مسلم بن عقيل بن أبي طالب

هوية الکتاب

العتبة العباسية المقدسة

قسم الشؤون الفكرية والثقافية

شعبة الإعلام

وحدة الدراسات والنشرات

كربلاء المقدسة

ص.ب (233)

هاتف : 322600، داخلي: 175-163

www.alkafeel.net

info@alkafeel.net

الكتاب: مسلم بن عقيل بن أبي طالب.

الكاتب : الشيخ محمد البغدادي.

الناشر : قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة العباسية المقدسة.

:مراجعة وحدة الدراسات والنشرات / شعبة الإعلام.

التدقيق اللغوي: مصطفى كامل.

الاخراج الطباعي: علاء الاسدي / محمد النصراوي

التصميم : علاء سعيد الاسدي.

رقم التسجيل في دار الكتب والوثائق في بغداد 770 لعام 2013م.

المطبعة دار الكفيل للطباعة.

الطبعة: الأولى.

عدد النسخ: 2000 .

ربيع الثاني 1434 - آذار 2013

ص: 1

اشارة

العتبة العباسية المقدسة

قسم الشؤون الفكرية والثقافية

شعبة الإعلام

مسلم بن عقيیل بن أبي طالب

تأليف : الشيخ محمد البغدادي

وحدة الدراسات والنشرات

ص: 2

التقديم

أرفع أوراقي هذه إلى سيدي ومولاي

ثائر الحسين

إمام زماننا وولي عصرنا

بشارة رسول اللّه صلی اللّه عليه وآله وسلم

محمد بن الحسن المهدي

صلوات اللّه عليه وسلامه

في فدائي من جند أبيه الحُسين

والأمر لصاحب الأمر

ص: 3

ص: 4

عن النبي صلی اللّه عليه وآله وسلم : - في قوله للإمام علي عليه السلام في مقام مدحه لعقيل بن أبي طالب: -

«وإنّ وَلَده لمقتول في محبّة وَلَدِك، فتدمع عليه عيون المؤمنين، وتصلّي عليه الملائكة المقربون.

ثم بكى رسول اللّه صلی اللّه عليه وآله وسلم حتى جرت دموعه على صدره، ثمّ قال: إلى اللّه أشكو، ما يلقى عترتي من بعدي»(1).

ومن خطاب لسيد الشهداء عليه السلام في صحبه الأبرار، في كربلاء: «إن كنتم وطنتم أنفسكم على ما وطنت نفسي عليه، فاعلموا : «إنّ اللّه، إنّما يهب المنازل الشريفة لعباده، لاحتمال المكاره»

وان اللّه كان خصني مع من مضى من أهل بيتي الذين أنا آخرهم بقاءً في الدُّنيا، من الكرامات، بما يَسْهُلْ عليّ معها احتمال المكروهات، فإنّ لكم شطراً من كرامات اللّه، واعلموا أنّ الدنيا حلوها ومرها حلم، والانتباه في الآخرة، والفائز من فاز فيها، والشقي من شقي فيها»(2).

وقال سيد الشهداء عليه السلام موجهاً كلامه لصحبه الكرام في كربلاء: «فإنّي لا أعلم أصحاباً خيراً منكم، ولا أهل بيت أفضل وأبرّ من أهل بيتي، فجزاكم اللّه عنّي جميعاً خيراً»(3).

ومسلم من أهل بيت الحسين عليه السلام ، ومن أصحابه

ص: 5


1- منتهى المقال، أبو علي الحائري ، ج 6 ص 259 ، عن أمالي الصدوق، المجلس السابع والعشرون.
2- حياة الحسين عليه السلام ، باقر شريف القرشي، ج 3، ص 166 ، ه 1.
3- - الملهوف، السيد ابن طاووس، ص 151 .

فهنيئاً له المعالي بصحبة : الحسين عليه السلام ، جوهرة القدس

ذكر مسلم بمحضر الحسين (عليه السلام) فاستعبر الإمام (عليه السلام) باكياً ثم قال: «رحم اللّه مسلماً، فلقد صار إلى روح اللّه وريحانه وتحيّته ورضوانه، أما إنّه قد قضى ما عليه، وبقي ما علينا»(1).

ص: 6


1- - الملهوف، ص 134 .

مقدمة الكتاب

قد يسأل البعض:

عن الوجه، في إتعاب النفس في الكتابة لهذا البحث، مع ما يتطلبه من مراجعة وتأمّل وتقليب لصفحات الكتب ولمدوّنات التأريخ مع إنّه موضوع قديم قد ذهب بكلّ ماله وعليه، كما إنّه قد كتب فيه عدة من الأفاضل والمهتمين بهذا الجانب من التأريخ الإسلامي.

ومع تسليمنا بقدمه، ووجود الكتابات فيه :

في البحث والمذاكرة، والكتابة في جوانب حياة مسلم بن عقیل رضوان اللّه تعالى عليه، هذا البطل الذي قلَّ نظيره ، وعظُمت آثاره وتضحياته وملكاته، أسباب عدة، وله ما يقتضيه وهاك بعضه :

أ - ضخامة هذه الشخصية في حد نفسها.

ب - عظمة العمل الذي صدر من مسلم، وهو قيامه مقام الإمام الحسين (عليه السلام) عند أهل الكوفة في المرحلة الأولى من مراحل ثورة الإمام (عليه السلام) وما صدر منه من أعمال بعد ذلك.

ج - عظمة الآثار التي ترتبت على ما صدر من مسلم عند إدارته لحركته في الكوفة، والنهاية المهولة المفجعة التي انتهى إليها سيد الشهداء وأهل بيته وصحبه وثورته المقدسة.

ص: 7

8

د - محاولة البعض، بسبب سوء الفهم، أو سوء القصد، إثارة شبهات واهية، وإن ظُنّ أنها مستعصية على الحلّ.

وبالنظر لأهمية شخصية مسلم في الإسلام، ولمواقفه العظيمة، وكونه قدوة وأسوة للأجيال، ولكونه صفحة بيضاء في سجل الإسلام، والعترة المحمدية، ومذهب أهل البيت عليهم السلام ولترتب آثار فقهيّة وعملية على بعض ما أثر عن مسلم رضوان اللّه تعالى عليه، فلابد من التعرّض لتلك الشبهات وبيان أوجه حَلَّها، للتزوّد من تلك النهضة المباركة، لفكرنا وسلوكنا .

ه - ولكون قضيّة مسلم وحركته جزءاً من تأريخنا المشرق العظيم، فلابد من تسجيل الواقع كما هو والدفاع عنه والعمل على رسوخه كيلا نفقد هذا التاريخ أو ينتقل إلى الأجيال التي بعدنا وقد عملت فيه أيدي الخيانة والتحريف والجهالة.

و - وأمرٌ مهمّ :آخر إنّ القاعدة هي تمييز الرجال بعد معرفة الحق وتشخيصه لا معرفة الحق بالرجال، والوارد عن المعصوم : «إعرف الحق تعرف أهله»(1).

إلا إن هناك مجموعة كبيرة من البشر لم تقم بهذا التكليف من التعرّف على الحق، كي تميّز من خلاله أهل الحق ورجاله، وهناك مجموعة أخرى قصرت عن تمييز نفس الحق، فاعتمد هذان الفريقان في تمييزهما للحق ومعرفته على اتباع أناس معيّنين يحسنون الظنّ بهم - سواء طابق ظنّهم الواقع أم لا - فينهجون نهجهم ويعتمدون على تمييزهم.

ومن رحمة اللّه سبحانه بالأمة الإسلامية، وتيسيراً منه عليها في معرفة الحق يُواكبه ويلتزمه من صدق اللّه ورسوله حقاً فقد عرف اللّه سبحانه علي بن أبي طالب مَعلَماً للحق ومناراً، عن طريق كتابه العزيز ورسوله الأمين (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

ص: 8


1- بحار الأنوار ج 40 ص 126 .

أما القرآن ففيه : (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)(1)

وقد ورد في تعيين المقصودين بالآية - أي: الصادقين - أنهم آل محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولا ريب أن علياً (عليه السلام) سيدهم، وفي نصوص عدة التصريح بنزولها في علي أمير المؤمنين (عليه السلام) (2).

وأما النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقد ورد عنه: «علي مع الحق، والحق مع علي، ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض يوم القيامة»(3).

هذا في أيام النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى استشهاد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) .

وأما بعده فإنّ ما ثبت عنه من قول وعمل بقي مناراً للحق، فمن سار على نهجه ورسخ فيه سلوكه فهو منار للحق أيضاً، كما أنه (عليه السلام) نص على أناس: أنهم معالم في طريق الإنسانية، هداة إلى سُبل الحق والفلاح، فكان من بعده ولدا رسول اللّه الحسن والحسين ثمّ التسعة من ولد الحسين عليهم السلام.

ومسلم لتبعيته المطلقة للنبي ولخلفائه المعصومين فكراً وسلوكاً، فقد أضحى مناراً في دنيا الإسلام، ولما كان كذلك وجب ذكره، وتعظيمه، والإشادة بفضله، وتعداد أعماله، وبيان ملكاته وخصاله، والدفاع عنه ضدّ كلّ من يحاول عن عمد، أو خطأ، أو غفلة، إثارة الغبار حول هذه الشخصية الكريمة، والتي ضحت بوجودها في سبيل ترسيخ الإسلام ودفع الغوائل عنه، كما قدّمت هذه التضحية، في سبيل تحرير البشرية من فئة ضالة مستهترة بالقيم والفضائل، وتعيش لتنهب وتستعبد، وتحتكر الخيرات.

هذه الفئة من مصاديق الآية الكريمة : (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ

ص: 9


1- سورة التوبة، الآية 119 .
2- راجع شواهد التنزيل ، الحاكم الحسكاني، ج 1 ص 341 وما بعدها.
3- فضائل الخمسة من الصحاح الستة، ج 2 ص 109 ، عن تاريخ بغداد للخطيب البغدادي.

وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ )(1)

ولتكن دائماً على ذكر من هذه الآية فإنّها تنفع في موارد عدة من هذا البحث.

لكنّ المولى سبحانه لم ولن يترك أوليائه في ساحة صراعهم مع حثالات البشرية، بل انتظر آخر المطاف (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ)(2) ، (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَی اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ )(3).

(وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ )(4) ( وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ الشيئ إِلَّا بِأَهْلِهِ )(5).

ما مرّ من الآيات يحكي عن سنن وقوانين في الحياة الدنيا، ولكنهم - الطواغيت لا يعلمون، ولا يشعرون، حتى يحيط الغضب الإلهي بهم ومن يساندهم ويرتضيهم ثمّ لا مفلت لهم منه : (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ)(6).

ص: 10


1- سورة إبراهيم / الآية 46 .
2- سورة الأعراف / الآية .
3- سورة النحل / الآية 26 .
4- سورة النمل / الآية 51 - 52 .
5- سورة فاطر / الآية 43 .
6- سورة المطففين / الآية 34 .

مسلم

اشارة

هو : مسلم بن عقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم.

أما آباؤه فنحتاج لتصنيف كتاب في كل واحد منهم لنحيط بشخصيته إلا أبا طالب سيّد البطحاء ومؤمن قريش فلا تف بحقه كتب(1).

وأما مسلم: فكتابنا لا يتكفّل بتعريفه إذ شخصيّته الكريمة في غنى عن التعريف عند أمة كبيرة من المسلمين هم الشيعة الإمامية الاثني عشرية إذ يعرفه جيّداً، صغارهم وكبارهم، نساؤهم ورجالهم.

نعم، كتابنا يتولى مهمة التنقل بين ثنايا حياته، خصوصاً ما يتعلق منها بقضيّة الإمام الحسين (عليه السلام) سبط رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وخليفته في أمته، الحسين (عليه السلام) الذي هو وديعة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الأمة، والذي ذبحه بعضها، وشارك بعض آخر في الجريمة: بالسيف، أو بالمؤازرة، أو بالتبرير، أو بالرضا.

وغضبت فئة أخرى لما أصابه وثارت وما تزال.

مسلم كان له دور عظيم في تلك الحركة كما أنه أحد قرابينها.

عاش مسلم وتربّى في بيوت كانت مهبط جبرئيل (عليه السلام) ، وكانت تنهل منها الأمة معالم التوحيد ومسالك الإيمان.

ص: 11


1- راجع منها : الحجّة على الذاهب للسيّد، فخار بن معد الموسوي، و : أبو طالب مؤمن قريش، للشيخ عبد اللّه الخنيزي.

ارتشف العلم من عمّه علي أمير المؤمنين (عليه السلام) ، ومن الإمامين السبطين الحسن والحسين عليهما السلام .

فلا عجب أن ينهض بالمهام الجسام، وأن تُوكل إليه ما ينوء بحمله نخبة الرجال.

سماه أبوه مسلماً، وهم اسم حديث، الظهور قليل التداول، إلا أنه ينبئ عن اعتزاز الوالد بالإسلام، كما أنّ له سمي في حركة الطف، وهو البطل مسلم بن عوسجة.

حضر مسلم وقعة صفّين، فكان في ميمنة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) مع الحسن والحسين وعبد اللّه بن جعفر عليهم السلام(1).

تزوّج من رقية بنت علي أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وأولدها عبداللّه الشهيد في الطفّ.

له أربع أو خمس من الذكور وبنت واحدة، إلا أنّه لم يبق له عقب(2).

اختاره الإمام الحسين (عليه السلام) سفيراً له إلى الكوفة ليستطلع أوضاعها ويكتب إليه بحقيقة الحال كي يحزم الإمام أمره.

قام مسلم بما أوصاه الإمام (عليه السلام) به أحسن قيام، وتوثق من نيات أهل الكوفة وعزائمهم، فكتب إلى الإمام (عليه السلام) يستحثّه القدوم.

غير إنّ الأحداث تسارعت، وبدأت الأمور تجري لغير صالح حركة الإمام (عليه السلام) ، ورغبات أهل الكوفة، مما وقع معها أهل الكوفة في سُنن من قبلهم، فامتحنوا لكنّهم فشلوا في الامتحان، وانقلبوا على أعقابهم، فمن جند للحسين (عليه السلام) إلى جند ليزيد، غير جمع نالهم غضب الكيان الحاكم .

ص: 12


1- ذكر هذا ابن شهر آشوب في مناقب آل أبي طالب ج3 عند حديثه عن حرب صفّين، فراجع معجم رجال الحديث للسيد الخوئي ج 18 ص 150 .
2- إبصار العين، للشيخ محمد السماوي، ص 50 ، ومبعوث الحسين ص 54 - 55 .

اعتقل مسلم بعد معركة هائلة أسطورية بينه - وحده - من جهة، وبين المئات من جند الفئة الحاكمة.

أعلن حقيقة الثورة الحسينية الظافرة، وزيف الكيان الحاكم أمام ابن زياد ووسط قادته داخل قصر الإمارة، وهو موقف يُضاف إلى مواقفه العظيمة التي لا تنتهي.

صعدوا به إلى أعلى قصر الإمارة، وضربوا عنقه، ثمّ رموا بجسده من أعلى القصر، وسحبوا جثمانه المقدّس في أزقة الكوفة وسوقها في مواقف متتابعة للفئة الحاكمة تدلّ على انقطاع كلّ رابطة بينها وبين الإسلام ونبيه.

نقلت النصوص(1) أنّ عليّاً أمير المؤمنين (عليه السلام) طلب من أخيه عقيل العارف بأنساب العرب وخصالها، أن يختار له امرأة يتزوّجها، قد ولدتها فحول العرب، كي تنجب له ولداً يحمل صفات الشجاعة والرجولة، وقد اختار عقيل له امرأة ولدت له بطل الأبطال العبّاس رضوان اللّه تعالى عليه كما ولدت له أبطالاً آخرين سطّروا الملاحم في الطف.

فإذا كان عقيل هكذا لأخيه فأحرى به أن يتخيّر لنفسه أيضاً وقد فعل، وَوُلِدَ له بطل عظيم من أبطال البيت الهاشمي يحمل خصال الفتوة والشجاعة والشهامة والشمم إلى غيرها من الصفات الجميلة والتي ظهرت جليّة في مسلم في الكوفة حينما قام بشؤون سفارته عن الإمام (عليه السلام) خير قيام وأدى ما عليه ناصحاً لدينه وإمامه (عليه السلام) وأمته.

استشهد في 8 / ذو الحجة / 60 ه ق (2)، غير أن المفيد ذكر أن خروجه يوم ثمان واستشهاده يوم تسع(3).

ص: 13


1- العباس (عليه السلام) السيّد عبد الرزاق المقرم، ص12.
2- راجع: الشهيد مسلم بن عقيل، السيد عبد الرزاق المقرم، ص 253.
3- الإرشاد الشيخ المفيد، ج 2 ص 66 ، ومسار الشيعة، المفيد، ص17 - 18 . وهناك قول ثالث بل رابع فراجع المقتل للمقرم ص 165 .

حركته، وشهادته، ومدفنه - في الكوفة - العراق .

مرقده: مُلاصق للحائط الشرقي من مسجد الكوفة المبارك.

لا يقل عمره حين استشهاده عن الخامسة والأربعين، غير أن الشيخ المامقاني ذكر عمره حين استشهاده ثمانية وعشرين سنة(1)

الأمر بقتله : عبيد اللّه بن زياد بن أبيه - لعنه اللّه -.

وقاتله المباشر; بكر بن حمران - لعنه اللّه - (2).

***

من مختصات مسلم رضوان اللّه عليه :

أنّه: أوّل شهيد من بني هاشم، في التأريخ المسجّل المعروف، يُقتل علانيةً بهذا الشكل الفجيع.

فلم يُعرف عن بني هاشم أنّه أُسِرَ لهم أسير بهذه المرتبة من الشرف وقُتل، فبنو هاشم، أشراف العرب، بل الدنيا، قبل الإسلام وبعده، وكانت العرب تُعظَّمهم، وتحفظ لهم مقامهم، ورفعتهم، وهم سادة مكة، وأهل الحرم، فحفظ أهل الجاهلية لهم مجدهم، وهتك المنتسبون إلى الإسلام - زورا - حرمتهم .

أوّل قتيل من بني هاشم، يُقتل علانيةً بيد السلطة، وتغدره الأمة.

وأمرُ آخر: إنّ مسلماً من ضمن ثلة من عظماء الأبطال، وأماجد الشهداء المجهولين عند عموم الأمة الإسلامية.

ص: 14


1- تنقيح المقال : المجلد الثالث ص 214 .
2- الإرشاد الشيخ المفيد، ج 2 ص 63 .

مسلم، بطل مجهول، عند قرابة المليار مسلم.

نعم، هو معروف عند شيعة أهل البيت ،

لكنّه مجهول عند غيرهم.

ووجه مجهوليّته عند هؤلاء المسلمين، هو نفس السبب الذي حدا بهم إلى قلة الاهتمام بأهل بيت النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) و الذين نزل فيهم من الآيات، وذكرهم النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في المنقول عنه من الروايات بما يصعب حصره.

القرآن يقول فيهم : (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطهِيرًا )(1) .

والنبي يقول فيهم: «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي فإن تمسكتم بهما لن تضلّوا من بعدي»(2).

ص: 15


1- سورة الأحزاب، الآية 33.
2- نفحات الأزهار ، الميلاني ، ج 1، 2، 3 واللفظ من ج 1 ص 347، وراجع البحارج 23 ص 132 فقد نقله عن العامة بأسانيد وألفاظ متعدّدة، وراجع له أيضاً: فضائل الخمسة من الصحاح الستة للفيروزآبادي ج 2 ص 43 وما بعدها. وفي معنى «الثقلين»: سمّيا ثقلين لأنّ الأخذ بهما ثقيل، والعمل بهما ثقيل، قال: وأصل الثقيل، إنّ العرب تقول لكلّ شيء نفيس خطير مصون «ثِقل» فسماهما ثقلين إعظاماً لقدرهما وتفخيماً لشأنهما نفحات الأزهار ج 1 ص 308 ، ص 337 . هذا، وقد لخص السيّد علي الميلاني مجلدات ثلاث ضخام في حديث الثقلين من الموسوعة العظيمة - عبقات الأنوار - ذات الخمس والأربعين مجلداً لآية اللّه السيد حامد حسين اللكهنوي الهندي، وتلخيص السيّد الميلاني والذي بلغ اثنا عشر مجلداً، يحوي أحاديث عدة، قد سماه ب- «نفحات الأزهار» غير أنّ العبقات باللغة الفارسية والنفحات بالعربية فراجع واغتنم فإن فيها كنزاً للآخرة والأولى.

فالقرآن صرّح بنزاهتهم من كل شائبة.

والنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) صرّح بأنّ سبيل النجاة في اتباعهم.

ولعلّ من أعظم النصوص في حقهم، والتي تقطع العذر على من يساويهم بغيرهم، ويعدل بهم سواهم، ويأخذ عمّن لا يُقاس بهم.

قوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إنّما مَثَلُ أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق»(1)، ومعلوم أنه لم ينج من قوم نوح إلا من ركب في السفينة، حتى ابنه.

فلينظر ناظر لنفسه.

(أَن تَقُولَ نَفْسُ بِحَسْرَتَی عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَاخِرِينَ)(2).

مأساة حقيقية تعيشها الأمة ولن تصحُ منها إلا في وقت : لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُن ءَامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا)(3)

ستصحو حين لا نفع في الصحو، وستندم حين لا ينفع ندم، وإنّ غداً لناظره لقريب.

ص: 16


1- نفحات الأزهار، الميلاني، ج 4 ص 42 .
2- سورة الزمر، الآية 56 .
3- سورة الأنعام، الآية 158 .

عقيل بن أبي طالب

من سادات بني هاشم - وكلّهم سادات - ومن أجلاء المسلمين، ومن ذوي المواقف المذكورة والمشهورة والمشكورة في مضادّة معاوية والتنكيل به وتعييره وكشف معايبه ومساويه في باحة دار حكمه وبين أزلامه .

ولولا أن نور النبي ونور الوصي والذرية الأطهار قد طغى على كلّ نور لكان للرجل شأناً آخر في المجتمع الإسلامي وإلا فهو نسبة إلى المسلمين بل إلى خاصتهم ممن له شأن يُذكر كحال آبائه في الجاهلية والإسلام.

والمروي أنّه الأحبّ إلى قلب أبيه من دون بقيّة أولاده ولذلك استبقاه عنده في عام المجاعة ولم يكله إلى أحد من أهل بيته يكفله له(1).

كان حاله - كوالده - من جهة الثروة والتمكن المادي، إذ المنقول عنه أنه كان في منتهى الفقر والعوز ، ولا يفسّر فقره وفقر غيره من بني هاشم إلا بما تنطوي عليه جوانحهم من نفس كريمة وأبيّة، تتأبى من جانب فلا تستدرّ المال بأي طريق اتفق، وتجود بالقليل والكثير لذوي الحاجات امتثالاً لنداء المكارم ، إذ يقوم عنهم جليسهم مفلحاً بحاجته فائزاً بأمله مع أنّ صاحب هذه النفس الكريمة المتعالية في أحوج ما يكون إلى ما بذل، لكن هذه شيمة النفوس الكبيرة التي تنزع إلى المكارم كما يسعى الآخرون إلى شهواتهم ونداء غرائزهم ، وإلى الاستحواذ على كل شيء واحتكاره.

النبي والوصي - مثلاً - كانت الدنيا تحت إمرتها بما تيسر لهما من أموال خديجة،

ص: 17


1- بحار الأنوار العلامة المجلسي، ج 42 ص 115.

وبما بذل من بذل وبما نتج من غنائم، وما كان بأيديهما قليل ولا كثير، بل كانوا يقضون اليوم واليومين والثلاثة بلا غذاء، حتى أصبح هذا شأن معتاد لهم، وياللحسرة، يغدو النبي والوصي وحالهما - وعيالهما - هذا، وتنام الأمة رغدة لا تفديهما بما تحت أيديها، ولا تتفقد شأنهما، والقرآن ينادي بحالهم، ولا عجب من أمة انتهت سريعاً إلى منحدر مهول، كان ينبئ عنها أوّلها.

ويحدّث التأريخ : أنّ عقيلاً - وهو في أوج فقره، وأيام شدّة وطأة الحاجة والعوز عليه - كان ينال عطايا من معاوية، وكان يحضر مجلسه في بعض الأحيان غير أنه يُكيل له الإهانات(1) فما التفت إلى خوف انقطاع رزقه ولا عطله هذا عن انتهاز الفرص لأداء واجب يَعْسُرُ فِعْلُه من غيره، وفي أنسب من هذا المكان والحال.

كان عقيل بصيراً - فاقداً للبصر - ولعلّ هذا عطّله عن أمور الحياة وعن الحضور في وقائع كثيرة سياسيّة وجهادية كانت تقتضي مثله.

لكن ذرّيته - أولاده وأحفاده - سجّلوا المآثر الخالدة وبنوا لِعَقيل وآل عقيل مجداً في الدارين فات على الآخرين الفوز به.

لم يرد لعقيل ذكر في مجريات أحداث الطف فيظهر أنّه كان في تلك الفترة من الملتحقين إلى ربّهم، وقبره في البقيع، وبقربه ابن أخيه عبداللّه بن جعفر الطيار(2).

لكنّ مسلماً كان مناراً في الطف، وأمة وحده.

ص: 18


1- راجع - مثلاً - : البحار، ج 42 ص 112 ، فقد نقل في هذا نصوصاً عن ابن أبي الحديد. وراجع: الشهيد مسلم بن عقيل السيّد المقرم، ص 41 وما بعدها.
2- تحفة العالم ، ج 2 ص 15 .

وأولاد عقيل الآخرين: جعفر عبد الرحمن(1).

وأولاد مسلم: محمد بن مسلم، عبداللّه بن مسلم.

وأحفاد عقيل الآخرين: جعفر بن محمد بن عقيل، محمد ابن أبي سعيد بن عقيل.

وزاد ابن شهر آشوب، عون بن عقيل، ومحمد بن عقيل .

وإذا أضفنا ولدي مسلم المقتولين بعد فترة على شاطئ الفرات واللذين لهما مرقد مشهور معروف في تلك النواحي من العراق فيكون المجموع تسعة أو أحد عشر من شهداء آل عقيل في قضية الطف، وهو عدد ضخم من عائلة صغيرة.

وقد ورد: إن علي بن الحسين عليهما السلام كان يميل إلى ولد عقيل فقيل له : ما بالك تميل إلى بني عمّك هؤلاء دون آل جعفر، فقال: «إنّي اذكر يومهم مع أبي عبداللّه الحسين بن علي (عليهما السلام) فأرق لهم»(2).

إذن، خَلت مساكن آل عقيل من رجالها بعد يوم الطف إذ قدّموا الصغار والكبار، ترملت النساء، وأيتم بقيّة الأطفال، وانطفأت أنوار تلك الديار.

لكنّ مسلماً المنار من بينهم بل بين الهاشميين بل المسلمين قاطبة، استعبر لمقتله الإمام الحسين (عليه السلام) وقال: «رحِمَ اللّه مسلماً فلقد صار إلى روح اللّه وريحانه، وتحيته ورضوانه، أما إنّه قد قضى ما عليه وبقي ما علينا»(3).

وتحدّث عنه الآخرون فقالوا: أرسل الحسين (عليه السلام) مسلم بن عقيل إلى الكوفة وكان

ص: 19


1- بحار الأنوار، ج 45 ص 62 .
2- كامل الزيارات، ص 214 .
3- بحار الأنوار ، ج 44 ص 374.

مثل الأسد(1).

وقالوا: لقد كان من قوته أنّه يأخذ الرجل بيده فيرمي به فوق البيت(2).

قال السيد الخوئي قدس سره : وكيف كان فجلالة مسلم بن عقيل وعظمته فوق ما تحويه عبارة فقد كان بصفّين في ميمنة أمير المؤمنين (عليه السلام) مع الحسن والحسين وعبداللّه بن جعفر(3).

.(E)

وقال فيه الشيخ عبداللّه المامقاني(4): من أصحاب الحسن والحسين، وهو سيد السعداء، وأوّل الشهداء، وسفير سيد الشهداء (عليه السلام) إلى أهل الكوفة(5)، وجلالته لا يفي بها قلم، ولا يحيط بها رقم.

وقال أيضاً: كونه في أعلى درجات العدالة والثقة مما لا يرتاب فيه ذو مسكة، كيف وإرسال الحسين (عليه السلام) إياه سفيراً ورسولاً من أعظم البراهين على ثقته وعدالته، وكان عمره الشريف حين استشهد ثمانية وعشرين سنة عاش مع أبيه ثمانية عشرة سنة، وبعد أبيه إلى أن قتل عشر سنين واستشهد في اليوم الثامن أو التاسع من ذي الحجة سنة تسع وخمسين(6)

هيّأ مسلم الأوضاع لإمامه ونصح له، ولما فلت الأمر لم ينكل، بل حاول بكلّ جهده إرجاع الأمور لنصابها، ولما انتهى كلّ شيء لم يُبال فلم يلتفت إلى الفناء والموت

ص: 20


1- بحار الأنوار ج 44 ص 354.
2- بحار الأنوار ج 44 ص 354 .
3- معجم رجال الحديث، ج 18 ص 150 .
4- تنقيح المقال الشيخ المامقاني، المجلد الثالث ص 214 .
5- في المصدر : أهل كوفة.
6- المعروف أن استشهاد الإمام الحسين في سنة 61 ه. ق فيكون استشهاد مسلم في سنة 60 ه. ق .

الذي يتهدّده على يد شر الناس وأقذرهم بل انظر بِمَ فكّر :

لقد فكر في الحسين.

فحاول إيصال خبر الحال إليه وإرجاعه إلى وجهة أخرى بكلّ وسيلة، فنراه يكلف من تيسر له في تلك الساعات من قادة جيش ابن زیاد، فاختار من هو الأقرب إليه، والذي يحتمل فيه إيصال الخبر لسبب أو لآخر .

استخدم وسيلة الدعاء بأن يتكفّل المولى سبحانه بهذا الأمر كي يرى الإمام (عليه السلام) رأيه، وفعلاً وصل الخبر إلى الإمام بواسطة رجلين مرّا اتفاقاً قرب قافلة الإمام (عليه السلام) فاستعلم البعض منهم الخبر وأبلغ الإمام (عليه السلام) .

اهتم بقضاء ديونه في تلك الساعة فطلب من بعض الموجودين أخذ سيفه ودرعه وبيعهما وتسديد ديونه ، وهو ما أكدت عليه النصوص بشدّة.

ووقف بعد هذا يواجه ابن زياد ويصرح له عن موقفه وموقف أهل البيت من السلطة وبني أمية، وبقي إلى لحظاته الأخيرة يسبح اللّه ويمجده.

رفض السلام على ابن زياد والأمر بيده، فلم يداهنه ولم يخضع له كآبائه وأجداده وأهل بيته، بل كان يفتخر عند الموت، وهو ما عجب منه ابن زياد.

وَرَحَل مسلم أخيراً، متقدّماً قوافل شهداء أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم، وترك الأمة يعتصرها الألم لفقده.

وتتأثم لقعودها عن بذل النفيس والنفس في نصرته.

وتفتخر به ذاتاً وسلوكاً لمواقفه وجهادياته.

ومن يقرأ سِيَر أهل البيت (عليهم السلام) عموماً، وسيرة أبطال الطفّ، يمتلأ فخراً واعتزازاً

ص: 21

بما سجّله أولئك الأبطال من مواقف كرامة، ومن استماتة في نصرة الحق والدين بما أرعب الأعداء وأثار عجبهم في آن واحد.

ص: 22

يزيد في سطور

هلك يزيد في 15 / ربيع 1 / 64 ه . ق(1) ، لكن آثار جرائمه العظيمة باقية إلى اليوم وبها أصبح اسمه عاراً على من يحمله، ولا نحتاج إلى أكثر من ذكر قتله لسيد شباب أهل الجنّة كمُعرّف له.

فانحراف يزيد بل كفره وخروجه من الملة من الواضحات البديهيات لكننا نتعرّض لبعض حاله ونبين اليسير من أمره لمن في قلبه أدنى شبهة تمنعه من الجزم بحال هذا الطاغية ومن نفض يده منه بشكل لا رجعة عنه، على أن في ذكر أفعال المجرمين منفعة كبيرة، إذ تبقى الأمة على ذكر من انحراف هؤلاء، كي تحذر أمثالهم وتحذر مثل أفعالهم.

إِنّ مجموعة كبيرة من المنحرفين عن خط الإسلام الأصيل قد خفي على الناس حالهم بسبب كفّ اللسان والقلم عن الجري في مضمار إيضاح حالهم فجهلت الأمة أمرهم، أو اشتبه عليها حالهم فأحسن الناس الظنّ بهم، وَجَرَوا على منهاج فكرهم، فوقعوا معهم في التيه، والعاقل - حتى لو فُرِضَ عدم توجيه أمر شرعي له بفضح هؤلاء وأمثالهم - يجدر به عدم التهاون في هذا السبيل للضرر العظيم الداخل على الدين والأمة بسببهم .

ویزيد أحد هؤلاء الذين ينبغي للأمة أن تتذاكر جرائمهم وشؤونهم كي تقيس عليها فكما أنّ للهدى أعلام ومشاعل فكذلك للباطل والضلالة، ويزيد أحد أعلام الضلالة وأركانها كأبيه وجده من قبل .

ص: 23


1- هناك أقوال أُخرى في البين، منها: ما ذكره ابن نما في كتابه ذوب النضار، ص71.

وأما ما يلتزمه بعض العامة(1) من ترك لعن يزيد وأشباهه من الظالمين والمضلّين حتى صرّح إلي أحدهم خلال حديث جرى بيني وبينه، بأنه يلتزم بعدم لعن أبي لهب وشتمه مع ما ورد في القرآن بشأنه.

ولا ريب في تطرّف هذا ومن سبقه ممن يتوقف في لعن إبليس، بدعوى اقتضاء الديانة مثل هذا التوقف .

إنّ من صميم الدين الإسلامي الخاتم للأديان والمهيمن عليها، والمتضمّن لأفضل التشريعات وأصلحها لبناء أفراد الجنس البشري وكذا لبناء المجتمع، التزام ولاية أولياء اللّه سبحانه وإعلان هذا الالتزام، وكذلك التزام البراءة من أعداء اللّه سبحانه، وإعلان هذا الالتزام كذلك.

وإبليس وأبو لهب ونحوهم من الظالمين والمضلين والكفرة والمنحرفين والمتمردين والمحاربين اللّه ولشرائعه وأنبيائه وأوليائه هم أعداء اللّه سبحانه وقد أعلن المولى سبحانه براءته من الكفّار، فعلى كل من يؤمن باللّه سبحانه ويلتزم صراطه، التزام عداوة هؤلاء والبراءة منهم وإعلان هذا الالتزام تعصباً اللّه سبحانه ونصرةً له

(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبَتْ أَقْدَامَكُمْ)(2).

وأي محاولة لمهادنة هؤلاء أو للتبرير لهم أو للكفّ عنهم بأنواع الكفّ - أو لسان أو قلم - فهو اعتراض على حكم اللّه سبحانه وقضائه وترك لنصرته في مورد

ص: 24


1- راجع حياة الإمام الحسين (عليه السلام) القرشي ، ج 3 ص 402 وما بعدها، وليالي بيشاور ص 211 وما بعدها وابن تيمية ص 369 لصائب عبد الحميد، وكذلك العبّاس (عليه السلام) للمقرّم ص 328-329 فيمن يجوّز لعن يزيد من العامة، ولاحظ أيضاً: معالم المدرستين ، ج 2 ص 75 حول دفاع بعض المهرجين عن يزيد.
2- سورة محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من الآية 7 .

لزوم النصرة، كما إنّ في هذا الالتزام تمرّد على أوامر اللّه سبحانه وتحد له ذلك إنّ اللّه أمر بلعنهم والبراءة منهم ومحاربتهم ومضادّتهم ومحوهم من جديد الأرض، ومن أقلّ ما به إظهار هذا الالتزام هو الإعلان بسبّهم(1).

ويزيد: عدوّ اللّه الأكبر، وهو لا يقل في عداوته لله سبحانه وفي عداوة اللّه له عن مرتبة أكابر المجرمين في تاريخ الإنسانية الطويل كفرعون والنمرود ونحوهما من العتاة على اللّه سبحانه، والمتمردين على أوامره ونواهيه والمستهترين بكل القيم وقد ثبت بالأدلة القطعية هذا، وجرى عليه جمع من علماء العامة، بعدما أطبقت عليه الشيعة الإمامية الاثني عشرية بكلّ أفرادها، لا يشدّ منهم أحد.

فلابد - والحال هذا - من التعامل مع هذا القاذورة على هذا الأساس، من الالتزام بكفره وتجبّره وإعلان البراءة منه، ولعنه، والتبرء من كلّ أفعاله، نصرةً اللّه ولرسوله، وللدين الذي جاء به النبي الأكرم ، ولذرية النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الذين بطش بهم هذا المتنكر حتى لشريعة الغاب، ونصرة لإمام الأمة سبط رسول اللّه الذي نهض لإحياء الإسلام وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولإزالة استضعاف الأمة بعدما فعل بها بنو أمية وولاتهم الأفاعيل.

اللّه سبحانه أرسل نبيه بقرآنه ودينه وشريعته لإخراج البشرية من الظلمات إلى النور، لا لكي يفعل هذا ثمّ يسلّم الأمة والدين إلى بني أمية يتخذون عباد اللّه خولاً وماله دولا وما من جريمة إلا وفعلوها ولا من هدم للدين إلا وارتكبوه .

نعم ليس لهم إلا الفتوحات التي يُهرّج بها من يُهرّج، ولم تكن إلا لتوسعة رقعة دولتهم «التي أُسميت بالدولة الأموية ولم تسم بالدولة المحمدية» والتمتع بمغانم البلاد

ص: 25


1- راجع ليالي بيشاور ص 216 حول جواز لعن يزيد.

المفتوحة وإلا فلم يظهر منهم اهتمام في إنهاء الإلحاد والشرك والكفر في البلاد المفتوحة أو الاهتمام بنشر الإسلام وأحكامه وقوانينه، وهذه الهند تزخر بمئات الديانات إلى يوم الناس هذا، ولا يُنكر إلا مكابر أنّ شرب الخمور ومجالس الفسوق كانت تعمر بها دورهم وقصورهم وجلساتهم، والندامى والشعراء كانوا من ألصق الناس بهم وكانت المظالم ومظاهر الجور في طول بلاد الإسلام وعرضها وعشرات الثورات تندلع هنا وهناك ضدّهم خصوصاً من أهل البيت (عليهم السلام) النبوي الطاهر، منها: ثورة زيد بن علي، وثورة يحيى بن زيد، وثورة التوابين، وثورة المختار، وثورة أهل المدينة، وثورة الزبير، وغيرها مما لا يُعدّ ولا يحصى، وأعظم ثورة على الإطلاق في أيامهم بل في طول تاريخ الإسلام ثورة أبي الأحرار وسيد الشهداء ولد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ووصيه وخليفته في أمته ووارث علمه سيد شباب أهل الجنّة الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، فكيف يُتوقف عن لعن يزيد وتكفيره وقد أباد عائلة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وسبى صبيته ونساءه ومعهم علي بن الحسين عليهما السلام السجاد زين العابدين الإمام المعصوم والخليفة عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بدلالة الحديث المروي عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في أنّ الأئمة اثنا عشر وكلّهم من قريش (1) وليس في تاريخ الإسلام كله اثنا عشر إماماً غير الأئمة الاثني عشر من ذرية رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الذين تعتقد الإمامية هذا بهم بالنصوص التي لا تقبل خلافاً ولا جدالاً.

يزيد هذا أباح مدينة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قتلا في الصحابة والتابعين وهتكاً لأعراض نسائهم وبناتهم.

يزيد الذي نقل عنه حتى علماء العامة:

ص: 26


1- نقل النص على هذا: البخاري في صحيحه ح 5 ص 124 ، ومسلم في صحيحه ح3 ص 1452 ، فراجع كشف المحجّة لثمرة المهجة ، ص 135 مع ملاحظة الهوامش.

لعبت هاشم بالملك فلا *** خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزل(1)

روى العلامة عن البلاذري - وهو من علماء العامة كما هو معروف -:

لما قتل الحسين (عليه السلام) كتب عبداللّه بن عمر إلى يزيد بن معاوية: أما بعد، فقد عظُمت الرزيّة، وجلّت المصيبة، وحدث في الإسلام حدثٌ عظيم ولا يوم كيوم الحسين.

فكتب إليه يزيد: أما بعد يا أحمق فإنّنا جئنا إلى بيوت منجدة وفرش ممهدة ووسائد منضدة فقاتلنا عنها فإن يكن الحق لنا فعن حقنا قاتلنا وإن كان الحق لغيرنا فأبوك أوّل من سنّ هذا وابتز واستأثر بالحق على أهله(2).

ولا ينقضي العجب من عمر بن الخطاب، الذي ترك أعاظم الصحابة وزهادهم وعلماءهم وذوي السابقة والإخلاص والملكات الرفيعة فلم يجد منهم من يوليه بلاد الشام - وهي من أعظم بلاد الإسلام - حتى ولاها معاوية بن أبي سفيان، ففتح بذلك الباب لهذه الأسرة الملعونة أصولاً وفروعاً، ومعاوية وأبوه أفنوا أعمارهم وإمكانياتهم في العمل لإفناء الإسلام وقتل نبيّه وفعل الأفاعيل بالمسلمين بل ما من جريمة في تأريخ فجر الإسلام إلا ولأبي سفيان فيها اليد الطولى، ثمّ لما جاء أوان فتح مكة ورأى أبو سفيان جيوش الإسلام تملأ الأفق وعَلِمَ هيمنة الإسلام على ربوع مكة والجزيرة أسلم خائفاً يملأ النفاق جوانحه ويفيض عنه حتى يعلمه من يقترب منه(3).

ص: 27


1- نقله الشيخ القرشي في حياة الإمام الحسين (عليه السلام) ج 2 ص 187 عن البداية والنهاية لابن كثير ج 8 ص192 ، ونقله ابن رويش في المقتطفات ج 1 ص 201 ، عن تاريخ الطبري ج 11 ص 358 ، وأنساب البلاذري ج 5 ص 42 ، وذكره في مقالات تأسيسية في الفكر الإسلامي للسيد صاحب تفسير الميزان ص 200 .
2- نقله صاحب البحار - العلامة المجلسي - في بحاره ج 45 ص 328 عن العلامة عن البلاذري.
3- - المقتطفات للعلامة ابن رويش السقاف الأندونيسي، فقد نقل الكثير عن أبي سفيان من مصادر العامة فراجع ج 1 ص 230 وما بعدها وراجع البحار ج 21 ص 128 وص175 من النظام السياسي لأحمد حسين، وراجع في أبي سفيان الغدير ، ج 10 ص 114 وما بعدها لتعلم أيّ نفاق يضم بين جوانحه بعد إسلامه الظاهري.

وهذا معاوية(1) ، لم يخضع هو الآخر للإسلام حتى عن خوف - عند فتح مكة - ولعله لبنائه على أن لا فائدة تُرتجى إذ هي حيلة مكشوفة، لكن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من عليه بعد اعتقاله، وأطلقه في جملة الطلقاء، فأصبح اسم الطليق(2) ألصق به مِن ظلِّه، فأسلم عند هذا لكن حاله كأبيه في النفاق والإدغال للإسلام وقادته وأهله، ومن يطالع ما كتبه المؤرّخون عن أبي سفيان وابنه معاوية يرى أنهما حاولا إظهار كيدهما للإسلام والمسلمين كلّما سنحت لهما السانحة، من يوم حنين حتى هلاكهما .

ثم ما بالك بمعاوية وهذا تأريخه وقد مكنه عمر من بلاد المسلمين ونفوسهم وأعراضهم وأموالهم ومقدساتهم، ومن المعلوم إن الحاكم الإسلامي خصوصاً أيام الإسلام الأولى كان هو الحاكم والقاضي والمفتي وإمام الجماعة وقائد الجيش وخازن بيت المال، وهذه المناصب كلّها وغيرها معها أضحت لمعاوية الجاهل المنافق بتمكين عمر، وخذ بعضاً من جرائمه وعظائمه:

1 . أوّل من أحلَّ الربا وأكله معاوية.

2 . أوّل من باع الخمر وشربها.

3. أوّل من أشاع الفاحشة.

ص: 28


1- - راجع في ترجمة معاوية: المقتطفات للسقاف ج 1 ص 252 و ما بعدها، والغدير ج 10 ص197 وما بعدها، ومعجم رجال الحديث للسيد الخوئي ج 18 ص 192 وما بعدها، والنصائح الكافية لمن يتولّى معاوية للعلامة محمد بن عقيل، وراجع في جواز لعن معاوية وسبّه وإثبات كفره، ليالي بيشاور ص 920 .
2- - لاحظ : نهج البلاغة الكتاب 28 ، إذ استعمل هذا اللقب بحقه، وراجع الغدير ج 10 ص 46 وما بعدها لتر استعمال هذه الكلمة بحقه مع مصادرها.

4 . أوّل من سمع الغناء وطرب عليه.

5 . أوّل من أتم الصلاة في السفر.

6 . أوّل من رأى الجمع بين الأختين في النكاح.

7 . أوّل حدّ تُرك في الإسلام كان من معاوية.

8 . أوّل من أشنّ الغارة على مدينة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

9 . أوّل من بدّل الخلافة إلى الملك.

10 . أوّل من أعطى المال لوضع الحديث.

11 . أوّل من اشترط في بيعته البراءة من علي (عليه السلام) .

12 . أوّل من قتل عدول الصحابة.

13 . أوّل قضية رُدّت من قضاء رسول اللّه قضاء معاوية في زياد.

14 . أوّل من غير السنّة في الديات.

15 . أوّل من ترك التلبية.

16 . أوّل من ترك الحدود.

17 . أوّل من نقض حكم العاهر.

18 . أوّل من بغى على إمام وقته، وفتنة طلحة والزبير وعائشة هو القادح لزنادها.

19 . أوّل من حُمل إليه رأس صحابي فأُدير به في البلدان(1).

ص: 29


1- - راجع لها : الغدير للأميني ج 11 ص 92 وما بعدها، وعلى ضفاف الغدير ص 56 - 57 .

وجرائم معاوية لا تنتهي ولا تُحصر أبداً ومن أعظم جرائمه، بغيه على وصيّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وإمام الأمة بنص اللّه ورسوله، وخليفتها، اختارته الأمة للخلافة طوعاً ورغبةً بما لم يحصل لأحد في طول تأريخ الإسلام على الإطلاق.

بل هو السبب في بغي الناكثين والمارقين بالإضافة إلى قيادته البغاة القاسطين.

وجريمته العظمى الأخرى سنّه سبّ علي بن أبي طالب صلوات اللّه عليه وسلامه - والذي سبّه سب اللّه ورسوله - على جميع منابر المسلمين وقد استمرت قرابة الستين سنة حتى أوقفها عمر بن عبد العزيز(1) مع أنّ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد قال: «من سبّ عليّاً فقد سبّني، ومن سبّني فقد سبّ اللّه، ومن سب اللّه عزّوجلّ أكبّه اللّه على منخريه»(2).

وعظيمته الأخرى تمكينه جروه يزيد من منصب خلافة الأمة الإسلامية وفرضه عليها بالحيلة والقهر حتى فعل في سنين ثلاث ما يُذكر مدى الدهر .

عائلة وصفها اللّه سبحانه في كتابه بالشجرة الملعونة(3) فهل فروعها إلا حطب النار وهل يُعقل أن تُثمر ما فيه نفع للإسلام وأهله، أو تحتوي جوانحهم على كريم الخصال،

ص: 30


1- الفصول المهمّة في تأليف الأمة، السيّد عبد الحسين شرف الدين، ص127، وليالي بيشاور ص 926 .
2- فضائل الخمسة من الصحاح الستة، الفيروزآبادي، ج 2 ص 224 ، وليالي بيشاور ص 927 وقد نقلا الحديث عن جمع، منهم أحمد بن حنبل في المسند، والرازي في تفسيره، ومسلم في صحيحه، وابن حجر في الصواعق وكثير غيرهم، وراجع المقتطفات ج 1 ص 265 .
3- المقتطفات، السقاف الأندونيسي، ج 1 ص 224 ، وقد نقل تفسيرها بهم عن تفسير الطبري ج 15 ص 77 وتاريخ الطبري ج 11 ص 356 وتأريخ الخطيب البغدادي ج9 ص 44 وج8 ص 280 ، وعن تفسير النيسابوري، وتفسير القرطبي، وتفسير الشوكاني، وتفسير الخازن واسد الغابة، والنزاع والتخاصم للمقريزي ، وخصائص النسائي نقلا عن الترمذي والبيهقي والحاكم في مستدركه ، وراجع فضائل الخمسة ج 3 ص 308.

قال سبحانه لنبيه الكريم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : (وَمَا جَعَلْنَا الرُّءيَا الَّتِي أَرَيْنَكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْءَانِ وَتُخَوَفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغينًا كَبِيرًا )(1).

وعن مولانا الإمام الصادق (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في تفصيل أبواب جهنّم السبعة: «وهذا الباب الآخر، الذي يدخل منه بنو أمية، إنه هو لأبي سفيان ومعاوية وآل مروان خاصة يدخلون من ذلك الباب فتحطّمهم النار حطماً لا تسمع لهم فيها واعية ولا يحيون فيها ولا يموتون»(2).

وفي الحديث المرفوع المشهور وقد رواه الطبري في تأريخه عن النبي الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إنّ معاوية في تابوت من نار في أسفل درك منها»(3).

وروى أحمد في المسند وغيره: أن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) دعا على معاوية وعمرو بن العاص فقال: «اللّهم أركسها ركساً، ودعهما إلى النار دعا»(4).

وإن أردت الاستقصاء فراجع ما كتبه العلامة السيد محمد بن عقيل في كتابه النصائح الكافية لمن يتولّى معاوية والغدير للعلامة الأميني ج 10 - 11 ففيهما ما يقطع كلّ حجّة وعذر.

وإلى اللّه المشتكى من أمة لا تستطيع التمييز بين علي بن أبي طالب، صاحب آية التطهير ، وآية خير البرية، وما يزيد على الثلاثمائة آية، وبين صاحب آية الشجرة الملعونة

ص: 31


1- سورة الإسراء، الآية 60 .
2- بحار الأنوار، المجلسي ، ج 31 ص 519 واقرأ ما كتبه الكاتب المصري صالح الورداني عنهم في الخدعة ص56 .
3- الغدير، الأميني، ج 10 ص 202 نقله عن الطبري ج 11 ص 357، ولاحظ لسان الميزان للذهبي ج 1 ص 202 رقم 602 .
4- الغدير ، ج 10 ص 199 نقله عن مسند أحمد ج 4 ص 421 .

في القرآن.

عن مولانا الصادق (عليه السلام) : «لولا أن بني أمية وجدوا من يكتب لهم، ويجبي لهم الفيء ويقاتل عنهم، ويشهد جماعتهم، لما سلبونا حقنا»(1).

ص: 32


1- البحار، ح47 ص 138 .

ابن زياد

هو: عبيد اللّه بن زياد بن سمّية، أو ابن أبيه، أو ابن عُبيد(1).

هكذا عُرف أبوه زياد إلى أن ارتكب معاوية جريمة هي من الخزايات عليه وعلى أبيه وعلى بني أمية، ومع ذلك لم تؤثر فعلة معاوية أثرها إلا سنين، ثم عاد الأمر أخزى مما كان عليه، وسجّلت المدوّنات التأريخية هذه التفاصيل بإسهاب.

وُلد ابن زياد سنة 39 ه فيكون عمره يوم قتله لسيّد شباب أهل الجنة الحسين (عليه السلام) إحدى وعشرون سنة (2) ، وهناك رأي آخر - ولعله الأقرب - في أن عمره يوم الطف اثنتان وثلاثون سنة(3) .

اُمه: مرجانة، بغيٌ معروفة ، مجوسيّة(4) .

قُتل في معركة هائلة بين جيش كان يقوده بنفسه أيّام عبد الملك بن مروان، وبين جيش المختار الثقفي بقيادة إبراهيم بن مالك الأشتر ، فيكون عمره يوم هلاكه خمس وعشرون عاماً(5).

عُرف عنه وعن أبيه أنهما أولاد بغايا «فالأب ابن سمية، والابن ابن مرجانة» فراجع

ص: 33


1- الغدير ج 10 ص 310 حيث فصل قضيّة زياد بن أبيه عن مصادر العامة.
2- حياة الإمام الحسين (عليه السلام) القرشي، ج 2 ص 448 - 449 .
3- المقتل، السيد المقرم، ص 149 ه 4 .
4- حياة الإمام الحسين (عليه السلام) القرشي، ج 2 ص 448 - 449 .
5- ذوب النصار في شرح الثار ، الشيخ جعفر بن محمد ابن نما الحلّي، ص138 وقال: إنّ عمره حين هلاكه دون الأربعين، وقيل: تسع وثلاثون سنة، بحار الأنوار ج 45 ص 335.

مدوّنات التأريخ عنهما ليظهر لك حالهما، واستلحاق زياد بأبي سفيان من أعظم فضائح العصبة الحاكمة في التأريخ الإسلامي وأشهرها .

أبوه زياد: رائد الجريمة والسفّاك الأعظم لدماء المسلمين بأمر معاوية(1) وتوجيهه وتشجيعه، وقد سار الابن على درب أبيه ، حتى كأنهما نسختان لأصل واحد، والجامع بينهما رذالة الأصل والسقوط الخلقي والخروج عن الإسلام وارتكاب أعظم الجرائم وعداوة ذرية رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وشيعتهم، وعدم توفر مكرمة تؤثر عنهم غير الخزايا وقبيح و الفعال.

استخدم معاوية زياداً، واستخدم يزيد ابن زياد، فحملاهما آثاماً عظاماً لو تحملتها أُمم لما شفع لها نبي ولا وصي فكيف بهما وقد حملاها وحدهما.

ولا ينقضي العجب من عصبة نبت لحمها من دماء الشهداء(2)، ولا عجب إذ أسست لهم هند حين لاكت كبد حمزة سيد الشهداء.

مُسوخ، غير أن جلدتهم جلدة بشر.

ابن زياد هذا، هو الذي جيّش الجيوش على سبط رسول اللّه وريحانته من الدنيا وسيّد شباب أهل الجنّة وإمام الأمة، وأمر ابن سعد بقتله، وأن يوطأ الخيل صدره

ص: 34


1- - الفصول المهمة، السيد شرف الدين، ص 124 - 125 ، وحياة الإمام الحسين (عليه السلام) القرشي، ج 2 ص 167 ، والاحتجاج، للطبرسي، ج 2 ص 83 ، ونصّ على جرائم زياد وفظائعه حين ولاه معاوية على الكوفة والبصرة والمشرق كله و سجستان وفارس والسند والهند، السيد شرف الدين في الفصول المهمة، ص 125 ، وكتاب سُليم بن قيس الهلالي ج 2 ص 784، وما رأيت تحقيقاً لكتاب في قم وغيرها، كتحقيق كتاب سليم في هذه النسخة.
2- - ذكرت ذلك العقيلة زينب 3 بنت أمير المؤمنين (عليه السلام) شريكة أخيها الحسين (عليه السلام) في جهاده في لا خطبتها أمام أهل الكوفة، فراجع حياة الإمام الحسين (عليه السلام) ، القرشي، ج 3 ص378.

وظهره.

ابن زياد هو الذي سبى بنات رسول اللّه وصبيته لأجل بني أمية ولالتماس رضاهم - أعداء اللّه ورسوله - وهي أوّل مرّة في التاريخ تُسبى فيها الهاشميات، وتُسبى فيها بنات رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

ابن زياد هذا، هو الذي أمر بضرب عنق مسلم بن عقيل كما أمر برمي جثمانه المقدّس من أعلى قصر الإمارة.

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) : «ما اكتحلت هاشمية، ولا اختضبت، ولا رُئِي في دار هاشمي دخان خمس حجج، حتى قُتل عبيد اللّه بن زياد»(1) .

ومع أنّ يزيداً قد هلك قبله، إلا أنّ هلاك يزيد لم يطوِ صفحة حزن آل محمد، ولم تخف عنهم بعض أحزانهم العظيمة إلا بهلاك ابن زياد أيضاً .

يحاول بعض أهل العلم - لبيان خباثة ورذالة بعض المعادين لمحمد وآل محمد عليهم السلام - تفصيل سلوكياتهم وأفكارهم وبيان نسبهم وطفولتهم ونحو هذه، لإقناع القارئ والسامع بانحراف هؤلاء عن كلّه، خط الإسلام وبعدم صلاحيتهم لقيادة الأمة، ولغيرها من الأغراض والأهداف.

والصحيح: أنّ أعظم ما ينبغي ذكره لبيان خبثهم وانحرافهم وسقوطهم عن كلّ اعتبار هي جرائمهم بحق النبي وآله الكرام (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

فبملاحظة ما ورد في حق النبي وآله في القرآن العزيز من مدح، وعظيم جزاء، على أعمال قاموا بها، - وقد تكون بالنظر القاصر لدى البعض أعمال بسيطة - إذ أنزل اللّه

ص: 35


1- بحار الأنوار ، ج 45 ص 386 عن المرزباني.

تعالى في حقهم آيات تُتلى ما تعاقب ليل ونهار إلى يوم يرث اللّه الأرض وما عليها، وانظر إلى الصفات التي أسبغها المولى عليهم والمناصب التي رفعهم اللّه إليها بسبب أعمالهم تلك.

تأمل فيما ورد في حق علي أمير المؤمنين لأنّه تصدّق بخاتم في صلاته إذ أنزل المولى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ )(1).

وذلك عند امتناع جميع المسلمين عن التصدّق على فقير بائس، وهم بمحضر النبي الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مع ما يملكه بعض المسلمين من ثروات طائلة، ومع أن الكتاب والنبي قد حنّا على التصدّق ولو باليسير، ومع كلّ هذا شحت النفوس عن التصدّق بدرهم أو تميرات، بينما أعطى الإمام (عليه السلام) خاتمه وله قيمة عالية - مع أنّ الإمام في منتهى الفقر والعوز حتى عيّرت نساء قريش الصدّيقة الزهراء أنّ أباها زوجها(2) من فقير، إذ هذا هو المقياس عندهنّ وعند أزواجهن - ومع أنّ الإمام كان في الصلاة، ومع ذلك لم يمنعه كلّ هذا أن عن يشير للمسكين بإصبعه فيحضر المسكين ويسحب الخاتم، والرسول والصحابة ينظرون، فنزلت الآيات(3) التي أفهمت الأمة أنّ هذا هو وليّها الحقيقي وهذا قائدها وهذا إمامها وهذا مغيثها وهذا ملجؤها، وأنّ من يصطف معه، ومن ينصره، ومن يتولاه، ومن يعضده، فهو مع اللّه ورسوله، وأنّ هذا ومن معه هم حزب اللّه الحقيقي ومن المعلوم أنّ حزب اللّه هو الغالب لا غالب سواه، أي أنّ عليّاً ومن يتولاه

ص: 36


1- سورة المائدة، الآيات 55 - 56 .
2- فضائل الخمسة، الفيروز آبادي ، ج 2 ص 13 نقل نزولها في الإمام (عليه السلام) عن الرازي في تفسيره والزمخشري في الكشاف والطبري في تفسيره والسيوطي في الدرّ المنثور، والهندي في كنز العمال ... الخ.
3- فضائل الخمسة الفيروزآبادي، ج 1 ص 254 وقد نقل نزولها فيهم عليهم الصلاة والسلام عن ابن الأثير في أسد الغابة والواحدي في أسباب النزول، والسيوطي في الدرّ المنثور وغيرها.

هم الغالبون لا سواهم إذ ليس اللّه من حزب سواهم، هذا هو الولي والإمام، لا سواه.

وتأمّل لما جرى من لطيف إنعام اللّه وإكرامه للنبي وآله حين تصدّق علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) السلام بأقراص خبز قليلة على مسكين ويتيم وأسير، والأخير كافر بلا ريب.

لقد أنزل اللّه سبحانه(1) آيات عدّة في إعلان ما صنعه علي وأهل بيته وإذاعته على الخلق أجمعين، وتمجيد اللّه سبحانه لما صنعوه وشكره لهم على ذلك، وبيان الجزاء العظيم الذي جازاهم به، فاجعل السورة المباركة - الإنسان، أو الدهر - نصب عينيك وأحسن التأمل في آياتها بل في كل كلماتها لترى ما يبهرك.

يخاطبهم المولى سبحانه بجانب من تكريمه فيقول : (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا)(2).

فما هو الملك الكبير الذي فرضه اللّه سبحانه لهم.

هل هو التنعم بأنواع نِعم الجنّة، وخدمة الولدان لهم، ونحو هذي.

هذا نعيم يناله كلّ أهل الجنة.

القرآن يصف هذا الجزاء بالملك وأنّه كبير.

ثم يعقب المولى سبحانه بقوله : (إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَشْكُورًا )(3).

أي إنّ الذي ذكره المولى سبحانه من الثواب في سورة الدهر لآل محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إنما هو

ص: 37


1- راجع فضائل الخمسة ج 1 ص 254 ، وزين الفتى للعاصمي .
2- سورة الدهر، الآية 20 .
3- سورة الدهر، الآية 22 .

جزاء العمل، والمولى سبحانه لم يكتف لأحد من خلقه بمقدار جزاء عمله كمكافأة له بل مع كلّ جزاء زيادة وفضل، وتفضّل المولى سبحانه على آل محمّد بسبب عملهم العظيم هذا لم يُذكر في السورة ولا شكّ أنّ مقدار التفضّل المولوي المضاف على الجزاء عظيم أيضاً فإذا كان أصل الجزاء هو النعيم والملك الكبير فإلى أين سيصل آل محمّد في المقامات والمراتب إذا أُضيف إلى جزائهم الفضل الإلهي العظيم، فتأمل واعرف مقام آل محمد وعظيم قربهم عند الربّ الحكيم الكريم.

وتأمل في آيات أخرى غيرها وفي روايات كثيرة بشأنهم ترى أنّ هذا البيان له شواهد كثيرة.

هذا أمير المؤمنين (عليه السلام) - على ما في نهج البلاغة - يكتب إلى معاوية: «ألا ترى - غير مخبر لك، ولكن بنعمة اللّه أُحدِّث - أن قوماً استشهدوا في سبيل اللّه تعالى من المهاجرين والأنصار ، ولكل فضل، حتّى إذا استُشهد شهيدنا قيل : سيِّد الشهداء، وخصّه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بسبعين تكبيرة عند صلاته عليه.

أولا ترى أنّ قوماً قُطَّعت أيديهم في سبيل اللّه، ولكُلِّ فضل، حتى إذا فُعل بواحدنا ما فُعل بواحدهم قيل «الطيار في الجنّة، وذو الجناحين». ولولا ما نهى اللّه عنه من تزكية المرء نفسه، لذكر ذاكر فضائل جمّة، تعرفها قلوب المؤمنين، ولا تمجها آذان السامعين، فدع عنك مَنْ مالت به الرميّة، فإنّا صنائع ربّنا والناس بَعْدُ صنائعُ لنا .

لم يمنعنا قديم عِزّنا ولا عادي طولِنا على قومك أن خلطناكم بأنفسنا فنكحنا وأنكحنا فعل الأكفاء، ولستم هناك وأنى يكون ذلك ومنا النبي ومنكم المكذب، ومنا أسد اللّه ومنكم أسد الأحلاف، ومنا سيِّدا شباب أهل الجنّة ومنكم صِبيةُ النار ومنا خير نساء العالمين ومنكم حمالة الحطب في كثير

ص: 38

ممّا لنا وعليكم»(1).

أقول : إنه بملاحظة ما ورد في حق محمد وآل محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من نصوص وما صدر عنهم من كرائم الأعمال وجلائلها، وبلحاظ ما انطوت عليه نفوسهم وكشفت عنهم أعمالهم من تصميمهم على إنجاء الناس كلها من شرور الدنيا وآفاتها وأخطار الآخرة ومهالكها حتى أنزل اللّه سبحانه آيات في تسلية النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لعدم إيمان المشركين به واتباعهم لدعوته، والتي بها إحراز رضا اللّه سبحانه والنجاة من غضبه وعظيم عقابه، وحتى وصف اللّه سبحانه حاله : (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)(2)

فالآية تبين أن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) سيُهلك نفسه من الغم والتألم على قومه لعدم إيمانهم وذلك لأنه يعلم إلى أية نتيجة سيصلون والنار الأبدية التي ستبتلعهم.

وهذا ولده الحسين (عليه السلام) ، وسبطه، تستصرخه الأمة وتستغيث به من مظالم بني أمية وعظيم جورهم، هذا الإمام العظيم الذي وصفته شقيقته زينب عليها السلام لأهل الكوفة بعد الفاجعة: «ملاذ خيرتكم ومَفْزع نازلتِكم»(3).

عزم على إنقاذ الأمة من الاستضعاف العظيم الذي وقعت فيه - بسوء أفعالها وكبير إهمالها وتقاعسها - بعد أن أخذ عليهم العهود والمواثيق وجاءهم بحُرَمِه وأطفاله وخُلص أهل بيته وصحبه فانقلبوا عليه ونصروا عدوّ اللّه وعدوّه وعدوّهم وذبحوه وما يزال به رمق من الحياة كما ذبحوا رضيعه بين يديه.

كيف يُعادى من كله جميل صفات وملكات وكله رحمة وخير للبشرية.

ص: 39


1- نهج البلاغة ، الرسالة الثامنة والعشرون، ص 527 .
2- سورة الشعراء، الآية 3.
3- البحار، ج 45 ص 165 والملهوف ص 193 ، ومعالم المدرستين ج 3 ص 146، وفي رواية: ملاذ حيرتكم....

كلّ من يُعادي من هذه صفته فعداوته هذه تكفي لإخراجه من ساحة الإنسانية ولاتخاذ الموقف الأشدّ والعقوبة الأعظم معه وهكذا حكم المولى عليه .

لقد خاف ابن زیاد من آثار ما جنته يداه، وخوفه إنّما هو من الآثار الدنيوية المترتبة على جريمته فإنّه كسب من فعلته بالإضافة إلى غضب الجبّار تعالى وتقدّس وعار الدارين وعذابهما بأعلى مراتبه غضب الأمة وحقدها إذ وترها بأعظم مقدساتها.

يُنقل عن ابن زياد أنّه: عاش بعد موت یزید، فاضطربت عليه الأحوال في العراق فخرج إلى الشام ومعه مائة رجل من الأزد يحفظونه، وفي بعض الطريق رأوه قد سكت طويلاً فخاطبه أحدهم ويُدعى مسافر بن شريح اليشكري فقال له: أنائم أنت؟

قال: لا، كُنتُ أُحدِّث نفسي.

قال له مسافر : أفلا أُحدِّثك بما كنت تحدِّث به نفسك؟

قال هات.

قال مسافر : كنت تقول : ليتني لم أقتل حسيناً.

فقال عبيد اللّه بن زياد: أما قتلي الحسين فإنّه أشار إلي يزيد بقتله أو قتلي فاخترت قتله(1)

لقد بدأ ابن زياد يبرّر فعلته بعد أن تفجّر بركان الأمة عليه وعلى بني أمية لقتلهم ريحانة رسول اللّه وسبطه وخليفته في أمته وبقيّة أُسرته بل سيد أسرته خامس أصحاب الكساء وآية التطهير وآية المباهلة وما لا يحصى من الآيات والروايات الواردة في عظيم منزلته وقرب مقامه من اللّه سبحانه ومن رسوله الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

ص: 40


1- ابن تيمية، صائب عبد الحميد، ص 386 عن شذرات الذهب، ج 1 ص 68 - 69 .

وكذلك لقتلهم الأسرة الهاشمية، وخيار الصحابة والتابعين والقراء، وسبي نساء النبي وصبيته من بلد إلى بلد ومن أبعد الناس عن القرآن والإيمان إلى أكفرهم، وفي حال لا يُرتضى للأعداء فضلاً عن عائلة النبي الأكرم، التي خرجت بصحبة وليها الآن بالمعروف والناهي عن المنكر والمجيب استغاثة أمة جدّه التي استضعفها بنو أمية حتى كسروا شوكتها وأذلّوا عزيزها.

من راجع التواريخ لم يجد أنّ يزيداً هدّد ابن زياد لأجل قتل الحسين (عليه السلام) بل استفاد يزيد من عداوة هذا البيت - زياد وأبيه - لأهل البيت النبوي الطاهر، واستفاد من رذالتهم وخستهم وإعراضهم عن الدين والمكارم، واستعدادهم لفعل أي شيء في سبيل الدنيا وزخرفها، واستعدادهم لإرضاء المَلِكِ الأموي، تحت أي ظرف، فما إن عرض عليه يزيد ضمّ الكوفة إلى ولايته على البصرة إلا وسارع إلى فعل المستحيل في سبيل هد أركان الحركة الحسينية، وإجهاضها في بواكير تحرّكها، وفَعَلَ كلّ خسيسة في سبيل تحقيق هذا الهدف حتى ذكر اللعين يزيد في بعض المنقول عنه إنّ زياداً فعل أكثر مما طُلب منه على أننا لا نقبل هذا التصريح من ألعن خلق اللّه وأشدهم إجراماً إذ هو الذي كتب إليه : «فَسِر حين تقرأ كتابي هذا حتى تأتي الكوفة فتطلب ابن عقيل طلب الخُرزة حتى تثقفه فتوثقه أو تقتله أو تنفيه» (1).

وبعث بكتاب إلى والي المدينة يأمره بقتل الإمام الحسين (عليه السلام) ثم بعث بثلاثين مجرماً إلى مكة لقتل الإمام في موسم الحج ولو وجدوه متعلِّقاً بأستار الكعبة، وبعث إلى ابن زياد أيضاً بعد استشهاد مسلم: «فإنّك لم تَعْدُ أن كنت كما أحبّ، عملت عمل الحازم وصُلت صولة الشجاع الرابط الجأش وقد أغنيت وكفيت وصدقت ظنّي بك ورأيي فيك.. وإنّه قد بلغني أنّ حسيناً قد توجّه إلى العراق فضع المناظر والمسالح واحترس

ص: 41


1- الإرشاد الشيخ المفيد، ج 2 ص 43 .

واحبس على الظنّة، واقتل على التهمة، واكتب إلي فيما يحدث»(1).

نعم هؤلاء المجرمون، حينما تنقلب الأمور عليهم، يدّعون ما لم يكن، للتنصل مما اقترفوه من جرائم، مع أنّ ما صدر عنهم من فظائع قد ملأ الخافقين وعرفه الصغير والكبير والقريب والبعيد، فلا يتكلّفنّ امرؤ التوجيه لهم فيلتحق بزمرتهم وتصيبه اللعنة كما أصابتهم ، وتتلطخ يديه بدماء العترة الطاهرة لأجل أراذل الأمة وحثالاتها.

ص: 42


1- الإرشاد الشيخ المفيد، ج 2 ص 65 .

مجتمع الكوفة

أمران يستدعيان التأمل والبحث في ثنايا الكتابات التاريخية:

أ - وجه اشتهار أهل الكوفة بالغدر والنكول عن العهود والمواثيق حتى أصبح هذا سمةً لهم.

ب - ما يجري على الألسنة من أنّ الشيعة بايعوا سيّد الشهداء ثم خذلوه وأعانوا عليه وقتلوه.

ولابد من إيضاح بعض جوانب الحياة في الكوفة ليتضح الوجه فيما تقدّم:

إنّ الكوفة مدينة للأجناد، أُسّست لتكون مركزاً لتواجد العساكر(1) والسلاح والمؤن ومنها يتم رفد جبهات القتال للمشرق الإسلامي بما تحتاجه من عِدّة وعدد.

كما أنها كانت مجتمعاً يضمّ قوميات وأديان و مذاهب وتيارات مختلفة، وكلّما تطوّر وضع الكوفة، فإنّ التيّارات والقوميات والأصناف، تتكثّر وتتجدّر، فعلى هذا يتبيّن أنّ الكوفة - بحكم اختلاف عناصر الانتماء فيها - مدينة يَصْعُب قيادها، وقد استعصت بالفعل على كلّ من حكمها ومنهم عمر وعثمان.

وقد ازدادت أهمية الكوفة، وازدحمت بالقبائل والتيارات الدينية والسياسية بعد مجيء الإمام الوصي علي (عليه السلام) إليها واتخاذه لها عاصمة للدولة الإسلامية.

وكان من أمر الأحداث التي حصلت في المجتمع الإسلامي كقتل عثمان، وخروج

ص: 43


1- حياة الإمام الحسين (عليه السلام) ، الشيخ القرشي ، ج 2 ص 432 .

البغاة على الإمام المعصوم الوصي علي (عليه السلام) ، وهم الناكثون - عائشة وطلحة والزبير ومن تبعهم من أهل البصرة - والقاسطون وهم معاوية وجند الشام، والمارقون وهم الخوارج الحرورية، أنّ أثرت تأثيراً عميقاً في الكوفة وأدّت إلى ازدياد ظهور التيارات فيها وتململ الناس من الأوضاع وتراخيهم عن نصرة الإمام (عليه السلام) ، وكان لمعاوية وجواسيسه وأنصاره السريّين في الكوفة دور كبير في إشعال الفتن وتفتيت جيش الإمام وإحلال الوهن في النفوس، وفي ضعضعة أركان دولة الإمام بالتالي، غير أنّ الزمام لم يفلت من يد الإمام أبداً بل بقي الإمام محافظاً على الوضع عموماً وكان متأهِّباً كي يستعيد جميع المواقع التي يرتكز معاوية إليها أو مديده تجاهها فسرقها كمصر ، إذ أعد الإمام جيشاً ضخماً لغرض اكتساح معاوية والمدن التي تحت هيمنته، لولا ضربة ابن ملجم الغادرة إذ هدت أركان الإسلام وعصفت بكلّ الآمال.

نعم، استشهاد أمير المؤمنين (عليه السلام) أو هى دعائم دولة الإمام وجرأ أعدائه على تصعيد حملاتهم ضدّ خليفته الإمام الحسن السبط (عليه السلام) ، إذ رأى الحزب الأموي في الكوفة أنّ بينه وبين النصر قاب قوسين أو أدنى فخذلوا عن الإمام وحشّدوا قواهم لمؤامرة ضخمة تنتهي بإنزال الضربة القاضية بدولة الإمام عن طريق محاصرته وأسره وتسليمه حيا إلى معاوية ثمّ ليقوم معاوية بالجزء الثاني من الخطة وهي التعامل معه بحسب قوانين الحرب ثم إطلاق سراحه كما صنع النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مع معاوية ومشركي مكة حين فتحها إذ أطلقهم وقال: «اذهبوا فأنتم الطُلَقاء»

فأصبح لقب الطليق لمعاوية من أعظم العار عليه إلى يومنا هذا.

فلما رأى الإمام السبط (عليه السلام) ريحانة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) انهيار جيشه، لقوّة المؤامرة ولميل الناس إلى الراحة والدعة وضعف الوازع الديني في نفوسهم، إلا ثلة قليلة من أهل

ص: 44

التقوى وربانيّي الأمة، وافق على إنهاء القتال مع معاوية، وترك إدارة المجتمع له، والواقع أنّ الحالة الحقيقية للوضع تلك الأيام هي هكذا، غير إنّ الإمام (عليه السلام) فوّت على معاوية فرصة أخذ الأمور بالغلبة، والتعامل مع الإمام (عليه السلام) على هذا الأساس، فَجَرَتْ الأمور وفق نظام مصالحة، وفرض شروط على معاوية، يتحمّل فيما بعد وِزر نقضها في الدنيا والآخرة، وهذا أفضل من ترك الأمور تجري بلا ترتيب .

وهكذا كان.

وبدأت الأيام السود لمعاوية ومجموعة حكمه تُلقي بظلالها على البلاد الإسلامية، وتنزل بوطأتها الثقيلة على صدر الأمة التي تقاعست عن قتاله وانخدعت بتضليله.

وكانت أعظم وطأته، على الكوفة وأهلها، لأنها تضمّ خيرة رجالات الأمة من جهة، والجيوش التي قاتلته من جهة أخرى، فسامها ذُلاً وفقراً.

سلّط معاوية على الكوفة أكثر أعوانه تجبّراً، وأبعدهم عن الرحمة، وزوّده بتوجيهات ووصايا لا تُبقي ولا تذر، حتى ضجّت الأمة منه ولم تزل أيامه في بواكيرها، وبداياتها.

لقد ذكرنا في مواضع عدّة من هذا الكتاب شيئاً عن معاوية، وعن بعض جوانب ظلمه وتجبّره وخزاياته التي يثور منها كلّ غيور لدينه ولإنسانيته، ويكفي أن أختصر لك القول:

إنّ معاوية فعل كلّ ما طالته يد قدرته في تهديم قواعد الإسلام من جهة وفي سحق الناس وإذلالهم وفعل الأفاعيل بهم، وما لم يفعله فلعدم قدرته عليه وإلا فقد بلغ غاية الظلم والجبروت التي تسمح بها إمكانات تلك الأيام.

قَتَلَ ثُمّ قَتَل، وَقَطَعَ رؤوس أولياء اللّه وأمر بحملها من بلد إلى بلد، ودَسَ السُمّ

ص: 45

لرجالات الأمة فقتلهم غيلة، منهم: سبط رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وريحانته وسيِّد شباب أهل الجنّة الحسن بن علي عليهما السلام ، و من غيرنا قتل سعد بن أبي وقاص فاتح العراق، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وغيرهما.

ويكفيه قتله للإمام الحسن (عليه السلام) عاراً في الدنيا والآخرة، وإثماً يُلحقه بأسفل درك من الجحيم.

ومن أوضح سمات معاوية غدره بالعهود والمواثيق التي يعطيها، ومن أعظم المواثيق التي أعطاها، ميثاق الصلح مع الإمام الحسن (عليه السلام) ، لكنه ما إن دخل بجيوشه الكوفة حتى ارتقى منبر مسجد الكوفة وأعلن بحضور الإمامين الحسن والحسين عليهما السلام وبحضور الجيشين جيش الكوفة وجيش الشام أنّ كلّ شرط قطعه للإمام الحسن (عليه السلام) فهو تحت قدميه لا يف بشيء منها للإمام (عليه السلام) وختم كلامه بسبِّ من سبُّهُ سَبٌّ اللّه ورسوله(1) ، وقد سبّه في بيت اللّه - مسجد الكوفة - وبحضور أئمة الأمة وخلفاءها الحق، وبحضور عشرات الآلاف من المسلمين والمؤمنين.

سبّه في البيت الذي طالما سجد الإمام (عليه السلام) فيه لربّه وقضى فيه ليله عبادةً وتهجّداً وقضى فيه بين الخصومات وجيش منه الجيوش وعلّم فيه الأمة، وأحيا من خلاله شرع الإسلام وأقام قواعد الإيمان.

سبّه في بيت اللّه، الذي ضُرب فيه على ناصيته بسيف مسموم، وهو في حال الصلاة، متوجّهٌ فيه بكلّ وجوده لربّه المتعال.

(وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَى مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ) .

ص: 46


1- راجع فضائل الخمسة من الصحاح الستة، للفيروز آبادي ، ج 2 ص 243. فقد نقل الروايات في هذا المضمون عن مستدرك الحاكم وذخائر العقبى للمحبّ الطبري، والرياض النضرة وغيرها.

والعجب من أُمّة توالي هذا الطاغوت، الذي عُجنت الجاهلية بكلّ وجوده، و خامرت لحمه ودمه وعظمه وجلده، واستولت على عقله وروحه وفكره فلم يبقَ لغيرها فيه حصّةٌ أبداً، وكلّ سلوكياته تُنبئ عن انتمائه هذا، والإسلام بريء من معاوية وسلوكه، ومن يعتنق نهجه في الحياة.

معاوية هذا ظهر جوره في طول بلاد الإسلام وعرضها، وكان للكوفة من فظائعه المقدار الأوفر.

من وسط هذه الأجواء المتخالفة المتقدّمة، ظهرت نزعات أهل الكوفة، وبانت خلائقهم.

ولنسترسل في بيان ما قدّمنا ذكره في أوّل الفصل من وجه اشتهارهم بالغدر ونقض العهود.

من المعلوم أنّ هذه الخصلة كانت فيهم قبل احتلال معاوية للكوفة - بعد صلح الإمام الحسن (عليه السلام) - وكانت مصاديقها بارزة للعيان أيام تواجد الإمام الوصي بينهم، إلا أنّ هذه الخصلة قويت فيهم وبلغت أوج تجذرها في نفوسهم، وظهورها عنهم، بعد حكم معاوية لهم :

1 . إنّ الكوفة مدينة أُسست لتجمع المقاتلين ولرفد جبهات القتال الشرقية بهم، ومن البيّن أنّ من ينصرف لهذه المهمة فإنّ هدفه إما القيام بالتكاليف الإلهية، وفعل ما به القُرب من اللّه سبحانه وهم الأقل في الأمة، وفي أهل الكوفة بالخصوص كما كشف عن هذا تقلبات الأحداث والأحوال، وإما يهدف من عمله هذا الاسترزاق وبقية الجوانب الدنيوية، وهم الأكثر في أهل الكوفة.

وطبيعي، أن من يتوجه لممارسة القتال، وفيه احتمالية هلاك النفس والأضرار

ص: 47

العظيمة بالجسم، من أجل الاسترزاق وتحصيل المال، لا يُعوّل عليه في المواقف التي تتطلّب تديّناً وتورّعاً بمرتبة عالية، وتتطلب منه إعراضاً عن الدنيا ومتعها وملذاتها، من أجل نصرة الحق وتحكيمه في الأرض، وترسيخ قواعده، خصوصاً إذا صاحَبَ هذا الحق المنصور حرماناً من المال والراحة والملذات والمتع العاجلة.

مثل هذه الشريحة من الناس لا تلتفت - كلّ الالتفات - إلى المُثل العليا، وإلى التكاليف التي تشغلها عن أهدافها، وإلى السير تحت لواء رائد الحق والعدالة علي بن أبي طالب (عليه السلام) أعجوبة الدهر ، وإذا سارت تحت لوائه والتفتت إلى نُصرته، فإنّ هذا لر يطول بل تهوي في أوّل الطريق أو في منتصفه.

2 . إنّ أغلب من حكم الكوفة وأخذ بزمامها - باستثناء علي (عليه السلام) أمير المؤمنين وولده الإمام الحسن (عليه السلام) - هم أسوء من عرفتهم الأمة من الولاة، فمنهم الوليد بن عقبة السكِّير، والذي تقيّأ في محراب المسجد أثناء صلاة الصبح بسبب سكره وكثرة شربه، ومنهم المغيرة بن شعبة أزنى ثقيف، ومنهم أبو موسى الأشعري المتخاذل، ومن جاء بعدهم أشرس وأبعد عن الإسلام والإنسانية.

وقد غرس هؤلاء الولاة - بسبب خبث سرائرهم وضمائرهم، وابتعادهم عن روح الإسلام وتعاليمه - أسوأ الخصال في أفراد الأمة، وحرّكوا فيهم النزعات الدنيوية، واللّهاث وراء المال والعمل لنيل الحظوة لدى الولاة، وقعدوا بهم عن نيل مكارم الخصال، وعن التربية الإسلامية - الروحية والأخلاقية - التي ينبغي أن تغرس جذورها في نفس كلّ مسلم يؤمن بالإسلام ويخاف يوم القيامة.

3. إنّ أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ابتدأ حكمه يوم كان أبو موسى الأشعري والياً عليها فأمره الإمام (عليه السلام) بإرسال عدة من جند الكوفة إليه في البصرة ليقاتل بهم الناكثين

ص: 48

الخارجين على إمام زمانهم - وهم عائشة وطلحة والزبير ومن شايعهم - فكان أبو موسی هذا يخذل الناس عن نُصرة الإمام (عليه السلام) ويُغذّي فكرهم بأنّ هذه فتنة، النائم فيها خير من القاعد، والقاعد خير من القائم، ولم يُغذّهم - كما هو ديدنهم - بوجوب إطاعة ولي الأمر، أو بوجوب المشاركة في قمع الفتنة التي أثارها عائشة وطلحة والزبير، حُبّاً بالملك والزعامة والسلطان والمال إذ كان طلحة والزبير يعملان لأنفسهما وعائشة تعمل لتولية طلحة التيمي الذي هو من عشيرتها تيم وقريبها .

فبدأ الإمام (عليه السلام) عهده مع الكوفة، وهذا الخائن يزهدهم في نصرة الإمام (عليه السلام) العظيم صاحب بيعة الغدير والذي نزل بحق ولايته: «يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلَغَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ»(1)

فجعل المولى سبحانه عدم تبليغ ولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام) معادلاً لعدم تبليغ نبيه من دينه شيئاً.

ولما بلغ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولايته للأمة بحديث الغدير العظيم.

قال: «ألست أولى بكم من أنفسكم»؟

قالوا - وهم قُرابة المائة ألف أو يزيدون على بعض التقادير -(2) : بلی.

قال: «فمن كُنتُ مولاه فهذا علىٌّ مو لاه .

اللّهمَّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، والعن من نصب له العداوة والبغضاء إلى يوم الدين».

ص: 49


1- سورة المائدة آية 67 .
2- الغدير ، الشيخ الأميني، ج 1 ص 32، ص37.

وفي رواية: «وأدر الحق معه حيث دار».

نزلت في هذا الحال آية: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا ) (1).

فبدون ولاية علي (عليه السلام) لم يبلغ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من الدين شيئاً ولا يقبل اللّه من الأعمال شيء، ومع ولاية علي (عليه السلام) تم الدين وكَمُلت النعمة الربانية ورضي اللّه أعمال عباده التي يعملونها في ظل الإسلام والقرآن وإمامة علي (عليه السلام) وخلافته.

ومن يرفض هذا فمصيره مصير الحارث بن النعمان الفهري والذي قَدِمَ على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعد حادثة الغدير المباركة فقال له: يا محمد، أمرتنا عن اللّه أن نشهد أن لا إله إلا اللّه وأنّك رسول اللّه فقبلناه، وأمرتنا أن نُصلى خمساً فقبلناه منك، وأمرتنا بالزكاة فقبلنا، وأمرتنا أن نصوم شهراً فقبلنا، وأمرتنا بالحجّ فقبلنا، ثم لم ترضَ بهذا حتى رفعت بضُبعَي ابن عمّك ففضّلته علينا وقلت: من كنت مولاه فعليٌّ مولاه فهذا شيءٌ منك أم من اللّه ؟

فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «والذي لا إله إلا هو، إنّ هذا من اللّه».

فولى الحارث بن النعمان يُريد راحلته وهو يقول: اللّهم إن كان ما يقول محمد حقاً فأمطر علينا حجارةً من السماء أو ائتنا بعذاب أليم.

فما وصل إليها حتى رماه اللّه تعالى بحجر فسقط على هامته، وخرج من دُبُره، وقتله، وأنزل اللّه عزّوجلّ : (سَأَلَ سَابِلُ بِعَذَابٍ وَاقِع)(2).

إن تزهيد الأشعري لأهل الكوفة عن نصرة الإمام (عليه السلام) الوصي فَتحٌ لباب التقاعس

ص: 50


1- سورة المائدة آية 3.
2- الغدير، الشيخ الأميني ، ج 1 ص 461 إذ نقل هذه الرواية عن الثعلبي في تفسيره .

والتكاسل عن نصرته، ولباب نقض العهود والغدر والتراخي عن الحق .

ولم يُعرف عن الكوفة غدرٌ وتكاسل عن النصرة مع غير الإمام الوصي (عليه السلام) . والإمامين السبطين الحسن والحسين، ومسلم بن عقيل (عليهم السلام) ، أي قضية أهل البيت (عليهم السلام) بالذات.

4. إنّ التزام المرء نهج علي بن أبي طالب (عليه السلام) وخلفائه الأئمة الأحد عشر عليهم السلام ، أي التزام الخط الإسلامي الأصيل، وبتعبير آخر التزام الإسلام بكل أبعاده وحدوده العقائدية والسلوكية فيه جنبتان:

الجنبة الأُولى: أنّه خط الاستقامة والطهارة والسمو والإنسانية بأرفع معانيها ومراتبها، وهذا الخط يضمن للإنسان المعنى المتقدّم ويضمن له سعادة الدنيا والآخرة، ويضمن له رضا اللّه سبحانه في طول مسيرته الوجودية بشرط التمسك التام بهذا الخط أي بالإسلام المأخوذ من كلّ القرآن، ومن كُلّ السنة بحذافيرهما فلا يأخذ من القرآن بعضه ويتجاهل بعضه الآخر، وكذا شأن السنّة، كما لا يتصرف تصرفاً كيفيّاً في فهم الكتاب والسنّة، بل يأخذ بهما كما هما ويتحمّل النتائج كاملة، والضمان الإلهي بالتكفّل والسعادة، معه في كلّ مسيرته.

الجنبة الثانية: إنّ الإسلام الأصيل الحقيقي كما أمَرَ به اللّه سبحانه وبلّغه رسوله، يمر بفترة عصيبة، وتعصف به عاصفةً هو جاء تكاد أن تأتي عليه من جذوره.

وهذه الفترة تعتبر فترة استثنائية ضمن حركة تحقيق الإسلام لأهدافه في الأرض، ألجيء الإسلام إليها بسبب جماعات متتابعة تريد التربّع على دست الحكم ومقام خلافة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لتحكيم إرادتها ، ونيل مختلف المُنى والرغائب من خلاله، وإقصاء الجهة التي تستحق اعتلاء هذا المقام والتي لو اعتلته فإنّ الجميع سيكونون تحت حكم واحد، ونظام واحد ومساواة تامة مع أبسط الناس في الأمة، نعم لا يميز بينهم - لو حصل

ص: 51

تمييز - غير العلم والتقوى والجهاد والأسبقية إلى طاعة اللّه والنظر في حركتهم اليومية إلى الهدف الأسمى للبشرية - وهي الآخرة ونيل رضا اللّه سبحانه ودخول الجنّة - لا أن يكون مقياس حركتهم اليومية حسابات الربح والخسارة في المال والمنصب والجاه وبقيّة النواحي الدنيوية، وهم يفتقدون ما يميزهم من خصال الكمال، وما لهم من بضاعة غير القرابات، والتحالفات على الحق والباطل، وكبر السنّ والمصاهرات .

إسلام محمد بن عبد اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قدّم سلمان الفارسي وبلال الحبشي والمقداد بن الأسود على زعماء قريش بل العرب مع ما لهم من قرابات ومصاهرات مع رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لإيمان أولئك وتمسكهم بدينهم ولكفائتهم فيما عُهد إليهم، ولكفر القرشيين - أبو سفيان وحزبه - ومعاداتهم لله ورسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ولا بتناء حياتهم كلها على اغتنام المنافع الشخصية، واحتقار المُثل والمبادئ السامية .

إسلام رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قدّم أُسامة بن زيد ذي السبعة عشر عاماً على كلّ المهاجرين والأنصار بما فيهم أبي بكر وعمر - باستثناء أمير المؤمنين (عليه السلام) والذي أبقاه النبي معه لقيادة جيش المسلمين لغرض محاربة أعظم دولة في العالم يومذاك وهي الدولة البيزنطية، معقل المسيحية.

إسلام محمد بن عبداللّه خاتم المرسلين وأفضل النبيين (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، قدم علي بن أبي طالب (عليه السلام) وعمره ثلاث وثلاثون عاماً يوم الغدير على كلّ الصحابة بنص : «من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه اللّهمَّ والِ من والاه وعادِ من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله»(1)

ص: 52


1- حديث الغدير: ألف فيه الشيخ عبد الحسين الأميني كتابه الجليل الغدير في أحد عشر مجلداً وقد خصص المجلد الأوّل منه لذكر نص الحديث ورواته من الصحابة وعددهم 110 صحابي، وكذا ذكر رواته من التابعين، ومن ألف فيه كتباً خاصة، ومن رواه من أعلام العامة، فراجع في الأقل صفحتي 26 - 27 من الغدير إلى آخر ما يتعلق بالحديث، بينما ذكر السيد علي الميلاني في موسوعته خلاصة عبقات الأنوار عدد رواة حديث الغدير من الصحابة فأوصلهم إلى 117 فراجع نفحات الأزهار ج 6 ص 54 .

ويفرض طاعته على الخلق أجمعين ويجعل النجاة يوم القيامة مُناطة باتباع علي دون سواه.

«علي مع الحق والحق مع على»(1).

«علي مع القرآن والقرآن مع علي لا يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض»(2).

«مثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرِق(3).

والأمة تميل يميناً ويساراً وتوالي معاوية الذي حارب علياً (عليه السلام) بكل قواه إلى أن استأصل دولته، كما سنّ سبّه على منابر المسلمين في طول بلاد الإسلام وعرضها - ودام هذا قرابة الستين عاماً - وحارب كلّ ما يتعلّق به حتى قُتلت أولاده وسبيت نساؤه وصبيته وذُبحت شيعته، وحورب حديثه، ومُنع حتى من التسمية باسمه.

ثمّ يُقال عن هذا الوثن الجاهلي: خال المؤمنين، ولا يُقال لمحمّد بن أبي بكر: خال المؤمنين، إلا لأنّ ذلك يناصب علي بن أبي طالب الحقد والبغض والعداء الماحق، وهذا يحبّ علي بن أبي طالب ويواليه ويشايعه وينصره بكلّ وجوده، ومع أن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال في على (عليه السلام) : «حبّه إيمان وبغضه نفاق»(4).

أقول: إنّ الصمود مع علي بن أبي طالب (عليه السلام) والأئمة من ولده (عليهم السلام) كالإمساك

ص: 53


1- راجع فضائل الخمسة، ج 2 ص 108 فقد نقل هذا عن عدة مصادر فيها صحيح الترمذي.
2- فضائل الخمسة، ج 2 ص 112 نقلها عن عدة منها الصواعق المحرقة لابن حجر.
3- فضائل الخمسة ، ج 2 ص 56 عن مستدرك الصحيحين والدرّ المنثور للسيوطي وغيرها.
4- فضائل الخمسة، ج 2 ص 210 عن كنز العمال وصحيح مسلم والترمذي وغيرها كثير.

بالجمر، والمشي على الشوك، وهم عليهم الصلاة والسلام قد صرّحوا بهذا فذكروا أنّ أمرهم صعب مستصعب وإنّ من يحبّهم فليعدّ للفقر جلباباً، وانّ الماسك على دينه كالقابض على الجمر، وقد ورد في أحاديثهم الملحمية: ما سيقع على الدين كلّه، وعلى جماعة شيعتهم، ونحو هذا.

فعلي وولده (عليهم السلام) شأنهم ركوب الخيل واقتحام الأهوال وتطبيق الإسلام طوعاً أو كرهاً وتحكيم إرادة المولى سبحانه في أرضه وإجراء سنن العدالة بين الناس لا تمييز في هذا بين الناس، فمن يسير معهم لابد من أن يُعاني الحرمان ويهجر الراحة، ويحتمل مرّ العيش حتى يتحقق الهدف ويعمّ العدل وتستتب الأمور، وأبعد الناس عن الرفاهية في دولة علي وولده أقربهم منه وأعظمهم منصباً، على عكس غيرهم، والناس تحبّ الراحة، وتميل إلى من يُعطيها ويفضّلها، وتخلد إلى زُخرف القول ومعسول الكلام، وأهل الكوفة ملّوا المجاهدة مع الإمام وركوب الصِعاب والمصابرة معه، في الوقت الذي لم يروا منه الغِلظة والقسوة والدموية التي تعرفها البشرية من الولاة فأخلدوا إلى الكسل والإهمال، وتنصلوا عن بيعتهم ووعودهم بالأقوال الكواذب والدعاوى التي لا ترتكز على شيء وتعوّدوا لهجة الغدر وركبتهم روح النفاق حتى وجدوا أنفسهم فجأة في أحضان بني أمية، ومن لا يرقب فيهم إلًّا ولا ذمّةً.

5 . إنّ أكثر أهل الكوفة لم يكونوا شيعة لعلي (عليه السلام) وإنما نمت شجرة التشيع فيها ببركة ،وجوده فهم لم يكونوا يرون فيه غير خليفة الوقت ولم يعتقدوا فيه أنه الإمام المنصوب من اللّه سبحانه وأنّه معصوم وأنّه الثاني في الإسلام بعد النبي بلا فصل وهكذا غيرها من عقائد الإسلام الصحيحة والتي تمسّك بها الإمامية بأدلة موجودة في كتبهم وكتب مخالفيهم.

ص: 54

فلما كان مستوى اعتقادهم هكذا لم يك من العسير عليهم مخالفته والتمرد عليه.

6 . إنّ الغدر ونقض العهد والميثاق سلوك عام عند النوع البشري كله ولا كله ولا يمنعه منه إلا الدين وخوف العقاب والاعتقاد بإطلاع اللّه سبحانه عليه في سره وعلانيته وأنّه محاسب على كلّ صغيرة وكبيرة وهذه وأمثالها من السلوكيات شاهد لنا على عدم تغلغل الدين الصحيح في نفوس الأمة وعلى عدم بذل حكامها الجهد في تربية الرعية، بل تربيتهم على ما يُعاكس هذه الخصال.

وقد استلمهم علي (عليه السلام) وهم على هذه الشاكلة، فبذل جهوداً جبارة في سبيل تنشئة جيل صالح، ومجتمع جديد، فأتعبوه - مع ملاحظة أنّ الكوفة مدينة عساكر ومجتمعها قبلي صرف - ومن يُلقي نظرة عابرة على الكتاب العظيم نهج البلاغة والذي يحوي خطب ورسائل وكلمات قصار للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) - وأغلب خطبه وكلماته إنّما قيلت في الكوفة - لأحسّ بالمرارة الشديدة التي عاناها الإمام (عليه السلام) معهم.

وقد استطاع الإمام (عليه السلام) - رغم كلّ شيء - إيجاد مجتمع جديد في الكوفة وبذر بذوراً أينعت عبر التاريخ وإلى يوم الناس هذا فأصبحت الكوفة معقل التشيع عبر التاريخ، وما تعيين معاوية لأرذل ولاته وأشرسهم إلا دلالةٌ على نجاح الإمام (عليه السلام) في إيجاد تحوّل في بنية الكوفة وتركيبتها العقائدية والولائية، مما لم يُفلح طاغوت بعدها في محو آثار ما غرسه الإمام (عليه السلام) في الكوفة أبداً.

والواقع أن البحث في هذا الأمر يحتاج لجهد كبير ودراسة واسعة لا يُكتفى معها بهذه الأسطر القليلة التي نسجِّلها هنا .

ب - مبايعة الكوفيين للإمام الحسين (عليه السلام) ثم غدرهم:

التعبير بأنّ أهل الكوفة بايعوا الإمام (عليه السلام) ثم خذلوه تعبير صحيح، أما أن الشيعة

ص: 55

بايعوه ثم تخلّوا عنه فهذا تعبير يحتاج إلى صياغة أُخرى وتصوير للمسألة بشكلها السليم.

قدّمنا أنّ الكثير من الكوفيين كانوا ينظرون إلى الإمام (عليه السلام) لا بمعيار الشيعة الذين يعتقدون فيه كونه الإمام (عليه السلام) المنصوب من اللّه سبحانه وأنّه معصوم (عليه السلام) ، وأنه واجب الطاعة وأنّه صاحب الحق في القيام مقام رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بل كانوا ينظرون إليه كحفيد لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يتمتع بميزات العلم والتقى والقداسة هذا مع انتشار الأحاديث عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والتفاتهم إلى الآيات الواردة فيه وهي السبب في تقديسه إلا أنهم لم يتعاملوا معه كما هو حقه، كما لم يلتفتوا إلى مفاد الأحاديث والآيات كلّ الالتفات حالهم في هذا كحالهم في عموم التكاليف الإلهية والوصايا النبوية.

ويشهد لما قدّمنا معروفية احتواء الكوفة لكافة التيّارات السياسية والعقائدية في ذلك الوقت كما كانت تضم بين جوانبها جمعاً من النصارى والمجوس.

ومن المعروف أنّ شطراً عظيماً من الكوفة كانوا من الخوارج وكانوا ناقمين على طرفي النزاع في المجتمع الإسلامي ففي الوقت الذي كانوا فيه يتخذون موقفاً سلبياً من الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وعائلته وعشيرته وشيعته وكانوا يستبيحون دمائهم، كذلك كانوا يكفرون السلطة الحاكمة ومن يواليها ويستبيحون دمائهم.

وكان من قادتهم في تلك الفترة شبث بن ربعي، وشبث هذا قد كاتب الإمام (عليه السلام) فيمن كاتبه وعاهده على النصرة والمعاضدة فلما اشتد ساعد بني أمية في الكوفة من جديد بقدوم ابن زياد رجع عن عهوده وانضم إلى حاشيته وقاد الكتائب الحرب الحسين (عليه السلام) .

و شبث، ومن على طريقته من الخوارج، وغيرهم، لم يكونوا مخادعين حين كاتبوا الإمام بل كانوا صادقين في عداوتهم لبني أمية وفي مبايعتهم للإمام (عليه السلام) ، طمعاً في قلع الكوفة من تحت سيطرة بني أمية أو قلب نظام الحكم كلّه وإن لم يكن للإمام خصوصية

ص: 56

عندهم، وذلك كلّه لما عانته الكوفة من الظلم الفاحش لبني أمية و لتمييزهم لها عن بقية أطراف العالم الإسلامي بكلّ ألوان القهر والإذلال والكبت والتفتيت والنفي والتقتيل.

فشريحة واسعة تمن كاتبوا الإمام (عليه السلام) لم يكونوا من الشيعة لكنّهم كانوا على ظاهر الإسلام استضعفهم بنو أمية وساموهم الذل والقهر وقد استنجدوا بالإمام (عليه السلام) طوال فامتنع منهم لجبروت معاوية ولوجود معاهدة معه ، فلما مات وتواصلت كتبهم وعهودهم نهض الإمام (عليه السلام) لإنقاذهم طبقاً للآية الكريمة: ﴿ وَمَا لَكُمْ لَا نُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ ..)(1)

غير أنهم سرعان ما جنبوا وخذلوا وانقلبوا على أعقابهم، وأعادوا نفس ما حصل بعد استشهاد النبي الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من ارتداد أغلب الناس عن دينهم وقد نطق القرآن بهذا : (أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ)(2)

فالانقلاب على الأعقاب ليس بجديد في الأمة وهذه إحدى مصاديقها.

فالمسلّم حضورهم في حرب الحسين (عليه السلام) هم:

أ - الأمويون وهم الذين لهم التزام خاص ببني أمية ويوالونهم ويخطئون غيرهم، وهم نواصب بطبيعة الحال.

ب - التيارات الأخرى المنحرفة عن مذهب أهل البيت (عليهم السلام) كالخوارج وهم كانوا كثر في الكوفة ونواحيها .

ج - بعض الناس الذين يحملون ودّاً في الجملة للإمام (عليه السلام) إلا أنه لم يبلغ مستوى الاعتقاد بإمامته وعصمته ووجوب إطاعته، كما لم يؤثر شيئاً حين تتأثر دنياه وتبلغ

ص: 57


1- سورة النساء، الآية 75 .
2- سورة آل عمران الآية 144 .

السكين المذبح.

وقد شرح الفرزدق حال أهل الكوفة هذا للإمام الحسين (عليه السلام) حين تشرفه بلقائه والإمام (عليه السلام) في طريقه إلى العراق، إذ قال : قلوب الناس معك وأسيافهم عليك(1).

وروي أنّ الإمام (عليه السلام) أجابه : «الناس عبيد الدنيا والدين لعقٌ على ألسنتهم يحوطونه ما درّت معائشهم فإذا مُحصّوا بالبلاء قلَّ الديانون»(2).

ومع ملاحظة أنّ الشيعة قلّة على كل حال.

بالإضافة إلى الاعتقالات الضخمة التي قام بها ابن زياد عند وروده الكوفة حتى قيل أنّ في سجنه عند وصول الإمام (عليه السلام) إلى الكوفة اثنا عشر ألف معتقل من الشيعة منهم المختار وميثم التمار وأمثالهم.

ومع ملاحظة القتل والتشريد اللذين قام بها زياد ابن أبيه والمغيرة بن شعبة أثناء ولايتهما على الكوفة أيام معاوية حتى ورد أنّ زياداً نفى من الكوفة خمسين ألفاً إلى بلاد خرسان - وإنّهم هم الذين بذروا التشيّع فيها - .

كما أنه قتل منهم مقتلة عظيمة فصلب وسمل الأعين وهدم الدور ونفى من الديار وصادر الأموال حتى بلغ الحال أن لم يبق في الكوفة شيعي يُعرف على حدّ تعبير أحد المؤرّخين.

ثم لنلتفت إلى أجواء الإرهاب التي بثها ابن زياد في فترة ما بعد مجيئه إلى الكوفة وقبل ورود الإمام (عليه السلام) بما أشغل كلّ امرىء بنفسه، وتهديده أهل الكوفة بأنواع العقوبات أو ينضموا إلى الكتائب المسلّحة فانضم من انضمّ تخوفاً من العقوبات ودرءاً للأمر مؤقتاً.

ص: 58


1- الإرشاد الشيخ المفيد، ج 2 ص 67 .
2- تحف العقول، الشيخ الحراني، ص 245 .

يُضاف إلى كلّ هذا ما نقله المؤرّخون من أنّ بمجرّد وصول أخبار تحرّك الإمام (عليه السلام) من مكة إلى العراق فقد قام ابن زياد بنشر جيوشه في مساحة واسعة جداً من الأراضي لصدّ الإمام عن الوصول إلى الكوفة، ولمنع أنصاره من الالتحاق به، ولشلّ الحركة العامة تماماً، إذ بعث الحصين بن نمير صاحب شَرَطِه، فنظم الخيل في مساحة واسعة يميناً ويساراً عن طريق الكوفة بحيث لا يمكن للإمام (عليه السلام) أن ينفذ إلى الكوفة أو يخرج أحد إليه إلا ويصادف جُند الحصين، حتى إنّ بعض الأعراب أجابوا الإمام (عليه السلام) عن الأوضاع: لا واللّه ما ندري، غير إنا لا نستطيع أن نلج أو نخرج(1).

أي: لا يستطيعون عبور المنطقة وإذا دخل إليها أحد فلا يستطيع الخروج منها لكثافة الجند وإغلاقهم للطرق ومنعهم من نفوذ أحد دخولاً أو خروجاً.

ومع هذا أفلت عدد قليل بطرق عدّة، فإمّا أنّهم خرجوا قبل المنع والتحقوا بالإمام (عليه السلام) ، أو تمكنوا بشكل أو بآخر من عبور هذه المواقع، أو خرجوا مع جند ابن زیاد والتحقوا بالإمام لكنّ المجموع على كل حال قليل وأين هم من عشرات الآلاف التي جيشها طاغية العراق على إمام الأمة وأملها وبقية رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ووديعته.

ثم هناك جمع مهم : إمّا فرّ نجاةً بجلده، أو اختفى، أو تستر بأمره فلم يُظهر رأيه والتزامه بخط الإمام (عليه السلام) فهؤلاء لم يفعلوا كلّ ما يمكنهم فعله للالتحاق بالإمام (عليه السلام) ووقعت الواقعة فندموا أعظم الندم ثمّ شكّلوا من بعد هذا عمدة حركة التوابين، وحركة المختار وعملوا على التكفير عن خطيئتهم بالقعود عن نصرة الإمام (عليه السلام) الذي جاء لإنقاذهم من الاستضعاف ولإنهاض الدين من كبوته بسبب بني أمية، ولابد الآن من إجمال المطلب وبيان خلاصته:

ص: 59


1- الإرشاد، ج 2 ص 69 ، ص 72.

إنّ الأمة، كلّ الأمة مقصرة مع الحسين (عليه السلام) - بلا استثناء، إلا آحاد من أفراد الأمة - وكل فرد من أفراد الأمة يتحمّل - بشكل أو بآخر - جزءاً من آثار القعود عن نصرة المظلوم الأعظم أبي عبداللّه الحسين صلوات اللّه عليه وسلامه فالأمة بين قاتل وخاذل، والتكليف غير مقتصر على أهل الكوفة حتى تقع الملامة عليهم فقط، نعم يتحمّل أهل الكوفة الإثم الأكبر ويقع عليهم التكليف الأعظم والناس في هذه الجريمة مراتب من حيث الإثم، فلا معذرة لأحدٍ كائناً من كان.

نعم: أردنا من خلال ذكر هذه الجوانب أن نوضّح حقيقة الحال وطبيعة الظروف ليُعلم صورة الوضع حينذاك.

ومما يجدر إلفات النظر إليه أنه لم يُنقل أي اسم معروف على أنه شيعي أو موال لأهل البيت وقد صدر منه خذلان للإمام (عليه السلام) على نحو الخروج إلى حربه.

فكلّ الأسماء المتوفّرة لمن شارك بشكل وآخر في الجريمة هم من الأمويين أو الخوارج أو المخالفين لمذهب الإمام (عليه السلام) أو النواصب وهكذا دواليك ولم يرد أي اسم غير هذه في الأحداث، وأمّا مشاركة قبيلة ما فإنّ القبائل منقسمة على نفسها من جهة عقيدية ففيها الشيعي وفيها الناصبي فورود اسم قبيلة على أنها حاربت الإمام (عليه السلام) لا يصلح كدليل، وإذا ثبت ورود أي اسم شارك في الحركة ضد الإمام (عليه السلام) بشكل من الأشكال فعليه لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين وبرأ اللّه ورسوله والأمة منه كائناً من كان، وهذه اللعنة كما تخص المشارك فإنّها تشمل الراضي بقتله والمعين عليه بلسان أو قلم أو يد أو نحوها، إلى أبد الآبدين، والحسين ثأر اللّه إذ هو خليفة اللّه في أرضه بعد جدّه وأبيه وأخيه والأدلّة على هذا من كتب الشيعة والسنة تملأ مجلدات ومن يخاف القيامة فليراجع ويتأكد ويسأل قبل أن لا ينفعه ،ندم، واللّه على ما أقول شهيد.

ص: 60

موجز الحركة

بعد ورود رسائل أهل الكوفة، بيد بعض وجهائها - إلى الإمام الحسين (عليه السلام) وفي الرسائل دعوة أكيدة للإمام للقدوم إلى الكوفة لقيادة أهلها ضد الحكم الأموي الفاسد، وبعد تأكيد الوجهاء لمضامين الرسائل، قرّر الإمام - صلوات اللّه عليه - بعث مندوب عنه، يستطلع توجهات أهل الكوفة وحقيقة نواياهم، ويستقرأ الأحداث عن كثب، ليرى رأيه النهائي في الموافقة على دعوات أهل الكوفة، والاعتماد عليهم في حركته المصيرية فاختار مسلم بن عقيل ليكون سمعه وبصره، وليستطلع له أوضاع الكوفة وأهلها، ويكتب له عما سيتوصل إليه ليتخذ قراره النهائي وهكذا كان .

إذ تحرّك مسلم مع جمع اختارهم الإمام (عليه السلام) ، مزوّداً برسالة منه إلى أهل الكوفة:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم

من الحسين بن علي إلى الملأ من المسلمين والمؤمنين

أما بعد : فإنّ هانئاً وسعيداً قَدِما عليَّ بكتبكم ، وكانا آخر مَنْ قَدِمَ مِنْ رُسلِكم، وقد فهمت كلّ الذي اقتصصتم وذكرتم ومقالة جُلّكم:

إنّه ليس علينا إمام، فأَقْبِل، لعل اللّه أن يجمعنا بك على الهدى والحق.

وإنّي باعثٌ إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي.

فإن كتب إليَّ أنّه قد اجتمع رأي ملئكم وذوي الحجا والفضل منكم على مثل ما قدمت به رُسُلكم وقرأت في كتبكم، أقدم عليكم وشيكاً إن شاء اللّه .

ص: 61

فلعمري ما الإمام إلاّ الحاكم بالكتاب، القائم بالقسط، الدائن بدين الحق، الحابس نفسه على ذات اللّه، والسلام»(1).

انطلق مسلم أوّلاً إلى المدينة فصلى في مسجد النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ودع من أحبّ من أهله، واستأجر دليلين، فأقبلا به عن غير الطريق العام فَضَلّا ، وأصابهم عطش شديد فعجزا عن السير، ثم انهما لاح لهما الطريق فأرشدا مسلماً إليه، ومات الدليلان.

فكتب مسلم إلى سيّد الشهداء (عليه السلام) بما حصل، وأظهر تشاؤمه من هذه البداية، وطلب إعفاءَه من مهمته، إلا أن الإمام (عليه السلام) أكد له ما أمره به بجوابٍ حازم، فواصل مسلم سفره حتى بلغ الكوفة في الخامس من شوال(2) فنزل في دار المختار بن أبي عبيدة الثقفي والكوفة يحكمها وال من طرف يزيد هو النعمان بن بشير.

أقبلت الناس تزور مسلماً، وكلّما اجتمع إليه منهم جماعة أخرج لهم كتاب الإمام (عليه السلام) وقرأه عليهم وهم يبكون ، وبدأت الناس تبايعه حتى بايعه منهم ثمان عشرة ألفاً.

فلما رأى مسلماً إقبال أهل الكوفة، ومبايعة هذا العدد له، واستطلع أوضاع الكوفة منظراً ومسمعاً، واطمئن إلى صلاحية الظرف لقدوم الإمام (عليه السلام) ولنجاح حركته كتب إلى الإمام (عليه السلام) ، حاثّاً له على القدوم.

في نفس هذا الظرف كتب بعض الموالين للسلطة الجائرة وأهل المطامع إلى يزيد يخبره بأوضاع الكوفة، وخطورة مسلم على كيان الدولة، وانّ النعمان بن بشير لا يواجه الأحداث بما هو المطلوب، ويُحَرِّشُه لاتخاذ الموقف المُتَصَلِّب، فاستشار مَنْ عنده، وعزم على إيكال أمر الكوفة وأهلها إلى عبيد اللّه بن زياد بتأثير من مستشاره المسيحي سرجون،

ص: 62


1- الإرشاد، ج 2 ص 39 .
2- المقتل السيد عبد الرزاق المقرّم، ص 147 عن مروج الذهب ح2 ، ص 86

فضمّ الكوفة إلى البصرة وجعله والياً عليهما معاً وبلّغه في رسالته ما يلي :

أما بعد; فإنّه كتب إليَّ شيعتي من أهل الكوفة يخبروني أن ابن عقيل بها يجمع الجموع ويشقّ عصا المسلمين، فَسِر حين تقرأ كتابي هذا حتى تأتي الكوفة، فتطلب ابن عقيل طلب الخُرزة حتى تثقفه، فتوثقه، أو تقتله أو تنفيه، والسلام(1).

حضر ابن زياد إلى الكوفة وبمعيّته جمع منهم شريك بن عبداللّه - وهو من الشيعة المتسترين، والذي صحب ابن زياد ليتعرّف خططه(2) - ولما وصل الكوفة ظنّ الناس أنه الإمام الحسين (عليه السلام) فأظهروا عواطفهم، فاستظهر حقيقة الوضع ومسار الأحداث.

في هذه الأيام كان مسلماً في دار المختار يجمع الأموال والسلاح والرجال ويأخذ البيعة للحسين (عليه السلام) من الناس ويهيء المستلزمات لإنجاح الثورة الحسينية منتظراً قدوم الإمام (عليه السلام) وكان الإمام قد بعث في هذه الأثناء بكتاب إلى أهل الكوفة ختمه بقوله:

«فإذا قدم عليكم رسولي فانكمشوا في أمركم وجِدّوا، فإنّي قادمٌ عليكم في أيامي هذه»(3).

في هذه الأثناء سيطر ابن زياد على قصر الإمارة، ونظم الحرس والجواسيس واتصل برؤساء القبائل، وبدأ تحرّكاً واسعاً للتعرّف على مكان إقامة مسلم لإلقاء القبض عليه وإخماد الحركة في مهدها، غير أنّ مسلماً تدارك الأمر وغيّر مكان إقامته من دار المختار إلى دار هانئ بن عروة وتستَّر في أمره، واحتاط في تحرّكاته وأحاط مكان إقامته بمخيّم يضمّ السلاح والرجال المتهيّئين للانقضاض على كيان الدولة.

ص: 63


1- الإرشاد، ج 2 ص 42 .
2- حياة الإمام الحسين (عليه السلام) الشيخ القرشي ، ج 2 ص 356 .
3- الإرشاد، المفيد، ج 2 ص 70 ، والانكماش: الإسراع .

وحدثت حادثة في هذه الفترة كان يمكن من خلال استثمارها تغيير مسار الأحداث إلى حيث الإنجاح السريع والحاسم لحركة الإمام الحسين ولكن.. وقد قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) : «قد يرى الحُوّل القُلّب وجه الحيلة ودونها مانع من أمر اللّه ونهيه فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين»(1).

إن مسلماً لم ينتهز هذه الفرصة، لورعه وتدينه، وهذا هو الفرق بين هذا النوع من الناس وبين من لا يتوقف عن ارتكاب أية خسيسة لتحقيق أهدافه حتى اتخذوها أصلاً يشيّدون عليه كيانهم الغاية تبرر الوسيلة.

وخلاصة الحادثة : مَرِض شريك بن عبداللّه وهو في دار هانئ بن عروة وكان مسلمٌ فيها أيضاً فسمع ابن زياد بمرضه فأراد زيارته فاقترح شريك إعطاء إشارة معينة بعد قدوم ابن زياد إليه ليبادره مسلم ويقتله.

وحضر ابن زياد لعيادة شريك وجلس هنيئةً، فأعطى شريك الإشارة غير أنّ مسلماً لم يبادر لقتل ابن زياد وأعاد شريك الإشارة ولا أثر ، حتى أحسّ ابن زياد أنّ في الجو شيء فخرج وفشلت الخطة وضاعت الفرصة.

بعد هذا; جَدَّ ابن زياد لكشف مكان اختفاء مسلم، فكلّف رجلاً اسمه معقل بكشف الأمر ، فذهب هذا إلى مسجد الكوفة وتمكن من التعرّف على مسلم بن عوسجة فأخبره أنّه يحمل مالاً إلى مسلم فواعده كي يُدخله عليه وحصل هذا فعلاً فكشف بهذا مكان إقامة مسلم وأبلغ ابن زياد به.

أرسل ابن زياد إلى هانئ لِيَحضُر إليه فحضر ففاجأه بخبر وجود مسلم عنده وواجهه بالجاسوس فأُسقط في يد هانئ غير أنه امتنع عن تسليمه فعذبه ابن زياد وحثّه

ص: 64


1- نهج البلاغة ، الشريف الرضي، الخطبة 41 .

بعض من في المجلس بدعوى أن تسليم الضيف إلى السلطان لا عار فيه، فتمنّع أشدّ التمنّع فاعتُقل.

ثارت عشيرة هانئ وحاصرت قصر الإمارة مطالبة بإطلاق سراح هانئ غير أن نفرين أخمدا الثورة، أحدهما ركب الموجة وقاد جموع العشيرة واستطاع تهدئة بركانها إرضاءً لابن زياد وتزلّفاً إليه.

والثاني شُريح القاضي الذي أبلغهم بأنه اطلع على هانئ في سجنه فوجده حيّاً فاستطاع بتمويهه ومما لأته للسلطة تهدئتهم وتشتيت جمعهم.

لمّا بلغ مسلماً ما صُنع بهاني أعلن الثورة واحتل الكوفة وحاصر قصر الإمارة فانهار وضع ابن زياد وشارف أمره على النهاية، غير أنه تدارك الأمر ببثّ المرجفين وناسجي الإشاعات والأخبار الكاذبة ومن جملة ما يشيعونه قُرب وصول جيش الشام، كما يخيفون الناس بقطع الدولة لأرزاقهم، وتشتيت جمعهم في ثغور العالم الإسلامي ونحو هذه.

وقد أدّت حركة المرجفين هذه إلى إحداث تدمير واسع النطاق في بنية جيش مسلم، وإلى تخاذل الناس عنه وتواكلهم فانسحبت الجموع الثائرة، ورجع كلٌّ إلى داره فما حل مساء اليوم الأوّل من الثورة حتى ترى العجب: مسلم وحيد في الكوفة دون أن يصحبه أحد، ولا قوّة مناهضة أمامه تستدعي تشرذم جيشه.

التجأ مسلم لدار امرأة كوفية تُدعى - طوعة - غير أنّ الخبر وصل بسرعة إلى ابن زياد فحشد له جمعاً من العساكر التي حاصرته ورمت على الدار التي هو فيها أطنان القصب المشتعل فخرج إليهم وقاتلهم وبعد مقاومة باسلة ذكرت الناس بشجاعة البيت الهاشمي، نُصب له كمين وأُعطي الأمان فتم إلقاء القبض عليه فاقتيد إلى ابن

ص: 65

زياد الذي شتمه وأمر بضرب عنقه ورميه من أعلى قصر الإمارة فصُنع به هذا ثمّ سُحب في الأسواق كما أخرج هانئ من سجنه وضُربت عنقه أمام الناس وسُحب في الأسواق مع مسلم.

بعد استشهاد مسلم ، بدأت الأحداث تتسارع ، فشنّ ابن زياد حملة هائلة لاعتقال رجالات الشيعة ومُحبّي الحسين وأنصاره وأنصار مسلم ومن يُخاف خطره لو بقي مُطلق السراح، فامتلأت السجون حتى قيل أنّ في السجن قرابة الاثنى عشر ألف(1) وهو رقم رهيب بحسب وضع الكوفة وكثافتها السكانية في تلك الأيام.

كما قام ابن زياد بالتنكيل بالناس وفعل الأفاعيل بهم.

ثم أخذ ابن زياد بتجنيد الناس لحرب الإمام الحسين (عليه السلام) وإرسال الكتائب لتجول الصحارى، تبحث عن قافلة الإمام (عليه السلام) - سبط رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأمل الأمة المعذبة والمتحيّرة في دينها ودنياها -.

هذا ملخص لمسيرة حركة مسلم وهي على وجازتها تقتضي تأملاً في بعض مواطنها، وتقتضي توضيحاً، لتفهم سبب جريان الحركة في هذا المجرى، ولنقتبس منها الدروس والعبرة، ولنستكشف أيضاً بعضاً من ملامح شخصية بطل من أبطال الإسلام، بطل واجه الدولة الطاغوتية التي قهرت الأمة كلها في جميع مجالات حياتها على مدى عشرات من السنين وهو بَعدُ:

رائد من روّاد الشهادة في البيت الهاشمي والذي أُترع أبناؤه بكأس الشهادة.

ص: 66


1- حياة الإمام الحسين (عليه السلام) الشيخ القرشي ، ج 2 ص 416 .

مواقف وتساؤلات

اشارة

من خلال التفاصيل التي يذكرها المؤرخون لحركة مسلم رضوان اللّه تعالى عليه نجد أموراً ومواقف تثير التأمل والتساؤل لدى الناس وخصوصاً الشيعة والمحبّين لآل البيت عليهم السلام.

وذلك لأنّه يظهر أنّ أوّل الوهن الذي دخل على الحركة الحسينية إنّما هو من جهة هذه الحركة ومجريات أحداثها والنتائج التي تمخضت عنها.

فلولا هذا الحدث وذلك الموقف وتلك الإثارة وهكذا... لما حصل كذا وكذا ولما انتهت الحركة الحسينية إلى تلك النتيجة الرهيبة ولما انتهى الحال بسيِّد الشهداء (عليه السلام) إلى تلك الكارثة المهولة.

لِمَ اختاره الإمام الشهيد (عليه السلام) من دون أهل بيته ؟

لِمَ لَم يَعفهِ من مهمته بعدما طلب الإقالة منها وقد خيّر كثيراً من الناس بين المسير معه والرجوع إن شاؤوا ؟

لِمَ امتنع مسلم عن قتل ابن زياد في دار هانئ؟

لِمَ أعلن الثورة، ولم يكلّفه الإمام (عليه السلام) إعلانها، بل باستطلاع الأوضاع والكتابة إليه بشأنها كي يرى رأيه؟

كيف شخص مسلم أوضاع الكوفة مما دعاه إلى حثّ الإمام (عليه السلام) الشهيد على المجيء، مع أنّ الأوضاع انقلبت بسرعة، ومن البعيد أن لم تكن لهذا الانقلاب أماراته

ص: 67

حينذاك؟

لِمَ لَم ينجح في السيطرة على عواطف الناس وأفكارهم لما يُحقق من خلاله أهدافه مع كون الساحة له، والناس توجّهت بعواطفها نحوه في أوّل الأمر؟

هل الخلل في تقصيره في الجانب الإعلامي، الاقتصادي، المخابراتي، أم لخلل في كفائته أصلاً؟

لِمَ لَم يترك الكوفة بعد فشل حركته بل بقي فيها فيسّر لابن زياد إلقاء القبض عليه وإعدامه مع أنّه رأى أن لا ناصر له إطلاقاً من تلك الألوف المؤلّفة؟

لا ينقضي العجب : كيف ترك جميع الناس صلاتهم خلف مسلم وتركوه وحيداً فريداً في طرقات الكوفة، فأين رجالات الشيعة، وأين بقيّة شَرَطَة الخميس؟

لِمَ لَم يقاتل مسلم رضوان اللّه عليه حتى الموت، بل وثق بأمان مَنْ شيمتُهُ الغدر، مع أنه قد خَبَر مصداقيتهم قبل هذا ؟

لِمَ لَم يترك مسلم إعلان الثورة حتى يحضر الإمام، ولِمَ لَم يعتبر اعتقال هانئ ضمن الخسائر التي تتحمّلها الثورة على طريق النصر ؟

تساؤلات كثيرة، لكن هل يمكن الجواب عنها بما يُقنع وبما يكشف الحقيقة من بين الحجب وأسباب الغشاوة.

نعم، لكل تساؤل جوابه المقنع إن شاء اللّه تعالى وبما يكشف القناع عن وجه تلك الأحداث الجسام.

ولنسجِّل أيضاً بعض الاعتراضات.

ففي إيراد نقله العلامة الشهيد المطهري: إنّ كلّ المعترضين، انتقدوا تقييم مسلم

ص: 68

لأوضاع الكوفة، وتتهمه بالضعف(1).

وآخر ذكره العلامة الشيخ باقر القرشي : إن جيش مسلم مُني بهزيمة مخزية لا مثيل لها في التأريخ ، من دون أن تكون قباله أيّة قوّة عسكرية(2).

وطرح البعض إشكالات واستعمل أسلوباً مستهجناً في طرحه، قال: تبقى المؤاخذة الوحيدة على توجهات ابن عقيل:

أ - لم يعتمد خطة دقيقة للمحافظة على تماسك أنصاره، وراهن على ثبات بيعتهم دون حساب لمكر ابن زیاد وإمكانيته في استمالتهم.

ب - وبرفضه لفكرة اغتياله، وتذرّعه بالقيم والمبادئ يكون قد وضع المعروف في غير أهله، مما أضر بنفسه، ومهد لنهايته المأساوية ومن ثمّ إحباط مجهودات الحسين (عليه السلام) وأصحابه وتعريضهم لأسوء عملية غدر.

وعموماً فإنّ المواجهات العنيفة والمصيرية لا تحتمل أي منهج مثالي، والشجاعة وحدها لم تكن لتكفي(3).

وقد ردّت اللجنة التي اطلعت على هذا المقال وساعدت في نشره على كلامه المتقدّم: لم يكن هذا تذرّعاً من مسلم، وإنّما هو اعتقاد والتزام بالحديث الشريف والمبادئ، فإن لم يكن ابن زياد أهلاً للمعروف، فإنّ مسلماً كان أهلاً لذلك كما يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) .

وهاك لون آخر، لكنّه موجود في الساحة، في فهم ثورة الإمام وحركة مسلم إذ يرى

ص: 69


1- الملحمة الحسينية، الشيخ الشهيد مرتضى المطهري، ج 3 ص 355.
2- حياة الإمام الحسين (عليه السلام) الشيخ القرشي ، ج 2 ص 385 .
3- دراسات حول كربلاء، مجموعة أبحاث، والبحث المقصود كتبه إبراهيم الحيدري، ص703 وهذه الدراسات مطبوعة في لندن.

أن الإمام الحسين (عليه السلام) سار في ثورته سيرة من يريد سار في ثورته سيرة من يريد أن يموت كما سار أمير المؤمنين (عليه السلام) من قبله.

ثم ذكر ما جرى حول ابن زياد في دار هانئ وامتناع مسلم عن قتله لحديث «الإيمان قيد الفتك»

فقال: «الظاهر أنّ هؤلاء الناس قد جُبلوا من طينة الشهادة، فهم يثورون ولا يتخذون في ثوراتهم سبيل النجاح إنّهم ألقوا بأنفسهم إلى التهلكة وكُتب عليهم الفشل في كلّ سبيل سلكوه إلا سبيل الشهادة»(1).

وهذه - أيضاً - مقالة بقلم بدور زكي الددة وهي باحثة ومحامية عراقية وقد نسبت في مقالتها إلى مؤرِّخ عراقي - والظاهر أنّه هادي العلوي - يتّبع منهجاً نقدياً في دراسة التأريخ - بحسب تعبيرها - آراءً منها : إنّ اختيار الإمام المسلم لم يكن موفقاً بدرجة كافية حيث ينسب إليه التردّد وضعف القلب دون الافتقار إلى الشجاعة.

ويرى أنّ سبب اختيار الإمام (عليه السلام) لمسلم : عدم حصول الإمام (عليه السلام) على واحد من بني هاشم يقوم بالمهمة من غير الشباب لعدم موافقتهم على الخروج من المدينة، إذ توطدت لهم مصالح مستقرّة، جعلتهم ينصرفون عن السياسة، والشباب الذين خرجوا مع الإمام (عليه السلام) ، كان رأسهم العباس (عليه السلام) وهو لا يزيد على الثلاثين.

ويأخذ على مسلم: عدم قتله لابن زياد في بيت هانئ، متذرِّعاً بحديث نبوي ينهى عن الاغتيال.

ويحتمل: أن مسلماً لم يكن مقتنعاً بما أُسند إليه، أو متهيِّبٌ من لقاء أهل الكوفة لما سَمِعَ عنهم من تقلب الرأي، أمّا تقلّب الرأي، أمّا مسيره فاحتراماً لإرادة الحسين (عليه السلام) ودون رغبة

ص: 70


1- وعاظ السلاطين، علي الوردي، ص 224 .

منه، إلا إنّ اجتماع ذلك الحشد من الأنصار حوله ... يدلّ على مقدرته وحضوره القوي بينهم، ثمّ إنّ نجاحه في أخذ البيعة، لم يكن من الأمور اليسيرة في ظلّ أجواء الكوفة المضطربة ووجود أميرها، «فراجع لكلّ هذا: - دراسات حول كربلاء المطبوع في لندن».

وعلى أي حال: نحن نجزم بأنّ مسلماً لم يقصر في النصيحة لإمامه ودينه وأمته، في رسائله التي بعثها، وفي إدارته للأحداث فهو قد اتخذ الموقف المناسب للحالة الفعلية المعاشة .

وإلا فمسلم من جهة شجاعته وكفاءته ومن جهة صلابة عقيدته الإيمانية في المرقاة العليا وكان على مستوى الحدث بل أعلى.

لكن لابد للأمة أن تمرّ بامتحان الأمم كما على الأفراد أن يمروا بامتحانهم، وبحسب امتحان الأمم، فقد كبت هذه الأمة كبوة ليس لها منها نهضة، ودفعت وستدفع، ثمناً أعلى مما ستدفعه بقية الأمم.

وعلى مستوى امتحان الأفراد، لحقت الهزيمة بعامة أفراد الأمة أمام فتنة الشيطان والسلطان، نعم نجح أفراد قلائل، بهم نهضت الأمة من جديد عبر أجيالها المتتالية وفي مقدمتهم مسلم، ونحن واثقون على كل حال ومُخبِتُون إلى صحة موقف مسلم ليس فقط لمسلّماتنا العقائدية والدينية وإنّما دراسة شخصية مسلم وأوضاعه ودراسة القضيّة جيّداً تستدعي هذه النتيجة.

ولا ريب، أن مجتمع الكوفة يومذاك، أثبت أنّه لا يستحق حكم آل محمّد، ولا يستحق العيش في ظلّهم، إذ لم يُراع أهل الكوفة عهودهم ووعودهم ورسائلهم التي واتروها إلى الإمام (عليه السلام) أكثر من عشر سنين ثمّ نقضوا مواثيقهم بأوّل ضربة وُجّهت إليهم من السلطة الطاغوتية.

ص: 71

إنّ المولى سبحانه أنعم على العالم بشكل عام، وعلى العرب بشكل خاص، وعلى قريش بوجه أخص، بمحمّد وآل محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وكان الجدير بهم أن يشكروا هذه النعمة ولا يكفروها، فيشكروها:

1 . بقبولها .

2. وبالأخذ بما جاء به النبي الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

3. وبما بلغه آله عنه .

4. وبنصرة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لإتمام مهمته في نشر الشريعة وتجذيرها في الأرض وهيمنتها على الشرائع والأمم كلّها.

5 . وكذلك بنصرة آله الذين حملوا رايته وواصلوا دربه وحملوا همومه وعزموا على بلوغ هدفه مهما كلّفهم هذا من ركوب الصعاب واقتحام الأهوال وبذل كلّ غال ونفيس مع طاعة مطلقة لله ورسوله في كلّ حركة وسكون.

وقد وفى بعض الناس من قريش خاصة، والعرب عامة، ومن أمم أُخرى أيضاً، ما عاهدوا اللّه عليه ، فصبروا وصابروا، ورابطوا وجاهدوا، وترقرقت الدماء من بين العمائم واللحى - والمسيرة مستمرة -.

لكن أكثر الناس جبنوا وأخلدوا إلى عاجل الدنيا وزخرفها واشتملت أضالعهم على الخيانة وألوان النفاق، وسقطوا صرعى تحت سياط جلادي هذه الأمة ممن سمّوا أنفسهم بالخلفاء مع أنّ النبي سماهم بأصحاب «المُلك العضوض»(1).

وقد هرع أئمة أهل البيت لاستنقاذ الأمة من سيوف جلاديها وسياطهم، وأجابوا

ص: 72


1- النصائح الكافية ، السيد محمد بن عقیل، ص 190.

استصراخها بعدما أخذوا عليهم العهود والمواثيق المؤكّدة.

هذا النبي الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يخرج إلى المدينة ويبدأ بإنشاء كيان الدولة الإسلامية إلاّ بعد بيعتي العقبة الأولى والثانية.

وهذا أمير المؤمنين (عليه السلام) وسيِّد الوصيين لم يكتفِ بمبايعة أكثر من مائة ألف مسلم(1) له في غدير خم بالولاية العظمى والخلافة والإمامة، حينما هرع الناس إليه صحابة وتابعين، مهاجرين وأنصاراً، رجالاً ونساءً، صغاراً وكباراً، ملتمسين منه ومصرين عليه، تولّي الخلافة بعد مقتل عثمان لأنه أمل الأمة وصاحب الكفاءة الأعظم - الذي ينحدر عنه السيل ولا يرقى إليه الطير - لإدارة شؤون المجتمع الإسلامي وللقيام بكلّ ما هو مطلوب ممن يتولى قيادة الأمة وزعامتها، فلم يستجب من أوّل الأمر حتى رأى إصرارهم وتصميمهم - بالرغم من استحقاقه الخلافة بالنصّ من اللّه ورسوله - ثمّ الأمر إلى أن بايعه الناس بيعة لم تحصل لأحد ممن تولّى الخلافة من قبله أو من بعده وحتى وصف هو (عليه السلام) حال الناس معه يومذاك: «فما راعني إلا والناس كعُرف الضّبع إلي، ينثالون علي من كل جانب حتى لقد وُطئ الحسنان، وشُقّ عطفاي، مجتمعين حولي كربيضة الغنم» (2).

وعنه (عليه السلام) : «وبسطتم يدي فكففتها، ومددتموها فقبضتها، ثمّ تداككتم عليَّ تداكَّ الإبل الهيم على حياضها يوم وِردها، حتى انقطعت النعل، وسقط الرداء، ووُطئ الضعيف، وبلغ من سرور الناس ببيعتهم إياي أن ابتهج بها الصغير ، وهَدَج إليها الكبير، وتحامل نحوها العليل وحَسَرت إليها الكِعَاب»(3).

ص: 73


1- الغدير، الشيخ الأميني ، ج 1 ص 32 .
2- نهج البلاغة السيِّد الرضي، الخطبة الشقشقية وهي الخطبة الثالثة.
3- نهج البلاغة الخطبة 229 .

وهذا الإمام الحسن (عليه السلام) لم يقبل الخلافة بعد أبيه ، والوقت عصيب، ومعاوية يصول بجنده على أطراف دولة الإمام (عليه السلام) ، حتى بايعه الناس ورضوه عن طواعية تامة لم تحصل لأحد.

ثمّ هذا الإمام سيّد الشهداء (عليه السلام) ، لم يتحرّك من المدينة إلا بعدما كاتبه الناس واستصرخوه واستنهضوه أكثر من عشر سنين.

وهكذا سيكون الحال مع بقيّة اللّه في أرضه المهدي - روحي وأرواح العالمين له الفداء - إذ لن يتولى أمر الأمة إلا بعدما تبايعه الأمة عن رضا وطواعية وتأكيد كما فعل أسلافهم مع آبائه الكرام البررة.

إنّ منطق معظم الأمة - من بعد النبي إلى اليوم - هو نفس منطق الذين قالوا لموسى : (فَأَذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَهُنَا قَاعِدُونَ)(1)

فما كان جواب موسى اعتذاراً لربّه الجليل : (قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِى فَأَفْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَسِقِينَ )

فحَكَمَ المولى سبحانه - كأثر وضعي عقابي لجريمتهم -: ﴿ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ)(2). وقد ورد في الروايات أنّه يكون في هذه الأمة ما كان في بني إسرائيل حذو القذة بالقذة(3)، وهذا الذي جرى، هو على طبق ذاك وقد وقعت الأمة في التيه ولا يُدرى متى ستخرج منه وتنتهى آثار جريمتها، وتفلت من براثن فعلتها.

ص: 74


1- سورة المائدة الآية 24 .
2- سورة المائدة الآية 26 .
3- تفسير الميزان ، السيِّد الطباطبائي، ج 3 ص 434 فقد نقل هذا النصّ والمضمون عن جامع الأصول لابن الأثير وذكر انه من المشهورات وقد رواه الشيعة والسُّنّة.

وهنا أمر يَحْسُن التأكيد عليه، ويتعلّق بالسياسة الخاصة لمحمّد وآل محمّد - صلى اللّه على محمد وآله الميامين المعصومين - في نشر الدين وتحكيمه وتجذيره، وفي حكم الأمة وإدارة شؤونها، وكذلك في إدارة الصراع مع أعداء الدين.

وهذه السياسة تقوم على خصيصة يمكن استشرافها من خلال نصِّ عن أمير المؤمنين (عليه السلام) : «أيها الناس، إنّ الوفاء توأم الصدق، ولا أعلم جُنَّةً أوقى أوقى منه، وما يغدر من عَلِمَ كيفَ المَرجعِ، ولقد أصبحنا في زمان قد اتخذ أكثر أهلِهِ الغَدْرَ كَيْساً ونسبهم أهل الجهل منه إلى حُسن الحيلة، ما لهم ، قاتلهم اللّه، قد يرى الحوّل القُلّب وجهُ الحيلة ودونها مانع من أمر اللّه ونهيه فيدعها رأي عين بعد القُدرة عليها وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين»(1).

إن سياسة محمد وآل محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) تقوم على قانون الإسلام نصاً وروحاً وجوهراً ومظهراً.

و سياسة الإسلام تقوم على:

1 ثوابت لا تتغيّر، بحسب الظروف والحالات أو بحسب المكان والزمان.

2 . وعلى متغيّرات تخضع لتغيّر الحكم عن عنوانه الأوّلي المشرع للحالات العادية إلى عنوان ثانوي اضطراري مشرّع للحالات الاستثنائية ولحالات الطوارئ - كما يُعبّر عنه في هذا الزمان - .

ولعلّ هذا التغيّر في الحكم بحسب العناوين يعتبر تسامحاً في التعبير، إذ إنّ الواقع أنّ العنوان الأوّلي هو حالة خاصة لها حدودها وضوابطها وجوهرها ولها اعتبار حكمي خاص، والعنوان الثانوي هو حالة ثانية خاصة أيضاً لها حدودها وضوابطها وجوهرها

ص: 75


1- نهج البلاغة، السيد الرضي، الخطبة 41.

وشرائطها ولها اعتبار حكمي خاص بها أيضاً فهذه غير تلك فحكمها أيضاً مختلف .

كما أننا نلاحظ - بعد التأمل في الروايات وسيرة المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين - أنهم يلاحظون العناوين الأوّلية والثانوية في الحالات الجزئية المتعلّقة بهم أو بأفراد الأمة، كما أنهم يُلاحظون العناوين الأولية والثانوية في مقاطع واسعة زمانية و مكانية بحسب ما ستجري عليه الأحداث مستقبلاً فيتخذون الموقف المطلوب من الآن لمرحلة ما بعد عشر سنوات أو خمسين سنة أو لعله لمئات من السنين بحكم علمهم بما سيقع مستقبلاً في هذا المكان أو ذاك أو في طول البلاد الإسلامية وعرضها أما من أين علِموا بهذا فهذا له بحث آخر مستقل ليس محله هنا.

ومما يُرشد لهذا بل يدلّ عليه ما ورد في وجه عفو الإمام أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه عن معاقبة أعدائه ببعض أنواع العقوبات التي يستحقونها بحكم الشرع نتيجةً لجرائمهم وإفسادهم في الأرض رعايةً للرسالتين الحقيقيين حملة لواء الحق والفرقة الناجية من آل محمّد - شيعة أهل البيت عليهم السلام، إذ ورد عن مولانا الإمام الصادق (عليه السلام) :

«لَسيرة علي - صلوات اللّه عليه - في أهل البصرة كانت خيراً لشيعته مما طلعت عليه الشمس، إنّه عَلِمَ أنّ للقوم دولة فلو سباهم لسبيت شيعته».

قلت: فاخبرني عن القائم (عليه السلام) يسير بسيرته ؟

قال: «لا ، إنّ عليّاً (عليه السلام) سار فيهم بالمنّ لِما عَلِمَ من دولتهم، وان القائم يسير فيهم بخلاف تلك السيرة لأنه لا دولة لهم»(1).

وهذا المعنى ورد بعدّة أسانيد فراجعها في الوسائل.

ص: 76


1- وسائل الشيعة، الشيخ محمد بن الحسن الحرّ العاملي، كتاب الجهاد، الباب 25 من أبواب جهاد العدوّ ج 15 .

فالنتيجة : إنّهم سلام اللّه عليهم لا يستجيزون فعل أي شيء من أجل تحقيق الأهداف، فهناك ما يصح التحرّك ضمن دائرته، وهناك ما لا يصح مهما بلغت الظروف وهذا من أحد الفوارق المهمّة جدّاً بينهم وبين غيرهم - سواء أكان هذا الغير ولي لهم أو عدوّ.

كما أننا نلاحظ - بعد التأمل في الروايات والسيرة أيضاً - التزامهم ببعض السلوكيات مما لا لزوم بحقه في الشريعة، وإنّما يقتضيها علوّ النفس، وسموّ الذات، وبُعد الهمّة، وشدّة المحبّة اللّه سبحانه، والرغبة العظيمة في فعل أقصى ما يحقق رضاه.

هذا النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يُخيّر من اللّه سبحانه بين أمرين أحدهما شديد، مع تعريفه بأنّ الاختيار لن يُنقص له مقام عند اللّه سبحانه، فيختار الأشدّ.

وهذا أمير المؤمنين (عليه السلام) ما عرض له أمران كلاهما اللّه رضى إلا اختار أشدّهما عليه.

وكذا الزهراء، والحسنين، وبقية الأئمة التسعة، إلى المهدي روحي فداه.

وهذه القاعدة لها مصاديق كثيرة في سيرتهم عليهم السلام ومن شاء استقصاها ولعلّ من أمثلتها المشرقة ما خلّدته سورة الدهر حين أعطى الإمام والزهراء والحسنين (عليهم السلام) طعامهم لمسكين ويتيم وأسير ثلاثة أيام وهم صيام ثم لم يتناولوا شيئاً في هذه الأيام غير الماء حتى بلغ منهم الجوع مبلغاً عظيماً وحتى هتف النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حين دخل عليهم ورأى آثار الجوع في وجه حبيبته الزهراء عليها السلام وولديه الحسن والحسين عليهما السلام : «واغوثاه باللّه يا أهل بيت محمّد تموتون جوعاً»(1)

ص: 77


1- بحار الأنوار، الشيخ محمد باقر المجلسي ، ج 35، ص 247 وللإطلاع على مصادر السُنة في شأن نزول سورة هل أتى في أمير المؤمنين وسيدة النساء وسيدي شباب أهل الجنة الحسن و الحسين عليهما السلام، راجع : فضائل الخمسة، السيِّد الفيروز آبادي ، ج 1 ص 54 فقد نقلها عنهم، وقد ألف الحافظ العاصمي كتاباً في مجلدين أسماه - زين الفتى في تفسير سورة هل أتى - ذكر فيه نزولها فيهم عليهم السلام وراجع شواهد التنزيل: في الآيات النازلة في أهل البيت (عليهم السلام) ، للحاكم الحسكاني، ج 2 ص 393 والحسكاني من أعلام السُّنّة.

-ولاحظ أنهم أعطوا طعامهم لأسير مع أنّه كافر بطبيعة الحال - فإذا بجبرئيل يهبط ويقول للرسول الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «خذ يا محمد هنأك اللّه في أهل بيتك».

وبلغه سورة هل أتى .

فليتأمل المؤمن فيها وليستشرف من خلالها على شيء من عظمة محمد وآل محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقدرهم عند اللّه سبحانه.

وتأمل في الحسين (عليه السلام) وحاله يوم الطف وقد بلغ به العطش مبلغاً عظيماً والمصائب تترى عليه، ونساؤه وصبيته في جوع وعطش وأخطار لا تُستقصى، وقد فقد صحبه وأهل بيته، والجيوش الفرعونية تحيط به ترید تفریق روحه المقدسة عن بدنه الطاهر، نراه قد اقتحم الجيوش وولج في شريعة الماء وأراد شرب الماء كي يُبلّ ريقه ويتقوّى على قتال الفجرة الكفرة وإذا بفرسه يُسارع بمد رأسه ليشرب فإذا به يقول له: «أنت عطشان وأنا عطشان واللّه لا ذُقت الماء حتى تشرب»(1).

حتى في أحلك الظروف، يقصدون أعظم مراتب السموّ، ويُسارعون إلى رفيع الدرجات، ويسلكون الأشدّ الأسمى مع جواز الأرفق الأسهل، وبهذه النفوس القدسية، والإخلاص الذي لا نظير له في ساحة الوجود، وبغيرها من عظيم الملكات ارتقوا سُلَّم المعالي حيث لا يلحقهم لاحقٌ، وقدّمهم اللّه سبحانه على جميع خلقه، وأوجب طاعتهم، وجعلهم أولياء الأمور، ونصّبهم خلفاء في أرضه بالاسم والوصف كيلا يعتذر معتذر ، ويتهرّب من ساحة ولايتهم منافق.

ص: 78


1- بحار الأنوار ، الشيخ محمد باقر المجلسي، ج 45 ص 51 .

إنّ النهج الذي سلكه محمّد وآل محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) دفع بقصيري النظر وناقصي الإيمان إلى الشك والتشكيك في صحة مسيرتهم وإلى الاعتراض على أوامرهم وأحكامهم.

منها: اعتراض من اعترض على صحة صلح الحديبيّة (1) حتى واجه النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) باعتراضاته، ثمّ إنّه صرّح بأنه قد شك في نبوّة النبي في ذلك اليوم، والشك في نبوّة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كفر .

ومنها : اعتراض من اعترض على النبي في كتابة كتاب لا تضل الأمة بعده وكان النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في مرضه الأخير إلى أن بلغ في اعتراضه على النبي ومحاولته في منعه من كتابة الكتاب أن تفوّه بمحضر جماعة بما يُعدّ شتيمةً(1) للنبي الأقدس (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

وهناك اعتراضات أُخرى مارسها رجال ونساء متعدّدون في مقابل أحكام الكتاب والسنّة تجد بعضاً منها في كتاب النصّ والاجتهاد للسيِّد عبد الحسين شرف الدين.

واعتراضات المتقدمين وغيرهم ممن أتى بعدهم مما لا وجه لها بل فيها دلالة على فقد صاحبها للإيمان أو نقصانه فيه، والوجه : أنه بعد ثبوت عصمة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأنه مسدّدٌ من اللّه سبحانه، وبعد ثبوت عصمة أهل بيته إذ أهل بيته سفن نجاة الأمة وعِدلُ القرآن من في الهداية لا يبقى مجال في الاعتراض عليهم، وبماذا يعتذر هؤلاء في مقابل هذه الأدلّة القاطعة للعذر واللجاج، وفي حديث الثقلين وحديث السفينة الدلالة الواضحة على صحة نهج آل محمّد وأصحيته على كلّ نهج مهما افترضنا ذلك النهج، وانّ حكمهم مقبول عند اللّه تعالى وطريقهم مؤد إلى الجنّة ومن تبعهم فهو مرضي عند اللّه تعالى ومن

ص: 79


1- معجم رجال الحديث، السيد الخوئي، ج 13 ص 32 فقد نقل الرواية عن صحيح مسلم، وراجع لها أيضاً النص والاجتهاد ص 125 .

الفائزين بالجنّة ومن الناجين من النار بخلاف نهج غيرهم .

على أننا نعتقد، - والحديثان دالّان - أن طريق محمّد وآل محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ونهجهم، وحكمهم، هو الصحيح وغيرهم ضلال، ومتبع محمّد وآل محمّد إلى الجنّة، ومتبع غيرهم إلى النار، كائناً من كان.

ثمّ إنّ من يتأمل في الكتاب والسُنّة يعثر على وجه ما كان يصدر من المعصومين، والسر فيه.

هذا - مثلاً - أمير المؤمنين (عليه السلام) يُبيِّن الظرف السائد في أيامه والذي أثر التأثير المهمّ على مسيرة حكمه: «أفسدتم عليَّ رأيي بالعصيان، حتّى لقد قالت قريش: إنّ ابن أبي طالب رجلٌ شجاع ولكن لا علم له بالحرب.

لله أبوهم، وهل أحدٌ منهم أشدّ لها مِراساً ، وأقدم فيها مقاماً منّي، لقد نهضت فيها وما بلغتُ العشرين، وها أنذا قد ذَرّفتُ على الستين، ولكن لا رأي لِمَ لا يطاع»(1).

كما بيّن الإمام الحسن (عليه السلام) وجه صلحه لمعاوية لمن اعترض عليه وأساء القول له(2).

وبيّن سيِّد الشهداء وجه حركته المقدّسة لجمع اعترضوا عليه وحاولوا ثنيه(3) عن مسيرته بدعوى غدر أهل الكوفة - وهو أدرى منهم بهذا وأشدّ معاناة له حين كان بصحبة أبيه الوصي (عليه السلام) وأخيه المجتبى (عليه السلام) حتى بلغ الأمر أن سلّم أخوه السبط مقاليد الخلافة لابن آكلة الأكباد مؤسس الملك العضوض-.

ص: 80


1- نهج البلاغة ، السيِّد الرضي، الخطبة 27 .
2- مسند الإمام المجتبى (عليه السلام) ، الشيخ عزيز اللّه العطاردي، ص383 - 384.
3- معالم المدرستين، السيد مرتضى العسكري، ج 3 ص 56 ، والملهوف، السيد ابن طاووس، ص 132 .

وهكذا كان دأب الأئمّة - عليهم الصلاة والسلام - في بيان ظروفهم ووجه ما يصدر عنهم لشيعتهم وغيرهم مع موقعهم في الإسلام وخلافتهم اللّه ورسوله في الأرض ومع وجوب طاعتهم على الأمة كلّها - بلا استثناء - بنص الكتاب والسنة.

وقد صدر عن مهدي آل محمد -عجل اللّه تعالى فرجه - من بيان وجه غيبته - ممّا يجري في نفس سياق دأب الأئمة عليهم السلام في توضيح بعض أوجه حركتهم وأحكامهم للأمة بما يقطع دابر الشبهة والفتنة ويُعين المؤمنين في تثبيت عقائدهم الدينية -.

فعنه روحي وأرواح العالمين لتراب مقدمه الفداء: «وأمّا علّة ما وقع من الغيبة، فإنّ اللّه عزّ وجلّ يقول : (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ)(1) إِنّه لم يكن أحدٌ من آبائي إلا وقد وقعت في عنقه بيعة لطاغية زمانه وإنّي أخرج حين أخرج ولا بيعة لأحد من الطواغيت في عُنقي.

وأما وجه الانتفاع بي في غيبتي، فكالانتفاع بالشمس إذا غيبتها عن الأبصار السحاب، وإنّي لأمان لأهل الأرض، كما أنّ النجوم أمانٌ لأهل السماء، فأغلقوا أبواب السؤال عما لا يعنيكم، ولا تتكلّفوا علم ما قد كُفيتم، واكثروا الدعاء بتعجيل الفرج فإنّ ذلك فرجكم»(2).

ص: 81


1- سورة المائدة، الآية 101 .
2- الاحتجاج ، الشيخ الطبرسي، ج 2 ص 544 .

إبراهيم الحيدري

اعتراضنا على الحيدري:

أ - أنّه استعمل كلمات ليس من المناسب استعمالها مع بطل الإسلام مسلم رضوان اللّه تعالى عليه، بل قد يُعدّ في استعمالها نوع إهانة لشخصه الكريم مثل: راهن، تذرّعه.

ب - صياغته لبعض الجمل بشكل تؤدّي معنى غير مناسب بحق مسلم وإن لم يكن هذا في آحاد الكلمات المستعملة في الجملة مثل:

إحباط مجهودات الحسين (عليه السلام) ، تعريضهم لأسوء عملية غدر.

ج - يظهر من خلال كلام الحيدري أنه يحكم على مسلم رضوان اللّه عليه من خلال النتائج الحاصلة عن حركته، والأمور لا تُقاس بنتائجها عند الحكم على قادتها ومسيري دفتها.

إذ على المرء أن يعمل بتكليفه الشرعي أولاً، وبحسب معطيات الحالة التي أمامه، وبحسب إمكانياته، مشفوعٌ كل هذا بقدرته وكفاءته وإخلاصه، وأما النتائج فلا يستطيع امرءٌ - غير المعصوم (عليه السلام) - من استكشافها.

ومسلم قام بضبط حركته وفق إمكانياته وبعد دراسة الواقع الخارجي ضبطاً جيّداً ثم حصل ما لم يكن بالحسبان، وفلت الزمام، فما وجه الملامة عليه ؟

ومن يُعيد قراءة خارطة الأحداث ويدرس الأوضاع بتأمل يرى ويطمئن إلى أنّ مسلماً أدّى ما عليه واقعاً ولو كان أيّ أحد مكانه - باستثناء المعصوم - لما صنع أكثر ممّا صنعه مسلم، ويُؤَيّد هذا بعدم ورود أية رواية مهما كان ضعفها في نسبة شائبة تقصير إلى مسلم.

ص: 82

أما أنّه لم يعتمد خطّة دقيقة للمحافظة على تماسك أنصاره: فما الداعي إلى خطة للمحافظة على أنصار كاتبوا الإمام السبط لأكثر من عشر سنوات معاهدينه على النصرة ومستغيثين به، ومؤكدين لمواثيقهم وعهودهم بما لا يقبل النقض، على أنّ البلاء الذي يستغيثون منه هو ما أحاط بهم، لا بأهل البيت بالخصوص، ومن السلطة الأموية الكافرة نفسها، وقد أرسلوا زعمائهم وخاصتهم إلى حيث مقر الإمام في المدينة حاملين للرسائل ومؤكّدين لصحة مضامينها ثمّ أرسل الإمام إليهم مسلماً يستطلع الأوضاع فرأى الحال كما كُتِبَ للإمام وأكثر، ومن بَعْدُ أخذ مسلم عليهم البيعة فأعطوها والسلطة قائمة والوالي الأموي يحكم الكوفة فما توقفوا ولا تهيبوا، ثمّ أنّه جرّد منهم آلافاً زوّدهم بالسلاح وأحاط بهم مقرّه ككتائب خاصة.

وارتكز مسلم في وجوده إلى أعظم الزعماء من رجالات الكوفة، إذ استقرّ أوّلاً في دار المختار، ثمّ تحوّل مستتراً إلى دار هانئ، والثاني منهما أمره نافذ عند آلاف الفرسان يطيعونه على كل حال لبواعث قبليّة.

فأي خطة مع هذا الإحكام كلّه.

د - وحول:

1. رفض مسلم لاغتيال ابن زیاد .

2. وأنه قد تذرّع بالقيم والمبادئ.

3. ووضع المعروف في غير أهله.

4. وأضرّ بنفسه ومهد لنهايته المأساوية.

5 . وأحبط مجهودات الحسين وأصحابه وعرّضهم لأسوء عملية غدر.

ص: 83

وختم الحيدري كلامه:

بأنّ المواجهات العنيفة والمصيرية لا تحتمل أي منهج مثالي، والشجاعة وحدها لم تكن لتكفي - انتهى مجمل كلامه -.

فلا ينقضي عجبي من طرح الحيدري، صياغة وفكرة .

أما الصياغة فواضح عليها الإساءة وعدم التأمل في كيفية اختيار الكلمات، وكيفية صياغة الجمل، بالطريقة الأنسب والتي فيها إيضاح الفكرة بدون الخروج عن موازين البحث والدراسات العلمية.

كيف يُعبّر عن بيان مسلم - رضوان اللّه تعالى عليه - للسبب الذي دعاه الى التوقف عن الفتك بابن زياد بأنه تذرّع.

أَفَهَلْ كان مسلم يتهرب من مخاطبيه ويفتعل لهم الحجج، بدون أن يكون فيما بينه وجهٌ شرعي صحيح يقتضي التوقف عن اغتيال ابن زياد والفتك به.

المسألة ليست مسألة معروف يُوضع في أهله أو غير أهله، بل هناك حكم شرعي تضمنه حديث ثابت صدوره عن النبي الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فمع صدوره وثبوت الحكم في هذا المورد فلابد من التنفيذ، وأمّا أنّ المستقبل كذا وكذا ، فمن يدري ما يُخبئه المستقبل وعلى أية قاعدة نسير وتحت أية ضوابط حتى تكون أعمالنا محققة لآمالنا المستقبلية، وعلى الحيدري أن يُجيب على هذا السؤال!

إنّ الفرق بين الإنسان المؤمن بالإسلام، والمؤمن بالآخرة، وبالحساب والعقاب، وبين غيره، هو عين ما صنعه مسلم، وما يصنعه ابن زياد.

فمسلم يُلاحظ في حركته مراعاة الضوابط الشرعية والتحرّك وفق الأمر الإلهي

ص: 84

والانتهاء عند نهيه، والالتزام بالقواعد والمبادئ والمُثل الشرعية، ونتائج العمل إنّما تتحدّد بحسب حصول تمام العلل التي لها مدخلية بالعمل، فإذا اختلت علّة أو جُزؤها امتنعت النتيجة ، ومسلم قام بما ينبغي منه ، والخلل في غيره، وليست نهاية الدرب هنا بل هناك موت، وعذاب قبر، وقيامة، وعذاب الأبد - جهنّم - بالإضافة إلى ما لا يُحصى من أنواع العقوبات والعذابات التي يلاقيها العاصي في مسيرته الوجودية، ولم يُطلب من مسلم إنجاح القضيّة على كل حال وكيف اتفق، بل العمل بالميزان الشرعي بحسب متطلبات الحالة، والباقي أمره بيد اللّه سبحانه وكلّ من يدّعي غير هذا فليتجنّب الآثار السيئة لسلوكه الحياتي.

(وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ)(1).

مسلم يعمل ضمن قوانين الدين وموازينه، وكلّ من على نهج محمّد وآل محمد حقيقةً فَهُم على خطّ مسلم ، وطريق مسلم ، ومنهاج مسلم، يُسيّرون دفّة حياتهم ويبنون لآخرتهم.

ومن العجيب قوله : إنّ المواجهات العنيفة والمصيرية لا تحتمل أي منهج مثالي.

فلِمَ نقاتلهم إذن؟

إنّما نُقاتلهم لتطبيق أحكام الإسلام، ولتنفيذ أوامر اللّه سبحانه، وعلى هذا اختلفنا معهم، وجاء مسلم ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، فما هو المعروف والمنكر ؟

هما ما جاء به النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن ربه جل وعلا، من أوامر ونواهي، فإذا خالفها مسلم فما الفرق بين المنهجين يا تُرى ؟

ص: 85


1- سورة الأعراف، الآية 188 .

أوليس قد ترك أمير المؤمنين (عليه السلام) - من قبل - ابن ملجم وهو يعلم أنه قاتله؟ بل قد ذكر هذا لبعض المقربين منه.

أوليس كلّ المنافقين الذين دخلوا في الإسلام خوفاً أو طمعاً ومنهم أبو سفيان ومعاوية كان بسماحٍ من النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وَبِغَضٍّ منه، وهم الذين فعلوا الأفاعيل بالإسلام وبذرية النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ما فعلوا، فلِمَ سمح لهم النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بهذه الفرصة ؟

ساحة الحياة الدنيا، ساحة اختبار وكشف المعادن الناس وفيها يتبين ويتميّز التبر من التراب، والحرب سجال بين الحق والباطل منذ آدم (عليه السلام) إلى يوم الناس هذا وحتّى ظهور منقذ البشرية ، فتحليل قضيّة مسلم وحركته، بهذا اللون من البيان فيه جناية على مسلم، وعلى رمز من رموز الإسلام، وعلى حركة عظيمة الشأن تميّزت فيها الأشياء، وَوُضِعت من خلالها النقط على الحروف، وأوجدت منعطفاً جديداً في حياة الأمة من جهة، وفي حياة قادتها الربانيين من جهة أخرى، إذ دخلت الأمة في التيه ولم تخرج بَعْدُ منه، وبدأ الأئمة عليهم الصلاة والسلام نهجاً ثابتاً في إدارة شأن الأمة وفي إدارة الصراع مع الطواغيت.

علي الوردي :

ومنطق علي الوردي أعجب.

أ - فهو يحكم على المقدّمات بحسب نتائجها وقد تقدّم منا الجواب عن مثل هذه الفقرة.

ب - ويظهر من كلامه أنّه لم يدرس قضيّة مسلم بشكل جيد بل سمع خُطْبَةً أو قرأ نصاً وكفى، وإلا فمتابعة أطراف الموضوع لا تقتضي أن يحكم عليه بأنّه ألقى نفسه في

ص: 86

التهلكة وأنه لا يهتم لنجاح الحركة بل يهتم لنيل الشهادة فقط .

ج - إنّه لا يهتم - عند تحليله للحدث ولتحرّك مسلم - للموازين الشرعية ومقدار تأثيرها على فكر مسلم وسلوكه، بل يقيس عمله بما يقيس به غالب الناس أعمالهم، خصوصاً في زماننا هذا ، أي بملاحظة حسابات الربح والخسارة الآنية العاجلة.

د - يقول: فَهُم يثورون ولا يتخذون في ثوراتهم سبيل النجاح. وواضح من التأمل كلام الوردي، مدى ضحالة تحليله، وجنايته على مسلم وجهوده، فلو قرأ السيرة وتابع مصادرها وتأمل فيها لعرف أنّ مسلماً قد أتقن عمله في الكوفة غاية الإتقان، وسعى لسدّ كلّ ثغرة، وجد في أمره، غير أنّ انهيار الكوفيين وانسحابهم عنه مع عدم وجود خطر يتهدّدهم فعلاً، والحركة ناجحة مائة بالمائة لو استمرّت في إمكانياتها المتوفّرة من مجيء الإمام السبط (عليه السلام) والتحاق الآلاف التي جاءت معه من مكة بالحركة، والتحاق بقيّة الكوفيين، والتحاق جيش البصرة - والذي كان في طريقه إلى الكوفة - وإعلان ابن الزبير حركته في مكة، وأهل المدينة في المدينة، وغيرها من الأمور التي كانت مهيئة أو متوفّرة ، لكن ما ليس بالحسبان قد وقع، وفلت الزمام سريعاً، والسبب الوحيد: الإشاعات والأراجيف، فلا واقع يتهدّد الكوفيين.

ويتضح من هذا إسفاف الوردي في قوله - إنهم ألقوا بأنفسهم إلى التهلكة - ولو عرف مورد الآية وسبب نزولها ومجال تطبيقها لما استشهد بها.

وقوله : كُتب عليهم الفشل في كل سبيل سلكوه إلا سبيل الشهادة; فإنّي أُجيبه أنّ من يُجاهد ويضحي في سبيل دين تعداد نفوس أتباعه اليوم ملياراً ونصف من البشر فإنّه لم يكتب عليه الفشل في كلّ ما سلكه، ومن يعمل ويبلغ أتباع مذهبه وشيعته قرابة المائتي مليون فلم يكتب عليه الفشل، وَمَنْ فِكْرُهم وحديثهم ينتشر يوماً بعد يوم في كل جهات

ص: 87

المعمورة حتى في أقصى أرضيها فإنّه لم يكتب عليه الفشل ولم يُلقِ بنفسه في التهلكة، وإنّما الذي ألقى نفسه في التهلكة من باع دينه وآخرته بمتاع أيام قلائل ثم مات وتبرأ منه حتى أهل ملّته وخاصة قومه، ثمّ لا أثر لقبره، ولا مأثرة له يُذكر بها إلا الخزايا والفضائح.

نحن نفخر بمنهج مسلم الذي هو منهج الإسلام الأصيل، والذي يحوي ضوابطاً وحدوداً على المرء ألا يتعدّاها فهناك ما يجوز فعله دائماً، وهناك ما يجوز في الضرورات، وهناك ما لا يجوز أبداً، كما أنّ الضرورات لها قانونها أيضاً ، فلا تجوز كلّ ضرورة وضمن مساحة مطلقة.

الإسلام والإيمان تشيّدا بدم علي والحسين - صلوات اللّه عليهما - وبدم مسلم ودم حِجرٍ وولديه، وكلّ من جاهد وأخلص والتزم بحدود الشريعة وضوابطها، والنصر سبحانه، وإلا فمحمّد وآل محمّد من أقدر الناس على تحقيق ما يأملون، لِصِلَتِهِم باللّه سبحانه لكنّ طريق النصر لا يمرّ عبر هذه الطرق وأمثالها.

مقالة بدور الددة :

ونلمس في هذه المقالة نفس اللّهجة عند التحدّث عن المعصوم (عليه السلام) وعن مسلم رضوان اللّه تعالى عليه ونفس التوجّه الفكري عند تحليل الأحداث، وكلّها مما لا ترقى إلى مستوى الحدث العظيم، ولا تستند إلى الأساس العقائدي المطلوب توفّره قبل التعامل مع النصوص ولنبيّن مفصّلاً :

أ - إن اختيار الإمام المسلم لم يكن موفقاً : -

لقد تحدّثنا عن هذه المسألة في فصل - اختيار الإمام المسلم - بل في ثنايا مجموعة من الفصول، ونقول أيضاً : إنّ اختيار الإمام الحسين (عليه السلام) - بحكم معصوميّته وعدم إمكانية

ص: 88

خطئه لدلالة نصوص كثيرة على هذا مرويّة في كتب الشيعة والسُنّة ومن أهمها حديث الثقلين، وحديث السفينة - قائم على قواعد صحيحة ومقتضيات الحكمة ولا شكّ، بل خصوص قضيّة مسلم فإنّ اختيار الإمام له قائم على ما تقدّم وعلى واقعيّة كون مسلم : الرجل المناسب في الموقع المناسب، وقد دلّ تسلسل الأحداث على صحة هذا الرأي، إذ إنّ مسلماً اتخذ في عموم ما مرّ به من أحداث ، الموقف الصحيح، وهذا الموقف إما تقتضيه المصلحة مع عدم مخالفته لحكم شرعي، وإمّا موقف مطلوب شرعاً كعدم فتكه بابن زیاد ومسلم إنسان متديّن جاء إلى الكوفة ليقيم قواعد الإسلام والإيمان فإذا فعل ما نهى عنه اللّه سبحانه فقد وقع في نفس المحذور الذي يُحاربه وهو فعل المنكرات ومخالفة أحكام الشريعة، وهو تلميذ علي بن أبي طالب والحسن والحسين عليهم السلام، وسيرة هؤلاء الأئمة مفعمة بأمثال هذه المواقف والأحداث والتي اختاروا فيها رضا اللّه سبحانه على فوز معجّل يحصل بطرق غير سليمة وغير مقبولة ويقتضيها الغدر، أما النتائج فالتوفيق بيد اللّه سبحانه، وسيِّد الشهداء (عليه السلام) يقول للفرزدق - وهو في طريقه إلى العراق - :

«إن نزل القضاء بما نحبّ فنحمد اللّه على نعمائه وهو المستعان على أداء الشكر، وإن حال القضاء دون الرجاء فلم يتعد من كان الحق نيّته، والتقوى سريرته» .

فليس الباعث لمسلم على التوقف في اتخاذ بعض القرارات أو التمهل فيها هو ضعف القلب بل التدين والحكمة، وليس ضعيف القلب من يُقدم على مثل هذه الأمور، وينجح في جزء كبير منها ، ثُمّ تجده يُقاتل المئات وهو فرد وحيد غريب.

نعم المؤامرة ضخمة، والدولة دموية، والوالي من أمكر الولاة وأشرسهم، وأكثر الناس غَدَرَةٌ خَذَلَة.

أما عدم اختيار الإمام (عليه السلام) لغيره فإنّ هذه مسألة دليلها معها، إذ من اختيار الإمام (عليه السلام)

ص: 89

له نستكشف أفضليته على غيره - بحكم معصوميّة الإمام (عليه السلام) المقطوع بها -.

على أنّ محمّد بن الحنفية وعبد اللّه بن جعفر كانا مريضين، وابن عبّاس كان بصيراً - أعمى - وليس المطلوب توفّر شرط واحد في المبعوث لهذه المهمة المصيرية بل شروط، منها التدين والإيمان والحكمة والشجاعة والعلم بالأحكام ونحوها من الشروط اللازم توفّرها لينجح السفير في تحقيق الهدف الذي يريده الإمام المعصوم - الحسين (عليه السلام) -.

ولعل أهم شرط في هذه القضية إمكانية انصياع الناس له، وكذلك اعتقاده بإمامة الحسين (عليه السلام) واستحقاقه لمقام الخلافة عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وكل هذه الشروط وغيرها كانت متوفِّرة في مسلم، ولعلّ بعضها لم يكن متوفّراً في غيره فلا يصلح لهذه المهمة وإن صَلُحَ لغيرها.

وأمّا عدم اختيار الإمام (عليه السلام) لغيره من شيوخ بني هاشم من جهة عدم موافقتهم فهذا الرأي تَبَرّعٌ من الكاتب إذ لم يرد - تأريخياً - أنّ الإمام (عليه السلام) عرض هذه المهمة على أحد من بني هاشم فرفض، نعم هم أشاروا عليه بعدم التوجه إلى الكوفة لكنّ هذا شيء، وامتناعهم عن الذهاب مع طلب الإمام (عليه السلام) منهم شيء آخر، فدعوى الكاتب لم نقم على دليل بيِّن.

ثمّ أيُّ غضاضةٍ في أنّ بني هاشم كانوا شباباً فهل شبابيتهم مانعة من اختيارهم لهذه المهمات.

هذا علي بن أبي طالب (عليه السلام) عيّنه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) - بأمر من اللّه تعالى - خليفة على كلّ المسلمين من بعده، ووصي له، وهو ابن ثلاثة وثلاثين سنة، أي بقدر عمر أبي الفضل العبّاس رضوان اللّه تعالى عليه والذي كان عمره في معركة الطف أربعة وثلاثون سنة، أمّا

ص: 90

مسلم فكان في الخامسة والأربعين(1).

وهذا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عين أسامة بن زيد وعمره سبع عشرة عاماً قائداً لأعظم جيش اسلامي - في العدد والهدف، إذ المقرّر توجههم لمحاربة الدولة البيزنطية - وقد جمع النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في هذا الجيش معظم المسلمين بما فيهم أبي بكر وعمر ، نعم استثنى عليّاً صلوات اللّه عليه، وقد طعن بعض الصحابة - العدول جداً - في تأمير أسامة - مع إنّ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عينه وهو لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى بنص القرآن العزيز - إلا إن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) زكاه من هذه الناحية وأصر على أمره المقدّس(2).

وهؤلاء حكّام العالم - قديماً وحديثاً- فيهم من هو في العشرين، ومن هو في الثلاثين، وهكذا، وقد أداروا دولهم، وسكتت الناس عنهم، فَلِمَ تتحرّك الألسنة ضدّ خصوص بني هاشم الذين تلقوا عقائدهم ودينهم عن النبي والوصي وسيدي شباب أهل الجنّة، زعماء الأمة كلها وقادتها رغماً عن الكلّ بالنصوص الموجودة في كتب الكلّ.

ثم مع التسليم بكون عمر مسلم ثمانية وعشرين سنة فهو غير مؤثر بتاتاً، إذ أنه حين وصل إلى الكوفة استقبله أهلها واخبتوا له وبايعه منهم ثمانِ عشرة ألفاً، واستمروا على هذا الحال حتى ورد ابن زياد الكوفة وبدأت الأمور تنتكس.

وأمّا عدم قتله لابن زياد فقد بحثنا هذا مفصّلاً في فصل خاص وبيّنا دواعيه الدينية - وذلك للحديث النبوي - أو الاجتماعية - عند طلب هانئ وزوجته، وهم أصحاب الدار التي يسكنها مسلم -.

ص: 91


1- في تنقيح المقال للشيخ المامقاني: إنّ عمر عمر مسلم في ذلك الوقت كان ثمانية وعشرين سنة، راجع التنقيح ج 3 ص 214 .
2- راجع لهذه القضيّة النص والاجتهاد، السيد شرف الدين، ص 31 فقد نقل هذه القضية عن مصادر العامة فشكر اللّه سعيه ونوّر ضريحه.

وأما أنّ مسلماً لم يكن مقتنعاً بما أُسند إليه: فإنّ المرء إذا كان متديِّناً فعليه تأدية تكاليفه الدينية سواءً اقتنع بها أم لا، خصوصاً إذا كان الأمر صادراً من المعصوم مباشرةً، وموجهاً إليه بالخصوص، كما هو الحال في قضيّة مسلم ، ومسلم متديّن، وقد قام بما عُهد إليه خير قيام - رضوان اللّه تعالى عليه وجزاه عن الأمة كلها خيراً - وأظهر أشد الحرص على إتمامه للمهمة وفقاً لتوجيهات الإمام (عليه السلام) وللأحكام الشرعية عموماً، ولم يصدر منه خلاف الشرع أو ما يُستنكر عليه، ونتائج الأعمال بيد اللّه سبحانه، وقد حارب النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأحُد وانكسر جيشه، كما حارب بحنين وانهزم جُنده والملامة في الموردين على

المنهزمين والمتخاذلين، وما يلحق الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من الملامة شيء، والحال في مسلم كذلك فهو وإن لم يكن معصوماً إلا أنه لم يُخطئ في خطوة ولو كان أي أحد مكانه لما فعل في كلّ حدث إلا ما صنعه مسلم إذ هو التصرّف الأحسن في وقته ومن يدّعي غير هذا فليدفع عن نفسه الآثار السيئة لأعماله: ﴿ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ) .

ثمّ إنّ اعتراف الباحث بما ذكرناه في ذيل كلامه دليل على عدم صحة بعض استنتاجاته المتقدمة.

وأخيراً أقول: الرجاء ممن يكتب أو يتحدّث عن قادة الأمة - ولم يكن له غرض سيء يدفعه إلى هذا النحو من التحليل - فليتق اللّه ربّه ، وليخاف يوم الحساب، وليتأكد من صحة أدلته ووجاهة تحليلاته: (أن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَدِمِينَ)(1).

(أن تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَی عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ)(2).

ص: 92


1- الحجرات/ الآية 6 .
2- الزمر / الآية 56 .

اختيار الإمام المسلم

اشارة

من جملة ما يمكن طرحه من تساؤلات في إطار قضيّة مسلم رضوان اللّه تعالى عليه هو وجه اختيار الإمام (عليه السلام) له من بين أهل بيته ودون اختياره لوجه من وجوه الشيعة ممّن له وجاهة وسابقة في صحبة أو جهاد، والجواب عن هذا التساؤل من خلال ما يأتي:

فيمكن إثبات صلاحيته للمنصب الذي اختاره لأجله الإمام المعصوم (عليه السلام) خلال نفس عملية الاختيار مع ملاحظة الظرف الذي يُحيط بالحسين (عليه السلام) وقضيته.

مرّةٌ، يكون اختيار الإمام شخصاً لمهمة لا لغرض تحقيق تلك المهمة وذلك الهدف، وإنّما لأجل غرض آخر يبغيه من خلال هذا التعيين كما ثبت عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه عين بعض الصحابة لمهمّات، ولقيادة جيوش ثم عزلهم قبل التنفيذ، أو ظهر فشلهم الفظيع في أداء تلك المهمات، فإنّ الواضح من خلال هذا، أنّ الهدف من التعيين لم يكن لتحقيق ذلك الهدف وإنّما لبيان أنّ هؤلاء لا يصلحون لشيء لقصور قابلياتهم وذاتياتهم عن إمكانية الاعتماد عليهم لشيء.

وقضيّة مسلم لم تكن من هذا القبيل قطعاً، لأنّ الظرف لم يكن ظرف اختبار لكون المرحلة مصيرية في حياة الإسلام والتشيع والأمة.

ولأنّه لا أثر لكشف عدم قابلية مسلم القيادية لعدم ترتب أثر مستقبلي على هذا الكشف ، فمن كلّفه النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بتبليغ سورة براءة - مثلاً - وأرجعه قبل أدائه المهمّة، اتضح حقيقة حاله من خلال الأمر بعزله إذ من لم تكن فيه الجدارة لتبليغ آيات، كيف يُؤتمن على الإسلام والأمة ككلّ ، بل لا كفاءة فيه لهذا بالأولوية.

ص: 93

وكان في هذا الإيضاح فائدة، لأن هؤلاء المعزولون قادوا العالم الإسلامي فيما بعد ورضي بهم بعض الأمة وتلك الحادثة - حادثة العزل - حجّة عليهم.

ومرّة أُخرى: يكون التعيين لأجل تحقيق تلك المهمة وليس من وراء التعيين أي هدف امتحاني للأمة، أو للمعيّن، فلابد أن يكون الشخص المعيَّن جامعاً للصفات التي يمكن تحقيق ذلك الهدف من خلال تعيينه مع توفّر هذه الصفات فيه.

فإن عُيّن لتحقيق هدف اقتصادي فلابدّ أن تكون له خبرة واسعة في هذا الميدان وأن تكون له عقلية اقتصادية بحيث يمكن تحقيق الأهداف السامية للأمة في الحقل الاقتصادي.

وإن عُيّن في الحقل السياسي فلابد أن يكون جديراً بتحمّل هذه المسؤولية وله الكفاءات في هذا الميدان ما يُرجى تذليل الصعاب به وهكذا إن عُيّن في الجانب العسكري، أو الاجتماعي، أو التربوي.

من

وخلاصة القول: إنّه لابد أن يكون حائزاً - في الأقل - على الكفاءات المطلوبة في الميدان المعيّن فيه وإن لم يكن هو أفضل الناس من كل جانب، وهذا الرأي يلتزمه السيِّد الخوئي رحمه اللّه في أبحاثه الرجالية حين يبحث دلالة توكيل الإمام لرجل في مهمّة معيّنة، فهل التوكيل دال على جلالته ورفعة شأنه، أو وثاقته - في الأقل - أم لا تدلّ الوكالة على شيء من هذا بل غاية ما تدلّ عليه كفائته في المهمّة المعين لها، ولهذا المُلتَزم شواهد عديدة، والمختار عنده هو عدم الدلالة إلا على ما لابد من توفّره فيه لأجل أدائه المهمة.

غير أنّ دلالة تنصيب مسلم لهذه المهمة لها شأن آخر مختلف تماماً عن الحيثيتين المتقدّمتين(1).

ص: 94


1- معجم رجال الحديث، السيد الخوئي، ج 1 ص 75، وراجع بحوث في فقه الرجال وهو محاضرات للسيد علي الفاني الاصفهاني، ص 136 حول الوكالة في الأمور المهمة والخطيرة.

فخصوصيّة قضيّة سيِّد الشهداء (عليه السلام) وظرفه لا تسمحان أبداً باختيار مبعوث وفقاً لإحدى تينك الحيثيتين، بل لابد من توفّر صفات عالية فريدة في المكلّف لهذه المهمّة.

أما اختياره من بين بني هاشم، فإنّ جمعاً من هذه العائلة المباركة كانت تعوقه أسبابه الخاصة عن دخوله في حيّز إمكانية اختياره.

فمن بين شيبةٍ فاقدٍ للبصر كابن عبّاس، أو مريضٍ كمحمد بن الحنفية وعبداللّه بن جعفر ، أو صغير السن لا تكاد تنصاع له الأمة وتلقي بزمامها بين يديه، ومنهم من يحمل تلك العقيدة الإيمانية المطلوبة للتعامل مع الإمام الحسين (عليه السلام) كإمام معصوم خليفة لرسول اللّه بتنصيب من اللّه سبحانه فهو واجب الطاعة مطلقاً - والموقف يتطلب من يحمل بين جوانحه هذا المعتقد بمرتبة عالية - كما أنّ هناك من فيه خصوصية تقتضي إبقاءه مع الإمام كأبي الفضل العبّاس.

وأما اختياره دون الصحابة والوجهاء فإنّ مسلماً من البيت الهاشمي وكلّما كان المندوب من سلالة هذا البيت الطاهر، كان تأثيره في تحقيق الهدف أسرع وأوقع وقد عرفنا كم من ثورة وقعت عبر التاريخ وهزّت عروش الطواغيت من زمن بني أمية إلى يومنا هذا، كان من أسباب قوة تأثيرها كون قائدها سيّداً منتسباً للبيت الهاشمي

وهذا الأمر لا يمكن إنكار آثاره لكثرة شواهده و وضوحه حتى في مناطق غير الشيعة الإمامية.

والعرب بالخصوص يتفهمون أمر اختيار المندوب من عائلة المنتدِب ويولونه أهمية أكثر ممّا لو كان المبعوث من غير عائلته ولعلّ الأمر أوسع من دائرة العرب، فإنّ عموم المجتمعات تندفع لاحترام من ينتسب إلى من يقدسونه ويعظمونه كما يشمئزون ممّن

ص: 95

ينتسب إلى من يعادونه ويبغضونه .

نعم، الأوحدي لا يتأثر بهذا، بل يأخذ بمقاييس الشرع والعقل في هذا الأمر وسواه - وقليل ما هم -.

هذا كله مع عدم ملاحظة الصفات الخاصة المتوفرة في شخص مسلم رضوان اللّه تعالى عليه ومع عدم ملاحظة الصفات اللازم توفّرها في مبعوث الإمام (عليه السلام) لهذه القضية وفي هذه الظروف بالذات.

فقد دلّ اختيار الإمام المعصوم (عليه السلام) لمسلم رضوان اللّه تعالى عليه لأجل تحمّل أعباء السفارة إلى أهل الكوفة في ذلك الظرف العصيب، على ملكات وخصال عظيمة ونادرة توفّرت في هذا الهاشمي الربّاني، وهذا أيضاً ما فهمه الشيخ محمد حسين الاصفهاني وصاغ فهمه في أبيات جليلة تجدها في ارجوزته(1)، وكذا الذي فهمه الشيخ المامقاني وذكره في تنقيحه (2)، فلم تكن خصال مسلم ومزاياه الفريدة لتبرز واضحة ومعلنة عن رفعة صاحبها وجلالته لولا تلك السفارة الميمونة، على الرغم من كثرة بني هاشم وتوفّرهم بمحضر الإمام (عليه السلام) وتأهل جملة منهم لأمثال هذا المقام وللمراتب الرفيعة.

فالسفارة في ذلك الظرف العصيب من عمر الإسلام والأُمّة وأهل البيت من أصعب المهام وأعسرها خصوصاً إلى ذلك المجتمع الكوفي الذي عانى أمير المؤمنين (عليه السلام) منه الكثير إذ جاهد (عليه السلام) لنيل طواعيتهم له، وائتمارهم بأوامره ونواهيه، ولترسيخ مكارم الخصال فيهم ومنها التصبر على القتال والجلاد.

ولطالما اشتكى أمير المؤمنين (عليه السلام) تكاسلهم وتقاعسهم وتواكلهم. وهو مَنْ هُوَ فِي

ص: 96


1- الأنوار القدسية ص 136 وما بعدها.
2- تنقیح المقال، الشيخ عبد اللّه المامقاني، ج 3 ص 214 .

الصبر والحلم وسعة الصدر.

وأدّى التواكل والتمرّد المتواصل لأهل الكوفة على أوامر الإمام الوصي إلى أسوأ النتائج وأفدح الخسائر حتى قال لهم الإمام (عليه السلام) : «أفسدتم عليَّ رأيي بالعصيان والخذلان حتى لقد قالت قريش: إنّ ابن أبي طالب رجلٌ شجاع ولكن لا علم له بالحرب اللّه أبوهم، وهل أحدٌ منهم أشدّ لها مِراساً وأقدم فيها مقاماً منّي، لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين، وها أنا ذا قد ذرّفت على الستين ولكن لا رأي لمن لا يُطاع »(1).

و ورد فيهم غير هذا كثير بل اشتهر عنهم الغدر والخذلان فكم من حركة ثورية اعتمد قائدها على نصرة أهل الكوفة وإسنادهم فبايعوه وأعطوه العهد والميثاق ثمّ غدروا به وخذلوه وفرّوا إلى مأمنهم أو أسندوا عدوّه في مكافحته.

مثل هذه البلدة تحتاج لسفير وقائد ذي خصائص استثنائية، يتمكّن مما لا يتمكّن منه غيره بما يمتلكه من سعة صدر وبُعد نظر ومعرفة بطبائع المجتمع ويمتلك العلم والحزم إلى غيرها من الصفات المساعدة له في مثل هذه الحالة.

لقد كشف مسار الأحداث فيما بعد أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) قد اختار الرجل المناسب لهذه المهمّة الشاقة العسيرة فقد ظهر منه معتقد عظيم بالإمام وإخلاص ونزاهة وتفان في جنب اللّه سبحانه وفدائية قليلة النظير.

سيرته في الكوفة تدلّ على ديانة عظيمة تؤكّد على أنها ممّا لا مثيل لها في تلك الأيام وفي مثل ذلك الظرف مكاناً وزماناً.

ومع أنّ الظاهر من بعض المصادر، أنّ تكليف الإمام له مقتصر على استعلام الموقف الحقيقي للكوفيين والكتابة إلى الإمام (عليه السلام) بصورة ذلك الواقع مع أخذ البيعة

ص: 97


1- نهج البلاغة، السيد الرضي، الخطبة 27.

منهم للإمام، ويعجل.

غير أنه لم يتوقف عند حدود هذا التكليف بل مضى أبعد من هذا بكثير بما أدّى به تكليفه كمؤمن يشعر بالمسؤولية تجاه الأحداث الجسام الجارية في هذا البلد، ويسعى في إبراء ذمّته أمام المولى سبحانه وينصح لإمامه جُهْدَه، كما قام بالتصدّي لما يصطلح عليه في زماننا بالأمور الحسبية وهي الأمور التي تتطلب موقفاً محدداً غير أنه لم يُعلم توجّه التكليف به إلى شخص ما فإنّ مسلماً سعى بكلّ جهده ليكون في مستوى الحدث فهو يدفع بالأمور إلى اتجاه المحافظة على الوضع الذي يهيىء الأجواء للإمام ويُنجح له سعيه، امّا أنّ بعض سعيه لم تتحقق به النتائج فهذا شيء لا يعود ملامته عليه فالمرء عليه اداء تكليفه وليس عليه استحصال النتائج الملائمة فإنّ النتيجة تتحقق تبعاً لتحقق أجزاء العلّة كلّها والجزء الذي أمره بيد مسلم قد حصل وبقي ما على غيره والآخرون نكلوا وخذلوا.

الواقع أنّه لم يكن أمامه أن يفعل أكثر ممّا قام به وأنجزه وقد أدّى ما عليه، وليس على المرء أن يوفّق في مسعاه ويحقق مبتغاه، بل عليه السعي النزيه في حدود تكليفه وقدراته، والنجاح إنّما يتنجز بمطاوعة وتحقق بقية الأسباب، ومنها: وفاء أهل الكوفة بوعودهم وصدقهم فيما عاهدوا الإمام ومسلماً عليه، ولو حصل هذا لكنا اليوم نعيش في كنف دولة آل محمد، استمراراً لحال أجدادنا، وستؤول منا إلى أبناءنا.

ما ظهر من مسلم ضمن دائرة أحداث الطف من سلوك دلّ على ديانة و ورع، دلّ على التزام بأحكام الإسلام مهما كانت النتائج ولعلّ من أعظم الشواهد على هذا توقفه عن قتل ابن زياد مع شدّة حاجة القضية الحسينية إلى التخلّص من هذا الشخص الذي لا يحوي إهابه غير الخسة والجريمة والإلحاد.

ص: 98

وقد أضحى مسلم بسلوكه هذا مصداقاً لقول عمه أمير المؤمنين (عليه السلام)

«قد يرى الحُوّل القلّب وجه الحيلة ودونها مانع من أمر اللّه ونهيه فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين»(1).

الإسلام يريد القائد الكفوء للمهمة التي يُكلَّف بها بالإضافة إلى ديانته وتقواه وبهذا قامت دولة الإسلام المرضيّة .

كفاءة وديانة.

وهما متوفِّران بنسبة عالية جدّاً في مسلم، بالإضافة إلى صفات أُخرى يعزّ اجتماعها في واحد وقد اجتمعت في مسلم.

أما النجاح في المهمّة فهو موكول إلى الربّ الجليل.

ص: 99


1- نهج البلاغة، السيّد الرضى الخطبة 41 .

ص: 100

مسلم يُعلن هدف الثورة الحسينية

قال مسلم بن عقيل رائد الشهادة في ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) ، جواباً لابن زياد لما عن علّة مجيئه للكوفة وبعدما اتّهمه بتشتيت أمر أهلها وتفريق كلمتهم: «ما لهذا أتيت، ولكنّكم أظهرتم المنكر، ودفنتم المعروف، وتأمّرتم على الناس بغير رضىً منهم وحملتموهم على غير ما أمركم به اللّه وعملتم فيهم بأعمال كسرى وقيصر فأتيناهم لنأمر فيهم بالمعروف وننهى عن المنكر وندعوهم إلى حكم الكتاب والسُنّة، وكنّا أهل ذلك كما أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله»(1).

هكذا لخصّ مسلم قضية الحسين (عليه السلام) ، ومشكلة الأُمّة، في مقرّ الحكم، أمام الطاغية، وجهاز حكمه، وقادة جنده .

نحن نريد الإسلام، نريد تطبيق القرآن لم نَهْدِم مُلك كسرى وقيصر، ليظهر من المجتمع الإسلامي كسرى وقيصر .

نريد الإسلام والقرآن، وتحكيم إرادة اللّه سبحانه وتشريعاته في الأرض، والناس عبيدٌ لله، عليهم إطاعة اللّه سبحانه والانصياع لأوامره مطلقاً، وعلى الآخرين استحصال رضا الأمة في الأمور التي يرجع أمر الاختيار فيها إليها، ومن يتمرّد، يُنهى ويُدافع، وأحقّ من قام بالأمر والنهي، ذرية رسول اللّه، وحَمَلة علمه، وأولياء الأمور بعده، وأعمل الناس بشريعته، من هم مهوى الأفئدة، وملجأ المستغيث، وقد ضجّت إليهم الأمة وعجّت، إذ طال عليها ليلها، وآن الأوان لإيقاف الانهيار والدمار.

ص: 101


1- الملهوف السيّد ابن طاووس، ص 122 .

لقد واجه مسلم الطغاة بشجاعة مكتسبة عن أهل البيت النبوي، واجههم وبينه وبين الموت شعرة، لم يخنع، ولم يتنازل ، ولم يعتذر، بل صرّح بالظلامة أمامهم ونقل إليهم موقف أهل بيت النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

بِمَ أجاب ابن زياد مسلماً:

أ - واجهه بالشتيمة والسباب.

ب - أوعده أن يقتله قتلةً لم يقتلها أحد في الإسلام.

ج - واجهه بالافتراء وتلويث السمعة وسقط الكلام .

إناءٌ ينضح بما فيه.

لا تجد له كلمة شرف، ولا خصلة كريمة، ولا تصرّف ينم عن طهارة ذات، واستقامة فكر، وانتماء إلى مبدأ شريف.

ما زالت كلّ الأُمم تعظّم أهل بيت قائدها وزعيمها وصانع تأريخها وذاتها، ومَنْ في ساحة الوجود أعظم مِن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الذي وصل لنا حبلاً باللّه سبحانه بجهوده وتضحياته وإخلاصه وجعل دنيانا دار كرامة قبل أُخرانا ونشر فينا الفضائل والكرائم وميّزنا على أُمم الأرض بكل خصلة حسنة وإلى يوم الناس هذا، ليس من أُمّة في الأرض كالأُمّة الإسلامية في جوانب حُسنها، وحتى حينما تدهورت لم تبلغ في مجالات كثيرة ما بلغته الأُمم من سقوط.

مَنْ في ساحة الوجود أعظم من رسول اللّه، فمن أجدر من أهل بيته بالتكريم والتعظيم وبالرعاية والالتفات، إذ هم على نهجه، وحملة لوائه أليس لهم حق التعبير عن رأيهم، أليس - لمقام تميّزهم - لرأيهم تميّز وتقدّم على آراء غيرهم.

ص: 102

آل النبي الذين قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في حقهم: «إنّي تاركٌ فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي، فإن تمسكتم بهما لن تضلوا من بعدي»(1)

أهكذا تتعامل ساسة الأُمّة معهم؟

أهكذا تُعرِض الأُمّة عنهم وعن أقوالهم وسيرتهم؟!

لقد بلَّغ مسلم موقفهم إلى الأُمّة وإلى السلطة في موقف يُرهب صناديد الرجال، ويُدهشهم.

لقد أدّى مسلم كلّ ما عليه، ووفى لإمامه ودينه وأُمّته.

فَلَمْ يَقُم هذا القائد الهاشمي العظيم بإبلاغ رسالة الحسين (عليه السلام) إلى أهل الكوفة وبنقل صورة الأوضاع إلى سيّد الشهداء (عليه السلام) فقط.

لم يحصر نفسه ضمن حدود السفارة المباركة، إذ السفير من يحمل رأياً أو رسالة يبلغها إلى الطرف الثاني، ومن تمامية مهمته استطلاع رأي الطرف الثاني وموقفه لإبلاغه إلى مرسله .

ص: 103


1- نفحات الأزهار ، السيِّد علي الميلاني ، ج 1 ص 347 وقد تعرّض لمصادر حديث الثقلين في كتب العامة جمع منهم السيِّد علي الميلاني في كتابه نفحات الأزهار حيث خصّص له مجلّدات ثلاث، والسيد مرتضى الفيروزآبادي في فضائل الخمسة من الصحاح الستّة ج 2 ص 43، والأميني في الغدير ج 3 ص 118 ، وسلطان الواعظين في ليالي بيشاور ص 170 وقد عدّ محقّق الكتاب في هامش ص 151 بعض المصادر السُنيّة التي نقلته وهاك أسمائها: مسند أحمد، صحيح مسلم، صحيح الترمذي، المنمّقات لمحمّد البغدادي، الطبقات الكبرى لابن سعد، المطالب العالية لابن مخلّد، إحياء الميّت، الإنافة، البدور السائرة، الدرّ المنثور ، سنن الدارمي، حلية الأولياء إلى تمام 66 مصدر وقال في ختام كلامه: هذا قليلٌ من كثير، وذكره سليمان الحنفي القندوزي في ينابيع المودّة ج 1 ص 95 ، ونقل مصادره العامّية أيضاً السيد الخوئي في البيان ص 501. وراجع مائة ،منقبة لابن شاذان ص 140 .

لم يقصر مسلم نفسه على هذا العمل، بل قام بمهمّات شاقّة في تلك المنطقة الحسّاسة من نواحي العالم الإسلامي والتي تزدخر بمتناقضات المواقف والآراء والأحداث وتعيش تقلّبات مبدئية وعقيدية وسياسية بشكل دائم وسريع بحكم الأحداث الجسام التي تموج بها وتذهل أهلها لتطلّبها الموقف الحازم السريع.

ومسلم فرع من شجرة متجذِّرة في وادي المكارم وباسقة إلى عنان السماء في جميع امتداداتها.

فهو من أبي طالب جده العظيم إلى آدم، معروف النسب والمكارم.

ووالده عقیل تاريخه حافل و مشهور .

والأجواء التي تحيط به أجواء النبوة والإمامة، وأكرِم بها وكفى، فهي دالّة على توفّر كلّ شيم الخير وكلّ موادّ السعادة الأبدية في هذا المحيط.

ولذلك حينما نقرأ سيرته من حين سفارته الميمونة، نجد دقائق في سيرته تجدّد له رفعةً وتثير فينا غبطةً أن اشتملت هذه الشخصية الكريمة على أرفع المكارم ولم تهمل التفاصيل الدقيقة.

وشأن مثل هذه الشخصية دائماً وأبداً - التقديس عند سُلّاك الطريق الإلهي، والإهمال عند أهل الدنيا وعبّاد السلطة والوجاهات.

ص: 104

أهداف حركة مسلم

لا ريب أنّ هدف مسلم من حركته ونهضته، هو نفس الهدف من وراء حركة الإمام سيّد الشهداء (عليه السلام) تقريباً لتبعيّة حركته الحركة الإمام (عليه السلام) .

ولتوفّر الدواعي لذكر هذه الأهداف هنا نُجمل ذكر بعضها تاركين الاستقصاء والتوسّع لكتابنا حول الثورة الأصل - ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) -.

1 . إزاحة بني أُميّة على نحو الحصر والتعيين عن سدّة الحكم في الدولة الإسلامية، لخصوصيتهم في ريادة الكفر والكيد للإسلام، ولتجذّر الكفر والشرك في نفوسهم وهم في العداوة للإسلام وأهله كالنار تحت الرماد، فمتى تتهيأ لهم الظروف المناسبة يدمرون كلّ شيء ويوهون كلّ بناء، وقد فعلوا كلّ ما وصلت إليه يد قدرتهم من حين تولّيهم السلطة، -وقد ابتدأت سلطة بني أُميّة بتولّي عثمان للخلافة، كما ابتدأت سلطة معاوية بتولّيه لحكم الشام بتنصيب من عمر - وما توقفوا فيه، فإنّما للعجز عنه أو لعدم الالتفات إليه، وأحد أسباب عجزهم المواجهة الدموية الهائلة التي واجههم بها الإمام الوصي علي أمير المؤمنين (عليه السلام) وسبطا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الحسن و الحسين عليهما السلام وبقيّة الأئمّة أيّام خلافتهم - السجاد والباقر والصادق (عليهم السلام) ومن سار على نهج هؤلاء الأئمّة وتأثّر بتوجيهاتهم من ذريّتهم وشيعتهم -.

وهناك من قاوم بني أُميّة وإن لم يكن من تيّار أهل البيت إلّا أنه تأثّر بنهجهم في كيفيّة إدارة الصراع مع بني أُميّة، إذ استوعب الدرس من أهل البيت في أنّ بني أُميّة لا يفهمون غير لغة السيف، إذ لا يحملوا بين جوانحهم غير فكر الجاهلية وهموم الجاهلية،

ص: 105

وأين هم من أهداف الأنبياء والربانييّن.

لقد كسر الأئمّة الأبرار - الخلفاء الحقّ لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) - طوق الرعب الذي ضربه بنو اُميّة حول الأمّة التي أصابها الهلع والتذبذب والتحيّر، فالأُمّة التي حاربت مع النبي على التنزيل، بدأت تحارب مع الوصيّ وخلفائه على التأويل(1) فالقرآن والكعبة والصلاة وأحكام الإسلام باقية بأسمائها دون محتواها، قد أفرغ آل أُميّة تلك الحقائق من الذي شرعت لأجله وتركوا الأُمّة تحمل اسم الإسلام دون مضمونه.

الأُمّة تمرّدت على الأصنام وعلى زعماء مكّة لأجل اللّه، ثمّ عادت تخنع تحت نفس أولئك الزعماء بنفس الأفكار والمحتوى غير أنّ المظاهر بقيت مظاهر إسلامية.

انظر إلى هذه المحاورة بين معاوية وابن عبّاس:

يقول معاوية - بعد كلام تقدّم منه -: فإنّا قد كتبنا في الآفاق ننهى عن ذكر مناقب عليّ وأهل بيته فكُفّ لسانك .

فقال: يا معاوية أتنهانا عن قراءة القرآن ؟

قال: لا.

قال : أفتنهانا عن تأويله؟

قال: نعم.

قال: فنقرؤه ولا نسأل عمّا عنى اللّه به؟

ثم قال - ابن عبّاس - : فأيّهما أوجب علينا، قراءته أو العمل به؟

ص: 106


1- راجع مصادر الحديث النبوي في أنّ عليّاً (عليه السلام) يقاتل على التأويل كما قاتل النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على التنزيل، فضائل الخمسة من الصحاح الستّة، الفيروزآبادي، ج 2 ص 349.

قال: العمل به .

قال: فكيف نعمل به ولا نعلم ما عنى اللّه به ؟

قال - معاوية - : سَلْ عن ذلك من يتأوّله على غير ما تتأوّله أنت وأهل بيتك.

قال: إنّما أنزل اللّه القرآن على أهل بيتي، أفأسأل عنه آل أبي سفيان؟ يا معاوية، أتنهانا أن نعبد اللّه بالقرآن بما فيه من حلال وحرام، فإن لم تسأل الأُمّة عن ذلك حتى تعلم تهلك وتختلف.

قال: اقرؤوا القرآن وتأوّلوه ولا ترووا شيئاً مما أنزل اللّه فيكم، وارووا ما سوى ذلك.

قال: فإنّ اللّه يقول في القرآن: (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (1).

قال: يا ابن عبّاس، إربع على نفسك، وكُفّ لسانك ، وإن كنت لابدّ فاعلاً فليكن ذلك سرّاً، لا تُسمعه أحدٌ علانية(2).

هذا مثال والأمثلة لا تُعدّ ولا تُحصى على نهج بني أُميّة مع الأُمّة.

إنّ هدف إزاحة بني أُميّة بالخصوص له ما يبرّره لأنّ أيّة فئة تحكم فإنّما تريد الحكم لشهوة الحكم ولنيل المِتع والامتيازات التي يوفّرها لهم، وبنو أُميّة يريدون الحكم لهذا وزيادة، والزيادة هي هدم الإسلام وتحطيمه وإزاحة قوانينه من دائرة التنفيذ وإعادتها جاهلية فكراً وسلوكاً مع لزوم الإبقاء على هذه الدولة المترامية الأطراف بل والسعي

ص: 107


1- سورة التوبة، الآية 32.
2- الاحتجاج، الطبرسي، ج 2 ص 82.

لتوسعتها، إذ أصبحت هذه الدولة هي الدولة الأموية لا الدولة المحمّدية الإسلامية فهي تحقّق أهداف بني أُميّة وتبني أمجادهم وتوفّر الرفاهية لهم ولأولادهم ومن يُحسب عليهم، فكلّ شيء لم يفعله فروع الشجرة الملعونة في القرآن فلأنّهم لم يجدوا ثغرة ينفذوا من خلالها لتحقيقه، وإلّا فهم لم يتركوا حجراً على حجر في الجملة، والتواريخ المدوّنة في أيّامهم ومن أتباعهم تصرخ بجرائمهم التي لا تُعدّ ولا تنتهي، ولو أردنا تسجيل جرائم معاوية وحده لما تمكّنا من حصرها فكيف بمجموعهم.

2. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

فإنّ المَلِك الأموي، والولاة الذين يحكمون طبق أوامره وتوجيهاته ويزيدون عليها - لأنّهم يعلمون هدفه ورغباته فيسارعون في التزلّف إليه بفعلها وهذه تعتبر بنظرهم فطانة وشطارة - قد ملأوا الأرض بالظلم والمفاسد والأفعال المخالفة لنصّ الشريعة وروحها وأهدافها .

أي شيء يُريده الإسلام من الحاكم والوالي لم يتحقق في عهد بني أُميّة أصلاً أو تحقّق لكن لا بمقاييس الشريعة وشروطها، نعم تحقّق عكسه.

فالحُكم يُراد لنشر الإسلام، ولتطبيق القرآن والسُنّة، ولحفظ دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم، ولنشر الفضيلة، ولاستتباب الأمن، ولتهيئة الأجواء والأسباب لترقي المسلمين فكراً وسلوكاً وخُلقاً وكمالاً، ولتربيتهم على توجيه النظر أوّلاً إلى الحياة الآخرة مع عدم نسيان الحياة الدُّنيا ونحو هذي من الأهداف الكثيرة جداً والتي ينبغي لكلّ حكومة إلهية أن تضعها نصب عينها للخروج من عُهدة التكاليف المُناطة بها.

غير أنّ الحكم عند بني أُميّة ونحوهم، أضحى لغايات أُخرى، وعلى الحكام والولاة والقضاة والشرطة وعلماء السوء، العمل - كلٌّ من جهته وبإمكانياته - لتحقيق

ص: 108

هذه الغايات، ومنها:

أ - حكر السلطة لبني أُميّة، فهم الملوك، وهم الحكّام وهم الأُمراء، وبيدهم أزمة الأُمور، هُم ونساؤهم وذراريهم ومن يُحسب عليهم.

- فسح المجال لتمتع بني أُمية بملذات الحياة، بأقصى ما يُمكن فلا يتمنّوا شيئاً إلَّا وسُخّرت كلّ الإمكانيات التي يوفّرها الحكم لتحقيقه.

ج - أن تنهج الأمة النهج الذي يرتئيه بنو أُمية في العقيدة والفكر والسلوك وغير هذه من الغايات التي تدور في هذا الفلك مما لا مجال هنا لاستقصائه.

وقد عمل بنو أُميّة وولاتهم على تحقيق غاياتهم وأهدافهم بكل قدراتهم وإمكانياتهم فقتلوا، وصلبوا. وسملوا الأعين، وشرّدوا، وهدّموا الدور، وشتّتوا القبائل، وصادروا الأموال.

ومن أعظم ما جناه بنو أُميّة تتبعهم ذريّة النبي الأعظم محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قتلاً وتشريداً حتى جعلوا كلّ واحد منهم تحت نجم، عاشوا متخفّين، وماتوا مجهولين إلّا أن يخرج ثائراً فيستشهد في المعركة أو يبطش الكيان الحاكم به بعد إلقاء القبض عليه.

والجناية العظمى الأُخرى: إزاحة الإسلام الحقيقي عن مسرح الحياة وتضييع جهود النبي الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في ترسيخ الشريعة ونشرها وتحكيمها والارتقاء بالبشرية إلى مراتب أكمل.

3. إنقاذ الأُمّة من حالة الاستضعاف:

بعد صلح الإمام الحسن (عليه السلام) - الذي حصل نتيجة شدّة مؤامرات معاوية من جهة وتخاذل الأُمّة وتكاسلها عن مواجهته العسكرية من جهة أُخرى - أظهر معاوية

ص: 109

ما تكنّه ذاته من خبث، ونفسه من أحقاد فأشاع الإرهاب والظلم في طول البلاد الإسلامية وعرضها، وخصّ الكوفة من ظُلمه بالحصّة الأكبر، فسلّط على حواضر الإسلام وبلدانها أخسّ الولاة وأبعدهم عن الإسلام وتعاليمه، وزوّدهم بتوجيهات تقضي بتركيع الأُمّة وسلب إرادتها، وتشتيت ،جمعها وتبديد طاقاتها، وإشغالها بتوافه الأُمور، وضروريات الحياة، وإتعابها بملاحقة السلطة، حتّى عاد كلّ امرىء همّه كيف يُنقذ رقبته وما يتعلّق به من نفس وعرض ومال، كما أنّه فتح باب الرُشا لشراء الضمائر والذمم لإحكام قبضته على المجتمع فهذا يبيع دينه وضميره والتزاماته بحفنة من الدراهم والدنانير، وذاك يتخلّى عن دنياه حفظاً لدينه إلا انّه ينام في خوف ويأكل في خوف ويتجوّل في خوف لا يدري متى يُعتقل، وكيف ينجو بجلده، فلا تجد في الأُمّة غير خاسر لدينه أو خاسر الدنياه.

توجّهت الأُمّة إلى القائد الحقيقي والمنقذ الحقيقي، والذي حذّرهم مثل هذا اليوم نتيجة الإهمال والتقاعس وعدم المبالاة بأداء التكاليف الإلهية.

توجّهت الاُمّة إلى آل محمد، وكان سيِّد آل محمّد في تلك الفترة الحسين بن علي سبط رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وسيِّد شباب أهل الجنّة وأحد أصحاب الكساء وآية التطهير وآية المودّة وغيرها من الآيات والنصوص النبويّة التي لا تُحصى ولا تُستقصى، فاستصرخته و استغاثت به .

عن الإمام الباقر (عليه السلام) : «محنة الناس علينا عظيمة، إن دعوناهم لم يجيبونا، وإن تركناهم لم يهتدوا بغيرنا»(1).

فماذا يفعل الإمام وقد استصرخته الأُمّة، كما عاهدته على النهوض معه وعلى

ص: 110


1- بحار الأنوار، ج 2 ص 65 ح3 .

مؤازرته ونصرته حتى تحقيق الهدف من النهضة .

وكتاب اللّه يقول: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا)(1) .

حَزَمَ الإمام أمره، وأرسل مسلماً رائداً له، يستطلع الأوضاع وصمّم على مواجهة بني اُميّة وكسر شوكتهم واستثمار هذه الفرصة السانحة والنادرة لإنعاش الإسلام من جديد، وإعطاء الأُمّة فرصة جديدة لتغيير وضعها البائس ولاسترجاع عِزّها الذي كانت فيه أيّام النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأيام الوصي (عليهم السلام) .

إن بني اُميّة قد كفأوا الإسلام على وجهه، وعادوا بالناس القهقرى إلى جاهلية تفتقد بعض عناصر حُسن كانت في الجاهلية الأُولى، فحرّفوا عقائد الإسلام وأحكامه، وابتزّوا مقام الأوصياء وقتلوا وشردوا كلّ من يلتزم بعقيدته ولا ينصاع لتوجيه السلطة الباغية واشتروا الضمائر وسلموا المناصب لأراذل الأُمّة، فتجد أزنى ثقيف يحكم الكوفة ومن لا يُعرف له أب حتى قيل له ابن أبيه يحكم البصرة وعلى هذه الشاكلة فقِس.

أين ذهب الصحابة والتابعون وقرّاء القرآن وعلماء الأُمّة والأتقياء والمجاهدون والأبدال ؟

أخَلَتْ بلاد المسلمين من هؤلاء حتى يُولّى المغيرة وزياد وابن زياد ونحوهم الحكم في دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم ومقدساتهم.

فليحكم ضميرك يا مثقف القرن الواحد والعشرين!

ص: 111


1- سورة النساء، الآية 75.

ص: 112

مسلم يهيئ الوسائل لإمامه

كانت الكوفة - حين وصول مسلم رضوان اللّه تعالى عليه إليها - تحت إدارة الوالي الأموي النعمان بن بشير، والذي عيّنه معاوية في هذا المنصب، وأقرّه يزيد عليه.

ويظهر أنّ وجود هذا الوالي في الكوفة كان جزء السبب في هيجان أهل الكوفة، وتصاعد النشاط الثوري فيها في الفترة التي قارنت أيّام مرض معاوية وموته وصعود يزيد على دست الحكم في البلاد الإسلامية.

والسرّ في الأمر: ما أشارت إليه بعض المصادر التأريخية من أنّه ضعيف أو يتضعّف(1)، فلم يتّخذ في مواجهة الحركة الثورية الناشطة في الكوفة، ما يتناسب وروح السياسة الأموية مع الأُمّة، والمبتنية على القسوة وشدّة البطش والتنكيل والأخذ على الظنّة ،والتهمة وإخماد كلّ جذوة وإسكات كلّ صوت، وإن كان المصدر بيت النبوّة.

ومما يُنقل عنه خطبته في أهل الكوفة بعد قدوم مسلم رضوان اللّه تعالى عليه إليها وانثيال الناس عليه تبايعه:

أما بعد: فاتقوا اللّه - عباد اللّه، ولا تُسارعوا إلى الفتنة والفُرقة، فإنّ فيها يهلك الرجال، وتُسفك الدماء، وتُغتصب الأموال، إنّي لا أقاتل من لا يُقاتلني، ولا آتي على من لم يأتِ علي، ولا أُنبّه نائمكم، ولا أتحرّش بكم، ولا آخذ بالقَرْف، ولا الظنّة ولا التهمة، ولكنّكم إن أبديتم صفحتكم لي ونكثتم بيعتكم ، وخالفتم إمامكم، فواللّه الذي لا إله غيره، لأضر بنّكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولو لم يكن لي منكم ناصر، أما إنّي

ص: 113


1- الإرشاد الشيخ المفيد، ج 2 ص 42 .

أرجو أن يكون من يعرف الحقِّ منكم أكثر ممّن يُرديه الباطل.

فقام إليه عبداللّه بن مسلم بن ربيعة الحضرمي حليف بني اُميّة، فقال : إنّه لا يُصلح ما ترى إلا الغُشم، إنّ هذا الذي أنت عليه فيما بينك وبين عدوّك، رأي المستضعفين.

فقال له النعمان: أكون من المستضعفين في طاعة اللّه، أحبُّ إليّ من أن أكون من الأعزّين في معصية اللّه(1).

ومن المحتمل جدّاً أنّ معاوية قد عيّنه في منصب - والي الكوفة - لغاية محدّدة وهي تتّضح بعد بيان مقدّمة:

ان معاوية - بعدما اغتصب مقام الحكم الأوّل من الإمام الحق الحسن السبط صلوات اللّه عليه وسلامه - وكان عداؤه الأعظم متوجِّهاً إلى أهل الكوفة لأنهم مادّة جيش الإمامين علي والحسن (عليهما السلام) ، وبحكم كون الكوفة عاصمة لدولتي الإمامين فإنّها تحوي شيعتهما وقادة دولتهما وخيرة أنصارهما بالإضافة إلى الجند الذي حاربا به الطليق معاوية - صبّ غضبه الهائل على العالم الإسلامي ككلّ وعلى هذه المدينة بشكل خاص متميِّز، ومما تميزت به هذه المدينة أنه نصب لمقام الولاية فيها أقسى من عرفهم العالم الإسلامي من الولاة، وأغلظهم وأبعدهم عن مظاهر الرحمة الإنسانية والالتزامات الدينية والشيم العربية التي عُرفت حتى عند أهل الجاهلية، فقتلوا وشردوا وسجنوا وعذبوا وصادروا الممتلكات ونفوا من الأرض وبلغ الأمر أن يصرح بعض المؤرِّخين بأنّه لم يبق في الكوفة من الشيعة أحد معروف مشهور فهم بين مقتول أو مصلوب أو محبوس أو طريد أو شريد(2)، وما بقي إنسان له عُلقة بعلي وولده ومذهبه إلا وقُتل أو

ص: 114


1- الإرشاد الشيخ المفيد، ج 2 ص 41 - 42 .
2- راجع الاحتجاج، الشيخ الطبرسي، ج 2 ص 84 .

أتت عليه الفجائع والدواهي.

ويكفيك لتعرف فظاعة معاوية وشدّة القسوة التي أدار بها رحى الحكم في العالم الإسلامي أنّه لم يُعرف في أيامه خروج أحد عليه بثورة بالرغم من المظالم العظيمة التي وقعت على العالم الإسلامي ككلّ وعلى أهل البيت النبوي وأتباعهم بالخصوص .

وعلامة ثانية : انّه تمكّن من تولية ابنه المستهتر يزيد على العالم الإسلامي ورَفْعِهِ على منبر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعدما حاول بكل قواه إزاحة علي (عليه السلام) أمير المؤمنين، ووصي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومن شاد الإسلام بسيفه، ومن نزل ثلث القرآن(1) في إعلان فضله ومقاماته - عن مقام الزعامة والخلافة، ثمّ سعى بكل قوة - حتّى نجح، في إخراج سبط رسول اللّه، وابن علي وفاطمة (عليهما السلام) ، وريحانة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو من وصفه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأنه سيِّد شباب أهل الجنّة وأنّه إمام إن قام وإن قعد(2)- من مقام حكم العالم الإسلامي.

ثم يأتي بالجاهل الفاجر الكافر الذي لا يعرف من الدنيا غير اللّهو والفجور فيرفعه على منبر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ويسلّمه زمام حكم العالم الإسلامي ويسلمه دولة لا تحدّ - شرقاً وغرباً - وآل بيت النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، والصحابة والتابعيّون، والعلماء، والزهّاد، وغيرهم، من أُولي المجد والشرف، ملأُ بصره فما رعى لأحد حرمة، ولا خاف عذاب القبر، ولا سوء الحساب، ولا السعير، ففرَضَهُ على المسلمين أجمعين وما صنع مثل هذا أحدٌ قبله، بل ما فكر أحد فيه.

أقول: إنّ معاوية، بعدما نكل بالأمة، وهضم حقوقها، واستأسد عليها، وصنع بالكوفة بالخصوص أعظم ممّا صنع بالعالم الإسلامي كلّه، بواسطة زياد بن أبيه والمغيرة

ص: 115


1- راجع شواهد التنزيل ، الحاكم الحسكاني، ج 1 ص 58 ح 59 .
2- حياة الإمام الحسين (عليه السلام) الشيخ القرشي، ج 1 ص 91 ح 12 . وذكر وروده في الإتحاف بحبّ الأشراف ص 129.

بن شعبة فإنّه حاول إظهار شيء من التخفيف - نسبة عن السابق - والتقليل من نسبة الضغط والهضم للمجتمع الكوفي فعيّن لهم النعمان بن بشير الذي هو أموي النزعة والسياسة إلا أنّه معدّ لطور ثان من السياسة الأموية، وهذا الذي عرفناه، من ديدن الساسة في العالم، فإنّهم إذا أرادوا تغيير سياستهم من جهة ما، فإنّهم يعهدون بتلك الجهة إلى شخص آخر من أنصارهم، تتناسب توجّهاته وحركته مع الخطّة التي يريدون اتّخاذها وتنفيذها في تلك الجهة، وهذا هو الذي صنعه معاوية مع الكوفة حينما عيّن النعمان بن بشير والياً عليها وحينما أراد يزيد تنفيذ نظام حكم صارم دموي في الكوفة لم يعهد بالأمر إلى النعمان بل عهد بالكوفة إلى عبيد اللّه بن زياد - لعنه اللّه - لكونه الشخص المناسب في المكان المناسب للمرحلة الفعلية التي تعيشها الكوفة وذلك بنظر يزيد - لعنه اللّه - .

وهذا الإسلوب في تعيين المسؤولين وتغييرهم، نراه كثيراً ونلاحظه من مسؤولي الدول، أو المؤسسات، فالإسلوب واحد.

إلا أنّ خطأ معاوية - وهو خطأٌ كثيراً ما يقترفه الطغاة ويحصل عنه نفس النتائج، أنّه عهد إلى النعمان بعد فعل الأفاعيل بالكوفة وأهلها بحيث هدم كلّ الجسور فيما بينه وبينهم وأصبح لكثير من الناس ثارات شخصية وعقائدية مع الكيان الحاكم.

فهياً تعيين النعمان متنفساً للناس في الكوفة، فكثرت التجمّعات والتكتلات واللقاءات الثورية، وبدأت الناس تتحدّث وتعلن وتحرّض وتتفق وتراسل الإمام سيِّد الشهداء وتعاهده على النصرة وتحتّه على القدوم.

وساعد على هذا جدّاً، انشغال الدولة بمرض معاوية وهلاكه ومجيء يزيد للحكم، ولا خصائص فيه تمكِّنه من الإمساك بزمام الحكم والسيطرة على دقته كما هو الحال في

ص: 116

أبيه، ولذلك قامت عليه ثلاث ثورات في سنين ثلاث وكلّها ضخمة، وفي أعظم مراكز العالم الإسلامي: الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء، وثورة أهل المدينة، وثورة ابن الزبير في مكة.

كانت الكوفة تعيش فترة غفلة من طرف الكيان الحاكم في الجملة فاستيقظت على مسلم بين ظهرانيها، فأقبلت عليه كتهافت الفراش، وبذلك وصفهم سيِّد الشهداء (عليه السلام) في خطبته يوم الطفّ: «ولكنّكم استسرعتم إلى بيعتنا كطيرة الدبا، وتهافتم إليها كتهافت الفراش»(1).

ومسلم رائد للحسين (عليه السلام) يستعلم له وضع الكوفة وأهلها ويكتب له بمجمل حالها كي يتّخذ الإمام (عليه السلام) قراره، فرأى مسلم منهم ما اطمئنّ معه إلى صحة النهضة وانّ الأوان قد آن، فكتب مسلم إلى الإمام بالأجواء التي عاشها وبحقيقة ما يجري.

وهو إنّما كتب للإمام، بعدما أخذ البيعة له من الناس، وتوثق منهم بالمواثيق وتأكّد من إقبال الناس عليه .

ومع كلّ ما تقدّم، لم يترك مسلم الأمر حتى يحضر الإمام (عليه السلام) ويعدّ للأمر عُدّته ، بل أخذ يهيىء أسباب النهضة والنصر ويستجمع القوى:

أ - اتخذ مقرّاً منيعاً - لكون صاحبه زعيماً صالحاً موالياً، وهو المختار الذي قاد فيما بعد حركة الأخذ بثأر الإمام الشهيد (عليه السلام) -.

وحينما اقتضى الأمر - بعد مجيء ابن زياد - انتقل إلى مقرٍّ جديد أمنع وأخفى هو دار هانئ بن عروة زعيم قبيلة مِذحج .

ب - أخذ يجمع الرجال والسلاح والمال وأحاط مقر إقامته بمخيّم يحوي هؤلاء

ص: 117


1- الاحتجاج، الشيخ الطبرسي، ج 2 ص 98 .

المقاتلين المستعدّين للأنطلاق بإشارة منه للأنقضاض على الكيان المتجبّر.

ج - أخذ البيعة للإمام من الناس حتى ورد أنّه بايعه ثمانية عشر ألفاً من أهل الكوفة وهؤلاء لوحدهم جيش كامل يكفي لهدّ أركان الدولة أو في الأقلّ، هم الجمع الذي يصحّ إشعال فتيل الثورة به ومناجزة الدولة وتهيئة المجال لالتحاق بقية البلدان والأقوام بها، فينهار الكيان الحاكم.

د - لقاءاته بالناس وتهيئتهم نفسيّا، ونفخ الروح فيهم ، وإعدادهم لاستقبال الإمام السبط (عليه السلام) ، وللجهاد معه بهمّة عالية.

مسلم الذي حضر إلى الكوفة دون عُدّة وعدد لاستطلاع الأوضاع وحكايتها للإمام (عليه السلام) قد أضحى خلال أيّام متزوِّداً بالعدّة والعدد ومتهيّئاً لاستقبال الإمام بعد أن ذلّل له سُبل إنجاح الحركة.

وهذه هي الطريقة الصحيحة لانتظار الإمام، أي بتهيئة الظروف والأسباب للظهور والحضور والنصر، وقد قام مسلم بهذه المهمّة العسيرة لوحده حين كان الأمر أمره، والمسؤولية مسؤوليته خير قيام.

ولكن... ما صنعه ،مسلم ، سَبَبٌ ضِمن أسباب، وجزء العلّة، وللأسباب الأخرى أحكامها.

ص: 118

البيعة

اشارة

يجب إطاعة اللّه سبحانه وإطاعة رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، و إطاعة الإمام المعصوم (عليه السلام) المنصوب للإمامة ولزعامة وقيادة الاُمّة من اللّه ورسوله، إطاعة تامّة مطلقة لا يستثنى منها حكم ولا حالة، إلا ما صدر الترخيص بتركه أو فعله من جهتهم وإلا عُدّ المرء عاصياً ومستحقّاً للعذاب الأليم.

ومن موارد الإطاعة اللازمة، نصرة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والإمام (عليه السلام) المعصوم - المنصّب اللّه ورسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالاسم والوصف اللذين يحصران الإمامة فيه - في جهادهما وفي دفاعهما عن الإسلام والأُمّة وكذلك نصرتهما في الدفاع عن شخصيهما ضدّ كلّ خطر يتعرضان له، وكذلك في الموارد التي يأمران الفرد فيها بإظهار النصرة سواءً اقتنعنا بوجود الموجب له ظاهراً، أم لا.

فحقّ الإطاعة بشكل عام ، وحق النصرة بشكل خاص، من حقوق النبي والإمام المعصوم (عليه السلام) ، اللازم القيام بها وتأديتها من جهة الأُمّة، بدون أي قيد أو شرط، وهذا كلّه معلوم من الشريعة، بل لعله من الواضحات البديهيات.

ومع كلّ هذا لا يبقى وجه للبيعة إذ لا تقدِّم شيئاً ولا تؤخّر، ما دام حق الطاعة والنصرة ثابتاً على كل حال.

والبيعة أن يَمْسَح المبايع على يد المبايَع قاصداً العهد والعقد والميثاق معه على الولاء والطاعة وأن يقول له : أُبايعك على كتاب اللّه وسنّة رسوله ..... هذا ما كان يحصل

ص: 119

خارجاً في المجتمع الإسلامي(1)، وكانت هذه البيعة تُؤخذ من عموم الاُمّة لإعلان الولاء للخليفة الحاكم، وضماناً لعدم المشاركة في الخروج عليه في حملات عسكرية لقلب نظام الحكم أو لزعزعته ونحو هذي.

أمّا على مستوى الكتاب وسنّة النبيّ وآله الأطهار فقد ورد ذكر البيعة في الكتاب العزيز كما أخذ النبي الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) البيعة على الناس في موارد عدّة، وأخذها الإمام سيِّد الأوصياء، وكذا الإمام الحسن السبط، والإمام الحسين السبط سيِّد الشهداء.

و ورد في النصوص أنّ الإمام المهدي سيُبايع عند إعلان دعوته، وقيام دولته، عجل اللّه سبحانه ظهوره ورزقنا رضاه في ظهوره وغيبته.

قال اللّه سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا)(2).

وقال جل جلاله: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا)(3).

وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا

ص: 120


1- إذا أردت المعنى الفقهي الدقيق للبيعة فراجع: ولاية الفقيه، الشيخ المنتظري، ج1 ص 523، وراجع لإتمام الاطلاع على جوانب موضوع البيعة: تذكرة الفقهاء، العلامة الحلي، ج 9 ص 398، المرجعية والقيادة السيد كاظم الحائري ص 56 ، النظام السياسي في الإسلام، المحامي أحمد حسين يعقوب ص 69 .
2- سورة الفتح، الآية 10 .
3- سورة الفتح، الآية 18.

يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(1).

هذه تمام الآيات في البيعة، واما السنّة والسيرة فقد قدّمنا ذكر بعض منها من أخذ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبعض أوصيائه البيعة على الأُمّة في بعض الموارد ولسنا هنا في مقام استقصائها غير أنّا نجيب على تساؤل نحتمل طرحه في هذا المجال وهو: إذا كانت البيعة لا أثر لها في مواردها لوجود حقّ الطاعة التامّ المطلق من كلّ جهة اللّه ولرسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) و للإمام (عليه السلام) ، ولوجوب نصرتهم وإطاعتهم على الناس كافة دون أي استثناء، إلا ما رخصوا هم فيه.

فيم نفسّر ورودها في الكتاب والسنّة وقيام سيرة المعصومين في مواردها، وسيرة القادة السياسيين والعسكريين من المسلمين ممن تولى الخلافة والولاية والحكم أو من هو بصدد العمل للوصول إليها أو ممن يعمل للتمرّد على الدولة وشنّ الغارات على أطرافها على أخذها من الأمّة.

واضح أنّ المستفاد من الآيات المباركة هو أصل المشروعية في تلك الموارد لا لزوم الإتيان بها.

ونحن نعلم من خارج هذه الأدلّة وجوب إطاعة النبي والإمام المعصوم على كلّ حال سواء أكانت هناك بيعة في المقام أم لا.

إلا أنّ البيعة ليست بلا أثر، بل هي عقد صحيح معتبر له واقعية، وهذا ظاهر من الآية المباركة: (فإنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللّهَ يَدُ اللَّهِ فَوقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ)(2).

والذي نستفيده في المقام هو : -

ص: 121


1- سورة الممتحنة، الآية 12.
2- سورة الفتح، الآية 10 .

إنّ البيعة تفيد التأكيد في الموارد اللازمة أصلاً، بحكم وجوب إطاعة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والإمام (عليه السلام) هنا، فإذا نكث المرء بيعته مع أنّ المورد لازم الطاعة حتماً وعلى كلّ حال فقد عصى الأمر الإلهي، وترتّب على هذا العصيان عقوبته الدنيوية والأخروية، وآثاره الوضعية، كما يُعدّ ناكثاً لعهده وعقده ويترتب على هذا النكث أثره أيضاً فهنا معصيتان لكلّ منها آثار في الدنيا، وفي الآخرة.

أما في الموارد التي لا أمر للمعصوم - من نبي أو إمام - فيها ولا إلزام لكن كانت مبايعة المسلمين للمعصوم مؤدّية إلى تنجز تكليف ما على المعصوم أو على المسلمين فهنا تظهر فائدة البيعة كعلة للتنجيز ولا تؤثر التأكيد فقط ويتحمّل المرء إثماً كبيراً في نكث بيعته وقد عُدّ نكث الصفقة - الذي هو تعبير آخر عن محلّ الكلام - في بعض النصوص من كبائر الذنوب(1) وهو شامل للمقامين والفرعين - هذا والذي تقدّمه - إلا أنّ أصل البيعة في الفرع الأول لم تؤثر إلزاماً وإن أثرت عقاباً عند نكثها وتأكيداً في أصل اللزوم بخلاف الفرع الثاني حيث أفادت إلزاماً وأثرت عقاباً عند النكث.

ولا ريب أنّ البيعة عقد من العقود، والعقود لا تؤثر أثرها إن كانت مأخوذة بالإكراه فلا يجب الالتزام بمفادها في هذه الموارد.

ومن المعلوم في مذهبنا - الشيعة الإمامية - حرمة إطاعة الحكام الظالمين، وكلّ حاكم لم يقرّ المعصومون صحة ولايته على الاُمّة، ويجب خلعهم، وهذا في غير موارد التزاحم أو موارد الضرورة التي تسمح بالإبقاء عليهم رعاية لعناوين أخرى كما هو مبحوث في محلّه من الفقه الإسلامي المبارك.

وكما أنّه من المعروف عند الإمامية أن أمير المؤمنين (عليه السلام) طلب معونة المسلمين بعد

ص: 122


1- بحار الأنوار، الشيخ محمد باقر المجلسي، ج 27 ص 68 .

يوم السقيفة مع حصول البيعة منهم لصاحبها ولم يُبالِ الإمام بتلك البيعة مع حراجة الموقف في تلك الفترة إلا أنّه (عليه السلام) لم يكن قد بايع بعد - على فرض مبايعته (عليه السلام) فيما بعد، وقد نفى الشيخ المفيد هذا الأمر بشدّة(1)-.

نعم التزم الحسنان بعقد الصلح مع معاوية فلم يستجيبا لكتب أهل الكوفة من بعد الصلح إلى سنة ستّين للهجرة وكان جواب الإمام المظلوم سيّد الشهداء (عليه السلام) أنه مع حياة معاوية فلا تحرّك، وبعده فإنّه سيرى رأيه : «فالصقوا رحمكم اللّه بالأرض واكمنوا في البيوت واحترسوا من الظنّة ما دام معاوية حيّاً فإن يُحدث اللّه به حدثاً وأنا حيّ كتبت إليكم برأيي والسلام»(2)

لكنّ هذا التزام بعقد الصلح لا بالبيعة وهما متغايران.

نعم وردت نصوص على صدور البيعة من المعصومين (عليهم السلام) وأن بيعتهم هذه وإن كان صدورها تحت ظروف لا يخفى حالها على أحد، وأنهم عليهم السلام بايعوا والسيوف تقطر دماً، بحيث أنّهم بايعوا وما تُركوا، بل استشهدوا واحداً بعد واحد، وهذا الجواد قُتل وعمره خمس وعشرون عاماً والعسكري وعمره ثمان وعشرون عاماً، إلا أنّهم مع ذلك التزموا بمضمون البيعة - والتوجيه :

أنّ لمقامهم مدخلية في الوفاء بالبيعة، وإن أُخذت منهم تحت تلك الظروف المهولة.

وقد ورد عن المهدي (عليه السلام) إمام عصر إمام عصرنا : «إنّه لم يكن أحد من آبائي إلا وقد وقعت في عنقه بيعة لطاغية زمانه وإنّي أخرج حين أخرج ولا بيعة لأحد من الطواغيت في

ص: 123


1- الفصول المختارة، السيد المرتضى، ص 56 .
2- حياة الإمام الحسين (عليه السلام) الشيخ القرشي ، ج 2 ص 230 .

عنقی»(1).

يبقى أمرٌ مهمّ :

وهو أنّ البيعة كان لها أثر كبير ديني ونفسي في ربط المرء بما بايع عليه وفي إظهار التزامه بمضمون البيعة، ولذلك كان الاهتمام بها ظاهراً، وإن لم يهتمّ بها أمير المؤمنين (عليه السلام) ذلك الاهتمام فتلك النفس الكبيرة العظيمة التي أذهلت الدنيا في كل سلوكياتها لم تحرص على أخذ البيعة من ألدّ الأعداء، فقد عُرف عن جمع تركهم لمبايعة الإمام الوصي (عليه السلام) بعد أن بايعته الأُمّة جمعاء - غير معاوية ومن تحت إمرته - وبايعه المهاجرون والأنصار والبدريّون وأصحاب بيعة الرضوان لم يتخلّف منهم أحد بل فرحت الأمة بخلافته وبيعته فرحة لم تحصل لأحد حتّى عبّر عنها الإمام (عليه السلام) : «وبلغ من سرور الناس ببيعتهم إيّاي أن ابتهج بها الصغير وهدج إليها الكبير وتحامل نحوها العليل وحسرت إليها الكِعاب»(2).

هكذا كانت بيعته ومع ذلك تركها سعد بن أبي وقّاص وأُسامة بن زيد وبعض آخر، كما أعرض الإمام عن مبايعة مروان بن الحكم له بعد يوم الجمل وقال فيه : «أولم يبايعني بعد قتل عثمان؟ لا حاجة لي في بيعته، إنها كفٌّ يهودية لو بايعني بكفّه، لغَدَرَ بِسُبّته»(3).

مبايعة الكوفة المسلم:

من جملة ما هيّأه مسلم للإمام القائد الحسين (عليه السلام) هو أخذه البيعة من أهل الكوفة

ص: 124


1- الاحتجاج ، الشيخ الطبرسي، ج 2 ص 545 .
2- نهج البلاغة ، السيّد الرضي، الخطبة 229.
3- نهج البلاغة، الخطبة 73.

وهي تدلّ على التزامهم بنصرة الإمام (عليه السلام) ومعاضدته في مسيرته التي اعتزم القيام بها بعدما كاتبوه قرابة العشرين عاماً لأجلها.

وبأخذ مسلم البيعة منهم، وبجمعه للرجال والمال والسلاح حتّى بلغ عدد المتهيّئين منهم قرابة الأربعة آلاف مقاتل، وغيرها من جلائل الأعمال التي قام بها عند قدومه يكون مسلماً قد وطّد الأمر للإمام السبط (عليه السلام) وأحسن إدارة الأمر فلم يكتفِ بمجرّد استطلاع أوضاع الكوفة والكتابة للإمام (عليه السلام) بحقيقة الحال بل عمل على تهيئة الظرف الأحسن لاستقبال الإمام (عليه السلام) .

والأُمور تُقاس بظرفها الفعلي ولا تُقاس بنتائجها إذ أنّ النتائج من الغيب ولا يعلمه إلا اللّه سبحانه، ومن آتاه اللّه من علمه، والإمام الحسين (عليه السلام) كان يعلم بحقيقة الحال، ومجريات الأحداث، علم مستفاد عن جدّه الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلا أن عليه (عليه السلام) أن يجري وفق السياقات الطبيعية في التعامل مع الأمّة ، فإنّ الأمة إذا أظهرت البيعة والتأييد فعلى الإمام (عليه السلام) قيادة الوضع إلى تحقيق أهداف الإسلام الكبرى، وهكذا فعل النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، مع العلم أن أحداثاً وغزوات متعدّدة، هرب فيها الصحابة كأحُد وحنين، وخيبر - عند بعث أبي بكر وعمر - وغزوات أُخرى نص عليها المؤرِّخون وكُتّاب السيرة، ولم يؤثّر هذا في مسيرة النبي الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

وهكذا - أيضاً - صنع الإمام سيِّد الأوصياء (عليه السلام) حينما بايعه الناس بعد هلاك عثمان مع علمه - بتعليم من النبي الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) - بظهور طوائف الناكثين والقاسطين والمارقين(1) ضدّه، وهكذا أبو محمّد الحسن السبط (عليه السلام) ، والحسين (عليه السلام) على نهجهم

ص: 125


1- - فضائل الخمسة، السيّد الفيروزآبادي، ج 2 ص 358 فقد نقل روايات عن النبي الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في أنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أمر عليّاً أمير المؤمنين (عليه السلام) بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين، عن كتب العامّة، منها تحديث أبي أيوب الأنصاري في خلافة عمر بأنّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أمر عليّاً (عليه السلام) بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين.

وسيرتهم في العمل وقيادة الأُمّة.

ومع أنه يجب على الأمّة إطاعة الحسين (عليه السلام) على كل حال.

ومع أنّها كاتبته قرابة العشرين عاماً.

ومع أنّها كتبت إليه آلاف الرسائل بعد هلاك معاوية تطلب قدومه.

ومع أنها بايعت سفيره مسلماً وعاهدته على النصرة.

فإنّها خذلته وخذلت سفيره إذ أسلمته إلى العدوّ الأكبر - ابن زياد - ثمّ تحرّكت على الإمام الشهيد (عليه السلام) ، فشاركت في ذبحه بشكل أو بآخر، فكفأت الإسلام على وجهه، و شربت كأس السمّ إلى آخر قطرة، ولا يزال العذاب المختلف أشكاله وأنحاؤه يصبّ عليها صبّاً، ولعذاب الآخرة أخزى.

ص: 126

الإيمان قيد الفتك

اشارة

سنحت لمسلم بن عقیل رضوان اللّه تعالى عليه فرصة لا تقدّر بثمن، لقتل عبيداللّه بن زياد، إلا أنّ مسلماً ترك ابن زياد يفلت دون أن يخدشه خدشة.

وكان لقتل ابن زياد - لو تمّ - أن يقلب مسار الأحداث كلّها رأساً على عقب، ويُغيّر مصير الاُمّة وإمامها، ويقصم ظهر الدولة الأُموية التي اعتمدت على هذا الشخص لإعادة الاستقرار في الكوفة لصالحها.

والحجّة التي استند إليها مسلم لترك ابن زياد يفلت من قفص الأسر ومن مصيره المحتوم الذي كان بينه وبينه قاب قوسين أو أدنى هي رواية عن النبي الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) تمنع من القتل بهذه الوسيلة.

خلاصة الحادثة :

شريك بن الأعور شخصية إسلامية مهمة في المجتمع يومذاك - وهو شيعي مُتَسَتِّر - حضر من البصرة إلى الكوفة بمعيّة ابن زياد وقد تمارض في طريق البصرة ليعرقل مسيرة ابن زياد حتى يدخلها الإمام الحسين (عليه السلام) ، وحاول اغتيال ابن زياد في الطريق، ولم تُساعده الفرص(1).

مرض مرضاً شديداً بعد وصوله الكوفة - وكان قد حلَّ في دار هانئ.

بلغ ابن زياد خبر مرض شريك فأرسل إليه من يُبلغه بعزمه على زيارته، فانتهز

ص: 127


1- إبصار العين، الشيخ محمد السماوي، ص6 وراجع ص 45 أيضاً.

شريك الفرصة، وحاول الاتفاق مع هانئ ومسلم على اغتيال ابن زياد عند حضوره، وأن يتولّى مسلمٌ المهمّة بنفسه عند إشارة شريك.

حضر ابن زياد، وتهيأت الفرصة، وأصدر شريك الإشارة المتّفق عليها، ولم يخرج مسلم من مكمنه لاغتيال ابن زياد وتكرّرت الإشارة حتى فطن ابن زياد إلى أنّ هناك ما يقتضي خروجه فأسرع بالخروج.

وسُئل مسلم عن السرّ في عدم خروجه وتنفيذ ما اتفق عليه في ابن زياد فكان من ضمن جوابه أنّه ورد عن النبي الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قوله : «الإيمان قيد الفتك»(1)

فلا مجال إذن لاغتيال ابن زياد وللفتك به وأخذه على حين غرّة وغفلة.

لماذا يا مسلم؟

أهذا السبب وهذه الرواية، العلّة الحقيقية وراء التوقف عن إزاحة أعظم حجر عثرة في طريق الحركة الحسينيّة ؟

أم أنّ هناك أسباب أُخرى شكّلت بمجموعها العلّة التامّة للتوقّف.

وهل هذا الحديث الشريف صادر عن النبي الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؟

رواية - الإيمان قيد الفتك - :

في مرسلة أبي الصباح الكناني : قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) إنّ لنا جاراً من همدان يُقال له الجعد بن عبد اللّه يسبّ أمير المؤمنين (عليه السلام) ، أفتأذن لي أن أقتله ؟

ص: 128


1- بحار الأنوار، الشيخ المجلسي ، ج 45 ص 97 وسيأتيك سرد مصادر أُخرى لها. وفي لفظ القندوزي الحنفي لا إيمان لِمَن قتل مسلماً فراجع ينابيع المودّة، ج 3 ص 57 .

قال: «إنّ الإسلام قيد الفتك، ولكن دعه فستكفى بغيرك»(1).

وعن أبي جعفر الثاني: «وإيّاك والفتك، فإنّ الإسلام قد قيّد الفتك»(2).

وما رواه السيد المرتضى عن مسلم أنّه اعتذر عن عدم قتل ابن زياد بأنّ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «إنّ الإيمان قيد الفتك»(3).

ونقلها أبو الفرج في المقاتل عنه عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إنّ الإيمان قيد الفتك فلا يفتك مؤمن»(4)

والحديث نفسه رواه أبو داود في سننه عن أبي هريرة(5).

فهذه الرواية موجودة في كتب المقاتل، بل في كتب العامة والخاصّة غير أنّ المفيد في

ص: 129


1- بحار الأنوار، ج 47 ص 137 ونقل صاحب وسائل الشيعة هذه الرواية باختلاف في العبارة فراجع الوسائل ج 29 ب 22 من أبواب ديّات النفس ح1 . إذ صاحب الوسائل نقلها عن الكافي ج 7 باب النوادر من كتاب الديات ح 16 ، وصاحب البحار نقلها عن المناقب ج 3 ص 364 وهي في حقيقتها رواية واحدة عن أبي الصباح الكناني إلّا أنّها تختلف في اللفظ والتفاصيل بحسب ما في الكتابين - وما نقلناه في المتن نصفه الأول من رواية البحار ، غير أن نصّ الكافي أهم لاشتماله على قرينة توضح المقصود من الفتك . إذ فيها قول الراوي للإمام: لِئن أذِنت لي فيه لأرصدته فإذا صار فيها اقتحمت عليه بسيفي فخبطته حتى أقتله. قال: فقال: يا أبا الصباح، هذا الفتك وقد نهى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن الفتك، يا أبا الصباح إن الإسلام قيد الفتك ولكن دعه فَستُكفى بغيرك... إلى آخر الرواية.
2- موسوعة الإمام الجواد (عليه السلام) ج 2 ص 124 عن رجال الكشي.
3- بحار الأنوار، ج 45 ص 97 عن تنزيه الأنبياء للسيّد المرتضى.
4- بحار الأنوار، ج 44 ص 344.
5- بحار الأنوار ، ج 44 ص 344 الهامش 1 وهذه الرواية نقلتها مصادر عدة فراجع حياة الإمام الحسين (عليه السلام) للقرشي ج 2 ص 365 و مسلم رضوان اللّه تعالى عليه للسيّد المقرّم ص194 ، ونصّ أبي الفرج منقول عن الفتوح لابن أعثم ج 5 ص 73 بحذف فاء - فلا - على ما في كتاب مبعوث الحسين ص 150 ، وراجع أيضاً: مقتل الحسين (عليه السلام) للمقرم ص 153.

الإرشاد وابن طاووس في الملهوف لم يتعرّضا لأصل القصّة وللرواية حين سردا أحداث الطف وهو أمر ملفت للنظر.

وتعرّض السيّد المرتضى في - تنزيه الأنبياء - لهذه الواقعة من خلال بيانه: إنّ أسباب ظَفَرِه - سيد الشهداء (عليه السلام) - بالأعداء كانت لائحة - فذكر هذا الحديث، وهذه الحادثة، وقال -:

ولو كان فَعَلَ مسلم من قتل ابن زياد ما تمكّن منه، ووافقه شريك عليه، لبطل الأمر ودخل الحسين (عليه السلام) الكوفة غير مُدافَع عنها وحسر كلّ أحد قناعه في نصرته واجتمع له من كان في قلبه نصرته وظاهره مع أعدائه(1).

وتعرّض لهذا المطلب أيضاً الشهيد المطهري على ما في الملحمة الحسينية(2) والمقرّم في كتابه عن مسلم(3) و في مقتل الحسين (عليه السلام) (4)، والشيخ باقر القرشي في حياة الحسين (عليه السلام) (5) و محمد علي عابدين في مبعوث الحسين (عليه السلام) (6).

و ورد أن معاوية دخل على عائشة، فقالت له: أما خِفتَ أن أُقعد لك رجلاً يقتلك ؟

فقال: ما كنت لتفعليه وأنا في بيت أمان وقد سمعت النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول - يعني : الإيمان قيد الفتك - كيف أنا في الذي بيني وبينك وفي حوائجك؟

قالت: صالح .

ص: 130


1- بحار الأنوار، ج 45 ص 97 .
2- الملحمة الحسينية، الشيخ المطهري، ج 3 ص 116 .
3- مسلم، السيد المقرم، ص 194.
4- مقتل الحسين (عليه السلام) ، السيد المقرم، ص 153.
5- حياة الامام الحسين (عليه السلام) ، الشيخ القرشي ، ج 2 ص 365 .
6- مبعوث الحسين، محمد علي عابدين، ص 149 .

قال: فدعينا وإياهم حتى نلقى ربّنا عزّوجلّ(1).

ومن الواضح أنّ معاوية لم يستشهد بالرواية وإنّما أشار إليها كما فهمه شارحها ولعلّه أحمد صاحب المسند.

ثمّ إنّ الشيخ الأميني صاحب الغدير - والذي نقل الرواية المتقدمة - لم يعترض على تطبيق الفتك على هذا المورد، فيظهر ارتضاؤه له، كما أنّه أثبت مضمون الرواية - الإيمان قيد الفتك - فانظر ما قال: أما كان لعائشة أن تُفحم الرجل بأنّ الإيمان لو كان قيّد الفتك - وهو قيد الفتك - فلماذا لم يقيّده؟ وقد فتك بآلاف من وجوه المؤمنين، وأعيان الأمة المسلمة، ولم يأمن من فتكه أهل حرم أمن اللّه - مكة - ولا مجاوروا بيت أمانه - المدينة(2) - .

النتيجة :

إن مسلماً امتنع من قتل ابن زياد في دار هانئ والأسباب المذكورة لهذا الامتناع:

1. قول رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «الإيمان قيد الفتك».

أو الإسلام، على اختلاف الروايات.

2. انّ هانئاً منع مسلماً من قتل ابن زياد في داره(3).

3. انّ امرأة هاني منعت مسلماً من قتل ابن زياد في دار هاني(4).

ص: 131


1- الغدير ج 10 ص 485 ، عن مسند أحمد ج 4 ص 92 .
2- الغدير ، ج 10 ص 486 .
3- حياة الإمام الحسين (عليه السلام) الشيخ القرشي، ج 2 ص 362 ، ص 365.
4- مسلم، السيّد عبد الرزاق المقرم، ص 94 .

4. انّ مسلماً لم يحبّ قتل ابن زياد(1).

فإن كان السبب الأوّل هو علة الامتناع، فلأنّ ابن زياد قد أرسل إلى شريك أنّه يريد زيارته، وحضر فعلاً، فحصوله في دار هانئ لأجل أمثال هذه الغاية وفي ضمن تلك الأجواء والتقاليد فيه تأمين عُرْفيّ، فامتنع مسلمٌ من قتله لانطباق الرواية على هذا المورد.

وإن كان للسببين الثاني والثالث، فقد احترم مسلم إرادتهما، لأنّ البيت لهما، والموقع موقع عشيرتهما، وهانئ زعيم العشيرة، وقتل ابن زياد سيجرّ العشيرة إلى فاجعة كبرى، إذ تتعرّض إلى مواجهة شاملة مع أتباع ابن زياد وحرسه ومع جيش الشام الذي سيحضر بلا شكّ لإخماد ثورة الأهالي ضدّ السلطة والأخذ بثأر ابن زياد.

كما أنّه يحتمل أن يَلحق بالعشيرة عار لقتلها الضيف - وهو ابن زياد - «وذلك بحسب حسابات هانئ وزوجته إن كان تمنّعهما لأجل هذه السنن وأمثالها» وهذه السُنّة وأمثالها ممّا تراعيها القبائل العربية أشدّ المراعاة.

ونحن وإن كنا نتوقّف عن استحقاق هذه المسائل للمراعاة لأنّ لولي الأمر وهو الإمام المعصوم ومن ينوب عنه ملاحظة جهات المصلحة والمفسدة والتصرّف وفق العناوين الأوليّة والثانوية لمراعاة مصالح الإسلام العليا وأهدافه الكبرى فكان من حقّ مسلم أن يخالف رغبة هانئ وزوجته ويقتل ابن زياد مهما كانت النتائج المترتبة لتوقف حفظ الإمام الحسين وتحقيق أهدافه واستمرار مسيرته على قتل هذا الطاغوت، وأما رغبة هاني وزوجته وحرمة دارهما ونحو هذا فإنّ الإمام المعصوم أولى بكلّ إنسان من نفسه، وما يتعلّق به بنص حديث الغدير الذي نص فيه النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على أنه «مَنْ كنت

ص: 132


1- إبصار العين الشيخ محمد السماوي، ص 43 .

مولاه فهذا عليٌّ مولاه»(1)

وهذا التنصيب جار لبقية الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) بحكم الأدلّة الأُخرى المبينة لمشاركة الأئمة بعضهم لبعض في مجموعة من الخصائص والمناصب وتميّز بعضهم عن بعض بخصائص أُخرى، وليس هنا محلّ التفصيل، ولعدم القول بالفصل.

إلا أنه يمكن أن يقال إنّ الإمام المعصوم - ومن يقوم مقامه في بعض المهمّات والمناصب - لم يُعمل صلاحياته في هذا الميدان لعدم تبلور هذه المفاهيم في المجتمع الإسلامي وعند الشيعة أيضاً فلذا اضطرّ مسلمٌ رضوان اللّه - تبارك وتعالى - عليه إلى ترك ابن زياد، وعدم قتله مراعاةً لهذه الأمور، والتي هي من الأمور القاهرة في تلك الأيّام.

وهذا كلّه من التوسّع في البحث، ومن باب تكثير الافتراضات - الواردة تاريخياً بطبيعة الحال - والتأمل في وجهها والجواب عن الإشكالات الواردة بسببها لو صحت، إلا أنّ الكلام - كلّ الكلام - في تحليل رواية - الإيمان قيد الفتك - وتوجيه انطباقها على المقام، وقد قدّمنا الوجه فيه، أسأل المولى سبحانه التسديد فيه، والعفو عن كلّ زلل.

ص: 133


1- حديث الغدير العظيم، ألّف فيه العلامة الكبير الشيخ عبد الحسين الأميني موسوعة الغدير. في أحد عشر مجلّداً استقصى فيه رواته من الصحابة والتابعين والعلماء عبر القرون، وأسماء مؤلّفات فيه فراجع ج1 منه ص 26 - 27 إذ سرد إجمالاً أسماء المؤرِّخين والمحدّثين الذين ذكروا واقعة الغدير وحديثها، بل راجع المجلد الأوّل بعمومه لفائدته التي لا يمكن الاستغناء عنها. وراجع لحديث الغدير أيضاً - فإنّه من أهم الأحاديث، ويومه من أهم الأيام في تاريخ الإسلام. نفحات الأزهار السيّد علي الميلاني، ج6 - 9 ، وراجع فضائل الخمسة ، ج 1 ص 349 .

ص: 134

مسلم يُشعل فتيل الثورة

لم يكن من المقرّر أن يبادر مسلم بإعلان الثورة، بل كان عليه استطلاع الأوضاع، والكتابة إلى الإمام (عليه السلام) بشأنها، وتهيئة الأجواء لاستقبال الإمام (عليه السلام) ، وهو الذي يقرّر طريقة العمل بعد وصوله إلى الكوفة، ويشرف ميدانياً على حركة الجمع الثائر .

ولكن مسلماً أشعل فتيلها للإمساك بزمام الأمور قبل أن تفلت نهائياً ولمّا يحضر الإمام السبط (عليه السلام) ، القائد الأصيل والحقيقي للثورة.

والذي غيّر مجرى الأحداث: حصول ابن زياد على خبر مكان اختفاء مسلم في الكوفة.

فقد سخّر ابن زياد جاسوساً من أتباعه، ليحصل له على هذه النتيجة.

فتفنّن الجاسوس في طريقة التوصل إلى معرفة المكان، وذلك بالاتّصال برجال من الشيعة وتوثيق نفسه لديهم، والتمويه عليهم بأنه من محبّي آل بيت النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وانّه يحمل مالاً لمسلم يسند به ثورته على أن يلتقيه شخصياً فيُسلّمه المال وهكذا كان.

فعرف مكان مسلم وأبلغ ابن زياد أنّ سكنى مسلم رضوان اللّه تعالى عليه في دار هانئ بن عروة.

بعث ابن زياد إلى هانئ، وواجهه بالجاسوس، فأسقط في يد هاني، إذ لا يستطيع بعد هذا إنكاراً.

إلّا أنه رفض رفضاً قاطعاً تسليم مسلم إلى ابن زياد، نعم، أن يُخرجه من داره فهذا

ص: 135

ممكن، أمّا أنْ يُسلّمه إلى التعذيب والقتل وهو ضيفه فهذا المستحيل بعينه، وإن ترتبت عليه العواقب الوخيمة .

عُذّب هانئ التعذيب الشديد، وأُلقي به في السجن .

لقد انكشف محلّ اختفاء مسلم لابن زیاد .

و من قبل قد انكشفت أهداف وجوده في الكوفة.

وابن زياد هو من يُعرف بالدموية والجبروت.

وقد اعتقل الشخص الذي هو من قادة جنده - أي جند مسلم - وزعيم قبيلة عظيمة، ومن هو مقيم في داره.

واعتقاله كان بسببه، ولعلّه يُقتل .

فوجوده - مسلم - أصبح في خطر فقد يتعرّض للاعتقال وللقتل.

والأسباب التي هيئها مهدّدة بالانفراط.

والناس المُبايعة مُعرّضة للاعتقال والتعذيب وللتشتّت في الأقلّ.

والحركة الحسينيّة كلّها أصبحت في معرض الخطر والانطفاء.

والإمام السبط نفسه في خطر، فهو مطلوب للسلطة التي تريد قتله بأيّة وسيلة .

البناء المحمّدي كله في خطر.

سينهار كلّ شيء، بسبب غير متوقّع وغير محسوب.

وعشيرة هانئ، هل ستهدأ لو قتل زعيمها ؟

ص: 136

أم ستنقلب على مسلم وتُلقي عليه اللوم لأنّه سبّب الكارثة؟

فهذه العشيرة المتهيئة لنصرة الإمام (عليه السلام) ستكون معارضة لحركة الإمام (عليه السلام) أو خاذلة ما دام الحال هكذا.

لابدّ من عمل شيء يوقف الانهيار.

ما من حلِّ غير إعلان الثورة والإمساك بزمام الأمور قبل أن تفلت نهائياً .

إنّ ترك الأمور تجري كيفما اتفق وتحمّل عواقبها ، قد يؤدّي إلى نتائج غير مرضيّة إطلاقاً.

منها : أن يشنّ ابن زياد هجوماً مباغتاً على مساكن عشيرة هانئ لاعتقال مسلم رضوان اللّه تعالى عليه، وهذا يستلزم لحوق تدمير واسع النطاق بعشيرة هانئ وممتلكاتها، وقد يعرّضهم هذا الهجوم للإبادة، ولمختلف ألوان البطش الأموية، كالاعتقال والقتل ومصادرة الممتلكات وهدم البيوت والتهجير ، والمعروف عن بني أميّة عدم تورّعهم عن شيء بما فيه بيع نساء المسلمين في الأسواق واستباحتهنّ، كما صنع بسر بن ارطأة أيّام معاوية بأهل اليمن المسلمين المؤمنين.

ومنها : أن يؤدّي ضغط السلطة المتجبّرة ببعض أفراد عشيرة هاني إلى تسليم مسلم إلى ابن زياد، وفيه الخطر العظيم على مسلم وحركته ومن يرتبط به، كما به إلحاق العار بعشيرة هانئ، وتفتّت جيش مسلم ، ووقوع الفتنة بين أنصاره.

فلم يكن أمام مسلم إلّا احتمال أقلّ ما يُمكن من الخسائر، واستباق الأحداث بإعلان الثورة، وكفّ يد السلطة لحين قدوم الإمام (عليه السلام) .

وهكذا كان.

ص: 137

ص: 138

لِمَ استعجل مسلم المواجهة؟

قد يُستشكل، ويُثار تساؤل على أنّ المهمة المبعوث مسلم إليها، هي استطلاع أحوال الكوفة وإبلاغ الإمام بالحال كي يتّخذ الإمام القرار المناسب، فلِمَ وَسَّعَ مسلم رضوان اللّه تعالى عليه ساحة عمله، واتّخذ مواقف متعدّدة، آخرها وأعظمها إعلان الثورة، واحتلال الكوفة، والدخول في المواجهة المباشرة مع النظام الفاسد.

وقد يُستشهد لانحصار مهمته في مساحة ضيّقة ببعض النصوص الروائية والتأريخية، منها على سبيل المثال:

ما عن الشيخ المفيد رحمه اللّه :

إنّ سيّد الشهداء (عليه السلام) كتب إلى أهل الكوفة كتاباً أرسله مع مسلم رضوان اللّه تعالى عليه حين بعثه إليهم: «وإنّي باعث إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي فإن كتب إليّ أنّه قد اجتمع رأي ملئكم وذوي الحجا والفضل منكم على مثل ما قدِمت به رسلكم وقرأتُ في كتبكم أقدِم عليكم وشيكاً إن شاء اللّه» .

قال المفيد : ودعا الحسين بن علي عليهما السلام مسلم بن عقيل بن أبي طالب رضوان اللّه تعالى عليه فسرّحه مع قيس بن مسهّر الصيداوي، وعمارة بن عبيد السلولي وعبدالرحمن بن عبداللّه الأرحبي وأمره بتقوى اللّه وكتمان أمره واللطف فإن رأى الناس مجتمعين مستوسقين عجّل إليه بذلك(1).

ص: 139


1- الإرشاد الشيخ المفيد، ج 2 ص 39.

وقال أيضاً: وقدّم أمامه ابن عمه مسلم بن عقیل رضوان اللّه تعالى عليه وأرضاه للدعوة إلى اللّه والبيعة له على الجهاد(1).

فلا يظهر من كلام المفيد أنّ هناك أمر من الإمام (عليه السلام) بالقتال بل عليه استعلام الوضع وأخذ البيعة والكتابة إلى الإمام (عليه السلام) بحقيقة الحال.

ويُمكن أن يُجاب:

بأنّ النصوص التأريخية لا يمكن لها أن تنهض ببيان جميع ما اتفق عليه بين الإمام (عليه السلام) و مسلم، إذ لعلّ هناك وسائل أُخرى، أو أوامر وبيانات شفهية مباشرة من الإمام (عليه السلام) إلى مسلم قبل سفره، أو بعد سفره بواسطة ثقات ونحو هذه.

إذ لا يُعقل أن الإمام (عليه السلام) اختصر مراده وتوجيهه لمسلم بما ذكرته النصوص التأريخية فمسلم عاش دهره في بيت الإمام (عليه السلام) ووعى التشريع بكلّياته وجزئياته من خلال المعايشة اليومية مع الأئمة الأطهار (عليه السلام) كما عاش الأحداث بالتفصيل، ووعى كيفيّة معالجة الأئمّة للأحداث ووجهة تصريفهم لها بما يناسب التشريع والمصالح.

فهو خزانة علم يحمل بين جوانحه الكثير من العلم والتجارب والإحساس بالمسؤولية والمعاناة فهو يُمكن له أن يباشر بعض المهام ويعالجها بما اختزنه طيلة هذه السنين.

وثانياً : إنّ بعض توضيحات الإمام (عليه السلام) له، يمكن أن لا تصلنا تأريخياً للزوم التكتم في هذه الإرشادات والبيانات والتوجيهات، كما هو الحال في مثل هذه المهمّات ومثل هذه الظروف، ثمّ تذهب هذه الأسرار والبيانات مع صاحبها إلى العالم الآخر وتبقى الأمور مبهمة تأريخياً، حتى يوضحها أحد المعصومين، أو تبقى سرّاً من الأسرار.

ص: 140


1- الإرشاد الشيخ المفيد، ج 2 ص 31.

وثالثاً: على مسلم الالتزام بما في الرسالة بالإضافة إلى أوامر الإمام (عليه السلام) الشفهية والمتتابعة إليه أيضاً عبر السفراء الآخرين.

إلّا أنّه - بحكم علمه وتديّنه وتقواه - يلزم عليه القيام بتكاليف أُخرى دينية أو إنسانية بحسب متطلّبات الظروف ومستجدات الأحداث.

الكوفة كانت تعيش غلياناً وأحداثاً مصيرية متسارعة، هلك معاوية وقام يزيد مكانه، فقبل أن يلتقط يزيد أنفاسه الأمور، ويدرك وجهة الأحداث، لابدّ من عمل شيء سريع يقصم ظهره، ويشغله بجراحه، فعلى رئيس القوم أن يدير دفّة الأحداث ويوجّه جمهور الاُمّة وزعمائها لما فيه لمّ الشمل وحفظ النظام وإعداد العدة للمواجهة ومشاغلة السلطة إلى حين تسديد الضربة القاضية.

الكوفة مقبلة على حدث عظيم وهو قدوم سبط رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إليها لقيادة أهلها إلى ما به إحداث زلزال في كيان السلطة الحاكمة وإيقاظ الأمة في عموم العالم الإسلامي وما به إنهاء مأساة البشرية المعذّبة المنهكة والإجهاز على البغاة المرتدين المجرمين، فكيف يمكن ترك الكوفة تجري فيها الأحداث كيف اتّفق وبدون توجيه مركزي ودون السيطرة على الدفّة فيها خصوصاً بعدما كتب مسلم إلى الإمام (عليه السلام) بالقدوم.

حاول الطاغية يزيد تضييق الأرض برحبها على الإمام (عليه السلام) وبدخول مسلم إلى الكوفة وأخذه البيعة من الناس فإنّ الإمام (عليه السلام) قد أصبح في مواجهة مكشوفة تماماً مع السلطة الجائرة وقد قرّر (عليه السلام) الحضور مع نسائه وصِبيته وخُلّص صحبه إلى الكوفة ليأمن على الجميع وليبدأ حركته المقدّسة، فهل يُمكن ترك الكوفة تفعل فيها الأعاصير دون ضبط حركتها حتى وصول الإمام (عليه السلام) ؟

إنّ ما حصل فيما بعد كان يخشاه مسلم ويحذره وقد حاول وقف عجلة التدهور

ص: 141

واستمات في هذا السبيل.

لم يكن لمسلم أن يترك الأمور تجري دون اتخاذ الموقف المناسب.

لم يكن له ترك الكوفة في مرجل دون إعمال جهده في تسيير وتوجيه الحدث.

العمل كلّه في هذا اليوم، وما بعد، سيترتّب على أحداث اليوم.

لكنّ الكوفة قلبت له ظهر المجنّ وتركته وحيداً يصارع الطاغوت، فسقط البطل شهيداً وحرمت الأُمّة نفسها من نسائم الحرية من جديد.

وهناك رأي - وهو غير مرضيّ على أيّ حال - يقول : إنّ مسلماً أعلن الثورة بعد اعتقال هاني، لعلمه بأنّه سيلقى نفس المصير(1).

وسبب عدم ارتضائه :

أ - انّه رأي يحتاج إلى دليل يدعمه وهو مفقود في المقام.

ب - انّ هذا الرأي لا يمكن المصير إليه مع وجود الوجوه الأخرى، وهي أقرب إلى الواقع بكثير من هذا الرأي مع ملاحظة جوانب الموضوع الفقهية والعقائدية والواقعية.

ج - إنّ هذا الوجه يناسب امرءً يسعى إلى سلطان ، وهمّه بناء كيان يتمتّع به ويغرف من طيّباته، ولا يناسب امرءاً جاء للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولتحكيم الإسلام في الأرض، ولإطاعة إمام معصوم هو خليفة اللّه في الأرض، ولفعل المستحيل من أجل إنقاذ أهل البيت من المصائب والمكائد والمؤامرات المحيطة بهم، ولإنقاذ الأمة المؤمنة المستضعفة من أحطّ مجرمي الأرض، ولإنهاض الإسلام والشريعة من جديد.

أما مسألة الخوف من الاعتقال فهذا آخر ما يفكِّر به مسلم لدلالة النصوص

ص: 142


1- حياة الإمام الحسين (عليه السلام) الشيخ القرشي ، ج 2 ص 380.

والسيرة على هذا لا لمجرّد حسن الظنّ به، وللتبرير لمنهجه على كلّ حال، فهو رضوان اللّه تعالى عليه غير محتاج لتبرير شيء من عمله، ومراجعة النصوص التاريخية المتوفرة بحقّه بدقّة وإمعان تُفضي إلى هذه النتيجة.

نعم، إن كان المقصود من تخوّفه الاعتقال، إنّما هو لتخوّفه على حركة الإمام ونهضته من أن تكبو، وتكبو معها كلّ الآمال، بل يتعرّض الإمام معها للخطر العظيم القطعي، فهذا في محلّه تماماً، إذ عليه المحافظة على نفسه لدفع عجلة الأحداث إلى الأمام، إلى أن يتمكن من تسليم الأمانة - وفيها الروح - إلى ولي الأمر، الإمام القائد الحسين بن على عليهما السلام .

ص: 143

ص: 144

مسلم في الساحة

اشارة

أعلن مسلم الثورة، وسيطر على الأوضاع بسرعة.

وأوّل ما يُلاحظ في طريقة إدارته للأحداث تواجده المستمر بين الناس لتوجيههم التوجيه الصحيح، ولشحذ هممهم .

ومعلوم أنّه لولا تواجده في الساحة لحصلت استباحة للطرف المغلوب، وهرج رمرج كما يحصل في كلّ مكان تنحسر عنه يد السلطة وتفلت مقاليد الأمور، وما يُخاف منه لم يحصل.

مسلم المشبع بالروح الإيمانية، المتمثِّلة قوانين الإسلام في سلوكه، والذي بلغ التزامه إلى مرتبة بحيث لم يقتل ابن زياد وهو العدوّ الأوّل ورأس الحربة عند حضوره في دار هانئ، لأنّ مبدءاً إسلامياً يمنع من استعمال الفتك في مثل هذا الحال فكيف به في بقية الأمور.

ألقِ بصرك حيث شئت في شرق الأرض وغربها، أتجد لمسلمٍ نظيراً؟ وهكذا هو الإسلام.

مسلم هاشميّ متشبِّع بالروح والمفاهيم الهاشمية وكلّها نُبل وسموّ وتعالي عن سفاسف الأمور ورذائلها، فتجلّت تلك الروح فيه حتى كفّ يد أنصاره عن رذائل الأعمال ووجّههم نحو الهدف السامي المُراد تشييده.

وأقلب الحال عند ذكر عدوّه - آل أُميّة وأنصارهم - الذين يقتلون الرضيع،

ص: 145

ويسلبون المرأة حجلها بدعوى: إن لم أسلبها سلبها غيري.

ويقتادون عائلة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) - النساء والصِبية - بأسوأ حال، ولم يُعرف عنهم أنّهم أسروا أحداً من ساحة المعركة بل كان همهم القتل، وقطع الرأس، ونيل الجائزة، وكفى.

إن تواجد مسلم في ساحة الأحداث إن لم يُفدِ الحركة ويدفع بها إلى الإمام (عليه السلام) وينفخ فيها روحاً حماسية عالية فهو لم يؤثر عليها سِلباً قطعاً.

كيف: ووجوده أدّى إلى إقبال الكوفيين من كُلّ حدب وصوب للمشاركة في التعجيل بانهيار الكيان الحاكم ولطيّ صفحة بني أُمية ولتعضيد حركته رضوان اللّه تعالى عليه، ولعلّ المشاركة الواسعة هي أحد أسباب الانهيار السريع إذ ظهرت فيهم روح التواكل واضحة مما دفع هذا وذاك إلى الانسحاب من الساحة، وإذا بالانسحاب يستشري ويتوسّع وهذه إحدى الآثار السيئة لجريمة - الفرار من الزحف - فالانهيار حدث: لروح التواكل، وحب السلامة، والخوف العظيم من بطش الأمويين.

مسلم يقود المدينة الأعتى

الكوفة مدينة الأجناد، أسست لتكون مقرّاً للعساكر ومجتمعاً لها فمنها يكون الانطلاق إلى فتح البلدان، ومن خلالها تُرفد الجيوش الإسلامية بما تحتاج إليه من عدّة وعَدَد.

فهي من أهمّ المدن في المجتمع الإسلامي وأكثرها تحسّساً لمجريات الأحداث، ومن أمسك بها أمسك بزمام الأمور، وبخناق الدولة.

هذه المدينة أرّقت كلّ من حكمها، إذ أتعبت أمير المؤمنين (عليه السلام) ، كما أتعبت أعدائه، لكن لا يخفى أنّ جهة الإتعاب متعاكسة، فتأمل في قول الامام الوصي علي (عليه السلام)

ص: 146

لتستوعب ما نُريد قوله في هذا المقام.

قال (عليه السلام) : «ولقد أصبحت الأمم تخاف ظلم ،رعاتها، وأصبحت أخاف ظلم رعيتي.

استنفرتكم للجهاد فلم تنفروا، وأسمعتكم فلم تسمعوا، ودعوتكم سرا وجهرا فلم تستجيبوا، ونصحت لكم فلم تقبلوا أشهود كغياب وعبيد كأرباب ؟

أتلو عليكم الحكم فتنفرون منها، وأعظكم بالموعظة البالغة فتتفرقون عنها، وأحثكم على جهاد أهل البغي فما آتي على آخر القول حتى أراكم متفرقين أيادي سبا ترجعون إلى مجالسكم وتتخادعون عن مواعظكم. أقومكم غدوة وترجعون إلي عشية كظهر الحية عجز المقوم وأعضل المقوم أيها الشاهدة أبدانهم، الغائبة عقولهم، المختلفة أهواؤهم المبتلى بهم أمراؤهم، صاحبكم يطيع اللّه وأنتم تعصونه، وصاحب أهل الشام يعصي اللّه وهم يطيعونه، لوددت واللّه أن معاوية صارفني بكم صرف الدينار بالدرهم فأخذ مني مني عشرة منكم وأعطاني رجلا منهم.

يا أهل الكوفة: مُنيت بكم بثلاث واثنتين: صم ذوو أسماع، وبكم ذوو كلام، وعمى ذوو أبصار ، لا أحرار صدق عند اللقاء، ولا إخوان ثقة عند البلاء، تربت أيديكم يا أشباه الإبل غاب عنها رعاتها كلما جُمعت من جانب تفرّقت من جانب آخر »(1).

هذا حال الكوفة مع الإمام الوصي (عليه السلام) ، وأمّا مع غيره فقد أرّقت الدولة الأموية كثيراً وشغلت ساستها وأرعبتهم حتّى ما رأوا لها علاجاً غير عتاة الولاة وأشرسهم وأقذرهم وغير سياسة الفتك والإبادة والتشريد والنفي وهدم المنازل.

هذه المدينة العصيّة على قادتها، اختار لها إمام الهدى الحسين بن علي عليهما السلام ابن عمّه مسلم بن عقیل قائداً ومرشداً لها، ورائداً له.

ص: 147


1- نهج البلاغة، الإمام علي (عليه السلام) ، الخطبة 97 .

كيف يتمكّن غريب ليس من أهلها من الدخول إليها ومن الإمساك بزمام الأمور فيها ومن السيطرة على شيوخها ورؤسائها وأهلها مع الالتفات إلى حضور كيان الدولة الطاغوتية وجهازها في ساحتها بوجود الوالي وأتباعه وحرسه وجنده ومواليه.

ياله من تكليف شديد يُناط بمسلم ذي الروح الملائكية.

إنّ هذا التكليف كشف عن جوانب العظمة في مسلم.

علمه، استقامته ،ورعه، إيمانه، فدائیته ،هیبته، بلاغته وفصاحته ، معرفته بخصوصيات المجتمع وسننه، تمسّكه بإمامة الحسين (عليه السلام) وبحقّه في القيام مقام النبي الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لحراسة دينه، وإدارة شؤون دَوْلَته، وإرشاد أُمّته.

ص: 148

مسلم في الأسر

لم تتمكّن القوّة العسكرية الضاربة الأموية من إلقاء القبض على مسلم، وهو فرد واحد لم يتصدّ لإعانته أحد غير ما صدر من طوعة، وهم جند مدرّب مسلّح يعدّون بالمئات.

لم يتمكّنوا منه أبداً رغم سيوفهم ورماحهم ونبالهم وجموعهم حتى فعلوا فعلة الجبناء الغدرة اللئام.

لقد عرضوا عليه الأمان وأن لا خوف عليه، ونصبوا له الكمائن .

ومن نافلة الكلام أن نبيّن أنّ مسلماً يعلم علماً قطعياً أن لا أمان لهؤلاء إذ لم يُعرف في قاموسهم عنوانٌ لفضيلة أو مكرمة أو معان إنسانية نبيلة، أو احترام ميثاق إذ الغدر شأنهم في طول مسيرتهم الوجودية جيلاً بعد جيل.

معاوية غدر بالإمام الحسن بعد عقد الصلح ونكث على منبر المسلمين أمام الإمامين السبطين، وأمام الجيشين وفي بيت اللّه - مسجد الكوفة - عهوده والتزاماته، ثم ما فتئ حتى قتله.

أيّ أمان لجمع بايعوا الإمام المعصوم بعدما كاتبوه واستنهضوه عشرين عاماً، ونكثوا خلال يوم، ومنهم أماثل الكوفة وعيونها، فكيف بذوي نزعة السوء منهم، لقد أخذ منهم الوعد بالأمان، وإن علم أن لا أمان لهم ولا ميثاق، لأنّه لا حلّ آخراً في البين - وفي نَصَّ آخر أنّهم مع وعده بالأمان فقد حفروا له حفيرة فسقط فيها وتمكّنوا حينذاك

ص: 149

منه - إذ لو لم يلتزموا بالأمان فسيقتلونه وهو مصيره المحقّق على كلّ حال، وقتله بأمان أفضل لأنّه سيحقّق نتيجةً أفضل، إذ فيه إلحاق الخزي والعار بالفئة الحاكمة ويظهر حقيقة التزامها بالخطّ الإسلامي أمام أوليائها الذين ما فتئوا يوالونها ويَدينون بطاعتها والتزام إسلاميّتها مع كلّ ما جرى منها وهل هذا منهم إلّا مخادعة لأنفسهم.

الفئة الحاكمة ما تمكنت من أسر شخص واحد إلا بالخديعة ثم غدرت به وقتلته وما تحمّلت التزاماً إسلامياً واحداً إلّا وحلّت عقدته ونفّذت في سيّدها الحقيقي مأربها الخسيس.

ثمّ إنّ قبول مسلم بالأمان يعطيه فرصة لتدارك بعض أموره; منها: محاولة إيصال خبر وضع الكوفة الفعلي إلى سيِّد الشهداء كي يتّخذ موقفاً إزاء الوضع الجديد، فلا يصل إلى الكوفة، أو يقدمها بعد الاستعداد لها استعداداً أمثل، يناسب ما بلغت إليه الأمور وأظهرته الفئة المتغطرسة من بطش .

ص: 150

مسلم يحاول المستحيل

ما إن ننتهي من ذكر مكرمة لمسلم رضوان اللّه تعالى عليه، أو مأثرة عنه، حتى تطالعنا أُخرى تحكي عن جوانب العظمة في هذه الشخصية، ممّا يكشف عن سموّها وكمالاتها، وعن استحقاقها لرفيع المقام، وللمنصب الذي عهد إليها .

ومن مآثره: اهتمامه بإيصال خبر الوضع الجديد لأهل الكوفة إلى الإمام الحسين (عليه السلام) .

إذ أنّ الكوفة بعدما بقيت تُراسل الإمام (عليه السلام) سنين عِدّة كي يقدم إليها ويتسلّم زمام أمرها إلى حيث إسقاط دولة آل أمية - فروع الشجرة الملعونة في القرآن - وإقامة دولة آل محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) سفينة نجاة الأمة، ومن بعدما أرسل الإمام (عليه السلام) مسلماً ليطّلع على أحوال الكوفيّين عياناً فوصلها مسلم ورأى إقبال الناس عليه ومبايعتهم له مع إن الحكومة الأموية قائمة وواليها في الكوفة موجود مبسوط اليد، كتب مسلم إلى الإمام (عليه السلام) بالحضور وإذا بأهلها ينكثون عهدهم ويتنصلون من بيعتهم بعد بدأ الإمام (عليه السلام) بمواجهة السلطة وحيث لا يمكن التوقف .

فحاول مسلم المستحيل في سبيل إيصال خبر انتقاض وضع الكوفة وانقلاب الأمور فيها وغدر أهلها إلى سيّد الشهداء (عليه السلام) .

إذ كلّف اثنين من قادة الجيش الأموي في إيصال الخبر إلى الإمام (عليه السلام) أحدهما : محمد بن الأشعث بن قيس، قائد الجيش الأموي الذي اعتقله، والذي بذل الأمان له.

وثانيهما: عمر بن سعد بن أبي وقّاص قائد جيش الكفر الذي حارب ابن رسول

ص: 151

اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وذبحه وقتل خيرة الهاشميين والمؤمنين وسبى نساء النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعائلته وصغار أولاده.

ومن هذا الاختيار نعلم ظروف مسلم رضوان اللّه تعالى عليه ومستوى الأُناس المحيطين به في تلك الساعات الأخيرة من حياته المقدّسة، وشدّة إصراره على إيصال الخبر بكلّ طريق ممكن إلى الإمام القائد صلوات اللّه عليه.

وهنا أمران نؤكِّد عليهما:

الأمر الأوّل: الإيثار ونكران الذات من مسلم تجاه إمامه وقائده خليفة رسول اللّه وحامل رايته الحسين بن علي عليهما السلام وهذا ظاهر في طول مسيرة مسلم، إلا أنّ دلالته هنا وعبرته أعظم لأنّ الخطر الفعلي محدِقٌ به ومع ذلك لم يأبه لنفسه، ومسلم في سلوكه هذا يمثِّل الطرف الآخر في الوجود الإنساني والطرف الأوّل يتمثل في غالبية الناس من التفكير في أنفسهم أوّلاً والتأمل في حسابات الربح والخسارة الآنيّة قبل الإقدام على عمل ما .

الأمر الثاني: محاولة مسلم تدارك ما قام بإبلاغه للإمام (عليه السلام) في رسالته السابقة، من توفّر الأوضاع الملائمة للثورة ضدّ الأمويين ، والتزام أهل الكوفة بنصرة الإمام (عليه السلام) عبر العهود والوعود التي قطعوها على أنفسهم لمسلم.

وكانت محاولة مسلم لإيصال الخبر للإمام (عليه السلام) كي يتدارك الأمر ويتّخذ الموقف المناسب، فيها استماتة واضحة، إذ التجأ - لعدم توفّر المعاضد والنصير - إلى تكليف رجلين هما من قادة الجيش الأموي للقيام بهذه المهمّة.

ولكن، هل وَثِقَ مسلمٌ حقّاً بقيام هذين بهذه المهمّة فيوكل إليها هذا الأمر العظيم؟

ص: 152

والجواب يتّضح من خلال التأمل مما قدمناه.

إذ لم يكن لمسلم خيار، وما من أحد يثق به الوثاقة المطلوبة كي يكلّفه فقد احتوشه الذئاب من كلّ مكان وقطعوا كلّ صلة بينه وبين كلّ من له عُلقة ولاء بمسلم فأنّى له بمن يُرسله إلى الإمام .

ثمّ إنّ هذين، عمر بن سعد ومحمد بن الأشعث - لم يكونا - في تلك الآونة، عدوّين المسلم تلك العداوة المطلقة التي يحدِّث عنها التأريخ في ابن زياد وفي شمر بن ذي الجوشن، نجد مثلاً أنّ عمر بن سعد حاول التنصّل من الخروج لحرب الإمام (عليه السلام) حينما كلّفه بهذا ابن زياد غير أنّ الأخير خدعه بولاية الريّ وجرجان إن حارب الإمام (عليه السلام) وأنهى له هذه القضية بما تُريده الفئة الحاكمة الفاسدة فوقع في الفخ وتمكّن منه الشيطان إذ أتاه من نقطة ضعفِه.

ثمّ لم يزل ابن سعد يحاول الوصول إلى حلّ وسط في كربلاء مع الإمام (عليه السلام) وقارب الأمر هذا، إلا أنّ ابن زياد - بتحريض شمر - قطع عليه محاولاته وألجئه إلى اعتقال الإمام (عليه السلام) باستسلام تامّ أو قتاله وقتله، وعند هذه النقطة من الأحداث انقطعت العُلقة تماماً بين ابن سعد وبين الطرف الآخر - طرف الإمام (عليه السلام) وصحبه - فهو إلى ما قبل المعركة بأيام كان قابلاً لانتهاج خط أبي هريرة وخط أبيه سعد بن أبي وقّاص وهو خط الصعود إلى الجبل أو خط الحياد كما هو مصطلح هذا الزمان.

وأمّا محمد بن الأشعث فهو وإن كان من خط الكيان الحاكم إلا أنّه كان يمكن تكليفه بمهمّة من هذا القبيل، إذ أن إيصال الخبر إلى الإمام (عليه السلام) ليس فيه إذكاء خطر ضدّ الكيان الحاكم بل على العكس إذ فيه إيقاف خطر يتهدّده ولا يُعلم عواقبه.

مسلمٌ إذن، فعل ما نالته يد قدرته في إيصال الخبر إلى الإمام (عليه السلام) .

ص: 153

وأمر آخر يُنبئ عن شدّة إيمان مسلم وقوة يقينه :

روي أنه طلب من جلّاديه أن يمهلوه كي يصلّي ركعتين قبل أن ينفّذوا جريمتهم العظمى فيه، فصلّى ثم دعا اللّه سبحانه أن يوصل الخبر إلى سيّد الشهداء (عليه السلام) بما جرى.

الواقع: أنّ كلّ ما صنعه مسلم في هذا الغرض قد آتي نتائجه وحصل ما كان يرجوه.

امّا ابن سعد وابن الأشعث فقد بعثا - كلٌّ على انفراد - من يُبلِّغ الإمام (عليه السلام) رسالة مسلم بما آلت إليه الأحداث.

فعن تاريخ الإسلام للذهبي : أرسل ابن سعد رجلاً على ناقة إلى الحسين (عليه السلام) يُخبره بقتل مسلم بن عقيل(1).

وفي الأخبار الطوال; وصول رسول محمّد بن الأشعث وعمر بن سعد إلى الإمام (عليه السلام) بما كان سأله مسلم أن يكتب به إليه من أمره، وخذلان أهل الكوفة إيَّاه، بعد أن بايعوه(2).

وروى الطبري(3): انّ محمّد بن الأشعث أرسل إياس الطائي وقال له: اِلقَ حسيناً فأبلغه هذا الكتاب، وكتب فيه الذي أمره مسلم بن عقيل وقد التقى إياس بالإمام (عليه السلام) وأخبره الخبر وبلغه الرسالة(4).

واما نتيجة الدعاء، فإنّ الإمام التقى بفارسين في منطقة تُدعى زرود عندهما خبر

ص: 154


1- تأريخ الذهبي، ج2، ص 270 ، ص 344.
2- الأخبار الطوال، أبو حنيفة الدينوري، ص 248 .
3- تأريخ الطبري، محمد بن جرير الطبري، ج6 ص 211 .
4- معالم المدرستين، السيّد مرتضى العسكري، ج 3 ص 65 - 66 .

من الكوفة فأبلغاه خبر مسلم وهانئ وما جرى عليهما.

بل انّ الإمام التقى بعدّة، كهذين الفارسين، ومبعوثي ابن سعد وابن الأشعث، والفرزدق أو الطرماح وغيرهم وكلّهم أخبره خبر مسلم.

ومن نافلة القول أن نوضح ان الإمام (عليه السلام) كان على علم مسبق بجميع أحداث مسيرته، عِلمٌ استقاه من جدّه النبيّ الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ومن أبيه الوصي (عليه السلام) ، ومن طرق أُخرى تتهيّأ للإمام المعصوم (عليه السلام) ، حجّة اللّه على البشر وخليفته في خلقه.

ص: 155

ص: 156

مسلم في مجلس ابن زياد

دخل مسلم مجلس حكم ابن زیاد وملأ إهابهِ تلك النفس الهاشمية الكبيرة المتسامية والتي لا تأبه لظالم أو متجبِّر.

دخل على ابن زیاد دون أن يُسلِّم عليه بالإمرة.

كان أعظم همّ مسلم في تلك الساعة أن يوصي ما في نفسه لأنّ القتل أصبح منه قاب قوسين أو أدنى فلا فائدة في الاهتمام لهذا الأمر والأجدر الالتفات إلى الأهمّ.

الأهمّ في نظر مسلم في تلك الساعة وذلك الظرف:

أ - تسديد ديونه.

ب - ضمان دفن جُثّته.

ج - إيصال أخبار الكوفة وأهلها - بحسب وضعها الأخير - إلى الإمام الحسين (عليه السلام) كي يتّخذ الموقف المطلوب.

بعدما أوصى بما يهمّه.

التفت ابن زياد إلى مسلم قائلاً : - إيه يا ابن عقيل، أتيت الناس وهم جميع فشتّت بينهم، وفرّقت كلمتهم، وحملت بعضهم على بعض.

نفس المنطق الذي كان يتحدّث به زعماء مكّة في مقابل الدعوة المحمّدية في أيّامها الأُولى، وكأنّ بقاء الناس وحدة واحدة، وكلمة متّفقة، من المهمّ المطلوب وإن كانت

ص: 157

وحدتها واتفاقها على خلاف إرادة اللّه، وعلى خلاف أمره ونهيه.

أجابه مسلم: لستُ لذلك أتيت، ولكنّ أهل المصر زعموا أنّ أباك قتل خيارهم وسفك دماءهم وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر فأتيناهم لنأمر بالعدل، وندعو إلى حكم الكتاب.

فما ردّ ابن زياد بغير الشتائم.

لقد لطم مسلمٌ ابن زياد اللطمة الشديدة ببيانه هذا، وأذهله عن الجواب وصرّح بزيفه وزيف الجهة التي يعمل تحت إمرتها في مجلس سلطانه، وبينه وبين الموت خطوة.

ثمّ ما كان جواب الطاغية على بيان مسلم وحديثه إلّا أن قال له : قتلني اللّه إن لم أقتلك قتلة لم يُقتلها أحدٌ في الإسلام من الناس.

فأجابه صهر عليّ (عليه السلام) وربيبه : أما إنّك أحقّ من أحدث في الإسلام ما لم يكن، وإنّك لا تدع سوء القتلة وقُبح المُثلة وخُبث السريرة ولؤم الغلبة، فما زاد ابن زياد على شتائمه إلّا بشتائم، ثمّ أمر بضرب عنق مسلم.

ص: 158

استشهاد مسلم ومدفنه

استعمل الجند الأموي أساليب عِدّة للتمكّن من مسلم ولإلقاء القبض عليه، بعد استعلام مكان تواجده.

1. فأوّل ما فعلوه أنّهم وضعوا الجائزة المُغرية لمن يجيء به.

وجعل الجوائز يُنبئ عن حقيقة من حقائق بني أميّة في كيفية إدارة المجتمع الإسلامي إذ أنّ من أسس سياسة بني أُميّة : تفضيل الذات في التمتّع بمزايا الدولة وخيراتها، ومن هو كالذات كالأولاد والأزواج والأقارب، ومن هم في خدمة الذات المتسلِّطة ومن يتعلّق بها كالمحاسيب والأتباع والأذناب وهذا ابتدأ جليّاً أيّام عثمان.

أمّا غير من تقدّم فإنّ الخطّة قائمة على ترغيب ذوي الشأن والإمكانات فإن خضع ودخل في زمرة الأتباع، فإنّه يُعطى الشيء وإن كان ما يُعطاه دون ما تناله الطائفة الأولى بكثير، وإن أبى حَلّت به الكوارث وسُلبت منه النِعم.

أمّا عامة الاُمّة فلا نصيب لها في خيرات الدولة ومِتعها ومزاياها من قليل ولا كثير، وإنّما نصيبها البؤس والجوع والضُّرّ على كلّ حال، وعليها الخضوع لأمر الرؤوساء القبليّين أو الحكّام المنصبين فإن أطاع نال ما لا يُسمن ولا يُغني من جوع وإن عصى فالموت ينتظره.

فالحرمان هو القاعدة لكلّ طبقات الأُمّة على كلّ حال كي تخضع وتخنع وتسمع وتُطيع ، ولا تفكّر والحال هذا إلا بلقمة الغد والأمن من سطوات الحاكمين، وهذا في

ص: 159

الواقع جزء من المحنة التي أوقع الأُمّة فيها من تسلّط على رقابها بالسيف والإرهاب بعد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) - غير عليّ أمير المؤمنين وولده السبط الحسن المجتبى صلوات اللّه عليهما - كما أنّ هذا الحال جزء من الامتحان الربّاني لهذه الأُمّة، وعلى الاُمّة اتّخاذ الموقف الصحيح عند المحنة كي تنصر اللّه سبحانه: (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)(1)

وتنجو من سطواته سبحانه، إذ سطواته محيطة بالظالمين ومن يشدّ أزرهم ويعينهم على مرادهم.

على أنّ الأُمّة سقطت في بحر الفتنة، والامتحان الإلهي نتيجة فعلها وغباءها وسوء اختيارها إذ اختارت غير ما اختاره اللّه لها وخضعت لمن لا لزوم في اتباعه وتركت من عيّنه اللّه تعالى بالنصّ الواضح والاسم الصريح وسيرة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ونصوصه الكثيرة المتضافرة المتواترة حجّة على الكلّ، ولاتَ حين مندَم.

وممّا يَحْسُن التنبيه له هنا والتأكيد عليه وإلفات النظر إليه، والرجاء إعطاء التأمّل فيه حقه:

إنّ البحث في جوانب سيرة المعصومين (عليهم السلام) والتأمّل فيها يُعطي ويُفيد انّ الأئمّة استفادوا من المال في سبيل دعم الإسلام ونشره وتقوية الإيمان والترفيه عن المحرومين ودفع غائلة النواصب والمخالفين والحاقدين، وقضاء حوائج المحتاجين، وكانوا يفضّلون الأبعد على الأقرب ومن الخوالد في هذا المجال ما نزلت له سورة الدهر:

(وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبّهِ مِسْكِينَا وَيَتِيمَا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبَّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا)(2).

ص: 160


1- سورة محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، الآية 7.
2- سورة الدهر، الآيات 8 - 11 .

ومن المعلوم أنّ الأسير من الكفّار، وأنّ أمير المؤمنين والأبرار الذين معه قدّموا الأسير على أنفسهم في هذا الجانب.

فالأئمة عليهم السلام يسخِّرون المال لدعم الإسلام ولما تدعو إليه مكارم الأخلاق، ولا يسخّرونه للضغط على إنسان لإركاعه ولسلب إرادته، أو يتركونه فريسة الجوع والحرمان كي ينالون طاعته وامتثاله، والقاعدة التي يُنظر من خلالها إلى محمد وآل محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنّهم لا مثيل لهم في مكارم الاخلاق وسموّ الأهداف وليس لشيعتهم إلا أن ينهجوا نهجهم، والإجمال في هذا المقام أجمل، وللتفصيل محلّ آخر.

2. تهديد كلّ من يؤويه بإهدار دمه.

3. تهديد ابن زياد لمدير الشرطة بإعدامه إن أفلت مسلمٌ منه.

4. بثّ العيون والجواسيس لمراقبة الأزقّة.

5. تخويل الشرطة بل توجيه الأوامر لهم تفتيش جميع الدور في الكوفة.

6. إرسال جمع كثير من الجُند لإلقاء القبض عليه.

7. اختيار الجُند من عشيرة معيّنة لا تأبه لمقاتلة مسلم وتأمير أحد شيوخ هذه العشيرة عليها في هذه المهمّة كي تأخذ الأوامر الموجّهة إليهم تأثيرها المؤكّد.

8. رميه بالأحجار وبأكوام القصب المحترق مع احتشاد العشرات عليه ومقاتلتهم إيَّاه بكل سلاح، وهو واحد ولا نصير له.

9. ثمّ ختموا خطّتهم ببذل الأمان المؤكّد له وكان قد عجز عن القتال وأُثخن بالجراح وكانت النتيجة ميؤوساً منها جدّاً لعدم المُعاضد والنصير، غير أنّهم بمجرّد تمكِّنهم منه سارعوا لنكث عقدهم ووعدهم وإبداء معالم الغدر له.

ص: 161

10. ويُقال أنّه بالإضافة إلى ما تقدّم فإنّهم حفروا له حفيرة وألجئوه إلى السقوط فيها فتمكّنوا منه حينذاك(1).

بعد إلقاء القبض عليه، جرّدوه من سلاحه، ثمّ قدّموه إلى ابن زياد، لم يترك مسلم الوصيّة في هذه الساعة، وهو محتوَشٌ بهذه الفئة المستهترة، وقد تقدّم الحديث عنها وعن المقابلة التي تمّت بينه وبين الطاغية ابن زياد.

ثمّ بعد هذا أمر ابن زياد بكر بن حمران - وكان قد ضرب مسلماً أثناء القتال فردّ عليه مسلم ضربته بضربة عظيمة - بأن يُنفّذ الجريمة، فصعدوا به فوق قصر الإمارة وهو يسبِّح اللّه(2) ويحمده ويستغفره، شاكراً له على حُسن بلائه، ومصلّياً على ملائكته ورسله، شاكياً إلى المولى سبحانه الناس وسوء مواقفهم، ويقول: اللّهمّ احكم بيننا وبين قوم غرّونا وخذلونا(3).

و روي أنّه صلّى ركعتين ودعا اللّه سبحانه.

ثمّ ضربوا عنقه، ورموا برأسه وجثمانه المقدّسين من أعلى القصر.

واليوم: مرقد مسلم بن عقيل يُناطح السحاب، ويقصده الملايين من شتّى بقاع المعمورة، يستنشقون عطر الكرامة والشمم، ويستذكرون المواقف العظيمة لبطل الإسلام مسلم، ويلعنون قتلته ويتبرّءون منهم ومن نهجهم وأهدافهم وفكرهم ورجالهم ومن يُحسب عليهم ومن يُدافع عنهم ومن يُبرّر لهم.

مسلم بن عقيل يرقد اليوم في موقع يأخذ شكل الزاوية بين المسجد الأعظم في

ص: 162


1- ينابيع المودّة، سليمان الحنفي القندوزي ، ج 3 ص 58 .
2- مبعوث الحسين (عليه السلام) ، محمد علي عابدين، ص222.
3- تاريخ الطبري، ج 4 ص 283 .

الكوفة وقصر الإمارة الذي عفى على بنائه الزمن وليس منه اليوم غير حُفرة أساسه، ويقع مرقده في الجهة الشرقية من مسجد الكوفة، ويُقابله - بُعْدَ أمتار - مرقد ناصره هانئ بن عروة، كما يرقد إلى جنبه المختار بن أبي عبيدة الثقفي الآخذ بثأر الحسين وأهل بيته وصحبه بل بثأر الإسلام.

وبلغ خبر استشهاد مسلم للإمام القائد وهو في طريقه إلى الكوفة فارتجّ الموضع بالبكاء والعويل لقتله وسالت الدموع عليه كُلّ مسيل .

ص: 163

ص: 164

المرقد المبارك

في أيّامنا هذه في وسط مدينة الكوفة، وعلى يمين المتوجّه من مدينة النجف الأشرف إلى بغداد، وبجوار مسجد الكوفة من جهة حائطها الشرقي.

توجد مراقد ثلاثة متجاورة.

أعظمها وأشمخها وأهمّها : مرقد مسلم بن عقيل

وبجواره مرقد المختار بن أبي عبيدة الثقفي، الآخذ بثأر الحسين (عليه السلام) من قتلته المباشرين، ويقابله مرقد هانئ بن عروة، قرین مسلم في الكفاح والشهادة.

يرقد في تلك البقعة الشريفة أوّل شهيد من القافلة الحسينية.

شهيد عزّ على الحسين (عليه السلام) مصرعه، وأورث قلوب أهل البيت النبوي عليهم السلام وشيعتهم كُرَباً وأحزاناً، وأجرى دموعهم عبر السنين المتطاولة.

بل أبكى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأجرى دموعه وهيّج شكواه إلى ربّه على ما في أمالي الصدوق.

هاهنا مَعْلَمُ شامخ لأهل البيت (عليهم السلام) ، يحكي تأريخهم ومحنهم مع الأُمّة.

يحكي ما قدّموه من تضحيات جسام، لإرجاع الاُمّة إلى الطريق القويم.

يحكي المستحيل الذي سلكوه، لإنقاذ رقبة الأُمّة من مشانق سفلتها المتأمرين الغاصبين لعنوان أمير المؤمنين والمتربعين بدعوى أنهم خلفاء رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأولياء

ص: 165

الأمور، هؤلاء الذين ورد بحقّهم عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنّهم أصحاب الملك العضوض.

هؤلاء هم القرود الذين نزوا على منبر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في غفلة من الزمن وكسالة من معظم الأمّة.

هؤلاء هم الشجرة الملعونة في القرآن.

فماذا تريد معرِّفاً أجلى من هذا، لكي تنبذهم وتعرف حقيقة خبثهم الذاتي، أصلاً وفرعاً وثمراً وآثاراً.

مسلم بن عقيل يرقد، لكنّه يحكي للأجيال المتتابعة المتساءلة، عمّا فعله آل البيت (عليهم السلام) وذريتهم وشيعتهم المخلصين الفدائيّين الربانيين لتمهيد الحياة الأسعد لهم.

لكنّ العائبة علينا.

أنحن خلف ذلك السلف؟ والذي نَبَذَ زُخْرُف الحياة، ولبس أكفانه، وحمل عود صلبه معه، وصدع بأمر اللّه، وصدع بأمر اللّه، وجهر بالحقّ فأحيى الحقّ ونشره، من بعدما اقتصر على قلائل بعد وفاة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

وبعد ما، كاد كلّ شيء أن ينتهي، وتُسدَلُ الخاتمة.

ص: 166

هل انتهت قضية مسلم

لقد جاهد مسلم وفدى بنفسه الزكيّة، لتحقيق أهداف لازالت بعيدة المنال إلى اليوم، غير أنّ قضيّته لا يمكن إسدال الستار عليها لأنّها أهداف القرآن.

أهداف أمر اللّه سبحانه ورسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بها ، وقام لأجلها نظام التكوين والتشريع، فلابدّ لها أن تتحقق وإن طال الزمان وتظافرت الصِعاب إلا أنّها لن تتحقّق على أيدي المنحرفين والخائبين - وما ينبغي لها - ولن تتحقّق على أيدي أصحاب المطامع والنظرات الضيّقة.

لا بدّ لها من نفوس عامرة بالهدى، هدفها تحقيق الإرادة الإلهية وسيادتها في الأرض، وتحقيق الحياة النظيفة الكريمة ، يتّخذ الناس فيها الدنيا مزرعة للآخرة وقنطرة لحياة أكرم وأجلّ ،وأسمى لا أن تكون الدنيا بنظرهم نهاية المطاف، فعليهم أن يحتلبوها بكلّ قواهم، وبكلّ طريقة أُتيحت لهم، إذ هي بئس الحياة، وأسخفها وأرذلها.

والذين أراد لهم مسلم علوّ الكلمة وظهور الأمر ما زالوا يعيشون أجواء التقيّة درعاً وشعاراً وآخرهم في الغيبة منذ قرابة الألف ومائتي عام.

وقوانين الحياة التي أراد لها مسلم السريان والشيوع والتطبيق لازالت غريبة في ديار المسلمين.

والفئة التي حاول محقها لازالت هي المسيطرة على مقدّرات بلاد المسلمين وعلى عقول المسلمين.

ص: 167

قضيّة مسلم لم تنتهِ، وساحة كفاحه مشغولة بالصراع، ولابدّ لحركته أن تستمرّ وتدوم لأنّنا ندعي أنّنا على نهج أُولئك الأبرار ونحمل قضيّتهم.

غيبة قادة الأمّة عن الساحة لا تخوّلنا إهمال الأمانة التي نحملها منذ أكثر من ألف عام.

هي تركة ثقيلة ومسؤولية جسيمة ولاريب، لكن ثمن القيام بها الجنّة وهو ثمن ربیح .

نحن من تعهّد بمواصلة الطريق والاستمرار في حمل الأمانة إلى ظهور صاحب الأمر وبعد ظهوره، نحن الذين في أعناقنا ديوناً كثيرة لأولئك الأبرار، فهم سبب طهارة ذاتنا وسبب ارتباطنا بالسماء وانتمائنا للإسلام والإيمان، وسبب بقاء الصلابة في هذا الارتباط والانتماء بعد أربعة عشر قرناً على ظهور الإسلام العزيز، الظلامة التي ناضلوا من أجل رفعها مستمرة.

وثأرهم الشخصي ممّن ناهضهم وقتلهم ووقف أمام تحقيق أهدافهم لم يُؤخذ، وليست حركة المختار بآخر المطاف.

آخر المطاف: النهضة الإسلامية العظمى التي يُعلنها ويتقدّمها ويرفع لواءها الإمام المُنقذ أمل الأنبياء والأوصياء والشهداء والصلحاء.

كنز ادّخره المولى سبحانه لقلب صفحة الظلم والجور والفجور والطغيان وإلى الأبد.

كنزٌ مخفيّ ومنسيّ.

على أعتاب حضرته، تقف كلّ جيوش اللّه سبحانه، تنتظر الأمر منه، وتهرول إلى

ص: 168

الهدف بإشارة منه .

أمّا هو فينتظر الأمر الإلهي فقط.

لن يتحرّك لرسائل جهة ما، ولا لوعود وإن صاحبتها مواثيق وعهود.

لن يسمحَ بطفٍّ ثانية.

حينما يظهر.

سيحقّق أهداف السماء في الأرض.

سيحقّق الأهداف التي سعى الأنبياء ومن على دربهم لتحقيقها، وحال دونها الطُغاة والفجرة وأهل الأطماع.

وسيأخذ ثأرهم جميعاً .

ومساحة الانتقام لا تقف ضمن الحدود التي توقف عندها المختار الثقفي .

بل ستشمل كلّ من رضي بقتل الحسين (عليه السلام) .

الحسين ثأر اللّه، وثأر اللّه يأخذه اللّه بِيَدِ كَنْزِهِ المذخورِ لِيَومِ اللّه .

عجّل اللّه سبحانه له الفرج والظهور، وكتبنا في المرضيّين عنده، في غيبته وظهوره.

ص: 169

ص: 170

كيف تحيي ذكرى بطل الإسلام

اشارة

لا ريب أنّ للقائد الإسلامي العظيم، مسلم بن عقيل، خصوصية وتميز عن بقية القادة، والشهداء، مما يستدعي اهتماماً بإحياء ذكراه مما ليس لغيره، ولابدّ من التأكيد على تلك الخصوصية حتى يتضح تماماً وجه تخصيصه بإحياء ذكراه بما يتميز به عن بقية شهداء الأُمّة.

وكتابنا هذا يتكفّل ببيان جوانب مشرقة عن هذا البطل العظيم، وبيان أوجه تميزه عن بقيّة الشهداء، مما يستدعي اهتماماً استثنائياً لإحياء ذكراه.

وأمر آخر أهمّ.

إن مسلماً وحركته تابعين للقضية المركزية - قضية الإمام الحسين (عليه السلام) وحركته ونهضته المقدّسة - التي هي ثورة الإسلام كله على خط الانحراف والطغيان والارتداد عن الإرادة الإلهية والتعاليم القرآنية والوصايا النبوية المؤكّدة.

الإسلام صراط مستقيم وخط واحد لا يقبل الميلان عنه قليلاً أو كثيراً، فمن أخذ يميناً وشمالاً فقد زلَّ عن خط الإسلام وخرج عن المطلوب الربوبي فمن أخطأ الطريق أُرشد إلى الصواب وأُخذ بيده ومن تعمّد الانحراف فلا جواب له إلا القوّة وحدّ السيف، فكيف بمن عقد العزم على نسخ الإسلام، وجعل القرآن كتاب تلاوة لا كتاب عمل ومنهاج حياة ، وعزل القادة الحقيقيين للإسلام وخلفاء الرسول بالنص - في الكتاب والسنّة - ومفسِّري القرآن الوحيدين، وسفينة نجاة الأُمّة وأولياء الأمور،

ص: 171

ومن آذاهم فقد آذى اللّه ومن عاداهم فقد عادى اللّه ومن أبغضهم فقد أبغض اللّه ومن ردّ عليهم فهو في أسفل درك من الجحيم.

أقول: إنّ قضيّة مسلم جزء من قضيّة الحسين، وقضيّة الحسين ومظلوميته، هي قضيّة الإسلام كله ومظلوميته، فالتعامل معها على هذا الأساس.

ومما يتميّز به مسلم أنه لم يُشر على الإمام (عليه السلام) ترك التوجه إلى الكوفة والإعراض عنها وعن رسائل القوم إليه كما أشار به ابن عبّاس وغيره.

وقد دلّ هذا على عقيدة صحيحة وسلوك سليم لمسلم تجاه الإمام المعصوم والذي هو في غنى عن أمثال هذه النصائح إذ هو مسدّد من المولى سبحانه وموجه من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وإلا فما معنى عصمته، وكيف جعل اللّه سبحانه أهل البيت عليهم السلام عموماً كسفينة نوح سبب نجاة الأمة جمعاء، وأخبر عنهم أنهم مع القرآن ومع الحق وأنهم أحد الثقلين من تمسّك بهم لم يضلّ ولن يضلّ أبداً.

والوجه الثاني لتميّزه: نفس اختيار الإمام (عليه السلام) له في هذه المهمة الهائلة والمصيرية فإنّه كاشف عن وجود ملكات وخصال واستقامة فيه، ميّزته وأدّت إلى أن يختاره الإمام (عليه السلام) ، ولو لم يكن في سبب الاختيار غير استعداده لإطاعة الإمام (عليه السلام) وبذله نفسه في سبيله ونكوص الآخرين أو تردّدهم، أو عدم إعلانهم لموقفهم لكفى في إثبات التميّز له.

والوجه الثالث : إخلاصه المنقطع النظير للإمام (عليه السلام) ، وفدائيّته النادرة، وخلقه الرفيع، وتديَّنه في أعظم أوقات الحرج وفي أدق المواقف، وجوه أُخرى لتميّزه.

وإذا كان غيره يتمتع بخصلة أو أخرى مرتبتها أعلى مما عند مسلم فإنّ ما يجتمع فيه لا يجتمع في غيره - ما خلا الإمام المعصوم (عليه السلام) - وهم ثلاثة في ذلك الوقت الحسين السبط، والسجاد، والباقر صلوات اللّه عليهم أجمعين - وكذا نستثني أبا الفضل وعلي

ص: 172

الأكبر عليهما السلام.

وكلّ ما تقدّم يدلّ على إيمان عقيدي عال في مسلم وتدين شديد يعزّ نظيره في تلك الفترة إلا من أوحدي الناس .

ولا تنس أنّ قضيّته قضيّة الحسين (عليه السلام) وإحياءُ ذكره إحياء لقضية الحسين (عليه السلام) بكل أبعادها، وفضحٌ لأعدائها ، وإماتة لذكرهم في أي زمان كانوا وبأيّ مكان حلوا.

الأُمّة الإسلامية بشكل عام، في يومنا هذا فئات أربع مع هذه القضيّة:

فئة تعمل على طمس هذه القضية، وعلى تشويهها، وعلى تشجيع الآخرين لإهمالها، وعلى قلب الحقائق فيها، ومحاولة فعل المستحيل من أجل إيجاد المبرّر لأعظم جريمة وقعت في تأريخ الإسلام من أُناس يُسمّون أنفسهم بالمسلمين، وهذه الفئة هي الأقلّ من بين الفئات المتقدّم ذكرها.

وفئة تتعامل مع هذه القضيّة تعامل اللامبالاة، فلا تنعكس على سلوكها وصايا النبي الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأوامره بشأن أهل بيته، وبخصوص ولده الحسين (عليه السلام) ، وبشأن الفئة المرتدّة التي قامت بالجريمة، وهذه الفئة

هي الأكثر في المجتمع الإسلامي.

وفئة تتعاطف مع الحسين (عليه السلام) وأهله وصحبه وقضيته، وتستنكر ما صنعه يزيد وجنده، إلا أنها لم تتخذ الموقف الحازم الحاسم في هذه القضية إذ إقرارها بما تقدّم له لوازم فهم اعترفوا بالملزوم وأهملوا لوازمه، والحساب على اللّه تعالى.

وفئة أعلنت وقوفها صفّاً واحداً مع الحسين (عليه السلام) و صحبه ضد يزيد وجنده وحزبه فحملوا قضيّة الحسين عبر التأريخ وكتبوا عنها وأذاعوها وعقدوا المجالس لها وفعلوا كلّ ما تصل إليه يد قدرتهم في إحياء ذكر الحسين (عليه السلام) وقضيّته وفضح يزيد وأهدافه،

ص: 173

كما أنهم تألموا للحسين (عليه السلام) وبكوه دمعاً ودماً واستخدموا كلّ الوسائل المعبِّرة عن هذا التمسك الصميمي بالحسين وأعلنوا أن ثورة الحسين (عليه السلام) لم تنتهِ ما دامت أهدافه لم تتحقّق كاملة وأنّ طيّ صفحات مصيبة الحسين (عليه السلام) بظهور المهدي المنتظر (عليه السلام) ، والذي سيضع كلّ شيء موضعه.

أما اليوم، وقبل اليوم

فقد التزم عموم الشيعة الإمامية الاثني عشرية بالخصوص - من دون فرق المسلمين كلّها - بإقامة شعائر الإحياء من جهة، وإظهار معالم الحزن من جهة أُخرى للقضية الحسينيّة ككلّ ولمسلم بن عقيل بالخصوص.

وكما قدّمنا فإنّه ما من شيء وصلت إليه يد قدرتهم، والتفتوا إليه، ممّا كان جائزاً في الشريعة، إلا وصنعوه .

فالمطلوب : المحافظة على الشعائر الموجودة، والالتزام بإحيائها، مع ملاحظة عنصر الزمان والمكان، والعناوين الثانوية، المؤيّدة بفتاوى العلماء الأعلام لتحقيق الهدف من وراء هذه الشعائر الكريمة.

فقد يقتضي الأمر الزيادة في سبل الإحياء بحسب ما يتيحه لنا زماننا ومكاننا من مجالات كالاستفادة من وسائل الاعلام المختلفة لنشر القضية الحسينيّة وأهدافها من خلالها ومنها الانترنت والأقراص الكومبيوترية ووسائل المراسلة المختلفة، والنشرات الجامعية وغيرها ممّا لا يُحصى من مجالات الإحياء والاستفادة في عصرنا.

كما قد يقتضي الأمر الغضّ عن بعض سُبل الإحياء واستبدالها بأُخرى أجدى منها وأنفع في خدمة الدين وشريعة سيّد المرسلين وتوضيح القضية الحسينية والتعريف

ص: 174

برجالها والفضح لمناهضيها وأعدائها.

والمسألة تحتاج إلى ورع ووعي وإلى إحساس بالمسؤولية الجسيمة الملقاة على عاتق رجالات الاُمّة في حفظ الدين وشريعة سيّد المرسلين ومواريث الأنبياء والأوصياء حتى ظهور صاحب الأمر ، خليفة اللّه في الأرض، والذي يضع الأمور مواضعها التي تستحقّها والتسديد والتوفيق من اللّه سبحانه وهو المسؤول أن يأخذ بأيدينا إلى مراضيه.

غير أنّنا لا يفوتنا أن نفهرس سُبل الإحياء المعمول بها في زماننا.

وينبغي الالتفات إلى أنّ بعض سُبل الإحياء هذه منصوص عليه بخصوصه من المعصومين خلفاء اللّه في الأرض وبعضها لم يرد نصّ عليه بخصوصه وإنّما استُحبّ العمل به أو جاز بحسب ما تسمح به القواعد العامة الفقهية أو دخل تحت عناوين أعمّ وأشمل، مستحبّة أو جائزة :

1 . عقد مجالس عامة يذكر فيها الخطيب قضيّة كربلاء بتسلسل أحداثها أو باختيار مقطع منها، مع أبيات شعرية ترثي الحسين وصحبه وتمجِّد مسيرتهم وتنفخ روح الحماسة والثورة على الظلم والانحراف في نفوس الجالسين، وهي أهم شعائر الإحياء على الإطلاق.

2. الخروج في مواكب ومسيرات جماعية تندب الحسين (عليه السلام) وصحبه، وتلعن ،قاتليه مع حمل اللافتات المكتوب فيها كلمات الحسين (عليه السلام) ، أو معاهدة الناس لإمامهم الحسين (عليه السلام) على حمل مشعله، وتبنّي قضيّته، وتلبية ندائه.

3. لطم الصدور حزناً على الحسين (عليه السلام) .

4 . البكاء على الحسين كلّما ذُكر ، وقد ورد عن الحسين (عليه السلام) : «أنا قتيل العبرة، لا

ص: 175

يذكرني مؤمن إلا استعبر»(1).

5 . السير على الأقدام من أماكن السُكنى إلى حيث قبر الحسين (عليه السلام) وبالخصوص في مناسبات بعينها كمناسبة عاشوراء، وزيارة الأربعين، وزيارة النصف من شعبان وغيرها، والمعبّر عنها ب البياده .

6 . زيارة الحسين (عليه السلام) (2) في كلّ أيام السنة، وفي كلّ الأوقات، وأفضلها في أوقات معيّنة، وهي: كلّ ليلة جمعة، وستّة زيارات مخصوصة في السنة، زيارة عاشوراء، زيارة الأربعين، زيارة النصف من رجب ، زيارة النصف من شعبان، زيارة ليلة القدر، زيارة العيدين الفطر والأضحى.

وشعيرة الزيارة هي أعظم الشعائر طُرّاً وتتقدّم على شعيرة إقامة المجالس ولها الأثر العظيم في إحياء ذكر الإمام وقضيّته، وفي تحقيق أهداف يصعب حصرها، وقد حاربها الظالمون أشدّ المحاربة عبر التأريخ ، ومن أفظعها محاربة المتوكل.

7. تقديم أنواع معروفة من الأطعمة والأشربة، وبكميات كبيرة، وتوزيعها على عامّة الناس في المجالس المعدّة لذكر قضيّة الحسين (عليه السلام) ، أو في الشوارع العامّة لكلّ صادر ووارد، ويُنفق شيعة أهل البيت في هذا السبيل ما ليس له مثيل في العالم كله عند أتباع الأديان والمذاهب الأُخرى في مناسباتهم الدينيّة.

8. إعمار المراقد المقدّسة للحسين (عليه السلام) ولكلّ من وما يتعلّق بثورته، فالإعمار يشمل مرقد الإمام الحسين (عليه السلام) ومرقد أبي الفضل العباس (عليه السلام) وكلاهما في كربلاء طبعاً.

ومرقد مسلم ومرقد هانئ بن عروة وكلاهما في الكوفة.

ص: 176


1- كامل الزيارات، الشيخ جعفر بن محمد القمي، ص 215 الباب 36 .
2- راجع: كامل الزيارات، للشيخ جعفر بن محمد بن قولويه القمّي.

ومرقد ولدي مسلم في المسيّب - العراق.

ومرقد المحسن في سفح جبل الجوشن بغربي حلب.

ومرقد رقيّة بنت الحسين عليهما السلام في دمشق.

كما يشمل مشاهد رأس الحسين (عليه السلام) المقامة في أماكن متعدّدة منها ما في القاهرة، ومافي مدينة مزار شريف في أفغانستان.

ويشمل مرقدين لزينب أُخت الحسين عليهما السلام : أحدهما في الشام في حي السيدة زينب، والثاني في القاهرة على الخلاف في مكان دفنها(1).

ويشمل مشهد النقطة المقام في حلب لأجل نقطة دم سقطت من الرأس المقدّس للإمام المظلوم الحسين (عليه السلام) حين التوجّه بالرؤوس المقدّسة إلى دمشق.

والمكان الذي وضع فيه رأس الحسين (عليه السلام) في خربة الشام والمجاور للجامع الأموي.

كما يشمل «الزينبية» وهو المكان الذي وقفت فيه زينب عليها السلام ونادت سيد الشهداء (عليه السلام) ساعة استشهاده، وهو في كربلاء.

و «الخيمكاه» وهو المكان الذي نُصبت فيه خيم الحسين (عليه السلام) وعائلته وصحبه في كربلاء.

ومرقد المختار بن أبي عبيدة الثقفي داخل حرم مسلم.

ومرقد زين العابدين قبل التهديم الذي حصل من الوهابيين.

وفي يومنا هذا تشمخ مراقد أهل الطفّ جميعاً تناطح السحاب إلّا قبر زين

ص: 177


1- راجع السيدة زينب عليهاالسلام، الشيخ القرشي، ص 326.

العابدين (عليه السلام) في بقيع المدينة ويشاركه في المظلومية التي لحقته قبر الحسن السبط وقبر الباقر وقبر الصادق صلوات اللّه عليهم أبد الدهر.

ويُضاف إلى الإعمار المتقدم ذكره إعمار قبور الشهداء وقبر علي الأكبر وقبر عبداللّه الرضيع عليهما السلام و هم داخل حرم الحسين (عليه السلام) .

وإعمار قبر حبيب بن مظاهر الأسدي وهو داخل حرم الحسين (عليه السلام)

وإعمار قبر الحرّ بن يزيد الرياحي وهو في كربلاء ويُبعد قليلاً عن حرم الحسين (عليه السلام) .

وهناك مقام الكف الأيمن للعباس (عليه السلام) ، ومقام الكف الأيسر له أيضاً، والمقام المبني على المكان الذي وقف فيه الامام الحسين (عليه السلام) مخاطباً عمر بن سعد لنصحه وردعه عن اقتراف جريمته، وكل هذه في كربلاء بالطبع.

كما نُقِل أن في المكان الذي فيه مسجد الحنانة في النجف الاشرف وُضِعَ الرأس المقدّس للإمام الحسين (عليه السلام) كما سقطت في موضعه قطع يسيرة من اللحم من الرأس الشريف .

ولعلّ هناك مراقد أُخرى غابت عن الذاكرة فعلاً، أو جهلنا أمرها، والكلّ محلّ اهتمام الشيعة - حرسهم اللّه تعالى - على تفاوت في مستوى الاهتمام بحسب أهميّة المقام، وإمكانية إعماره.

على أنّ إعمار هذه الأماكن المشرّفة المنتسبة إلى الإمام الحسين (عليه السلام) وحركته، لم يقتصر على بنائها بل تزيينها بالذهب والفضّة والقاشاني والزجاج وتزيين أرضيّتها وحيطانها بالمرمر، وفرشها بأنواع الفرش الفاخرة، ونصب الأضرحة على القبور المقدّسة وإهداء نفائس الهدايا إليها ، ووقف أنواع الموقوفات كالقرآن العزيز وكتب الأدعية والزيارات

ص: 178

ونحوها مما به تأدية مختلف الخدمات إلى زوّار هذه المقامات الشريفة.

9. إقامة مختلف الاحتفالات العامة باسم الحسين وإحياءً لقضيّته وهي غير المجالس المتقدّم ذكرها، فتلقى فيها الكلمات والقصائد.

10. تسمية المولودين الجدد - ذكوراً وإناثاً - بأسماء الحسين وأهل بيته عليهم السلام وصحبه من الرجال والنساء، فهذا اسمه حسين وذاك عبّاس والآخر علي أكبر وتلك اسمها زينب أو رقيّة وهكذا تخليداً لذكرى أبطال الطف وتبرّكاً بأسمائهم.

11. كتابة الموسوعات والكتب والمقالات المختلفة في الحسين وقضيّته وصحبه.

12. نظم الشعر العمودي والحرّ في الحسين (عليه السلام) وقضيّته وصحبه وأهل بيته عليهم السلام حتى جمع الخطيب المجاهد السيِّد جواد شبّر بعضه في موسوعته الضخمة أدب الطفّ والتي تمت مجلّدات عشر ولو تركه الصدّاميون الأراذل فلربّما شفعها بأجزاء أُخر.

13. تمثيل الواقعة في أفلام وتمثيليات ومسرحيات في المؤسسات الإعلامية المهمّة في الهواء الطلق ، بعمل تختلف جودته وروعته بحسب إمكانيات الطرف القائم بها .

14. قراءة مقتل الحسين (عليه السلام) في مجالس خاصة يوم عاشوراء ومن أشهرها المقتل السلام المسجل بصوت الخطيب الشهير الشيخ عبد الزهرة الكعبي والذي يُذاع كلّ عام من الإذاعات الشيعية.

15. كتابة - المقتل - بسرد أحداث قضيّة كربلاء متسلسلة وقد تعارف تسمية هذا النوع من الكتب ب المقتل.

16. التأليف في الأحداث المتعلِّقة بالثورة الحسينية كثورة التوابين وثورة المختار وحركة سبايا آل محمّد من كربلاء إلى الشام ثم إلى كربلاء فالمدينة.

ص: 179

17. توزيع الماء - بالخصوص - على كلّ صادر ووارد بواسطة الأجهزة المبرّدة، وباليد مباشرة، وبذل قوالب الثلج الكثيرة في هذا السبيل، تذكيراً بعطش الحسين (عليه السلام) وأهل بيته وصحبه عليهم السلام ، وتعرّضاً لتحصيل الثواب الموعود به في النصوص على هذا العمل المبارك.

18. خروج مواكب ضخمة يمارس فيها المشاركون ضرب ظهورهم بالسلاسل الحديدية المعبّر عنها ب«الزناجيل» تعبيراً عن تألّمهم وعظيم مصابهم واستعدادهم لتحمّل المشاق والمصاعب في سبيل الحسين (عليه السلام) ، ولكي يتحسسوا معاناة الحسين (عليه السلام) وجنده من ضرب السيوف ومختلف الأسلحة ومع وضوح «أين هذا من ذاك» إلا أنه نوع استشعار ومشاركة.

19. استعمال السواد بكثرة في اللباس الشخصي وفي الشوارع العامة وفي داخل المساكن إظهاراً لشعائر الحزن.

20. رفع الأعلام السوداء واللافتات التي تحمل أقوال الإمام (عليه السلام) وأهدافه.

21. رفع مظاهر الزينة في اللباس الشخصي وفي داخل المساكن وفي الشوارع العامّة.

22. تعزية الناس بعضهم بعضاً باستشهاد الحسين (عليه السلام) وصحبه.

23. تسمية الكتائب العسكرية والثورية بأسماء الحسين (عليه السلام) صحبه وبالأسماء المعبّرة عن ثورة الحسين (عليه السلام) مثل اسم كربلاء، الطف، الغاضرية، عاشوراء ونحوها.

24. كتابة القصص والروايات والمسرحيات حول ملحمة كربلاء بشكل عام، أو عن حياة الإمام سيِّد الشهداء أو قصة أبطال الطف ومنها مسرحية عن سيِّد الشهداء

ص: 180

لعبد الحميد جودت السّحار .

25. بناء «الحسينيّات» في طول بلاد التشيّع وعرضها.

والحسينيّة : مبنى يجتمع فيه المؤمنون لإقامة المراسيم الخاصة بإحياء ذكرى استشهاد الامام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته وصحبه فتُعقد فيها مجالس الخطابة، والوعظ والإرشاد الديني، كما تقام فيها طرق الإحياء الأخرى، وتستخدم أيضاً كأماكن انطلاق للمسيرات والمواكب في أيام المحرم بعد اجتماع الناس فيها، وتستخدم أيضاً كأماكن استراحة ومبيت لممارسي إقامة هذه الشعائر المباركة، وعلى الإجمال هي مبنى يُستخدم في كل ما له علاقة بإحياء ذكرى استشهاد الامام (عليه السلام) في أيام المحرم، بل في طول أيام السنة، ولا يمنع تأسيسها لهذا الغرض من استخدامها لأغراض عبادية أخرى كالصلاة وإلقاء الدروس الدينية وتعليم القرآن.

ومن الطبيعي أنّها ليست كالمساجد في الأحكام المترتبة عليها فيجوز دخول المحدث بالحدث الأكبر لها - كالجنب - وإن كان لها احترامها الخاص لارتباطها باسم الحسين (عليه السلام) .

26. السجود على التربة الحسينية أثناء الصلاة:

معلوم من فقه الإمامية ان الصلاة عندهم لا تجوز إلا على الأرض أو ما أنبتت من غير المأكول أو الملبوس(1)، وقد ورد عن النبي الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «جُعلت لي الأرض مسجداً وطهورا»(2).

ومع ثبوت صدور هذا الحديث الشريف عن النبي الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلا أن جمهور

ص: 181


1- جواهر الكلام ، ج 4 ص 71 ، ج 3 ص 478 بشكل مفصّل.
2- راجع: السجود على التربة الحسينية، الشيخ الأميني، ص 32 فقد نقل الرواية عن مسلم وغيره.

المسلمين أجازوا السجود على غير الأرض من فراش ونحوه مع منافاته لهذا الحديث الشريف.

أمّا الإمامية فقد حصروا ما يجوز السجود عليه بما تقدم ذكره.

وقد وردت روايات عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته في فضل تربة الحسين (عليه السلام) - وقد سُجّلت هذه الروايات في كتب الشيعة والسُنّة - ممّا أدّى هذا إلى التزام الشيعة بالتقرب إلى اللّه سبحانه بالسجود له على التربة الحسينية بالخصوص لما فيها من فضل وثواب.

وقد شنّع بعض من لا تحصيل له ولا ورع من المنحرفين عن آل النبي الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على الشيعة لسجودهم على التربة المأخوذة من أرض كربلاء، ولا وجه لكلامهم هذا غير التهريج، إذ أنّ ما قام الدليل عليه وفي كتب الشيعة والسنة جميعاً يلزم العمل به ومن يعارض فهو راد على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والراد عليه رادّ على اللّه وهذا على حد الشرك باللّه كما في الخبر.

فالأولى لمن يُعارض عمل الشيعة في هذا المجال - مع توفّر الدليل لهم في كتب عامّة الفرق الإسلامية - أن يصحّح أعماله ويلتمس لها الدليل أفضل من أن يتكأ في فتاويه وأعماله على القياس والظنون التي لا تُغني من الحق شيئاً، إذ شريعة النبي الأعظم الخاتم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) متكاملة ولا تحتاج إلى من يُشرّع لها من ظنونه وقياساته وعندياته.

وللتوسع في مسألة السجود على التربة الحسينية تُراجع الكتب التالية:

أ- السجود على التُربة الحسينية عند الشيعة الإمامية، للشيخ عبدالحسين الأميني

ب - الأرض والتربة الحسينية، للشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء

والشيخان: كاشف الغطاء والأميني من فقهاء الإمامية الأجلّاء.

ص: 182

ولعلّ هناك ما لم نلتفت إليه، أو هناك طرق أُخرى للإحياء موجودة عند الشيعة في أماكن مختلفة من نواحي العالم الإسلامي بل في غيره أيضاً.

ص: 183

ص: 184

مسلم قدوة

من أيّة جهة كان مسلم قدوةً لنا؟

أ - أوّل جهة وأهمّ جهة ينبغي ملاحظتها في مسلم - كما ينبغي ملاحظتها في غيره عند التقييم - قيامه بما يجب عليه من إطاعة الحسين كإمام منصوب للمسلمين وغيرهم من اللّه تعالى وبنصٍّ من رسول اللّه، وخليفة اللّه ولرسوله في الأرض وبما يستحقه الحسين في هذا السبيل من الناس عموماً ومن مسلم بالخصوص .

من هذه الناحية : فإنّ مسلماً أظهر إطاعةً مطلقة، وتعامل مع الحسين (عليه السلام) من هذا المنطلق، أي منطلق كونه إماماً للأمّة وخليفة اللّه ولرسوله.. الخ، ولم يتعامل معه على أساس أنه ابن عمّ له أو من منطلق المصاهرة، أو الصداقة، أو كتعامل قائد عسكري مع قائده الأعلى وغير هذه من المنطلقات والعناوين التي لا تحفّز في المرء دوافع الإطاعة بالمستوى الذي صدر من مسلم.

إذ الواجب على كلّ مسلم أن يطيع المعصومين وخلفاء اللّه في الأرض وأوصياء الأنبياء - والحسين (عليه السلام) أحدهم بالنصّ الذي لا يقبل المناقشة ولا يُورث الاختلاف - إطاعة مطلقة، ويمتثل الأمر كما هو بشكل فوري، لأنّه أمرٌ صدر عن معصوم لا يُخطئ، وطاعته مفروضة لازمة ممن خلق العالمين على كلّ إنسان دون أن يترك لهذا الإنسان مساحة للردّ والمناقشة والاختيار، وقد قام مسلم بالمطلوب وفق الوجه الأكمل.

إنّ هذا المستوى من الإطاعة من الأمور التي لم تألفها الأمة تماماً عبر تأريخها - إلاّ من المجموعة الأقلّ - وقد لاقت الأُمّة كلّ شر، وانحرفت أي انحراف بسبب سلوكها

ص: 185

في التعامل مع أوامر الكتاب العزيز والنبيّ الأطهر وأهل البيت المعصومين على أساس الانتقائيّة، وبمقدار ما نفقه وجه المصلحة المصلحة والفائدة من امتثال هذه الأوامر، مع أنّ في امتثال بعض الأوامر منافع يخفى أمرها على الذهنية العاديّة ولا يظهر وجهها إلا بعد شيء من الوقت، ولكن حين يستوعب المرء وجه الفائدة فإنّ أمد التدارك قد انتهى وفات.

والمأساة مستمرّة، وما زال الكتاب مهجوراً، والسنّة مضيعة، والعلماء يكتبون لأنفسهم، ولثلّة قليلة من أبناء الأُمّة.

غير أنّ من الأُمور التي لا يمكن نكرانها تغيّر أوضاع الأمة الإسلامية في طول البلاد وعرضها في العقود الأخيرة نتيجة صحوة عامّة، إلا أنّ الأمر ليس بالمستوى المطلوب وما زال ضمن مساحة ضيّقة لو لاحظنا مستوى ما نتج عن هذه الصحوة من أثر، ولعلّ الغيب يُخفي خيراً وبركات في طريقها إلى الينع.

ما أشدّ حاجة الأمة إلى أُسوة وقدوة ومثال صالح كمسلم يكون مناراً نصب أعين الأجيال المتتابعة لتعلم أنّ بعض معجزات النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) تتمثّل بتربيته لأمثال هؤلاء الأبطال الذين كانوا ملأ سمع الدنيا وبصرها، والذين صدرت منهم أفعالاً على أرقى مستوى من الخلق الرفيع والتضحية العظيمة بحيث لو قورنت أفعالهم في هذا السبيل بمستوى ما صدر من باقي أفراد الأمّة لعلم أنّهم أتوا بالمعجزات الأخلاقية والتضحوية.

ب - جهة النُصح للإمام والأُمّة: وقد ورد عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «ما نظر اللّه عزّ وجلّ الى وليّ له يجهد نفسه بالطاعة لإمامه والنصيحة إلاّ كان معنا في الرفيق الأعلى»(1).

وفي صحيحة معاوية بن وهب عن مولانا الصادق (عليه السلام) : «يجب للمؤمن على المؤمن

ص: 186


1- الأُصول من الكافي، الشيخ الكليني، ج 1 الباب 104 من كتاب الحجة.

النصيحة له في المشهد والمغيب»(1).

وهذه خصلة ثانية، عزّت في هذا الزمان، وفي كلّ زمان، بأن يبذل المرء جهده في العمل بإخلاص وتفانِ وبما يحقّق أهداف الإمام ويكلّل جهوده ومراده بالنجاح.

على المرء أن يسدّ الثغرة وإن لم يُطلب منه ذلك، وأن ينبّه للخطر وللمشكل وإن لم يكن هذا من وظائفه، وأن يعمل كأنّ القضية قضيّته والربح له والخسارة عليه، وأن لا يتعامل مع الأحداث بروح اللامبالاة وبروح الحسابات والمغانم، فما كان ربحه آنياً، ومحسوم النتيجة لصالحه عَمِلَ له واندفع لتحقيقه، وإلا فهو آخر من يتحرّك لسدّ الثغرة، والتي لعلّ خطرها يأتي على الجميع فلا يُبقي ولا يذرّ كحال أكثر المشاكل الاجتماعية، والتي يصيب ضررها الجميع بشكل أو بآخر.

ج - إنّ مسلماً كان يعمل ويُحكم عمله في كلّ خطواته إذ نرى هذا واضحاً في طول مسيرته وما لم يصنعه فلعدم التفاته إليه أو لوجود المانع الطبيعي، أو الشرعي من فعله وهو غير معصوم على كلّ حال إلّا أنّه لم يترك أمراً يستوجب الحال قيامه به.

د - إنّه مثل الإمام الحسين (عليه السلام) خير تمثيل فلا ترى فيه خصلة الكِبَر، أو خصلة الإحجام في المواقف التي تتطلب الإقدام، وكان رحيماً بالمؤمنين، رفيقاً بهم عند تعامله معهم، وشديداً على الظالمين من غير أن تُخرجه شدّته عن الشرع، أو إلى ما لا يليق، بل نبله مع الأولياء والأعداء على السواء.

والحاصل: أنّه لم يصدر منه إلا ما يليق بمن يمثِّل الإمام المعصوم، وخليفة اللّه ورسوله في الأرض .

ص: 187


1- حدود الشريعة، الشيخ محمد آصف المحسني ، ج 4 ص 233، عن وسائل الشيعة، ج16 ص 381.

ه- إنّه حارب أراذل بني أميّة وتوقّف عن قتالهم، وحصل في أسرهم، وواجه الطاغية ابن زياد، وسمع منه تصميمه على إعدامه وصعد أعلى قصر الإمارة وتقدّم لنيل مرتبة الشهادة والسعادة، وهو في كل هذا مرفوع الرأس، عزيز النفس، عالي الهمة، غير مبال بالحتوف ولا متهيِّب في مختلف المراحل التي مرّ بها حتّى تعجّب منه ابن زياد نفسه، مع ما هو واضح من توقّف مسيرة حركته التي كان يعمل لإنجاحها، غير الآثار الهائلة التي ترتبت فعلاً، وستترتّب مستقبلاً، وغير الموت الذي ذاقه بكلّ رحابة صدر.

ص: 188

ملكات أعلنت عنها الطف

كُلِّ إناء بالذي فيه ينضح.

مقولة صادقة، وأحد مصاديقها الحركة الحسينية وما يتّصل بها، ومنها حركة مسلم رضوان اللّه تعالى عليه.

أن نُقارن بين مسلكي طرفي النزاع في الطفّ فهو أمرٌ نافع وجدير بالذكر.

ونفعه للمؤمن: كي يزداد إيماناً إلى إيمانه بصحّة طريقه، وانحرافية الطريق الآخر.

وللمتمسّك بالنهج المنحرف : إذ هذه المقارنة حجّة على خطئه في اختياره، وخطيئته في تمسكه .

وهي، كانت نافعة لأهل ذلك العصر - عصر الحدث - : ليتميّز لهم الحقّ من الباطل - لكنّ الفتنة إن أقبلت شبهت وإن أدبرت نبّهت -.

وهي نافعة لأهل هذا العصر : كي يحسم المرء أمره مع ربّه، ويتّخذ الوسيلة إليه إن شاء، وينصر ربّه وسبيل ربّه وأولياء ربّه.

على أنّه لا وجه لهذه المقارنة : من جهة أن أحد طرفي النزاع قد تمثّل القرآن في سلوكه كما أنه تحت قيادة خليفة رسول اللّه في أمّته وسيِّد شباب أهل الجنة - الحسين - وقد أخذ هذا الفريق بكلّ خصال الفضل والكرامة وتحلّى بمكارم الأخلاق بأعلى مرتبة.

بينما فاحت من الفريق الآخر كلّ خصال السقوط والانحطاط بأدنى مرتبة فلم يترك خصلة معبّرة عن عدم التزامه بمبدأ أو دين أو قيم إلا وارتكبها، فلا مجال للمقارنة

ص: 189

بعد أن تزعّم هذا الفريق شخص هو من أبعد الناس عن الإسلام والفضائل - يزيد - «وقد تقدّم الحديث عنه» فكيف يَرشُحُ عنهم خيرٌ أو مكرمة.

لكن، ما تقول لمن يشتبه عليه الطريق، ويقع في التيه، فلا يُحسن الاختيار، بين مسلكين; أحدهما في أعلى مرتبة والثاني في أسفل دركة، واللّه في خلقه شؤون.

الإنسان المسلم، الإنسان ذو القيم الإنسان الذي يحترم إنسانيته وعقله، الإنسان الذي يتمسّك بدين ويكون هذا الدين صادراً عن اللّه سبحانه خالق الوجود وخالق الجنّة والنار، وجاعل العقاب والثواب.

لا بدّ لمثل هذا الإنسان أن تكون له موازين، وأن تكون عنده حدود بين ما يمكن فعله وما لا يمكن فعله، ما بين الجائز والحرام، أما أن يفقد الإنسان كلّ ميزان، وكلّ حد، وكلّ القيم، ويفعل كلّ ما تصل إليه يد قدرته غير عابئ بأنّ فعلته هذه حرام، أو عيب، أو عار ، أو منقصة، أو خلاف الإنسانية، أو معبّرة عن انحطاط صاحبها، أو عن فقدانه للقيم، أو أنّ فعله أو أن فعله سبب لهد أركان الدين، أو المجتمع، أو باعث للفتن، وللأحقاد، فمثل هذا المرء لا يُعدّ إنساناً وإنّما مسوخاً عُدّ من البشر شكلاً وانتفى عنهم

حقيقةً ومضموناً.

كيف يعتدي من ينتسب للإسلام على نساء بيت النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، والأطفال الصغار من عائلة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وما أحلّت شريعة سماء ولا شريعة عشائر مثل هذه الأفعال غير شريعة الغاب والوحوش، على أنّ من يتأمّل في شريعة الغاب والوحوش يعلم أنّ لها حدوداً أيضاً وضوابط نابعة من استرسال هذه الكائنات مع ما جُبلت عليه وما خُلقت لأجله، فهناك ما تسترسل في فعله وهناك ما لاتقدم عليه أو تفرّ منه، وبنو أمية فعلوا مع عائلة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ما تأباه الإنسانية والمروءة بغضّ النظر عن انتساب المرء للإسلام أم لا.

ص: 190

لا أُعدّ لك كلّ ما فعلوه فهو لا ينحصر وانّما أُقدّم لك مثالاً ممّا رشح عنهم:

فبربّك أجبني: لِمَ قتلوا في ساحة المعركة وفي الساعات الأخيرة من حياة سيِّد شباب أهل الجنّة مجموعة من الصغار ممّن يتصل نسبه بالنبي الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

قتلوا القاسم بن الحسن عليهما السلام .

وقتلوا عبد اللّه بن الحسن عليهما السلام .

وقتلوا - تأمل بربّك هذا - عبد اللّه بن الحسين عليهما السلام وهو رضيع وعمره قُرابة الستّة أشهر ولعلّه يموت بعد دقائق لانعدام الحليب عند أمّه، ولنفاد الماء في قافلة الإمام (عليه السلام) ،

ولأجواء الحرّ الشديد في منطقة المعركة، ولعلّ بلوغه حدّ الموت هو الذي دعا الإمام (عليه السلام) إلى عرضه على جيش الضلالة كي يأخذوه بأنفسهم ويسقوه ماءً إن خافوا أن يستفيد خليفة اللّه ورسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وسبط النبي وسيد شباب أهل الجنّة من الحالة فيشرب قليلاً من الماء من خلال التماسه الماء لرضيعه، ومع ذلك لم يفعلوا بل بادروا برمي الرضيع بسهم في نحره المقدّس فذبحوه من الوريد إلى الوريد وهو في يد والده مرفوعاً أمام الجيش الكافر الفاقد لكلّ القيم غير قيم المائة درهم التي وعدهم إيَّاها الغادر الفاجر ابن زياد.

بربّك ماذا يغيّر من معادلة القتال لو سُقي الرضيع، أو لو تُرك حيّاً لكنّها الرذالة المعبّرة عن فقدان القيم ، وانقطاع الارتباط بالإسلام، وعدم الخوف من العذاب الإلهي والسخط الربوبي الذي قضى على إبليس بالهلاك الأبدي لمعصيته الأمر بسجدة وعلى قوم عاد باعتدائهم على ناقة، وعلى أصحاب السبت لصيدهم السمك فمسخوا قردة:

(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ)(1).

ص: 191


1- سورة البقرة، الآية 65 .

ما صدر من الفريق الثاني المقابل لأهل البيت عليهم الصلاة والسلام يُنبئ أنّ ليس وراء هؤلاء القوم ارتباط بالسماء، أو قيم كريمة، أو أهداف نبيلة، بل هي الدنيا يتقاتلون عليها كما تتقاتل الوحوش والكلاب على فرائسها ، فبمجرّد أن يحصل سبب، تنتكس كلّ الدعاوى، وترتفع كلّ الحجب، ويظهر خواء هذه الفئة وبُعدها العظيم عن أحكام الإسلام، وعن قيم الإنسانية معاً.

ومثال ثان :

كيف تؤخذ نساء عائلة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وفيهم ابنة فاطمة الزهراء عليها السلام، وحفيدة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وربيبته : زينب عليها السلام، أسارى سبايا من بلد إلى بلد وهنّ بأفظع حالة وأسوء مركب، وقد فقدن أعزّتهن أبناء البيت النبوي، وقادة الأمّة الإسلامية، ذبحاً أمامهنّ وهُنّ من هنّ في العفاف والستر والصون، وعظيم المقام.

أي قلم يُعبّر، وأي بلاغة تؤدّي وترسم حقيقة ما جرى، ولو أردت أن أصف الكارثة بحقّ امرأة من عامة المسلمين لما تمكّنت فكيف ببنات النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ونسائه ولا حدّ لشرفهنّ، ولصونهنّ وقد أسرهنّ من لا فضيلة فيه.

نعم، إنّ اللطف الإلهي حرسهنّ، وقد وعدهن الحسين (عليه السلام) المظلوم بأنّ المولى سبحانه سيحرسهنّ وينجيهنّ من كيد الأعداء، لكنّ النجاة التي حصلت لهنّ كالأمر الإعجازي، لطف خاص صنعه اللّه سبحانه بهن وإلا فمقتضى الحال غير الذي جرى، واستمع إلى زينب سلام اللّه عليها تُخاطب ملكهم يزيد - لعنه اللّه تعالى -:

«أَمِنَ العدل يا ابن الطلقاء، تخديرك حرائرك وإماءك، وَسَوْقِكَ بنات رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) سبايا، قد هُتكت ستورهنّ، وأُبديت وجوههنّ يحدوا بهنّ الأعداء من بلد إلى بلد، ويستشرفهنّ أهل المناقل، ويبرزن لأهل المناهِل، ويتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد،

ص: 192

والغائب والشهيد، والشريف والوضيع، والدنيء والرفيع، ليس معهنّ من رجالهن وليّ، ولا من حماتهنّ حميم، عتوّاً منك على اللّه، وجحوداً لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ودفعاً لما جاء به من عند اللّه، ولا غرو فيك، ولا عجب من فعلك، وأنّى يُرتجى الخير ممّن لفظ فوه أكباد الشهداء ونبت لحمه بدماء السُعداء، ونصب الحرب لسيّد الأنبياء، وجَمَعَ الأحزاب، وشَهَرَ الحِراب، وهزّ السيوف في وجه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أشدّ العرب اللّه جحوداً، وأنكرهم له رسولاً، وأظهرهم له عدواناً، وأعتاهم على الربّ كفراً وطغياناً»(1).

وعظيمة العظائم التي اقترفها فروع الشجرة الملعونة في القرآن; ذبحهم سيِّد شباب أهل الجنّة، وابن رسول اللّه، وخليفة اللّه ورسوله في الأرض، آخر أصحاب الكساء، ومن وردت في بيان عظمته وعظمة مقامه في الدنيا والآخرة الكثير من الآيات والروايات بعد أن ضيّقوا عليه فانتقل من بلد إلى بلد حتى ارتحل إلى بلد عاهده على حمايته وحماية أهل بيته وحماية قضيّته والدين الذي يريد له البقاء والحياة والاستمرار والتطبيق إلا أنّه - صلوات اللّه عليه - وجد الجيوش الجرّارة بانتظاره قد سدّت الأفق.

و حاصرته مع نسائه وصبيته ومجموعة قليلة من شباب أهل بيته - 17 نفر - ومجموعة قليلة من صحبه فيهم الصحابي وفيهم التابعي وفيهم معلِّم القرآن - ومعلّم القرآن في تلك الفترة مرتبة علمية عالية في المجتمع ويُعدّ العالم الذي يشار إليه بالبنان ويُلتفت إليه بالتعظيم وتؤخذ منه أحكام الدين - .

لو أردنا استيعاب الجريمة التي أقدم عليها الأمويون بحق الحسين (عليه السلام) وبحقّ الإسلام فعلينا استيعاب - من هو الحسين، وما موقعه في الإسلام؟

ص: 193


1- الاحتجاج، الشيخ الطبرسي، ج 2 ص 125 .

عود على بدء:

نُلاحظ انّ كلّ من استلم السلطة من بني هاشم، لم ينتقم من مناوئيه من بني اُمية مع مرارة أفعالهم، وشدّة وطأتهم.

هذا النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فتح مكة، واعتقل كلّ من بقي على الكفر إلى ذلك اليوم ومنهم معاوية - خال المؤمنين - والذي ما فعل أحدٌ بالمؤمنين من جرائم كأفعاله التي لا تُعدّ ولا تُستقصى.

فأصبحوا عبيداً للنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بحسب قانون الحرب والأحكام الإسلامية، وكانوا هم يتوقّعون القتل لعظم جرائمهم التي ارتكبوها بحق النبي والإسلام والمسلمين طول فترة الصراع التي بلغت إحدى وعشرين عاماً، فما كان من النبيّ إلا أن أطلقهم وقال لهم : «إذهبوا فأنتم «الطلقاء»، فسرّحهم ومنَّ عليهم بالحياة والحريّة، وكان بينهم وبين الموت أو العبوديّة شعرة، وكانت النتيجة أن بقي اسم - الطلقاء - سُبّة عليهم إلى آخر الدهر، كي لا تنسى الأُمّة حقيقة هذه الفئة وتعرف كيف تتعامل مع أُناس بقوا على الكفر إلى آخر لحظة وما أسلموا إلا بعدما استولى الإسلام على جزيرة العرب وانتهى كل شي، فما كان من بعض الأمّة إلا وأسبغت على الطليق معاوية لقب - خال المؤمنين - ومكنته من رقاب جميع الأمة، وسلّمته منصباً يحتاج لإيمان عظيم، وعدالة لا تُضاهي، وصفات أُخرى يقلّ حامليها، وقدّمته على عظماء المهاجرين والأنصار والبدريّين وأهل السابقة، والجهاد، والعلم والورع، بل ويُسلَّم ولاية من أعظم ولايات الدولة الإسلامية ثمّ لا يُحاسب ولا يُعزل ولا يُتابع في شيء، إن هي إلا الخيانة العظمى واللّه.

ثمّ تعال معي فالقِ بصرك إلى مسيرة علي أمير المؤمنين (عليه السلام) مع معارضيه والمتألّبين عليه طيلة خمسة وعشرين عاماً فانظر كيف عاملهم يوم تولّى الخلافة.

ص: 194

لم يُعرف عنه أبداً أنّه التفت إلى أحد منهم أيام حكمه، أو تابع أحداً وحاسبه على ما مضى.

بل أهمل حتّى الذين امتنعوا عن بيعته ومنعوا عنه نصرهم وخذلوه في كل شؤونه وأنت تعلم - ولا ريب - أن ليس للحسين صلوات اللّه عليه ما يقتضى من بني اُميّة محاصرته وإصدار حكم القتل عليه، وهو بَعْدُ في المدينة لم يحرِّك ساكناً، إلا امتناعه عن البيعة.

وهذا الإمام علي (عليه السلام) في سماحته وإغضائه مع المتألّبين عليه والعاملين على إطفاء جذوة ولايته وحكمه من الناكثين «عائشة وجيشها» والقاسطين «معاوية وجيشه» والمارقين «الخوارج» فإنّه لم يصدر منه تجاههم بعد تشتيت جموعهم وكسر شوكتهم. إلا الإعراض والغضّ وإيكال أمرهم إلى الجبار المنتقم، فلم يتتبعهم اعتقالاً وقتلاً ونفياً ومصادرةً للأموال وسملاً للأعين وهدماً للدور كما هو فعل معاوية وبني أُميّة بشكل عام.

بل هذا الإمام علي (عليه السلام) مع من أسر يوم الجمل وهم عائشة وعبداللّه بن الزبير ومروان بن الحكم قادة الفتنة وفي عنق كلّ منهم جرائم لا تُحصى، كيف وكل أمرهم إلى انتقام اللّه سبحانه وعمل جُهده في إطفاء نيران الفتنة التي أوقدوها حبّاً بالخلافة وامتيازاتها، كما أنّه لم يُطارد أحداً أيّام حكمه وكان كلّ همّه هو كفّ يد العدوان وكفى.

وعلى نهجه سار ولده الإمام السبط الحسن (عليه السلام) خليفة اللّه ورسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، والخليفة المنتخب من الأُمّة برضاها وطواعيتها فلم ينتقم من أعدائه ولا من أعداء أبيه.

هذا الإمام (عليه السلام) الذي طالما ظلمه كُتّاب الأمّة ومؤرِّخيها حيث يلوون عنان القلم حينما يقتضي الأمر ذكره عند عدّهم لخلفاء الأمّة إذ ينتقلون من ذكرهم لأبيه أمير

ص: 195

المؤمنين علي (عليه السلام) إلى ذكر صاحب الملك العضوض معاوية مع أنّ الإمام أبو محمد الحسن (عليه السلام) إمام الأُمّة بنص النبي الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والنصوص القرآنية والنبويّة في حقّه لا تُعدّ ولا تنحصر.

وإن اعتذروا بقصر مدّة خلافته فإنّ خلافة مروان بن الحكم - الوزغ بن الوزغ(1) - ثمانية أشهر أو تسعة ومع ذلك يجد لخلافته الاهتمام الكبير من جهتهم.

هذا وغيره، يعرّفك أيّة أُمّة هذه، وأي علماء هؤلاء، تأمل وأحكم، ولا تنسَ أنّ اللّه جلّ وعلا خلق الجنّة لمن أطاعه وإن كان عبداً حبشيّاً، وخلق النار لمن عصاه وإن كان سيداً قرشيّاً.

لاحظ أيضاً مسلماً حين تمكّن من السيطرة على الكوفة فلم يُعرف عنه أنه انتقم من أحد، وهذا الإمام الرضا (عليه السلام) يوم تولّى ولاية العهد فلم يحرك ساكناً ضدّ أحد بأيّ شكل يمكنه من الانتقام.

وبقيّة الأئمّة من أهل البيت عليهم السلام حالهم كما تقدّم، فما كانت تعوزهم القدرة للانتقام ولو شاءوا لفعلوا بالرغم من الظروف العصيبة والحالكة التي يمرّون بها بسبب هذا الطاغوت وذلك الظالم وبسبب كثير من أعوان الظلمة والنواصب والمنحرفين عن خطّ أهل البيت (عليهم السلام) ونهجهم، ومع كلّ المظالم التي نالتهم. لم يألوا نصحاً للأُمّة ولمن تزعّم أمر الأمّة واستلم دفة الحكم، حفظاً للإسلام والجهود النبي الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتضحياته وأهدافه.

ص: 196


1- في فيض القدير شرح الجامع الصغير - المناوي ج 2 ص 76: وروى الحاكم وصححه عن ابن عوف قال: كان لا يولد لأحد مولود إلا أتي به النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فدعا له فأدخل عليه مروان فقال «هو الوزغ بن الوزغ الملعون».

واعكس الأمر مع كلّ ناصب ومنحرف وحاكم فإنهم ملأوا البلاد الإسلامية طولاً وعرضاً بدماء آل محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

فتكوا بهم وتركوا في دورهم النوائح - وما فيها غير الأرامل والصبية الأيتام، والبؤس والفقر، وهاهي قبورهم تملأ الأرض لكنّها تناطح السحب علوّاً وعلى كلّ ضريح منهم يتكدّس الذهب والفضّة، وتقبل الناس قبورهم وأعتابهم وحيطان مشاهدهم وتقصدهم من أقاصي الأرض ، وتبذل في سبيلهم النفس والنفيس ويسلّمون عليهم من قُرب وبُعد :

«السلام عليك يا ابن رسول اللّه .. أشهد أنك أقمت الصلاة وآتيت الزكاة وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر وأحللت حلال اللّه وحرّمت حرامه.. لعن اللّه من قتلك واستحل بقتلك حرمة الإسلام».

هذه قبور آل محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فبربّك قُلْ لي أين انتهى أعداؤهم ومناوؤهم ولِمَ لم يهتمّ بها أعوانهم وأولياؤهم ومن سلك دربهم وحافظ على فكرهم : (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ)(1).

في الطفّ ظهرت صفة الوفاء، من خلال الحسين (عليه السلام) الذي وفي بوعده لأهل الكوفة بالقدوم عليهم واستعداده لعمل ما يخلّصهم من ظلم بني أُميّة، ومن خلال صحبه الذين وفوا بعهدهم معه، وظهرت صفة النصح للأمّة، وصفة حفظ الوعود والعهود، وظهر التديّن، والورع، والعِفّة .

ومن الجانب الثاني تفوح صفات الغدر ، والاحتيال، والكذب، والغش، والفسق، والتمرّد على اللّه ورسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعلى كلّ القيم والمعاني السامية.

ص: 197


1- سورة القمر، الآية 46 .

ص: 198

سبب انهيار الحركة

لا ريب في أمر واحد علينا التسليم به قبل تناول جوانب الموضوع.

وهو أنّ مسلم بن عقيل لا يتحمّل أية تبعة في انهيار الحركة الحسينية حقيقة وواقعاً.

بل الصحيح أنّه مهد لها ووطأ الأسباب وعمل المستحيل في سبيل إنجاح الحركة الحسينية إلا أنّ عواملاً قويّة حالت دون تمام المراد، ليس هو منها في شيء على أيّ حال.

والركن الأساس في الانهيار هو ابن زياد - لعنه اللّه - وأيضاً نفس الشيء الذي كان المقوّم للثورة والمنجز لها وهم أهل الكوفة الذين استغاثوا بالإمام (عليه السلام) طيلة عشرين عاماً فنهض الإمام (عليه السلام) لإغاثتهم ولرفع الحيف عنهم ولإعادة الروح إلى المجتمع الإسلامي المحتضر.

وقد قال أبوه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) من قبل: «لولا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود الناصر لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أوّلها ولألفيتم دنياكم عفطة هذه أهون عندي من عنز».

وبعد أن كان توفّر الأنصار أحد أهمّ المقوّمات للثورة فإذا بهذا المقوّم ينهار عند أوّل ضربة، وتتداعى الحركة كلها بعد انهياره.

السبب الرئيسي في الانهيار ما تقدّم، ويمكن تلخيص عوامل الانهيار عند أهل الكوفة بما يلي:

1. انعدام الدافع العقائدي أو ضعفه عندهم.

ص: 199

فجمعٌ مهمّ ممّن كتب للإمام لم يكونوا من الشيعة وليسوا ممّن يعتقد بإمامة الإمام ووجوب طاعته على أساس أنّه خليفة اللّه ورسوله في الأرض.

هذا - مثلاً - شبث بن ربعي من قادة الخوارج قبل الحركة الحسينية ومن قادة جند ابن زياد في الجيش الخارج لمحاربة الإمام مع أنّه كان من جملة المكاتبين للإمام (عليه السلام) إذ هؤلاء كانوا ناقمين على الوضع تحت وصاية بني أمية وكانوا يطمحون للخلاص منهم، فلمّا سنحت الفرصة بهلاك معاوية كاتبوا الإمام (عليه السلام) ثمّ لمّا قويت شوكة الدولة من جديد بقدوم ابن زياد إلى الكوفة عادوا إلى إظهار الموالاة للدولة وموادعتها والتزلّف إليها تخلّصاً من شرها واستدراراً للمغانم منها.

كما أنّ بعض المتخاذلين هم ممن يظهرون الحبّ والولاء لأهل البيت إلا أنّ هذا الحبّ والولاء لم يرتكز على قاعدة عقائدية متينة فانهار ولاؤهم سريعاً بمجرد التعرّض للضغط والإرهاب الأموي.

2. حبّ الحياة والتعلّق الشديد بالدنيا، فلم يكونوا يتمتّعون بالروح التضحوية والفدائية التي كانت متوفّرة في شرطة الخميس مثلاً - وشرطة الخميس قرابة الخمسة آلاف رجل شرطوا للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) نصرته حتى تتحقق أهدافه أو يموتوا دونه و شرط لهم على اللّه الجنّة منهم مالك الأشتر وأمثاله -.

ونلاحظ انّ من جملة التهديدات التي أدت إلى انهيارهم:

أ - التهديد بجيش الشام.

ب - قطع الرواتب.

ج - تشتيت جموعهم في سرايا الغزو والجهاد.

ص: 200

وقد أعلنها الإمام صريحة لما قال له الفرزدق عن أهل الكوفة: قلوبهم معك وسيوفهم عليك

إذ أجابه الإمام (عليه السلام) : «الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم، يحوطونه ما درّت معائشهم فإذا مُحّصوا بالبلاء قلَّ الديانون»(1).

وقد صاغ الشيخ فتح اللّه الأصفهاني - شيخ الشريعة، قائد ثورة العشرين- نفس المعنى بصياغة ثانية:

.. أقول هذا مع علمي بأنّ الناس لا خير فيهم إذا مس الدين دنياهم(2).

وهذا معناه أن المأساة مستمرة، لأن سببها قائم.

ولو كانت الروح التضحوية الفدائية متوفّرة كما هو المطلوب في مثل هذه الظروف والثورات المصيرية التغييريّة، لما انهاروا سريعاً خلال يوم واحد، بل واصطفّوا في سرايا وكتائب الجيش الأموي وخرجوا لحرب الإمام (عليه السلام) .

3. عدم توفّر جانب الوعي عند الكوفيّين وإلا فمن يُقاسي مختلف ألوان الذُلّ والضغوط من آل أمية وولاتهم قرابة العشرين عاماً وقد لاحت له تباشير الفرج والخلاص كيف يصغي للأراجيف وللتهديد بجيش الشام وقطع العطاء مع أنهم خبروا هذه الدولة وحكامها وخبروا عدل عليّ وولده وقد استماتوا طيلة هذه السنين لتحصيل موافقة الإمام على إكمال مسيرة والده وأخيه في الكوفة وقد جَدَّ منه العزم على تغيير الأوضاع من جديد.

4 . الحركة السريعة التي قام بها ابن زياد بمساعدة جمع من أتباع السلطة وأدواتها

ص: 201


1- العبّاس (عليه السلام) الشيخ القرشي، ص 167 .
2- لمحات اجتماعية من تأريخ العراق الحديث، علي الوردي، ج 5 ق 2 ص 78

في بثّ الإشاعات والأراجيف والتهديدات بجملة من العقوبات ممّا حدا بأكثر الناس إلى الانسحاب من ساحة المواجهة وتخذيل بعضهم لبعض تحاشياً لغضب الدولة ورهبة صولتها.

5. دور بعض شيوخ العشائر والوجهاء وأصحاب المصالح في توهين عزائم الناس، وتثبيطهم، وإدخال الخور والرُعب في نفوسهم وتأكيد التخويف بجيش الشام وقطع العطاء والأرزاق.

6 . قساوة الجهاز الحاكم ودمويّته المعروفة في التعامل مع حالات العصيان والتمرّد فإنّ تجربة أهل الكوفة معهم مُرّة وقاسية جدّاً، إذ أنّ المعروف عن بني أمية والحكّام الذين يعملون تحت إمرتهم أنهم لا يتوقّفون عن فعل أيّة جريمة مهما كانت ولا يخافون حشراً ولا عقاباً.

إلا أنّ هذا الأمر - في الواقع - من دوافع أهل الكوفة للاستغاثة بالإمام السبط (عليه السلام) وطلب إنجاده لهم لتخليصهم من الحكم الأموي وكان الأجدر عند استذكارهم لهذا، التصلّب والاستماتة في نصرة الإمام (عليه السلام) حتى تحقيق الهدف المشترك إلا أن انضمام هذا السبب إلى عوامل الانهيار الأخرى أثّر تأثيراً عكسياً وقلبهم إلى أعضاد لبني أُميّة اجتناباً لسخطهم ونتائج غضبهم وهم يشبهون في مسلكهم هذا طائفة اليزيدية الموجودين في بعض نواحي العراق - سنجار - إذ يعبدون الشيطان ويقدّسونه(1)بدعوى أنّه شرٌّ كلّه، وانهم إنّما يعبدونه للنجاة من شرِّه...!!

ص: 202


1- ألّف فيهم الباحث السيّد عبد الرزاق الحسني، المؤرخ العراقيّ المعروف كتاباً يحكي عقائدهم وسلوكياتهم وحياتهم عن معاشرة واطّلاع شخصي ، وقد طبع الكتاب في العراق وطبع له كتابان آخران الأوّل عن الصابئة، والثاني عن البابية والبهائية.

دروس من حركة مسلم

حركة مسلم جزء من حركة الإمام الحسين صلوات اللّه عليه وسلامه.

وبانهيار حركة مسلم بدأ التداعي في حركة الإمام سيِّد الشهداء (عليه السلام) ومن حركة الإمام الشهيد (عليه السلام) نستلهم الدروس والعِبر في مجالات شتّى.

وكذا من حركة مسلم.

والدروس المستفادة من حركة الإمام الشهيد لها موضع آخر، فلنعرج إلى ما يُستفاد من حركة مسلم.

وقبل البدء نقول: إنّ فاجعة كربلاء من أوجع الكوارث التي حلّت بالإسلام ومن أكثرها مرارة بكلّ تفاصيلها وأحداثها، ولو لم يكن من أحداثها غير إنّ سبط رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وسبط محرّر الإنسانية من الشرك والخرافات والحياة الرذلة يتحوّل من بلد إلى بلد بنسائه وأطفاله وأهل بيته وخيرة صحبه فلا يجد له مأوى ولا مقرّ إذ تلاحقه أجهزة الدولة لاغتياله أو لكسر مقاومته للدولة المتجبّرة ولإخضاعه لخلافة يزيد مُذلّ المؤمنين وهاتك حرمات الإسلام.

لو لم يكن من كوارث تلك الفترة غير تنقّل الإمام من مكان إلى مكان، لكانت القاصمة، كيف وقد جرت الأحداث بما لا يرتضى جريانه على أيّ مسلم .

ستبقى مصيبتنا بالحسين (عليه السلام) خالدة، وإن ثار المختار وقتل قَتَلة الحسين (عليه السلام) وحصل أقصى ما يمكن فعله للأخذ بثأر الحسين (عليه السلام) ، فإنّ حرارة المصيبة لن تبرد.

ص: 203

لقد فعل بنو أمية ما لا يتدارك أبداً، ولن ينجو أحد من عاره إلّا بالبراءة كلّ البراءة القتلة وأفعالهم وصبّ اللعنات عليهم وهذا أضعف الإيمان.

نعود إلى الدروس المستفادة من حركة مسلم

1 . الدرس الأوّل الذي نستفيده من حركة مسلم ومن نفس سلوك مسلم رضوان اللّه تعالى عليه : انّه يلزم علينا التحرّك لسدّ الثغرات على الدين وأهدافه، ولتحقيق أقصى ما يمكن فعله في سبيل إنجاح الحركة الدينية وفتح المسار لها وذلك بمتابعة الواقع الخارجي، والتأكد من صحة تشخيصه لاتخاذ الموقف المناسب بأزائه، ومما يملأ النفس مرارة عظم الثغرة في جانب التشخيص هذا وصحته إذ يقع المرء كثيراً بين الإفراط والتفريط فتختلّ النتائج واللّه المستعان .

ومسلم بن عقيل أخذ البيعة من الناس وجمع الرجال والمال والسلاح ثمّ أعلن الثورة على ابن زياد واحتل الكوفة إذ الحزم والإمساك بزمام الأحداث بقوة كان يقتضي هذا، وكان الصلاح ظاهراً فيما فعله ولو عادت الأحداث القهقري لما وجدنا الصلاح إلا فيما فعله ورغم كلّ حزمه وضبطه فإنّ البناء الذي شاده بإحكام وإتقان قد انهار وليس الانهيار بسببه بل لخذلان أهل الكوفة له وعدم جديتهم في نصرة الإمام (عليه السلام) فهم يريدون قلب الأوضاع وكسح بني أمية من الساحة إلّا إنّهم يريدونها كالغنيمة الباردة، تحصل بدون متاعب تُذكر وحالهم كحال من خاطب موسى (عليه السلام) : (فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ)(1).

وما سلكه مسلم ليس بغريب عن المباني الفقهيّة المعمول بها فعلاً والمستفادة من النصوص المباركة إذ هي نفس ما نعبّر عنه اليوم بالأمور الحسبية.

ص: 204


1- سورة المائدة الآية 24 .

والأمور الحسبية: هي الأُمور التي نعلم بالدليل إرادة الشارع المقدّس لها إلّا أنّه لم يظهر لنا - بدليل - إناطة القيام بها وطلبها من جهة معيّنة بالذات فيلزم صدورها على نحو الواجب الكفائي إلّا أنّه يحتمل لنظر نائب الإمام مدخلية في صحّة صدورها أو يكون القدر المتيقّن ممّن يصحّ صدورها منه هو الفقيه فلابدّ من إذن الفقيه الذي هو نائب الإمام في المقام.

وما قام به مسلم هو من تطبيقات هذا الأمر إذ هو ممثِّل الإمام (عليه السلام) ونائبه في الكوفة فلابدّ له من التصدّي للأمور الهامة التي بها تحقيق مهمّة الإمام (عليه السلام) وإنجاحها وهي من أخطر الأعمال التي تصدر عن الإمام (عليه السلام) المعصوم إذ عليها يتوقّف مصير الإسلام ومصير الإمام (عليه السلام) ومصير الأُمّة، وكذلك عليه سدّ الثغرات التي تحصل فجأة في حركة الإمام (عليه السلام) ونهضته وإلّا اتسع الخرق وعسر العلاج.

ولعلّ في مجموعة من الظروف التي تواجه الإسلام والحركة الإسلامية والعلماء والحوزة والمذهب اليوم هي أُمور من هذا القبيل التي لو كان مسلم حيّاً لسارع وبادر إلى العمل الجادّ المضني لسدّ الثغر وتهيئة الفرصة لإعادة الروح للوجود الإسلامي وللمجتمع الإسلامي، وأيّ أمر حسبيّ أهمّ من هذا؟

أمّا ترك الأمور على علّاتها، بدعوى أنّ في ازدياد الأمور سوءاً ظهور الإمام (عليه السلام) أو تحقق الآمال بوجه آخر فمن يضمن هذا ؟ وعلى أيّة ضابطة ؟ ولعلّها تفتح على الإسلام باباً من الشرّ لا يُسدّ وبلاء لا ينقطع، وتغرق السفينة بمن فيها والشواهد لا تُحصى.

والحقيقة إنّ الأمور تبشِّر بالخير، ورعاية ولي اللّه الأعظم للإيمان وأهله وللعلم وأهله لا تخفى بل هي اليوم ظاهرة للعيان، أسأل اللّه سبحانه تحوّل الأمور من الحسن إلى الأحسن حتّى تُختم بظهور بقيّة اللّه في أرضه، وأسأله سبحانه أن يرزقنا رضاه في

ص: 205

غيبته وظهوره وأن يجعلنا محلّ عنايته وتسديده ومورد عفوه وصفحه فإنّه أهلٌ لكلّ هذا وأعظم من هذا لي ولكلّ محبّيه.

2. من الأسباب المهمّة التي أدّت إلى كشف مكان مسلم، وإلى كشف طبيعة المهمّة التي جاء بها، والأعمال التي يمارسها فعلاً في الكوفة، تمكّن جاسوس ابن زياد ويدعى - معقل - من الوصول إلى معرفة ما تقدّم عبر تعرّفه على إحدى الشخصيات المهمّة الموثوقة عند مسلم رضوان اللّه تعالى عليه وهو:

مسلم بن عوسجة - أحد أبطال الطفّ ومن أبرز الشهداء - .

روي: دعا ابن زياد مولىً له يقال له معقل، فقال: خُذ ثلاثة آلاف درهم، ثمّ اطلب مسلم بن عقيل، والتمس أصحابه، فإذا ظفرت بواحد منهم، أو جماعة، فأعطهم هذه الثلاثة آلاف درهم، وقل لهم: استعينوا بها على حرب عدوّكم، وأعلمهم أنّك منهم ، فإنّك لو قد أعطيتها إيَّاهم، لقد اطمأنّوا إليك، ووثقوا بك ولم يكتموك شيئاً من أخبارهم ، ثمّ اغدُ عليهم ورُح حتّى تعرف مستقرّ مسلم بن عقيل وتدخل عليه.

ففعل ذلك، وجاء حتّى جلس إلى مسلم بن عوسجة الأسدي في المسجد الأعظم وهو يصلّي، فسمع قوماً يقولون: هذا يُبايع للحسين (عليه السلام) ، فجاء فجلس إلى جنبه حتّى فرغ من صلاته، ثمّ قال:

يا عبداللّه، إنّي امرؤٌ من أهل الشام أنعم اللّه عليَّ بحبّ أهل هذا البيت وحبّ مَنْ أحبّهم، وتباكى له وقال: معي ثلاثة آلاف درهم، أردت بها لقاء رجل منهم بلغني أنّه قدم الكوفة يُبايع لابن بنت رسول اللّه فكنتُ أُريد لقاءه فلم أجد أحداً يدلّني عليه ولا أعرف مكانه، فإنّي لجالسٌ في المسجد الآن إذ سمعت نفراً من المؤمنين يقولون: هذا رجل له علم بأهل هذا البيت وإنّي أتيتك لتقبض منّي هذا المال وتُدخلني على

ص: 206

صاحبك، فإنّما أنا أخٌ من إخوانك وثقة عليك ، وإن شئت أخذت بيعتي له قبل لقائه .

فقال له مسلم بن عوسجة; : أحمد اللّه على لقائك إيَّاي، فقد سرّني ذلك، لتنال الذي تحبّ، ولينصر اللّه بك أهل بيت نبيّه عليه وآله السلام ولقد ساءني معرفة الناس إياي بهذا الأمر قبل أن يتمّ مخافة هذا الطاغية وسطوته.

فقال له معقل : لا يكون إلّا خيراً، خُذ البيعة عليَّ.

فأخذ بيعته وأخذ عليه المواثيق المغلّظة لَيُناصحنَّ وَلَيَكْتُمَنْ، فأعطاه من ذلك ما رضي به .

ثم قال له: اختلف إليَّ أيّاماً في منزلي، فأنا طالب لك الإذن على صاحبك.

فأخذ يختلف مع الناس، فطلب له الإذن، فأُذِنَ له، فأخذ مسلم بن عقيل رضي اللّه عنه بيعته، وأمر أبا ثمامة الصائدي - وهو من شهداء الطفّ أيضاً - فقبض المال منه، وهو الذي كان يقبض أموالهم وما يُعين به بعضهم بعضاً، ويشتري لهم السّلاح، وكان بصيرا، ومن فُرسان العرب، ووجوه الشيعة.

وأقبل ذلك الرجل يختلف إليهم، وهو أوّل داخل وآخر خارج، حتّى فَهِمَ احتاج إليه ابن زياد من أمرهم، وكان يخبره وقتاً فوقتاً(1).

ما تقدّم قد ذكره المفيد في كتابه - الإرشاد - واختصر السيّد ابن طاووس المطلب في اللّهوف فقال :

وكان عبيد اللّه بن زياد قد وضع المراصد عليه - أي وضع العيون والجواسيس على

ص: 207


1- الإرشاد الشيخ المفيد، ج 2 ص 46 .

مسلم - فلمّا علم أنّه في دار هانئ(1) ...

بينما ذكر الطبري في تاريخه، وابن كثير في البداية والنهاية، والدينوري في الأخبار الطوال(2) ، ما نقله المفيد في الإرشاد.

حينما نتأمّل في هذه الرواية ونمعن الفكر في الطريقة التي اتّخذها ابن زياد لكشف مقرّ مسلم وطبيعة مهمته، وتحرّكاته، ونتابع الأحداث التي تمخّضت عن خطّة ابن زياد، فسنرى العجيب المُذهل .

أيُمكن لمعقل أن يكون الثغرة التي نفذ منها ابن زياد، ونقض قواعد الحركة كلّها من جهته ؟

والتفت معي إلى الطريقة التي توسّل بها ابن زياد لتحقيق فكرته، والعنوان الذي ادّعاه ذلك الآثم لينجح في مسعاه:

أ - شامي: وأهل الشام بشكل عام من أنصار بني أمية، فإذا انضمّ أحدهم إلى حركة أهل البيت عليهم السلام وأظهر محبّتهم وموالاتهم فإنّ هذه الحيثية ستسبّب اهتمام مسلم وصحبه به وتدفعهم إلى استيعابه ومعاملته بالترحاب بشكل استثنائي، وهذه حالة ملحوظة في أيامنا هذه حين يعرض امرؤ غير مسلم دخوله في الإسلام، أو من مذهب آخر دخوله في مذهب الإمامية، أو يتظاهر غير ملتزم بأحكام الدين التزامه بها وبشكل حادّ ونحو هؤلاء فإنّ المجموعة المؤمنة تندفع لاستيعابه واحتضانه والاهتمام به بما قد يؤدّي إلى الغفلة عن حقيقة توجّهاته.

ص: 208


1- الملهوف، السيّد بن طاووس، ص 114 .
2- تاريخ الطبري ج 4 ص 270 ، والبداية لابن كثير ج 8 ص 153 ، والأخبار الطوال للدينوري ص 249 .

وليس قصدنا من هذا الطعن في كلّ متحوّل إلى طرف الالتزام بل على العكس من هذا فإنّ دين الإسلام ومذهب الإمامية فيهما من الدواعي والحقّانية ما يجذب الإنسان المثقّف والواعي وذي الضمير الحيّ ونحوهمّ، إلا أنّنا ننبّه إلى أنّ هذه الجهة ثغرة ينفذ العدوّ منها ونقطة ضعف في النفس الإنسانية بشكل عام ينبغي الالتفات إليها .

ب - مولى : ومعنى المولى الدارج في ذلك الزمان هو من لم يكن عربياً.

وقد قامت سياسة بني أمية على تفضيل العنصر العربي على غيره، على عكس سياسة بني العباس والتي قامت على تقديم الموالي وتفضيلهم على العرب، وكلتا السياستين ليستا من الإسلام في شيء، بل المسلمون كلّهم سواسية في مطلق الأمور ويتقدّم بعضهم على بعض في بعض الموارد بالتقوى والإيمان، والعلم والكفاءة، وهناك عناوين أمر الشرع المقدّس الاهتمام بها بلحاظ ارتباط الاهتمام بها ، بنفس الاهتمام بالدين وتشييده وكلّ هذا يؤخذ من الفقه عن طريق فتاوى العلماء العدول المستوعبين لمباني الشريعة وأحكامها وليس محلها هنا ومرامنا هنا الإشارة إليها فقط.

فبمقتضى سياسة بني أمية مع الموالي، وتفضيل العرب عليهم، فإنّ الموالي أصبحوا من الطبقة الممتهنة والمضطهدة - بالفتح - فلا تميل إلى خدمة الكيان الحاكم والإخلاص له، كما أنّ بني أُميّة لا يدخلونهم في وظائفهم ولا يثقون بهم.

فاستغلّ معقلاً هذا الحال وادعى أنّه من الموالي كي يتمكّن من استحصال ثقتهم به ويستطيع النفوذ بينهم، وادّعاء معقل أنّه من الموالي لم يذكره المفيد وإنّما ذُكر في رواية الطبري.

ج - محبّ لآل محمد: ومعلوم أنّ كون المرء محبّ لأهل البيت (عليهم السلام) ممّا يدفع بمسلم وصحبه إلى الترحيب بالقادم واستيعابه وإدخاله في أمرهم لأنّ انتصارهم

ص: 209

انتصار له وقضيّتهم قضيّته .

د - يعرض مبلغاً كبيراً من المال : وهذا ما يدفع إلى حُسن الظنّ بالطرف المقابل، لأنّ الناس إنّما تعرض نفسها بلسانها وأمّا أن تضحي بالمال، وبمبلغ كبير، فإنّ هذا قرينة على أنّ هذا الشخص من ذوي الدرجات الرفيعة في الإيمان، ومن المضحّين، وممّن يلزم فسح المجال له لرفد الحركة بالقوة. وهذه الفقرات والعناوين، لعلّ قائلاً يقول إنّها ممّا يمكن كشف الدسيسة حتّى مع وجودها، ويمكن التخلّص من الشَرَكُ الأموي المُناط بها.

فإنّ هذا تعليل بعد الورود، وبعدما عرفنا ورأينا النتائج، وسمعنا بالتفاصيل، والأمور لا تُقاس بنتائجها، وأمثال هذه الشِراك حينما تُهيّأ فإنّها توقع في الاشتباه ولا يُلتفت إليها إلّا بعد انقضائها .

والقصد أنّ الدرس الذي تقدّمه لنا حادثة المجرم معقل، هو الالتفات تمام الالتفات إلى خُدع الظلمة ودسائسهم، وإمكانياتهم في زماننا أعظم بكثير من إمكانيات زمان مسلم رضوان اللّه تعالى عليه ، والسلاح اليوم سلاح الإعلام بفروعه، كسلاح الإشاعات والأراجيف، واستخدام مختلف صنوف المغالطة والتمويه والتدليس لحرف أنظار الرأي العام عن القضية المركزية وإلهائهم بتوافه الأمور حتى تقع الجريمة العظمى، أو تشويه وجه الحقيقة بحيث لا تقبلها الأمة وتنبذها مع أنّ فيها إنقاذها وسعادتها.

ولا يستوعب المقام أساليب الدجل والتضليل التي يمارسها الظلمة والتي تُوصل الأمة إلى المتاهة ثمّ الانقلاب على الأعقاب وهكذا الأمر جيلٌ بعد جيل والمأساة مستمرّة لا تقف عند نقطة، والحق مهضوم، والإسلام مكفأ ، والقرآن مهجور، والإمام (عليه السلام) غائب .

ص: 210

3. الالتزام الحرفي والدقيق بأوامر الإمام المعصوم (عليه السلام) ونواهيه فإنّ نتيجته إحدى الحسنيين إمّا الظفر بالمطلوب، أو الفوز بالأجر والثواب وتحصيل القُرب من المولى سبحانه، وفي عصيانه يقع المرء تحت طائلة العقوبة سواءً أحصل على مراده أم لا.

ومسلم رضوان اللّه تبارك وتعالى عليه نال رضا المعصوم (عليه السلام) وترحّمه فقد نُقل عن سيد الشهداء (عليه السلام) قوله : «رَحِم اللّه مسلماً، فلقد صار إلى روح اللّه وريحانه، وتحيّته ورضوانه، أما أنّه قد قضى ما عليه، وبقي ما علينا»(1).

ولم يُنقل عن سيّد الشهداء لا من قريب ولا من بعيد أنّه لامَ مسلماً أو أظهر تأسّفاً على فعل صدر عنه، كما أنّ من المعلوم أنّ صيرورته فوراً بعد استشهاده إلى رضوان اللّه تعالى أعظم دليل على أنّه التزم تعليمات الإمام (عليه السلام) وأوامره ونواهيه وبذل وسعه وجهده في النُصح لإمامه وفي سدّ الثغرات في حركته، وفي تحقيق كلّ ما هو تكليفه حتّى قضى شهيداً سعيداً مرفوع الرأس قد أدّى ما عليه، رضوان اللّه تبارك وتعالى عليه.

4. الحذر من نقض العهود والعقود والمواثيق خصوصاً مع اللّه تعالى والنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمّة المعصومين وكذلك مع من يقوم مقامهم من نوابهم الخاصّين أو العامين.

والنائب الخاص : من يكلّفونه بمهمّة محدّدة كمالك الأشتر المعيّن لقيادة جيش أمير المؤمنين (عليه السلام) أو للولاية على مصر، أو المعيّن بالاسم كنوّاب الإمام المهدي (عليه السلام) الأربعة: العُمري، والخلّاني، والنوبختي، والسمري رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين.

والنائب العام: هو الفقيه العادل في زمن الغيبة الكبرى حتّى ظهور وليّ اللّه الأعظم وحفيد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) و بشارته إلى الأمة - المهدي (عليه السلام) -.

فإنّ في نقض العهود والمواثيق آثار وخيمة وعقوبات هائلة، والنتيجة التي آلت

ص: 211


1- الملهوف، ص 134 .

إليها حركة الحسين (عليه السلام) من استشهاده وأهل بيته وصحبه بمن فيهم مسلم وعبداللّه بن يقطر وقيس بن مسهر الصيداوي وهاني بن عروة وغيرهم إنّما حصلت بسبب الغدر ونقض العهود والعقود والمواثيق بينما كان الفرج قاب قوسين أو أدنى من الاأمّة كلّها إلى آخر عمر الدنيا بسبب معاهدة أهل الكوفة للإمام (عليه السلام) على نصرته والصمود معه والوفاء له حتى ينتصر، وقد حقّق الإمام أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه أعظم انتصاراته على جيوش ضخمة بسبب وفاء شرطة الخميس له وصمودهم معه ووفائهم بعهودهم فلم يؤثر تهاون أهل الكوفة وكسلهم وتقاعسهم وتشرذمهم في انكسار جيشه وفي انهدام دولته، نعم ظهر الأثر فيما بعد حينما انفرط عقدهم واستشهد الكثير منهم.

فعلى الأُمّة أن تصمد مع قائدها إلى الخطوة الأخيرة فلعلّ النصر والفرج والخلاص بعد خطوات وتكون انتكاسة الأُمّة في الظرف الذي وضعت إحدى قدميها في محطّ آمالها .

عن أمير المؤمنين (عليه السلام) : «أمّا بعد يا أهل العراق، فإنّما أنتم كالمرأة الحامل، حَمَلَت فلمّا أتمّت أملصت ومات قيمّها، وطال تأيّمُها، وورثها أبعدها »(1).

فالنصّ يبيّن انّ مشكلة أهل العراق هي تراجعهم عن مواقفهم بعدما كادوا أن يقطفوا ثمار الصبر، إذ المرأة الحامل تتحمّل آلام الحمل تسعة أشهر وإذا بهذه المرأة - محلّ الشاهد - تُسقط جنينها وهي حامل به في شهرها التاسع أي بعدما تحمّلت آلام الحمل ومشاقه كلّها، ثمّ بعد موت جنينها وإذا بزوجها يموت أيضاً، وهو قيّمها المسؤول عنها والقائم بشؤونها، والمصيبة الثالثة التي تلحقها: تأيمها، أي لا يتزوج بها أحد. والرابعة: يرثها أبعدها.

ص: 212


1- نهج البلاغة، السيد الرضي، الخطبة 71.

أي نتيجة ما جرى عليها أن لم تحصل على شيء فالزوج توفي والولد ذهب إلى قبره، ومواريث الزوج رجعت إلى أهله فلم تحصل على شيء من زواجها هذا غير الآلام و مبلغ بسيط ترثه هو حصّة الزوجة من المواريث.

فالإمام (عليه السلام) يشبّه حالة أهل العراق التي عاشها معهم بهذا المثال، فهم يتحمّلون المشاق والضيم لأجل هدف نبيل ثمّ قبل وصولهم إلى أملهم وهدفهم وفرجهم بخطوات وإذا بهم ينتكسون على أعقابهم وتذهب كلّ جهودهم هباءً منثوراً.

5. انّ أعظم درس نستفيده من حركة مسلم ونتائجها: هو ما يتعلّق بنا، وهو أن نُراجع تكليفنا وندقق فيه حتّى نتيقّن من خروجنا من عهدته وتبرءة ذمّتنا منه، فلعلّ بعضنا - أو جميعنا - يبتلي في مقاطع من حياته بتكاليف من قبيل التكاليف التي وُجّهت إلى أهل الكوفة فيؤدّي إهماله وتقاعسه وغفلته إلى الوقوع في نفس ما وقع فيه أهل الكوفة ويتحمّل آثاماً في عنقه لا يستطيع منها فكاكاً.

فعلى المرء التدقيق في تكليفه الشرعي ليعمل وفق ما هو مطلوب منه، وليعلم أنّ جميع العلماء الأعلام متّفقون على أنّ الدفاع عن الإسلام وعن حياضه وحرماته ممّا يجب على كلّ أحد كفايةً ولا يحتاج المرء معها إلى إذن فقيه أصلاً.

ص: 213

ص: 214

المرأة في حركة مسلم

اشارة

الناس عموماً ، في مواجهة الحقّ والباطل، أصناف:

فمنهم الناصر المستميت المضحّي.

ومنهم المحارب المناهض.

وبينهما: الساكت الخاذل المخذِّل، المتذبذب، ذو الوجهين واللسانين، والمرأة في ساحة حركة مسلم كذلك.

فمن جهة: تأتي النساء إلى ذويهن - بعد إعلان مسلم لثورته على ابن زياد - فهذه ترغّب زوجها في الرجوع وطلب السلامة، وهذه تستعطف ولدها كي يُبقي على نفسه ويقرّ عينها برجوعه، وتلك مع أبيها وهكذا...، والنتيجة أنّه لهذا السبب وذاك انصرف عموم الناس عن مسلم ولم يبق معه أحد.

وفي الجانب الآخر، امرأة أشرق عملها بما صنعت، فهي تستقبل مسلماً، وتستضيفه في بيتها، وتُحسن ضيافته، وتستر أمره، فلم تُبال بما قد تتعرّض له من السلطة المنحطَّة التي لا تحترم نفساً ولا عِرضاً، ولا تأبه لكبير أو صغير، ولا لرجل أو امرأة.

ثمّ لمّا خدعها ولدها، وعلم منها حقيقة ضيفهم العظيم، وسارع هذا الأثيم إلى إخبار السلطة، وأقبلت الجنود بكثرتها وعدّتها وحاصرت مسلماً لم ترتعب ولم تضيّق عليه حتّى يغادر دارها بل تصبّرت، واستسلمت للقضاء.

هذه المرأة - ذات الشيم والخصال العربية النبيلة التي حافظ عليها الإسلام

ص: 215

وعزّزها - تُدعى: طوعة.

دع عنك اسمها، فإنّ الأسماء تُرتجل غالباً، ولكلّ زمان خصوصيته وأسماؤه، والتفت معي إلى دخيلتها، فأيّة امرأة في النساء هذي، إنّها من الصنف النادر في نوع النساء.

انّ المرأة غالباً ما تخضع لمحيطها ولزوجها ولميول مُعيلها، على طول التأريخ إلا أنّ جمعاً من النساء، ثُلّة من الأولين، وثلة من الآخرين، أظهرن وعياً، وتعقلاً، ومبدئيّةً.

خُذ إليك مثلاً: امرأة فرعون.

كان الشأن بها أن تطاوع زوجها في مراده، وتؤكّد توجيهاته، فكلّ ما تبنيه لأجل زوجها يعود نفعه إليها، وهي تعلم جزاء من يُخالف فرعون وأي مصير ينتظره. على أنّ السير وحيداً عكس التيّار ممّا تستوحشه أكثر النفوس، فكيف خالفت فرعون - زوجها الطاغوت - وعاكست تيّار السياسة والمجتمع إلى أن اكتشف زوجها أمرها، وأوعدها، وعذّبها حتى ماتت شهيدة وهي لا تُريد من ربّها غير مستقرٍّ في رحمته، ودار كرامته.

نوادرٌ ، أمثال هذه المرأة.

وطوعة من نوادر النساء ضمن محيطها.

تأمل معي :

هل هذا الحال في المرأة، وهذه الانسيابية مع الزوج والوالد والأخ، هو ما يقتضيه طبعها وقد جُبلت عليه حتّى لا تتمكّن منه فكاكاً.

فكيف أمرها اللّه ونهاها، ووعدها الجنّة وأوعدها النار.

كيف نجحت امرأة فرعون ومثيلاتها في معاكسة التيّار، فأعرضن عن زخارف

ص: 216

الزوج والوالد ونحوهما، ولَبيّنَ نداء العقل والدين في وقت عزّ العاقل والنصير من نُخبة الرجال.

إنّ حال المرأة في العالم وعبر التأريخ، لحال مؤسف غير مرضيّ وغير مُبرَّر.

الحال الذي تجري فيه المرأة لا يعذرها عند ربّها، والشرع قنّن ما لها وما عليها وبالوضع الذي هي فيه، لا تخرج عن عهدة التكليف، وكما يتحمّل جزءاً من المسؤولية وليها ومن يقسرها على وجهة معيّنة، ومن يُزخرف لها أقوالاً وأفعالاً فيضلّلها عن طريق الصواب، فكذلك تتحمّل هي جزءاً من المسؤولية لتقاعسها عن السعي بمقدار الممكن للوفاء بالتزاماتها، ولتنفيذ ما عليها من تكاليف إلزامية، فعل أو ترك.

المرأة اليوم في أنحاء العالم تنطلق في مساحة أكبر من الحريّة والاستقلالية لكنها سقطت في الجانب الثاني، فمن التفريط إلى الإفراط، ومن ضلالة إلى ضلالة ومن كبوة إلى أُخرى أدهى منها وأمرّ.

هناك صِراط مستقيم، أدقّ من الشعرة، وأحدّ من السيف، مطلوب من المرأة كما هو مطلوب من الرجل، السير فيه، والاستقامة عليه، وإلّا جرفها تيّار الضلالة إلى حيث لا قرار وإلى أنواع المخازي والمهالك.

على المرأة أن تستعيد دورها الحقيقي في الحياة، فالجيل الطاهر المُشبّع بالكرامة والقيم، لا ينشأ إلا في أحضان الأمّهات الصالحات الواعيات العاقلات المتديّنات، المستقيمات في درب العفاف، آخذات بما أمر اللّه، منتهيات عمّا نهى، ومن هذا الجوّ تبرز طوعة وأمثالها، وإلّا فما في الديار غير المخدّلات عن درب اللّه ورسوله، نعم الثَّلّة الإيمانية القليلة - بملاحظة نسبة الطرف الآخر - موجودة دائماً، إلّا أنّها تبقى «قليلة» ولذلك فالأثر الإيجابي محدود جدّاً.

ص: 217

ص: 218

أولاد مسلم

في طرف من مدينة المسيب العراقية والتي تُبعد عن كربلاء المقدّسة قرابة الثلاثين كيلومتراً يوجد هناك يوجد هناك مرقد يعرفه الداني والقاصي بمرقد - أولاد مسلم - فيه ضريحان لصبيّين من أولاد الهاشمي العظيم مسلم بن عقيل بن أبي طالب يُعرف أحدهما بإبراهيم والآخر بمحمّد.

هذان الصبيان كانا بصحبة الإمام الحسين (عليه السلام) وضمن عائلته، إذ اصطحبهم الإمام (عليه السلام) معه بعد تقدّم والدهم كسفير للإمام إلى الكوفة، فكان من اللازم اصطحاب العائلة ولعلّه : للالتحاق بوليّها ومعيلها ولئلا تصبح رهينة في أيدي الطواغيت، أو لمصالح أخرى في البين.

بلغ خبر استشهاد مسلم للإمام (عليه السلام) وهو في طريقه إلى الكوفة فما أثّر هذا الخبر في تغيير الإمام (عليه السلام) المسيره ونهجه .

وبسبب صغر أولاد مسلم لم يشتركا في معركة الطف يوم عاشوراء، كما أنّه بعد استشهاد الإمام (عليه السلام) عصر عاشوراء وهجوم الجيش البهيمي الكافر على مخيّم عائلة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أُرعب الأطفال والنساء ففرّ الجمع على وجوههم في الصحاري بأمر العقيلة زينب صلوات اللّه عليها عن توجيه الامام زين العابدين (عليه السلام) وممّن فرّ أولاد مسلم، هذا وجيش بني أمية يسلب وينهب ويحرق.

وفي الرواية(1): انّهما سُجنا سنة وانقطعت أخبارهما عن العائلة ثمّ فرّا بمعونة

ص: 219


1- بحار الأنوار، ج 45 ص 100.

الحارس الذي تعاطف معهما، وبلغا بمسيرهما مدينة المسيب فآل أمرهما إلى دار شملتهما المرأة التي فيه برعايتها غير أنّ زوجها اعتقلهما وأخذهما إلى شاطئ الفرات فصلّيا وابتهلا إلى المولى سبحانه وبعدها ذبحهما ذلك البربري وفصل رأسيهما عن الجسدين الطاهرين وحمل الرأسين إلى طاغية العراق ابن زياد لنيل الجائزة عنده، ولبشاعة الحادث من جهة، ولما جُبل عليه بنو أمية وأذنابهم من غدر لمن رفضهم ولمن أطاعهم على حدٍّ سواء أمر ابن زياد بحرمانه من العطاء بل بذبحه صبراً .

ولعلّ هذا إنّما صدر منه تظاهراً بمكارم الخصال وعلوّ النفس واستدراراً لاحترام الناس وولائهم إلّا أنّه انتقام إلهي على كلّ حال.

ولعلّ السبب الأوجه هو النكوص عن وجهة النظام في التعامل بعدما أخذ البركان يقوى وتتّسع دائرته في بقاع متعدّدة من العالم الإسلامي لحقارة الفئة الحاكمة ولانقلابها على الإسلام وارتدادها علانيةً ولما اقترفته من جريمة عظمى بحقّ البيت النبوي وفيهم الطفل الرضيع والصبي المراهق والشيخ الهرم والمرأة المخدّرة، وشرفاء الأمة بل سادة البشرية جمعاء وصفوة المولى سبحانه، فتحاول السلطة - التي لا يحوي إهابها غير الغدر والدجل - تفريغ بعض غيظ الأمة عن طريق إظهار بعض الاستقامة والعدل. ومن أوائل نُذُر الثورة، ما صدر عن أهل الكوفة من ندم، وتقريع بعضهم لبعض على الجريمة النكراء التي صدرت منهم، وإشادتهم بأهل بيت النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وإعلان تصميمهم على الائتمار بأمر زين العابدين (عليه السلام) لو دعاهم إلى الكفاح والجلاد، غير أنّ الإمام القائد زين العابدين (عليه السلام) سخِر من ندمهم هذا واصفاً إياهم بالغدرة المكرة فأيّ عهد هذا، وهم قد كاتبوا والده سيِّد الشهداء (عليه السلام) عشرين عاماً معاهديه على النصرة والوفاء والتضحية دونه ثمّ تنصّلوا من عهودهم بأهون سبيل وأسرعه وانقلبوا إلباً

ص: 220

لأعدائهم على أوليائهم بغير عدل أفشوه فيهم غير الخسيس من الدنيا أنالوهم.

إنّ ما صدر عن ذلك الدنيء من قتل ولدي مسلم وفصل رأسيهما وهما الشريفان الغريبان الخائفان الجائعان اليتيمان المتّصل نسبهما بالبيت النبويّ، وبخلفاء وزعماء الأمة، وهما أيضاً الطاهران في خُلقهما وخَلقهما ونشأتهما وصفاتهما، يدلّ على مدى ما بلغته الأمة من هبوط على يد بني أمية وعلى يد التيّار الذي استلم قيادة الأمة بعد النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كيف سَمَحت نفس ذلك المجرم بذبحهما من الوريد إلى الوريد وفصل رأسيهما ولا تسمح قوانين العالم وأعرافها وفطرة الإنسانية عن الإتيان بسوء لمن هو في مثل هذا العمر ولم يصدر عنهما قتال ولا أذى ولا ما يستوجب أيّ ردّ فعل.

إنّ هذه الفعلة لا تدلّ على خساسة وحقارة ولؤم الفاعل فحسب - وإن دلّ ودل - بل الدلالة الأهمّ على وجهة السلطة الكافرة التي تحكم العالم من أقصاه إلى أقصاه ولا ترتكز على دين أو قانون أو عُرف أو أخلاقيات وسُنن.

وليست هذه لهم بأوّل فعلة فقد قتلوا القاسم بن الحسن وعبداللّه بن الحسن عليهما السلام وثالثة الأثافي وليست أخيرها جريمتهم الأعظم بذبح عبداللّه الرضيع ولد الإمام الحسين (عليه السلام) ولم يتجاوز الأشهر الستّ في أحضان والده بعدما كاد أن يقضي عطشاً، إذ ما من مرضع تمدّه بإرضاعها وقد أشرف الجميع على الهلاك عطشاً وجفّ عندهنّ الحليب، ومن قَبْلُ ما جرى للمحسن (عليه السلام) وأمه - سيّدة نساء العالمين وقدّيسة آل محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

أي نفس تسمح بقتل طفل عمره ستّة أشهر بل تسمح بقضائه عطشاً وقد أذِن لهم الحسين (عليه السلام) بأخذه منه وسقيه الماء إن تخوّفوا أن يشرب هو أيضاً من الماء.

إنّ هذه الفئة الحاكمة الكافرة قد أسّست لهذا الخلق وهذه السيرة في منعطفات

ص: 221

النفس البشرية وروّجت له وشجّعت عليه وبذلت لأجله العطايا والجوائز فتنافست الناس بهذا السلوك ونحوه لنيل المنصب والعطاء وللتقرّب من صاحب السطوة أكثر من الآخرين.

ولاستكمال سلسلة المحنة حرمت السلطة أفراد المجتمع من سبل العيش ومن حقوقهم، قهراً لهم وكسراً لشوكتهم واستدراراً لمثل هذه السلوكيات منهم، والتي من الممكن أن لا يقدموا عليها إلّا والظرف هكذا والمنافذ أمامهم مسدودة وهو ما يعبّر عنه في زماننا بسياسة العصا والجزرة .

ومن نتائج تلك السياسة أن أقدمت الأمة على سحق مقدّساتها وقهر أهل بيت نبيها (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، واستباحة مدينة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ورمي الكعبة بالمنجنيق، وقتل الرضيع، والمرأة العجوز، والشيخ الهرم، من أجل عشرة دراهم، أو شاة أو ثوب ولكي يبتسم الحاكم في وجهه ويقول له: أحسنت.

وإلا فمن الذي نال منهم هناءة العيش ورفيع المناصب أو الإدرار المالي العظيم.

هذا عمر بن سعد قائد جيشهم وعَدوهُ بولاية الري إن قتل الحسين (عليه السلام) وبدّد شمل جيشه، وقد فعل بأفضل ما يأملون، ثمّ غدروا به وحرموه من تلك الولاية المشؤومة، فلم يحصل هو ولا أفراد جيشه إلّا على ما وصفه سيّد الشهداء (عليه السلام) - «خسيس عيش كالمرعى الوبيل»(1) - ولا يُعذر المرء أبداً باقترافه هذه الجرائم أو الأقلّ منها بكثير بدعوى الفاقة أو انقطاع سُبل العيش فإنّ ساحة الدنيا ساحة امتحان وابتلاء فمن قَدِر على ما يريد عن حِلٍّ وكرامة فبها ومن لم يقدر يصبر أو يقاوم جلّاديه، أو يتحوّل إلى محلٍّ

ص: 222


1- الملهوف، السيّد ابن طاووس، ص 138 ، والمرعى الوبيل: الوخيم، وما لا يُستمراً. فراجع ترتيب العين للخليل بن أحمد الفراهيدي ج 3 ص 1922 ، المعجم الوسيط ص 1009 .

يهنأ له العيش فيه.

والأعظم والأجمل أن يوطّن نفسه على مقاومة الباطل والصمود إلى جانب الحقّ إلى أن يُكتسحُ الطاغوت من جديد الأرض ويحلّ آل محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أصحاب الحقّ الشرعيّين في زعامة الأمة وسيادة أمرها بحكم حديث الغدير وحديث الدار(1) وبحكم آية : (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ...)(2).

وغيرها، وإن أدّى صموده إلى ما أدّى، ولم ترض الأمة بالتضحية جيلاً واحداً فخسرت خمسين جيلاً والقافلة مستمرّة.

وأمّا سعادة الدنيا فليست مقتصرة على هذا الجانب ولعلّه يحصل على المال والملاذ ويخسر أموراً أُخرى أهمّ منها بكثير كما هو الحاصل في بلاد الغرب اليوم إذ ربحوا التكنلوجيا وخسروا العفاف.

إنّ بني أمية ومن أسّس لهم ومن سار على دربهم قد فضحوا أنفسهم بما صدر عنهم من أفعال تنمّ عن طبيعة المبادئ التي تقوم عليها نفسياتهم وسياساتهم ودوافع حكمهم.

وبنو أمية بالخصوص قد حال الطف يوم بينهم وبين مرامهم واستمرار رغيد عيشهم إذ كشفت تلك الزمرة المنحرفة عن معتقدها ودخيلتها وواقع إيمانها باللّه والمعاد وعن حقيقة المجتمع الذي تريد إقامته تحت ظلّ حكمها وعن الهدف الذي تبغيه من وراء هذا الحكم وأنّه يصبّ في مصلحة مَنْ؟

ص: 223


1- المراجعات السيّد عبد الحسين شرف الدين، ص 130 وحديث الدار هو الحديث الذي عيّن فيه النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عليا وصيّاً له وخليفة من بعده وكان هذا في أوائل الدعوة الإسلامية، ونقل هذه الواقعة الكثير من أعلام العامّة فراجع المراجعات ص 131 لتعرف أسماءهم ومؤلّفاتهم.
2- راجع: فضائل الخمسة من الصحاح الستّة، السيّد مرتضى الفيروزآبادي، ج 2 ص 13.

أعربت عن أنّها حكومة الظالمين والفراعنة، وأنّها لا تتقيّد بقانون دين ولا قانون عُرف وليس لها دوافع إنسانية، أو أخلاقية.

لا تريد إلّا حكماً يمكّنها من رقاب الناس تستعبدها لتحقيق مآربها، ويمكّنها من التمتّع بملذّات الجنس والطعام كما وصف أمير المؤمنين أوّلهم - بين نثيله ومعتلفه -(1).

ودّعوا الآخرة والدين والإنسانية والمكارم، بأيّام تنزّهوا فيها وصادوا فيها الطيور والغزلان والوحوش ، وهارشوا فيها الكلاب والقرود وعاشروا البطّالين والمغنّين وأراذل المجتمع، ثمّ لفظوها لفظةً واحدة.

أبكوا كلّ ذي دين، وكلّ ذي ضمير، وكلّ ذي مروءة، وأحلّوا الخراب بمجتمع رسول اللّه وأهل بيته، والذي هو مجتمع القرآن والكعبة والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والعفّة والسعي نحو المكارم.

أفقروا الأمة وأكثروا النوائح في كلّ مكان وكلّ ،زمان، حتّى لعنتهم الأرض ومن عليها والسماء ومن يسبّح فيها بل لعنهم ربّ الأرض والسماء من أوّل أيام الإسلام:

(وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا)(2)

لِيُحَذِّر المسلمين منهم وينذرهم إن تبعوهم أو ناصروهم وإذا بالأمة خلفهم تطأ خطامهم وتسير على ضلالتهم فإلى أين أوصلوهم يا ترى؟

واليوم لا تُؤثِر عنهم الأمة علم في كتاب ولا مأثرة أو مكرمة بل وَرِثَت عنهم دماراً واسع النطاق في كلّ مجالات الحياة وتدهوراً لا يمكن لأحد أن يوقفه عند حدّ حتى

ص: 224


1- نهج البلاغة ، السيّد الرضي، الخطبة الثالثة وهي الشقشقية.
2- سورة الإسراء، الآية 60.

يظهر بشارة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) - المهدي المنتظر (عليه السلام) - فيقصم ظهر تركتهم ويقتلع جذور شجرتهم، نعم أثر عنهم أيضاً مخازي ورذائل وسوء سيرة وسريرة ملأ الكُتّاب من محبّيهم بها كتبهم فكانوا من أعظم العار والشنار على الأُمّة بين أُمم الأرض.

وعكسهم تماماً ذرية رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الذين ساروا على نهجه ومثّلوا القرآن والسنّة بسيرتهم وسريرتهم ، إذ أضاءوا الدهر بجميل فعالهم وشريف خصالهم ونبل مقاصدهم وعلوّ همّتهم حتّى ليفتخر المفتخر بالانتساب إليهم وبالكتابة عنهم وبالسير على بعض مسلكهم فهنيئاً لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بهم ويستحقّ هؤلاء الأطياب الأبرار الانتساب إلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) خير البشرية ومصطفى الربّ الحكيم الكريم إذ حملوا مشعل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأبلغوا الأمة مقاله وسنته ونصحواله ولها ووفوا ما عليهم.

(اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ )(1).

كما: (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ)(2).

ص: 225


1- سورة الأنعام، الآية 124 .
2- سورة الشعراء، الآية 227 .

ص: 226

على درب مسلم

واليوم تخفق راية مسلم في كلّ مكان من ديار الإسلام، بل في كلّ مكان من العالم، حيثما وُجد شيعيّ.

وحيثما وُجد موال لأهل البيت عليهم السلام .

وحيثما وُجد مؤمن بالإسلام وقضيّته وهدفه.

مسلم، فُصِلَ رأسه عن جسده، ورُمي من أعلى قصر الإمارة، فتكسّرت عظامه، وسُحِب في الأسواق، ودُفن مغضوباً عليه من الجهاز الحاكم الطاغوتي، ومخذولاً من الأُمّة .

هذا قبل أربعة عشر قرناً خَلت.

أمّا من بَعْدُ إلى اليوم وسيستمر الحال، فإنّ مسلماً حيّ، وقضيّته تنبض بالحياة، ومحبّوه وموالوه كُثر، وشمس الإسلام عن قريب في كبد السماء إن شاء اللّه تعالى.

أمّا أعداء مسلم فقد دُفنوا ودُفن ذكرهم وقضيتهم، وتبرّأت الأجيال منهم ، واللعنات تلاحقهم وعذاب الآخرة أشدّ وأخزى.

ص: 227

ص: 228

الشعر في خدمة القضية الحسينية

اشارة

قال فيه : علي بن عبد العزيز، جمال الدين الخلعي :

أَلِمُسلم بن عقيلِ قام الناعي *** لمّا استهلّت أدمُعُ الأشياعِ

موليً دعاه وليّه وإمامه *** فأجاب دعوته بسمع واعِ

حَفِظ الوداد لذي القرابةِ فاقتنى *** شرفاً على الأهلين والأتباعِ

أفديه من حُرٍّ نقيٍّ طاهر *** ماضي العزيمةِ ساجد ركّاعِ

أفديه من بطل كميٍّ ماجد *** جُمٍّ الوفا ندب طويل الباع

لهفي لمسلم والرماحُ تنوشُهُ *** لا بالجزوع لها ولا المرتاعِ

حتّى إذا ظفرت به عُصَبُ الخنا *** من بعدِ معترك وطولِ نزاعِ

جاءوا به نحو اللعينِ فغاظهُ *** بالقولِ من ثبتِ الجنانِ شُجاعِ

وإلى ابن سعد بالوصيَّةِ مُبطناً *** أفضى فأظهرها بلؤم طباعِ

وهوى من القصر المشوم مهلّلاً *** ومكبِّراً تجلو صدى الأسماعِ

لهفي السيف من سيوفِ محمّد *** عبث الفلول بحدِّه القطّاعِ

لهفي لمزجِ شرابه بِنَجيعِهِ *** لهفي لمسقطِ ثغرهِ اللمّاعِ

لهفي له فوقَ التُراب مجدّلاً *** دامي الجبين مهشّم الأضلاعِ

مولاي يابن عقيل يومُك جاعلٌ *** حبّ القلوب دريئةُ الأوجاعِ

جادت معالمك الدموع بريِّها *** وسقى الحميم بواطن الإبداعِ

وسقى ابن عروة هانياً غدقُ الحيا *** فلقد أصاخ إلى نداء الداعي

ص: 229

مسلم بن عقيل بن أبي طالب

يا سادةً ما زلتُ مُذ عَلِقَت يدي *** بهمُ أُحافِظُ ودّهم وأُراعي

مولاكم الخلعيُّ رافُع قصّة *** يشكو سمومَ عقارب وأفاعي(1)

وللفقيه الأُصولي الفيلسوف الشيخ محمد حسين الاصفهاني:

يا ربّي المحمود في فِعالِه *** صَلّ على محمدٍّ وآله

وَصَلِّ بالإِشراقِ والأصيلِ *** على الإمام من بني عقيلِ

أوّل فاد فاز بالشهادة *** وحاز أقصى رُتَب السعادةِ

أوّل رافع لراية الهُدى *** خُصَّ بفضل السبقِ بين الشُهدا

دُرّة تاجِ الفضلِ والكرامة *** قُرّةُ عينِ المجدِ والشهامه

غُرّةُ وجه الدهر في السعادة *** فإنّه فاتحة الشهادة

النيابة الخاصة

كفاه فخراً منصب السفاره *** وهو دليل القدسِ والطهاره

كفاه فضلاً شرفُ الرساله *** عن معدنِ العِزّةِ والجلاله

وهو أخُ(2) ابن عمّه المظلومِ *** نائبه الخاص على العموم

وعينه كانت به قریره *** حيث رآه نافذ البصيره

لسانه الداعي الى الصوابِ *** بمحكم السُنّة والكِتاب

منطقه الناطق بالحقائق *** فهو ممثّل الكتاب الناطق

وليّه المنصوب للهدايه *** فهو وليّ صاحب الوِلايه

ص: 230


1- الغدير، الشيخ عبد الحسين الأميني، ج 6 ص 27 .
2- كتب الإمام (عليه السلام) إلى أهل الكوفة: «وإنّي باعثُ إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي...»، وقد تقدّم منا نقل نصّ الرسالة في فصل - موجز الحركة -

علومه

له من العلوم ما يليق به *** بمقتضى رتبتهِ ومنصبه

يمينه في القبضِ والبسطِ معا *** فما أجلّ شأنه وأرفعا

فارسُ عدنان وليثُ غابها *** وسيفها الصقيل في حرابها(1)

بل هو سيف(2) السبط الباري *** وليثُ غاب عترةِ المختار

أشرق كوفان بنور ربّها *** مُدْ حَلَّ فيها ربّ أرباب النُهي

بايعه في أهلها أُلوف *** والغدر منهم شايعٌ معروف

يحكي عمّه أمير المؤمنين عليهما السلام :

ثباتُهُ من بعد غدر الغدره *** ثباتُ عمّه أمير البرره

بل سيف(3) في وحدته وغربته *** كَعَمّه في بأسه وسطوته

له من الشهامة الشمّاء *** ما جاز حدّ المدحِ والثناءِ

أيّامه مشهودة معروفه *** يعرفها أبطال أهل الكوفه

كم فارس فيها فريسته(4) الأسد *** أو بطلٌ فارقَ روحه الجسد

وكم كَميّ حدّ سيفه قضى *** على حياته كمحتوم القضا

وكم شجاع ذهبت قواه *** وذاب قلبه إذا رآه

شدّ عليهم شدّة الليث الحَرِب *** قرّة عيون آل عبد المطلب

ص: 231


1- المورد الثاني.
2- هناك كلمات في القصيدة لاحظنا عدم انسجامها مع الوزن الشعري فكتبناها كما وجدناها غير أننا ننبّه عليها ولعل بعضها أو جميعها وقع فيها التصحيف بسبب الخطأ المطبعي وكلمة - حِرابها - هنا أوّلها وسننبّه على الباقي في المحلّ المناسب لها .
3- المورد الثالث .
4- المورد الرابع ولعل الأصح فريسة

بل عين عمّهِ العليّ قدرا *** إذ هو بالبارق أحصى بدرا

ذكّر يوم خيبر و خندق *** بصولة تبيد كُلّ فيلقِ

الليث يقتنص

تكاثروا عليه وهو واحدُ *** لا ناصرٌ له ولا مساعِدُ

رموه بالنار من السطوحِ *** لروحِهِ الفداء كُلّ روحِ

حتّى إذا أثخن بالجراحِ *** واشتدّ ضعفه عن الكفاحِ

لم يظفروا عليه بالقتالِ *** فاتّخذوا طريق الاحتيالِ

فساقه القضا الى الحفيره *** أو ذروة القدسِ من الحظيره

أمير يُؤسر

أصبح مسلمٌ أسير الكفره *** تَعسا وبُؤساً للئام الغدره

كان أميراً فغدا أسيراً *** كذلك(1) شأن الدهر أن يجورا

أُدخل مكتوفاً على ابن العاهره(2) *** عذّبه اللّه بنار الآخرة

أسمعه سبّاً وشتماً فاحشا *** رماه باطِلاً بما يُدمي الحشا

وما استشفى بمسلم بما لقي *** حتى اشتفى منه بضرب العنق

وبعده رماه مِن أعلى البنا *** فانكسرت عِظامُهُ وا حُزُنا

ص: 232


1- المورد الخامس ولعل الأصح - كذلك.
2- المعروف والمثبّت تأريخياً انّ أم عبيد اللّه - مرجانة - كانت من العواهر وكان يعيّر بها، كما أن أمّ أبيه - زياد بن أبيه - سميّه كانت كذلك، وقصّة إلحاق معاوية لزياد بأبي سفيان على أساس أن سُميّة كانت هكذا وقد زنا بها أبو سفيان وأولدها زياداً من الأمور المشهورة بل المقطوعة تأريخياً وهي من أعظم العار على معاوية وعلى من يُدافع عنه الى يوم الدين، بل لا يحوي إهاب معاوية غير العار والمخازي.

زعيما مضر يُجران

وشدّ رجليه ورجلي هاني *** بالحبلِ يا للذلّ والهوانِ

فأصبحا ملعبةَ الأطفالِ *** بالسحبِ في الأسواقِ بالحبالِ

المناحة والبكاء

المناحة والبكاء (1)

فلتبكهِ عين السما دماً فما *** أجلّ رزء مسلم وأعظما

وقد بكاه السبط حين ما نُعي *** إليه مسلمٌ بقلبِ موجَعِ

فارتجّت الأرجاء بالبكاءِ *** على عميد الملّة البيضاءِ

واهتزّ عرشُ الملكِ الجليلِ *** على فقيد الشرفِ الأصيلِ

وناحت العقولُ والأرواحُ *** لِما استحلّوا منه واستباحوا

صُبّت دموع خاتم النبوّة *** على فقيد المجدِ والفتوّة

بكاه عمّه على مصابهِ *** وحقّ أن يبكي دماً لما بهِ

بكي على غُربته آل العبا *** وكيف لا وهو غريب الغُربا

ناحت عليه أهل بيت العصمة *** فياله من مثلمه ملمة(1)

ومن قصيدة للسيد باقر الهندي رحمه اللّه :

سقتك دماً يابن عم الحسين *** مدامع شيعتك السافحة

ولا برحت هاطلات العيون *** تحييك غادية رائحة

لأنك لم تُروَ من شربة *** ثناياك فيها غدت طائحة

رموك من القصر إذ أوثقوك *** فهل سَلِمَتْ فيكَ من جارحة

وسحباً تُجرُّ بأسواقهم *** ألستَ أميرهُمُ البارحة

ص: 233


1- نقلنا في بداية الكتاب رواية عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في مسلم وبكاء النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عليه .

أتقضي ولم تبككَ الباكيات *** أمالَكَ في المصر من نائحة

لئن تقضِ نحباً فكم في زرود *** عليك العشيّة من صائحة

ص: 234

المصادر

1. القرآن العزيز

2. الإرشاد الشيخ محمد بن محمد بن النعمان المفيد، تحقيق: مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، مجلّدان، إيران - الطبعة الأولى - 1413ه. ق .

3. حياة الإمام الحسين، الشيخ باقر شريف القرشي، انتشارات مدرسة الإيرواني، 3 مجلّدات، إيران - الطبعة الرابعة - 1413ه.ق.

4. معجم رجال الحديث، السيّد أبو القاسم الخوئي، منشورات مدينة العلم، قم، 23 مجلّد، الطبعة الثالثة - لبنان 1402ه . ق .

5. الملهوف، الطبعة الأُولى - 1414ه. ق، السيّد علي بن موسى، رضيّ الدين بن طاووس، طبع: دار الأسوة التابعة لمنظمة الأوقاف، تحقيق: الشيخ فارس تبريزيان الحسون.

6. بحار الأنوار، الشيخ محمد باقر المجلسي، طبعة: دار إحياء التراث العربي، 110 مجلّد، الطبعة الثالثة، 1403 ه. ق .

7. معالم المدرستين، السيّد مرتضى العسكري، الناشر: مؤسّسة البعثة، 3 مجلّدات ، الطبعة الثانية، 1406ه. ق .

8. إبصار العين في أنصار الحسين، الشيخ محمّد السماوي.

9. المعجم المفهرس لألفاظ بحار الأنوار 14 مجلّد، لجنة - مكتب الإعلام

ص: 235

الإسلامي في الحوزة العلمية - قم ، 1413ه . ق .

10. المُنجد، لويس معلوف، انتشارات دهاقاني، إيران، الطبعة الرابعة ، 1374ه . ش .

11. منتهى المقال، أبو علي الحائري، تحقيق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، 7 مجلّدات، إيران - الطبعة الأولى - 1416ه. ق.

12. تحفة العالم، السيّد جعفر بحر العلوم، الناشر: مكتبة الصادق - طهران ،جزآن، الطبعة الثانية - 1401ه. ق.

13. الأنوار القدسية، ارجوزة للفيلسوف الشيخ محمد حسين الأصفهاني، طبعة: مؤسسة الوفاء - بيروت، الطبعة الثانية 1404ه.

14. الشهيد مسلم بن عقيل، السيّد عبد الرزّاق المقرّم.

15. مسارّ الشيعة، الشيخ المفيد، المطبوع ضمن: مجموعة نفيسة، نشر مكتبة السيّد المرعشي، قم، 1406ه. ق.

16. نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار، السيّد علي الميلاني، 12 مجلّد، مطبعة مهر، الطبعة الأولى - 1414ه. ق.

17. فضائل الخمسة من الصحاح الستّة، السيّد مرتضى الحسيني الفيروزآبادي، 3 مجلّدات، الطبعة الثالثة، مطبعة خورشيد، 1413ه.

18. شواهد التنزيل ، الحاكم الحسكاني، تحقيق: الشيخ محمد باقر المحمودي، 3 مجلّدات، إيران، الطبعة الأولى - 1411ه. ق.

19. مبعوث الحسين، محمد علي عابدين، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، قم، الطبعة الثانية، 1414ه. ق .

ص: 236

20. الغدير، الشيخ عبد الحسين الأميني، تحقيق: مركز الغدير للدراسات الإسلامية، 11 مجلّد، الطبعة الأولى، 1416ه. ق.

21. المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي، الناشر: انتشارات إسلامي - إيران، 1372ه. ش.

22. المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة، محمد الدشتي ، السيّد كاظم المحمدي ، نشر: مؤسسة أمير المؤمنين (عليه السلام) للتحقيق، إيران، الطبعة السادسة، 1375ه. ش.

23. نهج البلاغة ، السيّد الرضي، تحقيق: صبحي الصالح، نشر دار الأسوة، الطبعة الأولى، إيران، 1415ه. ق.

24. ليالي بيشاور، السيّد محمد الموسوي الشيرازي سلطان الواعظين، تحقيق: السيّد حسين الموسوي، مؤسسة الثقلين، الطبعة الثانية، 1420ه.ق.

25. كتاب سُليم بن قيس الهلالي، تأليف: سُليم بن قيس الهلالي، تحقيق: الشيخ محمد باقر الأنصاري، 3 ،مجلّدات، نشر الهادي، إيران، الطبعة الأولى - 1415ه.ق.

26. الاحتجاج على أهل اللجاج، مجلّدان، أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي، التحقيق : إشراف الشيخ جعفر السبحاني، انتشارات أسوة، الطبعة الأولى، 1413ه. ق.

27. ذوب النضّار في أخذ الثار، الشيخ جعفر بن محمد بن نما الحلّي، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، قم، تحقيق: فارس حسون كريم، الطبعة الأُولى- 1416ه. ق .

28. الفصول المهمّة في تأليف الأمة، السيد عبد الحسين شرف الدين، مكتبة الداوري، إيران، الطبعة الخامسة.

ص: 237

29. ينابيع المودّة، سليمان بن إبراهيم القندوزي الحنفي، تحقيق: سيد علي جمال أشرف، 4 مجلّدات، مطبعة أسوة، الطبعة الأولى، إيران، 1416ه. ق.

30. على ضفاف الغدير ، مجلّدان، إعداد لجنة بإشراف السيّد فاضل الميلاني ، نشر : مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، قم، الطبعة الثانية - 1410ه. ق.

31. المقتطفات، عيدروس بن أحمد السقاف الحسيني الأندونيسي، تحقيق: السيد مهدي الرجائي جزآن، مطبعة أمير، ايران، 1415ه.ق.

32. الخُدعة، رحلتي من السنّة إلى الشيعة، الكاتب المصري: صالح الورداني ، طباعة: دار النخيل، بيروت، الطبعة الأولى 1416ه.

33. وعّاظ السلاطين، الدكتور علي الوردي، طبعة: دار كوفان، لندن، الطبعة الثانية، 1995م.

34. دراسات حول كربلاء، مجموعة باحثين، طبع لندن.

35. الملحمة الحسينيّة، الشيخ الشهيد مرتضى المطهري.

36. المراجعات، السيّد عبد الحسين شرف الدين، منشورات مؤسسة الأعلمي- بيروت، لم تُذكر الطبعة ولا سنة الطبع.

37 . المعجم الوسيط، المؤلّف: لجنة، نشر: دفتر نشر فرهنك إسلامي - إيران، الطبعة الرابعة، 1412ه. ق.

38. ترتيب كتاب العين، الخليل بن أحمد الفراهيدي، تحقيق: المخزومي، السامرائي، تصحيح: أسعد الطيّب، انتشارات أُسوة- إيران 1414ه.ق.

39. السيّدة زينب الشيخ باقر شريف القرشي، إيران - مطبعة شريعت، الطبعة

ص: 238

الأولى - 1420ه. ق.

40 . موسوعة الإمام الجواد (عليه السلام) ، مجلّدان، تأليف: لجنة، بإشراف الشيخ أبو القاسم الخزعلي، نشر: مؤسسة ولي العصر (عليه السلام) إيران، الطبعة الأولى، 1419ه.ق.

41. كامل الزيارات، الشيخ جعفر بن محمد بن قولويه القمي، تحقيق: نشر الفقاهة ، إيران، الطبعة الأولى، 1417ه. ق.

42. مسند الإمام المجتبى، الشيخ عزيز اللّه العطاردي، مطبعة: حيدري ، الطبعة الاُولى، 1373ه . ش .

43. العباس (عليه السلام) السيّد عبد الرزّاق المقرّم، منشورات الشريف الرضي، قم، الطبعة الأولى.

44. ابن تيمية، صائب عبد الحميد، مركز الغدير للدراسات الإسلامية - إيران، الطبعة الأولى - 1414ه. ق.

45. مقالات تأسيسية في الفكر الإسلامي، السيّد محمد حسين الطباطبائي، تعریف: خالد توفيق، الطبعة الأولى، 1415ه. ق.

46. النظام السياسي، أحمد حسين يعقوب، مؤسّسة الفجر - لندن.

47. الميزان في تفسير القرآن، السيّد محمد حسين الطباطبائي، منشورات: مؤسسة الأعلمي، بيروت، الطبعة الأُولى، 1417ه. ق.

48. وسائل الشيعة، الشيخ محمد بن الحسن الحرّ العاملي، تحقيق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، مطبعة مهر، قم، الطبعة الأولى، 1411ه. ق.

49. النصّ والاجتهاد، السيّد عبد الحسين شرف الدين.

ص: 239

50. بحوث في فقه الرجال، بحث : السيّد علي الفاني الأصفهاني، مطبعة مهر، قم، الطبعة الأولى، 1410ه. ق، تأليف السيد علي مكي العاملي.

51. البيان، السيّد أبو القاسم الخوئي، الناشر: دار الثقلين، الطبعة الثالثة، 1418ه. ق.

52. مائة منقبة، محمد بن أحمد القمّي، تحقيق: الشيخ نبيل رضا علوان، انتشارات: أنصاريان ،ايران، الطبعة الثانية - 1413ه. ق.

53. ولاية الفقيه، الشيخ حسين علي المنتظري، الناشر : المركز العالمي للدراسات الإسلامية، الطبعة الأولى، 1408ه. ق.

54. تذكرة الفقهاء، العلّامة الحسن بن المطهر الحلّي، تحقيق: مؤسسة آل البيت لإحياء التراث.

55. المرجعية والقيادة، السيد كاظم الحائري، مطبعة القدس، الطبعة الأولى، 1418ه. ق.

56. حدود الشريعة، الشيخ محمد آصف المحسني، مطبعة أمير المؤمنين (عليه السلام) .

57. العبّاس (عليه السلام) ، الشيخ باقر شريف القرشي، مطبعة أمير، إيران، الطبعة الأولى 1420ه. ق .

58. لمحات اجتماعية من تأريخ العراق الحديث، علي الوردي، لم تُذكر المطبعة، ولا مكانها ولا سنة الطبع.

59. اليزيدية، السيّد عبد الرزّاق الحسني.

60. مجلّة علوم الحديث، إصدار: كلّية علوم الحديث، طهران، إيران، قم.

ص: 240

61. النصائح الكافية لمن يتولى معاوية، السيد محمد بن عقيل، طبعة دار الثقافة، قم.

62. تنقيح المقال، الشيخ عبداللّه المامقاني، 3 مجلدات، طبعة حجرية، المطبعة المرتضوية في النجف الأشرف 1352 ه. ق .

63. الأصول من الكافي، الشيخ الكليني.

64. الفصول المختارة، السيد المرتضى، والمطبوعة ضمن سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد، تحقيق: السيد علي مير شريفي.

65. السجود على التربة الحسينية، الشيخ عبدالحسين الأميني. تقديم محمد عبد الحكيم الصافي، طبعة دار الزهراء 3 ، الطبعة الثانية، بيروت 1977م.

66. جواهر الكلام ، الشيخ محمد حسن النجفي، طبعة مؤسسة المرتضى العالميّة، 15 مجلّد، الطبعة الأولى، بيروت 1992م.

67. مقتل الحسين (عليه السلام) ، السيد عبدالرزاق المقرّم، منشورات قسم الدراسات الإسلامية - طهران.

ص: 241

ص: 242

المحتوى

التقديم ...3

مقدّمة الكتاب ...7

مسلم ...11

عقيل بن أبي طالب ...17

يزيد في سطور ...23

ابن زیاد ...33

مجتمع الكوفة ...43

موجز الحركة ...61

مواقف وتساؤلات ...67

إبراهيم الحيدري: ...81

علي الوردي: ...86

مقالة بدور الددة: ...88

اختيار الإمام المسلم ...93

كفاءة وديانة. ...99

مسلم يُعلن هدف الثورة الحسينية ...101

أهداف حركة مسلم ...105

مسلم يهيئ الوسائل لإمامه ...113

البيعة ...119

ص: 243

مبايعة الكوفة لمسلم: ...124

الإيمان قيد الفتك ...127

خلاصة الحادثة: ...127

رواية - الإيمان قيد الفتك ...128

النتيجة: ...131

مسلم يُشعل فتيل الثورة ...135

لِمَ استعجل مسلم المواجهة؟ ...139

مسلم في الساحة ...145

مسلم يقود المدينة الأعتی ...146

مسلم في الأسر ...149

مسلم يحاول المستحيل ...151

مسلم في مجلس ابن زياد ...157

استشهاد مسلم ومدفنه ...159

المرقد المبارك ...165

هل انتهت قضية مسلم ...167

كيف نُحيي ذكرى بطل الإسلام مسلم ...171

أمّا اليوم، وقبل اليوم: ...174

مسلم قدوة ...185

ملكات أعلنت عنها الطف ...189

كُل اناء بالذي فيه ينضح. ...189

ومثال ثان: ...192

ص: 244

عود على بدء ...194

سبب انهيار الحركة ...199

دروس من حركة مسلم ...203

المرأة في حركة مسلم ...215

تأمّل معي ...216

أولاد مسلم ...219

على درب مسلم ...227

الشعر في خدمة القضيّة الحسينية ...229

النيابة الخاصة ...230

علومه ...231

يحكي عمّه أمير المؤمنين عليهما السلام : ...231

الليث يقتنص ...232

أمير يُؤسر ...232

زعيما مضر يُجرّان ...233

المناحة والبكاء ...233

المصادر ...235

المحتوى ...243

ص: 245

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.