القيمة المعرفية للشك

هویة الكتاب

القيمة المعرفية للشك

محاضرات سماحة السید مرتضی الحسیني الشیرازي

الطبعة الأولى

1439 ه - 2018 م

منشورات: موسسة التقی الثقافية

النجف الأشرف

7810001902 00964

m-alshirazi.com

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 2

بحث عن (الشك)

قيمته، بواعثه، مخاطره، دعائمه ودعائم اليقين

القيمة المعرفية للشك

محاضرات سماحة السید مرتضی الحسیني الشیرازي

ص: 3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ

اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ

صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ

ص: 4

اَللهمَّ كُن لولیَّك الحُجةِ بنِ الحَسَنِ صَلَواتُكَ عَلَیهِ وَ عَلی ابائهِ فی هذهِ السّاعةِ، وَ فی كُلّ ساعَة وَلیّا وَ حافظاً وقائِداً وَ ناصِراً وَ دَلیلاً وَ عَیناً حَتّی تُسكِنَهُ اَرضَكَ طَوعاً وَ تُمَتّعَهُ فیها طَویلاً

ص: 5

ص: 6

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.

المقدمة

موضوع الكتاب ومحوره

محور البحث في هذا الكتاب هو (الشك) الذي يعدّ أحد أهم البحوث من حيث دراسة مدى قيمته معرفياً وهل أنه المفتاح للحقائق أو - على الأقل - هل أنه يشكّل إحدى المقدمات الموصلة لها؟ وهل هو السبيل إلى التقدم والتطور والازدهار؟ أم أنه لا يعدو كونه رذيلة ومنقصة؟ وما هي دعائمه وأركانه وأسبابه وبواعثه ونتائجه وأضراره؟ وما هي الحلول أو السبل التي تمكّن البشر من التغلب على ظاهرة الشك والتشكيك؟ كما يقع البحث في الاتجاه المقابل عن (اليقين) ودعائمه وعن الطرق الموصلة إليه.

مادة البحث ومرجعياته والمخاطَب به

وسيجري البحث على مستويات ثلاثة هي النقل والعقل والعلم:

المستوى الأول: مستوى النقل والآيات الكريمة والروايات الشريفة،

ص: 7

والمخاطَب فيه أولاً: المسلم المذعن بالله تعالى وبما جاء به الرسول (صلی الله علیه و آله) والأئمة (علیهم السلام) من عنده سبحانه.

وثانياً: غير المسلم باعتبار أنه يجدر به أن يتعرّف على النظرية الإسلامية في الشك والمعرفة كخيار من الخيارات المعرفية - الفلسفية المطروحة في ساحة البحث ولكونها مستمدّة - في هذا الكتاب - من مصدرين أساسيين هما القرآن الكريم وكلمات الإمام علي بن أبي طالب صلوات الله عليه.

والقرآن الكريم هو الكتاب السماوي المقدّس الذي يدين به مئات الملايين من البشر والذي يشكّل المرجع الأول لهم في فهم الكون والحياة، والحافز والباعث الأكبر لهم على أنماط كثيرة من السلوكيات.

وأما الإمام علي (علیه السلام) فإنه يكفيه - لدى كبار علماء العالم - أنه خلّد سِفراً خالداً ك(نهج البلاغة).

المستوى الثاني: مستوى العقل.

المستوى الثالث: مستوى العلم.

والخطاب فيهما موجه أولاً لغير المسلم، وثانياً: للمسلم، فإنه نافع للمؤمن أيضاً بل هو أساسي له، حيث ثبت في بحوث علم الكلام والفلسفة أن هذه الثلاثة (العلم والعقل والدين) متطابقة في جوهرها بل متوافقة مطلقاً بحسب وجوداتها الثبوتية.

وسيتمحور البحث حول عدد من الآيات القرآنية الكريمة ومنها قولهتعالى: «أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ»(1).

ص: 8


1- سورة إبراهيم: 9 - 11.

كما سيتمحور البحث حول كلمتين مفتاحيتين للإمام علي (علیه السلام) أحداهما قوله (علیه السلام): «وَالْيَقِينُ عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ عَلَى تَبْصِرَةِ الْفِطْنَةِ وَتَأَوُّلِ الْحِكْمَةِ وَمَوْعِظَةِ الْعِبْرَةِ وَسُنَّةِ الْأَوَّلِينَ.

فَمَنْ تَبَصَّرَ فِي الْفِطْنَةِ تَأَوَّلَ الْحِكْمَةَ، وَمَنْ تَأَوَّلَ الْحِكْمَةَ عَرَفَ الْعِبْرَةَ، وَمَنْ عَرَفَ الْعِبْرَةَ عَرَفَ السُّنَّةَ، وَمَنْ عَرَفَ السُّنَّةَ فَكَأَنَّمَا عَاشَ فِي الْأَوَّلِينَ»(1).

نطاق البحث: مستوى فقه الفرد وفقه المجتمع والدولة

والبحث يمكن أن يجري على ثلاث مستويات أخرى وهي: الفقه الفردي أو الشخصي، فقه المجتمع، وفقه الدولة، ولكننا في هذا الكتاب سنقتصر على المستوى الأول بالدرجة الأساس، مع إشارات للمستوى الثاني.

أ -- فعلى مستوى الفقه الشخصي: يجري البحث عن الموقف الأسلم لكل فرد من الشك والتشكيك، وهل على كل واحد منا أن يفتح أبوابه لأمواج الشك والتشكيك أو أن عليه يغلق دونه عقله وقلبه ومسامعه؟ خاصةً وأن عصرنا تميّز بأنه عصر الشك، بل أصبحت فيه موجات التشكيك المتتالية ظاهرةً من أهم ظواهره: فيوماً التشكيك في وجود الله أو عدله، ويوماً التشكيك فيضرورة الدين للحياة، ويوماً التشكيك في التقليد والخمس والزكاة، ويوماً آخر التشكيك في بعض أو جميع القيم الأخلاقية، وهكذا وهلم جراً.

ب -- وعلى مستوى فقه المجتمع: يقع البحث عن موقف المجتمع تجاه ظاهرة التشكيك وتجاه (الشك) الذي قد يعصف بحياة أبنائه مثلاً، فما هو موقف الأب والأم إذا رأيا أن أبناءهم وبناتهم في الجامعة مثلاً صاروا مسرحاً ومختبراً لمختلف أنواع الشكوك؟ وما هو موقف المعلِّم والمربّي ورجل الدين والخطيب وأستاذ

ص: 9


1- تحف العقول: ص162.

الجامعة من ذلك؟ فهل عليه أن يواجه موجات التشكيك باعتبارها فايروسات ضارة خطرة على المجتمع بأكمله؟ أو عليه أن يشجع بالناس ويدفعهم إلى المزيد من الشك باعتباره ذا قيمة معرفية أو باعتباره طريقاً نحو الكمال وسُلَّماً في طريق الرقي والتحرر والازدهار؟!

ج - وعلى مستوى فقه الدولة، يجب البحث عن مسؤولية الحكومة والمسؤولين ومجلس الأمة والقضاء والصحافة تجاه موجات التشكيك والمشككين.

معضلة البحث:إن الشك نوع من الجهل، فإنه ضد العلم فهو نقص، والعلم هو الكمال، كما أن الآيات الكريمة والروايات الشريفة تذمّ الشك والتشكيك وترفضه، ولكن ومع ذلك نجد أن الشك يقع طريقاً للمعرفة والتطور وكسر الجمود والركود وإلغاء موروث الماضي الثقيل - كما قالوا - فكيف التوفيق؟!

غاية البحث: تأسيس الأصل الأولي العام في (الشك) في حدِّ ذاته وعدم حجيته أو طريقيته أو مطلوبيته بما هو هو، والبحث عن بواعثه وأسبابه ودعائمهوأضراره ومخاطره، وسبل التعامل معه والحلول الناجعة له، وعن أن الشك إنما يقع طريقاً للمعرفة أو التطور إذا كان شكاً منهجياً وفي إطار ضوابط عديدة أشار إليها الكتاب فذلك هو الاستثناء من الأصل العام، وأن اليقين بالحقائق هو (المطلوب بالذات) وأن دعائمه هي المرتكزات الأساسية الموصلة إليه.

منهجية البحث: منهج البحث بالأساس هو منهج عقلي - علمي تحليلي يتضمن أيضاً مباحث لغوية وتاريخية ومضامين فلسفية وسيكولوجية.

ص: 10

المدخل: بصائر قرآنية

في مدخل البحث نستعرض بعض البصائر القرآنية الكريمة التي تلقي الضوء على جوانب وزوايا تتعلق بالشك أو بالشّكّاك بشكل عام أو بالنسبة للشك في قيم السماء ورسالة الأنبياء خاصة.

قال تعالى: «أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ»(1)، وقال تعالى: «بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ»(2) و«هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ»(3).

إشارة تاريخية: ردود أفعال المشركين تجاه المرسلين

البصيرة الأولى: إن الآية الشريفة الأولى تكشف عن بعض ردود أفعال المشككين تجاه الرسل، وعن طريقة تفاعلهم السلبي مع الآيات البيّنات التي جاءهم بها الرسل، إذ تصرح ب«فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ» والمحتملات في تفسير الآية خمسة بل أكثر:

ص: 11


1- سورة إبراهيم: 9.
2- سورة الدخان: 9.
3- سورة الجاثية: 20.

الأول: إن الضمائر كلها تعود إلى الكفار، أي إن الكفار ردّوا أيديهم في أفواههم، بمعنى أنهم عضّوا على أصابعهم - مثلاً - من الغيظ عندما سمعوا الآيات والبينات التي تخالف مألوفهم والتي ايقظت فيهم الشك المعرفي والقلق والاضطراب، فقد غاظهم أن جاء من يفنّد مسلماتهم، وعلى هذا فاستجابتهم كانت (انفعالية).

الثاني:

إن الضمير الأول يعود للكفار بينما يعود الضميران الأخيران للأنبياء (علیهم السلام)، والمعنى: إن الكفار ردّوا أيدي الأنبياء في أفواه الأنبياء - أي أن الكفار لشدة غيظهم وغضبهم، هاجموا الأنبياء وأخذوا بأيدي الأنبياء ووضعوها على أفواههم كي يسكّتونهم بالقوة - وعلى هذا فإن استجابتهم كانت (عدوانية).

الثالث: الضميران الأولان يعود للكفار والأخير للأنبياء، أي إن الكفار ردوا أيديهم باتجاه الأنبياء، ويحتمل في هذا وجهان:

1- إن الكفار أشاروا بأيديهم إلى الأنبياء أن أسكتوا.

2- إن الكفار وضعوا أيديهم على أفواه الأنبياء ليسكتوهم بالقوة خوفاً من أن يبتلوا بالشك إذا ما استمعوا إليهم، أو خوفاً من أن يتجذر الشك فيهم، أو خوفاً من أن يسري الشك إلى الآخرين (ولا مانعة جمع بين الثلاثة).

الرابع: الضمائر كلها تعود للكفار، كالوجه الأول ولكن بنحو آخر وهو أنهم وضعوا أيديهم على أفواههم إشارة للسكوت، كما جرى في عرفنا الآن.

الخامس: إن المراد هو المعنى المجازي للأيدي والأفواه لا الحقيقي،وله تصويرات لا تهمنا الآن، لوضوح وَهْنِ الانتقال من المعنى الحقيقي إلى المجازي بعد صحة المعنى الحقيقي وحسنه وكونه دارجاً في العرف كثيراً.

ثم إنني لم أجد -- في استقراء ناقص -- رواية تحدد المراد من المعاني الأربع

ص: 12

السابقة، ولعل الآية لا تأبى عن حملها على جميعها بل أن تكون جميعها مرادة بمعنى أن ردود الأفعال الأربعة أو الخمسة السابقة تكون كلها قد صدرت من الكفار في الحالات المختلفة، نظراً لأن عملية التبليغ كانت عملية طويلة متواصلة ومستمرة أحياناً لعشرات السنين حتى بلغت في قوم نوح إلى «أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً»(1) ومن الطبيعي أن تختلف ردود أفعال الناس تبعاً للظروف والحالات بل والأشخاص من استجابة انفعالية كالعض على الأيدي إلى استجابة عدوائية كقسر الأنبياء على السكوت بوضع أيديهم على أفواههم قسراً الى غير ذلك.

والعبرة من ذلك كله أن على الصالحين والدعاة والمبلغين أن لا يواجهوا عنف المنكرين أو الشكّاكين إلا بقوة المنطق فقط وفقط!! ولذا نجد أن جواب الرسل كان هادئاً، موضوعياً ومنطقياً تماماً إذ أجابوا الكفار: «قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَعلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ»(2).

تقنّع الشكاك بقناع المنكرين النافين!

البصيرة الثانية: وهي بصيرة دقيقة رائعة في قوله تعالى: «وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ» وهي إن الكفر والإنكار أمرٌ والشك والتردد والتحير أمر آخر، ولكن الغريب أن كثيراً من (الشكّاك) لا يعلنون

ص: 13


1- سورة العنكبوت: 14.
2- سورة إبراهيم: 10 - 11.

عن أنفسهم كشكّاك، بل يفصحون عن ذواتهم كمنكرين وكفار!

وتوضيحه: إن كثيراً ممن ينكر وجود الله تعالى أو رسالة النبي (صلی الله علیه و آله) أو إمامة أمير المؤمنين علي (علیه السلام) أو أية حقيقة ميتافيزيقية أو علمية أخرى، هو مجرد شاك والشاك عليه أن يقول أنا شاك وأنني لا أدري، لكنه يتظاهر بأنه ملحد أو كافر أو منكر، وذلك يعني أنه ينفي، وأحياناً نفياً قاطعاً، وجود الله تعالى أو غير ذلك من الحقائق مع أنه يجب أن لا ينفي كما لا يثبت فيقول لا أدري فقط!

ولعل السبب في ذلك يعود أن الشاك كثيراً ما يرى من العارِ عليه أو من النقص على الأقل أن يقول أنا مجرد شاك، فإن هذا يعني أنه جاهل ولا يعلم!! وهذه منقصة في أنظار الناس وفي منظاره أيضاً، لذلك فإنه يلبس قناع العالمِ بالعدمِ المنكرِ للأمر الذي شك فيه فيكون قد عرّف نفسه كالعالم بالعدم، وذلك كله يستبطن في حد ذاته ارتكازية كون الشك منقصة.

وقد كشف الكفار القناع عن أنفسهم بل إنهم فضحوها عندما إدّعوا هذا مرةٌ وذاك مرة أخرى فقالوا: «إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ»، فإذا كانوا شُكّاكاً وجب أن يقتصروا على: «وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَاإِلَيْهِ مُرِيبٍ»(1) وإذا كانوا كفاراً منكرين وجب أن يقتصروا على «إِنَّا كَفَرْنَا...» لكنهم لجهلهم أو لشدة قلقهم واضطرابهم ارتبكوا فلم يميزوا بين الحالتين وأنهما ضدان لا يجتمعان فوصفوا أنفسهم بالمتضادين!

التزوير في تصوير المشكِّك نافياً

واكتشافنا لهذه الحقيقة، كثير النفع في معرفة طرق المعالجة وسبل التصدي لموجات التشكيك فإن نوع التعامل والتعاطي والنقاش مع الشاك يختلف عن نوع

ص: 14


1- سورة هود: 62.

التعاطي والتحاور مع المنكر النافي، هذا من جهة، ومن جهة أخرى: فإن ذلك يكشف لنا بعض التزوير، العمدي أو السهوي الذي يقع في الإحصاءات العالمية عن عدد الملحدين أو الكفار في العالم فقد قيل بأن عددهم يزيد على المليار مثلاً لكن الواقع هو أن ذلك نوع من التعمية والتسطيح فإن هؤلاء بعضهم المنكر والملحد وكثير منهم شاك متردد!

كما أن الأمر في الجانب الآخر أيضاً كذلك إذ قد يكون الشخص مؤمناً حقاً وقد يكون شاكاً لكنه يصور نفسه على أنه مؤمن ويتظاهر بالإيمان، وأين هذا من ذاك! ولعل من وجوه ذلك قوله تعالى: «وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ»(1)، فتأمل.

الشاكّ اللاعب العابث، والشاك الباحث عن الحقيقة

البصيرة الثالثة: ويمكن أن نستلهم الحقائق التالية انطلاقاً منمفردتي الشك واللعب الواردتين في الآية الكريمة بالثانية: «بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ»(2).

أولاً: إن الشاك قد يكون لاعباً، وقد لا يكون لاعباً بل يكون مجرد شاكٍ.

ثانياً: إن الشك قد يكون شك الباحث عن الحقيقة وقد يكون شك اللاعب العابث الذي اتخذ الشك لُعبةً يتسلّى بها، والقسم الأول من الشكاك لا يكون معانداً عادةً بل يفتح صدره للحقيقة مهما كانت مُرّة المذاق صعبة الهضم شديدة الوطأ، أما القسم الثاني فإنه يكابر الحقيقة عادةً وإن تجلّت له ناصعة بيضاء مشرقة كالشمس الصاحية أو القمر المزهر.

ص: 15


1- سورة يوسف: 106.
2- سورة الدخان: 9.

التشكيك كطريق للاسترزاق والشهرة

ثالثاً: إن الشاك اللاعب في تشكيكه قد يكون ممن أتخذ الشك والتشكيك هواية أو حِرفة له، فيكون ممن يعيش على الشبهات وينسج خيوط علاقاته بالتشكيكات، وهذا الشخص هو ذلك الذي استعبدته أهواؤه وشهواته حتى أصبحت التشكيكات بما هي تشكيكات هي التي تلبي طموحاته وتتناغم مع إنانيته، بل قد يكون ممن يعيش على ذلك ويكتسب الأموال السحت بذلك، تماماً كمن يعيش على استغفال الآخرين بالدراسات المزيفة والمعلومات المغلوطة سواءً أكان ذلك في وصفةٍ طبية أم في بدعةً دينية، بل كمن يعيش على السحر والشعوذة والدجل والخداع.رابعاً: إن طرق التعاطي والتعامل مع النوعين من مثيري الشبهات والتشكيكات مختلفة، والآليات المستخدمة للتصدي للذين يسترزقون بإثارة الشبهات، تختلف عن الآليات التي تستعمل في الحوار مع الشاك المنصف، وربما لا يحتاج الأخير إلا إلى حوار علمي هادى موضوعي، أما الأول فلا بد، لدى الابتلاء به، من سلسلة من التدابير والأساليب التي تتكفل بمجموعها بمحاصرة سمومه وتطويق النتائج المدمرة لتشكيكاته.

طبيعة الشك كطبيعة الرمال المتحركة!

البصيرة الرابعة: لعل مما يلفت أنظار أهل الفكر في آيات الشك، أنها جاءت عادةً مسبوقة بمفردة حرف الجر والظرفية (في) إذ يقول تعالى: «بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ» وقال: «وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ»(1) و«فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ»(2) و«إِن كُنتُمْ

ص: 16


1- سورة النساء: 157.
2- سورة يونس: 94.

فِي شَكٍّ مِّن دِينِي»(1) و«وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ»(2) و«بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمِونَ»(3) و«أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ»(4) «فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ»(5).

مع أنه كان من الممكن القول (بل هم شاكّون) بدل التعبير ب(فيشك)، فما هو الوجه في ذلك، وما هي الحكمة؟

الوجه في التعبير ب(في شك) وليس ب(شاكّون)

والجواب: إن من المحتمل أن يكون الوجه أو إحدى وجوه الحكمة في ذلك، الإشارة إلى أن الشك من طبيعته أن يحاصر الإنسان حتى لكأنّ الشاك محاط به وبأجوائه من كل جانب فإذا نظر يميناً واجهه الشك أو شمالاً رأى الشك أو إلى أية جهة من الجهات نظر اصطدم بحائط الشك؛ وذلك إن الشك غير المنضبط وغير المنهجي الذي لم يُحسن التعامل معه، مَثَلُه كَمَثَلِ الرمال المتحركة فكلما ازداد في الأمر تفكيراً ازداد حيرة وشكاً وترديداً، كما أن العالق بالرمال المتحركة كلما ازداد حركة ازداد علوقاً بالرمال وانطماساً فيها.

فهذه هي طبيعة الشك: كلما امعنت فيه النظر ازددت حيرة وضياعاً، وكلما علقت بمصيدة تشكيك جرّت إليك شبهةً أخرى لتعلق في مصيدة أخرى، وهكذا دواليك.

ص: 17


1- سورة يونس: 104.
2- سورة هود: 62.
3- سورة النمل: 66.
4- سورة ص: 8.
5- سورة غافر: 34.

فالشك - وكما سبق - كالنار إذا لم تتعامل معها بعقلائية وحكمة وبأدوات ومناهج علمية وعقلية وعقلائية معينة، كما ستأتي الإشارة إليها، فإن لهيبها سيتصاعد ويتصاعد ويتسع مداه ويتسع حتى يحرق الأخضر واليابس.

القرآن رحمة للموقنين وبدرجة أقل لغيرهم

في الآية الكريمة الثالثة: «هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ»(1) نجد الكثير من البصائر والدقائق والحقائق واللطائف والإشارات، تضاف إلى البصائر السابقة وهي:

البصيرة الخامسة: إن الظاهر من الآية القرآنية الكريمة هو أن القرآن الكريم (رحمة) لقوم يوقنون، فمن لا يوقن بآياته فإنه ليس رحمة له مطلقاً أو ليست رحمة له بحسب إحدى درجاتها أو في بعض مراحلها ومحطّاتها، وليس ذلك استناداً إلى إثبات الآية الكريمة الرحمة للموقنين فإن إثبات الشيء لا ينفي ما عداه، بل لأنه المفهوم عرفاً بمناسبات الحكم والموضوع وشهادة الحقائق الخارجية أيضاً: فإن اندفاع الموقنين بالآخرة وبالثواب والعقاب، نحو الإطاعة والامتثال أقوى من إطاعة الظانّ بلا ارتياب، فالقرآن رحمة للموقن بدرجة أقوى حيث أسلس قِياده له بشكل أفضل أو أكمل، والحاصل: إن اليقين حيث كان مقتضياً أقوى للانقياد كان مقتضياً أقوى لاستجلاب الرحمة الإلهية، بل إن اليقين في حد ذاته قد يكون هو المستجلب للرحمة وذلك فيما كان المطلوب هو هو في حد ذاته كشؤون العقائد، وإن لم ينفِ ذلك مطلوبيته لجهة الطريقية أيضاً.

بل هو بصائر وهدى للموقنين فقط

البصيرة السادسة: وقد يقال بأن الظاهر منها أيضاً هو إن القرآن الكريم هو (بصائر وهدى) لقوم يوقنون وذلك إذا كان الجارُّ والمجرور (لقوم يوقنون) متعلقاً

ص: 18


1- سورة الجاثية: 20.

بالمفردات الثلاث جميعاً (بصائر، هدى، ورحمة) للموقنين وليس متعلقاً بالمفردة الأخيرة كما هو الاحتمال الآخر والذي مفاده أن: «هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى» هي جملة مستقلة و«رَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ» جملة أخرى مستقلة معطوفة على الأولى.

هل تبصير الموقنين تحصيل حاصل؟

وبناءً على تعلق الجارِّ بكل المفردات الثلاثة فذلك يعني أن القرآن الكريم مبصّر للموقنين وهو هدى لهم، ولكن كيف يمكن أن يكون ذلك؟ إذ المتيقن بصير بالفعل فلا محلَّ لأن يُبصَّر كما أن الموقن بوجود الله ووحدانيته وعدله وبرسوله والأئمة (علیهم السلام) والمعاد وشبه ذلك، هو مهتدٍ بالفعل فكيف يقال هذا هدى للموقن يهديه إلى سواء السبيل؟!

الجواب باختلاف المتعلق

ويمكن الإجابة على ذلك بوجوه نقتصر على إحدى تلك الوجوه ههنا فقط(1)

وهو أن ذلك بلحاظ تغاير المتعلق من حيث كونه السبب والمسبب، وذلك انطلاقاً من السبب نحو المسبب حسب معادلة البرهان اللِّمي أو من المسبب إلى السبب حسب معادلة البرهان الإنّي.

وتوضيحه: إن اليقين بالأسباب يبصِّر الإنسان الموقن بها، بالمسببات، وفي الاتجاه المقابل فإن اليقين بالمعاليل يهدي الإنسان إلى اليقين بالعلل: فمن أيقن بحرمة الكذب والغيبة والنميمة والرشوة والظلم مثلاً أبصر أضرارها الدنيوية الفردية والاجتماعية وأبصر مخاطرها الاخروية أيضاً، ومن أيقن بعذاب النار وشدته اهتدى إلى ضرورة الإيمان بالله تعالى ولزوم المضي على الصراط المستقيم.ومن أيقن بخاتمية الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) ونزول القرآن الكريم كدستور

ص: 19


1- وتستفاد الوجوه الأخرى بمراجعة تفسيرنا لآية «اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ»، فراجع.

خالد لحياة سعيدة ربانية اهتدى لوجوب الالتزام بطاعة الأئمة الكرام إذ يقول تعالى: «أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ»(1) و«الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا»(2).

وصفوة القول: إن الموقن يبصِر وأن المبصِر يوقن، فالموقن بالآخرة يبصر مواطن الحظر والخطر والخطأ والخطل والزلل، والمبصر باضرار المعاصي يوقن بحسن تحريمها ولزومه ووجه الحكمة فيه.

هذا ولعله يأتي بإذن الله تعالى بيان وجه صحة ذلك مع وحدة المتعلق أيضاً(3).

ص: 20


1- سورة النساء: 59.
2- سورة المائدة: 3.
3- أو ليراجع بحثنا في «اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ»

الفصل الأول: موقف الدیات والروایات من الشك

اشارة

ص: 21

ص: 22

من الضروري - في البداية - تسليط الأضواء على موقف الآيات والروايات من (الشك) بشكل عام، فيما إذا كان المخاطب هو المسلم، بل غير المسلم أيضاً ليكون مطّلعاً على النظرية الإسلامية في المعرفة وليكتمل لديه المشهد المعرفي باستحضار مدرسة معرفية أخرى إلى جوار المدرسة التي يذعن بها أو الخيارات العديدة المتاحة أمامه، وذلك في ضمن بصائر:

الآيات تدين (الشك) وترفضه وتذمُّه

البصيرة الأولى: إن كافة الآيات الشريفة التي تطرقت إلى مفردة الشك والريب وأشباهها، أدانت الشك واعتبرته منقصة ورذيلة ولم نجد آية واحدة تمتدح الشك وتثني عليه أو تدفع باتجاهه ولو في مورد واحد وكذا الروايات الشريفة، فلاحظ الآيات التالية:

«قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ»(1).

«وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَاهَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ»(2)

ص: 23


1- سورة هود: 62.
2- سورة غافر: 34.

«وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ»(1).

«بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ»(2).

«إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُون»(3).

«لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ»(4).

«أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ»(5).

«يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّمِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ»(6)

ص: 24


1- سورة سبأ: 54.
2- سورة الدخان: 9.
3- سورة التوبة: 45.
4- سورة التوبة: 110.
5- سورة إبراهيم: 9 - 11.
6- سورة الحج: 5.

وفي المقابل نجد المدح كل المدح لليقين والإيمان وفي آيات كثيرة(1)

ومنها:

«وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ»(2).

«إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ»(3).

«لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا»(4).

فلسفة الموقف القرآني الرافض للشك والتشكيك

اشارة

البصيرة الثانية: قد يُتساءل عن السبب في موقف الآيات والروايات الشريفة الصارم والنهائي من الشك والتشكيك فإن الملاحظ أن الآيات كافة والروايات كذلك - حسب استقراء ناقص ولكنه موسع - تذم الشك والتشكيك وتدينه وتعتبره رذيلة، مع أن الشك قد يكون نافعاً أحياناً - كما سيأتي -، بل إن التطور العلمي في العصر الحديث هو رهين التشكيك - بدرجة أو أخرى - فلولا التشكيك في هيئة بطلميوس وفي أن الأفلاك هي كأقشار البصل وفي استحالة الخرق والالتيام وغير ذلك لما أمكن كشف حقيقة الأفلاك ومن ثم غزو الفضاء والهبوط على سطح القمر والمريخ وغير ذلك.

والجواب: إن ذلك الموقف السلبي الصارم، يعود إلى وجوه:

ص: 25


1- وقد سبقت الاشارة الى بعضها في الدرس (220) من دروس التفسير.
2- سورة الذاريات: 20.
3- سورة الحجرات: 15.
4- سورة النساء: 162.

أ - لأن الشك بما هو هو، نقصٌ وعمىٌ

اشارة

الوجه الأول: لأن الشك بنفسه وحسب طبعه الأولي نقص؛ فإنه يعني الجهل بالحقيقة فالشك بما هو هو ليس فضيلة إذ إنه يعني العمى عن رؤية الواقع، وهل الجهل والعمى فضيلة؟ نعم قد يكون الشك طريقاً لتلمس الواقع(1)

ويكون إحدى حلقات الوصول إليه، لكن ذلك لا يحوّل الشك بما هو هو وفي حد ذاته إلى فضيلة أبداً، بل يكون ذلك الشك الموصِل هو الاستثناء الذي يحتاج إلى الدليل.

القيمة المعرفية للشك تكافئ قيمة الأحلام وقراءة الكف والفنجان!

والذي يشهد لذلك الأشباه والنظائر مثل: (الأحلام) وقراءة (الكف) أو (الفنجان) و(الفال) و(التنجيم) وأشباه ذلك فإنه لا شك في أن الأحلام قد تكون صادقة أحياناً وأن قارئي الكف والفنجان قد يصيبون كبد الحقيقة ويكشفون لك المستقبل بدقة وكذلك قارؤوا الأبراج وغيرها، ولكن مع ذلك لا يرى العقلاء هذه الأمور طرقاً للوصول إلى الحقيقة بل إنهم يردعون عنها ويسفهّون من يتعاطاها(2)ولكن لماذا؟ لأنها قد اختلط صوابها بخطأها وحقها بباطلها، فإن العقلاء وإن لم ينكروا أنها قد تصيب وتوصل للواقع أحياناً ولكن مع ذلك لا يُجوّز العقل الاعتماد عليها أبداً ولا يراها العقلاء حجة أصلاً؛ وذلك لأنها كثيراً ما (بل ذلك هو الأكثر) تخطئ وتجرّ إلى التهلكة فكيف يصح اعتبارها حجة؟ فمثلاً قد تكتشف العجوز قارئة الفنجان أن السارق للدار هو فلان وقد يكون الأمر كذلك أحياناً لكنها في كثير من

ص: 26


1- بل ليس الشك طريقاً، بل هو من العلل المعدّة فقط.
2- إلا إذا كانت لمجرد التسلية فقط، بدون اعتقاد بها أبداً وبلا ترتيب للأثر عليها مطلقاً، بل حتى التعاطي معها كتسلية يعد مرجوحاً مذموماً في عُرف العقلاء.

الأحيان تخطئ وتتهم بريئاً فيعاقب كسارق من غير جرم ولا جريرة، وهكذا وهلم جرّا، ولذلك أغلق العقلاء هذه الأبواب بالمرة.

وكذلك (الشك) فإنه بطبعه جهل ونقص وعمى، وكونه يقع أحياناً طريقاً للوصول إلى الحقيقة لا يشفع له لدى العقلاء إذ ما أكثر ما كان طريقاً لسحق الحقيقة أيضاً، فيبقى هو الاستثناء الذي لا بد من البحث عن ضوابطه، وهو ما سيأتي في البحوث القادمة بإذن الله تعالى.

الأحلام وأشباهها كاشفة قليلاً ما، أما الشك فلا!

بل إن الفارق بين الشك والريب من جهة وبين الأحلام والكف والفنجان والتنجيم(1) من جهة أخرى، هو أن الشك جهل وعمى ولا توجد فيه جهة إراءةالواقع أصلاً، أما الأحلام ونظائرها مما ذكرناه ومما لم نذكره فإنها قد تكون كاشفة عن الواقع في الجملة (بدرجة 5% أو 10% أو ربما حتى 40% أو أكثر في بعض الأشخاص) ولكن على الرغم من وجود جهة الكاشفية عن الواقع في الأحلام في الجملة، مع ذلك لا يراها العقلاء حجةً ولا طريقاً ولا يعيرونها بالاً ولا اهتماماً، فما بالك بالشكوك وهي التي لا توجد فيها جهة المرآتية للواقع أصلاً؟

وأما وقوعها مقدمة أو حلقة في سلسلة قد توصل إلى كشف الحقائق فذلك هو الاستثناء وهو خاص بالمعتقِد بالباطل (كعدم وجود الله أو عدم وجود الجاذبية والأمواج الكهرومغناطيسية مثلاً) ثم شكّ فيه؛ فإن هذا الشك هو من المقدمات وله القيمة من حيث آليته ومقدميته، عكس من كان معتقداً بالحق ثم شك فيه

ص: 27


1- لا بد من التنبيه إلى أن التنجيم له معاني متعددة هو ببعضها كفر وببعضها حرام غير موجب للكفر وببعضها جائز لكنه غير حجة، وقد ذكرناها في بعض الكتب ومنها: (حفظ كتب الضلال ومسببات الفساد) تبعاً للشيخ w والذي ذكر له عدة معاني.

فان هذا الشك هو العدو للحقيقة وهو الذي يمكن أن يوصف بانه ضد القيمة حقاً، كما سيأتي تفصيل الكلام عن ذلك بإذن الله تعالى.

هذا كله من جهة ومن جهة أخرى فإن الشك إذا تجذر وتطوّر فإنه يتحول إلى حالة مُرَضِية، ولذلك عبّر عنه بعض علماء النفس بان الشك شعور مرضي عفوي وتلقائي.

قال له الفقيه: لقد سقطت عنك الصلاة!

ومن الطريف أن ننقل ههنا ما يكشف بوضوح عن الوجه المرضي للشك المتجذر، فقد جاء شخص إلى أحد الفقهاء وطرح عليه مشكلته وهيأنه مصاب بالشك والوسوسة في الطهارة وأنه إذا أصابت نجاسة مّا بعضَ بدنه فإنه يغمسه في الماء مرة ومرتين وثلاثة ولكنه لا يطمئن مع ذلك لطهارته! ثم إنه لكي يطمئن بالطهارة يرمي بنفسه في الحوض ويغوص فيه مراراً ثم يجد أنه لا زال شاكاً في الطهارة؟ فما العمل؟

أجابه الفقيه بجواب غريب؛ قال له: لقد سقطت عنك الصلاة! ذهل الرجل وقال غير معقول؟ فقال: بل هو معقول تماماً إذ إن الرسول (صلی الله علیه و آله) يقول: «أن القلم رفع عن ثلاثة عن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى يستيقظ»(1) وأنت، حسبما تصف من حالاتك، مجنونٌ فالصلاة ساقطة عنك!

ومن الواضح أن الفقيه لم يكن يقصد سقوطها عنه حقيقةً، بل كان يقصد إلفاته إلى بشاعة مرضه النفسي وأنه خطير خطير وأنه قد يؤدي به إلى الجنون الحقيقي الذي يُسقط عنه الصلاة الواجبة.

ص: 28


1- الخصال: ج1 ص175.
وقال الفقيه الآخر: صلّ بلا نيّة!

كما ينقل عن المرجع الأعلى السيد أبي الحسن الاصفهاني (رحمة الله) أنه جاء رجل وسأله عن حل لمعضلته الغريبة وهي أنه مصاب بالوسوسة في النية فكلما أراد أن ينوي الصلاة لا يمكنه ذلك أي لا تتأتّى منه النية ولا تنعقد نيته! فقال له السيد: إذاً صلِّ بلا نية! وهنا صُدِم الرجل وقال لا يعقل أن أصلي بلا نية وكيف أجرد ذهني من نية الصلاة وأنا أعلم بأنني أريد أن أصلي! فقالله السيد: ها أنتذا قد التفتّ إلى واقع الأمر فإن النية أمر خفيف المؤونة وهي تعني مجرد الالتفات إلى أنك عازم على هذا العمل وقاصد إليه لا أكثر.

ب - ولأن القرآن ينطلق من موقع المحيط بالحقيقة

الوجه الثاني: إن القرآن الكريم والرسول الأعظم وأهل بيته الكرام (علیهم السلام)، ينطلقون من منطلق الحق؛ فإنهم يرون الحق والباطل بوضوح وجلاء كما يرى أحدُكم يَدَهُ! ومن الطبيعي أن من يعرف الحق ويراه كما يرى السماء والأرض أو كما يرى داره وزوجته وأولاده، فإنه إذا رأى غيره يشكّك في الواقع والحقيقة فلا مناص إلا من أن يذمّهُ على ذلك ويقرّعه ويؤنّبه؛ ألا ترى مثلاً الأب الذي يعتقد بوجود الجاذبية فإنه إذا رأى ولده الصغير أو أخاه الكبير المبتلى بمرض التشكيك، يشكك في وجود الجاذبية ويقول من قال ذلك؟ إنني لا أراها ولعلها مجرد أوهام وهل تكفي سقوط تفاحة نيوتن دليلاً على وجود الجاذبية دائماً! فلِأُجرِّب ولأرمِ نفسي من أعلى السطح لأرى هل الجاذبية حقيقة واقعية أم لا؟ فما هو موقف الأب أو الصديق حينئذٍ؟ هل تراه يمتدح له الشك ويتحدث له عن قيمته المعرفية وأن العلم الحديث ابتنى على التشكيك في الثوابت؟ أم إنه لا يرى محيصاً إلا أن يذمّ الشك ويعتبره جهلاً ومنقصة بل إنه يجب عليه أن يذمه أشد الذم وبأبلغ

ص: 29

العبارات ويردعه عن الاعتناء بهذا الشك ونظائره.

وكذلك المعلم في المدرسة لو رأى بعض تلامذته يشكك في المعادلات الرياضية من الجبر والمقابلة أو حتى الضرب والتقسيم والجمعوالطرح، فهل عليه أن يزيّن له الشك حينئذٍ ويحسنّه في نظره؟ أو عليه أن يبرهن له صحة تلكم المعادلات؟ فإن بقي شاكاً فعليه أن يحذّره من هذا الشك أشد التحذير وأن يسفّه تشكيكاته أيضاً وذلك ليرجعه إلى أحضان الفطرة السليمة الرافضة لاعتبار الشك كقيمة، أو إذا لم يمكنه إصلاح هذا الطالب لتجذّر الشك فيه كحالة مَرَضِيةٍ مزمنة فإنه يذمه أيضاً ليحصِّن سائر الطلاب من عدوى فايروس الشك الذي قد ينتشر بين سائر الطلبة انتشار النار في الهشيم.

ج - الشكوك والظنون لواقح الفِتَن!

اشارة

الوجه الثالث: ولأن: «الشُّكُوكَ وَالظُّنُونَ لَوَاقِحُ الفِتَنِ وَمُكَدِّرَةٌ لِصَفْوِ المَنَائِحِ وَالمِنَن»(1) كما يقول أمير المؤمنين (علیه السلام).

و(اللِّقاح) - كما هو معروف - ما يلقّح الأثمار على الأشجار فيوجب انعقاد حبوبها ونضجها، وقد يكون اللقاح بما عَلِق بأرجل النحل، واللقاح هو غبار أصفر يتكون في الجزء الأعلى من السَّداة ويتكون من حبات دقيقة هي خليات مولدة ذكرية، أي أن اللِّقاح هو وصل العنصر الذكري وهو اللَّقاح بالعنصر الانثوي أي البويضة، وقد يطير اللقاح مع الهواء، ولعل ذلك هو المراد ب«وَأَرْسَلْنَا

الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ»(2) فإنها تلقح الشجر والسحاب كما قال عدد من المفسرين.

وأما (الفتنة) فهي الزلزال الاجتماعي الذي يستبطن الهرج والمرج وسفك

ص: 30


1- زاد المعاد: مناجاة المطيعين لله.
2- سورة الحجر: 22.

الدماء وهتك الأعراض وغيرها، والفتن كامنة في النفوس كجنديينتظر الإشارة أو كبذرة تترقب المحرك والمهيّج، ومحرّكها ومهيّجها ولقاحها هو الشكوك والظنون.

فمثلاً إذا شكّت الرعية في نزاهة القادة وظنوا بهم السوء، اضطربت أنفسهم ثم لا تزال الشكوك والظنون تعتمل في نفوس الناس، لو لم يبادر القادة للإصلاح، وتضطرب وتزداد وتتفاعل وتهتاج أكثر فأكثر إلى أن تتحول إلى فتنة عامة تعم البلاد وتدمر الأخضر واليابس، كما حدث ذلك في ليبيا وسوريا وغيرهما، نعم إذا قيّض الله للشعب حينئذٍ قادة أكفاء حكماء عقلاء نزيهين استطاعوا أن يكسبوا ثقة الناس فانهم يمكنهم حينئذٍ الرجوع بالبلاد، لو بعد جهاد مرير، إلى ربوع الأمن والاستقرار.

ومكدرة لصفو المنائح والمِنَن!

وأما قوله صلوات الله عليه: «وَمُكَدِّرَةٌ لِصَفْوِ المَنَائِحِ وَالمِنَن» فيوضحه المثال التالي: فلو أن رجلاً رزق امرأة صالحة وأولاداً أتقياء فكان يعيش حياة ملؤها البهجة والسعادة ولكن وبمرور الزمن وبتخطيط جارٍ حسود أو بتدخل شيطان مريد، إذا بدأت بذور الشك في الرجل تجاه المرأة تنمو وتنمو وتنمو، أو العكس، فإن حياتهم تتكدر وتتكدر حتى أنها بالتدريج قد تتحول إلى جحيم لا يطاق، فالزوجة الصالحة مِنحة من الله تعالى وهي والأولاد مِنّة أمتنَّ بها الله علينا لكن الذي ينغِّص ذلك والذي يحوّل السعادة إلى تعاسة هو الشكوك والظنون، فالشكوك والظنون إذاً هي التي تهدم صرح الحياة السعيدة وتفتح الأبواب على الجحيم كأقوى ما يكون.

وسيأتي قوله (علیه السلام): «لا ترتابوا فتشكّوا، ولا تشكّوا فتكفروا، ولاتكفروا فتندموا»(1) ولعل الوجه في قوله: «لا ترتابوا فتشكّوا...» وليس العكس، هو: أن

ص: 31


1- الكافي: ج2 ص399.

الشك كثيراً ما ينشأ من الظِنِّة بالغير أو الخوف منه فإذا أساء رجل الظن برجل شكك في مبادئه أو قرارته بالتبع، كما ان العكس في صورة أخرى، صحيح أيضاً.

وكذلك الروايات: ترفض الشك وتذمّه

وأما الروايات فهي كثيرة، وهي على إطلاقها تضع الشك في خانة الرذائل والنواقص والمبغوضات، ولم أجد - في استقراء ناقص - رواية واحدة تمتدح الشك وتعتبر أن له قيمة معرفية، ولنشر ههنا إلى روايتين منها فقط، موكلين بعضها الآخر لما سيأتي.

قال أمير المؤمنين ومولى الموحدين (علیه السلام): «لا ترتابوا فتشكّوا، ولا تشكّوا فتكفروا، ولا تكفروا فتندموا»(1) فقد اعتبر (علیه السلام) الريب مقدمة موصلة للشك والشك مقدمة للكفر والكفر مقدمة للندم، وبذلك جمع الإمام (علیه السلام) بين مفاسد الشك الدنيوية بإشارته إلى الندم والأخروية بإشارته إلى الكفر، وسيأتي لاحقاُ الكلام عن فقه هذه الرواية باذن الله تعالى.

وقال الإمام الصادق (علیه السلام): «كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يتعوّذ في كل يوم من ست: من الشك والشرك والحميّة(2) والغضبوالبغي والحسد»(3)، والغريب في الحديث الشريف أنه جعل الشك إلى جوار الشرك تماماً، ولا تخفى ما في المقارنة من الدلالة الكبيرة وما في اعتبارهما ثنائياً بغيضاً يتعوذ منه رسول الله (صلی الله علیه و آله) كل يوم من التحذير الأكيد من (الشك).

وللبحث عن (الشك) على ضوء الآيات والروايات مجال أرحب سيأتي بعضه في مطاوي الأبحاث القادمة بإذن الله تعالى.

ص: 32


1- نهج البلاغة: الخطبة المعروفة بالديباج.
2- أي حمية الجاهلية والعصبية للباطل.
3- بحار الأنوار: ج69 ص191 ح4.

الفصل الثاني: أنواع الشك وفوارقه عن الریب والجهل

اشارة

ص: 33

ص: 34

من الناحية العقلية والعلمية، يمكن تناول الشك من زوايا عديدة وفي ضمن نقاط مختلفة ومنها تقسيماته، فإنه ينقسم بتقسيمات متنوعة من حيث ذاته ومن حيث مناشئه ومن حيث مآلاته(1):

فمن حيث مناشئه قد يكون شكاً برهانياً (أي شك أدى إليه البرهان) وقد يكون شكاً سوفسطائياً، وقد يكون شكاً يفتقد المنشأ العقلائي وإن كان ذا منشأ عقلي(2).

ومن حيث ذاته قد يكون شكاً مستقراً وقد يكون غير مستقر(3).

كما يمكن تقسيمه من حيث متعلَّقه أيضاً(4).

وأما من حيث مآلاته فقد يكون شكاً نافعاً أو ضاراً أو لا هذا أو لا ذاك،والبحث سيدور حول النوع الأخير الآن، وأما الأنواع السابقة فقد فصلنا الحديث عنها في كتب أخرى، فراجع.

الشك النافع والشك الضار

إن الشك يمكن تقسيمه إلى الشك النافع والشك الضار، أو فقل: إلى ما يُعدّ نقطة قوة وما يعدّ نقطة ضعف، وعليه: فليس من الصحيح معرفياً التعميم

ص: 35


1- ومن جهات أخرى أيضاً: كالشك من حيث مقارناته مثلاً، كما فصلنا ذلك في بحث فوارق الشك عن الريب.
2- فصلنا الحديث عن الشك العقلي ولكن غير العقلائي في كتاب (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ).
3- فصلنا البحث عن أنواع من الشك المستقر وغير المستقر في كتاب (الحكومة والورود).
4- بحثنا عن الشك من حيث متعلقه في كتاب (الاجتهاد والتقليد) وكتاب (الحجة معانيها ومصاديقها).

وإطلاق القول بأن الشك مفتاح التقدم وسرّ التطور وأن له القيمة المعرفية المطلقة، بل على فلاسفة الشك إن أرادوا أن يكونوا منصفين أن يكونوا مفصِّلين ولا يدفعوا باتجاه الشك كمنهج إلا في حدود وبضوابط واضحة وعلى حسب المتعلَّقات والمضامين والنتائج، فذلك هو المسمى بالشك المنهجي.

الشك الضار

ونعتمد ههنا على البرهان الاستقرائي إضافة إلى الشهود الوجداني، ونستشهد بعدد من النماذج التي لا يمكن أن ينكر إلا المكابر كون الشك فيها منقصة ورذيلة وأنه يعد واحداً من أهم الأسباب في انهيار الأمم أو العوائل أو المؤسسات أو تخلفها وتقهقرها على الأقل:

الشك في القيم الانسانية العليا

1) الشك في القيم الأساسية، كالعدل والإحسان والوفاء وحب الوطنواحترام الوالدين (في الجملة أو بالجملة) فهل ترى فيلسوفاً أو عالماً(1)

بإمكانه أن يقنع عقله ووجدانه بأن يسلّم أولاده إلى معلم يشككهم في العدل كقيمة كبرى ويدعوهم إلى احتمال أن الظلم هو قيمة حقيقية بديلة؟ أو أن يرى للشك في تلك القِيَم بما هو شك، قيمةً؟!

وهل ترى عاقلاً يرضى بأن يروِّج فرد أو جهة في وزارات الدولة أو في الشركات والمنظمات أو الأسر والعوائل للتشكيك في قبح (الخيانة) و(السرقة) و(الغش) و(الخداع) و(الرشوة) وأنها قد لا تكون مضرة كما يصورونها بل يحتمل أن تكون هي الأصل وهي الأمر النافع ويحتمل أن تكون هي القيمة الحقيقية التي لابد من تفعيلها وتجذيرها في كل مكان؟ أفهل يرضى العقلاء بمنهج

ص: 36


1- إلا الشاذ الخارج عن طريقة العقلاء.

التشكيك في ذلك كله؟!

إنه لا ريب في أن الشك والتشكيك في القِيَم الأساسية يعتبره العقلاء أمراً سلبياً بل خطيراً بل يرونه بالغ الخطورة، نعم قد يجري النقاش في (الحدود) أو في بعض (المصاديق) أو في بعض صور (التزاحم) لكن ذلك غير التشكيك في أصل القِيَم الإنسانية العليا كقيم سامية، كما أنه يستدعي البحث عن الضوابط والحدود والمرجعيات لا التشكيك في الأصل.

شك المريض في وصفته العلاجية

2) وكذا تشكيك المريض - بين يوم وآخر - في العلاج الذي يتلقاه من دون سبب، فهل من الصحيح أن نشككه في العلاج لمجرد أن الشك له قيمةمعرفية؟ بل هل يصح تشكيكه في ذلك إذا كان يؤدي إلى أن يقطع علاجه الذي وصفه له الطبيب الماهر، لمجرد أننا شككنا في صحته؟ نعم إذا عارضه رأي طبيب حاذق آخر أو كانت نتائج العلاج سلبية كان لذلك مجال، وذلك وأشباهه هو ما يستدعي التفصيل بين الحالات والصور.

شك الزوجة في زوجها أو العكس

3) وكذلك شك الزوجة المفرط في زوجها وبالعكس؛ وهل ترى الحياة الزوجية، مع الشك المفرط بل كثيراً ما حتى مع الشك بحد ذاته، إلا في مهب الأعاصير؟ وهل يمكن أن تستمر هذه الحياة سعيدة هانئة؟

وهل من الصحيح انتهاج منهج تشكيك الأزواج في زوجاتهم وبالعكس؟ وألا تتحول حياة العوائل كلها حينئذٍ الى جحيم؟

شك الجنود في الخطة العسكرية

4) وكذلك شك الجنود في الخطة العسكرية وهم في قلب المعمعة، ألا ترى

ص: 37

أن أكبر خطر يواجهه الجيش هو خطر الشك والتشكيك في ساعة الهجوم؟ وألا يعد ذلك من أكبر عوامل التثبيط والتخذيل بل قد يكون من أهم أسباب هزيمة الجيش وانكساره؟

ولا شك أن من الصحيح: أن على القادة العسكريين التشاور والتخطيط الشامل عبر منهجية علمية - ميدانية متطورة، ولكن هل يصح بعد ذلك أن يفسح المجال لموجات التشكيك بأن تعصف بنفوس الجنود في وسط سوح القتال؟ ألا يعد ذلك من الخيانة ومن أهم مخططات الرتل الخامس؟

رسوم القطط التي هزمت الجيش المصري!

ولنستحضر من عمق التاريخ شاهداً طريفاً على بعض الآثار السلبية العظمى للشك إذ كان للشك والتردد الدور الأساس في هزيمة جيش كامل، فقد ذكر بعض المؤرخين أن قدامى المصريين في فترة من الزمن كانوا يقدسون القطط (ولعل بعضهم كان يعتبرها آلهة أو تجسيداً لها أو لقدراتها) وحدث أن هاجم جيش الأعداء مصرَ أو بعض نواحيها إلا أن جيش الأعداء فوجئ بقوة المصريين واستعداداتهم واستماتتهم في الدفاع عن وطنهم، وذلك ما استدعى من قائد جيش العدو أن يعقد - عاجلاً - جلسة استشارية عاجلة للوصول إلى طريقة مبتكرة لهزيمة المصريين بأقل قدر ممكن من الخسائر، وبعد بحثٍ وردٍّ وأخذ، أشار أحدهم إلى أن الحل الأمثل يكمن في سلاح التشكيك وأن الشك سلاح ماضٍ فلو أمكننا تشكيك الجيش المصري في سلامة قضيته أو في كيفية قتاله ودفاعه فإن هذا الشك سيكون أكبر نصير لنا في المعركة بل قد تؤدي دقائق شك إلى تثبيط الجيش عن قتالنا بكامل قواه بل بشكل متخاذل متردد، لكي نكسب النصر في تلك الدقائق.

ص: 38

وقد عرض ذلك القائد المحنك طريقة مبتكرة سهلة إبداعية لإيقاع ڤايروس الشك في الجنود والطريقة هي: أنه اقترح أولاً: أن تُرسم صور القطط على الدروع والتروس وثانياً: أن يتم اصطياد المئات من القطط ثم فجأة ترمى، عند لقاء الجيشين، وسط الجيش المصري ثانياً.وهكذا كان ... فلقد فوجئ الجيش المصري بمئات القطط وسط ساحة المعركة وحيث كانوا يقدسونها احتاطوا في الحركة والهجوم كي لا يسحقونها، كما أنهم فوجؤوا بصور القطط مرسومة على تروس ودروع الجيش المعادي وحيث كانوا يقدسونها ترددوا في رميهم بالنبال أو ضربهم بالسيوف أو الرماح إذ إنها ستصيب حينئذٍ التروس وعليها صور القطط المقدسة مما قد يستجلب، في تصورهم الساذج، غضب الآلهة، وكان هذا التردد لدقائق كافياً لجيش العدو لكي يهزم الجيش المصري هزيمة ساحقة.

وليس من المستبعد صدق القضية تاريخياً لما نعهده من بساطة القدماء بل حتى الكثير من المعاصرين، بل ولا يهمنا صدقها إذ المهم الرسالة التي تتضمنها وتحملها، وهي رسالة قوية وإن كانت لها تجليات مختلفة في كل عصر ومصر.

هذا كله من جهة، ومن جهة اخرى:

الشك النافع

وقد يكون الشك نافعاً، ولذلك أمثلة ونماذج عديدة. نشير إلى اثنين منها:

الشك في قرارات الحكومات الاستبدادية

أولاً: الشك في قرارات وقوانين الحكومات الظالمة المستبدة؛ فإن الأصل فيها الريبة والشك ولزوم الفحص والتحقيق عما وراء تلك القرارات، فإذا فرضت الدولة الجائرة ضريبة جديدة على البضائع أو الأراضي أوالمساكن أو

ص: 39

المحلات أو غيرها وتذرعت بألف دراسة وبأقوال خبراء (مستأجرين لذلك!) فإن ذلك يستدعي الفحص ولا يصح أبداً الإذعان بدون دراسة المعارضة والخبراء لذلك، فإنها حكومة غير شرعية، والخروج عن القواعد العامة العقلية الإنسانية الإسلامية ك( الناس مسلطون على أموالهم) لا يصح بقرار حكومة غير منتخبة ولا شرعية، خاصة وأن المستبدّ الأصل فيه قوله تعالى: «إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى»(1) و«أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ»(2) فغن طبيعة الطغاة واحدة وهي المزيد من الجشع للقدرة والطغيان والاستحواذ على الثروة وتركيز القدرة ومحورية الذات والانا والظلم والعدوان.

وكذلك في أي قرار تتخذه الحكومات المستبدة سواء أكان ذلك في حرب أم في معاهدة أم في إجراء عقود اقتصادية مع شركات أجنبية أو خطط زراعية أو تجارية أو صناعية أو تسعير للبضائع أو رفع أو خفض لقيمة العملة أو غير ذلك.

وذلك (التشكيك ثم الفحص والبحث) هو واجب مراكز الدراسات المستقلة، والخبراء الاكفاء والمعارضة، وكل من امكنه بوجهٍ ذلك.

الشك لدى الاستثناء من القواعد العامة

ثانياً: الشك في كل ما خالف الأصل العام العقلائي أو الشرعي، فكلما كانت قاعدة عقلائية عامة أو شرعية كذلك فأراد شخص ما الخروج عنها بادعاء وجود استثناء لها، فإنه يجب الشك والفحص والتحقيق وذلك فيمواطن الريبة مما لا ريب فيه، أما في غيرها ففيه تفصيل.

فمثلاً: القاعدة العامة هي: «خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً»(3)

ص: 40


1- سورة العلق: 6 - 7.
2- سورة الذاريات: 53.
3- سورة البقرة: 29.

و«الارض لله ولمن عمرها»(1) و(الناس مسلطون على اموالهم وانفسهم وحقوقهم) و«لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُون»(2) و«وَبِالْوَالِدَيْنِ

إِحْسَانًا»(3) و«أَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ»(4) و«وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ»(5) و«إِنَّمَا

الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ»(6) و«إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ»(7) فأي خروج ومخالفة لهذه القواعد وأشباهها لابد أن يواجه بالمطالبة بالدليل، والشك في العلة والباعث لذلك والفحص عن السبب فإن كان مقنعا فهو وإلا فلا.

الشك الساذج والمعقد المتشابك

اشارة

كما أن الشك تارة يكون شكاً ساذجاً عادياً، تارة أخرى يقترن بالظِنَّة أي بسوء الظن بالطرف الآخر الحامل للمبدأ أو للفكرة المشكك فيها أو الحامل للموقف المناقَش فيه، فيكون مقروناً باتهامه في نواياه، وعندئذ يكون الشك أخطر ويكون رفعه وإزالته أصعب.

1- الشك المقترن بالظِنَّة وسوء الظن

إن الشك قد ينبعث عن التهمة وسوء الظن بالمفكر أو القائد والمبلِّغ أو النهضوي أو قد يقترن بذلك؛ فإنه إذا طرح مفكر من المفكرين فكرة استراتيجية في مجتمع راكد رافض معارض، أو طرح رسول من الرسل عقيدةً ما (كتفاهة

ص: 41


1- الكافي: ج5 ص279.
2- سورة البقرة: 279.
3- سورة النساء: 36.
4- سورة الشورى: 38.
5- سورة المطففين: 26
6- سورة الحجرات: 10
7- سورة النحل: 90.

عبادة الأصنام وبطلانها) فإذا اقترن الشك في فكرته؛ بسوء الظن به وأنه يتغذى من فتات موائد الأعداء أو أنه مدسوس أو عميل لجهات خارجية وأنها هي التي تغذيه بالأفكار والأطروحات، أو حتى لو جرى اتهامه بأنه ليس سليم النوايا في طرح هذه الأفكار والقيم والمبادئ بل إنه يستهدف منها الوصول إلى مآرب أخرى وأنها حلقات في سلسلة مخطط لها للاستحواذ على عقول الناس ومن ثمّ ابتلاع ثرواتهم مثلاً، فلا شك أن الفكرة حينئذٍ ستواجه جداراً سميكاً من الصدّ والإنكار وستبتلى بمعارضة شديدة صارخة صاخبة، ولذلك نجد أن المشركين لم يكتفوا بالتشكيك بما جاء به رسل الله بل إنهم شفعوا ذلك بسلاح التهمة وإثارة كوامن سوء الظن «إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ»(1) و«يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ»(2) «وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ»(3) و«وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا»(4).

2- الشك المصحوب بالخوف

كما أن الشك قد يكون شكاً مصحوباً بخوف، وذلك هو ما يحدث للكثيرين عند مواجهة (التغيير) خاصة إذا كان التغيير جذرياً أو على مدياتواسعة؛ فإن الإنسان بطبعه يخاف من المجهول، والتغيير سواءً أكان في الدين والمعتقد أم كان في الانتماء إلى مرجعية أو نقابة أو حزب بديلاً لجماعة سابقة، أم كان في نمط الحياة الخاصة أو العامة، يستبطن عادة المجهول بدرجة أو أخرى.

والكثير من الناس يعارض التغيير لا لمجرد الشك في جدوائيته بل وللخوف

ص: 42


1- سورة طه: 71 / وسورة الشعراء: 49.
2- سورة الشعراء: 35.
3- سورة الدخان: 14.
4- سورة الفرقان: 5.

أيضاً مما قد يأتي به، ومنطقهم في ذلك هو أن (المألوف) و(الدارج) وما اعتدنا عليه إنما هو نمط واضح بيّن الأبعاد معروف غير مجهول، وذلك لأنه ظاهر المساوئ والأضرار كما هو ظاهر المنافع والثمار ففوائده معروفة وأضراره أيضاً معروفة وقد ألِفناها وتعايشنا معها سنين طويلة، أما التغيير فإنه غريب مجهول ولا نعلم الكثير من أبعاده وخفاياه وجوانبه وزواياه فلعله يستبطن أخطاراً غير متوقعة أو أضراراً أكبر مما ألفناه، ولذلك يعارض كثير من الناس التغيير لا لمجرد الشك في الأدلة والحجج والبراهين العلمية الداعية للتغيير بل لتدخل عنصر آخر وهو الخوف الجِبِلّي في النفس الإنسانية.

3- الشك المستبطن للقلق والاضطراب

والشك قد يتزامن مع القلق والاضطراب أيضاً، وذلك فيما إذا تجذّر الشك في النفس وكان القرار مصيرياً والأمر حيوياً، فمثلاً: نجد أن من يريد تغيير دينه فإنه يعيش حالةً من القلق النفسي والاضطراب الفكري والمعرفي، بل حتى من يفكّر في مقاطعة جماعته أو حزبه أو عشيرته أو أمتّه أو حتى في هجرانهم أو الابتعاد عنهم فإنه يعيش فترة من الشك والاضطراب والقلقوالخوف أيضاً.

وكل ذلك يختلف من فرد إلى آخر على حسب اختلاف الشاكلة النفسية لدى الأفراد: مدى قوة نفسه أو هشاشتها ومدى جرأته وشجاعته أو جبنه وخوفه، وأيضاً على حسب درجة خطورة الموقف الذي يواجهه وعلى حسب محتملات المخاطر والأضرار التي قد تجول بباله وتتصارع في جنبات عقله ونفسه.

ولنضرب لذلك بعض الأمثلة والشواهد:

رفض التغيير من النظام الاستبدادي إلى الشوريّ

1) فإن الكثير من الناس يرفض التحول من النظام الملكي مثلاً إلى الاستشارية الإسلامية أو إلى الديمقراطية العصرية، لا لمجرد تشكيكه في فوائدها أو

ص: 43

الأدلة المسوقة عليها لدى المفاضلة بين هذين النوعين من الأنظمة بل وأيضاً: لخوفه من المجهول وأُنسه بحياته المألوفة لديه بحلوها ومرّها، على العكس تماماً من عملية التحوّل الكبير باتجاه النظام الديمقراطي فإنه (يخاف) منه ويقلق ويضطرب لمجرد التفكير الجاد فيه؛ ذلك أنه يرى في استمرار الوضع المألوف، دِعةً وسكوناً واستقراراً بينما يرى، لدى التفكير في التغيير، اضطراباً عنيفاً في نفسه وقلقاً عميقاً في فكره وعقله، لذلك يرجِّح الواقع بكل آلامه ومراراته على المجهول ومفاجآته رغم كل احتمالات ثمراته.

معارضة إلغاء الجواز والجنسية

2) والكثير من الناس عندما تطرح عليه فكرة ضرورة إلغاء الجوازاتوالجنسية والحدود والجغرافية، فإنه يصاب بالرعب فتكون معارضته - أو شدتها - لا للشك - أو لمجرد الشك - في فوائدها أو أضرارها إذ كثيراً ما يكون قد اتضح له بالبرهان الفوائد وأن الأضرار ليست إلا وهمية، لكنه مع ذلك يعيش القلق والخوف الموهوم من هذا التغيير الكبير.

التحفظ على التغيير في نظم الحوزة والجامعة

3) وكذلك عندما تدعو قلة من العلماء والحكماء والمفكرين، الجامعةَ أو الحوزةَ أو الأحزابَ والتنظيمات إلى اعتماد مبدأ شورى القيادات والسير قدماً في طريق التداول السلمي للسلطة فإن الموقف الطبيعي لأغلب الناس من طلاب أو غيرهم هو الرفض؛ إذ إنهم يرون المألوف مأنوساً أما التغيير فهو يستبطن المجهول ويصاحبه القلق والظِنة والتهمة لدعاة التغيير: من هم؟ ولماذا؟ ولعل لهم مطامع ذاتية؟ أو ارتباطات أجنبية؟ أو غير ذلك.

وهذه الحقيقة، وهي أن الريب يزيد على الشك بأنه شك مع خوف أو قلق

ص: 44

واضطراب وتهمة وظنة، يجب أن يضعها دعاة الإصلاح والتغيير مدّ النظر عند مواجهة أمواج التشكيك من شرائح مختلفة من الناس، فيعرفوا أنهم لا يواجهون مشكلة واحدة هي الشك والتشكيك، ولو كان الأمر كذلك لكان من السهل نسبياً معالجتها، بل إنهم يواجهون مشكلتين: الشك والتشكيك من جهة والخوف والقلق والظِّنة من جهة أخرى، وعلاج الثانية أصعب لذلك فإنه يتوقف على طرق أكثر تطوراً وأساليب أكثر حكمة وبصيرة.

ولا فرق في ذلك (أي ثنائية الشك مع الخوف والقلق) بين التغيير نحوالأحسن الأسلم وبين التغيير نحو الأسوأ الأفدح، فإن الكلام هو أن المشككين في التغيير (الإيجابي أو السلبي) قد يستبطن تشكيكُهم الخوفَ والقلقَ والاضطرابَ والظِنَّةَ والتهمةَ، ولا ريب أنها إذ كانت في مواجهة التغيير السليم الواقعي كانت خاطئة خطرة، وأنها إذا كانت في قبال التغيير السلبي المنحرف كانت هي الصحيح بل الضرورة أيضاً.

استراتيجية الاستجابة الشرطية السلبية ضدّ الإسلام

ولذلك نجد أن الغرب، حيث عرف مفكروه الاستراتيجيون عمقَ معادلة الشك والريب، نجدهم لا يواجهون الإسلام والقرآن والرسول وأهل البيت (علیهم السلام) بسلاح التشكيك فقط لأنهم يعرفون مسبقاً أنهم في هذا الحقل خاسرون فإن الإسلام أقوى حجةً وأسطع برهاناً وأقرب وجداناً من المسيحية واليهودية والبوذية والإلحاد وغيرها، بل إنهم إلى جوار ذلك يستثمرون استثمارات كبرى في إثارة كوامن الخوف والقلق والظنة والتُّهمة في نفوس شباب الجامعات والنخبة بل والناس عامة ضد الإسلام والمسلمين.

ومن أبرز الشواهد على ذلك صناعتهم لداعش والنصرة ومِن قبلُ الطالبان

ص: 45

والقاعدة ومن قبلها الوهابية والتي تتعهد، بتخطيط بعيد استراتيجي من الأعداء وبعلم أو جهل من هؤلاء العملاء ومن يدور في فلكهم من البسطاء، بإيجاد ترابط جذري، عبر معادلة الاستجابة الشرطية، بين المسلم والإرهاب وبين الإسلام والتوحش، وليست أفلام حرق الناس أحياء أو قتلهم بطرق هوليوودية بشعة على أيدي الدواعش إلا نماذج مؤلمة تعلن عن هذه الحقيقة المرّة بأعلىالأصوات.

والفلسفة وراء ذلك كله هو إيجاد تموّجات من القلق والخوف والاضطراب لدى الناس في أرجاء العالم لا من مبادئ وقيم الإسلام المحمدي العلوي الحسيني المهدوي فقط بل من كل شيء يمتّ إلى الإسلام بصلة.

وهذا ما يفتح لنا الأبواب على سعتها لوضع الاستراتيجيات الناجعة والحلول السليمة الناجحة التي تتكفل بمعالجة ظاهرة التشكيك وتتصدي لأمواج الشك التي تعصف بالمجتمع بين حين وآخر: التشكيك في التقليد أو الخمس أو في العلماء والخطباء أو حتى التشكيك في وجود الله تعالى!

من البصائر: فوارق الريب عن الشك

لقد توهم بعض اللغويين أن الريب يرادف الشك ففسره به، لكن الصحيح - وكما يظهر بالتدبر فيما مضى - هو أن الريب يغاير الشك في أنه يستبطن معاني أخرى ذات دلالات أعمق، وذلك هو ظاهر الآية الشريفة إذ عبرت ب:«وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ» إذ ظاهرها أنه ليس شكاً فقط بل هو مريب أيضاً.

وفقه اللغة هو ما يقودنا إلى ذلك أيضاً فلقد فسر اللغويون الريب بالمعاني التالية:

1- الريب: التهمة والظنة. 2- إنه شك معه خوف. 3- إنه قلق النفس واضطرابها.

ص: 46

وهذه المعاني دقيقة جداً، فإنها تفصح عن جوانب من خفايا النفس الإنسانية ومطاويها، وقد فصلنا الكلام عنها قبل قليل.

من البصائر: فوارق الشك والجهل

إن انتقاء المفردات في القرآن الكريم يخضع لمعادلات دقيقة وقواعد متنوعة تتوزع بين قواعد علم النفس وعلم الاجتماع ومعادلات عالم الغيب والميتافيزيقيا ودقائق فقه اللغة وغيرها، ومن ذلك انتقاء مفردة (الشك) في هذه الآية الكريمة وسلسلة من الآيات الأخرة، على العكس من آيات أخرى استعملت فيها مفردة الجهل أو الجاهلين أو شبه ذلك.

فقد قال تعالى ناقلاً عن لسان الكفار قولهم: «وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ» فلماذا لم يقل مثلاً: (وإننا لفي جهل مما تدعوننا إليه؟) أو (وإنا جاهلون بما تدعوننا إليه؟) قد يقال: إن السبب يعود - فيما يعود - إلى فوارق الشك عن الجهل:

1- فإن الجهل هو عدم العلم بالجامع أو بالخصوصيات، أو عدم إدراك الكلي أو الجزئي، أما الشك فليس هو عدم الإدراك المحض بل إن الشك يستبطن(1)

الانكار أيضاً ففي مقام المحاجّة والجدل مثلاً عندما يسوق أحد الطرفين حجة لا يقوى الآخر على ردها فانه يقول حينئذٍ انني شاك في صحة هذه النظرية أو الدليل ولا يقول انني جاهل.

2 - والجهل مجرد حالة من اللاادرية والسلبية، أما الشك فكأنّه يتضمن نوعاً من الإيجاب أي البناء على تساوي كلا الطرفين.

3 - والشك مرحلة متقدمة عن الجهل، فإن الشاك كأنه أعمل اجتهاده أو

ص: 47


1- مطلقاً أو في الجملة، أو هذا أحد اطلاقيه بل هو المنصرف منه.

استفرغ وسعه، بزعمه أو حقيقةً، فلم يحرز صحة كلام الطرف الآخر أو صحة فكرةٍ أو رأي أو معتقد أو نظرية، أما الجاهل فهو جاهل فحسب.

4 - والشك يحتاج إلى سبب ومثير، عكس الجهل الذي تكفيه عدم وجود علة العلم أو المعرفة.

5 - وتعريف بعضهم الشكِّ بأنه: (تردّد الذهن بين أمرين على حد سواء)، يفيد أن الشك قائم بركنين متضادين أو متناقضين أو متماثلين، أما الجهل فمجرد عدم العلم بطرف واحد.

نعم قد يقال بأنهما مما إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا، وأنه قد يُتوسَّع في استعمال أحدهما مكان الآخر، فتأمل.

والأظهر أن للشك إطلاقين، وما ذكر من الفروق مبني على أحدهما فتدبر.

والظاهر أن الكفار كانوا شاكين بالرسل إذ كانوا مهاجمين «وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ» لذا أضافوا الريب أيضاً؛ ولذا نجد أن الشك يوصف بالريب أي بأنه مريب دون الجهل، فلا يقال إنني لفي جهل من أمرك مريب، كما أنهم كانوا منكرين ولم يكونوا - بزعمهم - مجرد جاهلين بأمر الدعوة وصحتها، وكأنهم يقصدون أنهم درسوا الأدلة والشواهد ومع ذلك شكوا في دعوة الأنبياء (علیهم السلام) وترددت إذهانهم بين كونها عن سحر مثلاً أوعن كهانة أو كونها شعراً أو حقاً أو غير ذلك.

ومعرفة الفارق بين الجهل والشك أمر هام جداً في تشخيص حالة الأمة أو الجماعة أو الفرد، أولاً، ثم في عملية اختيار النوعية الناجعة لمعالجة تلك الظاهرة، ثانياً.

ص: 48

الفصل الثالث: بواعث الشك: التسطیح،غموض الحقیقة،خفاء المصطلح، الوسوسة

اشارة

ص: 49

ص: 50

قال الله العظيم في كتابه الكريم: «أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ»(1).

أسباب الشك وعوامله

يجب علينا في إطار البحوث المعرفية عن ظاهرة الشك والتشكيك، أن ندرس بواعث الشك وعلله لنكتشف أولاً سبل العلاج والحلول الناجعة لهذه الظاهرة بشتى أنواعها خاصة الشك غير المنهجي، ولنكتشف ثانياً: الضارّ من أنواع الشك أو النافع منها؛ فإن معرفة الأسباب كثيراً ما تكون الطريق السليم لضمان سلامة التقييم وتكون هي التي تقود إلى اكتشاف مدى صحة النتائج والثمار والآثار، أو العكس من ذلك.

أولاً: النظرة الساذجة للحقائق المعقدة

اشارة

السبب الأول: التسطيح أو النظرة السطحية إلى الحقائق ذات الأسطح المتداخلة أو الأعماق المتعددة أو المتنوعة أو حتى ذات العمق الكبير،وكذلك النظرة الساذجة إلى الحقائق التي تتميز بالتشابك العلمي والمعرفي أو الحقيقي والجوهري مع سلسلة من الحقائق الأخرى التي تتفاعل بمجملها لتكون محصلّتها

ص: 51


1- سورة إبراهيم: 9.

مغايرة تماماً لما يطفو منها على السطح.

سذاجة الكفار في قولهم «إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا»

وذلك هو ما أشارت إليه الآية الكريمة عندما رسمت التوهم الساذج للكفار عن حقيقة الرسل، وعندما استبطنت أن وجه الخطأ يكمن في الاقتصار على النظر إلى سطح الأمر دون الغوص في أعماقه أو اكتشاف سائر أبعاده فلقد حكى الله تعالى عن المشركين قولهم: «قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا»(1) فكانت هذه هي المشكلة التي أوقعتهم في اللَّبْسِ والوهْم وهي أنهم اقتصروا على إلقاء نظرة عابرة سطحية إلى ظاهر الرسل فلاحظوا أنهم بشر مثلهم فكيف يكونون رسلاً لإله الكائنات؟ وقد صوَّرت آيات أخرى هذا التصور الساذج بعبارات أخرى: «وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ»(2).

الفارق: (المِنّة الإلهية) وكونهم عباداً لا مجرد عبيد

وكان الجواب: «قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ»(3)، والتي تفيد بأنهم وإن كانوا بشراً - وإن ذلك لكذلك - لكنالمقياس في كونهم رسلاً ليس هو هذا الظاهر بل المقياس هو معادلة أخرى أعمق بكثير وهي التي تغيّر مسار معالجة مثل هذه الظواهر إلى درجة يذهل لها الإنسان إذا تدبر فيها قليلاً، والمعادلة هي (المِنّة الإلهية) التي يتحول بها البشر العادي إلى مستوى يفوق الخيال البشري: «وَلَكِنَّ اللّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ» إذ إن

ص: 52


1- سورة إبراهيم: 10.
2- سورة الفرقان: 7.
3- سورة إبراهيم: 11.

الله الكريم الجواد القادر المطلق إذا أراد أن يمتنَّ على بعض عباده بمنحة إلهية وهديّة ربانية، فهل للخيال مهما حلّق أن يصل حتى إلى أدنى مدياتها؟!

والملفت أن الآية الشريفة وإن صرحت بأن المنّة منوطة بمشيئة الله تعالى - وهو كذلك - لكن مشيئته جل وعلا ليست عبئاً بل إن مشيئته إنما تعلقت بالمحل القابل، والمحل القابل هو «عِبَادِهِ» وليس (عبيده) وهي نكتة قرآنية دقيقة في التفريق بين المتميزين من البشر الناجحين في الامتحانات الإلهية وبين غيرهم إذ يعبّر تعالى عن الفريق الأول في القرآن الكريم غالباً بالعباد عكس الفريق الثاني إذ يعبّر عنهم غالباً بالعبيد فلاحظ الآيات التالية: «ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ»(1) و«ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ»(2) و«مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ»(3) «مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ»(4).وفي مقابل ذلك نجد قوله تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ»(5) و«قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ»(6) و«وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ»(7).

ص: 53


1- سورة آل عمران: 182/ وسورة الأنفال: 105.
2- سورة الحج: 10.
3- سورة فصلت: 46.
4- سورة ق: 29.
5- سورة البقرة: 207.
6- سورة آل عمران: 15.
7- سورة آل عمران: 30.

«وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ»(1) و«وَمَا

تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ»(2) «فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ»(3) «يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ»(4) «أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ»(5) «إِنَّ

الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا»(6).

نعم قد يخرج عن ذلك، لحكمة أخرى نظير قوله تعالى: «يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون»(7) «فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُأَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ»(8) «قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ»(9) فتأمل.

نماذج تسطيحية

اشارة

ولنضرب أمثلة ثلاثة أخرى من (النظرة الساذجة السطحية) التي قد تقود إلى الشك بل والتي قد تقود إلى الزيغ والضلال والانحراف.

ص: 54


1- سورة الأنبياء: 26.
2- سورة الصافات: 39 - 40.
3- سورة الصافات: 73 - 74.
4- سورة الزخرف: 68.
5- سورة الدخان: 18.
6- سورة الإنسان: 5 - 6.
7- سورة يس: 30.
8- سورة غافر: 44.
9- سورة غافر: 48.
1- عصمة الأنبياء (علیهم السلام) وفلسفة التعبير بالعصيان في القرآن
اشارة

المثال الأول: (عصمة الأنبياء والرسل) ذلك أن الكثير من الناس اختلط عليهم الأمر حيث جمدوا على ظاهر النص ولم ينفذوا إلى تأويله ووجهه وما يستبطنه من حقائق أخرى تستوجب قلب الفهم الظاهري للنص إلى فهم آخر مغاير تماماً، وذلك هو ما يقتضيه التفاعل بين ظاهر النص وباطنه وبين تنزيله وتأويله وبين ذاته وسياقه، والذي يكشف عن جانب من جوانبه ما أشار إليه بعض المناطقة من أن جمال ظاهر الألفاظ قد يسري إلى معانيها فيُكسِبها حسناً مع أنها قد تكون قبيحة أو لا تكون على أقل الفروض جميلة حسنة، كالعكس تماماً إذ قد يسري قبح الألفاظ إلى واقع المعاني النبيلة الجميلة فيُكسبها في أنظار الكثير قُبحاً، كما ان جمال المعاني أو قبحها قد يسري إلى الألفاظ القبيحة أو الجميلة فيمنحها جمالاً وروعة أو قبحاً وسوءاً.ومع التسلح بفهم هذه الحقيقة لننطلق إلى بعض الآيات الكريمة التي قد يستفيد الفهم السطحي الساذج منها نفي عصمة الأنبياء (علیهم السلام) كقوله تعالى: «وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى»(1).

ظاهرة تأليه العظماء، والحلّ في القرآن

ولكن الفهم الشمولي العميق الذي يضع الأمور في سياقاتها ويكتشف أبعادها وقرائنها يكتشف أمراً آخر أعمق وأن (العصيان) المراد به هو ترك الأولى لا فعل الحرام أو يراد به ترك النهي الإرشادي لا المولوي؛ وذلك بالقرائن العقلية والروائية القطعية المذكورة في الكتب الكلامية والتي ليست هي محل البحث الآن، بل محل البحث وموطن الشاهد ههنا استكشاف أثر الفهم العقلائي المعمق

ص: 55


1- سورة طه: 121 - 122.

لظواهر الألفاظ خلافاً للأفهام البسيطة الساذجة، فقد نُسب العصيان إلى الأنبياء في القرآن الكريم لحكمة بالغة تبتني على إحاطة علمية سيكولوجية بالطبيعة البشرية والتي كانت هي الباعث لاستخدام مصطلحات تُوقِع الفهم الساذج في تَوهُّم إرادة الظاهر كما هو، وتلك الحقيقة السيكولوجية والتي نشهدها على مدار التاريخ، هي أن الناس بطبعهم يميلون إلى تقديس العظماء ثم إلى تأليههم واعتبارهم آلهة يجب أن تعبد من دون الله، وذلك هو ما نلاحظه من تقديس شرائح واسعة جداً من كافة المجتمعات لعلمائهم وكبرائهم رغم أنهم لا يتميّزون عليهم إلا ببعض العلم أو التقوى أو القوة الظاهرية، وأما الأنبياء فهم فوق ذلك كله بل كانت تصدر منهم المعجزات المبهرة لذلك كان الناس يميلون إلى تأليههم واتخاذهم أرباباًيعبدون إلى جوار الله أو من دون الله الذي لم يرونه، وذلك مثل معاجز عيسى المسيح «أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ»(1).

وقد ورد: (أن أبا رافع القرظي والسيد النجراني قالا: يا محمد (صلی الله علیه و آله) أتريد أن نعبدك ونتخذك ربا؟ فقال: معاذ الله أن يُعبَدَ غيرُ الله وأن نأمر بغير عبادة الله، فما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني، فنزلت «وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ»(2) ولكن يقول كونوا ربانيين والرباني منسوب إلى الرب بزيادة الألف والنون وهو الكامل في العلم والعمل.

وقال القمي: أي إن عيسى لم يقل للناس إني خلقتكم وكونوا عباداً لي من دون الله ولكن قال لهم كونوا ربانيين أي علماء)(3).

ص: 56


1- سورة آل عمران: 49.
2- سورة آل عمران: 79.
3- تفسير الصافي: ج1 ص350.

وكأنهم عندما رأوا معاجزه (صلی الله علیه و آله) وآمنوا به احتملوا أن الإيمان به كرسول لا يكفي بل لا بد من عبادته، فنزلت الآية الشريفة: «مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ»(1).

والمحصّلة من ذلك: أن البشر حيث لا يتحمل الكثيرون منهم الوقوف عند حد الاعتدال والوسطية وحيث إن من دأبهم الإفراط في تعظيم الكبراءوالعظماء وحيث إن تاريخ البشرية امتلأ بتأليه العديد من الأنبياء وغيرهم كعُزير والمسيح علیهما السلام وغيرهما لذلك كان لا بد بالنظر للحكمة الإلهية البالغة من أن يُعبِّر خالق الأنبياء وباعثهم رسلاً إلى الناس، عنهم بعبارات لا يبقى معها مجال للناس لتوهم أنهم آلهة أو أرباب تعبد من دون الله ... وهل يتوهم أحد أن آدم الذي وصفه القرآن ب«وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى» يصحّ أن يعبد؟

وذلك هو ما يفسِّر، في جملة وجوه أخرى، السرّ في عتاب الله تعالى - إن صح هذا التعبير - للرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) بأمور شخصية خاصة مثل قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ»(2) إذ غاية الأمر لو كان ذلك مرجوحاً أن يعاتبه الله في السرّ ولكن ما الداعي لأن يُعلن عن ذلك في القرآن الذي يُتلى آناء الليل وأطراف النهار؟

ولقد ظهر أن الداعي، في جملة حِكَم أخرى نعلم بعضها ونجهل أكثرها، هو أن لا يتخذ الناس على مرِّ الأزمان رسولَ الله إلهاً يعبد، خاصة مع تواتر صدور المعجزات الكثيرة منه حتى عدّها بعض المؤرخين أربعة آلاف معجزة منها

ص: 57


1- سورة آل عمران: 79 - 80.
2- سورة التحريم: 1.

ما خلّده القرآن الكريم كمعجزة شق القمر وغيرها.

2- حركة الجبال كحركة السحاب، وهي تبدو ساكنة!
اشارة

المثال الثاني: قوله تعالى: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ»(1) وهي بإشارة بليغة في كلمة«تَحْسَبُهَا» والتي تفيد أن هذا الزعم إنما هو مجرّدُ وهمٍ، وبتصريحٍ واضحٍ في «وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ» تُلفتُ إلى أن الظاهر السطحي (كجمود السحاب وسكونه) يغرّ الناس بل قد لا يتعقل الناس نظرية أن الجبال متحركة، ولكن الواقع غير الظاهر وهي أنها تمرّ مرّ السحاب بحركتها بحركة الأرض الوضعية والانتقالية.

وهذه الآية وإن وردت في سياق آيات القيامة مما حدا بالكثير من المفسرين لحملها على أن المقصود من حركة الجبال إنما هو حينذاك، لكن بعض الروايات تصرح بأن أول الآية قد يكون في شيء وآخرها في شيء، ومنها قول الإمام الباقر (علیه السلام): «وليس شئ أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن، إن الآية لتكون أولها في شيء وآخرها في شيء وهو كلام متصل يتصرف على وجوه»(2) لذلك ذهب المشهور إلى عدم حجية قرينة السياق، إضافة إلى أنه لو سلمنا ذلك فإن القيامة ستكون هي شأن التنزيل، والتنزيل لا ينافي التعميم مع صلاحية عموم اللفظ، أو أن الدنيا تكون التأويل كما هو شأن الكثير من الآيات الأخرى، فتأمل.

قرائن على أن المراد حركة الجبال في هذه الدنيا

وقد استدل بعض المفسرين على أن الآية وردت عن الجبال في الدنيا بقوله:

(قولهُ تعالى: «وَتَرى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللهِ

ص: 58


1- سورة النمل: 88.
2- تفسير العياشي: ج1 ص12.

الذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْء إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ» إنّ بعض المفسّرين يخصّ الآية بيومالقيامة، لأنّها وردت في سياق آياتها، فقد ورد قبلَها: «وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللهُ وَ كُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ».

ويلاحظ عليه: إنّ الآية المتقدمة على هذه الآية، تبحث عن الحياة الدنيوية، يقول سبحانه: «أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَات لِقَوْم يُؤْمِنُونَ». فَتَوَسُّطُ الآيةِ الراجعةِ إلى يوم القيامة، لا يمنع صلة الآية بالحياة الدنيوية، إذا كان هناك صلة وتناسب بين الآيات، هذا مع أَنّ القرائن الموجودة في نفس الآية تؤيّد خلافه:

أما أولاً: فإنّه سبحانه يقول: «تَحْسَبُهَا جَامِدَةً»، مع أنّ يوم القيامة يوم ظهور الحقائق وكشف البواطن، وليس هناك ظَنٌّ وحسبان، بل كلُّ ما هناك إذعان ويقين، يقول سبحانه: «لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَة مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ».

وثانياً: فإنّ الآية تبحث عن الجبال الموجودة، مع أنّ يوم القيامة يوم تبدلّ النظام وتغيّره، يقول سبحانه: «يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّموَاتُ» ويقول سبحانه: «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً»(1) ويقول سبحانه: «وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ»(2) ويقول سبحانه: «وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ»(3).

فالكل يدل على زوال النظام بما فيه الجبال، فكيف تكون الآية ناظرةإلى يوم القيامة؟!

ص: 59


1- سورة طه: 106.
2- سورة التكوير: 3.
3- سورة القارعة: 5.

وثالثاً: إنّ قوله سبحانه في ذيل الآية «صُنْعَ اللّهِ الذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْء»(1)، دليل على أنّه لا صلة للآية بالقيامة، إذ الصنع يناسب حياتنا الدنيوية، وأمّا يوم القيامة، فهو يوم إبادة نظام الحياة فالجبال تتلاشى وتتمزق، فلا يناسبه التركيز على إتقان الصنع.

ورابعاً: فإنّ قوله في ذيل الآية: «إنّه خبيرٌ بِما تَفْعَلونَ»، صريح في أنّ الآية راجعةٌ إلى الحياة الدنيوية، ولو كانت ناظرة إلى يوم القيامة، لكان المناسب أن يقول: «خبير بما فعلتم».

فهذه القرائن تؤيّد كون الآية راجعة إلى حياتنا الدنيوية).

وليس القصد تأييده والإذعان بصحة كافة القرائن التي ذكرها فإن العديد منها محل تأمل، إلا أن الشاهد صلاحية بعضها لتكون مؤيدة.

3- النظرة السطحية للحدود الشرعية
اشارة

المثال الثالث: (الحدود) فإن النظرة السطحية الساذجة إلى الحدود قد تدفع البعض خاصة من الحداثويين إلى استنكارها وإنكارها، لكنّ ذلك لا يعدو كونه إلا غفلةً عمّا يكمن خلف هذا السطح من بُعد آخر يشكّل عمق المغزى منها كما أنه يشكّل غفلة عن أن الحدود هي حلقة في ضمن منظومة متكاملة وذلك على حسب التحليل الذي اختاره السيد الوالد (رحمة الله) في (الحدود) فإنه يرى - بتوضيح وإضافة منّا -:

أ- الحدود عامل ردع استراتيجي، وليست للتنفيذ الشامل
اشارة

أولاً: إنه يكمن خلف سطحها الظاهر، عمق استراتيجي يُشكِّل واقع فلسفة الحدود وذلك العمق هو محاصرة السرقات باعتبارها ظاهرة متفشية في

ص: 60


1- سورة النمل: 88.

المجتمعات بل واقتلاعها من الجذور، وهو إقرار الأمن الاجتماعي بشكل فريد، وذلك كله عبر سنّ قانون يبدو عنيفاً جداً لكنه لا يراد به - بالدرجة الأولى - إلا التهديد به وإلا الردع بهذا العقاب الصارم، لا التنفيذ على نطاق واسع بل ولا على نطاق ضيق بل لا يتجاوز التنفيذ إلا الأندر من النادر من الحالات.

ويدلّ على ذلك أن حد السرقة وهو قطع اليد، مثلاً لم ينفّذ حسب استقراء البعض طوال حوالي مأتي سنة منذ بدايات الإسلام إلا على ستة سرّاق رغم سعة الامبراطورية الإسلامية الشاسعة التي كانت تغطي ما يقارب ثلثي الكرة الأرضية، وحسب استقراء البعض الآخر فإن الأيادي التي قطعت كانت حوالي اثني عشر مورداً، بل لنفرض أنها كانت خمسين أو مائة مورد أو أكثر، إلا أن ذلك يعني (رمزية) هذا العقاب واعتماده في واقعه على لغة أخرى غير ظاهره وهي أنه يعتمد في إقرار الأمن واقتلاع جذور السرقات من المجتمع على عامل الردع بالأساس لا على التنفيذ كلما حدثت سرقة أو أخرى، فالردع هو الجوهر والأساس ولكنه لكي يتحقق لا بد من تنفيذه في موارد ولو نادرة كي يحظى بالمصداقية والرادعية.فكم هو فرق بين إجراء هذا الحد في موارد نادرة لمجرد الردع عن الألوف أو مآت الألوف من السرقات الأخرى، وبين إجراء هذا الحد عند كل سرقة وفي الألوف من الموارد كل سنة وعام؟!

ومن الواضح أنه لدى دوران الأمر بين قطع يد سارق واحد أو سارقين كل عشر سنوات مثلاً أو أقل أو أكثر، وبين حصول ملايين السرقات في طول البلاد وعرضها مما يسلب الناس أمنهم وراحتهم وبما يستدعي أن يخيّم الخوف والرعب على قلوب الملايين من الأرامل والمطلقات والأيتام والشيوخ الذين يعيشون بمفردهم بل والعوائل الصغيرة وغيرها، فإن الأرجح قطع يد واحدة لتكفي رادعاً

ص: 61

يحول دون الملايين من السرقات بما تستتبع من أضرار عامة وخاصة أقلها الكآبة والقلق والخوف الذي قد يعصف بقلوب ملايين العوائل والرجال والنساء والشيوخ والأطفال.

إذاً وحسب هذا التحليل الذي يستبطن عمق هذا الحدّ وأنه هو الردع وليس التنفيذ إلا في النادر، فليس الحدّ مما يطبق في أرجاء البلاد على كل سارق بحيث قد تقطع يد ألوف السراق في السنة الواحدة مثلاً!

نعم لا ريب أن هذا التحليل المبتني على رمزية هذا الحد ومحورية رادعيته الكبرى، يستبطن ضرورة القيام بحملة إعلامية - تحذيرية واسعة النطاق جداً بحيث يكون قطع اليد الواحدة كفيلاً بردع الألوف من السراق عن السرقة.

ظاهرة تفشي الاختلاس في الدولة، والحلّ

ومما يؤكد ذلك ويوضحه تفشي السرقة والاختلاس حالياً في بعض دولناعلى أعلى المستويات: على مستوى الوزراء والوزارات والنواب وغيرهم حتى بلغت درجة الصدمة ورغم حضور هيئات النزاهة وغيرها إلا أنك تجد هذه الظاهرة تستفحل يوماً بعد يوم أكثر فأكثر، والغريب أن العالم يشهدهم يسرقون عشرات المليارات من الدولارات كل سنة من أموال النفط والضرائب والعقود والصفقات وغيرها على حساب عوائل الشهداء والأرامل والأيتام والفقراء والمساكين.

ولو أن القضاء قطع يد شخص واحد من الحيتان الكبيرة على مستوى وزير أو شبهه، لكنتم ترون انتهاء ظاهرة الاختلاسات في الدولة تماماً! والآن فكروا قليلاً: أيهما الأرجح عقلاً؟

ومما يشهد لذلك أيضاً أن إحدى أهم العواصم الغربية(1) تفشت فيها

ص: 62


1- وهي لندن.

السرقات الصغيرة(1) بشكل مذهل، والغريب أنك لو اتصلت بالشرطة فإنهم لا ينجدونك أو يتباطؤون ويتثاقلون ويتأخرون حتى يهرب اللصوص! اللهم إلا لو صاحبتها جريمة كالقتل أو الجرح أو كانت السرقة كبيرة، وذلك لأنهم لا يرون أي حل لهذه الظاهرة المستفحلة إذ يرون أنهم لا يمكنهم إلقاء عشرات الألوف من السراق في السجون! خاصة وأن تكاليف السجناء ليست بالقليلة بل إنها تكلف خزانة الدولة المليارات كل سنة! وهكذا يجدون أنه يدور أمرهم بين سجن كافة اللصوص - وهذا مما لا يريدون أنيتحملوا مضاعفاته وتكاليفه -، وبين تركهم وشأنهم وإن عمّ الخوف أرجاء العاصمة، فرجّحوا الثانية على الأولى!!

ولا حل لهذه المعضلة الكبرى إلا في (التهديد الصارم) بقطع اليد في ضمن إطاره الرمزي النادر التنفيذ ولا غير!

ب - (الحدود) في ضمن منظومة القوانين، العادلة

ثانياً: إن (حد السرقة وغيرها من الحدود) ما هو إلا جزء من منظومة سياسية اقتصادية عادلة وضمن منظومة اجتماعية فكرية معرفية وقانونية متكاملة، ولا يصح اقتطاعها من سياقها وحسب رأي السيد الوالد (رحمة الله) فإنه لا يصح إجراء حد السرقة بدون أن تكون سائر قوانين الإسلام الحيوية مطبقة:

ومنها: إقرار نظام التعددية السياسية حسب المستفاد من قوله تعالى: «وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ»(2) وحسب ملاك: «وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ ...»(3).

ومنها: العمل بالشورى الإسلامية حسب قوله تعالى: «وَأَمْرُهُمْ شُورَى

ص: 63


1- كسرقة التلفزيون أو الأموال القليلة من البيوت.
2- سورة المطففين: 26.
3- سورة الحج: 40.

بَيْنَهُمْ»(1).

ومنها: التداول السلمي للسلطة، قال تعالى: «وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَالنَّاسِ»(2).

ومنها: توفير الحريات الإسلامية في الزراعة والصناعة والتجارة وغيرها كي تتوفر للناس فرص وافية بالحاجات وكافية للرغبات، وترتفع عنهم الضغوط النفسية الكبيرة التي كثيراً ما تدفع الأفراد لتفريغها عبر طريق الإجرام والسرقة والاختلاس وغيرها.

ومنها: تكفل بيت المال بكافة الفقراء والأيتام والأرامل وغيرهم حسب قاعدة «إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ»(3) ومنها غير ذلك.

فإذا توفرت الديمقراطية الإسلامية والحريات والشورية والأخوة الإسلامية والعدل والإحسان وغيرها من قوانين الإسلام ثم سرق أحدهم فإنه حينئذٍ يمكن القول بإجراء حد السرقة، عليه عكس المنهج السعودي - مثلاً - الحاكم الذي يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض فيختار من أحكام الشرع الحدودَ فقط، لينفّذها على السراق العاديين ولا يطبقها على سرّاق النفط وبيت المال من الأمراء والملوك والقادة الذين «يَخْضَمُونَ مَالَ اَللَّهِ خَضْمَ اَلْإِبِلِ نِبْتَةَ اَلرَّبِيعِ»(4) والذين لا يطبقون قوانين الإسلام الأخرى في الحريات والشورى وغيرها، فلم لا يعكسون؟!

وعلى أي فإن السيد الوالد (رحمة الله) يرى أن هذين الأمرين - طابعالتهديد

ص: 64


1- سورة الشورى: 38.
2- سورة آل عمران: 140.
3- سورة النحل: آية 90.
4- نهج البلاغة: باب خطب أمير المؤمنين علیه السلام، الخطبة:3.

كأصل، وليس التنفيذ، وشرط تطبيق قوانين سائر الإسلام - لو لم يكن مستظهراً من النصوص فإنه على الأقل من دائرة الشبهة التي تشملها قاعدة «ادرؤوا الحدود بالشبهات»(1).

هذا كله إن لم نذهب إلى ما ذهب إليه السيد ابن زهرة (رحمة الله) وبعض آخر من المتقدمين والسيد أحمد الخوانساري (رحمة الله) وغيره من المتأخرين (بل ادعى السيد الخوانساري (رحمة الله) عليه الشهرة) من أن الحدود لا تجرى في زمن الغيبة مطلقاً بل يشترط فيها حضور الإمام المبسوط اليد.

ثانياً: غموض الحقيقة

اشارة

السبب الثاني: غموض الحقيقة، فإن الحقيقة قد تكون غامضة إلى درجة يعجز معها كافة الناس أو معظمهم أو بعضهم من إدراكها ومن الإذعان بصحتها أو صوابها، فمن ههنا قد ينشأ التشكيك.

معنى الدّور

ومن الأمثلة على ذلك (الدّور) فإنه كثيراً ما يدرك الباحث وجه الدّور وأنّ هذا المورد مما ينطبق عليه (توقّفُ الشيء على ما يتوقف عليه) وكثيراً ما يدرك العكس، لكنه كثيراً ما لا يدرك هذا الطرف أو ذاك لذلك يبقى أسير الشك في تحقق الدور في المقام.

تجمّد الزمان في الثقوب السوداء

ومن الأمثلة على ذلك نظرية تجمّد الزمان في (الثقوب السوداء في الفضاء) والثقوب السوداء عبارة عن كتلة مكثفة مضغوطة أو منطقة في الفضاء ذات كثافة

ص: 65


1- عوالي اللئالي: ج2 ص349.

بالغة جداً حدث فيها تقليص أو إزالة الفواصل بين الجسيمات داخل النواة والالكترونات التي تحيط بها لأن الفراغ (الذي يبدو)(1)

داخل الذرات هائل جداً فلو ضغطت كتلة كبيرة كالكرة الأرضية لتتحول إلى ثقب أسود، لكان حجم نصف قطرها تسعة أعشار السنتيمتر الواحد أي كان حجمها ككرة الطاولة وذلك مع احتفاظها بوزنها الثقيل لأنه ناتج عن الجسيمات لا الفراغات.

والثقب الأسود يعادل غالباً مليون شمس فإذا ضغطت مليون شمس تحولت إلى ثقب أسود، وتبلغ الجاذبية فيها من القوة بحيث تمتص أي جُسيم أو موجة أو إشعاع أو إشارة تمرّ إلى جوارها حتى أنها تمتص النور أيضاً لذا يسمونه ثقباً أسود إذ لا يرى بالمرة، وقد اكتشفوه من آثاره(2).

وموطن الشاهد هو أن البعض ادعى أن الزمان ينعدم في الثقب الأسود وأنه إذا مضت علينا ههنا ألوف أو ملايين السنين فإن ما في الثقب الأسود حيث انعدمفيه الزمان لا يكون قد مضى عليه حتى ثانية واحدة، وقال من يدعي ذلك أنه كما أن الزمان يتمدد أو يتقلص حسب النظرية النسبية العامة التي طرحها اينشتاين فإنه يمكن أن يبلغ تقلصه حدَّه الأقصى فيصل إلى نقطة الصفر والعدم المحض.

وهنا: فإن من يحيط خُبراً بصحة هذه النظرية أو ببطلانها فإنه يكون مذعناً أو منكراً، أما من لم تقنعه أدلة أحد الطرفين أو لم يفهمها جيداً فإنه لا محالة يكون شاكاً، والشك في مثل هذا الموطن إنما هو وليد غموض الحقيقة.

ص: 66


1- هذه إشارة هامة إلى أن الفراغ هو حسب ما توصل إليه العلم حتى الآن، ولعله يكتشف مستقبلاً أنه لا يوجد فراغ بل هناك حقائق أخرى تملأ منطقة الفراغ يعجز العلم عن اكتشافها حالياً.
2- راجع الويكيبيديا وغيرها.

ثالثاً: خفاء المصطَلَح

السبب الثالث: خفاء المصطلح وغموضه

وقد يكون سبب الشك، أو حتى الإنكار، هو غموض المصطلح وخفاء احدى أمور ثلاثة:

1 - الموضوع له. 2 - أو المستعمل فيه. 3 - أو المراد منه؛ وذلك لأسباب عديدة: منها كونه مشتركاً لفظياً، ومنها كونه من الحقائق التشكيكية، ومنها الشك في الهجر أو النقل، ومنها غير ذلك(1) مما فصل علماء الأصول البحث عنه في مباحث الألفاظ.

خفاء معنى الشعائر الحسينية لدى البعض

ومن أبرز الأمثلة على ذلك مصطلح (الشعيرة والشعائر) فقد قال تعالى: «وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ»(2) وحيث خفي المراد من هذاالمصطلح بدقة، وقع التشكيك بل وحتى إنكار شعيرية بعض الشعائر الدينية والحسينية، وليس هذا البحث معقوداً، كما هو واضح، لتحقيق حال الشعائر الحسينية وتمييز ما هو شعيرة مما ليس بالشعيرة، بل هو معقود لدراسة عوامل الشك أو الانكار لذلك سنقتصر على دراسة مفهوم (الشعيرة) بالمقدار الذي تُعنى به هذه الدراسة فنقول:

الاعتراض بان بعض الشعائر وافدة من حضارات أخرى

إن البعض اعترض على بعض الشعائر الحسينية المعروفة(3)

بأنها ليست شعائر إسلامية لأنها وافدة من حضارات أخرى. وكما سبق فإن البحث ليس

ص: 67


1- كالجهل بالوضع.
2- سورة الحج: 32.
3- كالتطبير أو غيره.

معقوداً إلا لجهة بحث خفاء المصطلح وإن جلاء الشك والتشكيك قد يكون عبر إجلاء معناه، وليس معقوداً لِسَوْق الأدلة الشرعية على شعيرية هذه الشعيرة أو تلك ولا لدراسة تاريخية هذه الشعيرة أو تلك وإن لها منشأً في الإسلام كما استدل به البعض(1)

أو أنها مأخوذة صِرفاً من حضارات أخرى، بل البحث معقود هنا لمجرد تحقيق معنى الشعيرة من جهة زاوية البحث:

المقياس صدق الشعيرة عرفاً ولا يضر وفودها

وصفوة القول: إنه لنفرض أن هذه الشعيرة أو تلك وفدت إلينا من حضارات أخرى، ولكن هل يُخلّ ذلك بكونها شعيرة مطلقاً؟ الجواب كلا، ولكن ذلك يعتمد على إجلاء معنى الشعيرة، وبيانه: إن الشعيرة فعيلة بمعنى الفاعل فشعيرة أي مُشعِرة فشعائر الله أي المشعرة بالله تعالى، والشعيرة الحسينية أي المشعرة بالإمام الحسين (علیه السلام) ومبادئه وقِيَمِهِ أو تضحياته وظلاماته، فإذا انطبق على أمرٍ أنه مُشعِرٌ بالإمام الحسين (علیه السلام) بنحوٍ من الأنحاء كان شعيرة حسينية(2) ولا يضر بذلك المصدر والمنشأ.

الشعائر ليست حقائق مخترعة بل هي كالعقود مفاهيم عرفية

ويبرهن ذلك أن الشعائر ليست من الحقائق الشرعية المخترعة بل هي كمطلق الموضوعات الأخرى مما أوكل الشارع أمرها إلى العرف ولم يَرِد من الشارع الأقدس أصلاً تعريف للشعيرة أو تحديد لها، فكما أن العقود والبيع

ص: 68


1- كنطح السيدة زينب (علیها السلام) جبينها بمقدم المحمل عندما رأت الرأس الشريف مرفوعاً على رمح طويل مضرجاً بالدماء، مثلاً. راجع حول الشعائر كتاب (الشعائر الحسينية) للشهيد السيد حسن الشيرازي(قدس سره) وكتاب (فقه الشعائر الدينية) للشيخ فاضل الصفار.
2- مع شرطين آخرين سيأتي ذكرهما.

والصلح والإجارة وغيرها مفاهيم عرفية فكلما انطبق عليه عرفاً عنوان البيع أو العقد شمله «أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ» و«وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ» إلا فيما ثبت من الشرع تحريمه ك«وَحَرَّمَ الرِّبَا»(1) كذلك كلما صدق عليه عرفاً أنه شعيرة حسينية أي مشعرة به صلوات الله عليه انطبق عليها أنها من شعائر الله إذ إن كل مُشعِرٍ بالقرآن الكريم أو الرسول العظيم أو آل بيته الكرام (علیهم السلام) فإنه مشعربالله تعالى دون شك وريب، فإنهم الادلّاء على الله تعالى والسبيل إليه والصراط المستقيم والحبل الممدود بين الله والخلائق، والروايات الدالة على ذلك كثيرة ومنها:

قال النبي (صلی الله علیه و آله): «فَاطِمَةُ بَهْجَةُ قَلْبِي، وَابْنَاهَا ثَمَرَةُ فُؤَادِي، وَبَعْلُهَا نُورُ بَصَرِي، وَالْأَئِمَّةُ مِنْ وُلْدِهَا أُمَنَاءُ رَبِّي وَحَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، مَنِ اعْتَصَمَ بِهِمْ نَجَا وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُمْ هَوَ»(2).

ولا يضرّ بذلك وفود أصلها من الغرب أو الشرق ما دامت إذ وفدت إلينا تلونت بلون الدين أو أهل البيت (علیهم السلام) قال تعالى: «صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ»(3) وذلك بعد فرض كون أصلها من دائرة المباحات وهذا شرط أساسي إذ لا يصح تحويل الحرام إلى شعيرة فإنه لا يطاع الله من حيث يعصى.

والذي يبرهن أن منشأها غير ضار مهما كان أن (العقود المستأنفة) كعقد التأمين أو السرقفلية أو غيرهما منشؤها الغرب أو غيره ولكن هل لأحد أن يشكك في صحتها وفي شمول «أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ»(4) لها استناداً إلى أن منشأها الغرب فكيف يشملها «أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ»؟ فكذلك حال الشعائر تماماً!

ص: 69


1- سورة البقرة: 275.
2- بحار الأنوار: ج23 ص110.
3- سورة البقرة: 138.
4- سورة المائدة: 1.

نعم ينبغي أن يصدق عليها عرفاً أنها شعيرة حسينية وأنها مشعرة به صلوات الله عليه، ولا يخفى أن العديد من الشعائر الحسينية لا يشك أحدأنها مُشعِرة بالحسين (علیه السلام) وإن كان معترَضاً عليها بإشكال أو آخر لكن إشعارها به صلوات الله عليه مما لا ريب فيه.

الديمقراطية أيضاً وافدة من الغرب فهل نرفضها لمجرد ذلك؟

ويمكننا إذا كنا نخاطب المثقفين من المتدينين أن ننقض على من يعترض على بعض الشعائر بزعم أنها وافدة من حضارة أخرى، بالديمقراطية؛ إذ لا ريب أنها وافدة من حضارة الغرب حديثاً ومن اليونان قديماً، فهل يصح رفضها بالمرة(1)

واعتبارها ضد الإسلام والدين أو وَصْمِها بأنها لا إسلامية ولا دينية لمجرد أن منشأها غربي أو شرقي؟ كلا.

مقاييس ثلاث لسلامة الشعائر وصدق عنوانها

بل المقاييس هي، وبكلمة جامعة:

أولاً: أن لا يكون الداخل إلينا من حضارة أخرى من دائرة المحرمات، وعليه: فإنه إذا كان من دائرة المباحات كان جائزاً في حد ذاته أو بقيود يتكيّف بها مع الشروط الإسلامية، كبعض القيود على الديمقراطية التي تتطابق بها مع الاستشارية الإسلامية.

ثانياً: أن يصدق عليه عرفاً في العُرف العام أو في العُرف الخاص ولدى ذلك العرف الخاص، عنوان الموضوع (أي موضوع الحكم) كأن يصدق عليه أنه (عقد) أو (بيع) أو (شعيرة حسينية أو إلهية).

ثالثاً: أن يصادق على ذلك أحد مراجع التقليد جامعي الشرائط، وذلك

ص: 70


1- حتى مع الضوابط.

بناء على أنه من الشأن العام وتوقّفه على الإذن، وإلا فلا حاجة لذلك أيضاً إن اطمأن المكلف بصدق الموضوع، على المبنى.

تكامل الحضارات أمر إيجابي

بل قد يقال: بأن وفود أمرٍ من حضارة أخرى مادام ضمن الأطر السابقة، فإنه في حد ذاته من الإيجابيات فإن الحضارات تتفاعل بينها وتتكامل ولا مانع من ذلك أبداً مادام ضمن الأطر الشرعية العامة، بل إننا نجد أن الإسلام تَقبّل من الأديان السابقة ومن الأمم الأخرى الكثير من الأحكام أو الموضوعات ولم يرفضها لمجرد أنها من حضارة أخرى أو من أمة ثانية حتى وإن كانت معادية فرضاً؛ والدليل على ذلك إجماع الفقهاء على أن العقود امضائيات فقد امضى الشارع كافة العقود العرفية إلا القليل منها الذي رفضه تماماً كالربا أو قيّده بقيود دل عليها الدليل الخاص.

بل هناك ما هو أعظم من ذلك: فإننا نجد أن الطرق إلى معرفة أحكام الشارع والحجج عليها - بأجمعها، إلا النادر منها - هي طرق عقلائية عرفية اعتمدها الشارع أيضاً، وذلك كحجية خبر الثقة والبينة والإقرار واليمين والظواهر وغيرها وإن قيّد بعضها بقيودٍ هي بدورها عقلائية.

بل حتى القياس الذي ردع عنه فإنه ردع عنه في خصوص أحكامه؛ نظراً لجهل العقلاء بملاكاتها، ولذلك نجد أن العقلاء إذا ألفتوا لذلك فإنهم يكونون أول من يقرّ بعدم صحة القياس في الدين والشريعة.

احتضان الإسلام للموضوعات الوافدة من أديان أو أمم أخرى

بل نقول: إن (هضم) الدين - إن صح هذا التعبير - واحتضانه للكثير جداً

ص: 71

من الموضوعات الوافدة من الحضارات الأخرى أو التي تستند إليه - ضمن الأطر العامة كما سبق - هو من أسرار خلود الإسلام وعصريته وتجدده الدائم وتطوره وصلاحيته لكل عصر ومصر، ومن تلك المواضع (الشعائر) و(العقود) وغيرها وهذا ما نشاهده بوضوح في تنوّع الشعائر حسب تنوع الأمم فإنها أضحت روابط دينية أممية ضاربة في عمق الأمم تربطهم بالحسين الشهيد ومسيرته الإصلاحية النهضوية الخالدة وتضحياته الجِسام التي يشيب لهولها الولدان.

وليس ذكر بعض مصاديق الشعائر تحديداً لها

لا يقال: إن الشارع قد حدّد مصاديق الشعيرة كقوله تعالى: «وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ»(1).

إذ يقال: ليس ذكر المصاديق تحديداً أبداً، والمطلق والمقيد أو العام والخاص المثبتان لا يقيد أحدهما الآخر، خاصة وإن الآية صريحة في عدم الحصر لمكان (من) التبعيضية فهي (من شعائر الله) وليست الشعائر منحصرة بها، أصلاً.

هذا حلّاً، وأما نقضاً فإنه لو كان ذكر المصداق يفيد الحصر به للزم عدم صحة التمسك بأي عام من العمومات إذا ورد نص آخر(2) يذكر المصاديق فمثلاً لا يصح حينئذٍ التمسك ب«أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ» لِحِلّية العقودالمستأنفة؛ بدعوى أن الشارع قد حدّد مصاديق العقود كقوله مثلاً «وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ» و«إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ»(3) وشبه ذلك وأنه بناء على ذلك لا تشمل (العقودُ) مثلَ عقد التأمين والسرقفلية لأن الشارع ذكر البيع والإجارة ونظائرها من المصاديق ولم يذكر التأمين والخلو ونظائرهما!!

ص: 72


1- سورة الحج: 36.
2- متصل أو منفصل.
3- سورة القصص: 26.

رابعاً: انهيار لَبِنَة في جدار البنيان المعرفي

اشارة

السبب الرابع: انهيار إحدى الأسس أو اللبنات المعرفية؛ وذلك لأن المعارف تتشكل عادة في شكل منظومات معرفية حتى تغدو كبنيان متكامل سواء أكانت تصبّ في بُعد واحد أم في بُعدين أم في أكثر أم كانت تشمل شتى الأبعاد، فالإسلام مثلاً منظومة معرفية متكاملة، والمسيحية والبوذية منظومتان في بعض الأبعاد، وكذلك الإلحاد والكفر وهكذا، ولا نقصد من كونها منظومة معرفية كونها على الحق أو كونها صحيحة مطابقة للواقع، بل المقصود أن المسيحية مثلاً هي مجموعة من القناعات أو المعتقدات أو القيم التي يترابط بعضها مع بعض على شكل بنيان معرفي، فكما نجد في الماديات أن للبيت بنياناً وهيكلية مترابطة بنحو ما، كذلك العلوم والمعارف.

ومن هنا ننطلق إلى نقطة تعدّ هي الأساس لهذا البحث وهي: أنه كما إن بنيان الدار قد ينهار بانهيار لَبِنةٍ من لبناته فكذلك البنيان المعرفي للأفراد أو التجمعات أو الأمم أو الحضارات.

اللَّبِنات الأساسية

وكما أن بعض اللبنات في الدار قد تكون هي الأساس للبناء كله نظراً لكونها هي البنية التحتية له، بينما لا يكون البعض الآخر كذلك، فكذلك بعض اللبنات في البناء المعرفي قد تكون جوهرية أساسية تبتني عليها المنظومة المعارفية كلها أو أقسام واسعة منها وبعضها ليس كذلك.

فأصول الدين في المنظومة المعارفية الإسلامية هي الأساس، والعدل والإمامة في المنظومة المعارفية الشيعية هي الأساس، والتثليث في المسيحية هو الأساس، وذلك على العكس من بعض تفاصيل البرزخ أو المعاد وعلى العكس

ص: 73

من بعض المسائل الشرعية الفرعية في الطهارة أو غيرها.

والشك والتشكيك في المنظومة المعرفية كثيراً ما يبدأ من استهداف لبنةٍ ومفردة معينة قد تكون هي نقطة الضعف - ثبوتاً أو إثباتاً - في المنظومة كلها وقد يستدعي انهيار الاذعان أو الاعتقاد بهذه المفردة انهيار الاعتقاد بالمنظومة كلها، وفي المقابل قد لا تكون نقطة الضعف تلك أساسية ولا جوهرية وإنما يتوهم الشخص كونها كذلك فإذا شكّك الفرد فيها فانه قد يسري تشكيكه إلى غيرها كما تسري النار في الهشيم وذلك سواءً أكان شكه مبرراً أو لا.

كعب أخيل، ونقطة الضعف المُميتة

والمعروف التمثيل لنقطة الضعف الجوهرية في البنيان المعرفي التي تؤدي زعزتها إلى زعزعة البنيان بأكمله، بكعب أخيل، وأخيل (واسمه الكامل اخيليس) حسبما تزعم الأسطورة كان ابناً للملك ميرميدون وكان بقربهم نهر يسمى (سيتكس) يزعمون أنه يمتلك بعض الخواص الخارقة أو السحريةوهي أن الوليد لو غُمس في النهر فإنه سيحصل على حَصانة في مقابل الموت فلا يمكن للسهام أو السيوف أو الحروب أن تخترق بدنه، وسيكون الفارس البطل الذي لا يقهر ويكون من الخالدين!

وعندما ولد أخيل حملته أمه فوراً إلى النهر السحري وغمسته في ماء النهر عارياً وهي ممسكة بكعب رجله فغمسته من رأسه في الماء إلى كامل بدنه لكنها غفلت عن أن المياه الخارقة لم تلامس كعبه الذي كانت ممسكة به، فكان كعبه هو نقطة الضعف الوحيدة في بدنه الجبّار.

واشترك أخيل عندما كبر في حروب كثيرة وخرج منتصراً منها جميعاً، إلا أنه في آخر معركة بين الأغريق والطرواديين أصاب سهم مسموم كعبَه فسري

ص: 74

السهم إلى بدنه ومات.

وهكذا أصبحت أسطورة كعب أخيل مثالاً رمزياً يراد به نقطة الضعف المميتة في أي بنيان ضخم محصن وقد يكون مدينة حصينة أو قد يكون منظومة علمية أو معرفية متكاملة.

وكما يتسبب تحطيم هذه النقطة في أي بنيان ماديّ أو معرفي في تحطيم البنيان بأكمله كذلك يتسبب التشكيك فيه في التشكيك في البنيان المعرفي كله.

الغرب: نسف منظومة المعارف بضرب نقطة ضعف واحدة

وحيث عرف الغرب هذه الحقيقة انطلق العديد من باحثيه ومراكز دراساته بقوة نحو تحديد نقطة الضعف في المنظومة المعرفية الإسلامية ثم إذاكتشفوها، بزعمهم، جنّدوا كافة طاقاتهم لضربها وتحطيمها وتدميرها كي تكون الطريق الأرحب للتشكيك في سائر الحلقات مهما كانت قوية مستعصية على التشكيك والرفض، ومن هنا نجدهم يركزون مثلاً على بعض تصرفات بعض الصحابة في الصدر الأول معتبرين أنها المرآة، بزعمهم، لِقَيم الإسلام وقوانينه ومبادئه وإن استهدافها وضربها يشكِّل، حسبما يرون، استهداف قِيَم الإسلام بأكملها.

ولكن، وكما سبق فإنه ليس بالضرورة أن تكون كل النقاط التي يستهدفها الآخرون، نقاط ضعف حقاً بل قد تكون متوهمة الضعف، كما أن العكس صحيح فليست كل النقاط التي يستهدفها الآخرون هي نقاط سليمة متوهمة الضعف بل قد تكون نقاط ضعف حقاً فيجب، للوصول إلى الحقيقة، التمييز بين النوعين (نقاط الضعف الواقعية ونقاط الضعف المتوهمة) بكل دقة وموضوعية.

اللامنهجية في معالجة القضايا التاريخية

ولعل من أبرز نقاط الضعف التي قد يستهدفها الآخرون في بعض باحثينا هي عدم تحريهم الدقة في النقولات التاريخية وعدم خبرويتهم في الطرق العلمية

ص: 75

المنهجية لاستكشاف ما قد يكون قد جرى في مجاهيل التاريخ، وهكذا نجدهم يترصدون نقطة ضعف بحثية واحدة تعاني من ركاكة في المعالجة أو سطحية في النظرة أو أخطاء في المنهجية، لكي يشككوا الشباب الجامعي ونظائره في مجمل ما ينقله الباحثون أو العلماء المسلمون من قضايا أو تحليلات تاريخية في شتى الأبعاد الانتربولوجية والسيسيولوجيةوغيرها.

ثم إن التحليل العلمي وكما أشرنا إليه، يقودنا إلى أن البناءات المعرفية بكافة مفرداتها قد تكون مترابطة بكافة مفرداتها ترابطاً ثبوتياً واقعياً، وقد لا تكون مترابطة بل تكون مجرد متوهمة الترابط.

قصة الصوفي الوهابي الذي صار شيعياً!

والحادثة التالية تشير إلى نموذج هام من المفردات المعرفية التاريخية - المذهبية المترابطة: ففي إحدى البلاد، التي عصفت بها حرب مدمرة أخيراً، قام الوهابيون بتأسيس سلسلة من المدارس التي تستهدف تغيير مذاهب الناس إلى الوهابية، وقد تضمنت مجموعة من المدارس تتخذ من تحفيظ القرآن الكريم وسيلةً لاصطياد الناس، وفي إحدى المناطق التي يكثر فيها أتباع الطريقة الصوفية افتتحوا مدرسة ما لبث أن انتمى إليها شاب مراهق صوفي ذكي أذهل معلميه بحافظته الجبارة فبذلوا قصارى جهدهم لتحويله إلى الوهابية فتحول إليها، والملفت أنه كان من مناهجهم تحفيظ المسمى بصحيح البخاري، وقد حفظ هذا الشاب البخاري كله بأسانيده في أربعة أشهر وذلك مما يقل بل يندر!!، وحين ترقّى في أسبابهم أَولَوه المزيد من الرعاية حتى أصبح وهابياً متطرفاً.

بعد ذلك حرّضوه على أن يؤلف كتيبات ضد الشيعة باعتبارهم أعدى أعداء الإسلام (!!)، حسبما صوّروا له، وعندما وافق بحماس اعطوه محوراً

ص: 76

وحددوا له مصادر على أن لا يتجاوزها كي يضمنوا بقاءه داخلأسوارهم ولا يطّلع على ردود علماء الشيعة وأدلتهم وحججهم وبراهينهم التي قد تقلب معتقداته رأساً على عقب.

ولقد التزم ذلك الشاب بالخطة المحددة وكتب كتيبات عديدة وقد طبعوها بأعداد كبيرة.

تدليس الشيعة في تسقيط الصحابة!

ثم حددوا له محوراً آخر وهو محور (كذب الشيعة وتدليسهم في تسقيطهم للصحابة)! وحددوا مفردة هامة أخرى طلبوا منه أن يكتب حولها كتيباً، وهي كذب الشيعة في افترائهم على كاتب الوحي (!) وأمير المؤمنين (!) معاوية حيث اتهموه بأنه كان قد أمر بسبّ علي بن ابي طالب على سبعين ألف منبر! وسلموه بعض الكتب - كتبهم - التي تدل على عمق صداقة معاوية وعلي (!) وأن حرب صفين لم تكن إلا حدثاً طارئاً وغيمة تقشعت سريعاً ثم عادت أواصر المحبة بعدها بين هذين الصحابيين كأوثق ما تكون!

وقد نقل لي هذا الشاب قصته شخصياً عندما جاء لزيارتي بالحوزة العلمية الزينبية إلى جوار حرم السيدة زينب (علیها السلام) فقال: عندما سمعت منهم ذلك وقرأته في بعض الوثائق التي سلموها لي ذهلت لوقاحة الشيعة وعمق تدليسهم، ولكي يزداد البحث ثراءً والبراهين قوةً قررت تجاهل الخطة المحددة لي بعدم تجاوز الكتب المصدرية المحددة لي، ولم أخبرهم بذلك كي لا يمنعونني، بل فكرت أنها ستكون - بعدها - مفاجأة سارة لهم إنني استعنت بمصادر إضافية لدحض معتقدات الشيعة.يقول: فذهبت إلى إحدى المكتبات وبدأت البحث والتنقيب في رحلة

ص: 77

غيرت مجرى حياتي كلها! إذ إنني عثرت في أثناء البحث على روايات عديدة من طرق أهل السنة تصرح بأن معاوية كان قد أمر بسب علي بن أبي طالب (علیه السلام) على سبعين ألف بل - وحسب رواية أخرى - على تسعين ألف منبر! يقول: وتتبعت أسانيد الروايات فوجدت أحداها صحيحاً أعلائياً بكافة أسانيد رجاله حسب تصريحات كبار رجاليي أهل العامة كابن حبّان وغيره.

وههنا حدث الزلزال المعرفي لدى هذا الوهابي المتحمس ... يقول: أُصبت بالذهول! ... فيا للهول! ... يبدو أن علماء السنة الذين كتبوا عن هذا الموضوع أو أشباهه هم الكاذبون المدلّسون للتاريخ وللحقائق، وليس الشيعة.

ثم انطلق هذا الشاب الذكي الباحث عن الحقيقة في رحلة بحثية طويلة انتهت بأن أصبح من الدعاة إلى مذهب أهل البيت (علیهم السلام) وما اكتفى بذلك حتى قرر أن يتواصل مع كبار علمائهم فمن رأى فيه إنصافاً ناقشه وأرشده وهداه، وقد تشيع على يديه بالفعل عدد من أعلامهم الذين أخفوا ذلك تقية وخوفاً من بطش الوهابية قال تعالى: «إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً»(1).

وهذا الانموذج يكشف لنا جانباً من الترابط المعرفي بين مفردات المنظومة المذهبية؛ فإن نظرية عدالة الصحابة التي اعتبروها الأساس للكثير من الأمور والمصدر المعتمد لكثير من الأحكام الشرعية، تنهار بأكملها عندما يثبت، في بحث علمي، فسق بعضهم فكيف بضلالهم؟ ثم: كيف بكفرهموانقلابهم على الأعقاب، ولو في موقف واحد؟!

أنواع البناءات المعرفية، وموقع نقاط الضعف فيها

اشارة

ولكن ذلك لا يعني أن المفردات في البناءات المعرفية كلها من هذا القبيل؛ وذلك لأن النظرة العلمية الفاحصة تقودنا إلى أن البناءات المعرفية على ثلاثة أقسام:

ص: 78


1- سورة آل عمران: 28.
1- البنيان الذي يشكِّل الحقُّ طابِعَهُ العام

القسم الأول: البناء المعرفي المتكامل الذي يشكل (الحق) و(الصدق) طابِعَهُ العام، والذي قد تتسرب إليه، عفواً أو بتخطيط ايادٍ مغرضة، مفردة خاطئة باطلة، ومن الطبيعي ههنا أن بطلان هذه المفردة بالذات أو التشكيك فيها لا يصح أن يقود إلى التشكيك في سائر المفردات؛ فإنها مفردة أجنبية عن البناء المعرفي كله.

2- البنيان الذي يكوّن الباطل طابِعهُ العام

القسم الثاني: عكس الصورة الأولى وهي البناء المعرفي الذي يشكل (الباطل) و(الكذب) طابعه العام، وقد تسلّلت إليه مفردة حقٍّ ونورٍ وهدى، بتخطيط أو من دونه، وههنا لا يصح الاستدلال بصدق هذه المفردة وصحتها على سلامة البناء المعرفي بأكمله؛ فإن الجزئي لا يكون كاسباً ولا مكتسباً.

3- البنيان المزيج الخليط

القسم الثالث: البناء المعرفي الذي يتكوّن من المزيج الخليط من الأمرين معاً وهو الذي يعج بمفردات حق وبمفردات باطل معاً، ومن الواضح أن صدق أية مفردة أو كذبها لا يقود إلى صدق أو كذب سائر المفردات.

ولعل من أهم طرق اكتشاف الحقيقة ومعالجة ظاهرة التشكيك عند دراسة أي بناء معرفي، هو التمييز بين هذه الأقسام الثلاث واكتشاف نوعية هذا البناء المعرفي وانه من أي نوع من هذه الأنواع، وذلك هو ما يستدعي بحثاً من نوع آخر وقد أفردنا له كتاباً خاصاً أسميناه (الضوابط والسبل الكلية لضمان الإصابة في الأحكام العقلية).

ص: 79

وعند معرفة هذه الحقائق يسهل إلى حد كبير رصد ظاهرة التشكيك في الكثير من حالاتها؛ فإننا عند ذلك قد نكتشف أن موجة التشكيك التي بدأت تعصف بشباب من الجامعة أو التجار أو المجتمع بأكمله، منشؤها هو نقطة ضعف معرفي معينة (وقد تكون دخيلة على المنظومة الإسلامية أو الشيعية، أو قد تكون لها تفسيرات أخرى صحيحة) إتخذها الأعداء كحربة مسمومة يراد منها ليس إثبات خطأها فقط في بحث اكاديمي مجرد، بل يراد منها ما هو أبعد من ذلك وهو تدمير المنظومة كلها مع أن كل منظومة علمية أو معرفية منهجية بشكل عام قد تتسلل إليها مفردة ضلال أو معلومة خاطئة متسربلة بسربال العلم والحقيقة.

خطورة الأجواء الضاغطة على عملية الاستنباط والتفكير

والأجواء العالمية الضاغطة أو الإقليمية والمحلية أو حتى أجواء العشيرة والحزب، تعد مؤشراً ذا شأن في رصد اتجاهات التشكيك القادمة من جهة، كما تصلح منطلقاً لتشكيك الشخص نفسه (المفكّر، المجتهد، الخبير، وعامة الناس) في مدى صحة وسلامة واستقامة اتجاه تفكير الإنسان ومدى موضوعية تفكيره ودقة المراحل التي طواها اجتهاده واستنباطه وتفكيره للوصول إلى هذه النتيجة أو إلى مجموعة من النتائج.

فمثلاً: إذا كانت الأجواء العالمية ضاغطةً باتجاه الاشتراكية كما حدث قبل عقود، أو باتجاه حِلية الغناء والموسيقى بل وضرورتهما، أو باتجاه المَلكِية الدستورية في زمان الميرزا النائيني وسائر أعلام القرن الماضي أو ولاية الفقيه في هذا القرن أو شورى الفقهاء في العقود الأخيرة أو غير ذلك، فههنا يجب على المجتهد المفكر الحذرُ كل الحذر في أثناء عملية استنباطه؛ وذلك لأن للوعي الباطن واللاشعور دوراً كبيراً وأحياناً محورياً ومفصلياً في سَوْق المفكر سَوقاً ودفع

ص: 80

الإنسان دفعاً لتبني متبنيات الجو العالمي أو الأجواء المحيطة به وإن كان ذلك كله يتمظهر بتعليل فلسفي أو بتوجيه علمي أو باستدلال منطقي!

العلامة الحلي يردم البئر، تحييداً لضغط اللاوعي

ومن هنا أمر العلامة الحلي (رحمة الله) بردم بئر منزله عندما أراد القيام بعملية الاجتهاد في فقه الروايات الدالة بظاهرها على تنجّس البئر بوقوع الميتة فيها وعلى أن طهارته تكون بنزح الدلاء، بالكميات المعينة، فيما إذا سقطتفيها الحيوانات أو النجاسات المختلفة، والسبب في طمّه البئر مع مشقة هذا العمل واستنزافه للمال والوقت أنه كان يحتمل أن ضغط الحاجة للبئر، قد يدفعه لا شعورياً لعملية (انتقاء) الأدلة التي تصب لصالح الحكم بالطهارة أو ل(التفاعل) مع بعض دلالتها أو وجوهها المحتملة أكثر مما تحتمله، لذا أغلق على نفسه هذا الباب المثير للريب بطمّ البئر رأساً.

العالم الذي تبنّى الاشتراكية، بضغط منطقة اللاوعي

وفي مثال آخر غريب وفي وسط تصاعد موجة الاشتراكية في العالم تبنى أحد الفضلاء الأعلام الاشتراكيةَ في بعدها الاقتصادي بل وكتب دراسة عن أن الإسلام اشتراكي! وربما أكثر اشتراكية من الاشتراكية!، وقد استدل على ذلك بأدلة ضعيفة لا تتناسب مع مقامه العلمي، وقد أثار ذلك استغراب حتى بعض تلامذته الذي كتب في تقريراته لأصوله أنّ رأيه - أي رأي أستاذه ، في هذه الدراسة لا ينسجم مع متبنياته الفقهية الأخرى قبل وبعد الدراسة ولا مع موازين الفقه والفقاهة.

وكان من الواضح أن ضغط الأجواء الاشتراكية العالمية وانتصاراتها المتتالية في ذلك الزمن واستقطابها للعمال على نطاق واسع وانجذاب الشباب إليها بشكل

ص: 81

كبير، قد شكّل خلفية لا شعورية ضاغطة على هذا العالم فقادت اتجاه تفكيره لاستنطاق الأدلة الشرعية بما تقود معه إلى الاشتراكية!، ولعل شدة الحرص على المحافظة على الشباب كي لا ينخرطوا في الأحزاب الاشتراكية ولا يفقدوا دينهم بالكامل كان هو العامل اللاشعوري وراء هذاالاستنباط الغريب!

خامساً: الوساوس والهمزات

اشارة

السبب الخامس: (الوسوسة) والتي تعد من أسلحة الشياطين الأساسية وذلك إلى جوار أسلحة كثيرة أخرى تستعملها الشياطين على نطاقات واسعة جداً وفي مديات لا تتصور ومنها: الهمز والنفث والنفخ والتسويل والتزيين وغيرها مما لعلنا نتكلم عن بعضها لاحقاً بإذن الله تعالى.

و(الوسوسة) هي الكلام الخفي الذي يوصله الشيطان إلى قلب الإنسان من غير سماع(1).

وبيت القصيد في مبحث الشك والتشكيك هو أن نعرف أن الوسوسة لا تقتصر على إغراء الإنسان بالمعاصي المعهودة كالكذب والغيبة والسرقة والرشوة والنظر إلى الأجنبية وأشباهها فقط، بل إن للشياطين استراتيجية أخرى قد تعد أخطر من هذه وهي استراتيجية الهيمنة بدرجة أو أخرى على الأفكار بل على اتجاهات تفكير الإنسان، وذلك لأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم من عروقه ويتسلل حتى إلى خلايا مخه وأعماق مراحل تفكيره، «ان الشيطان ليجري من ابن آدم مجري الدم في العروق»(2) وهنا قد يقذف الشيطان في ذهن الإنسان فكرة ما أو معتقداً أو منهجاً أو أسلوباً، والمفكّر

ص: 82


1- مجمع البحرين: مادة وسوسة.
2- عوالي اللئالي: ج4 ص113.

يتوهم بأن ذلك كله هو من بنات أفكاره ومن نتاجاتذكائه! ولو علم أنه من وحي الشيطان لرفضه! قال تعالى: «وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ»(1).

وذلك يعد أكبر خطر على أي مفكر أو مجتهد أو خبير أو مُحاوِر؛ إذ قد يتسلل الشياطين إلى أفكارهم ثم يوحون إليه بأنه هو صانع تلك الأفكار ومبتكرها وليس غيره ثم يسوقونه كيفما شاؤوا وهو فرح مسرور بانجازاته العلمية أو إبداعاته المعرفية!

مخلوقات فضائية تغزو الأرض وتحتل أدمغة البشر!

وقد قرأت قبل فترة كتاباً رائعاً(2) من كتب الخيال العلمي يلقي الضوء على ما ذكرناه وذلك عندما نقوم بالربط بين جوهر فكرة الكتاب وبين ما نعرفه عن قدرات الشياطين ومخططات إبليس وجنده، وملخص الكتاب بإيجاز شديد هو أن بعض المخلوقات الفضائية المتطورة بدأت تبحث عن كُرَةٍ جديدة تتخذها مسكناً لها، بعد أن واجهوا مشاكل ضخمة في الاستمرار في الحياة في كوكبهم نتيجة كوارث مختلفة حلّت بكوكبهم، فانطلقوا في مراكب فضائية يمسحون الفضاء اللامتناهي، حتى وصلوا إلى الكرة الأرضية فوجدوها هي الأوفق، حسبما اعتقدوا بشعبهم فقرروا احتلال الأرض!! وحيث كان من السهل عليهم جداً التشكل بأشكال شتى والتحول إلى أي شكل وصورة وهيئة لذلك تحولوا إلى مخلوقات غير مرئية ثم تسلل كل واحد منهم إلى جسد أحدأفراد البشر واحتلوه بالكامل وبدأوا التحكم في قرارات الناس، وذلك بعد أن درسوا الأمر ووجدوا

ص: 83


1- سورة الأنعام: 121.
2- باللغة الإنجليزية.

أن بدن الإنسان بما له من خصائص هو الأفضل والأكفأ من بدن الأسود أو الثعابين مثلاً.

ولكن المحتلّين الفضائيين فوجئوا بمقاومة عنيفة من الناس الذي وجدوا في داخلهم شيئاً يتحكم بهم وبحركاتهم وتصرفاتهم وكأنه جهاز مزروع بداخلهم يتحكم أحدهم به بالريموت كنترول؛ وكانت المقاومة عنيفة مرهقة مستمرة متواصلة، والسيطرة وإن كانت للغزاة لكن المقاومة الشرسة المتنوعة للبشر كانت تزعجهم باستمرار.

وهنا تفتق ذهن الغزاة عن أسلوب جهنمي بادروا إلى وضعه حيز التنفيذ فوراً وعندئذٍ انهارت مقاومة البشرية لهم تماماً واستسلموا كحمل وديع!! والفكرة كانت هي أن يتسلل الغزاة بعد أن يتحولوا إلى شيء كالموجة أو البخار إلى أمخاخ الناس وأن يحتلوا مناطق التفكير فيها ثم يوحون لهم بأفكارهم وقراراتهم وكأنها قراراتهم هم (أي الناس)! وهنا صار العبيد (البشر) هم أول المدافعين عن الغزاة، عملاء لهم بما للكلمة من معنى، كما فُقد حينها أي أمل في استنقاذ الأرض وتحرير الناس!

أليست الشياطين مخلوقات فضائية؟

عندما قرأت هذه القصة التي تدور في فلك قصص الخيال العلمي، انتقل ذهني إلى الشياطين! ذلك إنها تقوم بهذا الدور بالضبط! إذ تسوّل للإنسان وتزين له سوء عمله فيراه حسناً! نعم بفارق أن الإنسان لا يفقد إرادته واختياره وأنه لو أراد التملص من سلطان الشياطين لأمكنه ذلك بالاستعانة بالله ورسوله وأهل بيته(علیهم السلام) بلا شك ولذلك قال تعالى: «إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ»(1).

ص: 84


1- سورة النحل: 99 - 100.

نعم يمتلك الشيطان سلاح (الاختفاء) فلا هو مبصَر ولا هو ملموس أو مشموم أو مذوق أو حتى مسموع (بالسمع المعهود) لذلك يكون تسلله إلى داخل الإنسان خفياً وخطيراً؛ تصور أن عدوك الذي يقاتلك في معركة مصيرية هو عدو خفي لا تراه ولا تسمع صوته ولا تحسّ به بأية حاسة من الحواس الخمس، فكيف تقاتله؟! وإلا تكون المعركة محسومة مسبقاً لصالحه إذ إنه سيضرب حيث شاء ومتى شاء وبالكيفية التي يشاء!

أسلحة لمقاومة الشياطين

ولكن الله تعالى زودنا بأسلحة كثيرة تعطينا القوة والقدرة على منازلة الشياطين بأجمعها ثم الانتصار عليهم جميعاً وقد قال تعالى: «إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا»(1) ولعلنا سوف نتحدث عنها لاحقاً بإذن الله تعالى فلنكتفِ ههنا بالإشارة إلى بعضها:

الأدعية الخاصة والتسبيحات

ومن تلك الأسلحة التي يمكن أن نصرع بها الشياطين بعض الأدعية ذات التأثير البالغ جداً، ومنها هذا الدعاء الذي ورد عن النبي عيسى (علیه السلام) أنه علاج لدفع وساوس الشياطين: «سبحان الله ملء سماواته وأرضه،ومداد كلماته، وزنة عرشه، ورضا نفسه»(2) فإذا كرره المرء باستمرار عَصَمَهُ الله بلطفه من وساوس الشياطين.

إهمال وساوس الشياطين

كما أن من تلك الأسلحة - وهذا خاص بالإنسان الضعيف - سلاح

ص: 85


1- سورة النساء: 76.
2- الأمالي - للصدوق -: ص273.

الإعراض عن الوساوس الشيطانية وإهمالها أو صرف الذهن عنها، وقد ورد أن أحدهم سأل الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) عن حل معضلته ومشكلته وهي أنه يخطر بباله مراراً التشكيك في وجود الله تعالى! فماذا يفعل؟ فقال له الرسول (صلی الله علیه و آله) ما مضمونه: «أَتَاكَ الْخَبِيثُ»(1). وفي رواية أخرى: «فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلْيَذْكُرْ أَحَدُكُمُ اللَّهَ وَحْدَهُ»(2) وقال جاء رجل إلى النَّبِي (صلی الله علیه و آله) فقال: يَا رَسُولَ اللَّه هلكت. فَقَالَ لَهُ (علیه السلام): «أَتَاكَ الْخَبِيثُ فَقَالَ لَكَ مَنْ خَلَقَكَ فَقُلْتَ اللَّهُ فَقَالَ لَكَ اللَّهُ مَنْ خَلَقَهُ؟»

فَقَالَ: إِي وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَكَانَ كَذَا.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلی الله علیه و آله): «ذَاكَ وَاللَّهِ مَحْضُ الْإِيمَانِ»(3)

والمقصود: إن انزعاجه من وسوسة الشيطان هو محض الإيمان لعلمه بأنها شبهة باطلة وإن لم يعرف وجه الجواب فلسفياً.وفي رواية عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام)، قَالَ: (قُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ يَقَعُ فِي قَلْبِي أَمْرٌ عَظِيمٌ. فَقَالَ (علیه السلام): «قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ»، قَالَ جَمِيلٌ: فَكُلَّمَا وَقَعَ فِي قَلْبِي شَيْ ءٌ قُلْتُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَيَذْهَبُ عَنِّي)(4).

وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام) قَالَ: «إِنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ (صلی الله علیه و آله) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّنِي نَافَقْتُ. فَقَالَ (صلی الله علیه و آله): وَاللَّهِ مَا نَافَقْتَ وَلَوْ نَافَقْتَ مَا أَتَيْتَنِي تُعْلِمُنِي، مَا الَّذِي رَابَكَ؟ أَظُنُّ الْعَدُوَّ الْحَاضِرَ أَتَاكَ فَقَالَ لَكَ مَنْ خَلَقَكَ؟ فَقُلْتَ اللَّهُ خَلَقَنِي. فَقَالَ لَكَ: مَنْ خَلَقَ اللَّهَ؟ قَالَ: إِي وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَكَانَ كَذَا. فَقَالَ (صلی الله علیه و آله): إِنَّ الشَّيْطَانَ أَتَاكُمْ مِنْ قِبَلِ الْأَعْمَالِ فَلَمْ يَقْوَ عَلَيْكُمْ فَأَتَاكُمْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لِكَيْ

ص: 86


1- الكافي: ج2 ص425.
2- الكافي: ج2 ص425.
3- الكافي: ج2 ص425.
4- الكافي: ج2 ص425.

يَسْتَزِلَّكُمْ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلْيَذْكُرْ أَحَدُكُمُ اللَّهَ وَحْدَهُ»(1).

وذلك لأن الإنسان يكون في بعض الظروف النفسية الحرجة في حالة ضعف لا يتمكن معها من الاستدلال المنطقي أو الجواب الكامل، وإن كان، لو عاد للوضع الطبيعي، قادراً على استنباط الجواب، لكنه في ظرف نفسي ضاغط أو حالة كآبة مفرطة أو يأس شديد قد يعجز عن مواجهة الشياطين، فحينئذٍ يكون أفضل حل هو أن يوصد أبواب تفكيره في الموضوع المعين ويغلقه كاملاً، وذلك كمن وجد لصوصاً مسلحين خطرين يريدون اقتحام داره وهو لا يمتلك أسلحة للدفاع فإن أفضل طريقة للدفاع حينئذٍ هي أن يغلقالأبواب والنوافذ بإحكام ويضع خلفها المتاريس حتى تصله النجدة بإذن الله تعالى.

سادساً: التعسف بالمطالبة ببراهين أقوى مما تحتمله مادة البحث

السبب السادس: إن من أهم بواعث الشك وأسبابه: استجداء البراهين القطعية فيما لا يبني العقلاء فيه حياتهم - عادة - إلا على البراهين الظنية، أو التعسف في المطالبة ببراهين لا تتجانس مع مادة البحث، كما مضى في العنوان.

وتوضيح ذلك إن مواد العلوم على أقسام:

القسم الأول: ما تتوقف على البراهين القطعية، وذلك كالعلوم الرياضية وكذلك علم الفلسفة وعلم الكلام وعلم أصول العقائد إذ لا بدّ، حسب المشهور، من تحصيل العلم بأصول الدين بالأدلة القطعية العقلية وإن كنا نستظهر الاكتفاء بالأدلة العقلائية دون توقف على الأدلة العقلية فقط.

القسم الثاني: ما لا يبتني على الأدلة القطعية ولا على الأخبار المتواترة، وذلك كالعلوم الإنسانية كالسياسة والاجتماع والإدارة وكذلك علم التاريخ وإلا

ص: 87


1- الكافي: ج2ص426.

لانقطعت صلة عامة الشعوب بتاريخها وتراثها إذ ما أندر التواتر والأدلة القطعية في أحداث التاريخ؛ ولذلك نجد أن عامة الأمم من مختلف الملل والنحل لا تشترط في الاعتماد على التواريخ، البراهينَ الرياضية ولا الأدلة القطعية، بل يكتفون بنقل الثقات وحسب.ومن صغريات القسم الثاني الاعتماد على نقل الثقات في الفضائل والمناقب والكرامات لأهل البيت (علیهم السلام) وهي التي يمكن أن نسميها ب(قاعدة التسامح في الفضائل) وقاعدة (التسامح في التواريخ بشكل عام) وهي قاعدة قد يغفل الكثيرون عن أهميتها وابتنائها على أصالة الصحة (بالمعنى العام) في نقل الناقلين، بشروط ذكرتُها في كتاب (حجية مراسيل الثقات المعتمدة) وهي: أن تكون القضية التاريخية المنقولة أو الفضيلة المروية مما لا تتعارض مع القواعد العامة المسلّمة ولا ان تصطدم بالحقائق العقلية أو العلمية المحرزة، وان لا تتعارض مع الروايات والأخبار الأخرى، وان تحظى اعتماد ثقةٍ عليها.

وعليه: فلو نقل المؤرخ حديثاً عن شجاعة مثل أمير المؤمنين (علیه السلام) في هذه الحرب أو تلك الواقعة، فإنه حجة من غير توقف على التشدد السندي المشهور في علم الرجال الذي أسس لإحراز وثاقة إسناد الروايات في (الفقه) لا في (التاريخ) وتسريةُ ذلك من الفقه إلى التاريخ غلط؛ وذلك للحقيقة الهامة السابقة وهي: أن بناء العقلاء في حجية الروايات والأخبار يختلف في التشدد والتسامح على حسب نوعية مادة البحث ففي الهندسة والحساب وفي علوم الفيزياء والكيمياء لا يعتمدون عادة إلا على البراهين المسلّمة، أما في العلوم الإنسانية كالسياسة والاجتماع والتاريخ وعلم المستقبل وحتى في مثل علم الطب وغيرها فانهم يكتفون بالظنون العقلائية.

ص: 88

وقد يكون من الحِكَمِ الارتكازية في بناء العقلاء على ذلك هوأنها مما لا يمكن فيها تحصيل اليقين والبراهين القطعية فكان التعذر المطلق أو النوعي النسبي هو الباعث لاعتبارها حجة يبنون عليها نظام حياتهم.

ولك أن تقول: إن ذلك هو الأمر المتوسط بين الانسداد والانفتاح(!) بمعنى أن الانسداد العام في هذه الأبواب كان هو الداعي للعقلاء لكي يبنوا على حجية هذه الظنون وعليه: فإنها لا تكون؛ حيث بنوا على حجيتها، ظنوناً انسدادية بل أضحت من مصاديق الظن الخاص نظراً لقيام الدليل الخاص على حجيتها وهو بناء العقلاء فلم تكن حجة من باب الظن المطلق وإن كان الداعي لبناء العقلاء على حجيتها هو الانسداد العام فتدبر تعرف فإنه دقيق وبالتأمل حقيق.

ص: 89

ص: 90

الفصل الرابع: من مخاطر الشك وأضراره

اشارة

ص: 91

ص: 92

في مبحث اليقين والشك والمعرفة والجهل، لا بد من رحلةٍ نستجلي بها بعض أضرار التشكيك ومخاطره. ثم ومن بعد ذلك يجري البحث عن بعض الحلول الناجعة والسبل النافعة لمعاجلة هذه الظاهرة التي أخذت تستفحل يوماً بعد يوم أكثر فأكثر في كافة المجتمعات، خاصة الإسلامية منها. وقد سبق الحديث عن أسباب الشك وبواعثه فلنبحث الآن عن:

من مخاطر الشك وأضراره

إن للشك نتائج مدمرة فيما إذا تحول إلى ظاهرة عامة تتحكم في حياة الأفراد أو الأمم؛ ذلك أن الشك كالنار التي إذا لم تخضع لضوابط منهجية صارمة، فإنها سوف تحرق الأخضر واليابس، فإن الشك والتشكيك في حد ذاته تجاه أي قضية يحار فيها العقل أو يتوقف فيها الفكر، ليس مردوعاً عنه عقلاً مادام نوعاً من شك الباحث عن الحقيقة أولاً، ومادام شكاً عقلائياً في حدوده المعهودة ثانياً، لكنه إذا تحول إلى (شك مرضي) أو إلى ما يشبه (الوسواس القهري) تجاه أي شيء أو شخص أو فكرة يواجهها الإنسان فعندئذ لا بد أن ندق نواقيس الخطر.

أولاً: تحويل الحياة إلى جحيم لا يطاق

اشارة

وصفوة القول: إن الشك المرضي أو التشكيكات الكثيرة المتتاليةالمتتابعة والتي قد تكون كحلقات سلسلة لا متناهية، يحوّل حياة الأفراد إلى جحيم وينقلهم من بحبوحة الحياة السعيدة إلى دَرَك الشقاء اللامحدود؛ ولذلك يقول

ص: 93

الإمام (علیه السلام): «فَإِنَّ الشُّكُوكَ وَالظُّنُونَ لَوَاقِحُ الفِتَنِ وَمُكَدِّرَةٌ لِصَفْوِ المَنَائِحِ وَالمِنَن»(1).

ولسنا بحاجة إلى الاستدلال على ذلك بعد شهادة حياة (الشكاكين) بالجحيم الذي يعيشون فيه، ويكفي أن تتصور زوجاً يشك في كافة تصرفات زوجته فيشتمّ من أدنى حركاتها وسكناتها رائحة الخيانة الكبرى، فهل يمكن أن يستشعر في حياته معها بالسعادة؟

ويكفي أن نتصور شاباً جامعياً أو تاجراً في السوق أو طبيباً أو مهندساً أو غير ذلك، يشكك في كافة أصدقائه وجيرانه فيُخيَّل إليه أن هذا يريد أن يسرقه وذاك يريد أن يطعنه والثالث يريد أن يغشه ويخدعه والرابع يخطط لكي يقتله وهكذا وهلم جراً، فهل تراه يمكن أن يستشعر طعم السعادة حتى وإن كان يعيش في أفخم القصور؟

ومن ذلك نعلم أن الشك وإن كان في بعض درجاته نافعاً إذا شكل الحافز والباعث للبحث عن الحقيقة، لكنه إذا تجاوز الحدود فإنه يتحول إلى العدو الأول لسعادة الإنسان وأمنه النفسي والاجتماعي، بل إنه يكون حينئذٍ الحاجز الأكبر الذي يحول دون إكتشافه للحقائق لأن داء التشكيك المرضي يصبغ الصديق بصبغة العدو ويلوّن الإيجابيات بلون السلبيات ويحوّل رحيقالحب وصفوة المودة إلى سمّ العداوة والبغضاء.

الشك، الذبابة المشاكسة!

ولكي يتضح لنا أكثر موقع التشكيك في النفس الإنسانية وأضراره الخفية أو الجلية، يمكننا ان نُشبِّه الشبهة (وما يتبعها من التشكيك) بذبابة مشاكسة؛ فإن

ص: 94


1- بحار الأنوار : ج91 ص147.

الذبابة التي تطنّ وتوزّ إلى جواز أذن الإنسان لا تقتله ولا تجرحه لكنها تفقده التركيز وتوتّر أعصابه؛ فكيف إذا كانت ذبابتان تحومان حوله؟ أو ثلاثة أو عشرة أو عشرين؟ ثم تصور ماذا لو امتلأت الغرفة بمئات الذبابات المزعجة المشاكسة؟ إن الإنسان إن لم يَجِنَّ بعد ساعات أو أيام فإنه لا بد أن يصاب بانهيار عصبي وإن لم يصب به فإنه على الأقَل سيفقد قدرته على إنجاز أي شيء.

وكذلك تعمل الشبهات في مخ الإنسان، فإن الشبهة مادام لم يحلّها الإنسان، تؤرِّقه وتقضُّ مضجعه وتزعجه، لكنها - عادةً - لا تحطم حياته مادامت شبهة واحدة في مسألة غير خطيرة فإذا تكاثرت الشبهات وازدادت ثم ازدادت ثم ازدادت، فإنها قد تنتهي به إلى الانهيار العصبي بل وإلى الانتحار العلمي والفكري أو الإيماني؛ ذلك أن تحمّل الروح للشبهات، محدود كتحمّل البدن للأثقال: تصوروا مثلاً إنكم حملتم 20 كيلواً، فإن البدن يتحمل ذلك، ثم إذا بلغ الوزن 70 كيلواً مثلاً فإن البدن قد يأنّ حينئذٍ، ثم إذا ازداد وبلغ 200 أو 300 أو 500 كيلو فإن العمود الفقري حينئذٍ يتحطم تماماً، وكذلك النفس الإنسانية، فإن النفس تتحمل الشبهة الواحدة وتتعايش معها وقد تمضيمعها الحياة العلمية والعملية والإيمانية كما هي، ولكن إذا تكاثرت الشبهات من دون أن يجد الإنسان لها حلاً فإنها ستقضي بالمآل على سعادته أو على إيمانه أو على ثقته بكل شيء.

من أسرار تحريم حفظ كتب الضلال

وذلك من أسرار تحريم الشريعة لحفظ كتب الضلال أو مطالعتها لغير المختص الذي يمتلك الحصانة والذي هو بمستوى الجواب عن الشبهات، ولنمثل لكتب الضلال بكتب ومقالات المنظمات الإرهابية، كداعش مثلاً، التي تدعو

ص: 95

إلى تحطيم الحضارة وسفك دماء الأبرياء وسحق القيم، أو الكتب والمقالات التي تروّج للانحلال الخلقي أو تفلسف للفساد الأخلاقي أو التي تدعو للرشوة والاختلاس وشبه ذلك، إذ إن مطالعة كتب الضلال تقدح لدى غالب الناس الشبهة، وحيث إنهم ليسوا مختصين ليجيبوا عليها وحيث لا يوجد عادة حول كل إنسان عالم مختص بالإجابة على الشبهات، لذلك قد تبقى الشبهة عالقةً في ذهنه كذبابة مشاكسة (إن لم تكن كعقرب خطرة) ثم تزداد وتزداد هذه المشاكسات فيما لو فتح الباب للاستماع إلى مزيد من الشبهات، حتى تقضي على إيمانه حتى بالبديهيات.

والحلّ هو: أن يستمع المرء - إن اقتضى الأمر - لشبهات محدودة فقط، ثم يغلق الأبواب على أية رسالة عبر الواتساب أو التلغرام أو الإيميل إذا كانت تضخ له بالمزيد من الشبهات، وأن لا يستمع إلى أي مشكِّك مشاكس، وذلك ريثما يعالج الشبهة الأولى إما باجتهاد إن كان مجتهداً أو بالرجوع إلى مختصبالشبهات إن لم يكن مجتهداً، وإلا فإنه يغامر بنفسه ومستقبله ويجعل دنياه وآخرته كلها على كفّ عفريت، وكما قال الإمام السجاد (علیه السلام) - وكما سبق -: «فَإِنَّ الشُّكُوكَ وَالظُّنُونَ لَوَاقِحُ الفِتَنِ وَمُكَدِّرَةٌ لِصَفْوِ المَنَائِحِ وَالمِنَن»(1).

اللصّ الذي ظل يمسح آثار أصابعه حتى اعتقلته الشرطة!

ومن الطريف التمثيل للتشكيك المرضي والذي يجسد نمطاً من أنماط الوسوسة المفرطة، بما نقلته بعض المجلات من قضية ذلك اللصّ الذي تسلّل إلى دار غاب في ذلك اليوم عنها أهلها، في منتصف الليل وسرق ما أراد ثم إذ خرج وأراد إغلاق الباب خطر بباله أن بصمات أصابعه قد تكون قد انطبعت على

ص: 96


1- بحار الأنوار: ج91 ص147.

مقبض الباب وقد تقود الشرطة إليه، فرجع وبدأ بمسح الآثار المحتملة بالمنديل، ثم احتمل أنه أمسك بجوانب أخرى من الباب فانشغل بمسحها أيضاً، ثم تذكر أنه لمس أجزاء كثيرة من الجدران والنوافذ والخزائن أثناء فحصه عن المخبوء من الثروات، فدخل الدار وانشغل بمسح آثار أصابعه في شتى الأماكن التي دفعته وسوسته الشديدة وخوفه الكبير إلى مسحها بحرص وأناة؛ وهكذا ظلّ منشغلاً إلى الصباح بمسح هذا الجزء وذاك وذياك، حتى جاءت الشرطة صباحاً بعد أن أحس الجيران بحركات مريبة في المنزل المجاور، واعتقلته!

وسواء أكانت القصة حقيقية كما لا يبعد لكثرة ما نشاهده من حالاتالوسواس القهري، أم رمزية، فإن لها الدلالة البالغة على خطورة الوسوسة ومرض التشكيك إينما حلّ أو استوطن.

أنواع التشكيك ونتائجه المدمرة

وصفوة القول هي: إن الوسوسة مرض فتاك لا يخضع لمنطق أو عقل، وإن لها تجليات وأنواع:

فقد تنصبّ على التشكيك في شريك الحياة فتبدو عندئذٍ أية كلمة تصدر منها مريبةً، بل يبدو أي اتصال أو خروج من البيت أو غير ذلك باعثاً للريبة والشك، وبذلك تتحول حياة الشريكين إلى جحيم.

وقد تنصبّ على الريب في هذا الشخص أو وذاك: فلعلّ هذا يريد أن يسرقني ولعل ذاك ينوي أن يهاجمني والآخر قد يريد خداعي وهكذا؛ وبذلك تتحطم حياته الاجتماعية تماماً.

وقد تنصبّ الوسوسة على (العقائد) و(الأفكار) و(القِيَم) فلا يستقر حجر على حجر عندئذٍ: فمن قال أن الدَّوْر محال؟ ومن أين أن شريك الباري ممتنع؟

ص: 97

وأين الدليل الناهض على استحالة التسلسل؟ ومن أين أن حقوق المرأة في الإسلام كذا وكذا؟ وما الدليل القطعي على التقليد أو الخمس؟ ومن قال بأن الأخلاق فضيلة؟ بل هي كما قال الشيوعيون، أوهام برجوازية فما معنى العفاف والتواضع والكرم والعدل؟ وأليس رأي مكيافيلّي(1) هو الأسلموإن المقياس هو الأنا ثم الأنا ثم الأنا فقط؟ كما نجد الغرب، في جوهر سياسته، لا يدور إلا حول الأنانية المفرطة والاستعلاء المخجل وحول كافة أفكار مكيافيلّي؟

ثانياً: التشكيك مفتاح تدمير الحضارات

اشارة

والأمر في حياة الأمم والشعوب والحضارات والدول، كذلك بل وأخطر بكثير؛ فان مفتاح زوال الحضارات ودمار الأمم وانهيار الأديان، هو انتشار وباء التشكيك على مستوى الأمة: فإذا شكك عامة الناس في قادتهم ورؤسائهم ووزرائهم ونوابهم وحكوماتهم من جهة وإذا شك الحكام والقادة والمسؤولون في الناس والموظفين والمستشارين والأعوان والحراس والجنود والضباط من جهة أخرى، فهل يمكن لهكذا دولة أن تستمر؟ كلا ثم كلا، بل ستجد حينئذٍ السجون ممتلئة بالألوف ممن أُخذوا على التهمة والظِّنة، كما تجد حينئذٍ حبالالمشانق على

ص: 98


1- نيكولو دي برناردو دي ماكيافيلّي (بالإيطالية: Nicc»lò di Be»na»d» dei Machiavelli) (3 مايو 1469 - 21 يونيو 1527) ولد وتوفي في فلورنسا، كان مفكراً وفيلسوفاً سياسياً إيطالياً إبان عصر النهضة. أصبح مكيافيلي الشخصية الرئيسية والمؤسس للتنظير السياسي الواقعي(!)، والذي أصبحت فيما بعد عصب دراسات العلم السياسي. أشهر كتبه على الإطلاق، كتاب الأمير، والذي كان عملاً هدف مكيافيلي منه أن يكتب تعليمات للحكام، وقد نُشرَ الكتاب بعد موته، وأيد فيه فكرة أن ما هو مفيد (أقول: يقصد ما هو مفيد للحاكم المستبد!) فهو ضروري، والتي كان عبارة عن صورة مبكرة للنفعية والواقعية السياسية. ولقد فُصلت نظريات مكيافيلي في القرن العشرين. (المصدر: ويكيبيديا).

كل درب وزاوية وشارع، وتجد في المقابل التذمر في الناس يتصاعد والحقد يغلي ويغلي ويغلي حتى يصل إلى مراحل العصيان المدني فالانفجار الشعبي الكبير الذي تحول به الربيع العربي مثلاً إلى خريف ليبي أو سوري يشترك فيه عامة الناس والأطراف والفرقاء، بتحطيم المدن والبنى التحتية والمعامل والمصانع والجسور، وقتل الرجال والنساء والأطفال، وإن كان كل منهم ينبعث من منطلق معين: أيديولوجي أو سياسي أو مادي بحت أو حتى عدواني همجي صِرف!

والمحصلة: إنه إذا أراد عدو مغرض داهية تحطيم أمة فما عليه إلا أن ينشر فايروس الشك في الجامعات والأسواق والمدارس والإدارات والوزارات والأحزاب والنقابات والعشائر وغيرها، وعندئذٍ ستتهاوى أمام هذا الفايروس أكبر الحضارات حتى بدون رصاصة واحدة يطلقها العدو القابع في مكان بعيد أو المتربص على الحدود!

منهج الغرب في زرع بذور الشك

والمؤسف أن الغرب، بمراكز دراساته وبعقول دهاته وبأساليب ميكيافيلية أتقنها بل قد تفوّق فيها حتى على ميكافيلي نفسه وعلى المئات من أمثال معاوية، اكتشف هذه الحقيقة مبكراً وعرف أن تحطيم المسلمين يمرّ، قبل أنواع المواجهة العسكرية، بهذه الطريقة المبسطة: أُنشر بين المسلمين الشك في القيم والمبادئ والفضائل والأخلاق، وازرع فيهم الشك في قادتهم وزعمائهم، وأغرس فيهم الشك في قرآنهم وأحاديثهم وتاريخهم ثم أكثِر منطرح الشبهات وضاعف تموجاتها وضخّمها ألف مرة ثم ما عليك إلا أن تنتظر لتجد بأم عينك كيف أن المسلم يقتل المسلم وأن المسلم يحارب المسلم وأن المسلم يستهزأ بالمسلم وهكذا وهلم جراً.

ص: 99

والمؤسف أكثر أننا اعناهم على أنفسنا: بجهل عامة الناس إلا من خرج بالدليل وباستبداد عامة الحكام في البلاد الإسلامية!

تدمير البلاد والأمم بتشكيكها بكل شيء!

وبعبارة أخرى: المؤلم في الأمر أن الغرب لم يكتف بتحطيم بلادنا صناعياً وزراعياً وعلمياً بمختلف الطرق قديماً وحديثاً، حتى تفتقت عبقريته عن فكرة الفوضى الخلاقة فأدخل دولنا في دوّامة الخريف العربي المسمى سابقاً بالربيع العربي وما عليك إلا أن ترصد علائم حركتهم وتموجاتها في سائر بلادنا في مستقبل الأيام أيضاً (السعودية وإيران كنموذج)، أقول: المؤلم أنه لم يكتفِ بذلك فحسب، بل إنه وعبر سلسلة لا متناهية من الخطط الذكية القصيرة المدى والمتوسطة والبعيدة، استنهض كل قدراته الفكرية والعلمية والفلسفية لتحطيم المسلمين(1) (عقائدياً وفكرياً وقِيَمياً) أيضاً؛ فكان التركيز الكبير بل الكبير جداً على منهجية تشكيك المسلم في مبادئه وأحكام شريعته واحدةً واحدةً: بدءً من وجود الإله وعصمة الرسل وإعجاز القرآن ومروراً بدعوى هضم حقوق المرأة في الإسلام ووصولاً إلى تحريم الخمر والخنزير والبغاء والمثلية.وذلك أن مراكز دراساتهم وجدت إن مجرد تفوقهم السياسي والاقتصادي والعلمي والصناعي علينا، لا يكفي، وإن مجرد تحطيم بلادنا (وسائر من لا يخضع لهم بالكامل) لا يكفي إذ وجدوا إنه مع ذلك كله فإنه لا يزال الإسلام هو أسرع الأديان انتشاراً في أمريكا، رغم كل فضائع حكام المسلمين وفضائحهم واستبدادهم وطغيانهم ورغم كل جهل المسلمين ونزاعاتهم وحروبهم وتحلّلهم وجهلهم وتخلفهم، رغم ذلك رصدت مراكز دراساتهم واستطلاعاتهم الميدانية

ص: 100


1- وغيرهم أيضاً من سائر الأمم، والذي ارتدت عليه في داخله أيضاً سلسلة من ارتداداته.

واستبياناتهم أن الإسلام لا يزال يغزو الغرب بشكل متسارع، فوجدوا أن الحل يكمن في تدمير حضارة الإسلام من الداخل؛ وأية طريقة تدميرية أقوى مفعولاً من نشر وباء التشكيك في الشباب الجامعي بل وفي عامة الناس: التشكيك بكافة مبادئ الإسلام وقِيَمِه وأحكامه وتاريخه وقادته! ولذلك نجد أن سيلاً لا ينقطع من الشبهات ثم الشبهات ثم الشبهات يضرب جامعاتنا ومفكرينا ورجالنا ونساءنا ضَربَ النيازك المسرعة، وعبر مختلف الوسائل: إذ تجد الشبهات تحاصر الشباب من كل حدب وصوب فتهبط عليه مع الواتساب والتلغرام والتويتر والبريد الإلكتروني، وتعيش معه في أروقة الجامعة وعبر العديد من الأساتذة والحركات المنظمة الممولة بشكل غريب والمتخصصة في إثارة الشبهات، بل تجد الشبهات تلاحقه حيثما حلّ وارتحل حتى وإن كان في المسجد أو الحسينية وعلى لسان بعض رجال الدين أيضاً!

أصالة الصحة، العامل الأكبر لحفظ الأمن الوطني

ومن ذلك كله نستكشف أن (أصالة الصحة في عمل المسلم) بل على رأي السيد الوالد (رحمة الله)، أصالة الصحة في عمل الغير مطلقاً، هي من أعظم مفاخر الإسلام بل البشرية فإنها السر الكبير وراء تماسك عُرى المجتمع وتلاحم أبناء الوطن بل هي السبب الرئيس للأمن القومي والوطني، وأن أصالة التشكيك في أعمال الغير وأصالة الفساد هي أكبر ما يحطم الحضارات والأمم.

ولذلك نجد الإسلام أسّس سلسلة من الأصول والقواعد التي تبتني على أصالة الصحة بالمعنى الأعم، وهذه بعض النماذج:

* (قاعدة أمارية اليد) والتي تقع على الضد تماماً من القاعدة الشيوعية المعروفة (من أين لك هذا)؟ والتي تفيد التشكيك في الآخرين وفيما بأيديهم كافة

ص: 101

فمن أين لك هذا الدار؟ ومن أين لك هذه الأرض؟ ومن أين لك هذه الأموال؟ ومن أين لك هذه السيارة؟ وحتى من أين لك هذا الثوب والقلم والورق؟

وهل يعقل أن يعيش مجتمع يحاكمُ الجميعَ فيه الجميعُ على أساس (من أين لك هذا)؟ وهل تبقى ثقة بين الناس في أي شيء؟ وهل يستقر حجر على حجر؟

على العكس من قاعدة أن اليد أمارة الملك والتي تبتني في حكمتها على حسن الظن بالآخرين وعدم التشكيك في ملكياتهم مع أنه من الممكن أن يكون زيد قد سرق هذا المال أو كان رشوة أو أكلاً للمال بالباطل أو كانمن مال غير مخمس أو غير ذلك.

* (قاعدة غَيبة المسلم) فإنها تعد أمارة على الطهارة، بشروط خمسة، مع أنه من المحتمل قوياً أن لا يكون قد طهّر بدنه أو ثيابه فترة غيابه، إلا أن الإسلام أراد للمسلم أن يحمل أخاه(1) على أحسن المحامل فهو طاهر وإن كان نجساً، إن غاب ورجع.

وكل ما بيده فهو ملكه مادام بيده يتعامل معه تعامل المُلّاك، وهو الذي لا تصح إساءة الظن به وهي القاعدة الآتية:

* (قاعدة حسن الظن بالناس) وهي قاعدة أخلاقية استراتيجية مفتاحية، بل ذكرتُ في كتاب (سوء الظن في المجتمعات القرآنية) إن عدداً من الأعلام كالشهيد الثاني (رحمة الله) ارتأوا حرمة سوء الظن بالمؤمنين وارتأى السيد الوالد (رحمة الله) حرمة ذلك في الجملة.

* (قاعدة العدالة على حسب حسن الظاهر) وهي تنبع أيضاً من أصالة الثقة بالناس وأصالة حسن الظن وتوجب التيسير على الناس في شأنٍ من أهم شؤونهم

ص: 102


1- فعلَه وحالَه.

وهو الصلاة جماعةً، فإن بعض الناس يتشدد في إمام الجماعة وفي استخبار أنبائه حتى يصل إلى مرحلة الاطمئنان بأنه عادل، وقد يسبِّب ذلك حرمانه من الصلاة جماعةً في كثير من الأحيان، والأهم أنه يوجب تمزق المجتمع بنفس هذا القدر، مع أن الإسلام اعتبر العدالة سهلة في إمام الجماعة إذ يكفي فيها حسن الظاهر، ويكفي لإحراز ذلك، حسب رأي السيد الوالد (رحمة الله)، أنيجد جمعاً من المؤمنين ممن ظهر صلاحهم يصلون خلفه أو أن يرى ذكره بخير في محلته وأشباه ذلك(1).

ثالثاً: انهيار البنيان المعرفي

بين البنيان المادي، والبنيان المعرفي

وقال الله العظيم في كتابه الكريم: «لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ»(2).

ص: 103


1- مما ذُكر في صحيحة بن يعفور قال: قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام: بم يعرف عدالة الرجل بين المسلمين حتّى تقبل شهادته لهم وعليهم؟ فقال علیه السلام: «أن تعرفوه بالستر والعفاف وكفّ البطن والفرج واليد واللسان، ويعرف باجتناب الكبائر التي أوعد اللّه عليها النار من شرب الخمر، والزنا، والربا، وعقوق الوالدين، والفرار من الزحف، وغير ذلك. والدلالة على ذلك كلّه أن يكون ساتراً لجميع عيوبه، حتّى يحرم على المسلمين ما وراء ذلك من عثراته وعيوبه وتفتيش ما وراء ذلك، ويجب عليهم تزكيته وإظهار عدالته في الناس، ويكون منه التعاهد للصلوات الخمس إذا واظب عليهنّ وحفظ مواقيتهنّ بحضور جماعة المسلمين وأن لا يتخلّف عن جماعتهم في مصلاهم إلّا من علّة. فإذا كان كذلك لازماً لمصلاه عند حضور الصلوات الخمس، فإذا سئل عنه في قبيلته ومحلّته قالوا: ما رأينا منه إلّا خيرا مواظباً على الصّلوات متعاهداً لأوقاتها في مصلاه، فإنّ ذلك يجيز شهادته وعدالته بين المسلمين، وذلك أنّ الصّلاة ستر وكفارة للذنوب، وليس يمكن الشهادة على الرجل بأنّه يصلّي إذا كان لا يحضر مصلّاه ويتعاهد المسلمين...». (وسائل الشيعة: ج18 ص288).
2- سورة التوبة: 110.

إن (البنيان) تارة يكون بنياناً مادياً ظاهرياً ملموساً، وأخرى يكون بنياناً علمياً - ثقافياً، وثالثة يكون بناء فكرياً معرفياً تكون قاعدته العقل، ورابعة يكون بنياناً قِيَمِياً - أخلاقياً تكون منطقته في القلب.

وبعض هذه البناءات مترتبة متسلسلة يسبق البعض الآخر رتبةً، فمثلاً البناء المعرفي الفكري يسبق رتبةً البناء الثقافي - العلمي.

والبنيان المادي إنما تكون قيمته بالجوهر الذي يحتضنه بداخله وبالبناء الفكري - القِيَمي - المعرفي الواقعي الذي يكمن خلفه؛ ولذلك كان الاستثمار - دوماً - في الرأسمال البشري هو الأساس الذي يجب أن تبتني عليه شتى أنواع الاستثمار سواءً أكانت في الصناعة والزراعة والتجارة أم كانت حتى في العلم والثقافة إذ يسبقهما البناء المعرفي - الفكري - القِيَمي.

مخاطر وباء التشكيك على نسيج الأمم وبناءاتها

ومن هنا فإن (وباء التشكيك) يعدّ الخطر الأعظم على أية حضارة أو مدنية أو ازدهار وتطور عمراني أو صناعي أو زراعي أو علمي أو شبه ذلك، ذلك أن فايروس التشكيك يدمر البنيان المعرفي - الفكري للأفراد والجماعات والشعوب والأمم، كما أنه ينسف البنيان القِيَمي - الأخلاقي بل والعاطفي حيثما سرى وتسلل أو امتدّ واتسع.

الأسرة بناء بشري يعتمد على البنيان المعرفي - القِيَمي

فالأسرة مثلاً بناء بشري، لكن هذا البناء لا يمكن له أن يستقر ويثمر ويزدهر إلا ببناء معرفي - فكري - أخلاقي راسخ يستند إلى اعتبار الأسرة هي اللبنة الأساسية الأولى في بناء المجتمعات وأنها إذا انهارت انهار المجتمع بالتدريج، وإلى الإذعان بأنها يجب أن تكون لها الأولوية في بؤرة اهتمام الوالدين والمعلمين

ص: 104

والمجتمع أيضاً، فإذا سرى التشكيك إلى ذلك وتحول المال - مثلاً - إلى المحور الأساس في الحياة للوالدين أو لأحدهما وتراجعت قيمة الأسرة في البناء المعرفي - الفكري - القِيَمي لأحدهما أو لهما معاً وتحولت إلى أولوية ثانوية بل إلى شيء هامشي أو فوق ذلك: إلى عبء كبير، فعندئذٍ سوف نرى - كما رأينا - انهيار الملايين من العوائل في أنحاء الأرض خلال بضع سنين أو أقل.

وكذلك النقابات والعشائر والأحزاب والدول

وكذلك تجري مسارات الأمور في سائر البناءات البشرية: في النقابات والعشائر والأحزاب والدول؛ فإن بذرة الشك والتشكيك من طبيعتها أنها تنمو وتتكاثر بشكل مفجع كما أنها مُعدِية بشكل غريب؛ ذلك أن الحكومة بناء ظاهري كما أن مؤسسات المجتمع المدني هي الأخرى بناءات بشرية ظاهرية، فإذا تسلحت ببنيان معرفي - فكري - قِيَمي وأخلاقي يتجسد في النزاهة والأمانة والثقة المتبادلة والجدّ والمثابرة والتعاون والأخلاق والإخلاص والإيمان والأخوة والشورية والتعددية، فإنها عندئذٍ تزداد رسوخاً وعمقاً وتجذراًوعطاءً أيضاً.

ولكن ماذا لو سرى الشك إلى تلك القِيَم والأفكار والمبادئ واعتبارها - مثلاً - أخلاقياً برجوازية؟ ماذا يحدث إذا تحولت الحكومة أو الجماعة - جوهريا ً- لتقوم على بنيان معرفي مضاد مبني على التشكيك في القيم الأخلاقية وعلى إعطاء مركز الصدارة للشهوات وللذات والأنا وللرياسة مهما كان الثمن ولو كانت عبر سحق حقوقهم؟

وكذلك الأفراد في أهدافهم المستقبلية

وكذلك الحال أيضاً في الأفراد وأهدافهم المستقبلية فإنك تجد الشاب الجامعي إذا أضحى فريسة التشكيك في قيمة أهدافه التي وضعها لنفسه (مثل أن

ص: 105

يكون طبيباً أو مهندساً أو محامياً أو أستاذاً أو شبه ذلك)، فإنه لا يمكنه أن يتفاعل مع هذا الهدف أبداً بل سيؤثر ذلك بالسلب على درجة اهتمامه بالدراسة والمذاكرة والحضور في الجامعة وغير ذلك، وقد يؤول أمره إلى أن يفضل عليها النوم أو جلسات البطالين أو حتى قراءة القصص البوليسية والأفلام الهابطة لا سمح الله، ومن الطبيعي أن يرسب بعد ذلك، في الامتحان أو يحصل على درجات نازلة رديئة، وذلك عكس من كانت أهدافه واضحة لديه مشرقة متلألئة في جنبات قلبه وعقله فإنه - طبيعياً - سيكون الأكثر جِداً واجتهاداً في سلّم حركته في الدراسة وفي سائر مراحل الحياة.

بنيان المنافقين، حسب القرآن الكريم

وفي الآية الشريفة نجد أن (البنيان) الذي بناه أولئك المنافقون وهو بنيانمادي يتمثل في المسجد الذي بنوه، لم يكن يحمل في ثناياه أية قِيمة معرفية أو أخلاقية يستحق أن يمتدحها الله تعالى بل لقد أسمي بمسجد الضرار اشتقاقاً من الآية الكريمة: «وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ»(1) وذلك لأن هذا البناء الظاهري كان المفترض فيه أن يجسد في عمقه ومضامينه ومبادئ تأسيسه وغاياته وأهدافه، البنيان المعرفي - الفكري - الأخلاقي والقِيم العليا الإنسانية الإسلامية، ويكون المرآة لها والجسر الموصلة إليها، لكنه كان على العكس من ذلك بناءً أُسِّس على الريب والشك في القِيم والمُثُل والدين والرسالة المحمدية (صلی الله علیه و آله)، فهم لم يبنوه انطلاقاً من وحي المعرفة والقيم الأخلاقية العليا أو العلم والاطمئنان بها، بل بنوه على أعمدة الشك والريبة في الرسالة المحمدية

ص: 106


1- سورة التوبة: 107.

ومبادئها وقِيمها وتلك هي التي جرّتهم إلى أن يتحولوا - بالتدريج - إلى أدوات بأيدي الأعداء تسعى لكي تقود انقلاباً عسكرياً بالتعاون مع جيوش الروم، ضد رسول الله (صلی الله علیه و آله).

قصة أبي عامر الراهب ومسجد ضرار

وموجز القضية: إن (أبا عامر الراهب) والذي سماه الرسول (صلی الله علیه و آله) بأبي عامر الفاسق (وهو أبو "حنظلة" غسيل الملائكة) كان في الجاهلية قد ترهب ولبس المسوح وانشغل بالعبادة حيث رأى أن لذلك سوقاً رائجة في نفوسالعرب البسطاء، فأضحت لديه مكانة مرموقة لديهم، ولما ظهر رسول الله (صلی الله علیه و آله) وشاع صيته وظهر أمره وقَدِم المدينة واستهوى القلوب والعقول، حسده أبو عامر فكان يؤلب عليه الناس واستمر كذلك حتى فتح مكة فهرب من مكة للطائف ثم لما ظهر أمر الرسول (صلی الله علیه و آله) في الطائف وأسلم أهلها هرب إلى الشام، ومن هناك تواصل مع منافقي المدينة ليبنوا مسجداً يتخذونه ستاراً لنشاطاتهم السرية ونقطة تجمع لرؤوس النفاق ومركزاً للتواصل مع الجواسيس حيث يكون حضورهم إلى هذا المكان طبيعياً تماماً باعتباره مسجداً تقام فيه الصلوات الخمس، وكما قالوا لرسول الله (صلی الله علیه و آله): (يا رسول الله أتأذن لنا أن نبني مسجداً في بني سالم، للعليل والليلة المطيرة والشيخ الفاني...»؟(1)

أي ليصلوا فيه ولا يأتوا إلى مسجد الرسول (صلی الله علیه و آله).

ثم قرر أبو عامر إغراء قيصر الروم بالإغارة على المدينة والقضاء على الرسول (صلی الله علیه و آله) والدولة الإسلامية الفتية، وأن يكون له (لأبي عامر) دور إسناد جيش الروم بالأخبار من داخل المدينة، (وكان قد أرسل إلى المنافقين أن استعدوا وابنوا مسجداً فإني أذهب إلى قيصر وآتي من عنده بجنود وأخرج محمداً من

ص: 107


1- تفسير القمي: ج1 ص305.

المدينة، فكان هؤلاء المنافقون يتوقعون أن يجيئهم أبو عامر فمات قبل أن يبلغ ملك الروم)(1).

والملفت في الأمر أن هؤلاء المنافقين لم يكونوا قاطعين ولا مطمئنينبسلامة مقاصدهم وصحة موقفهم السلبي من رسول الله (صلی الله علیه و آله) بل كانوا مجرد شاكين ومرتابين فقط لكنهم بنوا بنيانهم الظاهري (المسجد ثم المؤامرات) على هذا البنيان القلبي الهش أي أنهم لم يبنوه على بنيان معرفي - علمي بل بنوه على مجرد الريبة والشك؛ ولذا قال تعالى: «أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ»(2).

بل قد نستظهر من مجموعة من الآيات الشريفة ومن استقراء تاريخ أعداء الأنبياء والأئمة (علیهم السلام) أنهم لم يبنوا عِدائهم للأنبياء والأئمة (علیهم السلام) على بناء معرفي - علمي ولو كان بناءً متوهماً، أي أنهم لم يبنوه على قطعٍ أو اطمئنان بالعدم بل بنوه على مجرد الشك والريب؛ ولذلك كانوا الأسرع انهزاماً في سوح القتال والأضعف في المواجهة مع المؤمنين المتسلحين بسلاح العلم والمعرفة والرؤية الواضحة، ولعل ذلك من وجوه قوله تعالى: «وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا...»(3) ثم لما ضعفت بعدها الرؤية وضعف البناء المعرفي لديهم تضاءلت قدرتهم إلى الخُمس فقط فقال تعالى: «فَإِن

يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ...»(4).

ص: 108


1- مجمع البيان: ج5 ص110.
2- سورة التوبة: 109 - 110.
3- سورة الأنفال: 65.
4- سورة الأنفال: 66.

البنيان النفسي لطالب العلم

ولنمثل بمثال من التاريخ المعاصر: فإن من المعروف أن طالب العلم عندما يأتي للدراسة في الحوزة العلمية في النجف الأشرف أو كربلاء المقدسة أو غيرهما، فإنه يواجه صعوبات جمّة: من الغربة إلى ضيق ذات اليد وإلى غير ذلك، فإذا كان الطالب متسلحاً برؤيةٍ للهدف واضحةٍ، وبقناعةٍ في العلم راسخةٍ، وببناء معرفي - نفسي عميق ومتجذر فإنه يكون عندئذ ماشياً على درب سيد الأوصياء (علیهم السلام) الذي وصفوه ب: «رَحِمَكَ اللَّهُ يَا أَبَا الْحَسَنِ كُنْتَ أَوَّلَ الْقَوْمِ إِسْلَاماً وَأَخْلَصَهُمْ إِيمَاناً وَأَشَدَّهُمْ يَقِيناً وَأَخْوَفَهُمْ لِلَّهِ وَأَعْظَمَهُمْ عَنَاءً وَأَحْوَطَهُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلی الله علیه و آله) وَآمَنَهُمْ عَلَى أَصْحَابِهِ وَأَفْضَلَهُمْ مَنَاقِبَ وَأَكْرَمَهُمْ سَوَابِقَ وَأَرْفَعَهُمْ دَرَجَة»(1).

و: «قَوِيتَ حِينَ ضَعُفَ أَصْحَابُهُ وَبَرَزْتَ حِينَ اسْتَكَانُوا وَنَهَضْتَ حِينَ وَهَنُوا وَلَزِمْتَ مِنْهَاجَ رَسُولِ اللَّهِ (صلی الله علیه و آله) إِذْ هَمَّ أَصْحَابُهُ وَكُنْتَ خَلِيفَتَهُ حَقّاً لَمْ تُنَازَعْ وَلَمْ تَضْرَعْ بِرَغْمِ الْمُنَافِقِينَ وَغَيْظِ الْكَافِرِينَ وَكُرْهِ الْحَاسِدِينَ وَصِغَرِ الْفَاسِقِينَ فَقُمْتَ بِالْأَمْرِ حِينَ فَشِلُوا وَنَطَقْتَ حِينَ تَتَعْتَعُوا وَمَضَيْتَ بِنُورِ اللَّهِ إِذْ وَقَفُوا فَاتَّبَعُوكَ فَهُدُوا وَكُنْتَ أَخْفَضَهُمْ صَوْتاً وَأَعْلَاهُمْ قُنُوتاً وَأَقَلَّهُمْ كَلَاماً وَأَصْوَبَهُمْ نُطْقاً وَأَكْبَرَهُمْ رَأْياً وَأَشْجَعَهُمْ قَلْباً وَأَشَدَّهُمْ يَقِيناً وَأَحْسَنَهُمْ عَمَلًا وَأَعْرَفَهُمْ بِالْأُمُورِ كُنْتَ وَاللَّهِ يَعْسُوباً لِلدِّينِ أَوَّلًا وَآخِراً الْأَوَّلَ حِينَ تَفَرَّقَ النَّاسُ وَالْآخِرَ حِينَ فَشِلُوا كُنْتَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَباً رَحِيماً إِذْ صَارُوا عَلَيْكَ عِيَالًا فَحَمَلْتَ أَثْقَالَ مَا عَنْهُ ضَعُفُوا وَحَفِظْتَ مَا أَضَاعُوا وَرَعَيْتَ مَا أَهْمَلُواوَشَمَّرْتَ إِذَا اجْتَمَعُوا وَعَلَوْتَ إِذْ هَلِعُوا وَصَبَرْتَ إِذْ أَسْرَعُوا وَأَدْرَكْتَ أَوْتَارَ مَا طَلَبُوا وَنَالُوا بِكَ مَا لَمْ يَحْتَسِبُوا.

ص: 109


1- الكافي: ج1 ص454.

كُنْتَ عَلَى الْكَافِرِينَ عَذَاباً صَبّاً وَنَهْباً وَلِلْمُؤْمِنِينَ عَمَداً وَحِصْناً فَطِرْتَ وَاللَّهِ بِنَعْمَائِهَا وَفُزْتَ بِحِبَائِهَا وَأَحْرَزْتَ سَوَابِغَهَا وَذَهَبْتَ بِفَضَائِلِهَا لَمْ تُفْلَلْ حُجَّتُكَ وَلَمْ يَزِغْ قَلْبُكَ وَلَمْ تَضْعُفْ بَصِيرَتُكَ وَلَمْ تَجْبُنْ نَفْسُكَ وَلَمْ تَخِرَّ كُنْتَ كَالْجَبَلِ لَا تُحَرِّكُهُ الْعَوَاصِفُ»(1).

عكس ما لو كان في قرارة نفسه شاكاً أو متردداً أو ضعيف الأيمان بضرورة الدراسة أو بمدى جدوائيتها فانه يكون من الطبيعي أن يهرب عند اصطدامه بأول عقبة أو لدى أول أو ثاني أو ثالث مواجهة مع بعض مشاق الحياة في الحوزة العلمية!

ونجد على العكس من ذلك علمائنا الأبرار الذين كانوا الأنموذج الواضح للصمود والشموخ والصبر في مواجهة العقبات نظراً لتسلحهم ببناء فكري - روحي - معرفي عميق ومتجذّر.

معاناة السيد المرعشي (رحمة الله) في شراء الكتب النادرة!

السيد المرعشي النجفي (رحمة الله) أحد المراجع المعروفين، كان يسكن في النجف الأشرف قبل حوالي مائة عام وكان منشغلاً بالدراسة بشكل جادٍ، وذات يوم وبينما هو مارُّ في طريقه في إحدى المناطق، ولعلها كانت سوق الحويش، وجد رجلاً يشتري كتاباً خطياً نادراً بسعر كبير، وقد أثار ذلك استغرابهإذ إن ذلك الرجل لم يكن من المهتمّين بمضامين مثل هذا الكتاب، وعندما حقّق عن الأمر تبيّن أن الرجل مهمتّه هي شراء الكتب الخطية النادرة ومن ثَمَّ بيعها إلى رجل بالقنصلية البريطانية؛ وقد هيج ذلك غيرة السيد المرعشي النجفي (رحمة الله) حيث وجد الاستعمار البريطاني يسعى للاستحواذ حتى على كنوزنا المعرفية (ولذا نجد إن كثيراً من أهم المخطوطات

ص: 110


1- الكافي: ج1 ص454.

الإسلامية موجودة الآن في مكتبات الغرب نظير الكثير من كتب ورسائل جابر بن حيان الكوفي التي أملاها عليه الإمام الصادق (علیه السلام)).

وحيث كان السيد (قدس سره) ينطلق من اليقين بضرورة أن يتصدى كل مؤمن، بكل ما يستطيعه، للمحافظة على ثروات البلاد التي ينهبها الآخرون تارة بالقوة الصلبة الخشنة وأخرى بالقوة الناعمة، لذلك فكر أن يستنقذ قدر جهده سائر الكتب النادرة، وحيث لم يكن يمتلك شيئاً من المال إذ كان يعيش عيشة الفقراء، لذلك قرّر أن يعمل عصراً كحمّال، وما أشدها من تضحية وما أعظمه من تواضع، وأن يتقّبل أيضاً الصلاة والصوم الاستيجاريين ليشتري بالأجرة التي يحصل عليها تلك الكتب النفيسة.

وهكذا كان يدرس بجدّ منذ الصباح الباكر، وهو صائم، ويعمل بجد عصراً ويقضي الصلوات ليلاً. مما أثار استغراب بعض الطلبة في مدى قدرته على التحمل في الاضطلاع بهذه الثلاثة جميعاً! وقد غفلوا عن أنه ينطلق من إحساس عميق بالمسؤولية ومن بناء معرفي عميق ومن يقين راسخ، وأنه لو كان شاكاً في ضرورة أي من تلك الأعمال لما أمكنه أن يقوم بها جميعاً حتىلأسبوع واحد!

وقد وُجد على الغلاف الداخلي لبعض الكتب التي أشتراها مكتوباً بخط يده إنه اشترى هذا الكتاب بثمن سنتين من الصلاة والصوم عن فلان بن فلان! وذلك يعني أنه صام شهرين وصلى سنتين ليجمع مبلغاً يستنقذ به كتاباً واحداً فقط!

وصفوة القول: إن رجل الدين أو الطبيب أو المهندس أو التاجر والمزارع وغيرهم، لا يمكنهم أبداً التضحية بأي شيء هام إذا لم يكونوا على يقينٍ من الهدف ووضوحٍ من الرؤية ولا يمكن لأية أُمّة أو جماعة أن تحقق إنجازات عظيمة وهي تعيش في دوامة من الشك والتشكيك.

ص: 111

ص: 112

الفصل الخامس: دعائم الشك في حكم الإمام علی علیه السلام

اشارة

ص: 113

ص: 114

دعائم الشك في حِكَم الإمام علي (علیه السلام)

إننا إذا رغبنا في معرفة حقيقة الشك وما الذي يقف وراء ظاهره التشكيك، وأردنا استكشاف الحلول المفتاحية له، فلا بد لنا من أن نبحث عن دعائمه وأسسه التي يستند إليها فإذا اكتشفناها عرفنا عمق خطورتها كما عرفنا مفتاح حلها وبلسم جراحها وسبل مواجهتها.

ولقد أشار أمير المؤمنين (علیه السلام) في كلمة مفتاحية مذهلة في الروعة والدقة والجمال والحكمة إلى دعائم الشك فقال: «الشَّكُّ عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ عَلَى التَّمَارِي وَالْهَوْلِ وَالتَّرَدُّدِ وَالِاسْتِسْلَامِ:

فَمَنْ جَعَلَ الْمِرَاءَ دَيْدَناً لَمْ يُصْبِحْ لَيْلُهُ،

وَمَنْ هَالَهُ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ،

وَمَنْ تَرَدَّدَ فِي الرَّيْبِ وَطِئَتْهُ سَنَابِكُ الشَّيَاطِينِ،

وَمَنِ اسْتَسْلَمَ لِهَلَكَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ هَلَكَ فِيهِمَا»(1).

أوّل دعائم الشك: (التماري)

اشارة

وهذه الكلمة غريبة في روعتها نادرة في عمقها وشدة اختزالها؛ إذ إن الإمام (علیه السلام) أشار إلى أهم أسبابِ معضلةٍ حيّرت البشرية على مر التاريخ، بعبارة تتكون من أربع كلمات فقط، وسنتوقف في البداية للبحث عن المفردة الأولى فنقول:

ص: 115


1- نهج البلاغة: باب حكم أمير المؤمنين علیه السلام، الحكمة:31.

إن (التماري) يشير إلى أمر من عالم الإثبات عكس لواحقه التي تشير إلى أمر من عالم الثبوت، و(التماري) تفاعل مأخوذ من المراء والمراد به الجدال بالباطل بل مطلق الجدال وإن كان بالحق ولذا ورد: «وَأَوْرَعُ النَّاسِ مَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقّاً»(1) كما قال تعالى: «فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِرًا»(2) أي لا تجادل في أمر أصحاب الكهف إلا مراء ظاهراً أي بحجة ظاهرة.

وورد في الحديث: «الْمِرَاءُ فِي كِتَابِ اللَّهِ كُفْرٌ»(3) وسمي كفراً (لأنه من عمل الكفار، أو لأنه يفضي بصاحبه إلى الكفر إذا عاند صاحبه الذي يماريه على الحق، لأنه لا بد أن يكون أحد الرجلين محقا والآخر مبطلا، ومن جعل كتاب الله سناد باطله فقد كفر، مع احتمال أن يراد بالمراء الشك، ومن المعلوم أن الشك فيه كفر)(4).

كما ورد في الحديث: «مِنْ تَعَلَّمَ عِلْماً لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ وَيُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ أَوْ لِيُقْبِلَ بِوُجُوهِ النَّاسِ إِلَيْهِ فَهُوَ فِي النَّارِ»(5).

المماراة تؤدي إلى العداوة والبغضاء

ولعل من الأسباب في مبغوضية المماراة أنها تؤدي عادة إلى البغضاء والحقد والعداوة، كما أنها تسوق الإنسان غالباً أو في كثير من الأحيان، إلى استخدام الحجج والأدلة لتكريس دعائم الباطل أو إلى استخدامها استخداماً باطلاً في حد ذاته، ويتضح ذلك أكثر بمراجعة ما ذكره علماء المنطق:

(إن الجدل لغةً هو اللدد واللجاج في الخصومة بالكلام مقارناً غالباً

ص: 116


1- من لا يحضره الفقيه: ج4 ص394.
2- سورة الكهف: 22.
3- وسائل الشيعة: ج27 ص203.
4- مجمع البحرين: ج1 ص390.
5- من لا يحضره الفقيه: ج4 ص362.

لاستعمال الحيلة الخارجة أحياناً عن العدل والانصاف. ولذا نهت الشريعة الإسلامية عن المجادلة لا سيما في الحج والاعتكاف. وقد نقل مناطقة العرب هذه الكلمة واستعملوها في الصناعة التي نحن بصددها والتي تسمي باليونانية "طوبيقا")(1).

(والبرهان لا يعتمد الا على المقدمات التي هي حقٌ من جهةِ ما هو حقٌ لتنتج الحق، أما (الجدل) فإنما يعتمد على المقدمات المسلمة من جهة ما هي مسلمة ولا يشترط فيها أن تكون حقاً وإن كانت حقاً واقعاً إذ لا يطلب المجادل الحق بما هو حق كما قلنا بل إنما يطلب إفحام الخصم وإلزامه بالمقدمات المسلمة سواء أكانت مسلمة عند الجمهور وهي المشهورات العامة والذائعات أم مسلمة عند طائفة خاصة يعترف بها الخصم أم مسلمة عند شخص الخصم خاصة)(2).

(ويظهر بوضوح من جميع ما تقدم صحة تعريف فن الجدل بما يلي:انه صناعة علمية يقتدر معها حسب الإمكان على اقامة الحجة من المقدمات المسلمة على أي مطلوب يراد وعلى محافظة أي وضع يتفق على وجه لا تتوجه عليه مناقضة)(3).

كيف تثمر المماراة التشكيك المَرَضِي في كل شيء؟

ويتضح لنا عمق كلام الإمام (علیه السلام) أكثر فأكثر إذ يؤسس لقاعدة ان الشك في الحقائق من دعائمه التماري؛ عندما نقوم باستطلاع ميداني وبدراسة لسيكولوجية الأشخاص الذين تعوّدوا المماراة إذ سنجد: إن من تعوّد على المجادلة والمخاصمة حتى أصبحت له دأباً وديدناً فإن نفسه تتفاعل حينئذٍ مع

ص: 117


1- المنطق: ص382.
2- المنطق: ص385.
3- المنطق: ص386.

منهجه بشدة وتتأثر به بعمق: فالذي يجادل في كل شيء يؤول أمره إلى أن يشكك في كل شيء، والذي يبرع في استعمال الحجج على المدّعى ونقيضه وينهج هذا المسلك كخط عام في الحياة فإنه لا يلبث أن يبدأ في داخله بالتشكيك حقيقةً في كل الحقائق، والذي يجعل مسامعه عرضة لسماع كل شبهة وجدال ومحاجّة أو يتابع قراءة مختلف السجالات الكلامية وأنواع الجدال في الكلام والعقائد والسياسة والاقتصاد وغير ذلك، فإنه لا يلبث إلّا ويبدأ بالتشكيك حتى في البديهيات.

والسبب في ذلك واضح؛ فإن النفس إذا اتقنت فنّ الجدال استهواها الجدال فولعت به في حد ذاته ومن ثَمّ تجدها قد انتقلت بصاحبها في خطوات متتابعة إلى الجدال حتى في الحق وإلى مناقشة البديهيات أيضاً،فكما أن الطبع سرّاق فكذلك النفس سرّاقة أيضاً، ومن الواضح أنه يمكن إقامة الدليل الباطل على كل حق وباطل! حتى ليكاد الباطل يبدو من قوة الجدال عنه حقاً ويبدو الحق باطلاً!

ولذا نجد أن ظاهرة التشكيك المنتشرة في المجتمع والممتدة نطاقاتها إلى كل شيء (بدءً من وجوده تعالى ووحدانيته وعدله... ومروراً بالدين كله... ووصولاً إلى العائلة والوطن وحتى المستقلات العقلية) نشأت فيما نشأت من كثرة تعرّض الشباب والطلبة أيضاً لسماع الشبهات والمجادلات والسجالات والنقاشات في شتى القضايا، فإن الإنسان وإن كان عالماً إلا أن للشبهات وأنواع الجدال خصوصيتين:

المضاعفات السلبية للسجالات الجدلية

الأول: ما سبق من أنها أدوات وأسلحة ماضية فإذا عايشها عقل الإنسان باستمرار وبشكل متواصل فإنها لا تلبث أن توجّه حِرابها وأسلحتها نحو كافة

ص: 118

الحقائق المنتقشة في صفحة عقله وضميره ووجدانه، وحيث إنها قوية ذات بريق أخّاذ يأخذ بالألباب ويأسر النفوس، فإنها تكون فعّالة في طمس الحقائق وقلب المعادلات فإن هذا هو شأن المغالطة تماماً وكما تخدع المغالطة الخصمَ في كثير من الأحيان كذلك تخدع صاحبها تماماً.

وبعبارة أخرى: إن الشبهات والسجالات تشبه أن تكون - بل هي كذلك - كالفايروس المعدي، فكما أن الكثيرين ابتلي بها ولم يخلص من سمومها فإن الذي يعايشها كثيراً ما يتأثر بها بدرجة أو أخرى.وهي في ذلك تشبه الأوبئة، فحتى الطبيب المعالج الذي يتصدى لعلاج المرضى بالأمراض المُعدِية فإنه كثيراً ما تَعْلَقُ به بعض الميكروبات أو الفايروسات المُعدِية، إلا إذا إتخذ أشدّ تدابير الحذر والحيطة على مدار الأيام والساعات بل والدقائق والثواني وتعامل بحذر بالغ مع كل ما يلمسه المريض بل وحتى مع الهواء الذي يستنشقه، ومع ذلك قد تجده يصاب بالعدوى ولو أحياناً قليلة أو نادرة!

الثاني: إن الفرد - وإن كان عالماً - فإنه ليس محيطاً بكل الحقائق والعلوم فليس هو (الرجل الخارق)(1)

الأقوى من كل الشبهات والشكوك، فإذا تحوّل همّه إلى المماراة والمجادلة فإن إحدى الحجج (التي ظاهرها الحجة وباطنها المغالطة) التي يسوقها جدلاً للغير أو التي يسوقها الغير إليه مماراةً، قد تعْلق بخاطره فيزيغ معها عقله ويهتز لها قلبه وإيمانه.

إشارة إلى حالة إمام المشككين

ويكفي أن نتصفح حياة (إمام المشككين) في الشرق و(إمام المشككين) في الغرب لنكتشف عمق خطورة التماري على الإنسان، أما إمام المشككين في

ص: 119


1- المسمى ب(سوبرمان).

الشرق(1) فهو الفخر الرازي، فإنه اعتاد على الممارة والمجادلة في كل شيء، وحيث تحوّلت المماراة إلى عادة لديه فقد تسلّلت وتوسعت وامتدت ليبدأ المماراة والمجادلة حتى في البديهيات والضروراتالإسلامية والإنسانية.

الفخر الرازي: السِّحر حَسَن بل واجب!

ومن ذلك إنه ذهب في رأي غريب، ساقه إليه طبعه الجدلي وتعوّده على المماراة والمغالطة، إلى أن (السحر) ليس بقبيح بل هو حسن بل هو واجب! قال في تفسيره (العلم بالسحر غير قبيح ولا محظور: اتفق المحققون على ذلك؛ لأن العلم لذاته شريف وأَيْضًا لعموم قوله تعالى: «هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ»(2) ولأن السحر لو لم يكن يعلم لما أمكن الفرق بينه وبين المعجز، والعلم بكون المعجز معجزاً واجب وما يتوقف الواجب عليه فهو واجب فهذا يقتضي أن يكون تحصيل العلم بالسحر واجباً وما يكون واجباً كيف يكون حراماً وقبيحاً)(3).

أجوبة سبعة على مماراة الفخر الرازي

أقول: انظر إلى غرابة استدلاله!

فأولاً: من أين أن العلم شريف بذاته ومن حيث هو هو؟ بل العلم ينقسم عقلاً إلى الأقسام الخمسة:

1- العلم النافع جداً أي البالغ درجة المصلحة البالغة الملزمة، وهو واجب، وذلك كأساسيات علم الطب والعقائد وشبه ذلك.

2- والعلم الضار جداً وهو حرام.

ص: 120


1- وسيأتي في البحث القادم الكلام عن إمام مشككي الغرب.
2- سورة الزمر: 9.
3- التفسير الكبير أو مفاتيح الغيب: ج3 ص214.

3 - 4 - وهناك المستحب والمكروه إذا كان نفعه أو ضرره قليلاً.5 - والمباح إذا لم يكن نافعاً ولا ضاراً.

وبعبارة أخرى: إن شرف العلم بشرف المعلوم فإنه من الصفات الحقيقية ذات الإضافة وليس بذاته، من حيث هو صورة منتقشة في الذهن(1)،

شريفاً.

ثانياً: إن السحر ليس بعلم بل هو فنّ أو مكر، وهو فنّ هابط ساقط لأنه يعتمد على مزيج من الخداع البصري (وغيره) ومن التصرف في أنفس الناس بالخداع، ومتى كان الخداع شرفاً؟ ومتى كان الاستغفال والتجهيل فضيلة؟

ثالثاً: إن المسلمين أجمعوا على حرمة السحر بل وعلى كونه من الكبائر، حتى ورد عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) إن: «سَاحِرُ الْمُسْلِمِينَ يُقْتَلُ...»(2) والمفروض في الفخر الرازي أنه مسلم، بل ومفسر، بل وإمام من أئمة أهل العامة المسلمين فكيف يجتهد في مقابل الشريعة؟ وباستدلالات أوهى من بيت العنكبوت، وقد قال تعالى: «فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا»(3).

رابعاً: يرد عليه النقض بأن العلم إذا كان شرفاً لذاته و«هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ»(4) إذن فليحكم أيضاً بأن تعلم فنون القتل والتعذيب وتعليمها للناس أيضاً أمر شريف في حد ذاته! بل وكذلك تعلم فنون الدعارةوإغواء النساء وخداعهن وجرّهن للفساد والعياذ بالله فهي حسب معادلته الكلية أمر شريف حسن وإذا استثنى فإنما يستثنى مقدمة الحرام منه! وإنه إنما يحرم لو

ص: 121


1- أو إضافة أو كيفية نفسية أو انفعال أو غير ذلك.
2- الكافي: ج 7 ص260.
3- سورة النساء: 65.
4- سورة الزمر: 9.

أدى للحرام أما في حد ذاته فأمر شريف نافع!

خامساً: إن الآية لا يراد بها كل علم، بل العلوم العقائدية والدينية النافعة وأيضاً الدنيوية النافعة كعلم الطب والزراعة والصناعة وما أشبه(1)، ولا يراد بها أنه لا يستوي الذين يعلمون العلوم الضارة المحرمة مع من لا يعلمونها!

فهذا هو الظاهر، وعلى الأقل فإنه لا يعلم إطلاق الآية لعدم إحراز كونها في مقام البيان من هذه الجهات، ولوجود القدر المتيقن في مقام التخاطب وللقرينة على الخلاف، فكل مقدمات الحكمة الثلاثة منتفية!

سادساً: لو سلمنا جدلاً صحة القاعدة، فإنه ما من عام إلا وقد خص.

سابعاً: إن التمييز بين السحر والمعجزة، لا يتوقف على تعلم السحر؛ وهل ترى أُلوف العلماء والاحبار والرهبان والمسيحيين واليهود والكفار والمشركين وكبار العرب عندما آمنوا بالرسول (صلی الله علیه و آله) حيث شاهدوا معجزاته كانوا يعلمون السحر ثم فرقوا بينه وبين المعجزة؟ وهل ترى أن معاجز عيسى المسيح «أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِكَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ»(2) التي آمن بها الناس كانوا عرفوا أنها معجزة لأنهم عرفوا السحر وتضاريسه فعلموا أن هذه معاجز وليست سحراً؟ وهذا برهان واضح على

ص: 122


1- وقد فسرها بعض المفسرين بمعنى أخص: (أي لا يستوي الذين يعلمون ما وعد الله من الثواب والعقاب والذين لا يعلمون ذلك). مجمع البيان: ج8 ص767. وروي عن الإمام الصادق علیه السلام: «نَحْنُ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَعَدُوُّنَا الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ وَشِيعَتُنَا أُولُو الْأَلْبَابِ». الكافي: ج1 ص212.
2- سورة آل عمران: 49.

بطلان قوله: (ولأن السحر لو لم يكن يُعلم لما أمكن الفرق بينه وبين المعجز).

يُرد عليه النقض أيضاً بأننا نعلم الاختراعات العلمية الحديثة وإن بعضها متطور جداً بل ومذهل، وهل توقف علمنا على أنها تطور علمي وليست سحراً، على معرفتنا بعلم السحر حتى نتأكد من أنها تطور علمي وليست سحراً؟

والشاهد أن من اعتادت نفسه على التماري والجدال وإقامة الدليل على هذا الطرف وعلى نقيضه جدلاً فإنه لا يلبث أن ينقلب على نفسه وعلى بديهياته فيوجه سهام أدلته (التي برع في استعمالها بحقٍ وبباطلٍ، وبرع في التلاعب بها حتى تتطوع لشتى أهدافه الفكرية والعلمية) نحو المبادئ والقيم الاخلاقية ونحو أسس السعادة الإنسانية ونحو المستقلات العقلية، فلا يلبث قليلاً وإلا ويبدأ رحلة الشك المميتة نحو العدمية والظلامية المطلقة!

مماراة القاضي الجلاد حول قتله الأبرياء وأدلته الجدلية!

والتاريخ يكشف لنا أن أولئك الذين انخرطوا في (التماري) فقدوا البوصلة، وربما استدلوا على بعض المسائل أو المعتقدات باستدلالات مضحكة - مبكية لا يعقل أن تصدر من إنسان سليم العقل.ومن نماذج ذلك، ذلك القاضي - الجلاد المعروف في العصر الحاضر والمتظاهر بالدفاع عن الدين والذي ذهب مرة إلى إحدى المحافظات ليدرس ملف ثمانين شخصاً كانوا قد اعتقلوا بتهمة التآمر ضد الدولة وكانت لبعضهم ملفات، ولكن بعضهم الآخر اعتقلوا لمجرد الاحتمال إذ وجدوهم مثلاً يلتقون أحياناً بهم أو كان بعضهم مجرد شركاء لهم في العمل أو جيراناً لهم في المنطقة.

وعندما وصل هذا القاضي إلى ساحة السجن اعطوه أقراص الملفات واحضروا السجناء ليقوم، في بضع أيام بدراسة الملفات بصبر وأناة كي يكتشف

ص: 123

من يستحق الاعدام - بزعمه - ممن يستحق السجن المؤبد أو السجن لسنين أو حتى البراءة وليقوم باستجواب السجناء مباشرة ليستمع إلى دفاعهم عن أنفسهم فلعل التهمة ملفقة والرجل بريء ولعله جاهل قاصر ولعله ممن لا يستحق إلا عقوبة عادية جداً.

لكن القاضي - الجلاد نحّى أقراص الملفات جانباً، وقال: الظروف ظروف صعبة والبلاد تمرّ بحالة حرب ولا وقت لدينا لكل ذلك وعليَّ أن أذهب إلى سجون أخرى كثيرة في مختلف المحافظات؛ ثم أصدر قراره بإعدام الثمانين جميعاً! فقال له بعض من يحمل في ثناياه بعض الضمير والوجدان: إن فيهم البريء! فأجاب: أما البريء فإنه يذهب إلى الجنة! وأما أنا فقد عملت بالاحتياط إذ أمرت بإعدامهم جميعاً! ثم أصر على أن يعدموا أمام عينيه!ومثل هذه القضية قد تبدو أغرب من الخيال، لكن من يدرس حياة الطغاة كصدام وهتلر يجد أغرب من ذلك ومن يدرس حياة الطغاة المتلفعين باسم الدين كمعاوية ويزيد والحجاج، يجد ما هو أعجب من ذلك.

والشاهد أن المراء والحجة الجدلية التي استند إليها هذا القاضي، كانت تكمن في دليل غريب: (أما البريء منهم فيذهب إلى الجنة)! فنقول له: ولكنك أنت الذي تذهب إلى النار! وهل يصح أن يعلل الحجاج وصدام قتله للأبرياء بأنهم سوف يذهبون للجنة! أو يعلل شمر وعمر بن سعد ويزيد قتلهم لسبط رسول الله (صلی الله علیه و آله) وسائر الشهداء، بأنهم قد عجلوا للشهداء الأبرار الوصول إلى الفوز بالرضوان الإلهي وجنة عرضها السماوات والأرض؟!

وكانت حجته أيضاً أنني أخذت بالاحتياط لذلك أمرت بقتلهم جميعاً!! مع أن الاحتياط هو في ترك سفك الدماء، بل إن الحدود تدرأ بالشبهات، بل إن

ص: 124

«مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا»(1).

لكن من اعتاد الجدال والمراء والتماري واختلاق الحجج لكل شيء، وكذلك من عاشر مثل هؤلاء، فإن حياته كلها ستكون سلسلة من الأكاذيب والحجج الباطلة التي تسوِّق للجرائم وعظائم الجرائر؛ ومن يدري فلعل ذلك الرجل - القاضي - الجلاد كان مقتنعاً بحجته تماماً! إذ كثيراً ما يولّد المراء والجدال والمغالطةُ اليقينَ بالباطل ككثير من الطغاة على مر التاريخ، أو لعلهكان شاكاً في سلامة موقفه إلا أنه بنى حياته على الشك وفلسَفُهُ بالتماري والجدال، كما يحتمل العكس بأن كان اختراعه لأمثال هذه الحجج والمغالطات وسعيه لتبرير كل موقف همجي بحجة عقلية أو شرعية هو الذي ولّد لديه الشك في بديهيات الأمور فكان ممن بنى حياته على المراء والجدال وكانت دعامة شكه وتشكيكه التماري.

قال لهم: اقتلوا الأعداد الفردية، لا: بل الزوجية!

ومن طريف - وغريب ما ينقل عن أحد القضاة الجلادين المعاصرين أيضاً، إنه ذات مرة ذهب إلى إحدى المحاكم الثورية وكانوا قد حشدوا فيها خمسين متهماً ممن لا يعلم حاله، فأمر بإعدام المتهم الأول فالثالث فالخامس إلى التاسع والأربعين أي إعدام الأعداد الفردية وإطلاق سراح الأعداد الزوجية! وعندما علم المتهم الخمسون بأنه سيخرج براءة ضحك فرحاً، فرآه القاضي الجلاد فقال له: تضحك! إذاً سنعكس الأمر! ثم حكم بإعدام المتهم الخمسين فالثامن والأربعين فالسادس والأربعين وهكذا وصولاً إلى الثاني! (أي أمر بإعدام الأعداد الزوجية وبإطلاق سراح الأعداد الفردية)!!

وذلك وأشباهه هو ما يذكرنا بأحكام (قراقوش) والتي نجد تجلياته في

ص: 125


1- سورة المائدة: 32.

الطغاة على مر التاريخ بأغرب مما نقل عنه سواء أصح كل ما روي عنه أم لا...

التماري كالتمارض، يسري من المظهر إلى الجوهر

وصفوة القول: إن (التماري) هو ك(التمارض) فكما أن الصحيحالجسد لو تمارض وتظاهر بالمرض فإنه لا يلبث بدنه أن يستجيب فيتمرض حقيقة، وذلك كمن يتظاهر بالكآبة ويقطِّب وجهه ولا يضحك أبداً فإنه لا يلبث أن يستشعر الحزن والكآبة حقيقة.

فكذلك من ينشغل بالمراء ويعتبر، في عالم الجدال والمناظرة، كل شيء محتمل البطلان حتى المستقلات العقلية واليقينيات، ثم يحاول جدلاً إقامة أدلة وبراهين أو مغالطات ضدها، فإنه كثيراً ما ينتهي به الحال إلى الشك حقيقة في يقينياته، وذلك هو مما عناه الأمير (علیه السلام) بقوله: «وَالشَّكُّ عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ عَلَى التَّمَارِي...».

ولا يخفى أن ذلك إنما هو في البداية فقط وأنه كثيراً ما يؤدي به الشك إلى الإنكار والكفر والجحود بأكثر الحقائق بداهة وقد ورد: «من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه»(1).

ومن ذلك نعرف أهمية الحكمة المستنبطة من كلامه (علیه السلام) وعلى ضوء كلمته وهي: على العاقل أن يحذر المراء والجدال، وأن يحذر أن يبني حياته على التماري، وأن يحذر أن يفترض، ولو كباحث عن الحقيقة مثلاً، اليقينيات الوجدانية أمراً مشكوكاً فيه ثم يجادل ليقيم الأدلة جدلاً على بطلانها ثم ليفنّدها لاحقاً، فانه كثيراً ما يعلق في شباكِ مصيدةِ مغالطاته وجداله ثم لا ينجو منها أبداً!

وذلك يؤكد ما سبق قوله من أن للشك المنتج ضوابط ومناهج وأنمن

ص: 126


1- بحار الأنوار: ج67 ص83.

تجاوزها خرج من دائرة الشك الملهم أو المنتج أو الفعال إلى دائرة الشك المهلك أو السلبي أو الظلامي.

ثاني دعائم الشك: الهول والفوبيا

اشارة

إن (الْهَوْلِ) هو من أهم أسباب الشك والتشكيك حتى في الواضحات وهو من أهم أسباب الفشل في الحياة، والفرق بين الشك والهول أن المراد بالشك الشك العقلي وبالهول الهول والخوف النفسي، بل الفرق بينها كبير حتى على احتمال كون كليهما عقلياً أو نفسياً، كما سيجيء.

والمذهل أن هذه الكلمة الصادرة من أمير المؤمنين (علیه السلام) هي في جوهرها المفتاح لفرع من أهم فروع علم النفس الحديث.. ولو اننا كنا نعرف قيمة كلمات مدينة علم الرسول (صلی الله علیه و آله) لكنّا نحن السبّاقين إلى اكتشاف مفاتيح العلوم من كلماته (علیه السلام) لكننا لم نعرف قيمة ثرواتنا المعرفية الكبرى فسبقنا الآخرون.

و(الهول) هو المسمى في علم النفس الحديث ب(الرهاب) أو (الفوبيا) المسماة باليونانية (φόβος) وقد عرّفوها بأنها: (الخوف المتواصل أو غير المنطقي واللاعقلائي من أ - أشخاص، أو ب - أشياء، أو ج - أفكار، أو د - مواقف، عند رؤيتها أو السماع عنها أو حتى لدى مجرد التفكير فيها؛ والجدير بالذكر أن المريض يكون غالباً مدركاً لكون هذا الهول والخوف غير عقلائي لكنه لا يجد في نفسه القدرة على التخلص منه.

ولنمثّل لذلك بدايةً بمثالين من عالَمين مختلفين: مثال التجارة ومثالالجن:

فوبيا الخوف من الجنّ

أما (الجنّ) فإننا نجد أن بعض الناس مصاب بفوبيا (الجنّ) فهو يشك في وجود الجن في هذا المكان أو ذاك (كالشك في وجوده في الحمام أو في السرداب أو

ص: 127

في المقبرة أو غيرها) وهذا الشك هو وليد الخوف غير المنطقي من الجنّ، فحيث تملّكه الهول من الجن والخوف منهم فإنه كثيراً ما يحتمل ويشك أو حتى يظن أو يقطع بوجودهم على مقربة منه وفي نفس المكان الذي يجلس فيه أو يتردد عليه أو ينام فيه!

ولكن ذلك ليس - عادة - إلا مجرد أوهام وتخيلات وقد يكون له منشأ مادي مغاير تماماً، لكنّه لشدة هوله من الجن يفسر أية ظاهرة على أنها جِنّ أو صادرة من الجنّ! أو يحتمل ذلك ويشك فيه على الأقل!

ومن ذلك ما نعهده كثيراً من أشخاص يقولون بأنهم رأوا الجن في المطبخ أو الحمام أو الممرّ، وهو يمر إلى جانبهم بشكل مسرع على شكل شبح! لكن الواقع هو أن زاوية انكسار الضوء على أعينهم هو الذي ولّد لديهم الاحساس برؤية شبح مع أنه ليس إلا شعاعاً من النور المنعكس من جسم ما بالقرب منهم نظير السراب تماماً، ولعلّ لبعض الغبار الذي قد يعلق بالأهداب دوراً في صناعة هذا الوهم.

فوبيا التجارة والاستثمار

وأما (التجارة) فاننا نجد كثيراً من الناس يحجم عن الاستثمار فيالحقول الجديدة (كالهندسة الوراثية والنانوتكنولوجيا وعلم الأعصاب والأطراف الصناعية والربوت وغيرها) أو حتى عن التجارات التقليدية التي تتضمن نسبة مخاطرة عالية، لمجرد الشك في أنه قد يفشل في هذه التجارة وكثيراً ما يكون الشك في الفشل ناشئاً من الخوف الشديد والهول منه وهو المسمى برُهاب الفشل، فإن كثيراً من الناس رغم توفره على الكفاءات الضرورية ورغم أن هذا الطريق هي طريق سالكة لكنه يعاني الخوف من الفشل، وهذا الخوف هو الذي يسبب له

ص: 128

الشك في النجاح وبالتالي الجبن عن الإقدام على هذه التجارة أو تلك بل قد لا تكون التجارة في حقول متجددة ولا تكون مما تحمل نسبة مغامرة عالية، بل تكون مجرد تجارة كبيرة لكنه يخاف فيها من الفشل ويشك في احتمالات نجاحه فيجبُن ويُحجِم ويتراجع ويبقى حيث هو في عمله التقليدي القليل الإنتاج!

«وَمَنْ هَالَهُ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ»

وهكذا نجد الذين يعانون من الهول أو رهاب الفشل هم الذين يُحجِمون عن الأعمال الكبرى ويعجزون عن تحقيق اختراقات حقيقية ويتراجعون أمام فرص الحياة؛ وذلك بالضبط هو ما قاله أمير المؤمنين (علیه السلام) في تتمة الحديث: «وَمَنْ هَالَهُ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ»(1):

أ - فإذا خاف الإنسان الجهاد، نكص على عقبيه.ب - وإذا خاف من مقارعة الاستبداد والحكومات الجائرة نكص على عقبيه، وقد يكون هوله من المخاطر الكبرى أو من الفشل المرحلي في المواجهة هو السبب في شكّه في وجوب الجهاد أو صحة مقارعة الاستبداد فيجبن ويتراجع رغم كلام الرسول (صلی الله علیه و آله): «اغْزُوا تُورِثُوا أَبْنَاءَكُمْ مَجْداً»(2) وقيل: «جاهدوا تورثوا ابناءكم عزّا» فحتى لو لم تنجحوا مرحلياً لكنكم ستربحون استراتيجياً.

ج - وإذا خاف من التجارة، نكص على عقبيه.

د - وإذا خاف من بناء المصنع أو المعمل وأشباه ذلك من (ما بين يديه) من الأعمال التي يمكنه أن يقدم عليها أو إذا خاف من الفشل فيها، نكص على عقبيه.

ه - وإذا خاف من الفشل في بناء مسجد أو حسينية أو مدرسة أو مكتبة أو

ص: 129


1- نهج البلاغة: باب حكم أمير المؤمنين علیه السلام الحكمة:31.
2- الكافي: ج5 ص8.

غير ذلك، نكص على عقبيه.

ولذا قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «قُرِنَتِ الْهَيْبَةُ بِالْخَيْبَةِ وَالْحَيَاءُ بِالْحِرْمَانِ»(1) وهذا هو ما توصل إليه العلم الحديث أيضاً (موضِّحاً: أن اضطراب الرهاب الاجتماعى يرتبط بعدد من العواقب السيئة، مثل: الهرب أو التغيب عن المدرسة، وانخفاض العمل والإنتاجية، وافتقار العلاقات الاجتماعية، وإعاقة ممارسة الأنشطة الترفيهية، وانخفاض جودة الحياة بشكلعام، لافتاً إلى أن الاضطراب قد يرتبط بعدم الزواج "العزوبية" والطلاق وعدم الإنجاب تجنبًا للتفاعل)(2).

وفي الاتجاه المقابل نجد: ان الناجحين في الحياة وأولئك الذين أمكنهم تحقيق الإنجازات الكبرى في بناء المؤسسات وغيرها هم الذين لا يتملكهم الخوف والهول ولا يتحكم فيهم الشك في النجاح، بل كانوا يحطمون الخوف كلما اعتراهم ويزيحون الشك كلما راودهم ويبنون على النجاح ويصرون على المضي قُدُما في الطريق، ولذلك تجدهم غالباً ما يصلون إلى أهدافهم أو إلى قسم كبير منها.

أنواع من الفوبيا والرهاب

ولنتطرق الآن إلى تشكيلة غريبة من أنواع الخوف والفوبيا، كما أشار إليها علماء النفس مع بعض الإيضاحات والتعليقات الهامة:

الخوف من ضوء الشمس!

(Heliphobia - هيلي فوبيا) يخاف المبتلون بهذا المرض من ضوء الشمس!

ولعل السبب في خوفهم من الشمس أنهم يتصورون أن الشمس تكشف

ص: 130


1- نهج البلاغة: باب المختار من حكم أمير المؤمنين علیه السلام، الحكمة:21.
2- من موقع (ويكيبيديا).

ملامح وجوههم للناس بشكل أوضح ولعلها تكشف شعرة بيضاء أو بعض التجعدات في الوجه أو شبه ذلك بل لعلهم يتوهمون أن الشمس تفضح بعض نواياهم أيضاً أو قد تكشف بعض سيئاتهم للناس!

الخوف من بعض الأرقام!

(Arithmophobia - أريثمو فوبيا) الخوف من الأرقام أو الخوف من الرياضيات بشكل عام، ومن أبرز أمثلة ذلك الكثير من الغربيين الذين يخافون من رقم (13). بل إن الكثير من بناياتهم تفتقد الطابق 13 فتنتقل من الطابق 12 إلى 14 مباشرة أي أنهم لا يكتبون رقم 13 على أي طابق بل فوق الطابق 12 يكتب الطابق 14(!) وكذلك لا توجد شقة 13 في الطابق الواحد بل شقة 12 و14 وهكذا.

الخوف من الوقت!

(Chronophobia - كرونو فوبيا). الخوف من دقات الساعة أو من نفس مضيّ الوقت!!

ولعل السبب أنه يتصور أن (دقات قلب المرء قائلة له ... إن الحياة دقائق وثواني) وأنها تؤذنه بالرحيل! مع أنه يجب أن يجيّر ذلك إيجاباً ليبني آخرته بشكل أفضل مستثمراً كل دقيقة من دقائق حياته.

العزلة ورهاب الخروج من المنزل

وهو الخوف من مغادرة المنزل (وعكسه رهاب المنزل) أو المناطق الصغيرة المُعتاد عليها مما قد يؤدي إلى حصول نوبات هلع، وقد يكون سبب هذا الرهاب: الخوف من الأماكن العامة المفتوحة مثل الحافلات العامة ومراكز التسوق المكتظة, أو الخوف من التلوث وقد ينتج ذلك عن حادثة حصلت مع الشخص في إحدى

ص: 131

الأماكن العامة بعيداً عن منزله.واللطيف انني كنت قبل ان أقرأ كلمة أمير المؤمنين (علیه السلام) عن الهول وتحليل علماء النفس عن رهاب المنزل أو غيره، كنت لا أفهم السبب في تصرفات الكثير من الناس (مثلاً لماذا ينعزلون بهذه الصورة) فصار الأمر بعدها واضحاً تماماً.

الخوف من كلام الناس! أو من الأخبار الجيدة!

(Sociopobia - سوشيو فوبيا) يخاف المبتلون بهذا المرض من كلام الناس . فنراهم لا يتصرفون على ضوء العقل والحكمة والمنطق خوفا من ان يحكم عليهم من حولهم بالسلب.

والغريب إننا نجد الكثير من الناس لا يقدم على العديد من أعمال الخير خوفاً من كلام الناس! فتراه يُحجم عن بناء مسجد أو حسينية أو عن تأسيس قناة فضائية أو مجلة أو جريدة أو عن تأسيس تنظيم شبابي لمجرد أنه يخاف كلام الناس ضده أو لمجرد خوفه من الفشل، مع أن المؤمن لا يخاف الفشل بعد التوكل والتوسل والتعقل، ولا يخاف كلام الناس إذ ما يهمه هو رضا الله تعالى.

(اليوفوبيا Eleutheropbia) وهو الخوف من سماع الأخبار الجيّدة. ولعل السبب في خوف البعض منها: أنه يتخوف أن يتبين له فيما بعد أنها كانت كاذبة أو خاطئة فيصاب بالإحباط والصدمة من ذلك! أو يخاف من أن لا يتحمل قلبه سماعها.

الخوف من الحرية!

(Eleutherophobia - الإيلوثروفوبيا) وهي عبارة عن الخوف من الحريّة!

الهلع أو الرهاب من الحرية والتحرر قد يبدو غريباً للبعض، ولكنه أمر واقع بل هو واسع الانتشار في الزمن القديم وفي الأزمنة الحديثة ولنضرب لذلك

ص: 132

مثالين من عصرنا والعصر السابق:

خوف العبيد من التحرر!

فعندما توصل دعاة تحرير العبيد في أمريكا (وكان كثير منهم أبناء أو أحفاد أولئك الذين اختطفهم الأمريكان أو غيرهم من أفريقيا أو غيرها أو اسروا في الحروب فوُلدوا وهم يرون أنفسهم عبيداً) تفاجأ الناس عندما رأوا مجاميع كبيرة من العبيد ترفض التحرر وتصرّ على البقاء عبيداً في بيوت الأسياد؟

وعند التحقيق تبين أن السبب في ذلك يبدو بظاهره منطقياً وهو (خوف العبيد من المجهول الذي ستأتي لهم به الحرية) فإنهم كانوا يعيشون في بيوت الأسياد في وضع معين وكان لهم مسكنهم ومأكلهم وملبسهم وإن كانوا يُضربون أحياناً أو يُجلدون، ولكنهم رأوا أنهم إذا ما تحرروا وخرجوا من بيوت الأسياد فانهم سيبيتون بلا مأوى ولا مصدر رزق؛ فكيف يعيشون إذاً؟ وهذا هو بالضبط كان هو مصدر الرهاب من الحرية لديهم!

خوف الموظفين من التسريح!

والموظفون كذلك، فإن كثيراً من الموظفين يعاني من رهاب التحرر من أسر الوظيفة إذ يجد فيها الأمن الوظيفي ومصدر رزق مضمون وإن كان محدوداً، لذلك يبقى تحت سقف الوظيفة الواطئ حتى التقاعد أو الممات،ولكنه غفل عن أن مصدر الرزق الكبير هو أن لا تكون موظفاً بل أن تكون تاجراً أو مستثمراً أو صاحب شركة أو شبه ذلك من أنواع الأعمال الحرة ولذا ورد: «إِنَّ تِسْعَةَ أَعْشَارِ الرِّزْقِ فِي التِّجَارَةِ»(1).

وكان السيد الوالد (قدس سره) يشجع بقوة على أن ينطلق شبابنا نحو الأعمال

ص: 133


1- الكافي: ج5 ص148.

الحرة والتجارة وتأسيس الشركات والمصانع والمعامل والمتاجر وغير ذلك، ولا يقنعوا بأن يصبحوا موظفين، فإنهم لا يمكنهم أن يحلّقوا ولا أن يحققوا إنجازات كبرى - كتكفل ألف يتيم أو حتى مائة ألف! أو بناء ألف مسجد وحسينية أو أكثر! أو تأسيس ألوف المدارس والمياتم وغير ذلك! أو طباعة الملايين من الكتب وغير ذلك - إلا بالتجارة والاستثمار؛ وهل يستطيع الموظف فعل ذلك! وستأتي أمثلة لرهاب الحرية، أعظم مما ذكرناه في البحث اللاحق بإذن الله تعالى.

الخوف من التغيير

(Tropophobia - التروبوفوبيا) الخوف من التغيير أو الانتقال.

وتلك هي سمة كثير من الناس حيث يسكُن للقديم مهما كان وحيث ينفر من الجديد مهما كان، فتراه لا يألف إلا المنزل القديم أو الحي القديم أو المتجر القديم أو المنتَج القديم أو الطريقة القديمة في التدريس أو المنبر أو البناء وغير ذلك.

ولا يعني ذلك إلغاء القديم واللهاث نحو الجديد، بل يعني أنه ليس منالصحيح الرهاب والهول من الجديد كما لا يصح الرهاب أو الخوف من القديم، بل اللازم الاعتدال وعدم الخضوع للهول والفوبيا من قديمٍ أو جديدٍ، بل دراسة كل شيء على ضوء فوائده ومنافعه أو أضراره ومخاطره.

العلاج الأساس للفوبيا هو المواجهة!

وعلاج الهول والخوف والفوبيا التي تبتني عليها دعامة الشك، الأساسي يتلخص في كلمة واحدة أشار إليها أمير المؤمنين (علیه السلام) وهي: «إِذَا هِبْتَ أَمْراً فَقَعْ فِيهِ فَإِنَّ شِدَّةَ تَوَقِّيهِ أَعْظَمُ مِمَّا تَخَافُ مِنْهُ»(1) وهذا هو ما توصل إليه علم النفس الحديث أيضاً فقد (أثبتت تقنيات المعالجة السلوكية فاعليتها في معالجة مرض

ص: 134


1- نهج البلاغة: باب المختار من حكم أمير المؤمنين علیه السلام، الحكمة:175.

الرهاب وخصوصاً من النوع الأول والثالث من هذا المرض. وهذه الطرق هي:

اضعاف عامل الخوف عبر جعل المريض يواجه العامل الذي يسبب الخوف تدريجياً.

الطريقة الأخرى هي: العلاج بالمواجهة المباشرة وهذه الطريقة أثبتت فاعليتها بكونها من أفضل الطرق وهي جعل المريض يواجه العامل مواجهةً مباشرةً ومتكررة حتى يشعر بأنه لا يوجد أي خطر ينتج عن الشيْ المسبب للخوف، وبهذه الطريقة يزول الخوف تدريجياً حتى يختفي)(1).

والغريب أن الفوبيا والهلع والخوف من شيء ما أو شخص ما أو موقفما أو فكرة ما، قد يكون له ما يبرره خارجاً إذ قد تكون هناك أضرار حقيقية تصيب الشخص من شيء ما، ولكن ومع ذلك فإن العلاج يبقى هو العلاج وهو المواجهة مع مصدر الضرر والخطر «إِذَا هِبْتَ أَمْراً فَقَعْ فِيهِ».

وقد توصل العديد من العلماء إلى أن العديد من أنواع الحساسية يمكن القضاء عليها بمواجهتها مباشرةً وبالاقتحام في مصدر الحساسية وسببها؛ وقد جربت ذلك شخصياً فقد كنت أعاني من حساسية مفرطة تجاه بعض الأطعمة (خاصة البيض والباذنجان) فبمجرد أن اتناولها كانت آلام الحنجرة عندي تتضاعف (وهي آلام لا تفارقني عادة لكن بشكل خفيف ولله الحمد) بل كنت أحس بما يشبه الحريق فيها عند تناولها، لكن أحد العلماء ذات يوم أشار عليّ بأن العلاج هو في المواجهة والعمل بقاعدة (وداوني بالتي كانت هي الداء) وعلى ضوء ذلك قررت التغلب على الهول والخوف بالمواجهة المباشرة فأوصيت أهل المنزل بأن يكثروا ذلك اليوم من الباذنجان، ثم اكثرت من تناوله هو بالذات،

ص: 135


1- من موقع (ويكيبيديا).

والغريب أنه منذ تلك اللحظات اختفى التأثير السلبي على الحنجرة ولم يَعُد يضرّني - بعد البسملة - شيئاً! ثم كررت التجربة، بعد فترة سنة تقريباً، مع البيض فكانت النتيجة كذلك تماماً.

وهكذا هي الحياة في الكثير من تحدياتها وهي طريق ناجع، مطلقاً أو في الجملة، للتغلب على الهول والخوف والفوبيا.

ولنختم البحث أيضاً بمثالين آخرين:

الهلع من تأسيس المنظمات الشبابية بالجامعة

المثال الأول: إنني كنت أشجع العديد من الشباب الجامعي في العديد من الدول لتأسيس منظمة شبابية في الجامعة، لتكون الحاضنة الفكرية والثقافية والأخلاقية والمعنوية للشباب، ولتكون السدّ المنيع أمام الحركات الهدامة والأمواج الخطرة التي تعصف بالجامعات وغيرها بين حين وآخر والتي تتمظهر على شكل موجات إلحاد أو فساد أو غير ذلك.

والغريب أن أكثرهم كان يشك في نجاح هذه الفكرة لذلك لم يكن ينطلق أبداً، وعند السؤال والفحص كان يظهر أن سبب الشك في النجاح لا يعود لعامل موضوعي بل كان إنما هو مجرد الخوف من الفشل! أي رُهاب الفشل أو الهول منه!

وهكذا تتجلى لنا عظمة كلام الإمام (علیه السلام): «وَمَنْ هَالَهُ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ».

الخوف من الزواج المبكر!

المثال الثاني: الزواج، فإن أكثر العوائل رغم تدينها وتعبدها بالشريعة إلا أنها تترك العمل بواحد من أهم المستحبات الشرعية المؤكدة وهو تزويج الأولاد والبنات مبكراً، لمجرد الشك في نجاح الزيجات بعد البلوغ وللخوف من عواقب

ص: 136

ذلك! فقد سمعت الكثير منهم يقول: إنهم أطفال! ولا تجربة لهم في الحياة! وكيف يتزوج وعمره 16 سنة أو كيف تتزوج وعمرها مثلاً 12 أو 14 سنة؟ ثم نجد الخوف مرة أخرى يتجسد في تأخير الزواج سنة بعد سنة وفي اشتراط شرط بعد آخر، يقولون: يجب أن يكمل أو تكمل الجامعة! ثميجب أن يحصل على وظيفة ودار وسيارة؛ وهكذا يرتفع سن الزواج من زمن البلوغ حتى الثامنة عشرة ثم العشرين ويتصاعد حتى أنه يقارب في بعض الدول الثلاثين بل وما فوقها.

وذلك رغم ما في تأخير الزواج من المفاسد فإن الزواج حاجة بيولوجية - سيكولوجية - سوسيولوجية، فكما أن الجائع والعطشان لا بد له من الطعام ولا تجدي لدفع جوعه تسطير أنواع من الفلسفة، كذلك الجنس فإنه حاجة لا تنفع لدرء مخاطر عدم إشباعها بالطرق المشروعة، أنواع التعليلات والفلسفات! ومن تلك الفلسفات الاحتجاج بضرورة توفير (الأمن الوظيفي) والخوف من أن لا يكون الزوج قادراً على تكفل نفقات الحياة الزوجية؛ وهكذا نجد أنفسنا مرة أخرى في مواجهة فوبيا الفشل والهول من النجاح في الحياة والشك في كفاءة حديثي العهد بالبلوغ، وذلك كله من مصاديق قوله: «وَمَنْ هَالَهُ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ».

والأغرب أن ذلك كله أصبح ثقافة في العوائل المتدينة أيضاً رغم أنهم يؤمنون بالله ورسوله والأئمة الأطهار (علیهم السلام) ورغم صراحة التعليمات القرآنية والنبوية في هذا الحقل، ويكفي أن نتدبر قوله تعالى: «وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ»(1).

وهذا يعني: لا تَخَفْ من الفشل في تكفل نفقات الحياة، ويعني أن عليك أن تواجه الخوف بالمواجهة والاقتحام.

ص: 137


1- سورة النور: 32.

وقد ثبت علمياً أن مواجهة التحدي واقتحامه يحفّز طاقات الإنسانالكامنة ويطلقها بقوة نحو النجاح، لذلك فإن الشخص عندما يتزوج فإنه تتضاعف همته للعثور على عمل وتتضاعف دوافع أسرته وأصدقائه لمساعدته في العثور على عمل ما، وبذلك يرزقه الله تعالى، ولو بقي أسير الخوف فلم يتزوج فإنه كثيراً ما يبقى عالة على أهله لسنين طويلة!

كما أن الروايات الأخرى صريحة في ضرورة التبكير في الزواج ومنها ما روي عن أبي عبد الله (علیه السلام): «مِنْ سَعَادَةِ الْمَرْءِ أَنْ لَا تَطْمَثَ ابْنَتُهُ فِي بَيْتِهِ»(1) وعن النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله) عن جبرئيل عن الله تعالى: «إِنَّ الْأَبْكَارَ بِمَنْزِلَةِ الثَّمَرِ عَلَى الشَّجَرِ، إِذَا أَدْرَكَ ثَمَرُهُ فَلَمْ يُجْتَنَى أَفْسَدَتْهُ الشَّمْسُ، وَنَثَرَتْهُ الرِّيَاحُ. وَكَذَلِكَ الْأَبْكَارُ إِذَا أَدْرَكْنَ مَا يُدْرِكُ النِّسَاءُ، فَلَيْسَ لَهُنَّ دَوَاءٌ إِلَّا الْبُعُولَةُ وَإِلَّا لَمْ يُؤْمَنْ عَلَيْهِنَّ الْفَسَادُ لِأَنَّهُنَّ بَشَرٌ...»(2).

ملحق: أنواع غريبة من الهول والخوف والفوبيا

وأخيراً نستعرض نماذج من الفوبيا(3)

والتي عبرها نعرف أنها ظاهرة ممتدة تتسع لتشمل مئات الملايين من الناس وندرك أهمية كلمة الأمير (علیه السلام) المفتاحية في أن الشك مبنى على الهول وأن الهول سبب الإحجام «وَمَنْ هَالَهُ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ» وأن الحل هو ب«إِذَا هِبْتَ أَمْراً فَقَعْ فِيهِ».

(Acrophobia - الآكروفوبيا) وهي الخوف من المرتفعات.(Cynophobia - الكينوفوبيا) وهي الخوف من الكلاب.

(Xanthophobia - الزانثوفوبيا)؟ وهي الخوف الشّديد من اللون الأصفر!

ص: 138


1- الكافي: ج5 ص336.
2- الكافي: ج5 ص337.
3- وهي مقتبسة من مقالات عديدة، في ويكيبيديا لكتاب مختلفين.

وهنالك الفوبيا من اللون الأحمر واللون البنفسجي والعديد غيرهم. والخوف من الألوان ليس أغرب ما قد تسمعه، فقد يخاف المرء من بعض المفاهيم والمشاعر والمواقف أيضاً:

(Eisoptrophobia - الآيسوبتروفوبيا) الخوف من المرايا أو من النّظر إلى انعكاس الشّخص في المرآة.

(Pluviophobia - البوليفيوفوبيا)

الخوف من المطر.

(Onomatophobia - الأونوماتوفوبيا) الخوف من كلمات أو أسماء معيّنة.

(Syngenesophobia - سينجينيسو فوبيا) الخوف من الأقارب. مثل زوجة الأب أو زوج الأم أو العائلة بالتبني، وهكذا.

(Ornithophobia - أورنيثو فوبيا) الخوف من الطيور عامة، خاصة الحمامة، يقول العلماء أنه مرض شائع وطبيعي.

(Aerophobia - إيرو فوبيا) الخوف من ابتلاع الهواء، أو الخوف من الميكروبات والجراثيم التي في الهواء، والمريض بهذا المرض مهووس لدرجة أنه يقوم بارتداء قناع طبي في الأماكن العامة وربما في منزله.

(Automatonophobi - اوتوماتونو فوبيا) الخوف من الأشياء شبيهة البشر مثل الدمى والتماثيل.

(Atephobia - أتي فوبيا) الخوف من الأماكن الأثرية والبنايات القديمة،فزيارة الأهرامات قد تكون كابوساً لهؤلاء المصابين بهذا المرض.

(Domatophobia - دوماتو فوبيا) الخوف من التواجد داخل البيوت والمنازل.

(Ideas and Concepts) الخوف من الأفكار والمفاهيم.

ص: 139

(Bathophobia - باثو فوبيا) أي الخوف من الأعماق.

(Cainophobia - كاينوتو فوبيا) الخوف من اي شيء جديد، لذلك يفضلون شراء الأشياء المستعملة.

(Macrophobia - ماكروفوبيا) الخوف من مكتب الطبيب، وأحياناً المتاجر.

(Hagiophobia - هاجيو فوبيا) الخوف من الأشياء الدينية، أو الأفكار الدينية، أو الأماكن الدينية.

(Mnemophobia - منيمو فوبيا) الخوف من الذكريات.

(!Anatidaephobia) وهو النوع الأكثر غرابة وكوميدية حيث تتملّك صاحَبه فكرة أن هناك بطة أو أوزة تراقبه طوال الوقت، ويلازمه الشعور بذلك طوال الوقت حتى أنه يخاف أن يخرج من المنزل في أحيان كثيرة.

(Zoophobia) وهو رهاب الحيوانات مثل رهاب العنكبيات، رهاب الأفاعي، ورهاب الكلاب أو رهاب الفئران... إلى آخره.

رهاب البيئة الطبيعية: مثل رهاب المرتفعات، رهاب الرعد والبرق، أو الخوف من التقدم بالسن، وكذلك مثل رهاب الأماكن المغلقة والخوف من الظلام و الاقتراب من البحر.

رهاب المرض والاصابات: ويتمثل بالخوف من الإجراءات الطبية مثل الابر والحقن أو العمليات. أو من الاصابة بمرض معين أو خوف الأطفال من الأصوات الصاخبة... الخ.

(Anthropophobia - أثروبو فوبيا) وهو الخوف من الناس عامة، أو ربما الخوف من الصحبة أو الرفقة.

ص: 140

(Aphephobia - أفي فوبيا) الخوف مما يلمسه الناس.

(Soteriophobia - سوتيريو فوبيا) الخوف من الإعتماد على الآخرين.

(Cherophobia - الشيروفوبيا) الخوف من السّعادة، وهو حقاً غريب، ولعله يخاف منها إذا جاءته إنه قد يفقدها عن قريب!

ثالث دعائم الشك: التردّد

اشارة

إن (التردد) بدوره يعد من أهم دعائم الشك وبواعثه.

وتوضيحه: إن هنالك مفردات ثلاثة تشكل دراستها وسبر أغوارها والعلاقة بينها إحدى الأسس العلمية الهامة لاكتشاف الكثير من أبعاد ظاهرة التشكيك وأسبابها وحلولها أيضاً، وهذه المفردات هي: (الشك، الريب، والتردد).

وقد تكرر في الآيات الكريمة ذكر مفردتي الشك والريب مجتمعتين أحياناً ومنفصلتين أحياناً أخرى، كما وردت مفردة التردد في القرآن الكريم أيضاً.

معنى «فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ»

والتدبر في الآية الشريفة: «فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ» يظهر جانباً من العلاقة بين الريب والتردد بما يفتح الطريق أمام اكتشاف حقيقة أن من أهم دعائم الشك هو التردد، وذلك لأن التأمل في معنى الآية الشريفة يقودنا إلى أنها تحتمل معنيين:

تفسيران: التردد في الأمر، والتردد في الذهاب والإياب

الأول: إن المراد من التردد هو التردد في الأمر والتحيّر فيه.

الثاني: إن المراد من التردد هو التردد بالذهاب والإياب.

والريب هو المبعث للأمرين جميعاً.

ص: 141

ويوضحه شأن نزول الآية فإن النبي (صلی الله علیه و آله) عندما كان يأمر الناس بالجهاد، كان المؤمنون ينقادون فوراً ويستجيبون للنداء الإلهي، أما المنافقون فكانوا يحاولون التهرب من الجهاد بشتى الطرق ولذلك كانوا يأتون إلى النبي (صلی الله علیه و آله) (يستأذنونه في القعود عن الجهاد) حسب تفسيرٍ للآية الكريمة: «إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ» متذرعين بأعذار شتى قد يكون منها التعلّل بمرض العيال أو التعلل بفساد محاصيلهم الزراعية لو سافروا للجهاد أو غير ذلك، فكانوا - حسب البعض كمجمع البيان -: يترددون على النبي (صلی الله علیه و آله) لأجل ذلك.

وأما المراد من (يتردّدون) فهو أحد أمرين:

أ - إنهم كانوا يمرّون عليه ربما مراراً وتكراراً ويلحّون في الطلب كييأذن لهم بذلك.

ب - أو لعل المراد ب(يترددون) بلحاظ مجموعهم وإن كان كل منهم لا يتردد على النبي إلا مرة واحدة، ولا نستبعد وجود كلتا الحالتين.

ولقد كان مبعث ترددهم على النبي مستأذنين في القعود عن الجهاد هو ريبهم في أمر الرسالة وسوء ظنهم بأقوال الرسول إذ لم يكونوا مؤمنين بل كانوا منافقين يُظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، فهم يترددون على النبي (صلی الله علیه و آله) في حالة ريبهم فيه، والريب هو الظِنة بالشخص أو الشيء وسوء الظن فيه واتهامه، وهو قلق النفس واضطرابها، كما سبق تفصيله، وعلى هذا الأخير فمعنى الآية: إنهم في حالة قلق أنفسهم واضطرابها من الجهاد كانوا يترددون على النبي (صلی الله علیه و آله) مستأذنينه في القعود عن الجهاد.

هذا كله بناء على التفسير الثاني، ويحتمل أن يكون المراد من (يترددون) التردد في الأمر والتحيّر فيه - وهو التفسير الأول الذي صرح به بعض آخر من المفسرين

ص: 142

كتفسير الصافي - أي أنهم كانوا في حالة ريبهم في الرسالة والرسول مترددين في أمر الجهاد وصحة القرار وسلامته إذ كانوا يسيئون الظن به ويتهمونه (صلی الله علیه و آله) بأنه لا ينطلق في أوامر الجهاد من وحي إلهي بل من حب الرياسة والجاه والأنا - ونستغفر الله من حتى نقل قولهم - فكان ريبهم في الرسول هو مبعث ترددهم وشكهم في الحكم بالجهاد أو غيره أو كان قلق أنفسهم واضطرابها في أمر الجهاد هو مبعث ترددهم وشكهم.

وعوداً إلى «يَسْتَأْذِنُكَ»: فإنه يحتمل أن يكون المراد من «إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ» هو: أنهم (المنافقون) كانوا (يستأذنونه في الذهاب للجهاد)، (وهو عكس المعنى السابق وهو الاستئذان في القعود عن الجهاد) وذلك لأن المؤمنين كانوا إذا صدر الأمر الإلهي ينبعثون عنه فوراً ولا يتباطؤون أو يتثاقلون ولم يكونوا يستأذنون الرسول (صلی الله علیه و آله) للذهاب للجهاد إذ إنه قد أمرهم بالذهاب للجهاد فأي معنى للاستئذان بعد ذلك؟ فهو نظير أن يستأذنونه في أن يصلّوا أو يصوموا بعد أن أمرهم به!

أما المنافقون فإنهم رغم الأمر الإلهي بالجهاد، رغم ذلك كانا يترددون على النبي (صلی الله علیه و آله) يستأذنونه في الجهاد علّه يأذن لهم فيتخلصون بذلك من مخاطره وأهواله، أو المراد المعنى الآخر وهو أنهم في حالة ريبهم في أمر الرسول والرسالة كانوا يترددون في أمر الجهاد لذا كانوا يستأذنون في الذهاب لعلهم يحصلون على إذنٍ لا يمكنهم لولاه التخلف عن الجهاد لأنه أمر حكومي قانوني أيضاً إضافة إلى كونه أمراً شرعياً.

توضيح الفارق بين التفسيرين

ومما يوضح الفرق بين التفسيرين المثالان الآتيان:

ص: 143

أما التفسير الأول: وهو التردد في الأمر والتحير فيه والذي مبعثه، كما سبق، كثيراً ما يكون الريب وسوء الظن بالطرف الآخر واتهامه، فمثاله الواضح إن المسافر لو عرف السائق واطمئن إليه ولم يرتَبْ فيه فإنه لا يتردد في المسار المجهول الذي إتخذه للوصول إلى المقصد، كما لو خرج عن الشارع الرئيسيودخل في طرق فرعية منوّهاً إلى انها أقرب في الإيصال أو الأقل ازدحاماً.

على العكس مما لو ارتاب المسافر في أمر السائق وأساء الظن به وأتهمه في قرارة نفسه بأنه قد يكون متعاوناً مع عصابة من اللصوص أو جماعة من الإرهابيين - كما كان يحدث في العراق كثيراً إذ كان العديد من سائقي التكسي أو الباصات عملاء للإرهابيين أو متعاقدين معهم - فإن المسافر لو ارتاب في أمره فإنه إذا وجده يسلك طريقاً غير مألوفة فإنه يتردد في صحة هذا المسار الجديد أو خطورته ويتحير وربما قاده ريبه وتردده إلى إيقاف السائق فوراً والنزول من السيارة أو إجباره على الرجوع إن استطاع، أو على عكس ما سبق، الاستسلام له على وَجَل إذا لم يكن له خيار آخر.

وأما التفسير الثاني: وهو التردد بالذهاب والإيهاب والذي مبعثه، كما سبق أيضاً، كثيراً ما يكون الريب، فمثاله الواضح: المعلم أو قائد الجيش أو الحاكم فإن الشعب إذا ارتاب في أمر الحاكم أو ارتاب الضباط في أمر قائد الجيش فانهم لا ينفّذون قراراته بسرعة بل يترددون عليه (وعلى غيره ممن يحتمل تأثيره في عملية اتخاذ القرار) لدراسة أسباب اتخاذ القرار بشن الهجوم من هذه النقطة بالذات أو في هذا التوقيت فيترددون عليه وعلى غيره لاستجلاء واقع الأمر أو ليتريث ولا يعجل لتكون لهم فسحة من الوقت أكثر ليكتشفوا أعماقه فإما أن تثبت عليه التهمة وإما أن ترتفع.

ص: 144

وكذلك التلميذ لو ارتاب في إجابة المعلم، وأنه لعله كان حينها سارح الذهن أو مشتت الانتباه فإنهم يترددون عليه مرة أو أكثر ليستجلوا واقعالحال (وهذا هو المعنى الثاني)، كما أنهم يترددون ويتحيرون في إجابته السابقة وهل إنها كانت صحيحة أو لا (وهذا هو المعنى الأول).

محتملات «وَمَنْ تَرَدَّدَ فِي الرَّيْبِ وَطِئَتْهُ سَنَابِكُ الشَّيَاطِينِ»

ومن هذه البصيرة القرآنية ننطلق إلى كلام الأمير صلوات الله عليه فإنه ينهل من القرآن الكريم وعنه يصدره، إذ يقول: «وَمَنْ تَرَدَّدَ فِي الرَّيْبِ وَطِئَتْهُ سَنَابِكُ الشَّيَاطِينِ» والذي يحلل بذلك وجهاً من وجوه ابتناء الشك على دعامة التردد، والمحتملات في كلام الأمير (علیه السلام) هي ثلاثة:

الأول: مَن تردد في الريب أي تردد إلى مظانِّ الريب ومواطنه أي أكثر من التردد عليها، فكأنّ حرف الجر أخذ بمعنى (إلى) كما هو أحد معاني (في) نظير «فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ» فإنها - حسب تفسير المغني(1)

- تعني إلى أفواههم، فتأمل.

الثاني: إنه يعني تردد بالذهاب والإياب وهو على حالة الريب وفي أجوائه.

الثالث: إنه يعني تردد في الأمر في حالة الريب.

وتحقيق هذه المعاني إضافة إلى بعض المعاني الأخرى والأظهر منها، لعله يأتي في البحث القادم بإذن الله تعالى.

من الحقائق المفتاحية حول الشك والريب

إن من أهم الحقائق الكبرى حول (الشك) والتي قد يغفل عنها الأكثر هي:

ص: 145


1- مغني اللبيب: ج1 ص188.

الشك إما عقلي وعلمي أو نفسي وقلبي

إن الشك والتردد قد يكون عقلياً وقد يكون نفسياً أو قلبياً، بمعنى أن الشك تارة يكون مبعثه العقل والفكر أو المخ، وأخرى يكون مصدره القلب والعاطفة والنفس، ثم إنه تارة يكون هذا منشأ ذاك وأخرى يكون العكس.

ولكي يتضح لنا ذلك أكثر علينا أن نستذكر ما يقارب ذلك مما ذكره العلماء في علم المنطق وعلم النفس من أن (القوة المتوهمة) كثيراً ما تهيمن على القوة المتعقلة، هيمنةً عملية على الرغم من أن العقل - ويعضده العلم - يدلّ على خلاف ما تقود إليه القوة المتخيلة أو تُصوِّرُه وتحكُمُ به، فمثلاً: كثير من الناس يخافون من المبيت ليلاً في غرفة واحدة مظلمة مع جثمان ميت وهم بمفردهم ولكنهم لا يخافون من المبيت ليلاً مع شخص آخر حيّ من زوج أو قريب أو صديق، مع أن مقتضى القاعدة هو العكس فإن الميت لا يُخاف منه إذ إنه لا يستطيع التحرك والتحريك والإيذاء حتى قيد شعرة أما الحي فإنه هو الذي لعلّه يصاب بلوثة جنون أو بنوبة عصبية فجأة، فيهجم على الإنسان ليخنقه مثلاً!

وهنا نجد بوضوح أن العقل يحكم بأن الميت لا يضر ولا يشكل خطراً لكن القلب أو العاطفة أو القوة المتوهمة تحكم على العكس من ذلك فإذا كان الإنسان قوي العقل هَزَمَ المتوهمة وسيطر على الخوف بل لم يدعه يتسرّب إليه، على الضد مما لو كانت القوة المتوهمة فيه قوية وقلبه جباناً ونفسه مضطربة فإن خوفه النفسي يهيمن على حكمه العقلي فتراه قد لا ينامحتى الصباح!

ومن ذلك نعرف أن الشك العقلي قد لا يكون منشؤه الفكر وضعف البراهين المؤيدة أو قوة البراهين المضادة بل يكون منشؤه الشك القلبي أو الوسوسة أو الجبن النفسي، وذلك احد وجوه تفسيرنا لكلام الإمام (علیه السلام) إذ يقول: «الشَّكُّ

ص: 146

عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ عَلَى التَّمَارِي وَالْهَوْلِ وَالتَّرَدُّدِ وَالِاسْتِسْلَامِ» فلعل المقصود من الشك المبني على شُعَبٍ منها (التردد) هو الشك العقلي وأنه مبني على التردد والشك النفسي، كما يمكن تفسير كلامه (علیه السلام) بالعكس من ذلك أي إن الشك النفسي مبني على التردد العقلي، بل قد يكون المراد من التردد، العقلي، ومن الشك العقلي كذلك، أو يراد من كليهما النفسي، والمغايرة تكون باختلاف المتعلق، وأن بعض أنواع الشك والتردد العقلي مبنية على أنواع أخرى من الشك أو التردد العقلي، وكذلك حال النفسيين، فتدبر.

ضرورة تحليل سيكولوجية الفلاسفة والمفكرين

ومن ذلك نعرف أننا في مواجهة أي فيلسوف أو مفكر يطرح سلسلة من التشكيكات والشبهات، علينا أن نحلل شخصيته من الناحية السيكولوجية: فتارة تكون تشكيكاته نابعة من بحث عقلي موضوعي علمي، فهذا الشك له قيمة معرفية - بدرجة أو أخرى قليلاً أو كثيراً ولو في الجملة - وتارة تكون تشكيكاته نابعة من حالة التردد والوسوسة النفسية ومن اضطراب سيكولوجي أو من عقدة نفسية أو من حسد شديد أو حقد أو غضب أو مركّب نقصخطير، فهنا لا تكون لتشكيكاته أية قيمة علمية على الإطلاق إذ ما قيمة الشكوك التي لا تعدو كونها مرآة لشخصيةٍ قلقة مضطربة غير مستقرة؟

ولعل الذي يتتبع حياة الفلاسفة والمفكرين التشكيكيين يجد أن الكثير منهم أو البعض منهم على الأقل إنما يُنفَّس بتشكيكاته عن عُقَدٍ نفسية كامنة فيه وعن مركّب نقص خطير، ولا يكون مصدر تشكيكاته التفكير العلمي الهادئ العقلائي بل مصدرها الاضطراب النفسي؛ ومثل هذا الفيلسوف أو المفكر يجب أن نبحث له عن معالج نفسي ضليع خبير وأن نرثى لحاله، بدل أن نتأثر بتشكيكاته!

ص: 147

ألا ترى مثلاً أن وسواساً شديد الوسوسة في الطهارة والنجاسة أو جباناً شديد الخوف حتى من ظله، لو بدأ يفلسف لجبنه الشديد أو يبرهن على وجه وسوسته، فإننا لا نعير بالاً لكلامه لأننا نعلم بأنها محاولات يائسة لتبرير مركّب النقص والخلل والجبن والوسوسة في نفسه، وإلباس ذلك كله ثوباً علمياً كاذباً!

لمحة عن أفكار وحياة نيتشه الفيلسوف الشهير

والآن لنتوقف عند لمحات من حياة أحد أهم فلاسفة الغرب المعروفين بالعدمية والظلامية والتشكيك حتى في البديهيات لنجد البرهان على أن التشكيكات العقلية بل والبراهين العلمية - ظاهراً - إنما تنبع - في بعض الأفراد - من اضطراب نفسي ومركب نقص وعُقَدٍ في الحياة قد تكون قديمة جداً،وهذه الشخصية هي (فريدريش نيتشه)(1)، وذلك في ضمن ثلاث محطات: مكانته وشخصيته، بعض آرائه وأحكامه، البواعث النفسية والعوامل السيكولوجية الكامنة خلف ذلك: وذلك على حسب ما اقتبسناه من مجموعة من المقالات والدراسات التي كتبها مؤرخون وباحثون عن حياته أو أفكاره.

شخصيته ومكانته

المحطة الأولى: (شخصيته): فقد كان من الفلاسفة القلائل الذين حظوا بشعبية كبيرة وكان من بين الأكثر تداولاً وشيوعاً بين القراء، وكان لعمله تأثير عميق على الفلسفة الغربية وتاريخ الفكر الحديث.

ويُعدّ (نيتشه) من أهم فلاسفة أوروبا على الإطلاق حيث غذت آراؤه العديد من القيادات الفكرية كما يُعدّ مصدر إلهام للمدارس الوجودية وما بعد الحداثة في مجال الفلسفة والأدب في أغلب الأحيان. كما روّج لأفكار رأى كثيرون

ص: 148


1- فريدريش فيلهيلم نيتشه،Friedrich Nietzsche (15 أكتوبر 1844 - 25 أغسطس 1900).

أنها مع التيار اللاعقلاني والعدمية.

وقد استخدمت بعض آرائه فيما بعد من قبل أيديولوجيي الفاشية، وتبنَّت النازية أفكاره.

كما يعد أول من درس الأخلاق دراسة تاريخية مفصلة. كما قدّم نيتشه تصوراً مهماً عن تشكل الوعي والضمير، فضلاً عن إشكالية الموت.

بعض أفكاره وآرائه

المحطة الثانية: (بعض أفكاره وآرائه)
أ - (المرأة)

يقول نيتشه عن المرأة: (في كتابه (هكذا تكلم زرادشت): "لم تبلغ المرأة بعد ما يؤهلها للوفاء كصديقة، فما هي إلا هِرّة، وقد تكون عصفوراً، وإذا هي ارتقت أصبحت بقرة"!!(1).

كما أردف: "إذا ذهبت إلى المرأة فلا تنسَ السوط!".

وكان يرى أن المرأة ملكية ينبغي معاملتها كقِطعة تباع!

كما عبّر عن المرأة ب(فخ نصبته الطبيعة للرجل) وصب لعناته عليها!

فهذه إذن نظرة هذا الفيلسوف إلى المرأة! هذا الفيلسوف الذي كتب عنه أحدهم مقالاً تحت عنوان (الخالدون عشرة أعظمهم نيتشه)! في مجلة (ألفا بيتا) سبتمبر 2014.

ب - (العدمية)

ويقول نيتشه في كتابه (إرادة القوة) عن العدمية وهي مذهبه الفلسفي "كل معتقَد، وكل شيء يعتبر حقيقة، هو زائف بالضرورة لأنه ببساطة ليس هناك

ص: 149


1- هكذا تكلم زرادشت، ترجمة فليكس فارس: ص80.

عالم حقيقي"(1).

فبالنسبة له، تتطلب العدمية تبرؤً تاماً من كُلفة القيم والمعاني المزيفة ويقول: "العدمية هي... ليست فقط الاعتقاد بأن كل شيء يستحق الموتوالفناء، بل أن يضع الإنسان كتفه على المحراث، أن يدمّر" كما جاء في كتابه، [إرادة القوة] ونترك للقارئ الكريم تفسير النفسية المتطرفة وإلى حد مخيف والتي تقف خلف هذا النمط من التفكير.

ويرى نيتشه أن القوة الكاوية للنزعة العدمية قوية جداً ومطلقة، وتحت فحصها الصارم "تنكر القيم العليا ذاتها، حيث أن تفتقر إلى الهدف، وكلمة لماذا لا تلقى أية إجابة" [إرادة القوة])(2).

وقد عرّف بعض المفكرين العدمية بقوله: (العدمية Nihilism هي الاعتقاد بأنّ كافة القيم والأخلاق ليس لها أي أساس أو قاعدة يمكن الرجوع إليها أو القياس على أساسها. وهي غالباً ما ترتبط بالتشاؤم المفرط والشك العميق بحقيقة الوجود. والعدمي الحقيقي هو الذي لا يؤمن بأي شيء، وليس عنده أي وفاء لأي مذهب، وهو يفتقر إلى الإيمان وحس الغاية أكثر من كونه يميل إلى التهديم وإسقاط القيم والمفاهيم. وبينما يدعي بعض الفلاسفة كونهم عدميين، إلا أن العدمية غالباً ما تعود في جذورها إلي الفيلسوف الألماني "فريدريش نيتشه" والذي قال أن التأثيرات الهدّامة للعدمية ستدمّر في النهاية كل المعتقدات الأخلاقية، والدينية، والميتافيزيقية، وتؤصل للأزمة الأعظم التي ستواجه الفكر البشري في التاريخ)(3).

ص: 150


1- من موقع الحوار المتمدن، للكاتب إبراهيم جركس، 20/11/2009م.
2- من موقع الحوار المتمدن، للكاتب إبراهيم جركس، 20/11/2009م.
3- من موقع الحوار المتمدن، للكاتب إبراهيم جركس، 20/11/2009م.

إذاً وحسب رأي نيتشه فان مكارم الأخلاق، كحسن الخلقوالتواضع ورحمة الأيتام والفقراء والحنان والعطف والغيرة والشجاعة والكرم وحسن الضيافة كلها قِيَم تنكر ذاتها بذاتها وليس لها أي أساس أو قاعدة يمكن الرجوع إليها بل هي (زائفة بالضرورة) حسب تعبيره السابق وكذلك فإن الأمانة لا تعد فضيلة ولا الخيانة شراً ورذيلة، وكذلك الرشوة والسرقة والاختلاس وغير ذلك! وانظر إلى أي عالم يقودنا نيتشه!

و(العدمية في الحقيقة، يمكن فهمها بطرق عدة مختلفة:

- العدمية السياسية، وهي مرتبطة بالاعتقاد بأن دمار كافة الأوامر السياسية والاجتماعية والدينية هو شرط لازم لأي تطور مستقبلي(1).

- العدمية الأخلاقية, وهي ترفض إمكانية وجود القيم الأخلاقية المطلقة. وفي المقابل، الخير والشر هما أمران مبهمان وضبابيان، والقيم التي تحاكيهما ما هي إلا نتاج الضغوط الاجتماعية والعاطفية، وليس شيء آخر.

- العدمية الوجودية، هي الفكرة التي تقول أن الحياة ليس لها أي قيمة أو معنى جوهري، وهذا هو المفهوم الأعم والأكثر استعمالاً للكلمة هذا اليوم)(2).

إن الصدق والوفاء والأمانة، تحاكي الخير، والكذب والخيانة والدجل والسرقة والاغتصاب تحاكي الشر، فهذه كلها - حسب المدرسة العدمية - ليست أموراً واقعية في حد ذاتها بل هي نتاج الضغوط الاجتماعية والأخلاقية! فلا قيمة موضوعية للأخلاق أبداً - وقد فصلنا في كتاب (نقد الهرمينوطيقيا) وكتاب (نسبية النصوص والمعرفة) الكلام حول هذه الآراء.

ص: 151


1- فلاحظ التعميم في الكلام، بدون أن يميّز ويفصل بين الأوامر السياسية أو الاجتماعية أو الدينية الصحيحة عن الفاسدة والعادلة عن الظالمة!!
2- من موقع الحوار المتمدن، للكاتب إبراهيم جركس، 20/11/2009م.

(العدمية في الفرنسية/Nihilisme في الانكليزية/Nihilism وهو مشتق من اللفظ اللاتيني(Nihil) ومعناه لا شي ء.

العدمية ثلاثة اقسام: فلسفية، وأخلاقية، وسياسية.

1- أما العدمية الفلسفية (Nihilisme Philosophique) فهي مطلقة أو نقدية. الأولى تتميز بإنكار وجود كل شي ء، والثانية تتميز بإنكار قدرة العقل على الوصول الى الحقيقة. وهي في كلا الحالين مرادفة للريبية (Scepticisme).

2 - وأما العدمية الأخلاقية (Nihilisme moral) فهي مذهب نظري أو نزعة فكرية، فإذا كانت مذهباً نظرياً دلت على إنكار القيم الأخلاقية وإبطال مراتبها. وإذا كانت نزعة فكرية، دلت على خلو العقل من تصور هذه القيم)(1).

ج - رأيه عن (الله تعالى)

وأما عن الله تعالى فلاحظ ما كتبه في كتابه :(هكذا تكلم زرادشت) فإنه (يبدأ الكتاب بقصة زرادشت " نسبة إلى الحكيم الإيراني القديم" الذي نزل من محرابه في الجبل بعد سنوات من التأمل ليدعو الناس إلى الإنسان الأعلى وهي الرؤية المستقبلية للإنسان المنحدر من الإنسان الحالي وهي رؤيةأخلاقية وليست جسمانية حيث الإنسان الأعلى هو إنسان قوي التفكير والمبدأ والجسم، إنسان محارب، ذكي، والأهم شجاع ومخاطر.

يلتقي زرادشت بعدها بعجوز يصلي ويدعو الله فيستغرب ويقول: "أيعقل أن هذا الرجل العجوز لم يعلم أن الله مات وأن جميع الإلهة ماتت؟!")(2).

وقبل ان ننتقل للمحطة الثالثة لنكتشف سر آراءه المتطرفة التشكيكية

ص: 152


1- المعجم الفلسفي: ج2 ص66.
2- من موقع ويكيبيديا (فريدريش نيتشه).

والعدمية والظلامية هذه، نشير إشارة سريعة إلى أنه لا يُعلم مدى موثوقية نقله هذه الحادثة عن زرادشت؛ وعلى فرض صحتها فهنا مناقشة أساسية وهي: ماذا يقصد نيتشه (وزرادشت أيضاً إذا كان المنقول عنه صحيحاً) من (أن الله مات)؟ هل يقصد المعنى الفلسفي؟ أو المعنى العرفي العوامي؟ هل يقصد المعنى الحقيقي أو المجازي؟ وعلى كل التقادير فكلامه غير علمي ولا موضوعي بل هو مجرد شعار بدون مضمون علمي ولعله يستهوي ضعاف النفوس؛ إذ نقول:

أولاً: إذا كان المقصود هو المعنى الفلسفي (لله) فالمعنى الفلسفي (لله) هو (واجب الوجود) وواجب الوجود لا يعقل أن يموت وإلا لكان ممكن الوجود هذا خلف، أي إن نيتشه أو زرداشت تصور ممكن الوجود وسمّاه إلهاً وآلهة ثم حكم عليه بأنه مات! والله الذي يعتقد به الموحد هو واجب الوجود، وشعار (مات) متناقض مع مفهوم الله وواجب الوجود.ثانياً: إذا كان المقصود إن الله والآلهة التي كانت في أذهاننا قد ماتت وإننا تطوّرنا ولم نعد نعتقد بها، فهذا مصادرة محضة إذ لا يكون الموت الذهني لمفهوم أو حقيقةٍ دليلاً ومرآة على الموت الخارجي؛ ألا ترى أن من السخف أن يقول شخص مهما كان عالماً أو مفكراً بأن وجود الأشعة الكهرومغناطيسية قد ماتت في أذهاننا إذن فهي ليست موجودة في الخارج!

ثالثاً: نسأله: عندما حكم بموت الإله أو الآلهة فهل أنه تجوّل في أنحاء العالم وفي المنظومة الشمسية والكواكب كزهرة وعطارد وزحل وبلوتون ونبتون وفي خارج المنظومة الشمسية في أطراف مجرة درب التبّانة ثم خارجها، فشاهد هناك إلهاً أو آلهة ثم شاهد أنه قد مات! أن من لا يحيط بجزء بسيط من العالم كيف يدعي دعوى عظيمة كهذه بدون برهان!

ص: 153

د - ه - النزعة الفردية والقومية

يعد نيتشه من أعمدة النزعة الفردية الأوروبية حيث أعطى أهمية كبيرة للفرد؛ واعتبر أن المجتمع موجود ليخدم وينتج أفراداً مميزين وأبطالاً وعباقرة! فالمجتمع كله والناس كلهم لا قيمة لهم إلا ليخدموا الأبطال والعباقرة!

ولكنه ميّز بين الشعوب ولم يعطها الأحقية أو المقدرة نفسها حيث فضل الشعب الألماني على كل شعوب أوروبا! وأحط الشعوب الأوروبية برأيه هي الإنكليز حيث أثارت الديموقراطية الإنكليزية واتساع الحريات الشخصية والانفتاح الأخلاقي اشمئزازه، واعتبرها دلائل افتقار للبطولة)!.

و - القوة، لا الأخلاق!

(وأن النمط الأخلاقي الصائب هو النمط الإغريقي والذي كان يمجد القوة والفن ويستخف بالرقة والنعومة وطيبة القلب).

(يقول زرادشت: "يجب أن تحبّ السِّلم كوسيلة لحرب جديدة، وتحبّ السِّلم القصير أكثر من الطويل... لقد صنعت الحرب والشجاعة عظائم الأمور أكثر ممَّا صنعته محبَّة القريب")(1).

و(على ذلك يكون شعاره "الحياة الخطرة". ولمَّا كانت غايته الفوز فإنَّه يرفض كلَّ شفقة على المساكين، ولمَّا كان يلخِّص الإنسانية في شخصه فإنه يسودها وهو مطمئن الضمير، ويجد في الفوز غبطته العظمى. وأخيراً، يثبت مصيره إلى الأبد، بقبوله أن يعود فيحيا حياة البطولة هذه إلى غير نهاية، وفقاً لنظرية "العود الأبدي" (Recurrence Eternal)(2).

ص: 154


1- الموسوعة الميسرة في الفكر الفلسفي والاجتماعي: ص617.
2- الموسوعة الميسرة في الفكر الفلسفي والاجتماعي: ص618.

الخلفية السيكولوجية المأساوية لأفكار نيتشه المتطرفة

المحطة الثالثة: (الخلفية النفسية لآرائه المأساوية)

وعندما ندرس حياة نيتشه نكتشف السبب الأعظم وراء تطرفه الغريب ضد المرأة وضد الإله بشكل مطلق وضد القيم الأخلاقية والسرَّ الكامن وراءفلسفته العدمية، ونرى بوضوح أن خط سيره العاطفي - المأساوي هو الذي انتج خط سيره الفكري التشكيكي الظلامي العدمي؛ وأنه كان يعاني من اضطرابات نفسية عميقة متجذرة، ومن كبت شديد ومركب نقص عميق، ومن صدمات عاطفية قاسية جداً؛ وكل ذلك هو الذي قاده إلى اليأس والاحباط والرؤية التشاؤمية والظلامية لكل شيء؛ فلنقرأ بعض ما جرى له طوال حياته:

1 - وقع في الحب عدة مرات لكنه فشل بسبب عينيه الحادتين ونظراته المخيفة برأي الفتيات! لذا اتسمت حياته بالكآبة حتى نهايتها.

2 - أحبّ فتاه بروسية وفارقته وهي تلميذته لوسالوميه بعد رفضها له وزواجها بتشارلز اندرياس. وقبّل الأرض من تحت قدميها لكي تقبل به لكنها رفضته؛ فاستهام بها وقادته إلى الجنون.

3 - كانت علاقة نيتشه بأخته قوية وكان يحبها حباً كبيراً لذا تألم كثيراً عندما تزوجت برجل لا تحبه وسافرت لتقيم في مستعمرة اشتراكية في الأوروغواي.

4 - صاحب نيتشه الجهد سواء أكان جسدياً أم عقلياً وكانت حياته حياة استثنائية في مصارعة الألم والصداع وآلام الرأس والاستفراغ نتيجة إلى مرض السفلس الذي التقطه من بيت دعارة في كولون.

ومن الواضح التأثيرات الرهيبة لمثل هذا المرض الخطير والألم والصداع الدائم والاستفراغ المستمر، على طريقة تفكير الإنسان وتحوله إلى ساخط على

ص: 155

كل شيء مُحبَط من كل شيء ومتشائُم من كل شيء.

5 - في عام 1889 انهار وهاجم حصاناً وأثار جدلاً في شوارع تورين عاد إلى مدرسته الداخلية ورقص عارياً!

6 - كما أنه فكر في قتل القيصر وكان يظن نفسه يسوع ونابليون وبوذا والاسكندر المقدوني وفيكتور ملك إيطاليا، وما بالك بمن يعتقد عن نفسه ذلك؟ وهل تجد لأفكاره الفلسفية العدمية الظلامية حينئذٍ قيمة؟

ونتيجة لذلك كله أُخذ مكبلاً في قطار ونُقل إلى ألمانيا حيث أُودع في ملجأ لكن أمه وأخته أخرجتاه واعتنيتا به حتى توفي بعد 11 سنة في عمر 56 سنة.

7 - إضافة إلى ذلك كله كان يعاني من ضعف البصر وكانت أمه أرملة كما أنه وقع عن صهوة حصانه مما دفع بقائد فرقته أن يعفيه من الخدمة بعد إصابته ولكن نيتشه ظل طول عمره متأثراً بالحياة العسكرية والأخلاق الإسبارطية التي عرفها في الجيش.

تحليل بعض الفلاسفة والمفكرين لنفسية نيتشه

ولنقرأ بعض كلمات العلماء والباحثين عن سيكولوجية نيتشه:

8 - (كان نيتشه يغار من المسيح، يغار إلى حد الجنون - وكان يعود إلى نيتشه وحده أن يعيد اكتشاف مسيح حقيقي وأن يبعثه من جديد من كفنه - ولكن بدلاً من أن ينضوي نيتشه تحت لواء من يتفوق تعليمه على تعليمه اعتقد بأنه يكبر إذا ما جابهه - أندريه جيد)(1).و(هذا هو نيتشه وإنسانه الأعلى، الذي هو قوة متكبرة يسوقها هذيانها المتعجرف إلى القول بعبودية الجنس البشري وهوانه. لصالح من؟ لصالح الإنسان

ص: 156


1- معجم الفلاسفة، جورج طرابيشي، مادة:نيتشه، ص 679.

الأعلى، الذي هو... مجنون بائس يصرخ ويستهل بين أيدي الممرضين - أندريه سواريس)(1).

و(أرجح الظن أن نيتشه لم يعرف صفة مرضه، لكنه كان مدركاً تماماً لما هو مدين له به؛ فمن خاصة هذا المرض أن يستحدث ثملاً تنداح فيه أمواج من السعادة والقدرة وتنتشي فيه قوى الحياة ذاتياً؛ وقبل أن يغرق ضحيته في الليل العقلي ويقتله يمحضه تجارب وهمية من القدرة واليسر والوحي والإشراق!!... ويقتاده إلى اعتبار نفسه أداة الإله ووعاء النعمة بل إلهاً متجسداً - توماس مان)(2).

و(من الممكن أن نجد لدى نيتشه بصدد كل حكم نقيضه. فلكأنّ له في الأشياء طراً رأيين. وقد أمكن لمعظم الأطراف أن تختبئ خلف سلطته: الملحدون والمؤمنون، المحافظون والثوريون، الاشتراكيون والفرديون، العلماء المنهجيون والحالمون، السياسيون واللاسياسيون، أحرار الفكر والمتعصبون - كارل ياسبرز)(3).(بعدها أصيب بعدَّة أمراض أوهنته سنين عديدة، ممَّا اضطره إلى الانقطاع عن التدريس، فاعتزل منصبه في عام 1879. وبعد عشر سنين، انتهى به المرض إلى الشَّلل الكُلَّيّ والجنون. فظلّ على هذه الحال عشر سنين، حتى توفِّي عام 1900م. وقد قالت أخته: إنَّ السبب الرَّئيسيّ في مرضه الأخير، كان إدمانه على الكلورال الذي استعمله بكثرة استجلاباً للنوم)(4).

المحصّلة

إذاً نحن أمام شخصية مأساوية كانت حياتها سلسلة من المآسي

ص: 157


1- معجم الفلاسفة، جورج طرابيشي، مادة:نيتشه، ص 679.
2- معجم الفلاسفة، جورج طرابيشي، مادة:نيتشه، ص 679 - 680.
3- معجم الفلاسفة، جورج طرابيشي، مادة:نيتشه، ص 679 - 680.
4- الموسوعة الميسرة في الفكر الفلسفي والاجتماعي: ص616.

والسقطات والزلات وكانت هذه الشخصية تعاني من مرض السفلس وآلام الرأس الدائمة والاستفراغ وكان مطعوناً في كرامته بأشد الحالات والصور عندما رفضته تلميذته رغم أنه قبّل الأرض بين قدميها كما رفضته كافة من تقدم للزواج منهن؛ وكان يعاني من مركّب نقص عنيف وشديد كما ساقه اضطراب شخصيته الشديد إلى أن يظن نفسه يسوع المسيح تارة وبوذا مرة ونابليون أو الاسكندر أو فيكتور تارات أخرى.

ومن الواضح بعد كل ذلك أن كافة أحكامه ضد المرأة وضد الإله وضد القيم الأخلاقية وغير ذلك، لا تمتلك أية قيمة معرفية على الإطلاق؛ أو على الأقل - ومن منظار علم النفس - فان تلك العوامل المأساوية في حياته تصلح تفسيراً معقولاً لسبب التطرف في آرائه ولتشكيكه في كل القيم بل ثورته الشديدة ضدها، وذلك هو بالضبط ما بدأنا به تفسيرنا لكلام الإمام (علیهالسلام): «الشَّكُّ عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ عَلَى التَّمَارِي وَالْهَوْلِ وَالتَّرَدُّدِ وَالِاسْتِسْلَامِ:

فَمَنْ جَعَلَ الْمِرَاءَ دَيْدَناً لَمْ يُصْبِحْ لَيْلُهُ،

وَمَنْ هَالَهُ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ،

وَمَنْ تَرَدَّدَ فِي الرَّيْبِ وَطِئَتْهُ سَنَابِكُ الشَّيَاطِينِ،

وَمَنِ اسْتَسْلَمَ لِهَلَكَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ هَلَكَ فِيهِمَا».

رابع دعائم الشك: الاستسلام للاقوى والتقمص لشخصيته

اشارة

قال الله العظيم في كتابه الكريم: «قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ»(1).

وقال الله جل اسمه: «وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ

ص: 158


1- سورة هود: 62.

فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ»(1).

وقال الإمام علي (علیه السلام): «الشَّكُّ عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ عَلَى التَّمَارِي وَالْهَوْلِ وَالتَّرَدُّدِ وَالِاسْتِسْلَامِ... وَمَنِ اسْتَسْلَمَ لِهَلَكَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ هَلَكَ فِيهِمَا».

ونتوقف في البدء للتزود من بعض البصائر القرآنية على ضوء الآيتين الكريمتين ولنكتشف من بعدُ مغزى كلام الإمام (علیه السلام) إذ يقول: «وَمَنِ اسْتَسْلَمَ لِهَلَكَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ هَلَكَ فِيهِمَا» باعتباره امتداداً لتلك البصائر فنقول: إن المحاكاة والتقليد والتقمص كلها تعدّ مظاهر منوعة من علاقة الأنا بالأنا الآخر:

المحاكاة

ف(المحاكاة) تعني أن يحاكي الإنسان بفعله أو بفكره أو مواقفه أفعال الآخرين أو أفكارهم أو مواقفهم وقد تكون تلك المحاكاة عن اجتهاد وإيمان ولا تكون مستندة إلى مجرد صدورها من الأنا الآخر بل تكون وراءها أدلتها وبراهينها وبذلك تختلف عن التقليد المحض، نعم قد تكون المحاكاة مندرجة في التقليد في بعض الحالات ولذا فسّرها بعضهم بالتقليد، وقد تنتقل المحاكاة إلى مرحلة (التجسيد) وقد عرّفها البعض بأنها (تجسيد يحاكي حدثاً بهدف تحقيق التطهير)، وفسرها البعض الآخر ب: (تماثل بنية العمل البشري مع العمليات الطبيعية العضوية من حيث الغائية)، وأما في حقل الفن فقد قيل: (إن المحاكاة هي فنّ يحاكي الطبيعة موجداً تقليداً من الدرجة الثانية).

وعلى أي فإنها بأجمعها تفسير بالمصداق أو فقل تفسير بالأخص.

والمحاكاة إذا كانت عن اجتهاد فإنها ليست من (الاستسلام) الوارد في كلام الإمام (علیه السلام).

ص: 159


1- سورة غافر: 34.

التقليد

أما (التقليد) فهو الاستناد إلى الغير في العمل أو العمل عن استناد إليه أو الالتزام بقول الغير، على الأقوال في حقيقته، فهو يستند إلى الغير ويذعن بالفكرة أو الرأي أو المسألة أو الموقف لأن الغير قد إرتآه وقاله لا عن برهان.

والتقليد على قسمين: فقد يكون لا عن برهان على مرجعية المقلَّد وحجية أقواله فهذا هو التقليد المذموم قطعاً إذ لا يمتلك المقلد حينئذٍ الحجةعلى نفس الرأي والفكر والفتوى ولا على مرجعية الرائي والمفكر والمفتي.

وقد يكون عن برهان على مرجعية المقلَّد وذلك كتقليد أهل الخبرة فإن البرهان دل على مرجعيتهم فيما هم خبراء فيه، وهذا التقليد ليس بمذموم لأنك وإن افتقدت الحجة على الفتوى والفكرة بذاتها لكنك لم تفتقد الحجة على المفتي والمفكر بمعنى أن يكون الدليل قد دلّك على أن قوله حجة إجمالاً وإن لم تعرف تفصيل وجوه التزامه بهذا الرأي أو ذاك.

والنسبة بين المحاكاة والتقليد هي العموم المطلق(1)

إن لم نقل بأنها هي من وجه، فتدبر.

والتقليد هو نوع من الاستسلام فإن كان عن حجة كان منجزاً أو معذراً وإلا فلا.

التقمُّص

وأما (التقمُّص) فهو أشد عمقاً ورسوخاً من المحاكاة والتقليد، ذلك أنه يعني أن يتقمص الشخص شخصية الآخر وأن يتلبس بلباسه وأن يستعير شخصيته مطلقاً أو في الجملة حتى يصير لكأنّه هو هو، وبعبارة أخرى هو ذوبان

ص: 160


1- والمحاكاة أعم.

الأنا في الأنا الآخر، وذلك يشكل أقصى درجات (الاستسلام) للآخر والانبهار به والاعتزاز والاعتداد والاعتقاد.

و(التقمص) مرض نفسي إذ يفقد معه الإنسان حريته وإرادته، مطلقاً أو إلى حد بعيد جداً، فيصبح مثل المنوّم مغناطيسياً يتحرك وينطلق ويتخذالمواقف لا عن إرادة بل يسير كما يوجهه الآخر أو كما يعتقد هو أن الآخر كذلك.

وللشخصية الأخرى التي تقمّصَتْها الأنا تأثير لا محدود على المتقمِّص حتى أنه قد يتناقض مع ذاته إذا كان لتلك الشخصية موقف آخر أو رأي أو نمط آخر في الحياة، وكثيراً ما يحسم المتقمِّص الصراع لصالح الأنا الآخر، وقد يعيش اضطراباً نفسياً عنيفاً بين قناعاته الفطرية أو المكتسبة سابقاً وبين هيمنة الأنا - الآخر عليه.

تقمّص الكفار لشخصيات آباءهم

وهذا هو بالضبط ما نجده في الكفار فإنهم من جهة لم يكن أكثرهم مقلدين لآبائهم فحسب بل كانوا متقمصين لشخصياتهم تماماً إلى درجة أن عارضوا الحجج الجلية والبراهين الفطرية التي جاء بها الأنبياء إليهم فقالوا: «أَتَنْهَانَا

أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا»(1) مع أن أباءهم لو كانوا قد شاهدوا الأنبياء فلعلهم كانوا قد أذعنوا لهم وآمنوا بهم، وهكذا نجد أنهم لم يكن رفضهم لحركة الأنبياء ورسالتهم مستنداً إلى دليل بل ولا حتى إلى تقليد للآباء فحسب بل كان انبهارهم بآبائهم إلى درجة أفقدتهم شخصياتهم الذاتية فتحولوا إلى تجسيد مشوّه لآبائهم الماضين وإلى نسخة أخرى تمشي على الأرض بعد موت الآباء والأجداد والأسلاف.

ومن جهة أخرى، فان الكثير منهم عاشوا التناقض بين شخصياتهم المسحورة بالآباء والمندكّة فيهم وبين قوة براهين الأنبياء حججهم، لذا عانوااضطراباً داخلياً

ص: 161


1- سورة هود: 62.

عنيفاً، وهكذا وجدناهم يترنحون بين الشك والإنكار فهم شاكون كما يصرحون به أحياناً لكنهم في الوقت نفسه كفار رافضون، مع أن الشاك متحير وجاهل باعترافه فلا يحق له الكفر والرفض والإنكار بل غاية الأمر ان يقول: لا أدري أنك نبي أم لا؟ لا أن ينكر نبوته ويرفضها وكانّ عدمها من المسلّمات.

فلاحظ قوله تعالى حكاية عن الكفار: «أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ»(1).

إذا كانوا شكاكاً فكيف يكونون كافرين؟

فإذا كانوا شكاكاً «وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ» فكيف يقولون: «إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ»؟ الوجه هو ما سبق من انه ما ذلك إلا لاضطراب الشخصية وتناقض الأنا الصافية من الشوائب مع الأنا المتقمصة للأنا الآخر.

ثم إن الغريب أن الأنا المتقمصة للأنا الآخر، قد تنعكس على جوارحها وحركاتها وحتى أسارير وجهها، ملامح شخصية الأنا الآخر، وذلك ما نجدهفي الكثير من الناس إذا انبهروا بشخصية ما انبهاراً شديداً فانه سوف يقوم، لا شعورياً، بتقليده حتى في حركات يديه وطريقة مشيته أو جلوسه وقيامه بل

ص: 162


1- سورة إبراهيم: 9 - 11.

وحتى في نظراته وكيفية تفاعل ملامح وجهه مع الأحداث والمواقف والأشخاص.

نعم يبقى استثناء واحد يكون فيه التقمّص - لا إرادياً كان أو إرادياً - أمراً حسناً مطلوباً وهو ما كان الأنا الأخر يجسّد القمة في الطهر والنقاء والفضيلة والتقوى كما يجسد القمة في العلم والمعرفة والسلوك وغير ذلك، ولا يكون ذلك إلا في الذين عصمهم الله تعالى عن كل خطأ وخطل وشك وسهو أو جهل، قال تعالى: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا»(1) وقال: «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ»(2) وقال: «الَّذِينَ

يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ»(3).

ولعل ذلك مما يُفسَّر به ما ورد عن الصديقة الزهراء (علیها السلام) من «مَا

تَخْرِمُ مِشْيَتُهَا مِشْيَةَ رَسُولِ اللَّهِ (صلی الله علیه و آله)»(4)، فإنه من الواضح أنها (علیها السلام) لم تقلده (صلی الله علیه و آله) في طريقة المشي بالتدريب والتمرين، بل كانت مشيتها وحركاتها وسكناتها كمشيته لأنها كانت نسخة ثانية عنه إذ كانت «فَاطِمَةُبَضْعَةٌ مِنِّي» بل كانت «رُوحِيَ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيَّ»(5) فهي (علیها السلام) أسمى وأجل وأعلى من أن يطلق عليها مصطلح كذلك المصطلح.

فلسفة وجوب اليقين في أصول الدين

وعوداً على بدء: فإن من ذلك كله نعرف أن (أصول الدين) لأنها

ص: 163


1- سورة الأحزاب: 33.
2- سورة القلم: 4.
3- سورة الأعراف: 157.
4- الاحتجاج: ج1 ص97.
5- الأمالي - للصدوق -: ص112.

الأساس لكل شيء وللحياة بكافة أبعادها، فإنه لا يصح فيها إلا الاجتهاد والإذعان عن برهان ولا يكفي فيها التقليد أبداً، كما هو شِبه المجمع عليه، وإن كانت الأقوال في المسألة ستة، فكيف بالتقليد الأعمى النابع عن تقمص شخصية الأنا - الآخر؟ وذلك لأن التقليد حيث لم يكن عن برهان فإنه ينهار عند الاصطدام ببيئة أخرى وأجواء أخرى أو آراء أخرى أو عند مواجهة أدلة أو حجج مضادة وإن كانت جدلية.

وهذا ما نشاهده في الكثير من شبابنا الذي يسافرون إلى أجواء حضارية أخرى كبلاد الغرب، فانهم سرعان ما يذوبون في تلك الأجواء ويفقدون دينهم ومعتقداتهم كاملة أو في الجملة، وما ذلك إلا لأحد أمرين: إما لأنهم كانوا مقلدين في قضايا أصول الدين لذلك انهاروا عند أول مواجهة مع أدلة اجتهادية مضادّة، وأما لانهم كانوا متقمصين لشخصيات أبهرتهم في بلادهم لكنهم حيث سافروا إلى بلاد أخرى وتغيرت الظروف والسياقات الاجتماعية وتألّقت أمامهم شخصيات أخرى بدت لهم أشد بريقاً وعظمة، فانهم لا شعورياً استسلموا لها وبدأوا يتقمصون هذه الشخصيات الجديدة لتكون هي الأنا - الجديدة لهم.

الفرق بين الإسلام والاستسلام

ولكي نفهم بنحو أعمق، مغزى كلام الإمام (علیه السلام): «وَمَنِ

اسْتَسْلَمَ لِهَلَكَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ هَلَكَ فِيهِمَا» علينا أن ندرس الفرق بين الإسلام والاستسلام، فمع أن المادة واحدة إلا أن الظِّلال والدلالات مختلفة؛ إذ صيغت بتصريفات وهيئات متغايرة:

فإن (الاستسلام) يستبطن وجود قوة قاهرة يخضع لها الإنسان لمجرد أنها أقوى، لا لكونها حقاً أو أمراً برهانياً وإن كان قد يكون كذلك لكنه غير ملاحَظٍ

ص: 164

في حيثية الاستسلام، تقول مثلاً: إستسلَمَ لسلطان الشهوة أو لإغراء المرأة أو لسطوة الحكومة أو حتى لسلطان النوم.

وفي المقابل فإن (الإسلام) يعني الخلوص والخلو من الشوائب، قال تعالى: «إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ»(1) وإن تسلم وجهك لله «وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ»(2) وقال: «وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا»(3) أي قالوا قولاً ليس في إثم ولا تعدٍّ، والمسلم هو السالم إيمانُه من الشرك والرياء والحسد والحقد ومن الفسق والفجور ومساوى الأخلاق، فهذا هو المسلم حقاً.

وقال تعالى: «مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَاكَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ»(4) فقد أسلم أمره وأسلس قياده لله تعالى ليوجهه نحو مدارج الكمال والقُرب، وليكون بوصوله إلى أعلى مراتب الإسلام والتسليم إماماً «وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ»(5).

فالاستسلام إذاً هو الخضوع والانقياد لقوة قاهرة أو سلطة أقوى لمجرد أنها قوة أقوى وقد تكون الشيطان نفسه أو قد تكون الأهواء والشهوات وقد تكون كما قال (علیه السلام): «وَمَنِ اسْتَسْلَمَ لِهَلَكَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ هَلَكَ فِيهِمَا» و(هلكة الدنيا والآخرة) تعني مهلكات الدنيا والآخرة أي ما يهلك الإنسان إذا انقاد له وخضع.

ص: 165


1- سورة آل عمران: 19.
2- سورة لقمان: 22.
3- سورة الفرقان: 63.
4- سورة آل عمران: 67.
5- سورة البقرة: 124.

أنواع الاستسلام للمُهلِكات

والاستسلام لمهلكات الدنيا والآخرة، أنواع وأقسام وألوان وأصناف، وسنشير إلى بعض تلك الأنواع:

الاستسلام للحضارة المهيمنة، وللحكام الطغاة، وللقيادات الزائفة، وللمفكرين المتذبذبين، وللشخصيات المرموقة، وهذه الألوان الخمسة تحتاج كل منها إلى وقفة طويلة لكننا سنقتصر الآن على بعض الكلام عن اللون الأول والخامس:(الاستسلام للحضارة المهيمنة) ولا شك أن الحضارة المهيمنة في عالم اليوم هي حضارة الغرب بما تمتلك من ثروات هائلة وتقدم علمي وتكنولوجي مبهر وقوة عسكرية ساحقة، ومن الطبيعي أن تجد الكثير من شبابنا بل حتى الكثير من مفكرينا (ينبهر) بالغرب ويخضع، فكرياً وسلوكياً، إلى هيمنته الطاغية بل قد تصل درجة الخضوع والانبهار إلى مرحلة التقمص.

الاستسلام للموضة وسحر الأفكار الوافدة

وكما نجد الكثير من الشباب مسحوراً بالموضة وحتى التي قد تكون مخالفة للفطرة مناقضة للذوق السليم، كذلك تجد الكثير مسحوراً بالأفكار الوافدة، وذلك كنتيجة للانبهار أو التقمص الذي يمتلك القوة على أن يحوّل القبيح إلى حسن والمنكر إلى معروف وبالعكس، فمثلاً تجدهم في ملابسهم مشدودين إلى آخر الموضات والتقليعات حتى تجد أحدهم يلبس ملابس ممزقة(1) بل إنها إذا

ص: 166


1- كالبنطلون الممزق عند الركبة أو غيرها.

كانت جديدة فإنه يمزقها كي يتناغم من الهيبز(1)، أويسرح شعر رأسه ويصففه بوضع الأصباغ وأنواع الصمغ كي يظهر كعُرف الديك مثلاً، وظاهرة (الايمو)(2) هي من الأمثلة الأخرى على ذلك.

وكما تأسر موضة الأقوياء الشبابَ وتسحرهم، كذلك تأسر الأفكار الواردة من الغرب أو الشرق عقول بعض المفكرين فلا يعود يفكر بعقله بليفكر وكأنه الأنا الآخر.

ص: 167


1- الهيبز (بالإنجليزية: Hippies) ظاهرة اجتماعية كانت بالأصل حركة شبابية نشأت في الولايات المتحدة في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين ثم ما لبثت أن انتشرت في باقي الدول الغربية. وظهرت بين طلاب بعض الجامعات في الولايات المتحدة كظاهرة احتجاج وتمرد على قيادة الكبار ومظاهر المادية والنفعية وثقافة الاستهلاك، فقام بعض الشباب المتذمر بالتمرد على هذه القيم والدعوة لعالم تسوده الحرية والمساواة والحب والسلام. وميزوا أنفسهم بإطالة الشعر ولبس الملابس المهلهلة والفضفاضة والتجول والتنقل على هواهم في مختلف الأنحاء كتعبير عن قربهم من الطبيعة وحبهم لها. وقد وجدت هذه المجموعات من الشباب في المخدرات والجنس وموسيقى الروك متنفساً لها وطريقة للتمرد على القيم وتجربة أشياء جديدة. من موقع ويكيبيديا. أقول: فهي في الأصل إذا كانت ذات هدف معين (وإن كنا نرى طريقة الوصول إليه خاطئة بل خاطئة جداً ومضللة إذ لجؤوا إلى المخدرات والجنس فهو فرار من المطر للميزاب ومن الحرارة للنار) لكنها الآن صارت هي الهدف بنفسه حتى ضاعوا في هذه المظاهر نفسها!
2- (الإيمو) هو اختصار لمصطلح متمرد ذو نفسية حساسة. انتشرت هذه الظاهرة في أوروبا وأمريكا في 1984م، أفرادها يستمعون إلى موسيقى الهاردروك الصاخبة, توقع الكثير من الناس أن لا تستمر هذه الظاهرة أو الثقافة، وهم منتشرون في الدول الغربية وبعض الدول الشرقية. وقد بدأت هذه الحركة تنتشر ببعض البلدان العربية. وكما هو الأمر مع بقية الأنواع الموسيقية، لأنصار هذا النمط الموسيقي نمط شكلي خاص ومنتشر في اللباس وتسريحة الشعر، وقد اخذت هذه الظاهرة بالانتشار بين الشباب المراهقين بين عمري 12 - 21.

والغريب أن الكثير منهم إذا استشهدت لهم بآية أو رواية لم تُقنِعْهُ، ولكنك إذا استشهدت بكلام فيلسوف غربي أو مفكر عالمي أو نجم من نجومهم فإنه يرى ذلك سبباً كافياً للإذعان! والأغرب أن الكثير من المتدينين تجده لا يكاد يقتنع بالآية والرواية حتى تشفعها له بما يقوله العلم الحديث أو الشخص الشخيص أو المجلة العلمية التخصصية أو شبه ذلك!.

الجمهور الذي كان يردد كافة أقوال الخطيب!

ومن الطريف ههنا أن نسرد الحكاية التالية التي ترمز إلى عمق مأساة الانقياد الفكري والعملي والسلوكي للآخر - الأقوى والانبهار به أو التقمّص لشخصيته، فقد نقل أن خطيباً ذهب إلى منطقة نائية فجمع الناس في إحدى القاعات، ولعلهم لم يكونوا قد شاهدوا خطيباً من قبل، فلما ارتقى المنبر وبدأ البسملة كرّر الناس معه البسملة، فتوقع أن هذه عادة لهم، ثم أنه لما حمد الله وأثنى عليه كرّروا معه أيضاً! ثم لما افتتح بحثه برواية ردّد الناس معه كلامه حرفاً بحرف!!، فقال في نفسه: لا بأس حتى الآن وإن كان ذلك غريباً، لكنه فوجئ عندما بدأ بشرح الرواية أن الحاضرين رددوا كلامه كلمة بكلمة!! وهنا قال لهم: (يا جماعة عندما أتكلم فلا ترددوا كلامي بل استمعوا فقط). ولكنه فوجئ بشدة عندما وجدهم يكررون هذا الكلام أيضاً هاتفين بصوت واحد: (يا جماعة عندما أتكلم فلا ترددوا كلامي بل استمعوا فقط..)!

وهذه هي بالضبط حكاية بعض شبابنا مع الموضة والتقليعة، وحكايةبعض مفكرينا مع كل فكر أو فلسفة وافدة من الغرب.. أليس كذلك؟

وسواء أكانت القصة أعلاه حقيقية أم كانت رمزية فإنها ذات تطبيقات كثيرة جداً في حياتنا كما هي ذات مداليل قوية ومدهشة أيضاً.

ص: 168

وكما نجد (الببغاء) تتميز بملكة التقليد من غير وعي أو شعور بمضمون الكلام كذلك من يستسلم فكرياً للأقوى فرداً كان أو حزباً أو حاكماً أو فيلسوفاً أو حضارة أخرى غالبة.

الاستسلام للخبراء في غير حقل تخصصهم

وفي لون آخر من ألوان الاستسلام للأقوى نجد أن الكثير من الناس لا يميّزون بين المرجعية في حقل تخصصي معين والمرجعية في حقل آخر، فإذا برز اسم عالم كبير في الفيزياء أو الكيمياء أو شبه ذلك، كانشتاين أو ستيف هوكينج المعاصر مثلاً، فإن كلماته سوف تتسم بطابع الحكمة والقوة والرصانة والحجية لدى الكثيرين منهم حتى إذا كانت في غير حقل تخصصه.

هوكينج مثالاً

ولذا نجد مثلاً أن كتاب هوكينج الذي أنكر فيه وجود الإله جل اسمه، أحدث هزة كبرى في العالم، مع أنه - من الناحية العلمية والاكاديمية - لا قيمة موضوعية له، وذلك لأنه متخصص في الفيزياء النظرية لا في الفلسفة والميتافيزيقيا، وإنكاره لله تعالى وإن اعتمد على سلسلة من المقدمات الفيزياوية، لكنه في مقدمة جوهرية يعتمد عليها البحث كله إعتمد على فكرة فلسفية واضحة البطلان بالوجدان وبضرورة العقل وهي من أبجديات علمالكلام أو الفلسفة فقد اعتمد من جهة على أنه (التفسير الأبسط) ومن جهة على فكرة (إمكان بدء الأشياء من كتم العدم بدون وجود علةٍ محدِثة)(1)؛ وهذه الفكرة بديهية البطلان

ص: 169


1- إذ رأى أن الانفجار الكبير لم يكن سوى عواقب حتمية لقوانين الفيزياء وقال هوكينج: (لأن ثمة قانوناً مثل الجاذبية صار بمقدور الكون أن يخلق نفسه من العدم). وكم نجد عبارته متناقضة! والسؤال هو من الذي خلق الجاذبية؟ ومن الذي أوجد نواة الانفجار من العدم؟ وكيف يخلق الشيء نفسه؟ هل قبل وجوده يخلق نفسه؟ فهذا مستحيل! » « أو بعد وجوده يخلق نفسه فهو تحصيل حاصل! غاية الأمر قل إنه بعد وجوده يطوِّر نفسه فنقول من أوجده قبل التطوير؟ والتطوير نفسه له خالقٌ سمّاه الكون، إذاً أنت تعترف بوجود الخالق لكن تنكر كونه مدبّراً عالماً حكيماً فهذا بحث لاحق، وهو محال أيضاً.

عند الوجدان والعقل، كما برهن الحكماء والفلاسفة والمتكلمون على بطلانها بوجوه عديدة منها برهان إبطال الدور والتسلسل، لكن المنبهرين بالغرب أو بالأسماء اللامعة لا يميزون - كما سبق - بين كلام النجم في حقل اختصاصه وكلامه في سائر الحقول.

وبعبارة أخرى: إن الإنسان إذا استسلم بكلّه للغير وإن الأنا إذا ذابت في الأنا - الآخر فإنها تقوم حينئذٍ بتذويب الحواجز العلمية والمعرفية بين حقل تخصصه وبين سائر الحقول، فترى الأنا - الآخر حينئذٍ بمنزلة العالم الخبير الضليع بكل علم وفنّ!

وكذلك الرجوع للعلماء في كل شيء!

بل الأمر كذلك حتى في (العلماء) فإن كثيراً من الناس يتصورون علماء الدين علماء في كل شيء ويتوقعون منهم الإجابة على كافة الأسئلة في كل العلوم والحقول، وذلك خطأ فاحش فإن العالم متخصص في الفقه والأصول والكلام مثلاً، لكنه ليس - عادة - متخصصاً في الطب والهندسة، فهل يصح أن نسأل منه مسائلنا الطبية والهندسية؟ وكذلك الحال في السياسة والاقتصاد، فإن الفقيه إذا لم يكن متخصصاً فيهما ولم يكن خبيراً بخفايا ودهاليز السياسة ولا بأبعاد تشابكات الاقتصاد، فإن من تقوى الله المفترضة فيه أن لا يتصدى لقيادة الناس في تلك الحقول، اللهم إلا إذا درس بجدّ وآناة وأصبح خبيراً فيها كسائر الخبراء واستعان، لمزيد من الاتقان واقوائية الإصابة والمطابقة للواقع، بلجنة مرموقة من الخبراء فإن مرجعيته في السياسة والاقتصاد وشبهها تكون حينئذٍ على حسب

ص: 170

مقتضى القاعدة باعتباره أهل خبرة جامع للشرائط، وتكون تلك الأنواع من (الحوادث الواقعة) مما يرجع فيه إليه.

لكن كثيراً من الناس - وكما سبق - لا يميزون في المرجعية بين حقول الاختصاص فإذا وجدوه مرجعاً في الفقه والأصول اعتبروه مرجعاً في الفلسفة والكلام أو اعتبروه مرجعاً في العلاقات الدولية والإدارة والسياسة وغيرها.

وهنا نقول: إن على رجل الدين إذا تقدم في مراحل العلم وازدادت مكانته في الناس وأصبحت له بشكل أو بآخر مرجعية لشرائح من المجتمع، أن يحتاط بعدم الدخول فيما لا يحسن الدخول فيه وعدم التصدي لما ليس خبيراً فيه، وعليه أن يواجه ضغوط الناس عليه كي يتصدى، بحكمةٍ وقوة ووضوحفيوضح لهم أنه ليس أهل خبرة في هذا الشأن أو ذاك فليرجعوا فيه إلى غيره.

وقد وجدنا علمائنا الأبرار كذلك فمثلاً المرجع الكبير السيد تقي القمي (رحمة الله) الذي توفي العام الماضي وعطلت لأجله حوزة النجف وحوزة قم بالكامل، كان كذلك إذ كان خبيراً فقيهاً أصولياً ضليعاً في هذين العلمين لكنه لم يكن خبيراً بالسياسة والإدارة والاقتصاد وشبهها لذلك تجنب الخوض فيها تماماً، بل إنه (قدس سره) أمر بجمع رسالته العملية من الأسواق واعتزل أكثر فأكثر عندما ضغط عليه البعض ليتصدى لقضايا مرجعية لم يكن يجد من الصحيح أن يتصدى لها، فضرب (قدس سره) بذلك مثلاً للفقيه الورع التقي.

الاستسلام للأدلة الجدلية المضادة للبيّنات البرهانية

وكذلك الاستسلام للأدلة الجدلية المضادة للبيّنات الوجدانية أو للبراهين الجلية، وذلك في الناس بل في طلاب العلم كثير حيث إنه كثيراً ما يخمد ويخبو صوت الوجدان ويُطفأ نور الفطرة وتسحق الأدلة البرهانية إذا استسلم الإنسان

ص: 171

للأدلة الجدلية؛ وذلك لأن للأدلة الجدلية سطوة وسلطة كبيرة فمن خضع واستسلم لها هلك في الدنيا والآخرة كما في الرواية الشريفة الآنفة الذكر.

ولنضرب لذلك مثلين أحدهما دقيق والآخر لطيف:

مرجع (الوحدة في عين الكثرة) إلى جمع الضدين أو النقيضين

المثال الأول: إن من البديهيات استحالة الجمع بين النقيضين والضدين واستحالة رفع النقيضين أو الضدين اللذين لا ثالث لهما أو رفع الأضداد جميعاً، ومن البديهي أن من مصاديق ذلك أن تقول بأن الواحد هو ثلاثة والثلاثة هي واحد(1)

كما قال المسيحيون أو أن تقول إن الأسود عين الأبيض، أو إن العلم عين الجهل أو شبه ذلك.

لكن عدداً من الفلاسفة حاولوا إقناع العقول المستسلمة للأدلة الجدلية بأن من الممكن: (الوحدة في عين الكثرة) وأنها أمر واقع استناداً إلى مقدمات طويلة يدوخ فيها عقل الطالب فيخرج بعد أسابيع من دراسة نهاية الحكمة أو الأسفار مستسلماً لأحد أبرز مصاديق جمع النقيضين أو الضدين وهو (الوحدة في عين الكثرة).

ومقدماتهم التي يتدرجون بها في الإيقاع بالعقل هي:

1 - أصالة الوجود. 2 - اعتبارية الماهية وأنها حد انتزاعي للوجود. 3 إن الوجود واحد لا يتكرر ولا يتثنى. 4 - إن الوجود حقيقة تشكيكية واحدة. 5 إن ما به الاشتراك في الموجودات هو نفس ما به الامتياز وهو الوجود نفسه إذ ليس في الدار غيرُه ديار ولا شيء غير الوجود وإلا للزم أن يكون في الدار أصيلان وهو محال، فإذا كان ذلك كله كذلك ثبتت الوحدة في عين الكثرة وأن الموجودات في عين كونها كثيرة هي واحدة وفي عين كونها واحدة هيكثيرة.

ص: 172


1- فإن الواحد واحد بشرط لا، والثلاثة واحد بشرط شيء.

وفي الواقع ذلك مدخل خفي إلى وحدة الوجودات بل وحدة الموجودات لأن الماهية لا يعقل ان توجِد تكثّراً حقيقياً حسب أصالة الوجود فالكثرات التي تحصل بها انتزاعية غير أصيلة.

وهنا نقول: إذا صحت قاعدتكم فما هو اعتراضكم على المسيحيين إذ قالوا بالوحدة في عين الكثرة بين (الأب والابن وروح القدس)؟ قالوا: هم ثلاثة وهم واحد؟ فالمسيح هو الله وهو غيره فهو واحد وهما كثير؟

ثم كيف يعقل أن يتكثر الوجود الواحد الحقيقي، حقيقةً إذا كانت الكثرات بالماهية وهي اعتبارية أو انتزاعية؟!

ولذلك كله التزم ملا صدرا في الأسفار ب(الوحدة الحقيقية الشخصية للوجود)(1) فلاحظ إضافته للشخصية، وقد بسطنا الكلام حول ذلك في بحث (الاجتهاد في أصول الدين) فراجع، كما ستأتي الإشارة إلى ذلك بعدقليل بنحو آخر.

الاستحالية العقلية لالتقاط الصور بآلة التصوير!

المثال الثاني: وهو مثال طريف ذو دلالة بالغة، فقد نقل عن أحد الفلاسفة(2)، أنه عندما ذكروا له أن الغرب اخترع جهاز التصوير الفتوغرافي، فكّر قليلاً ثم قال بأن ذلك من الناحية الفلسفية مستحيل تماماً! ولعل في الأمر

ص: 173


1- قال ملا صدرا في الأسفار: (فكما وفقني الله تعالى بفضله ورحمته الاطلاع على الهلاك السرمدي والبطلان الأزلي للماهيات الإمكانية والأعيان الجوازية فكذلك هداني ربي بالبرهان النير العرشي إلى صراط مستقيم من كون الموجود والوجود منحصراً في حقيقة واحدة شخصية لا شريك له في الموجودية الحقيقية - ولا ثاني له في العين وليس في دار الوجود غيره ديار)! الأسفار: ج2 ص292. وقال في ص294: (وإذا كان الأمر على ما ذكرته لك فالعالم متوهَّم ما له وجود حقيقي! فهذا حكاية ما ذهبت إليه العرفاء الإلهيون - والأولياء المحققون)!
2- ولعله الحكيم السبزواري.

خدعة فانتبهوا!

والسرّ: إنه أراد إخضاع كل معلومة علمية إلى العقل الفلسفي مع أن العقل حدوده المستقلات العقلية وأمثال الأوليات والفطريات ولا يمكنه التدخل في نطاق العلم من حيث هو علم أبداً؛ ولذلك وقعوا في عظائم الأخطاء عندما أرادوا بعقلهم - بعيداً عن العلم - تحليل حقيقة الأفلاك فصاروا إلى أنها كاقشار البصل والتزموا باستحالة الخرق والالتئام وصار بعضهم إلى رفض المعراج الجسماني لأنه يناقض القاعدة الفلسفية تلك!

ولنوضح الآن كيف أن الأدلة الجدلية تقود إلى استحالة التصوير الفتوغرافي وأن من المحال أن يلتقط جهاز منفصل عنك صورة مطابقة لك تماماً بضغطة زر وأنت على مبعدة 10 أمتار مثلاً(!)، والأدلة هي:

أولاً: استحالة الطفرة، وانتقال صورتك فجأة من حيث أنت إلى الجهاز طفرة!

ثانياً: إنه يستحيل زيادة الفرع على الأصل، فكيف تزيد الصورة علىالأصل إذ يموت الشخص لكن صورته تبقى ثابتة؟ أو يفقد جماله وتبقى صورته جميلة؟ وهكذا ...

ثالثاً - وهذا دقيق وقد يدوخ فيه غير الخبير -: إنه عندما تصوِّر شخصاً فهل ينقص منه شيء أو لا؟ فإن قلت إنه ينقص منه شيء (لأنه التقط له صورة هي بنحو ما جزء ذاته أو أمواجه) فيلزم أنه كلما التقطت له صوراً أكثر أن يتضاءل ويتضاءل حتى ينعدم تماماً لو التقطت له مثلاً مليون صورة!

ولو قلت لا ينقص منه شيء فإنه يلزم استحالة التصوير إذ كان لا ينقص منه شيء (ولا ينتقل منه إلى الكاميرا شيء) فكيف وجدت الصورة من كَتْم

ص: 174

العدم؟ فيلزم أن يوجد المعلول بلا علة..!

ولا حاجة لغير المتخصص للبحث عن الجواب عن هذه السفسطة بل يكفيه أن يجيب بأنها شبهة في مقابل بديهي حسية، لكنه إذا استسلم لسلطان الأدلة الجدلية تجده يلتزم - في المثال السابق - بالكثرة في عين الوحدة مستميتاً في الدفاع عنها بألوان الأدلة الجدلية التي قد يعجز حتى بعض الفلاسفة عن الجواب عنها! أو تجده يستميت في الدفاع عن فكرة أن الصورة الملتَقطَة ليست منك وإلا للزمت الطفرة أو زيادة الفرع على الأصل أو انعدام الشخص - كما سبق - فيلجأ لحلول غريبة أخرى كالقول بأن ذلك نوع سحر؟ أو أنه من عمل الجنّ؟ أو أنه ايجاد مباشر من العقل الفعال ب(التوافي) الفلسفي(1)

أو غير ذلك!.وختاماً لنتذكر كلمة أمير الحكمة والبلاغة دوماً إذ يقول (علیه السلام): «وَمَنِ اسْتَسْلَمَ لِهَلَكَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ هَلَكَ فِيهِمَا». أعاذنا الله تعالى من ذلك ومن كافة الشرور والآفات والعاهات والبلايا والمصائب والرزايا، وعجل لوليه الأعظم الفرج وجعل عواقب أمورنا خيراً إنه سميع مجيب.

ص: 175


1- وهل بتوليد أو إعداد ثبت أو بالتوافي عادة الله جرت منظومة ملا هادي السبزاوري: ج1 ص283.

ص: 176

الفصل السادس: الحلول المفتاحیة لظاهرة التشكیك

اشارة

ص: 177

ص: 178

الحلول المفتاحية لظاهرة التشكيك

وربما يتساءل عن كيفية مواجهة ظاهرة التشكيك سواء على المستوى الفردي أم على الصعيد الاجتماعي، أي أن السؤال هو بالضبط عن كيف يقاوم الأشخاص أمواج التشكيكات التي تحيط بهم من كل حدب وصوب؟ وكيف يواجه المجتمع بُؤَرَ التشكيك ومحطات قذف الشبهات؟

والجواب هو: أن الحلول والسبل وطرق العلاج كثيرة ومتنوعة، نشير إلى بعضها(1) حسبما يستفاد من كلام أمير المؤمنين ومولى الموحدين عليه صلوات المصلين فقد قال (علیه السلام): «وَإِنَّمَا سُمِّيَتِ اَلشُّبْهَةُ شُبْهَةً لِأَنَّهَا تُشْبِهُ اَلْحَقَّ فَأَمَّا أَوْلِيَاءُ اَللَّهِ فَضِيَاؤُهُمْ فِيهَا اَلْيَقِينُ وَدَلِيلُهُمْ سَمْتُ اَلْهُدَى وَأَمَّا أَعْدَاءُ اَللَّهِ فَدُعَاؤُهُمْ فِيهَا اَلضَّلاَلُ وَدَلِيلُهُمُ اَلْعَمَى»(2).

أولاً: الاستعانة ب(ضياء اليقين) لدحر ظلمة الشبهات

اشارة

إن المفتاح الأول للتصدي للشبهات وللتغلّب عليها هو ما ذكره (علیه السلام) بقوله: «فَأَمَّا أَوْلِيَاءُ اَللَّهِ فَضِيَاؤُهُمْ فِيهَا اَلْيَقِينُ» ولكن ماذا يعني ذلك؟ إذ إن الفرض هو أن الشاك جاهل لا يقين له وان الشبهة اشتبهت عليه وجهل حقها من

ص: 179


1- وسنتطرق في الجزء الثاني إلى بعضها الآخر بإذن الله تعالى.
2- نهج البلاغة: من كلام له علیه السلام وفيها علة تسمية الشبهة شبهة ثم بيان حال الناس فيها، الخطبة: 38.

باطلها فكيف يكون اليقين (وهو الفاقد له) ضياءً له يكشف عنه ظلامَ الشبهات؟

والجواب: إن كلامه (علیه السلام) يمكن أن يفسر بوجوه وكلها مما تتجلى به روعة هذه الحلول: ذلك أنه يفيدنا أن علينا أن ننطلق من (اليقين) لنقصف قلاع الشك والشبهات وبُؤَرَ الفتنةِ والحيرةِ والضلالة والتشكيك، وليس العكس أي ليس من شيم أولياء الله وهم قمة الحكمة والعقل، القضاء على اليقين بالشبهة أو دكّ حصون العلم بصواريخ الجهل والشك، وذلك بوجوه عديدة:

أ - الانطلاق من اليقينيات لدكّ معاقل الشبهات!

اشارة

الوجه الأول: أن يتخذ العاقل من اليقينات الوجدانية منطلقاً لدكِّ معاقل الشبهات، والمثال الآتي يوضح لنا ذلك بصورة معبّرة جلية: فإن كل واحد منا يدرك بفطرته ووجدانه وضميره أنه مختار في أفعاله وليس مجبراً عليها فإنه بملأ اختياره يرفع هذا الكتاب أو يفتح ذلك الباب أو يذهب للمدرسة أو المسجد أو المتجر أو - لا سمح الله - يذهب إلى حيث مكامن الفساد، فهذا - أي كونه مختاراً، مما يدركه بفطرته - هو اليقين الذي يجب أن ينطلق منه المرء لنسف أية شبهة توحي بالجبر، فعليه بضياء هذا اليقين أن يسترشد لنفيهاورفضها وإن بدت الشبهةٌ شبهةً قوية، فإن استطاع أن يجيب عليها فنياً وصناعياً فهو المطلوب وإن لم يستطع فيكفيه - عقلاً - أن يعتمد على اليقين العقلي الوجداني بكونه مختاراً لردُ الشبهة، بالقول بأنها شبهة في مقابل البديهة وكفى! لا أن يعكس لينجرف إلى دوامات الظلام والضلالة فيقول بالجبر خلافاً للعقل والوجدان بعد أن عاش في بحبوحة الضياء والهداية والكمال.

1 شبهة الجبر: المخ هو الذي يتخذ القرار قبل الإنسان!
اشارة

فمثلاً: طرح بعض علماء الفيزياء والأعصاب شبهة مفادها نفي حرية الإنسان في إرادته أي تنفي كونه فاعلاً مختاراً، مستندين إلى نتائج فحص المخ

ص: 180

بالرنين المغناطيسي وغيره من وسائل رصد أمواج المخ وتسجيلها والتي تطورت حتى كاد أن يكون بمقدورها قراءة أفكار الإنسان عبر تسجيل الذبذبات أو الأمواج الصادرة من مخه، قال بعضهم: إن نتائج التجارب المختبرية والفحوص الشاملة لحالات المخ وخلاياه المسؤولة عن إصدار القرارات أوصلتنا إلى أن المخ يتخذ كافة القرارات قبل أن يتخذها الإنسان بجزء من ألف جزء من الثانية! وهكذا زعموا بأنك عندما تتخذ القرار تتوهم أنك أنتَ الذي اتخذته لكن الواقع هو أن المخ هو الذي اتخذ القرار قبلك بآليات وأسباب تجهلها أنت!

وهنا ما الذي يجب على العاقل الحكيم أن يصنعه؟ إن عليه أن ينسف الشبهة هذه، مهما تلبست بلباس العلم، بنور اليقين إذ إنه يشعر بوجدانه أنه هو الذي اتخذ القرار لا أن هناك جهازاً مزروعاً بداخله (ليكن اسمه بعض خلاياالمخ أو العَصَبونات أو غيرها) هو الذي اتخذ القرار!

الجواب: القرار للروح، والمخ آلة

ولكن ومع ذلك ومن الناحية العلمية نقول: لو فرضنا ان الأمر كما ذكروا وانه لم تقع في معادلاتهم المختبرية مغالطات متعمدة أو أخطاء عفوية - وكلاهما كثير! - فإن ذلك حتى لو ثبت فإنه لا ينفي اختيارية الإرادة الإنسانية بل يؤكدها؛ وذلك لوضوح أن الإنسان ليس آلة ميكانيكية كالروبوت، ولو كان كذلك لأمكن أن يصح ذلك الكلام، لكن الإنسان روح وجسد والحاكم على الجسد هو الروح، والمخ هو من الجسد، وهو محكوم بالروح والعقل، والذي يتخذ القرار هو الروح قبل المخ أو أي عضو آخر بالجسد، وذلك أمر بديهي إذ لا ريب أن المخّ وكافة أعضاء البدن تتحول إلى صفر على الشمال وتفقد كافة قدراتها وفوائدها بمجرد الموت ومغادرة الروح للبدن، فالإنسان إنسان بروحه وبعقله والبدن آلة مسخرة له؛ ولذا كان الإيمان والكفر والعلم والجهل والإرادة والكراهة مصدرها

ص: 181

الأول هو الروح ثم تنعكس قرارات الروح على أعضاء الجسد المعدّة خصيصاً لاستقبال إشارات الروح وهي أولاً: المخ ثم سائر الأجهزة والأدوات كالعين والاذن، ويوضحه: إن العين تبصر بعد أن ترسل فوتونات النور الواصلة إليها عبر شبكة معقدة من الأعصاب إلى مركز الإبصار في المخ، فالذي يرى هو العين ظاهراً لكن الواقع هو أن الذي يرى هو المخ والعين مجرد آلة، وعند التعمق الأكثر نرى بان الذي يرى واقعاً هو الروح أو النفس الإنسانية وان العين ثم المخ مجرد آلة ووسيلة للايصال؛ ولذا إذا غادرت الروح البدن فلا العين ترى ولا المخ يبصر!

2 شبهة الشرير الذي زرع في مخِّنا جهاز الوهم!
اشارة

إن بعض الذين ادعوا أن:

كل ما في الكون وهمٌ أو خيال *** أو عكوس في مرايا أو ظلال(1)

قالوا: إن ما نراه ونلمسه ونحس به أو نفكر فيه ونعتقده كله خيال في خيال ولا توجد حقيقة ولا سماء ولا أرض ولا أنس ولا جان ولا حجر ولا شجر ولا غير ذلك، وقد استندوا في وجه طريف - غريب مستحدث إلى الاحتمالية الآتية وهي: أنه ما الذي يضمن لنا أن لا يكون هناك شرير (شخص أو موجود من الفضاء أو من عالم آخر) قد زرع في مخِّنا جهازاً يُوهِمنا أن ما نراه أو نلمسه ونسمعه ونشمه ونذوقه هو حقيقة؟ ألا يحتمل ذلك؟ فكيف نطمئنّ إلى أن العالم حقيقة؟ فلعله مجرد وهم من صنع ذلك الجهاز؟

الأحلام التي نتصورها حقيقةً، دليلٌ

وأكّد بعض الفلاسفة هذه الاحتمالية بما ارتأوا أنه يكفي برهاناً على المدعى وهو: أن النائم ليس إلا متوهماً لكنه يعتقد في منامه بأن ما يراه هي

ص: 182


1- الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة: ج1 ص47.

حقائق مع أنها ليست إلا أوهاماً، كما لو رأى نفسه يتجول في بلد آخر أو في القمر والمريخ مع أنه نائم في غرفته بالنجف مثلاً، أو رأى أنه يتكلم مع والده مع أنه ميت، أو رأى أنه يمتلك في رصيده في المصرف ملياردولار مع أنه مفلس يفترش الأرض ويلتحف السماء! أو رأى نفسه يحلق في الفضاء أو يغوص في أعماق المحيط مع أنه ساكن في ركن الغرفة أو مقيد بالأغلال في زاوية السجن! فذلك كله وهم في وهم أو خيال في خيال لكنه يتصوره حقيقة مائة بالمائة، قال الفيلسوف السوفسطي: فما أدرانا لعل اعتقادنا في اليقظة بأن ما نراه حقيقة هو كاعتقاد النائم بان ما يراه حقيقة مع ان الكل وهم في وهم؟

كيف نتخلص من هذه الشبهة بنور اليقين؟

وهنا تتجلى لنا روعة كلمة أمير المؤمنين (علیه السلام) في إبداع الحل المفتاحي الأول للشبهات وهو: «فَأَمَّا أَوْلِيَاءُ اَللَّهِ فَضِيَاؤُهُمْ فِيهَا اَلْيَقِينُ...»(1) فإنّ العاقل الحصيف وإن لم يعرف فرضاً الإجابة الفنية الفلسفية على هذه الشبهة، لكنه يمتلك سلاحاً آخر مفتاحياً هاماً وهو: ما يستفاد من هذه الرواية الشريفة وكما سبق: وهو أن ينطلق من اليقين الوجداني ليقضي به على ظلام الشبهة، لا العكس: بأن يفقد يقينه لمجرد عجزه عن الإجابة الفنية أو الصناعية عن الشبهة؛ وذلك بأن يفتش(2) عن يقينه الوجداني عبر القيام بعملية استبطان لذاته فيرى، كما نرى جميعاً، أنه لا شك ان النار محرقة وانه إذا وضع يده فيها احترق، فهل هذا وهم وخيال؟ فإذا كان وهماً فليسمح لنا ذلك الفيلسوف السوفسطي بأن نلقيه في النار فإنها ليست إلا خيالاً وليست - حسب مذهبه إلا كرسم متحرك أو كصورة هولوغرامية أو

ص: 183


1- نهج البلاغة: من كلام له علیه السلام وفيها علة تسمية الشبهة شبهة ثم بيان حال الناس فيها، الخطبة: 38.
2- التعبير عرفي؛ وإلا فإن الالتفات كافٍ.

حلم من أحلام اليقظة!

كما نجد أننا نكاد نتمرق من العطش ولا شك في ذلك، ثم إن شرب كأس من الماء قد روى ذلك الظمأ ولا نشك في ذلك أيضاً، ونرى أن هذا الصوت المرتفع أورثنا الصداع الشديد، وذلك الفأس قد حطم الجدار، وهذا المطر المنهمر قد أغرق الأرض بالمياه، وهذه العاصفة اقتلعت الأشجار وهدمت البيوت، وهكذا وهلم جراً.

لمحة عن جهلنا بحقيقة الروح والنوم والأحلام

فذلك ونظائره هو اليقين الذي لا شك فيه، وأما المنام فهو المشكوك في حقيقته فلا يُعلم ما الذي يجري بالضبط هناك؟ فهل الروح تخرج من البدن (لو كانت داخله فيه أصلاً، إذ الرأي الآخر هو أنها خارجة عنه ولها نحوُ تعلقٍ به فقط، وهناك من يرى أنها مجردة ومن يرى أنها كالطاقة أمر بين المادي والمجرد، وهناك من يرى أنها النفس وهناك من يرى أنها غيره، ونحن نجهل ذلك كله كما نجهل حقيقة المنام أيضاً، فكيف نعرف حقيقة الذي يجري في المنام؟) فإذا جهلنا حقيقة كل ذلك فهذا هو الشك الذي لا ينبغي للعاقل ان يسريه إلى ما نعلم حقيقته هنا إذ نعلم اننا في اليقظة نحترق بالنار ونُروى بالماء وهكذا.

وعلى أي، فهل الروح تخرج من البدن حين النوم ثم تنطلق هذه الروح الخارجة من البدن إلى أرجاء العالم فتسافر بالفعل إلى الصين وأمريكا والهندوأفريقيا وغيرها فترى حقيقةً ما تراه لا وهماً، كما أنها تلتقي بالأموات في قوالبها المثالية فيكون النائم قد شاهد والده حقاً لكن في جسد مثالي يتلائم مع تلك النشأة وهكذا وهلم جراً.

وبعبارة أخرى: إن لكل شيء نحواً من الوجود يتناسب مع نشأته وليس

ص: 184

وهماً فيها بل هو حقيقة، وذلك لأن الوجود العيني حقيقة وله آثار، والوجود الذهني سنخ آخر من الحقيقة أضعف من سنخ الوجود العيني وله آثار أخرى لكنه، على أية حال، له درجة من الوجود وليس عدماً محضاً ووهماً صرفاً: فالأسد الذهني مثلاً أسد ذهني كما أن رسم الأسد منتقش واقعاً على الجدار، ولكل منها حقيقة وواقعية بقدر درجة وجودها، فهل عالم المنام والأحلام كذلك؟ هذا احتمال! والاحتمال الآخر هو: أن كلما نراه فليس إلا صوراً تنتقش في أذهاننا في النوم وقد يكون مصدرها أرشيف الصور في المخ إذ تتركب بطريقة متحركة حسبما يراها النائم، وقد يكون مصدرها إشعاعات من الخارج أو غير ذلك؟ فكل ذلك نجهله إذ نجهل حقيقة الأحلام تماماً.

أَزِحْ ظلامَ شبهةِ الأحلام بنورِ حقيقةِ اليقظة!

وهنا تظهر أهمية المفتاح الأول حيث إن الجاهل بهذا المفتاح حيث جهل حقيقة الأحلام وخُيّل إليه أنها مجرد أوهام أراد تسرية هذا الشك إلى اليقين الذي نحس به أو نستشعره في اليقظة، فيقول: إنه لعله أيضاً خيال في خيال، مع أن العاقل الحكيم يعكس الأمر وينطلق من اليقين لينسف الشك،فيذعن بأنه لا شك في عينية النار المحرقة هذه وأنه يراها حقاً لا متوِّهماً فيستقرّ على يقينه مطمئناً ثم ينطلق منه إلى المنام فيفكر في الاحتمالات:

فإما أن المنام درجة ضعيفة من الوجود فهو كالصور الذهنية مثلاً؟

وإما إنه حركة حقيقية في عالم آخر؟(1)

وإما أنه وهم في وهم؟

وحيث وجدنا له بعض آثار الوجود فلا بد أنه وجود من سنخ أضعف أو

ص: 185


1- ولا مانعة جمع بين هذا وسابقه، ان لم نرجعه إليه، فتدبر.

من عالم آخر وذلك عكس ما نجده فيما نراه في اليقظة من الآثار فإنها آثار متكاملة بتجليات قوية.

أو يفكر بوجه آخر وهو: لكنني بالبرهان اللاحق، بعد اليقظة، ثبت لي أن ما رأيته بالمنام كان وهماً أما ما نراه باليقظة فكل البراهين اللاحقة تؤكد أنه كان حقيقة: فلو رأى النار وحرارتها فاعتقد بأنها حقيقة فهذا برهان وجداني أول (أو لنفرض انه شك في كونها حقيقةً أو وهماً) ثم إذا لمسها احترقت يده فهذا برهان لاحق على صدق المعتقَد الأول، ثم إذا لم يعالج يده استمرّ به الألم وتصاعد فهذا برهان ثالث ثم إذا سرت العفونة إلى دمه وبدنه فهذا برهان رابع، ثم إذا عالجه سكن الألم أو خفّ وتحسن الجرح فهو برهان خامس، وهكذا يتلو برهانٌ برهاناً ويلحق دليل دليلاً، وكلها تؤيد كون العالم حقيقة وتشهد بصدق الواقع، عكس عالم المنام الذي إن توهم النائم انه حق إلا انهسرعان ما يكتشف أنه لم يكن إلا وهماً!

ويكفي أن كافة عقلاء العالم بل وحتى سفهائهم يفرِّقون بين اليقظة والمنام، وأن السوفسطائيين لا يتجاوز عددهم الأصابع وليس بمقدورهم إقناع حتى خدمهم أو موظفيهم وأولادهم بذلك!

ب - اتخاذ الكلّيات منطلقاً لإزاحة الشبهة في الجزئيات

اشارة

الوجه الثاني: أن يتخذ العاقل من (الكلّيات) منطلقاً لإزاحة الشكوك والشبهات عن المصاديق والجزئيات؛ فإن الجزئيات والمصاديق كثيراً ما يشتبه حالها على المرء وحينئذٍ عليه أن يستضيء بنور الكليات اليقينية ويرجع الجزئيات إلى كلياتها فتنحل بذلك العقدة وتنزاح الشبهة.

فمثلاً: إذا شككت بأن هذا حلال أو حرام فارجع في ذلك إلى القاعدة

ص: 186

الكلية: «كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك»(1) وذلك بناء على انها في الشبهة البدوية أو الأعم منها، دون القول باختصاصها بالشبهة في أطراف العلم الإجمالي، وإذا شككت بنحو الشبهة الحكمية في الجواز والتحريم فأرجع إلى القاعدة الكلية: «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي»(2).

1) كُن إما مجتهداً أو مقلداً ولا تكن جاهلاً مجتهداً!

ولنشر هنا إلى إحدى الكلّيات المفتاحية الهامة: وهي إن الشبهة إذا عرضت على الإنسان فعليه أن يرجع إلى إحدى الكليات الهامة جداً وهي: (إن المكلّف، بل كل عاقل من أي دين كان، عليه أن يكون إما مجتهداً أو مقلداً أو محتاطاً) فإذا عرضت عليك الشبهة فاما أن تكون مجتهداً (ذا ملكة) بالمستوى فعليك حينئذٍ أن تُعمِل الملكة وتدرس أطراف المطلب وتقلب كافة الأدلة لتنجلي لك الحقيقة، فإذا لم يحصل ذلك فرضاً فتتوقف (أو تقلد الغير، حسب المنصور) واما إذا لم تكن مجتهداً فقلّد من تثق بعلمه وخبرته ودينه وانفُض غبار التشكيك عن ذاتك بعد ذلك.

والخطأ الشائع هو: أن الناس، وأكثرهم غير متخصص وغير مجتهد، عندما تعترضه شبهة ما فإنه يفكر فيها ملياً (أو حتى بدون ذلك!) ثم يتخذ الموقف فوراً ويحكم بصحة الشبهة أو بطلانها، مع أن ذلك خطأ فاحش لا يقبل به العقل ولا يرتضيه العقلاء: إذ الذي يستطيع أن يحلل أية قضية معقدة في أي علم من العلوم (الطب أو الفيزياء، الكلام والعقائد، وغيرها) إنما هم

ص: 187


1- وسائل الشيعة: ج17 ص89.
2- من لا يحضره الفقيه: ج1 ص317.

المتخصصون، ومن الخطأ الكبير أن يجتهد العامي مادام عامياً غير طبيب في المسائل الطبية فيرفض هذا الرأي الطبي أو ذاك إلا إذا تحول إلى مجتهد خبير بالطب(1) واستفرغ وسعه في ذلك؛ وإلا يكون قد ارتكب خطأمنهجياً وعلمياً خطيراً جداً ووقع في أخطاء مذهلة باجتهاده في غير حقل اختصاصه مع أنه الجاهل بقواعده وأسسه ومعطياته.

والحاصل: إننا نقول لكل من إذا اعترضته شبهة تلقّفها وأذعن بها: كُنْ إما مجتهداً أو مقلداً أو محتاطاً: فإن كنت بالفعل مجتهداً والتزمت بآليات التحقيق العلمي والاجتهادي واستفرغت وسعك في البحث والفحص فحينئذٍ يصح لك ان تبدي رأيك في المسألة وأن تبني على أحد الطرفين، وإلا فكن مقلداً، وإن رفضت الطريقين فكن محتاطاً أو متوقفاً.

وبذلك يستقر وضع المجتمع ويسود الأمن العلمي والعقلائي، وإلا فسوف ينهار المجتمع بأكمله؛ إذ يكفي أن تتصور الفوضى المعرفية الهائلة بل الفاجعة الكبرى التي ستحدث لو أن كافة الناس بدأوا بالتدخل في شؤون علماء الفيزياء والكيمياء والفلك والاقتصاد والأصول والفقه والفلسفة وغيرها، وبدأوا - رغم كونهم غير متخصصين - برفض قواعد تلك العلوم لأنهم وجدوا شبهات عليها عجزوا عن الإجابة عنها، ورفضوا في الوقت نفسه تقليد المختصين فيها.

وبكلمة أخرى: من أيقن بهذه القاعدة الكلية وهي إن ملاذ الناس يجب أن يكون إما الاجتهاد أو التقليد أو الاحتياط، وأنه إن كان مجتهداً (خبيراً حقاً) فله أن يستفرغ وسعه حتى يصل، وإلا فعليه أن يكون مقلداً أو محتاطاً، فإنه عندئذٍ سيتخلى عن التطفل مادام غير خبير في المسائل العلمية التخصصية،وإن فعل

ص: 188


1- أو استند إلى رأي طبيب آخر أعلم من الأول أو مساوٍ له، وقلّده.

كان ظالماً لنفسه وللحقيقة أيضاً، نعم لا أحد يمنعه من ان يسعى ليكون مجتهداً لكنه مادام غير مجتهد فآراؤه ليست حجة أبداً عقلاً كما ليست حجة عقلائياً حتى لنفسه لكونه قد بنى على أساس غير وثيق أبداً.

2) علم أصول العمل
اشارة

وقد سبق التمثيل بقاعدة (كن مجتهداً أو مقلِّداً أو محتاطاً) ولنمثل لذلك ببعض الأمثلة الاجتماعية والإدارية والفقهية:

فقد أسّس السيد الوالد (رحمة الله) قواعد أسماها أصول العمل، وقد يقال بأنه تأسيس لعلم جديد من حيث فلسفته وإطاره أو في بعض قواعده، والمنطلق هو: كما ان هنالك ما يسمى ب(الأصول العملية) في علم الأصول وهي الأصول التي يرجع إليها الشاك في حكمه الشرعي بعد فقده للدليل الاجتهادي، فتكون هي المرجع لتحديد الوظيفة العملية وذلك كأصل الاحتياط أو البراءة أو الاستصحاب أو التخيير(1): فإن كانت له حالة سابقة وقد لوحظت فذلك مجرى الاستصحاب، وإلا فان كان الشك في التكليف فهو مجرى البراءة، أو في المكلف به فمجرى الاحتياط إن أمكن الجمع، وإلا فالتخيير، على أحد وجهي تقرير الشيخ للمجاري أو لوجه الحصر، فكذلك جرى تفكيره (رحمة الله) في أنه لا بد أن نبحث عن أصول يرجع إليها العامل في مقام العمل في الاجتماعيات وعند تصدي الفقيه أو الأستاذ الجامعي أو الطبيب والمهندس أو حتى البقال والعطار والمزارع، لبعض الأدوار الاجتماعيةأو في نطاق علاقاته الاجتماعية.

أصالة الإقدام أو أصالة الإحجام؟

ومن تلك الأصول: أصالة الإِقدام مقابل أصالة الإِحجام، وأصالة السلم والحلم في مقابل أصالة العنف والخرق، وأصالة التريث في التهمة، وأصالة

ص: 189


1- وغيرها، لكن الأربعة ذكرت لأنها عامة سيّالة.

الصحة في عمل المسلم أو في عمل الغير، وهذا الأخير مطروح بالتفصيل في القواعد الفقهية وفي الفقه.

ولنلقِ الآن بعض الضوء على الأصل الأول ليتضح المقصود أكثر من (اتخاذ الكلّيات منطلقاً لإزاحة الشبهة في المصاديق والجزئيات):

فإن المدراء والعاملين والناشطين اجتماعياً كثيراً ما يواجهون مواقف تبعث في أنفسهم الحيرة في الإقدام على العمل أو الإحجام؟ فمثلاً: لو كان الرأي الأولي لشخصيةٍ ما أو لمجموعةٍ أو لأي شخص هو بناء مسجد في هذه المنطقة أو حسينية أو ميتم أو مستوصف أو تأسيس جامعة أو إطلاق فضائية أو مركز دراسات أو حوزة علمية أو غير ذلك، ثم حدثت عقبات وتبدّت صعوبات وشكّك هذا أو ذاك في مدى إمكانية إنجاز هذا المشروع أو في مدى نجاحه أو فاعليته أو حتى ضرورته، وحينئذٍ فماذا العمل؟ والجواب أنه - وكما هو المعهود - يجب التفكير بشكل مكثف والمشورة وتقليب وجوه الآراء، حسب مقتضيات الشجاعة لا الجبن ولا التهور، وهذا بدوره هو أصل من أصول العمل، فإن قامت الحجة على أحد الطرفين واتضحت الرؤية فهي المرجع ولكن إن لم نحسم الأمر على مستوى العقل النظري فلابد من أصل على مستوى العقل العملي نرجع إليه وهو، برأيه (رحمة الله): (أصالة الإقدام)لا (الإحجام).

وغير خفي أن هذا الأصل - كأي أصل آخر - لا بد من إقامة الدليل عليه أو على الأصل المنافس والمضاد له وهو (أصالة الإحجام) فإذا وجدنا الأدلة وافيةً به كان من الأمثلة الاجتماعية - العملية - الإدارية الواضحة للقاعدة الكلية التي أشرنا إليها ههنا (اتخاذ الكلّيات منطلقاً لإزاحة الشبهة في المصاديق والجزئيات) فلا تبقى لديك حيرة عملية حينئذٍ عند أي موقف مشابه، كما أن من تمت له الأدلة على الأصول الأربع (الاستصحاب والبراءة...) لا تبقى له حينئذٍ حيرة في مقام العمل.

ص: 190

فلسفة أصالة الإقدام

وقد وجد السيد (رحمة الله) الأدلةَ وافيةً بأصالة الإقدام: استناداً إلى سلسلة من معطيات البحث التاريخي في حياة الناجحين وفي معطيات علم النفس وعلم الاجتماع والروايات الشريفة أيضاً، فإن الناجحين بامتياز في الحياة (أو في مشروع معين) هم - غالباً - الذين يتميّزون بنسبة من روح المغامرة والمخاطرة والاقتحامية؛ ولذا ورد في الحديث عن الإمام الصادق (علیه السلام): «التَّاجِرُ الجَبَانُ مَحْرُومٌ، وَالتَّاجِرُ الجَسُورُ مَرْزُوقٌ»(1) فإن التجار ينقسمون إلى فريقين:

فريق يتخوّف من الإقدام والاقتحام في حقول جديدة ويحتاطون في خوض غِمار الفرص الجديدة أو القفز نحو مديات أوسع، وهؤلاء عادة يظلونفي نفس المستوى الذي كانوا عليه ولا يحققون اختراقات حقيقية بل يبقون كما كانوا تجاراً متوسطي الحال مثلاً.

وفريق يكسرون حاجز الخوف ويعتقدون بأصالة الإقدام ويقتحمون المخاطر، وهؤلاء هم عادة الذين يحققون قفزات مالية كبرى وهم الذين يكونون كبار الأثرياء غالباً إلا من خرج بالدليل كمن ورث عن أبيه مثلاً مالاً، والكلام ليس عنه وأمثاله بل الكلام عن صانعي الثروات والمجد والذين نجحوا في أن يقفزوا على حاجز الركود والوسط الذين يعيشون فيه ليبلغوا القمة أو إحدى القمم.

نعم (الإقدام) يتضمن مخاطر وقد يخسر التاجر أو يفشل المغامر، لكن الكلام في ان نسبة النجاح في المغامرين بحكمة هي أعلى بكثير من نسبة النجاح في المحافظين والمحتاطين، ولذا نجد التجار على مرّ التاريخ يركبون البحر رغم أهواله ويجوبون الصحاري والفيافي رغم مجاهيلها، ثم في العصر الحديث نجد أعلى نسبة

ص: 191


1- مستدرك الوسائل: ج13 ص294.

من التجار، لدى القياس ومراعاة النسب وفواصل الزمن وغيرها - هي في مَن اقتحموا الجديد في عالم البرمجيات أو الهندسة الجينية الوراثية أو حتى الأسهم والبورصة وصولاً إلى تكنولوجيا النانو والذكاء الاصطناعي وعالم الروبوت وغير ذلك.

من ضوابط أصالة الإقدام

ولا تعني أصالة الإقدام، الإقدام بلا روية ومشورة ودراسة وتحقيق وتدبر، فإن ذلك يعني التهور، والتهور خطأ، وليست أصالة الإقدام مبنيةً عليه بل هي مبنية على أصل (الشجاعة) والشجاعة تعني الإقدام والاقتحام والعزمعلى المخاطرة بنسبة ما ولكن بعد دراسة الأمر من كافة أطرافه، ولذلك نجد أن الأسد يوصف بالشجاعة لا بالتهور إذ كشفت الدراسات أنه لا يهاجم الفيل مثلاً، إلا إذا اضطر للدفاع عن أشباله مثلاً؛ لأن مهاجمته للفيل مثلاً تهور.

وليست القاعدة (أصالة الإقدام) خاصة بالتجارة فقط بل كذلك الأمر في عالم السياسة والاجتماع والفكر والثقافة وغير ذلك.

والكلام ليس الآن عن برهنة هذا الأصل لنفيض في ذكر الأدلة والشواهد الأخرى، بل الكلام هو ان مَن ساقَهُ الدليل إلى أن (أصالة الإقدام) هي من حيث المجموع الأكثر نفعاً ومن باب (ما خيره أكثر من شره) حسب التقسيم الخماسي (الخير المحض، الشر المحض، متساوي الطرفين، خيره أكثر من شره، وبالعكس) فانه يتمسك حينئذٍ بأصل يرجع إليه لدى الشك، فلا تقعده الشبهة عن العمل ولا توجب له الحيرة والقلق والاضطراب، بل انه قد استضاء حينئذٍ بضياء اليقين (إن كانت أدلته يقينية في تشخيص معادلة ما خيره أكثر من شره) لإزاحة ظلمة الشك وحيرته عن المواقف المربكة.

ص: 192

والأمر كذلك تماماً لو توصل الباحث إلى أصل معاكس وهو أصالة الإحجام فرأى، حسب أدلته، أنّ (الجلوس على التلِّ أسلم) وأنّ عدم التفريط بالوضع القائم بأرباحه المعلومة وإن كانت محدودة خير من تعريض النفس لمخاطر خسارة الثروة أو المكانة كلها وأن عصفوراً باليد خير من عشرة محتملة على شجرة... وهكذا فإن الأصل الذي يستضيء به هذا الشخص حينئذٍ عند الشك في أي موقف مستجدٍّ هو الإحجام والجمود على الوضعالقائم، فتكون (أصالة الإحجام) حينئذٍ هي (اليقين العملي الذي يلجأ إليه الشخص لدى الشك).

وهذا النقاش والتضاد بين الأصلين هو تماماً كالنقاش بين الأَخباري والأُصولي في مرجعية أصالة البراءة مطلقاً لدى الشك في التكليف لدى الأصولي، أو أصالة الاحتياط في الشبهة التحريمية لدى الأَخباري.

ويبقى: أن من يذهب إلى (أصالة الإقدام) قد يضع لها حدوداً تكون هي الاستثناءات فإن إحدى الحدود مثلاً (أصالة الاحتياط والإحجام في الدماء والفروج)(1) ولهذا البحث تفصيل مطول لا بد من تنقيحه في موضع آخر والله المسدد الهادي للصواب.

ج - اتخاذ النتائج طريقاً لإزاحة الظُلَم عن عالم العلل

اشارة

الوجه الثالث: أن يتخذ العاقل من النتائج المحقَّقة والمعاليل المتحقِّقة سُلّماً للعروج إلى عالم الأسباب والعلل وإزاحة ظُلَم الشكوك وأتربة الشبهات عنها، وذلك هو ما يسمى بالبرهان الإنيّ في المصطلح، ولنمثل لذلك بمثال فلسفي هام، وقد سبقت الإشارة إليه، ونعيده ببعض التطوير والإضافات:

ص: 193


1- والتحقيق أن هذا من الاستثناء المنفصل من قاعدة الإقدام وقد نوضحه لاحقاً إذا شاء الله تعالى.
إشارة إلى المقدمات التي تنتهي إلى
وحدة الموجود

فقد أسس عدد من الفلاسفة من أتباع الملا صدرا أصولاً بنوا عليها مدرستهم التي تنتهي، من غير أن يصرحوا بذلك عادة وإن كشف بعضهم حجاب التقية فصرح به، إلى وحدة الوجود بل ووحدة الموجود، وذلك لدى التدبر في مفاد كلامهم ولدى تصوره على حقيقته، والأصول هي(1):

1- إن الوجود هو الأصيل، عكس من ذهب إلى أن الماهية هي الأصل، بينما نرى أن المصداق هو الأصيل والأربعة (الوجود والوحدة والتشخص والشيئية) عناوين له(2)،

قالوا:

إن الوجود عندنا أصيل ُ *** دليل من خالفنا عليل ُ

لأنه منبع كل شرف ِ *** والفرق بين نحوي الكون يفي

كذا لزوم السبق في العِلّية *** معْ عدم التشكيك في الماهية(3)

2- إن الوجود لا ثاني له، فكلما فرضته ثانياً عاد أولاً و(ليس في الدار غيره ديار).

3 - إن الوجود حقيقة تشكيكية ذات مراتب، كمراتب النور.

والغريب أن بعضهم اعتبر وجود حقيقة تشكيكية كالنور دليلاً على أن سائر الحقائق هي أيضاً تشكيكية، مع وضوح أن الجزئيّ لا يكون كاسباً ولامكتسباً ومع بداهة أن الجدار والجدار الآخر وأن الأسد والأرنب والإنسان والنبات والجماد حقائق متباينة وليست بعضها من درجات التشكيك للبعض

ص: 194


1- وقد صرح بها في (نهاية الحكمة) وغيره.
2- كما فصلناه في محله.
3- منظومة ملا هادي السبزواري: ج2 ص62.

الآخر(1)

أي ليس بعضها في سُلّم الوجود من درجة أعلى ودرجة أدنى؛ ولذا التزم بعضهم بأنها متباينات عرضية في سُلّم الوجود التشكيكي، لكنه فِرار غير مجدي إذ تبقى بداهة أنها ليست وجودات أضعف من مراتب وجود أقوى تقع في بطنه وتكون بداخله أو فقل تكون عينَه بنحو الكثرة في عين الوحدة ومن نمط التشكيك الخاصي.

4 - إن ما به الامتياز في الوجود هو عين ما به الاشتراك إذ لا شيء غير الوجود ليكون هو ما به الامتياز؛ ولذلك كانت الوحدة في عين الكثرة والكثرة في عين الوحدة.

كيف انتجت (أصالة الوجود ومشكّكيّته و...) وحدة الموجودات؟

أقول: نتيجة هذه المقدمات لدى التدبر هي (وحدة الوجود) وأنه لا شيء إلا وجود واحد ممتد منبسط(2) وكل شيء بدءً من الله تعالى وانتهاء بأصغر أو أضعف مخلوق هو مراتب هذا الوجود، فالوجود واحد إذاً.

بل نتيجتها لدى التدبر هي (وحدة الموجود) إذ المائز بين الوجودات هي الماهية كما قالوا وهي اعتبارية محضة، ولا يعقل التمايز الحقيقي بينالوجودات الحقيقية بأمر اعتباري محض، بل هي لا شيء محض في الخارج إذ لا شيء غير الوجود أبداً في الخارج، على مبنى أصالة الوجود، فالمائز بين زيد وعمرو والإنسان والحيوان والنبات والجماد بل والخالق والمخلوق ليس إلا أمراً اعتبارياً هو المسمى بالماهية، وحيث كانت اعتباراً محضاً (وأما في الخارج فليس إلا الوجود) إذاً تكون الموجودات كلها وجوداً واحداً؛ إذ الموجود بزعمهم مركب

ص: 195


1- ولا للوجود الأعلى، بالبداهة وكما سنشير له.
2- بل التعبير بالامتداد والانبساط أيضاً مجازي! فتدبر

من الوجود والماهية فإذا كانت الماهية اعتباراً صِرفاً ولا شيء لدى الدقة كان الموجود لدى الدقة وجوداً فقط وأما ماهيته وحدّه (الذي به افترض القائلون بأصالة الماهية افتراق بعض الموجودات عن الأخرى) فهي أمر موهوم لا غير، وكيف تكون الماهية إعتبارية موهومة ومع ذلك تكون حداً للوجود مائزاً لهذا عن ذاك؟ لا يمكن إلا إذا قالوا بكونها أمراً حقيقياً أصيلاً في الخارج فتكون الماهية أصيلة كالوجود فيكون هناك أصيلان هذا خلف! وإن قالوا هي مجرد وهم فنقول: فكيف يتميّز أمران حقيقيان في الخارج بحدٍّ وماهيةٍ وهميةٍ بينهما؟

فظهر أنه لدى التدبر فإن نتيجة تلك المقدمات هي وحدة الموجود(1) أي وحدة الموجودات كلها، ولا يمكن حلّ المشكلة بدعوى أن الخالق هو المرتبة العالية والمخلوق هو المرتبة الدانية إذ مدعاهم هو (التشكيك الخاصي) وليس (التشكيك العامي) أي ليس مدعاهم في تشكيك الوجود أنه كنور الشمس الذي انعكس على القمر ثم انعكست اشعته منه على الجدران وهكذافإن هذا نور ممتد متعدد في الواقع بتعدد القابل(2)

ولا يقولون به في وجود الخالق والمخلوق وإلا للزم خروج المخلوق عن وجود الخالق وانحاز عنه لاختصاص كل منهما بمرتبة ولم تكن الوحدة في عين الكثرة حينئذٍ وبعبارة أخرى: للزم ان تكون الكثرة بتعدد الأماكن والقوابل لا بنفس الوجود وبنحو الكثرة في عين الوحدة، فهذا هو التشكيك العامي، لكنهم يرون التشكيك الخاصي وهو أن الوجود القوي، كنور الشمس، يستبطن في داخله(3) الوجود الضعيف.

وبتعبير أدق: هو وجود قوي وهو وجود ضعيف بنفسه ولكن في رتبتين،

ص: 196


1- لعودة الموجود، حقيقةً إلى الوجود.
2- ولذا تتعدد آثار وأحكام كل مرتبة منه.
3- لا في امتدادته التي توجب تعدده بتعدد القابل.

ولبّ هذا أنّه عينُه لكن بعبارات معقدة مطولة لتضييع الأمر على المعترض وكي يمكن التملص من هذه النتيجة إذا ووجهوا بها؛ ولذا نجد ان من أزاح ستار التقية منهم، يصرِّح بها(1)

ومن أدرك عمقها رفضها.

وهل يعقل أن يكون ما عينُه الفقر والحاجة، إلهاً؟

وعلى أي فإن المقصود ههنا ليس مناقشة بنود هذه النظرية وأصولها بل المقصود هو أمر آخر وهو: أن المتعلم لو سمع هذه الأصول والبنود ثم وجدها تنتهي إلى وحدة الوجود والموجود(2) فإنه قد يكون عاجزاً عن مناقشتها لكنهيمكن له أن ينطلق من اليقين الوجداني بفساد النتيجة وبطلانها إلى فساد إحدى الأصول والأسس والمقدمات أو جميعها؛ إذ نتيجة كل تلك الأصول والمقدمات الأربع السابقة هو كما صرح به بعضهم (ليس في جبتي سوى الله) أو (ليس في الدار غيره ديّار)(3)

أو (أن الوجود بحر ونحن تموجاته، وهل الأمواج إلا البحر)؟ أو

مسلمان گر بدانستي كه بُت جيست *** يقين داني كه دين در بت پرستي است

وغير ذلك(4).

ويكفي لإبطال كل ذلك أن يلتفت المرء إلى ذاته ليشهد بوضوح أنه كلّه الفقر وأنه كلّه الحاجة، فهل يعقل أن يكون إلهاً؟ أو جزء إله؟ أو مرتبة من مراتب الإله؟ ألا ترى أنك قطعة من الحاجة للماء والهواء وللأرض والسماء

ص: 197


1- كصمدي آملي مثلاً فراجع (عرفان از حقيقت تاپندار) وموقع: Nooralsadegh.ir».
2- وإن لم يجدها تنتهي إلى ذلك، فلا كلام لنا معه ههنا أي لا يصلح هذا البحث شاهداً على نقض المقدمات ببداهة ببطلان النتيجة أو النتائج.
3- مجموعة رسائل فلسفي صدر المتالهين: ص455.
4- راجع كتاب (جدلية الدين والفلسفة)، وكتاب: (عارف وصوفي چه ميگويد)، وكتاب: (العرفان الإسلامي)، وكتاب: (تاريخ الفلسفة والتصوف).

وللطعام والملبس والمسكن والمركب؟ وللزوجة والطبيب والمهندس والعطار والبقال والخباز؟ وللشرطة والدولة وغير ذلك فهل يعقل أن تكون إلهاً؟

وألا ترى أنك جاهل بكل شيء تقريباً؟ جاهل بحقيقة روحك ونفسك وعقلك بل وبدنك أيضاً؟ فلا تدري شيئاً عن بنية الأعصاب والخلايا والعين والسمع والمخ وغير ذلك إلا ما درسته في المدرسة أو قرأته في الكتاب، وهو كمٌّ ضئيل جداً من أسرار البدن! وكيف يكون إلهاً من هو جاهل بكل شيء تقريباً عن نفسه؟ ولعلنا نكمل هذا البحث في مبحث آخر بإذن الله تعالى.

تلخيص وإضافة لمثالين هامّين

لقد مضى في بعض الحديث عن الحلول المفتاحية لظاهرة التشكيك ومضى بعض الكلام عن إحدى أهم الحِكَم المعرفية الكبرى في هذا الحقل وهي قول أمير المؤمنين (علیه السلام): «فَأَمَّا أَوْلِيَاءُ اللَّهِ فَضِيَاؤُهُمْ فِيهَا الْيَقِينُ»(1) وقد سبق تفسير هذه الفقرة من كلامه (علیه السلام) بثلاث وجوه: (الانطلاق من اليقينيات الوجدانية لدكِّ معاقل الشبهات، والاتخاذ من الكليات منطلقاً لإزاحة الشبهات عن المصاديق والجزئيات، واتخاذ النتائج والمعاليل طريقاً لإزاحة حجب الظلام عن عالم الأسباب والعلل) وقد ذكرنا بعض الشواهد والأمثلة العقلية والفلسفية على ذلك، لذلك فسوف نشير الآن إلى مثالين من علم السياسة والاجتماع كي يكون البحث أكثر ثراءً وتنوعاً:

مقياس إدبار الدول: تقديم الأراذل وتأخير الأفاضل!

المثال الأول: يقول أمير المؤمنين (علیه السلام): «يستدل على إدبار الدول بأربع:

ص: 198


1- نهج البلاغة: من كلام له علیه السلام وفيها علة تسمية الشبهة شبهة ثم بيان حال الناس فيها، الخطبة: 38.

تضييع الأصول والتمسك بالغرور وتقديم الأراذل وتأخيرالأفاضل»(1) و«تولي الأراذل والأحداث الدولَ دليل انحلالها وإدبارها»(2) و«إِنَّ مِنْ ذُلِّ الْمُسْلِمِينَ وَهَلَاكِ الدِّينِ، أَنَّ ابْنَ أَبِي سُفْيَانَ يَدْعُو الْأَرَاذِلَ وَالْأَشْرَارَ فَيُجَابُ...»(3).

وهذه الكلمة تعطي مقياساً عاماً وضابطاً رئيسياً لكل من يجهل واقع الحكومات ويشك في كيفية سير الأمور فيها وإلى أين ستصل في مؤدياتها ونتائجها، فهل هذه الحكومة مستقرة أو هي في طريق الزوال؟ قد تبدو الظواهر والمؤشرات كاذبة أو مُخادِعة إذ قد تمتلك الدول ترسانة ضخمة من الأسلحة التقليدية وغير التقليدية بل قد تكون مسلحة بالأسلحة النووية، وقد تفرض سيطرتها بالقوة على الكثير من الدول المجاورة، بل قد تبدو حكومتها مستقرة ولا نهائية كما كان يبدو حكم الشاه وحكم الشيوعيين في الاتحاد السوفياتي وحكم صدام والقذافي وسائر الطغاة، لكنّ من يمتلك هذا المقياس العَلَوِي فإنه سوف لا يشكك حينئذٍ مهما بدت الحكومة متمكِّنةً متجذِّرةً مسيطرةً في أنها على جناح السقوط وإن كان قد يطول لعقود أو لسنين على حسب طبيعة البلاد والحكومات، وبهذا المقياس والضابط يقطع الشك باليقين بأعلى صوره.

وهذا المقياس لهو مقياس هام وأساسي وواضح: فإذا رأيت الحاكم قد ألقى بالأحرار في السجون وطرد العلماء والمفكرين أو شرّدهم أو نفاهم إلىأقاصي البلاد وقرّب إليه الأراذل والمتملقين وضيع الأصول - كالعدل والإحسان والسِّلم والأمن والازدهار الاقتصادي... - وتمسك بحبل الغرور والخيلاء والاستعلاء، فأعرف بأن البلاد على شرّ إذ لا يمكن إدارة البلاد في الزراعة

ص: 199


1- غرر الحكم ودرر الكلم: ص342.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: ص345.
3- بحار الأنوار: ج34 ص14.

والصناعة والتجارة وفي السياسة والثقافة والعلوم إلا بالمفكرين والعلماء والخبراء والفطاحل لا بالأراذل والجهال والمتملقين.

واستلهاماً من كلمته (علیه السلام) نقول: إن هذا المقياس مقياس عام يشمل أية سلطة مهما بدت صغيرة: فالأحزاب والنقابات والعشائر ومؤسسات المجتمع المدني والجامعات والمدارس وغيرها، إذا أرادت أن تعرف أن إدارتها تسير بها من حسن لأحسن أو من حسن لسيء أو من سيء إلى أسوء فأنظر إلى الإدارة: فهل أنها تمتلك جيشاً، أو مجموعة على الأقلّ، من كبار المستشارين؟ وهل فوّضت الأمور الإدارية أو أوكلتها إلى كبار أهل الخبرة والحنكة وأهل الحلّ والعقد والفكر والعلم والحِجى والثقافة؟ أو بالعكس من ذلك سلمت الأمور إلى من يتميّزون بالولاء قبل الكفائة وبالسمع والطاعة قبل الفكر والخبروية؟

مقياس إكتشاف ديمقراطية الحكومات أو استبدادها

المثال الثاني: ما ذكره السيد الوالد (رحمة الله) من: أن الحكومات في هذا الزمن دَرَجت على أن تدعي بأنها حكومات ديمقراطية أو استشارية وأن الناس يتمتعون فيها بالحريات في مختلف الحقول وأن السجناء ليسوا إلا حفنة من المجرمين أو الجواسيس ولا يوجد في البلاد حتى سجين رأي أو موقف، كمادَرَجت الحكومات على إجراء انتخابات صورية لكنها تبدو حقيقية لإضفاء طابع شعبي جماهيري على الحكم.

لكن إذا كنت في شك من واقع هذه الحكومات فأقطع الشك باليقين بهذه القاعدة وهي: أنه ما عليك إلا أن تراقب الصحف والمجلات ولو ليوم واحد فإذا رأيتها تنتقد الحاكم الأعلى للبلاد (بأية تسمية تَسمّى: الأمير، الملك، القائد، رئيس الجمهورية.. الخ) ورأيتها تهاجمه وتحاسبه على كل صغيرة وكبيرة،

ص: 200

فأعرف بأن البلاد تتمتع بالحريات حقاً، أما إذا وجدتها لا تحاسب إلا من هو دون الرأس الأول ومركز القدرة الأساس وتتجنب نقده (وفي الكثير من البلاد: تتجنب نقد حتى كبار أعوانه) وأنه إذا انتقده أحدهم فسوف يتعرض للملاحقة بشكل أو بآخر، فأعرف بان الحريات كاذبة والديمقراطية مزعومة.

والمقياس الآخر الذي كان يذكره هو: راقب وضع البلد فإذا رأيت الأحزاب المتنافسة على الحكم حرةً وكان الحكم تداولياً وكان الجهاز الحاكم يتغير بين كل دورة انتخابية وأخرى من أعلى رأس فيه فنازلاً فأعرف بأن الانتخابات حرة نزيهة، اما إذا رأيت شخصاً ما (مهما كان اسمه وعنوانه) يبقى مسيطراً على دفة الأمور ولا تطاله الانتخابات أبداً ولا تقلص من مساحة سلطته وسيطرته أصلاً فاعرف بان الانتخابات ما هي إلا عملية خداع متطورة لإضفاء طابع شوري شعبي على واقع استبدادي غاشم.

ثانياً: الاستدلال ب(سَمْتُ اَلْهُدَى)

اشارة

إن المفتاح الثاني لإزاحة الشبهات والسيطرة عليها ودحر الشكوك هو (سمت الهدى) الذي ورد في قوله (صلی الله علیه و آله): «فَأَمَّا أَوْلِيَاءُ اَللَّهِ فَضِيَاؤُهُمْ فِيهَا اَلْيَقِينُ وَدَلِيلُهُمْ سَمْتُ اَلْهُدَى»(1).

والفرق بين «فَضِيَاؤُهُمْ فِيهَا اَلْيَقِينُ» و«دَلِيلُهُمْ سَمْتُ اَلْهُدَى» هو أن الأول مصباح داخلي والثاني مرشد خارجي.

وتوضيح ذلك: أن كلام الإمام (علیه السلام) يمكن أن يفسر بوجهين، على حسب المعنى المراد من مفردة (سَمْتُ) وكلاهما يعد مفتاحاً لحل معضلة الشبهات: والمعنيان للسَمت هما:

ص: 201


1- نهج البلاغة: من كلام له علیه السلام وفيها علة تسمية الشبهة شبهة ثم بيان حال الناس فيها، الخطبة: 38.

أولاً: الطريق وهو المعنى المعروف الذي يذكر عادة كتفسير لكلمة سمت.

وثانياً: الجهة، هو ما ورد في الكتب اللغوية المفصلة كلسان العرب مثلاً، فلنتكلم على كلا التفسيرين:

أ- سَمْتُ اَلْهُدَى: جهة اَلْهُدَى، كجهة الكعبة

اشارة

التفسير الأول: إن معنى «دَلِيلُهُمْ سَمْتُ اَلْهُدَى» هو أن دليلهم جهة الهدى، فإن جهة الهدى لو حددها العاقل فأن الشبهات التي تعترض طريقه تذوب كما يذوب الملح في الماء، وذلك بعد أن يتخِّذ الجهةَ المحددةَ سابقاً مرجعيةً له، وذلك مقياس عام في الماديات وفي المعنويات أيضاً.أما في الماديات: فكتحديد جهة القبلة بشاخص معين، ككون سهيل إلى جهة الجنوب في مثل النجف الأشرف وكربلاء المقدسة وككون الجدي في جهة الشمال (بأن تضعه خلفك فتكون القبلة أمامك) فإذا حدّد العاقل سَمْت الكعبة (وهو سمت سهيل نفسه) فأنه إذا كان في الصحراء أو في وسط أمواج البحر فإنه مهما اعترضه الشك في صحة اتجاهه وسلامة مسيرته فانه ما عليه إلا ان يرفع رأسه إلى سهيل أو الجدي لتنزاح عنه الشبهة ويرجع إلى اليقين بموقعه وبسلامة اتجاهه (أو العكس) من جديد.

والرسول وأهل بيته هم سَمْتُ الهدى وجهته

وأما في المعنويات، وغيرها أيضاً، ف(سمت الهدى) هو الرسول (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته الأطهار قال (صلی الله علیه و آله): «إنّي تاركٌ فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي [أهل بيتي] فإنّهما لن يفترقا حتّى يردا علىَّ الحوض»(1) وقال: «أنا مدينة العلم وعلي

ص: 202


1- كمال الدين وتمام النعمة: ج1 ص234.

بابها فمن أراد مدينة العلم فليأتها من بابها»(1) وقال الإمام علي (علیه السلام): «أنَا القُرآنُ النّاطِقُ»(2).

وعليه: فكلما اعترضتك شبهة أو حيرة في فكرةِ ما أو في معتقد ما أو في مسألة ما، فما عليك إلا أن تيمِّم «سَمْتُ الهُدَى» وترجع إلى المقياس النهائي الذي قال عنه تعالى: «وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُالَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ»(3).

نعم: لا بد مسبقاً من التحقيق والفحص والبحث لكي نعرف (الجهة المرجعية الحقة) وهل هو عليٌّ (علیه السلام) أو أبو بكر وعمر؟ أو هل هو الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) أو أبو جهل وأبو سفيان؟ وهل هو الحسين بن علي علیهما السلام أو يزيد بن معاوية؟ فههنا ينبغي أن يعسكر المحقِّق، فإذا شاهد متواتر الروايات الصادرة من الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) التي تفيد بأن علياً هو مدينة علم الرسول (صلی الله علیه و آله) و«أقضاكم علي»(4) و«أَعْلَمُكُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ»(5) و«أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي»(6) وغيرها وغيرها كثير(7)،

فإن «سَمْتُ الهُدى» يكون قد تحدد لديه دون لَبْسِ، وحينئذٍ ما عليه إلا أن يُسلِس قياده للحق وللرسول وأهل بيته (علیهم السلام) «وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى»(8)

ص: 203


1- تحف العقول عن آل الرسول »: ص 340.
2- ينابيع المودّة: ج1 ص214 ح20 .
3- سورة النساء: 83.
4- الكافي: ج7 ص429.
5- الكافي: ج7 ص424.
6- الكافي: ج8 ص107.
7- راجع الغدير والمراجعات وليالي بيشاور وغيرها.
8- سورة النجم: 3 - 4.

و«إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ»(1)، وكما قال الشاعر(2):

ولو قلَّدُوا المُوصَى إليهِ زِمَامَها *** لَزُمَّتْ بمأمونٍ مِن العَثَراتِ

وبعد ذلك لا يبقى مجال للتشكيك في أن دية المرأة كذا أو أن إرثها كذا أو هذه المسألة كذا أو تلك كذا، وقد قال الأمير (علیه السلام): «ووَثِقُوا بِالْقَائِدِ فَاتَّبَعُوه»(3) وقال (علیه السلام) أيضاً: «يا كُمَيْلُ لا تَأْخُذْ الّا عَنَّا، تَكُنْ مِنَّا»(4).

ب - سمت الهدى: طريق الهدى والحركة فيه

اشارة

سبق كلامه (علیه السلام) :«فَأَمَّا أَوْلِيَاءُ اللَّهِ فَضِيَاؤُهُمْ فِيهَا الْيَقِينُ ودَلِيلُهُمْ سَمْتُ الْهُدَى» وإن السمت تارة يراد به الجهة وقد مضى الكلام عنها وأخرى يراد به الطريق:

وموجز الكلام عن «سَمْتُ الْهُدَى» أن واحداً من الحلول المفتاحية للشك والتشكيك هو الرجوع إلى طريق الهدى والحركة فيه، وطريق الهدى المعنوي كطريق الهدى المادي: فكما أن الطريق الشارع في وسط الصحراء هو المنقذ للتائه الحائر في مجاهيلها فكذلك طريق الهدى وسط ظلمات الشبهات ومتاهات التشكيكات فإنه هو الدليل والمرشد والمنقذ، وسيتضح ذلك أكثر على ضوء المثالين الآتيين:

مرجعية طريق الرواية والدراية

المثال الأول: مرجعية طريق (الرواية والدراية) للقضاء على الشك والتحيّر، وذلك على مستويات ثلاثة:

ص: 204


1- سورة المائدة: 55.
2- من ديوان دعبل الخزاعي (تَجَاوَبنَ بالإرنانِ وَالزَّفراتِ).
3- نهج البلاغة: من خطبة له علیه السلام: روي عن نوف البكالي، خطبة: 182 .
4- تحف العقول عن آل الرسول »: ص 171.

المستوى الأول: لدى شك الإنسان المسلم في منزلته ومكانته لدى رسول الله (صلی الله علیه و آله) أو لدى الإمام الصادق (علیه السلام) أو لدى الإمام المنتظر عجل الله تعالی فرجه الشریف.

المستوى الثاني: لدى الشك في بعض العُقَد الفكرية والعقدية.

المستوى الثالث: لدى الشك في مدى قيمة هذا الرمز الديني أو ذاك ووزنه ومنزلته لدى أهل البيت (علیهم السلام) أو ذاك الشاعر أو الشاب الجامعي أو المثقف أو المفكر أو الطبيب والمهندس وأشباهه؟ وذلك لدى الشك الذي قد يعتري المكلف في أنه ينبغي أن يرجع إلى مَن؟ وما هي درجة مرجعيته المعرفية؟

فهذه شكوك موضوعية لها مبرراتها، والإجابة عنها جوهرية تهمّ كل شيعي (كما أن نظائرها قد تدور في أذهان أتباع المذاهب الأخرى أو الأديان الأخرى، وقد تكون الإجابة مقاربة للذي سنذكره).

و«سَمْتُ الْهُدَى» في حل المعضلة والخروج عن الحيرة والذي يعد طريقاً مرجعياً واضحاً يقطع الشك باليقين هو:

كيف تعرف منزلتك والآخرين لدى الرسول والمعصومين (علیهم السلام)؟

ما ذكره الإمام الباقر (علیه السلام) في قوله: «يَا بُنَيَّ اعْرِفْ مَنَازِلَ الشِّيعَةِ عَلَى قَدْرِ رِوَايَتِهِمْ وَ مَعْرِفَتِهِمْ فَإِنَّ الْمَعْرِفَةَ هِيَ الدِّرَايَةُ لِلرِّوَايَةِ وَ بِالدِّرَايَاتِلِلرِّوَايَاتِ يَعْلُو الْمُؤْمِنُ إِلَى أَقْصَى دَرَجَاتِ الْإِيمَانِ»(1).

فطريق معرفة منزلة الشيعي لدى الأئمة الأطهار، سواء أكان طالب علم أم خطيباً أم أستاذاً في الحوزة العلمية أم مرجعاً أم كان طالباً جامعياً أم أستاذاً أم مفكراً أم كان تاجراً أم مستثمراً أم سياسياً أم مزارعاً أو غير ذلك، هو مجموع الأمرين معاً (الرواية والدراية) فليست كثرة المعرفة للروايات هي المقياس لمعرفة

ص: 205


1- معاني الأخبار: ص1.

مدى سمو المنزلة لديهم (علیهم السلام) ولا الدقة والتعمق في بعض الروايات فقط بل المقياس هو مجموع الكم والكيف معاً.

وعليه: فإذا وجدت أحد الأفاضل أكثر استيعاباً للروايات وإطلاعاً عليها ووجدته أكثر معرفة بمعاريضها ووجوه التورية أو المجاز فيها وببطونها ووجوه التنزيل والتأويل وبدلالات الإيماء والإشارة والاقتضاء وغيرها، فهو الأقرب لأهل البيت (علیهم السلام) وعلى حسب ذلك تكون الدرجات صعوداً ونزولاً، فكلما وجدته أكثر روايةً ودرايةً فالتصق به أكثر فأكثر واعتبره مرجعيتك الفكرية والعقدية والثقافية، عكس ما لو كان يحفظ ألوف الروايات بدون دراية لها أو كان يتميز بكثرة التدقيق في فقه الحديث وأوجهه لكنه كان غير ملمّ إلا بالقليل من الروايات، فإن كل منهما يعد في درجة أدنى ممن جمع الكيف المتميز إلى جوار الكم الوافر.

ومن الواضح أن ذلك كله بعد الفراغ عن الإيمان والعدالة وكونه مؤمناً عادلاً؛ وذلك لأن المحور في الرواية الشريفة هو (منازل الشيعة) و(يعلوالمؤمن).

وذلك هو المقياس إذا أردت أن تعرف مدى قربك أنت شخصياً لأهل البيت (علیهم السلام) فأنظر إلى كمية الروايات التي طالعتها وإلى مدى علمك بفقه الحديث فيها فعلى ضوء ذلك يكون بمقدورك أن تحدد موقع منزلتك في سلّم القيم عندهم صلات الله عليهم.

وهذا يعني أن من قرأ بتأملٍ وتدبر واستيعابٍ وتبصّر نهج البلاغة ونهج الفصاحة وغرر الحكم وتحف العقول وتوحيد الصدوق والاحتجاج والكافي وبصائر الدرجات ومكيال المكارم ومن ثم المجاميع الحديثية كجامع أحاديث الشيعة أو الوسائل، فإنه الأعظم منزلة ممن لم يقرأ ولم يتدبر إلا في بعضها.

ص: 206

وكذلك الحال في المرجعية لحل الشبهات والشكوك فإن دليل أولياء الله هو «سَمتُ الهُدى» وهو الرجوع للروايات والدرايات «فَإِنَّ الْمَعْرِفَةَ هِيَ الدِّرَايَةُ لِلرِّوَايَةِ وَ بِالدِّرَايَاتِ لِلرِّوَايَاتِ يَعْلُو الْمُؤْمِنُ إِلَى أَقْصَى دَرَجَاتِ الْإِيمَانِ».

مرجعية (احْتَجْ إِلَى مَنْ شِئْتَ تَكُنْ أَسِيرَهُ)

المثال الثاني: مرجعية القاعدة الذهبية العلوية: «امْنُنْ عَلَى مَنْ شِئْتَ تَكُنْ أَمِيرَهُ وَاحْتَجْ إِلَى مَنْ شِئْتَ تَكُنْ أَسِيرَهُ وَاسْتَغْنِ عَمَّنْ شِئْتَ تَكُنْ نَظِيرَهُ»(1) في تحديد موقفنا من:

1- الاستدانة والاقتراض من الخارج. 2- ومن الاستعانة بالخبراء الأجانب. 3 - ومن الاعتماد عليهم في حفظ أمن البلاد.

الاقتراض من الخارج، تبعية وإسارة

أ) فكلما راودتنا الشكوك في ضرورة الاستدانة من صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي أو هذه الدولة أو تلك نظراً للحاجة الماسة للنهوض ببعض المشاريع في البلاد، فما علينا إلا أن نرجع إلى «سَمتُ الهُدُى» وطريقه، وسمت الهدى هو: «احْتَجْ إِلَى مَنْ شِئْتَ تَكُنْ أَسِيرَهُ وَاسْتَغْنِ عَمَّنْ شِئْتَ تَكُنْ نَظِيرَهُ» وهل يستحسن بالعاقل أن يكون أسير الكفار؟ خاصة وأنهم ليسوا كفاراً عاديين يتبرعون بالقروض قربةً لوجه الله تعالى(!) بل هم كفار على أعلى درجات التخطيط لبسط هيمنتهم على بلادنا ومقدراتنا، فالقروض التي يقدمونها لنا تحقق لهم الربح المادي الوفير بفوائده الربوية أولاً، كما تحقق لهم الربح السياسي الكبير ثانياً وذلك عبر بسط نفوذهم في دوائر حكامنا وعبر شروطهم المباشرة أحياناً والتي قد تكون عبر حزمة مما يسمونه بالإصلاحات الاقتصادية، وغير المباشرة أحياناً أخرى، وتلك الشروط وإن بدت في ظاهرها مغرية ولصالحنا لكنها

ص: 207


1- الخصال: ج2 ص420.

في المدى البعيد تربط عجلات اقتصاد بلادنا بمنظومتهم الاقتصادية أكثر فأكثر فهم (غاشون وإن تشبهوا بالناصحين) وقد فصّل عدد من الأخصائيين الكلام عن ذلك في كتب كثيرة جداً(1) كما أشرنا إلى جوانب منه في كتاب (معالم المجتمع المدني في منظومة الفكرالإسلامي).

الاستعانة بخبراء الخارج، خطورة كامنة

ب) وكذلك الاستعانة بخبراء من الخارج؛ فإن من الواضح أنهم أولاً يملكون عقلية وثقافة وخلفيات تتناسب مع وسطهم الثقافي والديني، ومن البديهي أان مخططاتهم سوف لا تخلو من تلك البصمات إن لم تكن مبنية عليها بالكامل مما يعني أن المخطط يسير باتجاه أن تتحول اقتصادات دولنا إلى امتدادات لاقتصادات بلادهم وإلى حلقة تدور في مخططهم العام.

ثانياً: ومن البديهي أن هؤلاء المستشارين (سواء أكانوا للوزارات أم للشركات أم للأفراد) سوف يحيطون بأوضاع بلادنا من شتى الجهات وبنقاط الضعف والقوة، وستنتقل هذه المعلومات الهامة والخطيرة أيضاً إلى ساسة بلادهم ومخططيهم الاستراتيجيين، بشكل أو بآخر، والقاعدة المعرفة تصرح بأن الأقوى والأكثر قدرة والأكثر سيطرة هو من يمتلك (المعلومة) قبل غيره كما أنه هو من يمتلك (كمّاً أكبر من المعلومات) وفي شتى الأبعاد والمستويات.

ص: 208


1- راجع كتاب (الربح مقدماً على الشعب) و(أحجار على رقعة الشطرنج) و(بروتوكلات حكام صهيون) و(القوة الناعمة) وغيرها إذ ستجد في كل منها جانباً أو جوانب مما ذكرناه.

الفصل السابع: أعمدة الیقین: الفطنة،الحكمة،العبرة وسنة الئولین

اشارة

ص: 209

ص: 210

قال الله العظيم في كتابه الكريم: «هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ»(1).

وقال الإمام علي (علیه السلام): «وَالْيَقِينُ عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ عَلَى تَبْصِرَةِ الْفِطْنَةِ وَتَأَوُّلِ الْحِكْمَةِ وَمَوْعِظَةِ الْعِبْرَةِ وَسُنَّةِ الْأَوَّلِينَ:

فَمَنْ تَبَصَّرَ فِي الْفِطْنَةِ تَأَوَّلَ الْحِكْمَةَ، وَمَنْ تَأَوَّلَ الْحِكْمَةَ عَرَفَ الْعِبْرَةَ، وَمَنْ عَرَفَ الْعِبْرَةَ عَرَفَ السُّنَّةَ، وَمَنْ عَرَفَ السُّنَّةَ فَكَأَنَّمَا عَاشَ فِي الْأَوَّلِينَ».

حيث ينعقد البحث عن (الشك) وعن قيمته المعرفية، فإنه لا بد وأن يدور عن (اليقين) أيضاً وعن آليات الوصول إليه والممهِّدات له باعتباره الضد المعاند للشك؛ فانك إذا لم تصل إلى شاطئ اليقين بقيت شاكاً وإذا تشبثت بأوهام السفسطة ابتعدت عن ساحل العلم والمعرفة.

وقد كشف أمير الحكماء وحكيم الأمراء بل سيد الحكمة والبلاغة النقاب عن أعمدة اليقين ودعائمه وأسسه في تلك الكلمة المفتاحية الحكمية الرائعة.

ناظرية الروايات إلى تفسير الآيات

اشارة

إن الأحاديث الشريفة كثيراً ما تكون ناظرة، وان بشكل غير صريح، إلى تفسير القرآن الكريم وتبيين معانيه أو بسط ما أجمله أو دفع إشكال أو اعتراض

ص: 211


1- سورة الجاثية: 20.

قد يتوهم وروده عليه أو الجواب عن سؤال واستفهام.

وهذه الرواية الشريفة فصّلت ما أوجزته الآية الكريمة في كلمة واحدة، ذلك أن الآية الكريمة مبنية على ثلاثية (البصائر، الهدى، والرحمة) والرواية الشريفة مبنية على رباعية (تبصرة الفطنة، تأول الحكمة، موعظة العبرة وسنة الأولين) والحلقة الرابطة بين الآية والرواية هي مفردة اليقين المتجسدة في «يُوقِنُونَ» فإن الآية الشريفة تفيد بأن القرآن الكريم هو بصائر وهدى ورحمة للموقنين، ولكن ما هو الطريق للوصول إلى اليقين؟ ذلك هو ما تجيب عنه الرواية الشريفة: «وَالْيَقِينُ عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ: عَلَى تَبْصِرَةِ الْفِطْنَةِ وَتَأَوُّلِ الْحِكْمَةِ وَمَوْعِظَةِ الْعِبْرَةِ وَسُنَّةِ الْأَوَّلِينَ: فَمَنْ تَبَصَّرَ فِي الْفِطْنَةِ تَأَوَّلَ الْحِكْمَةَ...».

فمن تبصّر في الفطنة وتأول الحكمة واتعظ بالعبرة واستنّ بسنة الأولين وصل إلى مرحلة اليقين وكان من الموقنين الذين يكون القرآن الكريم هدى لهم ورحمة وبصائر.

والذي نستفيده إجمالاً من تلك الكلمة الخالدة أن الأمة الفاضلة ذات المعرفة الكاملة، وكذلك الشعوب والجماعات الفاضلة أو العوائل أو حتى الأشخاص الأفاضل - هي تلك التي تتمتع بمربع (الفطنة والحكمة والعبرة والسنة) فهذه هي أعمدة اليقين وطرق الوصول إلى حقائق الأشياء والأمور.

أ- الفِطنة طريق النجاح والفلاح

أولاً: (الفطنة) وهي تعني (الفهم) وقد تفسر ب(الذكاء) أو الذكاء هو أهم آليات الفهم، والفهم هو طريق العلم والمعرفة واليقين بل هو طريق السعادة والسيادة في الدنيا والآخرة؛ بل لقد ورد في صفات المؤمن: «الْمُؤْمِنُ كَيِّسٌ فَطِنٌ حَذِرٌ»(1) وذلك على العكس من الغباء والبلادة؛ فإن البليد جاهل أو شاك فيما

ص: 212


1- بحار الأنوار: ج64 ص307.

تبلّد إدراكه فيه والبليد هو الخاسر حتى للآخرة! والرابح في الدنيا والآخرة إنما هو ذو الفهم والإدراك والذكاء والحصافة!

ولكن قد يتساءل كيف ذلك؟

والجواب هو: إن السرّ واضح؛ فإن الفاهم الفَطِن لا يبيع ما قيمته مليار دولار بدولار أو فلس واحد!، ولو فعل ذلك لكان غبياً حقاً بل كان هو الأحمق بعينه، وهكذا نجد أن الذين ينغمسون في أوحال المعاصي هم أغبياء حقاً لا يتمتعون بأثارةٍ من علم أو فهم أو يقين ذلك أنه يتمسك بما تفنى لذّته وتدوم حسرته، ويفرِّط بالنعيم الأبدي الخالد في قبال نزوة عابرة زائلة، وقد تكون تلك النزوة مجرد غيبة أو نظرة أو سماع أو إيذاءَ أو غير ذلك، أو قد تكون غشاً أو رشوة أو اختلاساً أو غير ذلك، أو قد تكون تقاعساً عن نصرة الدين وعن الذبّ عن حياض الأئمة الميامين أو شبه ذلك.

فاليقين إذاً يبتني على الفهم والفطنة أو الذكاء: فمن فَهِم الأسباب بتفاصيلها أيقن بالنتائج بتضاريسها، ومن فهم عمق المأساة أو جوهر الأحداث أو بواطن الأمور عرف مصادرها وأيقن بنتائجها وعلم بمخرجاتها ومآلاتها.

ب - الحِكْمَةِ من دعائم اليقين

اشارة

ثانياً: «الْحِكْمَةِ» وهي الأخرى من دعائم اليقين، والفرق بين الفطنة والحكمة أن الفطنة ترمز إلى ما يرتبط بالعقل النظري أما الحكمة فترمز إلى العقل العملي، وذلك حسب إحدى تفسيراتها وهو (وضع الشيء موضعه) ولها تفسيرات أخرى ستأتي لاحقاً بإذن الله تعالى.

التعامل مع الانتقاد بحكمة وانشراح وفعالية

ومن أهم مفردات الحكمة أن تتعامل الحكومة والقيادة في مختلف مستوياتها مع (النقد) بإيجابية أولاً وفعالية ثانياً:

ص: 213

والإيجابية تعني أن تنظر إلى النقد والانتقاد باعتباره سلّم تكامل وطريق بناء وضرورة من ضرورات التقدم بل أن تنظر إليه كأمر محبوب مرغوب فيه جداً كما ورد عن الإمام الصادق (علیه السلام): «أَحَبُّ إِخْوَانِي إِلَيَّ مَنْ أَهْدَى إِلَيَّ عُيُوبِي»(1) وذلك لأن الإنسان بطبعه يكره النقد إذ يعتبره تنقيصاً وإزدراءً ولكنه إذا أنصف وجده شرطاً أساسياً للتقدم لأن البشر قاصر بطبعه عن الإحاطة بكافة جهات القضايا المستجدة وزواياها وأبعادها وحدودها ومزاحماتها وموانعها وغير ذلك، والناقد حيث يترصد الثغرات يكتشفها طبعاً؛ فيهديها إليك من غير أن تتكلف جهداً في استكشافها!

بل نقول: إنه حتى إذا كان النقد جارحاً وكان مصحوباً - حتى - بالسباب والشتائم من جهة معادية أو منافسة أو حتى من صديق غاضب، فإنّ علىالإنسان أن يتدبر في جوهر النقد ولبّه ويتغاضى عن أسلوبه وشتائمه كي يعرف الخطأ بالضبط أين هو، وكي يكون بمقدوره أن يحلِّق من جديد نحو الأفضل والأفضل.

ومن الطبيعي أن نوصي الناقد بأن يتحرى الصدق والموضوعية والأدب الرفيع بل أن يغلّف نقده بكل اللطف الممكن ويجرّده من أية إشارة جارحة أو كلمة نابية؛ وذلك لأن الحدّة في طرح النقد، حتى إذا كان النقد صحيحاً، تفقده الكثير من تأثيره بل قد تنتج العكس، لأن الإنسان بطبعه حساس تجاه ما يجرحه، والحدّة والغلظة والخشونة في الطرح تجرح عاطفة الطرف الآخر مما قد يؤدي إلى نقض الغرض وإلى اثارة القوة الغضبية لدى الطرف الآخر فيزداد عناداً وعصبية.

وكما الأمر في الحكومة والقيادة كذلك الأمر في العوائل والأفراد تماماً.

ص: 214


1- الكافي: ج2 ص639.

ثم إن من (الحكمة) إضافة إلى الاستماع إلى النقد جيداً وبإيجابية، التفاعل معه بل ووضع الخطط وتطويرها على ضوء جملة من المعطيات الأساسية ومنها النقد باعتباره عاملاً أساسياً في التقويم بعد التقييم، وهذا ما عنيناه بالتعامل مع النقد بفعالية لا بمجرد انبساط نفسي بل مع ترتيب أثر عملي.

ج - العِبْرَةِ تعبر بك إلى الأعماق والأسرار والحقائق

ثالثاً: «الْعِبْرَةِ» وهي الركن الثالث، والغريب أن الْعِبرَة تحيط بنا من كل جانب ولكن «مَا أَكْثَرَ الْعِبَرَ وَأَقَلَّ الِاعْتِبَارَ»(1) ففي كلما نراه أو نسمعه أو نأكله أو نشمه أو نتذوقه عِبرة، وخلف كل منظر ومشهد تكمن فكرة وحقيقة ورقيقة ودقيقة لكنها لا تُنال إلا بالفطنة ثم الْعِبْرَةِ.

و«الْعِبْرَةِ» سميت عِبرَة لأنك تعبر منها وبها إلى ما وراءها من حقائق وخفايا وإلى ما فيها من أسرار وبواطن.

ويكفي أن نلمح إلى أنك إذا رأيت شخصاً يمشي ففي ذلك العِبْرَة، أو وجدته قاعداً أو قائماً ففي ذلك العِبرَةِ، أو وجدته مكبّاً على دراسته أو متثاقلاً فيها أو مقبلاً على صلاته أو لاهياً عنها أو ساهياً فيها ففي كل ذلك الْعِبْرَةِ وألف عِبْرَة وعِبْرَةِ.

د - السُّنَّةَ: الماضي كمرآة للمستقبل

رابعاً: «السُّنَّةَ» وهي الركن الرابع، وذلك يعني أن من أُثفيّات التقدم وركائزه ومن أعمدة اليقين والمعرفة: أن لا تقطع نفسك عن الجذور لتكون «كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ»(2) فإن بعض

ص: 215


1- نهج البلاغة: باب حكم أمير المؤمنين علیه السلام، الحكمة: 297.
2- سورة إبراهيم: 26.

الحداثويين يتوهم أن التقدم والتطور والعصرنة إنما هي بنسف الماضي وسحقهوإزدرائه ونسيانه أو حتى تعمد قلب الطاولة على الأقدمين وإهمال كل ما جرى في الماضي بل ونقضه حجراً حجراً حتى كأنّ كل قرار أو حكم اتخذ في الماضي فهو باطل في باطل، أو حتى كأنّ التاريخ أضحى هو العدو الأول لهم! مع أن الماضي يحتضن كميّة هائلة من الدروس والعِبرَ والإضاءات التي تنير لنا الدرب نحو مستقبل أفضل فهو من أفضل المرايا الكاشفة عن مجاهيل المستقبل القريب والمتوسط والبعيد.

وكما لا يصح استئصال الأمة والشعب والأسرة والجماعة عن جذورها وماضيها، كذلك لا يصح التعبد بالماضي وتقديسه والالتصاق به حرفياً؛ بل علينا أن ننتخب منه كل حَسَنٍ وجميل ورائع ومفيد، وأن نتخذ من كل هزيمة أو سقطة أو خطأ أو ظلم أو جور عِبرة وأن نعتبرها مؤشر إنذار منصفٍ فنحترز من خطايا الماضي وسلبياته، بكل جد وعزيمة.

والغريب أيضاً أن الله تعالى فتح أمامنا باب استكشاف المستقبل عبر بوابة دراسة الماضي بفطنة وذكاء وحكمة ولكن قلّ من تجده منشغلاً ب(فقه التاريخ).

تاريخ بني إسرائيل دليلنا إلى مستقبل الأمة

ومن أغرب الشواهد على ذلك أن الله تعالى جعل (بني إسرائيل) مرآة شديدة الكاشفية عما سيجري على أمة الرسول المصطفى محمد (صلی الله علیه و آله) حتى ورد في الحديث عن النبي الأكرم (صلی الله علیه و آله): «يَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ كُلُّ مَا كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ وَحَذْوَالْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ»(1) و«لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ وَالْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوه»(2).

ص: 216


1- من لا يحضره الفقيه: ج1 ص203.
2- عوالي اللئالي: ج1 ص314.

وذلك غريب حقاً! والأغرب منه إننا لا نجد في الحوزات العلمية والجامعات مجموعة متخصصة بتاريخ بني إسرائيل تضطلع بدراسة كافة ما تعرضوا له وما واجهوه في حياتهم وما صنعوه، وكيف؟ ولماذا؟ وإلى أين انتهت خطواتهم وتحركاتهم في شتى الأبعاد؟ وذلك على الرغم من أننا نعلم - على ضوء هذه الروايات خاصة وعلى ضوء فلسفة التاريخ عامة - بأن ذلك كله ينير لنا الدرب ويكشف لنا عن الأخطار المحدقة بنا وعن الكثير من المطبات أو المصائد التي تعترض مسيرتنا الطويلة - الطويلة؛ أفليس من المستغرب بعدها أن لا نجد في الحوزة العلمية حتى عشرة علماء متخصصين بفقه تاريخ بني إسرائيل يدرسونه من كافة زواياه الاجتماعية والسياسية والفكرية والسيكولوجية والسوسيولوجية والانثروبولوجية!

وتكفينا عِبرَة من التاريخ الحديث: إن فئة شاذة متوحشة تسمى داعش التهمت بلدة كبيرة كالموصل في ساعات وسيطرت على ثلث العراق خلال فترة وجيزة رغم أن أعدادهم لم تكن تتجاوز العشرين أو الثلاثين ألف ورغم أن الجيش العراقي ربما كان يبلغ كما قيل المليون! بل قيل إن الذين سيطروا على الموصل بالفعل لم يكونوا إلا بضع مآت؛ فلماذا حدث ذلك وكيف حدث؟ إن ذلك مما نسيناه ولم نفرِّغ ثلة من الاخصائيين لدراسته بشكل متكامل ومن كافةالزوايا.

وذلك يستبطن خطراً أعظم وهو أن هذه المأساة يمكن أن تتكرر من جديد وفي أي مكان آخر من العراق أو غيره، إذ إنك إذا لم تعرف (اللصّ) وأساليبه وخططه ومهاراته وكيفية تسلله إلى الدار في اليوم الماضي فإنه لا يُؤمن أبداً من أن يقوم بتكرار التسلل مرة أخرى ثم مراراً عديدة؛ ولعلنا إذا كنا قد أحطنا خبراً بتاريخ بني إسرائيل كنا قد اكتشفنا مسبقاً إمكانية حدوث ما جرى في الموصل

ص: 217

بدرجة كبيرة!

مُربّع الفِطْنَةِ والحِكْمَةِ والعِبْرَةِ والسُّنَّة

فهذه إذاً إضاءات سريعة عن مربع اليقين والتقدم وهو (الفطنة والحكمة والعِبْرَةِ والسُّنَّةَ) ولكن ذلك كان مجرد تمهيد ليتضح بشكل أفضل مغزى كلام الإمام (علیه السلام)، فإنه اعتبر دعائم اليقين ما هو أعمق من هذه الأربعة إذ اعتبرها «تَبْصِرَةِ الْفِطْنَةِ» وليس (الْفِطْنَةِ) فحسب و«تَأَوُّلِ الْحِكْمَةِ» وليس مجرد (الحِكْمَةِ) و«مَوْعِظَةِ الْعِبْرَةِ» دون (الْعِبْرَةِ) بذاتها و«سُنَّةِ الْأَوَّلِينَ»، فماذا يعني ذلك وكيف تقودنا هذه الأربعة إلى اليقين؟ فهذا هو محور هذا البحث.

معنيان ل«الْيَقِينُ عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ»

اشارة

سبق كلام أمير المؤمنين (علیه السلام): «وَالْيَقِينُ عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ: عَلَى تَبْصِرَةِ الْفِطْنَةِ وَتَأَوُّلِ الْحِكْمَةِ وَمَوْعِظَةِ الْعِبْرَةِ وَسُنَّةِ الْأَوَّلِينَ:

فَمَنْ تَبَصَّرَ فِي الْفِطْنَةِ تَأَوَّلَ الْحِكْمَةَ، وَمَنْ تَأَوَّلَ الْحِكْمَةَ عَرَفَ الْعِبْرَةَ،وَمَنْ عَرَفَ الْعِبْرَةَ عَرَفَ السُّنَّةَ، وَمَنْ عَرَفَ السُّنَّةَ فَكَأَنَّمَا عَاشَ فِي الْأَوَّلِينَ»(1).

والمحتمل في قوله (علیه السلام): «وَالْيَقِينُ عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ» أمران:

الأول: إن المراد أن اليقين يبتني على هذه الشعب الأربع، وهو ما جرينا عليه في البحث حتى الآن.

الثاني: إن المراد أن اليقين يتشعب إلى أربع شعب.

ولكنّ مما يرجّح المعنى الأول ورود (على) في كلامه (علیه السلام) بينما المناسب للمعنى الثاني هو ورود (إلى) ولعله يأتي مزيد بحث عن ذلك إذا شاء الله تعالى.

ص: 218


1- تحف العقول: ص162.

أولاً: تبصرة الفطنة: الفطنة المبصِّرة

اشارة

إن اليقين يبتني - فيما يبتني عليه - على تبصرة الفِطنة، والفطنة - كما سبق - تعني الفهم وربما فسرت بالذكاء ولكن قد يكون المرء فَطِناً لكنه لا يتبصّر، وقد يتفطّن للخفايا والحقائق والبواطن ولكنّ تفطُّنه هذا لا يبصِّره إذ يجمد على حدود عالم الفهم بدون أن يترجم ذلك الفهم إلى سلوك عملي وإلى قرارات ميدانية على أرض الواقع، فهو فطِن لكن من غير إبصار فهو كمن ينظر من غير أن يرى أو يسمع من غير أن يستمع.

و(اليقين) المبتني على هذه الدعائم الأربع أعم من اليقين بالأمور الماورائية والميتافيزيقية كما قال تعالى: «الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًىلِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ»(1) فيشملها ويشمل اليقين بشرائع الإسلام وحتى اليقين في العلوم البشرية من فيزياء وكيمياء وطب وفلك وغير ذلك، اللهم إلا أن يدعي الانصراف للأول لكنه - ظاهراً - انصراف بدوي، وعلى أيٍّ فالملاك واحد.

كما لا تُنال الدنيا إلا بالفطنة والفهم، لا تنال الآخرة كذلك

والمستفاد من الحديث بوضوح أن الفطنة والفهم فضيلة ومكرمة فإنها دعامة اليقين، وأي شيء تجده أشرف من اليقين بالمبدأ والمعاد والنبوة والإمامة ومطلق عالم الغيب ثم اليقين بالمصالح والمفاسد وما يصلح البشرية ويسعدها؟ وتؤكد شرافة الفطنة في الأمور وأهميتها الرواية الآنفة: «الْمُؤْمِنُ كَيِّسٌ فَطِنٌ حَذِرٌ»(2).

ص: 219


1- سورة البقرة: 1 - 3.
2- بحار الأنوار: ج64 ص307.

وهذا مقياس هام في العوائل والتجمعات والمجتمعات فإن الله تعالى يريد منّا أن نكون أذكياء فطنين لا بُلداء أغبياء، فلا الدنيا تنال بالغباء ولا الآخرة! بل الفاهمين الفطنين هم الذين، إذا جمعوا سائر الشروط، يكونون الأنجح في الدنيا والأنجح في الآخرة!

وقد يبدو ذلك غريباً للبعض بل مستبعداً أن تكون الجنّةُ لذوي الفطنة والفهم؛ لكنه أمر منطقي تماماً إذ - وكما سبق - فإن الغبي فقط هو من يبيع قصراً قيمته مليار دولار مثلاً مقابل علكة أو قطعة حلوى صغيرة أو مقابل فلسواحد ظاناً بأنه الرابح! ومن يجتزح المعاصي والآثام هو البليد حقاً إذ يبيع جنة عرضها السماوات والأرض بدنيا قصيرة زائلة فانية، يقول عنها الأمير (علیه السلام): «فَاحْذَرُوا الدُّنْيَا فَإِنَّهَا غَدَّارَةٌ غَرَّارَةٌ»(1) و«إِنَّ دُنْيَاكُمْ عِنْدِي لَأَهْوَنُ مِنْ وَرَقَةٍ فِي فَمِ جَرَادَةٍ تَقْضَمُهَا مَا لِعَلِيٍّ وَ لِنَعِيمٍ يَفْنَى وَ لَذَّةٍ لَا تَبْقَى نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ سُبَاتِ الْعَقْلِ وَ قُبْحِ الزَّلَلِ وَ بِهِ نَسْتَعِينُ»(2) «وَاللَّهِ لَدُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَهْوَنُ فِي عَيْنِي مِنْ عِرَاقِ خِنْزِيرٍ فِي يَدِ مَجْذُومٍ»(3).

وعلى ذلك فاليقين بثواب الآخرة مثلاً يبتني على (تبصرة الفطنة) فإنه إذا تفطّنّا إلى أنه لا يعقل بالنظر للحكمة أن نخلق سُدى أو أن نهمل كالماعز أيقنّا أن للخلقة غاية وأنها لا تستقيم إلا بنظام المثوبات والعقوبات.

الواجب السعي للتحلِّى بالفطنة والفهم

وانطلاقاً من ذلك كله يجب على كل فرد وأسرة وتجمّع وشعب مسلم أن يسعى نحو التميز بالفطنة والفهم والذكاء، فإنه كلما ازداد الفرد أو التجمع أو

ص: 220


1- نهج البلاغة: من كلام له علیه السلام في مقاصد أخرى، الخطبة: 230.
2- نهج البلاغة: من كلام له علیه السلام يتبرأ من الظلم، الخطبة:224.
3- نهج البلاغة: باب حكم أمير المؤمنين علیه السلام، الحكمة:236.

الشعب فطنة ازداد يقيناً ونجاحاً؛ ألا ترى أن الذكي الفطن لا يمكن خداعه؟ وألا ترى أن الذكي الفطن لا يمكن استدراجه للمهالك وإن تعددت المكائد؟ وألا ترى أن الذكي الفطن لا يمكن عادة أن يقع في مصايد الفرق الضالة والأحزاب المنحرفة؟ وألا ترى أن الذكي الفطن لا يمكن أن يجعل مننفسه جسراً لمآرب الحكام المستبدين أو الاغيار المستعمرين؟

وصفوة القول: إن الفطنة في الإسلام هي قيمة من أهم القيم إذ ابتنى عليها اليقين الذي بُني عليه الإسلام كله كما قال تعالى: «هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ»(1) وسيأتي بإذن الله تعالى الحديث عن هذه الآية المباركة.

فالفهم والفطنة إذاً من مقاييس الإيمان ومن مقاييس النجاح والفلاح، وأما ما هو السبيل إلى الفطنة وما هي الآليات الموصلة إلى الفهم فذلك بحث آخر قد نتطرق له في مناسبة أخرى، إنما المهم الآن أن نلتفت إلى أن الفطنة والفهم والذكاء أمر مطلوب شرعاً وعقلاً؛ وإلا فما أسرع ما يوقع المحتالون وسرّاق الأديان أو الأفكار بالبسطاء والبُلداء!

شواهد على مفتاحية تبصرة الفطنة في حصول اليقين
اشارة

ولنستعرض الآن أمثلة ثلاثة من أبعاد ثلاثة: كلامية واجتماعية وسياسية، كنماذج على مفتاحيه (تبصرة الفطنة) كطريق إلى اليقين:

المثال الأول: التفكر في ذات الله

إن الفطنة تقتضي - وبصراحة بالغة - تجنّب الخوض في ذات الله أو البحث عن كيفية ذاته أو صفاته أو كيفية صدور الأفعال عنه وشبه ذلك، وهي تقتضي الاقتصار على ما يمكن أن يناله العقل وهو أصل وجوده جل وعلا وعلمه وتحلّيه بصفات

ص: 221


1- سورة الجاثية: 20.

الجمال وتنزهه عن صفات الجلال، أما التفاصيل والكيفية وما إلى ذلك فذلك خارج عن حيطة قدرة العقل، والدخول فيه ما هو إلا متاهةخطرة ومزلقة عظيمة.

وقد شددت الأحاديث على هذه الحقيقة فقد ورد عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): «تَفَكَّرُوا فِي خَلْقِ اللَّهِ، وَلَا تَفَكَّرُوا فِي اللَّهِ»(1).

وعن الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام): «مَنْ تفكَّر فى ذات الله الحَدَ»(2).

وعنه (علیه السلام): « مَن تَفَكَّرَ في ذاتِ اللّه تَزَندَقَ»(3).

وعنه (علیه السلام): «قَدْ ضَلَّتِ الْعُقُولُ فِي أَمْوَاجِ تَيَّارِ إِدْرَاكِهِ»(4).

وعن الإمام الصادق (علیه السلام): «إِيَّاكُمْ وَالتَّفَكُّرَ فِي اللَّهِ فَإِنَّ التَّفَكُّرَ فِي اللَّهِ لَا يَزِيدُ إِلَّا تَيْهاً إِنَّ اللَّهَ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَلَا يُوصَفُ بِمِقْدَارٍ»(5).

وعنه (علیه السلام): «مَنْ نَظَرَ فِي اللَّهِ كَيْفَ هُوَ هَلَكَ»(6).

وعنه (علیه السلام): «يا سليمان! إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ يَقُولُ «وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى» فَإِذَا انْتَهَى الْكَلَامُ إِلَى اللَّهِ فَأَمْسِكُوا»(7).

وخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ (صلی الله علیه و آله) ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى قَوْمٍ وَهُمْ يَتَفَكَّرُونَ، فَقَالَ: «مَا لَكُمْ لاَ تَتَكَلَّمُونَ؟» فَقَالُوا: نَتَفَكَّرُ فِي خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ: «وَكَذَلِكَ فَافْعَلُوا وَتَفَكَّرُوا فِي خَلْقِهِ، وَلاَ تَتَفَكَّرُوا فِيهِ»(8).

ص: 222


1- بحار الأنوار: ج54 ص348.
2- غرر الحكم ودرر الكلم: ص82.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: ص82.
4- التوحيد: ص69.
5- وسائل الشيعة: ج16 ص197.
6- الكافي: ج1 ص93.
7- الكافي: ج1 ص92.
8- البرهان في تفسير القرآن: ج1 ص725.

وذلك واضح لأن المحدود لا يعقل آن يحيط باللامحدود، بل المحدود لا يمكنه آن يحيط بالأكبر منه وإن كان محدوداً فتصور مثلاً كأساً في يدك فهل يعقل آن يستوعب ماء البحر كله ويحيط به؟ فإذا كان ذلك كذلك فكيف يحيط المحدود بالمطلق اللامتناهي اللامحدود؟

بل إن البشر عاجز عن الإحاطة بما هو أقرب إليه من حبل الوريد فلا يمكنه أن يحيط بنفسه أو بروحه «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً»(1) وذلك رغم كل التطور العلمي، اللهم إلا بعض الآثار والعلامات اما واقع الروح والنفس فلا.

بل نقول: إن مساحة العقل هي غير مساحة العلم، ولا يمكن للعقل البشري عادةً أن يدرك ما كان من دائرة العلم إلا بالعلم؛ أفهل تراه يمكنه أن يدرك أعداد أشجار غابات الأمازون أو الحيوانات الموجودة في غابة نائية أو الجراثيم الموجودة في الطعام المتعفن أو أعداد الأسماك في تلك البحيرة أو الضفادع في ذاك المستنقع، بالفكر والتأمل؟

ولقد أذهل بعض الفلاسفة العالم بجهلهم المطبق إذ حاولوا الوصول لحقائق الأفلاك مثلاً عن طريق العقل والفكر بدل العلم والرصد والتجربة فكان أن اعتقدوا بالأفلاك التسعة، لا العشرة أو الأكثر لأنهم بنوا على قواعد فلسفية اخترعوها لتبرير تكثّر الخلق الصادر عن الواحد الحق عبر العقول العشرة والأفلاك التسعة، كما أوصلهم عقلهم إلى أن هذه الأفلاك هي كأقشارالبصل ويستحيل - عقلياً لديهم - خرقها ثم التيامها ولذلك أنكر بعضهم المعراج الجسماني للرسول (صلی الله علیه و آله) وادعى أنه روحاني لمجرد أنه فكّر بعقله ونحّى العلم أو الوحي جانباً فاعتقد باستحالته.

ص: 223


1- سورة الإسراء: 85.

ومما يؤكد ذلك أكثر أن المفكِّر بعقله لا يمكنه أن يدرك حقيقة الجِنّ أو الملائكة إلا إذا ادعى شططاً من القول؛ وهل يمكن - أيضاً كمثال - للعقل المجرد أن يدرك وجود أمواج الراديو أو الأمواج الكهرومغناطيسية أو إشعاعات أنواع المعادن كاليورانيوم؟ كلا؛ إنه ليس بمقدوره أن يدرك بدون سلاح الحواس أو العلم أو شبه ذلك حتى أصل وجودها فكيف بخصوصياتها وكيفياتها وحقائقها وجواهرها؟

وقد تطرقت في كتاب (مدخل إلى علم العقائد - نقد النظرية الحسّية) إلى أن طرائق العلم والمعرفة هي عشرة وأن لكل منها مجالاً وقد تتداخل المجالات في مساحات معينة إلا أنه يبقى لكل منها مجال لا يمكن للبعض الآخر تجاوزه أو الدخول إليه.

والحاصل: إن الفِطنة تقودنا إلى استحالة معرفة الكيفية وإننا إذا توغلنا في ذلك هلكنا وأهلكنا، فاليقين باللاجدوائية بل والخطورة الشديدة هو المبتني على تبصرة الفطنة والذكاء والفهم!

المثال الثاني: شاخص الحرية والديمقراطية في شتى البلاد
اشارة

من المعروف أن الدول تدّعي عادة أنها حكومات ديمقراطية تحظىبمحبة الناس ورضى الأكثرية وأنها تحترم الإنسان وحقوقه وأنه لا يوجد لديهم حتى سجين سياسي واحد، إلى غير ذلك، كما أنها تستشهد على ذلك بشواهد تنطلي على أكثر الناس مثل أنها تحشد في المظاهرات المؤيدة لها والمناهضة للمعارضة، الملايين التي تجوب الشوارع وهي تهتف بالمجد والخلود للقائد الأوحد أو الرئيس المخلّد؛ وقد سبقت الإشارة إلى هذا البحث ولكن نعيده لأهميته الفائقة ولإضافة بعض النكات إليه.

ص: 224

وكان السيد الوالد (قدس سره) يذكر - وكما سبق أيضاً - أنه توجد هناك علامتان شاخصتان ومؤشّران شديدا الوضوح والدلالة، يكشفان للناس زيف هذه الدعاوى ببساطة، والمذهل في هذين المؤشرين أنهما متاحان لعامة الناس بمعنى أن الطبقات غير المتعلمة، وحتى كل أميّ أو جاهل، بمقدورها بسهولة معرفة حقيقة الحكومة وأنها ديمقراطية أو لا وذلك عبر الرجوع لهذين الشاخصين:

أ - نقد الصحف للحاكم الأعلى باستمرار

الأول: هل هناك صحف حرة في البلاد؟ ومقياس حريتها سهل وواضح جداً وهو: هل أن الصحف تنتقد الحاكم الأعلى للبلاد والذي بيده مركز ثقل القدرة تحت أي مسمى كان (الشاه، الملك، الأمير، رئيس الجمهورية، المستشار، القائد.. إلى غير ذلك) فهل تنتقده الصحف على بعض أقواله أو قراراته باستمرار؟ أو لا تجد فيها أي نقد للحاكم إلا نادراً؟ أو إذا انتقدت الصحيفة أو الصحفي الحاكمَ فإنها تتعرض للضغوط المختلفة والملاحقةوالمطاردة والحرمان من الامتيازات وصولاً إلى اغلاق الصحيفة أو سجن المسؤول عنها أو الكاتب؟

وهذا ضابط سهل جداً فبمقدور العطار والبقال والمزارع وحتى الغريب الوافد من بلاد أخرى وهو لا يعرف أي شيء عن طبيعة هذا البلد، أن يستكشف ذلك من شراء خمس صحف مختلفة وإلقاء نظرة عابرة على عناوينها.

ب - تغيير المسؤولين والحاكم الأعلى، باستمرار

الثاني: هل أن المسؤولين ومركز ثقل السلطة يتغيّرون كل أربع سنوات مثلاً في انتخابات حرة؟ أم تجد بعضهم يبقى بألف عذر وعذر وبألف قناع وقناع أو حتى تحت مسمّى معين يصونه من ان يطاله التغيير؟

ص: 225

إن من السهل على الحكومات جداً تزوير الانتخابات، كما أن من السهل على الحاكم حشد الملايين في الشوارع ليسبّحوا بحمده ويمجدوا له لأن أرزاقهم بيده والكل يعلم أن الموظفين عادة يخافون من فصلهم من الوظيفة أو في الحد الأدنى من حرمانهم من الترقية أو غير ذلك إذا خالفوا القرارات، كما أن الناس عادة يخافون قوات الأمن والاستخبارات والسجون والتعذيب، كما أن الإعلام كله بيد أجهزة الحاكم، ولذلك فإن من الطبيعي أن يخرج الناس إلى الشوارع بالملايين بدعوة واحدة من الحكومة!

ويشهد لذلك إن أبغض الحكام لدى الناس كصدام والحجاج كان يمكنه أن يحشد الناس بالملايين في الشوارع مرددين أقوى الهتافات الثورية!وكذلك حكام كافة البلاد المستبدة كدول الاتحاد السوفياتي السابق إذ كان بمقدورهم حتى لحظة السقوط تجييش الملايين وتحشيدها.

نعم من السهل جداً ذلك كله، ولكنّ ما يفضحهم هو ذانك المؤشران فوراً: فهل تجد في الصحف أو نظائرها نقداً لصدام أو هتلر أو الحجاج أو موسيلني أو جنكيز أو من أشبه؟ وهل تجد الحاكم الأعلى يتغير باستمرار أم يبقى أمثال ستالين وخروشوف وهتلر وصدام وهدام والمعمِّر والمدِّمر حكّاماً مدى الحياة إلا أن تطيح به ثورة عارمة أو قوة عسكرية خارجية جبارة!

المثال الثالث: مسارات الأحداث ومآلاتها

وهو مثال نادر على (الفطنة) في اكتشاف مآلات الأمور ومسارات الأحداث وفي الاستبصار، عبر طريقة علمية، بالمستقبل وأحداثه، و(الفطنة) قد تصب في الاتجاه الإيجابي وقد تصب في الاتجاه السلبي إلا أن (تبصرة الفطنة) لا تصب إلا في الاتجاه الإيجابي لأنها تبصرة وهي لا تطلق على الظلم المظلم بذاته!

ص: 226

قصة الثائر بالمدينة الذي فاجأ الجميع بالبصرة!

فقد ورد في التاريخ أن شخصاً من ذراري رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالمدينة ثار ضد الحاكم العباسي؛ حيث وجد الظلامات تعمَّ البلاد والعباد ورآهم «يَخْضَمُونَ مَالَ اللَّهِ خِضْمَةَ الْإِبِلِ نِبْتَةَ الرَّبِيعِ»(1) وقد اتخذوا «مَالَاللَّهِ دُوَلًا وَعِبَادَهُ خَوَلًا»(2) فما كان منه إلا أن كوّن جيشاً صغيراً وثار على الامبراطور (المسمى بالخليفة) وعزل والي المدينة، فوصلت الأنباء إلى الامبراطور فجمع حوله الوزراء والضباط لدراسة مدى خطورة هذه الثورة على الامبراطورية وما هي أفضل السبل للتصدي لهذه الثورة، وقد تصدى للإجابة العديد من الوزراء وكبار قادة الجيش لكنهم لم يحملوا معهم إلا شعاراتٍ رنّانة وعبارات منمّقة وتمجيداً بالامبراطور وتهويناً من أمر الثائر، وهنا التفت الامبراطور إلى أحد كبار السنّ المعروف بالدهاء وقال له: ما لي أراك ساكتاً؟ فقال: قد تكلم القوم! فقال: لكنني يهمني رأيك بالذات، فقال له ذلك الداهية المجرب: إن الرأي السديد يتوقف على المعلومات الدقيقة فإذا توفرت ساعطيكم رأيي، فقال له: سل ما بدا لك فلعل لنا الإجابة! وهنا دار الحوار التالي:

الداهية: هل هذا الرجل الثائر من أسرة مغمورة أو من أسرة مشهورة؟

الجواب: إنه من أهم أسرة في العالم، فإنه من أحفاد الرسول (صلی الله علیه و آله) والذي نستمد شرعيتنا من الانتساب له.

الداهية: وكم عدد نفوس المدينة؟

الجواب: لا يتجاوز عشرات الألوف.

ص: 227


1- نهج البلاغة: باب خطب أمير المؤمنين علیه السلام، الخطبة الشقشقية: 3.
2- المصدر نفسه: من كتاب له علیه السلام إلى أهل مصر مع مالك الأشتر w لما ولاه امارتها.

الداهية: وما هو اقتصاد المدينة؟ أعني هل تختزن ثروات ضخمةأو لا؟

الجواب: ليس لهم إلا النخيل والبساتين وبعض التجارة ولا غير.

وسأل الداهية أسئلة أخرى مشابهة، ثم قال:

الداهية: إذاً الحل هو: أن تملأ عليه البصرة خيلاً ورجالاً!

وهنا ساد الذهول والوجوم الامبراطور والقوم، إذ بدا لهم الجواب سخيفاً جداً؛ وعندما غادر الشيخ الداهية المجلس قال الامبراطور: يبدو أننا قد اخطأنا في استشارته فإنه لا يعدو إلا سفيهاً أو مخرِّفا إذ أين البصرة من المدينة (خاصة مع بُعد مسافات ذلك اليوم) فإنني أسأله عن ثائر خرج بالمدينة فيقول لي املأ عليه البصرة بالجيشَ!

ولكن لم يمضِ إلا شهر أو ما يقاربه وإذا بالأنباء تصل إلى الامبراطور أن الثائر المدني انتقل إلى البصرة وألتفّ حوله خلق كثير وجهّز جيشاً عرمرماً وصار خطره وشيكاً على العاصمة وقد يهاجمها في أي وقت!

وهنا انبهر الحاكم بفطنة ذلك الداهية واستغرب أشد الاستغراب من قراءته للمستقبل على ضوء أسئلة بسيطة جداً، ولمّا استدعاه مرة أخرى وسأله عن كيفية اكتشافه للمستقبل، أجاب: إن تلك المعلومات التي بدت بسيطة هي التي حددت لي استكشاف مسار الأحداث ومآلات الأمور فقد سألتك عن نَسَبِه، فقلت: إنه من عائلة النبي (صلی الله علیه و آله) فعرفت أنه يحمل طموحاً كبيراً وأنه لا ترضيه السيطرة على المدينة فحسب، كما عرفت بأنه ستكون له شعبية في كل الدول الإسلامية مادام كذلك، وسألت عن عددالنفوس وعن الاقتصاد، فعرفت أنه لا يمكنه قيادة الثورة على الامبراطورية ومواجهتها بجيش محدود وبتمويل ضعيف، فكان

ص: 228

لا بد - منطقياً - من أن ينتقل إلى منطقة غنية بالثروات مليئة بالرجال، وكان لا بد - منطقياً - من أن يختار منطقة تمتلأ باتباع جدّه ومحبيه، وكان المنطق يقود أيضاً إلى أنه سيختار أقرب منطقة إليه، وعندما تفحصّت بذاكرتي جغرافيا الدول الإسلامية وجدت أقرب البلاد التي تحمل كل المواصفات الضرورية لثورة جبارة هي البصرة فقلت لك (املأ عليه البصرة خيلاً ورجالاً)!

إذا جهلنا دهاليز السياسة وخفايا المؤامرات، هُزمنا

وموطن الشاهد: إن دهاليز السياسة تمتلأ بالأبعاد الخفية والمناورات المعقدة خاصة في عالم اليوم، وإذا لم يتحلّ المسلمون ببصيرة الفطنة في اكتشاف خطط المستعمرين والمنظمات الخطرة كالماسونية والصهيونية والانجيليين الجدد وغيرهم فانهم سيضيعون في متاهات الحيل السياسية ويظلون لا يفهمون مجريات الأمور أو يبقون في أفضل الفروض في دائرة الشك في علل هذه الظاهرة أو تلك، وفي أسباب هذه الخطوة أو تلك وفي نتائج ذلك القرار العسكري أو السياسي أو الاقتصادي أو ذاك.

والسّيء في الأمر أن فترة الشك والحيرة والتردّد تشكل أفضل الفرص للعدو لكي يمرّر مخططاته بهدوء وهو في مأمن من أن تُجهَض مؤامراته حتى اللحظة الأخيرة، وسرعان ما سيجد الحيارى والمترددون الأحداثَ قد تسارعت والأمور قد تقلبت ولا يعلمون لِمَ؟ وكيف؟ وما وراء ذلك كله! ألمنجد الموصل أُلتُهِمت بين ليلة وضحاها؟ وألم نجد شاباً طائشاً كإبن سلمان فجأة يتملك مقاليد الأمور كلها في أعظم بلد نفطي؟ والم نجد اليمن تتمزق في فترة وجيزة؟ بل الم نجد دول الربيع العربي تنهار بشكل رهيب مذهل ويتحول الربيع العربي إلى خريف مرعب!

ذلك كله يعود - فيما يعود - إلى أننا لا علم ولا معرفة لنا بالسياسة

ص: 229

ومجاهيلها ولا يقين لنا بمسارات الأحداث بل نحن بين جاهل حائر أو شاك متردد، ومتى ما امتلكنا الفطنة وابصرنا بها الدرب نكون قد خطونا الخطوة الصحيحة الأولى في طريق الاستقرار والتقدم والازدهار متسلحين بسلاح الحكمة والعبرة وحسن التخطيط وجودة التنفيذ، والله المعين وهو الناصر المجيب دعوة المضطرين.

ثانياً: تأول الحِكْمةَ، ومعانيها

اشارة

إن مما يبتني عليه اليقين هو: «تَأَوُّلِ الْحِكْمَةِ» والحكمة يمكن تفسيرها بوجوه:

1 العلم الرادع عن القبيح

الأول: إن الحكمة تعني: العلم الذي يمنع المرء عن قبيح العمل وعن الخطأ والخطل والزلل.

2 وضع الشيء موضعه

الثاني: إنها تعني: وضع الشيء موضعه.والمعنى الأول تفسير للحكمة على مستوى العقل النظري بينما المعنى الثاني هو تفسير لها على مستوى العقل العملي، وكلاهما صحيح؛ ويشهد لهما الجذر اللغوي للحكمة فإنها مأخوذة من (حكم) ومادة (حكم) تعني المنع، ويسمى لجام الدابة بالحَكَمة لأنه يمنعها من ان تهرب أو ان تسير على غير هدى في أي اتجاه بدون قيادة من صاحبها.

3 -4 - القرآن والسنة والإمام وطاعته
اشارة

وقد ورد تفسير الحكمة في بعض الروايات ب(القرآن والسنة) كما ورد في بعضها تفسيرها ب(طاعة الإمام ومعرفته) وكلاهما صحيح أيضاً إذ هما من

ص: 230

التفسير بالمصداق الأجلى فإن القرآن والسنة وطاعة الإمام ومعرفته تمنع الإنسان من الانحراف والعصيان والطغيان، كما أن القرآن والسنة تتضمن المثل العليا والقيم الفضلى والتعاليم والمناهج التي تمنع الإنسان عن قبيح العمل وعن الخطل والزلل وهي التي لو فهمها الإنسان لأمكنه وضع الأشياء في مواضعها.

المراد ب«تَأَوُّلِ الْحِكْمَةِ»

فذلك كله هو المقصود من (الحكمة).

وأما «تَأَوُّلِ الْحِكْمَةِ» فالمراد به أوْلها ورجوعها، وذلك متحقق في ضمن حالتين:

الأولى: أوْل الحكمة إلى جذورها.

الثانية: أوْل الحكمة إلى نهاياتها بمعنى مآلها المستقبلي.فتفيد على الأول: علم الماضي المسمى بعلم التاريخ والانثروبولوجيا(1)

وغيرهما، كما تشير على الثاني إلى علم المستقبل.

الحكمة وعلم المستقبل

وسينصرف الحديث الآن إلى المعنى الثاني، فقد سبق أن نقلنا عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قوله: «يستدل على إدبار الدول بأربع: تضييع الأصول والتمسك بالغرور وتقديم الأراذل وتأخير الأفاضل»(2) و«تولي الأراذل والأحداث الدولَ دليل انحلالها وإدبارها»(3) و«إِنَّ مِنْ ذُلِّ الْمُسْلِمِينَ وَهَلَاكِ الدِّينِ، أَنَّ ابْنَ أَبِي سُفْيَانَ يَدْعُو الْأَرَاذِلَ وَالْأَشْرَارَ فَيُجَابُ...»(4).

ص: 231


1- وسيأتي بحثها تحت عنوان (ثالثاً: سُنَّة الأوَّلِين والانثروبولوجيا).
2- غرر الحكم ودرر الكلم: ص342.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: ص345.
4- بحار الأنوار: ج34 ص14.

و(اليقين) بمستقبل هذه الأمة أو الحضارة أو مستقبل هذه الحكومة أو المنظمة أو هذه العائلة أو الشركة مبني على (تأول الحكمة) بمعنى أننا نستطيع أن نستكشف أوْل أمورها على ضوء الحكمة التي تسير على ضوئها تلك الشركة أو المنظمة أو الحكومة أو الأمة فإذا نحّت الأفاضل وسلطت الأراذل فلم تضع الأمور مواضعها كما هو مقتضى الحكمة آل أمرها إلى الخراب وعمرانها إلى اليباب، فلا تزال زراعتها وتجارتها وصناعتها وأمنها وأمانها وأخلاقياتها في تراجع وفي تدهور إلى ان تنهار تماماً وتضمحل، على العكس مما لو عملت بمقتضى الحكمة فان أول أمورها سيكون إلى التقدموالاستقرار والعزة والسمو والازدهار.

واليقين يبتني على معرفة هذه المعادلة البسيطة - المعمقة في الوقت نفسه: على معرفة (الحكمة) ومقتضياتها، وعلى معرفة (تأولها) وتأويلها ونتائجها ومآلاتها في عمق مجاهيل الزمن.

دروس وعبر من نهضة اليابان بعد الدمار الشامل

ولنضرب لذلك مثلاً مليئاً بالعبر والحِكَم والتجارب من نهضة عملاقة لشعب عريق أصيب بنكسة كبرى استمرت عقوداً طويلة لكنه بنى أمره من جديد على الحكمة فنهض من حضيض التخلف وقلب الخراب والدمار إلى مجد العزة الدنيوية وقمة الغنى والثروة والتقدم العلمي والحضاري والازدهار حسب المقاييس الدنيوية المعروفة.

(توكو جاوا) الحاكم المستبد

وذلك الشعب هو الشعب الياباني، فلقد ابتلي هذا الشعب بحاكم مستبد يسمى (توكو جاوا) أسس لسلطة استبدادية في اليابان له ولعائلته منذ بدايات القرن السابع عشر وحتى أواخر القرن الثامن عشر أي حتى 1868م.

ص: 232

وقد جاء (توكو جاوا) بطبقة الساموراي والعسكريين وسلّطهم على رقاب الشعب، كما منع اليابانيين من السفر للخارج وعزلهم عن العالم الخارجي تماماً حتى أنه منع بناء السفن القوية خشية أن يقطعوا بها المحيط نحو العالم الخارجي.

(موتسو هيتو) الحاكم الإصلاحي وركائز إصلاحاته
اشارة

ولكن وبعد هذه العقود الطويلة من الاستبداد والاستعباد وفي العام 1868م جاء إلى الحكم حاكم إصلاحي يسمى (موتسو هيتو) قاد ثورة إصلاحية شاملة وأرسى دعائم حكم متطور حتى عرف ب(الميجي) أي (الحاكم المستنير).

وقد بنى هيتو استراتيجيته على الأسس التالية:

أ - إنهاء حكم الطبقة العسكرية والساموراي

أولاً: إنهاء حكومة الطبقة العسكرية في البلاد وتجريد الساموراي من امتيازاتهم ليعودوا إلى أناس عاديين كعامة أفراد الشعب، وقد اقتضى ذلك ثمان سنوات كاملة من التخطيط الشامل والعمل الدؤوب ليستطيع التخلص من هيمنة العسكر والساموراي، ورغم أن ذلك كان محفوفاً بالمخاطر الكبرى، إذ كان من المحتمل أن يقود العسكر انقلاباً مضاداً ضده، بل قاموا بالفعل بمحاولتين خطيرتين، إلا أن ذلك لم يثنه عن مواصلة مسيرته الإصلاحية.

ب - إصلاح جذري لنظام التعليم
اشارة

ثانياً: إصلاح نظام التعليم حيث قام بثورة حقيقية نهضوية في هذا المجال ووضع أسساً لنظام تعليم علمي - تطبيقي متميز، ولا تزال اليابان حتى الآن من أكثر - إن لم نقل أكثر - الدول المتطورة في حقل التعليم.

والسبب في ذلك واضح، فإن الطالب تتكون شخصيته العلمية والثقافية

ص: 233

ونفسياته وأخلاقياته أيضاً بدءً من الروضة والصف الأول الابتدائي مروراً بالمتوسطة والثانوية وانتهاء بالجامعة، فهنالك يتربى على النظام والنظافة والجدّ والمثابرة وحسّ التعاون واحترام الوالدين والآخر بشكل عام، كما يتعلم أحدث العلوم والأفكار والمناهج، أو العكس: هنالك يتربى على الفوضى والاحتيال والمؤامرات وهتك الحرمات، ويتعلم علوماً أكل عليها الدهر وشرب.

مناهج المدارس في السعودية والعراق مثالاً

والمؤسف أن المدارس في بلادنا تعاني الأمرين فمن جهة تجد أن المناهج التربوية، كمادة التربية والتاريخ، تعاني من أخطاء فادحة بل من تزوير فاضح وأكاذيب مذهلة تؤسس لتقديس المستبد والإطاعة للحكم والحاكم مهما كان، فلاحظ مناهج السعودية والدول التي تدور في فلكها مثلاً، بل لاحظ حتى مناهج العراق رغم مرور 14 عاماً على سقوط الطاغية المقبور لكن مناهجه لا تزال تحمل بصمات عميقة من سياسة التجهيل ومن الكذب والخداع وتحريف الحقائق وتزوير التاريخ حتى أن بعض الكتب التي لا تزال تدرس حتى الآن تتضمن إضفاء صورة مشرقة حضارية على (الحجاج) ذلك الدكتاتور السفاح الدموي الرهيب، وذلك من أغرب الغرائب حقاً! وحتى أن بعض الكتب الدراسية تضمنت تسقيطاً للشخصية الإنسانية - الإسلامية - الحضارية الخالدة (الشريف الرضي) حيث صوّرته بصورة سيئة، إلى غيرذلك.

فهذا كله من جهة ومن جهة أخرى تجد أن نظم التعليم في بلادنا بائسة وأن الكتب الدراسية لا تواكب العصر إذ تجد الكتاب الذي كتب قبل سنين طويلة لا يزال يدرَّس بنفسه بعد عشرين أو ثلاثين سنة! مع أن الدول المتطورة تجري تطويراً جذرياً وتعديلات أساسية على الكتب الدراسية في فترات متقاربة، بل إن

ص: 234

بعض الكتب الجامعية في الدول المتطورة يتم تحديثها كل سنتين أو حتى أحياناً بين سنة وأخرى، ومن تلك الكتب كتاب (الاقتصاد) ل: بول آ. سامويلسون، ومايكل ج. ماندل، ووليام د. نوردهاوس، والذي كان يدرّس في الجامعات الأمريكية لسنين طويلة ولكن كان مؤلفوه يقومون بتحديثه طوال العام ليعاد طبعه كل سنة أو سنتين وهو يحمل تغييرات تتضمن أحدث النظريات والآراء والإحصاءات وغيرها.

تجربة مدارس علوي وإرسال وفد لليابان

وذلك هو بالضبط الذي دعى إحدى القامات الشامخة من علمائنا الصالحين لتأسيس سلسلة من المدارس سميت بمدارس (علوي) في العاصمة طهران قبل حوالي خمسين عاماً، فلقد كان الشيخ كرباسجيان أحد طلاب الخارج لدى المرجع الأعلى في زمانه السيد البروجردي (رحمة الله) وقد تتلمذ لديه ما يقارب الخمس عشرة سنة ثم ارتأى أن تربية أجيال متميزة من الاخصائيين المتميزين بالعلم والكفاءة بأعلى درجاتها وبالأخلاق والتقوى والحس الإنساني الرفيع، هو أكثر من ضرورة، لذلك تفرغ لتأسيس مدارسأصبحت نموذجية في وقت قصير ولا تزال حتى بعد رحيله مثالية وقد توالدت وتكاثرت وامتدت لدول أخرى ومنها العراق أيضاً.

والغريب في أمره والذي يكشف عن ثاقب نظرته أنه ارسل قبل حوالي خمسين سنة بعض معلمي مدرسته إلى (اليابان) ليدرسوا عن كثب المناهج التعليمية هنالك ويحيطوا بنقاط قوتها وكافة تضاريسها، وبعد أن عاد أولئك الرسل عقد جلسات مطولة لاستثمار النافع من تلك المعلومات القيمة في تحديث مدارسه، ثم بعث معلماً آخر ليدرس نظم التعليم في بريطانيا، فذهب وعاد؛

ص: 235

وتدارس الكرباسجيان الأمر أيضاً مع مستشاريه واختار ما ينسجم مع القواعد العامة، وهكذا استطاع التعرف على أكثر النظم التعليمية تطوراً في ذلك الزمن واكتشف نقاط قوتها وضعفها وفوارقها عن نظم التعليم في بلادنا،

ولكن لنسأل أنفسنا الآن، إننا وبعد خمسين سنة من مبادرته هل كررنا، في الحوزة العلمية أو بعض مدارسها، على الأقل هذه التجربة؟ وهل بعثنا رسلاً إلى مختلف دول العالم للتعرف على أفضل ما لديهم وعلى نقاط ضعفهم أيضاً وعلى الفوارق بين انظمتنا وانظمتهم لنستطيع - بعد الرجوع إلى القواعد الإسلامية العامة - الأخذ بالأحسن منها قال تعالى: «وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا»(1) وورد في الحديث «اطْلُبُوا الْعِلْمَ وَ لَوْ بِالصِّينِ»(2) و«الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِفَحَيْثُمَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ ضَالَّتَهُ فَلْيَأْخُذْهَا»(3).

ج - إصلاح النظام الإداري
اشارة

ثالثاً: وقد حاول اليابانيون تعلم أفضل النظم الإدارية عبر إرسال خبراء إلى الدول المتطورة كألمانيا مثلاً للإحاطة بأبعاد هذا العلم المتنامى في الأهمية والذي يزداد أهمية يوماً بعد يوم مع تعقّد الحياة وزيادة التحديات وتوسع المجالات الحيوية التي تتوقف على أنماط إدارية متطورة ذات مرونة عالية.

علم الإدارة علم حيوي ومعقد

والجدير ذكره أن بعضنا يتصور أن الإدارة علم بسيط سهل أو هي فن أو

ص: 236


1- سورة الأعراف: 145.
2- روضة الواعظين: ص11.
3- الكافي: ج8 ص167.

مهارة يمكن تعلمها ببعض التجارب أو بمطالعة بعض المقالات أو الكتب، مع أن الإدارة أضحت علماً واسع الأبعاد متعدد الجوانب بل صارت تخصصاً من أهم التخصصات الحيوية، بل هي علم وفن ومهارة.

ويظهر الفارق في أن بعضنا لا يستطيع أن يدير شركة من عشرة أشخاص بالشكل المطلوب أو لا يستطيع حتى إدارة عائلته المكونة من بضع أشخاص! بينما تجدهم في الشركات المتطورة يديرون، وبنُظُمٍ إدارية متطورة، خمسين ألفاً أو مائة ألف أو حتى ثلاثمائة ألف موظف(1) من مختلف المستويات ورغمكونهم منتشرين عبر دول كثيرة في أرجاء العالم.

ومن الواضح أن ضعف الإدارة ينعكس فوراً على ضعف الإنتاج بل قد يحطم الشركة بالكامل.

ويكفي أن نعرف أن الشركات حتى الصغيرة منها إذا لم تحسِّن إدارتها فإنه سيكثر فيها غياب الموظفين وإهمال الأعمال وسيزداد فيها الغش والسرقة والاحتيال وستدب الفوضى في أرجائها خلال أيام من غياب النظم الإدارية المتطورة، فما بالك بشركة ذات فروع في كل العالم تضم علماء ومهندسين ومفكرين ومستشارين، وأيضاً: تضم حراساً وطباخين وعمال نظافة، وأيضاً: محاسبين ومحامين ورجالاً ونساءً وغير ذلك؟ ولكن كيف تسنى لهم إدارة عشرات الألوف من الموظفين وضبط الأمور كما تضبط عقارب الساعة؟

د - إصلاح نظام الشرطة

رابعاً: حفظ أمن البلاد بيد الشرطة، فإذا كانت الشرطة نزيهةً جادةً ملتزمةً مدرّبةً منضبطةً، حكيمةً ورفيقةً أيضاً، عمّ الأمنُ البلادَ، عكس ما لو كان الكثير

ص: 237


1- مثلاً شركة فورد كان لها ثلاثمائة ألف موظف في زمن قريب.

من أفرادها بل حتى لو كان البعض منها مرتشياً أو قاسياً أو متراخياً أو غير كفوء فإنه ستكثر حالات التسلل، والاختراقات، والسرقات والتعديات، بل سيتواطئ أفرادها مع الإرهابيين والعصابات والسياسيين الفاسدين وغير ذلك

لذلك جعلت حكومة اليابان الناهضة من أولوياتها إصلاح نظام الشرطة.

ه - إيجاد اتحاد بين الدولة ومؤسسات
المجتمع المدني

خامساً: وأيضاً: أوجدوا اتحاداً بين أجهزة الدولة وبين اتحاد شركات القطاع الخاص، وهو ما عرف ب(اتحاد زايبا تسوا) الذي اضطلع بمهمة النهوض بالصناعة الوطنية وبترشيد الشركات التجارية والأنشطة المالية بشكل عام.

وليس المقصود تصحيح كل ما قام به قادة النهضة؛ وذلك لوضوح وجود نواقص وأخطاء بلا شك، بل المقصود أنهم اعطوا الأولوية القصوى لهذه الجهات: (إصلاح نظام التعليم، التطوير الإداري، إنهاء حكم العسكر، إصلاح نظام الشرطة، تعاون الحكومة مع المجتمع المدني) فتقدموا على غيرهم.

نموذج من الإدارة الكارثية الأمريكية لليابان

وقد ظهرت الثمرات العظمى لتلك السياسة الرشيدة، حتى بعد قصف أمريكا لمدينتي هيروشيما وناجازاكي بالقنابل الذرية التي تسببت في قتل مئات الألوف وجرح وتشريد الملايين، ثم كان أن احتلت أمريكا اليابان عسكرياً ونصبت الجنرال مالك ارثر كحاكم فعلي لليابان من 1945م حتى 1951م.

وقد انتجت الإدارة الأمريكية السيئة بل المتعمدة لليابان نتائج كارثية على كافة الأصعدة حيث انهار الاقتصاد الياباني تماماً وحدثت مجاعات كبرى نتيجة النقص الهائل في إنتاج السلع والطعام والغذاء، وارتفعت الأسعارنتيجة ذلك بشكل مذهل.

ص: 238

كما قامت الإدارة الأمريكية بخطوة مأساوية أخرى وهي: إصدار قرار بحلّ الجيش الياباني فسرَّحت خمسة ملايين جندي ياباني، متذرعةً بالحجج المعروفة، ولكنها كانت بذلك السبب الأساس في انتشار الجريمة والفساد وزيادة الفقراء نظراً لضخ خمسة ملايين عاطل عن العمل، فجأة في الشوارع والمجتمع، ومن الواضح أن العاطل عن العمل لا يجد عادةً أمامه إلا الفراغ والضياع مما يبعث الكثير منهم نحو الفساد والجريمة والسرقة والاعتداء على الآخرين ومما يجعلهم طعماً جاهزاً لشتى التنظيمات الإرهابية والمافيات المنظمة.

عيّنة من الإدارة الكارثية الأمريكية للعراق

والغريب أن أمريكا كررت نفس المخطط ونفس السيناريو في العراق فحلّت الجيش العراقي بالكامل مما تسبب في واحدة من أعظم المخاطر التي واجهها العراق طوال تاريخه، إذ إن من الواضح أن مئات الألوف من الجنود الأقوياء عندما يُسرَّحون ويُتركون بلا عمل وبدون خطة لاستيعابهم واحتوائهم في أعمال وحِرَف وصنائع وبرامج منتجة أخرى، فإنهم بذلك يتحولون، كما حدث بالفعل، إلى أفضل احتياطي يمكن تجنيده من قبل الجماعات الإرهابية والضالة كالقاعدة والبعث المنحل التي هربت قياداته للسعودية والأردن والأمارات وغيرها، وكداعش لاحقاً؛ ولا عجب إذا رأينا أن قوام كافة الحركات الإرهابية والمسلحة كان هو ضباط وجنود من الجيش العراقي المنحلّ بذاته.وذلك مع أن الصحيح كان هو التسريح التدريجي لبعض قادة الجيش وضباطه أو حتى المشبوهين من الجنود وليس حله بأكمله وذلك في ضمن خطة احتواء بديلة في شتى الميادين المنتجة: في الزراعة والصناعة والتجارة، وفي شتى الحرف: كالخياطة والنجارة والحدادة، وفي شتى الوظائف أيضاً.

ص: 239

من نتائج السياسات الإصلاحية في اليابان

والآن وبعد ذلك كله لنلقِ نظرة على نتائج تلك السياسات الحكيمة التي اقترنت في اليابان مع ترسيخ مبدأ التداول السلمي للسلطة والانتخابات العامة الحرة، ولنقرأ الأرقام التالية:

فقد كان متوسط دخل الفرد الياباني بالنسبة إلى الفرد الأمريكي في العام 1950 - واليابان لا تزال تحت الاحتلال - هو 1/14 أي كان دخل الأمريكي أربعة عشر ضعفاً من دخل الفرد الياباني، فإذا كان دخل الأمريكي بالشهر مثلاً 2800 دولاراً كان دخل الياباني 200 دولاراً فقط.

ثم في غضون عشر سنوات فقط وفي العام 1960 وصل دخل الفرد الياباني إلى 1/6 من دخل الفرد الأمريكي أي تضاعف دخل الياباني فصار دخل الأمريكي ستة أضعافه فقط!

ثم في العشر سنوات اللاحقة وفي عام 1970م وصل دخل الفرد الياباني إلى 1/2.5 من دخل الفرد الأمريكي أي صار دخل الأمريكي ضعفان ونصف فقط فإذا كان دخل الياباني 200 دولار عام 1950 فإنه وصل عام1960 إلى أقل من 500 دولاراً بقليل(1)

ثم وصل عام 1970 إلى حوالي ألف ومائة دولار بالشهر(2).. وهو تقدم مذهل بكل المقاييس.

ولكي نعرف هذا الإنجاز المذهل ما علينا إلا أن نقارن اليابان خلال العشرين سنة بعد انتهاء الاحتلال مع العراق خلال ال14 سنة بعد الاحتلال والتحرير فهل تطور وارد الفرد العراقي خلال هذه السنوات؟ بل هل بقي على

ص: 240


1- أي 466 دولاراً وقليل، وبالضبط: 466.666667 دولاراً.
2- وبالضبط 1120 دولاراً.

حاله أو ازداد ضعفاً وانهياراً بمرور الزمن؟ وذلك رغم حجم الوارد المذهل من النفط طول عقد ونصف والذي لم يسبق للعراق في تاريخه خلال ألوف السنوات أن حصل على مثل هذا الوارد أبداً!

فهذا هو الداء في بلادنا وهذا هو الدواء!

إن المشكلة الأساسية تكمن إذاً في عدم وجود الحكمة بمعنييها:

الأول: عدم وضع الأشياء مواضعها.

وثانياً: عدم العلم والكفاءة التي تمنع من الخطأ والزلل؛ إذ إنك لا ترى الخبراء من التخصصات الرفيعة هم الذي يديرون البلد في الاقتصاد والصناعة والتجارة والزراعة وغيرها، ويكفي أن نتصفح سجلات غالب الوزراء ورؤساء الوزراء - إن لم يكن شبه المستوعب منهم - لنرى افتقادهم لذلك، وكما أن من الطبيعي أن غير المجتهد لا يمكنه تدريس البحث الخارج كذلك فإن الطالب بالثانوية لا يمكنه التدريس بالجامعة، فكيف يمكن أن يكون وزير الداخلية أوالزراعة أو الصناعة أو غيرها مجرد خريج عادي من الجامعة؟ وكيف يمكنه أن يدير الاقتصاد أو الزراعة أو الداخلية أو الكهرباء والماء والطاقة في دولة تعج بها المشاكل وتواجه التحديات من كل حدب وصوب؟

وبعد ذلك: إذا عرفنا مقتضى الحكمة وعرفنا مقتضى اللاحكمة، فإننا سنعرف مآلات أمور هذا البلد أو ذاك وأنه يسير نحو الاستقرار والازدهار والتطور والتدهور؟ أو أنه يراوح مكانه؟ أو أنه ينتقل من معضلة إلى أخرى ومن مأزق إلى آخر ومن خراب إلى آخر؟ وبذلك كله سنصل إلى مرحلة (العلم واليقين) بمستقبل البلاد أو الأمم أو الأحزاب والمنظمات والنقابات أو العشائر والمؤسسات والشركات والعوائل!

ص: 241

ثالثاً: سُنَّة الأوَّلِين والانثروبولوجيا

اشارة

والبحث عن «سُنَّةِ الْأَوَّلِينَ» التي عدها أمير المؤمنين (علیه السلام) من دعائم اليقين، يقع في محطتين:

المحطة الأولى: الأصالة والتجميد أو الحداثة والتجديد؟

أولاً: البحث عن ثنائية الأصالة أو الحداثة؟ فهل الأصل التجديد والتغيير والحداثوية أو الأصل الجمود والثبات والركود والسكون؟

إن من الواضح أن الساحة الإسلامية منقسمة إلى من يتشبثّ بالماضي بكل قوة، وإلى من يتطلع إلى الحداثوية بكل انبهار، وبينهما درجاتتشكيكية كثيرة وأطياف مختلفة شديدة التنوع.

أصالة سُنَّة الأوَّلين

ولكن الذي نغنمه من الرواية الشريفة هو أن الأصل - في مواطن الالتقاء - هو (أصالة السنة) لا أصالة الحداثة والتغيير والتجديد ولا أصالة الجمود والسكون والتجميد، وذلك يعني أنه في كافة القضايا الحيوية التي كانت موضع نقاش وسجال وأخذ وردٍّ وصراع فان المرجعية هي ل«سُنَّة الأوَّلين» فيما كانت لهم فيه سنة بيّنة:

السُنَّة تعني: سيرة العقلاء والمتشرعة

وسنة الأولين تعني أمرين:

الأول: سيرة العقلاء. الثاني: سيرة المتشرعة.

كما تعني بناء العقلاء وارتكاز المتشرعة أيضاً بالملازمة؛ لبداهة كون ما بنى عليه العقلاء هو ما ساروا عليه وما ارتكز لدى المتشرعة هو ما جرت عليه

ص: 242

سيرتهم أيضاً، فالسيرتان كاشف إنّي عن البناء والارتكاز(1)

كما أن الأخيرين عِلّة للسيرتين.

وعلى ذلك فإن هذه الرواية تصلح أن يعدها علماء الأصول من الأدلة على حجية السيرتين، فإنه وعلى الرغم من عدم حاجة سيرة العقلاء بما هم عقلاء إلى دليل على حجيتها لكون مرجعها العقل، وعلى الرغم من عدم حاجة سيرة المتشرعة بما هم متشرعة إلى الدليل على حجتها لكون مرجعهاالشرع بالحدس القطعي لبداهة ان سيرة كافة المحيطين بالمعصوم (علیه السلام) بمختلف ألوانهم وأشكالهم كاشفة عن تقريره ورضاه إن لم تكن ببعثه وتأسيسه؛ فإنه لا يمكن - عادةً - أن يُجمعوا عملياً بأجمعهم على الخلاف، إلا أنه ورغم ذلك فإن من قد لا يطمئن بمثل هذا الاستدلال أو من يرى حاجة العقليات إلى إسناد من النقليات، كالعكس، ولو كمنبّه، فانه لا يستغني عن مثل هذه الرواية كدليل على المدعى.

سُنَّةُ الأوَّلين مرجعيةٌ للحصول على اليقين

والحاصل: إنك إذا أردت أن تحصل على اليقين في أي قضية خلافية شككت فيها، فإن (سنة الأولين) تصلح مرجعاً لإيراث اليقين وحسم الشك بالقطع والجزم في كل أمرٍ كانت فيه للأوَّلين سُنَّةٌ وسيرةٌ.

كما ان عموم «الأوَّلين» في كلام الإمام (علیه السلام) يشمل أمرين:

الأول: العقلاء.

الثاني: المحيطين بالرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله)، ويلحق بهم المحيطون بالمعصوم (علیه السلام) في كافة الأوامر اللاحقة.

ص: 243


1- أو عن دليل معتبر آخر.
شواهد من مرجعية سُنَّة الأوَّلين
اشارة

وعليه: فكلما اعترضتنا معضلة فكرية وترددنا بين أن نتمسك بالماضي وثباته أو بالتغيير وحداثويته، فعلينا أن نرجع إلى سيرة العقلاء على مرِّ التاريخ أو إلى سيرة المتشرعة.

أ - الحيازة مملّكة

فمثلاً: قاعدة الحيازة مملّكة أو هي على الأقل موجبةً لحقِّ الاختصاص، فإننا عندما نقوم بدراسة سيرة العقلاء على مر التاريخ نجد أنهم كانوا يبنون على أن من حاز شيئاً كمن صاد طائراً أو سمكةً أو اقتطف ثمرةً فانه يملكها أو يكون له على الأقل فيها حق الاختصاص كما سبق؛ ولذا يعدّون من يأخذها منه قسراً، ظالماً غاصباً، وعليه فإذا شك شخص في أن الحيازة مملّكة أو مخصِّصة (تجوزاً) فإنه بالرجوع إلى هذه السيرة العقلائية سيصل إلى مرتبة اليقين في ذلك.

ب - ج - حجية خبر الثقة وقول أهل الخبرة

وكذلك: قاعدة إن خبر الثقة حجة، وقاعدة إن رأي أهل الخبرة حجة وقولهم معتمد، فإن سيرة العقلاء على ذلك بل وبناءهم أيضاً، ولذلك لو فرضنا أن شخصاً ولد في جزيرة منعزلة حتى كَبُر ثم وصل أشخاص إلى الجزيرة فإنه لو علم بأن هذا طبيب أو خبير بالأشجار مثلاً فإنه يركن إليهم حسب ارتكازه العقلي، دون شك، مع أنهم لم ير العقلاء من قبل ليدرس سيرتهم ويحيط بها.

د - حجية الظواهر لغير المخاطَب أيضاً
اشارة

وكذلك: حجية الظواهر فإنها مما جرت عليها سيرة العقلاء وسنة الأولين، وبذلك - وبغيره - نرد على صاحب القوانين الذي ادعى أن ظواهر

ص: 244

الكلام ليست حجة على غير المشافَه والمخاطَب بها معلِّلاًباحتمال اعتماده على قرينة قد خفيت علينا ولم يكن هنالك داع للسامع منهما أن ينقل إلينا القرينة لأنه كان هو المشافَه.

مناقشة صاحب القوانين

والجواب من وجوه: منها: ان سنة الأولين وسيرة المتشرعة والعقلاء هي على الاحتجاج بالظواهر مطلقاً وإن لم يكونوا هم المخاطَبين بها؛ ولذا نجد أن من أقرّ بِدَينٍ مثلاً أمام شخص معين كان هو المخاطب، فوصل كلامه إلى آخرين لم يكونوا مخاطَبين فإنهم يحتجّون بكلامه عليه ولا يقبلون منه أنه أراد غيره بقرينة حالية أو مقالية لم تصلهم، إلا إذا أقام الدليل عليها، وهكذا الحال في الرسائل المتبادلة بين شخصين فإنها تعد حجة عليهما ومنجِّزة أو معذرة للغير أيضاً ممن يشملهم التكليف بل يرونها كاشفة كشفاً نوعياً عن الواقع.

وأما احتمال وجود قرينة حالية خفيت علينا ولم تكن الدواعي متوفرة لنقلها نظراً لأننا لم نكن المخاطبين بها، فالجواب عنه أنه وإن كان ذلك محتملاً إلا أن احتمال ذلك مما لا يُخِلُّ بحجية الظواهر نظراً لأنها تتعايش مع احتمال الخلاف ككل ظاهر آخر، كظهور الأمر في الوجوب مع أنه كثيراً ما يستعمل في الاستحباب ولا يُخِلُّ احتمال استعماله هنا في الاستحباب بظهوره في الوجوب وحجيته أيضاً، إضافة إلى أن ناقل الأحكام إلينا، لا بد - على حسب القاعدة - من أن ينقل ظاهر الكلام مع قرينته لأنه يريد الإفهام أيضاً وتعميم الأحكام وإلا لأخلّ الناقل بالغرض مادام الحكم عاماً والقضية بنحو القضية الحقيقية.

ه - قوّامية الرجل على المرأة

وكذلك: قوّامية الرجل على المرأة في الجملة وفي حدود العدل والإنصاف،

ص: 245

فإننا تارة نستدل بالآية الكريمة: «الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ»(1) وذاك صحيح تام كافٍ، ولكن البعض قد يكون ضعيف الاعتقاد أو غير مسلم بالمرة، فلنا أن نستدل عليه بسيرة العقلاء على مر التاريخ من مختلف الملل والنحل على القوّامية في الجملة، نعم في حدود العدل والإنصاف. نعم حدّد الشارع القوامية بأمرين: الاستفراش والخروج من المنزل وذلك حسب العِشرة بالمعروف أيضاً(2)

كما حققه السيد الوالد (قدس سره).

و - ظلوم غشوم خير من فتنة تدوم

وكذلك: ضرورة وجود أمير للناس وقد ورد عن أمير المؤمنين (علیه السلام): «إِنَّهُ لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَمِيرٍ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ...»(3) ولا يعني ذلك شرعية السلطان الجائر أبداً بل الصحيح هو:

إن الحكومة الشرعية هي التي يرتضيها الله تعالى وهي حكومة المعصوم (علیه السلام).

ثم من بعده هي حكومة شورى الفقهاء والحكماء والخبراء بشرطرضى الناس واختيارهم وبالتعاون مع أهل الحل والعقد وأهل الخبرة والاختصاص حسبما نرى.

وفي رأي البعض: ولاية الفقيه بشرط رضى الناس.

وفي رأي آخرين: هي ولايته مطلقاً رَضي الناس أم لا.

وفي رأي آخرين: الحكومة المشروعة هي حكومة الناس على الناس برضاهم في حدود الشريعة.

ص: 246


1- سورة النساء: 34.
2- فلا يصح للزوج أن يتعسف بمنع الزوجة من الخروج لزيارة والديها أو ما أشبه ذلك من أنواع المعروف.
3- نهج البلاغة: من كلام له علیه السلام في الخوارج لما سمع قولهم (لاحكم إلا لله)، خطبة:40.

وفي رأي وسط هي حكومة عدول المؤمنين من ذوي الكفاءات.

فإذا فرض تعذر ذلك كله فههنا لا بد من حاكم ولو فاجر إذا دار الأمر بينه وبين الهرج والمرج واختلال النظام إذ «ظلوم غشوم خير من فتنة تدوم»(1).

ولا يعني ذلك أيضاً: عدم نهي الحاكم الجائر المستبد عن المنكر وعدم أمره بالمعروف بل يجب أمره ونهيه، ولكن لا يصح ترجيح الحروب والاقتتال الداخلي والفوضى العارمة، كما يحدث في بعض البلاد الآن، على الحاكم الجائر لو فرض دوران الأمر بينهما، كما لا يعني ذلك عدم وجوب السعي لإحلال حكومة استشارية إسلامية أو ديمقراطية جماهيرية (على حسب كلا الرأيين) محل ذلك الحاكم الجائر.

السلطة العليا لمن؟

والحاصل: إن وجود سلطة عليا في الدول والشركات والأحزاب والعوائل، مما لاشك في أصله إجمالاً وهو من دائرة بناء العقلاء وسيرتهم، إلاأن كيفية وشروط ومواصفات هذه السلطة العليا هي المختلف فيها: فهل السلطة العليا في الأحزاب والعشائر والنقابات والدول هي بالانتخاب، أو بالانقلاب، أو بالمموِّلين ومن يدفع أكثر، أو بالحِكمة والعقلانية والخبروية و(التكنوقراط)، أو بالنصب من قوة أخرى غيبية أو مادية؟ أو غير ذلك؟! وكذلك الشركات فهل السلطة بيد المؤسس للشركة أو لهيئة الإدارة، أو لمجلس الأمناء، أو للمساهمين، أو بالتوزيع؟! وهل ذلك كله مع نظارة الدولة أو الاتحادات أو لا؟

والسبب في ذلك هو أن القرار لو لم يرجع إلى فرد منتخب أو منصوب أو هيئة منتخبة أو منصوبة، بل تُرِك الأمر بلا نظام وقواعد وأطُر وأعطي كلهم أو

ص: 247


1- غرر الحكم ودرر الكلم: ص464.

المتعدد منهم الحق في اتخاذ القرارات المصيرية، بل وحتى العادية، بلا ضوابط ومرجعية نهائية (فردية أو شورية) فإن السفينة أو الطائرة أو السيارة وكذلك الحزب أو العائلة أو الشركة ستترنح وتنحرف عن المسار وقد تتحطم تماماً.

وكذلك: سنُّة الأوَّلين في احترام الأبوين، والكبار في السن، والعطف على الصغار، إجمالاً.

النائيني: منشأ طريقة العقلاء: السلطان أو النبي أو الفطرة

ثم إن الميرزا النائيني (رحمة الله) ذهب إلى أن سيرة العقلاء وطريقتهم ترجع في منشئها إما إلى سلطان قاهر قَهَرَ جميع البشر في أنحاء الأرض على أمر حتى صار سيرةً لهم جميعاً، وإما إلى نبي التزم كل الناس بكلامه وبنواعليه، وإما إلى الفطرة، ورجّح أن منشأ كافة السِيَر العقلائية هو الفطرة.

قال: (وأمّا طريقة العقلاء: فهي عبارة عن استمرار عمل العقلاء بما هم عقلاء على شيء سواء انتحلوا إلى ملة ودين أو لم ينتحلوا، ومنهم المسلمون، وسواء أكان ما استمرت عليه طريقتهم من المسائل الأصولية أم من المسائل الفقهية)(1)

و(ولا إشكال أيضاً في اعتبار الطريقة العقلائية وصحة التمسك بها، فان مبدأ الطريقة العقلائية لا يخلو:

إما أن يكون لقهرِ قاهرٍ وجبرِ سلطان جائر قَهَرَ جميع عقلاء عصره على تلك الطريقة واتخذها العقلاء في الزمان المتأخر طريقة لهم واستمرت إلى أن صارت من مرتكزاتهم.

وإما أن يكون مبدؤها أمر نبي من الأنبياء بها في عصر حتى استمرت.

وإما أن تكون ناشئة عن فطرتهم المرتكزة في أذهانهم حسب ما أودعها الله

ص: 248


1- فوائد الأصول: ج3 ص192.

تعالى في طباعهم بمقتضى الحكمة البالغة حفظاً للنظام.

ولا يخفى بُعد الوجه الأول بل استحالته عادة وكذا الوجه الثاني فالمتعين هو الوجه الثالث)(1).

المناقشة:

1- منشأ الطريقة العقلائية نوح أو آدم

ولكن الظاهر عدم تمامية كلامه إذ:أولاً: لا يبعد أبداً كون منشأ كثير من السِّيَر هو أحد الأنبياء كنوح (علیه السلام) الذي فنيت البشرية في زمانه ولم يبق إلا من معه في السفينة ولعلهم كانوا ثمانين شخصاً فليس من المستبعد أبداً أن يكون قد ربّاهم على سلسلة من الآداب والأحكام التي سارت عليها البشرية بعد ذلك وصارت سيرةً مستقرةً لهم كاحترام الأبوين ومطلق الشيوخ والكبار أو حجية الظواهر أو حجية خبر الثقة وقول أهل الخبرة وما أشبه ذلك.

2- المنشأ هو العقل

ثانياً: إن هنالك شِقاً رابعاً وهو أن يكون منشأ سيرة العقلاء هو (العقل) بل هذا هو المفترض به أن يُعدّ المنشأ الأول إذ البحث هو عن سيرة العقلاء بما هم عقلاء (كما هو صريح كلامه (قدس سره): استمرار عمل العقلاء بما هم عقلاء) فالقيد يفيد أن المنشأ عقلهم.

والفطرة تختلف عن العقل لوجودها في الحيوان ايضاً وإن سميت بالغريزة حينئذٍ، والضابط هو: ان كل ما اتّحدت فيه سيرة الحيوان مع الإنسان، فهو أمر فطري وذلك كرعاية أطفالهم والحنان بهم ودفع الأذى عنهم وحمايتهم، وكلما انفرد به الإنسان فهو عقلي كحجية ظواهر الألفاظ مثلاً، وهناك إشكالات أخرى

ص: 249


1- فوائد الأصول: ج3 ص192 - 193.

على كلامه (قدس سره) فراجع مباحثنا في الفقه والأصول.

المحطة الثانية: الانثروبولوجيا وسُنَّة الأولين

ثانياً: إن من فروع (سنة الأولين) التي اعتبرها أمير المؤمنين (علیهالسلام) من شعب اليقين، ما يسمى في العلم الحديث ب(الانثروبولوجيا) (Anthropology) وهي كلمة مركبة يونانية و(ology) تعني علم وال(Anthrop) تعني الإنسان، فهي تعني إجمالاً (علم الإنسان).

وبعبارة جامعة شاملة هي العلم الذي يدرس مختلف جوانب الإنسان في الماضي والحاضر: فيدرسه بما هو إنسان بدائي، أو يدرسه بما هو ابن الطبيعة، أو يدرسه بما هو كائن اجتماعي أو حضاري، كما أنه يدرس أعمال الإنسان وسلوكه واعمال الجماعات البشرية وسلوكها وأنواع انتاجاتها.

أنواع علوم الانثروبولوجيا

وقد تعددت تعريفات الانثروبولوجيا تبعاً لتطور العلم ولاختلاف أنواعه وتفرع الانثروبولوجيا إلى فروع عديدة أيضاً فهناك: الانثروبولوجيا اللغوية وهناك الانثروبولوجيا الحيوية (البيولوجية) والانثروبولوجيا الثقافية وغيرها، ولنشر إلى الانثروبولوجيا اللغوية إشارة فقط كشاهد على ما نقول:

فإن الانثروبولوجيا اللغوية تدرس مثلاً تأثير اللغة على الإنسان وطريقة تفكيره ونظام حياته فمثلاً: الشعب الألماني لغته لغة جافة ولذا(1) تجدهم خشنين صارمين، أما الشعب الفرنسي فلغته لغة مائعة ولذا تجدهم شعباً منحلاً إلى حد كبير، والعكس صحيح أيضاً: إذ لللغة دور في صناعة شخصية الإنسان كما أن للإنسان دوراً في صناعة اللغة، ولذا تجد أن الأفراد والشعوبالتي يكثر فيها

ص: 250


1- التعليل في الجملة وبنحو المقتضي ولو الضعيف.

السباب والشتائم على كل أمر تافه حقير أو مهم خطير، تجدهم أقرب إلى العنف والعدوان؛ فإن من الطبيعي أن من تجري على لسانه الكلمات الجارحة الحادة فإنه لو كان بإمكانه لبادر لاستخدام العنف اليدوي بعد العنف باللسان، ولو كان بيده السلاح فلعله لا يتورع عن جرح الآخر أو حتى قتله لشيء تافه، كما رأينا ذلك كثيراً.

الوالد (قدس سره): السلم أحْمَدُ عاقبة

ولذلك كان السيد الوالد (رحمة الله) يوصي بالسلم المطلق في الجوارح كلها حتى اللسان بل حتى في النظرات بل حتى في التفكير، فكان يقول بأن عليك أن يكون تفكيرك تجاه الآخر تفكيراً رفيقاً، فإن التفكير يتموّج فما تفكر فيه تجاه الآخر فإنه طاقة تتحرك وتصل إلى قلبه أو مخه فإن كنت تحمل رسالة السلام والسلم إليه تأثر قلبه بها فكان أقرب إلى أن يكون مسالماً لك وإن كنت تحمل رسالة العنف والقسوة فإن قلبه ينفعل - بدرجة أو أخرى - عن ذلك ولذا قالوا (القلوب سواقي) و(القلب يهدي إلى القلب).

وكان (قدس سره) يقول إن السلم أحمدُ عاقبةً وهو عنوان في كتابه (السبيل إلى انهاض المسلمين) حيث أوضح أن العنف وإن فُرِض إن مردوده الآني الفعلي هو لصالحك (إذ قد يرضخ الآخر لطلباتك ويستسلم لك) لكن مردوده على المستوى المتوسط والبعيد رهيب بل مدمر فإن العنف يولّد العنف في دوامة متسلسلة متصاعدة متتالية متموّجة لا تتوقف عند حد أبداً إلا بعامل خارجي ضاغط أقوى معاكس.

بُرنا: أقول إنهم أناس طيبون!

وقد ورد في التاريخ أن بوذا ربى أحد التلامذة الأذكياء وكان يسمى بُرنا، حتى إذا أدرك منه الحكمة، أرسله لهداية قوم من الهمج البرابرة فلما ودّعه

ص: 251

وابتعد خطوات ناداه أن يا بُرنا أقبِل، فرجع بُرنا إليه متسائلاً.

فقال له الأستاذ: يا بُرنا هَبْ إنهم سبّوك فما أنت صانع؟ قال: أقول إنهم أناس طيبون!

قال الأستاذ: لم ذاك؟ قال برنا: لأنني ذهبت لأغيرّ دينهم فاكتفوا بسبي!

فقال الأستاذ: أذهب فأنك جدير بأن تفلح في مهمتك.

فلما ابتعد خطوات أكثر - ولنفرضها عشرين خطوة مثلاً - ناداه أن أقبل يا بُرنا، فلما أقبل سأله: يا بُرنا، هب إنهم اجتمعوا إليك ليضربوك فما أنت صانع؟ قال بُرنا: أقول إنهم أناس طيبون! قال الأستاذ: ولِمَ يا بُرنا؟ قال: لأنني ذهبت لأغير دينهم فاكتفوا بضربي فقط! فقال الأستاذ: أذهب يا بُرنا فأنت ناجح!

فلما ابتعد أكثر - ولنفرض إنه ابتعد خمسين خطوة مثلاً - ناداه بصوت عال: أن أرجع يا بُرنا! فلما رجع، قال الأستاذ: هَبْ إنهم اجتمعوا إليك ليقتلوك فما أنت صانع؟ قال أقول: إنهم أناس طيبون! قال الأستاذ: وهذه المرة أيضاً؟ قال: نعم! قال: لِمَ؟ قال: لأنني ذهبت لأغيّر دينهم لكنهم واجهوني بأن منحوني الحياة الباقية وسلبوني الجسد الفاني البالي! فقال: أذهب يا برنا فإنك ستفلح في هذه المهمة حتماً، ثم ذهب برنا وكان نجاحه في مهمته كما توقعه له الأستاذ(1).إن من يملك قوة المنطق لَحقيقٌ أن لا يلجأ إلى منطق القوة، وإن من يمتلك البرهان والدليل لجدير بأن يجتنب السباب والشتائم، ثم إن مَن يحمل رسالة الأخلاق والسلام هو الذي يحصد الحب والخير والوئام.

وهابيوا لندن يضربون المستبصرين!

وقد سألني أحد الأفاضل من المستبصرين وكان مسيحياً ثم أسلم وصار سلفياً ثم تشيع وصار إمامياً، سألني عن كيفية مواجهة السلفيين والوهابيين في

ص: 252


1- والقصة منقولة ههنا بالمضمون وبتصرف واختصار وليس النقل حرفياً.

لندن، قال: إنهم يهاجموننا بضراوة لاننا كنا سلفاً ثم تشيعنا فنحن أبصر بعيوبهم وبأخطائهم وانحرافاتهم من الآخرين ونحن أقوى في الاحتجاج والاستدلال منهم، فكثيراً ما كنّا نفحمهم في المناظرات أمام جمع من الناس، لكنهم بدأوا يهاجموننا ويضربوننا بوحشية وكنا ندافع عن أنفسنا ونردّ صاعهم بصاعٍ مماثل، وربما أدى الأمر إلى تدخل الشرطة وصارت فضيحة للمسلمين!

فقلت: (السلم احمد عاقبة)، وأن الله تعالى يقول: «وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى»(1) وإنكم إذا صبرتم وتحملتم بعض الضرب فإن الناس جميعاً سيتعاطفون معكم ويدينونهم فإن (الناس أنصار الحليم على الجاهل) وكما ورد في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (علیه السلام): «أَوَّلُ عِوَضِ الْحَلِيمِ مِنْ حِلْمِهِ أَنَّ النَّاسَ أَنْصَارُهُ عَلَى الْجَاهِلِ»(2)

قال: لكن ذلك يزيدهم جرأة علينا وطمعاً بنا! ثم إن الضرب مؤلمفكيف نتحمل ونسكت ولا ندافع عن أنفسنا؟

قلت: إن أنبياء بني إسرائيل كانوا يُضربون لكنهم ما كانوا يواجهون الضاربين بالضرب، بل كانوا يقتلونهم ويذبحوهم حتى ورد أن بني إسرائيل كانوا يقتلون بين الطلوعين سبعين نبياً، ولم يَرِد في التاريخ أن الأنبياء قابلوهم بالمثل.

قال لي: لكننا لا نستطيع الصبر والتحمل، أولئك الأنبياء! وأين نحن منهم؟

فقلت له: لا يكونَنَّ غاندي ونهرو والناس العاديين من الشعب الهندي أعلى منكم كعباً وأقوى على حمل رسالتهم بالسلم واللاعنف منك على حمل رسالتك، فقد قال نهرو: إن الشرطة البريطانية كانت تضربنا بالهراوات وكان من الطبيعي أن تثور قوتنا الغضبية ونضربهم بل كان بمقدورنا أن نسحقهم فإن

ص: 253


1- سورة البقرة: 237.
2- نهج البلاغة: باب المختار من حكم أمير المؤمنين علیه السلام، الحكمة: 206.

المظاهرات كانت جماهيرية عارمة وكانت أعدادنا تفوقهم بكثير، إلا أن غاندي كان قد أوصانا أن نشبك أيادينا خلف أظهرنا بقوة كي لا تنفلت أيدينا دون إرادتنا فنضربهم كما يضربوننا!

وهكذا انتصر الهنود على الاستعمار البريطاني بالسلم المطلق الذي نقل أن غاندي قال عنه: تعلمت من الحسين (علیه السلام) كيف أكون مظلوماً فانتصر!

العالِم لأطفاله: يمكن أن اضربكم!

كما نقل عن أحد العلماء الأبرار وقد توفي قبل سنين أنه كان يتميز بهدوء منقطع النظير وأنه كان يتحلى بأخلاق نموذجية مثالية وأنه حتى وهوفي البيت لم يكن يفقد هدوءه أمام ضجيج الأطفال وإيذائهم، حتى ضاقت زوجته ذرعاً بهدوئه واعترضت على عدم تصديه لردع الأطفال ببعض الشدة إذ إنها كانت تتحمل عبء إسكاتهم إذا جاوزوا الحد في إثارة الضجيج أو في تعنيفهم إذا انشغلوا بالإيذاء، فعاتبته على هدوئه وسكوته! فقال: حسناً في المرة القادمة سأفعل شيئاً ما، ولما انشغل الأطفال بالإيذاء التفت إليهم بكل هدوء وحتى بدون أن يقطِّب وجهه وقال لهم بلهجته الهادئة: (يا أطفال.. إذا استمريتم في الإيذاء فيمكن أن أضربكم) ولم يقل (فسأضربكم) بل (يمكن أن أضربكم)! واحتمل أنه لقدسه وتقواه لعله كان قد قلّب في ذهنه وجوه التورية وقصد من (يمكن) الإمكان العقلي لا الوقوعي مثلاً! وهنا علمت زوجته أن الهدوء ذاتي له وأن (ذاتيّ شي ء لم يكن معلّلا...)!

وقد ترك هدوئه أكبر الأثر على أسرته وأصدقائه وأحبائه ومستمعي محاضراته بحيث لا تزال محاضراته بما تحمل من بصمات اليقين ومن تقاطيع وجهه النوراني الهادئ، مصدر هدوء وطمأنينة لمن يستمع إليه!

ص: 254

كيف يوصلنا علم الانثروبولوجيا لليقين؟

وعوداً على بدء فإن اليقين يبتني على سُنَّة الأوَّلين، ومن مصادر الوصول إلى سنة الأولين فروع عديدة من علم الانثروبولوجيا، فإن علم الانثربولوجيا اللغوية قد يوصلنا إلى سلسلة من الحقائق عن حياة الشعوب وتطورها الفكري والمعرفي والاقتصادي ذلك أنه تخترع - مثلاً - كلمات اقتصادية جديدة تتناسب مع حاجات العصر الاقتصادي المستجدة أوالمناهج الاقتصادية المتطورة أو الأدوات الاقتصادية المتجددة. كما أن علم الآثار قد يوصلنا إلى اليقين بسلسلة من الحقائق.

ومن الضروري أن نتوقف ههنا لنقول: إن من المؤسف في علم الانثروبولوجيا الحيوية وفي علم الآثار (وهو الذي يراه الكثير من العلماء الأمريكيين من فروع الانثروبولوجيا خلافاً للمدرسة الأوروبية التي تراه اختصاصاً منفصلاً أو ملحقاً بعلم التاريخ) فإن مشكلتنا الأساسية، في ضمن مشاكلنا الأخرى، تكمن في أن الغرب سبقنا إلى هذا الحقل كما سبقنا إلى الانثروبولوجيا الحيوية، بل لا تكاد تجد لنا متخصصاً متميزاً يشار إليه بالبنان في مختلف فروع الانثروبولوجيا إلا القليل أو النادر.

وحيث سبقنا الغرب فإنه أيضاً، وكنتيجة طبيعية لذلك، سيّس العديد من علمائه بعض فروع هذا العلم أو مسائله وصبوه في مآلات ضد دينية، والأغرب أننا لو أردنا التصدي للإجابة لاحتجنا إلى أن نرجع إلى سائر علمائهم الذين تصدوا عبر تخصصهم في الانثروبولوجيا البيولوجية أو علم الآثار إلى ردّ هذه النظرية أو تلك! وهذا يعني أننا احتجنا إليهم حتى في تثبيت بعض أصول العقائد والمعارف وإقناع شبابنا بها!

ص: 255

كيف نقارع نظرية دارون؟

فمثلاً: نظرية داروين في تطور الأنواع وإن أصل الإنسان قرد، استند فيه إلى ما يدعى أنه مخرجات معادلات علوم الانثروبولوجيا وقدّم سلسلة مما سماه بالبراهين العلمية على ذلك، والغريب أن كثيراً من المسلمين تأثر به أيضاًبل حتى بعض رجال الدين! والأغرب أن الذي تصدى بالأساس لدحض ادعاءاته وأنها مجرد فرضية لا ترقى حتى إلى مستوى النظرية العلمية هو علماء الانثروبولوجيا الحيوية وعلماء الحفريات والآثار الغربيون حيث كشفوا مكامن الزيف في نظريته ونقاط الضعف واشّروا على المقدمات المغلوطة في ضمن سلسلة المقدمات التي ادعى أنها توصل إلى هذه النتيجة! ثم بعد ذلك استند كثير ممن أراد مقارعة النظرية الداروينية - من المسلمين - إلى نتائج تحقيقات أولئك العلماء!

ومع أن الرد الكلامي والفلسفي كافٍ لدحض النظرية ومع أن الرد العام النقضي، كالنقض بالنحل الذي ثبت علمياً أنه منذ مجاهيل الزمن(1)

لا يزال على نفس حالته وواقعه دون تطور وتغيير، كافٍ أيضاً إلا أن الرد العلمي المبرهن هو الذي يقنع الكثير من الشباب، فلِمَ نستجدي اليقين المعرفي أو بعض فروعه من الآخرين!

وبذلك ينتهي الحديث في هذا الجزء عن بعض أهم مباحث الشك واليقين وأما البحث عن (موعظة العبرة) والكثير من المباحث الأخرى عن الشك واليقين، فسنوكله للجزء الثاني بإذن الله تعالى.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين.

ص: 256


1- منذ ملايين السنين.

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صَلِّ عَلَى حُجَّتِكَ وَوَلِيِّ أَمْرِكَ وَصَلِّ عَلَى جَدِّهِ مُحَمَّدٍ رَسُولِكَ السَّيِّدِ الْأَكْبَرِ وَصَلِّ عَلَى عَلِيٍّ أَبِيهِ السَّيِّدِ الْقَسْوَرِ وَحَامِلِ اللِّوَاءِ فِي الْمَحْشَرِ وَسَاقِي أَوْلِيَائِهِ مِنْ نَهَرِ الْكَوْثَرِ وَالْأَمِيرِ عَلَى سَائِرِ الْبَشَرِ الَّذِي مَنْ آمَنَ بِهِ فَقَدْ ظَفَرَ(1) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ فَقَدْ(2) خَطَرَ وَكَفَرَ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَعَلَى أَخِيهِ وَعَلَى نَجْلِهِمَا الْمَيَامِينِ الْغُرَرِ مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ وَمَا أَضَاءَ قَمَرٌ وَعَلَى جَدَّتِهِ الصِّدِّيقَةِ الْكُبْرَى فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ بِنْتِ مُحَمَّدٍ الْمُصْطَفَى وَعَلَى مَنِ اصْطَفَيْتَ مِنْ آبَائِهِ الْبَرَرَةِ وَعَلَيْهِ أَفْضَلَ وَأَكْمَلَ وَأَتَمَّ وَأَدْوَمَ وَأَكْبَرَ وَأَوْفَرَ مَا صَلَّيْتَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَصْفِيَائِكَ وَخِيَرَتِكَ مِنْ خَلْقِكَ.

وَصَلِّ عَلَيْهِ صَلَاةً لَا غَايَةَ لِعَدَدِهَا وَلَا نِهَايَةَ لِمَدَدِهَا وَلَا نَفَادَ لِأَمَدِهَا اللهمَّ وَأَقِمْ(3) بِهِ الْحَقَّ وَأَدْحِضْ بِهِ الْبَاطِلَ وَأَدِلْ بِهِ أَوْلِيَاءَكَ وَأَذْلِلْ بِهِ أَعْدَاءَكَ.

ص: 257


1- (شَكَرَ).
2- (وَ مَنْ أَبَا فَقَدْ).
3- (أَعِزَّ).

وَصِلِ اللهمَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ وُصْلَةً تُؤَدِّيَ إِلَى مُرَافَقَةِ سَلَفِهِ وَاجْعَلْنَا مِمَّنْ يَأْخُذُ بِحُجْزَتِهِمْ وَيُمَكَّنُ(1) فِي ظِلِّهِمْ وَ أَعِنَّا عَلَى تَأْدِيَةِ حُقُوقِهِ إِلَيْهِ وَالِاجْتِهَادِ فِي طَاعَتِهِ وَالِاجْتِنَابِ عَنْ مَعْصِيَتِهِ.

وَامْنُنْ عَلَيْنَا بِرِضَاهُ وَ هَبْ لَنَا رَأْفَتَهُ وَرَحْمَتَهُ وَدُعَاءَهُ وَخَيْرَهُ مَا نَنَالُ بِهِ سَعَةً مِنْ رَحْمَتِكَ وَ فَوْزاً عِنْدَكَ وَ اجْعَلْ صَلَاتَنَا بِهِ مَقْبُولَةً وَ ذُنُوبَنَا بِهِ مَغْفُورَةً وَ دُعَائَنَا بِهِ مُسْتَجَاباً وَاجْعَلْ أَرْزَاقَنَا بِهِ مَبْسُوطَةً وَهُمُومَنَا بِهِ مَكْفِيَّةً وَحَوَائِجَنَا بِهِ مَقْضِيَّةً وَأَقْبِلْ إِلَيْنَا بِوَجْهِكَ الْكَرِيمِ وَاقْبَلْ تَقَرُّبَنَا إِلَيْكَ وَانْظُرْ إِلَيْنَا نَظِرَةً رَحِيمَةً نَسْتَكْمِلُ بِهَا الْكَرَامَةَ عِنْدَكَ ثُمَّ لَا تَصْرِفْهَا عَنَّا بِجُودِكَ وَاسْقِنَا مِنْ حَوْضِ جَدِّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَ آلِهِ بِكَأْسِهِ وَبِيَدِهِ رَيّاً رَوِيّاً هَنِيئاً سَائِغاً لَا ظَمَأَ بَعْدَهُ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِين.

ص: 258


1- (وَيَمْكُثُ).

فهرس المصادر

* القرآن الكريم.

* نهج البلاغة.

* الكافي الشريف، لثقة الإسلام الكليني، دار الكتب الإسلامية.

1 - البرهان في تفسير القرآن، السيد هاشم الحسيني البحراني، الناشر: مؤسسة البعثة.

2 - تفسير الصافي، للفيض الكاشاني.

3 - تفسير العياشي، محمد بن مسعود العياشي.

4 - تفسير القمي، لعلي بن إبراهيم بن هاشم القمي، مؤسسة دار الكتاب - قم، 1404ه.

5 - مجمع البيان، الشيخ الطبرسي، الناشر: دار المعرفة.

6 - الاحتجاج، لأبو المنصور أحمد بن علي الطبرسي، نشر المرتضى - مشهد، 1403ه.

7 - الأمالي، للشيخ الصدوق، المكتبة الإسلامية - قم، 1404ه.8 - بحار الأنوار، العلامة المجلسي، مؤسسة الوفاء - بيروت، 1404ه.

9 - تحف العقول عن آل الرسول (صلی الله علیه و آله)، ابن شعبة الحراني، مؤسسة النشر

ص: 259

الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة.

10 - التوحيد، للشيخ الصدوق، مؤسسة النشر الإسلامي - قم.

11 - الخصال، للشيخ الصدوق، مؤسسة النشر الإسلامي - قم.

12 - شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد، الناشر: مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي.

13 - عوالي اللآلئ، لابن أبي جمهور الأحسائي، دار سيد الشهداء (علیه السلام) - قم، 1405ه.

14 - غرر الحكم ودرر الكلم، لعبد الواحد محمد التميمي، مكتب الإعلام الإسلامي - قم.

15- كمال الدين وتمام النعمة، الشيخ الصدوق، مؤسسة النشر الإسلامي.

16 - مستدرك الوسائل، للمحدّث النوري (رحمة الله)، الناشر: مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث - قم.

17 - معاني الأخبار، للشيخ الصدوق، مؤسسة النشر الإسلامي - قم، 1403ه.

18 - من لا يحضره الفقيه، للشيخ الصدوق، مؤسسة النشر الإسلامي - قم، 1413ه.

19 - وسائل الشيعة، محمد بن الحسن الحر العاملي (رحمة الله)، مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) - قم، 1409ه.

20 - ينابيع المودّة، لسليمان بن إبراهيم القندوزي، الناشر: دار الاسوة للطباعة والنشر.

21 - روضة الواعظين، لمحمد بن الحسن الفتال، دار الرضي - قم.

ص: 260

22 - «اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ»، للمؤلف.

23 - الاجتهاد والتقليد، للمؤلف.

24 - الحجة معانيها ومصاديقها، للمؤلف.

23 - الحكومة والورود، للمؤلف.

24 - الشعائر الحسينية، للشهيد السيد حسن الشيرازي (قدس سره).

25 - العرفان الإسلامي، للسيد محمد تقي المدرسي.

26 - فقه الشعائر الدينية، للشيخ فاضل الصفار.

27 - فوائد الأصول، الشيخ محمد علي الكاظمي الخراساني، مؤسسة النشر الإسلامي - قم.

28 - مجمع البحرين، الشيخ فخر الدين الطريحي، الناشر: انتشارات مرتضوي.

29 - تاريخ الفلسفة والتصوف.

30 - التفسير الكبير أو مفاتيح الغيب، لفخر الدين الرازي.31 - جدلية الدين والفلسفة.

32 - الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، لملا صدرا، دار إحياء التراث العربي - بيروت.

33 - عارف وصوفي چه ميگويد.

34 - مجموعة رسائل فلسفي صدر المتالهين، لملا صدرا.

35 - معجم الفلاسفة، لجورج طرابيشي، مادة:نيتشه. دار الطليعة, بيروت - لبنان، الطبعة الثالثة، يوليو 2006 م.

36 - المعجم الفلسفي، جميل صليبا، الناشر: الشركة العالمية للكتاب.

ص: 261

37 - مغني اللبيب.

38 - من موقع الحوار المتمدن، للكاتب إبراهيم جركس، 20/11/2009م.

39 - المنطق، الشيخ محمد رضا المظفر، مؤسسة النشر الإسلامي.

40 - منظومة ملا هادي السبزاوري.

41 - الموسوعة الميسرة في الفكر الفلسفي والاجتماعي، الدكتور كميل الحاج، مكتبة لبنان ناشرون.

42 - هكذا تكلم زرادشت، فريدريك نيتشه، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، ترجمة: فليكس فارس.

ص: 262

الفهرس

المقدمة 7

موضوع الكتاب ومحوره 7

مادة البحث ومرجعياته والمخاطَب به 7

نطاق البحث: مستوى فقه الفرد وفقه المجتمع والدولة 9

المدخل: بصائر قرآنية 11

إشارة تاريخية: ردود أفعال المشركين تجاه المرسلين 11

تقنّع الشكاك بقناع المنكرين النافين! 13

التزوير في تصوير المشكِّك نافياً 14

الشاكّ اللاعب العابث، والشاك الباحث عن الحقيقة 15

التشكيك كطريق للاسترزاق والشهرة 16

طبيعة الشك كطبيعة الرمال المتحركة! 16

الوجه في التعبير ب(في شك) وليس ب(شاكّون) 17

القرآن رحمة للموقنين وبدرجة أقل لغيرهم 18

بل هو بصائر وهدى للموقنين فقط 18

هل تبصير الموقنين تحصيل حاصل؟ 19

الجواب باختلاف المتعلق 19

موقف الآيات والروايات من الشك 21

ص: 263

الفصل الأول

الآيات تدين (الشك) وترفضه وتذمُّه / 23

فلسفة الموقف القرآني الرافض للشك والتشكيك 25

أ - لأن الشك بما هو هو، نقصٌ وعمىٌ 26

القيمة المعرفية للشك تكافئ قيمة الأحلام وقراءة الكف والفنجان! 26

الأحلام وأشباهها كاشفة قليلاً ما، أما الشك فلا! 27

قال له الفقيه: لقد سقطت عنك الصلاة! 28

وقال الفقيه الآخر: صلّ بلا نيّة! 29

ب - ولأن القرآن ينطلق من موقع المحيط بالحقيقة 29

ج - الشكوك والظنون لواقح الفِتَن! 30

ومكدرة لصفو المنائح والمِنَن! 31

وكذلك الروايات: ترفض الشك وتذمّه 32

أنواع الشك وفوارقه عن الريب والجهل 33

الفصل الثاني

الشك النافع والشك الضار / 35

الشك الضار 36

الشك في القيم الانسانية العليا 36

شك المريض في وصفته العلاجية 37

شك الزوجة في زوجها أو العكس 37

شك الجنود في الخطة العسكرية 37

رسوم القطط التي هزمت الجيش المصري! 38

ص: 264

الشك النافع 39

الشك في قرارات الحكومات الاستبدادية 39

الشك لدى الاستثناء من القواعد العامة 40

الشك الساذج والمعقد المتشابك 41

1 - الشك المقترن بالظِنَّة وسوء الظن 41

2 - الشك المصحوب بالخوف 42

3 - الشك المستبطن للقلق والاضطراب 43

رفض التغيير من النظام الاستبدادي إلى الشوريّ 43

معارضة إلغاء الجواز والجنسية 44

التحفظ على التغيير في نظم الحوزة والجامعة 44

استراتيجية الاستجابة الشرطية السلبية ضدّ الإسلام 45

من البصائر: فوارق الريب عن الشك 46

من البصائر: فوارق الشك والجهل 47

بواعث الشك: التسطيح، غموض الحقيقة، خفاء المصطلح، الوسوسة 49

الفصل الثالث

أسباب الشك وعوامله /51

أولاً: النظرة الساذجة للحقائق المعقدة 51

سذاجة الكفار في قولهم «إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا» 52

الفارق: (المِنّة الإلهية) وكونهم عباداً لا مجرد عبيد 52

نماذج تسطيحية 54

1 - عصمة الأنبياء (علیهم السلام) وفلسفة التعبير بالعصيان في القرآن 55

ص: 265

ظاهرة تأليه العظماء، والحلّ في القرآن 55

2 - حركة الجبال كحركة السحاب، وهي تبدو ساكنة! 58

قرائن على أن المراد حركة الجبال في هذه الدنيا 58

3 - النظرة السطحية للحدود الشرعية 60

أ- الحدود عامل ردع استراتيجي، وليست للتنفيذ الشامل 60

ظاهرة تفشي الاختلاس في الدولة، والحلّ 62

ب - (الحدود) في ضمن منظومة القوانين، العادلة 63

ثانياً: غموض الحقيقة 65

معنى الدّور 65

تجمّد الزمان في الثقوب السوداء 65

ثالثاً: خفاء المصطَلَح 67

خفاء معنى الشعائر الحسينية لدى البعض 67

الاعتراض بان بعض الشعائر وافدة من حضارات أخرى 67

المقياس صدق الشعيرة عرفاً ولا يضر وفودها 68

الشعائر ليست حقائق مخترعة بل هي كالعقود مفاهيم عرفية 68

الديمقراطية أيضاً وافدة من الغرب فهل نرفضها لمجرد ذلك؟ 70

مقاييس ثلاث لسلامة الشعائر وصدق عنوانها 70

تكامل الحضارات أمر إيجابي 71

احتضان الإسلام للموضوعات الوافدة من أديان أو أمم أخرى 71

وليس ذكر بعض مصاديق الشعائر تحديداً لها 72

رابعاً: انهيار لَبِنَة في جدار البنيان المعرفي 73

ص: 266

اللَّبِنات الأساسية 73

كعب أخيل، ونقطة الضعف المُميتة 74

الغرب: نسف منظومة المعارف بضرب نقطة ضعف واحدة 75

اللامنهجية في معالجة القضايا التاريخية 75

قصة الصوفي الوهابي الذي صار شيعياً! 76

تدليس الشيعة في تسقيط الصحابة! 77

أنواع البناءات المعرفية، وموقع نقاط الضعف فيها 78

1- البنيان الذي يشكِّل الحقُّ طابِعَهُ العام 79

2- البنيان الذي يكوّن الباطل طابِعهُ العام 79

3- البنيان المزيج الخليط 79

خطورة الأجواء الضاغطة على عملية الاستنباط والتفكير 80

العلامة الحلي يردم البئر، تحييداً لضغط اللاوعي 81

العالم الذي تبنّى الاشتراكية، بضغط منطقة اللاوعي 81

خامساً: الوساوس والهمزات 82

مخلوقات فضائية تغزو الأرض وتحتل أدمغة البشر! 83

أليست الشياطين مخلوقات فضائية؟ 84

أسلحة لمقاومة الشياطين 85

الأدعية الخاصة والتسبيحات 85

إهمال وساوس الشياطين 85

سادساً: التعسف بالمطالبة ببراهين أقوى مما تحتمله مادة البحث 87

من مخاطر الشك وأضراره 91

ص: 267

الفصل الرابع

من مخاطر الشك وأضراره / 93

أولاً: تحويل الحياة إلى جحيم لا يطاق 93

الشك، الذبابة المشاكسة! 94

من أسرار تحريم حفظ كتب الضلال 95

اللصّ الذي ظل يمسح آثار أصابعه حتى اعتقلته الشرطة! 96

أنواع التشكيك ونتائجه المدمرة 97

ثانياً: التشكيك مفتاح تدمير الحضارات 98

منهج الغرب في زرع بذور الشك 99

تدمير البلاد والأمم بتشكيكها بكل شيء! 100

أصالة الصحة، العامل الأكبر لحفظ الأمن الوطني 101

ثالثاً: انهيار البنيان المعرفي 103

بين البنيان المادي، والبنيان المعرفي 103

مخاطر وباء التشكيك على نسيج الأمم وبناءاتها 104

الأسرة بناء بشري يعتمد على البنيان المعرفي - القِيَمي 104

وكذلك النقابات والعشائر والأحزاب والدول 105

وكذلك الأفراد في أهدافهم المستقبلية 105

بنيان المنافقين، حسب القرآن الكريم 106

قصة أبي عامر الراهب ومسجد ضرار 107

البنيان النفسي لطالب العلم 109

معاناة السيد المرعشي (رحمة الله) في شراء الكتب النادرة! 110

دعائم الشك في حِكَم الإمام علي (علیه السلام) 113

ص: 268

الفصل الخامس

دعائم الشك في حِكَم الإمام علي (علیه السلام) / 115

أوّل دعائم الشك: (التماري) 115

المماراة تؤدي إلى العداوة والبغضاء 116

كيف تثمر المماراة التشكيك المَرَضِي في كل شيء؟ 117

المضاعفات السلبية للسجالات الجدلية 118

إشارة إلى حالة إمام المشككين 119

الفخر الرازي: السِّحر حَسَن بل واجب! 120

أجوبة سبعة على مماراة الفخر الرازي 120

مماراة القاضي الجلاد حول قتله الأبرياء وأدلته الجدلية! 123

قال لهم: اقتلوا الأعداد الفردية، لا: بل الزوجية! 125

التماري كالتمارض، يسري من المظهر إلى الجوهر 126

ثاني دعائم الشك: الهول والفوبيا 127

فوبيا الخوف من الجنّ 127

فوبيا التجارة والاستثمار 128

«وَمَنْ هَالَهُ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ» 129

أنواع من الفوبيا والرهاب 130

الخوف من ضوء الشمس! 130

الخوف من بعض الأرقام! 131

الخوف من الوقت! 131

العزلة ورهاب الخروج من المنزل 131

ص: 269

الخوف من كلام الناس! أو من الأخبار الجيدة! 132

الخوف من الحرية! 132

خوف العبيد من التحرر! 133

خوف الموظفين من التسريح! 133

الخوف من التغيير 134

العلاج الأساس للفوبيا هو المواجهة! 134

الهلع من تأسيس المنظمات الشبابية بالجامعة 136

الخوف من الزواج المبكر! 136

ملحق: أنواع غريبة من الهول والخوف والفوبيا 138

ثالث دعائم الشك: التردّد 141

معنى «فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ» 141

تفسيران: التردد في الأمر، والتردد في الذهاب والإياب 141

توضيح الفارق بين التفسيرين 143

محتملات «وَمَنْ تَرَدَّدَ فِي الرَّيْبِ وَطِئَتْهُ سَنَابِكُ الشَّيَاطِينِ» 145

من الحقائق المفتاحية حول الشك والريب 145

الشك إما عقلي وعلمي أو نفسي وقلبي 146

ضرورة تحليل سيكولوجية الفلاسفة والمفكرين 147

لمحة عن أفكار وحياة نيتشه الفيلسوف الشهير 148

شخصيته ومكانته 148

بعض أفكاره وآرائه 149

الخلفية السيكولوجية المأساوية لأفكار نيتشه المتطرفة 155

ص: 270

المحطة الثالثة: (الخلفية النفسية لآرائه المأساوية) 155

تحليل بعض الفلاسفة والمفكرين لنفسية نيتشه 156

المحصّلة 157

رابع دعائم الشك: الاستسلام للاقوى والتقمص لشخصيته 158

المحاكاة 159

التقليد / التقمُّص 160

تقمّص الكفار لشخصيات آباءهم 161

إذا كانوا شكاكاً فكيف يكونون كافرين؟ 162

فلسفة وجوب اليقين في أصول الدين 163

الفرق بين الإسلام والاستسلام 164

أنواع الاستسلام للمُهلِكات / الاستسلام للموضة وسحر الأفكار الوافدة 166

الجمهور الذي كان يردد كافة أقوال الخطيب! 168

الاستسلام للخبراء في غير حقل تخصصهم / هوكينج مثالاً 169

وكذلك الرجوع للعلماء في كل شيء! 170

الاستسلام للأدلة الجدلية المضادة للبيّنات البرهانية 171

مرجع (الوحدة في عين الكثرة) إلى جمع الضدين أو النقيضين 172

الاستحالية العقلية لالتقاط الصور بآلة التصوير! 173

الفصل السادس

الحلول المفتاحية لظاهرة التشكيك / 177

الحلول المفتاحية لظاهرة التشكيك 179

أولاً: الاستعانة ب(ضياء اليقين) لدحر ظلمة الشبهات 179

ص: 271

أ - الانطلاق من اليقينيات لدكّ معاقل الشبهات! 180

1- شبهة الجبر: المخ هو الذي يتخذ القرار قبل الإنسان! 180

الجواب: القرار للروح، والمخ آلة 181

2- شبهة الشرير الذي زرع في مخِّنا جهاز الوهم! 182

الأحلام التي نتصورها حقيقةً، دليلٌ 182

كيف نتخلص من هذه الشبهة بنور اليقين؟ 183

لمحة عن جهلنا بحقيقة الروح والنوم والأحلام 184

أَزِحْ ظلامَ شبهةِ الأحلام بنورِ حقيقةِ اليقظة! 185

ب - اتخاذ الكلّيات منطلقاً لإزاحة الشبهة في الجزئيات 186

1) كُن إما مجتهداً أو مقلداً ولا تكن جاهلاً مجتهداً! 187

2) علم أصول العمل 189

أصالة الإقدام أو أصالة الإحجام؟ 189

فلسفة أصالة الإقدام 191

من ضوابط أصالة الإقدام 192

ج - اتخاذ النتائج طريقاً لإزاحة الظُلَم عن عالم العلل 193

إشارة إلى المقدمات التي تنتهي إلى وحدة الموجود 194

كيف انتجت (أصالة الوجود ومشكّكيّته و...) وحدة الموجودات؟ 195

وهل يعقل أن يكون ما عينُه الفقر والحاجة، إلهاً؟ 197

تلخيص وإضافة لمثالين هامّين 198

مقياس إدبار الدول: تقديم الأراذل وتأخير الأفاضل! 198

مقياس إكتشاف ديمقراطية الحكومات أو استبدادها 200

ص: 272

ثانياً: الاستدلال ب-(سَمْتُ اَلْهُدَى) 201

أ - سَمْتُ اَلْهُدَى: جهة اَلْهُدَى، كجهة الكعبة 202

والرسول وأهل بيته هم سَمْتُ الهدى وجهته 202

ب - سمت الهدى: طريق الهدى والحركة فيه 204

مرجعية طريق الرواية والدراية 204

كيف تعرف منزلتك والآخرين لدى الرسول والمعصومين (علیهم السلام)؟ 205

مرجعية (احْتَجْ إِلَى مَنْ شِئْتَ تَكُنْ أَسِيرَهُ) 207

الاقتراض من الخارج، تبعية وإسارة 207

الاستعانة بخبراء الخارج، خطورة كامنة 208

أعمدة اليقين: الفطنة، الحكمة، العبرة 209

وسنة الأولين 209

الفصل السابع

ناظرية الروايات إلى تفسير الآيات / 211

أ- الفِطنة طريق النجاح والفلاح 212

ب - الحِكْمَةِ من دعائم اليقين 213

التعامل مع الانتقاد بحكمة وانشراح وفعالية 213

ج - العِبْرَةِ تعبر بك إلى الأعماق والأسرار والحقائق 215

د - السُّنَّةَ: الماضي كمرآة للمستقبل 215

تاريخ بني إسرائيل دليلنا إلى مستقبل الأمة 216

مُربّع الفِطْنَةِ والحِكْمَةِ والعِبْرَةِ والسُّنَّة 218

معنيان ل«الْيَقِينُ عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ» 218

ص: 273

أولاً: تبصرة الفطنة: الفطنة المبصِّرة 219

كما لا تُنال الدنيا إلا بالفطنة والفهم، لا تنال الآخرة كذلك 219

الواجب السعي للتحلِّى بالفطنة والفهم 220

شواهد على مفتاحية تبصرة الفطنة في حصول اليقين 221

المثال الأول: التفكر في ذات الله 221

المثال الثاني: شاخص الحرية والديمقراطية في شتى البلاد 224

أ - نقد الصحف للحاكم الأعلى باستمرار 225

ب - تغيير المسؤولين والحاكم الأعلى، باستمرار 225

المثال الثالث: مسارات الأحداث ومآلاتها 226

قصة الثائر بالمدينة الذي فاجأ الجميع بالبصرة! 227

إذا جهلنا دهاليز السياسة وخفايا المؤامرات، هُزمنا 229

ثانياً: تأول الحِكْمةَ، ومعانيها 230

1- العلم الرادع عن القبيح 230

2- وضع الشيء موضعه 230

3 -4 - القرآن والسنة والإمام وطاعته 230

المراد ب«تَأَوُّلِ الْحِكْمَةِ» 231

الحكمة وعلم المستقبل 231

دروس وعبر من نهضة اليابان بعد الدمار الشامل 232

(توكو جاوا) الحاكم المستبد 232

(موتسو هيتو) الحاكم الإصلاحي وركائز إصلاحاته 233

أ - إنهاء حكم الطبقة العسكرية والساموراي 233

ص: 274

ب - إصلاح جذري لنظام التعليم 233

مناهج المدارس في السعودية والعراق مثالاً 234

تجربة مدارس علوي وإرسال وفد لليابان 235

ج - إصلاح النظام الإداري 236

علم الإدارة علم حيوي ومعقد 236

د - إصلاح نظام الشرطة 237

ه- - إيجاد اتحاد بين الدولة ومؤسسات المجتمع المدني 238

نموذج من الإدارة الكارثية الأمريكية لليابان 238

عيّنة من الإدارة الكارثية الأمريكية للعراق 239

من نتائج السياسات الإصلاحية في اليابان 240

فهذا هو الداء في بلادنا وهذا هو الدواء! 241

ثالثاً: سُنَّة الأوَّلِين والانثروبولوجيا 242

المحطة الأولى: الأصالة والتجميد أو الحداثة والتجديد؟ 242

أصالة سُنَّة الأوَّلين 242

السُنَّة تعني: سيرة العقلاء والمتشرعة 242

سُنَّةُ الأوَّلين مرجعيةٌ للحصول على اليقين 243

شواهد من مرجعية سُنَّة الأوَّلين 244

أ - الحيازة مملّكة 244

ب - ج - حجية خبر الثقة وقول أهل الخبرة 244

د - حجية الظواهر لغير المخاطَب أيضاً 244

مناقشة صاحب القوانين 245

ص: 275

ه- - قوّامية الرجل على المرأة 245

و - ظلوم غشوم خير من فتنة تدوم 246

السلطة العليا لمن؟ 247

النائيني: منشأ طريقة العقلاء: السلطان أو النبي أو الفطرة 248

المناقشة:

1 - منشأ الطريقة العقلائية نوح أو آدم 249

2 - المنشأ هو العقل 249

المحطة الثانية: الانثروبولوجيا وسُنَّة الأولين 250

أنواع علوم الانثروبولوجيا 250

الوالد (قدس سره): السلم أحْمَدُ عاقبة 251

بُرنا: أقول إنهم أناس طيبون! 251

وهابيوا لندن يضربون المستبصرين! 252

العالِم لأطفاله: يمكن أن اضربكم! 254

كيف يوصلنا علم الانثروبولوجيا لليقين؟ 255

كيف نقارع نظرية دارون؟ 256

فهرس المصادر 259

الفهرس 263

كتب أخرى للمؤلف 277

ص: 276

كتب أخرى للمؤلف

1. أضواء على حياة الإمام علي (علیه السلام)، مطبوع.

2. التصريح باسم الإمام علي (علیه السلام) في القرآن الكريم، مطبوع.

3. لماذا لم يصرح باسم الإمام علي (علیه السلام) في القرآن الكريم؟، مطبوع.

4. استراتيجيات إنتاج الثروة ومكافحة الفقر في منهج الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام)، مطبوع.

5. شعاع من نور فاطمة الزهراء (عليها السلام)، دراسة عن القيمة الذاتية لمحبة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، مطبوع.

6. تجليات النصرة الإلهية للزهراء المرضية عليها السلام، مطبوع.

7. لمحات من حياة الإمام الحسن (علیه السلام)، مطبوع.

8. شرعية وقدسية ومحورية النهضة الحسينية (علیه السلام)، مطبوع.

9. المرابطة في زمن الغيبة الكبرى، مطبوع.

10. السيدة نرجس (عليها السلام) مدرسة الأجيال، مطبوع.

11. دروس وعبر من الكلمات القصار من نهج البلاغة، مخطوط.

12. بحوث في العقيدة والسلوك، مجموعة محاضرات على ضوءالآيات القرآنية الكريمة، ألقيت في الحوزة الزينبية وفي النجف الأشرف، مطبوع.

13. إضاءات في التولي والتبري، مطبوع.

14. دروس في أصول الكافي - الجزء الأول كتاب العقل والجهل، مخطوط.

ص: 277

15. كونوا مع الصادقين، بحوث تفسيرية في الآية الشريفة «كونوا مع الصادقين»، مطبوع.

16. لمن الولاية العظمى؟ مطبوع.

17. توبوا إلى الله، مطبوع.

18. شرح دعاء الافتتاح، مخطوط.

19. بصائر الوحي في الإمامة، مطبوع.

20. سوء الظن في المجتمعات القرآنية، مطبوع.

21. مقتطفات قرآنية، مطبوع.

22. مناشئ الضلال ومباعث الانحراف، مطبوع.

23. ملامح النظرية الإسلامية في الغنى والثروة والفقر والفاقة، بحث عن هندسة اتجاهات الفقر والغنى في المجتمع، مطبوع.

24. مقاصد الشريعة و مقاصد المقاصد اللين والرحمة نموذجاً، مطبوع.

25. شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية بحث اصولي فقهي على ضوء الكتاب والسنة والعقل ، مطبوع

26. رسالة في قاعدة الإلزام، تقريرات دروس الخارج في الحوزة العلمية في النجف الأشرف، مخطوط.

27. فقه التعاون على البر والتقوى، مطبوع.

28. فقه الخمس، تقرير دروس الخارج في الحوزة العلمية الزينبية، مخطوط.

29. فقه المكاسب مباحث البيع، مخطوط.

30. فقه المكاسب المحرمة - حفظ كتب الضلال ومسببات الفساد، مطبوع.

ص: 278

31. فقه المكاسب المحرمة - مباحث الرشوة، مطبوع.

32. فقه المكاسب المحرمة - حرمة الكذب ومستثنياته، مطبوع.

33. فقه المكاسب المحرمة - رسالة في التورية موضوعاً وحكماً، مطبوع.

34. فقه المكاسب المحرمة - رسالة في الكذب في الإصلاح، مطبوع.

35. فقه المكاسب المحرمة - احكام اللهو واللغو واللعب وحدودها، مطبوع.

36. فقه المكاسب المحرمة - رسالتان في النجش والدراهم المغشوشة، مطبوع.

37. فقه المكاسب المحرمة - مباحث النميمة، مخطوط.

38. رسالة في الحق والحكم التعريف والضوابط والاثار، مخطوط.

39. الاجتهاد في أصول الدين، مخطوط.

40. الأصول مباحث القطع، مخطوط.

41. الأوامر المولوية والإرشادية، مطبوع.

42. بحوث تمهيدية في الاجتهاد والتقليد، تقريرات دروس الخارج في الحوزة العلمية في النجف الاشرف، مطبوع.

43. التبعيض في التقليد، مخطوط.

44. تقليد الأعلم وحجية فتوى المفضول، مطبوع.

45. التقليد في مبادئ الاستنباط، مطبوع.

46. الحجة؛ معانيها ومصاديقها، مطبوع.

47. حجية مراسيل الثقات المعتمدة (الصدوق والطوسي قدس سرهما نموذجاً)، مطبوع.

ص: 279

48. رسالة في أجزاء العلوم ومكوناتها، مطبوع.

49. رسالة في فقه مقاصد الشريعة، مخطوط.

50. فقه الرؤى، دراسة في عدم حجية الأحلام على ضوء الكتاب والسنة والعقل والعلم، مطبوع.

51. مباحث الأصول، التعادل والتراجيح، مخطوط.

52. مباحث الأصول، رسالة في الحكومة والورود، مخطوط.

53. المبادئ التصورية والتصديقية للفقه والأصول، مطبوع.

54. المبادئ والضوابط الكلية لضمان الإصابة في الأحكام العقلية،مخطوط.

55. رسالة في نقد الكشف والشهود، مخطوط.

56. نسبية النصوص والمعرفة... الممكن والممتنع، مطبوع.

57. نقد الهرمينوطيقا ونسبية الحقيقة والمعرفة واللغة، مطبوع.

58. مدخل إلى علم العقائد، نقد النظرية الحسية، مطبوع.

59. ملامح العلاقة بين الدولة والشعب، مطبوع.

60. معالم المجتمع المدني في منظومة الفكر الإسلامي، مطبوع.

61. الخط الفاصل بين الأديان والحضارات، مطبوع.

62. الحوار الفكري، مطبوع.

63. الوسطية والاعتدال في الفكر الإسلامي، مطبوع.

64. قاعدة اللطف، مخطوط.

65. التبعيض في التقليد، مطبوع

66. اهدنا الصراط المستقيم، مطبوع.

ص: 280

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.