السَيَّرة يرجين
عليها السلام مَدَرَسَة الأجيال
السيد مرتضى الشيرازي
ص: 1
السيدة نرجس سلام الله علیها
مدرسة الأجیال
*الكتاب : السيدة نرجس عليها السلام مدرسة الأجيال
* المؤلف : السيد مرتضى الشيرازي
*الناشر : مركز الرسول الأعظم (صلی الله علیه وآله) للتحقيق والنشر
*الطبعة : الأولى 1418 ه- 1997 م. بيروت - لبنان
*مكتبة جنان الغدير الكويت بنيد القار - ت : 2560442 - ص.ب 11389
ص: 2
السيدة نرجس عليها السلام
مدرسة الأجيال
السید مرتضی الشیرازی
مکتبة جنان الغدیر
الکویت - بنید القار
ص: 3
بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ
اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ
وَصَلَّى اَللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَاهِرِین
وَلَعْنَةُ اَللَّهِ عَلَى أَعْدَائِهِمْ أَجْمَعِينَ
ص: 4
بسم الله الرحمن الرحيم
أحبته محبة روحانية سامية قبل ان تراه..
ورفرف قلبها كلما تردد اسمه أمامها ..
كانت المسافة بين القلبين رحلة ثلاثين يوماً بلياليها.
هي في بلاد الروم وهو في سر من رأى.
هي ابنة يوشع ابن قيصر ملك الروم، وهو ابن علي الهادي بن الجواد عليهم السلام.
أبعد من الصدفة ان تلتقي هذه هذا !! و ان تتزوج أميرة الروم وحفيدة قيصر حامي حمى النصارى ابن الامام الهادي علیه السلام الحامي حمى الإسلام.
أبعد من الصدفة ان تتزوج نرجس في سامراء وهي التي تقاطر على باب قصرها الأمراء .
ص: 5
أبعد من الصدفة .. لكن في قدرة الله يتبدد المستحيل فحيف بالصدفة.
وتهوي القوانين والسنن لأنه هو الذي أوجدها للانسان.
وهكذا تجري الحكمة الإلهية..
بذرة من أقاصى الأرض ..
وأخرى من أدنى الأرض.
وتلتقيان ..
ثم يكون الغرس.
وما أعظمه من ثمر لازال يعطي أكله حتى يومنا هذا، و حتى آخر يوم من حياة كرتنا الارضية..
رأته مرة في منامها وكان عمرها بعمر الورود، ورأت نفسها كيف تدنو منه، وكيف وضع السيد المسيح علیه السلام يدها بيده بعد ان أتم زواجها وأسلمت ببركة رسول الاسلام صلى الله عليه وآله .
حلم يراود كل فتاة تبحث عن فارس احلامها، لكن رؤيا نرجس كانت تختلف عن رؤيا رفيقاتها الفتيات المراهقات اللواتي في سنها.
لم يكن حلمها رؤيا، بل كان وعداً.
فظلت تحث الخطى.
كانت هناك قوى عظمى تجذبها اليها.. وكانت تستسلم لتلکالقوة، لانها كانت على موعد مع قدرها .
ص: 6
تركت قصرها العظيم.. وفرت من حياة الدلال والترف وحشرت نفسها داخل جيش النصارى الذاهب لقتال المسلمين، مرتدية ملابس الخدم حتى لا يعرفها احد ...
وينهزم جيش النصارى و تنكس راية جدها وابيها وتقع اسيرة بيد المسلمين.
ويصل الخبر من الغيب الى الامام الهادي علیه السلام فيبعث احد اصحابه ممن يتاجر في الرقيق ليشتريها، ويسرع الرسول ويخرج من جيبه رسالة كتبها الامام بالرومية، و ما ان قرأته حتى ادركت انها قد بلغت مقصودها..
فكان اللقاء العظيم الذي كتب في التاريخ انشودة الخلود.
كانت ثمرة ذلك اللقاء: مولود هو افضل من على وجه الارض بهاءً وكمالاً..
انه المهدي المنتظر (عج الله تعالی فرجه الشریف) ..
الموعود في عالم الغيب..
و هل هناك موعود اعظم منه ؟
وهو الموعود في السماء لأهل الأرض ان يملأ الأرض قسطاً و عدلاً بعد ان ملئت ظلماً و جورا..
وهذا الكتاب - رغم عدم وجود المصادر التاريخية عند المؤلف، حيث كتبه العلامة السيد مرتضى الشيرازي في الأشهر الأخيرة من
ص: 7
اعتقاله في السجن - يشتمل على استنتاجات هامة هذه الأحداث التاريخية ويحتوي على دروس كثيرة تضيء الدرب لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً ، فان(السيدة نرجس مدرسة الأجيال) وهي خير أسوة للنساء والرجال.
مركز الرسول الأعظم (صلی الله علیه وآله) للتحقيق والنشر
بيروت لبنان 1418 ه 1997م
ص: 8
بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ
اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ
اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ مَالِكَيومُ اَلدِّينِ
إِيَّاكَ نَعبُدُ وَإيَّاكَ نَستَعينُ
اِهْدِنَا اَلصِّرَاطَ اَلْمُسْتَقِيمَ
صِرَاطُ اَلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ
غَيرِ المَغضوبِ عَلَيهِم وَلا الضَّالِّينَ
ص: 9
بسم الله الرحمن الرحيم
السَّلامُ عَلَىٰ رَسُولِ اللّٰهِ صَلَّى اللّٰهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ الصَّادِقِ الْأَمِينِ، السَّلامُ عَلَىٰ مَوْلانا أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، السَّلامُ عَلَى الْأَئِمَّةِ الطَّاهِرِينَ الْحُجَجِ الْمَيامِينِ، السَّلامُ عَلَىٰ والِدَةِ الْإِمامِ، وَالْمُودَعَةِ أَسْرارَ الْمَلِكِ الْعَلَّامِ، وَالْحامِلَةِ لِأَشْرَفِ الْأَنامِ، السَّلامُ عَلَيْكِ أَيَّتُهَا الصِّدِّيقَةُ الْمَرضِيَّةُ، السَّلامُ عَلَيْكِ يَا شَبِيهَةَ أُمِّ مُوسىٰ وَابْنَةَ حَوارِيِّ عِيسىٰ، السَّلامُ عَلَيْكِ أَيَّتُهَا التَّقِيَّةُ النَّقِيَّةُ، السَّلامُ عَلَيْكِ أَيَّتُهَا الرَّضِيَّةُ الْمَرْضِيَّةُ،السَّلامُ عَلَيْكِ أَيَّتُهَا الْمَنْعُوتَةُ فِي الْإِنْجِيلِ، الْمَخْطُوبَةُ مِنْ رُوحِ اللّٰهِ الْأَمِينِ، وَمَنْ رَغِبَ فِي وُصْلَتِها مُحَمَّدٌ سَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ، وَالْمُسْتَوْدَعَةُ أَسْرَارَ رَبِّ الْعالَمِينَ؛ السَّلامُ عَلَيْكِ وَعَلَىٰ آبائِكِ الْحَوارِيِّينَ، السَّلامُ عَلَيْكِ وَعَلَىٰ بَعْلِكِ وَوَلَدِكِ، السَّلامُ عَلَيْكِ وَعَلَىٰ رُوحِكِ وَبَدَنِكِ الطَّاهِرِأَشْهَدُ أَنَّكِ أَحْسَنْتِ الْكَفالَةَ، وَأَدَّيْتِ الْأَمانَةَ، وَاجْتَهَدْتِ فِي مَرْضاةِ اللّٰهِ، وَصَبَرْتِ فِي ذاتِ اللّٰهِ،
ص: 10
اللّٰهِ، وَحَفِظْتِ سِرَّ اللّٰهِ، وَحَمَلْتِ وَلِيَّ اللّٰهِ، وَبالَغْتِ فِي حِفْظِ حُجَّةِ اللّٰهِ، وَرَغِبْتِ فِي وُصْلَةِ أَبْناءِ رَسُولِ اللّٰهِ، عارِفَةً بِحَقِّهِمْ، مُؤْمِنَةً بِصِدْقِهِمْ، مُعْتَرِفَةً بِمَنْزِلَتِهِمْ، مُسْتَبْصِرَةً بِأَمْرِهِمْ، مُشْفِقَةً عَلَيْهِمْ، مُؤْثِرَةً هَواهُمْ،وَأَشْهَدُ أَنَّكِ مَضَيْتِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِكِ مُقْتَدِيَةً بِالصَّالِحِينَ راضِيَةً مَرْضِيَّةً تَقِيَّةً نَقِيَّةً زَكِيَّةً فَرَضِيَ اللّٰهُ عَنْكِ وَأَرْضاكِ، وَجَعَلَ الْجَنَّةَ مَنْزِلَكِ وَمَأْوَاكِ، فَلَقَدْ أَوْلاكِ مِنَ الْخَيْراتِ مَا أَوْلاكِ، وَأَعْطاكِ مِنَ الشَّرَفِ مَا بِهِ أَغْناكِ، فَهَنَّأكِ اللّٰهُ بِما مَنَحَكِ مِنَ الْكَرامَةِ وَأَمْرأَكِ..اللّٰهُمَّ إِيَّاكَ اعْتَمَدْتُ، وَ لِرِضاكَ طَلَبْتُ، وَبِأَوْلِيائِكَ إِلَيْكَ تَوَسَّلْتُ، وَعَلَىٰ غُفْرانِكَ وَحِلْمِكَ اتَّكَلْتُ، وَبِكَ اعْتَصَمْتُ، وَبِقَبْرِ أُمِّ وَلِيِّكَ لُذْتُ، فَصَلِّ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَانْفَعْنِي بِزِيارَتِها، وَثَبِّتْنِي عَلَىٰ مَحَبَّتِها، وَلَا تَحْرِمْنِي شَفاعَتَها وَشَفاعَةَ وَلَدِها، وَارْزُقْنِي مُرافَقَتَها، وَاحْشُرْنِي مَعَها وَمَعَ وَلَدِها، كَما وَفَّقْتَنِي لِزِيارَةِ وَلَدِها وَزِيارَتِها اللّٰهُمَّ إِنِّي أَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِالْأَئِمَّةِ الطَّاهِرِينَ، وَأَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِالْحُجَجِ الْمَيامِينِ مِنْ آلِ طٰهَ وَيس أَنْ تُصَلِّيَ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ الطَّيِّبِينَ، وَأَنْ تَجْعَلَنِي مِنَ الْمُطْمَئِنِّينَ الْفائِزِينَ الْفَرِحِينَ الْمُسْتَبْشِرِينَ الَّذِينَ لَاخَوْفٌ
ص: 11
عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، وَاجْعَلْنِي مِمَّنْ قَبِلْتَ سَعْيَهُ، وَيَسَّرْتَ أَمْرَهُ، وَكَشَفْتَ ضُرَّهُ، وَآمَنْتَ خَوْفَهُ؛اللّٰهُمَّ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ صَلِّ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَلَا تَجْعَلْهُ آخِرَ الْعَهْدِ مِنْ زِيارَتِي إِيَّاها، وَارْزُقْنِي الْعَوْدَ إِلَيْها أَبَداً مَا أَبْقَيْتَنِي، وَ إِذا تَوَفَّيْتَنِي فَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَتِها، وَأَدْخِلْنِي فِي شَفاعَةِ وَلَدِها وَشَفَاعَتِها، وَاغْفِرْ لِي وَ لِوَالِدَيَّ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ، وَآتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا بِرَحْمَتِكَ عَذَابَ النَّارِ، وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ يَا سَادَاتِي وَرَحْمَةُ اللّٰهِ وَبَرَكاتُهُ.
ص: 12
السيدة نرجس (مليكة) ابنة يشوعا بن قيصر إمبراطور الروم.
تنتمى من جهة الأم إلى شمعون وصي السيد المسيح علیه السلام.
ولدت في عاصمة الأمبراطورية الرومية، قبل عام 240 هجرية.
هاجرت متنكرة مع عدد من ،وصائفها، من مسقط رأسها وتعرضت للأسر، حتى وفدت إلى دار الإمام الهادي علیه السلام في سامراء (سر من رأى).
تكفلت بتربيتها السيدة حكيمة (سلام الله عليها )ابنة الإمام الجواد علیه السلام.
تزوجت من الإمام الحسن العسكري علیه السلام وهي في مقتبل العمر وربيع الشباب.
ولدت الإمام القائم المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) في ظروف شديدة السرية سحر 15 شعبان عام 255 ه.
تنوعت اساميها وتعددت ، نظراً للظرف السياسي .. الأمنى الدقيق، فكان من اسمائها : مريم ، حكيمة ، صقيل ، سبيكة،نرجس، سوسن، حديثة ، ريحانة ، خمط واسمها الحقيقي: مليكة
ص: 13
القي القبض عليها ووضعت تحت الرقابة الصارمة لفترات طویلة.
تميزت بالشجاعة والحكمة والصمود والكتمان والمثالية .
توفيت ، بعد وفاة الإمام العسكري علیه السلام ولم يحدد لنا التاريخ(1) الزمن الدقيق .
ص: 14
*المقدمة(1)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله كما هو أهله والشكر الله كما ينبغي له، والصلاة والسلام على رسوله (صلی الله علیه وآله) وعلى آله الطيبين الطاهرين، واللعنة على أعدائهم اجمعين إلى يوم الدين .
قبل سنين عصفت بنا عاصفة من الرزايا والمحن، وتضايقت علينا حلقات البلاء، وأحسست بان أمواج المتاعب السياسية والمصاعب الاقتصادية تزداد عتوا وقوة ، ففكرت في التوسل إلى الله تعالى والتقرب إليه بأحب الخلق إليه - بعد آبائه الطاهرين (2)- من بيمنه رزق الورى وبوجوده ثبتت الأرض والسماء (3)وجبل الله المتين
ص: 15
وصراطه المستقيم(1)، الإمام الثاني عشر الحجة بن الحسن صاحب الزمان وخليفة الرحمان (عجل الله تعالى فرجه الشريف).
وتذكرت عندها كلمة قيمة لأحد كبار الخطباء حيث قال: إذا أردت نجح طلبتك وقضاء حاجتك فتوسل إلى المعصومين (علیهم السلام) بأمهاتهم وشفعهن لديهم، وهل يمكن ان يرد المعصومون عليهم السلام هذه الشفاعة ؟!.
فحدثت نفسي عند ذاك : بان اتخذ من( كتابة كتاب عن حياة السيدة نرجس عليها السلام)مدخلا لانجاح طلبتي، وبوابة اطمح عبرها ان يشملنا ولي الله الأعظم (عج الله تعالی فرجه الشریف) بدعوة منه صالحة وبوساطة منه منجزة لدن الإله الرؤوف الرحيم الجواد الكريم ...
وبالفعل بدأت بالكتاب ، الا انني توقفت عند نهاية الصفحة الاولی!
فقد تملكتني الحيرة: ما الذي اكتبه عن حياة السيدة (علیها السلام) بحيث لا يكون نسخة مكررة من كتابات الآخرين ، فقررت عندها ان اعتمد الأسلوب القصصي، (التوصيفي) ولكن - ومع الأسف الشديد - فان تياراً من المشاكل الجديدة فاجأنا فحال دون ان أمضي في معالجة الأبواب المغلقة بذلك ( المفتاح الغيبي) البسيط جدا والهام جدا.
ص: 16
... ومضت الأشهر والسنين، وتتطور الأزمة السياسية لتتمخض عن: اعتقال العديد من خيرة الأصدقاء ، ثم اعتقالي أنا بعدهم بأيام مقرونا ذلك بنذر موحشة وإرعاد وإبراق (1)وأحداث لا مجال للحديث عنها ألان.
وتمضي علينا - في السجن الانفرادي - الأسابيع ثم الأشهر.
[وتساورني طوال تلك الأشهر هواجس مختلفة، وتعتصرني هموم كثيرة دنيوية وأخروية، وأجد السجن فرصة سانحة للابتهال إلى الله عز وجل والتضرع إليه للاستجابة -بفضله وكرمه وبحرمة آل الرسول (عليهم السلام) - لاكثر من خمسين حاجة عاجلة وآجلة كان في طليعتها : تعجيل فرج الإمام الحجة (عج الله تعالی فرجه الشریف) وان نوفق لنكون من خلّص خدمه وأعوانه وأنصاره والمجاهدين والمستشهدين بين يديه، وان يتفضل الله علينا بان نرى الحق حقا ،ونتبعه، والباطل باطلاً،ونتجنبه وان نقدم اكبر خدمة للتشيع ، وان نحظى بشفاعة الإمام الحسين علیه السلام وان نسقى من حوض الكوثر من يد الإمام أمير المؤمنين علیه السلام وان نكون قمة في العلم والعمل بالكتاب والعترة(2)، وان
ص: 17
نكون الله دوما من الشاكرين ، وان محل كافة مشاكلنا ومشا کلشيعة أهل البيت (علیهم السلام) بمختلف ألوانها وأشكالها وان يفرج الله عناعاجلا فاضلا و...
وتوشك سنة كاملة على الانقضاء(1) واحصل قبلها بقليل على أوراق وقلم فافرغ قسما من الوقت للكتابة حول مباحث متنوعة: حول أدعية مختارة من "الصحفية السجادية " أو من"مفاتيح الجنان" وعن بحوث ولائية وعقائدية أخرى](2).
وأتذكر في رجب 1417 ه-، وقد مضى على الاعتقال حوالي السنة والشهر ذلك العهد المنسي فاقرر- مستعينا به تعالى ومتوسلا بالسيدة نرجس (علیها السلام) كي أوفق لإنجاز المشروع، ومتشفعا بها وبالإمام الحجة (عج الله تعالی فرجه الشریف) للتوسط لدى الله عز وجل لقضاء تلك الحوائج - ان اكتب رغم انعدام المصادر في السجن .
وبعد اجالة الرأي رأيت انه قد تكون الطريقة المثلى هي: ان اعتبر زيارة والدة الإمام القائم (عج الله تعالی فرجه الشریف) المذكورة في "مفاتيح الجنان" بمثابة المرشد والموجه لكثير من البحوث الأساسية (3) ثم بعد ذلك : عمدت إلى الدمج : بين( الأسلوب العلمي التحليلي) و ( المنهج القصصي)
ص: 18
و (الزخرفة التصويرية) أو ( الأدب التصويري) وركزت على (استلهام عبر ودروسحيوية)،وعلى تسليط الأضواء على العديد من الجوانب التربوية والفكرية والنضالية في هذه المدرسة الربانية، قال تعالى: (لقد كان في قصصهم عبرة لاولى الالباب)(1) .
واقتصرت - رعاية للأمانة - من القصص التاريخية عن حياتها (عليها السلام) على القدر الذي كنت واثقاً منه اعتماداً على الحافظة المجردة، وتركت بقية القصص ريثما يوفقني الله تعالى للإكمال عند ما اخرج من السجن، وتتاح لي المصادر ، وربما يضاف عندها إلى الكتاب مثلما كتبت أو اقل او اكثر بقليل (2).
ولربما عانى الكتاب من بعض المد والجزر والتأرجح بين( الأسلوب القصصي المبهج ) وبين ( الأسلوب العلمي المعقد إلى حدما) ، ولعل
ص: 19
ذلك يعود إلى طبيعة البحوث وعملية الدمج تلك ، و إلى الظروف الجسمية والروحية التي يعيشها السجين في غرفة ضيقة مقرونة بضغوط عديدة، مخلفا ورائه اكثر من سنة، محدقاً في المستقبل
المجهول!.
ص: 20
*المدخل(1)
لكي نعرف من هي السيدة نرجس عليها السلام علينا ان نتأمل بعمق الكلمات التالية التي تعد عوالم وآفاق مضغوطة في الفاظ تكشف عن بعض تجليات السيدة والدة الإمام المنتظر (عجل الله تعالى فرجه) .
فهي( عليها السلام ):مشعل هداية على طريق البشرية وشمس مشرقة في أفق الحياة ...
وهي( عليها السلام) مدرسة غنية بالتجارب مفعمة بالعبر، مليئة بالدروس...
ص: 21
وهي (عليها السلام):معهد تربوي يفيض بالعطاء ، ويموج ،بالولاء، ويشمخ بالشمم وإلاباء...
وهي(عليها السلام) : ذلك المنهل العذب ،والشراب الطهور، والينبوع المتفجر الذي يهذب الأخلاق ويصقل النفوس ويغسل درن الأرواح.
انها (عليها السلام) : رمز ،بطولة ومسيرة حياة ، ومنهج نضال .
انها (عليها السلام): الامتداد الرسالي لحواريي النبي عيسى روح الله علیه السلام.
انها(عليها السلام):التجسيد العملي للهجرة الكبرى من سلطان الجسد إلى عالم الروح،ومن زخارف الحياة الدنيا إلى مدارج عوالم الملكوت ...
انها(عليها السلام):الأنموذج الذي يلهمنا الصبر والصمود ويعلمنا استخدام سلاح الكتمان في مواجهة عيون الطاغوت ورصده، والمثال الذي يشحذ الهمم لمواصلة المسيرة رغم الأعاصير الهوجاء في معترك فتن الأصدقاء ومحن الأعداء.
ان حياة السيدة مليكة نرجس (علیها السلام)تکشف عن سلسلة متکاملةمن المناقبيات والروحانيات :
عن: الدعوات والابتهالات.
ص: 22
وعن: التوكل على الله وتفويض الأمر إليه في كافة منعطفات الحياة .
وعن : عطاء متواصل ينبعث عن ولاء متكامل .
وعن : مسيرة جهادية حافلة تسجل واحدة من أروع الملا حم على مر التاريخ...
إنها (عليها السلام)رمز انتصار الأقلية الصالحة على جحافل الضلال ، ومظهر من مظاهر النصر الإلهي المحتوم، والأسوة والقدوة في شتى الأبعاد.
.. وعلى الصفحات القادمة نلتقي معا لننهل من هذا المنهل العذب الفرات ، ولنرتوي من عين الحياة.
ص: 23
ص: 24
ص: 25
ص: 26
*الاختيار الإلهي(1)
في مجاهيل السرمدية، ومنذ الأزلية كانت تلك "المرأة الخالدة"(الانتخاب الإلهي الكبير،وكانت (الوحيدة)من بين كافة سكان الكرة الأرضيةالتي (اختارها)رب العالمين للاضطلاع بواحدة من بين اعظم المسئوليات الإلهية الكبرى التي يدور مدارها، لا مصير سكان الأرض فحسب، بل مصير كافة العوالم والمخلوقات الإلهية على الإطلاق.
فلقد اطلع الله تعالى - بعلمه الأزلي المحيط-على كافة ما يضمره الغيب ويلفه العدم حينذاك ،واختار - بحكمته النافذة في عمق الأشياء والعلائق والترابطات والتي لا يعقل ان تزيغ قيد شعرة عن ( وضع الأشياء مواضعها) - من بين كل المخلوقات تلك المرأة المعجزة، التي حظيت بذلك الوسام الرباني العظيم و ( الثقة) والعناية الإلهية الكبرى.
انها والدة خاتم الأوصياء(2) والحبل المتصل بين الأرض والسماء ومن بیمنه رزق الورى وبوجوده ثبتت الأرض والسماء(3).
ص: 27
انها( السيدة نرجس حفيدة قيصر ملك الروم) !.
وهل يعقل ان يكون الاختيار الإلهي إلا نابعاً عن حكمة لا متناهية؟.
وهل يمكن ان يكون انتخاب الله جل وعلا لتلك المرأة الخالدة من بين كافة نساء الأرض، لتكون أم الإمام المنتظر (عج الله تعالی فرجه الشریف) والمؤتمنة عليه والكفيلة به هل يمكن ان يكون ذلك دون العلم الشامل المحيط بأنها( اكفأ وافضل)؟ من يصلح لذلك المجد العظيم الخالد والشرف الكبیر الأبدي؟! ودون امتلاكها لسلسلة من المواصفات والمزايا الفريدة؟.
وهل يعقل ان تنعقد نطفة ولي الله الأعظم (عج الله تعالی فرجه الشریف) من غير والد كالإمام الحسن العسكري علیه السلام ومن غير والدة كالسيدة نرجس (علیها السلام).
وإذا كانت الجينات الوراثية بما تحمله من خصائص، تترك بصماتها على الوليد مدى الحياة و إذا كان الجنين(يتغذى) طوال تسعة اشهر من والدته مباشرة، و إذا كانت (الحالات الجسمية والروحية) للوالدة، ذات تأثير كبير - سلباً أو أيجاباً - على الحمل، فان من الطبيعي ان يختار الله لوليه الأعظم الذي قدر له ان يكون (طاهراً مطهراً من جميع الجهات) وان يكون الأنموذج الإلهي الاسمى والمثال الأعلى لكافة الكائنات :أماً مثالية ومن كافة الجهات، وهذا
ص: 28
-كما سنرى - هو ما يشهد به التاريخ والروايات أيضاً، وكما( يحكم به العقل او يدركه )(1)وكما تنطق به الفطرة ويركن إليه الضمير ويطمئن به الوجدان.
وإذا كانت السيدة نرجس (عليها السلام) هي ذلك الأنموذج الرباني وهي تلك (الأم المثالية )فما أحرانا بان نقوم بعملية التعرف على صفحات من حياة هذه السيدة العظيمة والاستضائة بأنوارها
وإشعاعاتها الإلهية وان نتخذ منها ومن مدرستها خير أسوة وقدوة في مختلف شؤون الحياة وفي شتى المواصفات والجهات؟.
والا يجدر بنا ان نحيي ذكراها ومسيرتها في قلوبنا وضمائرنا عقولنا وعلى شفاهنا وأقلامنا ؟.
والا يجدر بنا ان نكتب عنها الكثير الكثير من الكتب، ونسجل من حياتها وعظمتها ومدرستها الملايين من الأشرطة، وان نسمي باسمها المبارك المؤسسات والشوارع و المدارس وغيرها؟.
وإذا كان المسيحيون يجلون السيدة مريم (علیها السلام) اكبر اجلال ويحيون ذكراها أكبر إحياء، ويملأون منها البيوت والكنائس وغيرها - رغم الفكرة غير الدقيقة التي يملكوها عنها- فان علينا ان نقوم بأحياء ذكرى والدة الإمام الحجة الحي القائم (عج الله تعالی فرجه الشریف) بما لا يقل عما يجب ان نقوم به من إجلال واكبار للسيدة مريم( عليها السلام )
ص: 29
وهذه الصفحات قد تكون محاولة متواضعة وبدائية جدا للتعرف على بعض تلك الاشراقات ولإكتشاف بعض هاتيك الصفات.
انها ( رحلة )سريعة الى عالم الطهر والمثالية الى آفاق المواصفات النموذجية، إلى قمة المجد وحظيرة القدس...
ص: 30
من بين مئات الملايين، وفي غضون عدة قرون قلائل فقط هم الذين حظوا بتلك السعادة ونالوا ذلك الشرف وحملوا ذلك الوسام الوضاء، وما أعظمه من شرف وما أبهجها من منقبة ...
... نظرة واحدة فقط وللحظات لاغير تكفي وتزيد...
إنها الأمنية الكبرى والسعادة العظمى...
انها نظرة واحدة فقط ولكن لمن؟
وعن م تعبر ؟
وما الذي تكشف ؟!
ولماذا يحرم الملايين من العشاق والمحبين من مجرد لفتة او نظرة؟!.
ولکن..
أيمكن للعين المجردة ان تحدق في عين الشمس الساطعة؟!.
وهل يمكن للأصم ان يلتذ بتغريد البلابل وأنشودة العصافير؟!.
وهل يمكن للمزكوم ان يشم أريج الزهور وعبير الورود ؟!.
ص: 31
وهل يمكن للروح وهي ملوثة أن تحظى بنظرة وان كانت عابرة، لقطب دائرة الإمكان(1) وخليفة الرحمان (2) ؟!
كلا ... ألف كلا...
لابد من طهارة النفس وسمو الروح ونزاهة كافة الحواس عن أية مخالفة لرب العالمين .
وعندها - وفي درجات عليا - يتمتع المرء بنظرة واكثر ويحظى بلفتة ثم بحديث ثم تلفه العناية الربانية اكثر فاكثر ليرقى إلى مستوى (جندي تحت الطلب) للإمام الحجة المنتظر صلوات الله عليه .
ويبلغ قمة المجد وذروة العلياء، عندما يتحول إلى أحد حواريی الإمام (عج الله تعالی فرجه الشریف) و إلى واحد من الخلص المقربين...
وستكون عندئذ غاية سعادته وكبرى أمنياته ان يكون درعاً واقية ويداً ناصرة لصاحب الزمان (عج الله تعالی فرجه الشریف) (3).
ص: 32
...إن ذلك هو المجد، وهو الحلم ، وهو الحيوان، وهو الکرامة والشرف والمزيد وهو فردوس أولياء الله وجنتهم، وأسمى أحلامهم وأمنياتهم.
ولا نجد لتجسيد كل تلك العظمة اشد غرابة واعظم تأثيراً من مشهد الإمام جعفر بن محمد الصادق علیه السلام عندما دخل عليه جمع من أصحابه ليفاجئوا به وهو يبكي، تألماً مما سيجري في زمان غيبة الإملم المنتظر (عج الله تعالی فرجه الشریف) وحزنا على طول المدة وشدة المحنة وعلى آلام الفراق أيضاً ...
وعندما سئل هل ولد الإمام القائم (عج الله تعالی فرجه الشریف)؟
أجاب: كلا ولو أدركته لخدمته أيام حياتي(1) .
وإذا لاحظنا عظمة الإمام الصادق علیه السلام وعصمته أيضاً، لأصابتنا الدهشه من عمق دلالات هذه الكلمة ولتملكنا الذهول من تلك المرتبة الخطيرة والمنقبة العظمى والمكانة السامية والذروة الشامخة التي يبلغها من يحظى بشرف خدمة الإمام المنتظر (عج الله تعالی فرجه الشریف).
والان وبعد كل ذلك يكفينا لمعرفة عظمة السيدة نرجس (عليها السلام) ان نقول :
ص: 33
لقد حظيت (ع) بموقع استراتيجي فريد لا يمكن ان یتکرر بمجمله - لأحد على مر التاريخ !؟ .
فلقد (تفرغت )لخدمة الإمام المنتظر (عج الله تعالی فرجه الشریف) وكانت دونه جنةً واقية ودرعاً حصينة، وكان لها الشرف - كل الشرف - ان تحافظ على (حياة) ولي الله الأعظم لمدة طويلة!
في حياة الإمام العسكري علیه السلام وبعد وفاته(1) .
وكان لها الى جوار كل ذلك منزلة (الامومة) لآخر خلفاء الله في الخليقة جمعاء! .
اضافة الى التشرف بزيارته في فترة غير قصيرة.
وما اعظم هذه المنزلة واسماها؟!.
او ليست (الأم) هي التي يتقرب الأبناء إلى الله برضاها؟! ثم كم هو عمق تلك المحبة الخالصة التي يكنها ولي الله الأعظم (عج الله تعالی فرجه الشریف) لوالدته "السيدة نرجس" ؟! .
وسنصاب مرة أخرى بالذهول والدهشة والدوار أيضاً عندما نتصور عظمة المكانة التي احتلتها السيدة نرجس (عليها افضل الصلاة وازكى السلام)في منظومة الكون وفي قلب قطب رحى الوجود كله !؟
ص: 34
[وكإشارة تاريخية عابرة إلى جانب من تلك الحقيقة يكفي ان تعلم بان الإمام القائم (عج الله تعالی فرجه الشریف) في الدقائق الأولى لولادته، نطق - بإذن الله تعالى وبأمر الإمام الحسن العسكري علیه السلام- ب (اشهد ان لا اله الا وحده لا شريك له واشهد ان محمداً رسول الله) ثم بعدها (يصلي على علي أمير المؤمنين وعلى ألائمه الطاهرين) وبعدها وبأمر والده الإمام العسكري علیه السلام نجده يسلّم على أمه السيدة نرجس !!. (1)
ص: 35
*معادلات تكوينية(1)
الدنيا مبنية على معادلة "الأسباب والمسببات التكوينية الطبيعية" وهی الأصل وخوارق العادة استثناء (2) ؛ فهنالك - مثلا - سلسلة من الأمراض وهنالك طرق ومناهج وبلاسم وأغذية وأدوية معينة للعلاج، وهنالك بذر فسقي فحصاد، وهنالك معسكرا الكفر والايمان ولكل منهما صولة وجولة وهزيمة وانتصار، وهذه لا تتحق الا بالإعداد والعتاد والتخطيط والاستعداد .وتلك هي حكمة الله البالغة والظرف والمحيط الذي لابد منه لتحقق معادلة( الابتلاء والامتحان)(3).
و (كتاب الله) و (عترة رسول الله) يدوران ضمن هذا الإطار الإلهي الكوني الكلى، فهنالك أسباب وطرق وعلل وعوامل لابد من توفيرها للحفاظ على هذين الكتابين: " الصامت والناطق" وإلا فان مؤامرات
ص: 36
الأعداء ستمتد ل (تَحرِيفَ الكَلَمَ عَن مَواضِعَه )(1)وللفصل بين القرآن الناطق والقرآن الصامت (كَقضَيَةِ الحَكمَينِ فِي صَفَّينِ)(2).
وستحصد سموم الجبناء الحاقدين من الطغاة والماكرين وسيوف التعساء والاشقياء من الجهلة والمارقين : أولياء الله الصالحين ف (مَا مِنَّا اِلَّا مَقتُولُ اَو مَسمُوم )(3)و(يَد الغَيبِ )لا تمتد عادة للتدخل لقلب المعادلات الطبيعية وتغيير مجريات التاريخ الا في الموارد الضرورية وبالقدر الضروري أيضاً وفي إطار المحافظة الكلية على قاعدة (وَهَدينَاهُ النَّجِدَين)(4)، وأصل وجود نوع من التوازن بين معسكري الكفر والايمان مع مد وجزر لا يصل إلى حد إطفاء شمس الحقيقة نهائياً
ص: 37
ولا إلى حد استئصال جيوش الضلال والاضلال كلياً. قال تعالى :(لَيهَلِكَ مِن هَلكِ عَن بَينَةِ وَيَحيَي مِن حَي عَن بَينَةِ )(1).
وولي الله الأعظم خاتم الأوصياء وسيد الأولياء (عج الله تعالی فرجه الشریف) ليس بمستثنى من تلكم القواعد، فكانت (الغيبة) مثلا للحفاظ علي حياته الشريفة ولاختبار البشرية أيضاً ولعوامل أخرى عديدة ولا نقصد ألان الا تسليط الأضواء على جانب من العوامل الطبيعية التي توفرت بلطف الله تعالى، للحفاظ على شمس وجود قطب رحى الوجود بالقدر الذي يترابط مع محور حديثنا في هذا الكتاب.
ص: 38
فكما كان مبيت الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ليلة المبيت(1) ، مكان الرسول الأعظم (صلی الله علیه وآله) سبباً تكوينياً طبيعياً ل(الحفاظ) على حياة سيد البشرية (صلی الله علیه وآله) ورغم انه اعتضد بعوامل غيبية ضرورية كان لابد منها لإكمال الإخراج الإلهي .. الغيبي.. الطبيعي للحفاظ على حياته (صلی الله علیه وآله) كما حدث في قبضة التراب التي رماها (صلی الله علیه وآله) في وجوه (وجوه القبائل) الذين حاصروا داره بغية الإجهاز عليه، فأعملهم الله عن رؤيته (صلی الله علیه وآله) لدى خروجه من الدار ومن ثنايا الحصار(2) ، وكما حدث في قضية غار ثور وغيرها وغيرها(3) الا انه لم يعطل التدخل الغيبي العامل الطبيعي ابدا ، بل لم يمنع من "مباهاة" الله عز وجل ملائكة سماواته ب ( علي ابن أبي طالب علیه السلام) الذي آثر الرسول (صلی الله علیه وآله)
ص: 39
على نفسه، وعرض نفسه - راغباً مبتهجاً - لخطر ان يكون هو الضحية بدل الرسول (صلیه الله علیه وآله) في خطة لايهام المحاصرين ان علياً هو الرسول فيهاجموه هو علیه السلام دونه (صلی الله علیه وآله)(1).
ومن هذا الباب كان الدور الخطير الذي قامت به السيدة نرجس (علیها السلام) في المحافظة على حياة الإمام الحجة (عج الله تعالی فرجه الشریف) لفترات طويلة- أثناء فترة الحمل وبعد الولادة أيضاً - فرغم ان الله تعالى تدخل تدخلاً اعجازياً مباشراً ل (إخفاء آثار الحمل)، كما فعل في قضية: أم الي موسى علیه السلام الا انه جل وعلا ترك جانباً من بقية المعادلة على حالتها الطبيعية، فكان على السيدة (علیه السلام) ان تعتصم بأكبر قدر من سلاح الكتمان وضبط النفس وان تتحمل شتى مصاعب (احتجازها) لفترة طويلة وإخضاعها لرقابة مستمرة لفترة أطول وشتى الضغوط التي يمكن ان تتعرض لها المرأة في تلك الظروف السياسية البالغة التعقيد والمتفجرة بالحقد الهادر والخوف الرهيب من الوليد الخطير - الخطير .
وكذلك فعلت( عليها السلام )وتحملت من أمر ما يمكن للمرأة ان تتحمله حتى بقي (سر الله) سراً، وهي بذلك تكون قد قامت بدور أساسي في ( المحافظة) على حياة ولي الله الأعظم، وآخر أوصياء
ص: 40
الرسول الأكرم (صلی الله علیه وآله) وحبل الله المتين وصراطه المستقيم(1)، والوارث لكل رسالات السماء، والطالب بذحول الأنبياء وابناء الأنبياء، والثائر بدم المقتول بكربلاء (2)، والذي يملأ الأرض قسطا وعدلا بعد ما ملأت ظلما وجورا، والذي نطلب من الله عز وجل ان يجعل (صلاتنا به مقبولة وذنوبنا به مغفورة ودعائنا به مستجابا و ... وأرزاقنا به مبسوطة وهمومنا به مكفية وحوائجنا به مقضية )(3).
وبذلك نكشف انها عليها السلام لها الفضل العظيم على البشرية جمعاء وانها من الوسائط التكوينية، الإرادية للفيض الإلهي على الخليقة وهي جزء العلل المعدة للطف الإلهي الكبير الكبير، أي للحفاظ على من (يحفظ الله فيه رسوله وآباءه الائمة ودعائم الدين )(4)ومن (يحيي الله به سنن النبيين ودارس حكم النبيين ويجدد به ما أمتحى من دينه وبدل من حكمه)(5).
ص: 41
وهي عليها السلام بذلك أيضا تحظى بأجر الهي لا يمكن تصوره لكونها ممن مهدت الارضية للحفاظ على (من به تقبل اعمال الخلائق و به تزکی اعمال البرايا )ف (ولي الله الأعظم وواسطة الفيض الحقيقي) هو (صدقتها الجارية )على مر الاعصار والدهور، وفي الحديث: (إِذَا مَاتَ اِبنَ آدَمَ اَنقَطعَ عَمَلَه اِلَا مِنَ ثَلاثَ:وَلَد صَالِح یَدعُولَه....)(1).
ثم إذا كان (الدال - لشخص أو أمة او شعوب - على الخير كفاعله )(2)فما بالك بمن كان السبب في المحافظة على حياة من به قوام خیر الامم كلها والشعوب كلها على مر الازمان وكر الاعصار؟!.
واعظم بها من منزلة واكرم بها من مكرمة ...
ص: 42
ولذلك كله نجد السيدة حكيمة - رغم مكانتها السامية جدا عند أبيها الإمام الجواد علیه السلام وأخيها الإمام الهادي علیه السلام وابن أخيها الإمام العسكري علیه السلام ثم عند الإمام الحجة (عج الله تعالی فرجه الشریف) حيث كانت من القلة النادرة من سفرائه ووكلائه - نجدها تخاطب السيدة نرجس قائلة: (اِنَّا فَدَاكَ وَجَمِيعَ العَالَمِين)! (1)
ص: 43
*المستودعة أسرار رب العالمين(1)
تستوقفنا في زيارة السيدة نرجس (علیها السلام)، عبارة ذات دلالة عميقة جدا عندما نقرأ( اَلسَّلامُ عَلَى وَالِدَة اَلإِمَامَ وَالمُوَدِعَةِ أَسرَارِ المُلكَ العِلَام) (2)و (اَلمُستَودِعَةِ أَسرَارِ رَبِّ العَالَمِينَ)(3).
ويا لها من مكرمة لو وزنت بها الجبال الشوامخ لرجحت عليها ولو قيست بها السماوات و الأرض لوسعتها وزادت عليها بما لا يعلمه الا (اَللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلمِ)(4)
انها عليها السلام (أمينةالرب) وما اسماها من مرتبة وأخطرها من منزلة، وليست (المؤتمنة) على سر الهي واحد فقط بل انها (اِلمَودَعِةَ أَسرَارَ المُلكَ العَلَامِ) و (اَلمَستُودِعَةِ أَسرَارِ رَبِّ العَالَمِين) .
وإذا لاحظنا ان (الجمع المضاف )يفيد العموم والشمول الا فيما خرج بالدليل (5)لازدادت هاتان الجملتان اشراقا وبهاء وسناء وبريقا
ص: 44
ولتضاعفت في عقولنا المعرفة بالمكانة المثالية الكبرى التي تحتلها السيدة نرجس عليها السلام في منظومة ماكان وما سيكون وما هو كائن.
واننا لنجد عبارة أخرى في وصفها سلام الله عليها :(وَحَفِظَت سَرِّ اللهِ)(1) ولربما استشعرنا منها ان المراد ب "سر الله" هو الإمام المنتظر (عج الله تعالی فرجه الشریف) الا ان تينك العبارتين السابقين قد تأبيان عن هذا التخصيص - وان كان هو بحد ذاته منقبة عظمى لا تثمن - بل هما ظاهرتان في الشمول والعموم للكثير الكثير من الأسرار فدقق خاصة إذا لاحظنا الفرق بين عبارة (حفظت) وعبارتي (المودعة...المستودعة).
هذا ولنا ان نستشعر دلالة أخرى ذات أهمية بالغة من الجملتين السابقتين:
فإذا كانت كلمات المعصومين (عليهم السلام) توزن كالذهب بالمثاقيل بل هي أغلى وأسمى من ان تقايس حتى بنادر الجواهر ويتيمة الدرر، و إذا كانت كل كلمة (توزن) بدقة لامتناهية وتنتخب بحكمة وتستخدم على معرفة تامة بكافة الدلالات المطابقية والتضمنية والالتزامية، وحتى الملازمات والملزومات والملابسات وحتى الإيقاعات و"الجرس والظلال" التي تحملها كل كلمة ..
ص: 45
إذا كان الأمر كذلك فاننا نستشعر بوضوح هذه الدلالة الخطيرة فهي عليها السلام( اَلمُودَعَة أَسرَارَ المُلكَ اَلعَلَام) ويا لها من إضافة دقيقة : إضافة (أسرار) إلى( الملك العلام) انها إذن أسرار ترتبط ب- : (ملكوت الله) وهو( الملك العلام) وتتأكد الدلالة اكثر عندما نلاحظ الفقرة الأخرى: (اَلمَستُودِعَةُ أَسرَارِ رَبِّ العَالَمِين) وعندما نلاحظ ما لكلمة (رب) بما هي هي ثم بما هي مضافة إلى (العالمين) من دلالات كبرى .
وستتضح الدلالتان اكثر عند ما نقرأ: (وَكَذَلِكَ نَرِيَ إِبرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ) وقوله تعالى: (اَلحَمدُ لله رَبِّ العَالَمِين)(1).
وسنكتشف عمق تلك الدلالات اكثر فاكثر وسنصاب بدهشة اكبر واكبر عندما نرى ذات العبارة المستخدمة في التعريف بالسيدة نرجس (علیها السلام) قد استخدمت في التعريف بالإمام الحجة (عج الله تعالی فرجه الشریف) إذ نقرأ في الزيارة الثانية الواردة بعد زيارة آل ياسين: (اَلسَّلَامُ عَلَيكَ يَا حَافِظَ أَسرَارَ رَبِّ العَالَمِين)(2)!!.
ص: 46
واننا(1) إذا تأملنا النقاط السابقة في مبحث (الاختيار الإلهي)(2)، ولاحظنا سلسلة المواصفات النموذجية التي تحلت بها السيدة نرجس(علیها السلام) - كما سنشير لذلك لاحقا إنشاء الله - زال عنا بعض الاستغراب.
وإذا ما تأملنا في موقف السيدة حكيمة - أخت الإمام الهادي علیه السلام - وذلك الإجلال والاكبار الفريد الذي خصت بهالسيدة نرجس حتى انها صرحت لها بحضور الإمام العسكري علیه السلام بأن عليها (3) ان تخدم السيدة نرجس (علیها السلام) ولها (4)، المنة عليها بذلك أيضا، كما صرحت أيضا بأنها سيدتها (5)ولم يكتف الإمام العسكري علیه السلام ب- (تقرير) ذلك فحسب بل انه عندما سمع من عمته السيدة حكيمة هذه الكلمات قال لها: جزاك الله يا عمة
هذا الحدث قد سبق ولادة الإمام الحجة (عج الله تعالی فرجه الشریف) بسويعات.
[وإليك هذا المقطع التاريخي كما تروايه السيدة حكيمة (علیه السلام) بنفسها قالت:( فجئت - اي إلى دار الإمام العسكري علیه السلام- فلما سلمت وجلست جاءت (نرجس) تنزع خفي وقالت لي: يا سيدتي
ص: 47
وسيدة أهلي كيف أمسيت ؟ فقلت : بل أنت سيدتي وسيدة أهلي، فأنكرت قولي: وقالت ما هذا يا عمة؟
وفي رواية أخرى :فجاءتني نرجس تخلع خفي فقالت: يا مولاتي ناوليني خفك ، فقلت: بل أنت سيدتي ومولاتي والله لا ادفع إليك خفي لتخلعيه ولا لتخدميني بل انا اخدمك على بصري، فسمع ابو محمد علیه السلام ذلك فقال جزاك الله - يا عمة - خيرا (1).
بل اننا نجد فوق ذلك في التاريخ، فلقد انكبت السيدة حكيمة (عليها السلام )على يدي السيدة نرجس (عليها السلام) تقبلهما! فها هي السيدة حكيمة (علیها السلام) تصرخ قائلة : (فقلت: يا سيدي - الإمام العسكري عليه السلام - ممن يكون هذا الولد العظيم ؟.
فقال لي علیه السلام : من نرجس يا عمة.
فقلت له :يا سيدي ما في جواريك احب إلي منها، وقمت ودخلت إليها وكنت إذا دخلت فعلت بي كما تفعل - أي كعادتها في احترامي - فانكببتُ على يديها فقبلتها ومنعتها ما كانت تفعله فخاطبتني بالسيادة فخاطبتها بمثلها)(2).
ص: 48
ونواصل الاستماع لحديث السيدة حكيمة عليها السلام بشغف ودهشة حيث تقول:(فقالت -أي السيدة نرجس -فديتك فقلت لها :انا فداك وجميع العالمين!، فأنكرت ذلك، فقلت لها: لا تنكرين ما فعلت ...)(1).
وإذا لاحظنا المكانة السامية جدا التي كانت تمتلكها السيدة حكيمة عليها السلام ولاحظنا هذا الإجلال الفريد الذي تعاملت على ضوئه مع السيدة نرجس عليها السلام منذ ليلة 15 شعبان زالت عنا بعض آثار تلك الدهشة، فلقد كانت السيدة حكيمة بعد شهادة الإمام العسكري علیه السلام هي إحدى السفراء القلائل جداً بين الإمام الحجة (عج الله تعالی فرجه الشریف) وبين الناس وكانت متزلتها وعظمتها وجلالتها وقدرها كالنور على شاهق الطور - كما صرح به العلامة المجلسي رضوان الله تعالى عليه في مزار البحار - وكانت هي التي عهد إليها الإمام علیه السلام بتربية السيدة نرجس عند حلولها دار الإمام وهي في حوالي الرابعة عشر من العمر، ومع كل ذلك تقول للسيدة نرجس( بَل أَنتَ سَيِّدَتِي وَسَيِّدَةِ أَهلِي)( بَل أَنتَ سَيِّدَتِيَ وَمَولَاتِيَ)،(بَل اَنِّا اَخدِمَك عَلِّىَ بَصَرِي)، و(اَنَّا فَدَاكَ وَجَمِيعَ العَالَمِينَ)].
ص: 49
ص: 50
ص: 51
ص: 52
*وميض من أعماق الزمن(1)
في أعماق الزمن الغابر توهج لذلك الاسم الملائكي وميض وضياء... وفي كتاب مقدس من اشهر الكتب السماوية سطع نور ،ورسمت علامة، وسجلت شهادة، وعلى يد السيد المسيح علیه السلام تمت الخطبة!.
.. وكذلك ابتسم الخط السعيد للسيدة نرجس (علیها السلام) في عالم القدس الربوبي..
فهي تلك الحوراء الإنسية (اَلمَنعُوتَة فِي اِلإنجِيلَ)(2).
وهي تلك العذراء الطاهرة (اَلمَخطُوبَة مِنَ رَوحَ اللهَ الاَمِين)(3).
وهی تلك السلالة الطيبة المنحدرة من صلب الحواريين من أصحاب عيسى المسيح علیه السلام.
فهي( اِبنَةَ حَوَّارِيَ عِيسَى)(4)
ص: 53
وهي التي نعتز جميعاً بان نهتف باسمها دائما قائلين:(اَلسَّلامُ عَلَيكَ وَعَلَى آبَائِكَ الحَوَّارِيينَ)(1).
انها (عليها السلام) حلقة الوصل الخالدة بين اكبر شريعتين سماويتين.
انها (عليها السلام) التي (رَغِبَ فِي وَصلَتَهَا مُحَمَّدَ سَيِّدَ المُرسَلِينَ) (2)
وهي( عليها السلام) أم خاتم الأوصياء ووريث الأنبياء والوسيط بين الأرض والسماء ..
[انها هي تلك التي خطبها خاتم النبيين وسيد المرسلين محمد المصطفى (صلی الله علیه وآله) من روح الله المسيح عيسى بن مريم علیه السلام!!.
ولقد تلألأت تلك الحقيقة التاريخية الخالدة في اروع مشهد رباني، أمام عيني السيدة نرجس = مليكة وهي لا تزال في قصر جدها قيصر "الإمبراطور الروماني "ولما تتجاوز الثالثة عشرة من العمر].
ص: 54
[فلقد شاءت إرادة الباري جل وعلا ان تتجسد( مراسم الخطب والعقد) في عالم روحاني سام دخلت آفاقه السيدة نرجس وشاركت فيه وشهدته مباشرة عبر بوابة( عالم الكشف والشهود) او عبر روزنة (الرؤيا الصادقة) والتي عدت في الروايات جزء من أربعين جزء من النبوة(1) ..
ص: 55
والافضل ان نستمع إلى (مليكة الدنيا والآخرة )تحدثنا مباشرة عن ذلك المشهد الكوني الخالد:
(... رأيت في تلك الليلة (1)كأن المسيح علیه السلام وشمعون وعدة من الحواريين قد اجتمعوا في قصر جدي، ونصبوا فيه منبرا يباري السماء علوا وارتفاعا في الموضع الذي كان جدي نصب فيه عرشه، فدخل عليهم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم )مع فتية وعدة من بنيه فتقدم المسيح علیه السلام إليه (صلى الله عليه وآله) فاعتنقه، فقال له محمد (صلى الله عليه وآله وسلم ):يا روح الله اني جئتك خاطبا من وصيك (شمعون) فتاته (مليكة) لإبني هذا وأوماً بيده إلى ابي محمد (أي الإمام العسكري عليه السلام ).
فنظر المسيح إلى شمعون وقال له: قد أتاك الشرف، فصل رحمك برحم رسول الله صلى الله عليه وآله.
قال: قد فعلت، فصعد ذلك المنبر، وخطب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم )وزوجني من ابنه وشهد المسيح عليه السلام، وشهد ابناء محمد صلى الله عليه وآله والحواريون ...(2)] .
ص: 56
لقد جسدت الرؤيا هذه لقطة عن عالم آخر يسمو فوق عالمنا المادي والحسي، وقد ترجمت القرار الإلهي منذ مجاهيل القدم بصيغة مشهد نموذجي فريد ،لتعكس آفاقا مستقبلية مشرقة، فكانت الرؤيا هذه هي الرابط، وهي حلقه الوصل الرائعة بين الماضي والحاضر والمستقبل.
وقد شاءت العناية الربانية ان تعقد صلة حقيقية ومميزة واستثنائية بين السيد المسيح علیه السلام وبين خاتم الأوصياء المهدي المنتظر (عج الله تعالی فرجه الشریف):
فها هو السيد المسيح علیه السلام- في الماضي السحيق- یساهم مساهمة أساسية ويقوم بدور رئيسي في أحداث ذلك الرباط المقدس وذلك الزواج الملائكي الذي تمخض عن ولادة آخر حجج
على وجه البسيطة بل في منظومة عالم الإمكان كلها.
وها هو السيد المسيح - في الغد المشرق - ينزل بأمر الله سبحانه وتعالى من السماء (1)الرابعة ليصلي خلف امامنا المنتظر (عج الله تعالی فرجه الشریف) وليدعيه الناس إلى الدين الاسلامي الحنيف...
ص: 57
وكان لابد ان يحيط خالق الكون- ومن منطلق الحکمة الربانية - ذلك الحدث السعيد، بكافة مظاهر الإكرام والاكبار و بأجلى مظاهر القدس والروحانية والاجلال ... وهكذا تجلى السيد المسيح علیه السلام مع شمعون ومع عدة من الحواريين أيضا في قصر إمبراطور الروم، ثم نصبوا في القصر منبرا يباري السماء علوا وارتفاعا كرمز للمجد السامي التليد وللمستقبل المشرق الرفيع.
ثم ها هو خاتم الرسل (صلی الله علیه وآله ) يدخل مع مجموعة من الفتيان و مع عدة من بنيه أيضا ونشاهد هنا واحدا من اروع المشاهد على مر التاريخ البشري: فها هو نبي الإسلام "يعتنق" السيد المسيح بأخوة ومحبة لا تضارع ... او ليسا رسولين لرب العالمين ؟
او لم يكن السيد المسيح علیه السلام( مُبَشِّراً بِرَسُولَ يَأتِي مِنَ بَعدِي اِسمَه اَحمَد)(1)؟
أو ليس خاتم الرسل هو آخر مرحلة في قوس الصعود وسلسلة "التكامل التكويني والتشريعي" التي بدأها آدم علیه هالسلام ابو البشرية ليواصل مشوارها أنبياء الله العظام: نوح وإبراهيم وموسى ثم عيسى المسيح عليهم السلام لتتوج تلك المسيرة الربانية الكبرى بمحمد المصطفی(صلى الله عليه وآله وسلم)؟ .
ص: 58
وهكذا أحاطت العناية الربانية بالسيدة "نرجس= ريحانة" من كلم جانب، فكانت هي تلك العذراء الوحيدة - من بين كل نساء الأرض - التي يشارك في عملية خطبتها ومحفل عقدها نبيا اعظم
ديانتين سماويتين، لتقترن ب ( اِمَامَ مَعصُومَ تَخضَعِ لَهُ اَلاَكُوَان كُلَّهَا) ولتنجب (خَاتَم اَلأوصِيَاءَ (1) وَالسَّبَب المَتصَل بَينَ الأَرضِ وَالسَّمَاءِ (2)وَمَن بَيمَنَه رَزِقَ الوَرِىَ وَبُوجُودَه ثَبتَت الأَرضَ وَالسَّمَاءَ)(3)....
هكذا كان.
وما اروع ما كان ...
لقد كان (الاخراج) الهيا و (الصياغة )ربانية، والرغبة من قبل خاتم الأنبياء وسيد المرسلين، وهو الجد الأعلى لزوجها المترقب وكانت الخطبة من قبل واحد من اكبر الأنبياء من أولي العزم السيد
المسيح عليه السلام .
وحق لها كل ذلك.
افلم تكن حفيدة احد حواريي السيد المسيح علیه السلام ؟!.
الم تكن هي ذلك الملاك الطاهر والجوهرة القدسية؟!.
ص: 59
واليست هي التي قدر لها رب الافلاك ان تكون والدة خاتم الأوصياء ووارث الأنبياء وحجة الله على أهل الأرض والسماء؟!.
وبعد ذلك...
ألا يجدر بها كل ذلك ؟!
وحق لنساء الأرض ان يرفعن رؤوسهن شموخا وكبرياءاً، اذ كانت قد برزت من بينهن امرأة كنر جس (عليها السلام)!.
وحق لنساء العالم ان يرسمن ذلك الوجه الملائكي الطاهر على لوحة القلب بأشعة من نور .
وحق لبنات حواء ان يتخذن منها أسوة وقدوة ومنارا وضياءا.
تلك الفتاة الطاهرة .
تلك الشابة المهاجرة .
تلك الأسيرة الأميرة.
تلك الزوجة الوفية (اَلرَّاضِيَةَ المَرضِيَة اَلتَّقيَةَ النَقَيِةَ الصَّدِيقَةَ الزَكِّيَةَ)(1).
تلك الام الحنون ينبوع المحبة والاشفاق والايثار.
ص: 60
تلك المرأة .. العطاء والولاء والفداء ،والمثل السامي في المعرفة والايمان والعزم والمضاء.
انها القديسة نرجس !
انها هي "ملكية " و"سوسن" و"حكيمة" و"مريم" أيضا!.
لقد كانت القديسة مريم العذراء أم السيد المسيح (عليه السلام ).
وكانت السيدة نرجس أم الإمام الحجة المنتظر (عج الله تعالی فرجه الشریف) وهي حفيدة أحد حواريي السيد المسيح علیه السلام وكانت المخطوبة منه والمبشر بها في انجيله وكانت تحمل - فيما تحمل من الأسماء - اسم السيدة مريم (1)..
ص: 61
*زلزال في القصر الملكي(1)
لشد ما اقلقت أسرتها، نرجس! .
انها تضمر يوما بعد يوم، وتصفر، وتمتنع من تناول الطعام والشراب، وتعاني من مرض مجهول وتبدو سابحة في آفاق بعيدة ... ،وبعيدة، وكأنها تعيش في عالم آخر .
وتزداد دواعي القلق والاضطراب ويتحول نهار أعضاء الأسرة المالكة بالروم إلى ظلام، ويعجز كافة أطباء بلاد الروم عن العثور على حل لهذا اللغز الغريب؟.
ماذا دهى الحبيبة نرجس؟.
انها سيدة القصر الملكي، وهي الفتاة المدللة و الشابة الطيبة،وهي التي يحبها الجميع محبة صادقة، فهي رغم كل مظاهر العظمة والثراء والملوكية :حلوة الحديث، لطيفة المعشر ، متحلية بخلق رفيع وتواضع جم، ويالها من صفات تندر ان تجتمع في شابة ثرية!.
[لنرجع قليلا إلى الوراء ولنستمع إليها تحدثنا مباشرة عن تلك الأحداث المثيرة:
ص: 62
(ان جدي قيصر اراد ان يزوجني من ابن اخيه وانا من بنات ثلاث عشرة سنة، فجمع في قصره من نسل الحواريين ومن القسيسين والرهبان ثلاثمائة ،رجل، ومن ذوي الاخطار - أي الشخصيات الاجتماعية والاقتصادية البارزة - وجمع من أمراء الاجناد وقواد العساكر ونقباء الجيوش وملوك العشائر أربعة آلاف، وابرز من بهو ملكه (اي قاعة الاستقبال )عرشا مصنوعا من أصناف الجواهر، إلى صحن القصر، فرفعه فوق أربعين مرقاة.
فلما صعد ابن أخيه وأحدقت به الصلبان وقامت الاساقفة عكفا ونشرت أسفار الإنجيل ،تساقطت الصلبان من الأعالي فلصقت بالأرض وتقوضت الأعمدة فانهارت إلى القرار، وخر الصاعد من العرش مغشيا عليه !فتغيرت الوان الاساقفة وارتعدت فرائصهم، فقال كبيرهم الجدي: أيها الملك اغض من ملاقاة هذه النحوس الدالة على زوال الدين المسیحی والمذهب الملكاني.
فتطير جدي من ذلك تطيرا شديدا وقال للاساقفة: أقيموا هذه الأعمدة وارفعوا الصلبان واحضروا أخا هذا المدبر العاثر المنكوس جده (إي تعيس الحظ) لأزوج منه هذه الصبية فيدفع نحوسه عنكم
بسعوده .
فلما فعلوا ذلك حدث على الثاني ما حدث على الأول وتفرق الناس وقام جدي قيصر مغتما ودخل قصره وارخيت الستور ...)] .
ص: 63
[وتستوقفنا هنا نقاط عديدة:
أ: ف ( يد الغيب) تمتد لتتدخل اعجازيا مرتين متتاليتين لإجهاض المخطط البشري، إعدادا لتنجز الوعد الإلهي الصادق الذي قدر للبشرية وللعالم اجمع غدا مشرقا سعيدا علي يد وليد السيدة نرجس منقذ البشرية الأعظم!.
ب : وكان إجهاض " ذلك المخطط البشري" فريدا من نوعه ومتميزا، فلقد(تساقطت الصلبان من الأعالي فلصقت بالأرض وتقوضت الأعمدة فانهارت إلى القرار وخر الصاعد من العرش مغشيا عليه ) انه إنذار الهي وحجة دامغة عبر مشهد إعجازي رهيب يرمز إلى ان هذه الفتاة في دائرة الضوء الازلي غير خاضعة للقرار البشري بل ان ما خطته لها يد الغيب هو أمر آخر من نمط آخر وبشكل لا يتصور .. وكان ما حدث تجسيدا لارادة الله تعالى وأمره الغالب.
ج:وكما( خر الصاعد من العرش مغشيا عليه )منقذا بذلك مستقبل السيدة نرجس (علیها السلام) كذلك (تساقطت الصلبان من الأعالي فلصقت بالأرض )كرمز للمعادلة الكونية القادمة ولمستقبل (الديانة المسيحية المحرفة) في آفاق غير منظورة ..
ص: 64
انها إرهاصات كونية تلقى إشاراتها بوضوح الاساقفة الذين كانوا على علم بطريقة التعامل الغيبي مع الأحداث الكبرى التي ترتبط برسل السماء وخلفاء الاله على وجه الأرض: ( أَيُّهَا المَلِكُ أَغُضُّ مِنْ مُلاَقَاةِ هَذِهِ اَلنُّحُوسِ الدَّالَّةِ عَلَى زَوالِ الدّينِ المَسيحِيِّ وَالمَذهَبِ المَلِكانِي).
فكما غاضت بحيرة ساوة واطفأت نيران فارس و تهدمت شرفات ایوان کسری (1)كرمز لإشراق شمس خاتم الرسل( صلى الله عليه وآله وسلم)، كذلك (تَسَاقَطَتِ الصُّلْبَانُ مِنَ الاعالِي فَلَصِقَتْ بِالأَرضِ وَتَفَوَّضَتِ الأعمِدَةُ وَخَرَ الصّاعِدُ مِنَ العَرشِ مَغشِيّاً عَلَيهِ) كرمز لظهور خاتم الأوصياء (عجل الله تعالى فرجه).
د : ولنا ان نستكشف من تلكم الأحداث طريقة الإمبراطور الرومي ومنهجه في الحكم وفي التعامل مع الأحداث والاشخاص أيضا، فهو يقوم بمخطط احتواء (نسل الحواريين) ويستعين في تركيز
دعائم عرشه ب( الرهبان والقسيسين )وهو إلى ذلك - كاضرابه من الملوك والقياصرة - يعتمد في ترويض الشعب والسيطرة عليه على أسلوب( عرض العضلات) وعلى تشكيلة متنوعة ومبهرة من مظاهر
ص: 65
البذخ والثراء وكل ما يمكن ان يتسحر أعين الناس ويسيطر على عقولهم.
ثم هو بعد ذلك وبرغم النذر الإلهية والحجج الدامغة، يعاند الحق ويكافح ضده ويصر رغم تلك (الإرهاصات) ورغم حديث کبیر الأساقفة، على تزويج السيدة نرجس ويقوم بالتجربة الخطرة للمرة الثانية!.
وعند ما يجد ذاته عاجزة عن معارضة القدر الإلهي (يقوم مغتما) بدل ان يبدأ البحث الجاد عن الحقيقة وبدل ان يخضع لها ويسلس لها القياد.
ثم اننا نجده - قبل ذلك - يتعامل مع الاشخاص وكأنهم عبيد، فحتى حفيدته الحبيبة إليه إلى اقصى الحدود، عليها ان تخضع لإرادته المطلقة في القرار المصيري الذي يرتبط بحياتها هی المستقبلية دون استشارة منها او السؤال عن رأيها ورغباتها، فهو يفرض الرأي فرضا ويحدد الزوج والوقت وطريقة الزواج، وبقرارات مرتجلة وليدة لحظات قليلة : (... وَاَحضَرُوا أَخَا هَذَا المُدَّبِّر العَاثِر المَعكُوسَ جَدَّه )].
ص: 66
وكان بعد ذلك (1) ان اتخذت السيدة نرجس (علیها السلام) قرار (الهجرة) وما اصعب (الهجرة من الوطن) إلى حيث المجهول..
وما أقسى (الغربة) ، ومفارقة (الأهل والاحبة)..
وما اشق (الأسفار) في الزمن الغابر على الأرجل او على ظهور الابل او الخيل او البغال والحمير ولأشهر طويلة، تحت اشعة الشمس الساطعة وحرارتها اللافحة او تحت رحمة الرياح والامطار والثلوج والعواصف الهوجاء، ووجها لوجه مع مخاطر كثيرة: قطاع طريق ،جوع وعطش ،ضياع وضلال ،ومتاهات محتملة... وإلى غير ذلك.
وإذا كانت( الهجرة) و(الغربة) و (مراراة الأسفار) على الرجل شاقة ومؤرقة ومزعجة، حتى اضحت( كابوسا مخيفا) للكثيرين فما أشقها وأصعبها واشدها مرارة وارهاقا للمرأة - لضعفها وعواطفها وتركيبتها الجسمية والعصبية والروحية - ؟ .
ص: 67
وإذا كانت (المرأة) تتحمل كل ذلك العذاب، إذا كانت تستظل بحمى اب او زوج او قريب يرفع عن كاهلها كثيرا من الآلام في المهجر واثناء السفر، فما اقسى ذلك العذاب إذا ما اضطرت المرأة -
وهي ريحانة وليست بقهرمانة(1) - إلى ان تواجه كافة اخطار السفر ومصاعب الغربة والمهجر، وحيدة فريدة؟!.
وكذلك شاءت ان تكون السيدة نرجس!!.
وكم كان لها من العمر آنذاك ؟ .
انها كانت قد تجاوزت الثالثة عشرة من العمر بقليل - ولربما كانت في الرابعة عشرة -عندما اتخذت ذلك القرار الخطير الرهيب:
قرار الهجرة ...
ومن أين..
وإلى أين ؟.
من بلاد الروم إلى اراضي الحجاز !! .
قرار ينوء تحمل حمله كثير من الرجال وما يقرب من كافة النساء، فكيف بشابة في مقتبل العمر !؟ .
ص: 68
انها (نرجس = مليكة )ابنة يشوعا بن قيصر ملك الروم؟!.
ومن هي؟.
لقد خلفت وراءها كل شيء: القصور ،والفخفخة الملوكية، والحرير والرياش والعطور ، وتلبية شتى أنواع الرغبات ، وكذلك كافة مظاهر الإجلال والاكبار والعظمة والسلطة، والعزة الدنيوية...
وما اصعبه من قرار ؟!
وكيف كان ذلك ؟!.
لقد انسلت وبسرية تامة من قصر قيصر ملك الروم، ثم عرضت نفسها ل (الأسر) ...
نعم : أميرة الامس اضحت وبملأ أرادتها أسيرة اليوم ] (1) .
ص: 69
[وها هي السيدة (نرجس = سوسن) تحدثنا عن هذا المنعطف التاريخي الكبير قائلة :
(...اخبرني ابو محمد - أي الإمام الحسن العسكري علیه السلام - في إحدى الرؤى الصادقة التي كانت ترى فيها الإمام العسكري وهو زوجها المستقبلي، ليلةٌ من الليالي: ان جدك سيسير جيشاً إلى قتال المسلمین یوم كذا، فعليك باللحاق بهم متنكرة في زي الخدم مع عدة من الوصائف من طريق كذا .. ففعلت فوقعت علينا طلائع المسلمين...)(1).
ولقد تذرعت السيدة نرجس =مليكة في هذه المرحلة - كي يتسنى لها الالتحاق بالجيش - بحجة " مداواة الجرحى" في تلك الحرب الدائرة في جنوب شرقي أوربا (2) .
ص: 70
فكان التنكر في زي الخدم وستار " مداواة الجرحى" هو الستارالذي وفّر لها تحقيق ذلك المخطط التاريخي].
ان الرجل العادي منا - فكيف بالعالم او الثري - يأبى عادة ان يتحول إلى "خادم" ولو لسويعات ويعتبر مجرد الاقتراح عليه بذلك اكبر إهانة!.
اما هي فقد تقبلت بملاء الرضا ان تصبح (أسيرة) و(مملوكة)و(امة)!.
ويا لغرابة الحدث!
ولكن لماذا كل ذلك؟!.
لكي تبلغ ارض المقدسات: المدينة المنورة .
ولكي تحظى بشرف خدمة ولي الله وحجته: الإمام الهادي عليه السلام، ثم وبعدها لكي تسعد بالمجد الأعظم والشرف الاسمى..
وهكذا تحملت كل ما تحملت لاجل انها (رغبت في وصلة ابناء رسول الله )(1)رغم المشاق والصعاب ورغم جسيم المخاطر وعظیم الأهوال.
انها "هجرة ربانية" من زخارف الحياة الفانية إلى نعيم الدار الباقية. من حياة الترف والبذخ إلى حياة الزهد.
ص: 71
من الملوكية إلى الروحانية و إلى حيث مهبط الوحي ومستقر الخلافة والإمامة الإلهية.
ولذلك كله نجد المقطوعة التالية تتلألأ كوسام ابدي خالد للسيدة نرجس= صيقل، حيث جاءت في زيارتها هذه الجملة: (اَشهَدُ اَنَّكَ .... اِجتَهَدَت فِي مَرَضَاتِ اللهِ، وَصَبَرت فِي ذَاتِ اللهِ ...)(1)
وسنرى فيما بعد ان اجتهادها في مرضات الله وصبرها على الأذى في ذات الله استمر صفة مثالية ملازمة لها طوال حياتها عليها السلام .
ولقد كانت هجرتها هذه امتدادا لهجرة أنبياء الله ورسله وأوصيائه والصالحين والصالحات على مر التاريخ وكفاها فخرا ان تكون - فيما كانت - مهاجرة في سبيل الله بما تحمله الكلمة من دلالات
وتحكيه من إشارات(2) .
ص: 72
لقد اتخذت (أميرتنا) قرارها الخطير دون تردد .. وما أخطره من قرار ؟!
فها هي (تهرب) متخفية وبسرية تامة ومتنكرة في ملابس الخدم!ولكن.. إلى أين؟.
إنها ( ذكية) بالقدر الكافي و (مسددة) غيبيا أيضا، فكما الهم الله تعالى السيدة مريم ما الهم (1)كذلك كانت السيدة نرجس، فقد ألهمت (المسير) و(المصير)...
وهكذا ألقت (الأميرة) بنفسها في وثائق( الأسر) فعادت بعد ان كانت أميرة أسيرة!
وسبحان من جعل (الأسر) طريق العروج ، والعسر مقدمة لليسر(2)، والعذاب(3)طليعة الثواب والعطاء وليد النصب والعناء...
فكما قدر الله ذلك للرجل قدره للمرأة أيضا ، وكما برز في عالم الرجال أحاد، برزت في عالم النساء أيضا نوادر.
ص: 73
فكما عانى يوسف الصديق علیه السلام من الحب والعبودية ،عانت السيدة نرجس (علیها السلام) من الأسر والرقية .
وكما كانت العبودية هي السلم الطبيعي الذي قدره الاله معراجا للنبي يوسف علیه السلام كانت الرقية والأسر هي السلم الضروري الذي قدره الاله معراجا للسيدة نرجس عليها السلام .
وكما عانى يوسف الصديق من السجن عانت السيدة نرجس مع السجن أيضا.
وكما قدر الله ليوسف بن يعقوب علیه السلام ان يكون نبيا - ملكا، قدر الله للسيدة نرجس ان تكون أما للإمام الذي سيملأ الأرض قسطا وعدلا بعد ان ملأت ظلما وجورا، وكفاها شرفا وفخرا ان
تكون بذلك (مليكة) الدنيا والاخرة!.
[وإليكم الان جوانب من حادثة (الاسر) وقصة المبعوث الذي ارسله الإمام الهادي(عليه السلام) إلى جسر الصراة ببغداد ومعه المواصفات الدقيقة للأسيرة الرومية المعروضة للبيع على حافة
الجسر].
ص: 74
[ يقول بشر بن سليمان - وهو من أحفاد أبي أيوب الأنصاري ،صحابي رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وأحد جنود وانصار الإمام الهادي والإمام العسكري (عَليهِمَا اَفضَل الصَّلاةَ وَاَزكِىَ اَلسَّلام)- :
كان مولانا ابوالحسن الهادي علیه السلام فقهي علم الرقيق (أَي اَلمَسَائِلَ الشَّرعِيَةَ اَلَّتي تَتعَلَقَ بِبَيعَ وَشَرَّاءَ العَبِيدَ وَاَلاَمَاء) فكنت لا ابتلع (أي لا اشتري )ولا أبيع الا باذنه فاجتنبت بذلك موارد الشبهات حىّ كملت معرفتي فيه فأحسنت الفرق بين الحلال والحرام(1)، فبينما انا
ص: 75
ذات ليلة في مترلي بسر من رأى (سامراء)، وقد مضى هوي من الليل (أي مقدار)اذ قرع الباب ،قارع ، فإذا انا بكافور الخادم رسول مولانا ابي الحسن علي بن محمد علیه السلام يدعوني إليه فلبست ثيابي ودخلت عليه، فرأيته يحدث ابنه ابا محمد وأخته حكيمة من وراء الستر، فلما جلست قال عليه السلام :
يا بشر انك من ولد الأنصار، وهذه الموالاة - أي المحبة والاتباع لآل الرسول (صلی الله علیه وآله) - لم تزل فيكم يرثها خلف عن سلف وانتم ثقاتنا أهل البيت (علیهم السلام) واني مزكيك ومشرفك بفضيلة تسبق بها سائر الشيعة في الموالاة بها: بسر اطلعك عليه وانفذك في ابتيا ابتياع أمة.
فكتب كتابا ملصقا (او لطيفا كما في كتاب الغيبة )بخط رومي ولغة رومية وطبع عليه بخاتمه واخرج شنتقة (شنطة، أي حافظة نقود) صفراء، فيها مائتان وعشرون دينارا فقال: خذها وتوجه بها إلى بغداد واحضر معبر الصراة( اي جسر الصراة )ضحوة يوم کذا (اي وقت الضحى من يوم حدده له الإمام علیه السلام) فإذا وصلت إلى جانبك زوارق السبايا وبرزن الجواري منها ، فستحدق بهن طوائف المبتاعين من وكلاء قواد بني العباس وشراذم من فتيان العراق، فإذا رأيت ذلك فاشرف من البعد على المسمى عمر بن يزيد النخاس
ص: 76
(النخاس هو بياع المماليك) عامة نهارك إلى ان تبرز للمبتاعين جارية صفتها كذا وكذا لابسة حريرتين صفيقتين (الثوب الصفيق: هي ذو النسج الكثيف )تتمنع من السفور ... وترفض بشدة ان يشتريها أحد.
فيقول النخاس : فما الحيلة ولابد من بيعك؟
فتقول الجارية وما العجلة؟ ولا بد من اختيار مبتاع يسكن قلبي إليه و إلى وفائه وأمانته ...
فعند ذلك قم إلى عمر بن يزيد النخاس وقل له: ان معي ملصقا لبعض الأشراف كتبه بلغة رومية وخط رومي ووصف فيه كرمه ووفائه ونبله وسخائه ،فناولها لتتأمل منه أخلاق صاحبه، فان
مالت إليه ورضيت فانا وكيله في ابتياعها منك .
وأضاف بشر قائلا:
فامتثلت جميع ما حده لي مولاي ابو الحسن عليه السلام في أمره الجارية، فلما نظرت في الكتاب بكت بكاء شديدا .. فما زلت اشاحه( اي اساومه بقوة) في ثمنها حتى استقر الأمر فيه على مقدار ما كان اصحبنيه مولاي عليه السلام من الدنانير في الشنتقة الصفراء فاستوفاه مني، وتسلمت منه الجارية ضاحكة مستبشرة، وانصرفت بها إلى حجرتي التي كنت آوي بها ببغداد، فما أخذها القرار حتى
ص: 77
أخرجت كتاب مولاها عليه السلام من جيبها وهي تلثمه( اي تقبله) وتضعه على خدها وتطبقه على جفنها وتمسحه على بدنها .
فقلت -تعجبا منها -: أتلثمين كتابا لا تعرفين صاحبه؟ .
فقالت: أيها العاجز الضعيف المعرفة بمحل اولاد الأنبياء !اعرني سمعك وفرغ لي قلبك : أنا مليكة بنت يشوعا بن قيصر ملك الووم وامي من ولد الحواريين تنسب إلى وصي المسيح :شمعون، انبئك العجب العجيب ان جدي قيصر اراد...(1)
وفي هذه العجالة سنسلط بعض الأضواء على عدد من جوانب هذا المقطع التاريخي النادر فقط، تاركين مجموعة من البحوث الأخرى للطبعة القادمة انشاء الله تعالى].
ص: 78
لقد انتخب الإمام الهادي عليه السلام لتنفيذ تلك المهمة السرية جدا والخطيرة جدا، رجلا تجمعت فيه مواصفات نموذجية:
فهو من الناحية الأسرية والتاريخية:ذلك الشخص الذي حملت أسرته أباً عن جد وسام الموالاة لآل بيت الرسول الأطهار (علیهم السلام) حتى يصل الأمر إلى أبي أيوب الأنصاري الصحابي الجليل، وتكفي في الاشارة بعمق وتواصل واستمرارية تلك الموالاة شهادة الإمام الهادي علیه السلام:(يَا بِشْرُ انَّكَ مِن وُلْدِ الأَنْصَارِ وهَذِهِ الْمُوَالاةُ لَمْ تَزَلْ فِيكُمْ يَرِثُهَا خَلَفٌ عَنْ سَلَفِ)(1).
وهو من الناحية الشخصية:
أ: ذلك الشخص الخبير والفقيه في مجال اختصاصه ، وهو ذلك الذي خضع لاشراف تربوي - فقهي مباشر من حجة الله على الأرض: (كَانَ مَولَانَا أَبُو الحَسَنِ الهَادِيَ علیه السلام فَقَّهنِي فِي عِلْمِ اَلرَّقِيقِ... فَاجْتَنَبْتُ بِذَلِكَ مَوَارِدَ الشُّبُهَاتِ حَتَّى كَمَلَتْ مَعْرِفَتِي فيهِ وَأحسَنتُ الفَرقَ بَينَ الحَلالِ وَالحَرامِ).
ص: 79
ب: وهو ذلك الشخص المطيع ، الملتزم اشد الالتزام بالتعاليم وبالحدود التي يرسمها له الإمام الهادي عليه السلام :(فَكَنَت لَا اِبتَاعَ وَلَا أَبِيعَ اِلَّا بِإِذنِه )و:( فَاَمتَثِلَت جَمِيعَ مَا حَدِّه لِي مَولَايَ أَبُو الحَسَنِ علیه السلام فِي أَمرِ الجَارِيَة )بل انه هو ذلك الذي يتحفظ حتى من الوقوع في الشبهات:(فَاجَتَنِبَ بِذَلِكَ مَوارِدَ الشَّبَهَات)(1).
ج: وهو ذلك الشخص الامين الثقة المعتمد، كما يصرح الإمام علیه السلام ،به بل كل سلسلة آبائه كانت كذلك: (وَاَنتُم ثَقَاتَنَا أَهلُو البَيتِ)(2).
د :وهو ذلك الشخص الكتوم،الحافظ للأسرار،ولذلك أنتخبه الإمام عليه السلام لهذه المهمة، وصرح له ب : (وَاِنِّي مَزكِيكَ وَمُشرَفِکَ...بِسَر اَطلِعَكِ عَلَيه)(3).
ه : وهو الكفوء والذكي في طريقة التعامل: (فَمَا زِلْتُ أَشْلَحُهُ فِي ثَمَنِهَا حَتَّى اِسْتَقَرَّ اَلْأَمْرُ فِيهِ عَلَى مِقْدَارِ مَا كَانَ اصْحَبَنِيهِ مَوْلايَ عَلَيْهِ السَّلامُ مِنَ الدَّنَانِيرِ )وقد قام بدوره خير قيام فاشترى الجارية، دون ان يعرف من هو ؟ ولمن يشتري؟ ثم استطاع ان يحافظ على الطابع
ص: 80
السري للمهمة فترة وجوده في بغداد حتى أوصل الأمانة إلى سامراء سالما ولذلك كله فقد خصه الإمام (بفضيلة يسبق بها سائر الشيعة).
فرحمك الله يا بشر بن سليمان وأعطاك من الدرجات اسناها،ومن الخيرات اسماها، فلقد كنت الجندي النموذجي، و لقد كنت صاحب السعادة الكبرى، حيث حظيت بخدمة الإمام الهادي علیه السلام و خدمة الإمام العسكري علیه السلام وحيث حظيت بشرف الائتمان -لفترة من الزمن - على والدة صاحب الزمان وخليفة الرحمن وإمام الأنس والجان (عج الله تعالی فرجه الشریف) ...].
ص: 81
[ومما يلفت النظر : الطابع السري الذي لف القضية باجمعها :
أ : فالإمام الهادي علیه السلام يرسل خادمه الشخصي بعد ان يمضي هوي من الليل متجنبا بذلك أعين الرقابة ورصد الجواسيس.
ب : ثم يؤكد الإمام علیه السلام رغم كل الثقة المتوافرة في بشر، على الطابع السري للقضية، ويصرح بان الأمر: (سَرَّ اَطلِعَك عَلَيهِ)(1) دون غيرك .
ج:ثم يأمره ب(الاشراف عن بعد)على(عمر بن يزيد النخاس)عامة النهار،محذرا اياه من الاختلاط بسائر الزبائن ومن تعرضه للأضواء فترة اطول من الزمن، بل عليه ان يتحرك في ساعة الصفر فقط.
د:ثم يبرمج الإمام علیه السلام الأمر بحيث لا يعرف حتى النخاس الجهة التي تريد شراء الجارية، بل انه (بعض الأشراف )ولا غير مع ايهام يبعد التفكير عن أي انتساب للإمام (عليه السلام) فهو قد كتبه (بلغة
ص: 82
رومية وخط رومي) وهو قد (وَصَفَ فِيهِ كَرَمِهِ وَوَفَاءَهُ وَنَبلَهُ وَسَخَاءَهُ) ثم: (فَنَاوِلْهَا لِتَتَأَمَّلَ مِنْهُ اخلاقَ صَاحِبَهُ فَانٍ مَالَتْ إلَيهِ ورَضِيَتْهُ فَانّا وَكِيلُهُ في ابْتِياعِها مِنكَ).
فرغم ان هنالك اتفاقا تاريخيا وقدرا الهيا محتما ورؤيا صادقة ومعرفة غيبية بمجريات الأمور وحوادث المستقبل الا أن الصيغة التي طرحت بها القضية كانت صيغة عادية ليس فيها أي طابع إثارة أو أية شارة مريبة تكشف عن الموقع الإستراتيجي الهام الذي تحتله هذه لجارية وعن شمس سماء الكون التي ستطل عبر هذه النافذة ... ] .
ص: 83
[واخيرا .. و ها هي ذي سيدتنا المهاجرة والاميرة... الأسيرة ،وبعد فترة انتظار مرة وصعبة، تفاجأ بمبعوث الإمام علیه السلام وتفاجا اكثر فاكثر عند ما تصل بيدها رسالة شخصية من الإمام الهادي علیه السلام فترى نفسها محلقه في سماء المجد، وترى أحلامها الوردية متجسدة على
ارض الواقع وعلى بعد خطوات فقط فتنفجر بالبكاء الشديد... لماذا ؟
انه الخوف الفطري من احتمال عقبات أخرى في الطريق...؟
انها :لم تكن تخاف من انهيار المشروع وتحطم الوعود ..
كلا وألف كلا، إنها وعود إلهية حقيقة ومكاشفات او رؤى صادقة لا تحتمل التشكيك على الاطلاق ... او ليس السيد المسيح علیه السلام ورسول الإسلام (صلی الله علیه وآله) وفاطمة الزهراء (علیها السلام) والإمام العسكري علیه السلام و ... قد تعاهدوها طوال الفترة الماضية، وأتحفوها
ببشارة تتلو الأخرى ؟!.
فلماذا البكاء الشديد إذن؟ .
ربما للتخوف من بعض التأخير في الأحداث ومن عرقلة قد يسببها عناد النخاس وإصراره على عدم تسليمها لمبعوث الإمام علیه السلام ولذلك
ص: 84
هددته قائلة: (بعني من صاحب هذا الكتاب. وحلفت بالمحرجة المغلظة انه حيثما امتنع من بيعها منه قتلت نفسها)(1) .
وعندما يستسلم النخاس ويسلمها لمبعوث الإمام علیه السلام لنا ان نتصور الحالة النفسية والسعادة الكبرى التي ملأت كيان الفتاة الأميرة.. الأسيرة، وهي تستشعر -بعد تلك الرحلة المرهقة و التجارب الخطيرة - وصولها إلى بر الامان وديعة عند مبعوث الإمام علیه السلام وفي يدها رسالة من قبل حجة الله على الأرض، فليس من المستغرب ان نجدها بمجرد الوصول إلى مكان آمن تستخرج رسالة الإمام علیه السلام من جيبها وتلثمه مرة بعد أخرى وتضعه على خدها وتمر به على عينيها وتمسحه على بدنها....
انها الرسالة .. الحلم ...
إنها رسالة الحب والولاء...
رسالة من والد الحبيب والامل المشرق في سماء حياتها المستقبلة....
انها الحقيقة .. الخيال.
بل الحقيقة الأسمى من الخيال ...
بل إنها باكورة عطرة لاشراقة نور الاله على جميع الخلائق في عالم الغد...
إنها بشارة مبكرة بولادة قائم آل محمد (عج الله تعالی فرجه الشریف) ...]
ص: 85
[بعد رحلة السفر الشاقة، وبعد عناء الهجرة ومرارة الأسر، ها هی سيدتنا نرجس (علیها السلام) تصل - بعد طول انتظار - إلى دار الإمام الهادي علیه السلام وفي أول لقاء بين الأميرة .. الأسيرة، وبين والد زوجها المترقب يجري الحوار التالي:
-: كيف أراك الله عز الإسلام وذل النصرانية( إشارة إلى انتصار جيوش المسلمين على جيش قيصر ملك الروم وجد السيدة نرجس )
وشرف أهل بيت محمد (صلی الله علیه وآله) ؟.
-:كيف اصف لك يا ابن رسول الله، ما أنت اعلم به مني؟
- : فاني أريد ان اكرمك، فأي احب إليك : عشرة آلاف دينار؟
أم بشرى لك بشرف الأبد؟ .
-: بل البشرى.
-: فأبشري بولد يملك الدنيا شرقا وغربا ويملأ الأرض قسطاً وعدلا كما ملأت ظلما وجورا.
-: ممن؟
ص: 86
-:ممن خطبك رسول الله (صلى الله عليه وآله سلم )له ليلة. كذا، من من شهر كذا، من سنة كذا،( بالتاريخ الرومي)؟.
-: من المسيح ووصيه..
-:ممن زوجك المسيح ووصيه؟.
- :من ابنك أبي محمد ( الإمام العسكري علیه السلام)
-: هل تعرفينه؟.
-:وهل خلوت ليلة من زيارته أياي منذ الليلة التي أسلمت فيها على يد سيدة النساء : أمه. (1)
ص: 87
[تشدنا في هذا الحوار نقاط مضيئة كثيرة، سنشير إلى بعضها اشارة عابرة:
فالإمام الهادي علیه السلام يريد ان يركز في الاذهان حقيقة أيمانها العميق ،بالإسلام، وتبرأها عن ديانة جدها وابيها: النصرانية، فها هو يبتدأ بالسؤال - كتجاهل العارف(1) - : كيف أراك الله عز الإسلام وذل النصرانية وشرف أهل محمد(صلی الله علیه وآله)؟.
وها هي ذي تجيب اجابة تتزاوج فيها المعرفة بالادب فتكشف عن ادب جم ،ومعرفة عميقة بمكانة آل بيت الرسول (صلی الله علیه وآله) : (كَيفَ اَصفَ لَكَ يَا اِبنَ رَسُولِ اللهِ مَا أَنتَ اَعرَف بِه مِنِّي)؟.
والعبارة دقيقة فهي تشير إلى انه علیه السلام اعرف بنفسها منها، وتصرح بانه اعرف ب(رؤيتها) ونظرتها لتلك الحقائق، منها (2).
ص: 88
ثم ها هو الإمام علیه السلام يكشف لنا عن سموها الروحي وعلو همتها، عبر سؤال آخر يوجهه إليها: (فاني أريد ان اكرمك فاي احب إليك؟ عشرة آلاف دينار ؟ أم بشرى لك بشرف الأبد)؟ .
وعشرة آلاف دينار مبلغ ضخم جدا في مقاييس ذلك الزمن ، الا انها عليها السلام ترجح - ودونما أدنى تردد - الكفة الأخرى، ذات الطابع المعنوي، فتقول: (بل البشرى )
وإذا دققنا النظر، عرفنا ان الذي يقع في الكفة المقابلة هو مجرد (البشري) لا غير فليس (مدلول) البشرى هو الذي وقع في الكفة المقابلة، بل (البشرى) بذاتها(1) .
وبعد ذلك نجدها تتساءل: (ممن)؟
انه تساؤل يهدف إلى تحول( علم اليقين) إلى( عين اليقين)، فهو كطلب إبراهيم علیه السلام:( أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)(2) وتكشف عن ذلك بوضوح اجابتها اللاحقة:(من ابنك أبي محمد )فليتأمل.
ص: 89
والحوار يستمر مقصودا منه تكريس سلسلة من الحقائق التاريخیة،وتقرير وتأكيد صدق تلك المكاشفة الخالدة( التي حدثت لها بعد الإجهاض الغيبي لمشروع تزويجها من ابن أخيه وتساقط
الصلبان ...)(1)وصحة كل تلك الرؤى والاحلام التي شاهدت في الإمام العسكري(عليه السلام) ذلك ان كل ذلك يكون عندئذ قد حظى ب (تقرير) الإمام المعصوم علیه السلام و كفى بها شهادة واكبر بها من سعادة ].
ص: 90
[لقد احبت السيدة حكيمة ابنة الإمام الجواد علیه السلام أميرتنا المهاجرة، منذ النظرة الأولى فعند ما دخلت السيدة حكيمة على الإمام الهادي علیه السلام خاطبها الإمام، مشيرا إلى الوافدة الجديدة التي قدمت للتو (ها هية) ... انها هي تلك الفتاة الموعودة وهي ذات الشرف الكبير والمجد الخالد..
وكانت الحفاوة بالأميرة .. الأسيرة كبيرة، وكان اللقاء حاراً بين المرأتين، فقد (اعتنقتها طويلاً) وقد (سرت بها كثيرا) (1).
وسيكشف لنا المستقبل عن علاقات تنضح بالمحبة وتتموج بالاحترام الكبير بين تينك المرأتين العظيمتين : أخت الإمام الهادي علیه السلام ، وزوجة الإمام العسكري علیه السلام.
وهنا - وبعد لحظات الترحيب الحافلة - خاطب الإمام الهادي علیه السلام أخته السيدة حكيمة قائلاً: (يا بنت رسول الله خذيها إلى مترلك، وعلميها الفرائض والسنن فانها زوجة أبي محمد (العسكري) وأم القائم (عليهم السلام)(2).
ص: 91
وهكذا انتقلت السيدة نرجس (علیها السلام) إلى منزل السيدة حكيمة (علیها السلام) منذ الساعات الأولى، وعندما نتصفح التاريخ نكتشف ان السيدة حكيمة كانت للسيدة نرجس خير أم، كما كانت خير ،مربية فلقد اهتمت بها اكبر الاهتمام عاطفياً وتربوياً، فملأت بذلك عليها حياتها بالحب والمودة والسعادة، وخفّفت عليها إلى الحد الأقصى آلام الغربة وعوضتها عن امها وابيها وأسرتها بعواطف جياشة ومحبة خالصة واهتمام كبير وتربية نموذجية (1).]
ص: 92
[وعن الأحداث التي سبقت اقتران السيدة نرجس (علیها السلام) بالإمام العسكري علیه السلام وعن اللمسات الأخيرة لذلك الفجر السعيد، تحدثنا السيدة حكيمة قائلة:
(... كانت لي جارية يقال لها نرجس فزارني ابن أخي( الإمام العسكري علیه السلام) فأقبل يحدق النظر فيها، فقلت له يا سيدي لعلك هويتها فارسلها إليك؟.
فقال علیه السلام: لا يا عمة ولكن أتعجب منها (أي: أرى فيها شيئاً عجيباً ).
فقلت : وما أعجبك منها؟.
فقال علیه السلام: سيخرج منها ولد كريم على الله عز وجل، الذي يملأ الله به الأرض عدلاً وقسطاً.
فقلت: فارسلها إليك يا سيدي؟
فقال علیه السلام: استأذني في ذلك أبي.
قالت حكيمة: فلبست ثيابي واتيت متزل أبي الحسن علیه السلام فسلمت وجلست فبدأني عليه السلام وقال: يا حكيمة ابعثي نرجس إلى ابني أبي محمد.
ص: 93
فقلت: يا سيدي على هذا قصدتك على ان استاذنك في ذلك.
فقال علیه السلام : يا مباركة ان الله تبارك وتعالى احب ان يشركك في الأجر ويجعل لك في الخير نصيباً.
قالت حكيمة : فلم البث ان رجعت إلى مترلي، وزينتها ووهبتها لابي محمد عليه السلام وجمعت بينه وبينها في مترلي، فأقام عندي أياماً، ثم مضى إلى والده علیه السلام ووجهت بها معه(1)).
ونقتبس ههنا بعض الفقرات مسلطين عليها بعض الأضواء:
فلربما يتسائل القاري الكريم عن: (فأقبل يحدق النظر إليها) فكيفيمكن ان يقوم الإمام العسكري علیه السلام بذلك ؟
والجواب ،واضح، فان من الثابت شرعاً:
أ: ان الإنسان يحق له ان ينظر إلى المرأة التي يريد الزواج منها ويتفحصها بنظراته(2).
ص: 94
ب :ان الامة يحل النظر إليها وحتى شتى الاستمتاعات بها عبر(التحليل) من المالك(1). ومن الواضح وجود( اذن فحوى )في هذا المقام او الاذن الصريح من الإمام الهادي علیه السلام لابنه الإمام العسكري علیه السلام .
ج: ويحق للمرء (2)أن ينظر إلى ما اعتادت الإماء إظهاره من بدنهن نظرة عادية.
د :إضافة إلى عدم وجود دليل على التحديق في الأكثر من الوجه،اذ لعلها عليها السلام كانت متقنعة لم يظهر منها الا وجهها المبارك و المشهور جواز النظر إلى الوجه والكفين نظرة عادية(3)
ص: 95
ثم يلفتنا في هذا المقطع التاريخي ذلك الأدب النموذجي، فالإمام العسكري علیه السلام عند ما تعرض عليه عمته حكيمة: ارسال السيدة نرجس إليه (للزواج منها، او عبر تحليلها له او عبر هبتها له) يجيب الإمام علیه السلام قائلا:(استأذني في ذلك ابي )فعلى الرغم ان الرجل له الحق شرعا في ان يتزوج وليس رضا الوالد شرطا (1)الا ان الإمام علیه السلام يطلب منها أن تستأذن والده عليه السلام في ذلك .
ثم ان (الحياء) يصده عن ان يباشر بطلب ذلك من ابيه مباشرة ،فيطلب من عمته حين ذاك العرض ان تستأذن اباه في ذلك .
و (للحياء) قيمة كبرى في الشريعة الإسلامية(2)، ولذا ورد في وصف الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم): (كان اشد حياء من العذراء في خدرها)(3) ..
انه عليه السلام نموذج الخلق الرفيع السامي، ومظهر من مظاهر طهارة النفس وسلامتها وسموها ويذكرنا ذلك ب ( حياء) الإمام
ص: 96
أمير المؤمنين علي علیه السلام من طلب يد السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام )من الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)(1)] .
[و بعد ذلك ننتقل الى نقطة أخرى جديرة بالالتفات فان تسلسل الأحداث التاريخية اشار لنا :
بان السيدة نرجس عليها السلام قد تعرضت للأسر وهي في بلاد الحرب،ثم اشتراها مبعوث الإمام عليه السلام بثمن باهض بعدها انتقلت الى دار الإمام الهادي علیه السلام فدار السيدة حكيمة أخت الإمام الهادي علیه السلام ] .
ومهما تكن البواعث النبيلة الكامنة وراء عملية (الأسر) هذه ذلك انها القت بنفسها في وثائق الأسر امتثالا لأمر الإمام العسكري علیه السلام اذ كانت هي الطريقة الوحيدة العملية للوصول الى
سامراء، فانه حسب الشريعة الإسلامية وحسب الشرائع السماوية الاخرى وحسب التقاليد والاعراف السائدة في ذلك اليوم عند كافة.
ص: 97
الشعوب والامم تعد( الأسيرة من ديار الحرب )مملوکه وذلک، حسب شروط مذكورة في الفقه(1).
وكما اباح الله للرجل ان يتمتع بالمرأة عبر صيغة عقد لا تعدو كلمات قلائل، كذلك اباح له ان يتمتع بها عبر عملية الاسر بشرائطها الخاصة، وليس في ذلك ادنى غضاضة - شرعيا- حسب الديانات السماوية وحسب أعراف عالم ذلك اليوم أيضا، قال الله تعالى:( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَاِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ)(2).
ولقد كانت أمهات عدد من الأنبياء العظام والائمة المعصومين (عليهم السلام )من الإماء (3).
ص: 98
ولكن .. ورغم كل ذلك، فقد شاءت الإرادة الالهية ان تحيطتلك المرأة المهاجرة بهالة من التقديس والكرامة وان تمنحها مزيدا من الإجلال والاكبار.
وهكذا كان...
[ففي الخطوة الأولى نجد السيدة حكيمة (تهب) السيدة نرجس و (تهديها) للإمام العسكري علیه السلام كما صرحت بذلك في المقطع السابق: (فلم البث ان رجعت الى ،مترلي وزينتها ووهبتها لإبي محمدالعسكري علیه السلام )(1).
وفي الخطوة الثانية: نجد الإمام العسكري علیه السلام يقوم ب(عتقها)وتحريرها.
وفي الخطوة الثالثة: يعقد قرانه عليها وتتم عملية الزواج المبارك .
والذي يدل على هاتين الخطوتين الأخيرتين: تصريح الإمام الهادي عليه السلام حيث خاطب عمته السيدة حكيمة قائلا : (يا بنت رسول الله أخرجيها - أي السيدة نرجس - الى مترلك وعلميها الفرائض والسنن فانها زوجة ابي محمد وأم القائم)(2).
وهذه الرواية صريحة بان العلاقة كانت علاقة الزوجية بينهما عليها السلام وهي دالة بالدلالة الالتزامية - وان شئت فقل: بدلالة
ص: 99
الاقتضاء (وهي ما يتوقف صحة او صدق الكلام عليه) او فقل: بالبرهان الإني اذ الزواج معلول بنحو العلة المعدة للعتق-على عملية العتق سابقة على عملية الزواج الميمون.
ذلك ان من الواضح ان (الامة) لا يطلق عليها (زوجة) بل هما قسيمان كما يظهر بوضوح من الاية الكريمة:( اِلَّا عَلِىَ أَزوَاجَهُم أَو مَا مَلِكَت أِيمَانَهُم)(1)...
وإطلاق عبارة (الامة) او (الجارية) - على السيدة نرجس عليها السلام - في بعض الروايات على فرض كونه بعد مرحلة الزواج هذه انما هو بلحاظ ما كان ذلك ان إطلاق المشتق على ما مضی
بلحاظ حال التلبس حقيقة ولا بذلك اللحاظ مجاز(2).
وما اغرب حركة التاريخ وتقلبات الزمن...
فقد كانت السيدة نرجس = ريحانة حتى الامس القريب سيدة الإمبراطورية الرومانية واذا بنا نجدها في ملابس تنكرية مهاجرة نحو بلاد بعيدة بعيدة لتقع أسيرة في أيدي طلائع جيوش المسلمين.
ثم ها هي تعرض في الأسواق ك (أمة) لتنتقل بعدها الى دار السيدة حكيمة لفترة من الزمن، ثم تبلغ القمة في مدارج السعادة
ص: 100
والكمال حيث تتزوج حجة الله على الأرض، وتنجب قائم آل محمد (عج الله تعالی فرجه الشریف).
انها حركة متواصلة من زهرة الحياة الدنيا نحو مدارج عام القدس ومراقي الكمال والبهاء والجلال.]
وفي منزل الإمام العسكري علیه السلام التشدنا الى السيدة (علیها السلام) ملاحظات عديدة، اشرنا الى العديد منها في مواضع شتى من هذا الكتاب وسنشير ههنا الى واحدة منها:
وهي تلك التشكيلة المتنوعة من (الأسماء) التي أطلقت عليها، فماذا وراء ذلك؟
هذا ما سنشير إليه في البحث القادم باذنه تعالى .
ص: 101
*ماذا وراء التسميات المتكثرة ؟(1)
[مما يلفت نظر الباحث ان السيدة والدة الإمام الحجة (عج الله تعالی فرجه الشریف)كانت تحمل أسماء عديدة قاربت العشرة أسماء!
فلقد كان اسمها الحقيقي (مليكة) واذا بنا نجدها تسمى بأسماء عديدة أخرى منها نرجس ريحانة سوسن، خمط ،سبيكة، حديثة، حكيمة ،صقيل او صيقل، ومريم !
فلماذا كل تلك التسميات؟
ربما يعود السبب الى" الظرف الامني "الذين كانت تعيشه السيدة نرجس(علیها السلام) فلقد كانت الظروف بالغة الحساسية، وكانت السلطات متخوفة اشد التخوف من الوليد المنتظر (عج الله تعالی فرجه الشریف) الذي سيقمع الله على يديه جبابرة الكفر وعتاة الطغاة، وكانت الأعين ترصد كل حركة في بيت الإمام علیه السلام و كان وضع نساء وجواري الإمام العسكري علیه السلام ادق ،وأخطر وكان أي تردد لذكر السيدة نرجس بالذات واية اشارة تدل على مكانتها وأهميتها ومنزلتها سيعرضها بالذات لخطر مضاعف ولرقابة أشد.
ص: 102
وهكذا كانت التسميات المتعددة .
ولربما كان كل جمع او عدد من الأفراد يعرفها باسم معين دوز سائر الاسماء، فكان الحضور الحقيقي والدائم لتلك الجوهرة النادرة قد غطي بستار من تشكيلة متنوعة من الأسماء التي تؤمن اقل قدر ممكن من تداول اسمها الحقيقي الذي سيثير مزيدا من الشبهات لو تكرر بشكل متزايد.
والذي يؤيد هذه الملاحظة: ان السيدة نرجس (علیها السلام) كانت تحمل فيما تحمل :
اسم عمة الإمام العسكري علیه السلام (حكيمة).
واسم والدة الإمام العسكري علیه السلام (حديث)(1) و (سوسن)(2).
واسم والدة الإمام الجواد علیه السلام (سبيكة)(3) و(ريحانة)(4)، وكل ذلك یؤمن تغطية جيدة لها عليها السلام .
ص: 103
ويؤيد ذلك أيضا حالة التكتم المغديد على اسم الإمام الحجة عليه السلام، فكما قال النائب الأول للإمام الحجة (عج الله تعالی فرجه الشریف):(اِذَا وَقَعِ الاَسمِ وَقَع الطَّلَبَ فَاللهِ اللهِ اِتَّقُوا اللهِ وَاَمسَكُوا عَن ذَلِكَ)(1) .
فرعاية للإمام الحجة (عج الله تعالی فرجه الشریف) وتكتما على ولادته كان لابد من عدم ذكر اسمه ابدا، بل ربما تحريم(2) ذكر اسمه أيضا كما في العديد من الروايات(3).
ص: 104
وكان لابد أيضاً من التغطية على ولادته وعلى والدته أيضاً، ولربما للسبب نفسه كان لأمهات الأئمة الرضا (1)والجواد(2) والهادي(3) والعسكري (4)(عليهم افضل الصلاة والسلام) أيضاً عدد من الأسماء حيث ان الطغاة كانوا يتوقعون ان يكون من إحداهن الإمام المنتظر (عج الله تعالی فرجه الشریف) .
ويؤيد ذلك أيضاً : انها (عليها السلام)سمت هي بنفسها نفسها ب(نرجس) وهو اسم متداول للجواري كي تستر على النخاسين وجمهرة الناس من المشترين وغيرهم اصلها الحقيقي، كما تصرح هي الله عليها قائلة: (ولقد سألني الشيخ - الذي وقعت إليه في سهم الغنیمة-عن اسمي فانكرته وقلت نرجس، فقال: اسم الجواري) (5).
ص: 105
وهكذا نكتشف ان ظروف التقية واحترازاً من الأعين الراصدة والآذان المرهفة لعملاء بني العباس، وصوناً لتلك الجوهرة القدسية ،وتشتيتاً لتمركز الحواس وخلطاً للاوراق، واعفاءاً لاي اثر صارخ وتضييعاً لمعالم تكشف عن الترابط بين هذه المرأة وذلك الوليد كل ذلك كان هو السبب الكامن وراء سلسلة من الخطوات الحذرة والاحتياطات الاحترازية التي ربما كان منها تعددية الأسماء ورمزيتها(1) .
ص: 106
منذ اللحظات الأولى التي حلت فيها السيدة مليكة =نرجس بنت يشوعا بن قيصر إمبراطور الروم، دار الإمام الهادي علیه السلام بدأت البشارات ب (اشراقة شمس الأكوان) وب- ( ميلاد صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف ) تترى لتملأ كيان السيدة بسعادة لا توصف وبجلال لا يقاربه جلال .
ص: 107
ففي اللحظات الأولى لدخولها - بعد رحلة السفر الشاقة ومعانلة الأسر المؤلمة - دار الإمام علیه السلام يخاطبها الإمام قائلا :فاني اريد ان أكرمك، فايما احب إليك: عشرة آلاف دينار أم بشرى لك بشوف الأبد ؟
قالت : بل البشرى.
فقال عليه السلام: فابشري بولد يملك الدنيا شرقا وغربا، ويملاً الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا (1).
وعندما يستدعي الإمام الهادي علیه السلام أخته السيدة حكيمة لتتعرف على الوافدة الجديدة، يقول لها في الدقائق الأولى : يا بنت رسول الله خذيها الى مترلك وعلميها الفرائض والسنن، فانها زوجة أبي محمد العسكري وأم القائم (عليهما السلام)(2).
وعندما يزور الإمام العسكري علیه السلام عمته السيدة حكيمة فيجد في دارها السيدة نرجس يقول لعمته متحدثا عن السيدة نرجس= ملكية(سيخرج منها ولد كريم على الله عز وجل، الذي يملأ الله به الأرض عدلا وقسطا)(3)
ص: 108
وهكذا كان الامل يورق ويزهر وينمو ويكبر في صدر الشابة المهاجرة، وكانت آفاق المستقبل تبدو بيضاء ناصعة البياض نضرة المحيا رائعة أخاذة...
وفي ليلة النصف من شعبان - وقبيل مولد النور- تتوالى بشائر أخرى مؤكدة ومطمئنة محطمة بذلك كل الشكوك والوساوس والاوهام ] .
ص: 109
[و بعد فترة من الزمن ... ينتقل نور الله الأعظم من طب الإمامة الى ذلك الرحم الطاهر...
وتسمو السيدة نرجس فوق ذرى المجد، وتتسامى في مدارج الكمال، وتكون محطة للبركات الإلهية والعنايات الربانية، وتصقل تلك الروح الطاهرة الشفافة اكثر فاكثر ، وتنعكس عليها إشعاعات نور ولي الله الأعظم، وتحلق اكثر فاكثر في آفاق الملكوت وتزداد قربا عند خالق البرايا والكائنات وتسمو وتسمو الى ما شاء الله .
واذا كانت ازهار الربيع اليانعة تبعث باريجها الأخاذ في الاجواء وتتموج بروائحها العطرة الى مدى شعاعي يتناسب مع روعة الورد ونضارته ونوعيته.
واذا (العالم المتقي) يتموج بتموجات روحية .. فكرية ،حتى دون ان ينطق ببنت شفة على من يحيط به فيترك تاثيرات ايجابية كبيرة على أية نفس تحمل بعض القابلية والصلاحية، حتى كانت النظرة الواحدة الى وجه العالم أحيانا كثيرة تحدث تغييرا وقد يكون جذريا،
ص: 110
في الكثير من الارواح ولذلك كان( اَلنَّظَرَ اِلَى وَجَةَ العَّالَمَ عِبَادَة )(1)كما ورد في الحديث.
اذا كان كل ذلك كذلك، فكيف بتلك المرأة القديسة والملاك الطاهر التي ظلت تحمل في أحشائها وبين حنايا ضلوعها نور الله الاكبر ولمدة تسعة اشهر واكثر ؟!.
أي (اثر وضعي) سيتركه هذا (الحمل المبارك) على تلك الأم الطاهرة؟
واي (سمو تكوينى) تتعلق مشيئة خالق الأكوان بايجاده في كيان تلك المرأة التي اضحت تغذي - بدمها وروحها وجسمها -: ولي الله الأعظم ؟! ] .
ص: 111
وكما تدخلت السماء اعجازياً ل(اخفاء)حمل أم موسى به علیه السلام رغم الرقابة الصارمة، كذلك تدخلت العناية الإلهية غيبيا ل (اخفاء) حمل السيدة نرجس ب (امام العصر) (عج الله تعالی فرجه الشریف) فلم تظهر عليها أية علامة من علامات الحمل ورغم انقضاء عدة أشهر (1)ورغم الخبرة الكبيرة التي كانت تمتلكها النساء اللاتي تفرغن لاستكشاف ذلك!.
[بل اننا نجد انه وحتى في ليلة النصف من شعبان عام 255 ه وهي ليلة ميلاد الإمام الحجة (عج الله تعالی فرجه الشریف)، نجد ان "حمل" السيدة نرجس (علیها السلام) بالإمام الحجة (عج الله تعالی فرجه الشریف) لا يترك ادنى اثر ، بل أي اثر على الإطلاق حتی ان السيدة حكيمة تتساءل من الإمام العسكري علیه السلام في تلك الليلة :(ومن أمه )؟
فيقول علیه السلام : (نرجس).
فتقول ربما مستغربةً: (جَعَلنِيَ اللهَ فَدَاكَ مَا بِهَا اَثَر )
فيقول علیه السلام :(هُوَ مَا اَقُولَ لِكَ )(2).
ص: 112
وفي رواية أخرى:
فقلت ممن يا سيدي ولست ارى بنرجس شيئاً من اثر الحبل؟
فقال علیه السلام: من نرجس لا من غيرها .
قالت: فوثبت إليها فقلبتها ظهراً لبطن فلم أر بها اثر حبل، فعدت إليه فأخبرته بما فعلت.
فتبسم علیه السلام ثم قال لي :اذا كان وقت الفجر يظهر لك بها الحبل لان مثلها مثل أم موسى (1)لم يظهر بها الحبل ولم يعلم بما احد الى وقت ولادتها ...).
بل وحتى قبيل الفجر وقبيل (مولد النور) بقليل أيضاً ... ]
واننا عندما نقرأ في زيارتها عليها السلام: السلام عليك يا شبيهة أم موسى علیه السلام(2)، وعندما نجد هذا التشبيه في الروايات:(مثلها مثل أم موسى)(3) - كما سبق - ونتأمل عبارة (شبيهة أم موسى )و(مثلها مثل أم موسى )ونستند الى إطلاقها الاحوالي (4)والى القرائن المقامية المكتنفة بالمقام نكتشف ان "الشبه" و"المثلية" لم تكن في "الإخفاء الاعجازي للحمل "فقط.
ص: 113
بل تتعداه الى المشابهة في " الضغط النفسي الهائل" الذي تحملته كلتا المرأتين إثر الرقابة الصارمة، وخوفاً من احتمال انكشاف الأمر بما قارن ذلك من "ملابسات" الرقابة والحجز، وصبراً على الأذى في ذات الله، ثم المشابهة في الربط على القلب وبعث الطمأنينة في النفس، وكذلك في الاعتصام بحالة الكتمان المطلق للسر الكبير الذي قلما كان بمقدور امرأة ان تمنع نفسها من البوح به ولأشهر طويلة !وفي جهات أخرى أيضاً.
وعدد من هذه النقاط صر صرح به او اشار إليه القرآن الكريم حيث يقول:(وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغًا ۖ إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(1) .
ومن قبل :( وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي)(2).
ومن بعد (كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ)(3).
[وقد صرح الإمام العسكري علیه السلام بعدد من اوجه الشبه هذه في قوله مخاطباً السيدة حكيمة (علیها السلام): ( يا عمة ردّيه - أي الإمام
ص: 114
المنتظر (عج الله تعالی فرجه الشریف) في الساعه الأولى لولادته - الى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم ان وعد الله حق ولكن أكثر الناس لا يعلمون)(1) .
ويقول الإمام العسكري علیه السلام:(لان مثلها - أي السيدة نرجس -مثل أم موسى لم يظهر بها الحبل ولم يعلم بها أحد الى وقت ولادتها، لان فرعون كان يشق بطون الحبالى في طلب موسى وهذا نظیر موسى).(2)
ويقول علیه السلام أيضاً، مخاطباً السيدة نرجس عند ما رأها تبکی:(اسكني فان الرضاع محرم عليه الا من ثديك وسيعاد إليك كما ردّ موسى الى أمه وذلك قوله عز وجل: فَردَدنَاهَ اِلَّى أَمَّه كِيَ تَقَرَ عَينَهَا وَلَا تَحزَن )(3)].
كما أشارت إليه زيارتها عليها السلام: (أَشهَد أَّنَّكَ ... اَجتَهَدَت فِي مَرضَاةَ اللهَ وَصَبِرَت فِيَ ذَاتَ اللهَ وَصَبَرت فِي ذَاتَ اللهِ وَحَفَظَت سَرِّ اللهِ ... وَبَالِغَت فِي حَفَظَ وَلِيَّ اللهِ)(4).
وهنالك اوجه شبه عديدة أخرى بين السيدتين، منها:
ص: 115
اضطرار كلتا السيدتين ل (فراق الوليدين )منذ السويعات الأولى للولادة - كما سنرى - واللطف الإلهي الذي حظيت به كلتاهما بعد ذلك الوعد الإلهي باعادة موسى الى أمه :(اِنَّا رَادُوهُ إِلَيك ...) (1)
و بانجاز الوعد :(فَردَدنَاهَ اِلَّى أُمَّه كِيَ تَقَر عَينَهَا وَلَا تَحزَنُ)(2) وكذلك الوعد الإلهى باعادة الإمام المهدي الى أمه ثم انجاز الوعد - كما سنرى لاحقاً انشاء الله- .
ص: 116
[... وإلان .. لنستمع الى احداث تلك الليلة التاريخية السعيدة- ليلة ميلاد قائم آل محمد (عجل الله تعالى فرجه الشريف) - تحدثنا عن مسلسل الأحداث تلك السيدة حكيمة ابنة الإمام الجواد، وأخت الإمام الهادي وعمة الإمام العسكري (عليهم افضل الصلاة وأزكى السلام ):
(قالت: بعث إلي ابو محمد الحسن بن علي علیه السلام فقال: يا عمة اجعلي إفطارك الليلة عندنا فإنها ليلة النصف من شعبان، وان الله تبارك وتعالى سيظهر في هذه الليلة الحجة، وهو حجته في أرضه.
وفي كتاب الغيبة:(فان الله عز وجل سيسرك بوليه وحجته حجته على خلقه خليفتي من بعدي).
وفي رواية: (فانه سيولد- الليلة - المولود الكريم على الله عزوجل، الذي يحيي الله عز وجل به الأرض بعد موتها).
قالت: (حكيمة) : فقلت له : ومن أمه؟
قال لي :نرجس.
قلت له : جعلني الله فداك، ما بها اثر .
فقال علیه السلام: هو ما اقول لك.
ص: 117
قالت فجئت، فلما سلمت ،و جلست جاءت تترع خفي وقللت لي: يا سيدتي وسيدة اهلي كيف أمسيت؟
فقلت : بل أنت سيدتي وسيدة اهلي.
فانكرت قولي وقالت: ما هذا يا عمة ؟ (1).
فقلت: يا بنية ان الله سيهب لك في ليلتك هذه غلاما سیدا فی الدنيا والآخرة، فجلست واستحيت.
فلما ان فرغت من صلاة العشاء الآخرة، افطرت وأخذت مضجعي فرقدت ،فلما ان كان في جوف الليل قمت الى الصلاة، ففرغت من صلاتي وهي نائمة ليس بها حادث، ثم جلست معقبة، ثم
،اضطجعت ثم انتبهت فزعة وهي راقدة ثم قامت فصلت.
وفي رواية: فوثبت سوسن فزعة، وخرجت واسبغت الوضوء،(2) ثم عادت فصلت صلاة الليل حتى بلغت الوتر، فوقع في قلبي ان الفجر قد قرب فقمت لأنظر ، فاذا بالفجر الاول قد طلع، فتداخل قلبي الشک من وعد أبي محمد علیه السلام فناداني من حجرته: لاتشكي
ص: 118
(وفي رواية لا تعجلي يا عمة فان الأمر قد قرب)(1)، فاستحييت من أبي محمد ومما وقع في قلبي ورجعت الى البيت - أي الحجرة - وانا خجلة (وفي رواية: فجلست وقرأت الم السجدة ويس) فاذا هي أي السيدة نرجس - قد قطعت الصلاة، وخرجت فزعة، فلقيتها على باب البيت (اي الحجرة) فقلت لها : هل تحسين شيئا ما قلت لك ؟ .
قالت: نعم يا عمة اني اجد أمرا شديدا .
قلت:اسم الله عليك اجمعي نفسك، واجمعي قلبك ،فهو ما قلت لك، لا خوف عليك انشاء الله، فاخذت وسادة فألقيتها في وسط البيت واجلستها عليها وجلست منها حيث تقعد المرأة من المرأة
للولادة.
فقبضت على كفي وغمزت غمزا شديدا، ثم أنت أنة وتشهدت.
فصاح بي ابو محمد علیه السلام : اقرئي عليها (اِنَّا أَنزَلنَاهُ فِي اللَّيلَةِ القَدرِ)(2)فاقبلت اقرأ عليها كما ،أمرني فاجابني الجنين من بطنها، يقرأ كما اقرأ ففزعت لما سمعت.
فصاح بي ابو محمد علیه السلام:لا تعجبي من أمر الله (عز وجل) ان الله( تبارك وتعالى) ينطقنا بالحكمة صغارا ويجعلنا حجة في ارضه كبارا،
ص: 119
فلم يستتم الكلام حتى غيبت عني فلم أرها ،كأنه ضرب بيني وبينها حجاب، (وفي رواية ثم اخذتني فترة واخذتها فترة) فعدوت نحو أبي محمد علیه السلام وأنا صارخة.
فقال لي :ارجعي يا عمة فانك ستجدينها في مكانها.
فرجعت فلم البث ان كشف الحجاب الذي كان بيني وبينها، واذا انا بها وعليها من اثر النور ما غشي بصري، وإذا انا بولي الله (صلوات الله عليه) متلقيا الأرض بمساجده وعلى ذراعه الأيمن مكتوب: (جَاءَ الحَقَّ وَزَهَقِ البَّاطِلَ اَنَّ البَّاطِلَ كَانَ زَهَوقاً)(1) ، وهو -أي الإمام الحجة(عج الله تعالی فرجه الشریف) سجوده -يقول:( اشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له، وان جدي محمدا رسول الله، وان ابي أمير المؤمنين ولي الله - ثم عد الائمة اماماً اماماً الى ان بلغ إلى نفسه -ثم قال: اللهم أنجز لي ما وعدتني واتم لي أمري وثبت وطائي واملأ الأرض بي عدلا وقسطا).
ثم رفع رأسه من الأرض وهو يقول: (شهد الله انه لا اله الا هو والملائكة وأولو العلم، قائما بالقسط، لا اله الا هو العزيز الحكيم، ان الدين عند الله الإسلام. )
ص: 120
ثم عطس فقال: (الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله، زعمت الظلمة ان حجة الله داحضة لو اذن لنا في الكلام لال الشك).
قالت حكيمة:فأخذت بكتفيه، فضممته إلي، واجلسته في حجري، فاذا هو نظيف منظف، فصاح بي أبو محمد علیه السلام: هلمي إلي بإبني يا عمة ،فجئت به إليه فاجلسه على راحته اليسرى وجعل راحته اليمنى على ظهره، ثم ادخل - الإمام العسكري علیه السلام- لسانه في فيه وأمر يده على رأسه وعينيه وسمعه ومفاصله ثم قال تكلم يا بني!!
وفي رواية : يا بني انطق بقدرة الله تكلم ياحجة الله وبقية الأنبياء، وخاتم الأوصياء، تكلم يا خليفة الأتقياء..
فتشهد (عج الله تعالی فرجه الشریف) الشهادتين، وصلى على النبي و الائمة الطاهرين واحدا واحدا ثم سكت بعد وصوله الى اسم أبيه، ثم استعاذ من الشيطان الرجيم وتلى هذه الآية:
(بسم الله الرحمن الرحيم :وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ)(1)
ص: 121
فناولنيه ابو محمد علیه السلام وقال: يا حمة رديه الى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن اكثر الناس لا يعلمون(1) .
(وفي رواية أخرى : ثم قال - أي الإمام العسكري علیه السلام - امضي به الى أمه ترضعه ورديه الي... فرددته الى أمه وقد انفجر الفجر الثاني، فصليت الفريضة ...)(2)
وفي رواية أخرى:( فتناولته ،أمه فارضعته فرددته الى أبي محمد والطير ترفرف على رأسه...)(3).
وهذه المقاطع التاريخية النادرة تحتوي على كنوز من الحقائق وتتكشف عن مجموعة كبيرة من المعارف والدروس ومكارم الأخلاق والكرامات والألطاف الإلهية الجلية والخفية، وسيستغرق الحديث المتأمل عن كل فقراتها صفحات كثيرة، عسى ان يوفقنا الله تبارك وتعالى للحديث عنها في كتاب قادم - بأذنه تعالى - عن الإمام المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) باعتبارها احاديث تتعلق به صلوات الله عليه مباشرة.
ص: 122
وفيما يتعلق بالسيدة نرجس، والدته عليها السلام، فقد جرى الحديث في مواضع عديدة من هذا الكتاب عن عدد من تلك الفقرات التي كانت تتعلق بها مباشرة]
ص: 123
[ ويكفي الآن ان نشير الى ان ثمة لمسات غيبية ونفحات ربانية قد شملت السيدة نرجس (علیها السلام) كان لبعضها ابعاد اخرى لا يمكن لنا التوصل الى كنهها :
أ : فقد (غابت )السيدة نرجس من أمام ناظري السيدة حكيمة، فترة قصيرة من الزمن (فلم يستتم الكلام-اي الإمام العسكري علیه السلام-حتى غيبت عني نرجس فلم أرها كأنه ضرب بيني وبينها حجاب)(1).
فما الذي حدث يا ترى؟.
من المحتمل أن تكون السيدة والدة الإمام المنتظر(عج الله تعالی فرجه الشریف)قد( نقلت)اعجازيا الى عالم آخر، عالم يسمو فوق مدارك البشرية، ويرقى فوق حواجز المادة كمرحلة من مراحل الصقل والتطهير والتكامل، وكبند من بنود ذلك( العطاء الإلهي غير المجذوذ).
ويؤيد هذا الاحتمال قول الإمام العسكري علیه السلام عندما شاهد عمته تعدو نحوه صارخة من دهشة ما حدث:( ارجعي يا عمة فإنك
ص: 124
ستجدينها في مكانها)، اذ يظهر منه: انها لم تكن في مكانها من قبل فتأمل.
ومن الواضح ان (مقاييس) العوالم الأخرى لا تتطابق مع (مقاييسنا) المعهودة، فبالنسبة (للزمن) - مثلا - وحسب نظرية انیشتاین فانه نظرا لنسبية الزمن قد تعادل 8 أيام من أيام الكرة الأرضية 4 ملايين سنة من السنين لركاب سفينة فضائية انطلقت من الأرض بسرعة دون سرعة النور - بسرعة معينة حددها -.
،وذلك، ربما يفسر مسلسل الاحداث الضخم جدا الذي مر بالني (صلى الله عليه وآله وسلم) في معراجه مع أنه عند ما رجع الى داره -بعد الإسراء - كانت لا تزال حلقة الباب تتحرك !!
وهذا يعنى ان تلك الجولة الشاملة في السماوات وفي ملكوت الله تعالى وفي الجنة وعلى مقربة من النار و .... لم تستغرق في معادلتنا الزمنية، الا لحظات فقط !!
واذا كانت السيدة نرجس (عليها السلام) قد نقلت في ذلك الفاصل الزمني القصير الى عالم آخر فربما كانت معادلة الزمن - في مسيرتها التكاملية - من هذا القبيل.
وهذا المبحث هو - حاليا - مجرد احتمال قد يستند الى ظاهر كلام الامام المنقول سابقا والله العالم.
ص: 125
ويمكن الالتزام بالاحتمال الآخر وهو : ان ما حدث كان حجاب غيبيا اسدل،بين المرأتين العظيمتين في لحظات الولادة تلك.. لماذا ؟ .
ربما لما يقرب مما ذكر .
ب:كما تستقطب انتباهنا لفتة اخرى هامة جدا، فقد ذكرت السيدة حكيمة عليها السلام قائلة:(فرجعت فلم البث ان كشف الحجاب الذي كان بيني وبينها واذا انا بها وعليها من اثر النور ما غشى بصري).
اية طاقة نورانية هذه ؟
واية اشعاعات ربانية؟
وما السر الكامن وراء ذلك النور الذي يغشي البصر؟
وهل هو نور مادي خارق ام انه نور ميتافيزيقي؟
كل ذلك مما يستدعي التدبر والتفكير والتحقيق.
وبعد كل ذلك، علينا ان نتدبر في الدلالة العميقة التي تحملها كلمة الامام العسكري ععلیه السلام مخاطبا عمته السيدة حكيمة : اقرئي عليها (اِنَّا اَنزَلنَاه فِي لَيلَةِ القَدرِ)(1) وهذا مما يحتاج الى مبحث مستقل مستوعب].
ص: 126
ص: 127
ص: 128
ليس من السهل أبداً على المرأة ان تعيش وسط أسرة ترفع راية المعارضة - جيلا بعد جيل - للحكومات الجائرة ..
انها حينذاك تعيش الخوف والرعب والحرمان والقلق وحتى المطاردة والملاحقة ،وتشهد بعينها جلاوزة السلطان يقتحمون الدار بوحشية، ليختطفوا أباها أو زوجها أو أخاها أو أحد أفراد الأسرة
ولمدة مجهولة!
واذا كانت المعارضة تتصدى ل(إمبراطورية جبارة تحكم ثلاثة أرباع الكرة الأرضية)فان تلك المعاني ستكون عندئذ أقسى وقعاً واعمق أثرا وابعد غوراً ، واذا كان (أعمدة الأسرة) وكبارها وسلدتها قد تعرضوا على مر التاريخ ولما يقارب القرنين من الزمن لعمليات (التصفية الجسدية )والاغتيال بالسم والسجن في ظلم المطامير، ولصنوف من العذاب والحرمان فان من الطبيعي ان يكون (جو الرعب) المحيط بتلك الأسرة، والظروف المحيطة بها اشد واشد واقسى وأمر.
ص: 129
فكيف اذا كان كل ذلك يتم في أجواء ما هو أسوأ من أجواء القرون الوسطى؟ حيث لا دولة منافسة تضغط ولا (مجلة) تفضح ،ولا إذاعة تدافع ولا منظمات حقوق الإنسان!!
ص: 130
[ ولكي نتحسس عمق المأساة وندرك بعمق اكثر، مدى صعوبة وخطورة الأجواء التي عايشتها السيدة نرجس (علیها السلام) والعواصف السياسية والأمنية الرهيبة التي كانت تحيط بأسرة الإمام علیه السلام وتهدد السيدة نرجس (علیها السلام) بالذات، نتيجة كونها في طليعة من كانت تشير اليها أصابع اتمام السلطات لابد لكي نعرف ذلك بعمق من ان نتوقف قليلاً لنسلط الأضواء على الجو السياسي الضاغط والوضع الأمني الخطير الذي كان يحاصر بيت الإمامة وأسرة الإمام علیه السلام من كل جانب، والذي كان سهم السيدة النرجس (علیها السلام) فيه هو الأوفراذ كانت تعاني معاناة مضاعفة.
فهي تعاني اولاً: تموجات الضغط السياسي والخطر الأمني المحدق بزوجها الإمام العسكري علیه السلام وابنها الإمام القائم (عجل الله تعالى فرجه الشريف).
وهي تعاني ثانياً: معاناة مباشرة وفي الصميم بالنسبة لها شخصياً.
وتكشف لنا إشارات تاريخية سريعة عن جانب من كل ذلك:
ص: 131
أ : فالإمام العسكري علیه السلام يبعث برسالة الى أصحابه يوصيهم بها وصية تحذيرية مؤكدة قائلاً: (اِلَّا لَا يَسلَمِنَ عَلِيَّ أَحدِ، وَلَا يَشِير اِلَّى بَيدَه وَلَا يَومِىَ فَاِنَّكُم لا تَؤمَنُونَ عَلِىَ أَنفُسَكُم)(1).
ب : ويقول الإمام العسكري علیه السلام موجهاً الخطاب ل:داود بن الأسود،وهو واحد من وسائطه السرية ممن كان يحمل رسائل الإمام الخاصة، بطريقة بالغة السرية(2): (... وَاِذَا سَمِعَت لَنَا شَاتِماً فَامَض لِسَبِيلَكَ الَّتِيَ أَمرَت بِهَا، وَإِيَّاكَ اَنَّ تَجَاوِبَ مَن يَشتَمِنَّا، أَو تَعرَّفَه مَن أَنتَ، فَإِنَنَا بِبَلدِ سَوءِ وَمِصرَ سَوءِ...)(3).
ج : ولقد عانى الإمامان الهادي والعسكري (عليهما السلام) اشد العناء من (الإقامة الجبرية )في سامراء، حيث فرضت على الإمام الهادي علیه السلام - ومعه أعضاء أسرته - الإقامة بها لمدة تقارب العشرين عاما كان يخضع فيها الى رقابة مستمرة!.
د : ولقد كان الوضع السياسي والأمني من الخطورة بحيث أخفى الإمام الهادي علیه السلام إمامة الإمام العسكري علیه السلام بل حتى نسبته اليه أيضا حتى على كثير من العلويين!.
ومما يدل على ذلك حادثة وفاة ابن الإمام الهادي علیه السلام المسمى ب: محمد،حيث حضر حوالي المائة والخمسين رجلا من آل
ص: 132
أبي طالب وبني هاشم منزل الإمام لتعزيته، وعند ما دخل الإمام العسكري علیه السلام على والده مشقوق الجيب وكان ذلك في أواخر حياة الإمام الهادي علیه السلام سأل من كان هنالك عنه ! وعن نسبته للإمامالهادي علیه السلام(1)
ه- : وقد يكون لأجل ذلك أيضاً عدم تصريح الإمام الهادي علیه السلام بإمامة الإمام العسكري علیه السلام للبعض وذلك في قضية مذكورة في التاريخ، حيث أعطى البعض علامة تدل -- بعد وفاته --- على الإمام من بعده قائلاً: (صاحبكم بعدي الذي يصلي علي) ق----ال الراوي: ولم نعرف أبا محمد (العسكري) قبل ذلك(2)!.
و : ولقد سجن الإمام العسكري علیه السلام مراراً عديدة، فكان فترة في سجن صالح بن وصيف، الذي كان قد وكل بالإمام رجلين م------ن شر خلق الله، كما يصرح صالح من وصيف نفسه بذلك، فتحولا بتأثير من الإمام علیه السلام عابدين صالحين(3)!
كما سجن في سجن النحرير الذي كان (يضيق عليه ويؤذيه)(4).
وسجن علیه السلام عند علي بن نارمش وكان( أنصب الناس وأشدهم على آل ابي طالب) لكن هذا الآخر أضحى بعد ان عاشر الإمام
ص: 133
قليلاً- لا يرفع بصره للإمام إجلالاً وإعظاماً له !. وأضحى من أحسن الناس بصيرة وأحسن الناس في الإمام قولاً(1). كما سجن سنة 260 ه- عند علي بن جرين(2).
ز : وقد تعرض الكثير من أصحاب الإمام علیه السلام ومن ذوي قرابته للسجن والتعذيب وحتى القتل(3) .
ح : وكانت (عيون) السلطات وجواسيس الخليفة، تضيق الخناق على الإمام علیه السلام وأسرته وأصحابه بشكل مزعج، بل لقد تعدت الأمر الى رقابة مفضوحة صارخة، وتجاوز (الخليفة) الحد .. فها هو يأمر -عند ما بلغه خبر مرض الإمام علیه السلام- الخمسة من جواسيسه بالمكوث في دار الإمام نفسها، ثم بعث عشرة آخرين (بعث بهم الى دار الحسن علیه السلام وأمرهم بلزوم داره ليلاً ونهاراً ...).(4)
ط : ولقد كبست قوات الخليفة العباسي دار الإمام العسكري علیه السلام مراراً عديدة، وقامت بتفتيشها بكل دقة ووقاحة تارة لاعتقاله علیه السلام ومن ثم قتله، وأخرى للقبض على زوجته
الحبلى ....(5).
ص: 134
ي : وقد قام طغاة بني العباس بمحاولات عديدة للقضاء على الإمام العسكري علیه السلام، وقد خططوا لذلك، وتم إعداد السيناريو المطلوب مرارا عديدة، الا ان يد الغيب تدخلت لتنقذ حياته علیه السلام اعجازيا .
فها هو( المستعين العباسي) يأمر حاجبه بإخراج الإمام علیه السلام من سامراء، ليقتله في الطريق المتجه للكوفة (1).
وها هو مرة أخرى يخطط لقتله علیه السلام ب(بغلة) شموس شرسة(2).
وهذا هو (المهتدي بالله)، كان قد (صحح العزم على قتل أبي محمد العسكري علیه السلام)(3).
وهذا هو( المعتمد العباسي) يلقي بالإمام علیه السلام في بركة السباع ويتركه وسط الأسود المفترسة ثلاثة أيام كاملة . (4)
يقول الإمام العسكري علیه السلام حين ولد الإمام الحجة (عج الله تعالی فرجه الشریف):(زعم الظلمة انهم يقتلونني، ليقطعوا هذا النسل، فكيف رأوا قدرة القادر(5) )؟.
ص: 135
في هذه الاجواء وفي مثل هذه الظروف، عاشت السيدة نرجس (عليها السلام) ترى أية حياة هذه وأية أعصاب حديدية بل وفولاذية تستطيع تحمل كل هذا العناء؟ ] .
نعم .. في مثل هذه الظروف التحقت .. السيدة نرجس= ريحانة بأسرة الإمام الهادي علیه السلام وتزوجت من الإمام العسكري علیه السلام وحملت بالإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) ولم تكتف سلام الله عليها بدور (المتفرج)، ولا بنوع من المشاركة الوجدانية ولا ببعض المساهمة ،العملية بل انها حملت على أكتافها - وهي في مقتبل العمر-مسئولية ثقيلة جدا يعجز عن حملها عمالقة الرجال بل اضطلعت بدور رئيسي واستراتيجي كاد ان يكون فريدا، من بين كل أعضاء الأسرة، فكانت في الصبر والصمود مثالية، وفي الاستقامة ومواصلة المسيرة نموذجية، وفي (الكتمان والمحافظة على الأسرار) ممن لا يشق لها غبار ، وفي (التضحية) المثال الأعلى(1) ومن مصاديق قوله تعالى: (اِنَّ اللهَ اِشتَرِىَ مِنَ المُؤمِنِينَ أَنفُسَهُم وَاَموَالَهُم بِأَن لَهُم الجَنَّة)(2).
كما كانت( في امتلاك المقدرة على التعامل مع الأحداث والأشخاص وحتى السلطات) حكيمة ورائعة - كما تكشف الأحداث عن ذلك - .
ص: 136
فلقد كانت السلطات تعيش هاجس الخوف الكبير وتستشعر - رغم ما تملكه من جيوش وسلطة تغطي اكثر الكرة الأرضية - (قلقا بالغا) من (الوليد المنتظر) و (القائم بالسيف) المبشر به على لسان رسول الإسلام (صلی الله علیه وآله) وسائر الأنبياء العظام( عليهم السلام) والمحدد حسب متواتر الروايات بانه الثاني عشر من آل البيت وابن الإمام الحسن العسكري علیه السلام بالضبط، وكانت السلطات العباسية على علم بذلك.
وكما كان فرعون يعلم بأن نبيا يسمى موسى علیه السلام سيولد في فترة زمنية محددة على ما أنبأه (المنجمون) كذلك كان العباسيون يعلمون بأن إماماً يسمى باسم الرسول الأعظم، ويلقب ب "المهدي" سيولد في فترة زمنية محددة .
وكما كان فرعون يتخوف من النبي موسى علیه السلام كان العباسيون يتخوفون من الإمام المنتظر (عج الله تعالی فرجه الشریف).
وكما كان فرعون يعشق " الرئاسة " الى حد العبادة كان العباسيون ...
ص: 137
وكما كان فرعون ينكر الحقيقة ويمقتها وهو عالم بما علم اليقين كان العباسيون كذلك ممن( جَحِدُوا بِهَا وَاَستَيقنَتهَا أَنفُسَهُم)(1)
ولذلك وعلى ضوئه قام العباسيون بنفس الخطوة التي قام بها فرعون، فقد وضعوا الأرصاد و العيون والجواسيس لإستكشاف أية إشارة تنم عن" الوليد المنتظر" ومن ثم القضاء عليه وهو في (المهد) بل وحتى وهو حمل في رحم أمه!!.
ص: 138
وهكذا خضعت دار الإمام العسكري علیه السلام للرقابة المشددة المضاعفة ،وتعرضت نساء الأسرة لرصد مكثف، وكانت السيدة نرجس( عليها السلام) ذات السهم الأوفر من الرقابة الصارمة، فقد سلطت عليها الأضواء بصورة مكثفة ومزعجة، بل تطور الأمر الى اعتقال مهذب وحضاري !لها حيث اعتقلت(1) ونقلت قسرا - وبطريقة الشنق الحريري! - الى إحدى البيوت ولمدة طويلة خضعت لرقابة دائمة ولربما على مدار الساعة من قبل نساء قيضن خصيصا للاضطلاع بهذه المهمة الخطيرة !..
نعم اعتقلت وهي حبلى وأودعت غياهب السجن (2)...
ولكن لماذا كان( الاعتقال مهذبا وحضاريا)؟ .
لعل السبب كان يعود الى التخوف من ملك الروم(3) والتخوف أيضا من مخاطر انتفاضة شعبية ضد أي تحرك سلطوي حاد وعنيف
ص: 139
تجاه زوجة الإمام العسكري علیه السلام بما كان يملكه من مكانة شعبیة كبيرة بل حتى داخل اجنحة الأسرة المالكة .
[والشواهد على ذلك كثيرة منها : ما حدث بعد وفاة الإمام العسكري علیه السلام حيث( عطلت الأسواق وركب بنو هاشم والقواد "اي قادة الجيش" والكتاب وسائر الناس الى جنازته فكانت سر من راى - وهي حينذاك عاصمة العباسيين - يومئذ شبيها بالقيامة، فلما فرغوا من تهيئته بعث السلطان الى ابي عيسى بن المتوكل فأمره بالصلاة عليه(1) ...) ].
فكان في الاعتقال (المهذب) جمعا بين الأمرين .
ويمكننا ان نتصور" الحالة النفسية" لامرأة تربت في بيت الملوكية ثم صاهرت بيت الإمامة الربانية وهي حبيسة سجينة بعيدا عن أسرتها وبيتها خائفة اشد الخوف على الإمام المنتظر (عج الله تعالی فرجه الشریف) تعيش فترة طويلة في المعتقل تحت رقابة صارمة لا ترحم...
ص: 140
[لقد تألفت السيدة (نرجس =مريم) في بُعد آخر هو في غاية الأهمية، بعد يفتقده اكثر الناس، ويعجز عن تحمل وطأته - في بعض درجاته -حتى عمالقة الرجال ....
إنه بعد "التحلى بالصمت والكتمان" و"المحافظة على الأسرار ذات الخطورة الكبرى" وما اكثر الحركات التي نسفت والثورات التي أجهضت على مر التاريخ نتيجة عدم التحكم الكبير في ميل الإنسان بطبعه ل(الثرثرة) !ونتيجة (الإذاعة.... فها هو الإنسان (الثائر) يطمئن الى صديقه ،وها هو المفكر الحركي يثرثر ل (زوجته).... وهكذا تتواصل الحلقات لتبلغ مسامع السلطات!!.
ويكفي لكي نعرف مدى خطورة ذلك، ومدى الأثر التخريبي الذي ألحقته (الإذاعة) بمسيرة أهل بيت الرسول الأعظم (صلی الله علیه وآله)، يكفي ان نستمع الى الرواية التالية عن الإمام الصادق علیه السلام : (... فَوِاللهِ لَقَد قرِبَ هَذَا الأَمرِ فَأذَعتُمُوهُ فَاخرِهَ اللهِ)(1) .
ويقول الإمام الباقر علیه السلام : ( ولو ان العلماء - أي الأئمة عليهم السلام - وجدوا من يحدثونه ويكتم سرهم لحدثوا ولبثوا الحكمة
ص: 141
ولكن قد ابتلاكم الله عز وجل بالإذاعة، وأنتم قوم تحبوننا بقلوبكم ،ويخالف ذلك فعلكم ... ما لكم لا تملكون أنفسكم ؟...)(1)
وسر" الإمام المهدي (عج الله تعالی فرجه الشریف)"هو من أعظم الأسرار وأخطرها على الإطلاق، فمن ذا الذي يتحمل هذا السر ويعتصم مع ذلك بالكتمان المطلق؟ .
ان الغالبية شبه المطلقة لم تكن تتحمل حتى معرفة الاسم و لم تكن تتحلى بالمقدرة حتى على كتمان ذلك - وهو من ابسط الدرجات - فكيف بالمراتب الأسمى والدرجات العليا؟.
ويكفى لمعرفة ذلك: الاستماع الى الرواية التالية:
يقول ابوعبد الله الصالحي : سألني أصحابنا بعد مضي أبي محمد العسكري علیه السلام ان اسأل عن الاسم والمكان، فخرج الجواب:(ان دللتهم على الاسم أذاعوه ، وان عرفوا المكان دلوا عليه)(2). وذلك رغم الروايات العديدة الدالة على :(ملعون ملعون من سماني في محفل من الناس)(3).
واذا عرفنا ذلك عرفنا مدى عظمة السيدة (نرجس = سوسن)، ومقدرتها الهائلة على تحمل ذلك السر الكبير .. الكبير، والخطير
ص: 142
الخطير، ومعرفتها لا تقتصر على الاسم والمكان فحسب بل تتجاوزهابالكثير الكثير...(1)].
وبعد كل ذلك نجد الميزتين التاليتين تتلألأن بين مواصفاتالسيدة نرجس عليها السلام.
فلقد ورد في زيارتها :(اشهد أنك أحسنت الكفالة، واديت الأمانة)(2).
ويا لها من شهادة، وما أعظمها من سعادة وما أخطرها من (أمانة).
ان أحدنا ليؤتمن على بعض المال فيخون، واذا لم يخن في الأموال خان في ما هو أعظم منها، فكم من عظيم خان (الأمة) و(اعظم الخيانة خيانة الأمة)(3)وان الإنسان - الا من عصمه الله -هو ذلك الذي وصفه تعالى بقوله:(اِنَّا عَرضِنَا الأَمَانَةِ عَلِىَ السَّمَاوَاتِ
ص: 143
وَالأَرضَ وَالجِبَالَ فَابِينَ اَن يَحمَلنَهَا وَاشفَقِنَ مِنهَا وَحَملِهَا الإِنسَانَ اِنَّهُ كَانَ ظُلُوماً جُهُولاً)(1) .
واذا علمنا ان (بلعم بن باعورا) الذي آتاه الله تعالى الاسم الأعظم قد سقط في هذا الامتحان(2)، واذا كان (الزبير بن العوام )الذي كان سیفه سيفا طالما كشف الكرب عن وجه رسول الله (صلی الله علیه وآله) قد فشل في معترك الابتلاء الإلهي، واذا كان فطاحل الواقفية وامثال الشلمغاني(3) - ممن كانوا من أبرز وكلاء المعصومين (عليهم السلام)-قد انتهى بهم المطاف الى الصفر المطلق في سجلات أعمالهم وملفات حياتهم وامتحانهم.
اذا علمنا كل ذلك، علمنا مدى صعوبة الامتحان الإلهی وخطورته وعلمنا ان المقدرة على تمزيق شباك الشيطان وتحدي محمل الشهوات والأهواء المودعة في الإنسان ومواجهة كافة تسويلات النفس الأمارة بالسوء (4)وعدم الإستسلام لها، وتحدي زهرة الحياة الدنيا
ص: 144
وزخرفها وزبرجها وزينتها، ومن ثم( النجاح في الامتحان الإلهي الكبير) هو أسمى الأمنيات، وهو الشرف الكبير والمجد الخالد.
وكان امتحان السيدة (نرجس = ملكية )صعبا غاية الصعوبة، خطيرا غاية الخطورة، فقد أودعت أعظم أمانة تحملها -أو نظائرها - قلائل فقط على مر تاريخ البشرية، لقد أودعت (سر الله الأعظم، وحجة الله على كافة الأنام، والوسيط بين رب العالمين وسائر المخلوقات على الإطلاق) وما أعظمها من وديعة وما أخطرها من مسؤولية .
واذا كان( النجاح في الامتحان)ذا درجات ومراتب فانها عليها السلام نالت الدرجة العليا والمرتبة الأسمى ومن ثم حصلت على (الشهادة المثلى) فلقد (أَحسَنَت الكَفَالَةِ، وَأَدتَ الأَمَانَة)(1).
وبذلك (توجت) سلسلة نجاحاتها التاريخية في كافة الامتحانات الإلهية الكبرى التي مرت بها :
فقد نجحت في امتحان ان تبقى ،طاهرة نزيهة، بل و(قديسة) في خضم عالم الملوكية، وزخارف الحياة المادية التي فتحت عينيها عليها.
ونجحت في اتخاذها القرار المصيري ب- (الهجرة)، وفي مفارقة الأهل والأحبة، وفي تعريض نفسها للأسر.
ص: 145
كما نجحت في تسلق مدارج الكمال بسرعة نموذجية مند ان دخلت بيت الإمام الهادي علیه السلام.
وكما نجحت أيضا في ثلاثة من أخطر الامتحانات الإلهية التي يمكن لبشر ان يمر بها، حيث( استودعت أسرار رب العالمين) و( قامت " بتكفل" حجة الله على الخلق أجمعين) ومن ثم فقد(أدت الأمانة لأهلها) حتى كانت الشهادة لها ب( اَجتَهَدَت فِي مَرضَاةِ اللهِ عَلِّىَ الأَذِىَ فِي ذَاتَ اللهِ حَفَظَت سَرِّ اللهِ بِالغَتِ فِي حَفظِ حُجَّةَ اللهِ أَحسَنَت الكِفَالَةِ وَأَدِيَت الأَمَانَة، مَضِيَت عَلِّىَ بَصِيرَةَ مِنَ أَمرَكَ، مَقتَدِيَة بِالصَّالِحِينَ، رَضِّيَ اللهِ عِنكَ وأَرضَاكَ وَ ...)(1) اشرف ،وسام وأهنا عطاء، واجمل ،قلادة وأحلى شهادة...
ومن المحتمل ان تكون (الأمانة) التي (تحملتها) ثم (أدتها) السيدة نرجس عليها السلام هي من قبيل الأمانة التي أودعت للسيدة زينب الكبرى عليها السلام بعد استشهاد الإمام الحسين علیه السلام ولفترة من الزمن ريثما تسلمها الإمام السجاد علیه السلام فتأمل .
فكانت صاحبة( العصمة الصغرى )كما ذهب الى ذلك -بالنسبة الى السيدة زينب -العديد من
العلماء .
فتكون - على هذا الاحتمال - هنالك أمانة كبرى سلمها الإمام الهادي علیه السلام أو الإمام العسكري علیه السلام للسيدة نرجس، وريثما
ص: 146
تسلمها للإمام الحجة (عج الله تعالی فرجه الشریف)، ولربما كانت أمانة شفوية او ودائع النبوة التي كان يتوارثها نبي عن نبي، ثم إمام عن إمام او أدوار عملية شديدة السرية او ما يقرب من ذلك...
وهذا ما يستشعر من كلمة( أديت الأمانة) مع انه ربما يقال: بالاستبعاد البدوي لان يكون المراد ب- (الأمانة) نفس (الإمام الحجة) اذ تؤديه لمن؟ .
وربما يعضد هذا الاحتمال - وأؤكد انه مجرد احتمال و الأمر بحاجة الى تحقيق - بعض الحوادث التاريخية التي تشير الى( إيداع الإمام الصادق علیه السلام او غيره من الأئمة) لعدد من أهم (الوثائق السرية )- او الودائع النبوية - في فترات زمنية معينة كان يحتمل فيها مداهمة دار الإمام وتفتيشها لبعض الثقات.
ويؤيد هذا الاحتمال بل ربما يدل عليه الفقرة السابقة التي تم الحديث عنها سابقا: (المودعة أسرار الملك العلام) و (اَلمَستَودَعِةَ أَسرَارَ رَبِّ العَالَمِينَ)(1) فلعل المراد من الأمانة التي ادتها (علیه السلام) هي تلك (الأسرار) التي (أودعت) عندها ، ريثما تسلمها لأهلها، وعملية الايداع هذه يمكن ان تكون عبر واحد من المعصومين (علیهم السلام) كما سبق او بطريقة الإلهام او ما أشبه ذلك والله العالم.
ص: 147
واخیراً..
فلقد كانت السيدة نرجس( عليها السلام) في اضطلاعها بتلك الادوار - وبمهام عديدة أشرنا لها في جوانب من الكتاب - قد اشبهت السيدة خديجة الكبرى (عليها السلام) في كثير من الجوانب والجهات :
فقد تخلت عن مركزها الحساس ضمن دائرة الأسرة المالكة لتلك الإمبراطورية، لصالح الإمامة، كما تخلت السيدة خديجة الكبرى (عليها السلام) عن "مركزها الاجتماعي الخطير ضمن دائرة دائرة المجتمع المكي الأرستقراطي" لصالح الرسالة .
وقد تخلت السيدة نرجس (علیها السلام) عن "حياة البذخ والثراء" كما تخلت السيدة خديجة (علیها السلام ) عن ثرواتها الطائلة.
وقد رغبت في وصلة أبناء رسول الله (صلی الله علیه وآله) كما رغبت السيدة خديجة في وصلة رسول الله (صلی الله علیه وآله)، وكانت (الرغبة متبادلة بين الطرفين) في كلتا المرأتين.
وكما رغب الرسول الأعظم (صلی الله علیه وآله) في الزواج بخديجة (علیها السلام)حيث رغبت به كذلك رغب صلى الله عليه و آله وسلم في زواج حفيده :
ص: 148
الإمام العسكري علیه السلام بالسيدة نرجس فقد( رَغِبَ فِي وَصلَتِهَا مُحَمَّد سَيِّدَ المُرسَلِينَ)(1).
وقد تحملت الحصار السياسي والضغط الاجتماعي، كما تحملت السيدة خديجة (علیها السلام) كل ذلك.
وعايشت مخاطر قتل الإمام المنتظر (عج الله تعالی فرجه الشریف) كما عايشت السيدة خديجة (علیها السلام) مخاطر اغتيال النبي الأكرم (صلی الله علیه وآله).
وعانت من متاعب ومصائب (الحجز) و(الحصار) كما عانت السيدة خديجة من حصار (شعب إبي طالب) الرهيب.
وآثرت هوى أبناء رسول الله على هواها - كما ورد في زيارتها (2)-اكبر الإيثار، كما آثرت السيدة خديجة هوى رسول الله على هواها اكبر الإيثار .
وقد (بَالِغَت فِي حَفِظَ حُجَّةَ اللهِ )(3) كما بالغت السيدة خديجة (علیها السلام) في حفظ رسول الله (صلی الله علیه وآله).
وقد (حفظت سر الله )و (صَبِرَت عَلِّىَ الأَذِىَ فِي ذَاتِ اللهِ)(4) كما قامت السيدة خديجة الكبرى (علیها السلام) بكل تلك المهام والادوار من قبل(5).
ص: 149
فكانت عليها السلام بكل ذلك تعتبر امتداداً تاريخياً لذات المسيرة التاريخية الكبرى، التي بدأتها ام المؤمنين السيدة خديجة الكبرى عليها سلام الله .
وكانت عليها السلام (1) أيضاً امتداداً تاريخياً لذات المسيرة الجهادية الجبارة التي اضطلعت بأداء أدوارها الرئيسية السيدة زينب الكبرى سلام الله عليها :
فكما تعرضت السيدة زينب (للأسر) كذلك كانت السيدة نرجس في الجوهر والمضمون وان اختلفت طريقة (الأسر) وهيكليته (2).
وكما ظلت السيدة زينب (علیها السلام) طوال فترة الأسر متماسكة النفس، رابطة الجأش قمة في الصمود والاستقامة نموذجاً أسمى للشموخ والعظمة والجلال كذلك كانت السيدة نرجس= حكيمة.
وكما قامت السيدة زينب (علیها السلام) بواحد من اكبر المهام الاستراتيجية الكبرى على مر التاريخ عند ما حافظت -وبشجاعة وحكمة فريدة - على حياة الإمام السجاد علیه السلام في الحادثة الشهيرة في مجلس ابن زياد كذلك قامت السيدة نرجس عليها السلام ب
ص: 150
(الحفاظ )على حياة الإمام الحجة (عج الله تعالی فرجه الشریف) عبر التحلي بكتمان لا نظير له، وبصمود نفسي جبار، وبحكمة فريدة في طريقة التعامل مع الأعداء لتضليلهم...
ص: 151
تستوقفنا في حياة السيدة نرجس (عليها السلام) احداث ذات دلالة كبيرة جدا، رغم الحجم الصغير جدا الذي احتلته من صفحات التاريخ، وهي أحداث ودروس وفضائل تصلح ان تكون لنا نعم
الدليل والمرشد والمصباح المنير في مسالك الحياة:
[ففي الشهر الأخير من الحمل، وفي الليلة الأخيرة - وهي اصعب ليلة تمر على المرأة الحامل - تقوم صلوات الله عليها اواخر الليل وفي وقت السحر ل (تسبغ الوضوء) - واسباغ الوضوء اجراء الماء الغلبة لا كمسح الدهن (1)- ثم بعد ذلك تنطلق لتغرق في مناجاة طويلة مع خالق الكون عبر ركعات صلاة الليل حتى اذا بلغت ركعة الوتر- وهي الركعة الحادية عشرة - كان الفجر الأول قد أوشك ان ينبلج، وهذا التاريخ يحدثنا :
ص: 152
تقول السيدة حكيمة - عمة الإمام العسكري علیه السلام - وهي شاهد العيان الوحيد الذي عايش السيدة نرجس ليلة( مولد النور) لحظة بلحظة :
(فوثبت سوسن - أي السيدة نرجس - فزعة، وخرجت وأسبغت الوضوء، ثم عادت فصلت صلاة الليل حتى بلغت الوتر فوقع في قلبي ان الفجر قد قرب فقمت لأنظر ، فاذا بالفجر الأول قد طلع...)(1)
انها ساعات اشراقة شمس حياة جديدة وما أجدرها بأن تحاط بهالة روحانية ربانية سامية وبان تندمج وتصهر في بوقعة الارتباط بعالم القدس والملكوت.
ص: 153
وننتقل بعدها الى درس جديد:
ففيلحظات الولادة وهي( عليها السلام) تعاني آلام المخاض ووضع الحمل، وفي قمة الألم وهي (تجد أمرا شديدا) على حد تعبيرها (علیه السلام) فتمسك بكف قابلتها - السيدة حكيمة عمة الإمام العسكري علیه السلام - وها هي تغمز كفها غمزة شديدة وتأن ولا تنسى في تلك اللحظات الصعبة والألم يعتصر كيانها بأكملته ان تهتف- وهی تحس بالوليد المنتظر ينسل من أحشائها - بشهادة ان لا اله الله(1) ..
انها القمة في الفناء في الله وتفويض الأمر اليه والتسليم لأمره جل وعلا (لا اله الا الله )انها اللحظات التي تكشف عن أعماق المخزون الفكري وعن شحنات مراكز اللاوعي والوعي الباطن، وعن مدى عمق الرابطة بين الإنسان والرب في الأعماق السحيقة من النفس، وكما يقول الحكماء وعلماء النفس: فان الإنسان يخضع في المنعطفات الكبرى واللحظات الخطيرة لنداء خفي يمتد الى أعماق ذاته ومجاهيل شخصيته، وهو الذي يسير دفة حياة الإنسان آنئذ وهو
ص: 154
الذي يكشف عن جوهرة الإنسان وعن كنه حقيقة أحاسيسه ومشاعره لتطفو على السطح على شكل كلمات أو إشارات او قرارات ومواقف آنية حاسمة ]
ص: 155
*عفاف وشجاعة وصمود(1)
[ويستوقفنا أيضا : عفافها وحياؤها وشدة تسترها واحتشامها وصمودها و شجاعتها ...
فرغم أن (الأسيرة) في أعراف ذلك الزمن قليلة الاحتشام بل ربمل حاول الكثير منهن إبراز مفاتنهن كيما يصطدن اثرى المشترين واكثرهم أرستقراطية.
ورغم ان الأعراف تقضي للبائع بالحق في إبراز بعض ملامح او مفاتن الجارية، وتقضي للمشتري بالحق في استعراض المظاهر العامة بل ربما حتى لمس جسد الأمة المعروضة للبيع(2) الا ان السيدة نرجس (علیها السلام) ترفض باباء حتى من ان تقع الأعين عليها.
فهي عليها السلام (تمتنع من السفور ومن العرض) وتمتنع من الانقياد لمن يحاول ان يشغل نظره بتأملها(3) وتدفع الضريبة والثمن
ص: 156
غاليا فتنهال عليها ضربات النخاس، الا انها لا تستسلم بل تستنجد صارخة( واهتك ستراه )(1).
ثم هي بعد ذلك ،صابرة، وصامدة، ومتحدية أيضا!.
فعندما يحاول احد المبتاعين (أي المشترين )ان يتملكها رغم كل شيء، فيدفع ثمنا أعلى بكثير من الثمن الذي يطمح به النخاس كي يبيعها له دون ،تردد تجيب متحدية : (لو برزت في زي سليمان بن داود وعلى مثل سرير ملكه ما بدت لي فيك رغبة فاشفق على مالك )(2)!.
انها أوقعت بنفسها في وثائق الأسر لهدف محدد، وبتخطيط الإمام العسكري علیه السلام فهي تنتظر مبعوث الإمام علیه السلام كي ينقذها من هذا الوضع ويبتاعها من النخاس ليذهب بها الى دار حجة الله على الارض.
فهي أذن على بصيرة من أمرها وهي أيضا تمتلك من العزم الراسخ ما تستطيع به ان تتحدى شوامخ الجبال.
وهكذا نجدها تواجه النخاس بكل قوة وتهدده أيضا بانه ان لم يبعها ل(بشر بن سليمان )- مبعوث الإمام العسكري علیه السلام- فانها ستقتل نفسها وتحلف له على ذلك بالأيمان المغلظة (3)!!
ص: 157
وهو تهديد ذو فعالية كبيرة لا يبقى معه للنخاس خيار الا ان يخضع اذ أنها لو نفذت التهديد فانه سيفقد ثروة طائلة وربما سيتعرض لمؤاخذة ولاحراجات كثيرة ...
وهي عليها السلام :بصيرة وعالمة بمستقبل حياتها، وبما قدره خالق الكون لها فليس ذلك الوعيد منها الا إنذارا ولا غير !] .
ص: 158
[لقد تميزت السيدة نرجس (علیها السلام) بشغف كبير ورغبة جارفة نحو (العلم والثقافة والآداب )منذ نعومة أظفارها ..
فعلى الرغم من ان غالب النساء في تلك العصور كن يعشن مرحلة ما تحت الصفر في الثقافة والتعليم.
وعلى الرغم من ان الأطفال لا اشق عليهم من الدراسة المنظمة خاصة اذا كانوا من عوائل مرفهة قد تفتحت لها آفاق شتى الألعلب، فكيف اذا كانت بنتا مدللة لواحد من اكثر ملوك الأرض جاها وثراءً وبرجوازية.
على الرغم من كل ذلك نجد السيدة ملكية = نرجس (علیها السلام) منذ طفولتها تلتزم اكبر الالتزام بالبرنامج التثقيفي الذي برمجه لها جدها قيصر ملك الروم فها هي تتعلم مختلف (الآداب )وها هي تلتزم بالدراسة صباحا ومساءً عند امرأة خبيرة ترجمانة كان من مهامها تعليمها اللغة العربية، حتى أضحت السيدة نرجس تتكلم بلغة الضاد بطلاقة وفصاحة أيضا ولما تبلغ الثالثة عشرة من العمر(1) !.
ص: 159
و في الحوار الذي دار بينها (عليها السلام) وبين (بشر بن سلميان )اكبر الدليل على أنها - وهي ابنة 13 سنة - كانت تتحدث باللغة العربية بجودة وتتقن قواعد الفصاحة والبلاغة أيضا(1).
إضافة الى تصريحها عليها السلام بذلك حيث تقول :(حتى استمر عليها - أي على العربية - لساني واستقام)(2).
وبعد ذلك: وعندما تحل بدارة القدس ومتزل الإمامة، ومنذ اللحظات الأولى لوفود الزائرة .. المهاجرة، نجد الإمام الهادي علیه السلام يستدعي السيدة حكيمة - وهي ذات العقل الراجح والعلم الغزير النافع - ويعهد اليها بمهمة تعليم( الأميرة. . الأسيرة) شرائع الإسلام، قائلا:(يا بنت رسول الله خذيها الى مترلك وعلميها الفرائض والسنن فانها زوجة أبي محمد وأم القائم عليهما السلام).
ولنا ان نستكشف من هذا التعليل:(فانها زوجة أبي محمد وأم القائم عليهما السلام) الدرجة الرفيعة التي ينبغي ان تبلغها السيدة نرجس (علیها السلام) في مراحل تعلمها للفرائض والسنن وحتى تتناسب مع منزلتها كزوجة لحجة الله على الأرض وكوالدة لخاتم الأوصياء وسيد الأكوان (عج الله تعالی فرجه الشریف) ] .
ص: 160
ص: 161
ص: 162
*القيادة والمسئولية(1)
على نوعية (القيادة) تدور رحى الشقاوة أو السعادة.
و (نمط القائد) هو الذي يحدد مسيرة الأمة ويقودها نحو مدارج الكمال او مستنقعات الرذيلة والضلال.
الا ان(القائد)بدوره لا يمكن ان يعيش في فراغ، أو ان يصول بيد جذاء، فهو (كالعقل) تماماً بحاجة الى (اذرع) وأعضاء وانصار وأجناد .
واذا كان الجهل مخيماً على جمهرة الناس واذا كانت (الشهوات) واللذائذ الحسية المادية (مِنَ النِّسَاءِ وَالبَنِينَ وَالقَنَاطِيرَ المَقنَطِرَةِ مِنَ الذَّهبِ وَالفِضَّة)(2) هي التي تسير دفة حياتهم الفردية والاجتماعية، واذا كان التفكير الأناني والمصلحي الضيق هو سيد الموقف وهو الإله الذي يعبد من دون الله ،واذا كانت الرذائل الأخلاقية (كالجبن والخوف، والحسد، والتباغض والتحارب والتفرقة، والمكر والخداع و ...) هي الهواء الذي يستنشقه الناس وهو الماء وهو الروح السارية في أعماق وجودهم ومناهج حياتهم، فان من الطبيعي ان يفرز كل ذلك( قيادة شيطانية مستبدة طاغية تتخذ مال الله دولاً وعباده
ص: 163
خولاً )(1)اذ( كيف ما تكونوا يولى عليكم )وهذه القيادة الشيطانیة تفرز بدورها مزيداً من الشرائق الخانقة وتقود (الشعب) اكثر فاكثر نحو مستنقعات الرذيلة والانحطاط، وتدقع بعجلة الأمة و بسرعة متزايدة نحو الأعماق السحيقة.
وهنا.. تتضاعف بشكل خطير مسؤولية :الأذرع والأعضاء والجنود والأنصار الذين (نذروا)أنفسهم للتصدي( للقيادة الشيطانية) والدفاع عن( القيادة الربانية).
ص: 164
وكلما كان عدد هؤلاء اقل كان عليهم ان يتحملوا أعباء اكثر وان يحاربوا على عدة جبهات في وقت واحد :
أ :فهناك معركة مع (الأهواء والشهوات )التي تلهبها الغرائز والنفس الأمارة بالسوء، وتزيدها تأججاً شباك قوى الطاغوت المعدة خصيصاً لاصطياد (جنود القيادة الرسالية )عبر سلسلة ذهبية براقة من الاغراءات .
ب: وهناك معركة اخرى ضد الخوف من الحرمان والملاحقة والاضطهاد )الذي يواجه جموع الثائرين.
ج: وهناك معركة ثالثة لإزاحة ظلمات( الجهل) الذي يلف الناس ويقضي على الحقيقة ويسدل الستائر والحجب على واقع (القيادة الرحمانية).
د: ومعركة رابعة ضد (الناصحين الجبناء) و (الأصدقاء - الأعداء) .
ه- : واخيراً المعركة مع قوى الطاغوت مباشرة، ووجهاً لوجه .
وفي كل معركة من هذه المعارك نجد -على مر التاريخ - كثيراً من جنود الحق،قد سقطوا صرعى (الأهواء) أو (الخوف) أو (الضغط الاجتماعي) أو (النصيحة الأخوية) أو غير ذلك.
ص: 165
وقل من صمدوا طوال حياتهم إزاء كل هاتيك الأعاصير.
وكان (السر الكبير) وراء هذا الانتصار الصعب، يكمن في (الاسلحة) التي امتلكوها وطوروها على مر الزمن، وفي (المناقبيات) التي ما فتئوا يرعونها ويغذونها وبشكل متواصل.
وكان (الموقع الخطير) و(الخندق الأول) الذي احتلته أم خاتم الأوصياء (عج الله تعالی فرجه الشریف) يجعلها في الرعيل الأول بل في طليعة الرعيل الأول الذي تعرض لهاتيك الأعاصير، وكانت( الأسلحة) التي تمتلكها و(المواصفات والمناقبيات) التي تتحلى بها هي التي أهلتها لأن تخرج من تلك الغمرات شامخة ظافرة منتصرة ...
ص: 166
ولنا ان نتساءل الآن بشغف ورغبة لا تضارع عن تلك (الأسلحة) وهاتيك المواصفات، علنا ننهل من ذلك المنهل العذب ونقتدي بتلك المرأة.. الأنموذج، والحقيقة.. الحلم .
*سلاح المعرفة(1)
أ: سلاح المعرفة و(عدة )الاستبصار ، ليس هنالك شيء من المبالغة في الحديث القائل: (نَومَ العَّالَمِ أَفضَلَ مِنَ عِبَادَةِ الجَّاهِل)(2).
ذلك ان العلم والمعرفة نور يضيء الدرب ويكشف عن وجه الحق، ويكشف عن زيف الباطل وعن( تلبيس إبليس) وعن ذلك (القناص) الذي شرع أسلحته ل (اصطياد) المستضعفين :
المستضعفين فكريا وعلميا وثقافيا.
ص: 167
ان(المعرفة)تهب المرء روح الطمأنينة ومضاء العزم عند ما تكشف له عظيم الأجر وخطير الوزر (فهم والجنة كمن قد رآها فهم فيها منعمون وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذبون )(1).
وعندما تكشف( العواقب المرة والنتائج الحلوة) لكل من أتباع طريق الهدى ومسارب الضلال في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فهي التي تكشف (الداء) وتفصح عن (الدواء) - على التي تعصم المرء-علی حسب مراتبها وبعونه تعالى - من اقتراف الخطيئة أو ارتكاب الفاحشة، إذ هي التي ترسم أمامه بدقة -مثلا -صورة الحياة الدنيا، لتريه بوضوح أنها( جَيفَةِ وَطَلَابِهَا كَلَّابِ)(2) ! وأنها (تغر وتضر وتمر )(3)وأنها( لَعبَ وَلَهوَ وَزِينَةَ وَتَفَاخِر بَينَكُم وَتَكَاثُر فِي الأَموَالِ وَالأَولَادِ )(4)وتكشف.. وتكشف .. وتكشف...
ومعرفة( القيادة الربانية) - بحقوقها ومواقفها ومناهجها ومكانتها - تكفل كل ذلك، وفوق ذلك فليس بعد ذلك مما يصعب على الفهم تقبل ما ورد في شأن زيارة السيدة فاطمة المعصومة (عليها
ص: 168
السلام) ومن قبلها الأئمة الأطهار (عليهم السلام) - (مِنَ زَارَهَا عَارِفاً بِحَقِهَا وَجَتَ لَهُ الجَنَّة)(1) .
وكانت(مليكة الدنيا والآخرة )قد اتسمت بهذه السمة وتميزت بهذه المكرمة وتحلت بهذه الصفة بشكل لا يشق له غبار، ولذلك كله ورد في زيارتها نعتها ب- (الصديقة) (2)وبأنها (عارفة بحق أبناء رسول الله) - كما سيأتي بعد قليل انشاء الله - .
ومن الواضح لدينا عند استكشاف ذلك ان نراها سلام الله عليها مالكة لأهم سلاح يواجه به الإنسان كافة التحديات والصعاب والعقبات والأخطار التي تواجه مسيرة (المجاهدين في سبيل الله) .
ص: 169
فان (المعرفة) تمنح الإنسان -إضافة الى ما سبق - : الرضابما يقدمه من عطاء عندما تتجلى له عظمة الهدف وسمو المقصد، وتمنحه الصبر على ما يلاقيه من أذى عند ما يرى عظيم المذخور له من الأجر، وتمنحه( الاجتهاد) في المحافظة على (الودائع) و(الأمانة) وفي بذل النفس والنفيس للدفاع عن (خليفة الله في الأرض) وفي زیارة السيدة نرجس (علیها السلام) نجد العبارات الثلاثة التالية ببريقها الأخاذ ومعانيها الدقيقة تفصح عن هذه الفضيلة السامية :
(... أشهد أنك ... بالغت في حفظ حجة الله ورغبت في وصلة أبناء رسول الله، عارفة بحقهم ... معترفة بمترلتهم، مستبصرة بأمرهم..).
وما أعظم (حق) آل رسول الله عليهم السلام ؟! .
وما أجل (متزلتهم)؟!.
وما أصعب (أمرهم)؟!.
وما أسمى وأجمل ان (يعرف) الإنسان حقهم علينا وعلى كافة الخلائق و(يعترف )بمنزلتهم عند الله تعالى وفي منظومة عالم الإمكان كلها و (يستبصر )بأمرهم، ولكي نعرف (موقع) كل من هذه العبارات الثلاثة والشحنة المعنوية التي تحملها والفرق بين كل منها كي نكتشف إثرها عمق الشهادة للسيدة نرجس (علیها السلام) بهذه الجمل الثلاثة - لابد أن نشير الى:
ص: 170
فهم(1) (نور الأخيار وهداة الأبرار وحجج الجبار، بكم فتح الله وبكم يختم الله، وبكم يتزل الغيث وبكم يمسك السماء ان تقع على الأرض الا بإذنه، وبكم نفس الهم والبكم ويكشف الضر).
وهم الذين( فاز الفائزون بولايتكم بكم يسلك الى الرضوان وعلى من جحد ولايتكم غضب الرحمن...)
(وبكم أخرجنا الله من الذل، وفرج عنا غمرات الكروب وانقذنا من شفا جرف الهلكات من النار).
(بمو الاتكم علمنا الله معالم ديننا واصلح ما كان فسد من دیننا،وبمو الاتكم تمت الكلمة وعظمت النعمة وائتلفت الفرقة وبموالاتكم الطاعة المفترضة).
ص: 171
وهم : (قادة الأمم، وأولياء النعم، وعناصر الأبرار، ودعائم الأخيار، وساسة العباد، وأركان البلاد، وابواب الإيمان، وأمناء الرحمن).
وهم:( ورثة الأنبياء والمثل الأعلى والدعوة الحسنى وحجج الله على أهل الدنيا والآخرة والأولى).
وهم: (أئمة الهدى ومصابيح الدجى وأعلام التقى وذوي النهى وأولي الحجى وكهف الورى).
وهم:(محال معرفة الله ومساكن بركة الله ومعادن حكمة الله وحفظة سر الله وحملة كتاب الله وأوصياء نبي الله وذرية رسول الله).
وهم:(الدعاة الى الله والادلاء على مرضاة الله والمستقرين في أمر الله والتامين في محبة الله والمخلصين في توحيد الله والمظهرين لأمر الله ونهيه وعباده المكرمين).
وهم:( اهل الذكر وأولي الأمر وبقية الله وخيرته وحزبه وعيبة علمه و حجته وصراطه ونوره وبرهانه).
ولهم: (المودة الواجبة والمقام المحمود والشفاعة المقبولة)(1).
ص: 172
*ج - أمر آل الرسول (صلی الله علیه وآله)(1)
ورد في الحديث : (اِنَّ أَمرِنَا صَعَبَ مَستَصعِبَ لَا يَحتَمِلَه اِلَّا مَلِكَ مَقرِبَ أَو نَبِيَ مُرسَلَ أو مُؤمِنُ اِمتَحِنَ اللهِ قَلبِهِ لِلإِيمَان )(2)فماذا یعنی هذا (الأمر )الصعب المستصعب، والذي عد الاستبصار به من أهم مناقب السيدة والدة الإمام المنتظر (عج الله تعالی فرجه الشریف) ؟
ان الأمر هو( ولاية آل البيت عليهم السلام) و(اطاعتهم) و(التسليم بما ورد عنهم وتفويض كافة الأمور إليهم )وهو - بعبارة أجمع كل ما يمت الى أهل البيت (علیهم السلام) بصلة، سلبا أو إيجابا، قولا وفعلا ،وتقريرا علما ،وعملا ظاهرا وباطنا سرا وجهرا، كما نلاحظ هذا الإطلاق الاحوالى والازماني(3) في قوله تعالى:( أَفُوضَ
ص: 173
أَمرِيَ اِلَّى اللهِ)(1) وهم وسائط الله وحلفائه و(الوسيلة) التي أمرنا الله ان نبتغيها في قوله تعالى :(وَاَبتَغُوا اِلَيهِ الوَسِيلَةِ)(2)و الإستبصار بأمرهم يستلزم الالتزام بالنقاط الآتية التي أشارت اليها الروايات والأدعية التالية:
(... واجْعَلْنَا مِمَّنْ يَأْخُذُ بِحُجْزَتِهِم ويَمْكُثُ في ظِلِّهِم وأَعِنَّا عَلَى تَأْدِيَةِ حُقُوقِهِ - أي اَلْإِمَامُ اَلْحُجَّةُ (عج الله تعالي فرجه الشرِيف)- اِلَيهِ والاجتِهادِ في طاعَتِهِ واجْتِنابِ مَعْصِيَتِهِ...)(3).
(اللّهُمَّ اجْعَلْني مِن أَنْصارِهِ وأعوانِهِ وَالذَّابِّينَ عَنْهُ وَالمُسارِعِينَ اليهِ في قَضاءِ حَوائِجِهِ وَالمُمتَثِلِينَ لِأَوَامِرِهِ والْمُحَامِينَ عَنهُ والسَّابِقِينَ الى ارَادَتِهِ والمُسْتَشْهَدِينَ بَيْنَ يَدَيْه...)(4).
(.... اللَّهُمَّ اسلُكْ بِنا على يَدَيهِ مِنْهَاجَ الْهُدَى والْمَحَجَّةَ الْعُظْمَى وَالطَّريقَةَ الوُسطى ...واجعَلنا في حِزبِهِ القائِمَينَ بِأَمْرِهِ الصَّابِرِينَ مَعَهُ الطّالِبِينَ رِضاكَ بِمُناصَحَتِهِ ...اللَّهُمَّ واجعَل ذلِكَ لَنَا خالِصاً مِنْ كُلِّ شَكٍ وَشَبهَةٍ وَرِياءَ وَسُمْعَةٍ حَتّى لا نَعتَمِدَ بِهِ غَيرَكَ وَلا نَطلُبَ بِهِ الا وَجهَكَ ...)(5).
ص: 174
(السَّلامُ عَلَى الَّذِينَ مَن وَالاَهُمْ فَقَدْ وَالَى اللَّهَ وَمَن عَادَاهُمْ فَقَدْ عَادَى اللَّهَ ومَنْ عَرَفَهُمْ فَقَدْ عَرَفَ اللَّهَ ومَنْ جَهِلَهُمْ فَقَدْ جَهِلَ اللَّهَ ومَنِ اعْتَصَمَ بِهِمْ فَقَدِ اعْتَصَمَ بِاللَّهِ ومَن تَخَلَّى مِنهُم فَقَد تَخَلَّي مِنَ اللَّهِ عزَّ وَجَلٌ واشْهِدِ اللَّهُ انِّي سِلْمٌ لِمَن سالَمْتُم وَحَرْبٌ لِمَنْ حَارَبْتُم مُؤمِنٌ بِسِرِّكُم وَعَلانِيَتِكُم مُفَوِّضٌ في ذلِكَ كُلِّهِ إلَيكُم لَعَنَ اللَّهُ عَدُوَّ آلِ مُحَمَّدٍ مِنَ الجِنِّ وَالإنسِ وابرَءِ الى اللَّهِ مِنهُم)(1).
(...انتم الصِّراطُ الأقوَمُ وشُهَداءُ دارِ الفَناءِ وشُفَعاءُ دارِ البَقاءِ وَالرَّحمَةُ المَوصولَةُ والآيَةُ المَخزُونَةُ والأمَانَةُ الْمَحْفُوظَةُ وَالْبَابُ الْمُبْتَلَى بهِ النَّاسُ مَن أتاكُمْ نَجَى ...)(2).
(...مُوالٍ لَكُم ولأَوليائِكُم ٍ مُبْغِضٌ ومُعَادِلُهُم مُحَقِّقٌ لِما حَقَّقتُم مُبْطِلٌ لِمَا أَبْطَلْتُمْ مُطِيعٌ لَكُمْ عَارِفٌ بحقِّكُم مُقِرٌ بِفَضْلِكُمْ مُحْتَمِلٌ لِعِلْمِكُمْ مُحْتَجِبٌ بِذِمَّتِكُمْ مُعْتَرِفٌ بِكُمْ مُؤْمِنٌ بِإِيَابِكُمْ مُصَدِّقٌ بِرَجْعَتِكُمْ مُنْتَظِرٌ لِأَمْرِكُمْ مُرْتَقِبٌ لِدَوْلَتِكُمْ آخِذٌ بِقَوْلِكُمْ عَامِلٌ بِأَمْرِكُمْ مُسْتَجِيرٌ بِكُمْ زَائِرٌ لَكُمْ لاَئِذٌ عَائِذٌ بِقُبُورِكُمْ ...)(3).
الى غير ذلك..
ص: 175
وبعد هذه الجولة السريعة نكتشف (عمق) الشهادة للسيده نرجس عليها السلام ب- :( اَشهَدُ اَنَّكَ ... عَارِفَةِ بِحَقهُم ...مَعتَرِفَة بِمَترِلَتهِم مَستَبصِرَة بِأَمرِهِم )(1)
كما عرفنا شيئا من الفرق الدقيق بين الجمل الثلاثة، ونكون بذلك قد سلطنا الأضواء على جانب من جوانب عظمة السيدة "مليكة = ريحانة" ومنزلتها ومكانتها ونكون قد ركزنا على عامل من أهم العوامل التي منحت السيدة نرجس (علیها السلام) تلك المقدرة الهائلة على التحمل والتصدي والصبر والصمود والاستقامة والتضحية بكل شيء لصالح (القيادة الربانية) .
ص: 176
ليس كل من يعلم ويعرف (مؤمنا)
وليس كل مؤمن (راسخ الإيمان).
وليس الراسخون في الايمان بمنأى عن مخاطر (اَلاِنقِلَابَ عَلِّىَ الأِعقَابَ)(1) و (سوء العاقبة).
فهنالك من يعلم، الا انه لا يعقد القلب على ما يعلم فيكون من الذين (جَحِدُوا بَهَا وَاَستِيقَنَتهَا أَنفُسَهُم)(2)أو لم يكن ابوجهل وأبو لهب ومن أشبه (يعلم) بنبوة النبي (صلی الله علیه وآله) رغم أنه كان يجحدها ؟
والم يكن فرعون يعلم بنبوة موسى علیه السلام ومن قبل ألوهية الرب ومع ذلك كان يجحد؟
وألم يكن الطغاة يعلمون مكانة الأئمة عليهم السلام ويجحدونها في الوقت ذاته؟
فالعلم اذن غير الإيمان وليس كل عالم (مؤمنا).
وهنا لك (المؤمن) الذي لم يشرب الايمان ،قلبه ولم يخالط لحمه ودمه، فتراه يشك عند اول شبهة ويميل مع كل ريح!.
ص: 177
وهنالك الراسخون الذين زلت بهم الأقدام فهووا الى الحضيض بعد ان بلغوا مرتبة قل لبشر ان يبلغها ك( اَلَّذِيَ آتَينَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلخِ مِنهَا فَاتبَعِهِ الشَّيطَانَ) (1).
وسجل حياة السيدة "نرجس - مريم" (عليها السلام) يكشف لن عن إيمان أصيل راسخ نموذجي مستقر طوال سنين الحياة .
وهذا ما تحدثنا عنه في بعض الفصول السابقة بشيء من الإسهاب.
وكان من الطبيعي ان يستطيع من يملك سلاحي( المعرفة والايمان )
من ان يواجه بصلابة وبنجاح ايضا : المعارك الخمسة الكبرى - السابقة الذكر- والتي يمر بها في معترك الحياة.
وكان من الطبيعي أيضا ان نحتاج الى مراتب أعلى فأعلى من( المعرفة والإيمان )كلما ازدادت ضراوة تلك المعارك، وكلما احتل الفرد موقعا متقدما في ساحة المواجهة.
وذلك أيضا يكشف اكثر فاكثر عن مكانة السيدة " نرجس=سبيكة "( عليها السلام) وعظمتها وعمق إيمانها ومعرفتها.
كما قد أسلفنا الحديث عن كل ذلك وكفاها شهادة موجزة وبليغة ان يرد في زيارتها (علیه السلام):( اَشهَدُ أَنَّكَ ... مُؤمِنَةِ بِصَدقَهِم...)(2).
ص: 178
وكفى في الشهادة أيضا على عمق معرفتها وإيمانها أن تكون (المودعة أسرار الملك العلام) و (المستودعة أسرار رب العالمين )وأن تكون الموصوفة ب(الصديقة الرضية المرضية) وبأنها (راضية تقية، نقية زكية )ثم ب- (فرضي الله عنك وأرضاك و جعل الجنة مترلك ومأواك، فلقد أولاك من الخيرات ما أولاك وأعطاك من الشرف ما به أغناك، فهناك الله بما منحك من الكرامة وأمرأك)(1).
خاصة اذا ما لاحظنا ان عددا من هذه الصفات هي ذات الصفات الذي ذكرت للصديقة الكبرى فاطمة الزهراء سلام الله عليها وصلواته وتحياته وبركاته.
وربما يوفقنا عن بحث هذه الصفات بشكل مستقل بأذنه تعالى .
ص: 179
*الشحنة العاطفية(1)
عند ما تعضد( العاطفة الجياشة) سلاح المعرفة، وعند ما يقترن (الإيمان بالهدف )ب(المحبة الصادقة)..
عند ذلك :
يبلغ المرء القمة العليا في( العطاء دون حساب) وتتمخض عن ذلك اروع (الملاحم) وستسجل عندئذ صفحات التاريخ نماذج خالدة لأنماط نادرة من( التضحية) وبكل شيء.
وعندما نتصفح سجل حياة والدة الإمام المنتظر (عج الله تعالی فرجه الشریف) نجدها تتموج بالعاطفة المشبوبة والمحبة الصادقة لآل بيت رسول الله (صلی الله علیه وآله)، فقد تزاوجت في شخصيتها المثالية : المعرفة الربانية والإيمان الراسخ بعاطفة جياشة ومحبة متأججة طبعت بصماتها على مواقفها الاجتماعية وممارساتها الفردية في كل ما يمت لآل الرسول الأطهار (علیهم السلام) بصلة، فكان من الطبيعي بعدها أن تكون (سلام الله عليها )مؤثرة لهوى آل البيت على هواها و لرغباتهم على رغباتها، وأن توصف بأنها كانت:( مَشفَقَة عَليهِمُ، مَؤثَرَةِ لَهوَاهُم )(2)
ص: 180
[وسنجد ونحن نتصفح التاريخ اول إشارة في سجل حياتها تنم عن تلك المحبة المتجذرة العميقة واللاهبة أيضا لآل الرسول (صلی الله علیه وآله) عند مانستمع اليها (علیه السلام) وهي تحكي جانبا من صفحات حياتها المشرقة فها هي سلام الله عليها تقول - وهي في الثالثة عشر من العمر- :
(.... وضرب صدري بمحبة أبي محمد - أي الإمام العسكري علیه السلام وهو زوجها المستقبلي، وكان ذلك إثر الرؤيا الصادقة التي رأتها وهي لا تزال في قصر جدها قيصر ملك الروم - حتى امتنعتُ من الطعام والشراب، وضعفت نفسي ودق شخصي ومرضت مرضا شديدا، فما بقي في مدائن الروم طبيب الا أحضره جدي وسأله عن دوائي فلما برح به اليأس قال :يا قرة عيني هل تشتهين شيئا ؟ ...)(1).
وهذه المحبة الصادقة والعاطفة الجياشة سيلمسها الإنسان وهو يتصفح تاريخ حياتها : كهالة مقدسة تحيط بكل كيانها وتؤطر مسيرة حياتها، بل وتذلل عليها كل صعب وتيسر عليها كل عسير وسنجدها تبذل الغالي والنفيس وبرغبة ولهفة وشوق في طريق تلك المحبة الربانية والصادقة.
ص: 181
فهى تتخلى طوعا وبإصرار أيضا عن حياتها الذهبية وعن بدخ الملوكية وشتى لذائذ الحياة المادية في إمبراطورية جدها :قيصر ملك الروم، لتتنكر بملابس الخدم (1)ثم تعرض نفسها للوقوع في الأسر ، ثم وهي تتحمل مشاق الأسفار وأخطارها وهي تواجه مجاهيل المستقبل في هذه الرحلة الشائكة ...
بل ان تلك المحبة الصادقة، وذلك الإيمان العميق، وتلك العواطف الإنسانية الملائكية - السامية التي كانت تزهر وضاءة في سماء روحها وفي ملكوت كيانها وعقلها ونفسها تجاه الرسول الأعظم (صلی الله علیه وآله) وآله الأطهار (علیهم السلام) ، أورقت وأزهرت وأثمرت وأينعت لتبعث فيها - وهي لا تزال في مقتبل العمر وسنين المراهقة - ذلك الإحساس العميق بالمسؤولية تجاه كل من يمت الى نبي الإسلام (صلی الله علیه وآله) بصلة، وكل من يحمل شرف الانتساب الى الدين الإسلامي الحنيف، وان كان غريبا عنها مجهولا لديها جملة وتفصيلا، فأضحت سلام الله عليها تتألم بآلام اتباع الرسالة وتفرح بأفراحهم، ثم نجدها تنتهز الفرص للدفاع عن المظلومين وإنقاذهم من براثن الظالمين.]
ص: 182
[وهكذا نجدها - وكنموذج يحمل في طياته أسمى الدلائل - تخطط لإنقاذ أسرى الجيش الإسلامي الذين كانوا محتجزين عند الروم، يرسفون في الحديد والأغلال.
و لم تجد حفيدة ملك الروم المحببة والمعززة افضل من استخدام سلاح العاطفة طريقا لإنقاذ أسرى المسلمين.
وهكذا نجدها (تستثمر) مرضها الخطير الذي عجز عن علاجه شتى أطباء الروم - كما سبق - والذي اقلق جدها قيصر الى درجة كبيرة نجدها تستثمره لحمل جدها ملك الروم على إطلاق سراج من في بلاده من اسارى المسلمين ولنستمع اليها تحدثنا عن هذا المقطع التاريخي الفريد قائلة:
(... فقلت: يا جدي أرى أبواب الفرج علي مغلقة، فلو كشفت العذاب عمن في سجنك من اسارى المسلمين وفككت الأغلال وتصدقت عليهم ومننت عليهم بالخلاص لرجوت ان يهب المسيح وامه لي عافية وشفاءا .فلما فعل ذلك جدي تجلدت في
ص: 183
إظهار الصحة في بدني وتناولت يسيرا من الطعام، فسر بذلك جدي واقبل على إكرام الأسارى وإعزازهم ...)(1).
لم يكن الطلب عاديا، اذ انها (عليها السلام) لم تتحدث عن أسير أو أسيرين و لم تطالب بالحد الأدنى وهو فك الأغلال او رفع التعذيب فقط، بل طالبت بالحد الأعلى وهو إطلاق سراح أسرى المسلمين جميعا دفعة واحدة، مستعينة بدغدغة عواطف جدها نحوها وقلقه الشديد عليها، ومحركة فيه في ذات الوقت العرق الديني والأحاسيس الروحانية:( لرجوت ان يهب المسيح وأمه لي عافية وشفاءا) .
وكان لها سلام الله عليها ما أرادت ! .
ويتضح لنا مدى أهمية مبادرتها (عليها السلام) تلك عند ما نعلم ان الروم كانوا في حالة الاعداد للحرب مع المسلمين، وان الأسارى كانوا يعدون رهينة يستفاد منهم في الضغط على المسلمين وحملهم على إطلاق من بأيديهم من الأسارى قبال ذلك، زد على ذلك ما كان يتضمنه إطلاق سراح الأسرى من المخاطر على أمن البلاد.(2)
ومع كل ذلك طالبت السيدة بإطلاق سراح الجميع وبدون استثناء، ثم استخدمت سلاح(الحكمة)لتحمل جدها قيصر على إكرامهم وإعزازهم أيضا، وكما تقول هي عليها السلام :(فَلَّمَا فَعَل
ص: 184
جدي ذلك، تجلدت في إظهار الصحة في بدني وتناولت يسيرا من الطعام، فسر بذلك جدي واقبل على إكرام الأسارى وإعزازهم).
ولنا ان نستكشف من هذا الحدث وطريقة معاملتها مع الموقف مزيجا رائعا من المواصفات النموذجية:
فهي عليها السلام تتألق بعاطفتها الجياشة ورأفتها وغيرتها وحميتها على جنود الإسلام وهي تشرف بحكمتها على طريقة إدارة القضية وفي تلك (الهمة العالية )التي ميزت نمط الطلب وحجمه ومستواه أيضا .
ثم وبعد هذه الجولة السريعة في تسليط الأضواء على ذينك الحديثين يمكننا ان نستكشف الكثير من الدروس والعبر وان نلمس عمق ولائها لآل بيت الرسول الأعظم (صلی الله علیه وآله) وشدة محبتها لهم (علیه السلام) ومدى توهج عواطفها النبيلة نحوهم، عندما نتأمل العديد من مواقفها وتصرفاتها بعد الهجرة وهي تعيش متفيئة بظلال الدوحة النبوية منذ أن حلت ب- (دارة القدس) تلك ...] .
ص: 185
ومن هنا،وعبر معرفة العوامل الثلاثة الرئيسية الكامنة وراء تلك الإرادة الجبارة، وذلك الصمود الراسخ الذي كان يزهر في حياة السيدة نرجس( عليها السلام) ويميزها ويسمو بها فوق ذرى المجد الشامخ وهي :
أ : سلاح المعرفة
ب : الإيمان الراسخ.
ج : : الشحنة العاطفية
من كل ذلك واستنادا الى قاعدة (تعرف الأشياء بأضدادها)(1)، نكتشف السر في البرود النسبي الذي يتحكم في حياة بعض المؤمنين او بعض العلماء تجاه ما يجري، وتجاه الأخطار المحدقة بمدرسة آل البيت عليهم السلام، ونعرف أيضا السبب الكامن وراء حالة (اللامبالاة) التي تغلف الحياة العملية للكثيرين عندما يتعرض قلم مسموم ولسان حاقد لبعض المفاهيم او الرؤى الدينية او حتى عند ما يتناول واحدا من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بالنقد والتجريح - لا سمح الله-.
ص: 186
ان بعضنا يتفجر غيظا ويثور كالبركان عند ما يتعرض له كاتب بالنقد والتجريح في طيات كتاب او على صفحات جريدة ولا يهدأ له بال حتى يرد الصاع صاعين ويشهر بصاحبه في كل مجلس ولأسابيع أو أشهر، وبمناسبة ودون مناسبة، وتراه يقيم الدنيا ولا يقعدها اذا ما (سجن) ابوه او اخوه او ابنه، ولكنه في نفس الوقت وعندما تبلغ مسامعه أنباء (اعتقال) لواحد من كبار العلماء أو مضايقات متلاحقة لعدد من كبار مراجع التقليد العظام، لا يزيد عندها على بعض (التأفف المهذب) أو (الحوقلة)(1) فقط!
وتجده أيضا في ذات الوقت يرى ويشهد عشرات الكتب والبحوث التي تتعرض بالنقد الجارح والهجوم الصارخ على مذهب أهل البيت (علیهم السلام) وهو كقطعة من الجليد معتكف في داره، او غاد وراجع الى معمله ومتجره ومدرسته ككل يوم مضى وككل يوم آت(2).. ! .
وذلك قد يعني ان (الشفقة) على مذهب آل البيت (عليهم السلام) وان (محبة) آل الرسول صلى الله عليه وآله ربما لم تبلغ
ص: 187
شغاف قلبه و لم تشرب أعماق كيلنه و لم تصبح هاجسه الذی يعشعش في أعماق كيانه وان ذلك الإيمان وتلك المعرفة قد تكون (سطحية) وليست بالتي تستند الى ينبوع ثر من العواطف الجياشة
والى دوحة وارفة من المحبة المتجذرة.
وهذا ما أشار اليه أمير المؤمنين علیه السلام عند ما قال: (..وانتم لنقض ذمم آبائكم تأنفون)(1) .
وان (اشراب )الشفقة على المذهب والمحبة بال الرسول (صلى الله عليه وآله) أعماق الجنان وثنايا القلب وزوايا الفؤاد - كما كانت سيدتنا عليها السلام - يهبنا القوة على مواجهة الأعاصير والاصرار على الاستمرار والعزم المتصاعد أبدا على التحدي والتصدي والعطاء .
وعملية (الاشراب) هذه تتم عبر الإيحاء الذاتي، وعبر التضرع الى الله تعالى، كي يتفضل علينا بفضله العميم بذلك، وعبر توطين النفس على كل ذلك ف( إرادة الإنسان فوق التحديات).
وتتم أيضا عبر التروي والتدبر والتأمل في الأحاديث الواردة في فضائل أهل البيت (علیهم السلام) ومكارم أخلاقهم وعظيم ما لهم من الفضل على البشرية جمعاء، وعبر دراسة الوقائع التفصيلية تجاه نماذج نادرة من أمثال والدة الإمام القائم (عج الله تعالی فرجه الشریف) بعطائها وهجرتها وصمودها
ص: 188
وإيثارها، و ..حتى تتعطش النفس كي تنهل من ذلك المنهل وتتأسى بتلك الأسوة الربانية الصالحة.
*القمة في الإيثار(1)
لقد كانت السيدة نرجس (عليها السلام) :(مَشفَقَةِ عَلِّىَ آلَ البَيتِ)( مؤثرة هواهم ).
وما اعظم تلك الشفقة !.
وما اسماها !.
وما أحلاها !.
الشفقة على أولياء الله وخلفائه وحملة كتابه وورثة أنبيائه حججه على خلقه.
ثم ما أعظم ذلك الإيثار ؟! .
وما أغلاه وما أصعبه ؟!
انه لمما تعجز عن حمله عمالقة الرجال وشوامخ الجبال..
ان تؤثر (هوى) آل البيت على (هواها) .. وهوى آل البيت هو (الرسالة) و هوى آل البيت هو (الهداية)، وهوى آل البيت هو هوى رسول الله (صلی الله علیه وآله)..
ص: 189
وهكذا كانت والدة الإمام، لقد ضحت بما تهويه النفس و تمیل الیه لصالح ما يهويه العقل والضمير والوجدان ولما يميل اليه الرسول (صلی الله علیه وآله) ويأمر به الرب الجليل.
و(هوى النفس) هو كافة ملذاتها وشهواتها، واية تضحية اعظم من هذه التضحية ؟!
انها تضحية يهون عندها ان تشد على خصرك حزام متفجرات ثم تلقي بنفسك أمام دبابة او شاحنة قادمة، لتتحول الى أشلاء ودماء سابحة في الفضاء و .. ان كل ذلك عظيم، الا انه لا يعدو( الجهاد الأصغر) فحسب.
اما الجهاد الأكبر فهو ان تسحق شهوات النفس وتصرعها في شتى الميادين(1) ....
النفس التي تشدك شدا عنيفا ومتواصلا للنوم والبطالة والنزهة والسياحة والتمتع بلذائذ الطعام و بزهرة الحياة الدنيا :بالأولاد والأهل والعشيرة.
ص: 190
النفس التي تشدك الى ترجيح حياة الدعة والاستقرار على حياة الهجرة والجلاء والى السباحة مع التيار بدل الجهر بالحق بعزم وإصرار .
الى التنعم بعطف الأبوة وحنان الام وسائر أعضاء الأسرة، بدل التشرد والغربة.
والى الالتذاذ بمشهد أبنائك ،وأنجالك يحومون حواليك .ثم وهم يبنون حياة زوجية سعيدة وينجبون لك أحفادا وأسباطا و ... بدل ان تقدمهم - وبملاً ارادتك - قرابين على مذابح الحق، وشهداء في
طريق الرب .
ان جهاد الزوجة والأم وهي تسمح لزوجها أو ابنها، بل وهي تدفعه للنضال والجهاد ورفع راية المعارضة حتى السجن او الشهادة لهو اعظم من جهاد الزوج والابن:
انها عاطفية وهو عقلاني.
انها ريحانة (1)، وهو الجلمود.
انها ضعيفة بحاجة الى حماية ورعاية مستمرة و هو القوي والقائم بالنفس .
ص: 191
وأخيرا انه يعاني آلام السجن الا انها تعاني آلاما اكبر واكبر، فما اصعب ان يسجن الابن او الزوج على الأم او الزوجة، وما أبهض مسؤولية المرأة في غياب الزوج في ادارة البيت وتربية الأطفال وتلمين المعاش وملأ الخلأ العاطفي الذي يخلفه سجن الاب على الأطفال، بل ومواجهة تشكيلة متنوعة من الشكايات والمضايقات والمشاكسات والهمز واللمز الذي يواجه به أفراد من المجتمع ومن الأسرة ذاتها أيضا، الزوجة الصامدة.
وبعدها كثيرا ما يستشهد الرجل وتبقى المرأة لسنوات طوال وربما لعشرات السنين تواجه بمفردها أعاصير الحياة ومرارة المآسي والمشكلات.
وما اجدر المجتمع بأن يشمل ام الشهيد وزوجته برعايته وعنايته وما اجدر ذوي الضمير الحر بان يفتحوا قلوبهم قبل أحضانهم للأسون المهاجرة، وما اجدر الناس بان يحتضنوا عوائل السجناء في سبيل الله او المهجرين او المهاجرين او المشردين ويملئوا الفراغ الذي خلفته هجرة رب الأسرة او اعتقاله او مطاردته .
ثم ما اجدر المرأة المسلمة بان تطبع مسيرة حياة حفيدة حواري عیسی علیه السلام وزوجة الإمام العسكري علیه السلام وأم الإمام المنتظر (عج الله تعالی فرجه الشریف) في أعماق كيانها وزوايا قلبها وصحائف وجودها ووجدانها، وتتخذ منها أسوة وقدوة صالحة وأنموذجا أسمى للهجرة والعطاء والجهاد.
ص: 192
وستجد عندئذ الكثير الكثير من الدروس والعبر في حياتها الحافلة وهي تعيش داخل القصر الملكي أميرة وسيدة كونها حفيدة ملك الروم.
ثم وهي (مهاجرة) في سبيل الله، تلك الهجرة الخطيرة الصعبة.
ثم وهي زوجة للإمام العسكري علیه السلام حيث تعيش - بحكم موقف أسرتها المعارض للطاغوت - اسوء الظروف السياسية والأمنية.
ثم وهي حامل بالإمام الحجة ( عج الله تعالی فرجه الشریف) .
ثم وهي محجوزة او مسجونة بأمر الطاغوت .
ثم وهي تعاني مخاوف وأخطار ملاحقة ابنها الوليد ملاحقة شرسة عنيفة .
وكذلك وهي تواجه في زمن الإمام العسكري علیه السلام نفسه إخفاء واختفاء الإمام المنتظر (عج الله تعالی فرجه الشریف) وفلذة كبدها الازهر بما صاحب ذلك من مضايقات سياسية وفتن فكرية واضطرابات عائلية واجتماعية و..
وستجد امامها عندئذ مدرسة متكاملة من العواطف الربانية ومن شتى معاني الولاء والوفاء والصفاء، ومن المحبة والإشفاق والإيثار والعطاء، وستجد عندها افضل بلسم الجراحها الغائرة ودموعها الحائرة ...
ص: 193
*العزم والمضاء(1)
يقول سيد الموحدين علیه السلام : (لَا تَجعَلُوا عَلمَكُم جَهلاً، وَيَقينِكُم شَكَّا، اِذَا عَلمتُم فَاعمَلُوا، وَاِذَا تَيقَنتُم فَاقدَمُوا)(2).
وقال سبحانه وتعالى من قبل :(وَاَلَّذِينَ جَاهِدُوا فِينَا لنَهِدَينَهُم سَبلِنَا وَاَن اللهَ لَمَع المُتَّقِين)(3).
وقال عز وجل: (وَاَنَّ لَو اَستَقَامُوا عَلِّىَ الطَّرِيقَةِ لَاسَقيَنَاهُم مَاءَا غَدقَاً)(4)
وتلك القواعد هي من أهم أسرار النجاح، ومن أهم ضمانات استمراريته أيضا.
وكانت تلك القواعد من أهم ما تميزت به والدة الإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف) طوال مسيرة حياتها الحافلة، وكان ذلك من العوامل الكامنة وراء انتصاراتها المتلاحقة في المعارك الضارية الدائرة على جبهات النفس والمجتمع والسلطات - كما سبقت الإشارة الى العديد من النماذج -.
ص: 194
ان الكثيرين يتعامل مع (العلم) تعامله مع( الجهل)، ويواجه (اليقين) كما يواجه (الشك)،في حياته الفردية أو العائلية أو الاجتماعية او الدينية أو السياسية أو الاقتصادية أو غيرها .
فالذي يعلم ب:(درهم من ربا اعظم عند الله من سبعين زينة كلها بذات محرم عند بيت الله الحرام) (1).
و (يَا اَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأكُلُوا الرَّبَا اَضعَافاً مَضاعِفَةِ وَاَتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُم تَفلَحُون)(2) ثم بعد ذلك يتعامل بالربا( وينتفخ به) أيضا، فانه هو ذلك الذي سحق (علمه) تحت الأقدام وحول علمه جهلا ويقينه شكا.
والذي يعلم بان:( الساكت عن الحق شيطان اخرس).
و: (من أعان على المؤمن بشطر كلمة لقي الله عزوجل يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمتي)(3).
و: (اذا رأيتم العلماء على أبواب الملوك فقولوا بئس العلماء وبئس الملوك واذا رأيتم الملوك على أبواب العلماء فقولوا نعم العلماء ونعم
ص: 195
الملوك)(1).
من يعلم كل ذلك ثم يسكت عن الجهر بالحق والتشهير بالباطل او يعين الظالم - ولو بالتوظف في إحدى دوائر الدولة - او تراه يراود الظلمة ويهادنهم، فانه -حسب تلك الأحاديث - قد جعل علمه جهلا ويقينه شكا، فتجرد علمه من العمل وتعرى يقينه من الأقدام، وان( العلم مقرون بالعمل) فمن علم عمل (والعلم يهتف بالعمل فان أجابه والا ارتحل )
والذي يعلم ب:(تِلكَ الدَّارَ الآخِرَةَ نَجعَلَهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عَلَوا فِي الأَرضِ وَلَا فِسَادا)(2) .
و:( اَن الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيوانَ لَو كَانُوا يَعلَمُونَ)(3).
و:( مَن يَتَّقَ اللهَ يَجعَل لَهُ مَخرِجاً وَيرزَقُهُ مِنَ حَيثَ لَا يَحتَسبِ وَمَن يَتَوَكَّل عَلِىَ اللهَ فَهُوَ حَسبَهُ)(4)
و :(مَن يَتَّقَ اللهَ يَجعَل لَهُ مَن اَمرَه يَسرَا)(5).
و :(اَلدُنيَا تَغَر وَتَضَر وَتَمَر)(6) .
ص: 196
و:(عبدي اطعني تكن مثلي أقول للشيء كن فيكون وتقول للشيء كن فيكون )
ثم نجده بعد ذلك يستبد ويستأثر ويتكبر ويستعلي، أو تراه مغرورا بالدنيا غارقا في ملذاتها،مشدودا الى شهواتها، او الف شيء وشيء، فان هذا الأنموذج من الناس هو كذلك الذي أنذر بهجوم عدة أسود مفترسة على قريته، ثم تراه يخرج الى الأزقة شامخا برأسه الى السماء، مترنما بأغنية حالمة!
او كمن شاهد جيش العدو وهو يزلزل ارجاء البلدة بدباباته وطائراته ،ومشاته ثم يمضي بثقة واعتلاء ليكمل بحوثه في الجيولوجيا أو في الميتافيزيق!!.
ان المؤمن هو ذلك الذي علم وآمن فعمل، أيقن فاقدم، ثم لم يترك لوساوس الشيطان ولا لهمسات الخلان ولا للنفس الأمارة بالسوء، ولا لبهارج وزخارف الحياة مجالا لزعزعة إرادته وفل عزيمته وتثبيط همته .
وعندئذ يكون من الذين حملوا هذا الوسام الرباني (وَالَّذِينَ جَاهِدُوا فِينَا لَنَهدِينَهُم سُبلَنَا)(1) فتفتح له عندئذ آفاق جديدة، وتلفه العناية الربانية ويرتقى سريعا في مدارج الكمال، وستنزل عليه
ص: 197
السكينة وتهبط عليه صنوف لا تتصور من الرحمة الإلمية، فان الحسنات بعضها آخذ بعنق الآخر كما ورد في الحديث.
وسيكون كما قال تعالى: (وَاَن لَو اَستَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لِاَسقَينَاهُم مَاءَ غَدقَا)(1).
وكذلك كانت السيدة نرجس عليها السلام.
فقد انطلقت عن بصيرة، وجاهدت على ضوء ما علمت وواصلت كما تيقنت فاذا كان هنالك من يعلم ثم هو كقطعة صخر أو جليد، او يتيقن ثم هو ساكن كصخر في واد او كصغر الى الشمال، او كان هنالك من يعمل على غير بصيرة ويمضي وهو على شك، فانها صلوات الله عليها علمت وعملت وتيقنت فأقدمت وكانت كما جاء في زيارتها (...وَاَشهُدَ اَنَّكَ مَضِيَت عَلِّىَ بَصِيرَة مِنَ أَمرِك ...)(2).
وهكذا كانت الشهادة لها ب :(اَشْهَدُ اَنَّكِ قَدْ أَحْسَنْتِ الْكَفَالَةَ وَأَدَيْتِ الأمانَةَ واجْتَهَدْتُ فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ وَصَبَرْتَ فِي ذاتِ اللَّهِ اللَّهُ وَحُفِظتُ سِرَّ وحَمَلْتُ وَلِيَّ اللَّهِ وبَالَغْتِ فِي حِفْظِ حُجَّةِ اللَّهِ وَرَغِبْتِ فِي وُصْلَةِ أَبْنَاءِ رَسُولِ اَللَّهِ...)(3).
ص: 198
وهكذا كان حيث وصفت ب- (الصديقة الرضية المرضية التقية النقية الراضية الزكية)(1).
وما أسمى درجة الصديقين؟!.
وما أعلا شأن من أضحى راضيا بقضاء الله وقدره، مرضيا في أرضه وسمائه، زكيا نقيا نقيا ؟!.
ص: 199
ولكي نعرف مدى قيمة ذلك (المضاء) و (العزم) الغريب الذي تحلت به السيدة نرجس = ملكية (عليها السلام) لا بد من أن نلقي نظرة على جانب من الظرف الاجتماعي.. السياسي الذي كان يحيط ببيت النبوة واسرة الامامة والإمام العسكري علیه السلام والإمام المنتظر (عج الله تعالی فرجه الشریف) بالذات، حيث كانت المعاناة من الأصدقاء كما كانت من الأعداء، وكانت المعاناة أيضا من عامة الناس كما كانت من السلطات.
وكان الحسد هو من الأسباب الرئيسية في معاداة الإمام علیه السلام من قبل السلطات وربما حتى من قبل أفراد الأسرة.
وتكفينا الرواية التالية لمعرفة مدى خطورة هذه المعاداة وشدة تأثيراتها السلبية، وهي تشير أيضا الى واحد من أسباب التكتم الشديد على ولادة الإمام الحجة (عج الله تعالی فرجه الشریف).
وهي تفصح عن المعاناة التي كانت تعايشها السيدة نرجس عليها السلام كونها زوجة الإمام العسكري علیه السلام واحدى المحتملات الرئيسية -لدى العديد -لأمومة الإمام المنتظر (عج الله تعالی فرجه الشریف) كما كشف عداد الزمن عن كونها هي بالذات الأم ولا غير كما تكشف عن ذلك العزم الراسخ الذي كانت تتحلى به السيدة ام الإمام الحجة
ص: 200
(عجل الله تعالى فرجه الشريف) متحدية كل تلك الظروف بصمود لا نظير له :
فأبو خالد الكابلي في حواره مع الإمام الباقر علیه السلام يقول:(... أَرِيدَ اَن تَسمِيَه - أَي اَلإِمَامَ الحُجَّةَ (عج الله تعالی فرجه الشریف) - لِي حَتَّى اَعرَفَهَ باسمه.
فقال - أي الإمام الباقر علیه السلام - : سألتني والله يا ابا خالد عن سؤال مجهد ولقد سألتني عن امر ما لو كنت محدثا به أحدا لحدثتك ولقد سألتني عن امر لو ان بني فاطمة عرفوه حرصوا على ان يقطعوه بضعة بضعة)(1)!! .
وعلى الرغم من الحرص الشديد على إخفاء امر الوليد المنتظر (عج الله تعالی فرجه الشریف) فان مجرد احتمال البعض لولادته سبب تأجج نار الحسد وتفجر الأضغان في القلوب وعلى صفحات الوجوه وأطراف الجوارح!.
كل ذلك زائدا الحسد الشخصي تجاه الإمام العسكري علیه السلام نفسه !
ص: 201
وقد استدعى الخليفة العباسي الإمام العسكري علیه السلام یوما فشق ذلك على الإمام وتحذر من (أن يكون قد سعى به اليه بعض من يحسده ...)(1).
وما أصعب الحياة في ظل هذه الظروف وما أشقها، خاصة على النساء - وهن ذات حساسية عالية ومشاعر رقيقة وعواطف ساخنة - وهن يعشن معاناة رب الأسرة و مخاطر عديدة تواجههن
بالذات إثر ذلك !).
ص: 202
ان اتخاذ( الأسوة الصالحة)، والتفكير الدائم بها، وتحولها الی هاجس يومي، يعيش مع الإنسان لحظة بلحظة وخطوة بخطوة ويتجسد امام ناظري الإنسان ويملأ قلبه وسمعه وبصره، هو من أهم (الأسلحة) التي تكفل للإنسان المقدرة الأسمى على مواصلة مسيرته النضالية الصعبة وعلى الاستمرار في برنامجه الجهادي الخطير.
وان دراسة سريعة لحياة السيدة نرجس (علیها السلام) تكشف عن انها(عليها السلام) كانت قد أشربت أعماق كيانها معادلة الأسوة فاضحت لا تبصر غير الإمام العسكري علیه السلام و لا تفكر الا في الإمام المهدي (عج الله تعالی فرجه الشریف)، ولذلك فقد ورد في مواصفاتها: (مقتدية بالصالحين).(1)
وهكذا نجد ان السيدة نرجس عليها السلام قد تأست في شتى مراحل حياتها بالقمم السامية في الصلاح السداد، والتضحية والجهاد، فأضحت - بدورها - الأسوة المثلى والقدوة العليا للأجيال
اللاحقة..
لقد تأست السيدة (علیهم السلام) بابي طالب علیه السلام عم الرسول (صلی الله علیه وآله) وكافله، حيث بسط حمايته على ابن أخيه ووقاه من الاخطار
ص: 203
والمشاكسات من قبل علية القوم وملتهم حتى قال (صلی الله علیه وآله): (بني الإسلام على ثلاث سيف علي ومال خديجة وحماية أبي طالب )
فكانت الحماية السياسية والاجتماعية من نصيب أبي طالب علیه السلام وكان الدعم الاقتصادي من سهم خديجة (علیها السلام)، وكانت القوة العسكرية الضاربة من مهام علي ابن أبي طالب علیه السلام وان كان لكل منهم دور في البعدين الآخرين بشكل أو بآخر.
وقد أشرنا في فصول سابقة الى نماذج من حمايتها(1) الاجتماعية والأمنية النموذجية للإمام الحجة (عج الله تعالی فرجه الشریف) وتعرضها لشئ الأخطار والمضايقات وهي تحافظ على (حياة) الإمام (عج الله تعالی فرجه الشریف) لفترات طويلة.
كما تأست (علیه السلام) بالسيدة خديجة (علیها السلام) وبالسيدة مريم (علیها السلام) وبالسيدة زينب (علیها السلام) وبأم موسى (علیه السلام) وبيوسف الصديق علیه السلام، كما تحدثنا عن كل ذلك في فصول سابقة.
فاصبحت بذلك الوريث والوارث المعنوي لكل اولئك - على حسب الظروف السياسية والاجتماعية المحيطة بها عليها السلام - فقد ورثت (المنهج) و(المعرفة) و (الإيمان) و(العزم والمضاء) و(الصمود والمواصلة) و(التضحية والإيثار و ... من كل أولئك عليهم افضل الصلاة والسلام .
ص: 204
ان القدوة الصالحة هو ذلك التجسيد الحقيقي للوجود المثالي، وهو ذلك المنار الذي يلهمك الإيمان والإخلاص و الصبر والصمود ويمدك بذخيرة لا تنفذ من الشهامة والفتوة وبشحنات متدفقة من العزم والمضاء والقوة والعطاء، وهكذا نجد القرآن الكريم مليئا بنماذج من القدوات الصالحة (1)وشواهد من القدوات الطالحة على مر التاريخ، قال تعالى : وَلَقد ضَرَبنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا القُرآنَ مِن كُلِّ مَثَل(2) واذا عرفنا ان الرسول الأعظم (صلی الله علیه وآله) هو ممن يوصيه الباري جل وعلا بالتأسي والاقتداء ب- (اُولُو العَزِمَ مِنَ الرُّسُلُ)(3)، عرفنا المكانة الكبرى التي تحتلها الأسوة والقدوة في حياة الأفراد والقادة والأمم على حد سواء، وعرفنا أيضا سرا آخر من أسرار الانتصارات الساحقة التي حظيت بها السيدة نرجس (علیها السلام) في تلك المعارك المصيرية
ص: 205
الدائرة على عدة جبهات، وحق لنا ان نتف باسمها هي الا ي الاخرى سيدة ورائدة وأسوة وقدوة وهي التي قامت بكل ما قامت به إحرازا لرضا الله تعالى و (محبة) في أهل البيت (عليهم السلام)
لا غير (1).
ص: 206
ص: 207
ص: 208
لقد نالت السيدة أم الإمام المنتظر (عج الله تعالی فرجه الشریف) سلسلة من المنح الربانية بعد ان نذرت نفسها- بما للكلمة من معنى -الله تعالى ولخلفائه على خليقته، فقد عوضها الله سبحانه وتعالى عن كل ذلك ب(عطاء غير محذوذ) في الدنيا والآخرة.
والبحوث التالية هي إشارة سريعة لبعض تلك المنح الربانية:
*ورضوان من الله اكبر(1)
لقد تبوأت السيدة نرجس (علیها السلام) قمة المجد وذورة الشرف عندما نالت (رضوان الله تعالى) ذلك الرضوان الذي عده الباري جل وعلا في كتابه الحكيم (اكبر)(2) من كافة ألوان النعيم الأبدي في جنات الخلد وقد ورد في زيارتها (علیها السلام) الشهادة لها بذلك(3).
وليس نيل رضى الله بالأمر الهين اليسير ذلك انه يتطلب مناقبيات ومواصفات استثنائية ونفسية رفيعة، وسلوكاً متميزاً، من الإخلاص
ص: 209
في النية والتمحض في ذات الله تعالى، الى الخلق السامي، الى الجود بالنفس والنفيس في طريق ذات الشوكة ..
وما اروع تجلي تلك المواصفات في السيدة والدة الإمام المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) فنالت بذلك رضوان رب العالمين الذي لا تخفى عليه خلجات النفس ولا شوارد الخواطر و لا
اكبر من ذلك ولا اصغر .
وبما انه جل وعلا ليس محلاً للحوادث ولا عرضة لصفات حادثة متغيرة كالرضا والسخط والحب والبغض ونظائرها، لذلك فان إطلاق هذه الصفات عليه تعالى في الآيات والروايات يراد بها اقرب المجازات وهو: شتى الآثار بل أسمى الآثار العملية الناجمة عن تلك الصفات أو ما أشبه(1) .
ف (رضا الله )يعنى : إعطاؤه تعالى كافة أنواع النعيم أو أسمى أنماط النعيم المقيم للمرضي عنه . و (سخطه) يعني: العكس تماماً، وهكذا وهلم جراً- كما فصل الحديث عنه في علم الكلام - ف (رَضِيَ اللهَ عَنَّكَ)(2) أذن تكشف الكثير الكثير جداً.
ص: 210
لقد أعطى الله رسوله (صلی الله علیه وآله) حتى ارضاه، كما وعده بذلك في محكم كتابه الكريم:( وَلسَوفَ يَعطِيَكَ رَبِّكَ فَتَرضِىَ )(1).
وقد أعطى سبحانه وتعالى والدة آخر أوصيائه حتى أرضاها أيضاً، كما ورد في زيارتها (علیه السلام) (فَرِضَيِّ اللهَ عَنكَ وَأَرضَاكَ )(2) .
وما اعظم هذا العطاء من الفياض المطلق، اللامتناهي القادر ،الجواد الذي بيده خزائن الغيب والشهود والذي لا يزداد على كثرة العطاء الا جودا وكرماً، ومن الطبيعي ان تكون للعطاء الإلهي - ذلك العطاء اللامتناهي بنحو اللامتناهي اللايقفي - درجات تختلف باختلاف "القابل" وعلى حسب عظمته الذاتية وتضحياته العملية، وان كانت بأجمعها تشترك في أنها (مِّمَا لَا عَينَ رَأتَ وَلَا أِذنَ سَمِعَت وَلَا خَطِرَ عَلِىَ قَلبَ بَشرِ)(3).
واذا لاحظنا ان طموحات الإنسان لامتناهية، وآفاق الخيال البشري لا تقف عند حد، وان سعة عالم الخيال وآفاق التفكير
ص: 211
والتعقل وإمتداداته عند البعض النادر من عمالقة الفلاسفة وجها بدة العلماء يبلغ حدا غير قابل للتصور العامة الناس.
اذا لاحظنا ذلك استكشفنا المغزى الرهيب الهائل الذي تحمله جملة (فِيهَا مَا لَا عَينَ رَأتَ وَلَا أِذنَ سَمِعَت وَلَا خَطَرَ عَلِّىَ قَلبَ بَشر)(1).
ولقد ورد التصريح في زيارة السيدة نرجس (علیها السلام) ببعض ذلك العطاء الإلهي، نذكرها كإشارة عابرة :
(لَقَد أَولَاكَ مِنَ الخَيرَاتَ مَا أولَاِكَ، وَأَعطَاكَ مِنَ الشَّرَفِ مَا بِه أَغنَاكَ، فَهنَاكَ اللهَ بِمَا مَنحَكَ مِنَ الكِرَامَةِ وَأمرَاكَ.. وجعل الجنة مستولك ومأواك)(2) .
وما اعمق دلالة( الخيرات) و (الشرف) و (الكرامة) و(الأغناء الإلهي)، وما أعذب كلمة (هناك) و (أمراك) وقد تعرضنا لذكر مصاديق أخرى من العطاء الإلهي سابقا - او لاحقا - فلا حاجة بنا الى التكرار.
وان (إرضاء) الله سبحانه وتعالى للنبي الأعظم (صلی الله علیه وآله) ولأوصيائه عليهم السلام او للسيدة نرجس (علیها السلام)وصالح المؤمنين - استنباطا الدلالة الالتزامية لقوله تعالى: (رَضِيَ اللهِ عَنهُم وَرَضوَا عَنَّهُ)(3)
ص: 212
ومن التصريح بذلك في زيارتها (علیه السلام): (فَرَضِيَ اللهَ عَنكَ وَأَرضَاكَ )(1)
ومن المعرفة بفياضة الخالق عز وجل وجوده وكرمه ولطفه و فضله وغير ذلك : يعني: شمولية الفيض الإلهي بحيث يلف الإنسان بذاته في شتى أبعاده الحسية والعقلية والمادية والمعنوية وبحيث یعم كافة (مِنَ يَرضِىَ المُؤمِن وَيَبتَهِج )بالإحسان اليه واعطائه وارضائه أيضا، أي كافة من يهتم الإنسان بأمره أو يمت اليه بصلة...
وهذا بدوره ينقلنا الى معادلة (الشفاعة).
ص: 213
*الشفاعة: بوابة رحمة(1)
الشفاعة : عطاء الهي اولا وفضل رباني ثانيا، وقاعدة انطلاق وحلقة وصل بين عامة الناس و صالح أولياء الله تعالى، وهي حبل الله المتين الرابط بين الأمة ،والإمامة، والقاعدة والقيادة ثالثا.
فهي عطاء الهي وكرامة فضلى منه جل وعلا ل (أوليائه الصالحين )الذين "كانوا الله فكان الله لهم"، كانوا حيث أمر فكان حيث رجوا، أحبوه فأطاعوه واحبهم فاستجاب لهم (عبدي اطعني تكن مثلي أقول للشيء كن فيكون وتقول للشيء كن فيكون).
وهي فضل رباني، ومن مظاهر رحمة الله الواسعة، ومن تجليات جوده وكرمه، فكما جعل الله (التوبة) حتى عن كبائر الذنوب بوابة غفرانه، وكما كان وجود النبي (صلی الله علیه وآله ) في حد ذاته طاردا للبلاء ودافعا للعذاب (وَمَا كَانَ اللهِ لَيِعَذَّبُهُم وَأَنتَ فِيهِم...)(2) ، كذلك
ص: 214
جعل الشفاعة بوابة رحمة، فبها يغفر الله الذنوب ويرفع الدرجات ويضاعف العطاء.
وهي الى كل ذلك حلقة وصل بين الأمة والإمامة والحبل المتين الذي شد الله به القاعدة بالقيادة.
فهي (اي الشفاعة) تدعيم لمركز القيادة وتكريس لمكانة أولياء الله الصالحين في المجتمع.
وهي (طريق الرجعة) الذي فتحه الله لمن كانت له (أرضية العودة) و(صلاحية الشفاعة) وان لم يسعفه عمله كما ينبغي ف(لَا يَشفَعُونَ اِلَّا لِمَن اَرتَضِىَ)(1).
وقد منح الله سبحانه والدة الإمام المنتظر عليها السلام (مرتبة الشفاعة) وفي درجات سامية أيضا، وهذه المنحة الربانية إكرام الهى لها، بما أطاعت الله ونذرت نفسها للدين القويم وجاهدت في سبيل الله لا تخاف لومة لائم، وفارقت الأهل والأحبة في رضى الله و...
وهذه المنحة هي إكرام رباني لها مرة أخرى باعتبارها والدة آخر خلفاء الله على الأرض، بل في الخليقة على الإطلاق، فإكرامها إكرام له عليه السلام وعجل الله تعالى فرجه الشريف.
ص: 215
ثم ان هذا المنحة تكريس لمكانتها عليها السلام، ولكافة المواصفات والمناقبيات التي تجسدت فيها، فهي - بما انها الشفيعة الى الله تعالى - تشدنا اليها وتجعل آمالنا معلقة بما لحوائج دنيانا وأخرانا ،معا وان من الثابت في علم النفس ان الإنسان يميل لا شعوريا الى(تقمص)شخصية من يحس بأنه مفتاح فلاحه وسر نجاحه أو من يأمل فيه أن يقوده الى آماله وأمنياته .. اي ان مواصفات (الشفيع الى الله )ومناقبياته لابد وان تترك بصماتها على شخصية الإنسان الذي آمن بالشفاعة وعرف (الشفعاء الى الله).
ف (الشفاعة) إذن فكرة حيوية، وهي طريق مشرع نحو التكامل، وهي بعد ذلك سلاح مشهر بوجه إبليس وبلسم شاف لسرطان (اليأس) الذي يعشعش في وجود المذنبين والذي يقطع عليهم طريق العودة ويطفي شمعة الأمل فلا يجدون أمامهم إلا مزيدا من التلوث بالخطايا والآثام .
قال تعالى: (اِنَّه لَا يَيَأسُ مِنَ رُوحُ اللهِ اِلَّا القَومَ الكَّافَرُون)(1).
ص: 216
ولذلك كله نجد زيارة السيدة نرجس (عليها السلام) تركز في أواخرها على قضية (الشفاعة) بل إنك تطلب من الله تعالى في هذه الزيارة ان يدخلك في شفاعتها وان يوفقك لكي تنال ذلك ؟! ولنقرأ معا الجملتين القصيرتين التاليتين المتضمنتين لهذا المغزى الكبير الكبير :(...وَلَا تَحرِمَنِيَ شِفَاعَتِهَا وَشَفَاعَة وَلَدَهَا ...)
و (... وَاَدخِلنِيَ فِي شِفَاعَةَ وَلَدَهَا وَشَفَاعَتِهَا ...) (1).
وتتجلى لنا الأهمية الكبرى للشفاعة عند ما نلاحظ ان(الشفاعة)لا تنحصر في عالم الآخرة فحسب، بل تشمل الحوائج الدنيوية أيضل كما تشهد لذلك( فلسفة الشفاعة) التي أشرنا اليها باختصار في هذا المبحث وكما تدل على ذلك الأدلة النقلية أيضا، ومنها ما نقرأه في زيارة الإمام صاحب الزمان (عجل الله تعالى فرجه الشريف )عند سرداب الغيبة : ( ... لَتَكُونَ شَفِيعاً عِندَ رَبِّكَ وَرَبِّيَ وَاِلَى آبَائِكَ وَمَوالِيَ فِي حَسَنِ التُّوفِيقَ بِي وَإِسبَاغَ النَّعمَةِ عَلِّيَ وَسَوقَ اِلَّإحِسَانَ اِلَّي)(2).
وهذا المفهوم تركزه وتؤكده اكثر فأكثر عبارة أخرى وردت في زيارة السيدة نرجس (علیها السلام) حيث نقرأ: (...فَصَل عَلِّىَ مُحَمَّدَ وَآلِ مُحَمَّدِ وَاَنفَعنِيَ بِزِيَارَتِها ...)(3) والمنفعة هذه تشمل المنافع الدنيوية
ص: 217
والأخروية، المادية والمعنوية المباشرة وعبر الواسطة و...استنادا الی الإطلاق الاحوالي و الازماني وكون حذف المتعلق مفيدا للعموم.(1)
كما تؤكد ذلك المفهوم أيضا فقرة أخرى وردت في الزيارة:(... وبقبر أم وليك لذت)ومن الواضح ان الاحتماء واللواذ بقبرها عليها السلام لا تختص بمصيبة او داهية او حاجة معينة.
فهي عليها السلام الملاذ للدنيا والآخرة وفي كافة الجهات أيضا اللطيف الالفات الى روعة استخدام الكنية في هذه الفقرة فهي عليها السلام (أم وليك) يا رب فيكف لا تخفر ذمتها وكيف لا تجير من احتمى بها ؟!
ص: 218
ويبقى ههنا تساؤل
ما هی المعادلة التي تحكم العلاقة بين مجموعة (الشفعاء) وبين منظومة (المشفوع لهم)؟.
أو كيف تتنظم وتنتظم الرابطة بين الشفعاء والشفاعة وآحاد الناس؟.
فهل الشفاعة عبارة عن دوائر متداخلة بعضها مندمج في البعض الآخر؟.
ام انها حلقات مستقلة منفصلة، لكل منها مجالها الخاص ومتعلقاتها الخاصة؟
أم لكل من الشفعاء أفراد محددون ؟!.
وبعبارة مبسطة :
أ : هل أن زيدا مثلا تشمله شفاعة الرسول الأعظم (صلی الله علیه وآله) وأمير المؤمنين علیه السلام وفاطمة الزهراء (علیها السلام) والإمام الحجة (عج الله تعالی فرجه الشریف) والسيدة نرجس (علیها السلام) مثلا معا ودفعة واحدة في القضية الواحدة، فتكون الشفاعة مؤكدة ؟ وذلك كمن يحظى في قضية معينة أو في كل حياته بحماية دولتين أو تاجرين، أو يحمل وكالة من مرجعين أو أكثر في القضية الواحدة أو مطلقا.
ص: 219
ب : أم أنه تناله شفاعة الرسول (صلی الله علیه وآله) في القضية (الف) وتناله شفاعة الإمام أمير المؤمنين علیه السلام في القضية (ب) وشفاعة السيدة الزهراء (علیها السلام) في القضية (ج) وهكذا، أي ان تكون لكل قضية او سلسلة متجانسة من القضايا ولكل محال شفيع خاص وشفاعة محددة؟ وذلك كن يحظى في القضايا السياسية بدعم أو وكالة من شخص وفي القضايا الاقتصادية بوكالة أو دعم من شخص آخر وهكذا...
ج : ام أن زيدا سيدخل في منظومة شفاعة الرسول (صلی الله علیه وآله) بكل جوانب حياته وعمروا يدخل في منظومة شفاعة أمير المؤمنين علیه السلام بكافة قضاياه وحوائجه، وهكذا ...؟! على حسب تركيبته النفسية أو سيرته العملية كمجموع أو على حسب نمط دعواته وتوسلاته ؟! والذي أثار هذا التساؤل هنا هو تلك العبارة السابقة الواردة في زيارة السيدة نرجس (عليها السلام) ولا تحرمني شفاعتها وشفاعة ولدها ...)..( وَاَدخِلِنَي فِي شَفَاعَةِ وَلَدِهَا وَشَفَاعَتِهَا ...)(1)
والذي يظهر من هذه العبارة انتفاء الاحتمال الثالث(2) وليس عندي - و أنا في زاوية بغيضة من زوايا السجن - أي مصدر ارجع اليه للتحقيق حول ذلك والله المستعان .
ص: 220
ومن المحبذ ان نشير أيضا الى امكان استنباط عمومية شفاعة السيدة نرجس عليها السلام وشمولها لكافة من هو أهل لنيل الشفاعة، من هاتين الفقرتين استنادا الى( التوجيه العام) للجميع ب(زيارتها) المتضمنة لطلب : (أدخلني في شفاعة ولدها وشفاعتها )و(لَا تَحرِمَنِيَ شَفَاعَتِهَا وَشَفَاعَةِ وَلَدَهَا )(1)-والأمر بحاجة للتأمل والتدقيق الأكثر(2).
ص: 221
ولقد كان من آثار ذلك الرضى الإلهي:( لِسَانَ صَدِقَ فِي الآخَرِينَ)(1) الذي منحه الله تعالى للسيدة والدة الإمام المنتظر (عج الله تعالی فرجه الشریف) على مر القرون والاعصار وفي تعاقب الأجيال...
ولكي ندرك مدى أهمية هذا العطاء الرباني نقرأ معا دعاء نبي الله إبراهيم عليه السلام حيث قال: (وَاَجعَل لِيَ لِسَانَ صَدِقَ فِي الآخَرِينَ )(2)ذلك ان لسان الصدق يعني الذكر الحسن والثناء العطر والوصف بجميل الصفات والأقوال، الذي يمنحه الله للإنسان فيسمو الى مستوى (القدوة الحسنة والأسوة الصالحة )فيكون المرء بذكره الحسن منارا ومشعلا ومرشدا للخليقة على مر الاعصار، فيكون بعد وفاته كحال حياته داعيا الى الله باذنه وسراجا منيرا فيزداد علوا وسموا وارتفاعا ودرجات وهو في ذلك العالم الآخر.
ف (لسان الصدق) هو تلك (الصدقة الجارية) الى ما شاء الله، وما اسماها من مكرمة يمنحها الله لصالح عباده.
وبذلك نعرف أيضا ان هذا الطلب لم يكن منبعثا عن الرغبة في الذكر الحسن بما هو ذكر حسن وبعنوان الموضوعية، ولم يكن نابعا
ص: 222
عن حب الذات او الأنانية أبدا، بل انها السبيل الشارعة للهداية والإرشاد والطريق المهيع للتكامل والازدياد، وكما منحها الله تعالى لسان الصدق ودرجة الشفاعة في الآخرة فقد فرض لها (حمی)و (زمرة) في الدنيا والآخرة أيضا(1) .
ص: 223
*عطاء آخر في عالم الآخرة(1)
ونقرأ في زيارة السيدة نرجس (علیها السلام): (... وَاِذَا تَوفِيَتَنِيَ فَاحشَرنِيَ فِي زَمَرتَها ...) (...وَ اَرزَقنِيَ مَرافَقِتَهَا وَأَحشَرنِيَ مَعَهَا وَمَعَ وَلَدَهَا ...)(2)
ف (مرافقة السيدة عليها السلام )رزق الهي، ونعمة من نعم الآخرة ، يمن بها الله جل وعلا على صالحي ،عباده، لذلك كان من المحبذ - وحسب هذه الزيارة واشباهها - ان يطلب الإنسان من الله ان يرزقه ذلك، وستأتي الإشارة اليه.
ثم انه جل وعلا منح السيدة والدة الإمام المنتظر (عج الله تعالی فرجه الشریف) أعطية أخرى، فاقر لها (زمرة) و (حمى) ...
فكما ان سماح الحكومات - في عالم الدنيا - لشخصية ما بأن توسس حزبا أو جمعية امتياز بحد ذاته أولا ومواقع قوة ووسيلة ثانيا، وهو مما تترتب عليه سلسلة من الحقوق والامتيازات ثالثا، كذلك (3)
ص: 224
أقر سبحانه وتعالى في عالم الاخرة لأوليائه الصالحين : (زمرا) وجماعات و (حمى) وحقوقا كثيرة تترتب على ذلك.
وكان من إحدى آثار( الدخول في زمرة الصالحين): ضمان الدخول الى الجنة !!
وما أعظمها من أعطية وأجلها من منحة ؟!.
ويمكن لنا ان نستنبط من هذه الزيارة ومن روايات أخرى عديدة بعض "مشاهد" يوم القيامة، يوم العرض الإلهي الكبير، فالذي يبدو أن في عالم المحشر: (تكتلات)(1) و (تجمعات )عديدة !وربما يظهر أن هذه الاجتماعات والتجمعات (متسلسلة تسلسلا هرميا )!فلنبي موسى علیه السلام أمة، وللنبي عيسى علیه السلام ،أمة، وللرسول الأعظم (صلی الله علیه وآله) أمته أيضا وهكذا .
ثم أن هنالك (دوائر) عديدة وكثيرة تدخل تحت (حماية) هذا الولي الصالح أو تشملها شفاعة ذلك الإمام أو العالم أو المؤمن وهنالك من يدخل في شفاعته (فئام) من الناس، وهنالك من تتسع دائرته أكثر أو تقل عن ذلك، وهنالك الذي (لا يشفع له )الا بعد مداقة في الحساب وبعد فترة طويلة وهنالك الذي( يشفع له) بسرعة ویسر(2)حسب الحكمة الإلهية في مختلف تلك الموارد (3)
ص: 225
واننا نجد في زيارة السيدة نرجس عليها السلام التصريح بال لها (زمرة) وللإمام الحجة علیه السلام زمرة اكبر وللرسول الأعظم (صلی الله علیه وآله) الزمرة الكبرى التي تشمل كافة المعصومين أيضا، اذ نقرأ في الزيارات : (1)( ... اَسألَ اللهَ اَن يَرَينَا فِيكُم السَّرُورَ وَالفَرَجِ وَأَن يَجمَعنَا وَأِيَّاكُم فِي زَمَرَةِ جَدَّكُم مُحَمَّدَ صَلَى اللهُ عَلَيهِ وَآلِه)(2).
وفي زيارة الإمام الحسين علیه السلام :( يَا سَيدِيَ وَمَولَايَ أَدخِلنِي فِي حَزبِكَ وَزَمرتِك)(3).
وفي وداع الإمام الرضا علیه السلام نقرأ (... وَاَحشِرنِيَ مَعَه وَفِيَ حَزَبَه)(4)
بل ان الناس حتى وهم في الطريق الى الجنة او وهم متجهون نحو النار، قد جعلهم الله زمرا وفرقا قال تعالى: (وَسَيقَ الَّذِينَ اَتَّقُوا رَبَّهُم
ص: 226
اِلَى الجَنَّة زَمَرَا)(1) وقال سبحانه:( وَسَيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا اِلَى جَهَنَم زَمَرَا)(2) .
ربما تكون الفلسفة في معادلة معادلة (الزمر) هذه هي قاعدة التجانس والسنخية التي تراعى في كل مجموعة متماثلة أو متقاربة في الأفكار والاعمال والولاء فتحشر معا وتنتظم تحت راية واحدة في الموقف ثم في الحركة نحو الجنة أو النار ، وهذا المبحث مفصل وسنتحدث عنه في مقال مستقل إنشاء الله تعالى عقليا وتصويريا وعلى ضوء الأحاديث والروايات ضمن كتيب او كتاب عن (مشاهد من يوم الحشر الأكبر) (3).
وبعد كل ذلك فان (مرافقة أولياء الله الصالحين) في الدنيا والآخرة لها القيمة الكبرى، ولذلك يقول جل وعلا: (وَمَن يَطَعَ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ اَنعَم اللهَ عَلَيهُمُ مِن النَّبِيِينَ وَالصِّدِيقِينَ وَ الشُّهَدَاءَ وَالصَّالِحيِنَ وَحَسن أُولَئِكَ رَفِيقاً)(4) وهكذا فان الرب جل وعلا (يثيب) على اطاعته واطاعة رسوله بأن يتفضل عليهم ب (المعية)
ص: 227
للنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ثم يؤكد ذلك الفضل موضحا أهميته ب(وحسن أولئك رفيقا) .
ومن الأكيد ان هذه المرافقة منشأ الخيرات والبركات والرحمة المتواصلة الإلهية، إضافة الى الآثار المباشرة الناجمة عن مصاحبة أولياء الله وأنبيائه، واذا كانت مرافقة (العالم) أو (السياسي) أو (الأديب) أو (الأمير) أو أي شخص كان له شأن خطير مادي او معنوي، في الدنيا، ذات أثر بالغ (في تكاملية الإنسان )أو في تحقيق عدد من طموحاته أو (تمشية) جانب من أموره فان هذه (المرافقة) ستكون ذات فوائد وآثار لا تعد ولا تحصى عند ما تكون مع أعلى قمم البشرية مكانة وشموخا وسموا وكمالا باعتبارها وعدا إلهيا وثوابا ربانيا على إطاعة الله سبحانه ورسوله (صلی الله علیه وآله) وبذلك نعرف قيمة الدعاء الوارد في زيارتها (علیها السلام) :(وَاَرزَقنِيَ مَرَافَقَتِهَا)(1) .
ص: 228
[تستوقفنا في زيارة السيدة نرجس (علیها السلام) مقاطع كثيرة، ولنا أن نستنبط منها حقائق هامة في جوانب عقائدية وأخلاقية وفكرية وغيرها .
ولقد اقتبسنا في هذا الكتاب من هذه الزيارة، محاولين قدر الا مكان ان نطعم كل مبحث بإحدى فقراتها، فأضحت لئالى،و جواهر و درر منثورة على امتداد الكتاب وبقيت هنا عدة نقاط ترتبط بالجانب السندي للزيارة وتأملات حول الطابع العام للزيارة وبعض النقاط الهامة سنشير اليها باذنه تعالى.]
[فتوثيق(1) الرواية( صحتها، أو وثاقتها، أو حسنها، على الاصطلاح المعروف في علم الدراية وعلم الرجال) وكذلك توثيق اي نقل لحدث تاريخي معين يتم عبر إحدى الطرق التالية:
ص: 229
1 :عبر توثيق رجال سند الرولية والاطمئنان بصدق كلامهم وبجهة الكلام أيضاً .
2 : أو عبر الشهرة الروائية أو عبر الشهرة الفتوائية - فيما تضمن حكماً شرعياً -
3 : أو عبرالقرائن - المقالية أو المقامية - المكتنفة بالرواية أو الحادثة التاريخية سواء كانت تلك القرائن خارجية أم داخلية : كقوة المضمون مثلاً.
فالعديد من خطب أو كلمات (نهج البلاغة) يمكن الاطمئنان بصحته وبصدوره من الإمام علیه السلام والاستناد اليه شرعاً عبر الاستناد الى قوة المضمون وان لم تتصل حلقات الاسناد أو لم يكن الرواة قد توفرت فيهم شرائط الوثاقة فرضاً.
وكذلك يمكن الاستناد - في عدد من الروايات المتضمنة للتطرق لثواب الهي على عمل معين - الى قاعدة (التسامح في ادلة السنن) التي وضع أساسها الرسول الأعظم (صلی الله علیه وآله ) في رواية (من بلغه )(1).
ص: 230
وهنالك مسالة أخرى جديرة بالالتفات ذلك ان مستند الحجية في (الإسناد) و (الظواهر) و(الجهة) هو بناء العقلاء، وفي القضايا التاريخية فان (بناء العقلاء) لا يتحدد ضمن الشرائط الرجالية ولا يتأطر بها عادة.
وبعبارة اخرى: فان الشرائط التي اعتبرت في علمي الدراية والرجال لصحة او وثاقه او حسن الرواية هي فيما اذا كان الحديث او الرواية يتضمن حكماً شرعياً الزامياً يراد إثباته بهذا الإسناد، وفي غير ذلك فاننا نجد( بناء العقلاء) على الاعتماد على النقل التاريخي ولو كان راويه غير مستجمع للشرائط الرجالية - الا ما خرج بالدليل - وذلك جار في كل الأمم والملل وفى شتى الحوادث التاريخية، وعلى ذلك جرت سيرتهم، بل وسيرة المتشرعة أيضاً .
ص: 231
وبالنسبة لزيارة السيدة نرجس (عليها السلام) فان الفحص أوصلنا الى العثور على سند متصل لتلك الرواية فبها، وان أوصلنا الى العثور على سند لكلي تلك الزيارة - أي دل على ورود هذه النصوص أو شبهها لكلي من كان على شاكلتها، كالسيدة فاطمة بنت أسد عليها السلام التي تشاكل زيارتها زيارة السيدة نرجس (عليها السلام) - فكذلك أيضا، بلحاظ القرائن المقامية والمقالية الأخرى المحتفة بها والدالة على سمو مكانتها والتي أشير اليها في جوانب عديدة من هذا الكتاب.
وان لم يتم هذا ولا ذاك، فان اعتضاد الزيارة بقوة المضمون ومطابقة مضامينها للقرائن المقامية والمقالية وما ذكر في قضية الأحداث التاريخية، ربما يصلح شاهدا عرفيا يستكشف عنه صدور
فقرات تلك الزيارة او مضامينها من مصادرها المعتبرة، والا فانها يمكن ان تعتبر من المؤيدات او يقال :انها نقلت تيمنا وتبركا ،وبرجاء المطلوبية، كما يقرأها بعض المتدينين كذلك، فتأمل.
والأمر بحاجة الى تتبع وتأمل ولا املك الآن اي مصدر رجالي او درائي ولا اي كتاب دعاء (باستثناء مفاتيح الجنان) ارجع اليه والله المستعان .]
ص: 232
زيارة السيدة نرجس (علیها السلام) كبقية الزيارات تفيض بالتركيز الكبير على قضيتين أساسيتين:
1: فهي من جهة تركز على العلاقة الرابطة بين الولي الصالح وبين الرب، وكذا بين الزائر والمزور، فهناك مجموعة من المثل والمواصفات والقيم المتجسدة فيمن يزار والتي تربط الزائر بالمزور والمقصد النهائي،بين الخالق والمخلوق والوسطاء الربانيين، وهي بذلك تقوم بعملية مزدوجة بالغة الروعة فهي اولا تقوم بالتعريف بالصورة المشرقة لاولياء الله الصالحين مجهزة بذلك على كل مجادلات التحريف ومخططات التشويه والتلويث التي حاولتها عن عمد أيدي الجبابرة وأبواقهم وعملاؤهم الذين كانوا يشنون أقسى الحروب السياسیة والإعلامية والعسكرية ضد المعصومين (علیهم السلام) وأبنائهم وذويهم ومن يرتبط بهم، وهي تقوم ثانيا بعملية نفسية .. تربوية، مضاعفة عبر دفع المرء - وبطريقة ذكية غير مباشرة وعبر استثارة فطرة الإنسان المنطوية على تقديس العظماء ومحاولة (تقمص) شخصياتهم والاحتذاء بهم - ل: الاتصاف بتلك المواصفات المثالية وترجمتها في حياته العملية وممارساته اليومية الفردية منها والاجتماعية.
ص: 233
ثم هي - أي هذه الزيارة وساير الزيارات - تصب كلظة قوس الصعود المتجه نحو رب الأرباب واله العالمين، فتخلع عليه إطارا ودثارا من (الطريقية) نحو الإله العلى الكبير(1) .
2:وهي من جهة ثانية تقوم ب (توجيه) الإنسان نحو استكشاف مفاتيح الفلاح وأسرار السعادة والنجاح، فهي التي( تعلمه) الحاجات الإستراتيجية التي ينبغي عليه ان يطلبها من الباري جل وعلا، وترشده الى( مواطن الخلا) و (مكامن الضعف) التي عليه ان يمد الى الله يديه ضارعا مبتهلا كي يمنحه من فضله (الغنى) ويهبه من لطفه (الكمال).
ففي زيارة أبي الفضل علیه السلام - كمثال - نجد الجهتين تتألقان ببريق مشرق أخاذ :
أ:(.. اشهد لك بالتسليم والتصديق والوفاء والنصيحة لخلف النبي صلى الله عليه وآله المرسل والسبط المنتجب والدليل العالم والوصي المبلغ والمظلوم المهتضم، فجزاك الله عن رسوله وعن أمیر المؤمنين وعن فاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم أفضل الجزاء بما صبرت واحتسبت واعنت فنعم عقبى الدار، لعن الله من قتلك، ولعن الله من جهل حقك واستخف بحرمتك ولعن الله حال بينك وبين ماء الفرات، اشهد أنك قتلت مظلوما وان الله منجز
ص: 234
لكم ما وعدكم، جئتك يا ابن أمير المؤمنين وافدا اليكم وقلبي مسلم لكم وتابع، وانا لكم تابع و نصرتي لكم معدة حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين فمعكم معكم لا مع عدوكم اني مؤمن بکم م و (بآبائكم) بإيابكم من المؤمنين وبمن خالفكم وقتلكم من الكافرين، قتل الله أمة قتلتكم بالأيدي والألسن)(1).
ثم تدخل الروضة وتلصق نفسك بالضريح الشريف وتقول:(السلام عليك ايها العبد الصالح المطيع الله ولرسوله ولأمير المؤمنين والحسن والحسين ....واشهد أنك مضيت على ما مضى به البدريون والمجاهدون في سبيل الله...اشهد أنك قد بالغت في النصيحة وأعطيت غاية الجهود ...)(2).
ب: ثم تدعو بعد صلاة الزيارة وتقول:
(اللهم صل على محمد وآل محمد ولا تدع لي في هذا المكان المكرم والمشهد المعظم ذنبا إلا غفرته، ولاهما الا فرجته، ولا مرضا الا شفيته، ولا عيبا الا سترته، ولا رزقا الا بسطته، ولا خوفا الا آمنته ولا شملا الا جمعته، ولا غائبا الا حفظته ،وأدنيته، ولا حاجة من حوائج الدنيا و الآخرة لك فيها رضا ولي فيها صلاح الا قضيتها يا ارحم الراحمين)(3).
ص: 235
(... فأسألك ان تصلي على محمد وآله الطاهرين وان تجعل رزقي بهم دارا وعيشي هم قارا وزيارتي بهم مقبولة وحياتي بهم طيبة وادرجني إدراج المكرمين واجعلني ممن ينقلب من زيارة مشاهد أحبائك مفلحا منجحا قد استوجب غفران الذنوب وستر العيوب وكشف الكروب انك أهل التقوى وأهل المغفرة)(1).
وفي زيارة السيدة نرجس (عليها السلام) - وتقرب منها زيارة السيدة فاطمة بنت أسد( عليها السلام) والدة الإمام أمير المؤمنين علیه السلام-(2) :
أ:(... السلام على والدة الإمام والمودعة أسرار الملك العلام والحاملة لأشرف الأنام، السلام عليك أيتها الصديقة المرضية ...السلام عليك أيتها التقية النقية .. السلام عليك أيتها الرضية المرضية ... السلام عليك وعلى آبائك الحواريين.. السلام عليك وعلى بعلك وولدك ... اشهد انك أحسنت الكفالة وأديت الأمانة واجتهدت في مرضاة الله وصبرت في ذات الله وحفظت سر الله وحملت ولي الله وبالغت في حفظ حجة الله ورغبت في وصلة أبناء رسول الله، عارفة بحقهم مؤمنة بصدقهم معترفة بمترلتهم مستبصرة بأمرهم مشفقة عليهم مؤثرة هواهم واشهد انك مضيت على بصيرة
ص: 236
من أمرك مقتدية بالصالحين، راضية مرضية تقية نقية زكية، فرضي الله عنك وأرضاك ...)(1).
ب: (اللهم إياك اعتمدت ولرضاك طلبت، وبأوليائك إليك توسلت، وعلى غفرانك وحلمك اتكلت وبك اعتصمت وبقبر أم وليك لذت فصل على محمد وآل محمد وانفعي بزيارتها وثبتني على محبتها و لا تحرمني شفاعتها وشفاعة ولدها .. اللهم اني أتوجه إليك بالأئمة الطاهرين، وأتوسل إليك بالحجج الميامين من آل طه ويس، أن تصلي على محمد وآل محمد الطيبين، وان تجعلني من المطمئنين الفائزين الفرحين المستبشرين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون واجعلني ممن قبلت سعيه ويسرت امره وكشفت ضره وآمنت خوفه اللهم بحق محمد وآل محمد صل على محمد وآل محمد ولا تجعله آخر العهد من زيارتها ...)(2)
ص: 237
*ثبتني اللهم على محبتها(1)
(النعم الإلهية )عطاء رباني، والعطاء الإلهي في استمراريته مشروط بشروط وخاضع لعدد من الضوابط البسيطة جدا والهامة جدا ومن تلك العوامل : شكر الله تعالى على تلك النعم.
ومنها أيضا : الابتهال الى الله تعالى كى يتفضل بالإبقاء كما تفضل بالابتداء(2).
و (محبة أهل البيت عليهم السلام )من أهم النعم الإلهية على الإطلاق، بل هو الطلب الأساسي و (الأجر) الوحيد الذي طلبه الرسول الأعظم (صلی الله علیه وآله) من الأمة إزاء جهوده الجبارة واتعابه الهائلة كلها : (قُل لَا أَسأَلَكُم عَلَيهِ اَجراً اِلَّا المَودَةَ فِي القَربِىَ )(3) وهذا (الاجر) هو في الحقيقة عائد لنا ولصالحنا نحن (قُل مَا سَألتَكُم مِنَ اَجرِ فَهُوَ لَكُم)(4) أي أن (الثمن) و (المثمن )كلاهما عائدان لنا! وهذا من أعظم فضل الله تعالى، ولذلك نجد في زيارة السيدة نرجس (علیها السلام) كالزيارات الأخرى: التضرع الى الله تعالى في ذلك، فاننا نقرأ في
ص: 238
زيارة السيدة (علیها السلام): (... فَصَل عَلِّىَ مُحَمَّدَ وَآلِ مُحَمَّد ... وَثَبتِنَي عَلِّىَ مَحبَتَهَا ..)(1).
وسنستشعر أهمية هذا الدعاء ونظائره اكثر عند ما نتذكر الأحاديث الواردة في أن (الإيمان) منه مستقر ومنه مستودع(2) قال تعالى: (فَمَستَقَر وَمَستَودَعَ)(3) وما أغلى هذه الأمانة والوديعة الإلهية وما أخطر أعدائها من شياطين الجن والإنس وما افتك شباكهم، ولذلك أيضا كان التركيز في الادعية والزيارات على طلب التثبيت على المحبة والإيمان وعلى حسن العاقبة.
ص: 239
وبعد ذلك نجد في زيارة السيدة (علیها السلام) دعاء آخر له دلالته الكبرى أيضا وهو :(...وَلَا تَجعَلَهُ آخَرَ العَهدِ مِنَ زِيَارَتِهَا ... )(1)لماذا ؟
لان مزارات المعصومين (عليهم السلام) وأولياء الله الصالحين وزياراتهم هي( عامل تواصل) و (رمز ولاء )و(ينبوع عطاء )وهي تجسيد عملي للإيمان القلبي ونوع تحل للمحبة ،والاقتداء على الجوارح والأركان واللسان وهي أيضا (ملتقى أولياء الله) و (معهد صقل النفوس وتهذيبها ) و (مدرسة التكامل الفكري والعملي أيضا ).
وهی كذلك مهبط الرحمة الربانية ومختلف الملائكة، ومظان استجابة الدعوات الضارعة.
وهي ايضا المغتسل البارد والشراب الطهور.
وهي أيضا بوابة عالم الآخرة، والعين ،الناضرة، والجسر الواصل بين الخلائق والخالق.
وهي الطريق المعبد للسيطرة على شهوات الجسد والانطلاق الى آفاق الملكوت وعوالم اللاهوت.
فهي المسير وهي المصير
ص: 240
وهي الدليل وهي الدلالة.
وهي الروح وهي الروح.
وهي اللب وهي الشكل.
وهي الملاذ وبها المعاذ.
وهي الجمال وهي الکمال.
انها حضيرة القدس (الربوي)، وقوس الصعودورمز الخلود...(1).
ص: 241
ص: 242
ص: 243
ص: 244
[ لقد واصلت السيدة أم الإمام المنتظر (عج الله تعالی فرجه الشریف) مسيرتها الجهادية الحافلة طوال حياة الإمام الحسن العسكري علیه السلام ، كما سبق الحديث عن ذلك .
وعندما تلبدت السماء قبيل وفاة الإمام العسكري علیه السلام -في مرضه الأخير -بغيوم مكفهرة ونذر موحشة، كانت ایضاً - كما سنرى بعد قليل -صامدة ،صابرة رابطة الجأش وحكيمة أیضاً.
فقد تفجر الوضع بمجرد أن بلغت مسامع السلطان أنباء مرض الإمام العسكري علیه السلام فتعرضت دار الإمام للحصار، بل تجاوزت السلطات الحد لترسل مجموعة من قواتها الى داخل دار الإمام علیه السلام كي ترابط وتراقب كل شاردة وواردة راصدة كل همسة وحركة (1)منتهكة بذلك حرمة دار الإمام علیه السلام ومتجاوزة ابسط الحقوق الشرعية والقانونية والعرفية وأكثرها بداهة بالنسبة لأي إنسان، فكيف بذراري الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله )وبيت الإمامة و حجة الله على وجه الأرض !
ص: 245
وعند ما لي إمامنا العسكري علیه السلام نداء ربه وارتحل إلى جوار آبائه الطاهرين( صلوات الله عليه- عليهم أجمعين) مسموماً شهيداً، بلغت الضغوط ذروتها، فقد بعث السلطان الى داره علیه السلام من يفتشها ويفتش حجرها، وختم على جميع ما فيها (1).
بل لقد( كبست دار الإمام الخيل واشتغلوا بالنهب والغارة)(2) وقد كانت الجلاوزة من الوحشية والدناءة بحيث يصرح أحدهم قائلاً :(دخلت الى دار العسكري بعد وفاته فكسرت بابها، وأخذت منها طبرزین... )(3)
لقد كان البحث جاداً وعلى قدم وساق من الوليد المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، ذلك الخطر الذي كان يقض مضاجع السلطات ويؤرقهم محولاً نهارهم الى ليل اسود مظلم.
وتعرض الشيعة بشكل عام لمحنة كبيرة فلقد( اضطرب السلطان وأصحابه في طلب ولده - اي ابن الإمام العسكري علیه السلام- وكثر التفتيش في المنازل والدور )(4)
ص: 246
انها كانت اذن عملية (استنفارشاملة) و (حالة طوارئ قصوي )فالسلطان واصحابه( يضطربون) في طلب الإمام المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) والتفتيش لا يتوقف عند حد !!.
يقول الشيخ المفيد (قدس سره): (... وجرى على مخلفي أبي محمد علیه السلام- أي من خلفه الإمام العسكري علیه السلام من اسرته ومن يلوذ به - بسبب ذلك كل عظيمة من اعتقال وحبس وتهديد وتصغير واستخفاف وذل ...)(1).]
ص: 247
[في مثل هذا الظرف وفي هذا المنعطف الخطير، كان للسيدة نرجس = مليكة (عليها السلام) موقف فريد، يكشف عن حکمة بالغة وشجاعة نادرة.
فعند ما رأت السلطات جادة في البحث عن الإمام المنتظر (عج الله تعالی فرجه الشریف) - وكان (عج الله تعالی فرجه الشریف) اذ ذاك في الخامسة من العمر، مستوراً عن الأعين مخفياً عن السلطات أمره وأمر ولادته - وعند ما رأت الضغط يطال منازل كثيرة والشيعة في كرب وضيق وفي معرض المداهمات الهمجية في كل حين.
عند ذلك أعلنت السيدة نرجس انها حامل !!
فاعتقلت على الفور!!.
ولكن لماذا ؟.
وكيف؟.
لقد كان الصبي (عج الله تعالی فرجه الشریف) في الخامسة من العمر، الا ان التكتم الشديد على ولادته كان قد أخفى على السلطات أمره وحتى على كثير من أقارب الإمام، فلم يكن يعلم انه قد ولد أم لا واين هو على تقدير ولادته الا ان السلطات( كانت شديدة الطلب ،له جادة
ص: 248
مجتهدة في البحث عن أمره لما شاع من مذهب الشيعة الامامية فيه، وعرف من انتظار هم له )(1).
لكن ولان( الإمام العسكري علیه السلام كان قد أخفى مولده وستر أمره) لذلك (لم يظهر ولده في حياته ولا عرفه الجمهور بعد وفاته)(2).
وكان لذلك : ان أعلنت السيدة نرجس (عليها السلام) أنها حامل ...
لقد استهدفت تضليل السلطات، وصرف الأنظار عن ذلك الوليد الحجة، المترقب المستتر (عج الله تعالی فرجه الشریف) وهكذا تركت للسلطة ان تتوهم أنه لم يولد بعد وانها هي الحامل به !! وبذلك تم الحصول على أمرين هامين :
أ: تخفيف الضغط على الشيعة والحيلولة دون كبس دورهم وتفتيشها بحثا عن الإمام المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) بدرجة معينة.
ب :توفير حماية عملية نسبية للإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه الشريف) إثر توهم انه لايزال حملا، مما يخفف من حدة عمليات التفتيش والصد والرقابة.
ولننصت الى شذرات تاريخية تكشف لنا عن ذلك :
ص: 249
1(... فوجه المعتمد -الخليفة العباسي بخدمة فقبضوا علی صقيل الجارية، وهي السيدة نرجس (عليها السلام) وكان من اسمائها صقيل كما سبق، فطالبوها بالصبي فأنكرته وادعت حبلا بها لتغطى حال الصبي ...)(1).
(.... فادعت صقيل عند ذلك انها حامل ...)(2).]
ص: 250
[ وهكذا .. القي القبض على السيدة نرجس (علیها السلام) و (حملت الى دار المعتمد - الخليفة العباسي - فجعل نساء المعتمد وخدمه، ونساء الموفق وخدمه ونساء القاضي ابن أبي الشوارب، يتعاهدن أمرها في كل وقت ويراعون)(1) .
انها رقابة استثنائية، وحصار مؤلم ومضايقات وإزعاج على مدار الساعة تتصدى لها خمس جهات ؟!.
أ : نساء المعتمد .
ب : وخدمه.
ج : نساء الموفق.
د : وخدمه .
ه : نساء القاضي ابن أبي الشوارب .
والذي يظهر بوضوح ان( ازمة ثقة) كانت تعشعش داخل أجنحة السلطة، اذ لماذا تتصدى خمسة جهات للسيدة نرجس (علیها السلام) وتخضع لرقابة على مدار الساعة من قبل كل تلك الجموع !؟.
ص: 251
وقد تحملت السيدة (عليها السلام) كل ذلك العناء صابره، صامدة، ومغتبطة أيضا .
أليست قد ضللت السلطات ووفرت الحماية لولي الله الأعظم (عجل الله تعالى فرجه الشريف) ؟!
ويا له من شرف وما أسماها من أمنية : ان يكون الإنسان جنة واقية ودرعا حصينة لصاحب الزمان (عج الله تعالی فرجه الشریف) ؟!
وقد ظلت السيدة أم الإمام القائم (عج الله تعالی فرجه الشریف) محتجزة في تلك الدار خاضعة لذلك التفتيش والحصار الى( ان دهمهم - اي السلطات العباسية - أمر الصغار، وموت عبيد الله بن يحيي بن خاقان بغتة وخروجهم من سر من رأى وأمر صاحب الزنج وغير ذلك، فشغلهم ذلك عن الجارية فخرجت عن أيديهم والحمد الله رب العالمين )(1)
ومع ذلك (لم يزل الذين وكلوا بحفظ الجارية التي توهموا عليها الحبل، ملازمين لها سنتين وأكثر حتى تبين لهم بطلان الحبل)(2).]
ص: 252
*مقارنة مقتضبةر(1)
... واخيرا .
ما الذي ضحت به السيدة نرجس ؟ وما الذي حصلت عليه ؟.
ما الذي فقدته ؟ وما الذي وجدته ؟ .
ما الذي خلفته ؟ وما الذي أقدمت عليه ؟.
وعن ماذا سخت وبم جادت وبأي شيء استأثرت؟:
طمأنينة النفس، وراحة الوجدان ونقاوة الضمير، وسمو الروح ، والذكر الحسن، والثناء الجميل، ولسان الصدق والسمو في مدارج الكمال، وآفاق الرحمة ومناقب ومكرمات تتوجها (الأمومة) الخليفة الرحمان وإمام الإنس والجان (عجل الله تعالى فرجه الشريف) و (نَعِيمُ مُقِيمَ) (2)و (جَنَّاتِ عَدَن)(3)، (فِي مَقعَدِ صَدِقَ عِندَ مَلِيكَ مَقتَدِرَ ...)(4).
ص: 253
هذه عناوين سريعة لأهم ما نالته وأحرزته السيدة نرجس (علیهاالسلام).
وفي المقابل: سلطان الجسد، وملذات الحياة، وكبكبة الملك وسنوات قلائل من دنيا حلوها ،مر وطويلها قصير، وكثيرها قليل ونعيمها زائل( في حلالها حساب وفي حرامها عقاب وفي الشبهات
عتاب)(1).
هذا هو كل ما فقدته ! .
وهل من (قياس) .؟
وهل توجد بين القائمتين (نسبة)؟.
.. وبعد ذلك : الطغاة والجبابرة والملوك والعباسيون :
ما الذي فقدوا ؟ .
وما الذي وجدوا ؟
وعم سخوا؟.
وبم جادوا؟
وخزات الضمير وصرعات الوجدان ودناءة الهمة، وحقارة الروح، ومهاوي رذيلة، ولذائذ ،عابرة وسراب كاذب، وسم زعاف ولعنات التاريخ وعذاب الهي ابدي.
هذه هي كل حصيلة أولئك في هذه الحياة.
ص: 254
والآن على كل واحد منا أن يقوم - كل يوم - (بعملية استبطان) و (محاسبة النفس) ليجد نفسه تقع في أية دائرة - في الصغير من أمورها والكبير- وتخضع لأية معادلة وتنتهج أي المنهجين - في كل خطوة، وقرار، وحركة وتصرف وكلمة - ومن ثم تتجه الى أي المسيرين؟.
ص: 255
*في نهاية المطاف(1)
كي تتكامل الصورة عن حياة السيدة والدة الإمام (عج الله تعالی فرجه الشریف) لابد القيام ب:
أ:رسم تصويري دقيق عن حياة البذخ والترف داخل الأسرة المالكة، وطريقة التعامل في البلاط الملكي، والوضع العام للإمبراطورية الرومیة-استنادا في كل ذلك الى المصادر التاريخية- ، ومن ثم موقع السيدة (علیها السلام) من كل ذلك .
ب: لوحة توصيفية عن ظروف( الأسر والهجرة )والمخاطر المحدقة بهذه الهجرة الخطرة، وموقع (الأسيرة) وطريقه التعامل معها في تلك الفترة الزمنية الحساسة.
ج: دراسة دقيقة للظروف السياسية والاجتماعية التي كان يعيشها آل بيت الرسول الأعظم (صلی الله علیه وآله) عند ما حلت السيدة (علیها السلام) بساحتهم، مرورا بفترة الحمل، ثم الولادة، ثم الفترة الزمنية التي عاشتها السيدة بعد ولادته (عج الله تعالی فرجه الشریف) وبعد شهادة الإمام العسكري علیه السلام.
د :تموجات هجرة السيدة (علیها السلام) على والدها ملك الروم وسائر أعضاء الأسرة المالكية، ثم هل كانت هنالك علاقة بينها وبين آل
ص: 256
الرسول (صلی الله علیه وآله) من جهة وبين العائلة المالكة طوال الفترة اللاحقة ؟! وما هي التأثيرات الاجتماعية - الثقافية التي تركتها وصلتها بآل الرسول (صلی الله علیه وآله) على الشعب الرومي، وهذا المبحث بحاجة الى استقراء موسع لشتى المصادر التاريخية الإسلامية والرومية على بعضها يلقی شعاع ضوء على ذلك .
ولكي تتحول دراسة حياة السيدة (علیها السلام) الى منهج كمال ومسار حياة والى دليل ومرشد متوهج أبدا لا بد من (1):
أ: عقد مؤتمرات دورية تعني بالبحث عن شتى جوانب حياة السيدة (علیهاالسلام).
ب :تخصيص يوم من أيام السنة لتجديد ذكراها، يكون باسمها (عليها السلام) أو تخصيص أسبوع باسم أسبوع (المرأة) أو (الأم) -مثلا - لإحياء ذكراها وذكرى عدد آخر من عظيمات النساء .
ج : التزام الخطباء الأفاضل بالحديث عنها وعن سيرتها وهجرتها وجهادها ومكارم أخلاقها و ... في أيام من شهري شعبان في شهري شعبان و رمضان المبارك، وفي عدد من أيام الجمعة أو ما أشبه وكذلك تعهد الكتاب والشعراء والأدباء بالكتابة حولها والحديث عنها .
د :تسمية الأولاد والمؤسسات الدينية والمعاهد العلمية، والبرامج التربوية باسمها عليها السلام - على تنوع تسمياتها .
ص: 257
وختاما فإنني أعترف بالقصور والتقصير في أداء حتى جزء ضئيل من ذلك الحق العظيم العظيم، وأرجو مع ذلك ان تحظى هذه الخدمة المتواضعة بالقبول لدى معادن الكرم وينابيع الفضل والجود والعطاء عليهم افضل الصلاة والسلام.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين.
ليلة الأحد / ليلة 11 شعبان / 1417ه-
في زاوية من زوايا السجن، والأمر كله الله
مرتضى الشيرازي
ص: 258
القرآن الكريم
نهج البلاغة
الصحيفة السجادية
مفاتيح الجنان
تاريخ اليعقوبي 284 ه
المحاسن 274 او 280 ه
تفسير الحبري 286 ه
بصائر الدرجات 290 ه
تفسير العياشي 320 ه
الكافي 328ه
غيبة النعماني 350 ه
كمال الدين 381 ه
خصال الصدوق 381 ه
امالي الصدوق 381 ه
ثواب الاعمال 381 ه
من لا يحضره الفقية 381ه
عيون اخبار الرضا (علیه السلام) 381 ه-
تحف العقول القرن 4 ه
الارشاد 413 ه
كنز الفوائد 449 ه
تهذيب الاحكام 460ه
امالي الطوسي 460
غيبة الطوسى 460 ه
شواهد التنزيل القرن 5
مكارم الأخلاق 548 ه
مجمع البيان 548 ه
اعلام الورى 548 ه
مناقب آل أبي طالب 588 ه
الاحتجاج 588 ه
جمال الاسبوع 644 ه
شرح نهج البلاغة 658 ه
كشف الغمة 693 ه
غوالي اللثاني 878 ه
وسائل الشيعة 1104 ه
بحار الانوار 1111 ه
قصص الانبياء للجزائري 1158 ه
تفسير شبر 1242 ه
مستدرك الوسائل 1320 ه
عمدة الزائر 1265 ه
سفينة البحار 1359 ه-
اللمعة الدمشقية
كشف الغطاء
أمهات الائمة
المنتخب الحسني
موسوعة الفقة للشيرازي
الدعاء والزيارة
ص: 259
ص: 260
كلمة الناشر...5
زيارة السيدة نرجس عليها السلام...10
السيدة نرجس (علیها السلام) في سطور ...13
المقدمة ...15
قصة الكتاب ومنهجه ...15
المدخل ...21
آفاق في كلمات ...21
الفصل الاول ملامح عن عظمة السيدة نرجس عليها السلام ...25
الاختيار الإلهي...27
الأمنية الكبرى ...31
معادلات تكوينية ...36
واسطة الفيض الإلهي ...39
الصدقة الجارية...42
المستودعة أسرار رب العالمين...44
الفصل الثاني قبس من الأحداث...51
وميض من أعماق الزمن ...53
في عالم الملكوت ...55
إخراج الهي وصياغة ربانية ...57
زلزال في القصر الملكي...62
تأملات ...64
الهجرة المقدسة ...67
رؤيا صادقة ...70
ص: 261
الأميرة - الأسيرة ! ...73
المهمة السرية ...75
الانتخاب النموذجي ...79
ملاحظات أمنية :...82
الأحلام الوردية ...84
اللقاء الأول...86
استنتاجات ...88
لقاء حار بين امرأتين... 91
الزواج المبارك ...93
زوجة ولا غير...97
ماذا وراء التسميات المتكثرة ؟...102
بشائر متتالية ...107
الرحم الطاهر ...110
بين أم المهدي (عج الله تعالی فرجه الشریف) وام موسى علیه السلام...112
مولد النور ...117
نفحات غيبية ...124
الفصل الثالث مدرسة الجهاد والفضائل ...127
مدرسة الجهاد ..+..129
الضغط السياسي والحصار الأمني ...131
على خطى فرعون ...137
رقابة واعتقال ...139
التحلي بالصمت والكتمان...141
الامتحان المصيري... 143
ص: 262
الامتداد التاريخي ...151
مناقبيات أخرى...152
صلاة في السحر ...152
تكريس العلاقة بالله ...154
عفاف وشجاعة وصمود...156
ثقافة مبكرة ... 159
الفصل الرابع الانتصارات الكبرى والأسلحة الاستراتيجية ...161
القيادة والمسئولية ...163
معارك ضارية ...165
أسلحة استراتيجية...167
سلاح المعرفة ...167
حقوق آل الرسول (عليهم السلام)...171
مكانة آل الرسول (صلی الله علیه وآله) ...172
أمر آل الرسول (صلی الله علیه وآله) ...173
الشحنة العاطفية ...180
شواهد صدق ...181
العاطفة وعملية استنقاذ الأسرى ...183
استنتاج ومقارنة ...186
القمة في الإيثار ...189
العزم والمضاء ...194
معاناة اجتماعية ...200
مقتدية بالصالحين ...203
الفصل الخامس العطاء الإلهي ...207
العطاء الرباني ...209
ورضوان من الله اكبر ...209
أعطاها حتى أرضاها... 211
ص: 263
الشفاعة:بوابة رحمة ...214
الشفاعة : مشروع تكامل ...216
هل الشفاعة دوائر متداخلة ؟ ...219
لسان الصدق ...222
عطاء آخر في عالم الآخرة ...224
وماذا عن سند الزيارة؟ ...229
إشارة عابرة للجانب السندي ...229
فلسفة الأدعية والزيارات...233
ثبتني اللهم على محبتها ...238
الزيارة رمز ولاء وينبوع عطاء ...240
الفصل السادس بعد رحيل الإمام العسكري علیه السلام...243
إرهاب بعد وفاة الإمام علیه السلام...245
خطة ذكية وشجاعة كبيرة...248
إلقاء القبض على السيدة نرجس (علیها السلام)...251
مقارنة مقتضبة ...253
في نهاية المطاف...256
وختاما ...258
مصادر التحقيق ...259
الفهرس ...261
ص: 264
مکتبة جنان الغدیر - الکویت - بنید القار
ت2560442 - ص.ب الدسمة 11389
ص: 265