستلزم استعمال الموصول في معنيين؛ إذ لا جامع بين تعلّق التكليف بنفس الحكم وبالفعل المحكوم عليه.

وبعبارة أخرى: إن الموصول لو كان بمعنى التكليف كان مفعولاً مطلقاً، أي لا يكلف الله نفساً إلاّ تكليفاً آتاها، ونحو تعلق الفعل بالمفعول المطلق هو تعلق الشيء بنفسه أو طور من أطواره، وإن كان الموصول بمعنى المال كان مفعولاً به، أي لا يكلّف الله نفساً إلاّ بمالٍ آتاها، ونحو تعلق الفعل بالمفعول به هو تعلق المباين بالمباين، وعليه فإن أريدت النسبتان معاً كان من استعمال اللفظ في أكثر من معنى، ولا جامع بينهما كي يكون استعمال اللفظ بمعنى واحد هو الجامع، وحيث لا يمكن عدم إرادة المورد فلا بد

ص: 16


1- سورة الطلاق، الآية: 7.
2- فرائد الأصول 2: 22.

من حمل الموصول على المال، فلا تدل الآية على البراءة!

وأجيب: أولاً(1):

بوجود جامع بين النسبتين، بأن يراد من الموصول (الشيء)، فلا يرد المحذور من طرف الموصول بناءً على استعمال الموصول في معناه الكلي العام وإرادة الخصوصيات المزبورة من دوالٍ أخر خارجية، كما لا محذور من طرف الإيتاء فإنه مستعمل في معناه وهو الإعطاء إلاّ أن مصاديقه تختلف، كما لا محذور من طرف تعلق الفعل بالموصول فإنه نحو تعلّق واحد به، ومجرد تعدده بالتحليل إلى نحو تعلق الفعل بالمفعول به والمفعول المطلق لا يقتضي تعدده بالنسبة إلى الجامع الذي هو مفاد الموصول، غاية الأمر أنه يحتاج إلى تعدد الدال والمدلول.

إن قلت(2): لا يمكن تحقق الجامع في المعاني الحرفية؛ لأن حقيقتها الربط والارتباط بين الطرفين وهذه الخصوصية مقومة لحرفية المعنى الحرفي، فإلغاؤها يساوق إلغاء المعنى الحرفي، والنسبة الحكمية معنى حرفي فلا جامع.

قلت: هذا إنما يتم لو ذهبنا إلى جزئية المعنى الحرفي، لكن على مبنى كونه كلياً وأن الموضوع له عام فلا.

وثانياً(3): بوحدة النسبة، فإن نسبة هي المفعول به أو المفعول منه سواء أريد بالموصول المال أو الحكم أو الجامع بينهما، فإن قوله: {لَا يُكَلِّفُ}

ص: 17


1- نهاية الأفكار 3: 202.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 8: 229.
3- نهاية الأفكار 3: 203.

يراد به معناه اللغوي، أي الكلفة والمشقة، فعلى كون الموصول مفعولاً به يكون المعنى لا يوقع الله عباده في كلفة شيء إلاّ الشيء الذي أعطاهم سواء كان مالاً أم حكماً، وعلى كون الموصول مفعولاً منه - وهو المفعول النشوي - يكون المعنى لا يوقعهم في كلفة شيءٍ إلاّ من جهة ما أعطاهم ولا فرق في ذلك بين كون ما أعطاهم مالاً أو حكماً.

بل لا مجال لجعل الموصول مفعولاً مطلقاً، ولو على كون التكليف في الآية بمعناه الاصطلاحي فضلاً عن كونه بمعناه اللغوي؛ وذلك لأن الأول يستلزم اختصاص التكاليف الواقعية بالعالمين بها، والثاني يستلزم أخذ المشقة التي هي معلول العلم في متعلقه فإن المفاد على ذلك يكون أنه تعالى لا يجعل عباده في مشقة إلاّ مشقة أعلمهم بها، وهو مستحيل.

إن قلت(1): التكليف ظاهر في معنى الحكم، ولا ظهور له في المعنى اللغوي، ولا يستلزم المحذور العقلي المذكور، لإمكان حمل الرفع على الرفع الظاهري، كما في حديث الرفع وأمثاله.

قلت(2): إن التكليف بمعنى الكلفة حتى لو أريد المعنى الاصطلاحي؛ إذ إطلاق التكليف على الأمر والنهي ليس باعتبار الحكم، بل باعتبار أنه من مصاديق الإلقاء في المشقة.

كما أنه لو قلنا باختلاف المعنى اللغوي عن الاصطلاحي فلا بد من الالتزام بخلاف الظاهر على كل حال؛ إذ لو أريد المعنى الاصطلاحي فهو

ص: 18


1- منتقى الأصول 4: 380.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 8: 232.

وإن كان ظاهراً حسب المدعى في هذا المعنى إلاّ أن الرفع يكون حينئذٍ ظاهرياً وهو خلاف الظاهر، وإن أريد المعنى اللغوي فهو خلاف الظاهر حسب المدعي إلاّ أن الرفع يكون واقعياً، فكان لا بد من التصرف في الظاهر على كل حال إما في كلمة التكليف أو في الرفع.

هذا تمام الكلام في الإشكال الأول على الاستدلال بالآية.

الإشكال الثاني(1): إن غاية ما يستفاد من الآية هو نفي الكلفة والمشقة من قبل التكاليف المجهولة غير الواصلة إلى المكلّف، لا نفي الكلفة مطلقاً ولو من قبل إيجاب الاحتياط، فمفاد الآية حينئذٍ مساوق لكبرى قبح العقاب بلا بيان، وهذا المقدار لا يضر بمدعى القائل بالاحتياط؛ لأنه يدعي دلالة الأخبار على وجوب الاحتياط عند الشك في التحريم.

لا يقال: إنما يتم هذا بناءً على الوجوب النفسي للاحتياط، وأما بناءً على وجوبه الطريقي فلا؛ إذ ما يوجب الكلفة حينئذٍ هو التكاليف الواقعية المجهولة، وظاهر الآية هو الثاني.

فإنه يقال: لا فرق بين كون وجوب الاحتياط نفسياً أم طريقياً، فإن موضوع الآية هو (مجهول الحكم) فلا يوقع الشارع المكلفين في كلفة ما كان مجهول الحكم، وعليه فيتمكن القائل بوجوب الاحتياط أن يقول: إن مثل شرب التتن ليس مجهول الحكم، بل هو معلوم الحرمة بأدلة الاحتياط، فلا يكون من مصاديق الآية.

وبعبارة أخرى: إن وجوب الاحتياط حتى لو كان طريقياً لكنه باعتبار

ص: 19


1- نهاية الأفكار 3: 204.

كونه منجزاً للتكليف على تقدير وجوده، كان هو الموجب للضيق والرافع للبراءة، والقائل بوجوب الاحتياط يذهب إلى أن الكلفة إنما هي من قبل ما أوتي وهو إيجاب الاحتياط الواصل إلى المكلف.

الإشكال الثالث(1): إن التمسك بالآية على البراءة تمسك بالعام في الشبهة المصداقية؛ لأن معنى الآية هو أن ما لم يوحِهِ الله إلى أنبيائه لا كلفة من قبله، فلا تشمل الآية ما أوحاه الله وبلّغه الأنبياء ولكن أخفاه الظالمون.

والحاصل: أن إيتاء الله تعالى هو إعلامه بالسبب المتعارف وهو الوحي، لا بالأسباب غير المتعارفة، كما في كل إيتاء وإعلام بين الموالي والعبيد، حيث يراد الطريق المتعارف، وفي الموارد المشكوكة لا نعلم أنها من صنف ما أوحاه الله وأخفاه الظالمون أم مما لم يوحِهِ سبحانه وتعالى.

وأجيب: بأن المراد إيتاء كل فرد فرد، بدليل أن (نفساً) نكرة في سياق النفي فتفيد العموم، فالحكم الذي أوحاه الله وبلّغه أنبياؤه إذا لم يصل إلى شخص بسبب إخفاء الظالمين، فهو مما لم يؤته الله لهذا الشخص.

والحاصل: أن (الإيتاء) هنا ليس بمعنى (الإصدار) وهو الذي لا يحتاج إلاّ إلى مفعول واحد، ولكن في الآية مفعولان، وعموم (نفساً) دليل على أن الإيتاء هو الإعطاء لكل أحد أحد، فتأمل.

الآية الثالثة

قوله تعالى: {قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٖ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٖ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ

ص: 20


1- نهاية الأفكار 3: 204.

اللَّهِ بِهِ}(1).

وجه الاستدلال هو تعليق الإباحة على عدم الوجدان.

وفيه: أولاً: إن عدم وجدان النبي (صلی الله علیه و آله) دليل قطعي على عدم الوجود؛ إذ لو أراد الله الحرمة أوحاها إلى النبي (صلی الله علیه و آله) .

إن قلت: إن المقام مقام الاحتجاج مع الكفار المنكرين للوحي، فهو احتجاج بالأصول العقلائية وهي ليست تعبدية فلا خصوصية للنبي (صلی الله علیه و آله) ، بل كل من لم يجد حكماً فلا شيء عليه.

قلت: للنبي (صلی الله علیه و آله) خصوصية هنا حتى لو كانت الآية في مقام الاحتجاج، وذلك بقرينة قوله: {فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ}.

وثانياً: إن الآية خاصة بالمأكولات وهي دليل اجتهادي، وكلامنا في إثبات الإباحة كأصل عملي في ما لم يرد فيه نص، فتأمل.

الآية الرابعة

قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمَۢا بَعْدَ إِذْ هَدَىٰهُمْ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ}(2).

وجه الاستدلال أن {يُبَيِّنَ لَهُم} بمعنى وصوله إليهم، وليس مجرد إصداره حتى لو لم يصل؛ وذلك لمكان اللام، ولمكان تفسيره في بعض الأحاديث بالمعرفة قال (علیه السلام) : «حتى يعرّفهم ما يرضيه وما يسخطه»(3)،

كما

ص: 21


1- سورة الأنعام، الآية: 145.
2- سورة التوبة، الآية: 115.
3- الكافي 1: 163.

أنه لا فرق في الاستدلال بين كون الإضلال بمعنى الحكم بالضلال أو العقاب أو نوع من أنواعه كالخذلان.

وأشكل عليه: أولاً(1):إن

توقف الخذلان على البيان غير ظاهر الاستلزام للمطلب اللهم إلاّ بالفحوى، والمقصود أن الخذلان - الذي هو الإضلال - يتوقف على البيان، وهذا لا يرتبط بالبراءة؛ لأن المهم فيها توقف العذاب على البيان.

ويمكن أن يقال: إن عدم الخذلان حين عدم البيان يلازم البراءة؛ إذ مع وجوب الاحتياط يكون تركه موجباً للخذلان؛ لأن ترك التكاليف الإلزامية سبب الخذلان، وعليه فلو ثبت عدم الخذلان في شيء ثبت عدم التكليف فيه.

وثانياً: إن الاستدلال يتوقف على كون {مَّا يَتَّقُونَ} خاصاً بما يتَّقونه بالعنوان الأولي، فالآية تختص ببيان الحكم الواقعي، وعليه فالآية تعارض أدلة الاحتياط وتتقدم عليها، فتثبت البراءة.

وفيه: أنه يحتمل أن يكون المراد ما يتَّقونه مطلقاً - سواء بالعنوان الأولي أم الثانوي - وعليه تكون أدلة الاحتياط واردة، لارتفاع موضوع الآية بها.

والحاصل: أن البيان أعم من بيان حكم الشيء بما هو وبيانه بما هو مشكوك الحكم، وبأدلة الاحتياط يحصل البيان فالغاية متحققة فالمغيّى مرتفع، وهذا الاحتمال هو الأظهر؛ لأنه إن قلنا بحرمة التجري فمخالفة الحكم الظاهري حرام واقعاً فيستحق العبد الإضلال، وإن لم نقل بحرمته

ص: 22


1- فرائد الأصول 2: 25.

لكن حيث يحتمل مطابقة الحكم الظاهري للواقع يكون العبد مستحقاً للإضلال إن صادف فلا مؤمِّن له.

وعلى فرض تساوي الاحتمالين فالآية مجملة من هذه الجهة، فلا يمكن الاستدلال بها على البراءة.

ص: 23

فصل في الروايات الدالة على البراءة

اشارة

وقد استدل للبراءة بالروايات أيضاً، وهي متعددة، منها:

الحديث الأول: حديث الرفع
اشارة

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : «رفع عن أمتي تسعة: الخطأ، والنسيان، وما أكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطروا إليه، والحسد، والطيرة، والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطقوا بشفة»(1).

أما سند الحديث فلا إشكال فيه، مضافاً إلى اشتهاره وعمل الأصحاب به، وأما الدلالة ففيها مباحث.

المبحث الأول: في فقه الرفع
اشارة

وفيه مطالب:

المطلب الأول: في كلمة الرفع

إن الرفع لغة هو إزالة الشيء الثابت، والدفع هو الحيلولة دون وجود الشيء، وبعض هذه العناوين تدفع الحكم والأثر بمعنى تمنع منه بعدم وجوده أصلاً، فمثلاً في حالة الاضطرار لا يوجد حكم، لا أنه كان حكم ثم رفع، وعليه فإذا كان المراد هو الدفع فلماذا استعملت كلمة الرفع؟

ص: 24


1- التوحيد: 353؛ وسائل الشيعة 15: 369.

وأجيب بأمور، منها:

الجواب الأول: عدم الفرق بين الرفع والدفع، بل كل رفع هو دفع حقيقة؛ وذلك لاحتياج الممكن في أصل وجوده وفي استمراره إلى العلة، فعدم استمراره إنما هو لزوال علته، ومع عدم وجود العلة لا يتحقق المعلول، فارتفاعه في الحقيقة دفع، وبعبارة أخرى: احتياج الممكن في البقاء كاحتياجه إليها في الحدوث؛ لأن ملاك الاحتياج إلى العلة هو الإمكان، والإمكان الذاتي ثابت للممكن حتى بعد الوجود، فإنه لا ينقلب الممكن إلى واجب بالذات بعد وجوده، وعليه فالرافع إنما هو دافع لأنه يمنع من العلة في الزمان اللاحق، وبعبارة ثالثة: الرفع والدفع إنما هما بمعنى منع تأثير المقتضي في المقتضى، هكذا استفيد من بعض عبارات المحقق النائيني(1).

وأشكل عليه(2): أولاً: بأنه بيان عقلي دقي، لكن لغةً وعرفاً يُعبّر عن ما يمنع المقتضي عن التأثير في مرحلة الحدوث بالدفع، ويُعبّر عن ما يمنع المقتضي عن التأثير في مرحله البقاء بالرفع.

وثانياً: إن هذا الكلام يثبت أن كل رفع دفع، ومحل البحث هو أن المتحقق في مورد الحديث الشريف هو الدفع بمعنى الحيلولة دون وجود الشيء، فكيف أطلق عليه الرفع؟ فالدليل ينفع في عكس المقام!

إلاّ أن يقال: إن المقصود هو اتحاد حقيقة الكلمتين فكما أن كل رفع دفع كذلك العكس.

ص: 25


1- فوائد الأصول 3: 336-337.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 8: 273-274.

الجواب الثاني: إن الرفع أعم من إزالة الموجود، ومن إيجاد المانع مع وجود المقتضي. نعم، لو لم يكن هناك مقتضٍ أصلاً لم يكن رفعاً حقيقياً، فإطلاق الرفع في الحديث إنما هو لوجود المقتضي للآثار لكنها رفعت مِنّة، ولولا وجود المقتضي لم يكن هناك مِنّة أصلاً، ذهب إلى هذا الشيخ الأعظم(1).

وهل إطلاق الرفع حقيقي حينئذٍ؟ قال المحقق العراقي: «لا يعتبر في صدق الرفع وصحة استعماله حقيقة وجود المرفوع حقيقة، بل يكفي وجوده ادعاءً ولو باعتبار وجود مقتضيه»(2)

أي: إن وجود المقتضي وجود للشيء ادعاءً، وهو يكفي في كون إطلاق الرفع عليه حقيقياً.

الجواب الثالث: إن الرفع إنما هو باعتبار الإرادة الاستعمالية لا الجدية؛ وذلك لأن الأدلة بإطلاقها أو عمومها تشمل الناسي والمخطئ والمضطر ونحوهم، فتكون الآثار ثابتة لهم بالإرادة الاستعمالية، فتمّ رفعها بحسب هذه الإرادة.

المطلب الثاني: في المرفوع

فهل يمكن رفع هذه العناوين المذكورة في الحديث بنفسها، أم لا بد من تقدير شيء بدلالة الاقتضاء ليصح الكلام؟

القول الأول: - وهو الأقرب - إمكان رفع المذكورات، لا باعتبار وجودها التكويني البحت - لأنّها أمور تكوينية لا ترفع إلا تكويناً، مضافاً

ص: 26


1- فرائد الأصول 2: 33.
2- راجع نهاية الأفكار 3: 209.

إلى عدم رفعها خارجاً بالوجدان - وإنما باعتبار أن هذه العناوين مقيدة بكونها موضوعات للآثار الشرعية، فليس الموضوع هو (الخطأ) كي يقال لا تناله يد التشريع، بل الموضوع مركب وهو (الخطأ الذي هو موضوع لأثر شرعي)، ومن المعلوم أن الجزء الثاني من المركب أمر تشريعي، ويمكن رفعه تشريعاً، وبرفعه يرتفع المركب، وعليه فيقال: لا تحقق في عالم التشريع للخطأ الذي له أثر شرعي، وهذا أمر لا محذور فيه.

والحاصل: أن حديث الرفع يرفع الخطأ ذا الأثر الشرعي لا الخطأ بما هو هو، وبارتفاع الموضوع ترتفع جميع الآثار. ولعل هذا هو مقصود المحقق النائيني في ما نقل عنه(1).

إن قلت: إن محل البحث في «ما لا يعلمون»، والمقصود به الحكم المجهول، وهو أمر تشريعي يمكن رفعه تشريعاً فلا حاجة إلى إطالة الكلام.

قلت: إن «ما لا يعلمون» يشمل الشبهات الموضوعية أيضاً، فعاد المحذور، مضافاً إلى أن الحكم الواقعي غير قابل للرفع لاشتراك العالم والجاهل في الأحكام الواقعية.

ولا يخفى ظهور كون العناوين مركبة بضميمة كثرة العبارات الشبيهة مثل: «لا ضرر ولا ضرار»(2)

و«لا حرج»(3)

ونحوها، وعليه فلا حاجة إلى تقدير شيء ليصح الكلام، كما أن الرفع حينئذٍ يكون ظاهراً في رفع جميع

ص: 27


1- فوائد الأصول 3: 342.
2- الكافي 5: 293؛ وسائل الشيعة 18: 32.
3- الكافي 7: 49؛ وسائل الشيعة 14: 156.

الآثار.

القول الثاني: إن العناوين إنما هي ظاهرة في وجودها التكويني، فلا بد من تقدير شيء، وهو إما المؤاخذة، أو الآثار الظاهرة، أو جميع الآثار فالاحتمالات ثلاثة.

ولا يخفى أن التقدير حيث كان بدلالة الاقتضاء فلا بد منه بمقدار يرفع لغوية الكلام أو عدم صحته، وهو القدر المتيقن من الآثار، فإثبات رفع جميع الآثار بحاجة إلى انحصار رفع اللغوية أو عدم الصحة به ولو من جهة الظهور.

الاحتمال الأول: تقدير المؤاخذة.

ولازم ذلك عدم رفع الآثار التكليفية ولا الوضعية ولا الموضوعات التي رتبت على هذه العناوين.

وأشكل عليه بإشكالات، منها:

الإشكال الأول: استدلال الأئمة (علیهم السلام) بحديث الرفع في رفع الآثار الوضعية، كالصحيحة عن الإمام الرضا (علیه السلام) : «في الرجل يستكره على اليمين، فيحلف بالطلاق والعتاق وصدقه ما يملك، أيلزمه ذلك؟ فقال: لا، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : وضع عن أمتي ما أكرهوا عليه، وما لم يطيقوا، وما أخطأوا»(1)،

فقد استدل (علیه السلام) بالحديث على رفع الحكم الوضعي وهو صحة الطلاق والعتاق والصدقة.

إن قلت: لعل كلامه (علیه السلام) مجادلة لمن يعتقد بالصحة في غير حالة

ص: 28


1- المحاسن 2: 339؛ وسائل الشيعة 23: 226.

الإكراه فالجواب إقناعي إسكاتي؛ وذلك لأن الحلف على هذه الثلاثة باطل اختياراً لمرجوحية المتعلّق.

قلت: هنا كبرى وصغرى، والأصل هو الجدّ فيهما، وحيث قامت القرينة الخارجية على كون الصغرى إقناعية رفعنا اليد عنها، وتبقى الكبرى على حالها بكونها برهانية حسب الأصل(1).

إن قلت: الحديث الذي استشهد به الإمام الرضا (علیه السلام) حديث آخر يختلف عن حديث الرفع المذكور فيه العناوين التسعة والتي منها «ما لا يعلمون»، فكون ذلك رافعاً للآثار الوضعية لا يعني كون هذا كذلك!

قلت: الظاهر وحدة الحديث وإنما استشهد الإمام (علیه السلام) بالفقرة المرتبطة بسؤال السائل مع ذكر بعض الفقرات الأخرى كما هو متعارف لعدم الحاجة حينئذٍ إلى ذكر كل الحديث، مضافاً إلى أنه لو فرض تعددهما فالسياق واحد، فالظهور في أحدهما يقتضي الظهور في الآخر أيضاً لوحدة السياق.

الإشكال الثاني: إن المؤاخذة لا تنالها يد التشريع؛ لأنها أمر تكويني، وظاهر الحديث هو الرفع التشريعي.

وأورد عليه: بأنها وإن كانت تكوينية إلاّ أن منشأها التشريع، فحيث كلّف المولى عبده استحق العبد المؤاخذة وقد يؤاخذه مولاه، ويمكن للمولى رفع التكليف فترتفع المؤاخذة واستحقاقها بانتفاء موضوعها، وعليه فالمؤاخذة قابلة للرفع والوضع تشريعاً بقابلية منشئها لذلك.

ص: 29


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 8: 285.

الإشكال الثالث: إن ظاهر الحديث كونه مِنّة وكون الرفع خاصاً بهذه الأمة، مع أن عدم المؤاخذة على بعض هذه العناوين عقلي غير خاص بهذه الأمة.

وأجيب: بأن المراد رفع المؤاخذة على هذه العناوين إذا كانت عن تقصير، كما في قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا...} الآية(1)،

حيث إنه لو كان المراد النسيان والخطأ القصوري لم يكن وجه لمطلب عدم المؤاخذة؛ لأنها مرفوعة عقلاً.

إن قلت: لا يلتزمون برفع المؤاخذة عن مثل الغاصب غير المبالي الذي نسي الغصب بسبب عدم مبالاته.

قلت: لعله هناك فرق في كون منشأ النسيان التقصيري وأخواته عن تمرّد، أو عن عدم مبالاة، فتأمل.

الإشكال الرابع: إن المؤاخذة ليست أثراً للتكليف الواقعي حتى ترتفع برفعه، بل هي من آثار التكليف المنجّز، وحيث إن «ما لا يعلمون» غير منجّز فليس من آثاره المؤاخذة كي ترفع برفعه.

وفيه: أنه يمكن المؤاخذة على التكليف المجهول عبر إيجاب الاحتياط، وبرفع وجوب الاحتياط ترتفع المؤاخذة، فتأمل.

الاحتمال الثاني: تقدير الآثار الظاهرة فقط.

وأشكل عليه: أولاً: بأن رفع بعضها دون بعض خلاف الامتنان.

ص: 30


1- سورة البقرة، الآية: 286.

وفيه: إن الامتنان ثابت سواء رفعت بعض الآثار أم جميعها. نعم، رفع الجميع أكثر امتناناً.

وثانياً: إن المرفوع لو كان ذات هذه العناوين فلا معنى لبقاء بعض الآثار مع عدم بقاء سببها؛ لأن مرجعه إلى التناقض، أي عدم ثبوت الذات لعدم ترتب بعض الآثار، وثبوتها لثبوت بعضها الآخر.

الاحتمال الثالث: تقدير جميع الآثار.

وذلك لأنّ ظاهر رفع الذات - حتى لو كان رفعاً مجازياً - هو رفع جميع الآثار، ولذا كان هذا الاحتمال برفع جميع الآثار أقرب.

والحاصل: أنه لا نحتاج إلى تقدير شيء، وعليه فرفع الذات يستلزم رفع جميع الآثار، وحتى لو احتجنا إلى تقدير شيء فالظاهر هو تقدير جميع الآثار.

المطلب الثالث: الآثار التي موضوعها الخطأ والنسيان ونحوهما

لا شك في أن الآثار التي كان موضوعها الخطأ لا ترتفع بحديث الرفع، كدية قتل الخطأ، وكسجود السهو في نسيان واجب غير ركني في الصلاة، وإنما المرفوع الآثار المترتبة على الموضوعات الأخرى في حال الخطأ، كرفع بطلان الصوم بالأكل في حال النسيان، ولكن ما هو السبب في ذلك؟ وقد ذكرت وجوه، منها:

الوجه الأول: عدم معقولية الرفع؛ وذلك لأنه لو كان الخطأ مثلاً موضوعاً للآثار، فلا يعقل رفعه لتك الآثار، وعليه فلا بد من تقييد حديث الرفع بما لو كان منشأ الأثر الموضوعات الأخرى لا ما كان منشؤه الخطأ بما

ص: 31

هو هو.

إن قلت: لا محذور من كون الخطأ مقتضياً لأثر ما فيمنع عن تأثيره بحديث الرفع، نظير قوله (علیه السلام) : «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك»(1).

قلت: إنما يعقل ذلك لو تغاير المقتضي والمانع، فالنظافة مثلاً تقتضي الوجوب والمشقة مانع عنها، لكن لا يعقل اتحاد المقتضي والمانع، فلا يعقل أن يكون الخطأ مقتضياً لحكم ورافعاً له.

مضافاً إلى أنه لو فرض إمكانه فإنه من اللغو جعل حكم على موضوع ثم رفعه عنه بأن كان الغرض بيان الاقتضاء فقط إلاّ لو أريد النسخ، وهو مستبعد.

وبعبارة أخرى: إن الآثار الثابتة لبعض الموضوعات بعنوانها الأولي مرفوعة بالعنوان الثانوي بطروّ بعض هذه العناوين - وهي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وما لا يعلمون وما لا يطيقون وما اضطروا إليه - ، ويستحيل أن يرفع الحديث آثار العنوان الثانوي؛ لأنه علة لها فلا يمكن أن يكون علة لعدمها، وإلاّ اجتمع النقيضان.

نعم، بعض هذه العناوين - وهي الطيرة والوسوسة في التفكر في الخلق والحسد ما لم يظهر بيد أو لسان - بنفسها لا أثر لها بدلالة حديث الرفع.

الوجه الثاني: تخصيص تلك الأدلة لحديث الرفع؛ وذلك لأن الموضوع في حديث الرفع هو (الخطأ) مثلاً، وله صنفان: ما أخذ الخطأ في الموضوع بأن كان بشرط شيء، وما لم يؤخذ الخطأ فيه بأن كان لا بشرط، وأما الدليل

ص: 32


1- الكافي 3: 22؛ وسائل الشيعة 2: 19.

الذي أخذ الخطأ فيه موضوعاً فهو أحد الصنفين، فيخصِّص حديث الرفع!

إن قلت: بأن ظاهر أخذ عنوان في الموضوع كونه عنواناً ومقتضياً له حقيقةً، فمعنى رفع حكم الخطأ رفع حكمه بما هو خطأ لا رفع حكم ذات ما أخطأ عنه!

أي إن لدليل الرفع صنف واحد فقط أيضاً وهو ما كان (الخطأ) مثلاً موضوعاً؛ إذ الموضوع في حديث الرفع هو الخطأ مثلاً وظاهره هو دخالة الخطأ بما هو هو في ترتب الأثر، وعليه فيتعارض دليل الرفع مع أدلة آثار الخطأ، من غير كون النسبة العموم والخصوص من وجه.

قلت: بأن الموضوع وإن كان (الخطأ) وأخواته، إلاّ أن العرف يرى عموم الخطأ لما كان هو الموضوع بما هو هو أو ما كان الموضوع غيره لكن عرض الخطأ عليه.

ويمكن أن يقال: إن العرف حينما يرى الدليلين - حديث الرفع والأحاديث الدالة على آثار للخطأ مثلاً - لا يرى شمول حديث الرفع لها كي يتجه إلى التخصيص.

نعم، يمكن تغيير العموم والخصوص من الصنفين إلى المصاديق، بأن يقال: إن حديث الرفع عام لكل مصاديق الخطأ، إلاّ أن دليل الدية في القتل الخطأ أخص مطلقاً، وهكذا سائر الموارد التي جُعل الخطأ موضوعاً للأثر، فتأمل.

الوجه الثالث: إن الموضوع في حديث الرفع هو الخطأ وأخواته لا بما هي هي، وإنما بما هي عناوين مشيرة إلى الموضوعات التي وقع فيها الخطأ مثلاً، وأما في تلك الأدلة فالموضوع الخطأ وأخواته بما هي هي، فارتفع

ص: 33

التعارض باختلاف الموضوع.

وبعبارة أخرى كما في التبيين(1):

الخطأ في حديث الرفع حيثية تعليلية وفي تلك الأدلة حيثية تقييدية، مثلاً للقتل أثر وهو حق القصاص، فحين الخطأ يقال لا قصاص في القتل بسبب الخطأ، وللقتل الخطئي أثر هو الدية على العاقلة، فيقال: القتل المقيّد بالخطأ أثره الدية.

وهذا الوجه لا بأس به لو ساعد عليه العرف، والعمدة هو الوجه الأول.

المطلب الرابع: الامتنان في الرفع

لا بد من كون الرفع امتناناً ليشمله حديث الرفع، فلو لم يكن امتناناً أو كان خلاف الامتنان لم يشمله الحديث؛ وذلك لظهور الحديث في الامتنان وموضوعيته، وسبب هذا الظهور كلمة (عن) و(أمتي).

ومن أمثلة عدم الرفع: الضمان في ما لو أتلف مال الغير خطأً مثلاً؛ لأن رفع الضمان خلاف الامتنان على صاحب المال، وظاهر (أمتي) هو كون الرفع مِنّة على الجميع، وهكذا لو اضطر إلى البيع لعلاج مرضه فرفع الصحة خلاف الامتنان.

المطلب الخامس: آثار لا ترفع بحديث الرفع

وهي متعددة:

1- فمنها: ما لو تحققت هذه العناوين بسوء الاختيار، كمن ألقى بنفسه في الاضطرار إلى أكل الميتة، فذهب إلى الصحراء - مثلاً - من غير ضرورة عالماً بأنه سوف يضطر إلى أكلها.

ص: 34


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 8: 301.

وقد ذكرت وجوه لسبب عدم شمول حديث الرفع لذلك:

الوجه الأول: انصراف حديث الرفع عما لو كانت هذه العناوين بسوء الاختيار، ولعل منشأه الارتكاز عند المتشرعة، حيث إنهم يرون أنه لا وجه للامتنان عليه بعد سوء اختياره.

الوجه الثاني: إن عدم رفع الحكم في حق من يلقي بنفسه في الاضطرار ليس على خلاف الامتنان(1).

ويرد عليه: أولا:ً بأنه صحيح أن عدم الرفع ليس خلاف الامتنان، لكن الرفع امتنان، بل حتى العاصي اختياراً مع استحقاقه للعقوبة يكون العفو عنه امتناناً، مع أن عدم الرفع ليس خلاف الامتنان(2).

وثانياً: عدم الامتنان بما هو موضوع خارجي، قد يكون حسناً وقد يكون غير حسن، وقد يزاحمه ما هو أحسن منه، فعدم رفع العقوبة والآثار في سوء الاختيار خلاف الامتنان، فيقال مثلاً: لم يمُنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) على فلان في غزوة أحد وأمر بقتله، فالرجل كان يستحق القتل وكان إجراء الحد عليه خلاف الامتنان، لكن لم يكن محذور في ذلك لمزاحمة الأهم أو لكون الامتنان حينئذٍ قبيحاً.

وبعبارة أخرى: الامتنان قد يكون حسناً وقد لا يكون، فعقاب المشرك في الآخرة خلاف الامتنان لكنه لم يرفع لأنه خلاف الحكمة، فتأمل.

الوجه الثالث: تقييد حديث الرفع بكون هذه العناوين متحققة في جميع

ص: 35


1- نهاية الأفكار 1: 220.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 8: 304.

الأزمنة، فلا تشمل ما لو تحققت هذه العناوين في زمان الارتكاب، فالاضطرار المرفوع - مثلاً - إنما هو الاضطرار في جميع الأزمنه، لا خصوص الاضطرار في زمان الارتكاب، ففي المثال قبل الذهاب إلى الصحراء لم يكن مضطراً إلى أكل الميتة فلا يشمله ملاك الاضطرار في حديث الرفع، فخروج العنوان بسوء الاختيار إنما هو بالتخصّص.

وفيه نظر: لأن غالب موارد هذه العناوين - إن لم نقل جميعها - حدوثها في زمان دون آخر، والملاك فيها تحقق هذه العناوين حين الارتكاب، فلذا من يعلم بأنه سيضطر لا بسوء اختياره فمادامه غير مضطر لا ترتفع الآثار عنه، ولكنها ترتفع بمجرد تحقق الاضطرار، فتأمل.

الوجه الرابع: إن المؤاخذة إنما هي على الإيقاع في هذه العناوين، وهذا الإيقاع لا تنطبق عليه هذه العناوين، فالمضطر بسوء الاختيار عقابه إنما هو على الإيقاع الذي لم يكن اضطرارياً.

وفيه: أولاً: إن الآثار غير منحصرة في المؤاخذة فقط، بل هناك آثار أخرى، وللفعل موضوعية في ترتبها، كالحدّ على شرب الخمر والقصاص على القتل، فلا تثبت هذه الآثار على المقدمات وإنما على نفس الأفعال التي انطبقت عليها هذه العناوين بسوء الاختيار.

وثانياً: لا مؤاخذة على مقدمة الحرام، بل المؤاخذة على الحرام نفسه، بل لو ارتفعت الحرمة بالاضطرار - مثلاً - فلا يكون الإيقاع مقدمة للحرام أصلاً، ولذا أجاز بعض الفقهاء الإحرام للحج مع علم المكلّف باضطراره إلى ارتكاب بعض المحرمات الخاصة بالإحرام، مع أنه قد يقال: بأنه اضطرار

ص: 36

بسوء الاختيار، فالوقوع في الحرام يرفع الاستطاعة الشرعية للحج الواجب فلا تزاحم حينئذٍ، كما أن ملاك الحج المستحب لا يزاحم الحرمة لأنه لا اقتضائي وهي اقتضائية.

والجواب: أن محرمات الإحرام نوعان: محرمات مطلقة لا تختص بالإحرام كقلع نبات الحرم وصيده، ومحرمات خاصة بالإحرام كالتظليل وقص الأظافر، لا كلام في سقوط الوجوب أو الجواز في النوع الأول لما ذكر، ولكن لا سقوط في النوع الثاني؛ وذلك لعدم حرمتها مطلقاً على هذا المكلف المضطر إليها لو أحرم؛ لأنه قبل الإحرام لا حرمة عليه لعدم حرمتها على المُحِلّ، وبعد الإحرام لا حرمة عليه لاضطراره إليها، فلا توجد حرمة لهذا الشخص أصلاً حتى ترفع الاستطاعة في الحج الواجب أو تزاحم الحج المستحب فترفع جوازه، فتأمل.

وقد مرّ شطر من البحث حول الاضطرار بسوء الاختيار في بحث اجتماع الأمر والنهي(1)، فراجع.

2- ومنها: ما لو كان الأثر أثراً للشيء بما هو هو لا بما هو فعل صادر عن المكلّف.

ففي موارد متعددة من الفقه أفتى الفقهاء بعدم رفع الآثار التكليفية أو الوضعية لبعض الموضوعات حتى في حال تحقق هذه العناوين، كالحكم بالنجاسة حين الملاقاة سهواً، وكالحكم بوجوب غسل مس الميت بمسّه ولو خطأً، وقد اختلفت الكلمات حول سبب عدم شمول حديث الرفع لها

ص: 37


1- نبراس الأصول 2: 176.

بين كونها تخصيصاً، أو تخصّصاً، وقد ذكرت وجوه، ومنها:

الوجه الأول: إن الحديث يرفع آثار الموضوع إذا أخذ ذلك الموضوع بالمعنى المصدري أي باعتبار صدوره عن المكلّف، لكنه لا يرفع الآثار المترتبة على الموضوع إذا أخذ موضوعاً بمعناه الاسم المصدري أي باعتبار وجوده خارجاً مع قطع النظر عن فاعله، وعن المحقق النائيني إن معروض الأثر والحكم: «إما يكون هو الفعل الصادر عن الفاعل بمعنى أن الفاعل هو المخاطب بالحكم كحرمة شرب الخمر، وإما يكون الأثر مترتباً على الفعل بلحاظ صرف الوجود»(1).

فالأثر في الأول يرتفع بحديث الرفع؛ لأنه يرفع الفعل ويفرضه كأن لم يكن، وبارتفاعه يرتفع أثره، وأما الأثر في الثاني فلا يرتفع به؛ لأن الأثر لم يكن مرتبطاً بفعل المكلف كي يرتفع بارتفاعه، فالنجاسة مرتبطة بالملاقاة حتى لو لم تكن بفعل مكلّفٍ، بل بهبوب رياح مثلاً.

يبقى الكلام في كيفية تشخيص أن الأثر من أيٍّ من القسمين؟

فقد يقال: بأن الموضوع في غالب الأدلة هو فعل المكلف، فلا بد من الأخذ بالظاهر وترتيب الأثر على فعله ورفع الأثر مع تحقق عناوين حديث الرفع، إلاّ إذا دلت قرينة على كون الموضوع في لسان الدليل قد أخذ طريقاً إلى الموضوع الواقعي الذي هو صرف الوجود، كالمسّ طريق إلى الملاقاة، فموضوع الحكم بالغسل أو الحكم بالنجاسة هو الملاقاة لا المسّ، وإنما أخذ فعل المكلف موضوعاً في لسان الدليل لأنه طريق غالبي إلى

ص: 38


1- راجع فوائد الأصول 3: 351-352.

الموضوع الواقعي الذي كان صرف الوجود.

وعليه فلا بد من ثبوت القرينة ليرفع اليد عند ظاهر الدليل، وهي غالباً الإجماع أو ارتكاز المتشرعة.

الوجه الثاني: إن تلك الموارد المذكورة في الفقه إنما هي تخصيص لحديث الرفع بالدليل الخاص.

وعلى كل حال سواء كان تخصيصاً أم تخصصاً فلا وجه للتمسك بإطلاق أدلة الموضوعات لثبوت الآثار في حال الخطأ وأخواته؛ وذلك لحكومة العناوين الثانوية على العناوين الأولية.

المطلب السادس: شمول الرفع للأمور العدمية

لا إشكال في ما لو كان متعلّق هذه العناوين أموراً وجودية، وأما لو كانت عدمية، كما لو نسي جزءاً أو شرطاً وكان أثر تركهما البطلان، فهل يرتفع هذا الأثر ونحوه بحديث الرفع؟

وفي الفوائد(1): إن شأن الرفع تنزيل الموجود منزلة المعدوم، لا تنزيل المعدوم منزلة الموجود، فإن ذلك وضع لا رفع.

وأشكل عليه: أولاً: بأن هذه العناوين إنما تتعلّق بالعدم المضاف والذي له حظ من الوجود، ولو لم يكن للأعدام المضافة حظ من الوجود لما اختلفت آثارها ولا تميزت بعضها عن بعض.

وفيه: إن مرجع ذلك إلى اجتماع النقيضين باجتماع الوجود والعدم في شيء واحد، ومعنى أن له حظاً من الوجود هو أنّ له وجوداً ذهنياً، وإلاّ فلا

ص: 39


1- فوائد الأصول 3: 352.

فرق خارجاً بين العدم المطلق والعدم المضاف.

وحيث كان العدم المضاف عدماً لا يعقل أن يكون علة للشيء لعدم تحققه، فمثل قولهم: إن عدم الشرط سبب للبطلان، تعبير مجازي يراد به عدم تحقق المشروط لعدم تحقق علته.

وثانياً(1): فرق بين قلب الوجود بعدم ذاته وتنزيله منزلته وبالعكس، وبين قلب أخذه موضوعاً للحكم بعدم أخذه في مرحلة تشريع الحكم وخلوّ خطاباته عنه، والإشكال إنما يرد على الأول دون الثاني، وما يقتضيه حديث الرفع إنما هو رفع الثاني دون الأول.

وبعبارة أخرى: الحديث لا يقلب الوجود إلى العدم ولا العدم إلى الوجود، بل معناه أن ما أخذ موضوعاً في الحكم التشريعي - سواء كان وجوداً أو عدماً - ليس موضوعاً له، فيكون مرجع رفعه إلى رفع الأثر المترتب على هذا العدم الراجع إلى عدم أخذه موضوعاً للحكم.

وفيه(2): إمكان دعوى كون متعلّق الرفع في الحديث هو ذات هذه الموضوعات لا موضوعيتها، والرفع للفعل الخارجي أو الترك الخارجي ظاهر في رفع الذات، لا أنه محو لموضوعيته في سجل عالم التشريع، ولذا كان الرفع ادعائياً لا حقيقياً، فتأمل.

وثالثاً: إن الرفع قد تعلّق بالعناوين بما أنها مرآة للمعنونات الخارجية، وهذه العناوين أمور وجودية ولا يضر في ذلك كون المعنون وجودياً أم

ص: 40


1- نهاية الأفكار 3: 219.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 8: 317.

عدمياً، كي يستلزم التفريق بينهما بأنه في العدمي وضع وفي الوجودي رفع، وأما الجهل في قوله: «ما لا يعلمون» وإن كان عدمياً بالدقة العقلية حيث إنه عدم الملكة، إلاّ أنه وجودي عرفاً.

المطلب السابع: بقاء الأمر بالمركب مع رفع بعض أجزائه

إطلاق حديث الرفع كما يشمل أصل التكليف كذلك يشمل الإلزام في الأجزاء والشرائط، كمن أكره على ترك السورة فيرتفع وجوبها الضمني، ومع قطع النظر عن الدليل الخاص لو رفعت بعض الأجزاء أو الشرائط في الواجب فهل يبقى الأمر بالمركب أم لا؟

الأقرب هو بقاء الأمر بما تبقى؛ وذلك لأن الرفع يشمل رفع الجزئية والشرطية، ففاقد الجزء أو الشرط بسبب الإكراه - مثلاً - مركب تام الأجزاء والشرائط، حيث إن ذلك الجزء أو الشرط لم يكن جزءاً أو شرطاً فيه فيشمله إطلاق دليل الوجوب، وبعبارة أخرى: حديث الرفع ينقّح الموضوع في حالة الإكراه مثلاً، وبتحقق الموضوع يتحقق الحكم، فالصلاة من غير سورة في حال الإكراه تامة الأجزاء لعدم جزئية السورة فيها، وحيث إنها صلاة يشملها الأمر، هذا مضافاً إلى شمول قاعدة الميسور وسيأتي بحثها إن شاء الله تعالى.

وبذلك يتضح عدم صحة الاستدلال على عدم بقاء الأمر بأن التكليف إنما هو بالمجموع، والكل عدم عند عدم جزئه، والمشروط عدم عند عدم شرطه، فوجوب ما تبقى من الأجزاء أو الأجزاء من غير شرط كان بالوجوب الضمني وهو تابع وجوداً وعدماً لأصل التكليف بالكل، وحيث سقط الوجوب بالكل سقط الوجوب الضمني أيضاً.

ص: 41

المبحث الثاني: في فقه ما لا يعلمون
اشارة

وفيه مطالب:

المطلب الأول: في شموله للشبهات الحكمية والموضوعية

وفيه أقوال:

القول الأول: اختصاصه بالشبهات الموضوعية.

واستدل لذلك بأمور، منها:

الدليل الأول: دلالة السياق على ذلك، حيث إن «ما اضطروا إليه» و«ما استكرهوا عليه» و«ما لا يطيقون» خاصة بالموضوعية؛ لعدم معنىً محصّل للاضطرار أو الاستكراه أو عدم إطاقة الحكم، لعدم اتصاف الحكم بها، بل المتصف بها الأفعال.

وأشكل عليه بأمور، منها:

الإشكال الأول: بأن الموصول في الأربعة إنما هو بمعنى الشيء فالسياق واحد، لكن بالإرادة الجدية تختص الثلاثة بالموضوعات لعدم تعقل تعلقها بالأحكام، ولا اختصاص في «ما لا يعلمون»، وبذلك يتبيّن عدم الإخلال بالسياق، حيث إنه يرتبط بالإرادة الاستعمالية.

إن قلت(1): إن الصلة في الثلاثة خاصة بالموضوعات، وبذلك يتم التصرف في عموم الموصول في مرحلة الإرادة الاستعمالية أيضاً، وبعبارة أخرى: الصلة قرينة على الإرادة الاستعمالية في خصوص الموضوعات.

قلت: قد مرّ في باب الوضع أن المبهمات - كالموصولات - يكون فيها

ص: 42


1- منتقى الأصول 4: 392.

الوضع والموضوع له والمستعمل فيه عاماً، وانحصار المصداق في شيء لا يخرجها عن الإطلاق، وخاصة أن الانحصار لا يرتبط باللفظ وإنما بدلالة الاقتضاء، حيث لا يعقل اتصاف الحكم بالثلاثة، وبعبارة أخرى: الاختلاف في المصاديق وذلك لا يوجب الاختلاف في الإرادة الاستعمالية، بل وحتى في الإرادة الجدية.

الإشكال الثاني(1): في «ما لا يعلمون» سياقان متعارضان، أحدهما ظاهر في إرادة الموضوعات والآخر ظاهر في إرادة الأحكام، وبتعارضهما يتساقطان، فلا سياق كي يقيّد الحديث بأحدهما، فيبقى الإطلاق بحاله، أما السياق الأول فهو ما ذكره المستدل وظاهره اختصاص الرفع بالشبهات الموضوعية، وأما السياق الثاني الذي ظاهره اختصاص الرفع بالشبهات الحكمية، فهو أن ظاهر الموصول في الثلاثة هو ما كان بنفسه معروضاً للوصف، فالاضطرار والإكراه وعدم الإطاقة عرضت على نفس الموصول الذي هو الفعل، وهذا السياق يقتضي كون «لا يعلمون» عارضاً على نفس الموصول أيضاً، لكن عدم العلم يتعلق بنفس الحكم، لا بالموضوع، لأن الجهل لا يتعلق بالفعل وإنما بعنوانه، مثلاً من يضطر إلى أكل الميتة فالاضطرار عارض على نفس الفعل الخارجي، ولكن لو جهل أنه أكل الميتة، فالجهل لم يعرض على أكل اللحم المردد بين الميتة والمذكى، وإنما عرض على عنوان أكل اللحم، حيث لا يعلم أنه ميتة أم مذكى.

وفيه: أن الجهل يتعلّق بالفعل، ففي المثال ليس موضوع الحكم هو أكل

ص: 43


1- نهاية الأفكار 3: 215-216.

اللحم حتى يقال بأنه معلوم، وإنما الجهل تعلق بعنوانه لتردده بين الميتة والمذكي، بل موضوع الحكم هو أكل الميتة والجهل عرض عليه لا على عنوانه.

إن قلت: يمكن جعل الموضوع أكل اللحم المردد.

قلت: مع إمكان جعل الموضوع بما يناسب السياق لا وجه لجعله بما يخالفه، وخاصة مع كون ما يناسب السياق هو الظاهر من الدليل إثباتاً.

الدليل الثاني: إن الرفع إنما يكون مع ثقل الموضوع، بل هو منصرف عن غير الثقيل، ولا ثقل في حكم المولى لأنه إنشاء، وإنما الثقل في فعل العبد.

وفيه: أولاً: إن سبب الثقل هو الحكم فهو الذي يوقع المكلف في الفعل الثقيل فلذا يصحّ إسناد الثقل إليه.

وثانياً: إن المرفوع هو الفعل في كلا الشبهتين، فالفعل المرفوع قد يكون الاشتباه في حكمه الجزئي، وقد يكون الاشتباه في حكمه الكلي.

وثالثاً: إن تعلّق الحكم بذمة المكلّف ثقل عليه حتى لو لم يكن هنالك فعل، فإنشاء المولى الحكم لا ثقل فيه لكن في فعليته الثقل على المكلف، فتأمل.

الدليل الثالث: إن الرفع تعلق بتسعة في قوله (صلی الله علیه و آله) : «رفع عن أمتي تسعة»، ولا بد من كون إسناده إليها إسناداً واحداً - إما حقيقي إن كان إسناداً إلى ما وضع له، وإما مجازي إن كان إسناداً إلى غير ما وضع له - ولا يعقل تعدد الإسناد لاستلزامه اجتماع الضدين، وإسناد الرفع إلى «ما لا

ص: 44

يعلمون» في الشبهة الموضوعية إسناد مجازي؛ إذ لا تنال يد التشريع رفع ووضع الفعل الخارجي، بل تنال متعلقه التشريعي، وفي الشبهة الحكمية إسناد حقيقي لأنه أمر تشريعي، وحيث إن الإسناد في سائر الفقرات مجازي حيث إن المرفوع الفعل فلا بد من كونه كذلك في «ما لا يعلمون»؛ إذ إضافة الرفع في قوله (صلی الله علیه و آله) : «رفع عن أمتي تسعة» إضافة واحدة.

وأجيب: أولاً: بأن الإسناد مجازي على كل حال، إمّا لأن الرفع ظاهري لا واقعي، فرفع الحكم فرضُ رفع ٍ، لا رفعٌ حقيقي، وإمّا لأن رفع الفعل يشمل الفعل المجهول عنوانه والفعل المجهول حكمه، فرفع الفعل الذي لا يعلمونه شامل للشبهتين، وإما لما قيل: من أن المركب مما وضع له ومما لم يوضع له الإسناد إليه مجازي.

وثانياً: بأن الإضافة متعددة، فإن «رفع تسعة» وإن كان اللفظ واحداً، إلاّ أن «تسعة» مرآة لما ذكره بعد ذلك مفصلاً، فتعددت الإضافة بتعدد حرف العطف، والحاصل: إنه لا يراد من «تسعة» العنوان، بل المعنون.

وفيه(1): إن الملاك في وحدة الإسناد وتعدده هو الإسناد اللفظي، لا التحليلي العقلي، ففي مثل: (جاء القوم) إسناد واحد مع تعدد أفراد القوم، وهكذا في حديث الرفع إسناد واحد وإن كان عنواناً ومرآةً، فتأمل.

القول الثاني: عموم «ما لا يعلمون» للشبهات الموضوعية والحكمية.

واستدل له: بأن الموصول في «ما لا يعلمون» إما مطلق يراد به الشيء المبهم، أو يراد به الموضوع في عالم الاعتبار، أو الحكم المجهول، أو

ص: 45


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 8: 342.

الفعل بما أنه واجب أو حرام، أو الفعل بما هو هو! وأياً كان المراد فالموصول شامل لكلا الشبهتين، فهنا احتمالات:

المعنى الأول: أن يراد بالموصول الشيء المبهم، وهو شامل للموضوع والحكم، وأما الإشكال عليه بعدم إمكان الجمع بين إسنادين - لما وضع له ولغير ما وضع له - فقد مرّ الجواب عنه.

المعنى الثاني(1): أن يراد به الموضوع في أفق الاعتبار لا الشيء الخارجي؛ وذلك لإمكان وجود الحكم من دون وجوده، فالموضوع هو الكلي المقوّم للحكم، ويكون جعله بعين جعل الحكم؛ إذ البعث المطلق لا يوجد بنحو وجوده الاعتباري إلاّ متعلقاً بمتعلقه وموضوعه، وعليه فرفع الموضوع الكلي تشريعاً مساوق لرفع الحكم، كما كان وضعه بعين وضعه، فالإسناد إلى جميع عناوين حديث الرفع إسناد إلى ما هو له عرفاً مع انحفاظ وحدة السِياق في الجميع، فيكون رفع الموضوع الكلي في «ما لا يعلمون» أعم من رفع الموضوع المجهول نفساً، ومن المجهول تطبيقاً، فشرب التتن المجهول كونه موضوعاً مرفوع، وشرب الخمر المجهول كونه موضوعاً تطبيقاً أيضاً مرفوع.

وبعبارة أخرى: إن الموضوع في أفق الاعتبار إن كان مجهولاً فهو مرفوع، ففي الشبهة الحكمية المجهول إنما هو مجهول نفساً - بمعنى جهالة موضوعية الموضوع للحكم - وفي الشبهة الموضوعية مجهول تطبيقاً.

ويرد عليه: أن هذا المعنى للموصول ممكن ثبوتاً إلاّ أنه خلاف الظاهر

ص: 46


1- نهاية الدراية 4: 51.

إثباتاً، فلا يصار إليه مع وجود معنى مطابق للظاهر.

وأما الإشكال عليه(1): بأن الشك في الشبهة الموضوعية إنما هو شك في وجود الموضوع خارجاً فيشك في فعلية الحكم، وليس شكاً في موضوع الحكم الذي تعلّق به الحكم في مرحلة الجعل، مثلاً حين الشك في كون مائع خمراً أو خلاً لا يوجد شك في موضوع (إنما الخمر... فاجتنبوه) إذ الموضوع والحكم ثابتان لا شك فيهما، وإنما الشك ناشيء عن تحقق الموضوع خارجاً، فليس الموضوع والحكم الكليين يرتبطان بثبوت الحكم الفعلي للموضوع الجزئي لا إثباتاً ولا نفياً، وعليه لا يشمل حديث الرفع حسب هذا المعنى الشبهات الموضوعية؛ لأن ثبوت الموضوع الكلي ورفعه يرتبطان بمرحلة الجعل لا مرحلة المجعول، ولا يتحقق ذلك إلاّ في الشبهات الحكمية، حيث يرفع المولى الحكم واقعاً بالنسخ، أو ظاهراً بالبراءة.

فغير وارد(2): لأن الحكم الجزئي متحد مع الحكم الكلي وليس مغايراً له، فنفس الحرام الذي أنشأه المولى متحقق في الخارج، حيث إن الكلي الطبيعي موجود بوجود فرده، فحينما نقول: هذا الخمر حرام فهذه الحرمة هي نفس الحرمة المنشأة بقوله: (فاجتنبوه).

المعنى الثالث: أن يراد بالموصول الحكم المجهول، وجهالة الحكم تنشأ تارة من اختلاط الأمور الخارجية، وتارة من فقدان النص أو إجماله أو

ص: 47


1- منتقى الأصول 4: 399.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 8: 358.

تعارض النصين.

إن قلت: الأحكام تثبت للطبائع لا للموضوعات الجزئية، فلا معنى لرفع الموضوعات الخارجية.

قلت: إن الحكم في مرحلة الجعل يرتبط بالطبائع، وأما في مرحلة المجعول فهو يكون بثبوت التكليف في ذمة المكلّف وهو يرتبط بفعلية الموضوع، ومع فعلية الموضوع تتحقق فعلية الحكم حقيقة، فحديث الرفع يرفع الحكم المجهول من غير فرق بين كون الجهالة في مرحلة الجعل أم المجعول، أي سواء كان حكماً كلياً أم جزئياً.

المعنى الرابع: أن يراد به الفعل بما هو واجب أو حرام؛ إذ قد لا يكون ثقل في الفعل في نفسه، لكن يكون الثقل فيه بما هو إلزامي أو بما تترتب عليه العقوبة، وهذا يجري في كلا الشبهتين، فيرفع بحديث الرفع.

وأشكل عليه: أولاً: إثباتاً: بمخالفة هذا المعنى للسياق، فإنّ الموصول في سائر العناوين الفعل بما هو هو، فإن ظاهر «ما استكرهوا عليه» - مثلاً - هو الفعل الذي أكرهوا عليه بما هو هو، لا الفعل المحرّم الذي أكرهوا عليه؛ إذ غالباً يكون الإكراه على الفعل بما هو هو.

وثانياً: ثبوتاً(1):

وهو مركب من ثلاث مقدمات:

1- إن المشتقات غير موجودة بالذات، ولذا لا تدخل تحت المقولات، بل الموجود بالذات نفس ذات الموضوع و مبدأ المحمول.

2- والمجهول بالذات إمّا نفس ذات الموضوع كالجهل بالخمر، وإمّا

ص: 48


1- نهاية الدراية 4: 47-48.

مبدأ المحمول كالجهل بالحرمة، وأمّا الجهل بالفعل المعنون بعنوان الحرام فليس أمراً ما وراء أحد النحوين من الجهل بالذات، فالجهل في الحقيقة بالموضوع أو بالحرمة وهما صارا واسطة لعروض الجهل على عنوان الحرام.

3- ومن الواضح أن المراد من «ما لا يعلمون» الشيء الذي لا يعلمونه حقيقة، لا ما لا يعلمونه عرضاً.

وأورد عليه: أولاً: ما قيل من أن المشتق موجود وهو من مقولة الجوهر، مثلاً الجدار والأبيض موجودان خارجاً بوجود واحد وإن اختلفا ذهناً، فالموجود هو حصة من الوجود الكلي وهو المنتسب إلى البياض.

وثانياً(1): كون المشتق لا يوجد إلاّ بالعرض لا ينافي تعلق الجهل به حقيقة، بل يتعلق الجهل به حقيقة بما له من الوجود ولو بواسطة الجهل بما هو موجود بالذات.

وفيه: أن هذا إنما يصح لو كان المراد من الوجود العرضي الوجود الانتزاعي، حيث إن له وجوداً حقيقياً تبعيّاً، لكن مرادهم من الوجود العرضي هو ما لا وجود له إلاّ فرضاً، فتأمل.

وثالثاً: إن العرف يرى أن للمشتق نحو من أنحاء الوجود الحقيقي، وعليه فيتعلق به العلم والجهل بالذات، فيرفعه المولى!

المعنى الخامس: أن يراد بالموصول الفعل بما هو هو، والجهل كما يتعلق بنفس الفعل كذلك يتعلق بوصفه، فالأول في الشبهات الموضوعية

ص: 49


1- منتقى الأصول 4: 396.

حيث جهالة ماهية الفعل الخارجي، والثاني في الشبهات الحكمية حيث جهالة وصف ذلك الفعل أي حكمه.

وأشكل عليه(1): بأنه منافٍ لظاهر الوصف، فإن إرادة الجهل به بوصفه من باب الوصف بحال المتعلّق، فإن الظاهر من «ما لا يعلمون» الشيء الذي لا يعلمونه، لا الشيء الذي لا يعلمون حكمه، فاختص بالشبهات الموضوعية.

إن قلت: العلم والجهل التصديقيان يتعلقان بثبوت شيء لشيء، ولا فرق حينئذٍ بين ثبوت الخمرية للمائع أو ثبوت الحرمة لشرب التتن، غاية الأمر أن عنوان الخمرية للمائع ذاتي، وعنوان الحرمة للشرب عرضي، وعليه ففي كلا الشبهتين يكون الوصف بحال المتعلّق.

قلت: إن شرب المائع ليس موضوعاً للحكم كي يقال: إن شرب المائع حيث لم يعلم عنوانه - وهو كونه خمراً - فهو مرفوع، بل الموضوع هو شرب الخمر، وهو المرفوع إذا كان مجهولاً، والجهل تصديقي أي الجهل بتحقق شرب الخمر، وعليه فلا بد على هذا الوجه من تخصيص الرفع بالموضوعية.

المطلب الثاني: في كون الرفع ظاهرياً لا واقعياً

والرفع الظاهري هو رفع وجوب الاحتياط، أو رفع الحكم ظاهراً مما يلزم منه عدم وجوب الاحتياط؛ إذ هو بمعنى الترخيص في الاقتحام وهو ينافي وجوب الاحتياط.

وأما الرفع الواقعي فهو بمعنى تقييد أدلة الواجبات والمحرمات بحديث الرفع، فتكون الأحكام خاصة واقعاً بالعالم دون الجاهل.

ص: 50


1- نهاية الدراية 4: 48.

ولا يخفى أن البحث في خصوص نوعية الرفع في «ما لا يعلمون»، وأما في سائر العناوين كالإكراه والاضطرار فالرفع واقعي؛ لعدم تعقل الرفع الظاهري.

وفي المسألة قولان:

القول الأول: كون الرفع ظاهرياً، واستدل له بأمور، منها:

الدليل الأول: ما دلّ على اشتراك الجاهل والعالم بالدلالة الالتزامية، كأخبار حسن الاحتياط الدالة على وجود واقع مجهول يحسن الوصول إليه، وكالأخبار الدالة على سؤال العالم وظاهرها عرفاً ثبوت الحكم على الجاهل لا حسن تغيير الموضوع، ولا كونه واجباً نفسياً، بل واجب طريقي لإحراز الحكم الواقعي.

الدليل الثاني(1): إن مقتضى الامتنان هو رفع ما يأتي الضيق منه، وليس ذلك متحقق في الحكم الواقعي؛ إذ لا ضيق منه وإنما الضيق من الأمر بالاحتياط، وعليه فليس رفع التكليف المجهول منةً كي يرفع بحديث الرفع.

وأشكل عليه: بأنّ رفع الواقع قد يكون منةً على العباد، وأثره نفي وجوب الاحتياط، وبعبارة أخرى: صحيح أنه لا تنحصر المِنّة برفع الواقع، لكن قد تكون المِنّة برفعه.

الدليل الثالث: إن قوله: «ما لا يعلمون» أي ما لا يعلمونه، وهو قرينة على وجود شيء لم يُعلم.

وفيه: استعمال ما لا يعلمون لا ينحصر في ذلك، بل من موارده عدم

ص: 51


1- نهاية الأفكار 3: 214؛ مقالات الأصول 2: 165.

وجود شيء، كما في قوله تعالى: {أَتُنَبُِّٔونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَٰوَٰتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ}(1)،

ولا ظهور في أحدهما.

وأما الاستدلال بوحدة السياق - كما في نهاية الأفكار(2)

- بأن الرفع في سائر الفقرات ادّعائي فكذلك في «ما لا يعلمون»! فقد مرّ البحث فيه.

وأما لزوم الرفع الواقعي للتصويب فسيأتي الجواب عنه، وأما لزوم أخذ العلم بالحكم في موضوعه مما يستلزم الدور، فقد مرّ الكلام عنه في بحث التوصلي والتعبدي.

القول الثاني: كون الرفع واقعياً، ولا بد من تبيين المراد؛ لأن القائلين به ذاهبون إلى اشتراك التكليف بين الجاهل والعالم وإلى بطلان التصويب.

فنقول: إن مرادهم ارتفاع الحكم الفعلي واقعاً مع ثبوت التكليف الإنشائي على الجميع، فلا رفع للاقتضاء لأنه أمر تكويني غالباً، ولا رفع للإنشاء لأن رفعه يستلزم التصويب، ولا رفع للتنجّز لأنه لا تنجّز على الجاهل حتى في الرفع الظاهري؛ إذ الجاهل لا يعاقب.

إن قلت: وماذا عن محذور الدور أو ملاكه أو الخلف؟

قلت: لا يلزم ذلك؛ لعدم تعليق أصل الحكم على العلم، بل فعليته ارتبطت به، كما لا دور في تعليق التنجز على العلم.

وعليه فإن إطلاق حديث الرفع يتكفل برفع الفعلية بعد عدم المحذور العقلي فيه، ويترتب عليه ثمرة هامة هي عدم وجوب القضاء أو الإعادة لو

ص: 52


1- سورة يونس، الآية: 18.
2- نهاية الأفكار 3: 214.

انكشف له الواقع في ما لو أتي بالفعل من دون جزئه أو شرطه؛ إذ تطابق فعله مع المأمور به الواقعي، وهو يقتضي الإجزاء، كما لا قضاء عليه لو لم يأت بأصل العمل سواء قلنا بأن القضاء تابع للأداء أم بأمر جديد؛ وذلك لعدم ثبوت تكليف واقعي عليه.

ويرد عليه(1): بأنه لو توقفت الفعلية على العلم...

فإن كان المراد أن العلم بالفعلية سبب لها، فهذا دور.

وإن كان المراد أن العلم بالإنشاء سبب للفعلية، فهذا غير صحيح، لاستلزامه إمّا تغاير المجهول والمرفوع وهو خلاف الظاهر، وإمّا عدم الفعلية أبداً!، أما الأول فلأنّ المعنى: إن جهلت بالإنشاء ارتفعت الفعلية، وإن علمت به ثبتت، وأما الثاني: فلأن العلم بالتكليف الإنشائي لا يوجب شيء في ذمة المكلّف، وبعبارة أخرى: العلم بالحكم الإنشائي لا يقلبه فعلياً، فقبل العلم ليس بفعلي حسب المفروض، وبعده كذلك حيث إن العلم لا يغيّر الواقع!

المطلب الثالث: الرفع في الأحكام غير الإلزامية

1- أما على الرفع الواقعي، فهنا قولان:

الأول: عموم الرفع لها، وقد يستدل له بإطلاق الموصول، ولو فرض عدم الإطلاق فالملاك جارٍ، وقد يؤيّد بقوله (علیه السلام) : «أن القلم يرفع عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ»(2)

ص: 53


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 8: 369-372.
2- الخصال 1: 93؛ وسائل الشيعة 1: 45.

فالرفع فيهم واقعي عام لجميع التكاليف.

الثاني: عدم شمول الرفع لها؛ لعدم صدق الرفع على ما لا ثقل فيه.

ويرد عليه: صغرىً: بأنها ثقيلة على المكلف حتى مع عدم كونها إلزامية، لشعوره بالحرج من مخالفة محبوب المولى أو مكروه حتى وإن لم يصل إلى حدّ الإلزام.

وكبرىً: بما مرّ من أنه لا دليل على أخذ الثقل في الرفع، وبثبوت المنة برفع الأحكام حتى غير الإلزامية.

2- وأما على الرفع الظاهري، فقولان أيضاً:

القول الأول: شموله للتكاليف الضمنية دون الاستقلالية.

أمّا عدم شموله للتكاليف الاستقلالية، فللغويته؛ إذ لا أثر للرفع فيها إلاّ رفع الاحتياط، ولا شك في عدم وجوبه في التكليف غير الإلزامية المعلومة فضلاً عن المجهولة، كما لا شك في حسنه في المجهولة.

إن قلت: رفع التكليف الذاتي في الظاهر لا ينافي ثبوت الاستحباب بالعنوان العرضي أي بالاحتياط.

قلت: لا يترتب على هذا التفريق ثمرة عقلائية، وبذلك لا ترتفع اللغوية، فتأمل.

وأمّا شموله للتكاليف الضمنية، فلثبوت ثمرة للرفع، وذلك برفع الجزئية أو الشرطية، وثمرة ذلك صحة العمل من دونها، وعدم التشريع في الإتيان بالفاقد بقصد الأمر، لكن لا يخفى اختصاص هذا بالمستحبات دون المكروهات.

ص: 54

إن قلت: الشك في الجزئية أو الشرطية مسبّب عن الشك في الأمر بالجزء أو الشرط، ومع ثبوت الاستحباب لا شك في الجزئية أو الشرطية ليرفعان بحديث الرفع، ومع عدم ثبوته فالأصل عدمه، فلا تصل النوبة إلى الأصل المسبّبي، برفع الجزئية أو الشرطية.

قلت: جريان الأصل السببي مشكل؛ لأن أصل العدم مرجعه إلى الرفع والبراءة، وعلى فرض جريانه فلا مانع من جريان الأصل المسببي إذا كان متوافقاً مع الأصل السببي على بعض الأقوال، هذا مضافاً إلى ما قيل: من أن عدم الجريان في ما لو كانت السببية شرعية، وأما لو كانت عقلية مع عدم التنافي بينهما فلا محذور من جريانهما، فتأمل.

القول الثاني: جريان الرفع في ما لو كان الجزء أو الشرط مما يكون في الطبيعة المشتركة بين الواجب والمستحب كالاستعاذة قبل قراءة السورة؛ وذلك لجريان الرفع في الواجب، وباشتراك طبيعته مع المستحب نعلم بعدم جزئيته أو شرطيته فيه، بخلاف ما كان خاصاً بالمستحب كقراءة سورة معينة في نافلة خاصة.

وأورد على الأول: في مرحلة الظاهر يتم التفكيك ولا مانع منه، كما في استصحاب القصر والتمام في المحل الواحد المشكوك كونه حدّ الترخص، وكاستصحاب طهارة الماء ونجاسة اليد في إدخال اليد المتنجسة في الماء المشكوك كريته.

وعلى الثاني: بأنه إن كان الغرض امتثال أمر المولى ونسبة العمل إليه، فذلك ممكن بحديث الرفع، حيث يتم رفع الجزئية أو الشرطية، وبذلك

ص: 55

يكون المأمور به هو المتبقى، كما مرّ.

المبحث الثالث: في فقه رفع النسيان
اشارة

وفيه مطلبان:

المطلب الأول: نسيان الجزء أو الشرط في العبادة

1- قد يقال: بعدم الصحة - مطلقاً سواء استوعب النسيان تمام الوقت أم لا - واستدل له بأدلة، منها(1):

الدليل الأول: ما مرّ من أن الرفع ليس بمعنى الوضع، فلا يدل الرفع على وضع الجزء أو الشرط، وحينئذٍ فلا يتحقق المركب؛ لأنه عدم عند عدم جزئه أو شرطه، وأما ما تبقى فلم يكن مأموراً به ليكون مُجزياً!

وفيه: ما مرّ، مضافاً إلى أن نسيان الجزء أو الشرط يلازم نسيان الجزئية أو الشرطية؛ لعدم تعقل تذكر أحدهما مع نسيان الآخر، وبرفع الجزئية أو الشرطية تكون الماهية المأمور بها هي ما تبقى.

اللهم إلاّ أن يقال: إن ذلك ظاهري لا واقعي، ولا إجزاء للمأمور به بالأمر الظاهري عن الواقعي.

الدليل الثاني: ليست الصحة والإجزاء من الآثار الشرعية، بل هما عقليان؛ لأن الصحة بمعنى التمامية وهي انتزاعية من واجدية الشيء لكل ما اعتبر فيه، والإجزاء بمعنى مطابقة المأتي به للمأمور به، وحديث الرفع إنما يرفع الآثار الشرعية أو يرفع الشيء باعتبار آثاره الشرعية.

ص: 56


1- الثلاثة الأولى، فوائد الأصول 3: 353، والأخيرين، نهاية الأفكار 3: 218؛ مقالات الأصول 2: 293.

وفيه: كفاية كون المرفوع شيئاً شرعياً من غير حاجة إلى كونه ذا أثر شرعي، فرفع وجوب الجزئية - وهي أمر شرعي - كافٍ في صحة الرفع الشرعي، نظير ما يذكر في الاستصحاب بكفاية كون المستصحب أمراً شرعياً.

هذا مضافاً إلى كفاية رفع الآثار العقلية برفع منشئها الشرعي.

الدليل الثالث: إن رفع السورة - مثلاً - إنما هو بلحاظ رفع الأثر وذلك يقتضي عدم الإجزاء وفساد العبادة، وهذا ينافي الامتنان وينتج عكس المقصود.

وفيه: ما مرّ من أن المرفوع الجزئية أو الشرطية أو وجوب الجزء أو الشرط، وبذلك تتحقق ماهية المأمور به من دونهما، فيكون أثر الرفع هو صحة العبادة، والإجزاء، بناءً على كون الرفع واقعياً.

الدليل الرابع: إن مقتضى رفع النسيان في هذه الأمور إنما هو رفع التكليف الفعلي عن الجزء والشرط المنسيّين، ويلزمه بمقتضى الارتباطية سقوط التكليف عن البقية أيضاً مادام النسيان، إلاّ أنه بعد النسيان تقتضي المصلحة القائمة بالمركب إحداث تكليف بالإتيان.

وأورد عليه: أولاً: ما مرّ من أن حديث الرفع يرفع الجزئية والشرطية فلا يكون المنسي جزءاً أو شرطاً من هذا المصداق من المركب، فيبقى الأمر بالباقي لإطلاق دليله.

وفيه: إن الرفع ظاهري، فسقوط الجزء أو الشرط ظاهري ولا إجزاء للظاهري عن الواقعي، كما مرّ نظير في «ما لا يعلمون».

ص: 57

وثانياً: إنه لا امتنان في الرفع المقيّد بحالة النسيان؛ إذ النتيجة حينئذٍ واحدة سواء رفع أم لم يرفع وهي عدم ثبوت شيء عليه في الظاهر مادامه ناسياً، ولزوم الإعادة أو القضاء عليه حين التذكر، وعليه فيكون هذا الرفع لغواً، ورفع اللغوية إنما يكون بترتب الأثر حال التذكر بعدم القضاء أو الإعادة؛ إذ لا أثر آخر.

وثالثاً: إنه مع انتهاء الوقت لا دليل على بقاء الملاك الذي كان سبباً للتكليف في الوقت. نعم، في الوقت يمكن القول ببقاء الملاك لا حدوث ملاك جديد، فتأمل.

الدليل الخامس: إنه أصل مثبت؛ إذ لا أثر شرعي لنسيان الجزء أو الشرط، بل الأثر من وجوب الإعادة أو القضاء مترتب على مخالفة المأتي به للمأمور به وهو لازم النسيان أو ملازمه عقلاً.

وفيه: إن وجوب الجزء أو الشرط، وكذا الجزئية والشرطية أمور شرعية، فتُرفع بحديث الرفع، ولا نحتاج إلى أثر آخر شرعي كي نرفعه.

2- وقد يقال: إن العمل باطل لو كان النسيان غير مستوعب لتمام الوقت؛ لأن المكلف لم يأت بالماهية التامة، والأمر كان بإتيانها تامة في الوقت، كما عن المحقق النائيني(1).

وأورد عليه(2): بأنه بناءً على حكومة دليل الرفع على أدلة الأجزاء والشرائط فلا فرق في استيعاب النسيان لكل الوقت أو عدم استيعابه؛ وذلك

ص: 58


1- أجود التقريرات 3: 304.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 9: 22.

لانقلاب التكليف، فالناسي أتى بتكليفه وهو يقتضي الإجزاء، ولا دليل على تحقق أمر جديد بالواجد؛ لأن ماهية العبادة أمر مشكّك، وقد أتى المكلّف بفرد منها كانت وظيفته.

المطلب الثاني: نسيان السبب أو الشرط في المعاملة

فهل يجري حديث الرفع، و به يتمّ تصحيح المعاملة!

1- فقد يقال: ببطلان العقد فلا يترتب عليه أثر، واستدل له:

أولاً(1): بأن الحديث يدل على الرفع لا الوضع، فلا يثبت أمراً لم يكن، مثلاً رفع العقد بالفارسية لا يقتضي وضع العقد بالعربية بناءً على اشتراطها، والشرطية ليست منسيّة كي يكون الرفع بلحاظها، وما وقع خارجاً ليس مصداقاً للعقد الصحيح!

وأورد عليه: بما مرّ، وبأن نسيان الشرط يلازم نسيان الشرطية.

وثانياً(2): إن الرفع خلاف الامتنان، فإن عدم جريان الرفع فيها إنما هو من جهة اقتضائه للوضع الذي هو التكليف بالوفاء بالفاقد ومثله خلاف الامتنان في حق المكلّف.

وفيه: بأن إمضاء العقد ليس خلاف الامتنان، حيث إن المكلّف هو بنفسه قد التزم به، مضافاً إلى أنه قد يكون للعقد فوائد له وفي بطلانه ضرر عليه فعدم رفعه خلاف المنة حينئذٍ.

2- وقد يفصّل بين نسيان أصل العقد أو الإيقاع أو نسيان جزء أو شرط

ص: 59


1- فوائد الأصول 3: 356.
2- نهاية الأفكار 3: 221.

مقوّم للماهية كنسيان القبول، وبين نسيان جزء أو شرط غير مقوّم للماهية، أما الأول: فلعدم وقوع عقد أو إيقاع خارجاً كي نصححه بحديث الرفع، مثلاً لا يوجد عقد حتى نقول باندراج المورد في قوله تعالى: {أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ}(1)،

وأما الثاني: فلتحقق مسمّى العقد أو الإيقاع خارجاً، غاية الأمر فقدانه لجزء أو شرط شرعي، فيمكن جريان حديث الرفع، فيندرج هذا العقد في العموم أو الإطلاق الفوقاني.

المبحث الرابع: في فقه رفع الإكراه
اشارة

وفيه مطالب:

المطلب الأول: في معنى الإكراه وكون رفعه واقعياً

الإكراه إنما هو بمعنى تهديد الإنسان بضررٍ لكي يفعل أمراً لا تطيب نفسه به، فلا إكراه في ما طابت نفسه به حتى لو هدّده، كما لا إكراه في ما لو لم يكن المتوعد عليه ضرراً، ولا يخفى أنه يصدق الإكراه أحياناً على التهديد بتفويت نفع إذا اعتبره العرف ضرراً، كما لو توعدّه بإغلاق وسيلة كسب عيشه إن لم يفعل ما لا تطيب نفسه به مثلاً.

ولا يخفى أن الرفع فيه واقعي، وكذلك في سائر العناوين سوى ما لا يعلمون، وسوى النسيان على احتمال؛ وذلك لأنه لا معنى للرفع الظاهري إلاّ في حالة الجهل أو النسيان، ولذا لا تكليف ظاهري إلاّ في الحالتين، وأما مع العلم بالتكليف الواقعي فلا معنى لجعل تكليف ظاهري مماثل أو مضاد؛ لأن ظرف أو موضوع الحكم الظاهري الجهل، فعليه إن الرفع في حالة

ص: 60


1- سورة المائدة، الآية: 1.

الإكراه وأخواته واقعي بتبدل موضوع التكليف فيكون نظير التيمم حين فقدان الماء.

المطلب الثاني: شمول رفع الإكراه للعبادات والمعاملات

ويدل عليه إطلاق الحديث، بل وإطلاق قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنُّۢ بِالْإِيمَٰنِ}(1)،

ويؤيده فتاوى الفقهاء في المسائل الجزئية.

نعم، قد يكون في بعض المسائل دليل أخص - ولو ارتكاز المتشرعة - يخصص رافعية الإكراه، كما لو هدده بقتله أو مصادرة دينار منه إن لم يقتل فلاناً.

وأما المحقق العراقي فقد خص رافعية الإكراه بالمعاملات؛ وذلك لأن الإكراه على الشيء يصدق بمجرد عدم الرضا وعدم طيب النفس بإيجاده، ومن المعلوم بداهة عدم كفاية ذلك في تسويغ ترك الواجب ما لم ينته إلى المشقة الشديدة الموجبة للعسر والحرج، فضلاً عن الاقتحام في المحرمات التي لا يسوّغها إلاّ الاضطرار(2).

وحاصله: إن الرافع للتكليف الإلزامي هو العسر أو الحرج أو الاضطرار لا الإكراه، ولعل دليله الإجماع، وعليه فتنحصر رافعية الإكراه في المعاملات!

وفيه: إطلاق الأدلة، وعدم ثبوت الإجماع، بل في مسائل مختلفة أفتى الفقهاء برافعية الإكراه كإكراه الزوجة في شهر رمضان على المباشرة فقد أفتوا بصحة صومها مطلقاً من غير تفصيل بين عروض تلك العناوين.

ص: 61


1- سورة النحل، الآية: 106.
2- نهاية الأفكار 3: 224.
المطلب الثالث: الإكراه بترك الجزء أو الشرط أو فعل القاطع أو المانع في العبادة

كما لو أكره على قول آمين، أو على لبس جلد غير مأكول اللحم في الصلاة.

والظاهر إطلاق الدليل، وعليه فتصح العبادة بشرط صدق الاسم على فعله؛ وذلك لأن الرفع واقعي في الإكراه، فبه ترتفع الجزئية أو الشرطية أو القاطعية أو المانعية، فيكون المأمور به هو ما تبقى من غير مانع ولا قاطع، كما مرّ نظيره.

أما ما قيل: من أن ترك الجزء أو الشرط لا أثر شرعي له فلا يتحقق الرفع، كما أن البطلان ليس أثراً شرعياً، بل هو عقلي؛ إذ عدم مطابقة المأتى به للمأمور به موجب للبطلان عقلاً!

ففيه: أنه يكفي في صحة الرفع تعلق الإكراه بالترك، وتعلق الترك بالفعل، وللفعل أثر شرعي، فيتم رفع الإكراه للترك باعتبار هذا الأثر الشرعي، فكأنه لم يترك السورة أو كأنه لم يلبس جلد غير مأكول اللحم، وهذا نظير ما لو كان لدخول الشهر أثر، فيستصحب عدم دخول الشهر ليرفع ذلك الأثر، وليس هذا بأصل مثبت، كما لا يخفى!

المطلب الرابع: في تعلق الإكراه بالأسباب وبعدمها

1- فلو أكره على إيجاد السبب الصحيح في نفسه، كما لو أكرهه على الطلاق أو النكاح، فلا إشكال في شمول حديث الرفع له. نعم، في الإيقاعات يقع السبب باطلاً، وفي المعاملات يكون مراعى باستمرار عدم الرضا أو بالرد فلو رضي بعد ذلك صحّ، والتفصيل في الفقه.

2- أما لو أكرهه على إيجاد السبب الباطل في نفسه، كما لو أكرهه على

ص: 62

بيع الخمر فلا رفع؛ إذ الرفع لا يجعل اللاسبب سبباً.

3- وكذا لو أكرهه على عدم السبب؛ إذ لا يوجد سبب حتى يتم تصحيحه بالعموم الفوقاني، كما لو أراد التزوج بامرأة فأكرهه على عدم إجراء العقد، فإن هذا الإكراه لا يجعل اللاعقد عقداً ليدخل في عموم قوله تعالى: {أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ}(1)

ونحوه.

4- وهكذا لو أكرهه على ترك جزء أو شرط من السبب مع كونه مقوماً للماهية كما لو أكرهه على ترك القبول في العقد، فلم يتحقق عقد حتى يتم تصحيحه بالرفع.

5- وأما لو أكرهه على ترك جزء أو شرط من السبب غير مقوّم للماهية، فلا يبعد إمكان تصحيح المعاملة بحديث الرفع، بمعنى رفع الجزئية والشرطية وإدخال ما وقع خارجاً في عموم أو إطلاق وجوب الوفاء ونحوه.

المطلب الخامس: في الإتيان بالعمل مع انطباق عنوان الإكراه

كما لو أكرهه على ترك الصلاة فأتى بها، فهل تقع صحيحة؟

ولا يخفى أن البحث لا يرتبط باجتماع الأمر والنهي في ما لو كان المُهدد عليه مما يجب التجّنب عنه؛ وذلك لعدم انطباق العنوانين على العمل الواحد؛ إذ الحرمة إنّما هي لتحمل ذلك الضرر أو إيقاع النفس فيه لا في فعل الصلاة مثلاً!

فإن قلنا باشتراط صحة العبادة بالأمر، فلا أمر هنا لارتفاع الوجوب بحديث الرفع، وعليه فلا تكون العبادة صحيحة.

ص: 63


1- سورة المائدة، الآية: 1.

وإن قلنا بكفاية وجود الملاك في صحتها، وقعت العبادة صحيحة إن أحرزنا الملاك، لكن كيف يمكن إحرازه بعد سقوط الأمر؟

ولإحرازه ذكرت وجوه، ومنها:

الوجه الأول: إنه لا امتنان في رفع ما لا مقتضي له، لانتفاء الحكم حينئذٍ فلا تصل النوبة إلى رفعه مِنّةً.

إن قلت: إنّه لو كان مقتضي فلا معنى للرفع منةً؛ لأن في ذلك تفويت لمصالح العبيد.

قلت: لا ينحصر الملاك في مصلحة المتعلّق للعباد، بل قد تكون هناك ملاكات أخرى كمصلحة التسهيل، ولا بأس بأن يمنّ المولى برفع حكم في متعلقه مصلحة للعباد مراعاةً للملاكات الأخرى، كما في قوله (علیه السلام) : «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك»(1).

الوجه الثاني: عدم صحة استعمال كلمة الرفع لو لم يكن هنالك ملاك، فحيث إن للعمل ملاك يصدق رفع المولى للحكم.

وفيه: أنه يصح إطلاق الرفع باعتبار وجود حكم مماثل في الأمم السابقة، أو بلحاظ أول الشريعة، أو بلحاظ الإثبات لا الثبوت.

وعليه فلا طريق لإحراز الملاك في ما لو أكره على ترك عبادة فأتى بها.

ولا يخفى أن أكثر ما ذكر في الإكراه جارٍ في الاضطرار وعدم الإطاقة أيضاً.

كما لا يخفى أنه لو كان جاهلاً بتحقق عنوان الإكراه والاضطرار وعدم

ص: 64


1- وسائل الشيعة 2: 19.

الإطاقة وأتى بالعمل صحّ، أما في الإكراه فلعدم تحقق عنوانه حين الجهل لانتفاء عدم طيب النفس حينئذٍ، وأما في الاضطرار وعدم الإطاقة فلأنّ الرفع خلاف الامتنان، فالأمر باقٍ بحاله من غير رفع له، ونظير ذلك رفع الضرر لوجوب الصوم فيصح لو لم يكن عالماً به.

المطلب السادس: المرفوع الإكراه المطلق

إذا أكره على ترك السبب أو ترك الجزء أو الشرط المقوّم للماهية، كترك القبول في العقد، فلا إشكال في عدم ترتب الآثار الوضعية المتوقفة على تحقق السبب؛ وذلك لأن معنى الرفع ليس الوضع كما مرّ، كما لا يوجد عام فوقاني نتمسك به لترتيب تلك الآثار.

وإذا أكره على ترك الجزء أو الشرط غير المقوّم للسبب كالإكراه على عدم التسمية في الذبح، فلا محذور في القول برفع الجزئية أو الشرطية أو المانعية بحديث الرفع.

ولا يخفى أن الموضوع في رفع الإكراه هو الإكراه المطلق لا الإكراه المقيّد بوقت خاص، فالإكراه على الترك بما لا يضطر إليه ليس داخلاً في الموضوع، كما لو أكرهه على عدم التسمية مع عدم إكراهه على أصل الذبح وإمكان تأخيره له.

وأما لو أكرهه على السبب الصحيح - في حد نفسه مع قطع النظر عن الإكراه - فلا أثر له إن لم يرض، فإن رضي بعد ذلك فلا يجري حديث الرفع؛ لأن الرفع حينئذٍ خلاف الامتنان.

إن قلت: يستلزم ذلك انفكاك السبب عن المسبب.

قلت: أولاً: لو قلنا بالكشف فلا انفكاك، وحتى على النقل لا انفكاك؛

ص: 65

لأن السبب يتحقق بجزئه الأخير الذي هو الرضا وما سبقه كانت معدّات.

وثانياً: استحالة الانفكاك إنما هي في التكوينيات، وأما في الاعتباريات فلا محذور؛ لأن السبب الحقيقي هو اعتباره لا الإنشاء.

المبحث الخامس: تقدّم دليل الرفع على أدلة الأحكام

غير خفي أن دليل الرفع مقدّم على أدلة الأحكام الأولية مطلقاً، مع أن النسبة العموم من وجه، وقد قيل في سبب التقدم وجوه:

منها: تحقق تعارض العامين من وجه، وترجيح حديث الرفع بعمل الفقهاء.

ومنها: التعارض والتساقط والرجوع إلى سائر أدلة البراءة، والتي يتوافق مؤداها مع حديث الرفع.

ومنها: تقديم حديث الرفع بدلالة الاقتضاء؛ لأن تقدمها عليه يستلزم لغويته.

ومنها: الحكومة.

وسيأتي تفصيل البحث في هذه الأقوال.

وقد ذهب المحقق النائيني(1):

إلى أن الحكومة هنا في عقد الوضع، وأن الحكومة في لا ضرر ولا عسر ولا حرج في عقد الحمل.

أما الأول: فلأنه لا يمكن طروّ الإكراه والاضطرار والخطأ والنسيان على نفس الأحكام، بل إنما تعرض على موضوعاتها ومتعلقاتها، فحديث الرفع يوجب تضييق دائرة موضوعات الأحكام، نظير: «لا شك لكثير الشك»، و«لا

ص: 66


1- فوائد الأصول 3: 347.

سهو مع حفظ الإمام».

وأما الثاني: فلأن الضرر والعسر والحرج من العناوين الطارئة على نفس الأحكام، فإن الحكم قد يكون ضررياً أو حرجياً وقد لا يكون.

ويرد على الأول: أن الخطأ والنسيان قد يعرضان على الحكم، لا بمعنى خطأ المولى أو نسيانه، بل بمعنى خطأ أو نسيان العبد في الحكم، فقد ينسى أن هذا المائع خمر أو ينسى حكمه، أو يخطأ في الصلاة أو في حكمها.

وعلى الثاني(1): بأن هذه الثلاثة كما تطرأ على الحكم كذلك قد تطرأ على الموضوع، بل يمكن دعوى أن هذه العناوين تطرأ على الموضوعات الخارجية أولاً وبالذات ثم تطرأ على الأحكام ثانياً وبالعرض لا بالتبع، فالفعل يوصف بأنه حرجي ثم يتصف الوجوب بالحرج، وإلاّ فلا حرج في نفس الحكم. نعم؛ بما أن الحكم يوقع المكلف في الحرج يمكن أن نقول إنه حرجي.

والحاصل: إن ظاهر أدلة العناوين الثانوية كونها ناظرة إلى عقد الوضع، إلاّ في «رفع ما لا يعلمون» حيث ظهوره في رفع حكم لا يعلمونه، لا في رفع موضوع لا يعلمون عنوانه، وهكذا في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٖ}(2)،

حيث إن الدين هو الأحكام.

الحديث الثاني: حديث الحجب

فعن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال: «ما حجب الله عن العباد فهو موضوع

ص: 67


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 9: 11.
2- سورة الحج، الآية: 78.

عنهم»(1).

ولدلالة الحديث على البراءة تقريران:

التقرير الأول: هو أن الموصول بمعنى الحكم، والحجب بمعنى يشمل عدم العلم، وبناءً على دلالة الرواية على البراءة فلا إشكال في شمولها للشبهات الحكمية لظهورها في ذلك من غير سياق يصرفها عن ظهورها، عكس ما قيل في حديث الرفع.

ولكن قد أشكل في دلالتها بأمور، منها:

الإشكال الأول: إن حجب الله تعالى ظاهر في عدم تشريع الحكم من الله تعالى لمصلحة في إخفائه أو مفسدة في إظهاره، وأما مورد البراءة فهو تشريع الحكم مع عدم وصوله إلى المكلف بفعل الظالمين.

وأجيب: بأنه نعم في مورد البراءة لم يكن حجب من الله بما أنه مشرّع، لكن كان حجب باعتبار كونه الخالق، فإن جميع ما في الكون حتى أفعال الناس الاختيارية تنسب إلى قضائه وقدره؛ إذ لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين!

وردّه المحقق الإصفهاني(2):

بأنّ المسبَّبات بما هي موجودات محدودة - أي مع ملاحظة الماهية - لا تنسب إلاّ إلى أسباب هي كذلك، وبما هي موجودات بقصر النظر على طبيعة الوجود المطلق - أي مع عدم ملاحظة الماهية - تنسب إلى الوجود المطلق. نعم، في الفعل المحدود لو كان الأثر

ص: 68


1- الكافي 1: 164.
2- نهاية الدراية 4: 60.

خارقاً للعادة، أو كان الفعل قُربيّاً صحّ الإسناد إلى الله تعالى، كقوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ}(1)،

وكقوله: {وَيَأْخُذُ الصَّدَقَٰتِ}(2)،

وفي ما نحن فيه ما اختفى إنما اختفى بفعل الظالمين ولذا ينسب الكتمان إليهم كما في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَٰتِ وَالْهُدَىٰ مِنۢ بَعْدِ مَا بَيَّنَّٰهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَٰبِ أُوْلَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّٰعِنُونَ}(3).

وفيه: أن الضلال كما نسب إلى المُضلِّين كذلك نسب إليه تعالى في آيات كثيرة كقوله: {مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ}(4)

و {وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ}(5).

إن قلت: ما هي الضابطة في نسبة أفعال الناس إلى الله تعالى مع أنه لا يصح نسبة بعضها كالأكل والشرب حتى لو كان بإلجاء أو إكراه، مع صحة نسبة بعض الأفعال حتى لو كانت باختيارهم كالإضلال؟

قلت: بعض الأفعال لم تؤخذ فيها المباشرة كالبيع والشراء فلذا يمكن نسبتها إلى السبب القريب والبعيد، بخلاف بعضها الآخر الذي أخذت فيها المباشرة كالأكل والشرب، ويعرف ذلك من الاستعمالات.

إن قلت: في إجمال النص أو تعارض النصين أو في المسائل المستحدثة ليس الحجب بفعل الظالمين، بل بسبب المولى فيشملها حديث الحجب!

ص: 69


1- سورة الأنفال، الآية: 17.
2- سورة التوبة، الآية: 104.
3- سورة البقرة، الآية: 159.
4- سورة النساء، الآية: 88.
5- سورة الشعراء، الآية: 99.

قلت: بل بسببهم أيضاً؛ إذ لولا التقية والغيبة لما حدث إجمال أو تعارض وعلى فرض حدوثه لكان يمكن رفعه بملاقاة الإمام (علیه السلام) .

إن قلت: إن حجب الله غير مراد لوضوح أن العباد غير مسؤولين عنه فلا يحتاج إلى تنبيههم بأنه موضوع عنهم.

قلت: بل غير واضح؛ وذلك لذهاب جمع على أصالة الحضر؛ لأنه تصرف في ملك الغير من غير إذنه فلا بد من الاحتياط عقلاً، فكان البيان بترخيص المولى الاقتحام في ملكه.

الإشكال الثاني: إن «العباد» جمع محلّى باللام وهو يفيد العموم، وموارد البراءة غير محجوبة عن الجميع لا أقل من معرفة حجة الله بها، ولو شككنا في أنه محجوب عن الكل أم البعض لم يمكن التمسك به للبراءة؛ لأنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية!

وفيه(1): أن مناسبة الحكم والموضوع تقتضي كون المراد العموم الانحلالي، أي ما حجب الله علمه عن كل فرد فرد؛ إذ العرف يرى أن ملاك الوضع هو الحجب فكل من حجب عنه فهو موضوع عنه، ولا يرتبط بالحجب أو عدم الحجب عن مكلف آخر.

الإشكال الثالث: ما في الوسائل: «من أنه مخصوص بالوجوب، وأنه لا يجب الاحتياط بمجرد احتمال الوجوب، بخلاف الشك في التحريم فيجب الاحتياط، ... وقوله (علیه السلام) : «موضوع» قرينة ظاهرة على إرادة الشك في

ص: 70


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 9: 45.

وجوب فعل وجودي لا في تحريمه!»(1).

ولعل المراد أن الواجب فعل ثابت في الذمة فيمكن وضعه عن المكلف، أما الحرام فليس ثابتاً في الذمة كي يصدق عليه الوضع عنهم، بل هو مردوع ومزجور عنه!

وفيه: إن الموصول هو الحكم وليس الفعل، والحكم يوضع على الذمة ويوضع عنها سواء كان واجباً أم حراماً.

التقرير الثاني: ما ذكره المحقق الإصفهاني وهو: «ليس الوضع بمعنى الرفع، بل الوضع بمعنى الجعل والإثبات، فإن تعدّى بحرف الاستعلاء كان المراد منه جعل شيء على شيء وإثباته عليه، وإن تعدى بحرف المجاوزة كان المراد صرفه عنه إلى جانب، فقد يكون ثابتاً حقيقة فصرفه عنه يكون مساوقاً للرفع، وقد لا يكون ثابتاً، بل مقتضيه ثابت، فيتمحّض في الصرف والجعل عنه إلى جانب، فإذا كان مقتضي جعل الحكم مقتضياً لإثباته على العباد ولكن مصلحة التسهيل أو مصلحة أخرى منعت من أمره بتبليغه وتعريفه فقد صرف عنهم وجعل عنهم إلى جانب، فحينئذٍ لا معارض لظهور الحجب المستند إليه تعالى حتى يلتزم بالحجب بالمعنى الثاني، فتدبّر»(2).

والمعنى: أن الوضع عنهم فرع الوضع عليهم، فلا يشمل ما سكت الله عنه؛ لأنه لم يكن ثابتاً على المكلف حتى يوضع عنه.

ص: 71


1- وسائل الشيعة 27: 163.
2- نهاية الدراية 4: 62.

وأشكل عليه(1) إنه يصدق (الوضع عنه) في ما لو صدر الحكم الإنشائي وتحقق المقتضي لإيصال الحكم إلى المكلفين، لكن الشارع صرف التكليف عنهم، ولا يلزم في تحقق مفهوم الوضع حصول البيان والإعلام، فتأمل.

الحديث الثالث: حديث السعة

فعن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه قال: «الناس في سعة ما لم يعلموا»(2).

ودلالته على البراءة واضح، إلاّ أنه لا بد من ملاحظة النسبة بينه وبين أدلة الاحتياط، وقد قيل في وجه الجمع أمور:

1- منها: التعارض، وحيث إن السعة نص في الجواز وأوامر الاحتياط ظاهرة في الوجوب فلا بد من حملها على الاستحباب، وإن لم يكن الجمع الدلالي فلا بد من ترجيح أدلة الاحتياط؛ لأنها أكثر، وأصح سنداً، مع إرسال هذا الحديث.

2- ومنها: الحكومة أو الورود؛ إذ هو مقيد بعدم العلم، وهي علم بالحكم الظاهري.

3- ومنها: ما في الكفاية(3): من أنه إن كان وجوب الاحتياط طريقياً كان بينهما تعارض، وإن كان وجوبه نفسياً كانت أدلة الاحتياط واردة على دليل السعة.

ص: 72


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 9: 49.
2- مستدرك الوسائل 18: 20.
3- إيضاح كفاية الأصول 4: 128-129.

بيانه: أنه بناءً على الطريقيّة فإنا لا نعلم بالواقع فيكون مجرى أدلة الاحتياط هو الجهل بالواقع، وكذلك مجرى دليل السعة، فيقع بينهما تعارض.

وأما بناءً على النفسيّة فإنا نعلم بالتكليف الذي هو وجوب الاحتياط فلا يبقى موضوع لدليل السعة الذي هو في صورة عدم العلم.

وأورد عليه: أولاً: بأنه على الطريقيّة إن كانت (ما) في قوله (علیه السلام) : «ما لم يعلموا» ظرفية كان معنى الحديث: الناس في سعةٍ في ظرف الجهل، وينتفي الجهل بأوامر الاحتياط التي هي علم بالحكم الظاهري. فلا فرق بين الطريقية والنفسية.

نعم، لو كانت (ما) موصولة صحّ الفرق، حيث إن مفاد حديث السعة بناءً على الطريقية هو أن الناس في سعة من جهة الحكم المجهول، مع أن مفاد أوامر الاحتياط لزوم الاحتياط من جهته فيتعارضان وأما بناءً على النفسية فلا حكم مجهول، بل هو معلوم وهو الاحتياط.

وثانياً: بأن الورود بناءً على الطريقية يستلزم لغوية دليل السعة، حيث لا يبقى له مورد، وعليه فبدلالة الاقتضاء ينتفى الورود ولا يبقى إلاّ التعارض.

وفيه: أنه يبقى مورد لدليل السعة وذلك في الشبهات الموضوعية، حيث لا يجب الاحتياط فيها.

إن قلت: بل تبقى اللغوية إلاّ على القول بانقلاب النسبة؛ وذلك لأن هنا ثلاث أدلة في عرض واحد هي «الناس في سعه...» و«احتط...» و(أدلة جواز الاقتحام في الشبهات الموضوعية)، والأولان متباينان، والثالث يقيّد الثاني،

ص: 73

وبعد التقييد يكون المحصل (احتط في الشبهات الحكمية) وهو أخص مطلقاً من «الناس في سعة» فلا لغوية في دليل السعة حينئذٍ.

لكن حيث لا نقول بانقلاب النسبة فتبقى اللغوية حيث إن دليل السعة ودليل الاحتياط شاملان لجميع الشبهات، ومع حكومة أو ورود دليل الاحتياط ينتفي موضوع السعة فلا يبقى له مورداً فيكون لغواً، من غير فرق بين كون «ما» ظرفية أو موصولة.

قلت: انقلاب النسبة يرتبط بالدلالة اللفظية، حيث إن الأدلة الثلاثة في عرض واحد فتتعارض، وأما اللغوية فهي دليل لبي، وهي بملاحظة العقل المحصلة النهائية من الدليل، وهنا حينما يكون لأدلة الاحتياط حكومة أو ورود على دليل السعة لا تكون لغوية في دليل السعة في المحصلة النهائية، فتأمل.

الحديث الرابع: حديث الإطلاق

فعن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال: «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي»(1).

قال الشيخ الأعظم: «ودلالته على المطلب أوضح من الكل»(2).

وأشكل عليه بأمور، منها:

الإشكال الأول ما في الكفاية(3):

من أنّ دلالته على البراءة تتوقف على كون الورود في قوله (علیه السلام) : «حتى يرد» بمعنى الوصول، فما دام لم يصله فهو

ص: 74


1- وسائل الشيعة 6: 289.
2- فرائد الأصول 2: 43.
3- إيضاح كفاية الأصول 4: 130-131.

مطلق حتى ولو صدر عن الشارع ووصل إلى غير واحد، مع أن هذا المعنى غير مراد؛ وذلك لوضوح صدق الورود على الصدور عن الشارع ولا سيما بعد وصوله إلى غير واحد وقد خفي على من لم يعلم بصدوره.

والحاصل: إن معنى الحديث هو أن الأشياء مباحة حتى ينهي عنها الشارع، وهذا معنى أصالة الإباحة ولا يرتبط بأصالة البراءة.

وعدم العلم بالصدور لا يكفي؛ لأنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

وأجيب عنه: بأجوبة، منها:

الجواب الأول: ما ذكره المحقق الإصفهاني(1):

وحاصله: أن التعبير عن الوصول بالورود تعبير شائع لا ينسبق إلى أذهان أهل العرف غيره، وليس الورود بمعنى الصدور أو ما يساوقه، فإن معنى الورود متعد بنفسه إلى المورود ولمكان التضايف لا يعقل الوارد إلاّ بلحاظ المورود، وليس المورود هنا إلاّ المكلّف مع أن الصدور لا يحتاج إلى طرف، بل هو لازم كما هو واضح. نعم، قد يتعدى بحرف (في) لكن ذلك لا يرتبط بالمورود، بل بمحل الوارد إذا كان الوارد من الأمور التي تحتاج إلى محل كالحكم فيقال وردني حكم في كذا، وقد يتعدى بحرف (على) للدلالة على الاستعلاء على المورود مع عدم لزومها كما يقال: وردني كتاب أو ورد عليّ كتاب.

ولا يخفى أن الاستدلال لا يبتني على التضايف - حتى يقال بأنه دور؛ إذ

ص: 75


1- نهاية الدراية 4: 76.

التضايف مبني على كون الورود بمعنى الصدور مع أن المفروض أن إثباته موقوف على التضايف - ، بل جوهر الاستدلال على الظهور وتتبع موارد الاستعمالات، والتضايف متفرع على هذا الظهور.

الجواب الثاني(1): إن «مطلق» بمعنى الإباحة، والإباحة على أصناف ثلاثة، وتفسير الورود بالصدور على الأول بعيد، وعلى الأخيرين محال.

الأول: الإباحة بمعنى اللاحرج من قبل المولى في قبال الحظر العقلي لكونه عبداً مملوكاً ينبغي أن يكون وروده وصدوره عن رأي مالكه.

وهذا المعنى بعيد عن الحديث؛ لأن حمل الإباحة على الإباحة المالكية قبل الشرع التي يحكم بها عقل كل عاقل غير مناسب للإمام (علیه السلام) المعدّ لتبليغ الأحكام، خصوصاً بملاحظة أن الخبر مروي عن الصادق (علیه السلام) بعد ثبوت الشرع وإكمال الشريعة، خاصة في المسائل العامة البلوى التي يقطع بصدور حكمها عن الشارع فلا فائدة في الإباحة مع قطع النظر عن الشرع.

الثاني: الإباحة الشرعية الواقعية في قبال الحرمة الشرعية الناشئة عن المفسدة الباعثة للمولى على زجره عمّا فيه المفسدة، وهذه الإباحة الواقعية ثابتة لذات الموضوع ناشئة عن لا اقتضائية الموضوع لخلوّه عن المصلحة والمفسدة.

وهذا المعنى محال؛ إذ لا يعقل ورود حرمة في موضوعها، للزوم الخلف من فرض اقتضائية الموضوع المفروض أنه لا اقتضاء، فلا يعقل في موردها التقييد بقوله (علیه السلام) : «حتى يرد فيه نهي».

ص: 76


1- نهاية الدراية 4: 72-76.

لا يقال: لا اقتضائيته من حيث ذاته لا تنافي عروض عنوان عليه يقتضي الحرمة.

لأنا نقول: نعم، إلاّ أن الذي يرد فيه نهي هو ذلك العنوان الذي له اقتضاء الحرمة، لا أن النهي يرد مورد الإباحة، مثلاً الماء مباح والغصب حرام فانطباق عنوان الغصب على الماء لا يقتضي صدق ورود النهي في الماء المغصوب، بل من انطباق العنوان الوارد فيه النهي على مورد الإباحة.

الثالث: الإباحة الشرعية الظاهرية وهي الثابتة للموضوع بما هو محتمل الحرمة والحلية الناشئة عمّا يقتضي التسهيل على المكلّف بجعله مرخصاً فيه.

وهذه الإباحة لا يصح جعلها مغياة أو محدّدة ومقيدة بعدم صدور النهي في موضوعها واقعاً؛ وذلك لأن الإباحة الظاهرية التي موضوعها المشكوك لا يعقل أن تكون مغياة إلاّ بالعلم ولا محددة إلاّ بعدمه، لا بأمر واقعي يجامع الشك وإلاّ لزم تخلّف الحكم عن موضوعه التام، فإنه مع فرض كون الموضوع - وهو المشكوك - موجوداً يرتفع حكمه بصدور النهي المجامع مع الشك واقعاً، وعليه فلا يعقل أن تتقيد إلاّ بورود النهي علي المكلف ليكون مساوقاً للعلم المرتفع به الشك.

وبعبارة أخرى: لغوية التشريع لعدم الأثر فيه، حيث لا نعلم صدور النهي، ولا يمكن التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

ويرد على الأول: إن الإباحة المالكية محل خلاف وليست من الأمور الواضحة، حيث ذهب جمع إلى أصالة الحضر، فليس من البعيد التنبيه على أصالة الإباحة.

ص: 77

وعلى الثاني: إمكان فرض اقتضائية موضوع الإباحة الواقعية، فيكون الحكم بالإباحة الواقعية لأجل مانع عن تأثير المقتضي، وبعد ارتفاع المانع يصدر النهي، فلا خلف ولا انقلاب.

وعلى الثالث: إمكان تحقق العلم الوجداني بعدم صدور النهي، كالموضوعات الجديدة التي نقطع بعدم صدور النهي فيها لعدم وجودها أو لعدم كونها محلاً للابتلاء في زمان الشرع، مضافاً إلى إمكان تحقق العلم التعبدي بعدم الصدور بأصالة عدمه، فتأمل.

الجواب الثالث: دلالة الحديث على البراءة حتى لو كان الورود بمعنى الصدور، حيث يمكن تنقيح الموضوع بأصالة عدم الصدور، فيخرج عن كونه مشكوكاً إلى كونه معلوم عدم الصدور بالعلم التنزيلي، فلا يكون من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

وأورد عليه صاحب الكفاية(1):

بأن الكلام في مجهول الحكم، وهذه الطريقة تجعله معلوم الحكم فلا يرتبط بالبحث.

لا يقال: المهم هو إثبات عدم التكليف ولا فرق في عنوانه.

فإنه يقال: قد لا يجري أصل العدم كما لو صدر نهي وإباحة ولم يعلم المتقدم من المتأخر، فيكون الدليل أخص من المدعى.

الإشكال الثاني: - على دلالة حديث الإطلاق - ما ذكره الحرّ العاملي في الوسائل(2):

من حمله على التقية لموافقته العامة، فإنهم يقولون بحجية

ص: 78


1- إيضاح كفاية الأصول 4: 131-132.
2- وسائل الشيعة 27: 174.

الأصل، فيضعف عن مقاومة ما سبق من أدلة الاحتياط.

إن قلت: مدلول حديث الإطلاق موافق للكتاب والترجيح بموافقته مقدّم على الترجيح بمخالفة العامة.

قلت: أحاديث الاحتياط أيضاً موافقة للكتاب في قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}(1)

وقوله سبحانة: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}(2)،

هذا مضافاً إلى ما سيأتي من عدم المعارضة كي تصل النوبة إلى الترجيح بالمرجحات.

الحديث الخامس: حديث الحل

فعن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال: «كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه» إلى قوله: «والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة»(3).

ودلالته على البراءة واضحة، لكن أشكل عليه بأمور، منها:

الإشكال الأول: إن قوله (علیه السلام) : «بعينه» ظاهر في الشبهة الموضوعية؛ إذ يدل على تقسيم الشيء، ولا تقسيم في الشبهة الحكمية، بل فيها ترديد وعدم علم بالحكم.

إن قلت: إن «بعينه» قيد العلم وتأكيد له، وإنما تأخر لكي يتم الكلام، فالمعنى عدم كفاية الظن ونحوه.

ص: 79


1- سورة البقرة، الآية: 195.
2- سورة الإسراء، الآية: 36.
3- الكافي 5: 313.

قلت: هذا وإن كان محتملاً، إلاّ أن احتمال كونه قيداً للضمير في «أنه» أقوى، ولو فرض تساوي الاحتمالين كان الحديث مجملاً من هذه الجهة.

لا يقال: نعلم علماً إجمالياً بتضمن الشريعة على محرمات، فهذا علم لا بعينه، ومع معرفة تلك المحرمات يكون علم بالحكم بعينه!

لأنه يقال: ظاهر كلمة بعينه هو بشخصه فيختص بالشبهات الموضوعية.

الإشكال الثاني: اختصاص الحديث بالشبهات التحريمية فيكون أخص من المدعى، حيث البراءة في الشبهات الوجوبية والتحريميّة.

وفيه: أن عمدة الكلام فيها وأما البراءة في الوجوبية فمحل اتفاق، فحتى لو فرض عدم دلالة الحديث عليها فلا يضر بدلالته على التحريميّة.

الإشكال الثالث: إن الأمثلة المذكورة في الحديث لا ترتبط بالبراءة، وعليه فلا بد إما من عدم دلالة قوله: «مطلق» على البراءة، أو إجمال الحديث؛ إذ لا يصح بيان قاعدة ثم ذكر أمثلة لا ترتبط بها، حيث قال (علیه السلام) : «كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليك وقد اشتريته وهو سرقة، أو مملوك عندك ولعله حرّ قد باع نفسه أو خدع فبيع قهراً، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك...»(1)،

الحديث، فمثال الثوب والمملوك مجرى قاعدة اليد وهي حاكمة أو واردة على أصالة البراءة، ومثال المرأة مجرى استصحاب عدم كونها أختاً بناءً على حجية استصحاب العدم الأزلي، أو الأصل العقلائي الذي أمضاه الشارع في عدم الانتساب.

ص: 80


1- الكافي 5: 314؛ وسائل الشيعة 17: 89.

والجواب: أولاً: بأن قوله: «مطلق» يراد به معناه اللغوي، وهو شامل لكل أنواع الحليّة سواء كانت مأخوذة من قاعدة اليد أو السوق أو الاستصحاب أو البراءة، فيكون ذلك مِن ذكر جامع للأصناف المختلفة والتمثيل بصنف واحد، وهذا لا إشكال فيه.

وثانياً: يمكن أن يكون من التنظير، وذلك بتنظير قاعدة بقاعدة أخرى، وهذا لا محذور فيه وإن كان خلاف الظاهر.

وثالثاً: على بعض المباني تجري الأصول المتطابقة التي لا منافاة بينها حتى لو كانت نسبتها الحكومة أو الورود.

الإشكال الرابع: إن قوله (علیه السلام) : «أو تقوم به البينة» لا ينطبق إلاّ على الشبهات الموضوعية؛ إذ يكفي في الشبهات الحكمية العدل الواحد في التقليد، والثقة الواحد في الإخبار، وحيث كانت الغاية في الموضوعية يكون ذلك قرينة على أن المغيّى وهو قوله (علیه السلام) : «كل شيء مطلق» أيضاً خاص بها، لا أقل من إجمال الدليل.

والجواب: أولاً: إن الغاية هي قوله (علیه السلام) : «حتى تستبين أو تقوم به البينة» والأولى تجري في الشبهتين، وبذلك تنتفي القرينيّة، كما لو قلنا: (انفق على الأولاد حتى يستغنون أو ينفق عليها زوجها) فلا يختص بالبنات.

وثانياً: ما يقال من أن المعنى اللغوي للبينة الحجة والدليل، فتشمل كلا الشبهتين؛ إذ الحجة في الموضوعية عدلان وفي الحكمية الثقة الواحد، اللهم إلا أن يقال: إن كلمة البينة صارت حقيقة شرعية أو متشرعية فتحمل أحاديث الأئمة (علیهم السلام) - ومنها هذا الحديث - عليها.

ص: 81

الحديث السادس: حديث ما فيه حلال وحرام

فعن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال: «كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه»(1)،

وفي حديث آخر: «كل ما فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه»(2).

وأورد عليه: - مضافاً إلى بعض ما أورد على الحديث السابق - من جهات:

الأولى: اختصاصه بالشبهات الموضوعية، فإن قوله (علیه السلام) : «فيه حلال وحرام» ظاهره الانقسام الفعلي إليهما، وفي مورد الشبهات الحكمية لا انقسام، بل ترديد وعدم علم.

وفيه: إنه يمكن التقسيم في الشبهات الحكمية باعتبار الجنس الذي فيه أنواع أو أصناف محلّلة ومحرمة كاللحم الذي يحلّ منه لحم الغنم ويحرم منه لحم الخنزير ويشك في بعض أصنافه كلحم الطاووس مثلاً.

الثانية: إن قوله (علیه السلام) : «حتى تعرف الحرام» ظاهر في الشبهة الموضوعية؛ إذ لو كان المراد الشبهة الحكمية لقال: (حتى تعرف الحرمة).

وفيه: أن الحديث لو كان شاملاً لهما لصح ذكر الحرام والحرمة بلا فرق، وترجيح الحرام على الحرمة لأنه أكثر استعمالاً في أمثال هذا التركيب.

الثالثة: إن منشأ الشك في الشبهة الحكمية هو فقدان النص أو إجماله أو

ص: 82


1- الكافي 5: 313؛ وسائل الشيعة 17: 87.
2- الكافي 6: 339؛ وسائل الشيعة 25: 117.

تعارض النصين، وهذا لا ينطبق على الحديث؛ إذ ظاهر قوله (علیه السلام) : «فيه حلال وحرام» أن منشأه هو الانقسام ولا يكون ذلك إلاّ في الشبهات الموضوعية، فتأمل.

الحديث السابع: حديث ركوب الأمر بجهالة

فعن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال: «أيّ رجل ركب أمراً بجهالة فلا شيء عليه»(1).

وظاهرها عدم ثبوت حكم تكليفي أو وضعي عليه.

وأشكل عليه: أولاً: إن ظاهر «ركب أمراً بجهالة» هو الغافل غير الملتفت إلى الواقع أصلاً أو الجاهل المركب، وأما الجاهل البسيط العالم بجهله فلا يطلق عليه (ركب بجهالة).

وفيه: أن الجهالة إما بمعنى السفاهة أو بمعنى عدم العلم، والأول غير مراد، والثاني أعم من البسيط والمركب والغافل.

إن قلت: الباء في «بجهالة» ظاهرة في السببيّة، ولا تكون كذلك مع الجهل البسيط؛ إذ ارتكابه حينئذٍ ليس بسبب الجهل، بل إما لعدم التدين أو لاعتقاد وجود المؤمِّن. نعم، مع الغفلة أو الجهل المركب يكون الجهل سبباً.

قلت: أما الصغرى: فظهور الباء في الإلصاق ولا ظهور للسببيّة، والإلصاق شامل للثلاثة.

وأما الكبرى: فإن الجهل البسيط أيضاً سبب لارتكاب مشكوك

ص: 83


1- تهذيب الأحكام 5: 72؛ وسائل الشيعة 8: 248.

الحرمة(1)،

فإنّ المجتهد في الشبهات الحكمية يجهل الحكم، وجهله موضوع لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، فهنا سببان طوليان، كما في (كتبت بيدي) و(كتبت بالقلم)، وكما يصح نسبة المعلول - أي فلا شيء عليه - إلى السبب الأقرب، كذلك يصح نسبته إلى السبب الأبعد! وعليه فالجهل بالحكم الواقعي صار سبباً للعلم بالحكم الظاهري بجواز الاقتحام.

إن قلت: الاستناد إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان يستلزم أن يكون الارتكاب عن علم لا عن جهل، فليس الارتكاب بسبب الجهل.

قلت: إن الجهل هو بالحكم الواقعي، والعلم إنما هو بالحكم الظاهري، فكان الجهل بالحكم الواقعي سبباً للارتكاب، فتأمل.

وثانياً: إن تعميم الجهالة لصورة التردد يحوج الكلام إلى التخصيص بالشاك غير المقصّر، وسياقه يأبى عن التخصيص.

وفيه: إن التخصيص لازم على كل حال، لعدم معذورية الغافل والجاهل المركب إذا كانا مقصّرين، مضافاً إلى عدم إباء الكلام عن التخصيص؛ إذ لا محذور في أن يقال: أيّ رجل ركب أمراً بجهالة فلا شيء عليه إلاّ المقصّر.

الحديث الثامن: حديث الاحتجاج بما آتاهم

فعن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال: «إن الله احتج على الناس بما آتاهم وعرّفهم»(2).

ص: 84


1- نهاية الأفكار 3: 229.
2- الكافي 1: 162.

ومعنى «آتاهم» إعطاء القدرة، ومعنى «عرّفهم» إعطاء العلم، والمشكوك لم يؤت الله العلم بحرمته فلا احتجاج فيه، وهو يساوق البراءة.

وأشكل عليه: أولاً: بأن مدلوله مما لا ينكره الأخباريون، وإنما الخلاف في الصغرى، حيث يذهبون إلى أن الله قد آتى البيان بأوامر الاحتياط.

إن قلت: بل ينكره الأخباريون؛ وذلك لأن أوامر الاحتياط طريقيّة، فلا موضوعية لها ليتم الاحتجاج والمؤاخذة عليها، وأما الحرمة الواقعية فهي لم تبيّن ولم تعرّف لعدم انكشافها حتى مع وجوب الاحتياط فلا احتجاج ومؤاخذة عليها أيضاً.

قلت: عدم المؤاخذة على الأمر الطريقي لا ينافي إمكان الاحتجاج به؛ إذ يمكن عقلاً وعقلائياً أن يحتج المولى بالأمر الطريقي في المورد المشكوك ثم يعاقب على مخالفة الأمر الواقعي.

وثانياً: إن لهذا الحديث طريق آخر، وفيه زيادة تدل على شيء آخر غير البراءة، فعن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال: «إن من قولنا: إن الله يحتج على العباد بما آتاهم وعرفهم، ثم أرسل إليهم رسولاً، وأنزل عليهم الكتاب فأمر فيه ونهى»(1).

وظاهر هذه الزيادة أن (ما آتاهم وعرفهم) هو الفطرة، ثم بعد ذلك أرسل الرسل، وموضع بحثنا هو البراءة بعد إرسال الرسل مع عدم وصول شيء إلينا.

وأجيب: إن لهذا الحديث تتمة أخرى تدل على المطلوب وهي

ص: 85


1- الكافي 1: 164.

قوله (علیه السلام) : «وكذلك إذا نظرت في جميع الأشياء لم تجد أحداً في ضيق، ولم تجد أحداً إلاّ ولله عليه حجة»(1)

فهذه التتمة تفيد العموم، حيث إنه في مورد البراءة لا حجة على حرمة المشكوك.

هذا مضافاً إلى عدم تنافي المثبتات فلا تقيد إحداها الأخرى، فعليه فالحديث الذي فيه تتمة يدل على شيء، والذي لا تتمة فيه يدل على شيء آخر، فتأمل.

الحديث التاسع: حديث العذر بجهالة

فعن ابن الحجاج عن الإمام الكاظم (علیه السلام) - في من تزوج امرأة في عدتها - : «فقلت: بأيّ الجهالتين يعذر، بجهالته أنه محرّم عليه أم بجهالته أنها في عدة؟ فقال: إحدى الجهالتين أهون من الأخرى: الجهالة بأن الله حرّم عليه، وذلك بأنّه لا يقدر على الاحتياط معها، فقلت: وهو في الأخرى معذور؟ قال: نعم...»(2)

الحديث.

والجهالة الأولى في الحكم، والثانية في الموضوع، فدلالتها على البراءة تامة.

وأشكل عليه: أولاً: إن التعليل بعدم تمكن الاحتياط يخصّص الحديث في الجاهل المركب، فإنه هو الذي لا يقدر على الاحتياط، وأما الجاهل البسيط - وهو الشاك - فلا، حيث إنه قادر على الاحتياط.

وثانياً: إن الجاهل البسيط ليس بمعذور؛ إذ مع الشك في انقضاء العدة لا

ص: 86


1- الكافي 1: 165.
2- الكافي 5: 427؛ وسائل الشيعة 20: 451.

بد من استصحابها فلا مجال للبراءة، كما أنه مع الشك في مقدار العدة وكذا في حكمها لا بد من الفحص، وقبله تجري أصالة عدم نفوذ العقد وأصل الفساد في المعاملات.

والحاصل: إن الحديث دلّ على معذورية الجاهل، والجاهل البسيط سواء في الشبهة الموضوعية أم المفهومية أم الحكمية ليس بمعذور، فلا يشمله الحديث.

وفيه: إن الحديث يقيّد بأدلة الفحص فيؤخذ بإطلاقه في ما بقي، كما يقيّد الحديث في الجاهل المركب والغافل بأن لا يكون جهله عن تقصير ويؤخذ بإطلاقه في الباقي.

وثالثاً: إن كلامنا في البراءة حول الحكم التكليفي، والحديث في الحكم الوضعي - أي البطلان أو عدمه - .

إن قلت: خصوصية المورد لا تخصص الوارد!

قلت: هذا إذا كان الوارد عاماً أو مطلقاً، وأما في الحديث فقوله (علیه السلام) : «يعذر» لا يعلم إطلاقه؛ إذ لم يحرز كون المولى في مقام البيان من جهة الحكم التكليفي.

إن قلت: الأحكام الوضعية أمرها دائر بين الوجود والعدم، فهي لا تقبل الزيادة والنقيصة، وأما الحديث فظاهر في الحكم التكليفي، حيث قال (علیه السلام) : «وقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك» وقوله (علیه السلام) : «إحدى الجهالتين أهون من الأخرى» فالأعظم والأهون يدلان على التشكيك - أي الزيادة والنقيصة - !

ص: 87

قلت(1): ليس البحث حول الحكم الوضعي والتكليفي، بل حول الأعذرية بلحاظهما، فقد يكون منشأ العذر قوياً فيكون المكلّف أعذر، وقد يكون ضعيفاً فيكون معذوراً، كما أنه قد يكون منشأ العذر متعدداً، وقد يكون متحداً، ولا مانع من استعمال أفعل التفضيل بلحاظ ضعف وقوة المنشأ، أو اتحاده وتعدده، وعليه فالجاهل جهلاً مركباً - بلحاظ الحرمة الأبدية والبطلان - أعذر، أما البسيط فهو معذور؛ وذلك لأن الأول أبعد عن العلم بخلاف الثاني، حيث إن جهله مركب مع العلم.

ص: 88


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 9: 122.

فصل في دلالة العقل على البراءة

اشارة

من الأدلة الدالة على البراءة: العقل، وذلك بقاعدة (قبح العقاب بلا بيان).

وغير خفي أنه لا إشكال في جريان القاعدة في ما لو سكت المولى ولم يصدر حكماً ولم يكن هناك تصرف في ملكه، كما لو سكت عن وجوب شيء فتركه العبد، أو سكت عن حرمة شيء ومخالفتها لم تكن تصرفاً في ملكه.

إنما الكلام في جريانها في ما لو احتمل صدور حكم إلزامي عن المولى أو كان في الارتكاب تصرف في ملكه، فهنا مبحثان:

المبحث الأول: في تقرير جريانها

وتقرير جريانها في ما نحن فيه من وجوه:

الوجه الأول(1): قبح العقاب في ما لا مقتضي لتحريك العبد.

أما الصغرى: فإن الإرادة هي المحرّك نحو الأحكام الواقعية، ولا تعقل المحركيّة إلاّ بعد الوصول إلى العبد، لضرورة عدم إمكان الانبعاث إلاّ عن البعث بوجوده العلمي دون الخارجي، وأما الحكم المحتمل فهو بنفسه غير قابل للمحرّكية لتساوي احتمال الوجود والعدم.

ص: 89


1- أجود التقريرات 3: 323.

وأما الكبرى: فإنه إذا لم يكن الحكم - لا بوجوده الواقعي ولا بوجوده الاحتمالي - قابلاً للمحركية، فالعقاب على مخالفته عند عدم وصوله عقاب على مخالفة حكم لا اقتضاء له للمحركية، ولا ريب في قبح ذلك.

ويرد عليه: أنه لو كان هناك غرض لازم الاستيفاء فيمكن محركيّة الوجود الاحتمالي، كالعطشان الذي يحتمل وجود الماء في مكان معيّن، بل التحريك حينئذٍ ثابت.

مضافاً إلى وجود المحرّك في ما نحن فيه، وهو قبح التصرف في ملك الغير من غير إذنه، والله سبحانه مالك كل شيء فلا بد من إحراز رضاه في التصرف في ملكه ولا يكفي مجرد عدم الإحراز.

الوجه الثاني(1): قبح العقاب على ما لا يستند إلى المكلف، وهكذا في ما نحن فيه حيث لم يستند فوات مطلوب المولى إلى المكلّف بعد فحصه وعدم عثوره على تكليف، بل استند إمّا إلى عدم بيان المولى وإمّا إلى بعض الأسباب الأخرى التي أوجبت اختفاء ما يريده المولى!

وفيه: إن بعض المقدمات في ما نحن فيه اختيارية وهو اقتحام العبد على المشكوك، وبذلك يصح إسناد الفعل إليه، ولا يشترط في الفعل الاختياري كون جميع المقدمات اختيارية، بل لا يمكن.

مضافاً إلى أنه هناك خلاف في أن وظيفة العبد هل هي منحصرة في الفحص أم الفحص والتوقف؟ فحصرها في الفحص مصادرة.

ص: 90


1- فوائد الأصول 3: 365.

الوجه الثالث(1): إن مدار الطاعة والعصيان على الحكم الحقيقي، وهو متقوّم بنحو من أنحاء الوصول، لعدم معقولية تأثير الإنشاء الواقعي في انقداح الداعي، وحينئذٍ فلا تكليف حقيقي مع عدم الوصول، فلا مخالفة له، فلا عقاب؛ إذ هو على مخالفة التكليف الحقيقي.

إلاّ أن عدم العقاب لعدم التكليف شيء، وعدم العقاب لعدم وصوله شيء آخر، وما هو مفاد قاعدة قبح العقاب بلا بيان هو الثاني دون الأول.

مضافاً إلى أن قاعدة قبح العقاب بلا بيان مما اتفق عليها الكل، وتقوّم التكليف بالوصول مختلف فيه.

وأورد عليه: أولاً: إن الحكم الحقيقي غير متقوم بالوصول؛ إذ في الجهل البسيط الداعوية ممكنة أي إن الإنشاء الواقعي يؤثر في إمكانها، وفي ما نحن فيه تمكن الداعوية للالتفات إلى احتمال وجود التكليف الحقيقي، نظير ما في التكوينييات، حيث إن احتمال وجود الماء سبب لتحرك الإنسان نحوه.

وثانياً: إنه يمكن العقاب مع عدم وجود تكليف حقيقي، وذلك في ما لو كان تفويتاً لغرض المولى، كالعبد الذي لا ينقذ ابن المولى بذريعة عدم أمر المولى بذلك، فتأمل.

الوجه الرابع(2): إن حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان هو حكم عقلي بملاك التحسين والتقبيح العقليين، ومثله مأخوذ من الأحكام العقلائية، التي

ص: 91


1- نهاية الدراية 4: 83.
2- نهاية الدراية 4: 84.

حقيقتها ما تطابقت عليه آراء العقلاء حفظاً للنظام وبقاءً للنوع.

وحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ليس حكماً عقلياً منفرداً عن سائر الأحكام العقلية العملية، بل هو من أفراد حكم العقل بقبح الظلم عند العقلاء، نظراً إلى أن مخالفة ما قامت عليه الحجة خروج عن زيّ الرقيّة ورسم العبودية، وهو ظلم من العبد على مولاه، فيستحق منه الذم والعقاب.

كما أن مخالفة ما لم تقم عليه الحجة ليس من أفراد الظلم - إذ ليس من زيّ الرقيّة أن لا يخالف العبد مولاه في الواقع وفي نفس الأمر - فليس مخالفة ما لم تقم عليه الحجة خروجاً عن زيِّ الرقيّة حتى يكون ظلماً، وحينئذٍ فالعقوبة عليه ظلم من المولى على عبده؛ إذ الذم على ما لا يذم عليه والعقوبة على ما لا يوجب العقوبة عدوان محض من المولى على عبده فهو ظلم.

والظلم بنوعه يؤدّي إلى فساد النوع واختلال النظام، وهو قبيح من كل أحد، بالإضافة إلى كل أحد، ولو من المولى إلى عبده.

ويرد عليه: أولاً: إنه مصادرة؛ إذ محل الكلام والخلاف أن المخالفة على ما لم تقم عليه حجة مع التفات المكلف وشكّه وتردده هل هي ظلم أم لا؟

وثانياً: إن التحسين والتقبيح العقليين والأحكام المترتبة عليهما ليسا مأخوذين من تطابق آراء العقلاء، ولذا هي كذلك حتى قبل خلق العقلاء، فحسن العدل وقبح الظلم أمران انتزاعيان وليسا اعتباريين، ولذا لم يكن للمخلوق الأول الحق في الظلم، ولذا يقبح الظلم حتى لو لم يؤدّ إلى اختلال النظام.

ص: 92

هذا مضافاً إلى أن الرب سبحانه وتعالى أعز وأجل من أن يظلمه أحد كما قال: {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}(1).

الوجه الخامس: حكم العقلاء كافة بقبح مؤاخذة المولى عبده على فعل ما يعترف المولى بعدم إعلامه بتحريمه أصلاً.

وفيه: أن ما ذكر صحيح في ما سكت المولى، وليس الكلام فيه، بل كلامنا في عدم البيان الواصل، بأن يحتمل وجود بيان تمّ خفاؤه بسبب فعل الظالمين، وهنا لا محذور عقلي في العقاب، كما مرّ.

المبحث الثاني: نسبتها إلى قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل
اشارة

قد يتسائل عن النسبة بين قاعدة (وجوب دفع الضرر المحتمل)، وقاعدة (قبح العقاب بلا بيان)؟ حيث إنه يخيّل في مورد البراءة جريان القاعدتين! والكلام في مقامين:

المقام الأول: في دفع الضرر المحتمل

وقد أشكل عليها(2): بأن الوجوب المحتمل إما نفسي أو طريقي أو إرشادي، والكل غير معقول، وعليه فتكون القاعدة غير ثابتة من أصلها.

أما الوجوب النفسي فلا يعقل؛ إذ لا يزيد احتمال الضرر على القطع به، فمن شرب خمراً مثلاً وصادف الواقع فله عقوبة واحدة لمخالفته النهي عن شربه، فلا يعقل أن تكون عقوبة من احتملها فشربها عقوبتان: عقوبة مخالفة النهي وعقوبة مخالفة هذا الوجوب.

ص: 93


1- سورة البقرة، الآية: 57.
2- منتقى الأصول 4: 447.

وأما الوجوب الطريقي، فهو الوجوب الذي جعل بداعي تنجيز الواقع أو التعذير عنه، ولا يعقل أن يكون وجوب دفع الضرر المحتمل طريقياً لتنجزه في رتبة الموضوع؛ إذ بمجرد احتماله الضرر يتنجز الواقع عليه فلا يعقل تنجزه مرّة أخرى في رتبة المحمول.

وأما الوجوب الإرشادي، فهو في حقيقته إخبار في صورة إنشاء، وإنما يصح في مورد الغفلة؛ إذ في صورة الالتفات يُعلم بتحققه على تقدير وجوده في رتبة الموضوع، فلا معنى لإخباره بعد ذلك؛ إذ هو تحصيل للحاصل.

وفيه(1): إنا نختار أن الوجوب في القاعدة إرشادي، مع كونه إنشاءً بداعي الحثّ والتحريض، ولا وجه لأخذ الغفلة في الأمر الإرشادي، حيث لا فرق في الحثّ بين علم المكلّف وجهله، غاية الأمر إنه لا عقوبة على الهيأة، وإنما هي متعلقة بالمادة، بخلاف الوجوب المولوي الذي ترتبط عقوبته بمخالفة الهيأة، وبذلك تندفع شبهة تحصيل الحاصل؛ إذ المتحقق في رتبة الموضوع الانكشاف، والمتحقق في رتبة المحمول التحريك والتحريض.

والحاصل: أن العقل يرى احتمال الضرر في الإقدام على العمل، ثم يحثّ على عدم الإقدام فيه، وهذا معنى الوجوب العقلي الإرشادي، ولو خالفه المكلّف لم يترتب عليه إلاّ عقوبة واحدة. هذا بناءً على أن للعقل أحكاماً لا أنه مجرد مُدرك.

ص: 94


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 9: 148.

وأمّا لو أنكرنا أن للعقل أحكاماً فلا إشكال في وجود الدافعة الطبيعية الفطرية التي تبعد كل عاقل عن الضرر المحتمل كفرار العاقل عن المخاطر حتى لو لم نعبّر عنه بالوجوب، ولا مشاحة في الاصطلاح.

المقام الثاني: في النسبة بين القاعدتين

وحيث يستحيل تخالف قاعدتين عقليتين، فلا بد من معرفة النسبة بينهما، وقد يقال: بورود الثانية على الأولى؛ إذ لا احتمال للضرر مع عدم البيان.

وأشكل عليه: بأن (الضرر المحتمل) إما العقاب أو الآثار الوضعية، وكلاهما محل إشكال:

وأما الأول فَبإمكان العكس، بأن يقال: إنّ احتمال الضرر بيان فلا يقبح العقاب معه؛ إذ كما أن حكم الشيء بعنوانه الذتي بيان، كذلك حكمه بعنوانه العرضي كالمشكوك والمشتبه، وعليه فيحصل التنافي بين القاعدتين!

والجواب من وجوه:

الجواب الأول: إن (احتمال الضرر) ناشٍ عن البيان؛ إذ لولا البيان لا احتمال للضرر، وهذا البيان إما متقدم على قاعدة (وجوب دفع الضرر المحتمل) أو متأخر عنها، فأما المتقدم فلا يوجد، لأنا نريد استفادة البيان من هذه القاعدة، وأما المتأخر فلا يمكن أن ينشأ من هذه القاعدة؛ إذ (الضرر المحتمل) مأخوذ في موضوعها فلا يمكن أن يكون متفرعاً على محمولها.

قال المحقق العراقي(1):

إن البيان الذي ينشأ منه احتمال الضرر لا بد من كونه في الرتبة السابقة على الاحتمال المزبور، كما هو شأن كل علة بالنسبة

ص: 95


1- نهاية الأفكار 3: 236.

إلى معلولها، وبعد عدم إمكان نشوء الاحتمال المزبور عن مثل هذا الوجوب المتفرع على الاحتمال المزبور لا بد من تحقق هذا الاحتمال من فرض وجود بيان آخر غير هذا الوجوب حتى ينشأ منه احتمال الضرر على المخالفة فيترتب عليه هذا الوجوب العقلي، وإلاّ فبدونه تجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان ويقطع معها بعدم العقوبة والضرر، ولما كان المفروض عدم وجود بيان آخر غير هذا الوجوب العقلي، ففي الرتبة السابقة عنه التي هي ظرف اللابيان تجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان فيقطع بعدم العقاب على ارتكاب المشتبه، ومعه لا يبقى موضوع لقاعدة دفع الضرر المحتمل.

وبعبارة أخرى(1):

لا بيان في رتبة متقدمة على الموضوع، فلا احتمال للعقاب في رتبة الموضوع، ويقبح العقاب بلا بيان، فيقطع بعدم وجود الضرر، فينتفي موضوع قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل.

الجواب الثاني: إن التنافي إنما يحصل لو كان البيان و احتمال الضرر فعلييّن، وأما مع كون أحدهما فعلياً والآخر تعليقيّاً فلا، بل يكون المتحقق ما كان فعلياً، كما لو قلنا إن زيداً أكبر من عمرو فعلاً، ولو كان عمرو والداً لزيد لكان عمرو أكبر.

وفي ما نحن فيه: لا بيان واصل قطعاً وذلك بعد الفحص وضمّ فحص سائر الفقهاء، فيقبح العقاب عليه فعلاً، إذاً الصغرى وجدانية والكبرى برهانية.

وأما احتمال العقاب فهو تعليقي، أي منوط بأمور كلها مفقودة، حيث إنه

ص: 96


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 9: 159.

لا بد من وجود منشأ لاحتمال العقاب، والمنشأ إما ظلم المولى، أو عدم حكمته، أو صحة العقاب بلا بيان، أو تقصير العبد في الفحص عن البيان، أو علمه الإجمالي، وكل هذه المناشئ مفقودة، ومع انتفائها يقطع بعدم العقاب، فلا موضوع لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل.

الجواب الثالث: عدم إمكان بيانية قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل؛ وذلك لاستلزامه الدور...

لأن بيانية القاعدة متفرع على احتمال الضرر، لتفرع كل محمول على موضوعه.

واحتمال الضرر متوقف على عدم جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان؛ إذ مع جريانها يقطع بعدم العقاب.

وعدم جريانها متوقف على بيانية قاعدة دفع الضرر المحتمل واجب؛ إذ مع حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل يرتفع موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وفيه: أن العكس أيضاً كذلك، فإن عدم بيانية قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل موقوف على عدم احتمال الضرر، وعدم احتماله موقوف على جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان، وجريانها موقوف على عدم بيانية قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل.

هذا كله بناءً على كون (الضرر المحتمل) هو العقاب.

وأما على الثاني - بأن يكون الضرر المحتمل الآثار الوضعية - ...

فقد أشكل بعدم إمكان ورود قاعدة قبح العقاب بلا بيان عليه؛ إذ تلك الأضرار هي أمور تكوينية فلا ترتبط بعلم المكلف، وعليه فالضرر المحتمل

ص: 97

- الذي هو موضوع قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل - متحقق وجداناً!

وأجيب بوجوه، منها:

الجواب الأول: في الصغرى، بأنه لا ملازمة بين الوجوب وبين المفسدة في مخالفته؛ إذ قد يكون الملاك في نفس الجعل كما في الأوامر الامتحانية، وحتى لو كانت هناك مفسدة فهي لا تلازم الضرر!

وفيه: أن غالب الملاكات إنما هي في المجعول، كما أن الكثير من المفاسد هي أضرار، بل وحتى احتمال كونه في الجعل واحتمال عدم كون المفسدة ضرراً لا ينفيان احتمال كونه في المجعول واحتمال كون المفسدة ضرراً! هذا مضافاً إلى عدم الفرق في حكم العقل بين وجوب دفع الضرر المحتمل ووجوب دفع المفسدة المحتملة.

الجواب الثاني: في الكبرى، بأنه لا مانع من تحمل الضرر المقطوع به إذا لم يكن عقوبة فضلاً عن المحتمل، وحتى لو فرض وجوب دفعه عقلاً فلا ملازمة بينه وبين الوجوب الشرعي، والمهم في المقام إثبات الوجوب الشرعي.

وفيه: أن الأضرار الخطيرة واجبة الدفع عقلاً حتى لو كانت مشكوكة أو موهومة، مع إمكان دعوى الوجوب الشرعي لدفع الضرر المحتمل والذي يستفاد من قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}(1)

فارتكاب الشيء مع احتمال ضرره إيقاع للنفس فيها، فتأمل، كما قد يستفاد ذلك من أحكام مختلفة في أبواب الفقه كالترخيص في اليتيم مع احتمال ضرر الماء،

ص: 98


1- سورة البقرة، الآية: 195.

وفي الإفطار مع احتمال ضرر الصوم ونحو ذلك.

الجواب الثالث: ما ذكره الشيخ الأعظم(1):

بأن الشبهة من هذه الجهة موضوعية، ولا يجب الاحتياط فيها باعتراف الأخباريين، فلو ثبت وجوب دفع المضرّة المحتملة لكان هذا مشترك الورود، فلا بد على كلا القولين إما من منع وجوب الدفع، وإما من دعوى ترخيص الشارع وإذنه في ما شك في كونه من مصاديق الضرر.

وبعبارة أخرى - كما في التبيين - : «أن تكون للشيء جهتان، يندرج بأحدهما تحت عنوان الشبهة الحكمية، وبالأخرى تحت عنوان الشبهة الموضوعية، فلو شك في استحقاق العقاب على اقتحام المشكوك كانت الشبهة حكمية من هذه الجهة، ولو شك في مضرّته كانت الشبهة موضوعية، فلا يجب الاحتياط من هذه الجهة حتى عند الأخباريين»(2)، وعليه فلا بد إما من إنكار القاعدة العقلية بوجوب دفع الضرر المحتمل في الشبهة الموضوعية، وإما من القول بأن الشارع أذن في اقتحام المشكوك حتى مع احتمال الضرر وحكم العقل بوجوب دفعه، وحيث إن الضرر متدارك شرعاً فلا مانع من الإذن الشرعي خلافاً للحظر العقلي، فإذا كان هذا حال الضرر المقطوع، فالضرر المحتمل أولى بالإذن.

وأشكل عليه المحقق الخراساني(3):

وغيره، بأمور:

ص: 99


1- فرائد الأصول 2: 57.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 9: 164.
3- درر الفوائد في الحاشية على الفرائد: 205.

فأولاً: بأن الشبهة حكمية لا موضوعية؛ إذ ما كان المرجع فيه الشارع فهي حكمية، وما لم يكن المرجع فيه الشارع فهي موضوعية، وهنا لا طريق إلى معرفة المضرة سوى حكم الشارع؛ لأنها ليست من الأمور التي يستقل بها العقل، فمع الشك في الحلية والحرمة نشك في المفسدة والمضرة الواقعية!

وفيه: أن الضابط في التمييز بين الموضوعية والحكمية أمور ثلاث:

1- كون المتعلّق حكماً كلياً أم جزئياً أو موضوعاً خارجياً.

2- كون المنشأ فقدان النص أو إجماله أو تعارض النصين أم اختلاط الأمور الخارجية.

3- كون المرجع فيه الشارع أم غير الشارع كفحص المكلف نفسه.

فما ذكر في الثلاثة أولاً هو ضابط الحكمية، وما ذكر فيها أخيراً هو ضابط الموضوعية، والمنطبق في ما نحن فيه هو ضابط الموضوعية لا الحكمية.

وثانياً: إن الشبهة حتى لو كانت موضوعية لا مؤمّن فيها هاهنا بالخصوص؛ إذ العقل يحكم بلزوم دفع الضرر المحتمل، وفي المشكوك احتمال الضرر موجود، والنقل مختص بما كان منشأ الاشتباه وجود الحلال والحرام مع عدم المميِّز كما في قوله (علیه السلام) : «كل شيء فيه حلال وحرام...»(1)

وفي ما نحن فيه ليس منشأ الاشتباه وجود القسمين، بل منشؤه احتمال الضرر التكويني.

ص: 100


1- الكافي 5: 313؛ وسائل الشيعة 17: 88.

وفيه: وجود المؤمِّن الشرعي لعدم انحصار أدلة البراءة في الحديث المذكور، بل هناك أحاديث أخرى تشمل ما نحن فيه كقوله (علیه السلام) : «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي»(1)، وكقوله (علیه السلام) : «رفع... ما لا يعلمون»(2).

وثالثاً: إنه لا اتفاق من الكل في جواز الاقتحام في الشبهات الموضوعية مطلقاً، بل لو كان المحتمل مهماً فلا، كما لو رأى شبحاً لا يعلمه إنساناً أو صيداً فلا يجوز رميه لانصراف أدلة البراءة عن مثله.

ص: 101


1- من لا يحضره الفقيه 1: 317؛ وسائل الشيعة 6: 289.
2- التوحيد: 353؛ وسائل الشيعة 15: 369.

فصل في دلالة الاستصحاب على البراءة

اشارة

ومعه لا مجال لأدلة الاحتياط حتى لو فرض تمامية دلالتها؛ إذ بالاستصحاب يرتفع موضوع الاحتياط، حيث لا تبقى شبهة معه، ولولا ذلك لكانت أدلة الاحتياط - على فرض دلالتها - حاكمة على أدلة البراءة؛ لأن موضوعها عدم البيان وعدم العلم، والاحتياط علم وبيان.

ثم إن هنا ثلاث استصحابات: استصحاب البراءة حال الصغر، واستصحاب البراءة قبل الشريعة أو أوائلها، واستصحاب عدم التكليف قبل البلوغ أو قبل تحقق قيود الوجوب.

الاستصحاب الأول: استصحاب البراءة حال الصغر

وأشكل عليه بأمور، منها:

الإشكال الأول(1): إنه لا يترتب على هذا الاستصحاب أثر شرعي، فلا حجية له؛ وذلك لأن المستصحب أحد ثلاثة: إمّا براءة الذمة عن التكليف ولا يترتب عليه سوى أثر عقلي هو عدم استحقاق العقاب، وإمّا عدم المنع عن الفعل ولازمه العقلي الإذن فيه، فهو نظير إثبات وجود أحد الضدين بنفي الضد الآخر بأصالة العدم، وإما عدم استحقاق العقاب وهو أمر عقلي

ص: 102


1- فرائد الأصول 2: 59-60.

ولا أثر شرعي له.

وأجيب: أولاً(1):

بأنه يكفي في صحة الاستصحاب كون المستصحب بنفسه أمراً شرعياً، وحيث إن الحرمة وعدمها مجعولان شرعيان فيصح استصحابهما من غير حاجة إلى أثر شرعي آخر، فعدم المنع أمر شرعي - حيث إن إثبات التكليف ونفيه مجعولان للشارع وبيده - وباستصحابه تثبت جميع آثار الحكم الشرعي، سواء كانت عقلية أم شرعية؛ لأن الأصل المثبت هو ترتيب الآثار غير الشرعية للمستصحب إذا لم يكن المستصحب الحكم بنفسه، وأما آثار الحكم فلا إشكال في ترتبها حتى لو كانت عقلية كوجوب الطاعة واستحقاق العقاب بالمخالفة ونحوها.

إن قلت(2): إن عدم المنع ليس مجعولاً شرعياً، والمفروض أنه لا أثر شرعي له!

قلت: إن العدم التشريعي قابل للجعل الشرعي، حيث إن التشريع هو عالم الفرض والاعتبار، فيمكن فرض جعل العدم، مضافاً إلى أن الكلام هنا في البقاء الاعتباري لعدم التكليف، والبقاء الاعتباري له أمر مجعول شرعاً، نظير أن حياة زيد غير مجعولة شرعاً لكن بقاؤها قابل للجعل الشرعي.

إن قلت: إن جعل العدم ظاهراً بالاستصحاب لا ينفي وجود التكليف واقعاً، ومعه يحتمل العقاب على المخالفة فلا بد من ضمّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان، فيلغو التمسك بالاستصحاب.

ص: 103


1- درر الفوائد في الحاشية على الفرائد: 207.
2- منتقى الأصول 4: 457.

قلت(1): إن جعل عدم المنع ظاهراً مساوق لجعل الإباحة ظاهراً، ومع جعلها ظاهراً لا احتمال للعقاب، فلا حاجة إلى التمسك بقاعدة قبح العقاب بلا بيان؛ إذ لا فرق بين الجعل الخاص الظاهري - أي جعل الترخيص في الشبهات التحريميّة - الذي ينفي احتمال العقاب، وبين الجعل العام الظاهري بالاستصحاب، وما نحن فيه مصداق له.

وثانياً: بأن هناك شق رابع هو استصحاب الإباحة في حال الصغر فهي أمر شرعي وتترتب عليها آثار شرعية.

وفيه: أن دليل رفع القلم كما يرفع الوجوب والحرمة كذلك يرفع الإباحة الشرعية، لإطلاق رفع القلم، ولا وجه لتعليله بالمنّة كي لا تكون منّة في رفعها، فتأمل.

الإشكال الثاني: ما عن المحقق النائيني(2):

من أن الأثر مترتب على نفس الشك، فموضوعه محرز بالوجدان، فيكون الحكم كذلك محرزاً وجداناً، فيرجع التعبد الاستصحابي إلى تحصيل الحاصل، بل إلى أردأ أقسامه وهو تحصيل المحرز الوجداني بالأصل.

وأورد عليه: بالنقض بالأمارات النافية للتكليف، وبأنه ليس من تحصيل الحاصل لاختلاف الأثر، إذا أثر الاستصحاب ثبوت عدم التكليف - ولو تعبداً - ، وأثر الشك عدم ثبوت التكليف، وبأن امتناع تحصيل الحاصل إنما هو في التكوين، وأما في التشريع فحيث إن وعائه الاعتبار وهو من عالم

ص: 104


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 9: 180.
2- أجود التقريرات 3: 331-332.

الفرض، وفرض المحال ليس بمحال فلا محذور فيه إلاّ اللغوية، ولا لغوية مع التأكيد كالأوامر الإرشادية، مضافاً إلى أنه لو قيل بحكومة أدلة الاحتياط على أدلة البراءة فيقال بحكومة الاستصحاب عليها؛ إذ الاستصحاب مقدّم على الاحتياط، فتأمل.

الاستصحاب الثاني: استصحاب البراءة قبل الشريعة أو أوائلها

حيث لم يجعل التكليف فيستصحب.

وأشكل عليه(1): بأنه أصل مثبت؛ إذ جميع الآثار الشرعية والعقلية تترتب على المجعول لا على الجعل، حيث إنه لا أثر له إلاّ استتباع المجعول، وعليه فاستصحاب عدم الجعل لازمه عدم المجعول فلا تترتب آثار المجعول، وهذا أصل مثبت.

وأجيب: أولاً: بالنقض باستصحاب عدم النسخ.

وفيه: أن مرجع هذا إلى الإطلاق الأزماني للدليل لا إلى الاستصحاب.

وثانياً: بأنه لا واسطة في المقام...

1- إما لاتحاد الجعل والمجعول ذاتاً، كالإيجاد والوجود، وعليه فجميع آثار المجعول هي آثار الجعل حقيقة.

وفيه: أن المقصود بالجعل في كلام المحقق النائيني هو الثبوت في الشريعة، وبالمجعول الثبوت في ذمة المكلف وهما متغايران، فلم يكن تشريع فلا شيء ثبت في ذمة المكلف فلا آثار، فصار أصلاً مثبتاً.

ص: 105


1- أجود التقريرات 3: 331.

2- وإما لأن الأثر مترتب على كل واحد منهما فلا واسطة في البين؛ وذلك لأن الأثر هو عدم المحذور العقلي في الارتكاب وهذا كما يترتب على عدم المجعول كذلك يترتب على عدم الجعل.

وفيه: إنه لا محذور عقلاً سواء ثبت الحكم في الشريعة أو لم يثبت، وإنما المحذور العقلي يترتب على ثبوت التكليف في ذمة المكلف، وعدمه على عدمه.

3- وإما لخفاء الواسطة - حتى لو فرض ثبوتها - ؛ إذ حينما يرى العرف عدم الجعل يرتب عدم الحرج العقلي.

وثالثاً: يكفي استصحاب عدم المجعول من غير حاجة إلى استصحاب عدم الجعل ليلزم محذور الواسطة.

الاستصحاب الثالث: استصحاب عدم التكليف قبل البلوغ

إن قلت: لا يقين سابق بناءً على إمكان الوجوب المعلّق!

قلت: لا يعقل توجه الخطاب إلى غير المكلّف - ولو بنحو الوجوب المعلّق - إذ مع عدم تحقق الشرائط العامة للتكليف - والذي منها البلوغ - لا تكليف قطعاً، بل ولا يترتب عليه أثر الوجوب المعلّق من السعي إلى المقدمات.

نعم، يمكن ورود هذا الإشكال على استصحاب عدم التكليف مع عدم تحقق قيود الموضوع في المكلفين كعدم وجوب الحج على المكلف قبل الاستطاعة.

إشكالات عامة على استصحاب البراءة

ثم قد أوردت إشكالات على أصل جريان استصحاب البراءة، ومنها:

ص: 106

الإشكال الأول: استلزامها لغوية أدلة البراءة؛ إذ الاستصحاب حاكم عليها لرفعه لموضوعها تعبداً، وعليه فلا يوجد أصل بعنوان أصل البراءة!

وأجيب: أولاً: إن أدلة البراءة تدل على الأمن في الشبهات، فلعلّها بجهة استصحاب عدم التكليف، وهذا وإن استلزم إلغاء البراءة الاصطلاحية، لكنه لا يوجب إلغاء دليلها، فلا محذور في التعبير عن استصحاب عدم التكليف بنتيجته، مع عدم ظهور أدلة البراءة في كون الأمن بملاك عدم العلم أو بملاك سبق عدم التكليف؛ إذ هي بيّنت النتيجة فقط، فتأمل.

وثانياً: لا حكومة؛ لعدم التنافي بين الدليلين حيث يتوافقان في النتيجة، وهذا على بعض المباني من جريان الدليل الحاكم والمحكوم إذا كانا متوافقين.

وعليه فيكون دليل البراءة تأكيداً.

وفيه: أن الحكومة إنما هي مع عدم تنافي الدليلين وكون لسانهما لسان التسالم والتوافق، ولذا يقدم الحاكم الظاهر على المحكوم الأظهر أو النص، وكذا الحاكم المظنون بالظن المعتبر على المحكوم المقطوع به كحكومة دليل لا ضرر على الواجبات الثابتة بالقرآن مثلاً، فتأمل.

وثالثاً: إنه قد لا يجري استصحاب عدم التكليف لبعض الموانع، فهنا تجري أدلة البراءة فلا لغوية.

الإشكال الثاني: تعارض هذه الاستصحابات الدالة على عدم الإلزام مع استصحاب عدم الترخيص، حيث إن الترخيص حادث فالأصل عدمه، كما

ص: 107

في الإلزام، فيتساقطان.

وأجيب: أولاً: بعدم المحذور من جريان كلا الاستصحابين، لعدم استلزامه مخالفة عملية قطعية.

لا يقال: يلزم من عدم الترخيص استحقاق العقوبة على الاقتحام؟

لأنه يقال: إن الاستحقاق مترتب على ثبوت المنع لا على عدم الترخيص، وعليه فلو اقتحم المكلّف في مورد الشبهة لا يقطع بالمخالفة العملية وذلك لوجود المؤمّن بالاستصحاب، وإنما يقطع بالمخالفة العلمية وهي ليست بمحذور.

إن قلت: استصحاب عدم الترخيص إمّا لا أثر له؛ إذ المؤمّن موضوعه عدم إلزام المولى لا ترخيصه، وبعبارة أخرى: التأمين لم يترتب على الترخيص كي ينتفي بنفيه، وإمّا مثبت لو أريد إثبات الإلزام ليترتب عليه التنجيز!

قلت: إن التأمين إنما هو أثر ثبوت الترخيص وليس أثراً لعدم الإلزام، فهل يحق للعبد أن يتصرف في أموال المولى بمجرد عدم إلزامه بشيء أم لا بد من ثبوت الترخيص؟ فتأمل.

إن قلت: إن في إسناد كلا الحكمين إلى المولى مع العلم بكذب أحدهما مخالفة قطعية عملية؟

قلت: إنهما من الضدين اللذين لهما ثالث فلا علم بالمخالفة؛ إذ لعلّ المولى سكت عن الحكم فلا إلزام ولا عدم ترخيص، فتأمل.

وثانياً: قد يقال: إنّه قد ثبتت بالأدلة الشرعية قاعدة (كل ما لم يثبت فيه

ص: 108

الإلزام فقد ثبت فيه الترخيص) كقوله (علیه السلام) : «اسكتوا عما سكت الله»(1)

وكقوله (علیه السلام) : «إن بني إسرائيل شدّدوا فشدّد الله عليهم»(2).

إن قلت: إنه لغو بعد وضوحه؛ لأنه من قبيل أخذ عدم أحد الضدين في موضوع الضد الآخر!

قلت: لا لغوية مع كون الضدين لهما ثالث، وقد ذكرنا وجود الثالث وهو السكوت.

ويرد عليه(3): إنه لا معنى لحكومة الأصل الموضوعي على الحكمي هنا؛ وذلك لعدم جريان الأصل الموضوعي، حيث إن هنا دليل حسب المدعى وهو (كل ما لم يرد فيه إلزام فهو مرخص فيه) ومع ثبوته فهو أمارة، فلا تصل النوبة إلى الأصل العملي!

الإشكال الثالث: في الشبهة الموضوعية لا يوجد جعل بشخصه، فلا يقين سابق ولا شك لاحق، وأما الطبيعي فقد جعل له الحكم قطعاً فلا شك لاحق، وعليه فلا مورد للاستصحاب!

وأجيب: بأن الأحكام في القضايا الحقيقية انحلالية، فتتكثر الأحكام بتكثر أفراد الموضوعات، وعليه فالشك في الموضوع الخارجي ملازم للشك في جعل التكليف له، فيعود الأمر إلى استصحاب عدم الجعل.

وأورد عليه: أولاً: بأن لازم هذا عدم وجود التخيير العقلي؛ وذلك لأنه

ص: 109


1- عوالي اللئالي 3: 166.
2- بحار الأنوار 13: 266.
3- موسوعة الفقيه الشيرازي 9: 198.

في مرحلة الجعل وثبوت الحكم في الشريعة لا تعدد للموضوع ولا للحكم، لا شرعاً ولا عقلاً؛ إذ حين الجعل الموضوع والمحمول كلاهما موجودان في عالم الاعتبار حتى مع عدم وجود المصاديق الجزئية الخارجية، كما أنه في مرحلة المجعول انطباق الطبيعي على المصاديق إنما هو بحكم العقل لا بجعل المولى، بل المولى العرفي قد يكون غافلاً عن الموضوعات الخارجية، وعليه فعدم جعل الحرمة على المشكوك ليس بفعل المولى كما أن أثره - بعدم استحقاق العقاب على الاقتحام - ليس مجعولاً له فلا يجري الاستصحاب! فالقول بانحلال جعل الطبيعي إلى جعولات جزئية يستلزم عدم وجود التخيير العقلي! اللهم إلاّ أن يقال: إن ذلك ليس بمحذور ولا مانع فيه، فتأمل.

وثانياً: إنه مع جريان الاستصحاب في الموضوع لا تصل النوبة إلى الاستصحاب في الحكم، كما لو شك في مانعية خمر فالاستصحاب بعدم تحوله إلى خمر بعد كونه عصيراً عنبياً مثلاً حاكم على استصحاب عدم حرمة هذا المائع، اللهم إلاّ أن يقال: بجريان استصحاب الحاكم والمحكوم مع توافقهما.

ص: 110

فصل في ما استدل به على الاحتياط

اشارة

وقد استدلّ القائلون بالاحتياط بالكتاب والسنة والعقل.

الدليل الأول: الكتاب

وقد استدلوا بآيات:

منها: ما دلّ على النهي عن القول بغير علم كقوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}(1).

ومنها: ما نهى عن إلقاء النفس في التهلكة كقوله: {وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}(2).

ومنها: ما أمر بالتقوى والجهاد كقوله: {اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}(3)

وقوله: {وَجَٰهِدُواْ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ}(4).

ومنها: ما أرجع إلى الله تعالى والرسول (صلی الله علیه و آله) كقوله: {فَإِن تَنَٰزَعْتُمْ فِي شَيْءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}(5).

ص: 111


1- سورة الإسراء، الآية: 36.
2- سورة البقرة، الآية: 195.
3- سورة آل عمران، الآية: 102.
4- سورة الحج، الآية: 78.
5- سورة النساء، الآية: 59.

ويرد على الاستدلال الأول: بأن أدلة البراءة واردة؛ وذلك لانتفاء القول بغير علم مع جريان أدلة البراءة، فإن البراءة علم تنزيلي كالعمل بالأمارات وسائر الأصول، وبأنها تنتهي إلى العلم الثابت بالعقل القطعي وبالنقل المتواتر، فالقول بها قول بعلم.

وعلى الثاني: بأنه في إجراء البراءة لا تهلكة دنيوية لأنها بمعنى الموت وهو مقطوع العدم في غالب الشبهات، وفي بعضها محتمل فيكون التمسك بالآية تمسكاً بالعام في الشبهة المصداقية، كما لا تهلكة أخروية لوجود المؤمِّن.

وعلى الثالث: بأن حق التقوى وحق الجهاد هو عام شامل لفعل المستحبات وترك المكروهات وترك المشتبهات حتى في الشبهات الموضوعية، ومن المعلوم عدم وجوب هذا المقدار فالآيتان دالتان على الاستحباب وذلك ترجيحاً لظهور المادة فيه على ظهور الهيأة في الوجوب.

مضافاً إلى ما قيل من أن الأمر بالتقوى والجهاد إرشادي، فلذا لا يستحق عقوبتين بمخالفة هذا الأمر وبمخالفة التقوى والجهاد، والأوامر الإرشادية تابعة للمرشد إليه، فلا يمكن الاستدلال بها على الوجوب إلاّ على نحو دائر، ولا دليل آخر يدل على وجوب المرشد إليه هنا بنحو مطلق.

وعلى الرابع: بأن الرجوع إلى البراءة هو ردّ إليهما والعمل بما دلاّ عليه، كما مرّ في أدلة البراءة.

الدليل الثاني: السنة المطهرة
اشارة

وهي ما دلت على الوقوف عند الشبهات، وما أمرت بالاحتياط، وأخبار

ص: 112

التثليث.

الطائفة الأولى: الأخبار الآمرة بالوقوف عند الشبهة

كقوله (علیه السلام) : «فإن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة»(1)، وهذا المضمون متواتر، وعلى فرض عدم تواتره فيكفي اعتبار سند بعض هذه الروايات.

وأشكل على الاستدلال بها بأمور، منها:

الإشكال الأول: بأن كلمة «خير» هنا أفعل التفضيل وهو ظاهر في الاستحباب؛ إذ بناءً على الوجوب لا حسن في الاقتحام كي يكون الوقوف أحسن منه.

وفيه: أن أفعل التفضيل وإن كان ظاهراً في اشتراك المفضَّل والمفضَّل عليه في أصل الفعل، إلاّ أنه قد ينسلخ عن معنى التفضيل بالقرائن، وهنا توجد قرائن على الانسلاخ...

منها: إن الاقتحام في الهلكة لا خير فيه أصلاً، وعليه فالوقوف خير يقابله الاقتحام الذي هو شر.

ومنها: إن عِلة الواجب لا تكون إلاّ واجبة، وفي مقبولة عمر بن حنظلة(2) علّل الإمام (علیه السلام) وجوب الإرجاء في قوله: «فأرجه حتى تلقى إمامك» بقوله: «فإن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكات».

هذا مضافاً إلى عدم وجود كلمة (خير) في بعض هذه الأخبار

ص: 113


1- الكافي 1: 50؛ وسائل الشيعة 20: 259.
2- الكافي 1: 68؛ وسائل الشيعة 27: 107.

كقوله (صلی الله علیه و آله) : «فاحذر الشبهة»(1)

وقوله (علیه السلام) : «إذا لم يتق الشبهات وقع في الحرام»(2).

إن قلت: إن حملها على الوجوب يستلزم التخصيص بغير الشبهات الموضوعية والوجوبية، مع أن قوله (علیه السلام) : «خير من الاقتحام في الهلكة» آبٍ عن التخصيص.

قلت: إن خروجهما تخصص وليس بتخصيص، بمعنى أن مرتكبهما ليس معرضاً للهلكة أصلاً.

الإشكال الثاني: إنه لا شبهة مع الحكم الظاهري بالترخيص؛ إذ مع الترخيص الظاهري يكون الشيء معلوم الحلية لا مشتبهها، وعليه ف- «الشبهة» في قوله (علیه السلام) يراد بها الشبهة بقول مطلق من غير رافع.

وفيه: أن بعض الروايات أطلقت الشبهة مع وجود الرافع الظاهري لها كقوله (علیه السلام) : «لا تجامعوا في النكاح على الشبهة»(3)

في من احتمل كونها أختاً رضاعية، مع جريان استصحاب العدم النعتي فيه.

الإشكال الثالث: ما ذكره المحقق العراقي(4): من أن ظاهر التعليل في قوله (علیه السلام) : «فإن الوقوف عند الشبهة...»(5)

هو كون الهلكة المترتبة على الاقتحام مفروضة الوجود والتحقق مع قطع النظر عن الأمر بالتوقف، وأنها

ص: 114


1- نهج البلاغة، الكتاب: 65.
2- الكافي 5: 108؛ وسائل الشيعة 16: 258.
3- تهذيب الأحكام 7: 474؛ وسائل الشيعة 20: 259.
4- نهاية الأفكار 3: 243.
5- الكافي 1: 50؛ وسائل الشيعة 20: 259.

علة الأمر به، ولا يمكن فرض وجود الهلكة إلاّ بفرض منشأ آخر لها في رتبة سابقة عن الأمر بالتوقف - كعلم إجمالي ونحوه - يكون هو المنجّز للتكليف، والرافع لقبح العقاب بلا بيان، وإلاّ فيستحيل ترتب الهلكة المفروضة على نفس هذه الأوامر المتأخرة عنها.

وبعبارة أخرى: العلة متقدمة على المعلول، فالهلكة حيث كانت علة للأمر بالتوقف لا بد من تقدمها عليه، كما في موارد العلم الإجمالي حيث يستقل العقل بوجوب التوقف ويكون الحكم الشرعي حينئذٍ إرشادياً مع بيان العلة.

وفي الشبهات البدوية التحريميّة الهلكة مترتبة على الأمر بالوقوف، فلا يمكن أن تكون متقدمة بمقتضى التعليل؛ لأن ذلك من تقدم الشيء على نفسه، وعليه فلا تشمل هذه الروايات ما نحن فيه!

ورُدَّ: بارتفاع الدور أو ملاكه بكون التعليل كاشفاً عن وجود الهلكة، وعليه فالهلكة غير مترتبة على الأمر بالوقوف في الشبهات البدوية التحريمية، بل الأمر به كاشف عنها، نظير نهي المولى عن الخمر وتعليله بأنه مضرّ.

الإشكال الرابع - وهو العمدة - ما ذكره الشيخ الأعظم(1) وحاصله: أن الأمر بالوقوف ظاهر في الإرشاديّة، فلا بد من ملاحظة مورد الشبهة وأنه هل فيه احتمال العقوبة أم لا؟ والموارد التي يحتمل فيها العقوبة هي موارد العلم الإجمالي، والشبهات الحكمية قبل الفحص، والموارد التي نهى

ص: 115


1- فرائد الأصول 2: 69-73.

الشارع فيها عن التدين بالاستحسانات العقلية والظنون الارتجالية كغوامض المسائل العقلية المرتبطة بالعقائد.

وإما الشبهة الحكمية بعد الفحص فلا منشأ لاحتمال العقوبة فيها إلاّ مخالفة أمر (قف)، أو مخالفة الحكم الواقعي، وكلاهما غير صالحين لذلك؛ إذ (قف) إرشادي، والحكم الواقعي مجهول ولا إشكال في قبح العقاب على المجهول.

وعليه فلا احتمال للهلكة - بمعنى العقوبة - في الاقتحام.

إن قلت: إن الروايات مطلقة فتشمل الشبهات البدوية، وقد ذكرت بأن الاقتحام يؤدّي إلى الهلكة، وهذا بيان للازم الحرمة، وعليه فالاقتحام في المشكوك عرضة للهلكة، فيحرم الاقتحام، ويجب الاحتياط؛ إذ الاقتصار في العقاب على نفس التكاليف المختفية من دون تكليف ظاهري بالاحتياط قبيح!

قلت: إيجاب الاحتياط إن كان مقدمة للتحرز عن العقاب الواقعي فهو مستلزم لترتب العقاب على التكليف المجهول، وهو قبيح، وإن كان حكماً ظاهرياً نفسياً فالهلكة الأخروية مترتبة على مخالفته لا مخالفة الواقع، مع أن صريح الأخبار إرادة الهلكة الموجودة في الواقع على تقدير الحرمة الواقعية.

وحاصله: إن الأمر بالاحتياط المكشوف عبر بيان لازمه الذي هو الهلكة في الاقتحام إما غيري أو نفسي، والأول لا عقوبة على مخالفته، والثاني غير متحقق في المقام!

وأجيب بأجوبة منها:

ص: 116

الجواب الأول: إن هناك شقاً ثالثاً هو الأمر الطريقي - وهو الذي يُجعل بداعي تنجيز الواقع أو التعذير عنه - ، نظير الأمر باتباع الأمارات، حيث إن طابقت الواقع تنجز وإلاّ كانت عذراً للمكلّف.

إن قلت(1): لا يعقل هنا الأمر الطريقي وذلك لأن المصحح للعقوبة على مخالفة الواقع إذا كان هو الأمر الطريقي فلا محالة تكون العقوبة مترتبة عليه وفي طوله، ولا يعقل أن يكون الأمر الطريقي في طولها ومترتباً عليها، مع أن المفروض في الروايات إنما هي العقوبة في مرتبة سابقة على الأمر بالاحتياط، حيث إنه علّل فيها الأمر بالاحتياط بالهلكة، وهذا لا يتلائم مع كون الأمر بالاحتياط طريقياً.

والحاصل: أن فرض العقوبة إنما هو على الواقع وهو في مرحلة سابقة على الأمر بالتوقف وهذا يتنافى مع كون الأمر به نفسياً وطريقياً، فإن فرض العقوبة على الواقع منافٍ لكون الأمر بالتوقف نفسياً، وفرضها في مرحلة سابقة منافٍ لكونه طريقياً.

قلت(2): بل يعقل ذلك؛ لأن الفاء لا تدل على التعليل؛ لعدم لزوم كون مدخول (الفاء) في رتبة سابقة ليكون علة، بل تكون للتفريع احتمالاً، فبعد الأمر ب-«احتط» يتفرع عليه أن في اقتحام الشبهة معرضية للهلكة، كما لو قلنا (صلّ فإنّ في تركها الهلكة) حيث إن (الفاء) للتفريع، أي لأنها واجبة لذلك يترتب على تركها العقوبة.

ص: 117


1- منتقى الأصول 4: 466.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 9: 236-237.

بل حتى لو فرض كون الفاء للتعليل، فإنه تعليل للمادة لا للهيأة، بمعنى أنها تعليل لفعل المكلّف لا تعليل لإنشاء المولى، فليس كون «الوقوف في الشبهة...» علة لإنشاء المولى، بل علة لفعل المكلف وهو التوقف.

وبذلك ثبت معقولية الأمر الطريقي، فلا ينحصر الأمر هنا في الغيري والنفسي.

الجواب الثاني: ما في نهاية الدراية(1)

وحاصله: أن «قفوا عند الشبهة» مطلق، و«الوقوف عند الشبهات...» عام، فيشملان الشبهات البدوية، كما أن «الهلكة» ظاهرة في العقوبة الأخروية، وعليه فإن ظاهر الحديث: أن اقتحام المشكوك اقتحام في العقوبة الأخروية، وحيث إن الأمر بالوقوف والأمر الواقعي غير صالحين لتصحيح العقوبة - لما ذُكر - فلا بد من وجود أمر ثالث، وإلاّ كان الكلام لغواً، وهو ما يُصان الحكيم عنه.

وعليه فهنا ثلاثة أوامر: واقعي وإرشادي وطريقي، والثالث هو المصحح للعقاب على الواقع المجهول، والأول تمّ اكتشافه من الثاني؛ إذ الوقوف عند المشكوك غيرمعقول بدون وجود الأمر الطريقي، وعليه فمن وجود الأمر بالتوقف وتحقق الهلكة في الاقتحام نكتشف وجود الأمر بالاحتياط في رتبة سابقة.

إن قلت: الأمر الطريقي لم يصل، والأمر الواقعي مجهول، فكيف صححتم العقاب؟

قلت: أما الأمر الطريقي فواصل؛ إذ لا فرق في أنحاء الوصول، حيث إن

ص: 118


1- نهاية الدراية 4: 102-103.

الأمر بالتوقف يكشف عن الأمر بالاحتياط، ووصول المعلول وصول للعلة، وأما الأمر الواقعي فلا محذور فيه.

وتوهم الدور: بأن معرضية العقوبة متأخرة عن وصول الأمر الإرشادي، كما أن التعليل ظاهر في أنها متقدمة عليه.

مندفع: بأن أمر المشافَه بالتوقف كاشف عن وصول الأمر بالاحتياط سابقاً - ولا محذور في احتمال ذلك في حق المخاطب ثبوتاً، وبضميمة قاعدة الاشتراك في التكليف يكون الأمر الطريقي واصلاً إلينا، فلا يكون وصوله عبر الأمر الإرشادي ليكون دوراً!

إن قلت: إنه مجرد احتمال ولا مثبت له!

قلت: إنما ثبت بدلالة الاقتضاء، فبعد تسليم الإطلاق وكون الهلكة هي العقوبة، فلا بد عقلاً من ثبوت أمر آخر غير الإرشادي والواقعي.

وحاصل كلامه بتلخيص التبيين(1):

إن الشبهة مطلقة تشمل البدوية، كما أن الهلكة هي العقوبة الأخروية، ولا يعقل أن يكون أمر «قف» أو الأمر الواقعي المجهول منشأ للهلكة، فبدلالة الاقتضاء نكتشف وجود أمر ثالث في المقام، وهو المصحح للعقوبة على الواقع المجهول، ولا مانع من ذلك في حق المشافهين، فبضميمة قاعدة الاشتراك يثبت لغير المخاطبين.

أقول: في ما ذكر تأمل وذلك لأن الأمر يدور بين تقييد أو تخصيص الشبهة والشبهات، وبين تقدير أمر طريقي، والأول أولى من الثاني، فتأمل.

ص: 119


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 9: 241.

أما الإشكال عليه: بأنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية فإشكال مبنوي، قال المحقق العراقي(1):

إن ذلك مبني على جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، فإنه بعد اقتضاء أدلة البراءة نفي الهلكة على ارتكاب المشتبه في ظرف عدم البيان، يراد بالتمسك بالإطلاق المزبور في أن كل شبهة فيها الهلكة لإدخال الشبهات البدوية تحت حكم العام بإثبات أن الهلكة فيها كانت مع البيان، ومثله كما ترى غير جائز.

وبعبارة أخري: إن العام هو (الشبهة) وذلك لإطلاقها في الأخبار، والخاص هو (عدم البيان) عقلاً بقاعدة قبح العقاب بلا بيان، وعليه فكل شبهة لا بيان فيها لا عقاب على ارتكابها، وهذا الخاص غير معلوم في الشبهات البدوية بعد الفحص؛ إذ لا نعلم أن هناك بيان - عبر الأمر الثالث - أم لا! وحسب مبنى المحقق العراقي فإن الشبهة المصداقية للخاص تسري إلى العام حيث إن العام يعنونه، فصارت شبهة للعام، ولا يصح التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

إن قلت: الإطلاق وجداني، فيكشف عن الأمر الثالث، فلا شك في وجوده، فلا شبهة مصداقية للخاص لتسري إلى العام!

قلت: ليس الإطلاق وجدانياً، بل هو متوقف على وجود الأمر الثالث، وعليه فيتحقق الشك في البيان.

نعم، على المبنى الآخر - من أن الشبهة المصداقية للخاص لا تسري إلى العام - يصح التمسك به.

ص: 120


1- نهاية الأفكار 3: 245-246.

الإشكال الخامس: ما في الكفاية(1)

من أنه لا تهلكة في الشبهة البدوية، مع دلالة النقل على الإباحة وحكم العقل بالبراءة.

وأورد عليه: بأنه مع الأمر بالتوقف يحصل البيان فيرتفع موضوع البراءة العقلية وهو اللابيان، كما يزول به الشك فيرتفع موضوع البراءة النقلية الذي هو الشك.

الطائفة الثانية: الأخبار الآمرة بالاحتياط مطلقاً

1- منها: صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج، قال: «سألت أبا الحسن (علیه السلام) عن رجلين أصابا صيداً - وهما محرمان - الجزاء بينهما أو على كل واحد منها جزاء؟ قال (علیه السلام) : لا، بل عليهما أن يجزي كل واحد منهما الصيد. قلت: إن بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه؟ قال (علیه السلام) : إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتى تسألوا عنه فتعلموا»(2).

ومورد الرواية الشبهة الحكمية وقد دلت على وجوب الاحتياط فيها.

والجواب من وجوه، منها:

الجواب الأول: إن الغاية في قوله (علیه السلام) : «حتى تسألوا فتعلموا» هي العلم، فمع إمكان تحصيل العلم بالواقع فهو، وإلاّ فقد دلّت الأدلة على البراءة وهي علم ظاهري، كما ينقض الاستصحاب باليقين الظاهري، وعلى كل حال يتحقق العلم بالبراءة العقلية والشرعية.

الجواب الثاني: إن قوله (علیه السلام) : «مثل هذا» إما يراد به الشبهة الوجوبية أو

ص: 121


1- إيضاح كفاية الأصول 4: 143.
2- الكافي 4: 391؛ وسائل الشيعة 13: 46.

مطلق الشبهة، وعلى كل حال لا يمكن حمل «فعليكم بالاحتياط» على الوجوب؛ إذ على الأول لا يجب الاحتياط حتى عند الأخباريين، وعلى الثاني يلزم خروج المورد وهو مستهجن، فلا بد من الحمل على الاستحباب.

وقد يتأمل فيه: بأن المورد هو مع إمكان الفحص بالسؤال ولا إشكال في وجوب الاحتياط حينئذٍ، وعليه فالرواية مجملة فلا يصح الاستدلال بها.

الجواب الثالث: إن الرواية خاصة بزمان الحضور، وذلك بقرينة الغاية!

وفيه: أن هذا إنما يصح لو كانت الغاية مقيدة بالقدرة، أي السؤال مع إمكانه، إلاّ أن الظاهر هو إطلاق الغاية، أي غاية الاحتياط هو السؤال سواء أمكن أم لا، نظير ما لو قال المولى لا تفعل كذا حتى تستأذنّي، فإن النهي لا يسقط بعدم التمكن من الاستئذان.

الجواب الرابع: إن الرواية لا ترتبط بما نحن فيه؛ إذ فيها يعلم بالتكليف إجمالاً، وبحثنا في الشك في أصل التكليف!

وفيه: إن مورد الرواية أيضاً في الشك في التكليف؛ لأن المورد هو من الشك بين الأقل والأكثر فينحل العلم الإجمالي فيعود إلى الشك في أصل التكليف في الزائد.

2- ومنها: ما عن الإمام الكاظم (علیه السلام) حيث قال: «أرى لك أن تنتظر حتى تذهب الحمرة وتأخذ بالحائطة لدينك»(1).

ص: 122


1- الاستبصار 1: 264؛ وسائل الشيعة 4: 177.

فإن قوله (علیه السلام) : «بالحائطة لدينك» تعليل للانتظار، فيفيد العموم بوجوب الاحتياط في كل شبهة.

وأشكل عليه بأمور، منها:

الإشكال الأول: إن مورد الرواية إما الشبهة الموضوعية أو الحكمية، وكلاهما لا ينفع المستدل...

أما الموضوعية - بأن يكون شكه في تحقق الاستتار مع علمه بأن ملاك الإفطار والصلاة هو استتار القرص - فإن وجوب الاحتياط من باب استصحاب النهار، وغير خفي أنه لا مجال للبراءة الحكمية مع جريان الاستصحاب الموضوعي.

وأما الحكمية - بأن يكون سؤاله عن تحقق الليل الذي به يجوز الإفطار والصلاه - فإنه لا بد من حمل الكلام على التقية؛ إذ لا معنى للجواب بالاحتياط إلاّ الجهل بالحكم الواقعي، وحجج الله تعالى منزّهون عنه، وأما الاحتياط للتقية فلا محذور فيه بأن يؤخّر إفطاره حتى ذهاب الحمرة المشرقية إيهاماً لهم بأنه يتحرّى التأكّد من استتار القرص.

الإشكال الثاني: ما قيل: من احتمال أن يكون قوله (علیه السلام) : «وتأخذ بالحائطة لدينك» من تتمة الفقرة الأولى، لا تعليلاً لها، فيكون محصّل المعنى: يجب عليك الانتظار على نحو الاحتياط من دون أن يلتفت أحد إلى مذهبك(1).

ويمكن أن يقال: إن هذا المعنى هو الاحتياط لنفسك لا احتياط لدينك،

ص: 123


1- درر الفوائد، للحائري: 434.

فيكون خلافاً للظاهر، ولا يُصار إليه.

3- ومنها: ما عن أمير المؤمنين (علیه السلام) أنه قال: «أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت»(1).

وأجيب بأمور، منها:

الجواب الأول: إن الحديث لا يدل على الوجوب؛ وذلك لمكان قوله (علیه السلام) : «بما شئت» فإن الواجب لا يعلّق على المشيئة.

إن قلت: إطلاق قوله (علیه السلام) : «احتط» يمنع من الحمل على الاستحباب، حيث يجب الاحتياط في بعض الشبهات كالمقرونة بالعلم الإجمالي وكالشبهة الحكمية قبل الفحص.

قلت: يتعارض إطلاق «احتط» مع ظهور «ما شئت» في الاستحباب، وظهور الثاني أقوى من ظهور الأول!

الجواب الثاني: إنه لا بدّ من التصرف في المادة أو الهيأة، أما في المادة - وهي الاحتياط - فإنه لو كان الاحتياط واجباً للزم حملها على غير الشبهات الموضوعية، والحكمية الوجوبية والتي يُعلم عدم وجوب الاحتياط فيهما، وأما في الهيأة فبحملها على مطلق الرجحان، والثاني إن لم يكن أرجح فهو مساوٍ للأول، فتكون الرواية مجملة فلا يصح الاستدلال بها على الوجوب.

الجواب الثالث: إن حمل «احتط» على الوجوب يستلزم تخصيص الأكثر وهو مستهجن؛ إذ لا يجب الاحتياط في الشبهة الموضوعية الوجوبية

ص: 124


1- أمالي الشيخ الطوسي: 109؛ وسائل الشيعة 27: 167.

والتحريمية، والشبهة الحكمية الوجوبية، فلا يبقى تحت الأمر إلاّ الشبهة الحكمية التحريميّة!

وفيه: إن هناك شبهات أخرى يجب الاحتياط فيها، كالشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي موضوعية كانت أم حكمية، والشبهة الحكمية قبل الفحص وجوبية كانت أم تحريميّة، ومع إضافة الشبهة الحكمية التحريمية يكون موارد الوجوب أكثر من موارد الاستحباب.

الجواب الرابع: ما في الرسائل(1)

من أن الأمر المذكور بالاحتياط لخصوص الطلب غير الإلزامي؛ لأن المقصود منه أعلى مراتب الاحتياط لا جميع مراتبه، ولا المقدار الواجب، والمراد بقوله: «بما شئت» ليس التعميم من حيث القلة والكثرة والتفويض إلى إرادة الشخص؛ لأن هذا كلّه منافٍ لجعله بمنزلة الأخ، بل المراد: أيّ مرتبة من مراتب الاحتياط شئتها فهي في محلّها.

وبعبارة أخرى: إن «ما شئت» قد تكون للتخيير بين المراتب، وقد تكون لبيان المرتبة العليا، والاحتياط في المرتبة العليا مطلوب للمولى لأنه شبّهه بالأخ الذي يريد كمال الاعتناء به، فهذا قرينة على أن المراد المرتبة العليا، وهي ليست بواجبة.

وقد يقال: إن هذا خلاف الظاهر، ولذا لو لم يذكر «بما شئت» أوهم الوجوب، فأضافه لدفع التوهم.

4- ومنها: قوله (علیه السلام) : «ليس بناكب عن الصراط من سلك سبيل

ص: 125


1- فرائد الأصول 2: 81.

الاحتياط»(1).

وفيه: أن قوله (علیه السلام) : «سبيل الاحتياط» مطلق فيشمل من احتاط في بعض الشبهات، وحتى لو فرض دلالته على العموم المجموعي فهو يدل على نجاة من احتاط في كل الشبهات، ولا دلالة على عدم نجاة غيره إلاّ مفهوم اللقب وهو ليس بحجة، مضافاً إلى أن استفادة الوجوب من قوله: «ناكب» يتوقف على مفهوم الوصوف أو اللقب.

وهناك روايات أخرى تمّ الاستدلال بها، وهي مضافاً إلى ضعف سندها لا دلالة لها.

إشكالات عامة

ثم إن هاهنا إشكالات عامة على الاستدلال بهذه الطائفة الآمرة بالاحتياط، منها:

الإشكال الأول: إن روايات الاحتياط عامة لشمولها لكل الشبهات، وروايات البراءة خاصة لعدم شمولها للشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي، والشبهات الحكمية قبل الفحص.

وأجيب: بأن النسبة بينهما التساوي بناءً على عدم انقلاب النسبة، والعموم والخصوص من وجه بناءً على انقلابها.

أما الأول: فإن روايات البراءة عامة في نفسها كروايات الاحتياط، وتخصيصها إنما كان بدليل آخر، فأخصيّة روايات البراءة متوقفة على القول بانقلاب النسبة.

ص: 126


1- جامع أحاديث الشيعة 1: 332.

وأما الثاني: فلأن أخبار الاحتياط أيضاً مخصصة بالشبهات الموضوعية، فمورد افتراق البراءة هي الشبهات الموضوعية حيث لا يجب الاحتياط فيها، ومورد افتراق الاحتياط الشبهات الحكمية قبل الفحص حيث لا تجري البراءة، ومورد الاجتماع: الشبهات الحكمية بعد الفحص.

الإشكال الثاني: ظهور روايات الاحتياط في الوجوب لكونها بصيغة الأمر، مع كون روايات البراءة نص فيها، فيقدم الثاني على الأول.

وفيه: أنه لا تصل النوبة إلى الجمع الدلالي، حيث إنه فرع التعارض، ولا تعارض هنا؛ وذلك لحكومة أدلة الاحتياط حيث إنها علم تنزيلي.

الإشكال الثالث: إن أوامر الاحتياط إرشادية وذلك لاستقلال العقل بحسن الاحتياط، فلا بد لمعرفة الوجوب أو عدمه من النظر في المرشد إليه، والعقل لا يحكم بلزوم الاحتياط في الشبهات الحكمية التحريميّة بعد الفحص، بل يحكم بمجرد حسنه لإدراك الواقع.

وفيه: أنّ ظاهر الأمر المولوية، ولا يرفع اليد عنه إلاّ لمحذور كأوامر الطاعة، فليس مجرد وجود حكم للعقل سبب لرفع اليد عن الظهور.

الإشكال الرابع: إن استصحاب عدم الحرمة رافع لموضوع أخبار الاحتياط فلا تعارض أصلاً؛ إذ به يحرز عدم التكليف، فإن موضوع أخبار الاحتياط الشك والشبهة، والاستصحاب علم تعبداً فلا شبهة ولا شك! مضافاً إلى تقدم الاستصحاب على جميع الأصول الأخرى ومنها الاحتياط، فبارتفاع الاحتياط - موضوعاً أو محمولاً - تجري البراءة من غير معارض.

ص: 127

الطائفة الثالثة: أخبار التثليث

وهي روايات متعددة، ومنها: مقبولة عمر بن حنظلة عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإن المجمع عليه لا ريب فيه، وإنما الأمور الثلاثة: أمر بيّن رشده فيتّبع، وأمر بيّن غيّه فيجتنب، وأمر مشكل يُردّ علمه إلى الله وإلى رسوله، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : حلال بيّن، وحرام بين، وشبهات بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجا من المحرّمات، ومن أخذ الشبهات ارتكب المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم»(1).

والاستدلال بها على وجوب الاحتياط من وجوه:

الوجه الأول: التعليل في قوله (علیه السلام) : «فإن المجمع عليه لا ريب فيه»، يدل على طرح ما فيه الريب، ومنه المشتبه حكمه.

وفيه: إن هذا في الحجة المشكوكة، وعدم اعتبارها معلوم؛ إذ الشك في الحجية مسرح عدم الحجية، وما نحن فيه المدعى ثبوت الحجية بأدلة البراءة.

الوجه الثاني: قوله (علیه السلام) : «فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات».

وفيه: إنّ النجاة من المحرمات الواقعية راجح ولا دليل على وجوبه وليس في هذا الحديث دلالة على الوجوب، وإنما دلّ الدليل على وجوب النجاة عن المعاصي.

الوجه الثالث: التثليث في كلام الإمام الصادق (علیه السلام) يدل على أن موارد

ص: 128


1- الكافي 1: 68.

الشبهة من المشكل الذي يجب ردّ علمه إلى الله والرسول (صلی الله علیه و آله) .

وفيه: إن المشتبه الذي دلت البراءة على جوازه ليس من المشكل، بل من الأمر البيّن رشده، كما في الشبهات الموضوعية اعتماداً على اليد مثلاً، مضافاً إلى ما قيل: من أن الرواية في الردع عن الإفتاء طبقاً للخبر الشاذ لا عن العمل الذي هو محل البحث.

الوجه الرابع: ما ذكره الشيخ الأعظم(1)

من أن الإمام (علیه السلام) أوجب طرح الشاذ مُعَلِّلاً: بأنّ المجمع عليه لا ريب فيه، والمراد أن الشاذ فيه ريب، لا أن الشهرة تجعل الشاذ ممّا لا ريب في بطلانه، وإلاّ لم يكن معنىً لتأخير الترجيح بالشهرة عن الترجيح بالأعدلية والأصدقية والأورعية، ولا لفرض الراوي الشهرة في كلا الخبرين، ولا لتثليث الأمور ثم الاستشهاد بتثليث النبي (صلی الله علیه و آله) ، أي إن التثليث دلّ على أن الخبر فيه الريب، لا أنه لا ريب في بطلانه، وإلاّ لم يكن معنى لذكر التثليث وإدخال المشتبه في مقابل الحلال والحرام البيّنين.

وعليه فإن الشاذ مما فيه الريب فيجب طرحه، وهو الأمر المشكل الذي أوجب الإمام (علیه السلام) ردّه إلى الله ورسوله، فاستشهاد الإمام (علیه السلام) بقول الرسول (صلی الله علیه و آله) في التثليث لا يستقيم إلاّ مع وجوب الاحتياط والاجتناب عن الشبهات، مضافاً إلى دلالة قوله: «نجا من المحرمات» بناءً على أن تخليص النفس من المحرّمات واجب، وقوله (صلی الله علیه و آله) : «وقع في المحرمات وهلك من حيث لا يعلم».

ص: 129


1- فرائد الأصول 2: 82.

وبعبارة أخرى - كما في التبيين -(1):

إن الإمام (علیه السلام) استشهد لوجوب الطرح بحديث النبي (صلی الله علیه و آله) ، وذلك دالّ على وجوب ترك الشبهات فيه، فيعلم من الاستشهاد أن طرح الشاذ النادر صغرى لكبرى واجبة، وإلاّ لو كان ترك الشبهات غير واجب لم يصحّ الاستشهاد بغير الواجب لوجوب شيء، فلو لم تكن الكبرى واجبة لا يصح القول بوجوب الصغرى، لكونها فرداً من أفراد الكبرى غير الواجبة، فيعلم أن الكبرى النبوية واجبة لأنه استشهد بها للصغرى الصادقية.

إن قلت: يصح الاستدلال للصغرى الواجبة بالكبرى الدالة على مطلق الرجحان، كما لو قال: (صلّ اليومية فإنه مسارعة إلى المغفرة والرحمة).

قلت: هذا الكلام وإن كان صحيحاً، لكن لا ينطبق على ما نحن فيه لخصوصية، وهي قوله (علیه السلام) : «ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم» فإن هذا لا يتناسب مع الرجحان المطلق.

ويرد على هذا الوجه: أن المقبولة تدل على حرمة الشبهات التي تؤدّي إلى الحرام البيّن، وهي ما كانت مقدمة للحرام، كما لو أدّى شرب التتن إلى الوقوع في الحرام، ومع إجراء أصل البراءة لا يكون الأمر كذلك، فما أكثر الورعين الذين يعملون بأصالة البراءة ومع ذلك يتجنبون المحرمات المعلومة أشد اجتناب.

وعليه فلا تنطبق المقبولة على مدّعى القائلين بوجوب الاحتياط؛ لأن مدعاهم هو أن ارتكاب الشبهات وقوع في الحرام الواقعي أو تعرّض

ص: 130


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 9: 291-292.

للوقوع فيها.

هذا تمام الكلام في الاستدلال بالأخبار على وجوب الاحتياط، وقد تبيّن عدم تماميّته.

الدليل الثالث: العقل
اشارة

ومما استدل به على وجوب الاحتياط في الشبهات البدوية التحريمية حكم العقل.

الدليل العقلي الأول: العلم الإجمالي

أي نعلم إجمالاً بوجود محرّمات كثيرة، فلا بد من إفراغ الذمّة منها باليقين، فإن الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينيّة، وقد ثبت بالدليل المعتبر جملة من المحرمات لكن لا يقين بإفراغ الذمّة منها أجمع، فيجب الاحتياط بالاجتناب عن جميع الشبهات.

والجواب: إما بإنكار وجود علم إجمالي هنا، أو بعدم تنجيزه للواقع، أو بعدم دخول ما ليس عليه أمارة أو طريق في أطرافه، أو بانحلاله على فرض وجوده، وتفصيل الأجوبة:

الجواب الأول: بإنكار وجوده، قال الشيخ الأعظم(1)

منع تعلّق تكليف غير القادر على تحصيل العلم إلاّ بما أدّى إليه الطرق غير العلمية المنصوبة له، فهو مكلّف بالواقع حسب تأدية هذه الطرق، لا الواقع من حيث هو... وحينئذٍ فلا يكون ما شُك في تحريمه مما هو مكلّف به فعلاً على تقدير حرمته واقعاً. انتهى.

ص: 131


1- فرائد الأصول 2: 89.

ويمكن أن يقال: إن الواقع يتنجز بالعلم - سواء كان تفصيلياً أم إجمالياً - كما يتنجز بالطريق، وأحدهما لا ينفي الآخر.

الجواب الثاني: بعدم تنجيز أمثال هذا العلم الإجمالي للواقع، قال المحقق الإصفهاني: «إن مثل هذا العلم الإجمالي بالأحكام هو في نفسه قاصر عن تنجيز الواقعيات؛ لعدم تعلّقه بأحكام فعلية بعثية أو زجرية، بل بأحكام كليّة بنحو القضايا الحقيقيّة المنوطة فعليتها بفعلية موضوعها عند الابتلاء بها، لوضوح تدرجيّة الابتلاء، فالمناط تدريجية الفعلية بتدريجيّة الابتلا بها، لا تدريجية الاستنباط»(1).

وحاصله: إن هذا العلم الإجمالي غير مفيد لتنجيز الواقع؛ وذلك لعدم الابتلاء بكل الأطراف بل هي تدريجيّة؛ إذ هذا العلم الإجمالي تعلّق بأحكام كليّة لا تكون فعليّة إلاّ عند الابتلاء بها.

وأورد عليه: أولاً(2):

إن تدريجية فعلية الأحكام غير مانعة عن تنجيز العلم الإجمالي؛ لأن مولوية المولى لا تختص بالتكاليف الفعلية، بل هي أعم من الفعليّة والاستقبالية، كمن يعلم بابتلائه خلال الأسبوع القادم بمعاملة ربوية، فلا يحق له إجراء البراءة في المعاملة الأولى ثم الثانية وهكذا.

وثانياً: إن ابتلاء المجتهد بها دفعة واحدة وفي عرض واحد؛ لأن ابتلاءه بلحاظ الفتوى لا العمل.

ص: 132


1- راجع نهاية الدراية 4: 127.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 9: 304.

إن قلت: إن وظيفة المجتهد تابعة لوظيفة المقلّد، والمقلّد غير مبتلى بكل الأطراف فيجوز الفتوى له بالبراءة!

قلت: إن الأمر في الشبهات الحكمية بالعكس؛ وذلك لعدم جواز الاقتحام إلاّ بعد الفحص وحيث لا يتمكن المقلّد من ذلك يقوم المجتهد عنه بهذه المهمة. نعم، الأمر في الشبهات الموضوعية كما ذكر كما لو كان أحد المشتبهين خارجاً عن محل ابتلاء المقلّد مع كونهما محلاً لابتلاء المجتهد، فيفتي للمقلد بالبراءة.

هذا كلّه مضافاً إلى الإشكال المبنوي بناءً على القول بالواجب المعلّق.

الجواب الثالث: إن غير موارد الأمارات والطرق والأصول ليست أطرافاً للعلم الإجمالي، فلا علم إجمالي كبير كي يجب الاحتياط في أطرافه!

وفيه: سبق العلم الإجمالي الكبير على العلم الإجمالي الصغير؛ وذلك لعلم المكلفين وجود تكاليف كثيرة عليهم، ثم بعد انعقاد هذا العلم يعلمون بوجود تكاليف في دائرة الأمارات والطرق والأصول - حيث لا يحتمل مخالفتها كلّها لواقع - ، فلا ينفع إلاّ الانحلال كما سيأتي.

الجواب الرابع: انحلال العلم الإجمالي الكبير إلى علم إجمالي صغير، إما بالانحلال الواقعي - الطاري أو الساري - وإما بالانحلال الحكمي، فهنا وجوه ثلاثة:

الوجه الأول: الانحلال الحقيقي الطاري، وذلك بادعاء تحقق العلم اللاحق بأن جميع التكاليف الواقعية موجودة في مؤدّيات الأمارات والطرق والأصول، فالانحلال حقيقي، حيث إن العلم اللاحق هو علم وجداني

ص: 133

وليس علماً تعبدياً.

لكن لا يخفى أن لازم هذا الوجه لزوم الاحتياط في جميع موارد الأمارات حتى لو كانت غير معتبرة، وانحصار إجراء البراءة في ما لم يقم أيّ دليل حتى ضعيف عليه، وهذا لا يمكن الالتزام به.

الوجه الثاني: الانحلال الحقيقي الساري، وذلك بادعاء زوال العلم الإجمالي السابق من أصله وتبدله إلى شك بدوي.

بيانه: إن شرط منجزية العلم الإجمالي هو كونه منجّزاً على كل تقدير، وأما لو علم بالمنجزية في حالة دون أخرى فلا ينفع في التنجيز، كما لو علم تفصيلاً بنجاسة أحد الإنائين بملاقاة البول، ثم علم إجمالاً بملاقاة أحدهما لقطرة دم لاحقاً، فهنا لا حكم للعقل بتنجيز جديد؛ لأن قطرة الدم إن كانت لاقت ما كان نجساً بقطرة البول فلا تنجيز جديد لأن المنجّز لا ينجّز، وإن كانت لاقت الإناء الآخر حصل تنجيز جديد، وحيث لا تنجيز على كل تقدير لم يكن للعلم الإجمالي أثر.

إن قلت: إن العلم التفصيلي المثبت للتكليف في بعض الأطراف لا يضرّ بتنجيز العلم الإجمالي إذا كان هذا العلم التفصيلي متأخراً، كما لو علم إجمالاً بنجاسة أحد الإنائين ثم طهّر أحدهما فالعلم بطهارته لا ترفع التنجيز السابق باجتناب الآخر!

قلت: إن المناط في تنجز العلم الإجمالي هو العلم بالتكليف على كل حال، وبعد تنجّزه لا يضرّ خروج بعض الأطراف عنه؛ لأن الذمة قد اشتغلت بالتكليف فلا رافع له إلاّ البراءة اليقينية، وأما لو دلّ الدليل على عدم تنجز

ص: 134

العلم الإجمالي من أصله فلا معنى لإبقاء آثار التنجز، وفي ما نحن فيه الظفر بالدليل المثبت للتكليف يكشف عن عدم التنجز من أول الأمر، حيث إن الدليل المثبت للتكليف لا يولّد تكليفاً، بل يكشف عن التكليف من أول الأمر.

وبعبارة أخرى: إن الملاك هو سبق المعلوم بما هو معلوم لا سبق العلم، فمع تأخر العلم والمعلوم التفصيليّين في بعض الأطراف لا ينحلّ العلم الإجمالي، أما لو تأخر العلم التفصيلي عن العلم الإجمالي مع تقدّم المعلوم عليه انحلّ العلم الإجمالي، كما لو علم بسقوط قطرة دم في أحد الإنائين ثم علم تفصيلاً بسقوط قطرة بول في أحدهما المعيّن قبل ذلك، فحيث إن المعلوم التفصيلي بأحدهما مقدّم انحلّ العلم الإجمالي.

وفي ما نحن فيه العلم التفصيلي - بما في الأمارات والطرق - متأخر عن العلم الإجمالي، إلاّ أن المعلوم بالعلم التفصيلي متقدم على العلم الإجمالي، ومع هذا العلم التفصيلي اللاحق يعلم أن العلم الإجمالي السابق بالتكليف لم يكن علماً به، بل شك بدوي(1)،

فتأمل.

والحاصل: أن قيام الأدلة وإن كان متأخراً عن العلم الإجمالي، إلاّ أنها تكشف عن تنجز مؤدّاها من أول البلوغ، فتقدم المعلوم التفصيلي على العلم الإجمالي،ومع ذلك لا نعلم بتنجز العلم الإجمالي على كل تقدير، حيث إنه لو كانت التكاليف الواقعية منحصرة في ما قامت عليه الأدلة فلا تنجز جديد وإن كانت في غيرها حصل تنجز جديد، وبالنتيجة لا علم بالتنجز على كل تقدير.

ص: 135


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 9: 315.

إن قلت: إن المجعول في موارد الأمارات والطرق المنجزية والمعذرية، فلا تنجز من قبل حصول العلم الإجمالي فيكون سابقاً على المعلوم! كما لا تنجز مع عدم الوصول فقبل قيام الأمارة أو الطريق لا تنجيز للواقع، بل العلم الإجمالي هو المنجز له فتأخر المعلوم!

قلت: إن متعلق العلم الإجمالي إنما هو تكاليف ثبتت في ذمّة المكلف من أول بلوغه، وقد علمنا عبر الأمارات والطرق بتكاليف يحتمل انطباقها على تلك التكاليف الواقعية ولا علم بتكاليف خارج دائرة الأمارات والطرق فلا محذور في الانحلال، كما أنه يكفي في تنجيز الطريق كونه في معرض الوصول بحيث لو فحص عنه المكلف لوصل إليه، والحاصل: الانحلال لا إشكال فيه لتنجز بعض الأطراف من حين البلوغ فتقدّم المعلوم على العلم.

الوجه الثالث: الانحلال الحكمي؛ وذلك لأن الأمارات والطرق وإن لم تورث العلم الوجداني، إلاّ أنها حيث كانت حجة حلّت العلم الإجمالي، كما لو علم إجمالاً بسقوط قطرة في أحد الإنائين ثم قامت البينة على أنه الإناء الأول مثلاً، ولازمه عدم الحرمة في ارتكاب الثاني.

وفيه تأمل: لأن المناط في الانحلال الحكمي هو إثبات التكليف في أحدهما بالدلالة المطابقية، ونفي التكليف عن الآخر بالدلالة الالتزامية، كما لو علم إجمالاً بوجوب الظهر أو الجمعة في عصر الغيبة ثم قام الدليل على أن الواجب أحدهما، حيث يدل بالالتزام على عدم وجوب الآخر.

وليس ما نحن فيه كذلك؛ لأن الأدلة تثبت حرمة ما تضمنته ولا تنفي الحرمة عن غيرها لا بالمطابقة ولا بالالتزام.

ص: 136

الدليل العقلي الثاني: قبح التصرف

إن العقل يستقل بقبح التصرف في ملك الغير من غير إذنه، وهذا الكون بأجمعه ملك لله تعالى فلا يجوز التصرف فيه إلاّ بثبوت إذنه تعالى.

والجواب: إن الترخيص ثبت بأدلة البراءة التي قد مرّت، بل بقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}(1)

أما سائر الأجوبة فلا تخلو من تأمل...

ومنها: أن الملكية إما تكوينية وإما اعتبارية، أما ملكيته تعالى التكوينية فقد أذن في التصرف ولولاه لما أمكن التصرف قطعاً، وأما الاعتبارية فلم يشرّعها لعدم وجود غرض في تشريعها هنا!

وفيه: إن الإذن التكويني بمعنى القدرة على الأشياء والأفعال ثابت حتى في المحرمات، وهذا لا يكفي، بل لا بد من إحراز الرضا، كما أنه لا لغوية في تشريع الملكية الاعتبارية مثل سهم الله في الخمس.

ومنها: استقلال العقل بجواز التصرف في ملك الكريم الغنى المعرّض للهدر بدون التصرف.

وفيه: إن مجرد ذلك لا يصحح التصرف؛ لأنه إثبات لتمامية فاعلية الفاعل، وهذا لا يدل على قابلية القابل؛ إذ لعله يوجد مانع أو عدم شرط أو عدم المقتضي للقابل.

تنبيهات
التنبيه الأول: في الاحتياط في مشكوك الأمر

وفيه ثلاث صور: الاحتياط في التوصليات التي نعلم بأنها غير محرّمة،

ص: 137


1- سورة البقرة، الآية: 29.

وفي التعبديات التي نعلم بوجود أمر فيها لكن لا نعلم بكونه وجوبياً أم استحبابياً، وفي التعبديات التي يدور أمرها بين الوجوب والإباحة.

الصورة الأولى: الاحتياط فيها حسن عقلاً لإدارك الواقع المحتمل، وشرعاً لإطلاق أدلة الاحتياط، وليس ذلك من التشريع في شيء لأن الاحتياط هو إتيان العمل برجاء كونه محبوباً للمولى، وأما التشريع فهو إدخال ما ليس في الدين فيه، أو إخراج ما هو من الدين منه.

الصورة الثانية: الأمر فيها محرز بلا إشكال - سواء بنحو الوجوب أم الاستحباب - فقصد القربة بقصد الأمر لا إشكال فيه، ولا يشترط قصد الوجه أو التمييز لعدم وجوبهما كما مرّ، وحتى على فرض الوجوب فإنما ذلك مع إمكانهما ويسقطان مع عدم الإمكان.

الصورة الثالثة: مثل قضاء الصلوات التي صلاّها أول بلوغه لشكه في صحة ما أتى به، فهنا قد يستشكل بعدم إمكان قصد القربة؛ لأنها قصد الأمر، ومع الشك فيه كيف يقصده؟! إذ لا بد من العلم بالأمر إما تفصيلاً كالصلاة إلى القبلة المعلومة، وإما إجمالاً كالصلاة إلى الجهات الأربع حين اشتباه طرف القبلة!

والجواب من وجوه:

الجواب الأول: استقلال العقل بحسن الاحتياط، وبضميمة قاعدة الملازمة يتم الكشف عن حكم الشرع بالاحتياط، فيأتي بالعبادة بقصد هذا الأمر الاحتياطي!

وأشكل عليه بوجوه، منها:

ص: 138

الإشكال الأول: استلزامه الدور، فإن الأمر بالاحتياط متوقف على إمكان العبادة، وإمكانها متوقف على قصد القربة، وقصدها متوقف على الأمر بالاحتياط - حسب ما في الجواب - .

إن قلت: إن الموقوف عليه غير الموقوف عليه؛ إذ أحدهما ثبوتي والآخر إثباتي!

قلت: بل كلاهما ثبوتي؛ إذ الأمر متوقف ثبوتاً على كونه احتياطاً، وكونه احتياطاً متوقف ثبوتاً على الأمر.

وأورد عليه: بأنه لا تعدد بين الموضوع والحكم، بل هما موجودان بوجود واحد، فلا توقف، فلا دور.

قال المحقق الإصفهاني(1)

بما حاصله: أن عارض الوجود هو الذي يتعدد فيه وجود العارض والمعروض سواء الوجود الخارجي كبياض الجدار أم الوجود الذهني ككون الإنسان نوعاً، وأما عارض الماهية فلا يحتاج إلى موضوع موجود خارجاً وذهناً، بل ثبوت المعروض بثبوت عارضه، والعروض تحليل عقلي كعروض الفصل على الجنس في الذهن، وكالتشخص الماهوي بالإضافة إلى النوع، فإن ثبوت النوع خارجاً هو بعين ثبوت الماهية الشخصية فالكلي الطبيعي موجود بوجود فرده.

وما نحن فيه من قبيل الثاني، فإن الحكم بالإضافة إلى موضوعه من قبيل عوارض الماهية لا من قبيل عوارض الوجود.

إذ الحكم إما الإرادة والكراهة التشريعيان، وإما البعث والزجر

ص: 139


1- نهاية الدراية 4: 158-160.

الاعتباريان، فإن أريد الثاني فلا تعدد؛ إذ إن سنخ البعث اعتباري فلا يعقل أن يكون مقوّمه ومشخصه إلاّ ما يكون موجوداً بوجوده في أفق الاعتبار، والموجود الخارجي المتأصل لا يعقل أن يكون مشخصاً للاعتباري، وإلاّ لزم اعتبارية المتأصل أو تأصل الاعتباري، فتعيّن أن تكون الماهية والمعنى متعلّق البعث دون الموجود بما هو.

وبعبارة أخرى: إن البعث حيث إنه تعلّقي فلا يوجد إلاّ متعلّقاً بالمبعوث إليه، وحيث إنه اعتباري فلا يكون مقوّمه إلاّ اعتبارياً.

والحاصل: أن الحكم مطلقاً بالإضافة إلى موضوعه من قبيل عوارض الماهية، فلا يتوقف ثبوته على ثبوت موضوعه، بل ثبوت موضوعه بثبوته والعروض تحليلي، ومنه تعرف أنه لا دور، إذ ليس هناك تعدد حتى يلزم الدور.

وعليه فقول المولى: (الاحتياط واجب) يتولد منه موجود واحد في عالم الاعتبار، فلا تقدم للمتعلّق على الوجوب كي يلزم الدور؛ وذلك لاتحادهما كما تم بيانه، كما أن المولى في عالم التكوين يخلق زيداً فينتزع منه الإنسان، ويقال: زيد إنسان مع أنهما شيء واحد.

وردّه السيد الأخ(1):

بأن مراده إما أن المعروض في أفق الاعتبار مجرد عن ذات الوجود، وإما أنه مجرد عن لحاظ الوجود لا ذاته.

أما الأول، فيرد عليه: أن المعروض وإن كان مجرداً عن الوجود الخارجي والذهني، لكنه موجود بالوجود الاعتباري، فكما أن الحكم له

ص: 140


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 10: 90.

وجود اعتباري كذلك معروض الحكم، ففي عالم الاعتبار يكون وجودان، وعليه يكون العارض من عوارض الوجود لا عوارض الماهية.

وأما الثاني: فيرد عليه: أن عدم لحاظ الوجود وتجريده عن المعروض عنه إنما يكون مجدياً في اتحاد العارض والمعروض في ما لو كان لنا أفقان - أفق العروض وأفق الثبوت - فيصح القول باتحاد الوجود بين الشيئين بلحاظ ظرف الثبوت وإن تحققت الاثنينية بلحاظ ظرف العروض، كتجريد ماهية الإنسان عن الوجود في أفق الذهن - بمعنى عدم لحاظ الوجود - ثم يتم حمل الوجود على هذه الماهية المعراة فيقال: الإنسان موجود، أي في أفق الذهن لكل واحد من (الإنسان) و(موجود) صورة ذهنية وقد حملت إحدى الصورتين على الأخرى. نعم، في ظرف الثبوت في عالم العين ثبت الوجود لا أنه عرض الوجود على الماهية وبهذا اللحاظ يتحقق الاتحاد.

وفي ما نحن فيه - حيث عالم الاعتبار - وقد تمّ تجريد الماهية عن لحاظ الوجود ثم حكم عليها، ليس عدم لحاظ المعروض مساوق لعدمه، فالمعروض موجود وإن لم يلاحظ، وعليه فالموضوع - حتى مع عدم لحاظه - موجود، والحكم أيضاً موجود، فيكون الظرف ظرف العروض والتعدد، وقد أخذ الموضوع والمحمول بما هو مرآة للخارج لا بما هو هو، والخارج ظرف العروض لا الثبوت، فأين الاتحاد؟

وفيه تأمل: إذ لا حاجة إلاّ إلى اعتبار الوجوب - مثلاً - أي إيجاد الوجوب في عالم الاعتبار، فأي حاجة لإيجاد الصلاة في ذلك العالم، بل اعتباره لغو، فتأمل.

ص: 141

الإشكال الثاني: إنه حتى لو فرض وجود الموضوع والمحمول بوجود واحد لكونهما وجدا باعتبار واحد، إلاّ أن الاحتياط ناشء عن هذا الأمر بالاحتياط، فيكون متأخراً عن الأمر مع أن المفروض وجوده مع الأمر، وذلك محال، وبعبارة أخرى: الاحتياط في رتبة المعلول لنشوئه عن الأمر وفي الوقت نفسه في رتبة العلّة لوجوده بوجود واحد مع العلة، فاستلزم كون الشيء في رتبة متقدمة ومتأخرة وهو محال.

الجواب الثاني(1): المراد بالاحتياط في هذه الأوامر هو مجرد الفعل المطابق للعبادة من جميع الجهات عدا نية القربة، فأوامر الاحتياط تتعلق بهذا الفعل، وحينئذٍ فيقصد المكلف فيه التقرب بإطاعة هذا الأمر.

وبعبارة أخرى: إن أوامر الاحتياط عامة أو مطلقة فتشمل العبادات أيضاً، ولا يمكن امتثال هذه الأوامر إلاّ بالإتيان بكل الأجزاء والشرائط مع عدم قصد امتثال أمر الصلاة لعدم العلم به، بل يقصد امتثال أمر الاحتياط، وهو معلوم يمكن قصد امتثاله.

وأشكل عليه: بما في الكفاية(2):

من عدم مساعدة دليل حينئذٍ على حسنه بهذا المعنى فيها؛ بداهة أنه ليس باحتياط حقيقة.

وبعبارة أخرى: إن أوامر الاحتياط لا تتعلق بفاقد الجزء أو الشرط؛ لأن الاحتياط هو الإتيان بكل الأجزاء والشرائط وبكل ما يحتمل دخله في العمل، فلا بد أولاً من إثبات كون الفعل احتياطاً حتى تتعلق به أوامر

ص: 142


1- فرائد الأصول 2: 153.
2- إيضاح كفاية الأصول 4: 177-178.

الاحتياط، فإن الحكم لا يتكفل موضوعه.

وبعبارة ثالثة: إن الاحتياط الذي يستقل العقل به إنما هو الإتيان بكل الأجزاء والشرائط، وأما الإتيان ببعضها فهذا مما لا يستقل العقل به ولا دليل عليه من الشرع، وعليه فلا بد من رفع اليد عن مطلقات أدلة الاحتياط وعموماتها بالقول بعدم شمولها للعبادات إلاّ لو وجدنا مخرجاً من الإشكال.

الجواب الثالث: ما في الكفاية(1)

وحاصله: أنه لا يشترط في قصد القربة قصد الأمر المعلوم، بل يكفي قصد الأمر المحتمل، فإن هذا نوع طاعة عند العقلاء والشارع لم يجعل طرقاً خاصة للطاعة، بل أمضى الطرق العقلائية، فكما تكون الطاعة عندهم تارة بالتفصيل وأخرى بالإجمال كذلك قد تكون طاعة احتمالية.

وليس قصد القربة شرطاً شرعياً حتى في العبادات المعلومة، بل هو شرط عقلي لعدم تحقق غرض المولى لولاه، والعقل لا يرى فرقاً بين العبادة المعلومة بقصد الأمر المعلوم وبين العبادة المشكوكة بقصد أمرها المحتمل رجاءً!

وأشكل عليه: بأن أصل كلامه لا بأس به بتحقق الطاعة الاحتمالية، إلاّ أنه لا وجه لإقحام مسألة أخذ قصد القربة في المتعلّق أو الغرض؛ إذ يكفي احتمال الأمر لتصحيح العبادة سواء أخذ قصد الأمر في المتعلّق أم لا، ولو لم يمكن تصحيح العبادة باحتمال الأمر فلا يمكن التصحيح سواء أخذ قصد الأمر في المتعلق أم لا.

ص: 143


1- إيضاح كفاية الأصول 4: 179-182.

الجواب الرابع: إن قصد القربة ليست قصد الأمر، بل يكفي في العبادية إضافة العمل إلى المولى بأن لا ينشأ العمل من داعٍ غير إلهي كالدواعي الشهوية ونحوها، وعليه فيكفي في ما نحن فيه إتيان العمل برجاء المحبوبية، ومن أحسن أنواع الإضافة هو احتمال أمر المولى.

وأشكل عليه: كبرىً: بعدم كفاية الإضافة، بل لا بد من إحراز صلاحية العمل للمقربية في نفسه، فلذا لو ارتكب محرماً وأضافه إلى المولى لا يكون عبادة.

وصغرىً: بأن المباح أو المشكوك كونه مباحاً أم راجحاً لا يعلم صلاحيته للإضافة إلى المولى فلا يعلم أنه عبادة أم لا.

الجواب الخامس: إن العبادة الاحتمالية نوع عبادة فتكون طاعة حقيقية، ويكفي فيها احتمال الأمر أو احتمال الإضافة إلى المولى، وحينئذٍ فإن صادفت الواقع كانت عبادة حقيقية وإلاّ كانت انقياداً.

إن قلت: إن ذلك ليس طاعة حقيقية لعدم العلم بالأمر الواقعي، وحيث إن المأتي به معلول فعلي فلا يمكن أن تكون علته تقديرية؛ لأن الأمر الواقعي تقديري فلا يكون علة للعمل. نعم، احتمال الأمر فعلي فهو علة الفعل، والإتيان حينئذٍ ليس بطاعة حقيقية، بل انقياد.

قلت: الأمر الواقعي المقطوع به أيضاً كذلك لأنه إن صادف الواقع كان طاعة حقيقية وإلاّ كان انقياداً، بل في الأمر المقطوع والمحتمل علة الحركة هي الصورة الذهنية لا الأمر بوجوده الواقعي أو الاحتمالي؛ لأن الوجود الواقعي ليس محركاً، بخلاف العكس، وعليه فمع القطع بالأمر إن طابق

ص: 144

الواقع كان إطاعة وإلاّ كان انقياداً، فكذلك مع احتمال الأمر.

إن قلت: إن الانقياد لا يتربط بالفعل، بل بالفاعل، حيث إنه يثاب على نيته لا على فعله، فكيف يكون الفعل مع احتمال كونه مباحاً مقرباً؟!

قلت: إن التقرب متحقق على كل حال، فلو كان الفعل مأموراً به واقعاً كان التقرّب به، وإن لم يكن كذلك كان التقرب بالنية.

الجواب السادس: تصحيح العبادة المشكوكة - في ما لو ورد الثواب عليها في خبر ضعيف - بأخبار من بلغ، وذلك بقصد الأمر الاستحبابي الثابت بأخبار من بلغ.

وأشكل عليه: أولاً(1):

بأن الأخبار دالة على ثبوت الأجر لا على الاستحباب الشرعي، فلا طريق لإحراز وجود الأمر ليتم قصده.

وهذا مبحث مبنوي سيتم الكلام حوله في الفصل اللاحق.

وثانياً: ما في الكفاية(2):

إن إحراز الأمر عبر أخبار من بلغ خروج موضوعي عن البحث؛ لأن الكلام في العبادة المشكوكة لا المعلومة، وأخبار من بلغ تجعل الأمر محرزاً معلوماً.

وأورد عليه(3): بأن العمل المأتي به له إضافتان: إضافة إلى الأمر المعلوم المستفاد من أخبار من بلغ، وبها يكون العمل عبادة قطعية، وإضافة إلى الأمر الواقعي المحتمل المحمول على الفعل بما له من العنوان الأولي

ص: 145


1- فرائد الأصول 2: 155.
2- إيضاح كفاية الأصول 4: 184.
3- موسوعة الفقيه الشيرازي 10: 170.

الذاتي، وبهذا اللحاظ يكون احتياطاً، فتأمل.

التنبيه الثاني: في حسن الاحتياط
اشارة

أما عقلاً: فلا إشكال فيه؛ لأنه إحراز للواقع المحتمل، وبذلك يتم إدراك المصلحة، والاجتناب عن المفسدة إن كانتا فيكون امتثالاً، وإلاّ كان انقياداً.

وأما شرعاً: فقد وردت روايات معتبرة في الحث على الاحتياط كقوله (علیه السلام) : «أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت»(1)

وغيرها، وقد مرّ بعضها، وهذه الأوامر تفيد الاستحباب الشرعي الكاشف عن الحسن فيه.

أما الإشكال بأنها أوامر إرشادية لوجود حكم العقل في موردها.

فالجواب عنه قد مرّ: بأن ظاهر الأوامر المولوية، ولا تحمل على الإرشادية إلاّ لو كان محذور ثبوتي كالدور والتسلسل كما في أوامر الطاعة، أو لم تكن ظاهرة في المولوية لقرينة خاصة أو عامة كالأوامر في الشروط والأجزاء والقواطع ونحوها على بعض المباني.

إن قلت: حتى لو حملنا تلك الأوامر على الإرشادية إلاّ أن هاهنا خصوصية تمنع من ذلك، وهي أنّه لو اختلف ملاك حكم العقل مع ملاك حكم الشرع فلا تحمل الأوامر على الإرشادية، وما نحن فيه كذلك، حيث إن ملاك حكم العقل إدراك الواقع المحتمل، وملاك حكم الشرع التمرين على الالتزام بالواجبات وترك المحرمات كما في قوله (علیه السلام) : «فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استبان له أترك»(2) وقوله (علیه السلام) : «من رتع حول

ص: 146


1- أمالي الطوسي: 109؛ وسائل الشيعة 27: 167.
2- من لا يحضره الفقيه 4: 75؛ وسائل الشيعة 27: 161.

الحمى أوشك أن يقع فيه»(1)

فالملاك «الأتركية» و«الأوشكيّة» ونحوهما.

قلت: إن هذه الملاكات أيضاً يدركها العقل وهي ملاكات أيضاً لحكمه بحسن الاحتياط فرجع المحذور، فلا بد مما ذكرناه من عدم وجه لحملها على الإرشادية؛ إذ لا محذور فيه.

شروط حسن الاحتياط

ثم إنه قد ذكرت شروط لحسن الاحتياط، منها:

الشرط الأول: أن لا ينطبق عليه عنوان قبيح وأن لا يكون ملازماً له وأن لا يكون الاحتياط مقدمة له، كالإخلال بالنظام - سواء النظام العام أم الخاص - فلا يرى العقل حسن الاحتياط حينئذٍ، كما أنه مخالف لغرض الشارع من الأمر بالاحتياط فلا تشمله أوامره.

الشرط الثاني: عدم معارضته مع احتياط آخر، فحينئذٍ إن أخرجته المعارضة عن الاحتياط أصلاً فلا يكون حسناً، كما لو سبّب الاحتياط عدم إدراك الواقع المعلوم، مثلاً لو أراد الاحتياط بتكرار التسبيحات الأربع ثلاثاً وكان ذلك سبباً لوقوع بعض الصلاة في خارج الوقت مع العلم بأهمية الوقت عند الشارع، فلا يصح تفويت الواقع الأهم لإدراك واقع محتمل غير أهم، فلا يكون احتياطاً لأنه خلاف ملاك الاحتياط، فتأمل.

وأما إذا لم تخرجه المعارضة عن الاحتياط، فلا يبعد بقاء حسنه، وعليه فيمكن الإتيان به بقصد الأمر بناءً على الترتب، أو بقصد ملاكه بناءً على عدمه.

ص: 147


1- وسائل الشيعة 27: 167.

الشرط الثالث: عدم العسر أو الحرج أو الضرر فيه.

1- فأما الاحتياط الوجوبي: فيرتفع وجوبه بالحكومة، وهل يرتفع حسنه الشرعي؟

قد يقال: بذلك؛ لأن الدليل على الحسن الشرعي هو الأمر، ومع ارتفاعه لا دليل على وجود الملاك.

وقد يقال: بأن العناوين الثانوية ظاهرة في الامتنان، ولا معنى له مع عدم وجود ملاك بحسب العنوان الأولي، أو إن لحن الأدلة الثانوية هو لحن الإشفاق وهو ظاهر في ارتفاع الوجوب لا الرجحان(1).

2- وأما الاحتياط الاستحبابي: فمضافاً إلى بقاء الملاك قد يقال: بانصراف أدلة العناوين الثانوية عن اللااقتضائيات فلا حكومة حينئذٍ، فعن المحقق الآشتياني(2):

أن ظاهر أدلة الضرر أن الشارع لا يلقي المكلّف فيه - أي لا يكون الشارع سبباً - أما في المستحبات والمكروهات فإن المكلف هو الذي يلقي بنفسه فيه لا الشارع؛ لأن أقرب العلتين هو المكلف لا الشارع.

الشرط الرابع: أن لا يقابله أهم شرعاً أو عقلاً، كما لو عارض الاحتياط إقامة الصلاة أو الصيام أو طلب العلم الواجب عيناً ونحو ذلك.

لكن يمكن أن يقال: إن هذا من التزاحم، فيبقى حسن الاحتياط حتى مع مزاحمة الأهم له، فعلى الترتب للاحتياط أمر، وعلى عدمه لا أمر له لكن فيه

ص: 148


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 10: 118.
2- بحر الفوائد في شرح الفرائد 2: 229.

الملاك.

تكملة: في التبعيض في الاحتياط

لو كان في الاحتياط التام محذور أمكنه التبعيض في الاحتياط، فإن عدم الحسن إنّما هو في الجميع لا في المجموع، وكل احتياط ما لم يودّ إلى المحذور حسن، إلاّ أن الأحسن ترجيح ما كان الاحتمال والمحتمل فيه أقوى، ولو دار الأمر بين أقوى احتمالاً وأقوى محتملاً فالأقرب ترجيح الثاني على الأول، كما لو دار الاحتياط بين احتراز الثوب النجس المظنون وبين الاحتراز عن الزواج بمشكوكة كونها أختاً رضاعية، وعلى ذلك سيرة العقلاء.

التنبية الثالث: في البراءة في الشبهات الموضوعية

وهنا شبهة تثار بأن التكليف معلوم وامتثاله لا يحصل إلاّ بالاجتناب عن الأفراد المشكوكة في الشبهة التحريميّة، فإن الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية، والحاصل: أن اجتناب المشكوك مقدمة علمية لاجتناب الحرام الواقعي!

1- أما الشيخ الأعظم فقد أجاب(1): بأن النهي عن الخمر - مثلاً - يوجب حرمة الأفراد المعلومة تفصيلاً والمعلومة إجمالاً المترددة بين محصورين، والأول لا يحتاج إلى مقدمة علمية، والثاني يتوقف على الاجتناب من أطراف الشبهة لا غير، وأما ما احتمل كونه خمراً من دون علم إجمالي فلم يعلم في النهي تحريمه، وليس مقدمة للعلم باجتناب فرد محرم يحسن

ص: 149


1- فرائد الأصول 2: 121.

العقاب عليه!

وبعبارة أخرى: إن هذه النواهي قضية حقيقية فينحل الحكم بانحلال الموضوع، ففي الفرد المشكوك لا يوجد علم بالتكليف كي يجب امتثاله.

2- وأما المحقق الخراساني(1): ففرّق بين تعلق النهي بالطبيعة الصرفة وهي ما كان المطلوب ترك أول الوجودات فقط، فهنا يكون للنهي طاعة واحدة ومعصية واحدة بحيث لو خالف مرّة لم تكن سائر أفراد الطبيعة منهياً عنها، وعليه فيجب ترك الأفراد المشتبهة، حيث إن الذمة اشتغلت بالتكليف ولا يعلم الخروج عن عهدته إلاّ بترك جميع الأفراد المشتبهة، فتكون قاعدة (الاشتغال اليقيني...) بياناً عقلياً وارداً على أصالة البراءة، وبين تعلّق التكليف بالطبيعة السارية، فهنا ينحل التكليف بتعدد الموضوعات فتجري البراءة.

وأشكل عليه في التبيين(2):

بأن الطبيعة لها سعة بسعة أفرادها، والشك في فردية الفرد شك في سعتها وضيقها، فيعود الشك في موارد الطبيعة الصرفة إلى الشك بين الأقل والأكثر، فتجري البراءة حتى لو كان ارتباطياً.

وبعبارة أخرى: إنه يشك في شمول النهي المتعلق بالطبيعة الصرفة للفرد المشكوك؛ وذلك للشك في سعة الطبيعة، فتجري البراءة فيه حيث إنه شك في التكليف، فتأمل.

ص: 150


1- إيضاح كفاية الأصول 4: 194-195.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 10: 126.

فصل في التسامح في أدلة السنن

اشارة

وهو نوع من أنواع الاحتياط؛ إذ يستقل العقل بحسن الاحتياط مع احتمال مطابقة الخبر الضعيف للواقع وذلك لإدراك الثواب، ويدل عليه شرعاً أخبار من بلغ، وهنا مطالب:

المطلب الأول: في دليلها الشرعي

وقد دلّ عليها مجموعة من الروايات وفيها الأخبار المعتبرة.

منها: صحيحة هشام بن سالم عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال: «من بلغه عن النبي (صلی الله علیه و آله) شيء من الثواب فعمله كان أجر ذلك له وإن كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) لم يقله»(1).

ومنها: صحيحته الأخرى عنه (علیه السلام) : «من سمع شيئاً من الثواب على شيء فصنعه كان له وإن كان لم يكن على ما بلغه»(2).

إن قلت: إنها مسألة أصولية لا تثبت بأخبار الآحاد!

قلت: إن مضمونها إما متواتر أو محفوف بالقرائن القطعية ولا خلاف فيها، مضافاً إلى شمول أدلة حجية أخبار الآحاد للمسائل الأصولية - سواء

ص: 151


1- المحاسن 1: 25؛ وسائل الشيعة 1: 81.
2- الكافي 2: 87؛ وسائل الشيعة 1: 82.

أصول الفقه أم أصول الدين - إلاّ في ما ثبت احتياجه إلى العلم كبعض مسائل أصول الدين لا كلّها، وقد مرّ بحثه.

المطلب الثاني: الأقوال في المسألة

وهي متعددة، وعمدتها ثلاثة أقوال: القول الأول: استحباب العمل بطرو عنوان البلوغ عليه وهو عنوان ثانوي، فيكون كالنذر أو الضرر حيث يغيّران حكم الفعل من المستحب إلى الواجب أو من المباح إلى الحرام، ونحو ذلك، والقول الثاني: بأنه إرشاد إلى حكم العقل بحسن الانقياد، فإن من الانقياد الإتيان لمجرد احتمال كونه محبوباً للمولى، والقول الثالث: دلالتها على عدم اشتراط وثاقة الراوي في حجية الخبر.

القول الأول: دلالتها على استحباب العمل بالعنوان الثانوي.

واستدل له بأمور، منها:

الدليل الأول: إن قوله (علیه السلام) : «فعمله» أو «فصنعه» جملة خبرية في باب الأحكام، والمقصود بغالب الجمل الإخبارية في مقام الأحكام هو الإنشاء(1).

وفيه(2): أن للجملة الخبرية حالتين:

الأولى: أن تقع شرطاً أو جزءاً في الجملة الشرطية، وحينئذٍ فهي بمنزلة موضوع الحكم، ومعناه هو الحكم بالمحمول على فرض تحقق الموضوع، وهذه لا ظهور لها عرفاً في الحث والتحريك، كما لو قال: (من نام فعليه أن

ص: 152


1- راجع فوائد الأصول 3: 412.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 9: 343.

يجدّد وضوءه) فلا تفيد التحريك نحو النوم.

الثانية: أن تقع جزاءً في الجملة أو تقع بعنوان الجملة الحملية، وهذه هي الظاهرة في التحريض والتحريك نحو المادة، وذلك يكشف عن وجوب أو استحباب المتعلق.

وما نحن فيه من قبيل الأول، فلا دلالة على البعث.

الدليل الثاني: ما في الكفاية(1):

إن صحيحة هشام ظاهرة في أن الأجر كان مترتباً على نفس العمل الذي بلغه عنه (صلی الله علیه و آله) أنه ذو ثواب.

وهو مركب من صغرى وكبرى...

أما الكبرى: فإن الثواب قد يترتب على نفس العمل، وهذا يكشف عن الأمر به استحباباً؛ لعدم الثواب على المباح أو المكروه، وقد يترتب على الاحتياط أو الانقياد، وهذا لا يكشف عن الأمر بذلك العمل؛ لأن الاحتياط أو الانقياد في نفسه يقتضي الثواب عقلاً حتى لو لم يكن هناك أمر مولوي، فيكون الدليل الشرعي حينئذٍ إرشاداً إلى هذا الحكم العقلي فلا يدل على الاستحباب.

وأما الصغرى: فإن الثواب في صحيحة هشام قد رُتّب على ذات العمل، ف-«ذلك» في قوله (علیه السلام) : «كان أجر ذلك له» إشارة إلى العمل، فالمعنى أجر العمل له، فيكشف عن وجود أمر وهو يدلّ على الاستحباب.

وبعبارة أخرى(2):

إن الظاهر من الثواب البالغ هو الثواب على العمل لا

ص: 153


1- إيضاح كفاية الأصول 4: 188-189.
2- نهاية الدراية 4: 176.

بداعي الثواب المحتمل أو الأمر المحتمل، فإن مضمون الخبر الضعيف كمضمون الخبر الصحيح من حيث تكفله للثواب على العمل لا بداعي احتماله الناشىء من جعله أو جعل ملزومه، وظهور أخبار «من بلغ» من حيث كونها في مقام تقرير الثواب البالغ وتثبيته وتحقيقه في أن الثواب الموعود بهذه الأخبار في موضوع ذلك الثواب البالغ، وإلاّ لكان ثواباً آخر لموضوع آخر.

وبعبارة ثالثة: الظاهر هو اتحاد الثواب الموعود في أخبار من بلغ مع الثواب الموعود في الخبر الضعيف، ومن المعلوم أن الثواب الموعود في الخبر الضعيف هو الثواب على ذات العمل.

ويرد على الكبرى: أولاً: إن الثواب كلّه تفضل من الله تعالى، فلا يدلّ العقل على الثواب على الاحتياط أو الانقياد، وكون العمل حسناً لا يقتضي الثواب؛ لأن خلق الإنسان فضل من الله تعالى، وغمره بالنعم فضل ثانٍ، وجميع التكاليف في مصلحته فهي فضل ثالث، وثوابه عليها وعلى الانقياد ونحوه فضل رابع، فحتى العبادة المأمور بها قطعاً لا تقتضي الثواب، وعليه فلا اقتضاء للثواب في كلا القسمين فلا فرق بينهما من هذه الجهة.

وثانياً: حتى لو فرض اقتضاء الاحتياط والانقياد الثواب عقلاً، فلا وجه لحمل الدليل الشرعي الدال عليه على الإرشاد، لما مرّ من أنّ ظاهر الأدلة الشرعية والأصل العقلائي هو المولوية، ومجرد دلالة العقل لا يكون سبباً لرفع اليد عن الظهور، إلاّ لو كان هناك محذور كما في أوامر الطاعة، وعليه فروايات من بلغ ظاهرة في المولوية وهي تفيد الاستحباب سواء كان مفادها الثواب على ذات العمل أم على الانقياد أو الاحتياط.

ص: 154

وأشكل على الصغري بإشكالات، منها:

الإشكال الأول: إن الفاء في قوله (علیه السلام) : «فعمله» و«فصنعه» للتفريع، وظاهره أن الثواب المحتمل هو المحرّك للعمل، وهذا يساوق الانقياد، فإن الإتيان بالشيء بداعي احتمال الثواب هو من مصاديق الانقياد للمولى، فيكون الشرط هو العمل الانقيادي، فالثواب المترتب عليه في الجزاء لا يكشف عن الأمر فلا يدلّ على الاستحباب!

وأجيب: أولاً(1):

بأن التفريع على نوعين:

1- تفريع المعلول على علتة الغائية نحو: (وجب عليّ كذا ففعلته) فإن الوجوب هو علّة الفعل، وهذا هو المفيد في الإشكال؛ إذ حينئذٍ العلة هي الثواب المحتمل والمعلول هو العمل.

2- مجرد الترتيب أي التعقّب في الوجود، وهذا لا يفيده بشيء؛ إذ معناه ترتب العمل على الثواب المحتمل، لا لكون الثواب المحتمل باعثاً للعمل، بل من باب أن موضوع الثواب ليس مجرد العمل وإنما البلوغ على العمل، فإن مجرد العمل لا يترتب عليه الثواب الموعود.

وحيث كان في الفاء احتمالان فلا إشكال في الظهور الدال على أن الثواب الموعود هو الثواب البالغ. نعم، لو كانت الفاء ظاهرة في العلية اصطدم الظهوران!

وأورد عليه: بظهور الفاء في التعليل في خصوص المقام بقرينة أنه لا يكفي في الثواب العمل والبلوغ، بل لا بد من كون العمل بداعي الثواب

ص: 155


1- نهاية الدراية 4: 176-177.

وهو مساوق للانقياد والاحتياط؛ وذلك لأن الإنسان إذا علم بالثواب لكنه لم يعمل بداعيه، بل كان الداعي شيئاً آخر فلا ثواب له قطعاً، فتأمل.

وثانياً: إن بلوغ الثواب موضوع للداعي ولا يلزم كونه الداعي؛ إذ قوله (علیه السلام) : «فعمله» مطلق يشمل ما لو كان العمل بداعي الثواب أم بداعي تقربّي آخر، كما لو قيل: (إذا دخل الوقت فصلّيت فلك كذا) فإن دخول الوقت ليس علة للصلاة، بل موضوعاً لوجود الداعي؛ إذ لولاه لما كان هناك محرّك لها.

وثالثاً: ما في الكفاية(1):

بأن كون العمل متفرعاً على البلوغ وكونه الداعي إلى العمل غير موجب لأن يكون الثواب إنما يكون مترتباً عليه في ما إذا أتى برجاء أنه مأمور به وبعنوان الاحتياط؛ بداهة أن الداعي إلى العمل لا يوجب له وجهاً وعنواناً يؤتى به بذلك الوجه والعنوان.

وحاصله: أن الداعي لا يوجب تقييداً للعمل، بل الداعي علة العمل ولكنه لا يغيّر العمل عن واقعه، مثلاً من يتوهم أن له ضيوفاً فيشتري لهم طعاماً ثم يتبيّن له عدم مجيئهم، فإن الداعي للشراء كان مجيئهم لكن لم يتقيّد به الشراء، ولذا لا حق له في فسخ المعاملة.

وبعبارة أخرى: الداعي حيث تعليلي وليس حيثاً تقييدياً.

وأورد عليه(2): بإمكان دعوى أن مرجع الحيثيات التعليلية في الأحكام إلى الحيثيات التقييدية.

ص: 156


1- إيضاح كفاية الأصول 4: 189-190.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 9: 353.

إن قلت: إنه قد ثبت في محلّه أن الداعي متقدم على المدعو عليه بماهيته وإن كان متأخراً عنه في وجوده كما في كل علة غائية، والشيء المتقدم على العمل لا يمكن أن يؤخذ فيه، فلم يؤخذ الثواب المحتمل في الموضوع، بل هو باعث ومحرّك، وأما الموضوع فهو ذات العمل، فترتب الثواب عليه دليل على الاستحباب!

قلت: ليس المدعى أخذ الداعي في المدعو كي يشكل باستلزامه تقدم الشيء على نفسه، بل المدعى هو أخذ الداعي في الموضوع، ولا مانع من أخذ مجموع الداعي والمدعو موضوعاً لمحمول، وفي ما نحن فيه رجاء الثواب جزء من الموضوع لا خارجه، وذلك لا يدلّ على الاستحباب لكونه مساوقاً للانقياد.

الإشكال الثاني: إن بعض روايات من بلغ قيّدت إتيان العمل برجاء الثواب المحتمل، كقوله (علیه السلام) في خبر محمد بن مروان «فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب»(1)، وكقوله (علیه السلام) : «ففعل ذلك طلب قول النبي (صلی الله علیه و آله) »(2)، وبها يتم تقيّد الأخبار المطلقة كصحيحة هشام.

وفيه: أولاً: ضعف أسنادها، فلا تقيّد بها الأخبار الصحيحة المطلقة، وحيث إن هذه الأخبار المقيّدة تنفي الثواب فلا تكون مشمولة بأدلة من بلغ لجبران ضعف سندها.

وثانياً: إن التقييد إنما يكون مع تنافي المطلق والمقيّد، فيكون الجمع

ص: 157


1- الكافي 2: 87.
2- المحاسن 1: 25.

العرفي بحمل المطلق على المقيد، وأما المثبتات فلا تنافي بينها فلا تقييد، فإن ثبوت الثواب على الانقياد لا ينافي ثبوت الثواب على نفس العمل.

إن قلت(1): وحدة سياق الأخبار وأنها في مقام ترتيب سنخ واحد من الثواب على موضوع واحد تقتضي التقييد، وحينئذٍ فالنكتة - لعدم التقييد في بعضها - هو وضوح أن الداعي الطبيعي لمن بلغه ثواب هو ذلك الثواب البالغ، لا الثواب المجعول بهذه الأخبار على فرض جعله.

قلت: إن الماهية لا بشرط تختلف عن الماهية بشرط شيء، فهما موضوعان متباينان، ومجرد ترتيب حكم عليهما لا يقتضي حمل الماهية لا بشرط على أن المراد منها الماهية بشرط شيء، فتأمل.

وثالثاً(2): عدم الموجب لحمل المطلق على المقيّد في باب المستحبات رأساً، وأن الحمل المذكور مختص بموارد الأحكام الإلزامية.

وعليه ففي باب المستحبات يحمل على تعدد المراتب بأن يكون المقيد في مرتبة أعلى، وهو لا ينافي استحباب بقية أفراد المطلق.

إن قلت(3): إن الوجه في عدم الحمل في المندوبات هو إمكان حمل المطلق والمقيّد منها على مراتب المحبوبيّة، فالمستحب الفعلي هو المقيّد، وما عداه مستحب ملاكي، بخلاف الواجبات فإن حملها على مراتب الوجوب يلازم الحمل على المقيّد، فإن الملاك الوجوبي لازم التحصيل،

ص: 158


1- نهاية الدراية 4: 180.
2- أجود التقريرات 3: 364.
3- نهاية الدراية 4: 180.

وهذا الوجه غير جارٍ هنا، فإن المقيد بداعي الثواب المحتمل ليس مستحباً شرعياً لا فعلياً ولا ملاكاً، بل المقيّد بهذا الداعي راجح عقلي، والمطلق الذي حقيقته إتيان الفعل لا بهذا الداعي، بل بسائر الدواعي مستحب شرعي، فليس المقيد من مراتب المستحب الشرعي في قباله.

وحاصله: أن الجامع المشترك بين المطلق والمقيد في باب المستحبات سبب عدم حمل الأول على الثاني، فإن الماهية المشتركة لها مراتب، لكن في ما نحن فيه لا جامع مشترك بينهما؛ لأن المقيد راجح عقلي والمطلق مستحب شرعي، فليس المقيّد من مراتب المستحب الشرعي، فهما حقيقتان، ولا معنى للقول بأن الراجح العقلي مرتبة عليا من مراتب الرجحان الشرعي، وكيف يكون المباين مرتبة من مراتب مباينه؟ فلا يجري الملاك المذكور في المقام.

قلت(1): إن هذا مبتنٍ على إرشادية الأمر الشرعي كلّما كان هناك أمر عقلي، مع أن المستفاد من كلام المحقق النائيني إبقاء المقيّد على الاستحباب الشرعي، فالمطلق والمقيّد كلاهما مستحبان شرعاً فيحمل على المراتب.

الدليل الثالث: الإطلاق المقامي؛ لأن كون المولى في مقام الترغيب كاشف عن الاستحباب؛ وذلك لأن الترغيب يكشف عن المحبوبية وهي تقتضي الأمر، وتأثير المقتضي متوقف على عدم المانع، وحثّ المولى كاشف عن انتفائه.

ص: 159


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 9: 359.

وأشكل عليه(1): إن الملازم للمحبوبية والاستحباب هو الترغيب والتحريض، أما بيان الفضل الإلهي فلا، وأخبار من بلغ ظاهرة في الثاني بأن الله تعالى لا يخيب رجاء من رجاه، وقد يكون رجاؤه في ما هو مبغوض للمولى ومع ذلك لا يخيّبه.

وفيه: إن ظاهر الدليل هو الأول وأن المولى في مقام الحث.

الدليل الرابع: استفادة الاستحباب من أدلة الاحتياط لا من أدلة من بلغ، حيث إن الإتيان بما بلغه نوع احتياط.

وفيه: إنه لا يمكن بذلك إثبات استحباب المحتاط فيه، حيث لا يمكن الإتيان بالعمل بعنوان أنه مستحب فإنه تشريع لا احتياط. نعم، يمكن الاحتياط برجاء المطلوبية، فلا يمكن الإفتاء بالاستحباب ولا إتيان العمل بعنوان أنه مستحب.

الدليل الخامس: فهم المشهور، وهو جابر للدلالة على فرض قصورها، والبحث حينئذٍ مبنويّ في حجية فهمهم وجبره.

القول الثاني: إن أخبار من بلغ إرشاد إلى حكم العقل بحسن الانقياد المقتضي للثواب، بناءً على أنه كلما حكم العقل كان حكم الشرع إرشاداً إليه.

أما الكبرى، فقد مضى الإشكال عليها.

وأما الصغرى، فقد أشكل عليها المحقق الإصفهاني(2): بأن الثواب الذي

ص: 160


1- منتقى الأصول 4: 525.
2- نهاية الدراية 4: 182-183.

يمكن الإرشاد إليه لا بد من ثبوته لا من ناحية الإرشاد، بل بحكم العقل والعقلاء، وليس هو إلاّ أصل الثواب، وأما الوعد بالثواب الخاص فليس إلاّ من الشارع بما هو شارع ترغيباً في فعل تعلّق به غرض مولوي فيكشف عن محبوبية مولوية ومطلوبية شرعية، ولولا ذلك لحكم به سائر العقلاء.

وحاصله: أن العقلاء يحكمون بأصل الثواب، لا بالثواب الخاص الوارد في الدليل الضعيف مع أن مدلول أخبار من بلغ هو هذا الثواب الخاص، فلا يكون إرشاداً.

وفيه: أن ما ذكره وإن كان ينفي الإرشادية، إلاّ أنه لا ينفي كون الثواب على الانقياد، لاحتمال كونه من باب التفضل لا الترغيب.

القول الثالث: إن مفاد أخبار من بلغ إسقاط اشتراط الوثاقة في حجية الخبر. وهو ما ذهب إليه المحقق النائيني(1).

وحاصله: تخصيص الأدلة الدالة على اشتراط حجية الخبر بالوثاقة.

ويرد عليه أمور، منها:

الإشكال الأول: إن الحجية على مبناه بمعنى إلغاء احتمال الخلاف وتنزيل المؤدى منزلة الواقع، مع أنه لا ظهور لأخبار من بلغ في ذلك، بل على العكس كقوله (علیه السلام) : «وإن كان رسول الله لم يقله»(2)

وقوله (علیه السلام) : «وإن لم يكن على ما بلغه»(3).

ص: 161


1- فوائد الأصول 3: 408-414.
2- المحاسن 1: 25.
3- الكافي 2: 87.

الإشكال الثاني: إنه لا تعارض كي يصار إلى التخصيص، فإن مفاد أدلة حجية الخبر هو حجية خبر الثقة، ومفاد أخبار من بلغ هو حجية خبر المخبر في السنن مطلقاً.

الإشكال الثالث: إنه لو فرض التعارض فالنسبة العموم من وجه، لتعارضهما في الخبر الدال على الاستحباب الفاقد لشرائط الحجية، وافتراق أخبار من بلغ في حجية الدال على الاستحباب الواجد للشرائط، وافتراق أخبار شرائط الحجية في عدم حجية الدال على الوجوب الفاقد للشرائط.

ثم إن المحقق النائيني أجاب عن هذا الإشكال بأربعة وجوه(1):

الجواب الأول: إن أخبار من بلغ حاكمة؛ لأنها ناظرة إلى شرائط الحجية.

وفيه: إن النظر ليس قوام الحكومة كما مرّ، فقد يكون نظر ولا حكومة، وقد تكون حكومة ولا نظر، مع أنه لم يقم دليل على نظر أدلة من بلغ.

الجواب الثاني: على فرض عدم الحكومة فالترجيح لأخبار من بلغ لعمل المشهور بها، وذلك مرجح لدى التعارض.

وفيه: إن المشهور لم يفهموا التعارض، فلا يكون عملهم دالاً على الترجيح عند التعارض، فتأمل.

الجواب الثالث: إن تقديم أدلة الشرائط سبب للغوية أخبار من بلغ، بخلاف العكس، حيث يبقى لأدلة الشرائط أخبار الثقات الدالة على الوجوب.

ص: 162


1- فوائد الأصول 3: 413-414.

وفيه: بقاء مورد لها وهو الأخبار المعتبرة الدالة على الاستحباب، مضافاً إلى عدم اللغوية؛ لأن الثقة المخبر عن الثواب لو أخطأ فإن خبره وإن كان حجة إلاّ أنه لا يقتضي بنفسه ذلك الثواب، وأخبار من بلغ تدل على ضمان ذلك الثواب.

الجواب الرابع: ليست النسبة العموم من وجه، حيث إن ما دلّ على اعتبار الشرائط خاص بالإلزاميات ولا يشمل غيرها؛ لأن دليل الحجية إن كان الإجماع فهو مختص بالإلزاميات، وإن كان آية النبأ فالتعليل يمنع ظهور الآية في العموم؛ إذ لا إصابة ولا ندم في مورد الخطأ في غير الإلزاميات.

وفيه: إن من أدلة الحجية الروايات المتواترة الدالة على حجية خبر الثقة مطلقاً.

المطلب الثالث: الثمرة بين الأقوال
اشارة

وفيه مقامان:

المقام الأول: الثمرة بين القول الأول والثاني

وقد ذكرت ثمار، منها:

الثمرة الأولى(1): ترتب الآثار الشرعية المترتبة على المستحبات الشرعية، مثل ارتفاع الحدث المترتب على الوضوء المأمور به شرعاً بناءً على القول الأول، وأما على القول الثاني فإن مجرد ورود خبر غير معتبر

ص: 163


1- فرائد الأصول 2: 158.

بالأمر به لا يوجب إلاّ استحقاق الثواب عليه، ولا يترتب عليه رفع الحدث، فتأمل.

وأشكل عليه: أولاً: بأن الوضوء الثابت فيه الأمر والاستحباب قد لا يرفع الحدث، كوضوء الجنب للنوم، ووضوء الحائض أوقات الصلاة، وتجديد الوضوء.

وفيه: أن رفع الوضوء للحدث لا إشكال فيه، وإنما المورد المذكور وأشباهه خرج بالدليل الخاص، أو لوجود المانع، وهو في الأولين الحدث الأكبر وفي الثالث تحصيل الحاصل.

وثانياً: إن الوضوء مستحب في نفسه ورافع للحدث سواء قصد غاية واجبة أو مستحبة أم لم يقصد غاية، فلا فرق في ثبوت الغاية بدليل معتبر أم ضعيف، فعلى كلا القولين الوضوء رافع للحدث إن لم يكن مانع.

الثمرة الثانية(1): الحكم باستحباب المسترسل من اللحية في الوضوء من باب مجرد الاحتياط لا يسوّغ المسح ببلله، بل يحتمل قوياً أن يمنع المسح ببلله وإن قلنا بصيرورته مستحباً شرعياً.

والمقصود أنه لو فرض دلالة خبر ضعيف على غسل المسترسل فعلى القول الأول يصير غسله جزءاً مستحباً من الوضوء، فيكون البلل عليه بلل الجزء المستحب من الوضوء فيكون بلل الوضوء، أما على القول الثاني فلا.

وأشكل عليه: أولاً: إن الاستحباب لا يلازم الجزئية؛ إذ يحتمل كونه مستحباً وظرفه الوضوء، كما في أدعية الوضوء.

ص: 164


1- فرائد الأصول 2: 158.

وفيه: ما مرّ من إمكان الجزء المستحب، مع ظهور الاستحباب عرفاً في الجزئية، وأما استحبابه في نفسه مع كون ظرفه مستحب آخر فخلاف الظاهر.

إن قلت: إن الخبر الضعيف متضمن للاستحباب وللجزئية، وأخبار من بلغ تدل على الأول دون الثاني!

قلت(1): إن أخبار من بلغ ظاهرة عرفاً في الاستحباب بالنحو البالغ، لا طبيعي الاستحباب فحسب، فلذا تثبت نوعية الاستحباب من الاستقلال أو الجزئية أو الشرطية.

وثانياً(2): إنه لا دليل على جواز الأخذ من بلّة الأجزاء المستحبة، بل الثابت صحة الأخذ من الأجزاء المقوّمة لماهية الوضوء، أما ما كان كمالاً فلا!

وفيه: إطلاق أدلة جواز أخذ البلل، كصحيحة الحلبي، حيث قال (علیه السلام) : «ويكفيك من مسح رأسك أن تأخذ من لحيتك بللها إذا نسيت أن تمسح رأسك، فتمسح به مقدم رأسك»(3).

وثالثاً: إن أخبار من بلغ لا تدلّ على استحباب غسل المسترسل حتى لو ورد به خبر ضعيف؛ إذ في المركب الارتباطي لا ثواب على الأجزاء بنفسها، بل الثواب على المركب ولا يتوزع على الأجزاء، فلم يبلغ الثواب

ص: 165


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 9: 367.
2- كتاب الطهارة، للشيخ الأنصاري 2: 236.
3- الكافي 3: 34؛ وسائل الشيعة 1: 408.

عليه فلا يثبت الاستحباب! فتأمل.

الثمرة الثالثة: على القول الأول يمكن الفتوى بالاستحباب، وأما على القول الثاني فلا؛ إذ مع عدم ثبوت الاستحباب يكون الفتوى به تشريعاً، بل لا بد من الفتوى بالإتيان برجاء المطلوبية.

الثمرة الرابع: بناءً على القول بإجزاء كل غسل مستحب عن الوضوء، فإن دلّ خبر ضعيف على الثواب على غسلٍ ما، فعلى الأول يجزي دون الثاني فلا يجزي.

المقام الثاني: في ثمرة القول الثالث

الثمرة الأولى: إمكان تخصيص الخبر الضعيف الدال على الثواب للعمومات أو الإطلاقات الدالة على الحرمة، حيث ثبوت حجية الخبر الضعيف على هذا القول، أما على القول الأول فتتزاحم الحرمة الثابتة للشيء بعنوانه الأولي مع الاستحباب الثابت له بالعنوان الثانوي الطاري، فيقدّم أقواهما!

وفيه: انصراف أدلة من بلغ عن هذا المورد ممّا دلّ الدليل العام أو المطلق على حرمته والعقاب فيه قطعاً.

الثمرة الثانية: جريان استصحاب الحكم في ما لو شك في استمرار حكم بناءً على القول الثالث؛ وذلك لحجية الخبر الضعيف فيكون العمل مستحباً في نفسه ومع الشك في استمرار الاستحباب يستصحب كاستصحاب وجوب الجمعة في عصر الغيبة، وعدم جريان الاستصحاب بناءً على القول الأول؛ وذلك لأن الاستحباب ثابت للشيء بعنوان البلوغ، ومع ارتفاع

ص: 166

العنوان يتبدّل الحكم قطعاً لتبدّل الموضوع.

المطلب الرابع: من فروع القاعدة
الفرع الأول: هل أخبار من بلغ تشمل فتوى الفقيه بالاستحباب

قيل: بالشمول؛ لأن فتوى الفقيه بالاستحباب تدل بالالتزام على الثواب، فبلغ الثواب.

وأ شكل عليه المحقق الإصفهاني(1):

بأن البلوغ في زمان صدور الروايات حيث إنه كان بنقل الرواية عن المعصوم (علیه السلام) فإطلاقه منصرف إلى الخبر عن حسّ لا الخبر عن حدس. نعم، إذا علمنا من مسلك الفقيه أنه لا يفتي إلاّ عن ورود الرواية في المسألة ففتواه بالالتزام تكشف عن ورود رواية بالاستحباب، ولكنه مع ذلك يحتاج إلى التسامح في الدلالة؛ إذ غاية ما يقتضيه مسلكه هو الاستناد إلى الرواية وأما استفادة الاستحباب فموكولة إلى نظره، ولعلها إذا وصلت إلينا لم نستظهر منها الاستحباب.

إن قلت: أصالة الحسّ تنفي احتمال كونه عن حدس.

قلت: لا شك في كون الفتوى عن حدس فلا موضوع لهذه الأصالة التي موردها الشك.

إن قلت(2): إن ظهورها في الإخبار عن حسّ لا نرى له وجهاً عرفياً، فأخبار من بلغ تشمل الحس والحدس.

قلت: الظاهر انصرافها عن الحدس كانصراف أدلة حجية خبر الواحد عنه.

ص: 167


1- نهاية الدراية 4: 188-189.
2- منتقى الأصول 4: 531.
الفرع الثاني: في المكروهات

هل الأخبار الضعيفة الدالة على المكروهات تشملها أخبار من بلغ؟ قيل: بالشمول وذلك عبر وجوه، منها:

الوجه الأول: إن ترك المكروه مستحب، فالخبر الضعيف عبر الدلالة الالتزامية يدل على الثواب!

لكن هذا يتوقف على دلالة الضد، وقد مرّ أن الأقوى عدم الدلالة.

الوجه الثاني: إن الخبر يدل بالالتزام على ثبوت الثواب بتركه حيث إن الترك إطاعة لله تعالى، ففي الترك الثواب، وكلّما كان في تركه ثواب كان مكروهاً؛ لعدم الفرق عرفاً بين أن يقول إن العمل مبغوض أو إن تركه محبوب.

وبعبارة أخرى: إن الخبر الضعيف دلالته المطابقية كراهة العمل، ودلالته الالتزامية - بضميمة أدلة الطاعة - الثواب على تركه، ودليل من بلغ يثبت كليهما أي الثواب على الترك بالمطابقة، وكراهة العمل بالالتزام.

وأورد عليه: أولاً: عدم الدليل على الملازمة بين الثواب على الترك وكراهة الفعل.

وثانياً: إن أخبار من بلغ منصرفة عن العدميات أو ظاهرة في خصوص الوجوديات، كقوله (علیه السلام) : «فعمله» و«فصنعه» و«فعل ذلك».

وثالثاً: ما في المنتقى(1):

بأن الملازمة بين دلالة الخبر الضعيف على الكراهة وبين ثبوت الثواب على الترك ملازمة عقلية لا عرفية!

ص: 168


1- منتقى الأصول 4: 536.

وفيه: إن البلوغ يشمل كل بلوغ سواء كان بالدلالة المطابقية أم الالتزامية، وسواء كانت الدلالة عقلية أم عرفية.

الوجه الثالث: إلغاء الخصوصية عرفاً عن الأفعال الوجودية، حيث يفهم العرف أن تمام الموضوع هو البلوغ، وهذا ما يعبّر عنه بمناسبة الحكم والموضوع، حيث إن الموضوع وإن كان ضيقاً في لسان الدليل إلاّ أن العرف يفهم سعة الموضوع.

الوجه الرابع: فهم المشهور إلحاق الكراهة بالمستحب، وهذا الفهم يجبر ضعف الدلالة حسب المبنى.

الفرع الثالث: في الفضائل والمصائب ونحوهما

قد يشكل فيها: بأن نقلها بعنوان الصدور عن المعصوم (علیه السلام) لو كان الخبر ضعيفاً كذب أو نسبة وقول من غير علم.

نعم، لا إشكال في ذلك لو كان نقلها على سبيل الحكاية عن كتاب أو عن الراوي، أو يقول رُوي ونحو ذلك.

والجواب من وجوه، منها:

الوجه الأول: جواز ذلك بأخبار من بلغ، لأن قوله (علیه السلام) : «فصنعه» أو «فعمله» يشمل كل عمل بحسبه، والعمل بالخبر الضعيف في هذه الموارد هو بنقلها واستماعها وترتيب الآثار عليها ونحو ذلك.

مثلاً في أخبار فاجعة الطف العمل بها هو البكاء والإبكاء، وأخبار الفضائل العمل بها هو النشر، وما إلى ذلك.

إن قلت: لا بلوغ للثواب لتكون مشمولة بأخبار من بلغ، لا من الجهة

ص: 169

المطابقية كما هو واضح، ولا من الجهة الالتزامية، حيث إن هذه الأخبار لا تخصص أدلة حرمة الكذب!

قلت: أما ترتب الثواب فلدلالة الأدلة المعتبرة عليه في نقل المصائب والفضائل ونحوها، وبذلك تخرج عن كونها كذباً بالتخصص ولا تخصيص، وبعبارة أخرى: الأدلة الدالة على الثواب بضميمة أخبار من بلغ تخرج الكلام عن كونه كذباً لقيام الحجة عليه كما في الأخبار المعتبرة، فتأمل.

الوجه الثاني: في خصوص المصائب بأنها من مصاديق الإبكاء الثابت رجحانه، وكذا هو إعانة على البكاء الذي هو من البرّ والتقوى!

وفيه: أنه لا بد من ثبوت إباحة الشيء بالدليل ليدخل في مصاديق الإبكاء الراجح والإعانة الراجحة؛ إذ لا يجوز الإبكاء والإعانة بالأمر الحرام شرعاً بالإجماع وبانصراف دليل الرجحان عن ذلك، ولو فرض شمول دليلهما للمصداق الحرام فيتعارض مع دليل الحرمة بالعموم من وجه والترجيح لدليل الحرمة لأقوائيته، ولو فرض كونه من باب التزاحم فلا بد من ثبوت أقوائية الملاك وهو غير ثابت.

الوجه الثالث: إن السامعين يعلمون بأن الناقل إنما ينقل عن كتاب، فلا فرق بين أن يصرّح به أو لا، وهذا ينفع الناقلين، إلاّ أنه خروج عن موضوع محلّ البحث، حيث إنه ليس إخباراً بالمؤدّى.

الوجه الرابع: قيام السيرة على ذلك من غير نكير، وهي سيرة متصلة بالمعصومين (علیهم السلام) على الأظهر، لكن القدر المتيقن منها هو ما لم يبلغ حدّ

ص: 170

العلم بالوضع.

الفرع الرابع: في منقولات العامة في المستحبات

والتي لم ترد في كتب الخاصة، فقد يقال: بعدم شمول أخبار من بلغ لها، لوجوه:

منها: الروايات المتواترة الناهية عن الأخذ منهم.

إن قلت: ألا يمكن تخصيصها بأخبار من بلغ؟

قلت: إنها آبية عن التخصيص كما لا يخفى على من راجعها، مضافاً إلى أن النسبة بينهما نسبة العموم من وجه، لاجتماعهما في المستحب الواصل عن طريق العامة، وافتراقهما في آخذ الواجبات والمحرمات وكذا الاستحباب البالغ عن طريق الخاصة، والترجيح للأخبار الناهية لتواترها.

إن قلت: ألا يمكن إخراج تلك الأخبار عن موضوع الأخبار الناهية بالحكومة وذلك بضمّ تلك الأخبار إلى أخبار من بلغ، فيكون الأخذ بها مستنداً إلى أمرهم فيكون أخذاً منهم لا من العامة كما في الروايات التي رويت عن الأئمة (علیهم السلام) عبر الموثقين من العامة!

قلت: بعد انصراف أخبار من بلغ عن أخبارهم فلا ينفع هذا الوجه.

ومنها: كونه مستنكراً عند المتشرعة، مع ضم الإعراض العملي للفقهاء عن مروياتهم وعن الفتوى باستحباب ما رووه في كتبهم.

الفرع الخامس: في شمول من بلغ للخبر الضعيف الدال على الوجوب

فهل يمكن الفتوى بالاستحباب أو الثواب بذلك؟

قد يقال: بشمول أخبار من بلغ لذلك، لأنه ليس من العمل بالخبر

ص: 171

الضعيف كي يقال: بأن العمل به يستلزم الفتوى بالوجوب، بل هو عمل بأخبار من بلغ، حيث إن الخبر الضعيف دلّ على الثواب بالالتزام، وأخبار من بلغ دلت على الاستحباب أو ثبوت الثواب، وذلك بضميمة فهم المشهور الاستحباب أو الكراهة على خلاف ظاهر الخبر الضعيف، فحينئذٍ يتحقق موضوع أخبار من بلغ، فتأمل.

وأشكل عليه بأمور، منها:

الإشكال الأول: ما ذكره المحقق الإصفهاني: «بأن حقيقة الوجوب إن كانت مركبة من طلب الفعل والمنع عن الترك أمكن أن يقال: بلغه أمران أحدهما قابل للثبوت دون الآخر، وإن كانت من المعاني البسيطة فالبالغ بسيط غير قابل للثبوت بحدّه، والقابل للثبوت بحدّه - أي الاستحباب - لم يبلغه، وحيث إن البالغ هو الوجوب بحدّه فالثواب اللازم له هو الثواب اللازم للمحدود بحد خاص لا مطلق الثواب، والمعنى البسيط البالغ وإن كان قابلاً للتحليل إلى مطلق الطلب الجامع وحدّه إلاّ أن ذلك المعنى الجامع التحليلي لا يستقبل بالجعل حتى يكون الجامع مجعولاً»(1).

وأورد عليه: أولاً: أن أصل الثواب قد بلغ فلا حاجة إلى إثبات نوعية الثواب؛ إذ لم يشترط في أخبار من بلغ كون الثواب بشرط لا، بل يكفي فيه كونه لا بشرط، وذلك هو مقتضى الإطلاق فيها.

وثانياً: بالأولوية، حيث إن المولى أراد الوصول إلى الملاك الأضعف في الخبر الدال على الاستحباب، فكيف بالملاك الأقوى في الخبر الدال

ص: 172


1- نهاية الدراية 4: 191.

على الوجوب؟! فتأمل.

الإشكال الثاني: ما في المنتقى: «من عدم شمول أخبار من بلغ لهذا المورد، لظهورها في كون الداعي إلى العمل هو تحصيل الثواب، بمعنى أن موضوعها ما يتفرع العمل فيه على بلوغ الثواب طبعاً وعادة، بحيث يكون الداعي هو الثواب، والأمر في الواجبات ليس كذلك؛ إذ الداعي إلى فعل الواجبات عادة وطبعاً هو الفرار عن مفسدة تركه وهو العقاب لا الوقوع في مصلحة فعله وهو الثواب، فلا يكون الإخبار بالوجوب مشمولاً لهذه القاعدة»(1).

وأورد عليه: أولاً: بأن الفاء في قوله (علیه السلام) : «فعمله» ليست تفريعاً على الداعي بأن يكون ما قبلها علة لما بعدها، بل التفريع على موضوع الداعي فيكون ما قبل الفاء محققاً لموضوع ما بعدها، كما لو قيل: (دخل الوقت فصليت) فإن دخول الوقت ليس علة للصلاة، بل العلة أداء حق الله أو الطمع في الجنة أو الخوف من النار أو غير ذلك، وإنّما دخول الوقت محقق لموضوع الداعي، وهكذا فهم المشهور من أخبار من بلغ.

وثانياً: إنه في محتمل الوجوب يوجد مؤمّن من العقاب فلا يكون المحرّك إلاّ الثواب.

هذا مضافاً إلى النقض بأنه في الأخبار الضعيفة الدالة على الاستحباب لو لم يكن المحرّك الثواب فهل يمكن الالتزام بعدم الثواب حينئذٍ؟!

الإشكال الثالث: العلم الإجمالي بعدم شمول أخبار من بلغ لذلك؛ لأن الخبر الضعيف إمّا مطابق للواقع فيكون الفعل واجباً غير مشمول لأخبار من

ص: 173


1- منتقى الأصول 4: 533-534.

بلغ، وإمّا مخالف له فلا تشمله أيضاً؛ لأنها لا تشمل الخبر الذي هو خلاف الواقع.

وأجيب: أولاً: بشمولها للواجبات المعلومة أيضاً؛ وذلك لأن الثواب غير ثابت حتى مع حجية الخبر الواحد؛ إذ حجيته لا تنافي خطأه واقعاً، فبأخبار من بلغ - بناءً على تواترها - تضمن الثواب حينئذٍ.

لا يقال: إن أخبار من بلغ كما تدل على الثواب كذلك تدل على الاستحباب فلا تشمل الواجبات.

لأنه يقال: إنها تدل على الأمرين، وفي الواجبات يمنع من الاستحباب لاستلزامه اجتماع الضدين، ولا محذور في الآخر الذي هو الثواب، فتأمل.

وثانياً: إن العلم الإجمالي المذكور غير حاصر، لوجود شق ثالث هو أن يكون في الخبر الضعيف الدال على الوجوب مطابقاً للواقع في الثواب ومخالفاً له في الوجوب.

الفرع السادس: في إطلاق الفتوى بالاستحباب

إن أخبار من بلغ مقيّدة بمن بلغه، فهل يصح إطلاق الفتوى بالاستحباب أم لا بد من تقييدها بالبلوغ بأن يقال: يستحب لمن بلغه هذا أن يفعل كذا؟ وذلك لأن موضوع الأخبار مقيد، فالفتوى من غير قيد تشريع!

ولدفع محذور التشريع وجوه، منها:

الوجه الأول: التمسك للإطلاق بقاعدة الاشتراك في التكليف.

وفيه: أن ذلك يصح مع وحدة الموضوع، وأما مع عدم الوحدة فلا، وقد مرّ أن عنوان (البلوغ) عنوان ثانوي، فكيف تعم الفتوى بحيث بإطلاقها

ص: 174

تشمل من لم ينطبق عليه العنوان الثانوي؟!

الوجه الثاني: استظهار كون البلوغ طريقياً لا موضوعيةً له!

وفيه: أن الأصل كون العناوين المأخوذة في الأدلة طريقيةً، وموضوعيتها بحاجة إلى دليل مفقود في ما نحن فيه.

الوجه الثالث: عدم ترتب أثر عملي على ذكر هذا القيد؛ لأن من لم تبلغه الفتوى بالاستحباب فلا يعمل بها أصلاً، ومن بلغه فقد تحقق الموضوع فيه، اللهم إلا أن يقال: إنه وإن لم يترتب على ذلك مخالفة عملية إلاّ أنها فتوى بخلاف الواقع وذلك مما لا يجوز!

الوجه الرابع: ما في التبيين(1):

بأن قيد البلوغ خاص بالمجتهد؛ وذلك لأن القيود المأخوذة في الموضوعات...

1- تارة: يكفي اتصاف المجتهد بها، وهي القيود التي تقع وسطاً في استنباط الأحكام الإلهية الكليّة، كاليقين والشك في الأحكام الكلية التي يكفي وجودهما في المجتهد وبذلك يفتي للمقلد، كما في الماء الذي زال تغيّره بنفسه حيث تستصحب النجاسة.

2- وتارة: القيود التي لا تقع وسطاً في استنباط الأحكام الكليّة كاستصحاب نجاسة هذا الثوب الخاص، وهنا لا بد من تحققها في المقلّد بنفسه، فلا يكفي استصحاب المجتهد للمقلّد!

وما نحن فيه من قبيل الأول، فإن المجتهد يفتي باستحباب العمل أو كراهته استناداً إلى قاعدة من بلغ، فتأمل.

ص: 175


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 10: 49.
الفرع السابع: لو تعارض الخبر الضعيف الدال على الاستحباب مع الخبر الصحيح الدال على عدمه

وفيه احتمالان:

الاحتمال الأول: عدم إمكان الفتوى بالاستحباب؛ لأن الأدلة المعتبرة قائمة مقام القطع، فكما لا يمكن الفتوى بالاستحباب مع القطع بعدمه فكذلك مع قيام الدليل المعتبر.

وأشكل عليه: بأن القيام إنما هو في القطع الطريقي، وما نحن فيه القطع موضوعي؛ لأن اعتبار الخبر لا ينفي احتمال مطابقة الخبر الضعيف للواقع، وأدلة الحجية لا تنفي الاحتمال الوجداني؛ وذلك لاحتمال عدم مطابقة الدليل المعتبر للواقع بسبب الخطأ ونحوه، وحينئذٍ يتحقق موضوع الاستحباب وهو الاحتمال مع البلوغ.

الاحتمال الثاني: إمكان الفتوى بالاستحباب.

واستدل له: بعدم تعارض أخبار من بلغ مع أدلة حجية الخبر النافي؛ وذلك لدلالة الأولى على الاستحباب بالعنوان الثانوي، ودلالة الثانية على عدم الاستحباب بالعنوان الأولى.

ولو فرض تحقق التعارض تساقطتا ويكون المرجع ملاك أدلة أخبار من بلغ - وهو البلوغ المتحقق وجداناً في المقام - .

وفيه: أن أدلة من بلغ منصرفة عن مثل هذا المورد.

الفرع الثامن: في تقوية الدلالة الضعيفة بأخبار من بلغ

بأن كانت دلالة الخبر بمفهوم اللقب مثلاً، فهل يمكن تقوية الدلالة بهذه الأخبار؟

ص: 176

والأقرب العدم؛ إذ لم يتحقق البلوغ مع عدم حجية الدلالة، بل هو مجرد احتمال من غير بلوغ. نعم، لو فهم المشهور ولم يخطّئهم في فهمهم فلا تبعد التقوية، فتأمل.

قال المحقق العراقي(1):

لا إشكال في أنه يعتبر في صدق البلوغ ظهور اللفظ في المعنى المراد، وإلاّ فلا يصدق عنوان البلوغ، وعليه فلو كان اللفظ مجملاً في حدّ ذاته فلا ظهور فيه فلا بلوغ، كما لو كان الكلام محفوفاً بالقرائن المتصلة التي أوجبت سلب ظهور الكلام.

وأما لو كان الكلام محفوفاً بالقرائن المنفصلة فلا ينثلم الظهور، بل تسلب الحجية عن الظاهر وحينئذٍ فيصدق البلوغ، كما لو دلّ الخبر الضعيف على استحباب العام، ثم تمّ تخصيصه بخبر ضعيف، فالثواب بالغ على كل أفراد العام حتى المخصّص!

إن قلت: في المنفصل صحيح أن الظهور انعقد في العام، إلاّ أن الإرادة الجدية لا تكون إلاّ في الخاص!

قلت: لو كان التخصيص بدليل معتبر صحّ ما ذكر، وأما الضعيف فلا حجية له كي يضرّ بالإرادة الجدّية مع عدم كون المخصّص مشمولاً لقاعدة من بلغ، حيث إنه ينفي الثواب لا أنه يثبته.

الفرع التاسع: هل تترتب جميع آثار المستحب الواقعي

كما لو دلّ الدليل على إجزاء الغسل المستحب عن الوضوء، ثم دلّ الخبر الضعيف على استحباب غسلٍ ما، فهل يجزي ذلك الغسل عن الوضوء

ص: 177


1- نهاية الأفكار 3: 283-284.

بناءً على دلالة أخبار من بلغ على الاستحباب؟

الأقرب ترتب جميع الآثار لما مرّ من أن أخبار من بلغ عنوان ثانوي تجعل الشيء مستحباً واقعاً بالعنوان الثانوي فيترتب عليه جميع آثار المستحب الواقعي كالتيمم الذي هو بدل عن الوضوء.

ص: 178

فصل في الدوران بين المحذورين

اشارة

أما تحرير محل البحث: فهو أن يدور الأمر بينهما فقط من غير دورانه بينهما وبين الإباحة؛ إذ مع احتمال الإباحة فالمرجع إلى البراءة، بل جريانها حينئذٍ أولى من جريانها في الشبهة الوجوبية أو التحريمية حيث جرت مع إمكان الاحتياط فجريانها مع عدم إمكانه أوضح.

كما أنه لا بد من أن لا يكون أصل شرعي كالاستصحاب متطابق مع أحد الحكمين، وإلاّ لانحلّ العلم الإجمالي.

ثم إن الكلام تارة في التوصليين، وأخرى في التعبديين أو ما كان أحدهما توصلياً والآخر تعبدياً، وثالثة في الواجبات الضمنية، فهنا بحوث:

البحث الأول: في التوصليين
اشارة

وفيه أربعة أقوال: تقديم جانب الحرمة، أو جانب الوجوب، أو الحكم بالإباحة الشرعية، أو جريان البراءة الشرعية والعقلية.

القول الأول: تقديم جانب الحرمة

وقد استدل له: بأن دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة.

وفيه: أولاً: الإشكال في القاعدة من أصلها، بل المرجع الأهم إلى حدّ المنع عن النقيض، كما لو دار الأمر بإنقاذ نفس محترمة عبر الدخول في الأرض المغصوب، فهنا جلب المنفعة أهم من مفسدة التصرف في الغصب.

ص: 179

اللهم إلاّ أن يدعى إن ترجيح الأهم مع كون المصلحة والمفسدة معلومتين، وأما مع احتمالهما - كما في ما نحن فيه - فلا! وعلى ذلك بناء العقلاء، كمغامرة التجار لاحتمال منفعة ألف مع احتمال مضرة ألفين مثلاً، فتأمل.

وثانياً: الإشكال في الصغرى بعدم انطباق القاعدة - على فرض صحتها - على ما نحن فيه؛ وذلك لأنه يوجد مؤمّن مع احتمال المفسدة والحرمة وهو البراءة الشرعية والعقلية حتى مع القطع بعدم المصلحة كما في شرب التتن، فضلاً عن مورد احتمال المصلحة كما نحن فيه!

القول الثاني: التخيير

واستدل له بأمور، منها:

الدليل الأول: أخبار التخيير في الخبرين المتعارضين بعد إلغاء خصوصية تعارض الخبرين.

وأشكل عليه: أولاً(1):

إن التخيير إما شرعي واقعي أو ظاهري وإما عقلي، وكلها منتفية في ما نحن فيه، أما الشرعي فغير معقول؛ إذ التخيير التكويني حاصل فجعله بالتشريع من تحصيل الحاصل، بل من أردأ أنواعه، وأما العقلي فملاكه وجود الملاك في الطرفين أو الأطراف مع عدم قدرة المكلّف على الجمع بينهما أو بينها، وليس كذلك ما نحن فيه لوجود الملاك في أحدهما فقط.

ص: 180


1- فوائد الأصول 3: 444.

ويرد عليه: أن هناك قسماً رابعاً وهو التخيير في الفتوى، وهو ممكن ولا محذور فيه؛ إذ للفتوى بهما شق آخر هو عدم الفتوى أو الفتوى بغيرهما كالإباحة مثلاً، هذا مضافاً إلى إشكال فني في حصر التخيير العقلي في ما ذكره؛ إذ هناك نوعان آخران له: بأن كان الملاك في الطبيعة أو الجامع والأمر توجه إليه مع تخير المكلف في التطبيق على أيِّ فردٍ شاء، وكذا لو كان الملاك في أحدهما مع إمكان تركهما حيث القطع بالتفريط بالملاك، لكن غير خفي عدم جريانهما في ما نحن فيه أيضاً كالنوع الذي ذكره.

وثانياً: إن التخيير المذكور في الروايات خاص بصورة تعارض النصين وإجراؤه مع إجمال النص أو فقدانه أو في الشبهة الموضوعية قياس مع عدم القطع بإلغاء الخصوصية.

إن قلت: إن ملاك التخيير جارٍ هنا أيضاً - حتى لو لم تجر أدلة التخيير عبر إلغاء الخصوصية - وذلك الملاك هو احتمال مصادفة كل واحد منهما الواقع.

قلت: لعل سبب التخيير في الخبرين المتعارضين هو اقتضاؤهما الحجيّة إلاّ أنها لا تصل إلى الفعلية بسبب التعارض، لاستحالة حجية المتضادين أو المتناقضين فتكون الحجية بدلية تخييرية، وهذا غير متوفر في ما نحن فيه لعدم وجود اقتضاء الحجية في كليهما، بل مجرد الاحتمال! وعليه فلا قطع بالمناط!

إن قلت: نتمسك بالأولوية، حيث إن الخبرين لا يعلم مطابقتهما للواقع؛ إذ يحتمل خطؤهما مثلاً ومع ذلك حكم الشارع بالتخيير، فبطريق أولى يكون الحكم هو التخيير في ما نحن فيه حيث نعلم بمطابقة أحدهما للواقع!

ص: 181

قلت: إنما تجري الأولوية مع عدم احتمال الخصوصية، وفي ما نحن فيه تحتمل الخصوصية وهي اقتضاء الخبرين للحجيّة مع تعارضهما المانع عن فعليتها فيهما.

اللهم إلاّ أن يقال: لا احتمال للخصوصية بناءً على الطريقية؛ إذ لا موضوعية للخبر، بل الملاك هو الكاشفية النوعية عن الواقع، وحيث كان التخيير فيه فبطريق أولى يكون في الكاشف الوجداني الذي هو القطع بمطابقة أحدهما للواقع، فتأمل.

الدليل الثاني: إنه مع الجهل بالواقع يدور الأمر بين المخالفة القطعية بعدم الالتزام بما عُلم إجمالاً، وبين الموافقة الاحتمالية بالالتزام بأحدهما، ومن المعلوم أن الثاني أولى.

والجواب: - مضافاً إلى المبحث المبنوي بعدم وجوب الموافقة الالتزامية، وبأنه على فرض الوجوب تكفي الموافقة الالتزامية الإجمالية - ما ذكره في نهاية الدراية: «بأن أصل الالتزام الجدي بالواقع بعنوانه الخاص المجهول غير معقول، حتى يجب واقعاً على طبق الواقع، حتى يجب موافقته الاحتمالية، بل مقولة الالتزام الجدي بشيء سنخ مقولة لا تتعلق إلاّ بما علم، وهو ليس إلاّ نفس طبيعي الالتزام»(1).

وحاصله: أن الالتزام بالمجهول محال، وحيث لا يعقل التكليف بالمحال لا تجب موافقته الاحتمالية من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

وأشكل عليه: بإمكان الالتزام بالمجهول؛ وذلك لأنه قد لا يكون الشيء

ص: 182


1- نهاية الدراية 4: 212.

في صفحة الذهن فلا يعقل الالتزام به، لكن لو كان فيها أمكن الالتزام به حتى لو كان مشكوكاً، بل حتى لو كان مقطوع العدم؛ وذلك لأن الالتزام هو عقد القلب وهو يمكن حتى مع الشك أو القطع بالعدم، كالتزام فرعون بعدم نبوة موسى (علیه السلام) مع يقينه بها قال سبحانه {وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ}(1)،

ولذا حصل الفرق بالعقد القلبي بين المؤمن وبين المنافق العالم بنبوة رسول الله (صلی الله علیه و آله) الناطق بالشهادتين العامل بالفرائض في الظاهر؛ وذلك لعقد الأول قلبه دون الثاني.

القول الثالث: الإباحة الشرعية

وذلك لإطلاق أدلتها الشاملة لما نحن فيه من الدوران بين المحذورين.

وأشكل عليه: أولاً: بانصراف الأدلة عن هذا المورد، قال الشيخ الأعظم: «إن أدلة الإباحة في محتمل الحرمة تنصرف إلى محتمل الحرمة وغير الوجوب، وأدلة نفي التكليف عمّا لم يعلم نوع التكليف لا تفيد إلاّ عدم المؤاخذة على الترك والفعل وعدم تعيين الحرمة أو الوجوب»(2).

فمثل قوله (علیه السلام) : «كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك...»(3)،

وقوله (علیه السلام) : «كل ما يكون فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه»(4)

ونحوهما واضح الانصراف عن

ص: 183


1- سورة النمل، الآية: 14.
2- فرائد الأصول 2: 185.
3- الكافي 5: 313؛ وسائل الشيعة 17: 89.
4- المحاسن 1: 495.

الدوران بين المحذورين.

وثانياً: بإشكال ثبوتي، فقد قال المحقق النائيني: «إن جعل الإباحة الظاهرية مع العلم بجنس الإلزام لا يمكن، فإن أصالة الإباحة بمدلولها المطابقي تنافي المعلوم بالإجمال؛ لأن مفاد أصالة الإباحة الرخصة في الفعل والترك وذلك يناقض العلم بالإلزام، وإن لم يكن لهذا أثر عملي وكان وجوده كعدمه لا يقتضي التنجيز، إلاّ أن العلم بثبوت الإلزام المولوي حاصل بالوجدان، وهذا العلم لا يجتمع مع جعل الإباحة - ولو ظاهراً - فإن الحكم الظاهري إنما يكون في مورد الجهل بالحكم الواقعي، فمع العلم به وجداناً لا يمكن جعل حكم ظاهري يناقض بمدلوله المطابقي نفس ما تعلق العلم به»(1).

وحاصله: إن رتبة الحكم الظاهري هي الشك، وهي غير محفوظة مع العلم بالإلزام، وعليه فلا وجه للحكم الظاهري.

وأجاب عنه المحقق العراقي: «بمنع المناقضة والمضادة بينهما، فإن قوام العلم وكذا الشك والظن في مقام عروضهما بعد أن كان بنفس العناوين والصور الذهنية بما هي مرآة إلى الخارج بلا سرايتها منها إلى وجود المعنون خارجاً، ولا إلى العنوان المعروض لصفة أخرى، بشهادة اجتماع اليقين والشك في وجود واحد بتوسط العناوين الإجمالية والتفصيلية، فلا محالة ما هو معروض العلم الإجمالي إنما هو عبارة عن عنوان أحد الأمرين المبائن في عالم العنوانية مع العنوان التفصيلي لا خصوص الفعل ولا خصوص الترك؛ إذ

ص: 184


1- فوائد الأصول 3: 445.

كل واحد من الفعل والترك بهذا العنوان التفصيلي لهما كان تحت الشك، وعليه فبعد أن كان موضوع الحليّة والإباحة التعبدية هو الشك في لزوم الفعل والترك بهذا العنوان التفصيلي كان الموضوع لهما متحققاً بالوجدان حيث كان كل من الفعل والترك بعنوانه التفصيلي مشكوكاً، وإن كان بعنوان أحدهما معلوم الإلزام، وبعد عدم اقتضاء أصالة الحل والإباحة بأزيد من الترخيص في عنوان الفعل والترك المشكوكين وعدم شموله للعنوان الإجمالي فلا قصور في جريانها في كل من الفعل والترك؛ إذ لا يكاد يضاد هذا المعنى مع العلم الإجمالي بعنوان أحد الأمرين»(1).

إن قلت: لا شك في عدم الإباحة، فلا يعقل جعل حكم ظاهري بها.

قلت: الشك في الحكم الواقعي وجداني حيث لا يعلم الوجوب أو الحرمة، وهذا كافٍ في جعل الحكم الظاهري؛ إذ لا يشترط فيه أزيد من الشك في الحكم الواقعي، ولا مانع من الحكم الظاهري مع العلم بمخالفته للحكم الواقعي الإجمالي إذا لم يستلزم مخالفة عملية قطعية، ومع كون المخالفة الاحتمالية متحققة على كل حال سواء كان هناك جعل لحكم ظاهري أم لا، والحاصل: الحكم الواقعي غير منجز فلا محذور من تنجز الحكم الظاهري.

ولا يخفى أن الخلاف بين العَلَمين مردّه إلى تفسير معنى أصالة الإباحة(2)، فهل هي عدم لزوم الفعل والترك معاً وذلك بمساواة الطرفين - كما يقوله

ص: 185


1- نهاية الأفكار 3: 294.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 10: 156.

المحقق النائيني - وهذا يتنافى مع العلم الإجمالي بلزوم أحدهما، أو أن معناها عدم لزوم الفعل وحده وعدم لزوم الترك وحده، فالعمل منفرداً وكذا الترك منفرداً مشكوكين - كما يقوله المحقق العراقي - فمرتبة الحكم الظاهري محفوظة!

والأقرب هو الأول؛ لأن الإباحة تتعلق بالطرفين معاً لا بكل طرف منفرداً، وعليه فمعناها مساواة الطرفين ومن المعلوم منافاته مع العلم بلزوم أحدهما، ولا يجدي في رفع ذلك تغاير العناوين للتنافي بين عنوان مساواتهما ولزوم أحدهما، فتأمل.

القول الرابع: البراءة عقلاً وشرعاً
اشارة

فإنه في كل طرف يوجد شك وبذلك يتحقق موضوع أو ظرف الأصل العملي. نعم، مع إجرائها في الطرفين يتحقق علم بمخالفة أحدهما للواقع، لكن لا ضرر في ذلك بعد عدم كونه مخالفة عملية.

وأشكل عليه بأمور، منها:

الإشكال الأول: تحصيل الحاصل؛ إذ الترخيص التكويني حاصل فيستحيل تحصيله بواسطة التعبد الشرعي.

قال المحقق العراقي(1):

لاختصاص جريان أدلة البراءة بما إذا لم يكن هناك ما يقتضي الترخيص في الفعل والترك بمناط آخر من اضطرار ونحوه، غير مناط عدم البيان... فلا يبقى مجال لجريان أدلة البراءة العقلية والشرعية، نظراً إلى حصول الترخيص حينئذٍ في الرتبة السابقة عن جريانها بحكم

ص: 186


1- نهاية الأفكار 3: 293.

العقل بالتخيير بين الفعل والترك.

وأورد عليه السيد الأخ(1):

بالنقض: بالبراءة الجارية بمناط عدم البيان، فإن العقل حكم في رتبة سابقة بقبح العقاب، فيكون الترخيص الشرعي تحصيلاً للحاصل، وكذا النقض بجميع المباحات حيث الاضطرار التكويني واللابدية العقلية؛ إذ المكلّف إما فاعل أو تارك!

وبالحلّ: بأنه لا مانع من المولوية في كل مورد أمكن للمولى إعمال المولوية فيه، ومنه في الاضطرار الذي لا يسلب المكلّف اختياره، فالمكلّف - مثلاً - يمكنه شرب الماء، ويمكنه تركه، والاضطرار إنما هو بالجامع لا بخصوصية أحد الطرفين، ومعه يمكن للمولى إعمال المولوية.

وفي ما نحن فيه وإن اضطر المكلّف إلى الجامع، إلاّ أن خصوص الفعل وخصوص الترك اختياري، فيمكن للمولى تحريمه أو إيجابه، وعليه فلا مانع من جريان البراءة.

الإشكال الثاني: عن المحقق النائيني(2):

بأن رفع الحكم إنما يصح في المورد القابل للوضع، وذلك بجعل الاحتياط، وفي ما نحن فيه لا يمكن الوضع لعدم إمكان الاحتياط - حيث تستحيل الموافقة القطعية - فيكون الرفع كذلك غير ممكن.

وفيه: إن هذا في الجامع، وأما أحد الفردين فهو قابل لهما، كما مرّ.

الإشكال الثالث: إن جنس الإلزام معلوم، فليس المقام من الشك في

ص: 187


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 10: 159.
2- أجود التقريرات 3: 401.

التكليف كي تجري البراءة، بل من الشك في المكلّف به.

وفيه: أن العلم بجنس الإلزام لا أثر له لعدم إمكان الموافقة القطعية ولا المخالفة القطعية، فلا محذور من جريان أصل البراءة.

الإشكال الرابع: ما في المنتقى(1):

من أن الحكم بالبراءة شرعاً إنما هو بملاحظة جهة التعذير عن الواقع المحتمل، وهذا إنما يصح في ما لو كان احتمال التكليف قابلاً لداعوية المكلّف وتحريكه نحو المكلف به، فيؤمّنه الشارع، أما إذا لم يكن الأمر كذلك، بل كان المكلف آمناً لقصور المقتضي فلا معنى لتأمينه وتعذيره.

وما نحن فيه كذلك؛ لأن احتمال كل من الحكمين بعد انضمامه واقترانه باحتمال الحكم المضاد له عملاً لا يكون بذي أثر في نفس المكلّف، ولا يترتب عليه التحريك والداعوية؛ لأن داعوية التكليف ومحركيته إنما هو بلحاظ ما يترتب عليه من أثر حسن من تحصيل ثواب أو فرار عن عقاب أو حصول مصحلة أو دفع مفسدة، وإن فرض تساوي الاحتمالين في الفعل لم يكن أحدهما محركاً للمكلّف لا محالة، فيمتنع جعل الحكم الواقعي بناءً على أن الحكم متقوّم بالداعوية.

ويرد عليه: أولاً: بأن معنى هذا الكلام هو أخذ العلم بالحكم في موضوعه، وهو محال كما مرّ.

وثانياً: إن كون حقيقة الحكم هي الداعوية إنما هو بالنسبة إلى فعل المولى وذلك بتمامية الإنشاء والتبليغ، وليس كذلك بالنسبة إلى فعل العبد

ص: 188


1- منتقى الأصول 5: 25-26.

وإلاّ لزم عدم ثبوت حكم على الغافل والجاهل لعدم وجود المقتضي لانبعاثه، فتأمل.

هذا مضافاً إلى أن كل واقعة لا تخلو عن حكم واقعي.

تذنيب: هل التخيير ابتدائي أم استمراري؟

بأن كانت وقائع مختلفة طولية، ففي الأولى تجري الأقوال الماضية، فهل على القول بالتخيير أو الإباحة أو البراءة، يجري التخيير في الواقعة الثانية وهكذا أم لا؟

قيل: باستمرار التخيير، قال الشيخ الأعظم: «الأقوى هو التخيير الاستمراري، لا للاستصحاب، بل حكم العقل في الزمان الثاني كما في الزمان الأول»، وقال: «إن المخالفة القطعية في مثل ذلك لا دليل على حرمتها، كما لو بدا للمجتهد في رأيه، أو عدل المقلّد عن مجتهده لعذر - من موت أو جنون أو فسق - أو اختياراً على القول بجوازه»(1).

وأشكل عليه: بعدم الفرق في عدم جواز مخالفة العلم الإجمالي بين الدفعي والتدريجيّ، وقد ذهب الشيخ الأعظم في موضع آخر إلى الاحتياط، قال: «التحقيق أن يقال: إنه لا فرق بين الموجودات فعلاً والموجودات تدريجاً في وجوب الاجتناب عن الحرام المردد بينها، إذا كان الابتلاء دفعة وعدمه، لاتحاد المناط في وجوب الاجتناب»، وقال: «كما إذا كانت زوجة الرجل مضطربة في حيضها بأن تنسى وقتها وإن حفظت عددها فيعلم إجمالاً بأنها حائض في الشهر ثلاثة أيام... وكما إذا

ص: 189


1- فرائد الأصول 2: 189.

علم التاجر إجمالاً بابتلائه في يومه أو شهره بمعاملة ربوية»(1).

وأجيب: بعدم تنجز هذا العلم الإجمالي، قال المحقق الإصفهاني: «إن العلم لا ينجز إلاّ طرفه - أي المعلوم بالإجمال - مع القدرة على امتثال طرفه، ومن البيّن أن هناك تكاليف متعددة في الوقائع المتعددة لا ينجز كل علم إلاّ ما هو طرفه في تلك الواقعة، والمفروض عدم قبول طرفه للتنجز، ولا توجب هذه العلوم المتعددة علماً إجمالياً أو تفصيلياً بتكليف آخر يتمكن من ترك مخالفته القطعية. نعم، انتزاع طبيعي العلم من العلوم المتعددة وطبيعي التكليف من التكاليف المتعددة ونسبة المخالفة القطعيّة إلى ذلك التكليف الواحد المعلوم بعلم واحد هو الموجب لهذه المغالطة! ومن الواضح أن ضم المخالفة في واقعة إلى المخالفة في واقعة أخرى وإن كان يوجب القطع بالمخالفة، لكنه قطع بمخالفة غير مؤثرة، لفرض عدم الأثر لكل مخالفة للتكليف المعلوم في كل واقعة»(2)،

انتهى.

وحاصله: إن كل واحد من العلوم الإجمالية في الوقائع المتدرجة غير منجز؛ وذلك لعدم إمكان الموافقة القطعية. نعم؛ هنا جامع لهذه العلوم المختلفة يجمع في عبارة واحدة بنحو كلي فيقال: (هذا الشيء إما واجب أو حرام)، ومع اختلاف الاختيار يعلم بمخالفة هذا التكليف الجامع، إلاّ أن الجامع ليس سوى الأفراد، وحيث لا تكون منجزة فلا يكون منجزاً أيضاً.

وفيه: أن عدم منجزية العلم الإجمالي الجامع مصادرة؛ إذ لا تلازم بين

ص: 190


1- فرائد الأصول 2: 248.
2- نهاية الدراية 4: 219-220.

عدم منجزية الأفراد والجامع، بل العلم الإجمالي منجز إلاّ أن يكون مانع، وهذا المانع في الواقعة الواحدة موجود؛ وذلك لعدم تمكن المكلّف من الموافقة والمخالفة القطعيين، وأما العلم الإجمالي بالجامع فهو وإن لم تمكن موافقته القطعية إلاّ أنه تمكن مخالفته القطعية فارتفع المانع، فتأمل.

البحث الثاني: في ما لو دار بين تعبدي وتوصلي

كما لو دارالأمر بين وجوب صلاة للأمر بها أو حرمتها لكونها بدعة مثلاً، فالوجوب هنا تعبدي وأما الحرمة فهي توصلية - بمعناه الأعم - .

فهنا الموافقة القطعية غير ممكنة فيحكم العقل بالتخيير بينهما فيأتي بالتعبدي بقصد الرجاء.

وأما المخالفة القطعية فقد يقال: بإمكانها كأن يدور الأمر بين وجوب تغسيل المسلم المبتدع وبين حرمته فيغسّله رياءً حيث لم يمتثل الواجب التعبدي لو كان، ولم يتركه إن كان حراماً.

وفيه نظر: لأن أسامي العبادات للصحيح لا للأعم، فالغسل رياءً ليس بغسل أصلاً، بل هو صورة غسل فيكون داخلاً في تركه، بل حرمة الرياء فيه غير معلومة؛ لأن الرياء يحرم في العبادات وهذا عباديته غير ثابتة، فتأمل.

ثم لو فرض إمكان المخالفة القطعية فلا بد من تركها لحرمتها عقلاً، إلاّ أنه قد تبنى المسألة على مسألة الاضطرار إلى ارتكاب أحد الأطراف غير المعيّنة من العلم الإجمالي مع كون الاضطرار سابقاً، فإن قلنا بانحلال العلم الإجمالي بالمرّة وجواز ارتكاب الطرف غير المضطر إليه فلا بد من القول هنا بجواز المخالفة القطعية، وإن لم نقل بانحلاله فكذلك هنا لأن ما نحن

ص: 191

فيه من صغريات تلك المسألة.

إلاّ أن المحقق الخراساني قد فكّك بين الموردين، حيث ذهب هنا إلى المنجزية دون هناك في مسألة الاضطرار.

فأشكل عليه المحقق العراقي فقال: «والعجب التزامه في المقام بوجوب رعاية العلم الإجمالي بقدر الإمكان، وعدم جواز المخالفة القطعيّة، على خلاف مختاره في تلك المسألة!»(1).

ويمكن أن يقال: بالفرق بين المقامين بتحقق العلم الإجمالي في ما نحن فيه وذلك بثبوت الإلزام بأحد الطرفين، وسقوط الموافقة القطعية إنما كان لعدم إمكانها، لكن لا وجه لسقوطها مع إمكان اجتنابها.

وعدم تحقق العلم الإجمالي في باب الاضطرار - مع سبقه على العلم - إذ لا علم بالتكليف أصلاً؛ إذ لا تكليف في الفرد الذي يختاره وذلك للاضطرار، وأما الفرد الآخر لا علم بالتكليف فيه بل احتماله، والاحتمال مجرى أصالة البراءة للشك في التكليف.

إن قلت: وجوب الموافقة القطعية وحرمة المخالفة القطعية معلولان لعلة واحدة، ومع عدم ترتب أحد المعلولين يكتشف عدم وجود العلة، وذلك كاشف عن عدم وجود المعلول الآخر، قال المحقق الخراساني: «ضرورة أن التكليف المعلوم إجمالاً لو كان فعلياً لوجب موافقته قطعاً، وإلاّ لم يحرم مخالفته كذلك أيضاً»(2).

ص: 192


1- نهاية الأفكار 3: 297.
2- إيضاح كفاية الأصول 4: 221.

قلت: إن المقتضي إن كان موجوداً وكان مانع لأحدهما دون الآخر، فلا محذور في صيرورة المقتضي علة تامة لما لا مانع له وعدم عليّته لما له مانع، وهكذا يكون ما نحن فيه حيث إن العلم الإجمالي يقتضي وجوب الموافقة القطعية وحرمة المخالفة القطعية مع وجود مانع في الأوّل هو عدم القدرة من غير مانع في الثاني، فتأمل.

البحث الثالث: الدوران بين المحذورين في الواجبات الضمنيّة
اشارة

كما لو دار شيء في الصلاة بين الوجوب والحرمة، أو الشرطية والمانعية، كما لو ظن بالركوع قبل أن يسجد فهل حكمه وجوب الإتيان به أم حرمته؟ وكما لو لم يحفظ إلاّ العزيمة ودار أمره بين وجوب قرائتها في الصلاة لوجوب السورة فيها أو حرمتها لكونها عزيمة!

قال الشيخ الأعظم: «والتحقيق أنه إن قلنا بعدم وجوب الاحتياط في الشك في الشرطية والجزئية، وعدم حرمة المخالفة القطعية للواقع إذا لم تكن عملية فالأقوى التخيير هنا»(1)؛

وذلك لأن المسألة حينئذٍ صغرى مسألة الدوران بين المحذورين.

وأشكل عليه: بإمكان الاحتياط بقطع الصلاة وإعادتها في المثال الأول أو إكمالها بأحد الاحتمالين ثم إكمالها بالاحتمال الآخر في المثال الثاني؛ وذلك لأنه يعلم بالإلزام وانشغال الذمة مع إمكان موافقته القطعية.

نعم، لو ضاق الوقت فلا بد من اختيار أحد الطرفين، لكن هل يجب عليه القضاء؟

ص: 193


1- فرائد الأصول 2: 402.

قد يقال: بوجوبه لعدم العلم بفراغ الذمة إلاّ بالقضاء.

وقيل: بعدم دليل على القضاء؛ وذلك لأنه بأمر جديد مع فوت الفريضة، وفي ما نحن فيه لا إحراز للفوت؛ لأنه تابع لفعلية التكليف، ولا فعلية في المقام، بل غاية ما في المقام هو العلم الإجمالي بأحد الأمرين من الجزئية أو المانعية وهو لا يكون منجزاً إلاّ بالنسبة إلى وجوب الموافقة الاحتمالية؛ وذلك لعدم إمكان الموافقة القطعية، وعليه فلا فعلية للمحتمل الآخر في الوقت فلم يحرز الفوت كي يجب القضاء!

وبعبارة أخرى: لا أمر بالموافقة القطعية لعدم إمكانها، بل بالموافقة الاحتمالية، وقد امتثلها فلم يفته شيء فلا قضاء!

وأشكل عليه: بأن فعلية التكليف الواقعي لا تتوقف على إمكان الامتثال، بل على وجود مصحح عقلائي، كتكليف النائم أو الغافل في كل الوقت فهو لا يمكنه الامتثال لكن صحّ تكليفه باعتبار القضاء، أي ليصدق الفوت ليجب القضاء.

وفي ما نحن فيه الجاهل بالتكليف الواقعي قصوراً يجوز تكليفه بالواقع حتى لو لم يتمكن من الموافقة القطعية، ومع تكليفه بالواقع لم يحرز امتثال التكليف في الوقت، والأصل عدم الإتيان به - وهو معنى الفوت - فيجب عليه القضاء.

وبعبارة أخرى: هو مكلف بالواقع، ونحرز الفوت بالأصل العملي - وليس بمثبت - فتمت أركان وجوب القضاء، فتأمل.

فرع: في أهمية أحد الطرفين أو احتمالها

لو علمنا بأهمية أحد الطرفين أو احتملناها، فهل ذلك مرجح إلزامي له أم لا؟

ص: 194

قال في الكفاية: «إن استقلال العقل بالتخيير إنما هو في ما لا يحتمل الترجيح في أحدهما على التعيين، ومع احتماله لا يبعد دعوى استقلاله بتعيينه، كما هو الحال في دوران الأمر بين التخيير والتعيين في غير المقام، لكن الترجيح إنما يكون لشدة الطلب في أحدهما، وزيادته على الطلب في الآخر بما لا يجوز الإخلال بها في صورة المزاحمة»(1).

وحاصله تنظير المقام بموردين:

الأول: التنظير بباب التزاحم، كما لو تزاحم إنقاذ غريقين يعلم بأن أحدهما المعين قائد الجيش أو يحتمل ذلك مع كون الآخر جندياً عادياً مثلاً، حيث لا إشكال في ترجيح معلوم أو محتمل الأهمية عقلاً.

ويرد عليه: اختلاف الملاك، ففي باب التزاحم نشأ التزاحم من إطلاق الدليلين أو الدليل في كلا المتزاحمين، فلا بد من تقييدهما بما لو لم يأت بالآخر؛ لأن بقاء إطلاقهما يستلزم التكليف بما لا يطاق، وتقييد أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح، فلا بد من تقييدهما معاً، وأما مع العلم أو احتمال أهمية أحدهما فنشك في تقييد دليله فالمحكّم هو أصالة الإطلاق فيه مع تقييد دليل الآخر بلا إشكال.

وهذا الملاك غير جارٍ في ما نحن فيه؛ وذلك لأن الخطاب واحد لأحدهما فقط.

وأجاب عنه المحقق العراقي: بتحقيق الملاك في المقام حيث قال: «لو قيل بأن مناط حكم العقل بالتخيير في المقام عدم الترجيح بين الاحتمالين

ص: 195


1- إيضاح كفاية الأصول 4: 210-212.

أمكن دعوى توقفه عند وجود المزية لأحد الطرفين، ويحكم بالأخذ بذي المزية»(1).

وحاصله: أن الحكم العقلي بالتخيير في الدوران بين المحذورين إنما هو لعدم المرجح، واحتمال الأهمية مرجّح عقلاً.

وأشكل عليه(2): بأن الترجيح إذا لم تنهض عليه الحجة تجري فيه البراءة العقلية والشرعية؛ إذ كما تجريان في أصل الحكم مع احتمال وجود ملاك ملزم، كذلك تجريان في الشك في خصوصية الحكم!

الثاني: التنظير بالدوران بين التعيين والتخيير، حيث يحكم العقل بلزوم اختيار جانب التعيين، وما نحن فيه كذلك؛ إذ إما يلزم ترجيح معلوم أو محتمل الأهمية أو هو مخير بينه وبين الآخر.

ويرد عليه: عدم تحقق ملاك ذلك في المقام أيضاً؛ إذ ملاكه هناك هو الاشتغال اليقيني بالتكليف، وجانب التعيين إفراغ للذمة عن ذلك التكليف المعلوم قطعاً دون جانب التخيير.

وأما ما نحن فيه فلا تنجيز للعلم الإجمالي لعدم القدرة على الاحتياط وعدم إمكان العلم بالخروج عن عهدة التكليف.

ص: 196


1- فوائد الأصول 3: 451 (الهامش).
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 10: 188.

فصل في اشتراط البراءة بالفحص

اشارة

والبراءة إما عقلية أو شرعية، وكل منهما في الشبهات الحكمية أو الموضوعية فهنا مباحث:

المبحث الأول: اشتراط الفحص في البراءة العقلية
اشارة

وفيه مطلبان:

المطلب الأول: الاشتراط في الشبهة الحكمية

ويدل عليه أمور، منها:

الدليل الأول: إن (عدم البيان) لا يتحقق إلاّ بعد الفحص؛ إذ البيان هو البيان الذي يكون في معرض الوصول، فلو اقتحم العبد مع التفاته إلى احتمال وجود حكم ٍ يمكن وصوله مع تمكنه من الفحص فخالف الواقع لم يكن عند العقلاء معذوراً ولم يكن المولى ملاماً لو عاقبه على ذلك. فليس (البيان) في القاعدة هو مجرد صدور الأمر، ولا وصوله اتفاقاً؛ لأن العقلاء لا يرونهما ملاكاً لاستحقاق العقاب.

وبعبارة أخرى: حين الشك في وجود البيان الذي هو في معرض الوصول يشك في قبح العقاب؛ إذ مع الشك في الموضوع يشك في الحكم، ولا مؤمِّن من العقاب لوصادف المخالفة واقعاً.

وأشكل عليه في نهاية الدراية: «من أن الحكم ما لم يصل حقيقة

ص: 197

بوجوده العلمي في أفق النفس غير قابل للباعثية أو الزاجرية بنفسه على أيّ تقدير؛ بداهة أن وجوده الواقعي لا يعقل أن يكون موجباً لانقداح الداعي في النفس، بل بوجوده الحاضر في أفق النفس... فلا يعقل فعلية الأمر الواقعي الذي عليه طريق واقعي بنحو الباعثية والمحركية إلاّ بعد وصوله حقيقة، وإذا لم يكن فعلياً وباعثاً حقيقياً فكيف يعقل أن يكون منجزاً حتى يكون احتماله احتمال المنجز ليمنع من جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان؟»(1).

وبعبارة موجزة: إن منجزية الحكم الواقعي متوقفة على باعثيته، وهي متوقفة على العلم بالحكم، وحيث إن العلم غير موجود فلا باعثية فلا منجزية!

ويرد عليه: إن الباعثية كما تكون بالعلم كذلك تكون بالاحتمال، وبعبارة أخرى: كما أن الوجود التصديقي يكون باعثاً كذلك الوجود التصوري، وهنا حيث إن المكلّف ملتفت يتحقق بذلك الوجود التصوري فيكون باعثاً.

الدليل الثاني: العلم الإجمالي بوجود تكاليف، ولا يزول إلاّ بالفحص بحيث ينحل إلى علم تفصيلي وشبهة بدوية وتجري فيها البراءة حينئذٍ.

وأشكل عليه: بأنه أخص من المدعى؛ لأن العلم الإجمالي منحلّ بما مرّ في باب الانسداد، حيث إننا نعلم بتكاليف كثيرة ينطبق المعلوم إجمالاً عليها أو يحتمل انطباقه، وبالانحلال لا محذور في إجراء أصل البراءة. نعم،

ص: 198


1- نهاية الدراية 4: 406-407.

من لم يعلم بالأحكام بمقدار يحتمل الانطباق فلا انحلال في حقه!

وأجاب عنه المحقق النائيني(1)

بما حاصله: أنه تارة يكون العنوان مردداً بين الأقل والأكثر من أول الأمر، كما لو علم أن في هذا القطيع غنم موطوءة، فبالفحص والعثور على عدد يحتمل انطباق المعلوم عليه ينحل العلم الإجمالي.

وتارة العنوان معلوم لكن أفراده مرددة من أول الأمر، بأن يكون متعلق التكليف عنواناً ليس مردداً بين الأقل والأكثر بنفسه، بل المعلوم هو العنوان بما له في الواقع من الأفراد، كما لو علم بموطوئية الغنم البِيض من القطيع وترددت البيضاء بين العشرة والعشرين مثلاً، فهنا لا ينحل العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي بمقدار يحتمل الانطباق عليه، بل لا بد من الفحص التام عن كل ما يحتمل انطباق العنوان المعلوم بالإجمال عليه؛ لأن العلم الإجمالي يوجب تنجز متعلّقه بما له من العنوان، ففي المثال: قد تنجز التكليف لكل ما كان من أفراد البِيض، والعلم التفصيلي بموطوئية عدة من البيض يحتمل انحصار البيض فيها لا يوجب انحلال العلم الإجمالي.

وما نحن فيه من قبيل الثاني؛ لأن المعلوم بالإجمال في المقام هو الأحكام الموجودة بما في أيدينا من الكتب، فقد تنجزت جميع الأحكام المثبتة فيها، ولازم ذلك هو الفحص التام في جميعها.

وفيه: أولاً: ما هو الفرق بين قوله: اجتنب الموطوء، وقوله: اجتنب البِيض، فكلاهما عنوان مضبوط لا يعلم تعداد أفراده.

ص: 199


1- فوائد الأصول 4: 279.

وثانياً: بالحل بأن العنوان لو كان انحلالياً ثم علمنا تفصيلاً بأن بعض الأفراد مصداق لذلك العنوان، فلا مانع من الانحلال، حيث إنّ مقتضي الانحلال موجود والمانع مفقود؛ إذ يجب اجتناب ما ثبت عليه العنوان، ولا يجب اجتناب ما لم يثبت عليه ذلك، وهكذا في ما نحن فيه حيث يريد المولى العمل بما في الكتب المعتبرة التي بأيدينا وبعد العثور على جملة منها نشك في وجود أحكام أخرى، فلا مانع من إجراء البراءة.

الدليل الثالث: إن الاقتحام من غير فحص خروج عن رسم العبودية، وهو ظلم، فيقبح.

ويرد عليه الإشكال صغرىً: بأن تنجز الواقع مع الجهل به أول الكلام، فلا يكون ترك الفحص خروجاً عن رسم العبودية؛ لأن مخالفة الأمر المنجز خروج عنه لا ما لم يعلم تنجزه، فلا بد من إثبات التنجز بدليل آخر غير هذا.

المطلب الثاني: الاشتراط في الشبهة الموضوعية

قد يقال: بعدم اشتراطه؛ لأنه مع عدم وصول الصغرى لا تتم الحجة، فإنها متقومة بوصول التكليف صغرىً وكبرىً.

وفيه: إنه تمسك بالعام في الشبهة المصداقية؛ لأن الوصول معناه: (كونه في معرض الوصول)، وفي الشبهة الموضوعية لعلّه كان في معرض الوصول، فبعدم الفحص يتحقق عدم قبح العقاب بلا بيان لوجود البيان، وعلى ذلك بناء العقلاء.

وبعبارة أخرى - كما في التبيين(1) - : وظيفة المولى جعل الحكم الكلي

ص: 200


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 11: 307.

في معرض الوصول، لا بيان الموضوعات الخارجية، فمع فرض جعل التكليف وكون الحكم مشتركاً بين العالم والجاهل قد عمل المولى بوظيفته، فيحتمل العبد أن الشيء الخارجي موضوع حكم المولى، ومع هذا الاحتمال لا يمكن القول ب-(عدم البيان) والذي هو موضوع القاعدة، فإنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، وعليه لا تجري البراءة العقلية في الشبهة الموضوعية قبل الفحص.

المبحث الثاني: اشتراط الفحص في البراءة الشرعية
اشارة

وفيه مقامان:

المقام الأول: في الشبهات الحكمية

وحيث إن ظاهر الأدلة النقلية الإطلاق، الشامل لما قبل الفحص أيضاً، فلا بد من وجود دليل يقيّد الإطلاق بالفحص، وقد ذكروا أدلة على ذلك، منها:

الدليل الأول: الإجماع القطعي على وجوب الفحص ذكره الشيخ الأعظم(1)،

وارتكاز المتشرعة، والضرورة الفقهية.

الدليل الثاني: إنه كما يحكم العقل على أنه يلزم على المولى بيان أغراضه الملزمة، كذلك يحكم بأنه يلزم على العبد البحث عن أحكام المولى دفعاً للضرر المحتمل.

وفيه: أنه لا محذور في توسعة المولى على عبيده بأن تكون مصلحة

ص: 201


1- فرائد الأصول 2: 441.

التسهيل سبباً لعدم لزوم الفحص، فالعقل يحكم بلزوم الفحص إن لم يكن هناك دليل على رفع المولى يده عن حكمه حين الجهل مثلاً، كما وقع نظير ذلك في الشبهة الموضوعية في الطهارة والنجاسة والحلية والحرمة.

إن قلت: إن رفع المولى يده عن حكمه عبر عدم إيجابه الفحص نقض للغرض، فيكون جعل الحكم مع عدم إيجاب الفحص لغواً، بل تناقضاً، حيث إن المقصود هو باعثية التكليف للعبد، وبتشريعه البراءة قبل الفحص يكون قد سدّ طريق الوصول إلى أحكامه فلا يكون جعل الحكم حينئذٍ بداعي الباعثية!

قلت: هذا أخص من المدعى، حيث إن الأغراض مختلفة من حيث الأهمية، فما كان مهماً جداً كالدماء لا بد من جعل الاحتمال فيه منجزاً، وما كان متوسطاً في الأهمية يمكن إجراء البراءة فيه بعد الفحص، وما لم يكن كذلك يمكن تشريع الحكم فيه، فيريده المولى إن اتفق وصوله، وإلاّ فلا، كما في الطهارة والنجاسة، ولعل غالب الأحكام من هذا القسم، فتأمل.

الدليل الثالث: الآيات الآمرة بالتعلّم والسؤال كقوله تعالى: {فَسَْٔلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}(1)،

وقوله: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٖ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ...}(2)

الآية، والروايات الدالة على الوقوف عند الشبهة، والدالة على وجوب التفقه والتعلّم، والدالة على استحقاق الجاهل العقوبة إن لم يتعلّم فخالف الواقع، وعليه مع الشك يحكم العقل بلزوم الفحص دفعاً للضرر

ص: 202


1- سورة النحل، الآية: 43؛ سورة الأنبياء، الآية: 7.
2- سورة التوبة، الآية: 122.

المحتمل، وبذلك يتم تقييد أدلة البراءة.

لا يقال: الآية الأولى خاصة بأصول الدين، والثانية دالة على الوجوب الكفائي.

لأنه يقال: خصوصية المورد لا تخصص الوارد، كما أن النفر وإن كان واجباً كفائياً، إلاّ أن التعلّم واجب عيني فبعضهم يتعلّمون عبر النفر والآخرين عبر الإنذار.

إن قلت: إن روايات التوقف معارضة لروايات البراءة؛ لأن النسبة بينهما التباين، حيث إن كليهما مطلقان لقبل الفحص وبعده.

قلت: إن أدلة الاحتياط خاصة بما قبل الفحص؛ لأنها قد خصصت بمثل قوله (علیه السلام) : «فأرجه حتى تلقى إمامك»(1)

فتكون أخص من أدلة البراءة، وبذلك تقيّد أخبار البراءة.

اللهم إلاّ أن يقال: إن ذلك من انقلاب النسبة ولا نقول به، مضافاً إلى ما مرّ من أن أخبار التوقف إرشادية ولا تدل على وجوب التوقف!!

ثم إن المحقق العراقي قد أشكل على دلالة الآيات والروايات بإشكالات(2):

منها: إمكان دعوى اختصاصها بصورة العلم الإجمالي بالحكم، فتكون ظاهرة في الإرشاد إلى حكم العقل بوجوب الفحص.

وفيه: أن الإمكان لا يعارض الظهور فلا يرفع اليد عن الإطلاق به، مضافاً

ص: 203


1- الكافي 1: 68؛ وسائل الشيعة 27: 107.
2- نهاية الأفكار 3: 474-475.

إلى أن بعض الأدلة ظاهرها أن تنجز الواقع إنما هو بسبب عدم العلم، فعدم العلم يستدعي الفحص لا العلم الإجمالي كما في قوله: {فَسَْٔلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}.

ومنها: ظهورها في الإرشاد إلى حكم العقل بلزوم الفحص لأجل استقرار الجهل الموجب للعذر، فعموم أدلة البراءة واردة عليها؛ لأنه بقيام الترخيص الشرعي على جواز الارتكاب قبل الفحص يرتفع حكم العقل بوجوب الفحص.

وحاصله: أنها تدل على لزوم تحصيل الحجة، وأدلة البراءة حجة فتكون رافعة لموضوع حكم العقل الذي هو اللاحجة.

وفيه: أن الأصل هو المولوية لا الإرشادية، حتى مع وجود حكم للعقل، وإنما يحمل على الإرشادية إذا كان هناك محذور في المولوية كما في أوامر الطاعة كما مرّ، مضافاً إلى أن ظاهر الأدلة هو عدم جواز إهمال الواقع المشكوك لا إهمال الوظيفة العملية، وإلاّ لم يكن بحاجة إلى هذا التأكيد الشديد على التفقه والسؤال وأمثالهما.

ومنها: قصورها عن إفادة تمام المطلوب؛ لأنها ظاهرة في الاختصاص بصورة يكون الفحص فيها مؤدّياً إلى العلم بالواقع، والمطلوب يعم ذلك وما لم يكن الفحص مؤدّياً إلى العلم بالواقع.

ولعلّ مراده: أن الأدلة إنما هي في ما لو علمنا بأننا عبر الفحص سنصل إلى الواقع - ولو تعبداً - كما في السؤال عن الإمام (علیه السلام) ، أما لو علمنا بعدم وصولنا إلى الواقع عبر الفحص فلا دلالة لها على وجوبه لأنه لغو، وعليه

ص: 204

ففي المورد المشكوك لا نعلم بأن الفحص يوصلنا أو لا يوصلنا، فيكون من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

ويرد عليه: إطلاق الآيات والروايات، ولم يخرج منه إلاّ صورة العلم بعدم فائدة الفحص، وذلك بدلالة الاقتضاء، ويبقى الباقي تحت الإطلاق، هذا مضافاً إلى روايات دلّت على أن وظيفة العبد هو السؤال حتى لو احتمل عدم الجواب وعدم الوصول إلى الواقع وفي الحديث: «قلت: علينا أن نسألكم؟ قال: نعم، قلت: عليكم أن تجيبونا؟ قال: ذاك إلينا»(1).

المقام الثاني: في الشبهات الموضوعية

فيه خلاف وأقوال:

القول الأول: وجوب الفحص، واستدل له بأدلة، منها:

الدليل الأول: بناء العقلاء، وهي المناط في طرق الطاعة والمعصية واستحقاق العقوبة وعدمها.

وأشكل عليه: بأنه حيث كانت الأحكام أحكام الشارع كان له التوسعة والتضييق، وقد وسّع بأدلة الرفع؛ إذ لا فرق في ذلك بين الأدلة الخاصة أو العامة، وإطلاقه حجة، ولا يكون بناء العقلاء مخصصاً له، بل الأمر بالعكس.

الدليل الثاني: ما ذكره المحقق القمي: من أن «الواجبات المشروطة بوجود شيء إنما يتوقف وجوبها على وجود الشرط، لا على العلم بوجودها، فبالنسبة إلى العلم مطلق لا مشروط، مثل أنّ من شك في كون

ص: 205


1- الكافي 1: 211؛ وسائل الشيعة 27: 66.

ماله بقدر استطاعة الحج - لعدم علمه بمقدار المال - لا يمكنه أن يقول: لا أعلم أني مستطيع ولا يجب عليّ شيء، بل يجب عليه محاسبة ماله ليعلم أنه واجد للاستطاعة أو فاقد لها»(1).

وأورد عليه: إن عدم التقيد بالعلم إنما هو في مقام الثبوت، فالحرام هو الخمر بما هي هي لا الخمر المعلومة مثلاً، أما في مقام الإثبات فيمكن رفع الحكم ظاهراً، كما حكم الشارع بالطهارة الظاهرية حين الشك في أن هذا الشيء دم أم لا مع احتمال كونه دماً واقعاً، وقد مرّ تفصيله في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري.

الدليل الثالث: إن أدلة الفحص كما تجري في الشبهة الحكمية كذلك تجري في الشبهة الموضوعية، كالأدلة الدالة على وجوب التفقه والتعلّم وغيرها، فإن التفقه ونحوه لا ينحصر في العلم بالحكم، بل يشمل العلم بالموضوع أيضاً؛ وذلك لطريقية هذه الأمور لإدراك الواقع، وإدراكه يتوقف على العلم بالحكم وبالموضوع.

وأجيب: بأن تحصيل العلم بالموضوعات الكلية قد يكون تفقهاً ونحوه، وأما تحصيله في الموضوعات الجزئية فلا، فمن تحقق عن بقعة حمراء على ثوبه ليعلم أنها دم أم لا، لا يقال لعمله: أنه تفقه أو تعلم...، هذا مضافاً إلى ما قد يقال: من أنه لو فرض إطلاقها حتى للموضوعات الجزئية فهي مقيدة بما استدل له من عدم وجوب الفحص فيها كقوله (علیه السلام) : «لِمَ سألت»(2)، وسيأتي بحثه.

ص: 206


1- قوانين الأصول2 : 470.
2- الكافي 5: 569؛ وسائل الشيعة 20: 301.

الدليل الرابع: انصراف دليل الرفع عمّن لم يفحص في الموضوعات؛ إذ المفهوم منها الجاهل الذي لا طريق له لإزالة جهله، نظير رفع الاضطرار والنسيان، حيث إن المنساق منهما ما لم يكونا بسوء الاختيار.

والحاصل: إن الظاهر من دليل الرفع هو ما كان من غير اختيار ولا يمكن إزالته، لا مطلق الجهل، فالمعنى رُفع الجهل الذي لا يكون اختيارياً - ولو استمراراً - .

وأشكل عليه: بأنه لا انصراف، ولذا لم يفهمه مشهور المتأخرين، وعهدة الانصراف على مدعيه، هذا فضلاً عن أن أدلة البراءة غير منحصرة في دليل الرفع.

الدليل الخامس: العلم الإجمالي بوجود تكاليف إلزامية في موارد الشبهات الموضوعية، وحتى لو لم يكن للمكلّف علم إجمالي فإن إجازة المولى له ذلك تضييع لأحكامه وأغراضه!

ويرد على الشق الأول: أنّ متعلق العلم الإجمالي إن كان شخص المكلف فالدليل أخص من المدعى، حيث لا علم للمكلف إجمالاً في كثير من القضايا، وإن كان متعلقه نوع المكلفين فلا تنجيز لهذا العلم كواجدي المني في الثوب المشترك.

وعلى الشق الثاني: بأنه قد تكون للمولى مصلحة أهم كمصلحة التسهيل، ولذا اتفقوا على عدم لزوم الفحص في النجاسة وفي حرمة الأطعمة غير اللحوم وغيرهما.

القول الثاني: عدم لزوم الفحص في الشبهات الموضوعية وجواز إجراء

ص: 207

البراءة قبله، واستدل له بأمور، منها:

الدليل الأول: إطلاقات أدلة البراءة مع عدم وجود مقيّد لها.

لكن لا يبعد انصرافها إلى ما لم يكن الجهل - حتى الاستمراري منه - بسبب المكلّف نفسه.

الدليل الثاني: الروايات الواردة في موارد خاصة، والتي يمكن الاستدلال بعمومها لكل الشبهات الموضوعية، إما بعموم الوارد حيث إن خصوصية المورد لا تخصصه، وإما بعموم العلة المذكورة فيها، وإما بالأولوية باعتبار أنها أهم من سائر الشبهات الموضوعية، وإما بإلغاء الخصوصية حينما نلاحظ مجموعها على كثرتها وكثرة مواردها، ففي الحديث: «قلت: إني تزوجت امرأة متعة فوقع في نفسي أن لها زوجاً، ففتشت عن ذلك، فوجدت لها زوجاً! قال (علیه السلام) : ولِمَ فتشت؟»(1)، وفي حديث آخر عن مسعدة بن صدقة قال: «سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قِبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة، أو المملوك عندك ولعلّه حرّ قد باع نفسه أو خُدع فبيع قهراً، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك، والأشياء كلها على هذا حتى تستبين غير ذلك أو تقوم به البينة»(2)

فقوله (علیه السلام) : «تعلم» و«تستبين» و«حتى تقوم به البينة» ظاهرة في العلم الاتفاقي والاستبانة الاتفاقية وقيام البينة اتفاقاً، والروايات كثيرة.

ص: 208


1- تهذيب الأحكام 7: 253؛ وسائل الشيعة 21: 31.
2- الكافي 5: 314؛ وسائل الشيعة 17: 89.

ويرد عليه: أن أكثرها إنما هي في موارد توجد فيها الأمارة الشرعية أو أصل حاكم، كاليد والسوق أو تصديق الإنسان على نفسه، وليس كلامنا هناك، كما أن بعضها خاصة بالطهارة والنجاسة أو حلية الطعام وحرمته ولا كلام فيهما.

التفصيلات

ثم إن هاهنا تفصيلات نذكر بعضها:

1- منها: التفصيل بين ما أوجب عدم الفحص مخالفة الواقع كثيراً وبين ما لا يوجبه، ففي مثل الزكاة والاستطاعة ترك الفحص يوجبها فيجب.

وأورد عليه: إن هذا العلم إن كان متعلقه شخص المكلّف فلا فرق فيه بين الكثير والقليل ولا بين التدريجي والدفعي، اللهم إلاّ أن يراد إدخال القليل في الشبهة غير المحصورة، وإن كان متعلقه نوع المكلفين فلا تنجيز لهكذا علم إجمالي، كما أن الشارع قد يجيز الاقتحام لمصلحة أهم كالتسهيل، إلاّ أن يراد به انصراف دليل البراءة عن مثله، كما مرّ.

2- ومنها: ما عن المحقق النائيني: من «أن عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية إنما هو في ما إذا لم تكن مقدمات العلم حاصلة، بحيث لا يحتاج حصول العلم بالموضوع إلى أزيد من النظر إلى تلك المقدمات، فإن في مثل هذا يجب النظر ولا يجوز الاقتحام في الشبهة - وجوبية كانت أو تحريميّة - إلاّ بعد النظر في المقدمات الحاصلة؛ لعدم صدق الفحص على مجرد النظر فيها»(1).

ص: 209


1- فوائد الأصول 4: 302.

وحاصله: أن مقدمات العلم إن لم تكن حاصلة لم يجب تحصيلها، وإن كانت حاصلة وجب النظر فيها، نظير من يحتاج إلى رفع رأسه والنظر في الأفق ليرى طلوع الفجر مثلاً فهذا لا يسمى فحصاً.

وأورد عليه: بأن الحكم لا يدور حول كلمة (الفحص) لأنها لم ترد في النصوص، بل ما ورد فيها: «الشك» و«الجهل» و«عدم العلم»، ولا فرق فيها بين تسمية تحصيل العلم فحصاً أو عدم تسميته به، اللهم إلاّ لو أراد الانصراف.

3- ومنها: ما في المنتقى(1)

واحتمل كونه مقصود المحقق النائيني: من أنه لو كان الموضوع في ظرفه المناسب له واضحاً - وجوداً أو عدماً - بحيث يظهر ذلك للعموم إن طلبوه في ظرفه المناسب سواء احتجاج إلى الفحص أم لا، فلا تجري البراءة، وإلاّ جرت؛ وذلك لأن الشيء إن كان في ظرفه المناسب بيّناً صدق عليه أنه (معلوم)، فالغاية المأخوذة في البراءة متحققة؛ إذ العلم فيها عرفي لا دقي، فمع احتمال وجود المعلوم العرفي وتحقق الغاية لا يصح التمسك بدليل البراءة فإنه تمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

وأورد عليه: أن الدليل لم يذكر أن الغاية كونه معلوماً، بل جعل الغاية العلم، وظاهره العلم الشخصي، ولا فرق في عدم العلم بين كون الشيء في ظرفه واضحاً وعدمه.

4- ومنها: عدم وجوب الفحص في الشبهات الوجوبية إلاّ إذا توقف امتثال التكليف - غالباً - على الفحص، كما إذا كان موضوع التكليف من

ص: 210


1- منتقى الأصول 5: 338-339.

الموضوعات التي لا يحصل العلم بها إلاّ بالفحص عنه، فيمكن دعوى الملازمة العرفية بين تشريعه وبين إيجاب الفحص عنه، وإلاّ كان تشريعه مستهجناً.

وهو كذلك، إلاّ أن الكلام سيكون في الصغريات.

5- ومنها: عدم وجوب الفحص إن كان الوجوب مولوياً، وأما إن كان الوجوب عقلياً بأن كان إرشاداً إلى وجود الضرر ونحوه فلا ترفعه البراءة إلا بعد الفحص، كما لو كان وجوب تقليد الأعلم عقلياً، فمع العلم باختلاف الفقهاء والشك في أعلمية أحدهما فلا تدل أدلة وجوب البراءة على عدم لزوم الفحص عنه.

وأورد عليه: إن حكم العقل إنما هو لحفظ أحكام المولى، فهو معلّق على عدم وجود المؤمِّن من المولى ويكفي في المؤمِّن إطلاقات أدلة البراءة، وعليه فينتفي الحكم العقلي بانتفاء موضوعه.

وأمّا عدم جريان أدلة البراءة في الأعلمية لكونها أصلاً مثبتاً حيث إن أصالة عدم وجوب الفحص لا تثبت حجية قول أحدهما، فيكون من دوران الأمر بين التعيين والتخيير.

المبحث الثالث: في مقدار الفحص

وغير خفي عدم حجية الظن فلا يكفي الفحص إلى حدّ ظن عدم العثور على الدليل، كما أن أوامر التفقه والتعلّم ونحوها دليل لزوم العلم بعدم العثور على الدليل، إلاّ أن الاطمئنان كافٍ في أمثاله لأنه علم عرفاً وإن لم يكن كذلك دقة، وهذا ليس من تسامح العرف في المصداق لكي يقال: بأنه

ص: 211

غير معتبر، بل هو من التوسيع في المفهوم.

ثم إنه يكفي الاطمئنان بعدم العثور على الدليل ولا يشترط الاطمئنان بعدم وجود الدليل أصلاً؛ وذلك لبناء العقلاء وسيرة الفقهاء، ولذا لو كان العثور على الدليل ميؤوساً منه سقط لزوم الفحص وجرت إطلاقات أدلة البراءة.

وغير خفي أن حصول الاطمئنان بعدم وجود الدليل أو بعدم العثور عليه في هذا العصر سهل عادة؛ وذلك لوجود المجاميع الحديثية التي جمعت أحاديث كل موضوع في باب معلوم كما أن الكتب الفقهية المفصلة لم تغادر دليلاً أو ما استدل به إلاّ ذكرته.

المبحث الرابع: آثار البراءة قبل الفحص
اشارة

والكلام في مقامين: استحقاق العقاب لو ظهرت المخالفة، وصحة العمل أو فساده.

المقام الأول: في استحقاق العقوبة
اشارة

وفيه مطلبان:

المطلب الأول: في أصل استحقاقه

لا إشكال في استحقاق العقاب إن وجب الفحص فلم يفحص وأجرى البراءة ووقع في مخالفة الواقع؛ وذلك لتنجز التكليف مع عدم وجود مؤمِّن لا شرعاً ولا عقلاً.

وهذا العقاب على مخالفة الواقع لا على ترك الفحص؛ إذ في البراءة العقلية وجود البيان في معرض الوصول ينجِّز التكليف فتشتغل الذمة بالواقع

ص: 212

فيكون العقاب على مخالفته، كما أن في البراءة الشرعية لا معذّر عن المخالفة قبل الفحص فيكون المراد من الفحص إدراك الواقع، وأما أخبار التفقه والتعلّم ونحوهما فهي ظاهرة في الوجوب الغيري المقدمي أي وجوبها إنما هو لإدراك الواقع لا لموضوعية فيها، وفي بعض الأحاديث التصريح بذلك كقوله (علیه السلام) : «أفلا تعلّمت حتى تعمل»(1).

وحتى لو قلنا بأنها ظاهرة في الإرشاد فإن الإرشاد إخبار وليس هو إنشاءً كي تتحقق له مخالفة ليستحق العقاب بسببها، وعليه فتكون إرشاداً إلى وجود تكليف محتمل ومنجّز على فرض وجوده.

بل لو قيل بأن الأخبار أوامر مولوية فإن ظهورها حينئذٍ في الأمر الطريقي بداعي إدراك الواقع كأوامر الاحتياط، لا أنها أوامر نفسيّة - سواء استقلالية أم تهيّئية - .

والحاصل: أنه لا عقوبة على ترك الفحص. نعم، قد يكون تركه تجرياً، فالاستحقاق من جهته، لا من جهة ترك الفحص، فتأمل.

ثم إنه يشكل بإشكالات، منها:

الإشكال الأول: على العقاب بأنّه كيف يعاقب على مخالفة الواقع في ما لو كان ترك التعلم من المقدمات المفوتة في الواجب المضيّق أو في الموسع الذي يغفل عنه في وقته إذا ترك التعلم قبله، حيث لا وجوب نفسي للتعلّم ولا وجوب للواجب قبل وقته أو حين الغفلة عنه في وقته فلا تجب مقدمته - التي هي التعلم - قبل الوقت.

ص: 213


1- أمالي المفيد: 288؛ بحار الأنوار 1: 178.

والجواب: هو ما مرّ في بحث المقدمة المفوّتة إما بفعلية وجوب الواجب قبل وقته عبر الالتزام بالواجب المعلّق أو الواجب المشروط بالشرط المتأخر، وإما لوجوب حفظ أغراض المولى، وقد مرّ تفصيله.

الإشكال الثاني: على من التزم بوجوب التعلم بالوجوب النفسي التهيئي: بأن كون تلك الأخبار دالة على الوجوب النفسي يقتضي عدم دلالتها على الوجوب الطريقي في ما إذا لم يكن التعلم مقدمة أو كان مقدمة ولم تكن مفوتة، لعدم جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى، فلا عقاب على تركه لعدم دلالة أخبار التعلّم ولا على ترك الواقع لعدم تنجزه!

وفيه: مع قطع النظر عن المبنى في استعمال اللفظ في أكثر من معنى، أنه لا محذور في إنشاء الجامع بين الوجوبين، كما أن فرض عدم كون التعلم مقدمة مفوتة مشكل، فتأمل.

المطلب الثاني: في عموم استحقاقه

فلو ترك الفحص وخالف الواقع، فهل استحقاق العقاب على ترك الواقع مطلق، أم أنه خاص بما لو كان يصل إلى الواقع لو فحص؟

الأقرب هو الثاني؛ وذلك لعدم تنجز الواقع الذي لا يمكن الوصول إليه، فإن كون التكليف في معرض الوصول شرط عقلاً في تنجزه، وليس هذا التكليف هكذا في مفروض البحث.

وقد يقال(1): إن عدم تنجز التكليف لعدم الموجب له؛ وذلك لأن سبب وجوب الفحص إما العلم الإجمالي، أو نصوص وجوب التعلم، أو الملازمة

ص: 214


1- منتقى الأصول 5: 362.

عرفاً بين التشريع وبين وجوب الفحص عنه، أو عدم إمكان التمسك بقاعدة قبح العقاب بلا بيان من غير فحص.

فأما الأول: فمتعلق العلم الإجمالي هو الأحكام التي لو فحص عنها لعثر عليها، والمفروض هو عدم العثور مع البحث، وعليه فلا تكون تلك الأحكام طرفاً للعلم الإجمالي فلا تكون منجزة عليه، كما لو سقطت نجاسة في أحد الإنائين فارتكب أحدهما ولم يكن هو النجس وتبيّن أنه مغصوب واقعاً فلم تكن الحرمة لأجل الغصب منجزة عليه ولم يرتكب النجس فلا عقوبة عليه لأجل مخالفة الواقع.

وفيه: أن وجوب الاحتياط إنما هو لأجل إدراك الواقع فتكون جميع الأحكام الواقعية منجزة عليه وإنما ينحل العلم الإجمالي بالظفر بتلك الأحكام أو بالظفر بمقدار من الأحكام يحتمل انطباقها على المعلوم إجمالاً كما مرّ، وعليه فادعاء عدم تنجز الأحكام التي لو كان يفحص عنها لم يصل إليها مصادرة، وأما في المثال فلا يبعد تنجز حرمة الغصب عليه للزوم الاحتياط عليه عقلاً فلا يكون معذوراً لو خالف وصادف واقعاً لم يكن يعلمه لأنه أقدم على شيء لم يجز عليه الإقدام عليه.

والحاصل: أن مستند وجوب الفحص إن كان العلم الإجمالي فلا محذور عقلاً في استحقاقه العقاب على مخالفة ذلك الواقع، إلاّ أن الكلام في المبنى وقد مرّ، فتأمل.

وأما الثاني: فقد مرّ أن أخبار التعلم إرشادية أو غيرية أو طريقية، وحيث إنه لا يمكن الوصول إلى الحكم الواقعي عبر التعلم فيكون من باب السالبة

ص: 215

بانتفاء الموضوع.

وأما الثالث والرابع: فإن مرجع الملازمة المذكورة هو تقييد أدلة البراءة الشرعية، فلا حكم ظاهري قبل الفحص، وهذا لا ينافي وجود العذر العقلي بقبح العقاب بلا بيان؛ لأنّ الحكم الواقعي لم يكن في معرض الوصول واقعاً فيقبح العقاب لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، ومن المعلوم أن عدم وجود المؤمِّن قبل الفحص لا يصنع البيان حتى ينتفي موضوع القاعدة.

المقام الثاني: في الحكم الوضعي
اشارة

لو ترك الفحص فإما يؤدي ذلك إلى مخالفة الواقع أم لا، وعلى كل تقدير إما ذلك في العبادات أو في المعاملات.

أما لو أدّى إلى مخالفة الواقع فلا إشكال في بطلان العمل ولزوم الإعادة، لعدم مطابقة المأتي به للمأمور به ولا إجزاء مطلقاً حتى لو قلنا بالإجزاء في موافقة الحكم الظاهري؛ وذلك لعدم وجود حكم ظاهري هنا، ومن ذلك ما لو لم تأتِّ منه قصد القربة في العبادات بأن كان متردداً وقلنا بعدم صحة نيته حينئذٍ وقد مرّ بحثه.

وأما لو وافق الواقع فلا إشكال في صحة عمله حتى في العباديات مع تأتّي قصد القرب منه، وقلنا بعدم ضرر التردد حين العمل بها.

فرع: في الجاهل بالقصر والجهر والإخفات

دل الدليل الخاص على أن الجاهل بحكم القصر في السفر لو صلّى تماماً كانت صلاته صحيحة، وهكذا الجاهل بحكم الجهر والإخفات لو أتى بأحدهما مكان الآخر، حتى لو كان جهله عن تقصير، وقد نسب إلى

ص: 216

المشهور قولهم باستحقاقه العقوبة على تركه القصر والجهر أو الإخفات.

ولا بد من دفع إشكالات ذكرت:

منها: أن هذه الصلاة غير مأمور بها وقد صارت سبباً لفوات المأمور به، فكيف تكون صحيحة وتامة؟

ومنها: كيف يستحق العقاب ولا تصح الإعادة قصراً مع بقاء الوقت وإمكان الإعادة، مع أنه لا عقاب إلاّ على ترك الواجب في تمام الوقت.

وقد أجيب عن الإشكالين بأجوبة، منها:

الجواب الأول: إنه وإن كان مكلفاً بالواقع لكن ينقطع تكليفه به عند الغفلة لقبح تكليف الغافل لعجزه، وحيث كان العجز بسوء اختياره صحت عقوبته على ترك الواقع.

وفيه: أن هذا يصحح العقاب على ترك الواقع، ولا يصحح العمل المأتي به مع عدم كونه مأموراً به، ثم إنه لا يصحح العقاب مع بقاء الوقت للتدارك.

الجواب الثاني: إن الجاهل بالقصر مأمور بالتمام، فإن تكليف العالم القصر وتكليف الجاهل التمام.

ويرد عليه: عدم إمكان أخذ العلم والجهل بالحكم في موضوع ذلك الحكم كما مرّ، مضافاً إلى استلزامه عدم العقاب على ترك ما جهله، كما أن الفقهاء لم يلتزموا به، بل ظاهرهم وجوب القصر مطلقاً مع الحكم بصحة التمام في الجاهل وعدم معذوريته.

الجواب الثالث: إن التمام وإن لم يكن مأموراً به لكنه مسقط للقصر المأمور به وذلك لتحقق الغرض، ولا إشكال في سقوط المأمور به حينئذٍ،

ص: 217

وأما العقاب فلأن للمأمور به مزية ملزمة، قد فاتت مع عدم إمكان تداركها، كما لو أمر المولى عبده بالإتيان بالماء البارد ليرتوي فأتاه بالماء الحار فارتوى به فقد سقط التكليف لتحقق الغرض مع استحقاق العبد للعقوبة.

الجواب الرابع: القول بالترتب، فقد تعلق الأمر بالتمام مترتباً على عصيان الأمر بالقصر، مع استحقاقه العقاب لترك الأهم من غير عذر.

وأورد عليه: - مع قطع النظر عن المبنى في الترتب - أن هذا ليس من مصاديق الترتب لإشكالات، منها:

الإشكال الأول: ما في نهاية الدراية: من أن «العصيان المنوط به الأمر بالإتمام إما بترك القصر في تمام الوقت أو بامتناع تحصيل الغرض منه، والمفروض بقاء الوقت، كما أن المفروض عدم امتناع الملاك إلاّ بوجود الإتمام بالتمام حتى يترتب عليه المصلحة التي لا يبقى معها مجال لاستيفاء بقية المصلحة المترتبة على فعل القصر، فلا أمر بالإتمام مقارناً لفعله المقارن لعصيان الأمر بالقصر بأحد الوجهين»(1).

وحاصله: أن تعليق الأمر بالمهم على عصيان الأمر بالأهم إنما يصح إذا لم يكن عصيان الأهم بنفس إتيان المهم، وإلاّ فالأمر بالمهم غير معقول لأنه طلب الحاصل، وهنا كذلك؛ لأن عصيان الأمر بالقصر وفوات إمكان امتثاله إنما يحصل باستيفاء مصلحته عبر فعل التمام، وعليه فيلزم من تعليق الأمر بالتمام على عصيان الأمر بالقصر تعليق الأمر بالتمام على فعل التمام فيكون طلباً للحاصل.

ص: 218


1- نهاية الدراية 4: 430.

وفيه: أنه يصح في الأمر الترتبي علم المولى بعصيان العبد للأهم حتى قبل تحقق العصيان بأن يناط الأمر بالمهم على العصيان بنحو الشرط المتقدم أو يناط باتصاف المكلّف بلحوق العصيان أو يناط بالترك لا بالعصيان، وقد مرّ تفصيله في بحث الترتب.

فتحصل أنه لا محذور في صحة التمام على نحو الترتب لو قلنا بإمكانه.

الإشكال الثاني: ما في الفوائد: من «أنه يعتبر في الخطاب الترتبي أن يكون كل من متعلّق الخطابين واجداً لتمام ما هو الملاك ومناط الحكم بلا قصور لأحدهما في ذلك، ويكون المانع عن تعلّق الأمر بكل منهما هو عدم القدرة على الجمع بين المتعلقين في الامتثال لما بين المتعلقين من التضاد، والمقام لا يكون من هذا القبيل؛ لعدم ثبوت الملاك في كل من القصر والتمام، وإلاّ لتعلّق الأمر بكل منهما لإمكان الجمع بينهما، وليسا كالضدين اللذين لا يمكن الجمع بينهما، فعدم تعلّق الأمر بكل منهما يكون كاشفاً قطعياً عن عدم قيام الملاك فيهما»(1).

وفيه: إن الدليل الدال على الأمر بالتمام حين الجهل بالقصر كاشف عن كون مصلحة التمام إنّما هي في حالة الجهل فقط مع وجود المصلحة والأمر بالقصر أيضاً لإطلاق أمره، وبذلك يتحقق موضوع الترتب في ظرف الجهل.

الإشكال الثالث: ما في الفوائد أيضاً: «إنه يعتبر في الخطاب الترتبي أن يكون خطاب المهم مشروطاً بعصيان خطاب الأهم، وفي المقام لا يمكن

ص: 219


1- فوائد الأصول 4: 293.

ذلك؛ إذ لا يعقل أن يخاطب التارك للقصر بعنوان العاصي فإنه لا يلتفت إلى هذا العنوان لجهله بالحكم، ولو التفت إلى عصيانه يخرج عن عنوان الجاهل ولا تصح منه الصلاة التامة»(1).

وحاصله: أن تعليق الأمر بالتمام على عصيان الأمر بالقصر يستلزم عدم فعلية الأمر بالتمام.

وفيه: ما مرّ من أن الحكم بالمهم غير منوط بعصيان الأمر بالأهم فحسب، بل بالأعم منه ومن الترك، مضافاً إلى عدم لزوم خطابه بالعاصي، بل يكفي إناطة الحكم الواقعي بالعاصي مع وجود الداعي للمكلف بالإتيان بالصلاة تماماً، وبعبارة أخرى: يصح كون موضوع الأمر شيئاً يغفل عنه المكلف مع تحقق ذلك الموضوع واقعاً ووجود الداعي لامتثال الحكم ولو توهمه بوجود أمر آخر.

الجواب الخامس: إنه لا دليل على العقاب على ترك القصر؛ إذ حكم الشارع بصحة التمام وعدم لزوم الإعادة في الوقت يكشف عن إدراك تمام مصلحة الواقع وعدم فوات أية مزية، ولولا ذلك لكان التمام مبغوضاً لكونه مفوتاً لمزية لازمة فلا يعقل كونه مقرباً وصحيحاً، فتأمل.

تكملة: في شروط أخرى لجريان البراءة

من شرائط جريان البراءة عدم وجود أصل حاكم عليها، سواء كان أصلاً ينقّح الموضوع أم أصلاً حكمياً رافعاً لموضوعها، فإن جريانها متوقف على ثبوت موضوعها، ومع ارتفاع الموضوع لا مجال للمحمول.

ص: 220


1- فوائد الأصول 4: 293.

1- أما الأصل الموضوعي، فقد يمنع جريان البراءة وذلك بزوال الشك تعبداً وبكونه بياناً فيرتفع الشك وعدم البيان، فلا يبقى موضوع للبراءة الشرعية أو العقلية، ومن أمثلته حكم اللحوم بالتذكية سواء في الشبهة الحكمية أو الموضوعية.

أما الحكمية: ففي الحيوان المشكوك قبوله للتذكية يجري استصحاب عدمها، وحكم غير المذكى الحرمة فلا مجال للبراءة، وأما في الحيوان المعلوم قبوله للتذكية مع الشك في حليته وحرمته فلا أصل موضوعي مانع عن البراءة فتجري.

وأما الموضوعية: كما في لحم حلال اللحم المشكوك تذكيته فاستصحاب عدم التذكية يمنع جريان البراءة، أما لو كان حلال اللحم لكن شك في قابليته للتذكية بالعرض كآكل النجاسات غير العذرة فاستصحاب قبوله التذكية جارٍ فتجري أصالة البراءة.

2- وأما الأصل الحكمي الرافع لموضوعها فيمنع جريانها لعدم تحقق موضوعها، كما لو جرى استصحاب حكم إلزامي فلا مجال للبراءة...

أما العقلية فموضوعها اللابيان، والاستصحاب بيان فيكون وارداً، وأما الشرعية فلأن الاستصحاب أصل سببي وهي أصل مسببّي؛ لأن سبب الشك في الحلية اللاحقة هو الشك في بقاء الحرمة السابقة، ولا شك مع بقائها بالاستصحاب، أو لغير ذلك ممّا سيأتي بحثه لاحقاً إن شاء الله تعالى.

ثم إنه قد اشترط الفاضل التوني(1) في إجراء البراءة شرطين آخرين:

ص: 221


1- الوافية في أصول الفقه: 193.

الشرط الأول: أن لا يكون مستلزماً لإثبات حكم إلزامي في ذمة المكلف، كما لو أجرى أصالة البراءة عن الدَين وكان لازمه وجوب الحج عليه لاستطاعته حينئذٍ؛ وذلك لأنه لا امتنان في رفع تكليف يوجب ثبوت تكليف آخر وقد يكون أكثر مشقة من المرفوع!

وفيه: أولاً: أنه يكفي في صحة جريان البراءة وجود الامتنان في المجرى ولا يلزم وجوده في المآل، فرفع الحكم فيه مِنّة حتى لو كان بالمآل يثبت تكليفاً آخر، وبعبارة أخرى: لا ظهور لأدلة البراءة إلاّ في المنة في مجراها.

وثانياً: إن ثبوت الحكم الآخر قد يكون لزوال المانع وقد يكون لتنقيح موضوعه.

والأول في ما كان الحكم الآخر ثابتاً بدليله الخاص به، وإنما يزاحمه حكم آخر فيمنع عن فعليته، فلا محذور من جريان البراءة في الحكم الآخر لإطلاق دليلها وهو لا يثبت الحكم الأول كي ينافي الامتنان، وإنما يرفع مزاحمه، وفي الفوائد(1) تعليله بأن المزاحمة إنما هي في مرحلة التنجّز وهو يتوقف على الإحراز، وأصالة البراءة تمنع عن تنجز الحكم الثابت في موردها فيترتب الحكم الآخر، فمثلاً يكفي في تنجز وجوب الصلاة نفي وجوب الإزالة عن مشكوك النجاسة في المسجد؛ لأن المفروض أنه لا مانع عن وجوب الصلاة إلاّ تنجز وجوب الإزالة، وأصالة البراءة تمنع عن تنجزه.

والثاني في ما لو رفعت أصالة البراءة حكماً، وبرفعه يُنقّح موضوع حكم

ص: 222


1- فوائد الأصول 4: 303.

آخر، فيجري ذلك الحكم لثبوت موضوعه، وليس في ذلك مخالفة للامتنان أصلاً.

نعم، لو كان موضوع الحكم الآخر هو ثبوت الحكم الأول واقعاً فلا ينقّح موضوعه لأنّ أصالة البراءة لا تثبت إلا الحكم الظاهري.

الشرط الثاني: عدم كون البراءة ضرراً على الآخرين، كما لو كان تغيير مجرى النهر سبباً لموت أشجار الناس؛ وذلك إما لعدم المِنّة في رفع حكم يوجب ضرراً على الناس، لأن المِنّة تلاحظ بمجموع الناس، وإمّا لانصراف دليل البراءة عن مثله.

وأشكل عليه: بأن جريان جميع الأصول متوقف على عدم وجود الأدلة الاجتهادية، وأدلة نفي الضرر أدلة اجتهادية واردة على أصالة البراءة فلا وجه لأخذ عدمها شرطاً فيها.

ص: 223

ص: 224

المقصد العاشر في أصالة الاحتياط

اشارة

ص: 225

ص: 226

مع العلم بالتكليف والشك في المكلّف به، قد يدور الأمر بين المتباينين، وقد يدور بين الأقل والأكثر، فالكلام في فصول.

ص: 227

فصل في الدوران بين المتباينين

اشارة

ولا فرق في ذلك بين الشبهة الحكمية كما لو دار الأمر بين وجوب الظهر أو الجمعة في عصر الغيبة، وبين الشبهة الموضوعية كما لو دارت القبلة بين الجوانب الأربع في الصلاة، وهنا مبحثان:

المبحث الأول: في الشبهة المحصورة
اشارة

وفيه مطالب:

المطلب الأول: حرمة المخالفة القطعية

أي: تنجيز العلم الإجمالي باعتبارها، فلا يجوز اقتحام كل الأطراف في التحريميّة، ولا ارتكاب كلها في الوجوبية.

وقد يقال: بجوازها، ويستدل لذلك: بأن قبح المخالفة القطعية عقلاً منحصر بالمخالفة العملية في التكليف المعلوم تفصيلاً، فإنها معصية، لا مطلق المخالفة، حيث لا قبح لمخالفة الجاهل القاصر، كما لا قبح للعلم بالمخالفة، مثلاً لو ارتكب شيئاً بالاستصحاب الشرعي فلا مانع له من التحقيق بعد ذلك فقد يعلم بأنه ارتكب مخالفة لكن تحصيل هذا العلم ليس بحرام، هذه الكبرى!

وفي ما نحن فيه: اقتحام الطرف الأول ليس بمخالفة معلومة، ثم اقتحام الطرف الثاني كذلك. نعم، بعد ارتكابهما يعلم بالمخالفة، لكن لا محذور

ص: 228

فيه كما ذكرنا، وهذه الصغرى!

ويرد عليه: بأنه لا فرق في تحقق المخالفة المعلومة بين العلم التفصيلي والعلم الإجمالي، ففي المعلوم الإجمالي التكليف واصل لأنه مبيّن بصغراه وكبراه.

نعم، لو أراد من المخالفة المعلومة: المتميزة تفصيلاً فالكبرى محلّ إشكال؛ إذ لا فرق عقلاً بين المتميّز تفصيلاً وغير المتميّز كذلك إذا كان معلوماً بالإجمال.

المطلب الثاني: وجوب الموافقة القطعيّة

ودليله: أن متعلق العلم الإجمالي هو الجامع بين الفردين أو الأفراد، وهذا الجامع معلوم تفصيلي وقد اشتغلت الذمة بفعله في الوجوبية وبتركه في التحريميّة، والاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا بالاحتياط في كل الأطراف.

وأشكل عليه بإشكالات، منها:

الإشكال الأول: إن الجامع الذي تعلق العلم به يتحقق بأحد الطرفين؛ لأن الجامع هو عنوان (أحدهما)، وهذا ينطبق على ما لو فعل أحدهما في الشبهة الوجوبية، أو ترك أحدهما في الشبهة التحريميّة!

والجواب: أن هذا إنما يصح إذا كان عنوان (أحدهما) متعلق التكليف واقعاً حيث إن اجتناب أحد الفردين أو ارتكاب أحدهما امتثال للتكليف المتعلق بالطبيعة، أي في ما لا تعيّن له ثبوتاً.

وليس ما نحن فيه من هذا القبيل؛ إذ الجامع عنواني غير متعيّن إثباتاً مع

ص: 229

تعيّنه ثبوتاً، فالتكليف واقعاً متعلق بالصلاة باتجاه القبلة وباجتناب المتنجس واقعاً، وحيث إن الألفاظ موضوعة للمعاني الحقيقية لا المعلومة يحكم العقل بلزم امتثال التكليف الواقعي حتى لو استلزم ارتكاب كل الأطراف أو تركها كلها حيث إن الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية، وبذلك ثبت اقتضاء العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية أيضاً.

الإشكال الثاني: إن متعلق العلم الإجمالي ليس هو الجامع، بل إما الفرد المردد أو الواقع!

ولتوضيح ذلك لا بد من بيان الأقوال في حقيقة العلم الإجمالي وفرقه عن العلم التفصيلي، وإن كان قد مرّ شطر من البحث سابقاً، فنقول: الأقوال ثلاثة:

القول الأول: إنه علم بالفرد المردّد؛ لأنّ حقيقة العلم التفصيلي والإجمالي واحدة إلاّ أن الفرق في المتعلّق، حيث إنه الفرد المعيّن في التفصيلي، والفرد المردَّد في الإجمالي.

وأشكل عليه: باستحالة الفرد المردد خارجاً وذهناً، فلا يتعلق العلم به، كما لا يكون متعلقاً للتكليف!

قال المحقق الإصفهاني: «إن المردد بما هو مردد لا ثبوت له ذاتاً ووجوداً وماهية وهوية، فلا يعقل تقوّم العلم الإجمالي به، مع بداهة أن العلم المطلق لا يوجد، كما أن وجوده في أفق النفس وتعلّقه بالخارج عن أفق النفس غير معقول، بل المقوّم لهذه الصفة الجزئية لا بد من أن يكون في أفقها، فهو المعلوم بالذات، وما في الخارج معلوم بالعرض، وعليه فمتعلق

ص: 230

العلم الحاضر بنفس هذا الحضور في النفس!»(1).

وحاصله: أن العلم إما لا متعلق له، وهذا محال؛ لأن العلم في الممكنات من الصفات الحقيقية ذات الإضافة فلا بد من تعلقه بالمعلوم، وإما كون المتعلق في الخارج بالذات، وهذا محال أيضاً؛ لأن العلم يتعلق بالصورة الذهنية أولاً وبالذات، ولذا أمكن الجهل المركب حيث إنه تعلق بالصورة الذهنية مع عدم وجود شيء في الخارج، وإنما تعلقه بالخارج بالعرض حيث إن الصورة الذهنية مرآة له، هذا مضافاً إلى أن متعلق العلم لو كان الخارج لم يكن إجمالياً؛ لأن ما في الخارج معيّن لا تردد فيه، فلم يبق إلاّ أن يكون متعلق العلم الصورة الذهنية أولاً وبالذات، وهذه الصورة موجودة فتكون معينّة؛ لأن الوجود لا يكون إلاّ مع التشخّص!

وبذلك ثبت استحالة تعلق العلم بالفرد المردد.

القول الثاني: إنه علم بالجامع - وهو عنوان أحدهما - وشك في الأطراف أي في الخصوصيات الفردية، وكلّما زادت الأطراف تعدد الشك، فليس الفرق في العلم وإنما هو علم مزج بشك.

واستدل له: ببرهان السبر والتقسيم؛ إذ مرّ بطلان عدم وجود المتعلق للعلم، كما أنه ليس الفرد المردد لاستحالته، وليس الفرد بتشخصه وإلاّ لزم انقلاب الإجمالي إلى التفصيلي، فلم يبق إلاّ تعلّق العلم بالجامع.

وأشكل عليه المحقق العراقي(2) بما حاصله: أن الجامع لا ينطبق إلاّ على

ص: 231


1- نهاية الدراية 4: 236-237.
2- نهاية الأفكار 3: 299.

جزء الفرد وهو الجهة المشتركة، ولا ينطبق على الخصوصيات الفردية المشخصة له، فمثل (الإنسان) ينطبق على (زيد) باعتبار تلك الجهة لا بلحاظ الخصوصيات الفردية فيه، وليس من ذلك عنوان (أحدهما) فإنه ينطبق على الفرد بكل خصوصياته الفردية لو انكشف الغطاء عبر العلم التفصيلي، فلا يكون جامعاً، وبعبارة أخرى: انطباق مثل (الإنسان) على (زيد) إنما هو انطباق جزء الجزئي عليه، لكن انطباق أحدهما على الفرد هو انطباقه على كل الجزئي.

وفيه: أن الجامع الحقيقي لا يكون إلاّ كذلك، وأما الجامع العنواني فيمكن انطباقه على الفرد بتمامه كعنوان الشخص والفرد والمصداق ونحوها؛ لأن هذه المفاهيم تنتزع من كل فرد لا باعتبار الجهة المشتركة فلذا انطبقت على الفرد بتمامه!

القول الثالث: إنه علم بالواقع، فيكون الفرق بين التفصيلي والإجمالي في العلم نفسه، عكس القولين الأولين؛ وذلك لأنّه في العلم التفصيلي حكاية تفصيلية، وفي العلم الإجمالي حكاية إجمالية، كالشبح الذي يُرى من بعيد فالمرئي فرد غير واضح المعالم لا الجامع، فلو قيل: (جاء زيد أو عمرو) فليس ذلك خبر عن مجيء الجامع، بل خبر عن مجيء فرد معين في الواقع لكنه لم يشخّصه.

وبعبارة أخرى: كما أن الرؤية البصرية لا تتعلق بالجامع كذلك الرؤية القلبية.

وأشكل عليه(1): بأنّ العلم الإجمالي هو علم تصديقي، فليس مقوّمه

ص: 232


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 10: 205.

مجرد وجود صورة في الذهن، بل هو حكم عليها، ففي العلم الإجمالي بسقوط قطرة دم في أحد الإنائين، توجد صورتان وعلم تفصيلي، أي صورة سقوط الدم في الإناء الأول، وصورة سقوط الدم في الإناء الثاني، وعلم تفصيلي بعدم سقوطه خارجهما، وبتركيب هاتين الصورتين مع هذا العلم التفصيلي ينتزع حكم بوقوع القطرة في أحدهما، وهذا هو العلم الإجمالي المتعلق بالجامع وقابل للانطباق على الفردين، وأما رؤية الشبح ونحوه فليس علماً إجمالياً لعدم كونه تصديقاً وإنما مجرد صورة في الذهن.

وبعبارة المحقق الإصفهاني: «فلا محالة ليس المعلوم إلاّ الجامع بين الخاصين المحتملين، فهو مركب من علم واحتمالين، بل من علم تفصيلي بالوجوب ومن علم آخر بأن طرفه ما لا يخرج عن الطرفين، فالوجوب الواقعي وإن كان في الواقع متعيناً بتعلقه بالظهر مثلاً، إلاّ أنه بما هو معلوم متعيّن علماً بما لا يخرج عن الظهر والجمعة»(1).

المطلب الثالث: في جريان الأصول العملية في أطراف العلم الإجمالي
اشارة

وفيه مقامات:

المقام الأول: في إمكان جريانها في جميع الأطراف

قد يقال: بعدم إمكان ذلك، ويستدل له بأمور، منها:

الدليل الأول: إن ذلك ترخيص في معصية التكليف الواصل، وذلك قبيح من غير فرق بين الواصل تفصيلاً أو إجمالاً.

وأورد عليه إشكالات، منها:

ص: 233


1- نهاية الدراية 4: 237.

الإشكال الأول: إن هذا إنما يكون في الأصول النافية لا الأصول المثبتة للتكليف، كما لو استصحب نجاسة إنائين علم بطهارة أحدهما إجمالاً، فالإشكال أخص من المدعى.

الإشكال الثاني: إن إذن المولى بجريانها يعني أن أدلة الأحكام الواقعية مقيدة بالعلم التفصيلي، وبذلك تنتفي المعصية بارتكابها، فلا يكون الترخيص ترخيصاً بالمعصية.

إن قلت: من المحال أخذ العلم بالحكم في موضوعه كما مرّ.

قلت: لا محذور في ذلك مع اختلاف الحكمين بأن كان العلم المأخوذ في الموضوع هو الإنشائي، والمتأخر عن الحكم هو الفعلي، لاختلاف رتبتهما.

لا يقال: إن ذلك يستلزم عدم اشتراك العالم والجاهل في الحكم الفعلي، وإن العلم بالإنشائي المحض لا يصيرّه فعلياً كما لو علم بأحكام الشرع كلها في أوائل البعثة، وإن محل البحث هو العلم الإجمالي بالتكليف، وليس الحكم الإنشائي تكليفاً.

لأنه يقال: إن اشتراك التكليف دليله الإجماع وهو لبيّ فيقتصر فيه على القدر المتيقن وهو الاشتراك في الحكم الإنشائي، وأنه لا محذور في كون الحكم الإنشائي على نوعين، في أحدهما يتحول إلى الفعلي بالعلم، وأن البحث ليس في نزاع لفظي، بل هو بغرض التطبيق الفقهي فيكون البحث في أن المولى لو منع عن شيء مثلاً فهل يمكنه الترخيص في كل الأطراف إذا كان هناك علم إجمالي بحيث نكتشف عبر الترخيص كون حكمه

ص: 234

إنشائياً؟

الإشكال الثالث: إنه لا تنافي بين الأحكام بما هي ومع قطع النظر عن مرحلة المنتهى أي مرحلة الامتثال؛ إذ هي في وجودها الإنشائي غير متضادة، فلا يمتنع الترخيص في ترك الواجب أو فعل الحرام إذا كان عن مصلحة.

وفيه: إن هذا لا يدفع الإشكال في مرحلة المبتدأ أي المصلحة وإرادة المولى، مضافاً إلى بقاء الإشكال في مرحلة المنتهى حيث حيرة المكلّف، فلا وجه لقطع النظر عن المرحلتين وقصره على مرحلة الحكم بما هو.

الدليل الثاني: إن ذلك يستلزم المناقضة بين حكمي المولى، أي حكمه الواقعي وترخيصه ارتكاب كل الأطراف، وذلك محال.

وأشكل عليه: أولاً: النقض بموردين:

المورد الأول: الترخيص في اقتحام الشبهات البدوية مع احتمال المخالفة للواقع، ولا فرق بين القطع بالمناقضة وبين احتمالها؛ لأن المحال لا يحتمل أصلاً، ومجرد الاحتمال دليل على عدم كونه محالاً، فلا يكون محالاً حتى مع القطع.

إن قلت: هناك فرق، حيث إنه في الشبهة البدوية لا توجد مناقضة، لا في ذات الحكمين لأنهما اعتباران ولا تنافي بين الاعتباريات، ولا في المبدأ؛ إذ الملاك في الحكم الواقعي في المتعلّق وفي الحكم الظاهري في الحكم بنفسه، ولا في المنتهى؛ إذ لزوم الامتثال عقلاً فرع وصول التكليف، وليس من المعقول وصول الحكم الظاهري والواقعي معاً؛ لأن موضوع الظاهري الشك في الحكم الواقعي فمع وصول الواقعي ينتفي موضوع

ص: 235

الظاهري.

وأما في الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي فالمناقضة في المنتهى متحققة حيث وصل الحكم الواقعي إلى المكلف؛ إذ يعلم بوجوب الصلاة إلى القبلة التي هي إحدى الجهات الأربع، أو يعلم بوجوب اجتناب المتنجس من الإنائين مثلاً، ولا فرق في الوصول بين العلم التفصيلي والإجمالي.

قلت: لا فرق، وما ذكر غير فارق؛ وذلك لأنه إن رفع المولى يده عن الحكم الواقعي فيجوز الاقتحام سواء في البدوية أم المحصورة، وإن لم يرفع لم يجز الاقتحام في كليهما، وحيث أجاز في البدوية علمنا أن حكمه الواقعي إنشائي بحت، فيمكن للسبب نفسه الترخيص في المحصورة.

المورد الثاني: النقض بالشبهة غير المحصورة، حيث أذن المولى في اقتحام بعض الأطراف مع استلزامه للإذن في المخالفة الاحتمالية مع عدم الفرق بينها وبين المخالفة القطعية كما مرّ.

وفيه: أن سبب عدم لزوم الاحتياط في غير المحصورة هو عناوين أخرى مفقودة في البدوية، كالضرر والحرج وخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء ونحو ذلك، وهذه العناوين ترفع التكليف المعلوم بالتفصيل فضلاً عن المعلوم بالإجمال. نعم، لو كان الدليل الخاص أجاز اقتحام بعض أطرافها بعنوان أنها غير محصورة لصحّ النقض.

ثانياً: الحل بوجهين:

الوجه الأول: إن حكم العقل باستحقاق العقاب على المعصية معلّق على عدم وجود المؤمِّن، وفي ما نحن فيه أدلة الرفع تؤمِّن المكلّف؛ إذ الإناء

ص: 236

الأول مثلاً ممّا لا يُعلم نجاسته فهو مرفوع وكذلك الإناء الثاني مثلاً.

وفيه: أنه مع قيام الحجة على التكليف تكون مخالفته تمرد على المولى وهتك لحرمته وظلم على النفس، وقبح ذلك كلّه ذاتي، فلا يرتفع بشيء إلاّ برفع التكليف حيث يتبدل الموضوع.

الوجه الثاني: اشتراط فعلية الحكم بالعلم التفصيلي، فلا محذور في مخالفة الحكم غير الفعلي كما مرّ.

إن قلت: إن كلامنا في القطع الطريقي الذي لا فرق فيه بين التفصيلي والإجمالي، وهذا الاشتراط يجعله موضوعياً وليس البحث فيه.

قلت: قد مرّ أنه ليس البحث في النزاع اللفظي، بل في التطبيق الخارجي من غير فرق بين كون القطع موضوعياً أو طريقياً، فمع إطلاق الدليل نكتشف عدم المحذور الثبوتي حتى لو صار القطع بذلك موضوعياً.

فتحصل أنه لا محذور ثبوتي في الترخيص في جميع أطراف العلم الإجمالي.

المقام الثاني: إمكان جريان الأصول العملية في بعض الأطراف

قد يقال: بالامتناع، ويستدل له: بأن الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية، ولا تحصل هذه البراءة إلاّ بالاجتناب عن كل الأطراف في التحريميّة، والإتيان بجميع الأطراف في الوجوبية، مع عدم إمكان ترخيص الشارع لأنه ترخيص في المعصية الاحتمالية.

وأشكل عليه: أولاً: بالنقض بما لو كان الأصل نافياً للتكليف لبعض الأطراف دون بعض، كما لو كان أحد الإنائين معلوم النجاسة ثم سقطت

ص: 237

قطرة دم في أحدهما غير المعيّن، فحيث لا يمكن إجراء أصالة الطهارة في المعلوم النجاسة أمكن جريان استصحاب طهارة الإناء الآخر، مع العلم بالتكليف إجمالاً بأثر سقوط قطرة الدم!

وفيه: أن هذا خارج عن محل البحث لعدم وجود علم إجمالي بتكليف جديد فلا أثر للعلم الإجمالي بسقوط قطرة الدم؛ إذ الإناء الأول واجب الاجتناب للعلم بنجاسته قبل سقوطها، فبسقوطها لا يحدث علم إجمالي بوجوب اجتناب جديد؛ لأنها إن سقطت في الأول لم يحدث تكليف لكونه تحصيلاً للحاصل، وإن سقطت في الثاني حدث تكليف جديد، وحيث لا يعلم بموقع سقوطها فيحتمل حدوث تكليف فيكون شكاً في التكليف وهو مجرى البراءة.

وثانياً(1): بالنقض أيضاً بالموارد التي اكتفى الشارع فيها بالامتثال الإجمالي مع إمكان التفصيلي كقاعدة الفراغ والتجاوز ونحوها، وحيث أمكن ذلك فإمكان الامتثال الإجمالي في موارد العلم الإجمالي أولى.

وأجيب(2): بأن المفرّغ الجعلي التعبدي أيضاً نوع تفريغ يقيني، وذلك بجعل أحد الأطراف بدلاً ظاهرياً عن الواقع، وليس كذلك ما نحن فيه، حيث الترخيص في بعض الأطراف من غير جعل البدل، والحاصل: أن البراءة التعبدية هي براءة يقينيّة بالحكومة.

وفيه: إنه يمكن في ما نحن فيه الذهاب إلى البراءة اليقينية التعبدية عبر

ص: 238


1- فوائد الأصول 4: 34.
2- نهاية الأفكار 3: 309.

التمسك بإطلاق حديث الرفع الكاشف عن جعل الطرف الذي لم يجر فيه الأصول بدلاً عن الواقع وذلك بدلالة الاقتضاء، أي عبر الإطلاق نكتشف الإمكان عبر جعل البدلية، وبذلك يرتفع إشكال الاستحالة، وبعبارة أخرى: إن المانع عن الإطلاق الاستحالة، وحيث أمكن رفع المحذور الثبوتي بجعل الإناء الثاني بدلاً عن الإناء المتنجس واقعاً - مثلاً - فلا وجه لرفع اليد عن ذلك الإطلاق.

لا يقال: إن ذلك دور حيث إن الإطلاق يرفع المحذور الثبوتي، مع توقف الإطلاق على رفعه.

لأنه يقال: الإطلاق يكشف عن عدم وجود المحذور الثبوتي مع توقفه عليه فلا دور كالدخان الكاشف عن النار مع توقفه عليها.

وثالثاً: ما مرّ من إمكان تقييد الفعلية بالعلم التفصيلي.

المقام الثالث: في عدم وقوع الترخيص في جميع الأطراف
اشارة

فهنا أمران:

الأمر الأول: في جريان الاستصحاب في جميع الأطراف

كما لو كان الإنائان طاهرين فسقطت قطرة دم في أحدهما وأراد استصحاب الطهارة في كليهما!

والأصح عدم جريان الاستصحاب فيها.

واستدل له: بأن جريانه فيهما يستلزم المناقضة في دليل الاستصحاب، فإن صدر الدليل «لا ينقض اليقين أبداً بالشك»(1)

له إطلاق، كما أن تمامه

ص: 239


1- تهذيب الأحكام 1: 8؛ وسائل الشيعة 1: 245.

«وإنما تنقضه بيقين آخر» أيضاً له إطلاق، فلو جرى الدليل في أطراف العلم الإجمالي لتناقض، وحيث لا يعقل تناقض كلام المولى فلا بد من عدم شمول الدليل لموارد العلم الإجمالي!

وأورد عليه بإشكالات، منها:

الإشكال الأول: بأن بعض أخباره ليس فيها هذه التتمة، فلا محذور في شمولها لتمام أطرافه؛ لأن إجمال دليل أو وجود محذور فيه لا يسري إلى الدليل الآخر!

وفيه: أن وجود المقيّد في دليل يكفي لتقييد الأدلة الأخرى حتى لو كانت مطلقة، وعليه فالغاية في قوله (علیه السلام) : «بل انقضه بيقين آخر» تقيّد جميع روايات الاستصحاب سواء كانت مغيّاة أم لا.

الإشكال الثاني: إن ظهور الصدر حيث اشتمل على ألف ولام الجنس مع كونه في سياق النهي أقوى من ظهور التتمة حيث إنه نكرة في مقام الإثبات فلا وضع ولا بيان من هذه الجهة فيه.

على أن شمول الصدر لليقين والشك في أطراف العلم الإجمالي يصلح قرينة على عدم إرادة اليقين الإجمالي في التتمة.

وأورد عليه: بأنه لا بد في الأقوائية من كونها عرفية وليس كذلك هاهنا، مضافاً إلى أن الدليل بصدره وتتمته لبيان قاعدة عامة فتكون للتتمة عموم كعموم الصدر من غير فرق وبذلك يثبت كون التتمة في مقام البيان أيضاً من كل الجهات، كما أنه لا وجه لجعل الصدر قرينة للتصرف في التتمة مع كونهما متصلين في كلام واحد.

ص: 240

الإشكال الثالث: إنه لا بد من اتحاد متعلق اليقين الناقض والمنقوض كي يصدق النقض، وأما مع اختلاف متعلقهما فلا نقض، ولا اتحاد في مورد العلم الإجمالي؛ لأن متعلق اليقين المنقوض هو كل واحد منهما بعينه، وأما متعلّق اليقين الناقض فهو أحدهما، وعليه فلا يكون مورد العلم الإجمالي مشمولاً للتتمة ليتناقض الدليل!

وفيه: أن الناقض وإن تعلق بعنوان (أحدهما) لكنه يشير إلى المعنون المعلوم واقعاً المجهول عندنا، وعليه فالفرد المعين واقعاً كان طاهراً يقيناً والآن صار نجساً يقيناً - مثلاً - فيكون الحكم بطهارته مناقضة، نظير ما لو قال: جاء زيد وعمرو، ثم قال: لم يجئ أحدهما، هذا مضافاً إلى أن الحكم بنجاسة أحد الإنائين في المثال هو من نقض اليقين باليقين عرفاً.

الإشكال الرابع: إن التتمة إنما هي تأكيد لما في الصدر فلا يوجد حكمان كي يتناقضا.

وفيه: أن الصدر ساكت عن نقض اليقين باليقين لعدم حجية مفهوم اللقب، وهذا ما تضمنته التتمة فلا تأكيد.

الإشكال الخامس: إن الصدر يتضمن حكماً مولوياً؛ إذ لا يحكم العقل بشيء مع تبدل اليقين بالشك، وأما التتمة فهي إرشادية؛ إذ نقض اليقين باليقين حكم عقلي فيكون جعل الحكم المولوي على طبقه تحصيلاً للحاصل، وجعل حكم على خلافه اجتماع للضدين، ويدل على ذلك عدم تعدد العقوبة لو خالف!

ويرد عليه: أن حكم العقل إنما هو في العلم التفصيلي مطلقاً، وكذا وفي

ص: 241

العلم الإجمالي إذا استلزم الترخيص مخالفة عملية قطعية، ولا حكم له في ما كان علماً إجمالياً مع مخالفة التزامية فقط، كما لو استصحب نجاسة الإنائين مع العلم بطهارة أحدهما، كما جاز إجراء الأصول في الدوران بين المحذورين مع استلزامه للمخالفة الالتزامية.

فتحصل اندفاع جميع الإشكالات عن دليل المناقضة.

الأمر الثاني: في جريان البراءة في جميع الأطراف

أما العقلية فلا تجري، لتحقق البيان الواصل من غير فرق عقلاً بين الوصول بالعلم التفصيلي أو الإجمالي.

نعم، في مورد العلم الإجمالي لا تمييز لكنه غير مشروط عقلاً.

وأما النقلية: فالروايات ثلاثة أصناف:

فمنها: ما لا تشمل أطراف العلم الإجمالي، كقوله (علیه السلام) : «الناس في سعة ما لم يعلموا»(1)؛ إذ قد عُلم بالحكم وبالموضوع بين الطرفين.

ومنها: ما لها عموم، كقوله (علیه السلام) : «كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه»(2)، لكنها منصرفة عن موارد العلم الإجمالي؛ لأن العرف يرى أن شمولها لها ترخيص للمعصية، ولولا ذلك لأمكن التوصل إلى المعاصي عبر تحقيق الاشتباه.

ومنها: ما وردت في الشبهة المحصورة بالخصوص كقوله (علیه السلام) : «إذا

ص: 242


1- عوالي اللئالي 1: 424.
2- الكافي 5: 313؛ وسائل الشيعة 17: 89.

اختلط الذكي بالميّت باعه ممّن يستحل الميتة ويأكل ثمنه»(1)،

إلاّ أنها تدل على خلاف البراءة، وإلاّ لجاز أكلها وبيعها حتى ممّن لا يستحل.

المقام الرابع: في وقوع الترخيص في بعض الأطراف

أما البراءة العقلية فلا تجري لتحقق البيان في النجس الواقعي بين الإنائين مثلاً، وأما الإناء الآخر فاجتنابه مقدمة علمية فيجب لقاعدة الاشتغال اليقيني يستدعى البراءة اليقينية.

وأما البراءة الشرعية والاستصحاب فلا يجريان في أحدهما المعين لكونه ترجيحاً بلا مرجّح، ولا في أحدهما غير المعيّن؛ إذ يكون جريانها مع العلم بإباحة أحدهما غير المعين تحصيلاً للحاصل، ومع الشك يكون لغواً؛ إذ يجب الاجتناب حتى مع العلم فكيف مع الشك.

وأما التخيير بأن يتخير المكلف بإجراء الأصل الترخيصي في أحد الطرفين بشرط عدم إجرائه في الطرف الآخر، نظير تزاحم الواجبين حيث يرخص في ترك أحدهما بشرط الإتيان بالآخر، فهو محل الكلام بين الأعلام.

واستدل له: بأن لمثل قوله (علیه السلام) : «كل شيء لك حلال» عموماً أفرادياً شاملاً للشبهة المحصورة، وإطلاقاً أحوالياً بمعنى حليّته سواء اقتحم الفرد الآخر أم لا.

لكن في الإطلاق الأحوالي محذور الترخيص في المعصية، فيدور الأمر بين رفع اليد عن العموم الأفرادي بعدم شمول الدليل لأطراف العلم

ص: 243


1- الكافي 6: 260؛ وسائل الشيعة 17: 99.

الإجمالي رأساً، وبين رفع اليد عن الإطلاق الأحوالي، والثاني أولى لأن تقييد الدليل أولى من سقوطه رأساً، بل المتعارف رفع اليد عن الإطلاق للمحاذير لا إسقاط الدليل.

وأشكل عليه بأمور، منها:

الإشكال الأول: إنّ استحالة الإطلاق هنا - لكونه ترخيصاً في المعصية - يستلزم استحالة التقييد، لكونهما من العدم والملكة فيحتاجان إلى المحل القابل.

وفيه: أولاً: إن الإطلاق هنا هو رفض للقيود لا جمعها، فاستحالة أحدهما يستلزم ضرورة الآخر، كاستحالة تقييد الحكم بالعلم به فيكون إطلاقه للعالم والجاهل ضرورياً، وقد مرّ تفصيله.

وثانياً: ما قيل: من أنهما وجوديان لا من العدم والملكة فتقابلهما تقابل الضدين، حيث إن امتناع أحدهما قد يستلزم ضرورة الآخر في الضدين اللذين لا ثالث لهما، وقد لا يستلزم شيئاً كما في اللذين لهما ثالث.

فقد قيل: إن الإطلاق الثبوتي هو لحاظ سريان الماهية، والتقييد هو لحاظ ضيقها، وقيل: بأنهما من تقابل السلب والإيجاب، وقد مرّ.

هذا مضافاً إلى عدم استحالة الإطلاق وقد ذكرناه في البحث الثالث.

الإشكال الثاني: إن الإباحة المشروطة بترك الآخر مخالفة قطعية للحكم الواقعي المطلق، وعدم المخالفة شرط في إجراء الأصول؛ إذ يشترط في الحكم الظاهري احتمال مطابقته للواقع، ففي المثال: حرمة الإناء النجس واقعاً مطلقة - سواء شرب الإناء الآخر أم لا - ، وحلية الإناء الطاهر واقعاً

ص: 244

مطلقة أيضاً، فالحكم بالإباحة المشروط خلاف الواقع.

وفيه: أولاً: النقص بجريان البراءة في الدوران بين المحذورين على بعض المباني.

وثانياً: بالحلّ بأن ما ذكر من احتمال المطابقة للواقع ليس شرطاً في الحكم الظاهري، بل يشترط فيه الشك بالواقع وبصلاحية الحكم الظاهري للمنجزية والمعذرية، وكلاهما موجودان في ما نحن فيه.

الإشكال الثالث: إنه لو ترك كليهما فقد تحقق شرط الترخيص فيهما، وذلك ترخيص في المعصية، وهو قبيح عقلاً.

وأجيب: أولاً: بالنقض بالواجبين المتزاحمين المتساويين في ما لو تركهما، حيث تحقق شرط وجوب كليهما فيكون أمراً بالضدين!

لا يقال: إنه بسوء اختياره وليس كذلك في ما نحن فيه!

لأنه يقال: سوء الاختيار يرفع قبح العقاب، ولا يرفع استحالة طلب الضدين.

وثانياً: بالحل بما مرّ في مباحث الترتب من أن الواجب المشروط لا ينقلب إلى واجب مطلق بعد تحقق شرطه؛ وذلك لأن شرائط التكليف من قيود الموضوع، وهو لا ينسلخ عن موضوعيته بعد وجوده خارجاً(1)،

وبعبارة أخرى: إن الحكم في مقام الجعل يكون على نحو القضية الحقيقية وهي توجد في عالم الاعتبار ولا تتغيّر، وأما في مقام المجعول فالتبدل وإن كان ممكناً كأن يصبح غير المستطيع مستطيعاً للحج إلاّ أن ذلك لا يرتبط

ص: 245


1- فوائد الأصول 1: 340.

بالحكم الإنشائي، بل بانشغال ذمة المكلّف وعدمه، وعليه فلا ترخيص في الضدين فعلاً كما لا أمر بهما فعلاً.

الإشكال الرابع: إن الحكم الواقعي واصل إلى المكلف - ولو مردداً - فكيف يمكن الترخيص في مخالفته ولو مشروطاً بترك الآخر؟! وعليه فكما لا يمكن الإطلاق لا يمكن التقييد بترك الآخر.

وفيه: الفرق بين الإطلاق والتقييد، ففي صورة التقييد يمكن جعل البدلية ثبوتاً مما يستدعي عدم رفع اليد عن عموم دليل الحلّ، ففي الشبهة التحريميّة جعل الإناء المختار للارتكاب - مثلاً - بديلاً عن الإناء الطاهر، كما يمكن الاكتفاء بالموافقة الاحتمالية، وكلاهما غير ممكن مع الإطلاق؛ إذ لا بديل مع الترخيص في كليهما كما أنها مخالفة قطعيّة.

الإشكال الخامس: إن التخيير مع عدم وجود دليل خاص عليه إنما يكون في موردين وكلاهما مفقود في ما نحن فيه، قال المحقق النائيني: «إن الموارد التي نقول فيها بالتخيير مع عدم قيام دليل عليه بالخصوص لا تخلو عن أحد أمرين: أحدهما: اقتضاء الكاشف والدليل الدّال على الحكم التخيير في العمل، ثانيهما: اقتضاء المنكشف والمدلول ذلك»(1).

بيانه: أنه تارة يكون دليل عاماً ونعلم بدليل مجمل خروج فردين عنه لكن لا نعلم هل خرجا على نحو الإطلاق أم التقييد، فهنا لا وجه لرفع اليد عن العموم الأفرادي، بل نرفع اليد عن الإطلاق الأحوالي لأنه القدر

ص: 246


1- فوائد الأصول 4: 28.

المتيقن، كما لو قال: (أكرم العلماء) ثم استثنى زيداً وعمراً على نحو الإجمال المذكور، فهنا مقتضى الجمع بين العام والخاص والاكتفاء بالقدر المتيقن هو تقييد (أكرام زيد) في حال ترك (إكرام عمرو) وبالعكس، فهنا الدليل الكاشف اقتضى التخيير.

وتارة الدليل عام ولا يوجد دليل للتخصيص أو التقييد، وإنما عدم قدرة المكلف في الجمع بين الأفراد مع كونها ذا ملاك يقتضي التخيير، فالمنكشف - وهو الملاك - مع عدم القدرة على الجمع اقتضى التخيير عقلاً، كما في مثال إنقاذ الغريقين المتساويين.

وكلا الأمرين مفقودان في ما نحن فيه، أما الكاشف فإن دليل حجية كل أصل يقتضي جريانه عيناً، وأما المنكشف فلأن ملاك الحلية في أحدهما دون الآخر حيث نعلم بنجاسة أحدهما غير المعيّن مثلاً.

وفيه: ما ذكره المحقق العراقي(1):

بأنه يكفي دليلاً - في دلالة الكاشف عن التخيير - ملاحظة الجمع بين إطلاق دليل الحليّة لكل واحد من الفردين، وبين حكم العقل بعدم إمكان الجمع بين الشكين في هذا الحكم. وحاصله: عدم الفرق بين ما نحن فيه وبين مثال (أكرم العلماء) مع تخصيصه بالمجمل - بالطريقة التي ذكرت - إذ كلاهما عام، وفي كليهما مخصص، مع دوران الأمر بين التخصيص الأفرادي أو التقييد الأحوالي.

الإشكال السادس: - وهو العمدة - استفادة الملاك أو إلغاء الخصوصية أو الأولوية من الموارد التي أمر الشارع بالاجتناب عنهما، كالروايات الدالة

ص: 247


1- فوائد الأصول 4: 31 (الهامش).

على إهراق المائين والتيمم(1)،

والروايات الدالة على غسل جميع الثوب الذي أصابه دم الرعاف أو المني وهو لا يعلم مكانه(2)،

والروايات الدالة على القرعة في قطيع الشياه لإخراج الموطوئة(3)

مع إمكان إجراء الأصل الحكمي أو الموضوعي في بعض أطرافها، بل قد يستفاد التعميم من العلة المذكورة في صحيحة زرارة حيث قال (علیه السلام) : «تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنه قد أصابها حتى تكون على يقين من طهارتك»(4).

هذا مضافاً إلى انصراف أدلة البراءة عن أطراف العلم الإجمالي في الشبهة المحصورة، ومن منبهات الانصراف استنكار المتشرعة لمن تعمّد الخلط، ومع التشكيك في الانصراف يمكن ادّعاء إعراض المشهور عن عموم أدلة البراءة لأطراف الشبهة المحصورة.

المطلب الرابع: الاضطرار إلى بعض الأطراف
اشارة

لا كلام في أنه مع الاضطرار إلى بعض الأطراف يرتفع التكليف فيه، إنما البحث في ارتفاعه عن الأطراف غير المضطر إليها، فهنا حالتان: الاضطرار إلى أحدها المعين، والاضطرار إلى أحدها لا بعينه.

الحالة الأولى: الاضطرار إلى المعيّن

وفيه صور:

الصورة الأولى: كون الاضطرار قبل التكليف وقبل العلم به، كما لو اضطر

ص: 248


1- وسائل الشيعة 1: 155.
2- تهذيب الأحكام 1: 267 و 421.
3- وسائل الشيعة 24: 169.
4- علل الشرايع 2: 361؛ وسائل الشيعة 3: 402.

إلى إناء الدواء ثم سقطت قطرة دم إمّا فيه أو في إناء الماء، وفي هذه الصورة لا محذور في ارتكاب الآخر، كأن يشرب إناء الماء؛ لأن أصل التكليف غير معلوم فيكون مجرى البراءة؛ إذ الدم إن كان قد سقط في إناء الدواء فلا تكليف للاضطرار إليه، وإن كان سقط في إناء الماء تحقق تكليف، فالأمر يدور بين وجود أو عدم وجود التكليف، فيكون مجرى البراءة.

نعم، لو تحقق علم إجمالي ثانٍ وجب الاجتناب عن غير المضطر إليه، كما لو شرب الدواء فسقطت قطرات منه على جسمه، فهنا يعلم إجمالاً إما بوجوب غسل جسمه للصلاة أو وجوب اجتناب إناء الماء، فيجب عليه الاحتياط لعلمه بانشغال ذمته بتكليف مردد بين الأمرين، والاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية.

الصورة الثانية: كون الاضطرار بعد التكليف المحتمل وقبل العلم به، كما لو سقطت قطرة الدم في أحدهما، ثم اضطر إلى الدواء، ثم علم بسقوطها في أحدهما، وهذه الصورة كسابقتها في جواز ارتكاب الآخر، للدليل نفسه.

وأشكل عليه: بأن التكليف سابق على الاضطرار؛ لأن للعلم صفة الكاشفية لا الموضوعية، وعليه فقد انشغلت ذمته بتكليف ولا يعلم ارتفاعه بحدوث الاضطرار؛ لأن الدم إن كان قد سقط في الدواء فقد ارتفع التكليف، وإن كان سقط في الآخر فلم يرتفع، فالاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينيّة!، وهذا ما ذكره المحقق النائيني(1)،

إلاّ أنه عدل عنه بعد ذلك.

ص: 249


1- أجود التقريرات 3: 454.

وفيه: إنه لولا العلم لم يتنجز التكليف، وقاعدة الاشتغال اليقيني إنما تجري مع تنجزه، وفي ما نحن فيه لا علم بالتكليف المنجّز أصلاً، لا في المضطر إليه؛ إذ قبل الاضطرار الجهل مانع عن التنجّز وبعده الاضطرار بنفسه مانع، ولا في الآخر لأن الشك فيه بدوي.

إن قلت: إنه من قبيل القسم الثاني من الكلي حيث يتحقق ركني الاستصحاب في الجامع؛ لأن قطرة الدم إن كانت ساقطة في الدواء كان التكليف محدوداً إلى حين عروض الاضطرار، وإن كانت ساقطة في الآخر كان التكليف غير محدود، فيستصحب كلي وجوب الاجتناب!

قلت: لا بد في هذا الاستصحاب في التكليف من تنجز التكليف على كل حال سواء كان في الفرد المحدود أو في الفرد غير المحدود، وما نحن فيه ليس كذلك؛ إذ لو كانت القطرة ساقطة في إناء الدواء لم يكن التكليف منجزاً أصلاً لا قبل الاضطرار لعدم العلم ولا بعده لعدم التكليف في حالة الاضطرار، ولا يكون الجامع بين التكليف المنجز والتكليف غير المنجز منجزاً بعد العلم، ولا أثر للتكليف المردد بين المنجز وغير المنجز، وعليه فلا يقين سابق بالجامع لكي يستصحب.

الصورة الثالثة: أن يكون الاضطرار بعد العلم بالتكليف، كما لو سقطت قطرة الدم فعلم بذلك ثم اضطر إلى أحدهما المعيّن، ففيه قولان:

القول الأول: وجوب الاحتياط في غير المضطر إليه؛ وذلك لانشغال الذمة بالتكليف المنجّز حين علمه الإجمالي، مع عدم العلم بالبراءة عنه حين الاضطرار إلى المعيّن، كما يجري الاستصحاب أيضاً.

ص: 250

القول الثاني: عدم وجوب الاحتياط، واستدل له بأمور، منها:

الدليل الأول: ما في الكفاية من: «أن التكليف المعلوم بينهما من أول الأمر كان محدداً بعدم عروض الاضطرار إلى متعلّقه، فلو عرض على بعض أطرافه لما كان التكليف به معلوماً لاحتمال أن يكون هو المضطر إليه في ما كان الاضطرار إلى المعين...»(1)، وحاصله: أن التكليف من أول الأمر مقيّد بعدم عروض الاضطرار.

وعليه فمع تحقق الاضطرار إلى أحد الأطراف لا يوجد علم إجمالي من أول الأمر لما بعد الاضطرار، ففي المثال لو سقطت قطرة الدم في الدواء فلا تكليف بوجوب الاجتناب لمرحلة ما بعد الاضطرار، ولو سقطت في الماء حصل تكليف، لكن سقوطه فيه غير معلوم فيكون من الشك في التكليف الذي هو مجرى البراءة.

وبعبارة أخرى - كما قيل - : إن تنجز العلم الإجمالي منوط بوجود المنجّز حدوثاً وبقاءً، وهنا لا وجود للعلم الإجمالي بعد الاضطرار، بل مجرد شبهة بدوية.

وأشكل عليه بأمور، منها:

الإشكال الأول: النقض بخروج أحد الأطراف عن محل الابتلاء، فإنه يجب الاجتناب عن الآخر لبقاء أثر العلم الإجمالي.

وأجيب: بالفرق، فإن التكليف ليس مقيداً بفقد الموضوع، بل له قابلية الاستمرار أبداً، لكنه مقيّد من أول الأمر بعدم الاضطرار.

ص: 251


1- إيضاح كفاية الأصول 4: 228-229.

وفيه: أن الكلام ليس في مرحلة الجعل، الذي يكون الحكم قضيةً حقيقيةً لا نظر لها أصلاً في تحقق الموضوع خارجاً، بل الكلام في مرحلة المجعول وانشغال ذمة المكلف بالتكليف، ولا فرق في هذه المرحلة بين الاضطرار إلى بعض الأطراف وبين خروج بعضها عن الابتلاء حيث لا تشتغل ذمة المكلف.

الإشكال الثاني: ما في هامش الكفاية(1):

بأنه لو كان الاضطرار إلى أحدهما المعين فلا يكون بمانع عن تأثير العلم للتنجيز، لعدم منعه عن العلم بفعلية التكليف المعلوم إجمالاً المردد بين أن يكون التكليف المحدود في ذلك الطرف أو المطلق في الطرف الآخر.

بيانه: إنه ليس هنا تكليف واحد في موضوع واحد مردد بين الأقل والأكثر، كي يقال بمعلومية التكليف في الأقل على كل حال مع الشك في الأكثر ليكون مجرى البراءة، بل هنا موضوعان ويشك في انطباق التكليف على أيٍّ منهما، فأحد الموضوعين - الدواء في المثال - وجوب اجتنابه مغيّى بالاضطرار، والآخر - الماء - وجوب اجتنابه مطلق غير مغيّى، فهنا لا يوجد قدر متيقن من التكليف، نظير ما لو علم بأنه مأمور بالجلوس في المسجد ساعة، أو في البيت ساعتين، فلا يعلم أن التكليف المعلوم إجمالاً منطبق على أيِّهما؟! وعليه فلا ينحل العلم الإجمالي، فيجب الاحتياط.

إن قلت: إنه بملاحظة قطعات الزمان فالتكاليف متعددة، فقبل الاضطرار في كل قطعة طرفان للعم الإجمالي، ولكن بعد الاضطرار فليس ترك شرب

ص: 252


1- إيضاح كفاية الأصول 4: 229.

ما لم يضطر إليه ذا طرف فعلاً ليدور الأمر بين مطلوبيته ومطلوبية طرفه، ولا ذا طرف قبلاً لأن كل ترك في كل زمان كان له طرف يختص به، وعليه فهو احتمال بدوي غير مقرون باحتمال آخر ولو من أول الأمر!

قلت: إن الانحلال إنما يصح لو كان كل ترك ذا مصلحة باعثة على طلبه، لكن ليس كذلك؛ إذ الموضوع واحد والفعل واحد والمفسدة القائمة بشرب النجس واحدة، فليس في الحقيقة إلاّ زجر واحد عن الفعل الواحد، وهذا الواحد من حيث استمراره مردد بين المطلق والمحدود.

الدليل الثاني: إن العلم الإجمالي إنما ينجز لو لم تجر الأصول بسبب التعارض، ولا تعارض بعد الاضطرار إلى أحد الأطراف لعدم جريان الأصل فيه بعد ارتفاع التكليف فيه قطعاً، فتجري الأصول الترخيصيّة في الأطراف الأخرى من غير تعارض فتكون المؤمّن، وبعبارة أخرى: لا أثر للعلم الإجمالي بقاءً.

وأما ما قيل: من أن الأصل الميت لا يُحيى من جديد، فممّا لا دليل عليه، بل يجري الأصل بارتفاع المانع، وهو التعارض في ما نحن فيه.

وأورد عليه: بأن تعارض الأصول هو من أول الأمر مع استمراره، وذلك لوحدة التكليف، إما المحدود أو غير المحدود، نظير تعارض البينتين في المدة المحدودة أو غير المحدودة، فمدلول المحدود بشرط لا، ومدلول غير المحدود بشرط شيء، ولا يرتفع التعارض بانتهاء المحدود، وعليه فلا إشكال في عدم جريان الأصل بعد سقوطه، فالأصل الواحد لا يجري في شيء مرتين.

ص: 253

الحالة الثانية: الاضطرار إلى غير المعيّن

ولا إشكال في جواز ارتكاب أو ترك أحدهما مخيراً، لمكان الاضطرار، لكن هل يجوز ارتكاب كليهما في التحريمية أو ترك كليهما في الوجوبية؟ فيه قولان، ولا فرق هنا بين سبق الاضطرار على التكليف أو تأخّره عنه، ولا بين سبق العلم أو تأخره.

القول الأول: الجواز، لعدم الأثر للعلم الإجمالي؛ وذلك لأن الاضطرار موجب للترخيص في ارتكاب أحد الأطراف في التحريمية، وترك أحد الأطراف في الوجوبية تخييراً، وهو ينافي وجود التكليف بينهما، فلا بد من ترجيح أحدهما، وحيث إن الترخيص أهم فلا تكليف.

وبعبارة أخرى: لا علم بالتكليف على كل حال، فإن المضطر لو طبق الترخيص على الحرام الواقعي مثلاً فلا حرمة أصلاً، ولو طبقه على الآخر فالحرمة باقية، فيدور الأمر بين وجود أو عدم وجود الحرمة وهو شك في التكليف، فلا تنجيز للعلم الإجمالي حينئذٍ، وهكذا في ترك أحد الطرفين في الوجوبية.

القول الثاني: وجوب الاحتياط، ففي الشبهة التحريميّة: الحرام الواقعي المعلوم بالإجمال باقٍ على حرمته حتى بعد الاضطرار؛ إذ لم يضطر إليه المكلف بالخصوص وإنما اضطر إلى الجامع، وحيث بقيت الحرمة فلا يمكن الترخيص في كل الأطراف لاستلزامه الترخيص في مخالفة التكليف الواصل، وهو ترخيص في ارتكاب المعصية القطعية وهو قبيح، لكن باعتبار الاضطرار فلا بد من رفع اليد عن وجوب الموافقة القطعية؛ إذ رفع الاضطرار متوقف على ارتكاب بعض الأطراف، وبذلك يثبت لزوم اجتناب الآخر.

ص: 254

وبعبارة أخرى: مع ثبوت التكليف لا بد من موافقته القطعية وتحرم مخالفته القطعية، لكن حيث لم يمكن الموافقة القطعية فلا بد من عدم المخالفة القطعية؛ وذلك لبقاء التكليف وقبح الترخيص في معصيته، وهكذا في الشبهة الوجوبية، وهذا هو الأقرب.

تتمة: في التوسط في التكليف

التوسط قد يكون بمعنى ترتب أحد الأثرين على العلم الإجمالي، بأن تحرم المخالفة القطعية ولا تجب الموافقة القطعية، كما في حالة الاضطرار إلى غير المعين.

وقد يكون بمعنى ثبوت التكليف أو التنجيز بحال دون حال، وهذا ما اصطلحه المحقق النائيني، ففي الفوائد(1) ما ملخّصه: إن الاضطرار هل يقتضي التوسط في التكليف أو التوسط في التنجيز؟

ومعنى التوسط في التنجيز: بلوغ التكليف إلى مرتبة التنجيز على تقدير، وعدم بلوغه إلى تلك المرتبة على تقدير آخر، مع إطلاق التكليف الواقعي وثبوته - في كلا التقديرين - بلا تصرف فيه واقعاً.

وأما التوسط في التكليف: فبمعنى أن يكون هناك تكليف على تقدير، وعدم وجود تكليف على تقدير آخر.

وفي الاضطرار إلى المعين يتحقق التوسط في التكليف؛ وذلك لارتفاع التكليف واقعاً بالاضطرار إذا كان ذلك المعيّن متعلق التكليف، وعدم ارتفاعه واقعاً مع كون المعين غير متعلق للتكليف، فتكون العلة في

ص: 255


1- فوائد الأصول 4: 104-108.

الترخيص الاضطرار لا الجهل.

وأما في الاضطرار إلى غير المعين: فإنه قد اجتمعت الجهتان - أي الاضطرار والجهل - ولكل منهما دخل في الترخيص؛ إذ لولا الجهل بشخص الحرام كان يتعيّن على المكلف رفع الاضطرار بغيره، كما أنه لولا الاضطرار كان يجب الاجتناب عن جميع الأطراف.

وعليه لا بد من ملاحظة الجزء الأخير من العلة، فإن كان هو الجهل كان الترخيص ظاهرياً لا واقعياً ويلزمه التوسط في التنجيز، ويكون المكلف معذوراً فقط لو خالف الواقع مع بقاء الواقع على ما هو عليه بلا تصرّف فيه، وإن كان الجزء الأخير هو الاضطرار فالترخيص فيه يكون واقعياً ويلزمه التوسط في التكليف.

وحينئذٍ يحتمل الترخيص الظاهري؛ لأن الاضطرار إلى غير المعيّن لا يصادم التكليف الواقعي ولا يمس الموضوع، بل الموضوع محفوظ بتمام ما له من القيود، فالعلة الموجبة للترخيص في ارتكاب الحرام إنما هي الجهل؛ إذ لولاه لكان يتعيّن رفع الاضطرار بغير الحرام.

ويحتمل الترخيص الواقعي؛ لأن الاضطرار بوجوده وإن لم يناف التكليف الواقعي، إلاّ أنه في حال الجهل بالموضوع وعدم العلم بشخص الحرام ينافيه، ويقع المصادمة بين التكليف والاضطرار - ولو في صورة مصادفة ما اختاره لدفع الاضطرار لموضوع التكليف - فإن ارتكاب المكلّف للحرام يصح أن يقال فيه: إن ارتكابه للحرام كان عن اضطرار إليه، وإذا صدق الاضطرار إلى الحرام فالترخيص فيه واقعي.

أقول: فعلى الثاني يلزم إجراء أصل البراءة لعدم العلم بالتكليف الواقعي،

ص: 256

وأما على الأول فحيث يعلم بالتكليف فالعلم الإجمالي منجّز.

وأورد عليه: أولاً(1):

بأن اختيار المكلف للحرام الواقعي لا يوجب ارتفاع الحرمة الواقعية؛ لعدم طروّ عنوان على الفرد المعيّن موجب لارتفاعها، فالتكليف الواقعي ثابت، والاضطرار متعلّق بالجامع لا الفرد، واختيار المكلف لا ينقل موضوع الاضطرار من الجامع إلى الفرد، ولا وجه للاستشهاد بالعرف بعد ثبوت تسامحه وكون الواقع هو الاضطرار إلى أحدهما.

وثانياً: بأنه لو كانت الحرمة مغياة بالاختيار والارتكاب لكان التكليف لغواً؛ لأن التشريع إنما هو بداعي إيجاد الداعي - ولو إمكاناً - .

وثالثاً: ما في المنتقى(2):

من أنه لا فرق بين كون الاضطرار أو الجهل الجزء الأخير أم لا؛ لأن مجرد الجهل بالواقع في موضوع الحكم يقتضي كونه ظاهرياً، سواء كان جزءاً أخيراً أم لا، فتأمل.

المطلب الخامس: في خروج بعض الأطراف عن الابتلاء
اشارة

لو لم يكن أحد أطراف العلم الإجمالي محلاً للابتلاء فهل يكون العلم الإجمالي منجّزاً للتكليف أم لا؟

الأقوى عدم تنجيزه، واستدل لذلك بدليلين:

الدليل الأول: جريان الأصل الترخيصي المؤمِّن في ما هو محل الابتلاء، مع عدم جريانه في الآخر؛ وذلك لأن الأصول العملية إنما وردت لبيان

ص: 257


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 10: 316-317.
2- منتقى الأصول 5: 119.

الوظيفة العملية للمكلف، ولا وظيفة له في ما هو خارج محل ابتلائه فلا معنى لجريانها فيه، فلا تعارض ليسقط الأصل المؤمِّن في ما هو محل الابتلاء.

الدليل الثاني: إنّ الفرد الخارج عن محل الابتلاء لا قدرة عادية عليه، فلا تكليف فيه، وحيث لا يعلم المكلف بأن موضوع التكليف هل هو الداخل أو الخارج فلا علم بالتكليف، فيكون مجرى البراءة.

وأما اشتراط القدرة العادية في التكليف فاشتراط الابتلاء فلجهات، منها:

الجهة الأولى: إنه مع عدمها يكون المكلف تاركاً، فتكليفه بالترك إنما هو طلب للحاصل.

وبعبارة أخرى: إن غاية النهي هي إيجاد الداعي في المكلف للترك، وفي ما نحن فيه غير المبتلى تارك للمنهي عنه بسبب عدم ابتلائه به.

وأشكل عليه: بأن الداعي للنهي ليس مجرد الترك، ولذا لا إشكال في حرمة أكل العذرة مع أن الناس تاركون لها؛ وذلك لأن الغرض من الأوامر الشرعية - حتى التوصليات منها - وكذا النواهي الشرعية ليس مجرد الفعل أو الترك، بل الغرض الفعل المستند إلى بعث الشارع والترك المستند إلى زجره، ولا يمكن أن يكون الغرض هو صرف تحقق المطلوب - فعلاً أو تركاً - في الخارج؛ إذ ما لا يترتب على الشيء لا يعقل أن يكون غرضاً منه.

وفيه: أنه لا دليل على كون الغرض في المحرمات وفي الواجبات التوصلية إسناده الترك أو الفعل إلى الشارع، ويكفي في صحة الغرض من التكليف إمكان ترتبه على بعض الأفعال أو التروك، فمثلاً أكثر المحرمات

ص: 258

يتركها الناس لمكان نهي الشارع، فيكون الغرض من التحريم الشامل لجميع المكلفين هو هذا مع عدم المحذور في عدم ترتب هذا الغرض في بعض المكلفين لكونهم تاركين لجهة أخرى غير التحريم فيكون الغرض من قبيل الحكمة لا العلة.

هذا مضافاً إلى عدم انحصار الغرض من النهي في الترك كي يقال إن النهي تحصيل للحاصل، بل قد يكون الغرض في نفس التكليف، كأن تكون للمفسدة مصاديق بعضها لا يتركها الناس إلاّ بالنهي وبعضها يتركها الناس بطبعهم حتى بدون نهي، فلا محذور في إصدار نهي عام، أو نواهي متعددة نظراً إلى تلك المفسدة فيكون الغرض في ما يرتكبه الناس هو إيجاد الداعي للترك، وفي ما لا يرتكبونه هو في نفس النهي لئلا يكون ترخيصاً في قبيح أو في ما فيه المفسدة، فتأمل.

الجهة الثانية: استهجان العرف التكليف في غير المقدور بالقدرة العادية.

وأشكل عليه: بأنه «لا معنى للاستهجان العرفي؛ لعدم ارتباط حقيقة التكليف بالعرف بما هم أهل العرف، وليس الكلام في الخطاب بما هو خطاب حتى يتوهم ارتباطه بنظر العرف»(1).

وكأنّ مراده بأنه لا تلازم بين قبح الخطاب وقبح التكليف؛ إذ قد يكون الخطاب مستهجناً عرفاً من دون قبح في التكليف، ومناط الأحكام الشرعية هو صحة التكليف.

ويرد عليه: إن استهجان العرف كاشف عن القبح في التكليف، فشمول

ص: 259


1- نهاية الدراية 4: 264.

التكليف لغير المبتلى به لغو ومستهجن لا من جهة الخطاب، بل من جهة عدم الغرض، اللهم إلاّ إذا ثبتت أغراض أخرى غير الترك مثلاً فلا قبح في التكليف ولا استهجان في الخطاب وشموله.

ويمكن أن يقال: إن النواهي الشرعية إنما هي على نحو القضايا الحقيقية، ويكفي في صحتها إمكان الانزجار، وذلك متحقق في ما يكون الإنسان تاركه بالطبع أو لعدم الابتلاء أو لعدم القدرة العادية، بل يكفي في صحتها بنحو الشمول إمكان ابتلاء بعض المكلفين ببعض المصاديق، فتأمل.

الجهة الثالثة: صحيحة علي بن جعفر عن الإمام موسى بن جعفر (علیه السلام) قال: سألته عن رجل رعف فامتخط فصار بعض ذلك الدم قِطعاً صغاراً فأصاب إناءه، هل يصلح الوضوء منه؟ فقال (علیه السلام) : «إن لم يكن شيئاً يستبين في الماء فلا بأس، وإن كان شيئاً بيّناً فلا تتوضأ منه»(1).

وإنما يصح الاستدلال بها على ما نحن فيه لو كان المعنى أن الدم أصاب إما ظهر الإناء أو الماء الذي فيه، وظهره خارج عن محل الابتلاء عادة؛ لعدم نجاسة ملاقي المحصورة ولاستبعاد لمس كل ظهر الإناء.

إلاّ أن الظاهر أن قوله (علیه السلام) : «فأصاب إناءه» يراد به العلم بإصابة ظهره تفصيلاً، مع الشك في إصابة الماء، فتكون المسألة خارجة عن فرض الكلام.

بل حتى لو أريد المعنى الأول فلا ربط له بالمقام؛ لأن ظهر الإناء محل للابتلاء بإدخال الإناء كلّه في الحِب ونحوه وهو أمر كان كثير التحقق.

ص: 260


1- الكافي 3: 74؛ وسائل الشيعة 1: 150.
تتمة: في الشك في الخروج عن محل الابتلاء

لو شك في خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، فقد يكون ذلك للشك في مفهوم الابتلاء وقد يكون شبهة مصداقية، فهنا صورتان:

الصورة الأولى: الشبهة المفهومية، بأن لا يتمكن من تحديد مفهوم محل الابتلاء، فهل لمجرد سهولة الوصول مثلاً يصدق كونه كذلك أم لا؟ كما لو كان جار لا يراوده، فشك في نجاسة إناء نفسه أو إناء جاره.

والأقرب كون المرجع عمومات أو إطلاقات الأدلة الأولية، ففي المثال يكون المحكّم أدلة وجوب اجتناب النجس في إنائه الذي هو محل ابتلائه، ولا يجري فيه أصل البراءة؛ وذلك لأن الشك في شمول الخاص للمورد، فيكون المرجع عموم العام، وعليه فدليل وجوب الاجتناب يدل على عدم جواز اقتحام النجس سواء كان في إنائه أم في الإناء الآخر المشكوك كونه محلاً لابتلائه، وبذلك يتنجز العلم الإجمالي.

وأشكل عليه: أولاً: بأن الإطلاق أو العموم متفرع على الإمكان، وفي ما نحن فيه لو كان المشكوك خارجاً عن محل الابتلاء كان الخطاب محالاً، وإلاّ كان ممكناً، فيكون الشك في إمكان التكليف، فلا يمكن التمسك بالإطلاقات أو العمومات!

وفيه: أن الإطلاق كاشف عن الإمكان ثبوتاً، ولولا ذلك لما صحّ التمسك بالإطلاق في ما لو شككنا بوجود الملاك في فرد من الأفراد وهو ما لا يمكن الالتزام به.

وثانياً: إن المخصص هنا متصل لأنه لبّي، فإجماله يسري إلى العام فلا يمكن التمسك به في الفرد المشكوك.

ص: 261

وفيه: ما في الفوائد(1):

من أن لا بديّة كون التكليف محلاً للابتلاء إنّما هو حكم نظري للعقل، فلا يدركها كل أحد إلاّ بعد إعمال الفكر والنظر فلا يلتفت إليها العرف - وحتى مع الالتفات يمكن التشكيك في كونه قيداً في تكاليف المولى الحقيقي مع الجهل بملاكاته - وعليه فيكون حكم العقل كالقرينة المنفصلة لا المتصلة فلا يثلم به عموم العام وإطلاق المطلق، فتأمل.

الصورة الثانية: الشبهة المصداقية، كما لو كان أحد الإنائين محلاً لابتلائه ولم يعلم بأن الآخر محل ابتلائه أم لا، ففيه احتمالان:

الاحتمال الأول: جريان البراءة في ما هو محل الابتلاء؛ لأن المشكوك لا تشمله الأدلة الأولية؛ لأن القيود توجب تركب الموضوع، فالمتصلة توجب تركبه في مرحلة الإرادتين الاستعمالية والجدية، والمنفصلة في مرحلة الإرادة الجدية، فيكون الموضوع في ما نحن فيه (الإناء النجس المبتلى به) وهذا العنوان لا يعلم انطباقه على المشكوك فيكون التمسك بالدليل فيه تمسكاً بالعام في الشبهة المصداقية، كما لا تشمله أدلة البراءة؛ لأنها تجري في ما لو كان المشكوك مبتلى به لا ما لم يكن كذلك فالتمسك بها أيضاً تمسك بالعام في الشبهة المصداقية، وعليه فلا محذور في جريان أدلة البراءة في الطرف المبتلى به لعدم تعارض الأصول فيه.

الاحتمال الثاني: ما في الفوائد(2):

من أنّ الشك هنا شك في القدرة،

ص: 262


1- فوائد الأصول 4: 59.
2- فوائد الأصول 4: 55-56.

والشك فيها مجرى الاشتغال لا البراءة؛ وذلك لأن القدرة ليست من الشرائط التي لها دخل في ثبوت الملاكات النفس الأمرية ومناطات الأحكام، بل إنما هي من شرائط حسن التكليف والخطاب، لقبح التكليف واستهجانه عند عدم القدرة العقلية والعادية، فالملاك محفوظ في كلتا صورتي وجود القدرة وعدمها، والعقل يستقل بلزوم رعاية الملاك وعدم تفويته مهما أمكن إذا كان للمولى حكم على طبقه، غايته إنه عند العلم بعدم القدرة على استيفاء الملاك بكلا قسميها لا يلزم العقل رعايته، للعلم بأنه ليس للمولى حكم على طبقه، وأما مع الشك في القدرة فالعقل يلزم برعاية الاحتمال تخلصاً من الوقوع في مخالفة الواقع، وليس في شيء من الأحكام العقلية ما يحكم العقل بالبراءة عند الشك في موضوع حكمه.

والحاصل: أن العلم بتحقق الملاك يمنع عن الرجوع إلى البراءة، بل لا بد من العلم بما يوجب سقوط الملاك، وبعبارة المحقق العراقي: «إنه مع إحراز المقتضي للتكليف العقل لا يحكم بالبراءة باحتمال الموانع الراجعة إلى قصور العبد عن الامتثال، وأنّ مصب قبح العقاب بلا بيان إنما في صورة احتمال قصورٍ في اقتضاء التكليف من ناحية المولى»(1).

إن قلت(2): إن الكبرى لا تنطبق على ما نحن فيه؛ لأن القاعدة إنما هي في الشك في القدرة على الامتثال، وما نحن فيه لا شك فيها؛ إذ هو قادر على الامتثال قطعاً بأن يترك الطرف المبتلى به، وإنما شكه في القدرة على

ص: 263


1- فوائد الأصول 4: 56 (الهامش) .
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 10: 351.

عصيان التكليف، حيث إن المشكوك إن كان محلاً للابتلاء أمكنت المخالفة القطعية وإلاّ فلا!

قلت: لا فرق بين الأمرين، فكما لا تجري أصالة البراءة عند الشك في القدرة على الامتثال، كذلك لا تجري عند الشك في القدرة على العصيان، فتأمل.

المبحث الثاني: في الشبهة غير المحصورة
اشارة

وفيه مطالب:

المطلب الأول: في ملاك عدم الانحصار

بحيث يكون ضابطاً للشبهة غير المحصورة وفيه احتمالات:

الاحتمال الأول: كون التكليف في كل طرف موهوماً لكثرة الأطراف بحيث لا يعتني به العقلاء.

إن قلت: إن الموهومية لا تمنع التنجّز، نظير ما لو كان الاحتمال في أحد أطراف المحصورة موهوماً؛ وذلك لأن مجرد الاحتمال مساوق لاحتمال العقاب، والاحتمال ملاك التنجيز ما لم يكن مؤمِّن!

قلت: إن الاحتمال الموهوم إذا وصل إلى حدّ لا يعتني به العقلاء لا يكون منجزاً قطعاً؛ لأن الاقتحام فيه لا يُعدّ معصية، ومن المعلوم أن طرق الطاعة والمعصية عقلائية.

الاحتمال الثاني: بلوغ الأطراف حدّاً لا يمكن عادة جمعها في الاستعمال(1)،

بمعنى عدم القدرة العادية على المخالفة القطعية بسبب كثرة

ص: 264


1- فوائد الأصول 4: 117.

الأطراف، وعليه فتسقط حرمة المخالفة القطعية لعدم القدرة فيمكن إجراء أصالة البراءة في الأطراف التي يراد ارتكابها لعدم تعارضها مع سائر الأطراف حيث إنها لا تجري في غير المقدور عليه لتتساقط بالتعارض.

وأشكل عليه: أولاً: بالنقض؛ لأن هذا الضابط ينطبق على بعض مصاديق الشبهة المحصورة كما في شبهة الكثير في الكثير(1)، وكما لو لم يتمكن المكلّف من الجمع في الاستعمال في آن واحد نظير ما لو علم بحرمة إحدى المرأتين عليه مع عدم تمكنه من الجمع وفرض عدم الامتداد في القضية(2).

وثانياً: بما في نهاية الدراية: «بأن المخالفة القطعية لو كانت موضوعاً للحرمة شرعاً لكان الأمر كما قيل: من عدم حرمة ما لا يقدر عليه، وأما إذا لم يكن حرمة شرعية وكانت الحرمة الفعلية متعلقة بما يقدر عليه بذاته - لفرض القدرة على ارتكاب كل واحد من الأطراف، لفرض دخول الكل في محل الابتلاء - ... فلا محالة يكون العلم بالحرمة المتعلّقة بالأمر المقدور موجباً لاستحقاق العقوبة على مخالفتها»(3).

وبعبارة أخرى: لو كان في كلام المولى (تحرم المخالفة القطعية) لصحّ ما ذكره؛ لأنها غير ممكنة فلا تكون محرمة، لكن الدليل هو {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}(4)

مثلاً، والهجر مقدور للمكلف حيث إن كل الأطراف محل

ص: 265


1- نهاية الأفكار 3: 330.
2- فوائد الأصول 4: 118 (الهامش) .
3- نهاية الدراية 4: 275.
4- سورة المدثر، الآية: 5.

الابتلاء فيتنجز العلم الإجمالي؛ إذ لا بد من إطاعة المولى مع القدرة ولا تجوز المخالفة الاحتمالية عقلاً. نعم، العلم بالمخالفة غير ممكن لعدم التمكن من ارتكاب الجميع، لكن المخالفة بنفسها مقدورة ولو احتمالاً.

إن قلت(1): القدرة على اقتحام كل طرف مشروطة بترك سائر الأطراف - حسب الفرض - ، ويتفرع على ذلك كون التكليف باجتناب الحرام الواقعي مشروطاً بترك سائر الأطراف؛ إذ هو متفرع على القدرة، وحيث إن المكلف لا يعلم أنه ترك سائر الأواني التي ليست بحرام واقعي فلا يعلم بتولد تكليف ثبوتاً، فتجري البراءة!

قلت: ترك الحرام الواقعي مقدور للمكلف سواء قدر على سائر الأطراف أم لم يقدر، وحيث إن الحرام الواقعي اشتبه في ما لا ينحصر فالمقدمة العلمية لتركه هو ترك كلّ الأطراف، وترك كل الأطراف مقدور له.

إن قلت: القدرة تتعلق بالطرفين، فإذا لم يقدر على فعل الكل فلا يقدر على تركها!

قلت: الموجبة الجزئية نقيض السالبة الكلية، فالطرفان هما ترك الكل وفعل البعض، مضافاً إلى أنه يكفي في ذلك تعلّق القدرة بالجامع فهو قادر على الجامع بين الأفعال والجامع بين التروك، فتأمل.

الاحتمال الثالث: صدق عدم الانحصار عرفاً.

وفيه: أن العرف ليس مرجعاً إلاّ في تحديد مفاهيم الألفاظ المستعملة

ص: 266


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 10: 364.

في لسان الشرع، وكلمة (الشبهة غير المحصورة) لم ترد في النصوص حتى نرجع إليه في مفهومها.

الاحتمال الرابع: ما يعسر موافقته القطعية.

وفيه: لا تساوي بين العسر وبين غير المحصور، بل بينهما عموم من وجه؛ إذ قد تكون الأطراف كثيرة جداً ولا عسر في تركها كلها، كما قد تكون محصورة مع عسر ترك بعض الأطراف.

المطلب الثاني: في عدم وجوب الاحتياط في غير المحصورة

ثم إنه قد يستدل على عدم لزوم الاحتياط في غير المحصور - إضافة إلى ما مرّ في الضابط - بأدلة، منها:

الدليل الأول: الاطمئنان بعدم التكليف في ما يقتحم فيه، والاطمئنان مؤمّن عقلاً.

إن قلت: الاطمئنان غير حاصل؛ لأن الأطراف متساوية فإن حصل الاطمئنان في بعضها دون بعض فهو من الترجّح بلا مرجّح، وإن تعلّق بجميعها فهو تناقض؛ إذ لا يجتمع العلم بوجود الحرام مثلاً مع الاطمئنان بعدم وجوده في كل فرد فرد!

قلت: لا وحدة للموضوع؛ إذ متعلّق العلم بالحرام هو الجامع، ومتعلق الاطمئنان بعدمه هو الفرد، وقد مرّ شرحه في تصوير الفرد المردّد، ولولا ذلك لأمكن النقض بالاحتمال، إذ كل فرد يحتمل كونه الحرام فكيف ينسجم مع العلم بوجود الحرام.

إن قلت: لو كان المحتمل مهماً فلا يسوغ عند العقلاء اقتحامه حتى لو

ص: 267

كان الاحتمال ضعيفاً.

قلت: مع حصول الاطمئنان لا فرق عند العقلاء بين المحتمل المهم وغيره، هذا فضلاً عن القطع بعدم العقاب هنا لوجود المؤمِّن، وهو الاطمئنان العقلائي الممضى من قبل الشرع.

الدليل الثاني: سيرة المتشرعة في عدم الاجتناب عن أطراف غير المحصور.

وفيه: أن سيرتهم إن لم ترجع إلى بناء العقلاء، فهي دليل لبيّ ولا يُعلم وجهها، فهل عدم اجتنابهم لكون الأطراف غير محصورة، أم لعدم الابتلاء ببعض الأطراف عادة، أو لكون الاجتناب فيه العسر والحرج، أو للاضطرار إلى بعض الأطراف، أو لغير ذلك؟

الدليل الثالث: تلازم غير المحصورة مع العناوين الثانوية الرافعة للتكليف عادة.

وأشكل عليه: أولاً: بأن المرفوع بها ما كانت تنشأ من حكم الشارع كما لو أمر بالصوم وكان فيه ضرراً، وأما لو نشأت من الجهل بالواقع وحكم العقل بالاحتياط فلا ترفع، فاجتناب الإناء النجس الواحد لا عسر فيه مثلاً وأما اجتناب ألف إناء ففيه العسر لكنه نشأ من جهل المكلف بالإناء النجس وحكم العقل بالاحتياط!

وفيه: أن حكم العقل بوجوب الاحتياط إنما هو للحفاظ على حكم الشارع، فيكون سبب الحرج مثلاً هو عدم رفع الشارع يده عن حكمه، ولو رفع لارتفع، فلا فرق بين الحالتين.

ص: 268

وثانياً: بأن الدليل أخص من المدعى؛ إذ العناوين الثانوية - إن لم تكن في ملاكات الأحكام - فهي شخصية وتقدّر بقدرها، وعليه فلو لم تنطبق العناوين الثانوية في مورد من موارد الشبهة غير المحصورة فهل يلتزم بعدم جريان البراءة فيه؟!

الدليل الرابع: النصوص، وهي على طوائف:

الطائفة الأولى: ما ورد في الجبن.

فمنها: ما عن عبد الله بن سليمان قال: سألت أبا جعفر (علیه السلام) عن الجبن؟ فقال: «سألتني عن طعام يعجبني - إلى أن قال - سأخبرك عن الجبن وغيره، كل ما فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه»(1).

وقد مرّ أن معنى الرواية وجود الحرام والحلال فعلاً لا مجرد الاحتمال، فلا تنطبق الرواية على الشبهة البدوية، وقد خرجت المحصورة بالدليل، فتبقى غير المحصورة.

ولا يخفى أنه مع العلم لا تنفع الأمارة فلا يقال: بأن الرواية في سوق المسلمين وهو أمارة! كما أن التعليل بالاختلاط ينفي كون سبب الحلية السوق.

ومنها: ما عن أبي الجارود قال: سألت أبا جعفر (علیه السلام) عن الجبن، فقلت له: أخبرني من رأى أنه تجعل فيه الميتة؟ فقال (علیه السلام) : «أمِن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرّم في جميع الأرضين؟ إذا علمت أنه ميتة فلا تأكله، وإن لم تعلم فاشتر وبع وكُل، والله إني لأعرض السوق فأشتري بها اللحم

ص: 269


1- الكافي 6: 339؛ وسائل الشيعة 25: 118.

والسمن والجبن، والله ما أظن كلّهم يسمّون هذه البربر وهذه السودان!»(1).

وجه الاستدلال: هو جواز الأكل مع العلم بوجود الميتة في السوق.

لا يقال: إن الرواية مجملة، لاحتمال أن يكون المقصود الشبهة غير المحصورة، أو أن يكون في الشبهة البدوية بأن علمنا بحرمة نوع من الجبن فاحتملنا حرمة نوع آخر منه، أو لعلّ الحلية بخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء!

فإنه يقال: جوابه (علیه السلام) مطلق يشمل كل ذلك، وخصوصية السؤال لا تخصص عموم الجواب.

إن قلت: لا بد من حملها على التقية لدلالتها على حرمة الإنفحة لكونها من الميتة!

قلت: لو فرض التقية في الصغرى فلا يسرى ذلك إلى الكبرى؛ لأن التقية ضرورة تقدر بقدرها ولا ضرورة في التقية في الكبرى الذي ذكرها (علیه السلام) .

الطائفة الثانية: ما ورد في شراء الطعام من الظالم.

فمنها: ما عن أبي عبيده سأل الإمام الباقر (علیه السلام) : عن الرجل منا يشتري من السلطان إبل الصدقة وغنم الصدقة، وهو يعلم أنهم يأخذون منهم أكثر من الحق الذي يجب عليهم؟ فقال: «ما الإبل إلاّ مثل الحنطة والشعير وغير ذلك لا بأس به حتى تعرف الحرام بعينه»(2).

ص: 270


1- المحاسن 2: 495؛ وسائل الشيعة 25: 119.
2- الكافي 5: 228؛ وسائل الشيعة 17: 219.

إن قلت: إن الشبهة في أموالهم من الشبهة المحصورة لأنها من شبهة الكثير في الكثير، فلعلّ الترخيص لخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء عادة، فلا محذور من جريان الأدلة أو الأصول في ما يعطيه، أو لعلّه من باب إجازة الإمام لهذه الأموال لأنها ترتبط به (علیه السلام) وهو المالك الحقيقي وقد أذن، أو الإذن في هذا المورد الخاص لصعوبة اجتناب الناس عن الأموال التي بيد الحكام الظلمة!!

قلت: إنما أخذنا بإطلاق كلامه (علیه السلام) ، ولا يضر به خصوصية المورد، كما أن ظاهر الكلام كونه بيان للحكم الشرعي لا أنه إذن صاحب الحق، مع أن الإذن في أموال الناس باعتبار كونه المالك الحقيقي أو لصعوبة الاجتناب خلاف الظاهر، فتأمل.

الطائفة الثالثة: ما دلّ على حلية كل شيء مع عدم العلم بحرمته بعينه.

فمنها: ما عن الإمام الصادق (علیه السلام) : «كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً حتى تعرف الحرام منه بعينه»(1).

خرجت المحصورة بالدليل وبقيت غير المحصورة، ولا يخفى أن معنى ذلك اكتفاء الشارع بالموافقة الاحتمالية لمصلحة أهم كالتسهيل ونحوه، وليس ذلك من الترخيص في اقتحام المعصية، بل من جعل المأتي به بدلاً عن الواقع، وقد مرّ تفصيل كيفية الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري.

المطلب الثالث: في عدم جواز المخالفة القطعية

وذلك بأن يرتكب كل الأطراف دفعة أو تدريجاً، ولا يخفى أن الجواز

ص: 271


1- الكافي 5: 313؛ وسائل الشيعة 17: 88.

أو عدمه يرتبط بالمبنى في جواز الاقتحام في الشبهة غير المحصورة...

1- فعلى مبنى الجواز للروايات، فإنها منصرفة عن الارتكاب لجميع الأطراف، فيجري دليل المنع من غير مؤمِّن، إلاّ أن يقال: بأن مثل قوله (علیه السلام) : «حتى تعرف الحرام بعينه» ظاهر في الترخيص حيث لا يعلم بالارتكاب بعينه. نعم، بعد الارتكاب يحصل له العلم بالمخالفة، ولا محذور في تحصيل العلم بها وإنما المحذور فيها.

2- وأما على مبنى موهومية الاحتمال بحيث لا يعتني به العقلاء، فيقال: بعدم الجواز؛ لأن جواز الارتكاب مقيد عندهم بكونه موهوماً، وعليه فلا يجوز ارتكاب الجميع أو الأكثر بحيث يخرج عن الموهوميّة، وبعبارة أخرى: إنه لا يكون التكليف موهوماً في المجموع لو ارتكب الكل أو الأكثر وإن كان في الآحاد موهوماً والمناط عندهم هو الأول لا الثاني.

3- وأما على مبنى انطباق العناوين الثانوية، فيقال: بالجواز؛ إذ لا عسر ونحوه في عدم ارتكاب المجموع، وإنما العسر ونحوه في ترك البعض، ومع جواز الاقتحام في البعض يجوز على هذا المبنى ارتكاب البعض الآخر كما مرّ في بحث الاضطرار إلى بعض الأطراف حيث جوّز صاحب الكفاية ارتكاب سائر الأطراف أيضاً في جميع الحالات.

4- وأمّا على مبنى المحقق النائيني من عدم حرمة المخالفة القطعية لعدم القدرة عليها فلا معنى للتساؤل عن ارتكاب جميع الأطراف؛ لأن المفروض عدم القدرة على ذلك، إلاّ أن يقال: بأن مقصوده عدم القدرة العادية وهي لا تنافي القدرة العقلية، فتأمل.

ص: 272

المطلب الرابع: شبهة الكثير في الكثير

وذلك بأن تكون نسبة المعلوم بالإجمال إلى جميع الأطراف كنسبته في الشبهة المحصورة مثل حرمة خمسمائة من الغنم لكونها مغصوبة في قطيع فيه ألف، فالنسبة هي النصف.

وهنا يختلف جواز الاقتحام باختلاف المباني السالفة.

فعلى مبنى الموهومية فالتكليف منجّز لعدم كونه موهوماً، بل الاحتمال قوي ويعتني به العقلاء.

وعلى مبنى العسر ونحوه يجوز ارتكاب كل الأطراف بشرط عدم ارتفاع العسر ونحوه بارتكاب بعض الأطراف بأقل من المعلوم إجمالاً، ففي المثال لو ارتفع العسر ونحوه بالأكل من مائة شاة تنجز العلم في الباقي لوجود علم إجمالي في الباقي من غير طرو العناوين الثانوية عليه.

وعلى مبنى عدم القدرة على المخالفة القطعية فيجوز الاقتحام لجريان الأصول في الأطراف التي يريد اقتحامها.

وعلى مبنى الروايات: فالظاهر انصرافها عن هذا.

المطلب الخامس: عدم سقوط حكم الشك عن أطراف غير المحصورة

إنه لا تلازم بين سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز وبين سقوط حكم الشك، كما لو اشتبه إناء مضاف في آنية مطلقة غير محصورة كواحد في الألف، فهل يكتفى بالوضوء بأحدها، أم أنه يجري حكم الشبهة البدوية الذي هو عدم الحكم بالإطلاق ولا بالإضافة مع عدم العلم بالحالة السابقة مثلاً، وعليه فلا يصح الاكتفاء بالوضوء بأحدها؛ إذ لا بد من البراءة اليقينية بعد الاشتغال اليقيني بالوضوء وبالصلاة متوضئاً مثلاً.

ص: 273

وهنا أيضاً يختلف الحكم حسب اختلاف المباني، فعلى مبنى الموهوميّة لا يجري حكم الشك لأن احتمال عدم الإطلاق لا يعتني به العقلاء فتكون البراءة يقينية لأن للاطمينان حكمه، وأما على مبنى المحقق النائيني فالقاعدة هي عدم جواز الاكتفاء بأحدها؛ إذ الشك موجود وجداناً وحكمه الاشتغال برهاناً، إلاّ أنه لم يلتزم بهذا اللازم(1).

وأما على العسر ونحوه فحيث إن العناوين الثانوية ترفع التكليف ولا تثبت شيئاً من الإطلاق ونحوه فلا بد من تكرار الوضوء بمقدار يزيد عن المعلوم بالإجمال إن لم يكن في التكرار عسر ونحوه، وإلاّ لزمه الاحتياط بالوضوء بمقدار منها والتيمم.

وأما على مبنى دلالة الروايات على جواز الاقتحام فالظاهر عدم دلالتها على حكم الشك! فتجري قاعدة (الاشتغال اليقيني...).

تنبيهات العلم الإجمالي بين المتباينين
التنبيه الأول: حكم ملاقي بعض الأطراف
اشارة

والكلام إنما هو في ما لو لاقى أحدهما؛ إذ لو لاقى كليهما تحقق علم تفصيلي في الملاقي، كما أن الكلام هو في ما لم يحمل الملاقي أجزاء الملاقى؛ لأن الأجزاء هي نفس الملاقى ولها حكمه، فلو لاقت يده أحد المشتبهين وحملت رطوبة وجب اجتنابها لأن الرطوبة هي نفس أحد الطرفين. نعم، يجري البحث بعد جفاف اليد.

ثم إن البحث في خمس صور وهي: تأخر الملاقاة والعلم بها عن العلم

ص: 274


1- فوائد الأصول 4: 122.

الإجمالي، وتقدمهما عليه، وتوسطه بينهما بأن تحدث الملاقاة ثم العلم الإجمالي ثم العلم بالملاقاة، وخروج الملاقي عن محل الابتلاء قبل العلم الإجمالي، وحدوث علم إجمالي ثاني بما سيأتي بيانه.

الصورة الأولى: تأخر الملاقاة والعلم بها عن العلم الإجمالي

وفيها قولان:

القول الأول: عدم لزوم الاجتناب عن الملاقي؛ وذلك لجريان الأصول فيه من غير معارض؛ إذ موضوع الاجتناب هو الحرام أو النجس الواقعي، ففي أطراف العلم الإجمالي حيث لا تجري الأصول لتعارضها وتساقطها فلا مؤمِّن حين الارتكاب، وأما الملاقي فلا يعلم تحقق موضوع الحرام أو الجنس الواقعي فيه، بل الموضوع هو المشتبه فلا محذور من جريان الأصل الموضوعي أو الحكمي فيه لعدم المعارض، وبعبارة أخرى: الموضوع في الملاقي مشكوك فلا يثبت المحمول.

القول الثاني: وجوب الاجتناب عن الملاقي، واستدل له بأمور، منها:

الدليل الأول: إنه ليست نجاسة الملاقي بالعلية، بل بالسراية، بمعنى أن موضوع النجاسة توسّع ليشمل الملاقي لا أن الملاقاة كانت علة لنجاسة الملاقي، وعليه فنجاسة الملاقي هي نفس نجاسة الملاقى فتكون الأصول كلها - في الملاقي والملاقى وطرف الملاقى - في عرض واحد وتتساقط بالمعارضة!

وفيه: أن مراجعة الروايات يدل على العلية ولذا لا تجري بعض آثار الملاقى في الملاقي كما لو ولغ الكلب في إناء ثم لاقاه شيء فيجب التعفير في الملاقى ولا يجب في الملاقي، ولو كانت النجاسة نفسها لا بالعلية

ص: 275

لاتّحدت الآثار.

الدليل الثاني: وقوع الملاقي طرفاً لعلم إجمالي ثانٍ، ففي المثال: إما نجاسة الملاقي وإما نجاسة طرف الملاقى؛ وذلك لوجود الملازمة بين نجاسة الملاقى والملاقي!

وأجيب بأجوبة، منها:

الجواب الأول: ما ذكر الشيخ الأعظم(1)

وحاصله: إن أصالة الطهارة في الملاقى هي أصل سببي فتتعارض مع أصالة الطهارة في طرف الملاقى فيتساقطان، وبعد ذلك تجري أصالة الطهارة في الملاقي من غير معارضة.

وأشكل عليه بأمور، منها:

الإشكال الأول: إن أصالة الحل في طرف الملاقى أصل مسببي وهي في طول أصالة طهارته كما أنّها في عرض أصالة طهارة الملاقي، وعليه فيتعارض أصلا الطهارة في الملاقى وطرفه، فتصل النوبة إلى أصالة طهارة الملاقي وأصالة حلية طرف الملاقى فيتعارضان ويتساقطان، وهذا ما عرف بالشبهة الحيدرية.

إن قلت: إن لازم هذا هو جريان أصل حلية الملاقي لأنه في طول أصل طهارته، وذلك ينتج نتيجة غريبة وهي حلية الملاقي وعدم الحكم بطهارته!

قلت: كلا، يحكم بطهارته لا من باب أصل الطهارة - الساقط بالمعارضة في المرحلة السابقة - وإنما بدليل آخر هو القطع بالملازمة بين الحلية

ص: 276


1- فرائد الأصول 2: 242.

والطهارة، فتأمل.

الإشكال الثاني: إن المخاطب بالأدلة الشرعية هم العرف، وهم لا يفرّقون بين هذه الأصول الثلاثة، فيرونها في رتبة واحدة؛ إذ الأحكام الشرعية قضايا حقيقية، وتلاحظ مواضيعها عبر جامع هو مرآة لها في عرض واحد، والتأخر الزماني أو الرتبي لبعضها لا يخرجها عن المعارضة العرفية.

إن قلت: لا إشكال في تقدم الأصل السببي على المسببي وهو من المسلمات الأصولية، كما لو أدخل يده النجسة في مشكوك الكرية بعد أن كان كراً، فلا تعارض بين استصحاب نجاسة اليد واستصحاب كرية الماء قطعاً، نظراً إلى أن الثاني أصل سببي فيجري دون الأول الذي هو أصل مسببّي.

قلت(1): أولاً: إن تقديم الأصل السببي إنما هو لنكتة أنه منقِّح موضوع الدليل الاجتهادي، فيكون الدليل الاجتهادي - لا ذات الشك السببي - حاكماً على الشك المسبّبي أو وارداً عليه، ففي المثال: استصحاب الكرية ينقِّح موضوع الدليل الاجتهادي الدال على أن الكر يطّهر ما غُسل فيه، وبذلك يرتفع التعارض بين الشك السببي والشك المسبّبي.

وهذه النكتة مفقودة في ما نحن فيه - حتى وإن تحققت السببيّة والمسبّبية - لأن الشك في نجاسة الملاقى لا يحقق دليلاً اجتهادياً ليكون حاكماً على الدليل المسبّبي.

وثانياً: إنه لا بد من نظر الدليل الحاكم على الدليل المحكوم وإلاّ لا

ص: 277


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 11: 31.

تكون حكومة، وهذا إنما يمكن في دليلين، وأما في الدليل الواحد فلا كما هو واضح، وهذا على مبنى اشتراط النظر في الحكومة.

الإشكال الثالث: إن أصالة الطهارة في الملاقي وفي طرف الملاقى إنما هما في عرض واحد، فيتعارضان؛ إذ قاعدة المتأخر عن أحد المتساويين متأخر عن الآخر إنما هي في التأخر الزماني لا الرتبي، وحيث لا يجرى ملاك التأخر بين الملاقي وطرف الملاقى لانتفاء العلية بينهما فلا وجه للقول بالتأخر، ولذا فالمعلول متأخر عن العلة رتبة وليس متأخراً عن عدم العلة، فتأمل.

الجواب الثاني: ما ذكر المحقق الإصفهاني توضيحاً لكلام المحقق الخراساني، قال: «عدم كون الملاقي في هذه الصورة طرفاً للعلم المنجّز - لا عدم كونه طرفاً فقط - ؛ وذلك لأن العلم الإجمالي بعد تعلّقه بالنجس المعلوم بين الإنائين أوجب تنجّز التكليف المعلوم، وبعد حدوث الملاقاة - وصيرورة أطراف العلم ثلاثة وجداناً - لا يعقل تأثير العلم الثاني؛ إذ المنجَّز لا ينجّز، فهذا العلم الثاني لم يتعلّق بتكليف لم يتنجّز حتى يعقل تنجّزه بالعلم الحادث ثانياً، لاحتمال أن يكون التكليف في طرف الملاقى - بالفتح - ، وبعد تنجّزه لا علم بتكليف آخر لم يتنجّز حتى يتنجّز بالعلم الثاني، بل مجرد احتمال التكليف في الملاقي - بالكسر - تبعاً للملاقى - بالفتح - »(1)

انتهى.

أما الكبرى وهي (المنجَّز لا ينجّز) فواضحة؛ لأن تنجّز المنجَّز تحصيل للحاصل، وأما الصغرى فلأنه قد تنجَّز بالعلم الإجمالي الأول وجوب

ص: 278


1- نهاية الدراية 4: 282.

الاجتناب عن طرف الملاقى، فلا يتنجز مرّة أخرى بالعلم الإجمالي الثاني، وأما في الملاقي فوجوب الاجتناب محتمل فيكون مجرى أصالة البراءة، وبعبارة أخرى: لا علم بتكليف جديد في العلم الإجمالي الثاني فلا تنجّز له.

وأشكل عليه(1): بأنّ العلم الإجمالي في مرحلة البقاء لا يكون منجزاً إلاّ بلحاظ بقائه، لا بلحاظ حدوثه، ولذا قد ينحل العلم الإجمالي حكماً أو حقيقة بزوال العلم الإجمالي، وفي مرحلة البقاء تتوارد علتان على التنجيز هما: العلم الإجمالي الأول والعلم الإجمالي الثاني.

وعليه فوجوب اجتناب طرف الملاقى في مرحلة الحدوث إنما هو لأجل العلم الإجمالي الأول، ولكن في مرحلة البقاء وجوب الاجتناب مرتبط بكلا العلمين الإجماليين، فتأمّل.

الدليل الثالث: إن الاجتناب عن النجس يتوقف على الاجتناب عن ملاقيه، فلو لم يجتنب عن الملاقي لم يجتنب عن النجس، وبعبارة أخرى: الاجتناب عن الملاقي هو من شؤون الاجتناب عن النجس، وهذا هو المتفاهم العقلائي من الأمر بالاجتناب عن القذر!

وأشكل عليه بأمور، منها:

الإشكال الأول: إن المتأخر لا يكون من شؤون المتقدّم والأمر باجتناب الملاقي متأخر عن الأمر باجتناب الملاقى؛ وذلك لأنه متوقف على تحقق الملاقاة.

وبعبارة أخرى: لا فعلية للحكم إلاّ بعد فعلية موضوعه، وقبل الملاقاة لا

ص: 279


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 11: 38-39.

فعلية لوجوب الاجتناب عن الملاقي!

وفيه: إن الجعل في الملاقي والملاقى متقارن، وإنما المتأخر هو المجعول؛ لأن القضية حقيقية، فالجعل متحقق حتى مع عدم تحقق موضوعه في الخارج، فتأمل.

الإشكال الثاني: إنه يجب الاجتناب عن الملاقي حتى مع فقد النجس، فلو كان من شؤونه لم يجب الاجتناب عنه عند فقده.

وأجيب: أولاً(1):

بأن الملاقي بما هو نجس بالتبع له حكم، وبما هو من شؤون النجس له حكم، كما لو قال المولى: (أكرم العالم) وكان إكرام ولده من شؤون إكرامه مع كون الولد عالم أيضاً.

وفيه(2): إنه لو ثبت أن شؤون وتوابع الاجتناب عن النجس هو الاجتناب عن ملاقيه، لكان الأمر المتعلّق بالاجتناب عن الملاقي بعنوانه الخاص محمولاً عرفاً على الإرشاد إلى جهة التبعيّة، وإن كان ظاهراً في حدّ نفسه في الاستقلال، كما لو قال: (أكرم خادم العالم).

وثانياً(3): يمكن الاجتناب عن النجس ببعض مراتبه حتى مع فقده، فإكرام ولد العالم حتى مع موته هو إكرام للعالم ببعض مراتب الإكرام، فتأمل.

الإشكال الثالث(4): إن الاجتناب عن الملاقي دون الملاقى هو في

ص: 280


1- نهاية الدراية 4: 281.
2- منتقى الأصول 5: 152.
3- منتقى الأصول 5: 152.
4- نهاية الدراية 4: 281.

الحقيقة اجتناب عن فرد من أفراد النجس مع عدم الاجتناب عن فرد آخر، لا أنه لم يجتنب أصلاً، ولو كان الاجتناب عن الملاقي من شؤون الاجتناب عن الملاقى كان المفروض عدم تحقق الاجتناب أصلاً، وكان هناك امتثال واحد وعصيان واحد، لكنه ليس كذلك فيكشف عن كونهما أمرين مستقلين.

وفيه: أن للاجتناب مراتب فقد يتحقق الامتثال في مرتبة دون أخرى، كما لو أكرم العالم دون ابنه وخادمه - في المثال - والانحلال المراتبي لا يدل على تعدد الأمر عكس الانحلال الأفرادي.

الإشكال الرابع: إن الدليل هو في كون اجتناب الملاقي هو من شؤون اجتناب النجس، وهذا لا يرتبط بمحل البحث الذي هو الملازمة بين اجتناب المشتبه واجتناب ملاقيه.

وفيه: إنه لا فرق عرفاً بين الأمر بالهجر بملاك القذارة أو بملاك احتمال القذارة، فتأمل.

الإشكال الخامس(1): إن لازم ذلك هو لزوم الاجتناب عن مشكوك الملاقاة، لاشتغال الذمة بحكم النجس نفسه، والتالي باطل فالمقدم مثله.

وفيه: إن أصالة عدم الملاقاة حاكمة، كما في الشك في الشرطية والجزئية، بل قد يقال: إن ثبوت المحمول فرع ثبوت الموضوع، والشك في ثبوت الموضوع كاف لعدم ثبوت الموضوع.

الدليل الرابع: إن الشارع كما أمر باجتناب النجس كذلك أمر باجتناب

ص: 281


1- منتقى الأصول 5: 154.

ملاقيه، فالعلم الإجمالي بوجود نجس بين الإنائين تمام الموضوع للحكم بوجوب الاجتناب عن النجس في البين وعن ملاقيه.

وفيه: أن الحكم باجتناب النجس حكم تنجيزي اشتغلت الذمة به، وأما الحكم باجتناب ملاقيه فهو حكم تعليقي، فلا اشتغال لذمة المكلف بهذا الحكم قبل الملاقاة لعدم تحقق الموضوع، ولا بعدها للشك في تحقق الموضوع فيكون مجرى البراءة.

هذا تمام الكلام في الصورة الأولى.

الصورة الثانية: تقدم الملاقاة والعلم بها على العلم الإجمالي

وهو على قسمين:

القسم الأول: اتحاد زمان حكم الملاقي والملاقى - في ما لو كان للملاقى حكم - فالحكم المعلوم بالإجمال متقارن زماناً مع الملاقاة، كما لو كان ثوب في الإناء الأول حين سقوط قطرة الدم في أحد الإنائين، وفيه قولان:

القول الأول: عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي، لما مرّ في الصورة الأولى من أن الشك في نجاسة الثوب مسبب عن الشك في نجاسة الإناء، إلى آخر ما ذكر هناك.

إن قلت: كيف يمكن التفكيك بين حكم الملاقي والملاقى مع العلم باتحاد حكمهما؟

قلت: لا مانع من التفكيك في الظاهر بين المتلازمين الواقعيين، كما لو غسل يده النجسة في الماء المشكوك الكرية مع عدم حالة سابقة له،

ص: 282

فيستصحب نجاسة اليد و طهارة الماء، مع أنه في الواقع إما هما طاهران أو نجسان.

القول الثاني: لزوم الاجتناب عن الملاقى أيضاً، قال في الكفاية: «ضرورة أنه حينئذٍ نعلم إجمالاً: إما بنجاسة الملاقي والملاقى أو بنجاسة الآخر، فيتنجز التكليف بالاجتناب عن النجس في البين، وهو الواحد أو الاثنين»(1).

ولا يخفى أن مرجع القولين إلى المبنى في الصورة الأولى، فعلى القول بالسببيّة والمسببيّة لا بد من الذهاب إلى القول الأول، وعلى مبنى عدم تنجز العلم الإجمالي الثاني مع تنجز العلم الإجمالي الأول لا بد من الذهاب إلى القول الثاني؛ إذ لا يوجد هنا علمان إجماليان، بل علم إجمالي بتكليف واحد في أطراف ثلاثة، فتأمل.

القسم الثاني: عدم اتحاد زمان حكم الملاقي والملاقى، كما لو لاقت يده الإناء الأول ثم علم بعد ذلك بأنه قد كانت سقطت قطرة دم في أحد الإنائين قبل الملاقاة.

وحيث إن التنجز أثر العلم لا أثر المعلوم فقد تولد العلم الإجمالي مع كون أطرافه ثلاثة في عرض واحد فتتعارض الأصول الترخيصية وتتساقط فيها.

بيانه: إن الآثار الشرعية تترتب على المعلوم، ويكون العلم طريقياً فيها عادة، وأما الآثار العقلية فهي تترتب على العلم، وحيث إن التنجّز أثر عقلي

ص: 283


1- إيضاح كفاية الأصول 4: 245.

فيترتب على العلم، وهو متأخر رغم تقدم المعلوم، فلا أثر للملاقاة ولا للعلم بها في تنجّز وجوب الاجتناب، بل وجوب الاجتناب يتنجز من حين العلم الإجمالي بالنجاسة وهو ثلاثي الأطراف، فتأمل.

الصورة الثالثة: توسط العلم الإجمالي بين الملاقاة وبين العلم بها

كأن تحصل الملاقاة من غير علمه بها، ثم يعلم إجمالاً بنجاسة أحد الإنائين، ثم يعلم بالملاقاة السابقة.

فقد يقال: بوجوب الاجتناب عن الملاقي؛ وذلك لتبدل العلم الإجمالي الصغير إلى كبير، والمناط في التنجز هو المنقلب إليه لا المنقلب عنه؛ إذ لا يعقل بقاء أثر الأول بالتنجز مع زواله، وأما الثاني فهو علة للتنجز فيتحقق المعلول، نظير ما لو قطع بسقوط قطرة دم في الإناء الأول أو الثاني فيتنجز عليه وجوب الاجتناب عنهما ثم علم بخطئه وأنها سقطت إما في الأول أو الثالث فقد زال العلم الإجمالي الأول فيزول أثره وهو تنجز وجوب الاجتناب عن الإناء الأول والثاني، وحيث تولد علم إجمالي جديد بين الأول والثالث تنجّز وجوب الاجتناب عنهما.

وفي ما نحن فيه علم إجمالاً بنجاسة الإناء الأول أو الثاني، ثم حين العلم بالملاقاة تبدل علمه إلى علم إجمالي ذي أطراف ثلاثة.

وفيه: أن ما نحن فيه ليس من الانقلاب في شيء، بل هنا انضمام علم جديد إلى العلم الإجمالي الأول، فعلمه بسقوط قطرة دم في أحد الإنائين لم يتغيّر وإنما زاد علماً جديداً وهو علمه بالملاقاة، وحيث إن أحد طرفي العلم الإجمالي الثاني كان منجّزاً فلا يتنجّز من جديد بالعلم الإجمالي الثاني، وعليه فلا مانع من جريان أصالة الطهارة في الملاقي بعين ما مرّ في

ص: 284

الصورة الأولى وحسب بعض المباني المذكورة فيها.

الصورة الرابعة: خروج الملاقى عن محل الابتلاء قبل العلم الإجمالي

وهذا قسمان: لأنه إمّا يرجع الملاقى إلى محل الابتلاء بعد ذلك كما لو كان مغصوباً مأيوساً منه ثم ردّه، وإما لا يرجع إليه كما لو كان تالفاً.

ذهب المحقق الخراساني(1):

إلى وجوب الاجتناب عن الملاقي دون الملاقى حتى لو رجع إلى محلّ الابتلاء؛ وذلك لأنه حين العلم الإجمالي كان الملاقى خارجاً عن محل الابتلاء فلا تكليف بالنسبة إليه، وإنما يعلم إجمالاً بوجود تكليف بين الملاقي وبين طرف الملاقى فيتنجّز هذا التكليف، فلو رجع الملاقى إلى محل الابتلاء جرى فيه أصالة الطهارة من غير معارض لسقوط أصالة الطهارة في طرفه بمعارضته مع أصالة الطهارة في الملاقي، والأصل الميت لا يُحيى!

وأشكل عليه المحقق العراقي(2):

بأن مبنى هذا الكلام هو عدم جريان الأصل العملي في الملاقى لخروجه عن محل الابتلاء، وهو محل إشكال؛ لأن عدم جريان الأصل إنما هو للّغوية، ولا لغوية في جريان الأصل في الملاقى الخارج عن محل الابتلاء؛ وذلك لوجود أثر عملي لجريانه فلا لغوية، وأثره هنا هو طهارة ملاقيه، وعليه فيجرى الأصل في الملاقى ويتعارض مع الأصل في طرفه فيتساقطان فتصل النوبة إلى الأصل المسبّبي في الملاقي فيجري من غير معارض، فحال هذه الصورة كحال الصورة

ص: 285


1- إيضاح كفاية الأصول 4: 242.
2- نهاية الأفكار 3: 320.

الأولى.

وهذا نظير ما لو غسل ثوبه بماء وقد تلف ذلك الماء ثم علم بنجاسة ذلك الماء من قبل وشك في طهارته قبل الغسل، فهنا لا إشكال في جريان استصحاب نجاسة الماء مع كونه خارج محل الابتلاء باعتبار أثره الشرعي وهو نجاسة الثوب الذي غُسل به.

إن قلت: فعلية المحمول متفرعة على فعلية الموضوع لأنه كالعَرَض له، وفي ما نحن فيه لا يمكن إجراء الأصل في الملاقى لا بلحاظ زمان الملاقاة؛ وذلك لعدم الشك الفعلي، ولا بلحاظ حال العلم وذلك لخروجه عن محل الابتلاء، وبعبارة أخرى: يدور الأمر بين أصل لا يعقل جريانه لعدم تحقق موضوعه وبين أصل لا يعقل جريانه لعدم الأثر له!

قلت(1): لا محذور في انفكاك زمان الحكم عن زمان متعلقه نظير الواجب المعلّق، إلاّ أنه هناك الوجوب فعلي والواجب استقبالي، وهنا الحكم فعلي ومتعلقه ماضوي، والحاصل: أنه حين العلم الإجمالي يتولد حكم شرعي بالطهارة، لكن متعلقها هو ظرف الملاقاة، وأثره طهارة الملاقي!

الصورة الخامسة: حدوث علم إجمالي ثاني

لو علم بالحكم إجمالاً بين الملاقي بما هو هو وبين طرف الملاقى، ثم حصل علم إجمالي ثان بين الملاقى وطرفه، مع العلم بالملاقاة واستناد حكم الملاقي إلى الملاقاة، كما لو علم إما بنجاسة اليد أو الإناء الثاني، ثم

ص: 286


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 11: 66.

علم إجمالاً بنجاسة أحد الإنائين وحصول الملاقاة بين اليد والإناء الأول، وأن اليد لو كانت نجسة فإنما بنجاستها لملاقاتها للإناء الأول.

فقد يقال: بلزوم الاجتناب عن الملاقي والطرف دون الملاقى حيث لا يجب اجتنابه! وذلك لأن العلم الإجمالي الأول نجّز وجوب الاجتناب عن الإناء الثاني، فلا يتنجز فيه وجوب جديد بسبب العلم الإجمالي الثاني؛ لأن المنجز لا ينجّز، فتجري أصالة الطهارة في الإناء الأول لعدم العلم بتكليف جديد وعدم المعارض لأصالة الطهارة فيه.

إن قلت(1): إن رتبة وجوب الاجتناب عن الملاقى والطرف سابقة على وجوب الاجتناب عن الملاقي، وإن تقدّم زمان العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي أو الطرف على العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى أو الطرف؛ لأن التكليف في الملاقي إنما جاء من قبل التكليف بالملاقى فلا أثر لتقدم زمان العلم وتأخره بعد ما كان المعلوم في أحد العلمين سابقاً رتبةً وزماناً على المعلوم الآخر.

قلت: قد مرّ أن التنجز أثر العلم لا المعلوم، وعليه حيث حدث العلم الإجمالي الأول متقدماً ترتب عليه التنجّز فلا أثر للعلم الإجمالي الثاني رغم كون المعلوم فيه متقدماً رتبة؛ لأن المنجّز لا ينجّز.

التنبيه الثاني: العلم الإجمالي في التدريجيات

هل تنجيز العلم الإجمالي للتكليف خاص بالدفعيات أم هو عام شامل لها وللتدريجيّات؟ وذلك في ما كان التكليف على أحد الأطراف حالياً،

ص: 287


1- فوائد الأصول 4: 86.

وكان على الطرف الآخر استقبالياً، كما في المرأة الدائمة الدم طوال الشهر حيث تعلم بأن حيضها عشرة أيام من الشهر مثلاً وهي مكلّفة بعدم دخول المساجد فيه.

فقد يقال: بعدم تنجيزه مطلقاً حيث يجري الأصل المؤمِّن في كل طرف، وقد يقال: بتنجيزه مطلقاً بعدم جريان الأصل المؤمِّن، وقد يفصّل بين فعلية الملاك فيجب الاحتياط وبين عدم فعليته فيجوز الاقتحام في كل الأطراف.

وقد استدل على التنجيز ولزوم الاحتياط بأدلة، منها:

الدليل الأول: عدم تفريق العقلاء بين العلم الإجمالي المتعلّق بالأطراف الموجودة وبين العلم الإجمالي المتعلق بالتدريجيات، مع رؤيتهم تعارض الأصول الترخيصيّة أو انصرافها عنها، وحيث إن طرق الطاعة والمعصية عقلائية فلا بد من الاحتياط حينئذٍ.

الدليل الثاني: استقلال العقل بقبح تفويت الملاك المزم للمولى في ظرفه بتعجيز النفس قبل مجيء وقته.

وأشكل عليه: بأنه لا علم بالملاك الملزم حين ارتكاب الطرف الحالي، ولمّا يحين الطرف الاستقبالي لا علم أيضاً بوجود ملاك ملزم أيضاً، ثم بعد ارتكابهما يعلم بتفويت ملاك ملزم ولا دليل على قبح العلم به!

وفيه: بأنه قبل الارتكاب يعلم بأنه لو ارتكبهما لفوّت ملاكاً ملزماً للمولى، وهذا المقدار كاف باستقلال العقل بلزوم حفظ الملاك، فتأمل.

الدليل الثالث: فعلية التكليف الموجود بين الطرفين أو الأطراف حتى الطرف غير الموجود حالياً، وفعليته تساوق تنجّزه.

ص: 288

قال المحقق الإصفهاني: «1- إن مقتضى علمه الإجمالي بالتكليف - إما في الحال أو في الاستقبال مع بقائه على شرائط الفعلية والتنجّز في ظرفه - هو وصول كل من التكليفين المحتملين وصولاً إجمالياً، 2- وهو كافٍ في فعلية الواصل في موطنه، 3- فيعلم إجمالاً أن مخالفة هذا التكليف الحالي في الحال أو مخالفة ذلك التكليف الاستقبالي في الاستقبال موجبة لاستحقاق العقاب، إما على هذه المخالفة في الحال أو على تلك المخالفة في الاستقبال، فكل من المخالفتين في موطنها مما يحتمل ترتب العقاب عليها، وهو الحامل على دفع العقاب المحتمل بترك المخالفة في موطنها، ولا يتوقف فعلية التكليف في موطنه على أزيد من الوصول، كما لا يتوقف استحقاق العقاب على أزيد من مخالفة التكليف في موطن المخالفة وفي ظرف ترتب استحقاق العقاب، 4- كما لا يتوقف لزوم المقدمة العلمية ودفع العقاب المحتمل على أزيد من احتمال العقاب بالإضافة إلى المخالفة الواقعية للتكليف الحقيقي في ظرفه»(1).

وأشكل عليه في التبيين(2):

بأن المقدمة الثانية غير تامة؛ وذلك لأن فعلية التكليف الاستقبالي معلول للعلم بوجوده البقائي لا الحدوثي، ولذا لو زال العلم في موطن التكليف لم يكن منجزاً، فالفعلية مشروطة ببقاء العلم وصرف الحدوث ليس كافياً لتنجز التكليف في موطنه، وعليه فالتكليف الاستقبالي لا يصير منجَّزاً بالعلم الحالي، فلا يكون علمه الإجمالي منجِّزاً

ص: 289


1- نهاية الدراية 4: 253.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 11: 75.

على كل تقدير.

وفيه: أن القاطع بالتكليف الاستقبالي قاطع ببقاء علمه وهو كافٍ في فعلية التكليف الاستقبالي وترشحه على مقدماته، وقد مرّ الكلام في المقدمات المفوّتة(1)، فتأمل.

الدليل الرابع: إن التكليف في كل الأطراف في عرض واحد، وذلك بحصول علم إجمالي ثانٍ، قال المحقق العراقي «مع العلم الإجمالي بأحد الأمرين يحكم العقل بلزوم الإتيان بالطرف الفعلي، مع حفظ القدرة على الطرف الآخر في موطنه»(2).

وهذا على مبنى لزوم المقدمات المفوتّة.

أي إن هنا علم إجمالي ثانٍ إما بالإتيان بهذا الحاليّ، أو حفظ القدرة للاستقبالي، وهذان تكليفان حاليّان يعلم بانشغال ذمته بأحدهما، فيتنجز التكليف.

إن قلت: إن هذا العلم الإجمالي الثاني ليس دالاً على حرمة تفويت الاستقبالي في ظرفة!

قلت: حفظ القدرة طريقي، فلو وجب دلّ على وجوب الاستقبالي، فتأمل.

التنبيه الثالث: في زيادة آثار أحد الأطراف

لو كان لأحد الطرفين أثر واحد وكان للطرف الأخر أثران أو أكثر فهل تتعارض الأصول الترخيصية في كل هذه الآثار أم لا، وهنا صور، منها:

ص: 290


1- نبراس الأصول 1: 413-417.
2- نهاية الأفكار 3: 324-325.

الصورة الأولى: عدم وجود جامع مشترك بين آثار الطرفين.

كما لو علم إجمالاً بأنه نذر إما صيام عشرة ذي الحجة أو صيام شعبان، فلا إشكال في لزوم الإتيان بالطرفين كاملاً، إذا لم يكن دليل خاص أو أصل حاكم، كما في الماليات حيث تجري قاعدة العدل والإنصاف، مثل ما لو علم بأنه مديون إما لزيد بخمسة دراهم أو لعمرو بعشرة دراهم.

الصورة الثانية: وجود أثر متشابه بين الطرفين، وأثر آخر مختص بأحدهما مع تعدد الموضوع من غير وجود أصل حاكم.

كما لو علم إجمالاً بسقوط قطرة دم إما في المطلق القليل أو في المضاف، فالأثر المتشابه هو حرمة الشرب، والأثر المختص بالماء المطلق هو عدم جواز الوضوء به إن كان هو المتنجس، أما المضاف فليس هذا أثر تنجسه وذلك لعدم صحة الوضوء به مطلقاً حتى لو كان طاهراً.

قد يقال: إن الأصول الترخيصية في الأثر المتشابه تتعارض فتتساقط فيجري الأصل الترخيصي في الأثر المختص من دون معارض، وعليه ففي المثال لا يجوز شرب الماء المطلق لكن يجوز الوضوء به!

وفيه: - ومع قطع النظر عن الإشكال في المثال حيث لا بد من إحراز طهارة الماء في الوضوء إما وجداناً أو بالتعبد، ولا إحراز هاهنا - أنّ الأصول الترخيصية كلّها في عرض واحد حتى لو كان في طرف أصلان وفي طرف آخر أصل واحد فكلّها تتعارض وتتساقط، كتعارض خبر مع خبرين أو بينة مع بينتين؛ وذلك لأن هاهنا علمان إجماليان في عرض واحد ولا سببيّة في البين، أحدهما: إما حرمة شرب المطلق أو المضاف، والآخر: إما حرمة شرب المضاف أو حرمة الوضوء بالمطلق.

ص: 291

الصورة الثالثة: الصورة السابقة نفسها مع اتحاد الموضوع.

وهذا مرجعه إلى الأقل والأكثر وخارج عن محل البحث، كما لو علم إجمالاً بأنه مديون لزيد بعشرة دنانير اقترضها أم أنه أتلف منه عشرين ديناراً، فمتعلق العلم الإجمالي سببان متباينان - الاقتراض والإتلاف - إلاّ أن التكليف يدور أمره بين الأقل والأكثر.

الصورة الرابعة: الصورة الثانية نفسها مع وجود أصل حاكم على الأصل الترخيصي فهنا لا يجري الأصل الترخيصي، بل يجري الأصل الحاكم.

وقد يمثّل له بما إذا علم إجمالاً بملاقاة الثوب للبول أو الدم، فيشك في أن تطهيره بالغسل مرّة أو مرتين، فالأصل الترخيصي - أي البراءة - عدم لزوم الغسلة الثانية، إلاّ أنه محكوم باستصحاب النجاسة بعد الغسلة الأولى، ولازمه لا بديّة الغسلة الثانية في التطهير!

وغير خفي أن أصالة البراءة هنا عن الوجوب الشرطي، كما أن الاستصحاب هاهنا هو استصحاب الكلي من القسم الثاني، فلا يرد الإشكال على المثال بعدم موضوع لأصالة البراءة لعدم وجود وجوب تكليفي ليرفع بها، ولا الإشكال بعدم تمامية أركان الاستصحاب لعدم اليقين السابق في الطرفين ولعدم الشك اللاحق في أحد الطرفين.

إن قلت: لا يجري الاستصحاب في المثال لتعارض الاستصحابين في الجعل والمجعول، فجعل النجاسة بعد الغسلة الثانية مشكوك فيستصحب عدم الجعل، ويعارضه استصحاب النجاسة فيتعارضان ويتساقطان فلا حاكم على الأصل الترخيصي!

ص: 292

قلت: إن تعارض استصحاب عدم الجعل واستصحاب المجعول إنما هو في الأحكام الكلية كوجوب الجمعة في عهد الغيبة، وأما في المصاديق فلا تعارض لعدم الجعل فيها وإنما الجعل للكلّي، ولولا ذلك لما جرى أي استصحاب أصلاً، هذا مع قطع النظر عن المناقشة في المبنى.

ولكن يرد على المثال ما في التبيين(1):

بأنه لا مجال للاستصحاب الحاكم أصلاً، وذلك بضميمة الوجدان إلى الأصل، فيتحقق موضوع الدليل العام وهو كفاية الغسلة الواحدة في النجاسات إلاّ البول.

بيانه: إنه لا تجري أصالة عدم ملاقاة الثوب للدم وكذا أصالة عدم كون الملاقي دماً؛ وذلك لعدم وجود الأثر له؛ إذ لو أريد إثبات وجوب الغسل مرتين فهو مثبت، وإن أريد إثبات وجوب الغسلة الأولى فهو مقطوع به، وأما أصالة عدم ملاقاة الثوب للبول، أو أصالة عدم بولية الملاقي فهي جارية لوجود الأثر الشرعي بعد ضمّ العلم الوجداني بكفاية الغسلة الواحدة في غير البول، وعليه فلا يبقى مجال لاستصحاب النجاسة، فتأمل.

التنبيه الرابع: في امتناع أحد الطرفين شرعاً

مرّ أن امتناع أحد الطرفين عقلاً - كخروجه عن محل الابتلاء - مانع عن تنجيز العلم الإجمالي في الجملة، فهل الامتناع الشرعي كذلك؟ كما لو كان هناك إناء مغصوب وآخر مباح فسقطت قطرة دم في أحدهما، فهل كون المغصوب ممنوعاً عن التصرف فيه شرعاً مانع عن جريان الأصل الترخيصي فيه، فيبقى الأصل في الطرف المباح سليماً عن المعارض؟

ص: 293


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 11: 88.

الأقوى التفصيل بين ما لو كان أثر الممتنع الشرعي كأثر الطرف الآخر فلا علم بتكليف جديد فتجري أصالة البراءة عنه، وبين تغاير الأثرين فيتحقق علم بتكليف جديد فلا بد من إفراغ الذمة منه.

مثال تغاير الأثرين: لو علمنا بسقوط قطرة الدم في المغصوب أو المباح فإنّا نعلم بتولد تكليف جديد إما باجتناب المباح وإما باجتناب ملاقي المغصوب، وحينئذٍ تتعارض الأصول الترخيصية وهذا في ما لو تحققت الملاقاة، وأما مع عدم تحققها فقد مرّ أن التكليف حينئذٍ تعليقي فلا علم بتكليف جديد فلا تنجيز للعلم الإجمالي.

ومثال ما لم يتغاير الأثران: لو غصب أحد الإنائين غاصب ثانٍ، فتردّد بين غصب الإناء المغصوب فتعاقبت عليه أيدي الغاصبين، وبين غصب الإناء المباح، فهنا لم يتغاير الأثران فلم يعلم بتولد تكليف جديد، فيكون مجرى البراءة حيث لا تجرى البراءة في الإناء المغصوب.

التنبيه الخامس: تفرع أحد التكليفين على الآخر

فهل الحكم الاحتياط، أم التخيير، أم ترجيح المتقدّم، أم ترجيح المتأخر؟

الظاهر أنه إن كان أثرهما طوليين أيضاً ولم يكونا في عرض واحد لزم ترجيح التكليف الأول وذلك بجريان الأصل فيه، وإن لم يكن الأثران طوليين، بل كانا في عرض واحد مع سببيّة ومسببية بين التكليفين جرى الأصل الترخيصي في السببي فقط دون المسببي، وإن كان الاحتياط يستلزم المخالفة القطعية لزم الترجيح بالأهمية أو احتمالها وإلاّ فالتخيير إن لم يكن فيه محذور، فتأمل.

مثال الأول: لو علم إجمالاً بنجاسة الماء أو التراب مع انحصار الطهور

ص: 294

فيهما، ولم يكن لطهارة التراب أثر إلاّ التيمم به، فهنا يجري أصل الطهارة في الماء من غير معارضة أصل الطهارة في التراب لعدم أثر له إلاّ التيمم، وهو متوقف على فقدان الماء الطاهر، وقد ثبت وجوده بضميمة الأصل إلى الوجدان، ولا يخفى أن هذا من مصاديق قاعدة جريان الأصل المطلق وعدم جريان الأصل المشروط بعدم جريان الأصل المطلق.

ومثال الثاني: لو علم إجمالاً بوجوب أداء الدين أو الحج، وعليه فهو إما مديون فليس بمستطيع، أو مستطيع، فهنا تجري أصالة البراءة عن الدين لأنه الأصل السببي، فيجب عليه الحج لاستطاعته.

ومثال الثالث: لو علم إجمالاً إما بنجاسة الماء أو غصبية التراب مع انحصار الطهور فيهما، فهنا الاحتياط بالجمع بين الوضوء والتيمم وإن استلزم الموافقة القطعية إلاّ أنه يستلزم المخالفة القطعية، فقد يقال: بأنه لا بد من ترجيح محتمل الأهمية أو مقطوعها وهو التكليف الذي فيه حق الناس فيترك محتمل الغصبية ويتطهر بمحتمل النجاسة، فإن لم يحتمل الأهمية رجّح الوضوء؛ إذ لا معنى للتخيير حيث إنه يستلزم التعيين وذلك لأنه واجد للماء الذي يجوز استعماله.

التنبيه السادس: في انحلال العلم الإجمالي

لو علم إجمالاً بوجود تكليف إلزامي بين أحد الطرفين ثم علم تفصيلاً بوجد تكليف إلزامي في أحدهما على التعيين، فإن انطبق المعلوم التفصيلي على المعلوم الإجمالي انحلّ العلم الإجمالي؛ وذلك لانحصار التكليف الذي علم به بنفسه في الطرف المعيّن.

ص: 295

وأما إن احتمل الانطباق فهل ينحلّ العلم الإجمالي أم لا؟

ذهب المشهور إلى الانحلال، واستدلوا لذلك بوجوه، منها:

الدليل الأول: ما في الفوائد(1)

من أنّ التكليف ثابت في الطرف المعيّن فلا يجري فيه الأصل النافي، ويجري في الطرف الآخر لعدم المعارض، كما لو كان العلم التفصيلي سابقاً والعلم الإجمالي لاحقاً فلا فرق بين الصورتين.

وفيه: أنه حين حدوث العلم الإجمالي في المتباينين يتعارض الأصلان في الطرفين ويتساقطان، ولا فرق في ذلك بين طول زمان أحدهما وقصر زمان الآخر، ولذا لو ترددت النجاسة بين إناء يبقى ليوم وإناء آخر يبقى ليومين لا يصح إجراء الأصل الترخيصي في اليوم الثاني في الإناء الباقي بعد فقد الإناء الأول.

الدليل الثاني: ما في الفوائد أيضاً قال: «العلم الإجمالي الحادث مما لا أثر له، لسبق التكليف بوجوب الاجتناب عن بعض أطرافه، ويحتمل أن يكون متعلّق الحادث هو الذي كان يجب الاجتناب عنه سابقاً، ومعه لا يعلم بحدوث تكليف فعلي آخر»(2)،

وقال: «مجرد حدوث العلم الإجمالي بالتكليف في زمان لا يكفي في التأثير في وجوب الاجتناب عن جميع الأطراف، بل يعتبر بقاؤه على صفة حدوثه، وإذا تبدل العلم وانقلب عن كونه علماً بالتكليف - لاحتمال سبق التكليف عليه - فلا محالة ينحلّ

ص: 296


1- فوائد الأصول 4: 38.
2- فوائد الأصول 4: 37-38.

ويسقط عن التأثير قهراً؛ إذ لم يعتبر العلم الإجمالي بما أنه صفة قائمة في نفس العالم لعدم أخذه موضوعاً في أدلة التكاليف، بل إنما اعتبر لأجل كونه طريقاً إلى متعلّقه وكاشفاً عنه»(1).

وحاصله: إن العلم الإجمالي إنما يكون منجّزاً إذا كان علماً بالتكليف على كل حال، وليس كذلك في محل الكلام؛ لأن العبرة بالمعلوم التفصيلي وهو سابق، من غير فرق بين تقدم العلم التفصيلي على العلم الإجمالي أوالعكس.

ويرد عليه مبنىً: بأن التنجيز أثر للعلم لا للمعلوم فيترتب من حين العلم كما مرّ، وعليه فسبق التكليف لا تأثير له في التنجيز فيتنجز التكليف من حين حدوث العلم الإجمالي.

وأما إشكال المحقق العراقي بأن «عنوان العلم بحدوث التكليف لغو في المقام، وتمام المدار على العلم بوجود تكليف حين وجوده وهو حاصل في المقام، فلا بد من منع تنجيزه من بيان آخر لا بهذا البيان»(2).

فلا يرتبط بما يرومه المحقق النائيني من أن المدار في المنجزية على المعلوم لا العلم، فتأمل.

الدليل الثالث: إنه مع احتمال الانطباق يشك المكلّف في تكليف آخر غير التكليف المعلوم بالتفصيل، فيكون مجرى البراءة، ومعها لا مجال لمنجزية العلم الإجمالي في الطرف الآخر.

ص: 297


1- فوائد الأصول 4: 40.
2- فوائد الأصول 4: 38 (الهامش).

وفيه: إن محل الكلام هو مجرى الاشتغال لا البراءة لأنه بالعلم الإجمالي يعلم بانشغال ذمته بتكليف ولا يعلم بامتثاله مع اجتناب الطرف المعلوم في الشبهة التحريمية أو ارتكابه في الوجوبية.

الدليل الرابع: التسالم على الانحلال وإنكاره يستلزم فقه جديد.

وفيه: أنه لا تسالم، بل هو المشهور، وأن المنكرين له ليس فقههم فقه جديد، كالمحقق القمي الذي لم يلتزم بالانحلال وقال بالانسداد، وكالأخباريين الذين لم يقولوا بالانحلال في الشبهات الحكمية التحريميّة وذهبوا إلى وجوب الاحتياط.

الدليل الخامس(1): إن عمدة الأدلة على منجزية العلم الإجمالي بلحاظ الموافقة القطعية هو فهم الفقهاء المانع عن شمول الأدلة الترخيصية لبعض أطراف العلم الإجمالي على نحو التخيير، وإلاّ فإن ظاهرها جواز المخالفة الاحتمالية، والمانع المذكور مفقود في المقام - حيث يرى المشهور جريان أصل البراءة في الطرف الثاني - وبارتفاع المانع يؤثر المقتضي في مقتضاه.

الدليل السادس: ما ذكره المحقق الإصفهاني(2): من الانحلال في خصوص الأمارات في الشبهات الحكمية بما حاصله: أن التكليف يتنجز حتى مع عدم العلم بتلك الأمارات؛ وذلك لأن المدار في التنجيز إمكان الوصول لا الوصول بنفسه، ولذا وجب الفحص في الشبهات الحكمية بحيث لو لم يفحص وصادف المخالفة لم يكن معذوراً، وفي موارد الأمارة

ص: 298


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 11: 113.
2- راجع نهاية الدراية 4: 116.

المتأخرة عن العلم الإجمالي كان الوجود الواقعي للأمارة سبباً لتنجز التكليف وكان الوصول كاشفاً عن التنجز السابق، وحيث كان التكليف منجزاً فلا يكون العلم الإجمالي سبباً للتنجيز لأن المنجز لا ينجّز.

ويرد عليه: ما مرّ من أن تحصيل المنجزية طلب للحاصل، وأما استمرار المنجزية فلا بأس بكونه معلولاً بالاشتراك بين الأمارة التي هي في معرض الوصول وبين العلم الإجمالي بحيث يكون كل واحد منهما جزء سبب استمرار المنجزية، فتأمل.

وغير خفي أن كلامه واستدلاله إنما هو في خصوص الانحلال في مورد وجود الأمارات، وأما مع العلم أو الأصل العملي فلا يجري هذا الكلام لأن منجزية العلم من حين حدوث العلم لا من قبله فلا تأثير للعلم التفصيلي اللاحق في التنجيز السابق، وكذا جريان الأصل متوقف على تمامية أركانه وهي متأخرة في ما نحن فيه.

التنبيه السابع: في اشتراك علمين إجماليين في أحد الأطراف

لو تحقق علمان إجماليان وكان أحد الأطراف مشتركاً بينهما، فإن تولّدا في وقت واحد، كما لو شاهد سقوط قطرتي دم، إحداهما في الإناء الأول أو الثاني، والأخرى في الإناء الثاني أو الثالث، فلا إشكال في تنجيز العلمين الإجماليين للتكليف، لوجود مقتضي التنجيز وهو العلم بالتكليف في الأطراف، وعدم المانع وهو موجبات الانحلال عنه.

وأما لو تأخر أحد العلمين عن الآخر - سواء اتحد زمان المعلومين أم اختلفا - فلا إشكال في تنجيز العلم الإجمالي الأول وذلك لوجود المقتضي وعدم المانع، وهكذا لا إشكال في تنجيز العلم الإجمالي الثاني في ما لو

ص: 299

كان أثر العلمين متغايراً، كما لو كانت القطرة الثانية في المثال قطرة بول؛ وذلك للعلم باشتغال الذمة بتكليف جديد لاختلاف الأثر.

وأما لو لم يتغاير الأثران، كما لو كان الثاني في المثال قطرة دم أيضاً مع اختلاف زمان العلمين... .

فقد يقال: بعدم تنجيز العلم الإجمالي الثاني.

ويستدل له: بعدم مقتضي التنجيز وبوجود المانع عنه.

أما عدم المقتضي: فلأنه لا بد في التنجيز من العلم بانشغال الذمة بتكليف جديد على كل حال، وهذا غير متحقق في ما نحن فيه حيث لا نعلم بتكليف جديد لو كانت القطرة الثانية قد سقطت في الإناء الثاني.

وأما وجود المانع: فلأن العلم الإجمالي الأول صار سبباً لسقوط الأصل الترخيصي في الطرف المشترك، فحين حدوث العلم الإجمالي الثاني لا معارض للأصل الترخيصي في الطرف المختص - وهو الإناء الثالث في المثال - وعليه فيتحقق المانع عن تنجيز العلم الإجمالي الثاني وهو الأصل الترخيصي في الطرف المختص.

وأشكل عليه(1): بأن منجزية العلم الإجمالي آنية، بمعنى أن العلم الإجمالي منجِّز للتكليف في الآن الأول، واستمراره للآن الثاني منجِّز للتكليف في الآن الثاني، وهكذا، فالعلم الإجمالي الأول منجِّز للتكليف بحدوثه لا ببقائه؛ إذ وجود العلم الإجمالي آناً ما لا يكفي لتنجيزه للأبد، وعليه فالعلم الإجمالي الأول بحدوثه منجِّز التكليف في مرحلة الحدوث لا في مرحلة البقاء، وأما في

ص: 300


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 11: 116-117.

مرحلة البقاء - حين تحقق العلم الإجمالي الثاني - فالمنجِّز كلا العلمين، وترجيح أحدهما للتنجيز ترجيح من غير مرجّح، ومن ذلك يعلم أن تساقط الأصول في أطراف العلم الإجمالي معلول لمنجزيته، وحيث كانت المنجِّزية آنية فالتساقط آني، فالطرف المختص في الآن الأول له معارض واحد، ولكن في الآن الثاني بعد تحقق العلم الإجمالي الثاني يكون للطرف المختص معارضان، فتتعارض الأصول الترخيصية في مرحلة البقاء جميعاً!

وفيه: أن التنجيز وإن كان معلولاً للعلم حدوثاً وبقاءً إلاّ أن متعلّق التنجيز هو شيء واحد في كلا المرحلتين وهو التكليف، وبالعلم الإجمالي الثاني لا علم بحدوث تكليف جديد فيكون مجرى البراءة، فتأمل.

التنبيه الثامن: في جريان الاستصحاب في أحد الطرفين

وذلك في ما لو علم إجمالاً بالوجوب بين طرفين، ثم أتى بأحدهما، فهل يجري استصحاب بقاء التكليف؟

قال المحقق النائيني: «ربما يتوهم أن وجوب الإتيان بالمحتمل الآخر عند الإتيان بأحد المحتملين مما يقتضيه استصحاب بقاء التكليف فلا حاجة في إثبات ذلك إلى قاعدة الاشتغال، بل لا مجال لها لحكومة الاستصحاب عليها. هذا، ولكن التحقيق: عدم جريان الاستصحاب في ذلك؛ لأنه يلزم من جريانه: إما إحراز ما هو محرز بالوجدان بالتعبد، وإما البناء على اعتبار الأصل المثبت»(1).

بيانه: أنه لو تردد تكليفه بين الصلاة قصراً أو تماماً فصلّى إحداهما مثلاً،

ص: 301


1- فوائد الأصول 4: 125.

فهنا هل يجري استصحاب التكليف؟

وليس كلامه في استصحاب الفرد المعين لأنه مردّد بين مقطوع الارتفاع، وفردين مشكوكي الحدوث، وإنما في استصحاب القسم الأول من الكلي وأركانه تامة لليقين السابق بانشغال الذمة بكلي التكليف مع الشك اللاحق بخروجه عن عهدته.

وإشكال هذا الاستصحاب أنه إما إحراز ما هو محرز بالوجدان بالتعبد، حيث إن إجراء الاستصحاب إنما هو لترتيب أثره وهو هنا لزوم إفراغ الذمة، وهذا محرز بالوجدان، حيث أن حدوث التكليف والشك في امتثاله تمام الموضوع عقلاً للزوم إفراغ الذمة، فإحرازه بالتعبد من تحصيل الحاصل، وإما إنه أصل مثبت؛ لأن استصحاب الكلي لا يثبت الفرد حتى لو كان منحصراً إلا عقلاً، والغرض من الاستصحاب هو إثبات وجوب الإتيان بالفرد الثاني.

وأشكل عليه: بأنه ليس من تحصيل الحاصل لاختلاف السنخين، فالحاصل هو الاشتغال الوجداني والمحصَّل هو الإحراز التعبدي، كما أنه لا لغوية في ذلك لترتب فوائد عليه وذلك في ما لو شك في حكم العقل أو عدم تحرّك العبد بالمحرّك العقلي إلاّ بعد ضميمته بالمحرّك الشرعي، ولذا صحّ التعبد بالبراءة الشرعية مع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان، كما مرّ.

كما أنه ليس بأصل مثبت، حيث إن لازم استصحاب الكلي هو بقاء الوجوب، ثم إن وجوب إفراغ الذمة منه - وإن كان أثراً عقلياً - إلاّ أنه أثر الحكم، وترتب الأثر العقلي للحكم ليس من الأصل المثبت في شيء، فتأمل.

ص: 302

فصل في دوران الأمر بين الأقل والأكثر

اشارة

لو دار الأمر بين الأقل والأكثر، فهما إما ارتباطيان أو استقلاليان، والارتباطي في ما لو كان ملاك واحد وتكليف واحد و امتثال واحد وعصيان واحد، والاستقلالي في ما لو تعدد الملاك والأمر والامتثال والعصيان بتعدد الأجزاء.

فأما الاستقلالي: فإن العلم الإجمالي فيه ينحل إلى علم تفصيلي بالأقل وشك بدوي بالأكثر، كما لو دار أمره بين قضاء صيام يوم واحد أو يومين، فيكون الأكثر مجرى البراءة العقلية والشرعية.

وأما الارتباطي: فكالشك في أن الصلاة مثلاً هل ذات تسعة أجزاء أو عشرة بإضافة القنوت مثلاً؟

والكلام فيه في مباحث:

المبحث الأول: الدوران بين الأقل والأكثر في الجزء
اشارة

وفي ذلك أقوال ثلاثة: جريان البراءة العقلية والشرعية، وعدم جريانهما، وجريان الشرعية دون العقلية، فالكلام في مطالب:

المطلب الأول: في البراءة العقلية في الارتباطيين

وفيه قولان:

ص: 303

القول الأول: جريان البراءة العقلية، وقد استدل له بوجوه، وإن كان واقعها واحداً:

الدليل الأول: انحلال العلم الإجمالي إلى العلم التفصيلي بوجوب الأقل إما بالوجوب النفسي وإما بالوجوب الغيري، وإلى الشك البدوي في وجوب الأكثر، فيكون العقاب عليه بلا بيان.

وأشكل عليه بإشكالات، منها:

الإشكال الأول: مبنىً، تارةً بعدم وجوب مقدمة الواجب.

وفيه: إن كلامنا في البراءة العقلية، والوجوب العقلي للمقدمة مما لا إشكال فيه.

وتارة أخرى: بما مرّ من عدم كون الأجزاء مقدمة للكل فلا معنى للوجوب الغيري فيها، بل يستحيل ذلك؛ إذ لا بد من المغايرة بين المقدمة وذي المقدمة، مع أنه لا تغاير بين الكل وأجزائه.

الإشكال الثاني: ما ذكره المحقق العراقي(1) بما حاصله: أن العلم بالجامع - بين الوجوب النفسي والغيري - لا يوجب الانحلال؛ إذ يعتبر في الانحلال أن يكون المعلوم بالتفصيل من سنخ المعلوم بالإجمال، وهذا الشرط مفقود في المقام؛ لأن المعلوم بالإجمال هو الوجوب النفسي المتعلق بالأقل أو الأكثر، وأمّا المعلوم بالتفصيل فهو وجوب الجامع بين الوجوب النفسي والغيري في الأقل، وهذان سنخان متغايران.

ص: 304


1- فوائد الأصول 4: 176 (الهامش).

وفيه(1): أنه لا دليل على شرطية وحدة السنخ في الانحلال، بل ملاكه جريان الأصل المؤمِّن، سواء كانا من سنخ واحد أما لا، وفي المقام الأقل متيقن الوجوب نفساً أو مقدمة، ويشك في دخول الأكثر في عهدة المكلّف حيث لم يتمّ عليه البيان، فيقبح العقاب عليه.

الإشكال الثالث: ما ذكره المحقق الخراساني في الكفاية قال: «فاسد قطعاً لاستلزامه الانحلال المحال؛ بداهة توقف لزوم الأقل فعلاً - إما لنفسه أو لغيره - على تنجز التكليف مطلقاً ولو كان متعلقاً بالأكثر، فلو كان لزومه كذلك مستلزماً لعدم تنجزه إلاّ إذا كان متعلقاً بالأقل كان خلفاً، مع أنه يلزم من وجوده - أي وجود الانحلال - عدمه لاستلزامه عدم تنجز التكليف على كل حال المستلزم لعدم لزوم الأقل مطلقاً، المستلزم لعدم الانحلال»(2).

وحاصله: إنه مع عدم وجوب ذي المقدمة - ولو بإجراء أصالة البراءة - لا تجب المقدمة؛ لأن وجوبها ترشحي من وجوبه، فبعدم وجوب الأكثر يثبت عدم وجوب الأقل من حيث المقدمية، فلا يعلم وجوب الأقل على كل حال، مع أن ملاك الانحلال هو العلم بوجوب أحد الطرفين أو الأطراف على كل حال.

وأجيب عنه بأجوبة، منها:

الجواب الأول: ما ذكره المحقق النائيني وهو إشكال مبنوي، قال: «إن دعوى توقف وجوب الأقل على تنجيز التكليف بالأكثر لا تستقيم، ولو

ص: 305


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 11: 126.
2- إيضاح كفاية الأصول 4: 248-250.

فرض كون وجوبه مقدمياً، سواء أريد من وجوب الأقل تعلّق التكليف به أو تنجزه، فإن وجوب الأقل على تقدير كونه مقدمة لوجوب الأكثر إنما يتوقف على تعلق واقع الطلب بالأكثر لا على تنجّز التكليف به؛ لأن وجوب المقدمة يتبع وجوب ذي المقدمة واقعاً وإن لم يبلغ مرتبة التنجّز، وكذا تنجّز التكليف بالأقل لا يتوقف على تنجّز التكليف بالأكثر، بل يتوقف على العلم بوجوب نفسه، فإن تنجّز كل تكليف إنّما يتوقف على العلم بذلك التكليف، ولا دخل لتنجّز تكليف آخر في ذلك»(1).

وكأنّ مقصوده أن المكلّف يعلم أن الأقل واجب عليه واقعاً إما لنفسه أو لغيره، وهذا لا ينافي عدم الوجوب الغيري ظاهراً لاختلاف متعلّق الوجوبين، فالوجوب الفعلي المنجَّز للأقل ثابت على كل حال حتى لو لم يتنجز وجوب الأكثر بسبب جريان أصالة البراءة، وعليه فحتى لو أجرينا أصالة البراءة عن وجوب الأكثر فلا يزول العلم بوجوب الأقل واقعاً على كل حال إما لنفسه أو لغيره، والظاهر عدم ورود أيّ إشكال على هذا الجواب.

الجواب الثاني: ما عن المحقق الحائري(2):

من أن الضابط في انحلال العلم الإجمالي ليس هو العلم التفصيلي بالتكليف الذي يوجب مخالفته العقوبة على كل حال، كيف ولو كان كذلك ما صحّ القول بالانحلال في ما إذا قام طريق معتبر شرعي مثبت في بعض الأطراف، فإنه لا يصح العقوبة

ص: 306


1- فوائد الأصول 4: 158-159.
2- درر الفوائد، للحائري: 474.

على مخالفة التكليف الطريقي على كل تقدير، بل هو موجب لصحة العقوبة لو كان مصادفاً للواقع، إنّما الضابط هو العلم التفصيلي بالتكليف الذي يجب امتثاله عقلاً، وإن كان من جهة صحة العقوبة على بعض التقادير، فنقول في ما نحن فيه: إن العلم بالتكليف بالأقل لمّا لم يعلم كونه مقدمياً أو نفسياً يجب عند العقل موافقته؛ لأنه لو كان نفسياً لم يكن له عذر في تركه.

وحاصله: أما كبرىً فليس ملاك الانحلال ما ذكره المحقق الخراساني من العلم بالتكليف الموجب مخالفته العقوبة على كل حال، للنقض عليه بما لو قام طريق شرعي على التكليف في أحد الأطراف فإنه ينحل العلم الإجمالي مع أنه لا علم باستحقاق العقوبة على مخالفة الطريق على كل حال؛ إذ قد يكون الطريق خاطئاً فلا يكون مخالفته إلاّ تجرّياً.

وأما صغرى: فإنه في ما نحن فيه لو كان التكليف نفسياً لم يكن معذوراً في تركه.

وعليه: فالتكليف بالأقل ثابت حتى لو لم يعلم كونه نفسياً أم غيرياً.

ويرد عليه: أولاً: على الكبرى: بأن احتمال مطابقة الطريق للواقع كافٍ في تنجيز الطريق وبذلك ينحل العلم الإجمالي؛ إذ قام الدليل على حجية هذا الاحتمال، وليس ما نحن فيه كذلك؛ إذ لا دليل على حجية الاحتمال فيه.

وثانياً(1): على الصغرى: بأن منشأ العقاب على ترك الأقل إمّا العلم الإجمالي بالوجوب النفسي للأقل أو الأكثر، وإمّا احتمال الوجوب النفسي

ص: 307


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 11: 132.

للأقل، أما الأول فنسبة العلم الإجمالي إلى الأقل والأكثر واحدة فكيف صار سبباً لتنجيز الأقل دون الأكثر، وأما الثاني فإنه مجرد احتمال لا يكون منجزاً.

الجواب الثالث: التبعيض في التنجيز(1)،

وحاصله: أنّه في المركبات وإن كان الجعل واحداً والمجعول واحداً إلاّ أنه لا محذور في التبعيض في التنجيز، مثلاً لو فرض أن الجزء العاشر في الصلاة كان واجباً ولم يعلم به، فوجوب الصلاة منجَّز باعتبار الأجزاء المعلومة وغير منجَّز باعتبار الجزء العاشر المجهول، والتبعيض في التنجيز ممكن ثبوتاً وواقع إثباتاً.

أما الإمكان الثبوتي: فلأن المناط في التنجيز الوصول إلى المكلف، والوصول متعدد بتعدد الأجزاء، وعليه فيتنجز الوجوب في التسعة باعتبار وصولها ولا يتنجَّز في العاشر باعتبار عدم وصله.

وأما إثباتاً: فببرهان السبر والتقسيم، حيث إنّ المكلّف إن علم بالوجوب بين الأقل والأكثر ومع ذلك ترك الأقل عمداً، وكان الواجب في الواقع هو الأكثر، فهو لا يخلو من أربعة حالات:

الأولى: عدم استحقاقه للعقاب أصلاً، لكن هذا خلاف البديهة.

الثانية: استحقاقه العقاب على مخالفة الأمر بالأقل، لكن لا أمر بالأقل واقعاً.

الثالثة: استحقاقه العقاب على مخالفة الأمر بالأكثر من حيث أنه أكثر،

ص: 308


1- راجع نهاية الدراية 4: 292-297؛ وتعليقة الشيخ محمد تقي الشيرازي على المكاسب: 174؛ ومنتقى الأصول 5: 201.

لكن هذا غير معقول لقبح العقاب بلا بيان.

الرابعة: استحقاقه العقاب على مخالفة الأمر بالأكثر من حيث أجزاؤه المعلومة لا من حيث جزؤه المجهول وهذا لا بد من المصير إليه بعد الإشكال في الثلاثة الأولى.

وبذلك يتبيّن أنه لا خلف ولا تناقض، حيث إن تنجّز الأقل ثابت حتى لو كان ترشح الوجوب من ذي المقدمة إلى المقدمة ترشحاً واقعياً، فلو كان الأكثر واجباً فهو منجَّز من حيث الأجزاء المعلومة لا من حيث الجزء المجهول وإجراء البراءة ينفي التنجز من حيث الجزء المجهول.

ويرد عليه: أولاً: إن ذلك غير ممكن ثبوتاً؛ لأن ملاك التنجّز هو وصول الواقع، فوصول التسعة في المثال ليس وصولاً للواقع؛ إذ التكليف لم يتعلق بها بما هي هي، بل بشرط شيء، وعليه فلا يتنجّز التكليف لعدم وصوله، بل الواصل يكون معذِّراً فقط.

وثانياً: إن الصور الثلاث الأولى لا محذور فيها إثباتاً، بل المحذور في الرابعة... .

أما الأولى: فلاحتمال كون استحقاقه العقاب لتجريّه، أو لاكتفاء المولى بالأقل واقعاً فيكون بدلاً عن الواقع، كما في من ترك جزءاً ليس بركن من الصلاة لعدم العلم به وإجراء أصل البراءة فيه فإن هذا الأقل صحيح واقعاً لبدليته عن الواقع، وهذا يختلف عن تنجز الأكثر باعتبار أجزائه المعلومة، كما لا يخفى.

وأما الثانية: فيُعلم مما سبق؛ إذ مع البدلية يوجد أمر بالأقل.

ص: 309

وأما الثالثة: بأنه لا يلزم العقاب بلا بيان؛ إذ إنه ترك الأكثر عبر تركه للأقل، وهذا لا يعذره العقلاء، وبعبارة أخرى: إنه تَرَكَ الواجب من غير عذر بخلاف من أتى بالأقل فإنه ترك الواجب مع عذر.

وأما الرابعة: فحيث استحال ثبوتاً العقاب على مخالفة الأمر بالأكثر باعتبار الأجزاء المعلومة، فينتفي الإثبات أيضاً، فتأمل.

الجواب الرابع: إن اختلاف الزمان يدفع الخلف أو التناقض، فقبل إجراء الأصل الترخيصي في الأكثر نعلم بالوجوب المردّد بين الأقل والأكثر، وبعد إجراء الأصل الترخيصي نعلم بعدم وجوب الأكثر!

وفيه: أنه هناك عِليَّة بين وجوب ذي المقدمة ووجوب المقدمة، وبذلك يتّحد زمانهما، فإجراء الأصل الترخيصي في الأكثر سبب لزوال علة الوجوب الغيري في الأقل.

هذا تمام الكلام في الدليل الأول على إجراء البراءة عن الأكثر في الأقل والأكثر الارتباطيين.

الدليل الثاني: ما ذكره الشيخ الأعظم في الرسائل(1):

من أن الأقل معلوم الوجوب إما بالوجوب الاستقلالي أو الوجوب الضمني، والأكثر مشكوك فينحل العلم الإجمالي.

وأشكل عليه بأمور، منها:

الإشكال الأول: عدم وجود وجوب ضمني؛ إذ التكليف يتعلّق

ص: 310


1- فرائد الأصول 2: 328.

بالمجموع المركب لا بالأجزاء.

وأجيب: بأنه لا إشكال في الأمر الضمني العقلي، حيث إن العقل يأمر بالإتيان بالأجزاء حتى لو لم يكن هناك أمراً شرعياً بالأجزاء.

الإشكال الثاني: عدم انطباق المعلوم بالتفصيل على المعلوم بالإجمال، حيث إن المعلوم بالإجمال هو (الوجوب النفسي الاستقلالي المتعلّق بالأقل أو الأكثر)، والمعلوم بالتفصيل هو (الجامع بين الوجوب النفسي الاستقلالي والوجوب النفسي الضمني).

وقد مرّ الإشكال على اشتراط الانطباق، فراجع.

الإشكال الثالث: ما عن المحقق النائيني(1)،

وحاصله: إن هاهنا علم واحد وليس علمان أحدهما إجمالي والآخر تفصيلي، ولا يعقل أن يحلّ العلم نفسه.

وذلك لأن المعلوم بالتفصيل هو وجوب الأقل الجامع بين كونه لا بشرط أو بشرط شيء بلحاظ الجزء الزائد، وهذا الجامع ليس إلاّ الطبيعة المهملة أي اللا بشرط المقسمي.

والمعلوم بالإجمال ليس إلاّ وجوباً دائراً بين تعلقه بالأقل الذي هو الماهية لا بشرط، وبين تعلقه بالأكثر الذي هو الماهية بشرط شيء، وليس ذلك الوجوب إلاّ الماهية المهملة.

وأجيب: أولاً: بالإشكال بالكبرى، وذلك بإمكان انحلال العلم الإجمالي

ص: 311


1- أجود التقريرات 3: 493.

حكماً من غير حاجة إلى علم تفصيلي أو إجمالي آخر، وذلك في ما لو جرى الأصل الترخيصي في أحد الأطراف، فلا يكون العلم الإجمالي حينئذٍ منجزاً حيث إن مناط تنجيزه تعارض الأصول الترخيصية في الأطراف، وفي ما نحن فيه لا تعارض فإن رفع وجوب الأقل لا بشرط خلاف المِنّة؛ إذ هذا الوجوب توسعة على المكلف فلا تجري البراءة، فيبقى الأصل الترخيصي في الأكثر من غير معارض، فينحل العلم الإجمالي.

ويمكن أن يقال: إن الكلام هنا في البراءة العقلية لا الشرعية، والمِنّة وعدمها أجنبيّة عن البراءة العقلية، فيبقى التعارض! فتأمل.

وثانياً: بالإشكال في الصغرى(1)،

بأنه إذا كان علمان إجماليان أحدهما العلم بأصل الوجوب والثاني العلم بحدّه، فيمكن لأضيقهما أن يحلّ أوسعهما، وما نحن فيه كذلك فمتعلق العلم الإجمالي الأول هو الوجوب النفسي إما للأقل أو للأكثر، ومتعلق العلم الإجمالي الثاني هو وجوب الأقل نفساً إما استقلالاً أو ضمناً، وعليه فالوجوب النفسي للأقل معلوم على كل حال، ووجوب الأكثر مشكوك، وهذا يكفي في الانحلال وعليه بناء العقلاء.

الدليل الثالث: ما في نهاية الدراية(2)،

وحاصله: انبساط الوجوب النفسي على الأقل وهو معلوم على كل حال دون انبساطه على الأكثر فهو مشكوك؛ إذ في المركبات وجوب نفسي واحد منبعث عن إرادة نفسية واحدة، منبعثة

ص: 312


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 11: 141.
2- نهاية الدراية 4: 295-296.

عن غرض واحد قائم بالأجزاء بالأسر التي هي عين الكل، وذلك كالوجود العلمي المتعلّق بمعنى تأليفي تركيبي، كالدار المؤلفة من عدة معان كالسقف والقباب والجدران.

وانبساطه على تلك الأجزاء بالأسر ليس كالنبساط البياض على الجسم بحيث يكون لكل قطعة منه حظ من البياض نفسه، بل كانبساط الوجود الذهني على الماهية التركيبيّة، فإن المجموع ملحوظ بلحاظ واحد، لا كل جزء بلحاظ يخصّه.

وعليه فلا ريب في أن هذا الوجوب النفسي الشخصي المعلوم أصله منبسط على تسعة أجزاء بتعلّق واحد، وانبساطه بعين ذلك التعلّق على الجزء العاشر المشكوك غير معلوم، فهذا الوجوب النفسي الشخصي المعلوم بمقدار العلم بانبساطه يكون فعلياً منجزاً، وبالمقدار الآخر المجهول لا مقتضى لفعليته وتنجزه.

ولا يخفى أن الوجوب الانبساطي غير الوجوب الضمني فلا يرد عليه ما يورد على الوجوب الضمني، فإن الضمني هو بمعنى تولد أمر بالأجزاء من الأمر الاستقلالي، وفي الانبساطي لا يوجد إلاّ أمر واحد فقط.

وأشكل عليه(1): بأن انبساط الوجوب مشروط بانضمام الأجزاء بعضها إلى بعض، أما لو لوحظت الأجزاء على نحو اللابشرط أو بشرط لا فلا ينبسط الوجوب عليها، مثلاً من الأمر بالصلاة ينبسط الوجوب النفسي على

ص: 313


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 11: 146.

التكبير بشرط شيء أي الملحوق ببقية الأبعاض، وأما التكبير بشرط لا أو لا بشرط فلا ينبسط الوجوب عليه، وعليه فمع الشك في كون المجموع تمام المتعلّق أو بعضه يشك في انبساط الوجوب النفسي عليه، ومعه لا يتم مبنى الاستدلال، حيث بُني على نفي الريب عن انبساط الوجوب النفسي على الأجزاء التسعة؛ وذلك لأن الواجب إن كان هو الأكثر كان انبساط الوجوب على الأقل اللابشرط مشكوكاً، بل مقطوع العدم، وحيث يشك في كون الواجب هو الأقل أو الأكثر يتحقق الشك في أصل انبساط الوجوب النفسي على الأجزاء التسعة فلا ينحل العلم الإجمالي بما ذكر.

وفيه تأمل: لأن المعلوم إجمالاً هو الانبساط على الأقل بنحو الطبيعة المهملة، أي أصل الانبساط معلوم وإن كان حدّه مجهولاً، وهذا المقدار كافٍ في العلم بوجوب الأقل على كل حال، وبه يتمّ الانحلال.

القول الثاني: عدم جريان البراءة العقلية، واستدل له بأمور، منها:

الدليل الأول: ما في الكفاية قال: «هذا مع أن الغرض الداعي إلى الأمر لا يكاد يحرز إلاّ بالأكثر، بناءً على ما ذكره المشهور من العدلية من تبعية الأوامر والنواهي للمصالح والمفاسد في المأمور بها والمنهي عنها، وكون الواجبات الشرعية ألطافاً في الواجبات العقلية، وقد مرّ اعتبار موافقة الغرض وحصوله في إطاعة الأمر وسقوطه فلا بد من إحرازه في إحرازها»(1).

وحاصله: إن التكليف يكشف عن وجود غرض في المتعلّق، وأنه لا بد

ص: 314


1- إيضاح كفاية الأصول 4: 251-252.

من تحصيل غرض المولى، وأنه لا يعلم المكلف بتحصيل الغرض إلاّ بالإتيان بالأكثر!

وأشكل عليه بإشكالات، منها:

الإشكال الأول: إنه كما يمكن أن يكون الغرض في المتعلق كذلك يمكن أن يكون في التكليف بنفسه كما في الأوامر الامتحانية والتعذيرية، وفيها يمكن أن يكون الغرض في الأقل أو الأكثر.

لا يقال: على كل حال يحتمل المكلّف كون الغرض في المتعلّق، وعليه فيحتمل توقف الغرض على الإتيان بالجزء المشكوك.

لأنه يقال: إن الغرض المحتمل لا يجب تحصيله كالتكليف المحتمل، فكما يقبح العقاب على التكليف المحتمل من غير بيان كذلك في الغرض المحتمل، وعليه فلا نعلم بتوقف الغرض على الأكثر ليلزم الإتيان به عقلاً!

الإشكال الثاني: إن المكلف لا يعلم بتحصيل الغرض حتى لو أتى بالأكثر؛ إذ لو كان الجزء المشكوك واجباً واقعاً وكان قصد الوجه شرطاً واقعياً فإنه لا يتمكن المكلّف من قصد الوجه للزومه التشريع، ومع عدم قصد الوجه لا يعلم المكلف بتحصيله الغرض حتى لو أتى بالأكثر، وعليه فلا فرق في عدم العلم بتحصيل الغرض سواء أتى بالأكثر أم بالأقل، فحينئذٍ نرجع إلى الأمر وحيث لا بيان واصل للأكثر يقبح العقاب عليه!

ويرد عليه: مضافاً إلى كونه خاصاً بالتعبديات، أن قصد الوجه ليس بشرط قطعاً وقد دلّ الدليل على عدم اعتباره، وعلى فرض وجوبه فإنه خاص بالواجب الاستقلالي فلا يلزم قصد الوجه في الأجزاء، كما أن الجزء

ص: 315

أو الشرط الواجبين يسقطان مع عدم إمكان الإتيان بهما مع بقاء الغرض والوجوب بحاله لقاعدة الميسور أو لسائر الأدلة.

الإشكال الثالث: ما ذكره المحقق النائيني(1)،

وحاصله: إن الأغراض في الأوامر الشرعية ليست من قبيل المسببات التوليدية - التي تكون أسبابها تمام العلة أو الجزء الأخير منها حيث يتحقق المعلول من غير واسطة، فتكون القدرة على السبب قدرةً على المسبب، نظير الإحراق المترتب على إلقاء الورق في النار، وحينئذٍ يمكن تعلق إرادة الآمر بتلك الأغراض - بل الأوامر الشرعية تتعلق بالمأمور به الإعدادي، حيث لا يكون الفعل الصادر عن الفاعل إلاّ مقدمة إعدادية لحصول الغرض مع توسط أمور غير اختيارية، فلا تكون الأغراض مقدورة فلا يلزم تحصيلها، نظير الأمر بالزرع حيث إن الغرض هو صيرورة البذر سنبلاً، ويتوسط في ذلك عوامل غير اختيارية كشروق الشمس ونزول المطر ونحو ذلك.

والذي يدل على كون الأوامر الشرعية إعداديات هو عدم وقوع الأمر بتحصيل الملاك وإيجاد المصلحة في أيّ مورد من الأوامر الشرعية، ولو كان الملاك من العناوين والمسببات التوليدية لتعلّق الطلب به في غير مقام ٍ؛ لأن تعلق الأمر بالسبب أحياناً إنما يكون بلحاظ تولد المسبب منه، ولا يصح إطلاق الأمر بالمعنون والسبب مع إرادة العنوان والمسبب إلاّ إذا كان تعنون السبب بالعنوان وتولد المسبب منه من الأمور العرفية المرتكزة في الأذهان بحيث يكون الأمر بالسبب أمراً بالمسبب عرفاً، وإلاّ لم يصح إطلاق الأمر

ص: 316


1- فوائد الأصول 4: 174-176.

بالسبب مع إرادة المسبب، بل لا بد من تقييد الأمر بالسبب بما يوجب تولد المسبب منه، وإلاّ كان إغراءً بالجهل ونقضاً للغرض.

وفي ما نحن فيه فالأوامر الشرعية لا يعرف الناس الأغراض منها ولم يقيّدها الشارع بما تنتج تلك الأغراض، فيُعلم من ذلك أن تلك الأوامر ليست إلاّ معدّات للملاكات، فتكون تلك الملاكات خارجة عن قدرة العبد، فلا يكون مأموراً بتحصيلها.

ويرد عليه: أولاً: إنه يكفي في اختيارية الشيء اختيارية بعض مقدماته، وبهذا يجاب عن شبهة الجبر حيث إن لأفعال الإنسان الاختيارية مقدمات غير اختيارية كالقضاء والقدر ونحو ذلك، فحصد الحنطة من المزرعة أمر اختياري عبر اختيارية إلقاء البذر وإصلاح الأرض ونحو ذلك رغم توسط أمور غير اختيارية.

وثانياً: إن مطلوب المولى قد يكون الغرض، لكن لا يكون من الإغراء بالجهل لو أمر بالمقدمات الإعداديّة ولم يقيّد أمره بما إذا كانت تلك المقدمات موصلة إلى غرضه حتى لو لم يعلم المكلّف بذلك الغرض؛ وذلك لأن المقدمات قد توصل دائماً إلى الغرض، أو إن التقييد بالغرض قد يكون فيه محذور ترك الكثير من المكلفين للتكليف زعماً بأنه لا يوصل إلى الغرض فيكون في البيان كذلك مفسدة، فتأمل.

وثالثاً: ما قيل: من أنه في الأوامر الشرعية غرضان: غرض أقصى يكون عمل العبد مُعِدّاً له ويتوسط بين العمل وبينه مقدمات غير اختيارية، وغرض أدنى يكون العمل من الأسباب التوليدية له، ففي مثال زرع الحنطة الغرض

ص: 317

الأقصى صيرورته سنبلاً، وأما الغرض الأدنى فهو صيرورته مستعداً لإفاضة الله تعالى الصورة السنبلية عليه، وعليه فلو شك أن الغرض الأدنى هل يحصل بالأقل أو الأكثر لزمه الإتيان بالأكثر لتحصيل ذلك الغرض المقدور بناءً على ما ذكره!!

الإشكال الرابع: إن القبيح هو تفويت الغرض إذا كان مستنداً إلى العبد، وأما لو كان مستنداً إلى المولى فلا قبح فيه، كما لو لم يجعل الغرض في عهدة العبد، بل جعل محصِّله في عهدته ولم يبيّن المولى أو لم يوجب الاحتياط، فلو فات الغرض لم يكن فوته مستنداً إلى العبد، بل إلى المولى الذي لم يبيّن أو علم أن البيان قد لا يصل ومع ذلك لم يوجب الاحتياط، وفي الأوامر الشرعية نعلم بعدم وجود هكذا غرض أو عدم لزوم تحصيله على كل حال لأن المولى الحكيم لا يفوّت غرضه، وعليه فيكون عقاب العبد من غير بيان وهو قبيح، فتأمل.

هذا تمام الكلام في الدليل الأول الذي استدل به على عدم جريان البراءة العقلية في الأقل والأكثر الارتباطيين.

الدليل الثاني: إرجاع الشك فيهما إلى الشك في المتباينين؛ لأن وجوب الأقل بلحاظ الماهية لا بشرط، ووجوب الأكثر بلحاظها بشرط شيء.

وأشكل عليه: أولاً: بأن لازمه تكرار العمل مرتين ككل شبهة وجوبية بين المتباينين.

وثانياً: بأن التباين إنما هو في اللحاظ؛ إذ عدم اللحاظ في اللا بشرط يناقض اللحاظ في بشرط شيء، وأما في الملحوظ فلا تباين ولذا يجتمع

ص: 318

اللابشرط مع ألف شرط.

الدليل الثالث: ما ذكره المحقق النائيني قال: «إنه لا إشكال في أن العقل يستقل بعدم كفاية الامتثال الاحتمالي للتكليف القطعي... لأن العلم باشتغال الذمة يستدعى العلم بالفراغ عقلاً، ولا يكفي احتمال الفراغ، فإنه يتنجّز التكليف بالعلم به ولو إجمالاً، ويتمّ البيان الذي يستقل العقل بتوقف صحة العقاب عليه، فلو صادف التكليف في الطرف الآخر الغير المأتي به لا يكون العقاب على تركه بلا بيان، بل العقل يستقل في استحقاق التارك للامتثال القطعي للعقاب على تقدير مخالفة التكليف، ففي ما نحن فيه لا يجوز الاقتصار على الأقل عقلاً؛ لأنه يشك في الامتثال والخروج عن عهدة التكليف المعلوم في البين، ولا يحصل العلم بالامتثال إلا بعد ضم الخصوصية الزائدة المشكوكة»(1).

وأشكل عليه: بأن الأجزاء هي عين الواجب - وحتى الشروط فإن التقيّد بها جزء - فلا فرق في أن يأمر بالصلاة أو يأمر بالتكبير والقراءة والركوع... إلى السلام، وإنما الفرق في التعبير فقط بالإجمال تارة وبالتفصيل أخرى، وما ذكره إنما يجري في العنوان والمحصِّل حيث يتباينان فلو وجب العنوان لزم الاحتياط بالقطع بمحصّله، وعليه فلو كان يأمر بالتفصيل وشك في جزء كان شكاً في التكليف لا المكلف به، فيكون مجرى البراءة، وهكذا عندما يأمر بالإجمال ويدور الأمر بين الأقل والأكثر.

الدليل الرابع: إن وجوب الأقل معلوم، ولا يعلم سقوطه بالإتيان بالأقل؛

ص: 319


1- فوائد الأصول 4: 159-160.

وذلك لأن الواجب واقعاً إما الأقل أو هو بإضافة الجزء المشكوك، فلا بد له من إحراز فراغ الذمة عن الأقل عبر الإتيان بالأكثر.

وفيه(1): إن منشأ استحقاق العقوبة بلحاظ الأقل أحد أمرين: إما عدم الإتيان بالأقل! لكنه قد أتى به، أو وجوب الجزء المشكوك وارتباط وجوب الأقل به، لكن المكلف في أمان من ذلك، لحكم العقل بالبراءة عن وجوب الجزء المشكوك!

وبعبارة أخرى: إن مخالفة وجوب الأقل بجهة ترك الجزء المشكوك هي مخالفة ناشئة عن ترك الجزء المشكوك لا عن ترك الأقل، ويشك في كونها مخالفة فتنفى المخالفة بأصالة البراءة عن وجوب ذلك الجزء المشكوك.

المطلب الثاني: في البراءة الشرعية في الارتباطيين

وقد يستدل للبراءة الشرعية فيهما بوجوه، منها:

الوجه الأول: البراءة عن الحكم التكليفي، حيث إن وجوب الأكثر مشكوك فالبراءة تقتضي عدمه، ولا يعارضه البراءة عن وجوب الأقل؛ وذلك لأن وجوبه معلوم على كل حال، كما مرّ.

الوجه الثاني: البراءة باعتبار الحكم الوضعي، وذلك برفع الجزئية.

وأشكل عليه بإشكالات، منها:

الإشكال الأول: إن الجزئية لا يمكن جعلها شرعاً، فلا ينالها الرفع.

وفيه: إنها مجعولة بالتبع، ولا فرق في شمول الرفع بين الجعل بالأصالة

ص: 320


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 11: 166.

أو بالتبع؛ إذ أمر المولى بالمركب سبب لانتزاع الجزئية عن أجزائه، فيرفع برفع منشأ الانتزاع، كرفع الزوجية برفع الأربعة.

إن قلت: منشأ انتزاع الجزئية هو الوجوب وهو بسيط، فرفع الجزئية برفع منشأها يستلزم سقوط الوجوب بالمرّة، وهو واضح البطلان!

قلت: إن الوجوب بسيط، إلاّ أن متعلّقه مركب، وهو من صنع الشارع، فيكون رفعه بيده، قال المحقق الخراساني: «إن نسبة حديث الرفع - الناظر إلى الأدلة الدالة على بيان الأجزاء - إليها نسبة الاستثناء»(1)، أي بضمّ حديث الرفع إلى الأدلة الدالة على الأجزاء ترتفع جزئية الجزء المشكوك بالحكومة الظاهرية، وجزئية سائر الأجزاء والأمر بالباقي يستفاد من إطلاق الأمر.

الإشكال الثاني: إن وضع الجزئية لغو لعدم ترتب أيّ أثر عليه، فلا وضع، فلا رفع؛ لأنه مع الأمر بالمركب تنتزع الجزئية قهراً فجعلها لغو، كما لا يصح جعل الجزئية من غير أمر بالمركب؛ إذ لا يترتب على هذا الجعل وجوب الامتثال ولا غيره من الآثار.

وأورد عليه: بأنه يمكن جعل الجزئية وعن طريقها يجعل الوجوب فيترتب عليها وجوب الامتثال، وبعبارة أخرى: لازم جعل الجزئية جعل التكليف وذلك بدلالة الاقتضاء.

المطلب الثالث: في الاستصحاب في الارتباطيين
اشارة

وقد استدل به على وجوب الأكثر، كما استدل به على وجوب الأقل،

ص: 321


1- إيضاح كفاية الأصول 4: 268.

فهنا مقامان:

المقام الأول: في الاستدلال به على وجوب الأكثر

وذلك للشك في سقوط التكليف مع الإتيان بالأقل، فيستصحب بقاء الوجوب، وهو من القسم الثاني من استصحاب الكلي، حيث يدور الأمر حينئذٍ بين ما هو ساقط قطعاً لو كان الواجب هو الأقل، وبين ما هو باقٍ قطعاً لو كان الواجب هو الأقل.

ولا يراد بذلك إثبات وجوب الأكثر ليكون مثبتاً، بل يراد إبقاء التكليف بالذمة فيكون اشتغال تعبدي فيحكم العقل بلزوم إفراغ الذمة، وهذا ليس بأصل مثبت لأن الأثر ليس للمستصحب، بل هو الأثر العقلي للحكم.

وأشكل عليه: بأن استصحاب الكلي من القسم الثاني إنما يجري لو تعارضت وتساقطت الأصول في الأفراد، وأما لو جرت الأصول في بعض الأفراد دون بعض كانت حاكمة على استصحاب الكلي مثلاً لو كان متوضأً ثم خرجت رطوبة مشتبهة بين البول أو المني، فتتعارض أصالة عدم كونه منياً وأصالة عدم كونه بولاً فيتساقطان فلو توضأ أو اغتسل جرى استصحاب كلي الحدث فلا بد له من الاحتياط بالجمع بينهما، أما لو كان محدثاً ثم خرجت الرطوبة المشتبهة فإن أصالة عدم كونه بولاً لا تجري لعدم الأثر لها؛ لأنه كان محدثاً بالحدث الأصغر قبل خروج الرطوبة فلا شك فيه كي يستصحب، ولكن تجري أصالة عدم كونه منياً لثبوت الأثر وهو عدم وجوب الغسل، وحينئذٍ لا تصل النوبة إلى استصحاب كلي الحدث؛ إذ استصحاب عدم كونه منياً أثره عدم وجوب الغسل وارتفاع الحدث

ص: 322

بالوضوء وهذا أصل سببي، فلا يبقى شك في ارتفاع الحدث تعبداً لتصل النوبة إلى استصحابه، وهكذا في ما نحن فيه؛ إذ أصالة عدم وجوب الأقل لا تجري للعلم بوجوبه، فتجري أصالة عدم وجوب الأكثر وتكون حاكمة على أصالة بقاء الوجوب، فتأمل.

المقام الثاني: في الاستدلال به على عدم وجوب الأكثر

تارة باستصحاب عدم الجعل، وأخرى باستصحاب عدم المجعول، فهنا وجوه ثلاثة:

الوجه الأول: استصحاب عدم جعل الوجوب على الأكثر، ولا يعارضه استصحاب عدم جعل الوجوب على الأقل وذلك للقطع بوجوب الأقل على كل حال.

وأشكل عليه المحقق النائيني(1)

بما حاصله: أن استصحاب عدم الجعل لا أثر له، أو هو أصل مثبت، فإن بقاء ذلك العدم إلى ظرف تعلّق الجعل بالمركب غير مفيد لعدم ترتب أثر شرعي أو عقلي عليه، إلاّ لو أريد إثبات تعلّق الجعل واللحاظ بخصوص أجزاء الأقل، ولا يمكن إثبات ذلك إلاّ على القول بالأصل المثبت.

وأجيب: أولاً: بأنه لا واسطة؛ إذ الجعل هو بمعنى الإيجاد وهو متحدّ ذاتاً مع المجعول وإنما الاختلاف بلحاظ نسبته إلى الفاعل والقابل، كالإيجاد والوجود.

ص: 323


1- فوائد الأصول 4: 184.

وفيه: أن ما نحن فيه جعلان ومجعولان، أحدهما: الجعل بمعنى الإنشاء وهو على الموضوع المقدّر الوجود ومجعوله هو الوجوب الكلي، كإيجاب الحج على المستطيع، والآخر: الجعل في ذمة المكلّف أي على الموضوع الخارجي ومجعوله هو الوجوب الشخصي في ذمة المكلف الخاص، كوجوب الحج على زيد حين استطاعته مثلاً، فاستصحاب عدم الجعل يراد به الجعل الأول لإثبات عدم المجعول بالمعنى الثاني، وهو لازم عقلي حيث إنه لو لم يُنشئ الشارع الوجوب على الموضوع المقدّر الوجود لما ثبت وجوب في ذمة زيد.

وثانياً: ثبوت الأثر للجعل يغاير أثر المجعول، كجواز الفتوى والإخبار، وهو يرتبط بالجعل بالمعنى الأول، فبمجرد أن يُنشئ المولى الحكم يجوز الفتوى به والإخبار عنه حتى لو لم يتحقق موضوع في الخارج، كما لو كان الأمر بالحج قبل وجود المستطيع إليه.

وثالثاً: ما ذكره المحقق العراقي: من أنّ «مرجع الجعل بعد ما كان إلى تعلّق لحاظه بشيء، وجعله واجباً أو جزءاً، فلا شبهة في أنه بتعدد المجعول ووحدته تختلف مراتب الجعل، وحينئذٍ فإذا علم بمرتبة وشك في مرتبة أخرى فالأصل إذاً نفي هذه المرتبة، فهو وإن لم يثبت مرتبة الجعل بخصوص الأقل إلاّ أنه يكفي في عدم الالتزام به مجرد عدم وجوب الباقي من الأزل، بضميمة اكتفاء العقل أيضاً بوجوب تحصيل ما علم وجوبه، وإن لم يعلم أنه تمام الواجب، وحينئذٍ فلا قصور في استصحاب عدم الوجوب - الذي هو محط كلامه - أو عدم جعله؛ إذ عدم جعل الوجوب مستتبع لعدم

ص: 324

الوجوب واقعياً كان أو ظاهرياً، فلا ربط للمقام بالأصول المثبتة؛ لأن عدم الوجوب الظاهري من لوازم عدم الجعل الظاهري الذي هو الاستصحاب لا نفس المستصحب، والمفروض أيضاً أن نفس الجعل أمر وضعه ورفعه بيد الشارع، ولا نعني من الأثر الشرعي في باب الاستصحاب إلاّ هذا»(1).

وحاصله: أن الأصل المثبت هو ما إذا كان الأثر أثراً للمستصحب، أما لو كان أثراً للاستصحاب بنفسه فليس من الأصل المثبت، وفي ما نحن فيه عدم المجعول أثر عدم الجعل الذي هو الاستصحاب!

لا يقال: إن المجعول ليس أثراً للجعل؛ وذلك لما ذكر من أن المجعول هو المجعول في الذمة، وهو ليس أثراً للجعل الذي هو إنشاء الحكم على الموضوع المقدر الوجود بنحو القضية الحقيقية حتى مع العلم بالجعل.

لأنه يقال: إنه وإن لم تكن ملازمة من طرف الوجود، إلاّ أنه في طرف العدم هذا الأثر ثابت فأثر عدم الجعل هو عدم الثبوت في الذمة. نعم، يمكن المناقشة في المبنى ولعلنا سنذكره في باب الاستصحاب إن شاء الله تعالى.

الوجه الثاني: استصحاب عدم وجوب الأكثر، أو عدم وجوب الجزء المشكوك، وهذا يرتبط بالمجعول، ولا بأس به.

الوجه الثالث: استصحاب عدم جعل الجزئية للجزء المشكوك، أو عدم جزئية الجزء المشكوك، وهذا أيضاً لا بأس به وقد مرت مباحثه.

ص: 325


1- فوائد الأصول 4: 183 (الهامش) .
المبحث الثاني: الدوران بين الأقل والأكثر في الشرط

وفيه أقوال:

القول الأول: جريان البراءة العقلية والشرعية عن وجوب الشرط، حيث لم يقم عليه بيان وهو ممّا لا يعلمون.

إن قلت: إنه في الحقيقة من المتباينين لا من الأقل والأكثر؛ لأن من أتى بالفاقد لم يأت بالمأمور به أصلاً لو كان الواجب هو الواجد، فلو كان الواجب عتق رقبة مشروطة بالإيمان، فعتق الكافرة لا يتضمن شيئاً من الواجب أصلاً حتى الأقل، وفي المتباينين لا بد من الاحتياط.

قلت(1): إن البراءة العقلية والشرعية مناطهما مقام تعلّق الأمر، ومن المعلوم أن متعلّقه هو الماهية، ففي هذا المقام يكون الأمر دائراً بين الأقل والأكثر فتجري البراءة عن الأكثر، فلو شككنا في أن المولى أمر بالرقبة أو بالرقبة المؤمنة فأمره بالرقبة معلوم فلا يجري أصل البراءة فيه، واشتراطه إيمانها مشكوك فيجري الأصل وينحل العلم الإجمالي.

القول الثاني: التفصيل بين أقسام الشرط، فتجري البراءة في ما لو كان من قبيل الشرط الذي له وجود مباين عن المشروط كالستر والصلاة، أو اتحدا وجوداً لكن نسبة الشرط إلى المشروط نسبة العارض إلى المعروض كالمؤمنة والرقبة، ويجري الاحتياط في ما لو اتحدا وجوداً وكانت النسبة نسبة المقوم لا العارض كالجنس والفصل، قال المحقق النائيني: «إذا كان

ص: 326


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 11: 188.

الأقل والأكثر من قبيل الجنس والنوع والأقوى: أنه يجب الاحتياط ولا تجري البراءة عن الأكثر، فإن الترديد بينهما وإن كان يرجع بالتحليل العقلي إلى الأقل والأكثر، إلاّ أنه خارجاً وبنظر العرف يكون من الترديد بين المتباينين؛ لأن الإنسان بما له من المعنى المرتكز في الذهن مباين للحيوان عرفاً، فلو علم إجمالاً بوجوب إطعام الإنسان أو الحيوان فاللازم هو الاحتياط بإطعام خصوص الإنسان؛ لأن نسبة حديث الرفع إلى كل من وجوب إطعام الإنسان والحيوان على حد سواء، وأصالة البراءة في كل منهما تجري وتسقط بالمعارضة مع الأخرى، فيبقى العلم الإجمالي على حاله، ولا بد من العلم من الخروج عن عهدة التكليف، ولا يحصل ذلك إلاّ بإطعام خصوص الإنسان؛ لأنه جمع بين الأمرين، فإن إطعام الإنسان يستلزم إطعام الحيوان أيضاً»(1).

ويرد عليه: أولاً: بأن الكلامين متنافيان؛ لأنه لو كانا من المتباينين عرفاً وجب التكرار عقلاً لامتثال أمر المولى.

وثانياً: بأن التباين في المثال ظاهر عرفاً وليس كلامنا في خصوص المثال، وإنما في الأمر الكلي، فلو غيرّنا المثال إلى الحيوان والفرس ونحوه لم يكن الترديد بين المتنافيين.

المبحث الثالث: دوران الأمر بين الأقل والأكثر في المحصِّلات

وذلك في ما لو كان المكلّف به واضحاً بحدوده، ولكن حصل الشك

ص: 327


1- فوائد الأصول 4: 208.

في ما يُحقِّقه ويحصِّله بأنه الأقل أو الأكثر، كما لو هجم حيوان فأمر المولى بقتله والمكلّف لا يعلم بأنه يُقتل بضربة سيف أو ضربتين؟

وفيه قولان:

القول الأول: الاحتياط عبر الإتيان بالأكثر.

واستدل له أولاً: بأن الذمة اشتغلت يقيناً، والاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية.

إن قلت: إن الاشتغال أصل مسببّي، حيث إن الشك في تحقق المأمور به ناشٍ عن الشك في وجوب الأكثر، وبإجراء البراءة عن الأكثر نعلم تعبداً بفراغ الذمة بالأقل!

قلت: الأصل السببي هنا لا يجري بالمعارضة أو بكونه مثبتاً، فإن أصالة عدم سببيّة الأقل معارضة بأصالة عدم سببية الأكثر، وأصالة عدم وجوب الأكثر لا تثبت سببيّة الأقل، وحيث لم يجر الأصل السببي تصل النوبة إلى الأصل المسببي.

وثانياً ما قيل: من أنّ بأن البراءة لا تجري؛ لأن أمرها دائر بين نفي أصل الوجوب أو نفي سببيّة الأكثر، أو نفي سببيّة الأقل، والأولان يقينيان فلا معنى للبراءة، والثالث تضييق على المكلّف فهو خلاف الامتنان فلا تجري أصالة البراءة حيث إنها للتوسعة، وحيث لم تجر أصالة البراءة لم يكن هناك مؤمِّن فلا بد من الاحتياط بالإتيان بالأكثر!

وفيه: أن حصول المأمور به عند الإتيان بالأكثر معلوم، وأما سببيّة الأكثر فلا، فلا محذور من إجراء أصالة البراءة حينئذٍ، مضافاً إلى وجود شقٍ رابع ٍ

ص: 328

هو نفي وجوب الأكثر ولا يعارضه البراءة عن الأقل حيث إنه معلوم قطعاً.

القول الثاني: تفصيل المحقق العراقي(1) بين أن يكون العنوان البسيط - الذي هو المأمور به - ذا مراتب متفاوتة متدرج الحصول والتحقّق من قِبل أجزاء علّته ومحقِّقه، بأن يكون كل جزء من أجزاء سببه مؤثراً في تحقق مرتبة منه إلى أن يتمّ المركّب، فتتحقق تلك المرتبة الخاصة التي هي منشأ الآثار، نظير مرتبة خاصة من النور حاصلة من عدة شموع... وبين ما لا يكون كذلك بأن كان العنوان البسيط غير مختلف المراتب دفعي الحصول والتحقّق عند تمام محقِّقه.

فعلى الأول: لا قصور في جريان أدلة البراءة عند الشك في المحقِّق ودورانه بين الأقل والأكثر، فإنّ مرجع الشك في دخل الزائد في المحقِّق حينئذٍ بعد فرض ازدياد سعة الأمر البسيط بازدياد أجزاء محقِّقه إلى الشك في سعة ذلك الأمر البسيط فتجري فيه البراءة عقليّها ونقليّها.

وعلى الثاني: فلا محيص عند الشك في دخل شيء من محقِّقه من الاحتياط.

وأشكل عليه في التبيين(2):

أولاً: بأن المفروض أن المولى لم يأمر بالمراتب المتدّرجة الوجود للنور مثلاً، وإنما المأمور به بسيط، وإلاّ فهو خروج عن الفرض، فإن المولى طلب مرتبة معينة من الإضاءة ولم يطلب المرتبة التي دونها حتى وإن كانت إضاءة، ولم يعلم تحقق ما أراده المولى

ص: 329


1- نهاية الأفكار 3: 401-402.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 11: 194.

بتسعة شموع مثلاً، فيكون مجرى قاعدة الاشتغال.

وثانياً: إن البسيط المطلوب لا سعة فيه ولا مراتب له، فكيف يقال بانبساطه؟!

المبحث الرابع: دوران الأمر بين التعيين والتخيير

وذلك في ما عُلم بالوجوب ولم يكن أصل لفظي أو أصل عملي حاكم، والكلام في صور ثلاث:

الصورة الأولى: الشك في الحجية، كفتوى الأعلم وغير الأعلم، وهنا مجرى أصالة التعيين عقلاً؛ وذلك لأن الشك في الحجية موضوع أو مسرح عدم الحجية؛ إذ لا يصح الاحتجاج بالمشكوك حيث إنه ليس قاطعاً للعذر، بل لا بد من القطع بالحجية، فلو سلك العبد الطريق المشكوك مع وجود الطريق المعلوم فلم يصب الواقع لم يكن معذوراً عقلاً.

الصورة الثانية: الشك بينهما في مورد التزاحم، كغريقين لا يمكنه إنقاذ كليهما.

وقد يقال: بالتعيين ويستدل له بأمور، ومنها:

الدليل الأول: قبح تفويت الملاك الملزم مع القدرة شرعاً وعقلاً، ففي صورة التزاحم لا بد من ترجيح الأهم، ومع احتمال الأهمية لا مؤمِّن في ترك محتمل الأهمية، فلو تبيّن بعد ذلك أنه كان الأهم واقعاً فقد ترك الأهم مع القدرة عليه عقلاً وشرعاً، أما عقلاً فلأنه كان يتمكن من فعل الأهم، وأما شرعاً فلأن الشارع لم يأمره بصرف قدرته في الآخر تعييناً بحيث لو امتثل ذاك عجز عن هذا، والحاصل: إنه ترك الملاك الملزم من غير عذر حيث لم

ص: 330

يكن له معجِّز عقلي ولا شرعي.

إن قلت: هنا أصل سببي حاكم وهي أصالة عدم الأهميّة، باستصحاب العدم الأزلي أو النعتي.

قلت: هو أصل مثبت؛ إذ لا أثر له إلاّ إثبات التخيير أو عدم التعيين، وكلاهما ليسا أثرين شرعيين.

الدليل الثاني: إن مرجع الوجوب التخييري إلى تقييد الأمر، بأن يكون الواجب مشروطاً بعدم الإتيان بالآخر، وهنا خطاب ما لا يحتمل أهميته مقيد حتماً، وأما ما يحتمل أهميته فلا يعلم تقييد إطلاقه فأصالة الإطلاق محكمة، وهو معنى التعيين.

وأشكل عليه: بأنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية؛ إذ كل خطاب مقيد عقلاً بعدم الاشتغال بالضد الأهم أو المساوي، وفي ما نحن فيه خطاب محتمل الأهمية أيضاً مقيّد بهذا القيد العقلي، ومع احتمال كونه مساوياً يكون خطابه مقيداً أيضاً، والحاصل: أن محتمل الأهمية إن كان أهم واقعاً كان خطابه مطلقاً، وإن كان مساوياً واقعاً كان خطابه مقيداً، فالتمسك بإطلاق الخطاب تمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

وفيه تأمل: أولاً: للنقض بكل قيد مشكوك؛ إذ كل خطاب مقيد عقلاً بوجود قيود الوجوب، فمع احتمال كون شيء قيداً لا يمكن نفيه بالإطلاق لأنه تمسك بالعام في الشبهة المصداقية، وهذا ما لا يمكن الالتزام به.

وثانياً: بالحلّ بأن الشك إنما هو في مقام الثبوت، وأصالة الإطلاق تجري في مقام الإثبات، فلا يكون من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، فتأمل.

ص: 331

الدليل الثالث: إنه لو امتثل محتمل الأهمية أفرغت الذمة قطعاً، بخلاف ما لو امتثل الآخر، وحيث إن الذمة مشغولة قطعاً فلا بد من الامتثال القطعي الذي لا يحصل إلاّ بفعل محتمل الأهميّة.

وأشكل عليه: بأن المعلوم هو اشتغال الذمة بالطبيعي، ولا يقين باشتغال الذمة بالحصة - المحتمل أهميتها - والأصل براءة الذمة عن انشغالها بها.

وفيه: إن كون الآخر في العبادات مصداقاً للطبيعي غير معلوم لأنها أسام ٍ للصحيح، وإثبات مصداقيتها عبر أصالة عدم انشغال الذمة بالحصة أصل مثبت، فتأمل.

الصورة الثالثة: دوران الأمر بين التعيين والتخيير في مقام جعل الأحكام الواقعيّة.

في ما لو علم بوجوب شيء قطعاً مع احتمال وجود عدل له، كما لو علم بوجوب الصلاة قصراً للمسافر خارج الحائر الشريف، واحتمل وجوب الصلاة تماماً أيضاً بنحو الوجوب التخييري بينهما، وفي المسألة قولان:

القول الأول: جريان البراءة عن التعيين؛ لأن التعيين قيد زائد مشكوك فيه والأصل عدمه، ولا يعارض بأن الأصل عدم التخيير؛ وذلك لأن التخيير ليس تضييقاً فلا مِنّة في رفعه، كما أنه ليس بمثبت؛ وذلك لأنه لا يراد إلاّ إثبات عدم التعيين.

وأشكل عليه بإشكالات، منها:

الإشكال الأول: تعارض إلزامين في التعيين والتخيير، فالإلزام في التعيين هو ثبوت الوجوب في المعيّن حتى مع الإتيان بالآخر، والإلزام في التخيير

ص: 332

هو حرمة الجمع بين تركهما وليس التعيين كذلك لعدم حرمة ضم ترك المباح إلى ترك الواجب، فأصالة البراءة من الإلزامين متعارضة فلا تجري في أيٍّ منهما.

ويرد عليه: إن الأصل في التخييري إما يستلزم المخالفة القطعية أو لا أثر له فلا يجري؛ إذ لو أريد عدم حرمة الجمع بين التركين عملاً فهو مخالفة قطعية، وإن أريد أثره العلمي بأن نعلم بأن وصف الضمّ غير محرّم فهذا لا أثر له عملاً.

الإشكال الثاني: ما في الفوائد(1):

بأن التعيين عدمي حيث إنه عدم جعل العِدل، وحديث الرفع لا يشمل العدميات؛ لأنها أمر تكويني والرفع التشريعي لا يرفع التكوينيات.

وأورد عليه: أولاً: بأن عدم ذكر العدل كاشف عن التعيين، كما أن ذكر العدل كاشف عن التخيير، والمكشوف أمر وجودي الذي هو إرادة المطلوب على كل حال أو إرادته في حال دون حال.

وثانياً(2): بأنه لو لم تجر البراءة الشرعية فلا مانع من جريان البراءة العقلية حتى في ما لا يمكن رفعه شرعاً؛ لأن العقل يدرك قبح العقاب بلا بيان سواء أمكن رفع غير المبيّن تشريعاً أو لم يمكن، وهنا الخصوصية التعيينية لم يتم البيان عليها سواء كانت وجودية أم عدمية وسواء أمكن رفعها تشريعاً أم لا، فيكون العقاب عليها عقاب بلا بيان.

ص: 333


1- فوائد الأصول 3: 426-428.
2- موسوعة الفقيه الشيرازي 11: 208.

القول الثاني: الاحتياط باختيار التعيين، واستدل له بأدلة، منها:

الدليل الأول: ما في الفوائد(1):

من أنّ المرجع قاعدة الاشتغال، لرجوع الشك فيهما إلى الشك في سقوط ما علم تعلّق التكليف به بفعل ما يحتمل كونه عِدلاً له.

وأشكل عليه: بأنه شك في الاشتغال لا الامتثال؛ إذ لا يُعلم توجه الخطاب في حال الإتيان بالعِدل؟

وغير خفي أن هذا الإشكال وارد بناءً على بعض المباني في الوجوب التخييري، والتي قد ذكرناها سابقاً(2):

1- فأما على مبنى أن مرجعه إلى واجبين مشروطين، حيث إن وجوب أحدهما هو في صورة ترك الآخر، فالإشكال وارد.

2- وأما على مبنى أنه وجوب متعلق بعنوان (أحدهما) الانتزاعي، فقد يقال: بعدم ورود الإشكال حينئذٍ؛ لأن الوجوب قد تعلّق إما بالمعيّن أو بعنوان أحدهما، ولا يُعلم سقوطه بعد الإتيان بالعِدل!

إن قلت: تعلّق التكليف بعنوان (أحدهما) معلوم في الجملة، وإنما الشك في الإطلاق والتقييد، فهل الواجب (أحدهما مطلقاً) فيكون تخييرياً، أو (أحدهما المتحصِّص بالخصوصية) فيكون تعيينياً، وعليه يكون الشك في الثبوت لا في السقوط!

ص: 334


1- فوائد الأصول 3: 428.
2- راجع نبراس الأصول 2: 78-87.

قلت(1): إن متعلق الوجوب في فرض كونه تعيينياً ليس عنوان أحدهما، بل العنوان الخاص، فحين الأمر بالصلاة مثلاً ليس متعلق الوجوب أحد الشيئين من الصلاة والزكاة مثلاً، بل الصلاة تعييناً، وعليه ففي ما نحن فيه تعلّق التكليف بعنوان أحدهما غير ثابت، بل عنوان أحدهما طرف في العلم الإجمالي، ولا يعلم بسقوط التكليف لو أتى بالعِدل، فيكون مجرى الاشتغال.

لكن يمكن ورود الإشكال بأن ما ذكر أصل مسببّي، وأما الأصل السببي فهو عدم الوجوب التعييني؛ إذ ما نحن فيه من العام والخاص المطلق في مقام الخارج - لا مقام المفهوم - لأن المعين أخص من أحدهما مطلقاً والأصل عدم الأخص، ولا يعارضه أصالة عدم الأعم؛ لأن عدم الأعم مع الإتيان بالأخص غير معقول، ومع عدم الإتيان به مخالفة قطعية لا تأمين عنها.

3- وأما على مبنى أن الوجوب التخييري هو مرتبة متوسطة بين الوجوب التعييني الذي لا يجوز تركه مطلقاً وبين الاستحباب الذي يجوز تركه لا إلى بدل، فالإشكال غير وارد حيث إن الشك في الامتثال بعد القطع بالاشتغال.

إن قلت: إن المقدار المعلوم ثبوته هو تأثير الحكم المعلوم بالإجمال في مقام الطاعة عند عدم الإتيان بالمحتمل الآخر، أما على تقدير الإتيان به فلا علم بما له تأثير في مقام العمل من التكليف، لاحتمال كون الثابت هو الوجوب التخييري الذي يكون قاصراً عن التأثير والمحركية على تقدير

ص: 335


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 11: 212.

الإتيان بالعِدل الآخر، فالتكليف على هذا التقدير لا يكون منجزاً، فيكون مورداً للبراءة.

والحاصل: إن المعلوم هو ثبوت التكليف في المعيّن حين ترك العِدل، وأما مع الإتيان به فأصل التكليف في المعيّن غير معلوم.

قلت: - مضافاً إلى النقض في كل موارد العلم الإجمالي بالوجوب مع الإتيان بأحد الأطراف كأن يصلي إلى جهة مع اشتباه القبلة في الجهات الأربع - الحلّ: بأنه قد مرّ وجوب الموافقة القطعية في موارد العلم الإجمالي ولا تحصل إلاّ بالإتيان بالمعيّن.

ثم إن هنا مبانٍ أخرى في تصوير الوجوب التخييري قد ذكرناها في ما مضى(1) يعلم ممّا ذكر صحة الدليل أو الإشكال عليه بناءً عليها.

الدليل الثاني: أصالة عدم وجوب العِدل.

وأشكل عليه: بعدم جريانها على المباني في الوجوب التخييري، أما على مبنى الوجوبين المشروطين فهي معارضة، فالأصل عدم وجوب التمام حين الإتيان بالقصر، وكذا الأصل عدم وجوب القصر حين الإتيان بالتمام في المثال، وأما على وجوب الجامع فلا تجري أصلاً لأن وجوب العِدل منتفٍ قطعاً؛ إذ ليس هو المعيّن ولا أحدهما، وأما على السِنخ المتوسط فإن أصالة عدم وجوب العِدل مثبت لأنه لا يثبت تعيين المعيّن.

ويمكن أن يقال: إن العِدل وإن لم يكن عنوان أحدهما لكن هذا

ص: 336


1- راجع نبراس الأصول 2: 78.

العنوان ينطبق عليه، وحيث لم يجر الأصل في الكلي فلا مانع من جريانه في المصداق، كما أنه يكفي أصالة عدم وجوب العِدل في بقاء التكليف في ذمة المكلّف بحيث يجب إفراغها عبر المعيّن، ولا حاجة إلى إثبات وجوب المعيّن حصراً، فتأمل.

الدليل الثالث: إن الوجوب التخييري فيه مؤونة زائدة ثبوتاً وإثباتاً، فالأصل عدمها، أما ثبوتاً فملاحظة العِدل، وأما إثباتاً فذكر العِدل في الدليل.

وفيه: أن في الوجوب التعييني أيضاً ملاحظة الإطلاق حيث لا يعقل الإهمال في الواقع، وأما الاستدلال في الإثبات فهو خروج عن البحث؛ لأن الكلام إنما هو في ما لم يوجد دليل لفظي، وإلاّ فالأصل هو الوجوب العيني التعييني النفسي، كما مرّ.

تنبيهات
التنبيه الأول: في نقصان الجزء أو الشرط لعذر

أي نقصان الجزء أو الشرط بالنسيان، أو بسائر الأعذار كالإكراه ونحوه، وكذا في ارتكاب القاطع أو المانع لأجل النسيان أو لسائر الأعذار، وفي الأمثلة نذكر النسيان ومنه يعلم سائر الحالات.

الأصل الأوّلي هو بطلان العمل بنسيان الجزء أو الشرط؛ لأن الكل عدم عند عدم جزئه، والمشروط عدم عند عدم شرطه، ولكن يمكن تصحيح العمل بدليل ثانوي، وقد ذكرت وجوه:

الوجه الأول: إن تكليف الناسي هو المركب الفاقد للجزء أو الشرط

ص: 337

المنسيّين، فيكون المأتي به مطابقاً للمأمور به، أما ثبوتاً فذلك ممكن، وأما إثباتاً فبدليل الرفع.

1- وأما الثبوت: فقد أشكل على إمكان توجيه الخطاب إلى الناسي بتكليفه بالناقص، حيث إنه إن لم يلتفت إلى كونه ناسياً فالخطاب لا يحرّكه فيكون لغواً، وإن التفت إلى نسيانه فينقلب إلى متذكر فلا يكون الخطاب متوجهاً إليه فيكون لغواً أيضاً.

وأجيب بأجوبة، ومنها:

الجواب الأول: عن الشِق الأول، بأن مصحِّح الخطاب لا ينحصر في الباعثية، بل يكفي في التصحيح وجود الداعي العقلائي، كالإجزاء حين الالتفات وعدم الحاجة إلى القضاء أو الإعادة، فإن الناسي غير الملتفت إلى نسيانه ينبعث عن الخطاب الأول الخاص بالمتذكر ولا ينبعث عن الخطاب الثاني الخاص بالناسي، لكن بعد تذكره ينكشف له انطباق المأتي به مع المأمور به وهو الخطاب الثاني، ولا دليل على لزوم الانبعاث الفعلي في صحة الخطاب(1).

الجواب الثاني: عن الشق الثاني، إمكان توجيه الخطاب إلى الناسي لا بعنوان الناسي، وإنما بعنوان آخر ملازم له.

لا يقال: لا أثر عملي لهذا فإنه تختلف أسباب النسيان ويختلف الأفراد فلا عنوان كلي ملازم له!

ص: 338


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 11: 221.

لأنه يقال: إن الكلام في التصحيح في مرحلة الثبوت ويكفي فيه الإمكان.

الجواب الثالث: ما في الكفاية قال: «كذلك يمكن تخصيصهما بهذا الحال بحسب الأدلة الاجتهادية، كما إذا وجّه الخطاب على نحو يعمّ الذاكر والناسي بالخالي عمّا شك في دخله مطلقاً، وقد دلّ دليل آخر على دخله في حق الذاكر»(1).

وأشكل عليه(2): بأن الخطاب الأول لا يخلو من أن يكون عاماً للمتذكر والناسي وهذا خلاف الفرض، أو مهملاً وهو محال، أو خاصاً بالناسي فعاد المحذور!

وفيه: اختيار الشق الأول وليس خلاف الفرض؛ لأنه خطاب مطلق وبنحو اللا بشرط فلا ينافي تقييده بدليل منفصل للملتفت بإضافة جزء أو قيد، كما لو أمر المولى كل عبيده بفعل مركب ثم أمر أحدهم فقط بإضافة جزء آخر.

الجواب الرابع: ما في نهاية الدراية قال: «إن ما عدا الأجزاء الأركانية يمكن أن يكون متقيّداً بالالتفات إليه، بأن يكون الدخيل في الغرض الجزء الذي التفت إليه المكلّف بطبعه، لا الجزء عن التفات كالصلاة عن طهارة حتى يجب تحصيله بقيده، بل القيد سنخٌ قُيّد بوجوده بطبعه ومن باب الاتفاق، أو يكون الجزء بذاته دخيلاً في الغرض، لكنه لا مصلحة في الإلزام

ص: 339


1- إيضاح كفاية الأصول 4: 274-275.
2- منتقى الأصول 5: 261.

به إلاّ إذا التفت إليه، وعلى أيِّ حال فلا جزئية إلاّ لذات الجزء الملتفت إليه، فالتكليف بنحو القضية الحقيقية متعلّق بالمكلّف بالإضافة إلى كل جزء من الأجزاء المعلومة بالأدلة مع الالتفات إليه، فمن التفت إلى الجميع فهو مأمور واقعاً بالجميع، ومن التفت إلى البعض فهو واقعاً مأمور بالبعض، وليس في أخذ الالتفات إلى ذات الجزء محذور أخذ النسيان»(1).

وحاصله: إن المجعول تكليف واحد بالمقدار الملتفت إليه، وعليه فالناسي قد امتثل ما أُمِر به كالمتذكر، فالمأمور به طبيعي ذو مراتب كالأمر بالصلاة حيث لها مراتب الصلاة من الرباعية إلى صلاة الغريق.

ولا يلزم من ذلك أخذ العلم بالحكم في موضوعه؛ وذلك لأن الموقوف عليه غير الموقوف عليه؛ إذ العلم بالجعل مأخوذ في موضوع المجعول.

ويشكل عليه: باستلزامه التصويب.

ولا ينفع في دفع التصويب القول بأن الحكم الإنشائي إنّما هو بواجد جميع الأجزاء والشرائط لكن لا فعلية للناسي إلاّ ما التفت إليه نظير الحكم الظاهري مع الواقعي.

وذلك لأنه لا إجزاء للظاهري بعد العلم بالواقعي، مع أن مورد الكلام في إجزاء ما أتى به بعد التذكر، فتأمل.

2- وأما الإثبات: فقد استدل بحديث الرفع، حيث إن جزئية المنسيّ في حالة النسيان مجهولة، فترتفع الجزئية بحديث الرفع.

وأشكل عليه بإشكالات، منها:

ص: 340


1- نهاية الدراية 4: 340.

الإشكال الأول: إن الرفع ظاهري لا واقعي، فلا يكون هنالك إجزاء، فتجب الإعادة أو القضاء بعد التذكر.

وفيه: أن الرفع وإن كان ظاهرياً، إلاّ أن الجهل بالجزئية لا يرتبط بالتذكر أو النسيان؛ إذ لا يرتفع هذا الجهل بالتذكر، وإنما يتذكر عدم إتيانه بالجزء، ويستمر الجهل بالجزئية، كما لا يخفى.

الإشكال الثاني: إن رفع الجزئية لا يدل على الأمر بالباقي؛ لأن حديث الرفع لا يدل على الوضع كما مرّ، فمع رفع الجزئية لا بد من قيام دليل آخر على الأمر بالباقي.

وفيه: أن وجوب الباقي إنما يستفاد من الدليل الدال على أصل الوجوب، وحديث الرفع إنما يرفع الجزئية الثابتة بأدلة الأجزاء، أو الشرطية الثابتة بأدلة الاشتراط، فإطلاق دليل الشرط والجزء يدل على الجزئية والشرطية في حال النسيان أيضاً إلاّ أن حديث الرفع يقيّد الإطلاق بحال التذكر، فتأمل.

الإشكال الثالث: لا يمكن رفع مدخلية الأجزاء والشرائط في الملاك؛ لأن المدخلية أمر تكويني غير قابل للرفع التشريعي، كما لا يمكن رفع فعلية التكليف بالمنسيّ لأنه غير قابل للوضع حيث إن التكليف الفعلي بالمنسي محال فيستحيل رفعه.

ويرد عليه: - مضافاً إلى ما مرّ من إمكان التكليف الفعلي بالمنسي إذا كان هناك مصحِّح عقلائي ولا يشترط إمكان المحرّكية - أن استحالة وضع ورفع التكليف الفعلي لا يلازم استحالة وضع ورفع الحكم الوضعي على غير القادر كوضع الضمان على العاجز والنجاسة على

ص: 341

غير القادر على الطهارة لترتب الأثر عليه ولو بعد ذلك، وفي ما نحن فيه يمكن وضع الجزئية حال النسيان ويترتب الأثر عليه بعد التذكر أو على غيره بوجوب القضاء على الولد الأكبر مثلاً، وحيث أمكن الوضع أمكن الرفع.

الإشكال الرابع: وهو خاص بما لو تذكر في الوقت لا ما لو استوعب النسيان كل الوقت قال في الفوائد: «ولا يمكن الاستدلال له بمثل قوله (صلی الله علیه و آله) : (رفع النسيان) فإن أقصى ما يقتضيه نسيان الجزء في بعض الوقت هو خروج زمان النسيان عن سعة دائرة التكليف الذي كان منبسطاً على مجموع الوقت، كما إذا خرج جزء من الزمان المضروب للعمل عن سعة دائرة التكليف بغير النسيان - من اضطرار أو إكراه أو نحو ذلك - فكما أن تعذر جزء المركب في بعض الوقت بغير النسيان من سائر الأعذار الأخر لا يقتضي رفع التكليف عن خصوص الجزء المتعذّر، بل يسقط التكليف على الكلّ رأساً في خصوص وقت العذر، ويخرج ذلك الوقت عن صلاحية وقوع المأمور به فيه، ويلزمه قهراً وقوع الطلب في ما عداه من سائر الأوقات الأخر التي يمكن إيقاع المركب فيها بما له من الأجزاء، كذلك تعذر جزء المركب في بعض الوقت بالنسيان لا يقتضي إلاّ سقوط التكليف عن الكل رأساً، لا عن خصوص الجزء المنسيّ»(1).

وحاصله: أنه لا يكفي في الإجزاء تحقق العذر في بعض الوقت؛ لأن المأمور به هو الكلي الطبيعي لا الفرد، والمكلّف قادر على الإتيان بالكلي

ص: 342


1- فوائد الأصول 4: 226-227.

الطبيعي، وليس الفرد الفاقد مصداقاً لذلك الطبيعي، وبعبارة أخرى: لم يعرض العذر على الطبيعي ليكون مرفوعاً بل عرض على الفرد وهو ليس مصداقاً للمأمور به، والظاهر أن هذا الإشكال تام لا يرد عليه شيء.

الإشكال الخامس: ما في الفوائد أيضاً قال: «معنى نسيان الجزء هو خلوّ صفحة الوجود عنه، وعدم تحققه في الخارج، ولا يعقل تعلّق الرفع بالمعدوم، لما عرفت من أن المرفوع لا بد وأن يكون شاغلاً لصفحة الوجود ليكون رفعه بإعدامه وإخلاء الصفحة عنه، فنسيان الجزء مما لا يتعلق به الرفع، فلا يعمّه قوله (صلی الله علیه و آله) : رفع النسيان»(1).

ويرد عليه: صغرىً: بأن المنسي الجزئية وهي أمر وجودي، فليس المرفوع ترك الجزء ليكون عدمياً.

وكبرىً: بأن ترك الجزء وإن كان عدمياً في الخارج، إلاّ أنه في الذهن أمر وجودي فيكون منشأً للأثر، فلا محذور في رفعه.

هذا تمام الكلام في الوجه الأول لتصحيح الفاقد للجزء نسياناً أو لغيره من الأعذار.

الوجه الثاني: إن الباقي وإن لم يكن مأموراً به إلاّ أنه يسقطه في حال النسيان وغيره، لتحقق الغرض به، كمن يأتي بالجهر مكان الإخفات أو بالعكس نسياناً، أو يصلى تماماً بدلاً عن القصر جهلاً، وأثر الترك عمداً هو وجوب الإعادة أو القضاء، فالرفع نسياناً يقتضي عدم ترتب هذا الأثر.

ص: 343


1- فوائد الأصول 4: 225.

وأشكل عليه في الرسائل قال: «إن جزئية السورة ليست من الأحكام المجعولة لها شرعاً، بل هي ككلّية الكلّ، وإنما المجعول الشرعي وجوب الكلّ، والوجوب مرتفع حال النسيان بحكم الرواية، ووجوب الإعادة بعد التذكر مترتب على الأمر الأول، لا على ترك السورة مثلاً... فالآثار المرفوعة في هذه الرواية نظير الآثار الثابتة للمستصحب بحكم أخبار الاستصحاب في أنها هي خصوص الشرعية المجعولة للشارع دون الآثار العقلية والعادية ودون ما يترتب عليها من الآثار الشرعية»(1).

وحاصله: أن الرفع هنا أصل مثبت حيث إن وجوب الإعادة أو القضاء من آثار ترك الكل بترك جزئه، لا أنهما من آثار ترك الجزء المنسي، أي إن ترك الجزء يلازمه عقلاً ترك الكل - لأن الكل عدم عند عدم جزئه - وحيث لم يأت بالعمل بكلّه لزمه الإتيان به الذي هو معنى الإعادة أو القضاء.

إن قلت: حديث رفع النسيان من الأدلة الاجتهادية فيترتب عليها الآثار الشرعية المترتبة على لوازمها العقلية!

قلت(2): الذي يدعيه الشيخ هو قصور دليل الرفع عن شمول مثل هذا المورد، واستظهاره أنه إنما يتكفل رفع الآثار الشرعية المترتبة على نفس المنسي خاصة؛ لأنه ناظر إلى الأدلة الدالة على ثبوت الأحكام في موارد المنسيّ، فمع عدم ثبوت الأثر للمنسي يكون الدليل قاصراً، فعدم شمول

ص: 344


1- فرائد الأصول 2: 367-368.
2- منتقى الأصول 5: 269.

حديث الرفع هاهنا ليس لأجل عدم حجيّته في اللوازم العقليّة كي يقال: إن هذا شأن الأصل العملي لا الدليل الاجتهادي، وإنما لأجل قصور دليله، ولذا جعله الشيخ نظير الاستصحاب لا أنه بحكمه.

وفيه(1): إنه وإن كان وجوب الإعادة والقضاء من آثار ترك الكل بالدقة العقلية، لكن بنظر العرف ذلك من آثار الجزء المنسيّ، فلا مانع من شمول دليل رفع النسيان لمثل المورد، هذا مضافاً إلى كون الواسطة خفيّة حتى لو كان رفع النسيان أصلاً عملياً، فتأمل.

الوجه الثالث(2): إن الناسي لا خطاب له أصلاً، لا بالتام لأنه غير مقدور فيستحيل الخطاب به، ولا بالناقص لاستحالة خطاب الناسي كما مرّ، وحيث يزعم الناسي كونه ذاكراً يأتي بالعمل الناقص، وبعد التذكر يشكّ في تولد خطاب متوجه إليه بأن ائت بالعمل التام، وهذا شك في التكليف، ومجراه البراءة العقلية والنقلية.

وأورد عليه: إنه قد يكون لدليل جزئية الجزء إطلاق، والإطلاق دليل اجتهادي، فلا تصل النوبة إلى الأصل العملي! إلاّ لو كان دليل الجزئية لبيّاً كالإجماع فيؤخذ بالقدر المتيقن وهو الجزئية في حالة الذكر، فتأمل.

التنبيه الثاني: في زيادة الجزء

سواء كانت الزيادة عمداً أم سهواً، بجزء مسانخ أو غير مسانخ.

والمأمور به إن كان مأخوذاً بشرط لا عن الزيادة فلا إشكال في حالة

ص: 345


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 11: 235.
2- الأصول: 789.

العمد في بطلانه، حيث لم يطابق المأتي به المأمور به، وأما في حالة السهو فيمكن شمول حديث رفع النسيان له.

وإن كان المأمور به لا بشرط فتجري البراءة والاستصحاب فلا يلزم القضاء أو الإعادة.

1- أما البراءة، فلأنه شك في التكليف حيث يشك في مانعية الزائد أو قاطعيّته كما يشك في وجوب الإعادة أو القضاء.

2- وأما الاستصحاب، فهو استصحاب عدم المانعيّة بالعدم الأزلي أو النعتي، أو استصحاب صحة الأجزاء السابقة قبل زيادة ذلك الجزء المشكوك في كونه قاطعاً أو مانعاً، اللهم إلا أن يقال: لا يوجد يقين سابق؛ لأن صحتها مشروطة بكون الأجزاء اللاحقة صحيحة أيضاً فمع الزيادة يشك في أصل صحتها، فتأمل.

التنبيه الثالث: الدوران بين الشرطية أو الجزئية والقاطعية أو المانعيّة

فهل هو من الدوران بين المحذورين حيث الحكم التخيير، أم لا حيث الحكم الاحتياط؟!

كما لو دار الأمر بين وجوب الجهر في صلاة الظهر يوم الجمعة أو وجوب الإخفات، فهل الجهر شرط أم قاطع؟ وكانحصار الساتر في ما لا يؤكل لحمه فهل هو شرط واجب أم هو مانع عن انعقاد الصلاة؟

قد يقال: بأنه من الدوران بين المحذورين فيتخيّر، قال الشيخ الأعظم: «لجريان أصالة البراءة مع الشك في الشرطية والجزئية، ولا مانع من إجرائها؛ لأن المانع عن اللزوم الغيري في كل من الفعل و الترك ليس إلاّ لزوم المخالفة القطعية، وهي غير قادحة؛ لأنها لا تتعلق بالعمل؛ لأن واحداً من

ص: 346

فعل ذلك الشيء وتركه ضروري مع العبادة، فلا يلزم من العمل بالأصل في كليهما معصية متيقّنة»(1).

وحاصله: عدم إمكان المخالفة القطعية حيث إن المصلّي لا يخلو من الجهر أو الإخفات مثلاً ولا حالة ثالثة، فاختيار كل طرفٍ مخالفة احتمالية، فلا محذور من إجراء الأصول في الطرفين والمخالفة الالتزامية ليست محذوراً.

ويرد عليه: أولاً: النقض: بما لو دار الأمر بين القصر والتمام حيث إن السلام في الركعة الثانية إما جزء أو قاطع، مع أنه لا إشكال في وجوب الاحتياط مع كونه من مصاديق ما نحن فيه.

وثانياً: بالحل: بأنه من دوران الأمر بين المتباينين مع إمكان الاحتياط بالإتيان مرتين، تارة مع ذلك الشيء، وتارة بدونه، وذلك للتمكن من المخالفة القطعية بترك العمل من رأس، والتمكن من الموافقة القطعية عبر التكرار. نعم، لو احتمل الحرمة كان من دوران الأمر بين المحذورين، ولا مناص من التخيير حينئذٍ.

ص: 347


1- راجع فرائد الأصول 2: 401.

فصل في قاعدة الميسور

اشارة

وهو من تتمات بحث الأقل والأكثر، فلو لم يقدر على الجزء فهل يجب الإتيان بباقي الأجزاء مع الشك في إطلاق دليل جزئية الجزء أو شرطية الشرط؟

قد يقال: بوجوب الباقي ويستدل له بالروايات وبالأصول العملية.

الاستدلال بالروايات

الحديث الأول: ما عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) : «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم»(1)

وإرساله مجبور بعمل الأصحاب به في العبادات وغيرها.

وأشكل عليه: أولاً: بأن «منه» وإن كان للتبعيض و«ما» موصولة، إلاّ أنه كما يحتمل كون (من) للتبعيض من الكل بأن يكون المعنى (إذا أمرتكم بشيء مركب فأتوا الذي استطعتم منه)، كذلك يحتمل كونها للتبعيض من الكلي بأن يكون المعنى (إذا أمرتكم بشيء كلي ذي أفراد فأتوا الأفراد التي استطعتم منها)، فإن الكلي وإن كان عين الأفراد - حيث ينتزع منها - وليست الأفراد أبعاضاً للكلي، إلاّ أن العرف قد ينظر إلى الطبيعة باعتبارها جامعة والأفراد بعضاً منها.

ص: 348


1- بحار الأنوار 22: 31.

وفيه: إن قوله (صلی الله علیه و آله) : «بشيء» يراد به المعنى الجامع بين الكل والكلي، ولا وجه لتخصيصه بأحدهما، والإطلاق يدل على ذلك.

وثانياً: أن مورد الرواية حول الحج في كل عام فلا يناسب الكل والأجزاء.

وفيه: إن خصوصية المورد لا تخصص الوارد، لأنه قوله (صلی الله علیه و آله) عام، بل قد يقال: إنه (صلی الله علیه و آله) ذكر التيسير في الحج بأنه يكفي مرة ثم أضاف تيسيراً آخر بالاكتفاء ببعض الأجزاء لمن عجز عن الكل.

وثالثاً: قد اتفقوا على عدم جريان قاعدة الميسور في الحج، وخروج المورد من الكلام قبيح، فلا بد من حمل الخبر على الكلي والأفراد.

وفيه: إن الفقهاء أجروا القاعدة في الحج أيضاً، إلاّ في من لم يتمكن من إدراك الموقفين اختياراً واضطراراً وذلك للنص الخاص.

الحديث الثاني: ما عن النبي (صلی الله علیه و آله) : «لا يترك الميسور بالمعسور»(1)

وعن أمير المؤمنين علي (علیه السلام) : «الميسور لا يسقط بالمعسور»(2)،

والسند كسابقه مجبور بالعمل، لكن أشكل في الدلالة بإشكالات، منها:

الإشكال الأول: إن «الميسور» شامل للواجب والمستحب، وظهوره هذا يتعارض مع ظهور «لا يترك» حيث إنه نهي دال على حرمة الترك، ولا أولوية في تخصيص الميسور بالواجب على رفع اليد عن حرمة الترك في «لا يترك».

ص: 349


1- عوالي اللئالي 4: 58.
2- مصابيح الظلام 7: 233.

وأجيب: أولاً: إن «الميسور» خاص بالواجب؛ لأن عمومه غير مراد حيث يشمل المباحات والمكروهات، بل والمحرمات وهي غير مطلوبة قطعاً لا كلّها ولا الميسور منها، فظهوره في المستحب ضعيف لذلك، فبقرينة «لا يترك» تخرج المستحبات أيضاً.

وثانياً: بأن «لا يترك» نفي وليس نهياً، فلا تفيد حكماً إلزامياً، فيكون مفاده ثبوت الحكم الذي كان قبل التعذّر - سواء كان واجباً أم مستحباً - وعليه فيبقى وجوب الواجب واستحباب المستحب.

الإشكال الثاني: إن «الميسور» كما يحتمل أن يراد به أجزاء الكل كذلك يحتمل أن يراد به أفراد الكلي، فالحديث مجمل!

وأجيب: أولاً: ظهور كلمة «الميسور» في الأجزاء من الكل لا الأفراد من الكلي؛ وذلك لعدم توهم سقوط سائر الأفراد بالعجز عن فرد منها، ولكن قد يتوهم سقوط الكل بسقوط بعض أجزائه، وذلك قرينة على أن المراد الأجزاء.

إن قلت: إنّ أمر الخبر دائر بين حمله على الأجزاء فيكون مولوياً، وبين حمله على الأفراد فيكون إرشادياً لحكم العقل بعدم سقوط فرد بتعذر فرد آخر!!

قلت(1): إن مجرى أصالة المولوية هو في صورة العلم بالمتعلّق مع الجهل بالمولوية والإرشادية، أما لو كان المتعلّق مجهولاً - كما لو تردد بين لفظين أو معنيين - فلم يثبت حمله على المولوية، وعلى هذا بناء العقلاء، مضافاً إلى ما مرّ من أن مجرد حكم العقل بشيء ليس سبباً لحمل كلام

ص: 350


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 11: 269.

الشارع المطابق له على الإرشادية.

وثانياً: ما مرّ من أنه لو فرض عدم ظهور «الميسور» في خصوص الأجزاء، فلا بد من حمله على معنى جامع بين الأجزاء والأفراد.

الإشكال الثالث: إن السقوط فرع الثبوت، والحكم الكلي ثابت لجميع الأفراد عند تشريع الحكم، ومع تعذّر بعضها يحكم بثبوته للباقي، أما في الأجزاء فالذي كان ثابتاً هو الوجوب الضمني للباقي وهو قد سقط قطعاً ويشك في ثبوت وجوب استقلالي له، فليس شك في بقاء الوجوب الأول كي يقال: بعدم سقوطه، بل في تحقق وجوب جديد وفي مثله لا يستعمل السقوط وعدمه.

ويرد عليه: أولاً: بأنه قد ورد أيضاً «لا يترك»، كما ورد «لا يسقط».

وثانياً: إن السقوط إمّا يسند إلى المتعلّق لا الحكم فالمعنى لا يسقط ذات الميسور الذي كان ثابتاً في ذمة المكلّف، حين كان الثابت جميع الأجزاء، وبتعذر بعضها لا يعلم سقوط الباقي عن الذمة أو عدم سقوطه، فيبيّن الحديث عدم السقوط، وإما يسند إلى الحكم والعرف يرى الاستقلالية والضمنية من حالات المتعلّق لا من مقوّمات الوجوب، ولذا يصح عرفاً القول ببقاء الوجوب أو سقوطه، فتأمل.

الحديث الثالث: ما عن أمير المؤمنين (علیه السلام) : «ما لا يدرك كله لا يترك كلّه»(1).

والكلام فيه سنداً ودلالة وإشكالاً وأجوبة هو كالكلام في الحديثين

ص: 351


1- عوالي اللئالي 4: 58.

السابقين.

قال الشيخ الأعظم: «مقتضى الإنصاف تمامية الاستدلال بهذه الروايات، ولذا شاع بين العلماء، بل بين جميع الناس الاستدلال بها في المطالب حتى أنه يعرفه العوام، بل النسوان»(1).

الاستدلال بالأصول العملية

ثم إنه لو فرض عدم تمامية الاستدلال بالروايات فيمكن الاستدلال بالأصول العملية لوجوب الباقي...

1- فقد يستدل بالاستصحاب، بإحدى الوجوه التالية:

الوجه الأول: استصحاب الوجوب الجامع بين الضمني والاستقلالي على فرض قبول المبنى بوجود الوجوب الضمني.

وأورد عليه: أولاً: بأنه استصحاب الكلي من القسم الثالث وهو ليس بحجة، حيث إن الوجوب الضمني مرتفع قطعاً؛ إذ كان هو في حال القدرة على تمام الأجزاء، والوجوب الاستقلالي للباقي مشكوك الحدوث.

وثانياً: إن الجامع بين الوجوب القابل للمنجزية والوجوب غير القابل لها لا يكون منجزاً، والوجوب الضمني للباقي غير قابل للمنجزية لفرض تعذر الكل. نعم، الوجوب الاستقلالي للباقي قابل للمنجزية، فالجامع بينهما لا يكون منجزاً.

وثالثاً: إن هذا الاستصحاب أخص من المدعى؛ لأنه لو عرض التعذر قبل الوقت فلم يعلم دخول شيء في ذمة المكلّف ليستصحب وجوبه بعد

ص: 352


1- فرائد الأصول 2: 394.

تعذّر بعض أجزائه.

إن قلت: يستصحب وجوب الباقي حتى لو تعذر الجزء أو الشرط قبل الوقت؛ وذلك لعدم اشتراط فعلية الموضوع الخارجي في القضية الحقيقية.

قلت: إن ما ذكر وإن كان صحيحاً - حيث لا يشترط فعلية الموضوع الخارجي في القضية الحقيقية - إلاّ أنه لا بد من فرضٍ مطابق للواقع لا فرضٍ غير مطابق له، ففرض الوجوب قبل الوقت ليتم استصحابه بعده فرضٌ باطل لا يطابق للواقع. نعم، يمكن فرض الوجوب بعد الوقت ثم استصحابه مع تعذّر بعض الأجزاء، فدّقق.

الوجه الثاني: استصحاب الوجوب النفسي الاستقلالي، حيث ثبت هذا الوجوب في ذمة المكلّف، ويشك في سقوطه بتعذر جزء المركب، فيستصحب الوجوب.

وفيه: إنه إن لوحظ متعلّق الوجوب فالأركان غير تامة؛ لأن وجوب التام قد سقط قطعاً بتعذر بعض أجزائه فلا شك لاحق، ووجوب الناقص لا يقين سابق له.

وإن لم يلاحظ المتعلّق كان أصلاً مثبتاً؛ إذ اللازم العقلي لوجود وجوبٍ ما والشك في سقوطه هو وجوب ما أمكن.

الوجه الثالث: استصحاب الوجوب باعتبار الوحدة العرفية بين الواجد للجزء والفاقد له.

وفيه(1): أن الاختلاف بالزيادة أو النقصان إنّما لا يقدح في وحدة

ص: 353


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 11: 244.

الموضوع إذا كان من الموضوعات الجزئية الخارجية، بخلاف الموضوعات الكليّة، فإن الاختلاف فيها قادح عرفاً.

والسِرّ في ذلك: أن ملاك الوحدة في الموضوعات الخارجية هو الوحدة الشخصية، وهي محفوظة مع الزيادة والنقصان، وأما الموضوعات الكلية فهي من سنخ المفاهيم، والمفاهيم تتباين عرفاً بالزيادة والنقيصة، حيث إنه في الذهن يتغاير كل مفهوم مع آخر، ولذا لا يجري الاستصحاب في نجاسة كلي الماء المتغيّر بعد زوال التغيّر، لكن يجري في الماء الخارجي الذي زال تغيّره.

وفي ما نحن فيه لا توجد صلاة في الخارج حتى نذكر الدليل على وجوبها؛ لأن الخارج ظرف السقوط لا ظرف الوجوب، بل الإشارة إلى العناوين الكلية، فيقال: الصلاة واجبة، وبذلك دخلت الواجبات في عالم المفاهيم، وفي ذلك العالم الصلاة الواجدة غير الصلاة الفاقدة، فهما حقيقتان عرفاً لا حقيقة واحدة، فتأمل.

2- وقد يستدل بالبراءة، وذلك برفع جزئية الجزء في حالة العذر، بيانه: أنه لا نعلم أن جزئية الجزء هل هي مطلقة حتى في حال العذر فيسقط الواجب لعدم القدرة عليه، أو أنها خاصة بحالة القدرة فتسقط الجزئية ويبقى الواجب وذلك لإطلاق دليل سائر الأجزاء.

وأشكل عليه: أولاً: بأن وجوب الباقي خلاف الامتنان، فلا يجري حديث الرفع الوارد في المنّة.

وفيه: إن رفع الجزئية امتنان وإن ثبت وجوب الباقي بدليل آخر؛ إذ الملاك في مجاري الأدلة هو مصبّها لا مآلها.

ص: 354

وثانياً: ما في نهاية الدراية قال: «لا مجال له أصلاً، إذا الجزئية والشرطية المجعولتان بالأمر بالمركب والمشروط مقطوع الانتفاء، لفرض التعذّر، والجزئية والشرطية بلحاظ مقام الغرض مشكوك الثبوت إلاّ أنهما واقعيتان لا مجعولتان حتى يعقل رفعهما بحديث الرفع»(1).

والحاصل: أن ما هو القابل للرفع - وهو الجزئية والشرطية للمأمور به - مرفوع قطعاً، وما هو مشكوك الارتفاع ليس قابلاً للرفع.

ويرد عليه: إن كلامنا أعم من العجز العرفي، وفيه لا يحكم العقل بارتفاع الجزئية فيمكن رفعها بالشرع، مضافاً إلى ما مرّ من إمكان بقاء الفعلية لترتب الأثر عليها بالقضاء أو الإعادة. نعم، لا مناص من ارتفاع التنجّز حين العجز.

وثالثاً: ما في نهاية الدراية أيضاً قال: «مضافاً إلى أن دليل الواجب إن كان له إطلاق لكفى في نفي الجزئية والشرطية عند التعذّر، وإن لم يكن له إطلاق كما هو مفروض الكلام فلا يفيد نفي الجزئية والشرطية بحديث الرفع للتعبد بالباقي؛ إذ ليس شأنه إلاّ الرفع لا الإثبات»(2).

وفيه: ما مرّ من وجوب الباقي إنما يثبت بإطلاق دليل المركب، وأن دليل الرفع إنما يرفع الجزئية، حيث إن هنا ثلاث أدلة: دليل وجوب المركب، ودليل جزئية الأجزاء، ودليل الرفع، فلا يراد إثبات وجوب الباقي بدليل الرفع، بل به ترتفع جزئية المتعذر، ويبقى الباقي تحت إطلاق دليل

ص: 355


1- نهاية الدراية 4: 380-381.
2- نهاية الدراية 4: 381.

الوجوب.

تتمات قاعدة الميسور
التتمة الأولى: هل يشترط كون الميسور والمعسور من جنس واحد؟

قال السيد الوالد(1):

ربّما يقال: بشمول ملاك قاعدة الميسور حتى لما لم يكن من جنس المعسور، كما إذا توقف ردع المعتدي على غير ما قُرّر في الشريعة الإسلامية، إلاّ أن يقال: إنه من باب الأهم والمهم لا من باب الميسور.

وحاصله: أن ملاك القاعدة هو أن الغرض لو كان ذا مراتب ولم يمكن المعسور المشتمل على المرتبة العليا فلا بد من الميسور المشتمل على مرتبة أدنى من الغرض، ولا فرق في ذلك بين كونهما من جنس واحد أو من جنسين، فالغرض من تعزير المعتدي هو ردعه فإن لم يمكن تعزِيره لعدم بسط يد حاكم الشرع فيمكن إخبار السلطة التي تحبسه لذلك!

إلاّ أن ذلك قد يصح في ما لو علمنا بالملاك، وأكثر ملاكات الأحكام غير معلومة، والمعلوم منها إما حكمة لا علة أو فائدة تترتب من غير كونها الغرض! وفي مثال المعتدي لعلّه من باب الأهم والمهم لا قاعدة الميسور.

التتمة الثانية: المعسور في المستحبات

كما لو أمكنه زيارة عاشوراء بسلام واحد ولعن واحد، وقد يقال: بشمول القاعدة للمستحبات لوجوه، منها:

الدليل الأول: ليس معنى «لا يترك» الحرمة، ولا معنى «فأتوا» الوجوب،

ص: 356


1- الأصول: 797.

بل الظاهر العرفي من الأحاديث هو أن الحكم الثابت للشيء قبل العجز ثابت له بعد العجز عن بعض الأجزاء والشرائط، من غير فرق بين المستحب والواجب، كما لو أمر المولى بأوامر إلزامية وغير إلزامية ثم قال: لا تترك ما قلته لك في حال العجز عن بعض الأجزاء، فلا ظهور له في الحرمة، بل في بقاء الحكم السابق.

الدليل الثاني: أولوية المستحبات بمعنى أنه لو اكتفى بالواجب ببعضه في حالة العجز فاكتفاؤه في المستحب ببعضه بطريق أولى.

وفيه: أنه قد تكون الأولوية بالعكس؛ إذ لعل الأمر بالميسور في الواجبات لقوة ملاكها بحيث لا يرضى الشارع بفوات تلك الملاكات ولو المرتبة الدنيا منها، عكس المستحبات التي ملاكاتها ليست بتلك القوة ويمكن رفع اليد عنها حين العجز عن المرتبة العليا منها، فتأمل.

التتمة الثالثة: في جريان القاعدة في الشرط

لا فرق في القاعدة بين الجزء والشرط؛ وذلك لإطلاق الدليل، وجريان الأصل العملي.

وأشكل عليه: بأن الدليل يدل على الأجزاء فقط، حيث إن «من» في قوله (علیه السلام) : «فأتوا منه بما استطعتم»(1)

للتبعيض، وهو لا يكون إلاّ في الأجزاء، وكذلك «كل» في قوله (علیه السلام) : «ما لا يدرك كله لا يترك كله»(2)

هو في الأجزاء لأنها البعض أو الكل، أما الشرائط فليست من الأجزاء، وكذلك «لا

ص: 357


1- عوالي اللئالي 4: 58.
2- عوالي اللئالي 4: 58.

يسقط» في قوله (علیه السلام) : «الميسور لا يسقط بالمعسور»(1) لا يستعمل إلاّ في ما له مقتضي الثبوت، وفاقد الشرط ليس له مقتضي الثبوت وذلك للتباين كالرقبة المؤمنة والكافرة.

وفيه: أنّه لا فرق عرفاً بين الجزء والشرط بعد ما كان المأمور به مركباً منهما، وبذلك يصح عرفاً استعمال من والبعض في الشروط، كما أنه قبل التعذّر كانت الفعلية متحققة فضلاً عن الاقتضاء فكان ثابتاً ومع تعذر الشرط يشك في سقوطه، فصح استعمال السقوط وعدمه. نعم، لو كانا عرفاً من المتباينين لم يكن الفاقد للشرط ميسوراً عرفاً.

التتمة الرابعة: الدوران بين ترك الجزء أو الشرط

كما لو اشترط وحدة المجلس في زيارة عاشوراء، فدار أمره بين حفظ وحدة المجلس مع ترك تكرار اللعن والسلام، أو تكرارهما في مجلسين، فهنا احتمالات:

1- ما في الرسائل من أن: «الظاهر تقديم ترك الشرط، فيأتي بالأجزاء تامة في غير المجلس؛ لأن فوات الوصف أولى من فوات الموصوف، ويحتمل التخيير»(2).

2- ما في الوصائل(3):

من الترجيح بمرجحات باب التزاحم كالترجيح بالأهمية وبمحتملها وبالأسبقيّة زماناً، وغير ذلك مما مرّ، فمع دوران الأمر

ص: 358


1- مصابيح الظلام 7: 233.
2- فرائد الأصول 2: 398.
3- الوصائل إلى الرسائل 10: 153.

بين ترك الوضوء أو ترك السورة الترجيح لترك السورة؛ لأن الوضوء أهم حيث إنه ركن، ومع عدم وجود المرجحات فالتخيير؛ لأن دليل الميسور يشملهما على حدّ سواء ولا وجه للترجيح من غير مرجح.

التتمة الخامسة: الدوران بين البديل والمبدل الناقص

كما لو دار الأمر بين الصلاة من جلوس بوضوء أو الصلاة من قيام بتيمم.

قال الشيخ الأعظم(1)

وجهان: من أن مقتضى البدلية كونه بدلاً عن التام فيقدّم على الناقص كالمبدل، ومن أن الناقص حال الاضطرار تام لانتفاء جزئية المفقود، فيقدّم على البدل كالتام، ويدل عليه رواية عبد الأعلى قلت لأبي عبد الله (علیه السلام) : إني عثرت فانقطع ظفري، فجعلت على إصبعي مرارة فكيف أصنع بالوضوء؟ قال: «يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عز وجل {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٖ}(2)

امسح عليه»(3).

وأشكل عليه المحقق العراقي(4):

بأنه ليس مفاد الأخبار تنزل الباقي منزلة الكل وإنما مفادها عدم سقوط ما ثبت في العهدة من التكليف المتعلّق بالأجزاء الباقية.

وحاصله: أن أدلة الميسور ليس معناها أن الناقص ينزل منزلة التام كي تثبت له جميع أحكامه، بل مفادها بقاء الوجوب، وكذلك دليل البدلية يدل

ص: 359


1- فرائد الأصول 2: 398.
2- سورة الحج، الآية: 78.
3- الكافي 3: 33؛ وسائل الشيعة 1: 464.
4- نهاية الأفكار 3: 461.

على وجوب الإتيان بالبدل، ولا ترجيح لأحدهما على الآخر، وحيث إنهما متعارضان وقد علم عدم وجوب الجمع بينهما فيكون المكلف مخيراً بينهما.

وأورد عليه: بأن ظاهر أدلة الميسور هو بقاء الوجوب السابق بنفسه وذلك بحكومة دليل الميسور على دليل المبدل منه فيوسّع المتعلّق، ومعه لا تصل النوبة إلى البدل.

التتمة السادسة: القاعدة في المحرمات

كما لو تمكن من بعض الحرام، فإنه لا يسقط الباقي؛ وذلك لإطلاق كلمة الميسور حيث يشمل الفعل والترك، كما لو اضطر لحلق بعض لحيته فلا يجوز له حلق كلها؛ لأن الترك الجزئي ميسور، فتأمل.

التتمة السابعة: في إطلاق دليل الجزء

فلو كان دليل الجزء مطلقاً بحيث يشمل حال التعذر كقوله (علیه السلام) : «لا صلاة إلاّ بطهور»(1) فمع قطع النظر عن الأدلة الخاصة لو تعذر ذلك الجزء فهل تجري قاعدة الميسور؟

قد يقال(2): إنه يتعارض دليل القاعدة مع دليل جزئية الجزء لإطلاق كليهما، فيكون المرجع قواعد باب التعارض! وليس قاعدة الميسور حاكمة على دليل جزئية الجزء، بل كلاهما حاكمان على دليل المركب، وأما دليل الميسور فليس حاكماً على دليل الجزئية لعدم النظر والتفرّع الذي هو ملاك الحكومة.

ص: 360


1- تهذيب الأحكام 1: 50؛ وسائل الشيعة 1: 369.
2- منتقى الأصول 5: 304-305.

وأشكل عليه(1): بأن دليل الجزئية هو تفسير وتبيين لدليل المركب، فهما في الحقيقة دليل واحد - أحدهما مجمل والآخر مفصّل - وقاعدة الميسور حاكمة على المبيِّن والمبيَّن، وعليه فلا فرق بين دليل الأجزاء فكلها مطلقة تشمل حال القدرة وحال التعذّر، ودليل الميسور حاكم على جميعها.

التتمة الثامنة: خروج بعض الموارد عن القاعدة

كما في فاقد الطهورين حيث أفتى بعض الفقهاء بسقوط الصلاة عنه أداءً، وثبوتها قضاءً، فالصلاة من غير طهور وإن كانت ميسوراً إلاّ أن الشارع لم يردها للدليل الخاص، فهل ذلك حكومة في الموضوع بتخطئة العرف في زعمه أنه ميسور، أو أنه تخصيص في الحكم بمعنى خروجه عن حكم الميسور لا عن موضوعه؟ احتمالان.

التتمة التاسعة: التعذّر بسوء الاختيار

كما لو فاته الوقوف بعرفات بسوء اختياره، فهل يكون الوقوف الاضطراري مشمولاً للقاعدة مع قطع النظر عن الأدلة الخاصة؟ احتمالان:

الاحتمال الأول: عدم شمول القاعدة له، لظهور المعسور في ما لو لم يكن التعذر من قِبل المكلف نفسه، بمعنى انصراف القاعدة عن هذا الفرد، وعليه فيبطل العمل.

والاحتمال الثاني: شمولها له، لإطلاق الأدلة وعدم الانصراف، كما يظهر من فتوى الفقهاء بذلك في موارد متعددة من الفقه، وذلك منبّه

ص: 361


1- موسوعة الفقيه الشيرازي 11: 289.

وجداني لعدم الانصراف، كفتواهم بأن من أدرك ركعة من الوقت فقد أدرك الوقت حتى لو كان التأخير عمداً، وكفتواهم بصحة الصوم مع التيمم لمن كان مجنباً وأخّر الغسل إلى قرب الفجر بحيث لم يسعه الوقت للغسل، وغير ذلك.

التتمة العاشرة: شمول القاعدة للأحكام الوضعيّة

وذلك للإطلاق، كمانعية جلود ما لا يؤكل لحمه عن الصلاة، فلو اضطر إليها لبرد ونحوه ارتفعت المانعية بالقاعدة، بل يقال: إنه لو كان للمانعية مراتب وتعذرت المرتبة العليا مع التمكن من المرتبة الدنيا شملته القاعدة، كما لو تنجس بالبول ولم يتمكن إلاّ من الغَسل مرة واحدة للصلاة أو تنجس موضعان من بدنه ويمكن تطهير أحدهما دون الآخر، وكذا في السببية كما لو اضطر إلى التذكية مع تمكنه من قطع ثلاثة أوداج دون الرابع، فتأمل.

ص: 362

فصل في قاعدة لا ضرر

اشارة

وفيها بحوث:

البحث الأول: في دليل القاعدة

وقد استدل لها بأدلة متعددة إلاّ أن عمدتها الأخبار، وخصوص موثقة عبد الله بن بكير عن زرارة في قصة سمرة، حيث قال الرسول (صلی الله علیه و آله) : «لا ضرر ولا ضرار»(1)،

وخبر ابن مسكان عن زرارة: «لا ضرر ولا ضرار على مؤمن»(2)،

ومرسلة الصدوق: «لا ضرر ولا إضرار في الإسلام»(3).

وغير خفي تواتر: «لا ضرر ولا ضرار» وذلك يغنينا عن البحث في أسانيده.

وإنما الكلام في أن قيدي «في الإسلام» و«على مؤمن» لم يردا إلاّ في المرسلتين، والظاهر عدم تأثيرهما في أصل الحكم ولا في فهم الرواية، وإن اُدّعي كونهما قرينة على بعض الاستنباطات.

ثم لا بأس بالكلام في بعض الأحاديث التي ورد فيها إشكالات:

ص: 363


1- الكافي 5: 292؛ من لا يحضره الفقيه 3: 233؛ تهذيب الأحكام 7: 146؛ عنهم وسائل الشيعة 25: 429.
2- الكافي 5: 294؛ وعنه في وسائل الشيعة 18: 32.
3- من لا يحضره الفقيه 4: 334؛ وعنه في وسائل الشيعة 26: 14.

الحديث الأول: مرسلة الصدوق المذيلة بقوله: «في الإسلام» فقد أدّعي أنه قرينة على كون (لا) للنفي لا للنهي، حيث إنه لا معنى لجعل الإسلام ظرفاً للضرر ثم النهي عنه، بل لا يوجد ضرر في الإسلام ليتم النهي عنه، ولذا حاول البعض إنكار كون «في الإسلام» من حديث الرسول (صلی الله علیه و آله) وإنما هو من تتمة استدلال الصدوق بهذا الحديث، حيث قال في الفقيه: «وإن الله إنّما حرّم على الكفار الميراث عقوبة لهم بكفرهم، كما حرّم على القاتل عقوبة لقتله، فأما المسلم فلأيّ جرم وعقوبة يحرم الميراث؟ وكيف صار الإسلام يزيده شراً؟ مع قول النبي (صلی الله علیه و آله) : الإسلام يزيد ولا ينقص، ومع قوله (صلی الله علیه و آله) : لا ضرر ولا إضرار في الإسلام، فالإسلام يزيد المسلم خيراً ولا يزيده شراً، ومع قوله (صلی الله علیه و آله) : الإسلام يعلو ولا يعلى عليه»(1).

والإنصاف قوة ظهور كون «في الإسلام» من الرواية لا من كلام الصدوق، ولذا فَرّع على بقوله: «فالإسلام يزيد...» حيث هو تفريع على كلا الحديثين.

وقد أقام صاحب المنتقى عدة قرائن على أن «في الإسلام» من كلام الصدوق في استدلاله(2)!

لكنها وإن أوجبت احتمالاً إلاّ أنها لا تخلّ بظهور كونه من الحديث لا من كلام الصدوق.

منها: جواز النقل بالمضمون وقد تعارف تذييل التشريع بمثل لفظة (في القانون) و(في الإسلام) وأمثال ذلك، وحيث إن الرسول (صلی الله علیه و آله) نفى الضرر

ص: 364


1- من لا يحضره الفقيه 4: 334.
2- منتقى الأصول 5: 385-387.

بلحاظ تشريعه جاز أن يضاف إلى قوله (صلی الله علیه و آله) : «لا ضرر ولا ضرار» كلمة «في الإسلام».

وفيه: أن تصدير الصدوق الكلام ب-«مع قوله...» ثم التفريع عليه ب-«فالإسلام يزيد» ظاهر في كون الكلمة من كلام النبي (صلی الله علیه و آله) .

ومنها: ارتكاز الأشباه والنظائر قد يوقع الإنسان في الغفلة، ولهذه الجملة أشباه كثيرة مثل: «لا رهبانية في الإسلام»(1)،

و«لا مناجشة في الإسلام»(2)، ونحو ذلك، وأصالة عدم الغفلة لا يبنى عليها إذا كان احتمال الغفلة معتداً به.

وفيه: أن كثرة الأشباه يقرّب كون الكلمة من كلامه (صلی الله علیه و آله) لتعارف أمثالها، مضافاً إلى أن أصالة عدم الغفلة وإن كانت لا تجري مع كثرة الغفلة إلاّ أنها تجري مع كثرة النظائر واحتمال الغفلة لأجل كثرتها، فالكثير هنا هو النظائر لا الغفلة بنفسها وهذا غير مانع عن جريان أصالتها.

ومنها: إنها لو كان من كلام الرسول (صلی الله علیه و آله) فلا يصح إلاّ بتقدير، إذ الظرفية لا تصح بلحاظ نفس الضرر؛ إذ لا معنى له، كما لا تصح بلحاظ النفي؛ لأنه مفاد الحرف وهو لا يصلح لأن يكون طرفاً للربط، فلا بد من تقدير، بخلاف ما لو كانت راجعة إلى كلام الصدوق فيكون «في الإسلام» مرتبطاً ب-(وقوله (صلی الله علیه و آله) ) فيكون المعنى وقوله في الإسلام: لا ضرر ولا ضرار، ويراد من القول الجعل و التشريع!

وفيه: مع قطع النظر عن المباني فإن التقدير لتصحيح الكلام أولى عند

ص: 365


1- جامع أحاديث الشيعة 20: 21.
2- قاعدة فقهية جرت على ألسن الفقهاء مصطيدة من الأخبار.

العقلاء من الحمل على زيادة الكلام أو ارتكاب خلاف الظاهر، مع أن الضرر لو كان نفياً فلا حاجة إلى التقدير؛ إذ يكون المعنى حينئذٍ: الإسلام ليس منشأً للضرر.

ومنها: أن جملة «لا ضرر ولا ضرار» من ذيول قصة سمرة أو غيرها، وليست مستقلة بالبيان ولا ظهور لكلام الصدوق في أنها واردة ابتداءً؛ لأنه ليس في مقام نقل الرواية، بل في مقام الاستدلال بهذه الفقرة، وجميع روايات قصة سمرة وغيرها خالية عن قيد «في الإسلام»، وعليه فيدور الأمر بين نقص تلك الروايات أو زيادة هذه، وأصالة عدم الزيادة وإن كانت مرجحة إلاّ أن تظافر النقل من دون هذه الزيادة يمنع جريانها.

وفيه: أن تعدد الواقعة وكونها قاعدة عامة سبَّب كثرة استعمال هذه الجملة، وعدم استعمال قيد غالباً ليس ظاهراً في زيادته غفلةً، وعلى كل حال ما ذكر لا يكفي لرفع اليد عن أصالة عدم الزيادة هنا.

ثم إن غالب ما ذكر في قيد «في الإسلام» يجري في قيد «على مؤمن».

الحديث الثاني: في تعليل الشفعة ب-«لا ضرر»، فعن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال: «قضى رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالشفعه بين الشركاء في الأرضين و المساكن وقال: لا ضرر ولا ضرار، وقال: إذا رُفَّتِ الأُرَفُ وحُدَّتِ الحدودُ فلا شفعة»(1).

وحيث وردت إشكالات على ارتباط لا ضرر بالشفعة، فقد التزم البعض بأنهما حديثان مستقلان جمعهما الراوي في الرواية.

ص: 366


1- الكافي 5: 280؛ وعنه في وسائل الشيعة 25: 400.

وفيه: إن سبق جملة «لا ضرر ولا ضرار» ولحوقها بأحكام الشفعة قرينة ظاهرة على أنه ليس من جمع الرواية بفعل الراوي، بل هو جمع المروي في كلام النبي (صلی الله علیه و آله) ، وإلاّ فلم يكن وجه في إقحام قاعدة مستقلة في وسط حكمين لموضوع واحد لا ارتباط لهما بها، مضافاً إلى أنه حتى لو فرض كونهما كلامين مستقلين إلاّ أن الظاهر هو جمع الإمام الصادق (علیه السلام) لهما في كلامه، حيث حكى فعل النبي (صلی الله علیه و آله) ثم قوله، وإضافة «وقال» بعد حكاية الفعل لا بد منه، وإلاّ احتاج إلى تقديره مع ركاكة الكلام.

وقال المحقق النائيني: «فعلى فرض اقتران حديثي الشفعة ومنع الفضل بهذا الذيل، لا بد من جعله حكمة للتشريع»(1)، فلذا لا يدور حكم الشفعة مدار الضرر.

وأشكل عليه: بأن وحدة اللفظ يبعّد حمله في مورد على الحكمة وفي مورد آخر على العلة!

وأجيب: بأن الحكمة أيضاً علة إلاّ أنها علة للجعل لا للمجعول، فإن علة جعل حكم الشفعة هو كون الشركة مع المشتري ضررية أحياناً، وقد وقع نظيره في تعليل حرمة الخمر بكونه مسكراً فهو حكمة بالنسبة إلى الكميّة وعلّة بالنسبة إلى التعدي لكل مسكر، فتأمل، فإن المثال لا يرتبط بما نحن فيه؛ إذ هو علة على كل حال؛ لأنّ المقصود أن طبعه الإسكار ولا يراد الإسكار الفعلي، وعليه فهو علة للكميّة وللتعدي.

أقول: وحيث إن جميع الإشكالات قابلة للدفع فلا وجه لرفع اليد عن

ص: 367


1- منية الطالب 3: 371.

ظهور الرواية في كون الشفعة من مصاديق قاعدة نفي الضرر، وأما الإشكالات...

1- فمنها: أن لا ضرر رافع للحكم لا أنه يثبت حق الشريك في الشفعة، فمقتضاه هو تسلط الشريك على فسخ البيع ليرجع المال إلى الشريك الآخر لا أخذه هو المال بالشفعة!

وفيه: أن الاستدلال بلا ضرر هنا لرفع لزوم البيع، وأما إثبات الشفعة فبدليل آخر، ومن المتعارف ضم مطلبين ثم الاستدلال لأحدهما دون الآخر.

2- ومنها: أنه لا يتحقق ضرر فعليّ في بيع الشريك حصته. نعم، يحتمل الضرر مستقبلاً بفعل المشتري كما يحتمل عدم الضرر، بل قد يكون فيه النفع!

وفيه: أن الضرر المنفي ليس الضرر الناشء عن المشتري ولا عن نقص مالية حصة الشريك، وإنما من تشريع عدم حق الشريك في الفسخ بأن تتحقق له شركة قهرية مع شخص لا اختيار له بشركته.

3- ومنها: إن «الضرار» لا يناسب الشفعة؛ لأنه بمعنى الضرر بين الطرفين وليست الشفعة كذلك.

وفيه: إن بيان القاعدة العامة مع انطباق جزء منها على المورد لا محذور فيه، مضافاً إلى ما سيأتي في معنى الضرار.

الحديث الثالث: في تعليل منع فضل الماء، فعن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال: «قضى رسول الله (صلی الله علیه و آله) بين أهل المدينة في مشارب النخل أنه لا يمنع نفع شيء، وقضى بين أهل البادية أن لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلاء

ص: 368

فقال: لا ضرر ولا ضرار»(1)

وهنا تساؤلات غير ما مرّ في الشفعة.

فمنها: إن منع فضل الماء ليس بحرام، بل هو مكروه، كما عن مشهور الفقهاء.

ومنها: أنه ليس إضراراً، بل عدم إيصال نفع، فأيّ ربط له ب-«لا ضرر»؟!

وأجيب: أولاً: بأن المراد هو إضرار صاحب الماء بنفسه بإتلافه مرعاه، وذلك لأن منع الماء عن ماشية الغير يصير سبباً لنقلها إلى مكان آخر، وبذلك يتلف العلف من مرعى مانع الماء، فيكون ضرراً عليه وهو غير جائز، وعليه فلا ربط لقاعدة لا ضرر بالغير، بل بالنفس.

وثانياً: حتى لو أريد الضرر بالغير، فإنه أحياناً يكون عدم النفع ضرراً كما سيأتي، وعليه فلا محذور في التزام حرمة منع فضل الماء، ولو فرض إعراض الفقهاء عن الحرمة فلا مضايقة في تخصيص دليل الضرر، فتأمل.

البحث الثاني: في مفردات القاعدة، وهي (لا) و(ضرر) و(ضرار)
المفردة الأولى: الضرر
اشارة

وفيه مطالب:

المطلب الأول: في معنى الضرر

فقد يقال: إنه النقص في المال أو الجسم أو العِرض.

وقد يقال: إنه السوء والضيق ونحوهما.

وقد يجمع بينهما فيقال: إنه النقص في أحد الثلاثة مع تسبيبه بحسب

ص: 369


1- الكافي 5: 293؛ وعنه وسائل الشيعة 25: 420.

طبعه الشدة والضيق النفسي، ولا يشترط حصول الضيق النفسي بالفعل فيدخل فيه صورة جهل صاحبه به.

وقد يقال: إنه النقص في ما لا ينبغي أن يكون ذلك النقص فيه، فليس من الضرر صرف المال في نفقة العيال ومؤونة نفسه حتى لو كان سبباً لنقص المال، وهذا هو الأقرب والأسلم من الإشكالات.

وغير خفي أن الضرر في العِرض لا يتحقق إلاّ لو كان مستلزماً لنقص فيه ولو من جهة سلب حق من حقوق الإنسان تجاه عرضه، كما في قصة سمرة حيث سلب حرية نساء الأنصاري في بيتهن، وكما لو زنت أخته فهو ضرر عليه لنقص في ماء وجهه وإن لم يتضمن سلب حق من حقوقه.

المطلب الثاني: في ضد الضرر

إن (الضرر) اسم مصدر، ولكن لم يوضع لمقابله لفظ خاص، ولذا استعيرت له كلمة (النفع) الذي وُضع للمصدر أساساً ويقابله (الضر) بالفتح والضم، كما في قوله: {لَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا}(1)(2).

وأما جعل المنفعة مقابل الضرر فلا تساعد عليه اللغة؛ لأنها أيضاً مصدر، بل قيل: إنها نفع في المال فقط.

المطلب الثالث: في عدم النفع

قد يقال: إن عدم النفع ليس من الضرر.

ص: 370


1- سورة الرعد، الآية: 16.
2- قال الخليل: الضُرّ والضَرّ لغتان، فإذا جمعت بين الضَرّ والنفع فتحت الضاد، وإذا أفردت الضُرّ ضممت الضاد إذا لم تجعله مصدراً؛ كتاب العين 7: 6.

لكن يمكن أن يقال: إنه لو تمّ مقتضي النفع فمنع عنه مانع كان عند العرف من الضرر حقيقة لا مجازاً أو مسامحة، كالتاجر الذي يتاجر برأس ماله ثم لا يربح ولا يخسر.

وقد يورد إشكال: أنه لو كان كذلك فلماذا لا محذور من فتح دكان يؤثر على ربح الدكان السابق مع أنه ضرر عرفاً.

ويجاب: بأنه وإن كان ضرراً إلاّ أن دليل الضرر قابل للتخصيص، ومنه ما لو عمل الإنسان عملاً مباحاً لرزقه مثلاً فيؤثر ذلك في عدم نفع الآخرين أو قلة أرباحهم!

وفيه: أن إطلاق الضرر على الأمثلة المذكورة إنما هو لحصول النقص، ففي المثال إن التاجر وإن لم ينقص ماله إلاّ أن ضياع جهده هو نقص، وكذلك عدم النفع مع تمامية المقتضي بمنع مانع هو نقص في جهده، حيث إن مثل هذا الجهد ينتج ربحاً أزيد لولا المانع، ولذا يصح استعمال الضرر عرفاً في قلة الربح باعتباره نقصاً في الجهد أو نقصاً في ما كان يتوقعه، فتأمل.

وأما جواز فتح دكان مما يؤثر في أرباح الدكان الآخر فليس تخصيصاً في دليل الضرر، وإنما المرفوع الإضرار بالغير لا مجرد تضرّره كما سيأتي بيانه.

المطلب الرابع: في تقابل النفع والضرر

وفيه احتمالات: التضاد، أو العدم والملكة، أو السلب والإيجاب، أو التفصيل، ولبّ النزاع في أن الضرر وجودي أم عدمي، وعلى فرض كونه عدمياً فهل يحتاج إلى المحل القابل للنفع أو لا؟

ص: 371

1- أما القول بالتضاد، فقد أشكل عليه: بأنه في الوجوديين، وليس الضرر المفسر بالنقص وجودياً ليكون مع النفع - الذي هو أمر وجودي - متقابلين بالتضاد(1)،

أو لصدقه أحياناً على عدم النفع، وسيأتي بيانه.

2- أما القول بالعدم والملكة، فقد أشكل عليه بذلك أيضاً، قال المحقق الإصفهاني(2):

بأن النفع هو الزيادة بفائدة، ومقابله بعدم الملكة هو عدم الزيادة في ما من شأنه ذلك، والضرر ليس هذا العدم؛ لأنّ عدم النفع ليس بضرر، وما يقابل الضرر بتقابل العدم والملكة هو عدم التمامية لا عدم الزيادة، وعدم الزيادة ليست بنقص حتى يرجع إلى الضرر.

وحاصله: أن الضرر هو النقص عن حد الكمال، والنفع هو الزيادة على حدّ الكمال، فليس النقص عدم تلك الزيادة ليكون التقابل من تقابل العدم والملكة، هذا مضافاً إلى ثبوت الواسطة بينهما.

لكنه وجهّه بقوله: نعم، النقص والزيادة متقابلان عرضاً بتقابل العدم والملكة؛ لأنّ الزيادة تستدعي بقاء المزيد عليه على حدّه الوجودي، فالنقص بعدم بقائه على صفة التمامية يستلزم عدم الزيادة، فيقابل الزيادة بالعرض.

3- وقد يقال: إنّ للضرر معنى واسعاً، فتارة: يكون عدم النفع في المحل القابل له مع تمامية المقتضى له ضرراً عرفاً، كما مرّ، فحينئذٍ يكون التقابل تقابل العدم والملكة، وتارة: يكون عدم النفع من غير اقتضاء المحل له،

ص: 372


1- نهاية الدراية 4: 436.
2- نهاية الدراية 4: 436.

فيكونان من الضدين اللذين لهما ثالث هي النفع والضرر وعدم النفع.

4- والأقرب أن الضرر أمر عدمي؛ لأنّ النقص ليس بوجودي، وليس هو منتزعاً عن الخسارة، ولا عن خلو الشيء عن حدّ كماله، بل قد يكون النقص خسارةً أو مجردَ عدم النفع لا أنه منتزع عنهما، وعليه فالتقابل بين الضرر الذي هو النقص بمعناه العدمي وبين النفع تارة: تقابل العدم والملكة في ما كان عدم النفع ضرراً لتمامية المقتضى، وتارة: تقابل الإيجاب والسلب لكن مع تعميم معنى عدم النفع، فتأمل.

المفردة الثانية: الضرار
اشارة

والصحيح إنه مصدر باب المفاعلة، والكلام في مقامين:

المقام الأول: في معنى باب المفاعلة

وقد ذكر لها معنيان:

المعنى الأول: ما ذكره الصرفيون من اشتراك الفعل بين اثنين، مثل باب التفاعل، إلاّ أن الفرق بينهما أنه في باب المفاعلة يلاحظ أحدهما بالأصالة لذلك كان فاعلاً والآخر بالتبع لذلك كان مفعولاً، وفي باب التفاعل لوحظ أصالة كليهما لذلك كانا فاعلين بالعطف، وهذا هو المتبادر من كلا البابين.

لكن المحقق الإصفهاني(1)

أشكل عليه بأمور، حاصلها:

الإشكال الأول: إنّ ذلك خلاف الاستعمالات الفصيحة في مثل: «يهاجر» و«ناديناه» و«لا تؤاخذني» و«عاجلته بالعقوبة» و«نافق» ونحو ذلك.

وفيه: أن ذلك لا ينافي كون الأصل في باب المفاعلة بين الاثنين، وسائر

ص: 373


1- نهاية الدراية 4: 437-438.

المعاني الذي ذكرها الصرفيون أيضاً بعناية الشباهة لهذا المعنى، ولو من جهة مشاركة المفعول في تحقق المعنى ولو بالعناية، فمثل سافر من سفر بمعنى ظهر وهو بين اثنين فكما أن المسافر يظهر لغيره كذلك تظهر الأشياء له، وفي مثل هاجر كما يترك الوطن كذلك الوطن يتركه بالعناية، أو من جهة سببية الغير لذلك الفعل فكأنه شارك فيه مثل نافق، فلولا نزول الشريعة لما كان ينافق فيكون نظير قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي}(1)،

حيث إن الله لو لم يخلق آدماً (علیه السلام) ولم يأمر إبليس بالسجود له لما كان يتمرد ويتكبّر.

الإشكال الثاني: إنه لا يعقل دلالة هيأة واحدة على نسبتين، ففي ضارب وتضارب لا توجد نسبتان: إحداهما نسبة ضرب زيد عمراً، والأخرى نسبة ضرب عمرو زيداً، فلا بد من نسبة واحدة بين الطرفين، ويلزم من ذلك عدم الفرق بين ضارب وتضارب!

لا يقال: يمكن وجود نسبتين إحداهما بالمطابقة والأخرى بالالتزام، فحينئذٍ لم يلزم استعمال اللفظ في معنيين كي يلزم المحال، كما يثبت الفرق بين التفاعل والمفاعلة باختلاف اللازم.

فإنه يقال: بأنه ثبوتاً لا يعقل الأصالة والتبعية في النسبة المتقومة بالطرفين، وإثباتاً - بوجود دلالتين أحداهما أصلية والأخرى تبعية - بأنّ التبعية في الدلالة فرع التبعية في المدلول، وليس ضرب عمرو زيداً تابعاً لضرب زيد عمراً ثبوتاً حتى تنحل النسبة الخاصة إلى نسبتين إحداهما لازمة للآخر.

ص: 374


1- سورة الحجر، الآية: 39.

وفيه: أولاً: إنه لا ملازمة ثبوتاً؛ إذ في مرحلة الثبوت قد يكون ضرب أحدهما للآخر بالأصالة والآخر بالتبع، وقد يتشاركان، وقد يكون الضرب من طرف واحد، فلما رأى الواضع ذلك وضع في مقام الدلالة باب المفاعلة والتفاعل والمجرد.

وثانياً: بأنه لا توجد نسبتان، بل نسبة واحدة، هي نسبة المادة إلى الفاعل مع إرادة حصة خاصة من المادة أي الحصة المقيدة بمشاركة الآخر، ففي باب المفاعلة الحصة التي يكون أحدهما أصيلاً والآخر تابعاً، وفي باب التفاعل الحصة التي يكون كلاهما أصيلاً.

المعنى الثاني: ما ذكره المحقق الإصفهاني(1):

بأن باب المفاعلة للتعدية إن كان الفعل المجرد لازماً مثل جلس زيد وجالست زيداً، وللاستغناء عن حرف الجر إن كان تعدية اللازم به مثل كتبت إليه وكاتبته، وللتصدي في ما لو كان اللازم متعدياً بنفسه مثل خدعه وخادعه فهنا التعدية ملحوظة بالاستقلال وفيه نوع تأكيد وتثبيت لها عكس المجرد حيث إنها قد تحصل من غير تصدّي وقصد، ولذا في قصة سمرة قال له الرسول (صلی الله علیه و آله) : «إنك رجل مضار» أي متصدٍّ لإضرار الأنصاري، لا مجرد إضراره، والحاصل: أن باب المفاعلة للتعدية بالصور المذكورة.

ويرد على الأول: أولاً: أن التعدية في اللازم وإن كانت حاصلة إلاّ أنه بسبب شركة اثنين في الفعل مع أصالة أحدهما وتبعية الآخر، فالتعدية عرضية لا أنها معنى الباب.

ص: 375


1- نهاية الدراية 4: 439.

وثانياً: ما في البحوث(1)

من أن التعدية بالحرف بمعناها الحقيقي غير معقول؛ وذلك لأن للتعدية معنيين أحدهما: التعدية الحقيقية بمعنى صدور الفعل عن الفاعل إلى المفعول، والآخر: التعدية بالحرف ولا يعقل تغييرها المعنى الحلولي إلى الصدوري، بل هي بمعنى تحصيص النسبة الحلولية أو المادة المنتسبة وتقييدها بالمجرور، فمثل جالست زيداً يكون المعنى متقوماً بطرفين فاعل ومفعول ويكون صدورياً، بخلاف جلست إلى زيد، فهو لا يعدو أن يكون تقييداً للجلوس بكونه إلى جنب زيد لا عمرو، والحاصل: أن حرف الجر لم يفد معنى التعدية، بل التحصيص، ولذا افترق معنى (ذهب به) في قوله: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ}(2)، حيث إنه بمعنى ذهاب الله عنهم مصطحباً النور معه، بمعنى قطع لطفه عنهم، ومعنى (أذهب) في قوله: {لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ}(3)

الذي هو تعدية حقيقية.

وعلى الثاني: بأنه قد يتغير المعنى وذلك في ما لو تغيّر المفعول، ففرق بين كتبت الرسالة إلى زيد وكاتبت زيداً، وكذا بين طرحت الثوب وطارحته للبيع مثلاً، فإن ذلك ليس مجرد تغيير التعدية، بل إضافة المشاركة إلى المعنى عبر باب المفاعلة.

وعلى الثالث: بأنه خلاف ظاهر باب المفاعلة؛ إذ هي كالمجرد في كونها أعم من قصد الفعل وعدم قصده، ولذا يقال: قابلته اتفاقاً وصادفته، بل

ص: 376


1- بحوث في علم الأصول 5: 454-455.
2- سورة البقرة، الآية: 17.
3- سورة الأحزاب، الآية: 33.

استفادة التصدي قد يكون من المشاركة باعتبار مناسبة الحكم والموضوع أو باعتبار المادة وقد لا يكون.

فتبيّن أن الصحيح هو المعنى الأول وهو المتبادر من الكلمة.

المقام الثاني: في معنى الضرار

إن هيأة فِعال قد تكون مصدر باب المفاعلة، وقد تكون مصدر المجرد مثل قيام.

فقد يقال: إن كلمة (ضرار) مصدر المجرد، فأولاً: لم يعهد استعمالها في اللغة ولا في العرف بمعنى باب المفاعلة بين الاثنين، قال تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُواْ}(1).

وثانياً: إنه في قصة سمرة لم يكن الضرر إلاّ من سمرة لا من الأنصاري.

وثالثاً: إنه لا فائدة زائدة في باب المفاعلة؛ إذ إن نفي الضرر كما ينفي الضرر من طرف واحد ينفيه من الطرفين أيضاً لإطلاقه.

ورابعاً: إنه لا إشكال في المجازاة على الضرر وإن كان فيها ضرر على المعتدي.

لكن الأقرب هو: أن استعمال الضرار في الكلام الفصيح من باب المفاعلة وبين الاثنين.

ويرد على الأول: أنه سُمّي الإضرار بالمرأة ضراراً؛ لأنّ الضرر يعود على الرجل أيضاً بفعلته، وهكذا في سائر الاستعمالات.

ص: 377


1- سورة البقرة، الآية: 231.

وعلى الثاني: إنه يكفي في صحة ضرب القاعدة انطباق جزء منها على المورد، ولا يشترط انطباقها بكل أجزائها، وحيث إن (لا ضرر) انطبق في قصة سمرة صح ذكر القاعدة بكل أجزائها، كما لو أراد أحد التصرف في ماله صح أن نقول: القاعدة هي أن الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم، مع أن الجزء الأول من القاعدة هو الذي ينطبق على المورد.

وعلى الثالث: إن الفائدة هي أن الضرر اسم مصدر والضرار مصدر، فالفرق أن الضرر منفي سواء انتسب إلى فاعل أم لا.

وعلى الرابع: إن القاعدة هي عدم جواز المجازاة على الضرر بضرر، ويستثنى من ذلك ما لو انطبق عنوان آخر كالقصاص والدية، أو كان مصداقاً لقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ}(1)

كما في بيان الأصول(2).

ومن ذلك كلّه يتبيّن أنه لا تكرار، ولا تأكيد، بل بيان لحالتين من حالات الضرر.

وقد ذكر اللغوين معاني مختلفة إلاّ أن الظاهر أنها تفسير بالمصداق حيث يمكن إرجاع بعضها إلى ما ذكرناه، مع أن بعضها لا يخلو عن إشكال لأنه خلاف المتبادر والمستعمَل، كقول بعضهم: إن الضرر هو النقص في الأموال والأنفس، والضرار هو الحرج والضيق النفسي! أو أن الضرر من غير انتفاع الضارّ، والضرار مع انتفاعه! أو الضرار للشديد من الضرر! أو أن

ص: 378


1- سورة البقرة، الآية: 194.
2- بيان الأصول 5: 34.

الضرار المجازاة على الضرر.

المفردة الثالثة: (لا)، والهيأة التركيبيّة
اشارة

وقد ذكر لها معاني، منها: نفي الموضوع بغرض نفي الحكم، أو نفي الحكم الضرري فيكون من نفي المسبب مع إرادة نفي السبب، أو نفي الضرر غير المتدارك، أو النهي عن الضرر.

1- نفي الحكم بلسان نفي الموضوع

القول الأول: ما اختاره صاحب الكفاية(1): من أنه نفي الحكم بلسان نفي الموضوع، مثل: «يا أشباه الرجال ولا رجال»(2)،

ومثل: (لا شك لكثير الشك)(3) حيث يراد نفي الآثار - والتي منها الحكم الشرعي - ولكن البيان بنفي الموضوع ادعاءً بعد تعذر المعنى الحقيقي وهو نفي الشيء تكويناً، وإنما يرجّح هذا المعنى لأجل أن نفي الماهية ادعاءً أفصح من سائر الاحتمالات حيث إنها لا تناسب الفصاحة.

وأشكل عليه بأمور، منها:

الإشكال الأول: إن الضرر لا أثر له، وإنما الأحكام هي للمواضيع التي قد يتفق الضرر فيها، وتلك الأحكام هي المرادة بالرفع، مثلاً الوضوء واجب للصلاة فإذا صار ضررياً فبدليل لا ضرر يرتفع الوجوب الذي هو حكم الوضوء لا أنه حكم الضرر، وعليه فلا بد من تقدير شيء وهو لا موضوع

ص: 379


1- إيضاح كفاية الأصول 4: 334-336.
2- نهج البلاغة، الخطبة: 27.
3- قاعدة فقهية مستفادة من الروايات.

ضرري، وبذلك لا يكون فرق بينه وبين لا حكم ضرري أو لا ضرر متدارك.

ولا يعقل رفع حكم الضرر نفسه، فإنه خلف؛ إذ لا يعقل أن يرفع الشيء أثر نفسه، كما أنه ليس بمقصود قطعاً، حيث إن المراد إثبات أثر الضرر برفع الحكم عن الموضوعات لا رفع أثر الضرر وفرضه كالعدم.

الإشكال الثاني: إن جعل الضرر عنواناً للعمل إما من باب المرآتية أو السببيّة، أما المرآتية فهي خلاف الظاهر هنا لأنه لا بد فيها من اتحاد بنحو من الأنحاء ولو بنحو الاتحاد المفهومي كما في العنوان والمعنون، وليس الضرر متحداً مفهوماً مع العمل الضرري، وأما السببيّة فإن المتعارف هو نفي المعلول بلسان نفي العلة لا العكس، وفي ما نحن فيه الضرر معلول والعمل علة له، فنفي العمل عبر نفي الضرر الذي هو معلول له خلاف الظاهر جداً.

وفيه: أن العلة لو كانت مصاديق متعددة غير محصورة وليس لها عنوان جامع فلا بأس بجعل جامع عنواني ولو كان المعلول، ولا خلاف للظاهر في ذلك، وفي ما نحن فيه الأعمال التي ينشأ منها الضرر لا تحصر، وأما المعلول فله لفظ جامع هو الضرر فلا بأس به، مضافاً إلى أنه وإن كان معلولاً تكويناً إلاّ أنه علة رفع الحكم الذي هو المقصود بهذه الجملة فلا يكون استعماله وإرادة علته خلاف الظاهر.

الإشكال الثالث: إنه لو كان حكم الموضوع الضرري الحرمة، فمقتضى هذا الكلام هو سقوط الحرمة؛ لأن في ارتكابه المضرّة على المكلف! وهذا خلاف المقصود ولا يمكن الالتزام به قطعاً.

وأجيب: أولاً: ما قيل: من أن لا ضرر مِنّة ولا مِنّة في رفع الحرمة عن

ص: 380

الموضوع الضرري، بل هي خلاف المِنَّة، وفيه تأمل.

وثانياً: بأن عدم شمول لا ضرر له إنما هي بدلالة الاقتضاء؛ لأن شموله يستلزم لغوية الحكم.

وهنا إشكالات أخرى تُعلم ممّا ذكر، وبذلك يتبيّن الإشكال في كلام المحقق الخراساني حيث قال: «فإن قضية البلاغة في الكلام هو إرادة نفي الحقيقة ادعاءً لا نفي الحكم أو الصفة كما لا يخفى، ونفي الحقيقة ادعاءً بلحاظ الحكم أو الصفة غير نفي أحدهما ابتداءً مجازاً في التقدير أو الكلمة مما لا يخفى على من له معرفة بالبلاغة»(1).

وذلك لأن الأمر لم يقتصر على نفي الحقيقة ادعاءً، بل هناك تصرف في كلمة الضرر في الحديث بكونه العمل الضرري، وهذا ليس أكثر من غيره ليكون مرجحاً لهذا الاحتمال.

وأما تشبيه لا ضرر برفع الخطأ والنسيان حيث إن المراد رفع الحكم المتعلّق بالفعل الصادر حال الخطأ والنسيان عبر رفع الموضوع...

فقد أشكل عليه: بأنه لا يصح التشبيه؛ إذ لا طريق آخر فيهما حيث يدور الأمر بين رفعهما تكويناً الذي هو معلوم العدم، أو رفع حكمهما بنفسه الذي هو خلف، أو رفع حكم الفعل الصادر في حالتهما فلا مناص منه، بخلاف لا ضرر حيث يوجد طريق رابع وهو تعلق النفي بنفس الضرر في مقام التشريع فيكون معناه لا تشريع للضرر ومفاد ذلك هو نفي جعل الحكم الضرري.

مضافاً إلى إمكان رفع آثارهما التي كانت في الشرائع السابقة لا رفع

ص: 381


1- إيضاح كفاية الأصول 4: 334-335.

الحكم بلسان رفع الموضوع، وهذا بخلاف الضرر حيث لم يجعل له آثاراً في الشرائع السابقة.

ويمكن الجواب: أولاً: بإمكان الطريق الرابع في الخطأ والنسيان، أي رفعهما في مقام التشريع بأن يكون المعنى لم يشرّع للخطأ والنسيان حكم كما لم يشرّع للضرر حكم، فيكون مفاد ذلك نفي جعل الحكم الإلزامي في موردهما، فتأمل.

وثانياً: بأنه لا محذور في كون عموم الرفع لكل آثار الضرر - حتى الوضعية ولكل أقسام الضرر - من مختصات الإسلام.

مضافاً إلى ما سيأتي من أن قبول العرف الجاهلي بآثار الضرر وشيوعه فيهم كافٍ في رفع الآثار في الشريعة الإسلامية من غير حاجة إلى ثبوتها في الشرائع السابقة.

2- الدلالة على النهي
اشارة

القول الثاني: - في مفاد الهيأة التركيبيّة - دلالتها على النهي عن الضرر، نظير النهي في قوله تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}(1).

وفي هذا القول عدة اتّجاهات، منها: كون النهي تكليفياً بالحرمة، ومنها: كونه تكليفياً بالحرمة وإرشاداً إلى الفساد، ومنها: كونه تكليفياً ولائياً.

الاتّجاه الأول: أن يكون نهياً تكليفياً بحتاً

وذلك عبر استعمال الجملة الخبرية وإرادة الإنشاء.

فإنه كما يجوز استعمال الجملة الخبرية في مقام البعث، بل هو آكد فيه؛

ص: 382


1- سورة البقرة، الآية: 197.

لأنه يكشف عن شدة المحبوبية بحيث يرى المولى تحقق ما يريده في الخارج، كذلك يجوز استعمالها في مقام الزجر باعتبار شدة المبغوضية بحيث يرى المولى انتفاء الطبيعة بامتثال نهيه حتماً، فيكون كل ذلك مبالغة في البعث أو الزجر.

وقد استدل له بأمور، منها:

الدليل الأول: شيوع استعمال هذا التركيب في مثل هذا الموضوع دون سائر المعاني، وقد ذكر شيخ الشريعة لذلك أمثلة متعددة فراجع(1).

وأجيب: أولاً: بأن شيوع الاستعمال لا يرجح النهي إلاّ مع اتحاد الأمثلة مع (لا ضرر) في الخصوصيات، لکنّا نلاحظ عدم الاتحاد؛ لأن تلك الأمثلة هي إما لطبائع خارجية مرغوب فيها لذاتها لانسجامها مع القوى الشهوية والغضبيّة، وإما هي مرغوبة لآثارها، وأما في لا ضرر فإن الطبيعة المنفيّة هي أمر مرغوب عنه، فلا يتحملها الإنسان إلاّ بتسبيب شرعي، فالنفي الوارد في هذه الحالة هو لإبطال التصور المذكور، ونفي التسبيب الشرعي إلى ذلك(2).

وفيه: إن إضرار الغير ينسجم مع القوى الشهوية والغضبية وآثاره مرغوبة حينما يكون فيها نفع للضارّ، ولذا شاعت بين الجاهليين من غير تسبيب شرعي، فلذا لا فرق بين لا ضرر وبين سائر الأمثلة المذكورة.

وثانياً: إن شيوعها ليس بأكثر من شيوع الاستعمال في سائر المعاني، بل حتى لو فرض عدم شيوع سائر المعاني، فإن شيوع النهي ليس بحد يوجب

ص: 383


1- قاعدة لا ضرر: 37-39.
2- قاعدة لا ضرر ولا ضرار: 168.

ظهوراً له.

مضافاً إلى الإشكال في بعض الأمثلة المذكورة حيث لا يراد منها النهي، بل سائر المعاني.

الدليل الثاني: تبادر النهي من هذه الجملة للذهن الخالي من الشبهات.

وأشكل عليه: بأن التبادر يرتبط بفهم معنى اللفظ - وضعاً أو انصرافاً - ولا يرتبط بكشف مراد المتكلّم بأنه هل تتطابق إرادته الجدية والاستعمالية أم لا، فلا يستدل بالتبادر لفهم عدم هزل المتكلم، وإنما الأصل العقلائي بتطابق الإرادتين الجدية والاستعمالية، وكذلك لا يرتبط التبادر بمعرفة المراد الجدي بعد العلم بعدم تطابق الجدية مع الاستعمالية، بل تشخيص ذلك يرتبط بالأصول العقلائية أو بالقرائن المحفوفة بالكلام، فلو علمنا بعدم إرادته المعنى الاستعمالي ودار الأمر بين كونه هازلاً أو جادّاً في معنى آخر كما لو قال: بعت، حيث نعلم بأنه لم يقصد الإخبار عن الماضي ودار أمره بين الهزل والإنشاء فلا ينفع التبادر حينئذٍ، بل الأصل العقلائي بالجد أو القرائن هي التي تعيّن المقصود.

وفي ما نحن فيه نعلم المعنى الحقيقي ونعلم بأنه غير مقصود وإنما نريد تشخيص المراد الجدي، فلا يكون التبادر طريقاً له.

هذا فضلاً عن عدم وجود هكذا تبادر.

الدليل الثالث: إن قوله في خبر ابن مسكان: «إنك رجل مضار ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن»(1)

لا ينسجم إلاّ مع النهي؛ لأنه برهان من صغرى

ص: 384


1- الكافي 5: 294.

وكبرى، فالصغرى: إنك رجل مضار، والكبرى: الضرر والضرار محرّم، وأما على النفي فلا تناسب بينهما؛ إذ يكون المعنى حينئذٍ: إنك رجل مضار، والحكم الموجب للضرر منفي! وهذا ما تأباه الأذهان المستقيمة!

ويرد عليه: أولاً: إن الرواية في موثقة ابن بكير «اذهب فاقلعها وارم بها في وجهه فإنه لا ضرر ولا ضرار» وهي أيضاً كبرى وصغرى، وهي لا تناسب النهي؛ إذ يكون المعنى حينئذٍ: اقلعها وارم بها إليه فإنه لا تضروا! وإنّما المناسب هو اقلعها وارم بها إليه لعدم وجود حكم ضرري.

وثانياً: إن الكبرى في خبر ابن مسكان تناسب النهي والنفي، فلا فرق بين اقلعها فإن الضرر محرم، أو اقلعها فإن الضرر غير مجعول أو غير ممضى!

الدليل الرابع: إن قيد «على مؤمن» في بعض روايات لا ضرر بالنهي أنسب.

وفيه: أنه كما ينسجم مع النهي كذلك ينسجم مع النفي، فلا فرق بين أن يقال: إن الله لم يشرّع حكماً ضررياً على مؤمن، أو يقال: إنه تعالى لم يشرّع ضرراً غير متدارك، أو يقال: لا تضروا مؤمناً.

الدليل الخامس: تفسير بعض أهل اللغة هذا الحديث بالنهي.

وفيه: إن كلامهم حجة في معاني الكلمات كما مرّ، لا في تشخيص المرادات، كما يعارض فهمهم فهم غالب الفقهاء، هذا مضافاً إلى ما قيل: إن منشأ كلام اللغويين هو كلام أحدهم وأخذ اللاحقون عنه بعد ضم كتابه إلى مؤلفاتهم.

ثم إنه قد أشكل على هذا القول: بأن ظاهر حديث لا ضرر أنه امتناني وأن له نوع اختصاص بالإسلام، مع أن النهي عن الإضرار بالغير من

ص: 385

مرتكزات العقول ومسلّمات الشرائع فلا امتنان فيه!

ويمكن أن يقال: إن العرف الجاهلي كان يتقبّل الإضرار بالغير ويُرتّب الآثار عليه، فكان من المتعارف عندهم المعاملات الضررية، ونهب الثروات بالإغارة والغصب، وتعارف ظلم القوي الضعيف بمنطق الحق لمن غلب، وظلم النساء بأبشع صوره، فكان ذلك من أعرافهم رغم تقبيح العقل لها كعبادتهم الأصنام رغم دلالة العقول على بطلانها، فحينئذٍ الامتنان عليهم بالنهي عن الإضرار بالغير لا محذور فيه.

والحاصل: أن حمل النفي في لا ضرر على النهي لا محذور فيه، إلاّ أنه لا دليل يدل عليه فلا وجه لصرف النفي عن ظاهره.

الاتّجاه الثاني: كونه نهياً تكليفياً وإرشاداً إلى الفساد

أي يدل على الحكم التكليفي بالحرمة، وعلى الحكم الوضعي بالفساد.

ويرد عليه ما ورد على سابقه، إلاّ أن إضافة الإرشاد زاد إشكالات أخرى، منها:

الإشكال الأول: إنّه استعمال للّفظ في أكثر من معنى؛ لأنه جمع بين حكمين فلا بد من تعدد معنى النفي! وهو إن لم يكن محالاً فإنه خلاف الظاهر.

إن قلت: يمكن تصوير جامع بينهما وهو الزجر حيث إن له مصداقين: الزجر بالوعيد، والزجر بالإرشاد إلى الفساد، نظير قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَوٰاْ}(1)

حيث يستفاد حلية البيع وصحته، وحرمة الربا وفساده.

ص: 386


1- سورة البقرة، الآية: 275.

قلت: إن الزجر لا ينسجم مع الإرشاد؛ لأن الزجر إنشاء، والإرشاد إخبار ولا سنخية بينهما ليكون الإرشاد من مصاديق الزجر، وأما الصحة في البيع فلكونها لازم حليته وإلاّ كانت الحلية لغواً، وأما الفساد في الربا فيستفاد من أدلة أخرى كقوله تعالى: {فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ}(1)؛

إذ النهي في المعاملة لا يدل على الفساد.

الإشكال الثاني: بأن ذلك يستلزم الجمع بين اللحاظين الاستقلالي والآلي، أما الاستقلالي ففي التكليفي؛ لأن النهي يتعلّق بالإضرار بالغير بما هو هو، وأما الآلي ففي الحكم الوضعي؛ إذ لا معنى لفساد الإضرار بذاته وإنما هو مرآة لماهية تتسم بالصحة والفساد، والجمع بين اللحاظين وإن كان ممكناً كما مرّ إلاّ أنه خلاف الظاهر.

الإشكال الثالث: إن الأصل في النواهي المولوية، فتعميمها إلى الحكم الإرشادي خلاف الأصل، لا يصار إليه إلاّ بقرينة، وهي مفقودة في المقام لو حملنا الحديث على النهي.

الاتّجاه الثالث: كونه نهياً ولائياً

أي هو حكم عام للحاكم الشرعي باعتبار ولايته.

واستدل لذلك بأمور، منها:

الدليل الأول: إنّه في قضية سمرة ليس قوله (صلی الله علیه و آله) : «لا ضرر ولا ضرار» حكماً مولوياً للمكلفين حيث لم يكن هناك حكم مشتبه لكي يخبر الرسول (صلی الله علیه و آله) بأن الحكم الضرري منفي في الإسلام، كما أنه لم يكن نزاع

ص: 387


1- سورة البقرة، الآية: 275.

بين الأنصاري وسمرة، بل شكاية عن سمرة لظلمه للأنصاري حيث كان يدخل بغير استئذان، وعليه فينحصر طلب الاستئذان وقوله (صلی الله علیه و آله) : «لا ضرر ولا ضرار» والأمر بقلع النخلة في الحكم الولائي لبسط العدل.

وفيه: أنه كان بينهما اختلاف في الحكم، ونزاع في الموضوع، أما في الحكم فإن سمرة حيث كان مالكاً للنخلة كان يزعم أن من لوازم ذلك حقه في الدخول إليها من غير استئذان حيث قال: «لا أفعل هو مالي» وقال: «يا رسول الله استأذن في طريقي إلى عذقي!»، وأما في الموضوع فإن الأنصاري أراد إزالة الظلم والضرر عنه فهو مطلب قضائي، فبيّن الرسول (صلی الله علیه و آله) الحكم بعدم جواز الإضرار أو بعدم حقه في الدخول من غير استئذان، ثم حكم حكماً قضائياً بقلع النخلة لما تمرّد سمرة، تنفيذاً للحكم ب-«لا ضرر».

الدليل الثاني: إنه (صلی الله علیه و آله) علّل الأمر بقلع النخلة وإلقائها إليه بقوله (صلی الله علیه و آله) : «لا ضرر ولا ضرار» وذلك لا يناسب النهي أو النفي المولوي، وذلك لأن القلع إضرار بسمرة والأمر به حكم ضرري، فلا بد من حمله على النهي الولائي.

وفيه: إن «لا ضرر» لا يدل على القلع والرمي سواء كان نهياً أو نفياً، وسواء كان مولوياً أو ولائياً، وذلك لعدم الفرق بين نوعية النهي أو النفي في عدم الدلالة على تشريع هذا الإضرار، بل هما يرتبطان بتنفيذ الحكم الشرعي وهو حكم آخر، وسيأتي بيانه.

الاتّجاه الرابع: كونه نفياً أريد ملزومه وهو النهي

أي إن المنفي هو الضرر حقيقة ادعائية لكن الغرض هو الإخبار عن ملزومه وهو وجود المانع الشرعي عن وجود الضرر خارجاً، وذلك المانع

ص: 388

هو النهي التحريمي، فإنّ عدم تحقق الشيء خارجاً إنما هو نتيجة منع الشارع عنه، فيكون نظير غيره من العرفيات حيث يتم الإخبار عن عدم وجود المعلول لأجل وجود المانع.

ويرد عليه: أنه في حديث الشفعة قد تمّ تطبيق هذه القاعدة مع عدم وجود شيء محرّم فيها؛ إذ لا يحرم للشريك بيع حصته، وإنما لرفع الضرر عن الشريك الآخر تمَّ رفع اللزوم عن المعاملة وأعطي الحق بالتملك بالبيان الذي مرّ سابقاً.

إن قلت(1): هذا منقوض بقضية سمرة حيث لا يناسب «لا ضرر» فيها مع عدم الحكم، بل المناسب لها النهي، وذلك لأن الحكم الترخيصي لا يوجب ضرراً؛ لأن مرجعه إلى الإباحة إلى بيان عدم المانع من الضرر، وهذا لا اقتضاء له بالنسبة إلى الفعل والترك، وحينئذٍ لا يصح نسبة الضرر إلى المولى؛ لأن ما لا اقتضاء فيه بالنسبة إلى الفعل كيف يصح نشوء الفعل من قِبله؟ ومجرد التمكن من عدم المانع مع عدم التصدي له لا يصحّح نسبة الفعل إليه، مثلاً لو رأيت من يريد قتل زيد لكنك لم تمنعه مع تمكنك من المنع لم يصح نسبة القتل إليك، ففي قصة سمرة لا إلزام من الشارع بعدم الاستئذان حتى يكون هذا الحكم مرتفعاً لأجل الضرر، بل غاية الأمر هو جواز عدم الاستئذان وهو لا يستلزم ضرراً من طرف الشارع؛ لأن الجواز ليس حكماً ضررياً كي يرتفع، وعليه فلا بد من حمل لا ضرر على معنى النهي!

قلت: إن الضرر في مورد الإباحة الشرعية يستند إلى الشرع، بمعنى كونه

ص: 389


1- منتقى الأصول 5: 410-411.

جزءاً من سبب الضرر؛ لأن إذن من له تشريع الإذن جزء سبب في الوقوع، وأما مثال القتل فلا ينطبق على ما نحن فيه، وإنما ينطبق لو أباح من له الأمر والنهي قتل إنسان فهنا القتل يستند إليه كجزء من السبب.

3- رفع الحكم الضرري
اشارة

القول الثالث: إن المرفوع هو الحكم الضرري.

بمعنى أن الشارع لم يشرّع حكماً فيه الضرر، سواء كان حكماً وضعياً كاللزوم في بيع الغبن، أم حكماً تكليفياً كوجوب الصوم الضرري، ولهذا القول تقريبان:

التقريب الأول

ما ذكره المحقق النائيني(1)

وحاصله: أن الضرر المنفي في الحديث هو عنوان ثانوي متولد من الحكم، ونسبته إلى الحكم نسبة السبب التوليدي إلى مسبّبه كالقتل إلى قطع الرقبة، والإحراق إلى الإلقاء في النار، وإطلاق العناوين التوليدية على أسبابها شائع متعارف لا يحتاج إلى عناية فليس مجازاً، وهنا يراد من نفي الضرر نفي سببه المتحد معه وهو الحكم.

فالمنفي في هذا التقريب هو الحكم الضرري مباشرة، بخلاف التقريب اللاحق حيث إن المنفي هو التسبيب للضرر ولازمه نفي الحكم الضرري.

إن قلت: في العنوان التوليدي يلزم عدم تخلّل إرادة فاعل مختار كعدم تخلل شيء بين الإلقاء والإحراق، وليس ما نحن فيه كذلك؛ إذ الحكم فعل الشارع والضرر يترتب على فعل العبد باختياره؟

ص: 390


1- منية الطالب 3: 395.

قلت: إرادة العبد وإن كانت اختيارية إلاّ أنها مقهورة لإرادة الله تعالى؛ لأن العبد ملزم عقلاً ومجبور شرعاً على الامتثال، وعليه فالعلة التامة لوقوع العمل هو الجعل الشرعي.

ويرد عليه: أولاً: إن أصل الكلام ادعاء لم يقم الدليل عليه، وإنما بيان وتوضيح للادعاء فقط.

وثانياً: إن العناوين التوليدية يلاحظ فيها نسبتها إلى فاعلها، ولا يلاحظ العمل مجرداً عن النسبة، فيقال: أحرقه، ويراد به ألقاه في النار، ولا يقال: احترق، ويراد به ألقاه فيها، وحيث إن الضرر اسم مصدر كما مرّ فلا يصح استعماله عنواناً توليدياً. نعم، لو كان اللفظ مصدراً بأن قال: (إضرار) وأراد به مسبّبه وهو الحكم الضرري لصحّ، لكن الذي في الحديث: «لا ضرر».

وثالثاً: قد لا يترتب الضرر على العمل مباشرة، بل قد يكون العمل مُعِدّاً لأمور أخرى توجب الضرر، فلم يكن هنا سبباً توليدياً.

ورابعاً: إن مقهورية إرادة العبد لإرادة المولى مع عدم سلب الاختيار عن العبد لا يجعل الضرر من قبيلها موضوعاً ولا يلحقها بها حكماً، مضافاً إلى أن ذلك إنما يتأتى في إرادة العبد المطيع دون العاصي، ومن المعلوم أن الأحكام لا تختص بالمطيعين(1)،

فتأمل.

التقريب الثاني

ما اختاره الشيخ الأعظم(2): من أن المراد عدم تشريع الضرر بمعنى أن

ص: 391


1- قاعدة لا ضرر ولا ضرار: 161.
2- فرائد الأصول 2: 460.

الشارع لم يشرّع حكماً يلزم منه ضرر على أحد تكليفياً كان أو وضعياً.

وهذا المعنى يناسب جميع موارد استعمال لا ضرر في الروايات، ففي قضية سمرة لم يجعل الله جواز الدخول بغير استئذان، وفي رواية الشفعة رفع لجواز تملك الشيء من غير رضا صاحبه، وفي رواية منع فضل الماء لم يجعل المالك مسلطاً على المنع وهكذا... .

ثم إنّ الكلام هنا في مقامين:

المقام الأول

الفرق بين هذا القول وبين قول صاحب الكفاية الذي هو رفع الحكم بلسان رفع الموضوع.

وقد ذكر المحقق الخراساني فرقين:

الفرق الأول(1): إنه لو لزم من الاحتياط ضرر ارتفع على مبنى الشيخ الأعظم، حيث إن المرفوع هو الحكم الضرري من غير فرق بين كون الحكم سبباً للضرر مباشرة كالوضوء في شدة البرد، أو بشكل غير مباشر كما لو اشتبه الماء المطلق بين ألف آنية حيث إن الحكم بوجوب الوضوء ضرري فيرتفع، دون مبنى المحقق الخراساني حيث إنه يجب الاحتياط حينئذٍ؛ لأن الموضوع ليس ضررياً فإن الوضوء بالماء المطلق الواقعي ليس فيه ضرر فلم ينشأ الضرر من حكم الشارع فلا يكون الحكم مرفوعاً. نعم، الضرر نشأ من حكم العقل بوجوب الاحتياط وهو حكم لم يكن من الشارع حتى يرفعه.

وأشكل عليه: بأن المكلّف لو أتى ببعض المصاديق بحيث يكون ما زاد

ص: 392


1- إيضاح كفاية الأصول 3: 440.

عليه ضرراً، فلا يجب الإتيان بسائر المصاديق إما لأنه قد أتى بالتكليف في السابقات، أو لأن الموضوع الواقعي فيه انقلب ضررياً فترتفع فعلية الحكم فيه، وحينئذٍ يحكم العقل من أول الأمر بترجيح المظنونات في الإتيان كي يكون الضرر في المشكوكات والموهومات!!

الفرق الثاني: إن المشهور ذهبوا إلى أنه يخيّر المغبون في البيع الغبني بين إمضائه بكل الثمن أو ردّه بكله، لكن يرد عليه إشكالان كل إشكال مختص بأحد المبنيين دون المبنى الآخر.

أما الأول: فعلى مبنى الشيخ الأعظم يرد إشكال أن رفع الغبن يمكن بطريق آخر أيضاً وهو ردّ المقدار الزائد - غاية الأمر ثبوت الخيار للغابن لتبعض الصفقة - حيث إن الحكم باللزوم بكل الثمن ضرري فهو مرفوع ولعدم اللزوم مصداقان: فسخ المعاملة أو ردّ الزائد.

لكن لا يرد هذا على مبنى المحقق الخراساني حيث يقال: إن الموضوع الضرري وهو البيع مرفوع ويراد به رفع الحكم الذي هو اللزوم.

وأما الثاني: فعلى العكس لأنه على مبنى المحقق الخراساني رفع البيع بمعنى رفع اللزوم لا ينحصر في الخيار، بل هناك احتمال آخر هو جواز البيع وتظهر الثمرة في الإسقاط، حيث إن الخيار حق قابل للإسقاط، دون الجواز الذي هو حكم غير قابل له. نعم، لو أقدم على ذلك بأن اشترط سقوطه حين العقد لم يشمله لا ضرر.

وفيه نظر: أولاً: لأن المرفوع اللزوم أو الجواز على كلا التقديرين سواء مباشرة أم عبر رفع الموضوع، فلا فرق بين أن نقول: لا حكم ضرري فلا

ص: 393

لزوم فيثبت الخيار أو لا جواز، وبين أن نقول: لا بيع ضرري ونريد به لا لزوم فيثبت الخيار أيضاً أو نريد به لا جواز.

وثانياً: عدم استقامة الإشكال الأول؛ إذ معنى نفي لزوم العقد هو تزلزله بالقدرة على الفسخ، أما ردّ الزائد فلا يرتبط بنفي لزوم العقد فلا يكون منفياً بلا ضرر.

وثالثاً: عدم استقامة الإشكال الثاني، فإن الضرر لا يغيّر حقيقة المعاملة بأن يقلبها من لازمة إلى جائزة، وإنما يرفع الحكم الشرعي، وليس هنا الحكم الضرري إلاّ اللزوم، وهو بمعنى الخيار.

ورابعاً(1): لو كان المراد أن الموضوع الضرري لا حكم له فمقتضاه بطلان نفس العقد؛ لأن العقد الغبني لو لم يكن له حكم فرفع خصوص اللزوم لا وجه له، بخلاف ما إذا كان المراد منه أنّ الحكم الناشء عنه الضرر ليس بمجعول؛ لأنه لا بد أن يلاحظ أن المجعول الذي ينشأ منه الضرر هو الصحة أو اللزوم، ولا إشكال في أن الجزء الأخير للعلة التامة هو اللزوم لا الصحة فيجب أن يتعلق الرفع به لا بالصحة.

اللهم إلاّ أن يقال: إن عدم بطلان البيع من رأس إجماعي، فلا يبق إلاّ اللزوم فيرفع.

فتحصل أن لا فرق بين القولين عملاً وإنما الفرق لفظي بحت.

المقام الثاني

في الدليل على هذا القول، قال الشيخ الأعظم: «والأظهر بملاحظة نفس

ص: 394


1- منية الطالب 3: 394.

الفقرة، ونظائرها، وموارد ذكرها في الروايات، وفهم العلماء هو المعنى الأول»(1)

يعني الحكم الضرري، وهذا يتضمّن أربع أدلّة:

الدليل الأول: ظهور قوله (صلی الله علیه و آله) : «لا ضرر» في نفي الحكم الضرري.

وأشكل عليه: بأنه بعد امتناع إرادة المعنى الحقيقي بنفي الضرر خارجاً يدور الأمر بين نفي الحكم بمعنى نفي التسبيب إلى الضرر بجعل حكم ضرري، وبين التسبيب إلى نفي الإضرار، أي النهي عنه، وكلا الاحتمالين في عرض واحد فلا ظهور.

وفيه: أن الضرر اسم مصدر كما مرّ وهو مرغوب عنه، فلا توهم فيه إلا بتسبيب الشارع له بتشريع حكم ضرري، فيكون ظاهراً فيه، فليس الاحتمالان في عرض واحد.

الدليل الثاني: إن هذا التركيب في نظائره قد استعمل في نفي الحكم لا النهي عنه، نظير (لا حرج في الدين) و(لا عسر في الدين) ونحو ذلك.

وأشكل عليه: بوجود موارد كثيرة وردت (لا) النافية للجنس وأريد بها النهي.

وفيه: ما مرّ من أن التشابه الظاهري لا ينفع، وإنما النافع التشابه الواقعي عبر الاتفاق في الخصوصيات المقوّمة، وتلك الموارد حتى لو فرض دلالتها على النهي فإنّما هي باعتبار كونها طبائع مرغوب إليها لموافقتها للقوى الشهوية أو الغضبية، كالرفث والفسوق والجدال، وأما الضرر بمعناه الاسم المصدري فهو طبيعة مرغوب عنها لا يُقدم عليها كي ينهى عنها.

ص: 395


1- فرائد الأصول 2: 461-462.

نعم قد يقال: إنه لا نظير في لسان الشارع لقوله (علیه السلام) : «لا ضرر»، فليس (لا حرج) و(لا عسر) رواية!

لكن يمكن الجواب عنه: بأنه وإن لم يكن رواية إلاّ أننا لمّا نلاحظه نستفيد منه نفي الحكم الحرجي والعسري، فتأمل.

الدليل الثالث: الروايات التي استدل فيها ب-«لا ضرر» تناسب نفي الحكم الضرري.

وأشكل عليه: بتناسبها مع النهي أيضاً.

وفيه: ما مرّ من عدم مناسبة بعضها مع النهي، ففي قصة سمرة لا وجه للنهي ولا مناسبة، حيث إن سمرة قد استدل بأن له الحق في الشجرة فله حق الدخول إليها متى ما شاء، فلو كان قوله (علیه السلام) : «لا ضرر» نهياً لم يكن جواباً عن كلامه، أما لو كان نفياً للحكم الضرري كان ردّاً لما قاله حيث يقال له: لا حق لك، عبر بيان عدم وجود الحكم الضرري، وهكذا في الشفعة ليس هناك نهي عن شيء، وقد مرّ بعض الكلام.

الدليل الرابع: فهم الفقهاء من الفريقين أن المعنى هو نفي الحكم الضرري، وقد ذكر صاحب العناوين(1)

موارد كثيرة استدلوا فيها بدليل نفي الضرر منها: لزوم دية الترس المقتول على المجاهدين، ومنها: عدم الإجبار على القسمة مع تحقق الضرر، ومنها: عدم لزوم الشهادة مع الضرر، ومنها: مشروعية التقاص في بعض الموارد، ومنها: التسعير على المحتكر إذا أجحف، ومنها: جواز قلع البائع زرع المشتري بعد المدة، ومنها غير ذلك

ص: 396


1- العناوين الفقهية 1: 305.

مما هو كثير في كلماتهم.

الدليل الخامس: ما استدل به بعض علماء العصر(1)،

وحاصله: أن الطبيعة التكوينية التي لها آثار قد تكون مرغوب فيها وقد تكون مرغوب عنها وذلك لأجل مناسبات القوة الشهوية والغضبية، فلو تمّ النهي عنها أو نفيها فالمحتوي يختلف باختلاف حالتين:

الحالة الأولى: عدم سبق حكم مخالف ولا توهمه، فحينئذٍ يكون النهي مولوياً، ويكون النفي بمعنى التسبيب إلى ترك تلك الطبيعة فيكون بمعنى النهي المولوي، فمثل الرفث لا يتوهم وجوبه فيكون قوله تعالى: {لَا رَفَثَ}(2)

نهياً عنه، وكذا لو قال: (لا ترفثوا) مثلاً.

الحالة الثانية: سبق الحكم المخالف أو توهمه، فهنا إعراض المكلّف عن تلك الطبيعة إنما يكون لهذا التوهم فحينئذٍ يكون محتوى الكلام هو نفي ذلك الحكم المخالف، لا الزجر عن الطبيعة والوعيد على فعلها، فيكون مجازاً؛ لأن حقيقة النهي هو الزجر فلو استعمل في غير الزجر كان مجازاً، وهكذا حقيقة النفي هو إخبار عن نفي وجود الطبيعة خارجاً فاستعماله في سلب وجود حكم موجب لتحققها في الخارج لولا هذا النفي مجاز، وإنما صحّ هذا المجاز لأنه يرفع المانع عن العمل بما تقتضيه قوى النفس - الشهوية أو الغضبية - فالطبيعة المرغوب عنها كان يتوهم أمر شرعي فيها فكان يندفع إليها إلاّ أنه بالنفي أو النهي يتوقف عن الاندفاع، فكأنّ النهي صار زاجراً،

ص: 397


1- قاعدة نفي الضرر والضرار: 145-149.
2- سورة البقرة، الآية: 197.

وكأنّ نفي الطبيعة المرغوب عنها صار سبباً لعدم تحققها في الخارج، مثلاً إعادة الصلاة أمر لا يرغب الإنسان فيه إلاّ مع وجود الأمر الشرعي، فلو قال المولى: (لا تُعِد صلاتك) كان ذلك بمثابة الزجر عنها، وكذا لو قال: (لا إعادة للصلاة) كان بمثابة الإخبار عن عدم تحققها خارجاً وذلك لعدم الرغبة فيها، وبذلك صحّ نفيها تنزيلاً.

وفي هذه الحالة لا فرق بين كون المتوهم المنفي الحكم بنفسه كما في مثال الإعادة، أو كان متعلّقه شيئاً مسبباً عن الحكم السابق أو الحكم المتوهم كما لو قال: (لا حرج في الدين).

وفي ما نحن فيه قوله (صلی الله علیه و آله) : «لا ضرر» من قبيل الحالة الثانية؛ لأن الضرر اسم مصدر وهو شيء مرغوب عنه، فيكون النفي لرفع توهم تسبيب الشارع إلى الضرر عبر إلزام المكلف بما يوجب الضرر عليه.

نعم، قوله (علیه السلام) : «لا ضرار» من قبيل الحالة الأولى، حيث إن الضرار مصدر فيكون بمعنى الإضرار وهو مطابق للقوى الشهوية والغضبية وليس هناك توهم وجوبه، فيكون مفاد نفيه هو التسبيب إلى عدم تحققه في الخارج وذلك عبر تحريمه والمنع عن إيجاده فيكون نهياً، فتأمل.

4- نفي الضرر غير المتدارك

القول الرابع: معنى «لا ضرر» هو نفي الضرر غير المتدارك، ولازمه ثبوت التدارك بأمر الشارع في موارد الضرر، وذلك لأن الضرر المتدارك ليس ضرراً حقيقةً، وإن عدّ ضرراً بالدقة، بمعنى أنا نجد الضرر في الخارج فنفيه لا يكون إلاّ بمعنى حكم الشارع بتداركه، وعليه فعدم التدارك ليس قيداً للضرر وإنما يستفاد من دلالة الاقتضاء.

ص: 398

والحاصل: أن المنفي هو طبيعة الضرر، لكن بملاحظة الحكم بتداركه، وذلك بدلالة الاقتضاء لا بالتقييد.

وأورد عليه: أولاً: بأن ما ذُكر لا يعيّن هذا المعنى، ولا ينفي الاحتمالات الأخرى، بل قد ذكرنا أن نفي الحكم الضرري هو المعنى الأقرب، بل حتى الحمل على النهي أقرب من هذا، وذلك لأن ظاهر نفي الشارع لماهية إما نفي تسبيبه لها وإما تسبيبه إلى انتفائها، وهما معنيان مستعملان في الكلام، وأما الحكم بالتدارك فهو وإن كان مصححاً لنفي الضرر لكن لا دلالة من الكلام عليه إلاّ بقرينة وهي منتفية.

وثانياً: عدم انطباق (الضرر غير المتدارك) على بعض الروايات النهي التي وردت فيه هذه الكلمة، كما في قضية سمرة حيث منع الرسول (صلی الله علیه و آله) الضرر اللاحق ولم يتدارك الضرر السابق لكونه غير قابل له.

وثالثاً: حيث إن الضرر اسم مصدر، فلازم نفي الضرر غير المتدارك، هو لزوم التدارك مطلقاً حتى لو لم يكن الضرر بسبب إنسان، بل كان بآفة سماوية مثلاً، وهذا لا يلتزم به أحد، إلاّ أن يقال: بالانصراف عنه.

ورابعاً: إن مجرد الحكم بالتدارك لا يمنع صدق عدم الضرر، بل لا بد في صدقه من التدارك خارجاً، وعليه فالتدارك التشريعي لا يصحّح نفي الضرر.

اللهم إلاّ أن يقال: إن الشارع كما شرّع الأحكام كذلك عيّن حاكماً لإجرائها، وعليه فيكون التدارك كأنه متحقق خارجاً فصحّ اعتباره واقعاً ادعاءً، فتأمل.

ص: 399

تنبيهات
التنبيه الأول: في انطباق القاعدة على قضية سمرة

حيث قد يتسائل عن كيفية انطباق «لا ضرر ولا ضرار» على قلع نخلة سمرة مع أن الضرر لم يكن ناشئاً عن بقائها، وإنما عن دخوله من غير استئذان، فكان يرتفع بمنعه؟

وقد يجاب بوجوه، الأول منها صغروي، وسائرها كبروي:

الجواب الأول: إن قوله (صلی الله علیه و آله) : «لا ضرر...» ليس علة للأمر بالقلع، بل هو علة لأمره بالاستئذان في صدر الحديث!

وفيه: عدم ملائمة ذلك مع نص الحديث، ففي موثقة ابن بكير برواية الكافي: «إذهب فاقلعها وارم بها إليه فإنه لا ضرر ولا ضرار»، وفيها برواية الفقيه: «فأمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) الأنصاري أن يقلع النخلة فيلقيها إليه، وقال: لا ضرر ولا ضرار»، وفي مرسلة ابن مسكان: «فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله) : إنك رجل مضار، ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن، قال: ثم أمر بها رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقلعت ثم رمي بها إليه، وقال له رسول الله: انطلق واغرسها حيث شئت»، ففي الأولى الفاء ظاهرة في التفريع لعلية الحكم، وفي الثانية تعقيب الحكم بقاعدةٍ ظاهرٌ في أنها العلة، وفي الثالثة ذكر شيء قبل الحكم ظاهر في أنه تمهيد له فيكون علة له، وكل ذلك لا يناسب التعليل لما في صدر الحديث بسبب كثرة الفاصل وطوله.

الجواب الثاني: إن كل حكم شرعي له دلالة التزامية عقلائية بجعل ضمانة لتنفيذه، وهكذا الشأن في القوانين العقلائية فهي تعطي للجهة التنفيذية صلاحية الحماية عن القانون ضمن الأطر العامة، فقوله: «لا ضرر

ص: 400

ولا ضرار» كما هو تشريع لنفي الحكم الضرري أو النهي عنه كذلك له دلالة على لزوم تنفيذه ولو بالقهر، وكان الأمر بقلعها من هذا القبيل بعد استنفاد جميع الطرق الأخف تكلفة من أمر سمرة بالاستئذان، ثم مساومته بمال، ثم مساومته بنخلة في الجنة، ولذا يحق للحاكم تنفيذ القوانين بالقهر ولكن ضمن الإطار المسموح له به، ويبدأ بالأخف والأسهل ثم يترقى.

الجواب الثالث: ما ذكره المحقق النائيني(1) وحاصله: أن «لا ضرر» حاكم على قاعدة السلطنة التي من فروعها احترام مال المسلم، الذي هو عبارة عن سلطنة المالك على منع غيره عن التصرف في ماله.

ولا يتوهم أحد بأن السلطة مركبة من أمر وجودي وهو كون المالك مسلطاً على التصرف في ماله بما يشاء، ومن أمر سلبي وهو سلطنته على منع غيره عن التصرف في ماله، والضرر نشأ من الثاني دون الأول فلذا يحق له بيعه وهبته.

وذلك لأن هذا الانحلال تحليل عقلي، والحكم الشرعي بالسلطنة حكم واحد، فلا معنى لأن يكون قاعدة لا ضرر حاكمة على أحد جزئي السلطنة دون الآخر، والضرر وإن نشأ من الدخول بغير استئذان إلاّ أنه حيث يكون متفرعاً على إبقاء النخلة في البستان فالضرر ينتهي وينشأ بالأخرة من علة العلل، فينتفي حق الإبقاء، نظير الضرر في باب الوضوء، فإنه وإن نشأ من اختيار المكلّف إلاّ أنه معلول للحكم الشرعي وهو إيجاب الوضوء، والحكم الشرعي فيه مقدمة تسبيبيّة لا إعداديّة، والضرر عنوان ثانوي

ص: 401


1- منية الطالب 3: 397-398.

للحكم أيضاً وإن صح نسبته إلى فعل المكلف.

وليس كذلك في العقد الغبني فإن اللزوم لا ينشأ من الصحة - وإن كان مترتباً عليها - لأن كل واحد منهما حكم مستقل ملاكاً ودليلاً، ولا ربط لأحدهما بالآخر ولا علية بينهما.

وأشكل عليه السيد العم(1):

بأن كون المعلول ضررياً لا يوجب إلاّ ارتفاع نفسه فإن رفع علته بلا موجب، فهل إذا كان الإنفاق على الزوجة ضررياً في موردٍ يرتفع به وجوب طاعة الزوجة لزوجها؟! وأما مبحث ضررية المقدمة في ارتفاع ذي المقدمة فمع الفارق، لضررية ذي المقدمة أيضاً بضررية المقدمة، فالغسل ضرري إذا كان المشي إلى الحمام ضررياً، فتأمل.

وكأن المقصود أن العلل والمعاليل الاعتبارية يمكن التفكيك بينها لأنها ليست بعلل حقيقة برفع المعلول دون علته وخاصة أن المحذور لم ينشأ من العِلّة.

الجواب الرابع: أن علة الأمر بالقلع هو قوله: «لا ضرار»؛ لأنه وإن كان مصدراً إلاّ أنه يستعمل في آلة الضرر مجازاً لجواز استعمال المصدر في اسم الذات للمبالغة، وذلك نظير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا}(2)،

حيث اتخذوا ذلك المسجد وسيلة للإضرار بالمسلمين.

وأشكل عليه: بأن ذلك مجاز يحتاج إلى قرينة، ولا قرينة على كون

ص: 402


1- بيان الأصول 5: 308.
2- سورة التوبة، الآية: 107.

المراد بالضرار وسيلة الضرر هنا.

الجواب الخامس(1): إن هنا تزاحم ضررين: ضرر سمرة بسلب سلطنته على عذقه، وضرر الأنصاري على عرضه، وتمّ تقديم الأهم وهو ملاحظة عرض الأنصاري.

وفيه: أن الإشكال أنه لم يكن هناك ضرر من بقاء العذق، وحينئذٍ فالتعارض منتفٍ بانتفاء موضوعه.

الجواب السادس: إن (لا ضرر) حكم ولائي، فيستتبع حكماً ولائياً آخر هو الأمر بالقلع للتلازم بينهما.

وفيه: أنه لا تلازم، وذلك لأن الحكم الولائي قد يكون مستنداً إلى حكم مولوي أو حكم ولائي من غير فرق.

ثم إنه لو لم نرتض الأجوبة صار الحديث مجملاً.

أما ما ذكره الشيخ الأعظم(2)

بأن ذلك لا يخلّ بالاستدلال.

أي إن عدم معرفتنا بكيفية انطباق القاعدة على المورد لا يضر بظهورها في رفع الحكم الضرري.

فقد أشكل عليه المحقق النائيني: «بأن ذلك يرجع إلى أن خروج المورد لا يضرّ بالعموم، فيتمسك به في سائر الموارد، مع أنك خبير بأن عدم دخول المورد في عموم العلة يكشف عن عدم إرادة ما تكون العلة ظاهرة فيه، وهذا مرجعه إلى الاعتراف بإجمال الدليل، فكيف لا يخل

ص: 403


1- القواعد الفقهية للبجنوردي 1: 226-227.
2- رسالة لا ضرر في ملحقات المكاسب 23: 111.

بالاستدلال»(1).

أقول: إن ما ذكره وإن كان صحيحاً، إلاّ أن الظاهر أنه ليس مقصود الشيخ الأعظم، فمع علمنا بأن الظاهر ينطبق على المورد نقول بأنا لا نعلم كيفية الانطباق، وليس كلامه أن خروج المورد لا يضرّ بالظهور.

التنبيه الثاني: في كثرة تخصيصات القاعدة

قال الشيخ الأعظم: «إلاّ أن الذي يوهن فيها هي كثرة التخصيصات فيها، بحيث يكون الخارج منها أضعاف الباقي، كما لا يخفى على المتتبّع، خصوصاً على تفسير الضرر بإدخال المكروه كما تقدّم، بل لو بُني على العمل بعموم هذه القاعدة حصل منه فقه جديد»(2).

وصورة البرهان: الصغرى: هذه القاعدة قد تمّ تخصيص أكثر أفرادها، والكبرى: تخصيص الأكثر مستهجن، والنتيجة: الحديث مجمل لا يمكن الاستدلال به.

أما الصغرى: فإن أكثر الأحكام الشرعية كالزكاة والخمس والحج والجهاد والحدود و التعزيرات والقصاص والديات ونحو ذلك ضررية، خاصة لو فسرنا الضرر بما تكرهه النفوس.

وأما الكبرى: فإن في تخصيص الأكثر إشكالين:

الأول: استهجانه عرفاً، وذلك للزوم التناسب بين الإرادة الجدية والاستعمالية، فإن الخطاب العام لا يناسب الإرادة الجدية لقليل من أفراد

ص: 404


1- منية الطالب 3: 399-400.
2- فرائد الأصول 2: 464-465.

العام وإنما المناسب إرادة جميع أفراده أو أكثر أفراده بالإرادة الجدية.

الثاني: عدم توافق الخبر بهذا المعنى والدال على عموم نفي الضرر مع الكتاب والسنة القطعية، بل مخالفته لهما، فلا بد من الإعراض عنه أو تأويله إن لم يمكن طرحه؛ لأن من أسلوب العقلاء في معرفة كلام شخصٍ أو شعره هو إرجاع المشكوك إلى المقطوع به من كلامه، فإن وافقه في الأسلوب والمنهج اعتبروه من كلامه وإلاّ اعتبروه منحولاً، وما كان مقطوعاً من الكتاب والسنة يكون المرجع في ما كان مشكوكاً، وهنا هذه التخصيصات مقطوع بها، وكثرتها تصير سبباً لعدم توافق العام المفهوم من (لا ضرر) معها، فلا بد من تأويله بما لا يختلف معها، فلا يكون معناه (لا حكم ضرري)!

هذا وقد يضاف إشكال آخر وهو: أن نفي الحكم الضرري امتناني فيكون آبياً عن التخصيص، وحيث قد ثبت التخصيص قطعاً فلا يكون معنى الحديث نفي الحكم الضرري!

وإن أمكن الجواب عن هذا الإشكال: بأن التخصيص لو كان امتنانياً أيضاً فلا محذور فيه، مضافاً إلى ما سيأتي من أنه ليس بتخصيص بل تخصّص.

ثم إن الكلام في دفع إشكال تخصيص الأكثر في الكبرى والصغرى.

أما الجواب الصغروي:

فأولاً: ليست الأحكام الشرعية ضررية أصلاً؛ لأن النقص الذي يرجع نفعه إلى الإنسان ليس نقصاً واقعاً فلا يكون ضرراً، فلذا لا يكون الإنفاق

ص: 405

على العيال ضرراً، والأحكام الشرعية المالية كالخمس والزكاة يرجع نفعها إلى الإنسان وإلى المجتمع، وكذلك الأحكام الجزائية والضمانات نفعها عائد إلى المجتمع، وحتى لو فرض كون بعضها ضررية على من ثبت الحكم عليه كالقصاص، إلاّ أنها بصالح الاجتماع، فيكون نفعها أهم من ضررها، فلا تعتبر ضررية، ولذا قال الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَوٰةٌ يَٰأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ}(1)،

ولأجل هذه الجهة لا يعتبر العقلاء وعامة الناس القوانين الجزائية ضررية مع ثبوت ضررها على المجرم.

وثانياً: لو فرض كونها ضررية نقول إنها خارجة بالتخصّص لا بالتخصيص، وذلك لأن (لا ضرر) لا يشمل الأحكام التي هي ضررية بنفسها، وإنما نظره إلى العناوين التي لها حالتان: ضررية وغير ضررية، فينفي الحكم في الحالة الضررية، ويقيّد الدليل بالحالة غير الضررية، فمثل الزكاة والدية ونحوهما شُرّعت في مورد الضرر حيث لا حالة ثانية لها.

وثالثاً: حتى لو فرض ضرريتها وخروجها بالتخصيص فقد يقال: إن الإلزامات المالية والضمانات والأحكام الجزائية ونحوها من الأحكام الضررية هي أقل من الأحكام غير الضررية من عبادات ومعاملات وسائر الأحكام كما لا يخفى على من راجع الأبواب الفقهية.

وأما الجواب الكبروي:

فبعدم استهجان تخصيص أكثر الأفراد إذا كان بملاك يصحّحه.

ثم إنه قد اختلف في تعيين ذلك الملاك على وجوه:

ص: 406


1- سورة البقرة، الآية: 179.

1- منها: ما ذكره الشيخ الأعظم حيث قال: «إن الموارد الكثيرة الخارجة عن العام إنما خرجت بعنوان واحد جامع لها - وإن لم نعرفه على وجه التفصيل - وقد تقرّر أن تخصيص الأكثر لا استهجان فيه إذا كان بعنوان واحد جامع لأفراد أكثر من الباقي، كما إذا قيل: (أكرم الناس) ودلّ الدليل على اعتبار العدالة، خصوصاً إذا كان المخصص مما يعلم به المخاطب حال الخطاب»(1).

2- ومنها: ما ذكره المحقق الخراساني(2) وحاصله: أن العنوان الواحد الجامع لأكثر الأفراد إن كان ضمن عناوين متعددة جاز التخصيص فيه؛ لأنه في الحقيقة ليس تخصيصاً للأكثر، بل تخصيص واحد من ضمن متعدد، كما لو قال: (أكرم العلماء إلاّ النحاة) وكانوا أكثرهم ولكن هم صنف من أصناف متعددة كالصرفيين واللغويين والأطباء وغيرهم.

3- ومنها: ما ذكره المحقق النائيني(3) بما حاصله: أنه لو كانت القضية خارجية استهجن تخصيص الأكثر، كما لو قال: (أكرم هؤلاء المائة إلاّ تسعين منهم)، وإن كانت القضية حقيقيّة فلا استهجان كما لو قال: (أكرم الناس إلاّ الكفار منهم).

أقول: في ما نحن فيه لم يلاحظ الجامع في الحكم في (لا ضرر)، ولا هو قضيته حقيقية، فلا يكون مندرجاً في ما يخرجه عن الاستهجان.

ص: 407


1- فرائد الأصول 2: 465.
2- درر الفوائد في الحاشية على الفرائد: 284.
3- منية الطالب 3: 400-402.

وذلك لأنه قد لوحظ في (لا ضرر) نفي الضرر عن كل حكم بمفرده، قال في المنتقى(1): لأن المفروض هو كون (لا ضرر) موجباً للتصرف في أدلة الأحكام ومقيداً لها بصورة عدم الضرر، فالملحوظ فيه هو الأحكام المجعولة بأدلتها من طرف الشارع كوجوب الوضوء والصوم... الخ، ومن الواضح أن كل حكم ينشأ بمفرده وشخصه لا بعنوان جامع، وحتى لو فرضنا عنواناً جامعاً فليس هو حكماً شرعياً؛ لأنه لم يتعلق الإنشاء به، بل بمصاديقه أو منشأ انتزاعه، مثلاً عنوان العبادات وعنوان المعاملات وعنوان الوضع وعنوان التكليف، وحيث إن دليل نفي الضرر قد لوحظ فيه تضييق دائرة المجعول الشرعي بغير مورد الضرر فلا محالة يكون النفي وارداً على كل حكم ٍ حكم ٍ لا على الجامع؛ إذ ليس الجامع حكماً كي ينفى بنفي الضرر.

وبعبارة أخرى: في الأحكام الشرعية لا يحتمل دخالة الصنف في ثبوت الحكم، ولا الصنف قابلاً لورود الحكم عليه بحيث يكون الحكم للطبيعة السارية بحيث لا يكون الفرد بما هو ذا خصوصية.

التنبيه الثالث: في أن الضرر المرفوع شخصي أم نوعي؟

وفيه قولان:

القول الأول: أن المرفوع ب-(لا ضرر) هو الضرر الشخصي لا النوعي، فيرتفع الحكم عمّن يتضرر به ولا يرتفع عمّن لا يتضرر به ولو كان القليل النادر.

ص: 408


1- منتقى الأصول 5: 418-419.

وقد استدل له: أولاً: بأن الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعية الفعلية دون غيرها، ومنها لفظ (الضرر) فإنه ظاهر في الضرر الفعلي على المكلّفين، فمع الضرر على النوع لا يصدق الضرر على الشخص الذي لم ينله الضرر.

وحيث إن كلامنا في مرحلة المجعول فلا يصح الإشكال على ما ذكر بأنه في مرحلة الجعل قد تلاحظ المصالح والمفاسد النوعية فيجعل الحكم على الجميع باعتبارها حتى وإن لم تكن موجودة في بعض الأشخاص.

وثانياً: ما ذكره المحقق النائيني: «من حكومة أدلة نفي الضرر على الأحكام الثابتة في الشريعة على نحو العموم، ومقتضى الحكومة أن يكون كل حكم نشأ منه الضرر مرفوعاً دون ما لم ينشأ منه...، بل مقتضى كون الحديث وارداً في مقام الامتنان أن يكون كل شخص ملحوظاً بلحاظ نفسه»(1).

وأشكل عليه(2): من الممكن أن يقال: إن الحديث وإن كان وارداً مورد الامتنان، لكن الملحوظ هو الامتنان بحسب النوع، كما أنه حاكم على أدلة الأحكام إذا ترتب عليها الضرر نوعاً!

وفيه: أن الظاهر أن المقصود هو أن عدم رفع الضرر الشخصي يخالف الامتنان، وليس كذلك عدم رفع الضرر النوعي؛ لأن عدم الرفع عن النوع مع الرفع عن الأشخاص الذي أصابها الضرر لا ينافي الامتنان.

كما أن الظاهر أن الحكومة حيث أخذ فيها النظر فلا تكون إلاّ في ما فيه

ص: 409


1- منية الطالب 3: 423.
2- منتقى الأصول 5: 455.

النظر، ولا نظر إلاّ إلى الحكم الذي ينشأ منه الضرر الفعلي، فتأمل.

القول الثاني: إن المرفوع الضرر النوعي، فلو دخل الضرر على النوع ارتفع الحكم عن الجميع.

وقد يستدل له: بخيار الغبن حيث إن دليله (لا ضرر) مع ثبوت الخيار للجميع حتى لمن لم يتضرر من الغبن، وكذلك: حديث الشفعة حيث بيّن أن علتها الضرر وحكمها عام حتى لمن لم يتضرر ببيع الشريك حصته.

وعن شيخ الشريعة(1):

أنه أخذ هذا دليلاً على أن (لا ضرر) نهي لا نفي؛ إذ النهي ينحل لكل شخص شخص حيث لا معنى لنهي النوع، أما لو كان نفياً للحكم فلا بد من أخذه في العبادات شخصياً وفي المعاملات نوعياً، مع أن اللفظ واحد والدليل واحد!

وأجيب عن ذلك:

أولاً: بعدم كون الدليل في المعاملات المذكورة وغيرها (لا ضرر)، بل في الشفعة الأدلة الخاصة بها بعد تضعيف الرواية التي ذكر فيها (لا ضرر)، وكذا في خيار الغبن الدليل تخلّف الشرط الارتكازي بمساواة الثمن والمثمن، وهكذا في خيار العيب، وتبعض الصفقة.

ولا يخفى أن هذا تسليم بالإشكال كبرىً ومحاولة الجواب عنه صغرىً.

وثانياً: قد يقال: إن الضرر في المعاملات شخصي إلاّ أنه تمّ تعميم الحكم لغير موارد الضرر بدليل آخر، ومرجع هذا في الحقيقة إلى إرجاع (لا ضرر) إلى مرحلة الجعل.

ص: 410


1- قاعدة لا ضرر: 29.

لكن هذا وإن أمكن قبوله في المعاملات التي تمّ الاستدلال فيها في الروايات ب-(لا ضرر) كالشفعة، إلاّ أنه يصعب الاستدلال به في مثل خيار الغبن الذي لم يرد في الأدلة الخاصة الاستدلال ب-(لا ضرر) فيه، إلاّ بوجوه استحسانية لا تتوافق مع قواعد المذهب.

وثالثاً: إن معنى الضرر واحد سواء في العبادات أو المعاملات، إلاّ أن كيفية الضرر تختلف مما صار سبباً لتوهم الفرق بين المعاملات والعبادات مع أنه لا فرق واقعاً.

فعن المحقق الإصفهاني(1):

إن الضرر حالي ومالي، فأمّا في العبادات فحالي فلا يصدق الضرر على النوع إذا لم يضر بحال الشخص، وأما في المعاملات فمالي، والضرر المالي ضرر وإن لم يضرّ بحال الشخص، فليس موضوع الضرر النوعي والشخصي بما هو نوعي وشخصي، بل الضرر بما هو ضرر.

وبعبارة أخرى: إن العبادات لا ترتبط بالمال وإنما بأعمال المكلّف، فالضرر يلحقها باعتبار حاله، والحال لا يرتبط بالنوع بما هو مفهوم كلي وإنما يرتبط بالأشخاص بما هم، وأما المعاملات فترتبط بالمال، فالضرر يلحقها باعتبار المال لا باعتبار حال الشخص حتى يقال: إنه لم يتضرر بشخصه، فالمعاملة الغبنية ضرر مالي على المغبون حتى وإن لم يتضرر حاله.

ورابعاً: ما في بيان الأصول(2):

من أن الضرر بمعنى واحد لكن تختلف

ص: 411


1- حاشية كتاب المكاسب 2: 57.
2- بيان الأصول 5: 97-98.

مصاديقه، ففي المعاملات لا يطلق الضرر إلاّ على النوعي، فمن أجرى معاملة لا ضرر فيها على عامة الناس لكنه تضرر شخصاً فلا يقال: إن معاملته كانت ضررية وإن تضرر هو شخصاً، وفي العبادات وغيرها من الإلزاميات لا يطلق الضرر إلاّ على الشخصي، فحتى لو كان الضرر على عامة الناس لا يقال: إن الصلاة مثلاً ضررية، وإنما يقال صلاة فلان ضررية عليه، وهذا التفريق من المرتكزات العقلائية، التي معها تطلق الألفاظ ومع عدمها تنصرف، فتأمل.

تتمة: في الأحكام الولائية يمكن الاستناد إلى (لا ضرر) في مرحلة جعل الحكم الولائي، وحينئذٍ تلاحظ الحالة العامة ويجعل الحكم على الجميع حتى مع عدم جريان (لا ضرر) شخصاً على بعضهم، ففي مثل قوانين المرور يصح ملاحظة ضرر النوع لجعل إشارات المرور وعلائمها للجميع.

ويحتمل إرجاع ذلك إلى الضرر الشخصي لكل فرد فرد من غير استثناء حيث إن عدم مراعاتها يوجب خوف الضرر، وهذا الخوف هو ضرر واقعاً حتى وإن لم يترتب ضرر خارجاً؛ لأن الضرر كما يشمل الضرر الخارجي كذلك يشمل الضرر النفسي.

لا يقال: إن المخالف قد يقطع بعدم الضرر!

لأنه يقال: إن خوف المشرِّع أو خوف سائر الناس مقدّم على عدم ضرره، وبذلك تقيّد سلطته على أفعاله، فتأمل.

التنبيه الرابع: في الإقدام على الضرر

لو أقدم المكلّف على الضرر كما لو باع بضاعته بثمن بخس عامداً

ص: 412

عالماً، فلا يُرفع هذا الضرر بدليل (لا ضرر).

وقد يقال في وجه ذلك(1):

بأن مفاد الحديث هو نفي تسبيب الشارع إلى تحقق الضرر، دون إعمال الولاية على المكلّف في التصرف الذي يوجب الضرر عليه، ولو لم يمض الشارع ما التزمه المكلف على نفسه من الضرر وسبّب إليه عرفاً كان ذلك من إعمال الولاية عليه وتحديداً لما يحكم به العقلاء من أن كل أحد مسلط على ماله وله أن يتنازل عنه مجاناً فضلاً عن أن يتنازل عنه بعوض قليل، فالحكم الإمضائي فيه احترام لإرادة المكلّف وسلطنته على ماله، وليس تسبيباً إلى الضرر عليه.

وقد يستدل له بما في بيان الأصول(2): من أنّ الإقدام إن كان على الضرر المالي فدليل لا ضرر منصرف عنه، لا أقل من الشك في ظهوره ظهوراً شاملاً لمثل المقدم عليه.

وإن كان على الضرر البدني والعِرضي فالتفصيل بين ما كان الإضرار بهما رخصة وبين ما كان عزيمة.

التنبيه الخامس: في أن المنفي هو الضرر الواقعي دون الضرر المعلوم
اشارة

وذلك لأن الألفاظ وضعت على المعاني بما هي هي من غير تقييدها بالعلم أو الجهل، ومنها لفظ الضرر، وليس هناك دليل على تقييده بالعلم، وعليه فالمرفوع الضرر بما هو هو سواء كان معلوماً أو مجهولاً.

إلاّ أن منشأ هذا البحث أن هنالك مسائل فقهية قُيِّدَ فيها الضرر بالعلم

ص: 413


1- قاعدة لا ضرر ولا ضرار: 269.
2- بيان الأصول 5: 357-358.

كالوضوء والصوم الضرريين حيث لو كان المكلف جاهلاً بالضرر صحّ عمله وأمّا لو كان عالماً كان باطلاً، كما أن هناك فروع فقهية قُيِّدَ الضرر بالجهل فلو كان عالماً به لم يرتفع الحكم، كالغبن في البيع حيث إنه ضرر لو كان يعلم به المكلف لم يثبت الخيار، وإن كان جاهلاً ثبت حيث يرتفع حكم الشارع باللزوم حينئذٍ، فلا بد من بيان سبب تقييد الضرر في الأول بالعلم وفي الثاني بالجهل، فهنا مطلبان:

المطلب الأول: في الوضوء الضرري ونحوه
اشارة

فالحكم بصحته وترتب الآثار عليه غير مرفوع مع الجهل بالضرر دون العلم به، والكلام في مقامين:

المقام الأول: حالة الجهل بالضرر

فعدم الرفع بسبب آخر، لا لتقييد الضرر المرفوع بالعلم، وقد ذكر المحقق النائيني(1)

وجهين:

الوجه الأول: كون الحديث مسوقاً للامتنان وهو يقتضي التقييد بالضرر المعلوم، وإلاّ يلزم إعادة الوضوء والصوم على من تضرر بهما ولو لم يعلم به، وهو خلاف المنة.

ويرد عليه: أولاً: مبنىً بأنه لا دليل على كون (لا ضرر) للامتنان بحيث يكون علةً يدور الحكم مدارها، وإن كان الامتنان متحققاً في غالب موارده.

وثانياً: بناءً بأن المنة فيه بلحاظ النوع لا الشخص، لظهوره في ذلك أو

ص: 414


1- منية الطالب 3: 410.

انصرافه إليه، كنظائره من الإكراه وما لا يعلمون ونحوهما حيث إن الحكم مرفوع حتى لو كان بصالح الشخص.

وغير خفي أن كون المنة نوعية لا ينافي كون الضرر المرفوع شخصياً.

الوجه الثاني: إنه في مورد الضرر الواقعي ليس الموجب للضرر الحكم الشرعي بوجوب الوضوء أو الصوم - أي ليس الجزء الأخير من العلة التامة للضرر إطلاق الحكم - ولذا لو فرض انتفاء الحكم في الواقع لوقع هذا المتضرر في الضرر لجهله واعتقاده عدم تضرره - فليس الضرر مستنداً إلى تشريع الحكم.

وبعبارة أخرى: الحكم الفعلي على المتضرر العالم بالضرر موجب للضرر، وأما الحكم الواقعي - الذي لا يتفاوت وجوده وعدمه في إقدام المكلّف على هذا الفرد؛ حيث إن المكلّف يرتكبه باعتقاد عدم الضرر - فليس هو الجزء الأخير من العلة للضرر. نعم، الحكم الشرعي من المقدمات الإعداديّة بمعنى أنه لولا وجوب الوضوء مثلاً لما كان المكلف يقدم على الوضوء، لكن مجرّد سببيته للداعي وباعثيته على العمل لا يقتضي أن يكون هو العلة التامة أو الجزء الأخير.

وفيه: أولاً: إن المناط في الرفع كون الحكم ينشأ منه الضرر من غير فرق بين كونه الجزء الأخير من علة الضرر أم لا.

وثانياً: ما في بيان الأصول: «من أن الجهل بالضرر لم يوقع المكلف في الضرر، وإنما الجهل ظرف، والذي أوقعه في الضرر هو تكليف المولى وشموله لمورد الضرر الواقعي، وبعبارة أخرى: الجهل كان سبباً لحكم

ص: 415

الشارع، فالضرر نشأ بالنتيجة من حكم الشارع وإن كان سببه الجهل»(1)،

فتأمل.

وثالثاً: النقض بما لو كان عالماً بالضرر وتمرّد وارتكب، فعلى ما ذكر ليس الجزء الأخير من علة الضرر هو الحكم الشرعي؛ لأن المكلف كان يرتكب العمل سواء علم بالضرر أم لا.

إن قلت: إن مقتضى حكومة دليل لا ضرر على دليل الوضوء - مثلاً - هو خروج الفرد الضرري عن عموم أدلة الوضوء.

قلت: هذا إنما يجدي لو جرى دليل لا ضرر بأن كان الضرر - حسب هذا المبنى - الجزء الأخير من العلة، وفي ما نحن فيه ليس كذلك، فلا جريان لدليله ليكون حاكماً.

الوجه الثالث(2): إن صحة الوضوء مع الضرر الواقعي المجهول، وبطلانه مع الضرر الواقعي المعلوم لا يرتبطان بجريان قاعدة لا ضرر أو عدم جريانها، وإنما لأن الحكم الشرعي بوجوب الوضوء أو التيمم يرتبط بوجدان الماء وفقدانه، فالضرر - سواء كان واقعياً أو معلوماً - إن صار سبباً لصدق عدم التمكن من الماء فلا يشرع الوضوء لعدم تحقق موضوعه، فلا حكم حينئذٍ كي ينفى ب-(لا ضرر)، وإن لم يستلزم ذلك، بل صدق التمكن من استعمال الماء فحينئذٍ يشرع الوضوء ولا مجال لنفيه ب- (لا ضرر) وإثبات وجوب التيمم؛ لأن الواجد هو موضوع للوضوء مطلقاً ولا يكون موضوعاً

ص: 416


1- بيان الأصول 5: 157.
2- منتقى الأصول 5: 441-442؛ منية الطالب 3: 411.

لوجوب التيمم.

وعليه فالجاهل بالضرر واجد للماء عرفاً فيندرج في موضوع وجوب الوضوء، ومن يعتقد بضرر الوضوء عليه مع كونه ليس كذلك يكون الوضوء عليه حرجياً، فيصدق عليه عدم وجدان الماء فيكون مندرجاً في موضوع وجوب التيمم.

المقام الثاني: حالة العلم بالضرر

فالوضوء ونحوه باطل، ويعلم وجهه بما ذكر من أن موضوع الوضوء غير متحقق، فلا يصح لانتفاء موضوعه.

لكن ذكر المحقق النائيني(1) وجهاً آخر حاصله: أنه لا يمكن تصحيح الوضوء، لا بالملاك؛ لأن مقتضى الحكومة خروج الفرد الضرري عن عموم أدلة الوضوء والغسل وعدم ثبوت الملاك له لعدم وجود كاشف له، ولا بما يقال: إن التيمم رخصة لا عزيمة؛ إذ لا معنى لاحتمال الرخصة فإن التخصيص بلسان الحكومة كاشف عن عدم شمول العام للفرد الخارج، ولا بما يرجع إلى ذلك مثل ما يقال: إن الضرر يرفع اللزوم لا الجواز، وذلك لأن الحكم بسيط لا تركب فيه حتى يرتفع أحد جزئيه ويبقى الآخر، ولا بالترتب؛ ولعل سبب ذلك إن الترتب فرع وجود الحكم أو الملاك.

وفيه: أولاً: بأن لا ضرر إن كان امتناناً - كما هو مبناه - كشف ذلك عن وجود الملاك؛ إذ لا معنى للامتنان في ما لا ملاك له.

ص: 417


1- منية الطالب 3: 412.

وثانياً: بأن هناك طريقاً آخر لتصحيح الوضوء والغسل، فقد قيل(1):

إنهما من موضوعات الأحكام، حيث إن كلاً منهما جعل في مورده موضوعاً لترتب الطهارة الحدثية، كما قد جعل غسل البدن بالماء موضوعاً للحكم بالطهارة الخبثية، وعليه فلا يمكن نفي صحتهما بقاعدة لا ضرر؛ لأن مجرد الحكم بترتب الطهارة الحدثية عليهما ليس تسبيباً إلى الضرر، كما لم يكن الحكم بترتب الطهارة الخبثية على الماء بالبدن تسبيباً إلى الضرر وإن كان استعمال الماء مضراً، فالمقامين من واد واحد. نعم، الفرق في قصد القربة لكنه غير فارق، وذلك لإمكان التقرب بامتثال الأمر الغيري؛ لأن القربة هي إضافة العمل إلى الله تعالى، وإنما لم يجب الوضوء أو الغسل لارتفاع وجوب الصلاة بطهارة مائية فيرتفع وجوب مقدمته، لكن لو توضأ المكلف فقد حصلت الطهارة المائية فتجب عليه الصلاة معها؛ إذ ليس إيجابها حينئذٍ تسبيباً إلى الضرر.

ويمكن أن يقال: إنه مع ضرر الوضوء والغسل فلا يكون الشخص واجداً للماء، فلا يكون حكم بالوضوء والغسل، فلا يمكن إضافة العمل إلى المولى، فلا يتحقق قصد القربة.

إلاّ أن يقال: إن فرض الكلام في ما لو كان لدليلهما إطلاق شامل لموارد الضرر أيضاً فلا يرفع ب- (لا ضرر)، وأما لو لم يكن لهما إطلاق فلا دليل آخر على صحتهما إطلاقاً، فتأمل.

المطلب الثاني: في خيار الغبن ونحوه
اشارة

حيث يثبت الخيار مع الجهل بالغبن لا مع العلم به، وهنا مقامان:

ص: 418


1- قاعدة لا ضرر ولا ضرار: 286.
المقام الأول: مع العلم بالغبن

فقد يقال في سبب عدم الرفع وجوه، منها:

الوجه الأول: ما مرّ من أن الحكم بعدم اللزوم في صورة العلم خلاف المنة.

وفيه: ما مرّ من أنه لا دليل على كون لا ضرر وارداً مورد الامتنان بنحو العلة.

الوجه الثاني: ما في المنتقى(1):

من أن المستفاد من الحديث هو نفي الضرر الصادر من خصوص الغير، ومع العلم بالضرر في المعاملة لا يستند الضرر إلى البائع خاصة - كما هو الحال في صورة جهل المشتري - بل يستند إلى كل من البائع والمشتري بنحو الاشتراك، فلا يكون مرفوعاً بالحديث.

وأشكل عليه: بأن مقتضى ذلك عدم ثبوت الخيار في صورة جهل البائع أيضاً؛ إذ لا يستند الضرر حينئذٍ إلى الغير.

الوجه الثالث: إنه مع إقدام المغبون على الضرر لا يكون الضرر مستنداً إلى الحكم الشرعي بنحو يكون هو الجزء الأخير من العلة، بل يستند الضرر إلى إقدام المشتري، ويكون الحكم الشرعي من المقدمات الإعداديّة للضرر.

وفيه: مع قطع النظر عن الإشكال في المبنى، أن الجزء الأخير هو حكم الشارع بلزوم المعاملة؛ إذ لا يحكم الشارع بها إلاّ بعد إقدام المشتري عليها

ص: 419


1- منتقى الأصول 5: 445.

بأن يوقع العقد فيحكم الشارع باللزوم.

الوجه الرابع: إن وجه عدم الخيار في حالة علم المغبون ليس تقييد الضرر بالعلم، بل لتحديده بالإقدام، والإقدام يتحقق حتى مع الظن، بل والاحتمال، ودليل لا ضرر لا يشمل حالة الإقدام عليه كما مرّ.

المقام الثاني: مع الجهل بالغبن

وفيه يثبت الخيار، لعدم الإقدام.

لكن منشأ عدم لزوم البيع يكون تارة: بتخلّف الشرط الضمني في ما لو كان ملتفتاً وتصوّر تساوي قيمة الثمن والمثمن.

وتارة: بتخلف الشرط الارتكازي في ما لو كان غافلاً، فيكون هذا الارتكاز سبباً لتقييد المنشأ حيث لا رضا له بغير التساوي.

مضافاً إلى جريان قاعدة لا ضرر، مع وضوح كون الجهل ظرفاً لا قيداً، فعدم جريان القاعدة في حالة العلم لا يصير سبباً لعدم جريانها في حالة الجهل.

التنبيه السادس: في رفع الأحكام العدمية بدليل لا ضرر

وغير خفي أن رفع الحكم العدمي هو بعينه وضع الحكم الوجودي، كما لو حبس حراً كسوباً، ففات عمله، فعدم ضمان الحابس حكم ضرري يرتفع بلا ضرر، ولا مانع منه لا في الكبرى ولا في الصغرى، بل هو واقع.

وقد يقال: بعدم شموله للأحكام العدمية، وقد استدل المحقق النائيني(1) وغيره على ذلك بوجوه:

ص: 420


1- منية الطالب 3: 418.

1- منها: أن عدم الضمان ونحوه ليست أحكاماً شرعية مجعولة من قِبل الشارع، وتعلق القدرة باستمرار العدم لا يعني إسناده إلى الشارع ما لم يتعلق بالعدم جعل شرعي، فليس المدعى عدم إمكان جعل الحكم العدمي أو عدم إمكان إنشاء عدم الحكم؛ إذ كلاهما ممكن، وإنما الكلام أن مجرد عدم جعل الحكم في مورد قابل ليس حكماً كي يكون مرفوعاً بلا ضرر، وبعبارة أخرى: القدرة على الشيء وعدمه لا تعني نسبة الشيء أو عدمه إلى القادر.

وفيه: أن حصر التشريع بيد الشارع ومنع غيره عن التشريع هو حكم بالعدم عرفاً، ولذا لو توجه ضرر إلى شخص ولم يمنعه الحاكم مع حيلولته دون منع الغير له لكان عرفاً إضرار من الحاكم على الشخص، وعليه فعدم الحكم بالضمان من الشارع هو حكم بعدم الضمان، وحيث إنه ضرر كان مرفوعاً بدليل لا ضرر.

2- ومنها: أن ذلك يستلزم كون معنى لا ضرر هو عدم جعل الضرر غير المتدارك، وقد مرّ الإشكال فيه وأنه أردأ الوجوه.

وفيه: إن الاتفاق في الأثر أحياناً لا يعني كون معنى الحديث ذلك، وبعبارة أخرى: عموم الحديث للوجوديات والعدميات قد يستلزم التدارك، لكن ليس ذلك معنى الحديث، والفرق بينهما بيّن.

3- ومنها: استلزام الرفع ثبوت فقه جديد، ومن المعلوم بطلان ذلك.

وفيه: أن مجموعة من الفقهاء التزموا بذلك ولم يستلزم منه فقه جديد؛ لأن المسائل منحصرة في بعض الموضوعات.

ص: 421

4- ومنها: أن المنفي إن كان الحكم الضرري استلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى، وذلك لعدم إمكان الجامع بين الوجود والعدم.

وفيه: أن الحكم بالعدم هو أمر وجودي، مضافاً إلى أن غير الممكن هو الجامع الحقيقي بينهما، لا الجامع العنواني.

5- ومنها: تعارض ضرر الضارّ والمتضرِّر فلا يجري لا ضرر فيهما.

وفيه: أن دليل لا ضرر لا يشمل الضارّ، كما في الضرر الذي ترتب على قلع شجرة سمرة، للانصراف وللإقدام.

التنبيه السابع: نسبة دليل لا ضرر إلى الأدلة الأخرى
اشارة

وهنا مطالب:

المطلب الأول: نسبته إلى أدلة العناوين الأولية

وتلك النسبة هي العموم من وجه، مثلاً الصوم قد يكون ضررياً وقد لا يكون، والضرر قد يكون في الصوم وقد لا يكون، وهكذا اللزوم في البيع في حالة الضرر وعدمه، والضرر في لزوم البيع وغيره، ومع أن النسبة هي العموم من وجه إلاّ أن المقدّم هو دليل لا ضرر، وقد ذكر لذلك وجوه، منها:

الوجه الأول: إن تقدم أدلة الأحكام يستلزم لغوية دليل لا ضرر بالمرة؛ إذ لا يبقى له ولا مورد واحد، وتقدمه على بعضها ترجيح بلا مرجح؛ إذ نسبتها إليه متساوية، فلم يبق إلاّ تقدمه عليها بدلالة الاقتضاء، حيث إن أكثر مواردها غير ضررية تجري الأحكام فيها.

وأشكل عليه بما حاصله: أنه يكفي في رفع اللغوية هو أن التساقط

ص: 422

يستلزم عدم جريان أدلة الأحكام في مواردها الضررية فيكون المرجع حينئذٍ الأصول العملية مثلاً، وكفى به فائدة، فتأمل.

مضافاً: إلى إمكان رفع اللغوية بالتمسك بالقدر المتيقن من موارد تقييد الأحكام بلا ضرر، كما لو كان دليل الأحكام لبيّاً لا إطلاق له، فتأمل.

الوجه الثاني: حكومة دليل لا ضرر عليها، وذلك لأن في ملاك الحكومة مبنيين:

1- نظر الدليل الحاكم إلى الدليل المحكوم بحيث يكون الحاكم لغواً لولا المحكوم، وحينئذٍ فإن كان معنى (لا ضرر) رفع الحكم الضرري، فهو ناظر إلى نفي الأحكام المستلزمة للضرر، وإن كان معناه رفع الموضوع الذي ينشأ منه الضرر فهو ناظر إلى تضييق الموضوع.

نعم، لو كان المعنى النهي فلا نظر؛ لأن النهي عن إضرار الغير حكم مستقل لا نظر له إلى الأحكام الأخرى بحيث يكون لغواً لولاها، وهكذا لو كان المعنى رفع الضرر غير المتدارك؛ إذ هذا الحكم لا يتوقف على حكم آخر ليكون ناظراً إليه، وهكذا لو كان حكماً ولائياً.

2- المسالمة بين الدليل الحاكم والمحكوم، وهذا متوفر في دليل لا ضرر وأدلة الأحكام.

ثم إن البحث في ملاك الحكومة وأقسامها قد مرّ في المقصد السادس، فراجع.

الوجه الثالث: ما اختاره صاحب الكفاية(1) وذلك بالتوفيق العرفي بين

ص: 423


1- إيضاح كفاية الأصول 4: 339-340.

دليل لا ضرر وأدلة الأحكام؛ لأن أدلتها بيان للمقتضي، ودليله بيان للمانع عن فعليتها، والعرف يجمع بين الدليلين بتقدم المانع مطلقاً حتى وإن كانت النسبة العموم من وجه.

وحاصل كلامه: أن الحكومة إنما هي في الدليل المفسِّر والمفسَّر؛ إذ هي بمعنى الشرح والتفسير، وليس (لا ضرر) يفسر الأدلة الواردة مورد الضرر؛ إذ لو كان الضرر موضوعاً أو مورداً للحكم فلا يعقل أن يكون مانعاً عن ذلك الحكم، وعليه فلا حكومة، وإنما جمع عرفي بتقدم الدليل الدال على المانع على الدليل الدال على الاقتضاء.

وفيه: أولاً: إن ملاك الحكومة متوفر في هذا التوفيق العرفي - وهو النظر - فلا وجه لعدم اعتباره من الحكومة؛ إذ ليس الكلام فيها مجرد اصطلاح حتى يقال لا مشاحة فيه، بل هو اصطلاح عن ملاك، وذلك الملاك متوفر في موارد الشرح وفي موارد غير الشرح، ولذا كانت الحكومة أنواعاً متعددة کما مرّ.

وثانياً: إن حمل الأحكام الأولية على كونها دالة على الاقتضاء دون الفعلية خلاف الظاهر، بل قد يقال: إنه غير معقول - بحسب بعض معاني الاقتضاء - .

وثالثاً: ما قيل: من أن حمل لا ضرر على بيان المانع إنما ينسجم مع مبناه في معنى (لا ضرر) من أنّه رفع للموضوع الضرري، وأما على سائر الأقوال فلا؛ إذ لا ظهور في نفي الحكم الضرري على المانعية عن الحكم، حيث لم يؤخذ الضرر في موضوع النفي كي يستظهر عليته له، فتأمل.

ص: 424

المطلب الثاني: النسبة بين لا ضرر وبين أدلة الأحكام الثانوية

وذلك كما لو فرض كون أكل طعام مضراً وكون تركه حرجياً، مع وجود الملاك لكلتيهما، وعدم حكومة إحداها على الأخرى، فيقع التزاحم، فلا بد من إعمال قواعده.

وقد يقال: بترجيح رفع الحرج على لا ضرر.

أولاً: لحكومة رفع الحرج عليه.

وأشكل عليه: بأنهما في عرض واحد، فلا نظر لأحدهما على الآخر؛ إذ هما دليلان ناظران إلى الأحكام الثابتة في الشريعة، فكل منهما يزاحم الآخر، ولو فرض نظر أحدهما إلى الآخر فهو تحاكم فلا يرجح أحدهما على الآخر.

وأجيب(1): بأقوائية عموم لا حرج؛ لأنه بالنص والتصريح حيث قال تعالى: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٖ}(2) والدين هو جميع الأحكام، وأما عموم لا ضرر فهو عبر حذف المتعلق الذي يفيد العموم، أو لعدم البيان في مورد البيان.

وفيه تأمل: بناءً على ثبوت كلمة (في الإسلام) في بعض أحاديث نفي الضرر، مضافاً إلی أن شمول (في الدين) لجميع الأحكام بالإطلاق، فتأمل.

وثانياً: في قصة سمرة تمّ تقديم حرج الأنصاري على ضرر سمرة.

وفيه: أن ما كان في جهة الأنصاري الضرر أيضاً لا الحرج كما مرّ، ولم

ص: 425


1- منتقى الأصول 5: 470.
2- سورة الحج، الآية: 78.

يكن ضرر في استئذان سمرة، ولذا تمّ تقديم ضرر الأنصاري برفعه.

وثالثاً: بأن الحرج إنما هو على النفس، والضرر على المال والبدن، والأول أشد، فمناسبة الحكم والموضوع تقتضي تقديمه.

وفيه: أن الضرر أيضاً قد يكون نفسياً لأن العِرض يرتبط بالنفس، وقد يدخل فيه النقص فيكون ضرراً، مضافاً إلى عدم ثبوت أشدية الحرج النفسي على الضرر المالي أو البدني، بل المصاديق تختلف جداً.

فرع: في نسبة قاعدة لا ضرر مع قاعدة السلطنة

وذلك في ما لو كان إعمال سلطنة المالك على ماله سبباً لضرر غيره، وصور المسألة أربع: فقد يكون منع المالك عن التصرف في ملكه ضرراً عليه، وقد يكون عدم نفع، وقد لا يكون أياً منهما لكنه يريد التصرف في ملكه سواء بقصد إضرار جاره أم بقصد آخر.

فتارة نقول: بأنه لا دليل على عموم سلطنة المالك على ملكه لإرسال سند «الناس مسلطون على أموالهم»(1)،

ولأن بناء العقلاء الممضى دليل لبيّ، والقدر المتيقن منه ما لم يكن ضرراً على الآخرين، فحينئذٍ يجري دليل لا ضرر من غير معارض.

وتارة نقول بانجبار الدليل بعمل المشهور - كما هو الأظهر - فحينئذٍ إن لم يكن في منع المالك عن التصرف ضرر عليه ولا عدم نفع وكان ضرراً على الغير، جرى دليل لا ضرر، ويكون حاكماً على قاعدة السلطنة لكونه عنواناً ثانوياً ناظراً، وكونها عنواناً أولياً منظوراً إليه.

ص: 426


1- الخلاف 3: 176.

وأما إن كان منع المالك ضرراً عليه أو عدم نفع بما يرجع إلى الضرر، فالأقرب جريان قاعدة السلطنة وعدم جريان قاعدة لا ضرر، فيجوز تصرف المالك ولو كان ضرر الجار أعظم، بل هو من مصاديق عدم وجوب تحمل الضرر لدفعه عن الغير، وهذا ما نُسب إلى ظاهر كلمات الأصحاب.

واستدل لذلك بوجوه، منها:

الدليل الأول: تعارض ضرر المالك وضرر الغير فلا يجري دليل لا ضرر، ويبقى دليل قاعدة السلطنة سليماً عن المعارض.

وأشكل عليه: أولاً: بما عن المحقق النائيني(1)، وحاصله: أن الحكم الشرعي هو جواز تصرف المالك في ماله، وهذا مرفوع بدليل (لا ضرر) ولا يعارضه ضرر الغير؛ لأن ضرر الغير إنما نشأ عن حكومة لا ضرر فلا يعقل أن يدخل في عموم (لا ضرر)؛ لأن الحكومة تقتضي فرض الحكم في مرحلة سابقة على القاعدة لتقدّم المحكوم رتبة على الحاكم، فلا يمكن أن يكون دليل (لا ضرر) شاملاً للضرر الناشئ من قِبل تحكيمه وإلاّ لزم الخلف.

وبعبارة أخرى: إن (لا ضرر) يستلزم حرمة تصرف المالك في ماله، وهذه الحرمة لا يمكن رفعها ب-(لا ضرر) إذ نفي الحرمة بمعنى عدم جريان (لا ضرر)، وهذا يقتضي أن يلزم من وجود القاعدة عدمها.

وأجيب(2): بأن المنفي ب- (لا ضرر) ليس خصوص الأحكام المحققة كي يستلزم الخلف بالبيان المذكور، بل ينفى به الحكم الضرري المقدّر أيضاً،

ص: 427


1- منية الطالب 3: 428-429.
2- منتقى الأصول 5: 472.

بمعنى أنه لو كان حكم لكان ضررياً فيكون منفيّاً، وعليه فلا محذور في أن يشمل أحد أفراد (لا ضرر) حكماً ضررياً ناشئاً من فرد آخر، وذلك حيث إن نفي الضرر ينحلّ إلى أفراد متعددة بعدد الأفراد الضررية فيكون النفي المتعلّق بالحكم الناشئ من قاعدة لا ضرر غير النفي الذي ينشأ منه الحكم الضرري، فلا خلف لأن شمول (لا ضرر) للحكم الأول ليس متفرعاً على تحققه كي يكون نفيه مستلزماً لانتفاء نفس الفرد، بل يكون شموله متفرعاً على فرض وجوده وتقديره فيقال: الحرمة إذا ثبتت تكون ضررية فتنتفي ب-(لا ضرر)، وعليه فنفيه بهذا الفرد يكون منافياً لإثباته بالفرد الأول فيتحقق التعارض بينهما، فأحد الفردين من لا ضرر يستلزم ثبوت الحرمة، والآخر يستلزم نفيها ولا يكون الفرد الثاني من آثار الفرد الأول!!

وفيه: أنه مع جريان الدليل في السبب لا تصل النوبة إلى جريانه في المسبّب، فتأمل.

وثانياً: بما ذكره السيد الوالد(1)

بتعارض دليل السلطنة أيضاً، وذلك لأن (الناس مسلطون) له عقد إيجابي وهو جواز التصرّف في الملك، وعقد سلبي - يفهم بدلالة الإقتضاء - وهو حق منع الغير في ما زاحم سلطنة المالك، وإلاّ لم تكن سلطة، والعقد الإيجابي يجري في من يريد التصرّف، والعقد السلبي يجري في الجار حيث أجيز له منعه، فيتعارضان ويتساقطان فلا تجري قاعدة السلطنة أيضاً، فتأمل.

الدليل الثاني: إن حرمة الإضرار بالغير من الأحكام الأولية، فيكون (لا

ص: 428


1- موسوعة الفقه 78: 151-152.

ضرر) حاكماً عليه بالحكومة التضييقيّة.

وأجيب(1): أولاً: بأن ارتفاع الحرمة أيضاً ضرري كما أن الحرمة ضررية، أحدهما على المالك والآخر على الغير، ويستحيل حكومته عليهما لأنه من ارتفاع النقيضين، وحكومته على أحدهما ترجيح بلا مرجّح.

وفيه: أن الحكم الأوّلي هو الحرمة دون ارتفاع الحرمة. نعم، برفع الحرمة بدليل (لا ضرر) يتحقق ضرر على الغير، وهذا الضرر غير مرفوع لأنه متفرع على جريان لا ضرر فيكون مسبباً، فتأمل.

وثانياً: تقدم (لا ضرر) على حرمة الإضرار؛ لأنه في قضية سمرة لوحظ أولاً (لا ضرر) الدال على استحقاق سمرة الدخول في دار الأنصاري بلا استئذان، ثم رتب عليه حرمة الإضرار بعد تحقق صغراها، وعليه ف- (لا ضرار) في الرتبة المتأخرة عن (لا ضرر) فلا يكون حاكماً عليه.

وفيه: أن الإضرار بالغير حرام مع قطع النظر عن دليل (لا ضرر) فهو من العناوين الأولية، كما أنه لو كان ملاك الحكومة المسالمة فلا يشترط تقدم المحكوم رتبة، كما لا يشترط تقدمه زماناً مطلقاً سواء كان الملاك المسالمة أم النظر، فتأمل.

الدليل الثالث: عدم إطلاق (لا ضرر) فلا يشمل المقام؛ لأن الإطلاق يستلزم تعارض الصدر «لا ضرر» مع الذيل «لا ضرار»!

وأجيب: بأنه لا محذور في حكومة الصدر على الذيل فلا تعارض.

ص: 429


1- قاعدة لا ضرر ولا ضرر: 331.

الدليل الرابع: إن (لا ضرر) للامتنان، فلا يشمل ضرر المالك وضرر الغير؛ لأن رفع الضرر عن كل منهما مخالف للامتنان على الآخر.

وفيه: ما مرّ من أنه لا دليل على كون المنّة علة فيه بحيث يدور الحكم مدارها.

الدليل الخامس(1): إن عموم السلطنة لا يشمل مورد ترتب الإضرار على الغير بسبب التسلط، فهل يمكن ادعاء أن عمومه يقتضي جواز تصرف المالك في سكينه بذبح شاة الغير؟! فهو لا يتكفل سوى جعل السلطنة في الجملة، فدليل السلطنة قاصر عن شمول ما نحن فيه كي يكون مشمولاً لنفي الضرر، فلا يبقى إلاّ حكم واحد هو حرمة الإضرار بالغير وهو حكم ضرري على المالك فيكون مرفوعاً ب- (لا ضرر) فيثبت جواز التصرف مع تدارك ضرر الغير بالضمان لو كان مالياً، وإلاّ فلا تدارك له.

ويرد عليه: أولاً: إن الإضرار بالغير تارة يكون عبر التصرف في مال الغير كمثال ذبح شاته، وتارة عبر ما لا يكون تصرفاً في ماله كمثل ما نحن فيه، والذي لا تجري فيه دليل السلطنة الأول لا الثاني، حيث لا مانع فيه من انصراف أو غيره، مع عموم أو إطلاق دليل السلطنة له في نفسه لولا حكومة لا ضرر، وعليه فهنا حكمان: جواز تصرف المالك في ماله وحرمة الإضرار بالغير، وحيث إنهما ضرريان فيرتفعان بدليل (لا ضرر)، فيبقى دليل السلطنة سليماً عن الحاكم أو المعارض.

وثانياً: إن تدارك ضرر الغير بالضمان إن أريد استفادته من نفس دليل

ص: 430


1- منتقى الأصول 5: 473.

(لاضرر) فمرجعه إلى تفسير لا ضرر ب- (لا ضرر غير المتدارك) وقد مرّ الإشكال فيه، إلاّ أن يستفاد الضمان من دليل آخر، وهو غير بعيد.

الدليل السادس: إن الجواز والإباحة لا يرفع بدليل لا ضرر؛ لأن جعل ذلك لا يلزم منه الضرر، كما أن رفعه لا يلزم منه رفع الضرر، فعدم جعل الإباحة لا يعني التحريم، بل يعني أن المولى لا دخل له في الفعل نفياً أو إثباتاً، كما أن عدم اللزوم أمر عدمي فلا يرفع بدليل لا ضرر حتى لو قيل بأن في رفعه رفعاً للضرر.

وفيه: ما مرّ من أن حصر التشريع بيد الشارع سبب لترتب الضرر على بعض أحكامه حتى لو كانت جوازاً وإباحة، فجعلها قد يلزم منه الضرر، كما أن رفعها قد يلزم منه رفع الضرر.

التنبيه الثامن: في تعارض الضررين
اشارة

وذلك قد يكونان في شخص واحد، أو في شخصين.

كما أنه قد يدور أمر الضرر الواحد بين شخصين، والكلام حينئذٍ تارة في تحمل الضرر عن الغير، وأخرى في توجيه الضرر من نفسه إلى غيره.

فهنا مطالب:

المطلب الأول: الضرران في الشخص الواحد

أما الحكم التكليفي:

فتارة: يدور الأمر بين ضررين مباحين، فلا إشكال في التخيير بينهما.

وتارة: بين ضررحرام تحمله وضرر مباح، كدوران أمره بين تلف نفسه أو تلف مال غير مهم، فلا إشكال في تقديم الضرر المباح.

ص: 431

وتارة: بين ضررين حرام تحملهما كتلف النفس أو العضو، فيكون من مصاديق التزاحم، والترجيح بالمرجحات التي ذكرناها في ما مضى.

وأما الحكم الوضعي:

فإن لم يكن الدوران بين الضررين بفعل إنسان آخر فلا معنى للضمان.

وأما إن كان بفعل آخر:

1- فإن كان الضرران مباحين، فلا إشكال في ضمانه إذا كان الضرران متساويين أو كانا متفاوتين واختار أخفهما.

وأما إذا اختار أشدهما فالأقرب ضمانه للقدر الجامع بينهما - وهو مقدار الأخف - ، كما لو أبعده إلى مكان وكان رجوعه يستدعي صرف مال، فبالسيارة ألف وبالقطار ألفان، فلو اختار القطار ضمن الآخر ألفاً فقط، وذلك لاضطراره إلى الجامع بينهما وليس هو مضطراً إلى المقدار الزائد.

وبعبارة أخرى: إن الغير لم يكن سبباً للضرر الزائد فلا وجه لضمانه فيه، لكنه كان سبباً للضرر الجامع فتجري عليه أدلة الضمان.

إن قلت: إن الضمان لا يتعلق بعنوان أحدهما لعدم وجوده في الخارج، وإنما الضمان يتعلق بالمعيّن وليس هو مضطراً إلى الأشد، بل ارتكبه باختياره، فلا وجه لأصل الضمان فيه.

قلت: أولاً: قد مرّ أن العنوان الجامع وإن لم يكن له وجود خارجي إلاّ أنه مرآة للأفراد الخارجية باعتبار انتزاعه منها فهو موجود انتزاعي بوجودها، كالكلي الطبيعي الذي هو موجود بوجود فرده بمعنى انتزاعه منه، وعليه فلا إشكال في اضطراره إلى الجامع بينهما بسبب الغير فيكون مضموناً عليه.

وإن أبيت عن ذلك قلنا: إن موضوع الضمان عرفي، والعرف يرى أن

ص: 432

الغير صار سبباً لاضطراره إلى الجامع وبتحقق الموضوع يترتب عليه الحكم الذي هو الضمان.

وثانياً: النقض بالضررين المتساويين حيث إن الغير لم يكن سبباً لاضطراره لا إلى هذا الفرد ولا إلى ذلك الفرد وإنما كان سبباً لاضطراره إلى الجامع، ولا إشكال في ضمانه، وما يقال هنا في تصحيح الضمان بالجامع يقال هناك أيضاً.

إن قلت: إن الغير لم يكن سبباً للضرر الأشد فلا وجه لأصل ضمانه.

قلت: كذلك لم يكن سبباً للضرر الأخف بخصوصياته، والحاصل: إن السببيّة إنما هي للجامع فيكون الضمان بمقداره، فتأمل.

2- وأما لو كان أحد الضررين حراماً والآخر مباحاً، فإن اختار المباح فلا إشكال في ضمان الغير، وأما إن اختار الحرام فقد يقال: بعدم ضمان الغير، وذلك لعدم الاضطرار إلى الحرام بعد تمكنه من المباح، ولا ينفع القول باضطراره إلى الجامع، وذلك لأن المانع الشرعي كالمانع العقلي فينحصر اضطراره في الجامع في الفرد المباح دون الفرد الحرام.

ومن ذلك يعلم حكم دوران اضطراره بين حرامين، حيث إن كانا متساويين وسبّب الغير اضطراره إلى أحدهما كان ضامناً، وإن لم يكونا متساويين فإن اختار الأخف كان ضامناً وإلاّ فلا، فتأمل.

المطلب الثاني: الضرران في شخصين
اشارة

ومثاله دخول رأس دابة أحدهما في قِدْر الآخر بحيث لا يمكن الإخراج إلاّ بذبحها أو كسره، وهنا عدة صور:

ص: 433

الصورة الأولى: إذا كان بفعل أحدهما

1- فإن كان فعله بإذن الآخر، فلا وجه لضمان أيٍّ منهما، فإن اتفقا على شيء فهو، وإلاّ جاز لكل واحد منهما إتلاف مال نفسه لتخليص مال الآخر، ولا يجوز إتلاف مال الآخر حتى مع قصد إعطاء بدله له؛ لأنه تصرف في ماله من غير إذنه. نعم، لو كان إتلاف مال نفسه حراماً لدخوله تحت عنوان محرّم كالإسراف لزم مراجعة الحاكم الشرعي.

2- وإن لم يكن فعله بإذن الآخر، وكان إيقاع الضرر على نفسه مباحاً وجب ذلك عليه لتخليص مال الغير؛ إذ يجب عليه رفع العيب أو الضرر الذي أدخله على مال الغير، ومقدمة ذلك إتلاف مال نفسه فيجب، أما إذا كان إيقاع الضرر على نفسه حراماً كان من مصاديق باب التزاحم، وحينئذٍ فإن وقع الضرر على مال الغير كان المسبِّب ضامناً على كل حال لأنه السبب له، مثلاً لو أدخل رأس فرسه الذي قيمته مليون في قدر الغير الذي قيمته ألف فلا يجوز ذبح الفرس لعظيم الضرر، ومجرد كونه سبباً لا يكون علة لتحمله الضرر كما ذكرناه مفصلاً في بحث الغصب، وعليه لا بد من كسر القدر مع ضمان السبب.

الصورة الثانية: إذا كان بفعل ثالث

فأما الحكم التكليفي: فلا يجوز للثالث ولا لغيره التصرف إلاّ بإذنهما، فإن أذنا وكان المالين متساويين جاز إيقاع الضرر بأيهما من غير فرق، وإن أذن أحدهما في المتساويين فلا إشكال في جواز إيقاع الضرر بماله، وإن لم يأذن أيٌّ منهما فلا بد من رفع الأمر إلى الحاكم الشرعي، وهو يختار إيقاع الضرر على أحدهما بمرجّح شرعي كالقرعة، ويحتمل تخيّره لولايته، وأما

ص: 434

مع عدم التساوي وكان ضرر الأشد فاحشاً بحيث لا يقدم العقلاء على مثله فلا بد من اختيار إيقاع الضرر على الأخف، ولا ينفع إذن الآخر في إيقاع الضرر على ماله لأن الإذن لا يرفع الحرمة هنا.

وأما الحكم الوضعي: فهو ضمان الثالث لأنه السبب، إلاّ إذا كان فعله بإذنهما فيتوزع الضمان بينهما لأنهما كانا السبب فلا وجه لضمان أحدهما فقط أو ضمان الثالث.

الصورة الثالثة: إذا لم يكن بفعل أحد

1- فإن أراد أحدهما تخليص ماله دون الآخر فلا يجوز له إتلاف مال الآخر إلاّ بإذنه، وإن لم يأذن رفع أمره إلى الحاكم الشرعي، وأما الضمان فيوزّع بينهما ولا وجه لتخصيصه بالذي يريد تخليص ماله.

2- وإن أرادا كلاهما تخليص ماليهما، فإن تراضيا بإيقاع الضرر بمال أحدهما فهو، وكان الضرر بينهما بالسوية لقاعدة العدل، وإن لم يتراضيا رجعا إلى الحاكم الشرعي فيرجّح ضرر أحدهما بمرجّح شرعي وهو الأقل ضرراً، ومع التساوي اختيار الحاكم بولايته أو القرعة، وحينئذٍ فيكون الخسارة بينهما بالسوية لقاعدة العدل، لا على خصوص من خلّص ماله.

المطلب الثالث: في تحمّل الضرر المتوجه إلى الغير

كما لو توجه ضرر على إنسان بسبب ظالم أو آفة سماوية أو غير ذلك، فلا يجب على غيره توجيه الضرر إلى نفسه لدفع الضرر عنه، ولا إشكال في عدم وجوبه بما هو هو.

وقد يقال في سبب ذلك: إن (عدم وجوب دفع الضرر عن الغير) حكم ضرري على ذلك الغير، كما أن (وجوبه) ضرري على الإنسان، فيتعارضان

ص: 435

ويتساقطان، فلا بد من الرجوع إلى الأدلة الأخرى، ومقتضى أصالة البراءة عدم وجوب التحمّل.

نعم، بناءً على أن عِلّة رفع الضرر المِنّة فعدم جريان قاعدة (لا ضرر) إنّما هو لعدم المقتضي لها، لا لوجود المانع بالتعارض.

وأما بناءً على عدم جريان القاعدة في الأحكام العدمية، فلا تعارض وإنما تجري لرفع (وجوب دفع الضرر عن الغير) فإنه حكم ضرري على الإنسان فيرتفع بالقاعدة.

فرع: لو كان تحمل ذلك الضرر مباحاً فلا بأس بتحمل الإنسان ذلك الضرر عن الغير، كما لو أراد الظالم مصادرة مال زيد فيدفع عمرو مالاً إنقاذاً لمال زيد، بل لو انطبق عليه عنوان الإيثار أو عون الضعيف ونحو ذلك كان حسناً، أما لو لم يكن جائزاً كما لو أراد الظالم قتل زيد فيدفع عمرو عنه بتعريض نفسه للقتل فلا يجوز بما هو هو.

المطلب الرابع: في إلقاء الضرر المتوجه إليه على الغير

كما لو كان السيل متوجهاً إلى داره فيغيّر مجراه بحيث يتوجه إلى دار غيره.

قد يقال: إن كان المبنى أن (لا ضرر) يدلّ على النهي وعلى رفع الحكم الضرري، فهنا يتعارض ضرر الشخص وضرر جاره، فلا يجري الدليل، فيكون المرجع حينئذٍ العمومات الأولية الدالة على عدم جواز الإضرار بالغير ولو بالتسبيب فيضمنه.

وإن كان المبنى رفعه للحكم الضرري فقط فهنا حكمان ضرريان هما: (عدم جواز توجيه الضرر إلى الغير) و(عدم جواز تحمل الضرر) ورفعهما

ص: 436

بدليل لا ضرر يستلزم التعارض فيه فلا يجري فيجوز توجيه الضرر إلى الغير مع ضمانه لعدم المحذور في جريان أدلة الضمان.

وفيه: أن (لا ضرر) لا ينفي حكماً إذا استلزم نفيه ضرراً؛ لأنه إما للمِنّة، ولا مِنّة في دفع ضرر عن إنسان بإلقائه على آخر، أو لاستلزامه التناقض في الدليل؛ لأن الدليل لرفع الضرر فلا يعقل أن يكون منشأً للضرر، أو لانصراف الدليل عنه، أو لغير ذلك.

لا يقال: إن ضرر الغير متدارك بالضمان، والتدارك يرفع صدق الضرر، وحتى لو صدق الضرر فإن هذا الضرر غير مرفوع؛ لأنه لا ينافي ملاك لا ضرر بعد الضمان.

لأنه يقال: إن تدارك العمل الحرام بالضمان وغيره لا يرفع حرمته، وإضرار الغير حرام فلا ترتفع الحرمة بالضمان، كما أن الضرر يصدق حتى مع التدارك، فالتدارك رفع من حينه لا من حين وقوع الضرر، فتأمل.

فرع: لو علم أنه بفراره من الضرر يتوجه الضرر إلى الغير، كما لو أراد الظالم اعتقاله ففرّ وهو يعلم أن الظالم سيعتقل أخاه، أو رأى توجه السهم إليه فغيّر مكانه مع علمه بأن السهم سيصيب غيره، فهنا لا حرمة ولا ضمان وذلك لعدم كونه سبباً لتوجه الضرر إلى الغير.

شعبان / 1440ه-

ص: 437

ص: 438

فهرست الموضوعات

المقصد التاسع في أصالة البراءة

فصل الآيات القرآنية الدالة على البراءة

الآية الأولى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ ...}............................................................................. 8

الآية الثانية: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا ...}...................................................................... 16

الآية الثالثة: {قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ ...}................................................................. 20

الآية الرابعة: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمَۢا ...}................................................................. 21

فصل في الروايات الدالة على البراءة

الحديث الأول: حديث الرفع....................................................................................... 24

المبحث الأول: في فقه الرفع.................................................................................. 24

المطلب الأول: في كلمة الرفع.......................................................................... 24

المطلب الثاني: في المرفوع............................................................................... 26

المطلب الثالث: الآثار التي موضوعها الخطأ والنسيان ونحوهما...................... 31

المطلب الرابع: الامتنان في الرفع....................................................................... 34

المطلب الخامس: آثار لا ترفع بحديث الرفع................................................... 34

المطلب السادس: شمول الرفع للأمور العدمية.................................................. 39

المطلب السابع: بقاء الأمر بالمركب مع رفع بعض أجزائه................................ 41

المبحث الثاني: في فقه ما لا يعلمون...................................................................... 42

المطلب الأول: في شموله للشبهات الحكمية والموضوعية............................. 42

ص: 439

المطلب الثاني: في كون الرفع ظاهرياً لا واقعياً................................................ 50

المطلب الثالث: الرفع في الأحكام غير الإلزامية............................................... 53

المبحث الثالث: في فقه رفع النسيان....................................................................... 56

المطلب الأول: نسيان الجزء أو الشرط في العبادة............................................ 56

المطلب الثاني: نسيان السبب أو الشرط في المعاملة......................................... 59

المبحث الرابع: في فقه رفع الإكراه........................................................................ 60

المطلب الأول: في معنى الإكراه وكون رفعه واقعياً...................................... 60

المطلب الثاني: شمول رفع الإكراه للعبادات والمعاملات................................ 61

المطلب الثالث: الإكراه بترك الجزء أو الشرط أو فعل القاطع أو المانع في العبادة... 62

المطلب الرابع: في تعلق الإكراه بالأسباب وبعدمها.......................................... 62

المطلب الخامس: في الإتيان بالعمل مع انطباق عنوان الإكراه........................ 63

المطلب السادس: المرفوع الإكراه المطلق....................................................... 65

المبحث الخامس: تقدّم دليل الرفع على أدلة الأحكام....................................... 66

الحديث الثاني: حديث الحجب................................................................................... 67

الحديث الثالث: حديث السعة...................................................................................... 72

الحديث الرابع: حديث الإطلاق................................................................................... 74

الحديث الخامس: حديث الحل.................................................................................. 79

الحديث السادس: حديث ما فيه حلال وحرام............................................................. 82

الحديث السابع: حديث ركوب الأمر بجهالة............................................................... 83

الحديث الثامن: حديث الاحتجاج بما آتاهم............................................................... 84

الحديث التاسع: حديث العذر بجهالة.......................................................................... 86

فصل في دلالة العقل على البراءة

المبحث الأول: في تقرير جريانها................................................................................. 89

المبحث الثاني: نسبتها إلى قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل................................. 93

المقام الأول: في دفع الضرر المحتمل................................................................... 93

ص: 440

المقام الثاني: في النسبة بين القاعدتين.................................................................... 95

فصل في دلالة الاستصحاب على البراءة

الاستصحاب الأول: استصحاب البراءة حال الصغر............................................. 102

الاستصحاب الثاني: استصحاب البراءة قبل الشريعة أو أوائلها............................ 105

الاستصحاب الثالث: استصحاب عدم التكليف قبل البلوغ................................. 106

إشكالات عامة على استصحاب البراءة............................................................. 106

فصل في ما استدل به على الاحتياط

الدليل الأول: الكتاب................................................................................................. 111

الدليل الثاني: السنة المطهرة....................................................................................... 112

الطائفة الأولى: الأخبار الآمرة بالوقوف عند الشبهة.......................................... 113

الطائفة الثانية: الأخبار الآمرة بالاحتياط مطلقاً..................................................... 121

الطائفة الثالثة: أخبار التثليث................................................................................. 128

الدليل الثالث: العقل................................................................................................... 131

الدليل العقلي الأول: العلم الإجمالي.................................................................... 131

الدليل العقلي الثاني: قبح التصرف....................................................................... 137

تنبيهات....................................................................................................................... 137

التنبيه الأول: في الاحتياط في مشكوك الأمر...................................................... 137

التنبيه الثاني: في حسن الاحتياط.......................................................................... 146

شروط حسن الاحتياط.................................................................................... 147

تكملة: في التبعيض في الاحتياط................................................................... 149

التنبية الثالث: في البراءة في الشبهات الموضوعية............................................... 149

فصل في التسامح في أدلة السنن

المطلب الأول: في دليلها الشرعي.............................................................................. 151

المطلب الثاني: الأقوال في المسألة............................................................................. 152

ص: 441

المطلب الثالث: الثمرة بين الأقوال............................................................................. 163

المقام

الأول: الثمرة بين القول الأول والثاني....................................................... 163

المقام الثاني: في ثمرة القول الثالث..................................................................... 166

المطلب الرابع: من فروع القاعدة................................................................................ 167

الفرع الأول: هل أخبار من بلغ تشمل فتوى الفقيه بالاستحباب.......................... 167

الفرع الثاني: في المكروهات............................................................................... 168

الفرع الثالث: في الفضائل والمصائب ونحوهما.................................................. 169

الفرع الرابع: في منقولات العامة في المستحبات................................................. 171

الفرع الخامس: في شمول من بلغ للخبر الضعيف الدال على الوجوب.............. 171

الفرع السادس: في إطلاق الفتوى بالاستحباب................................................... 174

الفرع السابع: لو تعارض الخبر الضعيف الدال على الاستحباب

مع الخبر الصحيح الدال على عدمه 176

الفرع الثامن: في تقوية الدلالة الضعيفة بأخبار من بلغ........................................ 176

الفرع التاسع: هل تترتب جميع آثار المستحب الواقعي...................................... 177

فصل في الدوران بين المحذورين

البحث الأول: في التوصليين....................................................................................... 179

القول الأول: تقديم جانب الحرمة....................................................................... 179

القول الثاني: التخيير.............................................................................................. 180

القول الثالث: الإباحة الشرعية.............................................................................. 183

القول الرابع: البراءة عقلاً وشرعاً.......................................................................... 186

تذنيب: هل التخيير ابتدائي أم استمراري؟...................................................... 189

البحث الثاني: في ما لو دار بين تعبدي وتوصلي........................................................ 191

البحث الثالث: الدوران بين المحذورين في الواجبات الضمنيّة................................. 193

فرع:

في أهمية أحد الطرفين أو احتمالها............................................................. 194

ص: 442

فصل في اشتراط البراءة بالفحص

المبحث الأول: اشتراط الفحص في البراءة العقلية.................................................... 197

المطلب الأول: الاشتراط في الشبهة الحكمية..................................................... 197

المطلب الثاني: الاشتراط في الشبهة الموضوعية................................................. 200

المبحث الثاني: اشتراط الفحص في البراءة الشرعية.................................................. 201

المقام الأول: في الشبهات الحكمية..................................................................... 201

المقام الثاني: في الشبهات الموضوعية................................................................. 205

التفصيلات............................................................................................................ 209

المبحث الثالث: في مقدار الفحص............................................................................ 211

المبحث الرابع: آثار البراءة قبل الفحص.................................................................... 212

المقام الأول: في استحقاق العقوبة....................................................................... 212

المطلب الأول: في أصل استحقاقه................................................................. 212

المطلب الثاني: في عموم استحقاقه................................................................. 214

المقام الثاني: في الحكم الوضعي......................................................................... 216

فرع: في الجاهل بالقصر والجهر والإخفات................................................... 216

تكملة: في شروط أخرى لجريان البراءة............................................................. 220

المقصد العاشر في أصالة الاحتياط

فصل في الدوران بين المتباينين

المبحث الأول: في الشبهة المحصورة....................................................................... 228

المطلب الأول: حرمة المخالفة القطعية................................................................ 228

المطلب الثاني: وجوب الموافقة القطعيّة.............................................................. 229

المطلب الثالث: في جريان الأصول العملية في أطراف العلم الإجمالي............. 233

المقام الأول: في إمكان جريانها في جميع الأطراف..................................... 233

المقام الثاني: إمكان جريان الأصول العملية في بعض الأطراف................... 237

المقام الثالث: في عدم وقوع الترخيص في جميع الأطراف.......................... 239

ص: 443

الأمر الأول: في جريان الاستصحاب في جميع الأطراف......................... 239

الأمر الثاني: في جريان البراءة في جميع الأطراف................................... 242

المقام الرابع: في وقوع الترخيص في بعض الأطراف.................................... 243

المطلب الرابع: الاضطرار إلى بعض الأطراف................................................... 248

الحالة الأولى: الاضطرار إلى المعيّن.......................................................... 248

الحالة الثانية: الاضطرار إلى غير المعيّن........................................................ 254

تتمة: في التوسط في التكليف................................................................... 255

المطلب الخامس: في خروج بعض الأطراف عن الابتلاء................................... 257

تتمة: في الشك في الخروج عن محل الابتلاء................................................ 261

المبحث الثاني: في الشبهة غير المحصورة................................................................. 264

المطلب الأول: في ملاك عدم الانحصار............................................................. 264

المطلب الثاني: في عدم وجوب الاحتياط في غير المحصورة........................... 267

المطلب الثالث: في عدم جواز المخالفة القطعية................................................. 271

المطلب الرابع: شبهة الكثير في الكثير................................................................. 273

المطلب الخامس: عدم سقوط حكم الشك عن أطراف غير المحصورة............ 273

تنبيهات العلم الإجمالي بين المتباينين....................................................................... 274

التنبيه الأول: حكم ملاقي بعض الأطراف........................................................... 274

الصورة الأولى: تأخر الملاقاة والعلم بها عن العلم الإجمالي........................ 275

الصورة الثانية: تقدم الملاقاة والعلم بها على العلم الإجمالي......................... 282

الصورة الثالثة: توسط العلم الإجمالي بين الملاقاة وبين العلم بها.................. 284

الصورة الرابعة: خروج الملاقى عن محل الابتلاء قبل العلم الإجمالي......... 285

الصورة الخامسة: حدوث علم إجمالي ثاني.................................................. 286

التنبيه الثاني: العلم الإجمالي في التدريجيات...................................................... 287

التنبيه الثالث: في زيادة آثار أحد الأطراف......................................................... 290

التنبيه الرابع: في امتناع أحد الطرفين شرعاً.......................................................... 293

ص: 444

التنبيه الخامس: تفرع أحد التكليفين على الآخر............................................... 294

التنبيه السادس: في انحلال العلم الإجمالي.......................................................... 295

التنبيه السابع: في اشتراك علمين إجماليين في أحد الأطراف............................. 299

التنبيه الثامن: في جريان الاستصحاب في أحد الطرفين...................................... 301

فصل في دوران الأمر بين الأقل والأكثر

المبحث الأول: الدوران بين الأقل والأكثر في الجزء................................................ 303

المطلب الأول: في البراءة العقلية في الارتباطيين................................................ 303

المطلب الثاني: في البراءة الشرعية في الارتباطيين.............................................. 320

المطلب الثالث: في الاستصحاب في الارتباطيين................................................ 321

المقام الأول: في الاستدلال به على وجوب الأكثر..................................... 322

المقام الثاني: في الاستدلال به على عدم وجوب الأكثر............................... 323

المبحث الثاني: الدوران بين الأقل والأكثر في الشرط............................................... 326

المبحث الثالث: دوران الأمر بين الأقل والأكثر في المحصِّلات............................... 327

المبحث الرابع: دوران الأمر بين التعيين والتخيير....................................................... 330

تنبيهات....................................................................................................................... 337

التنبيه الأول: في نقصان الجزء أو الشرط لعذر.................................................... 337

التنبيه الثاني: في زيادة الجزء................................................................................ 345

التنبيه الثالث: الدوران بين الشرطية أو الجزئية والقاطعية أو المانعيّة................... 346

فصل في قاعدة الميسور

الاستدلال بالروايات.................................................................................................. 348

الاستدلال بالأصول العملية........................................................................................ 352

تتمات قاعدة الميسور................................................................................................. 356

التتمة الأولى: هل يشترط كون الميسور والمعسور من جنس واحد؟.............. 356

التتمة الثانية: المعسور في المستحبات.................................................................. 356

التتمة الثالثة: في جريان القاعدة في الشرط......................................................... 357

ص: 445

التتمة الرابعة: الدوران بين ترك الجزء أو الشرط................................................. 358

التتمة الخامسة: الدوران بين البديل والمبدل الناقص.......................................... 359

التتمة السادسة: القاعدة في المحرمات................................................................ 360

التتمة السابعة: في إطلاق دليل الجزء................................................................... 360

التتمة الثامنة: خروج بعض الموارد عن القاعدة................................................... 361

التتمة التاسعة: التعذّر بسوء الاختيار..................................................................... 361

التتمة العاشرة: شمول القاعدة للأحكام الوضعيّة................................................. 362

فصل في قاعدة لا ضرر

البحث الأول: في دليل القاعدة.................................................................................. 363

البحث الثاني: في مفردات القاعدة، وهي (لا) و(ضرر) و(ضرار).............................. 369

المفردة الأولى: الضرر.......................................................................................... 369

المطلب الأول: في معنى الضرر...................................................................... 369

المطلب الثاني: في ضد الضرر........................................................................ 370

المطلب الثالث: في عدم النفع......................................................................... 370

المطلب الرابع: في تقابل النفع والضرر........................................................... 371

المفردة الثانية: الضرار........................................................................................... 373

المقام الأول: في معنى باب المفاعلة.............................................................. 373

المقام الثاني: في معنى الضرار........................................................................ 377

المفردة الثالثة: (لا)، والهيأة التركيبيّة................................................................... 379

1- نفي الحكم بلسان نفي الموضوع.............................................................. 379

2- الدلالة على النهي...................................................................................... 382

الاتّجاه الأول: أن يكون نهياً تكليفياً بحتاً................................................. 382

الاتّجاه الثاني: كونه نهياً تكليفياً وإرشاداً إلى الفساد............................... 386

الاتّجاه الثالث: كونه نهياً ولائياً................................................................. 387

الاتّجاه الرابع: كونه نفياً أريد ملزومه وهو النهي...................................... 388

ص: 446

3- رفع الحكم الضرري................................................................................. 390

التقريب الأول............................................................................................ 390

التقريب الثاني............................................................................................ 391

4- نفي الضرر غير المتدارك.......................................................................... 398

تنبيهات....................................................................................................................... 400

التنبيه الأول: في انطباق القاعدة على قضية سمرة............................................... 400

التنبيه الثاني: في كثرة تخصيصات القاعدة...................................................... 404

التنبيه الثالث: في أن الضرر المرفوع شخصي أم نوعي؟..................................... 408

التنبيه الرابع: في الإقدام على الضرر..................................................................... 412

التنبيه الخامس: في أن المنفي هو الضرر الواقعي دون الضرر المعلوم............... 413

المطلب الأول: في الوضوء الضرري ونحوه................................................... 414

المقام الأول: حالة الجهل بالضرر.............................................................. 414

المقام الثاني: حالة العلم بالضرر................................................................ 417

المطلب الثاني: في خيار الغبن ونحوه............................................................. 418

المقام الأول: مع العلم بالغبن..................................................................... 419

المقام الثاني: مع الجهل بالغبن................................................................... 420

التنبيه السادس: في رفع الأحكام العدمية بدليل لا ضرر...................................... 420

التنبيه السابع: نسبة دليل لا ضرر إلى الأدلة الأخرى............................................ 422

المطلب الأول: نسبته إلى أدلة العناوين الأولية............................................... 422

المطلب الثاني: النسبة بين لا ضرر وبين أدلة الأحكام الثانوية....................... 425

فرع: في نسبة قاعدة لا ضرر مع قاعدة السلطنة.............................................. 426

التنبيه الثامن: في تعارض الضررين...................................................................... 431

المطلب الأول: الضرران في الشخص الواحد................................................ 431

المطلب الثاني: الضرران في شخصين............................................................ 433

الصورة الأولى: إذا كان بفعل أحدهما.................................................... 434

ص: 447

الصورة الثانية: إذا كان بفعل ثالث.................................................... 434

الصورة الثالثة: إذا لم يكن بفعل أحد.................................................... 435

المطلب الثالث: في تحمّل الضرر المتوجه إلى الغير................................... 435

المطلب الرابع: في إلقاء الضرر المتوجه إليه على الغير.................................. 436

فهرست الموضوعات................................................................................................. 439

ص: 448

المجلد 5

هویة الکتاب

سرشناسه: الحسيني الشيرازي، السيد جعفر، 1349.

عنوان و نام پديدآور:

مشخصات نشر:

مشخصات ظاهرى:

فروست:

شابك:

وضعيت فهرست نويسى: فيپا

يادداشت: عربي

يادداشت: كتابنامه به صورت زيرنويس.

موضوع:

موضوع:

موضوع:

رده بندى كنگره:

رده بندى ديويى:

شماره كتابشناسى ملى:

اطلاعات ركورد كتابشناسى: فيپا

--------------------

السيد جعفر الحسيني الشيرازي

إخراج: نهضة اللّه العظيمي

الناشر: الطبعة

الأولى - 1444ه .ق - 2022م

عدد

النسخ: 1000 نسخة

المطبعة:

--------------------

السيد جعفر الحسيني الشيرازي

إخراج: نهضة اللّه العظيمي

الناشر:

الطبعة الأولى - 1444ه .ق - 2022م

عدد النسخ: 1000 نسخة

المطبعة:

-------------------------

شابك:

------------------------------------------------

النجف الأشرف: مكتبة الإمام الحسن المجتبى (علیه السلام) للطلب 07826265250

كربلاء المقدسة: شارع الإمام علي (علیه السلام) ، مكتبة الإمام الحسين (علیه السلام) التخصصية

مشهد المقدسة: مدرسة الإمام الرضا (علیه السلام) ، جهارراه شهدا، شارع بهجت، فرع 5

ص: 1

اشارة

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام علی محمد وآله الطاهرين، ولعنة الله علی أعدائهم أجمعين إلی يوم الدين

ص: 3

ص: 4

المقصد الحادي عشر في الاستصحاب

اشارة

ص: 5

ص: 6

بحوث تمهيدية

البحث الأوّل: في تعريفه
اشارة

وقد عرّف بتعاريف متعددة، منها:

التعريف الأوّل
اشارة

ما اختاره الشيخ الأعظم وهو: «إبقاء ما كان».

وهنا مطلبان:

المطلب الأوّل: في (إبقاء)

أي الحكم بالبقاء، وقيل: هو الالتزام به في مرحلة الظاهر، بمعنى ترتب آثار البقاء في مرحلة العمل.

وأشكل عليه: بأنه لا بدّ من ملاحظة ثلاث جهات في تعريف الاستصحاب، والتي لم تُراع في التعريف بالإبقاء.

الجهة الأولى: إطلاق الدليل والحجة عليه، حيث نقول: يدل عليه الاستصحاب ويحتج له بالاستصحاب، وحيث إن المعرِّف هو المعرَّف بنفسه فلا بدّ من إمكان حمل الحجة والدليل على التعريف، والإشكال هو أن الحكم بالبقاء لا يوصف بكونه حجة ودليلاً، بل الحجة والدليل هو ما يدل على الاستصحاب كالأخبار.

ص: 7

وفيه: أن وصف شيء بالحجيّة والدليلية على أنحاء ثلاثة(1):

1- موضوع موجود مفروغ عن وجوده يبحث عن أنه حجة أم لا، بمعنى أنه إذا وجد هل هو حجة؟ كخبر الواحد.

2- البحث عن أصل وجوده مع كون حجيّته معلومة على فرض وجوده، كالمفاهيم حيث إنها على فرض وجودها حجة ودليل قطعاً، لذا كان البحث عن أصل وجودها وعدمه، والحجيّة هنا تغاير الموضوع مصداقاً وإن لم تنفك عنه خارجاً.

3- كون وجوده عين حجيّته، كما في الأصول العملية، حيث إن الحجيّة فيها عين التعبد الشرعي، لأن الأصل العملي ليس مفروض الوجود كي يبحث عن جعل الشارع الحجيّة له بعد وجوده، كما أن الحجيّة فيه لا تغاير الموضوع مصداقاً.

وعليه: فبناءً على كون الاستصحاب أصلاً عملياً فهو من قبيل الثالث، فلا محذور في إطلاق الحجة والدليل على الإبقاء حينئذٍ.

بيان الإشكال بطريقة أخرى ذكرها المحقق الإصفهاني(2)، حاصله: أن الحجيّة إمّا بمعنى الدليليّة أو بمعنى المنجزية والمعذرية، وهذا لا ينطبق على التعريف.

1- أمّا الدليلية: فلا يوصف الحكم بالبقاء بها، وذلك لأنه مدلول الدليل وليس هو الدليل.

ص: 8


1- انظر أجود التقريرات 4: 5.
2- نهاية الدراية 5: 9.

2- وأمّا المنجزية والمعذرية: فالحكم لا يكون حجة على نفسه أو غيره، بأن ينجِّز نفسه أو غيره أو يعذّر عنهما.

وفيه: أن الأصل العملي حكم ظاهري، وهو منجز للواقع إن أصاب ومعذّر عنه إن أخطأ، فليس حينئذٍ تنجيز الحكم لنفسه أو غيره، أو تعذير عنهما.

الجهة الثانية: إن كلام الأصوليين ونقضهم وإبرامهم حول شيء واحد مع اختلافهم في الدليل الدال عليه بين تعبّد الشارع وبناء العقلاء وحكم العقل الظني، فلا بدّ من كون التعريف جامعاً لها ليكون البحث في شيء واحد.

والإشكال هو: عدم الجهة الجامعة حسب هذه المباني الثلاث، قال المحقق الإصفهاني(1) ما ملخصه: أن الإبقاء إمّا إبقاء عملي أو إبقاء تشريعي...

أمّا الإبقاء العملي: فليس مورداً لحكم العقل، لأن الإذعان العقلي الظني إنّما هو ببقاء الحكم لا بإبقائه عملاً من المكلف، وليس للعقل إلزام إنشائي وشبهه حتى يصح إرادة موردية الإبقاء العملي لحكم العقل، وبعبارة أخرى: إن العقل يدرك البقاء ظناً لا أنه يحكم، إذ ليس للعقل أحكام عملية.

وأمّا الإبقاء التشريعي: - غير المنسوب إلى المكلف - فلا جهة جامعة بين الإلزام الشرعي - الذي هو مصداق الإبقاء أو متعلقه - وبين البناء العقلائي والإدراك العقلي، إذ العقل لا يحكم، ولا إلزام من العقلاء ولا إذعان منهم،

ص: 9


1- نهاية الدراية 5: 8.

فهم لا يحكمون وإنّما يبنون عملاً، وبعبارة أخرى: إنه لا جامع بين المباني الثلاثة، فالدليل إن كان الروايات فالإبقاء حكم مولوي، وإن كان العقل فالإبقاء تصديق ظني لأنه إدراك العقل بالظن ببقائه، وإن كان بناء العقلاء فالإبقاء إلتزام عملي، أي إلتزام المكلف ببقائه.

وأجيب: أوّلاً: ما في أصول السيد الوالد: «من أن العقل كما يرى يُلزم، والعقلاء كما يعملون يحكمون، فلهم جهة مولوية وجهة سير»(1).

والحاصل: للعقلاء أحكام بما هم موالي، كذلك العقل له إلزام ولا أقل من إدراكه الإلزام.

وثانياً: «حكم الشارع بالبقاء ابتداءً أو إمضاءً لما عليه العقلاء من العمل على طبق الحالة السابقة تعبداً أو لأجل حصول الظن به»(2).

وأورد عليه المحقق الإصفهاني(3)

تارة: بأن البحث في الاستصحاب من باب بناء العقلاء راجع إلى البحث عن ثبوت البناء وعدمه، لا عن حجيّته شرعاً بعد ثبوته، فإن بناء العقلاء إذا ثبت بشرائطه كان ممضى شرعاً كسائر الموارد.

وأخرى: بأنه لا إلزام للعقلاء باتباع الظاهر أو الجري على وفق اليقين السابق مثلاً، كي يكون معنى إمضائه جعل الحكم المماثل على طبقه، بل مجرد بنائهم على مؤاخذة من يخالف الظاهر أو لا يجري على وفق اليقين

ص: 10


1- الأصول 2: 265.
2- درر الفوائد في الحاشية على الفرائد: 290.
3- نهاية الدراية 5: 8.

السابق - مثلاً - فمعنى إمضائه أن الشارع كذلك، فتصح المؤاخذة عنده كما تصح عندهم.

ويرد على الأوّل: أن هذا هو الحجيّة بأحد المعاني الثلاثة المتقدمة، فالأمر هنا كما في المفاهيم وهو كافٍ لنا.

وعلى الثاني: أن إمضائه يلازم جعل الحكم الشرعي، إذ لا تصح مؤاخذته من غير حكم، هذا مع قطع النظر عن الإشكال في المبنى.

الجهة الثالثة: تفرّع الاشتقاقات، كما يقال: استصحب زيد، فلا بدّ أن يصح استعمال التعريف في هذه الموارد.

والإشكال هو أنه لا يصح أن يقال: أبقى زيد الحكم، فالحكم الشرعي يسند إلى الشارع لا إلى المكلف.

ويمكن أن يجاب عنه: بأن في الاستصحاب جهتين: جهة الحكم وجهة كشف المكلف - مجتهداً أو مقلداً - لذلك الحكم، فعندما يقال: على المكلف الاستصحاب فالمعنى أن عليه التطبيق العملي لحكم الشارع بالبقاء.

وبعبارة أخرى: عليه التمسك بالاستصحاب عملاً، فيُبقِ نفسه من الناحية العملية على الحالة السابقة بعد حكم الشارع ببقاء اليقين.

إن قلت: الإلزام الشرعي دليل الاستصحاب لا نفسه، وكذلك الجعل الشرعي دليله، مضافاً إلى أنه إحداث لا إبقاء(1).

قلت: استصحاب المكلف دليله الإلزام الشرعي والجعل الشرعي، وأمّا

ص: 11


1- بيان الأصول 6: 12.

حكم الشارع فهو الاستصحاب بنفسه كالبراءة والاحتياط، مضافاً إلى أن جعل المماثل - لو فرض - هو إبقاء، حيث إن الحكم الظاهري حكم طريقي للإيصال إلى الواقع، ينجِّزه إن أصاب، ويعذّر عنه إن أخطأ كما مرّ.

المطلب الثاني: في (ما كان)
اشارة

وهو الحكم في الشبهات الحكمية، والموضوع في الشبهات الموضوعية، قال الشيخ الأعظم: «ودخل الوصف في الموضوع مشعر بعليته للحكم، فعِليّة الإبقاء هو: أنه كان، فيخرج إبقاء الحكم لأجل وجود علته أو دليله»(1).

وأشكل عليه: بأمور:

منها: إن (الإبقاء) يتضمن (ما كان)، فكما أن قيد (على ما كان) كان مستدركاً، كذلك قيد (ما كان)(2).

ومنها: إن الروايات تصرّح بأن العِلة هي اليقين السابق كقوله (علیه السلام): «لأنك كنت على يقين...»(3)،

فليس العلة الكون السابق.

ويمكن الجواب: بأن اليقين كاشف عن كونه السابق، فالعلة الواقعية هي الكون السابق، فتأمل.

ومنها: عدم انطباقه على بعض المباني والآراء، فإنّه عليها يجري الاستصحاب وليس هناك يقين سابق أو (ما كان): مثل ما لو كان اليقين حالياً والشك استقبالي كالمعذور عن الوضوء في أوّل الوقت يقيناً مع شكه في

ص: 12


1- فرائد الأصول 4: 9.
2- الأصول 2: 263.
3- تهذيب الأحكام 1: 421؛ عنه وسائل الشيعة 3: 477.

استمرار عذره إلى آخر الوقت، ومثل الاستصحاب القهقرى، وكاستصحاب العدميات حيث إنه استصحاب ما لم يكن.

إشكالات أخرى

وقد أورد على التعريف بإشكالات أخرى، منها:

الإشكال الأوّل: لا بدّ في التعريف من ذكر المقوّم - الحد - أو أخص اللوازم - الرسم - ، ولم يؤخذ في هذا التعريف مقوّم الاستصحاب وهو اليقين والشك.

الإشكال الثاني: إنّ بقاء الحكم هو عين الحكم الشرعي في مرحلة البقاء، ومقتضى هذا التعريف أن الاستصحاب هو الحكم بالحكم وهذا ممّا لا محصل له(1).

ويمكن أن يقال: بأن البقاء هو لليقين السابق اعتباراً، بناءً على أن اليقين ليس هو المتيقن فيكون المعنى الحكم ببقاء اليقين.

الإشكال الثالث: ما في الفوائد: «لأن ذلك - يعني الحكم ببقاء ما كان - عبارة أخرى عن الحكم بدوام ما ثبت، وهذا ليس من الاستصحاب قطعاً، فإنّه لا إشكال في أن لليقين والإحراز السابق دخل في حقيقة الاستصحاب ولو لكونه طريقاً إلى المتيقن، كما أن للشك في البقاء دخل فيه، فليس الاستصحاب عبارة عن الحكم بدوام ما ثبت. بل لو كان حقيقة الاستصحاب ذلك لكان الاستصحاب من الأحكام الواقعية، وعلى فرض أن يكون من الأحكام الظاهرية باعتبار أخذ الشك في الحكم بالبقاء فيه - مع

ص: 13


1- منتقى الأصول 6: 10.

أنه لم يؤخذ في التعريف - فليس مفاد الأخبار الواردة في الباب ذلك»(1).

التعريف الثاني

ما عن الشيخ الأعظم في درسه: «إنّه القاعدة التي مقتضاها الإبقاء أو الحكم بالبقاء أو الثبوت حال الشك»(2).

وهذا يرد عليه بعض ما مرّ، مضافاً إلى أنه تعريف بالأثر وليس بيان حقيقة الاستصحاب إلاّ بأنه قاعدة أثرها كذا.

التعريف الثالث

ما عن المحقق النائيني بأنه: «عدم انتقاض اليقين السابق - المتعلق بالحكم أو الموضوع - من حيث الأثر والجري العملي، بالشك في بقاء متعلّق اليقين»(3).

وأشكل عليه - مضافاً إلى تهافته مع بعض مباني المحقق النائيني -:

أوّلاً: بأن هذا هو مقتضى الاستصحاب لا تعريفه بنفسه، ولذا لا يصح إطلاق الحجة على عدم الانتقاض.

وثانياً: عدم انسجامه مع مشتقات الاستصحاب كما في استصحب زيد لا يصح أن يقال: عدم انتقاض زيد مثلاً.

التعريف الرابع

هو «عدم نقض اليقين السابق بالشك اللاحق حكماً من الحاكم أو إدراكاً

ص: 14


1- فوائد الأصول 4: 306-307.
2- بيان الأصول 6: 21.
3- فوائد الأصول 4: 307.

من المدرك أو جرياً عملياً من المكلف».

والظاهر أن هذا التعريف سليم عن جميع الإشكالات السابقة مع بيانه لحقيقة الاستصحاب، فتأمل.

البحث الثاني: في أصولية مسألة الاستصحاب

وغير خفي أنّ هذا يرتبط ببحث تعريف الأصول والفارق بين المسألة الأصولية والقاعدة الفقهية والمسألة الفقهية والذي قد مرّ في أوّل الكتاب(1).

1- فإن عرّفنا الأصول بأنه: «القواعد الممهّدة لاستنباط الحكم الشرعي الكلي»، فهذا ينطبق على الاستصحاب، لأن مستنده إن كان بناء العقلاء فقد أمضاه الشارع وبذلك يستنبط الحكم الشرعي، وإن كان إدراك العقل الظني ببقاء الحالة السابقة فبذلك يستنبط الحكم الشرعي، وإن كان حكم الشارع بالبقاء فذلك يقع في طريق استنباط الحكم الشرعي، مثلاً: استصحاب وجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة، واستصحاب نجاسة المتمّم كراً حيث يستنبط منه الحكم الشرعي.

كما قد يستدل بجريان استصحاب الحجيّة التي هي مسألة أصولية، لكن هذا أخص من المدعى.

إن قلت: قد يقع الاستصحاب في طريق استنباط الأحكام الجزئية، وذلك في استصحاب الموضوعات الجزئية، كاستصحاب نجاسة هذا الثوب.

قلت: مع انطباق تعريف الأصول عليه في الجملة لا يضرّ خروج بعض

ص: 15


1- نبراس الأصول 1: 12-15.

المصاديق عنه.

2- وإن عرّفنا الأصول بأنه: «ما يبحث فيه عن القضايا التي تكون نتيجتها كبرى البرهان في استنباط الحكم الشرعي مع كونه مرتبطاً بالمجتهد لا المقلّد»، فهذا أيضاً ينطبق على الاستصحاب، وإن كان قد أشكل على أصل التعريف: بالنقض بقاعدة الطهارة في الشبهة الحكمية الكلية، فإنها تقع في الكبرى التي تنتج الحكم الكلي مع ارتباطه بالمجتهد حصراً، اللّهم إلاّ أن يقال: لا مانع من كونها مسألة أصولية، أو يقال: إن جميع القواعد الفقهية إنّما هي مسائل أصولية لكن حيث بحثت في الفقه فلم يكن حاجة إلى بحثها في الأصول، فتأمل.

3- وإن عرّفناه بأنه: «ما يبحث فيه عن تحصيل الحجة على الأحكام الإلهية الكلية العامة لأبواب الفقه عامة - بعد العلم الإجمالي بها - فبعد تحصيل الحجة في الأصول يطبقه في الفقه» فهذا أيضاً مما ينطبق على الاستصحاب، لأن دليله إن كان العقل فهو حجة على الحكم الشرعي الكلي، وإن كان بناء العقلاء الممضى فكذلك، وإن كان الأخبار فالاستصحاب الإلزامي ينجز الواقع، والاستصحاب الترخيصي يعذّر عنه، فأمّا القواعد الفقهية فمواردها إمّا أحكام جزئية أو أحكام كلية خاصة ببعض الأبواب الفقهية.

البحث الثالث: بين الاستصحاب، وقاعدة اليقين، وقاعدة المقتضي والمانع

فجهة اشتراكهما هو ثبوت اليقين والشك في مواردها.

وجهة افتراقهما هو في الموضوع، وأمّا في الحكم فقد يقال بحجيّتها جميعاً، أو عدم حجيّتها جميعاً، أو بالتفصيل بحجيّة الاستصحاب وعدم

ص: 16

حجيّة القاعدتين وهذا هو الصحيح.

1- فأمّا الاستصحاب: فاليقين فيه يتعلق بالحدوث، والشك في البقاء، فمتعلق اليقين والشك متحدان ذاتاً ومختلفان زماناً، فيكون الشك طارئاً.

2- وأمّا قاعدة اليقين: فهي أن يتعلق اليقين بشيء في زمان معيّن ثم يتعلق الشك به بلحاظ ذلك الزمان، بأن يكون متعلقهما شيئاً واحداً في الخصوصيات كلّها إلاّ في زمان اليقين والشك، فيكون الشك سارياً.

وإن كان مدرك القاعدتين الأخبار مع دلالتها على كونهما أصلين عملييّن فيشتركان في أن ملاكهما التعبد، وإن كانا أمارتين فملاك الاستصحاب هو الملازمة الغالبة بين الحدوث والبقاء، وملاك قاعدة اليقين هو غلبة مطابقة اليقين السابق للواقع دون الشك اللاحق.

3- وأمّا قاعدة المقتضي والمانع: فهي أن يتعلق اليقين بوجود المقتضي، ويتعلق الشك في وجود المانع عنه. ففرقها عن القاعدتين أن متعلق اليقين والشك فيها مختلفان ذاتاً دونهما.

كما تفترق عن الاستصحاب باختلاف ملاكهما إن كانا أمارتين، فملاك الاستصحاب ما مرّ، وملاكها هو غلبة عدم اقتران المقتضي بالمانع.

كما أنهما قد يجتمعان في شي واحد - عكس قاعدة اليقين التي لا تجتمع مع الاستصحاب في مورد أبداً - .

فتارة: يتّفق حكمهما كما لو كان المقتضي موجوداً والمانع مفقوداً، فاستصحاب عدم المانع يجري، كما أن قاعدة المقتضي والمانع تجري بتأثير المقتضي.

ص: 17

وتارة: يختلف حكمهما كما لو وجد المقتضي بعد عدمه، فالاستصحاب يدل على عدم وجود الشيء، وقاعدة المقتضي والمانع تدل على وجوده، فيتعارضان، والترجيح للقاعدة لأنها الأصل السببي، إذ حيث لا مانع فالشيء موجود فلا شك في وجوده ليستصحب، فتأمل.

وهذه القاعدة إن ثبت حجيّتها فكما تجري في الأحكام كما لو فرض دلالة الأدلة على أن الملاقاة تقتضي الانفعال وأن الكرّية مانع ثم لاقت النجاسة مشكوك الكرية، كذلك تجري في الملاكات كما لو أحرز المصلحة وشك في المانع عنها من مفسدة أو مصلحة أقوي ونحو ذلك.

ص: 18

فصل في أدلة الاستصحاب

اشارة

وقد ذكرت أدلة متعددة إلاّ أن عمدتها بناء العقلاء والأخبار، فهنا مبحثان:

المبحث الأوّل: في بناء العقلاء
اشارة

أي بناؤهم - بما هم عقلاء - على العمل بالحالة السابقة لو عرض عليهم الشك، وذلك اعتماداً على ثبوت الشيء سابقاً، ولذا لو أمر المولى عبده بشيء فشك في استمراره فلم يمتثل في الزمان اللاحق معتذراً بشكه لم يكن معذوراً عندهم. وهذا البناء حجة لاتصاله بزمان المعصومين (علیهم السلام) ، وعدم ردعهم عنه، الكاشف عن إمضائهم له.

والكلام في مقامين:

المقام الأوّل: في الصغرى

ويرد عليها: مضافاً إلى كونه أخص من المدعى حيث إنه جار في الأوامر الإلزامية، لم يعلم كون ذلك لأجل حجيّة الاستصحاب عندهم أم لأجل قاعدة الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية.

ثم إنه لا بدّ في صحة الاستدلال به، إثبات وجود هذا البناء في مطلق أمورهم معاداً ومعاشاً، وفي مطلق الحالات سواء كان شكاً في اقتضاء الاستمرار أو في الرافع عنه، وكونه عندهم أصلاً لا أمارة مستندة إلى بعض

ص: 19

الوجوه العقلائية، وكونه ذا إلزام عندهم لا مجرد عمل لا مؤاخذة على مخالفته، ولولا ذلك لكانت حجيّته - على فرض الإمضاء - في موارد خاصة، فيكون الدليل أخص من المدعى.

1- أمّا المحقق العراقي ففصّل في بنائهم بين أمور المعاش والمعاد، فقال: «وثبوت هذا البناء الارتكازي منهم حتى في الأمور الدينية ينافي هذا الخلاف العظيم بين الأعاظم من العلماء خلفاً عن سلف، وذهاب جمع منهم إلى عدم الحجيّة، إذ المنكرون للحجيّة أيضاً من العقلاء، بل كل واحد منهم بمثابة ألف عاقل، فثبوت هذا الخلاف العظيم بينهم - قديماً وحديثاً - يكشف عن عدم ثبوت بنائهم على الأخذ بالحالة السابقة تعبداً في الأمور الدينية والأحكام الشرعية»(1).

وفيه: أنّه لا فرق عندهم بين الأمور الدينية وغيرها، بل تجري ارتكازاتهم عندهم في جميع الأمور من غير فرق، وأمّا مخالفة بعض الأعاظم فلا ينافي الارتكازية في الجملة، إذ إن ارتكاز العقلاء فيه تفصيل آخر ولعلهم نظروا إلى الموارد التي لا توجد فيها ارتكاز فعمَّموها، وله نظائر كثيرة.

2- وأمّا المحقق النائيني ففصّل بين الشك في المقتضي فلا بناء لهم والشك في الرافع فلهم البناء، قال: «ولكن القدر المتيقن من بناء العقلاء هو الأخذ بالحالة السابقة عند الشك في الرافع، ولم يظهر أنّ بناء العقلاء على ترتيب آثار وجود المتيقن حتى مع الشك في المقتضي، بل الظاهر أن بناءهم

ص: 20


1- نهاية الأفكار 4[ق1]: 34.

عند الشك في المقتضي على التوقف والفحص إلى أن يتبيّن الحال»(1).

وفيه: إنّ استمرارهم على الحالة السابقة في الشك في الرافع ليس دائماً، بل لو ظنوا بالخلاف لما أجروا الاستصحاب وكذا لو كان الاستمرار خلاف الاحتياط.

ثم إنّ المحقق النائيني قال: «بل لولا ذلك - أي العمل بالحالة السابقة - يلزم اختلال النظام»(2).

وفيه: لا اختلال لو أخرجنا موارد الاحتياط والاطمئنان والغفلة، ويؤيده أن جمع من الأعاظم لم يقولوا بحجيّته ولم تختل حياتهم.

3- وأمّا المحقق الخراساني فقد قال ما حاصله(3):

إن بقاءهم على الحالة السابقة إنّما هي لعلة، وأمر الإبقاء على الحالة السابقة يدور مدارها، وهي: إمّا الاحتياط برجاء بقاء الحالة السابقة، أو الاطمئنان بمعنى عدم عروض الشك واستمرار اليقين السابق، وإمّا الظن بالبقاء - حتى لو لم يكن ظناً شخصياً - أو الغفلة عن الشك، وعليه فلم يكن البقاء لأجل مرجعيّة الحالة السابقة.

وأشكل عليه: بأن «الوجدان يخالف كونها لها في الإنسان»(4)، وبعبارة أخرى: «ثبوت السيرة والبناء العقلائي على العمل طبق الحالة السابقة في

ص: 21


1- فوائد الأصول 4: 333.
2- فوائد الأصول 4: 332.
3- إيضاح كفاية الأصول 4: 363-364.
4- الأصول 2: 268.

الجملة، ولو على أساس الوهم والأنس الذهني الذي يميل الإنسان على أساسه إلى افتراض بقاء الحالة السابقة، بل نفس ما ذكروه من الغفلة يكون منشؤها عادة الوهم والأنس الذهني، ولهذا نجد أنهم يجرون على طبق الحالة السابقة في موارد قد لا يكتفى فيها حتى بالظن، فكأن ذلك الأنس الذهني أوجب سكون النفس وعدم اعتنائها باحتمال الخلاف»(1)،

فتأمل.

المقام الثاني: في الكبرى

أي إمضاء الشارع لهذا البناء، فقد أشكل عليها المحقق الخراساني بقوله: «ويكفي في الردع عن مثله ما دلّ من الكتاب والسنة على النهي عن اتباع غير العلم، وما دلّ على البراءة أو الاحتياط في الشبهات»(2).

وأجيب: بما ذكره المحقق الخراساني في باب حجيّة الخبر الواحد: من لزوم الدور، وذلك لأن رادعية الآيات للسيرة متوقفة على عدم تخصيصها بالسيرة، وعدم التخصيص يتوقف على الرادعية، وحيث لزم الدور من الرادعية فلا رادعية، وعليه فما ذكره المحقق الخراساني هنا يناقض ما ذكره هناك.

وفرّق المحقق العراقي(3):

بأن السيرة في الخبر الواحد على الكشف والأمارية - أي نفي احتمال الخلاف - فيكون علماً عقلائياً عندهم، فيخرج عن موضوع الآية تخصصاً، وأمّا السيرة في الاستصحاب فعلى كونه أصلاً

ص: 22


1- بحوث في علم الأصول 6: 20.
2- إيضاح كفاية الأصول 4: 364.
3- نهاية الأفكار 4[ق1]: 36-37.

عملياً، ومعنى ذلك حفظ الشك، وعليه فيبقى الاستصحاب تحت الموضوع المنهي عنه.

وأورد عليه: بأن كلامه وإن كان متيناً في نفسه، إلاّ أن الإشكال في التناقض بين كلامي المحقق الخراساني حيث إنه استند إلى الدور لا إلى العلم العقلائي، فتأمل.

المبحث الثاني - وهو العمدة -: الروايات المعتبرة
1- فمنها: صحيحة زرارة الأولى

«قال: قلت له: الرجل ينام - وهو على وضوء - أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ قال: يا زرارة، قد تنام العين ولا ينام القلب والأذن، فإذا نامت العين والأذن وجب الوضوء. قلت: فإن حرّك على جنبه شيء ولم يعلم به؟ قال: لا، حتى يستبين أنه قد نام، حتى يجيء من ذلك أمر بيّن، وإلاّ فإنه على يقين من وضوئه، ولا تنقض اليقين أبداً بالشك، وإنّما تنقضه بيقين آخر»(1).

وغير خفي أن سؤاله الأوّل عن شبهة حكمية، وأياً كان المقصود فلا ربط له بالاستصحاب، وأمّا سؤاله الثاني فهو عن شبهة موضوعية حيث لا يعلم بأنّه نام أم لا فسأل: «فإن حرّك على جنبه شيء ولم يعلم به»، وجواب الإمام (علیه السلام) هو الاستصحاب.

والاستدلال بها يتوقف على عموم الجزاء لئلا تكون الصحيحة خاصة بالوضوء.

ص: 23


1- تهذيب الأحكام 1: 8؛ عنه وسائل الشيعة 1: 245.

فلا بد من معرفة الجزاء ليتبيّن عمومه، وفيه احتمالات:

الاحتمال الأوّل: أن يكون الجزاء قوله (علیه السلام): «فإنه على يقين من وضوئه» بحسب ظاهر دخول الفاء عليه، وفي ذلك وجوه ثلاثة:

الوجه الأوّل: إنه خبر أريد به الإنشاء البعثي، كما في الفوائد(1)

أي (فليبق على يقينه بالوضوء).

وعليه: فيكون الجزاء معلولاً للشرط، أي يترتب على عدم اليقين بالنوم وجوب البقاء على اليقين بالوضوء.

وقرّبه المحقق الإصفهاني(2)

بما حاصله: أنّ إفادة البعث بالجملة الخبرية الحاكية عن وقوع المبعوث إليه بعنوان الكناية ليس بتكلف كما ذكر ذلك الشيخ الأعظم، ولا ببعيد إلى الغاية كما ذكر ذلك المحقق الخراساني، فإنّ من الواضح أن الإخبار عن الكون على يقينه بالوضوء - في مقام البعث إلى كونه باقياً على يقينه وثابتاً عليه - حقيقة إبقاء اليقين وعدم رفع اليد عنه، وهو معنى معقول، كسائر موارد الجملة الخبرية المراد منها البعث إلى ما أخبر عنه.

وأشكل عليه في المنتقى(3):

بأن الجملة الخبرية الفعلية هي التي تستعمل في مقام الإنشاء، لا الجملة الاسمية، فهو لم يعهد.

وأجيب: «إنّ هذا الكلام إن تم، ففي موارد الإنشاء الطلبي كما في قوله:

ص: 24


1- فوائد الأصول 4: 336.
2- نهاية الدراية 5: 40.
3- منتقى الأصول 6: 40.

(يسجد سجدتي السهو) بمعنى اُسجد، وأمّا في الجمل الخبرية المستعملة لإنشاء الأمور الاعتبارية فيمكن أن تكون الجملة اسمية كما في مثل: (أنت طالق) لإنشاء الطلاق»(1).

وغير خفي أن هذا يرجع إلى الوجه الثالث الذي سنذكره بعد قليل.

الوجه الثاني: إنه خبر أريد به الخبر، قال في نهاية الدراية: «وهذا أوجه الوجوه لأن ظاهر الجملة الشرطية كون الواقع بعد الشرط جزاء لا علة له، وظاهر الجملة الخبرية كونها بعنوان الحكاية جداً لا بعنوان البعث والزجر، فالتوطئة والعلية والإنشائية خلاف الظاهر»(2).

وحاصله: إنّ هذا الوجه متوافق مع الظاهر ولا محذور فيه، فلا بدّ من الحمل عليه.

إن قلت: المحذور هو عدم ترتب اليقين بالوضوء على عدم اليقين بالنوم.

قلت: لا يجب أن يكون الجزاء مسبباً عن الشرط ومترتباً عليه في الوجود، بل ربما يعكس الأمر كقولهم: إن كان النهار موجوداً كانت الشمس طالعة وإن كان هذا ضاحكاً كان إنساناً.

وفيه: أن القائل بالترتب لا فرق عنده بين ترتب الشرط على الجزاء، أو العكس، أو الترتب العلمي فالعلم بوجود النهار سبب للعلم بطلوع الشمس.

فالأولى أن يقال: إنه لا بدّ من ارتباط الشرط والجزاء ولا يلزم ترتب

ص: 25


1- بحوث في علم الأصول 6: 31.
2- نهاية الدراية 5: 42.

أحدهما على الآخر، بل يكفي كون علة الحكم شيئاً آخر - غير الشرط والجزاء - فعبرهما يتم بيان وجود العلة في الجزاء دون الشرط، وهكذا لو كان الشرط والجزاء علتان فيقال إن لم يكن أحدهما موجوداً فالآخر موجود نظير أن نقول: احترم زيداً فإنه إن لم يكن عالماً فإنه عادل، وفي ما نحن فيه: العلة هي اليقين - ولو في الزمن الماضي - فيقال: إن لم يكن لك يقين بالنوم فقد كان لك يقين بالوضوء فلا بدّ من ترتيب آثاره.

الوجه الثالث: إنه خبر أريد به إيجاد الاعتبار، ففي المنتقى: «جملة خبرية مستعملة في مقام الإنشاء، لكن لا يراد بها إنشاء البعث... بل يقصد بها التعبد باليقين بقاءً، وجعل اليقين تعبداً، فيكون المعنى: (إن لم يستيقن بالنوم فهو متيقن تعبداً بالوضوء) وهذا المعنى لا محذور فيه، بل يكون مفاد هذا الكلام مفاد قوله: (لا ينقض اليقين بالشك) في كونه تعبداً باليقين»(1).

أقول: هذا وإن كان لا محذور فيه إلاّ أنه لا يتبادر إلى الذهن بل هو خلاف الظاهر.

الاحتمال الثاني: أن يكون الجزاء قوله (علیه السلام): «ولا تنقض اليقين أبداً بالشك» فيكون قوله: «فإنه على يقين من وضوئه» تمهيداً للجزاء، فيكون المعنى: (وإن لم يستيقن أنه نام فحيث إنه على يقين من وضوئه فلا ينقضه بشكه).

ويرد عليه: أن الجزاء - حتى لو كان بعد تمهيد - لا يدخل عليه الواو، بل إمّا يدخله الفاء أو لا يدخله شيء من حروف العطف.

ص: 26


1- منتقى الأصول 6: 41.

الاحتمال الثالث: أن يكون الجزاء محذوفاً، وما هو مذكور إنّما هو علة للجزاء، والعلة تعمّم، فالمعنى: (وإن لم يستيقن النوم فلا يجب عليه الوضوء لأنّه على يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين بالشك)، وحذف الجزاء - خاصة مع سبق ذكره - وإقامة العلة مقامه متعارف في الكلام الفصيح كقوله تعالى: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَٰلَمِينَ}(1) وهذا ما رجحه الشيخ الأعظم(2) والمحقق الخراساني(3).

وأشكل عليه: بأنّ هذا المقدار لا يكفي في التعميم لغير الوضوء، لأنه لو فرض كون (فإنّه على يقين...) علة فهي مركبة من صغرى وكبرى، ولا بدّ من اتحاد الحدّ الأوسط، فإذا كان الحدّ الأوسط في الصغرى مقيداً بقوله: (من وضوئه) فلا بدّ من إرادته في الكبرى في قوله: (ولا تنقض اليقين) فيكون المعنى: (ولا تنقض اليقين بالوضوء بالشك)، فالعلة عمّمت ولكن في موارد الوضوء.

ويرد عليه: أوّلاً: إنّ ظاهر أمثال هذه الجملة أن القيد - على وضوئه - بيان للمورد وليس تقييداً للحدّ الأوسط، وبعبارة أخرى: إنّ الإطلاق في الحد الأوسط في الكبرى يصنع ظهوراً في عدم إرادة القيد في الحدّ الأوسط في الصغرى، كما لو قيل: زيد عالم بالفقه، والعالم يجب إكرامه.

وثانياً: إن الأصل في الألف واللام كونها للجنس، ولا يصار إلى كونها

ص: 27


1- سورة آل عمران، الآية: 97.
2- فرائد الأصول 3: 56.
3- إيضاح كفاية الأصول 4: 369.

للعهد إلاّ لو امتنع الجنس.

وفيه: عدم ثبوت هذا الأصل، بل معاني اللام كلها في عرض واحد والحمل على أحدها إنّما يكون بالظهور أو بامتناع سائر المعاني، مضافاً إلى أن حملها على الجنس لا ينفع بعد إمكان حملها على جنس اليقين بالوضوء.

وثالثاً: عموم التعليل بمعنى اندراج اليقين والشك في مورد السؤال في القضية الكلية الارتكازية غير المختصة بباب دون باب، لأنه لو قيد اليقين بالوضوء كان التعليل تعبدياً، وهو خلاف الظاهر.

وحيث إنّ هذا الكلام بظاهره يخالف ما ذكروه في ردّ الاستدلال على الاستصحاب بسيرة العقلاء، لذلك وجّهه في المنتقى(1) بما حاصله: بأنّه قد يتعقب التعليل جملة أخرى تتكفل بيان حكم الموضوع العام مثل: (أكرم زيداً، لأنه عالم، والعالم يجب إكرامه) و(لا تضرب اليتيم لأنه ظلم والظلم قبيح وحرام)، وليس ذلك لمجرد توضيح أو تأكيد التعليل، وإنّما هو لبيان أمر آخر متمم للتعليل، وهو بيان مناسبة الحكم لموضوع العام، فكأنّه - في المثال - قال: (والعالم يناسب أو ينبغي أن يثبت له وجوب الإكرام) فيكون ذلك تعليلاً بأمر ارتكازي، وهذا هو الظاهر فيحمل الكلام عليه، وفي ما نحن فيه: علّل نفي وجوب الوضوء في مورد السؤال في الرواية بأنّه على يقين من وضوئه، ثم عقّبه بقوله: (ولا ينقض اليقين بالشك) وظاهر هذه الجملة الأخيرة أنّها في مقام بيان المناسبة لعدم نقض اليقين بالشك،

ص: 28


1- منتقى الأصول 6: 47-48.

والتناسب بين اليقين وعدم نقضه بالشك هي جهة الاستحكام والإبرام فيه، وجهة التزلزل في الشك، فلا يناسب أن ينقض به اليقين، ومن المعلوم عدم خصوصية متعلّق اليقين في ذلك، بل المدار على نفس اليقين والشك.

وهذا وجه متين وإن أشكل عليه في المنتقى بعد ذكره بما ليس بوارد، فراجع.

ورابعاً: ما في الكفاية(1)

وحاصله: قوة احتمال عدم تعلق: (من وضوئه) بقوله: (على يقين)، بل بمقدّر أي فهو على يقين كائن من وضوئه، فيكون (يقين) غير مقيد، وعليه فقوله: (ولا تنقض اليقين) أيضاً غير مقيد حتى لو كانت اللام للعهد إذ يكون حينئذٍ عهداً إلى اليقين المطلق.

ويرجّحه: أنّ اليقين يتعدى بالباء لا ب-(من)، وتعديته ب-(من) تقتضي المجاز أو التضمين، وهما لا وجه لهما بعد إمكان الحمل على المعنى الحقيقي من غير تضمين حتى لو استلزم التقدير، وذلك لكثرته وشيوعه.

وأمّا ما قيل في وجه الترجيح: بأنّ اليقين من الصفات ذات إضافة التي تتقوم بالمتعلّق فذكره لا يكون دليلاً على خصوصية فيه.

ففيه: أنّ هذا وإن كان صحيحاً في نفسه إلاّ أنّه لا يعيّن كون (من يقينه) من باب اللابدية بل يسبب الإجمال من هذه الجهة، فتأمل.

وخامساً: إنّ مناسبة الحكم والموضوع تقتضي التعميم، حيث إن اليقين مستحكم ولذا أسند النقض إليه، والاستحكام ليس خاصاً باليقين بالوضوء بل هو عام لكل يقين.

ص: 29


1- إيضاح كفاية الأصول 4: 372-373.

وأشكل عليه: «بأنّه خلط بين مناسبة الحكم والموضوع، وبين استعمال كلمة النقض وإسناده إلى اليقين بحسب اللغة، فإن هذه المناسبة تصحّح الإسناد والاستعمال سواء كان المسند إليه جامع اليقين - اليقين بلا قيد - ، أو حصة منه - اليقين بالوضوء - ، فعدم دخالة القيد في تلك المناسبة لا يبطل صحة إسناده إلى المقيّد»(1).

ثم إنه قد أشكل على الاستدلال بالصحيحة بأمور، منها:

الإشكال الأوّل: إنّ استصحاب عدم النوم أصل سببي واستصحاب الوضوء أصل مسبّبي، ولا يجري الثاني مع الأوّل لحكومته عليه، وعليه فالصحيحة دالة على قاعدة المقتضي والمانع لا الاستصحاب، لا أقل من الإجمال.

وأجيب: أوّلاً: بأنّه لا مانع من الاستناد إلى الأصل المسببي إذا كان متوافقاً مع الأصل السببي، نظير الاستناد إلى قاعدة الطهارة في مورد استصحابها.

لا يقال: إنّه في هذه الحكومة يرتفع موضوع الأصل المسببي، ومع ارتفاعه يرتفع حكمه عقلاً، ويستحيل التخصيص في القضايا العقلية.

لأنه يقال: إن ذلك في القضايا التكوينية، وأمّا في القضايا الاعتبارية فأمر بقاء الموضوع وارتفاعه بيد المعتبر، وفي ما نحن فيه يمكن عدم اعتبار ارتفاع الشك مع الاستصحاب فيتحقق موضوع الأصل المحكوم، وفي ذلك تمسك بإطلاق الدليل الحاكم والمحكوم، فتأمل.

ص: 30


1- بحوث في علم الأصول 6: 27-28.

وثانياً: إنه لا سببيّة، إذ النوم والوضوء ضدان وهما في رتبة واحدة، وكذلك في رتبتهما نقيضهما، فعدم النوم في رتبة الوضوء، مع وضوح تقدم رتبة السبب على المسبب.

وفيه: إنّ الكلام ليس في السببية بين عدم النوم وبين الوضوء، بل السببية بين الشكّين، أي الشك ببقاء الوضوء ناشٍ عن الشك في النوم، فإذا استصحبنا عدم النوم ارتفع الشك في الوضوء.

الإشكال الثاني: ما في الرسائل: «وربما يورد على إرادة العموم من اليقين: أنّ النفي الوارد على العموم لا يدل على السلب الكلي»(1)،

وبعبارة أخرى: عدم جواز نقض مجموع أفراد اليقين بالشك، لا ينافي جواز نقض بعض الأفراد.

والجواب: أوّلاً: ما في الفوائد(2)

وحاصله: أنّ سلب العموم يتوقف على لحاظ العموم معنىً اسمياً، وليس كذلك العموم المستفاد من المفرد المحلّى باللام فإنّه معنى حرفي وهو لا يعقل لحاظه معنى اسمياً، وحيث لا يكون سلباً للعموم يتعين كونه عموماً للسب.

وأورد عليه: «إنّ سلب العموم ليس معناه لحاظ العموم بنحو المعنى الاسمي المستقل، وتوجيه النفي إليه، وإنّما معناه نفي العام بما هو عام - لا بذاته بأن تكون حيثيّة العموم ملحوظة قبل طروّ النفي - كما هو الحال في نفي أيّ قيد حرفي، كما إذا أريد نفي تقيد الجلوس بالمسجد فقيل: (ما جلست في

ص: 31


1- فرائد الأصول 3: 57.
2- فوائد الأصول 4: 338.

المسجد) فقد نُفي هنا نسبة الظرفية بين الجلوس والمسجد، ولكن لا بمعنى توجيه النفي ابتداءً إليها ليقال: إنّ المعنى الحرفي لا يُلحظ مستقلاً، بل بمعنى توجيه النفي إلى الجلوس الخاص بما هو خاص، فينفى التقيد لا محالة»(1).

وثانياً: ما في الرسائل من: «أنّ العموم مستفاد من الجنس في حيز النفي، فالعموم بملاحظة النفي كما في: (لا رجل في الدار) لا في حيزه كما في: (لم آخذ كل الدراهم)»(2).

وبعبارة أخرى: إن العموم متأخر عن النفي فلا يمكن أن يكون مدخولاً له.

وثالثاً: ما في الرسائل أيضاً من أنّ: «الظاهر بقرينة المقام والتعليل، وقوله: (أبداً) هو إرادة عموم النفي، لا نفي العموم»(3).

2- ومنها: صحيحة زرارة الثانية
اشارة

رواها عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «[1-] قلت له: أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شيء من المني، فَعَلَّمتُ أثره إلى أن أصيب له من الماء، فحضرت الصلاة، ونسيت أن بثوبي شيئاً فصلّيت، ثم إنّي ذكرت بعد ذلك؟ قال: تعيد الصلاة وتغسله.

[2-] قلت: فإنّي لم أكن رأيت موضعه وعلمت أنه قد أصابه، فطلبته فلم أقدر عليه، فلمّا صلّيت وجدته؟ قال: تغسله وتعيد.

ص: 32


1- بحوث في علم الأصول 6: 38.
2- فرائد الأصول 3: 57.
3- فرائد الأصول 3: 57-58.

[3-] قلت: فإن ظننت أنه قد أصابه ولم أتيقن ذلك، فنظرت فلم أرَ شيئاً، فصليت، فرأيت فيه؟ قال: تغسله ولا تعيد الصلاة. قلت: ولم ذلك؟ قال: لأنك كنت على يقين من طهارتك ثم شككت، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبداً.

[4-] قلت: فإنّي قد علمت أنّه قد أصابه، ولم أدر أين هو، فأغسله؟ قال: تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنّه قد أصابها، حتى تكون على يقين من طهارتك.

[5-] قلت: فهل عليّ إن شككت في أنّه أصابه شيء أن أنظر فيه؟ قال: لا، ولكنك إنّما تريد أن تذهب الشك الذي وقع في نفسك.

[6-] قلت: إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة؟ قال: تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته، وإن لم تشك ثم رأيته رطباً قطعت الصلاة وغسلته ثم بنيت على الصلاة، لأنك لا تدري لعلّه شيء أوقع عليك، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك»(1).

وما استدل له على الاستصحاب هو جواب السؤال الثالث والسادس، فالكلام في مقامين:

المقام الأوّل: في دلالة الجواب السادس

ودلالته على حجيّة الاستصحاب مطلقاً واضحة، وذلك للتصريح بالتعليل في قوله (علیه السلام): «لأنّك لا تدري...»، وأيضاً قوله (علیه السلام): «فليس ينبغي...» واضح في دلالته على القضية الارتكازية، وأيضاً قوله (علیه السلام): «اليقين» لم يسبق ذكره

ص: 33


1- تهذيب الأحكام 1: 421؛ عنه وسائل الشيعة 3: 479-480.

كي يتوهم كون اللام للعهد.

وأشكل: بأنّ هذا المقطع مجمل، إذ كيف يحكم ببطلان الصلاة إذا رأى النجاسة وقد علم أنّها هي النجاسة التي كان قد شك فيها بحيث كانت بعض أجزاء الصلاة معها، مع حكمه في جواب السؤال الثالث بصحة الصلاة لو كانت تمام أجزائها مع النجاسة المجهولة؟

وأجيب: أوّلاً: بأنّه لعل السؤال كان في مورد العلم الإجمالي بوجودها وعدم وجدانها قبل الصلاة ثم وجدانها حينه.

وفيه: مضافاً إلى كونه خلاف الظاهر، وإلى استلزامه تكرار السؤال الرابع، أنّه حتى لو أراد الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي لكن الكلام يشمل الشبهة البدوية أيضاً إذ يفهم حكمها من التعليل في قوله: «لأنك لا تدري لعله شيء أوقع عليك» حيث يدل على بطلان الصلاة مع العلم بأنّ النجاسة كانت من قبل الصلاة.

وثانياً: بأنّه أمر تعبدي، مع عدم علمنا غالباً بملاكات الأحكام، نظير الدية في قطع أصابع المرأة.

لا يقال: حصول التهافت ظاهر، لأنّ العرف يتعدى من الجواب الثالث ويفهم كبرى كلّيّة تعمّ صورتي وقوع كل الصلاة في النجاسة المجهولة أو وقوع بعضها.

لأنه يقال: لو كان ذلك في كلام واحد لم يَرَ العرف تهافتاً.

وأمّا التفريق بأنّ البطلان فرع تنجز النجاسة حين الصلاة وهو حاصل في السؤال السادس دون الثالث!

ص: 34

فغير عرفي وإن كان يمكن أن يكون هو الفارق ثبوتاً، فلا يرتفع التهافت بمجرد ذلك، فتأمل.

والحاصل: أن الشق الثاني من الجواب السادس يدل على أنّه حين رأى النجاسة شك في كونها نجاسة سابقة على الصلاة أو نجاسة وقعت عليه حينما رآها، فقد كان هو على يقين بطهارة الثوب سابقاً ثم شك في وقوع الأجزاء السابقة مع نجاسة الثوب أو طهارته، فتحققت حينئذٍ صغرى الاستصحاب، والإمام (علیه السلام) طبق كبراه على المورد فقال: «فليس ينبغي...»، فتكون الأجزاء السابقة من الصلاة مع الطهارة الاستصحابية، وبتطهيره الثوب بعد رؤية النجاسة تكون سائر الأجزاء وقعت مع الطهارة وجداناً، فتصح صلاته لاشتمالها على شرائطها وارتفاع موانعها.

المقام الثاني: في دلالة الجواب الثالث

حيث التعليل على صحة الصلاة بقوله (علیه السلام): «لأنّك كنت على يقين...».

وفي التعليل احتمالات تبتني على المراد من اليقين والشك في كلامه (علیه السلام) ، فاليقين: إمّا هو اليقين الأوّل قبل ظن الإصابة والشك بعد النظر أو الشك بعد الصلاة، وإمّا اليقين بعد النظر والفحص والشك بعده.

كما أنّ هنا سؤالين: أحدهما: في كيفية انطباق الحكم على القواعد والأحكام، والآخر: في ارتباط العلة بالمعلّل، إذ لو لم يكن الارتباط واضحاً كان التعليل مستهجناً ينزّه كلام المعصوم (علیه السلام) عنه.

الاحتمال الأوّل: كون اليقين هو اليقين الأوّل قبل ظن الإصابة، والشك هو الشك بعد النظر، وهنا حالتان:

الحالة الأولى: إجراء الاستصحاب حين الصلاة، فهو قد دخل في

ص: 35

الصلاة محرزاً الطهارة بالاستصحاب.

وأشكل عليه بأمور: منها:

الإشكال الأوّل: إنّه تيقّن بعد الصلاة بكونها مع النجاسة لأنّه قد رآها، والاستصحاب حكم ظاهري يرتفع حكمه مع العلم بالخلاف.

وأجيب بأجوبة، منها:

الجواب الأوّل: ما في الكفاية(1)

وحاصله: أنّ شرط الصلاة الواقعي هو إحراز الطهارة، لا الطهارة الواقعية، وقد أحرزها عبر الاستصحاب، مع انطباق العلّة على المعلّل حيث إنّ حجيّة الاستصحاب سبب لإحراز الطهارة.

وغير خفي أنّ صحة هذا الجواب يتوقف على وضوح ارتباط العلّة بالمعلّل، فلعلّ زرارة كان يعلم بأنّ شرط صحة الصلاة هو إحراز الطهارة فلذلك لم يبيّن الإمام (علیه السلام) ذلك وإنّما اكتفى ببيان المحرِز وهو الاستصحاب، وهذا يكفي في دفع الاستهجان، لأنه إشكال ثبوتي يكفي في دفعه وجود احتمال صحيح، مع حمل الكلام على ظاهره، وبعبارة أخرى: إذا كان للكلام ظاهر لا بدّ من حمله عليه، ولا يكفي في رفع اليد عنه وجود احتمال ثبوتي يخلّ به مع وجود احتمال ثبوتي يصحّحه.

الجواب الثاني: ما ذكره المحقق النائيني(2):

إنّ العلم بالنجاسة مانع عن صحة الصلاة، وهذا المانع منتف بإجراء الاستصحاب، وبذلك يتضح ربط عدم وجوب الإعادة بالاستصحاب حال العمل.

ص: 36


1- إيضاح كفاية الأصول 4: 389.
2- فوائد الأصول 4: 348.

إن قلت: إن كان المانع هو العلم بالنجاسة، فمع الشك يرتفع المانع، ولا حاجة إلى الاستصحاب، بل هو من تحصيل الحاصل!

قلت(1): إنّ المحقق النائيني يرى نوع آخر من القطع الموضوعي - غير القطع الموضوعي الذي هو صفة قائمة بالنفس، وغير القطع الموضوعي بما هو طريق إلى الواقع - وذلك هو القطع الموضوعي بما هو منجز للواقع ومعذّر عنه، وهو مما يصلح أن تقوم الأمارات والطرق والأصول مقامه، لأنّها جميعاً تتكفل جهة التنجيز والتعذير، وهنا: المانع هو العلم بالنجاسة بما هو منجز للواقع، وعليه: فالنجاسة المشكوكة لا يمكن أن تنفى مانعيتها إلاّ بواسطة دليل أو أصل معذّر بحيث ينفي التنجيز، فإنّ الاحتمال منجِّز لولا وجود المؤمِّن، وهو هنا الاستصحاب.

ومع قطع النظر عن المبحث المبنائي في هذا القسم من القطع الموضوعي، فإنّ ما ذكره المحقق النائيني كجواب صاحب الكفاية يرفع الإشكال، ولا استهجان بعد احتمال علم زرارة بمانعية النجاسة.

الجواب الثالث: إنّ الارتباط بين العلة والمعلّل في أنّ عدم الإعادة إنّما هي لأجل إجزاء الأمر الظاهري عن الواقعي، بمعنى أنّ شرط صحة الصلاة هو الطهارة الواقعية، ولكن بالاستصحاب ثبتت الطهارة الظاهرية، وهي تجزي عن الواقعية.

وفيه: أنّه إن كان سبب الإعادة هو الإجزاء كان لا بدّ من التعليل به لا بالاستصحاب.

ص: 37


1- منتقى الأصول 6: 102.

اللّهم إلاّ أن يقال: إنّ سبب عدم الإعادة مركب من صغرى هي الاستصحاب، وكبرى هي الإجزاء، فاكتفى في الجواب بذكر الصغرى الذي يستفاد منها الكبرى أيضاً، فتأمل.

الإشكال الثاني: إنّ معنى الحديث على هذا الاحتمال: أنّه لا إعادة للصلاة التي استصحبت فيها الطهارة، ولكن حيث إنّ الاستصحاب حكم ظاهري منجِّز للواقع حين الإصابة ومعذّر عنه حين الخطأ، فقوامه بالوصول، ولولا الوصول كان جعله لغواً، إذ لا منجزية ولا معذرية حين الجهل، ومن الواضح أن الإمام (علیه السلام) كان في صدد بيان صحة الصلاة لأجل الاستصحاب حين العمل - بناءً على هذا الاحتمال - مع عدم علم السائل بحجيّته.

وفيه: أن السؤال لم يكن عن قضية خارجية، كي يقال: بأنّه لا معنى لجعل الحجيّة لحكم ظاهري مع الجهل به، بل سؤاله كان عن قضية حقيقية لا يضر فيها جهل السائل عن حجيّة الحكم الظاهري حين السؤال، فيكون المعنى: أنّه كلّما أجريت استصحاب الطهارة من الخبث حين الصلاة كانت صلاتك صحيحة واقعاً لا إعادة فيها ولو مع انكشاف الخلاف، فتأمل.

الحالة الثانية: استصحاب ذلك اليقين بعد الصلاة.

لكن من الواضح أنّه لا وجه لهذا الاستصحاب، إذ هو بعد الصلاة متيقن بالنجاسة فلا يكون نقضاً لليقين بالشك، بل نقضاً لليقين باليقين.

الاحتمال الثاني: كون اليقين هو اليقين بعد النظر والفحص عن النجاسة، والشك هو الشك بعد ذلك، وهذا الاحتمال كما يمكن تطبيقه على الاستصحاب، كذلك ينطبق على قاعدة اليقين.

ص: 38

ويرد عليه: أنّه لا دلالة للكلام - لا في السؤال ولا في الجواب - على حصول اليقين بعدم النجاسة بعد النظر، ولا ملازمة بين الفحص عن النجاسة واليقين بعدمها، ولذا في السؤال الثاني ذكر السائل أنّه مع علمه إجمالاً بالنجاسة لم يجدها بالفحص، مضافاً إلى أنّ قوله (علیه السلام): «فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك» هو بقاء اليقين، ولا يقين باقٍ في قاعدة اليقين.

الاحتمال الثالث: كون اليقين هو اليقين الأوّل قبل ظن الإصابة، والشك هو بعد الصلاة في أنّ النجاسة التي وجدها هل هي النجاسة المجهولة التي فحص عنها ولم يجدها، أم هي نجاسة حادثة بعد الصلاة، فالاستصحاب باعتبار ما بعد الصلاة، وأركانه تامة، وربط عدم الإعادة به واضح، إذ لا تجب إعادة الصلاة الصحيحة ولو بحكم ظاهري.

إن قلت: لا مصحّح لسؤال زرارة عن سبب عدم إعادة الصلاة حينئذٍ، إذ مع قطع النظر عن الاستصحاب فإنّ إجراء أصالة الطهارة في المشكوك نجاسته وعدم وجوب الإعادة مع عدم انكشاف الخلاف أمر واضح وعليه السيرة فلا معنى للسؤال عنه!

قلت: لعلّه لم يكن بذك الوضوح في تلك العصور، أو لعلّ زرارة يسأل عن سبب عدم الإعادة هل هو قاعدة الطهارة أم أمر آخر لا عن أصل الإعادة.

وهذا الاحتمال خلاف الظاهر، وقد صار إليه بعض الأعلام لمّا أشكلوا على سائر الاحتمالات، لكن مع صحة الاحتمال الأوّل في نفسه وكونه مطابقاً لظاهر الحديث لا بدّ من المصير إليه، وعلى كل حال فدلالة هذه الفقرة على الاستصحاب واضحة أيضاً.

ص: 39

3- ومنها: صحيحة زرارة الثالثة
اشارة

عن أحدهما (علیهما السلام): «قال: قلت له: من لم يدر في أربع هو أم في ثنتين؟ قال: يركع ركعتين وأربع سجدات وهو قائم بفاتحة الكتاب ويتشهد، ولا شيء عليه، وإذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع، وقد أحرز الثلاث، قام فأضاف إليها أخرى، ولا شيء عليه، ولا ينقض اليقين بالشك، ولا يدخل الشك في اليقين، ولا يخلط أحدهما بالآخر، ولكن ينقض الشك باليقين، ويتم على اليقين فيبني عليه، ولا يعتد بالشك في حال من الحالات»(1).

وقد أكّد (علیه السلام) قوله: «لا ينقض اليقين بالشك» بقوله: «ولا يدخل الشك في اليقين» لأنّه إذا اعتنى بالشك فقد أدخله في اليقين عبر إعطائه حكمه، وكذا أكّده بقوله: «ولا يخلط أحدهما بالآخر» إذ من جعل حكم الشك كحكم اليقين فقد خلط بينهما عبر إشراكهما في الحكم.

كما أنّه (علیه السلام) أكّد قوله: «ولكن ينقض الشك باليقين» بقوله: «ويتم على اليقين» بمعنى الاستمرار عليه، وكذا بقوله: «ولا يعتد بالشك» بعدم ترتيب أيّ أثر عليه.

والاستصحاب هنا يحتمل طريقتين:

الاستصحاب الأوّل: استصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة

حيث إنه كان يعلم بعدم إتيانه بالركعة الرابعة، ثم شك في إتيانه بها، فيستصحب عدم الإتيان فيضيف ركعة أخرى.

وأشكل عليه بوجوه، منها:

ص: 40


1- الكافي 3: 351؛ عنه وسائل الشيعة 8: 217.

الإشكال الأوّل: أنه بناءً على الاستصحاب لا بدّ من الإتيان بالركعة موصولة، وهذا يخالف المذهب بوجوب التسليم ثم إضافة ركعة الاحتياط مفصولة، فهذا هو مراد الإمام (علیه السلام) وهو لا ينطبق على الاستصحاب، لأنّ مقتضى الاستصحاب الحكم بعدم الإتيان بالرابعة وعدم البناء عليها ومن ثم الإتيان بالرابعة موصولة.

وأجيب بأجوبة، ومنها:

الجواب الأوّل: ما في الكفاية(1)

بما حاصله: أنّ صلاة الاحتياط مفصولة لا تنافي الاستصحاب، نعم تنافي إطلاقه، وهذا لا يضر بالاستدلال، وذلك لأن الاستصحاب يدل على عدم الإتيان بالركعة الرابعة فلا بدّ من ترتيب جميع آثار عدم الإتيان بها، ومن تلك الآثار لزوم الإتيان بها موصولة، لكن يمكن تقييد ذلك برفع اليد عن خصوص هذا الأثر لوجود أدلة خاصة على لزوم الفصل.

وأورد عليه في المنتقى(2)

بما حاصلة: أن الإمام (علیه السلام) بيّن حكم مورد السؤال بقوله: «قام فأضاف إليها أخرى»، وبما أنه لا يمكن حمله على ما يخالف المذهب - من إرادة الركعة المتصلة - فلا بدّ من حمله على إرادة الركعة المنفصلة، وهذا لا يكون صغرى من صغريات الاستصحاب، وعليه فلا يمكن حمل قوله: «ولا ينقض...» على الاستصحاب، بل لا بدّ من حمله على معنى آخر.

ص: 41


1- إيضاح كفاية الأصول 5: 6.
2- منتقى الأصول 6: 110.

وفيه: أن حمل الصدر على عدم الاتصال لا ينافي ظهوره في نفسه فيه، وإرادة الإمام (علیه السلام) الركعة المنفصلة لا يخلّ بظهور التتمة في الاستصحاب، وعليه فالرواية في نفسها بصدرها وذيلها دالّة على الاستصحاب إلاّ أنّه رفعنا اليد عن ظهور الصدر في الاتصال للقرينة.

الجواب الثاني: إن جوابه (علیه السلام) ظاهر في الاستصحاب، إلاّ أنّ تطبيق الاستصحاب على المورد من باب التقية حيث إنّ مذهب العامة الإتيان بالركعة موصوله، وهذا نظير إفطاره في يوم الشك تقيةً وقوله: «ذلك للإمام إن صام صمنا وإن أفطر أفطرنا» فإنّها كبرى لبيان الحكم الواقعي لكن تطبيقها في مورد الحاكم الجائر كان تقية.

وأورد عليه: بأنّه مع إمكان الحمل على الواقع بحمل قوله: «قام فأضاف إليها أخرى» على الركعة المفصولة، لا وجه للحمل على التقية، وهذا بخلاف مورد الإفطار حيث صرّح (علیه السلام) بخوفه من القتل وأن يفطر يوماً ويقضبه أحب إليه من القتل.

الجواب الثالث: ما ذكره المحقق العراقي(1) وحاصله: بأنّه ليس تقييداً لدليل الاستصحاب - كما في الجواب الأوّل - بل تقييد لدليل الصلاة، وذلك لأن الاستصحاب لا يقتضي إلاّ الإتيان بركعة أخرى، وأمّا كونها موصولة أو مفصولة فلا ربط له به، بل يرتبط بدليل الصلاة الواقعي، وهو يقتضي الوصل، لكن تمّ تقييده في حالة الشك بلزوم الفصل بالتشهد والتسليم، ولا محذور حينئذٍ في هذه الزيادة - لو كان في الركعة الثالثة واقعاً - لأنّها في

ص: 42


1- نهاية الأفكار 4[ق1]: 59.

الواقع لا تكون مانعاً حين الشك، وأمّا لزوم الإتيان بها فلأجل أنّه لعلّه كان في الركعة الرابعة فيحكم العقل بلزوم الإتيان بها بعد ارتفاع مانعيتها لو كان في الركعة الثالثة، وذلك لئلا تكون هناك زيادة ركعة في الواقع، فالإتيان بالتشهد والتسليم لأجل الاحتياط بحكم العقل باشتغال الذمة بصلاة رباعية.

وأورد عليه: أوّلاً: إن هذا إن صحّ في التشهد والتسليم، لكنّه لا يصح في التكبيرة، فليس هناك علم باشتغال الذمة بها كي تلزم احتياطاً، بل يؤتى بها من باب الجزئية.

وفيه: إنّ الاشتغال إنّما هو بصلاة رباعية، ومع كونه قد صلّى ثلاثاً فكما يكون التشهد والسلام مانعاً لولا رفع المانعية كذلك تكون التكبيرة مانعة لولا رفعها، فلا فرق، نعم وجوب الإتيان بالتشهد والتسليم لأجل أنّه لعلّه في الركعة الرابعة لئلا يلزم زيادة ركعة، وأمّا زيادة التكبيرة حينئذٍ فلدليل صلاة الاحتياط وبذلك ترتفع مانعيتها، وهذا الفرق غير فارق.

وثانياً: ما في المنتقى «من أنّ تطبيق دليل الاستصحاب إنّما يكون بعد تقييد دليل المانعية، وإلاّ فمع المانعيّة كيف يصح تطبيق الاستصحاب على الركعة المنفصلة بالتسليم، فإنّ مقتضاه أن تكون الركعة موصولة، والحاصل: ففي مرحلة سابقة على الاستصحاب لا بدّ من وجود دليل على عدم مانعية التسليم، ثم يأتي تطبيق دليل الاستصحاب بعد ذلك، لكن لا يوجد هنا إلاّ دليل الاستصحاب ولا يوجد دليل رفع المانعية في مرحلة سابقة، بل نفس هذا الدليل فقط، فيمتنع حمله على الاستصحاب»(1).

ص: 43


1- منتقى الأصول 6: 114-115.

وفيه: أنّ صحة جريان الاستصحاب تتوقف على رفع المانعية ثبوتاً، وفي مرحلة الإثبات ظهور الدليل في الاستصحاب يكفي في الكشف عن رفع المانعية بدلالة الاقتضاء، مضافاً إلى أن الترتيب ثبوتي ولا محذور في دلالة دليل واحد على مرتبتين، فتأمل.

الإشكال الثاني: ما ذكره المحقق الإصفهاني، وحاصله: عدم إمكان تطبيق الاستصحاب بلحاظ الركعة المفصولة، قال: «إن صلاة الاحتياط إمّا هي صلاة مستقلة لها أمر مستقل، تكون على تقدير نقص الصلاة جابرة لها من حيث مصلحتها، وعلى تقدير التمام نافلة، وإمّا هي جزء الصلاة التي وقع الشك في أثنائها بحيث يدور أمرها بين وقوعها جزء حقيقة من الصلاة على تقدير النقص ولغواً صرفاً على تقدير التمامية، فإن قلنا بالأوّل فلا معنى لاستصحاب عدم إتيان الرابعة إلاّ التعبد ببقاء الأمر بها بعين الأمر بالصلاة كما هو شأن الجزء، مع أنّ المفروض أنّ الأمر بصلاة الاحتياط أمر مستقل بصلاة مستقلة، لا أنّه بقاء الأمر الأوّل لا واقعاً ولا ظاهراً... وإن قلنا بالثاني وهو كونها جزءاً حقيقة لا من حيث الأثر فقط، فمقتضى جزئيتها كونها مأموراً بها بعين الأمر بالصلاة، إذ لا وجوب استقلالي لا نفسياً ولا غيرياً للجزء الحقيقي، ومن الواضح عدم كون الصلاة - الواجبة بالوجوب النفسي الممكن بقاء أمرها واقعاً بعينه - مشتملة على تسليمتين وتكبيرتين، فليس الإشكال من حيث مانعية زيادة التسليمة والتكبيرة حتى يقال: بتقييد إطلاق أدلة المانعية وبقاء الأمر بذوات الأجزاء على حالها، بل الإشكال من حيث وجوب هذه الزيادات بنحو الجزئية التي لا مجال لدخولها في الواجب إلاّ بتبدل الأمر بما عداها إلى الأمر بما يشتمل عليها، فلا محالة هناك أمر آخر

ص: 44

بصلاة مشتملة عليها إمّا واقعاً أو ظاهراً»(1).

وبعبارة أخرى: إنّ استقلال صلاة الاحتياط هو بمعنى زوال المتيقن السابق إذ الأمر به أمر جديد فلا مورد للاستصحاب، وجزئية صلاة الاحتياط هو بمعنى تبدل الأمر السابق إلى أمر بمركب جديد يتضمن تشهداً وتسليماً وتكبيرة زائدات، وهذا ثابت العدم في الواقع فلا يمكن التعبد به في الظاهر.

وفيه: أنّه لا محذور في التزام جزئية ركعة الاحتياط - على فرض نقصان صلاته - وعدم جزئية التشهد والتسليم والتكبيرة الزائدات حينئذٍ، مع تقييد دليل مانعيتها واقعاً، بأن لا تكون مانعاً في حالة الشك في عدد الركعات.

الاستصحاب الثاني: استصحاب اشتغال الذمة بالصلاة

وهو ما ذكره المحقق العراقي أيضاً(2) وحاصله: أنّ مجرى الاستصحاب ليس عدم الإتيان بالركعة الرابعة، بل مجراه هو اشتغال الذمة بالصلاة، فالمراد عدم نقض اليقين بالاشتغال بالشك فيه، فلا بدّ له من إفراغ ذمته باليقين بالامتثال، ولا يحصل اليقين بالامتثال إلاّ بالإتيان بصلاة الاحتياط حسب دلالة الأدلة الشرعية.

وأورد عليه: بأنّ اشتغال الذمة بوجوب الصلاة شرعاً ليس إلاّ وجوب جميع الأجزاء، حيث إنّ الصلاة هي الأجزاء بنفسها، فمع الإتيان بسائر الركعات لا يشك في بقاء الأمر المتعلّق بها، وإنّما يشك في بقاء وجوب

ص: 45


1- نهاية الدراية 5: 82.
2- نهاية الأفكار 4[ق1]: 62.

الركعة المشكوكة فقط، فرجع إلى استصحاب عدم إتيان الركعة الرابعة.

وفيه: إنّه لا وجود لأمر يتعلق بسائر الركعات كي يقال بالعلم بسقوطه، وإنّما هو أمر واحد منبسط على الأجزاء كلها، فمع الإتيان بسائر الركعات لم يعلم بامتثال الأمر بالصلاة أصلاً وإنّما يحصل له العلم بامتثالها مع الإتيان بجميع الركعات المقطوع بها والمشكوكة.

ومن ذلك كلّه تبين ظهور هذه الصحيحة الثالثة في الاستصحاب مع عدم محذور فيه بعد دفع الإشكالات عليه.

لكن لو أشكلنا على دلالتها على الاستصحاب فلا بدّ من حملها على غيره، وفيه احتمالان:

الاحتمال الأوّل: إنّ معناها إنّ الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية، وذلك عبر صلاة الاحتياط، قال الشيخ الأعظم: «فالمراد هو اليقين بالبراءة، فيكون المراد وجوب الاحتياط وتحصيل اليقين بالبراءة بالبناء على الأكثر، وفعل صلاة مستقلة قابلة لتدارك ما يحتمل نقصه... وهذا الوجه وإن كان بعيداً في نفسه، لكنه منحصر بعد عدم إمكان الحمل على ما يطابق الاستصحاب، ولا أقل من مساواته لما ذكره هذا القائل، فيسقط الاستدلال بالصحيحة خصوصاً على مثل هذه القاعدة»(1).

وجه البعد ما بيّنه المحقق الإصفهاني قال: «إذ الظاهر من النهي عن نقض اليقين [بالشك] فرض وجودهما معاً، كما هو ظاهر من آخر الخبر، حيث قال (علیه السلام): (ويتم على اليقين فيبني عليه) فلا بدّ من وجود يقين يتم الصلاة

ص: 46


1- فرائد الأصول 3: 63-66.

عليه، أو يبقيه ولا ينقضه، أو لا يجعله مزاحماً بشيء، وما أفاده راجع في الحقيقة إلى الأمر بتحصيله، لا إلى عدم نقضه في فرض حصوله»(1).

ولا يجدي ادعاء أنّ معنى النقض هو رفع اليد سواء عن شيء موجود أو عن تحصيله، أو رفع اليد عن اليقين بالاشتغال، فإنّ ذلك خلاف الظاهر جداً.

الاحتمال الثاني: ما ذكره المحقق الإصفهاني قال: «إنّ اليقين المحقق هنا هو اليقين ب-(الثلاث لا بشرط)، في قبال (الثلاث بشرط لا) الذي هو أحد طرفي الشك، و(الثلاث بشرط شيء) الذي هو الطرف الآخر، والأخذ بكل من طرفي الشك فيه محذور النقص بلا جابر، أو الزيادة بلا تدارك، بخلاف رعاية اليقين ب-(الثلاث لا بشرط) فإنّها لا يمكن إلاّ بالوجه الذي قرّره الإمام (علیه السلام) من الإتمام على ما أحرز وإضافة ركعة منفصلة فإنّها جابرة من حيث الأثر على تقدير النقص، وزيادة خارجة غير مضرة على تقدير التمامية. أمّا إضافة ركعة متصلة فإنّها من مقتضيات اليقين بشرط لا، والمفروض أنه لا بشرط، كما أن الاقتصار على الثلاث المحرزة فقط من مقتضيات اليقين بالثلاث بشرط شيء فإنّ المفروض أن الفريضة رباعية، مع أنّ الإحراز متعلق بالثلاث لا بشرط، فرعاية مثل هذا اليقين وعدم الرفع عنه لا تكون إلاّ بما قرّرة الإمام (علیه السلام) »(2).

وفيه: أنّ مرجع هذا إمّا إلى الاحتمال الأوّل لأنّ اليقين بالثلاث لا بشرط

ص: 47


1- نهاية الدراية 5: 84.
2- نهاية الدراية 5: 84.

لا يستلزم هذا الاحتياط إلاّ بإضافة قاعدة اشتغال الذمة يقيناً ولزوم إفراغها باليقين، وإمّا إلى ما ذكره المحقق العراقي من استصحاب اشتغال الذمة بالصلاة الرباعية، فتأمل.

4- ومنها: حديث الأربعمائة

وهو ما رواه الشيخ الصدوق في الخصال: «قال أمير المؤمنين (علیه السلام): من كان على يقين فشك فليمض على يقينه فإن الشك لا ينقض باليقين»(1)

وفي رواية الإرشاد: «من كان على يقين فأصابه شك فليمض على يقينه فإنّ الشك لا يدفع اليقين»(2).

أمّا السند: فصحيح على الأظهر(3).

وأمّا الدلالة: فقد أشكل عليها بظهور الرواية في قاعدة اليقين الذي يختلف فيها زمان اليقين والشك، لا في الاستصحاب الذي يجتمعان فيه مع أن الإمام (علیه السلام) عطف بينهما بالفاء فقال: «على يقين فشك» الظاهر في عدم اجتماعهما وإنّما تعاقبهما.

والجواب: أوّلاً: قوله (علیه السلام): «فإنّ الشك لا ينقض اليقين» ظاهر في ثبوت

ص: 48


1- الخصال: 619؛ عنه وسائل الشيعة 1: 247.
2- الإرشاد للمفيد 1: 302.
3- لأنّ الراوي هو القاسم بن يحيى عن جده الحسن بن راشد، والأوّل وإن ضعّفه الغضائري والعلامة، والثاني وإن كان مشتركاً بين من ضعّفه النجاشي ومن ضعّفه ابن الغضائري، إلاّ أنّ الأصح وثاقتهما لأنّ الصدوق روى زيارات صحاح للإمام الحسين (علیه السلام) وقال في زيارة رواها هذان: «لأنها أصح الزيارات عندي من طريق الرواية» [من لا يحضره الفقيه 2: 598] وتصحيحه مقدّم على تلك التضعيفات، والتفصيل في علم الرجال. وباقي رجال السند كلهم ثقات (المؤلف).

اليقين فعلاً، وهذا الظهور أقوى من ظهور الصدر في زوال اليقين، لأنّ الفاء تدل على الترتيب فقط ولا تدل على زوال ما قبلها وعدم اجتماعه مع ما بعدها، فمثل: (جاء زيد فعمرو) يدل على تأخر مجيء عمرو لا عدم اجتماعه مع زيد، وهكذا قوله: «على يقين فشك» كما ينسجم مع زوال اليقين وحلول الشك محله الذي هو مفاد قاعدة اليقين كذا ينسجم مع اجتماعهما معاً مع تأخر حصول الشك الذي هو مفاد الاستصحاب.

وثانياً: ما ذكره المحقق النائيني(1)

والمحقق العراقي(2)

من أنّ قوله (علیه السلام): «فليمض على يقينه» ظاهر في بقاء اليقين في زمان العمل، فإنّ المضي على اليقين فرع وجوده.

وردّ: بأنّ المضي على اليقين كما ينسجم مع اليقين الباقي كذلك ينسجم مع اليقين الزائل، فقوله (علیه السلام): «على يقينه» لا ظهور له في نفسه في اليقين الفعلي.

5- ومنها: مكاتبة القاشاني

قال: «كتبت إليه - وأنا بالمدينة - أسأله عن اليوم الذي يشك فيه من رمضان، هل يصام أم لا؟ فكتب اليقين لا يدخل فيه الشك، صم للرؤية وأفطر للرؤية»(3).

من غير فرق بين الشك في أوّل شهر رمضان أو آخره.

وجه الاستدلال: أنّ معنى كلامه (علیه السلام) أنّ اليقين بكون الأيام الماضية من شعبان وعدم وجوب الصوم فيها لا ينقض بالشك في دخول شهر رمضان،

ص: 49


1- فوائد الأصول 4: 365.
2- نهاية الأفكار 4[ق1]: 64.
3- تهذيب الأحكام 4: 159؛ عنه وسائل الشيعة 10: 255.

وكذا اليقين بكون الأيام الماضية من شهر رمضان ووجوب الصوم فيها لا ينقض بالشك في دخول شهر شوال، وهذا هو الاستصحاب، ثم أكّده بقوله (علیه السلام): «صم للرؤية وأفطر للرؤية»، بل قد يقال: بأنّها أظهر الروايات في الدلالة على الاستصحاب لولا سندها.

وأشكل عليه: أوّلاً: بما في الكفاية(1)،

وحاصله: إنّ المراد من اليقين في هذه الرواية - بقرينة روايات باب يوم الشك - هو اليقين بدخول شهر رمضان، وكذا اليقين بدخول شهر شوال، فيكون المعنى: إنّ وجوب الصوم يتوقف على اليقين بدخول شهر رمضان، ووجوب الإفطار متوقف على اليقين بدخول شهر شوال، ولا يكفي الشك، وهذا المعنى أجنبي عن الاستصحاب كما هو واضح، وعليه فليس اليقين هو اليقين بشهر شعبان بل اليقين بدخول شهر رمضان في أوّله، ولا اليقين بشهر رمضان في آخره بل اليقين بدخول شهر شوال، فيجب أن لا يدخل يوم الشك في شهر رمضان ولا في شهر شوال، وإلاّ فسيدخل الشك في اليقين.

وفيه: أنّ هذه الرواية ظاهرة في الاستصحاب، ومجرد ظهور روايات أخرى على معنى آخر لا يكون قرينة على رفع اليد عن ظهور هذه الرواية، فروايات الباب تدل على أنّ المناط هو اليقين، وهذه الرواية تدل على كفاية الاستصحاب ولا تصادم بينهما لنرفع اليد عن ظهور أحدهما.

أمّا الإشكال بأنّه: لو كان لليقين موضوعية في وجوب الصوم والإفطار فلا مجال للاستصحاب، إذ مع الشك نعلم بعدم الموضوع الذي هو اليقين... .

ص: 50


1- إيضاح كفاية الأصول 5: 13.

فغير وارد لأنّ اليقين في شهر رمضان وشوال طريقي لا موضوعي.

وثانياً: ما ذكره المحقق العراقي(1)

وحاصله: إنّ استصحاب بقاء شهر شعبان أصل مثبت، لأنّ وجوب الصوم إنّما يكون مترتباً على ثبوت كون النهار المشكوك من شهر رمضان بنحو مفاد كان الناقصة أي إثبات إنّ هذا اليوم هو من شهر رمضان، والاستصحاب يدل على بقاء شهر شعبان ولازمه عدم كون هذا اليوم من شهر رمضان فلا يجب الصوم فيه، وهذا اللازم عقلي، وهكذا الإفطار يكون مترتباً على ثبوت كون النهار المشكوك من شوال بنحو مفاد كان الناقصة أي إثبات أنّ هذا اليوم هو من شهر شوال، والاستصحاب يدل على بقاء شهر رمضان ولازمه عدم كون هذا اليوم من شهر شوال فيجب الصوم فيه، واللازم عقلي، مع أنّ الإمام (علیه السلام) رتب وجوب وعدم وجوب الصوم على هذا اليقين في قوله: «صم للرؤية وأفطر للرؤية» ومن ذلك يتبيّن عدم إرادته (علیه السلام) للاستصحاب.

وفيه: أنّ مفاد الأدلة أخذ شهر رمضان ظرفاً ومفاداً لكان التامة، فإذا ثبت شهر رمضان بالاستصحاب ثبت وجوب الصوم فيه، وإذا ثبت شهر شعبان بالاستصحاب ثبت عدم وجوب الصوم فيه.

وبعبارة أخرى: يكفي في عدم وجوب الصوم ثبوت شهر شعبان ولو بالاستصحاب ولا يحتاج إلى إثبات أنّه ليس من شهر رمضان، وهكذا يكفي في وجوب الصوم ثبوت شهر رمضان ولو بالاستصحاب من غير حاجة إلى إثبات أنّه ليس من شوال.

ص: 51


1- نهاية الأفكار 4[ق1]: 65.
6- ومنها: موثقة اسحاق بن عمار

عن الإمام الكاظم (علیه السلام) قال: «إذا شككت فابن على اليقين، قلت: هذا أصل؟ قال نعم»(1).

وجه الدلالة: أن الإمام (علیه السلام) أمر بالبناء على اليقين لا على تحصيله، وهذا لا يكون إلاّ في الاستصحاب.

إن قلت: إنّ الرواية تدل على قاعدة البناء على الأكثر وتحصيل اليقين بفراغ الذمة التي هي القاعدة في الشكّيات، ولذا قد ذكرها الشيخ الصدوق في باب الخلل في الصلاة.

قلت: إنّ تلك القاعدة هي في تحصيل اليقين لا في البناء عليه مع وجوده، واجتهاد الشيخ الصدوق في وضعها في باب الخلل لا يخرجها عن ظهورها فلعلّه وضعها هناك من باب تطبيقها على الصلاة!

7- ومنها: صحيحة عبد اللّه بن سنان

قال: «سأل أبي أبا عبد الله (علیه السلام) وأنا حاضر: إني أعير الذمي ثوبي، وأنا أعلم أنّه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير، فيردّه عليّ، فأغسله قبل أن أصلي فيه؟ قال أبو عبد الله (علیه السلام): صلّ فيه ولا تغسله من أجل ذلك، فإنّك أعرته إياه وهو طاهر ولم تستيقن أنّه نجّسه»(2).

ودلالتها على الاستصحاب واضحة، لأنّ تعليله (علیه السلام) بعدم الغسل هو بطهارته السابقة وعدم اليقين بحدوث النجاسة، وحيث إنّ كلامه (علیه السلام) في

ص: 52


1- من لا يحضره الفقيه 1: 231؛ عنه وسائل الشيعة 8: 212.
2- تهذيب الأحكام 2: 361؛ عنه وسائل الشيعة 3: 521.

سياق التعليل فهو ظاهر في أنه (علیه السلام) بيّن القاعدة الكليّة الارتكازية. بل عدم اشتمال الرواية على كلمة النقض يعمّم الاستصحاب حتى مع الشك في المقتضي لو قلنا بظهور النقض في الشك في المانع، وكذا عدم ذكره اليقين السابق بل اكتفائه بكونه طاهراً حين الإعارة يدل على كفاية الاستصحاب مع وجود الحجة الشرعية حتى لو لم تكن اليقين.

تتمة: قال الشيخ الأعظم - بعد ذكره هذه الروايات -: «وقد عرفت عدم ظهور الصحيح منها، وعدم صحة الظاهر منها، فلعلّ الاستدلال بالمجموع باعتبار التجابر والتعاضد»(1).

وأورد عليه: أوّلاً: في الجبر: بأن السند الضعيف لا تجبره الدلالة القويّة، والدلالة الضعيفة لا يجبرها السند المعتبر.

وثانياً: في التعاضد: بأنّه لا بدّ من تواتر الروايات أو استفاضتها للتعاضد، ومجرد وجود روايتين أو ثلاثة ضعاف السند لا يحصل بها تعاضد، كما لا يمكنها أن تتعاضد مع الروايات الصحيحة لعدم دلالتها لكي تعاضدها غيرها، فإنّ تعاضدها إنّما يكون مع اتفاقها في الدلالة.

لكن قد ثبت أنّ أكثر الروايات معتبرة سنداً ظاهرة دلالة على الاستصحاب بعد دفع الإشكالات التي أوردت عليها، فيثبت بذلك حجيّة الاستصحاب شرعاً.

8- ومنها: روايات الطهارة والحلّيّة
اشارة

وهي إن دلت على الاستصحاب فإنّما تدل عليه في المورد الخاص،

ص: 53


1- فرائد الأصول 3: 71.

كقوله (علیه السلام): «كل شيء لك نظيف حتى تعلم أنّه قذر، فإذا علمت فقد قذر، وما لم تعلم فليس عليك»(1)،

وقوله (علیه السلام): «كل ماء طاهر إلاّ ما علمت أنّه قذر»(2)،

وقوله (علیه السلام): «كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه»(3).

وقد اختلف في مدلولها على وجوه: فمنها: دلالتها على الاستصحاب فقط، ومنها: دلالتها على الطهارة الظاهرية فقط، ومنها: دلالتها على الطهارة الواقعية فقط، ومنها: دلالتها على الطهارة الظاهرية والاستصحاب، ومنها: دلالتها على الطهارة الواقعية والاستصحاب، ومنها: دلالتها على الطهارتين والاستصحاب، ومنها: دلالتها على الطهارة الظاهرية والواقعية.

القول الأوّل: الدلالة على الاستصحاب فقط

وذلك لأنّ استمرار الطهارة والحليّة في الشيء المشكوك هو الاستصحاب بعينه.

وفيه: أنّ ظاهر هذه الأحاديث هو جعل الطهارة والحليّة وأنّ الشك بنفسه سبباً لجعلهما، لا جعل استمرارها مفروغاً عن أصل وجودها، فتكون الغاية بيان حدّ الحكم لا بيان الاستمرار إليها، مضافاً إلى أنّ أحد أركان الاستصحاب اليقين السابق ولا ذكر له في هذه الأخبار أصلاً.

إن قلت: حديث «الماء كلّه طاهر حتى يعلم أنّه قذر»(4) ظاهر في

ص: 54


1- تهذيب الأحكام 1: 284؛ عنه وسائل الشيعة 3: 467.
2- من لا يحضره الفقيه 1: 6؛ عنه وسائل الشيعة 1: 133.
3- الكافي 5: 313؛ عنه وسائل الشيعة 17: 89.
4- تهذيب الأحكام 1: 216؛ عنه وسائل الشيعة 1: 134.

الاستمرار لا في جعل أصل الطهارة، قال الشيخ الأعظم: «إنّ الاشتباه في الماء من غير جهة عروض النجاسة للماء غير متحقق غالباً، فالأولى حملها على إرادة الاستصحاب، والمعنى أنّ الماء المعلوم طهارته بحسب أصل الخلقة طاهر حتى تعلم، أي تستمر طهارته المفروضة إلى حين العلم بعروض القذارة له»(1).

قلت: إنّ وجود اليقين بطهارة الماء سابقاً ثم الشك في عروض النجاسة عليه لا يكفي في صرف ظاهر اللفظ، وذلك لأنّ جعل الطهارة في هذا المورد كما يمكن أن يكون لأجل اليقين السابق كذلك يمكن أن يكون لأجل الشك، وحيث إنّ ظاهر الكلام هو الثاني لزم الحمل عليه، مضافاً إلى أنّ المطلق لا يحمل على الفرد الغالب إلاّ لو انصرف اللفظ إليه، ولا انصراف هنا، ولذا تراهم يستدلون بهذا الحديث على طهارة الماء المشكوك من أصله كالمياه الكبريتية، وكذا الماء الذي تواردت عليه الحالات.

القول الثاني: الدلالة على قاعدة الطهارة الظاهرية فقط

وهو المشهور، لظهور الرواية في ذلك حيث لا يكون العلم غاية للواقع فلا دلالة على الطهارة الواقعية، ولم يذكر اليقين سابقاً فلا دلالة على الاستصحاب. وعدم صلاحية ما استدل له على سائر الأقوال - كما سيأتي - في صرف هذا الظاهر.

ووجهه المحقق الإصفهاني(2)

بما حاصله: إنّ العين الخارجية لا معنى

ص: 55


1- فرائد الأصول 3: 77.
2- نهاية الدراية 5: 89-90.

لامتدادها بذاتها إلى زمان العلم، حيث إنّ العلم من عالم النفس فلا يكون قيداً لما في عالم الخارج، وإلاّ لزم انقلاب أحدهما وهو باطل قطعاً كما هو واضح، فالموصوف بالامتداد: إمّا وصفه - وهو كونه مجهول الحال - فإنّه قابل للامتداد إلى أن يتبدل بنقيضه فتكون الغاية حداً للوصف المأخوذ في الموضوع، وإمّا حكمه بلحاظ امتداد الطهارة في زمان الجهل فتكون الغاية حداً لحكمه، ولا محذور في أن يكون العلم حداً للجهل، أو يكون حداً للحكم الاعتباري، فيكون الجهل قيداً للموضوع أو الحكم، فيكون القيد فيهما جعلياً والغاية حينئذٍ عقلية، بداهة انتفاء الشيء عند تبدله بنقيضه سواء كان موضوعاً أم حكماً، وحيث إن القيد كان هو الجهل أوجب أن يكون الحكم ظاهرياً.

القول الثالث: الدلالة على الطهارة الواقعية فقط

وهو ما ذهب إليه صاحب الحدائق(1)،

بأنّ الشيء المجهول طاهر واقعاً، فإذا علم بأنّه كان قد لاقى النجس صار نجساً من حين العلم.

وقد يستدل له بأنّ «قذر» في آخر الحديث يراد به النجاسة الواقعية، فهكذا «نظيف» في صدره للتقابل بينهما.

وهذا في نفسه لا محذور فيه، إلاّ أنّه لا يمكن حمل الروايات عليه لاستلزامه المحذور ثبوتاً وإثباتاً.

فأوّلاً: قوله (علیه السلام): «حتى تعلم أنّه قذر» ظاهر في أنّ هناك قذارة قد يتعلق العلم بها وقد تكون مجهولة، فلا محيص حينئذٍ عن حمل «نظيف» على

ص: 56


1- الحدائق الناضرة 1: 136-137.

الطهارة الظاهرية.

وثانياً: روايات استصحاب الطهارة تدل على وجود اليقين بالطهارة والشك فيها، مع أنّه لو كانت الطهارة واقعية حين الجهل فلا معنى للشك كما لا معنى للاستصحاب حينئذٍ لأنّ نفس الجهل موضوع الطهارة الواقعية فلا وجه للتعبد بها عبر الاستصحاب.

وثالثاً: ما في البحوث(1)

من أنّ العلم بالقذارة إمّا طريقي أو موضوعي:

فأمّا الطريقي - بأن كانت الغاية نفس القذارة أي كل شيء طاهر حتى يقذر - فهو غير معقول ثبوتاً إذ هو أخذ أحد الضدين أو النقيضين في موضوع الآخر، ولغو إثباتاً إذ من المعلوم انتهاء كل شيء بحدوث نقيضه أو ضده.

وأمّا الموضوعي - بأن كان العلم بالقذارة موضوعاً في الحكم بالطهارة الواقعية - فهو غير معقول ثبوتاً وغير عرفي، أمّا الأوّل فللزوم أخذ العلم بالنجاسة في موضوعها سواء قلنا بكون النجاسة تكوينية كشف عنها الشارع، أم قلنا بكونها مجعولة اعتباراً لاستحالة أخذ العلم بالحكم - بمعنى المجعول - في موضوع نفسه، اللّهم إلاّ أن يراد أخذ العلم بالجعل في فعلية المجعول، فهو وإن كان معقولاً في نفسه إلاّ أنّه خلاف الظاهر، حيث إنّ ظاهره أخذ العلم بالقذارة المجعولة غاية للحكم بالطهارة، لا أخذ العلم بجعل النجاسة وتشريعها. وأمّا الثاني: فلأنّ المرتكز في أذهان العرف أنّ النجاسة والطهارة الواقعيتين أمران مطلقان لا يختلفان من شخص لآخر

ص: 57


1- بحوث في علم الأصول 6: 108-109.

عكس الأحكام الظاهرية.

وفيه: أوّلاً: إنّ القيد ليس داخلاً في الموضوع حتى يستلزم أخذ أحد الضدين في موضوع الآخر، بل التقيد داخل والقيد خارج، كما أنّه ليس بلغو إذا أريد بيان حالة الشك وأنّ العلم سبب للقذارة الواقعية فكأنّه قال: كل شيء طاهر واقعاً حتى يقذر بسبب العلم، فتأمل.

وثانياً: إنّه ليس أخذاً للعلم بالنجاسة في موضوعها، بل هو أخذ العلم بكونه بولاً أو دماً - مثلاً - في موضوع النجاسة والتعبير عرفي، وأمّا ارتكازه في أذهان عرف المتشرعة فلعله لأجل فتاوى الفقهاء مما ولّد ارتكازاً.

وعليه فالأولى الإشكال عليه بما مرّ في الإشكالين الأوّلين.

القول الرابع: الدلالة على الطهارة الظاهرية والاستصحاب

وقد نسب إلى صاحب الفصول، فعنه أنّه قال: «الرواية تدل على أصلين: الحكم الأوّلي للأشياء ظاهراً هي الطهارة مع عدم العلم بالنجاسة وهذا لا تعلّق له بمسألة الاستصحاب، وأنّ هذا الحكم مستمر إلى زمن النجاسة، وهذا من موارد الاستصحاب وجزئياته»(1).

وظاهره أنّ قوله (علیه السلام): «كل شيء نظيف» مثلاً يدل على الأصلين، وقوله (علیه السلام): «حتى تعلم...» غاية لهما، وهذا يخالف مبناه بعدم إمكان استعمال اللفظ في أكثر من معنى إذ لا جامع بين أصل الطهارة وبين استمرارها، ولذا أوّله بعضهم بأنّ مراده تعدد الدال والمدلول؟ لكن لا وجود لدال آخر ليتعدد!

ص: 58


1- الفصول الغروية: 373.

وعلى كل حال فيرد عليه...

أوّلاً: إنّ الحكم باشتراط الطهارة الظاهرية بالجهل بالواقع غايته نسخ هذا الحكم، لا العلم بالنجاسة، إذ مع العلم يتبدل الموضوع من مشكوك النجاسة إلى معلوم النجاسة لا أنّ الحكم يتغيّر.

اللهم إلاّ أن يقال: إنّ الحكم الكلي مرآة للأحكام الجزئية في تطبيقه عليها، وحينئذٍ فغاية الحكم الجزئي هو العلم ولو كان لأجل تبدل الموضوع حينئذٍ، وحيث كان محذور في حمل «حتى تعلم» على كونه غاية لأصل الحكم، وذلك للعلم بأنّه مستمر إلى النسخ لا إلى العلم، لذا لا بدّ من حمله على كونه غاية للمصاديق وموارد التطبيق، فتأمل.

وثانياً: امتناع كون «حتى تعلم» غاية لكلا الحكمين، لأنّ الحكم باستمرار الطهارة متأخر عن الحكم بها، لتفرعه عليها، فإذا جعلت الغاية غاية للحكم بأصل الطهارة امتنع أن تجعل غاية للحكم باستمرارها حيث إنّه يستلزم استعمال اللفظ في معنيين طوليين، وهو ممتنع.

وفيه: إنّ طبيعي العلم بالنجاسة لا محذور في جعله غاية لأمرين طوليين فمصداق من مصاديق العلم غاية للطهارة ومصداق آخر غاية لاستمرارها، كما مرّ نظيره في الخبر مع الواسطة مع العلم بأنّ الأمرين الطوليين لا يجتمعان في مورد واحد لأنّ أصل الحكم بالطهارة ليس في مورد استصحابها، وحتى لو فرض اجتماع أصل الطهارة واستصحابها فإنّه لا محذور في جعل العلم غاية لكليهما معاً، لأنّ الطولية حينئذٍ رتبيّة لا خارجية حيث اجتمعا معاً، وحتى لو كانت خارجية فهو من التقدم الطبعي الذي يجتمع فيه الأمران كالواحد والاثنين.

ص: 59

وثالثاً: إنّ ظاهر الحديث هو جعل الطهارة المستمرة، لا الاستمرار في الطهارة، فلا دلالة له على الاستصحاب.

القول الخامس: الدلالة على الطهارة الواقعية والاستصحاب

وهو الذي ذهب إليه المحقق الخراساني.

واستدل له بدليلين:

الدليل الأوّل: ما في الكفاية(1)

وحاصله: تعدد الدال والمدلول بأن يكون الصدر «كل شيء نظيف» يدل على الطهارة الواقعية، وذلك لأنّ الكلمات موضوعة لمعانيها بما هي هي، لا بما هي معلومة، فالشيء هو الشيء بما هو هو طاهر وهذا هو الطهارة الواقعية، لا الشيء بما هو معلوم كي تكون الطهارة ظاهرية، وأن تكون التتمة «حتى تعلم أنّه قذر» غاية للطهارة، ومن المعلوم أنّ غاية الطهارة الواقعية هي ملاقاة النجاسة مثلاً سواء علم بها أم لا، فالعلم بالنجاسة غاية للطهارة الظاهرية، وعليه فقوله: «حتى تعلم...» يراد به استمرار الطهارة ظاهراً إلى حين العلم بالنجاسة حيث إنّ العلم يكون غاية لأمر تعبدي لا واقعي.

وأشكل عليه: أوّلاً: إنّ معنى ذلك أن يكون المجعول في المغيّى هو الطهارة الواقعية حقيقة والمجعول في الغاية هو الطهارة الواقعية ظاهراً، فما هو قابل للبقاء غير مقصود في المغيّى وما هو المقصود في المغيّى غير قابل لمثل هذه الغاية، وهذا ينافي تبعية الغاية للمغيّى.

وأجيب: بأنّ الباقي هو الطهارة الواقعية حقيقة إلاّ أنّ البقاء ظاهري،

ص: 60


1- إيضاح كفاية الأصول 5: 15-17.

فالغاية تابعة للمغيّى حينئذٍ.

وثانياً: إنّ ظاهر الغاية أنّها غاية للطهارة المجعولة في الصدر، لا غاية لاستمرارها، فإنّ الاستمرار إنّما يستفاد بعد ذكر الغاية، فهو متأخر عن نفس الغاية إثباتاً، فلا يمكن أن تكون الغاية غاية له!

وفيه: إنّ استفادة الاستمرار من الغاية إنّما هو بنحو الكشف، فلا محذور في أن تكشف عن إرادة الاستمرار في الصدر وتكون واقعاً غاية له، فهو متأخر عنها إثباتاً ومتقدم عليها ثبوتاً كالنار الذي يدل عليها الدخان، فتأمل.

وثالثاً: إن دلالة الغاية على الحكم الظاهري قرينة على المراد من المغيّى عرفاً، وهذا أقرب للظهور من فصل الغاية عن المغيّى.

الدليل الثاني: لا محذور في أن يكون الصدر دالاً على الطهارة الواقعية، ومجموع الكلام - بصدره وذيله - دالاً على الاستمرار بالالتزام، لأنّ حدوث شيء في زمان وارتفاعه في زمان آخر يدل بالالتزام على استمراره إلى زمان الارتفاع.

لا يقال: إن الاستصحاب استمرار تعبدي وهذا المعنى لازم عقلي منتزع عن مدلول اللفظ.

فإنّه يقال: إنّ منشأ هذا اللازم العقلي هو التعبد الشرعي، فلا بأس بدلالته على أمر تعبدي.

ويرد عليه: ما مرّ من أنّ العلم لا يكون غاية للطهارة الواقعية.

القول السادس: الدلالة على الطهارتين والاستصحاب

أي دلالة الصدر على الطهارة الواقعية والظاهرية ودلالة التتمة على

ص: 61

الاستصحاب.

وهو ما ذهب إليه المحقق الخراساني في حاشية الرسائل(1)،

وذلك لأنّ الشيء له عموم أفرادي - أي كل ما ينطبق عليه عنوان الشيء - ، كما له إطلاق أحوالي فيشمل حالة الشك في الطهارة وعدمها، فبالأوّل جعلت الطهارة الظاهرية، وبالثاني الواقعية.

وحيث إنّ جهة الشك من حالات المكلف لا من أحوال الشيء، عدل إلى بيان آخر حاصله: أنّ الأشياء قد تكون محكومة بالطهارة بعناوينها الأوّلية، وقد يلازمها الشك دائماً في طهارتها فتكون محكومة بالطهارة بعناوينها الثانوية كالمياه الكبريتية، ومفهوم الشيء بنفسه يشملهما بالعموم الأفرادي من غير حاجة إلى إطلاق أحوالي، فكلاهما محكوم بالطهارة لكن أحدهما بالطهارة الواقعية، والآخر بالطهارة الظاهرية.

وأشكل عليه - مضافاً إلى ما ورد على القول الرابع والخامس حيث إنّ هذا القول مجمع لهما -(2):

باستحالة ذلك، لتقدم الحكم الواقعي على الظاهري بمرتبتين، ويستحيل إيجاد المختلفين في الرتبة بجعل واحد، لاستلزامه تقدم المتأخر أو تأخر المتقدم.

وأجاب المحقق الإصفهاني(3)

عن الإشكال بما حاصله: إنّ المتأخر رتبة إنّما هو المعنون الذي هو في الخارج لا العنوان الذي هو في النفس،

ص: 62


1- درر الفوائد في الحاشية على الفرائد: 312-314.
2- فوائد الأصول 4: 368؛ نهاية الأفكار 4[ق1]: 68-69.
3- نهاية الدراية 5: 95-96.

لأنّ الحكم في النفس، فهو متقوّم بموضوع نفسي لا بموضوع خارجي، فالطهارة الواقعية اعتبار مجعول وكذا الطهارة الظاهرية، ولا ترتب بينهما في النفس، فصورة الطهارة الواقعية وصورة الشك فيها في مرتبة واحدة في نفس الحاكم، فالشك هنا عنواني وليس هو الشك المعنون القائم بالمكلف الذي هو شيء تكويني خارجي، وعليه ففي نفس الحاكم التقدم والتأخر بينهما طبعي - كتأخر الاثنين عن الواحد - مع اجتماعهما في الوجود، فيمكن جعلهما بجعل واحد.

إن قلت: إنّ موضوع الأحكام الوضعية هي المعنونات والموجودات الخارجية لا العناوين، فالشك الخارجي هو موضوع قاعدتي الطهارة والحلّ، وأمّا الشك العنواني القائم بنفس الحاكم فليس موضوعاً لهما، وإنّما هو مرآة للنظر إليهما لأنّ ما تقوم به المصلحة هو المعنون لا العنوان.

قلت: إنّ الحكم حيث كان اعتباراً وهو في عالم الذهن فلا يعقل أن يكون موضوعه من عالم الخارج وإلاّ لزم الانقلاب وهو محال، نعم هو يؤخذ مرآة لما في الخارج، لكن مرآتيته لا تنافي كون الموضوع للحكم هو الشيء الذهني أي العنوان، ولا تقدم وتأخر فيه، فتأمل.

وعليه فالجواب تام والإشكال غير وارد، إلاّ أنّ إرادتهما معاً خلاف الظاهر وبقرينة الغاية، فالإشكال إثباتي لا ثبوتي، وأمّا الدلالة على الاستصحاب فقد مرّ الإشكال فيه.

ص: 63

فصل في استصحاب الحكم الشرعي المستند إلى حكم العقل

وذلك في ما لو قلنا بقاعدة الملازمة، وقد يقال: بعدم جريان الاستصحاب لو حصل الشك حينئذٍ، واستدل له بأمور، منها:

الدليل الأوّل: إن العقل لا يحكم إلاّ مع الجزم، ومع تغيّر خصوصية يشك في كونها مقوماً أم لا ينتفي حكم العقل قطعاً، وحيث إنه كان العلة في حكم الشرع - طبقاً لقاعدة الملازمة - فبانتفاء العلة ينتفي المعلول.

والحاصل: إنّ حكم العقل لا يحصل فيه الشك أبداً، فإنّه لو استمرت جميع الخصوصيات استمر القطع بحكمه، وإن تبدلت بعضها حصل القطع بعدم حكمه، فيتبعه حكم الشرع في كلا الحالتين - أي الحكم وعدم الحكم - .

وأورد عليه: أوّلاً: إنّه لا محذور في كون ملاك حكم الشرع ابتداءً هو حكم العقل، وكون ملاكه استمراراً هو الاستصحاب بأدلته الشرعية، فزوال العلة لا يستلزم زوال المعلول إذا خلفتها علة أخرى في الاستمرار، ولا يشترط كون علة الحدوث علة البقاء، ومع تغيّر الخصوصية لا يحكم العقل لا أنه يحكم بالعدم وذلك لعدم علمه بكونها مقوماً أم غير مقوم، ومع عدم حكمه نشك في حكم الشرع فيدخل المورد تحت عموم أدلة الاستصحاب.

وبعبارة أخرى: إن الملازمة من طرف الوجود، لا من طرف العدم، فكلّما حكم به العقل حكم به الشرع - بناءً على قاعدة الملازمة - ، لكن

ص: 64

ليس كلّما لم يحكم العقل لم يحكم الشرع، فأكثر الأحكام الشرعية لا يدرك العقل ملاكاتها.

وبعبارة ثالثة: إنّ العقل يحكم بالقدر المتيقن مع إمكان أن يكون ملاك الحكم أوسع دائرة مما أدركه.

هذا مضافاً إلى إمكان تعدد الملاكات فأدرك العقل أحدهما ولم يدرك غيره، فمع احتمال وجود ملاك آخر يحتمل استمرار الحكم الشرعي فيدخل المورد في عموم دليل الاستصحاب.

وثانياً: إن القيود المأخوذة في حكم العقل مقوّمة لحكمه دائماً، فإذا انتفى أحدهما لم يحكم قطعاً، إلاّ أنه في الحكم الشرعي يدور الموضوع مدار العرف فإن اعتبره غير مقوّم جرى الاستصحاب فيه.

اللّهم إلاّ أن يقال: أن العرف مرجع في التحديد في ما لو كان الحكم ملقى إليه، وأمّا لو لم يكن الحكم ملقى إليه فلا مرجعية له، وفي ما نحن فيه استفيد الحكم من استقلال العقل بحكم واستقلاله بقاعدة الملازمة، ومع تغيّر إحدى الخصوصيّات يشك في كونها مقوماً أم لا فلا يجري دليل الاستصحاب لكون المورد شبهة موضوعية له، فتأمل.

الدليل الثاني: ما في الرسائل قال: «لأن الجهات المقتضية للحكم العقلي للحسن والقبح كلّها راجعة إلى قيود فعل المكلف الذي هو الموضوع، فالشك في حكم العقل حتى لأجل وجود الرافع لا يكون إلاّ للشك في موضوعه، والموضوع لا بدّ أن يكون محرزاً معلوم البقاء في الاستصحاب»(1).

ص: 65


1- فرائد الأصول 3: 38.

وحاصله: أنّ الخصوصية المتغيّرة أو المشكوك بقاؤها مقومة للموضوع فلا مجال للاستصحاب، ووضّحه في المنتقى «بأنّ الحكم العقلي بالقبح لم يتعلّق بالصدق حال إضراره - مثلاً - كي يقع الكلام في أنّ جهة الضرر مقومة عرفاً أو ليست مقومة، بل ليس لدينا إلاّ حكم العقل بحسن الإحسان وقبح الظلم، والحكم بقبح الصدق المهلك من باب أنه مصداق للظلم القبيح، والحكم بحسن الكذب النافع من باب أنه مصداق الإحسان الحسن عقلاً، إذن فمتعلق الحكم العقلي هو نفس الخصوصية، وهذه الأفعال مصاديق لها، ويتبعه بذلك الحكم الشرعي، فالحرام هو الظلم والمحبوب هو الإحسان... الخ»(1).

وبعبارة أخرى - كما قيل -: إن علة الحكم العقلي هي موضوع الحكم أو مصداق له، عكس الحكم الشرعي فالعلة - التي هي ملاكات الأحكام - تختلف عن موضوعاتها، وفي ما نحن فيه اجتماع جميع الخصوصيات كانت علة لحكم العقل فكل الخصوصيات جزء من موضوع حكمه، فتأمل.

الدليل الثالث: ما في نهاية الدراية(2)

وحاصله: إنّ حكم العقل ليس متعلقاً للفعل بما هو هو وبوجوده الواقعي، بل بما هو معلوم، فالصدق المضرّ ليس قبيحاً في نفسه وإنّما الصدق المعلوم ضرره، وذلك لأنّ القبح والحسن لا يتعلقان إلاّ بالفعل الاختياري، وذلك لا يكون إلاّ في مورد العلم، وفي ما نحن فيه الشك في بقاء الخصوصية - كالإضرار - قطع بعدم الموضوع للقبح،

ص: 66


1- منتقى الأصول 5: 19.
2- نهاية الدراية 5: 24-25.

فلا يحكم العقل حينئذٍ، وبذلك ينتفي مناط حكم الشرع.

ويرد عليه: أن الفعل الاختياري لا ينحصر في مورد العلم، بل يكفي فيه مجرد الالتفات والقصد، وهذا ما يتحقق عند الشك أيضاً، مثلاً من شك في أن الطعام مسموم أم لا ومع ذلك أطعمه لغيره فمات اعتبر قاتلاً عن اختيار، وترتب عليه أحكام قتل العمد، وذلك لالتفاته وقصده حتى مع عدم علمه، وفي ما نحن فيه: مع الشك في أن الصدق مضرّ، لا قطع بزوال الموضوع، لتحقق الالتفات والقصد.

هذا مضافاً: إلى عدم كفاية الدليل بل لا بدّ له من تتمة، فإنّ مجرد تبدّل الموضوع بالدقة العقلية لا يكفي لعدم جريان الاستصحاب، بل لا بدّ من إثبات أن هذه الخصوصية مقومة بنظر العرف أو إثبات أنه لا دخل لنظر العرف في أمثال هذا.

تكملة: لا فرق في ما ذكر بين كون الحكم الشرعي المستند إلى الحكم العقلي وجودياً أم عدمياً مع استناد العدم إلى القضية العقلية، ومثّل له الشيخ الأعظم بقوله: «كعدم وجوب الصلاة مع السورة على ناسيها، فإنه لا يجوز استصحابه بعد الالتفات، كما صدر عن بعض من مال إلى الحكم بالإجزاء في هذه الصورة وأمثالها من موارد الأعذار العقلية الرافعة للتكليف مع قيام مقتضيه»(1).

وأشكل في المنتقى(2)

على المثال: بالفرق بين ناسي السورة وبين ما مرّ

ص: 67


1- فرائد الأصول 3: 39-40.
2- منتقى الأصول 6: 23.

بما حاصله: أنّ القبح هناك يتعلّق بفعل المكلّف، وأمّا القبح هنا فيتعلق بفعل الشارع، ولا يخفى أن المكلف بالإضافة إلى التكليف من قبيل الموضوع، لا من قبيل المتعلّق، إذن فالنسيان مأخوذ في موضوع عدم التكليف لا في متعلّقه، فلا يتأتي هنا ما ذكر في منع جريان الاستصحاب هناك، لأن ذلك يتفرع على كون الخصوصية المقومة للقبح العقلي إمّا نفس المتعلّق أو دخيلة فيه، وليس النسيان كذلك فإنه مأخوذ في موضوع عدم التكليف، وعليه: فجريان أو عدم جريان الاستصحاب لا بدّ من إرجاعه إلى أن العرف هل يرى النسيان مقوماً أو غير مقوم!

ثم قرر الاستصحاب في المثال: إمّا بلحاظ الجعل أي حال ما قبل الشرع، وإمّا بلحاظ المجعول أي عدم الحكم الفعلي على الناسي حيث يشك في فعليته بعد التذكر.

أقول: الأقرب أن الفرق المذكور غير فارق، فإنّ القبح في مثال الناسي وإن لم يكن حكماً لفعل المكلف، إلاّ أن موضوع الحكم بعدم التكليف هو المكلّف الناسي، وكونه ناسياً متعلّق الموضوع، فيكون مقوماً، فلا يجري الاستصحاب حين تبدله إلى المتذكر، فتأمل.

ص: 68

فصل في الاستصحاب مع الشك في المقتضي

اشارة

ذهب جمع كالشيخ الأعظم بعدم حجيّة الاستصحاب مع الشك في المقتضي، مع اتفاق القائلين بحجيّة الاستصحاب على جريانه في الشك في المانع.

وغير خفي أنّ المراد من المقتضي هنا ليس المقتضي في باب المعقول الذي هو أحد أجزاء العلة التامة، وهو السبب الذي يترشح منه الأثر إذا تقارن مع الشرط وعدم المانع(1)،

ولذا ذهب القائلون بعدم حجيّة الاستصحاب في الشك في المقتضي إلى جريانه مع الشك في العدميات، وجريانه في الأحكام الشرعية التي هي مجعولات شرعية وليست أسباباً تكوينية لتكون مقتضياً بهذا المعنى.

كما لا يراد به ملاك الحكم وذلك لجريان الاستصحاب في الموضوعات وهي لا ملاك لها بل لها علل تبقى ببقائها وتنتفي بانتفائها، ولأنّ ذلك يؤدي إلى عدم جريان الاستصحاب إلاّ نادراً لعدم العلم

ص: 69


1- السبب هو: المؤثر الذي يلزم من عدمه عدم المعلول ومن وجوده الوجود لو اقترن بالشرط وعدم المانع، كالنار للإحراق. والشرط هو: الذي يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده الوجود، كالقرب من النار. والمانع: عكسه، أي الذي يلزم من وجوده العدم، ولا يلزم من عدمه الوجود، كرطوبة المحترق.

بالملاكات غالباً.

بل المراد به القابلية للبقاء في نفسه، ويضاده ما لا قابلية له في البقاء، قال الشيخ الأعظم: «الشك في بقاء المستصحب قد يكون من جهة المقتضي، والمراد به: الشك من حيث استعداده وقابليته في ذاته للبقاء، كالشك في بقاء الليل والنهار، وخيار الغبن بعد الزمان الأوّل، وقد يكون من جهة طرو الرافع مع القطع باستعداده للبقاء، وهذا أقسام... الخ»(1).

ويمكن التمييز بينهما بأن يقال: إنّ الشيء إمّا لا يكون مغيّىً بغاية فالشك فيه شك في الرافع، وإمّا أن يكون مغيّىً وعلم بعدم تحقق الغاية فالشك في الرافع أيضاً، وإمّا يكون مغيّىً ومنشؤ الشك هو الشك في تحقق الغاية من جهة الشبهة الموضوعية أو الحكمية المفهومية أو الحكمية من جهة إجمال النص أو تعارض النصين وذلك كله من الشك في المقتضي.

ومثال الأوّل: الشك في وجوب أداء الأمانة لو التحق المالك بدار الحرب، ومثال الثاني: الشك ظهراً في وجوب الاستمرار في الصوم من جهة الشك في الوصول إلى حدّ الترخص، ومثال الثالث: ما لو علمنا بأنّ غاية الصوم ذهاب الحمرة المشرقية وشككنا في ذهابها الآن، ومثال الرابع: ما لو علمنا بأنّ غاية الصوم الليل وشككنا في تحققه من جهة الشك في أنّ الليل يبدأ من استتار القرص أو من ذهاب الحمرة، ومثال الخامس: لو شككنا في أنّ غاية صلاة العشاء منتصف الليل أو طلوع الفجر لاختلاف الأدلة.

وبعبارة أخرى: إنّ المستصحب تارة يكون باقياً بذاته لولا عروض

ص: 70


1- فرائد الأصول 3: 46-47.

العارض فالشك في بقائه شك في الرافع، وتارة يزول بنفسه لكونه زماناً أو مغيّى بزمان مع الشك في تحقق الغاية فالشك في بقائه شك في المقتضي.

وبهذا يتبيّن عدم ورود الإشكال على الشيخ الأعظم في المكاسب حيث أجرى استصحاب الملكية في المعاطاة مع الشك في استمرارها، وذلك لأن الملكية - حتى غير اللازمة منها - غير مغيّاة بزمان ولها قابلية الاستمرار فلا يكون الشك فيها إلاّ من جهة الرافع، ولم يجر الاستصحاب في خيار الغبن، وذلك لأن الشك إنّما هو في قابليته في الاستمرار بعد الفور فليس الشك فيه إلاّ من جهة الشك في المقتضي، والذي على حسب مبناه لا يجري الاستصحاب فيه.

وأمّا ما استدل به على عدم حجيّة الاستصحاب مع الشك في المقتضي، فلا بدّ قبل ذلك من البحث في كلمات قوله (علیه السلام): «لا تنقض اليقين بالشك» لنرى مدى دلالتها، فهل هي خاصة بحالة الشك في الرافع أم أنّ لها إطلاقاً يشمل الشك في المقتضي أيضاً، والكلام في مقامات ثلاث.

المقام الأوّل: في النقض
اشارة

والكلام تارة في معناه الحقيقي. وأخرى في معناه المجازي والعلاقة المصحِّحة له. وثالثة: في نقض اليقين وأنّه بمعناه الحقيقي أم المجازي، فهنا أمور:

الأمر الأوّل: في معناه الحقيقي

إنّ (النقض) ضد (الإبرام)، ولا يصدق الإبرام إلاّ مع وجود هيئة اتصالية، فالنقض هو إزالة هذه الهيئة، فيقال: نقضت البناء والخيط والعظام ونحوها،

ص: 71

لما في ذلك من قطع الهيئة الاتصالية، كما قال الله تعالى: {كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَٰثًا}(1).

وقد يقال: إنّ الاستحكام مأخوذ في معنى الإبرام، والشدة في مفهوم النقض، فليس كل تخريب للهيئة الاتصالية نقضاً فلذا لا يقال: نقض الرمل ولا نقض الماء لعدم استحكامهما ولعدم الشدة في قطع هيئتهما، وأمّا مثل: (نقض الصف) فلأنّ للصف هيئة اتصالية مستحكمة اعتباراً.

وقد يقال: بأنّ الهيئة الاتصالية تقتضي أن يكون الشيء المبرم ذا أجزاء متصلة بعضها بالبعض، لأنّ البسيط لا هيئة اتصالية فيه.

وفيه: أنّ الهيئة الاتصالية كما تكون في ذات الشيء وذلك لا يكون إلاّ إذا كان ذا أجزاء، كذلك تكون في ما ينتزع منه، فالبسيط باعتبار عمود الزمان له هيئة اتصالية.

وعليه فإن النقض كما يصدق في الأمور الخارجية، كذلك يصدق بمعناه الحقيقي في الأمور النفسية.

ومن ذلك يتبيّن أنّ انتهاء أمد الشيء ليس بنقض كما لو انتهى من الصلاة بالسلام أو حلّ الليل بانتهاء النهار، وذلك لعدم وجود هيئة اتصالية حينئذٍ بعد انتهاء الأمد.

الأمر الثاني: في استعماله المجازي

إذا انتهى أمد الشيء بنفسه، أو كان مستمراً في الوجود، فإنّ استعمال النقض فيه مجاز لعدم وجود هيئة اتصالية في الأوّل، ولبقائها في الثاني.

ص: 72


1- سورة النحل، الآية: 92.

والظاهر أنّ العلاقة المجازية في استعمال النقض في الأوّل هو توهم أو توقع أو احتمال قابليته للاستمرار، وفي الثاني عدم ترتب الأثر عليه.

وأمّا من اشترط وجود الأجزاء في الاستعمال الحقيقي فقد ذهب إلى أن استعماله في البسائط مجاز، فيكون استعماله في الصفات النفسانية - التي هي بسائط - مجازاً، فلا بدّ من علاقة مجازية مصححة.

فمن زالت ملكة الشجاعة فيه وأصبح جباناً لم تكن هناك هيئة اتصالية لعدم وجود أجزاء للملكة فزوالها ليس نقضاً، ومع ذلك يحسن استعمال النقض فيها مجازاً.

والظاهر أنّ العلاقة المصححة هي الاستحكام تارةً، والاستمرار أخرى، وعدم ترتب الأثر ثالثةً، لأنّ صحة الاستعمال المجازي يرتبط بذوق العرف، وهذا الذوق لا بدّ أن ينشأ من علاقة مصححة، ولا يشترط وحدة هذه العلاقة في كل موارد الاستعمال، بل يصح وجود أيِّ واحد منها في الاستعمالات المختلفة مع انسجامها مع الذوق العرفي، فالملكات النفسانية لها جانب استحكام فزوالها نقض مجازي - على هذا المبنى - والعلاقة استحكامها تارة، واستمرارها أخرى، وعدم ترتب أثرها ثالثة كالشجاع الذي لم يدافع فهو قد نقض شجاعته.

الأمر الثالث: النقض في اليقين

مما ذكرنا يتبيّن أنّ نقض اليقين إنّما هو بمعناه الحقيقي، وذلك لأنّه وإن كان بسيطاً إلاّ أنّ له هيئة اتصالية انتزاعية باعتبار عمود الزمان، فيقال: نقض فلان يقينه أي أزاله عبر التشكيكات مثلاً، واليقين منتقض باعتبار زواله.

وعليه فالنهي عن نقضه مع زواله مجاز في استعمال مادة النقض، لأنّه

ص: 73

بمعناه الحقيقي محال أو لغو حيث إنّه الطلب بتحصيل الحاصل، فلا بدّ من علاقة مصححة، وتلك العلاقة هي ترتيب الآثار، فليس المجازية في استعمال النقض في اليقين إذ ذاك استعمال حقيقي، وإنّما هي في استعمالها في الزائل، وحيث أريد إبقاء آثاره، فالذي كان على يقين من وضوئه صباحاً ثم شك في بقائه ظهراً فأمره دائر بين يقين باق هو يقينه بأنّه كان في الصباح متوضأً وبين شك في كونه على طهارة ظهراً، فذاك اليقين مستمر وهذا الشك لم يسبقه يقين، إلاّ أنّه صحّ استعمال النقض باعتبار عدم ترتيب آثار اليقين ظهراً.

بل يمكن القول بعدم المجازية أيضاً، وذلك لحمل كلامه (علیه السلام): «لا تنقض اليقين بالشك» على الحكومة، بأن اعتبر الشارع شكه يقيناً وذلك لترتيب آثار اليقين عليه، فالمعنى حينما كنت على يقين فشككت فاعتبر نفسه متيقناً ولا تنقض يقينك، فتأمل.

ومن ذلك يتبيّن أنّ المجازية ليست في استعمال النقض في اليقين بل في استعماله في اليقين الزائل باعتبار الآثار المترتبة عليه، أو هو ليس بمجاز في الرواية أصلاً.

المقام الثاني: في معنى اليقين

قد يقال: إنّ اليقين في قوله (علیه السلام): «لا تنقض اليقين بالشك» يراد به إمّا المتيقن مجازاً أو كنايةً، وإمّا المعنى الحقيقي لليقين، وإمّا الحجّة.

الاحتمال الأوّل: استعمال اليقين في المتيقن مجازاً، لوجوه:

منها: إنّه لا قدرة على نقض اليقين لأنّه يستند إلى أسبابه التكوينية

ص: 74

الخارجة عادة عن قدرة الإنسان، كمن يرى طلوع الشمس فيحصل له اليقين من غير اختياره، نعم يمكن في حالات قليلة إزالة اليقين بإزالة أسبابه التكوينية، لكن ذلك غير مقصود في الرواية قطعاً، فلا بدّ من حمل اليقين على المتيقن.

وفيه: أنّ المتيقن كذلك، فنقضه غير مقدور، لأنه إمّا حكم شرعي ونقضه بيد الشارع بالنسخ فقط، وإمّا موضوع خارجي وهو في كثير من الأحيان غير مقدور للمكلّف كالليل والنهار، فلا بدّ من أن يكون المراد عدم ترتيب الآثار سواء أريد باليقين نفسه أم المتيقن، فلا وجه للحمل على المجاز.

ومنها: إنّ المقصود في الحديث ترتيب آثار المتيقن - الوضوء مثلاً - لا اليقين بما هو يقين، وإلاّ لزم ترتيب آثار القطع الموضوعي دون القطع الطريقي.

وفيه: أوّلاً: إنّه حيث أريد عدم نقض الآثار فإنّ آثار المتيقن هي آثار لليقين أيضاً، وأنّه مع ارتفاع المتيقن يرتفع اليقين عادة، للتلازم بينهما إلاّ في صورة الجهل المركّب، وعليه فنقض اليقين عملاً كما يكون بعدم ترتيب آثار اليقين بنفسه كذلك يكون بعدم ترتيب آثار المتيقن باعتبار أنّها من آثار اليقين أيضاً.

وثانياً: عدم مناسبته مع الحديث حيث قال (علیه السلام): «لأنّك كنت على يقين من وضوئك ولا ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك»، فإنّ السياق يقتضي وحدة معنى اليقين في الجملتين، واليقين الأوّل لا معنى لأن يراد به المتيقن كما هو واضح بل أريد به اليقين بنفسه فكذلك الثاني.

ص: 75

الاحتمال الثاني: اليقين كناية عن المتيقن.

والكناية هي استعمال اللفظ في معناه فلا يكون مجازاً، لكن بالمراد الجدي أريد معنى آخر، مثل: (فلان كثير الرماد) استعملت كثرة الرماد في معناها مع إرادة السخاء جداً.

وفيه: مع عدم صحة الكناية هنا، أنّه لا فرق حينئذٍ بين إرادة اليقين أو المتيقن حسب الإرادة الجدية حيث إنّه إن أريد استفادة الاستحكام فكلاهما مستحكم، وإن أريد الجري العملي فكلاهما لا بدّ من الجري العملي طبقهما.

الاحتمال الثالث: اليقين بمعناه الحقيقي.

1- إمّا بما هو مرآة للمتيقن بمعنى أنّه لوحظ مفهوم اليقين مرآة لمفهوم المتيقن من باب أنّ مصاديقه مرآة لمصاديق المتيقن، فلذا عدم نقض اليقين يلازم عدم نقض المتيقن، وغير خفي أن كون الشيء مرآة لا ينافي ملاحظته في نفسه أيضاً ولا محذور في الجمع بين اللحاظين الآلي والاستقلالي كما مرّ تفصيله في بحث المعنى الحرفي.

إن قلت: إنّ مفهوم اليقين الموجود في ذهن الشخص ليس عين المتيقن لا بالحمل الأوّلي فإنّ اليقين عبارة عن الإنكشاف، ولا بالحمل الشائع حيث إنّه عبارة عن حالة في النفس متصوِّرة وجزء من ذهنه وأفكاره(1)

فكيف صار اليقين مرآة للمتيقن؟

قلت: إنّ مفهوم اليقين مرآة إلى مصاديقه الذهنية وهي مرآة إلى

ص: 76


1- مباحث الأصول 5: 239.

المصاديق الخارجية، وبذلك صحّ أن يقال: إنّ اليقين مرآة للمتيقن الخارجي، فتأمل.

2- وإمّا هو هو، لكن حيث أريد عدم النقض العملي فيعمّ آثار القطع الموضوعي والقطع الطريقي كما مرّ، وهذا هو الأقرب لأنه المعنى الحقيقي ولا محذور في الحمل عليه ولا قرينة على خلافه.

الاحتمال الرابع: اليقين بمعنى الحجة.

وقد استدل له في المنتقى(1)

بوجوه:

1- منها: إنّ التعليل المذكور - أي قوله: لأنّك كنت على يقين... - تعليل ارتكازي عقلائي وهو ما كان صادراً حسب المرتكزات العرفية بحيث يرى العقلاء مناسبة بين التعليل والمعلَّل، وهذا الكلام إذا ألقي إلى العرف يرى أنّ المقصود أنّ اليقين أمر مبرم محكم فلا ينقض بما ليس كذلك كالشك، وحينئذٍ لا يرى العرف خصوصية للشك وإنّما المناط هو عدم وجود الحجة المعتبرة، فيكون ذكر الشك بالخصوص لكونه أظهر مصاديق عدم الحجيّة.

2- ومنها: أنّ قوله: «لا تنقض اليقين بالشك» فيه ظهوران: ظهور (الباء) في السببيّة وظهور (الشك) في الصفة الوجدانية، ولا يمكن الالتزام بكلا الظهورين، لعدم الاطراد في بعض الموارد، كما لو استند النقض إلى غير الشك كالتماس مؤمن، فلا بدّ من التصرف في أحد الظهورين، إمّا بحمل الباء على الظرفية، وإمّا بحمل الشك على مطلق عدم الحجة، وغير خفي أنّ الثاني أولى، إذ لا بدّ لنا من رفع اليد عن معنى الشك وتعميمه للوهم والظن،

ص: 77


1- منتقى الأصول 6: 418-421.

وإنّما ذكر الشك لكونه أظهر مصاديق عدم الحجة - لأنّه الجهة المميزة له - فلا وجه بعد ذلك في التصرف في ظهور الباء في السببيّة.

3- ومنها: أنّ حجيّة اليقين مما لا شبهة فيها ولا إشكال، كيف وهي من المستقلات العقلية التي لا تنالها يد الجعل نفياً وإثباتاً، فلو كان المراد من اليقين في قوله: «ولكن تنقضه بيقين آخر» اليقين الوجداني لكان لغواً، إذ النقض باليقين لا يحتاج إلى بيان وتنبيه، لأنّه مسلّم لا ارتياب فيه

لا يقال: إنّ هذا القول ليس مفاده الاستدراك، وبيان ناقضية اليقين، بل المراد حصر الناقض في اليقين!

لأنّه يقال: إنّ كلمة (لكن) ظاهرة في الاستدراك - الذي هو دفع توهم نشأ من الكلام - و(اليقين) ظاهر في الوجداني، والجمع بين الظهورين ممتنع للزوم اللغوية، فلا بدّ من التصرف في أحدهما، وبمقتضى الوجوه المذكورة يتعيّن التصرف في ظهور (اليقين) ويبقى ظهور (لكن) على حاله.

وفي الكل تأمل:

أمّا الأوّل: فلأنّ الارتكاز وإن كان موجوداً إلاّ أنّه ليس بحيث يصرف لفظ اليقين عن ظاهره، وخاصة مع احتمال أن تكون علل خافية على الناس يكون بها التعبد أو هي جزء من أسبابه.

وأمّا الثاني: فلأنّ الشك لغة وعرفاً أعم من الشك المنطقي كما سيأتي في شروط الاستصحاب، وأنّ السببيّة قد تكون مباشرة وقد تكون غير مباشرة، ففي المثال فإنّ الشك يكون سبباً لاستجابة طلب المؤمن إذ لولا الشك لما استجاب، مع كفاية السببيّة الغالبة لعموم الحكم حتى في غير

ص: 78

مواردها.

وأمّا الثالث: فلأنّ معنى (لكن) لغة وعرفاً ليس هو الاستدراك بل العطف، واستفادة الاستدراك إنّما يكون من السياق، وعليه فلو دلّ السياق على الحصر فلا محذور فيه ولا تصرف في معناها، فتأمل.

المقام الثالث: أدلة عدم حجيّته
اشارة

وأمّا ما استدل به على أن الاستصحاب لا يجري مع الشك في المقتضي فوجوه، منها:

الدليل الأوّل: إنّ صدق النقض في اليقين مجازي لعدم كونه ذا أجزاء، ومجازيته بعلاقة الاستمرارية، وارتفاع اليقين قد يكون لأجل ارتفاع المتيقن من جهة انتهاء أمده وعدم استعداده للبقاء وهذا لا يصدق فيه نقض اليقين، وقد يكون لأجل ارتفاع المتيقن من جهة عروض مانع عن استمراره، وهذا هو الذي يصدق فيه نقض اليقين.

وعليه فقوله (علیه السلام): «لا تنقض اليقين بالشك» إنّما هو في دوران الأمر بين البقاء والانتقاض، وهذا لا يكون إلاّ مع الشك في الرافع، وأمّا مع الشك في المقتضي لا انتقاض إمّا للارتفاع بانتهاء الأمد، وإمّا لعدم الارتفاع، وكلاهما لا يعد نقضاً فلا يكون مشمولاً لدليل الاستصحاب(1).

ويرد عليه: مع قطع النظر عن الإشكال في المقدمات من عدم المجازية وعدم انحصار علاقة المجاز في الاستمرار...

أوّلاً: إنّ عدم صدق النقض باعتبار المتيقن لا يلازم عدم صدقه باعتبار

ص: 79


1- منتقى الأصول 6: 53-56.

اليقين، فإنّ لليقين قابلية الاستمرار في نفسه، والشك رافع لليقين فهو ناقض له وليس مجرد انتهاء أمده.

وثانياً: إنّ عدم صدق النقض على انتهاء الأمد وعدم صدقه مع استمرار الشيء قطعاً لا ينافي صحة صدقه مع دوران الأمر بينهما، فهو نظير القطع بأحد شيئين الذي لا ينافي الشك فيهما فلا يصح أن نقول: إنّه ليس بمشكوك لأنّه إمّا مقطوع كونه هذا أو مقطوع كونه ذاك، فالنقض التفصيلي غير صادق وهذا لا ينافي صدق النقض الإجمالي، لأن الشيء محتمل الاستمرار، وهذا المقدار يكفي في صحة إطلاق النقض عليه، فتأمل.

الدليل الثاني: إنّ اليقين بالحدوث موجود قطعاً، والشك إنّما هو في البقاء وهو شك في شيء آخر، كما أنّه لا هيئة اتصالية بين المتيقن والمشكوك، فلذا كان استعمال النقض مجازاً، وليست العلاقة إلاّ الاستمرار، فلا بدّ من وجود شيء يستمر ليصح إطلاق النقض حينئذٍ، وليس ذاك إلاّ المقتضي، فيكون المشكوك باعتبار وجود المقتضي فيه استمراراً للمتيقن، ولا توجد هذه العلاقة مع الشك في المقتضي.

وفيه: أوّلاً: إنّه لا بدّ في المجاز من وجود علاقة عرفية حتى لو لم تكن معلومة بالتفصيل إذ يكفي فيها الارتكاز الإجمالي، وليس الاستمرار عبر وجود شيء مشترك - هو المقتضي - بين المتيقن والمشكوك إلاّ تحليلاً عقلياً للعلاقة وهو غير عرفي.

وثانياً: ما مرّ من تعدد وجوه العلاقة ويمكن أن تكون هنا الاستحكام سواء في المرفوع أم في الرفع نفسه، واليقين فيه استحكام من جهة نفسه ومن جهة آثاره ولا يشترط فيه الاستحكام من جهة المتيقن، فتأمل.

ص: 80

وثالثاً: ما في الكفاية(1)

وحاصله: أنّ المناط في المجاز إنّما هو نظر العرف، وهو لا يرى فرقاً بين الطهارة صباحاً مع الطهارة مساءً مثلاً حيث يراهما شيئاً واحداً، ولا تفاوت في نظره بين ما إذا كان هناك مقتضٍ للبقاء أو لم يكن، نعم بالدقة العقلية فإن الشك في الرافع أقرب إلى المعنى الحقيقي من الشك في المقتضي، ولكن حيث كان المرجع هنا العرف فالأقربية إنّما تكون بنظره، وهو يرى عدم الفرق.

ورابعاً: أن هذا إرجاع للاستصحاب إلى قاعدة اليقين، أو إرجاعه إلى كبرى لها مصداقان أحدهما الاستصحاب والآخر القاعدة، وهذا مما لا يلتزمون به، فتأمل.

الدليل الثالث: ما عن المحقق النائيني: من «أنّ اليقين إنّما أسند إليه النقض باعتبار اقتضائه للجري العملي على طبقه بما أنّه طريق إلى المتيقن، لا بما هو هو وأنّه صفة نفسانية في حدّ ذاتها... وعلى ذلك فإن كان متعلّق اليقين غير محدود في عمود الزمان بغاية، فلا محالة يكون تعلّق اليقين به مقتضياً للجري العملي على طبقه على الإطلاق، ولا موجب لرفع اليد عنه حينئذٍ إلاّ الشك في الرافع، فيصدق عليه نقض اليقين بالشك حسب الجري العملي، وأمّا إذا لم يكن كذلك، بل احتمل كون المتيقن مغيىً بغاية، فلا محالة يكون مقدار المتيقن هو ما قبل الغاية المحتملة غائيته، وبالنسبة إلى ما بعدها لا مقتضي للجري العملي من أوّل الأمر، فعدم الجري بعدها ليس مستنداً إلاّ إلى قصور المقتضي وانتقاض اليقين بنفسه بحيث لو فرضنا عدم

ص: 81


1- إيضاح كفاية الأصول 4: 377-378.

الشك فعلاً لم يكن هناك مقتضٍ للجري»(1).

وحاصله: أنّ مقتضي المتيقن هو مقتضٍ لليقين، فيكون بقاؤه كأنّه بقاء لليقين أيضاً فلا ينقض بالشك، بخلاف موارد الشك في أصل وجود المقتضي لبقاء المتيقن.

وأشكل عليه(2) بما حاصله: إنّ مقتضي اليقين هو إحراز العلة التامة لحدوثه - من المقتضي والشرط وعدم المانع - وفقدان أيّ واحد منها يؤدي إلى عدم اليقين بالمقتضى، فليس مقتضي المتيقن مقتضٍ لليقين.

إشكال على التفصيل

ثم إن المحقق العراقي(3)

أشكل على التفصيل باستلزامه لسد باب الاستصحاب في الأحكام التكليفية بما حاصله: أنّه بعد تبعية التكاليف للمصالح والملاكات الكائنة في متعلقاتها لا يكاد مورد يشك فيه في بقاء الحكم الشرعي إلاّ ويشك في ثبوت الملاك الذي اقتضى حدوثه، وذلك لأنّ ملاكات الأحكام التكليفية كما أنّها مقتضيات لحدوثها كذلك هي مقتضيات لبقائها عكس ملاكات الأحكام الوضعية حيث إنّها علة للحدوث فقط، وعليه فالشك في الأحكام التكليفية مرجعه إلى الشك في وجود المقتضي - وهو الملاك - دائماً.

وليس مقصوده تفسير المقتضي بالملاك، كي يقال: بأنّ المراد من

ص: 82


1- أجود التقريرات 4: 69.
2- بحوث في علم الأصول 6: 162.
3- نهاية الأفكار 4[ق1]: 85-86.

المقتضي هو قابلية الاستمرار وليس الملاك، بل مقصوده بيان أنّه مع عدم وجود الملاك لا قابلية لاستمرار الحكم فالشك فيه يكون شكاً في قابليته للاستمرار.

والحاصل: أنّه لم يقم دليل على اختصاص الاستصحاب بالشك في الرافع، مع إطلاق دليله وشموله للشك في المقتضي أيضاً.

ولو فرض اختصاص الأحاديث التي اشتملت على كلمة النقض بالشك في الرافع ففي الأحاديث الأخرى كفاية مع اعتبار سندها ووضوح دلالتها، كما مرّ.

ص: 83

فصل في الاستصحاب في الشبهات الحكمية الكليّة

اشارة

ومنشأ الشبهة فيها إمّا فقدان النص أو إجماله أو تعارض النصين، ورفع هذه الشبهات بيد الشارع حصراً، وحيث إنّ هذا استنباط الحكم أو تعيين الوظيفة العملية فلذا لا بدّ فيه من الرجوع إلى الفقهاء حصراً، وليس كالشبهات الموضوعية التي تنشأ من الشك في انطباق الموضوع المعلوم المعالم على جزئياته، أو الشبهات الحكمية الجزئية التي مرجعها إلى الشك في الموضوع الجزئي مع عدم الشبهة في الحكم الكلي، فإن رفع الشبهة فيهما من وظيفة المقلّد لا الفقيه بما هو فقيه، كانطباق العدالة على زيد لمن يريد الصلاة خلفه، أو طهارة الماء المشكوك طهارته للشك في كونه كراً، أو للشك في ملاقاته للنجاسة ونحو ذلك.

ثم إنّ الظاهر جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية الكلية، كاستصحاب وجوب صلاة الجمعة في زمان الغيبة، واستصحاب نجاسة الماء المتغيّر بالنجاسة بعد زوال تغيّره بنفسه، وذلك لوجود المقتضي للاستصحاب وهو إطلاق دليله، وعدم وجود مانع يقتضي تقييد ذلك الإطلاق.

وأمّا القائلون بعدم جريان الاستصحاب فيها فاستدلوا تارة بعدم المقتضي، وأخرى بوجود المانع، فالكلام في مقامين:

ص: 84

المقام الأوّل: عدم وجود المقتضي

وقد استدل له في نهايه الأفكار: ب- «إنّ الشك في بقاء الحكم الكلي لأجل اختلاف الحالات وتبادلها راجع إلى الشك في بقاء موضوعه، لأنّ موضوع الأحكام الكليّة إنّما هو المفاهيم الكلية، وباختلاف القيود وتبادل الحالات يختلف المفهوم المأخوذ موضوعاً للحكم بعين اختلافه في مرحلة كونه معروضاً للحسن والقبح والمصلحة والمفسدة، فإذا شك في بقاء الحكم الكلي إمّا للشك في بقاء القيد المعلوم قيديته، أو لفقد ما يشك في قيديته أو لغير ذلك، يرجع هذا الشك لا محالة إلى الشك في بقاء موضوعه فلا يجري فيه الاستصحاب»(1).

وحاصله: عدم إمكان الشك في بقاء الحكم بدون تبدلٍ ما في الموضوع، إذ مع عدم التبدل لا يحصل شك، فيستمر الحكم من غير إشكال، وعليه فإن كان ما تبدّل قيداً فقد تبدّل الموضوع، فيكون الاستصحاب من إسراء حكم من موضوع إلى آخر، وإن لم يكن قيداً فلا، وحيث لا يعلم بالتبدل تكون شبهة في بقاء الموضوع، ومعها لا يصدق النقض فلا يجري دليل الاستصحاب على كل حال.

وأجاب عنه(2) بما حاصله: بالفرق بين قيود الحكم وقيود الموضوع، فإنّ مرجع كون الشيء إلى قيد الوجوب - مثلاً - إلى دخله بنحو العلية لأصل الاحتياج إلى الشيء الذي به يصير الشيء متصفاً بكونه ذات مصلحة

ص: 85


1- نهاية الأفكار 4[ق1]: 10.
2- نهاية الأفكار 4[ق1]: 11.

كالزوال والاستطاعة بالنسبة إلى الصلاة والحج، في قبال قيود الواجب الراجعة إلى دخلها في تحقق المحتاج إليه ووجود ما هو المتصف بالمصلحة فارغاً عن الاتصاف بكونه صلاحاً كالطهور والستر بالنسبة إلى الصلاة، ومن الواضح عدم صلاحية رجوع مثل هذه القيود في لب الإرادة إلى الذات المعروضة للمصلحة، لأنّ كون الشيء من الجهات التعليلية للحكم ومن علل اتصاف الشيء بكونه ذات مصلحة - وإن كان موجباً لضيق قهري في طرف الحكم والمصلحة ويمنع عن إطلاقهما، ويستتبع ذلك أيضاً نحو ضيق فرضي في طرف الذات التي هي معروض هذه المصلحة - لكن لا يكاد يقيد به الذات، لأنّه من المستحيل تقييد الموضوع بحكمه أو بما هو من علله.

والحاصل: أنّ الموضوع غير مقيد بها وإنّما هو حصة من الذات التوأمة مع الحكم على نحو القضية الحينيّة، وهذا وإن أوجب تعدد الموضوع بالدقة العقلية، لكن لا يلزم إلاّ الوحدة العرفية، وهي منحفظة مع وحدة الذات حتى مع تغيّر بعض الأعراض، ولولا ذلك لما كان هناك ولا مورد للاستصحاب ولزم انطباق الأدلة على قاعدة اليقين فقط. فتأمل.

المقام الثاني: في وجود المانع

وهو تعارض استصحاب المجعول - وهو الحكم الكلي - مع استصحاب عدم الجعل، ولا مرجح في البين، فيتساقطان.

مثلاً: الكر الذي تغيّر بالنجاسة ثم زال تغيّره بنفسه يشك في طهارته ونجاسته، فمقتضى النجاسة المجعولة في زمان التغيّر هو استصحابها بعد زوال التغيّر، ومقتضى عدم جعل النجاسة قبل الشريعة - لا في المتغيّر ولا

ص: 86

في ما زال تغيّره ثم جعلت في المتغيّر ولم يعلم بجعلها في ما زال تغيّره - هو استصحاب عدم جعلها في ما زال تغيّره.

وذلك لوجود يقينين وشكين، يقين بعدم جعل النجاسة لهذه الحصة - وهي ما زال تغيّره - قبل الشريعة، وشك في جعلها بعد الشريعة، ويقين آخر بالمجعول وهو النجاسة للحصة المتغيّرة، وشك في بقائها بعد زوال التغيّر، وأركان الاستصحاب تامة في كليهما، فيتعارضان.

وغير خفي أنّ استصحاب عدم الجعل إنّما يجري في ما لو كان الزمان ظرفاً مع وحدة الموضوع عرفاً كالماء في المثال، وأمّا لو كان مفرداً فلا مجال للاستصحاب وذلك لتبدل الموضوع.

وقد أشكل على هذا التعارض بإشكالات منها:

الإشكال الأوّل: اتحاد الجعل والمجعول، فلا يوجد استصحابان ليتعارضا، قال المحقق العراقي: «إنّ الجعل والمجعول نظير الإيجاد والوجود ليسا إلاّ حقيقة واحدة، وأنّ التغاير بينهما إنّما هو بصرف الاعتبار... وعلى فرض تغايرهما بحسب الحقيقة نقول: إنّ شدة التلازم بينهما لما كانت بمثابة لا يرى العرف تفكيكاً بينهما حتى في مقام التعبد والتنزيل، بحيث يرى التعبد بأحدهما تعبداً بالآخر، نظير المتضايفين كالأبوة والبنوة، فلا قصور في استصحابه»(1).

وفيه: إنّ القائل يرى أنّ هناك موضوعين كل واحد منهما قابل للجعل، وقد جعل أحدهما ولم يعلم جعل الآخر، فحتى لو قلنا باتحاد الجعل

ص: 87


1- نهاية الأفكار 4[ق1]: 161.

والمجعول لم ينفع ذلك لرفع التعارض، ففي الماء المتغيّر جعل ومجعول، وفي الماء الزائل تغيّره عدم جعل وعدم مجعول، هذا مع قطع النظر عن البحث المبنائي في أنّ المجعول بالإنشاء هل هو الحكم أو شيء آخر، وسيأتي الكلام عنه قريباً.

الإشكال الثاني: عدم اختلاف الجعل والمجعول سعة وضيقاً، قال في المنتقى ما حاصله(1):

إنّه لا شك في أن المجعول يتسع باتساع متعلّقه ويضيق بضيقه، فلو كان المتعلق هو السفر يوماً فالمجعول أوسع ممّا لو كان المتعلق السفر نصف يوم، نظير الأعراض الخارجية التي تتسع باتساع المتعلّق كالبياض للجسم، ولكن هل الجعل كذلك؟ فلو كان يتسع ويضيق فمع الشك في امتداد المجعول في الزمان وسعته يشك في زيادة الجعل فيمكن استصحاب عدمه في نفسه، وأمّا إذا لم يكن يختلف سعة وضيقاً فلا شك حينئذٍ في زيادة الجعل لكي يستصحب، ووجود الجعل معلوم فلا معنى لاستصحاب عدمه، ومتعلّقه مشكوك لكن لإحالة سابقة له، فالأمر دائر بين ما هو معلوم الوجود، وبين ما لا حالة سابقة له.

وفيه: أنّ مدعى القائل هو التعدد في الجعل والمجعول، ولا فرق في ذلك بين قابلية الجعل للاتساع وعدمه، فجعل نجاسة الماء المتغيّر يختلف عن جعل نجاسة الماء الزائل تغيّره، هذا مضافاً إلى أنّ المباني في الإنشاء مختلفة وقد مرّ ذكرها(2)، والجعل على بعض هذه المباني قابل للسعة

ص: 88


1- منتقى الأصول 6: 85-86.
2- نبراس الأصول 1: 85-91.

والضيق تبعاً للمجعول فيه.

الإشكال الثالث: عدم وجود المقتضي لاستصحاب عدم الجعل، إذ لا يمكن تعلّق الاعتبار لا بالجعل ولا بعدمه، وذلك لأنّهما من الأمور التكوينية، والجعل وعدمه أفعال تكوينية تصدر من المولى باختياره، ولها وجود واقعي خارجاً، نعم الحكم الشرعي هو نتيجة هذا الأمر التكويني وهو أمر اعتباري فيمكن التعبد به عبر الاستصحاب أو غيره.

لا يقال: فكيف جرى استصحاب عدم النسخ، وهو استصحاب بقاء الجعل؟

لأنّه يقال: إنّه في حقيقته ليس باستصحاب بل هو تمسك بالإطلاق الأزماني للدليل، أو هو استصحاب للمجعول دون الجعل.

ويرد عليه: إنّه لا محذور في استصحاب الأمور التكوينية التي لها أثر شرعي كاستصحاب حياة الغائب لوجوب الإنفاق على زوجته مثلاً، وسيأتي البحث عنه.

الإشكال الرابع: عدم المقتضي لاستصحاب عدم الجعل وذلك لانفصال المتيقن عن المشكوك، ولا بدّ من اتصالهما حتى يصدق النقض المنهي عنه، إذ في حالة عدم الاتصال فالنقض حاصل ولا معنى للنهي عنه، فالمتيقن هو عدم جعل النجاسة في الأزل - مثلاً - والمشكوك هو عدم جعل النجاسة بعد زوال التغيّر، وقد انفصلا عبر جعل النجاسة للماء المتغير حين تغيّره.

وفيه: إنّه كما هناك اتصال في الحصة المجعولة، كذلك يوجد اتصال في الحصة غير المجعولة، فقبل الشرع لم يكن جعل للنجاسة - في المثال -

ص: 89

لاللماء المتغيّر ولا للماء الذي زال تغيّره، وعدم الجعل قد انتقض في الأوّل، ولم ينتقض في الثاني، فزمان المتيقن الذي هو عدم جعل نجاسة الماء الزائل تغيّره أزلاً متصل بزمان المشكوك الذي هو عدم جعل النجاسة للماء الزائل تغيّره بعد نزول الشريعة.

والحاصل: أنّ الذي انتقض هو وجود النجاسة فلا شك ولا مشكوك، وأمّا عدم جعل النجاسة للزائل تغيّره فهو لم ينتقض ولم ينفصل.

الإشكال الخامس: عدم جريان أحد الاستصحابين إمّا عدم الجعل وإمّا عدم المجعول، فلا تعارض في البين، بيانه: إنّه لا بدّ من وحدة القضيتين المتيقنة والمشكوكة، فإن كانت الوحدة دقيّة فلا يجري استصحاب عدم المجعول، وإن كانت الوحدة عرفية كان العكس، وحيث إنّ المناط الوحدة العرفية فلا يجري استصحاب عدم الجعل، فالماء الزائل تغيّره يختلف عن الماء المتغيّر دقة لكنه هو هو عرفاً.

وفيه: أنّ استصحاب المجعول كما هو عرفي كذلك استصحاب عدم الجعل عرفي أيضاً، فحيث يقال للعرف إن الماء الزائل تغيّره لم يجعل له حكم في الأزل ثم نحن نشك في جعل الحكم له، رأى العرف أنّ الموضوع لعدم الجعل هو هو وأنّ القضيتين متحدتان، فتأمل.

الإشكال السادس: عدم جريان استصحاب عدم الجعل، إذ لا أثر له، فإنّ الأثر حاصل بالوجدان وذلك لعدم البيان، وعليه فتحصيله عبر التعبد بالاستصحاب من أردأ أنواع تحصيل الحاصل، وعليه فيجري استصحاب المجعول لعدم المعارض له، لأنّ الأثر وهو تنجيز الواقع يتوقف على الاستصحاب فيه.

ص: 90

وفيه: إنّ البيان - سواء كان بإثبات الحكم أو بنفيه - يرفع موضوع القاعدة، واستصحاب عدم الجعل بيان رافع لها، وقد مرّ في بحث البراءة عدم كون ذلك من تحصيل الحاصل(1) فراجع، ولذا لم يكن محذور في الأدلة الشرعية النافية للتكليف سواء كانت أمارة أو أصلاً.

الإشكال السابع: ما ذكره المحقق النائيني(2) وحاصله: أنّ الآثار العقلية العملية - كوجوب الطاعة والتنجيز - إنّما تترتب على الحكم المجعول بفعلية موضوعه، وأمّا الجعل بنفسه فلا يترتب عليه الآثار العملية، فاستصحاب عدم الجعل لا أثر له إلاّ بواسطة عدم ثبوت المجعول به، إذ بعدم الجعل يثبت عدم المجعول وبذلك يترتب الأثر.

وأشكل عليه: أوّلاً: بأنّ الأصل المثبت هو ما كان الأثر العقلي للوجود الواقعي للمستصحب، وأمّا إذا كان الأثر العقلي من آثار الحكم بنفسه - كوجوب الطاعة وتنجز الحكم - فلا إشكال في ترتبه عليه، إذ لا معنى للتعبد بحكم مع عدم ترتيب الآثار العقلية لذلك الحكم، كأن يقال: يجب هذا الشيء بالاستصحاب لكن لا تجب طاعته ولا يتنجز الحكم به!

وما نحن فيه كذلك حيث إنّ المجعول يترتب على نفس الجعل، فنفي الجعل ظاهراً يستتبع نفي المجعول.

وثانياً(3): بما حاصله: أنّ ما ذكره إنّما يتم في استصحاب الجعل

ص: 91


1- نبراس الأصول 4: 104-105.
2- فوائد الأصول 4: 182-184.
3- منتقى الأصول 6: 78-79.

لا استصحاب عدم الجعل، فإنّ الجعل في مرحلة الظاهر يلازم تحقق المجعول باعتبار أنّ الجعل يرجع إلى إنشاء الحكم والإنشاء لا ينفك عن المنشأ، فبثبوت الجعل ظاهراً تترتب آثار المجعول لتحققه به، لكن عدم الجعل في مرحلة الظاهر لا يستتبع سوى عدم المجعول ظاهراً - كاستتباع عدم الجعل واقعاً لعدم المجعول واقعاً - وهذا لا يجدي في نفي آثار الواقع المحتمل ولا يستلزم تأميناً وتعذيراً عنه، إذ العقاب المحتمل عند احتمال الواقع يترتب على نفس الواقع لا على الظاهر، فلا بدّ من إثبات عدم المجعول واقعاً عبر التعبد الظاهري بعدم الجعل واقعاً، وذلك إنّما يكون بالملازمة العقلية للتلازم بين عدم الجعل وعدم المجعول، فيكون الأصل مثبتاً.

الإشكال الثامن: عدم صحة التعبد بعدم التكليف، لأنّه إن أريد عدم التكليف بنفسه فهو غير اختياري للمكلف، وإن أريد آثار التكليف فإنّ عدم وجوب الطاعة مثلاً تترتب على عدم التكليف من غير احتياج إلى التعبد به فيكون لغواً.

وببيان آخر(1):

إنّ اعتبار عدم التكليف والتعبد به إن كان ظاهرياً بمعنى عدم التكليف في مرحلة الظاهر - أي جعل العدم الظاهري للتكليف الواقعي - كسائر الأحكام الظاهرية المجعولة بلسان الواقع، فهذا مما لا يمكن، لأنّ التكليف الواقعي إن لم يكن له ثبوت كفى عدمه في ترتيب الآثار من غير حاجة إلى جعل عدمه في مرحلة الظاهر، وإن كان له ثبوت فإن لم يترتب عليه أثر عقلي وجودي في مقام الشك فلا أثر لعدم الجعل، إذ غاية ما يراد

ص: 92


1- منتقى الأصول 6: 83-84.

به إثبات المعذورية، والمفروض أنّها ثابتة عقلاً مع قطع النظر عن عدم الجعل، وإمّا أن يترتب عليه أثر وجودي عقلي بحيث يحكم العقل بمنجزيته ولزوم الإتيان بمتعلقه في ظرف الشك، امتنع جعل العدم، لمنافاته لحكم العقل بلزوم الاحتياط نظيرموارد العلم الإجمالي.

وفيه: ما مرّ(1)

من أنّ العدم التشريعي قابل للجعل الشرعي، حيث إنّ عالم التشريع عالم الاعتبار، فيمكن فرض جعل العدم، مضافاً إلى أنّ الكلام هنا في البقاء الاعتباري لعدم التكليف، وهو مجعول شرعاً، وجعل عدم المنع ظاهراً مساوق لجعل الإباحة ظاهراً، وحينئذٍ لا احتمال للعقاب، حيث لا فرق بين الجعل الخاص الظاهري - أي جعل الترخيص في الشبهات التحريميّة والذي ينفي احتمال العقاب - ، وبين الجعل العام الظاهري بالاستصحاب، فراجع.

الإشكال التاسع: إنّ استصحاب عدم الجعل معارض بمثله فيتساقطان، فيبقى استصحاب المجعول من غير معارض. وذلك في ما لو كان للمجعول ضد مجعول أيضاً كالطهارة والنجاسة، فاستصحاب عدم جعل النجاسة يتعارض مع استصحاب عدم جعل الطهارة.

والجواب: أوّلاً: بعدم تنافي استصحابي عدم الجعل على بعض المباني حيث المقتضي لجريانه موجود وهو إطلاق دليله والمانع مفقود لأنّ المانع إمّا في التعبد بالضدين، ولا يلزم من عدم الجعل ذلك إذ لا تضاد بين عدم النجاسة وعدم الطهارة ولا محذور في خلو الواقعة عن الحكم، وإمّا في

ص: 93


1- نبراس الأصول 4: 104-105.

الامتثال، ولكن حيث لا حكم لا موضوع للامتثال، وإمّا في الترخيص في المعصية لكن لا مخالفة عملية في التعبد بعدم النجاسة وعدم الطهارة مثلاً، وإمّا في إخبار الفقيه بعدمهما مع العلم الإجمالي ببطلان أحد العدمين، ولكن إن ثبت هذا كان مقيداً لإطلاق دليل الاستصحاب لا رفع اليد عنه بالمرّة، وقد مرّ تفصيل الكلام، فراجع.

وثانياً: بأنّ استصحابي عدم الجعل واستصحاب المجعول كلها في عرض واحد فتتعارض جميعاً وتتساقط، فتأمل.

تكملة: قد يفصل بين الأحكام الإلزامية وبين الأحكام الترخيصية، فالتعارض - في استصحاب المجعول وعدم الجعل - في الأوّل دون الثاني حيث يجري فيه استصحاب المجعول دون استصحاب عدم الجعل.

وقد يستدل لذلك: بأنّ الأشياء على الحلّ والإباحة، والشريعة إنّما هي لبيان الأحكام الإلزامية، وبأن قوله (علیه السلام): «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم»(1) وقوله (علیه السلام): «اسكتوا عما سكت الله»(2) يرفع الشك فلا مجال لاستصحاب عدم الجعل إذ لا يشك في الجعل، وأمّا الإلزامية فهي مجعولة فتعارض عدم الجعل.

وفيه: أوّلاً: إنّ الدليل أخص من المدعى حيث إنّ المستحبات والمكروهات غير إلزامية مع كونها مجعولة قطعاً.

وثانياً: بأنّ الحديثين من أدلة البراءة - فهما يدلان على الحكم الظاهري

ص: 94


1- الكافي 1: 126؛ عنه وسائل الشيعة 27: 163.
2- عوالي اللئالي 3: 166.

والكلام في استصحاب عدم جعل الحكم الواقعي المعارض مع استصحاب المجعول.

وثالثاً: ما في المنتقى(1)

وحاصله: بأنّه إمّا نلتزم بأنّ الإباحة ليست من الأحكام المجعولة - حيث إنّ الأثر العملي العقلي المقصود يترتب على مجرد عدم الإلزام بأحد الطرفين فيكون جعلها لغواً - فهنا لا مجال لاستصحاب عدم الجعل إذ لا شك في عدم الجعل، كما لا مجال لاستصحاب المجعول - وهو الإباحة - لعدم تعلق جعل بها كي تستصحب، وحينئذٍ المرجع إمّا استصحاب عدم جعل الحكم الإلزامي، أو المرجع البراءة.

وإمّا نلتزم بتعلق الجعل بالإباحة، وحينئذٍ لا مانع من جريان استصحاب عدم الجعل، ومعارضته لاستصحاب بقاء الإباحة، إذ بعد فرض كون الإباحة مجعولة يكون جعلها حادثاً - سواء حدوثاً في هذه الشريعة أم قبلها - .

ولا فرق في ذلك بين استصحاب الحليّة أو استصحاب الطهارة من الخبث أو من الحدث.

ص: 95


1- منتقى الأصول 6: 89.

فصل في استصحاب الأحكام التكليفية والوضعية

اشارة

فقد قيل بجريان الاستصحاب في الأوّل دون الثاني، وقد قيل بالعكس، وقد قيل بجريانه فيهما، فلا بدّ أوّلاً من بيان حقيقتهما وأقسامهما لنرى إمكان جريان الاستصحاب فيهما وشمول الإطلاق لهما أم لا، فالكلام في مقامين:

المقام الأوّل: في الأحكام التكليفية

والحكم التكليفي هو الإرادة التشريعية المتعلّقة بفعل الغير، بمعنى أنّ المولى جل وعلا يُنشأ الحكم بغرض إمكان إيجاد الداعي في نفس المكلف في غير الإباحة، وأمّا فيها فبغرض بيان تساوي الفعل والترك عنده، وعلى هذا فلا تنفك الإرادة عن المراد التشريعي أبداً، وذلك لأنّ المراد ليس صدور الفعل عن المكلف اختياراً كي يلزم الانفكاك، وإنّما المراد هو إنشاء الحكم وهو حاصل سواء أطاع العبد أم عصى، وقد مرّ شطر من الكلام في بحث الطلب والإرادة(1).

وبذلك يتبيّن أنّ الأحكام مجعولة للشارع بما هو شارع وليست أموراً تكوينية.

لكن ذهب المحقق العراقي إلى أنّ الأحكام التكليفية غير مجعولة تشريعاً وإنّما مجعولة تكويناً، قال: «فإنّ الحقائق الجعلية عبارة عن اعتبارات متقومة

ص: 96


1- نبراس الأصول 1: 263-264.

بالإنشاء الناشء عن قصد التوصل به إلى حقائقها على نحو يكون القصد والإنشاء واسطة في ثبوتها من قبيل العلة التامة لتحققها بحيث لولا القصد والإنشاء لما كان لها تحقق في وعاء الاعتبار المناسب لها... بعد ما عرفت ذلك نقول: إنّ من المعلوم عدم تصور الجعلية بالمعنى المزبور في الأحكام التكليفية في شيء من مراتبها، 1- أمّا بالنسبة إلى مرحلة المصلحة والعلم بها فظاهر، 2- وأمّا بالنسبة إلى لب الإرادة - التي هي روح التكليف - فلأنّها من الكيفيات النفسانية التابعة للعلم بالمصلحة في الشيء بلا مزاحم لمفسدة أخرى فيه أو في لازمه فلا ترتبط بالإنشائيات، 3- وهكذا الأمر بالإضافة إلى الإنشاء المبرز للإرادة فإنّه أمر واقعي وكان من مقولة الفعل الخارج عن الاعتبارات الجعلية، 4- فلا يبقى حينئذٍ إلاّ مرحلة الإيجاب والبعث واللزوم ونحوهما من العناوين المنتزعة من إبراز الإرادة بالإنشاء القولي أو الفعلي، وهذه أيضاً غير مرتبطة بالجعليات المتقومة بالإنشاء والقصد، لأنّها اعتبارات انتزاعية من مرحلة إبراز الإرادة الخارجية حيث ينتزع العقل كل واحدة منها من الإنشاء المظهر للإرادة بعنايات خاصة...»(1).

وفيه: أنّ المُنشأ - كالوجوب والحرمة - هو أمر اعتباري قابل للجعل بما يناسبه، فهو ليس أمراً تكوينياً ولا انتزاعياً، وبعد الإمكان فلا داعي لتأويل ظواهر الكتاب والسنة الدالة على جعل الحليّة والحرمة كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ...}(2)

وقوله سبحانه: {أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ

ص: 97


1- نهاية الأفكار 4[ق1]: 88-89.
2- سورة المائدة، الآية: 3.

الْأَنْعَٰمِ...}(1)

فتأمل.

المقام الثاني: في الأحكام الوضعية

وهي كل ما جعله الشارع - بما هو شارع - ولم يكن تكليفاً، وهو إمّا مجعول شرعاً بالاستقلال، أو منتزع مما هو مجعول، أو يترتب على ما هو مجعول.

ثم إنّ المحقق الخراساني قال في الكفاية: «والتحقيق أنّ ما عُدّ من الوضع على أنحاء، منها: ما لا يكاد يتطرق إليه الجعل تشريعاً أصلاً لا استقلالاً ولا تبعاً، وإن كان مجعولاً تكويناً عرضاً بعين جعل موضوعه كذلك، ومنها: ما لا يكاد يتطرق إليه الجعل التشريعي إلاّ تبعاً للتكليف، ومنها: ما يمكن فيه الجعل استقلالاً بإنشائه وجعله، وتبعاً للتكليف بكونه منشأ لانتزاعه، وإن كان الصحيح انتزاعه من إنشائه وجعله وكون التكليف من آثاره وأحكامه»(2).

فالأوّل: هو ما يرتبط بالتكليف كسببيّة الزوال لوجوب صلاة الظهر، وشرطية البلوغ للتكليف، ومانعيّة الحيض قبل الوقت، وقاطعية الحيض بعد الوقت.

والثاني: هو ما يرتبط بالمكلّف به، كشرطية الوضوء للصلاة، وجزئية السورة لها، ومانعية أجزاء ما لا يؤكل لحمه عنها، وقاطعية الحدث لها.

والثالث: كل شيء اعتباري له أثر شرعاً ولم يكن في تكليف ولا مكلّف

ص: 98


1- سورة المائدة، الآية: 1.
2- إيضاح كفاية الأصول 5: 25.

به، حيث يمكن جعل الأثر أوّلاً ثم انتزاعها منه، أو جعلها أوّلاً ثم ترتيب الأثر عليه، كالملكية والزوجية والحجيّة ونحوها، مثلاً: يمكن جعل الحجيّة أوّلاً ثم تفريع وجوب العمل طبقها، كما يمكن الأمر بالعمل بها ثم انتزاع الحجيّة من الأمر.

أمّا القسم الأوّل وهو شرائط التكليف:

فقد يستدل على استحالة جعلها بأمور، منها:

الدليل الأوّل - وهو خاص باستحالة التبعية -: وحاصله: أنّ جعل التابع متفرع على جعل المتبوع، ولا يعقل تقدّمه عليه، وهذه أسباب التكليف فلا تكون متأخرة عنه.

الدليل الثاني: إنّها أمور واقعية وليست اعتبارية فلا يعقل تعلق التشريع بها، إذ لو لم تكن رابطة تكوينية بين التكليف وشرطه ومانعه وقاطعه فلا معنى لاعتبارها مع ضرورة تبعية الجعل للمصلحة، وإن كانت رابطة تكوينية فيكون جعلها من أردأ أنواع تحصيل الحاصل، نعم يمكن جعل ذات الشيء تكويناً والذي يتبعه جعلها تكويناً تبعاً، هذا في استحالة جعلها تشريعاً استقلالاً أو تبعاً.

ويرد على الأوّل: ما ذكره المحقق الإصفهاني قال: «المتأخر بالذات ذات المعلول عن ذات العلة، أمّا عنوان العِليّة والمعلولية فهما متضايفان، ولا عِليّة بين المتضايفين، وعنوان العِلية لا ينتزع عن المعلول، ولا عن ترتبه على ذات العلة، بل عنوان العِليّة ينتزع عن ذات العلة إذا بلغت بحيث يكون المعلول ضروري الوجود بها، وعنوان المعلولية ينتزع عن ذات المعلول إذا كان بحيث يكون ضروري الوجود بالعلة، ولا فرق بين ما إذا كان المعلول

ص: 99

من الأمور التكوينية المحضة أو من الأمور التشريعيّة... غاية الأمر أنّ العليّة والمعلوليّة في مرحلة الجعل التشريعي اقتضائيان، وفي مرحلة تحقق السبب والمسبب فعليان، وقد عرفت أنّ التقدم والتأخر بملاك العلية والمعلولية بين ذاتي العلة والمعلول لا تنافي المعية بملاك التضايف بين عنوان العليّة والمعلولية»(1).

والحاصل: قد حصل خلط بين السبب والسببيّة، فالمقدم على التكليف هو ذات السبب كالزوال، وأمّا السببيّة فهي متأخرة عن التكليف، والسببيّة والمسببيّة متضايفان، والمتضايفان متكافئان قوة وفعلاً ولا اختلاف بينهما رتبة، وحيث إن المسببيّة متأخرة عن تعلّق التكليف - لأنها تنتزع من إنشاء التكليف - ، كانت السببيّة كذلك، وهكذا في الشرط والشرطية، والقاطع والقاطعية، والمانع والمانعية.

إن قلت: الخصوصية التي جعلت السبب مؤثراً في المسبب منتزعة عن ذات السبب وموجودة بوجوده فلا تنتزع عن التكليف.

قلت: إنّ السببيّة ليست هي الخصوصية لكن الشارع جعل التكليف منوطاً بها، وعليه فقد انتزعت السببيّة من الحكم المنوط بالسبب، فتأمل.

ويرد على الثاني: ما ذكره المحقق النائيني قال: «لا ننكر أنّ في الدلوك والعقد خصوصية ذاتية تكوينية اقتضت تشريع الوجوب وإمضاء الملكية، إلاّ أنّ تلك الخصوصية إنّما تكون سبباً لنفس التشريع والإمضاء، لأنّه لا يخلو التشريع والإمضاء عن الداعي الذي يتوقف عليه كل فعل اختياري،

ص: 100


1- نهاية الدراية 5: 105.

ولكن ليس هذا محلّ الكلام في المقام، بل محلّ الكلام إنّما هو سبب المجعول والممضى وهو نفس الوجوب والملكية، ومن المعلوم أنّ سببيّة الدلوك والعقد للوجوب والملكية إنّما تنتزع من ترتب الوجوب والملكية على الدلوك والعقد، إذ لولا أخذ الدلوك والعقد موضوعاً للوجوب والملكية لم يكن الدلوك والعقد سبباً لهما. وبالجملة: دواعي الجعل غير موضوعات التكاليف، فإنّ دواعي الجعل متأخرة في الوجود عن المجعول، متقدمة عنه في اللحاظ، أمّا موضوعات التكاليف: فهي متقدمة عنها في الوجود، لأنّ نسبة الموضوع إلى التكليف نسبة العلة إلى المعلول، ولا يمكن أن يتقدّم الحكم عمّا أخذ موضوعاً له، وإلاّ يلزم الخلف والمناقضة»(1).

وحاصله كلامه: أنّ أسباب التكليف - التي صارت سبباً للإنشاء - أمور تكوينية غير قابلة للتشريع، وأمّا أسباب المجعول - أي سبب الوجوب مثلاً لا سبب تشريع الوجوب - فهي مجعولة، فلو لم يأخذ الشارع الدلوك سبباً للوجوب لما كان سبباً له.

فالملاكات والأغراض كلها علل للجعل في مرتبة إنشاء الأحكام، فهي متقدمة في اللحاظ، وأمّا أسباب المجعول فهي ليست الملاكات والأغراض، بل هي مما تترتب على المجعول.

وهكذا الأمر في الشرطية فالبلوغ سبب تكويني للمصلحة في إنشاء الشارع، وحين جعل التكاليف يشترطها الشارع بالبلوغ مع أنّه كان يمكنه عدم اشتراطها به إلاّ أنّه لحكمته اشترطها به، فكان تقييد التكليف به مجعول

ص: 101


1- فوائد الأصول 4: 396.

للشارع.

وأمّا القسم الثاني وهو شرائط المكلّف به:

فإنّه من الواضح أنّه لا توجد شرطية إلاّ بعد التكليف، كالوضوء للصلاة، فمع إيجاب الصلاة يكون الوضوء شرطاً لها بتبع التكليف بها، أي إنّ شرطية الوضوء للصلاة - مثلاً - منتزعة عن إيجاب الصلاة مقيدة به، وجزئية السورة لها - مثلاً - منتزعة عن الأمر بالمركب، وهكذا في القاطعية والمانعية.

وأمّا القسم الثالث وهو الأمور الاعتبارية التي ليست في التكليف ولا المكلف به:

فالكلام فيها في مرحلة الثبوت والإثبات.

1- أمّا ثبوتاً: فقد يشكل بأنّ تعلّق الاعتبار - شرعاً وعقلائياً - بشيء إنّما هو لأجل ترتب الآثار العقلائية أو الشرعية، وإلاّ كان الاعتبار لغواً، فحين اعتبار الملكية - مثلاً - عند تحقق سببها كعقد البيع إمّا أن يتعلق اعتبار آخر بآثارها التكليفية، أو لا يتعلق، فعلى الأوّل: لا حاجة إلى اعتبارها حيث أمكن تعلّق الاعتبار رأساً بالآثار التكليفية، وعلى الثاني: يلزم أن لا يترتب أيّ أثر تكليفي، إذ الأحكام التكليفية لا تترتب قهراً من دون اعتبار، وعلى كل حال كان اعتبار الملكية لغواً!

وأجاب في المنتقى: «بأنّ الملكية ونحوها هي من المجعولات الإمضائية، وليس لدى العقلاء أحكام تكليفية - من وجوب وتحريم - بل ليس لديهم إلاّ الحكم بالحسن والقبح، وهما يتفرعان على الظلم وعدمه، والظلم لديهم هو التعدي على الحقوق الثابتة لديهم، وعليه فقبح التصرف

ص: 102

بالمال لديهم وحسنه يتفرعان على أن يكون التصرف تعدياً عن الحق وعدم كونه كذلك، وهذا يتوقف على اعتبار ملكية التصرف وعدمها، وكيف كان ليس لديهم اعتباران ومجعولان، بل لديهم اعتبار واحد يتعلّق بالملكية ويترتب عليه حكمهم بالحسن والقبح، واعتبارهم الملكية لأجل تحقيق موضوع التحسين والتقبيح، وأمّا الشارع فهو أقر العقلاء على اعتبار الملكية وليس لديه جعل جديد ورتّب على ذلك أحكاماً تكليفية - نسبتها إلى الملكية نسبة الحسن والقبح اللذين يحكم بهما العقلاء - فالملكية العقلائية التي أمضاها الشارع هي موضوع أحكامه التكليفية ودخيلة في تحققها، وفي مثل ذلك لا محذور من لغوية وغيرها»(1).

ويمكن أن يقال: إنّ الإمضاء إن لم يكن له أثر كان لغواً، وحيث قد رتّب الشارع أحكاماً فلا حاجة إلى إمضاء الملكية العقلائية - مثلاً - .

إلاّ أن يقال: إنّ إمضاء الملكية إنّما هو بالأصالة، وأمّا الأحكام المترتبة عليها فهي مجعولة بالتبع ولا لغوية في ذلك ليواطئ تشريعه طريقة العقلاء في جعل الموضوع ليترتب عليه الحكم.

أو يقال: إنّ للعقلاء أحكاماً بما هم موالي، فقد جعلوا الموضوع ليترتب عليه تلك الأحكام، فأمضاهم الشارع على كلا الأمرين - وإن كان يمكن الاستغناء عن جعل الموضوع - لئلا يكون مخالفاً لطريقتهم، فتأمل.

2- وأمّا إثباتاً: فقد ذهب الشيخ الأعظم(2) إلى أنّ الأمور الوضعية

ص: 103


1- منتقى الأصول 6: 148.
2- فرائد الأصول 3: 126-129.

منتزعة عن الأحكام التكليفية، بل قد تنتزع حتى لو لم يكن التكليف فعلياً كضمان الصبي إذا أتلف مال الغير، واستدل لذلك بالوجدان، كما لو قال المولى: (إن جاءك زيد فأكرمه) حيث لا نرى إنشائين، بل إنشاء واحد هو وجوب الإكرام عند المجيء، وينتزع منه شرطية المجيء.

وأشكل عليه: أوّلاً: بأنّ الخطاب قد لا يكون متضمناً لتكليف كي ينتزع عنه الوضع، كقوله تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٖ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ...}(1)

الآية، فإنّ المنشأ هو الاختصاص المطلق المدلول عليه باللام وهو الملكية.

وثانياً: ما استدل به من الوجدان قد يكون في بعض الموارد مما تدخل في القسم الأوّل أو الثاني، ولا يجري في مطلق الأمور الوضعية، كما مرّت بعض الأمثلة.

وثالثاً: ما قد يقال: بأنّه قد توجد أحكام وضعية من غير وجود تكليف في موردها، ومثّل له المحقق النائيني بقوله: «فإنّ الحجيّة والطريقية من الأحكام الوضعية التي ليس في موردها حكم تكليفي قابل لانتزاع الحجيّة منه»(2)

وأيّده المحقق العراقي بقوله: «ما أفيد كذلك في الحجيّة بمعنى الوسطية للإثبات، وإلاّ فبمعنى المنجزية والمعذرية فلا محيص من انتزاعها من التكليف»(3).

ص: 104


1- سورة الأنفال، الآية: 41.
2- فوائد الأصول 4: 387.
3- فوائد الأصول 4: 387 (الهامش).

وأجيب: بعدم وجود وضع من غير تكليف، فالحجج والطرق المجعولة في موردها تكاليف، مثلاً حجيّة الخبر الواحد إن كان دليله آية النبأ فالتكليف هو عدم وجوب التبين عند مجيء العادل بالنبأ، وإن كان دليله الأخبار فالتكليف هو أخذ معالم الدين من الثقة مثلاً.

ثم إنه يمكن أن يستدل على جعل الأحكام الوضعية بالاستقلال بأمور:

1- منها: أنّه لا وجه لتأويل كلام الشارع الظاهر في جعلها استقلالاً بعد إمكان ذلك ثبوتاً، كما في قوله (علیه السلام): «فقد جعلته عليكم حاكماً»(1)، وكقوله (علیه السلام): «الماء كله طاهر»(2)

ونحو ذلك.

2- ومنها: أنّ المتعاقدين يقصدان إنشاء الزوجية أو الملكية مثلاً مع الغفلة عن الأحكام التكليفية المترتبة عليهما، فلولا جعل الأمر الوضعي لزم محذور ما وقع لم يقصد وما قصد لم يقع.

اللّهم إلاّ أن يقال: إنّهما قصدا العقد، والشارع رتب على إنشائهما أحكامه التي ينتزع منها الزوجية والملكية، ولا يضر قصد ما جعله الشارع سبباً لأحكامه حتى مع الغفلة عن قصد تلك الأحكام، فتأمل.

3- ومنها: أنّ مثل قوله (علیه السلام): «ولا ماله إلاّ بطيبة نفسه»(3) قد جعل الموضوع فيه مال المرء المسلم وترتب عليه الحكم بعدم حليّة التصرف، فلو كان «مال امرئ...» منتزعاً من «لا يحل» لزم انتزاع الموضوع من الحكم

ص: 105


1- الكافي 1: 54؛ عنه وسائل الشيعة 27: 136.
2- من لا يحضره الفقيه 1: 9؛ عنه وسائل الشيعة 1: 134.
3- من لا يحضره الفقيه 4: 68؛ عنه وسائل الشيعة 29: 10.

وهو يقتضي تأخر الموضوع مع كون الموضوع في رتبة سابقة عن الحكم، وهو محال، إلاّ بتأويل النص بما لا حاجة له.

4- ومنها: عدم انتزاع الملكية والزوجية مثلاً مع وجود إباحة التصرف وجواز الوطي في الأمة المحلَّلة.

إلاّ أن يقال: إنّ منشأ الانتزاع مجموعة من الأحكام لا بعضها، فيتم النقض بمثل الحجر على المفلّس مع أنّه مالك ونحو ذلك.

5- هذا مضافاً إلى ما مرّ من أنّ الأمور الوضعية إمضائية، وعلم بأنّه لا طريقة أخرى للشارع فيها، إلاّ بعض التقييد أو التوسعة.

ومن ذلك كلّه يتبيّن أنه لا محذور - ثبوتاً وإثباتاً - في استصحاب الأحكام التكليفية أو الوضعية، مع شمول إطلاق دليل الاستصحاب لها.

تتمة: في بعض مصاديق الأحكام الوضعية
المصداق الأوّل: الطهارة والنجاسة

1- قد يقال: إنّهما أمران واقعيان كشف عنهما الشارع.

وأشكل عليه: أوّلاً: ما في الفوائد(1)

وحاصله: أنه في باب الطهارة والنجاسة أمور ثلاثة:

الأوّل: مفهوم الطهارة والنجاسة، فهو كسائر المفاهيم العرفية والاعتبارات العقلائية، كالملكية والزوجية والرقية.

الثاني: المصداق الذي ينطبق عليه المفهوم وهو المعروض للطهارة

ص: 106


1- فوائد الأصول 4: 402.

والنجاسة، مثل الماء والبول، كمصاديق الملكية والزوجية، نعم تطبيق المفهوم على المصداق تارة مما يدركه العرف، وأخرى لا يدركه إلاّ العالم بالواقعيات.

الثالث: حكم الشارع بجواز استعمال الطاهر وحرمة استعمال النجس، فحكمه ليس إلاّ كحكمه بجواز التصرف في الملك وحرمة أكل المال بالباطل، فظهر أنّه لا فرق بين الطهارة والنجاسة وبين سائر الاعتبارات العرفية، وعليه فإنّ الطهارة والنجاسة من الأحكام الوضعية وليسا من الأمور الواقعية.

وفيه: أنّ الفارق بين الأمور الوضعية والواقعية ليس ما ذكر، إذ يمكن جريان هذه الثلاثة في الأمور الواقعية كالإنسان فله مفهوم كسائر المفاهيم - سواء كانت لأمور حقيقية أم اعتبارية - وله مصاديق ينطبق عليها، وله أحكام شرعية يكون موضوعاً لها، وإنّما الفارق في أنّ الأمور الواقعية لها وجود مع قطع النظر عن المعتبرِ عكس الأمور الوضعية التي لا بدّ فيها من معتبر.

وثانياً: بأنّ ما ذكر لم يقم عليه برهان إثباتاً، بل قد يخالفه الوجدان في مثل ولد الكافر قبل إسلام الأب وبعد إسلامه.

وكأنّ الذهاب إلى كونهما أمرين واقعيين نشأ من إدراك قذارة مثل البول تكويناً ونظافة مثل الماء تكويناً، وإن كان بين النجاسة والقذارة عموم من وجه، وكذا بين الطهارة والنظافة.

2- وقد يقال: بما في نهاية الأفكار(1) وحاصله: أنهما قسمان، فالنظافة والقذارة المحسوسة من الأمور الخارجية التي يدركها العرف والعقلاء، وأمّا

ص: 107


1- نهاية الأفكار 4 [ق1]: 98-99.

إذا لم يكن في البين جهة محسوسة كنجاسة الخمر والكافر فيمكن ترجيح كونهما من الاعتبارات الجعلية الراجعة إلى نحو ادعاء من الشارع بنجاسة ما يراه العرف طاهراً وبالعكس بلحاظ ما يرى من المناط المصحح لهذا الادعاء بحيث لو اطلع العرف عليه لرتبوا عليه آثار النجاسة، كما يشاهد نظيره في العرف حيث يرى عندهم بعض المصاديق الادعائية للطهارة والنجاسة، كاستقذارهم من أيدي غسال الموتى وأيدي من شغله تنظيف البالوعة وإباء طبعهم عن المؤاكلة مع هؤلاء من إناء واحد، فيمكن أن يكون حكم الشارع بنجاسة ما لا يراه العرف قذراً كالخمر والكافر ونحوهما من هذا القبيل فيكون مرجعه إلى نحو ادعاء من الشارع بقذارة ما يراه العرف طاهراً وبالعكس بلحاظ ما يرى منه من المناط المصحح لهذا الادعاء بحيث لو رآه العرف أيضاً لرتبوا عليه آثار قذارتهم من دون أن يكون المناط المزبور عين الطهارة والنجاسة الشرعية كي تكونان من الأمور الواقعية التي كشف الشارع عنها.

لا يقال: إنّ الادعاء لا بدّ أن يكون بلحاظ مناسبة بين شيئين كزيد والأسد، أو باعتبار ترتب الأثر كما في: «الطواف بالبيت صلاة»(1)

وليس كذلك في النجاسة، إذ ليس استقذار يد عامل الكنيف إلاّ لتداعي المعاني مع الإذعان بنظافته حين المؤاكلة، وليس مثل الكافر نجس من قبيل الحكومة.

فإنّه يقال: ليس الادعاء منحصراً في التشبيه أو الحكومة، بل قد يراد به

ص: 108


1- عوالي اللئالي 1: 214؛ عنه جامع أحاديث الشيعة 11: 330.

نتيجة الحكومة وإن لم يكن في لسان الدليل تنزيل شيء منزلة شيء آخر، وكأنّ هذا هو المراد هنا.

ولكن فيه: عدم إقامة برهان على ذلك إثباتاً بعد إمكانه ثبوتاً.

3- وقد يقال - وهو الأقرب -: أنّ النجاسة والطهارة أمران وضعيّان لكن المنشأ قد يكون قذارة محسوسة وقد يكون أموراً أخرى اعتبارية أو حقيقية، ويدل على ذلك عدم تفريق الأدلة بين أقسام النجاسات ورؤية المتشرعة كلّها بشكل واحد مما يكشف عن كونها من سنخ واحد، مع تفصيل الشارع في نجاسة القذارات مع أنّ بعض القذارات الطاهرة أقذر من بعض القذارات النجسة، فلعلّه تارة المصلحة في الابتعاد عن الكافر والخمر - مثلاً - فجعلت النجاسة، وتارة المصلحة في الابتعاد عن قذارة البول - مثلاً - فجعلت النجاسة، فتأمل.

المصداق الثاني: الصحة والفساد

وفيهما أقوال: وقد مرّ بعض الكلام في بحث الصحيح والأعم(1).

فإن قلنا بأنّ الصحة هي موافقة المأتي به للمأمور به أو للمجعول أو للممضى، والفساد عكس ذلك، أو قلنا بأنّهما ينتزعان عن مقام ترتيب الأثر وعدمه، كانا أمرين واقعيين انتزاعيين.

وأمّا لو قلنا بأنّهما نفس ترتيب الأثر من عدم القضاء والإعادة في العبادات ومن نقل الملك وجواز التصرف ونحو ذلك في المعاملات، كانا أمرين اعتباريين.

ص: 109


1- نبراس الأصول 1: 140-143.

وقد يقال: إنّ الصحة في مرحلة الطبيعة غير مجعولة، إذ العبادة أو المعاملة الواجدة للأجزاء والشرائط الفاقدة للقواطع والموانع صحيحة بمعنى أنّها تامة، وخلاف ذلك فاسدة بمعنى عدم تماميتها.

وأمّا في مرحلة المصاديق الخارجية فمع تنزيل الشارع الفاقد منزلة الواجد تكون الصحة جعلية، ومع عدم تنزيله كذلك تكون الصحة حقيقية، فتأمل.

المصداق الثالث: الحجيّة

وهي تطلق اصطلاحاً على ما يصلح للاحتجاج، وعلى الطريقية والكاشفية، وعلى المنجزية والمعذرية.

أمّا الأولى: ففي القطع غير مجعولة كما مرّ، وفي غيره لا محذور في جعلها ثبوتاً ودلّ الدليل على جعلها.

وأمّا الثانية: فطريقية القطع ذاتية غير مجعولة، وأمّا ما كان كشفه ناقصاً كالظن فيمكن تتميم الكشف فيه بإلغاء احتمال الخلاف، وأمّا ما لا يكون كاشفاً كأصالة البراءة فلا يعقل ذلك فيه.

وأمّا الثالثة: فغير مجعولة لأنّه مع البيان يحكم العقل بالمنجزية، ومع عدم البيان يحكم بالمعذرية، نعم الشارع قد يحقق الموضوع عبر البيان، ولا يعقل التنجيز من غير بيان وقد مرّ تفصيله في قاعدة قبح العقاب بلا بيان في بحث البراءة.

ص: 110

فصل في شروط الاستصحاب

الشرط الأوّل: فعلية اليقين والشك
اشارة

هل يجري الاستصحاب مع الغفلة بأن كان اليقين والشك تقديريين بحيث لو التفت تحقّقا، أم لا بدّ من فعليتهما بالالتفات إليهما؟

القول الأوّل: تعميم اليقين والشك وشمولهما للتقديريين، ويستدل له بأمور، منها:

الدليل الأوّل: لا موضوعية لهما في لسان الدليل، بل قد أخذا طريقاً، فمفاد الاستصحاب هو إبقاء ما ثبت، وبذلك تتم أركان الاستصحاب، وذلك لأنّ ما أخذ موضوعاً في لسان الدليل إن كانت طريقيته ذاتية فالأصل هو عدم موضوعيته بما هو هو بل الموضوعية لمتعلّقه، وذلك لأنّ من يحصل له القطع غافل عن قطعه وإنّما كل نظره إلى متعلقه، عكس ما لم يكن كذلك فالأصل أخذه بما هو هو.

وفيه: إنّ قوله (علیه السلام): «لا تنقض» قرينة إرادة اليقين بما هو هو، إذ النهي عن الشيء لا يكون إلاّ مع الالتفات إليه، كما أن القابل للنقض هو اليقين دون المتعلّق إذا كان وجوداً خارجياً أو حكماً شرعياً.

الدليل الثاني: إنّ قوله (علیه السلام): «ولكن تنقضه بيقين آخر» يدل على عدم جواز نقض اليقين بغير اليقين سواء كان الشك فعلياً أم تقديرياً، وبعبارة

ص: 111

أخرى: في حال الغفلة لا يقين آخر له كي ينقض به يقينه الأوّل.

وفيه: إنّ ذلك من مفهوم اللقب الذي لا حجيّة له، ففي الحديث الأمر بنقض اليقين بيقين مثله وليس فيه بيان حالة نقض اليقين بغير اليقين، وإنّما الدال عليها هو قوله (علیه السلام): «لا تنقض اليقين بالشك» ولا شك في حالة الغفلة، والحاصل: أنّه لا دلالة على جريان الاستصحاب - في حالة الغفلة - لا عبر المقطع الأوّل ولا عبر المقطع الثاني.

القول الثاني: اشترط فعلية اليقين والشك وعدم الغفلة عنهما، واستدل له بأمور:

منها: إنّ الألفاظ موضوعة للمعاني الحقيقية وبما هي هي ولم توضع للمعاني التقديرية، واستعماله في المعنى التقديري مجاز يحتاج إلى قرينة، فالغافل ليس بشاك كي يشمله الدليل، وبعبارة أخرى: إن الاستصحاب وظيفة الشاك بعد اليقين، والشك التقديري ليس بشك.

ومنها: إنّ النقض لا يعقل تعلّقه بطبيعة اليقين في مرحلة الجعل، لأنّ المفاهيم غير قابلة للنقض كما أنّه في مرحلة المجعول إذا لم يوجد يقين وشك فعليان لا معنى للنقض، وإنّما يتصور النقض حين فعليتهما.

ومنها: إنّ الغرض من جعل الأحكام الظاهرية هو التنجيز والتعذير، وهما يتوقفان على الوصول أي العلم، وعليه فلا حكم ظاهري مع الغفلة، عكس الأحكام الواقعية حيث إنّ الغرض منها ليس التنجيز والتعذير فلذا تكون فعلية حتى في ظرف الجهل بها، وإنّما بالعلم تتنجز.

وبعبارة أخرى: إنّ مرحلة الفعلية والتنجز في الأحكام الظاهرية واحدة،

ص: 112

فلا حكم ظاهري مع عدم التنجز. وحيث كان الاستصحاب حكماً ظاهرياً فمع الجهل والغفلة لا يجري لعدم تنجّزه حينئذٍ.

إن قلت: الحكم الواقعي أيضاً فعليته مرتبطة بالوصول، لأنّ الغرض منه هو جعل الداعي، ولا تمكن فعلية الداعوية إلاّ بالوصول.

قلت: هذا مبحث مبنائي وقد مرّ الكلام فيه، لكنّه لا يضرّ بهذا الدليل لأنّه لم ينف اتحاد مرحلة الفعلية والتنجز في الأحكام الظاهرية، بل أضاف إليها الأحكام الواقعية أيضاً، فتأمل.

نعم الغافل يمكنه إجراء الاستصحاب بعد زوال الغفلة والتنبه، إذ حينذاك تتم أركان الاستصحاب، إلاّ لو منع مانع عن جريانه كقاعدة الفراغ.

تكملتان
التكملة الأولى: في ثمرة البحث

قد يقال: إنّ الثمرة بين القولين تظهر فيمن تيقن الحدث ثم غفل وصلّى، ثم بعد الفراغ شك في أنّه هل تطهر قبل الصلاة أم لا؟ فعلي القول بكفاية الشك التقديري جرى استصحاب الحدث فدخل في الصلاة محدثاً فتكون صلاته باطلة ولا تجري حينئذٍ قاعدة الفراغ، وأمّا على القول باشتراط فعلية الشك فلا يجري الاستصحاب، وإنّما تجري قاعدة الفراغ فصلاته صحيحة.

ويرد عليه إشكالات منها:

الإشكال الأوّل: ما ذكره المحقق العراقي(1) وحاصله: صحة الصلاة على كلا القولين فإنّ الأصل لا يجري إلاّ مع كونه ذا أثر، واستصحاب

ص: 113


1- نهاية الأفكار 4[ق1]: 14-15.

الحدث لا أثر له مطلقاً لا قبل الصلاة حيث إنّ الأثر هو عدم جواز الدخول فيها والغفلة رافعة لهذا الأثر، ولا حينها حيث إنّ الأثر وجوب قطعها والغفلة رافعة لهذا الوجوب، ولا بعدها حيث إنّ الأثر الذي هو وجوب الإعادة محكوم بقاعدة الفراغ، وذلك لأنّ غاية ما اشترط في تحقق موضوع قاعدة الفراغ هو أن يكون الشك بعد الفراغ من العمل، وقد حصل.

وأجيب: بأنّ جريان الاستصحاب مع اليقين والشك التقديريين يستدعي جريان الاستصحاب حينئذٍ وعدم جريان قاعدة الفراغ، وإلاّ كان جعل الاستصحاب مع الشك التقديري لغواً من أساسه، فمع فرض جعله لا بدّ من عدم حكومة قاعدة الفراغ عليه بدلالة الاقتضاء!

أقول: هذا إذا انحصرت الثمرة في مثال الصلاة، وأمّا لو وجد يقين وشك تقديريّان في غير موارد قاعدة الفراغ فلا لغوية لجعل هذا الاستصحاب، اللّهم إلاّ أن يقال: إنّه حين الالتفات يجري الاستصحاب على كلا القولين من غير مزاحم وذلك لفعلية اليقين والشك حين الالتفات، فلم تحصل ثمرة على هذا الاختلاف، فتأمل.

الإشكال الثاني: إنّ الثمرة لا تتم على جميع مباني قاعدة الفراغ.

1- فإن قلنا: إنّها من الأمارات العقلائية التي أمضاها الشارع، وذلك لأصالة عدم الغفلة وأصالة عدم تفويت شيء عمداً لمن هو في مقام الامتثال، فهذا إنّما يتم في من لم يكن غافلاً حين العمل، وأمّا مع العلم بغفلته فلا تجري أصالة عدم الغفلة، وعليه لا تجري قاعدة الفراغ، وأمّا الاستصحاب فهو يجري مطلقاً أمّا على القول بكفاية الشك التقديري فواضح، وأمّا من اشتراط فعليته فإنّه بعد الالتفات يجريه من غير مزاحم ولا حاكم.

ص: 114

2- وإن قلنا بأنّها أصل تعبدي مقيّد بالأذكرية، فلا تجري القاعدة في مفروض الكلام، وذلك للعلم بغفلته حين العمل فلا معنى لكونه أذكر.

3- وإن قلنا بأنّها أصل تعبدي غير مقيد بالأذكرية وإنّما هي حكمة أي علة الجعل لا علة المجعول، فحينئذٍ تجري القاعدة حتى لو قلنا بكفاية الشك التقديري في الاستصحاب، وذلك لحكومة القاعدة على الاستصحاب، سواء كان الاستصحاب قبل الصلاة أم بعده.

وفيه: ثبوت الثمرة على المبنى الأوّل والثالث، لأنّ مبنى العقلاء هو عدم الاعتناء بالشك بعد العمل حتى لو كان مع الغفلة إذا لم تكن حجة على الخلاف، وعليه فمع جريان الاستصحاب مع الشك التقديري لا بناء لهم بالصحة ومع عدم جريانه يبنون على الصحة، وهكذا على مبنى التعبد مع عدم كون الأذكرية علة للمجعول، فمع الحجة لا مجال للقاعدة ومع عدمها تجري، والمفروض أنّه مع الاستصحاب في حالة الشك التقديري توجد الحجة فلا يبقى مجال للقاعدة، فتأمل.

التكملة الثانية: الغفلة بعد الاستصحاب

قال الشيخ الأعظم: «فالمتيقن للحدث إذا التفت إلى حاله في اللاحق فشك جرى الاستصحاب في حقه، فلو غفل عن ذلك وصلّى بطلت صلاته لسبق الأمر بالطهارة، ولا تجري في حقه حكم الشك في الصحة بعد الفراغ عن العمل، لأن مجراه الشك الحادث بعد الفراغ لا الموجود من قبل»(1).

ص: 115


1- فرائد الأصول 3: 25.

وأورد عليه: أوّلاً: إنّ الشك في ما نحن فيه حادث بعد الفراغ لا قبله، قال في المنتقى: «لأنّ موضوع قاعدة الفراغ هو الشك في الصحة الناشء عن الشك في اختلال بعض ما يعتبر في العمل من الأجزاء والشرائط، أي الشك في صحة العمل لا الشك في وجود الجزء أو الشرط، وعليه: فإذا التفت إلى أنّه محدث أو متطهر قبل العمل وأجرى الاستصحاب ثم غفل عن ذلك ودخل في العمل، فهو في أثناء العمل ليس شاكاً في صحة العمل لغفلته، وشكّه الارتكازي حال الغفلة إنّما هو في حدثه وطهارته وهو غير الشك في صحة العمل ومطابقته للمأمور به، فإذا التفت بعد الفراغ فشكّه في صحة العمل شك حادث بعد العمل لا في أثنائه»(1).

وثانياً: إنّه لا شك بعد العمل في بطلان الصلاة، ومع عدم الشك لا مجرى لقاعدة الفراغ، وذلك لأنّه مع جريان استصحاب الحدث - مثلاً - يقطع بعد الالتفات بأنّه لم يؤدِّ وظيفته الفعلية فلم يكن المأتي به مطابقاً للمأمور به فيكون عمله باطلاً.

وفيه: إنّ اليقين السابق مع كونه حجة ذاتية لا يمنع من جريان قاعدة الفراغ لو غفل وصلّى في حالة الغفلة فعدم منع الاستصحاب عن جريانها لو غفل عن الاستصحاب وصلّى بطريق أولى، والحاصل: إنّه لا يعلم بمخالفته لوظيفته الفعلية حتى يقطع ببطلان عمله وعدم مطابقته للمأمور به.

وعليه: فالأقرب صحة الصلاة حينئذٍ إلاّ أن يثبت إجماع على بطلانها، فتأمل.

ص: 116


1- منتقى الأصول 6: 29.
الشرط الثاني: وجود الشك بالمعنى الأعم

لا يشترط في الاستصحاب الشك المنطقي - بتساوي الاحتمالين - بل يجري حتى مع الظن بالخلاف أو الوفاق، ويدل عليه أمور.

الدليل الأوّل: الشك لغةً وعرفاً عام يشمل الوهم والظن أيضاً، وليس ذلك مسامحة أو توسعة لمعنى الشك بل هو معناه الحقيقي، كما أنّه قد استعمل في بعض الروايات بالمعنى الأعم بحيث له ظهور بإرادته كقوله (علیه السلام): «متى ما شككت فخذ بالأكثر، فإذا سلمت فأتم ما ظننت أنّك قد نقصته»(1).

الدليل الثاني: دلالة روايات الاستصحاب بنفسها على المعنى الأعم كقوله في صحيحة زرارة الأولى: «ولكنه ينقضه بيقين آخر» حيث دلّ على أنّ الناقض لليقين الأوّل لا يكون إلاّ اليقين حصراً حيث كان (علیه السلام) في مقام التحديد، وكقوله (علیه السلام): «لا حتى يستيقن أنّه قد نام» حيث إنّ العادة قاضية بالظن بنوم من حُرّك في جنبه شيء وهو لا يعلم، مضافاً إلى ترك الاستفصال في كلامه (علیه السلام) ، وكقوله (علیه السلام): «لا حتى يستيقن» فإنّ المغيّى هو: لا يعيد الوضوء، والغاية هي: حتى يستيقن، ثم استدل بقوله: «ولا ينقض اليقين بالشك» حيث إنّ ظاهره أنّه ما دام لم يستيقن بالنوم فلا تجب عليه إعادة الوضوء.

الدليل الثالث: الإجماع في كلام الشيخ الأعظم(2)، ببيان أنّ جميع من استدل بالأخبار اعتبر الشك أعم، ومن لم يستدل بها يذعن بأنّها لو كانت

ص: 117


1- من لا يحضره الفقيه 1: 225؛ عنه وسائل الشيعة 8: 212.
2- فرائد الأصول 3: 285.

الدليل لدلّت على الأعم - وهذا إجماع تعليقي - .

وفيه: عدم ثبوت الإجماع لعدم ذكر الكثيرين لهذه المسألة، بل البعض قال بحجيّة الاستصحاب لإفادته الظن الشخصي وهو لا يجتمع مع الظن بارتفاع المتيقن السابق، كما أنّ التعليقي غير حجة حكماً، غير معلوم موضوعاً.

الدليل الرابع: إنّ الظن إمّا منهي عنه شرعاً فوجوده كالعدم كالظن القياسي، وإمّا لم يقم الدليل على اعتباره فنشك في اعتباره وإطلاق قوله: «لا تنقض اليقين بالشك» ينفيه.

وفيه: أنّ الدليل الناهي عن القياس ونحوه ينفي حجيّة ذلك الظن ولا يثبت ترتب آثار الشك عليه، كما أنّه لا بدّ من اتحاد متعلق اليقين والشك فلا يصح أن يكون متعلق اليقين الطهارة مثلاً، ومتعلق الشك هو اعتبار الظن.

اللّهم إلاّ أن يقال: «إنّ المراد من النهي عن نقض اليقين بالشك ليس هو النهي عن جعله مثبتاً للواقع وكاشفاً عنه بلا إشكال، بل المراد هو النهي عن ترتيب أثر الشك من الرجوع إلى البراءة العقلية أو النقلية أو الاحتياط، فإنّ هذا هو العمل الذي كان يرتكبه المفكِّك لولا جعل حجيّة الاستصحاب والنهي عن نقض اليقين بالشك، وحيث إنّ الموضوع لقبح العقاب وكذا الطهارة الظاهرية والحليّة الظاهرية والرفع وغيرها ما هو غير المعلوم، ولم نعثر على أصل كان موضوعه الشك بما هو شك فلا بدّ أن يكون دليل الاستصحاب ناظراً إلى آثار الشك باعتبار كونه من مصاديق ما لا يعلم، لا باعتبار كونه شكاً»(1)،

فتأمل.

ص: 118


1- رشحات الأصول 2: 344.
الشرط الثالث: وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة
اشارة

وفيه مقامان:

المقام الأوّل: لزوم اتحادهما في الموضوع والمحمول

1- أمّا بقاء الموضوع...

فلا يراد به بقاؤه خارجاً، إذ في استصحاب وجود الموضوع بنحو مفاد كان التامة يكون الشك في بقاء الموضوع، فيكون الموضوع الذات أي الماهية.

وأمّا مفاد كان الناقصة فإن كان الموضوع محرزاً والشك في بقاء الوصف فلا إشكال في جريان الاستصحاب لوجود مقتضيه وفقدان مانعه، وأمّا مع الشك في بقاء الموضوع بحيث لا يكون الموضوع محرزاً فلا محذور في استصحاب الموضوع والوصف معاً، كما لا محذور في استصحاب الوصف لوحده لتمامية أركان الاستصحاب.

إن قلت: إنّ نسبة المحمول إلى الموضوع نسبة العرض إلى الجوهر، فإذا لم يكن الموضوع محفوظاً في القضيتين لزم التعبد بوجود العرض بلا موضوع أو بانتقال العرض من موضوع إلى آخر، وكلاهما محال من غير فرق بين كون الشك في أصل الوجود مع كون الموضوع الذات وبين كون الموضوع الوجود والمحمول عوارض الوجود.

قلت: أجاب في الكفاية(1)

بما حاصله: أنّه لا يراد بالاستصحاب إثبات الوجود الخارجي للشيء، بل يراد التعبد ببقائه ليترتب عليه الآثار، والتعبد

ص: 119


1- إيضاح كفاية الأصول 5: 177-178.

ببقاء العرض حتى مع تغيّر موضوعه ممكن، إذ لا يراد بالاستصحاب بقاء الشيء خارجاً بل يراد التعبد ببقائه لترتيب آثاره، وهو أمر اعتباري فلا محذور فيه، نعم لا تترتب الآثار التي تتوقف على الوجود الخارجي مع عدم استصحابه.

إن قلت: إنّه أصل مثبت فلو شك في عدالة زيد وفي بقائه، فاستصحاب العدالة لوحدها معناه وجود العرض من غير معروض، واستصحاب بقاء زيد مثبت حيث إنّ العدالة ليست من آثار وجوده.

قلت: إنّ الأثر يترتّب على الموضوع المركب فيمكن استصحابهما معاً، كما يمكن استصحاب بقاء العرض لوحده إذ لا مانع من التعبد بالعرض دون المعروض وإنّما المحال وجوده خارجاً من دونه.

2- وأمّا بقاء الحكم...

فتارة منشأ الشك هو احتمال النسخ، فحينئذٍ يجري الاستصحاب كما مرّ.

وتارة: منشأ الشك حدوث تغيير في الموضوع، فلا بدّ من إحراز الوحدة العرفية للموضوع لكي يجري الحكم كما سيأتي.

وتارة: منشأ الشك هو الشك في مفهوم الموضوع، كالشك في وجوب الإمساك في شهر رمضان بعد استتار القرص وقبل ذهاب الحمرة المشرقية، فلا محذور في الاستصحاب في الموضوع وفي الحكم، كما سيأتي.

المقام الثاني: في مناط الاتحاد

هل هو الدقة العقلية أم الوحدة عرفاً أم الوحدة بحسب لسان الدليل؟

والكلام في مرحلتي الثبوت والإثبات.

ص: 120

أمّا ثبوتاً: فحسب الدقة العقلية لا يجري استصحاب الحكم إلاّ مع الشك في النسخ، وذلك لأنّه لا شك مع عدم تغيّر أي خصوصية من الخصوصيات في الموضوع، ومع تغيّرها يحصل الشك لكن العقل يحتمل دخل تلك الخصوصية في الحكم، وحينئذٍ لا إحراز لبقاء الموضوع، فيكون الاستصحاب حينئذٍ من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، لكن يجري الاستصحاب في بقاء الموضوع لتحقق الوحدة الدقية فمثلاً حياة زيد هي نفسها المتيقنة والمشكوكة.

وأمّا حسب لسان الدليل والنظرة العرفية فيجري الاستصحاب سواء في موارد الشك في الموضوع أم الحكم، وذلك في ما لم تكن الخصوصية المتغيرة مأخوذة في لسان الدليل ولم يكن العرف يراها مقومة، نعم لو أخذت في لسانه أو رآها العرف مقوماً فلا استصحاب.

وغير خفي الفرق بينهما إذ لسان الدليل يرتبط بالإرادة الاستعمالية، وأمّا النظرة العرفية فترتبط بالإرادة الجدية كالعنب والزبيب، فالعنب حسب لسان الدليل لا يشمل الزبيب، لكن حسب النظرة العرفية - عبر إلغاء الخصوصية أو فهم الملاك - يعتبران واحداً، وكما لو قال: (الماء المتغيّر بالنجاسة ينجس) أو قال: (الماء ينجس إذا تغيّر) مثلاً فلا فرق عرفاً، لكن حسب لسان الدليل (التغيّر) داخل في الموضوع في الأوّل وخارج عنه في الثاني.

وكثيراً ما يتفقان إمّا لكون المفهوم العرفي منحصراً في دائرة ظهور اللفظ، أو لوجود قرينة صارفة للّفظ عن معناه اللغوي إلى المعنى العرفي.

والحاصل: إنّ لسان الدليل مأخوذ من العرف أيضاً، لأنّه المرجع في الظهورات، لكن مع ذلك قد يفترق عن المتفاهم العرفي حسب مرتكزات

ص: 121

أذهان العرف.

وأمّا إثباتاً: فحيث إنّ دليل الاستصحاب ملقى إلى العرف، فلا بدّ أن يكون ما يفهمه هو المراد، إذ لو لم يرد الشارع ما يفهمه العرف لكان عليه البيان وإلاّ كان إغراءً بالجهل وإلقاء في المفسدة، وذلك ينزّه الشارع عنه.

الشرط الرابع: اتصال اليقين بالشك

فإنّه لا بدّ لصدق نقض اليقين بالشك من اتصالهما، وإلاّ فلا يصدق النقض سواء كان الفاصل علماً تفصيلياً كما لو تيقن الطهارة ثم تيقن النجاسة ثم شك، فلا إتصال بين اليقين بالطهارة مع الشك، فعدم الحكم بالطهارة ليس نقضاً ألبتّة، أم كان الفاصل علماً إجمالياً كما لو علم بطهارة الإناء الأوّل ثم علم بسقوط قطرة دم في أحد الإنائين، ثم شك في طهارة الإناء الأوّل، فلا يجري استصحاب طهارته لأنّ الإناء المتنجس واقعاً إن كان الأوّل فقد انقطع اليقين بطهارته عن زمان الشك، وإن كان الإناء الآخر فلا انقطاع، وحينئذٍ فلم يحرز الاتصال، فلم يحرز كون الحكم بعدم الطهارة نقضاً، فيكون التمسك بدليل الاستصحاب تمسكاً بالعام في الشبهة المصداقية.

الشرط الخامس: بقاء اليقين بالحدوث

أي كون الشك متعلقاً بالبقاء مع استمرار اليقين بالحدوث، إذ لو تعلق الشك بالحدوث كان من قاعدة اليقين لا الاستصحاب، إذ الشك فيها ساري، والشك فيه طارئ.

عدم حجية قاعدة اليقين

ولا دليل على حجيّة قاعدة اليقين لأنّ الدليل إمّا إطلاق اليقين في أدلة

ص: 122

الاستصحاب أو أدلة أخرى، ولكن لا إطلاق ولا دليل آخر.

أمّا عدم الإطلاق فلوجوه، الأوّلان منها ثبوتيان وسائرها إشكالات إثباتية:

الوجه الأوّل: ما ذكره المحقق النائيني في الفوائد(1)

وحاصله: اختلاف الاستصحاب والقاعدة في اليقين والمتيقن والنقض والحكم، ولا يمكن الجمع بينهما في اللحاظ في هذه الجهات:

1- أمّا جهة اليقين: ففي الاستصحاب ملحوظ بما هو كاشف عن المتيقن، وفي القاعدة ملحوظ بنفسه لبطلان كاشفيته بعد تبدله بالشك.

2- وأمّا جهة المتيقن: ففي الاستصحاب لا بدّ أن يكون معرّى عن الزمان غير مقيد به، وفي القاعدة لا بدّ أن يكون مقيداً به.

3- وأمّا جهة النقض: ففيه باعتبار ما يقتضيه اليقين من الجري العملي على طبق المتيقن، وفيها باعتبار نفس اليقين.

4- وأمّا جهة الحكم: فالحكم المجعول فيه هو البناء العملي على ثبوت المتيقن في زمان الشك، وفيها البناء العملي على ثبوت المتيقن في زمان اليقين.

وعليه فالقاعدة تباين الاستصحاب في كل هذه الجهات الأربع فلا يمكن أن تعمها أخبار الباب.

وأورد عليه: بعدم ثبوت هذه الفروق، ومع ثبوتها فهي غير فارقة.

أمّا الأوّل: إنّ اليقين في كليهما كان كاشفاً، ولا يقين بالنسبة إلى الزمان

ص: 123


1- فوائد الأصول 4: 589.

اللاحق فلا كاشفية فلا فرق.

وأمّا الثاني: لا محذور من ملاحظة الشك في نفسه مجرداً عن المتعلق كي يشمل الشك في البقاء والشك في الحدوث.

وأمّا الثالث: فلاشتراكهما كليهما في الجري العملي، إذ الجعل الشرعي إنّما هو بلحاظ الأثر العملي.

وأمّا الرابع: فإنّ هذا الاختلاف حسب المورد لا حسب الدليل، حيث لا فرق في إلغاء الشك، إلاّ أنّ إلغاء الشك في الحدوث يلازم الحكم بالحدوث والبقاء، وإلغاءه في البقاء يلازم الحكم بالبقاء من غير فرق بين إلغاء الشك في نفسه.

الوجه الثاني: ما عن المحقق الخراساني في حاشية الرسائل(1) وحاصله: أنّه بعد لحاظ متعلقي الشك واليقين - لتوقف صدق النقض على ذلك الاتحاد - لا بدّ من إلغاء خصوصية الزمان في الاستصحاب، ففي الاستصحاب لا يلاحظ الزمان في المتعلق، وأمّا في القاعدة فلا بدّ من لحاظ الزمان فيه، وحينئذٍ فإن أفيد هذان المؤديان بمفهوم اسمي يعمّهما - بحيث يكشف عن اللحاظين المذكورين - كما إذا قيل: (لا تنقض اليقين بالشك الذي له تعلّق بما تعلّق به اليقين) فهو، وإلاّ فلا يمكن أداء هذين المؤديين بمعنى حرفي لا يكاد يراد منه إلاّ أحدهما، لعدم إمكان اجتماع اللحاظين المتنافيين في إنشاء واحد، وأخبار الباب كذلك، إذ ليس فيها مفهوم اسمي يعم المؤديين بلحاظهما المتنافيين، فلا يستفاد منهما إلاّ الاستصحاب.

ص: 124


1- درر الفوائد في الحاشية على الفرائد: 388.

وأشكل عليه في المنتقى(1):

بأنّه لا وجه للحاظ عدم الزمان في المتيقّن في الاستصحاب، بل اللازم تعلّق الشك بفعلية الشيء على حدّ تعلّق اليقين به، الملازم لصدق الشك في البقاء، فليس الزمان ملحوظاً في متعلق أحدهما، وعدمه ملحوظاً في الآخر. وعلى فرض اعتبار هذين اللحاظين في القاعدتين، فيمكن للحاكم حين الإنشاء لحاظهما معاً مع عدم الحاجة إلى مفهوم اسمي للدلالة عليهما في مقام الإثبات، بل يمكن الاكتفاء بالقرينة الحالية أو بعض خصوصيات الكلام كإسناد النقض وشبه ذلك.

الوجه الثالث: ما ذكره المحقق العراقي(2) وحاصله: أنّه لا يمكن أن يكون الإسناد الواحد حقيقياً ومجازياً، ففي قوله: «لا تنقض اليقين بالشك» إن أريد قاعدة اليقين كان إسناد النقض إلى اليقين حقيقياً وذلك لتعلق اليقين والشك بشيء واحد حقيقة، وأمّا إن أريد الاستصحاب فإسناده إليه مجازي حيث إنّ متعلق اليقين هو الشيء في الزمان السابق ومتعلق الشك الشيء في الزمان اللاحق ومع تعدد المتعلق يكون إسناد النقض مجازياً، ولا بدّ في النص من حمله على الإسناد المجازي بقرينة تطبيق الإمام (علیه السلام) هذه الكبرى على الاستصحاب.

وفيه: أنّ الإسناد مجازي على كل حال، إذ متعلق النقض هو اليقين، وهو قد انتقض وجداناً في الاستصحاب والقاعدة - ففي القاعدة انتقض في الزمان الأوّل وفي الاستصحاب في الزمان الثاني - فلا بدّ من حمله على

ص: 125


1- منتقى الأصول 6: 390.
2- نهاية الأفكار 4[ق1]: 242-244.

معنى مجازي هو النقض بلحاظ الجري العملي، مع إمكان لحاظ الجامع بين الشك الساري والطاري مع عدم لحاظ الخصوصية فلا يكون في البين إسنادان.

الوجه الرابع: في موارد القاعدة يوجد تعارض دائم بين الاستصحاب وقاعدة اليقين بحيث يمنع عن شمول الدليل لكليهما، مثلاً لو كان لنا يقين بعدالة زيد يوم الجمعة، ثم في يوم السبت شككنا في عدالته، فاستصحاب عدم عدالته قبل يوم الجمعة يتعارض مع الحكم بعدالته فيها بمقتضى قاعدة اليقين، وحيث لا يمكن شمول الكلام لكليهما فلا بدّ من مرجح وهو متحقق في الاستصحاب لتطبيق الإمام (علیه السلام) الكبرى عليه.

وأشكل عليه: أوّلاً: بما عن المحقق الخراساني(1)

بعدم تحقق موضوع الاستصحاب مع جريان قاعدة اليقين لو كانت حجة، فلا تعارض، للطولية بينهما، وذلك لأنّه في مورد الاجتماع موضوع قاعدة اليقين متحقق على كل حال حيث إنّه كان على يقين ثم شك، فاليقين المتعقب بالشك حاصل سواء جرى الاستصحاب أم لم يجر، وأمّا موضوع الاستصحاب فغير متحقق مع جريان قاعدة اليقين، إذ مع جريانها لا يبقى شك فلا يتم موضوع الاستصحاب.

وفيه: أنّه بمجرد الشك يتحقق موضوع كليهما، إذ اليقين الثاني - في المثال بعدالة زيد يوم الجمعة - قد زال فلا محذور من التمسك باليقين الأوّل، وذلك لأنّ المناط في الأصول العملية ليس مجرد حدوث المنجز أو

ص: 126


1- درر الفوائد في الحاشية على الفرائد: 389-390.

المعذر، وإنّما بقاؤهما أيضاً، والشك حاصل وجداناً، ففي المثال بمجرد الشك يوم السبت يكون اليقين بعدالته يوم الجمعة قد زال، فيتحقق موضوع قاعدة اليقين والاستصحاب في عرض واحد من غير طولية بينهما.

وثانياً: ما عن المحقق العراقي(1)

بما حاصله: إنّ هناك موارد خارجة عن التعارض لعدم جريان الاستصحاب كما في توارد الحالتين، فحينئذٍ تجري القاعدة لوجود المقتضي وهو إطلاق الدليل وعدم المانع.

لا يقال: إنّ الأحكام المجعولة بنحو القانون ينبغي عدم الاستثناء فيها بحد يخدش في قانونية القانون!

لأنّه يقال: إنّه لو كان لكلام المولى إطلاق فلا محذور في التمسك به حتى في المصاديق التي تبتلى بالمانع في أكثر الموارد، نعم لو كان ضرب القانون بشكل مستقل فتخصيص الأكثر فيه مستهجناً بالنحو الذي مرّ سابقاً وإلاّ فليس كل تخصيص للأكثر بمستهجن.

الوجه الخامس: انصراف الأخبار إلى خصوص الاستصحاب، لأنّ ظاهر القضايا إرادة ترتب الأحكام على الموضوعات الفعلية حتى في القضايا الحقيقية فموضوعها الشيء المتصف بالفعلية في ظرفه الذي يراد ترتيب الحكم عليه، واليقين والشك في الأخبار ظاهران في اليقين والشك الفعليان لا الزائلان، وهذا خاص بالاستصحاب حيث إنّ اليقين فيه فعلي دون القاعدة حيث إنّ اليقين فيها قد ارتفع وليس بموجود، فتأمل.

ص: 127


1- نهاية الأفكار 4[ق1]: 245.

فصل في الاستصحاب في مورد الأمارات والأصول

اشارة

لو ثبت الحكم الشرعي أو موضوعه بالأمارات أو الطرق أو الأصول العملية فلا يوجد يقين غالباً، وإنّما ظن معتبر أو وظيفة عملية، كما أنّه لو شك بعد ذلك فإنّ شكه ليس في بقاء المتيقن، وإنّما شك مطلق، فينتفي بذلك كلا ركني الاستصحاب، فكيف يجرون الاستصحاب حينئذٍ؟

مثلاً: لو قامت البينة على تغيّر ماء بالنجاسة ثم زال التغيّر من نفسه وشك في بقائها، أو قام خبر واحد على حرمة العصير العنبي بعد الغليان وشك في الحرمة بعد صيرورته زبيباً وغليانه، أو قام أصل عملي على حدوث شيء ثم شك في بقائه.

وهنا مبحثان:

المبحث الأوّل: في الاستصحاب في موارد الأمارات والطرق

وقد ذكرت وجوه في تصحيح الاستصحاب فيها، بعضها بناءً على نفي الحكم الظاهري وبعضها بناءً على إثباته وبعضها أعم، فمنها:

الوجه الأوّل: ما في الكفاية(1)

من أنّ اليقين والشك لم يلاحظا في دليل الاستصحاب بما هما، بل لوحظا بما هما مرآة للواقع، فالمقصود هو ما

ص: 128


1- إيضاح كفاية الأصول 5: 50-51.

كشف عن الواقع، ولا فرق حينئذٍ بين اليقين الوجداني وبين الأمارات والطرق حيث إنّها كاشفة عن الواقع كشفاً تاماً بعد تتميم الشارع كاشفيتهما.

وبعبارة أخرى: إنّ دليل الاستصحاب يثبت الملازمة بين الثبوت والبقاء، فما ثبت - سواء باليقين أو بالظن المعتبر - دام ما لم يعرض يقين آخر أو ظن معتبر آخر فينقضه.

وأورد عليه بإشكالات، منها:

الإشكال الأوّل: إنّ التنجيز والتعذير غير قابلين للجعل، لأنّهما بحكم العقل حيث إنّ التنجيز هو استحقاق العقاب، والتعذير هو تأمين عنه، وموضوعهما وصول الحكم إلى المكلّف أو عدم الوصول إليه، فما وصل حكم العقل بتنجيزه، وما لم يصل حكم العقل بالتعذير عنه(1).

والحاصل: إنّ الشارع وإن كان بيده جعل الموصل إلاّ أنّه بعد وصوله يحكم العقل بتنجيزه وبعد عدم وصوله يحكم بالتعذير عنه.

وفيه: أنّ المجعول هو الحجيّة وهي التي تستصحب ويترتب عليها حكم العقل بالتنجيز أو التعذير، فلا يراد استصحاب التنجيز والتعذير كي يورد عليه بما أورد.

الإشكال الثاني: إنّه لا ملازمة بين الحدوث والبقاء، لأنّ الملازمة الواقعية واضحة البطلان، وأمّا الملازمة الظاهرية فغير ثابتة بل ثبت عدمها في بعض الموارد مما يكشف عن عدم وجود الملازمة، فالعلم الإجمالي - مثلاً - منجز حدوثاً، لكنّه ينحل مع قيام الأمارة على أحد الطرفين فلا بقاء للتنجيز،

ص: 129


1- فوائد الأصول 4: 409.

وعليه يثبت عدم الملازمة، مضافاً إلى أنّ الملازمة عقلية.

وفيه أوّلاً: أنّ مدعي الملازمة إنّما يدعيها على فرض عدم زوال الحادث وإنّما الشك في بقائه، وفي المثال قد زال العلم الإجمالي من أساسه، لا أنّه يشك في بقاء تنجيزه مع بقائه، ومورد الاستصحاب هو بقاء اليقين لا زواله من أصله لأنّه حينئذٍ يكون من موارد قاعدة اليقين، ففي ما نحن فيه لو قامت البينة على عدالة زيد - مثلاً - ثم شككنا في بقائها فإنّ البينة على الحدوث لم ترتفع، وإنّما شك في بقاء تلك العدالة، نعم لو شك في أصل البينة أو في حجيّتها شرعاً فحينئذٍ يخرج عن موضوع الملازمة للشك في أصل الحدوث، فتأمل.

ثانياً: إنّه لو فرض كون الملازمة عقلية، لكن المقصود ليس استصحابها بعنوانها، وإنّما استصحاب واقعها أي جعل البقاء في فرض الحدوث بحيث يكون الحدوث ملحوظاً موضوعاً للتعبد بالبقاء، فالمتعبد به هو البقاء على تقدير الحدوث، وينتزع من ذلك جعل الملازمة، نظير كل حكم مرتب على موضوعه فإنّه ينتزع عنه الملازمة بين الموضوع والحكم(1).

الوجه الثاني: إنّ موضوع الاستصحاب هو اليقين بما أنّه حجة على الواقع، فالعلة في جعله موضوعاً - وهو الحجيّة - موجودة في الأمارات أيضاً.

وفي هذا الوجه - عكس الأوّل - يبقى اليقين موضوعاً، لكن تمّ تعميم حكمه عبر العلة في جعله موضوعاً.

وقد يورد عليه: بأنّ الحجة إن أريد بها الكشف عن الواقع فهو رجوع

ص: 130


1- منتقى الأصول 6: 154؛ نهاية الدراية 5: 131.

إلى الطريق الأوّل، وإن أريد الاحتجاج بين الموالي والعبيد فهو خلاف الظاهر.

وفيه نظر: لأنّ الشيء قد يلاحظ بما هو هو لكن سبب الملاحظة الكشف عن الواقع، وقد لا يلاحظ بما هو هو وإنّما يلاحظ باعتبار كشفه، وبينهما بون شاسع.

الوجه الثالث: بناءً على جعل الحكم الظاهري، وحاصله: إنّه مع قيام الأمارة أو الطريق يحتمل مطابقتهما للواقع فيجعل حكم ظاهري قطعاً، فيوجد يقين به، فمع حدوث الشك ّيحتمل بقاء الحكم، فيستصحب.

وأشكل عليه: بأنّه من القسم الثالث من استصحاب الكلي وليس بحجة، لأنّ الحكم الظاهري قد زال قطعاً بزوال الأمارة وعروض الشك مع احتمال بقاء كلي الحكم لأجل احتمال وجود الحكم الواقعي مقارناً للحكم الظاهري.

وأجيب: إنّه - على بعض مباني الحكم الظاهري - من قبيل القسم الثاني من استصحاب الكلي، حيث إنّه على تقدير مطابقة الأمارة للواقع لا يجعل حكم ظاهري وإنّما الجعل على تقدير المخالفة، وعليه فحين الشك يدور الأمر من الأوّل بين الفرد المقطوع الزوال وهو الحكم الظاهري وبين الفرد المحتمل البقاء، وهو القسم الثاني من استصحاب الكلي!

إن قلت: لا أثر للحكم الظاهري بما هو هو من لزوم امتثال وغيره من الأحكام، وحينئذٍ فلا أثر للجامع كي يصح استصحابه!

قلت: إن الظاهر أنّ للحكم الظاهري أثراً بما هو هو كحرمة التجري

ص: 131

بمخالفته - ولو لم يكن مطابقاً للحكم الواقعي - وزوال ملكة العدالة بالإصرار على مخالفته ونحو ذلك، وهذا المقدار يكفي في ثبوت الأثر للجامع، فتأمل.

الوجه الرابع: ما ذكره المحقق العراقي قال: «بقيام الأمارة أو البينة على وجوب شيء أو طهارته أو نجاسته - مثلاً - يقطع بثبوت الحكم الظاهري ووجوب ترتيب آثار الواقع، فإذا شك بعد ذلك في نجاسة ما قامت الأمارة على طهارته - لاحتمال ملاقاته مع النجاسة في الزمان الثاني - يستصحب تلك الطهارة الظاهرية، لتحقق أركانه جميعاً من اليقين السابق والشك اللاحق، ولا يحتاج إلى إحراز الطهارة الواقعية التي هي مؤدّى الأمارة كي يشكل بعدم إحراز الحدوث»(1).

وأشكل عليه: بعدم جريانه لو انحصر احتمال مخالفة الأمارة للواقع بجهة مخصوصة، كما لو كان متيقناً بعدم ملاقاة الماء لسائر النجاسات غير الدم، وقامت الأمارة على عدم ملاقاته للدم، فإنّ الحكم الظاهري إنّما هو من جهة عدم ملاقاة الدم، فلو احتمل بعد ذلك ملاقاته للبول فلا حكم ظاهري من الأوّل بالطهارة من هذه الجهة، فلا يقين سابق لكي يستصحب، فلا بدّ من استصحاب الطهارة الواقعية، فرجع إلى الوجه الثالث.

وفيه: أنّ الحكم الظاهري بالطهارة مثلاً حكم واحد وإن اختلف منشؤه، ويدل عليه أنّه لو قامت البينة على عدم ملاقاته للبول ثم قامت بينة أخرى على عدم ملاقاته للدم - مثلاً - فليس هنا حكمان ظاهريان، بل حكم واحد

ص: 132


1- نهاية الأفكار 4[ق1]: 112.

وإن تعدّد منشؤه، وعليه فلو قامت بينة على عدم ملاقاته للبول ثبت حكم ظاهري بالطهارة مطلقاً، ثم مع الشك في ملاقاته للبول يتم استصحاب نفس الحكم الظاهري الأوّل وليس حكماً ظاهرياً ثانياً لا يقين سابق له.

الوجه الخامس: إثبات أنّ مفاد الأمارات والطرق هو يقين تعبدي بحكومة أدلتها، قال المحقق العراقي: «إنّه على مبنى أنّ مفاد أدلة الطرق والأمارات هو كونه بنحو تتميم الكشف وإحراز الإثبات التعبدي للواقع - لا بنحو تنزيل المؤدّى ولا جعل الحجيّة - فلا قصور في استصحاب الأحكام التي قامت الأمارات على ثبوتها، سواء قلنا إنّ (اليقين) ملحوظ بنحو العنوانية أو المرآتية، وذلك لأنّ دليل الأمارة - بعناية تكفله لإثبات العلم والإحراز - يوسع دائرة اليقين الناقض والمنقوض في الاستصحاب، وبذلك يجري الاستصحاب في مؤديات الأمارات لكونها محرزة حينئذٍ بالإحراز التعبدي، كما أنّه به يتم حكومتها عليه عند قيامها على بقاء الحالة السابقة أو ارتفاعها، بلا احتياج إلى جعل اليقين في (لا تنقض...) كناية عن مطلق الإحراز كي يلزم تقدّم الأمارة عليه بمناط الورود لا الحكومة، ولا إلى دعوى كفاية الشك في البقاء على تقدير الثبوت في صحة الاستصحاب»(1).

ويمكن أن يقال: إنّ الحكومة إنّما تكون باللفظ أي عبر توسيع عنوان مأخوذ في دليل بدليل آخر مثلاً، ولا تجري مع واقع التوسعة، وفي ما نحن فيه لا يوجد دليل يعتبر الأمارات والطرق يقيناً تعبدياً، وإنّما هو لازم عقلي لتتميم الكشف، وهو ليس بحكومة، فتأمل.

ص: 133


1- نهاية الأفكار 4[ق1]: 108-109.

الوجه السادس: إنّه في الشهادة يعتبر العلم بالمشهود به، وقد دلّت صحيحة معاوية بن وهب على جواز الشهادة في مورد الاستصحاب(1)، وهذا معناه أنّ الشارع أقام الاستصحاب مقام العلم، ومع تقدم جميع الأمارات على الاستصحاب يتضح أن الشارع قد جعلها بمنزلة العلم، وإلاّ لم يكن وجه لتقدمها عليه.

ويرد عليه: أنّ مجرد قيام الأصل في مورد الشهادة مقام العلم لا يدل على قيامه مقامه في سائر الموارد.

الوجه السابع: إنّ قرينة السياق تدل على أنّ اليقين الناقض واليقين المنقوض في قوله (علیه السلام): «لا تنقض اليقين بالشك بل انقضه بيقين آخر» بمعنى واحد، وهناك موارد كثيرة دل الدليل على كفاية الأمارة في الناقض فلم يؤخذ فيه اليقين الوجداني، فكذلك اليقين المنقوض، فمنها: اليقين بعدم التذكية حين الحياة ينقض بسوق المسلمين وباليد، واليقين بالطهارة من الحيض ينقض برؤية الدم المشكوك في العادة الوقتية، واليقين بنجاسة موضع الحجامة ينقض بادعاء الحجام تطهيره ولو لم يكن ثقة، ومنها: نقض اليقين بالعدة بقول المرأة بانتهائها حتى لو لم تكن ثقة، وغيرها كثير.

ويمكن أن يقال: إنّه لا محذور في القول بأنّ الناقض كما يكون اليقين حسب دليل الاستصحاب كذلك يكون غيره في موارد خاصة لا لجهة

ص: 134


1- عن معاوية بن وهب قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): «الرجل يكون له العبد والأمة قد عُرف ذلك، فيقول: أبق عبدي أو أمتي، فيكلفونه القضاة شاهدين بأنّ هذا غلامه أو أمته لم يهب ولم يبع، أنشهد على هذا إذا كُلّفناه؟ قال: نعم». وسائل الشيعة 27: 337.

كونها أمارة بل لجهات يعلمها الشارع، فليس ذلك من باب التعميم في اليقين الناقض، اللّهم إلاّ أن يثبت إلغاء الخصوصية فيها أو الملاك القطعي، فتأمل.

المبحث الثاني: الاستصحاب في موارد الأصول العملية

والأقرب عدم جريانه في مواردها لعدم الشك اللاحق، إذ ما دام الشك باقياً فالأصل الأوّل باقٍ من غير حاجة إلى إجراء الاستصحاب، فالماء المشكوك محكوم بطهارته لقاعدة الطهارة فإذا شك لاحقاً في ملاقاته للدم مثلاً فإنّ أصالة الطهارة باقية فلا يبقى مجالاً لإجراء الاستصحاب لعدم تمامية أركانه ولعدم ثبوت أثر له، مضافاً إلى أنّه لو كان الأصل الأوّل هو الاستصحاب فلا وجه لنقضه إلاّ بيقين آخر لقوله: «بل انقضه بيقين آخر» فلا موضوع للاستصحاب الثاني لو عرض شك جديد.

إن قلت: إنّ الاستصحاب حاكم على الأصول غير المحرزة، فكيف لا يجري معها؟

قلت: إنّ حكومة الاستصحاب فرع جريانه، والمدعى في المقام أنّه لا يجري لأنّه لا أثر له(1).

وقد يفصّل بين الأصول فعن المحقق النائيني: «الحكم الثابت في موارد الأصول إذا شك في بقائه ولم يكن دليل ذلك الأصل متكفلاً لبقائه فيجري فيه الاستصحاب لوجود أركانه، وأمّا إذا كان دليل ذلك الأصل متكفلاً لبقائه كالحدوث فلا مجال لجريان الاستصحاب أصلاً»، ومثّل للثاني بقوله:

ص: 135


1- فوائد الأصول 4: 406.

«لو حكمنا بطهارة شيء متنجس مغسول بالماء إمّا بقاعدة الصحة أو بقاعدة الفراغ، ثم شك في عروض نجاسة له، فلا مانع من التمسك بالاستصحاب»(1).

ويمكن أن يقال: إن الطهارة الثابتة بقاعدة الصحة أو الفراغ طهارة ظاهرية لجميع الأزمنة، فمع احتمال عروض نجاسة جديدة لا شك في بقاء الطهارة الظاهرية، نعم شك في الطهارة الواقعية لكن لا يقين سابق فيها فلا مجرى للاستصحاب فيها، فتأمل.

ص: 136


1- أجود التقريرات 4: 83.

فصل في استصحاب الفرد والكلي

اشارة

وفيه مبحثان:

المبحث الأوّل: في استصحاب الفرد المردد

وعن المحقق اليزدي صاحب العروة جريان الاستصحاب فيه كما لو دار الأمر في المعاطاة بين كونها عقداً جائزاً أو لازماً فبعد الفسخ يستصحب الفرد المردد من الملكية بينهما، وكما لو صدر حدث لا يعلم بأنّه الأكبر أو الأصغر ثم توضأ، وكما لو شك في عهد الغيبة في وجوب الجمعة أو الظهر يوم الجمعة فصلى الظهر مثلاً.

وحاصل دليله: أنّ تردده بحسب علمنا لا يضرّ بتيقن وجوده سابقاً، والمفروض أنّ أثر القدر المشترك أثر لكل من الفردين، فيمكن ترتب ذلك الأثر باستصحاب الشخص المعلوم سابقاً كما في القسم الأوّل من استصحاب الكلي حيث يجري استصحاب كل من الكلي وفرده(1).

والمشهور هنا أجروا استصحاب الكلي وهو من القسم الثاني دون استصحاب الفرد المردد، إمّا لذهابهم إلى استحالة الفرد المردد، وإمّا لعدم توفر أركان الاستصحاب فيه.

ص: 137


1- حاشية المكاسب: 73.

إلاّ أنّه قد مرّ أنّ الأقرب استحالة الفرد المردد في الخارج، وأمّا اعتباره وترتيب الأحكام عليه فلا محذور فيه، كما أنّ الأقرب أنّ استصحاب الفرد المردد واستصحاب القسم الثاني من الكلي كلاهما من وادٍ واحد فإن لزم الإشكال في أحدهما لزم الإشكال في الآخر كما سيتضح.

وأمّا الإشكالات على استصحاب الفرد المردد - مضافاً إلى الإشكال المبنائي باستحالته - فتارة: بعدم اليقين بالحدوث، وأخرى: بعدم الشك في البقاء، وثالثة: بعدم الأثر الشرعي، ورابعة: بأنّه أصل مثبت.

الإشكال الأوّل: عدم اليقين بالحدوث، قال المحقق الإصفهاني: «إن أريد تيقن وجود الفرد المردد مع قطع النظر عن خصوصيته المفردة له فهو تيقن الكلي دون الفرد، إذ المفروض إضافة الوجود المتيقن إلى الموجود به مع قطع النظر عن الخصوصية المفردة، فلا يبقى إلاّ الطبيعي المضاف إليه الوجود. وإن أريد تيقن الخصوصية المفردة - التي هي مرددة بين خصوصيتين - فقد مرّ مراراً أنّ طرف العلم معين لا مردد وأنّ أحدهما المصداقي لا ثبوت له - لا ماهية ولا وجوداً - فيستحيل تعيّن العلم الجزئي بما لا ثبوت له، والعلم المطلق لا يوجد بل يوجد متشخصاً بمتعلقه، بل المتيقن هو الوجود المضاف إلى الطبيعي الذي لا علم بخصوصيته»(1).

وفيه: ما مرّ من أنّ استحالة الفرد المردد إنّما هي في وجوده في الخارج، ولا محذور في فرض الفرد المردد وترتيب الأثر عليه، كما لا محذور في كون العلم الإجمالي هو العلم بالفرد المردد أو العلم بالجامع بينهما، كما

ص: 138


1- نهاية الدراية 5: 140.

لا محذور في كون الإجمال في ناحية العلم والانكشاف لا المعلوم، كما مرّ سابقاً(1).

ومن المعلوم أنّ اليقين في دليل الاستصحاب مطلق يشمل اليقين التفصيلي واليقين الإجمالي مضافاً إلى أنّ اليقين لا إجمال فيه وإنّما الإجمال في المتيقن على بعض المباني.

الإشكال الثاني: عدم الشك اللاحق، قال المحقق النائيني: «إنّ قوام الاستصحاب إنّما هو بالشك في البقاء بعد العلم بالحدوث، فلا يجري الاستصحاب عند الشك في كون الباقي هو الحادث، ... لأنّ الشك فيه لا يرجع إلى البقاء بل إلى الحدوث، كما لو علم بحدوث فرد مردد بين ما هو مقطوع البقاء وما هو مقطوع الارتفاع، فإنّه وإن كان يشك في بقاء الحادث إلاّ أنّ ارتفاع أحد فردي الترديد يوجب الشك في حدوث الفرد الباقي، فلا يجري استصحاب الفرد المردد، لأنّ استصحاب الفرد المردد معناه: بقاء الفرد الحادث على ما هو عليه من الترديد، وهو يقتضي بقاء الحادث على كل تقدير - سواء كان هو الفرد الباقي أو الفرد الزائل، وهذا ينافي العلم بارتفاع الحادث على تقدير أن يكون هو الفرد الزائل»(2).

وحاصله: أنّه لا بدّ أن يكون متعلق اليقين والشك شيئاً واحداً، وليس الفرد المردد كذلك، لأنّ اليقين فيه تعلق بوجوب إحدى الصلاتين مثلاً، وبعد الإتيان بإحداهما لا يشك في بقاء وجوب إحداهما، وإنّما يشك في

ص: 139


1- راجع نبراس الأصول 3: 164-169.
2- فوائد الأصول 4: 126.

بقاء وجوب غير المأتي به وهو معيّن وليس إحدى الصلاتين، وبعبارة أخرى: اليقين تعلق بحدوث المتيقن على كل تقدير، والشك تعلق ببقاء أحدهما المعيّن. وبعبارة ثالثة: الفرد المردد على واقعه غير مشكوك البقاء، لأنّه على أحد التقديرين مقطوع الزوال وعلى تقدير آخر مقطوع البقاء!

وأجاب المحقق الإصفهاني: «بأنّ معنى اليقين في الفرد المردد هو اليقين بموجود شخصي هو إمّا مطابق عنوان الظهر أو مطابق عنوان الجمعة، وبعد الإتيان بالظهر يقطع بارتفاع عنوان الظهر عنه ويشك في بقاء ذلك الموجود الشخصي، لاحتمال كونه مطابق عنوان الجمعة المفروض عدم ارتفاعه عنه»(1).

وحاصله: إنّ اليقين بالفرد المردد من وجوب الصلاة - مثلاً - مرجعه إلى اليقين بموجود جزئي إمّا يكون منطبقاً على وجوب الجمعة أو على وجوب الظهر، وحين إتيانه بالظهر لديه علم بالتلازم بين بقاء ذلك الموجود الجزئي وبين كونه وجوب الجمعة، فحينئذٍ فاحتمال بقائه قائم جزماً، فكيف ينفى الشك في بقائه؟

وردّه في المنتقى: بأنّ «ما كان متعلقاً لليقين - وهو الموجود المبهم على ما هو عليه - ليس متعلقاً للشك، وليس هو مشكوكاً بهذه الصفة... وأمّا الشك الفعلي - الموجود قطعاً - فهو متعلق بوجود الفرد الطويل في هذا الآن الثاني لاحتمال حدوثه في الآن الأوّل، لأنّه على تقدير الحدوث متيقن البقاء، لكن هذا لا ينفع في جريان الاستصحاب، لأنّه لا يقين سابق به»(2).

ص: 140


1- نهاية الدراية 5: 141.
2- منتقى الأصول 6: 162.

أقول: في مورد الفرد المردد شكّان:

1- أحدهما مجرى الاستصحاب كما ذكره المحقق الإصفهاني، حيث تيقّن بموجود جزئي - مبهم عنده - ثم بعد الإتيان بأحد الفردين يشك في بقاء ذلك الموجود الجزئي المبهم بنفسه، وكونه متيقن البقاء على تقدير ومتيقن الزوال على تقدير آخر هو معنى آخر للشك، فالشك غالباً يكون هكذا، كما لو شك في وجود النهار فهو عبارة أخرى عن إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود وإن لم تكن طالعة فهو غير موجود.

2- والآخر ليس مجراه وهو الشك في وجوب الجمعة مثلاً إذ لا يقين سابق له، وعليه فما ذكره المحقق النائيني غير وارد، فتأمل.

الإشكال الثالث: عدم الأثر، وهو ما ذكره المحقق العراقي(1) وحاصله: أنّه لم يتعلق اليقين والشك بموضوع ذي أثر شرعي، مع أنّه لا بدّ في صحة التعبد بالاستصحاب من تعلق اليقين والشك بالعنوان الذي يكون موضوعاً للأثر الشرعي، وفي ما نحن فيه الأثر إنّما هو للمصداق بما له من العنوان التفصيلي - كصلاة الجمعة وصلاة الظهر - وهو مما لا يمكن إجراء الأصل فيه لعدم اليقين بالحدوث، وأمّا العنوان العرضي الإجمالي - كعنوان الفرد المردد - فهو ليس ذا أثر شرعي، لترتب الآثار الشرعية في أدلتها على العناوين التفصيلية، ولا فرق في ذلك بين كون الشك في البقاء ناشئاً عن الشك في ارتفاع الفرد القصير - لو كان هو الحادث - وبين كون الشك في البقاء ناشئاً عن العلم بارتفاع الفرد القصير - لو كان هو الحادث - .

ص: 141


1- نهاية الأفكار 4[ق1]: 114.

وقال أيضاً ما حاصله(1):

وهذا يجري في سائر الأصول غير الاستصحاب أيضاً، ففي قاعدة الفراغ مثلاً لو صلّى إلى الجهات الأربع حين اشتباه القبلة 1- فإن علم ببطلان صلاة معينة منها فلا يجوز الاكتفاء بالبواقي بل لا بدّ من إعادة تلك الصلاة، للشك في فساد الصلاة الواقعية منها، ولا يمكن إجراء قاعدة الفراغ في العنوان المردد منها. 2- لكن لو علم بفساد واحدة مرددة منها فإنّه يمكنه إجراء قاعدة الفراغ في كل واحدة منها بعينها للشك في صحتها على تقدير كونها إلى القبلة، فتجري القاعدة فيها مقيدة بهذا التقدير، ولا ضير في العلم بمخالفة أحد هذه الأصول للواقع لاحتمال كون الفاسد هو المأتي به إلى غير القبلة، فلا علم بالمخالفة العملية.

وفيه: ما ذكره في المنتقى(2):

وحاصله أنّه يشترط في الاستصحاب صحة التعبد به كي لا يكون لغواً، ولا دليل على لزوم تعلق اليقين والشك بالشيء بالعنوان الذي يكون موضوعاً للأثر الشرعي، وعليه في الفرد المردد إن كان المورد مما يصح التعبد به من قبل الشارع - بحسب واقعه على ما هو عليه من الترديد لدى المكلّف - لم يكن مانع عن شمول دليل الاستصحاب لذلك المورد، ويثبت له التعبد بتوسط العنوان الإجمالي المشير إليه، ففي مثال وجوب الظهر أو الجمعة لا محذور في التعبد بذلك الحكم المردد على واقعه ويترتب عليه أثره العقلي من لزوم تفريغ الذمة. وهكذا الأمر في مثال القبلة، فإنّه لا مانع من جريان قاعدة الفراغ في الصلاة الواقعية إلى

ص: 142


1- نهاية الأفكار 4[ق1]: 117.
2- منتقى الأصول 6: 164-165.

القبلة للشك في بطلانها من جهة ترك الركوع مثلاً، ولا يمنع ترددها من إجراء قاعدة الفراغ فيها، فتأمل.

الإشكال الرابع: إنّه أصل مثبت، لأنّ إثبات الحكم في الفرد المردد لازمه انحصاره في ذلك الفرد الذي لم يأت به، فمن صلّى الظهر فاستصحاب الفرد المردد لازمه وجوب الجمعة عليه!

وفيه: أنّه يستصحب بقاء الحكم على واقعه، ويترتب عليه الأثر العقلي للحكم من لزوم تفريغ الذمة، وليس هو لازماً للمستصحب، فلا يكون أصلاً مثبتاً.

المبحث الثاني: في استصحاب الكلي
اشارة

وهو تارة: اليقين بوجود الكلي في فرد ثم الشك في زوال الكلي للشك في زوال ذلك الفرد.

وتارة أخرى: اليقين بوجود الكلي في ضمن أحد الفردين - قصير أو طويل - ثم الشك في بقاء الكلي حيث إنّه لو كان القصر فقد زال، وإن كان الطويل فهو باقٍ.

وثالثة: اليقين في وجود كلّي في ضمن فرد، ثم الشك في زوال الكلي بسبب زوال ذلك الفرد مع احتمال حلول فرد جديد محله.

ورابعة: إذا علم بوجود عنوانين مع احتمال انطباقهما على فرد واحد، كما لو كان جنباً فاغتسل ثم رأى على ثوبه منياً وشك أنّه من الجنابة السابقة التي اغتسل منها أو من جنابة جديدة!

فهنا أقسام أربعة:

ص: 143

القسم الأوّل من الكلي

وأركان الاستصحاب فيه تامة، كما لو علم بوجود الإنسان في المسجد لدخول زيد فيه، ثم شك في بقاء الإنسان فيه للشك في بقاء زيد فيه، فكما يصح استصحاب بقاء زيد كذلك يصح استصحاب بقاء الإنسان.

إن قلت: ليس هناك وجودان بل وجود واحد هو وجود الفرد؟

قلت: وجود الفرد حقيقي خارجي، ووجود الكلي انتزاعي وهو نحو من أنحاء الوجود.

إن قلت: إن استصحاب الفرد يغني عن استصحاب الكلي، فيكون استصحابه لغواً.

قلت: كل واحد من الكلي والفرد أركان الاستصحاب فيهما تامة، فكما يصح استصحاب هذا يصح استصحاب ذاك من غير فرق، لكن إجراء كلا الاستصحابين معاً لا يحتاج إليه، فإن أجرى أحدهما استغنى عن الآخر.

نعم هنا إشكال آخر وهو: إنّ استصحاب الفرد أصل سببي واستصحاب الكلي أصل مسببي، ومع جريان السببي لا يجري المسببي! وسيأتي الجواب عنه في القسم الثاني.

القسم الثاني من الكلي

وهو ما إذا حصل فرد يتردد بين القصير البقاء وطويله فيستصحب الكلي الذي وجد بوجود الفرد، كما لو صدر منه حدث لا يعلم أنّه الحدث الأكبر أو الأصغر ثم توضأ فإنّه لا يمكنه استصحاب الفرد المعين لعدم اليقين السابق به ولا الفرد المردد بناءً على عدم إمكانه أو عدم جريان الاستصحاب فيه، وإنّما يستصحب كليّ الحدث فهو معلوم الحدوث بحدوث الفرد

ص: 144

ومشكوك البقاء، ويترتب عليه آثار الحدث الكلي كحرمة مس الكتاب دون الآثار الخاصة بالأصغر أو الأكبر.

وغير خفي أنّ جريان الاستصحاب على القول به إنّما هو في ما لم يكن العلم الإجمالي منجزاً، وإلاّ فمع وجود العلم المنجز لا تصل النوبة إلى الأصل العملي كما هو واضح.

والظاهر جريان هذا الاستصحاب لوجود المقتضي له بتمامية أركانه وعدم المانع عنه، لأنّ جميع الإشكالات الواردة عليه قابلة للدفع، ومنها:

الإشكال الأوّل: إنّ الكلي الطبيعي موجود بوجود فرده، فما لم تتم أركان الاستصحاب في الفرد لا تتم في الكلي، والفرد أمره دائر بين مقطوع الزوال ومقطوع البقاء، وعليه فلا يقين سابق ولا شك لاحق، وذلك لأنّ معنى (الكلي الطبيعي موجود بوجود فرده) هو انتزاع الكلي منه، وكل فرد ينتزع منه حصة من الكلي تغاير الحصة المنتزعة من الفرد الآخر، وعليه فلا يقين بالكلي، كما لا شك فيه لأنّه إمّا مقطوع الزوال أو مقطوع البقاء تبعاً لفرده.

وأجيب بأجوبة، منها:

الجواب الأوّل: إنّه وإن كان الأمر كما ذكر بالدقة العقلية إلاّ أنّ العرف يرى وحدة الكلي فيرى حدوث الكلي بحدوث الفرد المردد بين الطويل والقصير، والخطابات الشرعية ملقاة إلى العرف، وليس هذا من تسامح العرف كي لا يكون معتبراً بل هو من باب توسعة المفهوم، وبهذا يتم الركن الأوّل من الاستصحاب، ثم إنّ الدوران بين مقطوع الزوال ومقطوع البقاء هو عبارة أخرى عن الشك في البقاء وبذلك يتم الركن الثاني.

الجواب الثاني: ما مرّ في الفرد المردد، من أنّ الأثر للجامع بينهما،

ص: 145

فكذلك الجامع بين حصتي الكلي الطبيعي يكون الأثر له وهو المستصحب.

الجواب الثالث: إنّ الموجود الخارجي يمكن أن يلاحظ بلحاظين: لحاظه مع أمارات التشخص وبذلك يكون فرداً، ولحاظه بدونها فيكون كلياً طبيعياً، وكل إضافة تستتبع مضافاً إليه بحسب التحليل الذهني، وبذلك يكون هناك مضافان إليهما، وهناك أحكام تترتب على الوجود الخارجي وأحكام أخرى تترتب على الوجود الذهني، ويمكن أن تكون كل واحدة من الإضافتين متعلقاً لليقين أو الشك، كما يمكن تعلق اليقين بإحداهما والشك في الأخرى، نظير الشيء الواحد الذي قد يكون متيقناً من حيث الزمان ومشكوكاً من حيث المكان، وفي ما نحن فيه الوجود المضاف إلى الفرد يدور أمره بين متيقن البقاء ومتيقن الارتفاع، وأمّا الوجود المضاف إلى الطبيعة فهو مشكوك الارتفاع.

ويرد عليه: التلازم بين منشأ الانتزاع والمنتزع، فاليقين في أحدهما يستتبع اليقين في الآخر، وكذلك الشك، وقياسه باليقين والشك بلحاظ الزمان والمكان مع الفارق لعدم تلازم جزئيات الزمان وجزئيات المكان.

الجواب الرابع: ما في الفوائد: «إنّ وجود الكلي وإن كان بوجود الفرد وزواله بزواله إلاّ أنّه ليس الكلي مما ينتزع عن الفرد، بل هو متأصل الوجود على ما هو الحق من وجود الكلي الطبيعي»(1).

وفيه: مع قطع النظر على البحث المبنائي في كيفية وجود الكلي، أنّ ذلك لا يحلّ الإشكال، إذ كيف يعقل الشك في الفرد مع اليقين في الكلي

ص: 146


1- فوائد الأصول 4: 413.

الذي هو عينه؟!

الإشكال الثاني: وهو مما يتفرع على الإشكال الأوّل، وحاصله: إنّ التمسك بعموم دليل الاستصحاب هنا تمسك بالعام في الشبهة المصداقية للعام، إذ مع احتمال كون الكلي في الفرد القصير المتيقن الارتفاع، لم يحرز كون نقض اليقين الأوّل بالشك، بل يحتمل كونه باليقين!

والجواب: بأنّه يتيقن بوجود الكلي مع عدم علمه بمنشأ انتزاعه، ثم يشك في بقاء ذلك الكلي بعينه، وأمّا اليقين بزوال الكلي المنتزع من الفرد القصير لو كان، واليقين بوجوده المنتزع من الفرد الطويل لو كان فإنّما هو قضية شرطية فرضية غير مانعة عن الشك الفعلي في بقاء ذلك الكلي الذي كان موجوداً، فيكون نقضه نقضاً لليقين بالشك.

الإشكال الثالث: إنّ استصحاب الكلي هنا أصل مسببي فلا يجري مع جريان الأصل السببي، وهو أصالة عدم حدوث الفرد الطويل.

وأجيب بأجوبة، ومنها:

الجواب الأوّل: إنّه يشترط في عدم جريان الأصل المسببي أن يكون ارتفاع المسبب مرتبطاً بارتفاع السبب كما كان وجوده مرتبطاً بوجوده، وأمّا لو كان وجوده مرتبطاً بوجوده، دون ارتباط ارتفاعه بارتفاعه فحينئذٍ لا مانع من جريان الأصل المسببي، وما نحن فيه من هذا القبيل، إذ ارتفاع الحدث بالوضوء يتوقف على كون الخارج بولاً، لأنّ عدم المني لا يوجب ارتفاع الحدث، إلاّ بالأصل المثبت حيث إن كون الخارج بولاً هو سبب ارتفاع الحدث بالوضوء.

ص: 147

وبعبارة أخرى - كما قيل -: إن ارتفاع الكلي من آثار كون الحادث هو الفرد القصير، لا من آثار عدم حدوث الفرد الطويل، ولا يوجد أصل يعين كيفية الحادث.

إن قلت: لدينا شكان: شك في الارتفاع والأصل فيه مثبت، وشك في بقاء الحدث - الذي هو موضوع الأصل في الكلي - والأصل في البقاء محكوم بأصالة عدم حدوث الفرد الطويل!

قلت(1): إنّ دليل الاستصحاب ليس هو التعبد بالبقاء، وإنّما هو بعنوان النقض وهو عدم رفع اليد، ومن الواضح ظهور ذلك في أخذ الشك في الارتفاع في موضوع التعبد، لظهور الدليل في تكفله إلغاء أحد طرفي الشك وإثبات الطرف الآخر، فموضوع الاستصحاب أخذ فيه الشك في الارتفاع لا مجرد عدم البقاء، فتأمل.

الجواب الثاني: إنّ السببيّة - على فرضها - ليست شرعية، وحينئذٍ فلا يوجب الأصل السببي يقيناً تنزيلياً في المسبب، وذلك لعدم حجيّة الآثار العقلية والعادية للأصول العملية، ومع عدم وجود يقين تنزيلي في الناقض يتحقق موضوع الاستصحاب في المسبب لليقين والشك فيه، ففي مثال استصحاب عدم خروج المني لا تلازم شرعاً بين عدم خروجه وبين ارتفاع الحدث بالوضوء، بل بعد اليقين بخروج أحد الفردين حصراً - إمّا البول وإمّا المني - فإنّ الحكم بعدم خروج المني يلازم خروج البول عقلاً، فيثبت ارتفاع الحدث بالوضوء وهذا هو الأصل المثبت، وحيث لم يجر الأصل

ص: 148


1- منتقى الأصول 6: 169.

السببي جرى الأصل المسببي من غير محذور.

الجواب الثالث: ما في الفوائد(1):

من معارضة أصالة عدم حدوث الفرد الطويل بأصالة عدم حدوث الفرد القصير، فيسقط الأصل السببي بالمعارضة وتصل النوبة إلى الأصل المسببي.

وأورد عليه: إنّه مع تحقق العلم الإجمالي بأحد الفردين ودخولهما في محل الابتلاء يتعارض أصالة عدم حدوث أحدهما بالآخر، لكن حينئذٍ لا تصل النوبة إلى استصحاب الكلي، وذلك لتنجز الآثار الشرعية عبر العلم الإجمالي، ولا موضوع للاستصحاب مع العلم، فليس محل الكلام في هذه الصورة، نعم مع خروج الفرد القصير عن محل الابتلاء لا يتنجز العلم الإجمالي وتصل النوبة إلى استصحاب الكلي، ولكن حينئذٍ لا معارضة لاستصحاب عدم الفرد الطويل.

والحاصل: إنّه في المورد الذي نحتاج إلى استصحاب الكلي لا معارضة، وفي مورد المعارضة لا حاجة إليه.

الإشكال الرابع: ما يعرف بالشبهة العبائية، وحاصله: أنّ استصحاب القسم الثاني من الكلي يلزمه محذور لا يمكن الالتزام به، وذلك في مثل ما لو علمنا بنجاسة أحد طرفي العباءة ولم نعلم ذلك الطرف بعينه، ثم طهّرنا أحد الطرفين بعينه، فلو لاقت اليد الطرف غير المطهّر فإنها لا تنجس لأنّ ملاقي أحد أطراف الشبهة المحصورة لا يجب الاجتناب عنه كما مرّ، وبعد ذلك لو لاقت يده الطرف المطهّر لزم الحكم بنجاسة اليد ووجوب

ص: 149


1- فوائد الأصول 4: 418.

الاجتناب عنها بناءً على جريان الاستصحاب في القسم الثاني من الكلي، لأنّه بعد غسل أحد الطرفين نشك في زوال النجاسة الكلية فنستصحبها! وهذا حكم غريب لا يمكن الالتزام به لأنّه مع عدم ملاقاة الطرف المقطوع الطهارة لا حكم بالنجاسة، ومع ملاقاته يحكم بالنجاسة!! وأمّا مع عدم جريان هذا الاستصحاب فلا يحكم بنجاسة اليد لأنّها حين لاقت المطهّر فلم تنجس، وحين لاقت الطرف الآخر فقد لاقت ملاقي أحد أطراف الشبهة المحصورة والحكم عدم نجاسة ملاقيه.

والجواب من وجوه:

الجواب الأوّل: عدم كون هذا اللازم محذوراً مانعاً عن جريان الاستصحاب، إمّا للالتزام بهذا اللازم، وغرابته لا توجب رفع اليد عنه إذا كان مطابقاً للأصول العامة، وإمّا لأنّ وجود المحذور عن جريان الاستصحاب في مورد جزئي لدليل خاص لا يكون إشكالاً في أصل ذلك الاستصحاب وجريانه في الموارد الأخرى بعد تمامية أركانه ودلالة الدليل عليه.

الجواب الثاني: عدم كون هذا المورد من قبيل استصحاب القسم الثاني من الكلي، بل هو من استصحاب جزئي تردد مكانه، لتردد النجاسة الواقعة بين كونها في هذا الطرف أو ذاك الطرف(1)،

فهو نظير ما لو علمنا بوجود زيد في الدار، وتردد بين أن يكون في الجانب الشرقي أو الغربي ثم انهدم الجانب الغربي بحيث لو كان زيد فيه لمات، فهنا ليس مورد استصحاب القسم الثاني من الكلى، لأنّ المتيقن فرد حقيقي لا ترديد فيه، وإنّما الترديد

ص: 150


1- فوائد الأصول 4: 421-422.

في محلّه وموضعه، فهو أشبه باستصحاب الفرد المردد عند ارتفاع أحد فردي الترديد، وكما لو علم بوجود درهم خاص لزيد بين عشرة دراهم ثم تلف أحدها، واحتمل أن يكون التالف درهم زيد.

وفيه: إنّ النجاسة في الطرف الأعلى هي مصداق من مصاديق الكلي، والنجاسة في الطرف الأسفل مصداق آخر. وهنا وإن كان تردد في مكان النجاسة، لكن المكان هنا - حيث إنّ النجاسة عرض يتقوم بالمعروض - من المشخصات الفردية، فنجاسة الطرف الأعلى - لو كانت - هي فرد يغاير نجاسة الطرف الأسفل - لو كانت - .

والحاصل: إنّ المورد ليس من الشك في فرد واحد تردد مكانه كمثال العلم بوجود زيد في الدار مع عدم العلم بمكانه فيها، أو مثال الدرهم حيث إنّ ذلك الدرهم في أي مكان كان هو بنفسه ومكانه ليس مقوماً لوجوده، عكس ما نحن فيه من مثال النجاسة، فإنّ قطرة الدم مثلاً لو أصابت أعلى العباءة لأحدثت نجاسة تغاير ما إذا أصابت أسفل العباءة.

اللّهم إلاّ أن يقال: إنّ الانفعال إنّما هو حكم ما لاقى النجاسة الجزئية، وليس حكم ما لاقى النجاسة الكلية، فتأمل.

الجواب الثالث: كونه أصلاً مثبتاً حتى لو فرض كونه من القسم الثاني من الكلي، فعن المحقق النائيني: «وأمّا نجاسة الملاقي فهي مترتبة على أمرين: أحدهما: إحراز الملاقاة، وثانيهما: إحراز نجاسة الملاقى - بالفتح - ومن المعلوم أنّ استصحاب النجاسة الكلية المرددة بين الطرف الأعلى والأسفل لا يثبت تحقق ملاقاة النجاسة الذي هو الموضوع لنجاسة الملاقي، والمفروض أن أحد طرفي العبادة مقطوع الطهارة، والآخر مشكوك الطهارة

ص: 151

والنجاسة، فلا يحكم بنجاسة ملاقيهما»(1).

وبعبارة أخرى: الانفعال مترتب على ملاقاة ما هو نجس، وهذا لا يثبت باستصحاب بقاء النجس الكلي إلاّ بالملازمة.

نعم يمكن استصحاب بقاء النجاسة الجزئية المعيّن مكانها واقعاً المردّد عند صاحب العباءة مثلاً، والملاقاة حاصلة بالوجدان، فبضميمة الوجدان إلى الأصل يتم الحكم بنجاسة الملاقي، لكن هذا خروج عن مورد البحث وهو استصحاب القسم الثاني من الكلي، فتأمل.

فتحصل: أنّ مورد الشبهة ليس من استصحاب الكلي إلاّ أنّه من استصحاب الفرد المعيّن واقعاً، ولا محذور في جريان الاستصحاب فيه إلاّ استغراب النتيجة، وهي ليست بمحذور، ولو كانت محذوراً لسقط الاستصحاب في هذا المورد بالخصوص لوجود المحذور في المورد والذي لا يمنع عن جريان استصحاب الكلي أو الجزئي في سائر الموارد.

القسم الثالث من الكلي
اشارة

وهو أن يتيقن بحدوث فرد وارتفاعه مع احتمال حدوث فرد آخر، فيستصحب الكلي، وهو على صور:

1- احتمال وجود فرد ثانٍ مقارناً لوجود الفرد الأوّل، وبقائه بعد ارتفاعه.

2- واحتمال حدوث الثاني عند ارتفاع الأوّل.

3- واحتمال وجود فرد ثانٍ حين ارتفاع الأوّل، مع كونه هو هو عرفاً، وإن كان يغايره دقة، وذلك في الأمور المشككة، كالسواد الشديد

ص: 152


1- أجود التقريرات 4: 95.

والخفيف، فيستصحب بقاء كلّي السواد.

4- واحتمال تحوّل الفرد الأوّل إلى شيء آخر مغاير له دقةً وعرفاً، كتحول اللحم إلى ملح في الأرض السبخة، فيستصحب بقاء الجسم.

فأمّا الصورة الثالثة: فالأكثر على جريان استصحاب الكلي فيها، لأنّ السواد الخفيف - مثلاً - وإن كان يغاير السواد الشديد دقة حيث إنهما مرتبتان من العرض، إلاّ أنّ الملاك في الاستصحاب وهو الوحدة العرفية محفوظ، بل قد يقال: إنّهما دقة شيء واحد، وإنّما الشديد متقدّم بالطبع لتضمنة الخفيف كتضمن الأكثر للأقل.

ويمكن أن يقال: إنّ الوحدة العرفية ثابتة فلا إشكال في جريان الاستصحاب، إلاّ أنّه لا يراهما مرتبتين لشيء واحد ولا فردين من نوع واحد فهو إمّا استصحاب الفرد أو استصحاب القسم الأوّل من الكلي، فتأمل.

وأمّا الصورة الرابعة: فالأظهر جريان الاستصحاب فيها، لتمامية الأركان، فلو وضع اللحم في السبخة ثم بعد سنوات شك بين نقله منها وبين تحوّله إلى ملح، فاستصحاب بقاء الجسم لا محذور فيه.

نعم يمكن أن يقال: إنّه ليس من استصحاب الكلي، بل هو من استصحاب الفرد، إذا الجسمية هي نفسها ولا فرق فيها بين كونه لحماً أو ملحاً، وإنّما هناك تبدل في الحالات، فتأمل.

وأمّا الصورة الأولى والثانية: ففيهما أقوال: عدم الجريان مطلقاً، والجريان مطلقاً، والتفصيل بعدم الجريان في الأولى والجريان في الثانية، وغير خفي أنّ أدلة القولين الأوّل والثاني يجريان في الصورة الثالثة والرابعة

ص: 153

أيضاً، ومنشؤ الأقوال هو الاختلاف في تمامية الأركان وعدم تماميتها.

القول الأوّل: عدم الجريان مطلقاً، وذلك لما مرّ من أنّ الكلي الذي هو في فرد يغاير الكلي الذي هو في فرد آخر، لاختلاف المنتزع باختلاف منشأ الانتزاع، وقد مرّ الكلام فيه.

القول الثاني: الجريان مطلقاً، واستدل له في الدرر: «بأنّه لو جعلت الطبيعة باعتبار صرف الوجود مع قطع النظر عن خصوصياته الشخصية موضوعاً للحكم... فلا إشكال في أنّ هذا المعنى لا يرتفع إلاّ بانعدام تمام الوجودات الخاصة في زمن من الأزمنة اللاحقة، لأنّه في مقابل العدم المطلق، ولا يصدق هذا العدم إلاّ بانعدام تمام الوجودات، وحينئذٍ لو شك في وجود الفرد الآخر مع ذلك الموجود المتيقن واحتمل بقاؤه بعد ارتفاع الفرد المعلوم فمورد الاستصحاب الجامع بملاحظة صرف الوجود متحقق من دون اختلال أحد ركنيه، فإنّ اليقين بصرف وجود الطبيعة غير قابل للإنكار، وكذلك الشك في بقاء هذا المعنى، لأنّ لازم الشك في كون فرد في الآن اللاحق الشك في تحقق صرف الوجود فيه، وهو على تقدير تحققه في نفس الأمر بقاء لا حدوث»(1).

ويرد عليه: ما في نهاية الدراية من «أنّ الوجود المضاف إلى شيء بديل لعدمه، وطارد له، بحسب ما أخذ في متعلّقه من القيود، فناقض العدم المطلق مفهوم لا مطابق له في الخارج، وأوّل الوجودات ناقض للعدم البديل له والقائم مقامه، وما يرى من أنّ عدم مثله يوجب بقاء العدم كلية على حاله،

ص: 154


1- درر الفوائد، للحائري: 537.

ليس من جهة كونه ناقضاً للعدم المطلق، بل لأنّ أوّل الوجودات يلازم عدم ثاني الوجودات وثالثها إلى الآخر... لا أنّ لهذا المفهوم مطابقاً واحداً في الخارج حتى يكون الشك في بقائه بعد اليقين بوجود مضاف إلى ماهية متعينة بأحد التعينات»(1).

القول الثالث: التفصيل بين الصورة الأولى فيجري الاستصحاب، وبين الصورة الثانية فلا يجري، واختاره الشيخ الأعظم.

واستدل له بقوله: «فلأنّه في الصورة الأولى فلاحتمال كون الثابت في الآن اللاحق هو عين الموجود سابقاً، فيتردد الكلي المعلوم سابقاً بين أن يكون وجوده الخارجي على نحو لا يرتفع بارتفاع الفرد المعلوم ارتفاعه، وأن يكون على نحو يرتفع بارتفاع ذلك الفرد، فالشك في الحقيقة إنّما هو في مقدار استعداد ذلك الكلي»(2).

وأورد عليه: أوّلاً: بعدم تمامية أركان الاستصحاب، لأنّ الكلي بوجوده السابق غير متحمل البقاء بل زال بزوال الفرد الأوّل، وما يحتمل بقاؤه إنّما هو بوجود آخر غير ما تعلق به اليقين وليس هناك وحدة عرفية بين الكليين.

وثانياً: باستلزامه لزوم الاحتياط في الشك بين الأقل والأكثر الاستقلاليين، كما لو شك في انشغال ذمته بقضاء صلاة سنة أو سنتين، أو درهم أو درهمين، فقد انشغلت الذمة بكلي الصلاة من قبيل الصورة الأولى من القسم الثالث: وبجريان استصحاب انشغال الذمة بالكلي لا مورد لإجراء

ص: 155


1- نهاية الدراية 5: 151-152.
2- فرائد الأصول 3: 196.

أصالة البراءة عن الأكثر.

هذا مضافاً إلى أنّه من قبيل الاستصحاب مع الشك في المقتضي، ولا يقول به الشيخ الأعظم.

فرعان

الفرع الأوّل: في استصحاب الطلب الكلي بعد ارتفاع الوجوب واحتمال الاستحباب.

وهو من قبيل الصورة الثانية لعدم اجتماع الوجوب والاستحباب لتضاد الأحكام، نعم قد يجتمع ملاك أحدهما مع فعلية الآخر، كما لو كانت له زوجة يحتمل فقرها، فإنّه تجب نفقتها ولا يستحب التصدق عليها، ثم لو طلقها وبانت استحب له التصدق عليها لفقرها، فلو شك في فقرها - سواء كان احتمال الفقر مقارناً للزوجية أم مقارناً لارتفاعها - فإنّ استصحاب كلي طلب الانفاق هو من قبيل القسم الثالث من استصحاب الكلي، فلا يجري.

وأشكل عليه: بأنّه من قبيل الصورة الثالثة من القسم الثالث، حيث إنّ الوجوب هو طلب شديد والاستحباب طلب ضعيف.

وأجاب المحقق الخراساني - بعد تسليم أن الفرق بين الوجوب والاستحباب هو شدة الطلب وضعفه - بقوله: «إلاّ أنّ العرف حيث يرى الإيجاب والاستحباب المتبادلين فردين متباينين، لا واحداً مختلف الوصف في زمانين لم يكن مجال للاستصحاب»(1).

ص: 156


1- إيضاح كفاية الأصول 5: 63.

وأشكل عليه المحقق الإصفهاني بإشكال مبنائي(1)

وحاصله: إنّهما إمّا إرادة أو إنشاء، والإرادة ليست حكماً شرعياً كي تستصحب، والإنشاء اعتبار وهو غير قابل للشدة والضعف، فتأمل.

إن قلت: إنّ الاستصحاب إنّما هو في الملاك، وهو قابل للشدة والضعف.

قلت: إنّه أصل مثبت لأنّ الحكم لازم عقلي لبقاء الملاك، مضافاً إلى أنّه قد يختلف ملاك الوجوب عن ملاك الاستحباب كما في مثال النفقة للزوجة الفقيرة، نعم قد يكون بعث مؤكد ناش ٍ عن ملاكين حيث يكون استصحاب كلي البعث من قبيل القسم الثالث.

الفرع الثاني: لو علم ارتفاع ملاك الوجوب واحتمل بقاء الوجوب بملاك آخر.

فقد يقال: إنّه وإن كان من الصورة الثانية لأنّ تعدد الملاك يوجب تعدد الوجوب فهما فردان من الوجوب حقيقة، إلاّ أنّ العرف يراهما شيئاً واحداً حيث يرى ذلك بقاء للوجوب السابق، فلا محذور في استصحاب الوجوب، فتأمل.

القسم الرابع من الكلي

وهو ما إذا علم بوجود فرد وارتفاعه قطعاً، ثم علم بوجود عنوان يحتمل انطباقه على الفرد المعلوم الزوال أو على فرد آخر، بحيث إنّه إن كان منطبقاً عليه فالكلي زائل لا محالة، وإن لم يكن منطبقاً عليه فالكلي باقٍ.

وهو على صورتين:

ص: 157


1- نهاية الدراية 5: 152-153.

الصورة الأولى: أن يعلم بوجود فردين ويعلم بالرافع مع الشكّ في توسطه بينهما أو تعقبه لهما، كما لو أجنب، ثم بعد ذلك أجنب مرّة أخرى واغتسل وشك في المتقدم منهما، فإن كانت الجنابة الثانية متقدمة فهو الآن متطهّر، وإن كان الغسل متقدماً فهو الآن محدث، وعليه فهو كان على يقين من كليّ الجنابة والآن شاك في ذلك الكلي.

الصورة الثانية: أن لا يعلم إلاّ بفرد واحد مع العلم بتعقبه بما يزيله ثم علم بفرد يحتمل كونه الفرد الأوّل أو فرداً جديداً، كما لو كان جنباً فاغتسل ثم رأى على ثوبه منياً يحتمل أنّه المنيّ الذي اغتسل منه، أو منيّ جديد حدث بعد الغسل، وعليه: فهو كان يعلم بكلي الجنابة والآن شاك فيه.

والفرق بين هذا القسم والقسم الثاني: أنّه في الثاني كان الفرد مردداً بين مقطوع الزوال ومقطوع البقاء، وهنا الفرد معين لا تردد فيه - كالجنابتين في المثال الأوّل، والمني في المثال الثاني - إلاّ أنّ التردد في التقدم والتأخر كما في الأوّل، أو في الوحدة والتعدد كما في الثاني.

كما أنّ الفرق بينه وبين القسم الثالث: أنّه في الثالث يوجد علم واحد حيث يعلم بوجود فرد مقطوع الزوال مع احتمال وجود فرد آخر، وهنا يوجد علمان أحدهما تعلّق بالفرد المقطوع الزوال والآخر بالعنوان المحتمل انطباقه على المقطوع الزوال أو على غيره.

والأقرب عدم جريان الاستصحاب في هذا القسم، والدليل عليه:

أوّلاً: بأنّه لا اتصال بين اليقين والشك، لانتقاض اليقين بالجنابة الأولى بالغسل مع احتمال حدوث جنابة جديدة بعده، وعليه: فاليقين بكلي الجنابة غير متصل بالشك فيهما.

ص: 158

وثانياً: بأنّه لا شك لاحق، وذلك للقطع بارتفاع الجنابة بالغسل في الصورتين، فارتفع الكلي قطعاً، والأصل عدم حدوث جنابة جديدة وهو قطع تعبدي، وعليه فلا شك أصلاً.

وعن الفقيه الهمداني(1):

التفصيل بالذهاب إلى جريان الاستصحاب في الصورة الأولى دون الثانية.

وذلك لأنّ الشك في الصورة الأولى إنّما هو في ارتفاع التكليف، فيوجد يقين سابق وشك لاحق، لأنّ العلم بحدوث جنابة جديدة مقطوع وإنّما الشك في ارتفاعها، وأمّا الشك في الصورة الثانية فهو في حدوث التكليف، فلا يقين سابق بتكليف جديد، حيث إنّه لم يتحقق علم بحدوث جنابة جديدة غير ما علم حدوثها سابقاً.

لا يقال: احتمال وحدة التكليف وتعدده مشترك في كلا شقي التفصيل.

لأنه يقال: نعم، لكنه أوجب فرقاً في الشك في ارتفاع التكليف تارة، والشك في حدوث التكليف أخرى.

وأشكل عليه: بأنّ المني الثاني لا أثر له إن كان قبل الغسل، فالموضوع لإيجاب الغسل ولغيره من الأحكام مركب من حدوث الجنابة وعدم غسله منها، وهذا الموضوع المركب لا يقين سابق له(2).

ص: 159


1- مصباح الفقيه 1 [ق1]: 205.
2- بيان الأصول 7: 118.

فصل في استصحاب الأمور التدريجيّة

اشارة

وهي إمّا الزمان، أو الأمور الزمانية كجريان الماء، أو الأمور المقيدة بالزمان كالجلوس إلى الليل.

فإنّ الموجودات إمّا قارّة وهي التي تجتمع أجزاؤها معاً كزيد وعمرو ولا إشكال في تمامية الأركان في استصحابها، وإمّا غير قارّة وهي التي لا تجتمع أجزاؤها بل وجودها تدريجي بأن يوجد جزء ثم يزول مقارناً لوجود جزء آخر، والكلام في مباحث ثلاثة:

المبحث الأوّل: في استصحاب الزمان بنفسه
اشارة

وفيه مقامان:

المقام الأوّل: استصحاب الزمان بمفاد كان التامة

أي استصحاب بقاء الزمان بنفسه فيجري الاستصحاب فيه، وذلك لتمامية أركانه.

وقد أورد عليه إشكالات، منها:

الإشكال الأوّل: إنّ ما تعلّق اليقين به وهو الجزء السابق قد زال قطعاً، وما هو مشكوك وهو الجزء الحالي لم يكن متيقناً.

والجواب: إنّ الوحدة العرفية تكفي في صدق النقض ومن ثَمّ النهي عنه، فالليل واحد عرفاً، وإن كان آنات متدرجة بالدقة، بل يمكن ادعاء أنّ

ص: 160

الليل واحد دقة أيضاً حيث إنّه ليس الآنات المتصرّمة، وإنّما هو مفهوم بسيط منتزع من آنات متشابهة في جهةٍ ما.

ونوقش: «بأنّ العرف وإن كان يرى الليل والنهار واحداً، إلاّ أنّه لا يغفل عن كونهما تدريجيين، وأنّ بعض أجزائهما يوجد بعد انصرام بعضها الآخر، فلا يصدق عنده وجود الليل بوجود بعض أجزائه، بل يقسّمه ويجزّئه بالعشر والخمس والنصف وأمثالها»(1).

وفيه: أنّ نظر العرف إلى الليل والنهار بنحوين: بالجامع وبالأجزاء، فهو يرى الجامع ينبسط على الآنات - انبساط الكل على الأجزاء - فيراه واحداً حقيقة، وأمّا تقسيمه إلى أجزائه فكتقسيمه أيّ كل ٍ على أجزائه.

الإشكال الثاني: إنّ موضوع الاستصحاب هو الشك في البقاء، كما أنّ الاستصحاب هو التعبد ببقاء ما كان، والبقاء هو الوجود في الآن الثاني، وهذا لا يتصور في الزمان حيث إنّ الزمان لا يوجد في زمان آخر!

والجواب: أوّلاً: إنّ البقاء لم يؤخذ في دليل الاستصحاب، بل أخذ فيه عدم نقض اليقين بالشك، وموضوعه الشك في الوجود بعد اليقين به، وهذا المعنى يمكن تحققه في الزمان.

وثانياً: إنّ مفهوم البقاء لم يؤخذ فيه الزمان، ولذا فإنّ الله تعالى باقٍ مع أنّه ليس في الزمان وليس في إطلاق الباقي عليه عناية أو مجاز، بل معنى البقاء هو عدم انقطاع الوجود سواء كان ذلك في الزمان أم لا.

الإشكال الثالث: ما في المنتقى قال: «إنّ متعلق الشك ليس بقاء النهار

ص: 161


1- رشحات الأصول 2: 292.

والآن الواقع بين الحدين، بل متعلق الشك هو كون هذا الآن نهاراً أو ليس بنهار، وذلك لأنّه بعد فرض وحدة النهار بجميع آناته وملاحظته موجوداً واحداً فيستحيل تعلّق اليقين والشك فيه إلاّ بتغاير الزمانين، والمفروض أنّه غير متصوّر في الزمان، فالشك الموجود فعلاً ليس إلاّ في كون هذا الآن نهاراً أو لا، وإن أطلق الشك في بقاء النهار لكنه مسامحي بعد ملاحظة النهار اسماً لمجموع الآنات الخاصة وليس له وجود غيرها، والمشكوك هو نهارية الآن الذي نحن فيه وعدمه، وهذا مما لا حالة سابقة له»(1).

ويرد عليه: أنّ هنا شقاً ثالثاً، وهو انبساط النهار على الآن اللاحق، فالشك في بقاء النهار ليس بمعنى وجوده في الآن اللاحق، بل بمعنى انبساطه على الآن اللاحق، إذ لا نظر في النهار إلى الآنات بل إلى العنوان الذي ينتزع منها فالشك فيه ليس مسامحياً بل حقيقي، فتأمل.

المقام الثاني: استصحاب الزمان بمفاد كان الناقصة

كما لو شككنا في أنّ هذا اليوم من شهر رمضان أم لا، فأردنا استصحاب رمضانية هذا اليوم، فهذا استصحاب وصف الزمان لا وجوده.

وقد اختلف في جريان الاستصحاب فيه، فذهب جمع كالشيخ الأعظم والمحقق النائيني وغيرهما إلى عدم جريان الاستصحاب لعدم اليقين السابق أو لكونه مثبتاً.

بيانه: أنّه لا يقين سابق بكون هذا اليوم من شهر رمضان، بل هو مشكوك من الأوّل، وأمّا لو أردنا استصحاب بقاء شهر رمضان فهو لا يثبت رمضانية هذا

ص: 162


1- منتقى الأصول 6: 184.

اليوم إلاّ بالأصل المثبت(1)، وبعبارة أخرى(2):

إنّ استصحاب النهار - مثلاً - لا يتكفل أكثر من إثبات وجود النهار، كما لو كان متعلق الحكم أخذ فيه الوقوع في النهار، مثل الإمساك في باب الصوم، فإنّه يعتبر فيه أن يكون في النهار، فمع الشك في بقاء النهار لا يجدي استصحاب النهار في إثبات وقوع الإمساك في النهار.

وأجاب عن الأوّل المحقق العراقي(3)

بما حاصله: عدم الفرق بين الاستصحاب بمفاد كان التامة أو الناقصة، وذلك لأنّه كما يقع الزمان آناً فآن، فكذلك نهارية الساعة ورمضانية اليوم، فإنّ هذه العناوين - مطلقاً - أوصاف قائمة بالزمان نفسه، وعليه فكما أنّ لنفس الزمان بقاءً واستمراراً بمفاد كان التامة، فكذلك لنهارية النهار استمرار بمفاد كان الناقصة، فيجري فيه الاستصحاب بنحو ما يجري في مفاد كان التامة.

وبعبارة أخرى: الآنات المتعاقبة كما تكون بنفسها تدريجية كذلك وصفها تدريجي، وكما يجري الاستصحاب باعتبار الآنات بين الحدين كذلك وصفها فيقال مثلاً: الآنات المتحدة عرفاً كانت موجودة وكانت متصفة بالنهارية، فكذلك بقاءً!

ويمكن أن يقال: بالفرق عرفاً بين استمرار الزمان وبين وصفه، فشهر رمضان واحد عرفاً بل دقة كما مرّ، فلذا يتحقق فيه اليقين والشك، وأمّا

ص: 163


1- فوائد الأصول 3: 203؛ أجود التقريرات 4: 103.
2- منتقى الأصول 6: 158.
3- نهاية الأفكار 4[ق1]: 148.

وصف اليوم بكونه من شهر رمضان فلا يقين سابق فيه عرفاً ولا دقة، فلا يقال: إنّ هذا اليوم كنّا على يقين من أنّه من شهر رمضان والآن نشك فيه، بل يقال: إنّه مشكوك الرمضانية من الأوّل.

وأجاب عن الثاني وذكر تفصيلاً، وحاصله: إنّ أخذ الزمان في المؤقتات إمّا راجع إلى الهيئة أو المادة، وكل منهما إمّا على نحو القيدية أو المعيّة... .

1-2- أمّا لو رجع إلى الهيئة - سواء بنحو القيدية أو المقارنة - فلا شبهة في صحة الاستصحاب عند الشك في بقائه من غير أن يرتبط بالأصل المثبت، لأنّه من قبيل استصحاب الموضوع وإثبات الحكم الفعلي به.

3- وأمّا لو رجع إلى المادة على نحو المقارنة، كما لعلّه الظاهر في أكثر أدلة التوقيت في المؤقتات كقوله (علیه السلام): «إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة»(1)

وقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ الَّيْلِ}(2)،

حيث كان المستفاد منها مجرد لزوم وقوع المأمور به - صلاةً أو صوماً - عند تحقق أوقاتها بلا اقتضائها لكون الوقوع في الوقت المضروب لها شرطاً شرعياً، فلا إشكال في جريان الاستصحاب، فإنّه باستصحاب بقاء الليل أو النهار أو شهر رمضان يترتب وجوب الإتيان بالصوم أو الصلاة، ويترتب عليه تحقق الامتثال والخروج عن عهدة التكليف عقلاً بإتيان المأمور به في الوقت المستصحب، لكونه من اللوازم العقلية المترتبة على الأعم من الواقع

ص: 164


1- تهذيب الأحكام 2: 104؛ عنه وسائل الشيعة 1: 372.
2- سورة الإسراء، الآية: 78.

والظاهر، ولا يحتاج إلى عنوان وقوعه في الزمان الذي كان الليل أو النهار أو رمضان، بعد عدم أخذ عنوان الظرفية قيداً.

4- وأمّا لو رجع إلى المادة على نحو القيدية أو الظرفية بحيث اعتبر عنوان وقوع الفعل في الوقت المضروب شرطاً شرعياً، فيمكن تصحيحه بناءً على استصحاب الليلية والنهارية للآنات المتدرجة، والرمضانية للأيام المتعاقبة، إذ حينئذٍ يصدق وقوع الفعل في زمان كان ذلك الزمان ليلاً أو نهاراً أو رمضاناً، فوقوع أصل الفعل في زمان كان محرزاً بالوجدان، واتصاف ذلك الزمان بالليلية أو النهارية أو الرمضانية كان محرزاً بالأصل، فيترتب عليه الامتثال والخروج عن عهدة التكليف، كما يمكن الاستصحاب في نفس العمل المظروف أو المقيد، بتقريب أنّ هذا العمل الشخصي لو أتى به سابقاً قبل الآن المشكوك ليليّته أو نهاريته لوقع متصفاً بعنوان كذا والآن كما كان(1).

ويرد عليه: أوّلاً: بأنه بناءً على رجوع القيد إلى الهيئة فإن الوجوب المقيد أو المقارن للزمان لا شك فيه، فلا إشكال في الوجوب المقيد بشهر رمضان، وعلى فرض الشك فالاستصحاب غير نافع لإثبات وجوب الصيام في يوم الشك مثلاً لأنّه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

وثانياً: إنّ ظاهر أكثر الأدلة رجوع القيد إلى المادة، مع اشتراط الواجب بالزمان وليس مجرد المقارنة، كما هو ظاهر مثل قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ الَّيْلِ}(2)

وقوله سبحانه: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ

ص: 165


1- نهاية الأفكار 4[ق1]: 148-150.
2- سورة الإسراء، الآية: 78.

فَلْيَصُمْهُ}(1).

وقد مرّ أنّ الوصف كنهارية الآن أو رمضانية اليوم لا حالة سابقة له، فإثباته لا يكون إلاّ بالأصل المثبت.

المبحث الثاني: في استصحاب الزمانيات

وهي التدريجيات الواقعة في الزمان مثل جريان الماء وسيلان الحيض ونحو ذلك مما وقعت موضوعاً للأحكام الشرعية.

والكلام في الاستصحاب فيها هو الكلام في استصحاب الزمان بمفاد كان التامة أو الناقصة.

نعم قد يكون منشأ الشك في البقاء هو الشك في المقتضي أو المانع كما لو شك في بقاء جريان الماء للشك في منع حجر لاستمراره أو شك في بقائه للشك في نفاد مادّته، ولا إشكال في الاستصحاب على المبنى.

وقد يكون منشؤ الشك هو نفاد مادة واحتمال تجدد مادة أخرى في الجريان مثلاً، كما لو شككنا في بقاء التكلّم مع العلم بانتهاء الداعي الأوّل واحتمال حدوث داع ٍ جديد، وهنا تختلف الحالات...(2).

1- فتارة: نقول باختلاف الفعل لاختلاف الدواعي والأغراض، وأنّ تعدد الأسباب توجب تعدد المسببات فهذا من استصحاب القسم الثالث من الكلي، فإن احتمل تقارنه مع الداعي الأوّل فهو من الصورة الأولى ولو كان من احتمال زوال داع ٍ وحدوث داع ٍ آخر مقارناً لزوال الأوّل فهو من الصورة الثانية.

ص: 166


1- سورة البقرة، الآية: 185.
2- منتهى الأصول 2: 595.

2- وتارة: نقطع بارتفاع مرتبة شديدة أو خفيفة مع احتمال حدوث مرتبة أخرى منه، كما لو احتملنا استمرار الجريان لكن مع زيادة شدته أو مع ضعفه، فهذا من استصحاب القسم الثالث من الكلي من صورته الثالثة.

3- وتارة: نقول بأنّ اختلاف الدواعي والأسباب لا يضر بالوحدة الشخصيّة بمعنى أنّ حدوث هذا الشخص بسببٍ وداع ٍ وبقاءه بسببٍ وداع ٍ آخر، ولا يبعد أن يكون بالنظر العرفي بقاء ذلك الشخص لا انعدام شخص وحدوث شخص آخر، وحينئذٍ لا محذور في جريان الاستصحاب أصلاً.

إن قلت(1): تعدد المادة يقتضي تعدد الجريان، فالجريان الأوّل غير الجريان الثاني وقد زال الأوّل بزوال مادته قطعاً، والثاني مشكوك الحدوث.

قلت: إنّ تعدد المادة وتبدلها بالأخرى لا يوجب تعدد الجريان عرفاً بل لا يوجبه دقة - إذا لم يحصل انقطاع فيه - ، إذ حاله كحال الخيمة إذا كانت معتمدة على عمود مع تبديله بآخر، فبقاؤها منتصبة ليس بقاءً آخر غير الأوّل.

إن قلت: إنّ الماء يتغيرّ باستمرار.

قلت: مورد الاستصحاب هو الجريان وهو لا يتعدد بتعدد الماء عرفاً ودقة.

ثم إنّ الشيخ الأعظم قال في الرسائل: «وكذا لو شك بعد انقطاع دم الحيض في عوده في زمان يحكم عليه بالحيضيّة أم لا، فيمكن إجراء

ص: 167


1- فوائد الأصول 4: 441.

الاستصحاب، نظراً إلى أنّ الشك في اقتضاء طبيعتها لقذف الرحم الدم في أيّ مقدار من الزمان، فالأصل عدم انقطاعه. وكذا لو شك في اليأس فرأت الدم، فإنّه قد يقال: باستصحاب الحيض نظراً إلى كون الشك في انقضاء ما اقتضته الطبيعة من قذف الحيض كل شهر.

وحاصل وجه الاستصحاب: ملاحظة كون الشك في استمرار الأمر الواحد الذي اقتضاه السبب الواحد، وإذا لوحظ كل واحد من أجزاء هذا الأمر حادثاً مستقلاً فالأصل عدم الزائد على المتيقن وعدم حدوث سببه، ومنشأ اختلاف بعض العلماء في إجراء الاستصحاب في هذا المورد اختلاف أنظارهم في ملاحظة ذلك المستمر حادثاً أو حوادث متعددة، والإنصاف وضوح الوحدة في بعض الموارد، وعدمها في بعض، والتباس الأمر في ثالث»(1).

وأشكل عليه: أوّلاً: إنّ الاستصحاب إن كان في سيلان الدم فلا إشكال في عدم جريانه لتعدد السيلان بالقطع والجريان، وإن كان استصحاب اقتضاء الطبيعة فهو أصل مثبت مع كونه في المقتضي.

وفيه: أنّه استصحاب للحيض وليس للسيلان -

وإن كان يلازمه عادة - وانقطاع السيلان لا يوجب الجزم بانقطاع الحيض وذلك لأنّ الشارع وبالحكومة اعتبر فترة الانقطاع حيضاً إن رجع الدم ثم انقطع في العشرة على التفصيل المذكور في الفقه.

وثانياً: إن اختلاف أنظارهم ليس لأجل ما ذكره بل لكل واحد من

ص: 168


1- فرائد الأصول 3: 307-308.

الفرعين وجه خاص(1).

أمّا الفرع الأوّل: فقد ذكروا أنّ النقاء المتخلل محكوم بالحيضيّة، فلو انقطع الدم وشكت في أنّها هل ترى الدم بعد ذلك مرة أخرى أم لا، كان ذلك من قبيل الشبهة المصداقية للفرع المذكور، فقد يقال: بالرجوع إلى الاستصحاب الحكمي - أي محكوميتها بأحكام الحيض - وقد يقال: بالرجوع إلى استصحاب عدم السيلان بعد، فلا يكون من قبيل النقاء المتخلل، فهي محكومة بالطهر، وهذا حاكم على الأوّل، لكون الشك في الأوّل مسبباً عن الشك في حدوث الدم بعد وعدمه، وهذا هو منشأ الخلاف في هذا الفرع.

وأمّا الفرع الثاني: فوجه الحكم بالحيضيّة هو الرجوع إلى قاعدة الإمكان بناءً على تفسيرها بالإمكان الاحتمالي، مضافاً إلى استصحاب عدم اليأس، ووجه عدمه أنّ المراد بالإمكان هو الإمكان الشرعي فما لم يحرز إمكان كونه حيضاً شرعاً لا يحكم عليه بالحيضيّة، فما دام لم يحرز عدم يأسها لا يجري فيه قاعدة الإمكان، فتأمل.

المبحث الثالث: استصحاب الأمور المقيدة بالزمان
اشارة

وهي أمور قارة ثابتة قُيّدت المادة فيها بالزمان، كالإمساك المقيد بكونه في نهار شهر رمضان، والوقوف المقيد بكون في يوم عرفة.

ومنشأ الشك تارة الشك في وحدة المطلوب مع الشك في القيد، وتارة الشك في تعدد المطلوب مع العلم بعدم وجود القيد، والأوّل تارة شبهة

ص: 169


1- رشحات الأصول 2: 293.

موضوعية وأخرى حكمية، والحكمية تارة الشك في المفهوم أو لإجمال النص أو تعارض النصين، فهنا مطلبان:

المطلب الأوّل: الشك في القيد مع وحدة المطلوب
اشارة

كما لو وجب عليه الإمساك المقيد بكونه في النهار من شهر رمضان ثم شك في تحقق الليل، وفيه صور:

الصورة الأولى: الشك في الشبهة الموضوعيّة

قد يقال: بجريان استصحاب بقاء الزمان كاستصحاب بقاء النهار الذي هو قيد للإمساك الواجب.

وأشكل عليه: بأنّه أصل مثبت، إذ استصحاب بقاء النهار لا يثبت وقوع الإمساك فيه ليترتب عليه الوجوب، وبعبارة أخرى: إنّ استصحاب النهار لازمه وقوع الإمساك فيه فيجب، وهذا اللازم عقلي.

وأجيب بأجوبة، منها:

الجواب الأوّل: ما عن المحقق النائيني والمحقق العراقي(1)،

وحاصله: أنّ الموضوع مركب من المقيّد وهو الإمساك والقيد وهو النهار، والإمساك ثابت بالوجدان، والنهار يثبت بالاستصحاب بمفاد كان التامة، ويترتب على ذلك الوجوب من غير واسطة.

وبعبارة أخرى: ليس بين الإمساك والزمان اتصاف وعروض بل هما وجودان مستقلان لا بدّ من إحرازهما ليثبت الوجوب.

ص: 170


1- أجود التقريرات 4: 106-107؛ نهاية الأفكار 4[ق1]: 150.

وأشكل عليه في المنتقى(1)

بما حاصله: أنّه لا يمكن أن يكون الزمان جزءاً للموضوع لأنّ الوجوب يتعلق بالأمر الاختياري وهو الإمساك المقيد بنهار شهر رمضان مثلاً، وليس الزمان وهو كونه نهار شهر رمضان باختياري فلا يمكن أن يكون موضوعاً أو جزءاً لموضوع الحكم الشرعي!

ويمكن أن يقال: عدم اختيارية بعض أجزاء المركب لا تنافي اختياريته، فلا محذور في كون المركب من الأمر الاختياري والأمر غير الاختياري موضوعاً للحكم الشرعي، بل جميع الأفعال الاختيارية كذلك إذ لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين، مضافاً إلى أنّه لو استحال فلا فرق بين كون غير الاختياري جزءاً للموضوع أو قيداً له لأنّ المقيد بالأمر غير الاختياري سيكون غير اختيارياً على هذا المبنى.

فتحصل: أنّ هذا الجواب لا بأس به إلاّ أنّه قد لا يجري في بعض الموارد مما كان ظاهر الدليل كون الزمان قيداً لا جزءاً من الموضوع.

الجواب الثاني: ما ذكره المحقق الإصفهاني(2) وحاصله: أنّ متعلق الحكم تارة هو الإمساك في النهار، وتارة الإمساك النهاري، والمثبت هو الثاني دون الأوّل، وذلك لأنّه يكفي على الأوّل في تحقق متعلق التكليف استصحاب النهار - مثلاً - ، إذ لا فرق بين ثبوته وجداناً أو تعبداً، والاستصحاب نقّح موضوع الوجوب وهو النهار تعبداً مع كون الإمساك متحقق وجداناً.

وأشكل عليه: أوّلاً: باستلزامه الدور، حيث إنّ جريان الاستصحاب

ص: 171


1- منتقى الأصول 6: 190-191.
2- نهاية الدراية 5: 157.

يتوقف على ثبوت أثر شرعي له وإلاّ كان جعله لغواً، فلو توقف الأثر على الاستصحاب لدار، وفي ما نحن فيه تعبد الشارع بنهارية المشكوك متوقف على الأثر وهو كون الإمساك في النهار، وهذا الأثر يتوقف على التعبد بالاستصحاب.

وفيه: أنّ الأثر هو وجوب الإمساك وهو متوقف على دليل الصوم لا على الاستصحاب، وبعبارة أخرى: إنّ الاستصحاب لا يجري إلاّ لو كان أثره وجوب الإمساك، ووجوب الإمساك لا يتوقف على الاستصحاب بل على دليل وجوب الصوم، ولولا ذلك لدار كل استصحاب حكمي حيث إنّ الحكم يتوقف على الاستصحاب وهو يتوقف على الأثر الذي هو ذلك الحكم!

وثانياً: ما في المنتقى من «أنّ استصحاب بقاء النهار لا يثبت إضافة الإمساك إلى النهار وتقييده به إلاّ بالملازمة، نظير استصحاب كون هذا المائع خمراً فإنّه لا يثبت كون شربه شرب الخمر إلاّ بالملازمة والمفروض إثبات كون الإمساك في النهار»(1).

ويمكن أن يقال: إنّ استصحاب بقاء النهار لازمه الشرعي وجوب الإمساك بدليل وجوب الصوم في النهار، كما أن استصحاب كون هذا المائع خمراً يكفي في ترتب الحرمة عليه من غير حاجة إلى إثبات كون هذا الشرب شرب خمر.

وثالثاً: إنّ القيود المأخوذة في الموضوعات الشرعية إنّما هي بمفاد كان

ص: 172


1- منتقى الأصول 6: 881.

الناقصة، وهكذا الزمان، فلا بدّ من إثبات نهاريّة هذا الوقت المشكوك فلا يكفي استصحاب بقاء النهار، ونهاريّة هذا الوقت لا يقين سابق له.

وأجيب: بأنّه لو كان المفاد مفاد كان الناقصة فالتقييد والإضافة وجداني تكويني، وإنّما الشك في وصف المضاف إليه وقد ثبت بالأصل، فتأمل.

الجواب الثالث: ما في الكفاية(1)

وحاصله: إجراء استصحاب المقيّد بما هو مقيّد فيقال: إنّ الإمساك كان في النهار فالآن كذلك.

وأشكل عليه: بأنّ الإمساك المشار إليه إمّا يراد به الجزء الموجود منه، أو الجزء الذي لم يوجد بعد، والأوّل لا يتعلق به حكم لأنّه طلب الحاصل، والثاني لا حالة سابقة له.

وفيه: أن الكلام ليس في الإمساك بما هو هو، بل الإمساك المقيد بالنهار وقد كان متيقن الحدوث وهو الآن مشكوكه.

الجواب الرابع: ما في المنتقى: «بأنّ الملحوظ في دليل الاستصحاب إمّا تنجيز الواقع المجهول فلا إشكال أصلاً، إذ مرجع التنجيز إلى بيان ترتب المؤاخذة على تقدير ثبوت الواقع، ومثله لا يعتبر فيه إحراز ثبوت الواقع بل احتماله يكفي في الاندفاع للعمل، وعليه فيكفي استصحاب النهار بلا حاجة إلى إحراز كون الإمساك في النهار، لأنّ مرجع الاستصحاب المزبور إلى تنجيز الحكم بوجوب الإمساك على تقدير ثبوته في الواقع، ولا يتكفل إثبات الحكم، وعليه فلا بدّ من الإتيان بالإمساك فراراً عن العقاب المحتمل لاحتمال ثبوت الحكم لاحتمال بقاء النهار.

ص: 173


1- إيضاح كفاية الأصول 5: 72.

نعم لو التزمنا بأنّ المجعول هو المتيقن فيتكفل دليل الاستصحاب جعل حكم ظاهري مماثل للحكم الواقعي فيشكل الأمر، لأنّ الحكم الواقعي هو وجوب الإمساك المقيد بكونه في النهار، وهذا مما لا يمكن أن يثبت في مرحلة الظاهر باستصحاب بقاء النهار، إذ بعد عدم إحراز أنّ الزمان الذي نحن فيه نهار أو ليل لا يحرز أنّ الإمساك في النهار - فعلاً - مقدور، لاحتمال أنّ هذا الزمان ليل، واستصحاب بقاء النهار لا يثبت أنّ هذا الآن نهار، فيكون ثبوت وجوب الإمساك في النهار محالاً، لأنّه تكليف بأمر لا يعلم أنّه مقدور أم لا»(1).

ويرد على الأوّل: أنّ أصالة البراءة تنفي احتمال تنجز الواقع على فرض ثبوته، لأنّ استصحاب بقاء النهار إن لم يثبت وجوب الإمساك وإنّما أورث احتمال تنجز الواقع فقط كان أصل البراءة حاكماً عليه لأنّه ينفي هذا الاحتمال تعبداً، فتأمل.

مضافاً إلى أنّ هذا المقدار لا يخرجه عن الأصل المثبت، وذلك لأنّ التنجز الذي هو أثر وجوب الإمساك لا يترتب إلاّ عبر الأصل المثبت. وبعبارة أخرى: ليس كل تنجز خارج عن الأصل المثبت بل التنجز الذي هو أثر نفس الاستصحاب أو نفس الحكم دون التنجز الذي هو أثر المستصحب، فتأمل.

وأمّا الثاني فقد مرّ جوابه.

الجواب الخامس: بتغيير الاستصحاب من الموضوع إلى الحكم، وذلك باستصحاب بقاء وجوب الإمساك المقيد بالنهار مثلاً، إذ يشك في بقاء

ص: 174


1- منتقى الأصول 6: 185.

الوجوب بسبب الشك في بقاء الزمان.

وأشكل عليه المحقق النائيني بقوله: «فإنّه إن أريد من الاستصحاب الحكمي إثبات بقاء نفس الحكم، فالاستصحاب الموضوعي - وهو استصحاب بقاء وقت الحكم - يجري ويترتب عليه بقاء الحكم، ولا يكون من الأصل المثبت، وإن أريد من استصحاب الحكم إثبات وقوع الفعل المأمور به في وقته فهذا مما لا يثبته استصحاب بقاء وقت الوجوب فضلاً عن استصحاب بقاء نفس الوجوب، فالاستصحاب الحكمي لا أثر له، فإنّ الأثر الذي يمكن إثباته فبالاستصحاب الموضوعي يثبت، والأثر الذي لا يمكن إثباته فبالاستصحاب الحكمي لا يثبت، فلا فائدة في الرجوع إلى الاستصحاب الحكمي»(1).

لا يقال: «استصحاب الزمان لا يترتب عليه إلاّ ما هو أثره شرعاً، ومن المفروض أن ليس له أثر إلاّ بقاء وجوب الصلاة، وأمّا وقوع الصلاة في النهار فهو من آثار بقائه عقلاً لا شرعاً، وهذا بخلاف استصحاب وجوبها، فإنّ معنى التعبد ببقاء الوجوب فعلاً هو التعبد ببقائه بجميع خصوصياته التي كان عليها، ومن المفروض أنّ الوجوب السابق إنّما كان متعلقاً بما إذا أتى به كان واقعاً في النهار، فالآن يستصحب ذلك الوجوب على النحو الذي كان عليه سابقاً»(2).

فإنه يقال: إنّه «لو سُلّم أنّ التعبد بالوجوب يقتضي التعبد بجميع

ص: 175


1- فوائد الأصول 4: 438.
2- أجود التقريرات 4: 105-106.

خصوصياته فإنّما ذلك في الخصوصيات الشرعية لا التكوينيّة، ومن الواضح أنّ كون الفعل واقعاً في الزمان الخاص أمر تكويني فلا معنى للتعبد به، لأنّه لا يقبل الجعل والتعبد»(1).

هذا مضافاً إلى استلزامه حجيّة الأصل المثبت.

ومن كل ذلك يتبيّن أنه لا محذور في استصحاب الموضوع؛ وليس بأصل مثبت.

لكن لو فرض عدم جريان الاستصحاب فالأصل المسببي هو البراءة.

وقيل: إنّه الاشتغال، وذلك لأنّه بدخول الوقت اشتغلت الذمة بالتكليف ومع الشك في انقضائه يشك في فراغ الذمة، مضافاً إلى العلم بالغرض في الوقت ثم الشك في القدرة على تحصيله بسبب الشك في بقائه الناشء عن الشك في بقاء الوقت.

وفيه: إنّ الاشتغال بالتكليف والعلم بالغرض مقيدان بالوقت، ففي الوقت المشكوك لا علم بالاشتغال من الأوّل، كما أنّ المعلوم هو الغرض في الوقت لا في خارجه وفي الوقت المشكوك لا علم باشتغال الذمة بالغرض أصلاً، فتأمل.

الصورة الثانية: الشك في الشبهة الحكمية المفهومية

كما لو تردد المغرب بين تحققه باستتار القرص أو ذهاب الحمرة المشرقية.

أ) أمّا الاستصحاب الموضوعي:

ص: 176


1- منتقى الأصول 6: 190.

فقد يقال: بعدم جريانه وذلك لعدم الشك في الموضوع لدوران الأمر فيه بين مقطوع التحقق ومقطوع العدم، والشك إنّما هو في المفهوم وليس موضوعاً للحكم الشرعي.

وفيه: إنّ الشك في المفهوم يسري إلى المصداق، وإنّ الدوران بين قطعين قد يكون مصداقاً للشك، كما لو شككنا في أيّ حكم حيث إنّ الله إن كان شرّعه فهو مقطوع الوجود وإن لم يشرعه فهو مقطوع العدم، والحاصل: أنّ القطع تعليقي وأمّا الشك فهو تنجيزي وهو الذي يدور عليه الاستصحاب.

ب) وأمّا الاستصحاب الحكمي:

فقد يقال: باليقين بالحكم قبل استتار القرص مثلاً وبالشك فيه بعده.

وأشكل عليه: بتردد المورد بين كونه من إسراء حكم من متعلق لآخر إن كان الليل يتحقق باستتار القرص مثلاً، وبين كونه نقضاً لليقين بالشك إن كان تحقق الليل بذهاب الحمرة، وعليه فلا إحراز لكون المورد من موارد نقض اليقين بالشك، فالتمسك بدليل الاستصحاب فيه تمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

ويمكن أن يقال: إنّ مرجع هذا إلى عدم حجيّة الاستصحاب مع الشك في المقتضي، وقد مرّ الجواب عنه.

الصورة الثالثة: الشك في الشبهة الحكمية لتعارض النصين أو إجمال النص

كما لو شك في نهاية وقت صلاة العشاء هل هو منتصف الليل أو الفجر لأجل التعارض أو الإجمال.

فقد قيل: بعدم جريان الاستصحاب، أمّا الموضوعي فلأنّ غاية الوجوب

ص: 177

إن كانت منتصف الليل فقد تحقق قطعاً، وإن كان طلوع الفجر فلم يتحقق قطعاً فدار الأمر بين متيقن الزوال ومتيقن عدم الحدوث، وأمّا الحكمي فلدوران الأمر بين إسراء حكم من متعلق لآخر وبين نقض اليقين بالشك.

ويرد عليه: ما ورد على سابقه فلا نعيده.

المطلب الثاني: الشك في بقاء حكم المقيد بالزمان من جهة احتمال تعدد المطلوب

كما لو أمره بالجلوس في المسجد إلى الظهر، واحتملنا استمرار الحكم إلى ما بعد الظهر.

فقد يقال بالتفصيل: بأنه لو كان الزمان ظرفاً جرى الاستصحاب، وإن كان قيداً فلا يجري وذلك لتبدل الموضوع مع عدم اليقين السابق للموضوع الجديد، وحينئذٍ يمكن جريان استصحاب عدم الحكم، وقد ذهب إليه الشيخ الأعظم(1) والمحقق الخراساني(2).

واستدل له: بتمامية أركان الاستصحاب في ما لو كان الزمان ظرفاً حيث إنّ الظرف ليس قيداً للموضوع بحيث يتبدل الموضوع بتبدله، عكس ما لو كان قيداً(3).

ولعلّ المراد: أنّ الزمان إن كان ظرفاً فلا يعدّه العرف مقوّماً بل حالة وعارضاً، عكس ما لو كان قيداً.

ومع كونه قيداً فلا يجري استصحاب الحكم السابق لتبدل الموضوع

ص: 178


1- فرائد الأصول 3: 210.
2- إيضاح كفاية الأصول 5: 73-74.
3- فرائد الأصول 3: 210-211.

فيجري استصحاب عدم الحكم الذي كان قبل التشريع أو كان أزلاً.

وأشكل عليه: أوّلاً: بعدم إمكان استصحاب الحكم، إذ الزمان قيد دائماً(1)،

وذلك لأنّ قيد متعلّق الحكم - وهو فعل المكلف - مقوّم بنظر العرف، لأنّ متعلق الحكم هو ما أخذ الحكم داعياً إليه ومحركاً نحوه، فإذا كان المدعو إليه هو الفعل الخاص كانت الخصوصية مقومة عرفاً، فمع انتفائها يمتنع جريان الاستصحاب.

وغير خفي أنّ هذا خروج عن الفرض بكون الزمان ظرفاً وإرجاعه إلى كونه قيداً.

وثانياً: بعدم إمكان استصحاب عدم الحكم حتى لو كان الزمان قيداً، وذلك لما ذكره المحقق النائيني قال: «لأنّ العدم الأزلي هو العدم المطلق الذي يكون كل حادث مسبوقاً به، وانتقاض هذا العدم بالنسبة إلى كل حادث إنّما يكون بحدوث الحادث وشاغليته لصفحة الوجود، فلو ارتفع الحادث بعد حدوثه وانعدم بعد وجوده فهذا العدم غير العدم الأزلي، بل هو عدم آخر حادث بعد وجود الشيء، وبعبارة أوضح: العدم المقيّد بقيد خاص من الزمان أو الزماني إنّما يكون متقوماً بوجود القيد، كما أنّ الوجود المقيد بقيد خاص إنّما يكون متقوماً بوجود القيد، ولا يعقل أن يتقدّم العدم أو الوجود المضاف إلى زمان خاص عنه، فلا يمكن أن يكون لعدم وجوب الجلوس في يوم السبت تحقق في يوم الجمعة»(2).

ص: 179


1- منتقى الأصول 6: 193.
2- فوائد الأصول 4: 445-446.

ويمكن أن يقال: إنّ الشيء لو كان له فردان فوجود أحدهما ناقض للعدم الأزلي بالنسبة إليه ولا ينقض العدم الأزلي بالنسبة إلى الفرد الآخر، فليس الكلام في وجود الطبيعة في ضمن الزمان المقيد والزمان الذي بعده كي يقال: بأنّها وجدت فلا مجال لاستصحاب عدمها في الزمان الثاني، بل قبل التشريع نعلم بعدم الحكم في الزمان المقيد ونعلم بعدمه في الزمان اللاحق له، فانتقض العدم الأوّل بتشريع الحكم في المقيد ولم يعلم انتقاض العدم الثاني فلا محذور في استصحابه.

ثم لو شككنا في كون الزمان ظرفاً أو قيداً... .

فقد يقال: بجريان القسم الثاني من استصحاب الكلي، حيث نعلم بتحقق طبيعي الحكم إلاّ أنّه مردد بين الجلوس المطلق من جهة الوقت - في المثال - وبين الجلوس المقيّد، وفي الأوّل الحكم باقٍ قطعاً، وفي الثاني زائل قطعاً.

وأشكل عليه: أوّلاً: بأنّه في القسم الثاني منه لا بدّ من تحقق العلم الإجمالي بأحد الفردين مع الترديد بينهما، وما نحن فيه ليس كذلك فإنّ أحد الفردين - وهو الحكم في الوقت - متيقن الحدوث، والفرد الآخر - وهو الحكم بعد الوقت - هو المشكوك فقط.

وفيه: إنّ الفرد القصير مشكوك من الأوّل، لاحتمال عدم تقيد الحكم بالوقت، كما أنّ الفرد الطويل مشكوك أيضاً، بمعنى أنّه حين دخول الوقت يعلم بتحقق أصل الحكم لكن لا يعلم أنّ مصداقه الحكم القصير المقيد بالوقت، أم الحكم الطويل الذي كان الوقت ظرفاً له، فالحكم في الوقت ليس هو الفرد القصير بل هو الكلي الجامع وإنّما الفرد القصير الحكم المقيد بالوقت وهو مشكوك فيه حينذاك.

ص: 180

وثانياً: بأنّه من الصورة الثالثة من القسم الثالث من استصحاب الكلي حيث إنّ المتيقن الحكم في الوقت ويحتمل بقاؤه وزواله في خارج الوقت مع عدم كونه آكد، وهذا الصنف يجري فيه الاستصحاب.

وفيه: أن استمرار الحكم لما بعد الوقت ليس حكماً آخر لا عرفاً ولا دقة، بل هو هو، والتأكيد وعدمه ليس كالسواد الشديد والضعيف، فتأمل.

ص: 181

فصل في الاستصحاب التعليقي

اشارة

وهو في ما لم يتحقق قيود الموضوع جميعها ثم تبدلت بعض حالاته ثم تحققت القيود التي لم تكن قبل تبدل الحالة، كالعنب الذي شرط حرمته الغليان، فإذا صار زبيباً ثم غلى وشككنا في حرمته.

والكلام في المقتضي في استصحاب الحكم التعليقي، وفي المانع عنه، وفي استصحاب الملازمة، وفي الموضوع التعليقي، فهنا مباحث:

المبحث الأوّل: في استصحاب الحكم التعليقي

وقد يقال: بجريان الاستصحاب فيه ويستدل له بأمور، منها:

الدليل الأوّل: ما في الرسائل: «إنه يعتبر في الاستصحاب تحقق المستصحب سابقاً، والشك في ارتفاع ذلك المحقَّق، ولا إشكال في عدم اعتبار أزيد من ذلك، ومن المعلوم تحقق كل شيء بحسبه... أمّا اللازم - وهي الحرمة - فله وجود مقيد بكونه على تقدير الملزوم، وهذا الوجود التقديري أمر متحقق في نفسه مقابل عدمه، وحينئذٍ فإذا شككنا في أنّ وصف العنبيّة له مدخل في تأثير الغليان وحرمة مائه، فلا أثر للغليان في التحريم بعد جفاف العنب وصيرورته زبيباً، فأيّ فرق بين هذا وبين سائر الأحكام الثابتة للعنب إذا شك في بقائها بعد صيرورته زبيباً؟»(1).

ص: 182


1- فرائد الأصول 3: 223.

وبعبارة أخرى: إنّ الحكم المعلق قبل تحقق قيده له فعلية من بعض الجهات، فدليل الاستصحاب شامل له.

وأشكل عليه: بأنّ الأمر يدور بين الوجود والعدم، ولا معنى للفعلية من بعض الجهات، بل إن كانت الفعلية من جميع الجهات كان الشيء موجوداً وإلاّ كان معدوماً، بل القول بالوجود من جهة دون جهة جمع بين النقيضين، وعليه فقبل الغليان لا يوجد حكم أصلاً، وبغليان الزبيب لا يوجد متيقن سابق كي يتم استصحابه.

إن قلت: إنّ الشارع عندما أنشأ الحكم التعليقي فإنّ موضوعه هو ما فرض وجوده مع عدم تحقق القيد، إذ مع فرض وجوده يكون تنجيزياً لا تعليقياً.

قلت: إنّه في مقام الجعل وهو يرتبط بالحكم الكلي، وهذا الحكم لا يعتريه شك أصلاً كي نحتاج إلى استصحابه إلاّ لو احتملنا النسخ والمفروض أنّ الشك ليس من جهة النسخ، وأمّا في مقام المجعول فالعنب الخارجي من دون غليان لا حرمة له أصلاً فكيف تستصحب الحرمة؟

والحاصل: الحكم الكلي لا شك لاحق فيه، والحكم الجزئي لا يقين سابق له.

الدليل الثاني: ما عن المحقق الحائري في الدرر(1)، وحاصله: تمامية أركان الاستصحاب، أمّا اليقين السابق فإنّه في الواجبات المشروطة قد أنشأ

ص: 183


1- درر الفوائد، للحائري: 545.

الشارع حكماً قطعاً كما في الواجبات المطلقة، فلا محالة هنالك اختلاف قبل الإنشاء وبعده بالوجدان والضرورة، وعليه: فالتعليق جهة متوسطة بين الحصول المطلق وعدم الحصول أصلاً، وهذا معنى الفعلية من جهة دون أخرى، فإنّ الإنشاء هو إيجاد فلا يتخلّف عن الوجود فلا بدّ من مجعول لهذا الإنشاء، وهو المتيقن السابق، وأمّا الشك اللاحق: فحيث قد أنشأ الشارع حكماً للعنب مثلاً، فإذا صار زبيباً قبل غليانه فقد حصل الشك في بقاء ما جعله الشارع على العنب بذلك الإنشاء.

وأشكل عليه: أوّلاً: بأنّ الذي أوجده بالإنشاء هو الحكم الكلي في عالم الاعتبار، وهذا لا شك يعتريه، إنّما الكلام أنّ ذلك الحكم لا ينطبق في العنب الخارجي قبل الغليان، وبعد زبيبيته وغليانه يشك في انطباقه مع عدم يقين سابق.

ويمكن أن يقال: في الجواب عن هذا الإشكال والإشكال على الدليل الأوّل بأنّ إنشاء الشارع الحكم الكلي لا ينفك عن أمر وضعي للموضوع الخارجي وهو إيجاد قابليته للحكم بحيث تصل إلى الفعلية بتحقق القيد. فبعد التشريع الكلي بحرمة العنب بالغليان أوجد الشارع قابلية الحرمة للعنب وبذلك يختلف العنب عن التمر مثلاً في تلك القابلية بالوجدان، وهذه القابلية ليست أمراً تكوينياً وإنّما هي أمر جعلي، وبصيرورته زبيباً يشك في بقائها فتستصحب ويترتب عليها الحرمة، والقابلية من الأعراض الوجودية.

وهذا نظير الوصية التمليكية حيث إنّ الموصي بإنشائها أوجد المقتضي لملكية الموصى له، وبموته تتم العلة التامة لها فتتحقق حين موته.

لا يقال: إنّه أصل مثبت لأنّه بتحقق الغليان في الزبيب تتحول القابلية إلى

ص: 184

فعلية وهذا أمر عقلي لازمه الحرمة التي هي الحكم الشرعي.

لأنّه يقال: إنّ الفعلية هي عبارة أخرى عن الحكم الشرعي، فهي بمعنى فعلية الحرمة.

الدليل الثالث: ما ذكره المحقق العراقي(1)

وحاصله: أنّ الأحكام التكليفية ليست قضايا حقيقية، لأنّ حقيقة الحكم ليست إلاّ الإرادة والكراهة المبرزتين، حيث ينتزع منهما العقل البعث أو الزجر، وظرف عروضهما هو النفس، فلا بدّ أن يكون متعلقهما نفسياً، وهما قد يكونان منوطين بشرط، ولا بدّ أن يكون هو نفسياً أيضاً لاستحاله اتصاف ما في النفس بما في الخارج، وعليه: فلو قال: العنب إذا غلى حرم كان متعلق الكراهة ما في النفس والمنوط به أيضاً في أفق النفس، وبذلك يثبت اليقين السابق، حيث إنّ قيد الكراهة - وهو الغليان - ليس هو الغليان الخارجي بل صورته، وهذه الصورة متحققة حين الإنشاء، ولا يمكن أن يكون الغليان جزءاً من الموضوع لأنّه قيد للحكم، والحكم وعِلله في رتبة متأخرة عن الموضوع في ما لو توقف أصل الحكم على وجود الموضوع، وبذلك يبطل الاستدلال على عدم وجود الحكم بعدم وجود موضوعه حيث توهم أنّ الغليان في المثال جزء من الموضوع والمركب عدم عند عدم جزئه.

وبعبارة أخرى: 1- قد يكون الحكم معلقاً على شيء كالحرمة المعلقة على الغليان، 2- وما يكون قيداً للحكم أو من عِلله لا يكون جزءاً من الموضوع وذلك لتأخره رتبة عن الموضوع، 3- والقيد - كالغليان - محقق

ص: 185


1- نهاية الأفكار 4[ق1]: 161-166.

حين الإنشاء لأنّه متعلق للحكم الذي هو الإرادة أو الكراهة النفسيان، ومتعلق الأمر النفسي لا بدّ أن يكون نفسياً.

وأورد عليه: أوّلاً: بأنّه لا محذور في أن تكون علة الحكم جزءاً من الموضوع لاختلاف الرتبة بين العلة والمعلول كاختلاف الرتبة بين الموضوع والحكم، فما كان جزء العلة للحكم يصح أن يكون جزءاً من الموضوع، نعم لا يصح ذلك في الحكم نفسه لكن ما هو من عِلل الحكم ليس هو الحكم.

وثانياً: إنّ الحكم ليس هو الإرادة أو الكراهة المبرزتين وإنّما هو مجعول ناشٍ عنهما، وهذا ما نجده في أنفسنا وفي ارتكاز العقلاء حيث يرون أنّ القانون صدر عن إرادة أو كراهة لا أنّه هما، كما أنّ ظاهر الأدلة الشرعية كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ...}(1)

وقوله سبحانه: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَٰتُ...}(2)

هو أنّ الحكم الشرعي مجعول ناشٍ عنهما.

وثالثاً: إنّه في الحكم الكلي تعلقت الإرادة والإنشاء بالصور الذهنية لكن بما هي مرأة للخارج وللموضوعات الجزئية، أمّا في العنب الخارجي فلا كراهة أصلاً قبل غليانه خارجاً، وعليه: فالأحكام الشرعية هي قضايا حقيقية لأنّ الموضوع مفروض الوجود فيُنشأ له حكم كلي، فلما يتحقق في الخارج ينطبق ذلك الحكم الكلي على الموضوع الخارجي، فتأمل.

ص: 186


1- سورة المائدة، الآية: 3.
2- سورة المائدة، الآية: 4.

ثم إنّ المحقق العراقي(1)

قد ذكر نقضاً على القائلين بعدم جريان الاستصحاب لعدم وجود الحكم سابقاً، وذلك بجريانه في الأحكام الكلية، مع أنّ الموضوع غير متحقق بل يفترض فرضاً مثلاً: لو صدر الحكم الكلي بنجاسة الماء الكر إذا تغيّر بالنجاسة، ثم فُرض زوال التغيّر بنفسه وشك في بقاء الحكم الكلي فيتم استصحاب بقاء النجاسة، مع أنّه لا فرق بين هذا وبين الاستصحاب التعليقي!

وأجيب: بالفرق بأنّ الفقيه في مقام الفتوى بالحكم الكلي يفترض تمامية الموضوع بجميع قيوده وأجزائه فيفتي بالنجاسة الكلية ثم مع زوال التغيّر يستصحب تلك النجاسة المفروضة الوجود، وأمّا في الأمر التعليقي فإنّه يفترض عدم تحقق بعض القيود - إذ لو افترض وجودها جميعاً كان الحكم تنجيزياً لا تعليقياً - فلا يفتي بالحرمة مع عدم وجودها حتى بالفرض فهو يفرض عدم غليان العنب فيفرض عدم حرمته، فتأمل.

المبحث الثاني: في استصحاب الملازمة

وهي السببيّة التي أوجدها الشارع بين الحرمة والغليان مثلاً، وهي لا ترتبط بوجودهما في الخارج، إذ القضية الشرطية صادقة حتى مع عدم تحقق طرفيها، فمع تبدل العنب إلى الزبيب مثلاً يشك في بقاء الملازمة التي كانت موجودة فتستصحب، وغير خفي أنّ هذا استصحاب تنجيزي.

وأشكل عليه بإشكالات، منها:

ص: 187


1- نهاية الأفكار 4[ق1]: 168.

الإشكال الأوّل: إنّ هذه الملازمة انتزاعية فليس لها وجود أصلاً إلاّ بوجود منشأ انتزاعها، وعليه فيستحيل وجودها من دون وجود طرفيها، نعم مفهومها موجود في الذهن إلاّ أنّها لا تنفع في الاستصحاب إذ لا يراد استصحاب مفهومها الذهني، وصدق القضية الشرطية أمر ذهني فهو غير مرتبط بوجود الملازمة خارجاً المنتزع من وجود طرفيها.

وفيه: أوّلاً: إنّها كالقضية الحقيقية التي يكون موضوعها مفروض الوجود فيترتب عليه الحكم، ثم مع وجود الفرد الخارجي ينطبق ذلك الكلي عليه، مضافاً إلى أن الملازمة اعتبارية وليست أمراً تكوينياً فهي موجودة في عالم الاعتبار حتى مع عدم وجود طرفيها في عالم الخارج، بل حتى مع وجود الطرفين تبقى تلك الملازمة أمراً اعتبارياً.

وثانياً: إنّه في الحكم الكلي هناك تلازم بين الغليان المفروض وبين الحرمة المفروضة، بمعنى انتزاع ملازمة ذهنية منهما، فإذا وجد فرد خارجي فهو له قابلية الغليان وقابلية الحرمة، وبين القابليتين ملازمة جعلية شرعية، فإذا تحوّل إلى زبيب وشك في بقاء القابلية استصحبت، فإذا غلا الزبيب خرجت القابليتان من القوة إلى الفعل.

وثالثاً: ما قيل من أنّه في الحكم الجزئي لو قال المولى هذا العنب إذا غلا حرم، فإنّه يمكن نسخ ذلك الحكم في الجزئي قبل تحقق الغليان، مع أنّه لو لم يكن حكم لم يكن معنىً للنسخ حينئذٍ!

إن قلت: إنّ مرجع ذلك الحكم إلى إخبار عن حكم مستقبلي صوري ثم إخبار عن عدم تحققه!

ص: 188

قلت: هو خلاف ظاهر الأدلة من جعل الحكم، ثم لو كان إخباراً لزم إنشاء جديد ليتحقق الحكم وهو خلاف الظاهر أيضاً، فتأمل.

الإشكال الثاني: إنّ الملازمة إنّما هي بين الحكم وتمام الموضوع، ولا يعقل الشك في بقائها إلاّ من جهة الشك في نسخ الملازمة، فيرجع إلى استصحاب عدم النسخ الذي لا إشكال فيه، وهو غير الاستصحاب التعليقي.

وأجيب(1): بأنّ المقطوع هو الحكم الثابت للذات في حال العنبيّة لا مطلقاً حتى في حال الزبيبيّة، إذ هو في هذا الحال مشكوك لا مقطوع، والمستصحب هو هذا الحكم الضمني الفرضي الثابت للذات في حال العنبيّة وبقاؤه مشكوك لا مقطوع.

أقول: كأنّ الإشكال في عدم وجود أحد طرفي الملازمة الذي هو الموضوع المركب من العنب والغليان إذ بعدم الغليان لا موضوع فلا ملازمة مع الحرمة، ومع تحقق الموضوع المركب بغليان العنب فلا شك في الملازمة لكي تستصحب! وكأنّ الجواب رجوع إلى الجواب السابق بأنّ الموضوع تام حيث إنّه العنب والغليان المفروضين فتحققت ملازمة ثم بتحوله إلى زبيب يشك في بقائها.

والأولى الرجوع إلى الجواب بأنّ القابلية مجعولة وموضوعها التام العنب من دون قيد الغليان، وإنّما الغليان يخرجها من القوة إلى الفعل.

الإشكال الثالث ما ذكره المحقق الخراساني قال: «إنّ الملازمة وإن كانت محققة إلاّ أنّ استصحابها مثبت، لأنّ الحكم شرعاً مترتب على وجود

ص: 189


1- نهاية الأفكار 4[ق1]: 169.

سببه، لا على سببيته له، وإنّما يترتب عليها مع وجود السبب عقلاً، فافهم»(1).

بيانه: إنّه لا يترتب على الملازمة بين الغليان والحرمة - مثلاً - أثر عملي إلاّ بعد حكم العقل بترتب اللازم على الملزوم.

ويرد عليه: أوّلاً: إنّ اللازم هو الحرمة في المثال ولا نريد بالاستصحاب إثبات غير ذلك، إذ بعد ثبوت الملازمة بين الغليان وحرمة الزبيب بالاستصحاب فلما أن يوجد الغليان بالوجدان تترتب عليه الحرمة بمقتضى الملازمة، فلا واسطة.

نعم لو أردنا بالاستصحاب إثبات السبب عبر إثبات السببية بأن نقول: نستصحب الملازمة وبذلك يثبت أنّ الغليان سبب فتتحقق الحرمة به، كان أصلاً مثبتاً، لكن الأمر ليس كذلك، لأنّ كون الغليان سبب هو عبارة أخرى عن الملازمة وليس أمراً آخر.

وثانياً: ما قيل: من أنّ المستصحب بنفسه كان مجعولاً - بالذات أو بالتبع - فيتعلق التعبد بالجري العملي بنفس الملازمة أو السببية، والأثر العملي وإن كان يترتب بواسطة عقلية إلاّ أنّها واسطة للأعم من الواقع والظاهر.

وفيه تأمل يعرف من الجواب السابق.

المبحث الثالث: المانع عن الاستصحاب التعليقي

وذلك في ما لو فرض تمامية أركانه، فقد يقال: بتعارض استصحاب الحرمة التعليقية واستصحاب الحليّة التنجيزية في الزبيب قبل الغليان - مثلاً - ، فيتساقطان فيكون المرجع حينئذٍ أصالة الحليّة أو أصالة البراءة.

ص: 190


1- درر الفوائد في الحاشية على الفرائد: 348.

وأشكل عليه من وجوه، منها:

الإشكال الأوّل: بالحكومة، حيث إنّ التعليقي يرفع موضوع التنجيزي، فإنّ الشك في الحليّة مسبب عن الشك في الحرمة المعلقة، والأصل السببي حاكم.

إن قلت: تستحيل الحكومة، لتوقفها على اختلاف الرتبة بين الشكين والمشكوكين، ومناط اختلاف الرتبة إمّا السببيّة والمسببيّة أو نسبة الموضوع إلى الحكم، وكلاهما مفقودان في ما نحن فيه، أمّا الشكان فقد تعلّق أحدهما بالحرمة التعليقية والآخر بالحليّة التنجيزية وليس أحدهما سبب أو موضوع للآخر، وأمّا المشكوكان فالنسبة بينها التضاد لأنّ الحليّة والحرمة بعد الزبيبيّة والغليان في عرض واحد ليس أحدهما مقدماً على الآخر ولا مقدمة لعدمه، ولا عدم ذاك مقدمة لهذا.

قلت: هناك مناط آخر هو عدم المحذور في العمل بأحدهما مع وجود المحذور في العمل بالآخر إمّا لاستلزامه التخصيص بلا وجه أو بوجه دائر كما ذكره المحقق الخراساني في وجه تقديم الأصل السببي على المسببي.

وبيانه: أنّ لازم استصحاب الحرمة التعليقية الثابتة قبل الغليان هو ترتب الحرمة عند الغليان، فهذا الاستصحاب يبيّن حكم الشك في الحرمة والحليّة بعد الغليان فهو ناظر إلى مؤدّى استصحاب الحليّة الجاري بعد الغليان، وأمّا استصحاب الحليّة فهو لا يتكفل بيان حكم الشك في الحرمة التعليقية ولا يترتب عليه نفيها فالأخذ به وطرحها إمّا بلا وجه أو بوجه دائر، فتأمل.

الإشكال الثاني: ما في الكفاية(1)

وحاصله: أنّ للحليّة غاية هي الغليان

ص: 191


1- إيضاح كفاية الأصول 5: 85.

وللحرمة بداية هي الغليان أيضاً فلا تنافي بينهما، كما لا تنافي بين حليّة العنب قبل الغليان وحرمته بعده مع القطع بهذه الحليّة والحرمة، فإذا لم تكن منافاة بين القطعين في العنب فلا منافاة بين الاستصحابين في الزبيب بطريق أولى.

والحاصل: أنّ للغليان جهتين: شرطية الحرمة وغائيّة الحليّة.

وأجيب: أوّلاً: بما في نهاية الأفكار(1): من أن القطع بالحليّة المغياة بالغليان يلازم القطع بالحليّة الفعلية للعنب، فلا جرم مهما شك في ارتفاعها - ولو من جهة عدم تعليقهما على الغليان في الزمان اللاحق بعد تحوله إلى زبيب - يجري استصحاب الحليّة، وعليه فالمعارض هو هذا الاستصحاب، لا استصحاب الحليّة المنوطة بعدم الغليان.

وبعبارة أخرى: إنّ الحليّة بعد التحول إلى زبيب لا يعلم كون الغليان غاية لها، وإنّما المعلوم هو أنّ الحليّة حين كونه عنباً غايته الغليان، والحاصل: أنّ العنب بتحوله إلى زبيب لا يعلم بقاء حليته العنبيّة المغياة أم تجدد حليّة أخرى له هي الحليّة الزبيبيّة غير المغياة، فيكون استصحاب الحليّة تام الأركان فيعارض استصحاب الحرمة التعليقيّة.

وثانياً: بما في نهاية الدراية(2)

وحاصله: أنّ الاستصحاب إن كان في الفرد فهو كما ذكره المحقق الخراساني، فإنّ الحليّة العنبيّة مقطوعة الارتفاع بالغليان، وأمّا الحليّة من حيث كونه زبيباً فهي مشكوكة الحدوث فلا يجري

ص: 192


1- نهاية الأفكار 4[ق1]: 173.
2- نهاية الدراية 5: 176-177.

الاستصحاب، وأمّا كلي الحلية فيمكن جريان استصحاب القسم الثاني من الكلي فيه، فإنّ الزبيب قبل غليانه حلال قطعاً إمّا بنفس حليّة العنب وإمّا بحليّة أخرى نشأت للزبيب، فيستصحب كلي الحليّة بعد غليان الزبيب فيتعارض مع استصحاب الحرمة المعلقة.

وأورد عليه: بأنّه من قبيل استصحاب القسم الثالث من الكلي، حيث إنّ مناطه هو القطع بحدوث فرد ثم زواله مع الشك في حدوث فرد جديد في ظرف وجود الفرد الأوّل أو مقارناً لزواله، وهكذا نقطع بوجود الحليّة العنبيّة وزوالها، ولكنّا نشك في حدوث حليّة زبيبيّة تستمر إلى ما بعد الغليان.

وفيه: أنّه بتحوّل العنب إلى زبيب يتحقق الشك في أنّ هذه الحليّة هل هي حليّة عنبيّة أم حليّة زبيبيّة مع القطع بكلي الحليّة، والحليّة العنبيّة لو كانت فهي قصيرة إلى حين الغليان، والزبيبيّة لو كانت فهي طويلة إلى ما بعده، وأمّا الحليّة العنبيّة المقطوعة قبل التحول إلى زبيب فلا ربط لها باستصحاب الكلي - لا من الثاني ولا من الثالث - .

اللهم إلاّ أن يقال: إنّ استصحاب الحليّة العنبيّة بعد التحول إلى زبيب قطع تعبدي بعدم وجود حليّة زبيبيّة، وهذه الحليّة العنبيّة مغياة شرعاً بالغليان فلا مجال لاستصحاب الكلي بقسميه لا قبل تحوله إلى زبيب ولا بعده، فتأمل.

المبحث الرابع: الاستصحاب التعليقي في الموضوعات والمتعلقات

كما لو صلّى في عباءة مشكوك كونها ممّا لا يؤكل لحمه أم ممّا يؤكل، فيقال: لو كان يصلي قبل لبسها لكانت صلاته في ما يؤكل، فنستصحب

ص: 193

ذلك بعد لبسها، أو إذا بقي عصير العنب على النار في الشتاء لمدة معينة وقد علمنا بأنّه لو كان في الصيف لغلى، فيقال: لو كان في الصيف لغلى ونشك الآن في الغليان فنستصحب.

1- أمّا وجه جريان الاستصحاب فهو أنّ حرمة النقض لم تتعلق بالمتيقن وإنّما باليقين بلحاظ ما يترتب عليه من العمل، فمعنى الاستصحاب هو الجري على ما يقتضيه ذلك اليقين عملاً، ففي مثال عصير العنب تعلق اليقين بالغليان بالصيف لو وضع على هذه النار، فلا ينقض اليقين الآن!

وفيه: ما في الرشحات: «من أنّ هذه الملازمة والتعليق ليست مجعولة للشارع لا بالأصالة ولا بالتبعية، وليست هي موضوعاً لأثر شرعي، بل الملازمة التي هي المستصحب كاشفة عن وجود الموضوع الذي ترتب عليه البعث والتحريك، وليس المستصحب نفس ما يترتب عليه الحركة، وكذلك اليقين بها ليس موضوع الأثر»(1).

وبعبارة أخرى: الحكم الشرعي يترتب على وجود اللازم لا الملازمة، إلاّ بتوسيط حكم العقل بتحقق اللازم عند تحقق الملازمه.

2- وأمّا وجه عدم جريان الاستصحاب:

فأوّلاً: الأصل مثبت، لأنّ الوجود الفرضي ليس حكماً شرعياً ولا موضوعاً له.

وثانياً: عدم تمامية أركان الاستصحاب إمّا لعدم اليقين السابق أو لعدم

ص: 194


1- رشحات الأصول 2: 306.

الشك اللاحق، ففي المنتقى(1) ما حاصله: أنّ الحكم الشرعي متعلق بالطبيعة بلحاظ وجودها، وأمّا الفرد فهو مسقط للتكليف وليس متعلقاً له، فأمّا مرحلة تعلق الأمر فلا شك في الحكم الكلي الذي هو مرحلة تعلق الأمر، وإنّما الشك في انطباق الكلي على الفرد وهذا لا يرتبط بالشارع، وأمّا مرحلة سقوط الأمر فهو يرتبط بالفرد المتحقق فعلاً لا الفرد المفروض، فلا أثر للاستصحاب، نعم لازم الاستصحاب أنّ الفرد المتحقق في الخارج هو من مصاديق المأمور به، وهذا ليس بلازم شرعي.

ص: 195


1- منتقى الأصول 6: 210.

فصل في استصحاب عدم النسخ

اشارة

أمّا استصحاب عدم النسخ في هذه الشريعة فلا إشكال فيه لوجود المقتضي بتمامية أركانه وعدم المانع عنه.

وأمّا استصحاب عدم نسخ أحكام الشرائع السابقة، وذلك في ما لو كان موضوع الحكم عنواناً قابل الانطباق على أهل هذه الشريعة ففيه بحث، والكلام في مقامين:

المقام الأوّل: وجود المقتضي

وقد أشكل في ذلك من وجوه:

الإشكال الأوّل: عدم اليقين السابق، من جهتين كبروية وصغروية.

الجهة الأولى: من حيث الكبرى حيث لا نعلم بشمول تلك الأحكام لنا.

والجواب الأوّل: باستصحاب مدرك الشريعتين بضميمة قاعدة الاشتراك في التكليف.

وأورد عليه: أوّلاً: إنّ اختلاف المكلفين يوجب اختلاف أحكامهم، فمن تمت عنده أركان الاستصحاب يجريه ومن لم تتم لا يجريه، ولا وجه لاشتراك المختلفين في التكليف حينئذٍ، كمن كان له يقين بنجاسة شيء وشك فيه، ومن لم يكن على يقين منه منذ الأوّل، فالأوّل يجري استصحاب النجاسة والثاني أصالة الطهارة، وفي ما نحن فيه المدرك تمت عنده

ص: 196

الأركان دون غير المدرك.

إن قلت(1): غير المدرك الذي وجد في زمن المدرك لا يقين له بالنسبة إلى نفسه لكن له يقين بجعل تلك الأحكام للمدرك، وذلك يصحّح موضوع الحكم بالنسبة لغير المدرك، وبعبارة أخرى: إنّ غير المدرك للشريعتين متيقن و شاك بالنسبة إلى أحكام المدرك فيكون مثله في الصنف فيأخذ بحكمه بمقتضى الملازمة بينهما!

قلت: إنّ الاستصحاب وظيفة الشاك المتيقن سابقاً بالنسبة إلى نفسه، ولا دليل على أنّه يجريه بالنسبة إلى غيره في غير المجتهد لمقلّده، مضافاً إلى ما قيل(2): من أنّه يختص بمن وجد في عصر المدرك - حيث لا يمكن أن يكون لملة واحدة في عصر واحد أحكاماً مختلفة مع اتحاد العنوان - وأمّا في أعصار مختلفة فلا مانع من تعدد الحكم لنسخ بعض الأحكام وجعل أحكام أخرى، وحينئذٍ لا يترتب على الاستصحاب أثر عملي يجري بلحاظه، فتأمل.

وثانياً: إنّ دليل الاشتراك لبّي - من إجماع ونحوه - والمتيقن منه الاشتراك في الأحكام الواقعية دون الظاهرية.

الجواب الثاني: إنّ أحكام الشرائع سواء الشرائع السابقة أم شريعتنا هي قضايا حقيقية - بكون الموضوع هو الفرد المفروض الوجود - وعليه فكانت شاملة لنا ونشك في نسخها، وحينئذٍ لا نحتاج إلى ضميمة الاشتراك

ص: 197


1- درر الفوائد، للحائري: 548.
2- رشحات الأصول 3: 309.

في التكليف.

إن قلت: لا يقين سابق بالنسبة إلى أهل شريعتنا، لأنّ الحكم إمّا مطلق بحيث يشملهم أو مقيد لا يشملهم، والشك في النسخ شك في شمول الحكم لهم من الأوّل، لأنّه مع النسخ لا يشملهم الحكم من الأوّل إذ من اللغو جعل حكم لجماعة ثم نسخه قبل وجودهم.

قلت: إنّ الموضوع هو الفرد المفروض الوجود والإشكال إنّما يرد لو كان الموضوع الأفراد الخارجية، ولا لغوية لشمول حكم لعنوان مع تحقق بعض أفراد ذلك العنوان خارجاً ثم نسخه، وعليه: فإنّا نعلم بأنّ موضوع الحكم منطبق على أهل هذه الشريعة ونشك في نسخه فتمت أركان الاستصحاب.

إن قلت: لا نسخ في القضايا الحقيقية، وإنّما هو في القضايا الخارجية، وذلك لأنّ القضية الحقيقية تشمل المعدومين أيضاً - حينما يوجدون - فيكون النسخ قبل وجودهم نسخاً قبل وقت العمل، وهو محال، وعليه فلا شك في النسخ لأنّ احتمال المحال محال.

قلت: لا محذور في تقييد القضية الحقيقية بقيد زماني وعدم بيان ذلك ثم بيانه فيكون نسخاً مع عدم شمول الحكم منذ الأوّل لمن لم يشمله القيد، وعليه تتم أركان الاستصحاب في ما نحن فيه حيث نعلم بشمول العنوان لنا ونشك في القيد فالأصل عدمه، فتأمل.

الجهة الثانية: من حيث الصغرى، حيث لا دليل على أحكام الشرائع السابقة، إلاّ المقدار المذكور في الكتاب والأحاديث المعتبرة، وكل ما هو

ص: 198

مذكور فيهما قد بُيّن فيه الإمضاء أو النسخ، وعليه فغالب أحكامهم لا يقين لنا بها، وما علمناه منها نعلم إمضاءه أو نسخه فلا شك.

الإشكال الثاني: إنّ استصحاب عدم النسخ مثبت من وجهين.

الوجه الأوّل: إنّ بقاء أحكام الشريعة السابقة بحاجة إلى إمضاء من شريعتنا، لأنّ ذلك هو معنى مجيء شريعة بعد شريعة، والإمضاء لا يثبت باستصحاب عدم النسخ حيث إنّه لازم عقلي، وبعبارة أخرى: نسخ كل شريعة بمعنى اعتبار أحكام مخالفة أو إثبات أحكام موافقة - وهذا معنى الإمضاء - واستصحاب عدم النسخ يلازم الإمضاء عقلاً.

ويرد عليه: إنّ الاستصحاب دليل عام، فيكون بنفسه إمضاءً، فالإمضاء ثابت بدليل الاستصحاب من غير واسطة عقلية للمستصحب.

الوجه الثاني: إنّ الاستصحاب يرتبط بمرحلة الإنشاء، والأثر العملي يرتبط بمرحلة الفعلية، فاستصحاب الإنشاء لازمه العقلي فعلية الحكم بعد تحقق موضوعه، بناءً على كون الحكم هو الشيء الاعتباري المنشأ في عالم الاعتبار، أمّا على مبنى كون الحكم هو الإرادة المبرزة فلا، نعم لو قلنا بجريان الاستصحاب التعليقي فلا محذور بأن يقال: إنّ هذا لو كان في زمان الشريعة السابقة لكان هذا حكمه فيستصحب.

المقام الثاني: في عدم المانع

فقد يقال: بأنّا نعلم إجمالاً بوجود منسوخات وغير منسوخات حيث إنّ بعض أحكام الشرائع السابقة باقية قطعاً، ولا نعلم تفصيلاً ذلك، فلا يجري استصحاب عدم النسخ لكونه في أطراف العلم الإجمالي.

ص: 199

والجواب: إمّا بانحلال العلم الإجمالي لأنّا نعلم بمنسوخات بمقدار المعلوم بالإجمال، فيكون الشك في سائرها بدوياً مجرىً للأصول، وإمّا باحتمال كون كثير من الأحكام المعلومة في شريعتنا هي الناسخة فلا يبقى علم في الأحكام المشكوكة فيكون الأصل فيها سليماً عن المعارض.

ص: 200

فصل في الأصل المثبت

اشارة

لا إشكال في الحكم ببقاء المستصحب لو كان حكماً شرعياً، وكذلك لو ترتب الأثر الشرعي عليه، وكذا الحكم بترتب الأثر الشرعي على المستصحب لو كان موضوعاً وليس ذلك من الأصل المثبت.

أمّا لو كان للحكم الشرعي المستصحب أثر عقلي أو عادي، أو كان للموضوع المستصحب لازماً أو ملزوماً أو ملازماً عقلياً أو عادياً أو أثراً شرعياً لها فذلك الأصل المثبت.

وفيه أقوال: عدم الجريان مطلقاً، والجريان مطلقاً، والتفصيل بين خفاء الواسطة وعدمها، والتفصيل بين جلائها وعدمها.

فهنا مباحث:

المبحث الأوّل: الفرق بين مثبتات الأصول والأمارات

المشهور عدم حجيّة الأصل المثبت مطلقاً في الأصول العملية، مع حجيّة مثبتات الأمارات والطرق، وقد استدل لذلك بوجوه - وغير خفي أنّ بعضها خاص بالخبر - ومنها:

الدليل الأوّل: اختلاف المجعول في باب الأمارات والأصول، ففي لسان الدليل أخذ الشك بالواقع في موضوع الأصول كقوله: «لا تنقض اليقين بالشك» و«رفع ما لا يعلمون» ونحوهما، دون موضوع الأمارات حيث لم

ص: 201

يؤخذ الشك في موضوعها، نعم موردها الشك حيث لا يعقل جعل الأمارة للعالم، كما أنّ الشارع تمّم كشف الأمارة فإنّ لها كشفاً ناقصاً عن الواقع فالمجعول الشرعي هو الطريقية والكاشفية فيها، وأمّا الأصول فليس لها جهة كاشفية فجعل الشارع إنّما هو لبيان الوظيفة العملية، فلذلك تكون الأمارة قائمة مقام العلم بإلغاء احتمال الخلاف، وأمّا الأصول فلا تقوم مقام العلم بل هي بيان الوظيفة العملية، وحيث إنّ الآثار العقلية والعادية تترتب على ما ينكشف بالعلم الوجداني فهي تترتب على ما ينكشف بالعلم التعبدي لأنّها كاشفة عن الواقع كاملاً بتتميم الشارع جهة كشفها، وأمّا في الأصول فحيث لا جهة كشف لها فالمجعول هو الباعثية والمحركية نحو العمل ببيان الوظيفة فلا بدّ من الاقتصار على مقدار التعبد، وهو لا يشمل اللازم والملزوم والملازم العقلي والعادي، وقد فصّل المحقق النائيني في هذا الدليل في الفوائد(1)

فراجع.

فمقدار التعبد في الاستصحاب هو إبقاء اليقين دون إبقاء آثاره العقلية والعادية غير المتيقنة، وأمّا آثار اليقين الشرعية فلا بدّ من ترتبها وإلاّ كان التعبد ببقاء اليقين لغواً.

وهذا الدليل في عدم حجيّة الأصول المثبتة لا غبار عليه، ولكن قد أشكل عليه في الحجيّة في مثبتات الأمارات بوجوه، منها:

الإشكال الأوّل: أخذ الشك في موضوع الأمارات أيضاً، لأنّ الإطلاق للعالم محال، والإهمال في الواقع أيضاً محال، فلم يبق إلاّ التقييد.

ص: 202


1- فوائد الأصول 4: 481-482.

وفيه: أنّ الإطلاق بمعنى رفض القيود، وليس بمعنى الشمول للعالم والجاهل، كما مرّ مفصلاً.

الإشكال الثاني(1): إنّ مرجع جعل الطريقية هو تنزيل الأمارة منزلة العلم ادعاءً - ومرجعه إلى الحكومة التوسيعيّة - ، ولا يكون هذا التنزيل إلاّ بلحاظ ترتب الأثر على الشيء لا على لازمه، وعليه فإذا كان مفاد جعل الطريقية هو كون الخبر - مثلاً - علماً ادعاءً، فالمخبر به يكون معلوماً ادعاءً، والمخبر به هو الملزوم لا اللازم.

وفيه: أنّ ظاهر التنزيل هو العموم، فيكون المنزّل مثل المنزّل عليه في كل شيء.

الإشكال الثالث(2): ربما نعلم بالملزوم علماً وجدانياً ولا يترتب اللازم ولا آثاره عليه لعدم العلم بالملازمة، فعدم ترتبها على لازم العلم التعبدي أولى، بل هو محال لأنّ التنزيل إنّما يتصور في ما كان للمنزّل عليه آثار.

وفيه: إنّ الكلام في مورد العلم باللازم، فكما يترتب اللازم في العلم المنزّل عليه كذلك يترتب في الأمارة المنزّلة، وأمّا مع الجهل فكما لا تترتب اللوازم المجهولة في العلم فكذلك في الأمارة، والحاصل: أنّ التنزيل في الأثر المعلوم دون المجهول.

الإشكال الرابع(3): إنّ الملازمة بين العلم الوجداني بالشيء والعلم بلوازمه

ص: 203


1- نهاية الأفكار 4[ق1]: 186؛ نهاية الدراية 5: 191.
2- نهاية الدراية 5: 191.
3- منتقى الأصول 6: 228.

لا يقتضي التلازم بينهما في مقام التعبد، بل التعبد يدور مدار دليله - بلحاظ آثاره أو لحاظ لوازمه أو الأعم - ودليل حجيّة الأمارة يتكفل حجيّتها بلحاظ مؤداها فهو لا يتكفل سوى اعتبار العلم بالنسبة إلى المؤدّى دون لوازمه، وقد عرفت إمكان التفكيك بينها.

وفيه: أنّه وإن أمكن التفكيك ثبوتاً إلاّ أنّ المدعى أنّ دليل الحجيّة دلّ على عموم التنزيل، فتأمل.

الدليل الثاني: ما في الكفاية(1)

وحاصله: إنّ حجيّة مثبتات الأمارات لأجل أنّ الإخبار عن الشيء إخبار عن لوازمه أيضاً، فكما تكشف الأمارات عن مؤداها كذلك تكشف عن لوازم المؤدّى، فإطلاق حجيّة الخبر - مثلاً - يشمل الإخبار عن اللوازم أيضاً. بخلاف الأصول العملية حيث إنّ دليل حجيّتها يدلّ على جعل حكم مماثل، ومن غير المعلوم جعل حكم مماثل للّازم، والحاصل: إنّ الأمارة كما تحكي عن المؤدّى كذلك تحكي عن أطراف المؤدّى - من اللازم والملزوم والملازم - وحيث إنّ دليل حجيّتها مطلق من دون تقييده بالخبر بالمطابقة شمل الخبر بالتضمن وبالالتزام، بخلاف الأصول العملية فليس لها كشف عن الواقع بل هي صرف تعبد، والتعبد بالشيء لا يكون تعبداً بلوازمه لإمكان انفكاك الشيء عن لوازمه في التعبد، ومقدار دلالة دليل حجيّتها هو التعبد بنفس الشيء ولا دليل على التعبد بلوازمه، وفي الاستصحاب لم يكن اللازم متيقناً - وإلاّ استصحبناه بنفسه - فعدم ترتب الأثر على اللازم ليس نقضاً لليقين بالشك.

ص: 204


1- إيضاح كفاية الأصول 5: 109-111.

أقول: أمّا ما ذكره في عدم حجيّة مثبتات الأصول فلا إشكال عليه، وأمّا ما ذكره من حجيّة مثبتات الأمارات فقد أشكل عليه بوجوه منها:

الإشكال الأوّل(1): إنّ الحكاية هي ما كانت بقصد بأن تكون هنالك دلالة تصديقية، وأمّا مع عدم الالتفات إلى اللازم وأخويه أو عدم علم المخبر بلازم كلامه فليس من الحكاية.

وردّه المحقق العراقي(2):

بأنّه لا إشكال في تقوّم الحكاية عن المراد بالدلالة التصديقية وأمّا بالنسبة إلى اللازم فتكفي الدلالة التصورية وهي لا تحتاج إلى قصد، ولو سلمنا تقوّم الحكاية عن اللازم بالقصد لكن نقول: إنّه يكفي الالتفات الإجمالي ولا يشترط الالتفات التفصيلي، والمخبر عن الشيء ملتفت إلى لازمه إجمالاً... ولذا ترى العرف والعقلاء في محاوراتهم وفي باب الإقرار وغيره على الأخذ بلوازم الكلام الصادر عن الغير وإلزامهم إيّاه بما يقتضيه كلامه من اللوازم حتى مع قطعهم بعدم التفات المتكلّم إلى تلك اللوازم وغفلته عنها.

ويمكن أن يقال: أوّلاً: إنّ الكلام إنّما هو حين عدم التفات المخبر باللازم أو الملازمة، وإلاّ فمع التفاته إليه وإليها فلا إشكال في أنّه يخبر عنه، وأنّه لا بدّ من الالتفات التفصيلي التصديقي، وإلاّ فمجرد تصور اللازم من غير علم بكونه لازماً أو العلم بوجود لوازم إجمالاً، لا يصحّح إطلاق الحكاية والخبر عليه عرفاً.

ص: 205


1- نهاية الدراية 5: 193؛ فوائد الأصول 4: 492.
2- نهاية الأفكار 4[ق1]: 184.

وثانياً: إنّ أخذ المخبر والمقر باللوازم ليس لأجل ما ذكر بل لأجل جهات أخرى كالدليل الأوّل أو غيره.

فالأقرب ورود الإشكال فليس الإخبار عن الشيء إخبار عن لوازمه.

الدليل الثالث: ما ذكره المحقق الإصفهاني قال: «الأمارة تارة: تقوم على الموضوعات كالبينة على شيء فاللازم حينئذٍ كون ما يخبر به الشاهدان من عمد وقصد ملتفتاً إليه نوعاً، وأخرى: كالخبر عن الإمام (علیه السلام) فإنّ شأن المخبر - بما هو مخبر - حكاية الكلام الصادر عن الإمام (علیه السلام) بما له من المعنى الملتفت إليه بجميع خصوصياته للإمام (علیه السلام) لا للمخبر، إذ (ربّ حامل فقه ليس بفقيه، وربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه)(1)،

فمجرد عدم التفات المخبر بلوازم الكلام المخبر عنه لا يوجب عدم حجيّة المداليل الالتزامية للكلام الصادر عن الإمام (علیه السلام) فإنّ كلها ملتفت إليها للمتكلّم بها»(2).

إن قلت: إنّ الحجيّة إمّا جعل الحكم المماثل الظاهري، أو جعل الحكم بعنوان أنّه الواقع، أو المنجزية والمعذرية، وكلّها غير الواقع، فلا يكون الحجة إلاّ بمقدار المجعول، وهو الملزوم لا اللازم!

قلت: حيث إن الواقع - وهو ما تضمنه كلام الإمام (علیه السلام) - دلّ عليه الخبر فيكون الخبر المماثل والحكم بعنوان أنه الواقع أو المنجزية في جميع ما دلّ عليه الخبر وهو الذي جعلت له الحجيّة.

ص: 206


1- الكافي 1: 403.
2- نهاية الدراية 5: 193-194.

وبعبارة أخرى: إنّ المماثل هو الملزوم واللازم والملازم، كما أنّ الجعل بعنوان أنّه الواقع يكون كالواقع، وهكذا المنجزية والمعذرية تكون كالواقع، وعليه فالجعل وسيع شامل للمثبتات، فتأمل.

الدليل الرابع: إنّ دليل حجيّة الخبر هو بناء العقلاء الممضى، والعقلاء لا يفككون بين اللازم والملزوم، وأمّا الأصول كالاستصحاب فهي مجعولات شرعية لا إمضائية فلا بدّ من الاتباع بمقدار التعبد وهو اللازم دون الملزوم.

المبحث الثاني: في المانع

لو فرض تمامية مقتضي حجيّة الأصل المثبت فهل هناك مانع عن جريانه؟

قيل: إنّ استصحاب الملزوم معارض لاستصحاب اللازم دائماً، فمثلاً استصحاب عدم الحاجب لازمه وصول الماء إلى البشرة وأثر الوصول تحقق الوضوء أو الغسل، لكنّه معارض باستصحاب عدم الوضوء أو الغسل حيث إنّه تام الأركان أيضاً، وهكذا في جميع موارد الأصل المثبت.

وأشكل عليه: نقضاً: بما لو كانت اليد نجسة وغسلها بماء يشك في طهارته مع كونه طاهراً سابقاً، فبناءً على وجود المقتضي في الأصل المثبت يتعارض استصحاب نجاسة العضو مع استصحاب طهارة الماء، ولا يلتزمون بذلك.

وحلاّ: بأنّ استصحاب أحدهما رافع لموضوع الآخر، ففي المثالين استصحاب عدم الحاجب يترتب عليه تحقق الغسل أو الوضوء وهو يقين تعبدي فلا شك في تحققهما كي يجري استصحاب عدمهما، وكذلك

ص: 207

استصحاب طهارة الماء يرفع الشك في نجاسة اليد.

وأجيب: بأنّه على القول بوجود المقتضي في الأصل المثبت إنّما يثبت الأثر الشرعي للّازم العقلي والعادي لا أنّهما يثبتان بالأصل، ففي المثال لا يثبت وصول الماء إلى البشرة وإنّما أثره الشرعي، وعليه فلا يرتفع موضوع الاستصحاب المعارض، فتأمل.

المبحث الثالث: موارد مستثناة من عدم الحجيّة
اشارة

وهي خمسة موارد:

المورد الأوّل: خفاء الواسطة

ذهب الشيخ الأعظم(1)

إلى حجيّة مثبتات الأصول إذا كانت الواسطة خفيّة بحيث يرى العرف أنّ الأثر مترتب على المستصحب نفسه، وذلك لأنّ الخطابات الشرعية ملقاة إلى العرف، فيرجع في موضوعاته إليه لا إلى الدقة العقلية.

مثلاً: انتقال النجاسة من أحد المتلاقيين إلى الآخر يشترط فيه رطوبة مسرية في أحدهما، فلو تيقن بها في أحدهما ثم شك استصحبها فيحكم بسراية النجاسة، مع أنّ النجاسة ليست أثراً للمستصحب الذي هو الرطوبة المسرية وإنّما هي أثر للسراية وهي لازم عادي لبقاء الرطوبة المسرية، لكنها واسطة خفيّة.

مثال آخر: في يوم الشك يجري استصحاب بقاء شهر رمضان ولازمه غير الشرعي وهو كون يوم غد أوّل شوال، وأثره الشرعي حرمة الصوم فيه مثلاً،

ص: 208


1- فرائد الأصول 3: 244.

وهو جارٍ لخفاء الواسطة.

وأشكل عليه المحقق النائيني(1):

بأنه تارة: الأثر هو أثر لذي الواسطة حقيقة بحسب ما ارتكز عند العرف من مناسبة الحكم أو الموضوع، وإن احتمل ثبوتاً أن يكون للواسطة دخل في ترتب الأثر على مؤدّى الأصل، فهذا خارج عن الأصل المثبت أصلاً. وتارة: الأثر للواسطة حقيقة لكن العرف يتسامح ويعدّه من آثار ذي الواسطة، فهذا لا حجيّة له لعدم العبرة بالمسامحات العرفية في أيّ مورد من الموارد، لأنّه حجة في المفاهيم لا في تطبيقها على المصاديق.

وأجاب المحقق العراقي بقوله: «إذا قلنا بأنّ (لا تنقض) سيقت بالنسبة إلى ما يعدّ بالأنظار العرفية المسامحية نقضاً وتعبداً ببقاء المتيقن وإن لم يكن كذلك دقة، فصارت المسامحة العرفية مرجعاً في تحديد مفهوم حرمة نقض الشيء والتعبد ببقائه، وأنّ تطبيق هذا المفهوم على المورد دقيقي عقلي، وحينئذٍ فالمسامحة العرفية كانت مرجعاً في هذا المفهوم لا في تطبيق كبرى الحكم الواقعي، فلا يحتاج أن يدّعى بأنّ الأثر في دليل الكبرى ثابت حقيقة بنظر العرف لذي الواسطة»(2).

ورُدّ: بأنّه لا شك في الكبرى بأن يكون نقضاً عرفاً، إنّما الكلام في الصغرى بأنّه مع خفاء الواسطة هل العرف الدقيق يرى الأثر للواسطة أم لذيها! فتأمل.

ص: 209


1- فوائد الأصول 4: 494.
2- فوائد الأصول 4: 494 (الهامش).

أمّا المثالان ففيهما كلام محلّة الفقه، وإن فصّل الأعلام فيهما هنا.

المورد الثاني: جلاء الواسطة

ذكر المحقق الخراساني(1)

حجيّة المثبتات مع جلاء الواسطة بحيث لا يمكن التفكيك عرفاً بين الأثر وبين المستصحب تنزيلاً كما لا تفكيك بينهما واقعاً، سواء في العلة والمعلول أم في اللازم والملزوم الواضح اللزوم جداً بحيث يعتبر أثر أحدهما أثراً للآخر عرفاً، وذلك لأنّ عدم ترتيب مثل هذا الأثر على المستصحب يكون نقضاً ليقينه بالشك أيضاً بحسب ما يفهم من النهي عن نقضه عرفاً.

وفيه: أوّلاً: مع الوضوح كيف يُعد أثر الملزوم أثراً للمستصحب، مع أنّ الملازمة ملاك الاثنينيّة.

وثانياً: مع الوضوح كما يستحيل الانفكاك التكويني في الموردين المذكورين كذلك لا انفكاك في العلم بهما وتصورهما، فلا يمكن اليقين بالعلة إلاّ مع اليقين بالمعلول، وهكذا في المتضايفين ونحوهما، وكما يشك في أحدهما يشك في الآخر، وعليه فالاستصحاب يجري في الواسطة نفسها بالاستقلال ويترتب عليها أثرها الشرعي حينئذٍ.

المورد الثالث: المتحدان وجوداً المتغايران مفهوماً

سواء كان اللازم ينتزع عن الماهية وكان الأثر لها، كاستصحاب الفرد وإثبات حكم الكلي له، كما لو استصحب بقاء الخمر ولازمه ثبوت كلي الخمر الذي أثره الحرمة لأنّ موضوعات الأحكام الطبائع لا الأفراد، أم كان

ص: 210


1- إيضاح كفاية الأصول 5: 108-109.

اللازم ينتزع عن الفرد، كاستصحاب وجود المغصوب ولازمه الغصب الكلي وأثره الحرمة الشرعية.

وذلك لأنّ الكلي وإن كان مغايراً للفرد مفهوماً إلاّ أنّه متحد معه وجوداً وخارجاً، والأثر يترتب على الوجود لا على المفهوم، ووجود الفرد والكلي واحد فإنّ الكلي الطبيعي موجود بوجود فرده!

وأورد عليه: بأنّه لا دليل على اتحادهما في التعبد حيث يمكن التفكيك في التعبد بين المتلازمين تكويناً، مضافاً إلى أنّ اليقين بأحدهما يلازم اليقين بالآخر فيستصحب ما له الأثر من غير واسطة دون ما له الأثر بالواسطة.

المورد الرابع: منشأ الانتزاع والمنتزَع

بأن يستصحب منشأ الانتزاع مع كون الأثر للمنتزَع، إذا كان منشأ الانتزاع مجعولاً شرعاً، كالجزئية والشرطية والمانعية، كما لو أمر بالمركب فتنتزع الجزئية من كل جزء من المأمور به، وحينئذٍ يمكن استصحاب الجزء فتثبت الجزئية فيترتب عليها آثارها، وذلك للاتحاد في الوجود بين منشأ الانتزاع والمنتزع فيكون الأثر حقيقة لمنشأ الانتزاع.

وأورد عليه بما ورد على سابقه: بإمكان التفكيك التعبدي في المتحدين خارجاً فلا بدّ من قيام دليل على التنزيل في اللازم، مضافاً إلى عدم انفكاك اليقينين تصوراً.

أمّا الإشكال: بأنّ الشرط - مثلاً - ليس مجعولاً شرعياً ولا موضوعاً لمجعول شرعي، وكذلك الأثر حكم عقلي، فمثلاً: المجعول الشرعي هو الصلاة المقيدة باستقبال القبلة حيث إنّ التقيد داخل والقيد خارج، وأمّا

ص: 211

الاستقبال فهو موضوع تكويني، وأثره الذي هو جواز الدخول في الصلاة عقلي، ولا شك لنا في الشرطية التي هي مجعول شرعي، وإنّما الشك في الأمر الخارجي أو الأثر العقلي وهما ليسا حكماً شرعياً أو موضوعاً لحكم شرعي!

فالجواب عنه: أوّلاً: مبنىً: فقد قيل بأنّه لا يشترط في صحة الاستصحاب كون المستصحب أحد الأمرين، بل يكفي في صحته عدم لغوية التعبد، والأصول الشرعية تعبديات لها آثار تصحّح التعبد بها، حتى لو كانت تلك الآثار عقليّة لكنها تترتب على الأعم من الواقع والظاهر كما سيأتي قريباً، مثلاً اشتغال الذمة أو تحقق الامتثال أحكام عقلية تترتب على الموضوعات الشرعية، وثبوت الموضوع وتوسعته وتضييقه بيد الشارع، مثلاً اشتغال الذمة بالتكليف يستدعي براءتها اليقينية فلا يكفي الامتثال بالفرد المشكوك، لكن يمكن للمولى الاكتفاء بالفرد المشكوك كما في موارد قاعدة الفراغ والتجاوز.

وفي ما نحن فيه يستقل العقل في مقام الامتثال بلزوم إحراز الشرط وقد اكتفى الشارع بالإحراز التعبدي، ويت-م الإحراز بالاستصحاب، فلا لغوية في التعبد بهذا الاستصحاب، فتأمل.

وثانياً: بناءً: بأنّ الشرطية والجزئية والمانعية ونحوها مجعولات شرعية تبعيّة، فإنّ تقييد الشارع التكليف بشيء جعل للشرطية، أو تقييده بعدم شيء جعل للمانعية، أو أمره بمركب جعل للجزئية، ونحو ذلك.

لا يقال: إنّ الشرطية مثلاً منتزعة في مرحلة الجعل ولا شك فيها إلاّ لو احتمل النسخ فهي ليست من آثار وجود الشرط في الخارج، فكما أنّ أصل وجوب الصلاة مثلاً ليس من آثار الصلاة الموجودة خارجاً كذلك اشتراطها بالاستقبال ليس من آثار وجود الاستقبال خارجاً، وحينئذٍ فلا تترتب

ص: 212

الشرطية على جريان الاستصحاب في ذات الشرط، بخلاف ما لو كانت الأحكام - تكليفية أو وضعية - مترتبة على الموجودات الخارجية، فالملكية منتزعة من ذات الملك الموجود، والحرمة متعلقة بعين الخمر الموجودة.

لأنّه يقال: التكليف يتعلق بالطبائع لا الأفراد لأنّ طلب الموجود منه طلب للحاصل، وإنّما الفرد محقق للطبيعة فيسقط به التكليف.

والحاصل: إنّ الفرد مسقط للتكاليف وليس متعلقاً له، وأمّا مثل الشرط والجزء والمانع فلا تكليف به فالمجعول هو الشرطية والجزئية والمانعية، وهي تنتزع من الذات الموجودة، فتأمل.

المورد الخامس: عدم الحكم

فقد يقال: إنّ استصحاب عدم الحكم مثبت، وذلك لأنّ المراد منه إثبات عدم العقاب على المخالفة، وهو لازم عقلي لا يثبت بالاستصحاب ولكنه مع ذلك يجري.

وفيه: ما سيأتي من أنّ لازم المستصحب إذا كان لازماً للأعم من الحكم الواقعي والظاهري فليس بمثبت، وعدم الحكم - سواء كان واقعاً أم ظاهراً - رافع لاستحقاق العقاب عقلاً، فصحة الاستصحاب لتمامية أركانه مع عدم كونه مثبتاً، وقد مرّ أنّه يكفي في صحة التعبد كونه ذا أثر فلا ضير في عدم كون العدم مجعولاً شرعياً.

إن قلت(1): لا مساس للقدرة ولا للإرادة بطرف العدم، إذ القدرة الجسمية هي القوة المثبتة في العضلات المترتبة عليها الحركات الجسدية،

ص: 213


1- نهاية الدراية 5: 199.

والقدرة النفسية هي قوة النفس على الحركات الفكرية، والعدم لا يترتب على شيء من القوتين، والإرادة هي المخرجة لما هو بالقوة - بالإضافة إلى القوتين - إلى مرحلة الفعلية، والعدم بعدم الإرادة.

قلت: يمكن تعلق الاعتبار بالعدم فيكون مجعولاً اعتبارياً رغم عدم كونه مجعولاً تكويناً، مضافاً إلى أنّ القدرة تتعلق بطرفي الوجود والعدم وإلاّ انقلبت اضطراراً إلى أحد الطرفين لأنّ القدرة على عدم الإيجاد مع عدم الإيجاد مصحح لانتساب العدم إلى المولى عرفاً وهذا يكفي في صحة التعبد به حدوثاً وبقاءً.

المبحث الرابع: في الأثر الأعم

لو كان الأثر العقلي أو العادي أثراً للحكم سواء كان واقعياً أو ظاهرياً فلا إشكال في ترتبه، مثل حكم العقل بوجوب الطاعة وحرمة المعصية واستحقاق العقوبة على المخالفة.

وذلك لأنّ الملاك في هذه الأحكام لا يختص بالحكم الواقعي، وحيث إنّ الأمارة أو الأصل نقّحا الموضوع ترتب الحكم عليه قهراً وإلاّ كان خُلفاً، وعليه فالتعبد بالاستصحاب إمّا يقتضي ثبوت تكليف وبذلك يتم موضوع وجوب الطاعة وحرمة المعصية واستحقاق العقوبة، وإمّا يقتضي عدم ثبوت التكليف فيتم موضوع جواز الترك وعدم استحقاق العقوبة.

وأمّا لو كان الأثر للوجود الواقعي لا الظاهري كاللحية التي هي أثر بقاء حياة الصبي إلى أوان البلوغ فلا يتحقق موضوعها بالاستصحاب، إذ لا يثبت به الوجود الواقعي، ولا كان على يقين منه ليُبقيه، ولا عبّده الشارع به حين أمره بعدم نقض اليقين بالشك.

ص: 214

فصل في زمان الأثر

لا بد في صحة الاستصحاب من وجود أثر له، ولا يلزم وجوده حين اليقين، بل يكفي وجوده حين العمل، فلا بدّ في صحته من وجود الأثر بقاءً ولا يشترط وجوده حدوثاً، وذلك لتمامية أركان الاستصحاب فيشمله (لا تنقض...).

مثاله في الأحكام: استصحاب عدم التكليف لا أثر له حدوثاً وله الأثر بقاءً كعدم استحقاق العقاب بالترك.

ومثاله في الموضوعات: لو تيقنا بعدالة غير البالغ فلا أثر له، ثم لو شككنا حين بلوغه في بقاء عدالته فللاستصحاب أثر حينئذٍ وهو قبول شهادته مثلاً فلذلك يجري، وكحياة الابن حال حياة أبيه لا أثر لها، فلو شككنا فيها حين موت أبيه كان للاستصحاب أثر هو إرثه من أبيه، والحاصل: أنّ عدم إجراء الاستصحاب حينئذٍ نقض لليقين بالشك بلا إشكال، حيث لم يؤخذ في دليل الاستصحاب لا الأثر ولا الإبقاء، وإنّما اشترطنا الأثر لئلا يكون التعبد لغواً، ويكفي في عدم اللغوية وجود الأثر بقاءً.

ص: 215

فصل في الشك في التقدم والتأخر

اشارة

وهو تارةً يكون بلحاظ شيء واحد يضاف إلى أجزاء الزمان، وتارةً بلحاظ حادث آخر كما لو كان الأثر مترتباً على وجود الشيء أو عدمه في زمان وجود الحادث الآخر.

مثال الأوّل: لو شككنا في موت الزوج يوم الخميس أو الجمعة وأثره عدم وجوب نفقة زوجته بعد موته، ووجوبها قبله.

ومثال الثاني: لو شككنا في السابق من موت الوالد والولد حيث إنّ السابق لا يرث اللاحق، واللاحق يرث السابق، فالكلام في مبحثين.

المبحث الأوّل: لحاظ الحادث أو عدمه إلى أجزاء الزمان

وهنا ثلاث حالات:

الحالة الأولى: استصحاب عدم وقوعه في الزمان الأوّل، كاستصحاب حياة الزوج يوم الخميس وأثره وجوب دفع نفقة ذلك اليوم إلى زوجته، ولا إشكال في هذا الاستصحاب لتمامية أركانه مع عدم المانع عنه.

الحالة الثانية: إثبات تأخره عن الزمان الأوّل، وهذا أصل مثبت، إذ اللازم العقلي لعدم وقوعه يوم الخميس - في المثال - هو تأخره عنه.

الحالة الثالثة: إثبات وقوعه في الزمان الثاني، وهذا أيضاً مثبت، إذ مع العلم إجمالاً بوقوعه في أحد الزمانين فلازم عدم وقوعه في الزمان الأوّل

ص: 216

هو وقوعه في الزمان الآخر.

إلاّ لو أدعي خفاء الواسطة أو جلاؤها بحيث يكون تنزيل أحدهما تنزيلاً للآخر عرفاً، أو قيل: بأنّه يمكن إثبات حدوث الشيء في الزمان الثاني عبر ادّعاء أنّ الموضوع مركب من عدم الوجود في الزمان الأوّل وهذا ما يثبته الاستصحاب والوجود في الزمان الثاني وهذا ثابت بالوجدان ففي المثال نعلم بأنّ الزوج كان ميتاً يوم الجمعة - سواء كان قد مات يوم الخميس أو الجمعة - ، وبضم الوجدان إلى الأصل يتم المطلوب.

هذا كلّه في ما لو علمنا بوجود الحادث في أحد الزمانين مع القطع باستمراره، وأمّا لو حدث في أحد الزمانين ثم ارتفع بعد ذلك فلا، كما لو علمنا بأنّ الماء لم يكن كراً يوم الأربعاء ثم صار كراً ثم رجع إلى القليل، وكان ذلك إمّا يوم الخميس أو الجمعة، فمقتضى الاستصحاب عدم كريته يوم الخميس لاستصحاب عدم كريته، ولكن لا يمكن إثبات كريته يوم الجمعة لاحتمال أنّه صار كراً ثم رجع إلى القليل يوم الخميس، وعليه لو غسل به ثوب نجس في أحد اليومين فلا يحكم بطهارته وذلك لاستصحاب القِلّة يوم الخميس، واستصحاب نجاسة الثوب يوم الجمعة، نعم لو غُسل في كلا اليومين عُلم إجمالاً بأنّه غسل بالكر فطهر قطعاً.

المبحث الثاني: لحاظ أحد الحادثين بالنسبة إلى الآخر
اشارة

بحيث لا نعلم المتقدم عن المتأخر مع ثبوت الأثر للتقدم أو التأخر.

مثال الحكم: لو علمنا بالناسخ والمنسوخ ولا نعلم المتقدم ليكون هو المنسوخ عن المتأخر ليكون هو الناسخ، ومثال الموضوع: إسلام الوارث

ص: 217

وقسمة أموال المورث.

والكلام في مقامين:

المقام الأوّل: في مجهولي التاريخ

وصوره أربع بحسب كون الأثر للشيء بمفاد كان التامة أو الناقصة أو ليس الناقصة أو التامة.

الصورة الأولى: كون الأثر للشيء بمفاد كان التامة، أي لوجود الشيء بما هو هو بأن يكون الأثر للحصة الخاصة من الوجود إذا لوحظت انتزع عنها التقدم أو التأخر أو التقارن.

كما لو أسلم الوارث الكافر وقُسمت التركة، ولم نعلم بتاريخهما، فإن كان إسلامه قبل القسمة كان وارثاً وإن كان بعدها فلا يرث، فالإرث مترتب على حصة من إسلامه وهي الواقعة قبل القسمة، فهنا ثلاثة فروض:

الفرض الأوّل: أن يكون الأثر لأحدهما في نحو واحد، فحينئذٍ يجري استصحابه لتمامية أركانه من غير مانع، كما لو كان الأثر لتقدم أحدهما ولا أثر لتأخره أو تقارنه، ولم يكن للآخر أثر لا لتقدمه ولا لتأخره ولا لتقارنه كما لو مات قريبان أحدهما مسلم والآخر كافر وجُهل تاريخ موتهما مع العلم بعدم موتهما معاً، فهنا يجري استصحاب عدم موت المسلم إلى حين موت الكافر فيرث منه، ولا يجري استصحاب عدم موت الكافر إلى حين موت المسلم، إذ لا أثر له، لأنّ الكافر لا يرث المسلم سواء مات متقدماً أو متأخراً.

الفرض الثاني: أن يكون الأثر لكليهما بخصوص التقدم أو التأخر من غير احتمال التقارن بحيث نعلم تقدم أحدهما وتأخر الآخر ولا نحتمل

ص: 218

التقارن، فحينئذٍ يتعارض الاستصحابان ويتساقطان، كالمسلمين المتوارثين اللذين لا نعلم بالمتقدم والمتأخر من موتهما.

الفرض الثالث: أن يكون الأثر مترتباً على خصوص التقدم أو التأخر مع احتمال التقارن، فحينئذٍ يجري كلا الاستصحابين لتمامية أركانهما وعدم المعارضة بينهما، نعم لا يثبت بذلك تقارنهما لأنّه أصل مثبت، كما في الإرث حيث يترتب على تقدم موت المورث، وعليه فاستصحاب عدم تقدم وعدم تأخر موت كل واحد منهما يكفي في ترتب الأثر وهو عدم التوارث بينهما كما هو فتوى مجموعة من الفقهاء في غير الغرقى والمهدم عليهم للنص الخاص فيهما.

الصورة الثانية: كون الأثر للشيء بمفاد كان الناقصة أي الوجود النعتي، كما لو فرض أنّ موضوع الأثر هو إسلام الولد المتصف بتقدمه على قسمة الإرث، فحينئذٍ لا يجري الاستصحاب وذلك لعدم المقتضي له بمعنى عدم اليقين بالحالة السابقة.

نعم، قد يقال: بجريان استصحاب عدمه، لأنّ الإسلام المتصف بالتقدم لم يكن قطعاً وهو مشكوك الآن، وقد مرّ الكلام فيه في استصحاب عدم قرشية المرأة(1)

فراجع.

الصورة الثالثة: كون الأثر للشيء على مفاد ليس الناقصة، فهذا أيضاً لا يقين سابق به، وذلك لأنّ الاتصاف بالعدم حادث مسبوق بالعدم كالاتصاف بالوجود، وأمّا عدم الحادث المتصف بالتقدم فهو معارض بعدم الحادث

ص: 219


1- نبراس الأصول 2: 372-381.

المتصف بالتأخر.

كما لو كان الماء قليلاً، ثم لاقى نجساً وصار كراً ولا يعلم المتقدم منهما عن المتأخر، فالماء بوصف عدم الكرية زمن الملاقاة ينجس، والماء بوصف عدم الملاقاة في زمان القِلة لا ينجس، فلا يجري الاستصحابان لعدم الحالة السابقة له لا (الماء بوصف عدم الكرية زمن الملاقاة) ولا (الماء بوصف عدم الملاقاة زمن القلة).

الصورة الرابعة: - وهي العمدة ويترتب عليها الثمرة - كون الأثر للشيء بمفاد ليس التامة، بأن يكون الأثر لعدم أحدهما في زمان حدوث الآخر، كإرث الوارث المتوقف على عدم موته حين موت المورّث، فحينئذٍ لا يجري الاستصحاب، لكن اختلف في سبب عدم جريانه.

فقد ذهب الشيخ الأعظم(1):

إلى عدم الجريان لتعارض الاستصحابين، وحينئذٍ لو فرض عدم جريان أحدهما - إمّا لعدم الأثر له أو لكونه مثبتاً - جرى الآخر لتمامية الأركان وعدم المانع بارتفاع التعارض.

وذهب المحقق الخراساني(2):

إلى عدم الجريان لعدم تمامية الأركان، وذلك لعدم إحراز أحد الأركان وهو اتصال زمان الشك بزمان اليقين.

أمّا الكبرى: فقد مرّ الكلام فيها في الشرط الرابع من شروط الاستصحاب(3).

ص: 220


1- فرائد الأصول 3: 249-250.
2- إيضاح كفاية الأصول 5: 134-137.
3- نبراس الأصول 5: 122.

أمّا الصغرى: ففي جهة عدم الاتصال وجوه متعددة، ذكرها الأعلام وأشكلوا عليها، منها:

الوجه الأوّل: ما قرّره المحقق النائيني(1)

وحاصله: أنّ هناك ثلاثة أزمنة: زمان اليقين بعدمهما، وزمان العلم بحدوث أحدهما لا بعينه وهنا لا شك في المتقدم والمتأخر لأنّهما متقومان بالطرفين، وزمان العلم بحدوثهما معاً وحينئذٍ يتحقق الشك في المتقدم والمتأخر، نعم اليقين والشك في كل واحد منهما بالإضافة إلى الزمان متصلان لكن المفروض أنّ ذلك ليس مجرى الاستصحاب وإنّما مجراه بإضافة كل واحد بالنسبة إلى الآخر.

ويرد عليه: أنّ المناط هو اليقين والشك حين الاستصحاب، لا في زمان حدوثهما، فهو وإن لم يكن شاكاً في الزمان الثاني، لكنّه بعد الزمان الثالث حينما يريد الاستصحاب له يقين بالعدم في الزمان الأوّل وشك بالعدم المتصف بالمتقدم والمتأخر منهما في الزمان الثاني.

الوجه الثاني: ما قرّره المحقق العراقي قال: «في فرض العلم بحادثين كإسلام الوارث وموت المورّث والشك في المتقدم منهما و المتأخر... فبعد احتمال كون الزمان الثاني أعني يوم الجمعة مثلاً ظرفاً لحدوث الإسلام أو الموت لا مجال لاستصحاب عدم إسلام الوارث المعلوم يوم الخميس إلى زمان موت مورثه، لاحتمال أن يكون موت المورّث يوم السبت الذي هو الزمان الثالث، ويكون زمان الإسلام يوم الجمعة الذي هو زمان انتقاض يقينه باليقين بالخلاف، ومع هذا الاحتمال لا يمكن جرّ المستصحب من

ص: 221


1- فوائد الأصول 4: 518.

زمان يقينه إلى زمان الآخر المحتمل كونه بعد زمان اليقين بارتفاعه، وهكذا في استصحاب عدم موت المورّث إلى زمان إسلام الوارث، فإنّه مع احتمال كون زمان الإسلام بعد زمان موت المورث يحتمل انتقاض يقينه باليقين بالخلاف... لا بدّ من التمسك بدليل الاستصحاب من تطبيق عنوانه بقيوده على المورد، فمع الشك في مثل هذا القيد يشك في تطبيق عنوانه، وفي مثله لا مجال للتمسك بعموم لا تنقض حتى بناءً على جواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية للمخصصات المنفصلة»(1).

وأورد عليه: أنّه لا يعقل احتمال اليقين مع الشك أصلاً، لأنّ اليقين والشك من الصفات النفسية الدائر أمرها بين العلم بوجودها أو العلم بعدمها فلا يتصور احتمال وجودها، ففي المثال إسلام الوارث وموت المورث أمران خارجيان تعلّق بهما اليقين والشك، أمّا نفس اليقين ونفس الشك فأمرهما دائر مدار الوجود والعدم.

مضافاً إلى ثبوت الاتصال إذ في الزمان الثاني علم إجمالي بتحقق أحدهما، وهذا العلم يجتمع مع الشك في كل فرد بخصوصه - على ما مرّ من معنى العلم الإجمالي - ففي المثال هو عالم بعدم موت المورث وعدم إسلام الوارث يوم الخميس وشاك في كل واحد منهما بخصوصه يوم الجمعة وبذلك تمّ الاتصال.

الوجه الثالث: ما قرّره المحقق الإصفهاني قال: «فإذا كان الزمان الثاني - المتصل بزمان اليقين - زمان حدوث الموت، كان عدم الإسلام فيه - وهو

ص: 222


1- نهاية الأفكار 4[ق1]: 209-210.

المشكوك - متصلاً زمانه بزمان اليقين بعدمه، وإذا كان زمان حدوث الإسلام هو الزمان الثالث كان عدم الإسلام فيه - وهو المشكوك - منفصلاً عن زمان اليقين بعدمه، وهكذا الأمر في عدم الموت في زمن حدوث الإسلام فإنّه كذلك، فالتمسك بعموم (لا تنقض) في كل من العدمين الخاصين يكون تمسكاً بالعام في الشبهة المصداقية»(1).

وفيه: أنّه إن فسرنا اليقين والشك بالمتيقن والمشكوك فإنه لا يشترط اتصال ذات المشكوك بذات المتيقن، بل يشترط اتصال المشكوك بما هو مشكوك بالمتيقن بما هو متيقن لكي يكون الاستصحاب إبقاءً، إذ التعبد في دليل الاستصحاب لم يتعلق بذاتيهما وإنّما بعنوانهما، وفي ما نحن فيه لا فصل بين المتيقن بعنوانه عن المشكوك بعنوانه نعم قد يكون فصل بين ذاتيهما وذلك غير ضائر، وإن أبقينا اليقين والشك على ظاهرهما فإنه كان اليقين بعدم الإسلام يوم الخميس، ثم في يوم الجمعة لا يقين بالإسلام ولا بعدم الإسلام، فلا بدّ من الشك فيه حتماً، فاتصل الشك باليقين.

المقام الثاني: في المجهول تاريخ أحدهما المعلوم الآخر

كما لو قُسّم الإرث يوم الجمعة وشك في إسلام الولد يوم الخميس أو السبت، وفيه قولان:

القول الأوّل: ما ذهب الشيخ الأعظم في الرسائل(2) وهو جريان الاستصحاب في المجهول تاريخه، لتمامية الأركان فيه من غير معارض،

ص: 223


1- نهاية الدراية 5: 207.
2- فرائد الأصول 3: 250.

لعدم تماميتها في المعلوم تاريخه، إذ نفس الوجود لا شك فيه سابقاً ولاحقاً، وخصوصية الوجود لا يقين سابق بها.

وبعبارة أخرى - كما قيل -: إنّ الشك في المعلوم بذاته غير موجود في زمان، بل لا بدّ في تحققه من ضمّ خصوصية للمعلوم، ومع ضمّها يكون الشك في الواقع متعلقاً بها لعدم الشك في الحادث أصلاً، وإضافة الشك إلى الحادث مع الخصوصية مسامحة، وليس للاتصاف بالخصوصية حالة سابقة حيث إنّ موضوع الشك هو الخاص، والخاص بما هو خاص مسبوق بالعدم.

وأشكل عليه: بتمامية الأركان في المعلوم أيضاً، وذلك لأنه يراد في المعلوم استصحاب عدم وجوده قبل الآخر كعدم القسمة قبل الإسلام، أو عدم خصوصية الوجود كعدم القسمة المتصفة بأنّها قبل الإسلام، فإنّ القسمة على النحوين مسبوقة بالعدم المتيقن به مع الشك في ارتفاعه، والحاصل: أنّ الاتصاف بالخصوصية أي العدم الخاص لا حالة سابقة له، وأمّا عدم الاتصاف بها أي عدم الخاص فهو من الأزل.

القول الثاني: التفصيل، فقد ذهب المحقق الخراساني(1) إلى عدم الفرق بين هذا المقام ومجهولي التاريخ في الصور الأربع، فأمّا مفاد كان التامة فتتعارض استصحابات أعدامها، فاستصحاب عدم الحصة المتأخرة عن الإسلام يتعارض مع استصحاب عدم الحصة المتقدمة، وأمّا مفاد كان وليس الناقصتين فلا يقين سابق بها كالحادث المتصف بوصف التقدم أو التأخر، والحادث المتصف بوصف عدمهما، وأمّا مفاد ليس التامة - أي عدم

ص: 224


1- إيضاح كفاية الأصول 5: 141-145.

أحدهما في زمان الآخر - ، فلا يجري استصحاب المعلوم بالنسبة إلى الزمان إذ لا شك فيه أصلاً لأنّا نعلم بالقسمة يوم الجمعة ونعلم بعدمها قبلها - في المثال - وأمّا استصحاب عدم المعلوم بالإضافة إلى المجهول كاستصحاب عدم القسمة إلى حين الإسلام فهذا يرجع إلى الصورة الأولى أو الثانية، لأنّ القسمة إن لوحظت حصة وجودية فاستصحاب عدمها جار لولا المعارضة، وإن لوحظت بوصف التقدم أو التأخر فلا يقين سابق.

ثم إنّه قد أشكل على أصل جريان الاستصحاب في المعلوم بإشكالات، منها:

الإشكال الأوّل - وهو العمدة - ما في المنتقى قال: «إنّ أدلة الاستصحاب تفيد أنّ الاستصحاب هو جرّ المستصحب ومدّه في ظرف الشك، وليس في استصحاب عدم الحادث المعلوم إلى زمان المجهول مدّ له في زمان أصلاً، لأنّه معلوم الحد والمقدار»(1).

الإشكال الثاني: ما ذكره المحقق النائيني قال: «إن أريد من لحاظ معلوم التاريخ بالإضافة إلى زمان حدوث الآخر: لحاظه مقيداً بزمان حدوث الآخر فهو وإن كان مشكوكاً - للشك في وجوده في زمان وجود الآخر - إلاّ أنّه لا تجري أصالة عدم وجوده في ذلك الزمان، لأنّ عدم الوجود في زمان حدوث الآخر بقيد كونه في ذلك الزمان لم يكن متيقناً سابقاً فلا يجري فيه الأصل، وإن أريد من لحاظه بالإضافة إلى زمان الآخر: لحاظه على وجه يكون زمان الآخر ظرفاً لوجوده فهو عبارة أخرى عن لحاظه بالإضافة إلى

ص: 225


1- منتقى الأصول 6: 271.

نفس أجزاء الزمان، وقد عرفت أنّه مع العلم بالتاريخ لا يحصل الشك في وجوده في الزمان فالأصل في معلوم التاريخ لا يجري على حال»(1).

ويرد على الأوّل: ما ذكره المحقق العراقي بقوله: «إن لوحظ زمان وجود أحدهما قيداً للآخر فالأصل بمفاد ليس الناقصة لا يجري، وأمّا الأصل بمفاد ليس التامة فيجري ويسقط بالمعارضة، فإنّ وجود كل منهما في زمان وجود الآخر كان مسبوقاً بالعدم، فإنّه عند عدم كل منهما لم يكن لكل منهما وجود في زمان وجود الآخر ولو لأجل السالبة بانتفاء الموضوع»(2).

وعلى الثاني: بأنّ الإرث - في المثال - لا يترتب على زمان القسمة أو زمان الإسلام، بل على وجود القسمة ووجود الإسلام مع قطع النظر عن الزمان، فالزمان وإن كان لازماً للزماني إلاّ أنّه لا يرتبط بالحكم الشرعي هنا، فلا وجه لإرجاع الحكم إلى الزمان، فتأمل.

الإشكال الثالث: ما ذكره المحقق النائيني أيضاً قال: «وجود الإسلام المقارن للحياة وإن كان مشكوكاً وجداناً ومسبوقاً بالعدم وجداناً، إلاّ أنّه عبارة أخرى عن الشك في وجود تمام الموضوع للإرث بعد العلم بعدم تحققه في زمان، والأصل الجاري فيه لا يمكن أن يعارض به الأصل الجاري في الجزء الذي هو مجهول التاريخ في المقام، فإنّ الشك في تحقق تمام الموضوع إنّما يكون مسبباً عن الشك في وجود الجزء وعدمه ضرورة

ص: 226


1- فوائد الأصول 4: 508-509.
2- فوائد الأصول 4: 509 (الهامش).

أنّه لو كانت الحياة في زمان الإسلام معلومة لما كان يشك في وجود تمام الموضوع أصلاً، وحينئذٍ يكون الأصل الجاري في طرف الجزء - بعد ضم الوجدان إليه - حاكماً على الأصل الجاري في طرف الكل، ولولا ذلك لما كان يجري الأصل في الجزء في شيء من الموارد أصلاً»(1).

والحاصل: إنّ ما نحن فيه من قبيل استصحاب الكل والجزء حيث إن الاستصحاب في الجزء حاكم على الاستصحاب في الكل.

وأورد عليه: بالفرق، إذ في ما نحن فيه تحقق الشك بعد فرض زمان واقعي لوحظ الحادث مضافاً إليه، بخلاف موارد الكل والجزء لعدم فرض زمان واقعي للطهارة مثلاً لعدم العلم بتحققها، فلا شك في الصلاة في زمان الطهارة لعدم إحراز الطهارة، وفي زمان احتمال الطهارة لا شك فيها لليقين بها فيه(2)، فتأمل.

الإشكال الرابع: ما ذكره المحقق العراقي قال: «إنّ عدم جريان الأصل، ولو على الظرفية في معلوم التاريخ بلحاظ الزمان الواقعي لوجود الآخر، إنّما هو لأجل عدم إحراز مقارنة الإبقاء التعبدي مع زمان وجود الآخر، لأنّ معنى إبقاء الشيء وجوداً أو عدماً إلى الزمان الواقعي لوجود غيره هو إبقاؤه إلى زمان يقطع فيه بكونه ذاك الزمان الواقعي لوجود الآخر، وإلاّ فبدون اليقين به لا يمكن تطبيق كبرى الأثر على المورد، وحينئذٍ مع تردد زمان وجود الآخر بين زمانين لا يكاد يمكن الجزم بالتطبيق إلاّ بفرض جرّ عدم

ص: 227


1- أجود التقريرات 4: 147.
2- منتقى الأصول 6: 269.

المعلوم في جميع محتملات أزمنة المجهول وهو غير ممكن، لأنّ من محتملات وجوده: زمان اليقين بارتفاع المستصحب وانقلابه بالنقيض، فلا يمكن جرّ عدمه إلى هذا الزمان، ومع عدم جرّه كذلك كان البقاء التعبدي فيه مشكوك المقارنة مع زمان وجود الغير، ومع الشك المزبور لا يثمر الأصل في ترتيب أثر البقاء المقارن لزمان وجود الغير»(1).

ورُدّ: بأنّ المناط في الاستصحاب هو التعبد به لا لوازمه وملازماته، وفي ما نحن فيه القسمة والإسلام وإن لم ينفكا عن الزمان حيث إنّها زمانيّان إلاّ أنّه بناءً على الظرفية لم يؤخذ الزمان فيهما، وعليه فموضوع الأثر بالإرث هو نفس القسمة مع وجود الإسلام، والتعبد لا يسري إلى لازمه - وهو الزمان - وعليه فلا يصح أنّ يقال: إن المتعبد به - وهو القسمة مع الإسلام - لا تنطبق على أزمنة وجود الإسلام، فإنّ تطبيق عدم القسمة على أزمنة وجود الإسلام لا نظر له إلى لازمه كي يستشكل بعدم إحراز التطبيق على الأزمنة في فرض العلم بالتاريخ، فإنّ ذلك إدخال ما ليس من الموضوع فيه.

وفيه: أنّ الإشكال هو في إجراء الاستصحاب إلى ما بعد زمان اليقين وهو خلاف قوله: «بل انقضه بيقين آخر» فليس النظر إلى الزمان لكي يقال: إنّه لازم للمتعبد به وليس داخلاً في التعبد، فتأمل.

المبحث الثالث: في تعاقب الحالتين
اشارة

وفرقه عمّا سبق في أنّ الموضوع هنا بسيط، والمستصحب قائم بموضوع واحد، مع معلومية زمان الشك دون زمان اليقين، وأمّا السابق فالموضوع

ص: 228


1- نهاية الأفكار 4[ق1]: 206.

مركب والمستصحب قائم بموضوعين وزمان اليقين معلوم دون زمان الشك.

كما لو تعاقبت الطهارة والحدث على شخص واحد مع الشك في المتقدم منهما عن المتأخر.

والكلام في مقامين:

المقام الأوّل: في مجهولي التاريخ

وفيه أقوال، منها:

القول الأوّل: تمامية أركان الاستصحاب وسقوطه بالتعارض، وحينئذٍ لا بدّ من الرجوع إلى الأصل المحكوم، وهو يختلف باختلاف المواضيع، فيجوز له مثلاً المكث في المسجد لأنّ موضوع الحرمة الجنب، ولا يجوز له مس كتابة القرآن لجوازه على المتطهر فقط.

القول الثاني: عدم تمامية الأركان، لوجوه مرّ بعضها في المبحث السابق مع الإشكال عليها، ومنها وجوه ثلاثة ذكرها المحقق العراقي(1)

وحاصلها:

الوجه الأوّل: في تعاقب الحالتين يدور الأمر بين عدم إحراز اتصال زمان اليقين بالشك وبين أن لا يكون في البين شك في البقاء أصلاً، وذلك لأنّه إن كان الساعة الأولى هي زمان الحدث والثانية زمان الطهارة، فالشك الفعلي في الحدث في الساعة الثالثة لم يتصل باليقين، وإن وقع الحدث في الساعة الثانية فزمان الشك وإن اتصل بزمان اليقين إلاّ أنّه لا شك في البقاء حينئذٍ.

وفيه: ما مرّ من أنّ اليقين والشك متصلان وجداناً إلاّ أنّه يحتمل عدم

ص: 229


1- نهاية الأفكار 4[ق1]: 215-216.

اتصال المتيقن والمشكوك بذاتهما، وذلك لا يخلّ بجريان دليل الاستصحاب.

الوجه الثاني: إنّ الشك المأخوذ في دليل الاستصحاب هو الشك في البقاء والارتفاع، وأمّا في ما نحن فيه فإنّ الشك إنّما هو شك في زمان حدوثه المتصل به.

وفيه: أنّ إطلاق دليل الشك يشمل كل شك، فالمعتبر هو اجتماع اليقين والشك في زمان واحد ولا يشترط معرفة زمان حدوثهما.

الوجه الثالث: بعد علمنا بتعاقب الحالتين في الساعة الأولى والثانية - وهي ساعة العلم الإجمالي - لا يوجد يقين، وكذلك في الساعة الثالثة التي هي ساعة الشك، وعليه فجميع الساعات الثلاث ظرف للشك ودليل الاستصحاب منصرف عن ذلك حيث لا بدّ من زمان يوجد فيه اليقين!

وفيه: إطلاق (اليقين) يشمل الإجمالي أيضاً، مضافاً إلى أنّ الملاك هو اليقين حين إجراء الاستصحاب وهو حاصل تفصيلاً ليقينه بتحقق الحدث والطهارة في الزمان الماضي والإجمال إنّما هو في زمان الحدوث، ولا انصراف هيهنا بل العرف يقول: إنّه كان متيقناً من الحدث ومن الطهارة بوضوح وجلاء.

القول الثالث: ما عن المحقق الحلي في المعتبر(1) من البناء على الحالة السابقة على الحالتين - إن كانت - كما لو علم بأنّه كان محدثاً ثم علم بالحدث والطهارة فيبني على كونه متطهراً. وذلك للقطع بارتفاع الحالة السابقة الأولى بوجود الرافع لها، مع الشك في ارتفاع ذلك الرافع،

ص: 230


1- المعتبر 1: 171.

فيستصحب بقاؤه. ولا يعارضه استصحاب الحالة الأخرى لأنّها مرددة بين ما لا أثر له وبين ما له أثر، لأنّ الحدث بعد الحدث وكذا الطهارة بعد الطهارة لا أثر له، فلا تنجيز للعلم الإجمالي لعدم الأثر لأحد طرفيه.

وأشكل عليه: أوّلاً: بما عن المحقق الهمداني(1)

من أنّ المستصحب ليس خصوص الأثر الحاصل من المتيقن السابق، بل المستصحب هو الأثر الموجود حال حدوث الحدث المتيقن وإن لم يعلم بكونه مسبباً عنه إذ العلم بسببه غير معتبر في الاستصحاب، كما لو انتبه من نومه وشك في أنّه تطهر عقيبه أم لا، فإنّه يستصحب حدثه الذي يعلم بتحققه بعد النوم ولو لم يعلم باستناده إلى ذلك النوم أو إلى سبب آخر.

وفيه: إن أثر الحدث وإن كان موجوداً إلاّ أنّ نفس الحدث الثاني غير معلوم التحقق فحينئذٍ لا يقين به حتى يتم استصحابه وإنّما المتيقن ما يمكن أن يكون سبب الحدث ولا شك فيه كي يستصحب.

وثانياً: إنّه كما تحققت الحالة الموافقة للسابق قطعاً كذلك تحققت الحالة المخالفة له قطعاً، وكلاهما مشكوك الارتفاع ولهما الأثر في حالة البقاء ففي المثال بعد الحدث الأوّل تحقق حدث قطعاً ولبقائه إلى زمان الشك أثر، كما تحققت طهارة قطعاً ولبقائها أثر، فتمت أركان الاستصحاب في كليهما فيتساقطان.

المقام الثاني: في ما إذا كان أحدهما معلوم التاريخ

فقد يقال: بأنّ الاستصحاب في طرف المعلوم لا معارض له، إذ

ص: 231


1- مصباح الفقيه 1[ق1]: 204.

المتصور في الحالة الأخرى استصحابان أحدهما مثبت والآخر غير معارض، فاستصحاب عدم حدوث المجهول قبل المعلوم مثبت، واستصحاب عدم حدوثه بعده غير معارض، فمن كان يعلم بأنّه توضأ في الساعة العاشرة وعلم بأنّه أحدث إمّا قبلها أو بعدها، فاستصحاب الوضوء لا مانع له، واستصحاب عدم الحدث قبل الوضوء لازمه وقوع الحدث بعده وهو مثبت، واستصحاب عدم الحدث بعد الوضوء لا معارضة له لاستصحاب الطهارة.

ص: 232

فصل في الاستصحاب في الاعتقادات

اشارة

وفيه مبحثان:

المبحث الأوّل: في عامة الاعتقاديات

قد مرّ أنّ الاعتقادات على أقسام ثلاثة: فمنها: ما يجب تحصيل العلم بها مطلقاً، ومنها: ما لا يجب تحصيل العلم بها لكن لو حصل له العلم وجب الاعتقاد، ومنها: ما يكفي فيها الدليل المعتبر.

وبين العلم والاعتقاد عموم من وجه، فقد يعلم ولا يعتقد بأن لا يعقد قلبه عليه كما قال تعالى: {وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ}(1)،

وقد يعتقد بما لا يعلم كاعتقاد المشركين بأصنامهم مع أنّهم كانوا يظنون ظناً ولم يكونوا مستيقنين.

فإن كان الواجب العلم، فإنّه إن كان موضوعياً فلا وجه للاستصحاب حين الشك لأنّ الاستصحاب لا يوجب اليقين.

وإن كان طريقياً فلا وجه له أيضاً إذ الاثر في الاعتقاديات هو اليقين فقط، وهو لا يتحقق بالاستصحاب، ولا أثر آخر.

وإن كان الواجب الاعتقاد عن علم فلا يحصل هذا الموضوع

ص: 233


1- سورة النمل، الآية: 14.

بالاستصحاب، أو الاعتقاد ولو من غير علم فهذا لا يحتاج إلى الاستصحاب.

ومن ذلك يتضح الإشكال في القول بجريان الاستصحاب الحكمي، حيث لا يراد فيها إلاّ اليقين وهو لا يتحقق بالاستصحاب، ولا أثر آخر كي يجري الاستصحاب لأجله.

نعم، لو كان من القسم الثالث الذي يكفي فيه الدليل المعتبر فلا يبعد جريان الاستصحاب الحكمي بوجوب الاعتقاد، إلاّ أنّه في أصل الوجوب إشكال بناءً على عدم وجوب الموافقة الالتزامية ولا أثر عملي له ليلزم باعتباره، فتأمل.

مثلاً لو كان في زمان الأئمة السابقين وشك في موت إمام زمانه لا يجوز له استصحاب حياته، بل يجب عليه تحصيل العلم بحياته أو بوفاته وبالإمام الذي يليه لأنّ الإمامة من القسم الأوّل.

المبحث الثاني: في استصحاب النبوة

غير خفي أنّ النبوة منصب إلهي يمنحه الله لمن شاء ممن اصطفاه، ولا شك في بقاء نبوة الأنبياء في حياتهم وبعد موتهم فلا معنى لاستصحاب نبوتهم، على أنّ نبوة الأنبياء السابقين لا تنافي نبوة الأنبياء الذين من بعدهم، فلا معنى لاستصحاب نبوة نبي لأجل نفي نبوة نبي آخر.

أمّا ما تمسك به الكتابي لاستصحاب نبوة عيسى (علیه السلام) بغرض نفي نبوة رسول الله محمّد (صلی الله علیه و آله) فباطل من جهات أخرى أيضاً:

منها: أنّه إن كان يريد إلزام المسلم فهو لا شك له في نبوة رسول الله محمّد (صلی الله علیه و آله) ، وإن كان يريد إقناع نفسه فلا ينفع في أصول الدين إلاّ العلم

ص: 234

فعليه طلب الأدلة العلمية.

ومنها: أنّ اليقين بنبوة عيسى (علیه السلام) إنّما هو لأنّ رسول الله محمّداً (صلی الله علیه و آله) أخبر بها، فمع الشك في نبوته يزول اليقين بنبوة عيسى فلا وجه لاستصحابها.

ومنها: ما أجاب به الإمام الرضا (علیه السلام) الجاثليق قال: «أنا مقرّ بنبوة عيسى وكتابه وما بشّر به أمته وأقرّت به الحواريون، وكافر بنبوة كل عيسى لم يقرّ بنبوة محمّد وكتابه ولم يبشر به أمته»(1).

ولا يرد إشكال أنّ عيسى (علیه السلام) جزئي حقيقي والمسلم يعترف به وقد كانت له شريعة فلا بدّ من إثبات المسلمين نسخها.

إذ يجاب بما في الرشحات: «بأنّ الجزئي الخارجي إمّا أن يكون مورداً للإشارة الحسيّة فيشار إليه ويحكم عليه بحكم، فلا إشكال في عدم صحة إجراء الحكم عليه مقيداً بكونه موصوفاً بكذا وكذا، وأمّا إن كان خارجاً عن المشاهدة - لسبقه زماناً أو لحوقه - فإنّما يحكم على الصورة الذهنية الموجودة عنه، وحيث لم يشاهد ينتزع مفهوماً من خصوصيات الموضوع وقيوده، فهذه الصورة الذهنية إنّما تنطبق على الخارج إذا كان مطابقاً لها في الخصوصيات، فلو أضيف إليها قيد أو صفة غير مطابق لا ينطبق عليه أصلاً، وبعبارة أخرى: هذ المفهوم المنتزع كلي ينحصر في فرد بعد كثرة القيود، فحينئذٍ يصح سلب الحكم عن المفهوم غير المطابق للواقع، مثلاً لا إشكال في وجود الشمس وإضائتها خارجاً، ومع ذلك يصح لنا القول بأنّ الشمس

ص: 235


1- عيون أخبار الرضا (علیه السلام) 2: 141.

المستطيلة لا تضيئ، فيتم سلب الشمس المقيد بالاستطالة لعدم تطبيقه مع الموجود الخارجي، بل عدم وجود فرد كذلك أصلاً، ومن هذا القبيل موسى وعيسى (علیهما السلام) ، فالنبوة المقطوعة محمولة على موسى المقيد بالاعتراف، وأمّا موسى غير المعترف به فليس نبياً بل لم يكن موجوداً أصلاً، فحينئذٍ يصح أن يقال: إنّا نعترف بنبوة موسى كذلك»(1).

ص: 236


1- رشحات الأصول 2: 335.

فصل في استصحاب حكم المخصص

وقد مرّ(1)

بحثه إجمالاً.

ومثاله في المعاملات: عموم قوله تعالى: {أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ}(2)

وقد خرج عنه زمان العلم بالغبن فوراً حيث يجوز الفسخ، ويشك في حالة التراخي.

ومثاله في العبادات: جواز الأكل والشرب حيث خرج منه نهار شهر رمضان ويشك في جواز الأكل بعد سقوط القرص قبل ذهاب الحمرة المشرقية بناءً على جريان الاستصحاب في الشبهة المفهومية.

ثم إن الزمان قد يكون ظرفاً أو مفرّداً في العام والخاص، فالصور أربعة، والعمدة ما لو كان ظرفاً في كليهما.

فقد يقال: بجريان استصحاب الخاص حينئذٍ.

واستدل له بأمور، منها:

الدليل الأوّل: إنّ العام كان حكماً واحداً مستمراً في الزمان وقد انقطع بالخاص، ففي زمان الشك لا يجري العام ولا الخاص، وحيث لا أصل لفظي فالمرجع الأصل العملي وهو استصحاب الخاص، لأنّ استصحاب

ص: 237


1- نبراس الأصول 2: 384.
2- سورة المائدة، الآية: 1.

العام غير تام الأركان حيث انقطع اليقين بالعام باليقين بالخاص.

واستثنى المحقق الخراساني(1)

ما لو كان زمان العام يبدأ بعد الخاص كوجوب الوفاء بالعقد بعد خيار المجلس حيث لا بدّ من التمسك بعموم العام ولا مجال للاستصحاب أصلاً.

وأشكل عليه: بأنّ استصحاب الخاص يخالف القاعدة المتفق عليها من الرجوع إلى العام بعد انتهاء زمان الخاص، حيث لا فرق بين العام الاستغراقي والمجموعي، والعام في ما نحن فيه حكم واحد على مجموع الأزمنة ولا يضر بوحدته خروج زمان الخاص، لعدم الفرق بين المجموعي العرضي أو الطولي، وبعبارة أخرى: إنّ المراد الجدي من العام المخصَّص هو غير الخاص، فكان الدليل شاملاً لجميع الأزمان إلاّ زمان الخاص فلم يكن الخاص داخلاً من البداية في الحجيّة وإن كان داخلاً في اللفظ استعمالاً، ولا فرق في ذلك بين المجموعي والاستغراقي.

الدليل الثاني: إنّ للعام دلالتين: ثبوت الحكم للأفر اد، واستمرار الحكم فيها، والاستمرار في الفرد الخاص قد انتفى بالتخصيص ولا دليل آخر على شمول الحكم لما بعده، بل إنّ إثبات الحكم للفرد الخاص بعد زمان التخصيص إنّما هو إثبات حكم غير الحكم الذي كان قبل التخصيص، لأنّ العام لا يدل على ثبوت حكمين منفصلين بل حكم واحد مستمر(2).

ص: 238


1- إيضاح كفاية الأصول 5: 163-164.
2- درر الفوائد في الحاشية على الفرائد: 376.

وأشكل عليه المحقق الإصفهاني(1)

بما حاصله: أنّ للعام حيثيتين:

1- حيثيّة عمومه، وهذا يقتضي ثبوت الحكم للفرد في الجملة، فلا يصح التمسك بالعموم عند الشك، وذلك لخروج الفرد بالتخصيص، ولا يكون عدم شمول الحكم للفرد في غير زمان الخاص تخصيصاً زائداً كي ينفى بأصالة العموم.

2- وحيثيّة إطلاقه الأزماني، وتقييده لا يضر ببقائه في سائر الأزمنة، فإنّ الزمان المأخوذ ظرفاً قابل لأن يقيّد، لأنّ وحدته طبيعية لا شخصية، فإذا قيّد مطلق الزمان بزمان خاص جعله التقييد حصة، والحصة محافظة على وحدتها الطبيعية واستمرارها، فيكون مفاد الإطلاق والتقييد ثبوت الحكم للفرد في غير هذا الزمان الخاص.

لا يقال: سائر المطلقات لها جهات عرضية فيمكن لحاظ تلك الجهات ومن ثم إطلاق الحكم بالإضافة إليها بلا منافاة شيء، وأمّا في ما نحن فيه فلم يكن الزمان مستمراً بنفسه ذا أفراد متكثرة، بل لا يكون كذلك إلاّ بالتقطيع، ولحاظه بنحو التقطيع والإطلاق بالإضافة إليها خلاف الفرض لأنّ المفروض عدم اللحاظ كذلك.

فإنّه يقال: الإطلاق هو رفض القيود لا جمعها، فلا خلف إذ النظر إلى قطعات الزمان وعدم تقييد طبيعي الزمان بها لا وجوداً ولا عدماً.

لا يقال: المطلق له ظهور واحد في معنى واحد مستمر، وبعد رفع اليد عنه بالتخصيص لا ظهور آخر كي يتمسك به في إثبات الحكم.

ص: 239


1- نهاية الدراية 5: 219-222.

فإنّه يقال: جميع العمومات والمطلقات لها ظهور واحد، والتخصيص والتقييد إنّما يفيدان رفع حجيّة الظهور في الفرد لا رفع نفس الظهور بل هو باقٍ لا يرتفع.

لا يقال: ظهور العام بحيثيّة ثبوت حكم واحد مستمر، وثبوت الحكم للفرد بعد زمان التخصيص إنّما يقتضي ثبوت حكمين منفصلين لا حكم واحد مستمر.

فإنّه يقال: الوحدة المنثلمة هي الوحدة الخارجية، وهي غير معتبرة، وذلك لتعدد إطاعة الحكم وعصيانه وهو يكشف عن تعدد الحكم في الخارج، وإنّما المعتبر الوحدة في مقام الجعل والإنشاء، والمراد منها في هذا المقام جعل طبيعي البعث أو الحصة منه في قبال جعل بعثين أو حصتين منه، فإنّ البعث في هذا المقام مفهوم صالح لأن يقيّد ويحصّص، فإنّ جعل طبيعة واحدة أو حصة واحدة منه فقد جعل بعث واحد، وإذا لوحظ مقيداً محصصاً فقد تعدد، وهي هنا متحققة، لأنّ المجعول إنّما هو بعث واحد لا متعدد.

ومثله الكلام في الاستمرار، فإنّ المعتبر ليس هو الاستمرار في الخارج لعدم إمكانه لفرض التعدد في هذا المقام، وإنّما المعتبر هو الاستمرار في مرحلة الإنشاء والجعل وهو متحقق، فإنّه قد جعل الزمان المستمر ظرفاً للبعث، انتهى.

الدليل الثالث: ما ذكره المحقق النائيني(1)، وحاصله: أنّ دوام الحكم

ص: 240


1- فوائد الأصول 4: 532-545.

في رتبة متأخرة عن الحكم حيث إنّه عرض على الحكم، فلا يمكن أن يتكفل دليل الحكم لهذا الدوام، فلو أراد الحاكم دوامه فلا بدّ له من إقامة دليل آخر. نعم لو أخذ العموم الزماني في متعلق الحكم - الذي هو أفعال المكلفين عادة - أمكن التمسك بالدليل عند الشك، وذلك لاستحالة الإهمال في متعلق الدليل حيث يتكفل كل دليل لانقسامات متعلّقه، فيدل على الإطلاق حيث لا تقييد.

والحاصل: أنّ المتعلّق في رتبة سابقة على الحكم بالتقدم الطبعي، ودوام الحكم في رتبة متأخرة عن الحكم طبعاً، وذلك لأنّه كلما وجد استمرار الحكم فالحكم موجود دون العكس.

والنتيجة: أنّه إن أخذ العموم في المتعلّق فالمرجع العموم عند الشك في بقاء الحكم لا استصحاب حكم المخصص وذلك لأخذ الدوام في المتعلّق، فمتى ما شك في بقاء الحكم كان مقتضى الإطلاق البقاء فيكون الحكم بالبقاء مدلول الدليل، فلا مورد للاستصحاب، وإن أخذ العموم في الحكم فلا يمكن التمسك بدليل الحكم عند الشك لأنّ دليل الحكم لا يتكفل دوامه، كما لا يمكن التمسك بالدليل الدال على الدوام لأنّ الحكم لا يثبت موضوعه، فلو قال: هذا حلال، فلا يثبت به دوام الحليّة، كما لا يمكن إثبات دوامها بمثل «حلال محمّد حلال أبداً إلى يوم القيامة» لأنّه يدلّ على أنّ الحلال الثابت حليته باقٍ لكنه لا يبيّن ما هو الحلال، فحينئذٍ يكون المرجع استصحاب المخصص.

وأورد عليه: أوّلاً: إنّ دوام الحكم ليس عرضاً عليه، بل هما شيء واحد، ولا معنى لاختلاف الرتبة بين حدوث الشيء وبقائه لعدم وجود ملاك

ص: 241

اختلاف الرتبة فيه وكما في المنتهى: «معنى عموم الحكم بحسب الزمان واستمراره هو وجوده في الأزمنة المتأخرة عن الزمان الأوّل، لا أنّه يجب إحراز وجوده حتى يرد عليه الاستمرار، لأنّ وجوده في الأزمنة المتأخرة عين استمراره وعمومه بحسب الأزمان، فإذا أحرزنا عمومه بحسب الأزمان بنحو الانحلال إلى قضايا متعددة يكون المرجع هو العام - سواء كان الزمان ظرفاً للحكم أو المتعلّق وكان قيداً لكل واحد منهما - فالمناط هو الانحلال بحسب أجزاء الزمان وقطعاته لا الظرفية أو القيدية، ولا كون مصب العموم هو المتعلّق أو الحكم، إذ مع الانحلال لا فرق بين الجميع، ومع عدمه أيضاً كذلك»(1).

وثانياً: إنّ الحكم إمّا له وحدة سنخية أو شخصية، فعلى الأوّل: يكون الحكم على طبيعي الموضوع وهو حكم واحد في مقام الجعل، ومع ذلك تتعدد الطاعة والمعصية بتعدد الأفراد، وتخصيص الواحد بالسنخ في قطعة من الزمان لا يلزم منه تعدد الحكم ولو بعد زمان المخصص. وعلى الثاني: فإنّما يكون الحكم واحداً شخصاً مع تعدد متعلق الحكم بنحو العام المجموعي أو أجزاء الواجب الواحد، ومع التخصيص لا يلزم تعدد الحكم، لأنّ الفرد المخصص لم يكن مراداً من الأوّل بالإرادة الجدية، وإنّما المراد جداً سائر الأفراد فبالتخصيص لا تنخرم وحدته الشخصية، وللعام دلالة على العموم الأزماني من غير فرق بين العام المجموعي الأفرادي عرضاً والعام المجموعي الأزماني طولاً، كما لو قال: (أكرم من في الدار مجموعاً إلاّ

ص: 242


1- منتهى الأصول 2: 663.

فلاناً)، أو قال: (أكرم في كل زمان إلاّ يوم الجمعة).

وعليه: فلا بدّ لدليل الحكم من الدلالة على الاستمرار أو التقييد لاستحالة الإهمال، فما يدل على المقسم يدل على الأقسام، وحيث لا تقييد يثبت الإطلاق، فتأمل.

ص: 243

فصل في تعارض الاستصحاب وغيره

اشارة

تارة يوجد في مورد الاستصحاب أمارة، وتارة أصل آخر، وتارة استصحاب آخر ينافيه، فالكلام في مباحث ثلاثة:

المبحث الأوّل: في الاستصحاب والأمارات
اشارة

ولا إشكال في تقدم الأمارة على الاستصحاب سواء كان موافقاً لها أم مخالفاً، إنّما الكلام في سبب تقدمه عليها، هل هو بالتخصيص أم الورود أم الحكومة، وقد مرّ الفرق بينها(1)،

فهنا وجوه:

الوجه الأوّل: التخصيص

بمعنى تخصيص أدلة الأمارات لدليل الاستصحاب، وذلك لأنّ النسبة بين الدليلين وإن كان العموم من وجه، إلاّ أنّ النسبة بين عامة الأصول والأمارات هي العموم المطلق، ولا وجه لملاحظة كل أصل على انفراده كما سيجيء في بحث انقلاب النسبة.

وفيه: إنّ التخصيص إنّما هو مع حفظ الموضوع، ومع إقامة الدليل على الورود أو الحكومة فلا حفظ للموضوع فينتفي التخصيص من أساسه، هذا مع إباء قوله: «ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبداً» عن التخصيص.

ص: 244


1- نبراس الأصول 3: 7-9.
الوجه الثاني: الورود

واستدل له بأدلة منها:

الدليل الأوّل: ما عن المحقق الحائري(1)

وحاصله: أنّ اليقين المأخوذ غاية للاستصحاب ليس على نحو الصفتية، وإنّما هو على نحو الطريقية والكشف عن الواقع، فلا خصوصية له، بل يلحق به كل ما هو كاشف عن الواقع، فالاستصحاب مغيّى في الحقيقة بعدم الكاشف عن الواقع، فإذا ورد الطريق فقد جائت الغاية.

وأورد عليه: بأنّ ذلك مجرد استظهار لا الدليل عليه.

الدليل الثاني: ما في الكفاية(2)

وحاصله: أنّه بنفس التعبد بدليل الأمارة ينتفي الشك وجداناً فلا يبقى موضوع للاستصحاب سواء في الأمارة المخالفة له أم الموافقة، وفي الموافقة ليس العمل مستنداً إلى اليقين السابق بل إلى قيام الحجة عليه.

لا يقال: دليل الاستصحاب هو الأخبار المعتبرة، وهكذا دليل غالب الأمارات أخبار معتبرة، وكلا الدليلين في عرض واحد مع أنّ النسبة بين الدليلين العموم والخصوص من وجه؟

فإنه يقال: إنّ ترجيح دليل الأمارة لا محذور فيه، إذ به ينتفي موضوع دليل الاستصحاب، حيث إنّ دليلها يوجِد اليقين اللاحق فينتفي نقض اليقين بالشك الذي هو موضوعه، ولكن ترجيح دليل الاستصحاب يقتضي

ص: 245


1- درر الفوائد، للحائري: 621.
2- إيضاح كفاية الأصول 5: 187-190.

تخصيص دليل الأمارة، إمّا بمخصص آخر وهو غير موجود، وإمّا بنفس دليل الاستصحاب وهو دور مصرّح حيث إنّ جريان الاستصحاب يتوقف على تخصيصه للأمارة كي لا يكون نقضاً لليقين باليقين، وتخصيصه لها يتوقف على جريان الاستصحاب إذ لو لم يجر الاستصحاب لكان نقضاً لليقين باليقين.

وأورد عليه: بأنّ تحقق اليقين مع الأمارة إمّا باليقين بالحكم الواقعي وهذا تصويب باطل، وإمّا باليقين بالحجة وهذا غير صحيح لعدم وحدة متعلق اليقين الأوّل والثاني حيث إنّ الأوّل بالحكم أو الموضوع والثاني بالحجة، وإمّا بالحكم الشرعي وهذا يستلزم اختلاف متعلقي اليقينين لأنّ متعلق الأوّل هو الحكم الواقعي والثاني هو الحكم الظاهري، مضافاً إلى كونه أخص من المدعي حيث إنّه عام في الحكم والموضوع.

الدليل الثالث: حمل اليقين في الحديث على الحجة، والشك على اللاحجة، والأمارة حجة تعبداً ينتفى بها موضوع الاستصحاب وهو اللاحجة وجداناً.

لكن هذا تصرف يحتاج إلى دليل، وقد مرّت الأدلة مع ردّها في معنى اليقين، فراجع(1).

الوجه الثالث: الحكومة

وذلك لأنّ أدلة الأمارات توسع اليقين في دليل الاستصحاب بناءً على مسلك جعل الطريقية - الذي هو تتميم الكشف - فيها، حيث تكون يقيناً

ص: 246


1- نبراس الأصول 5: 77.

تعبداً، كما أنّها تضيّق الشك بناءً على مسلك تنزيل المؤدّى منزلة الواقع فيها، فقد اعتبر الشك لا شك.

لا يقال: على مبنى جعل المؤدّى لا إلغاء للشك لأنّها تدل على جعل المؤدّى فقط، فالشك موجود وجداناً وغير ملغي تعبداً فلا حكومة!

لأنّه يقال: إنّ جعل المؤدّى وإن لم يدل مطابقةً على إلغاء الشك، إلاّ أنّه يدل عليه التزاماً، حيث إنّ كون المؤدّى هو الواقع ينافي عرفاً حفظ الشك بعدم إلغائه.

ثم إنّ المحقق الخراساني أشكل على الحكومة(1)...

أوّلاً: بأنّ شرط الحكومة النظر، ومن المعلوم أنّ أدلة الأمارات - كآية النبأ - لا نظر لها إلى أدلة الأصول العملية، كما أنّ شرطها تصرف الحاكم في المحكوم - توسعةً أو تضييقاً - .

ويرد عليه: أنّ التفسير ليس منحصراً في التفسير اللفظي، بل يشمل التفسير الواقعي، بحيث لو ألقي الدليلان إلى العرف رأى أحدهما مبيناً للآخر، كما في أدلة الأحكام الأوّلية ودليل لا ضرر.

كما يكفي في النظر النظر إلى الحكم ولا يشترط النظر إلى الموضوع.

مضافاً إلى ما مرّ(2)

من أنّ دليل الأمارة يجعلها علماً حيث تنزيل غير العلم منزلة العلم - بناءً على بعض المباني - فتكون حاكمة على أدلة الأصول التي غايتها العلم.

ص: 247


1- إيضاح كفاية الأصول 5: 194.
2- نبراس الأصول 3: 20-21.

وثانياً: بأنّه لو كان الأصل العملي موافقاً لها فلا توسعة ولا تضييق، بل تطابق، وحينئذٍ فلا بدّ من القول بجريان الأصل العملي مع الأمارة، وهذا ما لا يلتزمون به.

ويرد عليه: حلاً: بأنّه مع إلغاء الشك ينتفي موضوع دليل الاستصحاب فلا يجري حتى مع كون النتيجة متطابقة.

ونقضاً: بما في المنتقى(1)

وحاصله: أنّه على مبنى المحقق الخراساني فإنّ الشك يكون بمعنى (عدم الحجة)، لكن لا بدّ من تقييده (بعدم الحجة على الخلاف)، بقرينة قوله: «لا تنقض» الظاهر في كونه على خلاف الحالة السابقة بحيث يصدق معه النقض، وعليه: فلو كانت الأمارة على طبق اليقين السابق فالمتحقق هو الحجة على الوفاق فلا يرتفع حينئذٍ موضوع الاستصحاب لعدم منافاته لتحقق عدم الطريق على الخلاف - وهو الشك - ، وإذا تحقق موضوع الاستصحاب وهو عدم الحجة على الخلاف كان المورد مشمولاً لعموم أدلة الاستصحاب والنهي عن النقض، فلا بدّ من جريان الاستصحاب في عرض الأمارة حيث يوجد الشك التكويني في المورد - وهو مصداق اللاحجة - ، فيكون شمول دليل الاستصحاب للمورد قهري لتحقق موضوعه وهو كون النقض بالشك.

اللهم إلاّ أن يقال: إنّ رفع اليد عن اليقين السابق منهي عنه، لكن هذا النهي لأجل كون الرفع مخالف للحجة، لا بعنوان أنّه نقض لليقين بالشك، فموضوع النهي الاستصحابي - وهو النقض بالشك - مرتفع بارتفاع النقض،

ص: 248


1- منتقى الأصول 6: 435.

كما أنّه في صورة قيام الأمارة على الخلاف يرتفع الموضوع لصدق النقض عليه بالدليل لا بالشك.

المبحث الثاني: تعاض الاستصحاب مع سائر الأصول
اشارة

1- أمّا الأصول العقلية:

فإنّ موضوعها يرتفع بالاستصحاب حقيقة، لأنّ الاستصحاب بيانٌ فيرتفع به موضوع البراءة العقلية وهو قبح العقاب بلا بيان، وهو مؤمِّن عن العقوبة فيرتفع به احتمال العقاب الذي هو موضوع الاحتياط العقلي، كما أنّه مرجِّح حين الدوران بين المحذورين فيرتفع به عدم الترجيح الذي هو موضوع التخيير العقلي.

2- وأمّا الأصول العملية الشرعية:

فقد قيل بورده عليها وقيل بحكومته عليها.

المسلك الأوّل: الورود

واستدل له بوجوه منها:

الدليل الأوّل: إنّ موضوع الأصول العملية هو الشك بالحجة أو بالحكم الظاهري، والاستصحاب يرفع الشك ويبدله إلى اليقين بالحكم الظاهري أو بالحجة، فقد زال الموضوع حقيقة بعناية التعبد وهو معنى الورود.

إن قلت: هذا إذا لوحظ الاستصحاب وسائر الأصول بنفسها، أمّا لو لوحظ دليلهما حصل التعارض.

قلت: إنّ إطلاق دليل الاستصحاب يشمل المقام من غير محذور إذ يكون الاستصحاب حينئذٍ وارداً فينتفي موضوع سائر الأصول، ولكن شمول

ص: 249

دليل سائر الأصول للمقام فيه المحذور، إذ لا بدّ حينئذٍ من تخصيص دليل الاستصحاب لئلا يتعارضان، وهذا التخصيص إمّا من غير مخصص حيث لا يوجد دليل ثالث يخرج المورد عن إطلاق أو عموم دليل الاستصحاب، وإمّا على وجه دائر إذا كان بنفس دليل حجيّة سائر الأصول، وذلك لأنّ تخصيصها لدليل الاستصحاب يتوقف على اعتبارها مع الاستصحاب إذ غير المعتبر لا يخصص، واعتبارها معه تتوقف على تخصيصها له إذ لولا ذلك لكان الاستصحاب وارداً عليها.

وأورد عليه: بأنّ في ترجيح الاستصحاب عليها بالورود يوجد المحذور أيضاً، وذلك لأنّ موضوع الاستصحاب هو الشك من جميع الجهات، وهو أيضاً موضوع الأصول الأخرى، كما أنّ المحمول فيهما هو الحكم الظاهري أو التنجيز والتعذير، ومع الاتحاد في الموضوع والمحمول يستحيل الورود لأنّه فرع تقدم الوارد على المورود بحيث يرفع موضوعه، فتأمل.

الدليل الثاني: إنّ موضوع الأصول العملية الشرعية هو المشكوك من جميع الجهات في الواقع والظاهر، وغايتها حصول العلم ولو من جهة من الجهات، والاستصحاب يرفع الشك من جهة الظاهر، وبذلك يرتفع موضوع سائر الأصول وجداناً.

وأورد عليه: أنّ العكس كذلك أي موضوع الاستصحاب الشك بقاءً والأصول الأخرى لو جرت رفعت الشك في الحكم الظاهري وأبدلته باليقين به أو بالوظيفة.

ص: 250

المسلك الثاني: الحكومة

أمّا في الاستصحاب الحكمي فقد استدل له بوجوه، منها:

الدليل الأوّل: ما في الرسائل: «إنّ دليل الاستصحاب بمنزلة معمّم للنهي السابق بالنسبة إلى الزمان اللاحق، فقوله: (لا تنقض اليقين بالشك) يدل على أنّ النهي الوارد لا بدّ من إبقائه وفرض عمومه للزمان اللاحق... فمجموع الرواية المذكورة - كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي - ودليل الاستصحاب بمنزلة أن يقول: كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي وكل نهي ورد في شيء فلا بدّ من تعميمه لجميع أزمنة احتماله، فيكون الرخصة في الشيء وإطلاقه مغيّا بورود النهي المحكوم عليه بالدوام وعموم الأزمان فكان مفاد الاستصحاب نفي ما يقتضيه الأصل الآخر في مورد الشك لولا النهي، وهذا معنى الحكومة»(1).

وأشكل عليه: أوّلاً(2): بأنّ موضوع الأصل الشك فإذا انتفى تعبداً حصلت الحكومة، والاستصحاب لا ينفي الشك لا وجداناً ولا تعبداً، وإنّما يثبت وجود النهي تعبداً فقط.

وفيه: أنّ بقاء النهي بالاستصحاب يلازم انتفاء الشك في النهي عرفاً.

وثانياً: إنّ هذا التعميم هو بمعنى جعل الحرمة عند الشك، وهذا حكم مجعول في ظرف الشك، وكذلك الرخصة في البراءة هي حكم مجعول في ظرف الشك، ولا وجه لتقديم أحدهما على الآخر، وبعبارة أخرى: إنّ دليل

ص: 251


1- فرائد الأصول 3: 389.
2- نهاية الدراية 5: 243.

البراءة كدليل الاستصحاب يفيدان الحكم المترتب على الشك فلا حكومة لأحدهما على الآخر حينئذٍ!

وثالثاً: إنّه أخص من المدعى، فحكومة دليل الاستصحاب على ما ورد فيه الغاية، لا تلازم حكومته على ما لا غاية فيه كقوله (علیه السلام): «رفع عن أمتي... وما لا يعلمون»(1).

الدليل الثاني: إنّ موضوع الاستصحاب وإن كان الشك في البقاء بعد اليقين، إلاّ أنّ المجعول فيه هو عدم نقض اليقين بالشك، فمدلوله إبقاء اليقين عملاً، ومع وجود اليقين التعبدي ينتفي الشك تعبداً وقد كان الشك في الواقع موضوع سائر الأصول العملية، وقد انتفى بالاستصحاب تعبداً.

الدليل الثالث: أنّ سائر الأصول وظائف مقررة للشاك وأمّا الاستصحاب فهو نهي عن الالتزام بالأحكام المجعولة للشاك، فتكون حكومة في الحكم أي بنفي التشريع في المحكوم، كما أنّ ما مرّ في الدليل الأوّل والثاني كان حكومة في الموضوع بتوسيعه.

هذا كله في الاستصحاب في الأحكام.

وأمّا الاستصحاب في الموضوعات فحكومته على سائر الأصول لأجل كونه أصلاً سببياً كما سيأتي بيانه.

المبحث الثالث: في تنافي الاستصحابين
اشارة

قد يكون التمانع بينهما في مرحلة الامتثال، وقد يكون في مرحلة الجعل، مع الطولية أو العرضية بينهما، فالكلام في مقامات ثلاث:

ص: 252


1- التوحيد للصدوق: 353؛ عنه وسائل الشيعة 15: 369.
المقام الأوّل: التمانع في مرحلة الامتثال

كما لو شك في بقاء وقت الصلاة وفي بقاء النجاسة في المسجد، حيث لم يكن محذور في جعل بقاء الأمر بالصلاة لمن شك في بقاء وقتها، ولا في جعل بقاء النجاسة لمن شك في بقائها، ولكن حصل تزاحم لضيق الوقت حيث لا يتمكن المكلف من امتثالهما معاً فوراً.

وحينئذٍ لا بدّ من إعمال مرجحات باب التزاحم، وقد مرّت(1).

المقام الثاني: التمانع في مرحلة الجعل مع الطولية بينهما
اشارة

وغير خفي أنّ الدليل وإن كان واحداً كقوله: «لا تنقض اليقين بالشك» إلاّ أنّه بنحو القضية الحقيقية التي يتحد فيها العنوان ويتحد المعنون إلاّ أنّ الحكم فيها متعدد بتعدد الموضوعات خارجاً، وعليه فيمكن أن يكون لكل يقين وشك حكم يخالف حكم يقين وشك آخرين، وعليه: فلا محذور في الطولية بأن يكون الشك في أحد الموردين سببياً وفي الآخر مسببياً.

إنّ التمانع في مرحلة الجعل يؤدي إلى عدم جعل أحدهما أو كليهما، لاستلزامه المحال، فيتعارضان، فإن كانت بينهما طولية - بأن كان أحدهما سبباً والآخر مسبباً - لزم ترجيح الأصل السببي.

وقد اختلف في أن الترجيح للورود أم الحكومة، فهنا وجوه:

الوجه الأوّل: الورود

واستدل له بأمور، منها:

ص: 253


1- نبراس الأصول 2: 192-212.

الدليل الأوّل: ما في الكفاية(1)

وحاصلة: وجود المقتضي في الأصل السببي مع عدم المانع عنه، وجريانه يكون سبباً لارتفاع موضوع الأصل المسببي حقيقة بعناية التعبد، وهذا هو الورود.

أمّا جريان الأصل السببي فلتمامية أركانه من اليقين والشك وغيرهما، فعدم إجرائه نقض لليقين بالشك وهو منهي عنه.

وأمّا عدم جريان الأصل المسببي فلارتفاع موضوعه حيث قد نقض اليقين السابق فيه بيقين لاحق نتج هذا اليقين اللاحق من جريان الأصل السببي وهو اليقين بالحكم الظاهري.

ولا يصح إجراء الأصل السببي وتخصيص دليل الأصل المسببي به لأنّ التخصيص إمّا بنفس دليل الأصل المسببي وإمّا بغيره، والأوّل يستلزم الدور، والثاني لا وجود له، وقد مرّ تقريره.

وأشكل عليه: بأنّ ظاهر الدليل أنّه لا بدّ من اتحاد متعلق اليقينين في قوله: «لا تنقض اليقين بالشك بل انقضه بيقين آخر» وحسب هذا الدليل قد اختلف متعلقهما في الأصل السببي، فإنّ متعلق اليقين المنقوض هو الحكم الواقعي، ومتعلق اليقين الناقض هو الحكم الظاهري، نعم لو كان متعلق المنقوض حكماً ظاهرياً أيضاً لتمّ ما ذكره.

لكن هذا الإشكال غير وارد على المحقق الخراساني لأنّه يحمل اليقين على الحجة، فيكون المعنى لا تنقض الحجة باللاحجة بل انقضها بحجة أخرى، وحينئذٍ فينحصر الإشكال عليه في المبنى بأنّه لا وجه لحمل اليقين

ص: 254


1- إيضاح كفاية الأصول 5: 200-201.

على هذا المعنى، وقد مرّ.

الدليل الثاني: مركب من صغرى وكبرى ونتيجة، أمّا الصغرى: فإنّ الاستصحاب في المسبب حجة على حكم واحد فقط كنجاسة الثوب، وفي السبب حجة على حكمين كطهارة الماء وطهارة المغسول به، وأمّا الكبرى: فإنّ حجيّة كل حجة مقيدة بعدم قيام حجة على خلافها، وإلاّ لتساقطا، والنتيجة: أنّه قد قامت حجة على خلاف استصحاب نجاسة الثوب فلا يجري، وأمّا طهارة الماء فلا حجة تخالفه - حيث إنّ طهارته ونجاسته ليست من آثار نجاسة الثوب - فيجري، وبجريانه ينتفي موضوع الاستصحاب في المسبب، وذلك هو الورود.

نعم لو لم يكن الأصل السببي استصحاباً لم يكن وارداً على الأصل المسببي، فلو كانت طهارة الماء بأصل الطهارة وكان الثوب مستصحب النجاسة لم تكن واردة عليه وذلك لأنّ الاستصحاب حجة على طهارة الماء، وأمّا قاعدة الطهارة فهي وظيفة عملية وليست حجة على الطهارة.

وأشكل عليه: أوّلاً: بأنّ لازم كلامه سقوط حجيّة الأصل السببي في مورد الأصل المسببي لأنّ الأصل الميت لا يحيى على بعض المباني.

وثانياً: بأنّ الماء الطاهر الذي يُغسل به الثوب النجس هو مطهّر للثوب لكنه ينجس هو بنفسه، وفي ما نحن فيه بمجرد ملاقاة الماء المستصحب طهارته مع الثوب المستصحب نجاسته تتعارض حجتان لأنّ الماء طاهر مطهّر، والثوب نجس منجّس، فتأمل.

وهذا وإن كان مناقشة في المثال - لأنّه يمكن فرض إدخال ثوب مستصحب النجاسة في ماء مستصحب الكرية - إلاّ أنّه يكفي في الإشكال

ص: 255

على الحكم الكلي لأنّ الموجبة الجزئية نقيض السالبة الكلية، مضافاً إلى أنّ التفريق بين الاستصحاب السببي وغيره من الأصول السببيّة محل تأمل، لأنّ أصالة الطهارة أيضاً حجة على الطهارة، وكما هي بيان للوظيفة العملية، كذلك هو، وهكذا سائر الأصول.

الدليل الثالث: إنّ الأصل السببي يجري في الموضوع، والمسببي يجري في الحكم، ومع جريان الأصل في الموضوع يستحيل تخلّف حكمه عنه، فترتفع الحيرة في الوظيفة العملية في المسبب، وبذلك ينتفي ملاك جعل الأصل المسببي، حيث إنّ ملاك الجعل في الأصول العملية ليس رفع الجهل عن الواقع وإنّما المناط رفع حيرة المكلف في وظيفته العملية.

لكن هذا الوجه وإن كان يحافظ على معنى كلمة (اليقين)، إلاّ أنّه يعمّم الورود ليشمل رفع ملاك الحكم الآخر، وهو ليس الورود الاصطلاحي، ولا مشاحة في الاصطلاح، لكن ليس فيه سبب ارتفاع الحيرة هل هو لارتفاع الموضوع وجداناً أم هو للتوسعة في اليقين تعبداً، فتأمل.

الوجه الثاني: الحكومة

وذلك: لأنّ الشك في المسبب معلول للشك في السبب، ورتبة العلة مقدمة على رتبة المعلول فيجري فيها الاستصحاب قبله، وبجريان الاستصحاب في السبب لا يبقى شك في المسبب تعبداً مع وجوده حقيقة، فاستصحاب طهارة الماء يرفع الشك في بقاء نجاسة الثوب تعبداً، وهذا معنى الحكومة.

وأشكل عليه: أوّلاً: بأنّه لا سببية بين الشكين، فإنّ الشك في طهارة الماء - في المثال - ليس سبباً للشك في بقاء نجاسة الثوب، وإنّما سبب الشك فيه

ص: 256

هو احتمال غسله بالماء الطاهر، كما أنّ سبب الشك في بقاء طهارة الماء هو احتمال ملاقاته للنجس(1).

وفيه: أنّه لا سببيّة بين المشكوكين، حيث لا سببيّة بين طهارة الماء ونجاسة الثوب فكل واحد منهما كان متيقناً وهو مشكوك، كما أنّه لا سببيّة بين الحكمين المستصحبين فعلّة الحكم هي إرادة الشارع، نعم أحدهما موضوع للآخر حيث إنّ طهارة الماء موضوع لطهارة ما يغسل به وهذا ليس من السببيّة في شيء بل هو ترتب طبعي.

ولكن توجد سببيّة بين الشكين في ما لو كان الثوب متيقن النجاسة فغسلناه بماء مستصحب الطهارة حيث إنّ الشك في طهارة الماء صار سبباً للشك في طهارة الثوب المغسول به، لأنّ الماء لو كان متيقن الطهارة أو متيقن النجاسة لم يبق شك في نجاسته أو طهارته.

والحاصل: أنّ الثوب لا شك فيه قبل غسله، وإنّما حصل الشك بعد غسله، ومنشأ هذا الشك هو الشك في طهارة الماء وعدم طهارته، فتأمل.

وثانياً: بأنّه حتى مع تسليم السببيّة بين الشكين فذلك لا ينفع الحكومة، لأنّ الحكم هو النهي عن النقض، وشموله للموردين في عرض واحد حيث لا سببيّة بين الحكم بعدم نقض طهارة الماء وبين الحكم بعدم نقض نجاسة الثوب، فإنّ (لا تنقض) الثاني غير متوقف على (لا تنقض الأوّل).

وفيه: أنّ ذلك لا يجري في ما لو اختلف زمان الاستصحابين كما لو أدخل يده النجسة في الماء المستصحب الكرية مثلاً، فإنّ كرية الماء سبب

ص: 257


1- نهاية الأفكار 4[ق1]: 115.

لطهارة اليد، لا أقل من كون كرية الماء موضوعاً وطهارة اليد حكماً، وحينئذٍ فدليل (لا تنقض) شمل كرية الماء أوّلاً قبل شموله لنجاسة اليد، فلا يبقى موضوع لجريان (لا تنقض) في اليد.

وثالثاً: حتى مع تسليم اختلاف الرتبة، فذلك لا ينفع، لأنّ الشكين يتحققان في الخارج معاً - كتحقق العلة والمعلول وعدم انفكاكها خارجاً - ، وموضوع الحكم الشرعي ب-(لا تنقض) هو الخارج، فقد تحققا معاً فشمول الدليل لأحدهما ليس بأولى من شموله للآخر حيث قد تحققت أركان الاستصحاب في كليهما معاً، والتقدم بالرتبة ليس مرجحاً شرعاً ولا عقلاً! فتأمل.

الوجه الثالث: الترجيح بالأخبار

فلو فرض عدم ثبوت الحكومة ولا الورود، فإنّه يمكن أن يستدل ببعض أخبار الباب على عدم جعل الحجيّة للاستصحاب المسببي، وذلك على بعض المباني.

فمنها: صحيحة زرارة الأولى حيث حكم الإمام (علیه السلام) بالاستصحاب في الوضوء مع وجود الأصل المسببي وهو استصحاب اشتغال الذمّة بالوضوء، هذا بناءً على جريان استصحاب الاشتغال مع وجود الاشتغال العقلي.

ومنها: مكاتبة الكاشاني حيث قال (علیه السلام): «صم للرؤية وأفطر للرؤية»(1)

فإنّ استصحاب عدم دخول شوال أو عدم خروج شهر رمضان أصل سببي، والأصل المسببي هو عدم جعل وجوب صوم هذا اليوم، هذا بناءً على

ص: 258


1- تهذيب الأحكام 4: 159؛ عنه وسائل الشيعة 10: 255.

جريان استصحاب عدم الجعل.

ومنها: خبر عمار الساباطي في الفأرة الساقطة في الإناء وكان قد توضأ واغتسل وغسل ثيابه بذلك الماء، حيث أجرى الإمام (علیه السلام) الأصل السببي قال: «وإن كان إنّما رآها بعد ما فرغ من ذلك وفعله فلا يمس من ذلك الماء شيئاً وليس عليه شيء لأنّه لا يعلم متى سقطت فيه»(1)

مع أنّ الأصل المسببي هو استصحاب نجاسة الثوب والحدث الأكبر والأصغر.

المقام الثالث: التمانع في مرحلة الجعل مع العرضية بينهما

وقد مرّ تفصيله في بحث الشبهة المحصورة(2) فنذكره مختصراً بما يناسب المقام:

فتارة: يستلزم جريانهما الترخيص في المخالفة العملية القطعية للتكليف الإلزامي، كما لو كان إناءان طاهران وعلمنا بنجاسة أحدهما إجمالاً، فيتساقطان ولا يجري أيٌّ منهما، لأنّ الترخيص في المخالفة العملية القطعية علّة تامة للقبح.

وتارة: لا يلزم من جريانهما إلاّ مخالفة التزامية، كما لو كان إناءان نجسان وعلمنا بطهارة أحدهما إجمالاً، فإنّ جريان الاستصحابين لا يؤدي إلى مخالفة قطعية للتكليف الإلزامي، بل هو مطابق للاحتياط.

فقد ذهب جمع إلى جريانهما، لوجود المقتضي وعدم المانع، أمّا المقتضي فاليقين السابق والشك اللاحق مع وجود الأثر، أمّا عدم المانع فإنّه

ص: 259


1- من لا يحضره الفقيه 1: 14؛ عنه وسائل الشيعة 1: 142.
2- نبراس الأصول 4: 233-248.

ليس إلاّ الترخيص في المخالفة العملية ولا مخالفة عملية، وأمّا العلم بعدم مطابقة أحدهما للواقع فليس بمحذور لأنّه مجرد مخالفة التزامية.

وأشكل عليه: بوجود المانع الثبوتي والإثباتي.

1- أمّا المانع الثبوتي:

فأوّلاً(1): إنّ الاستصحاب أصل محرز، ومعنى ذلك البناء على أنّ الواقع هو ما أدّى إليه الأصل، وإحراز الواقع لا يجتمع مع العلم بمخالفة أحدهما له، نعم لا محذور في الأصول غير المحرزة التي ليس فيها إلاّ الوظيفة العملية.

وفيه: أنّ الشارع لم ينظر إلى جهة الإحراز في الاستصحاب فلا فرق بين وجوده وعدمه في بعض الموارد، كما أنّ (البناء على كون مدلوله هو الواقع) لا عين ولا أثر له في أدلة الاستصحاب، بل دلالتها عدم نقض اليقين بالشك، وفي كل طرف يوجد يقين وشك.

وثانياً(2): بأنّ الحكم الواقعي في موارد العلم الإجمالي واصل فيتنجز وبذلك يحصل التضاد بينه وبين الحكم الظاهري في المنتهى - الذي هو مرحلة الامتثال - فإنّ مقتضى العلم الإجمالي بطهارة أحد الإنائين هو الترخيص في الارتكاب، ومقتضى استصحاب النجاسة في كل واحد منهما هو عدم الترخيص، فيتنافيان حتى وإن لم تحصل مخالفة عملية.

لا يقال: إنّ ترك الحلال مقدمة للتحفظ عن الحرام لازم عقلاً، فكونه

ص: 260


1- فوائد الأصول 4: 693.
2- نهاية الدراية 5: 254.

حلالاً لا ينافي لزوم تركه مقدمة!

لأنّه يقال: الكلام في الترخيص في الارتكاب وعدم الترخيص، فالحلال المعلوم كونه حلالاً لا ترخيص فيه إن كان تركه مقدمة لترك الحرام، وبين الترخيص فيه وعدم الترخيص في الحرام تنافٍ واضح.

لكن يرد عليه: بأنّ وصول الحكم الواقعي إذا كان هو الحليّة لا ينافي عدم الترخيص فيه لكونه مقدمة للتحفظ عن الحرام الواقعي، كما ورد في الأخبار بأنّه لو اختلطت الميتة بالمذكى فإنّ الحليّة الواقعية للمذكى واصلة مع وجوب الاجتناب عنهما تحفظاً عن ارتكاب الميتة، وكالإنائين المشتبهين الذي يهريقهما ويتيمم فإنّ طهارة أحدهما واقعاً واصلة مع عدم ترتب الأثر عليها، وكاشتباه الأخت الرضاعية بين امرأتين حيث يحرم الزواج بهما، وغير ذلك، فتأمل.

2- وأمّا المانع الإثباتي:

فأوّلاً: المناقضة بين الصدر والأخير في قوله: «لا تنقض اليقين بالشك وإنّما تنقضه بيقين آخر»(1).

وأشكل عليه بعدة إشكالات لكنها غير واردة، كما مرّ مفصلاً في مباحث الشبهة المحصورة فراجع(2).

وثانياً: بأنّه لو جرى الأصل في الطرفين جاز الإخبار عنهما، لجواز الإخبار عن الواقع الثابت بالأصل، مع العلم بعدم مطابقة أحدهما للواقع،

ص: 261


1- تهذيب الأحكام 1: 8؛ عنه وسائل الشيعة 1: 245.
2- نبراس الأصول 4: 240-242.

فيكون جريانهما ترخيصاً في الكذب!

وفيه: إن الإخبار بهما مخالفة عملية، فلذا لا بدّ من رفع اليد عن إطلاق دليل الاستصحاب والأدلة الدالة على جواز الإخبار عن الواقع الذي دلّ عليه الأصل، وذلك لا يستلزم عدم شمول دليل الاستصحاب للمورد ككل مطلق إذا كان محذور في فرد منه أو في أثر له، فلا يشمله الإطلاق لا أنّ الدليل يسقط من أصله.

ص: 262

فصل في نسبة الاستصحاب إلى القواعد الفقهية

اشارة

ولنذكر بشكل مختصر نسبته إلى قاعدة اليد، وقاعدة التجاوز والفراغ، وأصالة الصحة، والقرعة، فالكلام في مباحث:

المبحث الأوّل: قاعدة اليد

ولا إشكال في تقدم اليد عليه، إنّما الكلام في وجه ذلك فنقول:

اليد إن كانت أمارة كان تقدمها على الاستصحاب واضحاً، وذلك لتقدم الأمارة على الأصل بالحكومة أو الورود كما مرّ، وإن كانت أصلاً فتقدمها لأجل دلالة الاقتضاء إذ موردها مورد الاستصحاب دائماً فلو لم تقدم عليه - إمّا بالتساقط أو بتقدمه عليها - كان جعلها لغواً.

ثم إنّ المحقق النائيني(1)

اشترط في جريان قاعدة اليد شرطين:

الشرط الأوّل: الجهل بحال اليد، إذ لو علم بكيفية حدوثها كما لو علم بحدوثها عارية أو أمانة أو إجارة ونحو ذلك ثم احتمل انتقالها إلى ذي اليد بناقل شرعي فلا أثر لها بل لا بدّ من العمل بالاستصحاب، وذلك لأنّه رافع لموضوعها، لأنّ اليد المجهولة أمارة الملك، أمّا لو علم بأنّها أمانية أو نحوها فلا تجري، والاستصحاب علم تعبدي بعدم كونها مالكية بل أمانية أو

ص: 263


1- فوائد الأصول 4: 604-609.

نحوها.

وأشكل عليه بإشكالات(1).

منها: إنّه أخص من المدعى، إذ قد لا يجري الاستصحاب الرافع للموضوع، كما لو كان إجارة وانقضت مدته، أو كانت أمانيةً تنقلب بادعاء المالكية إلى اليد العدوانية أو المالكية.

ومنها: إنّ موضوع اليد كما هو مقيد بعدم العلم بحاله، كذلك موضوع الاستصحاب إنّما هو الشك في بقاء الحالة السابقة، فإذا دلّ الدليل على الملكية لا يبقى فيه شك كي يتمسك بالاستصحاب، وبالجملة كل منهما يصلح لنفي موضوع الآخر، فكيف يقدّم أحدهما على الآخر؟!

ومنها: إنّه إن لم يكن نزاع ولم يكن غاصباً، فبناء العقلاء على أنّ يده محترمة وأنّها أمارة الملك، والشارع قد أمضى بناءهم في اليد، فتأمل.

الشرط الثاني: عدم العلم بكون الشيء مما لم يكن قابلاً للنقل والانتقال، مع احتمال تغيّر عدم القابلية إلى القابلية، كالوقف مع احتمال انتقاله بمسوّغ شرعي.

قال المحقق النائيني: «اليد إنّما تكون أمارة على أنّ المال انتقل من مالكه الأوّل إلى ذي اليد بأحد أسباب النقل و الانتقال على سبيل الإجمال بلا تعيين سبب خاص، وذلك إنّما يكون بعد الفراغ عن أنّ المال قابل للنقل والانتقال، والوقف ليس كذلك، فإنّ الانتقال فيه إنّما يكون بعد طروّ ما يوجب قابلية النقل فيه - من عروض أحد مسوغات بيع الوقف - ففي

ص: 264


1- رشحات الأصول 1: 384.

الوقف لا بدّ من عروض المجوّز للبيع أوّلاً ثم ينتقل إلى الغير، وأمارية اليد إنّما تتكفل الجهة الثانية وهي النقل إلى ذي اليد، وأمّا الجهة الأولى فلا تتكفل اليد لإثباتها، بل لا بدّ من إثباتها بطريق آخر، بل الجهة الأولى تكون بمنزلة الموضوع للجهة الثانية، فاستصحاب عدم طرو ما يجوز معه بيع الوقف يقتضي سقوط اليد، فإنّه بمدلوله المطابقي يرفع موضوع اليد، فهو كاستصحاب حال اليد»(1).

ثم قال - ما حاصله -: وليس طرو مجوز النقل بملزوم لليد كي يقال: إنّها أمارة يثبت بها ملزومها، بل قابلية المال للنقل والانتقال بمنزلة الموضوع، كما أنّ اليد لا تدل على الملكية لما كان خمراً، لأنّ انقلابه خلّاً ليس ملزوماً بل هو موضوع لها.

ويرد عليه: النقض بالعبد الذي يدعي أنّه حرّ حيث دلّ الدليل على عدم سماع دعواه وجريان اليد عليه، مع أنّه يشك في قابليته للنقل والانتقال لأنّه إن كان حراً لم يكن قابلاً وإن كان عبداً كان قابلاً، ومع ذلك سئل العيص بن القاسم الإمام الصادق (علیه السلام): «عن مملوك ادّعى أنّه حرّ ولم يأت ببينة على ذلك أشترية؟ قال: نعم»(2).

لا يقال: فرق بين الوقف حيث نعلم بعدم قابليته من قبل، وبين هذا حيث نشك في قابليته، نعم لو كنّا نعلم بحريته من قبل فلا تجري قاعدة اليد لكنه مجرد فرض لأنّ الحرّ لا ينقلب عبداً.

ص: 265


1- فوائد الأصول 4: 607.
2- تهذيب الأحكام 7: 74؛ عنه وسائل الشيعة 18: 250.

لأنّه يقال: الفرق غير فارق لأنّه لا فرق في عدم إحراز القابلية بين العلم بعدم القابلية سابقاً أو الشك فيها، مضافاً إلى كثرة العبيد الذين يعلم بحريتهم سابقاً - حيث إنّ الكافر الحربي حرّ قبل أسره - ومع ذلك أطلق الإمام (علیه السلام) حجيّة اليد في الخبر، وترك الاستفصال دليل الإطلاق.

ومن ذلك يتبيّن عدم البعد في التفصيل الذي ذهب إليه صاحب العروة في ملحقاتها(1)

بين ما لو علمنا بكون يده على الوقف أمانية ثم ادعى شراءه بمسوغات بيعه، وبين ما لم نعلم بذلك واحتملنا تحقق يده بعد زوال الوقف كما لو اشتراه بادعاء مسوغاته ثم صار إلى يده، حيث إنّ الاستصحاب في الأوّل رافع لموضوع اليد دون الثاني الذي حاله كحال سائر موارد اليد التي تقدّم على الاستصحاب، فتأمل.

المبحث الثاني: قاعدتا الفراغ والتجاوز

وهما مقدمتان على الاستصحاب، سواء كانتا من الأمارات لوضوح تقدم الأمارات على الأصول، أم كانتا من الأصول لأنهما جعلتا في مورده فتقدمهما بدلالة الاقتضاء.

ثم إنّ هيهنا مطالب نشير إليها باختصار.

المطلب الأوّل: قد يقال(2):

إنّ الشك في الشيء وإن كان ظاهراً في الشك في أصل وجوده، إلاّ أنّ في روايات القاعدة ما يدل على أنّ المراد الشك في بعض ما يعتبر في الشيء مع كون أصل وجوده محرزاً، وحيث

ص: 266


1- العروة الوثقى 6: 400-401، كتاب الوقف، المسألة: 63-64.
2- راجع فرائد الأصول 3: 329.

تغاير الشكّان - من حيث المتعلّق، ففي أحدهما الوجود وفي الآخر الصحة، ومن حيث المحل ففي أحدهما المضيّ باعتبار محله وفي الآخر المضيّ باعتبار نفسه - فلا يمكن جمعهما في لحاظ واحد.

وأشكل عليه: أوّلاً: بما عن المحقق الخراساني(1): من تعدد الروايات وظهور بعضها في الأوّل، وظهور بعضها في الثاني، فليس الدليل واحداً حتى لا يشمل ظهوره أحدهما، مثل: «رجل شك في الأذان وقد دخل في الإقامة؟ قال: يمضي...»(2)

حيث ظاهره الشك في أصل الوجود، وكقوله: «كل ما شككت فيه مما قد مضى فأمضه كما هو»(3)

حيث إنّ ظهوره في الشك في بعض ما يرتبط بالشيء لا بأصل وجوده.

إلاّ أن يقال: إنّ ظهور الأخبار جميعاً في معنى واحد كما لا يخفى على من لاحظها.

وثانياً: ما قيل: من أنّه يمكن أن يشمل الشك كلا الموردين بلحاظ واحد، حيث إنّ الشك في وجود الشيء له تعلّق به، وكذا الشك في صحته، فيمكن أن يلاحظ هذين التعلقين معنىً حرفياً يعبر عنه بلفظ الشك في الشيء، وكذا يلتزم بتقدير المحل أعم من المحل الشرعي والمحل الخارجي، فإنّ من فرغ عن نفس الشيء فرغ عن محل وجوده الخارجي، ولو سلمنا بأنّ المحل هو المحل الشرعي فقط فإنّ محل الحمد - مثلاً -

ص: 267


1- درر الفوائد في الحاشية على الفرائد: 395.
2- تهذيب الأحكام 2: 352؛ عنه وسائل الشيعة 8: 237.
3- تهذيب الأحكام 2: 344؛ عنه وسائل الشيعة 8: 238.

شرعاً هو قبل السورة سواء أتى به أم لا، فكما أنّه لو شك في وجوده بعد الدخول في السورة يكون الشك فيه بعد المحل، كذلك لو شك في صحته بعد الدخول في السورة.

ويمكن أن يقال: إنّه مع الذهاب مبنىً إلى عدم إمكان جمع اللحاظين في كلمة واحدة وخاصة مع القول بجزئية المعنى الحرفي، فحينئذٍ لا يصح شمول الشك لكلا الموردين بلحاظ واحد.

كما أنّه لو شك في الحمد ولم يدخل في السورة فإنّه لو كان شكاً في أصل وجوده وجب عليه قراءة الحمد لعدم تجاوز المحل، وإن كان شكاً في صحته لم يجب عليه قراءة الحمد وذلك لتجاوز محله، نعم مع الدخول في السورة قد تجاوز المحل في كليهما.

فالأولى القول بأنّ الشك المأخوذ في بعض الروايات مطلق شامل لكلا الشكين وليس ظاهراً في خصوص الشك في أصل الوجود أو في وصف الموجود، فتأمل.

المطلب الثاني: هل المحل خاص بالمحل العقلي والشرعي أو يشمل المحل العادي أيضاً فمثلاً لو اعتاد المكلف الموالاة في الغسل بحيث يغسل الجانب الأيسر عادة بعد الجانب الأيمن مباشرة من غير فصل مخلّ بالموالاة، فلو شك في غسله بعد ساعة فهل تجري القاعدة أم لا؟

وجه عدم الشمول: انصراف إطلاق الأخبار إلى غيره، كما أنّ فتح هذا الباب بالنسبة إلى العادة يوجب مخالفة إطلاقات كثيرة، كمن اعتاد الصلاة في أوّل وقتها أو مع الجماعة فشك في الوقت في فعلها بعد ذلك، وكمن

ص: 268

اعتاد فعل شيء بعد الفراغ عن الصلاة فرأى نفسه فيه وشك في فعل الصلاة، وكمن اعتاد الوضوء بعد الحدث بلا فصل يعتد به أو الوضوء قبل الوقت للتهيؤ فشك في الوضوء بعد ذلك... وغير ذلك من الفروع التي يبعد التزام الفقيه بها.

قال الشيخ الأعظم: «الأقرب الالتفات إلى الشك وإن كان الظاهر من قوله (علیه السلام): (هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك)(1)

أنّ هذه القاعدة من باب تقديم الظاهر على الأصل، فهو دائر مدار الظهور النوعي ولو كان من العادة، لكن العمل بعموم ما يستفاد من الرواية أيضاً مشكل فتأمل، والأحوط ما ذكرناه»(2).

وقد يقال: إنّ المناط هو العادة النوعية حيث لا يبعد شمول الدليل لها، والأمثلة المذكورة كلّها من قبيل العادة الشخصية حيث لا حجيّة لهذا الظاهر لا من بناء عقلاء ولا من الشرع، إلاّ في مثال غسل الجانب الأيسر حيث إنّه من قبيل العادة النوعية وقد أفتى به الأصحاب(3).

وأجيب: بأنّ العادة النوعية للمسلمين في الصدر الأوّل كان على الإتيان بالصلاة في أوّل الوقت، ومع ذلك دلت الأخبار على عدم الاعتناء بها كقوله (علیه السلام): «متى استيقنت أو شككت في وقت فريضة أنّك لم تصلّها أو في وقت فوتها أنّك لم تصلها صليتها»(4)

وكقوله (علیه السلام): «فإن شك في الظهر

ص: 269


1- تهذيب الأحكام 1: 101؛ عنه وسائل الشيعة 1: 471.
2- فرائد الأصول 3: 330-331.
3- درر الفوائد، للحائري: 594.
4- الكافي 3: 294؛ عنه وسائل الشيعة 4: 282.

في ما بينه وبين أن يصلّي العصر قضاها وإن دخله الشك بعد أن يصلّي العصر فقد مضت»(1)

فقد دلت الروايتان على عدم الاعتناء بالعادة النوعية وأنّ المناط هو المحل الشرعي(2).

المطلب الثالث: إنّ القاعدة لا تشمل أفعال الوضوء قبل الفراغ منه، وقد يلحق به الغسل والتيمم، ولكن ما سبب ذلك؟

وقد يُتسائل عن صحيحة ابن أبي يعفور حيث قال (علیه السلام): «إذا شككت في شيء من الوضوء ودخلت في غيره فشكك ليس بشيء إنّما الشك إذا كنت في شيء لم تجزه»(3)

فإنّ ضمير «غيره» إن رجع إلى «شيء» كان مخالفاً للإجماع، وإن رجع إلى «الوضوء» ناقض الصدر تتمة الرواية، إذ أنّ قوله: «إنّما الشك...» يقتضي عدم الاعتناء بالشك ولو قبل انتهاء الوضوء؟

والجواب: أوّلاً: بالتخصص، باعتبار أنّ الوضوء بتمامه أمر واحد شرعاً بملاحظة وحدة أثره - وهي الطهارة - فلا يلاحظ كل فعل بانفراد، وعليه فلا يصدق التجاوز إلاّ بعد انتهاء الوضوء والانتقال إلى عمل غيره، وهذا ما ذكره الشيخ الأعظم(4).

وأشكل عليه المحقق الخراساني بما حاصله: أن وحدة الأثر لو كانت موجبة لذلك يلزم أن يكون الشك في جزء كل عمل قبل الفراغ عن العمل

ص: 270


1- السرائر: 480؛ عنه وسائل الشيعة 4: 283.
2- رشحات الأصول 2: 392.
3- تهذيب الأحكام 1: 101؛ عنه وسائل الشيعة 1: 470.
4- فرائد الأصول 3: 337.

شكاً فيه قبل التجاوز عن ذلك الجزء، فإنّ سائر الأعمال تشارك الطهارات الثلاث في وحدة الأثر، كالانتهاء عن الفحشاء المترتب على الصلاة(1).

ورُدَّ: بأنّه لعل مقصود الشيخ الأعظم هو أنّ التكليف في الوضوء هو بالطهارة، والغسلتان والمسحتان محصلة لها ولذلك صحّ ملاحظتها أمراً واحداً لا أنّه كلما كان الأثر واحداً كان المؤثر واحداً أيضاً.

وثانياً: بالتخصيص، وذلك عملاً بالإجماع وبصحيحة زرارة المعمول بها عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «إذا كانت قاعداً على وضوئك فلم تدر أغسلت ذراعيك أم لا فأعد عليهما وعلى جميع ما شككت فيه أنّك لم تغسله أو تمسحه مما سمّى الله ما دمت في حال الوضوء، فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه وقد صرت في حال أخرى في الصلاة أو غيرها فشككت في بعض ما سمّى الله مما وجب عليك في وضوئك لا شيء عليك...»(2) الحديث.

فإنّ صحيحة ابن أبي يعفور ظاهرة في الأعم من الأجزاء والشرائط بعد ظهور رجوع ضمير «غيره» إلى «شيء...» وظهور عموم التتمة، وصحيحة زرارة تُخرج ما سمّى الله تعالى في كتابه وهي الأجزاء، فتكون أخص منها ومن سائر أدلة قاعدة التجاوز.

المطلب الرابع: هل تجري القاعدة في الشك في الشرائط كجريانها في الشك في الأجزاء؟

ص: 271


1- درر الفوائد في الحاشية على الفرائد: 401.
2- تهذيب الأحكام 1: 100؛ عنه وسائل الشيعة 1: 469.

اختلف فيه على أقوال: من عدم الجريان مطلقاً حتى بعد الفراغ عن المشروط، والجريان مطلقاً حتى في أثناء المشروط، والتفصيل بين الشك بعد الفراغ عنه وبين الشك في أثنائه، والتفصيل بين ما كان محل إحراز الشرط قبل المشروط كالوضوء للصلاة وبين غيره كالستر.

والأقرب أنّ الشرط إن كان قد مضى محلّه بحيث لا يكون شرطاً في الأفعال القادمة فلا اعتناء به، كما لو شك في الإقامة وهو في القراءة بناءً على اشتراط الصلاة بها، فلا فرق بينه وبين ما كان جزءاً وقد مضى محلّه، وذلك لإطلاق الدليل.

وإن لم يكن قد مضى محلّه بأن كان شرطاً في الأفعال القادمة أيضاً كشرطيته للأفعال السابقة فحينئذٍ إمّا أن يكون شرطاً غير ركن كالستر فيجب إحرازه لما تبقى ولا فائدة لجريان القاعدة لما مضى لأنّه لا بأس بذلك الخلل الواقع غفلة أو نسياناً حتى مع العلم به، وإمّا أن يكون شرطاً ركناً فلا تجري القاعدة إذ لا بدّ من الإحراز لما بقي كالطهارة والقبلة، فإن أحرز وجود الشرط فالعمل بالعلم لا بالقاعدة لأنّ موردها الشك وقد زال بالعلم، وإن أحرز عدم وجود الشرط فقد علم بالبطلان لكونه ركناً، وإن بقي الشك فلا تجري القاعدة أيضاً لعدم جريانها في الأجزاء اللاحقة بعد الشك.

المطلب الخامس: هل تجري القاعدة في ما لو شك في الصحة بأن لم يترك شيئاً من أجزاء الصلاة - مثلاً - لكن شك في ترك شيء يشترط في صحتها، كالشك في الموالاة بين حروف كلمات القراءة أو شك في الموالاة بين أفعال الصلاة مع إتيانه بجميع الأجزاء؟

ص: 272

قال الشيخ الأعظم(1)

- ما حاصله -: إنّ الشك في صحة الشيء المأتي به حكمه حكم الشك في الإتيان، بل هو هو، لأنّ مرجعه إلى الشك في وجود الشيء الصحيح، لكن الإنصاف أنّ الإلحاق لا يخلو من إشكال لأنّ الظاهر من أخبار الشك في الشيء اختصاصها بغير هذه الصورة، نعم يمكن استفادته من أحد أمرين:

إمّا بعض ما يستفاد منه العموم مثل موثقة ابن أبي يعفور حيث قال (علیه السلام): «إنّما الشك إذا كنت في شيء لم تجزه»، أو بتنقيح المناط.

وإمّا أن يُجعل أصالة الصحة في فعل الفاعل المريد للصحيح أصلاً برأسه، بمعنى أنّ الأصل العقلائي في فعل العاقل المكلف الذي يقصد براءة ذمته بفعل صحيح وهو يعلم الكيفية والكميّة هو الصحة، وهذا أصل عقلائي يمكن استفادته من عموم التعليل في قوله (علیه السلام): «هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك»(2) فإنّ هذا التعليل عام معناه إنّ الذي يريد إبراء ذمته لا يترك ما يعتبر في صحة عمله، لأنّ الترك سهواً خلاف فرض الذكر، والترك عمداً خلاف قصد الإبراء.

وأشكل على ما ذكره في جريان قاعدة الفراغ:

أوّلاً: بأنّه لا يشمل ما إذا لم يكن للشيء محل شرعاً كصلاة القضاء، أو كان ولم يتجاوز عنه كما لو شك في الظهر ولم يصلّ العصر بعد، فإنّ الشك في أصل الوجود يقتضي الإتيان بالفعل حينئذٍ وهو خلاف المقصود.

ص: 273


1- فرائد الأصول 3: 342.
2- تهذيب الأحكام 1: 101؛ عنه وسائل الشيعة 1: 471.

وثانياً: إنّ ذلك لا يثبت إلاّ وجود الشيء الصحيح، لا كون المأتي به صحيحاً إلاّ بالأصل المثبت بناءً على عدم كون القاعدة أمارة أو عدم حجيّة مثبتات الأمارات، وعليه فيسقط الظهر عن ذمته - في المثال - ويصح له الشروع في العصر لأنهما يترتبان على وجود صلاة الظهر الصحيحة، لكن لو كان الأثر مترتباً على صحة هذه الصلاة التي صلّاها بعنوان الظهر فلا يترتب!

هذا بناءً على كون الفراغ والتجاوز قاعدة واحدة كما ذهب إليها الشيخ الأعظم(1).

وأمّا بناءً على كونهما قاعدتين - كما هو الأقرب - فلو كان قد انتهى من العمل جرت قاعدة الفراغ بلا محذور، وإن كان في أثناء العمل فلا قصور لأدلة التجاوز، فتأمل.

المطلب السادس: لو إلتفت إلى شيء حين العمل وشك في مانعيته، فأتى بالعمل مع ذلك الشك فقد يقال: بعدم شمول قاعدة الفراغ له، لأن ظاهرها كون الشك بعد العمل في أنه هل غفل حين العمل أم لا، لا أن يكون ملتفتاً حين العمل شاكاً في مانعية الموجود.

قال الشيخ الأعظم: «الظاهر أن المراد بالشك في موضوع هذا الأصل هو الشك الطارئ بسبب الغفلة عن صورة العمل، فلو علم كيفية غسل اليد وأنه كان بارتماسها في الماء، لكن شك في أن ما تحت خاتمه ينغسل بالارتماس أم لا، ففي الحكم بعدم الالتفات وجهان: من إطلاق بعض

ص: 274


1- رشحات الأصول 2: 399-400.

الأخبار، ومن التعليل بقوله: (هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك)(1)

فإن التعليل يدل على تخصيص الحكم بمورده مع عموم السؤال فيدل على نفيه عن غير مورد العلة...»(2).

وأشكل عليه في الدرر(3)

بما حاصله: أن قوله (علیه السلام) «هو حين يتوضأ» ليس من قبيل العلة بل هو حكمة، لخلو سائر الأخبار عنه مع كونها في مقام البيان، ولمعتبرة الحسين بن أبي العلاء: «سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن الخاتم إذا اغتسلت؟ قال: حوّله عن مكانه، وقال: في الوضوء تديره، فإن نسيت حتى تقوم في الصلاة فلا آمرك أن تعيد الصلاة»(4).

والجواب: أن قوله: «هو حين يتوضأ...» أمر ارتكازي وهو يجعله ظاهراً في التعليل، وأمّا المعتبرة فظاهرها غفلته عن إدارة الخاتم حتى أنهى الوضوء مع احتماله وصول الماء إلى تحته، فقوله: «فإن نسيت حتى تقوم في الصلاة» ظاهر في استمرار النسيان إلى انتهاء الوضوء، لكن ذلك ليس من موارد قاعدة الفراغ لأنها في ما إذا كان الشك حادثاً بعد العمل لا من قبله متصلاً إلى ما بعده، بل إن عمل به في مورده فهو من باب الدليل الخاص. وأمّا حمله على مورد يعلم وصول الماء تحته ومع ذلك أمره الإمام بإدارته استحباباً وإسباغاً للوضوء، فخلاف الظاهر جداً، وحمله على النص الخاص

ص: 275


1- تهذيب الأحكام 1: 101؛ عنه وسائل الشيعة 1: 471.
2- فرائد الأصول 3: 344.
3- درر الفوائد، للحائري: 605-606.
4- الكافي 3: 45؛ عنه وسائل الشيعة 1: 468.

- مع عدم استلزامه محذوراً - أولى منه، فتأمل.

المبحث الثالث: أصالة الصحة
اشارة

واستدل لها بالكتاب والسنة والإجماع وسيرة العقلاء، وهي بمجموعها كافية لإثباتها وإن كان في بعضها مناقشة، فراجع رسائل الشيخ الأعظم وغيره من الكتب الفقهية والأصولية، إنّما الكلام في مطالب:

المطلب الأوّل: الصحة الواقعية أم الاعتقاديّة

فإن الفاعل على حالات مختلفة، فقد نعلم بجهله بالصحة الواقعية وعدم مبالاته، وقد نجهل حاله فلا ندري هل يعلم المسألة أم لا، وقد نعلم بعلمه بالعمل وشروطه وأجزائه ونحو ذلك، وفي الحالة الثالثة قد نعلم أن الصحيح عنده هو الصحيح عندنا، أو نعلم أن الصحيح عنده يخالف الصحيح عندنا بالتباين أو بالتخالف - بأن تنطبق بعض المصاديق على الصحيحين مع عدم انطباق بعضها عليهما - أو لاندري أمخالف لنا أم لا.

وفي الرسائل ما حاصله: لو اعتقد بصحة النكاح بالفارسية والحاكم يعتقد بالعربية فقط فهل يحمل على العربية ولا يسمع دعوى من ادعى أنه أجراه بالفارسية؟ ظاهر المشهور الحمل على الصحة الواقعية فإذا شك المأمون في أن الإمام المعتقد بعدم وجوب السورة قرأها أم لا؟ جاز له الائتمام به وإن لم يكن له ذلك إذا علم بتركها، وفي الشرائع: إذا اختلف الزوجان فادعى أحدهما وقوع العقد حال الإحرام وأنكر الآخر فالقول قول من يدعي الإحلال ترجيحاً لجانب الصحة، فقال في المدارك: إن الحمل على الصحة إنّما يتم إذا كان المدعي لوقوع الفعل حال الإحرام عالماً بفساد ذلك، أمّا

ص: 276

مع اعترافهما بالجهل فلا وجه للحمل على الصحة(1).

ويمكن أن يقال: إن الدليل إن كان النصوص جرت أصالة الصحة في جميع هذه الصور إلاّ في صورة التباين، وذلك لأن إطلاق النصوص شامل لجميع هذه الصور مع انصرافها عن صورة التباين.

وأمّا لو كان الدليل سيرة العقلاء فمع جهلنا بعلمه أو جهله يجريها العقلاء لعدم بنائهم على التحقيق في أمثال ذلك، وأمّا مع العلم بأن الصحيح عنده مخالف للصحيح عندنا بالتباين فلا بناء لهم لأن احتمال إتيانه بالصحيح عندنا ينشأ من احتمال السهو والمعصية ونحوهما وهي خلاف الأصل العقلائي، وكذلك مع العلم بأن الصحيح عنده مخالف للصحيح عندنا بالتخالف فلا علم بوجود السيرة، وتجري السيرة في سائر الحالات بلا إشكال.

المطلب الثاني: الشك في العقود

هل أصالة الصحة في العقود خاصة بصورة إحراز الأركان والشك في سائر الأجزاء والشرائط ونحوهما، أو تشمل حتى الشك في الأركان؟

فعن المحقق الثاني(2):

إن الأصل في العقود الصحة بعد استكمال أركانها ليتحقق وجود العقد، أمّا قبله فلا وجود للعقد كي يبحث عن صحته أو فساده، فلو اختلفا في كون المعقود عليه حرّ أم عبد، حلف المنكر وقوع العقد على العبد، ومثله: في ما لو اختلف الضامن والمضمون له، فقال

ص: 277


1- فرائد الأصول 3: 353-354؛ شرائع الإسلام 1: 184؛ مدارك الأحكام 7: 315.
2- جامع المقاصد 5: 315 و 7: 307-308.

الضامن: ضمنت وأنا صبي، فالقول قول الضامن.

وأشكل عليه الشيخ الأعظم(1)

بما حاصله: أن الأقوى التعميم، وأن قوله: إن العقد لا وجود له قبل استكمال أركانه إن أراد الوجود الشرعي فهو عين الصحة، وإن أراد الوجود العرفي فهو يتحقق مع الشك بل مع القطع بالعدم.

وأجيب: بأن أصالة الصحة تدل على صحة الشيء بعد فرض تحققه، ولا تدل على أصل التحقق، والشك في إحدى المقومات شك في أصل التحقق.

وأمّا في مثال البلوغ، فإنه مقوّم حيث إن الشارع ألغى قصد الصبي وجعله كلا قصد بالحكومة، فحتى لو أريد الوجود العرفي فإن العرف لا يراه عقداً إلاّ بعد كونه مع القصد، وبعد إلغاء قصده لا يراه عقداً، مضافاً إلى أن الدليل لا يشمل ما لو ادعى هو فساد عمله فكيف يحمل على الصحيح!

وأمّا في مثال بيع الحرّ أو العبد، فقد يقال: إن أصالة صحة العقد لا يثبت كونه هو العقد الواقع على العبد إلاّ بالأصل المثبت، كما أن ملاحظة موارد أصالة الصحة في الأخبار ترشد إلى أنها في ما لو شك في شيء واحد بين صحته وفساده، لا ما إذا كان مردداً بين موضوعين أحدهما صحيح والآخر فاسد وما نحن فيه من هذا القبيل حيث إن الواقع مردد بين موضوعين أحدهما متيقن الصحة والآخر متيقن الفساد.

وفي كل ذلك تأمل: لأن أدلتها تدل على ما لو تحقق كل شيء سوى الشيء المشكوك من غير فرق بين كونه مقوّماً أو لا، وعقد مشكوك البلوغ

ص: 278


1- فرائد الأصول 3: 360.

يتحقق فيه كل الأجزاء والشرائط وغيرها سوى شرط البلوغ حتى لو كان مقوّماً، كما أن إطلاق النصوص وكذلك بناء العقلاء عدم الفرق بين التردد بين موضوع واحد أو موضوعين بينهما جامع لا المتباينين، فتأمل.

المطلب الثالث: في اشتراط قصد العمل

لو عمل الغير عملاً قاصداً له حُمل عمله على الصحة وترتب عليه جميع آثاره، ولا يكفي في الحمل على الصحة رؤية عمل الغير من دون العلم بقصده، في ما لو كان للعمل مصاديق تختلف باختلاف القصد كالانحناء الذي قد يكون ركوعاً وقد يكون لرفع شيء عن الأرض، وحينئذٍ لا بدّ إمّا من الاطمئنان بقصده، أو رؤيته على العمل مع إخباره بقصده لأن قصده لا يعلم إلاّ من قبله، أو إخباره بإتيانه للعمل حتى وإن لم نره، مع وثاقته على الأقوى أو عدالته على بعض المباني.

ولذا فرق الفقهاء بين رؤيته يصلّي على الميت حيث حملوه على الصحيح ومن آثاره سقوط الواجب الكفائي بالصلاة عليه، وبين ادّعائه الصلاة عنه - تبرعاً أو باستئجار - حيث إن المشهور عدم الاكتفاء بقوله إن لم نره على الصلاة إلاّ لو كان عادلاً أو ثقة.

وذلك لأنا نعلم بعمل الأوّل فيجري دليل الحمل على الصحة، ولا نعلم بعمل الثاني فلا وجه للحمل على الصحة إذ لا يشمله أدلته، نعم العادل أو الثقة خبره يدل شرعاً على عمله.

ومن أمثلة ذلك: اشتراط بعض الفقهاء عدالة من يُوضِّئ العاجز عن الوضوء إذا لم يعلم العاجز صدور الفعل عن المُوضِّئ صحيحاً، ولعل ذلك لعدم إحراز كونه في مقام إبراء ذمة العاجز، لا لمجرد احتمال عدم مبالاته

ص: 279

في الأجزاء والشرائط كما قد لا يبالي في وضوء نفسه، نعم لو أخبر بأنه بفعله قصد توضيء العاجز فلا يبعد الاكتفاء بقوله هذا لأن قصده لا يعلم إلاّ من قبله فتجري حينئذٍ أصالة الصحة.

ووجّهه الشيخ الأعظم(1)

بما حاصله: أن عمل النائب في الحج عن العاجز - مثلاً - له حيثيّتان:

1- حيثيّة كونه عمل النائب وفعله، وبهذا الاعتبار يراعي النائب تكليف نفسه، فلذا يجب عليه مراعاة الأجزاء والشرائط وغيرهما المعتبرة فيمن يأتي بالعمل عن نفسه فالمرأة النائبة عن الرجل العاجز يحرم عليها ما يحرم على النساء ويجب عليها ما يجب عليهن دون ما يجب أو يحرم على الرجال فقط، فبهذا الاعتبار يترتب عليه جميع آثار صدور الفعل الصحيح عنه مثل استحقاق الأجرة ونحو ذلك.

2- حيثيّة كونه فعل المنوب عنه، بكون الفعل بعد قصد النيابة والبدلية قائماً بالمنوب عنه، وبهذا الاعتبار يراعي النائب تكليف المنوب عنه في التمتع والقران والإفراد - مثلاً - .

والصحة من الحيثيّة الأولى لا تثبت الصحة من الحيثيّة الثانية، بل لا بدّ من إحراز صدور الفعل الصحيح عنه على وجه التسبيب، ولذا لا تفرغ ذمة المنوب عنه.

وفيه: أن الصحة من الحيثيّتين واحدة لا تتجزأ، فالصحة في إحدى الحيثيّتين لا تغاير الصحة من الحيثيّة الأخرى ليكون ثبوت أحدهما بالآخر

ص: 280


1- فرائد الأصول 3: 368.

من الأصل المثبت، ولذا قال المحقق النائيني: «إن أحرز أن العامل قصد النيابة وتفريغ الذمة بعمله - إمّا بإخباره وإمّا من الخارج - فأصالة الصحة تجري في عمله ويحكم ببراءة ذمة المنوب عنه، وإن لم يحرز أن النائب قصد النيابة في عمله فلا تجري أصالة الصحة - يعنى لا من الحيثيّة الأولى ولا الثانية - لعدم إحراز العنوان المتعلّق للأثر فلا موضوع لأصالة الصحة»(1).

المطلب الرابع: في نسبة قاعدة الصحة مع الاستصحاب

1- أمّا الاستصحاب الحكمي في المعاملات - باستصحاب عدم الأثر على المعاملة ونحوه، فالقاعدة مقدّمة عليه، لأن الشك في ترتب الأثر كالنقل والانتقال مسبب عن الشك في تماميّة العقد في المؤثريّة وتماميّة المسبب في المتأثريّة، وحيث دلت أصالة الصحة على التماميّة لم يبق شك في النقل والانتقال، فتكون القاعدة حاكمة على الاستصحاب، هذا بناءً على كون الصحة بمعنى التماميّة، وأمّا إذا كانت الصحة بمعنى نفس ترتب الأثر فكذلك القاعدة مقدمة بالحكومة أو التخصيص إذ كل موارد القاعدة إلاّ نادراً مجرى استصحاب الفساد فلولا تقدمها لكان جعلها لغواً إن كان الدليل الإطلاق اللفظي أو سيرة المتشرعة.

2- وأمّا الاستصحاب الموضوعي كأصالة عدم البلوغ حين العقد، فالأمر يرتبط باختلاف المباني، ولذا اختلفت كلماتهم حسب اختلافها.

فإن قلنا بأنها أصل عملي وأن الصحة هي نفس ترتب الأثر فالاستصحاب حاكم على القاعدة، لأن الشك في ترتب الأثر مسبب عن الشك في بلوغ

ص: 281


1- فوائد الأصول 4: 665-666.

العاقد - مثلاً - .

وإن قلنا بأن الصحة هي التماميّة، فقد يقال: بعدم المسببيّة بينهما، وذلك لما ذكره المحقق العراقي قال: «أصالة عدم البلوغ مثلاً لا تكون مزيلة للشك في تمامية العقد، لأنهما وإن كانا متغايرين مفهوماً لكنهما متحدان منشأ، فإن تماميّة العقد في مرحلة التسبيب والمؤثريّة وتماميّة المسبب في مرحلة القابليّة للمتأثريّة ليست إلاّ عين واجديّة العقد والمسبب للشرائط المعتبرة فيهما... وعليه فيتعارض استصحاب عدم البلوغ المترتب عليه الفساد بأصالة الصحة، ولازم التعارض في نفسه التساقط...» الخ(1)

فتأمل.

المبحث الرابع: قاعدة القرعة
اشارة

وفيه مطالب:

المطلب الأوّل: في دليلها

فمنها: القرآن في قوله تعالى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ}(2)

وقوله سبحانه: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَٰمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ}(3)

ودلالتها على القرعة في شريعتنا إمّا من باب التقرير، أو بضميمة الأخبار التي تم الاستدلال فيها بهاتين الآيتين في شريعتنا، أو باستصحاب الشرائع السابقة.

ومنها: الأخبار ولا يبعد تواترها في موارد خاصة، وكثرتها توجب الاطمئنان بكون القرعة قاعدة عامة، وكذلك أخبار عامة لا تخلو من أخبار

ص: 282


1- نهاية الأفكار 4 [ق2]: 101.
2- سورة الصافات، الآية: 141.
3- سورة آل عمران، الآية: 44.

صحيحة، كصحيحة محمّد بن حكيم عن الإمام الكاظم (علیه السلام) قال: «كل مجهول فيه القرعة، قلت: إن القرعة تخطئ وتصيب! فقال: كل ما حكم الله فليس بمخطئ»(1) وعن الإمام الصادق (علیه السلام): «وأيّ قضية أعدل من قضية تجال عليه السهام يقول الله: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} قال: وما من أمر يختلف فيه اثنان إلاّ وله أصل في كتاب الله ولكن لا تبلغه عقول الرجال»(2)،

وكصحيحة أبي بصير عنه (علیه السلام): «... فقال النبي (صلی الله علیه و آله): إنه ليس من قوم تنازعوا ثم فوّضوا أمرهم إلى الله عزّ وجلّ إلاّ خرج سهم المحق»(3)، وعنه (علیه السلام): «في رجل قال: أوّل مملوك أملكه فهو حرّ، فورث ثلاثة، فقال: يقرع بينهم فمن أصابته القرعة أعتق، قال: والقرعة سنة»(4)، وكقول النبي (صلی الله علیه و آله): «في كل أمر مشكل القرعة»(5)، والروايات كثيرة.

وغير خفي أن بعضها يدل على كون الشيء له واقع مجهول، وبعضها يدل على جريانها حتى لو لم يكن هناك واقع.

والظاهر أن المراد أنها حكم ظاهري وعليه فلا يكون هناك خطأ، لا أنها أمر غيبي بحيث تصيب الواقع دائماً.

كما أن الظاهر أن (مجهول) و(مشكل) و(مشتبه) بمعنى واحد أي المجهول مطلقاً - من الجهات الواقعية والظاهرية - والمشتبه والمشكل

ص: 283


1- من لا يحضره الفقيه 3: 52؛ تهذيب الأحكام 6: 240؛ عنهما وسائل الشيعة 27: 259.
2- الكافي 7: 158؛ عنه وسائل الشيعة 26: 294.
3- الكافي 5: 491؛ عنه وسائل الشيعة 21: 172.
4- تهذيب الأحكام 6: 239؛ عنه وسائل الشيعة 27: 257.
5- عوالي اللئالي 2: 285.

كذلك، فلو وجد أصل أو قاعدة فلا جهالة ولا اشتباه ولا إشكال، نعم في التنازع يكون المقترع هو الحاكم الشرعي إن لم يتراضيا بغيره فإن لم يكن تنازع أو تنازعا ورضيا بغيره فكل من اتفقا عليه.

المطلب الثاني: في نسبتها إلى الاستصحاب وسائر الأمارات والأصول
اشارة

وفيه احتمالات:

الاحتمال الأوّل: التخصيص

وأشكل عليه: بأمور، منها:

الإشكال الأوّل: بأن التخصيص إنّما يكون في التعارض غير المستقر في الحكم، والأدلة الأخرى تتعرض إلى موضوع أدلة القرعة لا إلى حكمها فهي من التخصص أو الورود أو الحكومة كما سيجيء بيانه.

الإشكال الثاني: إن التخصيص يستلزم القول بتخصيص الأكثر، حيث إن أكثر موارد المجهول والمشكل والمشتبه فيها أمارات أو أصول عملية مرجحة على القرعة.

لا يقال: ليكن كذلك لكن مع الذهاب إلى سقوط عموم أدلتها، فتكون دالة على العمل بالقرعة في الجملة مع تعيين تلك الموارد بعمل الأصحاب.

لأنه يقال: لا يكون ذلك حينئذٍ من التخصيص، بل يكون من تعيين موارد الدليل المجمل بالعمل.

وقد أشكل على الجبر بالعمل بإشكالات:

1- منها: ماذا كان الوجه عند الفقهاء الأوائل في الغيبة الصغرى وأوائل الغيبة الكبرى حيث لم يكن العمل الجابر؟

ص: 284

ويرد عليه: أن عملهم قد يكون لأجل دليل وصلهم ولم يصلنا أو أنهم لم يكونوا يقولون بالتخصيص ولا بإجمال الروايات أو لغير ذلك من جهات.

2- ومنها: إنه على ذلك يدور الأمر بين أمرين يعلم عدم صحتهما، فلا أريد الأكثر لاستهجان تخصيص الأكثر، ولا أريد الأقل لاستهجان ذكر الكل وإرادة أقل أفراده.

وفيه: أن هناك شق ثالث هو إرادة الإجمال ثم تعيين المصداق بالعمل.

3- ومنها: إنه عمل بالشهرة الفتوائية التي ليست بحجة وليس عملاً بقوله: «لكل مجهول» ونحوه.

وفيه: إنه تعيين مصداق كلام الإمام (علیه السلام) ، لا العمل بالشهرة الفتوائية.

4- ومنها: إنه جبر دلالي ولا نقول به.

وفيه: ما مرّ في سابقة بأنه تعيين للمصداق وليس تعيين للمفهوم والدلالة.

نعم، يبقى الإشكال في الدليل على حجيّة عملهم بتعيين المصداق للمجمل، فإنه لا يرتبط بتعيين المفهوم، ولا دليل على حجيّته في المصاديق، فتأمل.

الإشكال الثالث: إن النسبة بين دليل القرعة والاستصحاب - مثلاً - العموم من وجه، لشمول الاستصحاب للشبهات الموضوعية والحكمية والقرعة خاصة بالشبهة الموضوعية إجماعاً، واختصاصه بما له حالة سابقة مع عمومها له ولغيره.

وفيه: إن دليل القرعة عام بنفسه ثم خصص مرّتين بالإجماع على عدمها في الأحكام وبالاستصحاب في ما له حاله سابقة، وهذان الخاصان في

ص: 285

عرض واحد، ولا يصح تخصيصه بأحدهما أوّلاً ثم ملاحظة نسبته مع الآخر كما سيأتي في بحث انقلاب النسبة، وحتى مع فرض كون النسبة العموم من وجه فالترجيح في مورد الاجتماع لدليل الاستصحاب لقوة دليله سنداً ودلالة وعدم عمل الأصحاب بها في مورده.

الإشكال الرابع: إن دليل القرعة يدل على أنها أمارة كاشفة عن الواقع كقوله (علیه السلام): «إلاّ خرج سهم المحق» فتكون مقدمة على الاستصحاب وروداً أو حكومة.

وفيه: إن دليله في الموضوع ودليلها - حتى لو فرض كونها أمارة - في الحكم، والأصل الموضوعي مقدم على الأمارة الحكمية، مضافاً إلى ما مرّ من عدم كونها أمارة.

الاحتمال الثاني: التخصص

وذلك لأن ظاهر أدلة القرعة أن موضوعها المجهول والمشكل والمشتبه الأعم من الواقعي والظاهري، فيكون ما قامت عليه الأمارة أو الأصل غير مجهول ظاهراً فلا يشمله موضوع دليل القرعة أصلاً.

إن قلت: الألفاظ تحمل على المعاني الواقعية، وحملها على غير ذلك خلاف الظاهر.

قلت: لا بدّ من هذا الحمل بعد ما ورد في أدلة القرعة «إلاّ خرج سهم المحق» ونحوه فذلك قرينة على إرادة المجهول والمشتبه والمشكل الأعم.

الاحتمال الثالث: الورود

لأن مورد الاستصحاب وإن كان مجهولاً حتى بعد جريانه إلاّ أنه بعناية

ص: 286

التعبد يتحول إلى المتيقن منه، وهذا الوجه قريب من التخصص إلاّ أنه على القول بالتخصص فإن المجهول في دليل القرعة أعم، وعلى القول بالورود فالمجهول هو الواقعي إلاّ أن دليل الاستصحاب يجعل مورده من المعلوم الواقعي تعبداً.

وفيه: أوّلاً: لا دلالة لدليل الاستصحاب على ذلك وإلاّ كان أمارة لا أصلاً.

وثانياً: إن موضوع الاستصحاب أيضاً هو الشك من جميع الجهات، فإن إطلاق الجهل في القرعة إن شمل المتعلّق مطلقاً - الأعم من الواقعي والظاهري - فالشك في الاستصحاب كذلك، وإلاّ فلا في كليهما(1)،

فتأمل.

الاحتمال الرابع: الحكومة

إذ مورد الاستصحاب وإن كان مجهولاً إلاّ أن دليله يخرجه عن دائرة المجهول بالتعبد الشرعي، فهذا حكومة تضييقيّة.

وأشكل عليه المحقق الإصفهاني(2)

بما حاصله: إنه لا حكومة بالنظر إلى دليلي اعتبار القرعة والاستصحاب، كما لا حكومة بالنظر إلى المتعارضين.

أمّا الأوّل: فلأن دليلي القرعة والاستصحاب متكفلان لحكم تعبدي في مورد الشك، فإلغاء احتمال الخلاف في كل من الدليلين يوجب نفي موضوع الآخر حيث إن المفروض تكفل كل واحد منهما لحكم الاحتمال.

ص: 287


1- نهاية الدراية 5: 258.
2- نهاية الدراية 5: 258.

وأمّا الثاني: فلأن دليل القرعة يدل على أنها لا تخطئ، كما أن لسان دليل الاستصحاب إبقاء الكاشف للواقع، وعليه: ففي زمان الشك طريقان: أحدهما: حدوثاً وهو القرعة، والثاني: بقاءً وهو اليقين السابق، وكل منهما طريق فعلي مع عدم الطريق إلى الواقع، فكل منهما - بعنوانه - له القابلية في حدّ ذاته لمنع موضوع الآخر، فلا تختص القرعة بالحكومة على الاستصحاب.

الاحتمال الخامس: التعارض المستقر

وحينئذٍ لا بدّ من رفع اليد عن دليل القرعة في مورد الاجتماع، بقوة دليل الاستصحاب وضعف دليل القرعة، وبالإجماع على تقديم الأمارات والأصول على القرعة وبغير ذلك مما مرّت الإشارة إليه.

وأقرب الوجوه هو التخصص ثم التعارض.

المطلب الثالث: القرعة رخصة أم عزيمة

إن وجب التعيين فلا إشكال في كونها عزيمة لكونها مقدمة للواجب، وأمّا لو أمكن الاحتياط من غير محذور لم تجب بل جاز الاحتياط، وأمّا إن لم يجب التعيين فلا تجب لعدم مقدميتها للواجب حينئذٍ ووجوبها النفسي خلاف ظاهر أدلتها، نعم لو قام الدليل الشرعي على التخيير فلا وجه لها إلاّ لرفع تحيّر المختار ولا يلزم العمل بها حينئذٍ.

ثم مع وجوب القرعة لا يشرع التكرار فيها، لأن الأمر سقط بالامتثال بالقرعة الأولى، مضافاً إلى أنها لو كانت لرفع التنازع فتكرارها نقض للغرض.

ص: 288

وأمّا ما روي من التكرار(1)

في قصة يونس (علیه السلام) وقصة ذبح عبد الله (علیه السلام) والد النبي (صلی الله علیه و آله) فمع قطع النظر عن البحث السندي فلا دلالة له، إذ لعل التكرار في قصة يونس لم يكن بمنظر وتقرير منه وإنّما كرره أهل السفينة حباً له، ولعله في قصة عبد الله كان نذره كذلك بأن يقترع بين ذبحه وبين نحر الآبال، فتأمل.

ص: 289


1- الخصال، للشيخ الصدوق: 157.

ص: 290

المقصد الثاني عشر في تعارض الأدلة

اشارة

ص: 291

ص: 292

بحوث تمهيدية

المطلب الأوّل: في العنوان

عنون بعضهم المقصد ب-(التعادل والتراجيح) وبعضهم ب-(تعارض الأدلة) والثاني أولى لأن التعادل والتراجيح فرع للتعارض، فلا بدّ من تحققه أوّلاً ليتم البحث عن التساوي أو الترجيح ثانياً.

المطلب الثاني: في تعريف التعارض

التعارض في اللغة: وقوع أحد الشيئين في عرض الآخر بحيث يزاحمه في الحركة، كما يقال: وقف في عرض الطريق.

وأمّا في الاصطلاح فقد اختلف تعبيرهم فعبر البعض: بأنه «تنافي المدلولين» وآخر: بأنه «تنافي الدليلين بحسب مدلولهما» وثالث: بأنه «تنافي الدليلين بحسب الدلالة في الأحكام الكلية والموضوعات المستنبطة».

أمّا الأوّل: فيرد عليه: أن المدلول هو معنى الكلمة، وقد يكون تنافٍ بين المدلولين من غير منافاة في الدلالة، فلا تعارض، كما في أدلة الأحكام الأوّلية والثانوية فإن بين المدلولين تنافياً لكن في مقام الدلالة يجمع العرف بالحكومة بينهما فلا تعارض.

وأمّا الإشكال عليه: بأن التعارض إنّما يتحقق بين أمرين موجودين خارجاً، والمدلولان بذاتيهما لا يمكن وجودهما لتنافيهما فلا تعارض

ص: 293

بينهما.

فمحل تأمل: إذ المقصود عدم إمكان الجمع بينهما مع قطع النظر عن صدورهما؛ وبعبارة أخرى: عدم إمكان قصد هذين المدلولين معاً من المولى الحكيم الملتفت.

وأمّا الثاني: فمرجعه إلى الأوّل، بمعنى أن تنافي المدلولين يسري إلى الدليلين، فيرد عليه ما ورد على سابقه، اللّهم إلاّ أن يقال: إن تنافي المدلولين قد يسري في ما لو كان ظاهر الدليل كاشفاً عن الإرادة الجدية، وقد لا يسري في ما لم يكن كذلك، فتخرج الحكومة مثلاً لأن تنافي المدلولين لم يسر ِ إلى الدليلين.

وأمّا الإشكال: بأنه في الأمارات لا أحكام ظاهرية بل تنجيز وإعذار، فلا يوجد مدلول ليتنافيان.

فمحل تأمل: إذ لا يراد بالمدلول الحكم - سواء كان واقعياً أم ظاهرياً - بل يراد معنى اللفظ فبين الوجوب والحرمة تنافٍ حتى لو لم يكن أحدهما حكماً من الشارع، فتأمل.

وأمّا الثالث: فبمعنى أن كل واحد من الدليلين يثبت ما ينافي ما يثبته الآخر، مع كون كل واحد منهما ظاهراً في إرادة مدلوله جداً، وبذلك يخرج جميع موارد الجمع الشرعي أو العرفي عن التعارض، وهذا هو الأصح لعدم ورود إشكال عليه.

وأمّا قيد «في الأحكام الكلية أو الموضوعات المستنبطة» فلإخراج أدلة الموضوعات الخارجية كالبينة، فإن التعارض فيها لا يبحث عنه في الأصول

ص: 294

لأن مدلولاتها ليست أحكاماً كلية، ولذا عرّف بعضهم التعارض بأنه تنافي الدليلين بحسب تنافي المدلول أو الدلالة في عالم التشريع والجعل.

وأمّا ما أضافه بعضهم على التعريف بقوله: «على وجه التناقض والتضاد حقيقة أو عرضاً».

فقيد مستدرك، لأن قولنا «تنافي الدليلين» يغني عنه، حيث إن التنافي إنّما يكون في ما لا يمكن الجمع بينهما، وسبب ذلك إمّا التناقض أو التضاد بينهما حقيقة أو بالعرض.

ولا فرق في تحقق التنافي بالمطابقة أو التضمن أو الالتزام، فلذا قد يحصل التنافي بين العامين من وجه في مورد الاجتماع، أو في ما علم من دليل من خارجهما عدم إمكان الجمع كما في تنافي وجوب صلاة الجمعة ووجوب صلاة الظهر في يوم الجمعة.

وغير خفي أن التنافي إنّما يحصل مع وجدان كل واحد منهما لشرائط الحجيّة بحيث لا يكون توقف العمل بأحدهما أو بكليهما إلاّ بسبب التعارض بحيث لو فرض عدم تحققه للزم العمل بكليهما. وعليه فلو علم إجمالاً بكذب أحدهما كان من اشتباه الحجة باللاحجة لا من تعارض الدليلين فلا بدّ حينئذٍ من إعمال قواعد العلم الإجمالي لا قواعد الترجيح أو التخيير، فتأمل.

ثم إنه لا تعارض بين الدليلين القطعيين، ولا بين الظنيين إذا كان اعتبارهما من باب الظن الشخصي، إذ لا يعقل القطع أو الظن الشخصي بالمتنافيين، إلاّ مع الغفلة عن تنافيهما، ومفروض الكلام في غير حالة الغفلة.

ص: 295

المطلب الثالث: في موارد خرجت عن التعارض

المورد الأوّل: الحكومة.

وذلك لعدم التنافي بين الحاكم والمحكوم، وذلك لأن الحكم لا يتكفل موضوعه، والدليل المحكوم لا يتكفل موضوعه، والدليل الحاكم يثبت الموضوع سعة وضيقاً في الحكومة الموضوعية، وأمّا في الحكومة الحكمية فلمسالمة الدليل الحاكم مع الدليل المحكوم، فمثل «لا شك لكثير الشك» يضيق موضوع «إذا شككت بين الثلاث والأربع فابن على الأربع» مثلاً فلا تنافي، كما مرّ تفصيله(1).

المورد الثاني: الورود.

وذلك لأن الدليل الوارد يزيل موضوع الدليل المورود تكويناً بعناية التعبد، مثلاً موضوع البراءة العقلية (عدم البيان)، وبتحقق (بيان) من الشارع يزول (عدم البيان) تكويناً، فلا يبقى موضوع لحكم العقل، فينتفي هذا الحكم، فيكون التعارض من السالبة بانتفاء الموضوع، وقد مرّ أيضاً(2).

المورد الثالث: العام والخاص.

ولا تعارض بينهما، والخاص مقدم عادة، وفي سبب تقديمه احتمالات، منها: حكومة أصالة الظهور في الخاص على أصالة الظهور في العام، أو ورود دليل الخاص على العام، أو التخصص، أو التوفيق العرفي بتقديم الأقوى ظهوراً وهو الخاص غالباً والعام قليلاً.

ص: 296


1- نبراس الأصول 3: 10-39.
2- نبراس الأصول 3: 40-46.

وغير خفي أن كلاً من العام والخاص قد يكون قطعي السند أو ظنيّه، كما قد يكون قطعي الدلالة أو ظنيّها، فهنا صور متعددة، ومنها:

الصورة الأولى: أن يكون الخاص قطعي الدلالة والسند.

فيتقدّم الخاص من باب التخصص، حيث إن حجيّة العام بأصالة الظهور، ومع العلم بعدم الظهور لا حجيّة للعام في مجمع العنوانين.

الصورة الثانية: أن يكون الخاص ظني الدلالة، سواء كان قطعي السند أم ظنيّه.

فقد ذهب الشيخ الأعظم(1)

إلى أنه في مورد الاجتماع يقدّم أقوى الظهورين، وإلاّ فالتساقط.

وأشكل عليه: بأن أصالة الظهور في الخاص حاكمة على أصالة الظهور في العام.

قال المحقق البجنوردي في منتهى الأصول(2) ما حاصله: أن ظهور العام في العموم - بمعنى كاشفيته عن إرادة العموم - معلّق على أن لا يكون هناك قرينة على عدم إرادة العموم، فإذا كان التعبد بظهور الخاص - وأنه كاشف عن مراد المتكلم - قرينة على عدم إرادة العموم، فيقدّم ظهور الخاص على ظهور العام في العموم، ولو كان ظهور العام في العموم أقوى، ولما كانت الأخبار الصادرة عن الرسول وآله (عليهم الصلاة والسلام) مثل أن يصدر عن شخص واحد في مجلس واحد - لأن كلهم من جهة بيان حكم الله

ص: 297


1- فرائد الأصول 3: 14.
2- منتهى الأصول 2: 722.

كشخص واحد، ولأن الواقع منكشف لهم بدون خطأ - فحال أصالة الظهور في طرف الخاص حال ظهور يرمي في قولهم: (رأيت أسداً يرمي) بالنسبة إلى ظهور الأسد، حيث إن ظهور يرمي حاكم على ظهور الأسد مع أن ظهور الأسد في الحيوان المفترس بالوضع وظهور الرمي في الرمي بالنبل بالإطلاق، والظهور الوضعي أقوى من الظهور الإطلاقي، والسرّ في ذلك أن ظهور العام في الخاص غير موجود أصلاً لأن المخصص المتصل يوجب عدم انعقاد الظهور للعام أو لم يكن حجة وكاشفاً عن المراد الواقعي فلا يعارض الخاص، وهذا معنى حكومة أصالة الظهور في طرف الخاص على أصالة الظهور في طرف العام.

ويرد عليه: أنهم (علیهم السلام) يتكلمون بلسان قومهم، فلا فرق في انعقاد الظهور للعام لو كان الخاص منفصلاً بين العام الصادر عنهم وعن سائر الموالي، لأن سائر الموالي أيضاً لا يريدون من العام الخاص بالإرادة الجدية، ولو أرادوه كذلك لكان من النسخ لا من التخصيص.

وحيث إن المراد الاستعمالي يكشف عن المراد الجدي فيكون العام المنفصل عن الخاص ظاهراً في العموم استعمالاً وجِدّاً، وكذلك الخاص، فمع تساوي الظهورين يتصادمان ومع أقوائية أحدهما على الآخر يترجح الأقوى بالتوفيق العرفي، سواء كان العام أم الخاص.

الصورة الثالثة: أن يكون الخاص قطعي الدلالة وظني السند، ففي سبب تقدم الخاص على العام احتمالات:

منها: الورود، لأن التعبد بصدوره مع قطعية دلالته يجعل المراد قطعياً، فتنتفي أصالة الظهور في العام حينئذٍ، فيرجع إلى الصورة الأولى.

ص: 298

ومنها: التخصص، وذلك لأن دلالة الخاص قطعية حسب الفرض فيخرج المجمع عن أصالة الظهور في العام تكويناً من غير عناية التعبد حيث إن القطع حجة ذاتية لا تعبد فيه!

ومنها: الحكومة، لأن الغرض هو التعبد بمقصود المولى، وذلك يتوقف على العلم بالسند والدلالة معاً، وفي هذه الصورة ثبوت صدور الكلام منه بالتعبد، فيكون العلم بمقصوده بالتعبد لا بالوجدان، بتوسعة العلم وإحلال الظن محلّه، وهذا هو الحكومة.

وبعبارة أخرى - كما قيل -: إن المانع عن جريان أصالة الظهور في طرف العام هو ثبوت أن المراد هو مدلول الخاص، وهذا المعنى لا يثبت إلاّ بالتعبد حيث إن الرفع لم يكن بنفس التعبد ليكون من الورود بل كان بثبوت المتعبد به فيكون من الحكومة.

المورد الرابع: الأمارات والأصول.

فالشيخ الأعظم(1)

على أن تقدم الأمارات على الأصول العملية بالحكومة، حيث إن الشارع - مثلاً - جعل أصلاً بالحلية لكل مشكوك الحرمة والحلية، ثم حكم بأن خبر الواحد الدال على الحرمة حجة، ومعنى ذلك أنه لا يعبأ باحتمال مخالفة مؤداه للواقع، وعليه فاحتمال الحلية المخالف للأمارة بمنزلة العدم لا يترتب عليه حكم شرعي، فيكون مؤدى الأمارة بتعبد من الشارع كالمعلوم، فلا يترتب عليه الأحكام الشرعية المجعولة للمجهولات.

ص: 299


1- فرائد الأصول 4: 15.

وأشكل عليه في الكفاية(1):

بأن الأمارات غير ناظرة إلى الأصول العملية ولا بدّ في الحكومة من النظر، كما أن اعتبار الأمارات ليس إلاّ بمعنى المنجزية والمعذرية لا جعل العِلمية، كما أن مورد كليهما الشاك في الحكم حيث إن القاطع لا معنى لجعل حجيّة الأمارة له، ولذا ذهب في باب الاستصحاب إلى الورود، ورجح في باب التعارض الجمع العرفي.

وحيث قد مرّ تفصيل ذلك في باب الاستصحاب(2) فلا داعي لتكراره.

ص: 300


1- إيضاح كفاية الأصول 5: 191.
2- نبراس الأصول 5: 244-262.

فصل في القاعدة الأوّلية في التعارض

اشارة

التعارض قد يكون بين دليلين لا أكثر، وقد يكون بين أكثر من دليلين، أمّا الثاني فسيأتي بحثه في انقلاب النسبة، وأمّا الأوّل فإمّا أن يكونا متكافئين، أو يكون لأحدهما مزية على الآخر، وعلى فرض عدم المزيّة فهل القاعدة الأوّلية - مع قطع النظر عن الأدلة الخاصة - هي التخيير أم التوقف أم التساقط أم الاحتياط؟ ونعني بالتساقط عدم العمل بكليهما والرجوع إلى ثالث حتى لو كان يخالفهما أو كان أصلاً عملياً، وبالتوقف عدم الرجوع إلى ثالث يخالفهما، وبالاحتياط العمل بما كان مطابقاً للقواعد منهما، وبالتخيير العمل بأحدهما سواءكان مطابقاً للقواعد أم مخالفاً.

والكلام تارة: بناء على السببية، وأخرى: بناء على الطريقية.

1- أمّا على السببية

بأن تحدث مصلحة سلوكية بسبب قيام الدليل حتى وإن لم تكن مصلحة في الواقع.

فقد يقال: بحدوث التزاحم وذلك لوجود المصلحة في كليهما، والأصل في المتزاحمين التخيير مع عدم ثبوت مزية لأحدهما على الآخر.

وأشكل عليه: بأنّه إنّما يصح لو كان منشأ التنافي في مرحلة الامتثال بعجز المكلف عن الجمع بين الامتثالين وذلك لوجود الملاكين، وأمّا لو

ص: 301

كان المنشأ هو تنافي الحكمين بنفسيهما فلا تزاحم إذ يُعلم بعدم جعل الحكمين حتى مع تحقق ملاكيهما وذلك لحصول الكسر والانكسار في الملاكين ويتم جعل حكم واحد هو الإباحة دون حكمين مخيراً بينهما، مضافاً إلى أنه قد لا يمكن التخيير وهو ما إذا دار الأمر بين الفعل والترك فيكون حصول أحدهما قهرياً، قال في المنتقى: «لأن الترك أو الفعل قهري الحصول، ولا يمكن تعدّيهما كي يحكم بلزوم أحدهما - مخيراً - نعم التخيير بمعنى الإباحة الذي يرجع إلى التخويل في أحد الأمرين لا مانع منه إلاّ أنه غير التخيير المصطلح في باب التزاحم»(1).

وأمّا ما في الكفاية(2)

بما حاصله: أنه لو قلنا بحدوث المصلحة السلوكية حتى مع العلم بكذب أحدهما فالتخيير إن كانا حكمين إلزاميين لوجود المصلحة السلوكية في كليهما وعدم ترجيح إحداهما على الأخرى، وأمّا إن كان أحدهما إلزامياً والآخر غير إلزامي فاحتمال ترجيح الإلزامي واحتمال ترجيح غير الإلزامي، أمّا الأوّل فلعدم مزاحمة اللا اقتضائي للاقتضائي؛ وأمّا الثاني: فلأن مصلحة الإلزامي لم تكن بحدّ العلة التامة للإلزام، وإلاّ لم يكن لغير الإلزامي مصلحة سلوكية أصلاً، وحيث لم تكن مصلحة الإلزامي علة تامة فلا تؤثر أثرها، فيحكم بخلافها.

ففيه: أن المصلحة السلوكية لا ترتبط بمصلحة المؤدّى، فنفس سلوك الطريق فيه المصلحة، وحينئذٍ لا فرق في ذلك بين الحكم الإلزامي وغيره،

ص: 302


1- منتقى الأصول 7: 315.
2- إيضاح كفاية الأصول 5: 234-235.

مضافاً إلى أن التخيير يلازم سقوط الإلزام حتى لو كان الحكمان إلزاميين، فتأمل.

2- وأمّا على الطريقية
اشارة

فالكلام تارة في حجيّة أو عدم حجيّة المدلول المطابقي، وتارة في حجيّة المدلول الالتزامي، فهنا مبحثان:

المبحث الأوّل: في المدلول المطابقي
اشارة

وفيه احتمالات:

الاحتمال الأوّل: التخيير
اشارة

وأشكل عليه: بأنه لا يمكن الالتزام به، وذلك لأن التخيير فرع التزاحم، وفي ما نحن فيه يعلم بعدم وجود الملاك في كليهما وإنّما في أحدهما غير المعيّن!

وأجيب: بأنه يمكن على بعض المباني في التخيير تصوير التخيير في ما نحن فيه، وقد مرّ بحثه مفصلاً في الواجب التخييري(1)،

فلنذكر ما تقتضيه بعض تلك المباني، ومنه يعلم سائرها.

والكلام تارة في التخيير في المسألة الفرعية كالتخيير بين وجوب هذا أو ذاك، وأخرى في المسألة الأصولية أي: في حجيّة الدليل الدال عليهما.

ألف: التخيير في المسألة الفرعية

فقد يقال: بأنه لا يصح التخيير على بعض المباني - كما لو قلنا بأن التخيير

ص: 303


1- نبراس الأصول 2: 78-87.

هو وجوب الجامع أو أحدهما أو سنخ وجوب مشوب بجواز الترك - إذ لو كان الدليلان عامين من وجه يلزم التفكيك في الدليل الواحد في أفراده حيث إنه في الأفراد محل الافتراق يكون الوجوب مثلاً للأفراد أو سنخ خاص من الوجوب، وفي المجمع يكون للجامع أو العنوان أو سنخ وجوب آخر، ولو كان المتعارضان جزئيان فظاهر الوجوب هو وجوب كل واحد بخصوصه لا وجوب أحدهما أو وجوب خاص مشوب بجواز الترك.

وفيه: أنه لو كان المراد الجامع بين أنحاء الوجوب - بناءً على عدم جزئية المعنى الحرفي أو استفيد الوجوب من معنى اسمي - فلا محذور بل يكون الجامع في كل فرد بحسب ما يناسبه فلا تفكيك حينئذٍ في مدلول الدليل الواحد، كما أن الوجوب بخصوصه يستفاد من الإطلاق ومع قيام الدليل المعارض ينتفي الإطلاق بانتفاء إحدى مقدمات الحكمة حيث نصب المولى القرينة بذكر المعارض، فتأمل.

وقد يقال: بصحة التخيير في بعض الصور كما لو دار بين أمرين لا منافاة بينهما إلاّ من جهة العلم بعدم جعل كلا الحكمين بخصوصه بنحو الجمع مع عدم العلم بعدم جعل أحدهما، كما في وجوب صلاة الجمعة وصلاة الظهر في عصر الغيبة حيث لا منافاة بين الوجوبين مع علمنا بعدم جعل الجمع بينهما مع إمكان جعل كل واحد منهما بنحو التخيير، فحينئذٍ الدلالة على الوجوب التعييني كانت بالإطلاق ويتم إلغاؤها بقيام الدليل الآخر كما ذكرنا.

وبهذا يندفع الإشكال: بأن كل واحد منهما له دلالة مطابقية على الوجوب التعييني ودلالة التزامية بنفي أصل وجوب الآخر، والتصرف في

ص: 304

المدلول المطابقي لكل منهما بإلغاء خصوصية التعيين لا يرفع التنافي الحاصل من جهة الدلالة الالتزامية، لعدم تبعيتها للدلالة المطابقية في الحجيّة وإن تبعتها في الوجود.

وذلك لأن ما نحن فيه من انتفاء الدلالة المطابقية على التعيين في أصل وجودها بانتفاء مقدمات الحكمة، فتأمل.

باء: التخيير في المسألة الأصولية

وذلك في ما إذا لم يمكن التخيير في المسألة الفرعية كما لو كان مدلولهما متنافياً بنحو التناقض أو التضاد ذاتاً أو عرضاً.

والتخيير في المسألة الأصولية قد يتصور بأحد نحوين:

النحو الأوّل: بمعنى لزوم العمل بأحدهما وترتيب الآثار عليه بحيث يحكم بمؤدّاه ويعمل بمقتضاه.

1- فإن كان المبنى: أن التخيير هو وجوب العمل بالجامع الانتزاعي وهو أحدهما.

فقد أشكل عليه: ثبوتاً: بأن ترجيح أحدهما المعيّن من غير مرجح، وأحدهما غير المعين لا وجود له في الخارج، إذ كل فرد هو هو بنفسه، والفرد المردد لا وجود له خارجاً.

وإثباتاً: بأن الجامع لا يثبت الخصوصيات الفردية، وعليه فلا يصح الالتزام بمؤدّى أيّ واحد منهما والحكم بمقتضاه أو العمل على طبقه بقصد التقرب - لو كان مما يلزم التقرب فيه - بل لا بدّ من ترتيب آثار العنوان وهو أحدهما وهو لا يتكفل الخصوصيات الفردية.

ص: 305

ويمكن أن يقال: بأن عنوان أحدهما وإن لم يكن له وجود خارجي إلاّ أنه لا محذور في كونه مشيراً إلى الموجود الخارجي، كما مرّ تفصيله، وحينئذٍ فانطباق ذلك الجامع العنواني على الفرد الخارجي بخصوصياته لا محذور فيه حيث إنه كان مشيراً إليه.

2- وإن كان المبنى: أن التخيير هو وجوب العمل بالجامع الحقيقي بينهما حتى وإن لم نعلمه تفصيلاً.

فقد أشكل عليه: بأنه قد لا يمكن وجود جامع حقيقي بينهما كما لو دار الأمر بين الوجود والعدم، كدلالة دليل على الوجوب والآخر على عدم الوجوب.

3- وإن كان المبنى: أن التخيير بمعنى الوجوب المشروط في كل ٍ منهما، بمعنى أن حجيّة كل واحد منهما مقيدة بعدم حجيّة الآخر، أو مقيدة بعدم العمل على طبق مؤدّى الآخر، أو مقيدة بعدم الاستناد إلى الآخر، أو مقيدة بالبناء على الالتزام بمؤدّاه، فمع عدم البناء على الالتزام بمقتضى كل واحد منهما لا يكون مشمولاً للحجيّة.

وأشكل عليه(1): أمّا الأوّل: فإن فيه ينتفي موضوع التخيير، إذ حجيّة كل منهما مانعة عن حجيّة الآخر فلا اجتماع للحجيتين حتى يتخير بينهما. وأمّا الثاني: فغير صحيح في بعض الصور كما لو دار الأمر بين الوجوب والحرمة، فترك العمل بالحرمة إنّما هو بمعنى الإتيان بالشيء فلا معنى للحجيّة الدالة على الفعل والأمر بالعمل به إذ لا معنى للأمر بالفعل بعد

ص: 306


1- منتقى الأصول 7: 322.

الإتيان به. وأمّا الثالث: فيستلزم حجيّة كليهما إذا لم يستند إلى أيٍّ منهما لحصول الشرط فرجع التنافي. وأمّا الرابع: فبأنه لا يرفع التنافي بين الدليلين عرفاً - عكس التخيير في المسألة الفرعية - وذلك لأنه لا يستلزم التصرف بمؤدّى كل ٍ منهما بنحو يرفع التنافي بل كل منهما باقٍ على مؤدّاه، فلا وجه للالتزام به في المورد الذي نحن فيه.

ويمكن أن يقال: إن الغرض هو التخيير العملي، وهو حاصل بالوجه الرابع - على فرض صحته - سواء ارتفع التنافي بين مؤدّى الدليلين أم لم يرتفع، فليس الغرض هو تحقق التخيير الاصطلاحي كما في خصال الكفارة!

وإنّما الإشكال عليه: أن المكلّف إن لم يبن ِ على الالتزام بمؤدّى أيٍّ منهما فمعنى ذلك عدم حجيّة كليهما لفقدانهما شرط الحجيّة، وحينئذٍ ينتفي التخيير من أساسه!

والحاصل: إنه لا دليل يثبت التخيير حسب القاعدة الأوّلية، ومجرد معقوليته ثبوتاً - سواء في المسألة الأصولية أو الفرعية - لا ينفع مع عدم إقامة دليل إثباتي عليه، نعم قد تنفع بعض هذه الوجوه حين البحث في ما تقتضيه الأدلة الشرعية كالروايات برفع المحذور الثبوتي لو فرض دلالتها على التخيير إثباتاً.

الاحتمال الثاني: التوقف

وفيه وجوه:

الوجه الأوّل: تساقط الدليلين في دلالتهما المطابقية مع بقائهما على

ص: 307

الحجيّة في الدلالة الالتزامية بنفي الثالث كما اختاره الشيخ الأعظم(1).

ويدل عليه: أننا نعلم إجمالاً بعدم مطابقة أحدهما للواقع، مع وضوح أنه لا يكون الدليل طريقاً إلاّ مع احتمال إصابته للواقع، وحيث لم يمكن تعيين غير المطابق فلا حجيّة لأيٍّ منهما لسقوطها بالعلم الإجمالي. وهذا هو الصحيح لسلامته من جميع الإشكالات.

الوجه الثاني: سقوط أحدهما غير المعين عن الحجيّة دون الآخر، مع عدم ترتب آثار العلم الإجمالي بل يكونان في الدلالة المطابقية كالمتساقطين مع حجيّة الدلالة الالتزامية في نفي الثالث كما ربما يظهر من صاحب الكفاية(2).

ويدل عليه: أن متعلّق العلم الإجمالي بالحجيّة وعدم الحجيّة هو عنوان (أحدهما) وهو لا تعيّن له في الخارج، بل الموجود في الخارج هو كل دليل بخصوصه وعينه، فلا يسري العلم الإجمالي وأحكامه - الذي منها الاحتياط - إلى الدليل في الخارج.

وفيه: أوّلاً: أن عنوان (أحدهما) وإن لم يكن له وجود في الخارج إلاّ أنه مرآة له ومشير إليه فيكون أحدهما غير المعيّن ظاهراً المعيّن واقعاً هو الحجة وكذلك الآخر يكون غير حجة.

وثانياً: إن عدم سراية العلم الإجمالي إلى الخارج لازمه حجيّة كلا الدليلين لأن كل واحد منهما يحتمل مطابقته للواقع فلا محذور في شمول

ص: 308


1- فرائد الأصول 4: 38-39.
2- إيضاح كفاية الأصول 5: 230-231.

الدليل العام للحجيّة له، كما سيأتي بيانه، وبعبارة أخرى - كما في المنتقى: «فكل من الدليلين بنفسه يشتمل على شرط الحجيّة فيكون موضوعاً لها فلا وجه للالتزام بخروج أحدهما عن الحجيّة بالعلم الإجمالي، إذ العلم الإجمالي لا يكفي في رفع الموضوع بعد تحقق الشرط في كل منهما بحد ذاته»(1)، ولازمه عدم المحذور في جعل الحجيّة للآثار المختصة لكل واحد منهما والتي لا تعارض بينها، ومعنى ذلك حجيّة الدليلين في جميع مدلولاتها إلاّ في ما وقع التنافي بينها، وهذا ما لا يمكن الالتزام به.

وثالثاً: مثل هذا الكلام يجري في الأصول العملية، إذ لا فرق في الحجيّة - بمعنى التنجيز والتعذير - بين الأمارات والأصول، فلو تعارض الأصلان السببيان مثلاً لا بدّ - على هذا الكلام - من بقاء أحدهما غير المعين على الحجيّة وعدم الرجوع إلى الأصل المسببي! وهذا ما لا يلتزم به.

الوجه الثالث: التفصيل على ما ذكره المحقق العراقي(2)، وحاصله: سقوط الدليلين عن الحجيّة في الدلالة المطابقية في ما لو كان التنافي بين مدلوليهما على وجه التناقض أو التضاد ذاتاً أو عرضاً، وأمّا لو كان التنافي لا على وجه التناقض أو التضاد فلا محذور من شمول دليل الحجيّة لكليهما حتى لو علمنا بعدم صدور أحدهما أو عدم مطابقته للواقع.

أمّا مع التنافي بنحو التضاد أو التناقض فمن جهة أن الدليلين المتعارضين يدل كل منهما على نفي الآخر - بالمطابقة أو بالالتزام - مع كون شمول

ص: 309


1- منتقى الأصول 7: 325.
2- نهاية الأفكار 4 [ق2]: 170-175.

دليل الحجيّة في المدلول المطابقي والالتزامي في عرض واحد، وحينئذٍ يمتنع دخولهما تحت دليل الحجيّة، لأن التعبد بسند كليهما بما لهما من المضمون يؤدّي إلى التعبد بالنقيضين، وهو محال حتى لو كان التعارض عرضياً كما في صلاة الظهر والجمعة.

وأمّا مع عدم التضاد والتنافي في المؤدّى فهنا صورتان:

الصورة الأولى: كون المؤدّى نصاً، وفيه حالتان:

الحالة الأولى: العلم بعدم صدور أحدهما لكن مع احتمال مطابقته للواقع، ولا محذور في شمول دليل التعبد لكليهما، لا ثبوتاً إذ لا مخالفة عملية مع عدم سراية العلم الإجمالي بعدم صدور أحدهما إلى الخارج، ولا إثباتاً إذ لا قصور في شمول دليل السند لكل منهما بعنوانه التفصيلي وتتميم كشفه.

إن قلت: الأمر الطريقي لا يشمل ما هو معلوم الكذب بنحو الإجمال.

قلت: لمّا كان كل منهما محتمل الصدق بعنوانه الخاص فلا محذور من شمول الأمر الطريقي لكل منهما، وحكمة الأوامر الطريقية التي هي غلبة الإيصال غير مانعة عن شمولها لمثل هذا الفرض.

إن قلت: إن المدلول الالتزامي في التعبد بكل من السندين - حيث ينفي صدور الآخر بمقتضى العلم الإجمالي - يمنع من دخولهما تحت دليل الحجيّة لأدائه إلى التناقض!

قلت: لا أثر لهذا المدلول الالتزامي، إذ لا أثر لمجرد عدم صدور الخبر بعد احتمال مطابقة مضمونه للواقع فيسقط المدلول الالتزامي بين عدم

ص: 310

صدور الخبر وبين عدم مطابقته للواقع.

الحالة الثانية: العلم بعدم مطابقة أحدهما للواقع، فهنا مع فرض عدم حجيّة المدلول الالتزامي يمكن الالتزام بشمول دليل التعبد للأمارتين المعلوم عدم مطابقة أحدهما للواقع.

كما لعلّه من هذا الباب حجيّة الإقرار في ما لو أقرّ بعين لواحد ثم أقرّ بكونها للآخر، فإنه يحكم بإعطاء العين للأوّل وبإعطاء القيمة للثاني مع فرض العلم بمخالفة أحد الإقرارين للواقع، إذ بعد عدم حجيّة المدلول الالتزامي في الإقرارين - وهو نفي استحقاق الغير للعين لكونه من الإقرار على الغير وهو غير مسموع - وعدم استلزامها المخالفة العملية الموجبة لطرح تكليف ملزم في البين لا من الحاكم ولا من المقرّ - لكونه من العلم الإجمالي بالتكليف بين الشخصين - فلا جرم حينئذٍ من الأخذ بكلا الإقرارين بمقتضى التعبد بهما من غير محذور من شمول التعبد لهما، فيحكم الحاكم على طبق كلا المضمونين حتى على القول بطريقية الإقرار لا موضوعيته.

الصورة الثانية: كون المؤدّى غير نص، بحيث يحتاج ترتيب الأثر إلى تعبدين بالسند وبالمؤدّى، فيسقط الخبران عن الحجيّة، لكن ليس بمناط تصادم الظهورين، بل من جهة أن لازم التعبد بكل واحد من السندين هو نفي صدور الآخر الملازم شرعاً لنفي التعبد بدلالته - إذ التعبد بالدلالة فرع الصدور -

ومع الدلالة الالتزامية في التعبد بالسند طرح السند الآخر تسقط الدلالة، ولازم ذلك لغوية التعبد بالسند، وأقوائية الدلالة غير مجدية هنا بعد عدم ثبوت السند ولازمه عدم حجيّة الدلالة، انتهى مختصراً.

ص: 311

وفي كلامه مواضع من التأمل بناءً ومبنىً تظهر مما ذكرناه سابقاً.

المبحث الثاني: في المدلول الالتزامي بنفي الثالث

إن التعارض إن كان لتنافي مؤدّاهما بنحو التضاد أو التناقض فإن شمول دليل الحجيّة لأحدهما غير المعين إنّما هو باعتبار هذه الدلالة الالتزامية بعد سقوط الدلالة المطابقية بالتعارض، فإنه يكفي في صحة التعبد وعدم لغويته حجيّة إحدى الدلالات.

وأشكل عليه: بأنه كيف يمكن وجود الدلالة الالتزامية مع سقوط الدلالة المطابقية؟

وأجيب: أوّلاً: بأن التبعية إنّما هي في الوجود لا في الحجيّة، إذ في الاعتباريات يمكن التفكيك في الحجيّة بجعلها للّازم أو الملزوم أو الملازم دون الآخر، ولذا لم يكن الأصل المثبت حجة مع كونه لازماً عقلياً ونحوه، ودليل الحجيّة قد جعلها للأمارة بجميع مدلولاتها بجعل بسيط، وعليه فمع تعارض الدليلين يرفع اليد عن المدلول المطابقي ويبقى المدلول الالتزامي مشمولاً لدليل الحجيّة.

وفيه: إن الحجيّة فرع الوجود، فإذا انتفى وجود الشيء انتفى وجود لازمه فانتفت حجيّة اللازم من باب السالبة بانتفاء الموضوع، فإذا كان المدلول المطابقي موجوداً لكنه ليس بحجة أمكن القول بوجود المدلول الالتزامي مع كونه حجة بشمول دليل الحجيّة له، فقياسه بحجيّة الملزوم دون اللازم كما في الأصل المثبت أو الملازم دون الملازم مع الفارق.

نعم، إذا كان المقصود أن للأمارة كشف ناقص - سواء كان حجة أم لا -

ص: 312

ولهذا الكشف لازم، فهنا الدلالتان المطابقية والالتزامية موجودتان مع إمكان جعل الحجيّة لأحدهما دون الآخر، فسقوط إحداهما عن الحجيّة لا يعني عدم وجودها وحينئذٍ فإن لم يكن محذور عن شمول دليل التعبد لإحدى الدلالتين فلا قصور في شموله لها.

وثانياً: ما عن المحقق الحائري في الدرر(1):

بأن حجيّة الخبر من باب كشفه نوعاً عن الواقع، وهو كما يكشف عن مدلوله المطابقي كذلك يكشف عن مدلوله الالتزامي، فله كشفان في عرض واحد ويكون حجة من كل جهة، فتكون حجيّته أيضاً من جهتين في عرض واحد، لا أن أحدهما مترتب على الآخر، ولذا أمكن التفكيك بينهما، كما في حجيّة الأصول في المدلول المطابقي دون المدلول الالتزامي.

وفيه: ما في الرشحات(2)

بأنهما ليسا في عرض واحد، بل الخبر يكشف أوّلاً عن مدلوله المطابقي، وبواسطته عن مدلوله الالتزامي، فكما أن دلالته التزامية كذلك جهة كشفه التزامية لمدلوله المطابقي، بل في الحقيقة لا فرق بين الدلالة والكشف، فليس الكشفان في عرض واحد.

تكملة: في قاعدة الجمع مهما أمكن أولى من الطرح

إن أريد بها الجمع العرفي فلا إشكال فيه، وحينئذٍ ف-(الأولى) يكون بنحو اللزوم.

وإن أريد بها الجمع التبرعي، فلا دليل عليها حيث إن دليل التعبد لا

ص: 313


1- درر الفوائد، للحائري: 649.
2- رشحات الأصول 2: 436.

يشمل المتعارضين، بل الدليل على خلافها وهو الأخبار العلاجيّة الآمرة بطرح أحدهما.

وأمّا ما استدل لها: بأن دليل الاعتبار يدل على لزوم العمل بالخبر إلاّ مع فرض محذور عقلي، والمتعارضان يشملهما دليل الحجيّة إلاّ في مقدار المحذور العقلي، فلذا يلزم التأويل ولو تبرعاً إذا ارتفع بذلك التنافي، نظير ارتكاب التأويل في مقطوعي الصدور بل دليل حجيّة الدليل الظني يجعله كمقطوع الصدور اعتباراً.

فيرد عليه: أن القاعدة على فرض صحتها لا تنطبق على ما نحن فيه إذ كما أن هناك أدلة على حجيّة السند كذلك أدلة على حجيّة الدلالة، ولا يمكن العمل بكليهما في المتعارضين إذ الأخذ بسند كليهما يتعارض مع الأخذ بظهورهما، مضافاً إلى أنها في ما ثبت اعتباره سنداً ومع التعارض الاعتبار السندي غير ثابت.

ومن ذلك يظهر عدم صحة قياس ما نحن فيه بمقطوعي الصدور، وذلك لثبوت اعتبار السندين في كليهما مع التعارض في الظهورين، على أنه لا نقول فيهما بالجمع التبرعي بل بالإجمال إن لم يكن مرجح لأحد الظهورين على الآخر.

ص: 314

فصل في الأصل الثانوي في المتعارضين

اشارة

مرّ في الفصل السابق أن الأصل الأولى هو التوقف بالتساقط في المدلول المطابقي، لكن قام الإجماع على لزوم العمل بأحدهما وعدم طرحهما، فهل الأصل الثانوي - مع قطع النظر عن الأخبار العلاجية - هو التخيير أو تعيين ذي المزيّة إن كانت؟ والكلام تارة في المزيّة التي لا توجب الجمع العرفي، وأخرى في ما أوجبته، فهنا مبحثان:

المبحث الأوّل: المزيّة التي لا توجب جمعاً دلالياً

ذهب المحقق الخراساني إلى «أن اللازم - في ما إذا لم تنهض حجة على التعيين أو التخيير بينهما - هو الاقتصار على الراجح منهما، للقطع بحجيّته تخييراً أو تعييناً، بخلاف الآخر لعدم القطع بحجيّته والأصل عدم حجيّة ما لم يقطع بحجيّته»(1).

وأشكل عليه بإشكالات، منها:

الإشكال الأوّل: إنه لا معنى لحجيّة أحد الخبرين على سبيل التخيير، إذ الحجيّة حكم وضعي لا يمكن جعله على هذا أو هذا، كما لا يصح بيع هذا أو هذا... فالذي يعقل في المقام: أن يكون التخيير في الأخذ بأن يخيّر

ص: 315


1- إيضاح كفاية الأصول 5: 242-243.

الشارع المكلّف في الأخذ بأيهما، فإذا أخذ بأحدهما يكون حجة تعييناً، فالحجيّة تُجعل تعييناً على المأخوذ بالتخيير، فهي في رتبة متأخرة عن الأخذ، فما دام لم يأخذ بأحدهما لا يكون هناك حجة في البين، بل تصير حجة بالأخذ الذي هو البناء على العمل به.

ويرد عليه: أوّلاً: أنه إذا كانت الحجيّة متأخرة عن الأخذ، فإن لم يأخذ بأيٍّ منهما فلا إلزام عليه في العمل بأيٍّ من الدليلين وطرحهما، وهو كرّ مما فرّ منه!

ولا يجدي التفصّي: «بأن معنى (بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك) أن الأخذ هو الموجب للتوسعة وعدمه موجب للضيق، والمراد منه أن الإتيان بالحكم الواقعي مطلوب فعلي من المولى، خصوصاً بعد قيام ما يصلح للحجيّة في نفسه وهو الأمارة، وإنّما يمنع عن الحجيّة التعارض، فالمكلّف في ضيق من حيث الحكم الواقعي ينبغي عليه الاحتياط بينهما، وأمّا الأخذ بأحدهما فهو سبب للتوسعة عليه من قبل الشارع بالعفو عنه لو كان الواقع في جانب غيره، فاللازم حينئذٍ على المكلّف إمّا الاحتياط وإمّا الأخذ بأحدهما تخلصاً من الضيق المتوجه إليه من حيث الحكم الواقعي»(1).

وذلك لأن ملاك التنجز هو الوصول أو إمكانه، فمع العلم بأن إتيان الحكم الواقعي مطلوب فعلي مع قيام ما يصلح للدلالة عليه فإن الواقع يتنجز عليه سواء أخذ بأحدهما أم تركهما جميعاً، وعليه فلا دخالة للأخذ في الحجيّة أصلاً.

ص: 316


1- رشحات الأصول 2: 441.

وعليه فلا معنى للتخيير في الحجيّة إلاّ بنحو الوجوب التخييري بأن يكون الحجة أحدهما أو جامع عنواني آخر.

وثانياً: لا فرق بين الحكم التكليفي والوضعي في إمكان التخيير، ولئن قبل باستحالة الفرد المردد حتى في الاعتباريات فإنه تكفي سائر الوجوه التي ذكرت في الواجب التخييري، فتأمل.

الإشكال الثاني: عدم تمامية الدليل في كل الحالات، إذ لو أخذ المكلف بذي المزيّة فحينئذٍ يكون هو المتيقن الحجيّة إذ ملاك الحجيّة إمّا الأخذ أو المزيّة، وكلاهما في ذي المزيّة فلا ملاك للآخر أصلاً، لكن إن أخذ بغير ذي المزيّة فلا متيقن لأن الملاك إن كان المزيّة فذو المزيّة هو الحجة لا ما أخذ به، وإن كان الملاك الأخذ فيكون المأخوذ هو الحجة لا ذو المزيّة، وحينئذٍ فلا يكون من دوران الأمر بين التعيين والتخيير، بل مقتضى العلم الإجمالي الاحتياط بينهما بالعمل بمؤدّى كليهما إن كانا إلزاميين، والعمل بالإلزامي إن كان الآخر غير إلزامي.

نعم، لو قلنا بأن التخيير استمراري فيجوز له الأخذ بذي المزيّة ثانياً فيكون هو الحجة قطعاً دون غيره!!

ويمكن أن يقال: بعد الإشكال على كون الأخذ هو الملاك في الحجيّة، فلا يبقى إلاّ كون المزيّة هي الملاك في كل الحالات، فيدور الأمر بين التعيين والتخيير مطلقاً، فتأمل.

المبحث الثاني: المزيّة التي توجب جمعاً دلالياً

وليس الكلام في المزيّة التي توجب الترجيح السندي، كما لا إشكال

ص: 317

في أنه بالجمع العرفي يرتفع التعارض كالحكومة والورود والتخصيص كما مرّ.

وقد اختلف في موارد بأنه هل المزيّة أوجبت جمعاً عرفياً أم لا، ومنها:

المورد الأوّل: تعارض العام والمطلق الشمولي، كما لو قال: (أكرم الشعراء) وقال: (لا تكرم الفاسق) حيث يتعارضان في الظاهر في الشاعر الفاسق.

فقد قيل: بترجيح العام على المطلق، وذلك لأن دلالة العام على الشمول بالوضع، ودلالة المطلق عليه بمقدمات الحكمة، والتي منها عدم نصب قرينة على الخلاف، ويكفي في القرينة شمول العموم له بالوضع، وعليه فتقديم العام على المطلق لا محذور فيه، وأمّا العكس ففيه محذور التخصيص بلا وجه أو بوجه دائر؛ أمّا التخصيص بلا وجه: فلعدم وجود دليل على تخصيص العام بالمطلق ولا مخصص آخر؛ وأمّا الدور: فلأن الإطلاق يتوقف على تخصيصه للعام وإلاّ كان العام بياناً ومانعاً عن انعقاد الإطلاق، وتخصيصه للعام متوقف على إطلاقه إذ لو لم يكن مطلقاً لما خصّص العام.

وقد ذهب إلى ترجيح العام الشيخ الأعظم(1).

وأشكل عليه صاحب الكفاية(2)

بما حاصله: إن (عدم وجود قرينة على الخلاف) يراد به عدم وجودها في مقام التخاطب، فإذا كمل كلام المتكلم ولم ينصب قرينة على الخلاف فقد انعقد الإطلاق، والقرينة بعد ذلك لا

ص: 318


1- فرائد الأصول 4: 98.
2- إيضاح كفاية الأصول 5: 286.

تضر به بل تقيّده، مع وضوح الفرق بين عدم انعقاد الإطلاق أصلاً وبين انعقاده ثم تقييده، وعليه فينعقد الإطلاق ويتعارضان.

وأجيب: أوّلاً: مبنىً، بأن مجرى مقدمات الحكمة هو في المراد الجدّي الواقعي، فالمقيّد المنفصل هادم للإطلاق أيضاً كالمتصل.

وفيه: أن مقدمات الحكمة تجري في المراد الاستعمالي وبضميمة الأصول العقلائية يتم الكشف عن المراد الجدّي، وعليه فمع تماميّة الكلام وعدم نصب قرينة ينعقد الإطلاق في جميع الأفراد، ومع مجيء المقيّد يتعارض ظهور المطلق مع ظهور المقيّد فيقدّم الثاني لأقوائيته؛ وسبب الأقوائية إن المتكلّم حينما نصب قرينة على الخلاف - ولو كانت منفصلة - فلا معنى لأن يقال: إن ظاهر الجملة السابقة كانت كاشفة عن المراد الواقعي إذ ذلك يوجب كونه متناقضاً في كلامه، فدلالة الاقتضاء تقتضي عدم إرادته جداً لذلك الإطلاق، مع كونه مراداً استعمالاً، فتأمل.

وثانياً: بأنه على فرض صحة ما ذكره، فإنّما يجري لو تأخر العام عن المطلق زماناً، أمّا لو تقدم عليه فيصلح كونه قرينة متصلة تمنع الإطلاق بلا إشكال.

المورد الثاني: ترجيح التخصيص على النسخ.

وقد مرّ تفصيل البحث(1)،

وإنّما نذكر هنا ما لم نذكره هناك، فراجع.

أمّا تصوير الدوران بينهما فهو بأحد وجهين:

الوجه الأوّل: تقدم الخاص والعمل به لفترة ثم صدور العام، كما لو قال:

ص: 319


1- نبراس الأصول 2: 433-440.

(لا تكرم زيداً العالم)، ثم بعد العمل قال: (أكرم العلماء)، وتظهر الثمرة أنه على النسخ يجب إكرام زيد بعد ذلك، وعلى التخصيص يحرم إكرامه.

الوجه الثاني: لو انعكس الأمر بأن تقدم العام وبعد العمل به صدر الخاص، والثمرة في أنه لو ترك العمل بالخاص المقدّم فبناءً على التخصيص لا شيء عليه إلاّ أنه قد تجرّى، وعلى النسخ يكون عاصياً بتركه وعلية القضاء إن كان مما فيه القضاء.

وعليه: فيدور الأمر بين رفع اليد عن أحد ظهوري العام في ما لو كان أسبق، وهما: ظهوره في الاستمرار زماناً فلا نسخ إذ النسخ هو عدم استمرار زمان الحكم، وظهوره في الشمول لجميع الأفراد فلا تخصيص إذ التخصيص هو خروج بعض الأفراد عن العام، وقد مرّ تفصيل الكلام.

ثم إن المحقق العراقي ذكر(1)

ما حاصله: أن الدوران بين التخصيص والنسخ لا يرجع إلى تصادم الظهورين، كي تصل النوبة إلى الجمع الدلالي وترجيح الأقوى ظهوراً، وإنّما هو تصادم بين أصالة الجهة وأصالة الظهور، وذلك لأن النسخ تصرف في جهة الكلام، إذ مرجعه إلى أن الكلام لم يكن صادراً عن واقع بحيث يجب على المكلّف الأخذ به، بل كان بداع ٍ آخر مع حفظ ظهوره ودلالته على مدلوله، فيكون نظير صدور الكلام عن تقية، فاحتمال النسخ لا يرجع إلى الظهور والدلالة، بل إلى مرحلة جهة صدور الكلام، فيكون التعارض بين أصالة الجهة وأصالة الظهور، فلا معنى للبحث عن ترجيح أحدهما في مقام الدلالة والظهور.

ص: 320


1- نهاية الأفكار 4[ق2]: 156.

وأشكل عليه في المنتقى(1)

بما حاصله: أن التقية إمّا في مقام العمل، وإمّا في مقام الحكم، والأوّل غير مراد هنا لأن الدليل الدال على الحكم دال عليه واقعاً وجداً بحيث يجب على المكلّف امتثاله ويأثم بمخالفته، غاية الأمر أن ملاك جعل الحكم هو ملاك واقعي ثانوي محدود وهو حفظ النفس من الهلاك.

فالمراد هو الثاني وهو التقية في مقام الحكم، والمشهور فيه أنه لا مراد واقعي على طبق الإنشاء، بل كان الإنشاء بداعي آخر غير الواقع وهو مجرد الاحتراز عن الضرر، فالغرض متمحض في الإظهار لا غير، وعليه فلا وجوب واقعي على المكلّف، وعليه فيكون التخصيص والنسخ في مرحلة واحدة، إذ التخصيص يكشف عن عدم الإرادة الحقيقية على طبق العام وكذلك النسخ، فيشترك الناسخ والمخصص في أن مفادهما نفي ظهور الدليل في مفاده جداً وحقيقةً، فرجع التصادم إلى مرحلة الدلالة والكشف عن المراد الجدي، فلا بدّ حينئذٍ من مراعاة المرجحات الدلالية، فتأمل.

ص: 321


1- منتقى الأصول 7: 345-347.

فصل في التعارض بين أكثر من دليلين

اشارة

ويدخل فيه بحث انقلاب النسبة، ولا يخفى أن الأخبار المتعارضة كلها في عرض واحد فلا بدّ من ملاحظتها معاً، ولا وجه للعلاج بين خبرين ابتداءً ثم ملاحظة النتيجة الحاصلة مع الخبر الثالث، إذ لا أولويّة لعلاج على آخر، إلاّ لو قام الدليل عليه.

ثم إنه قد تكون النسبة متحدة وقد تكون مختلفة، فهنا مبحثان:

المبحث الأوّل: اتحاد النسبة
اشارة

وهي على ثلاثة أقسام:

القسم الأوّل: عام واحد وخاصان
اشارة

وهذا على ثلاث حالات:

الحالة الأولى: أن تكون النسبة بين الخاصين التباين

فإن لم يكن محذور في التخصيص بهما فلا بدّ من ذلك، كما لو قال: (أكرم العلماء)، و(لا تكرم النحاة الكوفيين)، و(لا تكرم النحاة البصريين)، حيث لا محذور في تخصيص العام بهما فلا بدّ حينئذٍ من التخصيص بهما ترجيحاً للأظهر على الظاهر.

وأمّا لو كان هناك محذور في التخصيص بهما، كما لو استلزم بقاء العام بلا مورد أو استلزم تخصيص الأكثر المستهجن، كما لو قال: (أكرم الشعراء)،

ص: 322

و(لا تكرم الرجال الشعراء)، و(لا تكرم النساء الشاعرات)، حصل التعارض حينئذٍ، وله صور:

الصورة الأولى: أن يكون الخاصان أرجح من العام، فلا إشكال في تقديمهما على العام وطرحه.

الصورة الثانية: أن يكون العام أرجح منهما، فلا بدّ من الأخذ به، لكن هل يطرح كلا الخاصين معاً أم يطرح أحدهما بحيث يلزم الترجيح أو التخيير بينهما.

فقد يقال: إن طرف المعارضة هو الجميع أي ذات الدليلين كلاهما، نظير وجوب المركبات، فإن الواجب هو كل واحد من الأجزاء عند انضمام الآخر إليه لا مجموعها ولا كل واحد منها بنفسه، ومعروض الوجوب هو نفس الجزء عند الانضمام لا بقيد الانضمام.

وقد يقال: إن طرف المعارضة هو المجموع أي وصف الاجتماع.

وقد رجّح المحقق الخراساني الثاني، قال: «فلا بدّ من معاملة التباين بينه وبين مجموعها فإن التباين كان بينه وبين مجموعها لا جميعها»(1).

وأشكل عليه في المنتقى(2):

أوّلاً: بأن طرف المعارضة لا بدّ أن يكون دليلاً فيه جهة الدلالة والحجيّة كي تكون معارضته للدليل الآخر من إحدى الجهتين، وليس وصف الاجتماع دليلاً أخذ موضوعاً للحجيّة ويشتمل جهة الدلالة فلا يصلح أن

ص: 323


1- إيضاح كفاية الأصول 5: 301-302.
2- منتقى الأصول 7: 370.

يكون طرف المعارضة.

وثانياً: لو سلم إمكان كونه طرف المعارضة، فليس هذا النحو من المعارضة مشمولاً للأخبار العلاجيّة المتضمنة لتقديم الراجح وطرح المرجوح، إذ معنى الطرح هو جعل المانع من حجيّة أحد الطرفين، وقد عرفت أن وصف الاجتماع لم يؤخذ في موضوع الحجيّة كي يكون قابلاً للطرح والأخذ.

ثم لو قلنا بأن المعارضة بين العام وذات الدليلين، فهل يسقط كلا الخاصين أو يسقط أحدهما؟

فقد يقال: إن العلم الإجمالي متعلّق بكذب أحد الثلاثة، فلا وجه لطرح الخاصين، إذ بعد تقديم العام لا يعلم إلاّ بكذب أحدهما فيحصل التعارض عرضاً بينهما فتجري أحكام المعارضة بينهما من ترجيح أو تخيير.

وأشكل عليه(1) بإشكالات:

الإشكال الأوّل: إن التنافي المقوّم لمفهوم التعارض لا بدّ أن يكون عرفياً وهو متحقق مع كون التعارض بالذات، وأمّا مع عدم التنافي الذاتي فنفي كل منهما للآخر ليس بحسب الملازمة العرفية، بل الملازمة العقلية الحاصلة من العلم الإجمالي، فلا يصدق عليه التعارض بما له من المفهوم العرفي، ولذا قالوا بتساقط الأصول العملية حين تعارضها، فإنه وإن حصل التعارض بين إطلاق دليلي الأصلين إلاّ أن هذا التعارض بسبب العلم الإجمالي بعدم صحة أحدهما، ولو جرت أدلة التعارض هنا كان لا بدّ من الترجيح أو

ص: 324


1- منتقى الأصول 7: 376.

التخيير لا الرجوع إلى القاعدة الأوّلية التي هي التساقط!

ويرد عليه: أوّلاً: أن الأخبار العلاجيّة خالية عن لفظ التعارض إلاّ مرفوعة زرارة(1)

وعليه فلا دخل لكلمة التعارض فيها لنبحث عن مدلولها، فإطلاق تلك الأخبار العلاجيّة شامل لما كان التعارض عرفياً أم دقياً.

وثانياً: أنه مع إلتفات العرف إلى العلم الإجمالي فإنه يدرك حصول التعارض فيكون عرفياً أيضاً، وبعبارة أخرى: إن منشأ التعارض قد يكون العلم الإجمالي وقد يكون غيره ولا دخل للمنشأ في أحكام الأخبار العلاجيّة.

وثالثاً: أن أدلة الأصول إنّما هي لبيان الوظيفة العملية وهي منصرفة عن مورد التعارض، ومعنى التساقط فيها عدم جريانها أصلاً.

الإشكال الثاني: لو سلمنا شمول الدليل لمطلق التنافي ولو دقةً فإنه لا يشمل ما لو كان بين أكثر من دليلين فلا يتحقق فيه مصداق التعارض، وذلك لأن كلاً من الأدلة لا يتكفل نفي غيره من الدليلين أو الأدلة حيث إن المعلوم كذب أحدهما لا غير، بل مفاده إثبات مدلوله وأن الكاذب يوجد بين الدليلين الآخرين، وبذلك تتحقق المعارضة العرضية بين الآخرين حين ثبوت الأوّل، وهذا ليس من مفهوم التعارض أصلاً، لأن مفهومه التنافي المتقوّم بنفي كل منهما للآخر.

ويرد عليه: أنه لا فرق عرفاً بين التنافي المباشر والتنافي غير المباشر بأن يكون طرف المعارضة معلوماً إجمالاً، فإن مثل: (أكرم الشعراء) و(لا تكرم

ص: 325


1- عوالي اللئالي 4: 133.

رجالهم) و(لا تكرم نساءهم) يدرك العرف بأن أحد الأدلة الثلاثة غير مطابق للواقع، وهذا المقدار يكفي في تحقق التنافي والمعارضة عرفاً.

الإشكال الثالث: مجرد العلم الإجمالي بكذب أحد الخاصين لا ينفع في تحقق المعارضة بينهما، بل لا بدّ من انضمام مقتضى الحجيّة وقابليتها لكل منهما، بحيث تكون حجيّتهما فعلية لولا المعارضة العرضية الحاصلة بالعلم الإجمالي بكذب أحدهما، فالعلم الإجمالي لوحده كاحتمال المصادقة للواقع لا يكون بنفسه مناطاً لشمول دليل الحجيّة للخبر ما لم يكن في الخبر اقتضاء الحجيّة، كذلك العلم الإجمالي بكذب أحد الدليلين لا يكون بنفسه مناطاً للمعارضة بين الدليلين ما لم يكن في الدليلين اقتضاء الحجيّة، وهو غير موجود في ما نحن فيه، إذ بعد ترجيح العام وتقديمه يلزم طرح الخاصين كليهما لأنهما طرفا المعارضة مع العام، ومعنى الطرح هو جعل المانع من حجيّة كل منهما بتقديم الطرف الآخر، فالعلم الإجمالي بكذب أحدهما لا يوجب تشكيل معارضة أخرى عرضية بينهما، لكون حجيّة كل منهما مقرونة بالمانع من غير جهة المعارضة.

وفيه: أن هذا إنّما يصح لو قلنا بالترتيب في الترجيح، وأمّا لو جعلنا الأدلة الثلاثة في عرض واحد فإن كلاً منها لها مقتضى الحجيّة فتتحقق معارضتان معاً عرضية لا طولية إحداهما ذاتية بين العام والخاصين والأخرى عرضية بين الخاصين في فرض ترجيح العام، وهذا الفرض لا يوجب طولية في مقام الترجيح وإنّما في مقام الموضوع، وفي وقت واحد يتم ترجيح العام وأحد الخاصين، فتأمل.

الصورة الثالثة: أن يتساوى العام والخاصان، فلا محذور في حجيّة العام

ص: 326

في بعض مدلوله وليس ذلك من التبعيض في الحجيّة وإنّما توسعة أو تضييق في متعلقها كالعام المخصص بواحد، فحينئذٍ تكون معارضتان، طرف كل معارضة بعض مصاديق العام والخاص المنافي له فيها، بمعنى أن العام له اقتضاء الحجيّة في كل المصاديق، وكل واحد من الخاصين يعارض حجيّته في بعض المصاديق بمعنى أنه يرفع حجيّته عن تلك المصاديق فقط لا غيرها، وعليه: يثبت التخيير بين الأخذ بالخاصين أو الأخذ بأحد الخاصين والأخذ بالعام في مورد الخاص الآخر.

الصورة الرابعة: أن يكون العام راجحاً على أحد الخاصين ومساوياً للآخر أو العكس بأن كان أحد الخاصين راجحاً على العام والآخر مساوياً للعام فكذلك، ففي المصاديق التي يتساوي فيها العام والخاص يتخير، وفي المصاديق الأخرى يأخذ بالراجح.

إن قلت: بناءً على عدم التبعيض في حجيّة العام فإن رجح الخاص المساوي سقط العام عن الحجيّة رأساً فلا معارض للخاص المرجوح، فتكون النتيجة هي العمل بالخاصين معاً!

قلت: إن عدم تبعيض الحجيّة لا يستلزم سقوط العام عن الحجيّة في جميع المصاديق وإنّما تضييق متعلّق الحجيّة كما ذكرنا، وإلاّ لزم سقوط كل عام عن الحجيّة مع ترجيح الخاص عليه من غير فرق بين الترجيح السندي كما في ما نحن فيه أو الترجيح الدلالي كما في كل عام مخصّص.

إن قلت: ظاهر الأخبار العلاجيّة هو كون المعارضة بين الدليلين بحيث يكون لكل منهما سند واحد فيلاحظ الأرجح، وليس الأمر هنا كذلك.

ص: 327

قلت: إن مورد الأخبار العلاجيّة وإن كان الخبران إلاّ أن المورد لا يخصص الوارد، وحتى لو فرض خصوصية الوارد فإن العرف يلغي الخصوصية، ولولا ذلك لزم عدم جريان الأخبار العلاجيّة في كل ما كان التعارض بين أكثر من دليل، ولا فرق حينئذٍ بين جعل المعارضة بين طرفين أحدهما يشتمل على أكثر من خبر وبين جعل المعارضة بين الأطراف الثلاثة، فتأمل.

الصورة الخامسة: أن يكون العام راجحاً على أحدهما ومرجوحاً بالنسبة إلى الآخر، وحينئذٍ لا بدّ من الأخذ بالعام في المصاديق التي يرجح فيها العام على الخاص، وأخذ بالخاص الآخر في سائر المصاديق.

هذا تمام الكلام في الحالة الأولى وهي ما لو كانت النسبة بين الخاصين التباين.

الحالة الثانية: أن تكون النسبة بين الخاصين العموم من وجه

فإن لم يكن محذور في الجمع بين الخاصين وتخصيص العام بهما، فلا تعارض حينئذٍ، فلا بدّ من العمل بهما في مصاديقهما والعمل بالعام في سائر المصاديق، كما لو قال: (أكرم العلماء)، و(لا تكرم النحويين)، و(لا تكرم الصرفيين)، ففي النحوي الصرفي لا محذور بالعمل بكلا الخاصين.

وأمّا لو كان محذور بأن كان بين حكمي الخاصين تنافٍ، كما لو قال: (يجب إكرام الشعراء)، و(يحرم إكرام فساقهم)، و(يستحب إكرام شعراء هذه المدينة)، ففي المجمع وهو فساق شعراء المدينة يحصل التعارض.

فإن كانت الوظيفة الترجيح أو التخيير فلا بدّ في المجمع من تخصيص العام بما أخذ من الخاصين مع تخصيصه بالخاصين في موردي الافتراق

ص: 328

والأخذ به في سائر المصاديق، ولا يلزم من طرح أحد الخاصين في مورد الاجتماع التبعيض في حجيّته، كما لا يخفى.

وإن كان الحكم هو تساقط الخاصين في مورد الاجتماع فقد قيل: بلزوم العمل بالعام في المجمع حيث إنه سليم عن المخصص!

وفيه: إنه بناءً على دلالة المتعارضين على نفي الثالث بالدلالة الالتزامية فلا يجوز العمل بالعام حينئذٍ لأنه الثالث بل لا بدّ من الاحتياط بين الخاصين إن أمكن.

الحالة الثالثة: أن تكون النسبة بين الخاصين العموم المطلق

وهنا صورتان:

الصورة الأولى: أن لا يكون الخاصان متنافيين فلا تعارض، كما لو قال: (أكرم العلماء)، و(لا تكرم النحاة)، و(لا تكرم نحاة البصرة)، فهنا يلاحظ الخاصان معاً ويخصص العام بهما دفعة واحدة.

وقيل: يلزم تقديم الخاص الأخص على الخاص الأعم، فتنقلب النسبة إلى العموم والخصوص من وجه، لأن مصاديق الأخص هي مخصصة على كل حال فهي القدر المتيقن من التخصيص ففي المثال نسبة العلماء غير نحاة البصرة إلى النحاة هي من وجه، فمادّتي الافتراق: العالم غير النحوي، والنحوي الكوفي، ومادة الاجتماع العالم النحوي الكوفي!

وأورد عليه في المنتقى(1):

بأن المقصود من القدر المتيقن من التخصيص إمّا في مقام المراد الاستعمالي وإمّا في مقام المراد الجدي.

ص: 329


1- منتقى الأصول 7: 379.

فعلى الأوّل: تارة: يراد إخراج الأخص إمّا بالدليل الأخص وإمّا بالدليل الأعم، بأن يكون الفرض ترديد المخصص بين عنوانين أخص وأعم، فيكون القدر المتيقن تخصيص العام بمقدار الأخص إمّا به استقلالاً، وإمّا في ضمن تخصيصه بالأعم، وتارة: يراد إخراج الأخص إمّا بالدليل الأخص وإمّا بكلا الدليلين - الأعم والأخص - .

وأوّلهما: لا يجدي في المطلوب، لرجوعه إلى الترديد بين المتباينين لا الأقل والأكثر كي يؤخذ بالقدر المتيقن، نعم هو أفراداً كذلك لا عنواناً كما هو الفرض.

وثانيهما: خلاف القواعد، وذلك لأن القدر المتيقن إنّما يفرض بعد فرض الترديد بين الأمرين، والترديد إنّما يكون بالعلم الإجمالي بأحدهما مع عدم الدليل المعيّن لأحدهما، وفي ما نحن فيه تقتضي القواعد الأصولية تخصيص العام بهما دفعة واحدة، فيرتفع الترديد وينحل العلم الإجمالي حكماً، فلا يبقى مجال للأخذ بالقدر المتيقن! مضافاً إلى عدم انعقاد ظهور العام في غير مورد الأخص في أحد الاحتمالين - وهو تخصيص العام بالأخص والأعم معاً - فكيف يجعل تخصيص العام بالأخص موجباً لانعقاد ظهور له في الباقي لتنقلب النسبة مع الخاص الأعم؟!

وعلى الثاني: - أي إن أريد القدر المتيقن في المراد الجدي - ففيه: أنه ليس متيقناً في نفسه لإمكان كون الخاص في الواقع كاذباً، وإنّما التخصيص بحسب الأدلة اللفظية والقواعد المقتضية لتقديمها فيرجع إلى التردد باعتبار التخصيص لا باعتبار الواقع.

ص: 330

أقول: أمّا الإشكال على الفرض الأوّل فلا دافع له، وأمّا على الفرض الثاني فإن القدر المتيقن كما يكون باليقين الوجداني كذلك يكون باليقين التعبدي، وحيث التزمنا أن الحجيّة إنّما تكون حسب المراد الواقعي فيكون العام حجة في الباقي بعد إخراج الأخص لولا معارضته بالخاص الأعم، وبذلك تنقلب النسبة على القول بها، فتأمل.

الصورة الثانية: أن يكون الخاصان - الأعم والأخص - متنافيين.

1- فإن لم يكن الأخص متصلاً بالعام كما لو قال: (يجب إكرام العلماء)، و(يحرم إكرام النحويين)، و(يستحب إكرام نحاة الكوفة)، فحينئذٍ لا بدّ من تخصيص الخاص بالأخص ثم تخصيص العام بالخاص المخصَّص، والوجه في ذلك: أن الخاص الأعم لا حجيّة له في الخاص الأخص، فلا يمكن قبل تخصيصه من أن يعارض العام، إذ لا بدّ من حجيّة المعارض لولا المعارضة، وحجيّة الخاص الأعم في الباقي إنّما تكون بعد تخصيصه بالأخص، وبعد صيرورته حجة في الباقي يعارض العام معارضة غير مستقرة ويرجح عليه لكونه أظهر، هذا كلّه في الخاصين - الأعم والأخص - المنفصلين عن العام.

2- وإن كان الأخص متصلاً بالعام، كما لو قال: (أكرم العلماء إلاّ فساق النحويين)، وقال: (لا تكرم النحويين)، فالنسبة بينهما العموم من وجه، حيث يجتمعان في عدول النحويين، ويفترقان في الصرفيين غير النحاة، وفي فساق النحويين.

فحينئذٍ لا ينعقد ظهور للعام في العموم الشامل للمتصل، وأمّا ظهوره في الباقي فيتوقف على جريان مقدمات الحكمة، فإن جرت انعقد الظهور في الباقي ونسبة هذا الباقي إلى الخاص نسبة العموم من وجه، وإن لم تجر

ص: 331

رجّح الخاص عليه لأنه هو القرينة المانعة عن انعقاد ظهور العام في الباقي.

فرع: لو كان عام مجرد، وعام متصل بالأخص، وخاص أعم، كما لو قال: (أكرم العلماء)، و(أكرم العلماء غير نحاة البصرة)، و(لا تكرم النحويين)، فقد ذكر المحقق النائيني(1)

ما حاصله: أن نسبة العموم من وجه كما تكون بين العام المتصل وبين الخاص، كذلك بين العام المجرد وبين الخاص.

وقد يستدل له: أوّلاً: بأن العام المتصل يدل بمنطوقه على انتفاء الحكم عن الخاص المتصل، وبمفهومه اللفظي على أن المراد الجدي من العام غير مورد الخاص المتصل، فيكون قرينة على أن المراد الجدي من العام المنفصل هو ذلك، ومن ذلك يتبيّن عدم جريان قاعدة عدم تنافي المثبتين هنا.

وثانياً: إن للخاص المنفصل معارض، فلا يكون صالحاً لتخصيص العام المجرد.

وفيه: أنه لا بدّ من علاج التعارض، فإن كان بترجيح الخاص فيكون حجة وبه يخصص العام المجرد، حيث إن النسبة هي العموم والخصوص المطلق، وإن كان بترجيح العام المتصل فلا بدّ من العمل بالعام المجرد لعدم وجود معارض له - مع غض النظر عما ذكر في الدليل الأوّل - وهكذا لو كان العلاج بالتساقط إذ يبقى العام المجرد من غير معارض.

القسم الثاني: عامّان من وجه مع خاص

وذلك على ثلاثة حالات:

ص: 332


1- فوائد الأصول 4: 744.

الحالة الأولى: أن يرد الخاص على المجمع، فيكون مخصصاً للعامين، وبذلك يرتفع التعارض بينهما، كما لو قال: (يجب إكرام الشعراء)، و(يحرم إكرام الفساق)، و(يكره إكرام فسقة الشعراء).

الحالة الثانية: أن يرد الخاص على محل الافتراق من أحدهما، فإن أخرج تمام مورد الافتراق فلا بدّ في مورد الاجتماع من ترجيح عامه وإلاّ كان لغواً، ولو لم يُخرج الخاص إلاّ بعض أفراد عامه مما لا استهجان في الباقي فالتعارض بين العامين باقٍ، كما لو قال: (يستحب إكرام الشعراء)، و(يحرم إكرام الفساق)، ثم خصص الأوّل بقوله: (يجب إكرام عدول الشعراء)، أو (يجب إكرام شعراء هذا البلد).

الحالة الثالثة: أن يرد الخاص على محل الافتراق من كليهما، كما لو قال: (يستحب إكرام الشعراء)، و(يحرم إكرام الفساق)، و(يكره إكرام الشاعر العادل والفاسق غير الشاعر).

وحينئذٍ فحسب بعض المباني لا بدّ من تقديم الخاص على العامين فتنقلب النسبة بين العامين من العموم من وجه إلى التباين بعد خروج محلّي الافتراق وانحصارهما في المجمع، ففي المثل ينحصر العامّان في الشاعر الفاسق فيتعارضان بالتباين فلا بدّ من إجراء قواعد التعارض من التخيير أو الترجيح، وعلى المبنى الآخر: حيث علمنا إجمالاً بكذب أحد الأدلة وقع التعارض بينها، وقد مرّ البحث في المبنيين.

القسم الثالث: عامّان متباينان مع خاص

وله ثلاث حالات:

ص: 333

الحالة الأولى: كون الخاص لأحدهما، فعلى مبنى تقدم التخصيص يخصص العام بالخاص فتنقلب نسبته مع العام المجرد إلى العموم والخصوص المطلق، كما لو قال: (أكرم الشعراء)، و(لا تكرم الشعراء)، و(أكرم الشعراء العدول)، وكأدلة إرث الزوجة للعقار، فمنها: ما دل على عدم إرثها مطلقاً، ومنها: ما دل على إرثها مطلقاً، ومنها: ما دل على إرث خصوص أم الولد من زوجها المتوفى.

الحالة الثانية: أن يرد الخاص على كليهما مع عدم تنافي الخاصين، فعلى مبنى تقديم التخصيص يخصص العامّان وتنقلب النسبة إلى العموم من وجه ويحصل تعارض في المجمع، كما لو قال: (أكرم العلماء) و(لا تكرم العلماء)، و(أكرم النحاة)، و(لا تكرم الأطباء)، وبعد التخصيص تكون النسبة بين: (أكرم العلماء إلاّ الأطباء)، وبين (لا تكرم العلماء إلاّ النحاة) العموم من وجه، فمورد الاجتماع: الفقيه غير الطبيب وغير النحوي، وموردي الافتراق: الطبيب غير النحوي والنحوي غير الطبيب.

الحالة الثالثة: أن يرد الخاص على كليهما مع تنافي الخاصين بالعموم من وجه، كما لو قال: (أكرم العلماء)، و(لا تكرم العلماء)، و(لا تكرم النحويين)، و(أكرم عدول العلماء)، وحينئذٍ لا يصح تخصيص العامين بالخاصين قبل رفع تعارض الخاصين، إذ لا حجيّة قبل رفع التعارض ولا تخصيص بغير الحجة، وحينئذ...

فإن قلنا: بشمول الأخبار العلاجيّة للعامين من وجه فلا فرق بين انقلاب النسبة وعدمها، إذ في مورد الافتراق يثبت الحكم إمّا بواسطة العامين بناءً

ص: 334

على الانقلاب وحصول التعارض في المجمع فقط، وإمّا بواسطة الخاصين بناءً على عدم الانقلاب، إذ مورد افتراق العام المطروح يثبت له الحكم بواسطة الخاص المخصص للعام المأخوذ به - تخييراً أو ترجيحاً - ، وهكذا في مورد الاجتماع لا يختلف الحال، إذ بناءً على الانقلاب يكون حكم المجمع الترجيح أو التخيير فحينئذٍ يثبت حكم أحد العامّين، وكذلك بناءً على عدم الانقلاب يؤخذ بأحد العامين تخييراً أو ترجيحاً فيثبت به حكم المجمع.

وإن قلنا: بعدم شمول الأخبار العلاجيّة للعامّين من وجه فتختلف النتيجة، إذ بناءً على الانقلاب يتساقط العامّان في المجمع ويكون المرجع الأصول أو القواعد الأخرى، وبناءً على عدم الانقلاب لا يكون الحكم التساقط إذ هما متساويان فتشملهما الأخبار العلاجيّة فيحكم في المجمع بحكم أحدهما تخييراً أو ترجيحاً(1).

المبحث الثاني: في تعدد النسبة

كما لو قال: (يجب إكرام الشعراء) و(يستحب إكرام العدول) و(يحرم إكرام فساق الشعراء) حيث إن النسبة بين الأوّل والثاني هي العموم من وجه وأمّا النسبة بين الأوّل والثالث فهي العموم المطلق.

فعلى القول بانقلاب النسبة يخصص الأوّل بالثالث، فتكون نتيجته (يجب إكرام الشعراء غير الفساق) وهو أخص مطلقاً من (يستحب إكرام العدول).

وأمّا على القول بعدم انقلاب النسبة، فتبقى النسبة بين الأوّل والثاني

ص: 335


1- راجع منتقى الأصول 7: 395.

العموم من وجه فيتعارضان في مورد الاجتماع.

القول الأوّل: الانقلاب، واستدل له بوجوه، منها:

الدليل الأوّل: ما استدل به الشيخ الأعظم على الترتيب في العلاج(1)

بما حاصله: أن عدم الترتيب يستلزم المحذور وهو إمّا بقاء العام بلا فرد وإمّا ترجيح الظاهر على الأظهر، إذ مع عدم تخصيص العام الأوّل بالخاص يستلزم طرح الخاص مع أنه أظهر من العام، ومع تخصيصه به وترجيح العام الثاني على العام الأوّل يلزم لغوية العام الأوّل إذ يبقى بلا مورد، ففي المثال: لو أخرجنا فساق الشعراء بقوله: (يحرم إكرام فساق الشعراء)، وأخرجنا عدول الشعراء بقوله: (يستحب إكرام العدول) بقي قوله: (يجب إكرام الشعراء) من غير فرد.

وأشكل عليه بوجوه، منها:

الإشكال الأوّل: ما ذكره السيد الوالد في الوصائل(2):

بأن ما ذكره هو وجه اعتباري وليس من مراعاة الظهور الذي هو المعيار في دلالة الألفاظ، وذلك لتحيّر العرف في هذه الجمل الثلاث حيث لا يدري ماذا يفعل بها بعد كونها في مرتبة واحدة من دون رجحان بعضها على بعض، ومعه فإذا كانت هناك قرينة تعيّن أحد الأطراف فهو، وإلاّ كان اللازم الرجوع إلى الأصول العملية.

الإشكال الثاني: إن الأمر لا ينحصر بين المحذور المذكور وبين انقلاب

ص: 336


1- فرائد الأصول 4: 111.
2- الوصائل إلى الرسائل 15: 242-243.

النسبة، حتى نضطر إلى الالتزام بالانقلاب بدلالة الاقتضاء، بل هناك شق ثالث هو تساقط الأدلة الثلاث.

وأجيب: بأن العام الثاني لا يصلح لمعارضة العام الأوّل، حيث إن حجيّته في المجمع تستلزم المحذور المذكور وقد مرّ أنه يشترط في المعارضة حجيّة كل من الطرفين أو الأطراف لولا المعارضة، فلو كان هناك مانع عن الحجيّة غير المعارضة لم يكن الدليل صالحاً لها، وعليه فحجيّة (يستحب إكرام العدول) في المثال حيث يستلزم المحذور المذكور مع قطع النظر عن المعارضة فلا حجيّة له فيبقى العام الأوّل وهو (يجب إكرام الشعراء) سليماً عن المعارض فتكون حجيّته فعلية.

الإشكال الثالث: ما لمّح إليه في الكفاية(1)

وحاصله: أن هذا ليس من انقلاب النسبة وإن كانت النتيجة هي نتيجة انقلاب النسبة.

وغير خفي أن هذا لا يضر بالمقصود وهو ترجيح العام الأوّل على العام الثاني في المثال ونحوه.

الإشكال الرابع: إنه لا ينعقد للعام المخصص ظهور في الباقي إلاّ بعد العلاج ونفي معارضة العام الآخر له، ومع عدم العلاج يكون مجملاً فلا يصلح لتخصيص العام الآخر أصلاً.

وأجيب: أوّلاً: بأن العام المخصص هو نص في منتهى التخصيص، فهو بهذا المقدار يقدّم على العام الآخر ويخصصه، وحينئذٍ يمكن التمسك بإطلاقه في جميع الباقي لعدم ورود بيان بالنسبة إليه.

ص: 337


1- إيضاح كفاية الأصول 5: 303-304.

وثانياً: ما قد يقال: من أن احتمال القرينية لا يمنع عن انعقاد الإطلاق وإنّما ثبوت القرينة، ولذا فإن مطلق وجود المعارض لا يمنع عن انعقاد الإطلاق في الباقي، وإنّما وجود المعارض الأظهر، وهكذا في ما نحن فيه إذ المفروض أن النسبة العموم من وجه وهي لا توجب أظهريّة، كما لا جهة أخرى تجعل للعام الآخر أظهريّة، فتأمل.

الدليل الثاني: ما عن المحقق النائيني(1)

وحاصله: أن للكلام دلالة تصورية، ودلالة تصديقية تفهيميّة بمعنى أن المتكلّم أراد تفهيم المعنى المستفاد من الكلام، ودلالة تصديقية جدّية أي أن المراد تفهيمه هو المراد الجدّي للمتكلّم، وموضوع الحجيّة هو هذا، إذ الكشف النوعي للكلام عن المراد الجدّي هو الذي يكون موضوع الحجيّة عند العقلاء، والمعارضة بين الأدلة إنّما هي باعتبار الكشف النوعي لكل منها عن المراد الجدّي المنافي للآخر بحيث لا يمكن الالتزام بهما، وإلاّ فمع الغض عن المراد الجدّي لا تعارض بين الأدلة بلحاظ المستعمل فيه في كل منها، إذ مع العلم بأنه لا مراد جدّي على طبق المستعمل فيه المقصود بالتفهيم لا يكون هناك تزاحم وتعارض بين الأدلة، ومع العلم بأن المراد الجدّي أضيق يتضيّق موضوع الحجيّة قهراً، ومعه تنقلب النسبة بالضرورة.

وعليه: تكون نسبة العام المخصص إلى العام المجرد نسبة الخاص إلى العام إذ ما يلحظ في مقام المعارضة أخص في العام المخصص عنه في العام المجرد.

ص: 338


1- أجود التقريرات 4: 301.

وأشكل عليه(1): أوّلاً: بأن الظهورين بما هما حجة - بحيث يكون وصف الحجيّة مقوماً لموضوع التعارض - لا يكونان طرف المعارضة، بل طرف المعارضة هما ذات الدليلين من غير اتصافهما بالحجيّة، إذ الاتصاف بها يكون بعد العلاج، فقد يتكافأ الدليلان فيسقطان معاً عن الحجيّة، وقد يقدّم أحدهما لكونه أقوى فيتصف بالحجيّة دون الآخر، كما لا يمكن أن يكون طرفا المعارضة ذات الظهورين بالمقدار الذي يكونان به موضوعاً للحجيّة، إذ الحجيّة الفعلية إنّما تكون بعد العلاج، والحجيّة الشأنية لا تتضيّق بالتخصيص، إذ الظهور يبقى على ما كان من قابليته للحجيّة لولا المعارض الأقوى!

وفيه: أن المعارضة إنّما تكون بعد ثبوت حجيّتهما لولا المعارضة، والعام الأوّل لا حجيّة له في العموم حتى مع عدم معارضته للعام المجرد، وذلك لوجود مخصص له فتحقق التعارض بين العامين إنّما يكون بعد تخصيص العام الأوّل، وبه يكون أضيق حسب المراد الجدّي!

وثانياً: إن العام الأوّل وإن صار بعد التخصيص أخص من العام المجرد، إلاّ أنه لا يصير أظهر فلا وجه لتقديمه عليه، حيث إن العام الأوّل حتى بعد التخصيص يبقى على ظهوره في العموم وإنّما تضيّقت حجيّته.

وعليه: فالباقي في العام المخصص مدلول للعام في ضمن دلالته على العموم، فلا يكون العام المخصص أقوى ظهوراً في الباقي من العام المجرد، إذ كل منهما يدل عليه ضمناً بلحاظ دلالته على العموم وإن كان أحدهما

ص: 339


1- منتقى الأصول 7: 355-357.

أضيق من جهة الحجيّة.

الدليل الثالث: وهو مبنائي، فإنه لو قيل بأن دلالة ألفاظ العموم على الاستغراق إنّما تكون بمقدمات الحكمة، وأن هذه المقدمات تجري في المراد الجدّي بحيث يكون الدليل المنفصل - فضلاً عن المتصل - موجباً لتضييق دائرة الإطلاق، فحينئذٍ لا يكون العام الأوّل دالاً على العموم كي يعارض العام المجرد، بل هو خاص بالنسبة إليه فيخصصه وتكون النتيجة هي نتيجة انقلاب النسبة قهراً.

القول الثاني: التفصيل، وذلك لأن تخصيص العام الأوّل في البداية ثم ملاحظة نسبته مع العام المجرد له ثلاث حالات:

الحالة الأولى: أن يكون العام الأوّل أظهر من العام المجرد، وحينئذٍ يقدّم على العام المجرد في مورد الاجتماع سواء قلنا بانقلاب النسبة أم لا، وسواء كان تخصيصه مقارناً لملاحظته مع المجرد أم متأخراً عنه، وذلك لأظهريته على كل حال.

الحالة الثانية: أن يكون العام المجرد أظهر، فإذا قدم التخصيص وصارت نسبة العام المخصص إلى العام المجرد نسبة العموم المطلق صار العام المخصص أظهر فيتقدم عليه، وأمّا إذا تقارن العلاج فإن العام المجرد يتقدم عليه لأظهريته.

وأشكل عليه(1): بأنه لا وجه لتقديم لحاظ الخاص على لحاظ العام الآخر، بل الوجه ملاحظتهما معاً ويخصص بهما العام لتساويهما في مقام

ص: 340


1- منتقى الأصول 7: 366.

المعارضة بالنسبة إلى العام، هذا بناءً على ما هو الصحيح من أن تقدم الخاص على العام إنّما يكون لأظهريته.

الحالة الثالثة: أن يكون العامان - المخصص والمجرد - متساويي الظهور.

فقد يقال: بلزوم ملاحظة الخاص أوّلاً ثم ملاحظة العام المخصص مع العام المجرد، وقد يستدل له:

أوّلاً: بالورود، إذ ملاحظة الخاص أوّلاً سبب تضييق دائرة العام المخصص، وبذلك يرتفع التعارض، وبعبارة أخرى: إن تحقق المعارضة إنّما هو بعد تمامية مقتضي الحجيّة لكلا الطرفين، وتقدم الخاص يرفع موضوع المعارضة رأساً، فلذا كان الورود!

وفيه: أن الورود فرع حجيّة الدليل الوارد، وقبل علاج المعارضة لا حجيّة ليكون وروداً.

وثانياً: إن المعارضة لا تكون إلاّ بعد تمامية المقتضي في كلا الدليلين، لأنها مانع وهو متأخر رتبة عن المقتضي، والخاص إن كان يحدّد ظهور العام فلا ظهور للعام في العموم قبل ملاحظة الخاص، وإن كان يحدّد حجيّته فلا حجيّة للعام المخصص إلاّ بعد تخصيصه.

وفيه:أن المعارضة إنّما تكون في ما هو حجة لولاها، والعام الأوّل حجة في العموم لولا العام الثاني ولولا المخصص فكلاهما مانع عن حجيّته لا أن أحدهما في رتبة المقتضي والآخر في رتبة المانع، فتأمل.

تكملة: في مثال تطبيقي في العارية

وردت أدلة متعددة في العارية وضمانها، وقد يدّعى انقلاب النسبة فيها،

ص: 341

فقد وردت أربع طوائف هي: 1- عدم الضمان في العارية مطلقاً، 2- وعدم الضمان إلاّ مع الشرط إلاّ في الدراهم، 3- وعدم الضمان إلاّ مع الشرط إلاّ في الدنانير، 4- وعدم الضمان إلاّ في الذهب والفضة.

والطائفة الأولى: عام فوقاني مجرد، كقول الصادق (علیه السلام): «ليس على المستعير عارية ضمان، وصاحب العارية والوديعة مؤتمن»(1).

والطائفة الثانية والثالثة: عام متصل بالأخص، كقوله (علیه السلام): «لا تضمن العارية إلاّ أن يكون قد اشترط فيها ضمان إلاّ الدنانير فإنها مضمونة وإن لم يشترط فيها ضماناً»(2)،

وكقوله (علیه السلام): «ليس على صاحب العارية ضمان إلاّ أن يشترط صاحبها، إلاّ الدراهم فإنها مضمونة، اشترط صاحبها أم لم يشترط»(3).

والطائفة الرابعة: خاص أعم متصل بالعام كقوله (علیه السلام): «العارية ليس على مستعيرها ضمان، إلاّ ما كان من ذهب أو فضة فإنهما مضمونان اشترطا أو لم يشترطا»(4).

وهنا أربعة مطالب:

المطلب الأوّل: النسبة بين العام وبين الدرهم والدينار والاشتراط.

إن الطائفة الثانية والثالثة لهما عقد إيجابي هو الضمان مطلقاً في عارية

ص: 342


1- تهذيب الأحكام 7: 183؛ عنه وسائل الشيعة 19: 93.
2- الكافي 5: 238؛ عنه وسائل الشيعة 19: 96.
3- تهذيب الأحكام 7: 184؛ عنه وسائل الشيعة 19: 97.
4- من لا يحضره الفقيه 3: 192؛ عنه وسائل الشيعة 19: 97.

الدرهم والدينار، وعقد سلبي هو عدم ضمان كل عارية لم يشترط فيها إلاّ الدرهم والدينار، والعقد الإيجابي فيهما يخصص الطائفة الأولى وكذلك العقد الإيجابي في رواية الدرهم يخصص العقد السلبي في رواية الدينار، وهكذا العقد الإيجابي في رواية الدينار يخصص العقد السلبي في رواية الدرهم، وكذلك الطائفة الثانية والثالثة تخصص الأدلة الدالة على عدم الضمان في ما إذا اشترط فيها، ولا معارضة في كل ذلك، بل عام له خواص غير متعارضة.

المطلب الثاني: النسبة بين الذهب والفضة وبين الدرهم والدينار.

فقد يقال: إن النسبة بينها العموم من وجه، فالعقد الإيجابي في الطائفة الرابعة يدل على ثبوت الضمان في كل عارية من الذهب والفضة سواء كان مسكوكاً أم غير مسكوك، فيكون معارضاً مع العقد السلبي في الطائفة الثانية والثالثة الذي يدل على عدم ضمان كل عارية غير مشروطة ما عدا الدرهم والدينار.

فمورد الاجتماع: الذهب والفضة غير المسكوكين حيث دلّت الرابعة على الضمان، والثانية والثالثة على عدم الضمان؛ ومورد افتراق الرابعة: المسكوك الذي هو الدرهم والدينار؛ ومورد افتراق الثانية والثالثة: هو ما لم يكن من الذهب والفضة كالكتاب والقلم(1).

وعليه: فعلى مبنى التساقط لا بدّ من الرجوع إلى العام الفوقاني وهو

ص: 343


1- ضمان عارية الذهب والفضة *** عدم ضمان عارية غير الدرهم والدينار الدرهم والدينار ---- الحلي والسبائك ---- الكتاب

الطائفة الأولى الدالة على عدم الضمان، وعلى مبنى انقلاب النسبة - بواسطة المخصص وإن كان منفصلاً - فالعام الفوقاني أيضاً يكون طرفاً في المعارضة، إذ بعد ورود الدليل على ضمان الدرهم والدينار تتضيق دائرة حجيّته، فيكون متطابقاً مع الطائفة الثانية والثالثة، وعليه فإمّا تتساقط جميع الطوائف ويكون المرجع الأصل العملي أو التخيير بينها - حسب المباني المختلفة - .

المطلب الثالث: النسبة بين دليل عدم الضمان إلاّ مع الاشتراط، وبين دليل ضمان الدرهم والدينار.

فقد قيل: بالتعارض بين العقد الإيجابي لكل منهما مع العقد السلبي للآخر.

أ- فإن العقد الإيجابي في دليل الاشتراط (بالضمان مع الاشتراط) ينافي العقد السلبي في دليل الدرهم والدينار (بنفي الضمان في غير عارية الدرهم والدينار سواء اشترط أم لا).

ب- كما أن العقد السلبي في دليل الاشتراط (بعدم الضمان مع عدم الاشتراط سواء كان درهماً وديناراً أم لا) ينافي العقد الإيجابي لدليل الدرهم والدينار (بثبوت الضمان في الدرهم والدينار ولو مع عدم الاشتراط).

وعليه: فلا بدّ من علاج تعارضهما أوّلاً ثم ملاحظة النسبة مع العام الفوقاني، وذلك لأن الخاص الذي له معارض لا يصلح لتخصيص العام، نعم القدر الجامع بين المخصصات وهو القدر المتيقن يخصص به العام حتى قبل العلاج وهو محل اتفاق الطائفتين أي ضمان عارية الدرهم والدينار مع

ص: 344

الاشتراط.

وفيه نظر: وذلك لأن دليل الاشتراط هو نفس دليل الدرهم والدينار، وفيه تصريح بثبوت الضمان في الدرهم والدينار حتى مع عدم الاشتراط كقوله (علیه السلام): «إلاّ الدراهم فإنها مضمونة اشترط صاحبها أم لم يشترط» وكقوله (علیه السلام): «إلاّ الدنانير فإنها مضمونة وإن لم يشترط فيها ضماناً».

وعليه: فلا معارضة بين العقد الإيجابي في الدرهم والدينار وبين العقد السلبي في الاشتراط، إذ الأوّل أخص مطلقاً من الثاني للتصريح بثبوت الضمان في مورد الاجتماع.

كما لا معارضة بين العقد السلبي في الدرهم والدينار بعدم الضمان في غيرهما وبين العقد الإيجابي في الاشتراط بالضمان مع الاشتراط، وذلك لأن استثناء الدرهم والدينار عن عدم الضمان كان بعد استثناء الاشتراط عنه فالعام قد اتصل باستثنائين وهما يخصصانه معاً، فلا معارضة أبداً لأن عقد السلب مضيّق منذ البداية بواسطة عقد الإيجاب.

وهكذا الأمر في روايه الذهب والفضة والاشتراط.

المطلب الرابع: النسبة بين دليل الاشتراط ودليل الذهب والفضة.

إن الدليل الدال على ضمان عارية الذهب والفضة دلّ على عدم الفرق بين الاشتراط وعدمه حيث قال (علیه السلام): «العارية ليس على مستعيرها ضمان، إلاّ ما كان من ذهب أو فضة، فإنهما مضمونان اشترطا أم لم يشترطا»(1)، وظاهر ذلك أن الضمان مع الاشتراط في غيرهما أمر مفروغ عنه، فلذا لا

ص: 345


1- من لا يحضره الفقيه 3: 192؛ عنه وسائل الشيعة 19: 97.

يكون عقد السلب (وهو عدم الضمان في العارية) مطلقاً ليشمل صورتي الاشتراط وعدمه في غير الذهب والفضة، وحينئذٍ تكون النسبة بين دليل الاشتراط ودليل الذهب والفضة العموم والخصوص المطلق.

فيكون حاصل الجمع بين الأدلة هو عدم الضمان في العارية، وثبوته في الذهب والفضة والدرهم والدينار حتى مع عدم الاشتراط، وأمّا في غيرها فلا ضمان إلاّ مع الاشتراط.

بل حتى لو قيل بأن النسبة هي العموم والخصوص من وجه بحيث يكون المجمع هو الحلي غير المسكوكة مع عدم الاشتراط، ومحل افتراق دليل الذهب والفضة هو الدرهم والدينار، ومحل افتراق دليل عدم ضمان غير الدرهم والدينار مع عدم الاشتراط هو مثل الكتاب... فحينئذٍ في المجمع لا بدّ من ترجيح دليل ضمان الذهب والفضة لئلا يكون لغواً، إذ لولا ذلك لكان دالاً على الفرد النادر حيث إنه من النادر استعارة الدرهم والدينار فلا بدّ من إدخال المجمع فيه بدلالة الاقتضاء، وذلك لأن ذكر المطلق وإرادة الفرد النادر منه مستهجن.

ص: 346

فصل في الأخبار العلاجيّة

اشارة

هل مدلولها وجوب الترجيح بذي المزيّة - المنصوصة أو الأعم - أم أن مدلولها التخيير!

وعمدة الأخبار هي مقبولة عمر بن حنظلة، ومرفوعة زرارة، والأخبار الدالة على الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة، وأخبار التخيير، فلا بدّ من ملاحظة كل واحد منها ثم ملاحظة نسبة بعضها مع بعض، فهنا مبحثان:

المبحث الأوّل: في أخبار الترجيح
اشارة

وهي طوائف:

الطائفة الأولى: المقبولة والمرفوعة
1- أمّا المقبولة

فقد رويت في الكافي والتهذيب والفقيه عن عمر بن حنظلة قال: «سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث» إلى أن قال: «قلت: فكيف يصنعان؟ قال: ينظران إلى من كان منكم ممّن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً» إلى أن قال: «قلت: فإن كان كل رجل اختار رجلاً من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقهما واختلفا في ما حكما، وكلاهما اختلف في حديثكم؟ قال: الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في

ص: 347

الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى حكم الآخر. قلت: فإنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على الآخر؟ فقال: ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه من أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك فإن المجمع عليه لا ريب فيه، وإنّما الأمور ثلاثة: أمر بيّن رشده فيتبع، وأمر بيّن غيّه فيجتنب، وأمر مشكل يردّ علمه إلى الله وإلى رسوله» إلى أن قال: «قلت: فإن كان الخبران عنكما مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟ قال: ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة فيؤخذ به ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنة ووافق العامة» إلى أن قال: «قلت: فإن وافق حكامهم الخبرين جميعاً؟ قال: إذا كان ذلك فأرجه حتى تلقى إمامك فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات»(1).

وأشكل على الاستدلال بها تارة في سندها، وأخرى بعدم ارتباطها بما نحن فيه، وثالثة في إجمالها، ورابعة بمعارضتها لأخبار أخرى، فالإشكال من وجوه:

الوجه الأوّل: الإشكال في سندها.

وفيه: صحة سند الصدوق في الفقيه إلى عمر بن حنظلة، وهو من مشايخ الثلاثة فهو ثقة أيضاً على المبنى، مضافاً إلى عمل المشهور بها وتلقيهم إياها بالقبول، بل تسالم الأصحاب عليها، فلا إشكال في سندها.

الوجه الثاني: إنها مجملة، حيث إن ظاهرها يخالف ما هو المتسالم

ص: 348


1- الكافي 1: 68؛ تهذيب الأحكام 6: 218؛ من لا يحضره الفقيه 3: 8.

عليه، فلا بدّ من ردّ علمها إلى أهلها، وذلك من جهات:

منها: أن فصل الخصومة لا يتناسب مع الرجوع إلى رجلين حيث لا تنحل الخصومة مع اختلافهما، وعليه فلا يُعلم الوجه في فرض التخاصم إلى رجلين!

وفيه: أن المفروض في المقبولة هو: «فرضيا أن يكونا الناظرين في حقهما» فالكلام في هذا الفرض سواء علمنا وجهه أم لم نعلم، بل تظهر الثمرة مع اتفاقهما في الحكم حيث يطيب خاطر المتخاصمين، كما أنه مع اختلافهما تُفصل الخصومة بالترجيح بالميزات، نظير استفتاء المقلدين في ما يختلفون فيه من مراجعهم حيث يكثر موارد اتفاقهم مما يرفع الاختلاف.

ومنها: أنه ورد في صدر المقبولة: «الراد عليهم كالراد علينا» وعليه فلا يحق لأحدهما الحكم بخلاف ما حكم به الآخر قبله، فكيف يمكن فرض صدور حكمين مختلفين عنهما؟

وفيه: أن مفروض السؤال رضاهما باثنين لا بواحد، فلا يكون حكم أحدهما نافذاً حتى لو سبق حكمه، كما هو شأن حكّام المراضاة، مضافاً إلى أن ظاهر المقبولة هو تداعيهما حيث يمكن أن يقال: إنه لا ينفذ حكم قاضي أحد المدعيين على المدعي الآخر إذا لم يكن قد رضي به بإنفراده، وأيضاً إن عدم جواز مخالفة حكمه إنّما هو في ما لم يُعلم خطؤه أو خطأ مستنده، ولعلّ المفروض في المقبولة علم كل واحد منهما بخطأ مستند الآخر، فإن عدم جواز الردّ إنّما هو لو حكم بحكمهم (علیهم السلام) لا مع خطئه في حكمه حسب تصور الحاكم الآخر.

ص: 349

ومنها: أن كل واحد من الحاكمين إمّا عثر على الرواية الأخرى أم لم يعثر عليها، وعلى كل حال لا يحق له الحكم، إذ على الأوّل لا بدّ له من ملاحظتها عند الحكم، وعلى الثاني لا يحق له الحكم مع عدم فحصه!

وفيه: أنه لعلّ كل واحد منهما عثر على رواية الآخر لكن رأى فيها خللاً في سندها أو دلالتها أو جهة صدورها، كما يشاهد في اختلاف الفتاوى مع اطلاع المختلفين على الروايات المختلفة التي كانت منشأ لاختلافهم، بل في القضاة حكام الشرع أيضاً.

ومنها: أنه لا بدّ للمتخاصمين من التعبد بحكم الحاكم الشرعي ولا يحق لهما التحرّي عن مستند حكمهما، فكيف يؤمران في المقبولة بالفحص عن مستند حكمهما؟

وفيه: أنه بعد عدم نفوذ حكم كل منهما - إمّا من باب أن التراضي حصل عليهما معاً لا على أحدهما، أو من باب أنه من التداعي وحكم كل واحد ينفذ على من راجعه دون الآخر الذي راجع غيره - كان لا بدّ من رفع الخصومة، فيكون حكمه (علیه السلام) إرشاد إلى كيفية رفعها عبر مراجعة المستند، مضافاً إلى أنه لا محذور في التحرّي عن المستند وعدم منافاته للتعبد بحكم الحاكم لاحتمال وجدان خلل فيه يراجع فيه إليه مرّة أخرى لتنبيهه على خطئه إن كان، كما أنه لا محذور في العمل بما في المقبولة من التحرّي حين اختلافهما في الحكم.

الوجه الثالث: عدم ارتباطها بما نحن فيه، من جهات متعددة:

منها: أن موردها قضية قضائية في تنازع في دين أو ميراث، ولا يصح

ص: 350

تعميمها إلى الترجيح في مقام الفتوى، إذ دلّت المقبولة على الترجيح بين قاضيين، ومع تساويهما فالترجيح بين مستندهما من الخبرين، حيث لا يمكن التخيير في مقام فصل الخصومة إذ كل خصم يختار الخبر الذي هو بصالحه، وقطع الخصومة - الذي لا بدّ منه في القضاء - يقتضي الأخذ بذي المزيّة، وأمّا في غير الخصومة كمقام الإفتاء فلا محذور في التخيير حيث يمكن الأخذ بأيٍّ منهما من باب التسليم.

وفيه: أن المورد وإن كان في المتخاصمين إلاّ أن الظاهر أن الإمام (علیه السلام) طبق القاعدة العامة في الخبرين على المورد، فظاهر تتمة المقبولة أن الملاك هو الترجيح بين الخبرين، حتى أن صفات القاضي - من الأعدليّة والأفقهيّة والأصدقيّة والأورعيّة - إنّما هي من باب كونه راوي الحديث الذي حكم به فرجع ذلك إلى الميزة في الخبر، ويؤيد ذلك فهم المشهور عموم الوارد مع قطع النظر عن خصوصية المورد.

مضافاً إلى ما في المنتهى: من «أن التخيير هو في المسألة الأصولية - أي أخذ أحدهما حجة - فالترجيح أيضاً يكون معناه أخذ ذي المزيّة حجة، فإذا كان ما هو الحجة هو ما له المزيّة وغيره ليس بحجة فلا فرق بين أن يكون المجتهد في مقام الحكم أو مقام الفتوى، وفي كليهما يجب أن يعمل على طبق الحجة، وأمّا احتمال أن الشارع جعل ما له مزية حجة في باب الحكم دون الفتوى فبعيد بل عجيب»(1).

هذا مضافاً إلى التعليل بقوله: «فإن المجمع عليه لا ريب فيه» وهذا التعليل

ص: 351


1- منتهى الأصول 2: 770.

يشترك فيه الحكم والفتوى.

ومنها: ظهورها في عدم كون التعارض بين السندين - حيث بحثنا الآن - بل في مقام آخر هو تمييز الحجة عن اللاحجة، لأن المشهور بمعنى الظاهر الواضح، وهو يساوق الاطمئنان كما يدل عليه قوله (علیه السلام): «فإن المجمع عليه لا ريب فيه» ونفي الريب ظاهر في حصول الاطمئنان به، وكذا قوله (علیه السلام): «أمر بيّن رشده» حيث هو أمر ارتكازي طبّقه الإمام (علیه السلام) على المجمع عليه وذلك يدل على كونه مقطوع الصدور، وكونهما مشهورين كما فرض الراوي يعنى كونهما مقطوعي الصدور فلا تعارض حينئذٍ بين السندين، فلا دلالة للمقبولة على ما نحن فيه.

ويرد عليه: أوّلاً: إن الشهرة قد تكون عن الإمام (علیه السلام) وهي بمعنى تواتر الخبر عنه، وقد تكون عن الراوي فيكون الخبر كغيره من الأخبار لا يوجب اطمئناناً بصدوره عن الإمام (علیه السلام) ، ومن المتعارف إطلاق الشهرة على هكذا أخبار.

وثانياً: إن تفسير المشهور بالوضوح الموجب للقطع لا يتناسب مع صدر المقبولة حيث تقديم الترجيح بالأعدليّة والأفقهيّة والأصدقيّة والأورعيّة، فإن مخالف المشهور حسب هذا التفسير لا حجيّة فيه فلا تصل النوبة إلى النظر في صفاته.

وثالثاً: إن القطع بصدور أحدهما لا يلازم القطع بعدم صدور الآخر، بل يمكن صدورهما معاً - كما فرض الراوي من كونهما مشهورين - فلذا يكون الترجيح بأخذ سند المقطوع وترك سند غير المقطوع، فرجع الأمر إلى الترجيح بالسند.

ص: 352

ورابعاً: إن كون المجمع عليه لا ريب فيه لا يراد به عدم الريب من جهة المضمون إذ فرض كونهما مشهورين لا ينسجم مع هذا المعنى، بل المراد لا ريب في صدوره أو لا ريب في كونه حجة، وكون الآخر فيه الريب لا يدل على عدم صدوره أو عدم كونه حجة في نفسه، بل لمّا عارضه المقطوع الصدور صار من المشكل الذي لا بدّ من ردّ علمه إلى الله ورسوله وعدم العمل به، وهذا لا ينافي حجيّته في نفسه لولا المعارض، فتأمل.

والحاصل: أن دلالة الرواية على الترجيح بالسند في مقام الفتوى لا غبار عليه.

ومنها: أن الراوي يفرض أن الحاكمين يستندان إلى الكتاب والسنة، فمعنى ذلك كون كلامه في ما كان قطعي الصدور وإنّما اختلافهما في الاستظهار منهما.

وفيه: إن فرض الراوي ليس في ما استظهراه من الكتاب والسنة، وإنّما فرضه في ترجيح كل واحد منهما خبراً وقد استظهر مطابقته للكتاب، مع إمكان موافقة كلا الخبرين لظاهر الكتاب، فليس الكلام في تعارض قطعيّي الصدور كما هو واضح حيث قال الراوي: «أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنة ووجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامة...».

ومنها: اختصاص المقبولة بزمان الحضور حيث يمكن الوصول إلى الإمام (علیه السلام) بقرينة قوله في آخرها: «فأرجه حتى تلقى إمامك».

وفيه: إن هذا ينافي أخبار التخيير، لأن حمل الترجيح ثم التوقف على زمان الحضور يستلزم حمل أخبار التخيير على زمان الغيبة، وهو غير

ص: 353

معقول، لأن أكثر أخبار التخيير إنّما هي في جواب من سئل عن حكم التعارض وكان ذلك قبل زمان الغيبة بأكثر من مائة عام!

الوجه الرابع: وجود المعارض للمقبولة، وذلك من جهات أيضاً:

منها: أخبار التخيير حيث إن العمل بالمقبولة يستلزم حمل أخبار التخيير على موارد نادرة جداً، إذ قلّما يكون الخبران متساويين، فتخصيص أخبار التخيير بها يستلزم تخصيص الأكثر المستهجن.

وفيه: إن الموارد التي لا يعلم بوجود هذه المرجحات فيها كثيرة، وكذا ما تساوت فيه أو ترددنا فيها، فإن المراد من أخبار الترجيح هو مورد العلم بهذه الميزات، ولا علم غالباً، وحتى لو كانت المرجحات في مقام الثبوت، فإنّما الإثبات طريق إليها، والجمع بين أخبار التخيير والترجيح يقتضي حملها على الترجيح في ما لو علمنا بها دون ما لو لم نعلم.

ومنها: أن أمره (علیه السلام) بالإرجاء بعد فقد المرجحات المذكورة خلاف أخبار التخيير، بل خلاف المشهور من التخيير عند فقدها.

وفيه: أن التوقف خاص بزمان يمكن فيه لقاء الإمام (علیه السلام) وهو زمان الحضور بقرينة قوله (علیه السلام): «فأرجه حتى تلقى إمامك»، والتوقف في زمن إمكان ذلك لا يخالف المشهور، وحتى لو فرض معارضة هذا المقطع لأخبار التخيير المعمول بها فعدم العمل بجزء من الخبر لا يسقط سائره عن الحجيّة، وأمّا الترجيح فليس خاصاً بزمان الحضور لأولوية زمان الغيبة عن زمانه، فإنه لو جاز أو وجب الترجيح مع إمكان الوصول إلى الإمام وتحصيل العلم بعد فترة ليست بالطويلة فالترجيح في زمان عدم إمكان

ص: 354

الوصول إليه أولى، بل إن مناسبة الحكم والموضوع تقتضي عدم اختصاص الترجيح بزمان دون زمان كما قيل.

فتحصل من كل ذلك اعتبار المقبولة ودلالتها على الترجيح مع وجود المرجحات.

2- وأمّا المرفوعة

فهي ما رواه ابن أبي جمهور الأحسائي عن العلامة الحلي رفعه إلى زرارة قال: «سألت أبا جعفر (علیه السلام) فقلت: جعلت فداك يأتي عنكم الخبران والحديثان المتعارضان فبأيهما آخذ؟ فقال: يا زرارة خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر. قلت: يا سيدي إنهما مشهوران مأثوران عنكم؟ فقال: خذ بما يقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك. قلت: فإنهما معاً عدلان مرضيان موثقان؟ قال: انظر ما وافق العامة فاتركه وخذ بما خالف فإن الحق في خلافهم. قلت: ربما كانا موافقين لهم أو مخالفين فكيف أصنع؟ قال (علیه السلام): إذن فخذ بما فيه الحائطة لدينك واترك الآخر. قلت: فإنهما معاً موافقان للاحتياط أو مخالفان فكيف أصنع؟ فقال: إذن فتخيّر أحدهما ودع الآخر»(1).

وأشكل عليها: بإشكالات منها:

الإشكال الأوّل: في سندها حيث إنها مرسلة، بل لا توجد في المجاميع، ولم نجدها في كتب العلامة، مع ما في العوالي من نقل الأخبار الضعاف وأخبار العامة.

ص: 355


1- عوالي اللئالي 4: 133؛ عنه مستدرك الوسائل 17: 303.

ويمكن أن يقال: إن إرسالها لا يضر بعد أخذها مؤيدةً للمقبولة، ولا ضير في عدم وجودها في المجاميع لأنها لا تحتوي إلاّ على ما اختاره أصحابها من الأصول الأربعمائة وغيرها، كما أن بعض كتب العلامة مفقودة لم تصلنا، ولا بأس بجمع مختلف الأخبار لعلّها تكون شاهداً أو مؤيداً.

الإشكال الثاني: في دلالتها حيث إنها في تمييز الحجة عن اللاحجة فلا ترتبط بما نحن فيه، وذلك لأن الأعدلية المذكورة فيها منسلخة عن معنى التفضيل بقرينة سؤاله بعد ذلك بقوله: «فإنهما معاً عدلان مرضيان موثقان».

وفيه: إن فرض تساويهما في العدالة هو فرض آخر لا ينافي فرض أعدلية أحدهما، فيكون حاصل الفقرتين: رجح بالأعدلية، فإن تساويا في العدالة فبمرجح آخر، وعليه فلا يكون قرينة على رفع اليد عن ظاهر أفعل التفضيل.

الإشكال الثالث: معارضة المقبولة لها في ترتيب المرجحات وفي اختلافهما في المرجحات المذكورة فيهما، حيث إن ظاهر الخبرين هو وجوب مراعاة المرجحات بحسب الترتيب المذكور فيهما، ففي المقبولة الترجيح بالصفات كالأعدلية ثم الشهرة ثم موافقة الكتاب ومخالفة العامة ثم ميل حكامهم ثم الإرجاء حتى يلقى إمامه، وفي المرفوعة: الشهرة ثم الأعدلية والأوثقية ثم مخالفة العامة ثم الاحتياط ثم التخيير.

والجواب: أوّلاً: بناءً على التعدّي إلى الميزات غير المنصوصة يكون المقصود هو الاكتفاء بوجود ميزة من غير ترتيب بحيث يكون الخبر أقرب إلى الواقع - كما سيأتي - فيكون الترتيب غير لازم المراعاة.

ص: 356

وثانياً: على فرض لزوم الترتيب، فإن كلا الخبرين اتفقا على تقديم الشهرة، لأن الأعدلية وأخواتها في المقبولة ترتبط بمرجحات الحكم القضائي لا مرجحات الرواية فهي خارجة عن دائرة البحث، وعليه فلو تعارض الخبران في الباقي فإن ذلك لا ينافي حجيّة ما اتفقا فيه، مع ترجيح المقبولة في ما اختلفا فيه.

وثالثاً: إنه لا تعارض في باقي الفقرات أيضاً لأن المرفوعة - على فرض حجيّتها - ذكرت الأعدلية والأوثقية، والمقبولة مطلقة من هذه الجهة فلا محذور في تقييدها بالمرفوعة، كما أنه لا محذور في تقييد المرفوعة بالمقبولة في موافقة الكتاب ومخالفته - اللذين لم يذكرا في المرفوعة - كما أن الاحتياط لا ينافي الإرجاء حتى لقاء الإمام إذ لا محذور في الاحتياط حتى مع العلم بالحكم فعليه فيمكن أن يكون وجوب الاحتياط خاصاً في زمان الظهور بعين ما ذكرناه في الإرجاء في المقبولة، كما يمكن تقييد التخيير بصورة عدم إمكان لقاء الإمام (علیه السلام) .

والحاصل: أن العمل إنّما هو بالمقبولة، وأمّا المرفوعة فهي مؤيد لها في ما اتفقا فيه وهو الابتداء بالترجيح بالشهرة وأمّا سائر الفقرات فإن أمكن الجمع بينهما فهو، وإلاّ فالعمل بالمقبولة.

الطائفة الثانية: أخبار موافقة الكتاب ومخالفته

وهذه الأخبار طائفتان.

فمنها: ما كانت في التباين الكلي وغير خفي أن المخالف له بهذا المعنى باطل وزخرف وليس بحجة والموافق له حجة قطعاً، وليس الكلام في هذه الطائفة.

ص: 357

ومنها: ما كانت المخالفة للظاهر الظني للكتاب كالعموم والخصوص، وهذا قد وقع كثيراً إذ ما من شك في تخصيص ظاهر الكتاب بالخبر الواحد، بل وقع تخصيصه بالخبر المتواتر، ولا تعارض إذ لا يعقل تعارض العِلمين، وعليه فلو تعارض خبران أحدهما موافق لعموم الكتاب مثلاً والآخر مخصص له، فهل يلزم ترجيح الأوّل على الثاني؟

وهي أخبار مستفيضة معمول بها، واضحة الدلالة، فمنها: المقبولة والمرفوعة، ومنها: روايات رواها الراوندي في رسالته وقد رواها عنه في الوسائل(1)

كالذي رواه بسند صحيح عن الإمام الصادق (علیه السلام): «إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فذروه...»(2)،

ومنها: خبر العيون عن الإمام الرضا (علیه السلام): «فما ورد عليكم من خبرين مختلفين فاعرضوهما على كتاب الله فما كان في كتاب الله موجوداً حلالاً أو حراماً فاتبعوا ما وافق الكتاب»(3).

والحاصل: أن في هذه الأخبار كفاية، وإن أشكل على الاستدلال بها بعض من جهة السند تارة ومن جهة الدلالة أخرى إلاّ أنها إشكالات غير واردة.

الطائفة الثالثة: أخبار مخالفة العامة وموافقتهم

وهي أخبار مستفيضة واضحة الدلالة معمول بها فلا بدّ من العمل بها،

ص: 358


1- وسائل الشيعة 27: 118-119.
2- وسائل الشيعة 27: 118.
3- عيون أخبار الرضا (علیه السلام) 2: 20؛ عنه وسائل الشيعة 27: 114.

فمضافاً إلى المقبولة والمرفوعة، ما في صحيحة الراوندي الآنفة الذكر: «فإن لم تجدوه في كتاب الله فاعرضوهما على أخبار العامة فما وافق أخبارهم فذروه وما خالف أخبارهم فخذوه»، وخبره الآخر: «إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فخذوا ما خالف القوم»، وما رواه الكليني في مقدمة الكافي: «فإن الرشد في خلافهم»(1) وما رواه في الاحتجاج: «خذ بما خالف العامة»(2).

الطائفة الرابعة: أخبار الترجيح بالأحدث

1- فمنها: خبر الحسين بن مختار عن بعض أصحابنا عن الإمام الصادق (علیه السلام): «أ رأيت لو حدّثتك بحديث ثم جئتني من قابل فحدّثتك بخلافه بأيهما كنت تأخذ؟ قال: كنت آخذ بالأخير. قال لي: رحمك الله»(3).

2- ومنها: خبر أبي عمرو الكناني: «قال لي أبو عبد الله (علیه السلام): يا با عمرو، أرأيت لو حدّثتك بحديث أو أفتيتك بفتيا ثم جئتني بعد ذلك فسألتني عنه فأخبرتك بخلاف ما كنت أخبرتك أو أفتيتك بخلاف ذلك بأيّهما كنت تأخذ؟ قلت: بأحدثهما وأدع الآخر، فقال: قد أصبت يا با عمرو، أبى الله إلاّ أن يعبد سراً، أما والله لئن فعلتم ذلك إنه لخير لي ولكم، أبى الله عزّ وجلّ لنا في دينه إلاّ التقية»(4).

ص: 359


1- الكافي 1: 7؛ عنه وسائل الشيعة 27: 112.
2- الاحتجاج: 357؛ عنه وسائل الشيعة 27: 122.
3- الكافي 1: 53؛ عنه وسائل الشيعة 27: 109.
4- الكافي 2: 173؛ عنه وسائل الشيعة 27: 112.

ويرد على الاستدلال بهما:

أوّلاً: إنهما في مورد القطع بالصدور لأن الراوي سمع مباشرة كلا الحديثين أو الفتويين، فلا ارتباط لهما بما نحن فيه من ترجيح أحد السندين على الآخر.

وثانياً: إن ظهور الخبرين في مورد التقية، إذ الحديثان إمّا يرويهما الإمام (علیه السلام) عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أو لم ينسبهما إليه - وإن كان كل حديثهم عنه - فعلى الأوّل يكون الناسخ والمنسوخ كلاهما عن الرسول (صلی الله علیه و آله) إذ لا نسخ بعد كمال الدين يوم الغدير، وحينئذٍ لا يعلم الأحدث منهما وإن كان الإمام (علیه السلام) ذكر أحدهما مقدماً والآخر مؤخراً، فيكون ذكره للمنسوخ من دون ذكر الناسخ حينذاك ناشئاً عن التقية، وعلى الثاني فحيث لا نسخ يكون أحد الحكمين لبيان الحكم الواقعي دون الآخر، ولا يكون ذكر خلاف الحكم الواقعي إلاّ للتقية، وعلى جميع الفروض لا بدّ من الأخذ بالأحدث حتى لو لم يذكر ذلك في الأخبار، لأن الحكم الواقعي إن كان المذكور أوّلاً فمعنى ذلك أنه حين المذكور أخيراً كان الظرف ظرف تقية وحينئذٍ يجب العمل بها، وإن كان الحكم الواقعي هو المذكور أخيراً فمعناه انتهاء ظرف التقية فيجب العمل بالحكم الواقعي حينئذٍ.

وثالثاً: ما قيل: إنه إن لم يكن للتقية فمعنى ذلك أن المذكور في البداية هو حكم صوري، وإنّما الحكم الواقعي هو المتأخر، ومع اشتباه المتقدم والمتأخر يكون من باب اشتباه الحجة باللاحجة - حيث إن أحدهما معلوم عدم كونه حكماً واقعياً لكنه غير مميز - وعليه فلا يبقى مورد للترجيح ولا للتخيير، وهذا خلاف الضرورة وخلاف النصوص الدالة على الترجيح.

ص: 360

وفيه: إن موارد الاشتباه كثيرة خاصة في الروايات المنسوبة إلى إمام واحد، مع احتمال صدورهما لبيان الحكم الواقعي بأن كان الواقع هو التخيير فذكر الإمام تارة هذا وأخرى ذاك كما سيجيء بيانه، مضافاً إلى أنه لا محذور في جعل الترجيح حين اشتباه الواقع بغير الواقع، بأن يكون المرجَّح إن أصاب الواقع حكماً واقعياً وإن لم يصبه حكماً ظاهرياً تجعل له حجيّة كذلك مع عدم حجيّة الآخر، فتأمل.

3- ومنها: موثقة محمّد بن مسلم عن أبي عبد الله (علیه السلام): «قال: قلت له: ما بال أقوام يروون عن فلان وفلان عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لا يتهمون بالكذب، فيجيء منكم خلافه؟ قال: إن الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن»(1).

ويرد على الاستدلال به: أنه من المقطوع به أنهم (علیهم السلام) لا يفتون خلاف ما قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وليس كلامهم ناسخاً لكلامه، بل إن أولئك الأقوام علموا بالمنسوخ فرووه ولم يعلموا بالناسخ عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وإنّما علمه الأئمة (علیهم السلام) فحدثوا به، فيكون معنى الحديث وجوب العمل بالناسخ دون المنسوخ، وهذا أجنبي عمّا نحن فيه، مضافاً إلى ما قيل: من أن الظاهر هو القطع بخبرهم (علیهم السلام) وكذا بما روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) فلا ربط له بالترجيح بين السندين الظنيين.

4- ومنها: خبر المعلى بن خنيس قال: «قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): إذا جاء حديث عن أوّلكم وحديث عن آخركم بأيهما نأخذ؟ قال: خذوا به حتى يبلغكم عن الحي، فإن بلغكم عن الحيّ فخذوا بقوله، قال: ثم قال لي أبو

ص: 361


1- الكافي 1: 52؛ عنه وسائل الشيعة 27: 108.

عبد الله (علیه السلام): إنا والله لا ندخلكم إلاّ في ما يسعكم» قال الكليني: «وفي حديث آخر: خذوا بالأحدث»(1).

ويرد على الاستدلال به: إن ظاهره كونه في التقية حيث إن الأئمة (علیهم السلام) أعرف بها كما قال (علیه السلام): «لا ندخلكم...»، مضافاً إلى اختصاص ذلك بزمان الحضور، ومع تعميمه إلى زمان الغيبة فهي خاصة بما يقوله المجتهد الجامع للشرائط في الأمور العامة من التقية فيها وعدمها.

ومن ذلك يتبين أن مرجع هذه الروايات إلى الترجيح بمخالفة العامة، أو لزوم العمل بما تقتضيه ظروف التقية فلا دلالة لها على الترجيح بالأحدث مطلقاً.

تتمة فيها مطالب
المطلب الأوّل: في التعدي عن المرجحات المنصوصة

وفيه قولان:

القول الأوّل: التعدي إلى كل ميزة توجب الأقربية إلى الواقع وإن لم تكن منصوصة، واستدل له الشيخ الأعظم(2)

بوجوه أربعة.

الوجه الأوّل: وحاصله استكشاف علة الترجيح في المنصوصة من بعض الأخبار العلاجيّة، فإن الترجيح بمثل (الأصدقيّة) و(الأوثقيّة)، إنّما هو لأجل كون هذا الخبر أقرب إلى الواقع، فكانت الأقربية إلى الواقع هي المناط وعليه فكل ما أوجب أقربية الخبر إلى الواقع يكون مرجحاً!

ص: 362


1- الكافي 1: 53؛ عنه وسائل الشيعة 27: 109.
2- فرائد الأصول 4: 76-78.

وأشكل عليه: بأن هذا المناط ليس مقطوعاً به، مع اشتراط القطع في تنقيح المناط، فإن مجرد كون هذه المرجحات توجب الأقربية إلى الواقع لا توجب كون الأقربية هي العلة، لاحتمال أنّ تكون لتلك المرجحات خصوصية أوجبت الترجيح بها، مع أن بعض تلك المرجحات كالأفقهيّة لا توجب كون الخبر أقرب إلى الواقع، فإنه لا فرق بين الفقيه والأفقه بل الفقيه وغير الفقيه في نقل الخبر أصلاً.

الوجه الثاني: التعليل في المقبولة بقوله (علیه السلام): «فإن المجمع عليه لا ريب فيه» إذ المراد نفي الريب بالإضافة إلى الخبر الآخر، لا نفي الريب مطلقاً بحيث يكون مقطوعاً به من جهة السند والدلالة والجهة، إذ على هذا لا معنى لفرضهما مشهورين لامتناع القطع بالمتعارضين، ومقتضى التعليل التعدّي إلى كل ميزة توجب أقليّة الريب في الخبر بالنسبة إلى معارضه.

إن قلت: إن الاحتمال الأظهر هو نفي الريب في الخبر المشهور في حدّ نفسه بما يوجب الاطمئنان بصدوره عن الإمام (علیه السلام) وخاصة في عصر الصدور حيث قلة الوسائط ومعرفة الرواة بعضهم لبعض، وعليه فلا مانع من حجيّة كل خبر يُطمئن بصدوره من غير حاجة إلى هذا التعليل.

قلت: إن الكلام في الأخذ الفعلي بالمشهور للعلة المذكورة، وغير خفي أن مجرد الاطمئنان بالسند لا يوجب لزوم الأخذ بالخبر قبل تمامية الدلالة وجهة الصدور، ومع تماميتهما لا معنى لفرض خبرين متعارضين كذلك، وعليه فلا بدّ من حمل «لا ريب» على الإضافي على كل حال، إذ الاطمئنان بصدور الخبر لا يلازم الاطمئنان بدلالته وجهة صدوره.

ص: 363

الوجه الثالث: التعليل بقوله: «فإن الرشد في خلافهم» حيث إن المراد بالرشد هو الأقربيّة إلى الواقع، وحيث إن العلة تعمم فكل مزية توجب الأقربية إليه لا بدّ من الترجيح بها.

وأشكل عليه بإشكالات منها:

الإشكال الأوّل: ما في الكفاية(1)

وحاصله: أن قوله: «الرشد في خلافهم» فيه ثلاث احتمالات: حُسن نفس المخالفة مع قطع النظر عن الواقع، أو أن الحق في طرف المخالف غالباً للاطمئنان بوجود خلل في الخبر الموافق بحيث إنه إمّا لم يصدر أو صدر للتقية، أو أن الموافق يحتمل فيه التقية بما لا يحتمل في المخالف، فعلى الأوّل لا ربط له بالأقربية إلى الواقع، وعلى الثاني والثالث يخرج عن محل البحث حيث إن الاطمئنان بعدم صدوره أو صدوره للتقية يسقطه عن الحجيّة رأساً فلا يُعارض المخالف، والحاصل: أن «الرشد في خلافهم» لا يدل على أن العلة هي الأقربية للواقع على جميع الاحتمالات.

وفيه: كثرة الاتفاق في الأحكام بين الخاصة والعامة ولذا فالمخالفة في نفسها لا توجب الاطمئنان بالرشد دائماً، كما أن جعلها من المرجحات دليل على أنه لا اطمئنان بصدور الموافق أو بعدم صدور المخالف أو كونه تقية.

الإشكال الثاني: أن نفس المخالفة تكون أمارة ظنية توجب الظن بنفس الخبر المخالف مع قطع النظر عن المعارض فالتعدّي يقتصر فيه على مثل ذلك ولا بأس به.

ص: 364


1- إيضاح كفاية الأصول 5: 270.

وأجيب(1): أن كون الرشد في خلافهم إنّما يكون أمارة ظنية على كون الحق في ما خالف العامة، لا كون الحق هو الخبر المخالف، لأن المخالف للعامة أعم من مفاد خصوص هذا الخبر وغيره، وذلك لتنوع الأحكام، فتعليل الأخذ بالمخالف بها إنّما يتجه باعتبار إيجابها كون المخالف أقرب إلى الحقيقة والواقع من الموافق لكونه أحد مصاديق المخالفة، لا باعتبار أنه بنفسه قريب إلى الواقع، فلا بدّ من التعدّي إلى كل مورد يكون أحد الخبرين أقرب إلى الواقع من معارضه وإن لم تقم أمارة على قربه في نفسه! فتأمل.

الإشكال الثالث: إن هذا التعليل ظاهر في كونه تعليلاً للجعل لا للمجعول، ولا تعدّي في علة الجعل إذ غالباً لا يدور الحكم مدارها وجوداً وعدماً، وإنّما التعدّي في علة المجعول حيث إن الشارع جعل الحكم فيه دائراً مدار العلة فتعمّم وتخصّص، قال المحقق العراقي: «بعد عدم كون الرشد جزمياً، أنه يدور الأمر فيه بين كونه رشداً واقعياً غالبياً ملحوظاً في نظر الشارع في مقام الترجيح به، نظير غلبة الإيصال إلى الواقع التي هي حكمة في جعل الطرق غير العلمية في أصل التعبد بالخبر، وبين كونه رشداً إضافياً بالقياس إلى الخبر الموافق لهم، أو رشداً ظنياً أو اطمئنانياً بنظر المكلّف، والأوّل أظهر، ولو لم يكن أظهر فلا أقل من احتماله المانع عن الظهور في الأخيرين، ومع ذلك لا يبقى مجال استفادة المناط من التعليل به حتى يتعدّى إلى كل ذي مزية، خصوصاً بعد العلم بأنه ليس كل ما يخالفهم

ص: 365


1- منتقى الأصول 7: 421.

مظنة الحق ولا كل ما يخالفهم مظنة خلاف الحق لمكان القطع بأن كثيراً من الأحكام توافق مذهبهم، فإن ذلك يوجب خروج التعليل المزبور عن ضابط منصوص العلة التي أمر تطبيقها بيد المكلّف، فلا يصلح للحكم بالترجيح إلاّ بنظر الشارع، نظير غلبة الإيصال إلى الواقع في جعل الطرق غير العلمية لا بنظر المكلّف إلاّ في فرض إحرازه، فقوله: «الرشد في خلافهم» هو علة تشريع الحكم وليس ضابطاً كلياً للمكلّف كي ينطبق عليه منصوص العلة فيتعدّى إلى غير مورده»(1)،

فتأمل.

القول الثاني: عدم الترجيح بالمرجحات غير المنصوصة.

واستدل له بأمور، منها:

الدليل الأوّل: ما عن المحقق الخراساني في حاشية الرسائل(2) وحاصله: إن أخبار الترجيح بيّنت التخيير عند فقد المرجحات المذكورة، ولو فهم الراوي عموم الترجيح كان ينبغي له السؤال عن صورة التساوي في مطلق المزايا وبهذا العنوان، لا التساوي في المرجحات المذكورة قبله، بل لم يكن معنى لسؤاله عن المرجحات واحداً بعد آخر أصلاً!

وفيه: أن بعض المزايا قد تكون خفيّة فلعلّه أراد التأكد من كونها كذلك، ويكون الترتيب في كلام الإمام (علیه السلام) لأشديّة القرب في المذكورات، كما أن إطلاق التخيير في آخر تلك الأخبار يمكن تقييده بالعلة المذكورة قبله، ولا محذور في ذلك أصلاً، فتأمل.

ص: 366


1- نهاية الأفكار 4 [ق2]: 194.
2- درر الفوائد في الحاشية على الفوائد: 458.

الدليل الثاني: ما في المنتهى(1)

من أن إطلاقات التخيير يجب الأخذ بها إلاّ في مورد قام الدليل على تقييدها، وقيام الدليل على تقييدها يكون بالنسبة إلى المرجحات المنصوصة فقط - وهو نفس هذه الأخبار - وأمّا غير المنصوصة فلم يقم دليل على التقييد إلاّ ما ذكره الشيخ، وكلّها محل تأمل، وأمّا الدوران بين التعيين والتخيير فهو أصل قد هدمه دليل التخيير.

المطلب الثاني: أنواع المرجحات

إن المرجح قد لا يكون مستقلاً عن الخبر ويسمّى المرجح الداخلي، كصفات الراوي، وقد يكون مستقلاً لا ارتباط له بالخبر لكن يتطابق مضمونه مع مضمون الخبر ويسمّى المرجح الخارجي.

والمرجحات الخارجية على أصناف: منها: ما ليست بحجة لعدم الدليل على حجيّتها كالشهرة الفتوائية، ومنها: ما ليست بحجة للمنع عنها كالقياس، ومنها: ما تكون حجة في نفسها لكنها لا تعاضد المضمون كالأصول العملية حيث لا ترتبط بالواقع وإنّما تبين الوظيفة العملية، ومنها غير ذلك.

أمّا الأولى: فقد يقال بلزوم الترجيح بها إن كان المبنى الترجيح لا التخيير، والتعدّي من المنصوصة إلى غير المنصوصة.

لا يقال: إن الأمارة الظنيّة - كالشهرة الفتوائية - إذا طابقت أحد الخبرين ظننا بخلل في الآخر إمّا بظن عدم صدوره، أو ظن أنه لم يصدر لبيان الواقع، ومع الظن بالخلل فيه يسقط عن الحجيّة، فيكون من تعارض الحجة

ص: 367


1- منتهى الأصول 2: 772.

باللاحجة! كما عن الشيخ الأعظم(1).

لأنه يقال: إن كان المراد عدم وجود شرائط الحجيّة، فيرد عليه: بأنا قد نقطع بوجود تمام شرائطها في الخبر غير الراجح من صحة السند ومخالفة العامة... الخ، وإن كان المراد الظن بعدم مطابقته مع الواقع، فيرد عليه: أنه لا يشترط في لزوم العمل بالخبر أن يظن بمطابقته للواقع بل يلزم العمل به وإن كان يظن بمخالفته له، كما ذكر ذلك صاحب الكفاية(2).

أقول: على ما يظهر من مبنى الشيخ في حجيّة الخبر الواحد من أنه لا بدّ من الوثوق بصدوره فلا يرد عليه ما ذكر.

وأمّا الثانية: فإن كان النهي عن مطلق استعمالها في الدين كالقياس، فلا يجوز الترجيح بها، لأن الترجيح مرتبط بالدين حيث يتم تغيير الوظيفة الشرعية من التخيير إلى التعيين عبر الترجيح كما هو واضح.

وأمّا الثالثة: فقد يقال: بعدم الدليل على الترجيح بالأصل العملي، كما لو فرض وجود روايتين في طهارة أو نجاسة شيء فإن أصالة الطهارة لا تعضد الدالة على الطهارة، وذلك لوجهين:

الوجه الأوّل: استلزام الترجيح المحال، لأن موضوع الأصول العملية هو الشك في الحكم الواقعي، ومع وجود الدليل لا موضوع للأصل، فترجيح أحد الدليلين به يستلزم عدم الترجيح به.

الوجه الثاني: إن ملاك التعدّي عن المرجحات المنصوصة إلى غيرها

ص: 368


1- فرائد الأصول 4: 140.
2- إيضاح كفاية الأصول 5: 324-325.

هو الأقربية إلى الواقع أو الظن به، والأصل لا يوجب أيّاً منهما حيث إنه وظيفة الشاك.

ولا ينفع التفصي بأن دليل الأصل قد يكون خبراً معتبراً. وذلك لأن تلك الأدلة لا تقوّي مضمون الخبر الموافق للأصل، وعليه فلا ترجيح بالأصل، وإنّما التخيير أو التساقط.

المطلب الثالث: في ترتيب المرجحات
اشارة

غير خفي أن المرجحات قد ترتبط بالصدور كالشهرة وصفات الراوي، وقد ترتبط بالمضمون أي أنه الحكم الواقعي كموافقة الكتاب، وقد ترتبط بجهة الصدور أي كون الإمام (علیه السلام) بصدد بيان الحكم الواقعي لا في مقام التقية.

وقد اختلفوا في أنها في عرض واحد بحيث لو كان مرجح منها في خبر ومرجح آخر في خبر آخر حصل التزاحم بينهما، أم أنها مرتبة فيقدّم بعضها على بعض، على أقوال:

القول الأوّل: إنها في عرض واحد

واستدل له: أوّلاً: بما في الكفاية(1)

من أنها في عرض واحد بناءً على التعدّي من المنصوصة إلى غيرها، لأن المناط حينئذٍ الأقربية إلى الواقع، وكل مزية توجب الأقربية، فتكون جميع المزايا في عرض واحد، فيقع التزاحم بينها فيقدّم الأقوى ملاكاً وإلاّ فالتخيير عملاً بإطلاقاته، نعم بناءً على عدم التعدّي فلكونها مرتبة حسب ما في الروايات وجه وجيه.

ص: 369


1- إيضاح كفاية الأصول 5: 307-309.

وثانياً: بما ذكره المحقق العراقي(1)

وحاصله: رجوع جميع المرجحات إلى الصدور، إذ لا معنى للتعبد بصدور كلام ليس في مقام بيان المراد الواقعي بل في مقام الخوف والتقية مثلاً، أو التعبد بصدور كلام ليس مضمونه تمام المراد، فالذي لم يحرز أنه في مقام بيان مراده أو لم يحرز أن مضمونه تمام مراده فالتعبد بصدوره لغو، فالمرجح بالجهة - مثل مخالفة العامة - يرجع إلى أن الخبر المخالف لهم أقرب إلى صدوره من الخبر الموافق لهم، وكذلك المرجح المضموني فالموافق للكتاب أقرب إلى الصدور من الآخر المخالف له.

ويمكن أن يقال: إنه إن استفيد من التعليل في المقبولة التعميم لكل مزية توجب الأقربية إلى الواقع، فإن ظهور المقبوله في الترتيب مقدم على ظهور العلة في التعميم، وبعبارة أخرى: إن هنا ظهورين، أحدهما: ظهور التعليل بقوله: «فإن المجمع عليه لا ريب فيه» و«الرشد في خلافهم» في أن المناط هو الأقربية إلى الواقع، والآخر: الترتيب في المقبولة بين الشهرة وموافقة الكتاب ومخالفة العامة، وحينئذٍ الجمع بين الظهورين وعدم رفع اليد عن أيٍّ منهما يقتضي القول بأن الترتيب في المقبولة إنّما هو لكون ما هو مذكور أوّلاً يوجب الأقربية إلى الواقع بالنسبة إلى المذكور ثانياً، وهكذا بالنسبة إلى المزايا غير المذكورة.

وإن لم يستفد التعليل من المقبولة فالترتيب أوضح.

ص: 370


1- مقالات الأصول 2: 484-485.
القول الثاني: تقديم المرجح الصدوري على المرجح بالجهة

وهو ما ذهب إليه الشيخ الأعظم(1)، واستدل له بما حاصله: أن المرجح بالجهة إنّما يرجع إليه في الخبر الثابت صدوره، لأن الجهة متفرعة على الصدور، وبعبارة أخرى: إن كون الصدور لتقية إنّما هو بعد إثبات صدوره، وإلاّ فالكلام غير الصادر لا معنى للبحث عن كونه لتقية أم لا.

وعليه: فمع كون أحد الخبرين مرجّح صدوراً بما يعني عدم صدور الآخر فلا وجه للنظر في كون ذلك الآخر مخالف للعامة وليس للتقية، وذلك لانتفاء صدوره تعبداً.

وأشكل عليه: أوّلاً: برجوع المرجح بالجهة إلى الصدور، وذلك للغويّة التعبد بالصدور مع الالتزام بكونه صادراً عن تقية!

وفيه: أن رجوع المرجح بالجهة إلى الصدوري لا يوجب كونهما في عرض واحد وذلك لحكومة أو ورود المرجحات الصدورية على المرجح بالجهة، ففي المنتقى(2) ما حاصله: أن احتمال التقية وعدمه متفرع على أصل الصدور، أي إنّما يثبت بعد فرض صدوره، وبعبارة أخرى: إن محتمل التقية وغير محتمله إنّما هو الكلام الصادر واقعاً دون غيره، وموضوع الترجيح بالجهة هو عدم احتمال التقية، فالترجيح إنّما يكون لغير محتمل التقية على فرض صدوره، والمرجح الصدوري يرفع تعبداً موضوع هذا المرجح - وهو أصل الصدور - فينتفي الترجيح به لارتفاع موضوعه، دون العكس، لأن

ص: 371


1- فرائد الأصول 4: 136-138.
2- منتقى الأصول 7: 436.

المرجح بالجهة في الخبر المخالف - وإن كان يرجع إلى مقام الصدور أي يرجح صدوره على غيره - إلاّ أنه بتحكيمه لا يرتفع المرجح الصدوري في الخبر الموافق لعدم كون موضوعه أصل الصدور.

وثانياً: بأن المناط إن كان الأقربية للواقع، فالترجيح بكل ما أوجب الأقربية، سواء كان بالجهة أم صدورياً.

وفيه: أنه بناءً على الحكومة أو الورود - كما ذكرناه في جواب الإشكال السابق - فلا يبقى مجال لكونهما في عرض واحد، فلا تزاحم.

القول الثالث: تقديم المرجح بالجهة على المرجح الصدوري

وهو منسوب إلى المحقق الرشتي(1)، واستدل له بما حاصله: أن كل خبر وإن كان يشتمل على مقامات ثلاث - الصدور وجهة الصدور والدلالة - إلاّ أن التعبد مع احتمال المخالفة للواقع من هذه الثلاث إنّما هو تعبد واحد، ومفاده لزوم الأخذ بالخبر والبناء على أنه هو الواقع، وعدم الاعتناء بما يوجب الخلل في الصدور أو الجهة أو الدلالة، وليس التعبد يتعدد بتعدد المقامات بحيث يلغى احتمال الخلل في مقام معين بخصوصه، وعليه فمع كون الخبر قطعياً من بعض الجهات فالتعبد به يرجع إلى إلغاء احتمال الخلل في غيرها، فإذا كان الخبر مقطوع الصدور كان احتمال الخلل فيه أقل لكونه من جهتين، وعليه: فتقديم ذي المزيّة بالجهة على الآخر مع قلة احتمال المخالفة فيه يستلزم بالبداهة تقديمه على الآخر مع كثرة احتمال الخلاف فيه، كما إذا كان ظني الصدور لكون احتمال الخلاف فيه من

ص: 372


1- بدائع الأفكار: 457.

جهاته الثلاث.

وفيه: أنه لا أولوية لأن الخبرين مقطوعي الصدور يتساويان من حيث الصدور وفي أحدهما مزية مخالفة العامة دون الآخر، أمّا في ما نحن فيه ففي أحد الخبرين مزية في الصدور وفي الآخر مزية في الجهة وحينئذٍ فيتكافئان من حيث احتمال مخالفة الواقع، مع ما سبق من انتفاء موضوع التعبد بالموافق بالحكومة.

فتحصل: أن في حجيّة كل خبر لا بدّ من إحراز صدوره إمّا وجداناً بالقطع وإمّا تعبداً بأدلة حجيّة خبر الواحد، ومن إحراز مراد المتكلّم بالتعبد بظهور كلامه بدليل بناء أهل المحاورة على إرادة المعنى الحقيقي مع عدم القرينة وإرادة المعنى المجازي معها مع إمضاء الشارع لذلك، ومن إحراز جهة الصدور بأن المتكلّم في مقام بيان مراده الواقعي بدليل بناء العقلاء الممضى.

فأمّا الصدور فمقدّم على الجهة بالحكومة أو الورود كما ذكرنا، وأمّا الصدور والظهور فهما في عرض واحد للغويّة التعبد بكل ٍ منهما من دون الآخر، وأمّا الجهة والمضمون فيتساويان لأن كل منهما مرجح لكون الخبر هو الواقع ولعله لذلك قرنهما في المقبولة معاً بحيث كانا في عرض واحد فيها.

المطلب الرابع: في المتعارضين من وجه

إذا كانت النسبة بين الخبرين المتعارضين العموم والخصوص من وجه، فهل تشملهما الأخبار العلاجيّة - بالترجيح أو التخيير - أم لا فيرجع إلى الأصل الأوّلي وهو التساقط!

ص: 373

1- قد يقال: بالتساقط في مادة الاجتماع، وقد يستدل له بأمور، منها:

الدليل الأوّل: إن السند لا يتبعض فالخبر إمّا صادر أو غير صادر، فالرجوع إلى المرجحات الصدورية يستلزم إسقاط مادة الافتراق من غير وجه، فينحصر الترجيح في ما يرجع إلى المدلول حيث إن المدلول قابل للتبعيض لتعدد أفراده أو أصنافه، فلا بدّ حينئذٍ في مادة الاجتماع من إعمال المرجحات المضمونية أو المرجحات بالجهة، وبذلك يعمل بكليهما في مادة الافتراق مع الأخذ بالمرجح في المجمع، ومرجع ذلك ليس إلى التعبد بالصدور أو عدم الصدور ليقال إنه لا يتبعّض، بل مرجعه إلى عدم حجيّة الخبر المرجوح في المجمع بمعنى عدم كاشفيته عن المراد الواقعي بالنسبة إلى بعض المدلول بعد الفراغ عن صدوره.

وأشكل عليه: أوّلاً: بأن الأخبار العلاجيّة إنّما هي بعد تحقق التعارض بين الخبرين من جهة صدورها حيث ترجع جميع المرجحات إلى الصدور، ومع عدم تحقق التعارض في الصدور لا موضوع للأخبار العلاجيّة.

وفي ما نحن فيه لا تعارض في مقام الصدور لإمكان العمل ببعض المدلول دون بعض فلا يكون التعبد بصدور الخبرين لغواً، لأن إمكان العمل ببعض المدلول يرفع لغوية التعبد به.

وفيه: أن رجوع المرجحات إلى الصدور لا ينافي إطلاق الأخبار العلاجيّة وذلك في ما لو كان محذور في الترجيح بالصدور كمحذور عدم إمكان التبعيض في الصدور، كما لا ينافي جريان ملاكها كما لو كان خبران قطعيان مع موافقة أحدهما للعامة ومخالفة الآخر لهم.

ص: 374

وثانياً: بإمكان التبعيض في حجيّة الصدور حتى مع عدم إمكان التبعيض خارجاً، نظير ما لو قامت بينة بملكية زيد عشرة دنانير وبينة أخرى بملكيته خمسة فقط، حيث يتساقطان في خمسة وتبقى حجيّة الأولى في الخمسة الأخرى.

وفيه: إن التبعيض في مورد البينة إنّما هو في المدلول وليس في الصدور ولا في حجيّته، فالصدور مقطوع به وجداناً فلا معنى للتعبد به، فالحجيّة في المدلول، وليس كلامنا فيه.

وثالثاً: بأن التبعيض الخارجي غير ممكن، وأمّا التبعيض التعبدي فلا محذور فيه، ولذا كثيراً ما يتم التفكيك بين اللازم والملزوم وبين المتلازمين في مقام التعبد، اللهم إلاّ أن يدّعى انصراف الأخبار العلاجيّة عن المتعارضين بالعموم من وجه وظهورها في الخبرين المتباينين، والظاهر عدم الانصراف فلا محذور من شمول الأخبار العلاجيّة لهما.

الدليل الثاني: إن إسقاط أحد الدليلين في مادة الاجتماع ليس من جهة التعبد بعدم صدوره، بل من جهة عدم كاشفيته عن المراد الواقعي بالنسبة إلى بعض المدلول - وهو المقدار الذي عارضه الدليل الآخر - وذلك بعد الفراغ عن صدوره، وعليه فليس الترجيح بالمرجحات الصدورية، وإنّما بالمرجحات بالجهة والمضمون في مادة الاجتماع مع العمل بكليهما في مادة الافتراق(1)،

ومرجع هذا إلى عدم رجوع مرجحات الجهة والمضمون إلى الصدور ولو في هذا المورد.

ص: 375


1- منتهى الأصول 2: 788.

2- وقد يقال: إن التعارض لا يختص بمورد الاجتماع، بل هو بين الخبرين بتمام مدلولهما، حيث إن التنافي وإن نشأ من بعض المدلول إلاّ أنه يسري إلى تمام المدلول باعتبار أن كل واحد منهما كلام واحد.

وأشكل عليه: بأن الخبر كما له مدلول مطابقي كذلك له مدلول تضمني، فالأخبار العلاجيّة كما تشمل بعمومها التعارض بالمطابقة كذلك تشمل المعارضة بالتضمن، وحيث لا تنافي في تمام المدلول اختصّت في المورد بالتعارض في الخبر الضمني، وليس ذلك خلاف ظاهر الأخبار العلاجيّة بعد إلغاء الخصوصية أو المناط.

تتمة: لو كان العامان من وجه مطلقين فتعارضا في بعض المصاديق بحيث يكون منشأ التعارض إطلاق كليهما، فقد قيل: بأنه لا يتحقق التعارض فلا تجري الأخبار العلاجيّة، وذلك لعدم تمامية مقدمات الحكمة فيهما، فيكون كل منهما دالاً على الطبيعة المهملة، لأن الإطلاق بعد تمامية مقدمات الحكمة إنّما هو بحكم العقل، ولا حكم له بإطلاقهما لأنه حكم بالضدين، ولا بإطلاق أحدهما لأنه ترجيح بلا مرجح، وعليه فيسقط الدليلان في مادة الاجتماع من الأساس.

وأشكل عليه في المنتقى(1)

بما حاصله: أن إجراء مقدمات الحكمة إمّا من الراوي أو من المكلّف.

فعلى الأوّل: فإن نقل الراوي بالمعنى فمعنى ذلك أنه هو الذي أجرى مقدمات الحكمة واستفاد الإطلاق من كلام الإمام (علیه السلام) إذ النقل بالمعنى هو

ص: 376


1- منتقى الأصول 7: 444-445.

الإخبار بصدور الدال على هذا المعنى من المعصوم، فحينئذٍ يكون كلا الخبرين مطلقين متعارضين في مادة الاجتماع. وإن نقل باللفظ، فإن مقدمات الحكمة من الأمور الواقعيّة المستفادة من الراوي، فعلمنا بعدم نصب القرينة إنّما هو من الراوي، وكذا كون الإمام (علیه السلام) في مقام البيان يعرف من ملاحظة خصوصيات الحديث وشؤونه، وهذا يرتبط بالراوي، وعليه فالإطلاق يكون مدلولاً لكلام الراوي وليس خصوص الطبيعة المهملة.

وعلى الثاني: إن مجري مقدمات الحكمة ليس المراد الجدّي بل المراد الاستعمالي، فلا محذور من انعقاد الإطلاق في كل منهما، نظير العامّين بالوضع، فكما يتعارض العامّان في مورد الاجتماع كذلك المطلقان من غير فرق لا موضوعاً ولا حكماً، فتأمل.

المطلب الخامس: المراد بالشهرة في الأخبار العلاجيّة

إن الشهرة على أقسام:

فمنها: الشهرة الروائية بين الرواة، سواء كانت الشهرة في كل الطبقات أم في بعضها وإن كانت الأولى توجب أقوائية الخبر، ولا إشكال في شمول الشهرة في الأخبار العلاجيّة لهذا القسم.

ومنها: الشهرة العملية، بأن يفتي الفقهاء بالاستناد إلى الخبر، ولا إشكال أيضاً في الترجيح بهذا القسم، حتى لو فرض عدم شمول الشهرة في الأخبار العلاجيّة لها، وذلك لأن هذه الشهرة توجب الجبر والكسر حتى مع عدم وجود المعارض، فالخبر المعرض عنه ليس بحجة أصلاً فلا يعارض الخبر المعمول به لأنه الحجة.

ص: 377

ومنها: الشهرة الفتوائية من دون الاستناد إلى هذا الخبر، نعم لو علمنا باستنادهم إليه ولو من دون تصريحهم رجعت إلى الشهرة العملية، كما لو أفتى القدماء بأمر ووجدنا فيه رواية ضعيفة ولا احتمال لوجود دليل آخر من قاعدة أو رواية معتبرة خفيت علينا، فحينئذٍ يحصل الاطمئنان بأن فتواهم مستندة إلى هذا الخبر، أمّا مع وجود قاعدة معتبرة عندهم أو احتمال وجود خبر آخر استندوا إليه فلا ترتبط شهرتهم بالخبر الواصل إلينا فلا يجبر ضعفه، وهكذا في الخبرين المتعارضين إذا كانت الشهرة متطابقة مع مضمون أحدهما من دون استنادهم ظاهراً إليه.

والحاصل: أن الشهرة الفتوائية بين المتأخرين لا تكشف عن وجود خبر آخر، ولا عن اعتمادهم إلى هذا الخبر الموجود، بل قد تكون بناءً على قواعدهم وأصولهم، فلا تكون جابرة ولا مرجحة، وأمّا الشهرة الفتوائية بين المتقدمين فقد تكشف عن اعتمادهم على هذا الخبر فيكون مجبوراً وتكون مرجحة، وقد لا تكشف فلا تكون جابرة ولا مرجحة.

المبحث الثاني: في أخبار التخيير
اشارة

وقد استدل بروايات متعددة على التخيير، ومع ثبوتها سنداً ودلالة تكون عامة، وتُخصص بأخبار الترجيح، فكلّما كان بين المتعارضين مرجح أخذ به وإلاّ كان التخيير بينهما.

وقد استدل له بمجموعة من الأخبار...

1- منها: خبر الحسن بن الجهم عن الإمام الرضا (علیه السلام) ، قال: «قلت له: يجيئنا الأحاديث منكم مختلفة؟ فقال: ماجاء عنا فقس على كتاب الله عزّ

ص: 378

وجلّ وأحاديثنا، فإن كان يشبههما فهو منا، وإن لم يكن يشبههما فليس منا. قلت: يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ولا نعلم أيّهما الحق؟ قال (علیه السلام): فإذا لم تعلم فموسع عليك بأيهما أخذت»(1).

وظهور التخيير في آخر الحديث مما لا ينكر، لصراحته فيه.

وأشكل عليه: 1- بضعف السند بالإرسال، 2- وبأن فرضه وثاقتهما ظاهر في اطمئنانه بصدورهما مع عدم علمه بأن المراد الواقعي أيٌّ منهما، 3- وبأن المشابهة علامة قطعية لمن أنس بكلامهم (علیهم السلام) ، فتكون الرواية من تمييز الحجة عن اللاحجة، وذلك لا يرتبط ببحث التعارض، 4- وبأن آخر الحديث يدل على التخيير مطلقاً لا بعد فقد المرجّح.

ويرد عليها: أن الأخبار مستفيضة ويعاضد بعضها بعضاً فلا محذور في ضعف سند بعضها، وبأن الوثاقة أعم من الاطمئنان بالصدور وعدمه، وبأن الحديث مقطعان والقسم الثاني منه ما لم يعلم الراوي المشابهة وعدمها فلا يكون من التمييز المذكور، وبأن الحديث مطلق تخصصه أخبار الترجيح، وعليه فدلالة الخبر على التخيير تامة.

2- ومنها: خبر الحرث بن المغيرة عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلهم ثقة فموسع عليك حتى ترى القائم فترد إليه»(2) والمعنى موسع عليك بالأخذ بأيّهما وهو معنى التخيير.

وأشكل عليه: بإشكالات، منها:

ص: 379


1- الاحتجاج: 357؛ عنه وسائل الشيعة 27: 121.
2- الاحتجاج: 357؛ عنه وسائل الشيعة 27: 122.

الإشكال الأوّل: إن هذا الخبر يدل على حجيّة خبر الواحد الثقة مع قطع النظر عن المعارضة، وعليه فمعنى التوسعة إمّا موسع عليه بالعمل بذلك الخبر وعدم لزوم الاحتياط، وإمّا موسع عليه من جهة الحكم الواقعي لو فرض مخالفة الخبر له، وعلى فرض كونه في مقام بيان حكم المتعارضين، فيحتمل أن يكون المراد التوسعة في عدم العمل بأيٍّ من الخبرين وهو بمعنى التساقط، ولا ترجيح لحمله على أن يكون المراد التوسعة في العمل بأحدهما تخييراً.

وفيه: أوّلاً: أن كلامه (علیه السلام) مغيّى بقوله: «حتى ترى القائم فترد إليه» مع وضوح أن حجيّة الخبر الواحد غير مغيّاة بذلك بل يمكن العمل به حتى مع إمكان الوصول إلى الإمام (علیه السلام) بل حتى مع الوصول إليه، فلا حاجة إلى سؤاله (علیه السلام) عن الخبر، مضافاً إلى أن تعليق التوسعة على وثاقة الكل لا يناسب تعدد المخبر به إذ حجيّة كل واحدة منها لا ترتبط بوثاقة راوي الأخبار الأخرى، فمع وثاقة الراوي يجوز العمل بخبره سواء كان راوي غيره ثقة أم لا، وإنّما المناسب لهذا التعليق هو وحدة الواقعة مع تعارض أخبار الثقات فيها.

وثانياً: ظهور التوسعة في التخيير، لا في الاحتمالات الأخرى، فإنها خلاف الظاهر، وخاصة مع قوله: «فموسع عليك» حيث إنه ظاهر في عدم الإلزام بالأخذ بالخبر، وهو لا يتناسب مع حجيّة خبر الثقة فإنه يجب العمل به لو كان حكمه إلزامياً.

الإشكال الثاني: إنها خاصة بزمن الحضور والتمكن من الوصول إليه فلا ترتبط بزمان الغيبة!

ص: 380

وفيه: أنه إذا لم يجب الاحتياط في زمن الحضور مع قلة مدته وإمكان الوصول إلى الإمام (علیه السلام) ففي زمان الغيبة يكون بطريق أولى، مضافاً إلى أنه بمعنى إمكان حصول العلم ومن الواضح إنه غاية الحكم الظاهري.

3- ومنها: صحيحة علي بن مهزيار قال: «قرأت في كتاب لعبد الله بن محمّد إلى أبي الحسن (علیه السلام): اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبد الله (علیه السلام) في ركعتي الفجر في السفر، فروى بعضهم: صلّهما في المحمل، وروى بعضهم: لا تصلّهما إلاّ على الأرض، فأعلمني كيف تصنع أنت لأقتدي بك؟ فوقّع (علیه السلام): موسّع عليك بأيّة عملت»(1)،

وهو واضح في التخيير في العمل بأيٍّ من الخبرين.

وأشكل عليه: أوّلاً: بأن ذلك في حكم استحبابي وهو نافلة الصبح، إذ قد يتسامح في المندوبات بما لا يتسامح في غيرها، فلا يمكن إلغاء الخصوصية.

وثانياً: عدم التعارض بين الخبرين المذكورين، لإمكان الجمع العرفي بينهما بالحمل على الفاضل والأفضل، حيث إن الأوّل نص في الجواز والثاني ظاهر في الحرمة فيحمل الظاهر على الأظهر بكونه مكروهاً بمعنى كونه أقل ثواباً، فجواز العمل بهما لا يرتبط بالتخيير بين المتعارضين.

وثالثاً: لعل الحكم الواقعي في هذا المورد هو التخيير فكان كل خبر بيان لأحد شقّي التخيير، فبيّن الإمام (علیه السلام) ذلك.

إن قلت: إنّه ليس من موارد التخيير، وذلك للعلم بجواز الصلاة على

ص: 381


1- تهذيب الأحكام 3: 328؛ عنه وسائل الشيعة 4: 330.

الأرض وإنّما المشكوك جوازها في المحمل، فلا يظهر من الأمر في قوله: «صلّهما في المحمل» التعيين، بل هو إباحة في مقام توهم الحظر حيث إن الأمر دائر بين جواز الصلاة في المحمل وعدم جوازه، وليس دائراً بين جوازها على الأرض فقط وبين جوازها في المحمل فقط كي يظهر كونه بياناً للحكم الواقعي التخييري، وعليه فظاهره التخيير في الأخذ بإحدى الروايتين وهو التخيير في المسألة الأصولية!

قلت: التعارض حاصل بين الجواز في المحمل وهو ظاهر الحديث الأوّل، وعدم الجواز فيه وهو ظاهر الحديث الثاني، مع دلالة الأدلة الأخرى على أن مصلّي النافلة مأمور استحباباً بإقامتها سواء على الأرض أم على المحمل فالتخيير في الحكم الواقعي ثابت أيضاً من غير هذا الخبر، وعليه فيحتمل إرادته لذلك، نعم مناسبة الجواب مع السؤال تجعل الظهور للتخيير في المسألة الأصولية.

إن قلت: إن الأنسب لمقام الإمام (علیه السلام) هو بيان الحكم الواقعي لا الظاهري.

قلت: لعلّه أراد بيان الحكم العام في المسألة الأصولية وهو أنسب من بيان الحكم الواقعي في أمر مستحب من المسائل الفرعية!!

4- ومنها: مكاتبة محمّد بن عبد الله بن جعفر الحميري إلى صاحب الزمان (علیه السلام): «يسألني بعض الفقهاء عن المصلّي إذا قام من التشهد الأوّل إلى الركعة الثالثة هل يجب عليه أن يكبّر فإن بعض أصحابنا قال: لا يجب عليه أن يكبر ويجزيه أن يقول: بحول الله وقوته؟ فكتب الجواب: إن فيه حديثين: أمّا أحدهما: فإنه إذا انتقل من حالة إلى أخرى فعليه التكبير، وأمّا

ص: 382

الأخرى: فإنه روي: إذا رفع رأسه من السجدة الثانية وكبّر ثم جلس ثم قام فليس عليه في القيام بعد القعود تكبيرة، وكذلك التشهد الأوّل يجري هذا المجرى. وبأيهما أخذت من باب التسليم كان صواباً»(1).

وأورد عليه: ما أورد على سابقه من إمكان الجمع العرفي، ومن كونه في المستحبات، ومن احتمال كونه تخييراً واقعياً.

مضافاً إلى أن أحد الخبرين مطلق والآخر مقيّد فالحكم هو عدم استحباب التكبير في هذا الموضع بخصوصه وإنّما استحب لكونه ذكراً في نفسه والذكر مستحب في جميع أحوال الصلاة، وعليه فلا تعارض ولا تخيير!

وفيه: أن ظاهر كلام السائل أنه سئل عن التكبير بعنوان أنه بعد التشهد الأوّل وبعنوانه الخاص لا عن استحبابه بعنوانه العام من كونه ذكراً، من غير فرق بين أن نقول بوجود الجزء المستحب في الصلاة الواجبة أم لا مع كون مكان مخصوص منها ظرفاً له.

5- ومنها: موثقة سماعة عن الصادق (علیه السلام) ، قال: «سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه كلاهما يرويه، أحدهما يأمره بأخذه، والآخر ينهاه عنه، كيف يصنع؟ قال: يرجئه حتى يلقى من يخبره فهو في سعة حتى يلقاه»(2).

وجه الاستدلال أن ذلك بمعنى السعة في الأخذ بأحدهما حتى يلقى الإمام أو من يخبره باليقين، وهذا هو معنى التخيير.

ص: 383


1- الاحتجاج: 483؛ عنه وسائل الشيعة 27: 121.
2- الكافي 1: 53؛ عنه وسائل الشيعة 27: 108.

وأشكل عليه: أوّلاً: بأن الإرجاء لا يناسب التخيير، إذ في التخيير يكون في السعة من أوّل الأمر، ومن خلاف الظاهر حمل الإرجاء في مقام النسبة إلى الإمام وحمل السعة في التخيير في مقام العمل، وعليه فلعل المعنى كونه في سعة من الحكم الواقعي مع التوقف في العمل بأيٍّ منهما، فيكون نظير قوله: «الناس في سعة ما لا يعلمون»!

وثانياً: إن موردها في الدوران بين المحذورين - حيث الترديد بين الوجوب والحرمة - والحكم في هذا المورد هو التخيير العقلي، ولا ارتباط له بالتخيير بين الخبرين!

وفيه: إنه مع الشك في حجيّة الخبرين مع إمكان المكلّف عدم العمل بهما بأن لم يكونا في الضدين اللذين لا ثالث لهما أو في النقيضين، فلا يكون من الدوران بين المحذورين، إذ يمكن أن يكون الحكم الواقعي هو الإباحة.

6- ومنها: ما في الكافي: «وفي رواية أخرى بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك»(1).

7- ومنها: ما في مرفوعة زرارة: «إذن فتخيّر أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر»(2).

وبعد ذلك نقول: إن مجموع هذه الأخبار مع صحة سند بعضها ووضوح دلالة بعضها، وعمل المشهور بها قديماً وحديثاً توجب الاطمئنان والحجة على ثبوت التخيير الشرعي بين الخبرين المتعارضين، لكن مع تقييدها

ص: 384


1- الكافي 1: 53؛ عنه وسائل الشيعة 27: 108.
2- عوالي اللئالي 4: 133.

بأخبار الترجيح، فكلّما فقد الترجيح ثبت التخيير.

ثم إن بعض الأخبار قد دلت على التخيير المطلق كقوله: «فموسع عليك بأيهما أخذت»، وبعضها دلت على التخيير حين عدم التمكن من الوصول إلى الإمام (علیه السلام) كقوله: «فموسع عليك حتى ترى القائم فترد إليه».

وقد يقال: بعدم التعارض بينهما لأنهما مثبتين مع عدم ثبوت وحدة المطلوب. فتحصّل: أن التخيير المستفاد من الأخبار إنّما هو بعد فقد المرجحات، لأن أحدهما إن كان راجحاً فلا حجيّة للآخر كي يعارضه لتصل النوبة إلى التخيير، وإنّما يلزم حجيّة كل واحد منهما في نفسه لولا المعارضة كما مرّ.

وعليه: فلا بدّ من الفحص عن المرجحات، لأن الفحص عنها فحص عمّا هو الحجة نظير توقف إجراء الأصول على الفحص عن الأمارات كما مرّ تفصيله في بحث البراءة.

تتمّات:

التتمّة الأولى: في الجمع بين أخبار التخيير والتوقف

ثم إن بعض الأخبار دلّ على التوقف في زمن الحضور كقوله في آخر المقبولة: «إذا كان ذلك فأرجه حتى تلقى إمامك فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات».

ولم نجد خبراً يدل على التوقف مطلقاً، وأمّا قوله (علیه السلام): «ما علمتم أنه قولنا فالزموه وما لم تعلموا فردوه إلينا»(1) فأجنبي عن التوقف لدلالته على

ص: 385


1- السرائر: 479؛ عنه وسائل الشيعة 27: 120.

وجوب الأخذ بالخبر المعلوم الصدور وردّ المشكوك الصدور إليهم فلا يعمل به لعدم حجيّته رأساً.

وقد يقال: بحصول التعارض بين ما دلّ على التوقف في حال الحضور وما دلّ على التخيير مطلقاً، وحيث إن النسبة بينهما العموم المطلق فلا بدّ من تقييد مطلقات التخيير بغير حال الحضور كما عليه المشهور.

وأشكل عليه: بأن بعض الأخبار دلت على التخيير في زمن الحضور فتعارض ما دلّ على التوقف في زمانه فيتساقطان فتبقى أخبار التخيير مطلقاً سليمة عن المخصص.

وأجيب: بأن لا وجود لأخبار دالة على التخيير في خصوص زمان الحضور، ولو فرض وجودها فلا بدّ من إلغاء الخصوصية لبُعد تخصيص التخيير بزمان الحضور مع إمكان الوصول إلى الإمام ولو بعد حين وعدم التخيير في زمان عدم الحضور مع عدم إمكان الوصول إليه عادة!

التتمّة الثانية: التخيير مع اختلاف النُسخ

قد يقال: إن أدلة التخيير لا تشمل اختلاف نُسخ الرواية الواحدة، حيث إن قوله (علیه السلام): «يأتي عنكم الخبران المختلفان» وقوله: «يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين» ظاهر في أن يكون هناك خبران كل واحد منهما يعارض الآخر بالمطابقة أو بالالتزام، ولا يدخل فيه اختلاف النُسخ، لأن معنى اختلافها هو أن الخبر المعيّن إمّا هذا أو ذاك!

ويرد عليه: أوّلاً: أنه لا فرق في رواية نفرين بين أن يسمع شخصان عن الإمام شيئاً فيرويانه مختلفاً كأن يروي أحدهما أنه سمع (يجب) والآخر أنه

ص: 386

سمع (لا يجب) مثلاً، وبين أن يكون ذلك عن الرواة عنهما، واختلاف النُسخ كذلك إذ لا بدّ من وثاقة الناسخ أو تأييد ما كتبه كما هو دأب علمائنا الأبرار حيث كانوا يقرأون الكتاب أو يقرأ عليهم ويصحّحونه!

وثانياً: لو سلّم عدم الشمول فإن الملاك جار في اختلاف النسخ.

التتمّة الثالثة: في كيفية الفتوى بالتخيير

الفتوى بالتخيير:

تارة تكون: باختيار المجتهد أحد الخبرين ثم الفتوى به.

وتارة: بالتخيير في المسألة الأصولية بأن يسوغ للمقلّد الأخذ بأحد الخبرين ولو كان على خلاف ما اختاره المجتهد لنفسه.

وتارة: بالتخيير في المسألة الفرعية بأن يذكر أنه مخيّر بين الحكمين نظير التخيير في خصال الكفارة.

أمّا الأوّل فلا إشكال فيه: وذلك لأن اختيار المجتهد لأحدهما يستلزم قيام الحجة على الحكم، فيكون الإفتاء به حينئذٍ مستنداً إلى الحجة.

وأمّا الثاني: فأيضاً لا محذور فيه لشمول أخبار التخيير له، حيث إنه من مصاديق التخيير فبعد أن يصل المجتهد إلى أن الحكم هو التخيير بين الخبرين كما يمكنه أن يختار هو كذلك يمكنه أن يوكل الاختيار إلى المكلّف لإطلاق النص.

وأمّا الثالث: فقد يقال: بعدم صحته، لعدم الدليل عليه، حيث إن كل خبر يدل على ثبوت مدلوله على نحو التعيين، فالحكم الظاهري حينئذٍ أحدهما المعيّن حسب ما يختاره لا أن الوظيفة هي الحكم التخييري، بل إن

ص: 387

قوله (علیه السلام): «بأيّهما أخذت من باب التخيير وسعك» ظاهر في الأخذ بأيّ من الخبرين لا مجرد العمل على طبقه، وكذا قوله: «إذن فتخيّر» بعد ذكره الترجيح لهذا الخبر أو ذاك.

إن قلت: قوله: «فموسع عليك بأية عملت» يدل على التخيير في العمل!

قلت: إن ذلك يحتمل المعنيين - أي الأخذ بأحد الخبرين أو التخيير العملي - فلا يعارض الظهور الذي ذكرناه ولا يغيّره حيث إن الأخذ بأحد الخبرين أيضاً طريق للعمل، فتأمل.

التتمّة الرابعة: استمراريّة التخيير

قد يقال: إن التخيير استمراري تمسكاً بالإطلاق أوالاستصحاب.

وأشكل عليه: أوّلاً: إن موضوع التخيير هو المتحيّر ولا تحيّر بعد اختيار أحدهما، فلا مجال للإطلاق، ولا للاستصحاب لاختلاف الموضوع.

وفيه: أن التحيّر - بمعنى التردد بين الخبرين لتعارضهما - باقٍ على حاله ولم يزُل بالاختيار، وأمّا التحيّر بمعنى الحيرة في الوظيفة العملية فلم يؤخذ في موضوع أدلة التخيير.

وثانياً: اختلاف متعلّق الشك قبل الاختيار وبعده، فإن متعلّق الشك قبل الاختيار هو حجيّة كل من الخبرين تعييناً أو تخييراً أو عدم حجيّة أيٍّ منهما، فأخبار التخيير تثبت حجيّة كل منهما بنحو التخيير والبدلية، لكن بعد اختيار أحدهما يعلم بأنه الحجة عليه ولا يحتمل زوالها لقطعه بأن ما اختاره حجة عليه إمّا تعييناً أو تخييراً، وإنّما يشك في أنه هل يحق له إلغاء حجيّة ما أخذ به بأن يتركه ويأخذ بالآخر أم لا؟ وهذا شك يختلف عن الشك الأوّل،

ص: 388

بل هو في طول الحكم بالتخيير الثابت للشك الأوّل، فلا يمكن التمسك بالإطلاقات لأن موضوعها الشك الأوّل، كما لا معنى للتمسك بالاستصحاب لأن الحكم المشكوك غير الأوّل!

وفيه: أنه منذ البداية يشك في حجيّة كل من الخبرين، فمع الأخذ بأحدهما لا يتغير الشك في حجيّة الآخر، فكما يشمله الإطلاق قبل الأخذ بالأوّل كذلك يشمله بعد الأخذ به، كما أنه هو الشك بنفسه قبل الأخذ بالآخر وبعد الأخذ به.

ومن ذلك يتضح أنه لا فرق في الاستصحاب بين كون التخيير في المسألة الأصولية أو الفرعية، وبذلك يتبيّن التأمل في ما ذكره المحقق النائيني(1)

من إن مرجع هذا الشك إلى الشك في بقاء موضوع الاستصحاب، وذلك لأن موضوع الاستصحاب غير باقٍ على تقدير كون التخيير في المسألة الأصولية، وعلى تقدير كونه في المسألة الفرعية باقٍ قطعاً، وعليه ففي مورد الشك في كونه من أيّ القسمين يكون شكاً في بقاء موضوع الاستصحاب فلا يجري على جميع التقادير، فتأمل.

تمّ في الأوّل من شهر رجب المرجب من عام ألف وأربعمائة وثلاثة وأربعين للهجرة، في بلدة قم المقدسة، أسأل الله أن يتقبله بقبول حسن.

سبحان ربّك ربّ العزّة عما يصفون، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.

ص: 389


1- فوائد الأصول 4: 768.

ص: 390

فهرس المصادر

القرآن الكريم.

نهج البلاغة.

1.أجود التقريرات، تقرير درس الشيخ محمّد حسين النائيني، مؤسسة صاحب الأمر، قم، ط 2، 1430ه .

2.الاحتجاج، الشيخ أحمد بن علي الطبرسي، مطابع النعمان، النجف الأشرف، ط 1، 1386ه .

3.الإرشاد، الشيخ محمّد بن محمّد بن النعمان المفيد، مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) ، قم، ط 2، 1414ه .

4.الاستبصار، الشيخ محمّد بن الحسن الطوسي، دار الكتب الإسلامية، طهران، ط 4، 1363ش.

5.الأصول، السيد محمّد الشيرازي، دار العلوم، بيروت، ط 5، 1421ه .

6.الأمالي، الشيخ محمّد بن الحسن الطوسي، مؤسسة البعثة، قم، ط 1، 1414ه .

7.الأمالي، الشيخ محمّد بن محمّد بن النعمان المفيد، جامعة المدرسين، قم، ط 2، 1414ه .

8.إيضاح كفاية الأصول، السيد جعفر الشيرازي، دار الحجة، قم، ط 1،

ص: 391

1435ه .

9.بحار الأنوار، الشيخ محمّد باقر المجلسي، مؤسسة الوفاء، بيروت، ط 2، 1403ه .

10.بحر الفوائد في شرح الفرائد، الشيخ محمّد حسن الآشتياني، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت، ط 1، 1429ه .

11.بحوث في علم الأصول، تقرير درس السيد محمّد باقر الصدر، مؤسسة دائرة المعارف الفقه الإسلامي، قم، ط 4، 1431ه .

12.بدائع الأفكار، الشيخ حبيب الله الرشتي، مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) ، قم، ط 1.

13.البرهان في تفسير القرآن، السيد هاشم البحراني، مؤسسة البعثة، قم، ط 1، 1419ه .

14.بيان الأصول، السيد صادق الشيرازي، دار الأنصار، قم، ط 2، 1436ه .

15.الترتب، السيد محمّد رضا الشيرازي، مركز الفكر الإسلامي، قم، ط 1، 1410ه .

16.تقريرات المجدّد الشيرازي، الشيخ علي الروزدري، مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) ، قم، ط 1، 1409ه .

17.تهذيب الأحكام، الشيخ محمّد بن الحسن الطوسي، دار الكتب الإسلامية، طهران، ط 3، 1407ه .

18.التوحيد، الشيخ محمّد بن علي بن بابويه الصدوق، جامعة المدرسين، قم، ط 1، 1398ه .

19.جامع أحاديث الشيعة، السيد حسين البروجردي، نشر واصف لاهيجي،

ص: 392

قم، ط 2، 1433ه .

20.جامع المقاصد، الشيخ علي بن الحسين الكركي، مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) ، قم، ط 1، 1408ه .

21.حاشية المكاسب، السيد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي، طليعه نور، قم، ط2، 1429ه .

22.حاشية على المكاسب، الشيخ محمّد تقي الشيرازي، الشريف الرضي، قم، ط 1، 1412ه .

23.الحدائق الناضرة، الشيخ يوسف البحراني، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، ط 1، 1405ه .

24.حقائق الأصول، السيد محسن الحكيم، مكتبة بصيرتي، قم، ط 5، 1408ه .

25.الحكومة والورود، السيد مرتضى الشيرازي، دار العلم، قم، ط 1، 1443ه .

26.الخصال، الشيخ محمّد بن علي الصدوق، جامعة المدرسين، قم، ط 1، 1403ه .

27.الخلاف، الشيخ محمّد بن الحسن الطوسي، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، ط 1، 1407ه .

28.دراسات في علم الأصول، تقرير درس السيد ابوالقاسم الخوئي، مؤسسة دائرة المعارف الفقه الإسلامي، قم، ط 2، 1426ه .

29.درر الفوائد في الحاشية على الفرائد، الشيخ محمّد كاظم الخراساني، مؤسسة توسعه فرهنگ قرآني، قم، ط 1، 1384ش.

30.درر الفوائد، الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي، مؤسسة النشر

ص: 393

الإسلامي، قم، ط 5، 1408ه .

31.رسائل فقهية، الشيخ مرتضى الأنصاري، مجمع الفكر الإسلامي، قم، ط 3، 1426ه .

32.رشحات الأصول، تقرير درس السيد علي المحقق الداماد، نشر دانش حوزه، قم، ط 1، 1440ه .

33.السرائر، الشيخ محمّد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلي، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، ط 2، 1410ه .

34.شرائع الإسلام، الشيخ جعفر بن الحسن المحقق الحلي، انتشارات استقلال، طهران، ط 2، 1409ه .

35.شرح أصول الكافي، السيد جعفر الشيرازي، دار العلوم، بيروت، ط 1، 1431ه .

36.شرح الإشارات، الشيخ نصير الدين الطوسي، المطبعة الحيدرية، النجف الأشرف، ط 1، 1377ه .

37.شرح الكافية، الشيخ رضي الدين الأسترآبادي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1399ه .

38.شرح منظومة السبزواري، السيد محمّد الشيرازي، دار القرآن الحكيم، قم، ط 2.

39.العدة في أصول الفقه، الشيخ محمّد بن الحسن الطوسي، مطبعة ستاره، قم، ط 1، 1417ه .

40.علل الشرائع، الشيخ محمّد بن علي الصدوق، المكتبة الحيدرية، النجف

ص: 394

الأشرف، ط 1، 1385ه .

41.العناوين الفقهية، السيد مير عبد الفتاح المراغي، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، ط 1، 1417ه .

42.عوالي اللئالي، الشيخ ابن أبي جمهور الأحسائي، مطبعة سيد الشهداء، قم، ط 1، 1405ه .

43.فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، مجمع الفكر الإسلامي، قم، ط 9، 1428ه .

44.الفصول الغرويّة في الأصول الفقهية، الشيخ محمّد حسين الإصفهاني، دار إحياء العلوم الإسلامية، قم، 1404ه .

45.فوائد الأصول، تقرير درس الشيخ محمّد حسين النائيني، مؤسسة النشر الإسلامي قم، ط 9، 1429ه .

46.قاعدة لا ضرر ولا ضرار، السيد علي السيستاني، مكتب السيد السيستاني، قم، ط 1، 1414ه .

47.قاعدة لا ضرر، شيخ الشريعة الإصفهاني، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، ط 1، 1410ه .

48.القواعد الفقهية، السيد حسن البجنوردي، دليل ما، قم، ط 3، 1428ه .

49.قوانين الأصول، الشيخ أبوالقاسم القمي، دار إحياء الكتب الإسلامية، قم، ط 1، 1430ه .

50.الكافي، الشيخ محمّد بن يعقوب الكليني، دار الكتب الإسلامية، طهران، ط 5، 1363ش.

ص: 395

51.كتاب الطهارة، الشيخ مرتضى الأنصاري، مجمع الفكر الإسلامي، قم، ط 3، 1428ه .

52.كتاب العين، الخليل بن أحمد الفراهيدي، دار الهجرة، قم، ط 2، 1409ه .

53.كتاب القضاء (المطبوع ضمن كتاب بحوث في القضاء)، الشيخ ضياء الدين العراقي، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، ط 2، 1435ه .

54.كشف القناع عن وجوه حجية الإجماع، الشيخ أسد الله التوستري، موسسة آل البيت (علیهم السلام) .

55.كمال الدين، الشيخ الصدوق، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، ط 1، 1405ه .

56.مباحث الأصول، تقرير درس السيد محمّد باقر الصدر، دار البشير، قم، ط 3، 1433ه .

57.المحاسن، الشيخ أحمد بن محمّد البرقي، دار الكتب الإسلامية، طهران، ط 2، 1371ه .

58.مدارك الأحكام، السيد محمّد العاملي، مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) ، قم، ط 1، 1410ه .

59.مستدرك الوسائل، الشيخ حسين النوري، مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) ، قم، ط 1، 1408ه .

60.مصابيح الظلام، الشيخ محمّد باقر الوحيد البهبهاني، ط 1، 1424ه .

61.مصباح الفقيه، الشيخ رضا الهمداني، مؤسسة الجعفرية، قم، ط 1، 1416ه .

62.مصباح المتهجّد، الشيخ محمّد الحسن الطوسي، موسسة فقه الشيعة، بيروت، ط 1، 1411ه .

ص: 396

63.مطارح الأنظار، تقرير درس الشيخ مرتضى الأنصاري، مجمع الفكر الإسلامي، قم، ط 2، 1428ه .

64.معالم الدين، الشيخ حسن بن الشهيد الثاني، مؤسسة النشر الإسلامي، قم.

65.المعتبر، الشيخ جعفر بن الحسن المحقق الحلي، مؤسسة سيد الشهداء (علیه السلام) ، قم، ط 1، 1407ه .

66.مقالات الأصول، الشيخ ضياء الدين العراقي، مجمع الفكر الإسلامي، قم، ط 3، 1428ه .

67.المكاسب، الشيخ مرتضى الأنصاري، مجمع الفكر الإسلامي، قم، ط 13، 1430ه .

68.ملحق العروة الوثقى؛ السيد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، ط 6، 1438ه .

69.من لا يحضره الفقيه، الشيخ محمّد بن علي الصدوق، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، ط 2، 1413ه .

70.منتقى الأصول، السيد محمّد الروحاني، مطبعة الهادي، قم، ط 2، 1416ه .

71.منتهى الأصول، السيد حسن البجنوردي، مطبعة مؤسسة العروج، قم، ط 1، 1421ه .

72.منية الطالب، تقرير درس الشيخ محمّد حسين النائيني، موسسة النشر الإسلامي، قم، ط 1، 1418ه .

73.موسوعة الفقه، السيد محمّد الشيرازي، دار العلوم، بيروت، ط 2، 1407ه .

74.موسوعة الفقيه الشيرازي، السيد محمّد رضا الشيرازي، دار العلم، قم، ط

ص: 397

1، 1437ه .

75.نبراس الأصول، السيد جعفر الشيرازي، دليل ما، قم، ط 1، 1438ه .

76.نتائج الأفكار، السيد محمّد رضا الگپايگاني، دار القرآن الكريم، قم، ط 1، 1413ه .

77.نهاية الأفكار، الشيخ ضياء الدين العراقي، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، ط 5، 1431ه .

78.نهاية الدراية، الشيخ محمّد حسين الغروي الإصفهاني، موسسة آل البيت (علیهم السلام) ، قم، ط 2، 1429ه .

79.هداية المسترشدين، الشيخ محمّد تقي الإصفهاني، موسسة النشر الإسلامي، قم، ط 2، 1429ه .

80.الوافية في أصول الفقه، الفاضل التوني، مجمع الفكر الإسلامي، قم، ط 1، 1412ه .

81.وسائل الشيعة، الشيخ محمّد بن الحسن الحرّ العاملي، مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) ، قم، ط 2، 1414ه .

82.الوصائل إلى الرسائل، السيد محمّد الشيرازي، مؤسسة عاشوراء، قم، ط 2، 1421ه .

83.الوصول إلى كفاية الأصول، السيد محمّد الشيرازي، مؤسسة البلاغ، بيروت، ط 1، 1431ه .

ص: 398

فهرس الموضوعات

المقصد الحادي عشر في الاستصحاب

بحوث تمهيدية. 7

البحث الأوّل: في تعريفه. 7

التعريف الأوّل. 7

المطلب الأوّل: في (إبقاء) 7

المطلب الثاني: في (ما كان) 12

التعريف الثاني.. 14

التعريف الثالث... 14

التعريف الرابع. 14

البحث الثاني: في أصولية مسألة الاستصحاب... 15

البحث الثالث: بين الاستصحاب، وقاعدة اليقين، وقاعدة المقتضي والمانع... 16

فصل في أدلة الاستصحاب

المبحث الأوّل: في بناء العقلاء... 19

المقام الأوّل: في الصغرى... 19

المقام الثاني: في الكبرى.. 22

المبحث الثاني: الروايات المعتبرة. 23

1- صحيحة زرارة الأولى.. 23

2- صحيحة زرارة الثانية. 32

ص: 399

المقام الأوّل: في دلالة الجواب السادس... 33

المقام الثاني: في دلالة الجواب الثالث... 35

3- صحيحة زرارة الثالثة. 40

الاستصحاب الأوّل: استصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة. 40

الاستصحاب الثاني: استصحاب اشتغال الذمة بالصلاة. 45

4- حديث الأربعمائة. 48

5- مكاتبة القاشاني.. 49

6- موثقة اسحاق بن عمار. 52

7- صحيحة عبد اللّه بن سنان. 52

8- روايات الطهارة والحلّيّة. 53

القول الأوّل: الدلالة على الاستصحاب فقط.. 54

القول الثاني: الدلالة على قاعدة الطهارة الظاهرية فقط.. 55

القول الثالث: الدلالة على الطهارة الواقعية فقط.. 56

القول الرابع: الدلالة على الطهارة الظاهرية والاستصحاب... 58

القول الخامس: الدلالة على الطهارة الواقعية والاستصحاب... 60

القول السادس: الدلالة على الطهارتين والاستصحاب... 61

فصل في استصحاب الحكم الشرعي المستند إلى حكم العقل

فصل في الاستصحاب مع الشك في المقتضي

المقام الأوّل: في النقض.... 71

الأمر الأوّل: في معناه الحقيقي.. 71

الأمر الثاني: في استعماله المجازي.. 72

الأمر الثالث: النقض في اليقين.. 73

المقام الثاني: في معنى اليقين.. 74

ص: 400

المقام الثالث: أدلة عدم حجيّته. 79

فصل في الاستصحاب في الشبهات الحكمية الكليّة

المقام الأوّل: عدم وجود المقتضي.. 85

المقام الثاني: في وجود المانع. 86

فصل في استصحاب الأحكام التكليفية والوضعية

المقام الأوّل: في الأحكام التكليفية. 96

المقام الثاني: في الأحكام الوضعية. 98

تتمة: في بعض مصاديق الأحكام الوضعية. 106

المصداق الأوّل: الطهارة والنجاسة. 106

المصداق الثاني: الصحة والفساد. 109

المصداق الثالث: الحجيّة. 110

فصل في شروط الاستصحاب

الشرط الأوّل: فعلية اليقين والشك... 111

تكملتان. 113

التكملة الأولى: في ثمرة البحث... 113

التكملة الثانية: الغفلة بعد الاستصحاب... 115

الشرط الثاني: وجود الشك بالمعنى الأعم.. 117

الشرط الثالث: وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة. 119

المقام الأوّل: لزوم اتحادهما في الموضوع والمحمول. 119

المقام الثاني: في مناط الاتحاد. 120

الشرط الرابع: اتصال اليقين بالشك... 122

الشرط الخامس: بقاء اليقين بالحدوث... 122

ص: 401

عدم حجية قاعدة اليقين.. 122

فصل في الاستصحاب في مورد الأمارات والأصول

المبحث الأوّل: في الاستصحاب في موارد الأمارات والطرق.. 128

المبحث الثاني: الاستصحاب في موارد الأصول العملية. 135

فصل في استصحاب الفرد والكلي

المبحث الأوّل: في استصحاب الفرد المردد. 137

المبحث الثاني: في استصحاب الكلي.. 143

القسم الأوّل من الكلي.. 144

القسم الثاني من الكلي.. 144

القسم الثالث من الكلي.. 152

فرعان. 156

القسم الرابع من الكلي.. 157

فصل في استصحاب الأمور التدريجيّة

المبحث الأوّل: في استصحاب الزمان بنفسه. 160

المقام الأوّل: استصحاب الزمان بمفاد كان التامة. 160

المقام الثاني: استصحاب الزمان بمفاد كان الناقصة. 162

المبحث الثاني: في استصحاب الزمانيات... 166

المبحث الثالث: استصحاب الأمور المقيدة بالزمان. 169

المطلب الأوّل: الشك في القيد مع وحدة المطلوب... 170

الصورة الأولى: الشك في الشبهة الموضوعيّة. 170

الصورة الثانية: الشك في الشبهة الحكمية المفهومية. 176

الصورة الثالثة: الشك في الشبهة الحكمية للتعارض أو الإجمال. 177

ص: 402

المطلب الثاني: الشك من جهة احتمال تعدد المطلوب... 178

فصل في الاستصحاب التعليقي

المبحث الأوّل: في استصحاب الحكم التعليقي.. 182

المبحث الثاني: في استصحاب الملازمة. 187

المبحث الثالث: المانع عن الاستصحاب التعليقي.. 190

المبحث الرابع: الاستصحاب التعليقي في الموضوعات والمتعلقات... 193

فصل في استصحاب عدم النسخ

المقام الأوّل: وجود المقتضي.. 196

المقام الثاني: في عدم المانع. 199

فصل في الأصل المثبت

المبحث الأوّل: الفرق بين مثبتات الأصول والأمارات... 201

المبحث الثاني: في المانع. 207

المبحث الثالث: موارد مستثناة من عدم الحجيّة. 208

المورد الأوّل: خفاء الواسطة. 208

المورد الثاني: جلاء الواسطة. 210

المورد الثالث: المتحدان وجوداً المتغايران مفهوماً 210

المورد الرابع: منشأ الانتزاع والمنتزَع. 211

المورد الخامس: عدم الحكم.. 213

المبحث الرابع: في الأثر الأعم.. 214

فصل في زمان الأثر

فصل في الشك في التقدم والتأخر

المبحث الأوّل: لحاظ الحادث أو عدمه إلى أجزاء الزمان. 216

ص: 403

المبحث الثاني: لحاظ أحد الحادثين بالنسبة إلى الآخر. 217

المقام الأوّل: في مجهولي التاريخ.. 218

المقام الثاني: في المجهول تاريخ أحدهما المعلوم الآخر. 223

المبحث الثالث: في تعاقب الحالتين.. 228

المقام الأوّل: في مجهولي التاريخ.. 229

المقام الثاني: في ما إذا كان أحدهما معلوم التاريخ.. 231

فصل في الاستصحاب في الاعتقادات

المبحث الأوّل: في عامة الاعتقاديات... 233

المبحث الثاني: في استصحاب النبوة. 234

فصل في استصحاب حكم المخصص

فصل في تعارض الاستصحاب وغيره

المبحث الأوّل: في الاستصحاب والأمارات... 244

الوجه الأوّل: التخصيص.... 244

الوجه الثاني: الورود. 245

الوجه الثالث: الحكومة. 246

المبحث الثاني: تعاض الاستصحاب مع سائر الأصول. 249

المسلك الأوّل: الورود. 249

المسلك الثاني: الحكومة. 251

المبحث الثالث: في تنافي الاستصحابين.. 252

المقام الأوّل: التمانع في مرحلة الامتثال. 253

المقام الثاني: التمانع في مرحلة الجعل مع الطولية بينهما 253

الوجه الأوّل: الورود. 253

ص: 404

الوجه الثاني: الحكومة. 256

الوجه الثالث: الترجيح بالأخبار. 258

المقام الثالث: التمانع في مرحلة الجعل مع العرضية بينهما 259

فصل في نسبة الاستصحاب إلى القواعد الفقهية

المبحث الأوّل: قاعدة اليد. 263

المبحث الثاني: قاعدتا الفراغ والتجاوز. 266

المبحث الثالث: أصالة الصحة. 276

المطلب الأوّل: الصحة الواقعية أم الاعتقاديّة. 276

المطلب الثاني: الشك في العقود. 277

المطلب الثالث: في اشتراط قصد العمل.. 279

المطلب الرابع: في نسبة قاعدة الصحة مع الاستصحاب... 281

المبحث الرابع: قاعدة القرعة. 282

المطلب الأوّل: في دليلها 282

المطلب الثاني: في نسبتها إلى الاستصحاب وسائر الأمارات والأصول. 284

الاحتمال الأوّل: التخصيص.... 284

الاحتمال الثاني: التخصص.... 286

الاحتمال الثالث: الورود. 286

الاحتمال الرابع: الحكومة. 287

الاحتمال الخامس: التعارض المستقر. 288

المطلب الثالث: القرعة رخصة أم عزيمة. 288

المقصد الثاني عشر في تعارض الأدلة

بحوث تمهيدية. 293

ص: 405

المطلب الأوّل: في العنوان. 293

المطلب الثاني: في تعريف التعارض.... 293

المطلب الثالث: في موارد خرجت عن التعارض.... 296

فصل في القاعدة الأوّلية في التعارض

1- على السببية. 301

2- على الطريقية. 303

المبحث الأوّل: في المدلول المطابقي.. 303

الاحتمال الأوّل: التخيير. 303

ألف: التخيير في المسألة الفرعية. 303

باء: التخيير في المسألة الأصولية. 305

الاحتمال الثاني: التوقف... 307

المبحث الثاني: في المدلول الالتزامي بنفي الثالث... 312

تكملة: في قاعدة الجمع مهما أمكن أولى من الطرح.. 313

فصل في الأصل الثانوي في المتعارضين

المبحث الأوّل: المزيّة التي لا توجب جمعاً دلالياً 315

المبحث الثاني: المزيّة التي توجب جمعاً دلالياً 317

فصل في التعارض بين أكثر من دليلين

المبحث الأوّل: اتحاد النسبة. 322

القسم الأوّل: عام واحد وخاصان. 322

الحالة الأولى: أن تكون النسبة بين الخاصين التباين.. 322

الحالة الثانية: أن تكون النسبة بين الخاصين العموم من وجه. 328

الحالة الثالثة: أن تكون النسبة بين الخاصين العموم المطلق.. 329

ص: 406

القسم الثاني: عامّان من وجه مع خاص.... 332

القسم الثالث: عامّان متباينان مع خاص.... 333

المبحث الثاني: في تعدد النسبة. 335

تكملة: في مثال تطبيقي في العارية. 341

فصل في الأخبار العلاجيّة

المبحث الأوّل: في أخبار الترجيح.. 347

الطائفة الأولى: المقبولة والمرفوعة. 347

1- المقبولة. 347

2- المرفوعة. 355

الطائفة الثانية: أخبار موافقة الكتاب ومخالفته. 357

الطائفة الثالثة: أخبار مخالفة العامة وموافقتهم.. 358

الطائفة الرابعة: أخبار الترجيح بالأحدث... 359

تتمة فيها مطالب... 362

المطلب الأوّل: في التعدي عن المرجحات المنصوصة. 362

المطلب الثاني: أنواع المرجحات... 367

المطلب الثالث: في ترتيب المرجحات... 369

القول الأوّل: إنها في عرض واحد. 369

القول الثاني: تقديم المرجح الصدوري على المرجح بالجهة. 371

القول الثالث: تقديم المرجح بالجهة على المرجح الصدوري.. 372

المطلب الرابع: في المتعارضين من وجه. 373

المطلب الخامس: المراد بالشهرة في الأخبار العلاجيّة. 377

المبحث الثاني: في أخبار التخيير. 378

ص: 407

التتمّة الأولى: في الجمع بين أخبار التخيير والتوقف... 385

التتمّة الثانية: التخيير مع اختلاف النُسخ.. 386

التتمّة الثالثة: في كيفية الفتوى بالتخيير. 387

التتمّة الرابعة: استمراريّة التخيير. 388

فهرس المصادر. 391

فهرس الموضوعات... 399

ص: 408

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.