دروس استدلالية في كتاب شرائع الإسلام

هوية الکتاب

الكتاب:................ دروس استدلالية في كتاب شرائع الإسلام

تأليف:.......................... الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي

الناشر:.... قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة العباسية المقدسة

...............معهد تراث الأنبياء للدراسات الحوزوية الإلكترونية

الإخراج الفني:............................. السيد هادي القبانجي

المطبعة:................................ دار الكفيل للطباعة والنشر

الطبعة: الأولى:........... شهر رمضان 1444ه-/ نيسان 2023م

عدد النسخ:............................................... 500

ص: 1

اشارة

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة المعهد:

معهد تراث الأنبياء، مؤسَّسة علمية حوزوية، تابعة للعتبة العباسية المقدّسة، تُدرِّس المناهج الدِّينية المعَدَّة لطُلّاب الحوزة العلمية في النجف الأشرف.

الدراسة فيه عن طريق الانترنيت وليست مباشرة.

يساهم المعهد في نشر وترويج المعارف الإسلاميَّة وعلوم آل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ ووصولها إلىٰ أوسع شريحة ممكنة من المجتمع، وذلك من خلال توفير المواقع والتطبيقات الإلكترونية التي يقوم بإنتاجها كادر متخصِّص من المبرمجين والمصمِّمين في مجال برمجة وتصميم المواقع الإلكترونية والتطبيقات علىٰ أجهزة الحاسوب والهواتف الذكيَّة.

وبالنظر للحاجة الفعلية في مجال التبليغ الإسلامي النسوي فقد أخذ المعهد علىٰ عاتقه تأسيس جامعة متخصِّصة في هذا المجال، فتمَّ إنشاء جامعة أُمِّ البنين عَلَيْهِا السَّلاَمُ الإلكترونية لتلبية حاجة المجتمع وملء الفراغ في الساحة الإسلاميَّة لإعداد مبلِّغات رساليّات قادرات علىٰ إيصال الخطاب الإسلامي بطريقة علمية بعيدة عن الارتجال فيالعمل التبليغي، بالإضافة إلى فتح التخصصات العقائدية والفقهية والقرآنية.

ص: 3

على أنَّ المعهد لم يُهمِل الجانب الإعلامي، فبادر إلىٰ إنشاء مركز القمر للإعلام الرقمي، الذي يعمل علىٰ تقوية المحتوىٰ الإيجابي علىٰ شبكة الانترنيت ووسائل الإعلام الاجتماعي، حيث يكون هذا المحتوى موجَّهاً لإيصال فكر أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ وتوجيهات المرجعية الدِّينية العليا إلىٰ نطاق واسع من الشرائح المجتمعية المختلفة وبأحدث تقنيات الإنتاج الرقمي وبأساليب خطابية تناسب المتلقّي العصري.

والمعهد يقوم بطباعة ونشر الإنتاج الفكري والعلمي لطلبة العلم، ضمن سلسلة من الإصدارات في مختلف العناوين العقائدية والفقهية والأخلاقية، التي تهدف إلىٰ ترسيخ العقيدة والفكر والأخلاق، بأُسلوب بعيد عن التعقيد، يستقي معلوماته من مدرسة أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ الموروثة.

والكتاب الذي بين يديك - عزيزي القارئ - هو مجموعة من الدروس الفقهية في كتاب شرائع الإسلام للمحقق الحلي قُدس سره، كتبها أستاذ المادة لعدة أهداف ذكرها في المقدمة، نسأل الله تعالى أن يجعل عملنا في عينه، وأن يتقبَّله بقبوله الحسن، إنَّه سميع مجيب.

إدارة المعهد

ص: 4

الإهداء

في رحابك يا مولاي تطمئنُّ القلوب...

وبين يديك تُقضى الحاجات...

وعند قدميك فيضُ ماءٍ يروي الغليل...

بابٌ للحوائج أنت...

وكيف لا تكون كذلك وأنت باب الإمام الحسين عَلَيْهِ السَّلاَمُ؟!

إليك يا مولاي يا أبا الفضل، فتفضل عليّ بالقبول.

عبدك الرقّ

ص: 5

ص: 6

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة المؤلف:

اشارة

تختلف الكتابة من موضوع إلى آخر، ومن علم إلى آخر، وإن كانت الألفاظ طوع قلم كاتبٍ في علمٍ أو موضوع ما، فلا يعني أنها تطيعه في كل العلوم، وهذا أمر وجداني يشعر به الجميع.

علم الفقه، لم يفتح أبواب الإبداع فيه لكل يراع، ولم يتمكن من الغوص في أعماقه لمعرفة دقائقه كلُّ من رام ذلك، وإنما كان له أهله ومتخصصوه، ولذلك تجد الفقهاء الأفذاذ كانوا وما زالوا يُشار إليهم بالبنان وتشرئبّ الأعناق إليهم، ويبقى ذكرهم وما كتبوه على مر الدهور وكرور العصور، فبعد مئات السنين، ما زالت كتب الشيخ الطوسي والصدوق والمحقق والعلامة وأمثالهم غضة طرية غنية بالعلوم الفقهية.

إن لهذه الحقيقة أسراراً عديدة، ولا شك أن من أهمها التسديد الإلهي وإخلاص الكاتب.

ومن بين أهم الكتب الفقهية التي استمرت حلقاتها الدراسية في الحوزات العلمية أمس واليوم، هو كتاب شرائع الإسلام للمحققالحلي قُدس سره، حتى باتت دراسته علامة فارقة لطالب العلم، هو ومعه

ص: 7

مجموعة من الكتب الأخرى، ولعله من أكثر الكتب شروحاً وتعليقاً في الحوزة العلمية، وما أكثر ما اتخذه أساطين بحوث الخارج متناً لبحوثهم الفقهية.

ولذا كان هذا السِفر الفقهي محطّ أنظار العلماء والشرّاح، فكتبت فيه العديد من الشروح والتعليقات التي عُدّت مصادر مهمة لفهم مطالبه وشرح مقاصده.

هذه الأوراق ليست تعليقاً خاصاً، ولا شرحاً مستحدثاً لهذا الكتاب، وإنما هي استفادات من كلمات الشراح، وإفادات من الأساتذة الفضلاء، فما كان فيها من علم ومعرفة فهي منهم، وما كان فيها من نقص وخلل فهي مني بلا أدنى شك، قصوراً أو تقصيراً.

هذا وقد كُتبت هذه الدروس بهدف:

1 - تعريف الطالب - قبل الدخول في مرحلة السطوح- بالجهود التي يبذلها الفقهاء من أجل استنباط الحكم الشرعي.

2 - تعريفه باختلاف الآراء وما تبتني عليه من قواعد وأساسات فقهية وأصولية ورجالية.

3 - الاطلاع على عبارة الفقهاء القديمة وطريقتهم في عرض المطالب والاستدلال عليها.

فيكون الطالب - بعد ذلك- على وعي تامٍّ بصعوبة الطريق ووعورته، وتوقف الوصول إلى الهدف منه على عزم ثابت وجهود استثنائية وإخلاص

ص: 8

في طلب العلم، ولذا لم يتم شرح كل الكتاب، وإنما أبواب قليلة جداً منه من بدايته، لتحقيق الهدف المنشود، بالإضافة إلى ضيق الوقت المخصص لهذا الدرس في المرحلة التمهيدية للسطوح في معهد تراث الأنبياء للدراسات الحوزوية الإلكترونية.

هذه الدروس هي محاولة لفهم شيء من عبارات شرائع الإسلام، وعمق مطالبها، وغزارة معلوماتها، وقد حاولت فيها - قدر الإمكان - تسهيل المطالب بألفاظ واضحة وإضافة شيء من تراجم الرجال والفوائد الفقهية والأصولية والرجالية في مواضعها المناسبة ولو استطراداً.

اسأل الله تعالى أن يجعله بعينه، ويجزينا بما هو أهله.

أخيراً، لا يسعني إلا أن أدعو الله تعالى بالتوفيق والسداد لكل من ساعدني في إكمال هذه الدروس، مباحثة وكتابة ومراجعة وتدقيقاً.

والحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله أجمعين.

حسين عبد الرضا الأسدي/ النجف الأشرفصباح يوم الثلاثاء

25 تشرين الأول 2022م

28 ربيع الأول 1444 ه-

ص: 9

ص: 10

قبل البدء باسم الله:

هنا ملحوظات مهمة:

1 - كل رأي لم يُذكر مصدره في الهامش، فمصدره هو كتاب مدارك الأحكام للسيد العاملي، وكان الهدف ذكر الأقوال وكيفية الاستدلال عليها لا القائلين بها.

2 - الهدف الأساسي من هذه الدروس: الاطلاع على عبارة فقهائنا القدماء، وكيفية استدلالاتهم، وبثِّ بعض المعلومات الأصولية والرجالية التي تفتح أذهان الطلبة في هذه المرحلة على الدقةِ العلمية الموجودة في موضوعة الاستدلال الفقهي، ومن خلالها سيُفهم أنّ قضية الاجتهاد ليست مسألةً سهلةً؛ فالروايات كثيرة، وبعضها يصعب فهمها بسرعة، بل تحتاج إلى الكثير من القواعد الأصولية والفقهية وغيرها، وقبولها يحتاج إلى الكثير من القواعد الرجالية المعرفية وغيرها.

3 - وحيث إنَّ المقصود من دراستنا لهذا الكتاب هو الاطلاع على عبارة علمائنا القدماء، وكيف كانوا يصوغون عباراتهم الفقهية،فليس المقصودُ معرفةَ الفتوى العملية لأعمالنا اليومية؛ فالفتوى العملية يرجعُ فيها كُلُّ شخصٍ إلى المرجع الذي يقلده.

ص: 11

4- بناءً على الهدف من دراستنا لهذا الكتاب، فإننا في هذه الدورة، وبحسب ما يسمح به وقتُ الدرس؛ لا ندخل في الكتاب من بدايته إلى نهايته وندرسه كلمةً كلمة، أو مطلبًا مطلبًا، بل سيكون الدرس من بداية الكتاب إلى نهاية غسل الجنابة، مع استثناء البئر وأحكامه.

* * *

ص: 12

سيرة حياة المُحقَّق الحلّي قُدس سره وديباجة الكتاب:

سيرة حياة المُحقِّق الحلّي قُدس سره (1):

هو الشيخ جعفر بن الحسن بن يحيى بن حسن بن سعيد الهذلي الحلي، يُكنى بأبي القاسم، ويُلقّب بنجم الدين، المشهور ب-(المُحقِّق الحلي) و(المُحقِّق الأول).

من عُلماءِ الشيعة في الفقه والأصول، في القرنِ السابع الهجري، وينصرفُ لقبُ المُحقِّقِ إليه إذا ذَكرهُ الفقهاء من دون قرينة. وهو خالُ العلّامةِ الحلي المعروف.

كانَ والدُه الشيخُ حسن فاضلًا عظيمَ الشأن، وكذلك جدُّه الشيخُ يحيى كانَ عالمًا مُحقِّقًا، من فقهاءِ عصره...

ولِدَ سنة 602 ه- في مدينةِ الحلّةِ المعروفة، ونشأ المُحقق الحلي نشأةً علميةً في بيتِ علمٍ وشرفٍ ومجدٍ في مدينةِ الحلّةِ السيفية، وقد كانتِ الحلةُ آنذاك - أي في القرنِ السابع والثامن وبعضٍ من القرن السادس الهجري - مجمعًا للعلماءِ والفضلاء.

ص: 13


1- أُخذت من عدة تراجم للمحقق، ومنها: مقدمة: الرسائل التسع- المحقق الحلي.

من أشهرِ أساتذتِه: أبوه حسن بن يحيى الحلّي، محمد بن جعفر ابن نما، وتاجُ الدین حسن بن علي بن دربي.

ومن أبرز تلامذتُه والمُستفيدين على يديه:

1- الحسن بن يوسف بن المُطهّر الحلي المشهور ب-(العلّامة الحلي) وهو ابن أخته.

2- الحسن بن داود الحلّي صاحبُ كتابِ الرجال والمعروف ب-(ابن داود).

3 - السيدُ غياث الدين عبد الكريم بن أحمد بن طاووس صاحب كتاب فرحة الغري.

4 - السيدُ جلالُ الدين محمد بن علي بن طاووس.

5 - صفيُّ الدين الحلّي الشاعر المعروف ذو الصيت الذائع.

ومن الجدير بالذكر أنه:

يُقصد ب-(المتقدمين) العلماءُ من عصرِ الشيخِ المفيد قُدس سره إلى عصرِ المُحقِّق الحلّي قُدس سره، ويُقصدُ ب-(المتأخرين) الفقهاءُ من بدايةِ عصرِ العلّامةِ الحلّي- ابن أخت المحقق - إلى عصرِ المُحقِّق الكركي، مما يعني أنّ المُحقِّق الحلّي آخرُ عالمٍ من عصرِ المُتقدمين، وتلميذُه العلّامة الحلي هو بدايةُ عصرِ المُتأخرين، مما يُبيّنُ طبيعة ما كان عليه الفقه الاستدلالي من التطوّر؛ حيثُ إنّ المُحقِقَ الحلّي يُنسبُ إلىمدرسةِ المتقدمين والعلّامةَ الحلّي هو بدايةُ مدرسةِ المتأخرين، رغم أنهما متعاصران.

ص: 14

وعلى كلِّ حالٍ، فإنَّ مدرسةَ المتقدمين من العلماء انتهت بالمُحقق الحلّي، وبدأتْ مدرسةُ المتأخرين بتلميذه العلّامة الحلّي.

قال في حقِّه الشيخُ الحرُّ العاملي رحمة الله: كان عظيمَ الشأن، جليلَ القدر، رفيعَ المنزلة، لا نظيرَ له في زمانه... وله شعرٌ جيّدٌ وإنشاءٌ حسنٌ بليغ، وكان مرجعَ أهلِ زمانِه في الفقه وغيره (1)

وقال في حقِّه السيّدُ مُحسنُ الأمين في أعيان الشيعة: وكفاهُ جلالةَ قدرٍ اشتهارُه بالمُحقِّق؛ فلم يشتهرْ من علماء الإمامية على كثرتِهم في كلِّ عصرٍ بهذا اللقب غيره وغير الشيخ علي بن عبد العالي الكركي، وما أخذ هذا اللقبَ إلا بجدارةٍ واستحقاق، وقد رُزِقَ في مؤلفاته حظًا عظيمًا (2)

كما قال في حقِّه العلامةُ التستري في قاموس الرجال: هو أولُ من جعلَ الكتبَ الفقهية بترتيبِ المتأخرين، فجمعَ في شرائعه لُبَّ ما في نهاية الشيخ الذي كان مضامين الأخبار، وما في مبسوطه «كتاب المبسوط للشيخ الطوسي« وخلافه »كتاب الخلاف للشيخ الطوسي« اللذين كانا على حذوِ كتبِ العامة في جمعِالفروع، وقبله كان بعضهم يكتبُ كالنهاية كسرائر الحلي، وبعضهم كالمبسوط والخلاف كمُهذّب القاضي. وله تحقيقاتٌ أنيقة (3)

ص: 15


1- أمل الآمل للحر العاملي ج2 ص 48.
2- أعيان الشيعة للسيد محسن الأمين ج4 ص 89 و90.
3- الرسائل التسع- المحقق الحلي ص 18 المقدمة.

للمحقق قُدس سره العديد من المصنفات، في مُختلفِ العلومِ الشرعية كالفقهِ وأصولِه والكلام، وهي على نحوِ الإجمال:

في أصول الدين: كتاب المسلك في أصول الدين.

في المنطق: كتاب النكهة في المنطق.

في أصول الفقه:

1- المعارج في أصول الفقه.

2- نهج الوصول إلى علم الأصول.

في الفقه:

1- شرح نكت النهاية (أي نهاية الشيخ الطوسي).

2- شرائع الإسلام.

3- النافع في مختصر الشرائع.

4- مختصر مراسم سلّار.

5- رسالة في القبلة.

في أجوبة المسائل:

1- المسائل العزية.2- المسائل المصرية.

في الأدب: ومن أهمها:

1- مراسلاته الشعرية التي جرت بينه وبين والده.

2- مراسلاته الشعرية التي جرت بينه وبين صديقه الشيخ محفوظ.

ص: 16

ومن شعره (1):

يا راقدًا والمنايا غيرُ راقدةٍ *** وغافلًا وسهامُ الدَّهرِ ترْميهِ

بِمَ اغترارُكَ والأيامُ مرْصدةٌ *** والدّهرُ قد ملأَ الأسماعَ داعيهِ

أما رأتْكَ اللّيالي قُبْحَ دخلتِها *** وغدْرَها بالذي كانت تُصافيهِ

رفقًا بنفسِكَ يا مغرورُ إنّ لها *** يومًا تشيبُ النواصي من واهيهِ

كانت وفاة المحقِّق قُدس سره صباحَ يومِ الخميس 13 ربيع الآخر سنة 676 ه- في الحلّة، ونُقِل في سبب وفاته أنّه سقط من أعلى درجةٍ في دارهِ فخرَّ ميتًا لوقته، وحُمِل نعشُه إلى النجف الأشرف، ودُفِن في حرم الإمام علي عَلَيْهِ السَّلاَمُ.

* * *

ص: 17


1- أمل الآمل للحر العاملي ج2 ص 51.

ص: 18

بسم الله الرحمن الرحيم

قال المحقق قُدس سره: وهو مبنيٌ على أقسامٍ أربعة...

قسّمَ المحققُ قُدس سره كتابه شرائع الإسلام إلى أقسام أربعة هي:

1 - العبادات.

2 - العقود.

3 - الإيقاعات.

4 - الأحكام.

أما العبادات: فهي ما يُشترط في أدائها نيّةُ القربة إلى الله تعالى، ولا تصحُّ من دونها، كالصلاة والصوم والحج،... إلا أنَّ هناك بعض المباحث التي ذكرها المحققُ قُدس سره في قسم العبادات - كتطهير المتنجسات مثلًا- رغم عدم اشتراط نية القربة فيها؛ وما ذلك إلا لكونِها مقدمةً لبعض العبادات، ولا تصحُّ تلك العباداتُ إلا بها، كالصلاة مثلًا التي لا تصحُّ إلا بالطهارة من الحدثِ والخبث؛ لذلك تناول كتاب الطهارة وما يتعلق بها من الوضوء والغسل والتيمم فيقسم العبادات، مقدِّمًا إيّاها على الصلاة؛ لأنَّ الترتيب الموضوعي يقتضي ذلك.

ص: 19

وأما العقود (المعاملات): فهي ما يُشترطُ فيها طرفان يتوليان الإيجاب والقبول، وتتوقفُ صحتها عليهما، ففي عقد البيع مثلًا يقولُ أحدُهما: بعتُ، ويقول الآخر: قبلت، وفي عقد الزواج، تقول المرأة: زوجت، ويقول الرجل: قبلتُ، وهكذا في عقد الإجارة وغيره.

وأما الإيقاعات: فهي ما لا تحتاج إلا إلى طرفٍ واحدٍ، هو الذي يقومُ بالإيقاع، كالطلاقِ والوقفِ، فيقولُ الزوج - مع اجتماع شرائط صحة الطلاق-: زوجتي فلانة طالق، أو يقولُ المالك: أوقفتُ كذا في سبيل الله عَزَّوَجَل، فيقع الطلاق أو الوقف من دون حاجةٍ إلى رضا الزوجة أو الموقوف عليه.

وأما الأحكام، فهي ما عدا العبادات والعقود والإيقاعات من الأحكام الشرعية، كالغصب واللقطة والميراث والديّات، أو ما يعبِّر البعض عنها ب-(السياسات).

سبب الحصر بأبواب أربعة:

في البداية نقول: إنَّ الحصرَ ليس عقليًا، فلا استحالة عقلية في أنْ يكون عدد تلك الأقسام أقل أو أكثر، فالقسمة استقرائية.ولكن قد بيّنَ البعضُ الوجهَ في جعلِها أربعة فقال: إنَّ ما يُبحثُ عنه في الفقه إما أخروي أو دنيوي، والأولُ (الأخروي) هي العبادات، ويُشترطُ فيها نية القربة، فلا تصِحُّ من دونها.

ص: 20

وأما الثاني (الدنيوي) فمنها ما لا يحتاجُ إلى لفظٍ - وهي الأحكامُ كالديّات والميراث والقصاص-، ومنها ما يحتاجُ إلى اللفظ، وهذه: منها ما يحتاجُ إلى اللفظِ من الطرفين - وهي العقود كالبيع والإجارة - ومنها ما يحتاجُ إلى اللفظ من طرفٍ واحد - وهي الإيقاعات كالطلاق والوقف - .

وهذا الثاني لا يُشترطُ فيه قصدُ القربة إلى الله تعالى؛ فلا يحتاجُ التاجرُ مثلًا إلى أنْ تكونَ معاملاتُه التجارية قربةً إلى الله تعالى مثلًا.

القسم الأول: في العبادات:

أي سنشرعُ في تقديم الأحكام الشرعية وفقًا للأهمِّ منها فالأقلُّ منه أهميةً وهكذا.

إنَّ أهم وأول عبادة ينبغي تقديمها هي الصلاة؛ لما ورد في الأدلة الشرعية من أنّ فضيلتها في ذاتها، وأنّها أشرفُ من باقي العبادات، وأنّها عمودُ الدين إنْ قُبِلتْ قُبِلَ ما سواها وإنْ رُدَّت رُدَّ ما سواها...، ولذا فإنَّ المُحققَ قُدس سره قدَّمها على سائر العبادات الأخرى التي تناولها في كتابه.وحيث إن المشروط لا يصحُّ إلا بتحقُّقِ شرطه، وقد ورد في الروايات عن أبي جعفر عَلَيْهِ السَّلاَمُ: (لا صلاة إلا بطهور) (1) سواءَ أكانت الصلاةُ واجبةً أم مستحبةً، كان لابُدَّ من تناول الشرط أولاً قبل المشروط، فبدأ قُدس سره بكتابِ الطهارةِ، فصارتِ الكتابَ الأول، يليه كتابُ الصلاة وهو الكتابَ الثاني.

ص: 21


1- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق ج1 ص 58 ح 129.

ثم تناول الكتابين الثالث والرابع: الزكاة والخمس، وأما وجه تقديمهما على ما تبقّى من العبادات- لا سيما الصوم على الرغم من أهميته-، فلعلّه لما ورد في الآيات القرآنية من الاقتران الغالبي بين الصلاة والزكاة، نحو «وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ» (1) ولم يذكر الصوم إلى جانب الصلاة عادة.

ثم جعل كتاب الصوم الكتاب الخامس؛ لأنَّه واجبٌ على كلِّ المسلمين إلا القليل منهم، ولأنّهم مكلَّفون به كلَّ سنةٍ.

ثم خصص الكتاب السادس للاعتكاف؛ لأنَّ الصوم مقدمةٌ له، فيقتضي الترتيب الموضوعي ذكره بعده.

وقد أخّر قُدس سره كتابَ الحج عن الصوم ليجعله الكتاب السابع؛ وذلك لأنّ المكلفين به عادةً أقلُّ من المكلفين بالصوم؛ لتوقف وجوب الحج على شرط الاستطاعة من جهةٍ، ولأنه واجبٌ عليهم في العمر مرةًواحدةً وهي حجة الإسلام، ولا يتكرر الوجوب على المكلف إلا بسببٍ عرضي، كالنذر مثلًا من جهةٍ أخرى.

والكتاب الثامن هو كتاب العمرة، وواضح جداً ارتباطه بكتاب الحج، لما للتقارب الكبير بين أحكامهما.

وأما الكتاب التاسع فقد كان كتاب الجهاد؛ لكثرة الشرائط التي ينبغي تحققها وعسرها، ليكون واجبًا على المسلمين، وهناك رأيٌ يقول باشتراط إذنِ الإمامِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ في الجهاد الوجوبي الابتدائي الهجومي.

ص: 22


1- البقرة: (43).

لم يبقَ حينئذٍ إلا كتاب الأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو الكتاب العاشر.

هذا تفسير قوله قُدس سره: (ونبدأ منها بالأهمِّ فالأهمِّ)، وعليه يكون ترتيب الأبواب كالآتي: الطهارة، الصلاة، الزكاة، الخمس، الصوم، الاعتكاف، الحج، العمرة، الجهاد، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

* * *

ص: 23

ص: 24

كتاب الطهارة

ص: 25

ص: 26

قال المحقق قُدس سره: (كتابُ الطهارة:

الطهارةُ اسمٌ للوضوء، أو الغسل، أو التيمم على وجهٍ له تأثيرٌ في استباحةِ الصلاة).

توضيح التعريف:

النقطة الأولى: تعريف الطهارة تعريفٌ اسميٌ، لا حقيقي:

قال قُدس سره: الطهارةُ اسمٌ...

من المعلوم أنَّ التعريف في علم المنطق نوعان: اسميٌ لفظيٌ وحقيقي.

فأما الاسمي فهو شرحُ معنى الاسم، وهو عبارةٌ عن استبدالِ اللفظِ بلفظٍ أو بألفاظٍ تكونُ أوضحَ من اللفظِ الأول، أي هو شرحٌ للاسم ليس إلا، وليس تعريفًا حقيقيًا؛ ولذلك لا يُشترط فيه أكثر من كونِ التعريفِ أوضحَ من المُعرَّفِ، ولو بجهةٍ من الجهات، كتعريف (الغضنفر) ب-(الأسد).وأما التعريف الحقيقي فيكون وفقَ قواعدَ منطقيةٍ تذكر في كتب المنطق، وهو ينقسم إلى حدٍّ، ورسم، وكلٌّ منهما ينقسم بدوره إلى تامٍ وناقصٍ.

ص: 27

ومن أهم الشروط التي يشترطُ توفرها في الحد التام (وهو أهم التعريفات وأدقها وأكثرها بياناً للمعرَّف) كونه جامعًا لكُلِّ الأفراد، مانعًا من دخول الأغيار.

ويبدو أنّ تعريف المحقق للطهارة ليس تعريفًا حقيقيًا؛ إذ لم يُقصدْ منه بيان الطهارة بحدِّها؛ وإنّما يظهرُ أنّه تعريفٌ اسميٌ لا أكثر.

وتعبيره قُدس سره عن الطهارة بقوله: (الطهارةُ اسمٌ) إشارةٌ منه إلى أن التعريف اسمي.

النقطة الثانية: الطهارةُ لغويةٌ وشرعية:

تُطلقُ الطهارةُ ويُرادُ بها تارةً المعنى اللغوي، وأخرى المعنى الشرعي.

والطهارةُ اللغوية مجرد النظافة، فتصدقُ على ما تستباحُ به الصلاة –كالوضوء-، كما تصدق على ما لا تُستباح به الصلاة، مثل إزالة النجاسة فهي طهارة لغة، ولكن لا يترتب عليها جواز الدخول بالصلاة.

وأما الطهارة الشرعية فهي الطهارة التي يترتب عليها حكم شرعي معين، وهو خصوص ما تُستباحُ به الصلاة، فتشمل الوضوءوالتيمم والغسل، إضافةً إلى طهارة النجاسة المانعة من صحة الصلاة، كطهارة اللباس التي هي شرط في صحة الصلاة مثلًا.

فالطهارة بالمعنى اللغوي أعم من الطهارة بالمعنى الشرعي.

والمصنف قُدس سره يقصد بالطهارة في تعريفه الطهارة الشرعية لا اللغوية، بقرينة قوله: (الطهارةُ اسمٌ للوضوء أو الغسل أو التيمم على وجهٍ له تأثير في استباحة الصلاة).

ص: 28

ويشمل هذا التعريف بعضاً من أفراد الطهارة اللغوية الذي يكون شرطاً في صحة الصلاة، كإزالة النجاسة المانعةً من صحةِ الصلاة - كنجاسة البول على بدنِ المُصلي أو على ثيابه- حيث يلزم عليه أن يُزيلها حتى تستباح له الصلاة.

أما مثل نحو الدم الأقل من الدرهم، من غير الدماء الثلاثة، كدم جرحٍ في الإصبع مثلًا، فلا يكون مانعاً من صحةِ الصلاة، وتجوز به الصلاة، ومن ثَمَّ، فهو خارج عن حديث المصنف في الطهارة.

وعليه، فإنَّ المحقق قُدس سره يذكر ما تتوقف صحة الصلاة عليه من الطهارة؛ سواء ما كان من العبادة، ويشترط فيها نيةُ القربة كالوضوء والتيمم والغُسل، أم ما ليس من العبادة، ولكن تتوقف عليه صحة الصلاة كطهارة الثياب والبدن المشروطة في صحة الصلاة.وأما مثلُ النجاسة التي لا تخدشُ بصحة الصلاة، فهي وإنْ كانت أمورًا خارجةً عن نطاق الطهارة الشرعية، إلا أنَّ المحقق قُدس سره يذكر بعضها على نحو الاستطراد.

النقطة الثالثة: بيان قيود التعريف:

عرّف المحقق قُدس سره الطهارةَ بقوله: الطهارةُ اسمٌ للوضوء أو الغسل أو التيمم على وجهٍ له تأثيرٌ في استباحة الصلاة.

ص: 29

وبيان قيود التعريف يكون بالتالي:

القيد الأول: الوضوء أو الغسل أو التيمم:

وهو قيدٌ يخرجُ به:

1 - أفراد الطهارة اللغوية: نحو إزالة النجاسة مثلًا، فهي وإن كانت طهارةً بالمعنى اللغوي، إلا أنَّها ليست طهارةً شرعية؛ لأنّها ليست وضوءً ولا غُسلًا ولا تيممًا.

2 - ما لم يُقصد به نية القربة إلى الله تعالى: وإن كان يشبه بظاهره الوضوء أو الغُسلَ أو التيمم، فضلًا عمّا سواها، فإنّها تخرجُ هي الأخرى بهذا القيد، بمعنى أنه لو توضأ لا بنيةِ القربة لوجه الله تعالى، فهذه طهارةٌ، ولكنّها لُغويةٌ، وليست شرعيةً؛ لأنَّ الطهارة الشرعية لا بُدَّ فيها من نية القربة.

نعم، ذكرنا أنَّ بعضاً من أفرادِ الطهارةِ اللغوية يشملها المحقق قُدس سره في تعريفه، وهي بلا شك مما لا يُشترط فيها نية القربة، ولكن سيأتيشمولها بالتعريف لاحقًا؛ وأما لو قصرنا النظر على هذا القيد فقط فإنّها تخرجُ أيضًا.

القيد الثاني: على وجهٍ له تأثيرٌ في استباحة الصلاة:

وهو قيدٌ يخرجُ به:

1- ما لم يُحقِّق شرطَ صحةِ الدخول في الصلاة: فحيث: لا صلاة إلا بطهور (1)، فما يُصحّح دخول المكلف في الصلاة هي الطهارة شرعًا، كالوضوء، والغُسل، والتيمم الذي تصحُّ به الصلاة.

ص: 30


1- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق ج1 ص 58 عن أبي جعفر عَلَيْهِ السَّلاَمُ ح 129.

وبهذا القيد خرج مثلُ وضوءِ الحائض للجلوسِ في مُصلاها للذكرِ؛ فقد ورد استحبابُ وضوء المرأة الحائض، وجلوسها في مُصلاها، والاشتغال بذكر الله تعالى وقتَ الصلاة، فهذا الوضوء وإنْ كان مستحبًا، غير أنّه لا يُعدُّ طهارةً بالاصطلاح الشرعي؛ لأنّه لا تُستباحُ به الصلاة، أي لا تصح؛ لعدمِ صحةِ الصلاة من المرأة الحائض كما هو واضح.

وكذا وضوء المجنب لأجل تناول الطعام قبل الغُسل؛ فقد ذكر الفقهاء أنّه يُكرَهُ للمجنب أنْ يتناولَ طعامه وهو على جنابة، فإذا أراد أن يرفع هذه الكراهة فعليه أن يتوضأ؛ فهذا وضوءٌ مستحبٌ، لكنّه لا يُعدُّ طهارة بالاصطلاح الشرعي؛ لنفس السبب، وهو أنه لا تُستباح الصلاة به، أي لا تصح؛ لعدمِ صحةِ الصلاة من المجنب.2 - الوضوء والغُسل والتيمم من دون قصد نية القربة إلى الله تعالى؛ فإن كلًّا منها عبادة، ومن الأركان الأساسية لكُلِّ عملٍ عبادي النية، أي قصد القربة إلى الله تعالى، فإن هي تجردت عنها لم تكن حينئذٍ من العبادات، ومن ثَمَّ تفقد تأثيرها في استباحة الصلاة للمكلف.

3 - التيمم وقت النوم: الذي ذكره الفقهاء بشروطٍ خاصة في الرسائل العملية.

القيد الثالث: (على وجهٍ له تأثيرٌ):

لبيان المقصود من (التأثير) نذكر جهتين:

ص: 31

الجهة الأولى: التأثيرُ تام، وناقص:

أما التأثيرُ التام فمثاله: شخصٌ يُريدُ أن يُصلي، وهو مُحدثٌ بالأصغر مثلاً، فلا بُدَّ من الوضوء؛ لأنَّه هو الذي يجعل الصلاةَ مباحةً؛ فهو شرطٌ لا بُدَّ من تحققه لتحقق المشروط، وهو أداءُ الصلاةِ صحيحةً. فالوضوء هنا مؤثرٌ تامٌ في استباحة الصلاة؛ لعدم الحاجة إلى ضمِّ شيءٍ آخر إليه لاستباحةِ الصلاة.

وكذا فإنَّ كلًّا من غُسل المجنب والتيمم - مع توفرِ أحدِ مسوغاته - له تأثيرٌ تامٌ في استباحةِ الصلاة.

وأما التأثير الناقص، فهو تأثير الطهارة التي لا تكفي لوحدها في استباحة الصلاة، ولا بُدَّ من ضمِّ شيءٍ إليها، ومجموع الشيئين هوالذي يُبيحُ الصلاة للمكلف، كوضوء المستحاضة المتوسطة، فعندما تُريدُ أْن تصلي يجب عليها -ولو على نحو الاحتياط- أنْ تغتسل وتتوضأ، فرغم أنَّ غُسلها صحيحٌ، وهو طهارةٌ بالاصطلاح الشرعي، لكنّه يؤثرُ في استباحة الصلاة تأثيرًا ناقصًا؛ وذلك لعدم كفايته في استباحة الصلاة، ولابُدَّ من ضمِّ الوضوء إليه، بخلاف تأثيرِ غُسل المُجنب الذي يكفي في استباحة الصلاة من دون ضمِّ الوضوء إليه، كما أنَّ الوضوء هو الآخر له تأثير ٌ في استباحة الصلاة للمستحاضة، ولكنّه تأثيرٌ ناقصٌ، وبضم الاثنين إلى بعضهما يتحقق التأثير التام لاستباحة الصلاة.

ص: 32

مثالٌ آخر:

إنَّ بعض الفقهاء يوجبُ ضمَّ الوضوء إلى غسل المجنبِ فيما إذا أحدث المجنبُ بالحدث الأصغر أثناء الغُسل، وممن قال بذلك السيد السيستاني (أدام الله ظله) على نحو الاحتياط الوجوبي، إذ قال: لو أحدث بالأصغر في أثناء الغسل من الجنابة فله أن يتمه، والأحوط وجوبًا ضمُّ الوضوءِ إليه حينئذٍ... (1)

فالغُسل - الذي تخلَّله حدث أصغر- له تأثيرٌ في استباحة الصلاة، ولكنّه تأثيرٌ ناقصٌ، ولابُدَّ أنْ يضمَّ معه الوضوء، كما أنَّ الوضوء هوالآخر له تأثيرٌ في استباحة الصلاة ولكنّه تأثيرٌ ناقصٌ أيضًا، وبضم الاثنين إلى بعضهما يتحقق التأثير التام لاستباحة الصلاة.

إذا اتضح هذا، فيمكن القول: إنَّ قول المحقق الحلي: (على وجهٍ لهُ تأثيرٌ) يشملُ كلا النوعين من التأثير: التأثير التام، والتأثير الناقص؛ فكلاهما طهارةٌ بالاصطلاح الشرعي، كما أنَّ لكليهما تأثيراً في استباحة الصلاة بقطع النظر عن نوع ذلك التأثير.

الجهة الثانية: التأثير الفعلي وشأنية التأثير:

لبعض الطهارات الشرعية تأثيرٌ فعلي في استباحة الصلاة، ولبعضها الآخر شأنيةُ التأثير في ذلك.

ص: 33


1- منهاج الصالحين للسيد السيستاني ج1 ص 86 المسألة رقم (204).

والأول: هي الطهارة التي ترفع الحدث، أصغراً كان أو أكبراً، بحيث تباح معها الصلاة للمكلف بعد أن لم تكن مباحة له.

أو قل: إن صحة الصلاة متوقفةٌ عليه هو فقط، ولو لم يأتِ به المكلف فلا يمكن أن تُستباحُ له الصلاة من دون الإتيان بطهارةٍ أخرى.

مثالٌ على ذلك: وضوء المحدث بالأصغر، وغُسل المجنب، فإنَّ لكلٍّ منهما تأثيراً فعلياً، أولهما رفَع الحدث الأصغر وأباح بذلك للمكلف الصلاة، وثانيهما رفَع الحدث الأكبر وأباح بذلك للمكلف الصلاة.وأما ما كان له شأنيةُ التأثير في استباحة الصلاة من الطهارات، فهي الطهارة التي وإن لم تكن فعلًا هي المؤثرة في استباحة الصلاة، إلا أنّه لها شأنية التأثير في ذلك.

مثالٌ على ذلك: الوضوء التجديدي للصلاة؛ فلو كان المكلف محدثًا، وتوضأ مثلًا الساعةَ العاشرة، فهذا الوضوء له تأثيرٌ فعلي في استباحة الصلاة، فإذا دخل الظهر وهو لا يزال على وضوئه، فإنّه ليس بحاجةٍ إلى وضوءٍ آخر؛ لأنّه بحالٍ تستباحُ له معها الصلاة، فإذا توضأ وضوءً تجديديًا - بناءً على استحبابه في جميع الفرائض (1)- لم يكن للوضوء الأخير التأثير الفعلي في استباحة الصلاة؛ لأنّه لم يرفع حدثًا، لكنّ له شأنية ذلك التأثير فيما

ص: 34


1- وإلى ذلك ذهب السيد السيستاني (حفظه الله) إذ قال في منهاج الصالحين، الجزء الأول، المسألة 162: (... وأما الوضوء التجديدي للمتطهر من الحدث الأصغر فهو مستحب نفسي، ولكن الثابت استحبابه هو التجديد لصلاتي الصبح والمغرب بل لكل صلاة، وأما في غير ذلك فيؤتى به رجاءً).

لو كان هو الوضوء الأول مثلًا، بحيث لو فرضنا أنّ المكلف كان محدثًا ولم يكن متوضئًا؛ لكان هذا الوضوء الثاني نفسه مبيحًا للصلاة.

وبعبارةٍ أخرى: أنَّ الطهارة التي لها شأنية التأثير هي الطهارة التي وإن كانت لا تنقل المكلف من حالٍ لا تُستباح له بها الصلاة إلى حالٍ تستباح له بها الصلاة، ولكنّها تؤثر ذلك التأثير فيما لو أتى به المحدث، وهذا معنى ما لها شأنية التأثير.وقول المُحقق الحلي قُدس سره: (الطهارة هو اسمٌ للوضوء أو الغُسل أو التيمم على وجهٍ يكون له تأثيرٌ في استباحة الصلاة) يشمل كلًّا من التأثير الفعلي -كما في وضوءِ المحدث الرافع للحدث-، والذي له شأنية التأثير،-كالوضوء التجديدي الذي له شأنية رفع الحدث وإباحة الصلاة-؛ فإنه وإن لم يكن هو المبيح للصلاة فعلًا؛ لكنه لا لأجل أنه ليس له هذا التأثير، بل لأنَّ المكلف كان متوضئًا سابقًا.

النقطة الرابعة: السر في تخصيص الصلاة في تعريف الطهارة:

عرَّف المحقق قُدس سره الطهارة في قوله: (الطهارةُ اسمٌ للوضوء أو الغُسل أو التيمم على وجهٍ له تأثيرٌ في استباحةِ الصلاة)، ومن المعلوم أنَّ الطهارةَ الشرعية لها تأثيرٌ في استباحةِ العديد من العبادات كالصلاة، والصوم لمن أجنب ليلًا، حيث يجب عليه الغسل قبل الفجر؛ ليصح صومه، والمستحاضة المتوسطة على رأي بعض الفقهاء حيثُ قيل بأنه يلزمها الغسل قبل صلاة الفجر، والطواف، ومس كتابة القرآن.

ص: 35

فلماذا خصَّ المحقق قُدس سره الصلاة بالذكر من دون سائر العبادات الأخرى التي تؤثر الطهارة الشرعية في استباحتها أيضًا؟!

قالوا في مقام الجواب:

إنَّ الوجه في ذلك:أولًا: إنَّ ماهية الصلاة - واجبةً كانت أو مستحبةً - متوقفةٌ على الطهارة، أي إنّ الصلاة في جميع الأحوال متوقفةٌ على الطهارة، أما مثلُ الصوم، فالطهارةُ واجبةٌ فيه في بعض أفراده وأحواله دون جميعها؛ فمثلًا الصوم المندوب لا يُشترطُ فيه الإصباحُ على طهارة؛ ولهذا يصحُّ الصوم المستحب من المجنب ليلًا والذي لم يغتسل حتى طلع الفجر مثلًا، مما يعني أنَّ الطهارةَ لا تدخل في ماهية الصوم، وإلا لما صحَّ الصوم من دون طهارةٍ في جميع الأحوال.

وكذا الطواف؛ فالطوافُ المُستحبُ لا تُشترطُ فيه الطهارة، فيصحُّ من المُحدث بالأصغر.

مما يعني أنَّ هناك فرقاً بين الصلاة وبين بقية ما اشترطت فيه الطهارةُ، ويكمنُ ذلك الفرق في أنّ الطهارةَ داخلةٌ في ماهيةِ الصلاة؛ فلا صلاةَ مطلقاً إلا بطهور، أما بقيةُ الواجبات فلا، وقد تبيّن أنَّ بعض أفرادها تُشترطُ فيها الطهارة، وبعض أفرادها لا تُشترطُ فيها الطهارة.

فلأجل ذلك، قد يكون خصَّ المُصنفُ الصلاةَ بالذكر في تعريف الطهارة.

ص: 36

ثانيًا: إنَّ الصلاة هي الفردُ الأكمل لاشتراط الطهارة في جميع حالاتها وأفرادها وأصنافها، وهو قريبٌ من الأول.ثالثًا: إنّ ذكرَ الصلاةِ لا ينفي ما عداها، بمعنى أنّ المصنف وإنْ ذكر الصلاة من دون باقي العبادات، إلا أنَّ هذا لا يعني أنّها لا تؤثر في استباحةِ عبادةٍ أخرى غير الصلاة، بل هو ذكرَ فردًا من الأفراد التي تُبيحها الطهارة وهي الصلاة، أما بقية الأفراد فمسكوتٌ عنها في هذا التعريف.

فهو وإنْ ذكر أنّ الطهارات الثلاثة تُبيحُ الصلاة، ولكن هذا لا يعني أنّها تنفي ما عدا الصلاة.

ويمكن أن نُضيف إلى هذه التبريرات المتقدمة جوابًا آخر يبرر إفراد ذكر المحقق للصلاة كعبادةٍ تؤثر الطهارة الشرعية في استباحتها، ومفاده:

إنّ تعريف المحقق للطهارة هو تعريفٌ لفظي واسمي كما تقدم في النقطة الأولى، والتعريف الاسمي لا يُشترطُ فيه أنْ يكون جامعًا لكُلِّ الأفراد مانعًا من كُلِّ الأغيار، فالمصنف في تعريفه الاسمي يُريدُ أنْ يُبيّن معنى الطهارة، ويكفي ما ذكره من أنَّ هذه الطهارات الثلاثة لها تأثيرٌ في استباحةِ الصلاة، نعم، لو كان تعريفه حقيقيًا منطقيًا لأمكن أنْ يُوجّهُ عليه إشكال عدم الجامعية.

* * *

ص: 37

ص: 38

أقسام الطهارة الشرعية

* القسم الأول:

الوضوء

* القسم الثاني:

الغسل

* القسم الثالث:

التيمم

ص: 39

ص: 40

قال قُدس سره: (وكُلُّ واحدٍ منها ينقسمُ إلى واجبٍ ونُدبٍ):

بيانه:

أولًا: إنّ الطهارة الشرعية ليست واجبةً لنفسها، وإنّما تتصفُ بصفةِ الوجوب أو الندب تبعًا للغاية من الإتيان بها؛ وعليه، فانقسامُ كُلٍّ من الوضوء أو الغسل أو التيمم إلى واجبٍ ومندوب لا باعتبار نفسه، وإنّما باعتبار غايته، أي إنه يكتسبُ صفةَ الوجوب أو الندب من غايته، فإذا كان الوضوء لأجل عبادةٍ واجبة كان ذلك الوضوء واجبًا، وإنْ لم يكن لأجل عبادة واجبة، كان مندوباً، كما لو كان لأجل عبادةٍ مندوبة، أو كان لأجل الكون على الطهارة.

فالمصنفُ رحمة الله يُريدُ أنْ يدخل في بيانِ ما يُعبِّر عنه بعض الفقهاء ب-(غايات الوضوء) في مبحث الوضوء، أو (غايات الغسل) في مبحث الغُسل، أو (غايات التيمم) في مبحث التيمم، يعني الأهداف والجهات التي تُقصَدُ من الوضوء أو الغُسل أو التيمم، وعلى أساسهايتصفُ الوضوء أو الغُسل أو التيمم بصفةِ الوجوب أو صفة الاستحباب والندب.

ص: 41

القسم الأول الوضوء

وفيه واجب ومندوب:

الأول: ما يجب لأجله الوضوء:

بدأ المصنف رحمة الله بالوضوء، فقال قُدس سره: (فالواجب من الوضوء: ما كان لصلاةٍ واجبة، أو طوافٍ واجب، أو لمس كتابة القرآن إنْ وجب، والمندوب ما عداه).

في هذه العبارة يُبين المصنفُ أنَّ الوضوء لا يجبُ لنفسهِ، ولتوضيح ذلك لا بُدّ من تقديم مقدمة:

مقدمة:

ينقسمُ الواجبُ إلى قسمين:

واجبٌ نفسي:

أي ما يجبُ لنفسه، وما يُطلَبُ لذاته، أي يُطلبُ تحقيقُه هو، فهو الواجبُ، كالصلاة، فالصلاةُ واجبةٌ بالوجوب النفسي، هي مطلوبةٌ لذاتها.

ص: 42

وواجبٌ غيري:

أي ما يجبُ لغيره لا لنفسه، بمعنى أنه يكتسب الوجوب من غيره؛ لأنه يُطلبُ لغيره، بمعنى أنه ليس واجباً في حدِّ ذاته، وإنّما وجوبُه يأتي من عبادةٍ هو مقدمةٌ لها، كالوضوء؛ فالوضوء ليس واجبًا في حدِّ نفسه، إنّما يكونُ واجبًا إذا صار مقدمةً للصلاة الواجبة، فسمةُ الوجوب هنا جاءت للوضوء بسبب وجوب الصلاة، وإلا فهو ليس واجبًا نفسيًا، وإنّما وجب لوجوب غيره؛ لقاعدةٍ في علم الأصول مفادها: مقدمةُ الواجب واجبةٌ؛ فالوضوء هو مقدمةٌ للصلاة الواجبة، فيكون الوضوءُ لذلك واجبًا؛ ولذا يطلقُ على هذا الواجب بالواجب الغيري، وعلى حكمه بالوجوب الغيري.

ما يجب لأجله الوضوء:أولاً: الصلاة الواجبة:

وهذا الذي يُريدُ أنْ يُشير إليه المُصنفُ قُدس سره في هذه العبارة، حيث قال: (فالواجبُ من الوضوء ما كان لصلاةٍ واجبةٍ)، فالوضوء في حدِّ نفسه ليس واجبًا، وإنّما يكتسب وجوبه مما هو مقدمة له، كالصلاة الواجبة مثلاً.وقيّد المحقق قُدس سره الصلاة بالواجبة؛ لأنّ الوضوء لا يكون واجبًا إلا بها.

وأما الصلاة المندوبة، فإنها وإنْ كانت لا تصحُّ إلا بالوضوء، بيد أنّها لا تجعل من الوضوء لأجلها واجبًا؛ إذ لا يُتصور وجوب الشرط- وهو الوضوء- رغم عدم وجوب المشروط - وهي الصلاة -.

ص: 43

ثم إنه في الصلاة المندوبة، من أين يكتسب الوضوء الوجوب؟

أَ مِن نفسه؟ والفرضُ أنّه ليس واجبًا نفسيًا.

أم لأنه مقدمةٌ لغيره؟ والفرضُ أنّه مقدمةٌ لعبادةٍ مستحبة لا واجبة.

فلا يحكم عليه بأنّه واجبٌ، وإنْ كان شرطًا في صحةِ الصلاة، فلذلك قيّد المصنف رحمة الله الصلاة بالواجبة؛ لأنّها هي التي تجعل الوضوءَ واجبًا؛ فذو المقدمة - وهي الصلاة - إذا كان واجبًا، فمقدمته - وهو الوضوء - تكون واجبةً أيضًا.

نعم، قد يُطلقُ على هذا الوضوء -الذي هو شرطٌ في صحةِ الصلاة المندوبة- أنّه واجبٌ مجازًا، والمقصود من وجوبه حينئذٍ ليس الوجوب الشرعي كما في مقدمة الصلاة الواجبة، وإنّما من جهة كونه شرطًا في صحة الصلاة المندوبة ليس إلا.فمن حيث شرطيته في صحة الصلاة هو يشابه الوضوء للصلاة الواجبة؛ فكما أن الوضوء واجبٌ لأنّه شرطٌ في صحة الصلاة الواجبة، كذلك هو واجبٌ مجازًا لأنه شرطٌ في صحة الصلاة المستحبة.

ثانياً: الطواف الواجب:

وكما قيّد رحمة الله الصلاة بالواجبة منها، كذلك قيّد الطواف بالواجب منه؛ للسبب عينه؛ لأن الذي يجب له الوضوء هو الطواف الواجب دون المندوب، ومن ثَمَّ فهو الذي أضفى على الوضوء حكم الوجوب.

ص: 44

نعم، الطواف المستحب لا يُشترط فيه الوضوء، وعليه لا يكون الوضوء لأجله واجبًا ولو مجازًا -كما في الصلاة المستحبة- فيصحُّ من المحدث بالأصغر الطواف المستحب، فإذا طاف سبعة أشواطٍ مثلًا من دون وضوء، فإنّ طوافه صحيحٌ، نعم، صلاة الطواف المستحب لا تصحُّ إلا بوضوء؛ لأنّه شرطٌ في صحتها كما تقدّم.

ومما دلَّ على هذا الحكم ما روي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: سَالتُ أَحَدَهُمَا عَلَيْهِما السَّلاَمُ عَنْ رَجُلٍ طَافَ طَوَافَ الفَرِيضَةِ وهُوَ عَلَى غَيْرِ طَهُورٍ. قَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: «يَتَوَضَّأُ ويُعِيدُ طَوَافَه، وإِنْ كَانَ تَطَوُّعاً تَوَضَّأَ وصَلَّى رَكْعَتَيْنِ» (1)

البيان الإجمالي للرواية:عن محمد بن مسلم قال: سألت أحدهما عَلَيْهِما السَّلاَمُ «يعني إما الإمام الباقر أو الإمام الصادق عَلَيْهِما السَّلاَمُ؛ لأنّه من أصحابهما« عن رجلٍ طافَ طوافَ الفريضة »فطوافه واجبٌ« وهو على غير طهورٍ »ليس متوضأ ما هو حكمه«؟ فقال الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ يتوضأ ويعيد طوافه. ثم قال الإمام: وإنْ كان تطوعًا »يعني إذا كان الطواف مستحبًا« توضأ وصلى ركعتين »بمعنى أنّ الوضوء للركعتين وليس للطواف؛ إذ لم يقل يُعيدُ طوافه».

وفي هذه الرواية نكتتان:

النكتة الأولى: دلالة الخبر على الأمر:

قال الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ: (يتوضأ)، وهو فعلٌ مضارعٌ لا يدلُّ على الأمر، فكيف عرفنا أنّ الإمام يقول بشرطية الوضوء في الطواف؟

ص: 45


1- الكافي للكليني ج4 ص 320 بَابُ مَنْ طَافَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ ح3.

وبعبارةٍ أخرى: (يتوضأ) من الصيغ الخبرية التي لا تدلُّ على الأمر، وما يدلُّ على الأمر هي صيغة الإنشاء كما هو معلوم، فلو قال: توضّأْ للطوافِ الواجب، لكان الأمر ووجوب الوضوء بيّنًا، فكيف عرفنا أنَّ الإمام أمر الطائف (طوافًا واجبًا من دون وضوء) أنْ يتوضّأ ويُعيد طوافه رغم أنه استعمل الخبر لا الإنشاء؟

فكيف استفدنا الوجوب من الخبر (يتوضأ)، والحال أنّ الوجوب يستفاد من الإنشاء؟!

الجواب:

ذكر الأصوليون في علم الاصول بحثًا تحت عنوان (صيغة الأمر)، أثبتوا فيه - بعد بحثٍ - أنّ فعلَ الأمر يدلُّ على الوجوب،فإذا قال الإمامُ (صلوات الله عليه): توضأ أو طُف، فإنّه يدلُّ بظاهره على الأمر، ومن ثَمَّ يلزم تنفيذه (1)

أما الجملة الخبرية - وكلامنا حول خصوص الفعل المضارع منها، وهو الوارد في رواية محمد بن مسلم محل البحث -، فهو وإن كان مضارعاً

ص: 46


1- قال الشيخ المظفر قُدس سره في أصول الفقه (ج1 ص 112 و113): اختلف الأصوليون في ظهور صيغة الأمر في الوجوب وفي كيفيته على أقوال. والخلاف يشمل صيغة (افعل) وما شابهها وما بمعناها من صيغ الأمر. والأقوال في المسألة كثيرة، وأهمها قولان: أحدهما: أنها ظاهرة في الوجوب، إما لكونها موضوعة فيه، أو من جهة انصراف الطلب إلى أكمل الأفراد. ثانيهما: أنها حقيقة في القدر المشترك بين الوجوب والندب، وهو -أي القدر المشترك- مطلق الطلب الشامل لهما من دون أن تكون ظاهرة في أحدهما. والحق أنها ظاهرة في الوجوب، ولكن لامن جهة كونها موضوعة للوجوب، ولا من جهة كونها موضوعة لمطلق الطلب وأن الوجوب أظهر أفراده...

(يتوَضأ، يعيد، يغتسل، يطوف) إلا أنَّ له قوة فعل الأمر، أي الدلالة على الوجوب، ويكمن السرُّ في ذلك، في أن الاندفاع نحو العمل يُستفاد من البعث، أي الدفع نحو الفعل، وإرادة الفعل من المولى، فإذا ثبت أنّ المولى يُريدُ من المكلف فعلَ هذا الفعل، ودفعه إليه، فإنَّ العقلَ يحكم بوجوبه، ولا يُفرق في ذلك نوع اللفظ المستعمل للدلالة على هذا المعنى، بل ولو اُستُفيد ذلك من الإشارة، فالعقلُ يحكمُ بلزومِ الامتثال لأمره (سبحانه).

والعرف يرى أن الطلب لا يقتصر على التصريح به أو استعمال خصوص فعل الأمر، فمثلًا من كان بحاجةٍ إلى الماء فإنّه يُمكنهالتعبير بفعل الأمر تارةً للدلالة على طلبه، فيقول: أحضر لي ماءً، كما يُمكنه الدلالة على ذلك من دون استعمال فعل الأمر، بل ومن دون التوسل بالجملة الإنشائية، كما لو استعمل الجملة الخبرية، فيقول مثلًا: أنا عطشان.

فعلى الرغم من أنَّ جملة (أنا عطشان) هي خبرية، وتخلو من أي فعلٍ، لكنّها كشفت عن طلب إحضار الماء ودلّت عليه، وحتى الإشارة المُفهِمة يُمكنها أن تدلَّ على ذلك.

وعليه، فإذا عرف العبد أنّ المولى يأمره بالقيام بفعلٍ ما، فما عليه إلا أن يمتثل لذلك الأمر، بقطعِ النظر عن الطريقة التي أوصلت هذا الأمر إلى فهمه، لفظًا كان أو إشارة، إنشاءً كان أو خبرًا.

والإمامُ (صلوات الله عليه) في رواية محمد بن مسلم قال له: يتوضأ ويُعيدُ الطواف، ونحن نفهم بوجداننا أنَّ الإمامَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ أراد من هذين

ص: 47

الفعلين أنْ يقول: يجبُ عليه أنْ يُعيدُ الوضوء ويُعيد الطواف. وطالما فهمنا أنّ هذا الأمرَ مطلوبٌ، فالعقلُ يحكمُ بلزومِ تنفيذ أمره، والامتثال إليه.

بل قال الأصوليون: ربما تكون دلالةُ الخبر على الوجوب آكد من دلالة فعل الأمر نفسه، باعتبار أنَّ الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ بقوله: (يُعيدُ) فكأنّه يُريدُ أن يُخبرَنا بأنّ وقوع الامتثال من المُكلف أمرٌ مفروغٌ عنه، بمعنى أنّه عَلَيْهِ السَّلاَمُ قد فرغ من أنَّ المكلف سيمتثل هذا الأمر بنسبة مائةبالمائة، فإذا كانت نسبة الامتثال مائة بالمائة، فلا حاجةَ حينئذٍ إلى استعمال فعل الأمر، ويكفي الفعل المضارع والجملة الخبرية في الدلالة على الوجوب.

وللبحث تفصيلٌ في علم الأصول.

النكتة الثانية: رجالية: ترجمة محمد بن مسلم ݤ:

هو من أعاظمِ أصحاب الإمام الباقر والإمام الصادق (صلوات الله وسلامه عليهما)، وهو أحد أربعةٍ وُصِفوا ب-(النجباء الأمناء)؛ فقد روي عن جميل بن دراج، قال سمعت أبا عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ يقول: بشّر المخبتين بالجنة: بريد بن معاوية العجلي، وأبو بصير بن ليث البختري المرادي، ومحمد بن مسلم، وزرارة، أربعة نجباء أمناء الله على حلاله وحرامه، لولا هؤلاء انقطعت آثار النبوة واندرست (1)

فمحمدُ بن مسلم من أعاظمِ أصحابِ أئمتنا (صلواتُ الله وسلامه عليهم) وروي في حقِّه العديدُ من الروايات التي تكشفُ عن تعلقهِ بأهلِ

ص: 48


1- اختيار معرفة الرجال للشيخ الطوسي ج1 ص398 الترجمة 286.

البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ، وعن امتثاله لأوامرهم، وعن كونه من الطبقةِ الأولى علمًا وورعًا وعملًا وطاعةً لله عَزَّوَجَل، ولأهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ.

وفي هذا المجال من المناسب ذكر روايتين مما نُقِلً عنه وفي فضله:روي عن زرارة، قال: شهد أبو كريبة الأزدي ومحمد بن مسلم الثقفي عند شريك بشهادة وهو قاض، فنظر في وجوههما ملياً، ثم قال: جعفريان فاطميان (1)! فبكيا، فقال لهما: ما يبكيكما؟ قالا له: نسبتنا إلى أقوام لا يرضون بأمثالنا أن يكونوا من إخوانهم، لما يرون من سخف ورعنا، ونسبتنا إلى رجل لا يرضى بأمثالنا أن يكونوا من شيعته، فإنْ تفضّل وقبلنا فله المنُّ علينا والفضل.

فتبسّم شريك، ثم قال: إذا كانت الرجال فلتكن أمثالكم، يا وليد، اجزهما هذه المرة.

قال: فحججنا فخبّرْنا أبا عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ بالقصة، فقال: ما لشريك! شركه الله يوم القيامة بشراكين من نار (2)

لاحظوا مدى تواضع محمد بن مسلم، فهو رغم ما عنده من علمٍ ومعرفةٍ، وهو من الأوتاد على الأرض، ولولاه لضاعت أحاديث الأئمة (صلوات الله عليهم) كما في رواية الإمام الصادق (صلوات الله وسلامه عليه)، فإنه يعدُّ نفسه أدنى من أنْ يُحسبَ على أهلِ البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ!

ص: 49


1- كأنّه يعيرهما أو يتهمهما بأنّهما جعفريان فاطميان.
2- اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي) للشيخ الطوسي ج1 ص 384 و385 رقم (274).

وهذا درسٌ لنا جميعًا نحن طلبة العلم، فمهما تقدّمنا في دراستنا وتعلمنا من مصطلحات، وتمكّنا من الكلام والأخذ والعطاء، ينبغيأنْ لا نتكبر على غيرِنا، ولا أن ننظر إلى أنفسنا على أنّنا قد وصلنا مراحلَ عالية، ولا يجوز لأحدٍ أن يتكلم معنا، أو ينتقدنا، بل يجب أنْ نضع هؤلاء الأصحاب نصب أعيننا، وكيف أنّهم كانوا ينظرون إلى أنفسهم أقل بكثير من شيعة أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ تواضعًا.

وفي روايةٍ أخرى: أن محمداً بن مسلم كان رجلاً شريفاً موسراً، فقال له أبو جعفر عَلَيْهِ السَّلاَمُ: (تواضع يا محمد)!

فلما انصرف إلى الكوفة أخذ قوصرّة من تمر مع الميزان، وجلس على باب مسجد الجامع، وجعل ينادي عليه، فأتاه قومه فقالوا له: فضحتنا! فقال: إن مولاي أمرني بأمرٍ، فلن أخالفه، ولن أبرح حتى أفرغ من بيع باقي هذا القوصرة، فقال له قومه: إذا أبيت إلا لتشتغل ببيع وشراء، فاقعد في الطحانين! فهيأ رحىً وجملاً يطحن، وقيل: إنه كان من العُبّاد في زمانه (1)

لم يُتعب الإمام نفسه، ولم يذكر له سوى كلمة واحدة، ثم انظر لأثرها على هذا الشيخ العالم الجليل!

ثالثا: (أو لِمَسِّ كتابةِ القرآنِ إنْ وجب):

إن الوضوء لأجل مسِّ كتابةِ القرآن الكريم ليس واجبًا في ذاته، لأنَّ مسَّ كتابةِ القرآنِ الكريم نفسه ليس واجبًا في حدّ ذاته؛ فمن أين يكتسب الوضوء الوجوب؟!

ص: 50


1- اختيار معرفة الرجال للشيخ الطوسي ج1 ص 389 رقم 278.

الجواب:

قد يُصبحُ مسُّ كتابةِ القرآن الكريم واجبًا ولكن بوجوبٍ عرضي، كالنذرِ واليمين مثلًا، وحينئذٍ يكونُ الوضوءُ لأجله واجبًا.

ولذلك علّق المصنفُ قُدس سره وجوب الوضوء عند مسِّ كتابةِ القرآن على وجوب مسّه، بقوله: (أو لِمَسِّ كتابةِ القرآنِ إنْ وجب).

وحكمُ وجوب الوضوء لمسِّ كتابة القرآن الكريم -إنْ وجب- هو حكمٌ مبنيٌ على لزومِ الطهارةِ عندَ مسِّ كتابةِ القرآنِ الكريم ولو على نحو الاحتياط الوجوبي، ومعنى ذلك: أنّه لو لم يلزمِ الوضوء عند مسِّ كتابةِ القرآنِ الكريم -فرضاً- لما وجبَ الوضوء، حتى لو وجب مسُّ كتابةِ القرآن الكريم بنذرٍ أو يمين.

الثاني: ما يُندب لأجله الوضوء:

قال قُدس سره: (والمندوبُ ما عداهُ).

بعد أن أوضح قُدس سره الموارد التي من أجلها يكون الوضوءُ واجبًا، انتقل إلى حكم الاستحباب للوضوء. وقد اختزل قُدس سره حالات الوضوء المندوب جميعها بعبارة: (ما عداه) أي ما عدا حالات الوجوب، كالوضوء من أجل قراءة القرآن الكريم، أو للكون على الطهارة، أو دخول المساجد وهكذا مما يُذكر في الرسائل العملية من مُفرداتِ الوضوءِ المندوب.

* * *

ص: 51

القسم الثاني الغُس----ل

وفيه واجب وندب أيضًا:

الأول: الواجب:

قال قُدس سره: (والواجبُ من الغُسلِ: ما كان لأحدِ الأمورِ الثلاثة، أو لدخول المساجد، أو لقراءة العزائم إنْ وجبا، وقد يجبُ إذا بقيَ لطلوعِ الفجر من يومٍ يجبُ صومه بقدر ما يغتسل الجنب، ولصوم المستحاضة إذا غمس دمُها القطنة...).

بعد أن أكمل المُصنف رحمة الله غايات الوضوء، وبيّن متى يجبُ الوضوء، ومتى يُستحب، انتقل إلى الفردِ الثاني من أفرادِ الطهارةِ الشرعيةِ، وهو: الغُسل.

قال: (والواجبُ من الغُسل):

إشارة إلى أنّ الغُسلَ ليس واجبًا في حدِّ ذاته، تماماً كالوضوء، فلو فرضنا سقوط وجوب العبادات الموجبة للطهارة عن المكلف، كالصلاة، والطواف الواجب، ومس كتابة القرآن إنْ وجب، فلا يجب الغسل حينها قطعًا، فالغُسل كالوضوء من جهة أنّ كليهما إنما يجب لأجل وجوب ما هما

ص: 52

مقدمة له، أي لتوقف صحة بعض العبادات عليهما، فلا يكونان واجبين على المكلف إلا إذا وجب عليه أداء عبادةٍ تُشترط فيها الطهارة، كما لو دخل وقت صلاةٍ واجبةٍ، فحينئذٍ يجب على المكلف الوضوء إن كان مُحدِثًا بالأصغر، والغُسل إنْ كان مُحدِثًا بالأكبر.

وقد تقدّم أنّ الغُسلَ أو الوضوء إذا كان مقدمةً لعبادةٍ واجبةٍ كان واجبًا؛ فيكتسب الوجوب من ذي المقدمة.

ما يجب لأجله الغُسل:

وأما أفراد الغُسل الواجب فهي:

الأول والثاني الثالث: ما كان لأحد الأمور الثلاثة المتقدمة:

أي الغُسل الذي تتوقف عليه صحة العبادات الثلاثة المُتقدمُ ذكرها في وجوب الوضوء، وهي: الصلاةُ الواجبة، والطوافُ الواجب، ومسُّ كتابةِ القرآنِ الكريمِ إنْ وجب. فهذه الثلاثة تُشترطُ فيها الطهارة، كما تقدّم ذلك مُفصلًا في وجوب الوضوء فلا نُعيد.

الرابع: لدخول المساجد:تنقسم المساجدُ -من حيث جواز دخول المحدِث بالأكبر وعدم جوازه- إلى قسمين:

ص: 53

أ/ مسجد النبي الأعظم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ في المدينة المنورة، والمسجد الحرام في مكة المكرمة:

وتجبُ الطهارة عن الحدث الأكبر في دخولهما فضلًا عن اللبث فيهما، ولو كان الدخول على نحو المرور فيهما، كالدخول من بابٍ والخروج من الأخرى مثلًا.

وعليه، فلو كان المكلف محدثًا بالأكبر، فلا يجوز له أنْ يدخل في المسجدين (المسجد الحرام ومسجد النبي الأكرم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ حتى وإن كان دخوله على نحو المرور، فضلًا عمّا إذا أراد اللبث فيهما.

ب/ سواهما من المساجد:

وتجب الطهارة عن الحدث الأكبر عند إرادة اللبث فيهما، وأما إن كان الدخول على نحو المرور من بابٍ والخروج من الأخرى مثلاً فلا تُشترط الطهارة.

الخامس: لقراءة العزائم:

والعزائم: هي السور الأربعة (السجدة، وفصلت، والنجم، والعلق) التي توجد فيها آية يجب السجود عند قراءتها.وحيث إنَّ كلًا من دخول المساجد وقراءةِ سورِ العزائمِ ليسا بواجبين في حدِّ ذاتهما؛ لذلك قيّدهما قُدس سره بقوله: (إنْ وجبا) بنذر أو يمين أو عهد مثلاً، فإن هذه الأمور مما من شأنه أن توجب ما ليس واجباً في حد نفسه.

ص: 54

تنبيه:

في هذه المسألة خلاف: فمن الفقهاء من ذهب إلى أنه لا يجوز للمحدث بالأكبر - كالمجنب والحائض - قراءة كل السورة (أي سور العزائم) إلا إذا اغتسل، ويظهر من عبارة المحقق الحلي قُدس سره أنه قد ذهب إلى هذا الرأي، ومنهم من يقول: إن الذي يجب له الغسل ورفع الحدث الأكبر ليست قراءة كل سور العزائم، وإنما هو خصوص آية السجدة (1)

فلو أراد المحدث بالأكبر قراءة بداية سورة النجم مثلًا، حيثُ لا توجد آية السجدة الواجبة، فعلى الرأي الأول - والذي يظهر من المحقق قُدس سره- تجب عليه الطهارة، وأما على الرأي الثاني، فلا بأس بقراءتها من المحدث بالحدث الأكبر، لكن إذا وصل إلى آية السجدة الواجبة، فلا يجوز له قراءتها حينئذٍ، إلا إذا رفع الحدث بالغسل.

السادس: إذا بقي من الوقت قبل طلوع الفجر بمقدار ما يغتسلُ به المُجنبُ من يومٍ يجبُ صومُه:

حاصل المسألة: لو أجنب المكلف ليلاً، فمع سعة الوقت فلا يجبُ عليه الغُسل، كما لو أجنب عندَ منتصفِ الليل فلا يجبُ عليه الغُسل؛ لعدم وجوب الغُسل في نفسه، وإنّما يجب لغايةٍ من الغايات –كما تقدّم- وعليه، فلو لم يكن مكلفًا بعبادةٍ واجبةٍ في تلك الليلة إلا صلاة الفجر مثلًا، فلا

ص: 55


1- وممن ذهب إليه سماحة السيد السيستاني (حفظه الله تعالى)، انظر: منهاج الصالحين للسيد السيستاني ج1 ص 249: تتميم: في سجدة التلاوة وسجدة الشكر.

يجب عليه الغُسل إلا إذا تضيّق الوقت لأداء صلاة الفجر، وأما إن كانت تلك الليلة إحدى ليالي شهر رمضان مثلًا، حيثُ يجبُ صومُ اليوم فيه، فهنا لا يجب عليه الغُسل إلا إذا تضيّق الوقتُ بمقدار يسع الطهارة قبل طلوع الفجر.

وبعبارةٍ أخرى: في شهر رمضان يجبُ على المكلف الصوم، كما يجب عليه أيضًا الإتيان بمقدمة الصوم ليكون صحيحًا، وتلك المقدمة هي تحصيل الطهارة قبل طلوع الفجر، لعدم جواز البقاء على الجنابة حتى ذلك الوقت، فإذا لم يبقَ من الوقتِ قبل طلوع الفجر إلا مقدار ما يؤدي به المكلف الغسل، فيجبُ عليه الغُسل في هذا الوقت فقط دون ما سبقه من أوقات.

ثم إن المصنف قال: (وقد يجبُ)، ومن المعلوم أنَّ (قد) تُفيد التقليل عند دخولها على الفعل المضارع، وتفيد التحقيق عند دخولها على الفعل الماضي، ف-مثل قولك: (قد قامت الصلاة) يدل على تحقق قيام الصلاة، بخلاف (قد يندم المتأني) التي تفيد تقليل وقوع المتأني في الندم؛ لأنَّ التأني يلازمه عادةً الظفر والسلامة، وقد أدخلالمصنف قُدس سره هنا (قد) على الفعل المضارع؛ مما يعني أنّه قصد إفادتها التقليل دون التحقيق، فكأنّه يُشيرُ إلى قلّةِ ونُدرةِ هذا الفرض المذكور. ولكن لو تحقق هذا الفرض فيجبُ على المكلف حينئذٍ الغُسل قبل طلوع الفجر بمقدار ما يكمل معه غسله قبله، وأما قبل ذلك فإنّ الغسل ليس بواجبٍ.

ص: 56

علماً أن هناك خلافاً في وجوبِ الإصباحِ على الطهارةٍ في يوم يجب صومه، فمن الفقهاء من يرى وجوبه في كُلِّ صومٍ واجبٍ، سواء أكان صوم شهر رمضان، أم صوم قضاء شهر رمضان إذا تضيّق وقته؛ كمن عليه قضاء ثلاثة أيامٍ من شهر رمضان الفائت، ولم يبقَ سوى أيام ثلاثة لحلول شهر رمضان القادم، والصوم الواجب بالنذر المعين وما شابه.

ومنهم من يرى وجوبه في خصوص صوم شهر رمضان دون سائر الصوم الواجب.

ويظهر من عبارة المُحقَّق الحلي قُدس سره الشمول لكُلِّ يومٍ يجبُ صومُه؛ لأنّه قال: (إذا بقيَ لطلوعِ الفجرِ من يومٍ يجبُ صومُه...).

من روايات المسألة:

ويدلُّ على هذا الحكم رواياتٌ كثيرة، من قبيلِ ما رويَ عن أحمد بن محمد عن أبي الحسن عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال: سألته عن رجل أصاب من أهلهفي شهر رمضان أو أصابته جنابة، ثم ينام، يُصبح متعمداً؟ قال عَلَيْهِ السَّلاَمُ:يتم ذلك اليوم وعليه قضاؤه (1)

وربما يتبادر إلى الذهن سؤالٌ مفاده: أن الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ حكمَ بوجوب الإمساك عليه في ذلك النهار، ولكن إذا كان يجبُ عليه القضاء، فهذا يعني أنّه أفطر، فإذا أفطر فلماذا يجبُ عليه الإمساك؟ وإذا أمسكَ وبقيَ كذلك حتى أذان المغرب، فلماذا يجبُ عليه القضاء؟

ص: 57


1- الاستبصار للشيخ الطوسي ج2، ص86، ح (268 / 5).

والجواب -كما يظهر من بعض الروايات الشريفة-: أن الواجب عليه هو أنْ يبقى ممسكًا، وأما القضاء فهي عقوبةٌ؛ لمخالفتهِ الأمر الشرعي بضرورةِ الاغتسالِ قبلَ طلوعِ الفجر.

وهذا ما يظهر مما روي عن الإمامِ الصادق (صلوات الله وسلامه عليه) من قوله: (فليقضِ ذلك اليومَ عقوبةً) فالقضاءُ عقوبةٌ.

ونص الرواية: عن معاوية بن عمار قال: قلت لأبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ: الرجل يجنب من أول الليل ثم ينام حتى يصبح في شهر رمضان؟ قال عَلَيْهِ السَّلاَمُ: ليس عليه شيء، قلت: فإنه استيقظ، ثم نام حتى أصبح؟ قال عَلَيْهِ السَّلاَمُ: فليقض ذلك اليوم عقوبةً (1)

السابع: لصوم المستحاضة إذا غمسَ دمُها القطنةَ:

المُستحاضة على ثلاثةِ أقسامٍ: صغرى، ووسطى، وكبرى، أما الصغرى فواضحٌ جدًا عدم وجوب الغسل عليها، وإنّما يجبُ عليهاالوضوءُ لكُلِّ صلاة، فيكون كلامُ المصنفِ عن خصوصِ صومِ المُستحاضةِ إذا غمسَ دمُها القطنة، وقيدُ (غمسَ دمُها القطنةَ) يشملُ المتوسطة والكثيرة؛ إذ كلاهما دمُها يغمسُ القطنةَ، غير أنّه في الوسطى يغمسُها ولا يسيل، وفي الكبرى يغمسُها ويسيلُ، وملاكُ الحكمِ ليس هو سيلان الدم، وإنّما هو غمسُ الدمِ القطنة، فالحكمُ هو: أنّ من غمس دمُها القطنةَ يجبُ عليها الغُسل للصلاةِ قبلها، كما تتوقفُ عليه «الغُسل» صحةُ صومِها، فتجب عليها المبادرة إليه قبل الفجر، وغسل آخر قبل صلاة الظهرين.

ص: 58


1- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج4 ص212 ح (615 / 22).

فإنْ لم تغتسلْ قبلَ الفجر، ففي صحةِ صومِها إشكالٌ، وهذه المسألة خلافيةٌ أيضًاً؛ فبعضُ الفقهاء - أو كما قيل: إنّه المشهور- يرون أنّه حكمٌ وضعي يترتب على عدم الامتثال عدمُ صحة صومها، على حين يرى البعض الآخر من الفقهاء أنّه وجوبٌ تكليفيٌ؛ فلا يترتبُ عليه بطلانُ الصوم، بل يترتب عليها الإثم لمخالفته (1)

الثاني: ما يُندب لأجله الغسل:

قال قُدس سره: (والمندوبُ ما عداه).مما تقدّم تبيّنَ: أنَّ الموارد التي يجب الغسل لها سبعة، فما عداها يكونُ الغسلُ مستحبًا مندوباً فيها، ولذا قال: (والمندوبُ ما عداه)، من قبيل: غسل يوم الجمعة، والغسل لزيارة المعصوم عن قرب، وما شابه.

* * *

ص: 59


1- والسيد السيستاني (حفظه الله) يبني على القول الثاني، إذ قال سماحته في منهاج الصالحين الجزء الأول، ما نصه: (مسألة 999: حكم المرأة في الاستحاضة القليلة حكم الطاهرة وهكذا في الاستحاضة المتوسطة والكثيرة، فلا يعتبر الغسل في صحة صومهما، وإن كان الأحوط استحباباً أن تراعيا فيه الإتيان بالأغسال النهارية التي للصلاة).

القسم الثالث التيمم

وفيه واجبٌ وندب:

الأول: الواجب:

قال المُحقِّق الحلي قُدس سره: (والواجبُ من التيمُمِ: ما كانَ لصلاةٍ واجبةٍ عند تضيُّقِ وقتِها، وللجُنُب في أحد المسجدين؛ ليخرج به).

ذكر المصنفُ قُدس سره غايتين مما يجبُ لها التيمم:

الغايةُ الأولى: الصلاةُ الواجبةُ عندَ تضيّقِ وقتِها:

وبيانه: إذا لم يبقَ من وقتِ الصلاةِ مع الطهارةِ إلا ما يسمحُ للصلاةِ مع التيمُمِ، بحيثُ إذا أراد المكلف أنْ يتطهرَ بالطهارةِ المائية (الغُسل أو الوضوء) لخرج وقتُ الصلاة، وحيثُ يجبُ إيقاعُ الصلاةِ في وقتِها مع الطهارة، فيأتي هنا بالبديل، وهو التيمم.

الغاية الثانية: للجنب في أحدِ المسجدين ليخرج به:

تقدَّمَ أنّ الغُسلَ يجِبُ على المُحدِثِ بالأكبر قبل دخولِ المساجد، وذكرنا أنَّ هناك تفصيلًا بين المسجدين (مسجد النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ والمسجد الحرام في مكة المكرمة) وبين سائرِ المساجدِ الأخرى؛ حيثُ لايجوزُ للمُحدِثِ

ص: 60

بالحدثِ الأكبر حتى المرور في المسجدين (المسجد الحرام ومسجد النبي الأكرم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ، على حين يجوز له ذلك في سائر المساجد الأخرى، كما لو كان للمسجدِ بابان، فيدخلُ من بابٍ ويخرجُ من بابٍ آخر.

فلو فُرِضَ أنّ رجلًا كان نائمًا في المسجد وأصابته جنابةٌ، كما لو احتلم فصار مُجنبًا، فبناءً على التفصيل المتقدم؛ لو كان فيما عدا المسجدين (المسجد الحرام ومسجد النبي الأكرم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ، فتجب عليه المبادرة إلى الخروج منه؛ لحرمةِ لبثِ المُجنبِ في المساجدِ.

وأما لو كان في أحد المسجدين (المسجد الحرام ومسجد النبي الأكرم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ، فإنه يجب عليه - إضافةً إلى وجوب الخروج من المسجد- تحصيلُ الطهارةِ للخروجِ منه أيضًا؛ لما تقدّم من حرمةِ وجوده في المسجدين (المسجد الحرام ومسجد النبي الأكرم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ على هذه الحال (الحدث الأكبر) ولو كان ماشياً، فإنْ هو مشى لأجلِ الخروج وهو مجنبٌ اكتسب إثمًا؛ لمخالفته لحكمٍ تكليفي، فيجب عليه حينها التيمم؛ ليخرج به- بهذا التيمم - من المسجدين، ولا يرتكب الحرام بمروره في المسجد وهو محدثٌ بالأكبر (1)

وشبيهٌ بهذا الفرض ما لو فرضنا أنَّ محدثًا بالأكبر دخل المسجد وقد نسيَ جنابته أو غفلَ أنَّ هذا المسجدَ هو أحدُ المسجدين، ثم انتبه إلى ذلك

ص: 61


1- مع الالتفات إلى أنهم اشترطوا في ذلك: (إلا أن يكون زمان خروجه أقل من زمان التيمم فيخرج) انظر: تلخيص الخلاف وخلاصة الاختلاف للصيمري ج1 ص172.

وهو في منتصفِ المسجدِ مثلاً، فهنا أيضًا يجبُ عليه التيمُم؛ ليخرج بهذا التيمم.

وقد دلّت على حكمِ لزوم التيمُم لمن كان في المسجدين العديدُ من الروايات، من قبيلِ: ما رويَ عن أبي جعفرٍ (صلواتُ اللهٍ وسلامُه عليه): إِذَا كَانَ الرَّجُلُ نَائِماً فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ، أَوْ مَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ، فَاحْتَلَمَ فَأَصَابَتْه جَنَابَةٌ، فَلْيَتَيَمَّمْ، ولَا يَمُرَّ فِي المَسْجِدِ إِلَّا مُتَيَمِّماً حَتَّى يَخْرُجَ مِنْه، ثُمَّ يَغْتَسِلَ، وكَذَلِكَ الحَائِضُ إِذَا أَصَابَهَا الحَيْضُ تَفْعَلُ كَذَلِكَ، ولَا بَأْسَ أَنْ يَمُرَّا فِي سَائِرِ المَسَاجِدِ ولَا يَجْلِسَانِ فِيهَا (1)

وقد يسألُ سائلٌ: إنَّ الإمامَ الباقر (صلوات الله عليه) ذكر حكم وجوب التيمم بمن دخل المسجد ونام وأجنب، فلا يشمل هذا الحكم من نسي كونه مجنبًا ودخل المسجد، أو غفل عن أنّ المسجد الذي يدخله هو أحد المسجدين، فكيف شملتموهما بنفس حكم المجنب خلال نومه في أحد المسجدين؟

والجواب: الظاهر أن ذكر الإمام (صلوات الله عليه) للمجنب أثناء نومه قد جاء على نحو الطريقية والمثال، لا الموضوعية والحصر، وعليه فالمقصود هو من كان محدثًا بالحدث الأكبر في أحدِ المسجدين فيجبُ عليه

ص: 62


1- الكافي للكليني ج3 ص73 باب النوادر ح14.

أن يتيمم؛ ليخرجَ من المسجدين، ولم يأتِ ذكر الجنابة أثناء النوم في المسجد إلا على نحو المثالية، لا على نحو الموضوعية.

نعم، ما هو مأخوذٌ على نحو الموضوعية من الرواية قوله: (في المسجد الحرام أو في مسجد رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ)، مما يعني أنَّ هذا الحكم خاصٌ فقط بهذين المسجدين، فتمامُ الحكمِ - وجوب التيمم للخروج من المسجد - مُنصَبٌ على المسجد الحرام وعلى مسجد رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ، أما موضوع الحكم –الرجلُ الذي احتلمَ فأصابته جنابةٌ- فلا يُحمَلُ الحكم المتقدم عليه بالخصوص؛ لأنه جاء في الرواية على نحو المثال، وعليه يتسّعُ موضوع الحكم المتقدم ليشمل كُلَّ مُحدثٍ بالحدثِ الأكبر، فيشمل المجنب، والحائض التي فاجأها الحيض، ويشمل الناسي، بل والمتعمِّد؛ وإنّما ذُكِرَ خصوصُ هذا كمثالٍ؛ ربما لأنّه أوضحُ الأمثلة من جهةٍ.

ولأنّه ربما يُقالُ في هذا المجال: بعيدٌ جدًا أنْ يعصيَ إنسانٌ اللهَ عَزَّوَجَل في أحد المسجدين بأنْ يتعمّدَ دخوله مجنبًا، أو ينسى كونه كذلك «مجنبًا» من جهةٍ ثانية، فضلًا عن أنَّ هذا المثال من الأمثلةالابتلائية؛ إذ إنَّ العديد من الحجيجِ والمُعتمرين والزوّار يبيتون في هذين المسجدين، وتعرّضهُم إلى الاحتلام أثناءَ نومِهم أمرٌ واردٌ.

غايات أخرى:

إلى هنا ذكر المُصنِّفُ قُدس سره غايتين واجبتين يجبُ لهما التيمُم وهما: الصلاةُ الواجبةُ عند تضيّقِ وقتِها، وعدمُ سعتِه للطهارةِ المائية، وخروج الجُنُبِ من أحدِ المسجدين. ويُمكنُ أن يُضافُ إليهما:

ص: 63

1- الطوافُ الواجبُ مع اليأسِ من الحصولِ على الطهارةِ المائية:

فقد تقدّمَ ذكر اشتراط الطهارة للطواف الواجب؛ فإذا كان المكلف مُحدثاً، ولم يكن عنده ماءٌ، وتضيّقَ وقتُ الطواف، ويئسَ من الحصولِ على الطهارةِ المائية قبل خروج الوقت المخصص للطوافِ الواجبِ، حينها يُشرَعُ له التيمم.

2 - ما لو وجبَ مسُّ كتابةِ القرآنِ بنذرٍ أو شبهه:

ولم يتمكنْ من الطهارةِ المائية، فعليهِ أيضًا أنْ يتيمَّمَ ويؤدي ما عليه من واجبٍ.

3 - بل كُلُّ الغاياتِ التي وجبَت لها الطهارة المائية:

فإذا وجبَ عليه دخولُ المسجدِ –بنذر أو شبهه- وكان وقتُ هذا الوجوبِ مُضيَّقاً، ولم يحصلْ على الطهارةِ المائية، فإنّه يتيمّمُ ويدخلُ، وإذا وجبت عليه قراءةُ العزائمِ وكان وقتُ أدائها مُضيّقًا مثلًا، ولا بُدَّ أنْ يقرأها، وليست عندَه طهارةٌ مائيةٌ، فيجبُ عليهالتيممُ، وكذا إذا ضاقَ وقتُه عن الغسلِ قبلَ فجرِ يومٍ يجبُ صومُه، ولم يكن يستطيعُ أنْ يغتسلَ مثلًا لمرضٍ يتأذّى بسببه من الماء، فإنّه يتيمّمُ أيضًا، وهكذا.

الثاني: الندب:

قال المُحقِّقُ قُدس سره: (والمندوبُ ما عداه).

فغيرُ ما ذكرناه من الغاياتِ الواجبةِ للتيمُّمِ، يكونُ التيمُّمُ لأجلها مندوبًا، كالتيمُّمِ لمن يُريدُ أنْ ينامَ، على تفصيلٍ ذُكِرَ في الرسائلِ العملية.

ص: 64

قال قُدس سره:

(وقد تجبُ الطهارةُ بنذرٍ وشبهه).

إنَّ الوضوءَ في حدِّ نفسه ليس واجبًا، بل وجوبُه غيريٌ؛ أي يجبُ إنْ كان مقدمةً لواجبٍ كما تقدّم.

ولكن قد يجِبُ بالعارضِ، كما لو نذر المكلّف ألّا يدرسَ الفقهَ، أو لا ينامَ مثلًا إلا إذا كان على وضوء، فإنَّ هذا النذر ينعقدُ؛ لأنّه أمرٌ راجحٌ شرعًا، فيجِبُ عليه حينئذٍ أنْ يتوضأ للدراسةِ أو النوم؛ لأنّه أصبح واجبًا بالعرض.

وشبه النذر هو (العهد واليمين)، فلو عاهد المُكلّفُ اللهَ عَزَّوَجَل أو أقسمَ على أنْ يتطهرَ، وجب الوضوءُ.

* * *

ص: 65

ص: 66

أركان الطهارة

ص: 67

ص: 68

قال المُصنِّف قُدس سره:

(وهذا الكتاب يعتمدُ على أربعةِ أركان: المياه، والطهارة المائية، والطهارة الترابية، والنجاسات).

كتابُ الطهارةِ يعتمدُ على أركانٍ أربعة (1)هي:

الركن الأول: المياه، وتكلّم قُدس سره في المياه وأقسامها، وأحكامها، وكيف تتنجس، وكيف تتطهر.

الركن الثاني: الطهارة المائية، ويذكرُ فيها الوضوءَ والغسلَ.

الركن الثالث: الطهارة الترابية، ويذكرُ فيها التيمُمَ.

الركن الرابع: النجاسات.

الركن الأول: في المياه:

تقدَّمَ أنَّ المُصنِّفَ قُدس سره قسّمَ كتابَ الطهارة إلى أربعةِ أركانٍ، الركن الأول المياه، والثاني الطهارة المائية، وهي الوضوء والغسل، والثالث الطهارة الترابية وهي التيمم، والرابع النجاسات.

ص: 69


1- نلفت النظر إلى أنه في هذه الدروس لم يتم التعرض للأركان الثلاثة الأخيرة، وإنما تم التعرض فقط للركن الأول، وهو الآخر لم يتم التعرض له كله، وإنما تم استثناء أحكام البئر منه، وما بعد غسل الجنابة.

وقد بدأ بالرُكنِ الأولِ (في المياه)، وفيه قسّمَ الكلامَ على أطرافٍ.

قال قُدس سره:

(الركنُ الأولُ في المياه، وفيه أطرافٌ: الأول في الماءِ المطلق.):

في هذا الطرف الأول سيذكر المصنف قُدس سره نقاطاً عديدة، هي:

النقطة الأولى: في تعريف الماء المطلق؛ ما معنى الماء المطلق؟

النقطة الثانية: في حكم الماء المطلق؟ وهل إنه طاهرٌ في حدِّ نفسِه أو ليس بطاهر، وإذا كان طاهرًا في حدِّ نفسه فهل يُطهِّرُ غيرَه أو إنه لا قدرة له على ذلك؟

النقطة الثالثة: في أقسام الماء المطلق، وسيذكر له ثلاثة أقسامٍ: الجاري، المحقون، وماء البئر.

وستقتصرُ دراستُنا إن شاء الله تعالى على القسمين الأولين، أمّا ماءُ البئر فلا نتعرّضُ له في هذه الدروس؛ لقِلّةِ الابتلاء به، ولكثرةِ تفاصيله غير الابتلائية في زمننا الحاضر، ولأنه أُلحق بالماء الذي له مادة (1)، فلم تبق موضوعية لبحثه على انفراد.

* * *

ص: 70


1- قال السيد السيستاني (حفظه الله تعالى) في منهاج الصالحين ج1 ص39: (والثاني: ما له مادة... ما تكون مادته طبيعية، وهذا إن صدق عليه ماء البئر أو الماء الجاري، لم ينجس بملاقاة النجاسة، وإن كان أقل من كر، إلا إذا تغير...).

ص: 71

الطرف الأول:في الماء المطلق

النقطة الأولى: في تعريفِ الماء المطلق:

قال قُدس سره: (الماءُ المطلقُ: وهو كُلُّ ما يستحقُّ إطلاق اسمِ الماء عليه من غير إضافةٍ).

يتعرضُ المُصنِّفُ لتعريفِ الماء المُطلق، ولبيانه نتناوله في فرعين:

الفرع الأول: معنى الإطلاق:

المقصودُ من الإطلاق في قوله (استحقاق إطلاقِ الماء عليه عرفًا) هو أنْ يصُحَّ أنْ يُطلقَ على السائلِ أنّه ماءٌ، وعندما يُطلَقُ عليه لفظ ماءٍ فقط يكونُ الإطلاقُ صحيحًا، أي يكونُ دالًا على المعنى من دونِ أنْ ينتظرَ السامعُ إكمالَ الكلامِ بقيدٍ إضافي، فمعناهُ التامُ هو أنّه ماءٌ.

وهذه المسألةُ عرفيةٌ، بمعنى أنَّ الماء المطلق هو السائل الذي يكتفي العرفُ العامُ بإطلاقِ لفظِ (ماءٍ) عليه فقط، بحيث يكونُ قدحكى كُلَّ المعنى المقصود منه بهذا اللفظ، ودلَّ عليه دلالةً تامةً لا تفتقرُ إلى الإتمامِ بإضافةِ لفظٍ آخر إلى لفظِ الماء.

ص: 72

وما عدا الماء المُطلق هو الماء المضاف، ويُقصَد به: الماء الذي لا يدلُّ على معناه دلالةً تامةً إطلاقُ لفظِ (الماء) عليه؛ لذا لا بُدَّ من إضافةِ لفظٍ آخر إليه؛ ليُشيرَ إلى المعنى المُراد منه، نحو (ماء الرمان)، فلا يُمكِنُ الدلالة عليه بالاكتفاء بإطلاقِ لفظ الماء عليه؛ بل لا بُدَّ من تعيينه وتحديده بلفظٍ آخر يكونُ مضافًا إلى اللفظِ الأول؛ ومن هنا نعلم الوجه في تسميته بالماء المُضاف.

فإن قيل: كما أنّنا نضيفُ لفظًا آخر إلى لفظِ الماء في مثل (ماء الرمان) فإنَّنا نُقيّدُ أحيانًا لفظ (الماء) بقيدٍ مُعينٍ مثلًا نقول: (ماءُ البحر)، فهُنا قُيّدَ لفظُ (الماء) بلفظ (البحر)، فما الفرق بين الإطلاقين؟ وكيفَ صار الإطلاقُ الأولُ مُضافًا والإطلاق الثاني مُطلقًا؟

للجواب لا بُدَّ من تقديمِ مقدمةٍ مفادُها:

إضافةُ لفظٍ إلى آخر لها نوعان: إضافةٌ تعيينية أو توضيحية، وإضافةٌ تصحيحية أو احترازية، وهناك فرقٌ بينهما، إذ تتمُّ الأولى بإضافةِ قيدٍ توضيحي، أما الثانية فبإضافةِ قيدٍ احترازي.

أما القيد التوضيحي فإنّ وظيفته تقتصر على بيان المعنى، وكمثالٍ على ذلك فإنَّ لفظ (البحر) إذا أُضيفَ إلى كلمةِ (ماء) فإنّه لا يعدو أن يكون قيدًا توضيحيًا لكلمة (ماء)، أو قل: لتعيين مكانِ الماء،أي كأنّه يوضِّحُ أنّ هذا الماءَ في البحر، فهو من باب إضافةِ المظروفِ إلى ظرفه، أي إن وظيفة هذه الإضافة هي بيان ظرف الشيء المظروف (المُضاف إليه).

ص: 73

إنّ (المضاف إليه) - وهو البحر هنا - لا يدخل في ماهيةِ الماء، فالماءُ ماءٌ سواء أكان في الإناء أم في النهر أم في البحر، وقد أراد المتكلم أن يعين ظرفه ليس إلا فأضاف البحر، ومن ثم فهو لا يُشكِّل معرِّفًا أو مُبينًا لماهيته؛ يدلُّ على ذلك إمكانيةُ تجريد الماء منه من دون أن يختلَّ المعنى أو يكون ناقصًا، فلو أخبر المتكلم عن (ماء البحر) بلفظ (ماء) فقط، فإنَّ السامعَ لا ينتظر منه المزيد؛ ليفهمَ المعنى المُراد.

وأما القيد الاحترازي، فهو قيدٌ يدخلُ في بيان ماهية (المضاف)؛ وذلك لأنَّ وظيفته التفريق والتمييز بين المُضاف وغيره ممّا يندرجُ معه تحت نفس النوع -لو صحَّ التعبير-، من قبيل: ماء البرتقال أو ماء العنب وما شابه؛ فهو كالفصل في المنطق، ومعلومٌ أنَّ الشيء إنّما يتقوّمُ بجنسه وفصله، ومن ثَمَّ يدخل في ماهية المضاف، ويكونُ جزءًا منه.

فلو أخبر شخصٌ عن (ماء الرمان) مكتفيًا بإطلاق لفظ (ماء) عليه؛ لكان مُلامًا في الميزان العلمي؛ لأنّه بإخباره هذا يكونُ قد رسمَ في ذهن السامع غير الواقع الذي يُريدُ الإخبارَ عنه، ففي الوقت الذييُريد إخباره عن (ماء الرمان)، فإنه أطلق لفظ (الماء) فتصوّرَ السامع معنى الماء وشكله وخصائصه، ولم يتصور ماء الرمان البتة.

ومنه يتضح الفرق بين الإطلاقين (ماء البحر) و(ماء الرمان)، فالأول: القيد فيه توضيحي أو تعييني، وهو قيدٌ لا يدخلُ في ماهية المضاف، ولا يتقوّم المُضاف به، ومن ثَمّ يمكن تجريد المضاف منه من دون أنْ يختلَّ المعنى

ص: 74

المقصود، فكلمة الماء ترسم في ذهن السامع صورة الماء؛ ولذا كان مُطلقًا من الإضافة.

على حين أنَّ (الرمان) قيدٌ احترازي؛ يُحترز به عن ماء البرتقال وماء العنب، وهو كالفصل في المنطق كما تقدّمَ، ومن ثَمّ فهو جزءٌ من المضاف، والمضافُ يتقوَّم به. وكان (ماء الرمان) مُضافًا لا مُطلقًا؛ لأنّه لا يُمكِنُ إطلاقه من الإضافةِ، فهي جزءٌ منه، ومقومٌ له.

الفرع الثاني: أن التعريف اسمي لا حقيقي:

ليكن معلومًا أنَّ التعريف الذي ذكره المُحقِّقُ قُدس سره هو تعريفٌ اسمي لفظي لا حقيقي؛ اقتصر المُحقق فيه على مُجرَّدِ شرحِه بألفاظٍ واضحة، ولا يُريدُ التعريفَ الحقيقي الذي يكونُ بالجنسِ والفصلِ، والذي اشترطوا فيه ألّا يكونَ دوريًا، بمعنى ألّا يلزم منه الدور، كتعريف الشمس بأنّها النجم الذي يطلع في النهار، وتعريف النهار بأنّه الوقت الذي تطلع فيه الشمس، أو كتعريف الإنسان بالإنسان.فالمُصنِّفُ قُدس سره قال: (الماءُ المُطلقُ هو ما يستحقُ إطلاقَ اسمِ الماءِ عليه)، ولا يُقال فيه: إنه تعريف دوري، لأنّه عرف الماء المطلق بأنه الماء الذي يُطلق عليه الماء، والدورُ باطلٌ.

لأنه يُقال: لو كان المقصودُ منه التعريفَ الحقيقي (المنطقي، الاصطلاحي) لكان هذا الإشكالُ صحيحًا وفي محلّه، ولكنَّ المُصنِّفَ عرّفَه تعريفًا لفظيًا أو اسميًا، فلا إشكال في البين.

ص: 75

وعليه فإنَّ لفظَ الإطلاق وإنْ ذُكِرَ في التعريف ولكنه لا يلزم منه إشكالُ الدور، لما تبين.

النقطة الثانية: في حكمِ الماءِ المطلق:

قال قُدس سره: (وكُلُّه طاهرٌ، مزيلٌ للحدثِ والخبثِ)

في هذه النقطة ثلاثة أمورٍ تتعلّق بحكم الماء المطلق:

أ. هل الماء المطلق طاهرٌ في حدّ نفسه؟

ب. هل هو مُطهرٌ لغيره؟

ج. هل هو مُطهِّرٌ من الحدث والخبث أو من أحدهما دون الآخر؟

هذا ما أراد المُصنِّفُ بيانَه.

أ/ أما الأولى: فهو طاهرٌ في حدِّ نفسه، وحكمه الأولي هي الطهارة؛ ولذلك فعندَ الشك في ماءٍ مطلق ما، هل هو طاهرٌ أو نجس، فحكمه الأولي هي الطهارة، فيُبنى على الطهارة.وقوله قُدس سره: (وكُلُّه): يعني أنَّ الماء المطلق هو طاهرٌ في حد نفسه بكُلِّ أقسامه، سواء أَنَزلَ من السماء كمياه الأمطار، أم نبعَ من الأرض، أم أُذيبَ من الثلج، أم كان ماءَ بئرٍ أو ماء بحرٍ أو ماءَ نهرٍ؛ فكُلُّ ماءٍ في كُلِّ قسمٍ من أقسامِ الماءِ المُطلقِ هو طاهرٌ في حدِّ نفسه.

ب/وأما أنه مزيلٌ للحدث والخبث أو لأحدهما:

فإنه رافعٌ للحدثِ، سواء أكان الحدثُ أصغرَ أم كان أكبرَ؛ فالحدثُ الأصغرُ يرفعه الوضوء، والحدث الأكبرُ يرفعه الغُسل.

ص: 76

وكذلك هو مطهرٌ من الخبثِ أيضًا، فإذا تنجس الثوب بالبولِ أو بالدم، وتمَّ غسله بالماءِ المُطلق، فقد طَهُرَ؛ لأنَّ الماءَ المطلقَ طاهرٌ في حدِّ نفسه ومطهرٌ لغيره، أي إنه رافعٌ للحدث ومزيلٌ للخبث.

وهذان الحكمان لا خلاف فيهما.

معنى الحدث:

والمرادُ من الحدثِ في عُرف أهلِ الشرعِ هو: المانعُ من الصلاةِ الذي يتوقفُ رفعُه على النيّة.

أي إنه الذي إذا كانَ موجودًا فإنه لا تصحُّ الصلاة معه، فهو يمنعُ منها.

وهو ما يتوقفُ رفعُه على النيّة؛ فلا يصحُّ رفعه من دون نية القربة، فإذا توضّأ المُكلّفُ من دون نية القربة إلى الله تعالى؛ بأنْ غسل وجهه ويديه من دونها فإنَّ وضوءه غيرُ صحيحٍ، والحدث لم يرتفع.والغُسلُ رافعٌ للحدث أيضًا مثل الوضوء والتيمم، لابُدَّ من نية القربة فيه؛ فلا يصحُّ بمجرّد جريان الماء على الرأس والبدن.

فمعنى الحدث شرعًا مركبٌ من جزأين:

1 - أنه مانعُ من الصلاة.

2 - أن رفعه يتوقفُ على نية القربة.

وينقسمُ الحدثُ إلى قسمين: أصغر وأكبر، والأصغرُ هو خروجُ البولِ، والغائط، والنوم، إلى آخر موجباته، وأما الأكبر فكالجنابة، والحيض، والنفاس.

ص: 77

معنى الخبث:

وأمّا الخبثُ فهو نفسُ النجاسةِ؛ فالدمُ نجاسةٌ، ويُسمّى خبثاً، وكذا البول، والغائط، وهكذا بقيةُ النجاسات.

الفرق بين الحدث والخبث:

الفرق الأول: إنَّ الحدثَ لا يُدركُ بالحسِّ، سواءَ أكان حدثًا أصغر أم أكبر، ولا نراه بأعيننا؛ لذلك يُقالُ عنه: إنّه نجاسةٌ معنويةٌ.

وأمّا الخبثُ فهو يُدركُ بالحسّ، ويُرى بالعين؛ لأنّه نجاسةٌ ماديةٌ، كالدمِ والبولِ وما شابه.

إن قلت: من المعلوم أنَّ المتوضئَ ينتقضُ وضوؤه بخروج البول؛ لأنَّ خروج البول حدثٌ أصغر، وعليه فكيف تجعلون عدمإمكانية رؤية الحدث كفرقٍ بينه وبين الخبث، والحال أنَّ المرءَ بإمكانه رؤية خروج البول؟!

قلت: إنّه إنما رأى البول يخرجُ، والبولُ نجاسةٌ ماديةٌ وهو خبثٌ لا حدث، وأما الحدث فهو نجاسةٌ معنوية لا تُدرَكُ بالحس ولا ترى بالعين.

نعم، يتسببُ الخبث -وهو هنا (البول وهو يخرج)- بحدوث الحدث، إلا أنّه ليس هو الحدث نفسه.

الفرق الثاني: إنَّ الحدثَ اثرٌ يحصلُ بفعلِ المُكلّفِ، كالنوم، وخروج الريح، والجنابة، فهذه أفعالٌ يقومُ بها المُكلّفُ بشكلٍ إرادي أو لا إرادي.

ص: 78

أمّا الخبثُ فهو أثرٌ يطرأُ على المُكلّفِ من الخارج، كالدم الذي يُصيبُ البدنَ، سواء كان من خارج البدن، كدم الذبحِ مثلًا، أو من البدنِ نفسه، كما لو جُرِحَت يده مثلًا، فإذا أصاب الدمُ البدنَ صارَ مُتنجسًا.

الفرق الثالث: إنَّ الحدثَ مانعٌ من الصلاة مُطلقًا، سواء أكان حدثًا أصغر أم أكبر، وسواء أحدثَ بإرادة المكلف أم لا، وسواء أكان عالمًا به أم ناسيًا أم غافلًا عنه، فبمجرّدِ أنْ يحصلَ الحدثُ فإنه يكونُ مانعًا من الصلاة.أمّا الخبثُ فهو مانعٌ من الصلاة أيضًا، ولكن على تفصيلٍ يُذكر في كتابِ الصلاةِ، فمثلاً قال الفقهاء: إنَّ مقدار الدم الذي ينجّسَ بدنَ أو ثوبَ المصلي إذا كان أقلَّ من الدرهم، فإنّه لا يكونُ مانعًا من الصلاة، شرطَ أن لا يكون من الدماء الثلاثة، وعليه، فالدمُ لا يُشكِّلُ مانعًا من الصلاة على الدوام وبشكل مطلق.

ولو كان ثوب المكلف متنجسًا بنجاسةٍ، ولم يعلم بها حتى أنهى صلاته، فإنّها لا تؤثر على صحتها.

فإذًا لا يمنعُ الخبثُ من الصلاةِ مُطلقًا، وإنّما فيه تفصيلٌ، على عكس الحدث الذي يمنع من صحة الصلاة في كلِّ الأحوال.

الفرق الرابع: تُشترَطُ في رفع الحدث نيةُ القربة إلى الله تعالى، فإذا غسل وجهه ويديه ومسح رأس ورجليه من دونِ نيةِ القربة، فإنَّ الحدث لا يرتفعُ بذلك.

ص: 79

أمّا الخبثُ فلا يتوقفُ رفعُه على نيةِ القربة، فلو غُسِل الثوبُ المتنجسُ من دون نية القربة إلى الله تعالى فإنّه يطهر بلا شك، بل إنّه يطهرُ إذا أمطرتِ السماءُ عليه وأزالت عين النجاسة ولو من دون علم المكلف.

ولذا يصحُّ تطهير الثوب المتنجس عند غسله في الغسالة الأوتوماتيكية أو الكهربائية، طالما أزيلت عنه عين النجاسة، وغُسِلبالعدد المحدد من الغسلات شرعًا طبقًا لنوع النجاسة، على الرغم من انعدام نية القربة حتمًا منها.

النقطة الثالثة: أقسامُ الماءِ المطلق:

قال قُدس سره: (وباعتبارِ وقوعِ النجاسةِ فيه ينقسمُ إلى جارٍ ومحقونٍ وماء بئر).

هذه هي أقسامُ الماء المطلق: الجاري والمحقون وماء البئر، وقدّمنا بأننا سنتعرضُ للجاري والمحقون أما ماء البئر فلا نتعرّضُ له في هذه الدروس.

صحيحٌ أنّ الماءَ المطلقَ بكُلِّ أقسامه طاهرٌ في حدِّ نفسه، مطهرٌ لغيره، أي إنه رافعٌ للحدثِ الأصغر والأكبر، ومُزيلٌ للخبث، سواء أكان الماء جاريًا أم محقونًا أم ماءَ بئرٍ، إلا أنَّ أقسام الماء المطلق تختلف فيما بينها من جهةِ اختلاف أحكامِه من حيث التنجُس، أي حين وقوع النجاسة فيه، وقد كانت هذه الجهة هي الأساسُ الذي يقومُ عليه تقسيم الماء المطلق... وهذه الجهة هي ما يريد المحقق تسليط الأضواء عليها.

فأقسام الماء المطلق ثلاثة، هي:

ص: 80

القسمُ الأول: الماء الجاري:

قال المُصنفُ قُدس سره: (أما الجاري فلا ينجسُ إلا باستيلاءِ النجاسةِ على أحدِ أوصافهِ، ويطهرُ بكثرةِ الماءِ الطاهرِ عليه مُتدافعًا...).نذكرُ في الماء الجاري عدّةَ أمورٍ توضيحية:

الأمر الأول: تعريف الماء الجاري:

لم يُشِر المُصنِّفُ قُدس سره في عبارته إلى تعريف الماء الجاري أو بيان معناه.

الماءُ الجاري: هو الماءُ النابعُ من الأرض، غير ماء البئر (1)، سواء أجرى وسالَ على الأرض - مثل ماء الأنهار-، أم لم يجرِ عليها، كالماء الذي ينبع من الأرض ويبقى واقفًا في محلّه، ولم يكن ماء بئر، مثل عيون الماء، فهو وإن لم يجرِ، إلا أنّه يُطلقُ عليه (الماء الجاري) لأنّ له مادةً تنبعُ من الأرض (2)

الأمر الثاني: كيف ينفعل الماء الجاري بالنجاسة؟

قال المُصنِّف قُدس سره: (أما الجاري فلا ينجسُ إلا باستيلاءِ النجاسةِ على أحدِ أوصافهِ).

الماء الجاري طاهرٌ في حدِّ نفسه، ولا يتنجسُ بمُجرّدِ وقوع النجاسة فيه؛ وذلك لأنّه معتصمٌ.

ص: 81


1- إخراج ماء البئر من الجاري بحسب الاصطلاح القديم، وأما في الوقت الحاضر فقد تقدم أنه ملحق بما له مادة.
2- قال السيد السيستاني في منهاج الصالحين ج1 ص40 مسألة: 38: يعتبر في صدق عنوان (الجاري) وجود مادة طبيعية له، والجريان ولو بعلاج، والدوام ولو في الجملة كبعض فصول السنة، ولا يعتبر فيه اتصاله بالمادة بل الاستمداد الفعلي منها، ولا ينافيه الانفصال الطبيعي كما لو كانت المادة من فوق تترشح وتتقاطر، فإنه يكفي ذلك في عاصميته.

والمعتصمُ من الماءِ: هو الماء الذي له مادةٌ تعصمُه من التنجُس.

ويٌقصد بالمادة: المصدر.

وهذا هو الحكم الأولي له، أي إنّه لا يتنجس إلا إذا وقعت وأثّرت النجاسةُ في أحد أوصافه، أيّ غيّرت أحد أوصافه الثلاثة، سواء أغيّرت وصفًا واحدًا أم غيّرت وصفين أم غيّرت الثلاثة كلها.

والأوصاف الثلاثة هي: لون الماء، وطعمه، ورائحته، دون مُطلق الصفات من الحرارة والبرودة، أو السيولة والانجماد وما إلى ذلك.

فإذا وقعت نجاسةٌ في الماء الجاري مثلًا، ولم تُغيّر أحد أوصافه الثلاثة، فلا ينجس حينئذٍ، وكذا لو غيّرت وصفه من حالة السيلان إلى الانجماد، أو من حارٍ إلى بارد.

وأما لو تغيّرَ لونُ الماء الجاري أو طعمه أو رائحته، فإنّه يتنجس، وإنْ لم يتغيّر إلى نفس وصف النجاسة تمامًا، كما لو سقطت قطرة دمٍ في إناءٍ فيه ماء، فإنّه ينجس بمجرد تغير لونه، ولو إلى اللون الأصفر، ولا يُشترطُ أن يتغيّر إلى لون الدم تمامًا وهو الأحمر.

وكذا لو سقطت قطرات بولٍ فيه، فإنّه ينجس بمجرد تغير الرائحة وإن لم تصل إلى رائحة البول نفسه، وكذا بالنسبة إلى تغير طعمه.

والحاصل: أنَّ الماءَ الجاري لا يتنجسُ إلا بشرطين:الشرط الأول: أن تُلاقيه النجاسة مباشرةً، أما إذا كانت النجاسة مجاورةً له، كما لو كانت النجاسة في إناءٍ مجاورٍ للماء، أو في بالوعةٍ مثلًا

ص: 82

مجاورة للنهر، فطالما لم يكن هناك اتصالٌ مباشر بين الماء والنجاسة، فلا يتنجسُ الماء الجاري، حتى وإن تغيّر - بسبب هذه المجاورة - أحد أوصافه الثلاثة؛ لاشتراط ملاقاة النجاسة للماء مباشرةً.

الشرط الثاني: أن تُغيّر النجاسة أحد أوصافه الثلاثة، بسبب تلك الملاقاة.

فبهذين الشرطين يتنجسُ الماءُ الجاري، أما إذا وقعتِ النجاسةُ في الماء الجاري ولم يتغيّر لونه أو طعمه أو رائحته فإنّه لا يتنجس، وكذا إذا تغيّر أحد أوصافه الثلاثة ولكن لا بسبب الملاقاة المباشرة، وإنما بسبب المجاورة، أو كانت الريحُ هي التي حملت الرائحة مثلًا.

وقد دلّ على هذا الحكم الأخير العديدُ من الأخبار المستفيضة (1)، من قبيل ما رويَ عن رسول الله الأعظم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ أنّه قال:خلقَ اللهُ الماءَ طهورًا لا يُنجِّسه شيءٌ إلا ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه (2)

كما روي عن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ أنه قال: كلما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضأ من الماء واشرب، فإذا تغير الماء أو تغير الطعم فلا توضأ منه ولا تشرب (3)

ص: 83


1- ما ذُكر هنا من نصوص وإن كان مطلقاً ولم يُقيّد بالماء الكثير أو الجاري، ولكن بضم ما دلّ على تنجس القليل بمجرد الملاقاة، ينتج أن المقصود من هذه النصوص هو غير القليل.
2- عوالي اللئالي لابن أبي جمهور الإحسائي ج2 ص 15 ح 29.
3- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج1 ص 216 و217 ح (625 / 8).

أي إنَّ الماء لا ينجس إذا غلبت ريحه على ريح الجيفة، يعني إذا لم يتغير الماء برائحة الجيفة فاشرب منه وتوضأ؛ لأنه طاهر ويجوز استعماله، فإذا تغيّر الماءُ أو تغيّر طعمه فلا تتوضأ منه ولا تشرب، أي إنه تنجس، فلا يجوز استعماله.

نكتة رجالية: معنى الأخبار المُستفيضة:

الخبرُ المُستفيض: هو الخبرُ الذي يزيدُ رواتُه عن واحدٍ في كُلِّ طبقةٍ.

وذهب جماعةٌ من العلماء إلى صدقه فيما لو زاد رواته عن اثنين في كُلِّ طبقة.

فيما ذهب آخرون إلى صدقه فيما لو زادوا عن ثلاثةٍ في كُلِّ طبقة.نعم، يُشترط أن لا يصل عدد الرواة إلى حدِّ التواتر، كما لو كان عدد ناقلي الخبر مائةً مثلًا في كُلِّ طبقة؛ لأنّ الخبر إذا وصل رواته إلى حد التواتر صار خبرًا متواترًا، وليس خبرًا مستفيضًاً.

والاستفاضةُ قسمان:

أولاهما: استفاضةٌ معنوية:

وتتحقق عند اتفاق عدّةِ أخبارِ آحاد في مضمونٍ واحد، ولكنها مختلفة فيما بينها لفظًا، كما لو كان هناك خبرٌ يرويه راوٍ واحدٍ؛ وخبرٌ آخر بنفس معنى الخبر الأول ونفس مضمونه - لا بنفس لفظه - يرويه راوٍ آخر، وخبرٌ ثالث بنفس المعنى والمضمون يرويه راوٍ ثالث.

ص: 84

ثانيهما: استفاضة لفظية:

وهي أنْ يروي الخبر الواحد –بنفس اللفظ والمعنى- اثنان فما فوق في كُلِّ طبقةٍ، أو ثلاثةٌ على رأيٍ آخر، أو أكثرُ من ثلاثة على رأيٍ ثالث.

ومنه يتبين: أن هناك ثلاث مراتبٍ للخبر:

مراتب الخبر:

المرتبة الأولى: خبرُ الآحاد:وهو الخبر الذي يكون أحد طبقات السند فيه راوٍ واحد، وإن كان هناك أكثر من راوٍ في سائر الطبقات.

وخبر الآحاد يكون حجةً إذا كان جميعُ رواته في كل الطبقات ثُقات أو عدولاً؛ لأنّه وإن كان يُفيدُ الظن المطلق، إلا أن الأدلة دلت على حجيته، بمعنى أن الراوي وإن كان ثقةً إلا أنّه ربما أخطأ في النقل، أو توهَّمَ، أو ما شابه ذلك، وبالتالي فاحتمال عدم المطابقة للواقع موجود، ولكن قد نصّت بعض الأدلة الشرعية (الروايات) على حُجيّةِ الظن في باب فروع الدين في زمن الغيبة، حتى وإن كان ذلك الاحتمال وارداً فيه.

المرتبة الثانية: الخبرُ المُستفيض:

وهو خبرٌ يرويه في كُلِّ طبقةٍ اثنان أو ثلاثة أو أربعة من الرواة، شرط أن لا يصل عددُ رواته إلى حد التواتر.

وحدُّ التواتر هو وصول عدد الرواة في كل طبقة إلى حدٍّ بحيث يمتنعُ اجتماعهم على الكذب.

ص: 85

والخبرُ المستفيضُ حُجةٌ؛ وذلك لإفادته الظن القوي، فهو يُفيدُ ظنًا أقوى من الظن الذي يُفيدُه خبرُ الآحاد؛ فلو كانت نسبة الظن في الخبر الآحاد سبعين بالمائة مثلاً، فإنّها في الخبر المستفيض ثمانين بالمائة مثلاً أو تسعين؛ فظنُّه أقوى.وقد تقدّم أنَّ الخبر الواحد (خبر الثقة) رغم إفادته الظن المطلق فهو حجةٌ، فتكون حُجيةُ الخبر المستفيض من بابٍ أولى لإفادته الظن القوي.

المرتبة الثالثة: الخبرُ المتواتر:

خبرٌ يكونُ ناقلوه في كل طبقة من الكثرةِ بحدٍّ يمنعُ العقلُ من اجتماعِهم على الكذِب، كما لو كانوا مثلًا مائة راوٍ في كُلِّ طبقةٍ.

وأوضحُ مثالٍ على التواتر اللفظي هو القرآنُ الكريمُ؛ إذ نقله إلينا أُناسٌ كثيرون يحكم العقلُ بامتناع اجتماعهم على الكذب، وهؤلاء أخذوه أيضًا من أناسٍ كثيرين، وهكذا حتى نصل إلى زمن المعصوم عَلَيْهِ السَّلاَمُ، ففي كُلِّ طبقةٍ من طبقاتِ الرواةِ الذين نقلوا إلينا القرآن الكريم كان هناك عددٌ كثيرٌ من الرواة بحيث يحكم العقلُ بامتناع اجتماعهم على الكذب (1)

ومن أمثلة التواتر هو حديث الثقلين والغدير والمنزلة وغيرها.

ومن هنا يتبين الفرق بين الخبر المستفيض والخبر المتواتر، وذلك من عدة وجوه:

الأول: أن الخبر المتواتر يرويه في كُلِّ طبقةٍ جماعةٌ من الرواة، يحكمُ العقلُ بامتناعِ اجتماعهم على الكذب، أمّا الخبرُ المستفيض فهو و إنْ كان

ص: 86


1- ويمكن القول: إن القرآن الكريم اليوم وصل إلى حد الضرورة الدينية، وليس مجرد التواتر.

يرويه عدة أفرادٍ في كُلِّ طبقةٍ ولكنّهم ليسوا بتلك الكثرة التي تصلُ إلى حدِّ أن يحكمَ العقلُ بامتناع اجتماعهم على الكذب.

الثاني: الخبر المستفيض والخبر المتواتر وإن كان كلاهما حجةً، بيدَ أنَّ حُجيتَهما تختلف؛ فالأول حُجةٌ؛ لأنّه يُفيدُ الظن القوي كما تقدّم.

أمّا الخبرُ المتواتر فهو خبرٌ يمنع العقل من الحكم على رواته باجتماعهم على الكذب، أي تكون نسبة كذبهم صفراً، وعليه فتكون نسبة صدقهم مائةً بالمائة، ومن ثم فهو حُجةٌ؛ لأنّه يُفيدُ العلم؛ ولذا فهو أقوى حجيةً من حجيةِ الخبر المستفيض.

علماً أنَّ الخبرَ المُستفيض ربما يُفيدُ العلمَ أيضًا، ولكن لا من جهةِ كثرةِ الرواة، ووصول عددهم إلى حدٍّ يمنع العقل من الحكم عليهم بالكذب، -وإلا لكان متواترًا-، بل من جهةِ احتفافِه بالقرائن الداخلية والخارجية التي ترفعه من الظن القوي إلى العلم.

ونفس الكلام قد يُقال في خبر الآحاد.

ويُقصدُ بالقرائن الداخلية: أنْ يكون مضمونُ الخبر قويًا جدًا، كما لو كان موافقًا لصريح القرآن الكريم أو لرواياتٍ كثيرة وما شابه ذلك.

وبالقرائن الخارجية: نوعية رواة الخبر، كما لو كانوا كُلُّهم من الطبقة الأولى من الرواة، أو تعدّدت الطرق والأسانيد، أو كونهم كُلّهم ثقات، أو عدولاً، وكذا بالنسبة للسند الثاني والثالث.

ص: 87

فإذا ما اجتمعت هذه القرائن الداخلية والخارجية فإنّها ترفع الخبر المستفيض من مرتبة إفادته الظن القوي إلى مرتبة العلم، وعليه، يبقى الفرقُ قائمًا بينه وبين الخبر المتواتر حتى وإن أفاد كلاهما العلم؛ لاختلاف الجهة التي رفعت كلًا منهما إلى إفادته العلم، ففي المتواتر هي كثرة الرواة إلى حدٍّ يمنع العقل من اجتماعهم على الكذب، وفي الخبر المستفيض هي احتفافه بالقرائن الداخلية والخارجية التي باجتماعها يحصل العلم.

الأمر الثالث: كيف يطهر الماء الجاري بعد تنجُسه؟

قال قُدس سره: (ويطهرُ بكثرةِ الماءِ الطاهرِ عليه متدافعًا حتى يزولَ تغيُّرُه)

ذكر المُحقق قُدس سره ثلاثة شروطٍ لتطهير الماء الجاري المتنجس:

الشرط الأول: أنْ يُطهّرَ بالماء الطاهر:

لو تنجّسَ ماءٌ جارٍ بسقوط نجاسةٍ فيه، فتغيّرَ لونه أو طعمه أو رائحته بلونِ أو طعم أو رائحة النجاسة، فهل يكفي في تطهيره رجوع الماء إلى حالته الأولى قبل التغيُر كيفما اتفق، ولو بسببتفسُخِ هذه النجاسة، أو بسبب زوال التغيُّر الذي طرأ عليه من تلقاء نفسه، أو بسبب هبوب الريح عليه مثلاً، أم لا بُدَّ لتطهيره من سلوك طريقةٍ معينة؟

هناك رأيان:

الأول: كفايةِ زوالِ النجاسة ورجوع الماء إلى صفاته الأصلية، فإذا زالتِ النجاسةُ ولو من تلقاء نفسها فهذا كافٍ في تطهيره.

ص: 88

الثاني: عدم كفايةِ ذلك؛ بل لا بُدَّ أنْ يكون تطهير الماء الجاري المتنجس وزوال التغيُر بطريقةٍ معينةٍ لا من تلقاء نفسه، وذلك بأنْ يتدافعَ الماءُ الطاهر على الماء المُتنجّس ويمتزج به حتى يزول التغيُر.

ويظهرُ من كلام المصنف قُدس سره أنّه يختارُ الرأي الثاني؛ لذلك قال: (ويطهر بكثرة الماء الطاهر عليه متدافعًا حتى يزول تغيُره).

الشرط الثاني: لا بُدَّ أن يكون الماء المُطهِّر كثيرًا:

يظهر من قول المُصنفُ قُدس سره: (ويطهر بكثرةِ الماء...): أنّه يشترط الكثرة في الماء الطاهر المتدافع على المتنجس ليتم تطهيره، ولا يكفي أنْ يكون قليلًا.

واشتراط كونه كثيرًا يعني أن يكون كُرًا فما فوق، فإذا كان كثيرًا وامتزج بالماء المتنجس وبطريقة التدافع -كما سيتبين إنْ شاءالله تعالى- حينئذٍ يطهرُ ذلك الماءُ المتنجسُ، أما إذا كان قليلًا، بأنْ كان الماءُ المتدافعُ أقلَّ من كُرٍ، فلا يطهر الماء المتنجس حينئذِ، بل إنّه سيُنجِّس الماء الطاهر الذي تدافع عليه أيضًا.

الشرط الثالث: أنْ يكون الماء المُطهِّر متدافعًا، ولا يكفي مجرد الاتصال:

اتفق الفقهاءُ على أنّ للماء الواحد - سواء أكان قليلًا أم كثيرًا - حكماً واحداً، فهو إما أنْ يكون طاهرًا أو متنجسًا؛ لأنَّ الطهارة والنجاسة ضدان، ومعلومٌ أنّ الضدين لا يجتمعان في شيءٍ واحدٍ في زمنٍ واحدٍ.

ص: 89

وعليه، فلكي يطهر الماء الجاري المتنجس، لا بُدَّ من مزجه بالماء الطاهر الكثير كما تقدّم في الشرط الثاني، بحيث يصبح الماءان ماءً واحدًا، وبالتالي يكون حكمه واحداً، وهي الطهارة في المقام.

ولكن الفقهاء اختلفوا في كيفية جعل الماءين ماءً واحدًا؛ فلو كان لدينا خزّانان من الماء مثلًا، وأردنا أن نجعلهما ماءً واحدًا، فهل يكفي مجرد الاتصال بينهما - ولو بأنبوب معين يربط بينهما -، أم لا بُدّ من امتزاجهما بطريقة معينة؟

هناك رأيان:

الأول: لا يكفي مجرد الاتصال التدريجي بين المائين لصيرورتهما ماءً واحدًا، بل لا بُدَّ من أنْ يكون امتزاجهما دفعةً واحدةً، والملاك في امتزاجهما الدفعي هو ما يراه العرف، بمعنى أن يكون الامتزاج دفعيًا سريعًا لا بشكلٍ تدريجي عرفاً.

ولا يشترط في هذا الامتزاج الدقة العقلية، بمعنى امتزاج كل مليمتر من الماء الطاهر بكل مليمترٍ من الماء المتنجس مثلًا، بل يكفي أن يرى العرف امتزاجهما.

وهذا هو الرأي المشهور بين الفقهاء، ويظهر من كلام المُحقق قُدس سره أنّه ممن يرى هذا الرأي؛ لذلك قال: (ويطهر بكثرةِ الماءِ الطاهر عليه متدافعًا)، فكلمةُ (متدافعًا) تعني الامتزاج بدفعة واحدة عرفية، أو بالاستمرار لا التقطُع، بما يعدّه العرف متدافعًا.

ص: 90

الثاني: لا يجب أن يكون الماء متدافعًا، بل المهم هو أن يصير الماءان ماءً واحدًا، وإن كان عن طريق الاتصال التدريجي المستمر بينهما، بل ولو بمجرد مدِّ خرطوم ماءٍ من خزّان الماء الطاهر إلى خزّان الماء المتنجس.

وقد نُسِبَ هذا الرأي إلى الشهيد الأول؛ وأما السبب في قوله بهذا الرأي، فلعله - والله العالم - كما يذكر المحققون: أنه يبني على مطلبٍ يُذكَرُ في علم الأصول أو في أبحاث الفقه، ومفاده: أنَّ كُلَّ مفهومٍ لم يُحدّدِ الشارعُ معناه، فإنّه قد ترك أمر تحديده إلى العرف.وكمثالٍ على ذلك: فإنَّ الشارع أوجب على من يفطر عمدًا في شهر رمضان كفارةً تخييرية، وهي إما عتق رقبة أو صوم شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكينًا، فإن اختار المكلف الخيار الأول، فله أن يعتق ما يصدق عليه أنه رقبة، بقطع النظر عن سائر خصائصه أو صفاته؛ وذلك لأنّ الشرع أطلق لفظ (الرقبة) دون أن يحددها بصفاتٍ أو شروط.

وعليه يمكنه أن يعتق رقبة رجلاً، كما يمكنه أن يعتق رقبة امرأة، وكذا يمكنه أن يعتق رقبةَ كبيرٍ أو صغير، متعلم أو جاهل، وهكذا.

وكذا بالنسبة إلى نفقة الزوجة؛ فإنّ الشرع أوجب على الزوج الإنفاق عليها، وأطلق ذلك، ولم يحدد عدد الثياب التي يجب على الزوج شراؤها لها، ولا نوع الطعام أو الشراب أو المسكن، فيرجع في أمر تحديد كل ذلك إلى العرف، فما كان يناسب شأنية الزوجة بالقياس إلى زوجها من حيث

ص: 91

المكانة الاجتماعية أو الحالة الاقتصادية أو ما شابه ذلك، ويناسب المستوى الاقتصادي للزوج، وجب عليه إنفاقه عليها (1)ومعه يُقال: إن لفظ (الدفعة) لم يرد في لسان الروايات، فيُرجع حينها إلى العرف في تحديد معنى اتحاد الماءين لصيرورتهما ماءً واحداً، والعرف يرى كفاية الاتصال ولو بالتدريج المستمر غير المنقطع، ليحكم عليهما بأنهما صارا ماءً واحداً.

الأمر الرابع: يُلحَقُ بحكم ماء الجاري (وهو الاعتصام) ماء الحمام:

قال المحقق قُدس سره: (ويلحقُ بحكمِه ماءُ الحمامِ إذا كان له مادةٌ...).

بداية لا بُدَّ أنْ نُبيَنَ أنَ المقصودَ من الحمام هو ما كان متعارفًا في ذلك الزمن، حيثُ كانتِ الحماماتُ عامةً، وكان ماؤها متصلًا بأحواضٍ كبيرةٍ.

ص: 92


1- قال السيد السيستاني في منهاج الصالحين ج3 م 420: لا تقدير للنفقة شرعاً، بل الضابط القيام بما تحتاج إليه الزوجة في معيشتها من الطعام والإدام والكسوة والفراش والغطاء والمسكن والخدم وآلات التدفئة والتبريد وأثاث المنزل وغير ذلك مما يليق بشأنها بالقياس إلى زوجها، ومن الواضح اختلاف ذلك نوعا وكما وكيفا بحسب اختلاف الأمكنة والأزمنة والحالات والأعراف والتقاليد اختلافا فاحشاً. فبالنسبة إلى المسكن مثلا ربما يناسبها كوخ أو بيت شعر في الريف أو البادية وربما لا بد لها من دار أو شقة أو حجرة منفردة المرافق في المدينة، وكذا بالنسبة إلى الألبسة ربما تكفيها ثياب بدنها من غير حاجة إلى ثياب أخرى وربما لا بد من الزيادة عليها بثياب التجمل والزينة، نعم ما تعارف عند بعض النساء من تكثير الألبسة النفسية خارج عن النفقة الواجبة، فضلاً عما تعارف عند جمع منهن من لبس بعض الألبسة مرة أو مرتين في بعض المناسبات ثم استبداله بآخر مختلف عنه نوعاً أو هيئة في المناسبات الأخرى.

ويقصد المحقق قُدس سره بقوله: (ماء الحمام)؛ هو الماء الموجود في الأحواض الصغيرة (الطشت الذي يُغترَف منه عند الغسل).وهذا الحوض الصغير له ثلاث حالات، لكُلٍّ منها حكمه الخاص به، وهي:

الحالة الأولى: أن يكون ماء الحوض الصغير متصلاً بماء الحوض الرئيسي الكبير، والبالغ أكثر من الكر:

فهذا الماء وإن كان قليلًا، إلا أنّه معتصم، وهو يستمد عاصميته من صلته بالماء الكر، فلا ينجس إلا عند تغيُّر أحد أوصافه الثلاثة.

وقد يُستدل لذلك برواية بَكْرِ بْنِ حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: مَاءُ الحَمَّامِ لَا بَأْسَ بِه، إِذَا كَانَتْ لَه مَادَّةٌ (1)

وقوله عَلَيْهِ السَّلاَمُ: (لا بأس به) إشارةٌ إلى أنّه ماءٌ معتصمٌ، لا يتنجس إلا إذا تغيرت إحدى أوصافه الثلاثة.

بيدَ أنّها رواية لا يصحُّ الاستدلال بها؛ لورود اسم بكر بن حبيب في سندها، وبكرٌ هذا مجهولُ الحال، حيث لم يُذكر في كتب الرجال بتوثيق (2)

ص: 93


1- الكافي للكليني ج3 ص 14 بَابُ مَاءِ الْحَمَّامِ والْمَاءِ الَّذِي تُسَخِّنُه الشَّمْسُ، ح2.
2- في معجم رجال الحديث للسيد الخوئي قُدس سره ج4 ص 249 و250 الترجمة رقم (1849): بكر بن حبيب الأحمسي البجلي الكوفي: روى عنه (الباقرِ) عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وعن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ، كنيته أبو مريم، ذكره علي بن الحسن ابن فضال، رجال الشيخ، في أصحاب الباقر عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وعده من أصحاب الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ. طبقته في الحديث: وقع بكر بن حبيب في إسناد جملة من الروايات، تبلغ أحد عشر موردا، فقد روى عن أبي جعفر، وأبي عبد الله عَلَيْهِما السَّلاَمُ، وروى عنه منصور، ومنصور بن حازم.

ما معنى مجهول الحال؟

يُقصدُ بمجهولية الحال في علم الرجال: مجهوليةُ حاله من حيث الوثاقة، أي لا يُعلم حاله من حيث الصدق والكذب، والراوي بشكلٍ عام لا يخلو من حالين:

أولاً: أن يكون معلوم الحال من حيث الصدق والكذب، أي إنه يكون مذكورًا بتوثيق، أي معروفًا بصدقه في سيرته فيكون ثقةً، أو يكونُ مذكورًا بتضعيفٍ، كما لو كان معروفًا عنه أنّه يكذبُ مثلًا، بأنْ يضعَ الحديثَ ويختلقه، أو يزيد أو ينقص منه، فيُعبَّر عنه بأنّه كذابٌ، لا يؤخذ بحديثه، أو بأنه ضعيفٌ.

ثم إنه إنْ كان الثقةُ شيعيًا اثني عشريًا، سُمي في اصطلاح علم الرجال بالعادل، وحينها إن كان رجالُ سلسلة الرواية كلُّهم عدولًا، كانت الرواية صحيحةً.

وإن كان الثقةُ ليس بشيعي اثني عشري، كما لو كان سنيًا أو فطحيًا أو واقفيًا، فيبقى ثقةً، ويؤخذُ بروايته لوثاقته، أي لأنه لا يتعمّد الكذب، وإن كان في معتقده مخالفًا لما نحن عليه من اعتقاد، وأطلقوا على روايته ب-(الموثقة)، فإذا سمعنا عن روايةٍ بأنّها موثقةٌ، فهذا يعني أنَّ أحد الرجالِ الواردين في سندها - على الأقل- ثقة ولكنّه غيرُ عادلٍ.

ثانياً: أن يكون غير معلوم الحال من حيث الصدق والكذب، أي لم يُذكر بتوثيقٍ ولا تضعيف، فمثل هذا الشخص يُسمّى مجهولالحال،

ص: 94

ومجهولُ الحال هو وغير الثقة على حدٍّ سواء، من جهةِ عدم الأخذِ بروايتهم.

نعم، ربما كان ثقةً في واقعه وفي علم الله عَزَّوَجَل، إلا أنَّ علم الرجال يمنع من الأخذ برواية في مقام الاستدلال الفقهي إلا مع الاطمئنان بأنّها صادرةٌ عن المعصوم، وهذا لا يُمكن أن نصل إليه إلا مع وثاقةِ كلِّ رجلٍ من رجال السند، ومجهول الحال لا نجزم بكونه ثقة، واحتمال وثاقته لا يترجح على احتمال عدم وثاقته كما هو واضح.

وعليه تكون رواية مجهول الحال ضعيفة لا يُمكن الأخذ بها، ومن ثَمّ حُكم على رواية بكر بن حبيب بضعف السند؛ لأنه مجهول الحال، فلا تصلحُ للاستدلال الفقهي.

ولكن رغم ذلك، فإننا نحكم بأن ماء الحوض –في هذه الحالة- معتصمٌ، لا ينجسُ إلا بتغير أحد أوصافه الثلاثة؛ وذلك لأنَّ ماء الحوض الصغير متصلٌ بالحوض الكبير، وهو ماءٌ كر لا ينفعل بالنجاسة، لأن معاوية بن عمار ومحمدٍ بن مسلم رويا عن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ: (إِذَا كَانَ الماءُ قَدْرَ كُرٍّ لَمْ يُنَجِّسْه شَيْءٌ) (1)

ص: 95


1- الكافي للكليني (ج3 ص 2) بَابُ الْمَاءِ الَّذِي لَا يُنَجِّسُه شَيْءٌ (ح1) عن معاوية بن عمار، والحديث الثاني عن محمد بن مسلم بلفظ: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَنِ الْمَاءِ الَّذِي تَبُولُ فِيه الدَّوَابُّ، وتَلَغُ فِيه الْكِلَابُ، ويَغْتَسِلُ فِيه الْجُنُبُ؟ قَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: إِذَا كَانَ الْمَاءُ قَدْرَ كُرٍّ لَمْ يُنَجِّسْه شَيْءٌ.

وبضميمة هذه الرواية إلى روايات أخرى تؤكد أنّ ماء الكر لا يتنجس إلا مع تغيُّر أحد أوصافه الثلاثة، نكون قد توصلنا إلى أنَّ ماء الحوض المتصل بالماء الكر لا ينجس إلا بتغير أحد أوصافه الثلاثة؛ لاتصاله بالماء الكر، الذي به يكونان بمنزلة الماء الواحد، ولهما نفس الحكم.

الحالة الثانية: أن يكونَ الماءُ في داخلِ الحوضِ الصغير، ولكنه منقطعٌ عن المادة:

ففي هذه الحال واضحٌ جدًا أنّ ما في الحوض الصغير حكمه حكم الماء القليل في كونه ينفعلُ، أي يتنجسُ بمجرد ملاقاة النجاسة، وإنْ لم يتغيّر أحد أوصافه الثلاثة.

الحالة الثالثة: أنْ يكونَ الماءُ في الحوض الصغير متصلاً بمادةٍ دون الكر:

كما لو كانت نصف الكر، في حكمه رأيان:

الرأي الأول: ونُسِبَ إلى المشهور، وهو أنّ ماء الحمام لا يكون معتصمًا إلا إذا اتصل بماءٍ كثير، كُرٍّ أو الأكثر من كُرٍّ، وعليهفحكمه حكم الماء القليل، يعني يتنجسُ بمجردِ ملاقاة النجاسة، وإن لم يتغير أحد أوصافه الثلاثة.

الرأي الثاني: لا يُشترطُ في اعتصامِ ماءِ الحمام أكثر من الاتصال بمادةٍ، ولو لم تكن كُرًا، كما لو كانت نصف كر، وعليه، فحكمه أنه لا ينفعل بالنجاسة إلا مع تغير أحد أوصافه الثلاثة.

ص: 96

ويبدو أنَّ المُحقِّقَ قُدس سره يختارُ الرأيَ الثاني؛ لقوله: (ويُلحقُ بحكمه ماء الحمام إذا كان له مادة)، حيثُ اشترط اتصال ماء الحمام بالمادة مطلقاً، ولم يقيدها بكونها كثيرةً أو بمقدار الكُر. كما أنّه ذكر كلمة (مادة) نكرةً، والنكرةُ تُفيدُ العموم، يعني سواء أكانت المادة كرًا أم لم تكن كرًا، فإنّها تعصمُ الماء القليل (1)

الأمر الخامس: التغيُّر بملاقاة الطاهر، والتغيُّر من تلقاء نفسه:

قال المُحقِّق قُدس سره: (ولو مازجَه طاهرٌ فغيّره، أو تغيّر من قِبَلِ نفسِه، لم يخرجْ عن كونِه مُطهِّرًا).تقدّم أنّ الماء الجاري الطاهر إذا امتزج بنجاسةٍ، وأدّى ذلك الامتزاج إلى تغيُّرِ أحد أوصافه الثلاثة، فإنّه يتنجس، أما لو امتزج به شيءٌ طاهرٌ (لا نجس) كما لو اختلط الماءُ بالملحِ، أو بالخل مثلًا، أو اختلطت به طحالب، أو سقطت فيه أوراق الأشجار، فصار مُخضرّاً قليلًا، أو صار ثقيلًا لركوده، فالماءُ حينئذٍ يبقى على طهارته؛ لأنّه وإن تغير أحد أوصافه الثلاثة، وربما كُلُّها، إلا أنّ هذا التغير لم يكن بسبب نجاسةٍ لاقته، فيبقى طاهرًا في نفسه.

ص: 97


1- قال الشهيد الثاني في مسالك الأفهام ج1 شرح ص13: المراد بماء الحمام ما في حياضه الصغار مما لا يبلغ الكر. ونكر المصنف المادة للتنبيه على عدم اشتراط كريتها، وبه صرح في المعتبر. والأجود اشتراط الكرية. وهو قول الأكثر وعلى هذا يتساوى الحمام وغيره.

ولكن السؤال: هل يبقى مُطهرًا لغيره؟ وما حكمه فيما لو لاقته نجاسة؟

للجواب عن ذلك نقول:

إنَّ الماء الجاري الطاهر، سواء أتغيّر بسبب شيءٍ طاهرٍ، أم تغيّر من تلقاء نفسه، وكان ذلك التغيُّر منصبًا على أحد أوصافه الثلاثة أو حتى كلها، فإنّه لا يخلو حاله عن أحد احتمالين:

الأول: أن لا يُخرجه هذا التغيُّر من الإطلاق إلى الإضافة:

أي يبقى ماءً جاريًا مُطلقًا، وحينئذٍ يبقى محافظًا على حكم الماء الجاري، في كونه مُطهرًا لغيره، كما يبقى مُحافظًا على حكم الماء المعتصم في كونه لا ينجس بملاقاة النجاسة، إلا إذا تغيّر أحد أوصافه الثلاثة.الثاني: أن يُخرِجَ هذا التغيُّرُ الماءَ من الإطلاق إلى الإضافة:

فيصير ماءً مُضافًا، وحينئذٍ لا يُحافظ على حكم الماء الجاري في كونه مُطهرًا لغيره؛ وذلك لأنّ الماء المضاف لا يكون مطهرًا لغيره، كما لا يُحافِظُ على حكم الماء المعتصم في كونه لا ينجس بملاقاة النجاسة إلا عند تغير أحد أوصافه الثلاثة؛ وذلك لأنَّ حكم الماء المضاف من حيث انفعاله بالنجاسة حكم الماء القليل، وهو أنه ينجس بمجرد ملاقاة النجاسة وإن لم يتغير أحد أوصافه الثلاثة.

أي إنّ الماء الجاري بصيرورته مضافًا سيفقد حكمين من أحكامه:

ص: 98

1 - سيفقد كونه مُطهرًا لغيره؛ وذلك لأنّ من أحكام الماء المضاف أنّه لا يُطهِّرُ غيره.

2 - سيفقد كونه مُعتصمًا؛ ويكون حكمه حكم القليل من الماء، ينجسُ بمجرد ملاقاة النجاسة.

القسم الثاني: الماء المحقون:

قال قُدس سره: (وأمّا المحقونُ، فما كان منه دون الكر فإنّه ينجسُ بملاقاة النجاسة، ويطهر بإلقاء كرٍ عليه فما زاد، دفعة، ولا يطهر بإتمامه كرًا على الأظهر.وما كان منه كراً فصاعداً، لا ينجس، إلا أن تُغيّر النجاسة أحد أوصافه).

الماء المحقون هو الماء غير النابع من الأرض، وغير ماء البئر، سواء أجرى على الأرض أم كان راكدًا عليها.

قال الشهيد الثاني: المراد به ما ليس بنابع وإن جرى على وجه الأرض (1)

أقسام الماء المحقون:

ينقسم الماء المحقون إلى قسمين:

ص: 99


1- مسالك الأفهام للشهيد الثاني ج1 شرح ص 13.

القسم الأول: ما كان أقلَّ من الكُر:

وحكمه في حدّ نفسه هو حكم الماء الأولي، وهو الطهارة؛ إذ إنَّ الأصل في كل ماءٍ أنه طاهرٌ؛ ولذلك لا تحتاج طهارته إلى دليل غير هذا الأصل، وإنما لابُد من إقامة الدليل للحكم عليه بأنّه نجسٌ.

ومن هنا فإنّ أي ماءٍ تحتاج إليه للشرب أو الطهور فإنَّ لك أن تستعمله لأنّه طاهرٌ، ويكفي في حكمك عليه بالطهارة أن لا تعلمَ أنّه نجسٌ.وأما انفعاله بالنجاسة، أي حكمه عند ملاقاته النجاسة، ففي المسألة قولان:

القول الأول: نُسِبَ إلى ابن أبي عقيل، حيث ذهب إلى أنّ الماء المحقون لا يتنجس إلا بتغير أحد أوصافه الثلاثة بالنجاسة، أي ساوى بينه وبين الماء الكثير والماء الجاري (1)

القول الثاني: القول المشهور:

إذا كان مقدار الماء المحقون دون الكر فإنَّ حكمه حكم الماء القليل، وهو أنه يتنجس بمجرد ملاقاة النجاسة، ولو من دون تغير أحد أوصافه الثلاثة، فالماء في طشتٍ أقل من كرٍّ ولو كان كبيراً مثلًا ينجس بملاقاته النجاسة ولو كانت قليلةً جدًا كقطرةِ دمٍ.

ص: 100


1- قال السيد العاملي: قال ابن أبي عقيل: لا ينجس إلا بتغيره بالنجاسة، وساوى بينه وبين الكثير. انظر: مدارك الأحكام للسيد محمد العاملي ج1 ص38.

وقد استدل المشهور على هذا القول بعدّةِ رواياتٍ منها، صحيحةُ (1) مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: سَالتُ أَبَا عَبْدِ الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَنِ المَاءِ الَّذِي تَبُولُ فِيه الدَّوَابُّ وتَلغُ فِيه الكِلَابُ ويَغْتَسِلُ فِيه الجُنُبُ؟ قَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: إِذَا كَانَ الماءُ قَدْرَ كُرٍّ لَمْ يُنَجِّسْه شَيْءٌ. (2)وربَّ سائلٍ يسأل: كيف عرفتم أنَّ الماء القليل ينجس بمجرد ملاقاة النجاسة، والإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ لم يذكر ذلك، بل ذكر حكم الماء الكر فقط؟!

وللجواب عن ذلك نتطرّق إلى مصطلح أصولي يسمى ب-(دلالة المفهوم)، ومفاده:

إنَّ لبعض النصوص -كالجملة الشرطية- بعدين: منطوقاً ومفهوماً، فأما منطوق النص فهو ظاهر الكلام، وهو في هذه الرواية: (إذا كان الماءُ قدرَ كُرٍّ لم ينجّسْه شيء)، وأما المفهوم، فهو حكمٌ غيرُ منطوق، بل هو ما يُفهَمُ مما وراء المنطوق، هو مخفيٌ وراء المنطوق، أو قل: هو المفهوم الذي دلّ عليه المنطوق.

فالذي يفهمه المُخاطب العاقل من هذه الرواية بحسب المنطوق هو: أن الماء إذا كان بقدر كر لا يتنجس، وأما بحسب المفهوم فهو: أنّ الماء لو لم يكن قدر كرٍ-يعني كان أقل من كُرٍّ- فإنّه يتنجسُ بمجرّد ملاقاته النجاسة.

ص: 101


1- تقدّم فيما سبق أنَّ الرواية الصحيحة هي الرواية التي يكون رجال سندها كلهم عدولاً، أي ثقات إمامية...
2- الكافي للكليني ج3 ص 2 بَابُ الْمَاءِ الَّذِي لَا يُنَجِّسُه شَيْءٌ ح2.

فإن قيل: ولِمَ لمْ يكن حكم الكر والأقل من كر واحدًا، أي إنّه لا يتنجس بمجرد الملاقاة.

أجاب العلماءُ: لو كان حكم الكر والأقل من كر واحدًا، وهو عدم التنجس، لم يكن هناك داعٍ للإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ أنْ يُقيّدَ عدم تنجس الماء بكونه قدر كر، ولاكتفى بالقول: إنّ الماءَ لا يُنجِّسه شيءٌ، ولكنَّالإمامَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فصّل بين قسمي الماء، ذاكرًا أنَّ له حكمين: فمرةً يكون كُرًّا وهذا لا يتنجس، ويُفهمُ منه أنه إذا لم يكن كرًا فإنّه يتنجس.

فعدمُ تنجس الماء مشروطٌ بكونه كرًا، فاذا انتفى الشرط -وهي الكرية- انتفى معه الحكم، وهو عدم تنجسه بشيء.

والحاصل: أن التفصيل قاطع للشركة، والرواية يُفهم منها التفصيل بين الكر - فلا ينجسه شيء - وبين غيره، فيتنجس بمجرد الملاقاة.

كيف يطهر الماء المحقون القليل لو تنجس؟

قال المُحقق قُدس سره: (ويطهر بإلقاءِ كُرٍّ عليه فما زاد دفعة، ولا يطهر بإتمامه كُرًّا على الأظهر).

تقدّم أنَّ المشهور ذهب إلى أنَّ الماء المحقون القليل يتنجسُ بمُجرد ملاقاة النجاسة، وإن لم يتغيرْ أحد أوصافه الثلاثة، ولم يُنسبِ الخلافُ في ذلك إلا إلى ابن أبي عقيل، حيث ذهب إلى أنّه يتنجس بمُلاقاة النجاسة إذا تغير أحد أوصافه الثلاثة، فساوى بين القليل والكثير من هذه الناحية.

ص: 102

فإنْ تنجّس الماء القليل المحقون، فقد ذكر المحقق قُدس سره فرعين في مسألة تطهيره:

الفرع الأول: يطهر الماء القليل المحقون، ولكن بشرطين:1- أنْ يُلقى عليه كُرٌّ كاملٌ فما زاد.

2- أنْ يكون إلقاءُ الكر الكامل على الماء المتنجس دفعةً.

وقد تقدّمَ أنّ المقصودَ من الدفعة هي الدفعة العرفية لا العقلية، أي أنْ يكونَ وقوعُ جميعِ أجزاءِ الكُرِّ في زمانٍ يسيرٍ بحيثُ يصدقُ عليه عرفًا اسم الدفعة.

كما تقدّم الاختلافُ بين الفقهاء حولَ كيفية امتزاج الماء الطاهر بالماء المتنجس لتطهير الأخير بصيرورتهما ماءً واحدًا، فمنهم من يرى كفاية مجرد اتصال الماء الطاهر بالماء المتنجس ولو عن طريق خرطومٍ مثلًا، ومنهم من ذهب إلى وجوب امتزاجهما امتزاجًا دفعيًا.

والظاهر من كلام المحقق قُدس سره أنّه يذهب إلى الرأي الثاني.

الفرع الثاني: هل يكفي في تطهير الماء المحقون القليل إتمامُه كُرًّا؟

لو كان الماء المحقون القليل مقدار نصف كُرٍّ مثلًا، فهل يكفي في تطهيره إلقاء نصف كُرٍّ طاهرٍ عليه ليكون مجموع الماءين كُرًّا كاملًا؟

لم يرتضِ المحقق قُدس سره هذه الطريقة، واشترط أنْ يكونَ التطهيرُ بكُرٍ كاملٍ فما زاد، وأن يُلقى دُفعةً على الماء القليل؛ قال قُدس سره: (ولا يطهرُ بإتمامِه كُرًا على الأظهر)

ص: 103

وقوله: (على الأظهر) إشارةٌ منه إلى أنَّ هناك رأيًا آخر يقولُ بكفايةِ الإتمامِ كرًا، وقد نُقِلَ هذا القول عن السيد المرتضى قُدس سره المعروف ب-(علم الهدى) (1)

وتفصيلُ قوله: إنّ إتمامَ الماءَ كُرًا يوجبُ استهلاكَ النجاسةِ وانعدامَها، فإذا استُهلِكتِ النجاسةُ وانعدمت صار الماءُ طاهرًا، ولا فرقَ من هذه الناحية بين أنْ يكونَ الماءُ منذ البداية كُرًا، فيبقى طاهرًا، ولا يتنجس بملاقاةِ النجاسة إلا إذا تغيّر أحد أوصافه الثلاثة، وبين أن يكون قليلًا ثم يبلغَ مقدار الكر ليطهر.

فالسيد المرتضى قُدس سره ساوى بين الأمرين، رغم أنّ التسوية بين الأمرين قياسٌ مع الفارق.

وذهب بعضٌ إلى رأي ثالث وهو: أنه حتى وإنْ كان المتمم متنجسًا -أي غير طاهر- ولكن به يكتمل المحقون كرًا، فهو كاف للتطهير؛ باعتبار أن نفس اكتماله كرًا يكون عاصمًا للماء من المتنجس.

وعلى كل حال، فقد استُدِلَّ على الرأي الأول المشهور بأنّ من أحكام الماء القليل أنّه يتنجس بمجرد ملاقاة النجاسة؛ وعليه فلو كانالماء المتنجس نصف كُرٍ فإنّه لا يطهر بإلقاء نصف كُرٍ آخر عليه؛ لأنّ كُلًا من الماءين قليلٌ،

ص: 104


1- قال العلامة في خلاصة الأقوال ص 179: وبكتبه استفادت الامامية منذ زمنه رحمة الله إلى زماننا هذا، وهو سنة ثلاث وتسعين وستمائة، وهو ركنهم ومعلمهم قدس الله روحه وجزاه عن أجداده خيرا.

فإذا أُلقيَ القليل الطاهر على القليل المتنجس انفعلَ الأول بمجرد ملاقاة النجاسة، وبذا يُصبِح كلا الماءين متنجسًا.

وهكذا الكلام لو اختلفت نسبةُ كُلٍ من الماءين، ما دام كلُ واحدٍ منهما قليلًا، بأن كان أحدهما ثلاثة أرباع الكر، والثاني ربع كر مثلاً.

وأما إذا كان الماء الملقى كرًا، فإنه يكون كافيًا لتطهير الماء القليل المتنجس؛ لأنه لا ينفعل بمجرد ملاقاة النجاسة، وعندها يأخذ القليل المتنجس حكم الكر الملقى عليه بعد امتزاجه به.

القسم الثاني: قوله قُدس سره: وما كان منه كرًا فصاعدًا...

وهو الماء المحقون الكثير، وأبرز مصداق له اليوم هو الماءُ في الخزان إذا بلغ مقدار الكر.

ويتناول فيه المُحقق قُدس سره أموراً مهمة، وتسهيلًا للدرس والفهم ثم الحفظ، نعرضها على شكل نقاط:

النقطة الأولى: حكم الماء المحقون الكثير:

هو ماءٌ معتصمٌ في حدِّ نفسِه؛ فلا يتنجس بملاقاة النجاسة إلا إذا تغيّر أحد أوصافه الثلاثة، وهذا ما أجمع عليه الفقهاء كافة.

يدلُّ عليه الأخبار المستفيضة، من قبيل رواية محمد ابن مسلم عن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ أنّه قال: (إذا كان قدرَ كرٍ لم يُنجِّسه شيءٌ) (1)

ص: 105


1- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي (ج1 ص 414 و415 ح (1308 / 27).

وقد تقدّم الاستدلال بمفهوم الرواية على أنَّ الماء القليل يتنجسُ بمجرد الملاقاة، إلا أننا هنا نستفيدُ منها فائدةً أخرى، فنستدلُّ بها على أنَّ الماء الكر لا يتنجس بمجرد ملاقاة النجاسة؛ لقوله (صلواتُ الله وسلامه عليه): (إذا كان قدرُ كُرٍّ لم يُنجسه شيءٌ)، فهو (سلام الله عليه) حكم على الماء بالطهارة، وعدم تنجسه بملاقاة النجاسة بالنظر إلى مقداره فقط، وهو الكر، بقطع النظر عمّا إذا كان ذلك الماء جاريًا أو محقونًا، أي راكدًا، مما يعني أنَّ كلّ ماءٍ كان بقدر كر فهو معتصم، لا يتنجس إلا بتغير أحد أوصافه الثلاثة.

فموضوع اعتصام الماء هنا كون الماء كرًا، أيًا كان حاله، جاريًا أو محقونًا.

لاحظوا أن العلماء لا يستفيدون حكمًا واحدًا فقط من الرواية، بل يمكن أن يستفيدوا عدّةَ فوائد وعدةَ أحكام من روايةٍ واحدة، وهذا معنى من معاني ما روي عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ، قال: «إنَّما علينا أن نُلقي إليكم الأُصول، وعليكم أن تُفرِّعوا» (1)

النقطة الثانية: كيفية تطهيره فيما لو تنجّس:

قال قُدس سره: ويطهرُ بإلقاءِ كُرٍّ عليه فكرٌّ، حتى يزول التغيُّر.

ولا يطهر بزواله من نفسه، ولا بتصفيق الرياح، ولا بوقوع أجسام طاهرة فيه تزيل عنه التغير.

ص: 106


1- مستطرفات السرائر لابن إدريس: 575.

والكر: ألفٌ ومائتا رِطل بالعراقي على الأظهر:

تقدّم أنّ الفقهاء أجمعوا –ومنهم المحقَّق قُدس سره- على أنّ الماء المحقون الكثير معتصمٌ في حدِّ نفسِه، فلا يتنجسُ إلا إذا تغيّر أحد أوصافه الثلاثة، فإنْ تنجّسَ الكُرُّ -بأنْ لاقته نجاسةٌ فتغيرت إحدى صفاته الثلاثة: لونه، أو طعمه، أو رائحته- فقد بيّن المُصنِّفُ قُدس سره كيفية تطهيره، وتتلخّصُ بشرطين:

الشرط الأول: إلقاءُ كُرٍ كاملٍ من الماء عليه:

حتى وإن زال التغيُّر بأقل من الكر، فلو تنجّسَ خزان ماءٍ يبلغُ كرًا بملاقاته دمٍ مثلًا، فتغيّر لونُه أو طعمُه أو رائحتُه، فلا بُدّ -لأجل تطهيره- من إلقاءِ كُرٍّ كاملٍ من الماء عليه، ولا يطهرُ بإلقاءِ الأقلِ من الكُر حتى وإن زال تغيُّره بالدم؛ لأنّ الماء المُلقى - المُطهِّر- لم يكن كرًا، فيكون حينئذٍ الجميعُ قد تنجّسَ، وهكذا لو تمَّ إلقاء نصفٍ ثانٍ من الكر عليه، فالجميع قد تنجس أيضًا، وهكذا حتى لو بلغ الماءمبلغًا كبيرًا، فإنّه لا يطهر ما لم يتم إلقاء كرٍ طاهرٍ كاملٍ من الماء عليه.

وعلى الرغم من أنّ المحقق قُدس سره لم يشترط صريحًا أن يكون إلقاء الماء دفعةً واحدةً عرفًا، إلا أنَّ ما يُفهم من عبارته أنّه يبني على ذلك؛ وذلك بضمِّ ما سبق، أي في الماء الجاري مثلًا، حيث اشترط أن يُطهَّر بكثرة الماء الطاهر عليه دفعةً، وهكذا في المحقون القليل، حيث قال: ويطهر بإلقاء كُرٍ

ص: 107

عليه وما زاد دفعةً، ولعله من هذا السياق يُفهم أنّ المُصنف قُدس سره أيضاً يشترطُ أن يكون إلقاء الماء الكر لتطهير الماء المحقون الكثير دفعةً عرفًا.

الشرط الثاني: أن لا يتغيّر الماء الطاهر الكُر الجديد بصفاتِ النجاسةِ الموجودة في الكُر الأول:

فلو كان كُرٌّ من الماء متنجسًا بالدم، فتغيّر لونه، فتمَّ إلقاءُ كُرٍ كاملٍ عليه، فتغيّر الكُر الثاني كاملًا، فحينئذٍ يتنجس الكُران معًا، ولا يطهر أيٌ منهما، فيجب إلقاء كُرٍ ثالثٍ عليهما، وهكذا حتى نصل إلى كرٍ لا يتغيّر بإلقائه على الماء السابق المتنجس، فيطهر الجميع.

النقطة الثالثة: أمور غير مُطهِّرة:

قال قُدس سره ولا يطهر بزوال التغير من نفسه، ولا بتصفيق الرياح، ولا بوقوع أجسام طاهرة فيه تزيل عنه التغير.تقدّم أنه لا بُدَّ من تحقق شرطين ليطهر الكُر المتنجس، فإنْ انخرم أحدهما لم يطهر، ولانخرامهما مصاديقُ عديدةٌ، منها:

المصداق الأول: إلقاءُ أقلِّ من كُرٍ من الماء عليه، فهذا لا يكون مُطهِّرًا للماء المتنجس وإنْ زال التغيُّر. ولم يصرح المُحقق قُدس سره به لكنه يُفهم من عبارته.

المصداق الثاني: إلقاءُ كُرٍّ من الماء عليه، لكنّ التغيُّر لا يزول به.

المصداق الثالث: زوال التغيُّر من تلقاءِ نفسه، فإنه لا يطهر الكر المتنجس، لانخرام الشرط الأول.

ص: 108

فلو بقيَ الماءُ فترةً من الزمن زال خلالها التغيُّر، كما لو زالت الرائحة، أو زال التغيّر باللون، أو زال التغيّر بالطعم، فلا يمكن الحكم على الماء بالطهارة؛ لعدم استناد زوالها إلى إلقاء كُرٍ من الماء الطاهر على الماء المتنجس.

المصداق الرابع: زوال التغيُّر بسبب هبوب الرياح؛ فلو هبَّت الرياحُ على الكُرِّ المُتنجسِ فتحرّكَ الماءُ وزال التغيُّر، فهذا لا يكون مطهرًا؛ لانخرام الشرط الأول أيضاً، اذ الشرط في التطهير أنْ يكونَ بإلقاء كُرٍ عليه، وهنا تغيّرَ بسبب هبوب الرياح عليه.

المصداق الخامس: وقوع أجسامٍ طاهرة في الماء المتنجس، لها أثرٌ يُزيلُ صفاتِ النجاسة، كما لو كان هناك نوع من المواد الكيميائية مثلًا يؤدي إلى إخفاء أثر التغيُّر في الماء المتنجس، سواء أكان التغير في لونه أم في طعمه أم في رائحته، فلو تنجّس ماء كر، فتغيربفعل النجاسة أحد أوصافه الثلاثة أو كلها، ثم سقطت فيه مادة كيميائية طاهرة لها تأثير انتزاع التغير من ذلك الماء، وبالفعل أزالته، فحينئذٍ لا يطهر الماء؛ وذلك لأن زوال التغيّر لم يكن مستندًا إلى إلقاء ماءٍ بمقدار كرٍ فيه، وهو الشرط الأول في تطهير الماء المحقون الكثير إذا تنجّس.

النقطة الرابعة: في تحديد مقدار الكر:

قال المُحقَّق قُدس سره: والكُرُّ ألفٌ ومائتا رطلٍ بالعراقي على الأظهر، أو ما كانَ كُلُّ واحدٍ من طولِه وعرضِه وعمقِه ثلاثة أشبار ونصفاً.

بما أن موضوعَ الكر موضوعٌ شرعيٌ يترتبُ عليه حكمٌ شرعيٌ، إنْ تحقّق الموضوع الذي هو الكر فإنّ الماء يكون معتصمًا، أي لا يتنجسُ إلا

ص: 109

بتغيُّر أحد أوصافه الثلاثة، أما إذا كان أقلّ من مقدار الكر فإنّه يتنجسُ بمجرد ملاقاة النجاسة.

وطالما كان الموضوعُ شرعيًا، وجب الرجوع فيه إلى التحديد الشرعي، أي النصوص الدينية التي بيّنتْ معنى الكُر، وعندما رجع الفقهاءُ (قُدِّس سرُّ الماضين منهم وحفظ الله الباقين) إليها وجدوا أنّ هناك نوعين من التحديد للكر: التحديد الأول: التحديد بالوزن، والتحديد الثاني: التحديد بالمساحة.

التحديد الأول: التحديدُ بالوزن:

ومقدارُه ألف ومائتا رطلٍ، يدلُّ على هذا التحديد مُرسلةُ ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال: (الكُرُّ ألفُ ومائتا رطلٍ) (1)

وفي هذه الرواية توجدُ ملحوظات:

الملحوظة الأولى:

إن محمد بن أبي عمير من أجلّة أصحابنا (2)

ص: 110


1- المعتبر للمحقق الحلي ج1 ص 47.
2- قال عنه النجاشي في (فهرست أسماء مصنفي الشيعة (رجال النجاشي) ص 326 و327 الترجمة رقم: » 887 » محمد بن أبي عمير زياد بن عيسى أبو أحمد الأزدي من موالي المهلب بن أبي صفرة وقيل مولى بني أمية، والأول أصح، بغدادي الأصل والمقام، لقى أبا الحسن موسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ وسمع منه أحاديث كناه في بعضها فقال: يا أبا أحمد، وروى عن الرضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ، جليل القدر عظيم المنزلة فينا وعند المخالفين، الجاحظ يحكي عنه في كتبه وقد ذكره في المفاخرة بين العدنانية والقحطانية، وقال في البيان والتبيين: حدثني إبراهيم بن داحة عن ابن أبي عمير، وكان وجها من وجوه الرافضة، وكان حُبس في أيام الرشيد فقيل: ليلي القضاء وقيل: إنه ولي بعد ذلك، وقيل: بل ليدل على مواضع الشيعة وأصحاب موسى بن جعفر عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وروي أنه ضرب أسواطا بلغت منه، فكاد أن يقر لعظم الألم، فسمع محمد بن يونس بن عبد الرحمن وهو يقول: اتق الله يا محمد بن أبي عمير، فصبر ففرج الله، وروي أنه حبسه المأمون حتى ولاه قضاء بعض البلاد، وقيل: إن أخته دفنت كتبه في حال استتارها وكونه في الحبس أربع سنين فهلكت الكتب، وقيل: بل تركتها في غرفة فسال عليها المطر فهلكت، فحدّث مِنْ حِفظِه، ومما كان سلف له في أيدي الناس، فلهذا أصحابنا يسكنون إلى مراسيله، وقد صنف كتبا كثيرة... صنف محمد بن أبي عمير أربعة وتسعين كتاباً، منها المغازي... مات محمد بن أبي عمير سنة سبع عشرة ومائتين.

الملحوظة الثانية: جابرية عمل الأصحاب لضعف الرواية:

إنّها روايةٌ مرسلة، إذ ورد في سندِها: عن بعضِ أصحابنا عن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ، فالواسطةُ بين ابن أبي عمير وبين أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ هي كلمة (عن بعض أصحابنا)، فمن هذا البعض؟ هو غيرُ معلومٍ، لا يُعرفُ حالُه هل هو ثقةٌ أو ليس بثقةٍ؟ عادلٌ أو ليس بعادلٍ؟ وطالما كان غيرَ معلومٍ، فلا يُمكنُ الحكمُ بوثاقتِه؛ لأنّ الوثاقةَ تحتاجُ إلى دليلٍ، ولا دليلَ في البين.

الروايةُ مرسلةٌ، فهي ضعيفة السند، لا تصلح للاستدلال الفقهي (1)

ومعه قد يُقال: لماذا استدلوا بها على تحديدِ موضوعٍ شرعي يترتبُ عليه حكمٌ شرعي؟

والجواب: هناك بحثٌ في علم الرجال مفاده:

ص: 111


1- لا يعني هذا عدم وجود رواية أخرى يمكن أن يُستدل بها في المقام، غايته أننا ذكرنا هذه الرواية لأجل بيان نكتة علمية، وهذه ملاحظة تجري في سائر الموارد المذكورة في هذا الكتاب.

أنّ الروايةَ المرسلةَ وإن كانت لا تصلحُ في حدِّ نفسِها للاستدلالِ الفقهي، ولكن قد يعرضُ عليها شيءٌ يرفعُ من قيمتِها إلى مستوى قبولِها للاستدلالِ الفقهي (1)وهذه الرواية مثلًا، هي مرسلةٌ، ويُفترضُ بالفقهاء عدم الاستدلال بها؛ لضعف سندها، إلا أنّهم وجدوا سابقيهم من الفقهاء يعملون بها وبمضمونها، فيكون عملهم بمضمونها أو إجماعهم على العمل بمضمونها جابرًا لضعفها؛ فهي في حدِّ نفسها ضعيفةٌ، لا تقوى على أن تكون دليلًا، لكنَّ استدلالَ الفقهاء والعلماء كلهم بها، جَبَرَ ضعفها، ومنحَها القوة لتكون دليلًا، فارتقت من الضعف وعدم التمكّن من الاستدلال الفقهي إلى مستوى الحجية.

وهذا يعني أنّ عملَ الأصحابِ جابرٌ لضعفِ الرواية السندي.

علمًا أنَّ هذه المسألة ليست بهذا النحو من البساطة، بل فيها تعقيدٌ وكلام، وإنما ذكرناها على هذا النحو بما يناسب هذه المرحلة، وفي المراحل الأعلى سيتم الاطلاع على المزيد من التفصيل، وإنما تعرضنا لهذا البحث بصورة مختصرة ومبسطة دفعًا لإشكالٍ مقدر حول كيفية استدلال الفقهاء برواية مرسلة وهي ضعيفة السند؟!

ص: 112


1- من الجدير بالتذكير: إنَّ الهدف من درسنا للشرائع – في هذه الدورة المختصرة - هو الاطلاع على كيفية الاستدلال الفقهي بالأدلة، وكيفية ترجيح الأقوال، ومناقشة أدلتها، والرد عليها، وليس الهدف منه الجزم بشيءٍ ما، سواء أكان حكمًا أم دليلًا أم قولًا.

تنبيه:

(ابن أبي عمير) اسم لرجلين: أحدهما يروي عن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ، والآخر لا يروي عنه عَلَيْهِ السَّلاَمُ، والثاني اسمه محمد ابن أبي عمير، وأبوه اسمه زياد.

الملحوظة الثالثة:

حدّدت الرواية مقدار الكر بالرطل، ولم تحدد مقدار الرطل أو نوعه، وللرطل نوعان (1):

الأول: الرطل العراقي، ومقداره مائة وثلاثون درهمًا على الأشهر.

الثاني: الرطل المدني، ومقداره مائةٌ وخمسةٌ وتسعون درهمًا.

والمُحقِّقَ قُدس سره اختار النوع الأول، حيث قال: (والكُرُّ ألفٌ ومائتا رطلٍ بالعراقي على الأظهر). وكلمة (على الأظهر) إشارةٌ إلى أنَّ هناك خلافًا بين الفقهاء في المسألة، فمنهم من يذهب إلى أنه الرطل العراقي، ومنهم من يذهب إلى أنه الرطل المدني.

مستندُ كلٍّ من القولين:

1 - أما القول الثاني - اعتماد حساب الكر بالرطل المدني -، فقد ذكروا له أدلة، منها:

ص: 113


1- انظر: مدارك الأحكام ج1 ص47.

الدليل الأول: إنه الأحوط:

وذلك لأن الرطل المدني يزيدُ في مقداره عن الرطل العراقي، حيث إنّه يبلغ مائة وخمسة وتسعين، على حين يبلغ الرطل العراقي مائة وثلاثين، وفي حالة التردد والشك بين المقدارين من حيث تطهير المتنجس به، فإننا لو طهرناه بمقدار الكر المدني، نكون قدحصلنا على الجزم بأنَّ الماء المتنجس قد تم تطهيره، لأنَّ الكر المطلوب في الواقع لأجل التطهير، إنْ كان وفقًا للحساب بالرطل العراقي فقد تمّ الامتثال للمطلوب شرعًا، وإن كان وفقًا للحساب بالرطل المدني فكذلك تم الامتثال للمطلوب شرعًا. ففي الحالتين يكون اعتماد الحساب بالرطل المدني أحوطاً؛ لأنه يولّد اليقين بكون الماء معتصمًا؛ فلا يتنجس بمجرد ملاقاة النجاسة، كما له فاعلية تطهير الماء المتنجس على كل حال.

الدليل الثاني: إنَّ الأكثر يدخل تحته الأقل ولا عكس:

فاعتماد حساب الكر بالرطل المدني يشتمل على اعتماد حسابه بالرطل العراقي، ولا عكس.

وربما هذا الدليل هو نفس الدليل الأول أو قريب منه بعبارة أخرى.

الدليل الثالث: إنّ الأئمة عَلَيْهِم السَّلاَمُ من أهل المدينة:

وإذا كانوا من أهل المدينة فالمناسب أن يُجيبوا السائلَ عن الكُرِّ بالرطل المعهود عندهم؛ ولا يُتصور أن يكون الإمامُ في المدينة ويُجيبُ السائل عن

ص: 114

مقدار الكر بالرطل العراقي دون المدني، ثم يُطلقُ كلمة الرطل من دون تقييد.وقد ناقش أصحاب القول الأول - القائلون باعتماد حساب الكر بالرطل العراقي- أدلة القول الثاني، فقالوا:

أولًا: أما أنّ القول باعتماد حساب الكر بالرطل المدني هو أحوط؛ فيُجابُ عنه:

إنَّ الاحتياط ليس واجباً في حدِّ نفسه؛ لأصالة البراءة من كل تكليفٍ عند الشك بأصل ثبوته، فمثلًا من يشك في وجوب الدعاء عند رؤية الأذان، ويتردد في وجوبه عليه، فإنّ له أن يجري البراءة؛ لأنها الأصل عند الشك في التكليف، فيكون التمسك بها مجزياً ومبرئاً للذمة.

نعم، الاحتياطُ أمرٌ حسن، ولكن الحديث في الوجوب وعدمه؛ والاحتياطُ ليس واجبًا في حدِّ نفسه إلا مع الدليل الخاص، ولا دليل خاصاً في البين؛ فحتى لو كان اعتماد حساب الكر بالرطل المدني أحوط فهو ليس بواجب، والمكلف مُكلّفٌ بالامتثال للواجب دائمًا، وأما تكليفه بالاحتياط فلا يكون إلا بدليل، ولا دليل يدلُّ على ذلك فيوجبه عليه.

ثانيًا: وأما قولهم: إنَّ الأكثر يدخل تحته الأقل ولا عكس، فهو مجرد استحسان، وليس دليلًا مستقلًا في حدِّ نفسه، ولا ملاك في ترجيح الأقوال بدخول الأقل تحت الأكثر (كلما كان هناك أقل وأكثر يُرجّحُ الأكثر) إلا من

ص: 115

جهة القول بالاحتياط، وقد تقدّم أنَّ القولبالاحتياط لا بُدّ في وجوبه من دليلٍ، ولا دليل في البين، فلا يجب الاحتياط، ومن ثم فلا يعدو أن يكون هذا القول مجرد استحسان واجتهاد بالرأي، ولا وزن له -بل هو منهي عنه ومذمومٌ- في التشريع الإلهي.

ثالثًا: وأما قولهم: إنَّ الأئمة عَلَيْهِم السَّلاَمُ من أهل المدينة، فصحيحٌ، ولكن هل إنَّ ذلك يعني أن عليهم دائمًا أن يُجيبوا بما هو معروفٌ ومعهودٌ عند أهل المدينة؟

هذا القول هو الآخر مجرد استحسان أيضًا، لا مؤيد له؛ فلا يصلحُ للاستدلال الفقهي.

2 - وأما مستند القول الأول:

أي القول باعتماد الرطل العراقي، وكما استظهر ذلك المُحقق قُدس سره إذ قال في عبارته: (والكُرُّ ألفٌ ومائتا رطلٍ بالعراقي على الأظهر) فلعلّه لأجل أنّ القدرَ المُتيقنَ هو الأقلُّ، وأما الزائدُ على القدر المتيقن فيُنفى بأصل البراءة؛ وذلك نظير ما لو كان المكلفُ مُتيقنًا بأنّه أفطر في شهر رمضان المبارك، ولكنّه كان مُتردّدًا في مقدار الذي أفطره بين الأقل والأكثر، كما لو كان مُتردّدًا بين ثلاثة أيام وخمسة أيام، فإن الشرع يوجبُ عليه قضاء ثلاثة أيامٍ؛ لأنها المقدار المتيقن بين الثلاثة والخمسة، وأما اليومان المتبقيان (الرابع والخامس)، فهو غيرمتيقن باشتغال ذمته بها، وشاكٌ في ذلك، ومع الشك

ص: 116

في أصل التكليف يجري أصل البراءة، أي البراءة من التكليف، فكُلُّ ما لا يعلم المكلف بأنّ ذمته مشتغلةٌ به فهو في مأمنٍ منه، ولا يجب عليه أن يؤديه؛ لأنَّ التكليف لا يثبت إلا بالقطع والجزم أو الدليل الظني المعتبر (خبر الثقة مثلاً)، ولذا وجب قضاء صوم الثلاثة أيام، وأما اليومان - الرابع والخامس- فلا يجب قضاؤهما؛ لعدم القطع والجزم بالتكليف.

فنظيرُ هذا الكلام أو قريبٌ منه يُقالُ في مقام ترجيح أحد القولين في حساب الكر، فنقول:

إن الحساب بالرطل العراقي هو مائة وثلاثون درهمًا، والحساب بالرطل المدني هو مائةٌ وخمسةٌ وتسعون درهمًا، فيكون الحساب بالرطل العراقي (مائةٌ وثلاثون درهمًا) هو المقدار المتيقن؛ لدخوله ضمن كلٍّ من التحديدين، ومن ثَمّ فهو المقطوع والمجزوم بالتكليف به على كل حال، فيكون هو الواجب المكلَّف به المكلَّفُ شرعًا.

وأما الفرق بين التحديدين، أي بين مقدار الرطل العراقي والمدني، والبالغ خمسةٌ وستون درهمًا، فهو مقدارٌ مشكوكٌ بالتكليف به، لأنَّ المكلف ليس لديه جزمٌ أو قطعٌ بالتكليف به؛ فتجري فيه أصالة البراءة لنفي التكليف به.

التحديد الثاني: التحديد بالمساحة:

في تحديد مقدار الكر بالمساحة قولان:

ص: 117

القول الأول: ما يكون طول كل بُعدٍ من أبعاده الثلاثة (الطول والعرض والعمق) ثلاثة أشبارٍ ونصف الشبر، فيكونُ الكُرُّ بعد ضرب أبعاده الثلاثة: اثنين وأربعين شبرًا وسبعةَ أثمان الشبر تقريبًا.

والمقصود من الشبر هو الشبر لمستوي الخلقة، أي الشبر المتعارف عند الغالب من الناس.

وقد دلّت على هذا التحديد روايةُ الكافي، ونصّها:

مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عِيسَى، عَنِ ابْنِ مُسْكَانَ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: سَالتُ أَبَا عَبْدِ الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَنِ الكُرِّ مِنَ المَاءِ كَمْ يَكُونُ قَدْرُه؟ قَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: إِذَا كَانَ الماءُ ثَلَاثَةَ أَشْبَارٍ ونِصْفٍ «نِصْفاً« فِي مِثْلِه ثَلَاثَةِ أَشْبَارٍ ونِصْفٍ فِي عُمْقِه فِي الأَرْضِ، فَذَلِكَ الكُرُّ مِنَ المَاءِ (1)

والروايةُ ضعيفةُ السند من عدة أوجه:

الوجه الأول: في سندها راوٍ مجهولٍ؛ وهو أحمد بن محمد بن يحيى، وقد مرّ يبان معنى مجهولية الراوي، وأنه من لم يُنص عليه بتوثيق ولا تضعيف.الوجه الثاني: في سندها راوٍ واقفي؛ فقد ورد في سندها عثمان بن عيسى، قال عنه النجاشي قُدس سره: عثمان بن عيسى: أبو عمرو العامري الكلابي ثم من ولد عبيد بن رؤاس، فتارة يقال الكلابي وتارة العامري وتارة الرؤاسي، والصحيح أنه مولى بني رؤاس. وكان شيخ الواقفة ووجهها، وأحد الوكلاء المستبدين بمال موسى بن جعفر عَلَيْهِ السَّلاَمُ (2)..

ص: 118


1- الكافي للكليني ج3 ص 3 بَابُ الْمَاءِ الَّذِي لَا يُنَجِّسُه شَيْءٌ - ح5.
2- فهرست أسماء مصنفي الشيعة (رجال النجاشي) للنجاشي ص 300 الترجمة رقم » 817 ».

ومعلومةٌ لديكم قصة نشوء الواقفة، وملخصها: أنّهم أنكروا إمامة الإمام الرضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ بعد استشهاد الإمام الكاظم (صلوات الله وسلامه)، ووقفوا عليه، وقالوا إنَّ الإمام الكاظم (صلوات الله عليه) قد غاب ولا بُدّ من انتظاره، فلا إمام بعده.

والدافع الحقيقي لقولهم هذا ليس هو اعتقادهم بخاتمية الأئمة عَلَيْهِم السَّلاَمُ بالإمام الكاظم عَلَيْهِ السَّلاَمُ كما يدّعون، بل لأجل احتفاظهم بالأموال التي كانت تحت أيديهم عند وكالتهم عن الإمام الكاظم عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وعدم تسليمها إلى مستحقيها بأمر الإمام الرضا (صلوات الله وسلامه عليه). وعلى كُلِّ حالٍ فعثمانُ بن عيسى كان واقفيًا، فتكونُ روايتُه غيرَ مقبولةٍ.

نكتة رجالية: كيف نتعاملُ مع الراوي الواقفي؟

الجواب:-إذا لم يكن الراوي ثقةً، فهو ضعيفٌ، ومن ثَمّ لا تُقبل روايته سواء أكان واقفيًا أم غيره.

-إذا كان الراوي الواقفي ثقةً في حدِّ نفسه، فهنا ثلاثةُ آراء:

الرأي الأول: الرفض مُطلقًا، أي سواء أكانت مروية عنه قبل قوله بالوقف أم بعده.

الرأي الثاني: القبولُ مُطلقًا، أي سواء أكانت مروية عنه قبل قوله بالوقف أم بعده، فطالما كان الراوي ثقةً، ولا يكذب، فلا تأثير لعقيدته في قبول الرواية.

ص: 119

الرأي الثالث: يقول بالتفصيل، فما رواه الواقفي من روايات قبل قوله بالوقف يُقبل منه، وأما ما رواه بعد قوله بالوقف فلا يُقبل.

فمثلًا، من أشهر الواقفين هو علي ابن أبي حمزة البطائني، وكان في حدِّ نفسه ثقة، لا يكذب، فما كان من رواياته قبل قوله بالوقف فهي مقبولةٌ، وما جاءت بعد قوله بالوقف فهي مرفوضةٌ، فالملاك في قبول ورفض الرواية هو زمن الرواية، فإذا كان زمن صدور الرواية عنه قبل وقفه، أي قبل استشهاد الإمام الكاظم عَلَيْهِ السَّلاَمُ وقبل أن يُعلن الوقف عليه، فنقبل روايته، وأما إذا كان زمن صدور الرواية عنه بعد وقفه -يعني بعد استشهاد الإمام الكاظم عَلَيْهِ السَّلاَمُ- فلا نقبل روايته.القول الثاني: الكر هو ما كان طولُه وعرضُه وعمقُه ثلاثةَ أشبارٍ فقط، أي ما تكونُ مساحتُه سبعةً وعشرين شبرًا.

ومستند هذا القول رواية عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَابِرٍ قَالَ: سَالتُ أَبَا عَبْدِ الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَنِ المَاءِ الَّذِي لَا يُنَجِّسُه شَيْءٌ؟ قَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: كُرٌّ. قُلْتُ: ومَا الكُرُّ؟ قَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: ثَلَاثَةُ أَشْبَارٍ فِي ثَلَاثَةِ أَشْبَارٍ (1)

وقد اختار المُحقق قُدس سره القول الأول في تحديد مقدار الكر بالمساحة، وذلك بصريح عبارته: (أو ما كان كُلُّ واحدٍ من طولِه وعرضِه وعمقِه ثلاثةَ أشبارٍ ونصفًا).

ص: 120


1- الكافي للكليني ج3 ص 3 بَابُ الْمَاءِ الَّذِي لَا يُنَجِّسُه شَيْءٌ- ح7.

ورب سائلٍ يتساءل: أنه قد علمنا أنَّ تحديد الكر بالمساحة إما أن يكون ثلاثةَ أشبارٍ ونصف أو ثلاثةَ أشبارٍ فقط، وكلا التحديدين فيما لو كان خزان الماء متساوي الأضلاع، فماذا عن غيره من الأشكال، كما لو كان خزان الماء اسطوانيًا مثلًا أو ما شابه ذلك؟

والجواب: يمكن الاستعانة بعلم الرياضيات لتحويل مقدار سعة الماء في الخزان المكعب إلى سعته في الخزان الأسطواني مثلًا، أي لتحويل مقدار اثنين وأربعين شبرًا وسبعة أثمان الشبر وفقًا للقول الأول، أو سبعة وعشرين شبرًا وفقًا للقول الثاني، ولذا فلا يُشترط أن تكون أضلاع خزان الماء متساوية، ولا أن تكون له أضلاع حتى، كالشكل البيضوي مثلًا.

ملحوظة: ضرورة تقدير جهود المجتهدين:

لاحظنا في موضوع تحديد مقدار الكر أنّ هناك عدةَ آراءٍ وعدةَ تحديداتٍ في المسألة، سواء أكان في تحديده بالوزن أم في تحديده بالمساحة، فأما في التحديد الأول فقد اختلف الفقهاءُ بين الرطلِ المدني والرطل العراقي، وكُلٌّ منهما يستدلُّ على قوله، ويرد أدلة الفريق الثاني ويضعّف استدلالاته.

وأما في التحديد الثاني: التحديد بالمساحة، فقد وجدنا روايتين يختلف تحديد كلٍّ منهما لمقدار الكر، كما لاحظنا روايةً ضعيفةً والأقوال في سندها، وكُلُّ ذلك مثالٌ بسيطٌ جدًا عن اختلافِ الرواياتِ في مطلبٍ شرعيٍ واحدٍ،

ص: 121

ومثله توجد مئات الاختلافات من هذا القبيل، والتي يحتاج الجزم بأحد الرأيين أو الآراء المطروحة فيها إلى ساعاتٍ طويلةٍ من البحث والتنقيب عن مؤيداتٍ لأحدها، وكيف نؤيد هذه الرواية، وكيف نضعف تلك الرواية، وكيف نعالج هذه الكلمة، وما إلى ذلك.

كلُّ ذلك يكشف عن مدى الجُهد الاستثنائي الذي يبذله المجتهدُ في استنباط الحكمِ الشرعي، الأمر الذي يدعونا إلى ضرورة تقدير هذا الجهد واحترام المجتهد وتبجيله؛ فهو يقومُ بعملٍ ضخمٍ جدًا؛ إذ يترك حياته وعلاقاته وربما لا يتواصل مع كثير من أهله وأصحابه،وينقطعُ إلى روايات أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ ليقدِّمَ لنا الفتوى على طبقٍ من ذهب.

وبذا نكتشف مدى ضحالة فكر من يُهمِّشُ ويُميّع جهود المجتهد في ذلك، ويعدّ عمله أمرًا بسيطًا لا يستحق معه الثناء، فالوصول إلى حكمٍ شرعي دونه خرط القتاد.

النقطة الخامسة: شمول حكم التطهير لكل أنواع المياه:

قال قُدس سره: (ويستوي في هذا الحكم مياه الغدران والحياض والأواني على الأظهر).

بعد أنْ بيّن المُحقق قُدس سره أنَّ حكم الكثير هو عدم الانفعال بالنجاسة إلا مع تغيُّر أحد أوصافه الثلاثة، نبّه على أنَّ هذا الحكم يشمل كُلَّ ماءٍ كثيرٍ، بقطع النظر عن محل وجوده والوعاء الذي يحتويه، فسواء أكان في غديرٍ أم حوضٍ أم إناءٍ كبيرٍ، فحكمه كذلك.

ص: 122

وأما مستنده في قوله هذا فهو عموم الأدلة، أي إنّ الأدلة الدالة على أنَّ الماء الكثير لا ينفعل بملاقاة النجاسة إلا مع تغيُّر أحد أوصافه الثلاثة، هي أدلة عامة، لم تُخصص ذلك الحكم بما إذا كان الماء جاريًا، أو بما إذا كان في الأنهار، أو بغير ذلك من الماء الكثير؛ فموضوع الطهارة والاعتصام هو الماء الكثير، فمتى ما تحقق الموضوع ثبت له الحكم.ومن الملاحظ أنَّ المحقق قُدس سره قد ختم قوله هذا بكلمة (على الأظهر)، مما يعني وجود خلافٍ في هذه المسألة، وهو قُدس سره يُرجِّحُ رأياً على رأي آخر.

ويشيرُ بقوله (على الأظهر) هنا إلى ترجيح رأيه على رأي كُلٍّ من الشيخ المفيد وسلار قدس سرهما، حيثُ نُقِل عنهما أنّهما ذهبا إلى أنّ الماءَ الموجودَ في الحياض والأواني حكمه حكم الماء القليل من حيث انفعاله بالنجاسة، فيتنجس بمجرد الملاقاة وإنْ كان كثيرًا؛ لذا قال المحقق قُدس سره: (ويستوي في هذا الحكم «حكم اعتصام الماء وعدم انفعاله بالنجاسة إلا عند تغيُّر أحد أوصافه الثلاثة» مياه الغدران والحياض والأواني على الأظهر)، أي متى ما صدق على ماءٍ أنّه كثير، ثبت له هذا الحكم، بقطع النظر عن محلِّ وجوده، وكيفيته من الجريان وعدمه.

والوجهُ في قول الشيخ المفيد وسلار قدس سرهما:

أولاً: إنّ هناك رواياتٍ مطلقةً نهت عن استعمال مياه الحياض والأواني بمجرد ملاقاتها للنجاسة، وهي تشملُ بإطلاقها ما لو كان الماءُ كثيرًا. (وسنذكر رواية منها بعد قليل).

ثانياً: إنَّ النهي عن استعمال ماء الإناء إذا وقعت فيه نجاسة يعني تنجسه بها، وإلا فلا وجه للنهي عن استعماله في غير ذلك.

ص: 123

والنتيجة: أنّ مياه الحياض والأواني تتنجسُ بمجرد ملاقاة النجاسة، وإنْ كان الماءُ كثيرًا؛ ولهذا ذهب كل من الشيخ المفيدوسلار قدس سرهما إلى أنَّ الماء الموجود في الحياض والأواني حكمه حكم الماء القليل، ومن ثَمّ يتنجس بمجرد أنْ تلاقيه النجاسة.

أما المحقق قُدس سره فقد اختار الرأي الأول، وهو أنّ حكم الأواني والحياض والغدران هو حكمٌ واحد، ودليله في ذلك هو عموم الأدلة الدالة على أنّ الكثير لا ينفعل بالنجاسة كما تقدم بيانه.

وقفة مع رواية:

قلنا إن هناك روايات مطلقة نهت عن استعمال مياه الحياض والأواني بمجرد ملاقاتها للنجاسة، ومن تلك الروايات ما روي عَنْ سَمَاعَةَ قَالَ: سَالتُ أَبَا عَبْدِ الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَنْ... رَجُلٍ مَعَه إِنَاءَانِ فِيهِمَا مَاءٌ، وَقَعَ فِي أَحَدِهِمَا قَذَرٌ، ولَا يَدْرِي أَيُّهُمَا هُوَ، لَيْسَ يَقْدِرُ عَلَى مَاءٍ غَيْرِه؟ قَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: يُهَرِيقُهُمَا جَمِيعاً ويَتَيَمَّمُ (1)

وهذه الرواية:

1 - ذكرت خصوص حكم الماء في الإناء، فقد كان سؤال السائل عن الماء في الإناء.

2 - حصل لدى الرجل علمٌ إجمالي بوقوع النجاسة في أحدهما، فقد ذكرت الرواية أنَّ رجلًا لديه إناءان وقعت في أحدهما نجاسةٌ، ولا يدري أين وقعت بالتحديد، أفي الإناء الأول أم في الثاني؟

ص: 124


1- الكافي للكليني ج3 ص 10 بَابُ الْوُضُوءِ مِنْ سُؤْرِ الدَّوَابِّ والسِّبَاعِ والطَّيْرِ- ح6.

معنى العلم الإجمالي:

هو العلم المشتمل على حيثيتين:الأولى: العلم بالجامع بين الأطراف؛ أي الكلي المعلوم القابل للانطباق على كلِّ واحدٍ من أطرافه. وهذه الحيثية معلومة تفصيلًا للعالم بالإجمال.

الثانية: الشك في أي طرفٍ من الأطراف ينطبق عليه الجامع، وهذه هي جهة الجهل والغموض في موارد العلم الإجمالي.

فالعلم بالجامع في الراوية هنا هو اليقين بوقوع النجاسة؛ لأن عند الرجل علمًا يقينيًا بأنّ نجاسةً وقعت، وهذه المعلومة معلومةٌ تفصيلًا عند الرجل، ولكنّ ما يجعل هذا العلم إجماليًا هو وجود الشك والإبهام في أيٍّ من الإناءين وقعت فيه تلك النجاسة، وهذه هي الحيثية الثانية من العلم الإجمالي، وهي الشك في أي طرف من الطرفين ينطبقُ عليه العلم بالجامع، وهو وقوع النجاسة هنا.

3 - الشبهة هنا محصورة؛ وهي في قبال الشبهة غير المحصورة.

وهما عنوانان يطلقان غالبا على المشتبهات الواقعة في أطراف العلم الإجمالي، فإذا كانت الأطراف والمحتملات قليلة معدودة يُطلقُ عليها الشبهة المحصورة؛ لانحصار الشبهة أو المشتبهات، وإذا كانت كثيرة بحيث يكون ثبوت التكليف في كل طرف منها موهوماً لا يُعبأ به، يطلق عليها الشبهة غير المحصورة (1)

ص: 125


1- في منهاج الصالحين _ج1 الفصل الرابع: حكم الماء المشتبه) للسيد السيستاني: وضابط غير المحصورة أن تبلغ كثرة الأطراف حدا يوجب كون احتمال النجاسة مثلا في كل طرف موهوما لا يعبأ به العقلاء.

ويختلف الحكم إذا كانت الشبهة محصورة عما إذا كانت غير محصورة؛ فالعلم الإجمالي في الشبهة المحصورة منجزٌ، أي يجب على المكلف أن يعرف تكليفه اتجاهه، وهو هنا ضرورة الاجتناب عن كلا الإناءين طالما كان أحدهما نجسًا، وحيث تعذّر وجود ماءٍ غيرِه، أمر الإمامُ (صلوات الله عليه) بالتيمم بعد أن يهريقهما جميعًا؛ لعدم تمكّن المكلف من الوضوء من أحدهما، لأنه إن فعل لكان مطالبًا بالمرجح الذي بسببه رجّح الوضوء من هذا الإناء دون الثاني، وحيثُ لا مرجح، فيكون عمله ترجيحاً بلا مرجح، وهو باطل، فيتعيّن التيمم.

وأما وجوب اهراقهما جميعًا، فيُعدُّ (إرشاداً إلى مانعية النجاسة عن الوضوء) (1)

والحاصلُ: أنّ الرواية أطلقت النهي عن استعمال ماء الأواني في حال ملاقاته النجاسة، أي إنّ هذا الحكم يشمل الكر وغير الكر.

هذا كله بناءً على أن الرواية مطلقة تشمل ما إذا كان الماء كثيراً، (وربما يشكل: بأن المتفاهم العرفي، هو كون الماء الموجود قليلا، بحيث لا يتمكن من الغسل والوضوء، وذلك لأن الإناء المفروض صغير، وليس ممتلئا من الماء حسب المتعارف، ولقوله: (فيهما ماء) الظاهر في أنه قليل جداً) (2)

* * *

ص: 126


1- مصباح الفقاهة للسيد الخوئي ج1 ص219.
2- الطهارة الكبير للسيد مصطفة الخميني ج2 ص194.

ص: 127

الطرف الثاني: الماء المضاف

قال قُدس سره: (الثاني: في المضاف: وهو كُلُّ ما اعتُصِرَ من جسمٍ أو مُزِجَ به مزجًا يسلبه إطلاقَ الاسم).

في هذا التعريف توجد عدة ملحوظات:

الملحوظة الأولى: التعريف لفظي:

فهو تعريفٌ لبيان معنى المضاف بألفاظٍ هي أوضحُ من كلمةِ المضاف، ولا يُقصد منه التعريف الحقيقي المُشتمل على الجنس القريب والفصل مثلًا ليكون جامعًا مانعًا، وهذه الملحوظة ستنفعنا إنْ شاء الله تعالى فيما سيأتي.

الملحوظة الثانية: (وهو كُلُّ ما اعتُصِرَ):

(ما) اسمٌ موصولٌ، يشمل الماء وغيره، فكُلُّ سائلٍ تم إخراجه بالعصر فهو مُضافٌ، كما لو عُصر الرمان فخرجَ منه سائلٌ، فهومن المُضاف، وكذا لو أمكنَ عصرُ الخشبِ مثلاً فخرج منه سائلٌ معينٌ، فهو من المُضاف أيضًا؛ فكلمةُ (ما) تشملُ مثل هذه السوائل.

ص: 128

وهناك قراءةٌ أخرى لكلمة (ما) بالمد، يعني (ماء)، فيكونُ المقصودُ حينئذٍ من المُضاف هو خصوص الماء المُعتصر من الأجسام، فيخرج عن التعريف مثلُ الدم وإنْ أُخرِجَ عصرًا، فلا يُسمّى (ماءً مُضافًا)، وإنّما هو جنسٌ آخر من السوائل غير الماء.

وبما أنَّ التعريف لفظيٌ، فسواء كانت (ما) اسمًا موصولًا بمعنى الذي، أو ممدودًا (ماء) فلا يضر...

الملحوظة الثالثة: حالتا امتزاج الماء المطلق بغيره:

لو مُزِج الماء المطلق بغيره، فهنا حالتان:

الحالة الأولى: أنْ لا يخرج عن إطلاقه بالمزج، ويبقى على إطلاقه، فيبقى حكمه حينئذٍ حكم الماء المُطلق من حيث الطهارة والتطهير وانفعاله بالنجاسة، كما لو مُزج مقدارٌ قليلٌ من السدر بالماء المطلق مزجًا لم يسلبه وصف الإطلاق، بحيث يصحُّ إطلاق كلمة الماء عليه فقط من دون إضافة.

الحالة الثانية: أنْ يخرج عن الإطلاق، فيُصبح مُضافًا، كالمرق مثلًا؛ فالمرق وإنْ كانت فيه نسبةُ ماءٍ كبيرةٌ، لكنّه خرج عن الإطلاق؛ لمزجه بموادٍ غذائيةٍ، فلا يُطلق عليه حينئذٍ كلمة (ماء) فقط، بل يُطلق عليه أنّه (مرق).الملحوظة الرابعة: الملاك في سلب الإطلاق:

قال المُصنف قُدس سره: (أو مُزِجَ به «بالماء المُطلق» مزجًا يسلبه إطلاقَ الاسم).

ص: 129

وهنا سؤال: ما هو الملاك في سلب إطلاق لفظ الماء عنه من عدمه؟ هل هي مسألةٌ دقّيةٌ، أو إنّها عرفية؟

الظاهر أنّها مسألةٌ عرفيةٌ؛ فننظرُ إلى العرف، فإذا حكم على هذا الماء بأنّه مُطلقٌ فهو مطلقٌ، وإن رأى العرف عدم صحة إطلاق اسم الماء عليه من دون إضافةٍ، إذًا هو ماءٌ مُضافٌ، بغضِّ النظر عن كون نسبة الماء المُطلق الموجود في هذا السائل هي أكبرَ من نسبةِ الشيء الآخر الممتزج به، أو كانتِ النسبتان متساويتين، أو كانت نسبةُ ما مُزِجَ بالماء أكبر من الماء المطلق.

فتلخّص مما تقدّم: أنَّ المقصود من الماء المُضاف هو الماء أو السائل الذي يُخرج من الأجسام بعصرها، أو هو ماءٌ مُطلقٌ مُزِجَ بغيره، بحيث خرج عرفاً عن وصف الإطلاق.

أحكام الماء المُضاف:

قال قُدس سره: (وهو طاهرٌ، لكن لا يُزيلُ حدثًا إجماعًا، ولا خبثًا على الأظهر، ويجوزُ استعمالُه فيما عدا ذلك، ومتى لاقته النجاسةُ نَجُسَ قليلُه وكثيرُه إجماعًا...)ذكر المصنف قُدس سره عدّةَ أحكامٍ، نذكرها تباعًا إن شاء تعالى:

الحكم الأول: أن المضاف طاهرٌ في حدِّ نفسه:

حكم الماء المُضاف الأولي هو أنه طاهرٌ في حدِّ نفسه؛ إذِ الأصلُ في الأشياء - باستثناء الأعيان النجسة كالكلب والخنزير والبول والغائط إلى

ص: 130

آخر الأعيان النجسة - هي الطهارة، ولا يُحكَمُ عليها بالنجاسة إلا إذا عرضت عليها نجاسةٌ معينة.

وفي ذلك روي عن أَبُي عَبْدِ الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ أنه قال: الماءُ كُلُّه طَاهِرٌ حَتَّى يُعْلَمَ أَنَّه قَذِرٌ (1)

وفي موثقة عمار الساباطي عن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ: كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر، فإذا علمت فقد قذر وما لم تعلم فليس عليك (2)

مع التنبيه على أنّ الحكم على الماء المُضاف بالطهارة إنّما يكون فيما لو كان أصلُه طاهرًا، كماء الرمان، أما لو كان أصله مُتنجسًا، فالذي يُعتصرُ منه حتمًا يكون متنجساً، كالماء المُعتصر من رمانٍ مُتنجسٍ فَرَضاً؛ فهو ماءٌ مضافٌ غير طاهر؛ لأن الأصل الذي اعتُصر منه غير طاهرٍ.وكذا الذي يُمزج بالماء المُطلق يشترط فيه الطهارة للحكم على المضاف الناتج عن مزجهما بالطهارة، هذا إذا كان الماء المُطلق قليلًا دون مقدار الكر؛ لما تقدّم أن الماء الكر لا يتنجس بمُلاقاة النجاسة إلا إذا تغيّر أحد أوصافه الثلاثة، وعليه فلو مُزج الماء المُطلق القليل بشيءٍ ما، وكان ذلك الشيء مُتنجسًا، فإنّ الماء المُضاف الناتج عن مزجهما هو الآخر يتنجس.

ص: 131


1- الكافي للكليني (ج3 ص1 كِتَابُ الطَّهَارَةِ، بَابُ طَهُورِ الْمَاءِ ح2).
2- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج1 ص285 ذيل حديث (832 / 119).

هذا فضلًا عمّا إذا كان ما مُزِج بالماء المُطلق القليل عينَ نجاسةٍ، كالدم مثلًا، فإنّه يُنتج ماءً مُضافًا مُتنجسًا بلا شك.

فالحاصل أن الماء المُضاف هو في حدِّ نفسه طاهرٌ، ولا يتنجس إلا إذا عرضت عليه النجاسة.

نعم، طهارتُه مشروطةٌ بأنْ يكون أصلُه الذي اعتُصِر منه أو مُزِج معه طاهرًا، أما إذا كان مُتنجسًا فالمُضاف منه أيضًا يكون مُتنجسًا.

الحكم الثاني: المضاف غيرُ مُطهِّرٍ، فلا يُزيل حدثًا ولا خبثًا:

قال قُدس سره: (لكن لا يُزيلُ حدثًا إجماعًا ولا خبثًا على الأظهر).

وفي هذا الحكم خطوتان:

الخطوة الأولى: الأدلة على أنَّ الماء المضاف لا يُزيل حدثًا:تقدّم معنى الحدث، والحدثُ سواء أكان أصغرَ أم أكبر، فإنَّ الماء المُضاف لا يُزيله، ولا يرفعه، فالمُحدث بالأصغر لا يُمكنه رفع الحدث لأجل استباحة الصلاة بالوضوء بالماء المُضاف؛ لأنّه لا يرفع الحدث بإجماع الفقهاء، فيبقى المكلف على حدثه الأصغر؛ ولذا ذكروا من شرائط صحة الوضوء أن يكون الماء مُطلقًا.

وكذا الكلام في رفع الحدث الأكبر.

ويدل على ذلك عدةُ أدلةٍ، منها:

ص: 132

الدليل الأول: الاستدلال بالآية:

قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضىٰ أَوْ عَلىٰ سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً» (1)

الآية المباركة تذكر أنّ المُحدث، سواء أكان مُحدثًا بالأصغر أم الأكبر، إذا أراد أن يُصلي، فعليه أن يرفع الحدث؛ وذلك بأن يتوضأ أو يغتسل، فإذا لم يجد الماء فعليه أنْ يتيمم بالصعيد (التراب).

ولتقريب وجه الاستدلال بالآية نقول:أولًا: اشترطت الآية جواز الدخول بالصلاة برفع الحدث المذكور: الأصغر أو الأكبر، وحصرت كيفية رفع الحدث بالماء، فإن لم يجد المكلف ماءً وجب عليه التيمم.

ثانيًا: إنَّ الماء عند الإطلاق ينصرف إلى الماء المُطلق (2)، ولا يشمل المُضاف، ولو أراد المتكلّم الماء المضاف -كماء البرتقال مثلًا- فإنّ عليه أن يُبين ذلك ولا يكتفي بلفظ الماء مطلقًا.

ص: 133


1- النساء 43.
2- معنى الانصراف: هو قصر اللفظ المطلق على الفرد الشائع، بسبب غلبة إطلاق اللفظ على خصوص هذا الفرد، أو قل: هو كون الروايات بحيث لو حملت على غير هذا المعنى أو الفرد فإنه يكون خلاف الذوق السليم.

وقد ذكرت الآية لفظ الماء مطلقاً، فينصرف إلى خصوص المطلق، مما يعني أنّها أرادت الوضوء بالماء المطلق فقط، ولو جاز رفع الحدث بالماء المُضاف أيضًا لذكرته، أو لجعلت عدم وجدان الماء المُطلق مسوّغًا للوضوء بالماء المُضاف، ولكنّها جعلت ذلك مسوّغًا للتيمم (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً)، مما يعني أنّ الآية حصرت ما يرفع الحدث بالماء المطلق والتيمم، وأنّ الماء المُضاف لا يكون رافعًا للحدث، وإلا لذكرته.

الدليل الثاني: الاستدلال بالرواية:ما رواه الشيخ الطوسي قُدس سره في كتابيه الاستبصار والتهذيب (1) عن أبي بصير عن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ، قال: سألتُه عن الرجل يكونُ معه اللبن أيتوضأُ منه للصلاة؟ قال عَلَيْهِ السَّلاَمُ: لا، إنّما هو الماءُ والصعيدُ (2)

الرواية واضحةٌ في أنّ الماء المضاف لا يُزيل الحدث؛ لأنه عَلَيْهِ السَّلاَمُ نفى صحة الوضوء باللبن لاستباحة الصلاة، ومعلومٌ أنّ اللبن هو من الماء المضاف.

ص: 134


1- وهما من الكتب الأربعة التي يُستدلُّ بأحاديثها، والكتب الأربعة هي: الكافي للشيخ الكليني، ومن لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق، وكتاب الاستبصار وكتاب التهذيب للشيخ الطوسي (قدّس الله أسرارهم جميعًا).
2- الاستبصار للشيخ الطوسي ج1 ص 14 باب (5) حكم المياه المضافة ح 26 – 1، وج1 ص 155 - باب (92) أن الدقيق لا يجوز التيمم به (ح 534 – 1) وكتاب التهذيب للشيخ الطوسي ج1 ص 188 ح (540/ 14) باب (8) باب التيمم وأحكامه.

ثم بيّنَ أنَ الوضوء إنّما يكون بالماء، فإنْ لم يكن الماء فالصعيد، يعني التيمم بالتراب، في قوله: (لا، إنّما هو الماء والصعيد)، بنفس التقريب السابق في دلالة الآية الكريمة المتقدمة على عدم إجزاء الوضوء بالمضاف، وعدم رفع الماء المضاف للحدث؛ أي إن الرواية حصرت ما يرفع الحدث بالماء والصعيد، ومعلومٌ أنَّ الماء عند الإطلاق ينصرف إلى الماء المطلق، فلو كان الماء المضاف ممّا يصحُّ الوضوء به لذَكَره الإمام (صلوات الله عليه)، ولما ساغ التيمم بمجرد فقدان الماء المطلق، وإنّما لابُدَّ أنيُفقد الماء المطلق والماء المضاف كلاهما حتى يسوغ التيمم، وذلك ليس بصحيح؛ فإنّه إذا فُقِدَ الماء المطلق يصح التيمم حتى لو كان هناك ماءٌ مضاف، مما يدلُّ على أنّ الماء المضاف ليس رافعًا للحدث.

ولذا قال الشيخ الطوسي قُدس سره بعد أنْ نقل هذا الحديث: (فنفى أنْ يكون ما سوى الماء والصعيد يجوز التوضؤ به) (1)، أي إنّ الإمام (صلوات الله عليه) حصر جواز الوضوء بالماء والصعيد، أي نفى أن يكون غيره مما يجوز الوضوء به، قاصدًا ب-(ما سوى الماء والصعيد): الماءَ المضافَ.

كما قال قُدس سره في الاستبصار: (قال الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي رحمه الله: هذا الخبر يدل على أن ما لا يطلق عليه اسم الماء لا يجوز استعماله) أي: في رفع الحدث، أي لا يصح الوضوء والغُسل به، (وهو)

ص: 135


1- تهذيب الأحكام، الشيخ الطوسي، ج1، ص188، ذيل حديث (540/14).

يعني: عدم صحة الوضوء بغير الماء المطلق، أي بالماء المضاف (مطابق لظاهر الكتاب والمتقرر من الأصول). (1)

ولعله قُدس سره في قوله هذا يشير إلى الآية التي تقدّمت في الدليل الأول، وأنّ ظاهر الكتاب يحصر الوضوء بالماء والتيمم بالصعيدالطيب، وهذه الرواية كذلك تحصر رفع الحدث وصحة الوضوء بالماء والصعيد فقط، فهي مُطابقةٌ لظاهر الكتاب في الآية المتقدمة.

الخطوة الثانية: أن حكم عدم رفع الماء المضاف للحدث مبنيٌ على الإجماع:

صحيحٌ أنّ المشهور هو أنّ الماء المضاف لا يرفع الحدث، ولكن نُسِب إلى ابن بابويه رحمة الله جواز رفع الحدث بماء الورد، مستندًا في ذلك إلى ما رواه الكليني قال: عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى، عَنْ يُونُسَ، عَنْ أَبِي الحَسَنِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: قُلْتُ لَه: الرَّجُلُ يَغْتَسِلُ بِمَاءِ الوَرْدِ ويَتَوَضَّأُ بِه لِلصَّلَاةِ؟ قَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ (2)

يظهر أنّ أبا الحسن هنا هو الإمام الكاظم (صلوات الله وسلامه عليه)؛ لأنّ يونس بن عبد الرحمن يروي عن الإمام الكاظم (صلوات الله وسلامه عليه).

ص: 136


1- الاستبصار للشيخ الطوسي ج1 ص14.
2- الكافي للكليني ج3 ص 73 بَابُ النَّوَادِرِ ح12.

ويكمن احتجاج ابن بابويه بهذه الرواية -كما نُسِبَ إليه- بقول الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ: (لا بأس بذلك)، إذ نفى البأس عن الوضوء بماء الورد؛ ولذلك ذهب إلى جواز رفع الحدث بماء الورد.

وقد نوقش هذا الرأي بعدّة نقاشات، أهمها:أولًا: مخالفة هذا الرأي للإجماع؛ وما خالف الإجماع لا يؤخذ به.

وهذا الدليل مبنائي.

ثانيًا: أن الرواية ضعيفة.

بيان السند (1):

ونذكر هنا جهتين:

الجهة الأولى: بيان حال رجال السند:

1 - علي بن محمد:

أكثر الكليني الرواية عنه، فيدخل تحت كبرى رواية الأجلاء. أي إنه ممن روى عنه الأجلاء أمثال الشيخ الكليني، فعلى من يقبل بأن هذه الظاهرة تكفي في التوثيق، يكون علي بن محمد ثقة.

2 - سهل بن زياد:

صحب ثلاثة من الأئمة، وهم الجواد والهادي والعسكري عَلَيْهِم السَّلاَمُ، وذكر في حياته أنه روى عن أبي محمد عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وأبي الحسن عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وأبي هاشم، وابن أبي نجران، والحسن بن محبوب، وروى عنه علي بن محمد.

ص: 137


1- اعتمدت في بيان السند على الموسوعة الرجالية الميسرة (معجم رجال الوسائل) تأليف علي أكبر الترابي ويحيى الرهائي، تحت إشراف الشيخ جعفر سبحاني/ بتصرف قليل.

وقد اختلف في وثاقته على قولين:القول الأول: إنه ثقة، فقد وثقه الشيخ الطوسي، وهكذا الوحيد وثّقه لكثرة رواياته، حيث بلغت (2304) مورداً في الكتب الأربعة، ولرواية الأجلاء عنه، ولكونه من شيوخ الإجازة.

وقال العلامة في الوجيزة: (وعندي لا يضر ضعفه لكونه من مشايخ الإجازة)

واستدل بعض بكثرة رواية الكليني عنه.

القول الثاني: إنه ضعيف، قال النجاشي: كان ضعيفاً في الحديث غير معتمد عليه فيه، وكان أحمد بن محمد بن عيسى يشهد عليه بالغلو، والكذب، وأخرجه من قم إلى الريّ، وكان يسكنها.

وقال في الفهرست: ضعيف، له كتاب.

وقال في الاستبصار: هو ضعيف جداً عند نقاد الأخبار.

وقال ابن الغضائري: كان ضعيفاً جداً فاسد الرواية والمذهب.

وعلى كل حال، فقد ذكر البعض توجيهاً لما ذكر من كلام في تضعيفه، وقد قيل: إن الأمر في سهلٍ سهلٌ.

3 - محمد بن عيسى:

هو محمد بن عيسى بن عبيد بن يقطين، بقرينة الراوي والمروي عنه، قال النجاشي: جليل في أصحابنا، ثقة عين، كثير الرواية حسن التصانيف.

ص: 138

4 - يونس بن عبد الرحمن:

قال النجاشي: مولى علي بن يقطين، أبو محمد، كان وجهاً في أصحابنا، متقدماً، عظيم المنزلة، لم يروِ عن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وروى عن أبي الحسن والرضا عَلَيْهِما السَّلاَمُ، وكان الرضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ يشير إليه في العلم والفتيا، وقد ورد في حقه مدح وذم، ومدائحه كثيرة، وكانت له تصانيف كثيرة)

وقرنه الإمام الرضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ بسلمان في زمانه.

وقال الطوسي: (له كتب كثيرة)

وقال أبو جعفر بن بابويه: (سمعت ابن الوليد يقول: كتب يونس التي هي بالروايات كلها صحيحة يعتمد عليها، إلا ما ينفرد به محمد بن عيسى بن عبيد عنه، ولم يروه غيرهم، فإنه لا يعتمد عليه ولا يفتى به)

وقال الطوسي في رجال الكاظم والرضا عَلَيْهِما السَّلاَمُ: (ضعفه القميون، وهو عندي ثقة)

وذكر الكشي في حقه روايات مادحة وذامة، والذامة ضعيفة السند والمضمون، وعدّه من أصحاب الإجماع.

وقد بُذل له مال كثير على الوقف، وامتنع عن أخذه وثبت على الحق.وبهذا نصل إلى أن الرواية إما أنها ضعيفة السند، أو يقبل بها وممكن تصحيحها، ففيها احتمالان، حسب اختلاف بعض المباني، ومعه، فلا بد من البحث عن مخرج آخر.

ص: 139

الجهة الثانية: تخريجات الشيخ الطوسي قُدس سره:

ذكر الشيخ الطوسي في هذا الحديث عدة تخريجات:

أ: إنه لا يمكن قبول مضمون الحديث؛ لأنه خبر شاذ شديد الشذوذ، وقال: لابد أن تحمل على محامل أخرى، وحتى وإن كانت صحيحة السند.

ب: يُحتمل أن يكون المقصود من الوضوء بماء الورد هو التحسين به لأجل الصلاة، أي إن المقصود من الوضوء هو اللغوي لا الاصطلاحي الشرعي.

وقد يكون المقصود هو بيان جواز استعمال ماء الورد وأنه لا يُعدّ من الإسراف.

ج: أن يكون المقصود من ماء الورد هو ما لم يخرج عن الإطلاق إلى الإضافة، أي إنه ماء وقع فيه ورد ولم يخرج عن حد الإطلاق.

قال ما نصه (1): فهذا الخبر شاذٌّ شديد الشذوذ، وإن تكرر في الكتب والأصول، فإنما أصله يونس عن أبي الحسن عَلَيْهِ السَّلاَمُ ولم يروهغيره، وقد أجمعت العصابة على ترك العمل بظاهره، وما يكون هذا حكمه لا يعمل به، ولو سُلّم لاحتمل أن يكون أراد به الوضوء الذي هو التحسين، وقد بيّنّا فيما تقدم أن ذلك يسمى وضوءً، وليس لاحد أن يقول: إن في الخبر أنه سأله عن ماء الورد يتوضأ به للصلاة، لأن ذلك لا ينافي ما قلناه، لأنه يجوز أن يستعمل للتحسين، ومع هذا يقصد الدخول به في الصلاة من حيث إنه

ص: 140


1- تهذيب الأحكام ج1 ص 219، وقريب منه في الاستبصار ج1 ص 14 و15.

متى استعمل الرائحة الطيبة لدخوله في الصلاة ولمناجاة ربه كان أفضل من أن يقصد التلذذ به حسب، دون وجه الله تعالى، وفي هذا إسقاط ما ظنه السائل، ويحتمل أيضاً أن يكون أراد عَلَيْهِ السَّلاَمُ بقوله:

(ماء الورد) الماء الذي وقع فيه الورد، لأن ذلك قد يسمى ماءَ وردٍ، وإن لم يكن معتصراً منه، لأن كل شيء جاور غيره فإنه يكسبه اسم الإضافة إليه، وإن كان المراد به المجاورة، ألا ترى أنهم يقولون: ماء الحِب وماء المصنع وماء القرب، وإن كانت هذه الإضافات إنما هي إضافات المجاورة دون غيرها، وفي هذا إسقاط ما ظنوه.

بيان وتوضيح الاحتمالات في الرواية:

قد تقدّم أنّ الفقهاء أعرضوا عن الأخذ بالحكم الوارد في هذه الرواية، وهو حكم جواز رفع الحدث بالماء المضاف؛ لما يكتنفها من علّاتٍ تحول دون ذلك، فهي مخالفةٌ للإجماع من جهة، وضعيفةُالسند من جهةٍ أخرى، وهو خبر شاذ شديد الشذوذ حسب تعبير الشيخ الطوسي قُدس سره من جهةٍ ثالثة؛ لذا حاولوا فهمها بإيراد احتمالاتٍ متصورة لإخراجها عن دلالتها على الحكم المتقدم في حال صحة سندها، وهذه الاحتمالات هي:

الاحتمال الأول:

ليس المقصود بالوضوء في الرواية الوضوء بالمعنى الاصطلاحي، والذي هو الغسلتان والمسحتان، والذي يترتب عليه استباحة الصلاة والإتيان بكل ما تُشترط فيه الطهارة من الحدث، وإنّما المقصود به هو المعنى

ص: 141

اللغوي للوضوء، أي النظافة والتحسين، فكأنَّ السائلَ يسأل عن جواز الاغتسال بماء الورد لأجل النظافة، فأجاب الإمام بأنه لا بأس بذلك.

الاحتمال الثاني:

قد تكون الغاية من هذا الوضوء هو التعطر لأجل الدخول في الصلاة - وهو أفضل من قصد الغسل به من دون قصد الدخول إلى الصلاة-، فبهذا الاعتبار كان جواب الإمام (صلوات الله عليه) بلا بأس بذلك.

وفرقه عن الأول: أنه في الأول كان الغرض من الغسل بماء الورد لا لأجل الدخول إلى الصلاة، وإنما لمجرد الغسل والتنظيف، وأما الثاني فالغرض منه الدخول للصلاة برائحة عطرة طيبة.الاحتمال الثالث:

ربما كانت الغاية من سؤال السائل هو الاستفهام من الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ عمّا إذا كان الوضوء بماء الورد والتنظف به يُشكِّل إسرافًا محرّما أو لا، فأجابه عَلَيْهِ السَّلاَمُ بأنه لا بأس بذلك، فهي في مقام رفع الحظر ونفي الحرمة عن استعمال ماء الورد، وبيان أن استعماله ليس فيه إسراف محرم.

الاحتمال الرابع:

أن يكون المقصود بماء الورد ما لم يخرج عن الإطلاق إلى الإضافة، أي ما كان فيه وردٌ لم يُخرجه عن الإطلاق؛ إذ إن مزج الماء بالورد تارةً يكون بحيث يُصبح الماء مُضافًا، وتارةً لا يخرج به عن إطلاقه كما لو كان الورد قليلًا جدًا بالنسبةِ إلى الماء، والرواية تقصد الثاني.

ص: 142

ولم تنفرد هذه الرواية بهذا الاستخدام للماء، فماء السدر وماء الكافور اللذان يتم تغسيل الميت بهما هما الآخران ماء مطلق واقعًا، وإن أُضيف لهما السدر والكافور، لكن بحيث لم يخرجا عن إطلاقهما، ومع ذلك يُطلق عليهما ماء السدر والكافور.

ووفقًا لهذا الاحتمال يكون سؤال السائل هو عن الماء المطلق الذي فيه قليلٌ من الورد أو ربما رائحته فقط، فأجاز له الإمامُ (صلوات الله عليه) الوضوء به بقوله: لا بأس بذلك؛ لأنه ماءٌ مطلق، والماءُ المطلق رافعٌ للحدث بلا شك.وربما هذا هو أهم الاحتمالات

وحينئذٍ تكون هذه الرواية متوافقةً مع المشهور الذي ذهب إلى أنّ الحدث لا يُرفع إلا بالماء المطلق.

وعلى أيةِ حالٍ، فإنّ الفتوى مُستقرةٌ على عدم كون الماء المضاف رافعًا للحدث، أصغرَ كان ذلك الحدثُ أم أكبر.

الحكم الثالث: الماء المضاف لا يُزيل الخبث على الأظهر:

قال المُحقِّق قُدس سره: (ولا خبثًا على الأظهر).

وفيه خطوتان:

الخطوة الأولى: لماذا لا تتحقق إزالة الخبث إلا بالماء المطلق؟

من المعلوم أنّ: النجاسة قسمان: معنوية ومادية، يُعبّر عن الأولى بالحدث، وعن الثانية بالخبث، وقد تقدّم الحديث عن الفرق بينهما.

ص: 143

وأن إزالة كلا القسمين من النجاسة (الحدث والخبث) لا تتحقق الا بالماء المطلق، وأما الماء المضاف فلا يُزيل أيًا منهما.

أما لماذا لا تتحقق إزالة الخبث إلا بالماء المطلق؟

فذلك لأجل:أن الروايات صرّحت بأنّ إزالة الخبث تكون بالماء، وينصرفُ الذهن عند ذكر الماء مطلقاً (أي من دون إضافة) إلى خصوص الماء المطلق دون المضاف.

أو قل: الماء حقيقةً هو الماء المطلق، وأما الماء المضاف فلا يدل على حقيقته إلا اللفظ المقيد بقيدٍ إضافيٍ يُبين أنّ المقصود من هذا السائل المُعين ليس الماء المطلق، وإنما الماء المضاف، فماء الرمان مثلًا لا يمكن أن يدل عليه لفظ الماء فقط، بل لابُدّ من قيدٍ إضافي وهو (الرمان).

وعليه لو كانت إزالةُ الخبث تجوزُ بالماء المضاف، لبيّنت ذلك الروايات ولصرّحت به، لا سيما أنّها في مقام تشريع الأحكام وبيانها، وأن المورد من الموارد الابتلائية والعامة، وحيث إنّها لم تذكر إلا الماء المطلق؛ -لذكرها الماء بلا قيدٍ-، إذًا لا يجوز استخدام الماء المضاف في إزالة الخبث، ولو أُزيل الخبث به فإنّه لا يتطهر.

والروايات التي صرّحت بأنّ إزالة الخبث تكون بالماء عديدة، نذكر منها روايتين:

ص: 144

1 - ما روي عَنِ الحُسَيْنِ بْنِ أَبِي العَلَاءِ قَالَ: سَالتُ أَبَا عَبْدِ الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَنِ البَوْلِ يُصِيبُ الجَسَدَ؟ قَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: صُبَّ عَلَيْه المَاءَ مَرَّتَيْنِ (1)فقد كان السؤال عن كيفية تطهير الجسد بعد تنجسه بالبول، والإمام أمر بصب الماء عليه، وحيث لم يقيد الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ الماء بأي قيدٍ، فهذا يعني أنّه أراد به الماء المطلق.

2 - ما رواه الحسين بن سعيد، عن القاسم بن محمد، عن أبان بن عثمان، عن بريد بن معاوية، عن أبي جعفر عَلَيْهِ السَّلاَمُ أنه قال: يجزي من الغايط المسح بالأحجار، ولا يجزي من البول إلا الماء (2)

والرواية في مقام بيان ما يصح الاستنجاء به، فذكرت أنّ الأحجار تُجزي في التطهر من الغائط، وأما البول فلا يُجزي في التطهر منه إلا الماء، وإطلاق الماء دليلٌ على إرادة الماء المطلق في التطهر من الخبث، دون الماء المضاف كما بيّنا.

ولو كانت إزالة الخبث بالماء المضاف جائزة، لبيّنَ الإمامُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ذلك مثلما بيّن أنّ الأحجار مُجزيةٌ في التطهر من الغائط، ولكنه لم يذكر ذلك، فإذًا الخبثُ لا يُزال إلا بالماء المطلق.

ص: 145


1- الكافي للكليني ج3 ص 20 بَابُ الِاسْتِبْرَاءِ مِنَ الْبَوْلِ وغَسْلِه ومَنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ- ح7.
2- الاستبصار للشيخ الطوسي ج1 ص 57 ح166 - 21، وتهذيب الأحكام ج1 ص 50 و51 ح (147) 86.

الخطوة الثانية: عدم إزالة الخبث بالماء المضاف هو أظهر القولين:

أشار المُحقق قُدس سره بقوله: (ولا خبثًا على الأظهر) إلى أنّ الصحيح في هذه المسألة هو ما تقدّم في الخطوة الأولى من أنّ الخبث لا يُرفع بالماء المضاف، لا ما نُسِب إلى السيد المرتضى رحمة الله والشيخ المفيد رحمة الله من أنّهما ذهبا إلى جواز رفعِ الخبث بمطلق الماء، أي سواء كان الماء مطلقًا أم مضافًا، فكلُ ما صدق عليه الماء ولو مضافاً، تجوز إزالة الخبث به، فالمصنف قُدس سره بقوله: (على الأظهر) أشار إلى عدم صحةِ ما ذهبَ إليه كلٌّ من السيد والشيخ قدس سرهما.

وتتميمًا للفائدة نذكر دليلاً واحداً مما استدلَّ به السيد المرتضى قُدس سره -كما نُقِل عنه- على مُدّعاه من جوازِ إزالة الخبث والتطهر منه بالماء المضاف، وهو الاستدلال بقوله تعالى: «وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ».

تقريب الاستدلال:

أمرت الآية الكريمة بتطهير الثياب، ولم تحصر تطهيرها أو تُقيده بخصوص الماء المطلق، إذًا هي تشملُ تطهيرها بالماء المضاف، وبالتالي فالآية تدلُّ على جواز إزالة الخبث به.

وقد ردَّ الفقهاء استدلال السيد المرتضى قُدس سره بعدّة وجوه:

الوجه الأول:

صحيحٌ أنَّ الآية أمرت بتطهير الثياب بشكلٍ مطلق، ولم تقيّده بخصوص الماء المطلق، ولكن هذا لا يدل على جواز تطهيرها بالماء المضاف؛

ص: 146

وذلك لأنَّ الآية في معرض الحديث عن خصوصالطهارة الشرعية، والطهارة الشرعية لا تتحقق شرعًا إلا بالماء المطلق، وأما تطهير الثياب من النجاسات بغير الماء المطلق فلا يصدق عليه كونه طهارةً شرعية، وعليه، فلا يصحُّ الاستدلال بها على جواز إزالة الخبث بالماء المضاف.

وبعبارة أخرى: أن الآية في مقام بيان الطهارة الشرعية، فلا يؤخذ بإطلاقها.

الوجه الثاني:

لو تنزّلنا وسلّمنا بأنّ الآية تدلُّ على جواز التطهير بالماء المطلق والماء المضاف؛ لإطلاق الآية كما تمسّك به السيد قُدس سره، ولكن يمكن القول: إن هناك رواياتٍ قيّدت التطهير من الخبث بالماء المطلق، فتلك الروايات تقيد إطلاق الآية.

الوجه الثالث:

إنّ الآية مُجملةٌ، أي إنّها بصدد بيان حكم لزوم تطهير الثياب ليس إلا، أما ما الذي يطهر الثياب ويزيل عنها الخبث؟ فلم تبين ذلك، فلا يصحُّ الاستدلال بها على جواز إزالة الخبث بالماء المضاف، ولا بالماء المطلق، وإنما هي فقط تدل على لزوم التطهير.

وعندئذٍ، فلمعرفة كيفية التطهير وما يُزال به الخبث، لا بُدّ من الرجوع إلى الأدلة الشرعية الأخرى التي تبين كيفية التطهير، فإذا رجعنا إلى تلك الأدلة نجدها تبين أنّ إزالة الخبث لا يتحقق إلا بالماء المطلق، كما تقدم في الخطوة الأولى.

ص: 147

الوجه الرابع:

فضلاً عمّا تقدم، فقد ورد في بعض الروايات أنَّ هذه الآية تدلُّ على أنّ المقصود منها هو أمر النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ بالحفاظ على ثيابه من أنْ تتقذّر، مما يعني أنّها ليست بصدد بيان تطهير الثياب المُتنجسة، بل في صدد بيان الحفاظ على الثياب كيلا تُصيبَها قذارةٌ أو نجاسة، وعليه، فلا يصحُّ الاستدلال بها على جواز التطهير بالماء المضاف.

ولذا روي في تفسيرها عن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ أنّه قال: «وثِيَابَكَ ارْفَعْهَا ولَا تَجُرَّهَا، وإِذَا قَامَ قَائِمُنَا كَانَ هَذَا اللِّبَاسَ» (1)

فالآية في مقام الدعوة إلى التوقي من النجاسة، لا في مقام العلاج منها لو حصلت، وبيان ما يُطهرها فضلًا عن كيفيته.

وروي عن أبي الحسن الكاظم (صلوات الله وسلامه عليه) أنّه قال: إِنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ: (وثِيابَكَ فَطَهِّرْ)، وكَانَتْ ثِيَابُه طَاهِرَةً، وإِنَّمَا أَمَرَه بِالتَّشْمِيرِ (2)

ص: 148


1- في الكافي للكليني ج6 ص 455 و456 وبَابُ تَشْمِيرِ الثِّيَابِ ح2: عَنْ مُعَلَّى بْنِ خُنَيْسٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ إِنَّ عَلِيّاً عَلَيْهِ السَّلاَمُ كَانَ عِنْدَكُمْ فَأَتَى بَنِي دِيوَانٍ واشْتَرَى ثَلَاثَةَ أَثْوَابٍ بِدِينَارٍ الْقَمِيصَ إِلَى فَوْقِ الْكَعْبِ، والإِزَارَ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ والرِّدَاءَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْه إِلَى ثَدْيَيْه ومِنْ خَلْفِه إِلَى أَلْيَتَيْه، ثُمَّ رَفَعَ يَدَه إِلَى السَّمَاءِ، فَلَمْ يَزَلْ يَحْمَدُ اللَّه عَلَى مَا كَسَاه حَتَّى دَخَلَ مَنْزِلَه، ثُمَّ قَالَ: هَذَا اللِّبَاسُ الَّذِي يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَلْبَسُوه. قَالَ أَبُو عَبْدِ الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ: ولَكِنْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَلْبَسُوا هَذَا الْيَوْمَ، ولَوْ فَعَلْنَاه لَقَالُوا: مَجْنُونٌ، ولَقَالُوا: مُرَاءٍ واللهُ تَعَالَى يَقُولُ: (وثِيابَكَ فَطَهِّرْ) قَالَ: وثِيَابَكَ ارْفَعْهَا ولَا تَجُرَّهَا، وإِذَا قَامَ قَائِمُنَا كَانَ هَذَا اللِّبَاسَ.
2- الكافي للكليني ج6 ص 456 بَابُ تَشْمِيرِ الثِّيَابِ ح2.

وتشمير الثياب هو الحفاظ عليها من أنْ تُلامس الأرض لئلا تتنجس بما عليها من نجاسات.

استطراد:

ليس المقصود بتشمير الثياب تقصيرها كما يفعل الوهابيون، وإنّما المقصود:

أولًا: رفعها، أي عدم تركها تجرُّ على الأرض فتأخذ من قذارتها أو تتنجس بنجاستها.

ثانيًا: عدم إطالة الثياب إلى الحد الذي يصل بصاحبه إلى الخيلاء والتكبر، وهناك رواياتٌ عديدةٌ تشير إلى هذا المعنى، منها ما روي عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ أَوْصَى رَجُلاً مِنْ بَنِي تَمِيمٍ فَقَالَ لَه: إِيَّاكَ وإِسْبَالَ الإِزَارِ والقَمِيصِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنَ الم-َخِيلَةِ، واللهُ لَا يُحِبُّ الم-َخِيلَةَ (1)

وعَنْ أَبِي حَمْزَةَ رَفَعَه قَالَ: نَظَرَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ إِلَى فَتًى مُرْخٍ إِزَارَه، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: يَا بُنَيَّ، ارْفَعْ إِزَارَكَ، فَإِنَّه أَبْقَى لِثَوْبِكَ وأَنْقَى لِقَلْبِكَ (2)وفي روايةٍ أخرى -يُستفادُ منها أنَّ النهي وارد فيما لو استلزمت إطالة الثوب التشبه بالنساء- عَنْ سَمَاعَةَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: فِي الرَّجُلِ يَجُرُّ ثَوْبَه قَالَ: إِنِّي لأَكْرَه أَنْ يَتَشَبَّه بِالنِّسَاءِ (3)

ص: 149


1- الكافي للكليني ج6 ص 456 بَابُ تَشْمِيرِ الثِّيَابِ ح5، وفي الهامش: الاسبال: الارخاء، والمخيلة: الكبر.
2- الكافي للكليني ج6 ص 457 بَابُ تَشْمِيرِ الثِّيَابِ ح6.
3- الكافي للكليني ج6 ص 458 بَابُ تَشْمِيرِ الثِّيَابِ ح12.

ويُستفاد من هذه الرواية أنّ الأفضلَ للنساء إطالة الثوب؛ رعايةً للستر، فإنَّ ستر المرأة أهم من الحفاظ عليه من أنْ يتهرّأ، أو أن تصيبه بعض القاذورات، أما الرجل فهو مأمور بأن يجنب ثيابه أن تتقذر من الأرض، كما يُكره له أن يتشبه بالنساء، فلا يطيل ثيابه مثلهن.

تنبيهان:

التنبيه الأول: عدمُ جواز التطهُّر بالماء المضاف حكمٌ وضعي:

تقدّم عدم جواز إزالة الخبث بالماء المضاف، فهل يعني ذلك ترتب الحرمة على من يقوم بإزالة الخبث بالماء المضاف؟

الجواب:

ينقسم الحكم الشرعي إلى قسمين: حكم شرعي تكليفي، وحكم شرعي وضعي، ويختلفان فيما بينهما بعدّة أمورٍ، نذكر منها ما يمتُّ إلى موضوعنا بصلة، وهو: ترتب الحرمة على مخالفة الحكمالتكليفي، وترتب البطلان أو عدم الصحة على مخالفة الحكم الوضعي، دون الحرمة.

وعليه، فلا يترتب على إزالة الخبث بالماء المضاف أية حُرمةٍ شرعية، غاية ما في الأمر أنه يترتب على عدم الامتثال له البطلان وعدم الصحة، لأنّ عدم الجواز هنا وضعي لا تكليفي.

وعليه، فإنَّ القول: (لا يجوز إزالة الخبث بالماء المضاف) هو بمعنى لا يصح، ومن ثَمّ فتبقى الثياب نجسةً، حتى وإنْ زالت عين النجاسة.

ص: 150

وكذا المقصود بعدم جواز رفع الحدث بالماء المضاف، فإنّه لا يترتب على مخالفته أية حرمةٍ أو إثمٍ، وإنّما يكون الوضوء أو الغُسل به باطلًا، ويبقى الشخص مُحدثًا.

نعم، لو قصد المكلف التشريع بإزالة الخبث أو الحدث بالماء المضاف، فهذا يحرم بلا شك، ولكن من جهة التشريع المُحرّم، لا من جهة نفس مخالفة الحكم الوضعي.

التنبيه الثاني: شمول الحكم لحالتي الاختيار والاضطرار:

تقدّم عدم جواز رفع الحدث وإزالة الخبث بالماء المضاف، ولكن هل يقتصر هذا الحكم على حال الاختيار، أم يشمل الاضطرار أيضًا؟الجواب: إن عدم جواز رفع الحدث وإزالة الخبث بالماء المضاف حكمٌ يشمل حالتي الاختيار والاضطرار، فلا فرق من هذه الناحية.

الحكم الرابع: يجوز استعمال الماء المضاف فيما عدا إزالة الحدث والخبث كالأكل والشرب والطلاء وغيرها، وهو حكم واضح بعد أنْ كان الحكم الأولي للماء المضاف هي الطهارة.

حكم الماء المضاف من حيث انفعاله بالنجاسة:

قال قُدس سره: (ومتى لاقتْه النجاسةُ نَجُسَ، قليلُه وكثيرُه، ولم يَجُز استعمالُه في أكلٍ ولا شُربٍ).

تقدّم حكم الماء المطلق من حيث انفعاله بالنجاسة؛ فكثيرُه لا ينجس إلا بتغيُّر أحد أوصافه الثلاثة، وأما قليله فينجس بمجرد مُلاقاة النجاسة.

ص: 151

وأما الماء المضاف فحكمه كحكم الماء القليل، أي إنه ينجس بمجرد مُلاقاة النجاسة.

وقد اُدّعي الإجماع على هذا الحكم.

ولكن هل هذا الإجماع حجة؟

أقسام الإجماع :

ينقسم الإجماع إلى قسمين:

1 - الإجماع المدركي:

وهو الإجماع الذي يكون لأجل مدركٍ معروف، أو على الأقل يوجد له مدرك محتمل، والمدرك هو الدليل الشرعي، أي النص من الكتاب الكريم أو السنة المطهرة. ومثل هذا الإجماع لا حُجية له؛ وذلك لأنّ الحُجية حينئذٍ تكون للمدرك (الدليل الشرعي) لا له؛ ولذلك قالوا: إنّ الإجماع حتى يكون حجةً في حّد نفسه، يلزم ألّا يكون مدركيًا أو مُحتملَ المدركية.

2- الإجماع غير المدركي:

وهو الإجماع الذي يكون لا لأجل مدركٍ، أي إن الفقهاء يُجمعون على حكمٍ مع عدم وجود آية أو رواية تدل على المضمون الذي يدل عليه الإجماع، فيكون حينئذٍ حجة.

والإجماعُ هُنا مدركيٌ، أو على الأقل هو مُحتمَل المدركية؛ لوجود بعض الروايات التي دلت على هذا المضمون، نذكر منها روايتين:

ص: 152

الرواية الأولى: روى الكليني قال: عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيه، عَنِ النَّوْفَلِيِّ، عَنِ السَّكُونِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: إِنَّ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ سُئِلَ عَنْ قِدْرٍ طُبِخَتْ فَإِذَا فِي القِدْرِ فَأْرَةٌ؟ قَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: يُهَرَاقُ مَرَقُهَا ويُغْسَلُ اللَّحْمُ ويُؤْكَلُ (1)فهذه الرواية دلّت على أنّ الماء المضاف -وهو (المرق) في هذه الرواية- لا يجوز أكله، بل ويلزم إهراقه وإراقته؛ ولا وجه لعدم الجواز إلا من جهة وجود الميتةِ النجسة فيه (الفأرة)، مما يعني أنّه تنجس بمجرد ملاقاتها، ولا علاج لتطهيره أبدًا؛ لذا أمرت الرواية بإهراقه، وأما اللحم فإنّه وإن تنجّس هو الآخر؛ -لمُلاقاته النجاسة (الفأرة) والمتنجس (المرق)-، إلا أنَّ تطهيره ممكنٌ، وذلك بغسله؛ لذا جاز أكله بعد تطهيره.

فالرواية تدلُّ على أنَّ الماء المضاف يتنجس بمجرد ملاقاة النجاسة، لا سيما أنّها مطلقةٌ من ناحيتين:

الناحية الأولى: شمولها لما إذا كان المرق قليلًا أو كثيرًا؛ وذلك لأنَّ الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ لم يُفصِّل أو يفرّق في الحكم بين ما إذا كان المرق كثيرًا أو قليلًا، وإنّما أطلق، وهذا معناه: أنّ المرق لو كان قليلًا -أي أقل من كر- فإنّه يتنجس، وكذا إذا كان كثيرًا.

الناحية الثانية: وهي المهمة: أنّ الرواية مطلقةٌ من حيث تغيُّر المرقِ بطعمِ أو لونِ أو رائحةِ الميتة النجسة، أو عدم تغيُّره، بمعنى أنّ الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ

ص: 153


1- الكافي للكليني ج6 ص 261 بَابُ الْفَأْرَةِ تَمُوتُ فِي الطَّعَامِ والشَّرَابِ ح3.

حكم بنجاسة الماء المضاف بغض النظر عمّا إذا كان قد تغير أحد أوصافه الثلاثة أو لم يتغير؛ مما تترتب عليه حرمة أكله؛ لذا حكم فورًا بإهراقه.والخلاصة: أن الرواية المتقدمة قد أثبتت أنّ الماء المضاف ينجس بمجرد ملاقاة النجاسة، سواء أكان قليلًا أم كثيرًا، وسواء أتغيّر أحد أوصافه الثلاثة -فضلًا عن جميعها- أم لم يتغيّر.

الرواية الثانية: قال الشيخ الكليني في الكافي: مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الحَكَمِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: قُلْتُ لَه: جُرَذٌ مَاتَ فِي سَمْنٍ أَوْ زَيْتٍ أَوْ عَسَلٍ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: أَمَّا السَّمْنُ والعَسَلُ فَيُؤْخَذُ الجُرَذُ ومَا حَوْلَه، والزَّيْتُ يُسْتَصْبَحُ بِه (1)

تدلُّ هذه الرواية على أنَّ السائل المضاف ينقسم إلى قسمين: خفيف، وثقيل، ولكُلٍّ منهما حكمٌ مختلفٌ من حيث التنجس بوقوع النجاسة فيه؛ لاختلاف طبيعته.

فإذا كان ثقيلًا، أي متماسكًا، كالسمن والعسل والدبس إذا كان ثقيلًا، فإن طبيعة هذا القسم من السائل المضاف تقتضي أن لا تنتقل النجاسة إلى جميع أجزائه، ويقتصر المتنجس منه على موضع الملاقاة فقط، كما في الرواية (ما حول الجرذ فقط)؛ لذا حكمتْ بأنه يؤخذ -أي يُرفع- الجرذ وما حوله من السمن أو العسل.

ص: 154


1- الكافي للكليني ج6 ص 261 بَابُ الْفَأْرَةِ تَمُوتُ فِي الطَّعَامِ والشَّرَابِ ح2.

أما إذا لم كان الماء السائل خفيفاً، بأنْ كان غير متماسكٍ، مثل الزيت وماء الورد وعصير الرمان، فهذا ينجسُ كُلُّه بمجرد ملاقاة النجاسة، ولا يجوز استعماله في الأكل.

نعم، الرواية دلّت على جواز استعماله -السائل المتنجس- فيما لا تُشترط فيه الطهارة من سائر الاستعمالات الأخرى؛ ولذا قال الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ: (والزَّيْتُ يُسْتَصْبَحُ بِه)، أي يستعمل في الإضاءة.

وأمر الإمام (صلوات الله وسلامه عليه) باستعمال الزيت في الاستصباح في الإضاءة يدلُّنا على ثلاثة أحكام:

1 - إنّ الماء المضاف إذا كان سائلًا غير متماسك كالزيت، فإنّه يتنجس كلُّه بمجرد مُلاقاة النجاسة.

2 - لا يجوز استعماله فيما تُشترط فيه الطهارة كالأكل.

3 - يجوز استعماله فيما لا تُشترط فيه الطهارة كالاستصباح في الرواية.

وعلى نفس منوال هذه الرواية روى الكليني فقال: عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيه، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أُذَيْنَةَ، عَنْ زُرَارَةَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: إِذَا وَقَعَتِ الفَأْرَةُ فِي السَّمْنِ فَمَاتَتْفِيه، فَإِنْ كَانَ جَامِداً فَالقِهَا ومَا يَلِيهَا، وكُلْ مَا بَقِيَ، وإِنْ كَانَ ذَائِباً فَلَا تَأْكُلْه، واسْتَصْبِحْ بِه والزَّيْتُ مِثْلُ ذَلِكَ (1)

ص: 155


1- الكافي للكليني ج6 ص 261 بَابُ الْفَأْرَةِ تَمُوتُ فِي الطَّعَامِ والشَّرَابِ ح1.

فهذه الرواية كسابقتها فصّلت بين المتماسك (الثقيل) والذائب (الخفيف) من السمن، ثم أفردت لكل قسمٍ منهما حكمًا خاصًا به، فأما المتماسك فتُلقى الفأرة وما يليها من السمن، ويؤكل الباقي لعدم تنجسه بها، وأما الذائب فإن جميعه ينجس، ولا يجوز استعماله فيما تُشترط فيه الطهارة كالأكل، ويجوز استعماله فيما لا تشترط فيه الطهارة كالاستصباح به.

ومن الجدير بالإشارة: أنَّ الإمام رتّب كلّ ما تقدّم من أحكام على موضوع وقوع الفأرة في السمن بقيد موتها فيه، مما يعني أنّ النجاسة متأتية من كونها ميتة، وإلا فإنّ الفأرة لو لم تمت، فإن السمن لا يتنجس، وكذا أي مضافٍ آخر، فلو وقعت فأرةٌ في المرق مثلًا، وأُخرجت وهي حيةٌ، فلا يتنجس المرق؛ لأنّ الفأرة ليست نجسة العين.

إشكالٌ:

قد يقال: إنّ غاية ما دلّت عليه الروايات الثلاثة هو: عدم جواز أكل السمن أو العسل أو الزيت، ولم تصرِّح أيٌّ منها بتنجس هذهالأطعمة، وبالنتيجة: لا ملازمة بين عدم جواز الأكل وبين التنجس، إذ لربما كان عدم جواز أكلها لعلةٍ أُخرى غير التنجس، وبذا لا يصح الاستدلال بتلك الروايات على التنجس؟

والجواب:

إنَّ نفس الرواية الأولى أمرت بغسل اللحم ثم أكله، مما يعني أنّ علة عدم جواز الأكل هي التنجس، وحيث يمكن تطهير اللحم بالغسل جاز

ص: 156

أكله، وأما المرق فحيث لا يمكن تطهيره مادام مرقًا فلم يجُز أكله؛ ولذا أمر الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ بإهراقه.

فالأمر بغسل اللحم قرينة متصلة على أنّ سبب عدم جواز الأكل هو التنجس لا غير.

هل يطهر الماء المضاف؟ وكيف؟

لو تنجس الماء المضاف (كالمرق مثلًا) وأردنا تطهيره، هل لنا ذلك؟ وكيف؟

قال الفقهاء: إنه يمكن تطهير الماء المضاف عن طريق خلطه بالماء المطلق حتى يخرج من الإضافة إلى الإطلاق.

لذلك يقال: إنّ الماء المضاف لا يمكن تطهيره، إذ إنّه ما دام مضافًا فهو لا زال متنجسًا، فلا بُدّ من اتصاله بالماء المطلق حتى يزول عنه وصف كونه ماءً مضافًا، وحينئذٍ لم يعد ماءً مضافًا، أيإنَّ الموضوع نفسه زال، فكيف نحمل عليه حكم التطهير؟ فالمرق مثلًا حتى يتطهّر من النجاسة لا بُدّ أن يتحوّل إلى ماءٍ مطلق، فإذا تحوّل إلى ماءٍ مطلق زال عنه عنوان الماء المضاف (المرق) ولم يعد هناك موضوع اسمه الماء المضاف (المرق) ليمكننا حمل حكم التطهير عليه.

ص: 157

الحكم السادس: الماء المضاف لا يرفع حدثًا إلا إذا صار مُطلقًا:

قال قُدس سره: (ولو مُزِج طاهرُه بالمُطلق، اعتُبِر في رفع الحدث به إطلاق الاسم عليه)

تقدّم أنّ الماء المضاف وإن كان طاهرًا، فإنه لا يُجزي رفع الحدث به، ولكن هل من طريقةٍ يمكننا من خلالها رفع الحدث به؟ أو قل: لو خلطناه بالماء المطلق فهل يصحُّ رفع الحدث به؟

هذا ما يريد المصنف قُدس سره توضيحه في هذه العبارة.

إنّ الجواب متوقفٌ على الذي يُطلقه العرف على المجموع من الماء المضاف والماء المطلق بعد الاختلاط؛ فإن أطلق على المجموع لفظ الماء المضاف فلا يصح رفع الحدث به، وإنْ أطلق عليه الماء المطلق صحَّ رفع الحدث به.فلو فرضنا أنّ عندنا ماءً مضافًا -كعصير البرتقال مثلًا-، وكان طاهرًا، وأردنا رفع الحدث به، كما لو أريد التوضؤ به، فلا يصحُّ الوضوء به إلا إذا أضفنا عليه مقدارًا من الماء المُطلق بحيث يزول عنه عنوان كونه مضافًا، فإن لم يزُل هذا العنوان فلا بُدّ من إضافة المزيد من الماء المطلق إليه، وهكذا حتى يتغير عنوان الماء من المضاف إلى المطلق، أي يتغير الموضوع، فإذا تغيّر وصار ماءً مطلقًا عندئذٍ فقط يصح رفع الحدث به.

تفريع:

مما لا شكَّ فيه أنَّ الماء المضاف يختلف عن الماء المطلق في الصفات، وإلا ما كان مضافًا، إلا أن الاختلاف في الحقيقة على شكلين:

ص: 158

فمرة يكون الاختلاف ظاهريًا، أي يمكن تحسسه بالحواس، كالمرق، فإنّ لونه أحمر أو أصفر، وقوامه أثقل، كما أنَّ طعمه يختلف قطعًا عن طعم الماء المطلق، والحكم في رفعه للحدث هو ما تقدم.

ومرة يكون الاختلاف تقديرياً، أي إنَّ بعض الماء المضاف يكون موافقًا لصفات الماء المطلق، ولا يختلف عنه ظاهراً وحساً، كماء الورد مثلًا الذي لا يختلف عن الماء المطلق إلا في رائحته وطعمه، فلو فرضنا أنه قد زالت رائحته وطعمه لسببٍ من الأسباب،بفعل مادةٍ كيميائيةٍ مثلًا، فهذا بمجرد خلطه بقليل من الماء المطلق ربما يصح عليه إطلاق الماء عرفًا، فهل يصح رفع الحدث به حينئذٍ أو لا؟

اختلف الفقهاء في شأن هذا النوع من الماء المضاف:

فقال البعض: إنّ المعتبر في إطلاق الاسم على هذا النوع من الماء حينئذٍ هو ما تكون كميته أكثر، فإنْ كانت كمية الماء المضاف أكثر من الماء المطلق، حُكِمَ عليه بأنّه ماء مضاف، ولا يصحُّ رفعُ الحدث به، أما إذا كان الماء المطلق أكثر من الماء المضاف، فيُحكم عليه بأنّه ماء مطلق، ويصحُّ الوضوء به، فلو كان هناك لترٌ من ماء الورد الذي أُزيلت رائحته وطعمه لسببٍ ما، وخُلِط بلترٍ ونصفٍ من الماء المطلق مثلًا، كان المجموع لترين ونصف، ونسبة الماء المطلق فيه أكثر من نسبة الماء المضاف، فهذا يُحكم عليه بأنّه ماء مطلق، ويصحُّ الوضوء به.

ص: 159

أما إذا خُلِط بنصف لترٍ مثلاً من الماء المطلق، فحينئذٍ تكون نسبة الماء المضاف في المجموع أو الناتج أكثر من نسبة الماء المطلق، وعندئذٍ لا يصحُّ رفع الحدث به؛ لأنه بقيَ مضافًا.هذا إذا كانت إحدى النسبتين من الماء المطلق والماء المضاف أكثر من الأخرى، ولكن ما الحكم فيما لو تساوت النسبتان تمامًا؟ فهل نلحقه بالماء المطلق أو نلحقه بالماء المضاف؟

هنا أيضًا اختلفوا، فقال البعض بكفاية ذلك لإطلاق لفظ الماء المطلق عليه، ومن ثَمّ يصحُّ رفع الحدث، فيما ذهب البعض الآخر إلى خلاف ذلك، ولم يقل بصحة رفعه للحدث.

أما المصنف قُدس سره، فيبدو أنّه يبني على أنَّ المناط أو الملاك في صحة رفعه للحدث هو (إطلاق الاسم) عليه عرفًا، دون تفصيل بين ما كان موافقًا في الصفات للمطلق أو مُخالفًا، فضلًا عن التفصيل فيما إذا كانت نسبة الماء المطلق -في الماء الناتج عند جمعه مع الماء المضاف الموافق لصفات المطلق- أقل أو مساوية أو أكثر منه، فالمناط هو الإطلاق العرفي؛ فإنْ أطلق العرف عليه أنّه ماءٌ مطلق، فإنه يصحُّ رفع الحدث به، سواء أكان المضاف مخالفًا في صفاته للمطلق أم موافقًا، وسواء أخُلِط الموافق بماءٍ مطلق أقل منه أم مساوٍ له أم اكثر، فلا فرق بين هذه الحالات كلها.

ص: 160

الحكم السابع: كراهة الطهارة بالماء المُسخّن:قال المصنف قُدس سره: (وتُكرَهُ الطهارةُ بماءٍ أُسخِن بالشمس في الآنية، وبماءٍ أُسخِنَ بالنار في غسل الأموات):

بعد أن بيّن المُحقَّق قُدس سره الأحكام الوضعية لكُلٍّ من الماء المطلق والمضاف، وأنَّ الطهارة ورفع الحدث يصحّان بالأول دون الثاني، عرّج إلى بيان بعض الأحكام التكليفية غير الإلزامية، وهو (الكراهة)، حيث أشار إلى حالتين تكون الطهارة معهما مكروهةً بالماء رغم كونه ماءً مُطلقًا، وهما:

الحالة الأولى: الطهارةُ بماءٍ أُسخِن بالشمس:

يظهر من النصوص أنّ المقصود من الطهارة ليست خصوص الطهارة الشرعية من الوضوء والغُسل، وإنّما تشمل الطهارة اللُغوية أيضًا كالتنظيف، والغَسل، ولكن ربما يظهر من بعض الفقهاء أنّ حكم الكراهة يُحمل على خصوص الوضوء والغُسل.

وعلى كل حال، فيبدو من بعض النصوص الشمول لمطلق الاستعمالات، سواء كان في الطهارة الشرعية أو اللغوية، تدلنا على ذلك عدة روايات، منها:

1 - ما رواه إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي الحسن عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال: دخل رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ على عائشة وقد وضعت قمقمتها [والقمقمة: وعاءٌمن

ص: 161

صِفر له عروتان يستصحبه المسافر« في الشمس، فقال صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ: يا حُميراء، ما هذا؟ فقالت: أغسل رأسي وجسدي، فقال صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ: لا تعودي؛ فإنّه يورث البرص (1)

2 - عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ: الماءُ الَّذِي تُسَخِّنُه الشَّمْسُ لَا تَوَضَّؤُوا بِه، ولَا تَغْتَسِلُوا بِه، ولَا تَعْجِنُوا بِه، فَإِنَّه يُورِثُ البَرَصَ» (2)

من الملاحظ أنّ الروايتين تدلان على الكراهة في استعمال الماء في مطلق الاستعمالات، أعم من الطهارة الشرعية والعُرفية (بالمعنى اللُغوي)، وذلك لأنّ قول عائشة: أغسل رأسي وجسدي، لا يختصُّ بالطهارة الشرعية (الغُسل) بل يشمل العرفية أيضًا (الغَسل)، وهكذا الرواية الثانية، فقد أضافت النهي عن استعماله في العجن إلى النهي عن استعماله في الوضوء والغسل.

وعلى أيةِ حال، فإنّنا لسنا في مقام الفتوى، بل في مقام بيان كيفية الاستدلال، وبيان العبارات، ومطالعة عبارات فقهائنا القدماء.

إش----ارات:

وفي هاتين الروايتين إشارات عديدة جديرة بالذكر، هي:

ص: 162


1- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج1 ص 366 ح(1113/ 6).
2- الكافي للكليني ج3 ص 15 بَابُ مَاءِ الْحَمَّامِ والْمَاءِ الَّذِي تُسَخِّنُه الشَّمْسُ ح5.

الإشارة الأولى: قاعدة التسامح في أدلة السنن:

اشترط الفقهاء في الرواية التي يُستدل بها على حكمٍ شرعي أنْ تكون شاملةً وحاويةً على شرائط الحُجية، ومن شرائط الحُجية هو أن يكون الخبر خبر ثقةٍ إن لم يكن متواترًا ولا مستفيضًا، وقد تقدّم أنّ الخبر إما أنْ يكون متواترًا أو مُستفيضًا أو خبر آحاد، وللخبر المتواتر والمستفيض الحُجية في الاستدلال، أما إذا كان خبر آحادٍ فلا يكون حُجةً -ومن ثم لا يصحُّ الاستدلال به- إلا إذا كان الراوي الذي نقله مؤمناً عادلًا أو على أقل التقادير مسلماً ثقةً.

وقد حُكِمَ على هاتين الروايتين المتقدمتين بأنّهما ضعيفتا السند، فكيف حَكَمَ الفقهاء بمضمونهما، وأفتوا بكراهة الطهارة بالماء المُسخّن بالشمس؟ والحال أنّ الكراهة حكم شرعي تكليفي كحكمي الوجوب والحُرمة، يلزم أن لا يُستدل عليه إلا بخبرٍ حجة، فلابُدّ إذن أن يكون هناك مستند شرعي صحيح سوّغ للفقهاء الأخذ بهاتين الروايتين ورفعهما إلى مستوى الحُجية رغم ضعف سندهما؟

قالوا: إنَّ هذا مبنيٌ على قاعدة التسامُح في أدلة السُنن.

ومفادُ هذه القاعدة: أنْ يتسامح الفقهاء في حُجية الخبر الذي يستنبطون منه أحكام السنن، أي: حكم الاستحباب وحكم الكراهة، فلا يشترطون في المستحبات والمكروهات أدلةً شرعيةً مقبولة وقوية سندًا كما في حُكمي الوجوب والحُرمة، وبناءً على هذه القاعدة، فإنه يجوز العمل

ص: 163

بمضمون الأخبار الضعيفة السند إذا كانت تدلُّ على سُنّة من الاستحباب أو الكراهة، لا على فريضة.

فمعنى هذه القاعدة: (عدم اعتبار ما ذكروه من الشروط للعمل بأخبار الآحاد من الإسلام والعدالة والضبط في الروايات الدالة على السنن فعلًا وتركًا) (1)

وقد استُدلَّ على هذه القاعدة ببعض النصوص، من قبيل ما روي عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ: «مَنْ سَمِعَ شَيْئاً مِنَ الثَّوَابِ عَلَىٰ شَيْءٍ فَصَنَعَه، كَانَ لَه وإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَىٰ مَا بَلَغَه» (2)

وعن عن أبي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: «مَنْ بَلَغَه ثَوَابٌ مِنَ الله عَلَىٰ عَمَلٍ، فَعَمِلَ ذَلِكَ العَمَلَ؛ التِمَاسَ ذَلِكَ الثَّوَابِ، أُوتِيَه، وإِنْ لَمْ يَكُنِ الحَدِيثُ كَمَا بَلَغَه» (3)

وبناءً على هذه القاعدة، فقد قُبِلتِ الروايتان - عند بعض الفقهاء - في الاستدلال على حكم كراهة الوضوء أو الطهارة بماءٍ أُسخِن بالشمس رغم ضعف سندهما.

بيد أنَّ الفقهاء لم يتفقوا على قبول مضمون هذه القاعدة؛ فمن قبل بمضمونها أمكنه أنْ يُفتي باستحباب أو كراهة السنن الواردة في الروايات الضعيفة، كما في مثل هذه الحالة، حيث أفتى المُحقِّق قُدس سره بكراهة الوضوء أو الطهارة بماءٍ أُسخِن بالشمس، وإنْ كانت الروايةالدالة عليه ضعيفة السند، وذلك بناءً على قاعدة التسامح في أدلة السنن.

ص: 164


1- رسائل فقهية، للشيخ الأنصاري، ص137.
2- الكافي للكليني ج2 ص87 بَابُ مَنْ بَلَغَه ثَوَابٌ مِنَ الله عَلَىٰ عَمَلٍ ح1.
3- الكافي للكليني ج2 ص87 بَابُ مَنْ بَلَغَه ثَوَابٌ مِنَ الله عَلَىٰ عَمَلٍ ح2.

وأما من لم يقبل مضمون هذه القاعدة؛ لعدم ثبوتها عنده -لسبب ولآخر-، فإنّه يقول بحرمة الإتيان بتلك السنن المُستحبات أو ترك بعض المكروهات بنية الاستحباب الشرعي أو بنية الكراهة الشرعية، وإلا كان تشريعًا منه، نعم، يجوز الإتيان بها برجاء المطلوبية، أي برجاء أن يكون المستحب أو ترك المكروه مطلوبًا عند الله عَزَّوَجَل (1)

ولذا؛ نجد أنّ السيد السيستاني (حفظه الله) قال في منهاج الصالحين: إنّ كثيرًا من المُستحبات الواردة في أبوابِ هذه الرسالة يبتني استحبابُها على قاعدةِ التسامُحِ في أدلة السنن، ولما لم تثبت عندنا فيتعيّن الإتيان بها برجاء المطلوبية، وكذا الحال في المكروهات، فتترك برجاء المطلوبية (2)

الإشارة الثانية: الحالات التي تكره فيها الطهارة الشرعية بالماء المسخن بالشمس:

على القول بكراهة استعمال الماء المُسخَّن بالشمس في الطهارة الشرعية: الوضوء والغُسل، فحكم الكراهة يشمل حالات:

ص: 165


1- رَجَاْءُ المَطْلُوبِيَّة: مُصطلحُ فقهي يَخُصُّ نية الانسان المُقْدِم على فعلٍ أو تركٍ لاحتمال كونه موافقاً لواحد من الأحكام الخمسة وهي الواجب والمستحب والمباح والمكروه والحرام مع عدم الوثوق التام بصدوره عن الشارع المقدس، حيث لم يثبت ذلك بالأدلة القطعية، لكن لم يثبت ضده أيضاً، فيبقى احتمال صدوره غير منتفٍ، فيكون الاحتياط وارداً. ومعناه أن يأتي الإنسان بعمل عباديٍ ما رجاء مشروعيته ومطلوبيته من المولى وجوباً أو استحباباً، فإن تبين له بعد ذلك أنه مطلوب فقد أصاب، وإن تبين أنه غير مطلوب فلا يؤثم؛ لأنه لم يأتِ به بنية التشريع العمدي، أو بنية المخالفة. هذا وقد يُعبَّر عن هذا المصطلح أيضاً بتعابير أخرى كأن يقال: (رجاءً) أو (بقصد الرجاء).
2- منهاج الصالحين، ج1، ص32.

الحالة الأولى: قصد التسخين وعدمه، أي إنّه مكروه سواء أَقصد المكلف أن يسخنه بالشمس أم لم يقصد ذلك.

الحالة الثانية: بقاء الماء ساخنًا حين استخدامه، أو تبريده بعد أنْ كان ساخنًا ثم استخدامه.

الحالة الثالثة: كون البلاد التي سُخِّن فيها الماء بالشمس حارةً أو باردة.

الحالة الرابعة: أنْ يكون الماء قليلًا أو كثيرًا.

الإشارة الثالثة: معنى المكروه:

للمكروه معنيان:

المعنى الأول: حكمٌ من الأحكام الشرعية، وهو ما نهى عنه الشارع، إلا أنَّ نهيه لم يصل إلى حدِّ الإلزام؛ فيكون تركه أرجح من فعله، والمكروه هو المرجوح.

أما لماذا كان تركه أرجح من فعله؛ فذلك لأنَّ الله (سبحانه وتعالى) يُشرع الأحكام الشرعية وفق مِلاكاتٍ خاصة، وتلكالملاكات هي المصالح والمفاسد الواقعية التي يعلمها هو (جل وعلا).

فكل فعل لا يخلو: إما أن تكون فيه مصلحة أو مفسدة، فإنْ كان ذا مصلحةٍ فلا يخلو: إما أنْ تكون تلك المصلحة مُلزمة أو لا، فبناءً على الأولى يأمر الشارع الأقدس بذلك الفعل على نحو الوجوب، وبناءً على الثانية يأمر بذلك الفعل على نحو الاستحباب.

ص: 166

وإن كان الفعل ذا مفسدةٍ فإنّه لا يخلو: إما أن تكون تلك المفسدة ملزمة أو لا، فبناءً على الأولى ينهى الشارع عن ذلك الفعل على نحو التحريم، وبناءً على الثانية ينهى عنه على نحو الكراهة.

وهناك المباح، وهو ما لا مصلحة ملزمة فيه - وجوباً أو استحباباً-، ولا مفسدة كذلك (1)

فالكراهة حكم شرعي تكليفي بترك الفعل، لكن لا على نحو الإلزام، بل على نحو الأرجحية، أي إنَّ ترك فعله هو أرجح من فعله.

المعنى الثاني: ما يكون فعله أقلَّ ثوابًا من تركه، أو ما يكون تركه أكثر ثوابًا من فعله، كما لو كان هناك فعل، إنّ أتى به المكلف نال خمس حسناتٍ من الثواب مثلًا، وإن تركه نال عشر حسنات منالثواب، فالأقلُ ثوابًا وهو (ترك الفعل) هو ما قد يُصطلح عليه (بالمكروه) أيضًا.

وربما يُعبّر عن المعنى الثاني للمكروه ب-(ترك الأولى)، وهو ما يعدُّه المعصومون من الأنبياء والأئمة (صلوات الله عليهم) ذنبًا، ويستغفرون منه، وفي حقيقة الأمر هو ليس بذنبٍ ولا حتى بمكروه بالمعنى الأول؛ ولكن لعظم مقامهم (صلوات الله وسلامه عليهم) يعدّونه كذلك، ولعلّ هذا من تفسيرات ما يُقال: (حسناتُ الأبرار سيئاتُ المقرّبين).

ص: 167


1- هذا هو المباح اللا اقتضائي، وهناك المباح الاقتضائي، وهو ما يكون فيه ملاك يقتضي ترك المكلف حراً ولا إلزام في حقه.

الإشارة الرابعة:

ظاهر عبارة المُحقِّق قُدس سره: (وتُكرَهُ الطهارة بماءٍ أُسخِنَ بالشمس) أنّ المكروه هنا هو خصوص ما أُسخِنَ بالشمس، أما إذا أُسخِنَ بالنار أو الكهرباء أو غيرهما فلا كراهة، وذلك راجعٌ إلى تقييد الروايات الكراهة بخصوص ما أُسخِن بالشمس.

الإشارة الخامسة:

ظاهرُ عبارةِ المُصنف قُدس سره أنَّ الكراهةَ خاصةٌ بما إذا كان الماء في إناءٍ وأُسخِنَ بالشمس، أما إذا كان في نهرٍ مثلًا أو في بركةٍ أو غير ذلك، فلا تشمله الكراهة؛ لذا قال: (في الآنية).وهذا ما عليه الرواية الأولى المتقدِّمة؛ حيثُ ذكرت الحميراء خصوص الإناء.

الحالة الثانية: تغسيلُ الميت بالماء المُسخَّن بالنار:

موضوع حكم الكراهة هنا هو غُسل الميت بماءٍ أُسخِنَ بالنار.

ويُستدلُّ على كراهتها بما رواه الكليني عَنْ عِدَّةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: لَا يُسَخَّنُ الماءُ لِلْمَيِّتِ، ولَا يُعَجَّلُ لَه النَّارُ، ولَا يُحَنَّطُ بِمِسْكٍ (1)

ص: 168


1- الكافي للكليني ج3 ص 147بَابُ كَرَاهِيَةِ تَجْمِيرِ الْكَفَنِ وتَسْخِينِ الْمَاءِ- ح2.

ورواه الشيخ الطوسي قُدس سره عن زرارة فقال: علي بن مهزيار، عن أبان، عن زرارة، قال: قال أبو جعفر عَلَيْهِ السَّلاَمُ: لا يُسخَّن الماءُ للميت (1)

إشاراتٌ:

الإشارة الأولى: من هو زرارة (2)؟

اسمه عبدُ ربّه، ويُكنّى أبا علي، وأبا الحسن، وأما زرارة فهو لقبه، وقد روي عن زرارة قال: قال لي أبو عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ: يا زرارة،إنّ اسمَك في أسامي أهل الجنة بغير ألف؟ قلتُ: نعم، جُعِلتُ فداك، اسمي: عبد ربه، ولكنّي لُقِّبتُ بزرارة.

قال النجاشي في ترجمته: زرارة بن أعين بن سنسن مولى لبني عبد الله بن عمرو السمين بن أسعد بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان، أبو الحسن. شيخ أصحابنا في زمانه ومتقدمهم، وكان قارئا فقيها متكلما شاعراً أديباً، قد اجتمعت فيه خلال الفضل والدين، صادقاً فيما يرويه (3)

وروي أنّ زرارة كان وسيمًا جسيمًا أبيضَ فكان يخرج إلى الجمعة وعلى رأسه برنس أسود، وبين عينيه سجادة، وفي يده عصا، فيقوم له الناس سماطين، ينظرون إليه لحسن هيئته، فربما رجع من طريقه (4)

ص: 169


1- تهذيب الأحكام ج1 ص 322 الحديث (938) 106.
2- الترجمة المذكورة مأخوذة من كتاب: تاريخ آل زرارة، لأبي غالب الزراري (بتصرف يسير).
3- فهرست أسماء مصنفي الشيعة (رجال النجاشي) للنجاشي (ص 175 رقم 463).
4- رسالة في آل أعين لأبي غالب الزراري ص 27.

كان له عند أبي جعفر الباقر عَلَيْهِ السَّلاَمُ منزلةٌ رفيعةٌ عظيمةٌ حتى عُدّ من حوارييه؛ فعن أبي الحسن موسى بن جعفر عَلَيْهِ السَّلاَمُ في حديثٍ طويلٍ قال: ثم يُنادي المُنادي: أين حواريّ محمد بن علي عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وحواريّ جعفر بن محمد عَلَيْهِ السَّلاَمُ فيقوم عبد الله بن شريك العامري، وزرارة بن أعين...ويظهرُ من بعض الروايات أنّه صحب الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ ما يقرب من أربعين عامًا، وقد رويَ عن زرارة قال: أسمعُ والله بالحرف من جعفر بن محمد عَلَيْهِما السَّلاَمُ من الفُتيا فأزداد به إيماناً.

فقد روي عن بكير بن أعين، عن أخيه زرارة قال: قلت لأبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ: جعلني الله فداك أسألك في الحج منذ أربعين عاماً فتفتيني (1)، فقال: يا زرارة بيت يحج قبل آدم عَلَيْهِ السَّلاَمُ بألفي عام، تريد أن تفنى مسائله في أربعين عاماً؟ (2)

وروي أنّه قال أبو عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ: زرارة وأبو بصير، ومحمد بن مسلم وبريد، من الذين قال الله تعالى: «وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ 10 أُولئِكَ المُقَرَّبُونَ» (3)، (4)

وعن سليمان بن خالد الاقطع، قال: سمعت أبا عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ يقول: ما أجد أحداً أحيى ذكرنا وأحاديث أبي عَلَيْهِ السَّلاَمُ إلا زرارة، وأبو بصير ليث

ص: 170


1- أي أسألك مع أبيك أو كان سأل عنه عَلَيْهِ السَّلاَمُ في زمان أبيه أيضاً، وإلا فالظاهر أنه كان في زمان إمامته عَلَيْهِ السَّلاَمُ أربعاً وثلاثين سنة أو على المبالغة والتجوز، وقوله (في الحج) أي عن مسائله منذ أربعين عاما فتفتيني وما يفنى مسائله. »هامش المصدر«
2- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج2 ص 519 رقم 3111).
3- الواقعة 10 و11.
4- اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي) للشيخ الطوسي (ج1 ص348 رقم 218).

المرادي، ومحمد بن مسلم، وبريد بن معاوية العجلي، ولولا هؤلاء ما كان أحدٌ يستنبط هذا، هؤلاء حُفّاظ الدين وأمناء أبي عَلَيْهِ السَّلاَمُعلى حلال الله وحرامه، وهم السابقون إلينا في الدنيا والسابقون إلينا في الآخرة (1)

وعن جميل بن دراج، قال: سمعت أبا عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ يقول: بشِّرِ المُخبتين بالجنة: بريد بن معاوية العجلي، وأبو بصير بن ليث البختري المرادي، ومحمد بن مسلم، وزرارة، أربعة نجباء أمناء الله على حلاله وحرامه، لولا هؤلاء انقطعت آثار النبوة واندرست.

وروي عن ابن أبي عمير قال: قلت لجميل بن دراج: ما أحسن محضرك وأزين مجلسك! فقال: أي والله، ما كنا حول زرارة بن أعين إلا بمنزلة الصبيان في الكتّاب حول المعلم (2)

مات سنة خمسين ومائة، بعد أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ.

الإشارة الثانية: الوجه في حمل النهي على التحريم في المقام:

ظاهر الرواية: (لا يُسخَّن الماء للميت)، هو النهي عن تسخين الماء لتغسيل الميت، والنهي ظاهرٌ في التحريم، وبناءً على ذلك يتوجّبُ أن يكون الحكم هو التحريم لا الكراهة، ولكن مع ذلك حمل المحقِّق قُدس سره والفقهاء ظاهر الرواية على الكراهة دون التحريم، فكيف ذلك؟ وما الوجه في حمل هذا النهي على الكراهة؟

ص: 171


1- اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي) للشيخ الطوسي (ج1 ص348 رقم 219).
2- اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي) للشيخ الطوسي (ج1 ص346 رقم 213).

الجواب:

حمل المُحقق قُدس سره ظاهر الرواية على الكراهة دون التحريم؛ لأجل الآتي:

أولًا: اتفاق الأصحاب جميعًا على عدم حرمة تسخين الماء لتغسيل الميت، الأمر الذي يُستكشَفُ منه أنّ النهي الوارد في الرواية هو نهيٌ تنزيهيٌ كراهتي، وليس نهيًا تحريميًا.

وأما الوجه فيه فيُبحَثُ في مرحلةٍ أعلى.

ثانيًا: مسألة تسخين الماء بالنار لتغسيل الميت مسألةٌ عامة البلوى؛ فهناك الكثير من المؤمنين يموتون، كما أنّ هناك الكثير ممّن يتولّى أمر تغسيلهم، فهي مسألة ليست نادرة الوقوع، ولا أنَّ الابتلاء بها يقتصر على مؤمنين اثنين أو ثلاثة.

وبما انّها مسألةٌ عامةُ البلوى، فيلزم أنْ يكون حكمها واضحًا، وعليه؛ فلو كان حكمها هي الحرمة لظهر وبان واشتهر، ولكن الحكم المشهور هو الكراهة؛ لذا لا بد من حمل النهي فيها على الكراهة، بأن يُقال مثلاً: إن الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ أطلق النهي وأراد الكراهة دون الحرمة اعتمادًا على وضوح هذا الحكم لدى المتشرعة.

الإشارة الثالثة: بعض حِكَم كراهة تغسيل الميت بماءٍ أُسخِن بالنار:

من المُسلَّم به والواضح الذي يذكره العلماء: أنّ الأحكام الشرعية مُبتنيةٌ على مصالح ومفاسد واقعية؛ فالحكم الشرعي بوجوب الصلاةمُبتنٍ

ص: 172

على مصلحةٍ واقعيةٍ في علم الله عَزَّوَجَل، ولذا أمر بها، والغيبة فيها مفسدة فنهى عنها، فإن كانت المصلحة شديدة، حُكم بالوجوب، وإن لم تصل المصلحة إلى حد الإلزام، أُمر بها على نحو الاستحباب، وإن كانت فيها مفسدة شديدة، أُمر بالحرمة، وإن لم تكن المفسدة شديدة جدًا، نُهي عنها بنحو الكراهة.

وأنَّ تلك الملاكات الواقعية (المصالح والمفاسد) ليست معلومةً لدينا، بل هي مجهولةٌ لدينا، ولا نستطيع الوصول اليها؛ لأنها خارج قدراتنا العقلية والعادية، ولذلك لم نُكلّفْ بالبحث عنها؛ لأنّ شرط التكليف هي القدرة على امتثال ما كُلّف به.

نعم، يمكن استفادة بعض الحِكَمِ للأحكام الشرعية من خلال مراجعة النصوص الواردة والاستفادة منها، ومن خلال الواقع الوجداني، والحِكَم جمع حِكمة، والحكمة ليست كالعلة الواقعية للحكم؛ إذ لا يدور الحُكم الشرعي مدارها وجودًا وعدمًا، كما هي عليه العلة الواقعية التي يدور الحكم مدارها وجودًا وعدمًا؛ فإن وجِدت العلة ثبت الحكم وإنِ انتفت انتفى.

ولتقريب الفرق بينهما نضرب مثالًا عن الحكمة، - لأن العلل مجهولة لدينا كما تقدم -، حيث ذكروا أن من الحكم المترتبة على الصوم مثلًا هي أنّ الصائم الغني يتذكر جوع الفقراء ويشعر به ويحس بألمه، فيلين قلبه، ومن ثم يدفعه ذلك إلى مساعدة الفقراء.

ص: 173

ولكن لو فرضنا أنّ الناس كلهم أصبحوا أغنياء، وما من جائعٍ البتة، كما في زمن دولة الإمام المهدي ¨؛ حيث سيكون كلُّ الناس أغنياء، فهل معنى هذا أنّ حكم وجوب الصوم في شهر رمضان يرتفع فلا يكون واجبًا؟

كلا، لأنَّ استشعار حال الفقراء بالإحساس بألم الجوع ليس العلة التامة لتشريع وجوب الصوم؛ ليدور الحكم مدارها وجودًا وعدمًا، وإنّما هي حكمة وفائدة تترتب على وجوب الصوم ليس إلا، فإن انتفت فلا يستدعي ذلك انتفاءه.

وقد ذكر الفقهاء بعض الحِكَمِ المترتبة على حُكم كراهة تغسيل الميت بماءٍ أُسخِن بالنار، ومنها (1):

الحكمة الأولى: ما أشارت إليه رواية الإمام الباقر (صلوات الله وسلامه عليه) نفسها حيث قالت: (ولا يُعجَّل له النار)، فكأنّ من يقوم بتغسيل الميت بماء مسخّن يعجل النار والحرارة له، وهذا ليس فعلًا حسنًا.ومن الواضح أنّ ذلك مجرد حكمة وليس علة؛ إذ لو فرضنا أنّ هذا الميت من أهل الجنة مائة بالمائة، وسُخِّن له الماء بالنار، فهل يُعدُّ ذلك تعجيلاً له بدخوله النار؟

ص: 174


1- قال الشهيد الثاني في مسالك الأفهام (ج1 ص22): لنهي الباقر عَلَيْهِ السَّلاَمُ عنه. وعلل - مع ذلك - بأن فيه أجزاء نارية، وتفؤلا بالحميم، وإرخاء لبدن الميت، وإعدادا له لخروج شيء من النجاسات.

الحكمة الثانية: أنّ تغسيل الميت بالماء الحار قد يتسبّب في إرخاءِ بدنه، الذي ربما يؤدي إلى خروج شيءٍ من النجاسات منه، وهذا ليس شيئًا حسنًا، وربما فيه هتك لحرمة الميت وما شابه.

وهي حكمة تنفع في حكم كراهة تغسيل الميت بعموم الماء الحار أو الساخن كما ذهب إليه بعض الفقهاء، والمحقق اقتصر في عبارته على النار والشمس، وهذا لا ينفي التسخين بغيرها، إذ لعله اقتصر على ذلك لأن مصادر الحرارة في زمنه كانت الشمس والنار فقط، فعدم ذكر غيرها لا ينفيه.

الإشارة الرابعة: اختصاص الكراهة بغسل الميت:

إنّ حكم كراهة الغُسل بالماء المُسخّن بالنار خاصٌ بغُسل الميت فقط، ولا يشمل غسل الأحياء، كغُسل الجمعة مثلًا أو غيره من الأغسال؛ وذلك لأنَّ ما ورد في الرواية هو خصوص تسخين الماء للميت.

الإشارة الخامسة: اختصاص الكراهة بما أسخن بالنار:حكم كراهة تغسيل الميت -كما هو ظاهر المُحقّق قُدس سره- مُختصٌ بالماءٍ الذي أُسخِنَ بالنار فقط، وأما لو أُسخِن بالشمس مثلًا فلا كراهة.

الإشارة السادسة: اختصاص الحكم بغير حالة الضرورة:

فصّل بعض الفقهاء في حكم تغسيل الميت بالماء الساخن بين ما إذا كانت هناك ضرورةٌ لتسخينه -كما لو كان الجو باردًا جدًا، مما يُعرِّض

ص: 175

المُغسِّل إذا غسّل الميت بالماء البارد إلى المرض أو الأذى مثلًا- فترتفع الكراهة، ويسخن الماء للميت لتغسيل الميت، وبين عدم الضرورة -كما لو كان الجو مُعتدلًا فضلًا عن أن يكون حارًا، أو كان الماء في حد نفسه ليس باردًا جدًا، أو كان باردًا ولكن المُغسِّل لا يتأثر ببرودته سلبًا فرضًا، ولم تكن ضرورة لتسخين الماء- فحينئذ يُكره تسخينُ الماء لتغسيل الميت (1)

الحكم الثامن: حكم الماء المستعمل في غَسل الأخباث:

بيّن الفقهاء الماء المستعمل في غسل الأخباث بأنه:أولًا: ما انفصل بالعصر أو بنفسه من المتنجس بعد الصبِّ عليه لتطهيره، أي هو الماء الذي استُعمل في إزالة عين النجاسة، والذي انفصل من المتنجس، كالثوب أو الفراش أو غيرهما، سواء أتمّ الانفصال بالعصر أم بدونه، كما لو تقاطر من المتنجس حتى انفصل جميعه عنه تدريجيًا.

فهو الماء الأول الذي يُصب على عين النجاسة لإزالتها.

ثانيًا: المنفصل من غُسالة النجاسة قبل طهارة المحل، أي هو الماء الذي ينفصل عن المحل المتنجس قبل أن يطهر بعد صبّه عليه لإزالة النجاسة.

ثالثًا: الماء الذي تحصل الطهارة بعده. أي هو الماء الذي بعد أن يصب على المحل المتنجس وينفصل عنه تحصل طهارة المحل.

ص: 176


1- قال الشهيد الثاني في مسالك الأفهام (ج1 ص22): ومحل الكراهة عند عدم الضرورة، أما معها كخوف الغاسل على نفسه من البرد فلا. وكذا لا يكره استعماله في غير غسل الأموات. وقال السيد العاملي في مدارك الأحكام (ج1 ص118): قال الشيخ رحمة الله: ولو خشي الغاسل من البرد انتفت الكراهة. وهو حسن.

فالماء المستعمل في غسل الأخباث هو الماء القليل الذي تُغسلُ به النجاسة أول مرةٍ، ثم ينفصل عن محل النجاسة قبل الحكم بطهارته، فإذا أصابت الثوبَ نجاسةٌ ما، كالبول مثلًا وطُهِّرَ هذا الثوب بماءٍ صُبَّ عليه وزالت به عين النجاسة، فذلك الماء الناتج عن عملية التطهير تلك والمنفصل عن المحل المتنجس هو ما يُسمى بالماء المستعمل في غَسل الأخباث، ويُسمى أيضًا ب-(ماء الغُسالة)، وقيّدنا الماء بالقليل؛ لأنَّ الكثير خارج عن محل الكلام.

ويُقسمُ الفقهاءُ الماء المستعمل في غسل الأخباث إلى قسمين، يختلف حكم كل منهما، وهما: ماء الغُسالة وماء الاستنجاء، علىالرغم من أنَّهما لا يختلفان من حيث المعنى والمفهوم؛ وذلك لدليلٍ خاص –يأتي لاحقًا إن شاء الله تعالى- ورد في ماء الاستنجاء ورتّب له حكمًا مغايرًا عن حكم ماء الغُسالة.

وبناءً على تقسيم الفقهاء هذا، الذي أخذ به المُحقق قُدس سره أيضًا؛ وذلك باستثنائه حكم ماء الاستنجاء من حكم ماء الغُسالة، سنتناول كلا القسمين تباعًا:

القسم الأول: ماء الغُسالة:

قال المُحقِّق قُدس سره: (والماءُ المُستعملُ في غسلِ الأخباث نجسٌ، سواء تغيّرَ بالنجاسة أو لم يتغيّر).

ولمعرفة حكم هذا الماء لابُدّ من التفصيل بين حالتين:

ص: 177

الحالة الأولى: إذا تغيّر هذا الماء القليل بالنجاسة، كأن تغيّر لونه أو طعمه أو رائحته، فهو نجسٌ بلا اختلاف بين الفقهاء.

الحالة الثانية: إذا لم يتغيّر، فهنا وقع الاختلاف بين الفقهاء على أربعة أقوال:

القول الأول: الطهارة مطلقًا:

أي سواء أكان ذلك الماء قد أزيلت به عين النجاسة أم لا، وسواء أكانت النجاسة مما يُشترط في التطهير منها التعدد -كبول البالغ مثلًا- أم لا.القول الثاني: النجاسة مطلقًا:

أي سواء أكان ذلك الماء الذي غُسل به المحل المتنجس قد أزيلت به عين النجاسة أم لا، وسواء أكانت النجاسة مما يُشترط في التطهير منها التعدد أم لا.

القول الثالث: التفصيل بين النجاسة التي يُشترط في التطهير منها تعدد الغسل -كبول البالغ-، وبين ما لا يُشترط فيه التعدد:

فعلى الأول، فالماء المستعمل في الغسلة الأولى يحكم عليه بالنجاسة، والماء المستعمل في الغسلة الثانية يحكم عليه بالطهارة، وعلى الثاني، فيحكم على الماء المستعمل في الغسل منها بأنّه طاهر.

ص: 178

القول الرابع: التفصيل بين الغسلة المزيلة لعين النجاسة، وبين الغسلة بعد الإزالة:

فنحكم بالنجاسة على الماء المستعمل في الغسلة الأولى، بقطع النظر عما إذا كانت تلك الغسلة لتطهير نجاسة يُشترط في التطهير منها التعدد أو لا، وأما الماء غير المستعمل في إزالة عين النجاسة فيحكم عليه بالطهارة.

وظاهر عبارة المحقق قُدس سره أنه يختار القول الثاني، وهو الحكم بالنجاسة مطلقًا، إذ قال: (والماء المُستعمل في غسلِ الأخبات نجسٌ سواء تغيّر بالنجاسة أو لم يتغير)، وربما يكون هذا القول موافقًاللاحتياط؛ فإذا أراد الإنسان أنْ يسلك طريق الاحتياط - الذي هو طريقٌ حسنٌ على كُلِّ حالٍ - فعليه أن يتجنب ماء الغُسالة، أي: الماء المستعمل في غسل الأخباث.

وقد قطع العلامة الحلي قُدس سره بنجاسة الماء المستعمل في غسل الأخباث، مُستدلًا بكونه ماءً قليلًا لاقى النجاسة، فلابُدّ من أنْ يتنجس.

القسم الثاني: ماء الاستنجاء:

قال المُحقِّق قُدس سره: (والماءُ المُستعمل في غسلِ الأخباث نجسٌ، سواء تغيّرَ بالنجاسة أو لم يتغيَر، عدا ماء الاستنجاء، فإنه طاهر ما لم يتغير بالنجاسة، أو تلاقيه نجاسة من خارج).

ماء الاستنجاء: هو الماء الذي يُستعملُ في غسلِ موضع البول وموضع الغائط.

ص: 179

وقد استثنى المُحقِّق قُدس سره ماء الاستنجاء -من حيث الحكم بنجاسته- من ماء الغُسالة -رغم عدم اختلافهما مفهومًا؛ فإن كليهما ماءٌ قليلٌ لاقى النجاسة- لوجود العديد من الروايات الدالة على ذلك، منها ما روي عن محمد بن نعمان الأَحْوَلِ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ: أَخْرُجُ مِنَ الخَلَاءِ فَأَسْتَنْجِي بِالمَاءِ، فَيَقَعُ ثَوْبِي فِي ذَلِكَ المَاءِ الَّذِي اسْتَنْجَيْتُ بِه؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: لَا بَأْسَ بِه (1)وفي رواية أخرى عن الأحول قال: دخلت على أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ، فقال عَلَيْهِ السَّلاَمُ: سل عما شئت. فارتجّت عليّ المسائل، فقال عَلَيْهِ السَّلاَمُ لي: سل ما بدا لك. فقلت: جعلت فداك، الرجل يستنجي فيقع ثوبه في الماء الذي يستنجي به؟ فقال عَلَيْهِ السَّلاَمُ: لا بأس به. فسكتُّ فقال عَلَيْهِ السَّلاَمُ: أوَ تدري لمَ صار لا بأس به؟ قلت: لا، والله، جعلت فداك. فقال عَلَيْهِ السَّلاَمُ: لأن الماء أكثر من القذر. (2)

فقد نفى (سلام الله عليه) البأس عن الثوب عند ملاقاته ماء الاستنجاء في الرواية الأولى، مما يشير إلى عدم تنجسه به، وذكر الحكمة من ذلك في الرواية الثانية بأنَّ الماء أكثر من القذر.

وأما حكمه، فقد قال المحقق قُدس سره بطهارته، ولكن بشرطين:

أولهما: أن لا يتغيّر بصفات النجاسة.

ص: 180


1- الكافي للكليني ج3 ص 13 بَابُ اخْتِلَاطِ مَاءِ الْمَطَرِ بِالْبَوْلِ ومَا يَرْجِعُ فِي الإِنَاءِ مِنْ غُسَالَةِ الْجُنُبِ والرَّجُلِ يَقَعُ ثَوْبُه عَلَى الْمَاءِ الَّذِي يَسْتَنْجِي بِه/ ح5.
2- علل الشرائع للشيخ الصدوق (ص 287 باب 207 - العلة التي من أجلها لا يجب غسل الثوب الذي يقع في الماء الذي يستنجى به/ ح1).

ثانيهما: أنْ لا تلاقيه نجاسةٌ من خارج الموضعين.

إشارات:

الإشارة الأولى: الخلاف في طهارة ماء الاستنجاء الذاتية وعدمها:اتفق الفقهاء على أنَّ ماء الاستنجاء لا بأس به، وبناءً على ذلك حكموا بطهارته، ولكن هل حكمهم هذا يدلُّ على طهارته الذاتية وفي حدّ نفسه أو لا؟

قولان:

القول الأول: ماء الاستنجاء طاهرٌ في حدِّ نفسه؛ للدليل الخاص:

فالشارع المقدّس الذي شرّع الأحكام الشرعية وفقًا للمصالح والمفاسد الواقعية، هو الذي حكم على ماء الاستنجاء بالطهارة، وحينئذٍ يُفسّر تعبير الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ بقوله: (لا بأس) بأنّه طاهر.

وهذا القول هو الموافق لظاهر الروايات كما تقدم في بيان الحكمة من الحكم بعدم البأس به، وأنه باعتبار أن الماء أكثر من القذر؛ وعليه، فتجوز الصلاة به في حدّ نفسه.

القول الثاني: ماء الاستنجاء نجسٌ في حدِّ نفسه، ولكن هذه النجاسة معفوٌ عنها للدليل الخاص:

فتعبير الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ بنفي البأس لا يُريد به إثبات الطهارة لماء الاستنجاء، وإنما يريد به الإشارة إلى أنّه رغم نجاسته في حدِّ نفسه، ولكنّه

ص: 181

معفوٌ عنه؛ للدليل الخاص، نظير الدم الأقل من الدرهم المعفو عنه في الصلاة بشروطٍ خاصة.

الإشارة الثانية: من حِكم الحُكم بطهارة ماء الاستنجاء:علَّل بعض الفقهاء نفي البأس عن ماء الاستنجاء بأنّ الحكم بنجاسته يوجب العسر والحرج على الناس؛ لأنّها مسألةٌ عامة البلوى ويومية، فلو حُكم على ماء الاستنجاء بالنجاسة للزم العسر بل الحرج من التطهير منه في كُلِّ مرةٍ يدخل الإنسان فيها بيت الخلاء، وقد قال تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (1)

ومن المناسب التذكير بأنّ ما ذُكِر ليس بالعلة التامة والحقيقية لهذا الحكم؛ لمجهولية علل الأحكام بالنسبة إلينا كما تقدم، فقولهم يشير إلى حكمة الحُكم لا إلى علته.

وليست هذه الحكمة الوحيدة لهذا الحكم، بل هناك حكمةٌ أخرى، وهي ما ذكرها الإمامُ (صلوات الله وسلامه عليه) بقوله: (إنَّ الماءَ أكثر من القذر) في رواية الأحول المتقدمة.

الإشارة الثالثة: شروط الحكم بطهارة ماء الاستنجاء:

ذكر الفقهاء شروطاً عديدة للحكم على ماء الاستنجاء بالطهارة، أو لتحقق استثنائه من النجاسة - على اختلاف مبانيهم من أنَّ طهارة هذا الماء ذاتية أو أنها نجاسة معفو عنها كما تقدّم - وهي:

ص: 182


1- الحج: (78).

الشرط الأول: أنْ لا يتغير ماء الاستنجاء بالنجاسة، وإلا فهو نجسٌ، وهذا ما عبر عنه المحقق قُدس سره بقوله: (ما لم يتغيّر بالنجاسة).الشرط الثاني: أنْ لا يُلاقي ماء الاستنجاء نجاسةً خارجةً عن محله، وإلا حُكِمَ عليه بالنجاسة.

وقد أشار المُحقِّق قُدس سره إلى هذا الشرط بقوله: (فإنه طاهرٌ ما لم... تُلاقيه نجاسةٌ من خارج).

وقد اقتصر المُحقِّق قُدس سره على ذكر هذين الشرطين، في حين أضاف بعض الفقهاء شروطًا أخرى، نذكرها تباعًا.

الشرط الثالث: ألّا تُخالطَ نجاسةَ الحدثين (البول والغائط) نجاسةٌ أخرى، كالدم مثلًا، وإلا نَجُسَ، كما لو خرج مع البول دمٌ مثلًا، فتنجّس الموضعُ بهما معًا، فحينئذٍ لا يكون ماءُ الاستنجاءِ طاهراً.

الشرط الرابع: أن لا تنفصل مع ماء الاستنجاء أجزاءٌ متميزة من النجاسة بعد مفارقة المحل، وإلا حُكِم بنجاسته، فلو انفصلت أجزاء متميزة من النجاسة -كالغائط مثلًا- ولاقت ماء الاستنجاء بعد مفارقته المحل نَجُس، وإن لم تلاقِه لم ينجس، وكان عندئذٍ طاهرًا.

والحكم بالنجاسة على ماءِ الاستنجاء في هذه الحالة باعتبار أن هذه النجاسة تُعدُّ كالنجاسة الخارجية التي إنْ لاقت ماء الاستنجاء حُكِم عليه بالنجاسة، لاسيما أنّه ماءٌ قليل.

ص: 183

الشرط الخامس: ما ذكره بعض الفقهاء -ولا بأس أن نُبينه في المقام-، وهو: ألّا يزيد وزن ماء الاستنجاء بعد التطهير به عمّا كان قبلَ التطهير، فلو كان مقدار ماء الاستنجاء لترًا مثلًا أو كان وزنُه كيلو غرامًا مثلًا، وزاد بعد الاستنجاء فصار لترًا وربعاً مثلًا أو كيلو ومائة غرام، فإنه ينجس، أما إذا بقي على وزنه ومقداره قبل التطهير به لم ينجُس.

الإشارة الرابعة: حالات طهارة ماء الاستنجاء:

أشار بعضُ الفقهاء إلى أنّ طهارة ماء الاستنجاء تشملُ عدّة حالات:

الحالة الأولى: ماءُ الاستنجاء طاهرٌ بالشروط المذكورة سواء أَستُعِمل في الاستنجاء من البول أم الغائط أم من كليهما.

الحالة الثانية: ماءُ الاستنجاء طاهرٌ بالشروط المذكورة سواء أَستُعمل للتطهير من البول والغائط الخارجين من الموضع المعتاد (الطبيعي الأصلي) أم من موضع غير معتاد (غير طبيعي كالفتحة الجراحية مثلًا).

الحالة الثالثة: ماء الاستنجاء طاهرٌ سواءً تعدّتِ النجاسة الموضع المعتاد أو لم تتعدّه. نعم، إذا تعدّت النجاسة الموضع بمقداركبير، بحيث تفشّت النجاسة عن الموضع المعتاد وزادت كثيرًا، بحيث لا يصدق على إزالته الاستنجاء عرفًا، فعندئذٍ لا يكون ماء الاستنجاء طاهرًا.

ص: 184

الحكم التاسع: حكم الماء المستعمل في رفع الحدث الأصغر (حكم ماء الوضوء):

قال قُدس سره: (والمستعمل في الوضوء طاهرٌ ومُطهِّرٌ)

ذكر المُحقق قُدس سره حكمين للماء المُستعمل في رفع الحدث الأصغر، أو قُل: للماء المستعمل في الوضوء، وهما:

الحكم الأول: طاهرٌ في حدِّ نفسِه:

قال قُدس سره: (والمستعمل في الوضوء طاهرٌ)، فهذا الماء طهارته ذاتية.

الحكم الثاني: مُطهِّرٌ لغيره:

قال قُدس سره: (والمستعمل في الوضوء طاهرٌ ومُطهِّرٌ)، أي يمكن أن يُرفع به الحدث بقسميه: الأصغر والأكبر، فيُمكن أنْ يتوضأ المكلف به مرةً ثانيةً وثالثةً وحتى عاشرة، كما يمكن أن يغتسل به سواء أكان غسلًا واجبًا أم مستحبًا.كما يُمكن أنْ يُزالَ به الخبث، فيُمكنُ تطهير الثوب المتنجس به، وهذا الحكم مما اتفق عليه الأصحاب، ويُمكِنُ أنْ يُستدلَّ له بأدلة منها:

الدليل الأول: أن الأصل في الماء هي الطهارة:

الاعتماد على الأصل، أيّ إنَّ الماءَ ما دام مُطلقًا، ولم تُصِبْه نجاسةٌ، فإنّه يصحَّ رفع الحدث به ولو لمراتٍ عديدة، كما تصح إزالة الخبث به، والماء الذي تم الوضوء به لم يخرج عن الإطلاق، ولا أصابته نجاسة.

ص: 185

الدليل الثاني: الاستصحاب:

لو توضأ المكلف بماءٍ متيقّن الطهارة، ثم شك في بقاء صحةِ رفعه للحدث أو لا، صحَّ الوضوء به؛ لاستصحاب جواز الوضوء به؛ لأنَّ المكلف كان على يقين بصحة رفع الحدث به، ثم طرأ عليه الشك، واليقين لا ينتقض إلا بمثله، فيستصحب الحالة السابقة، وهي: صحة رفع الحدث به.

وبعبارة أخرى: أنَّ الماء إنّما يصحُّ الوضوء به إذا اتصف بصفات، وما يهمنا منها في المقام اتصافه بصفتين: الطهارة والإطلاق، والوضوء به لا يغيّر هاتين الصفتين ولا يسلبهما عنه، فيبقى محتفظًا بطهارته ومطهريته، ومن ثم فإنه يرفع الحدث ويزيل الخبث؛ وعليه، لو توضأ مكلف بماءٍ مطلق طاهر –والإطلاق والطهارة قيدان توضيحيان لا احترازيان؛ لعدم إمكان الوضوء بغيرالمطلق من المياه وبغير الطاهر منها شرعاً- فإنَّ التوضؤ به لا يُغيّر من هاتين الصفتين فيه، بل يبقى على طهارته وإطلاقه، لذا يصحّ به رفع الحدث وإزالة الخبث.

الحكم العاشر: حكم الماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر:

قال قُدس سره: (وما استعمل في رفع الحدث الأكبر طاهرٌ. وهل يُرفَعُ به الحدثُ ثانيًا؟ فيه ترددٌ، والأحوط المنع).

لا بُدَّ من الإشارة أولًا إلى أنَّ حديث المُحقق قُدس سره عن الماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر فيما إذا كان قليلًا، أي كان مقداره أقل من كر، أما الكثير فهو طاهرٌ مطهرٌ بالاتفاق.

ص: 186

فلو اغتسل أحدهم بماءٍ غُسلًا واجبًا كغُسل الجنابة مثلًا، وجُمِع هذا الماء المستعمل في إناء مثلًا، فهل يكون هذا الماء طاهرًا في حدِّ نفسه أو لا؟ وإذا كان طاهرًا في حدِّ نفسه فهل يكون مطهرًا لغيره، -أي يكون رافعًا للحدث ومزيلًا للخبث- أو لا؟

ذكر المُصنف قُدس سره حكمين للماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر، هما:

الحكم الأول: أنه طاهرٌ في حدِّ نفسِه:

وهذا الحكم متفقٌ عليه بين الفقهاء؛ إذ لا مقتضي لنجاسته بعد افتراض نظافة البدن وطهارته من الخبث؛ لأنَّ الفرض أنه قد تمتإزالة النجاسة الظاهرية (الخبثية) من البدن، والنجاسة المعنوية (الحدثية) لا تُنجس الماء الطاهر، فلا مقتضي لنجاسته بملاقاته الجسم، وبذا يبقى طاهرًا.

ويمكن الاستدلال على طهارته بالاستصحاب؛ إذ إنَّ أصل الماء المستعمل في رفع الحدث - أي حالته السابقة - هو أنّه يصحُّ رفع الحدث به، فإذا شككنا في صحة رفعه للحدث أو لا، استصحبنا الحالة السابقة؛ لأنَّ الشك لا ينقض اليقين، واليقين لا ينتقض إلا بيقينٍ مثله.

الحكم الثاني: في كونه مطهّراً تردد، والأحوط المنع:

لتوضيح المراد من عبارة المحقق قُدس سره لابُدَّ من تقديم مقدمة:

ص: 187

ظاهرة الترددات في كتاب الشرائع:

عندما يريد الفقيه استنباط حكمٍ شرعيٍ معين، فإنّه لابُدّ أنْ يرجعَ إلى المصادر التشريعية التي توفِّر له المادة العلمية لاجتهاده واستنباطه، ومن المعلوم أنَّ مصادر التشريع الإسلامي التي يعتمد عليها الفقيه في استنباط الحكم هي القرآن الكريم وسنة المعصومين الأربعة عشر (صلوات الله وسلامه عليهم) قولًا وفعلًا وتقريرًا.ولا يتصورنَّ أحدٌ أنّ العملية سهلةٌ يسيرة، وأنه ما إن يقرأ المجتهد آية قرآنية أو حديثًا شريفًا حتى يصدر فتواه، كلا، بل المسألة أعمق وأعقد من ذلك بكثير.

لذا يواجه المجتهد الكثيرَ من الصعوبات، والتي من أهمِّها تعارض الأدلة في المضمون، بمعنى وجود دليلين متغايرين في الحكم رغم أنَّهما لموضوعٍ واحد! كأن يدل أحدهما على الجواز فيما يدل الآخر على الحرمة مثلًا في موضوع واحد، عندئذٍ يُفتح بابٌ علمي واسعٌ على المجتهد أن يُتقنه، حتى يتمكن من معرفة كيفية الخروج من مأزق تعارض الأدلة، وهو ما يُذكر في علم الأصول بعنوان (باب التعارض، أو التعادل، أو التراجيح).

وفي كتاب شرائع الإسلام، عندما يواجه المحقق الحلي قُدس سره مسألة فيها تعارض، فإنّه يشير إليها بقوله: (فيه تردد)، أي إنه يوجد قولان، أو أقوال عديدة، في المسألة.

ص: 188

وعليه، فقول المُحقق قُدس سره: (فيه ترددٌ) إشارةٌ منه إلى وجود تعارض في أدلة المسألة موضوعة البحث، وأنَّ هذه الأدلة المتعارضة قد تكون متكافئة، كما لو كانت قوية عند كلا الطرفين، فيتردد قُدس سره بدايةً بينها، فإنْ رجُحت لديه كفةٌ أحد الأدلة، بحيث جزم بترجيحه، أُفتى وفقًا له بقوله: (والأظهر كذا)، وإلا، فقد ينتهي إلى الاحتياط، فيقول بعد ذكره للتردد: (والأحوط كذا).فالتردّد إذن: توقف المحقق قُدس سره في حكم مسألة معينة، لتعارض أدلتها، أو لعمقها، والانتهاء منها إلى موقف عملي إذا ترجح عنده أحد الأقوال، أو يحتاط في المسألة إذا وجد أن المخرج منها هو الاحتياط.

أو قل: إنه إشارة من المحقق قُدس سره إلى وجود قولين أو أكثر في المسألة، وأن لكل منها دليله الخاص، وأن الموقف العملي منها يقتضي الاحتياط فيما لو لم يترجح دليل أحد الأقوال لدى المحقق.

استطراد: في لزوم تعظيم العلماء:

من هنا، فإنه ينبغي علينا –نحن طلبة العلم الذين لا زلنا في بداية طريق طلب العلم- أن لا نتعجل ونُخطِّئ مجتهدًا ما، فقط لأننا لم نطّلع على ما لديه من أدلةٍ أخذت بقلمه نحو الإفتاء بتلك الفتوى أو القول بذلك القول؛ فحلُّ تعارض الأدلة ليس بالمسألة السهلة، بل هي مسألة عويصة جدًا، تحتاج إلى بذل جهد استثنائي، والفقهاء يقضون عمرهم بين الروايات والأقوال للوصول إلى ترجيح قولٍ على قول.

ص: 189

وما الرسالة العملية إلا عُصارة جهد سنواتٍ طويلةٍ من العلم والبحث والتنقيب والمتابعة وسهر الليالي، فليس من الصحيح أنْ يُخطئه أو يهمش جهوده ساذجٌ ما يدّعي العلم، فعلينا أن نحترم العلماء؛ فهم الواسطة بيننا وبين المعصوم عَلَيْهِ السَّلاَمُ.

وهذه الترددات كانت ولا زالت محط أنظار العلماء والمحققين، وكُتِبت في بيانها كتب وشروح عديدة.عود على بدء:

في ما يتعلق بمطهرية الماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر، قال المحقق قُدس سره: (فيه ترددٌ، والأحوط المنع)، فالمحقق يحتاط في المسألة بالمنع من كونه مطهراً.

الآراء في مطهرية الماء القليل المستعمل في رفع الحدث الأكبر:

تقدّم أنَّ عبارة (وفيه ترددٌ) تشير إلى وجود أكثر من رأيٍ أو قولٍ في المسألة موضوعة البحث، والآراء في هذه المسألة هي:

الرأي الأول: إنَّ هذا الماء وإنْ كان طاهرًا، إلا أنه ليس مطهرًا؛ فلا يكون رافعًا للحدث؛ وذلك لعدة أدلة، نذكر منها دليلين:

الدليل الأول: لابُدَّ من يقين المكلف برفع الحدث لتصحَّ منه ما تُشترط فيه الطهارة من عبادات، كالصلاة مثلًا، والماء القليل المستعمل في رفع الحدث الأكبر مشكوكٌ في كونه رافعًا للحدث أو لا؛ لوقوع الخلاف فيه بين الفقهاء، الأمر الذي دعا المحقق قُدس سره إلى التردد، ومع الشك لا نتيقن بارتفاع الحدث به، فلا يُحكم عليه بكونه رافعًا للحدث.

ص: 190

وقد ردَّ بعض الفقهاء هذا القول: بعدم وجود منشأ عقلائي لهذا الشك؛ لأنّ هذا الماء وإنْ كان ماءً قليلًا، إلا أنّنا افترضنا أنّ البدن طاهر، أي إنه يخلو من أيّ نجاسةٍ خبثيةٍ، فلا يخرج الماء بعد الاغتسال به عن الإطلاق ولا عن الطهارة؛ إذ لا مقتضي لذلك،بالإضافة إلى عدم ملاقاته لنجاسة خارجية، وعليه، فيبقى طاهرًا مطلقًا، ومن ثَمّ يجوز الاغتسال به، ومع الجواز لا معنى للشك في كونه رافعًا الحدث.

الدليل الثاني: ما روي عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ أنّه قال: لا بأس بأن يتوضأ بالماء المُستعمل. وقال عَلَيْهِ السَّلاَمُ: الماءُ الذي يُغسل به الثوب أو يغتسل به الرجل من الجنابة لا يجوز أنْ يُتوضأ منه وأشباهه، وأما الذي يتوضأ به الرجل فيغسل به وجهه ويده في شيءٍ نظيفٍ فلا بأس أنْ يأخذه غيره ويتوضأ به (1)

والرواية واضحة في إثبات المدّعى.

وقد رُدَّ الاستدلال بهذه الرواية بردين:

الرد الأول: سندًا، إذ الرواية ضعيفةٌ؛ إذ ورد في سندها (أحمد بن هلال).

فائدة رجالية: ترجمة أحمد بن هلال العبرتائي:

ويطلق عليه (العبرتائي) نسبةً إلى قرية (عبرتا)، وهي قرية كبيرة من أعالي بغداد ومن نواحي (النهروان) تقع بين بغداد وواسط كما في معجم

ص: 191


1- الاستبصار للشيخ الطوسي، ج1، ص27و28 باب الماء المستعمل، ح1.

البلدان (1)، ولِدَ سنة مائة وثمانين للهجرة، وهو من أصحاب الإمامين الهادي والعسكري (صلوات الله وسلامه عليهما) وكان معاصرًا للإمام الجواد (صلوات الله عليه) ولكنه لم يروِ عنه.ذكرت بعض الأخبار أنّه حضر في سامراء، ورأى الإمام العسكري عَلَيْهِ السَّلاَمُ، بل رأى الإمام المهدي ¨ مع أربعين شخصًا.

كان في بداية حياته صالحًا في الظاهر، فقد قال عنه الشيخ الطوسي قُدس سره: روى أكثر أصول أصحابنا (2)

ويعني بالأصول: الكتب التي ذكر فيها الأصحاب روايات أهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم)، كالأصول الأربعمائة التي اختُصِرت في الكتب الأربعة للشيخ الكُليني والشيخ الصدوق والشيخ الطوسي (قُدِّست أسرارهم).

قال الكشي:... ورد على القاسم بن العلاء نسخة ما خرج (3) من لعن ابن هلال، وكان ابتداء ذلك أن كتب عَلَيْهِ السَّلاَمُ إلى قوّامه بالعراق: احذروا الصوفي المتصنع، قال: وكان من شأن أحمد بن هلال أنه قد كان حج أربعا وخمسين حجة، عشرون منها على قدميه.

ص: 192


1- معجم البلدان للحموي ج4 ص 77 و78.
2- قال الشيخ في الفهرست ص 83 الترجمة رقم: » 107 » 45 - أحمد بن هلال العبرتائي، وعبرتاء قرية بنواحي بلد اسكاف، وهو من بني جنيد، ولد سنة ثمانين ومائة، ومات سنة سبع وستين ومائتين، وكان غاليا متهما في دينه، وقد روى أكثر أصول أصحابنا.
3- يعني من توقيع الإمام المهدي ¨.

قال: وكان رواة أصحابنا بالعراق لقوه وكتبوا منه، وأنكروا ما ورد في مذمّته، فحملوا القاسم بن العلا على أن يراجع في أمره،فخرج إليه: قد كان أمرنا نفذ إليك في المتصنع ابن هلال لا رحمه الله، بما قد علمت لم يزل، لا غفر الله له ذنبه، ولا أقاله عثرته يداخل في أمرنا بلا إذن منّا ولا رضى، يستبدّ برأيه، فيتحامي من ديوننا، لا يمضي من أمرنا الا بما يهواه ويريد، أرداه الله بذلك في نار جهنم، فصبرنا عليه حتى بترَ الله بدعوتنا عمره. وكنا قد عرّفنا خبره قوماً من موالينا في أيامه، لا رحمه الله، وأمرناهم بإلقاء ذلك إلى الخاص من موالينا، ونحن نبرأ إلى الله من ابن هلال لا رحمه الله، وممن لا يبرء منه... (1)

وروي أنّه توفيَ في سنةِ مائتين وسبعة وستين هجرية، أيّ في بداية نيابة السفير الثاني محمد بن عثمان (2)

وعلى الرغم من أنَّ بداية حياته كانت صالحة، إلا أنَّ عاقبته كانت سيئة، حيث كان يتكتم على حسده وعلى انحرافه بزهده وعبادته، حتى صدرت بعض التوقيعات من الإمام المهدي (صلوات الله وسلامه عليه) في ذمِّه ولعنِه، وصفه الإمام المهدي ¨ في أحدتوقيعاته بأنّه (متصنع) (3)ووصفه الشيخ الطوسي قُدس سره ب-(وكان غاليا متهماً في دينه) (4)

ص: 193


1- اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي) للشيخ الطوسي ج2 ص 816 الترجمة رقم 1020.
2- الفهرست للشيخ الطوسي ص 83 الترجمة رقم: » 107 » 45.
3- اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي) للشيخ الطوسي ج2 ص 816 الترجمة رقم 1020
4- الفهرست للشيخ الطوسي ص 83 الترجمة رقم: » 107 » 45.

كما كانت أبرز انحرافاته هي معارضته لنيابة السفير الثاني محمد بن عثمان، ولعله كان يتطلع لأن يكون هو السفير عن الإمام المهدي (صلوات الله عليه) بعد النائب الأول، خصوصًا وأنّه كان معروفًا بالعبادة والزهد والعلم.

وقد نقل عن سعد بن عبد الله أنّه قال فيه: (ما رأينا ولا سمعنا بمُتشيّعٍ رجع عن التشيع إلى النصب إلا أحمد بن هلال) (1)، فهو لم يترك التشيُع فقط، بل صار ناصبيًا أيضًا حسب عبارة سعد بن عبد الله.

وقد اختلف علماء الرجال في اعتماد رواياته على أربعةِ آراء (2):

الرأي الأول: رفض جميع رواياته.

الرأي الثاني: قبول جميع رواياته.الرأي الثالث: قبول الروايات المنقولة عنه قبل ضلاله، ورفض رواياته المنقولة بعد ضلاله.

الرأي الرابع: رفض الروايات التي انفرد بنقلها هو فقط، أي الروايات التي وردت بسنده فقط ولم ترد بأي سندٍ آخر، وإلا قبلت.

قال النجاشي: أحمد بن هلال: أبو جعفر العبرتائي صالح الرواية، يعرف منها وينكر، وقد روى فيه ذموم من سيدنا أبي محمد العسكري عَلَيْهِ السَّلاَمُ (3)

ص: 194


1- كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق ص 76.
2- انظر: موسوعة الإمام المهدي عَلَيْهِ السَّلاَمُ في الكتاب والسنة والتاريخ- الشيخ محمد الريشهري ج2 ص 481 – 482 / الطبعة الأولى 1398 ه-.ش/ شركت جاب وانتشارات سازمان أوقاف وأمور خيريه.
3- فهرست أسماء مصنفي الشيعة (رجل النجاشي) للنجاشي ص 83 الترجمة رقم: »199».

وقال الشيخ الطوسي قُدس سره: أحمد بن هلال، وهو ضعيف فاسد المذهب، لا يُلتفت إلى حديثه فيما يختص بنقله (1)

فهو مختلفٌ في قبولِ روايته، فلا سبيل إلا الاحتياط الذي يقتضي أنْ يتم التعامل مع رواياته بحذرٍ وبتحقيقٍ كثير.

نكتة تربوية: ملاك القبول هو الإخلاص:

من سيرة العبرتائي المتقدمة علينا أنْ نلتفت إلى أنَ ملاك القبول عند الله عَزَّوَجَل هو الإخلاص، وأنّ الأعمال بخواتيمها؛ لذلك علينا دائمًا أنْ ندعو الله (سبحانه وتعالى) أنْ يُثبتنا على الحق وأنْ يرزقنا حسن العاقبة، فربما نكون في بداياتِ حياتنا ملتزمين بالدين، ملتزمينبالعبادة، لكن لعل النفس تخدعنا، أو تفتح الدنيا ذراعيها لنا، فننسى ما بنينا عليه أمرنا في بداية حياتنا؛ لذلك علينا دائمًا أنْ نلوذ بالله تعالى وأنْ لا نغترَّ بمعلومةٍ اكتسبناها، أو بفهمنا لشيء من الفقه أو المنطق أو النحو، فكُلُّ هذا لا ينفعنا إذا لم يكن مؤطرًا بإطارِ التقوى والالتزام بما يُريدُه الله عَزَّوَجَل.

الرد الثاني: دلالةً:

فلنقرأ الرواية مرة أخرى: عن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ أنّه قال: لا بأس بأن يتوضأ بالماء المُستعمل، وقال عَلَيْهِ السَّلاَمُ: الماءُ الذي يُغسل به الثوب أو يغتسل به

ص: 195


1- الاستبصار للشيخ الطوسي ج3 ص 28 الباب »17 - باب ما يجوز شهادة النساء فيه وما لا يجوز« ذيل الحديث (» 90 » 22).

الرجل من الجنابة لا يجوز أنْ يُتوضأ منه وأشباهه. وأما الذي يتوضأ به الرجل فيغسل به وجهه ويده في شيءٍ نظيفٍ فلا بأس أنْ يأخذه غيره ويتوضأ به (1)

فلو سلّمنا جدلًا بصحة سند الرواية، فإنَّ مضمونها لا يدلُّ على المُدّعى، أي لا يدلُّ على أنّ الماء القليل المُستعمل في رفعِ الحدث الأكبر لا يرفع الحدث مرةً ثانية؛ وذلك لأنّ ما يُفهم من الرواية هو:

أنَّ المقصود بالماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر، والذي لا يرفع الحدث مرةً ثانية هو خصوص الماء الذي أصابته نجاسة؛ وذلك لأنَّ الماء القليل بمجرد أن تصيبه نجاسة فإنّه يتنجس، ومن ثم لا يصح رفع الحدث به.والدليل على هذا المُدّعى: عطف الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ الماءَ الذي يجوز الوضوء به -وهو ما كان في شيءٍ نظيف- على الماء الذي لا يجوز الوضوء به، فلعلَّ قوله (في شيءٍ نظيف) قرينةٌ على أنَّ الماء الذي لا يجوز استعماله مرةً أُخرى هو ما لم يكن في شيء نظيف، أي ما أصابته نجاسة، فهو ماءٌ غير طاهر بلا شك؛ لأنّ الفرض أنّه ماءٌ قليلٌ، والماء القليل ينجس بمجرد ملاقاة النجاسة.

فإنْ صحَّ هذا الحملُ، فلا دلالةَ في الرواية على عدم مطهرية الماء المُستعمل في رفعِ الحدث الأكبر.

ص: 196


1- الاستبصار للشيخ الطوسي، ج1، ص27و28 باب الماء المستعمل، ح1.

الرأي الثاني: أنَّ الماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر علاوةً على أنّه طاهرٌ فهو مُطهِّرٌ أيضًا، بل ويمكن رفع الحدث به ثانيًا وثالثًا وعاشرًا.

وقد استدل أصحاب هذا الرأي بعدّةِ أدلة، نذكر منها:

الدليل الأول: عدم تمامية أدلة المنع، وهذا كافٍ في الجواز.

الدليل الثاني: استصحاب بقاء جواز رفع الحدث به، الثابت له قبل الاستعمال، إذ إنَّ الحالة السابقة للماء القليل المستعمل في رفع الحدث الأكبر أنّه مُطهِّرٌ، أي رافعٌ للحدث، فعند الشك في مطهريته -أي رفعه للحدث- بعد ذلك، تُستصحب الحالة الأولى، وهي جواز رفع الحدث به، أي جواز الوضوء به.

الدليل الثالث: عدم خروج هذا الماء عن الإطلاق والطهارة بعد استعماله في الاغتسال؛ فالماء الرافع للحدث هو الماء الطاهرالمطلق، وهنا لا مجال للتشكيك في كونه رافعًا للحدث؛ لأنه لا مجال للتشكيك في إطلاقه وطهارته بعد الاغتسال به، وطالما كان هذا الماء طاهرًا -إذ الفرض أنه لم يلاق نجاسة- ومطلقًا، صحَّ رفع الحدث به بلا أدنى شك.

ويضاف إلى هذه الأدلة الثلاثة: دلالة بعض الروايات، منها ما روي عَنِ الفُضَيْلِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ فِي الرَّجُلِ الجُنُبِ يَغْتَسِلُ فَيَنْتَضِحُ مِنَ المَاءِ فِي الإِنَاءِ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: لَا بَأْسَ «ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» (1)

ص: 197


1- الكافي للكليني ج3 ص 13 و14 بَابُ اخْتِلَاطِ مَاءِ الْمَطَرِ بِالْبَوْلِ ومَا يَرْجِعُ فِي الإِنَاءِ مِنْ غُسَالَةِ الْجُنُبِ والرَّجُلِ يَقَعُ ثَوْبُه عَلَى الْمَاءِ الَّذِي يَسْتَنْجِي بِه- ح 7.

وما روي من أنّه اغتسل بعض أزواج النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ في جفنةٍ، فأراد رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ أنْ يتوضأ منها، فقالت: يا رسول الله، إنّي كنتُ جنبًا. فقال صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ: إنّ الماءَ لا يجنب! (1)

لطيف جدًا قوله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ: (إنّ الماء لا يجنب)، فهو يريد أنْ يُشير إلى أنّ الماء طاهرٌ، أي لم يتنجس بالاغتسال به لرفع الحدث الأكبر.

رأي المحقق قُدس سره:

تردّد المُحقق قُدس سره في البداية إذ قال: (فيه ترددٌ)، لكنّه صرّح بعد ذلك بأنّه يختار طريق الاحتياط، إذ قال: (والأحوطُ المنع)، فمن أراد الاحتياط فعليه بالامتناع عن استعمال هذا الماء - القليل المستعمل في رفع الحدث الأكبر- في الوضوء أو في الغسل.ولعلّ منشأ الاحتياط هو تعارض أدلة الرأيين، وعدم وجدان المرجح -عند المحقق قُدس سره- لترجيح أحدهما على الآخر، وعلى كُلِّ حالٍ فالاحتياطُ حسنٌ على كُلِّ حال، ومهما استطاع المكلف أن يحتاط في جميع أموره، ضمن بذلك مطابقة عمله للواقع، ويكون عمله صحيحًا.

نصيحة:

ونحن -كطلبة علمٍ- مطلوبٌ منا كثيرًا أنْ نحتاط في تصرفاتنا بشكلٍ عام، بأن نبتعد عن أي تصرفٍ من شأنه أنْ يُشكِّك في نزاهة طالب العلم أو في تدينه، كما علينا أنْ نعكس صورةً حسنةً لطلبةِ العلم؛ لأنَّ طالب العلم لا يمثل نفسه فقط، بل هو يمثل الحوزة كلها.

ص: 198


1- عوالي اللئالي لابن جمهور الأحسائي، ج1، ص166، فصل8، ح177.

وقد روي عن أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه): «مَنْ وَضَعَ نَفْسَه مَوَاضِعَ التُّهَمَةِ، فَلَا يَلُومَنَّ مَنْ أَسَاءَ بِه الظَّنَّ» (1)

فحريٌ بنا أن نحتاط كثيرًا لديننا، ونحتاط في سلوكياتنا، ونحتاط في كُلِّ أفعالنا، كيلا نؤاخذَ بشيءٍ ينعكسُ علينا - أو على الجهة التي ننتمي إليها- سلبًا.

تنبيه: الاختلاف في رفع الحدث لا في إزالة الخبث:

إنَّ الخلاف بين الفقهاء في الماء القليل المستعمل في رفع الحدث الأكبر إنّما وقع في جواز رفع الحدث به، وأما في إزالة الخبث فلا خلاف بينهم في جوازه؛ لفرض اتفاقهم على طهارته وإطلاقه،فيجوز غسل الثوب المتنجس بالدم-مثلًا- به، وتحصل به طهارته منه.

* * *

ص: 199


1- نهج البلاغة ج4 الحكمة رقم 159.

الطرف الثالث:في الأسئار

قال المحقق قُدس سره: الثالث في الأسئار، وهي كُلُّها طاهرةٌ عدا سؤر الكلب والخنزير والكافر، وفي سؤر المسوخ تردد، والطهارةُ أظهر، ومَنْ عدا الخوارج والغُلاة من أصناف المسلمين طاهر الجسد والسؤر.

الأسئار: جمع سؤر، والسؤر لُغةً: هو الفضلة أو البقية من المشروب وما شابه، جاء في لسان العرب: (والسُّؤْرُ: بقية الماء في الحوض) (1)

ولا يختلف الاصطلاح الفقهي كثيراً عن المعنى اللغوي، فالسؤر هو الماء القليل الذي لاقاه فمُ الحيوان أو أي عضوٍ آخر من جسمه؛ لا خصوص الفم، والحيوان هو كُل ما له حياة؛ فيشمل الإنسان.

قال ابن إدريس: والسؤر عبارة عما شرب منه الحيوانُ أو باشَرَه بجسمه من المياه وسائر المائعات (2)ذكر المُصنف قُدس سره في هذا الطرف عدّة أحكام يمكن تلخيصها في ثلاثة فروع:

ص: 200


1- لسان العرب لابن منظور ج2 ص238.
2- السرائر لابن إدريس الحلي (ج1 ص159).

الفرع الأول: حكم السؤر من حيث الطهارة والنجاسة:

قال قُدس سره: (وهي كُلُّها طاهرةٌ عدا سؤر الكلب والخنزير والكافر وفي سؤر المسوخ ترددٌ والطهارةُ أظهر،...).

حديثنا يدورُ حول الماء القليل -دون الكثير- الذي لاقى فم الحيوان عند شربه منه، أو شيئًا من بدنه، كما لو وضع كلبٌ قدمه في ماءٍ قليلٍ، أو سقط طائرٌ فيه مثلًا، فهل يبقى هذا الماء القليل محافظًا على طهارته أو أنّه يتنجس؟

ذكروا أنَّ في المسألة أقوالًا أربعة، هي:

القول الأول: نجاسة سؤر ما لا يؤكل لحمه من الحيوانات عدا نوعين، هما:

أ- الطيور.

ب- ما لا يمكن التحرز منه في الحضَر كالفأرة والهرّة. ويُقصد بالحضَر المدينة، في قبال القُرى والأرياف أو الأعراب.

والوجه فيه: أنَّ هذه الحيوانات موجودة بكثرة في بيوت المدينة، بحيث لا يستطيع الإنسان عادةً أن يتحرّزَ من مباشرتها للماء القليل.مدارُ هذا القول على كون الحيوان مما يؤكل لحمه أو لا، فجميعُ أفراد ما لا يؤكل لحمه سؤرها نجسٌ، عدا الطيور وما لا يمكن التحرز منه كالفأرة والهرة.

ص: 201

ونُسِب هذا القولُ إلى الشيخ الطوسي قُدس سره في كتابه (المبسوط) (1)

القول الثاني: طهارة سؤر الحيوان الطاهر؛ طائرًا كان أو غيره:

ونجاسة سؤر الحيوان النجس فضلًا عن الكلب والخنزير والكافر والخوارج الغُلاة والنواصب كما سيأتي تفصيله إنْ شاء الله تعالى.

والمدار في هذا القول على طهارة الحيوان ونجاسته؛ فما كان طاهراً فسؤره طاهر، سواء أكان طائرًا أم ليس بطائر، وما كان نجسًا فسؤره نجسٌ.

وهذا هو مختار المحقق قُدس سره.

وأمّا الوجهُ في اختياره هذا القول فسيأتي إن شاء الله تعالى.

القول الثالث: نجاسة سؤر الجلّال والمسوخ:والجلّال - بالتشديد-: هو الحيوان الذي تغذّى على عذرة الإنسان إلى حدٍّ معيّن، بحيث نبت لحمُه واشتدَّ عظمُه عليها، وقبل أنْ يُستبرأ بما يُزيل عنه الجلل.

وأمّا المسوخ، فقد ضربوا له أمثلة بالدب والقرد والثعلب والأرنب والفيل، بناءً على القول بأن هذه الحيوانات قد مُسِخت.

القول الرابع: نجاسة سؤر آكل الجيف، وطهارة ما عداه.

ثم إن المُصنِّف في عبارته أشار إلى:

ص: 202


1- المبسوط للشيخ الطوسي ج1 ص10.

أولًا: نجاسة سؤر الحيوان النجس، وهو الكلب والخنزير والكافر، إذ قال: (وهي كُلُّها طاهرة عدا سؤر الكلب والخنزير والكافر). وهذا أمرٌ واضحٌ؛ إذ إنَّ هذه الحيوانات نجسةُ العين، فإذا لاقت الماء القليل تنجّس؛ لأنَّ الماء القليل ينفعل - أي يتنجس- بمجرد ملاقاة النجاسة.

وهذا الحكم يشمل كل أنواع الملاقاة بأيّ جزءٍ من البدن لا خصوص فم الحيوان النجس.

ثانيًا: تردّد في الحكم على سؤر المسوخ بالنجاسة، ثم استظهر الطهارة، إذ قال: (وفي سؤر المسوخ ترددٌ، والطهارةُ أظهرُ).

وقد تقدّم الحديث عن التردد، وخلاصته: أنّه يشير إلى وجود قولين أو رأيين في المسألة، لكُلٍّ منهما أدلته ومستنداته، والمصنف إما أنْ يميل إلى أحد هذين الرأيين ويجزم به، فعندئذٍ يبرز رأيهبصيغة الفتوى، كما في قوله: (وهو أظهر) مثلًا، وإما أن لا يرجّح أيًّا منهما، وفي هذه الحال إما أنْ يحتاط بالقول: (والمنع أو الفعل أو كذا أحوط) أو لا يُبدي رأيًا، حيث يتوقف عند قوله: (وفيه تردد).

وفي خصوص تردده في سؤر المسوخ، لم يظهر وجه الترديد فيه كما ذكر الشُرّاح، ولعلّه لأجل التالي:

أمّا نجاسة سؤر المسوخ: فلعله لحرمة بيع المسوخ نفسها، كما نُقل ذلك عن الشيخ.

ورُدَّ: بعدم الملازمة بين حرمة البيع وبين نجاسة العين.

ص: 203

وأمّا طهارة سؤر المسوخ: فللأصل، إذ الأصل في الأشياء هي الطهارة إلا إذا ثبتت النجاسة بدليل، -كما ثبتت النجاسة في الكلب والخنزير والكافر والنواصب والميتة من ذي النفس السائلة- والمسوخ لم تثبت نجاسته بدليل واضح، فيُرجع فيها إلى الأصل، والأصل فيها أن تكون طاهرةً.

ولذلك استظهر المحقق قُدس سره طهارتها بعد أنْ ترددَّ، فقال: (وفي سؤر المسوخ ترددٌ، والطهارة أظهر).

وقال بعضٌ: (الطهارة مُتعينة)؛ لعدم قيام دليلٍ على نجاسة المسوخ.

ثالثًا: ألحقَ المصنف قُدس سره بحكم النجاسة عدّة أصنافٍ؛ لنفس السبب السابق، وهو: أنَّ الماء القليل ينفعل، أي ينجس بمجرد ملاقاة النجاسة.والأصناف التي ذكرها المصنف قُدس سره هي:

الصنف الأول: الخوارج:

وهم الذين خرجوا على أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) في النهروان، بل يمكن التعميم لكُلّ من خرج على الإمام المعصوم في كُلِّ زمنٍ، أي خرج لمقاتلة الإمام المعصوم، فهؤلاء شرعًا يُعدّون من الخوارج وإنْ حُكِم عليهم بالإسلام ظاهرًا إن لم ينصبوا العداء للأئمة عَلَيْهِم السَّلاَمُ (1)

ص: 204


1- قال السيد السيستاني في منهاج الصالحين ج1 ص 160: ومنهم: الخوارج وهم على قسمين: ففيهم من يعلن بغضه لأهل البيت عليهم السلام فيندرج في النواصب، وفيهم من لا يكون كذلك وإن عد منهم - لاتباعه فقههم - فلا يحكم بنجاسته.

الصنف الثاني: الغُلاة:

هم الذين ادعوا ألوهية أحد البشر، أو قالوا بألوهية المعصوم، كمن عبدوا أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه)، أو قالوا باستقلاله عن الله عَزَّوَجَل.

فالغلو يتلخص في ادّعاء ألوهية أحد البشر أو ادّعاء استقلاله عن الله عَزَّوَجَل، وعليه، فلا يُعدُّ من اشتدّ في حبه لأهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ وكان مستعدًا لأن يُضحّي بنفسه من أجلهم مُغاليًا، وكذا من نفى السهو والنسيان عنهم، أو قال بولايتهم التكوينية والتشريعية إذا آمن أنَّ كلَّ ذلك إنّما كان لهم بفضل الله تعالى وبإذنه وبإقداره.وفرقٌ شاسعٌ بين من يقول: إنَّ الإمام مستقلٌ عن الله عَزَّوَجَل، وبين من يقول إنّه غير مستقل؛ فالأول يرفعه إلى مرتبة الإله والخالق والربّ، على حين إنَّ الثاني يجعله في مرتبة المألوه والمخلوق والمربوب.

ومن المعلوم أنَّ الغُلاة ليسوا من المسلمين؛ فهم خارجون تخصصًا عنهم، فكيف أدخلهم المُحقق قُدس سره؟ وكيف استثناهم من أصناف المسلمين؟

وسيأتي بيان الجواب عنه إن شاء الله تعالى.

الصنف الثالث: النواصب:

لم يذكرهم المصنف قُدس سره هنا صراحةً، وإنّما ألحقهم الفقهاء بالمحكوم

ص: 205

عليهم بالنجاسة، والنواصب هم من أعلنوا العداء لأهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ؛ فهؤلاء حُكِمَ بنجاستِهم، ومن ثَمّ تكون أسئارهم نجسةً (1)

إشكالٌ:

قال المحقق قُدس سره: (ومن عدا الخوارج والغُلاة من أصناف المسلمين طاهر الجسد والسؤر):إنّ الغُلاة ليسوا من المسلمين فهم خارجون تخصصاً عن المسلمين، فكيف أدخلهم المحقق قُدس سره؟ وكيف استثناهم من أصناف المسلمين؟

ونفس الكلام يُقال في الخوارج المحكوم بكفرهم.

الجواب:

يمكن أنْ يُجاب عن ذلك بوجهين، هما:

الأول: يُحمل ذكرهم ضمن المسلمين على أنّه مجازٌ، باعتبار ما كانوا عليه من اعتقاد، وهو الإسلام، فلأنّهم كانوا مسلمين صحَّ أنْ يستثنيهم من عموم المسلمين.

الثاني: يُحمل الاستثناء على أنّه استثناءٌ منقطعٌ، والاستثناء المنقطع هو ما كان فيه المستثنى من غير جنس المستثنى منه، نحو: جاءَ القومُ إلا حمارًا، فالاستثناء هنا مُنقطعٌ؛ لأنّ الحمارَ ليس من جنس القوم، وكذلك فقد استثنى المُحقق قُدس سره الغُلاة من المسلمين.

ص: 206


1- قال السيد السيستاني في منهاج الصالحين ج1 ص169: النواصب: وهم المعلنون بعداوة أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ، ولا إشكال في كفرهم.

إشارات:

الإشارة الأولى: إلحاق المجبِّرة والمجسِّمة بالمحكوم عليهم بالنجاسة:

ألحقَ بعضٌ فرقة المُجبِّرة والمُجسِّمة بالمحكوم عليهم بالنجاسة.

فأمّا المُجبِّرة فهم الذين قالوا: إنّ الله عَزَّوَجَل يجبر الإنسان على أفعاله.وأما المجسِّمة فهم الذين نسبوا الجسم والجسمية إلى الله عَزَّوَجَل؛ فقالوا: إنّ لله (عز شأنه) جسماً، ويداً، ورجلاً، وإن له أبعاداً.

وقد ذهب بعض الفقهاء إلى الحكم عليهم بالنجاسة، وإذا كانوا كذلك فإنّ سؤرهم هو الآخر نجسٌ بلا شك.

الإشارة الثانية: حكم سؤر الماء المضاف:

ما تقدّم من حكمٍ لسؤر الماء القليل لا يقتصر على الماء المطلق، بل يشمل الماء المضاف أيضًا؛ لأنّ الماء المضاف حكمه -من حيث الانفعال بالنجاسة- حكم الماء القليل، فكما أنَّ الماء القليل ينفعل بمجرد ملاقاة النجاسة فكذلك الماء المضاف ينفعل بمجرد ملاقاة النجاسة، وعليه لو ولغ كلب -مثلاً- بأناءٍ فيه ماء تفاح، أو ماء برتقال، فإنَّ هذا الماء يتنجس؛ لأنّه سؤر حيوانٍ نجسِ العين.

وقد عمّم بعضٌ هذا الحكم ليشمل المأكول أيضًا.

الإشارة الثالثة: ما المراد من الكافر في عبارة المصنف؟

المراد من الكافر في قوله قُدس سره: (وهي كلها طاهرة عدا سؤر الكلب والخنزير والكافر...) هو الكافر الذي حُكِمَ عليه بالنجاسة، كالملحد

ص: 207

والكافر غير الكتابي مثلًا، وأما الكافر الكتابي (المسيحي، اليهودي) فهي مسألة تختلف باختلاف آراء الفقهاء من حيث نجاسة العين أو عدمها، والمشهور طهارته، فيكون سؤره طاهرًا أيضًا.

الفرع الثاني: ما يُكره سؤره:

قال قُدس سره: (ويُكره سؤرُ الجلّال، وسؤر ما أكل الجيف إذا خلا موضع الملاقاة من عين النجاسة، والحائض التي لا تؤمن)

ذكر المُحقق قُدس سره عدّة أصنافٍ يُكره سؤرها:

الصنف الأول: الحيوان الجلّال:

وهو ما يتغذّى على عذرةِ الإنسان فقط حتى ينبتَ عليه لحمه ويشتدَّ، وقبل أنْ يُستبرأ بما يُزيل عنه الجلل.

وفي نجاسته أو طهارته قولان:

1-إنّه نجس العين، فهو كالكلب مثلًا، فنجاسته وحرمة أكله ذاتية، وعليه يكون سؤره نجسًا؛ فإذا شرب الحيوان الجلّال -كالدجاجة مثلّا- من ماءٍ قليلٍ تنجّسَ هذا الماء؛ لأنه نجس العين، فسؤره نجسٌ.

2-إنّه طاهر العين، لأنّ جلله لا يؤثر على طهارته، فلا يُصبحَ نجس العين، وتبقى عينه – جسمه - طاهرةً.

نعم، لا يجوز أكله ويحرم ذلك؛ لأنه قد تغذّى على عذرة الإنسان، فهو كميتة السمك، طاهرةٌ لكن لا يجوز أكلها، وكذلك الحيوان الجلّال يحرمُ أكله، لكن عينه –جسده- يبقى طاهراً؛ ولذا لم يحكم على سؤره بالنجاسة.

ص: 208

والحيوان الجلّال تكون نجاسته وحرمة أكله عرضية، يمكن إزالتها بأن نستبرئ هذه الدجاجة، ويتم استبراؤها بمنعها عن أكل عذرة الإنسان وإطعامها طعامًا طاهرًا لمدة ثلاثة أيام كما ذُكِر فيالكتب الفقهية، فتعود حينئذٍ إلى حالتها الأولى، وهي الطهارة ومن ثَمّ يجوز أكلها.

أما قبل ذلك ولو في هذه المدة - الثلاثة أيام - فيحرم ذلك.

ونلفت النظر إلى أن لكل صنف من الحيوانات الجلّالة فترة معينة للاستبراء، تُراجع في محلها في الكتب الفقهية.

وقد اختار المحقِّق الحلي قُدس سره القول الثاني؛ ولذا لم يعد الجلّال من النجاسات، بل حكم على سؤره بالكراهة للدليل الخاص.

وما تقدّم حكم سؤر الحيوان الجلّال العام، وهناك تفصيل في حكم سؤره، نلخصه في نقطتين:

الأولى: أن يكون موضع ملاقاة الحيوان للماء نجسًا، كما لو كان منقار الدجاجة الجلّالة نجسًا، وشربت من الماء، فهنا لا إشكال في الحكم على الماء بالنجاسة؛ لا لجلل الدجاجة، بل لأنَّ منقارها يحمل عين نجاسة، وقد لاقى ماءً قليلًا، وقد تقدّم في العديد من المواضع أنَّ الماء القليل ينفعل - ينجس- بمجرد ملاقاة النجاسة، وبهذا الاعتبار يكون هذا الحكم شاملاً للحيوان غير الجلال.

الثانية: أنْ يخلو موضع المُلاقاة من عين النجاسة، كما لو شربت دجاجة جلّالة من ماءٍ قليلٍ وكان منقارها طاهرًا، حينئذٍ لا يُحكم على سؤرها بالنجاسة، بل بالكراهة لدليلٍ خاص.

ص: 209

وعليه فإنَّ حكم المصنف قُدس سره بعدم نجاسة سؤر الحيوان الجلّال مبنيٌ على أمرين:الأمر الأول: أن يكون الحيوان الجلّال طاهر العين.

الأمر الثاني: أن يكون موضع الملاقاة مع الماء القليل خالياً من عين النجاسة.

الصنف الثاني: الحيوان الذي يأكل الجيف:

هو الحيوان الذي يأكل الميتة، وهذا أيضًا سؤره مكروهٌ كحكمٍ عام، شرط أن لا يكون هذا الحيوان الذي يأكل الجيف نجس العين كالكلب مثلًا، فلو شرب كلبٌ من ماءٍ قليلٍ وكان آكلًا للجيف فلا إشكال حينئذٍ بنجاسة سؤره.

وفي حكم سؤر الحيوان آكل الجيف تفصيلٌ كالتفصيل المتقدّم في الحيوان الجلّال، نلخصه في حالتين:

الأولى: أن يكون موضع ملاقاة الحيوان للماء نجسًا، فهنا لا إشكال في الحكم على الماء بالنجاسة؛ لأنَّ موضع ملاقاة الحيوان للماء يحمل عين نجاسة، وقد لاقى ماءً قليلًا، وهو ينفعل –ينجس- بمجرد ملاقاة النجاسة.

الثانية: أنْ يخلو موضع المُلاقاة من عين النجاسة، حينئذٍ لا يُحكم على سؤره بالنجاسة، بل بالكراهة لدليلٍ خاص.

ص: 210

دليل طهارة سؤر الحيوان (الجلاّل، وآكل الجيف):

مما يدلُّ على طهارة سؤر (الجلّال، والحيوان الذي يأكل الجيف) ما روي عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: فَضْلُ الحَمَامَةِ والدَّجَاجِ لَا بَأْسَ بِه، والطَّيْرِ (1)

والرواية مطلقة، فتشمل الجلال وغيره.

ويصدق على الفضلة أنّها سؤرٌ كما تقدّم.

كما روي عَنْ عَمَّارِ بْنِ مُوسَى عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: سُئِلَ عَمَّا تَشْرَبُ مِنْه الحَمَامَةُ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: كُلُّ مَا أُكِلَ لَحْمُه فَتَوَضَّأْ مِنْ سُؤْرِه واشْرَبْ. وعَمَّا شَرِبَ مِنْه بَازٌ (نوعٌ من أنواع الصقور) أَوْ صَقْرٌ أَوْ عُقَابٌ (نوعٌ من أنواع النسور)؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الطَّيْرِ، تَوَضَّأْ مِمَّا يَشْرَبُ مِنْه، إِلَّا أَنْ تَرَى فِي مِنْقَارِه دَماً، فَإِنْ رَأَيْتَ فِي مِنْقَارِه دَماً فَلَا تَوَضَّأْ مِنْه ولَا تَشْرَبْ (2)

والقيد المذكور في الرواية هو نفسه الذي ذكره المصنف قُدس سره: (إذا خلا موضعُ المُلاقاة من عين النجاسة).

دليل كراهة سؤر الحيوانات (الجلاّل، آكل الجيف):

مما يدلُّ على الكراهة ما روي مُرسلًا عَنِ الوَشَّاءِ عَمَّنْ ذَكَرَه عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ: أَنَّه كَانَ يَكْرَه سُؤْرَ كُلِّ شَيْءٍ لَا يُؤْكَلُ لَحْمُه (3)

ص: 211


1- الكافي للكليني ج3 ص 9 بَابُ الْوُضُوءِ مِنْ سُؤْرِ الدَّوَابِّ والسِّبَاعِ والطَّيْرِ- ح2.
2- الكافي للكليني (ج3 ص9 و10 بَابُ الْوُضُوءِ مِنْ سُؤْرِ الدَّوَابِّ والسِّبَاعِ والطَّيْرِ ح5).
3- الكافي لللكيني ج3 ص 10 بَابُ الْوُضُوءِ مِنْ سُؤْرِ الدَّوَابِّ والسِّبَاعِ والطَّيْرِ ح7.

مع ضمّ: أن الحيوان الجلّال مما لا يؤكل لحمُه.

والرواية ضعيفة السند بالإرسال (عمن ذكره) ولعل حكمهم وفقها بالكراهة كان بناءً على قاعدة التسامح في أدلة السنن، وقد تقدّم بيانها.

الصنف الثالث: الحائض التي لا تؤمن:

قال المحقق قُدس سره: (ويكره... والحائض التي لا تؤمن).

الحائض التي لا تؤمن: هي التي لا تعتني بالمحافظة على الطهارة، ولم تكن مستحفظةً من الدم، ولا تجتنب من النجاسات وما شابه.

أما المأمونة، فهي معلومة الحال بأنّها تتحفظ من النجاسات، أو على الأقل نظن بها ذلك من خلال حُسنِ ظاهرها.

والحكم بكراهة سؤرها جاء على خلفية الجمع بين ما دلَّ على جواز شرب سؤرها، وبين النهي عن الوضوء به، والجمع بينهما هو بالحكم بكراهة سؤرها.

روي عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: اشْرَبْ مِنْ سُؤْرِ الحَائِضِ، ولَا تَوَضَّأْ مِنْه (1)ولعله لأجل ذلك خصَّ البعض الكراهة بخصوص الوضوء بسؤرها، لا شربه.

ص: 212


1- الكافي للكليني ج3 ص 10 بَابُ الْوُضُوءِ مِنْ سُؤْرِ الْحَائِضِ والْجُنُبِ والْيَهُودِيِّ والنَّصْرَانِيِّ والنَّاصِبِ- ح1.

وقد حمل الفقهاء النهيَ على الكراهة لا على الحرمة؛ وذلك لأنَّ الرواية أجازت شرب السؤر، مما يدلُّ على طهارته، وإلا لنهت عنه أيضاً، ولا سبب بعد ذلك يقتضي النهي عن الوضوء به سوى كونه سؤرها؛ إذ إنّه ليس بمضافٍ.

وأما قيد المأمونة الرافع للكراهة، فهو مقتضى ما رويَ عَنِ العِيصِ بْنِ القَاسِمِ، قَالَ: سَالتُ أَبَا عَبْدِ الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ: هَلْ يَغْتَسِلُ الرَّجُلُ والمَرْأَةُ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: نَعَمْ، يُفْرِغَانِ عَلَى أَيْدِيهِمَا قَبْلَ أَنْ يَضَعَا أَيْدِيَهُمَا فِي الإِنَاءِ. قَالَ: وسَالتُه عَنْ سُؤْرِ الحَائِضِ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: لَا تَوَضَّأْ مِنْه، وتَوَضَّأْ مِنْ سُؤْرِ الجُنُبِ، إِذَا كَانَتْ مَأْمُونَةً، ثُمَّ تَغْسِلُ يَدَيْهَا قَبْلَ أَنْ تُدْخِلَهُمَا فِي الإِنَاءِ (1)

فالإمامُ (صلوات الله وسلامه عليه) قال: إنّ سؤر الحائض وسؤر الجنب إذا كانت مأمونةً فتوضّأ من سؤرها.

وبضمّ هذه الرواية إلى الرواية السابقة -التي أجازت الشرب من سؤر الحائض ونهت عن الوضوء منه- ينتج ما يأتي:

أولًا: جواز شرب سؤر الحائض ومن دون كراهة.

ثانيًا: النهي عن الوضوء بسؤرها إذا لم تكن مأمونة.

ثالثًا: إباحة الوضوء بسؤرها إذا كانت مأمونة.

تلك هي النتائج المستخلصة من الروايات، أمّا المحقق قُدس سره فيظهر من عبارته أنّه أطلق كراهةَ سؤرِ الحائض، إذ قال (والحائض التي لا تؤمن) ضمن من يكره سؤرهم.

ص: 213


1- الكافي للكليني ج3 ص 10 بَابُ الْوُضُوءِ مِنْ سُؤْرِ الْحَائِضِ والْجُنُبِ والْيَهُودِيِّ والنَّصْرَانِيِّ والنَّاصِبِ- ح2.

وقد تقدّم أنّ منشأ هذه الكراهة هي الروايات التي أجاز بعضها شرب سؤرها، ونهى بعضها الآخر عن الوضوء منه، فإذا كان سؤرها صالحًا للشرب شرعًا، أي إنّه طاهرٌ، حينئذٍ يُحمل النهي عن الوضوء به على الكراهة.

الصنف الرابع: سؤر البغال والحمير والفأرة والحية:

وهذا ما أشار إليه قُدس سره بقوله: (وسؤر البغال والحمير والفأرة والحية).

فهذه الحيوانات هي طاهرةٌ في حدِّ نفسها وليست نجسة، فإذا لاقت الماء القليل - سواء أَشربت منه أم وقعت فيه، وسواء أَكان الماء قليلًا أم كثيرًا-، فالأصلُ الطهارة.

وقد دلّت الأدلة الروائية على طهارة سؤر البغال والحمير والفأرة والحية، نذكر منها ما يدلُّ على طهارة سؤر الفأرة، حيث روي عن سعيد الأعرج قال: سألت أبا عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ عن الفارة تقع في السمن والزيت ثم تخرج منه حياً (1)؟ فقال عَلَيْهِ السَّلاَمُ: لا بأس بأكله (2)علماً أن هناك خلافاً في كراهة سؤر هذه الحيوانات، يُراجع في مظانه (3)

الصنف الخامس: ما مات فيه الوزغ والعقرب:

قال قُدس سره: (وما مات فيه الوزغ والعقرب):

لم يذكر المحقق السؤر الذي سقط فيه العقرب والوزغ وخرجا حيين،

ص: 214


1- كذا في المصدر.
2- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج9 ص 86 ح (362) 97.
3- انظر: مدارك الأحكام للسيد محمد العاملي ج1 ص 136 – 137.

مما يدلُّ على أنْ لا كراهةَ فيه، بل ذكر خصوص السؤر الذي مات فيه الوزغ والعقرب ولم يقل بنجاسته؛ لأنّهما من الحيوانات التي ليست لها نفسٌ سائلة، وإلا لو كانت لهما نفسٌ سائلة وماتا في ماءٍ قليل، فحينئذٍ ينجس ذلك الماء القليل بلا إشكال.

نعم، قال بكراهته؛ للدليل الخاص، حيث وردت روايات تنهى عما مات فيه الوزغ والعقرب، ولمّا كانت هذه الروايات ضعيفة السند من جهةٍ، وميتة هذين الحيوانين طاهرةٌ من جهةٍ أخرى، فنحمل هذه الرواية الناهية عن سؤرها على الكراهة دون الحرمة، فيُكره استعماله في الشرب وفي الوضوء وما شابه.

الفرع الثالث: حالات ينجس فيها الماء:

قال قُدس سره: (وينجس الماء بموت الحيوان ذي النفس السائلة، دون ما لا نفس له، وما لا يُدرك بالطرف من الدم لا يُنجّس الماء، وقيل: يُنجِّسه، وهو الأحوط).ذكر المصنف قُدس سره حالتين ينجس فيهما الماء، وقبل بيانهما ننبه على أنَّ الماء محل البحث هنا هو خصوص الماء القليل، أي الأقل من الكر؛ لأنَّ الماء الكثير -كما هو معلومٌ- لا ينفعل بملاقاة النجاسة إلا بتغير أحد اوصافه الثلاثة، والحالتان هما:

الحالة الأولى: موت الحيوان ذي النفس السائلة في الماء:

فلو مات حيوان ذو نفسٍ سائلة في الماء القليل فإنَّه ينجس، وهذا لا خلاف فيه بين الفقهاء، بل هو موضع وفاق؛ وذلك لأنَّ ميتة ذي النفس

ص: 215

السائلة نجسةٌ، والماء القليل ينفعل بمجرد ملاقاة النجاسة، فإن حصلت الملاقاة بينهما تنجّس الماء بلا أدنى شك.

وقد دلّت على هذا الحكم الروايات والأخبار المستفيضة، منها ما رويَ عن حفص بن غياث: لا يُفسد الماء إلا ما كانت له نفس سائلة (1)

وأيضًا ما روي عن عمار الساباطي، عن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ: كل ما ليس له دمٌ فلا بأس (2)، حيث إن المفهوم منه: أن ما كان له دم (نفس سائلة) ففيه بأس.

إن قلت:

إن هذه الروايات ضعيفة السند، ومن ثَمّ يشكل الاستدلال بها على تنجس الماء القليل إذا لاقته ميتة ذي النفس السائلة.قلت:

أولًا: هذه الروايات وإن كانت ضعيفة السند، لكن عمل الأصحاب بها يجبر ضعفها ويقوّيه، وهذا بناءً على قبول جابرية عمل الأصحاب لضعف سند الرواية.

ثانيًا: إنّ الميتة ذات النفس السائلة نجسة -كما ثبت في محله في باب النجاسات- والقاعدة تقتضي نجاسة الماء القليل عند ملاقاته النجاسة، بمعنى أن نجاسة الماء القليل حينئذٍ هي مقتضى ملاقاته للنجس، ولو من دون روايات خاصة.

ص: 216


1- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج1 ص 231 ح (669) 52.
2- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج1 ص 285 من حديث (832) 119.

الحالة الثانية: الدم الذي لا يُدرك بالعين:

قال المُحقق قُدس سره: (وما لا يُدرك بالطرفِ من الدم لا ينجّس الماء، وقيل ينجّسه وهو الأحوط).

ربما هذه الحالة ليست من السؤر، ولعلّ المصنف قُدس سره ذكرها من بابِ الاستطراد، وبيانها بالآتي:

تقدّم أنَّه في حالة سقوط دمٍ يُدرك ويُلاحظ بالعين المجردة في الماء القليل فإنّه يتنجس بلا خلاف بين الفقهاء، وأن في مسألة سقوط دمٍ قليلٍ لا يدرك بالعين المجردة في ماء قليلٍ خلافاً بين الفقهاء، والمُحقق قُدس سره قال بعدم تنجسّه، ثم احتاط بنجاسته.

فلماذا أفتى المصنف قُدس سره بعدم النجاسة أولًا؟قيل: لعلّه لما رويَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَخِيه أَبِي الحَسَنِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: سَالتُه عَنْ رَجُلٍ رَعَفَ فَامْتَخَطَ فَصَارَ بَعْضُ ذَلِكَ الدَّمِ قِطَعاً صِغَاراً، فَأَصَابَ إِنَاءَه، هَلْ يَصْلُحُ لَه الوُضُوءُ مِنْه؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: إِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ يَسْتَبِينُ فِي المَاءِ فَلَا بَأْسَ، وإِنْ كَانَ شَيْئاً بَيِّناً فَلَا يَتَوَضَّأْ مِنْه، قَالَ: وسَالتُه عَنْ رَجُلٍ رَعَفَ وهُوَ يَتَوَضَّأُ فَيَقْطُرُ قَطْرَةٌ فِي إِنَائِه هَلْ يَصْلُحُ الوُضُوءُ مِنْه؟ قَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: لَا (1)

ص: 217


1- الكافي للكليني ج3 ص 74 بَابُ النَّوَادِرِ ح16.

إشارات:

الإِشارة الأولى: ترجمة علي بن جعفر:

(علي بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، الهاشمي العلوي، الحسيني، المدني، ونسبوه عريضياً: نسبة إلى (العريض) قرية على بعد أميال من المدينة، سكنها، ويقال لولده: العريضيون لذلك.

ثقة، عدل، لم يختلف اثنان في وثاقته وصلاحه واستقامته، وله روايات كثيرة، ومنها ما كان يسأل بها أخاه الإمام الكاظم عَلَيْهِ السَّلاَمُ، حتى كتب عنه (مسند علي بن جعفر).

وقال ابن عنبة: هو أصغر ولد أبيه، مات أبوه وهو طفل.وكان علي بن جعفر شديد التمسك بأخيه موسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ، والانقطاع إليه، والتوفر على أخذ معالم الدين منه، وله مسائل مشهورة عنه، وجوابات رواها سماعاً منه) (1)

وله روايات كثيرة تدلّ على وثاقته وعلى اعتقاده بالأئمة عَلَيْهِم السَّلاَمُ رغم أنه أكبر سناً من بعضهم، ومنها ما رواه الشيخ الطوسي بسنده عن علي بن أسباط وغيره، عن علي بن جعفر بن محمد، قال، قال لي رجل أحسبه من الواقفة: ما فعل أخوك أبو الحسن؟ قلت: قد مات، قال: وما يدريك بذاك؟ قلت: أقتسمت أمواله وأنكحت نساؤه ونطق الناطق من بعده. قال: ومن الناطق من بعده؟ قلت: ابنه علي، قال: فما فعل؟ قلت له: مات، قال: وما

ص: 218


1- مسائل علي بن جعفر- المقدمة- ص 15.

يدريك أنه مات؟ قلت: قسمت أمواله ونكحت نسائه ونطق الناطق من بعده. قال: ومن الناطق من بعده؟ قلت: أبو جعفر ابنه، قال، فقال له: أنت في سنك وقدرك وابن جعفر بن محمد تقول هذا القول في هذا الغلام؟!

قال: قلت: ما أراك إلا شيطاناً، قال: ثم أخذ بلحيته فرفعها إلى السماء ثم قال: فما حيلتي إنْ كان الله رآه أهلاً لهذا، ولم يَرَ هذه الشيبة لهذا أهلاً (1)وروى أيضاً بسنده أن علي بن جعفر قال في الإمام الجواد عَلَيْهِ السَّلاَمُ: هذا وصي علي بن موسي، وعلي وصي موسى بن جعفر، وموسى وصي جعفر بن محمد، وجعفر وصي محمد بن علي، ومحمد وصي علي بن الحسين، وعلي وصي الحسين، والحسين وصي الحسن، والحسن وصي علي بن أبي طالب، وعلي وصي رسول الله (صلوات الله عليهم أجمعين).

قال: ودنى الطبيب ليقطع له العرق، فقام علي بن جعفر، فقال: يا سيدي يبدأني ليكون حدة الحديد بي قبلك، قال، قلت: يهنئك، هذا عم أبيه، قال، فقطع له العرق، ثم أراد أبو جعفر عَلَيْهِ السَّلاَمُ النهوض فقام علي بن جعفر عَلَيْهِا السَّلاَمُ فسوى له نعليه حتى لبسهما (2)

وروى الكليني بسنده عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الحَسَنِ بْنِ عَمَّارٍ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ جَالِساً بِالمَدِينَةِ، وكُنْتُ أَقَمْتُ عِنْدَه سَنَتَيْنِ أَكْتُبُ عَنْه مَا يَسْمَعُ مِنْ أَخِيه - يَعْنِي أَبَا الحَسَنِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ- إِذْ دَخَلَ عَلَيْه أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ

ص: 219


1- اختيار معرفة الرجال للشيخ الطوسي ج2 ص 728: في علي بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عَلَيْهِم السَّلاَمُ ترجمة رقم 803.
2- اختيار معرفة الرجال للشيخ الطوسي ج2 ص 728 و729 ترجمة 804.

عَلِيٍّ الرِّضَا عَلَيْهِم السَّلاَمُ المَسْجِدَ - مَسْجِدَ الرَّسُولِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ- فَوَثَبَ عَلِيُّ بْنُ جَعْفَرٍ بِلَا حِذَاءٍ ولَا رِدَاءٍ، فَقَبَّلَ يَدَه وعَظَّمَه، فَقَالَ لَه أَبُو جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: يَا عَمِّ، اجْلِسْ رَحِمَكَ اللهُ، فَقَالَ: يَا سَيِّدِي كَيْفَ أَجْلِسُ وأَنْتَ قَائِمٌ!

فَلَمَّا رَجَعَ عَلِيُّ بْنُ جَعْفَرٍ إِلَى مَجْلِسِه، جَعَلَ أَصْحَابُه يُوَبِّخُونَه ويَقُولُونَ: أَنْتَ عَمُّ أَبِيه، وأَنْتَ تَفْعَلُ بِه هَذَا الفِعْلَ؟! فَقَالَ: اسْكُتُوا، إِذَاكَانَ اللهُ عَزَّوَجَل - وقَبَضَ عَلَى لِحْيَتِه - لَمْ يُؤَهِّلْ هَذِه الشَّيْبَة، وأَهَّلَ هَذَا الفَتَى ووَضَعَه حَيْثُ وَضَعَه، أُنْكِرُ فَضْلَه! نَعُوذُ باللهِ مِمَّا تَقُولُونَ، بَلْ أَنَا لَه عَبْدٌ (1)

الإشارة الثانية: تقريب دلالة الرواية:

قيل في تقريب الدلالة: إنَّ الإمام الكاظم (صلوات الله عليه) في الرواية قال: (إِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ يَسْتَبِينُ فِي المَاءِ فَلَا بَأْسَ)، أي: إنْ لم يكن هذا الدم تدركه العين، لم يؤثّر في الماء، أي لا ينفعل الماء به ولا يتنجس، ومن ثم يصح الوضوء به.

وقد يُناقش في هذه الدلالة، بأن يُقال:

لم تصرّح الرواية بإصابة الدم للماء، وإنّما صرّحت بإصابة الدم للإناء، إذ قالت: (سَالتُه عَنْ رَجُلٍ رَعَفَ فَامْتَخَطَ فَصَارَ بَعْضُ ذَلِكَ الدَّمِ قِطَعاً صِغَاراً، فَأَصَابَ إِنَاءَه)، ولم تقل فأصاب الماء، وإصابة الإناء بالدم لا تستلزم نجاسة الماء، إذ ربما يكون قد أصابه من الخارج مثلًا؛ ولذلك حكم الإمام بصحة الوضوء منه.

ص: 220


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 1/ ص 322/ باب الإشارة والنصِّ علىٰ أبي جعفر الثاني عَلَيْهِ السَّلاَمُ ح 12).

ولكنه يُردّ:

بأنّ هذا الإشكال ليس صحيحًا؛ فنحن لا نُسلِّم أنّ الرواية تقصد أنّ الدم أصاب الإناء من الخارج ولم يُصِبِ الماء؛ إذ لا يُحتمل أنيكون فقيهٌ مثل علي بن جعفر ݤ، -هذا الرجل العظيم الذي تعرّضنا لسيرته العطرة- يسأل مثل هذا السؤال للإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ؟!

بل هل يعقل أنّ يسأل إنسانٌ متفقه -وإن لم يكن فقيهًا أو عالمًا- عن صحة الوضوء بماءٍ لم يصبه دمٌ ولا أية نجاسة أخرى؟!

لا سيما أنّ الفرض يقول بإصابة الدم للإناء من الخارج، ولا يُعقل البتة سريانه إلى داخل الماء، فحتمًا لا ينجس الماء.

فنحن نُجِلُّ مثل عليٍ بن جعفر أنْ يسأل عن هذه المسالة الواضحة جدًا لعوام الناس فضلًا عن عالمٍ في مقامه.

وربما يُحتمل هذا السؤال من غيره، أما منه فنقطع بعدم صدوره بهذا المعنى، وعليه فهذا الإشكال ليس بصحيح.

ومعه، فيصح أن تكون رواية علي بن جعفر مستنداً لفتوى المحقق بعدم تنجس الماء.

ثم عدل المصنف قُدس سره من الإفتاء بعدم نجاسته إلى الاحتياط بها، فقال: (وقيل ينجّسه، وهو الأحوط)، وفيه إشارةٌ إلى وجود خلافٍ في المسألة. إذ وقع الخلاف على قولين:

ص: 221

القول الأول: إن الماء وإن كان قليلاً حسب الفرض، وقد أصابه دمٌ، وهذا الدّم لم يظهر أثره على الماء؛ ولكنه لا ينجس تعبداً؛ لرواية علي بن جعفر التي تقدّم ذكرها.القول الثاني: الماء بحسب الفرض ماءٌ قليلٌ، وقد أصابه دمٌ، وهذا الدّم قد لاقى الماء القليل، والماء القليل ينفعل وينجس بمجرد ملاقاة النجاسة، فيؤثر حتمًا فيه، وإنْ لم يظهر أثره عليه ولم تدركه العين فيه؛ إذ لا فرق بين ظهور أثر النجاسة وعدمه في تنجس الماء القليل، كما أنَّ الأدلة مطلقة من هذه الناحية، ولم تفرق بين الحالتين.

وقد عبّر المحقق قُدس سره عن هذا القول بأنّه أحوط، فإذا أراد الإنسان أن يحتاط فعليه أنْ يحكم بالنجاسة على هذا الماء القليل الملاقي لنجاسة لم تدركها العين فيه، فلا يشربه ولا يتوضأ به.

فإنْ قيل: وماذا عن رواية علي بن جعفر الدالّة على عدم تنجس الماء بالدم إذا لم يدركه الطرف؟

فإنه يُقال: إنَّ الرواية لم تكن بصدد الحكم على الماء القليل المُلاقي فعلًا لنجاسة لم تدرك بالعين؛ إذ إنَّ الماء القليل ينجس بمجرد أن تصيبه النجاسة، سواء أَظهر أثره أم لم يظهر، ولكن بشرط القطع بأنّ الدم قد أصاب الماء فعلًا.

فالرواية بصدد بيان شرطية القطع بملاقاة النجاسة للماء القليل؛ حتى يُحكم عليه بالنجاسة، أي إنها تريد أن تبين أنّ المكلف إذا حصل عنده

ص: 222

القطع والعلم بإصابة الدم للماء، فهذا الماء ينجس قطعًا، وأما إذا لم يستبِن، أي لم يقطع بأنَّ الدم قد أصاب الماء فعلًا، أو لا، وكان في حالة شك، كما لو رأى أنَّ قطرة دمٍ صغيرةً وقعت من يده ولكنّهلم يعلم أنها أصابت الماء القليل أو لا، فحينئذٍ ليس له أن يحكم على ذلك الماء بالنجاسة؛ لأنه لم يقطع بملاقاتها إيّاه، بل عليه أنْ يستصحب عدم الإصابة؛ لما تقدّم بأنَّ اليقين لا ينتقض بالشك، وأن اليقين لا ينتقض إلا بيقينٍ مثله.

فمنشأ الاختلاف في فهم الرواية بين من حكم بالطهارة وبين من حكم بالنجاسة هو الاختلاف في فهم كلمة (لم يستبِن)؛ فمن قال بالطهارة فسّرها على أنها تعني (لم يقطع، أي كان المكلف شاكًا بالملاقاة ولم يقطع بها) وأما من قال بالنجاسة فقد فسّرها على أنّها (لم يتضح، أو لم يظهر، أي إنَّ الدم أصاب الماء ولكنه لم يظهر ولم يُدرك بالعين)...

ومن هنا يُقال: إننا كما نُجِلُّ علي بن جعفر أن يسأل عن إصابة الدم للإناء؛ لأنَّ الحكم واضحٌ، كذلك نُجِلُّه أنْ يسأل عن حالة إصابة الدم للماء القليل، فإنَّ حكم هذه الحالة أيضًا واضحٌ وهو النجاسة.

إنَّ جلالة وعظم قدر علي بن جعفر يقتضي أن يكون سؤاله عن حالة الشك في الإصابة؛ فهذا مورد يحتاج حكمه إلى بيان، إذ سأل الإمام (صلوات الله عليه) عن حالة شك المكلف في ملاقاة النجاسة للماء القليل قائلًا: (سَالتُه عَنْ رَجُلٍ رَعَفَ فَامْتَخَطَ فَصَارَ بَعْضُ ذَلِكَ الدَّمِ قِطَعاً صِغَاراً، فَأَصَابَ إِنَاءَه، هَلْ يَصْلُحُ لَه الوُضُوءُ مِنْه؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: إِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ يَسْتَبِينُ فِي المَاءِ فَلَا بَأْسَ) وهو سؤالٌ وجيهٌ وفي محله.

ص: 223

وبناءً على ذلك يكون الحملُ الأخير هو المتعين في هذه الرواية.

وعلى هذا التفسير تكون الرواية أجنبية عن المقام؛ وربما لأجل ذلك احتاط المحقق قُدس سره، وهو احتياطٌ حسن.

إلى هنا يكون حديثنا عن الركن الأول في المياه قد انتهى، ولله الحمد.

* * *

ص: 224

الركن الثاني: في الطهارة المائية

ص: 225

ص: 226

الفصل الأول

في الأحداث الموجبة للوضوء

قال المحقق قُدس سره: (الركن الثاني في الطهارة المائية، وهي وضوءٌ وغسلٌ.

وفي الوضوء فصولٌ: الأول: في الأحداث الموجبة للوضوء).

يذكر المصنف قُدس سره في هذا الفصل فرعين:

الفرع الأول: في أسباب الوضوء:

عبّر عنها المصنف قُدس سره ب-(الأحداث الموجبة للوضوء). وهي ما يترتب عليها وجوب فعل الطهارة، أو قل: هي الأسباب التي توجب الطهارة؛ لما تقدّم أنّ الوضوء ليس واجبًا في حدِّ نفسه، وإنّما يجب لغايةٍ من الغايات، كالصلاة مثلًا، فإذا وجبت الصلاة وكان قد حدث سببٌ من الأسباب الموجبة للوضوء، حينئذٍ يجب؛ لذا يُعبّر عنها ب-(موجبات الوضوء).

ويعبر عنها أيضًا ب-(نواقض الوضوء)؛ لأنّها تنقض الوضوء أي تبطل الطهارة الحاصلة به. وهي ستةٌ:

الأول والثاني والثالث: خروج البول والغائط والريح من الموضع المعتاد:هنا نقاط:

النقطة الأولى: إن نفس خروج البول والغائط والريح ناقضٌ للوضوء:

وبالتالي يجب عند حصول خروج أحد هذه الأمور الثلاثة الوضوء لو

ص: 227

وجب لغايةٍ ما، كما لو حلَّ وقتُ الصلاة مثلًا، وكانت الطهارة قد انتُقِضت بخروج البول أو الغائط أو بالريح.

وهذا حكم متفق عليه؛ دلّت عليه الأخبار المستفيضة، من قبيل ما روي عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ آدَمَ، قَالَ: سَالتُ الرِّضَا عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَنِ النَّاسُورِ (1)، أيَنْقُضُ الوُضُوءَ؟ قَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: إِنَّمَا يَنْقُضُ الوُضُوءَ ثَلَاثٌ البَوْلُ والغَائِطُ، والرِّيحُ (2)

والرواية واضحة في المطلوب.

فائدة رجالية: ترجمة زكريا بن آدم.

قال الشيخ النجاشي: زكريا بن ادم بن عبد الله بن سعد الأشعري القمي، ثقة، جليل، عظيم القدر، وكان له وجه عند الرضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ (3)

وروى الشيخ الطوسي عن زكريا بن آدم، قال، قلت للرضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ: إني أريد الخروج عن أهل بيتي، فقد كثر السفهاء فيهم، فقال عَلَيْهِ السَّلاَمُ: لا تفعل، فإن أهل بيتك يدفع عنهم بك، كما يدفع عن أهل بغداد بأبي الحسن الكاظم عَلَيْهِ السَّلاَمُ (4)

ص: 228


1- الناسور: العرق الغبر في باطنه فساد. وهي علة تكون في المآقي وحوالي المقعدة. »هامش المصدر«
2- الكافي للكليني ج3 ص 36 بَابُ مَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ ومَا لَا يَنْقُضُه ح2.
3- فهرست أسماء مصنفي الشيعة (رجال النجاشي) للنجاشي ص 174 الترجمة رقم »458».
4- اختيار معرفة الرجال للشيخ الطوسي ج2 ص 857 و858 ما روى في زكريا بن آدم القمي / رقم: (1111). أقول: هنا إشارات: الأولى: إن زكريا بن آدم من أدبه، استأذن من الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ في أمر عادي ومورد خاص به، ولكنه مع ذلك عندما قال له الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ: لا تفعل، التزم، ونفذ بدون تردد، وهذا يكشف عن أن للإمام المعصوم ولاية علينا، لا فقط في الأحكام الشرعية، وإنما حتى في المسائل الاعتيادية، وهذا الأمر له أصل قرآني، فقد قال عز من قائل (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) «الأحزاب 6»، أي أولى بأموالهم وأزواجهم وأولادهم وكل ما تتعلق به النفس، فإن النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ أولى بذلك، ثم إن النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ في يوم الغدير قال: (من كنت مولاه فهذا علي مولاه)، فكما أن الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ أولى بالمؤمنين من أنفسهم، كذلك أمير المؤمنين والأئمة المعصومون (صلوات الله وسلامه عليهم) أولى بذلك، لذلك استأذن زكريا بن آدم من الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ وإن كان خروجه من بيته أو عشيرته مباحاً في حدّ نفسه. الثانية: الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ بيّن له أن نفس وجود المؤمن التكويني في منطقة ما، هو سببُ خير وبركة على تلك المنطقة، وأن الله تعالى إذا أراد أن ينزل البلاء على أهل تلك المنطقة فإنه ينظر إلى ذلك المؤمن، وكرامة له يدفع البلاء عن أهلها، وهذا يوجب علينا أن نعرف قيمة وقدر هذه الشخصيات العظيمة، فإن كنا في منطقة فيها مرقد لأحد هؤلاء العظماء كالسفراء الأربعة (رضوان الله تعالى عليهم) وأمثالهم، فضلاً عن المعصومين عَلَيْهِم السَّلاَمُ، فيجب أن نقدس قدر تلك المنطقة لقداستهم. ومما يشير إلى عظمة زكريا بن آدم في الرواية أيضًا، أن الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ ينظّر له بالإمام الكاظم (صلوات الله وسلامه عليه). الثالثة: إن هذه الرواية التي ورد مدحُ لزكريا بن آدم هي وإن كانت واردة عنه هو، ولكن هذا لا يؤثر بعذ ثبوت وثاقته وجلالته من غير هذه الرواية.

وعن علي بن المسيب، قال: قلت للرضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ شقتي بعيدة ولست أصل إليك في كل وقت، فممن آخذ معالم ديني؟ فقال: من زكريا بن آدم القمي المأمون على الدين والدنيا، قال علي بن المسيب، فلما انصرفت قدمت على زكريا بن آدم فسألته عما احتجت إليه (1)

النقطة الثانية: إنّما يكون خروج هذه الثلاثة ناقضًا فيما لو خرجت من الموضع المعتاد:

أي الموضع الطبيعي للخروج، فإن خرجت هذه الثلاثة من مواضعها

ص: 229


1- اختيار معرفة الرجال للشيخ الطوسي ج2 ص 857 و858 ما روى في زكريا بن آدم القمي / رقم: (1112).

الطبيعية، حينئذٍ تكون ناقضة للوضوء، وإنْ خرجت من غير الموضع المعتاد، كما لو فرض أنّ ريحًا خرج من القبل، فإنّه لا ينقض الوضوء؛ لأنه خرج من غير المحل المعتاد، والناقض هو الذي يخرج من المحل المعتاد.

ولكن ماذا لو خرجت هذه الأمور من غير المحل المعتاد، كما لو خرج الغائط من غير المحل المعتاد مثلًا؟ (1)أشار المحقق قُدس سره إلى ثلاث حالات:

الحالة الأولى:

خروج الغائط ممّا عدا المحل المعتاد مع وجوده «المخرج المعتاد الطبيعي» وعدم انسداده، وكان من الممكن أن يخرج الغائط من موضعه الطبيعي.

ففي هذه الحالة لا يُنقض الوضوء، إذا خرج مما بعد المعدة، فضلاً عما إذا خرج من قبلها كالمريء وما شابه، وهو ما عبّر عنه المصنف بقوله: (ولو خرج الغائط مما دون المعدة نقض في قولٍ، والأشبه أنّه لا ينقض).

وهنا عدة تنبيهات:

التنبيه الأول:

أشار المصنف قُدس سره في عبارته إلى وجود قولٍ بأنّ خروج الغائط مما دون المعدة ومن غير المخرج المعتاد ناقضٌ للوضوء، ونُسِب هذا القول إلى الشيخ

ص: 230


1- تنبيه: ذكر المصنف قُدس سره خروج الغائط فقط من غير المحل المعتاد، ويمكن أنْ يُعمَّم إلى البول أيضًا، ولكننا نبقى مع عبارته قُدس سره حيث قال: (ولو خرج الغائط مما دون المعدة نقض في قول، والأشبه أنّه لا ينقض).

الطوسي قُدس سره في كتابيه المبسوط والخلاف، كما نُسب إلى ابن إدريس؛ إذ عدّا خروج الغائط ناقضًا للوضوء دون أن يُقيدا ذلك بكون خروجه من المخرج المعتاد؛ مما يدلُّ على أنّ خروجه من غير الموضع المعتاد أيضًا ناقضٌ للوضوء.وربما يستدلُّ على أنَّ خروج الغائط ناقضٌ للوضوء مُطلقًا بقوله تعالى: «أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغَائِطِ» (1)، إذ الآية مطلقة تشمل حالة خروج الغائط من المحل المعتاد وغيره؛ لأنها لم تقيد كون خروج الغائط ناقضٍا للوضوء بحالةٍ ما.

وقد نوقش هذا الإطلاق من قبل بعض الفقهاء، إذ قالوا بعدم تماميته؛ لانصرافه إلى المحل المعتاد، أو لوجود المقيد.

وبيانه:

إنّ معنى الإطلاق هو دلالة لفظٍ ما على شموله لجميع أفراده؛ لأنّه لو كان المراد منه غير ذلك -أي لو كان المراد منه بعض الأفراد- لقيّدَ المتحدث كلامه ولم يتركه على إطلاقه.

وكمثالٍ على ذلك، فإن الدليل لو جعل (تحرير رقبة) إحدى الكفارات التخييرية لمن أفطر عمدًا في نهار شهر رمضان، ولم يقيدها بقيدٍ معينٍ وتركها على إطلاقها، فهذا يدلُّ على شمولها لجميع أفرادها، مؤمنة كانت أو لا، صغيرة كانت أو لا، رجلاً كان أو امرأة، ذات حرفة كانت أو لا، وهكذا، فأيّ من هذه الأصناف حررها المكلف فإنه يجزي.

ص: 231


1- النساء: 43.

ولفهم الإطلاق من اللفظ شروطٌ تذكر في علم الأصول تحت عنوان: (مقدمات الحكمة)، ومنها عدم وجود قرينة تصرف الإطلاق إلى فردٍ معين، وإلا، فمع وجود القرينة فالمُتبع هي تلك القرينة.والقرينة التي تحتف بالكلام المطلق ويتوجب اتباعها، وهي إما أن تكون متصلة بالكلام أي في سياق نفس الكلام المطلق، وإما أن تكون منفصلة، أي في كلامٍ آخر لكنه متعلق بالكلام المطلق.

وفي المقام، لو سلّمنا أنَّ الآية بإطلاقها تشمل حالة خروج الغائط من غير المحل المعتاد كما ذهب إلى ذلك الشيخ الطوسي وابن إدريس قدس سرهما، لكن هذا الإطلاق غير تام، لأنه منصرف إلى الحالة المتعارفة، وهو الخروج من المحل المعتاد.

فإن قُبل هذا، وإلا فيُقال: إن ذلك الإطلاق مقيدٌ برواياتٍ صرّحت أنَّ الناقض من الغائط هو خصوص الخارج من المحل المعتاد، ومنها ما روي عَنْ زُرَارَةَ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي جَعْفَرٍ ولأَبِي عَبْدِ الله عَلَيْهِما السَّلاَمُ: مَا يَنْقُضُ الوُضُوءَ؟ فَقَالا عَلَيْهِما السَّلاَمُ: مَا يَخْرُجُ مِنْ طَرَفَيْكَ الأَسْفَلَيْنِ مِنَ الدُّبُرِ والذَّكَرِ... (1)

وفي روايةٍ أُخرى عَنْ سَالِمٍ أَبِي الفَضْلِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: لَيْسَ يَنْقُضُ الوُضُوءَ إِلَّا مَا خَرَجَ مِنْ طَرَفَيْكَ الأَسْفَلَيْنِ اللَّذَيْنِ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْكَ بِهِمَا (2)

ص: 232


1- الكافي للكليني (ج3 ص 36 بَابُ مَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ ومَا لَا يَنْقُضُه/ ح6). وتمام الرواية: غَائِطٌ أَوْ بَوْلٌ أَوْ مَنِيٌّ أَوْ رِيحٌ والنَّوْمُ حَتَّى يُذْهِبَ الْعَقْلَ وكُلُّ النَّوْمِ يُكْرَه إِلَّا أَنْ تَكُونَ تَسْمَعُ الصَّوْتَ.
2- الكافي للكليني (ج3 ص 35 بَابُ مَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ ومَا لَا يَنْقُضُه/ ح1.

وكلتا الروايتين واضحة في تقييد ناقضية خروج البول والغائط بكونه من المحل المعتاد خصوصًا، وهما قرينة منفصلة عن الآية المباركة المطلقة، وقد تقدّم أنّ من شروط الإطلاق عدم وجود قرينة تصرف المطلق إلى فردٍ معين.

وخلاصة التنبيه: أنّ المصنف قُدس سره أشار في عبارته إلى أنّ هناك قولًا بناقضية خروج الغائط مما دون المعدة من غير المحل المعتاد؛ لدليل إطلاق الآية، إلا أن هناك قرينة منفصلة تقيدها، فيُصار إلى اتّباع تلك القرينة، وهي الروايات، فيكون الناقض هو خصوص الخارج من المحل المعتاد؛ ولذا قيّد المصنف قُدس سره بقوله: (من الموضع المعتاد).

التنبيه الثاني:

إنما قولنا: (إن الحكم بناقضية الغائط للوضوء فيما إذا خرج من الموضع غير المعتاد)، مشروط بأن يكون دون المعدة؛ لأن الخارج قبل المعدة لا يُسمى غائطًا وانما يُسمى قيئاً، والناقض للوضوء هو خصوص الغائط لا عموم الطعام الخارج من الانسان.

ملاحظة: الأحكام تابعةٌ للعناوين:

الأحكام تابعةٌ للعناوين؛ بمعنى أنّ الحكم الشرعي إذا أُخذ في موضوعه عنوانٌ معين، فإنّ ذلك الحكم لا يصدق إلا بصدق العنوان، أي لا يتنجز في ذمة المكلف إلا إذا صدق وتحقّق العنوان،فمثلًا نعلم أنّ الخمر حرامٌ، وهذه الحرمة منصبّة على موضوعٍ معين، وهو الخمر، ومن ثَمّ فلا

ص: 233

تثبت الحرمة لسائلٍ معين إلا إذا انطبق عليه عنوان الخمر، أما إذا انقلب خلًا مثلًا، فلا ينطبق عليه حكم الحرمة؛ لأنّ الأحكام تابعةٌ للعناوين، وقد تغيّر العنوان من الخمر إلى الخل، فتغيّر الحكم من حكم الخمر -وهي الحرمة- إلى حكم الخل، وهي الحليّة.

وفي المقام، فإنّ الحكم بانتقاض الوضوء قد انصبّ على عنوان الغائط، والخارج قبل المعدة لا يُسمّى غائطًا؛ فلا يكون ناقضًا.

التنبيه الثالث:

عبّر المصنف قُدس سره عن رأيه بقوله: (والأشبه أنّه لا ينقض).

والمقصود ب-(الأشبه) كما ذكر ذلك الفاضل الآبي: هو ما تدلُّ عليه أصول المذهب من العمومات والإطلاقات، أو دلالة العقل أو تمسكٌ بالأصل، وفي معناه: الأنسب، والأصح من الأقوال، مما لا يحتمل عند المصنف (1)

الحالة الثانية: خروج الحدث من غير الموضع المعتاد:

قال قُدس سره: (ولو اتفق المخرج في غير الموضع المعتاد نقضَ).لو خرج الحدث من غير الموضع المعتاد، كان ناقضًا للوضوء إذا توفر شرطان:

ص: 234


1- كشف الرموز للفاضل الآبي، ج1، ص39.

الأول: إذا كان الموضع الطبيعي مُنسدًا، بحيث صار الموضع الجديد هو المُعتاد لخروج الحدث، كما لو ولِد وله مخرجٌ للحدث غير المخرج المعتاد.

الثاني: صدق الحدث عليه، كما لو خرج شيء منه، وصدق عليه فعلاً أنه غائط، أو بول، وما شابه.

ففي هذه الحال – بتوفر الشرطين - يكون الحدث ناقضًا للوضوء بالاتفاق؛ لإطلاق الروايات.

الحالة الثالثة: خروج الحدث من الجرح، ثم صار هذا الجرح هو الموضع المعتاد:

قال قُدس سره: (وكذا «أي ينقض» لو خرج الحدث من جرحٍ ثم صار معتادًا).

فلو تعرّض لحادثٍ معين أدّى إلى سدّ الموضع المعتاد وفتح فتحةٍ أخرى، أو احتاج إلى عمل أنبوبٍ لخروج الغائط أو البول – مثلاً - إثر عملية جراحية معينة، بحيث صار خروج الحدث من هذا الجرح مُعتادًا، صار هذا الجرح هوالموضع المعتاد للخروج، كان الحدث حينئذٍ ناقضًا؛ وذلك لإطلاق الروايات الذي يشمل مثل هذه الحالة مع صدق الحدث عليه.

ص: 235

الرابع: النوم الغالب على الحاستين، وما كان في معناه.

قال قُدس سره: (والنوم الغالب على الحاستين، وفي معناه كل ما أزال العقل من إغماءٍ أو جنونٍ أو سكر...).

المراد بالحاستين: السمع والبصر، وتقييدُ المحقق قُدس سره النوم بكونه غالبًا على الحاستين، إشارةً منه إلى أنّ للنوم مراتب، وما ينقض الوضوء منها هو خصوص مرتبة النوم الغالب على الحاستين، وربما لأنَّ النوم –بمنظوره- لا يصدق إلا مع غلبته على هاتين الحاستين.

وعليه، فكل ما لم يصل إلى غلبته على الحاستين، فهو لا ينقض الوضوء.

ملحوظات:

الملحوظة الأولى:

قيل: لم تقيّد الروايات ناقضية النوم بكونه غالبًا على الحاستين، وإنّما قيّدته بكونه مُذهبًا للعقل، كما في رواية محمد بن عبيد اللهوعبد الله بن المغيرة قالا: سألنا الرضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ عن الرجل ينام على دابته؟ فقال عَلَيْهِ السَّلاَمُ: إذا ذهب النوم بالعقل فليعد الوضوء (1)

ولعلَّ الفقهاء -والله العالم- عبّروا ب-(غلبة السمع والبصر)؛ كنايةً عن ذهاب العقل، أو قل: لأنها الكاشف عن ذهاب العقل.

ص: 236


1- الاستبصار للشيخ الطوسي ج1 ص 79 باب النوم ح (245 – 3).

هذا، ولكن يمكن القول باستفادة مثل هذا التعبير من بعض النصوص، من قبيل ما رواه الشيخ الطوسي بسنده عن زرارة قال: قلت له: الرجل ينام وهو على وضوء أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء ؟ فقال عَلَيْهِ السَّلاَمُ: يا زرارة: قد تنام العين ولا ينام القلب والأذن، فإذا نامت العين والأذن والقلب فقد وجب الوضوء، قلت: فإن حُرّك إلى جنبه شيءٌ ولم يعلم به؟ قال عَلَيْهِ السَّلاَمُ: لا، حتى يستيقن أنه قد نام، حتى يجيئ من ذلك أمر بيّنٌ، وإلا فإنه على يقين من وضوئه، ولا ينقض اليقين أبداً بالشك، ولكن ينقضه بيقين آخر (1)

وهذه الرواية مضمرة -كما يُطلق عليها في علم الحديث-، بمعنى أن زرارة لم يُصرّح فيها بالمسؤول، وإنما هو فقط قال: (قلت له)، أما من هو الذي كان زرارة يتحدث معه، فلم تصرح الرواية بذلك، وسنذكر الآراء فيها بعد قليل إن شاء الله تعالى.الملحوظة الثانية:

ما يدل على أن النوم حدث ناقض للوضوء عدةُ رواياتٍ، منها ما روي عن إسحاق بن عبد الله الأشعري عن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال: لا ينقض الوضوء إلا حدث، والنوم حدث (2)

ص: 237


1- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج1 ص8 باب الاحداث الموجبة للطهارة ح (11).
2- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج1 ص 6 باب الاحداث الموجبة للطهارة ح (5).

الملحوظة الثالثة:

ألحقَ المحقق قُدس سره بالنوم -في كونه ناقضًا للوضوء- كُلَّ ما أزال العقلَ من إغماءٍ أو جنونٍ أو سكر، وهذا حكمٌ متفقٌ عليه بين الفقهاء، ويستدلُّ عليه بما حاصله:

أنه يظهر من الروايات أنَّ علة ناقضية النوم للوضوء هو كونه مذهبًا للعقل، مما يعني أنّ الناقض الحقيقي للوضوء هو ذهاب العقل لا النوم بما هو هو، وإنّما ذكرت الروايات النوم؛ لأنه من أجلى مصاديق ذهاب العقل، ولعموم الابتلاء به.

وهذا يعني: أنَّ كُلَّ ما يُذهِبُ العقل فهو ناقضٌ للوضوء، والإغماء والجنون والسكر مذهباتٌ للعقل بلا شك، فتكون ناقضةً للوضوء.

وبعبارةٍ أُخرى أدقّ علميًا: إنّ الموضوعية لناقضية الوضوء هي لذهاب العقل، والنومُ أُخذ على نحو الطريقية والكاشف وأحدمصاديق ذلك الموضوع، ومن ثمّ فكُلُّ ما انطبق عليه عنوان المُذهِب للعقل فهو ناقض للوضوء.

فائدة رجالية: الرواية المضمرة والآراء فيها:

هي الرواية التي لا يُصرَّح فيها بأنّها عن المعصوم، وإنّما يقتصر الراوي الأخير على قول: (قال، قال لي، سمعتُه يقولُ، سألتُه) وأمثال ذلك، من دون أنْ يذكر الشخص القائل، أو الذي سمعه، أو الذي سأله.

ص: 238

ومعه، فيُحتمل أن يكون ذلك الشخص هو أحد المعصومين عَلَيْهِم السَّلاَمُ، ويحتمل أن يكون غيره؛ وبناءً على ذلك قد يُقال بعدم حجيتها، لعدم النص فيها على أنّها عن المعصوم.

فكيف نعالجها؟

يمكن علاجها بطريقين:

الطريق الأول: البحث عن سندها التام في كتاب آخر.

أن نلاحظ الكتب الأخرى التي ذكرت هذه الرواية، فلعلها ذكرت الشخص الذي قال عنه زرارة (قال أو سألته...)، فإذا وجدنا أنه هو المعصوم عَلَيْهِ السَّلاَمُ، فالمشكلة حُلَّت، وتكون الرواية صحيحة ومسندة لا مضمرة.

الطريق الثاني: البناء على حجية المضمرة:والآراء في حجية المضمرة ثلاثة:

الأول: عدم الحجية مطلقًا:

وذلك لأنّ الراوي عندما يقول (سألته) أو (سمعته) أو (قلت له)، لعله سمع شخصًا غير الإمام، فليس من المعلوم أنَّ الضمير يعود إلى الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ، فلا تكون المضمرة حجة. ومستند هذا القول هو عدم إحراز كون النقل عن الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ، والنقل عن غيره لا ينفع شيئًا.

ص: 239

الثاني: التفصيل:

بين من لا يليق به أن يروي عن غير الإمام- كزرارة- فروايته المضمرة حجة، فقد قالوا: بأن زرارة لا يليق به أن يروي عن غير الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ؛ لأنه من أجلّة أصحابنا؛ فروايته تكون حجة وإن كانت مضمرة.

وبين غيره ممن لم يكن بهذه المنزلة، فرواياته المضمرة لا تكون حجة.

وممن ذهب إلى ذلك السيد العاملي في مدارك الأحكام، حيث قال في الرواية محل البحث: وظهور أن هذا الراوي لا يروي عن غير الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ يجعلها في قوة المسندة (1)ولكن هذا القول يحتاج إلى متمم (2): وهو أنَّ زرارة لا يليق به النقل عن غير الامام في أواخر حياته العلمية وجلالته، أما في بداية شبابه فإنه يليق به أن ينقل عن غير الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ، فلا بُدّ إذاً أن نثبت أنَّ روايته المضمرة قد رواها في حال كبره وجلالته.

الثالث: الحجية مطلقًا:

وهذا الرأي يبتني على فكرة تقطيع الروايات، بمعنى: أن الرواية أحيانًا تكون طويلة، فيتم ذكر اسم الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ في بدايتها، كأن يقال: (سألت أبا عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ عن كذا فقال كذا)، وفي السؤال الثاني يقول:

ص: 240


1- مدارك الأحكام للسيد محمد العاملي ج1 شرح ص 195.
2- ذكره سماحة الأستاذ آية الله الشيخ باقر الأيرواني (دام عزه) مكرراً في مجلس درسه.

(وسألته...)، وحيث قُطِّعت الروايات ووضع كل مقطع منها في الباب المناسب له، برزت ظاهرة الإضمار.

وينفع هذا التوجيه في بيان أمرين:

الأول: الجواب عن السبب وراء بروز ظاهرة الإضمار وقد اتضح أنّ السبب في ذلك هو كون الرواية طويلة، فيتم تقطيعها ووضع كل مقطع في المحل المناسب له.

الثاني: أنَّ المضمرة حجة؛ لأنَّ الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ مذكور في بدايتها ثم يرجع الضمير إليه.

وأُجيب:

إنَّ هذا وجيه إذا أحرزنا أنَّ المسؤول في البداية هو الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ، ولكن ما يُدريك أن المسؤول هو الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ؟! إلا أنْ تضم ضميمة وتقول: إنَّ زرارة لا يناسبه أن يسأل غير الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ، ولكن بهذا قد رجعنا إلى القول السابق الذي يفصّل بين من يليق به أن يروي عن غير الإمام فمضمراته لا تكون حجة، وبين من لا يليق به أن يروي عن غير الإمام فتكون مضمراته حجة، والمفروض أنك تريد إثبات حجية المضمرات مطلقًا، وما ذكرته لا يثبت لك ما تريد.

والأجدر أن يوجه بما حاصله:

إنَّ ظاهرة الاضمار ظاهرة مرفوضة، إلا مع معهودية مرجع الضمير، أما إذا لم يكن مرجع الضمير معهودًا فظاهرة الإضمار مرفوضة عرفًا، مثلًا

ص: 241

لو دخل علينا شخص وقال: قلت له، وقال، فهذا نرفضه منه ولا نقبله؛ لأننا لا نعرف من هو المسؤول والمجيب، إلا إذا كان معهودًا بيننا، فلو كان معهودًا بيننا فلا حاجة إلى التصريح باسمه، وإنما تكفينا المعهودية.

ثم نضم ضميمة وهي: أنه لا يوجد معهود في الوسط الشيعي إلا الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ، فيتعين أن يكون مرجع الضمير هو ذلك المعهود، أعني الامام عَلَيْهِ السَّلاَمُ.

وبذلك تثبت حجية المضمرات مطلقًا من دون تفصيل بين زرارة وغيره؛ لأنَّ ظاهرة الإضمار في حدّ نفسها غير مستساغة إلا مع معهودية المرجع، وهنا لا فرق بين زرارة وغيره.خصوصًا وأنّ الرواة حينما يتكلمون، فهم يريدون أن ينقلوا ذلك إلى جميع الأجيال، يعني أن القصة ليست قصة خاصة بين طرفين، وإنما حينما يأتي زرارة ويتحدث مع فلان فمقصوده أنه يريد أن ينقلها إلى جميع الأجيال، وليس إلى هذا الطرف بالخصوص، فلابد أن يكون المرجع معهودًا لدى الجميع، وليس ذلك إلا الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ.

والرأي الأخير هذا يتبناه سماحة الأُستاذ آية الله الشيخ باقر الأيرواني (دام ظله)؛ وقد ذكر ذلك في مجلس درسه مرات عديدة، إذ يقول: الرواية المضمرة حجة مطلقًا؛ لأنَّ الإضمار ظاهرةٌ مرفوضة إلا مع معهودية مرجع الضمير؛ وذلك لأن العرف يرفض حديث شخصٍ يبدؤه ب-(سمعته، قال لي، سألته) ما لم يكن الضمير في قوله هذا يعود إلى شخصٍ معهودٍ بين المتكلم ومستمعيه.

ص: 242

فإذا كان عرف عموم الناس كذلك، فكيف برواةٍ على قدرٍ كبير من العلم والجلالة والفقاهة.

وعليه لا بد أنْ يكون مرجع الضمير معهوداً لدى المستمعين حتى يصحَّ النقلُ عنه إلى جميع الأجيال، وليس ذلك إلا الإمام المعصوم عَلَيْهِ السَّلاَمُ.

فإذًا وفق الرأي الثالث: الروايةُ المُضمرةُ حجةٌ مطلقًا.

الخامس: الاستحاضة القليلة:خصَّ المُحقق قُدس سره -وكذا الفقهاء- الاستحاضة الناقضةً للوضوء بالقليلة؛ وذلك لأنَّ الوضوء وإن كان لازمًا عند الاستحاضة المتوسطة، أو الكثيرة في بعض الأحيان ولو على نحو الاحتياط الوجوبي على تفصيلٍ في كتب الفقه، إلا أنّه واجبٌ إلى جانب وجوب الغُسل أيضًا، والحديثُ هنا عن خصوص نواقض الوضوء فقط، وهذا الفرع منحصرٌ بالقليلة فقط من أنواع الاستحاضة؛ لذا لم يتعرّض المُصنِّف لذكر المتوسطة والكثيرة في هذا الفصل، واقتصر على ذكر الاستحاضة القليلة؛ لأنها تنقض الوضوء فقط.

الفرع الثاني: أمورٌ لا تنقض الوضوء:

أمورٌ لا تنقض الوضوء (1):

قال قُدس سره: (ولا ينقض الوضوء مذي «ولا وذي» ولا ودي، ولا دم – ولو خرج من أحد السبيلين - عدا الدماء الثلاثة، ولا قيئ، ولا نخامة، ولا تقليم ظفر، ولا حلق شعر، ولا مسّ ذكر، ولا قُبُل، ولا دُبُر، ولا لمس

ص: 243


1- وهي مسائل اختلف في أنّها ناقضةٌ للوضوء أو لا، وهي في نظره قُدس سره لا تنقض الوضوء.

امرأة، ولا أكل ما مسّته النار، ولا ما يخرج من السبيلين إلا أنْ يُخالطه شيءٌ من النواقض).

ذكر المحقق الحلي قُدس سره ثلاثةَ عشر أمرًا لا ينقض الوضوء؛ لأنّها أمور ابتلائية، فمن المناسب التنبيه عليها، وهي:

1- المَذْي:

هو ماءٌ رقيقٌ لزجٌ، يخرج عقيب الشهوة، أو هو ما يخرج عند الملاعبة والتقبيل، وهو طاهرٌ في حدِّ نفسه، وخروجه لا ينقض الوضوء؛ تدلُّ على ذلك روايات عدّةٌ، منها ما روي عن زيد الشحام قال: قلت: لأبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ: المذي ينقض الوضوء؟ قال عَلَيْهِ السَّلاَمُ: لا، ولا يُغسل منه الثوب ولا الجسد، إنما هو بمنزلة البزاق والمخاط (1)

2- الودي:

هو ماءٌ ثخينٌ يخرج عقيب البول، أو ماء أبيض غليظ يخرج عقيب البول، وهو طاهرٌ ولا ينقض الوضوء؛ يدلُّ على ذلك ما روي عن حميد بن مسلم وزرارة وزيد الشحام، عن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ: إن سال من ذَكرِك شيء من مذي أو ودي، فلا تغسله، ولا تقطع له الصلاة، ولا تنقض له الوضوء، إنما ذلك بمنزلة النخامة... (2)

ص: 244


1- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج1 ص 17 ح (40 / 40).
2- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج1 ص 21 ح (52/52).

تنبيه:

ذكر الفقهاء أنَّ مما لا ينتقض الوضوء به هو (الوذي)، وهو ماءٌ يخرج عقيب الإنزال.

وقد يستدلُّ له بروايةٍ مُرسلة عن بن رباط عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال: يخرج من الإحليل المني والمذي والودي والوذي، فأما المني فهو الذي تسترخي له العظام ويفتر به الجسد،وفيه الغسل، وأما المذي فيخرج من الشهوة، ولا شيء فيه، وأما الودي فهو الذي يخرج بعد البول، وأما الوذي فهو الذي يخرج من الأدواء، ولا شيء فيه (1)

وحتى لو أُشكِل على الاستدلال على طهارة الأمور المتقدمة بهذه الرواية؛ باعتبار أنها روايةٌ مُرسلةٌ، أو أشكل بأنها فسرت الوذي بما يخرج بسبب الأدواء، أي الأمراض، لا ما يخرج بعد المني، إلا أنه يمكن القول بطهارتها حتى ولو فُرِض عدم وجود روايةٍ من رأس؛ وذلك بالاستناد إلى الأصل، إذ إنَّ الأصل في الأشياء هو الطهارة، فكلُّ شيءٍ نشكُّ في طهارته أو نجاسته، فإنّ الأصلَ فيه أنْ يكون طاهرًا إلا إذا دلَّ دليلٌ على النجاسة.

فالأصلُ في المذي أو الوذي أو الودي هي الطهارة، وليس عندنا دليلٌ يدلُّ على نجاستها، فهي طاهرةٌ لا ينتقض الوضوء بها.

ملحوظة:

لم تذكر بعضُ نسخ كتاب شرائع الإسلام (الوذيَ)، واقتصرت على

ص: 245


1- تهذيب الأحكام ج1، ص20، ح48/48.

(المذي والودي)، وربما ذلك لاختلاف النسخ، أو ربما لسقوط شيءٍ منها، أو إنَّ المصنف لم يذكره لعدم الدليل عليه بعينه وعنوانه.

وعلى كُلِّ حالٍ يكفي الأصل في الاستدلال على طهارته.

3- الدم:

لا إشكال في نجاسة الدم، ولكن ربما يُشكّل خروجه علامة استفهامٍ لدى المكلف في أنه ناقض للوضوء أو لا؛ لذا نبّه المحقق قُدس سره إلى عدم ناقضيته للوضوء، سواء أكان خروجه بجرحٍ أم بغيره، وسواء أخرج باختيار الإنسان أم رغمًا عنه، بل وحتى لو خرج من أحد السبيلين، أي القبل والدبر؛ لمرضٍ أو نحوه، فلا إشكال في نجاسته، مما يحتّم على المكلّف التطهّر منه، إلا أنّه لا ينقض الوضوء.

وهذا حكمٌ مُجمعٌ عليه بين علمائنا، وإن خالفَنَا الشافعية والحنفية، حيثُ ذهبا إلى ناقضيته في حال خروجه من أحد السبيلين، مما يتوجب الوضوء فيه.

وقد أشار المحقق قُدس سره إلى ذلك بقوله: (ولو خرج من أحد السبيلين)، حيثُ أثبت طهارته مع تقدير فرض خروج الدم منهما، إشارةً إلى ما يذهب إليه كلٌ من الشافعية والحنفية.

تنبيه:

يُستثنى من حكم الدم المتقدم (الطهارة)، الدماء الثلاثة: الحيض، والاستحاضة، والنفاس، فلا شك في أنّها ناقضةٌ للطهارة كما هو واضح.

ص: 246

4-7 – القيء والنخامة وتقليم الظفر وحلق الشعر:الحكم على هذه الأمور الأربعة بعدم ناقضيتها حكمٌ مُجمعٌ عليه بين أصحابنا، وهناك بعض الروايات التي دلّت على ذلك، منها ما رويَ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ قَالَ: سَالتُ أَبَا عَبْدِ الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَنِ القَيْءِ هَلْ يَنْقُضُ الوُضُوءَ؟ قَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: لَا (1)

وفي روايةٍ عن سعيدٍ بن عبد الله الأعرج قال: قلت: لأبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ آخذ من أظفاري ومن شاربي وأحلق رأسي أفأغتسل؟ قال عَلَيْهِ السَّلاَمُ: لا، ليس عليك غسل. قلت: فأتوضأ؟ قال عَلَيْهِ السَّلاَمُ: لا، ليس عليك وضوء... (2)

8 - 10- مس الذَكَر «أي العضو التناسلي للذكر» والقبل والدبر:

مجرد لمس هذه الأمور الثلاثة لا ينقض الوضوء، ويكفي في الدلالة على عدم ناقضيتها: الأصل –كما تقدّم- أي إنَّ الأصل في هذه الأمور هو أنّها لا تنقض الوضوء؛ لأنَّ الأصل في الأشياء الطهارة وعدم الناقضية من جهة، ولعدم وجود دليلٍ يدل على أنّها ناقضةٌ من جهة أخرى.

أو قل: نستصحب عدم انتقاض الوضوء بهذه الأمور، كما لو كان الشخص متوضئًا ومسَّ ذكره أو مس دبره وشكَّ في انتقاضوضوئه أو لا، حينئذٍ يمكنه أن يستصحب عدم انتقاض الوضوء بهذه الأمور.

ص: 247


1- الكافي للكليني ج3 ص 36 بَابُ مَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ ومَا لَا يَنْقُضُه ح9.
2- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج1 ص 346 باب 14 باب الاحداث الموجبة للطهارة ح (1012 / 4).

وعلى كل حال، فيدل على ذلك ما روي عَنْ زُرَارَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: لَيْسَ فِي القُبْلَةِ ولَا مَسِّ الفَرْجِ ولَا المُبَاشَرَةِ (1) وُضُوءٌ (2)

11- لمس المرأة:

لمس الرجل للمرأة ومسّه لها -سواء أكانت مُحللةً أم مُحرّمة، وسواء بوضع يده عليها أم وضع جزءٍ من جسده على جزءٍ من جسدها، ويمكن أن نُدخل القُبلة أيضًا- لا ينقض الوضوء، بقطع النظر عن الحرمة في حال كونها أجنبيةً عنه بلا شك.

وقد خالفنا العامة في هذا الحكم؛ فقالوا بأنّ لمس المرأة أو مسّها ناقضٌ للوضوء، وموجبٌ له، مستندين إلى قوله تعالى: «أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً» (3)

وهو استنادٌ غير صحيح؛ لأنَّ الملامسة في الآية المباركة ليست بمعنى اللمس، وإنّما المقصود منها هو خصوص الجماع، دلّ عليهما روي عن أبي مريم قال: قلت لأبي جعفر عَلَيْهِ السَّلاَمُ ما تقول في الرجل يتوضأ ثم يدعو جاريته فتأخذ بيده حتى ينتهي إلى المسجد، فإن من عندنا يزعمون أنها الملامسة؟

ص: 248


1- قال العلامة المجلسي في مرآة العقول ج13 ص 119 في شرح هذه الكلمة: كان المراد بها الملامسة بأي عضو كان ردا على العامة حيث ذهبوا إلى أنها ناقضة، واستدلوا بقوله تعالى «أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ» حملا لها على المعنى اللغوي، ويحتمل أن يكون المراد بها الجماع فإنه أيضا لا يوجب الوضوء وإن نقضه.
2- الكافي للكليني ج3 ص 37 بَابُ مَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ ومَا لَا يَنْقُضُه ح12.
3- النساء: 43.

فقال: لا والله، ما بذلك بأس، وربما فعلته، وما يعنى بهذا «أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ» الا المواقعة في الفرج (1)

12- أكل ما مسّته النار:

قال بعض العامة: إنَّ أكل ما مسّته النار ينقض الوضوء، أمّا عندنا فلا ينقض الوضوء؛ لما روي عن بكير بن أعين قال: سألت أبا جعفر عَلَيْهِ السَّلاَمُ عن الوضوء مما غيرت النار، فقال عَلَيْهِ السَّلاَمُ: ليس عليك فيه وضوء، وإنما الوضوء مما يخرج، ليس مما يدخل (2)

والرواية واضحة جدًا؛ فبُكير يسأل عن ناقضية أكل ما غيرته النار، وقوله (ممّا) أي (مِن ما)، و(مِن) هنا سببية، وهي تقول: إن الوضوء يكون بسبب ما يخرج من الإنسان من الأحداث، لا مما يدخل إليه من الطعام.

13- ما يخرج من السبيلين إلا أنْ يُخالطه شيءٌ من النواقض:

كلُّ ما يخرج من السبيلين هو طاهرٌ وغير ناقضٍ للوضوء، طالما لم يكن من نواقض الوضوء المتقدّمة، سواء أكان هذا الخارج طاهرًا -كأحد السوائل الطاهرة المذكورة آنفًا- أم كان نجسًا، كالدم كما تقدّم، شرط أن لا يكون من الدماء الثلاثة.نعم، إذا خالط هذا الخارجَ غيرَ الناقض للوضوء ما هو ناقضٌ للوضوء، كالبول أو الغائط، فيُحكم حينئذٍ بانتقاض الوضوء، لأجل هذا المختلط بالخارج لا للخارج نفسه.

ص: 249


1- الاستبصار للشيخ الطوسي (ج1 ص 87 رقم 278 – 2).
2- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج1 ص 350 ح(1034 / 26).

والتصريح بأنَّ كل ما يخرج من السبيلين طاهرٌ وغير ناقضٍ للوضوء ولو من دون استثناء مخالطة أحد النواقض له، كافٍ وواضح جدًا؛ لوضوح ناقضية النواقض للوضوء، بيدَ أنَّ المُحقق قُدس سره أراد المزيد من البيان فصرّح بهذا الأمر قائلًا: إلا أن يُخالطه شيءٌ من النواقض. وهو تنبيهٌ جيدٌ ولا بأس به.

وعليه، فلو خرجت نواةٌ مثلًا، ولم يكن معها أي شيء من النواقض –كالغائط- فهي طاهرةٌ؛ لأن النجاسة لا تسري في باطن الإنسان كما هو مذكور في كتب الفقه، وهي أيضًا غير ناقضةٍ للوضوء؛ لعدم ناقضيتها له.

فإن هي خالطها شيءٌ من الدم، وجب التطهير الموضعي من الدم؛ لنجاسته، ولا ينتقض الوضوء؛ لأنَّ كلًّا من النواة والدم غير ناقضين للوضوء.

فإنْ هي خالطها شيءٌ من نواقض الوضوء كالغائط مثلًا، انتقض الوضوء حينئذٍ، فيجب، فضلًا عن وجوب التطهير الموضعي لنجاسة الغائط كما هو واضح.

* * *

ص: 250

الفصل الثاني في أحكام الخلوة

قال المُحقق قُدس سره: الثاني في أحكام الخلوة، وهي ثلاثة:

الخلوة أو التخلّي يعني تخلية البدنِ من البولِ أو الغائط، ويقصد بها في الفقه: الكيفية الشرعية -أي ما يجب وما يحرم- عند تخلية البدن من البول أو الغائط.

وقد ذكر المحقق قُدس سره للتخلية عدّة أحكام يُمكنُ تقسيمها إلى ثلاثة أنواع:

النوع الأول: في كيفية التخلي وأحكامه.

النوع الثاني: في الاستنجاء.

النوع الثالث: في سُننِ الخلوة من مندوباتٍ ومكروهات.

النوع الأول: في كيفية التخلي وأحكامه:

قال قُدس سره: الأول في التخلي. ويجبُ فيه سترُ العورة، ويُستحبُّ سترُ البدن، ويحرمُ استقبالُ القبلةِ واستدبارُها، ويستوي في ذلك الصحاري والأبنية، ويجبُ في موضعٍ قد بُنيَ على ذلك.

ذكر المحقق قُدس سره هنا ما يجب في التخلي وما يحرم فيه، وهي أحكامٌ عديدة:

ص: 251

الحكم الأول: لزومُ سترِ العورة:

وفي هذا الحكم فروع:

الفرع الأول: المقصود من الستر:

هو عدمُ إبداء العورة للناظر البشري المحترم، والمحترم اصطلاحٌ فقهي لا اجتماعي، بمعنى الذي تترتب عليه بعض الأحكام الشرعية؛ ولذا فإنَّ الطفل غير المميز يُعبَّرُ عنه فقهًيا بأنه ناظرٌ غير محترم، ومن ثَمَّ يجوز كشف العورة أمامه.

فالستر يكون بجلوس الإنسان لقضاء حاجته بحيث لا يَرى عورتَه من يحرم عليه النظر إليها.

وبهذا المعنى يخرج فردان:

الفرد الأول: الدواب، أي الحيوانات، فيجوز للإنسان أن يتخلى بمنظرٍ من الدواب؛ لأنها ليست بشرية.

الفرد الثاني: الطفل غير المميز، أي لا يميز العورة ولا قبحها، كأنْ يكون عمرُه سنةً أو سنتين مثلًا، وعليه فيجوز التخلي أمام من كان بهذا العمر من الأطفال، أما إذا كان الطفل مميزًا فالحكم هي الحرمة وعدم الجواز.

الفرع الثاني: مستثنيات الحرمة.

إنّما يلزم وجوب الستر عند التخلّي من كُلِّ بشري محترم سوى الزوجة والمملوكة؛ فيجوز للمتخلي أنْ يُظهرَ عورتَه أمامهما، وهذا حكمٌ واضحٌ جدًا، لجواز إظهار أحد الزوجين تمام بدنه أمام الآخر.

ص: 252

الفرع الثالث: العورة في باب التخلي.

المقصود من العورة في باب التخلّي: القبل والدبر والأنثيان (البيضتان)، وأما ما عداهما - كالعجان- فيتمسك بالأصل لنفي حرمة إظهاره عند التخلي، والأصل هو الإباحة والجواز إلا إذا ثبتت الحرمة، أو قل: إن الروايات نصت على حرمة إبداء هذا المقدار على المماثل -من هذه الجهة فقط، وهي التي كلامنا فيها، أي في باب التخلي، لا من جميع الجهات والحيثيات كما هو واضح-، فلا تشمل ما عداه.

ففي المقام لم تثبت حرمة إلا ما تقدّم ذكره.

وقد دلَّت على تحديد العورة عند التخلي رواياتٌ، منها ما رويَ عَنْ أَبِي يَحْيَى الوَاسِطِيِّ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا عَنْ أَبِي الحَسَنِ المَاضِي عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: العَوْرَةُ عَوْرَتَانِ: القُبُلُ والدُّبُرُ، فَأَمَّا الدُّبُرُ مَسْتُورٌ بِالاليَتَيْنِ، فَإِذَا سَتَرْتَ القَضِيبَ والبَيْضَتَيْنِ فَقَدْ سَتَرْتَ العَوْرَةَ. وقَالَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: وأَمَّا الدُّبُرُ فَقَدْ سَتَرَتْه الاليَتَانِ، وأَمَّا القُبُلُ فَاسْتُرْه بِيَدِكَ (1)

فغير ما تمَّ تحديده في الرواية يجوز للمماثل النظر إليه بشرط عدم الريبة والتلذذ كما هو واضح.

الحكم الثاني: استحباب ستر سائر البدن بعد لزوم ستر خصوص العورة:

قال قُدس سره: (ويُستحبُّ سترُ البدن):

تقدّم وجوب ستر العورة عند التخلي، وأما سائر البدن فلا يجب فيه .

ص: 253


1- الكافي للكليني ج6 ص 501 بَابُ الْحَمَّامِ ح26.

الستر، بل يستحبُّ ستره؛ بأن يكون جلوسُه في مكانٍ بحيث لا يراه أحد؛ سواء أكان ذلك بالابتعاد عن الناظر -كما في الأراضي الشاسعة-، أم التستر ببناءٍ مثلًا، كما هو متعارف في عصورنا الحالية.

وهذا الاستحباب يُمكنُ أن يُستفاد ممّا روي عن أبي عبد الله (صلوات الله وسلامه عليه) أنّه قال: من أتى الغائط فليستتر (1)

الحكم الثالث: حُرمة استقبال القبلة واستدبارها:

قال قُدس سره: ويحرمُ استقبالُ القبلةِ واستدبارُها، ويستوي في ذلك الصحاري والأبنية، ويجبُ في موضعٍ قد بُنيَ على ذلك.

لبيان هذا الحكم لابُدّ من ذكر عدة أمور:

أولًا: المراد من الاستقبال:

هو استقبال المُتخلي القبلة ببدنِه وعورته؛ بأنْ تكونَ مقاديم بدنه باتجاه القبلة.

وكذا المراد من الاستدبار أيضًا وهو أنْ تكون مقاديم بدنه على عكس اتجاه القبلة مستدبرًا لها.وقد علّلت بعض الروايات هذا الحكم بأنّه من باب الاحترام للقبلة، ومن باب إجلالِها.

ص: 254


1- وسائل الشيعة للحر العاملي ج1 ص 306 باب 4 - باب استحباب التباعد عن الناس عند التخلي، وشدة التستر، والتحفظ ح (803 / 4).

ثانيًا: اختلف الفقهاء في شأن هذا الحكم على آراء:

الرأي الأول: الحرمة مطلقًا؛ أي لا يجوز للمتخلي استقبال القبلة أو استدبارها سواء أكان المتخلي داخل بناءٍ أم في أرضٍ مفتوحةٍ.

الرأي الثاني: جواز استقبال القبلة أو استدبارها مع الكراهة.

الرأي الثالث: التفصيل بين كون المتخلي في الأبنية أو في غيرها كما في الصحاري، فعلى الأول يجوز للمتخلي استقبال القبلة واستدبارها، وعلى الثاني لا يجوز له ذلك.

وبملاحظة عبارة المحقق قُدس سره يتضح جليًا أنّه يذهب إلى الحرمة مطلقًا؛ إذ قال: ويحرمُ استقبالُ القبلةِ واستدبارُها، ويستوي في ذلك الصحاري والأبنية.

وقد استدلَ أصحاب الرأي الأول على قولهم بما روي عن عيسى بن عبد الله الهاشمي عن أبيه عن جده عن علي عَلَيْهِم السَّلاَمُ قال: قال النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ إذا دخلت المخرج فلا تستقبل القبلة ولا تستدبرها ولكن شرقوا أو غربوا (1)

والروايةُ واضحةٌ جدًا في دلالتها على الحرمة؛ للنهي الصريح، والنهيُ ظاهرٌ في الحرمة، بل هي واضحة في الدلالة على الحرمةعند الدخول إلى المخرج، أي بيت الخلاء، فتكون الحرمة في غيره البناء - في الأرضاي المكشوفة - من باب أولى، وقد قال العلامة الحلي: ولا فرق في ذلك بين الصحاري والبنيان على الأقوى، للعموم ولتعظيم شأن القبلة (2)

ص: 255


1- الاستبصار للشيخ الطوسي ج1 ص 47 باب 26 - باب استقبال القبلة واستدبارها عند البول والغائط- ح (130 – 1).
2- نهاية الأحكام للعلامة الحلي ج1 ص79.

وقد استدل البعضُ بهذه الرواية على استحباب التشريق أو التغريب عند التخلّي؛ وذلك بأن يجلس المتخلي والقبلة على يمينه أو على شماله، ولو لقاعدة التسامح في أدلة السُنن على فرض ضعف سند الرواية.

وفي مرفوعة علي بن إبراهيم، قَالَ: خَرَجَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ عِنْدِ أَبِي عَبْدِ الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ وأَبُو الحَسَنِ مُوسَى عَلَيْهِم السَّلاَمُ قَائِمٌ وهُوَ غُلَامٌ، فَقَالَ لَه أَبُو حَنِيفَةَ: يَا غُلَامُ، أَيْنَ يَضَعُ الغَرِيبُ بِبَلَدِكُمْ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: اجْتَنِبْ أَفْنِيَةَ المَسَاجِدِ، وشُطُوطَ الأَنْهَارِ، ومَسَاقِطَ الثِّمَارِ، ومَنَازِلَ النُّزَّالِ، ولَا تَسْتَقْبِلِ القِبْلَةَ بِغَائِطٍ ولَا بَوْلٍ، وارْفَعْ ثَوْبَكَ، وضَعْ حَيْثُ شِئْتَ (1)

في الرواية نكتتان علميتان:

النكتة الأولى: معنى الرواية المرفوعة:

الحديث المرفوع أو الرواية المرفوعة مصطلحٌ من مصطلحات علم الحديث، والرواية المرفوعة تدخل ضمن الحديث الضعيفالسند؛ وذلك لعدم اتصال سلسلة الرواة بالإمام المعصوم عَلَيْهِ السَّلاَمُ، بل يرويها راوٍ ما عمّن قبله، وهكذا حتى نصل إلى راوياً يروي الرواية عن معصومٍ لم يُدركه، مما يدلُّ يقينًا على أنّ هناك راوٍ أو رواة لم يُذكروا في السند، الأمر الذي يتسبب في ضعفه.

الرواية المرفوعة بخلاف الرواية المسندة التي اتصلت فيها سلسلة الرواة بالإمام المعصوم عَلَيْهِ السَّلاَمُ.

ص: 256


1- الكافي للكليني ج3 ص 16 بَابُ الْمَوْضِعِ الَّذِي يُكْرَه أَنْ يُتَغَوَّطَ فِيه أَوْ يُبَالَ- ح5.

وفي المقام فإنّ هذه الرواية إنّما كانت مرفوعةً؛ لأنَّ راويها علي بن إبراهيم -وهو رجل من الثقات ولديه تفسير يُسمى تفسير علي بن إبراهيم يُنسب إليه- يرويها مباشرةً عن الإمام الصادق والإمام الكاظم عَلَيْهِما السَّلاَمُ، وهو لم يُعاصرهما، ولم يذكر رجال السند.

النكتة الثانية: اشتمال سياق الرواية على فقرات تدل على حكم إلزامي وغير إلزامي:

تضمنت الرواية عدّة فقرات في سياقٍ واحد، تدلّ على أحكامٍ تكليفية عديدة، منها إلزامية كالحرمة، ومنها غير إلزامية كالكراهة.

فكيف أمكن الحكم على استقبال القبلة واستدبارها بحكمٍ إلزامي وهو الحرمة، على حين لا يمكن الحكم على جميع فقرات الرواية بنفس الحكم؛ للعلم بعدم حرمتها؟

هذه ظاهرةٌ موجودةٌ في بعض الروايات، وللفقهاء منها موقفان:الموقف الأول: رفضُ كُلِّ الرواية وعدمُ الاستدلال بها؛ لاشتمالها على حكمٍ لموضوعٍ ما، نعلم بعدم صحته، كاشتمالها –ظاهراً- على حكمٍ إلزامي مثلّا نعلم بعدم لزومه.

وفي المقام، فإن الرواية تشتملُ على حكم تحريم ما نعلم أنّه ليس بمُحرّمٍ؛ إذ تدلُّ بظاهرها على تحريمِ عِدّةِ أمورٍ ذُكِرت في فقراتٍ متتالية، منها ليست بمحرّمةٍ حتمًا، كالتخلّي في شطوط الأنهار مثلًا.

ص: 257

وأمّا دلالتها على التحريم فللنهي الظاهر في كلمة (اجتنب)، وهي فعل أمرٍ بلزوم اجتناب فعلٍ والابتعاد عنه، ومن ثم تستلزم النهي عنه، وقد تقدّم أّنَّ النهي ظاهرٌ في التحريم.

الموقف الثاني: التفكيك بين فقرات الرواية؛ أي حمل الحكم الوارد في الرواية على الموضوع الظاهر به، وحمل غيره من الموضوعات على ما يُناسبها من أحكامٍ تتآلف ولو من جهةٍ ما مع الحكم الذي تنص عليه الرواية دون الالتزام به عينًا.

وكمثالٍ للتوضيح، فقد ورد في الرواية حكمٌ إلزاميٌ وهو التحريم الذي شمل موضوعاتٍ مختلفة؛ فما نعلمُ بعدم حُرمته منها - ولو بدليل خارجي- نحكم عليه بالكراهة؛ انطلاقًا من محاولة التأليف بين حكمها الذي نعلمه -وهو عدم الحرمة- وبين الحكم الوارد فيالرواية - وهو التحريم-، وأمّا ما عداه فنُبقيه على حكم الحرمة؛ لظهوره فيها.

وعليه، نحملُ بعضَ فقرات الرواية -كالتخلّي في أفنية المساجد وشطوط الأنهار- على الكراهة؛ لعلمنا بعدم حرمتها من جهة، وتماشيًا مع جو الرواية الذي يعمّه النهي، والنهي ظاهرٌ في التحريم كما تقدّم من جهةٍ أخرى، فيما نحملُ استقبال القبلة واستدبارها عند التخلّي على الحرمة؛ للنهي، والنهي ظاهرٌ في التحريم.

وبناءً على انقسام مواقف الفقهاء في هكذا روايات إلى قسمين، فقد اختلفت أحكامهم، ومنها اختلافهم في مسألة استقبال المتخلي القبلة

ص: 258

واستدبارها؛ فمن قبلَ هذه الرواية منهم وعمل بتفكيكها قال بالتحريم مطلقًا، مثل المُحقق قُدس سره.

وأمّا من رفض دلالة هذه الرواية على التحريم؛ لاشتمالها على حكم تحريمي لموضوعٍ نعلم بعدم حرمته، فقد قال بالكراهة بناءً على قاعدة التسامح في أدلة السنن؛ لأنَّ ما دلَّ على تحريم استقبال المتخلّي للقبلة واستدبارها من الروايات - التي تقدّم ذكر بعضها - ضعيفة السند، لا تصلح للاستدلال بها على الحرمة.

خصوصاً وأنه قد روي عن محمدٍ بن إسماعيل ما يبدو منه عدم الحرمة، وأن عدم الاستقبال إنما هو من باب التبجيل والتعظيم، فقد روي عنه أنه قال: دخلت على أبي الحسن الرضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ وفي منزلهكنيف مستقبل القبلة، سمعته يقول: من بال حذاء القبلة ثم ذكر فانحرف عنها إجلالاً للقبلة وتعظيماً لها، لم يقم من مقعده ذلك حتى يغفر الله له (1)

فائدة رجالية: ترجمة محمد بن إسماعيل بن بزيع.

قال النجاشي (2):

محمد بن إسماعيل بن بزيع، أبو جعفر... ووِلْدُ بزيع بيت، منهم حمزة بن بزيع، كان من صالحي هذه الطائفة وثقاتهم، كثير العمل.

ص: 259


1- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج1 ص 352 باب 15 باب آداب الاحداث الموجبة للطهارة ح (1043 / 6).
2- يُراجع: فهرست أسماء مصنفي الشيعة (رجال النجاشي) للنجاشي ص 330 – 332 رقم » 893 ».

وقال حمدويه عن أشياخه: إن محمد بن إسماعيل بن بزيع وأحمد بن حمزة كانا في عداد الوزراء، وكان علي بن النعمان وصّى بكتبه لمحمد بن إسماعيل...

وقال محمد بن يحيى العطار: أخبرنا محمد بن أحمد بن يحيى قال: كنت بفيد، فقال لي محمد بن علي بن بلال: مُرّ بنا إلى قبر محمد بن إسماعيل بن بزيع لنزوره، فلما أتيناه جلس عند رأسه مستقبل القبلة والقبر أمامه، ثم قال: أخبرني صاحب هذا القبر - يعني محمد بن إسماعيل - أنه سمع أبا جعفر عَلَيْهِ السَّلاَمُ يقول: من زار قبر أخيه،ووضع يده على قبره، وقرأ: (إنا أنزلناه في ليلة القدر) سبع مرات، أمن من الفزع الأكبر (1)

وحكى بعض أصحابنا عن بن الوليد قال: وفي رواية محمد بن إسماعيل بن بزيع قال: أبو الحسن الرضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ: إن لله تعالى بأبواب الظالمين من نور الله له البرهان ومكن له في البلاد، ليدفع بهم عن أوليائه ويصلح الله بهم (به) أمور المسلمين، إليهم ملجأ المؤمن (المؤمنين) من الضر، وإليهم يفزع ذو الحاجة من شيعتنا، وبهم يؤمن الله روعة المؤمن في دار الظلمة،

ص: 260


1- وفي هذه الرواية نكتتان: الأولى: ان من ينقل أحاديث أهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم) يصيبه الخير في الدنيا والآخرة. الثاني: أن الرواية لم تحدد من يأمن من الفرع الأكبر الميت أم من يقرأ سورة القدر على قبره، وقد أفاد سماحة آية الله الشيخ باقر الإيرواني (حفظه الله تعالى) بأن رحمة الله تعالى واسعة تشمل الجميع إن شاء الله تعالى.

أولئك المؤمنون حقاً، أولئك أمناء الله في أرضه، أولئك نور «الله»، في رعيتهم يوم القيامة، ويزهر نورهم لأهل السماوات كما يزهر الكواكب الدرية لأهل الأرض، أولئك من نورهم نور القيامة، يضئ منهم القيامة، خلقوا والله للجنة وخلقت الجنة لهم، فهنيئاً لهم، ما على أحدكم أنْ لو شاء لنال هذا كله. قال: قلت بماذا جعلني الله فداك؟ قال عَلَيْهِ السَّلاَمُ: يكون معهم فيسرّنا بإدخال السرور على المؤمنين من شيعتنا، فكن منهم يا محمد.

وعن الحسين بن خالد الصيرفي. قال: كنا عند الرضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ، ونحن جماعة، فذكر محمد بن إسماعيل بن بزيع، فقال: وددت أن فيكم مثله.

وروى الشيخ الطوسي بسنده عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، قال: سألت أبا جعفر «الجواد« عَلَيْهِ السَّلاَمُ أن يأمر لي بقميص من قمصه أعده لكفني، فبعث به إلي، قال، فقلت له: كيف أصنع به جعلت فداك؟ قال عَلَيْهِ السَّلاَمُ: انزع ازراره (1)

فتلخَّصَ إلى هنا أنَّ في قضية استقبال المتخلي للقبلة واستدباره لها عدة آراء:

الرأي الأول: الحرمة مطلقًا -أي سواء في الأبنية أم في غير الأبنية- استناداً إلى بعض الروايات.

الرأي الثاني: الكراهة بناءً على قاعدة التسامح في أدلة السُنن؛ لضعف سند الروايات الدالة على التحريم.

ص: 261


1- اختيار معرفة الرجال للشيخ الطوسي ج2 ص 514 رقم (45).

الرأي الثالث: التفصيل بين الأبنية وغيرها، فيجوز استقبال القبلة واستدبارها للمتخلي داخل الأبنية ولا يجوز له خارجها، كما في الأرض المكشوفة من صحراء وغيرها.واستُدلّ للثالث بما تقدم من رواية محمد بن إسماعيل أنّه قال: (دخلتُ على أبي الرضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ وفي منزله كنيف مستقبل القبلة)، فاستدلّوا بها على جواز استقبال المتخلي القبلة واستدبارها إذا كان داخل الأبنية.

وقد ردَّ بعض الفقهاء هذا الرأي: بعدم كفاية هذا المقدار؛ لأن وجود الكنيف مستقبلًا القبلة ليس بدليلٍ قاطع على جواز استقبال القبلة واستدبارها؛ لاحتمال أنّ المتخلي نفسه ينحرف عن القبلة حتى ولو كان الكنيف باتجاهها.

هذا، وحيث إن الأدلة التي دلت على الحرمة ضعيفة السند؛ لذا ذهب الكثير من علمائنا -ومنهم السيد السيستاني (أدام الله ظله)- إلى الاحتياط الوجوبي (1) والاحتياط مطلقًا حسنٌ على كل حال...

رأي المحقق:

المُحقق قُدس سره، قال بالتحريم مطلقًا، بلا فرقٍ بين أن يكون المتخلي داخل الأبنية أو خارجها، ومن عبارته نصل إلى عِدّةِ نتائج:

ص: 262


1- في منهاج الصالحين للسيد السيستاني ج1 ص 45 الطبعة التاسعة عشرة 1439ه-/2018م - دار المؤرخ العربي- المسألة 54: الأحوط وجوباً عدم استقبال القبلة أو استدبارها في حال التخلي، وكذلك الاستقبال بنفس البول أو الغائط، وإن لم يكن المتخلي مستقبلاً أو مستدبراً، ويجوز ذلك في حال الاستبراء والاستنجاء، وإن كان الأحوط استحباباً الترك، ولو اضطرّ إلى أحدهما فالأحوط لزوماً اختيار الاستدبار.

أولًا: لا فرقَ في الحُرمة بين الصحاري والأبنية، وهذا الذي صرّحَ به المحقق قُدس سره؛ إذ قال: ويحرم استقبال القبلة واستدبارها، ويستوي في ذلك الصحاري والأبنية مطلقًا.

ثانيًا: لا إشكال ولا حرمة في نفس بناءِ بيت الخلاء باتجاه القبلة؛ إذ ما يحرم هو التخلي باتجاه القبلة تحديدًا، فإذا كان بيت الخلاء مبنيًا باتجاه القبلة، وجب على المتخلي أنْ ينحرف عن القبلة.

وهذا ما أشار إليه المحقق قُدس سره إذ قال: ويجب الانحراف في موضعٍ قد بُنيَ على ذلك.

ثالثًا: لا فرق في حرمة استقبال واستدبار القبلة عند التخلي بين كون المتخلي جالسًا أو قائمًا أو مُستلقيًا، بحيث إذا جلس كان وجهه باتجاه القبلة، كما لو كان مريضًا مثلًا.

حكم الاستقبال والاستدبار حال الاستنجاء:

للفقهاء قولان:

القول الأول: الاستنجاءُ مُلحقٌ بالتخلّي في الحرمة، ولو على نحو الاحتياط الوجوبي، أي لا يجوز للمكلف الاستنجاء مستقبلًا القبلة ولا مستدبرًا؛ لما رويَ عَنْ عَمَّارٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: قُلْتُ لَه: الرَّجُلُ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَنْجِيَ كَيْفَ يَقْعُدُ؟ قَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: كَمَا يَقْعُدُ لِلْغَائِطِ... (1)

ص: 263


1- الكافي للكليني ج3 ص14 بَابُ الْقَوْلِ عِنْدَ دُخُولِ الْخَلَاءِ وعِنْدَ الْخُرُوجِ والِاسْتِنْجَاءِ ومَنْ نَسِيَه والتَّسْمِيَةِ عِنْدَ الدُّخُولِ وعِنْدَ الْوُضُوءِ ح11.

القول الثاني: عدم إلحاق الاستنجاء بالتخلّي؛ لاختلاف حكمهما.

وأمّا الرواية المذكورة آنفًا فقد قالوا بضعف سندها، ومن هنا فقد ذهب بعض الفقهاء إلى الاحتياط الاستحبابي بالترك كالسيد السيستاني (دام ظله).

النوع الثاني: في الاستنجاء:

الاستنجاء لُغةً: هو إزالة ما يخرج من النجو، بالماء أو التمسح بالحجارة، أو هو التنظف عن النجو، واستنجى أي مسح موضع النجو أو غسله (1)

والنجو هو ما يخرج من البطن من ريحٍ أو غائط (2)

وأما شرعًا: فهو لا يختلفُ كثيرًا عن المعنى اللغوي إلا في إضافة بعض الشروط؛ لتحصيل الطهارة الشرعية.

فالاستنجاء شرعًا هو غسل موضع البول أو الغائط بالماء - بشروطٍ معينة- أو بالحجارة في بعض الأحيان كما سيتبين إن شاء الله تعالى.

والاستنجاءُ ليس واجبًا نفسيًا في حدِّ نفسه، أيّ إنّ الاستنجاء ليس مطلوبًا لذاته؛ فلو أحدث بخروج بولٍ أو غائطٍ ولم يستنجِ، لميرتكبْ بذلك محرمًا معينًا بنفسه، ولا يعني أنّه ترك واجبًا فيستحقّ عقوبةً على ذلك.

ص: 264


1- في لسان العرب لابن منظور ج3 ص 147: الاسْتِجْمارُ: الاستنجاء بالحجارة... الاستنجاء بالحجارة، وقيل: هو الاستنجاء، واستجمر واستنجى واحد إِذا تمسح بالجمار، وهي الأَحجار الصغار، ومنه سميت جمار الحج للحصى التي ترمى بها.
2- لسان العرب لابن منظور ج15 ص 306.

بل هو واجبٌ غيري، أي إنّه لا يجب إلا إذا صار شرطًا في صحةِ واجبٍ ما، كالصلاةِ والطوافِ مثلًا.

هذا في مجال الطهارة الشرعية، أمّا في النظافة العرفية -بأنْ يكونَ الإنسانُ مُتنزِّهًا عن النجاسات-، فهذا بحثٌ آخر.

ذكر المُحقق قُدس سره في حكم الاستنجاء فرعين:

الفرع الأول: الاستنجاء من البول:

قال قُدس سره: الثاني في الاستنجاء، ويجبُ غسلُ موضعِ البولِ بالماء، ولا يُجزي غيره مع القدرة.

ولبيان كيفيته الشرعية نذكر النقاط الآتية:

أولًا: يقتصر تطهير موضع البول على الغسل بالماء فقط؛ وهذا حكمٌ مُجمَعٌ عليه، دلت عليه نصوصٌ عديدة، منها ما روي عن زرارة عن أبي جعفر عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال: لا صلاة إلا بطهور، ويجزيك من الاستنجاء ثلاثة أحجار، وبذلك جرت السنة من رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ، وأما البول فإنّه لا بدّ من غسله (1)فإذا أراد المكلف الصلاة، فعليه أولاً تحصيل الطهارة لا من الحدث فقط، بل وتحصيل طهارة البدن من الخبث أيضًا، فإنْ كان متنجّساً بنجاسة خروج بولٍ أو غائط فلا بُدّ من تطهيره، وكيفية تطهير موضع البول لا يكون إلا بالغسل بالماء.

ص: 265


1- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج1 ص 49 و50 باب 3 آداب الأحداث الموجبة للطهارات ح (144 / 83).

ثانيًا: إنْ لم يجد المكلف ماءً، فلا يُجزي في التطهير من البول غيره، فلا بديل عن الماء، ويبقى الموضع متنجساً؛ وذلك للتالي:

أولًا: لعدم وجود الدليل على البديل.

ثانيًا: لإجماع الفقهاء على ذلك.

ثالثًا: للنصوص الروائية، منها ما تقدّم، ومنها ما روي عن بريد بن معاوية عن أبي جعفر عَلَيْهِ السَّلاَمُ أنه قال: يجزي من الغائط المسح بالأحجار، ولا يجزي من البول إلا الماء (1)

وقد اختار المصنف قُدس سره ذلك في صريح عبارته، حيث لم يُبيّنِ البديل، فقال: ولا يُجزي غيره مع القدرة.

نعم، لأجل إباحة ما تُشترط فيه الطهارة من العبادات -كالصلاة مثلًا؛ لما تقدّم من أنَّ الاستنجاء واجبٌ غيري- فقد قال بعض الفقهاء: إنَّ اللازم هو تطهير الموضع، فإن لم يتمكن المكلف من ذلك وجبت إزالة عين النجاسة (البول) أو التخفيف منها بالقدر المستطاع وبأيةِطريقةٍ تجدي لذلك، كالمسح أو الانتظار حتى يجفَّ الموضع وما شابه ذلك، وهذا لا يعني طهارة الموضع، وإنّما الحكم بإباحة العبادة المشروطة بالطهارة بإزالة عين النجاسة (البول) طالما كان الماء متعذرًا، أي إنه حكمٌ ثانوي، يصحح الصلاة مع نجاسة البدن.

ص: 266


1- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج1 ص 49 و50 باب 3 باب آداب الأحداث الموجبة للطهارات ح (147) / 86.

ولو صحَّ ذلك فإنّه يجري في جميع النجاسات، ولا خصوصية للبول، فيجري عند تنجس البدن بالدم مثلًا، وهكذا فإنَّ هذا الحكم يجري حتى مع وجود الماء إذا وجِد مانعٌ منع المكلف من استعماله كمرضٍ ونحوه.

بيان مورد جريان قاعدة الميسور:

وقد استُدِلَّ على ذلك بقاعدةِ (الميسور لا يسقط بالمعسور)، أو (إن ما لا يُدرَكُ كُلُّه لا يُترَكُ كُلُّه).

فعند خروج البول يتوجّبُ على المكلف واجبان: إزالة عين النجاسة (البول)، وإزالة أثرها، فإن عجز المكلف عن إزالة عينها - لعدم توفر الماء، وقد تقدّم انحصار التطهر من البول بالماء فقط- يتعيّن عليه إزالة أثرها، وهو الميسور في المقام.

ولكنه رُدَّ:

بأنَّ قاعدة (الميسور لا يسقط بالمعسور) إنّما تجري في الواجبات المركبة من عدّةِ أجزاءٍ، مع قدرة المكلف على بعضها دونالبعض. كواجب الحج مثلًا؛ فهو واجبٌ مركبٌ من عدّةِ أجزاءٍ، فإن تعسّر على المكلف القيام ببعضها -كرمي الجمرات مثلًا- فلا يسقط الواجب كله؛ لقاعدة الميسور، وإنّما يسقط فقط ما لا يستطيع المكلف القيام به، وهو رمي الجمرات، فيرمي ما يستطيع أن يرمي من جمرة العقبة، كما لو تمكّن من ذلك يوم العاشر مثلًا، أو يبعث نائبًا عنه في الرمي.

ص: 267

وكذلك مثل الصلاة، فهي واجبٌ مركبٌ من عدة أجزاء؛ فتجري فيها قاعدة الميسور، فمن لم يتمكن من القيام أثناء تكبيرة الإحرام أو أثناء القراءة، فلا تسقط عنه الصلاة، بل يسقط عنه خصوص القيام، فيصلي من جلوس مثلًا.

وأما الاستنجاء، فليس واجبًا مركبًا من عِدّة أجزاءٍ ليُمكِنَ إجراء قاعدة الميسور فيه، وإنّما هو واجبٌ واحدٌ، هو تطهير الموضع، وأمّا إزالة عين النجاسة - التي جعلها البعض جزءًا آخر له، تجب عند تعذر التطهير لقاعدة الميسور- فما هي إلا أثرٌ من آثار تطهير الموضع لا جزءًا آخر قائمًا بذاته.

ومعه، فهذه القاعدة لا تجري في الاستنجاء؛ لأنه واجبٌ بسيطٌ غير مركب.

ثالثًا: ما المقدار الواجب من الماء لتحصل الطهارة الشرعية؟

قال المحقق قُدس سره: وأقلُّ ما يُجزي مِثْلا ما على المخرج.هذه عبارةٌ مستوحاة مما روي عن نشيط بن صالح عن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال: سألته: كم يُجزي من الماء في الاستنجاء من البول؟ فقال: بمثلي ما على الحشفة من البلل (1)

وقد اختلف الفقهاء في تفسير وبيان عبارة المحقق قُدس سره على قولين، نذكرهما دون أن نناقشهما منعًا للإطالة:

ص: 268


1- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج1 ص 35 ح (93 / 32).

التفسير الأول: إن المقصود هو وجوب غسل مخرج البول مرتين، فالتعبير بالمثلين كنايةً عن لزوم تعدد الغسل، وأقلُّ المُجزي هو مرتان.

وقد تفرّع عن هذا الرأي اختلاف آخر في لزوم الفصل بين الغسلتين أو عدمه.

التفسير الثاني: إن المقصود هو لزوم أن يكون الماء الذي يُطهَّرُ به موضع البول غالبًا على البول، والغلبةُ لا تحصلُ عادةً إلا إذا كان الماء أكثر من البول، وأما إذا كان الماء بقدر البول فلا تحصل به الغلبة، فعبّر المحقق قُدس سره بالمثلين ليُبيّنَ وجوب أن يغلب الماء على البول.

وبعبارةٍ أُخرى: إنّ المثلين كنايةٌ عن لزوم أنْ يكون الماء الذي يُطهّر به موضع البول لا بقدر البول، بل بقدر مثلَي ما على المخرج منه.الفرع الثاني: الاستنجاء من الغائط:

قال قُدس سره: وإذا تعدى المخرج لم يُجزِ إلا الماء، وإذا لم يتعدّ كان مخيرًا بين الماء والأحجار، والماء أفضل، والجمع أكمل، ولا يُجزي أقلّ من ثلاثة أحجار.

يتمُّ الاستنجاء من الغائط بطريقتين: طريقة تعيينية، وأخرى تخييرية، وذكر المحقق قُدس سره أن التعيينية هي فيما إذا تعدى الغائط المخرج، فلا يطهر حينها إلا بالماء، والتخييرية تكون فيما لو لم يتعد المخرج، فيجوز بالماء، وبالأحجار، وسنذكر أولاً التطهير بالماء –تبعاً للمحقق- ثم نشير إلى معنى الطريقتين السالفتين:

ص: 269

أولاً: التطهير بالماء:

قال قُدس سره: وغسلُ مخرجِ الغائط بالماء حتى يزول العين والأثر، ولا اعتبار بالرائحة.

يتم الاستنجاء بالماء بغسل مخرج الغائط بالماء بمقدارٍ معين بحيث يتوفر فيه أمران:

الأمر الأول: يجب أنْ تزول عين الغائط، وهذا هو المُعبَّر عنه بالإنقاء، والإنقاء من النقاوة أيّ إزالة عين النجاسة عن البدن.

الأمر الثاني: يجب أن يزول الأثر، وقد اختلف الفقهاء في تفسير الأثر، ففسّره بعضهم باللون، فيما فسّره البعض الآخر بأنّه ما يتخلّفُعلى المحل عند مسح النجاسة وتنظيفها، وهي عبارةٌ مبهمة وغير واضحة.

فإنْ استنجى بحيث أزال العين والأثر كان استنجاؤه صحيحًا ومطهِّرًا للموضع.

وأما الرائحة فلا تجب إزالتها؛ لما روي عَنِ ابْنِ المُغِيرَةِ عَنْ أَبِي الحَسَنِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: قُلْتُ لَه: لِلِاسْتِنْجَاءِ حَدٌّ؟ قَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: لَا، يُنَقَّى مَا ثَمَّةَ. قُلْتُ: فَإِنَّه يُنَقَّى مَا ثَمَّةَ ويَبْقَى الرِّيحُ؟ قَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: الرِّيحُ لَا يُنْظَرُ إِلَيْهَا (1)

ثانياً: طريقة الاستنجاء من الغائط بالماء - التي تقدّمت- تارةً تكونُ هي المُتعينة، وأخرى يجوز التخيير بينها وبين غيرها؛ والتفصيل:

ص: 270


1- الكافي للكليني ج3 ص17 بَابُ الْقَوْلِ عِنْدَ دُخُولِ الْخَلَاءِ وعِنْدَ الْخُرُوجِ والِاسْتِنْجَاءِ ومَنْ نَسِيَه والتَّسْمِيَةِ عِنْدَ الدُّخُولِ وعِنْدَ الْوُضُوءِ ح 9.

الطريقة الأولى: الطريقة التعيينية:

قال قُدس سره: وإذا تعدّى المخرج لم يُجزِ إلا الماء.

فتعيُن الاستنجاء بالماء معلّقٌ على شرطٍ، وهو: تعدّي الغائط المخرجَ؛ فاذا تعدى الغائط مخرجه فحينئذٍ لا يجزي إلا الماء.

وفُسِّر التعدّي بأنه تجاوزُ الغائط عن المخرج، وإنْ لم يتفاحش في انتشاره، أو قل: وصولُ الغائط إلى محلٍ لا يعتاد وصوله إليه.وقد روي في كتاب عوالي اللآلي عن أبي جعفرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال: يُجزي من الغائط المسحُ بالأحجار إذا لم يتجاوزْ محلَّ العادة (1)

نكتة رجالية: كتاب عوالي اللئالي.

إن ابن أبي جمهور الأحسائي رحمة الله أحد علماء الإمامية، إلا أنّ رواياته عمومًا في هذا الكتاب مُبتلاة بضعفِ السند؛ لأنّها مرسلة.

إلا أن هذا لا يعني عدم الاستفادة منه، إذ بالإمكان الاستفادة من رواياته بإحدى الطرق التالية:

1- البحث عن الرواية في كتابٍ آخر مُسندةً، فإن وجدناها كذلك ارتقت لمقام الاستدلال.

2- الاستفادة من رواياته في الاستدلال على بعض السنن والآداب بناءً على قاعدة التسامح في أدلة السنن.

3- أما من لا يبني على هذه القاعدة، فيمكن الانتفاع منها بالإتيان بمضمون رواياته برجاء المطلوبية.

ص: 271


1- عوالي اللئالي لابن أبي جمهور الإحسائي ج2 ص 181 ح46.

الطريقة الثانية: الطريقة التخييرية:

وتجوز هذه الطريقة فيما لو لم يتعدَّ الغائطُ المخرجَ، أيّ لامس الموضع المعتاد فقط، ولم يتعدَّ إلى محلٍ لا يصله الغائط عادةً.

ويدور التخيير في هذه الطريقة بين:

أولاً: التطهير بالماء -بالطريقة التي تقدّمت، بأن تُزال العين والأثر ولا اعتبار بالرائحة- أو التطهير بالأحجار.ثم يقول المحقق قُدس سره: والماء أفضل، والجمع أكمل.

وهي من العبارات المشهورة نظير عبارة: القصر أحوط، والتمام أفضل، والجمع أكمل في حكم صلاة المسافر في مواضع التخيير بين القصر والتمام، وهي: المسجد الحرام والمسجد النبوي ومسجد الكوفة والحائر الحسيني.

وكذا من لم يتعدَّ غائطُه مخرجَه، فهو مخير بين أنْ يطهر الموضع بالماء أو أنْ يطهره بالأحجار، ولكن التطهير بالماء أفضل، والجمع بين التطهير بكليهما أكمل.

وللعبارة المتقدمة مستندٌ بلا شك؛ فأما التخيير؛ فللجمع بين كون الماء طاهرًا في نفسه مُطهِّرًا لغيره، وبين الروايات التي دلت على جواز التطهير بالأحجار، ومنها رواية زرارة عن أبي جعفر عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال: لا صلاة إلا بطهور، ويجزيك من الاستنجاء ثلاثة أحجار، وبذلك جرت السنة من رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ، وأما البول فإنه لا بد من غسله (1)

ص: 272


1- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج1 ص 49 ح (144 / 83).

وأمّا كون الماء أفضل؛ فلما قالوا من إنه أبلغُ في التنظيف، وهذا أمرٌ وجداني، حيث يدرك الإنسان أنّ التنظيف بالماء أجود من التنظيف بالأحجار.

وأمّا الجمعُ؛ فلما روي مُرسلًا عن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ أنّه قال: جرت السنة في الاستنجاء بثلاثة أحجارٍ أبكار، ويُتبعُ بالماء (1)وجريان السنة على ذلك يعني أنّه الأكمل.

كما تفيدُ الرواية بتقديم الأحجار على الماء، وهو أمرٌ نقبله تعبدًا، ولكن لعلّه لأجل أنَّ إزالة الغائط بالأحجار أولًا فيه تنزيهٌ لليد عن مباشرة النجاسة.

ثانياً: الاستنجاء بالأحجار فقط:

قال قُدس سره: ولا يُجزي أقلُّ من ثلاثةِ أحجار.

ويسمّى بالاستجمار أيضًا، والاستجمار هو التمسح بالأحجار، والجُمار هي الأحجار الصغيرة، وسُمّيَ استجمارًا؛ لأنَّ التطهير يكون بالحجارة الصغيرة، والاستنجاء بالأحجار إنّما يصحُّ إذا لم يتعدَّ الغائطُ الموضعَ كما تقدم.

شروط الاستنجاء بالأحجار:

يُستفاد مما ذكره المحقق قُدس سره في الاستنجاء بالأحجار عدّةَ أمور:

ص: 273


1- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج1 ص 46 ح (130 / 69).

الأمر الأول: إنّما يصحُّ التطهير بالأحجار فقط فيما إذا لم تتعدَّ النجاسةُ الموضعَ، كما تقدّم.

الأمر الثاني: أقلُّ ما يُجزي الاستنجاء به هو ثلاثة أحجار؛ للروايات الخاصة، من قبيل ما روي عن أبي جعفر عَلَيْهِ السَّلاَمُ: ويُجزيك من الاستنجاء ثلاثة أحجار (1)وهذا يدلُّ على عدم الاجزاءِ بالأقل من ثلاثة؛ فإنَّ تطهير البدن حكمٌ شرعي، ولا يحرز هذا الحكم الشرعي إلا إذا حصلَ سببه الشرعي، وفي المقام دلَّ النصُّ الشرعي على أنَّ الذي يُجزي هو ثلاثةُ أحجار، وأما ما دون الثلاثة أحجار فلم يثبت كونها سببًا لحصول الطهارة، ومن ثم فلا تتحقق الطهارة بالأقل من ثلاثة أحجار.

وفي قبال هذا الرأي يوجد رأيٌّ آخر مفاده: أنَّ المطلوبَ في تطهير موضع الغائط هو الإنقاء، والإنقاءُ يعني إزالة عين النجو، فإذا تحقّق الإنقاء بأقلِّ من ثلاثةِ أحجار -كما لو حصل الإنقاءُ بحجرين- أجزأ ذلك؛ لتحقق المطلوب وهو الإنقاء، ومن ثم فلو لم يتحقق الإنقاء إلا بأربعة أحجار وجب، وهكذا حتى يتحقق الإنقاء.

وقد استند من ذهب إلى هذا الرأي إلى ما ورد في رواية ابن المغيرة مع أبي الحسن (صلوات الله عليه) المتقدمة حيث سأله: لِلِاسْتِنْجَاءِ حَدٌّ؟ قَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: لَا، يُنَقَّى مَا ثَمَّةَ... (2)

ص: 274


1- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج1 ص 49 ح (144 / 83).
2- الكافي للكليني ج3 ص 17 بَابُ الْقَوْلِ عِنْدَ دُخُولِ الْخَلَاءِ وعِنْدَ الْخُرُوجِ والِاسْتِنْجَاءِ ومَنْ نَسِيَه والتَّسْمِيَةِ عِنْدَ الدُّخُولِ وعِنْدَ الْوُضُوءِ ح9.

فالإمامُ لم يجعل حدًا للاستنجاء، وإنّما اشترط تحقق النقاء، فلو حصل النقاء بالأقل من ثلاثة فقد تحقّق الاستنجاء، وإن لم يتحقق بها، فعليه أن يزيد إلى أن يحصل النقاء.

الأمر الثالث: شروط التطهير بالأحجار:

علاوة على ما تقدم في الأمرين الأولين، فإنه ذكر المُصنف قُدس سره شروطًا عديدةً ليصحَّ التطهيرُ بالأحجار، هي:

الشرط الأول: إمرار الأحجار على موضع النجاسة:

وفي المقام قولان:

الأول: إمرارُ كُلِّ حجرٍ على موضع النجاسة؛ بأنْ يقومَ الشخص بمسح النجاسة كلها بالحجر في كُلِّ مرة.

الثاني: إجزاء التوزيع؛ بأن يمسح بعض محل النجاسة ببعض الأحجار، والبعض الآخر من موضع النجاسة ببعضٍ آخر من الأحجار، مع حصول النقاء المعتبر، وقد استُدلَّ له بعدم الدليل على وجوب استيعاب المحلِّ كُلِّه في كُلِّ حجرٍ حجر.

والظاهر من عبارة المحقق قُدس سره أنّه يبني على القول الأول؛ لقوله: ويجب إمرار كل حجرٍ على موضع النجاسة.

ص: 275

الشرط الثاني: إزالة عين النجاسة:

وأما أثرها فلا تجب إزالته فضلًا عن رائحتها؛ ذلك لأنّ النصوص دلّت على لزومِ الإنقاء، ويتحقق الإنقاء بزوال عين النجاسة ورطوبتها؛ بحيث يصبح الموضع نقيًا ليس عليه شيءٌ من أجزاء النجاسة؛ ولذلك ذكروا شرطًا ثالثًا وهو الآتي.

الشرط الثالث:

لو لم ينقَ الموضع بمسحه بالأحجار الثلاثة؛ بحيث لم ينقَ الحجر الثالث بعد المسح به، مما يعني أنَّ عين النجاسة مازالت على الموضع، فحينئذٍ لا بُدّ من زيادة المسح بمزيد من الأحجار حتى يحصل النقاء.

وعلى هذا يكون المطلوب من التطهير بالأحجار مركبًا من أمرين:

الأول: أنْ تتعدّدَ الأحجارَ بما لا يقِلُّ عن ثلاثةِ أحجار وإنْ حصل النقاء بالحجر الأول أو بالحجر الثاني، لأجل أن الرواية حدّدت للإجزاء في الاستنجاء ثلاثةَ أحجار، وتعدّد المسح بحجرٍ واحد أو اثنين لا يصدق معه المسح بثلاثة أحجار.

الثاني: أنْ يحصل النقاء بالمسح بالأحجار، ولو تطلّب ذلك المسح بأكثر من ثلاثة أحجار.

القول بكفاية ثلاث مسحات ولو بحجر واحد:

وفي قبال رأي المحقق، هناك رأيٌ آخر ذهب إلى كفاية ثلاث مسحات ولو بحجر واحد (1)؛ باعتبار:

ص: 276


1- انظر: مدارك الأحكام للسيد العاملي ج1 ص171، حيث قال: وذهب شيخنا المفيد، وابن البراج، والعلامة في جملة من كتبه، والشهيد - رحمة الله - في الذكرى إلى الاجتزاء بذلك، لأن المراد (من الأحجار) المسحات وإن كانت بحجر واحد، كما لو قيل: اضربه عشرة أسواط، فإن المراد عشر ضربات وإن كانت بسوط واحد، ولأنها إذا انفصلت أجزأت قطعاً، فكذا مع الاتصال.

أولاً: أنَّ الرواية أرادت من: (يجزيك من الاستنجاء ثلاثة أحجار) الكناية عن المسح ثلاث مرات، لكن جرت العادة أنْ يكونالحجر الذي يُمسَحُ به صغيرًا، والحجر الصغير عادةً يُمسَحُ به مرةً واحدة فقط، فبهذا الاعتبار عبّرتِ الرواية بالثلاثة أحجار.

ثانياً: أن هذا نظير ما لو قيل: اضربه عشرة أسواط؛ فهل يفهم منه أن تأتي بعشرة أسواط وتضربه بكل واحد منها ضربة واحدة؟!

يقينًا لا، بل المقصود ضربه عشر مراتٍ ولو بسوطٍ واحدٍ، فثلاثة أحجار في الرواية يقصد بها الكناية عن الثلاث مسحات، وهي تتحقق ولو بحجر واحد.

ثالثاً: ما روي عن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ: إذا جلس أحدكم لحاجةٍ فليمسح ثلاث مسحات (1)

ورُدَّ هذا القول بالآتي:

أما أولًا:

فإن الكناية هي إرادة غير الظاهر من الكلام، ومعلوم أن الحجة من الكلام هو ظاهره فقط، فينبغي التمسك به ولا يصار إلى خلافه إلا بوجود قرينة تدلُّ عليه، وعليه، فالقول بأنَّ الثلاثة أحجار كنايةٌ عن أنّ المقصودَ بها

ص: 277


1- سيأتي التعليق عليها إن شاء الله تعالى.

ثلاث مسحات لا يُصار إليه إلا مع وجود قرينة؛ لأنّه خلاف الظاهر، وليس عندنا في المقام قرينةٌ تدلُّ على ذلك.

وأما ثانيًا:

فإن التنظير بالسوط قياسٌ مع الفارق؛ إذ الضرب بعشرة أسواط معنى مُستعمل، يدلُّ عليه سياقُ الحديث من دونِ قرينةٍ، بخلاف القول بالمسح بثلاثة أحجار الذي ظاهره التعدد في نفس الأحجار، لا تعدد المسح فقط.

وأما ثالثًا:

فإنه إنما يُستدلُّ بالرواية إذا كان طريقها صحيحًا، والحال أنّ هذه رواية ضعيفة السند، وقد قيل: إنه رواها بعض العامة.

ولو تنزّلنا وقبلنا الرواية، فلا بد من تفسير الثلاث مسحات على أنّها ثلاث مسحات بثلاثة أحجار؛ لأنّها روايةٌ مطلقةٌ تصدق على حالتين: المسح ثلاث مسحات بحجرٍ واحد، والمسح بثلاث مسحاتٍ بثلاثة أحجار، وقد وردت رواية أخرى تدل صراحة على أنّ الاستنجاء من الغائط لا بد فيه من ثلاثة أحجار، والأصوليون يقولون بحمل المطلق على المقيد، ومن ثَمّ فلا بد من تقييد إطلاق الرواية الأولى (ثلاث مسحات) بالرواية الثانية (ثلاثة أحجار)، والنتيجة: ضرورة المسح بثلاثة أحجار ثلاث مرات (1)

ص: 278


1- قال السيد العاملي في مدارك الأحكام ج1 شرح ص 172: وأما الرواية الأخيرة فمجهولة الإسناد، والظاهر أنها عامية فلا يسوغ التعلق بها، مع أنها مطلقة والخبر المتضمن للأحجار مقيد، والمقيد يحكم على المطلق.

الشرط الرابع: أنْ تكون الأحجار أبكارًا:

أي يلزم أنْ يكون الحجر المستعمل في الإزالة ممّا لم يستعمل قبلًا.

وهذا هو صريح عبارة المحقق قُدس سره: ولا يُستعملُ الحجرُ المُستعمل.

وفي قبال هذا الرأي هناك رأيٌ آخر يقول بكفاية الحجر المستعمل في الاستنجاء، شرط أنْ يكون طاهرًا؛ إذ لا المانع من استعماله في المسح إذا ما أزيلت عنه عين النجاسة وتمّ تطهيره، فالمطلوب في الاستنجاء أن يكون بحجرٍ طاهر؛ ليطهر به الموضع، وهذا ما يتحقق سواء أكان الحجر مستعملًا من قبلُ أم لا، طالما كان طاهرًا.

وعلى هذا، فقد قيّد البعض قول المحقق قُدس سره: (ولا يُستعمل الحجر المستعمل) بقيد إضافي، وهو (إذا كان الحجر مازال نجسًا)؛ لأنّه يشترط في المُطهِّر أنْ يكون طاهرًا.

الشرط الخامس: أنْ تكون الأحجار طاهرةً:

لأنَّ المُطهِّر لا بد أنْ يكون طاهرًا، وعليه فلا يصح التطهير بعينٍ نجسة، وهذا حكمٌ متفقٌ عليه.

على أنَّ استعمال الأعيان النجسة ينجس الموضع مع الرطوبة؛ فلا يكون مطهرًا.

أشياء لا يصح التطهير بها:

وبمناسبة حديث المصنف قُدس سره عن عدم الإمكان بالتطهير بالعين النجسة، يستمر في ذكره لبعض ما لا يصح التطهير به من أشياء فقال: (ولا العظم، ولا الروث، ولا المطعوم).

ص: 279

كلُّ ذلك لعدم كفايته؛ لأنّ الروايات حدّدت التطهير بالأحجار فقط، وقد تقدّم أنّ الأحكام تدور مدار العناوين الشرعية، فإذا ما رتّب الشارع حكمًا على عنوانٍ معينٍ، فمتى ما صدق ذلك العنوان حُمِل عليه الحكم الشرعي، وإلا فلا.

ومع ذلك فقد قال البعض: إذا أدّى المسح بالعظم أو بالروث إلى إزالة النجاسة وإنقاء المحل كفى؛ لأنَّ المطلوب هو إنقاء المحل، والأحجار أُخذت كطريقٍ أو كوسيلةٍ إليه، فإذا حصل الإنقاء بغيرِ الحجرِ كالعظم والروث، كفى للتطهير.

الشرط السادس: أنْ لا تكون الأحجار صقيلةً:

إذ قال قُدس سره: ولا صيقلٌ يزلق عن النجاسة.

والعلة واضحةٌ في ذلك؛ لأنَّ الصقيل لا يزيل النجاسة، بل إنّها تنزلق عنه، فلا يحصل الإنقاء به غالبًا.

ومنه يتبين أنه لو أمكن إزالة النجاسة بالحجر الصقيل، لأمكن القول بكفايته في التطهير؛ لأن العبارة قيّدت الحجر الصقيل الذي لا يصح التطهير به بصفة عدم إزالته للنجاسة، فإن أمكن إزالتها به أجزأ.

النوع الثالث: في سنن الخلوة (المندوباتٌ والمكروهات):

قال قُدس سره: الثالثُ في سُنن الخلوة، وهي مندوبات ومكروهات، فالمندوبات تغطية الرأس، والتسمية، وتقديم الرجل اليسرى...

لا تستند جميع المندوبات والمكروهات إلى أدلة شرعية صحيحة تتمتع

ص: 280

بقابليتها للاستدلال بها على الأحكام الشرعية، فمن المندوبات والمكروهات ما تستند إلى روايةٍ ضعيفة السند، أو غير صالحة للاستدلال بها؛ إلا أنّها رغم ذلك ربما تكفي في الاستناد عليها في المقام –المندوبات والمكروهات-؛ لقاعدة التسامح في أدلة السُنن، أو حتى للإتيان بتلك الموارد المستحبة والامتناع عن الموارد المكروهة برجاء المطلوبية.

والمندوبات هي المستحبات، وهي في باب الخلوة التالي:

أولًا: تغطيةُ الرأس:

فإذا كان الرأس مكشوفًا وأراد التخلي، استُحِبَّ له أن يغطي رأسه، بل ورد في بعض الروايات ما يُستفادُ منه التقنُع على الرأس، ففي روايةٍ عن عليٍ بن أسباط مُرسلًا عن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ أنّه كان إذا دخل الكنيف يُقنِّع رأسه (1)

ثانيًا: التسمية:أن يقول: (بسم الله)، أو (بسم الله الرحمن الرحيم)؛ لما روي عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ يَقُول: إِذَا دَخَلْتَ المَخْرَجَ فَقُل: بِسْمِ الله، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الخَبِيثِ المُخْبِثِ الرِّجْسِ النِّجْسِ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ.

فَإِذَا خَرَجْتَ فَقُلْ: بِسْمِ الله، الحَمْدُ لله الَّذِي عَافَانِي مِنَ الخَبِيثِ المُخْبِثِ وأَمَاطَ عَنِّي الأَذَى.

ص: 281


1- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج1 ص 24 ح (62 / 1).

وإِذَا تَوَضَّأْتَ فَقُلْ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللهُ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ واجْعَلْنِي مِنَ المُتَطَهِّرِينَ والحَمْدُ لله رَبِّ العَالَمِينَ (1)

ثالثًا: تقديم الرجل اليسرى:

وقال الفقهاء: يقتصر هذا الحكم على المتخلي في البناء إذا أراد أن يدخل بيت الخلاء، وأما إذا كان في الأرض المكشوفة كالصحراء فيقدم الرجل اليسرى عند الجلوس للتخلّي (2)

رابعًا: الاستبراء:ذكره المحقق قُدس سره على نحو الإطلاق، ولذا يمكن القول: إنه يذهب إلى استحبابه للرجل والمرأة على حدٍّ سواء وإن لم يصرح بذلك.

إلا أن بعض الفقهاء ذهبوا إلى أنه لا استبراء على النساء، ومنهم السيد السيستاني (دام ظله) إذ قال: لا استبراء على النساء، والبلل الخارج منهن طاهرٌ لا يجب له الوضوء. نعم، الأولى للمرأة أن تصبر قليلًا وتتنحنح وتعصر فرجها عرضًا ثم تغسله (3)

ص: 282


1- الكافي للكليني ج3 ص 16 بَابُ الْقَوْلِ عِنْدَ دُخُولِ الْخَلَاءِ وعِنْدَ الْخُرُوجِ والِاسْتِنْجَاءِ ومَنْ نَسِيَه والتَّسْمِيَةِ عِنْدَ الدُّخُولِ وعِنْدَ الْوُضُوءِ- ح1.
2- قال في المدارك (ج1 ص174): قوله: وتقديم الرجل اليسرى. أي عند دخوله إلى الخلاء، وذلك في البنيان ظاهر، وأما في الصحراء فيمكن أن يراد تقديمها إلى موضع الجلوس كما ذكره العلامة - رحمة الله - في النهاية.
3- منهاج الصالحين، ج1- م65.

فالاستبراء -للرجل- بالطريقة المعروفة: بأن يبدأ من أصل المقعد يسحبه ثلاث مرات، ثم من أصل العضو إلى رأس الحشفة ثلاث مرات، ثم ينتره ثلاث مرات، وهذا مستحبٌ للرجال فقط.

خامسًا: الدعاء عند الاستنجاء وعند اصلفراغ:

الاستنجاء كما تقدم هو غسل الموضع أو مسح الموضع، والمستحب أن يدعو الإنسان وهو في هذه الحال، وقد ورد فيه الدعاء ب-: اللَّهُمَّ حَصِّنْ فَرْجِي وأَعِفَّه واسْتُرْ عَوْرَتِي وحَرِّمْهَا عَلَى النَّارِ (1)

وأما عند الفراغ من الاستنجاء فيقول: الحمد الذي عافاني من البلاء وأماط عني الأذى.فقد روي عن أبي بصير عن أحدهما عَلَيْهِما السَّلاَمُ قال: إذا دخلت الغائط فقل (أعوذ بالله من الرجس النجس الخبيث المخبث الشيطان الرجيم)، وإذا فرغت فقل: (الحمد لله الذي عافاني من البلاء وأماط عني الأذى) (2)

سادسًا: تقديم اليُمنى عند الخروج:

فإذا أراد المتخلي أن يخرج من بيت الخلاء استحب له أن يقدم الرجل اليمنى.

ص: 283


1- الكافي للكليني ج3 ص 70 بَابُ النَّوَادِرِ- ح6.
2- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج1 ص351 باب 15 باب آداب الاحداث الموجبة للطهارة ح: (1038 / 1).

سابعًا: الدعاء بعد الخروج من بيت الخلاء:

هذا وقد جاء في رواية مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ يَقُولُ: «إِذَا دَخَلْتَ المَخْرَجَ فَقُلْ: بِسْمِ الله، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الخَبِيثِ المُخْبِثِ الرِّجْسِ النِّجْسِ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. فَإِذَا خَرَجْتَ فَقُلْ: بِسْمِ اللهِ، الحَمْدُ للهِ الَّذِي عَافَانِي مِنَ الخَبِيثِ المُخْبِثِ وأَمَاطَ عَنِّي الأَذَى، وإِذَا تَوَضَّأْتَ فَقُلْ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللهُ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ واجْعَلْنِي مِنَ المُتَطَهِّرِينَ، والحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِين» (1)

ثم انتقل المحقق قُدس سره إلى ذكر بعض المكروهات، قائلًا:والمكروهات: الجلوس في الشوارع، والمشارع، وتحت الأشجار المثمرة، ومواطن النُّزّال، ومواضع اللعن، واستقبال الشمس والقمر بفرجه، أو الريح بالبول، والبول في الأرض الصلبة، وفي ثقوب الحيوان، وفي الماء واقفاً وجارياً، والأكل، والشرب، والسواك، والاستنجاء باليمين، وباليسار وفيها خاتم عليه اسم الله سبحانه، والكلام إلا بذكر الله تعالى، أو آية الكرسي أو حاجة يضر فوتها.

والتفصيل:

أولًا: الجلوس في الشوارع:

الشوارع هي جمع شارع، وقيل هو الطريق الأعظم، وهو المُسمى اليوم بالطريق العام، أي هو الطريق المشترك بين الناس ليسلكه كُلُّ الناس، وقد

ص: 284


1- الكافي للكليني ج3 ص16 بَابُ الْقَوْلِ عِنْدَ دُخُولِ الْخَلَاءِ وعِنْدَ الْخُرُوجِ والِاسْتِنْجَاءِ ومَنْ نَسِيَه والتَّسْمِيَةِ عِنْدَ الدُّخُولِ وعِنْدَ الْوُضُوءِ ح1.

يُرادُ منه حتى الطرق الفرعية في إطلاقنا اليوم، وبعبارةٍ أوضح: الشوارع هي كل طريق ليس بخاص.

ثانيًا: الجلوس في المشارع:

المشارع جمع مشرعة، وهي مورد الماء، كشطوط الأنهار ورؤوس الآبار، وبشكل عام هي المكان الذي يؤخذ منه الماء.

وقد دلَّت على كراهة التخلي في الشوارع والمشارع الأخبار العديدة، منها ما روي عَنْ عَاصِمِ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِعَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ عَلَيْهِما السَّلاَمُ: أَيْنَ يَتَوَضَّأُ الغُرَبَاءُ؟ قَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: يَتَّقِيشُطُوطَ الأَنْهَارِ، والطُّرُقَ النَّافِذَةَ، وتَحْتَ الأَشْجَارِ المُثْمِرَةِ، ومَوَاضِعَ اللَّعْنِ. فَقِيلَ لَه: وأَيْنَ مَوَاضِعُ اللَّعْنِ؟ قَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: أَبْوَابُ الدُّورِ (1)

ولا يقصد من الوضوء هنا ما كان مقدّمةً للعبادات التي تشترط فيها الطهارة كالصلاة، بل المقصود منه الاستنجاء، وهي كناية عن التخلّي وقضاء الحاجة، وقد خصَّ السائل الغرباء في سؤاله؛ لأن أبناء المدينة عادةً لهم بيوتٌ يتخلون فيها، وأما من يستدعي السؤال عن موضع تخليه فهو الغريب الذي لا موضع عنده لذلك عادةً.

ثالثًا: تحت الأشجار المُثمرة:

من الملاحظ أنَّ المُحقق قُدس سره قيّد كراهة التخلّي تحت الأشجار بما إذا كانت مثمرةً، كأشجار الفواكه مثلًا؛ مما يُفهم منه أنْ لا كراهة في التخلّي

ص: 285


1- الكافي للكليني ج3 ص 15 بَابُ الْمَوْضِعِ الَّذِي يُكْرَه أَنْ يُتَغَوَّطَ فِيه أَوْ يُبَالَ ح2.

تحت الأشجار غير المثمرة، أي التي ليس لها ثمار، كأشجار الزينة والأشجار التي تنمو في الغابة وغيرها.

وقد دلت على هذا الحكم بعض الروايات، من قبيل مرفوعة علي بن إبراهيم المتقدمة: خَرَجَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ عِنْدِ أَبِي عَبْدِ الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ وأَبُو الحَسَنِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَائِمٌ، وهُوَ غُلَامٌ، فَقَالَ لَه أَبُو حَنِيفَةَ: يَا غُلَامُ أَيْنَ يَضَعُ الغَرِيبُ بِبَلَدِكُمْ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: اجْتَنِبْ أَفْنِيَةَ المَسَاجِدِ، وشُطُوطَ الأَنْهَارِ، ومَسَاقِطَ الثِّمَارِ، ومَنَازِلَ النُّزَّالِ، ولَا تَسْتَقْبِلِ القِبْلَةَ بِغَائِطٍ ولَا بَوْلٍ، وارْفَعْ ثَوْبَكَ، وضَعْ حَيْثُ شِئْتَ (1)ومن الواضح أن الرواية أرادت بمساقط الثمار هو ما تحت الأشجار المثمرة؛ لأنها الموضع الذي تسقط فيه الثمار عند انفصالها من شجرتها، ولعل الحكمة من هذا الحكم أنَّ الثمار سيكون سقوطها على نجو الإنسان عند تخلّيه تحت الأشجار المثمرة، مما يتسبب في هتك حرمتها، كما يتسبب ذلك في كراهة النفس لتلك الثمار ومن ثَمّ التسبب في هدرها وعدم الاستفادة منها.

ومن المعلوم أنَّ الأشجار المثمرة لا تحمل الثمار على مدار العام، بل تحملها في مواسم دون أخرى، كالنخيل مثلًا، فهي لا تثمر في فصل الشتاء حتمًا، والسؤال هنا: هل يمتد حكم الكراهة ليشمل المواسم التي لا تثمر فيها تلك الأشجار فضلًا عن مواسم إثمارها؟ أو إنَّ حكم الكراهة مقتصر على الثانية دون الأولى؟

ص: 286


1- الكافي للكليني ج3 ص 16 بَابُ الْمَوْضِعِ الَّذِي يُكْرَه أَنْ يُتَغَوَّطَ فِيه أَوْ يُبَالَ – ح5.

يمكن الإجابة عن هذا السؤال من جهتين:

الجهة الأولى: أصوليًا (بحث المشتق):

السؤال المتقدم يُرجعنا إلى بحثٍ يُذكر في علم الأصول يُسمّى ب-(بحث المشتق).

والمشتق هو الوصف العارض على الذات، الذي لا تزول الذات بزواله.

أو هو الخاصة في علم المنطق، كصفة الضاحك مثلًا، التي تشتق من طبيعة الإنسان، ولكنه لا يزول بزوالها؛ إذ يبقى الإنسان إنسانًا وإن زالت عنه هذه الصفة.وكذا الأمر في وصف الكاتب والماشي وغيرها من الصفات العرضية التي تعرض على صاحبها، وهي ليست جزءًا من ذاته أو ماهيته، فلا يتأثر بزوالها ويبقى هو هو.

وخلاصة البحث الأصولي هو: هل إنَّ الحكم الشرعي يدور مدار ذلك المشتق وجودًا وعدمًا، أي يُحمل على الموضوع فيما إذا كان ذلك الموضوع متلبسًا به - بالمشتق- أي بذلك الوصف العرضي؟

أو إنَّ الحكم يُحمل على الموضوع طالما كان ذلك الموضوع من شأنه أن يتلبس بذلك الوصف العرضي وإنْ لم يكن متلبسًا به فعلًا؟

للأصوليين قولان في ذلك؛ فمنهم من قال بلابُدية تلبس الذات أو الموضوع بالمشتق أو الصفة العارضة للحكم عليه، ومنهم من قال بكفاية أن

ص: 287

يكون ذلك الموضوع أو تلك الذات من شأنها أن تتصف بتلك الصفة، وإن لم تكن متصفة بها فعلًا؛ لأنَّ المشتق موضوع للأعم.

إذا اتضح ما تقدّم، يكون موقف الأصوليين من حكم كراهة التخلّي تحت الأشجار المثمرة على قولين:

الأول: يقتصر تحقق الحكم بالكراهة على الاتصاف الفعلي، أي تلبس الأشجار بصفة الإثمار فعلًا، أي لا يكون التخلي تحت الأشجار المثمرة مكروهًا إلا إذا كانت تلك الأشجار تحمل الثمار فعلًا، أما إذا لم تكن كذلك فلا كراهة في التخلّي تحتها.وعليه، فأشجار النخيل مثلًا يكره التخلي تحتها في فصل الصيف حينما تحمل الرطب والتمر، دون فصل الشتاء عادةً؛ وذلك لأنها تتلبس بالصفة العرضية فتحمل الثمار فعلًا في الأول دون الثاني.

الثاني: يشمل الحكم بالكراهة الأشجار المثمرة مطلقًا، أي في جميع أحوالها، سواء أكانت تحمل الثمر فعلًا أم لا؛ وذلك لأنَّ من شأنها الاتصاف بالإثمار وإن لم تكن مثمرةً فعلًا.

وعليه، يكره التخلّي تحت أشجار النخيل مطلقًا، أي على مدار العام، سواء أكانت تحمل الثمار -كما في فصل الصيف- أم لم تكن كذلك، كما في فصل الشتاء.

الجهة الثانية: روائيًا:

يظهر من بعض الروايات كراهة التخلي تحت الشجرة التي تحمل ثمارًا

ص: 288

فعلًا، أي إنّ الموقف الروائي يوافق القول الأصولي الأول، فلا يكره التخلي تحت الأشجار المثمرة إلا في حال تلبس تلك الأشجار بصفة الإثمار فعلًا.ومن تلك الروايات رواية السكوني عن أبي جعفرٍ عن أبيه عن آبائه عَلَيْهِم السَّلاَمُ، إذ قال: نهى رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ أن يتغوّط على شفيرِ ماءِ بئرٍ يُستعذَب منها، أو نهرٍ يُستعذَبُ، أو تحتَ شجرةٍ فيها ثمرتها (1)

والرواية صريحةٌ في تحديد كراهة التخلي تحت الأشجار المثمرة التي فيها ثمرتها فقط، مما يعني عدم كراهة التخلي تحت الأشجار التي لا تحمل ثمارًا فعلاً، وإن كانت هي مثمرةً بالأصل.

وكذلك ما رواه الصدوق قُدس سره عن أبي جعفرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ أنّه قال: وإنّما نهى رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ أن يضرب أحدٌ من المسلمين تحت شجرةٍ أو نخلةٍ قد أثمرت؛ لمكان الملائكة الموكلين بها، ولذلك يكون الشجر والنخل أُنسًا إذا كان فيه حمله لأن الملائكة تحضره (2)

فظاهر هذه الروايات أنَّ المقصود من الأشجار المُثمرة خصوص الأشجار التي تحمل الثمار فعلًا، لا عموم ما من شأنها أن تكون مثمرةً.

رابعًا: مواطن النزال:

يقصد بمواطن النُزّال: المواضع المُعدّة لنزول القوافل والمُترددين في الطرق وفي الصحاري لغرض الاستراحة، وهي أشبه بالفنادق اليوم.

ص: 289


1- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج1 ص 353 ح (1048 / 11).
2- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق ج1 ص 32 ح 64.

خامسًا: مواضع اللعن:

هي مثل أبواب الدور كما تقدم في رواية عَاصِمِ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِعَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ عَلَيْهِما السَّلاَمُ: أَيْنَ يَتَوَضَّأُ الغُرَبَاءُ؟ قَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: يَتَّقِي شُطُوطَ الأَنْهَارِ، والطُّرُقَ النَّافِذَةَ، وتَحْتَ الأَشْجَارِ المُثْمِرَةِ، ومَوَاضِعَ اللَّعْنِ. فَقِيلَ لَه: وأَيْنَ مَوَاضِعُ اللَّعْنِ؟ قَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: أَبْوَابُ الدُّورِ (1)

كما يدل على كراهة التخلي في مواطن النزال ومواضع اللعن مرفوعة علي بن إبراهيم المتقدمة: خَرَجَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ عِنْدِ أَبِي عَبْدِ الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ وأَبُو الحَسَنِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَائِمٌ، وهُوَ غُلَامٌ، فَقَالَ لَه أَبُو حَنِيفَةَ: يَا غُلَامُ أَيْنَ يَضَعُ الغَرِيبُ بِبَلَدِكُمْ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: اجْتَنِبْ أَفْنِيَةَ المَسَاجِدِ، وشُطُوطَ الأَنْهَارِ، ومَسَاقِطَ الثِّمَارِ، ومَنَازِلَ النُّزَّالِ، ولَا تَسْتَقْبِلِ القِبْلَةَ بِغَائِطٍ ولَا بَوْلٍ، وارْفَعْ ثَوْبَكَ، وضَعْ حَيْثُ شِئْتَ (2)

سادسًا: استقبال الشمس والقمر بفرجه:

يكره للمتخلي أن يتخلى وهو مستقبل للشمس والقمر.يمكن أن يفهم هذا الحكم من بعض الروايات، ولكن هل يشمل هذا الحكم التخلّي للتبول والتغوط على حدٍّ سواء أم لا؟ وما المقصود من الاستقبال؟ هذا ما سيتم إيضاحه في النقاط التالية:

ص: 290


1- الكافي للكليني ج3 ص 15 بَابُ الْمَوْضِعِ الَّذِي يُكْرَه أَنْ يُتَغَوَّطَ فِيه أَوْ يُبَالَ ح2.
2- الكافي للكليني ج3 ص 16 بَابُ الْمَوْضِعِ الَّذِي يُكْرَه أَنْ يُتَغَوَّطَ فِيه أَوْ يُبَالَ – ح5.

النقطة الأولى: كراهة الاستقبال بالبول فقط:

قد يكون الظاهر من عبارة المحقق قُدس سره الإطلاق وشمول حكم كراهة استقبال الشمس والقمر لحالتي التبول والتغوط معًا، إلا أنَّ عبارته مقيدة بقوله: بالبول؛ وذلك لأنَّ جملة استقبال الريح بالبول معطوفة على جملة استقبال الشمس والقمر، إذ قال: واستقبال الشمس والقمر بفرجه والريح بالبول، ومن ثَمّ يُقيّد كل منهما بنفس القيد وهو (بالبول).

وقد وافق في ذلك ما جاء في بعض الروايات من أنَّ حكم الكراهة لا يشمل إلا خصوص التبول من حالتي التخلي؛ من قبيل ما روي عن السكوني عن جعفر عن أبيه عن آبائه عَلَيْهِم السَّلاَمُ قال: نهى رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ أن يستقبل الرجل الشمس والقمر بفرجه وهو يبول (1)

النقطة الثانية: معنى الاستقبال في هذا المورد:

قد يطلق الاستقبال ويراد به التوجه إلى نفس قرص الشمس والقمر تارةً، أو التوجه إلى الجهة التي يكون فيها الشمس والقمرتارةً أخرى، إلا أنَّ الظاهر من كلام المحقق قُدس سره أنّ المقصود هو استقبال نفس القرص، وليس الجهة.

النقطة الثالثة: اختصاص الحكم بالمواجهة المباشرة:

قد يُقال: يختص حكم الكراهة هذا في المستقبِل للشمس والقمر بالمباشرة، كما لو كان في أرض مكشوفة، كالصحراء مثلًا، ولا يشمل من

ص: 291


1- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج1 ص 34 ح (91 / 30).

كان كذلك إذا فصل بينه وبينهما حائلٌ، كما لو كان في داخل الأبنية أو الخيمة؛ وذلك لما روي عن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ: لا يبولن أحدكم وفرجه بادٍ للقمر (1)

فقوله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ: (وفرجه بادٍ للقمر) أي إنه استقبال مباشر، ولا يوجد حائل بينه وبين القمر، أما إذا لم يكن فرجه باديًا للقمر -كما لو كان في بناءٍ كما هو الحاصل عادةً في زمننا- فتزول الكراهة.

النقطة الرابعة: اختصاص الحكم بالاستقبال دون الاستدبار:

قد يُقال: يختص حكم الكراهة بحالة استقبال قرص الشمس والقمر، ولا يشمل استدبارهما أيضًا؛ لعدم وجود دليل على ذلك، خاصة وأن الرواية المتقدمة عن النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ نهت عن استقبالهما فحسب في خصوص حالة التبول.

سابعًا: استقبال الريح بالبول:

وذلك لما ورد في بعض الروايات الشريفة، منها ما روي أنّه سُئِلَ أَبُو الحَسَنِ «الرضا« عَلَيْهِ السَّلاَمُ مَا حَدُّ الغَائِطِ؟ قَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: لَا تَسْتَقْبِلِ القِبْلَةَ ولَا تَسْتَدْبِرْهَا، ولَا تَسْتَقْبِلِ الرِّيحَ ولَا تَسْتَدْبِرْهَا (2)

ص: 292


1- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج1 ص 34و 35 ح (92 / 31).
2- الكافي للكليني ج3 ص 15 بَابُ الْمَوْضِعِ الَّذِي يُكْرَه أَنْ يُتَغَوَّطَ فِيه أَوْ يُبَالَ- ح3.

ثامنًا: البول في أرض صلبة:

يكره أن يبول الإنسان في أرضٍ صلبة؛ ولعله لكيلا يتطافر البول عليه، ودلَّت على ذلك روايات، منها ما ورد عن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ أنّه قال: كان رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ أشد الناس توقّياً للبول، حتى أنه كان إذا أراد البول عمد إلى مكان مرتفع من الأرض أو مكان يكون فيه التراب الكثير؛ كراهية أن ينضح عليه البول (1)

تاسعًا: في ثقوب الحيوان:

ثقوب الحيوان هو جحر الحيوان الذي تحتفره الهوام لأنفسها، ويكره ذلك لورود النهي عنه في بعض الأخبار، وربما لأنه لا يؤمن من خروج الحيوان وإيذائه للمتخلي، وقد حُكيَ أنّ سعدًا بن عبادة بال في جحرٍ بالشام فاستلقى ميتًا (2)

عاشرًا: في الماء الجاري والواقف:

فالجاري من الماء معروفٌ، والواقف هو الراكد؛ وذلك لورود النهي عنه في حديث الأربعمائة، وهو حديثٌ واحدٌ اشتمل على أربعمائة خصلة علّمها رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ لأمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ في مجلسٍ واحد، والحديث في كتاب الخصال للشيخ الصدوق قُدس سره (3)، إذ ورد فيه أنّ رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ قال

ص: 293


1- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق ج1 ص 22 ح 36.
2- مدارك الأحكام للسيد محمد العاملي ج1 ص179.
3- فائدة: كتاب الخصال: هو كتابٌ جمع فيه الشيخ الصدوق قُدس سره الروايات المشتملة على أعداد خاصة، وهو كتاب لطيفٌ جدًا، ومن المفيد أن يطالعه المؤمن ويستفيد منه كثيرًا، وجمع الأحاديث بهذه الطريقة يكشف عن جهدٍ استثنائي قامَ به الشيخ الصدوق قُدس سره في جمع هذه الروايات وتبويبها وترتيبها في زمنٍ خلا من الوسائل المساعدة المعروفة اليوم، كالحاسبات وغيرها، مما يدلُّ على سعة اطلاعه من جهة، ونفسه الطويل من جهة أخرى، وهو كتابٌ رائع وممتاز جدًا.

لأمير المؤمنين: ولا يبولنّ من سطح في الهواء، ولا يبولن في ماء جارٍ، فإن فعل ذلك فأصابه شيء فلا يلومن إلا نفسه، فإن للماء أهلاً، وللهواء أهلاً... إذا بال أحدكم فلا يطمحن ببوله في الهواء ولا يستقبل الريح... (1)

أحد عشر: الأكل والشرب والسواك:

مما يكره أيضًا حالَ التخلّي الأكل والشرب، وعُلِّل في بعض كلمات المحقِّق قُدس سره بأنّه: إنما كره الأكل والشرب؛ لما يتضمن من الاستقذار الدال على مهانة نفسٍ متعمدة (2)كما يكره السواك، أي تخليل الأسنان بالسواك، وهو مكروه؛ لما روي عن الإمام موسى بن جعفر عَلَيْهِما السَّلاَمُ: السواك في الخلاء يورث البَخَر (3)

والبَخَر بفتحتين نتن الفم... فهو أبخر (4)

اثنا عشر: الاستنجاء باليمين، وباليسار وفيها خاتمٌ عليه اسم الله تعالى:

يكره للمتخلي أن يستنجي بيمينه، إذ روي عن النبي الأعظم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ أنّه

ص: 294


1- الخصال للشيخ الصدوق ص 613و 614.
2- مدارك الأحكام للسيد العاملي ج1 ص 180 عن المعتبر (: 138).
3- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق ج1 ص 52 ح 110، وتمام الرواية: أكل الأشنان يذيب البدن، والتدلك بالخزف يبلي الجسد، والسواك في الخلاء يورث البخر.
4- مختار الصحاح للرازي ص 30.

قال: الاستنجاء باليمين من الجفاء (1)

وعَنِ السَّكُونِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ الِاسْتِنْجَاءُ بِاليَمِينِ مِنَ الجَفَاءِ (2)

وأما الاستنجاء باليسار، فلا يكره إلا إذا كان فيها خاتمٌ عليه اسم الله تعالى، وفي ذلك روي عن عمار الساباطي عن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ أنّه قال: لا يَمسُّ الجنب درهماً ولا ديناراً عليه اسم الله تعالى، ولايستنجي وعليه خاتم فيه اسم الله تعالى، ولا يجامع وهو عليه، ولا يدخل المخرج وهو عليه (3)

من هذا يُعلمُ أنَّ الاستنجاء باليسار إذا كان فيها خاتمٌ ولكن ليس فيه اسم الله تعالى فهذا ليس بمكروه.

نعم، يحرم الاستنجاء باليسار وفيها خاتمٌ عليه اسم الله تعالى إذا استلزم أو وصل إلى حدِّ الهتك.

ثالث عشر: الكلامُ إلا بذكر الله تعالى أو آية الكرسي أو حاجةٍ يضر فوتها:

من المكروهات أنْ يتكلم المتخلّي، يدلُّ على ذلك ما روي عن الإمام الرضا (صلوات الله وسلامه عليه) أنّه قال: نهى رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ أنْ يجيبَ الرجل آخر وهو على الغائط، أو يكلمه حتى يفرغ (4)

ص: 295


1- الخصال للشيخ الصدوق ص 54 ح72.
2- الكافي للكليني ج3 ص 17 بَابُ الْقَوْلِ عِنْدَ دُخُولِ الْخَلَاءِ وعِنْدَ الْخُرُوجِ والِاسْتِنْجَاءِ ومَنْ نَسِيَه والتَّسْمِيَةِ عِنْدَ الدُّخُولِ وعِنْدَ الْوُضُوءِ- ح7.
3- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج1 ص 31 ح (82 / 21).
4- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج1 ص 27 ح (69 / 8).

وحُمِلَ هذا النهي على الكراهة؛ لأنّه ليس من المُحتمل أنْ يكونَ الكلامُ أثناءَ التخلّي مُحرّمًا، فالحكم العام إذًا كراهة الكلام أثناء التخلّي، ويُستثنى منه الأحوال الآتية:

الأول: ذكر الله تعالى.

الثاني: قراءة آية الكرسي.

الثالث: حاجةٌ يضرُّ فوتها.وقد وردت هذه المستثنيات في بعض الروايات الشريفة، منها ما روي عَنِ الحَلَبِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: لَا بَأْسَ بِذِكْرِ الله وأَنْتَ تَبُولُ، فَإِنَّ ذِكْرَ الله عَزَّوَجَل حَسَنٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَلَا تَسْأَمْ مِنْ ذِكْرِ الله (1)

وخُصّت آية الكرسي بالذكر؛ لما ورد من النص عليها في بعض الروايات، ومنها ما روي أنه سأل عمر بن يزيد أبا عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ عن التسبيح في المخرج وقراءة القرآن فقال عَلَيْهِ السَّلاَمُ: لم يرخص في الكنيف أكثر من آية الكرسي ويحمد الله تعالى، أو آية (الحمد لله رب العالمين)، ومن سمع الأذان فليقل كما يقول المؤذن، ولا يمتنع من الدعاء والتحميد من أجل أنه على الخلاء، فإن ذكر الله تعالى حسن على كل حال (2)

وأما الحاجة التي يضر فوتها، فيعني بها الضرورة، فإذا كانت هناك حاجةٌ ضروريةٌ تدعو الإنسان إلى أن يتحدّث أثناء التخلّي، بحيث يترتب على تأجيل الحديث بها ضرر معتد به، فحينئذٍ يرتفع الحكم بالكراهة؛

ص: 296


1- الكافي للكليني ج2 ص 497 بَابُ مَا يَجِبُ مِنْ ذِكْرِ الله عَزَّوَجَل فِي كُلِّ مَجْلِسٍ- ح 6.
2- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق ج1 ص 28 ح 57.

وذلك لأنَّ الضرر منفي عن المكلفين بقوله (عز من قائل): «وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» (1)

وقد أضاف بعض الفقهاء مستثنى رابعًا ترتفع فيه كراهة الكلام به عند التخلي، وهو حكاية الأذان، أي ترديد عبارات الأذان معالمؤذن، وهو فعلٌ قال باستحبابه بعض الفقهاء؛ وذلك لما ورد في رواية عمر بن يزيد المتقدمة، ولما روي أنه قال الإمام أبو جعفر عَلَيْهِ السَّلاَمُ لمحمد بن مسلم: يا محمد بن مسلم، لا تدعنَّ ذكر الله على كل حال، ولو سمعت المنادي ينادي بالأذان وأنت على الخلاء فاذكر الله ، وقل كما يقول المؤذن (2)

وبهذا ينتهي الحديث عن أحكام الخلوة، وبها ينتهي الحديث عن الفصل الثاني من الفصول المتعلقة بالوضوء.

* * *

ص: 297


1- الحج: 78.
2- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق ج1 س 288 ح892.

ص: 298

الفصل الثالث في كيفية الوضوء

قال المحقق قُدس سره: الثالث في كيفية الوضوء، وفروضه خمسة:...

تناول المحقق قُدس سره كيفية الوضوء في فروضٍ خمسة، وهي:

الفرض الأول: النية:

وذكر فيها أموراً:

الأمر الأول: في معنى النية:

قال المحقق قُدس سره: الأول: النية: وهي إرادةٌ تُفعل بالقلب.

النية لغةً: هي مطلق العزم والإرادة.

وليست النية فعلًا خارجيًا، ولا الكلام اللفظي كما قد يتصوّره بعضٌ، حيث يتلفظ بها عند الصلاة بالصيغة المعروفة بينهم، بل هي فعلٌ جانحي، فِنيةُ الظمآن مثلَا تتحقّق عندما يريد شرب الماء، فيتصوره ويستشعر الحاجة إليه، ثم يحدث عنده تصديق وقناعة بأنَّ الماء هو الذي يروي عطشه، فتتولّد عنده رغبة وحب وشوق لتحصيل الماء، فتقوى تلك الرغبة حتى تصبح عزمًا، يُحرِّكالعضلات لتلبية تلك الرغبة، فيتناول كأس الماء، فذلك العزم هي النية.

ص: 299

فلا ريب في أنَّ النية لغةً فعلٌ داخلي جانحي، وهي مطلق العزم والإرادة.

أمّا شرعًا فهي إرادة وعزم أيضًا، ولكنها إرادةٌ مقارنةٌ للفعل على الوجه المأمور به شرعًا، بأن يأتي المكلف بالفعل الخارجي على الوجه الذي أمره الله عَزَّوَجَل بنية القربة المُطلقة له عَزَّوَجَل.

وبعبارةٍ أخرى: هي بعث النفس والقصد إلى إيقاع العبادة المخصوصة على وجه التقرُب إلى الله تعالى.

وقد عرّفها المحقق قُدس سره بقوله: هي إرادةٌ تُفعَلُ بالقلب، أي إنَّ الفعل الخارجي له فعلٌ داخلي قلبي جانحي وهو النية.

فائدة: ما يترتب على كون النية فعلاً قلبياً:

تقدّم أنَّ النية هي فعلٌ قلبي، وهي الإتيانُ بالفعل على الوجه المأمور به شرعًا، ومنه تتبيّنُ عدّةُ أمور:

أولًا: أنّ النية هي العزم على الفعل، وهي الإرادة الداخلية أو هي الدافع الذاتي نحو العمل، فهي طاقة داخلية تدفع الإنسان إلى أنْ يحرك عضلاته باتجاه العمل.

ثانيًا: أنَّ اللفظ ليس مقومًا للنية، ومن ثَمّ فليس هو المطلوب، بل المطلوب هو ذلك الشيء الداخلي القلبي الذي يحكي عنه اللفظ، وهوالعزم، وهي النية، وهو المكشوف عنه باللفظ، وأما اللفظ فلا يعدو كونه كاشفًا عن النية لا أكثر.

ص: 300

وهذا نظيرُ ما يُقال من أنّ الدليل اللفظي -سواء أكان آيةً كريمة أم روايةً شريفة- ليس هو الحكم الشرعي، وإنّما هو الكاشف عنه، فقوله تعالى: «أَقِيمُوا الصَّلاةَ» مثلًا ليس هو الحكم الشرعي بما هو قولٌ، وبما يشتمل عليه من ألفاظ، بل هو كاشفٌ عن الحكم الشرعي الذي شرّعه الله عَزَّوَجَل، وهو وجوب الصلاة.

فالنية - في العبادة- تتقوّمُ بالعزمِ الداخلي، ولا تتقوّم باللفظ؛ فالتلفظ بالنية ليس بواجب بل ليس بمستحب بشكل عام، نعم ورد استحبابه في الإحرام للحج والعمرة.

ثالثًا: أنّ الإخلاص في العبادة إنّما يتحقق بإخلاص النية؛ لأنّ النية هي الدافع الذي يدفع المكلف نحو الفعل، وهي المحرك الذي يبث في عضلاته الحركة للقيام بالفعل، فإنْ كان هو خالصًا لله عَزَّوَجَل عندئذٍ تكون العبادة خالصةً.

رابعًا: وجوب النية في العبادات، فلو وقع الفعل الشرعي من دون عزمٍ ومن دون إرادةٍ مُسبقة، حينئذٍ لا يقعُ عبادةً، وإنْ جيء به على الوجه الظاهري المطلوب شرعًا، بل وإن جيء بواجباته وبمستحباته؛ لأنه يكون حينئذٍ مجرد حركاتٍ تخلو من معنى العبادة، وهي نية التقرب لله عَزَّوَجَل، فيقع مجرد فعلٍ فيزيائي خارجي، لا يحملمن وصف العبادة شيئًا. فيكون كمن كان مجنبًا ووقع في حوض ماء، أو كمن أمره الطبيب بالإتيان بحركات المصلي من قيام وركوع وسجود وبكل تفصيلاتها الدقيقة لأجل علاج

ص: 301

عارضٍ معين في جسده، فيأتي بها لأجل ذلك، فلا يُقال للأول إنه قد اغتسل من الجنابة غسلًا ارتماسيًا متقرّبًا إلى الله تعالى، ولا إنَّ الثاني أقام الصلاة بما يقوم به من حركات متقربًا له جَلَ جَلالَه.

فالنية إذن هي التي تنفخ في الفعل الفيزيائي الخارجي روح العبادة، وتخرجه من مجرد حركاتٍ لا يؤجر عليها المكلف ولا يُثاب، وتدخله في دائرة العبادات ينال العبد عليها من الله تعالى وبلطفه الأجر والثواب والرفعة في الدرجات.

وهذا الأمر يُرجعنا إلى الفرق بين العبادات والمعاملات، حيث قال الفقهاء باشتراط النية في الأولى دون الثانية، وبناءً على ذلك تم تقسيم أبواب الفقه إلى عبادات ومعاملات في الكتب الفقهية، ومنها الكتاب الذي نحن بصدد دراسته.

على أنه ليس قصد التقرب إلى الله تعالى -بعينه وفي حد نفسه- هو الفيصل بين العبادات والمعاملات، بل وجوب ذلك القصد في ذلك الفعل؛ وذلك لأنّ كل فعلٍ مباحٍ يمكن للمكلف أن يصبغه بصبغة العبادة ويحصل على الأجر والثواب أيضًا؛ وذلك بالإتيان به بنية التقرب إلى الله تعالى كأن يتّجر بهذه النية أو ينام أو يأكل أو يشرب،فحينئذٍ تتحول تلك الأعمال بل والعادات اليومية إلى أفعال يؤجر عليها ويُثاب.

فمن هذه الناحية يمكن الإتيان بالأفعال جميعاً بداعي القربة إلى الله تبارك وتعالى، إلا أن الفرق بين العبادات وبين سائر المعاملات والأفعال

ص: 302

يكمن في وجوب ذلك القصد عند الإتيان بالفعل؛ فما وجبت فيه نية القربة كان عبادة، وإلا فلا؛ ولذا كانت الصلاة والصوم والحج والجهاد والزكاة والخمس من العبادات؛ لوجوب اشتمالها على قصد القربة إلى الله تعالى.

على حين كان البيع والشراء والإيجار والرهان وما شابهها من العقود، وكان الطلاق والوقف والخلع وما شابهها من الإيقاعات، هي من المعاملات لا العبادات؛ لعدم وجوب توفرها على نية القربة إلى الله تعالى.

وكل هذه المعاملات بشقيها –- العقود والإيقاعات- لا يُشترط فيها قصد القربة، فلا شيء من البيع والإيجار والطلاق والرهان... يبطل لو لم تتوفر فيه نية القربة إلى الله (سبحانه)، على حين تبطل كُلٌّ من الصلاة والصوم والحج والزكاة والخمس عند افتقادها نية القربة.

وبناءً على ذلك تتحقق طهارة الثوب المتنجس مثلاً إذا سال المطر عليه، بحيث أزال النجاسة وتخلّل فيه؛ لأنَّ إزالة النجاسة وتطهير المتنجسات ليست من العبادات، بل هي أفعالٌ توصُلية، ولاتشترط في الأفعال التوصلية نية القربة. وهذا ما سيأتي التنبيه عليه إن شاء الله تعالى.

الأمر الثاني: في كيفية النية:

قال قُدس سره: وكيفيتها أن ينوي الوجوب أو الندبة والقربة، وهل يجب نية رفع الحدث؟ أو استباحة شيءٍ مما يشترط فيه الطهارة؟ الأظهر أنّه لا يجب.

بعد أن اتضح أنَّ النية هي العزم على الفعل، ذكر قُدس سره أموراً عديدة في كيفية الوضوء نوجزها فيما يأتي:

ص: 303

أولاً: العزم على الفعل:

وهذا هو ذاتي النية، وهو القدر المتيقن من الشيء الواجب في النية، ومن دون ذلك العزم لا يكون للنية شرعية.

ثانياً: قصد القربة إلى الله تعالى:

وهو قصد موافقة إرادة الله تعالى، فعند إقامة الصلاة يكون المصلي قد امتثل للفعل الذي أراده الله تعالى ووافق إرادته.

فالنية هي قصد التقرب من الله تعالى الذي يحقق الرفعة عندَه (جل وعلا)، ونيل الثواب لديه، تشبيهًا بالقرب المكاني.

وبعبارة أخرى: أن تقصد بالفعل، وتعتبر أن الله تعالى هو الإله، وأنك عابد له، وأنه معبود لك.

والمحقق قُدس سره يشترط قصد القربة في النية، وهذا ما يظهر من عبارته.

وهناك تفصيل يُذكر في علم الأصول في عدم وجوب قصد القربة، وأنه يكفي أن يكون الدافع للإتيان بالفعل هو فعل ما أمر الله عَزَّوَجَل به، أعرضنا عن الخوض فيه رعاية للاختصار.

وقد استدل الفقهاء على ضرورة النية وقصد القربة بأدلةٍ شرعية عديدة، منها قوله عَزَّوَجَل: «وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ» (1)، فقد أمرنا الله تعالى أن نعبده مخلصين، ولكي نكون مخلصين في

ص: 304


1- البينة 5.

عبادته لابُدّ أنْ تتحقّق العبادة بإخلاص، والإخلاص في العبادة يتحقق بنية القربة إلى الله عَزَّوَجَل.

ثالثاً: اشتراط نية الوجوب أو الندب:

أن ينوي المكلف عند الإتيان بفعلٍ معينٍ أنّه يأتي به بنية الوجوب أو الندب، وبما أنَّ النية فعل جانحي كما تقدّم، إذن نية الوجوب أو الندب تكون جانحيةً أيضًا، بمعنى عدم وجوب التلفظ أو النطق بها كما ذكرنا آنفًا.

ومن المعلوم أنَّ من العبادات ما تكون واجبة، ومنها ما تكون مستحبة، فالصلاة قد تكون واجبة -كالصلوات اليومية- وقد تكون مستحبةً -كصلاة الليل وصلاة جعفر الطيار مثلًا- وكذا الوضوء منهما يكون واجبًا -كالوضوء الذي تتوقف عليه عبادة يشترط فيها الطهارة كالصلاة أو الطواف-، ومنه ما يكون مستحبًا، كالكون على الطهارة أو الوضوء قبل الأكل.

من أدلة وجوب نية الندب أو الوجوب في الوضوء:

وقد استُدِلَّ على وجوب أن ينوي المكلف الوجوب أو الندب –بحيث إنه لو أراد الوضوء فلا بُدّ أنْ ينوي كونه واجبًا أو مستحبًا- بوجهين:

الوجه الأول: أنّ إيقاع الفعل الشرعي على وجهِه التام لا يكون إلا ببيان كونه واجبًا أو مندوبًا؛ لأن إتيان المكلف بفعلٍ باعتقادِ أنّه تكليفٌ من

ص: 305

التكاليف الشرعية التي شرّعها الله عَزَّوَجَل على المكلفين، لا بد أن يكون على وجهه التام، أي بكُلِّ صفاته التي تجعله تكليفًا تامًا.

وهذا التكليف في واقعه إما أنْ يكون واجبًا أو مستحبًا، فلكي يأتي به المكلف على وجهه التام، فلا بُدَّ أن يذكر إذا كان واجبًا أو مستحبًا أيضًا.

الوجه الثاني: وهو قريب من الأول، وربما يرجع كلاهما إلى وجهٍ واحد، وهو:

أنَّ الوضوء في حدَّ نفسه ليس بواجبٍ نفسي، بل هو واجب غيري، أي إنّه مقدمة لغيره، ومن ثم يكتسب صفة وجوبه أو استحبابه من ذي المقدمة، ولهذا لا بُدّ للمكلف من بيان صفته ليكون قد أتى به على وجهه التام.على أنَّ الرأي المتقدم قد رُدَّ برأيٍ آخر، وربما هو المشهور عند المتأخرين، ويذهب إلى عدم وجوب أكثر من قصد الفعل المأمور به من قبل الله عَزَّوَجَل، ومن ثم فلا داعي إلى نية الوجوب أو الندب؛ لأن المطلوب من الإنسان هو فعلٌ واحدٌ فقط، أي عندما يدخل وقت الصلاة، لا يُطلب من المكلف سوى وضوء واحد، فلا يفتقر بعد ذلك إلى تحديده بالوجوب أو الندب لفصله عمّا سواه.

كما أن المفروض هو أن المكلف قد عزم على أداء الصلاة الواجبة، وهذا العزم كافٍ في تحديد صفة الوضوء.

علاوةً على أنه لا تردد عند المكلف ليتوجب عليه التعيين لحسم ذلك التردد لمكان العزم لديه.

ص: 306

فحيث كان المطلوب من المكلف هو الوضوء للصلاة الواجبة مثلًا، فلا يجب عليه سوى أن يقصد ما كلّفه الله عَزَّوَجَل به، وهو ما يُسمّى بنية قصد الأمر الواقع.

ولا يقتصر هذا الأمر على الوضوء فقط، بل في كل العبادات، فعندما يريد أن يصلي، لا يجب عليه أكثر من أن ينوي أنه يأتي بصلاة الظهر مثلًا التي يريدها الله عَزَّوَجَل، وهكذا.

وقد استدلوا على رأيهم هذا بعدم وجود دليل معتبر يدلُّ على لزومِ تقييدِ النية بذلك.

الأمر الثالث: عدم وجوب نية رفع الحدث أو الاستباحة:

في الوضوء حيثيتان: أولاهما: أنّه رافعٌ للحدث، والثانية: أنّه مُبيحٌ للصلاة، بمعنى أنَّ المكلف عندما يستيقظ من النوم مثلًا، لا يُباحُ له الإتيان بكل عبادةٍ تُشترط في صحتها الطهارة كالصلاة مثلًا؛ لأنه محدثٌ. فإذا توضأ صارت الصلاة مباحةً له بهذا الوضوء.

فهل يجب على المكلف عند إتيانه بالوضوء استحضار نية رافعية الوضوء للحدث أو إباحته للصلاة؟

قال قُدس سره: الأظهر أنه لا يجب.

وأما الدليل على ذلك فهو: عدم وجود دليل يدلُّ على وجوب نية كون الوضوء رافعًا للحدث أو مُبيحًا للعبادة التي تشترط فيها الطهارة.

ص: 307

تنبيهان:

التنبيه الأول: عدم اشتراط النية في التوصليات:

قال قُدس سره: ولا تعتبر النية في طهارة الثياب، ولا غير ذلك مما يقصد به رفع الخبث.

تنقسم الأفعال من الناحية الشرعية إلى قسمين: أفعال تعبدية، وأفعال توصلية.

أمّا الأفعال التعبدية:فهي الأفعال التي يطلب الشارع الإتيان بها بكيفيةٍ خاصة، بأن تقع على وجه القربة إلى الله تعالى، ليتحقق الفعل على الوجه المطلوب شرعًا.

وأما الأفعال التوصلية:

فهي الأفعال التي يُطلب الوصول إلى النتيجة منها وإيقاعها خارجًا، ولا تشترط فيها نية القربة، ومن ثم يصحُّ أن يقع هذا الفعل بأي وجهٍ كان، أي سواء أَوَقع بنية القربة أم وقع من دون نية القربة، وسواء أَوَقع بإخلاص أم وقع عن رياء، وسواء أَوَقع بفعلٍ اختياري أم بفعلٍ غير اختياري، وسواء أَصَدر من فاعلٍ عاقل أم من غير عاقل، فهي أفعال لا يُراد فيها سوى الوصول إلى النتيجة فقط.

ولذلك، فبعد أن بيّن المحقق قُدس سره وجوب النية في الأفعال التعبدية كالصلاة والصوم والزكاة و...، أشار إلى عدم وجوبها في الأفعال التوصلية مثل طهارة الثياب أو إزالة الدم وإزالة الخبث وما شابهها.

ص: 308

وعليه، تصحُّ طهارة الثوب من الخبث مثلًا وإن تم التطهير من غير عاقل، أو أمطرت السماء عليه، أو جاء حيوانٌ وأراق الماء عليه، أو حملته الريح إلى نهرٍ مثلًا؛ وذلك لأن النتيجة - وهي إزالة الخبث- قد تحققت وقد تم التوصل إليها.

بقيَ أن نذكّر بما تقدم من أنَّ عدم وجوب نية القربة في الأعمال التوصلية، لا يعني عدم جوازها، مما يعني جواز الإتيان بهذهالأفعال بنية القربة إلى الله تعالى، فيطهر المكلف بدنه أو ثيابه مثلًا بنية التقرب إلى الله تعالى؛ لأنه (سبحانه) يحب المتطهرين.

بل قد يُقال بأنه مستحب؛ لما يترتب عليه من أجر وثواب؛ ولذلك يبني بعض العلماء على أنّ كل الأفعال التوصلية يمكن أن يقصد منها التقرب إلى الله تعالى، فلو عمل المكلف للكدِّ على عياله مثلًا بقصد نية القربة إلى الله عَزَّوَجَل فعمله عبادة؛ لأنه تقرّب به إلى الله (سبحانه)، ونفس عمله مما يُتقرّب به إلى الله تعالى؛ إذ إنّه تعالى يحبُّ المؤمن المستغني عن أن يمد يد الحاجة إلى مخلوق غيره، كما يحبُّ الكاد على عياله.

ولدينا العديد من الروايات التي دعت المؤمن إلى أن تكون له نيةُ خيرٍ في كُلِّ فعلٍ من أفعاله حتى في الأكل والنوم؛ ولذلك قال العلماء: إنَّ على المؤمن أنْ يرفع من سقف النية قربةً إلى الله عَزَّوَجَل، ولا يكتفي بنيّة القربة فقط عند إتيانه بالأفعال العبادية، وكذا في الأفعال التوصلية؛ لأنّها تحوِّلُ الفعل من توصلي إلى تعبُّدي، أو بما يشبه التعبدي من جهة الحصول على الثواب.

ص: 309

فقد روي أنه قال رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ لأبي ذرٍّ: «يا أبا ذرٍّ، ليكن لك في كلِّ شيء نيَّة صالحة، حتَّىٰ في النوم والأكل» (1)وعن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ: فلا بدَّ للعبد من خالص النيَّة في كلِّ حركة وسكون، لأنَّه إذا لم يكن بهذا المعنىٰ يكون غافلاً، والغافلون قد وصفهم الله تعالىٰ، فقال:«إْنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً» (2)، وقال: «أُولئِكَ هُمُ الغافِلُونَ» (3)، (4)

التنبيه الثاني: عدم تأثير الضميمة في النية:

قال المحقق قُدس سره: ولو ضمَّ إلى نية التقرُبِ إرادةَ التبرُّد أو غير ذلك، كانت طهارتُه مُجزيةً.

يُقصد بالضميمة: النية الثانية التي تشكل غاية للمكلف من الوضوء، بالإضافة إلى نية القربة، لكن تبقى لنية القربة المركزية والمحورية، فتكون هي النية الأولى والأصل، وأما الثانية فلا تكون إلا تبعًا لها، كما لو أراد المكلف الوضوء قربةً إلى الله تعالى، فضمَّ إلى هذه النية نيةً أخرى مثل نية التبرد، فلا تؤثر هذه الضميمة في إخلاص المكلف، فضلًا عن تأثيرها في صحة الوضوء، لكن يمكن القول: بشرط أن لا تكون الضميمة بقصد الرياء؛ لمنافاتها للإخلاص، كما هو واضح وإن لم يذكرها المحقق.

ص: 310


1- مكارم الأخلاق للطبرسي: 464
2- الفرقان: 44.
3- الأعراف: 179.
4- مصباح الشريعة المنسوب للإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ: 18.

حالات الضميمة:

إنَّ للضميمة أربع حالاتٍ تختلف باختلافها الآراء، وكل حالة يدور أمرها بين احتمالين:

الحالة الأولى: إمّا أن تكون الضميمة منافيةً للإخلاص أو لا، والأولى كالرياء مثلًا؛ حيث يضم المكلف إلى نية القربة نية الرياء، والثانية نحو إرادة التبرُّد مثلًا.

الحالة الثانية: إمّا أن تكون الضميمة -التي لا تنافي الإخلاص- راجحةً في حدِّ نفسها أو لا؛ بأن تكون مباحةً وليست راجحةً، والأولى كالتنظُّفِ من الأوساخ؛ فإنّه راجحٌ في حدِّ نفسه شرعاً، والثانية مثل إرادة التبرُّد؛ فهي ليست راجحة في حدِّ نفسِها، بل مباحة.

الحالة الثالثة: إما أن تكون النيةُ الراجحةُ والمباحةُ كلتاهما بقصد القربة إلى الله تعالى، أو لا.

الحالة الرابعة: إما أن تكون الضميمة هي الباعث للعمل أو لا.

ولم نكن لنذكر هذه الحالة الرابعة لولا وجود رأي مبتنٍ عليها؛ وذلك لما تقدّم من أنَّ الضميمة هي النية التي تتبع نية الأصل، وهي نية القربة، وعليه فلا يصحُّ - بناءً على ذلك - أن تكون باعثيتها إلى الفعل أولاً وبالذات، وتكون نية القربة هي التابعة لها.

وبناءً على هذه الحالات، فهنا عدة آراء، نذكر منها خمسة، هي:

ص: 311

الرأي الأول: إن الضميمة –مطلقاً- لا تؤثر في العمل، وهو المستفاد من ظاهر عبارة المحقق قُدس سره.

ويمكن القول: إن هذا الرأي يستبطن أن لا تكون الضميمة هي الرياء؛ باعتبار أن الرياء ينافي قصد القربة لله عَزَّوَجَل، فعليه يبطل العمل، فيكون مفاد الرأي الأول هو (التفصيل في الضميمة بين كونها رياءً فيبطل العمل، وإلا -كما لو كانت لأجل التبرُّد أو لأجل دفع النعاس، وما شابه ذلك- فلا يبطل) ولعل المحقق قُدس سره لم يصرح به لوضوحه.

فالمهم أن لا تكون منافية للإخلاص، فتشمل ما إذا كانت راجحة في حدّ نفسها، وما إذا لم تكن راجحة في حد نفسها، بل وتشمل ما أُتي بها بقصد القربة، وما لم يؤت بها بهذا القصد، وإنما أُتي بها من دون أي نية، بل عبثاً مثلاً، فالمهم أن لا تكون منافية للإخلاص.

الرأي الثاني: وفيه تفصيل بين أن تكون الضميمة منافية للإخلاص، مثل الرياء، فيبطل العمل، وبين أن لا تكون منافية للإخلاص، والثانية أيضًا فيها تفصيل، فإما أن يقصد بها القربة فيصح العمل، وأما إذا لم يقصد بها القربة فلا يصح، ولا فرق بين الضميمة أن تكون راجحة في حد نفسها كالتنظيف من الوسخ، أو مباحة كالتبريد.

وهذا الرأي هو ما ذهب إليه السيد السيستاني (حفظه الله) حيث قال: ومنها: النية... ويعتبر فيها الإخلاص، فلو ضمَّ إليها الرياء بطُلَ، ولو ضمَّ

ص: 312

إليها غيره من الضمائم الراجحة، كالتنظيف من الوسخ أو المباحة كالتبريد، فإنْ قصد بها القربة أيضًا لم تقدح، وفي غير ذلك تقدح (1)

الرأي الثالث: وفيه تفصيل أيضًا بين النية التي تنافي الإخلاص، كالرياء، فيبطل العمل، وبين غيرها فهنا تفصيل: فاذا كانت النية راجحة في حد نفسها فيصح العمل مطلقاً، أي سواء قصد بها نية القربة أم لا، وأما إذا كانت مباحة ففيه تفصيل: فإن كانت فيها نية القربة صح العمل، وإلا فلا يصح.

الرأي الرابع: إذا كان الباعث للعمل هي نية القربة، ثم طرأت النية الأخرى فلا تؤثر في صحة العمل، أما إذا كان الباعث هي نية التبريد أو نية التنظيف أو ما شابه أو الرياء، ثم جاءت نية القربة، أو كانت كلتاهما - نية القربة والنية الأخرى- في آنٍ واحد، فإنّها تؤثر في صحة العمل فيكون غير صحيح.

الأمر الرابع: وقت النية:

قال المحقق قُدس سره: ووقت النية: عند غسل الكفين، وتتضيق عند غسل الوجه:

يتألف الوضوء من عدة مقدماتٍ وأجزاء، والسؤال:

متى يلزم على المتوضئ أنْ ينويَ الوضوء؟

ذكروا في المقام عدّةَ آراء:

ص: 313


1- منهاج الصالحين للسيد السيستاني (ج1 ص66) الطبعة التاسعة عشرة 1439ه-/ 2018م- دار المؤرخ العربي.

الرأي الأول: إن وقت النية عندَ غسل الكفين:

وغسل الكفين بشكلٍ عام يمكن أن يتصوّر فيه:

أ- غسل الكفين المستحب الذي يسبق الوضوء؛ إذ ذكر الفقهاء أنّه يُستحبُّ غسلُ الكفين قبل الوضوء إذا كان قد أحدث بحدث النوم أو البول أو الغائط دون مثل الريح ونحوه.

ب- غسل الكفين قبل الوضوء لأي غرضٍ آخر، كما لو كان لإزالةِ النجاسة أو الوسخ وما شابه ذلك.

فأما غسل الكفين لأجل أي غرضٍ كان، كما لو كان لأجلِ إزالة النجاسة أو الوسخ مثلًا، فلا يُتصوّر فيه أنْ يكون موضعًا للنية؛ لأنه ليس من مقدمات الوضوء، ولا من أجزائه

فيتعيّن أن يكون المقصود من غسل الكفين هو المستحب، على الرغم من أنّه ليس من أجزاء الوضوء كما تقدّم، وبإمكان المكلف تركه، وذلك بناءً على جواز تقديم النية على العمل.

وهذا الرأي هو رأي المحقق قُدس سره؛ لصريح عبارته المذكورة آنفًا.ثم بيّنَ قُدس سره أنّ وقت هذه النية يتضيق عند إرادةِ غسلِ الوجه، فلو لم يأتِ المكلف بغسل الكفين المستحب؛ لعدم وجوبه، أو جاء به من دون نية، فإنه يجب أنْ تكون النية عند أول جزءٍ من أجزاء الوضوء، وهو غسل الوجه.

ص: 314

وقد يُقال:

بأنَّ النية جزءٌ من الوضوء، على قول العلماء وعلى قول المحقق قُدس سره نفسه؛ إذ قال: (الوضوء: وفروضه خمسة: الأول: النية...) إلى آخر ما قاله، وغسل اليدين المستحب ليس جزءًا من الوضوء كما هو واضح، بل هو خارجٌ عن حقيقةِ الوضوء، وعليه، فكيف تكون النيةُ - التي هي واجبةٌ وجزءٌ من الوضوء - متعلقةً بما هو خارجٌ عن حقيقةِ الوضوء؟

ولذا عبّر المحقق الفقيه السيد محمد بن علي الموسوي العاملي في كتابه مدارك الأحكام في شرح شرائع الإسلام، بقوله: والأولى تأخير النية إلى غسل الوجه، وإفراد المستحبات المتقدمة عليه بالنية (1)

أي إنَّ الأولى والأفضل أن يؤخِّر المكلف نية الوضوء إلى غسل الوجه؛ لأنه الجزء الأول من الأجزاء الواجبة في الوضوء، وأما ماقبل غسل الوجه من مستحبات - كغسل اليدين والمضمضة والاستنشاق- فمن الأفضل أن يُفرد لكل واحدةٍ منها نيةً خاصةً بها.

هذا وقد ذهب الشهيد الثاني قُدس سره - في كتابه مسالك الأفهام في شرح شرائع الإسلام-، إلى جواز النية عند المضمضة والاستنشاق مُقارنةً لدخول الماء إلى الفم أو الأنف (2)

ص: 315


1- مدارك الأحكام للسيد محمد العاملي ج1 ص 192.
2- مسالك الأفهام في شرح شرائع الإسلام للشهيد الثاني ج1 ص 34، حيث قال ما نصه:...ويجوز فعلها عند المضمضة والاستنشاق، مقارنة لدخول الماء الفم أو الأنف، ومتىقدم النية عند أحدهما لم يحتج الباقي من السنن المتقدمة إلى نية بل السابق عليها إن كان، وإن أخرها إلى غسل الوجه فلا بد للمتقدم من نية.

تنبيه:

لابد أن نلتفت إلى أنّ النية -التي نحن بصدد بيان موضعها- إنما هي عبارةٌ عن الإرادة التفصيلية التي قد يُعبَّرُ عنها بالإخطار، أي أنْ تُخطِرَ في ذهنِك بأنّك تتوضأ مثلًا للصلاة أو لغيرها من العبادات، وأنَّ وضوءك واجبٌ أو مُستحبٌ، وهذه هي النية التفصيلية، فهذا الإخطار له وقتٌ محدد.

وأما بناءً على ما هو الصحيح من كونِ النيةِ هي الداعي إلى العمل، أو الدافع الذاتي الذي دفع المكلف للتحرك والتوجُّه إلى الوضوء، فيكفي صدور الفعل بهذا الداعي كيفما اتفق؛ أي سواء أكانت النية عند المضمضة أم الاستنشاق أم غير ذلك.

الأمر الخامس والأخير: لزوم استدامة النية:

قال المحقق قُدس سره: ويجب استدامة حكمها إلى الفراغ.

ولتتضح هذه المسألة نذكر الآتي:

أولًا: ما معنى الاستدامة؟

في استدامة النية رأيان:

الأول: أن الاستدامة أمرٌ وجودي، وهو البقاء على حكم النية، والعزم على مقتضاها إلى نهاية الوضوء.

ص: 316

الثاني: أن الاستدامة أمرٌ عدمي، أي أن لا ينتقل المكلف من تلك النية الأولى التي بدأ بها الوضوء إلى نيةٍ أُخرى تُخالفها.

ثانيًا: ما أثر الاستدامة؟

إنَّ الوضوء واجبٌ مركبٌ من عدة أجزاء: غسل الوجه واليدين، ومسح الرأس والقدمين، ولا بد من رابطٍ مشترك أو خيطٍ يربط تلك الأجزاء كُلّها ويجعلها عملًا واحدًا، وذلك الرابط المشترك هي النية، فاللازم إيقاع كُلِّ تلك الأجزاء بنيةٍ واحدة، ليُصبح مجموع تلك الأجزاء عملًا واحدًا، أمّا إذا كان كُلُّ جزءٍ منها بنيةٍ مستقلة، لم يعد مجموعها حينئذٍ عملًا واحدًا، فهذا هو أثر الاستدامة.

ثالثًا: ماذا لو أخلَّ المكلف بالنية؟

لم يتعرّض المحقق قُدس سره لذلك مكتفيًا بتصريحه بوجوب استدامة حكم النية إلى الفراغ من الوضوء.وقد ذكر بعض الفقهاء حالتين لعدم استدامتها، لكُلٍّ منهما حكمها الخاص:

الحالة الأولى: لو أخلَّ بالنية الأولى، بأنْ نوى نيةً ثانية مثلًا، ثم رجع إلى النية الأولى قبل فوات الموالاة، حينئذٍ يصحُّ الوضوء، سواء أرجع إلى النية الأولى قبل أنْ يأتي بغسل أو مسح عضوٍ من دونها، أم بعد أن غسل أو مسح عضوًا من دونها، فالمهم أن الموالاة لم تفت.

ص: 317

الحالة الثانية: أنْ يرجع إلى النية الأولى بعدَ فوات الموالاة، حينئذٍ يبطلُ العمل.

رابعًا: الوجه في تعبير المحقق قُدس سره بحكم النية لا النية:

قال المحقق قُدس سره: ويجب استدامة حكم النية، ولم يقل: يجب استدامة النية، فلماذا عبر المحقق بحكم النية ولم يقل النية؟

يعود هذا إلى أنّ لاستدامة النية نوعين:

الأول: الاستدامة الحقيقية، بأن يبقى المكلف مُخطرًا في ذهنه الإرادة التفصيلية، بأنه يتوضأ وجوبًا أو استحبابًا، للصلاة أو لسواها من الأعمال العبادية، وما إلى ذلك، حتى انتهائه من جميع أجزاء الوضوء.والاستدامة الحقيقية للنية -كما هو واضحٌ- من الأمور المُتعسرة التي يعسر تحصيلها عادةً؛ ولذا ترك المحقق قُدس سره القولَ بلزومها، واختار النوع الثاني من الاستدامة.

الثاني: الاستدامة الحُكمية، بمعنى أنْ يبقى المُكلف على قصده الأول الذي أخطره في ذهنه عند بداية الوضوء، أي يبقى على إرادته الأولى، ولا يرفع يده عنها، بأن لا يحدث نيةً جديدة، ولا ينوي قطع النية الأولى إلى آخر الوضوء.

والاستدامة الحكمية بهذا المعنى ممكنةٌ وغير عسيرة، وهو الذي اختاره المحقق قُدس سره.

ص: 318

تداخُل الأسباب:

قال قُدس سره: تفريعٌ، إذا اجتمعت أسبابٌ مُختلفةٌ توجبُ الوضوءَ، كفى وضوءٌ واحدٌ بنية التقرب، ولا يفتقرُ إلى تعيينِ الحدثِ الذي يتطهر منه.

تقدّم أنّ للوضوء موجباتٍ وأسبابًا، فلو اجتمعت على المكلف أسباب عديدة للوضوء أو للغسل - ومعلومٌ أنَّ لكُلّ سببٍ نية خاصة - فهل يلزم تعدّد الوضوء لتعدد الأسباب، أيّ يكون لكلِ سببٍ وضوءٌ؟ أو يكفي وضوءٌ واحدٌ لكل تلك الأسباب؟هذا التفريعُ يريد أن يعالج هذه المسألة، وقد ذكر المحقق قُدس سره فيه فرعين:

الفرع الأول: في تداخل أسباب الوضوء:

إذا اجتمعت أسبابٌ متعددةٌ للوضوء، كما لو طرأت على المكلف أحداثٌ عديدة، كالتبول، والتغوط، والنوم، وخروج الريح... وأراد أنْ يصلي، فهل يجب عليه أنْ يعدِّد الوضوء بعدد تلك الأسباب، بحيث يأتي بوضوءٍ لكل سبب بنية منفردة، أم يجزيه وضوءٌ واحدٌ عن كُلِّ تلك الأسباب المتعدّدة؟

وإن أجزاه لرفع كل تلك الأحداث وضوءٌ واحد، فهل يجب أن يُعدِّد النية بعدد تلك الأسباب، أو تُجزيه نيةٌ واحدة لرفع جميع تلك الأسباب؟

ص: 319

ذهب العلماء كافة - ومنهم المحقق قُدس سره- إلى كفايةِ وضوءٍ واحدٍ بنيةِ التقرُّبِ إلى الله تعالى، من دون الحاجة إلى تعيين كونه لرفع الحدث الأول أو الثاني أو الثالث.

والوجه فيه: أنّ الواجبَ هو الوضوء الذي يرفع الحدث المانع من استباحة الصلاة، فهناك مانعٌ من استباحة الصلاة وهو الحدث،بقطع النظر عن كونه واحدًا أو متعددًا، ويتحقق رفع هذا المانع بوضوء واحد.

أوقل: إن الواجب هو رفع الحدث، ويكفي فيه وضوء واحد بنية واحدة، أما تعيين كون هذا الوضوء لحدث التبول أو الريح أو غيرهما، فلا دليل على لزومه، فتجري أصالة البراءة.

فإنّ شكَّ المكلف في وجوب نية خاصة -مثل نية رفع حدثٍ معينٍ مع نية القربة لاستباحة الصلاة- فهذا شكٌ في أصل التكليف، أي شكٌ في أصل وجوبه أو عدم وجوبه على المكلف، وحيثُ لا دليل على الوجوب، فحينئذٍ تجري أصالة البراءة، وبهذا يكفيه وضوء واحد.

فائدة: منهجية استنباط الحكم الشرعي:

عندما يريد الفقيه استنباط حكمٍ شرعي لمسألةٍ ما، فإنَّ هناك ضوابط لابُدّ منها، ومنهجية علمية منضبطة تمامًا؛ والمسألة -من هذه الناحية- ليست فوضوية.

وإجمال تلك المنهجية العلمية تتلخص في خطوات مترتبة عديدة:

ص: 320

الخطوة الأولى: تحديد نوع الحادثة من جهة كونها ضرورية أو لا:

فلو كانت المسألة من ضرورات الدين والمذهب فحكمها واضحٌ ولا يحتاج إلى استنباط من رأس.

ومن أمثلة ضرورات الدين: الحكم بوجوب الصلاة، والصوم، ومن ضرورات المذهب حكم جواز الزواج المنقطع مثلاً.

ومن المناسب التنبيه إلى أنَّ مصطلح الضروري يذكر في علم المنطق بمعنى البديهي، من قبيل: أنّ اجتماع النقيضين وارتفاعهما محال، أو إنَّ الكل أكبر من جزئه.

وتسمى هذه الضرورة بالضرورة العقلية البديهية، ومن أهم سماتها استغناؤها عن الاستدلال على صحتها، بل هي تكون دليلاً على غيرها.

وهناك ما يُمكن أن نسميه بالضرورة النظرية، وهي الضرورة الني تُبحث في الفقه، وتُسمّى ضرورة دينية أو ضرورة مذهبية.

وتختلف عن الأولى في أن استغناءها عن الاستدلال على صحتها لا لذاتها، بل هي لا تحتاج إلى استدلال من جهة أنها بلغت من الوضوح والجلاء بحيث لم تعد بحاجةٍ إلى الاستدلال؛ لأنها حكم شرعي واضحٌ اتفق عليه المسلمون جميعًا، بحيث لا يختلف فيه اثنان منهم.

وكما أنَّ ضرورات الدين والمذهب ليست بحاجةٍ إلى اجتهاد، فهي كذلك ليست بحاجةٍ إلى تقليد.

ص: 321

الخطوة الثانية: الأمارات:

إذا لم تكن تلك الحادثة من ضرورات الدين والمذهب، حينئذٍ تحتاج إلى اجتهادٍ وحكمٍ واستدلال بدليل اجتهادي، يُسمّى ب-(الأمارة الشرعية).

والدليل الاجتهادي: هو الآيةً أو الروايةً عن المعصوم (خبر الواحد والخبر المتواتر والخبر المستفيض، وهي بحوث تفصيلية وطويلة وعميقة تُذكر فيه علم الأصول).

فيبحث الفقيه عن آيةٍ تدلُّ على حكم هذه الحادثة من حيث الوجوب أو الاستحباب أو الإباحة أو الكراهة أو الحرمة.

فإن وجد آيةً أو رواية حكم وفقها، وإلا وجَّه بوصلة بحثه إلى الأصول العملية، وهي ما سنتعرض إليه في الخطوة الثالثة.

علماً أنه مع وجود الدليل الاجتهادي (آية أو رواية) فلا تصل النوبة إلى الاستصحاب ولا البراءة ولا الاحتياط ولا التخيير.

وهذا ما عليه المدرسة الإمامية من منهجيةٍ علمية منضبطة، فالدليل عندهم ليس هو إلا الآية أو الرواية عن المعصوم، ولا حجية لغير ذلك (1)

ص: 322


1- يبدو من السيرة العملية للمخالفين مخالفة قول رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وتقديم قول غيره عليه، وهم وإن لم يُصرحوا بذلك، إلا أن هناك شواهد عديدة على ما ذكرناه، من قبيل ما جاء في (جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر ج2 ص 196) بسنده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: قال تمتع رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْوسلم) فقال عروة: نهى أبو بكر وعمر عن المتعة. فقال ابن عباس: ما تقول يا عرية؟ قال: نقول نهى أبو بكر وعمر عن المتعة. فقال: أراهم سيهلكون، أقول: قال رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ وسلم، ويقولون: قال أبو بكر وعمر!.

نعم، هناك الإجماع، وهو لا يكون حجة إلا إذا كشف عن رأي المعصوم، وللعقل موارد معدودة يكون حجة فيها، فيما يكون حداً أوسط لإثبات حكم شرعي، والتفاصيل في محلها.

الخطوة الثالثة: الأصول العملية:

بعد فقدان الأمارة على الحكم الشرعي في حادثة ما، والشك فيه، يبحث الفقيه تحت أيّ أصل من الأصول العملية تقع هذه الحادثة، ليُعطي حكمه الشرعي وفق ذلك الأصل.

والأصول العملية أربعة:

الأصل الأول: البراءة:ومورده هو: الشك في أصل التكليف، أي في أصل ثبوت حكمٍ شرعي أو عدم ثبوته. فالبراءة تقول: إن الأصل هو عدم التكليف إلا إذا ثبت بدليلٍ معتبر.

وأصل البراءة يعني: براءة ذمة المكلف من التكليف طالما لم يتوفر دليلٌ يدل عليه

الأصل الثاني: الاشتغال:

ويسمّى بالاحتياط أيضًا.

ومورده: يقين المكلف بأصل التكليف، مع حصول شكٌ في أنّ ما قام به من الفعل هل أسقط عنه التكليف أو لا.

ص: 323

كما لو كان المكلف عالمًا بوجوب صلاة الصبح عليه، وأنّها عبارة عن ركعتين، ولكنه شكَّ في إجزاء صلاته التي صلاها أو لا؛ لنسيانه قراءة سورةٍ بعد سورة الفاتحة مثلًا، أي شك في فراغ ذمته من الوجوب المتعلق بها، فمورد أصل الاحتياط هو: يقينٌ في أصل التكليف وشكٌّ في فراغ الذمة منه، فتجري أصالة الاحتياط أو أصل الاشتغال، ومفاده: الاشتغالُ اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني، فالمكلف على يقين باشتغال ذمته بالصلاة، فلا بُدّ من أن يكون على يقينٍ أيضًا بفراغ ذمته من الصلاة، ومن ثم يجب على المكلف أن يأتي بالصلاة مع السورة لو شك في إجزاء الصلاة التي جاء بها من دون سورة.

الأصل الثالث: الاستصحاب:

ومورده: أنْ يكون هناك يقينٌ سابقٌ بالتكليف مثلاً، ثم شكٌ لاحقٌ في سقوطِه.

كما لو كانت يد المكلف متنجسة بالبول، وبعد مدةٍ من الزمن شكَّ في أنّه طهرها من تلك النجاسة أو لا، فهنا يجري أصل الاستصحاب ومفاده: لا تنقض اليقين السابق بشكٍ لاحق، أو: إنّ اليقين لا ينقضه إلا يقينٌ مثله، فيحكم على يده بأنها ما زالت متنجسة.

الأصل الرابع: التخيير:

ومفاده: أنَّ المكلف مخيرٌ في الإتيان بأحد عملين، أيُّهما أتى به أجزاه، كما لو دل دليلٌ على وجوب شيئين في آنٍ واحدٍ، ولم يثبت أنّ أحدهما أهمُّ من

ص: 324

الآخر، حينئذٍ يكونُ المكلفُ مخيرًا في فعلِ أيٍ منهما، كما لو لم يتبقَ على انتهاء وقت صلاةٍ مفروضةٍ إلا خمسُ دقائق، وكانت ذمة المكلف مشتغلةً بتكليفين: أحدهما الصلاة المفروضة، والآخر: إزالة النجاسة من المسجد، فالمكلف مخيرٌ في أداء أيّ تكليفٍ منهما شاء أولاً، إذ لا فرق بينهما، فكلاهما واجب، وكلاهما بنفس الأهمية حسب الفرض.

وما تقدّم من أمثلة إنما هي على سبيل الإجمال ولتقريب معاني الأصول العملية، وإلا فهناك أمثلة على مستوى عالٍ من الدقة.وما أوردناه من عمل الفقيه في استنباط الحكم الشرعي لحادثةٍ ما إنّما كان على نحو الإجمال، ولتقريب المعنى ليس إلا، فلا يتصوّرن أحدٌ أنَّ استنباط الحكم الشرعي بهذه الدرجة من السهولة واليسر والوضوح، بل هو عملٌ علميٌ وفيه الكثير من التفاصيل ويحتاج إلى جهود مضنية وبحوث طويلة وعميقة، يواجه خلالها الفقيه صعوبات عديدة إلى أن يصل إلى حكم شرعي في مسألةٍ معينة أو حادثةٍ معينة.

الفرع الثاني: في تداخل أسباب الغُسل:

قال قُدس سره: وكذا لو كان عليه أغسال. وقيل: إذا نوى غسل الجنابة أجزأ عن غيره، ولو نوى غيره لم يجزِ عنه:

إذا اجتمعت عدّةُ أسباب للغسل الواجب، كما لو كانت المرأة مثلاً مجنبةً وحائض وقد مسّت ميتًا، فهنا اجتمعت عليها ثلاثة أسبابٍ، كلّ منها يقتضي غُسلًا، فهل يلزمها ثلاثةُ أغسال أو يكفيها غسلٌ واحد فقط؟

ص: 325

وكذلك لو كان شخصٌ مجنبًا وأراد أن يغتسل غُسل الجمعة وغُسل عرفة مثلًا، فاجتمعت عدة أسباب للغسل، بعضها واجبة وبعضها مستحبة، فما اللازم عليه، هل لا بُدّ من تعدد الغسل لتعدد السبب، أو يكفيه غسل واحد؟

ونفس الكلام يُقال فيما لو كانت عليه أغسال مستحبة.وفي المقام توجد آراء:

الرأي الأول: كفاية نيةٍ واحدةٍ لكل الأغسال:

فسواء أكانت الأسباب التي تقتضي الغسل واجبةً أم مستحبةً، أم كان بعضها واجبًا وبعضها مستحبًا، فإنه يكفي أن يأتي المكلف بغسلٍ واحد يُجزي عن الجميع.

وهو رأي المحقق قُدس سره.

ومما يدلُّ على هذا الرأي رواية زرارة، التي نقلها الشيخ الكليني قُدس سره في كتابه الكافي، إذ قال ما نصّه:

عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيه عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسَى عَنْ حَرِيزٍ عَنْ زُرَارَةَ قَالَ: إِذَا اغْتَسَلْتَ بَعْدَ طُلُوعِ الفَجْرِ أَجْزَأَكَ غُسْلُكَ ذَلِكَ لِلْجَنَابَةِ والجُمُعَةِ، وعَرَفَةَ والنَّحْرِ والحَلْقِ والذَّبْحِ والزِّيَارَةِ، وإِذَا اجْتَمَعَتْ عَلَيْكَ حُقُوقٌ أَجْزَأَهَا عَنْكَ غُسْلٌ وَاحِدٌ. قَالَ: ثُمَّ قَالَ: وكَذَلِكَ المَرْأَةُ يُجْزِئُهَا غُسْلٌ وَاحِدٌ لِجَنَابَتِهَا وإِحْرَامِهَا وجُمُعَتِهَا وغُسْلِهَا مِنْ حَيْضِهَا وعِيدِهَا (1)

ص: 326


1- الكافي للكليني ج3 ص 41 بَابُ مَا يُجْزِئُ الْغُسْلُ مِنْه إِذَا اجْتَمَعَ- ح1.

فائدة رجالية: سند الرواية (1):

في سند الرواية خمسة رجالٍ هم:

1 - علي بن إبراهيم:

صاحب التفسير، قال النجاشي: (أبو الحسن القمي، ثقة في الحديث ثبت معتمد صحيح المذهب، سمع فأكثر، وصنّف كتباً، وأضر في وسط عمره) (2)

وقد عاصر الإمام العسكري (صلوات الله وسلامه عليه) وعاش إلى سنة 307، وقد أكثر ثقة الإسلام الشيخ الكليني قُدس سره النقل عنه في الكافي.

2 / عن أبيه:

وهو إبراهيم بن هاشم، أبو إسحاق القمي، وهو أول من نشر حديث الكوفيين في قم، قاله النجاشي.

وقال الطوسي: ذكر أنّه لقيَ الرضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وله كتب.

وثّقه ابن طاووس، وادّعى الاتفاق على وثاقته، وهو من رجال كامل الزيارات والقمي، وعلى كل حال، فإنه يمكن توثيقه بأحد طريقين (3):

ص: 327


1- يُراجع: الموسوعة الرجالية الميسرة (معجم رجال الوسائل) تأليف علي أكبر الترابي ويحيى الرهائي، تحت إشراف الشيخ جعفر سبحاني/ بتصرف قليل.
2- فهرست أسماء مصنفي الشيعة (رجال النجاشي) للنجاشي ص 269 الترجمة رقم (680)
3- قال العلامة: (الأرجح قبول روايته) وذكر في منتهى المقال ج 1 ص 213 قرائن كثيرة في توثيقه، وهكذا السيد الخوئي في معجم رجال الحديث - ج 1 - ص 291 تحت رقم 332، حيث أفاد بأنه لا ينبغي الشك في وثاقته، وذكر ما يدل على وثاقته.

الأوَّل: أنَّ ولده الثقة علي بن إبراهيم قد أكثر الرواية عنه، وإكثار الثقة الرواية عن شخصٍ يدلُّ على وثاقته، وهذا على خلاف مبنى السيد الخوئي قُدس سره.

الثاني: ذكر في ترجمة إبراهيم بن هاشم أنّه نشر أحاديث الكوفيين (أي: أحاديث أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ) في مدرسة قم، وهذا يدلُّ على أنَّه شخصٌ مقبول عندهم وإلَّا لأعرضوا عنه وهجروه.

3 - حماد بن عيسى، غريق الجحفة:

قال عنه النجاشي: حماد بن عيسى: أبو محمد الجهني مولى، وقيل: عربي، أصله الكوفة «و« سكن البصرة... وكان ثقة في حديثه صدوقًا... ومات حماد بن عيسى غريقًا بوادي قناة -وهو واد يسيل من الشجرة إلى المدينة وهو غريق الجحفة- في سنة تسع ومائتين، وقيل: سنة ثمان ومائتين... رحمة الله (1)

وروي عن حماد بن عيسى، قال، دخلت على أبي الحسن الأول عَلَيْهِ السَّلاَمُ فقلت له: جعلت فداك ادع الله لي أن يرزقني دارًا وزوجة وولدًا وخادمًا والحج في كُلّ سنة، فقال: اللهم صل على محمد وآل محمد وارزقه دارًا وزوجةً وولدًا وخادمًا والحجَّ خمسين سنة، قال حماد: فلما اشترط خمسين سنة علمت أني لا أحج أكثر من خمسين سنة.

ص: 328


1- فهرست أسماء مصنفي الشيعة (رجال الناجشي) للنجاشي ص 142 الترجمة رقم (370).

قال حماد: وحججت ثمانيًا وأربعين سنة، وهذه داري قد رزقتها، وهذه زوجتي وراء الستر تسمع كلامي، وهذا ابني، وهذا خادمي قد رزقت كُلّ ذلك، فحج بعد هذا الكلام حجتين تمام الخمسين (1)

ثم خرج بعد الخمسين حاجًا، فزامل أبا العباس النوفلي القصير، فلما صار في موضع الإحرام دخل يغتسل: فجاء الوادي فحمله فغرقه الماء-رحمنا الله وإياه-، قبل أن يحج زيادة على الخمسين.

4 - حريز:

قال الشيخ الطوسي: حريز بن عبد الله السجستاني، ثقة، كوفي، سكن سجستان.

وقال النجاشي: حريز بن عبد الله السجستاني أبو محمد الأزدي من أهل الكوفة، أكثر السفر والتجارة إلى سجستان، فعرف بها، وكانت (كان) تجارته في السمن والزيت... (2)

5/ زرارة: تقدمت ترجمته.

فالسند صحيح، ومن ثم الرواية صحيحة.نعم، تبقى مشكلة واحدة، وهي أن الروايات قالت: عن زرارة قال:... ولم يذكر القائل، هل هو الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ مثلًا، أو غيره، ومثل هذه الرواية تسمى بالمضمرة.

ص: 329


1- اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي) للشيخ الطوسي ج2 ص 604 و605 الترجمة رقم (572).
2- فهرست أسماء مصنفي الشيعة (رجال النجاشي) للنجاشي ص 144 الترجمة رقم (375).

ولكن قد تقدم - عند بيان معنى الرواية المضمرة - أنه يمكن أن تصحح المضمرة بأحد طريقين، وكان الأول منهما هو البحث عن سندها التام في كتاب آخر، أي أن نلاحظ الكتب الأخرى التي ذكرت هذه الرواية، فلعلها ذكرت الشخص الذي قال عنه زرارة (قال أو سألته...)، فإذا وجدنا أنه هو المعصوم عَلَيْهِ السَّلاَمُ، فالمشكلة حُلَّت، وتكون الرواية صحيحة ومسندة لا مضمرة.

وهذا الحلُّ متوفرٌ في خصوص هذه الرواية –محل البحث-، وهو:

1 - أن هذه الرواية وإن كانت مضمرة في الكافي، إلا أن إسنادها في التهذيب تام، وإسنادها هو: محمد بن علي بن محبوب، عن علي بن السندي، عن حماد بن عيسى، عن حريز، عن زرارة، عن أحدهما عَلَيْهِما السَّلاَمُ (1) أي الإمام الباقر أو الصادق عَلَيْهِما السَّلاَمُ.

2 - أن ابن إدريس رحمة الله أورد في آخر سرائره جملة من الأحاديث المنتزعة من كتب المشيخة المتقدمين (2)، فنقل هذه الرواية من كتاب حريز بن عبد الله السجستاني رحمة الله، فقال نقلًا من الكتاب المذكور: وقالزرارة عن أبي جعفر عَلَيْهِ السَّلاَمُ: إذا اغتسلت بعد طلوع الفرج أجزأك غسلك ذلك للجنابة والجمعة وعرفة.

ونقل الحديث إلى آخره كما في الكافي، ثم قال بعد ما نقل ما أراده من الأحاديث المنتزعة من ذلك الكتاب: تمت الأحاديث المنتزعة من كتاب

ص: 330


1- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج1 ص 107 ح (279) 11.
2- مدارك الأحكام للسيد محمد العاملي ج1 ص 195.

حريز بن عبد الله السجستاني رحمة الله وكتاب حريز أصل معتمد معمول عليه (1)

وعلى هذا فتكون الرواية صحيحة السند متصلة بالإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وهي نص في المطلوب.

الرأي الثاني: كفايةُ نيةِ غُسلِ الجنابة:

إذ قيل: لو كان في ذمة المكلف عدةُ أغسال، منها غسل الجنابة؛ فإذا نوى غسل الجنابة فهذه النية تكفي لغسل الجنابة، وتُجزي عن غيرِ غسلِ الجنابة، وأما لو نوى غير غُسلِ الجنابة، كما لو نوى غُسل الجمعة مثلًا، فحينئذٍ لا يُجزي عن الجنابة، فغسلٌ واحدٌ يكفي ويجزي عن بقية الأغسال ولكن بشرط أنْ يكون بنية غُسل الجنابة.

وقد أشار المحقق قُدس سره إلى هذا الرأي، وعبّرَ عن عدم صحته؛ إذ قال: (وقيل: إذا نوى غسل الجنابة أجزأ عن غيره، ولو نوى غيره لم يُجزِ عنه وليس بشيء).الرأي الثالث: كفايةُ نيةٍ واحدةٍ لعدّةِ أغسالٍ إلا أن يكون من ضمنها غسل الجمعة فلا بُدّ من النية له حينئذٍ:

فلو كان على المكلف عدة أغسال: غسل الجنابة، غسل الدخول للحرم المكي، وغسل الجمعة مثلًا، فإنْ نوى نيةً واحدةً أجزأته عن الغسلين

ص: 331


1- مستطرفات السرائر (باب النوادر)- لابن إدريس- ص 134.

الأولين، دون الأخير؛ وذلك لأنَّ غسل الجمعة إذا كان من بين عدة أغسالٍ فلا بد من قصده ولو إجمالًا على الأحوط وجوبًا.

وقد ذهب سماحة السيد السيستاني (دام ظله) إلى هذا الرأي (1)

الرأي الرابع: عدم التداخل:

أي لو كان على المكلف عدة أغسال، فلا بُدّ في امتثال جميع الأوامر من أحد أمرين:

1- قصدها جميعًا؛ بأن ينوي الجميع في غسله ليجزي غسلُه عنها، وإلا فلا. وعليه، فمن كان عليه غسل الجنابة وغسل دخول الحرم المكي وغسل الجمعة لا بُدّ من أنْ ينويها جميعًا.2- قصد جنس الحدث نفسه، أو قصد استباحة العبادة؛ فمن اجتمعت لديه عدة أحداث: حدث الجنابة، حدث مس الميت، حدث الحيض، وغيرها من الأحداث، يُجزيه غسلٌ واحدٌ بنية رفع جنس الحدث، أي رفع الحدث بما هو حدث، بقطع النظر عن تفاصيله، أو بنيةِ استباحة الصلاة أو استباحة قراءة القرآن وما شابه ذلك.

ص: 332


1- منهاج الصالحين، ج1، مسألة 210 حيث قال (مُدّ ظله): إذا اجتمعت عليه أغسال متعددة واجبة أو مستحبة، أو بعضها واجب وبعضها مستحب، أجزأ غُسل واحد بقصد الجميع، وكذا لو قصد الجنابة فقط، ولو قصد غير الجنابة أجزأ عما قصده بل وعن غيره أيضاً. نعم، في إجزاء أي غسل عن غُسل الجمعة من دون قصده ولو إجمالاً إشكال، فلا يترك مراعاة الاحتياط في ذلك...

وقد ذهب إلى هذا الرأي الشيخ محمد رضا الطهراني في كتابه حقائق الفقه (1)

الفرض الثاني: غسل الوجه:

قال قُدس سره:

الفرض الثاني: غسل الوجه، وهو ما بينَ منابتِ الشعر في مقدم الرأس إلى طرفِ الذقن طولًا، وما اشتملت عليه الإبهام والوسطى عرضًا.

وفيه عدة أمور:

الأمر الأول: تحديد المقدار الواجب من غسل الوجه:

صرح المحقق قُدس سره بأنّ الواجب هو غسل ما بين منابت الشعر في مقدم الرأس إلى طرف الذقن طولًا، وما اشتملت عليه الإبهام والوسطى عرضًا.وهو تحديدٌ متفقٌ عليه مجمعٌ عليه، وتدل عليه العديد من الروايات، منها ما رواه زرارة ݤ عن أبي جعفرٍ الباقر (صلوات الله وسلامه عليه) أنّه قال للإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ: أخبرني عن حد الوجه الذي ينبغي أن يوضّأ الذي قال الله ؟ فقال عَلَيْهِ السَّلاَمُ: الوجه الذي قال الله وأمر الله عَزَّوَجَل بغسله الذي لا ينبغي لأحد أن يزيد عليه ولا ينقص منه، إن زاد عليه لم يؤجر، وإن نقص منه أثم: ما دارت عليه الوسطى والإبهام، من قصاص شعر الرأس إلى الذقن، وما جرت عليه الإصبعان مستديراً فهو من الوجه، وما سوى ذلك فليس من

ص: 333


1- انظر حقائق الفقه، ج1، ص223و224.

الوجه، فقال له: الصدغ من الوجه؟ فقال: لا، قال زرارة: قلت له: أرأيت ما أحاط به الشعر؟ فقال: كلما أحاط به من الشعر فليس على العباد أن يطلبوه ولا يبحثوا عنه، ولكن يجري عليه الماء (1)

وفي هذه الرواية تنبيهاتٌ ثلاثة:

التنبيه الأول: عدم وجوب غسل ما زاد على هذا التحديد:

فلا يجب على المكلف في غسل الوجه إلا أن يغسل من قصاص الشعر إلى الذقن طولًا، وما دارت عليه الوسطى والإبهام عرضًا، وأما ما زاد على ذلك الحدّ فلا يجب عليه غسله.ثم إن من الواضحِ أنّ المطلوب من المكلف هو غسل هذا المقدار الذي ذكرته الرواية الشريفة من جهةٍ، وهو مقدارٌ من الصعب وربما من المحال أن يأتي المكلف بغسله بشكلٍ دقيقٍ، بحيث لا يزيد عليه ولا يُنقص ولو مقدار يسيرٍ جدًا من جهةٍ أُخرى؛ مما يولّد شكًا عند المكلفين في مدى أدائهم لتكليفهم على الوجه المُجزي، الأمر الذي دعا الفقهاء إلى القول بالمقدمة العلمية.

والمقدمة العلمية هي المقدمة التي إنْ أتى المكلف بها حصل لديه قطعٌ ويقينٌ بامتثاله للواجب وأدائه التكليف بصورة مجزية ومفرغة للذمة، وفي المقام يغسل المكلف مقدارًا أزيد من المقدار المُحدّد، لا بنيةِ الوجوب؛ بل ليكون على يقينٍ من أدائه التكليف بصورةٍ صحيحةٍ مجزية شرعًا.

ص: 334


1- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق ج1 ص 44 باب حد الوضوء وترتيبه وثوابه ح 88.

التنبيه الثاني: وجوب غسل كل المقدار المحدد من الوجه:

فإنْ أنقص منه مقداراً ما، أو شكَّ في ذلك، جرت في حقه قاعدة الاشتغال التي تنص على أنّ: الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

وقد شكّ المكلف هنا - حسب الفرض- في غسل مقدار ما، مما يعني أنّه لم يصل إلى درجة الفراغ اليقيني في أدائه التكليف الواجب عليه بعد، ولازم ذلك: أنّ ذمته ما زالت مشتغلةً بتكليف غسل الوجه، فلا بد من غسله.التنبيه الثالث: لحاظ مستوي الخلقة:

تحديد مقدار غسل الوجه إنّما هو بلحاظ مستوي الخلقة، أي بلحاظ ذي الخلقة الطبيعية وفق المعدل العام لطول وعرض الوجه والأصابع.

مما يعني: أنَّ الفرد الخارج عن هذا المعدل العام يرجع إلى مستوي الخلقة، لا إلى ما هو عليه؛ فمثلًا لو كان أنزع الشعر، فلا يكون مقدار الواجب غسله من وجهه من قصاص شعره هو، بل من قصاص شعر مستوي الخلقة، وكذا لو كان العكس، بأن كان أغمّ؛ وهو الذي ينزل منبت شعره إلى الجبهة أكثر من المتعارف.

وهكذا لو كانت أصابعُ الشخص طويلةً أكثر من المعتاد، فإنْ أراد أنْ يغسل ما دارت عليه الوسطى والسبابة فإنه قد يغسل أذنيه مثلًا، والكلام نفسه يأتي فيمن كانت أصابعه قصيرة؛ بحيث لو أراد أن يغسل ما دارت عليه الإبهام والوسطى فإنه يغسل جزءًا يسيرًا من وجهه.

ص: 335

فإذًا الحكم هو أنْ يغسل المكلف وجهه بالتحديد المتوسط العام المُتعارف عليه لدى عامة الناس.

وإلى هذه التنبيهات أو بعضها أشار قُدس سره إذ قال: وما خرج عن ذلك فليس من الوجه، ولا عبرة بالأنزع ولا بالأغم، ولا بمن تجاوزت أصابعه العذار.والعذار هو العظم المرتفع قليلًا بين العين والأذن، وهو مما لا يجب غسله؛ لأنّه خارج عما دارت عليه الوسطى والإبهام.

الأمر الثاني: كيفية غسل الوجه:

قال قُدس سره: ويجب أن يغسل من أعلى الوجه إلى الذقن، ولو غسل منكوسًا لم يُجْزِ:

فلا بد أنْ يكون غسل الوجه من طرف الشعر من أعلى الوجه إلى الذقن نزولًا، من الأعلى إلى الأسفل، وهو المشهور بين الأصحاب.

واحتُجَّ عليه ببعض الروايات، منها ما روي عن زرارة ݤ قال: حكى لنا أبو جعفرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ وضوء رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ، فدعا بقدحٍ من ماء فأدخل يده اليمنى، فأخذ كفًا من ماء فأسدله على وجهه من أعلى الوجه... (1)

ومعنى: حكى وضوء رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ: أي توضأ كما كان رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ يتوضأ، وسُميّت الروايات التي تحكي وتبين كيفيات بعض الأفعال -كهذه وأمثالها- بالروايات البيانية.

ص: 336


1- الاستبصار للشيخ الطوسي ج1 ص 58 الباب 33 - باب النهى عن استعمال الماء الجديد لمسح الرأس والرجلين ح (171 – 1).

وقبل التطرق إلى بيان كيفية الاستدلال بهذه الرواية من المناسب أن نقدم مقدمتين:

المقدمة الأولى: أقسام السنة:

السنة المطهرة حجةٌ على المكلفين، وتنقسم السنة المطهرة إلى قولية وفعلية وتقريرية.

فأما القولية فهي أقوال المعصومين عَلَيْهِم السَّلاَمُ، وظواهرها حجة علينا؛ فإن هم أمروا بشيءٍ وجب علينا، وإن هم نهوا عن شيءٍ وجب اجتنابه، وهكذا.

وأما التقريرية فهي كسكوتهم عَلَيْهِم السَّلاَمُ عن فعلٍ ما، مما يدلُّ على جوازه، وكسكوتهم وعدم تعليقهم عَلَيْهِم السَّلاَمُ على قولٍ قاله أحدٌ جوابًا عن سؤالٍ تم طرحه بمحضر أحدهم عَلَيْهِم السَّلاَمُ مثلاً، مما يدل على صحة ذلك القول أو الجواب؛ لأنه لو لم يكن صحيحًا لاعترضوا (سلام الله عليهم) عليه، إذ من واجبهم الحفاظ على الشريعة والتشريعات، هذا فيما لم يكن سكوتهم عَلَيْهِم السَّلاَمُ ناشئًا عن تقية.

وأما السنة الفعلية، فهي أن يأتي المعصوم (سلام الله عليه) بفعل، كما لو غطّى الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ رأسه قبل التخلي، وهي دليلٌ على عدم حرمة هذا الفعل، أو ترك فعلاً، فإنه يدل على عدم وجوبه، أو قل: إن فعله وتركه يدل على الإباحة بالمعنى الأعم.

ص: 337

المقدمة الثانية: معنيا الإباحة:

تنقسم الإباحة إلى قسمين: إباحة بالمعنى الأعم، وإباحة بالمعنى الأخص:

فأما الأولى فتشمل كلّ الأحكام التكليفية ما عدا الحُرمة، أي تشمل: الواجب، المستحب، المباح، المكروه، فهي بمعنى ما لا يحرم فعله.

وأما الإباحة بالمعنى الأخص فهي تعني أحد الأحكام التكليفية الخمسة وهو: المباح، فهو ما لا يكون واجباً ولا مستحباً ولا حراماً ولا مكروهاً.

إذا تبين هذا نقول:

إن السنة الفعلية تدل على الإباحة بالمعنى الأعم، أي إن ما فعله المعصوم ربما يكون واجًبا أو مستحبًا أو مباحًا بالمعنى الأخص.

ومن ثم، لا يمكن أن نستدل على وجوب فعلٍ ما لمجرد أنه قام به المعصوم عَلَيْهِ السَّلاَمُ، إذ ربما يكون مستحبًا.

وبالعودة إلى رواية الإمام الباقر (صلوات الله وسلامه عليه) التي حكى فيها وضوء رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ، فإن حكايته عَلَيْهِ السَّلاَمُ لوضوئه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ لم تكن إلا فعلًا، وفعل المعصوم عَلَيْهِ السَّلاَمُ - كما تقدم - يدل على الإباحة بالمعنى الأعم، أي قد يكون غسله لوجهه عَلَيْهِ السَّلاَمُ بهذه الكيفية من الأعلى إلى الأسفل واجبًا، وقد يكون مستحبًا، وقد يكون مُباحًا بالمعنى الأخص، وعليه، فلا مُثبت لكونه واجبًا.

ص: 338

فإنْ كان الأمر كذلك، فكيف نستدل بهذه الرواية على وجوب غسل الوجه من الأعلى إلى الأسفل؟

إن هذه الرواية ذكرت فعلاً للمعصوم، والفعل يدل على الاباحة بالمعنى الأعم، ولذلك قد يُقال:

إنه لا يمكن أن نستدل بهذه الرواية على وجوب غسل الوجه من الأعلى إلى الأسفل، لا سيما إنَّ الرواية تشتمل على ما لا يُمكن أن يكون واجبًا في الوضوء، كإدخال اليد اليمنى في القدح لأخذ الماء منه، كما ورد فيها، مما يدلّ على -أو على الأقل يُحتمل فيه- أنّ المعصوم يحكي الوضوء الجائز شرعًا لا الواجب، وإلا لوجب على المكلف إحضار قدحٍ، ووجب إدخال خصوص اليد اليمنى فيه، ولا يقول بهذا أحد...

ولعلّ ذلك كان السبب وراء قول السيد المرتضى وابن ادريس قدس سرهما -كما نسب إليهما- باستحباب البدء من الأعلى إلى الأسفل، لا الوجوب.

أما المحقق قُدس سره فقد استظهر الوجوب، وقال بعدم إجزاء الغسل المنكوس؛ لدليلٍ آخر لا نذكره اختصاراً.

وقد أشار المحقق إلى رأي السيد المرتضى وابن إدريس بقوله (على الأظهر) الذي يدل على وجود أكثر من رأي في المسألة...

ص: 339

الأمر الثالث: ما لا يجب غسله من الوجه:

قال المُحقّق قُدس سره: ولا يجبُ غسل ما استرسل من اللحية، ولا تخليلها، بل يغسل الظاهر، ولو نبت للمرأة لحيةٌ لم يجب تخليلها، وكفى إفاضة الماء على ظاهرها.

مسترسل اللحية: هو المقدار النازل من اللحية عن الذقن، فهذا المقدار لا يجب غسله؛ لأن الواجب هو غسل الوجه بالحدِّ الذي تقدّم طولًا وعرضًا، ومسترسل اللحية خارجٌ عن هذا الحد الواجب؛ فلا يجب غسله.

والتخليل: هو إدخالُ الماء وإيصاله إلى البشرة التي تكون تحت اللحية؛ من خلال دلك اللحية أو إدخال الأصابع فيما بين الشعر وما شابه، وهو ليس واجبًا، بل يكفي غسل الظاهر.

وإلى جانب رأي المحقق قُدس سره في عدم وجوب غسل اللحية وعدم وجوب تخليلها، هناك رأيٌ فيه تفصيلٌ في مسألة تخليل اللحية؛ فإنْ كانت كثيفةً فلا يجب، بل يكفي غسل ظاهرها، وإلا وجب.

إطلاق عبارة المحقق قُدس سره -إذ قال: ولا يجب تخليل اللحية ويكفي غسل الظاهر- يُشير إلى أنّه لم يُفرق بين كون اللحية كثيفةً أو خفيفة، مما يعني أنّه يذهب إلى عدم وجوب التخليل مطلقًا.

وما ذكره المحقق قُدس سره هو الموافق لظاهر الروايات الشريفة الواردة في هذا المجال؛ ففي رواية زرارة عن أبي جعفر عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال: قلت له: أرأيت ما

ص: 340

أحاط به الشعر؟ فقال (صلوات الله وسلامه عليه): كُلّما أحاط به الشعر، فليس على العباد أنْ يطلبوه، ولا يبحثوا عنه، ولكن يجرى عليه الماء (1)

فجوابه عَلَيْهِ السَّلاَمُ مطلقٌ، ولم يفرق بين كون الشعر كثيفًا أو خفيفًا.

وفي رواية مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَحَدِهِمَا عَلَيْهِما السَّلاَمُ قَالَ: سَالتُه عَنِ الرَّجُلِ يَتَوَضَّأُ أيُبَطِّنُ لِحْيَتَه؟ قَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: لَا (2)

فظاهرُ الروايات هو عدم وجوب تخليل اللحية في الوضوء، سواء أكانت كثيفةً أم خفيفة.

ثم أشار المحقق قُدس سره إلى أنه لو فُرِضَ أنّ المرأة نبتت لها لحيةٌ فحكمها حكم الرجل في عدم لزوم التخليل، فهذا الحكم شاملٌ للرجل وللمرأة لو فرض أنّها نبتت لها لحيةٌ.

الفرض الثالث: غسل اليدين:

قال قُدس سره: والواجبُ غسلُ الذراعين، والمرفقين، والابتداء من المرفق، ولو غسل منكوسًا لم يُجزِ.في هذا الفرض عدة أمور نذكرها بالتتالي:

الأمر الأول: حدُّ غسلِ اليدين:

اتفق الأصحاب على أنّ الواجب هو الغسل من مرفق اليد إلى أطراف

ص: 341


1- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق ج1 ص 44 و45 باب حد الوضوء وترتيبه وثوابه- ح (88).
2- الكافي للكليني ج3 ص 28 بَابُ حَدِّ الْوَجْه الَّذِي يُغْسَلُ والذِّرَاعَيْنِ وكَيْفَ يُغْسَلُ ح2.

الأصابع، وقد عبّرَ المحقق قُدس سره عن ذلك بوجوب غسل الذراعين والمرفقين.

والذراع واضحُ المعنى، وأما المرفق فهو مفصل يربط بين الذراع والعضد، ولا خلاف فيه، مثلما لا خلاف في لزوم غسل الذراع أو الكف والأصابع، إنّما الخلاف في الدليل على لزوم غسل المرفق.

وقد نشأ هذا الخلاف من اختلاف فهم آية الوضوء، والذي بدوره ألقى بظلاله على بعض المسائل المتعلقة بالوضوء؛ فاختُلِفَ في الدليل على غسل المرفق، وفي نوع غسله فيما إذا كان أصالةً أو من باب المقدمة العلمية، وبيان ذلك مختصرًا، والتطرق إلى كيفية استدلال كل قولٍ عليها بشيءٍ من الإيجاز، في الأمرين الآتيين:

الأمر الأول: أن الواجب غسل الذراعين والمرفقين.

تقدّم أنْ لا خلاف في غسل الذراعين، إنما يكمن الخلاف في غسل المرفقين، ومنشأ الخلاف هو تفسيرُ (إلى) في قوله تعالى: «ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَىٰ الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَىٰ المَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَىٰ الكَعْبَيْنِ» (1)

والذي نتج عنه ثلاثة أقوال:

القول الأول: وجوب غسل المرفقين أصالةً:

وهو قولٌ الكثير من الفقهاء، وإن اختلفوا في كيفية الاستدلال عليه:

ص: 342


1- المائدة 6.

فمنهم من قال بوجوب غسل المرفقين بناءً على تفسيره (إلى) على أنّها بمعنى (مع)، وعليه يجب غسل اليد مع المرفق، وهو ما ذهب إليه السيد المرتضى وابن ادريس كما نُقِلَ عنهما.

ومنهم من فسّر (إلى) على أنّها تفيد معنى الغاية.

وقبل بيان كيفية استدلال هذا البعض الثاني على وجوب غسل المرفقين بناءً على ذلك، لا بُدّ من بيان مقدمةٍ نلخص فيها بحثاً من بحوث الأصول بشكلٍ موجز.

هل الغاية تدخل في المُغيّى أو لا؟

في ذلك قولان:الأول: إدخال الغاية في المُغيّى، أي إنّ ما بعد (إلى) داخلٌ في حكم ما قبلها، فعندما تقول: سافرت من النجف إلى بغداد، فإلى تفيدُ الغاية من السفر، والسفر نفسه هو المُغيّى، وبغداد هي الغاية.

الثاني: عدم إدخال الغاية في المُغيّى، أي إنَّ ما بعد (إلى) غير داخل في حكم ما قبلها؛ لأنها تعدُّ حدًّا ونهاية.

وبالعودة إلى الآية المباركة وكيفية الاستدلال بها على وجوب غسل المرفقين؛ فإنّ (إلى) تُفيد الغاية، والغسل هو المُغيّى، والمرافق هي الغاية، وبناءً على أن الغاية داخلةٌ في المُغيّى، فلا بُدّ من إدخال ما بعد (إلى) في حكم ما قبلها، فيجب غسل المرفقين.

ص: 343

وأما على الرأي الثاني فلا يجب غسل المرفقين، وهو ما استدل به أبناء العامة كما سيأتي في القول الثالث.

القول الثاني: عدم وجوب غسل المرفقين أصالةً، وإنما يجب من باب المقدمة العلمية:

فلأجل أن يحرز المكلف امتثاله للتكليف المتوجه إليه بوجوب غسل الذراعين، يجب عليه غسل المرفقين من باب المقدمة العلمية.

القول الثالث: عدم وجوب غسل المرفقين لا أصالةً ولا من باب المقدمة العلمية:وهو ما قال به العامة، مستدلين بأن (إلى) تدل على الغاية، وهي غير داخلة في المُغيّى.

الأمر الثاني: في كيفية غسل اليدين في الوضوء:

قال قُدس سره: والابتداء من المرفق، ولو غسل منكوسًا لم يُجزِ، ويجب البدء باليمنى.

بعد أن تمَّ تحديد مقدار الواجب غسله من اليدين، لا بُدّ من معرفة الكيفية الواجبة في غسلهما؛ إذ يمكن أن يُغسلا ابتداءً من المرافق إلى الأصابع، كما يمكن أن يُغسلا على العكس من ذلك بالابتداء من الأصابع إلى المرافق، بل ويمكن غسلهما من الوسط، وهكذا تتعدد الكيفيات في غسلهما.

ص: 344

وليتبين مراد المحقق قُدس سره نذكر خطوتين:

الخطوة الأولى: وجوب البدء من المرفقين، ولا يصح النكس:

فيجب أن يبدأ المكلف بغسل يده من المرفق إلى أطراف الأصابع، وهذه الكيفية واجبةٌ شرعًا، فإنْ عكس الأمر وغسل منكوسًا من أطراف الأصابع صعودًا إلى المرفق فلا يُجزيه، ووضوؤه باطل ما لم يُصححه.

تدلّ على ذلك أدلة عديدة، نذكر منها:

أولًا: التسالم:والتسالم هو الاتفاق بين جميع علماء المذهب على مسألةٍ، بحيث تُصبِحُ معه تلك المسألة أشبه بالضرورية أو قريبة الأفق منها.

ونقصد من الضرورة هنا الضرورة المذهبية التي لا يختلف فيها اثنان من أبناء المذهب، وبذا فهي لا تحتاج إلى دليل، وتستغني عنه، كأنّها بديهية، كضرورة وجوب الخمس مثلًا.

وقد تسالم علماء المذهب على أنّ الغسل يبدأ من المرفق إلى أطراف الأصابع.

ومن الجدير بالذكر أنَّ قوة التسالم في الدلالة على المطلوب أعلى من قوة الإجماع.

ثانيًا: الروايات العديدة:

منها ما روي عَنْ زُرَارَةَ وبُكَيْرٍ أَنَّهُمَا سَأَلَا أَبَا جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَنْ وُضُوءِ رَسُولِ الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ، فَدَعَا بِطَسْتٍ أَوْ تَوْرٍ فِيه مَاءٌ فَغَمَسَ يَدَه اليُمْنَى فَغَرَفَ بِهَا

ص: 345

غُرْفَةً فَصَبَّهَا عَلَى وَجْهِه، فَغَسَلَ بِهَا وَجْهَه، ثُمَّ غَمَسَ كَفَّه اليُسْرَى، فَغَرَفَ بِهَا غُرْفَةً فَأَفْرَغَ عَلَى ذِرَاعِه اليُمْنَى فَغَسَلَ بِهَا ذِرَاعَه مِنَ المِرْفَقِ إِلَى الكَفِّ، لَا يَرُدُّهَا إِلَى المِرْفَقِ، ثُمَّ غَمَسَ كَفَّه اليُمْنَى، فَأَفْرَغَ بِهَا عَلَى ذِرَاعِه اليُسْرَى مِنَ المِرْفَقِ، وصَنَعَ بِهَا مِثْلَ مَا صَنَعَ بِاليُمْنَى، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَه وقَدَمَيْه بِبَلَلِ كَفِّه لَمْ يُحْدِثْ لَهُمَا مَاءً جَدِيداً.

ثُمَّ قَالَ: ولَا يُدْخِلُ أَصَابِعَه تَحْتَ الشِّرَاكِ.قَالَ: ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللهَ عَزَّوَجَل يَقُولُ: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَىٰ الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ»، فَلَيْسَ لَه أَنْ يَدَعَ شَيْئاً مِنْ وَجْهِه إِلَّا غَسَلَه، وأَمَرَ بِغَسْلِ اليَدَيْنِ إِلَى المِرْفَقَيْنِ فَلَيْسَ لَه أَنْ يَدَعَ شَيْئاً مِنْ يَدَيْه إِلَى المِرْفَقَيْنِ إِلَّا غَسَلَه؛ لأَنَّ اللهَ يَقُولُ: «فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَىٰ المَرافِقِ»، ثُمَّ قَالَ: «وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَىٰ الكَعْبَيْنِ»، فَإِذَا مَسَحَ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْسِه أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ قَدَمَيْه مَا بَيْنَ الكَعْبَيْنِ إِلَى أَطْرَافِ الأَصَابِعِ فَقَدْ أَجْزَأَه.

قَالَ: فَقُلْنَا: أَيْنَ الكَعْبَانِ؟ قَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: هَاهُنَا - يَعْنِي المَفْصِلَ دُونَ عَظْمِ السَّاقِ-، فَقُلْنَا: هَذَا مَا هُوَ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: هَذَا مِنْ عَظْمِ السَّاقِ، والكَعْبُ أَسْفَلُ مِنْ ذَلِكَ.

فَقُلْنَا: أَصْلَحَكَ اللهُ، فَالغُرْفَةُ الوَاحِدَةُ تُجْزِئُ لِلْوَجْه، وغُرْفَةٌ لِلذِّرَاعِ؟ قَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: نَعَمْ، إِذَا بَالَغْتَ فِيهَا، والثِّنْتَانِ تَأْتِيَانِ عَلَى ذَلِكَ كُلِّه (1)

ص: 346


1- الكافي للكليني ج3 ص 25 - 26 بَابُ صِفَةِ الْوُضُوءِ ح5.

فالرواية واضحة في أنّ غسل اليدين لا بد أن يكون من المرفق، نزولًا إلى أطراف الأصابع.

إن قلتَ: تقدم أن فعل المعصوم لا يُستفاد منه الوجوب، بل هو يدل على أصل المشروعية، أو قل: على الإباحة بالمعنى الأعم؟قلتُ: هذا صحيح، ولكن هذا هو الحكم الأولي لفعل المعصوم، وإلا فإنه يمكن أن يدل على الوجوب إذا اقترنت به قرائن أو ضُمّت له ضمائم، يُستفاد منها الوجوب.

وفي المقام، فإن هناك العديد من القرائن والضمائم، بضمها إلى الروايات البيانية، يُستفاد منها الوجوب، من قبيل:

1 - نلاحظ أن زرارة وبكيراً كرّرا في الرواية أن الغسل كان من المرفق نزولًا، (فإن اهتمامهما بحكاية عدم رد الباقر عَلَيْهِ السَّلاَمُ يده إلى المرفق، أقوى دليل على أن ذلك من الخصوصيات المعتبرة في الوضوء، قد أراد عَلَيْهِ السَّلاَمُ أن يعرِّفها ويبيِّنها في تلك الروايات) (1)

2 - الروايات الأخرى التي تصرح بضرورة ذلك (2)، من قبيل: ما روي عَنِ الهَيْثَمِ بْنِ عُرْوَةَ التَّمِيمِيِّ قَالَ: سَالتُ أَبَا عَبْدِ الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَنْ قَوْلِ الله عَزَّوَجَل:«فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَىٰ المَرافِقِ» فَقُلْتُ: هَكَذَا- ومَسَحْتُ مِنْ ظَهْرِ كَفِّي إِلَى المِرْفَقِ -، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: لَيْسَ هَكَذَا تَنْزِيلُهَا، إِنَّمَا

ص: 347


1- شرح العروة الوثقى – الطهارة- موسوعة السيد الخوئي قُدس سره للغروي ج5 ص 80.
2- ومثل هذه الروايات تصلح دليلاً مستقلاً على الوجوب، كما تصلح للقرينية على إرادة الوجوب من الروايات البيانية.

هِيَ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وأَيْدِيَكُمْ مِنَ المَرَافِقِ، ثُمَّ أَمَرَّ يَدَه مِنْ مِرْفَقِه إِلَى أَصَابِعِه (1)

وقوله عَلَيْهِ السَّلاَمُ (هكذا تنزيلها) أي: مفادها ومعناها.ومن قبيل: ما روي أن علي بن يقطين كتب إلى «الإمام» موسى بن جعفر عَلَيْهِ السَّلاَمُ: اختلف في (المسح على الرجلين)، فإن رأيت أن تكتب ما يكون عملي عليه فعلت.

فكتب أبو الحسن عَلَيْهِ السَّلاَمُ: الذي آمرك به أن تتمضمض ثلاثًا، وتستنشق ثلاثًا، وتغسل وجهك ثلاثًا، وتخلل شعر لحيتك، وتغسل يديك ثلاثًا، وتمسح رأسك كله، وتمسح ظاهر أُذنيك وباطنهما، وتغسل رجليك ثلاثًا، ولا تخالف ذلك إلى غيره.

فامتثل أمره، وعمل عليه.

فقال الرشيد «يومًا«: أحب أن أستبرئ أمر علي بن يقطين، فإنّهم يقولون: إنه رافضي، والرافضة يخففون في الوضوء »فطلبه» فناطه بشيء من الشغل في الدار حتى دخل وقت الصلاة، فوقف الرشيد من وراء حائط الحجرة بحيث يرى علي بن يقطين، ولا يراه هو، وقد بعث إليه بالماء للوضوء، فتوضأ كما أمره موسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ، (فقام الرشيد وقال): كذب من زعم أنك رافضي.

فورد على علي بن يقطين «بعد ذلك» كتاب موسى بن جعفر عَلَيْهِ السَّلاَمُ: من الآن توضأ كما أمر الله: اغسل وجهك مرة فريضة، وأخرى إسباغًا، واغسل

ص: 348


1- الكافي للكليني ج3 ص 28 بَابُ حَدِّ الْوَجْه الَّذِي يُغْسَلُ والذِّرَاعَيْنِ وكَيْفَ يُغْسَلُ ح5.

«يديك« من المرفقين كذلك، وامسح مقدم رأسك، وظاهر قدميك من فضل نداوة وضوئك، فقد زال ما يخاف عليك (1)

فالرواية واضحة في أن الغسل الشرعي يكون من المرفق.وقد خالف في ذلك السيد المرتضى وابن ادريس، كما نسب إليهما، وجوّزا النكس على كراهة؛ لأنهما ذهبا إلى أن (إلى المرافق) تعني (مع المرافق).

الخطوة الثانية: البدء باليد اليمنى:

قال قُدس سره: ويجب البدء باليمنى.

ودليله التسالم أيضاً، إذ قد تسالمَ فقهاء المذهب واتفقوا على أنه لا بد أن تغسل اليد اليمنى ثم اليسرى، بالإضافة إلى الروايات البيانية ومنها رواية زرارة وبكير المتقدمة، مع الأخذ بعين الاعتبار القرائن المتقدمة الدالّة على استفادة الوجوب من بيان المعصوم عَلَيْهِ السَّلاَمُ.

الأمر الثالث: فروع:

الفرع الأول: غسل من قُطعتْ ذراعُه:

قال المحقق قُدس سره: ومن قُطع بعضُ يدِه غَسَلَ ما بقي من المرفق، فإنْ قُطعتْ من المرفق سقَطَ فرضُ غسلها.

قطع الذراع على ثلاثة أنحاء:

ص: 349


1- الإرشاد للشيخ المفيد ج2 ص 27 – 229.

النحو الأول: أن تُقطَع الذراع من تحت المرفق:

كأن يُقطَع رُبعُها أو نصفها أو ثلاثة أرباعها وما شابه من تحت المرفق، وحينئذٍ يجب أن يغسل المُتبقي من الذراع، وهذا ما عليه الإجماع، بالإضافة إلى ما روي عن عبد الله بن رفاعة عن أبي عبدالله عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال: سألته عن الأقطع اليد والرجل كيف يتوضأ؟ قال: يغسل ذلك المكان الذي قطع منه (1)

من الجدير بالذكر أنَّ الإجماع المتقدم إجماعٌ مدركي؛ لورود الحكم الذي أُجمِع عليه في الرواية المتقدمة، نعم، قد يذكر الإجماع لأجل التبرك، أو لأجل زيادة الاطمئنان.

النحو الثاني: أن تُقطَع الذراع من فوق المرفق:

ولا شك في سقوط غسل اليد المقطوعة؛ من باب السالبة بانتفاءِ الموضوع، فإذا قُطعت من أعلى المرفق، انعدم المقدار الواجب غسله من اليد من رأس.

النحو الثالث: أن تقطع من نفس المرفق، أي تقطع كُلُّ الذراع ويبقى المرفق:

على الرغم من أنَّ الفقهاء اتفقوا على لزوم غسل المرفق، لكنهم اختلفوا في الدليل عليه؛ فذهب البعض إلى وجوب غسل المرفق بالأصالة، وذهب البعض الآخر إلى عدم وجوب غسل المرفق بالأصالة، وإنّما من

ص: 350


1- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج1 ص 359 ح (1078) 8.

باب المقدمة العلمية، أي لتحصيل العلم بتحقُّقِ غسل المأمور به، وهو الذراع.

وعلى هذا الأساس تولّد رأيان في المسألة محل البحث:* فمن قال بوجوب غسل المرفق أصالةً، قال بوجوب غسله فيما لو قُطعت الذراع وبقي هو.

* ومن قال بوجوب غسل المرفق من باب المقدمة العلمية، قال بعدم وجوب غسله هنا؛ لعدم وجود ما يجب غسله (أي المرفق) لأجله (أي الذراع)؛ لأن الفرض أن وجوب غسل المرفق إنما هو مقدمة لغسل الذراع، فإذا قُطعت الذراع لم يجب غسله.

وفي عبارته، ذكر المحقق قُدس سره حالتين من حالات قطع الذراع، وهما: قطعها من تحت المرفق، وقطعها من المرفق.

وقد ذهب السيد العاملي في كتابه مدارك الأحكام إلى أنّ المحقق قُدس سره يقصد بعبارته قطع اليد كُلِّها مع المرفق؛ وذلك لوجود قرينتين تدلان على ذلك:

القرينة الأولى: قول المحقق قُدس سره بوجوب غسل المرفق أصالةً:

إذ قال السيد العاملي ما نصه: وقول المصنف رحمة الله: (فإنْ قطعِت من المرفق سقط غسلها) يُريد به قطع المرفق بأسره، بأن يتحقق معه قطع رأس العضد؛ لأنّ مذهبه رحمة الله وجوب غسل المرفق أصالةً (1)

ص: 351


1- مدارك الأحكام، ج1، ص206.

فلو كان قد قصد من عبارته قطع الذراع من دون المرفق لقال: يجب غسل المرفق؛ لأنّه يذهب إلى وجوب غسله بالأصالة، فإذا كان غسل المرفق واجبًا بالأصالة وجب غسله إذا بقي.القرينة الثانية: تصريح المحقق قُدس سره بوجوب غسل المرفق فيما لو قطعت اليد وبقي:

إذ قال السيد العاملي قُدس سره: ولتصريحه في المعتبر «أي كتاب المحقق (المعتبر)« بأنّها لو قُطعت وبقي المرفق وجب غسله (1)

فهاتان قرينتان على أنّ المقصودَ من قوله قُدس سره: فإن قطعت من المرفق، يعني قطعت الذراع مع المرفق.

الفرع الثاني: فيمن كان له ذراعان أو زيادة لحم:

قال قُدس سره: ولو كان له ذراعان دون المرفق أو أصابع زائدة، أو لحمٌ نابتٌ، وجب غسل الجميع، ولو كان فوق المرفق لم يجب غسله، ولو كان له يدٌ زائدة وجب غسلها.

هنا حالتان:

الحالة الأولى: زيادة أصبع أو لحم أو ذراع:

وحينئذٍ يمكن تصور تلك الزيادة على صورتين:

ص: 352


1- مدارك الأحكام، ج1، ص206.

الصورة الأولى: أن يكون الزائد تحت المرفق:

وهذه يجب غسلها أيًا كانت، أصبعًا أم ذراعًا أم لحمًا؛ لأنه كالجزء من اليد.وهو ما عبّر عنها قُدس سره بقوله: ولو كان له ذراعان دون المرفق أو أصابع زائدة أو لحمٌ نابت وجب غسل الجميع.

الصورة الثانية: أن يكون الزائد فوق المرفق:

وحينئذٍ لا يجب غسله بلا شك.

الحالة الثانية: أنْ تكون له يد كاملة:

ونذكر هنا رأيين:

الرأي الأول: للمحقق قُدس سره:

قال: (ولو كان له يدٌ زائدة وجب غسلها)، وقد أطلق حكمه، مما يدلُّ على وجوب غسلها سواء كانت هذه اليد فوق المرفق أم تحته، متميزة -بأن كان لها مفصلٌ خاص بها- أم غير متميزة.

الرأي الثاني: التفصيل:

بين ما إذا كان لليد الزائدة مرفقٌ خاصٌ بها، وبين ما لم يكن لها ذلك، فعلى الأول يجب غسلها هي ومفصلها ومرفقها، وعلى الثاني فتغسل اليد الأصلية، فقط أي التي تشتمل على مرفق.

ص: 353

الفرض الرابع: مسح الرأس:

قال المحقق قُدس سره: والواجب منه ما يُسمّى به ماسحًا، والمندوب مقدار ثلاثة أصابع عرضًا، ويختص المسح بمقدم الرأس، ويجب أن يكون بنداوة الوضوء، ولا يجوز استئناف ماء جديد له.

في هذا الفرض أمور عديدة:

الأمر الأول: في بيان مقدار المسح الواجب:

ذكر المحقق في هذا المجال واجبين:

الواجب الأول: أنْ يتحقّقَ مُسمّى المسح:

وهذا هو المشهور بينَ الأصحاب، فما يصدق عليه المسح -ولو بإصبعٍ واحد- يكفي، ويدلّ على هذا الحكم رواياتٌ عديدة، منها ما روي عَنْ زُرَارَةَ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: ألَا تُخْبِرُنِي مِنْ أَيْنَ عَلِمْتَ وقُلْتَ: إِنَّ المَسْحَ بِبَعْضِ الرَّأْسِ وبَعْضِ الرِّجْلَيْنِ؟ (1)

فَضَحِكَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ثُمَّ قَالَ: يَا زُرَارَةُ، قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ: ونَزَلَ بِه الكِتَابُ مِنَ الله؛ لأَنَّ اللهَ عَزَّوَجَل يَقُولُ: «فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ» فَعَرَفْنَا أَنَّ الوَجْه كُلَّه يَنْبَغِي أَنْ يُغْسَلَ، ثُمَّ قَالَ: «وَأَيْدِيَكُمْ إِلَىٰ المَرافِقِ»، ثُمَّ فَصَّلَ بَيْنَ الكَلَامِ فَقَالَ: «وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ»، فَعَرَفْنَا حِينَ قَالَ: «بِرُؤُسِكُمْ»أَنَّ المَسْحَ

ص: 354


1- أقول: إن زرارة هنا في معرض الاستفسار والاستفهام من الإمام (صلوات الله وسلامه عليه)، لا في معرض الاعتراض والنقد، والأول جائزٌ بلا شك، على خلاف الثاني؛ لأنَّ الإمام معصومٌ، والمعصوم مُصيبٌ للواقع دائمًا، بل هو الواقع، فكيف يمكن الاعتراض عليه؟!

بِبَعْضِ الرَّأْسِ؛ لِمَكَانِ البَاءِ (1)، ثُمَّ وَصَلَ الرِّجْلَيْنِ بِالرَّأْسِ كَمَا وَصَلَ اليَدَيْنِ بِالوَجْه فَقَالَ: «وَأَرْجُلَكُمْ إِلَىٰ الكَعْبَيْنِ»، فَعَرَفْنَا حِينَ وَصَلَهَا بِالرَّأْسِ أَنَّ المَسْحَ عَلَى بَعْضِهَا، ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ رَسُولُ الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ لِلنَّاسِ فَضَيَّعُوه... (2)

وعن حماد بن عيسى عن بعض أصحابه عن أحدهما عَلَيْهِما السَّلاَمُ في الرجل يتوضأ وعليه العمامة قال: يرفع العمامة بقدر ما يدخل إصبعه فيمسح على مقدم رأسه (3)

وإلى جانب ما ذهب إليه مشهور الفقهاء، هناك رأيان آخران، هما:

الرأي الأول: رأي الشيخ الطوسي قُدس سره في كتابه النهاية:

قال: والمسح بالرأس لا يجوز أقل من ثلاث أصابع مضمومة مع الاختيار، فإن خاف البرد من كشف الرأس، أجزأه مقدار إصبع واحدة (4)

الرأي الثاني: ما نقل عن ابن بابويه:

قال: حدُّ مسح الرأس أن يمسح بثلاثة أصابع مضمومة من مقدم الرأس (5)

ص: 355


1- وهذه إشارة من الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ لطريقة استنباط هذا الحكم الشرعي من الآية الكريمة.
2- الكافي للكليني ج3 ص 30 بَابُ مَسْحِ الرَّأْسِ والْقَدَمَيْنِ (ح4).
3- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج1 ص 90 ح (238 / 87).
4- النهاية في مجرد الفقه والفتاوى للشيخ الطوسي ص 14.
5- يُنظر: مدارك الأحكام للسيد محمد العاملي ج1 ص 207.

فأما رأي الشيخ الطوسي فيُمكن أن يُستدل له برواية زرارة، قال: قال أبو جعفر عَلَيْهِ السَّلاَمُ: المرأة يجزيها من مسح الرأس أن تمسح مقدمه قدر ثلاث أصابع، ولا تلقي عنها خمارها (1)

ببيان:

أنّ الإمام قال: المرأة يُجزيها، والإجزاء هو العمل بأقل الواجب، ومنه عُلِم أنَّ أقل الواجب هو المسح بمقدار ثلاثة أصابع.

ونضمُّ إلى ذلك عدم الفصل وعدم الفرق بين وضوء المرأة ووضوء الرجل، فينتج: أن أقل المجزي هو المسح بثلاثة أصابع.

كما روي عَنْ مَعْمَرِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: يُجْزِئُ مِنَ المَسْحِ عَلَى الرَّأْسِ مَوْضِعُ ثَلَاثِ أَصَابِعَ، وكَذَلِكَ الرِّجْلُ (2)

الجمع بين الأخبار:

إلى هنا نكون أمام طائفتين من الروايات: الأولى: تذهب إلى كفاية مسمى المسح، وقد اخترنا منها رواية زرارة ورواية حماد، والثانية: تذهب إلى المسح بمقدار ثلاثة أصابع، وقد اخترنا منها رواية زرارة ورواية معمر بن عمر، فكيف يتم الجمع بينهما؟

هناك موقفان للفقهاء في الجمع:

الموقف الأول: تقييد الأخبار الدالة على كفاية مسح المسمى بالروايات الدالة على لزوم المسح بثلاثة أصابع، فتكون النتيجة: يجب المسح بثلاثة أصابع.

ص: 356


1- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج1 ص 77 ح (195 / 44).
2- الكافي للكليني ج3 ص 29 بَابُ مَسْحِ الرَّأْسِ والْقَدَمَيْنِ ح (1).

بمعنى: أن الروايات الدالة على مسمى المسح تدل على الإجزاء، فتأتي الروايات الدالة على لزوم الثلاثة أصابع لتقول: إن أقل المجزي الذي ذكرته الطائفة الأولى هو الثلاثة أصابع.

الموقف الثاني: حمل الطائفة الأولى من الروايات على الوجوب، وحمل الطائفة الثانية على الاستحباب، فتكون النتيجة: أنه يجب مسمى المسح، وأما المسح بثلاثة أصابع فهو مستحبٌ ليس إلا.

وظاهر عبارة المحقق قُدس سره أنّه يختار الثاني، إذ قال: الفرض الرابع: مسح الرأس، والواجب منه ما يُسمّى به ماسحًا، والمندوبُ مقدارُ ثلاثة أصابع عرضًا.

الواجب الثاني: أن يكون المسح على مقدم الرأس:

قال قُدس سره: ويختص المسح بمقدم الرأس.

ويدل عليه:

أولًا: الأخبار البيانية التي تقدم بعضها، مثل رواية زرارة وبكير.

ثانيًا: الأخبار المستفيضة، منها ما روي عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال: مسح الرأس على مقدمه (1)وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ أنه ذُكِرَ المَسْحُ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ امْسَحْ عَلَى مُقَدَّمِ رَأْسِكَ... (2)

ص: 357


1- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج1 ص 62 ح (171 / 20).
2- الكافي للكليني ج3 ص 29 بَابُ مَسْحِ الرَّأْسِ والْقَدَمَيْنِ ح (2)، وتمام الرواية: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ الأُذُنَانِ لَيْسَا مِنَ الْوَجْه ولَا مِنَ الرَّأْسِ. قَالَ: وذُكِرَ الْمَسْحُ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: امْسَحْ عَلَى مُقَدَّمِ رَأْسِكَ وامْسَحْ عَلَى الْقَدَمَيْنِ وابْدَأْ بِالشِّقِّ الأَيْمَنِ.

الأمر الثاني: الماء المسموح به في المسح:

قال قُدس سره: ويجب أن يكون بنداوة الوضوء، ولا يجوز استئناف ماءٍ جديدٍ له، ولو جفّ ما على يديه أخذ من لحيته أو أشفار عينيه، فإن لم يبقَ نداوةٌ استأنف.

وفيه فرعان:

الفرع الأول: الواجب هو المسح بنداوة الوضوء، ولا يجوز استئناف ماء جديد:

أي يجب أن يكون المسح بالماء المتبقّي من غسل اليد اليسرى، ولا يجوز المسح بماءٍ جديد، كأنْ يضع المكلف يده تحت الماء مثلًا، ويأخذ ماءً جديدًا.وهذا ما استقر عليه مذهبنا، ودلت عليه روايات عديدة، منها الروايات البيانية التي تقدم بعضها، كرواية زرارة وبكير قال: ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَه وقَدَمَيْه بِبَلَلِ كَفِّه لَمْ يُحْدِثْ لَهُمَا مَاءً جَدِيداً (1)

وهكذا يدل عليه ما روي عن زرارة عن أبي جعفر عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال: «إِنَّ اللهَ وَتْرٌ يُحِبُّ الوَتْرَ، فَقَدْ يُجْزِئُكَ مِنَ الوُضُوءِ ثَلَاثُ غُرَفَاتٍ: وَاحِدَةٌ لِلْوَجْه،

ص: 358


1- الكافي للكليني ج3 ص 26 بَابُ صِفَةِ الْوُضُوءِ ح (5).

واثْنَتَانِ لِلذِّرَاعَيْنِ، وتَمْسَحُ بِبِلَّةِ يُمْنَاكَ نَاصِيَتَكَ، ومَا بَقِيَ مِنْ بِلَّةِ يَمِينِكَ ظَهْرَ قَدَمِكَ اليُمْنَى، وتَمْسَحُ بِبِلَّةِ يَسَارِكَ ظَهْرَ قَدَمِكَ اليُسْرَى»... (1)

لا يُقال: إن الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ في الرواية عنه لم يذكر إلا خبرًا، والخبر لا يدل على الطلب، بل الإنشاء يدل على ذلك، فكيف يمكن الاستدلال بها على وجوب الوضوء بما ورد فيها؟

لأنه يُقال: إنّ الخبر يمكن أن يدلّ على الوجوب، بل هو أدلُّ على الوجوب ببيانٍ تقدّمَ في الدروس الأولى فراجعْ.

الفرع الثاني: حالة جفاف النداوة:

قال المحقق قُدس سره: ولو جف ما على يديه، أخذ من لحيته أو أشفار عينيه، فإن لم يبق نداوة، استأنف.لو توضأ المكلف وجفّتِ النداوة على يده قبل أنْ يمسح رأسه، فما الحل في هذه الحال؟

اختلف الفقهاء في هذه المسألة على ثلاثة آراء:

الرأي الأول: أنْ يرطب المكلف يده بنداوة لحيته فقط، فإن جفّ ما على لحيته، بطل وضوؤه واستأنف من جديد.

الرأي الثاني: أنْ يرطب المكلف يده بنداوة مطلق أعضاء الوضوء ومحالّه؛ فيمكنه أن يأخذ الرطوبة من نداوة لحيته أو وجهه أو يده أو حاجبه بلا فرق، وإلا فيبطل الوضوء.

ص: 359


1- الكافي للكليني ج3 ص 25 بَابُ صِفَةِ الْوُضُوءِ ح (4).

الرأي الثالث: رأي المحقق قُدس سره، التفصيل بين حالتين:

الحالة الأولى: أن يجد نداوةً على لحيته وأشفار عينيه:

حينئذٍ يمكنه أنْ يأخذ من تلك النداوة ما يرطب به يده، ثم يمسح رأسه.

الحالة الثانية: أنْ لا يجد نداوةً على لحيته أو أشفار عينيه:

فحينئذٍ يبطل وضوؤه، وعليه أنْ يستأنفَ وضوءً جديدًا؛ لأن الواجب أن يمسح على رأسه ببلة يده، وقد استحال إتيانه بهذا الواجب لجفاف يده ولحيته، والوضوء موضوعٌ مركب من عدة أجزاء، منها مسح الرأس ببلة اليد، وقد انتفى هذا الجزء، فينتفي حينئذٍ المركب كله من رأس، فيلزمه أن يستأنف الوضوء من جديد.الفرع الثالث: كيفية المسح:

قال المحقق قُدس سره: والأفضل مسح الرأس مقبلاً، ويُكره مدبراً على الأشبه.

فيجزي مسح المكلف رأسه مقبلًا، أي ابتداءً من الأعلى إلى الأسفل، أي من قمة الرأس إلى قصاص الشعر، كما يجوز مسحه مُدبرًا، ابتداءً من الأسفل إلى الأعلى، أي من قصاص الشعر إلى قمة الرأس.

وتدل عليه أدلة عديدة، منها:

ص: 360

الدليل الأول: إطلاق الآية:

إن قوله تعالى: «وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ» جاء مطلقًا، ولم يقيّد المسح بكيفية خاصة، فيشمل ما لو كان المسح مُقبلًا أو مدبرًا بل وحتى عرضًا، من اليمين إلى اليسار أو من اليسار إلى اليمين، فإطلاق الآية دليلٌ على جواز المسح بحالتي الإقبال والإدبار.

الدليل الثاني: تصريح بعض الروايات بجواز المسح مقبلًا ومدبرًا.

منها ما روي عن حماد بن عثمان عن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ أنّه قال: لا بأس بمسح الوضوء مقبلًا ومدبرًا (1)ولا تنحصر دلالة هذه الرواية على جواز مسح الرأس مقبلًا ومدبرًا فقط، بل وتنفع أيضًا في الاستدلال على جواز مسح الرجلين منكوسًا كما سيأتي؛ إذ الرواية قالت: (مسح الوضوء) ومسح الوضوء يشمل مسح الرأس ومسح الرجلين كما هو واضح.

وعلى الرغم من جواز مسح الرأس مقبلًا ومدبرًا، إلا أنَّ المحقق قُدس سره حمل الحالة الأولى على الأفضلية، والثانية على الكراهة، فقال: والأفضل مسح الرأس مقبلاً، ويُكره مدبراً على الأشبه.

ولعل المحقق قُدس سره ذهب إلى ذلك؛ لأن الاحتياط يقتضي المسح مقبلًا - من قمة الرأس إلى الأسفل-، وربما يعود الاحتياط هذا إلى أن كيفية غسل الوجه وغسل اليدين هي من الأعلى إلى الأسفل، فلعله كذلك في المسح.

ص: 361


1- الاستبصار للشيخ الطوسي (ج1 ص57 رقم الحديث: 169 – 2).

الفرع الرابع: الواجب هو مسح الرأس لا غسله:

قال المحقق قُدس سره: ولو غسل موضع المسح لم يُجْزِ.

ذكرت آية الوضوء المباركة أجزاء الوضوء، وذكرت الواجب في كل جزءٍ منها؛ فأوجبت الغسل في كلٍ من الوجه واليدين، والمسح في كل من الرأس والرجلين.

فالواجب في الرأس هو المسح، فإنْ غسل المكلف رأسه عوضًا عن المسح -كمن يتخيل أنَّ الغسل أفضل من المسح؛ لأنه يتضمن المسح وزيادة، كما أنّه الأكثر تحقيقًا للنظافة العرفية- فلا يُجزيه؛ لأنَّالغسل حقيقةٌ أخرى غير المسح، فما أتى به لم يكن مطلوباً منها، وما طُلب منه لم يأتِ به.

ملحوظة: الفرق بين الغسل والمسح:

قال بعض: بأن الأول يتحقق بجريان الماء، أما الثاني فيتحقق بإمرار اليد.

والظاهر أنَّ الملاك في تحديد الغسل والمسح هو العرف، والنسبة بين الغسل والمسح ليست هي التباين، وإنما هي العموم والخصوص من وجه؛ فقد يتحقق الغسل ولا يتحقق المسح، وقد يتحقق المسح ولا يتحقق الغسل، وقد يجتمعان معًا.

ولذلك قال الفقهاء بأنَّ المسح يصدق ولو أدى المسح إلى جريان الماء، منهم السيد السيستاني قال: لا تضرُّ كثرةُ بللِ الماسحِ وإنْ حصلَ معه الغسل (1)

ص: 362


1- منهاج الصالحين (ج1 مسألة 89).

فالمسح يتحقق بإمرار اليد وإن جرى الماء.

والغسل يتحقق بجريان الماء ولو كان بإمرار اليد.

الفرع الخامس: الممسوح في الرأس:

قال المحقق قُدس سره: وويجوز المسح على الشعر المختص بالمقدم وعلى البشرة، ولو جمع عليه شعراً من غيره ومسح عليه لم يُجْزِ، وكذلك لو مسح على العمامة أو غيرها، مما يستر موضع المسح.ذكر المحقق قُدس سره أنَّ الموضع الواجب مسحه من الرأس هو مقدم الرأس، ويصدق المسح عليه في حالتين:

الحالة الأولى: أن يمسح على الشعر النابت على مقدم الرأس:

وعليه، فلو جاء المكلف بشعره من اليسار إلى اليمين، أو العكس،-وذلك ما يحصل عادةً عند النساء كنوعٍ من التزيُّن، أو عند من يخف شعره أو ينعدم من مقدم الرأس من الرجال، فيأتي بالشعر من الجانب ليضعه على مقدم رأسه- ومسح على مقدم رأسه وهو على تلك الحال، لم يُجزِه ذلك المسح؛ لأنه لم يمسح على الشعر النابت على مقدم رأسه، بل مسح على الشعر الذي وضعه على مقدم الرأس بعد أنْ جاء به من يسار الرأس أو يمينه أو خلفه، فلا يصدق عليه أنه مسحٌ على مقدم الرأس.

الحالة الثانية: أن يمسح على بشرة الرأس:

وذلك فيما لو أزال المكلف شعر رأسه حلقًا، أو كان أصلع لا شعر لديه ولو في مقدم الرأس فقط.

ص: 363

ومنه يتبين أنَّ المسح على الحائل، كالخمار أو العمامة لا يُجزي؛ لعدم تحقق المسح على الرأس بأيٍّ من مصداقيه.وهذه الأحكام ثابتةٌ بالإجماع، وتدل عليها رواياتٌ كثيرة، منها: صحيحة محمد بن مسلم عن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ أنّه قال: مسح الرأس على مقدمه (1)

وكذلك ما روي عن زرارة عن الإمام الباقر عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال:...وتَمْسَحُ بِبِلَّةِ يُمْنَاكَ نَاصِيَتَكَ... (2)

الفرض الخامس: مسح الرجلين:

قال قُدس سره: ويجب مسح القدمين من رؤوس الأصابع إلى الكعبين، وهما قبتا القدمين. ويجوز منكوساً، وليس بين الرجلين ترتيب، وإذا قُطع بعض موضع المسح، مسح على ما بقي، ولو قطع من الكعب، سقط المسح على القدم.

لتوضيح ما أفاده المحقق قُدس سره نذكر عدةَ نقاط:

النقطة الأولى:

اختلف المسلمون في الوضوء في مسائل عديدة، منها في الواجب في الرجلين، فقالت العامة بوجوب غسلهما، وقلنا بوجوب مسحهما، ودليلنا على ذلك كل من الكتاب الكريم، والسنة الشريفة، والإجماع.

ص: 364


1- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج1 ص 91 ح (241 / 90).
2- الكافي للكليني ج3 ص 25 بَابُ صِفَةِ الْوُضُوءِ ح (4).

وقد تقدّم أنَّ الإجماع على حكمٍ دلّ عليه مدركٌ شرعي -من آيةٍ أو رواية- يكون إجماعًا مدركيًا، فلا حجية له؛ لأن الحجية حينئذٍ تكون لذلك المدرك؛ وعليه فذكرُه هنا على سبيل الاستئناس به والتأييد ليس إلا، وعلى كل حال، سنقتصر على الدليل القرآني في هذه المسألة.

الدليل القرآني على لزوم مسح القدمين في الوضوء:

قال تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَىٰ الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَىٰ المَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَىٰ الكَعْبَيْنِ» (1)

تُقرأ كلمة (الأرجل) على قراءتين، أولاهما: بالكسر: (وأرجلِكم)، والأخرى: بالفتح: (وأرجلَكم).

فبناءً على القراءة الأولى: (وأرجلِكم)، فإنَّ الأرجل معطوفةٌ على رؤوس، والعطف يقتضي الاشتراك في الحكم، وعليه: تشترك الأرجل مع الرؤوس في الحكم، وهو المسح.

وأما بناءً على القراءة الثانية - قراءة عاصم-، فإنَّ (أرجلَكم) تُقرأ بالفتح. وهذا ما كان وراء الخلاف بين الفريقين:

فأمّا أبناء العامة، فقد استدلوا بها على الغسل، مُدّعين أنَّ (أرجلَكم) لا يمكن عطفها على (رؤوسِكم)؛ لنصب الأولى وجر الثانية، والعطف ينبغي

ص: 365


1- المائدة 6.

فيه الاشتراك في الحركة الإعرابية، فلا تُعطف (أرجلَكم) على (رؤوسِكم)، بل تُعطف على (أيديكم)؛ لاشتراك الكلمتين في نفس الحركة الإعرابية.

وبذا قالوا بوجوب غسل الرجلين؛ لأنها معطوفة على الأيدي، وحكم الأيدي هو الغسل، والعطف يقتضي الاشتراك في الحكم.

على حين ذهب الإمامية (أعلى الله كلمتهم) إلى وجوب مسح الأرجل وإن كانت بالفتح؛ وذلك لأنَّ العطف على الأيدي غير صحيح بلاغيًا، والقرآن الكريم أبلغ ما قيل في اللغة العربية.

وأما سبب عدم صحة ذلك بلاغيًا؛ لأنَّ العطف على البعيد، والفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بجملة أجنبية مذمومٌ في مقاييس البلاغة العربية، ولا يقبل به أديب، فكيف بالله جَلَ جَلالَه.

وبعبارةٍ أوضح: أنَّ البليغ عندما يريد أن يعطف عدة أشياء على بعض، ليُشركها في حكمٍ واحدٍ، لا يأتي بجملة أجنبية بين المعطوف والمعطوف عليه، وإن كان قاصدًا إعطاء المعطوف عليه حكم المعطوف؛ لأنَّ التركيب اللفظي حينئذٍ يحول دون وصول ما يقصده إلى السامع، فهو من قبيل القول: أكرم زيدًا وعمروًا واضربْ خالدًا وبكرًا، مع قصد القائل: (إكرام بكر) بعطفه على البعيد (عمرو) لاضربه بعطفه على القريب (خالد)! وهو غريبٌ في اللغة والمعاني فضلًا عن البلاغة والبيان.

فلا يعقل أنْ تعطف (وَأَرْجُلَكُمْ) على (وَأَيْدِيَكُمْ) مع الفصل بينهما ب-(إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ إِلَى الكَعْبَيْنِ).

ص: 366

وعليه تكون (وَأَرْجُلَكُمْ) على قراءة النصب معطوفةً على (بِرُؤوسِكُمْ)؛ لاشتراكهما في المحل الإعرابي وهو (المفعول به)؛ فأما (بِرُءُوسِكُمْ) فهي وإن كانت مجرورة بالباء، إلا أنَّها لم تأتِ مجرورة بالباء إلا لإفادة معنى جديد، وهو التبعيض، علاوةً على أنّ (بِرُءُوسِكُمْ) في محلّ نصب مفعول به للفعل (وَامْسَحُوا)، وأما (وَأَرْجُلَكُمْ) فتعرب مفعول به منصوب بالفتحة للفعل (وَامْسَحُوا)؛ لأنها معطوفة على محل (بِرُءُوسِكُمْ)، والعطف يقتضي الاشتراك في الحكم كما تقدّم.

قال السيد الخوئي قُدس سره في شرح العروة الوثقى ما نصه:...أما الآية المباركة فهو قوله عزّ من قائل: «وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ» بالجر أو النصب على اختلاف القراءتين، فإن قرأنا (أرجلكم) بالجر فيكون معطوفة على رؤوسكم، ومعناه: فامسحوا برؤوسكم وامسحوا بأرجلكم.

وإذا قرأنا بالنصب -كما هو قراءة عاصم في رواية حفص، وهو الذي كُتِبَ القرآنُ على قراءته- فيكون معطوفة على محل(رؤوسكم) والمعنى حينئذٍ: وامسحوا برؤوسكم وامسحوا أرجلكم، وعلى كلا التقديرين تدلَّنا الآية المباركة على وجوب مسح الرجلين.

واحتمال أن تكون (وأرجلكم) على قراءة النصب معطوفة على أيديكم ووجوهكم؛ ليكون معنى الآية المباركة: (فاغسلوا وجوهكم وامسحوا برؤوسكم واغسلوا أرجلكم)، فهو مما لا يناسب الأديب، لعدم جواز

ص: 367

الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بالجملة الأجنبية، فضلًا عن كلام الخالق الذي هو في أرقى درجات البلاغة والإعجاز (1)

النقطة الثانية: مقدار الواجب من المسح:

صرّح المحقق قُدس سره بأنَ المسح يكون من رؤوس الأصابع إلى الكعبين، وهذا هو التحديد الطولي.

أما التحديد العرضي فلم يُصرِّحْ به، إلا أنّ ما عليه الإجماع هو كفاية مسمى المسح، ولو بإصبعٍ واحدٍ.

ولبيانِ مراد المحقق قُدس سره نذكرُ عدّة أسئلة:

السؤال الأول: ما الكعبان؟

ذُكِر في بيان الكعبين رأيان:

الرأي الأول: قبتا القدمين:فيكون الكعب هو قبة القدم، أي العظم البارز قليلًا على ظاهر القدم قريبًا من المفصل.

وهو ما صرّح به المحقق قُدس سره إذ قال: ويجب مسح القدمين من رؤوس الأصابع إلى الكعبين، وهما قبتا القدمين.

وهو المعروف من مذهب الأصحاب.

يدلُّ عليه:

ص: 368


1- شرح العروة الوثقى – الطهارة (موسوعة الإمام الخوئي) للغروي رحمة الله ج5 ص 143.

الدليل الأول: أقوال أهل اللغة:

فعندما نراجع المعاجم التي وضعت لبيان المعاني اللغوية المستعملة والموضوعة، يتضح أنّ اللغويين يقولون: إنّ الكعبين هما قبتا القدم.

قال الخليل في كتابه العين قال: كعب الإنسان ما أشرفَ فوقَ رُسُغه عند قدمه (1)

ويُلاحظ على هذا الدليل: أنّ قول اللغوي ليس حُجةً شرعيةً في حدِّ نفسه، إلا إذا أورث الاطمئنان؛ لأنّ اللغوي هو خبير في مجال عمله، وهو صاحب اطّلاع واسع وخبرة في مجال معرفة الاستعمالات والأوضاع اللغوية.

والسيرة قائمة على الرجوع إلى الخبير النزيه في مجال تخصّصه، فإذا أخبَرَنا اللغوي بمعنىً معين وأورثنا الاطمئنان، حينئذٍ يمكن أنْ يُعتمد عليه.الدليل الثاني: الإجماع:

وهو إجماعٌ مدركي؛ لوجود الروايات، وقد تقدّم أنّ الحجية حينئذٍ يكون للروايات، وأما هو فإنما يُذكر على سبيل الاستئناس والتأييد.

الدليل الثالث: الروايات:

هناك رواياتٌ يظهر منها أنّ الكعب هو قبة القدم، منها ما روي عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ عَنْ أَبِي الحَسَنِ الرِّضَا عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: سَالتُه عَنِ المَسْحِ

ص: 369


1- العين للخليل الفراهيدي ج1 ص 207.

عَلَى القَدَمَيْنِ كَيْفَ هُوَ؟ فَوَضَعَ كَفَّه عَلَى الأَصَابِعِ، فَمَسَحَهَا إِلَى الكَعْبَيْنِ إِلَى ظَاهِرِ القَدَمِ... (1)

وعَنْ مَيْسَرَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: الوُضُوءُ وَاحِدَةٌ وَاحِدَةٌ، ووَصَفَ الكَعْبَ فِي ظَهْرِ القَدَمِ (2)

الرأي الثاني: المفصل بين الساق والقدم:

السؤال الثاني:

ذكر المحقق قُدس سره أنّ غايةَ المسح تكون إلى الكعبين، فهل يجب إدخالهما في المسح؟

الجواب:

هناك رأيان، كما هو الحال في قضية (إلى المرفقين):

الرأي الأول: أن الكعبين غاية المسح، فلا يجب مسح الكعبين؛ لأن الغاية غير داخلة في المغيى، كما تقدّم في المرفقين.

الرأي الثاني: يجب مسح الكعبين.

واختلف القائلون بوجوب مسحه على قولين:

القول الأول: يجب مسح الكعبين أصالةً، أي إنه يجب مسح الكعبين في حدِّ نفسيهما؛ إما لدخول الغاية في المغيى (على الرأي القائل بذلك)، أو لأنّ (إلى) في قوله تعالى: «إلى المِرْفَقَيْنِ» بمعنى (مع).

ص: 370


1- الكافي للكليني ج3 ص 30 بَابُ مَسْحِ الرَّأْسِ والْقَدَمَيْنِ ح6.
2- الكافي للكليني ج3 ص 27 بَابُ صِفَةِ الْوُضُوءِ ح7.

القول الثاني: لا يجب مسح الكعبين أصالةً، وإنما يجب مسحهما من باب المقدمة العلمية.

والاحتياط يقتضي العمل وفقًا للرأي الثاني كما هو واضح.

السؤال الثالث:

هل يجب استيعاب المسح من أطراف الأصابع إلى الكعبين، أو يكفي المُسمى طولًا؟

الجواب:

إن الآية والروايات صرّحتا بوجوب مسح الرجلين إلى الكعبين، والتحديد إلى الكعبين فيه احتمالان:

الاحتمال الأول: أنّه تحديدٌ للممسوح، أي إنَّ الأدلة -من الآية والروايات- تؤكد على أنَّ مسح القدمين لا بد أن يقع في ما حدَّدتْه منالقدمين، من أطراف الأصابع إلى الكعبين، ومن ثَمّ يصح المسح ويكفي في أي موضعٍ من هذه المساحة المحددة، ولا يجب الوصول إلى الكعبين.

ويؤيد هذا الاحتمال ما روي في الخبر البياني المُتقدِّم عن زُرارة وبكير عن الإمام الباقر (صلوات الله عليه) حاكيًا وضوء رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ: فَإِذَا مَسَحَ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْسِه أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ قَدَمَيْه مَا بَيْنَ الكَعْبَيْنِ إِلَى أَطْرَافِ الأَصَابِعِ فَقَدْ أَجْزَأَه (1)

ص: 371


1- الكافي للكليني ج3 ص 26.

وبناءً على هذه الرواية قالوا: ما بين الكعبين إلى أطراف الأصابع هو تحديدٌ للممسوح، وللمكلف الحق في مسح أي موضعٍ منه، وعليه، يكفي أن يمسح المُسمّى.

الاحتمال الثاني: أنّه تحديدٌ للمسح وليس للممسوح، أي إنّ ما تم تحديده هو المساحة التي يجب مسحها كلها، وحينئذٍ يلزم استيعاب القدم بالمسح.

ولا شك أنّ الاحتياط يقتضي استيعاب المسح.

النقطة الثالثة: كيفية المسح:

ذكر المحقق قُدس سره فرعين:

الفرع الأول: جواز المسح منكوسًا:هل يجب عند مسح الرجلين أنْ يكون ابتداءً من أطراف الأصابع إلى الكعبين، أو يجوز العكس؟

فيه قولان:

القول الأول: جواز مسح القدمين منكوسًا، وهو ما صرح به المحقق قُدس سره، حيث قال: (ويجوز منكوسًا).

يدلُّ عليه نصوص عديدة، منها ما روي عن حماد بن عثمان عن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال: لا بأس بمسح الوضوء مقبلًا ومدبرًا (1)

ص: 372


1- تهذيب الأحكام، للشيخ الطوسي، ج1 ص 58 ح (10/ 161).

وإطلاق (مسح الوضوء) يشمل مسح الرأس والقدمين.

على أنه ورد الجواز صريحًا في رواية حماد بن عثمان الأخرى «ولعلها نفس الأولى« عن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال: لا بأس بمسح القدمين مقبلاً ومدبراً (1)

القول الثاني: عدم جواز مسح القدمين منكوسًا (2)؛ فيجب البدء بالمسح من أطراف الأصابع والانتهاء بالكعبين، وهو الأحوط.

الفرع الثاني: الترتيب في المسح بين القدمين:

وفيه ثلاثة آراء:الرأي الأول: لا ترتيب بينهما:

أي يجوز للمكلف أنْ يمسح اليمنى قبل اليسرى، أو العكس فضلاً عن مسحهما معاً في آن واحد.

وربما يُستدلُّ له بإطلاق الآية المباركة؛ إذ قالت: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكَعْبَيْنِ)، إذ إنها لم توجب الترتيب بينهما، فيجوز للمكلف مسح اليمنى قبل اليسرى، ويجوز العكس، ويجوز مسحهما معًا.

وهو ما عليه المحقق قُدس سره؛ إذ قال: وليس بين الرجلين ترتيب.

ص: 373


1- تهذيب الأحكام، للشيخ الطوسي، ج1 ص 83 ح (217 / 66).
2- قال السيد العاملي في مدارك الأحكام ج1 ص 222: ونقل عن ظاهر ابن بابويه والمرتضى وجوب الابتداء من رؤوس الأصابع، وبه قطع ابن إدريس جعلا (إلى) في الآية الشريفة لانتهاء المسح لا الممسوح، وهو ضعيف.

الرأي الثاني: وجوب تقديم اليمنى:

ويستدلُّ على ذلك بالأخبار البيانية؛ فلما حكى الإمام الباقر عَلَيْهِ السَّلاَمُ وضوء النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ مسح القدم اليمنى قبل اليسرى.

وبرواية مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: الأُذُنَانِ لَيْسَا مِنَ الوَجْه، ولَا مِنَ الرَّأْسِ، قَالَ: وذُكِرَ المَسْحُ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: امْسَحْ عَلَى مُقَدَّمِ رَأْسِكَ، وامْسَحْ عَلَى القَدَمَيْنِ، وابْدَأْ بِالشِّقِّ الأَيْمَنِ (1)

فقد صرّح عَلَيْهِ السَّلاَمُ بوجوب الترتيب قائلًا: وابدأ بالشقِّ الأيمن. وابدأ فعل أمر، والأمر ظاهره الوجوب.

وهو الأحوط.

الرأي الثالث: عدم جواز تقديم اليسرى:

فيجوز للمكلف أن يمسحهما معًا، كما يجوز أن يقدم اليمنى على اليسرى، والثاني أحوط.

النقطة الرابعة: كيفية مسْح من قُطعت قدماه:

قال قُدس سره: وإذا قُطع بعضُ موضع المسح، مسح على ما بقي، ولو قطع من الكعب، سقط المسح على القدم.

لو قُطعت إحدى قدمي المكلف أو كلتاهما، فما الواجب عليه؟

الجواب: يُتصوّر في قطع القدم صورٌ:

ص: 374


1- الكافي للكليني ج3 ص 29 بَابُ مَسْحِ الرَّأْسِ والْقَدَمَيْنِ (ح2).

الصورة الأولى: أن يُقطع بعض القدم:

كأن تُقطعُ نصفُها مثلًا، أو ربعها، وحينئذٍ يجب أن يمسح على الباقي.

الصورة الثانية: أن تقطع القدم والكعب كلاهما:

وحينئذٍ يسقط وجوب المسح؛ لانعدام موضوعه بانقطاع القدم كلها بما فيها الكعب.

وهو ما يُسمّى في المنطق: سالبةٌ بانتفاء الموضوع.

الصورة الثالثة: أنْ تُقطعَ القدم دون الكعب:

أي لم يبقَ من القدم إلا الكعب، وأما ما بعده فمقطوع، فحينئذٍ:

هل يجب مسح الكعب أو لا؟وإذا كان واجبًا؛ هل يجب أصالةً أو من باب المقدمة؟

في المسألة ثلاث حالات:

الحالة الأولى: أنْ يقال بوجوب مسح الكعب أصالةً؛ لأنَّ الغاية داخلةٌ في المُغيى، أو على أنَّ (إلى) بمعنى (مع)، وحينئذٍ يجب مسحه.

الحالة الثانية: أنْ يقال بوجوب مسح الكعب، ولكن لا بالأصالة، وإنّما من باب المقدمة العلمية؛ أي ليُحرز المكلَّف ويتيقن بفراغ ذمته من مسح القدم، لكنَّ القدم منعدمة حسب الفرض، فينعدم وجوب مسح الكعبين تبعًا لانعدام القدم.

ص: 375

الحالة الثالثة: أن يقال بعدم وجوب مسح الكعب، لا أصالةً، ولا من باب المقدمة العلمية، فالحكم حينئذٍ هو عدم وجوب المسح.

وهذا ما أشار إليه المحقق قُدس سره بقوله: وإذا قطع بعض موضع المسح مسح على ما بقي. ولو قُطِعَ من الكعب سقطَ المسح على القدم.

النقطة الخامسة: وجوب مسح البشرة:

قال قُدس سره: ويجب: المسح على بشرة القدم، ولا يجوز على حائل، من خُفٍّ أو غيره، إلا للتقية أو الضرورة...

في هذه النقطة فرعان:

الفرع الأول: أن الحكم الأولي هو: وجوب المسح على البشرة:في مذهب أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ، -كحكمٍ أولي-، لا يُجزي في مسح القدمين المسحُ على الحائل، كما لو كان الشخص لابسًا جورباً، أو حذاءً، أو وضع خرقة على قدمه؛ بل يجب أن يكون المسح على البشرة مباشرةً.

يدلُّ عليه: الإجماع، والأخبار الكثيرة التي قد تبلغ حد التواتر.

الفرع الثاني: الحكم الثانوي: جواز المسح على غير البشرة:

وذلك في حالتين:

الحالة الأولى: عند التقية:

كان الشيعي، - وما زال -، متهمًا بشتى التهم، من الكفر والشرك والابتداع، من قِبل بعض الفرق التي تدّعي الإسلام، كالوهابية، الذين

ص: 376

حكموا - لأجل ذلك - بهدر دمه وإباحة ماله وعرضه، بل وسمحوا لأنفسهم -حيثما كانوا- أن يعاملوه وفقًا لتلك الأحكام.

ومن المعلوم أن المخالفين يجوّزون المسح على الحائل - كالجورب والحذاء وما شابه ذلك-، على خلاف مذهب أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ الذي لا يجيز ذلك، ومن ثم يكون عدم المسح على الحائل أمارةً واضحةً على التشيع، ويكفيهم ذلك في إدانة الشيعي، مما يعرضه لشتى أنواع المخاطر التي قد تصل إلى القتل.لأجل ذلك وأمثاله، شُرِّعتِ التقية؛ لتقي دم المؤمن وعرضه وماله من الخطر المحدق به لأجل معتقده؛ وذلك بأن يُظهِرَ موافقته لمعتقد المخالفين ومخالفته لمعتقده الحقيقي.

وعليه، فلو كان المكلف في مكانٍ يخشى الأذى من التكفيريين، جاز أن يُظهِر الالتزام بأحكامهم الشرعية؛ لإيهامهم بأنه على معتقدهم، ومن تلك الأحكام المسح على الحائل، فيحل هذا الحكم لأجل التقية كحكمٍ ثانوي محل الحكم الأولي، وهو عدم الجواز.

الحالة الثانية: عند الضرورة:

أضاف المحقق قُدس سره فردًا آخر لجواز المسح على الحائل، وهي الضرورة.

وتتمثل الضرورة بالبرد مثلًا، فلو كان الجو باردًا بردًا لا يُطاق، بحيث يكون معه نزع الجورب والمسح على بشرة القدمين متعسرًا وفيه حرج، فحينئذٍ يجوز المسح على الحائل.

ص: 377

سؤالان:

السؤال الأول:

لو وجب على المكلف الامتثال لحكم المسح على القدمين الثانوي؛ تقيةً، ولكنه خالفه وأدى الوضوء وفقًا للحكم الأولي.

فما الأثر الوضعي لوضوئه حينئذٍ، أي: هل إنَّ وضوءه صحيحٌ أو لا؟وما الأثر التكليفي، هل إنّه يؤثم؛ لارتكابه محرّمًا، أو لا؟

الجواب:

لا شك أنّ المكلف -بتركه الامتثال لما وجب عليه، وهو المسح على الحائل- ارتكب فعلًا محرّمًا؛ لأنّ الشرع الأقدس أمره في تلك الحالة بأن يترك الوضوء الواقعي بالمسح على القدمين، وأن يمسح على الحائل؛ لوجوب التقية عليه، وقد ورد عن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ:...إن التقية ديني ودين آبائي، ولا دين لمن لا تقية له... (1)

وهذا هو الحكم التكليفي المترتب على فعله.

وبذا يتضح أنَّ مخالفة التقية يترتب عليها حكم تكليفي، وهو الحرمة.

أما بالنسبة لحكم مخالفة التقية الوضعي، فهناك رأيان:

الرأي الأول: إن التقية هي حكمٌ تكليفيٌ فقط:

فإذا خالفها المكلف، ترتب عليه حكم تكليفي فقط، وهي الحرمة، ومن ثم فلا أثر لتلك المخالفة على الوضوء، فوضوؤه صحيحٌ، وإنْ كان آثمًا.

ص: 378


1- المحاسن، للبرقي، ج1، ص255، ح286.

ويذهب إلى هذا الرأي الكثير من الفقهاء، منهم السيد السيستاني (حفظه الله) في مسألة (101) من الجزء الأول من منهاج الصالحين قال: لو توضّأ على خِلافِ مقتضى التقية لم تجب الإعادة.

فعدم وجوب الإعادة دليلٌ على أنَّ وضوءه صحيح.الرأي الثاني: إن التقية حكمٌ تكليفي ووضعي:

أي يترتب على مخالفتها ارتكابُ محرّمٍ، فيأثم، كما تترتب مخالفةُ حكمٍ وضعي، فيبطل الوضوء. فتجب عليه إعادة الوضوء.

السؤال الثاني:

يصحُّ الوضوء على مذهب المخالفين بالمسح على الحائل في حال التقية، فلو زالت التقية بعد ذلك، هل يبقى الوضوء صحيحاً، ويمكن للمكلف الصلاة به؟

وهكذا الكلام فيما لو زالت الضرورة.

الجواب:

قال قُدس سره: وإذا زال السبب، أعاد الطهارة على قولٍ، وقيل: لا تجب، إلا لحدثٍ، والأول أحوط.

فلو أنَّ المكلف توضّأ؛ تقيةً أو لضرورة، بأن مسح على الحائل، وصلى صلاة الظهر، وبعدئذٍ زالت التقية، فهل له أن يصلي صلاة العصر بنفس الوضوء، أو يجب عليه وضوءٌ جديد؟

ص: 379

أشار المحقق قُدس سره إلى رأيين:

الأول: لزوم الإعادة:

أي لزوم تحصيل طهارةٍ جديدةٍ بوضوءٍ جديدٍ؛ وذكروا أن سبب ذلك هو:أن الطهارة الحاصلة بسبب التقية - أو الضرورة - هي في الحقيقة خلاف الطهارة المقررة شرعًا، فالطهارة المقررة شرعًا هي المتحققة عن وضوءٍ اشتمل على المسح على البشرة نفسها، لا على الحائل، وأما الأولى فإنّما جازت لأجل التقية أو الضرورة، فإن زالت التقية والضرورة، زال حكم الجواز تبعًا لهما، ووجب تحصيل الطهارة التي قرّرها الشرع بالحكم الأولي.

إذا تبيّن ذلك، تكون طهارة المكلف - بعد زوال العذر- ليست على الوجه الذي أراده الشرع بالحكم الأولي، فلا تصح صلاته بها، ووجب عليه تحصيل طهارةٍ أخرى تشتمل على المسح على بشرة القدمين.

أو قل: إن الضرورة تقدر بقدرها، فقد اقتضت التقية -أو الضرورة- أن يكون وضوء المكلف بالمسح على الحائل؛ دفعًا للضرر المحتمل، فعند زوال تلك الضرورة، يزول المقتضي لذلك الوضوء، وكان عمل المكلف لا شرعية له، أي إنه مخالف للحكم الشرعي.

وذلك نظير جواز أكل الميتة بمقدار قليلٍ؛ اضطرارًا وحفظًا للنفس من الهلاك، فإنه لا يسوغ له ذلك في غير حال الاضطرار، فإنْ هو فعل، فإنه يكون قد خالف الشرع، وأثم.

ص: 380

ونظير جواز شرب الصائم للماء بمقدار ما يحفظ معه نفسه من الهلاك المحتم، أو الضرر البليغ الذي لا يُتحمل عادةً، فإن زال ذلكالخطر لا يسوغ له شرب الماء ولو بمقدار قطرةٍ منه، فإن هو فعل يكون قد خالف بذلك الشرع، وأثم.

وبذا تلزم الإعادة على أول القولين الذين ذكرهما المحقق قُدس سره.

الثاني: عدم لزوم الإعادة:

وذكروا أن ذلك لأجل:

أولاً: صحة الوضوء لوقوعه وفقًا لأمر شرعي:

إنّ الوضوء وفق ما تقتضيه التقية - بالمسح على الحائل مثلاً - وضوءٌ صحيح؛ لأنّه وقع عن أمر شرعي، فإذا توضّأ كذلك، يكون قد امتثل الأمر الشرعي، ويكون الوضوء صحيحاً في حدّ نفسه، ويكون الحدث قد ارتفع عن حكم شرعي، فلا مقتضي -حينئذٍ- لإعادته مع فرض عدم صدور حدث منه.

أو قل: إنّ الامتثال يقتضي الإجزاء، وهو أمرٌ وجداني؛ إذ لا موجب لعدم الإجزاء بعد أن كان أداء العمل مطابقًا للحكم الشرعي.

وقد امتثل المكلف للحكم الشرعي، فوضوؤه صحيح؛ لأنَّ الامتثال يقتضي الإجزاء، والفرض أنّه لم ينتقض وضوؤه بأحد نواقض الوضوء، ومن ثم تصحُّ صلاته به.

ص: 381

ثانياً: لا دليل شرعياً على وجوب الوضوء:فبعد امتثال المكلف للأمر الشرعي - الوضوء وفقًا للتقية أو الضرورة- والحكم بإجزاء وضوئه، يكون الحكم بلزوم إعادة الوضوء من دون دليل أو أمر شرعي، إذ لو قيل بوجوب إعادة الوضوء، فلا بد من أمرٍ شرعي جديد، والحال أنه لا أمْرَ جديداً، فلا تجب إعادة الوضوء.

وأما رأي المحقق، فبعد أن ذكر القولين قال: والأول أحوط، أي إن الاحتياط يقتضي الإعادة.

* * *

ص: 382

مسائلُ ثمان

قال المحقق قُدس سره: مسائلُ ثمانٌ:

الأولى: الترتيب واجب في الوضوء، يبدأ غسل الوجه قبل اليمنى، واليسرى بعدها، ومسح الرأس ثالثاً، والرجلين أخيراً. فلو خالف، أعاد الوضوء - عمداً كان أو نسياناً - إن كان قد جف الوضوء، وإنْ كان البلل باقياً، أعاد على ما يحصل معه الترتيب.

المسألة الأولى: في الترتيب:

الترتيب: هو البدء بغسل الوجه، ثم غسل اليد اليمنى، ثم غسل اليد اليسرى، ثم مسح الرأس، ثم مسح القدمين ولا ترتيب بينهما.

وذكر المحقق قُدس سره أنّ الترتيب واجبٌ في الوضوء، فإن خالف المكلف الترتيب، كما لو غسل يده اليمنى مثلًا قبل الوجه، وجب عليه الإعادة بحيث يحقق به الترتيب، فيعدّ غسل اليد اليمنى ملغيًا، ويقوم بغسل الوجه ثم يغسل اليد اليمنى.

ويجدي التصحيح السابق نفعًا كحلٍّ للخلل في الترتيب فيما لو كان البلل لا زال باقيًا على أعضاء الوضوء؛ لأن وجود البلل علامة على بقاء الموالاة كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

ص: 383

أما لو جفّت الأعضاء؛ فالوضوء باطل، فيلزم استئنافه من جديد؛ لفوات الموالاة.

ولا خلاف في وجوب الترتيب بين أعضاء الوضوء بين العلماء، وقد دلّت عليه النصوص المستفيضة، منها ما روي عَنْ زُرَارَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: تَابِعْ بَيْنَ الوُضُوءِ، كَمَا قَالَ اللهُ عَزَّوَجَل، ابْدَأْ بِالوَجْه، ثُمَّ بِاليَدَيْنِ، ثُمَّ امْسَحِ الرَّأْسَ والرِّجْلَيْنِ، ولَا تُقَدِّمَنَّ شَيْئاً بَيْنَ يَدَيْ شَيْءٍ، تُخَالِفْ مَا أُمِرْتَ بِه، وإِنْ غَسَلْتَ الذِّرَاعَ قَبْلَ الوَجْه، فَابْدَأْ بِالوَجْه، وأَعِدْ عَلَى الذِّرَاعِ، وإِنْ مَسَحْتَ الرِّجْلَ قَبْلَ الرَّأْسِ، فَامْسَحْ عَلَى الرَّأْسِ قَبْلَ الرِّجْلِ، ثُمَّ أَعِدْ عَلَى الرِّجْلِ، ابْدَأْ بِمَا بَدَأَ اللهُ بِه (1)

فقد بيّن الإمام (صلوات الله وسلامه عليه) من نفس آية الوضوء دليلًا على وجوب الترتيب بين الأعضاء (2)

وروي عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ، في الرجل يتوضأ فيبدأ بالشمال قبل اليمين؟ قال عَلَيْهِ السَّلاَمُ: يغسل اليمين ويعيد اليسار (3)

تنبيه:

قال المحقق قُدس سره: فلو خالف أعاد الوضوء، عمدًا كان أو نسيانًا.فلمِ وجبت الإعادة في حالتي العمد والنسيان؟

للجواب عن ذلك لا بُدّ من تقديم:

ص: 384


1- الكافي للكليني ج3 ص 34 بَابُ الشَّكِّ فِي الْوُضُوءِ ومَنْ نَسِيَه أَوْ قَدَّمَ أَوْ أَخَّرَ (ح5).
2- ويُستفاد من مثل هذه النصوص أن المعصوم عَلَيْهِ السَّلاَمُ كان يعمل على تعليم أصحابه كيفية الاستدلال على الحكم الشرعي من القرآن الكريم.
3- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج1 ص 97 ح (253 / 102).

مقدمة: بيان الشروط العلمية والواقعية:

تنقسم الشروط إلى قسمين:

القسم الأول: الشروط العلمية، أو قل: الذِكْرية:

وهي الشروط التي يلزم توفيرُها حالَ العلمِ بها، أو حال تذكُّرِها، فلو لم يعلم المكلف بها أو نسيَها، يمكن الحكم بتصحيح العمل.

وكمثال على ذلك شرطية طهارة ثوب المصلي من النجاسة، فلو أكمل المصلي صلاته، ثم التفت إلى أنَّ ثوبه متنجس بنجاسة غير معفو عنها، فصلاته صحيحة، طالما كان جاهلًا بتلك النجاسة؛ لأن طهارة ثوب المصلي شرط علمي أو ذكري.

القسم الثاني: الشروط الواقعية:

وهي شروط تدخل في صميم العمل، بحيث لو لم تتحقق، لا يتحقق العمل واقعًا، ومن ثم يلزم توفرها فيه مطلقًا؛ أي في حالة العلم والعمد والجهل والنسيان، فإن لم يتحقق لأي سبب من الأسباب المتقدمة بطل العمل.

وكمثال على ذلك شرطية الوضوء للصلاة، فإن لم يأتِ به المكلف بطلت صلاته، سواء أكان جهلًا منه أم عمدًا أم نسيانًا أم غفلةً؛ لأنَّ الوضوء شرطٌ واقعي.

وحيث إن وجوب الترتيب بين الأعضاء في الوضوء شرطٌ واقعيٌ؛ لذا قال المحقق قُدس سره: فلو خالف، أعاد الوضوء - عمدًا كان أو نسيانًا - إن كان قد جفّ الوضوء، وإنْ كان البلل باقيًا، أعاد على ما يحصل معه الترتيب.

ص: 385

والحاصل: أنّ الترتيب بين الأعضاء في الوضوء واجب؛ فإن كان البلل لا زال باقيًا على أعضاء الوضوء أمكن التصحيح بأن يرجع إلى ما يحصل به الترتيب، وإلا - أي إن جفّت أعضاء الوضوء- بطل الوضوء؛ لفوات الموالاة -كما سيأتي في المسألة الثانية- ووجب استئناف وضوءٍ جديد.

المسألة الثانية: في الموالاة:

قال المحقق قُدس سره: الثانية: الموالاة واجبة، وهي أن يغسل كل عضو قبل أن يجف ما تقدمه، وقيل: بل هي المتابعة بين الأعضاء مع الاختيار، ومراعاة الجفاف مع الاضطرار.

اتفق الفقهاء على اشتراط الموالاة في الوضوء، إلا أنّهم اختلفوا في معنى الموالاة نفسها على أقوال:

القول الأول: إن الموالاة هي غسل كُلِّ عضوٍ قبلَ أنْ يجفَّ ما تقدّم:

فالموالاة تتحقق بغسل العضو التالي قبل أنْ يجف السابق، فيغسل المكلف يده اليمنى مثلًا قبلَ أنْ يجفَّ وجهه، ويغسل يدهاليسرى قبل أن تجف يده اليمنى، ويمسح رأسه قبل أنْ تجفَّ يده اليسرى وهكذا.

القول الثاني: للموالاة معنيان: معنى في حال الاختيار، وآخر في حال الاضطرار:

ففي حال الاختيار تعني المتابعة بين الأعضاء وعدم الفصل بينها عرفًا، أي لو رؤيَ لقيلَ عنه: إنّه يتوضأ، ومعنى ذلك عدم الفصل بين أجزاء الوضوء بالاشتغال بما ليس منها، ولو كان الفصل بينها بالسكون

ص: 386

وعدم الحركة، فالموالاة في حال الاختيار تعني التتابع بين أجزاء الوضوء وعدم الفصل بيها عرفًا.

أما في حال الاضطرار، كانقطاع الماء أثناء الوضوء مثلًا، وانشغال المكلف بإحضار ماء جديد لإكمال الوضوء مثلاً، حينها يكون معنى الموالاة هو عدم جفاف أعضاء الوضوء، فإذا انقطع الماء وأراد المكلف إحضار ماء جديد لإكمال وضوئه، فإن لم تكن أعضاء وضوئه السابقة قد جفّت، فالموالاة متحققة، وإلا -أي لو جفّت- فاتت الموالاة، وبالتالي يبطل الوضوء وعليه الاستئناف.

وهذان القولان هما ما أشار إليهما المحقق قُدس سره قائلًا: الموالاة واجبة، وهي أن يغسل كل عضو قبل أن يجف ما تقدمه، وقيل: بل هي المتابعة بين الأعضاء مع الاختيار، ومراعاة الجفاف مع الاضطرار.وقد اختار المحقق قُدس سره القول الأول، وذكر الموالاة شرطًا واجبًا في الوضوء، ويبدو من عبارته أنّها من الشروط الواقعية، باعتبار أنه صرّح بأنه لو كان المكلف قد توضّأ من دونِ موالاةٍ، فوضوؤه باطلٌ مطلقًا، عالمًا كان أم جاهلًا، وعامدًا كان أم ناسيًا أم غافلًا.

وبلحاظ ما تقدّم، يمكن القول:

أولاً: إنَّ القدر المتيقن من البطلان هو ما إذا جفَّ البلل من تمام الأعضاء السابقة:

فإذا جفّت الأعضاء السابقة جميعها أثناء وضوء المكلف (أي قبل إكمال الواجب في العضو اللاحق) بطل وضوؤه، كما لو جفَّ كُلٌّ من الوجه

ص: 387

واليد اليمنى بتمامهما قبل غسل اليد اليسرى مثلًا، فهذا باطلٌ باتفاق الفقهاء ولا كلام فيه.

يدلُّ عليه بعض النصوص، منها ما روي عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ، قَالَ قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ: رُبَّمَا تَوَضَّأْتُ فَنَفِدَ الماءُ، فَدَعَوْتُ الجَارِيَةَ، فَأَبْطَأَتْ عَلَيَّ بِالمَاءِ، فَيَجِفُّ وَضُوئِي؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: أَعِدْ (1)

وكذلك ما روي عن أبي بصير قَالَ: أَبُو عَبْدِ الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ: إِذَا تَوَضَّأْتَ بَعْضَ وُضُوئِكَ، فَعَرَضَتْ لَكَ حَاجَةٌ حَتَّى يَنْشَفَ وَضُوؤُكَ، فَأَعِدْ وُضُوءَكَ، فَإِنَّ الوُضُوءَ لَا يَتَبَعَّضُ (2)فقوله عَلَيْهِ السَّلاَمُ: (نشف وضوؤك)، كناية عن جفاف الماء على الأعضاء (3)، وقوله عَلَيْهِ السَّلاَمُ: (فإنّ الوضوء لا يتبعض) إشارة إلى أنَّ الوضوء حقيقةٌ واحدة، فلا بد من الإتيان بأجزائه متتابعة كعملٍ واحد، وهذا معنى الموالاة.

ثانيًا: ما يُستفاد من الروايات البيانية:

إنَّ الروايات البيانية التي حكت وضوء رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ تدل على:

1 - الموالاة:

أي التتابع بين أجزاء الوضوء، ومن دون فصل، كالروايات التي تقدّمت عن الإمام الصادق أو الإمام الباقر (صلوات الله عليهما) عندما

ص: 388


1- الكافي للكليني ج3 ص 35 بَابُ الشَّكِّ فِي الْوُضُوءِ ومَنْ نَسِيَه أَوْ قَدَّمَ أَوْ أَخَّرَ، (ح 8).
2- الكافي للكليني ج3 ص 35 بَابُ الشَّكِّ فِي الْوُضُوءِ ومَنْ نَسِيَه أَوْ قَدَّمَ أَوْ أَخَّرَ، (ح 7).
3- هامش المصدر.

حكوا لأصحابهما وضوء رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ؛ إذ غسل وجهه مباشرةً بعده غسل يده اليمنى فاليسرى، مما يدل على التتابع فيه.

2 - الفورية:

ونبين ذلك من خلال:

أولاً: إنّ ظاهر الأمر يعني الفورية:

فلو قيل: أحضِرْ ماءً، فإنّه يدلُّ على الإحضار الفوري، لا تباطؤ فيه ولا تراخي، إلا إذا وُجِدت قرينة تدلُّ على خلاف ذلك،فنتبع القرينة حينئذٍ، لكن إذا جاء الأمر من دون قرينةٍ، فظاهره الفورية.

ثانياً: جاء غسل الوجه واليدين ومسح الرأس والرجلين بأمرٍ واحدٍ في آية الوضوء:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَىٰ الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَىٰ المَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَىٰ الكَعْبَيْنِ»؛ فلزم فور الانتهاء من غسل الوجه غسلُ اليد اليمنى، وفور الانتهاء من غسلها غسل اليد اليسرى، وفور الانتهاء من غسلها، مسح الرأس، وفور الالتزام من مسح الرأس مسح الرجلين، فضلًا عن أنَّ الأمر يدل على الفورية كما تقدّم.

هذا بالإضافة إلى أنَّ الآية الكريمة أمرت بالغسلتين والمسحتين بأمرٍ واحد، وهذا يعني لزوم الإتيان بهما فورًا، أي بالتتابع.

ص: 389

ثالثًا: تصريح بعض الروايات بلزوم المتابعة:

منها ما روي عن الحلبي أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ:... أَتْبِعْ وُضُوءَكَ بَعْضَه بَعْضاً (1)

تنبيه:

لو تحققت الموالاة والتتابع في الوضوء، ولكن جفَّ العضو السابق لعارضٍ من حرٍّ أو ريح قوية وما شابه، فهذا لا يؤثر على الموالاة؛ وذلك لأنّ جفاف أعضاء الوضوء يعود إلى أحد سببين:

السبب الأول: التفريق بين أجزاء الوضوء؛ ويترتب عليه فوات الموالاة، فبطلان الوضوء.

وهذا ما ورد في رواية معاوية بن عمار إذ قال: رُبَّمَا تَوَضَّأْتُ فَنَفِدَ الماءُ، فَدَعَوْتُ الجَارِيَةَ، فَأَبْطَأَتْ عَلَيَّ بِالمَاءِ، فَيَجِفُّ وَضُوئِي؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: أَعِدْ (2)

وكذا في رواية أبي بصير إذ قال: إِذَا تَوَضَّأْتَ بَعْضَ وُضُوئِكَ، فَعَرَضَتْ لَكَ حَاجَةٌ حَتَّى يَنْشَفَ وَضُوؤُكَ، فَأَعِدْ وُضُوءَكَ، فَإِنَّ الوُضُوءَ لَا يَتَبَعَّضُ (3)

فالجفاف في هاتين الروايتين كان بسبب تأخر الجارية في إحضار الماء في الأولى، وبسبب انشغال المكلف بحاجةٍ ما عرضت له في الثانية، وكلاهما

ص: 390


1- الكافي للكليني (ج3 ص 34 بَابُ الشَّكِّ فِي الْوُضُوءِ ومَنْ نَسِيَه أَوْ قَدَّمَ أَوْ أَخَّرَ (ح 4).
2- الكافي للكليني ج3 ص 35 بَابُ الشَّكِّ فِي الْوُضُوءِ ومَنْ نَسِيَه أَوْ قَدَّمَ أَوْ أَخَّرَ، (ح 8).
3- الكافي للكليني ج3 ص 35 بَابُ الشَّكِّ فِي الْوُضُوءِ ومَنْ نَسِيَه أَوْ قَدَّمَ أَوْ أَخَّرَ، (ح 7).

يُسبّب التفريق بين أعضاء الوضوء، وهذا معنى فوات الموالاة؛ لذا حكم الإمام بلزوم إعادة الوضوء.

السبب الثاني: بسببٍ سوى التفريق بين أجزاء الوضوء؛ كالجو الحار أو الريح القوية أو لحرارة جسم المتوضئ مثلًا، بحيثلا يتمكن المكلف من إتمام وضوئه دون أن تجف أعضاؤه، فحينئذٍ لا يُعد ذلك فواتًا للموالاة، ولا يتسبب في بطلان الوضوء؛ لعدم صدق التفريق.

المسألة الثالثة: عدد الغسلات والمسحات:

قال قُدس سره: الثالثة: الفرض في الغسلات مرة واحدة، والثانية سنة، والثالثة بدعة، وليس في المسح تكرار.

أمورٌ أربعةٌ يذكرها المحقق قُدس سره في هذه المسألة، هي:

الأمر الأول: أن الواجب في غسل الوجه واليدين هي غسلة واحدة فقط:

بأن يغسل المكلف وجهه مرة واحدة، ويده اليمنى مرة واحدة، ويده اليسرى مرة واحدة، وهذا مما لا خلاف فيه؛ ويمكن الاستدلال عليه:

أولاً: إن المرة الواحدة هو القدر المُتيقن من الأمر بالغسل ما لم تكن هناك قرينة تدل على أكثر من ذلك.

أو قل: إن ظاهر الأمر هو لزوم المرة الواحدة، وما عداها يحتاج إلى دليل آخر، أو قرينة تدل على التكرار.

ص: 391

وهذا يعني: أنَّ التكرار يحتاج إلى دليل آخر؛ فلو قيل: اقرأ سورة الفاتحة، وقرأتها مرةً واحدةً، تكون قد امتثلت للأمر وأدّيت المأمور به، إذ لا يُفهم من الأمر ذلك سوى وجوب الإتيان بالمأموربه مرةً واحدةً، فإن أراد الآمر أن تأتي به أكثر من مرة، لزم أن يبين ذلك ببيانٍ إضافي، أي دليلٍ آخر.

فإن لم يأتِ بدليلٍ آخر كان الواجب مرة واحدة فقط، وكذا في غسل أعضاء الوضوء، فلمّا لم يأتِ دليل يدل على لزوم غسلها أكثر من مرة واحدة، كان الواجب مرة واحدة فقط.

ثانياً: الأخبار المبيّنة لوضوء النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ، إذ كان الإمام يغسل وجهه مرة واحدة ويغسل يده اليمنى مرة واحدة وكذا في يده اليسرى.

ثالثاً: صرّحت بعض الروايات بهذا المعنى منها ما روي عَنْ عَبْدِ الكَرِيمِ قَالَ: سَالتُ أَبَا عَبْدِ الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَنِ الوُضُوءِ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: مَا كَانَ وُضُوءُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ إِلَّا مَرَّةً مَرَّةً (1)

وفي روايةٍ أخرى أيضًا عن الإمام الصادق (صلوات الله وسلامه عليه) أنّه كان يقول: والله ما كان وضوء رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ إلا مرةً واحدة (2)

فيظهر من الروايات أن الواجب في غسل أعضاء الوضوء مرة واحدة فقط، وهو ما عبّر عته قُدس سره بقوله: (الثالثة: الفرضُ في الغسلات مرة واحدة)، والفرض أي الواجب.

ص: 392


1- الكافي للكليني (ج3 ص 27 بَابُ صِفَةِ الْوُضُوءِ ح 9).
2- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج1 ص 38 ح 76).

الأمر الثاني: استحباب غسل الوجه واليدين مرةً ثانية:

وهذا ما تدلُّ عليه بعض النصوص، منها ما روي عن صفوان عن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال: الوضوء مثنى مثنى (1)

وهنا يتبادر سؤالٌ إلى الذهن مفاده:

إنّ الظاهر من هذه الرواية هو وجوب غسل أعضاء الوضوء مرتين، فكيف فهم منها الفقهاء الاستحباب لا الوجوب؟

الجواب:

حتى وإنْ سلّمنا أنّ ظاهر هذه الرواية هو الوجوب، فلا بُدّ من حملها على الاستحباب؛ لتصريح الروايات المتقدمة - في الأمر الأول- بكفاية الغسل مرة واحدة فقط، وبذا تكون قرينة على أنّ المقصود من الروايات التي ذكرت الغسل مثنى مثنى هو الاستحباب لا الوجوب.

الأمر الثالث: الغسلة الثالثة بدعةٌ:

البدعة: هي إدخال ما ليس من الدين -لعدم وجود دليلٍ عليه من آية كريمة أو سنة شريفة- في الدين، بدعوى التشريع.

وحكمها التكليفي هي الحرمة بلا شك.

وحيث لم يدل الدليل الشرعي على الغسلة الثالثة في الوضوء، فيكون الإتيان بها بدعوى التشريع - أي على أنّها مشرّعة من قبل الدين الإسلامي- بدعةً، وهذا ما ذكره المحقق قُدس سره في المسألة الثالثة حيث قال: والثالثة بدعة.

ص: 393


1- الاستبصار للشيخ الطوسي (ج1 ص 70 ح 214 – 6).

وأما الإتيان بها سهوًا، أو نسيانًا، أو لأجل التبريد، فليست من البدعة بشيء، لانعدام قصد التشريع عند الإتيان بها.

والسؤال عن الحكم الوضعي، فهل يبطل الوضوء بالغسلة الثالثة أو لا؟

هنا آراء:

الرأي الأول: البدعة مُحرّمةٌ تكليفًا ووضعًا؛ فإذا جاء المكلف بها بقصد التشريع، فقد اكتسب إثمًا؛ لحرمتها التكليفية، وكان وضوؤه باطلًا؛ للأثر الوضعي المترتب عليها.

الرأي الثاني: البدعة محرمةٌ تكليفًا، ولكنّها لا أثر وضعيًا يترتب عليها؛ ومن ثَمّ فلا يبطل الوضوء بالإتيان بها.

الرأي الثالث: التفصيل: فإن كان الإتيان بها بدعوى التشريع عن جهل تقصيري بطل الوضوء، وإن كان الإتيان بها بدعوى التشريع عن جهل قصوري لم يبطل الوضوء.

الأمر الرابع: عدم استحباب تكرار المسح:

قال قُدس سره: وليس في المسح تكرار.

أي لا يستحب تكرار المسح؛ وذلك لأنَّ:أ: الامتثال بمسح الرأس والرجلين يتحقق بالمرة الواحدة بلا خلاف.

ب: تكرار المسح يحتاج إلى دليل، ولا دليل على ذلك.

ص: 394

فإنْ كرَّر المكلف المسح؛ بأنْ مسح رأسه مرتين، أو مسح رجليه مرتين، فما الحكم؟

الجواب: إن كان ذلك مع قصد التشريع، فعمله بدعة، فيؤثم، ولكن لا يبطل وضوؤه؛ للإجماع.

المسألة الرابعة: الواجب في الغسل:

قال قُدس سره: الرابعة: يجزي في الغسل ما يسمى به غاسلًا، وإن كان مثل الدهن، ومن كان في يده خاتمٌ أو سير، فعليه إيصال الماء إلى ما تحته، وإن كان واسعًا استُحبّ له تحريكه.

يذكر المحقق قُدس سره بعض أحكام الغسل في الوضوء:

الحكم الأول: إجزاء مُسمّى الغسل:

ما الذي يتحقق به أقل المسمى؟

قال بعضٌ: إنّ أقل ما يحصل به المسمى هو: أن يجري مقدارٌ من الماء على البشرة، ولو بمعاون، أي يُجزي أن يأخذ المكلف الماء بيده، فيضعه على مقدار من البشرة، ثم يُجري هذا المقدار من الماءإلى مقدار آخر منها، وبذلك يتحقق مسمى الغسل عرفاً، وأما باقي البشرة فيكفي في تحقق غسلها ولو بمثل الدهن.

وأما قوله قُدس سره: (بمثل الدهن)، فقالوا:

يُحتمل في هذا التعبير احتمالان:

ص: 395

الاحتمال الأول: أنّه تعبير مجازي:

فلم يقصد المحقق قُدس سره الدهن حقيقةً، كما لو أخذ شخصٌ مقدارًا من الماء وقام بدهن بشرته به، بل هو كناية عن جريان الماء، ولو كان الجريان قليلًا.

الاحتمال الثاني: أنّه تعبير حقيقي:

أي إنَّ المحقق قُدس سره يقصد الدهن حقيقةً، ويكون بغسل القليل من الوجه، وأما الباقي فيكفي دهنه ببلة اليد.

وقد استُدِلَّ على هذا الاحتمال بوروده في الروايات، حيث إنَّ اللفظ يُحمل على ظاهره ومعناه الحقيقي، إلا إذا جاءت قرينة تدل على أنّ المراد من الدهن هو المجاز والكناية وليس الحقيقة.

وفي المقام، ذكرت بعض الروايات الدهن فقط، ولم تقل: إنّه كناية عن جريان الماء ولو قليلًا، ولا قرينة تدل على هذا المعنى أيضاً، فنحمل الدهن على معناه الحقيقي.ومن تلك الروايات ما ورد عَنْ زُرَارَةَ ومُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَر عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: «إِنَّمَا الوُضُوءُ حَدٌّ مِنْ حُدُودِ الله تعالى، لِيَعْلَمَ اللهُ تعالى مَنْ يُطِيعُه ومَنْ يَعْصِيه، وإِنَّ المُؤْمِنَ لَا يُنَجِّسُه شَيْءٌ، إِنَّمَا يَكْفِيه مِثْلُ الدَّهْن» (1)

ص: 396


1- الكافي للكليني ج3 ص 21 بَابُ مِقْدَارِ الْمَاءِ الَّذِي يُجْزِئُ لِلْوُضُوءِ والْغُسْلِ ومَنْ تَعَدَّى فِي الْوُضُوءِ ح2.

وفي روايةٍ أُخرى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: يَأْخُذُ أَحَدُكُمُ الرَّاحَةَ مِنَ الدُّهْنِ، فَيَمْلأُ بِهَا جَسَدَه، والماءُ أَوْسَعُ مِنْ ذَلِكَ (1)

الحكم الثاني: لا يؤثر وجود خاتمٍ أو سوار على الغسل إذا تحقَّق المطلوب:

المطلوب هو إيصال الماء إلى البشرة، فإن كان الخاتم أو السوار واسعًا، بحيث يمكن للماء أن يصل إلى ما تحته، كفى، وإنْ كان يُستحب التحريك؛ لأنّه الأحوط في تحقق الغسل.

أما إذا كان الخاتم أو السوار ضيقًا، فحينئذٍ يجب تحريكه؛ لأجل أنْ يصل الماء إلى البشرة.

ومما يدلُّ عليه:الدليل الأول: وجوب غسل تمام اليد:

لقوله تعالى: «اغْسِلُوا أَيْدِيَكُم»، والامتثال لهذا الأمر لا يتحقق إلا بغسل تمام اليد، وذلك بإيصال الماء إلى جميع أجزائها، ومن هنا، فلو كان الخاتم ضيقًا، فإنَّ المكلف لا يحرز وصول الماء إلى ما تحته، وعليه لا بُدّ من تحريك الخاتم أو السوار لأجل إيصال الماء إلى ما تحته.

ص: 397


1- الكافي للكليني ج3 ص 21 بَابُ مِقْدَارِ الْمَاءِ الَّذِي يُجْزِئُ لِلْوُضُوءِ والْغُسْلِ ومَنْ تَعَدَّى فِي الْوُضُوءِ ح1.

الدليل الثاني: نصوصٌ دلّت على لزومِ تحريك الخاتم أو السوار:

منها ما رواه عَلِيٌّ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ أَخِيه مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ عَلَيْهِما السَّلاَمُ قَالَ: سَالتُه عَنِ المَرْأَةِ، عَلَيْهَا السِّوَارُ والدُّمْلُجُ فِي بَعْضِ ذِرَاعِهَا، لَا تَدْرِي يَجْرِي الماءُ تَحْتَه أَمْ لَا، كَيْفَ تَصْنَعُ إِذَا تَوَضَّأَتْ أَوِ اغْتَسَلَتْ؟ قَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: تُحَرِّكُه حَتَّى يَدْخُلَ الماءُ تَحْتَه، أَوْ تَنْزِعُه.

وعَنِ الخَاتَمِ الضَّيِّقِ لَا يَدْرِي هَلْ يَجْرِي الماءُ تَحْتَه إِذَا تَوَضَّأَ أَمْ لَا، كَيْفَ يَصْنَعُ؟ قَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: إِنْ عَلِمَ أَنَّ المَاءَ لَا يَدْخُلُه فَلْيُخْرِجْه إِذَا تَوَضَّأَ (1)فلا بد من إحراز وصول الماء إلى ما تحت السوار أو الخاتم، سواء أكان بخلعهما أم تحريكهما، والأول غير واجب، وإن كان جائزًا، وأما الثاني فهو أقل ما يمكن به تحقيق المطلوب، وهو إيصال الماء إلى البشرة.

المسألة الخامسة: الوضوء الجبيري:

قال قُدس سره: الخامسة: من كان على بعض أعضاء طهارته جبائر؛ فإنْ أمكنه نزعها أو تكرار الماء عليها حتى يصل إلى البشرة وجب، وإلا أجزأه المسح عليها، سواء كان ما تحتها طاهرًا أو نجسًا.

وإذا زال العذر، استأنف الطهارة، على تردد فيه.

في موضوع الجبائر توجد الكثير من المسائل، ولكننا سنقتصر بالحديث عمّا ذكره المحقق قُدس سره.

ص: 398


1- الكافي للكليني ج3 ص 44 بَابُ صِفَةِ الْغُسْلِ والْوُضُوءِ قَبْلَه وبَعْدَه والرَّجُلِ يَغْتَسِلُ فِي مَكَانٍ غَيْرِ طَيِّبٍ ومَا يُقَالُ عِنْدَ الْغُسْلِ وتَحْوِيلِ الْخَاتَمِ عِنْدَ الْغُسْلِ- ح6.

وقد ذكر المحقق قُدس سره في هذه المسألة أمرين:

الأمر الأول: إنَّ الواجب أولاً وبالذات، وبالحكم الأولي، هو إيصال الماء إلى البشرة عند الوضوء، ومعه، فوجود جبيرةٍ على بشرة العضو الذي يجب غسله أو مسحه، مانع من هذا الحكم الأولي.

ويمكن أنْ يُتصوَّر هذا المانع في ثلاث حالات، لكل منها حكمها:

الحالة الأولى: أنْ يُمكِنَ نزع الجبيرة من دون ضرر:أي يمكن للمكلف أن ينزع الجبيرة وأداء الوضوء ثم إرجاعها، ولا ضرر يلحقه من ذلك، فحينئذٍ تجب إزالة الجبيرة، ثم الوضوء، ثم إرجاعها.

الحالة الثانية: أنْ لا يكون وجود الجبيرة مانعًا من وصول الماء إلى البشرة:

بحيث لو صبَّ الماء -ولو بالتكرار- وصل إلى ما تحت الجبيرة، فحينئذٍ لا يجب عليه نزع الجبيرة، بل يكفي إيصال الماء إلى البشرة.

الحالة الثالثة: أن لا يمكن نزعها ولا يسهل ولا يتيسر إيصال الماء إلى البشرة:

كما لو كانت الجبيرة كبيرة وملتصقةً على البشرة، كجبيرة العظم المكسور عادةً، فهذه لا يمكن نزعها ولا يمكن إيصال الماء إلى البشرة التي تحتها، فحينئذٍ يكفي المسح على الجبيرة، سواء أكانت على عضوٍ يجب غسله أم مسحه، وسواء أكان ما تحت الجبيرة طاهرًا أم نجسًا.

ص: 399

هذه هي الأحكام الثلاثة التي ذكرها المحقق قُدس سره في الأمر الاول.

وقد دلّت عليها الروايات، منها ما روي عَنِ الحَلَبِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ أَنَّه سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يَكُونُ بِه القَرْحَةُ فِي ذِرَاعِه، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فِي مَوْضِعِ الوُضُوءِ، فَيُعَصِّبُهَا بِالخِرْقَةِ، ويَتَوَضَّأُ ويَمْسَحُ عَلَيْهَا إِذَاتَوَضَّأَ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: إِنْ كَانَ يُؤْذِيه الماءُ فَلْيَمْسَحْ عَلَى الخِرْقَةِ، وإِنْ كَانَ لَا يُؤْذِيه الماءُ فَلْيَنْزِعِ الخِرْقَةَ ثُمَّ لْيَغْسِلْهَا.

قَالَ: وسَالتُه عَنِ الجُرْحِ كَيْفَ أَصْنَعُ بِه فِي غَسْلِه؟ قَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: اغْسِلْ مَا حَوْلَه (1)

الأمر الثاني: أثر الوضوء الجبيري:

هل إنَّ أثر الوضوء الجبيري- وهي الطهارة- ساري المفعول حتى بعد رفعها؟

لو توضأ المكلف بالوضوء الجبيري؛ لعذر، وبعدئذٍ زال العذر، فرفع الجبيرة، ولم يكن قد صدر منه ما ينقض الوضوء، ففي سريان مفعول وضوئه الجبيري -أي إمكانه القيام بما تجب به الطهارة كالصلاة مثلًا بنفس وضوئه الجبيري- رأيان، يمكن استفادتهما من تردد المحقق فيه، إذ قال: (استأنف الطهارة على ترددٍ فيه).

ص: 400


1- الكافي للكليني ج3 ص 33 بَابُ الْجَبَائِرِ والْقُرُوحِ والْجِرَاحَاتِ ح (3).

وللتردد هذا وجهان، هما:

الوجه الأول: إنّ الطهارة الجبيرية طهارة شرعية:

إذ لم يأتِ المكلف إلا بما هو مأمورٌ به شرعًا حال وجود الجبيرة، ولم يُحْدِث بعد الوضوء، لذلك يمكنه الإتيان بما تجب فيه الطهارة ومنها الصلاة، ولا وجه لوجوب الاستئناف.الوجه الثاني: إنَّ الوضوء الجبيري إنما شُرِّع لضرورةٍ معينة:

وبيانه من خلال مقدمتين:

المقدمة الأولى: أنّ المكلف لا يمكنه نزع الجبيرة، ولا يمكنه إيصال الماء إلى البشرة التي تحت الجبيرة، ولأجل تلك الضرورة شُرِّع الوضوء الجبيري.

المقدمة الثانية: أن الضرورات تُقدَّر بقدرها، فإذا ارتفعت الضرورة فلا وجه لبقاء الوضوء الجبيري، وحينئذٍ يلزمه أنْ يستأنف الوضوء.

وهذا نظير المضطر لأكل الميتة؛ لضرورة إنقاذ النفس من الهلاك، فإنه إذا تيّسر له طعامٌ آخر وجب عليه التوقف عن أكل الميتة؛ لحرمتها بالحكم الأولي، وزوال الحكم الثانوي بالحلية بزوال الضرورة.

وعليه، فطالما تيسّر للمكلف الإتيان بالوضوء الاعتيادي؛ لزوال ضرورة وجود الجبيرة بزوال الحاجة إليها، ومن ثم زوال الحكم الثانوي بجواز الوضوء الجبيري ووجوب الامتثال للحكم الأولي، وجب عليه استئناف الوضوء.

ص: 401

ومن الواضح أنَّ الاحتياط يتحقق باستئناف الوضوء؛ ولعله لذلك صرّح المحقق قُدس سره باستئناف الطهارة، ولكنه تردد للوجهين المتقدمين.

المسألة السادسة: المباشرة بالوضوء:

قال قُدس سره: السادسة: لا يجوز أن يتولى وضوءه غيره مع الاختيار، ويجوز عند الاضطرار.

يتعرض المحقق قُدس سره في هذه المسألة إلى شرط مباشرة المكلف نفسه للوضوء، عبر ذكر حكمي المباشرة: الأولي والثانوي:

أما الحكم الأولي: فهو وجوب مباشرة الفرد وضوء نفسه، أي أن يقوم هو بالغسلتين والمسحتين؛ وذلك لأنّ امتثال الأوامر الشرعية إنّما يتحقّق بالمباشرة، فكما أنَّ الامتثال للأمر الإلهي بالصلاة يوجب على المكلف أن يباشر هو نفسه بالصلاة، ولا تصح صلاة غيره عنه، فكذا الوضوء.

وعليه، فلا بُدّ من أنْ يقوم المكلف نفسه بتنفيذ الأمر الشرعي بالوضوء، فيغسل وجهه ويديه، ويمسح رأسه ورجليه.

وأما الحكم الثانوي: مع الاضطرار، أي مع عدم قدرة المكلف على مباشرة الوضوء بنفسه لسببٍ أو لآخر، حينئذٍ يجوز أن يوضّئه غيرُه.

وهذا ما ذكره المحقق قُدس سره باختصار، وإلا ففي المسألة تفاصيل يُرجع فيها إلى الرسالة العملية.

ص: 402

المسألة السابعة: حكم مسّ المحدث للقرآن الكريم:

قال قُدس سره السادسة: لا يجوز للمحدث مسّ كتابة القرآن، ويجوز له أنْ يمس ما عدا الكتابة.

تعد مسألة جواز مسّ كتابة القرآن لغير المتوضئ أو عدم جوازه من المسائل الابتلائية، وقبل تناول ما تعرّض به المحقق قُدس سره لهذه المسألة لا بد من التسليم بأمرين:

الأمر الأول: جواز قراءة القرآن من دون وضوء:

كحكمٍ أولي يجوز للمكلف أن يقرأ القرآن من دون وضوء، فإن ابتغى أنْ يجعل من قراءته وسيلةً للتقرُّب إلى الله تعالى أكثر، ويرتقي في مدارج الكمال ويحصل على ثوابٍ أعظم عبرها، فيُستحَبُّ له أنْ يتطهّر بأنْ يتوضّأ مثلًا قبل البدء بتلاوته، وقد روي عن أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) أنّه قال: ولا يقرأ العبدُ القرآنَ إذا كان على غير طهور حتى يتطهر (1)

الأمر الثاني: جواز مس غير الكتابة من القرآن الكريم من دون وضوء، كغلاف القرآن وحواشي الأوراق وما بين السطور.

وأما كتابة القرآن الكريم، فهل يجوز للمحدث مسّها؟

الجواب:

في المقام توجد آراء ثلاثة:

ص: 403


1- الخصال للشيخ الصدوق ص 627 حديث أربعمائة.

الرأي الأول: الفتوى بعدم الجواز وبحرمة ذلك:

يُستدلُّ له بعدّةِ أدلةٍ، نذكر منها دليلين للفائدة:

الدليل الأول: قوله (عزَّ من قائل): ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ 77 فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ 78 لا يَمَسُّهُ إِلَّا المُطَهَّرُونَ﴾ (1)

فقد استُدِلّ بهذه الآية على عدم جواز مس كتابة القرآن الكريم للمحدث.

ويتوقف هذا الاستدلال على ثلاث مقدمات، بعد تسليم أن الضمير المتصل (الهاء) في الفعل (يمسه) يرجع على القرآن الكريم:

المقدمة الأولى: قوله تعالى: «لا يَمَسُّهُ إِلَّا المُطَهَّرُونَ» جملة خبرية لا إنشائية؛ ف-(لا) نافية لا ناهية، والفعل (يمسُّ) مرفوع، و(إلا) أداة استثناء ملغاة، و(المطهرون) فاعل.

المقدمة الثانية: جملة «لا يَمَسُّهُ إِلَّا المُطَهَّرُونَ» وإن كانت جملة خبرية، إلا أنَّ المقصود منها النهي لا النفي؛ لما تقدّم من أنّ الجملة الخبرية في بعض الأحيان تدلُّ على الوجوب، نحو دلالة قوله عَلَيْهِ السَّلاَمُ: (يُعيد) على وجوب الإعادة كالفعل (فليُعِدْ).

المقدمة الثالثة: إنّ (المطهرون) تعني (المتوضئين أو المغتسلين) أي من توفرت لديهم الطهارة الشرعية الرافعة للحدث.

ص: 404


1- الواقعة: 77 – 79.

فإذا تمّت هذه المقدمات حينئذٍ يكون منطوق الآية: لا يجوز لغير المتطهِّر أنْ يمسَّ القرآن الكريم.

وقد نوقش هذا الدليل في كُلِّ مقدماته:

أما المقدمة الأولى: فباعتبار أن الضمير يرجع إلى أقرب عائد، والعائد الأقرب في قوله تعالى: «لا يَمَسُّهُ إِلَّا المُطَهَّرُونَ» هو (كتاب مكنون) في قوله تعالى: «فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ» فلا بُدّ أن يعود ضمير الغائب (الهاء) في (يمسه) إلى (كتاب مكنون)، ومن ثم يكون النهي عن مس الكتاب المكنون لا القرآن الكريم.

إن قلتَ: إنّ الضمير (الهاء) كما يُحتمل فيه أن يعود إلى (الكتاب المكنون)، كذلك يُحتمل فيه أن يعود إلى (القرآن الكريم)؟

قلتُ: لو سُلِّمَ هذا، فيُقال: إن الآية حينئذٍ مجملة، ومن ثم يبطل الاستدلال على أي من الوجهين.

وأما المقدمة الثانية: فباعتبار أن ظاهر الآية: «لا يَمَسُّهُ إِلَّا المُطَهَّرُونَ» هو الخبر لا الإنشاء، فلا تدل على النهي، بل تدل على النفي؛ وقد تقدّم أنَّ الظاهر حجة، ولا يصح الانتقال عنه إلى ما يخالفه إلا بوجود قرينة.

وأما المقدمة الثالثة: فباعتبار أن (المطهرون) في قوله تعالى: «لا يَمَسُّهُ إِلَّا المُطَهَّرُونَ» اسم مفعول، أي من وقع عليه فعل التطهير، لا من هو قام بالتطهير، والقائم بالطهارة لا بُدّ أنْ يكوناسم فاعلٍ أي (المتطهرون) لا (المطهَّرون)، ومن ثم فإنَّ (المطهرون) لا تعني (المتوضئين أو المغتسلين) كما اُدّعيَ.

ص: 405

والنتيجة: أنَّ الآية ليست في معرض بيان حكم فقهي مفاده: عدم جواز مسِّ القرآن الكريم إلا إذا كان الشخص مُتطهرًا، أي متوضئًا، بل تدلُّ على أنَّ القرآن الكريم موجود في كتاب مكنون، ذلك الكتاب المكنون لا يمسه، أي: لا يُدركه ولا يفهمه؛ لعظمة معانيه ودقتها، إلا المطهَّرون، أي الذين طهرهم الله تعالى تطهيرًا في قوله تعالى: «إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» (1)

قال المحقق السيد الخوئي قُدس سره: هل يحرم مسُّ كتابة القرآن الكريم من غير وضوء؟

المشهور بين المتقدمين والمتأخرين حرمةُ المسِّ من غير طهر، بل عن ظاهر جماعةٍ دعوى الإجماع في المسألة... وما ذهب إليه المشهور هو الصحيح.

... وهذا لا لقوله (عز من قائل): «لا يَمَسُّهُ إِلَّا المُطَهَّرُونَ»؛ لأنَّ معنى الآية المباركة أنّ الكتابةَ لعظمة معاني آياته ودقة مطالبه لا ينال فهمها ولا يدركها إلا من طهّره الله (سبحانه) وهم الأئمة عَلَيْهِم السَّلاَمُ؛ لقوله (سبحانه): «إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً».ثم قال: وليست لها «للآية» أيةُ دلالةٍ على حصر جواز المسِّ للمُتطهِّر؛ لأنّ المُطهَّر غيرُ المُتطهِّر،... على أنّ الضمير في (يمسّه) إنّما يرجع إلى الكتاب المكنون وهو اللوح المحفوظ.

ص: 406


1- الأحزاب 33.

ومعنى أنّ الكتاب المكنون لا يمسّه إلا المُطهّرون هو ما قدّمناه من أنّه لا يناله ولا يصل إلى دركِه إلا الأئمةُ المعصومون عَلَيْهِم السَّلاَمُ، إذًا الآية أجنبيةٌ عن المقام بالكُلية (1)

الدليل الثاني: رواية حريز:

روي عن حماد عن حريز عمّن أخبره عن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ أنّه قال الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ لولده إسماعيل: يا بُني اقرأ المصحف، فقال إسماعيل: إنّي لستُ على وضوء، فقال عَلَيْهِ السَّلاَمُ: لا تمسّ الكتاب، ومسَّ الورقَ واقرأ (2)

والرواية واضحة الدلالة على جواز القراءة من دون وضوء، وجواز مسّ ما دون الكتابة من ورق القرآن الكريم.

ملحوظة:

حتى يتم الاستدلال برواية على مطلب شرعي، لا بد أنْ يكون سندها معتبراً، كأن يكون صحيحًا أو موثوقًا أو حسنًا، لا ضعيفًا (3)؛ فتكون الرواية حجةً.

ص: 407


1- شرح العروة الوثقى (موسوعة الإمام الخوئي قُدس سره)- تقرير بحث السيد الخوئي للغروي ج4 ص 473.
2- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج1 ص 126 ح (342 / 33).
3- قال الشيخ الإيراوني (حفظه الله) في كتابه (دروس تمهيدية في القواعد الرجالية- ص 47 الفصل الثاني البحث عن اقسام الحديث): قُسّم الحديث إلى أربعة أقسام: 1- الصحيح: وهو ما كان جميع رواته عدولا إمامية. 2- الموثق: وهو ما كان رواته كلهم أو بعضهم من غير الإمامية ولكنهم وُثّقوا.ݛ ݚ3 - الحسن: وهو ما كان رواته كلهم أو بعضهم من الإمامية ولكنهم لم يُعدّلوا بل مُدِحوا فقط. 4- الضعيف: وهو ما لم يكن واحداً من الأقسام الثلاثة، بان كان رواته مجهولين أو قد ضُعّفوا. وقال في الهامش: نلفت النظر إلى أن الخبر إذا كان متواتراً أو محفوفاً بقرائن تورث العلم بحقانيته فلا إشكال في حجيته وقبوله، وإنما الكلام في غير هذين القسمين.

وفي سند الرواية راوٍ مجهول، وهو الذي عُبِّر عنه: (عمّن أخبره)، إذ لا نعرف من هو الذي أخبر حريزاً بهذه الرواية، فلعله ثقة، ولعله ليس بثقة، وبالتالي، فهذا الاحتمال -احتمال عدم كونه ثقة- يُبعد الرواية عن الحُجيّة، فتسقط عنها.

الرأي الثاني: كراهة مسّ غير المتوضئ كتابةَ القرآن الكريم.

ذهب أصحاب هذا الرأي إلى الكراهة لا الحرمة؛ لعدم كفاية الأدلة الناهية عن مسِّ كتابة القرآن الكريم من الآية والروايةالمتقدمتين، فتُحملان على الكراهة بناءً على قاعدة التسامح في أدلة السنن.

وقد تقدّم معنى هذه القاعدة، وخلاصتها: أنَّ الدليل الضعيف السند ربما لا يمكن الاستناد إليه للإفتاء بأحدِ الحكمين التكليفيين الإلزاميين، وهما الحُرمة والوجوب، فيُصار إلى الاستعانة به للإفتاء بأحدِ الحكمين التكليفيين غير الإلزاميين، وهما الاستحباب والكراهة.

ولما كان نصّا الآية والرواية ظاهرين في النهي، ولكنهما غير تامّي الدلالة على الحرمة؛ لضعفٍ في دلالة الأولى، وفي سند الثانية، إذًا ننتقلُ إلى الكراهة.

ص: 408

الرأي الثالث: الأحوط عدم مس كتابة القرآن الكريم لغير المتوضئ:

وهذا ما عليه فتوى مُتأخري فقهائنا، لا سيما إنَّ المشهور بين المتقدمين والمتأخرين - كما نقل السيد الخوئي قُدس سره- هو حرمة مسّ المحدث كتابةَ القرآن الكريم، بل واُدّعيَ الإجماع عليه، كما ذكر السيد قُدس سره (1)ومن ثم، فإنَّ الفقيه وإنْ توصّل بعد بحثٍ وتحقيق إلى أنَّ الأدلة على حرمة مسّ كتابة القرآن الكريم يشوبها الضعف الذي يبعدها عن الحجية، إلا أنّ فتوى المشهور بين المتأخرين والمتقدمين بالحرمة يجعله يسلك طريق الاحتياط؛ وبناءً على ذلك يقول: الأحوط جوبًا عدم مسّ كتابة القرآن الكريم لغير المتوضئ، والاحتياط طريق النجاة، وهو حسن على أي حال.

المسألة الثامنة:

قال المحقق قُدس سره الثامنة: من به السلس، قيل: يتوضأ لكُلِّ صلاة، وقيل: من به البطن، إذا تجدّد حدثه في الصلاة، يتطهر ويبني.

في هذه المسألة يتعرض المحقق قُدس سره لحكم المسلوس والمبطون، والأول هو من لا يملك بوله؛ أي لا يستطيع التحكم في منع بوله من النزول، فبوله ينزل بغير إرادته، وأما الثاني فهو من لا يملك الغائط؛ أي لا يتحكم بخروج الغائط منه، وقد يلحق به من لا يملك الريح.

ص: 409


1- كتاب الطهارة للسيد الخوئي قُدس سره ج3 ص 519، قال ما نصه: المشهور بين المتقدمين والمتأخرين حرمة لمسّ من غير طهر، بل عن ظاهر جماعة دعوى الاجماع في المسألة، وخالفهم في ذلك الشيخ وابن البراج وابن إدريس والتزموا بكراهة، وعن جملة من متأخري المتأخرين الميل إليه، وما ذهب إليه المشهور هو الصحيح.

وللتفصيل في المسألة نذكر حكم المسلوس أولًا، ثم نتعرّض إلى المبطون.

أولًا: حكم المسلوس:

وفيه أقوالٌ هي:

القول الأول: الوضوء لكل صلاة.أي يجب على المكلف المسلوس الوضوء لكُلِّ صلاةٍ، فإنْ نزل بوله، فذلك حدثٌ، ولا يتجرد عن صفة الحدثية، ولكنّه مغتفر أثناء الصلاة في حقه؛ لعدم إمكانه التحكم به والسيطرة عليه، فإن هو أتمَّ صلاته وأراد الشروع في صلاةٍ أخرى، فعليه الوضوء للصلاة الثانية لو خرج منه البول، وإلا لم يجب.

وهذا الحكم بلحاظ وجوب إيقاع الصلاة بطهارة من جهةٍ، وعجز المسلوس عن ذلك من جهةٍ أخرى، وقد أشار المحقق قُدس سره إلى هذا الرأي بقوله: من به السلس، قيل: يتوضأ لكُلِّ صلاة.

القول الثاني: الوضوء لكُلّ صلاة، ولكن إذا جمع بين الظهرين أو بين العشائين فيكتفي لهما بوضوءٍ واحد، ولكنْ إن فرّق بينهما، وجب الوضوء لكل صلاة.

يدلُّ عليه ما رواه حريز عن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ أنه قال: إذا كان الرجل يقطر منه البول والدم، إذا كان حين الصلاة، اتخذ كيساً، وجعل فيه قطناً، ثم علّقه عليه وأدخل ذكره فيه، ثم صلى، يجمع بين الصلاتين: الظهر

ص: 410

والعصر، يؤخر الظهر ويعجّل العصر، بأذان وإقامتين، ويؤخر المغرب ويعجّل العشاء بأذان إقامتين، ويفعل ذلك في الصبح (1)ومن الواضح دلالة الرواية على جواز الجمع بين صلاتين بوضوء واحد.

القول الثالث: نزول البول من دون تحكم به هو مرض، فهو معذور في الحدث المبتلى به فقط، ويبقى على طهارته حتى يصدر منه حدثٌ آخر، أو يُحدث بنفس الحدث المبتلى به، ولكن بإرادته لا على نحوٍ مستندٍ إلى المرض.

كُلُّ ذلك إذا لم يكن للمسلوس فترة يمكنه الطهارة والصلاة فيها، وإلا وجب عليه انتظارها وأداء الصلاة فيها.

ثانيًا: حكم المبطون:

ونذكر فيه قولين:

القول الأول: وجوب الوضوء كُلّما تجدّد الحدث في الصلاة:

فلو صلّى، وفي صلاته أحدث، وجب عليه قطع الصلاة وتجديد الطهارة وإتمام الصلاة من حيث قطعها.

يدلُّ عليه ما روي عن محمدٍ بن مسلم عن أبي جعفرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال: صاحب البَطَن الغالب يتوضّأ ثم يرجع في صلاته فيُتِمُّ ما بقي (2)

ص: 411


1- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج1 ص 64 ح 146)، وتهذيب الأحكام للشيخ الطوسي (ج1 ص 348 و349 ح (1021 / 13).
2- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي (ج1 ص 350 و325) ،(ح 1036 / 28).

وهذا الذي ذكره المحقق قُدس سره بقوله: (وقيل: من به البَطَن إذا تجدّد حدثه في الصلاة يتطهّر ويبني) أي يُكمِلُ من حيث القطع.

القول الثاني:

إذا كان لديه وقت يسع الطهارة والصلاة، فيجب عليه انتظاره، فيتطهر ويصلي.

وإلا، فتصح الصلاة مع الحدث؛ لأن البَطَن مرضٌ، فصاحبه معذورٌ في خصوص الحدث المبتلى به، فإن أحدث بغير الحدث المبتلى به، أو أحدث بنفس الحدث المبتلى به ولكن باختياره، لم يكن معذورًا ووجب عليه تجديد الطهارة.

* * *

ص: 412

سُننُ الوضوء

ص: 413

ص: 414

قال المحقق قُدس سره: وسنن الوضوء هي: وضع الإناء على اليمين، والاغتراف بها، والتسمية، والدعاء، وغسل اليدين قبل إدخالهم الإناء، من حدث النوم أو البول مرة، ومن الغائط مرتين، والمضمضة، والاستنشاق، والدعاء عندهما، وعند غسل الوجه واليدين، وعند مسح الرأس والرجلين، وأن يبدأ الرجل بغسل ظاهر ذراعيه، وفي الثانية بباطنهما، والمرأة بالعكس، وأن يكون الوضوء بمد.

ذكر المحقق قُدس سره سنن أو مستحبات الوضوء، نتناولها بالتوضيح تباعًا:

الأول: وضع الإناء على اليمين:

يستحبُّ للمكلَّف وضع الإناء على يمينه عندَ الوضوء، وقد علّلوا ذلك بقولهم: إنّه الأمكن في الاستعمال، وهو نوعٌ من التدبير (1)؛ لإمكان الاغتراف منه بصورةٍ أفضل وأمكن ممّا لو كان على شماله.

ولكنّه لا ينهض ليكون دليلًا تامًا؛ لأنه مجرد استحسان، ولا يصلح اعتماده للاستدلال الفقهي في مذهبنا.

على أنه يمكن أنْ يقال: إنّه أمكن لمن كان يستعمل اليد اليمنى في القيام بأعماله، أمّا الأعسر فلا؛ لأن وضع الإناء على شماله له أمكن.

ص: 415


1- قال في مدارك الأحكام ج1 ص 244: وهذا الحكم مشهور بين الأصحاب، واستدل عليه في المعتبر بأن ذلك أمكن في الاستعمال، وهو نوع من التدبير.

نعم، ذكروا بعض الروايات التي قد تدلُّ على استحباب ذلك، منها ما روي عن النبي الأعظم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ أنّه قال: (إنّ الله تعالى يُحِبُّ التيامن في كُلِّ شيء) (1)

ووضع الإناء على اليمين أثناء الوضوء ممّا يصدق عليه التيامن.

إلا أن الرواية ضعيفة السند؛ لأنّها مروية في كتاب عوالي اللآلي، وقد تقدّم الحديث في أنّ الطابع العام لروايات عوالي اللآلي هو أنها مُرسلة ضعيفة السند.

وأيضاً رويت في مسند أحمد (2)وسنن النسائي (3)، ومن ثم فهي لم تُروَ من طرقنا؛ لأجل ذلك لم تقوَ للاستناد عليها للإفتاء، اللهم إلى بناءً على قاعدة التسامح في أدلة السنن.

نعم، ورد في كتبنا -مثل كتاب الكافي- ما يُفيد هذا المعنى؛ إذ رويت في حديث المعراج وهو حديث طويل نقتطع منه محل الشاهد:ثُمَّ أَوْحَى اللهُ إِلَيَّ: يَا مُحَمَّدُ، ادْنُ مِنْ صَادٍ، فَاغْسِلْ مَسَاجِدَكَ وطَهِّرْهَا، وصَلِّ لِرَبِّكَ، فَدَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ مِنْ صَادٍ، وهُوَ مَاءٌ يَسِيلُ مِنْ سَاقِ العَرْشِ الأَيْمَنِ، فَتَلَقَّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ المَاءَ بِيَدِه اليُمْنَى، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ صَارَ الوُضُوءُ بِاليَمِينِ... (4)

ص: 416


1- عوالي اللئالي لابن أبي جمهور الإحسائي ج2 ص 200 ح101.
2- مسند أحمد ج6 ص 202: عن عائشة قالت: كان رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ يحب التيامن في طهوره ونعله وفى ترجله.
3- سنن النسائي ج1 ص 78: عن مسروق عن عائشة وذكرت أن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ كان يحب التيامن ما استطاع في طهوره ونعله وترجله قال شعبة ثم سمعت الأشعث بواسط يقول: يحب التيامن، فذكر شأنه كله، ثم سمعته بالكوفة يقول: يحب التيامن ما استطاع.
4- الكافي للكليني ج3 ص 485 بَابُ النَّوَادِرِ ح1.

بناءً على أن أخذه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ الماء بيده اليمنى، يستلزم عرفاً كون الماء على يمينه.

وعلى كل حال، فبناءً على قبول قاعدة التسامح في أدلة السُنن، يكون وضع الإناء على يمين المكلف عند الوضوء مستحباُ، وإلا، فيمكن الإتيان به بنية رجاء المطلوبية.

الثاني: الاغتراف باليد اليمنى:

استدلوا على ذلك بالروايات البيانية (1)، مثل رواية أبي جعفر (صلوات الله وسلامه عليه) في حكاية وضوء رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ:... فَأَدْخَلَ يَدَه فِي الإِنَاءِ ولَمْ يَغْسِلْ يَدَه، فَأَخَذَ كَفّاً مِنْ مَاءٍ فَصَبَّه عَلَى وَجْهِه، ثُمَّ مَسَحَ جَانِبَيْه حَتَّى مَسَحَه كُلَّه، ثُمَّ أَخَذَ كَفّاً آخَرَ بِيَمِينِه فَصَبَّه عَلَى يَسَارِه، ثُمَّ غَسَلَ بِه ذِرَاعَه الأَيْمَنَ، ثُمَّ أَخَذَ كَفّاً آخَرَ فَغَسَلَ بِه ذِرَاعَه الأَيْسَرَ... (2)

ولكن قد يُقال: إنها غير كافية للدلالة على المطلوب، لأنها لا تدل على أكثر من إدخال اليد في الماء، ولم تعيّن كونها اليمنى، نعم،في غسل اليسرى صرحت بأنه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ أخذ باليمنى، وهذه حالة طبيعية كما هو واضح.

فالأولى إذن الاستدلال برواية الكافي المتقدمة بتقريبها المذكور.

الثالث والرابع: التسمية والدعاء:

وهذا ما ورد في بعض الروايات الشريفة، منها ما ورد عن الإمام الباقر عَلَيْهِ السَّلاَمُ أنّه قال:...فَإِذَا وَضَعْتَ يَدَكَ فِي المَاءِ فَقُلْ: بِسْمِ اللهِ وباللهِ، اللَّهُمَّ

ص: 417


1- مدارك الأحكام ج1 ص 245.
2- الكافي للكليني ج3 ص 25 بَابُ صِفَةِ الْوُضُوءِ ح3.

اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ، واجْعَلْنِي مِنَ المُتَطَهِّرِينَ، فَإِذَا فَرَغْتَ فَقُلِ: الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ... (1)

وروي أنه كان أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ إذا توضأ قال: بسم الله، وبالله، وخير الأسماء لله، وأكبر الأسماء لله، وقاهر لمن في السماء، وقاهر لمن في الأرض، الحمد لله الذي جعل من الماء كل شيء حي، وأحيا قلبي بالإيمان، اللهم تُب علي وطهرني واقض لي بالحسنى، وأرني كل الذي أحب، وافتح لي بالخيرات من عندك يا سميع الدعاء (2)

وفي فائدة التسمية في الوضوء، روي عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: إِذَا سَمَّيْتَ فِي الوُضُوءِ طَهُرَ جَسَدُكَ كُلُّه، وإِذَا لَمْ تُسَمِّ لَمْ يَطْهُرْ مِنْ جَسَدِكَ إِلَّا مَا مَرَّ عَلَيْه الماءُ (3)

الخامس: غسل اليدين:

قبل إدخالهما الإناء من حدث النوم أو البول مرة، ومن الغائط مرتين.

يستحبُّ للمحدث بحدث النوم - أي من كان نائمًا ثم استيقظ وأراد الوضوء- أو بحدث البول، عندما يريد أنْ يتوضّأ، أنْ يغسل يديه قبل إدخالهما في الإناء مرةً واحدةً، وأما إذا كان محدثًا بالغائط فيغسلهما قبل إدخالهما في الإناء مرّتين.

ص: 418


1- الكافي للكليني ج3 ص 445 بَابُ صَلَاةِ النَّوَافِلِ ح12.
2- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق ج1 ص 43 و44 ح 87.
3- الكافي للكليني ج3 ص 16 بَابُ الْقَوْلِ عِنْدَ دُخُولِ الْخَلَاءِ وعِنْدَ الْخُرُوجِ والِاسْتِنْجَاءِ ومَنْ نَسِيَه والتَّسْمِيَةِ عِنْدَ الدُّخُولِ وعِنْدَ الْوُضُوءِ/ ح2.

ويمكن أنْ يُستدلَّ له بما روي عن الحلبي، عن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ أنّه قال: سُئل كم يُفرِغ الرجل على يده قبل أنْ يُدخلها في الإناء فقال عَلَيْهِ السَّلاَمُ: واحدةٌ من حدث البول، واثنتان من الغائط وثلاث من الجنابة (1)

السادس والسابع: المضمضة والاستنشاق:

المضمضة: هي إدارة الماء في الفم.

والاستنشاق: هو اجتذابُ الماء بالأنف.

دلّت النصوص على استحباب المضمضة والاستنشاق، وقيل إنّها مستفيضة، وهما ليسا من أجزاء الوضوء، ولكنهما من مقدماته (2)الثامن: الدعاء عندهما وعند غسل الوجه واليدين وعند مسح الرأس والرجلين:

يمكن أنْ يُستدلّ عليه بما روي عن الإمام الصادق عَلَيْهِ السَّلاَمُ أنّه قال: بينا أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ ذاتَ يومٍ جالس مع محمدٍ بن الحنفية إذ قال: يا مُحمّد، ائتني بإناءٍ من ماءٍ أتوضّأ للصلاة، فأتاه محمدٌ بالماء فأكفأ بيده اليمنى على يده اليسرى ثم قال: بسم الله وبالله والحمد لله الذي جعل الماء طهورًا ولم يجعله نجسًا... ثم تمضمض فقال: اللهم لقِّنّي حُجّتك يومَ ألقاك، وأطلقْ

ص: 419


1- الاستبصار للشيخ الطوسي (ج1 ص 50) باب (30) باب غسل اليدين قبل ادخالهما الاناء عند واحد من الاحداث/ ح (141 – 1).
2- قال في مدارك الأحكام ج1 ص 247: المضمضة هي إدارة الماء في الفم، والاستنشاق اجتذابه بالأنف. والحكم باستحبابهما هو المعروف من المذهب، والنصوص به مستفيضة.

لساني بذكرك، ثم استنشق فقال: اللهم لا تُحرِّمْ عليّ ريحَ الجنة واجعلني ممّن يشمُّ ريحَها وروحها وطيبها. قال غسل وجهه فقال: اللهم بيّضْ وجهي يومَ تسودُّ فيه الوجوه، ولا تُسوِّدْ وجهي يوم تبيضُّ فيه الوجوه. ثم غسل يده اليمنى فقال: اللهم أعطِني كتابي بيميني والخلد في الجنان في يساري، وحاسبني حسابًا يسيرًا، ثم غسل يده اليسرى فقال: اللهم لا تُعطِني كتابي بيساري، ولا تجعلْها مغلولةً إلى عنقي، وأعوذ بك من مُقطِّعات النار. ثم مسح رأسه فقال: اللهم غشّني برحمتك وبركاتك وعفوك، ثم مسح رجليه فقال: اللهم ثبِّتني على الصراط المستقيم يومَ تزِلُّ فيه الأقدام، واجعل سعيي فيما يُرضيك عنّي، ثم رفع رأسه ونظر إلى محمد وقال: يامُحمّد من توضّأ مثل وضوئي وقال مثل قولي خلق الله تبارك وتعالى من كُلِّ قطرةٍ ملكًا يُقدِّسُه ويُسبِّحُه ويُكبِّرُه فيكتب الله عَزَّوَجَل ثواب ذلك له إلى يوم القيامة (1)

التاسع: أنْ يبدأ الرجل بغسل ظاهر ذراعيه، وفي الثانية بباطنهما، والمرأة بالعكس:

يدلُّ عليه ما روي عن الإمام الرضا (صلوات الله وسلامه عليه) أنّه قال: فرض الله على النساء في الوضوء أنْ يبدأن بباطن أذرعهن، وفي الرجال بظاهر الذراع (2)

ص: 420


1- من لا يحضره الفقيه (ج1 ص 41 – 43) صفة وضوء أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ (ح84).
2- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج1 ص 76 و77 ح(193 / 42).

العاشر: أنْ يكون الوضوء بمُدّ:

وهذا هو قول علمائنا أجمع (1)، ويمكن أنْ يُستدلَّ له بما روي عن أبي جعفرٍ (صلوات الله وسلامه عليه) أنّه قال: كان رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ يغتسل بصاعٍ من ماء، ويتوضّأ بمُدٍّ من ماء (2)

والصاع: من المكاييل المعروفة قديمًا لكيل المواد المختلفة، لا سيما الغذائية، وقال الفقهاء بأنّها يمكن أن تساوي أربعة أمداد تقريبًا، وأما المُدّ فيُقدّر بثلاثة أرباع كيلو غرام تقريبًا.

مكروهات الوضوء:

قال قُدس سره: ويُكرَه أنْ يستعين في طهارته، وأنْ يمسحَ بلل الوضوء عن أعضائه.

ذكر قُدس سره مكروهين:

المكروه الأول: أنْ يستعين في طهارته:

للاستعانة في الطهارة صورٌ ثلاثة:

الصورة الأولى: أنْ يقوم المُعين بغسل ومسح أعضاء المتوضئ، بأنْ يأخذ الماء ويغسل وجهه ويديه، ويمسح رأسه ورجليه.

وقد تقدّم عدم جوازه في - صورة الاختيار-؛ لأنّه يخالف شرط المباشرة في الوضوء؛ إذ يشترط في الوضوء أنْ يباشر المتوضئ وضوءه بنفسه، فيغسل وجهه ويديه، ويمسح رأسه ورجليه.

ص: 421


1- مدارك الأحكام ج1 ص 250.
2- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج1 ص 136 ح (377 / 68).

الصورة الثانية: أنْ تقتصر الاستعانة بالغير على صبِّ الماء؛ بأن يصبَّ المُعينُ الماءَ في يدِ المُتوضّئ، ثم يقوم المتوضئ بمباشرة الوضوء بنفسه، فيغسل وجهه ويديه ويمسح رأسه ورجليه.

وحكم هذه الصّورة هي الكراهة (1)

الصورة الثالثة: الاستعانة بالغير للقيام بتهيئة بعض مقدمات الوضوء، كإحضار الماء أو تسخينه.وفيها رأيان:

الرأي الأول: الكراهة؛ إذ ذكر بعض شُرّاح كتاب شرائع الإسلام بأنَّ تهيئة المقدمات كإحضار الماء هي من الصور المكروهة في الوضوء (2)

الرأي الثاني: لا كراهة فيها؛ لأنّ مثل إحضار الماء وتسخينه وما شابهه هي من مقدمات الوضوء لا من أجزاء الوضوء، وما دلّ على كراهة ذلك خاصٌ بنفس الوضوء، لا بمقدماته.

وعلى كل حال، فإنه يمكن أن يستدل على كراهة الاستعانة بما رواه الكليني بسنده عَنِ الحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الوَشَّاءِ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى الرِّضَا عَلَيْهِ السَّلاَمُ وبَيْنَ يَدَيْه إِبْرِيقٌ، يُرِيدُ أَنْ يَتَهَيَّأَ مِنْه لِلصَّلَاةِ، فَدَنَوْتُ مِنْه لأَصُبَّ عَلَيْه، فَأَبَى

ص: 422


1- قال الشهيد الثاني في حاشيته على شرائع الإسلام ص 35: تتحقّق الاستعانةُ بصبّ المعين الماءَ في اليد ليغسل به المتوضّئ، لا بصبّه على العضو لأنّه توليةٌ. ولا فرق في الكراهية بين طلبها، وقبولِها لو عُرضتْ عليه.
2- قال الشهيد الثاني في مسالك الأفهام ج1 ص 44: تتحقق الاستعانة بصب الماء في اليد ليغسل به المتوضئ، والظاهر أنه يصدق بطلب إحضار الماء ليتوضأ به.

ذَلِكَ، وقَالَ: مَه، يَا حَسَنُ، فَقُلْتُ لَه: لِمَ تَنْهَانِي أَنْ أَصُبَّ عَلَى يَدِكَ تَكْرَه أَنْ أُوجَرَ؟ قَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: تُؤْجَرُ أَنْتَ وأُوزَرُ أَنَا! فَقُلْتُ لَه: وكَيْفَ ذَلِكَ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: أمَا سَمِعْتَ اللَّه عَزَّوَجَل يَقُولُ: «فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً» (1)، وهَا أَنَا ذَا أَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ، وهِيَ العِبَادَةُ، فَأَكْرَه أَنْ يَشْرَكَنِي فِيهَا أَحَدٌ (2)وقيل بضعف سند الرواية، ولكن مع ضعف سندها يمكن الاستدلال بها على الكراهة؛ بناءً على قاعدة التسامح في أدلة السنن.

أما من لم يبنِ على هذه القاعدة، فيمكن أنْ يترك هذا النوع من الاستعانة بنية رجاء المطلوبية.

المكروه الثاني: مسح بلل الوضوء:

قال المحقق قُدس سره: وأنْ يمسح بلل الوضوء على أعضائه:

وهو ما يُسمّى ب-(التمندُل)، أي استعمال المنديل لمسح بلل الوضوء من الوجه واليدين.

قيل: إنّ أول من حكم بكراهة هذا المكروه هو صاحب الشرائع قُدس سره.

ص: 423


1- الكهف: (110) والباء في قوله تعالى: «بعبادة ربه» ظرفية والتفسير المشهور لهذه الآية ولا يجعل أحدا شريكا مع ربه في المعبودية فلعل كلا المعنيين مراد فان الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُ لم ينف ذلك التفسير، هذا ولا يخفى أن الضمير في قوله عَلَيْهِ السَّلاَمُ: «وهي العبادة» وقوله: «أن يشركني فيها» راجعين إلى الصلاة والغرض منع الشركة في الوضوء فكأنه لعدم تحققها بدونه أو بدله كالجزء منها ولا يبعد أن يجعل الباء في الآية للسببية وكذا في قوله عَلَيْهِ السَّلاَمُ: «فيها» وحينئذ لا يحتاج إلى تكلف جعل الوضوء كالجزء من الصلاة فتدبر، (هامش المصدر).
2- الكافي للكليني (ج3 ص 9 بَابُ النَّوَادِرِ ح1).

نعم روي عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حُمْرَانَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: مَنْ تَوَضَّأَ فَتَمَنْدَلَ كَانَتْ لَه حَسَنَةٌ، وإِنْ تَوَضَّأَ ولَمْ يَتَمَنْدَلْ حَتَّى يَجِفَّ وَضُوؤُه، كَانَتْ لَه ثَلَاثُونَ حَسَنَةً (1)إلا أنّها ذكرت بأنَّ من يتمندل له ثوابٌ أيضًا وإنْ كان أقل من ثواب من لم يتمندلْ، فيمكن القول بأن معنى الكراهة فيه هو الأقل ثواباً، لا المبغوض بحد لا يصل إلى حدّ الإلزام.

أضف إلى ذلك، فإنه يمكن القول بعدم الكراهة بدلالة ما روي عن محمدٍ بن مسلم أنّه قال: سألتُ أبا عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ عن المسح بالمنديل قبلَ أنْ يجفَّ قال عَلَيْهِ السَّلاَمُ: لا بأس به (2)

وكذا ما جاء في روايةٍ أُخرى (وهي مرسلة) عن منصور بن حازم قال: رأيت أبا عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ وقد توضّأ وهو مُحرِمٌ ثم أخذ منديلًا فمسح به وجهه (3)

وفي رواية أخرى أنه كانت لعلي عَلَيْهِ السَّلاَمُ، خرقة يعلقها في مسجد بيته لوجهه، إذا توضأ يتمندل بها (4)

ص: 424


1- الكافي للكليني (ج3 ص 70 بَابُ النَّوَادِرِ ح4).
2- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج1 ص 364 ح (1101 / 31).
3- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج2 ص 352 ح 2679).
4- المحاسن للبرقي ج2 ص429 ح248. هذا وقد ذكر الفضل بن شاذان في الفضائل ص 111: ومن فضائله عَلَيْهِ السَّلاَمُ قيل: إنه كان في بعض غزواته وقد دنت الفريضة ولم يجد ماء يسبغ به الوضوء، فرمق بطرفه إلى السماء والناس قيام ينظرون،فنزل جبرئيل وميكائيل عَلَيْهِما السَّلاَمُ ومع جبرئيل سطل فيه ماء، ومع ميكائيل منديل، ووضعا السطل والمنديل بين يدي أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ، فاسبغ الوضوء من ذلك الماء ومسح وجهه الكريم بالمنديل، فعند ذلك عرجا إلى السماء والخلق ينظر إليهما.

سؤال:

لو سلّمنا أنّ التمندلَ مكروه، فهل تجفيف بلل الوضوء بغير المنديل مكروهٌ أيضًا، كالتجفيف بحرارة النار أو بحرارة الشمس أو بالهواء الدافئ الذي يدفعه جهاز التجفيف الذي يوضع في بعض الحمامات العامة؟

الجواب:

في مقام الجواب هناك رأيان:

الرأي الأول: مكروه؛ لأنّ علة الكراهة الموجودة في التجفيف بغير التمندل هي ذاتها علة التجفيف بالتمندل، وهو تجفيف ماء الوضوء.

الرأي الثاني: ليس بمكروه؛ لأنَّ الرواية -لو سلمنا دلالتها- وردت في كراهة التجفيف بالمنديل، فنقتصر على مدلول اللفظ الذي ذكرته الرواية؛ إذ لا يصح إضافة مصاديق جديدة بدعوى وحدة علة الحكم؛ لعدم القدرة على معرفة المصالح والمفاسد الواقعية للأحكام الشرعية.

* * *

ص: 425

ص: 426

الفصل الرابع في بعض أحكام الوضوء

وفيه يذكر المحقق قُدس سره قواعد وأحكامًا عديدةً، جاء بعضها بصورةٍ سلسة وسهلة وواضحة، فيما جاء بعضها الآخر بعبارةٍ مضغوطة تحتاج إلى شرحٍ وتوضيح وبيان؛ لذلك سنحاول إيضاحها ما أمكن.

الحكم الأول:

قال قُدس سره: من تيقن الحدث وشك في الطهارة... تطهر.

من كان على يقين بأنه كان محدثاً، ولكنه شك في الطهارة، فعليه أن يتطهر للصلاة.

وهو تطبيقٌ لأصل الاستصحاب، وقد تقدّم شرحه، وخلاصته: عند اجتماع اليقين السابق مع الشك اللاحق، فالبناءُ على اليقين؛ فمن تيقنّ من الحدث وشكَّ في الطهارة، وجب عليه البناء على الحدث فيلزمه التطهر، وذلك لأنَّ اليقين لا ينقضه ولا يبطله إلا يقينٌ مثله.

ص: 427

الحكم الثاني:

قال قُدس سره:...أو تيقنهما وشك في المتأخر تطهر:

من تيقن بكلٍ من الطهارة والحدث، ولم يشك بأي منهما، بل كان على يقين بطهارته، وعلى يقين بحدثه، إلا أنّه يشك في المتقدم منهما؛ فلا يعلم أكانت الطهارة هي المتأخرة -وبناءً على ذلك فهو متطهرٌ بالفعل ولا موجب لتجديد الطهارة-، أم كان الحدث هو المتأخر، ومن ثم فلا بُدّ من تجديد طهارته؟

ولمّا كان كلا الاحتمالين وارداً من جهة، وليس بالإمكان ترجيح أيٍّ منهما؛ لأنّه عندئذٍ يكون ترجيحًا بلا مرجح من جهةٍ أخرى، فإذا أضفنا إليهما جهة ثالثة - وهي ضرورة القطع بالطهارة، بمعنى عدم كفاية الظن فيها فضلًا عن الشك؛ لتوقف فراغ الذمة عليها -، كان الحكم هو وجوب الطهارة؛ لتحصيل ذلك القطع بالطهارة ومن ثم القطع بفراغ الذمة.

ومما يجدر التنبيه إليه أنّ القطع يحصل للمكلف عن طريقين:

الأول: اليقين الوجداني، أي أن يعلم المكلف بأنّه قد توضّأ فعلًا.

الثاني: اليقين التعبُّدي، وهو اليقين المتولّد من تطبيق بعض الأصول العملية، كقاعدة الاستصحاب مثلًا، ولها الكثير من التطبيقات، منها: أنْ يكون المكلف متيقنًا من الطهارة شاكًّا بالحدث، فيقطع الشرع شكَّه هذا بالحكم بطهارته بناءً على أصل الاستصحاب،فاليقين هنا لم يحصل عليه المكلف لولا الشرع؛ ولذا فهو من اليقين التعبدي.

ص: 428

الحكم الثالث:

قال المحقق قُدس سره: وكذا لو تيقّن ترك عضوٍ، أتى به وبما بعده، وإنْ جفَّ البلل استأنف.

لو تيقّن المكلف بأنّه ترك جزءًا من أجزاء الوضوء، كما لو تيقّن بأنّه لم يغسل يده اليمنى عند مسح رأسه مثلًا، فحينئذٍ يجب أن يرجع إلى ما تيقن من تركه ويأتي به، فيأتي بغسل اليد اليمنى في الفرض، ويأتي بما بعده من أجزاء الوضوء.

وللحكم المتقدّم شرطٌ، وهو: عدم فوات الموالاة، وعلامة ذلك: أنْ لا يكون بلل الوضوء قد جفَّ، فإنْ جفّ، فلا بُدّ من استئناف الوضوء (1)

الحكم الرابع:

قال قُدس سره: إنْ شكّ في شيء من أفعال الطهارة وهو على حاله، أتى بما شك فيه، ثم بما بعده.

لو شكَّ المكلف بإتيانه فعلًا من أفعال الوضوء، كما لو شكّ بغسل وجهه وهو مشغولٌ بمسح رجليه مثلًا، وجب الرجوع والإتيانبما شكَّ فيه وبما بعده، فيغسل وجهه في الفرض ويكمل باقي أجزاء الوضوء.

ومما يدل على هذا الحكم ما روي عن زرارة عن أبي جعفر (صلوات الله وسلامه عليه) قال: إذا كنت قاعداً على وضوئك، فلم تدرِ أغسلت

ص: 429


1- راجع في معنى الموالاة والآراء فيها المسألة الثانية: في الموالاة.

ذراعيك أم لا، فأعد عليهما، وعلى جميع ما شككت فيه أنك لم تغسله أو تمسحه، مما سمى الله ما دمت في حال الوضوء، فإذا قمت عن الوضوء وفرغت منه وقد صرت في حال أخرى، في الصلاة، أو في غيرها، فشككت في بعض ما قد سمى الله مما أوجب الله عليك فيه وضوءه، لا شيء عليك فيه... (1)

الحكم الخامس:

قال المحقق قُدس سره: ولو تيقن الطهارة وشكّ في الحدث...، لم يُعِدْ.

لو تيقّن المكلف بأنّه قد توضّأ فعلًا، وشكّ في حصول الحدث، لم يلزمه إعادة الوضوء؛ للاستصحاب، إذ الشك لا ينقض اليقين، واليقين لا ينتقض إلا بمثله، أي بيقين آخر.

الحكم السادس:

قال المحقق قُدس سره: لو تيقّن الطهارة، وشكّ في الحدث، أو في شيءٍ من أفعال الوضوء بعد انصرافه، لم يُعِدْ.لو شكّ المكلف بإتيانه بأحد أفعال الوضوء بعد انصرافه من الوضوء، أي بعد فراغه منه، حينئذٍ لا تجب الإعادة.

تدل على هذا الحكم رواية زرارة عن أبي جعفر (صلوات الله وسلامه عليه) المتقدمة في الحكم الرابع.

ص: 430


1- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج1 ص 100 ح (261 / 110).

فإنْ قيل: ما الفرق بين الشك حال الوضوء، والشك بعد الفراغ منه؛ ليختلف الحكم بينهما؟

قيل: إن الفرق بينهما هو: أن الحالة الأولى مورد لقاعدة التجاوز، حيث يكون الشك في العمل العبادي قبل الانتهاء منه، وأن الحالة الثانية مورد لقاعدة الفراغ، حيث يكون الشك في العمل العبادي بعد الفراغ والانتهاء منه، وأن ما يجري في الوضوء هي قاعدة الفراغ دون التجاوز.

ولبيان الحال، نذكر معنى القاعدتين:

قاعدة التجاوز:

هي قاعدة فقهية، موردها الشك في جزء من العمل أثناء العمل، وبعد تجاوز محل ذلك الجزء، سواء أكان الشكُّ في أصل الإتيان به، كما لو شك المكلف -وهو في ركوعه- في إتيانه بقراءة السورة التي تلي سورة الفاتحة، أم كان الشك في صحة ذلك الجزء مع التيقن بأنهأتى به، كما لو شكَّ المكلف في صحة قراءته لتلك السورة وهو في الركوع.

والحكم هنا هو عدم الاعتناء بذلك الشك، فيكمل المكلف صلاته في الفرضين المتقدّمين ولا شيء عليه.

وهذه القاعدة تجري في جميع الأعمال العبادية المركبة، إلا الوضوء؛ وذلك للروايات الدالة على ذلك، منها ما تقدم في رواية زرارة عن أبي جعفر (صلوات الله وسلامه عليه) قال: إذا كنت قاعداً على وضوئك، فلم

ص: 431

تدرِ أغسلت ذراعيك أم لا، فأعد عليهما، وعلى جميع ما شككت فيه أنك لم تغسله أو تمسحه، مما سمى الله ما دمت في حال الوضوء... (1)

وعليه، فلو شك المكلف في فعلٍ سابق من الوضوء أثناءه، وجب الاعتناء بذلك الشك، ولزم الرجوع والإتيان به وبما بعده.

قاعدة الفراغ:

وموردها الشك في جزءٍ من أجزاء العمل العبادي بعد الانتهاء من كل العمل.

وهي قاعدة تجري في كل العبادات، بما فيها الوضوء؛ لدلالة الروايات على ذلك، منها ما تقدم في رواية زرارة عن أبي جعفر(صلوات الله وسلامه عليه) قال:...فإذا قمت عن الوضوء وفرغت منه وقد صرت في حال أخرى، في الصلاة، أو في غيرها، فشككت في بعض ما قد سمى الله مما أوجب الله عليك فيه وضوءه، لا شيء عليك فيه... (2)

وعليه، فلو شكَّ المكلف بإتيانه بالقراءة بعد فراغه من الصلاة، أو شك بإتيانه بغسل اليد اليمنى بعد فراغه من الوضوء، لم يعتنِ بشكه، فلا يعيد.

وقد علّلت بعض الروايات سبب عدم الإعادة بعد الفراغ من العمل العبادي؛ بأنّ المكلف يكون حالَه - أي حال العمل العبادي- أذكر مما هو

ص: 432


1- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج1 ص 100 ح (261 / 110).
2- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج1 ص 100 ح (261 / 110).

بعده، كما في رواية بكير بن أعين قال: قلت له: الرجل يشك بعد ما يتوضأ؟ قال: هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك (1)

الحكم السابع:

قال قُدس سره: ومن ترك غسل موضع النجو أو البول، وصلى، أعاد الصلاة، عامدًا كانَ أو ناسيًا أو جاهلًا.

من المعلوم أنَّ مما يُشترط في الصلاة: طهارة البدن من النجاسات؛ فمن لم يستنجِ، لم يحقق هذا الشرط؛ لأنّ خروج البول أو الغائط يتسبّب في تنجيس البدن، وقد تقدّم أنّ الاستنجاء إنّما يجب لافي حدّ نفسه، وإنّما لأجل تطهيرِ البدن للدخول في الصلاة، فإذا تعمّدَ الشخص عدم الاستنجاء، لا يكون قد حقّق هذا الشرط، وحينئذٍ تلزمه إعادة الصلاة بعد تطهير المحل من النجاسة.

وقد أطلق المحقق قُدس سره لزوم إعادة الصلاة للعامد والناسي والجاهل، وبذا فقد عدَّ الاستنجاء شرطًا واقعيًا في صحة الصلاة، وليس شرطًا ذكريًا علميًا، وقد تقدّم بيان معنى الشرط الذكري والشرط الواقعي.

ولكن هل تلزم إعادة الوضوء أيضًا؟

فلو أحدث بالتخلّي بأحد الحدثين، ثم توضّأ من دون أن يستنجي، ثم صلى، هل تجب عليه إعادة الوضوء؟

في هذا المقام توجد ثلاثة آراء:

ص: 433


1- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج1 ص 101 ح (265 / 114).

الأول: عدم لزوم إعادة الوضوء:

لأنّه لم يُحدث، نعم، هو لم يستنجِ، وبذا أوجب عليه المحقق قُدس سره إعادة الصلاة بعد تطهير الموضع فقط؛ لأنّه لم يُحقّق شرط طهارة البدن في الصلاة كما تبين، أما وضوؤه فصحيح؛ لأنّه لم ينتقض بحدثٍ آخر من جهةٍ، ولأن طهارة البدن - عدا أعضاء الوضوء- ليست شرطًا في صحة الوضوء من جهةٍ أخرى.

وممن ذهب إلى هذا الرأي المحقق قُدس سره إذ قال: (ومن ترك غسل موضع النجو أو البول، وصلى، أعاد الصلاة عامدًا كانَ أو ناسيًا أو جاهلًا) ولم يقل: إن عليه أن يُعيد الوضوء.

الثاني: التفصيل مبنياً على نوع الحدث:

فإن أحدث بالغائط فلا تلزم إعادة الوضوء، أي لو ترك الاستنجاء من حدث الغائط وتوضّأ وصلّى، حينئذٍ لا يجب عليه إلا تطهير الموضع، وإنْ أحدث بحدث البول ولم يتطهر منه، لزمه إعادة الوضوء (1)

وقد استند هذا الرأي إلى بعض الروايات، من قبيل ما روي عن سليمان بن خالد عن أبي جعفرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ في الرجل يتوضأ فينسى غسل ذكَرَه. قال عَلَيْهِ السَّلاَمُ: يغسل ذكره ثم يعيد الوضوء (2)

ص: 434


1- قال في مدارك الأحكام (ج1 ص258): وذهب ابن بابويه رحمة الله إلى أن من ترك غسل موضع البول يلزمه إعادة الوضوء أيضا، بخلاف مخرج الغائط، فيقتصر فيه على إعادة الصلاة، وكأنه استند في إعادة الوضوء إلى رواية سليمان بن خالد...
2- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج1 ص 49 ح (142 / 81).

الثالث: استحباب إعادة الوضوء في حدث البول (1):

وذلك لأجل:

أ- وجود روايات توجب الوضوء إذا ما أحدث بالبول ثم توضّأ وصلى من دون استنجاء، منها الرواية التي تقدّمت في الرأي الثاني، حيث ورد فيها: (يغسل ذكره ثم يعيد الوضوء).ب- وجود رواياتٍ أخرى صحيحة لا توجب الوضوء، منها رواية عليٍ بن يقطين عن أبي الحسن الكاظم عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال: سألته عن الرجل يبول فلا يغسل ذكره حتى يتوضأ وضوء الصلاة؟ فقال عَلَيْهِ السَّلاَمُ: يغسل ذكره ولا يعيد وضوءه (2)

وعن عمرو بن أبي نصر قال: سألت أبا عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ عن الرجل يبول فينسى أن يغسل ذكره ويتوضأ؟ قال عَلَيْهِ السَّلاَمُ: يغسل ذكره ولا يعيد وضوءه (3)

وفي مقام الجمع بين هاتين الطائفتين من الروايات، حمل جمعٌ من الفقهاء الروايات التي يظهر منها الوجوب على الاستحباب.

ص: 435


1- قال في مدارك الأحكام (ج1 ص 259): والجواب -بعد تسليم السند- بالحمل على الاستحباب، جمعاً بينها وبين غيرها من الأخبار الكثيرة الدالة على عدم وجوب إعادة الوضوء بذلك صريحاً...
2- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج1 ص 48 ح (138 / 77).
3- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج1 ص 48 ح (139 / 78).

الحكم الثامن:

قال قُدس سره: ومن جدّد وضوءه بنية الندب، ثم صلّى، وذكر أنّه أخلّ بعضوٍ من إحدى الطهارتين: فإن اقتصرنا على نية القربة، فالطهارة والصلاة صحيحتان، وإن أوجبنا نية الاستباحة أعادهما.

تقدّم أنّ الوضوء الرافع للحدث تشترط فيه نية القربة، وأما نية الاستباحة للصلاة فهناك رأيان للفقهاء: فمنهم من قال باشتراطها، ومنهم من قال بعدمه.أما الوضوء التجديدي فلا تُشترط فيه نية الاستباحة قطعًا؛ لعدم وجود حدثٍ ليرفعه.

الحكم الثامن يقول: لو كان المُكلف متوضئًا وضوءًا رافعًا للحدث، ثم توضّأ ثانيةً استحبابًا، ثم صلى، ثم تذكّر أنّه قد أخلَّ بجزءٍ من أجزاء الوضوء، - سواء أكان الخلل في غسلِ عضوٍ أم مسحه -، وكان ذلك الخلل قد وقع في إحدى الطهارتين، أي في أحد الوضوئين - الوضوء الرافع للحدث أو الوضوء التجديدي-، من دون أن يعلم في أي من الوضوئين وقع الخلل، ممّا يعني أنّ أحد الوضوئين باطل يقينًا، فإما أنْ يكون الوضوء الرافع للحدث هو الباطل، أو أن يكون الوضوء التجديدي هو الباطل.

مع التنبيه على أن المقصود من الخلل هو عدم الإتيان بجزء من أجزاء الوضوء الواجبة، وليس المقصود هو حصول حدث بعد إحدى الطهارتين.

فما الحكم حينئذٍ؟

في هذا الفرض صورتان:

ص: 436

الصورة الأولى: البناء على صحة الوضوء الرافع للحدث والمُبيح للصلاة، وكفاية الإتيان به بنية القربة إلى الله عَزَّوَجَل، ولا تلزم فيه نية الاستباحة.

وعليه، فهو متطهر، فلا موجب لإعادة الوضوء أولًا، ومن ثم فصلاته صحيحة، ولا موجب لإعادتها؛ وذلك لأنَّ القول بكفايةالإتيان بالوضوء بنية القربة فقط - وإن خلا من نية الاستباحة للصلاة - يلزم منه صحة أحد الوضوئين قطعًا، فإن كان الوضوء الأول -الوضوء الرافع للحدث- خاليًا من الخلل، فالمكلف طاهر وصلاته صحيحة؛ لإتيانه بالوضوء بنية القربة إلى الله تعالى، وهي نيةٌ كافيةٌ في صحة الوضوء للصلاة.

وإن كان الوضوء الثاني - التجديدي المستحب - خاليًا من الخلل، فهو طاهرٌ أيضًا وصلاته صحيحة؛ لإتيانه بالوضوء بنية القربة إلى الله تعالى، وهي نيةٌ كافيةٌ في صحة الوضوء للصلاة.

ففي كلتا الحالتين لا تلزمه إعادة الطهارة والصلاة.

الصورة الثانية: البناء على أن شرط صحة الصلاة هو الإتيان بالوضوء بنيةٍ مركبةٍ من: نية القربة، ونية استباحة الصلاة.

وحينئذٍ، عليه أن يُعيد الصلاة؛ لأنَّ نية استباحة الصلاة موجودة فقط في الوضوء الأول الرافع للحدث فقط، فالوضوء التجديدي يخلو حتمًا من نية الاستباحة؛ لأنّه كان بنيّة تجديد للطهارة الموجودة سابقًا وليس بينة أن يكون رافعًا لحدثٍ عنده.

ص: 437

فينحصر الوضوء الصحيح والمبيح للصلاة بالوضوء الأول فقط دون الثاني، وبما أنَّ أحد الوضوئين فيه خلل قطعًا حسب للفرض، ويُحتمل أنْ يكون الوضوء الأول باطلًا، من ثم يحتمل أن تكون صلاته صحيحةً كما يُحتمل أن تكون باطلة.ونحن نعلم أن اشتغال الذمة اليقيني للمكلف، يستدعي أن يكون متيقناً من فراغها بالإتيان بالعمل جزماً، بناءً على قاعدة الاشتغال التي تقدّم الحديث عنها، والتي كانت خلاصتها: أنّ المكلف طالما لم يتيقن بأنّ ذمته قد فرغت فراغًا يقينيًا من التكليف المتوجه إليها، يلزمه أداء ذلك العمل؛ لاشتغال ذمته اليقيني بها.

وبالوضوء المتقدم لم يتيقن المكلف من فراغ ذمته؛ لاحتمال صحة وضوئه واحتمال بطلانه، وعدم الفراغ اليقيني يلزم منه الاشتغال، لذا لزمته إعادة الوضوء والصلاة معًا.

الحكم التاسع:

قال المحقق قُدس سره: ولو صلى بكل واحدةٍ منهما أعاد الأولى بناءً على الأول:

الفرض هنا هو:

لو أنَّ المُكلّفَ توضّأ وضوءًا رافعًا للحدث، ثم صلّى به، -ولتكن صلاةَ الظهر مثلًا-، ثم توضّأ وضوءًا تجديديًا وصلّى به صلاةً أُخرى، -ولتكن العصر-، وبعد ذلك تذكّر أو علم أنّه أخلّ بإحدى الطهارتين، فيكون أحدُ الوضوئين باطلًا.

ص: 438

هنا تأتي كلا الصورتين في الحكم السابق، لكن حكمهما يختلف لحيثيةٍ جديدة:

الصورة الأولى: أن يُبنى على كفاية الوضوء بنية القربة فقط في صحة الصلاة:أي: لو أنَّ المكلف أتى بوضوءٍ قربة إلى الله تعالى فصلاته صحيحة، وحينئذٍ تكون الصلاة الثانية -العصر كما في الفرض- صحيحة على كل حال؛ لأنّها وقعت بعد وضوئين - الوضوء الرافع للحدث والوضوء التجديدي- جاء بهما المكلف بنية القربة إلى الله تعالى.

وعليه، فإنْ كان الخلل قد وقع في الوضوء الأول، فإنّ الوضوء الثاني يُجزي في صحة الصلاة الثانية، وإن وقع الخلل في الوضوء الثاني أجزأ الأول في صحة الصلاة أيضًا.

وأما الصلاة الأولى - الظهر كما في الفرض- فتلزم إعادتها؛ لأنّ فيها احتمالين:

الاحتمال الأول: أنْ يكون الخلل قد حدث في الوضوء الأول، فيبطل، ولمّا لم يأتِ المكلف بوضوءٍ جديد لها، فإنّ صلاته حينئذٍ تكون باطلة بلا أدنى شك.

الاحتمال الثاني: أنْ يكون الخلل قد حدث في الوضوء الثاني، فيبطل، ولكن لمّا جاء المكلف بالصلاة الأولى بعد الوضوءٍ الأول، وهو صحيح، فإنّ صلاته الأولى حينئذٍ تكون صحيحة بلا أدنى شك، فالصلاة الأولى يدور أمرها بين الصحة والبطلان.

ص: 439

ومع عدم إمكان ترجيح أحد الاحتمالين، تبقى ذمة المكلف مشتغلة بالتكليف؛ لأنّه كما يُحتمل أن تكون صلاته صحيحة ومجزية، فإنّه يحتمل أن تكون باطلة، وما زالت ذمة المكلف مشغولةبها. ومن ثم لا يمكنه الجزم بفراغ ذمته من التكليف بالصلاة، فتلزمه إعادة الصلاة.

الصورة الثانية: أن يُبنى على وجوب نية الاستباحة في صحة الصلاة:

أي إن نية القربة إلى الله تعالى في الوضوء وحدَها غير كافية في صحة الصلاة، بل لا بُدّ من الإتيان بالوضوء بنية استباحة الصلاة أيضًا.

وهذه النية لم تتوفر إلا في الوضوء الرافع للحدث فقط (وهو الأول)؛ لأنّ الوضوء التجديدي حيث لم يأتِ به المكلف لرفع الحدث، لا يُتعقل فيه أو يُتصور أن يأتي به بنية استباحة الصلاة.

وعليه، فالأمر لا يخلو من احتمالين أيضًا:

الاحتمال الأول: أنْ يكون الخلل في الوضوء الثاني التجديدي، فيكون هو الباطل.

ص: 440

وحينئذٍ يكون الوضوء الأول الرافع للحدث والمتوفر على نية الاستباحة صحيحًا، فتصح تبعًا لذلك صلاة الظهر وصلاة العصر معًا؛ لأنّ كليهما قد وقعتا بوضوءٍ رافعٍ للحدث ومبيحٍ للصلاة، أي توفر على نية استباحة الصلاة التي تتوقف على الوضوء بها صحة الصلاة.الاحتمال الثاني: أنْ يكون الخلل في الوضوء الأول الرافع للحدث والمُبيح للصلاة، فيكون هو الباطل.

وحينئذٍ تلزم إعادة كلٍّ من صلاة الظهر وصلاة العصر؛ لأنّ الوضوء الذي جاء به المكلف بنية استباحة الصلاة باطلٌ؛ لوقوع الخلل فيه، والوضوء الثاني لم تتوفر فيه نية الاستباحة اللازم توفرها في الوضوء لتصحَّ به الصلاة، وبذلك تكون كلتا الصلاتين قد وقعت من دون وضوء مبيحٍ للصلاة، فتلزم إعادتهما.

الحكم العاشر:

قال المحقق قُدس سره: ولو أحدث عقيب طهارةٍ منهما، ولم يعلمها بعينها، أعاد الصلاتين إن اختلفتا عددًا، وإلّا فصلاةً واحدةً ينوي بها ما في ذمته.

لو أنّ شخصًا توضأ وضوءًا رافعًا للحدث، ثم صلى، ثم توضأ وضوءًا تجديديًا، ثم صلى، ثم علم أنّه أحدث بعد أحد الوضوءين (1)، ولا يعلم فيما إذا كان الحدث بعد الوضوء الأول أو بعد الوضوء الثاني.فهنا ثلاث صور، باعتبار أنَّ الصلاتين يحتمل فيهما أن تكونا متحدتين عددًا، كما يحتمل فيهما خلاف ذلك من جهة، وأنَّ الصلاة قد لا تصح إلا بوضوءٍ يشتمل على نية الاستباحة للصلاة على أحد المباني، وقد تصح بوضوء وإنْ كان يخلو من تلك النية من جهةٍ أخرى، والصور هي:

ص: 441


1- وهذا هو فرق هذا الحكم عن الحكم السابق، فالسابق كان بطلان الوضوء فيه لخلل غير الحدث، أما هذا الحكم فهو يتعرض لبطلان الوضوء لأجل صدور الحدث.

الصورة الأولى: البناء على كفاية نية القربة إلى الله تعالى في الوضوء في صحة الصلاة، وكانت الصلاتان متحدتين عددًا، كالظهرين مثلًا:

وحينها، يلزم على المصلي أن يعيد صلاةً واحدة، فيتوضّأ ويصلي صلاة رباعية بقصد الأمر الواقع، أي بقصد ما في ذمته؛ فإن كانت ما في ذمته صلاة الظهر مثلًا أجزأت عنها، وإن كانت ما في ذمته صلاة العصر أجزأت كذلك.

وذلك لأنَّ كلا الوضوئين مبيح للصلاة؛ لعدم اشتراط نية استباحة الصلاة فيهما؛ فإن كان الحدث قد وقع بعد الوضوء الأول، بطلت صلاة الظهر فقط؛ لأنه جاء بصلاة العصر بوضوء آخر حسب الفرض، وإن كان الحدث قد وقع بعد الوضوء الثاني، بطلت صلاة العصر فقط؛ لأنّ صلاة الظهر قد صلاها بوضوء صحيح.وعلى كلا الاحتمالين فصلاة واحدة فقط هي الباطلة، ولما كانت كلتا الصلاتين متحدةً عددًا، أجزأه الإتيان بصلاة رباعية واحدة بقصد ما في ذمته.

الصورة الثانية: البناء على اشتراط نية الاستباحة في الوضوء في صحة الصلاة، وكانت الصلاتان متحدتين عددًا:

وفيها احتمالان:

ص: 442

الاحتمال الأول: أن يكون الحدث بعد الوضوء الأول:

فكلتا الصلاتين باطلة حينئذٍ؛ وذلك لاشتراط نية الاستباحة في الوضوء لصحة الصلاة، ولا وضوء مشتملاً على هذه النية سوى الوضوء الأول الرافع للحدث، والذي هو الوضوء الباطل حسب الفرض، وأما التجديدي فيخلو منها، وعليه، فإن بطل الوضوء الأول بطلت كلتا الصلاتين؛ فتلزم إعادتهما.

الاحتمال الثاني: أن يكون الحدث بعد الوضوء الثاني:

وفيه تكون الصلاة الأولى صحيحة؛ لأنها وقعت بعد وضوءٍ مشتمل على نية الاستباحة، وأما الصلاة الثانية فباطلة؛ إذ حصل قبلها حدث أبطل الوضوء الأول، ولأنَّ الوضوء الذي أعقب الحدث وإن كان صحيحًا إلا أنّه ليس بمبيح للصلاة؛ لعدم اشتماله على نية الاستباحة، فتلزم إعادتها.وبناءً على كلا الاحتمالين المتقدمين؛ تكون صلاة العصر باطلة على كُلِّ حال، ومن ثم تلزم إعادتها.

وأما صلاة الظهر، فبناءً على الاحتمال الأول تكون باطلة، وبناءً على الاحتمال الثاني تكون صحيحة، أي إنه يكون المكلف متردداً في فراغ ذمته بعد يقينه باشتغالها بصلاة الظهر، وقد تقدّم أنَّ الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني، ولا يقين بالفراغ؛ فتلزم إعادتها أيضًا.

والنتيجة يُلزم المكلف بالوضوء بنية الاستباحة، ومن ثم الإتيان بصلاتين: صلاة الظهر؛ لتردده في فراغ ذمته منها، وصلاة العصر؛ ليقينه ببطلانها.

ص: 443

الصورة الثالثة: أن تكون الصلاتان مختلفتين بالعدد -كالمغرب والعشاء- سواء أكان البناء على كفاية نية القربة إلى الله تعالى في صحة الصلاة، أم على اشتراط نية الاستباحة فيه:

وفيها صورتان، حكمهما واحد:

الصورة الأولى: البناء على كفاية نية القربة إلى الله تعالى في صحة الصلاة.

الصورة الثانية: البناء على اشتراط نية الاستباحة في صحة الصلاة.

وحكمهما واحد، وهو لزوم إعادة كُلٍّ من الصلاتين -المغرب والعشاء- بعد إعادة الوضوء؛ وذلك:1 - بناءً على كفاية نية القربة في الوضوء لصحة الصلاة، فلا يخلو الأمر: إما أن يكون الحدث بعد الوضوء الأول، أو بعد الوضوء الثاني:

فإن كان قبل الوضوء الأول، كانت صلاة المغرب باطلة، وأما صلاة العشاء فصحيحة؛ لكفاية نية القربة إلى الله تعالى في الوضوء.

وإن كان بعد الوضوء الثاني، فتكون صلاة المغرب صحيحة، وأما صلاة العشاء فباطلة.

ومن ثم، فإما أن تكون صلاة المغرب هي الباطلة، أو صلاة العشاء، وحيث لا يمكن ترجيح أي منهما على الآخر، لأنه ترجيح بلا مرجح، فهذا يعني أن المكلف لم يقطع بفراغ ذمته من أيٍّ منهما، مما يعني أنّه لم يزل مشغول الذمة بهما؛ لأن الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني، وبذا تلزمه إعادتهما.

ص: 444

2 - وبناءً على اشتراط نية الاستباحة في الوضوء لأجل الصلاة، فإنَّ الوضوء الوحيد الذي تصح به الصلاة هو الوضوء الأول؛ فإن كان الحدث بعده بطلت الصلاتان معًا؛ للإتيان بالصلاة الأولى بعد حدث، وللإتيان بالصلاة الثانية بعد وضوء لا تصح به الصلاة، لأنه لم يشتمل على نية الاستباحة للصلاة حسب الفرض.

وإن كان الحدث بعد الوضوء الثاني، صحت صلاة المغرب خاصةً؛ لوقوعها بعد وضوءٍ صحيح، وأما الصلاة الثانية فباطلة لأنالوضوء الذي كان قبلها لا تصح به الصلاة حسب الفرض، فضلًا عن وقوع الحدث بعده.

ومن ثم، فإما أن تكون كلتا الصلاتين باطلة، وفقًا للاحتمال الأول، أو أن ينحصر البطلان بصلاة العشاء وفقًا للاحتمال الثاني.

وحيث لا يمكن ترجيح أي من الاحتمالين على الآخر، وإلا لكان ترجيحًا بلا مرجح، فعلى كليهما فإنّ المكلف لم يقطع بفراغ ذمته من أيٍّ منهما، مما يعني أنّ التكليف الشرعي ما زال متعلقًا بذمته؛ لأن الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني، وبذا تلزمه إعادتهما.

الحكم الحادي عشر:

قال المحقق قُدس سره: وكذا لو صلى بطهارة ثم أحدث، وجدّد طهارة ثم صلى أخرى، وذكر أنه أخلَّ بواجبٍ من إحدى الطهارتين.

فرض المسألة هو التالي:

ص: 445

لو توضأ المكلف وصلّى، وبعد أنْ أكمل صلاته أحدث بما يُبطِلُ الوضوء -كما لو تخلّى-، ثم توضأ وضوءًا ثانيًا وصلّى صلاةً أُخرى، وبعد ذلك تذكّرَ أنّه قد أخلَّ بواجبٍ في أحد الوضوئين، كما لو لم يمسح رأسه مثلًا.

فبما أنَّ كلا الوضوئين كانا بعد حدثٍ، ولم يكن أيٌّ منهما تجديديًا، فنستبعد الوضوء المجرد من نية الاستباحة من دائرة الاحتمالات.أو قل: إن الفرض هنا مبني على كفاية الطهارة المأتي بها للدخول في الصلاة، سواء أكان المبنى هو لزوم نية استباحة الصلاة، أم لا، فالمهم أن كلا الوضوئين كان مما تصح الصلاة معه، لولا الخلل.

وعليه فهنا صورتان فقط:

الصورة الأولى: أن تكون الصلاتان متحدتين بالعدد –كالظهرين مثلًا-:

وحينئذٍ يلزم الإتيان بصلاةٍ واحدةٍ بقصد الأمر الواقع، أي بقصد ما في ذمته؛ لأن الأمر لا يخلو من احتمالين:

الاحتمال الأول: أن يكون الوضوء الأول هو الباطل، فتكون الصلاة الأولى هي الباطلة، وأما الثانية فصلاة صحيحة؛ لأنها وقعت بعد وضوء صحيح لم يفصل بينه وبينها حدث.

الاحتمال الثاني: أن يكون الوضوء الثاني هو الباطل، فتكون الصلاة الثانية هي الباطلة؛ أما الأولى فهي صحيحة؛ لوقوعها بعد وضوء صحيح.

ص: 446

فإذًا يدور الحال بين أمرين: إما أن تكون الصلاة الأولى هي الباطلة والثانية هي الصحيحة، أو بالعكس، فالصلاة الباطلة واحدة فقط على كلا الاحتمالين، وبما أنَّ كلتي الصلاتين متحدةٌ عددًا، فيُجزي الإتيان بصلاةٍ واحدةٍ فقط بقصد الأمر الواقع.الصورة الثانية: أن تكون الصلاتان مختلفتين بالعدد:

كما لو كان قد صلى المغرب والعشاء، فحينئذٍ يلزم الإتيان بصلاتين بعد الوضوء؛ وذلك لوجود احتمالين:

الاحتمال الأول: أن يكون الوضوء الأول هو الباطل، فتكون الصلاة الأولى (المغرب) هي الباطلة، وأما صلاة العشاء فصحيحة.

الاحتمال الثاني: عكس الأول، أي أن تكون الصلاة الأولى هي الصحيحة، وأما الصلاة الثانية فهي الباطلة.

وعليه، فيُحتمل بطلان كلتي الصلاتين، ولمّا كان عددهما مختلفًا، لزم الإتيان بهما كليهما؛ إذ لا يقين عند المكلف بفراغ ذمته من أيٍّ منهما، والاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

الحكم الثاني عشر:

قال قُدس سره: ولو صلى الخمس بخمس طهارات، وتيقن أنه أحدث عقيب إحدى الطهارات، أعاد ثلاث فرائض: ثلاثا واثنتين وأربعاً، وقيل: يعيد خمساً، والأول أشبه.

فرض المسألة:

ص: 447

لو توضأ وصلّى الفجر، ثم توضّأ وصلّى الظهر، ثم توضّأ وصلّى العصر، ثم توضّأ وصلّى المغرب، ثم توضّأ وصلّى العشاء، بعدئذٍ تيقّنَ أنَّه قد أحدث بعد إحدى الطهارات الخمس، وقبل الصلاةالتي وقعت بعدها، فبلا شك أنّ إحدى الصلوات الخمس كانت باطلة، ولكنه لا يعلم الباطلة أيًّا منهن هي.

وهنا رأيان:

الرأي الأول: يُعيد ثلاث صلوات فقط: الفجر، والمغرب، ورباعية بقصد الأمر الواقع.

وذلك لأن القول ببطلان إحدى الصلوات الخمس، وإن كان يُدخل جميع الصلوات الخمس في دائرة احتمال البطلان، إلا أنَّ اتفاق ثلاث صلوات منها بالعدد -وهن الرباعيات (الظهر والعصر والعشاء)- يُحتِّم علينا أن نختزل بطلان الرباعيات جميعًا ببطلان إحداها فقط، وذلك بالإتيان بالباطلة منها بقصد الأمر الواقع، والحصيلة: فإنّ البطلان يدور مدار ثلاث صلوات فقط: الفجر، المغرب، صلاة رباعية واحدة فقط، وإن لم يحدد المكلف أيًّا من الرباعيات الثلاث هي.

لذا يلزمه أن يتوضّأ ويصلي الفجر، ويصلي المغرب، ويصلي رباعية واحدة بقصد الأمر الواقع؛ فإن كانت الباطلة هي الفجر فقد أتى بها، وإن كانت الباطلة هي المغرب فقد أتى بها، وإن كانت الباطلة هي الظهر أو العصر أو العشاء فقد أتى بها بإتيانه بالرباعية بقصد الأمر الواقع.

ص: 448

وقد أخذ المحقق قُدس سره بهذا الرأي؛ إذ قال: أعاد ثلاث فرائض: ثلاثاً واثنتين وأربعا، وهذا الرأي مبني على كفاية النية المُردّدة بين عِدّة فروضٍ مُتحِدةٍ بعدد، الذي عبّر عنه المحقق قُدس سره ب-(كفاية نية قصد الأمر الواقعي)، ووصفه المحقق بأنّه الأشبه؛ أي الأوفق بقواعد المذهب.

الرأي الثاني: يعيد خمس صلوات:

بأن يُعيد جميع الصلوات، وهو الرأي الذي أشار إليه المحقق قُدس سره بقوله: وقيل: يعيد خمسًا.

وهو مبنيٌ على عدم كفاية النية الواحدة المردّدةً بين عدة فروض، والذي عبّر عنه المحقق قُدس سره في المسائل المتقدمة ب-(قصد الأمر الواقع)، وعليه فلا تكفي النية الواحدة المُردّدة بين عدة فروض ولو كانت متحدة بالعدد، ومن ثَمّ؛ فلا يكفي الإتيان بصلاة رباعية واحدة بقصد الأمر الواقع؛ لاحتمال بطلان إحدى الصلوات الرباعيات الثلاث، بل لا بد من الإتيان بها جميعًا، أي الإتيان بكل من صلاة الظهر والعصر والعشاء، بالإضافة إلى الفجر والمغرب.

ومما تجدر الإشارة إليه: أنَّ ما تقدم في الرأي الأول من الحكم الثاني عشر خاص بالمقيم دون المسافر؛ وذلك لأن هذا الرأي مبني على كفاية النية المرددة بين عدّة فروض من جهة، وصلاة المقيمتختلف عن المسافر؛ لتمام الأولى وقصر الثانية، وعليه تلزم المكلف المسافر إعادة صلاتين فقط: صلاة

ص: 449

المغرب، وصلاة ثنائية بقصد الأمر الواقع، وتجزي عن صلاة الفجر وصلاة الظهر وصلاة العصر وصلاة العشاء.

* * *

ص: 450

الغُسُل

ص: 451

ص: 452

قال قُدس سره: وأما الغسل ففيه: الواجب والمندوب:

فالواجب ستة أغسال: غسل الجنابة، والحيض، والاستحاضة التي تثقب الكرسف، والنفاس، ومس الأموات من الناس قبل تغسيلهم وبعد بردهم، وغسل الأموات.

وبيان ذلك في خمسة فصول (1):

الفصل الأول: في الجنابة:

والنظر في: السبب والحكم والغسل.

أما سبب الجنابة فأمران:

الإنزال إذا علم أن الخارج مني، فإن حصل ما يشتبه به، وكان دافقا يقارنه الشهوة وفتور الجسد وجب الغسل، ولو كان مريضاً كفت الشهوة وفتور الجسد في وجوبه، ولو تجرد عن الشهوة والدفق - مع اشتباهه - لم يجب.

قسَّم المحقق قُدس سره الغُسل إلى واجبٍ ومندوب، ونُذكِّرُ: أنّ الغسلَ مقدمةٌ لغيره كسائر الطهارات؛ فإذا كان مقدمةً لواجبٍ كان واجبًا، وإن كان مقدمةً لمندوبٍ كان مندوبًا، وعليه فلا بُدّ أن يكون مقصود المُحقق قُدس سره من الغسل الواجب هو الواجب لغيره.

ص: 453


1- في هذه الدروس تعرضت فقط للفصل الأول (الجنابة) دون بقية الفصول.

ثم قسّم الأغسال الواجبة إلى ستة، أوضحها في خمسة فصول، وابتدأها بغسل الجنابة، وبَحَثه في ثلاث جهات: السبب، والحكم، والغسل.

الجهة الأولى: سبب الجنابة:

لا خلاف في كون الجنابة سببًا للغسل، قال تعالى: «وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا» (1)

وأما الجنابة نفسها، فلها أسبابٌ، إنْ تحققت في الإنسان حُكِمَ عليه بالجنابة، ومن ثم لا يكون طاهرًا بالطهارة الشرعية؛ فإذا وجب عليه شيءٌ مشروطٌ بالطهارةِ الشرعية، كان عليه أنْ يُزيلَ الجنابة، ولا يتحقّق ذلك إلا بالغسل، أو التيمم في مورد جوازه.

ولتحقق الجنابة سببان، لا خلاف فيهما بين الفقهاء، وهما:

الأول: إنزال المني:

الحديث في الرجل، وهنا شقّان:

الشقّ الأول: أنْ يعلم الشخص بأنّ النازل منه هو منيٌّ، فتتحقق الجنابة مُطلقًا، سواء أَصاحب ذلك شهوة أم لم تصاحبه، وسواء أكانما خرج منه مُتدفقًا أم مُتثاقلًا، وسواء أكان في نومٍ أم في يقظة، وسواء أكان الشخص صحيحاً أم عليلاً.

ص: 454


1- المائدة (6).

الشقّ الثاني: أنْ يشتبه الحال في أنّ الذي خرج منه هو منيٌّ أو غيره من السوائل التي يمكن أن تخرج من الموضع، ويختلف الحكم باختلاف الأحوال:

الحال الأول: أن يكون الشخص صحيحًا لا عليلًا، وحينئذٍ لا بُد من اجتماع ثلاثة أوصاف للحكم عليه بالجنابة، وهي: الشهوة، وفتور الجسد، والدفق، فإنْ تحققت هذه المواصفات الثلاثة كان الشخص مجنبًا، ووجب عليه أن يغتسل للصلاة.

الحال الثاني: أنْ يكون الشخص مريضًا وليس صحيحًا، وحينئذٍ دلّت النصوص على سقوط شرط الدفق، وأنه لا بُدّ من تحقق شرطين فقط هما: الشهوة، وفتور الجسد؛ فإن توفرا كان الشخص مجنبًا، وإلا فلا.

ومما يدلُّ على عدم اعتبار الدفق في المريض، ما روي عنِ ابْنِ أَبِي يَعْفُورٍ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ: الرَّجُلُ يَرَى فِي المَنَامِ ويَجِدُ الشَّهْوَةَ، فَيَسْتَيْقِظُ، ويَنْظُرُ فَلَا يَجِدُ شَيْئاً، ثُمَّ يَمْكُثُ بَعْدُ فَيَخْرُجُ؟ قَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: إِنْ كَانَ مَرِيضاً فَلْيَغْتَسِلْ، وإِنْ لَمْ يَكُنْ مَرِيضاً فَلَا شَيْءَعَلَيْه. قَالَ: فَقُلْتُ لَه: فَمَا فَرْقٌ بَيْنَهُمَا؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: لأَنَّ الرَّجُلَ إِذَا كَانَ صَحِيحاً جَاءَ بِدُفْقَةٍ وقُوَّةٍ، وإِذَا كَانَ مَرِيضاً لَمْ يَجِئْ إِلَّا بَعْدُ (1)

فهذه الرواية بيّنت أنّ الرجل الصحيح غير العليل يخرج المنيُّ منه بدفقٍ، فإذا لم يخرج بدفقٍ وهو صحيح فلا نحكم عليه بأنّه مجنب، أما

ص: 455


1- الكافي للكليني ج3 ص 48 بَابُ احْتِلَامِ الرَّجُلِ والْمَرْأَةِ ح4.

العليل؛ فلأن جسده ضعيف، فربما لا يخرج الماء منه بدفق، فيكفي أن يخرج المني ولو من دون دفق.

الحال الثالث: أن يكون الخارج من دون شهوةٍ ولا دفق، فحينئذٍ لا يحكم عليه بالجنابة، ولا فرق بين الصحيح والعليل.

فرع:

قال قُدس سره: وإنْ وجد على ثوبه أو جسده منيًّا، وجب الغسل إذا لم يشركه في الثوب غيره.

إذا وجد على جسده منيّاً، فيجب عليه الغسل، وأما إذا وجد على ثوبه ذلك، فقد أشار المحقق قُدس سره إلى حالتين:

الحالة الأولى: أن يكون الثوب خاصًا بالشخص، أي لا يلبسه معه غيره:وحينئذٍ يجب عليه الغسل؛ لأنَّ الثوب خاصٌ به، ولم يلبسه أحدٌ غيره، وقد وجد عليه منيّاً، فيُحكم عليه ظاهرًا بأنّه مجنب، ويجب عليه الغسل.

الحالة الثانية: أنْ يكون الثوب مشتركًا بينه وبين غيره، يتناوبان عليه في اللبس:

فلا يجب الغسل على كلٍ منهما؛ وذلك لأنّ كُلاًّ منهما كان متيقناً بالطهارة، ولكنه شاكٌّ في الجنابة، والشك لا ينقض اليقين، فهما على يقينٍ بطهارتهما، فيحكم عليهما بالطهارة-ظاهراً- استصحابًا للحالة السابقة.

ص: 456

وللتوضيح أكثر نقول:

ذكر الفقهاء أنَّ الحكم الشرعي إنّما يكون واجبًا على المكلف عند توفر جملةٍ من الشروط، منها: أن يكون التكليف واصلًا إلى المكلف، بأن يعلم به؛ إذ تكليف الجاهل محال، ومعه، فإنّما يجب الغسل على الشخص إذا علم بخروج المني منه، أما مع عدم العلم فلا يجب عليه الغسل.

وفي المقام: فإنّ الشخصين اللذين يتناوبان على لبس ثوب واحد وُجِدَ عليه منيٌّ، كُلٌّ منهما لا علم عنده بأنّ هذا المنيَّ منه، بل كُلٌّ منهما في شكٍّ، فقد يكون المنيُّ منه، وقد يكون من صاحبه، وكُلٌّ منهما أيضًا على يقينٍ بأنّه على طهارةٍ سابقة، فتجري قاعدة الاستصحاب،ومفادها: إذا كان عند المكلف يقين سابق وشك لاحق، فيبني على اليقين، ويقين كُلٍّ منهما هنا هو الطهارة، فيبنيان عليها، فلا غسل على كُلٍّ منهما.

نعم، الاحتياط حسنٌ على كُلِّ حال؛ فإذا أرادا الاحتياط يمكنهما الاغتسال بقصدِ الأمر الواقع، ولكن هذا الغسل لا يُجزيهما عن الوضوء.

وربما يتساءل سائلٌ:

إذا لم يلبس الثوب سواهما، فيقينًا أنَّ أحدهما هو المجنب، وإلا لا يُعقل أنْ لا مصدر لهذا المني الذي وجد على الثوب، فكيف حكمنا على كليهما بالطهارة؟

فيُجاب:

إذا تعذرت معرفة الأحكام الفقهية الواقعية على المكلف، فلا سبيل أمامه إلا التمسك بالأحكام الفقهية الظاهرية، وفي المقام تعذّر الوصول إلى

ص: 457

الحكم الواقعي عبر آيةٍ أو روايةٍ، فلا بُدّ من الرجوع للأصول العملية وفقًا لتسلسل الاستنباط، وقد ثبت بالاستصحاب عدم وجوب الغسل على أيٍّ منها.

أو قل: إن الطهارة التي حكمنا بها عليهما هي طهارة تعبدية، ظاهرية، وفق الأصول العملية التي ثبتت حجيتها بالدليل القطعي.

السبب الثاني: الجماع:

قال قُدس سره: والجماع: فإن جامع امرأة في قُبُلِها، والتقى الختانان وجب الغسل.

كون الجماع موجبًا للجنابة أمرٌ مفروغٌ عنه ومتفقٌ عليه بين العلماء؛ للأخبار المستفيضة، منها صحيحة محمدٍ بن مسلم عن أحدهما عَلَيْهِما السَّلاَمُ -أيّ الإمام الباقر أو الإمام الصادق (صلوات الله عليهما)؛ لأنّ محمد بن مسلم من أصحابهما كليهما عَلَيْهِما السَّلاَمُ- قَالَ: سَالتُه: مَتَى يَجِبُ الغُسْلُ عَلَى الرَّجُلِ والمَرْأَةِ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: إِذَا أَدْخَلَه، فَقَدْ وَجَبَ الغُسْلُ، والمَهْرُ، والرَّجْمُ (1)

ومنها رواية مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: سَالتُ الرِّضَا عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَنِ الرَّجُلِ يُجَامِعُ المَرْأَةَ قَرِيباً مِنَ الفَرْجِ، فَلَا يُنْزِلَانِ، مَتَى يَجِبُ الغُسْلُ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: إِذَا التَقَى الخِتَانَانِ فَقَدْ وَجَبَ الغُسْلُ، فَقُلْتُ: التِقَاءُ الخِتَانَيْنِ هُوَ غَيْبُوبَةُ الحَشَفَةِ؟ قَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: نَعَمْ (2)

ص: 458


1- الكافي للكليني ج3 ص 46 بَابُ مَا يُوجِبُ الْغُسْلَ عَلَى الرَّجُلِ والْمَرْأَةِ- ح (1).
2- الكافي للكليني ج3 ص 46 بَابُ مَا يُوجِبُ الْغُسْلَ عَلَى الرَّجُلِ والْمَرْأَةِ- ح (2).

فالرواية قد أوضحت تفسير عبارة المحقق قُدس سره، وفسّرت معنى التقاء الختانين.

مسائلُ فرعيةٌ:

المسألة الأولى: وطئ المرأة الميتة:

قال قُدس سره: وإن كانت الموطوءة ميتة:لو جامع الرجل امرأة ميتة، فهل يجب عليه الغسل؟

الجواب:

نعم، يجب عليه الغسل، وهو ما عليه مذهبنا، بخلاف الحنفية؛ إذ نُقِل عنهم أنهم قالوا: إذا كانت الموطوءة ميتةً فلا تتحقَّق الجنابة، ولا يجب الغسل على الرجل (1)

والصحيح هو لزوم الغسل؛ لعموم الأدلة؛ أي إنّ الأدلة عامة ومطلقة، قالت بتحقق الجنابة بالجماع، وهذا يشمل الحية والميّتة من النساء.

المسألة الثانية: الجماع في الدبر:

قال المحقق قُدس سره: وإن جامع في الدبر ولم ينزل، وجب الغسل على الأصح.

قبل شرح عبارة المحقق قُدس سره لا بُدّ من الإشارة إلى أنه قُدس سره قيّد الحكم بعدم الإنزال، إذ قال: (ولم ينزل)؛ وذلك لأن الإنزال وحده سببٌ مستقلٌ

ص: 459


1- قال السيد العاملي في مدارك الأحكام ج1 ص 272: وردّ المصنف بقوله: (وإن كانت الموطوءة ميتة) على الحنفية حيث لم يوجبوا الغسل بوطئ الميتة، وهو باطل.

للجنابة برأسه، وحينئذٍ تتحقق الجنابة ويجب الغسل سواء أَقترن بجماع في الدبر أم من دونه، فقيّد العبارة بعدم الإنزال؛ ليتضح حكم الجماع بالدبر مجرّدًا عن أي سببٍ آخر.ومن هنا يتضح عدم اشتراط الإنزال بالجماع، وأنَّ الجماع غير الإنزال، فكُلٌّ منهما سببٌ مستقلٌ بالجنابة.

ويبدو من عبارة المحقق قُدس سره وقوع الخلاف في هذه المسألة؛ لقوله: على الأصح، إشارة الى خلاف بعض العلماء، حيث لم يوجبوا الغسل في الجماع من الدبر مع عدم الإنزال، إذ ذهبوا إلى أنَّ الجنابة لا تتحقق بالجماع في الدبر من دون إنزال.

ويدلُّ على تحقُّقِ الجنابة بالإدخال دبرًا أمورٌ منها (1):

أولًا: عموم قوله تعالى: «أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ» (2):

وقد فُسِّرت الملامسة بالجماع، فقد روي َعنِ الحَلَبِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: سَالتُه عَنْ قَوْلِ الله عَزَّوَجَل: «أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ» ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ هُوَ الجِمَاعُ، ولَكِنَّ اللَّه سَتِيرٌ، يُحِبُّ السَّتْرَ، فَلَمْ يُسَمِّ كَمَا تُسَمُّونَ (3)

ولفظ الجماع عام يشمل الجماع من القبل ومن الدبر.

ص: 460


1- بالإضافة إلى عموم الرواية السابقة، حيث ورد فيها (إذا ادخله) ولم يقيده بالقُبُل.
2- النساء (43)، والمائدة (6).
3- الكافي للكليني ج5 ص 555 بَابُ نَوَادِرَ ح (5).

ثانيًا: الروايات العديدة التي يُستفادُ منها هذا الحكم:

منها ما روي عن زرارة عن أبي جعفر عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال: جمع عمر بن الخطاب أصحاب النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ فقال: ما تقولون في الرجل يأتي أهله فيخالطها ولا ينزل؟ فقالت الأنصار: الماء من الماء، وقالالمهاجرون: إذا التقى الختانان فقد وجب عليه الغسل، فقال عمر لعلي عَلَيْهِ السَّلاَمُ: ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال علي عَلَيْهِ السَّلاَمُ: أتوجبون عليه الحد والرجم ولا توجبون عليه صاعاً من ماء! إذا التقى الختانان فقد وجب عليه الغسل. فقال عمر: القول ما قال المهاجرون، ودعوا ما قالت الأنصار (1)

فقد وضع أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ في هذه الرواية قاعدةً: أنَّ ما يجب فيه الحدّ والرجم، يجب فيه الغسل، والجماع من الدبر -إذا كان من حرام طبعاً- يوجب الحدّ والرجم، فيجب فيه الغسل.

المسألة الثالثة: وطء الغلام:

قال المحقق قُدس سره: ولو وطئ غلامًا فأوقبه، ولم ينزل، قال المرتضى رحمة الله: يجب الغسل، معوِّلًا على الإجماع المركب، ولم يثبت.

بيانه:

تقدّم أنّ للجنابة سببين هما: الإنزال والجماع، ولكن ماذا لو أنَّ المكلّف لاط بغلامٍ فأوقبه، أي أدخل الحشفة في الدبر، ولم يُنزل (2)، فهل يجب الغسل أو لا؟

ص: 461


1- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج1 ص 119 باب (6) باب حكم الجنابة وصفة الطهارة منها- ح (314 / 5).
2- لأنه إذا أنزل فقد تحقق سبب مستقل للجنابة.

في المقام خلاف، فرأي ذهب إلى عدم وجوب الغسل فيه (1)، ورأيٌّ ذهب إلى وجوبه، وقد ذكر المحقق أن السيد المرتضى استدلعلى الوجوب بالإحماع المركب، ولكنه -أي المحقق- قال بعدم ثبوت هذا الإجماع.

فائدة:معنى الإجماع المركب

معنى الإجماع المركب (2):

الإجماع قسمان: بسيط، ومركب، والإجماع البسيط هو اتفاق جميع الفقهاء من عصر الغيبة حتى اليوم على مسألة، كوجوب الطمأنينة في الصلاة الواجبة.

والإجماع المركب هو وجود قولين في مسألة فقط، فإنه إجماع على عدم صحة قول ثالث.

ص: 462


1- في مصباح الفقيه لآقا رضا الهمداني (ج3 ص265) بعد أن ناقش أدلة وجوب الغسل قال: فالقول بعدم الوجوب أوفق بالقواعد، وإن كان الاحتياط ممّا لا ينبغي تركه.
2- راجع: حاشية شرائع الإسلام للشهيد الثاني ص 38، وشرائع الإسلام بتعليق السيد صادق الشيرازي ج1 ص 22، ومدارك الأحكام للسيد محمد العاملي ج1 شرح ص 274. وقال الشهيد الثاني في مسالك الأفهام (ج1 ص49): والمراد بالإجماع المركب ما تركب من قولين بحيث يلزم من مخالفتهما معا مخالفة الإجماع بأن ينحصر قول من يعتبر قوله في الإجماع فيهما. وهو المعبر عنه في الأصول بإحداث قول ثالث، وحاصله هنا أن المرتضى ݤ ادعى أن كل من قال بوجوب الغسل بالوطئ في دبر المرأة قال بوجوبه في دبر الغلام، ومن نفاه في الأول نفاه في الثاني، فالقول بوجوبه في إيقاب المرأة دون الغلام إحداث قول ثالث يقتضي رفع ما أجمعوا عليه، لكن لما قام الدليل على وجوبه بإيقاب المرأة لزم القول به في الغلام، ورده المصنف هنا بأن ما ادعاه من الإجماع لم يثبت وفي المعتبر (لم أتحقق إلى الآن ما ادعاه، فالأولى التمسك فيه بالأصل) ويجاب بأن الإجماع المنقول بخبر الواحد حجة فكيف بمثل السيد، فلا يقدح فيه عدم تحققه، إنما يتحقق القدح بظهور عدم صحته، ولم يتحقق.

أو قل: ما تَركَّب من قولين بحيث يلزم من مخالفتِهما مخالفةُ الإجماع، بأن ينحصر القولُ فيهما.

وبعبارة ثالثة: هو إطباق أهل الحل والعقد في عصر من الأعصار على قولين لا يتجاوزونهما إلى ثالث.

والسيد المرتضى قُدس سره قال هنا بالإجماع المركب، لأن الفقهاء على قولين:

أحدهما: وجوب الغسل على من أدخل في الدبر مطلقاً، غلاماً كان أو غيره.

ثانيهما: عدم وجوب الغسل على من أدخل في الدبر مطلقاً غلاماً كان أو غيره.

فيكون القول بالغسل في الإدخال في غير دبر الغلام (كما لو أدخل في دبر زوجته)، وعدم الغسل في الإدخال في دبر الغلام قولاً ثالثاً، والإجماع المركب متحقق على خلافه.

أو قل: إن السيد المرتضى قُدس سره ادّعى: أن كل من قال بوجوب الغسل بالوطئ في دبر المرأة، قال بوجوبه في دبر الغلام، ومن نفاه في الأول نفاه في الثاني، فالقول بوجوبه في إيقاب المرأة دون الغلام إحداث قول ثالث يقتضي رفع ما أجمعوا عليه، لكن لما قام الدليل على وجوبه بإيقاب المرأة، لزم القول به في الغلام.(لكن) المصنف يقول: إنّه لم يثبت عندنا أن في المسألة قولين فقط، حتى يكون التفصيل خلاف الإجماع المركب، وذلك لوجود المخالف في وجوب

ص: 463

الغسل على من أدخل في دبر المرأة، فإن هناك من قال بوجوب الغسل فيه، وهناك من قال بعدم وجوبه، فيثبت الخلاف في دبر الغلام.

ومن ثم فلا يصحُّ ما استندَ إليه السيد المرتضى قُدس سره؛ لعدم تمامية دليله على وجوب الغسل.

المسألة الرابعة: وطئ البهيمة:

قال قُدس سره: ولا يجب الغسل بوطء بهيمةٍ إذا لم ينزل:

واضحٌ مراد المحقق قُدس سره من تقييده العبارة بعدم الإنزال؛ لما تقدّم من أنّ الإنزال سببٌ مستقل للجنابة برأسه.

ولم يوجب قُدس سره الغسل على من وطئ البهيمة ولم ينزل؛ لعدم وجود دليل على وجوبه في الفرض، فتجري البراءة.

نعم، الاحتياط حسنٌ.

تفريع:

ذكر المحقق قُدس سره في هذا التفريع مسألتين:

المسألة الأولى: تكليف الكافر:

قال المحقق قُدس سره:تفريع: الغسل يجب على الكافر عند حصول سببه، لكن لا يصح منه في حال كفره، فإذا أسلم وجب عليه ويصح منه...

هل الكافر مخاطبٌ بالتكاليف الشرعية أو لا؟

ص: 464

المسألة طويلة الذيل، ولكن يمكن اختصارها بالأمرين الآتيين، ونترك التفاصيل إلى محلها:

الأمر الأول: تكليف الكافر بأصول الدين:

إن الكافر -بل حتى الملحد- مكلفٌ بالبحث عنها عقلًا؛ لأنّ كل إنسان مكلف بالبحث عن أصول دينه؛ لدليل دفع الضرر المحتمل؛ فالكافر قد سمع الكثير من الناس الصالحين يقولون: إنّ هناك إلهًا أوجب على الناس تكاليف معينة، ومن يخالفها يستحق العذاب إلى الآخرة، فالعقل يحكم بلزوم دفع الضرر عن النفس وإن كان ذلك الضرر محتملًا، ودفعه لا يتم إلا عن طريق البحث، إذًا فالكافر مكلفٌ في أصول الدين.

الأمر الثاني: تكليف الكافر بفروع الدين:

هناك رأيان:

الرأي الأول: الكافر غير مكلفٍ بها أصلًا.

أي هو غير مكلف بالصلاة؛ لأنّ الصلاة إنّما تجب على المسلم، وكذا بالنسبة إلى الصوم وسائر الفروع الأخرى.الرأي الثاني: الكافر مكلفٌ بالأحكام الشرعية.

أي إنّه مكلف بالصلاة والصوم وغيرهما من الفروع؛ وذلك لأن خطاب الصلاة -مثلاً- شامل للمسلم وغير المسلم، فكلاهما مخاطبٌ بالحكم الشرعي وبالتكليف الشرعي، إلا أنّ ذلك التكليف لو جاء به

ص: 465

المسلم فعمله صحيح، بخلاف الكافر؛ لأن الإيمان شرطٌ في صحة العمل، فإذا صلى الكافر فصلاته غير صحيحة وضعًا، هذا في عموم التكاليف الشرعية.

أما الموضوعات الشرعية فتتحقق فيه؛ فمثلًا تقدّم أنّ الجنابة تتحقق بسببين، هما: الإنزال، والجماع، فمتى ما تحقق سبب منهما من الكافر، كان مجنبًا؛ لأن الموضوعات الشرعية تتحقق بأسبابٍ واقعية.

ومعه، فيجب عليه الغسل؛ لأنه مخاطب بالتكليف الشرعي ولكن لا يصح منه في حال كفره؛ لأن الإيمان شرطٌ في صحة العمل العبادي، فإذا أسلم تأكّد عليه الوجوب وصحَّ منه (1)

وإلى هذا الرأي ذهب المحقق قُدس سره مثلما هو الواضح من عبارته.

المسألة الثانية: غسل من ارتدّ:

قال قُدس سره: ولو اغتسل، ثم ارتدّ، ثم عاد، لم يبطل غسله.

لو أنّ مسلمًا أجنب، فاغتسل، ثم ارتدّ، أي خرج عن الإسلام، ثم رجع إلى الإسلام، فهل يبطل غسله الذي اغتسله حال إسلامه، والذي أعقبه بالكفر ثم بالعودة إلى الإسلام؟

قال قُدس سره: لم يبطل غسله.

ص: 466


1- أضف إليه أن شرط صحة العبادات هو حصول نية القربة، والكافر لا تتحصل منه تلك النية.

ولعله لأجل أنّ الكفر ليس من مبطلات الغسل، إذ إنَّ الغسل لا يبطل إلا بحدثٍ أكبر من إنزالٍ أو جماعٍ أو حيض وما شابه، وليس منها الكفر.

الجهة الثانية: حكم الجُنُب:

قال قُدس سره: وأما الحكم فيحرم عليه: قراءة كلّ واحدةٍ من العزائم، وقراءة بعضها حتى البسملة، إذا نوى بها إحداها، ومس كتابة القرآن، أو شيء عليه اسم الله (تعالى سبحانه)، والجلوس في المساجد، ووضع شيء فيها، والجواز في المسجد الحرام، أو مسجد النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ خاصة، ولو أجنب فيهما لم يقطعهما إلا بالتيمم.

ذكر المحقق قُدس سره نوعين من الأحكام المترتبة على الجنابة:

النوع الأول: المحرمات:

المحرم الأول: قراءة سور السجدة الواجبة:

وهي سور النجم والعلق والسجدة وفصلت.

وفيما يحرم من هذه السور رأيان:

الرأي الأول: تحرم قراءة كل السورة ولو بعضًا منها، حتى البسملة إذا نوى المكلف بها إحدى سور العزائم.

ويبني المحقق قُدس سره على هذا الرأي كما هو ظاهر عبارته؛ إذ قال: فيحرم عليه قراءة كل واحدةٍ من العزائم وقراءة بعضها حتى البسملة إذا نوى بها إحداها.

ص: 467

الرأي الثاني: تحرم قراءة آية السجدة فقط، فيجوز للمكلف قراءة سورة العلق كلها سوى الآية الأخيرة منها التي تتضمن السجدة الواجبة.

وهذا الذي يبني عليه مثل السيد السيستاني (حفظه الله) (1)

وربما يستظهر من بعض الروايات أنّ المحرم هو قراءة نفس آية السجدة لا كل السورة، من قبيل ما روي عن زرارة ومحمد بن مسلم عن أبي جعفرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال: قلت: الحائض والجنب يقرآن شيئًا يقرآن شيئًا «أيّ من القرآن«؟ قال عَلَيْهِ السَّلاَمُ: نعم ما شاءا إلا السجدة، ويذكران الله على كل حال (2)وفي روايةٍ أُخرى عن محمدٍ بن مسلم قال: قال أبو جعفر عَلَيْهِ السَّلاَمُ: الجنب والحائض يفتحان المصحف من وراء الثوب ويقرآن من القرآن ما شاءا، إلا السجدة، ويدخلان المسجد مجتازين، ولا يقعدان فيه، ولا يقربان المسجدين الحرمين (3)

المحرم الثاني: مسُّ كتابة القرآن:

يحرم على المجنب أنْ يُلاقي ببشرته كتابة القرآن الكريم نفسها، وأما الجلد والورق والهوامش وما بين السطور فهذا كله لا حرمة في مسّه، وسيأتي من المحقق أنه مكروه.

ص: 468


1- انظر: منهاج الصالحين للسيد السيستاني ج1 ص 80 (السادس). حيث قال ما نصه: السادس: قراءة آية السجدة من سور العزائم، وهي (ألم السجدة، وحم السجدة، والنجم، والعلق) والأحوط استحبابا إلحاق تمام السورة بها حتى بعض البسملة.
2- الاستبصار للشيخ الطوسي ج1 ص 115 ح (384 – 6) وتهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج1 ص 27 ح (67 / 6).
3- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج1 ص 371 ح (1132 / 25).

وفي قبال الفتوى بالحرمة هناك رأيان: رأيٌ يقول بالكراهة، ورأي آخر يقول بالحرمة لكن على الأحوط وجوبًا.

المحرم الثالث: مس لفظ الجلالة:

قال قُدس سره: ومسُّ شيءٍ عليه اسم الله (تعالى سبحانه):

يحرم على المجنب مسُّ لفظ الجلالة ولو كان مكتوبًا على درهمٍ أو قميصٍ أو ورقةٍ وما شابه.وعند مراجعة الروايات الشريفة نجد أنّ بعضها يُحرِّمُ ذلك، وبعضها لا يحرمه؛ فقد روي عن عمار بن موسى عن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال: لا يمسُّ الجنبُ درهمًا ولا دينارًا عليه اسم الله تعالى (1)

فالرواية نهت (لا يمس) المجنب من مس ما عليه اسم الله تعالى.

ومن جهة أخرى روي عن أبي الربيع عن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ في الجنب يمسّ الدراهم وفيها اسم الله واسم رسوله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ قال: لا بأس به، وربما فعلت ذلك (2)

وأما الجمع بين هذه الروايات فمن اختصاص الفقهاء، ولعل هذا الاختلاف هو الذي دفع ببعض الفقهاء إلى الاحتياط بالحرمة، فحكم بحرمة مس لفظ الجلالة على الأحوط وجوبًا.

ص: 469


1- الاستبصار للشيخ الطوسي ج1 ص 113 ح (374 – 1) وتهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج1 ص 126 ح (340 / 31).
2- وسائل الشيعة للحر العاملي ج2 ص 215 الباب 18 - باب حكم لمس الجنب شيئا عليه اسم الله والدراهم البيض ولمسه لكتابة القرآن وما عداها من المصحف - ح(1963 / 4).

على أنَّ الاحتياط بعدم مس لفظ الجلالة هو مطابقٌ لما يلزم من تعظيم الله (سبحانه وتعالى)، إذ لا شك أنّنا مطالبون بتعظيم الله (سبحانه وتعالى) في كُلّ ما يتعلّق به، وممّا يتعلّق به لفظ الجلالة، الاسم الدال على الذات المقدسة.

المحرم الرابع: الجلوس في المساجد:القول بحرمته على المحدِث الأكبر مشهور.

وقد روي عنْ جَمِيلٍ قَالَ: سَالتُ أَبَا عَبْدِ الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَنِ الجُنُبِ يَجْلِسُ فِي المَسَاجِدِ؟ قَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: لَا، ولَكِنْ يَمُرُّ فِيهَا كُلِّهَا، إِلَّا المَسْجِدَ الحَرَامَ ومَسْجِدَ الرَّسُولِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ (1)

وفي رواية زرارة ومحمدٍ بن مسلم عن أبي جعفرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال: قلت له: الحائض والجنب يدخلان المسجد؟ قال عَلَيْهِ السَّلاَمُ: لا يدخلان المسجد إلا مجتازين «مثلاً يدخلان من باب ويخرجان من بابٍ آخر«؛ إنّ اللهَ تبارك وتعالى يقول: «وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا» (2)، (3)، وقد أشرنا إلى هذا المطلب فيما تقدم في أحكام الوضوء.

ص: 470


1- وسائل الشيعة للحر العاملي ج2 ص 215 الباب 18 - باب حكم لمس الجنب شيئا عليه اسم الله والدراهم البيض ولمسه لكتابة القرآن وما عداها من المصحف - ح(1963 / 4).
2- الكافي للكليني ج3 ص 50 بَابُ الْجُنُبِ يَأْكُلُ ويَشْرَبُ ويَقْرَأُ ويَدْخُلُ الْمَسْجِدَ ويَخْتَضِبُ ويَدَّهِنُ ويَطَّلِي ويَحْتَجِمُ- ح(4).
3- النساء (43).

المحرم الخامس: وضع شيءٍ في المساجد:

للنصوص، ومنها ما روي عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سِنَانٍ قَالَ: سَالتُ أَبَا عَبْدِ الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَنِ الجُنُبِ والحَائِضِ يَتَنَاوَلَانِ مِنَ المَسْجِدِ المَتَاعَ يَكُونُ فِيه؟ قَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: نَعَمْ، ولَكِنْ لَا يَضَعَانِ فِي المَسْجِدِ شَيْئاً (1)

المحرم السادس: الاجتياز في المسجد الحرام أو مسجد النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ خاصة:

تقدّم أنَّ المجنب يجوز له أن يجتاز المسجد؛ بأن يدخل من بابٍ مثلاً ويخرج من بابٍ آخر، إلا أنَّ ذلك لا يجوز في كلٍّ من المسجد الحرام والمسجد النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ؛ لرواياتٍ وردت بشأنهما.

وربما يتبادر إلى الذهن سؤال:

ماذا لو احتلم المكلف في المسجد؛ بأن كان نائمًا مثلًا واحتلم هناك، فكيف يمكنه الخروج والروايات قد حرّمت عليه اجتياز المسجد حال كونه مجنبًا؟

قال الفقهاء - تبعاً للنصوص -: يجب عليه التيمم لأجل اجتياز المسجد (2)؛ وقد دلّت على ذلك الأخبار المستفيضة، منها ما روي عَنْ أَبِي

ص: 471


1- الكافي للكليني ج3 ص 51 بَابُ الْجُنُبِ يَأْكُلُ ويَشْرَبُ ويَقْرَأُ ويَدْخُلُ الْمَسْجِدَ ويَخْتَضِبُ ويَدَّهِنُ ويَطَّلِي ويَحْتَجِمُ – ح(8).
2- ونلفت النظر إلى ما ورد في العروة الوثقى -بتعليقة السيد السيستاني- (ج1 ص216): رقم »652» مسألة 1: من نام في أحد المسجدين واحتلم أو أجنب فيهما أو في الخارج ودخل فيهما عمداً أو سهواً أو جهلاً، وجب عليه التيمم للخروج، إلا أن يكون زمان الخروج أقصر من المكث للتيمم للخروج.... وعلق سماحة السيد السيستاني: ومع التساوي يتخير.

حَمْزَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: إِذَا كَانَ الرَّجُلُ نَائِماً فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ أَوْ مَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ، فَاحْتَلَمَ، فَأَصَابَتْه جَنَابَةٌ، فَلْيَتَيَمَّمْ، ولَا يَمُرَّ فِي المَسْجِدِ إِلَّا مُتَيَمِّماً حَتَّى يَخْرُجَ مِنْه، ثُمَّ يَغْتَسِلَ، وكَذَلِكَ الحَائِضُ إِذَا أَصَابَهَا الحَيْضُ تَفْعَلُ كَذَلِكَ، ولَا بَأْسَ أَنْ يَمُرَّا فِي سَائِرِ المَسَاجِدِ ولَا يَجْلِسَانِ فِيهَا (1)

النوع الثاني: المكروهات:

قال قُدس سره: ويكره له: الأكل والشرب، و(تخفف) الكراهة بالمضمضة والاستنشاق، وقراءة ما زاد على سبع آيات من غير العزائم، وأشد من ذلك قراءة سبعين، وما زاد أغلظ كراهية، ومس المصحف، والنوم حتى يغتسل أو يتوضأ أو يتيمم، والخضاب.

ذكر المحقققُدس سره مكروهات عديدة لمن عليه الغسل، وهي:

المكروهان الأول والثاني: الأكل والشرب:

وقد أشار المحقق قُدس سره إلى أن كراهتهما تخفّ عندما يتمضمض المجنب ويستنشق، وهذا يشير إلى أنَّ المبغوضات ليست على مرتبةٍ واحدة؛ بل هي على درجات متفاوتة من المبغوضية؛ فبعضها أكثر كراهةً، وبعضها أقل.وقد دلت على كراهة الأكل والشرب حال الجنابة روايات استدل بها الفقهاء، إلا أنّهم اختلفوا في أنَّ الكراهة تزول عند المضمضة والاستنشاق أو أنّها تبقى ولكنها تخف، فكان هناك رأيان:

ص: 472


1- الكافي للكليني ج3 ص 73 بَابُ النَّوَادِرِ ح (14).

الرأي الأول: بقاء الكراهة:

ولكنها تخف وهو ما عليه ظاهر عبارة المحقق قُدس سره.

الرأي الثاني: زوال الكراهة:

ومما يمكن أنْ يُستفاد منه كراهة هذا الأمر: ما روي عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله، قال: قلت لأبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ: أيأكل الجنب قبل أن يتوضأ؟ فقال عَلَيْهِ السَّلاَمُ: إنّا لنكسل، ولكن يغسل يده، والوضوء أفضل (1)

وعَنْ زُرَارَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: الجُنُبُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ ويَشْرَبَ غَسَلَ يَدَه وتَمَضْمَضَ، وغَسَلَ وَجْهَه، وأَكَلَ وشَرِبَ (2)

المكروه الثالث: قراءة ما زاد على سبع آيات من غير العزائم:

تقدّم أنّ المقصود من العزائم هي سور العزائم، وأن المحقق قُدس سره ذهب إلى أنه يحرم على المجنب قراءتها، أما ما سواها فتكره قراءةما زاد على سبع آياتٍ منها، والكراهة تشتد عند قراءة سبعين آية، وإن زاد المكلف في القراءة زادت الكراهة.

وفي مسألة قراءة الآيات القرآنية -بالنسبة للمحدِث بالأكبر سوى سور العزائم- عدة آراء:

الرأي الأول: جواز القراءة مطلقًا.

ص: 473


1- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج1 ص 372ح (1137 / 30).
2- الكافي للكليني ج3 ص 50 بَابُ الْجُنُبِ يَأْكُلُ ويَشْرَبُ ويَقْرَأُ ويَدْخُلُ الْمَسْجِدَ ويَخْتَضِبُ ويَدَّهِنُ ويَطَّلِي ويَحْتَجِمُ- ح(1).

الرأي الثاني: تحريم القراءة مطلقًا.

الرأي الثالث: تحريم ما زاد على سبع آيات.

الرأي الرابع: كراهة ما زاد على سبع آيات، وهو ما ذهب إليه المحقق قُدس سره.

وعلى أي حال، فإنّ الفقهاء قالوا: لا وجه لحرمة قراءة آيات القرآن الكريم؛ (عدا العزائم؛ إذ لا خلاف في حرمتها على الخلاف المتقدم في المحرم منها)، لأن الروايات صرّحت بجواز أنْ يقرأ المحدث بالأكبر القرآن الكريم، منها ما روي عن الفضيل بن يسار عن أبي جعفرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال: لا بأس أن تتلو الحائض والجنب القرآن (1)

وعن ابن بكير قال: سألت أبا عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ عن الجنب يأكل ويشرب ويقرأ القرآن؟ قال عَلَيْهِ السَّلاَمُ: نعم يأكل ويشرب ويقرأ ويذكر الله عَزَّوَجَل ما شاء (2)إن جواز قراءة القرآن الكريم مطلقًا واضحٌ في هاتين الروايتين، فتكون الروايات الدالة على تحريم قراءة سور العزائم التي تقدم ذكرها مقيدةً لعموم مثل هاتين الروايتين.

المكروه الرابع: مسّ المصحف:

تقدّمت حرمة مسّ كتابة القرآن الكريم، وأما مسّ ما عدا الكتابة من المصحف مثل الورق والهوامش وما بين السطور فمكروه.

ص: 474


1- الاستبصار للشيخ الطوسي ج1 ص 114 ح (380 – 2)، وتهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج1 ص 128 ح (347 / 38).
2- الاستبصار للشيخ الطوسي ج1 ص 114 باب 69 - باب الجنب والحائض يقرآن القرآن ح (379 – 1). وتهذيب الإحكام للشيخ الطوسي ج1 ص 128- ح (346 / 37).

استدل الفقهاء على هذه الكراهة بروايةٍ ضعيفة السند، رواها إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي الحسن عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال: المصحف لا تمسه على غير طهرٍ، ولا جنبًا، ولا تمس خيطه، ولا تعلّقه، إنّ الله تعالى يقول: «لَا يَمَسُّهُ إِلَّا المُطَهَّرُونَ» (1)، (2)

فظاهر الرواية النهي، والنهي يدلّ على الحرمة، ولكن لضعف سندها فإنها لا ترتقي إلى درجة إثبات التحريم على نحو الفُتيا؛ لذا لم يُفتِ العلماء بالحرمة واكتفوا بالقول بالكراهة بناءً على قاعدة التسامح في أدلة السنن كما تقدم بيانه.

وقد علق الشيخ الطوسي قُدس سره عليها بقوله: فالوجه في هذا الخبر أن نحمله على ضرب من الكراهية دون الحظر (3)المكروه الخامس: النوم، إلا أن يغتسل أو يتوضأ:

يكره للمجنب أن ينام قبل أن يغتسل أو يتوضأ، دلّت عليه بعض النصوص، منها ما روي عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: سألت أبا عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ عن الرجل يواقع أهله، أينام على ذلك؟ قال عَلَيْهِ السَّلاَمُ: إن الله تعالى يتوفى الأنفس في منامها، ولا يدري ما يطرقه من البلية، إذا فرغ فليغتسل.

ص: 475


1- الواقعة (79).
2- الاستبصار للشيخ الطوسي ج1 ص 113 و 114 ح (378 – 3) وتهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج1 ص 127 ح (344 / 35).
3- الاستبصار للشيخ الطوسي ج1 ص (114).

قلت: أيأكل الجنب قبل أن يتوضأ؟ قال عَلَيْهِ السَّلاَمُ: إنا لنكسل (1)، ولكن ليغسل يده، والوضوء أفضل (2)

وروي عن عبد الله الحلبي قال: سُئل أبو عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ عن الرجل أينبغي له أن ينام وهو جنب؟ فقال عَلَيْهِ السَّلاَمُ: يُكره ذلك حتى يتوضأ (3)

المكروه السادس: الخضاب:

الخضاب هو ما يصبغ به الشعر من حناءٍ وغيره، وفي كراهته للجنب بين الفقهاء خلاف (4)، إذ ورد في نصوص عن الإمام عَلَيْهِ السَّلاَمُعندما سئل عن الخضاب للمجنب تعبير: (لا أُحِبُّ له ذلك)، وقد استفيدَ منها الكراهة.

الجهة الثالثة: الغسل:

أولاً: واجبات الغسل:

قال قُدس سره: وأما الغسل فواجباتُه خمسٌ:

الواجب الأول: النية:

قال قُدس سره: وأما الغسل: فواجباته خمس: النية.

ص: 476


1- في هامش المصدر: قال في الوافي (هكذا يوجد في النسخ، ويشبه أن يكون مما صُحّف وكان (إنّا لنغتسل) لأنهم عَلَيْهِم السَّلاَمُ أجل من أن يكسلوا في شيء من عبادة ربهم عَزَّوَجَل).
2- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج1 ص 372 ح (1137 / 30).
3- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق ج1 ص 83 ح (179).
4- في مدارك الأحكام (ج1 ص288): الخضاب: ما يتلون به من حناء وغيره، وقد اختلف الأصحاب في كراهة الاختضاب للجنب...

لم يتعرّض المحقق قُدس سره لحقيقة النية؛ اعتمادًا منه على ما ذكره في الوضوء، فإنّ معناهما واحدٌ في البابين: في الوضوء والغسل.

وقد تقدّم هناك «في الوضوء» معنى النية، وأجزاؤها، وهل يشترط فيها نية القربة أو لا؟ وهل يشترط فيها نية الاستباحة أو لا؟

والكلام نفسه يجري هنا حذو القذة بالقذة.

الواجب الثاني: استدامة حكم النية إلى آخر الغسل:

قال قُدس سره: واستدامة حكمها إلى آخر الغسل.

تقدّم الحديث في باب الوضوء عن معنى استدامة النية؛ ولذلك فالمحقق قُدس سره لم يُطِلِ الكلام فيها هنا.

الواجب الثالث: صدق غسل البشرة عرفًا:

قال قُدس سره: وغسل البشرة بما يُسمى غسلاً.

يجب أن تُغسل البشرة بطريقةٍ يُطلقُ العرف عليها أنّها غسل، وقد قطع الأصحاب أنّ صدقه يتحقّق بجريان الماء على البشرة، ولو بمعاونٍ، كاستعانة المكلَّف على ذلك بيديه.

وقد دلّت على ذلك رواياتٌ عديدة، منها ما روي عَنْ زُرَارَةَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: الجُنُبُ مَا جَرَى عَلَيْه الماءُ مِنْ جَسَدِه -قَلِيلُه وكَثِيرُه- فَقَدْ أَجْزَأَه (1)

ص: 477


1- الكافي للكليني ج3 ص 21 بَابُ مِقْدَارِ الْمَاءِ الَّذِي يُجْزِئُ لِلْوُضُوءِ والْغُسْلِ ومَنْ تَعَدَّى فِي الْوُضُوءِ- ح (4).

وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَحَدِهِمَا عَلَيْهِما السَّلاَمُ قَالَ: سَالتُه عَنْ غُسْلِ الجَنَابَةِ فَقَالَ... فَمَا جَرَى عَلَيْه الماءُ فَقَدْ طَهُرَ (1)

الواجب الرابع: تخليل ما لا يصل إليه الماء إلا به (أي بالتخليل):

قال المحقق قُدس سره: وتخليل ما لا يصل إليه الماء إلا به.

يتضمّن ظاهر جسم الإنسان أماكن قد لا يصل إليها الماء بمجرد سكبه أو جريانه عليه؛ ربما لأن الشعر يغطي بعضها مثلًا، أو لكونها متراصةً جدًا كأصابع القدمين لدى البعض، أو لأسبابٍأخرى، ولأجل إيصال الماء إلى تلك الأماكن لا بُدّ من التخليل؛ بأن يستعين المُغتسِل بيده -مثلاً- لإيصال الماء إلى ما لا يصل إليه الماء بمجرد سكبه على الجسم، مثل استعانته بأصابع يده لتفريق خصلات شعره من أجل إيصال الماء إلى جلد الرأس، أو بتحريك أصابع قدمه أو بإدخال أصابعِ يده فيما بين أصابع قدمه إذا كانت بطبيعتها متراصّة إلى درجةٍ لا يُطمئن بوصول الماء إلى ما بينها دون ذلك.

وهذا التخليل واجب؛ لوجوب استيعاب ما ظهر من البدن بالغسل بالماء.

ص: 478


1- الكافي للكليني (ج3 ص 43 بَابُ صِفَةِ الْغُسْلِ والْوُضُوءِ قَبْلَه وبَعْدَه والرَّجُلِ يَغْتَسِلُ فِي مَكَانٍ غَيْرِ طَيِّبٍ ومَا يُقَالُ عِنْدَ الْغُسْلِ وتَحْوِيلِ الْخَاتَمِ عِنْدَ الْغُسْلِ- ح1)، وتمام الرواية: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَحَدِهِمَا عَلَيْهِما السَّلاَمُ قَالَ: سَأَلْتُه عَنْ غُسْلِ الْجَنَابَةِ فَقَالَ تَبْدَأُ بِكَفَّيْكَ فَتَغْسِلُهُمَا ثُمَّ تَغْسِلُ فَرْجَكَ ثُمَّ تَصُبُّ الْمَاءَ عَلَى رَأْسِكَ ثَلَاثاً ثُمَّ تَصُبُّ الْمَاءَ عَلَى سَائِرِ جَسَدِكَ مَرَّتَيْنِ فَمَا جَرَى عَلَيْه الْمَاءُ فَقَدْ طَهُرَ.

وقد دلَّت على وجوبه النصوص التي دلّت على لزوم أنْ يستوعب الماءُ ما ظهر من البدن استيعابًا تامًا، منها ما روي عن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ: من ترك شعرةً من الجنابة مُتعمدًا فهو في النار (1)، وتعبيره (سلام الله عليه): (فهو في النار) إشارة إلى أنّ غسله باطل.

وعلى كل حال، فالواجب هو استيعاب ظاهر الجسم بالغسل، وأما بواطنه -كباطن الفم والأنف والأذن- فلا يجب إيصال الماء إليها.

الواجب الخامس: الترتيب:قال المحقق قُدس سره: والترتيب: يبدأ بالرأس، ثم بالجانب الأيمن، ثم الأيسر، ويسقط الترتيب بارتماسة واحدة.

من المعلوم أنّ للغسل كيفيتين:

الكيفية الأولى: الغسل الترتيبي.

الكيفية الثانية: الغسل الارتماسي.

وأنّ الترتيب بين أجزاء البدن إنّما هو شرطٌ في الكيفية الأولى للغسل الترتيبي دون الثاني -الارتماسي-؛ ولذلك قال المحقق قُدس سره: والترتيب: يبدأ بالرأس ثم بالجانب الأيمن، ثم الأيسر، ويسقط الترتيب بارتماسةٍ واحدة.

فإذًا هنا نقطتان:

النقطة الأولى: بماذا يتحقّقُ الترتيب في الغسل الترتيبي؟

ص: 479


1- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج1 ص 135 ح (373 / 64).

النقطة الثانية: ما معنى الارتماس؟

النقطة الأولى: بماذا يتحقّقُ الترتيب في الغسل الترتيبي؟

ذكر الفقهاء (قدس الله أسرار الماضين وحفظ الموجودين) للغسل الترتيبي كيفيات مختلفة؛ لاختلاف الروايات الدالة على الترتيب، نذكر منها ثلاثاً:

الكيفية الأولى: ترتيبٌ ثلاثي:

يبدأ بالرأس، ثم بالجانب الأيمن، ثم الأيسر، وإليه ذهب المحقق قُدس سره، وعبارته واضحة في ذلك بأنَّ الترتيب يكونبثلاثة أجزاء: رأس ثم جانب أيمن ثم جانب أيسر على نحو الفتوى.

ومما قد يُستدل به على هذا الرأي: ما روي عَنْ زُرَارَةَ قَالَ: قُلْتُ: كَيْفَ يَغْتَسِلُ الجُنُبُ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: إِنْ لَمْ يَكُنْ أَصَابَ كَفَّه شَيْءٌ غَمَسَهَا فِي المَاءِ، ثُمَّ بَدَأَ بِفَرْجِه فَأَنْقَاه بِثَلَاثِ غُرَفٍ، ثُمَّ صَبَّ عَلَى رَأْسِه ثَلَاثَ أَكُفٍّ، ثُمَّ صَبَّ عَلَى مَنْكِبِه الأَيْمَنِ مَرَّتَيْنِ، وعَلَى مَنْكِبِه الأَيْسَرِ مَرَّتَيْنِ، فَمَا جَرَى عَلَيْه الماءُ فَقَدْ أَجْزَأَه (1)

الكيفية الثانية: الترتيب الثنائي:

بأن يبدأ بالرأس ثم البدن، وهو رأي السيد السيستاني (حفظه الله)، إذ ذهب إلى أن الأحوط وجوبًا أنْ يغسل المكلف الرأس والرقبة أولًا، ثم

ص: 480


1- الكافي للكليني ج3 ص 43 بَابُ صِفَةِ الْغُسْلِ والْوُضُوءِ قَبْلَه وبَعْدَه والرَّجُلِ يَغْتَسِلُ فِي مَكَانٍ غَيْرِ طَيِّبٍ ومَا يُقَالُ عِنْدَ الْغُسْلِ وتَحْوِيلِ الْخَاتَمِ عِنْدَ الْغُسْلِ- ح(3).

يغسل البدن كله غسلًا واحدًا، ولا يجب الترتيب بين الأيمن والأيسر، ولا يجب البدء بأحدهما، نعم الأحوط الأولى أن يغسل الجزء الأيمن أولًا ثم يغسل الجزء الأيسر.

قال (دام ظله): ومنها «من الواجبات الغسل« الإتيان بالغسل على إحدى كيفيتين: أولاهما الترتيب، والأحوط وجوبًا فيه أن يغسل أولًا تمام الرأس والرقبة ثم بقية البدن، والأحوط الأولى أن يغسل أولًا تمام النصف الأيمن ثم تمام النصف الأيسر (1)ومما يدلُّ على هذه الكيفية ما روي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَحَدِهِمَا عَلَيْهِما السَّلاَمُ قَالَ: سَالتُه عَنْ غُسْلِ الجَنَابَةِ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: تَبْدَأُ بِكَفَّيْكَ فَتَغْسِلُهُمَا، ثُمَّ تَغْسِلُ فَرْجَكَ، ثُمَّ تَصُبُّ المَاءَ عَلَى رَأْسِكَ ثَلَاثاً، ثُمَّ تَصُبُّ المَاءَ عَلَى سَائِرِ جَسَدِكَ مَرَّتَيْنِ، فَمَا جَرَى عَلَيْه الماءُ فَقَدْ طَهُرَ (2)

الكيفية الثالثة: تأخير غسل الجسم عن غسل الرأس:

ولعله أخف الآراء وأسهلها، إليه يذهب السيد محمد سعيد الحكيم قُدس سره إذ قال في منهاج الصالحين الجزء الأول: (منها: غسل تمام البدن... أنه لا يجوز تقديم الجسد على الرأس، ويجوز ما عدا ذلك...).

ص: 481


1- انظر: منهاج الصالحين للسيد السيستاني ج1 ص 82.
2- الكافي للكليني (ج3 ص43 بَابُ صِفَةِ الْغُسْلِ والْوُضُوءِ قَبْلَه وبَعْدَه والرَّجُلِ يَغْتَسِلُ فِي مَكَانٍ غَيْرِ طَيِّبٍ ومَا يُقَالُ عِنْدَ الْغُسْلِ وتَحْوِيلِ الْخَاتَمِ عِنْدَ الْغُسْلِ- ح1).

تنبيهات:

التنبيه الأول:

الإشارة إلى ما تقدم من كيفيات الغسل الترتيبي إنما هو من باب بيانها؛ لأنّها مسألة ابتلائية، لا من أجل الاستدلال على رأي دون آخر.

التنبيه الثاني:

قد يحصل أن يكون غسل بعض المكلفين باطلًا وفق إحدى كيفيات الغسل، فليس من الصحيح الحكم عليه بالبطلان مباشرة؛ لأن غسله قد يكون باطلًا وفق رأيٍ منها، ولكن يمكن تصحيحه وفق رأيٍ آخر ممّن يقولون بكيفيات أخرى للغسل، وهذا فيما إذا لم تكن هذه المسألة على نحو الفتوى عند المجتهد الذي يقلده، بل على الاحتياط الوجوبي؛ فيمكن حينها الرجوع إلى من يمكن تصحيح الغسل وفقًا لرأيه.

التنبيه الثالث:

بناءً على لزوم الترتيب - فتوىً أو احتياطًا- لا بُدّ عند غسل كُلِّ جزءٍ من البدن من إدخال شيءٍ من الجزء الملاصق له من باب المقدمة العلمية وحصول الاطمئنان؛ فعندما يغسل الرأس والرقبة مثلًا، لا بد أن يدخل قليلًا من البدن؛ لأجل أن يطمئن بأنّه قد امتثل التكليف الإلهي وغسل الرأس والرقبة كلها، وكذا عند غسله الجزء الأيمن من الجسم يُدخل قليلًا من الجزء الأيسر، وكذا العكس.

ص: 482

التنبيه الرابع:

الترتيب الثلاثي هو الموافق للاحتياط، ولو على نحو الاحتياط الاستحبابي كما تقدّم في رأي السيد السيستاني (حفظه الله).النقطة الثانية: ما المقصود من الارتماس؟

الارتماس هو شمول الماء للبدن دفعةً واحدة:

والمرجع في كونه دفعةً واحدة هو العرف.

فلو ارتمس المكلف مثلًا في النهر، فغطى الماءُ كل جسمه، كان ارتماسًا، ولكي يطمئن من وصول الماء إلى جميع أجزاء ظاهر بدنه -كفروة الرأس وما بين أصابع القدمين- فله أن يستعين بيده على ذلك، وهذا لا ينافي كون الغسل دفعة واحدة.

وقد دلّت على إجزاء الغسل الارتماسي النصوص الشريفة، منها ما روي عن زرارة عن أبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ قال: ولو أنّ رجلًا جُنُبا ارتمس في الماء ارتماسةً واحدة أجزأه ذلك وإنْ لم يدلك جسده (1)

وعَنِ الحَلَبِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ يَقُولُ: «إِذَا ارْتَمَسَ الجُنُبُ فِي المَاءِ ارْتِمَاسَةً وَاحِدَةً أَجْزَأَه ذَلِكَ مِنْ غُسْلِه» (2)

ص: 483


1- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج1 ص 370 ح (1131 / 24).
2- الكافي للكليني ج3 ص 43 بَابُ صِفَةِ الْغُسْلِ والْوُضُوءِ قَبْلَه وبَعْدَه والرَّجُلِ يَغْتَسِلُ فِي مَكَانٍ غَيْرِ طَيِّبٍ ومَا يُقَالُ عِنْدَ الْغُسْلِ وتَحْوِيلِ الْخَاتَمِ عِنْدَ الْغُسْلِ- ح (5).

والروايتان وإن وردتا في غسل الجنابة؛ إلا أنّهما لا يختصان به؛ لقاعدة: المورد لا يخصص الوارد، فيمكن أن يسري مضمونهما إلى غسل الحيض والنفاس ومس الميت، بل حتى الأغسال المستحبة.ويمكن أن يُستفاد هذا المعنى فيما روي عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: سَالتُه عَنِ المَرْأَةِ تَحِيضُ وهِيَ جُنُبٌ، هَلْ عَلَيْهَا غُسْلُ الجَنَابَةِ؟ قَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: غُسْلُ الجَنَابَةِ والحَيْضِ وَاحِدٌ (1)

أي إن لهما كيفية واحدة... ولعله ذكر الجنابة لعموم البلوى بها أكثر من غيرها.

ثانيًا: سُنن الغسل:

قال المحقق قُدس سره: وسنن الغسل: تقديم النية عند غسل اليدين، وتتضيق عند غسل الرأس، وإمرار اليد على الجسد، وتخليل ما يصل إليه الماء استظهاراً، والبول أمام الغسل، والاستبراء، وكيفيته: أن يمسح من المقعد إلى أصل القضيب ثلاثاً، ومنه إلى رأس الحشفة ثلاثاً، وينتره ثلاثاً، وغسل اليدين ثلاثاً قبل إدخالهما الإناء، والمضمضة، والاستنشاق، والغسل بصاع.

إجمال ما ذكره المحقق قُدس سره في هذا المعنى هو التالي:

أولًا: تقديم النية عند غسل اليدين، وتتضيق عند غسل الرأس.

ص: 484


1- الكافي للكليني ج3 ص 83 بَابُ الْمَرْأَةِ تَرَى الدَّمَ وهِيَ جُنُبٌ- ح(2).

ثانيًا: إمرار اليد على الجسد؛ لحصول الاطمئنان، أو الاستظهار في وصول الماء إلى البدن كما يعبر الفقهاء.ثالثاً: تخليل ما يصل إليه الماء استظهارًا، وقد تقدّم وجوب تخليل ما لا يصل إليه الماء إلا بالتخليل، وأما ما يصل إليه الماء من دون تخليل -كأجزاء البدن التي يعلوها شعر قليل-، فمن المستحب تخليله أيضًا.

رابعاً: البول قبل الغسل والاستبراء:

أما البول قبل الغسل، فقد دلت عليه بعض النصوص، منها ما روي عن أحمد بن محمد قال: سألت أبا الحسن الرضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ عن غسل الجنابة فقال: تغسل يدك اليمنى من المرفق إلى أصابعك، وتبول إن قدرت على البول، ثم تدخل يدك في الاناء، ثم اغسل ما أصابك منه، ثم أفِضْ على رأسك وجسدك، ولا وضوء فيه (1)

وستأتي فائدة هذا المستحب في المسائل الثلاثة التي سيذكرها المحقق قُدس سره.

وأما الاستبراء، فهو مستحب خاص بالرجال، وهو أن يمسح من المقعد إلى أصل القضيب ثلاثًا، ومنه إلى رأس الحشفة ثلاثًا، وينتره ثلاثًا، وقد أطلق عليه الفقهاء الاستبراء بالخرطات، وهو مما دلّت عليه النصوص أيضاً، من ذلك ما روي عن حفص بن البختري، عنأبي عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ في

ص: 485


1- الاستبصار للشيخ الطوسي ج1 ص 123 باب 74 - باب وجوب الترتيب في غسل الجنابة- ح (419 - 1) وتهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج1 ص 131 ح (363 / 54).

الرجل يبول، قال عَلَيْهِ السَّلاَمُ: ينتره ثلاثاً، ثم إن سال حتى يبلغ الساق فلا يبالي (1)

وكذلك ما رواه الكليني رحمة الله عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: رَجُلٌ بَالَ ولَمْ يَكُنْ مَعَه مَاءٌ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: يَعْصِرُ أَصْلَ ذَكَرِه إِلَى طَرَفِه ثَلَاثَ عَصَرَاتٍ، ويَنْتُرُ طَرَفَه (2)، فَإِنْ خَرَجَ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْءٌ فَلَيْسَ مِنَ البَوْلِ، ولَكِنَّه مِنَ الحَبَائِلِ (3)، (4)

فهاتان الروايتان واردتان في سياق الحديث عن البول -الذي هو مورد الاستبراء بالخرطات-، ولعل المحقق قُدس سره يقصد الاستبراء بعد أن يبول استحبابًا قبل غسل الجنابة، وبهذه المناسبة ذكر كيفية الاستبراء، وفائدته ستأتي إن شاء الله تعالى في المسائل الثلاثة التي سيذكرها المحقق في نهاية بحثه عن غسل الجنابة.

خامساً: غسل اليدين ثلاثًا قبل إدخالهما الإناء:

دلّت عليه بعض النصوص، منها ما روي عَنِ الحَلَبِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: سُئِلَ كَمْ يُفْرِغُ الرَّجُلُ عَلَى يَدِه قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهَا فِي الإِنَاءِ؟

ص: 486


1- الاستبصار للشيخ الطوسي ج1 ص 48 و49 - باب 28 - باب وجوب الاستبراء قبل الاستنجاء من البول ح (136 – 1)، وتهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج1 ص 27 ح (70 / 9).
2- النتر: الجذب. والاستنتار من البول: استخراج بقيته من الذكر بالاجتذاب والاهتمام به. (هامش المصدر).
3- والحبائل: عروق في الظهر، وحبال الذكر عروقه. (هامش المصدر).
4- الكافي للكليني ج3 ص 19- بَابُ الِاسْتِبْرَاءِ مِنَ الْبَوْلِ وغَسْلِه ومَنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ- ح (1).

قَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: «وَاحِدَةً مِنْ حَدَثِ البَوْلِ، وثِنْتَيْنِ مِنَ الغَائِطِ، وثَلَاثَةً مِنَ الجَنَابَةِ» (1)

سادسا: المضمضة والاستنشاق:

وهذا أيضًا ممّا دلّت عليه النصوص، منها ما روي عن زرارة قال: سألت أبا عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ عن غسل الجنابة فقال: تبدأ فتغسل كفيك، ثم تفرغ بيمينك على شمالك فتغسل فرجك ومرافقك، ثم تمضمض واستنشق، ثم تغسل جسدك من لدن قرنك إلى قدميك، ليس قبله ولا بعده وضوء، وكل شيء أمسسته الماء فقد أنقيته، ولو أن رجلاً ارتمس في الماء ارتماسة واحدة أجزأه ذلك، وإن لم يدلك جسده (2)

وغيرها من الروايات.

سابعاً: الغسل بصاع:

وهذا أيضًا ممّا دلت عليه بعض النصوص الشريفة، منها ما روي عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ عن الوضوء فقال: كان رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ يتوضأ بِمُدٍّ، ويغتسل بصاع (3)

ص: 487


1- الكافي للكليني ج3 ص 12 بَابُ الرَّجُلِ يُدْخِلُ يَدَه فِي الإِنَاءِ قَبْلَ أَنْ يَغْسِلَهَا والْحَدِّ فِي غَسْلِ الْيَدَيْنِ مِنَ الْجَنَابَةِ والْبَوْلِ والْغَائِطِ والنَّوْمِ – ح (5).
2- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج1 ص 148 ح (422 / 113).
3- الاستبصار للشيخ الطوسي ج1 ص 120 باب 73 - باب مقدار الماء الذي يجزى في غسل الجنابة والوضوء ح (408 / 1).

وفي الرواية عن أبي جعفرٍ وأبي عبد الله عَلَيْهِم السَّلاَمُ أنّهما قالا: توضّأ رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ بمُدّ، واغتسل بصاع (1)

قال المحقق قُدس سره: مسائلُ ثلاثٌ:

«المسألة» الأولى: إذا رأى المغتسل بللاً مشتبهاً بعد الغسل، فإنْ كان قد بال أو استبرأ لم يُعِدْ، وإلا كان عليه الإعادة.

لو أجنب المكلف بالإنزال، فاغتسل، ثم رأى بللًا مشتبهًا به، فهنا حالتان:

الحالة الأولى: أن يعلم بكون الخارج بولًا أو منيًا، فحينئذٍ يلحق بكلٍّ منهما حكمه؛ فيتطهر ويتوضّأ أو يغتسل.

الحالة الثانية: أنْ لا يعلم بكون الخارج بولًا أو منيًا، فيشتبه عليه الحال، فهنا ثلاثة احتمالات:

الاحتمال الأول: أن يكون المكلف قد استبرأ بالبول والخرطات قبل أن يغتسل، وحينئذٍ يكون حكم هذا البلل المشتبه هي الطهارة؛ لأن الاستبراء بالبول ينظّف الممر، فلا يبقى فيه من المني شيءٌ،والاستبراء بالخرطات ينفي كون الخارج بولًا؛ لأن الاستبراء بالخرطات يُنقي المجرى من البول، فإذًا يحكم على هذا المشتبه به بأنّه ليس ببول ولا مني.

الاحتمال الثاني: أن لا يكون قد استبرأ بالبول، ولا بالخرطات، وخرج بللٌ مشتبه، فعليه إعادة الغسل.

ص: 488


1- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج1 ص 370 خ (1130 / 23).

الاحتمال الثالث: أن يكون قد استبرأ بالبول، ولم يستبرئ بالخرطات، فحينئذٍ عليه إعادة الوضوء فقط بعد تطهير المحل.

ومما يدلُّ على ذلك: ما روي عن حريز عن محمد قال: سألت أبا عبد الله عَلَيْهِ السَّلاَمُ عن الرجل يخرج من إحليله بعد ما اغتسل شيءٌ؟

قال عَلَيْهِ السَّلاَمُ: يغتسل ويعيد الصلاة، إلا أن يكون قد بال قبل أن يغتسل، فإنه لا يعيد غسله.

قال محمد: وقال أبو جعفر عَلَيْهِ السَّلاَمُ: من اغتسل وهو جنب قبل أن يبول، ثم يجد بللاً، فقد انتقض غسله، وإنْ كان بال ثم اغتسل ثم وجد بللاً، فليس ينقض غسله، ولكن عليه الوضوء (1)

والرواية واضحة في تعداد هذه الحالات الثلاثة.

«المسألة» الثانية: قال المحقق قُدس سره: الثانية: إذا غسل بعض أعضائه ثم أحدث، قيل: يعيد الغسل من رأس، وقيل: يقتصر على إتمام الغسل، وقيل: يتمه ويتوضأ للصلاة، وهو الأشبه.لو غسل المكلف المجنبُ رأسه، وبدأ بغسل الجزء الأيمن مثلًا، ثم أحدث بالحدث الأصغر، ففي غسله ثلاثة آراء:

الرأي الأول: يُعيد الغسل من جديد؛ لأن الغسل قد بطل بالحدث الأصغر.

الرأي الثاني: يُكمل الغسل، ويجزي عن الوضوء؛ لأن الحدث الأصغر لا يبطل الغسل.

ص: 489


1- الاستبصار للشيخ الطوسي ج1 ص 119 ح (402 - 4).

الرأي الثالث: يكمل غسله، ولكن لا يجزي عن الوضوء؛ لأن الحدث لا يُبطل الغسل، ولكن عليه أن يتوضأ بعد الغسل؛ لأن هذا الغسل لا يجزي عن الوضوء.

والرأي الثالث هذا هو الأقرب، وهو الأشبه بالقواعد المذهبية، وهو الرأي الذي ذهب إليه المحقق قُدس سره.

والوجه فيه هو التالي:

1 - الغسل صحيحٌ؛ لأن الحدث الأصغر ليس من مبطلات الغسل، ولذا فلا موجب لإعادته.

2 - إنَّ الحدث الأصغر لم يتم رفعه؛ لأنّ حدوثه كان في منتصف الغسل، وإكمال الغسل لا يرفعه، فلا بُدّ من الوضوء.

فالمسألة واضحة إذن، وهي موافقة فعلًا لقواعد المذهب.

وإلى هذا الرأي يذهب السيد السيستاني (حفظه الله) على نحو الاحتياط الوجوبي، إذ قال: لو أحدث بالأصغر في أثناء الغسل من الجنابة، فله أن يتمه، والأحوط وجوبًا ضمُّ الوضوءِ إليه حينئذٍ. وله العدول الاستئنافي من الترتيبي إلى الارتماسي، وبالعكس، ولا حاجة حينئذٍ إلى ضمِّ الوضوء (1)

ص: 490


1- منهاج الصالحين للسيد السيستاني ج1 ص 86 المسألة رقم (204).

المسألة الثالثة: لزوم المباشرة بالغسل:

«المسألة» الثالثة: لا يجوز أن يغسّله غيره مع الإمكان، ويكره أن يستعين فيه.

لا يجوز للمكلف أن يغسّله غيره مع الإمكان.

نعم تقدّم الحديث في أنه إذا كان المكلف عاجزًا عن المباشرة بالغسل، فله أن يستعين بغيره، وفي المسألة تفاصيل يرجع فيها المكلف إلى المجتهد الذي يقلده.

ويكره أن يستعين في الغسل بالغير؛ بأن يصبَّ الماء عليه، وقد تقدّمت تفاصيل هذه المسألة في الوضوء.

إلى هنا ينتهي حديثنا في هذه الدورة المختصرة في شرح كتاب شرائع الإسلام، التي كنا نبغي من ورائها الاطلاع على عبارة فقهائنا القدماء، وكيفية استدلالاتهم، وبثِّ بعض المعلومات الأصولية والرجالية التي تفتح أذهان الطلبة في هذه المرحلة على الدقةِ العلميةالموجودة في موضوعة الاستدلال الفقهي، ومن خلالها سيُفهم أنّ قضية الاجتهاد ليست مسألةً سهلةً؛ فالروايات كثيرة، وبعضها يصعب فهمها بسرعة، بل تحتاج إلى الكثير من القواعد الأصولية والفقهية وغيرها، وقبولها يحتاج إلى الكثير من القواعد الرجالية المعرفية وغيرها.

بهذا نعيد التأكيد على ما ذكرناه في بداية هذه الدروس من أننا لم نكن في مقام الفتوى، وإنّما في مقام بيان العبارة وبعض الآراء ليس إلا، وأما الفتوى فكل فردٍ يرجع إلى المجتهد الذي يقلده.

ص: 491

أسألُ اللهَ عَزَّوَجَل أن أكونَ قد وُفِّقتُ لبيانِ شيءٍ نافعٍ للمؤمنين، متمنياً منهم أن يعذروني عن التقصير أو الخطأ غير المتعمد، وأرجو من الجميع أن لا ينسوني ووالدي بدعواتهم الصالحة، وندعو لجميع المؤمنين بتعجيل الفرج وتسهيل ظهور إمامنا صاحب العصر والزمان ¨، والتوفيق لما عليه محمدٌ وآل محمدٍ (صلوات الله عليهم).

اللهم أرٍنا الحقَّ حقًّا فنتبعه، والباطلَ باطلًا فنجتنبه، واجعلنا من شيعةِ أهل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ ومن الداعين إلى الحقّ. والحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على خير خلقه محمدٍ وآل بيته الطيبين الطاهرين.

* * *

ص: 492

ص: 493

المصادر والمراجع

بعد كتاب الله المجيد:

1. اختيار معرفة الرجال: الشيخ الطوسي- مطبعة بعثت- قم- مؤسسة آل البيت- 1404ه-.

2. الإرشاد: الشيخ المفيد- تحقيق مؤسسة آل البيت- ط 2- 1414ه-- دار المفيد- بيروت.

3. الاستبصار: الشيخ الطوسي- تحقيق: حسن الخرسان- ط 4- 1363ش- مط خورشيد- دار الكتب الإسلاميّة- طهران.

4. أعيان الشيعة: السيّد محسن الأمين- تحقيق: حسن الأمين- دار التعارف- بيروت.

5. أمل الآمل: الحر العاملي- ت: 1104- تحقيق: السيد أحمد الحسيني- المطبعة: الآداب - النجف الأشرف- الناشر: مكتبة الأندلس – بغداد.

6. تاريخ آل زرارة: أبو غالب الزراري- ت: 368 - سنة الطبع: 1399 -المطبعة: مطبعة رباني.

ص: 494

7. تهذيب الأحكام: الشيخ الطوسي- تحقيق حسن الخرسان- ط 3- 1364ش- مط خورشيد- دار الكتب الإسلاميّة- طهران.

8. حاشية شرائع الاسلام: الشهيد الثاني- ت: 965- تحقيق: مركز الأبحاث والدراسات الإسلامية - قسم إحياء التراث الإسلامي- الطبعة: الأولى- سنة الطبع: 1422 - 1380 ش- المطبعة: مكتبة مكتب الإعلام الإسلامي- الناشر: بوستان كتاب قم (مركز النشر التابع لمكتب الإعلام الإسلامي).

9. حقائق الفقه في شرح شرائع الإسلام- الجزء الأول- الحاج الشيخ محمد رضا الطهراني- 1380 ه-- نسخة إلكترونية.

10. الخصال: الشيخ الصدوق- ت علي أكبر الغفاري- 1403ه-- جماعة المدرسين- قم.

11. دروس تمهيدية في القواعد الرجالية: للشيخ باقر الأيرواني (حفظه الله).

12. رسالة في آل أعين: أبو غالب الزراري- ت: 368 -تحقيق: شرح: السيد محمد علي الموسوي الموحد الابطحي الاصفهاني- سنة الطبع: 1399 - مطبعة رباني.

13. الرسائل التسع: المحقق الحلي- ت: 676 - تحقيق: رضا الأستادي- الطبعة: الأولى- سنة الطبع: 1413 - 1371 ش -الناشر: مكتبة آية الله العظمى المرعشي بقم.

ص: 495

14. رسائل فقهية: الشيخ الأنصاري- ط1- 1414ه-- مط باقري- قم.

15. السرائر: ابن إدريس الحلّي- تحقيق: لجنة التحقيق- ط2- 1410ه-- مؤسسة النشر الإسلامي- قم.

16. سنن النسائي: النسائي- ط 1- 1348ه-- دار الفكر- بيروت.

17. شرائع الإسلام: المحقِّق الحلّي- مع تعليقات السيّد صادق الشيرازي- ط 2- 1409ه-- انتشارات استقلال- طهران.

18. شرح العروة الوثقى - الطهارة (موسوعة الإمام الخوئي)- تقرير بحث السيد الخوئي للغروي- ت: 1413- الطبعة: الثانية- سنة الطبع: 1426 - 2005 م- الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدس سره.

19. شرح شرائع الإسلام – الجزء الأول- السيد عبد الزهراء الحسيني الخطيب- نسخة إلكترونية.

20. العروة الوثقى بتعليقة السيد السيستاني: دار المؤرخ العربي- الطبعة الرابعة – 1436ه- - 2015م.

21. علل الشرائع: الشيخ الصدوق- تحقيق: محمّد صادق بحر العلوم- 1385ه-- منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها- النجف الأشرف.

22. عوالي اللئالي: ابن أبي جمهور الأحسائي- تحقيق: مجتبىٰ العراقي- ط1- 1403ه-- مط سيّد الشهداء- قم.

ص: 496

23. العين: الخليل الفراهيدي- ط2- 1409ه-- مؤسسة دار الهجرة.

24. فهرست اسماء مصنفي الشيعة (رجال النجاشي): النجاشي- ت: 450- الطبعة: الخامسة- سنة الطبع: 1416- الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة.

25. الكافي: الشيخ الكليني- تحقيق: علي أكبر الغفاري- ط5- 1363ش- مط حيدري- دار الكتب الإسلاميّة- طهران.

26. كمال الدين وتمام النعمة: الشيخ الصدوق- تحقيق: علي أكبر الغفّاري- 1405ه-- مؤسسة النشر الإسلامي- قم.

27. لسان العرب: ابن منظور- 1405ه-- نشر أدب الحوزة- قم.

28. المحاسن: البرقي- تحقيق: جلال الدين الحسيني المحدّث- 1370ه-- دار الكتب الإسلاميّة- طهران.

29. مدارك الأحكام في شرح شرائع الإسلام: السيد محمد العاملي- ت: 1009- تحقيق: مؤسسة آل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ لإحياء التراث - مشهد المقدسة- الطبعة: الأولى- سنة الطبع: محرم 1410 - المطبعة: مهر – قم- الناشر: مؤسسة آل البيت عَلَيْهِ السَّلاَمُ لإحياء التراث - قم المشرفة.

30. مسالك الأفهام في شرح شرائع الإسلام: الشهيد الثاني- ط1- 1413ه-- مطبعة بهمن- مؤسسة المعارف الإسلاميّة- قم.

31. مسائل علي بن جعفر: علي بن الإمام جعفر الصادق-ت: ق 2- تحقيق: مؤسسة آل البيت عَلَيْهِم السَّلاَمُ لإحياء التراث - قم المشرفة- الطبعة:

ص: 497

الأولى- سنة الطبع: ذي القعدة 1409- المطبعة: مهر – قم- الناشر: المؤتمر العالمي للإمام الرضا عَلَيْهِ السَّلاَمُ - مشهد المقدسة.

32. مستطرفات السرائر: ابن إدريس الحلّي- ط 2- 1411ه-- مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين- قم.

33. مسند أحمد: أحمد بن حنبل- دار الصادر- بيروت.

34. مصباح الشريعة: المنسوب للإمام الصادق- ط1- 1400ه-- مؤسسة الأعلمي- بيروت.

35. مصباح الفقيه: آقا رضا الهمداني- ت: 1322- تحقيق: المؤسسة الجعفرية لإحياء التراث «قم المقدسة» - التحقيق: محمد الباقري - نور علي النوري - محمد الميرزائي - الإشراف: السيد نور الدين جعفريان- الطبعة: الأولى- سنة الطبع: جمادي الأخرى 1419- المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي- الناشر: المؤسسة الجعفرية لإحياء التراث (قم المقدسة).

36. المعتبر: المحقق الحلي- ت: 676- تحقيق وتصحيح: عدة من الأفاضل- إشراف: ناصر مكارم شيرازي- سنة الطبع: 1364-1. 3-14 ش- المطبعة: مدرسة الإمام أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلاَمُ- الناشر: مؤسسة سيد الشهداء عَلَيْهِ السَّلاَمُ – قم.

37. معجم البلدان: الحموي- 1399ه-- دار إحياء التراث العربي- بيروت.

ص: 498

38. معجم رجال الوسائل: علي أكبر الترابي ويحيى الرهائي- تحت إشراف الشيخ جعفر سبحاني- الطبعة الأولى.

39. مكارم الأخلاق: الشيخ الطبرسي- ط6- 1392ه-- منشورات الشريف الرضي- قم.

40. من لا يحضره الفقيه: الشيخ الصدوق- تحقيق: علي أكبر الغفاري- ط2- مؤسسة النشر الإسلامي- قم.

41. منهاج الصالحين: للسيد السيستاني- الطبعة التاسعة عشرة 1439ه-- 2018م-دار المؤرخ العربي.

42. موسوعة الإمام المهدي عَلَيْهِ السَّلاَمُ في الكتاب والسنة والتاريخ: الشيخ محمد الريشهري- الطبعة الأولى 1398 ه-.ش- شركت جاب وانتشارات سازمان أوقاف وأمور خيريه.

43. النهاية في مجرد الفقه والفتاوى: المؤلف: الشيخ الطوسي- ت: 460- الناشر: انتشارات قدس محمدي – قم.

44. الوافي: الفيض الكاشاني- ت: 1091- تحقيق: عني بالتحقيق والتصحيح والتعليق عليه والمقابلة مع الأصل ضياء الدين الحسيني «العلامة» الأصفهاني- الطبعة: الأولى- سنة الطبع: أول1. شوال المكرم 1406 ه. ق 19 - 3 - 65 ه. ش- المطبعة: طباعة أفست نشاط أصفهان- الناشر: مكتبة الامام أمير المؤمنين علي عَلَيْهِ السَّلاَمُ العامة – أصفهان.

45. وسائل الشيعة: الحرّ العاملي- ط2- 1414ه-- مط مهر- مؤسسة آل البيت- قم.

ص: 499

الفهرست والموضوعات

مقدمة المعهد:... 3

الإهداء... 5

مقدمة المؤلف:... 7

سيرة حياة المُحقَّق الحلّي قُدس سره وديباجة الكتاب:... 13

القسم الأول: في العبادات:... 21

كتاب الطهارة... 25

توضيح التعريف:... 27

أقسام الطهارة الشرعية... 39

القسم الأول: الوضوء... 42

الأول: ما يجب لأجله الوضوء: 42

ما يجب لأجله الوضوء: / أولاً:الصلاة الواجبة:... 43

ثانياً: الطواف الواجب:... 44

ثالثا: (أو لِمَسِّ كتابةِ القرآنِ إنْ وجب):... 50

الثاني: ما يُندب لأجله الوضوء:... 51

القسم الثاني: الغُسل... 52

الأول: الواجب:... 52

ص: 500

ما يجب لأجله الغُسل: / الأول والثاني الثالث: ما كان لأحد الأمور الثلاثة المتقدمة: / الرابع: لدخول المساجد:... 53

الخامس: لقراءة العزائم:... 54

السادس: إذا بقي من الوقت قبل طلوع الفجر بمقدار ما يغتسلُ به المُجنبُ من يومٍ يجبُ صومُه:... 55

السابع: لصوم المستحاضة إذا غمسَ دمُها القطنةَ:... 58

الثاني: ما يُندب لأجله الغسل:... 59

القسم الثالث: التيمم / الأول: الواجب:... 60

الغايةُ الأولى: الصلاةُ الواجبةُ عندَ تضيّقِ وقتِها:/ الغاية الثانية: للجنب في أحدِ المسجدين ليخرج به:... 60

غايات أخرى:... 63

1- الطوافُ الواجبُ مع اليأسِ من الحصولِ على الطهارةِ المائية: / 2 - ما لو وجبَ مسُّ كتابةِ القرآنِ بنذرٍ أو شبهه:... 64

3 - بل كُلُّ الغاياتِ التي وجبَت لها الطهارة المائية:... 64

الثاني: الندب:... 64

أركان الطهارة... 67

الركن الأول: في المياه:... 69

الطرف الأول: في الماء المطلق... 72

معنى الحدث:... 77

ص: 501

معنى الخبث: / الفرق بين الحدث والخبث:... 78

القسمُ الأول: الماء الجاري: / الأمر الأول: تعريف الماء الجاري:... 81

الأمر الثاني: كيف ينفعل الماء الجاري بالنجاسة؟... 81

نكتة رجالية: معنى الأخبار المُستفيضة:... 84

مراتب الخبر:... 85

الأمر الثالث: كيف يطهر الماء الجاري بعد تنجُسه؟... 88

الأمر الرابع: يُلحَقُ بحكم ماء الجاري (وهو الاعتصام) ماء الحمام:... 92

الأمر الخامس: التغيُّر بملاقاة الطاهر، والتغيُّر من تلقاء نفسه:... 97

القسم الثاني: الماء المحقون:... 99

أقسام الماء المحقون: / القسم الأول: ما كان أقلَّ من الكُر:... 99

كيف يطهر الماء المحقون القليل لو تنجس؟... 102

القسم الثاني: قوله قُدس سره: وما كان منه كرًا فصاعدًا... 105

التحديد الأول:.التحديدُ بالوزن: 110

التحديد الثاني: التحديد بالمساحة:... 117

نكتة رجالية: كيف نتعاملُ مع الراوي الواقفي؟... 119

معنى العلم الإجمالي:... 125

الطرف الثاني: الماء المضاف... 128

أحكام الماء المُضاف:... 130

تنبيهان:... 150

ص: 502

حكم الماء المضاف من حيث انفعاله بالنجاسة:... 151

أقسام الإجماع :... 152

هل يطهر الماء المضاف؟ وكيف؟... 157

إشارات:... 162

الإشارة الأولى: قاعدة التسامح في أدلة السنن:... 163

الإشارة الثانية: الحالات التي تكره فيها الطهارة الشرعية بالماء المسخن بالشمس:... 165

الإشارة الثالثة: معنى المكروه:... 166

الإشارة الرابعة: / الإشارة الخامسة:... 168

إشاراتٌ: وفيها ترجمة زرارة:... 169

القسم الأول: ماء الغُسالة:... 177

القسم الثاني: ماء الاستنجاء:... 179

إشارات:... 181

ظاهرة الترددات في كتاب الشرائع:... 188

استطراد: في لزوم تعظيم العلماء:... 189

نكتة تربوية: ملاك القبول هو الإخلاص:... 195

تنبيه: الاختلاف في رفع الحدث لا في إزالة الخبث:... 199

الطرف الثالث: في الأسئار... 200

الفرع الأول: حكم السؤر من حيث الطهارة والنجاسة:... 201

ص: 503

إشارات:... 207

الفرع الثاني: ما يُكره سؤره:... 208

الفرع الثالث: حالات ينجس فيها الماء:... 215

إشارات:... 218

الركن الثاني: في الطهارة المائية... 225

الفرع الأول: في أسباب الوضوء:... 227

وهنا عدة تنبيهات:... 230

ملحوظات:... 236

فائدة رجالية: الرواية المضمرة والآراء فيها:... 238

الفرع الثاني: أمورٌ لا تنقض الوضوء:... 243

الفصل الثاني: في أحكام الخلوة... 251

النوع الأول: في كيفية التخلي وأحكامه:... 251

النوع الثاني: في الاستنجاء:... 264

الطريقة الأولى: الطريقة التعيينية:... 271

الطريقة الثانية: الطريقة التخييرية:... 272

الأمر الثالث: شروط التطهير بالأحجار:... 275

النوع الثالث: في سنن الخلوة (المندوباتٌ والمكروهات):... 280

الفصل الثالث: في كيفية الوضوء... 299

الفرض الأول: النية: / الأمر الأول: في معنى النية:... 299

ص: 504

الأمر الثاني: في كيفية النية:... 303

الأمر الثالث: عدم وجوب نية رفع الحدث أو الاستباحة:... 307

تنبيهان:... 308

الأمر الرابع: وقت النية:... 313

الأمر الخامس والأخير: لزوم استدامة النية:... 316

تداخُل الأسباب:... 319

فائدة: منهجية استنباط الحكم الشرعي:... 320

الفرض الثاني: غسل الوجه:... 333

الفرض الثالث: غسل اليدين:... 341

الأمر الأول: حدُّ غسلِ اليدين:... 341

هل الغاية تدخل في المُغيّى أو لا؟... 343

الأمر الثاني: في كيفية غسل اليدين في الوضوء:... 344

الأمر الثالث: فروع:... 349

الفرض الرابع: مسح الرأس:... 354

الأمر الأول: في بيان مقدار المسح الواجب: / الواجب الأول: أنْ يتحقّقَ مُسمّى المسح:... 354

الواجب الثاني: أن يكون المسح على مقدم الرأس:... 357

الأمر الثاني: الماء المسموح به في المسح:... 358

الفرض الخامس: مسح الرجلين:... 364

ص: 505

سؤالان:... 378

مسائلُ ثمان:. المسألة

الأولى: في الترتيب:... 383

مقدمة: بيان الشروط العلمية والواقعية:... 385

المسألة الثانية: في الموالاة:... 386

المسألة الثالثة: عدد الغسلات والمسحات:... 391

الأمر الأول: أن الواجب في غسل الوجه واليدين هي غسلة واحدة فقط:... 391

الأمر الثاني: استحباب غسل الوجه واليدين مرةً ثانية:... 393

الأمر الثالث: الغسلة الثالثة بدعةٌ:... 393

الأمر الرابع: عدم استحباب تكرار المسح:... 394

المسألة الرابعة: الواجب في الغسل:... 395

المسألة الخامسة: الوضوء الجبيري:... 398

المسألة السادسة: المباشرة بالوضوء:... 402

المسألة السابعة: حكم مسّ المحدث للقرآن الكريم:... 403

المسألة الثامنة:... 409

سُننُ الوضوء... 413

مكروهات الوضوء:... 421

الفصل الرابع: في بعض أحكام الوضوء... 427

قاعدة التجاوز:... 431

ص: 506

قاعدة الفراغ:... 432

الغُسُل... 451

الفصل الأول: في الجنابة:... 453

الجهة الأولى: سبب الجنابة:... 454

المسألة الأولى: وطئ المرأة الميتة:... 459

المسألة الثانية: الجماع في الدبر:... 459

المسألة الثالثة: وطء الغلام:... 461

فائدة: معنى الإجماع المركب:... 462

المسألة الرابعة: وطئ البهيمة: / تفريع:... 464

المسألة الأولى: تكليف الكافر:... 464

المسألة الثانية: غسل من ارتدّ:... 466

الجهة الثانية: حكم الجُنُب:... 467

النوع الأول: المحرمات:... 467

النوع الثاني: المكروهات:... 472

الجهة الثالثة: الغسل:... 476

أولاً: واجبات الغسل:... 476

ثانيًا: سُنن الغسل:... 484

المصادر والمراجع... 494

الفهرست والموضوعات... 500

ص: 507

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.